المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌من بلاغة القرآن في التعبير بالغدو والآصال والعشي والإبكار إعداد: الدكتور - من بلاغة القرآن فى التعبير بالغدو والأصال

[محمد دسوقي]

الفصل: ‌ ‌من بلاغة القرآن في التعبير بالغدو والآصال والعشي والإبكار إعداد: الدكتور

‌من بلاغة القرآن في التعبير بالغدو والآصال والعشي والإبكار

إعداد: الدكتور محمد محمد عبد العليم دسوقي

‌المقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فما من شك فى أن معرفة مواضع ودلالات الألفاظ فى سياقاتها، وبخاصة ما اشتجر القوم فيه واشتد الخلاف على دلالته.. يتوقف أولأًً على تحرير معاني تيك الألفاظ في معجمات العربية وقواميسها، كما أن تدبر مواقع لفظة ما، بغية الوقوف على دلالتها ومدى أثرها في نسق الذكر الحكيم، هو من النصيحة لكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. وتدعونا هذه التوطئة لأن أقرر أن الحديث عن سر مجيىء النظم الكريم معبَّراً فيه عن الطرف الأول للنهار بـ (الغدو) تارة، وبـ (قبل طلوع الشمس) أخرى، وبـ (الإبكار) ثالثة، وبـ (بالإشراق) رابعة، ومجيؤه معبّراً فيه عن الطرف الثاني بـ (العشي) تارة، وبـ (قبل الغروب) أخرى، وبـ (الآصال) ثالثة.. وكذا الحديث عن مقابلة (العشي) بـ (الإبكار) تارة وبـ (الغداة) أخرى وبـ (الإشراق) ثالثة، (ومقابلة (البُكرة) ببعض ما ذُكر تارة وبـ (الأصيل) أخرى.. وكذا مجيؤ تلك المفردات معرّفةً في بعض الأحيان ومنكرةً في بعضها الآخر إلى غير ذلك.. لهو مما يستدعي بل يستوجب الوقوف على أسباب هذا التنوع وعن أسرار مجيئه على الصورة التي ورد عليها، ذلك أن الألفاظ في هذا وما جاء على شاكلته "تختلف ولا تراها إلا متفقة وتفترق ولا تراها إلا مجتمعة، وتذهب في طبقات البيان وتنتقل في منازل البلاغة، وأنت لا تعرف منها إلا روحاً تداخلك بالطرب وتُشرب قلبك الروعة، وتنتزع من نفسك حس الاختلاف الذي طالما تدبرت به سائر الكلام وتصفحت به على البلغاء في ألوان خطابهم وأساليب كلامهم

ص: 1

وطبقات نظامهم مما يعلو ويسفل أو يستمر وينتقض أو يأتلف ويختلف

فأنت ما دمت في القرآن حتى تفرغ منه، لا ترى غير صورة واحدة من الكمال وإن اختلفت أجزاؤها في جهات التركيب وموضع التأليف وألوان التصوير وأغراض الكلام" (1) .

وقد كان دافعي لخوض غمار هذا البحث مع الرغبة في استجلاء أسرار التنوع فيما ذكرتُ، واستكناه الحكمة من وراء اصطفاء هذين الوقتين وانفرادهما - دون سواهما – بالذكر.. ندرة بل لا أبالغ إن قلت انعدام تخصيصه - فيما أعلم - بدراسة مستقلة تكشف عن هذا الكم غير القليل من المترادفات والمتقابلات، ومن عجيب ما لاحظت أن الدراسات التي عنيت بالبحث عن مثل هذا، وحتى التي تناول مصنفوها ما اشتبه من النظم، وأفردوا لأجله العديد من الكتب والمجلدات من نحو ما فعله الإسكافي في كتابه (درة التنزيل وغرة التأويل) ، والدامغاني في كتابه (الوجوه والنظائر) ، والغرناطي في كتابه (ملاك التأويل) ، لم تعرض هي الأخرى لشيئ من ذلك، الأمر الذى دعاني للاعتماد كلية بعد الله أولاً، على ما كتبه أهل التأويل على الرغم من تحفظي على كثير مما ذكروه في هذا الصدد.

(1) إعجاز القرآن لمصطفى صادق الرافعي ص 188، 189.

ص: 2

هذا وقد اقتضى الحديث عن طرفي النهار في النسق الكريم وعن طرائق التعبير عنهما وسر تنوعها، أن تأتي تلك الدراسة في ثلاثة مباحث تناول أولها مدلولات هذه الألفاظ وأسباب تنوعها وتخصيصها بالذكر دون سائر الأوقات الأخرى، وجاء ثانيها متحدثاً عما خُص به هذان الوقتان من أمر التسبيح وما إذا كان المعنى فيه محمولاً على ظاهره المعروف في اصطلاح التخاطب من التنزيه ومن قول (سبحان الله) أم غير ذلك من معانيه المستعمل فيها على جهة المجاز، كما تطرق المبحث الثالث للحديث عن المقامات التي ورد فيها التعبير عن طرفي النهار وكيف جاء كلٌّ منها متناغماً مع ما ناسبه من هذه المتقابلات، ومع ما تلاءم وكان منه بسبب من تعريف أو تنكير ومن تقديم أو تأخير.

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

المبحث الأول:

مدلولات الألفاظ الواردة في معنى طرفي النهاروسر تنوعها وتخصيصها بالذكر

مما تجدر الإشارة إليه أنه لا غناء عند تناول أيٍّ من الموضوعات التي تتنوع طرق الحديث عنه، من الوقوف أولاً على معاني المفردات المعبرة عنه، وبخاصة عندما يتم التقابل بين بعضها البعض، إذ بغير الوقوف على دلالة هذه المتقابلات، بل وعلى دلالة كلِّ مفردة مما احتوته واشتملت عليه لا يتسنى بحال استكناه ما بسياقاتها، ولا بحث ما بأسرار تنوعها وبلاغة مواقعها.

والحق أن المفردات التي عُبر بها عن طرفي النهار وقوبلت بأضدادها تمثل في موضوعنا هذا لآلئ متقابلة، نُثرت حباتها المتطابقة في النسق الكريم هنا وهناك، في نظام بديع هو غاية في الدقة والإحكام.

تحرير القول في معنى ما ورد في طرفي النهار:

ص: 3

ولتكن البداية تتبعاً لمعاني أكثر هذه الألفاظ وروداً في النظم القرآني، وهي كلمة (العشي) .. فقد وردت هذه الكلمة المراد بها آخر النهار في مقابلة أوله تسع مرات، أربعا منها قوبلت بـ (الإبكار) وذلك في قوله سبحانه:(واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والإبكار.. آل عمران/41)، وقوله:) فأوحى إليهم أن سبحوه بكرة وعشياً.. مريم /11) ، وقوله:(لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً.. مريم /62)، وقوله:(واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار.. غافر/55) .. وثلاثا قوبلت فيها بلفظة (الغدو)، وهي قوله:(ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي.. الأنعام/52)، وقوله:(واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي.. الكهف/28)، وقوله:(النار يعرضون عليها غدواً وعشياً.. غافر/46) .. كما قوبلت مرة بـ (الإشراق)، وذلك في قوله:(إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق.. ص/18) وأخرى بالإظهار، وذلك في قوله:(فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون. وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون.. الروم/17، 18) ، وقدمت كلمة (العشيّ) في هذه المرات التسع أربع مرات، وتأخرت عن أضدادها في الخمس المتبقية.

والعشي في أصله من العشا وهو سوء البصر بالليل والنهار من غير عمى، ويكون في الناس والدواب والإبل والطير (1) يقال:(ركب فلان عُِشوة) : إذا باشر أمراً على غير بيان (2) ومن أمثالهم السائرة: (هو يخبط خبْط عشواء) ، يُضرب مثلاً للسادر الذي يركب رأسه، ولا يهتم لعاقبته، كالناقة العشواء التي لا تبصر فهي تخبط بيديها كلّ ما مرت به، وشبه زهير في قوله:

رأيت المنايا خبْط عشواء من تُصبْ تُمِتْه ومن تخطىء يُعَمِّر فيهرِم

(1) ينظر لسان العرب 4/2959.

(2)

أساس البلاغة 2/118.

ص: 4

شبه المنايا التي مُثّلت في صورة شاخصة للعيان وهي تطيح بكل ما اعترض طريقها فتأخذه دون ما مساءلة ودون ما استثناء، بالجمل الذي يخبط خبط عشواء.. وتتعدى تلك المفردة بنفسها فيقال: عشوته أي قصدته ليلاً، وتُعدى بـ (إلى) كما في قولهم:(عشا إلى النار وعشاها) ، إذا أتى ناراً للضيافة واستدل عليها ببصر ضعيف، و (عشا الرجل إلى أهله يعشو) ، إذا علم مكان أهله فقصد إليهم أول الليل، كما تُعدى بـ (عن) إن صدر عنه إلى غيره كما في قول الله تعالى:(ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين.. الزخرف/36)، قال الفراء: معناه من يعرض عن ذكر الرحمن. قال: ومن قرأ (يَعْشَ عن ذكر الرحمن) فمعناه من يعمَ عنه، وقيل أي يظلم بصره (1) .

فالمادة على ما هو متضح تدور حول ضعف الرؤية وقِصر النظر في البصر أو في البصيرة، ومن ثمّ أطلقت على ما يتحقق فيه ذلك في الحال أو الزمان، فإذا زالت الشمس فتحول الظلّ شرقياً وتحولت الشمس غربية دعي ذلك الوقت (العشي) ، كذا قال أبو الهيثم فيما نقله عنه صاحب اللسان، وقال الأزهري فيما نقله عنه أيضاً:(يقع العَشِي على ما بين زوال الشمس إلى وقت غروبها، فإذا غابت فهو العِشاء)(2) .

(1) ينظر لسان العرب 4/2960.

(2)

ينظر السابق.

ص: 5

وهذا فيما أرى أدق مما ساقه صاحب اللسان وصاحب بصائر ذوي التمييز بأسلوب التضعيف (1) ، بل وساقه الأصفهاني بدونه من أنه (من زوال الشمس إلى الصباح)(2) ، حيث أفرده الأخير بالذكر في الدلالة على هذا المعنى ولم يذكر غيره.. فإن ذلك يرد عليه ما أفاده سياق الآيات التي جاءت فيها هذه المفردة مع ما قابلها، حيث وقع التسبيح فيهما عطفاً على الذكر المطلق كما في نحو قوله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراُ وسبحوه بكرة وأصيلاً.. الأحزاب/41، 42) والعطف - على ما هو معلوم - يقتضي المغايرة، وعليه فالمعنى- والله تعالى أعلم بمراده- اذكروا الله أيها المؤمنون في كل وقت وخصوا هذين الوقتين بما هو أدل على كمال نعمته ودلائل قدرته وعجيب صنعه بتنزيهه تعالى وتسبيحه.

(1) السابق وينظر بصائر ذوي التمييز للفيروزابادي 4/69.

(2)

المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص 335 وينظر التحرير والتنوير 7/247 مجلد 4.

ص: 6

كما يرد عليه الآية الكريمة: (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال

الرعد/15) ، إذ وقوع الآصال الذي يفيده، في مقابلة ما يقابله غالباً وهو (الغدو) ، يشير إلى تعيين المراد من العشي، ويوجب أن يكون المراد به ما قبل غروب الشمس لان ظلال الأشياء لا تحدث - كما هو متعالم لدى الخاصة والعامة- إلا فيما بين طلوع الشمس وغروبها.. ويردعليه كذلك قوله تعالى:(وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل.. هود/114) لأن "الإقامة: وهي إيقاع العمل على ما يستحقه، تقتضي أن يكون المراد بالصلاة هنا الصلاة المفروضة، فالطّرفان ظرفان لإقامة الصلاة المفروضة، فعلم أن المأمور إيقاع صلاة في أول النهار وهي الصبح، وصلاة في آخره وهي العصر، ويكون ذلك هو المراد من الغداة والعشي الذي كثر ورودهما في آي التنزيل وفي السنة المطهرة.. والزلف جمع زلفة، وهي الساعة القريبة من أختها، وهذا أيضاً يُعلم منه أن المأمور به، إيقاع الصلاة في طائفة من الليل الذي يبدأ من صلاة المغرب وهي - بالطبع- غير الصلاة التي في طرفي النهار.."(1)، وفي بصائر ذوي التمييز:"قوله: (وأقم الصلاة طرفي النهار) أي الغداة والعشي"(2)، وفيه:"قوله تعالى: (طرفي النهار) أي الفجر والعصر"(3) ، رُوي ذلك عن الحسن وقتادة والضحاك ونص عليه الزمخشري والبيضاوي (4) واستظهره أبو حيان بناء على أن طرف الشيئ يقتضي أن يكون من الشيئ، والتزم أن أول النهار من الفجر" (5) . وعليه فقد "وجب - على حد قول الرازي- حمل الطرف الثاني على صلاة العصر" (6) ، فيكون المراد

(1) التحرير 12/179 من المجلد 6 بتصرف.

(2)

البصائر 3/503 وينظر الكشاف 2/296.

(3)

البصائر 3/503.

(4)

ينظر الكشاف 4/200 وتفسير البيضاوي بحاشية الشهاب6/256والآلوسي 12/234 مجلد 7.

(5)

ومن جعله من طلوع الشمس، عدّ الصبح كالمغرب طرف مجازي، وجعْله حقيقة فيهما، هو من زخرف القول لما ذكرنا من أدلة.

(6)

مفاتيح الغيب 8/631.

ص: 7

به العشي، إذ ليس قبل غروب الشمس سواه.

وأصرح من ذلك في دلالة (الطرف الثاني) على (العشي) المأمور فيه بالتسبيح، قوله تعالى في ذات الأمر، وفي إطلاقه على نفس الوقت، (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها.. طه/130)، وقوله في سياق مماثل:(وقبل الغروب.. ق/39) إذ ليس قبل الغروب- لتأدية ما صدر الأمر به في العشي من تسبيح- خلا العصر، وعليه فإنه لا يجوز أن يكون المراد من (العشي) صلاة المغرب، على ما هو المختار لدى الطبري وغيره والمروي عن ابن عباس، لأن ما ذكروه يعكر صفوه الأدلة التي سقناها، وكونها داخلة تحت قوله تعالى:(وزلفاً من الليل)(1) اللهم إلا على سبيل الحمل على المجاز فإنه يسوغ حينذاك، "لأن ما يقرب من الشيئ يجوز أن يطلق عليه اسمه"(2) ولعل الذي حدا بمن ذهب إلى هذا لأن يقول به، ويجعله أحد قولين مشهورين في معنى التسبيح بالغدو والآصال كما سيأتي بيانه، تعذر العمل بظاهر هذه الآية لإجماع الأمة على أن إقامة الصلاة في ذلك الوقت غير مشروعة، فتعين من ثمّ تفسير الطرف الثاني بصلاة المغرب.. وجوابه أن هذا التعين محمول على المجاز، وذلك لا يمنع من أن يكون مراده على الحقيقة هو العصر، وعليه "فإن كان النهار في أول الفجر إلى غروب الشمس فالمغرب (طرف) ، مجازاً وهو حقيقةً طرفُ الليل، وإن كان من طلوع الشمس إلى غروبها فالصبح كالمغرب طرف مجازي"(3) والحقيقة فيه هو ركعتا الضحى، يعضد هذا قوله سبحانه في حق داود عليه السلام (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق..ص /18) ، وكذا ما ورد من الآثار ومن أدلة السنة المطهرة مما يفيد أن الإشراق مراد به صلاة الضحى.

(1) مفاتيح الغيب 8/631 بتصرف.

(2)

السابق.

(3)

الآوسي 12/234 مجلد 7وينظرالوجوه والنظائر للدامغاني 2/49.

ص: 8

والأصيل هو في معنى ما ذكر، يقول الزمحشري:"الآصال جمع أُصُل وهي العشي"(1) ، وإن كان من فرق بينهما فيكمن في أنه يتوسع في العشي بما لا يتوسع في الأصيل، وفي اللسان:"الأصيل: العشي.. والأصيل: الوقت بعد العصر إلى المغرب"(2) والجمع أُصُلٌ وأُصلان.. قال الزجاج: آصال جمع أُصُل فهو على هذا جمع الجمع (3) ، وإنما سمي كذلك لالتصاقه واتصاله بما هو الأصل لليوم التالي وأوله.. وقالوا في تصغير الأصيل أصيلانُ وأصيلال على البدل، أبدلوا من النون لاماً، ومنه قول النابغة:

وقفتُ فيها أصيلالاً أسائلها عيَّت جواباَ وما بالربع من أحد" (4)

(1) الكشاف 3/68.

(2)

لسان العرب 1/89.

(3)

وحاصل ما ذكره وغيره في (آصال) أنها جمع أُصُل، وأُصُل جمع أصيل فهي بذلك جمع الجمع، أو هي جمع أصيل كيمين وأيمان، أو هي جمع أُصُل مفرداً كعنق وأعناق وهذه تجمع أيضاً على أُصلان.

(4)

لسان العرب 1/89 وينظر الكشاف 3/68ومفاتيح الغيب 11/594 ونظم الدرر3/179 والتحرير 9/242 مجلد 5 ومفردات الراغب ص19 والوابل الصيب ص192 والآلوسي 9 /224مجلد 6، 18/258 مجلد 10.

ص: 9

ومحصلة ما ذكر أن وقت (العشي) و (الأصيل) هو ما بعد صلاة العصر إلى ما قبيل غروب الشمس وتلك هي حقيقتهما على ما تقضي به لغة العرب وتفيده سياقات الآيات الوارد فيها ذان اللفظان.. وإذا ما أُطلقا – سيما الأخير منهما - على ما بعيد غروب الشمس وهو ما يوافق صلاة المغرب، فإنه يكون على سبيل المجاز المرسل لعلاقة المجاورة، وقد يكنى بهما عن استغراق الشطر الثاني للنهار إذا اقتضاه المقام وأومأ إليه السياق (1) .

(1) وأغرب من قال بأن معنى (العشي) هو ما كان وقتاً لصلاة الظهر قاله مجاهد ومحمد بن كعب القرظي وابن عطية، لـ"أن في جعل الظهر من الطرف الثاني خفاء، وإنما الظهر نصف النهار، والنصف– على حد قول صاحب روح المعاني- لايسمى طرفاً إلا بمجاز بعيد [تفسير الآلوسي 12/234من المجلد 7]، وأُضيف بأن لو كان هذا صحيحاً لما كان هناك معنى للعطف في قوله تعالى:(وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون.. الروم/18) إذ يصير من عطف الشيىء على نفسه، وهو مما لا يسوغ القول به، وأغرب منه للسبب ذاته ما ذكرناه من حده من الزوال إلى الصباح- كذا فعل الراغب في المفردات (ص 335) دون أن يذكر غيره، وابن عاشور في التحرير- 7/247من المجلد 4- الذي ناقض نفسه فذكر في قوله تعالى:(يسبحن بالعشي والإشراق) وقوله: (إذ عرض عليه بالعشي

ص/31) أنه ما بعد العصر إلى الغروب [ينظر التحرير 23/228 مجلد 11، 23/254 مجلد 11] .

ص: 10

وابتناء على ما سبق ذكره يكون وقت الغداة والإبكار، والمراد منهما حقيقة: الطرف الأول من النهار، وهو ما يكون من النهار من أول الفجر إلى ما قبيل طلوع الشمس إذ هو المقابل للطرف الثاني منه، ويطلق على ما بعيد ذلك على سبيل المجاز لعلاقة المجاورة أيضاً، وقد يكنى بهما كذلك عن الاستغراق لجميع أجزاء الشطر الأول من النهار إذا اقتضى المقام ذلك وأملاه السياق.. يقول ابن منظور:"الغُدوة بالضم: البُكرة. وهي ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس.. والغداة كالغدوة وجمعها غدوات.. وقال الليث: الغُدوة جمعٌ مثل الغدوات، والغُدى جمع غُدوة.. وأنشد) بالغُدى والأصائل) وقالوا: إني لآتيه بالغدايا والعشايا، والغداة لا تجمع على الغدايا ولكنهم كسَّروه على ذلك - أي جمعوه جمع تكسير- ليطابقوا بين لفظه ولفظ العشايا، وليزاوجوا بينهما، فإذا أفردوه لم يكسِّروه.. ويستعمل مصدراً، يقال: غدا عليه غَدْوة وغُدُوّاً، واغتدى: بكَّر، والاغتداء: الغدو، وغاداه باكره وغدا عليه.. وقوله تعالى: (بالغدو والآصال) أي بالغدوات (1) ، فعبر بالفعل عن الوقت - إذ الأصل فيه: يغدون بالتسبيح أول النهار أي بعيد طلوع الفجر- كما يقال: أتيتك طلوع الشمس أي وقت طلوع الشمس، ويقال: غدا الرجل يغدو فهو غادٍ، وفي الحديث: (لغدوة أوروحة في سبيل الله..) ، والغدوة: المرة من الغُدُوِّ وهو سير أول النهار، نقيض الرواح (2) ".

(1) وفي حال جعل (غدو) مصدراً لا جمعاً. يقدر معه مضاف مجموع أي أوقات الغدو، ليطابق قوله (الآصال) كذا في روح المعاني 9/224 مجلد 6.

(2)

اللسان 6/3220، 3221 بتصرف وينظر تمييز ذوي البصائر 4/122 والرازي 7/424 والآلوسي 9/224 مجلد 6.

ص: 11

ويكشف رحمه الله في كتابه لسان العرب عن معنى البكرة مفصحاً عن مرادفتها لصاحبتها فيقول: إنها تعني "الغداة.. والبكور والتبكير: الخروج في ذلك الوقت، والإبكار: الدخول فيه، قال سيبويه: لا يستعمل إلا ظرفاً، والإبكار كالإصباح هذا قول أهل اللغة، وعندي - والكلام لا يزال لابن منظور- أنه مصدر أبكر، (1) وبكَرَ على الشيئ وإليه يبكر بكوراً، وبكّر تبكيراً وابتكر وأبكر وباكره: أتاه بكرة.. وكلُّ من بادر إلى شيئ فقد أبكر عليه، وبكّر أي وقت كان، يقال: بكِّروا بصلاة المغرب أي صلوها عند سقوط القرص، وقوله تعالى: (بالعشي والإبكار) جعل الإبكار وهو فعل، يدل على الوقت وهو البُكرة – يريد أنه كسابقه، الأصل فيه: يبكرون بالتسبيح أول النهار أي بُعيد طلوع الفجر- والباكور من كلّ شيئ المعجل المجيئ والإدراك وبَكْرُ كل شيئ أوله"(2) ومنه قوله تعالى: (ولقد صبّحهم بكرة عذاب مستقر

القمر /38) يعني أول النهار وباكره (3) .

فالمادة على هذا تدور حول معنى الإسراع والمبادرة والمعاجلة في أول الوقت وهي إن نُوّنت صارت ظرفاً أو مصدراً، وأريد بها وقت الغدوة، وفي معنى ذلك يقول الراغب:"أصل الكلمة هي البُكرة التي هي أول النهار فاشتق من لفظه لفظ الفعل فقيل: بَكَرَ فلان بكوراً إذا خرج بُكرة، وتُصُوِّر منها معنى التعجيل لتقدمها على سائر أوقات النهار"(4) .

(1) وعليه فإذا قوبل بالعشي كان على تقدير: وقت الإبكار، واللفظان (بكرة وعشياً) هما على أيّ حال معربان غير منصرفين، ويطلقان ظرفاً وعلماً للجنسية على وقتيهما سواء قصد تعيينهما ليوم معين أو لم يقصد، ويجوز تنوينهما على الحالين اتفاقاً [ينظر البحر 2/ 453 ودراسات لأسلوب القرآن د/ عضيمة 9/ 727] .

(2)

اللسان1/332 وينظر مفاتيح الغيب 4/205.

(3)

الكشاف 4/401.

(4)

المفردات ص57

ص: 12

وإن كان من فرق بين كلمة (بكرة) التي اتضح من خلال كلام أهل اللغة أن وقتها هو ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس.. وما راد فها مما وقع في مقابل العشي لكن بلفظ (الإشراق) هو أن الإشراق يكون عند من التزم جعل أول النهار من طلوع الشمس، إذ هو بهذا حقيقة فيه، ولذا قالوا في تفسير قول الله تعالى في حق داود عليه السلام:(إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق.. ص/18) يعنى حين تشرق الشمس أي تضيئ ويصفو شعاعها، "يقال شرقت الشمس شروقاً: طلعت، وأشرقت: أضاءت" (1) ، "وأشرق القوم: دخلوا في وقت الشروق" (2) ، "وأشرق الرجل: أي دخل في شروق الشمس، وفي التنزيل:(فأخذتهم الصيحة مشرقين.. الحجر/73) أي مصبحين، (فأتبعوهم مشرقين.. الشعراء/60) أي لحقوهم وقت دخولهم في شروق الشمس وهو طلوعها" (3) .

مدلولات الغداة والعشي وما في معناهما بين الحقيقة والمجاز:

والذي ينعم النظر في تتبع مقولات أهل التأويل من المفسرين والمشغولين بالدراسات القرآنية في معنى ما جاء في طرفي النهار، يلحظ أنهم لا يقصرون مدلولي الغداة والعشي على وقتيهما المعلومين والمخصصين لهما عند أهل اللغة على جهة الحقيقة، أعنى من الفجر إلى طلوع الشمس ومن العصر إلى انتهاء النهار.. بل إنهم يتوسعون فيهما ليمتدا لديهم وليشملا سائر ساعات الليل والنهار، وما ذلك إلا حملاًَ لمعنى الأمر بالتسبيح بالغداة والعشيّ على معنى المداومة وفقاً لمدلولات النصوص وسياقات الآيات المُومِئَة إلى ذلك.

(1) تمييز ذوي البصائر 3/311.

(2)

اللسان 4/2245.

(3)

السابق.

ص: 13

ولنتأمل في ذلك مثلاً ما ذكره صاحب الكشاف تفسيراً لقول الله تعالى عن أهل الجنة: (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً.. مريم/62) وقد تبعه فيه غيره، يقول: - "أراد دوام الرزق ودروره كما تقول: (أنا عند فلان صباحاً ومساءً وبكرةً وعشياً) ، تريد الديمومة ولا تقصد الوقتين المعلومين"(1)، وما ذكره الطاهر ابن عاشور في تفسيره لقول الله تعالى:(ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه.. الأنعام/52) حيث يقول: "الغداة: أول النهار، والعشيّ من الزوال إلى الصباح، والباء للظرفية.. والمعنى أنهم يدعون الله اليوم كله، فالغداة والعشي قصد بهما استيعاب الزمان والأيام كما يقصد بالمشرق والمغرب استيعاب الأمكنة، وكما يقال: الحمد لله بكرةً وأصيلاً"(2)، وفي معناه يقول الآلوسي تفسيراً لنفس الآية:"والمراد بهما ها هنا الدوام كما يقال فعله مساءً وصباحاً إذا داوم عليه"(3) ، وعلى هذا دأب جلّ المفسرين وربما كان مستندهم في هذا صحة ما ورد عن العرب "إني لآتيه بالعشايا والغدايا"(4) يقصدون بذلك استدامة المجيئ.

(1) تفسير الكشاف 2/516، 515وينظر الرازي 9/487 وحاشية الشهاب لى البيضاوي 6/292.

(2)

التحرير7/247 مجلد4.

(3)

الآلوسي 7/232 مجلد5.

(4)

اللسان 4/2962.

ص: 14

والحق أن الأمر في هذا لا يعدو أن يكون كناية عن المداومة في فعل المجيئ، وفي استدامة الدعاء، وفي عدم انقطاع الرزق عن أهل الجنة، ولا يعني بحال أن يخرج اللفظان عن حقيقتهما الموضوعة لهما في اصطلاح التخاطب، إذ ليس من المعقول أن يظل هؤلاء المتحدث عنهم في آية الأنعام على حال واحدة لا يحيدون عنه ولا يميدون، كما لا يعقل أن يبقى أهل الجنة الوارد ذكرهم في آية مريم يطعمون ويشربون مدة خلودهم الأبدي وبقائهم السرمدي، إذ ذلك - مما لا شك فيه- مما يبعث على الملل ومما يتنافى مع خلق التوسط والزهادة اللذين تربوا عليهما في الدنيا، كما أن فيه مشغلة كذلك عن التمتع بسائر ألوان النعيم الأخرى التي أعدها الله لعباده الصالحين من نحو التسري بالحور العين والتقابل على السرر والأرائك والورود على الحوض ومصاحبة الأخلاء من المتقين والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، بل وفوق كل ذلك وأعلاه السعي لنيل رضا الله سبحانه والتمتع بالنظر إلى وجهه الكريم كما في قوله صلى الله عليه وسلم عن رب العزة سبحانه من أنه (يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير بين يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يارب وأي شيئ أفضل من ذلك؟ فيقول: أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً) (1)، وقوله فيما رواه مسلم:(إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى منادياً يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويُجِرْنا من النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم) .

(1) رواه البخاري ومسلم واللفظ له.

ص: 15

وقد استشعرالبيضاوي كل هذه المعاني فراح يمرض حمل المعنى على الديمومة ويتورك على القائلين به، ويقدم عليه ما يفيد الحمل على الحقيقة، يقول: قوله (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً) : "على عادة المتنعمين والتوسط بين الزهادة والرغابة (1) ، وقيل المراد دوام الرزق ودروره"(2)

والعجيب أن يستنكر ابنُ منظور على من يذهب إلى إطلاق (العِشاء) على فترة ما بين زوال الشمس إلى طلوع الفجر ولا ينكر بنفس القدر على من ذهب إلى أن العشيّ: من زوال الشمس إلى الصباح، مكتفياً في ذلك بلفظ التضعيف، إذ يقول: "وقيل العشي من زوال الشمس إلى الصباح، ويقال لما بين المغرب والعتمة: عِشاء وزعم قوم أن العِشاء من زوال الشمس إلى طلوع الفجر وأنشد في ذلك:

غدونا غدوة سحراً بليلٍ عِشاءً بعد ما انتصف النهار" (3) .

على الرغم من أن قول الشاعر: (بعد ما انتصف النهار) يفيد اقتراب ما بعد منتصف النهار إلى وقت العِشاء، فيكون الحمل على المجاز لعلاقة المجاورة مستساغاً لقرب المسافة الزمنية.. وليس من هذا في شيئ القول بأن العَشيّ هو ما يمتد وقته ليتسع لما بين زوال الشمس إلى صباح اليوم التالي.. والأعجب منه أن يورد في ذلك ما أنشده ابن الأعرابي من قوله:

هيفاءُ عجزاءُ خريدٌ بالعشيّ تضحك عن ذي أشرٍ عذْبٍ نقي

(1) وكان العرب يسمون الأكل مرة واحدة في اليوم والليلة (الوجبة) باعتبار أن أكلها يوجب زهادة، وكان إذا أصاب أحدهم الغداء والعشاء أعجبهم ذلك ويسمون ماعداهما (الرغبة) أي في كثرة الأكل، فأخبرهم سبحانه أن لهم في الجنة هذه الحالة التي تعجبهم [ينظر أضواء على متشابهات القرآن للشيخ خليل ياسين 2/10] .

(2)

تفسير البيضاوي 6/292.

(3)

اللسان4/2962.

ص: 16

فينفي عنه وضع العشيّ موضع الليل، ويتلمس له مخرجاً ويعلق عليه بقوله:"فإن أراد (بالليل) ، فإما أن يكون سمى الليل عشياً لمكان العِشاء الذي هو الظلمة، وإما أن يكون وضع (العشيّ) موضع الليل لقربه منه من حيث كان العشي آخر النهار وآخر النهار متصل بأول الليل"(1)

يقول: "وإنما أراد الشاعر أن يبالغ بتخرُّدِها واستحيائها، لأن الليل قد يعدم فيه الرقباء والجلساء وأكثر من يُستحيا منه، فإذا كان ذلك مع عدم هؤلاء فما ظنك بتخرُّدها نهاراً إذا حضروا؟ "(2) ، وإذا ما اتفقنا على أن لفظ (الأصيل) هو في معنى العشيّ كما قرر أهل اللغة وأهل التأويل وعلى ماسبق ذكره، فإن الزوال وما يقرب منه – على ماقرروا أيضاً – لا يسمى أصيلاً، وما قيل من أنه يسمى كذلك، لو سلم فهو ارتكاب لغير المألوف من غير ضرورة تدعو إليه (3)، وطرقاً للباب على وتيرة واحدة وقياساً على ما سبق نقول: إن إطلاق العشي كذلك ليمتد إلى صباح اليوم التالي هو أيضاً ارتكاب لغير المألوف من غير ضرورة تدعو إليه.

ونظير ما مضى - مما يعد مقبولاً- في الحمل على المجاز مع ما يفيده من الدلالة على الاستغراق والاستدامة على فعل الشيئ في الوقتين المذكورين، ما ذكره الرازي في تفسيره لقول الله تعالى:(واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار.. غافر/55) قال: "الإبكار عبارة عن أول النهار إلى النصف، والعشيّ عبارة عن النصف إلى آخر النهار، فيدخل فيه كل الأوقات"(4) ، وأحسب أن هذا هو الأليق فيما هذا شأنه وفيما يقتضي المقام حمله على معنى الاستغراق في الزمن وفاءً بحق السياق، على اعتبار أن ما يقرب من الشيئ يطلق عليه اسمه، وقد نحا كثير من المفسرين هذا المنحى مقدمين إياه على القول بمغالطة أهل اللغة والجنوح بالعشيّ وجعله من زوال الشمس إلى الصباح.

(1) السابق.

(2)

السابق بتصرف.

(3)

ينظر حاشية الشهاب9/363.

(4)

مفاتيح الغيب13/569.

ص: 17

من هؤلاء صاحب التحرير والتنوير فقد ذهب في تفسيره لنفس الآية التي حمل الزمخشري فيها معنى العشيّ والإبكار على الاستدامة الشاملة لسائر ساعات اليوم والليلة، وهي قوله تعالى:(ولهم رزقهم فيها بكرةً وعشياً.. مريم/62)، إلى أن المقصود من " (البكرة) : النصف الأول من النهار، و (العشيّ) النصف الأخير (1) . والجمع بينهما كناية عن استغراق الزمن (2) ، أي لهم رزقهم غير محصور ولا مقدر بل كلما شاءوا" (3) .. وإن كان يعاب عليه أنه لم يستمر على هذا المنحى وراح في مواضع أخرى يحمل معنى العشي على ما بين زوال الشمس إلى الصباح على نحو ما فعل في تفسيره لآية الأنعام.

ولا يُحتج لهذا أن المقصد من كلامه الذي أورده في تفسير آية الأنعام، وكذا كلام من حجل بقيده، التكنية عن الاستدامة، لأن الجواب عن ذلك أن الكناية لا تمنع من إرادة ظاهر اللفظ، وظاهر اللفظ يصعب حمله – على نحو ما ارتأينا- في آيتي مريم والأنعام على وجه الحقيقة.

(1) ولعل هذا ما عناه ابن منظور بقوله: "إنما أراد لهم رزقهم في مقدار ما بين الغداة والعشي".

(2)

والأليق منه حمل المعنى على الحقيقة، لإفادة التوسط بين الزهادة والرغابة لما سبق ذكره.

(3)

التحرير والتنوير 16/138 مجلد8.

ص: 18

على أن هذا المنحى قد يحمد في مثل قوله سبحانه: (واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفةً ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين

الأعراف/205) إذ الحمل فيه بضميمة قوله صلى الله عليه وسلم: (تنام عيني ولا ينام قلبي)، وقوله سبحانه:(ولا تكن من الغافلين) .. على التكنية عن سائر أحواله صلى الله عليه وسلم يقظةً أومناماً سراً أو إعلاناً ليلاً أو نهاراً لمما يدل عليه السياق ويومِئ إليه، والشرط في ذلك ألا يوجد في سياق الكلام ما ينافيه أو يتماشى معه من نحو إطلاق الذكر وتقييد نوع منه بوقتي الغداة والعشيّ في نحو قوله سبحانه:(يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرةً وأصيلاً.. الأحزاب/41، 42) ، وكذا ما تعيّن الحمل فيه على الوقتين لكون الموقوت بزمنيهما مختص بهما لا يتعداهما، كما في قوله سبحانه:(ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال.. الرعد/15) إذ من المعلوم بداهة أن الفيئ لا يظهر بصورة كاملة تشعر بما يمليه النظم الكريم إلا في الوقتين بمعناهما اللغوي، ونظير ذلك ما كان منصوصاً على وقتيه ببعض دلائله التي لا ينصرف بها المعنى إلا إليه، كما في الآية الكريمة الواردة في حق داود عليه السلام:(إنا سخرنا الجبال معه بالعشي والإشراق.. ص/18) ذلك أن "وقت الإشراق محدود بوقت ارتفاعهما عن الأفق الشرقي وهو ما يسمى بالضحوة الصغرى"(1) وذلك لا يتأتى إلا وقت بدء طلوعها ولا يكون دون ذلك أو سواه بحال.

من أسرار تقديم بعض مسميات طرفي النهار على بعض ووجه تنوعها:

(1) روح المعاني 23/356 من المجلد 13 بتصرف.

ص: 19

وإذا ما رُمنا الإبحار في الكتاب العزيز بغية الوقوف على سر التنوع في التعبير عن الوقتين المنوط بهما هذا البحث، وأردنا الكشف عن علائق التراكيب التي قُدم فيها بعض مسميات هذين الوقتين على البعض الآخر، وابتغينا الغوص للتعرف على وجوه اختلاف سياقاتها وتناغيها وتواصلها.. فإنه لا بد لنا أولاً أن نستجلي الملابسات التي ورد فيها ذكر هذين الوقتين.

والمتأمل للسياقات التي قُدم فيها لفظ (العشيّ) على الإبكار كما في حق زكريا عليه السلام: (واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشيّ والإبكار.. آل عمران/41)، وقوله في مخاطبة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم -قبل هجرته إلى مكة:(واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشيّ والإبكار.. غافر/55)، يبصر بضميمة ما جاء في قوله سبحانه في حق داود عليه السلام:(إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشيّ والإشراق.. ص/18) ، أن الإبكار يدقُّ جعله وصفاً لأول النهار من بعد طلوع الشمس لا الفجر (1) ، كما يرمق أن في اصطفاء مفردة (الإبكار) ، وفي تقديم (العشيّ) عليها ما يصور حال الأمم السابقة المستضعفة وما كانت عليه من تلبس بالعبادة المفروضة، وكذا ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام قبل فرض الصلوات الخمس وقبل الجهر بالدعوة والصدع بها.

(1) وسيأتي ما يفيد أن طرف النهار الأول يطلق ويراد به أحد معنيين: مابعد طلوع الفجر ومابعد طلوع الشمس، فعلى من التزم جعل أول النهار من طلوع الفجر جعل ما بعد طلوع الشمس مجازاً فيه والعكس بالعكس.

ص: 20

ونعلم أنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بأن يقتدي بالأنبياء من قبله وأن يعبد الله بالكيفية التي كانوا يعبدونه سبحانه بها (1) ، وصلاة ركعتين في آخر النهار ومثلهما بأوله هو الأوفق لحال أولئك الأوائل الذين صدّقوا بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم في صدر الإسلام فقد كان معظمهم خليط من الفقراء والضعفاء والأرقاء وليس بوسعهم مجابهة قوى الكفر المتعصبة لشركها ووثنيتها، بل ولا إظهار شعائر الدين الذي آمنت به، ولقد بلغ الضعف بهذه الثلّة المؤمنة التي آمنت بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في بداية الأمر لحدّ أنه إذا أراد أحدهم ممارسة عبادة من العبادات التي كُلف بها ذهب إلى شعاب مكة يستخفي فيها من عيون قريش.. فمع انشغال أهل الكفر في أول هذين الوقتين بجلب الرزق والسعي على المعاش، وخلودهم في آخرهما للدعة والراحة بعد عناء يوم كامل من العمل، يمكن لأولئك المستضعفين أن يمارسوا بشئ من الحرية والبعد عن الضغط والتعرض للأذى، ما كلفوا به من قِبل ربهم وما تعلموه من نبيهم.. والبدء بالعشي أقدر على تصوير هذه الفترة، وأبلغ في بيان حالتي الإخفاء والهمس اللذين كانوا عليهما أثناء تأدية ما كلفوا به من صلاة، وترديد ما كان ينزل على نبيهم صلى الله عليه وسلم من آي الذكر الحكيم.

(1) وذلك قوله سبحانه: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده.. الأنعام/90) .

ص: 21

ولا يبعد أن يكون حال زكريا عليه السلام مع مناوئيه من اليهود شبيهاً بحال أولئك الصحب الكرام مع كفار مكة، فيكون في هذا أيضا الوجه في البدء بالعشيّ، بل إن هذا ما ينبئ به طبيعة هؤلاء القوم الذين تخصصوا في الإيذاء وفي قتل الأبرياء والأنبياء بغير حق، ففي تفسير ما أخبر الله به عن قتلهم أنبياء الله ذكر أهل العلم نصوصاً تصرح بقتل سيدنا زكريا وابنه يحيى عليهما السلام على يد أولئك الأنجاس، ومن ذلك ما ذكره ابن القيم رحمه الله في قوله:"ومن تلاعب الشيطان بهم ما كان في شأن زكريا ويحيى عليهما السلام وقتلهم لهما حتى سلط الله عليهم بختنصر وسنحاريب وجنودهما فنالوا منهم ما نالوه"(1) ، كما حكى عنهم في موضع آخر أنهم "هم قتلة الأنبياء، قتلوا زكريا وابنه يحيى وخلقاً كثيراً من الأنبياء حتى قتلوا في يوم واحد سبعين نبياً في أول النهار وأقاموا سوق بقلهم آخره، كأنهم لم يصنعوا شيئاً"(2) . الأمر الذي يعكس مدى الهلع والخوف الذي كان ينتاب أهل الحق في تلك الأزمنة الغابرة، ويعكس بالتالي سر البدء بالعشي في آية آل عمران.

ومما قيل في سر تقديم (العشيّ) مراعاً فيه السياق ما ذكره البقاعي في حق آية غافر سالفة الذكر من أنه "لما كان المقام لإثبات قيام الساعة (3) وكان العشيّ أدل عليها قدمه"(4) .

(1) إغاثة اللهفان 2/319.

(2)

هداية الحيارى ص54 وينظر تفسير ابن كثير 1/102، 355.

(3)

يعني قوله تعالى: (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب. وإذ يتحاجون في النار.. إلى آخر الآيات 46-51) .

(4)

نظم الدرر 6/525.

ص: 22

وأيّاً ما كان الأمر فإن السياق في الآيتين المذكورتين يختلف عنه في آية (ص) وإن كان منه بسبب إذ المناسب للبدء بالعشيّ قبل الإشراق، هو ما كان عليه داود عليه السلام من أوب إلى الله وترجيع، وقد كان يشاركه في ذلك الجبال والطير كما دل عليه قوله تعالى:(واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب.. ص/17)، وقوله:(يا جبال أوبي معه والطير.. سبأ/10)، وقوله:(والطير محشورة كل له أواب.. ص/19) ، وظهور كل ذلك في وقت العشيّ أبين في تذكر المصير وما سيؤول إليه حال الخلق.

يقول صاحب نظم الدرر "لما كان - أي التسبيح- في سياق الأوبة، وكان آخر النهار وقت الرجوع لكل ذي إلف إلى مألفه مع أنه وقت للفتور والاستراحة من المتاعب قال (بالعشيّ) "، وكان من ثمّ البدء به "تقوية للعامل وتذكيراً للغافل"(1) .

وإنما كان تقديم العشيّ - فيما هو قريب مما ذكرناه من أمر الإبكار والإشراق - أعني الإظهار في قوله جل وعلا: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون

الروم/17) ، لنفس ما سبق ذكره في آية غافر حيث الكلام عن القيامة وإثبات الحشر والبعث حتى ليكاد يكون متطابقاً معه تمام التطابق، ومن ثم فملابساتها هي من ملابسات نظيرتها.

(1) السابق 6/370.

ص: 23

وفي مراعاة تقديم ما هو ألصق بالسياق في آية الروم وأدل عليه يقول الفخر الرازي: إنه "قدم الإمساء على الإصباح ههنا وأخره في قوله تعالى: (وسبحوه بكرةً وأصيلاً.. الأحزاب/42) لأن ههنا، أول الكلام ذِكْر الحشر والإعادة من قوله تعالى: (الله يبدأ الخلق ثم يعيده) إلى قوله تعالى: (فأولئك في العذاب محضرون.. الروم/11-16) ، وآخر هذه الآية أيضاً – يعني ما جاء عقبها- ذكر الحشر والإعادة بقوله تعالى: (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي وكذلك تخرجون.. الروم/19) والإمساء آخر فذكر الآخر أولاً لتذكر الآخرة"(1) وهو في معنى ما ذكره البقاعي في حق آية غافر وفاءً بحق السياق. ويريد الرازي بما ذكره أن مقابلة العشيّ بالظهيرة والإمساء بالإصباح وتقديم ما تقدم في كلٍُ جاء ملائماً للسياق في التذكير بيوم القيامة، فعلى نحو ما يعقب الركونً إلى الدعة والراحة والنوم والسكون في الإمساء والعشي حركة بعد الاستيقاظ وانتشار، يعقب الموت وإعادة إحياء الخلق من جديد، وإخراجهم من قبورهم، الحشر واجتماع الناس في يوم لا ريب فيه، ولما كان الموت الذي يمثل الإمساء والعشيّ، ويشبهه في ترتيبه الزمني بوقوعه قبل الحشر، وكان الغرض من السياق التذكير بالآخرة قدم من ثمت الإمساء والعشيّ، رداً على قالتهم السوء بإنكار البعث والحساب من ناحية، وإقامة للحجة عليهم بنصب الأدلة عليهما بتشبيههما بالاستيقاظ بعد الموتة الصغرى من ناحية أخرى.

(1) الرازي 12/452.

ص: 24

وفي البحر المحيط: "قوبل بالعشيّ الإمساء وبالإظهار الإصباح، لأن كلا منهما يُعقب بما قابله، فالعشيّ يعقبه الإمساء، والإصباح يعقبه الإظهار"(1) ، وفي معنى ما ذُكريقول الآلوسي "قدم الإمساء على الإصباح لتقدم الليل والظلمة، وقدم العشيّ على الإظهار لأنه بالنسبة إلى الإظهار كالإمساء بالنسبة إلى الإصباح"(2) ويعنيان بذلك أنهم في "الاستعمال العربي يعتبرون فيه الليالي مبدأ عدد الأيام (3) ، فهو أسبق في حساب أيام الشهر، وفي التنزيل قال تعالى: (سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين.. سبأ/18) "(4) ، وقال أبو السعود بأن تقديم (عشياً) على (حين تظهرون) لمراعاة الفواصل وتغيير الأسلوب (5) ، وليس ما ذكروه بالوجه بل هو - فيما أرى- على ما ذكرت، مراعاة لمكان النزول. وإن كنت لا أرى فيما ذكره الفخر الرازي – وفاء بحق السياق - بأساً، وفي محصلته يقول الطاهر في عبارة بليغة موجزة:"قدم فعل الإمساء على فعل الإصباح.. لأن الكلام لما وقع عقب ذكر الحشر من قوله: (الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون.. الروم/11) ، وذكر قيام الساعة، ناسب أن يكون الإمساء وهو آخر اليوم خاطراً في الذهن فقُدم لهم ذكره"(6) .

وهكذا يجيىء النظم غاية في التناسق بين مفرداته والتآخي بين جملة، كما يجيئ التقديم والتأخير للأوقات محققاً الغرض الذي يهدف إليه سياق النص القرآني، وتلك - وأيم الله- آية من آيات الإعجاز في كتاب الله.

(1) ينظر البحر المحيط الآية17، 18من سورة الروم.

(2)

الآلوسي 21/45 مجلد 12، وينظر حاشية الشهاب على البيضاوي 7/379.

(3)

كما كانوا يؤرخون بالليالي ويبتدئون الشهر بالليلة الأولى التي بعد طلوع الهلال، وهو ما أقرهم الإسلام عليه واستمر عليه الحال.

(4)

التحرير 21/66 مجلد 10، 26/327 مجلد 12.

(5)

تفسير أبي السعود 7/55 مجلد4.

(6)

التحرير 21/66 مجلد 10.

ص: 25

"وتغيير الأسلوب في (عشياّ) لما أنه لا يجيىء منه الفعل بمعنى الدخول في العشي كالمساء والصباح والظهيرة، ولعل السر في ذلك على ما قيل: إنه ليس من الأوقات التي تختلف فيها أحوال الناس وتتغير تغيراً ظاهراً مصححاً لوصفهم بالخروج عما قبلها والدخول فيها، كالأوقات المذكورة، فإن كلا منها وقت يتغير فيه الأحوال تغيراً ظاهراً، أما في المساء والصباح فظاهر، وأما في الظهيرة فلأنها وقت يعاد فيه التجرد عن الثياب للقيلولة"(1) ، فهو وقت عورة كما صُرح بذلك في سورة النور.

وفي سر تخصيص الأولين في قوله تعالى: (حين تمسون وحين تصبحون) في آية الروم بالتنزيه، والأخيرين (عشياً وحين تظهرون) بالتحميد، يقول البيضاوي: إن "تخصيص التسبيح بالمساء والصباح، لأن آثار القدرة والعظمة فيهما أظهر، وتخصيص الحمد بالعشي الذي هو آخر النهار.. والظهيرة التي هي وسطه، لأن تجدد النعم فيهما أكثر"(2) .. وما جاء في الحواشي الشهابية وكذا ما ذكره الآلوسي من أن هذا يرد عليه عطف ظرف الزمان (عشياً) على المكان (في السموات) ، وأن هذا وعكسه لا يجوز (3) ، جوابه أنه يمكن جعله معطوفاً على مقدر أي (وله الحمد في السموات والأرض) دائماً (وعشياً) ، على أنه تخصيص بعد تعميم، والجملة اعتراضية (4) وعليه يكون العطف في (وحين تظهرون) على قوله قبل:(وحين تمسون وحين تصبحون) ، ويكون التخصيص في الثلاث بالتنزيه، وفي العشي بالتحميد.

(1) الآلوسي 21/45 مجلد 12.

(2)

تفسير البيضاوي 7/380.

(3)

حاشية الشهاب 7/380، والآلوسي 21/45 مجلد 12.

(4)

السابقان.

ص: 26

وعلى نحو ما جاء الترتيب في تقديم العشيّ في حال الاستضعاف والخوف - أعني على الوجه الذي تراءى لنا- متناغماً مع سياق الآيات التي قدمت فيها ومع نظمها.. يجيىء الترتيب كذلك في تقديم المقابل للعشيّ عندما يُزال ذلك ويُستشعر بدلاً عنه معاني الأمن والقوة، والأمان والكثرة. ولعلك تجد صدى هذا في حديث القرآن عن أهل الجنة وتحديداً في قوله سبحانه عنهم:(لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً.. مريم/62) ، وفي حديثه عما كان من أمر زكريا عليه السلام عندما (خرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوه بكرة وعشياً.. مريم/11)، وفي حديثه عن أهل الإيمان بعد أن مكّن الله لهم وذلك في قوله:(يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً. وسبحوه بكرة وأصيلا..الأحزاب/41، 42) .

فقد أضحى الذين زحزحوا عن النار وأدخلوا الجنة في مأمن من عناء الدنيا ومن عذاب جهنم (لايسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون. لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون.. الأنبياء/102، 103) ، وأضحى زكريا عليه السلام في مأمن عن أعين الرقباء والأعداء، وفي منعة من قومه الذين "كانوا من وراء المحراب ينتظرونه أن يفتح لهم الباب فيدخله ويصلوا"(1) ، كما تغير حال المؤمنين في المدينة بعد أن تهيىء لهم المجتمع الآمن المستقر، وبعد أن أذهب الله عنهم ما كان بهم من ضعف وصاروا ذوي بأس شديد ومنعة، ويمكن لك أن تستكنه هذه المعاني وتستشعر أنفة العظمة والعزة التي انخلعت على الصحب الكرام، وأنت تقارن ما جاء في آية الأحزاب بما جاء في قوله سبحانه عنهم:(واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس.. الأنفال/26) .

(1) تفسير أبي السعود 5/258 مجلد 3.

ص: 27

الأمر الذي يؤكد على أنه حتى عندما يكون أمر تقديم كلمة على كلمة متعلقاً بما ذكره العلوي في الطراز تحت باب (ما يجوز تقديمه ولو لم يفسد معناه)(1) ، فإن بلاغة النظم القرآني تقتضي أن يجيىء التناسق والترتيب بين الكلمات تحقيقاً للغرض، وأنه عندما يتغير الغرض من موضع إلى موضع آخر لا جرم يتغير معه ترتيب النظم. وإلا فـ"لو كان القصد بالنظم إلى اللفظ نفسه دون أن يكون الغرض ترتيب المعاني في النفس، ثم النطق بالألفاظ على حذوها لكان ينبغي - كما ذكر شيخ البلاغة - أن لايختلف حال اثنين في العلم بحُسن النظم أو غير الحُسن فيه لأنهما يُحسان بتوالي الألفاظ في النطق إحساساً واحداً ولا يعرف أحدهما في ذلك شيئاً يجهله الآخر"(2) .

وجه تخصيص طرفي النهار بالذكر دون سواهما:

ولا يعني هذا العنوان بحال أن يُقصر التسبيح لله تعالى على الوقتين ويُترك فيما عداهما. بل مراده البحث عن سر إفرادهما بالذكر، وبيان أنهما في ذلك وفي الدلالة على أهميتهما كإفراد التسبيح من بين الأذكار مع اندراجه فيهما لكونه العمدة (3) .

هذا وقد تعددت الأقوال في سر تخصيص وقتي الغداة والعشي بالذكر ليكونا وما في معناهما زمناً لتسبيح الله وتنزيهه دون سائر الأوقات الأخرى. فمن قائل أن الوجه في ذلك:

(1) ينظر الطراز للعلوي 2/73.

(2)

دلائل الإعجاز تحقيق محمود شاكر ص 51.

(3)

تفسير الآلوسي 22/61 مجلد 12، وينظر 9/224 مجلد 6، والبيضاوي 7/495.

ص: 28

1-

كونهما مشهودين أي يحضرهما ملائكة الليل والنهار، يلتقون فيهما ويتعاقبون على ابن آدم على نحو ما ورد في حديث أبي هريرة بلفظ:"يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم، وهو أعلم. كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون"(1) . ولا وجه لما ذكره الشهاب من أن دلالة الحديث "على ما ذكر محل نظر"(2) على اعتبار أن عروجهم يتنافى مع كون الوقتين مشهورين بحضورهم.. ذلك لأن الحديث نص في الطريقة التي يكونون عليها أثناء حضورهم وشهودهم على بني البشر فضلاً عن أنه كذلك نصٌّ في الصلاة التي تكون بوقتي الغداة والعشي. إذ ليسا إلا الفجر والعصر كما سبق تقريره، قال ابن بطال فيما نقله عنه ابن حجر "خَصّ هذين الوقتين لاجتماع الملائكة فيهما ورفعهم أعمال العباد لئلا يفوتهم هذا الفضل العظيم"(3) .

(1) أخرجه البخاري 555، 7429، 7486، 7223، ومسلم 632، والنسائي 1/240، 241، وأحمد 2/486، 257، 344، وابن حبان 1737، ومالك 1/170، والبغوي 380.

(2)

حاشية الشهاب 7/495.

(3)

فتح الباري 2/26.

ص: 29

2-

أنهما مجامع أوقات الصلاة يقول الآلوسي فيما نقله عن بعض أهل العلم: "يجوز أن يقال: تخصيص هذين الوقتين بالذكر دل على اختصاصهما بمزيد شرف، فيصلح ذلك الشرف سبباً لتعيينهما للصلاة والعبادة، فإن لفضيلة الأزمنة والأمكنة أثراً في فضيلة ما يقع فيهما من العبادات" ويعلق الآلوسي على ذلك بالقول: "وهذا عندي أصفى مما تقدم"(1) يعني من حمل التسبيح على ظاهر معناه من التنزيه والتسبيح لله سبحانه، ويشعر به ما أخرجه الطبراني في الأوسط وابن مردوديه عن ابن عباس في فضل صلاة الضحى وتعيين وقتها والاستدلال عليها من خلال قوله تعالى:(يسبحن بالعشي والإشراق.. ص/18) على ما سيأتي بيانه، كما يشعر به ما ورد عن بعض أهل العلم في المراد بالوقتين فقد قال الحسن: أريد بهما ركعتان بكرةً كانتا قد فرضتا بمكة وركعتان مثلهما عشية (2) ، و"قال قتادة أريد بهما صلاة الغداة -أي الفجر- وصلاة العصر"(3)، ومن الأحاديث التي وردت في فضلهما وفي تعيين وقتهما قوله- صلى الله عليه وسلم (4) :(من صلى البردين (5) دخل الجنة) زاد في رواية مسلم: (يعني العصر والفجر)، وأصرح منه حديث عمارة بن روبية وفيه:(لن يلج النار أحدٌ صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)(6) يعني الفجر والعصر، ورواه الشيخان بلفظ:(من صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وجبت له الجنة)(7) .. وليس في هذا من الإشكال في الحمل على الحقيقة أوالمجاز، ما

(1) الآلوسي 23/257 مجلد 13.

(2)

ينظرالآلوسي 24/118 مجلد 13.

(3)

السابق.

(4)

فيما أخرجه البخاري 574، ومسلم 635، وأحمد 4/80، والدارمي 1/331، وابن حبان1739.

(5)

قال الخطابي فيما نقله عنه ابن حجر سميتا بردين لأنهما تُصليان في بردي النهار وهما طرفاه حين يطيب الهواء ويذهب الحر [ينظر فتح الباري 2/42] .

(6)

أخرجه مسلم634وأحمد4/261وأبو داود427وابن أبي شيبة2/386وابن حبان1738.

(7)

أخرجه الطبراني في الأوسط كما في المجمع 1/318 برقم 1789 من حديث عمارة بن رويبة أيضاً.

ص: 30

في التعبير عن الوقتين بـ (طرفي النهار) ، إذ "يمكن اعتبار النهار من طلوع الشمس مع صحة ما ذكروه في صلاة الطرف الأول"(1) من أن المراد بها صلاة الصبح على ما ارتضاه الحسن وقتادة والضحاك (2) .

والصلاة على أي حال وأيّاً ما كان الأمر فيها حاصلة في الوقتين المباركين، أما قبل فرض الصلوات فلكونها متحققة بما ذكرنا نقلاً عن الحسن، أما بعد فرضيتها وجعلها في خمس فلكونها متحققة بصلاتي الضحى والعصر هذا على القول بأن طرف النهار الأول يطلق ويراد به ما بعد طلوع الشمس، أو بصلاتي الفجر والعصر كما قال قتادة وكما نطقت به الأحاديث سالفة الذكر، وذلك على القول بجعل طرف النهار مراداً به ما بعد طلوع الفجر.

3-

أن فيهما تبدو مظاهر العظمة ودلائل القدرة على بديع صنع الله في خلقه، إذ في هذين الوقتين تطالع النفس البشرية التغير الواضح في صفحة الكون من ليل إلى نهار ومن نهار إلى ليل، وفيهما يتصل القلب بالوجود من حوله، وهو يرى كلما طلعت شمس يوم أو غربت، وكلما أقبل ليل إو أدبر نهار، يد الله تغير الظواهر والأحوال وتقلب الليل والنهار بما يدل على كمال مقلِّبهما وقدرته على إيجاد المعدوم الممحوق كما كان وتسويته، وهنا وفي هذا الجو المفعم بفيض التدبر والتفكر في خلق السموات والأرض وفي هدأة الصبح وهو يتنفس ويتفتح بالحياة، وهدأة الغروب والكون يغمض أجفانه وينقلب البصر خاسئاً وهو حسير، يحمل التسبيح بحمد الله اعترافاً بفضله وعظيم امتنانه (3)، وفي هذا المعنى يقول البيضاوي:"وتخصيص التسبيح بالمساء والصباح لأن أثار القدرة والعظمة فيهما أظهر"(4) .

(1) الآلوسي 12/234 مجلد7.

(2)

ينظر السابق.

(3)

ينظر الظلال 3/1427، 4/2357، ونظم الدرر 6/525.

(4)

تفسير البيضاوي 7/380.

ص: 31

4-

أنهما وقتان للانتقال من حال إلى حال، بما يعني التذكير بالموت وبقيام الساعة، فالغدوة عندها ينقلب الإنسان من النوم الذي هو كالموت، إلى اليقظة التي هي كالحياة (1) ، ويتحول العالم من الظلمة التي هي طبيعة عدمية إلى النور الذي هو طبيعة وجودية، وأما عند الآصال فالأمر بالضد لأن الإنسان ينقلب من الحياة إلى الموت، والعالم ينقلب من النور الخالص إلى الظلمة الخالصة وتلك هي عبارة الرازي التي يقول بعدها معقباً، "وفي هذين الوقتين يحصل هذان النوعان من التغيير العجيب القوي القاهر ولا يقدر على مثل هذا التغيير إلا الإله الموصوف بالحكمة الباهرة والقدرة الغير متناهية"(2) .

(1) كما جاء في حديث حذيفة وأبي ذر رضي الله عنهما من أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا آوى إلى فراشه قال: باسمك اللهم أحيا وأموت، وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور"، والنشور هو الحياة بعد الموت. والحديث رواه البخاري 11/96، 97، 111 وأبو داود 5049 والترمذي 3413.

(2)

تفسير الرازي 7 /425وينظر 10/295 والآلوسي 9/224 مجلد 6.

ص: 32

ووجه دلالة التعبير بالغدو والآصال عن التذكير بالموت - على ما توحى به عبارته- هو أنه "عند الإصباح يخرج الإنسان من شبه الموت إلى شبه الوجود وهو اليقظة، وعند العِشاء يخرج الإنسان من اليقظة إلى النوم"(1) يقول البقاعي: "خَصّ هذين الوقتين وإن كان المراد الدوام بتسمية كل من اليوم والليلة باسم جزئه، ليذكر بالغدو: الانتشار من الموت، وبالأصيل: السكون بالموت والرجوع إلى حال العدم فيستحضر بذلك جلال الله عز وجل، فيكون ذلك حاوياً على تعظيمه"(2) ، أما وجه دلالة التعبير بهما على قيام الساعة فـ"لأن ساعتيهما، أثناء الطيّ والبعث"(3) . وعن الدلالة الظاهرة على طيّ الخلق وزوال الدنيا كلها والخلود إلى الراحة الجسدية بعد البعث، وعلى انتشار الناس بعد الاستيقاظ إلى الأمور الضرورية التي بها قوام حياتهم، يقول البقاعي في تفسيره لقول الله تعالى:(واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً.. الإنسان/25) أى "عند قيامك من منامك، وتذكرك أنه يحيي الموتى ويحشرهم إليه جميعاً، وعند انقراض نهارك وتذكرك انقراض دنياك وطيّ هذا العالم لأجل إيجاد يوم الفصل"(4) ، وهو في معنى ما ذكره الإمام الفخر.

(1) الر ازي 12/452.

(2)

نظم الدرر 3/179.

(3)

السابق 5/57.

(4)

السابق 8/276 بتصرف، وينظر 6/114، 7/266.

ص: 33

5-

كونهما "من الأوقات التى تختلف فيها أحوال الناس وتتغير تغيراً ظاهراً مصححاً لوصفهم بالخروج عما قبلها والدخول فيها"(1)، وهذا أمر ملموس ويستوجب ذكره سبحانه بمجامع التسبيح وتنزيهه عن كل نقص إذ فى ذكر أوقات التسبيح في آية الروم إشارة إلى ما فيها من التغير الذي هو منزه عنه وإلى ما يتجدد فيها من النعم ووجود الأحوال الدالة على القدرة على الإبداع الدال على البعث لذا قال لافتاً الكلام إلى الخطاب لأنه أشد تنبيهاً ودالاً على الاستغراق بنزع الخافض (حين تمسون) مقدماً المحو لأنه أدل على البعث الذي النزاع فيه وهو الأصل (2) وفي هذا المعنى أخرج الإمام أحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن السني في عمل اليوم والليلة والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدعوات عن معاذ بن أنس قوله صلى الله عليه وسلم:(ألا أخبركم لم سمى الله تعالى إبراهيم خليله الذى وفّى؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى: سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد فى السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون)، وفيه أخرج أبو داود والطبراني وابن السني وابن مردويه عن ابن عباس قوله- صلى الله عليه وسلم:(من قال حين يصبح (سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون.. إلى قوله تعالى: وكذلك تخرجون) أدرك ما فاته في يومه، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته من ليلته) ، إلى غير ذلك من الأخبار المؤدية إلى ذلك المعنى والدالة عليه.

(1) الآلوسي 21/45 مجلد 12.

(2)

ينظر نظم الدرر 5/609.

ص: 34

6-

كونهما المنوط بهما والمتطلع بالصلاة في زمانيهما إلى التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم، لحديث جرير بن عبد الله البجلي، الذى يقول فيه: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر يعني ليلة البدر فقال: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون (1) في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا) ، ثم قرأ (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب.. ق /39) (2) . يقول ابن حجر: "فيه إشارة إلى قطع أسباب الغلبة المنافية للاستطاعة كالنوم والشغل ومقاومة ذلك بالاستعداد له، وقوله:(فافعلوا) أى عدم الغلبة، وهو كناية عما ذكر من الاستعداد، ووقع فى رواية شعبة

فلا تغفلوا عن صلاة قبل طلوع الشمس.. الحديث (قوله: قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) زاد مسلم يعنى صلاة العصر والفجر، ولابن مردويه من وجه آخر عن إسماعيل:(قبل طلوع الشمس صلاة الصبح، وقبل غروبها صلاة العصر)" (3) . وقال الخطابى فيما نقله عنه الحافظ: "هذا يدل على أن الرؤية قد يرجى نيلها بالمحافظة على هاتين الصلاتين" (4) ، وذكر أهل العلم أن "وجه مناسبة ذكر هاتين الصلاتين عند ذكر الرؤية، أن الصلاة أفضل الطاعات، وقد ثبت لهاتين الصلاتين من الفضل على غيرهما، ما ذكر من اجتماع الملائكة فيهما ورفع الأعمال وغير ذلك، فهما أفضل الصلوات، فناسب أن يُجازى المحافِظ عليهما بأفضل العطايا وهو النظر إلى الله تعالى، والحكمة فى اجتماعهم في هاتين الصلاتين من لطف الله تعالى بعباده وإكرامه لهم، فقد جعل اجتماع ملائكته في حال طاعة عباده لتكون شهادتهم لهم أحسن شهادة" (5) ، ومما يستفاد من الحديث "أن الصلاة أعلى العبادات لأنه

(1) أي لا يحدث لكم ضيم والمراد نفي الازدحام.

(2)

أخرجه البخاري 554، 7434 ومسلم 633، وأبو داود 4729، والترمذي 2551، وابن ماجة177، وابن حبان 7442وأحمد 4/360.

(3)

فتح الباري 2/26.

(4)

السابق 2/27.

(5)

السابق 2/27، 28.

ص: 35

عنها وقع السؤال والجواب، وفيه الإشارة إلى عِظم هاتين الصلاتين لكونهما تجتمع فيهما الطائفتان، وفي غيرهما طائفة واحدة، وفيه الإشارة أيضاً إلى شرف الوقتين المذكورين، وقد ورد أن الرزق يقسم بعد صلاة الصبح وأن الأعمال ترفع آخر النهار فمن كان حينئذ في طاعة بورك في رزقه وفي عمله، وهذا يترتب عليه حكمة الأمر بالمحافظة عليهما والاهتمام بهما، وفيه تشريف هذه الأمة على غيرها، ويستلزم تشريف نبيها على غيره وفيه الإخبار بالغيوب وهذا يترتب عليه زيادة الإيمان، كما فيه الإخبار بما نحن فيه من ضبط أحوالنا حتى نتيقّظ ونتحفّظ في الأوامر والنواهى ونفرح في هذه الأوقات بقدوم رسل ربنا وسؤال ربنا عنا، وفيه إعلامنا بحب ملائكة الله لنا لنزداد فيهم حباً ونتقرب إلى الله بذلك، وفيه كلام الله تعالى مع ملائكته وغير ذلك من الفوائد" (1) .

(1) السابق 2/30 بتصرف.

ص: 36

7-

أنهما محَلّ الغفلة، وأشهر ما يقع فيه المباشرة للأعمال والاشتغال بالأمور (1) ، "فوجوب الذكر المحمول على ظاهره فيهما وجوب له في غيرهما من باب الأولى، قال ابن عباس رضى الله عنهما: لم يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر فإنه تعالى لم يجعل له حداً ينتهى إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله

ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى صلاتي الصبح والعصر لأن المواظبة عليهما – لما أشير إليه من صعوبتهما بما يعتري الإنسان في وقتيهما من الشغل - دالة على غاية المحبة لله، حاملة على المواظبة على غيرهما من الصلوات وجميع الطاعات بطريق الأولى" (2) . وفى نظم الدرر تفسيراً لآية ص:"قال (بالعشي) ، تقوية للعامل وتذكيراً للغافل، (والإشراق) أي في وقت ارتفاع الشمس عند انشغال الناس في الأشغال، واشتغالهم بالمآكل والملاذ من الأقوال والأفعال، تذكيراً لهم وترجيعاً عن مألوفاتهم إلى تقديس ربهم سبحانه"(3) . وفي تفسير المنار: "خُصّ هذان الوقتان بالذكر لأنهما طرفا النهار، ومن افتتح نهاره بذكر الله واختتمه به، كان جديراً بأن يراقبه تعالى ولا ينساه فيما بينهما، وأهم الذكر فيهما صلاتا الفجر والعصر اللتين تحضرهما ملائكة الليل وملائكة النهار، ويشهدان عند الله تعالى بما وجدا عليه العبد كما ورد فى الصحيح"(4) .

(1) ينظر تفسير الآلوسي 15/377 مجلد 9، 18/258 مجلد 10، والشهاب 5/166.

(2)

نظم الدرر 6/114، 115 بتصرف.

(3)

السابق 6/370 بتصرف.

(4)

تفسير المنار لمحمد رشيد رضا 9/557.

ص: 37

ولا يقدح فيما ذكرته هنا نقلاً عن بعض أهل العلم، ما قال به الآلوسي وصاحب الظلال من أن الوجه في اختصاصهما بالذكر "أنهما وقتا فراغ فيكون الذكر فيهما ألصق بالقلب"(1) وأصفى، لأن محل هذا الفراغ يكون عقيب الانتهاء من الاشتغال بأمورالحياة والمباشرة للأعمال الدنيوية وقبيل البدء بها، والعبد مطالب بذكر الله في كل حال.

8-

أن مقصوده الحضُّ على مخالفة ما كان عليه المشركون، "فإنهم كانو يجتمعون على عبادة الأصنام في الكعبة بكرةً وعشياً" فأمروا بالتسبيح في أوقات كانوا يذكرون فيها الفحشاء والمنكر" (2) .

(1) الآلوسي 9/224مجلد 6 وينظر الظلال 5/3087

(2)

الرازي14/319.

ص: 38

وغني عن البيان أن الحكم على أيٍّ من الأوجه السابقة، متوقف بالدرجة الأولى على مدارسة مقامات الأحوال وسياقات الآيات على ما سيأتى بيانه، كما أن الذهاب إلى أن الوقتين يطلقان ويراد بهما الدوام كما يقال فعله صباحاً ومساءاً إذا داوم عليه - على ما قال به كثير من المفسرين في عديد من المواضع التي ورد فيها ذكر الآنين – لا يتماشى مع القول بالتخصيص (1) ، وأقصى ما يمكن القول به أنه إذا تسنى للملائكة ملازمة التسبيح على الدوام فإن بني البشر لا يمكنهم فعل ذلك لاحتياجهم إلى الأكل والشرب وتحصيل ذلك وما شابهه من ملبوس ومأكول ومركوب فكانت الإشارة بالتسبيح في تلك الأوقات التي إذا أتى العبد فيها بتسبيح الله كان كأنه لم يفتر، وهو إذا نزه ربه في أول النهار وآخره فإن الله تعالى مظهره في أوله وهو دنياه وفي آخرته وهو عقباه، وذلك لأن مريد العموم قد ينكر الطرفين ويفهم منهما الوسط كقوله عليه السلام:(لو أن أولكم وآخركم ولم يذكر وسطكم ففهم منه المبالغة في العموم.. وكذا الأمر بالنسبة للصلاة فإن العبد إذا صلى ركعتين حسب له صرف ساعتين من التسبيح وهكذا بالنسبة لسائر الصلوات التي يحصل له بأدائها صرف سبع عشرة ساعة فما بقي له وهو سبع ساعات هو ما بين نصف الليل وثلثيه، لأن ثلثيه ثمان ساعات ونصفه ست ساعات وما بينهما السبع وهذا القدر لو نامه الإنسان لكان كثيراً وإليه الإشارة بقوله: (قم الليل إلا قليلاً.. المزمل /4) وزيادة القليل على النصف هي ساعة فيصير سبع ساعات مصروفة إلى النوم والنائم مرفوع عنه القلم، فيقول الله لملائكته عبدي صرف جميع أوقات تكليفه في تسبيحي فلم يبق لكم أيها الملائكة عليهم المزية إذا ادعيتم بقولكم:(ونحن نسبح نحمدك ونقدس لك.. البقرة /30) على سبيل الانحصار بل هم مثلكم فمقامهم مثل مقامكم في أعلى عليين (2) .

(1) لتنافيهما، وهذا من البداهة بمكان.

(2)

ينظر الرازي 12/ 450، 601.

ص: 39