المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌أصل هذا الكتاب   أطروحة علمية تقدم بها المؤلف إلى جامعة - منهج الكرماني فى كتابه الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري

[أحمد محمد أبو نقطة]

فهرس الكتاب

‌أصل هذا الكتاب

أطروحة علمية تقدم بها المؤلف إلى جامعة أم درمان الإسلامية في السودان، كلية الدراسات العليا، كلية أصول الدين، قسم السنة وعلوم الحديث

• بإشراف أ. د. عوض الكريم حسين عبد الله ميرف

• وقام بمناقشتها أ. د. البشير علي حمد الترابي، و أ. د. محمد موسى حمًاد

• وقد حاز بها درجة الدكتوراه، وذلك في 1438 هـ - 2017 م

ص: 2

(1)

أخرجه الترمذي، كتاب: أبواب العلم، بَابُ: فَضْلِ طَلَبِ العِلْمِ، رقم (2646).

ص: 5

‌إهداء

• إلى من رباني، وأحسن إليّ، وشجعني على طلب العلم، والذي أسأل الله أن ينزل عليه شآبيب رحمته، إنه سميع مُجيب.

والدي رحمه الله تعالى

• إلى نبع الحنان، الصابرة المحتسبة، والتي تدعو الله لي في الليل

والنهار، والتي أسأل الله أن يمدها، بطول العُمر، مع دوام الصحة والعافية.

أمي حفظها الله ورعاها

• إلى شريكة حياتي في السراء، والضراء، ومن كانت لي نِعم المُعين على الجد والمثابرة، في التحصيل، وإكمال طريق العلم.

زوجتي الغالية أم تقي

• إلى عقد اللؤلؤ، والمرجان، ومصنع الرجولة، والشهامة، والإحسان، والذين أسأل الله أن يحفظهم، ويمد في أعمارهم.

إخوتي وأخواتي الأعزاء

ص: 7

• إلى قرة عيني، وفلذة كبدي، وبهجةِ نفسي ومحطّ آمالي، وزينة الحياة الدنيا، ورضا الله في الإحسان إليهم وتربيتهم.

أولادي مهجة فؤادي

ص: 8

‌شكر وعرفان

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يشكر الناس لم يشكر الله»

(1)

.

أتوجه بالشكر الجزيل، وجميل العرفان إلى:

• الأستاذ الفاضل الدكتور المشرف على أُطروحتي: عوض الكريم حسين عبدالله ميرف حفظه الله تعالى، ونفع به على ما أفادني وأرشدني من ملاحظاته وتعليقاته النافعة.

• الأستاذ الدكتور البشير علي حمد الترابي، مناقشاً خارجياً، والأستاذ الدكتور محمد موسى حمًاد مناقشاً داخلياً.

• إلى جامعة أم درمان الإسلامية، وأساتذتها، والمشرفين وكل العاملين فيها على ما يقومون به من جهد مشكور.

• وإلى كل من أرشدني وساعدني وأفدت منه، جزاهم الله خيراً.

أحمد

(1)

أخرجه الترمذي، كتاب: أبواب البر والصلة، باب: ما جاء في الشكر لمن أحسن إليك، رقم (1955).

ص: 9

‌المقدمة

الحمد لله على توفيقه وإحسانه، وفضله وجوده وإكرامه، والشكر على جميل نعمه وامتنانه، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله، المبلغ عن ربه تنزيله وآياته، وعلى آله وأصحابه، الذين ساروا على سنته وهديه وآثاره، وعلى من سار على نهجهم، واقتفى أثرهم وعمل بما عَلِم، وبيّن للناس العلم وأسراره.

أما بعد:

فإنّ مما تميزت به هذه الأمة وتفردت به عن سائر الأمم أنها كانت من أهل علم الحديث والسند، وقد تصدى لهذا العلم أفذاذ من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم نما هذا العلم وتطور واتسع وتكامل، حتى استقرت مصطلحاته، وكان الغاية منه الحفاظ على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من التحريف والتبديل، والدخيل

وقد مرّ تدوين الحديث الشريف في مراحل عدة فكانت الأولى هي مرحلة الحفظ في الصدور، وهي تمتد من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين ومطلع الخلافة الأموية، والمرحلة الثانية هي مرحلة التدوين التي بدأت في القرن الثاني الهجري، ومُزج في هذه المصنفات حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وفتاوى الصحابة والتابعين، وصُنّف فيها موطأ الإمام مالك وغيره.

ص: 11

وفي المرحلة الثالثة كانت مرحلة تجريد الحديث النبوي عن غيره من أقوال الصحابة والتابعين، وكانت هذه الفترة ترجع إلى أثناء القرن الثالث والرابع الهجريين، وفيها كثر تدوين الحديث على طريقة المسانيد، كمسند الإمام أحمد، وظهرت في هذه المرحلة الأصول الستة التي عليها التعويل عند أهل السنة والجماعة، وهي: صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وجامع الترمذي، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه، ولم ينتهِ القرن الرابع حتى كاد الحديث النبوي تستوعب أسانيده ومصنفاته إلا ما شذ وندر، ثم جاءت مرحلة التهذيب والترتيب التي تهتم بالتبويب والجمع والتفريق بين المصنفات، أو الاختصار

(1)

.

هذا وقد لقيت هذه المصنفات عناية كبيرة في الشرح والاختصار بعد القرن الرابع، فكثرت شروح الصحاح والسنن والمسانيد، وكان من أعظم ما عُني به حفظاً وشرحاً واختصاراً، صحيح الإمام البخاري، (ت 256 هـ)، الذي هو أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل

(2)

، فلا نجد مُصنفاً تناوله العلماء بالشرح والبيان،

(1)

ينظر: الإيضاح في علوم الحديث والاصطلاح، أ. د مصطفى الخن، ود. بديع السيد اللحام، ص 11 - 15.

(2)

قال إمام الحرمين الجويني (ت 478 هـ): لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما بصحته من قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ألزمته الطلاق، ولاحنثته، لإجماع علماء المسلمين على صحتهما، (صيانة صحيح مسلم، ابن الصلاح، ص 86، ونقل ابن الصلاح كذلك كلاماً مشابهاً لقول الجويني للحافظ أبي نصر الوايلي السجزي (ت 444 هـ) في معرفة أنواع علم الحديث، ص 26.

وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: «اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم وتلقتهما الامة بالقبول» ، ينظر: شرح مسلم، 1/ 14.

ص: 12

كصحيح الإمام البخاري، فقد، بلغت شروحه شروحاً كثيرة

(1)

!

منها: شرح الإمام، أبي سليمان: حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي، الخطابي، (ت 338 هـ)، وشرح الإمام أبي الحسن: علي بن خلف، الشهير: بابن بطال المغربي، المالكي، (ت 449 هـ)، ومن أعظم هذه الشروح كذلك وأشهرها، فتح الباري شرح صحيح البخاري، للإمام ابن حجر العسقلاني، (ت 852 هـ) وغيرها من الشروح

(2)

.

ومن جميل الشروح عظيمة النفع شرح العلاّمة المحدث، شمس الدين: محمد بن يوسف بن علي الكرماني (ت 786 هـ) واسم كتابه الكواكب الدراري شرح صحيح البخاري، وهو شرح مختصر بين الطول والقِصَر، في اثني عشر مجلداً شرحه في عشرين عاماً تقريباً، وهو موضوع البحث، وإكرام من الله أن قمت بدراسة عن هذا الشرح النفيس.

‌أولاً أهمية موضوع البحث:

تظهر أهمية البحث من خلال ما يأتي:

1 -

أن الكتاب شرح لأصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل، وجمع فيه مؤلفه

(1)

أحصاها الأستاذ عصام عرار الحسيني في كتابه (إتحاف القاري بمعرفة جهود وأعمال العلماء على صحيح البخاري) فبلغ عددهم ثلاثمئة وسبعون! ينظر ص 48.

(2)

ينظر: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، حاجي خليفة، 1/ 541، فقد ذكر بعض أسماء من شرحوا صحيح البخاري.

ص: 13

عصارة من علمه؛ ففيه من التحقيقات والفوائد العلمية الشيء الكثير.

2 -

أهمية هذا الشرح، وخصوصاً بالنسبة لمن شرح البخاري بعد الكرماني، فقد نقلوا عنه، وأخذوا منه، واعتمدوا كلامه، واتبعوا طريقته في الشرح.

3 -

سعة اطلاع الكرماني وعلمه، وتوثيق ما نقله عن الأئمة، مما يُطلع الباحث على هذه المراجع والمصادر المهمة، ويجد فيها حاجته.

4 -

بالإضافة إلى اهتمام الكرماني بعلم مصطلح الحديث، رواية ودراية.

‌ثانياً أسباب اختيار موضوع البحث:

تتلخص أسباب اختيار موضوع البحث بما يأتي:

1 -

بيان منهج الكرماني في شرحه للبخاري، والاطلاع على أسلوبه، والاستفادة من منهجه في طريقته لعرض الحديث وكيفية توظيف الدليل في مكانه المناسب، وعرضه للمسائل الحديثية، والفقهية والأصولية

مما يُكوّن لديّ ملكة وخبرة في مجال البحث عامة، وفي مجال الاختصاص خاصة.

2 -

الرغبة في إظهار أهمية الكتاب، وأنه لا يُستغنى عنه، بالإضافة إلى أهمية سيرة مؤلفه وعصره الذي عاش فيه وما فيه من اضطرابات إلا أنها لم تُثنيه عن مراده بالتأليف، وتعليم العلم، مما يبعث إلى النفوس الهمم والجد والمثابرة.

‌ثالثاً الدراسات السابقة، وما كُتب عن الموضوع:

اطلعت في محرك البحث «Google» (جوجل) عن دراسات سابقة فوجدت عنواناً باسم: منهج الكرماني في شرح صحيح البخاري: دراسة مقارنة بشرحي العيني وابن حجر، للباحث: سيد، محمد التوني عبد السلام، وهي

ص: 14

أُطروحة دكتوراه تقدم فيها الباحث: لجامعة القاهرة، كلية دار العلوم، قسم الشريعة الإسلامية، إلا أني لم أحصل على نسخة منها، والظاهر أن الكتاب لم يُطبع إلى الآن.

كما وجدت عنواناً مشابها في محرك البحث باسم: منهج الكرماني في كتاب الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري للباحث: أحمد منجي حسين أحمد، وهي أُطروحة دكتوراه مقدمة لجامعة أم القرى كلية الدعوة وأصول الدين، غير أني لم أجد هذا البحث، ولم أطلع على مضمونه. وعلى كل حال «لكل وجهة هو موليها» .

‌رابعاً مشكلة البحث:

في ثنايا هذا البحث نجد ميزة كتاب الكواكب الدراري على غيره من الكتب، وهل بيّن الكرماني جوانب الاستدراك على الذين سبقوه بشرح البخاري؟ كما ذكر هو في مقدمة شرحه، وهل التزم بما ذكره في مقدمة شرحه؟ وهل تأثر فيه من بعده من شرّاح الحديث؟

‌خامساً المنهج المتبع في البحث:

اتبعت في هذا البحث عدة مناهج منها الاستقرائي التتبعي، فتتبعت

ما يتعلق بالموضوع من كتب التراجم، وشروح الحديث التي تقوّي البحث، ووظفتها في مكانها المناسب.

كما اعتمدت على المنهج الوصفي، في وصف الكواكب الدراري، وبينت ما فيه من مزايا.

ولا يخلو البحث من المنهج التحليلي، الذي ناقشت فيه الآارء وحللت فيه

ص: 15

المسائل، لأصل فيه إلى الصواب.

‌سادساً عملي في البحث:

‌1 - فيما يتعلق بالتخريج والعزو:

عزوت الآية القرآنية في الحاشية، مع ذكر اسم السورة ورقم الآية.

خرجت الأحاديث النبوية الشريفة تخريجاً كاملا، فذكرت اسم المصدر وعنوان الكتاب والباب، ورقم الحديث.

اكتفيت بتخريج الحديث من الصحيحين، أو أحدهما، ولا انتقل إلى غيرهما إلا للحاجة، فإن لم أجد الحديث في الصحيحين خرجته من كتب السنن، ثم المسانيد والمعاجم.

عزوت الأقوال، والآثار إلى أصحابها، وأحلت إلى مصادرها المصنفة في الحاشية.

‌2 - فيما يتعلق بمنهج الكتابة:

بينت المُشكل من الكلام، وضبته بالحركات الصحيحة، سواء كانت علَماً أوبلداً أو اسماً مبهماً، وابتعدت عن الأسلوب الأدبي والإنشائي، والتكلف في الكلام، إذأن هذه الأساليب لا تكون في البحوث العلمية.

كما أبرزت من الخط؛ لتسهيل المراجعة والقراءة، واعتمدت خطاً في المتن أكبر منه في الحاشية.

كما قمت بالاهتمام بعلامات الترقيم المناسبة، كالفاصلة والنقط، وإشارتي التعجب والاستفهام.

اعتمدت في كتابة الحديث الشريف على النسخة المعتمدة في شرح

ص: 16

الكرماني، وهي نسخة لا تعتمد الإملاء المتبع في بعض الكلمات، كالزهري، والنبي

تُكتب الياء من دون نُقط.

اكتفيت في خطة البحث بالباب وتحته الفصل، وبعده المبحث، من دون المطلب، وذلك لطبيعة البحث، ولكثرة تفرع النقاط عن المبحث، وإنما رتبتها تحت المبحث في نقاط مرقمة، أو مفقطة أي (-) هكذا.

‌3 - فيما يتعلق بالتعريفات والتراجم بأنواعها:

ترجمت لأغلب الأعلام المغمورة، دون المشهورة، واكتفيت باسم العلم ونسبه وكنيته، ووفاته، وبعض شيوخه، وما قيل فيه في بعض الأحيان، وكتابٍ أو كتابين من مؤلفاته، ولم أُترجم لرجال سند الحديث وذلك لكثرتهم، وهناك كتب متخصصة في تراجمهم.

عرّفت بالأماكن المغمورة دون المشهورة من كتب المعاجم والبلدان والتاريخ.

عرّفت بالجماعات، ورجعت في ذلك لكتب الفِرَق، وكتب التعريفات.

‌4 - فيما يتعلق بالنقل عن المصادر والمراجع:

عندما أنقل عن مرجع بالنص والحرف أضعه بين قوسين متتاليين «

»، وأحيله إلى مصدره في الحاشية.

وعندما أنقل عن مرجع بالمعنى أضعه بين قوسين هكذا (

)، وأقول في الحاشية يُنظر كذا وكذا.

إن تصرفت في الكلام أقول في الحاشية، من كتاب كذا يتصرف، أو ببعض التصرف.

ص: 17

في الحاشية أذكر الصفحة والجزء إن كان للكتاب أكثر من جزء، وإن كان الكتاب مجلداً واحداً أكتفي بذكر الصفحة.

عندما أقول في الحاشية (السابق) أعني به المصدر والمرجع السابق.

‌5 - فيما يتعلق بالفهارس:

وضعت في آخر البحث فهرساً للآيات القرآنية، ورتبتها على حسب ورودها في المصحف الشريف، مع ذكر اسم السورة ورقم الآية، ورقم الصفحة في البحث.

وفهرس الأحاديث الشريفة والآثار: على حسب ترتيبها الهجائي، وذلك باعتبار أول كلمة من الحديث مع ذكر الصفحة في البحث.

فهرس الأبيات الشعرية: رتبتها على حسب القافية مع ذكر الصفحة.

فهرس الجماعات والأماكن: رتبتها هجائياً مع ذكر الصفحة.

فهرس الأعلام: رتبتها هجائياً، دون النظر إلى «ابن» ، «أبو» ، «أم» ، مع إهمال أل التعريف.

فهرس المصادر والمراجع: رتبتها على حروف المعجم؛ وذلك مبتدئاً باسم الكتاب أولاً، ثم المؤلف، ثم المحقق إن وُجد، والدار الطابعة، هكذا: ط/ 1، ومكان الطبع وتاريخه إن وُجد.

فهرس المحتويات (الموضوعات): أذكر أسماء العناوين في البحث مع ذكر أرقام الصفحات.

وقد قسمت هذا البحث إلى أربعة أبواب:

الباب الأول: التعريف بالإمام الكرماني، وكتابه الكواكب الدراري.

ص: 18

الباب الثاني: الصناعة الحديثية عند الكرماني وطرائقه المتعلقة بالأسانيد، والتخريج وعلوم الرواة.

الباب الثالث: منهج الكرماني في تراجم أبواب البخاري، ودراسة متونه.

الباب الرابع: منهج الكرماني وطريقته في علوم مصطلح الحديث وعلله.

هذا ويحتوي الباب على فصول ومباحث ونقاط فرعية.

ص: 19

‌خطة البحث

وتشمل على أربعة أبواب وخاتمة.

* الباب الأول: التعريف بالإمام الكرماني، وكتابه الكواكب الدراري وفيه:

الفصل الأول: التعريف بالإمام الكرماني وفيه:

المبحث الأول: عصر الإمام الكرماني.

1 -

الحياة السياسية.

2 -

الحياة الاجتماعية.

3 -

الحياة العلمية.

المبحث الثاني: سيرة الكرماني الذاتية والعلمية وتشمل:

أولاً: اسمه ونسبه، ولقبه، وولادته، ونشأته ومكانته العلمية.

ثانياً: أخلاقه وصفاته.

ثالثاً: عقيدته ومذهبه.

رابعاً: شيوخه وتلامذته.

خامساً: مؤلفاته.

ص: 21

سادساً: وفاته.

الفصل الثاني: التعريف بكتاب الكواكب الدراري شرح صحيح البخاري وفيه.

المبحث الأول: التحقق من اسم الكتاب، وصحة نسبته للمؤلف.

المبحث الثاني: تاريخ التأليف وأسبابه ومكانه.

المبحث الثالث: مصادر الكرماني وموارده.

المبحث الرابع: أهمية كتاب الكواكب الدراري.

المبحث الخامس: المنهج العام للكرماني في كتاب الكواكب الدراري.

المبحث السادس: بعض المآخذ على الكرماني، ويشمل:

1 -

اعتراض ابن حجر في فتح الباري.

2 -

اعتراض البرماوي في اللامع الصبيح.

* الباب الثاني: الصناعة الحديثية عند الكرماني وطرائقه المتعلقة بالأسانيد، والتخريج وعلوم الرواة. وفيه ثلاثة فصول ويحتوي كل فصل على مباحث:

الفصل الأول: منهج الكرماني وصناعته الحديثية المتعلقة بالأسانيد وفيه:

المبحث الأول: تعريف المنهج والصناعة الحديثية.

المبحث الثاني: منهج الكرماني في دراسة أسانيد صحيح البخاري.

المبحث الثالث: تنبيه مهم من البخاري على صيغ الأداء والتحمل وتعليق الكرماني عليها.

المبحث الرابع: شرح سلسلة السند وما فيها من إشكال.

ص: 22

المبحث الخامس: تقوية الخبر بقول أشهد.

المبحث السادس: بيان ما أوهم وأشكل في السند.

المبحث السابع: بيان أصح الأسانيد ورأي البخاري.

الفصل الثاني: منهج الكرماني في تخريج الأحاديث وبيان الفوائد من ذلك، وفيه:

المبحث الأول: التخريج تعريفه وفوائده.

المبحث الثاني: عدد أحاديث صحيح البخاري.

المبحث الثالث: تخريج أحاديث صحيح البخاري.

المبحث الرابع: تخريج أحاديث الشرح من كتب الرواية المتنوعة.

المبحث الخامس: صنعته بالمعلقات.

المبحث السادس: الإجابة على الأحاديث المنتقدة على البخاري.

المبحث السابع: بيان اللطائف الإسنادية.

الفصل الثالث: منهج الكرماني وصناعته الحديثية في علوم الرواة، وفيه:

المبحث الأول: ذكر ما يتعلق باسم الراوي.

المبحث الثاني: ذكر ما يتعلق بلقب الراوي وكنيته ونسبه.

المبحث الثالث: ذكر ما يتعلق بشيوخ الراوي وتلامذته، ومكانته ووفاته.

المبحث الرابع: ذكر ما يتعلق بالاشتباه والالتباس في أسماء الرواة وأنسابهم.

المبحث الخامس: الجرح والتعديل.

المبحث السادس: رواة صحيح البخاري وأقول العلماء فيهم.

ص: 23

* الباب الثالث: منهج الكرماني في تراجم أبواب البخاري، ودراسة متونه، وفيه فصلان، وكل فصل يحتوي على مباحث.

الفصل الأول: منهج الكرماني في تراجم الأبواب وفيه:

المبحث الأول: تمهيد.

المبحث الثاني: بيان مناسبات تراجم البخاري بأنواعها.

المبحث الثالث: الإجابة عن المناسبات الخفية، (الاستنباطية).

الفصل الثاني: منهج الكرماني فيما يتعلق بمتون الصحيح وفيه:

المبحث الأول: بيان غريب الحديث.

المبحث الثاني: العناية بمسائل اللغة العربية.

المبحث الثالث: منهج الكرماني في تناول الأحكام الفقهية.

المبحث الرابع: الاهتمام بالقواعد الأصولية.

المبحث الخامس: بيان مختلف الحديث ومشكله.

* الباب الرابع: منهج الكرماني وطريقته في علوم مصطلح الحديث وعلله وفيه فصلان وفي كل فصل مباحث:

الفصل الأول: جهوده المتعلقة بعلم مصطلح الحديث، وفيه:

المبحث الأول: معنى الحديث والخبر والأثر والحديث القدسي عند الكرماني.

المبحث الثاني: الحديث المرفوع والموقوف والمقطوع.

المبحث الثالث: الحديث المنقطع والمرسل والمدلس.

المبحث الرابع: الحديث الغريب والفرد.

ص: 24

المبحث الخامس: الحديث المعنعن والمؤنن.

المبحث السادس: الحديث المسلسل.

المبحث السابع: زيادة الثقة.

المبحث الثامن: بيان الإسناد العالي والنازل.

المبحث التاسع: مسائل متفرقة في المصطلح.

الفصل الثاني: جهود الكرماني في العلوم المتعلقة بعلم العلل.

المبحث الأول: تعريف العلة لغة واصطلاحاً، وأهمية معرفة علم العلل.

المبحث الثاني: الإعلال بالاضطراب.

المبحث الثالث: العلل الناتجة بسبب وهم الراوي.

المبحث الرابع: الإعلال بالإدراج.

المبحث الخامس: رواية الحديث بالمعنى.

المبحث السادس: اختصار الحديث وتقطيعه.

المبحث السابع: شك الراوي في الحديث.

المبحث الثامن: مخالفة الراوي لماروى.

المبحث التاسع: التنبيه على مزيد من متصل الأسانيد.

* الخاتمة:

أولاً النتائج.

ثانياً والتوصيات.

وأسأل الله العلي العظيم أن يجعل عملي خالصاً لوجهه، وأن ينفعني به في

ص: 25

الدنيا والآخرة، إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه.

* * *

ص: 26

الباب الأول

التعريف بالإمام الكرماني، وكتابه الكواكب الدراري

* الفصل الأول: التعريف بالإمام الكرماني.

* الفصل الثاني: التعريف بكتاب الكواكب الدراري شرح صحيح البخاري.

ص: 27

‌الباب الأول

التعريف بالإمام الكرماني، وكتابه الكواكب الدراري

‌الفصل الأول

التعريف بالإمام الكرماني

‌المبحث الأول

عصر الإمام الكرماني

عاش الإمام الكرماني في الفترة الممتدة بين تاريخ ولادته سنة: (718 هـ)، وتوفي سنة (786 هـ)، وهو المقصود من عصر المؤلف الذي عاش فيه، وما حوى ذلك العصر من أحداث مختلفة ومتنوعة، والإنسان يتأثر في بيئته ويؤثر بها، فلذلك تناولت عصر المؤلف من النواحي الآتية:

‌أولاً الحياة السياسية:

تشير مصادر التاريخ أن الفترة الزمنية التي عاش بها الإمام الكرماني، مليئة بالاضطرابات السياسية، وتشهد مزيداً من التفكك والانقسام، داخل البلاد الإسلامية، وقد نشأ على إثر ذلك إمارات لم تكن من قبل، مما أدى إلى وقوع خلافات بينها أدت إلى حروب بينها، وبين الأمم المجاورة لها

(1)

.

(1)

السلطان سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت، علي الصّلاّبي، ص 84.

ص: 29

وقد سبقت حياة الكرماني هذه الاضطرابات واستمرت، وامتدت حتى عصره، فمن أهم الاحداث التي سبق عصر الكرماني:

1 -

الحملات الصليبة المتعددة على المسلمين والتي كان الهدف الأساسي منها تخليص الأرض المقدسة من أيدي المسلمين، وأسباب أخرى اقتصادية وأهمها السيطرة على البلاد الإسلامية، وتنظيمها على وفق تعاليم الكتاب المقدس

(1)

.

2 -

سقوط دولة الخلافة العباسية، بعد هجوم المغول على عاصمة الخلافة بغداد وأدى إلى سقوطها، سنة (656 هـ) واجتياح كثير من البلدان الإسلامية

(2)

.

3 -

كما أن الخلافات المذهبية قد انتشرت آنذاك، وقامت حملات دفاع عن الأمة الإسلامية ضد الصليبيين بفضل المخلصين من أبنائها الأيوبيين بقيادة صلاح الدين الأيوبي

(3)

رحمه الله تعالى، الذي أوقع فيهم هزيمة نكراء، في معركة حطين، سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة (583 هـ)

(4)

، كما كان الدور الكبير للماليك

(1)

ينظر الحملة الصليبية على العالم الإسلامي والعالم (الجذور الممارسة سبل المواجهة)، يوسف العاصي إبراهيم الطويل، 1/ 323.

(2)

المغول التتار بين الانتشار والانكسار، علي محمد الصَّلاَّبي، ص 212 - 213.

(3)

يوسف بن أيوب بن شاذي، أبو المظفر، صلاح الدين الأيوبي، الملقب بالملك الناصر، رجل سياسة وحربعُرف بالتواضع مع الناس، وبطل حطين وفاتح القدس سنة: سنة 583 هـ، اطلع على جانب حسن من الحديث والفقه والأدب، (ت 589 هـ)، الأعلام، الزركلي، 8/ 220.

(4)

ينظر: صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس، علي محمد الصّلاّبي، ص 529.

ص: 30

الذين امتد عصرهم من سنة ست وخمسين وست مئة (656 هـ) إلى سنة ثلاث وعشرين وتسع مئة (923 هـ)، كان لهم الدور في الدفاع عن أرض الإسلام في معركة عين جالوت سنة (658 هـ) ضد التتار بقيادة المظفر

(1)

قطز

(2)

.

وبقيت العراق وبلاد فارس تحت حكم المغول واستطاع هولاكو أن يُقيم له ولذريته دولة اتخذ من إيران عاصمة لها، عُرفت بدولة (الإيلخانيين)

(3)

، واستمرت من منتصف القرن السابع الهجري إلى منتصف القرن التاسع الهجري (سنة 744 هـ) حتى توفي آخر ملوك هذه الدولة، واضطربت الدولة من بعده حتى استولى عليها محمد بن المظفر ولكنه لم يُفلح في إقامة قواعد دولته، وذلك بسبب أنه قسّم البلاد بين ابنيه المتنافسين على الحكم فجعل أحدهما ملك أصبهان، والآخر ملك شيراز وكرمان، فبقيت الخلافات بينهم مستمرة؛ فأدت إلى نشوب الحرب بينهما، حتى استولى تيمورلنك على البلاد سنة (788 هـ)

(4)

.

ولم يكن حال الشام ومصر وهي بلاد نزل بها الكرماني أفضل حالاً من

(1)

قطز بن عبدالله المعزي، سيف الدين: ثالث ملوك الترك المماليك بمصر والشام، أعظم من قاتل التتار ودحرهم في معركة عين جالوت، سنة: 658 هـ، مات مغدوراً سنة:(658 هـ). الأعلام للزركلي، 5/ 201.

(2)

ينظر: البداية والنهاية، ابن كثير الدمشقي، 13/ 221، 528 والسلطان سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت، عَلي محمد محمد الصَّلاَّبي، ص 105.

(3)

ينظر: المغول التتار بين الانتشار والانكسار، عَلي محمد محمد الصَّلاَّبي، ص 251.

(4)

ينظر تاريخ ابن خلدون، 5/ 629.

ص: 31

العراق وبلاد فارس، فقد كان للمماليك الذين جاء بهم الملك الصالح نجم الدين أيوب دور في الدفاع عن ملكه، وعندما دبّ الخلاف في خلافة بني أيوب، وأساء «توران شاه» للمماليك، فقاموا بقتله، فصار لهم كلمة مسموعة في مصر فملّكوا عليهم من بعده زوجة أبيه «شجرة الدر

(1)

»

(2)

.

«فكان الخطباء يقولون بعد الدعاء للخليفة: واحفظ اللهم الجهة الصالحة ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين، أم خليل المستعصمية، صاحبة السلطان الملك الصالح. ونقش اسمها على الدينار والدرهم، وكانت تعلم على المناشير وتكتب: والدة خليل. ولم يل مصر في الإسلام امرأة قبلها»

(3)

.

وبقي حكم المماليك

(4)

مستمراً، وفي ازدياد حتى استولوا على الشام،

(1)

الصالحية، أم خليل، الملقبة بعصمة الدين: ملكة مصر. ذات عقل وحزم، كاتبة قارئة، لها معرفة تامة بأحوال المملكة، أصلها من جواري الملك الصالح نجم الدين أيوب. أعتقها وتزوجها، فكانت معه في البلاد الشامية، كانت في بعض الأحيان تدير أمور الدولة عند غيابه في الغزوات، (ت 655 هـ). الأعلام، الزركلي، 3/ 158.

(2)

ينظر البداية والنهاية، ابن كثير، 13/ 207، والنجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، 6/ 372، وخطط الشام، محمد كرد علي، 2/ 101.

(3)

حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة، السيوطي، 2/ 36.

(4)

يطلق اسم (المماليك) اصطلاحا، على أولئك الرقيق الأبيض غالبا الذين درج بعض الحكام المسلمين على استحضارهم من أقطار مختلفة وتربيتهم تربية خاصة، تجعل منهم محاربين أشداء، استطاعوا فيما بعد أن يسيطروا على الحكم في مصر وأحيانا الشام والحجاز وغيرها قرابة الثلاثة قرون من الزمان ما بين 648 - 922 هـ (1250 - 1517 م) ينظر: المماليك البحرية وقضائهم على الصليبيين في الشام، شفيق جاسر أحمد محمود، ص 107.

ص: 32

وأطراف من العراق أخذوها من أيدي التتار، وقد تنازلت شجرة الدر عن الملك لقائد الجيش «عز الدين أيبك» الذي تزوجها، فكان عز الدين أيبك أول سلاطين المماليك بالديار المصرية، وعلى يده انتقل الحكم من الأيوبيين إلى المماليك، ومن بعده استمر الحكم للمماليك في مصر حتى عام (923 هـ)

(1)

.

كما أن الحكم المملوكي انقسم إلى دولتين هما:

دولة المماليك البحرية، (648 - 784 هـ)، ودولةالبرجيَّة أوالجركسيَّة

(2)

(784 - 923 هـ)، وقد كثرت الفتن والاضطرابات، والثورات في مصر في ذلك الوقت مما أدى إلى النزاع بين الأمراء والسلاطين على الحكم

(3)

.

فيظهر أن أغلب البلاد التي نزل بها الكرماني كانت مليئة بالاضطرابات السياسية، والحروب، والانقلابات، والنزاع على الحكم.

‌ثانياً الحياة الاجتماعية:

إن للحياة السياسية وما فيها من اضطرابات، وحروب وفتن والتي شملت عدداً واسعاً من البلاد الإسلامية قد أثّرت سلبياً على الحياة الاجتماعية السائدة آنذاك، ومنها البلاد التي نزل بها الكرماني كمصر والشام وغيرهما

وتتلخص الحياة الاجتماعية في هذه الحقبة الزمنية بالآتي:

(1)

ينظر: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، أحمد بن علي المقريزي، 1/ 412 - 413.

(2)

ينظر: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، أحمد بن علي المقريزي، 3/ 420 - 421.

(3)

السابق، 2/ 411 - 412، وينظر المماليك البحرية وقضائهم على الصليبيين في الشام، شفيق جاسر، ص 111.

ص: 33

1 -

ظهور الطبقية، بسبب الأوضاع المعيشية السيئة، فتنوعت الطبقات على حسب الملك والسلطة من عدمها، وعلى حسب الغنى والفقر، فكانت الطبقة الأولى: وهي الطبقة العليا للأمراء والوزراء، والطبقة الثانية: للميسورين من كبار التجار وأصحاب الأموال، والطبقة الثالثة: من متوسطي الحال وصغار التجار، والطبقة الرابعة: أهل الزراعة والحرث وسكان الأرياف، والطبقة الخامسة: هم الفقراء وطلاب العلم، والطبقة السادسة: للصّناع وأصحاب المِهن، والطبقة السابعة: الذي يسألون الناس من المساكين وأصحاب الحاجة

(1)

.

2 -

انتشار الفساد الأخلاقي والمالي، ولايخفى أن سبب هذا البعد عن الدين، وما آلت إليه البلاد من تنوّع في الطبقات، والنظر إلى الناس على حسب المكانة الاجتماعية والمالية، ولا على حسب المكانة الدينية والتقوى.

فقد وصل الحد بالفساد الأخلاقي إلى ما قاله السبكي: «ولقد سمعت أنَّ واحدًا منهم أي من أحد أمراء المماليك خرج مرة إلى الصيد فافتضَّ هو ومماليكه من بنات البَرِّ ما يزيد على سبعين بنتًا حرامًا»

(2)

وقد ذكر السبكي هذا المثال عن الأسباب التي تُزيل النِعم، ووصل الفساد بهم كذلك لئن يمارس أحدهم كل أنواع الفجور في خلاوته

(3)

.

وصار سؤال الناس من غير حاجة صنعة فيقعدون على أبواب المساجد

(1)

ينظر إغاثة الأمة بكشف الغمة، المقريزي، ص 147 - 150، والنجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، يوسف ابن تغري بردي، 11/ 382.

(2)

معيد النعم ومبيد النقم، تاج الدين السبكي، ص 46.

(3)

المماليك البحرية وقضائهم على الصليبيين في الشام، شفيق جاسر، ص 114.

ص: 34

يشحذون المصلّين، ولا يدخلون للصلاة معهم، ويقسمون بالله أعظم الأيمان في سؤال الناس المال!

(1)

كما أقبل الناس على شرب الخمر من كل الطبقتين العليا والدنية، للهروب من واقعهم، وانتشر الزنا، كما أن الفساد المالي والرشوة بلغت أوجها «وصار لا يترقىّ في الدّول إلا من يبذل المال، ولو كان من أوباش السُّوقة لشره الملوك في جمع الأموال»

(2)

.

‌ثالثاً الحياة العلميّة:

مع كل هذه الاضطرابات السياسية، وبعض مظاهر الفساد بين الناس، وما رافقها من فتن، وثورات وحروب

إلا أنّ الحركة العلمية كانت على عكس الحالة السياسية والاجتماعية، فكان هناك إقبالٌ من أهل العلم على طلب العلم والتأليف والتصنيف، فامتلأت المساجد بدروس العلم، وصارت المدارس في ازدياد وأُنشئت المكتبات العامة والنتاج العلمي في تلك الحقبة شاهدة على هذا القول.

وقد قالوا في سبب ذلك، عوامل خارجية وداخلية ساعدت على ذلك:

عندما وقعت كثير من البلدان العربية والإسلامية في يد التتار، وكثُر قتل العلماء، وإتلاف كثير من نتاجهم العلمي، وإغراقه في نهر دجلة، بأمر من هولاكو.

عندها لاذ العلماء بسلاطين مصر، ووجدوا عندهم الأمن والأمان، ووجدوا من أنفسهم الواجب في تعويض خسارة الأمة ما أُتلف على أيدي

(1)

معيد النعم ومبيد النقم، ص 113.

(2)

النجوم الزاهرة، ابن تغري، 14/ 42.

ص: 35

التتار، من نتاج علمي، وقتل للعلماء، فدفعهم ذلك للجد والاجتهاد، وساعد مصر على ذلك كثرة من أمّها من الأقطار الإسلامية المختلفة، سواء أكانوا فارين من الظلم والطغيان، أم أنهم كانوا طامعين في كرم وضيافة أهل مصر

(1)

.

أما العوامل الداخلية كانت بسبب غيرة بعض أمراء المماليك على العلم والعلماء فحثوا على طلب العلم، في كل مجالاته، وأنشأوا دور التعليم المختلفة، فيذكر أن سلاطين المماليك أقاموا وزناً لعلماء الدين، وقدموهم في مسائل كثيرة، واستشاروهم في كثير من أمور الدولة، وسمعوا شكاياتهم، وتوجسوا من بعضهم خيفة!

(2)

.

كما أن المساجد، والمدارس، ودور العلم المختلفة، زُوّدت بالكتب النافعة، ورُصدت الأوقاف على المدارس، حتى كان بعض السلاطين مغرماً بجمع النفائس من الكتب العلمية، وانتشرت بعض دور الكتب في العصر المملوكي منها:

خزانة الكتب بجامع الحاكم بأمر الله.

خزانة الكتب بجامع الخطيري ببولاق.

خزانة الكتب بجامع المؤيد.

خزانة الكتب بالمدرسة الحجازية وغيرها من دور الكتب في البلدان المختلفة

(3)

.

(1)

ينظر عصر سلاطين المماليك ونشاطه العلمي والأدبي، محمود رزق سليم، ص 17 - 18.

(2)

ينظر السابق، ص 20 - 22.

(3)

عصر سلاطين المماليك ونشاطه العلمي والأدبي، محمود رزق سليم ص 67 - 68، نزهة الأنام في تاريخ الإسلام، صارم الدين بن دُقْماق، ص 44.

ص: 36

وقد وُلد في هذا العصر جمع من العلماء الأجلاء، أصحاب المصنفات الكبيرة والنافعة منهم على سبيل المثال: ابن تيميّة

(1)

، وابن كثير الدمشقي

(2)

، وابن حجر

(3)

، والمقريزي

(4)

وغيرهم

(5)

.

* * *

(1)

أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، الحرّاني الحنبلي، المفسر الفقيه المجتهد، صاحب التصانيف الكثيرة، اعتُقل ومات في السجن في قلعة دمشق، له: مجموعة الفتاوى، والرسالة التدمرية، وغيرها، (ت 728 هـ) ينظر: الوافي بالوفيات، 7/ 11.

(2)

عماد الدّين أَبُو الْفِدَاء إِسْمَاعِيل بن عمر ابْن كثير، القرشي البصري، الحافظ المفسر والمؤرخ، ولد في قرية من أعمال بصرى الشام، له تفسير القرآن العظيم، والبداية والنهاية في التاريخ، (ت 774 هـ)، ينظر الرد الوافر، محمد بن عبدالله القيسي، ص 92، وطبقات الحفاظ، السيوطي، ص 534.

(3)

أحمد بن علي بن محمد شهاب الدين أبو الفضل العسقلاني الأصل، ثم المصري الشافعي شيخ الإسلام، له فتح الباري شرح البخاري، وتعليق التغليق، (ت 852 هـ)، ينظر: نظم العقيان في أعيان الأعيان، السيوطي، 1/ 45.

(4)

أحمد بن علي بن عبد القادر، أبو العباس الحسيني العبيدي، تقي الدين المقريزي وهي نسبة لحارة في بعلبك تعرف بحارة المقارزة: مؤرخ الديار المصرية، له الخطط، والسلوك في معرفة دول الملوك، (ت 845 هـ)، ينظر: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، 1/ 79، والأعلام، الزركلي، 1/ 177.

(5)

يُنظر: نزهة الأنام في تاريخ الإسلام، ص 44.

ص: 37

‌المبحث الثاني

سيرة الكرماني الذاتية والعلمية

وتشمل:

‌أولاً اسمه ونسبه، ولقبه، وولادته، ونشأته ومكانته العلمية:

1 -

اسمه ونسبه ولقبه: هو محمد بن يوسف بن علي بن سعيد، الكِرماني

(1)

، ثم البغدادي

(2)

، الملقب بشمس الدين، وكنيته أبو عبدالله

(3)

.

(1)

نسبة إلى كِرْمَان «وهي ولاية مشهورة وناحية كبيرة معمورة ذات بلاد وقرى ومدن واسعة بين فارس ومكران وسجستان وخراسان، وهي بلاد كثيرة النخل والزرع والمواشي والضرع تشبّه بالبصرة في كثرة التمور وجودتها وسعة الخيرات، ومن مدنها: جيرفت وموقان وخبيص وبمّ والسيرجان ونرماسير وبردسير وغير ذلك، وكلها تُنسب إلى كرمان» ينظر: معجم البلدان، ياقوت الحموي 4/ 454، والكِرماني بكسر الكاف، كما ضبطها الكرماني نفسه، راداً على النووي الذي قال بفتح الكاف:«أقول: هو بلدنا وأهل البلد أعلم ببلدهم من غيرهم، وهم متفقون على كسرها» الكواكب الدراري، 9/ 195، ولكنّ السمْعاني في الأنساب، قال الصواب بفتح الكاف، والمشهور هو الكسر، 11/ 85، ولعل الخلاف في ضبطها ماكان الخلاف بين ضبط أهلها لها، وضبط غيرهم.

(2)

البغدادي نسبة لبغداد عاصمة الخلافة التي استوطن بها زمناً، فتكون النسبة إلى كِرمان حقيقية، وإلى غيرها مجازية، ونسبه الحافظ السخاوي في ترجمة ولده يحيى بالسعدي نسبة لسعيد بن زيد أحد الصحابة العشرة المبشرين بالجنة، ينظر: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، 10/ 259، ولم أقف على من ذكر هذه النسبة في ترجمة الكرماني.

(3)

ينظر ترجمته في: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، ابن حجر، 6/ 66، وإنباء الغمر بأبناء العمر، ابن حجر، 1/ 299، طبقات الشافعية، ابن قاضي شهبة، 3/ 180، السلوك لمعرفة دول الملوك، التبريزي، 5/ 173، والنجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ابن تغري بردي، 11/ 303، ونيل الأمل في ذيل الدول، زين الدين الحنفي، 2/ 212، بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، السيوطي، 1/ 279، طبقات المفسرين للداوودي، 2/ 285، والضوء اللامع لأهل القرن التاسع، السخاوي، 10/ 259، ولحظ الألحاظ، لأبي الفضل محمد المكي، ص 112، ذيل وفيات الأعيان المسمى «درّة الحجال فى أسماء الرّجال» ، لأبي العباس المكناسي، 2/ 250، وسلم الوصول إلى طبقات الفحول، حاجي خليفة، 3/ 291، معجم المؤلفين، عمر كحّالة، 12/ 129، الأعلام، الزركلي، 7/ 153.

ص: 38

وورد في بعض كتب التراجم: «الكرماني محمد بن يوسف بن على بن محمد بن سعيد الكرماني شمس الدين أبو عبدالله البغدادي الشافعي المعروف بالكرمانى

»

(1)

.

بزيادة بن محمد بعد بن علي، وقبل بن سعيد، وورد في بعض المصادر كذلك ورود بن عبد الكريم بدل بن سعيد

(2)

.

قال السيوطي: «قال ابنه في ذيل المسالك

(3)

: ولد يوم الخميس سادس عشرين جمادى الآخرة سنة سبع عشرة وسبعمائة»

(4)

.

(1)

هدية العارفين، 2/ 172.

(2)

إنباء الغمر بأبناء العمر، ابن حجر، 3/ 59، وشذرات الذهب في أخبار من ذهب، ابن العماد، 8/ 505.

(3)

يفهم من هذا الكلام أن ليحيى الكرماني ترجمة لوالده، وأفضل من يترجم للإنسان هم أهله ومعارفه وأقاربه.

(4)

بغية الوعاة، 1/ 279.

ص: 39

وقد وُلد الكرماني بكِرْمان في جمادى الآخرة سنة سبع عشرة وسبعمائة، (717 هـ)

(1)

وقد قال الكرماني عن بلاده في أثناء شرحه:

«وكِرمان: بكسر الكاف هي مملكتنا منزل الكرم والكرام دار أهل السنة والجماعة»

(2)

.

وقال كذلك: «وهو بلد أهل السنة والجماعة أي كِرمان ولا يكاد يوجد فيها شيء من العقائد الفاسدة، وهو مولدي وأول أرض مس جلدي ترابها، حرسها الله تعالى وسائر بلاد الإسلام من الفساد والطغيان»

(3)

.

1 -

نشأته ومكانته العلمية:

طلب العلم في البداية على يد والده، وعن جماعة بكرمان من أهل العلم، ثم ارتحل إلى الشيخ عضد الدين، فلازمه اثنتي عشرة سنة، وقرأ عليه تصانيفه، ثم طاف بالبلاد، ودخل مصر والشام والعراق، وحج إلى بيت الله الحرام، ثم استوطن بغداد، وقد تصدى فيها للعلم ثلاثين سنة، قال الحافظ شهاب الدين ابن حجي كان مشارا إليه في العراق وتلك البلاد في العلم

(4)

.

وقال بعض من ترجم له عنه: أنه شيخ الشافعية ببغداد العلاّمة محمد بن يوسف شمس الدين الكرماني

(5)

.

(1)

ينظر طبقات الشافعية، ابن قاضي شهبة، 3/ 180.

(2)

الكواكب الدراري، 8/ 86.

(3)

الكواكب الدراري، 24/ 205.

(4)

ينظر طبقات الشافعية، 3/ 180.

(5)

ينظر: لحظ الألحاظ بذيل طبقات الحفاظ، لأبي الفضل محمد المكي، ص 112.

ص: 40

وتظهر مكانة الكرماني العلمية، بنبوغه وذكائه وتفوقه على أقرانه، قال عنه الداودي

(1)

«ومهر وفاق أقرانه، وفضل غالب أهل زمانه

وكان مشارا إليه بالعراق وتلك البلاد في العلم، وتصدّى لنشر العلم ببغداد ثلاثين سنة»

(2)

.

ويظهر لي أن مكانة الكرماني العلمية الكبيرة، وشهرته الواسعة كانت بسبب الآتي:

النشأة العلمية التي تلقّاها على يد والده وشيوخ بلده كِرمان.

إخلاصه لله عز وجل، وتفوقه على أقرانه بالتحصيل العلمي، والإقبال على شأنه.

الزهد في الدنيا والبعد عن أصحاب السلطة، والحكم.

تواضعه وقربه من الناس، وخفض الجناح لهم.

تصديه لنشر العلم ببغداد ثلاثين سنة، إذ أن بغداد آنذاك كانت مقراً للعلم، ووفود طلاب العلم إليها.

وشرحه لأصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل «صحيح البخاري» الذي صار يُلقب به، يُقال شارح الصحيح.

(1)

الحافظ شمس الدين محمد الداودي المصري الشافعي، وقيل المالكي، العلامة المحدث الحافظ، كان شيخ أهل الحديث في عصره، له ذيل على طبقات الشافعية، للسبكي، وترجمة للحافظ السيوطي، (ت 945 هـ) ينظر: شذرات الذهب، عبد الحي الحنبلي، 10/ 375، وفهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات، محمد الكتاني، 1/ 392.

(2)

طبقات المفسرين، الداودي، 2/ 286.

ص: 41

‌ثانياً أخلاقه وصفاته:

إن من طالع سيرة الكرماني، يعلم أنه كان، عابداً طائعاً، ومكثراً من الطاعة، صاحب همة عالية، زاهداً في الدنيا، ومعرضاً عن شهواتها وأهوائها، شريف النفس متععفاً عمّا في أيدي الناس، قال الكرماني في مقدمة كتابه بعد أن ذكر أسباب التأليف: «وما توسلت به إلى غرض دنيوي، من مال أو جاه أو تقرب إلى سلطان أو خليفة، كما هو عادة أبناء زماننا من أصحاب الهمم القاصرة والعقول الضعيفة، بل جعلته لله ولوجهه خالصاً، سائلا أن ينفعني به، حين يكون الظل في الآخرة قالصاً

(1)

وأن يهب عليه قبول القبول فإنه أكرم مسئول وأعز مأمول»

(2)

.

كما أنه كان متواضعاً، باراً بالناس أجمعين، وخصوصاً الفقراء منهم «كان تام الخلق، فيه بشاشة وتواضع للفقراء وأهل العلم، غير مكترث بأهل الدنيا، ولا ملتفت إليهم، يأتي إليه السلاطين في بيته، ويسألونه الدعاء والنصيحة»

(3)

.

ومما قيل فيه: «قال الشيخ شهاب الدين ابن حجي تصدى لنشر العلم ببغداد ثلاثين سنة، وكان مقبلاً على شأنه لا يتردد إلى أبناء الدنيا، قانعا باليسير ملازما للعلم، مع التواضع والبر بأهل العلم»

(4)

.

(1)

قلص الشيء يقلص قلوصا: ارتفع. يقال: قَلَصَ الظلُّ. وقَلَصَ الماء، إذا ارتفع في البئر ينظر: مادة: (قلص)، الصحاح وتاج اللغة صحاح العربية، 3/ 1053.

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 6.

(3)

طبقات المفسرين، الداوودي، 2/ 286.

(4)

الدرر الكامنة، ابن حجر، 6/ 67.

ص: 42

ومما يظهر في تواضعه ما قاله في مقدمة شرحه على البخاري بعد أن ذكر دواعي تأليف الكتاب: «مع اعترافي بالقصور وقلّة البضاعة، والفتور وقصر الباع في هذه الصناعة»

(1)

.

وقال في موضع من شرحه عندما أراد أن يقرر بعض المسائل شرحاً، وأن يجمع بين الأدلة:«هذا آخر غاية وسعنا في تقريره ولعل عند غيرنا خيراً منه»

(2)

.

ومن صفاته أنه كان يمشي على عصا، قال ولده يحيى:«وسقط من علّية فكان لا يمشي إلّا على عصا منذ كان ابن أربع وثلاثين سنة»

(3)

.

‌ثالثاً عقيدته ومذهبه:

يظهر جلياً في شرح الكرماني أنه على عقيدة أهل السنة والجماعة الأشاعرة، وأن مذهبه الفقهي هو مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.

‌رابعاً شيوخه وتلامذته:

تتلمذ الكرماني على يد والده بهاء الدين يوسف

(4)

الكرماني في بداية طلبه للعلم، وعلى عضد الدين الإيجي

(5)

.

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 4.

(2)

السابق، 3/ 233.

(3)

شذرات الذهب، عبد الحي الحنبلي، 8/ 506.

(4)

لم أقف على ترجمة له.

(5)

عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار، عضد الدين الإيجي، قاضي قضاة الشرق، وشيخ العلماء، له مختصر ابن الحاجب، والفوائد الغياثية في المعاني والبيان وغيرها من المصنفات، (ت 756 هـ) ينظر طبقات الشافعية، ابن قاضي شهبة، 3/ 27 - 28، وسلم الوصول إلى طبقات الفحول، حاجي خليفة، 2/ 249.

ص: 43

وعندما نزل مصر قرأ البخاري بالقاهرة بالجامع الأزهر على الشيخ ناصر الدين الفارقي

(1)

، وأخبر الكرماني في مقدمة شرحه كذلك أنه أخذ عن أبي الحسن علي بن يوسف بن الحسن الزَّرنَدِي

(2)

، ومنهم الشيخ: جمال الدين محمد الأنصاري المكي

(3)

وهم شيوخه الذين تلقى عنهم الجامع الصحيح.

ولم تذكر كتب التراجم عن شيوخ الكرماني إلا ماذكرت، ولاشك أن عالم كالكرماني برع في علوم شتى، وطاف بلدان عدة، أن له شيوخ كُثر.

2 -

تلامذته:

ولاشك أن تلامذة الإمام الكرماني كُثر، كما هم شيوخه، فقد تصدى للعلم ببغداد ثلاثين سنة، ولكن كتب التراجم لم يذكروا له من الترجمة إلا الشيء

(1)

محمد بن أبي القاسم المظفر أبوعبدالله الفارقي، كان كثير العناية بالحديث، سمع من علي بن محمد بن أبي الذكر الصقلي، وعلى محمد بن هارون الثعلبي، وسمع منه الحافظ العراقي، (ت 761 هـ) ينظر ذيل التقييد في رواة السنن والأسانيد، محمد الفاسي،

1 -

/ 209.

(2)

علي بن يوسف بن الحسن الزرندي الانصاري عالم المدينة في زمانه، حدّث بالحرمين، له مناظرة الحرمين، ومناضلة المحلين، (ت 772 هـ)، ينظر معجم المؤلفين، 7/ 265.

(3)

جمال الدين محمد بن الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبدالله بن عبد المعطي الأنصاري المكّي، محدّث الحرم الشريف الإلهي كثير الطاعات والعبادات، ينظر: ترجمة الكرماني له، 1/ 8.

ص: 44

المختصر، إلا أنه من خلال البحث تبين بعض تلامذته وأذكر بعضهم على سبيل المثال:

1 -

ولده يحيى (المعروف بابن الكرماني)

(1)

.

2 -

وأخوه أي أخ يحيى عبد الحميد

(2)

.

ومن خلال التتبع وجدت أن الحافظ ابن حجر في كتابه «إنباء الغمر بأبناء العمر» ذكر جملة من الأعلام الذين تتلمذوا على يد الكرماني فمنهم:

3 -

أحمد بن علي أحمد بن موسى بن علي

(3)

.

(1)

يحيى بن محمد بن يوسف الكرماني، ولد في رجب سنة اثنتين وستين وسمع مع أبيه، وقرأ عليه الكثير، قدم القاهرة قديماً، وسكن دمشق، له: مجمع البحرين وجواهر الحبرين، في شرح صحيح البخاري، وله ذيل المسالك ترجم فيه لوالده، وله مؤلفات في الطب، (ت 833 هـ) ينظر: المجمع المؤسس للمعجم المفهرس، ابن حجر، 3/ 362، والضوء اللامع، السخاوي، 10/ 159، والأعلام، للزركلي، 8/ 166.

(2)

عبد الحميد بن محمد بن يوسف بن علي بن سعيد حميد الدين الكرماني أخو التقي يحيى، أخذ عن والده كثيرا ونسخ شرح البخاري له بخطه وهي النسخة التي في أوقاف الجمالية، وقد ناهز الأربعين من العمر (ت 810 هـ)، ينظر: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، السخاوي، 4/ 39.

(3)

أحمد بن علي أحمد بن موسى شهاب الدين بن الوكيل، عني بالفقه والعربية، ونظم الشعر وأجاده، سمع من الجمال ابن المعطي، ورحل إلى دمشق، عالم بالفقه والحديث والنحو، له مختصر المهمات «للأسنوي» واختصر الملحة للحريري نظماً وشرحها مات بالقاهرة، في صفر، (ت 791 هـ)، ينظر: إنباء الغمر بأبناء العمر، 1/ 383، والمنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي، يوسف بن تغري، 2/ 234 - 236.

ص: 45

4 -

أسعد بن محمد الشيرازي

(1)

.

5 -

نصر الله بن أحمد التستري

(2)

.

6 -

أحمد بن نصر الله التستري

(3)

.

7 -

عفيف الدين أبو المعالي الدواليبي

(4)

وغير هؤلاء من تلاميذه الكثير.

(1)

أسعد بن محمد بن محمود جلال الدين الشيرازي، أخذ عنه الشيخ شمس الدين السمرقندي، في القرآن، ومذهب الحنفية، وعن شمس الدين الكرماني وقرأ عليه البخاري أكثر من عشرين مرة، وكان يكتب خطاً حسنا، (ت 803 هـ)، ينظر: إنباء الغمر بأبناء العمر، 2/ 157.

(2)

نصر الله بن أحمد بن محمد التستري، ثم البغدادي، نزيل القاهرة، اشتغل بالفقه الحنبلي، وسمع الحديث من جمال الدين الخضري، وأخذ عن الكرماني شارح البخاري، له: نظم غريب القرآن وصنف في الفقه وأصوله، (ت 812 هـ)، ينظر: إنباء الغمر بأبناء العمر، 2/ 444.

(3)

أحمد بن نصر الله بن محمد بن عمر بن أحمد قاضي الحنابلة محب الدين أبو يوسف التستري الأصل ثم البغدادي، نزيل القاهرة، وأخذ عن الكرماني والسخاوي، وسمع بحلب ودمشق، له: حاشيته على تنقيح الزركشي، (ت 844 هـ)، ينظر إنباء الغمر بأبناء العمر، السخاوي، 4/ 163 - 164.

(4)

عفيف الدّين أبو المعالي علي بن عبد المحسن بن الدّواليبي البغدادي ثم الشّامي الحنبلي، كان إماماً عالماً، وله سند عالٍ في الحديث، وسمع من الكرماني صحيح البخاري، قدم دمشق واستوطنها، وولي خطابة جامع المظفّري، وتوفي بصالحية دمشق ودفن بالسّفح، (ت 858 هـ)، ينظر: شذرات الذهب، 9/ 429، والضوء اللامع لأهل القرن التاسع، السخاوي، 5/ 4 - 5.

ص: 46

‌خامساً مؤلفاته:

بعد الاطلاع على سيرة الإمام الكرماني، تبين ما كان عنده من علم في مجالات شتى، في العربية والكلام والمنطق

(1)

ظهرت في ثنايا شرحه، وقد ترك الكرماني، جملة من المؤلفات، صرّح عنها المترجمون له، ومن عاصره من الأقران، ومن نقل عنه منها، وإن كان أغلبها حبيس المخطوطات.

فمن أهم هذه المؤلفات:

1 -

شرحه على البخاري، المسمّى: الكواكب الدراري شرح صحيح البخاري، قال عنه ابن حجر: «وهو شرح مفيد على أوهام فيه في النقل لأنه لم يأخذ إلا من الصحف

(2)

»

(3)

.

2 -

شرح المواقف 3 وشرح مختصر ابن الحاجب 4 النقود والردود وسمّاه الكواكب السبعة السيارة

(4)

5 وشرح الفوائد الغياثية في المعاني والبيان

(5)

6 -

شرح الجواهر 7 وأنموذج الكشاف 8 وحاشية على تفسير البيضاوي

(1)

ينظر طبقات الشافعية، ابن قاضي شهبة، 3/ 180.

(2)

يعني ابن حجر في هذا أن الكرماني نقل من كتب العلماء، ولم يأخذ من أفواههم، ولعل في هذا نظر، لأن ما وُجد في الشرح يدل على أكثر من ذلك.

(3)

الدرر الكامنة، 6/ 66.

(4)

أشار إليه في شرحه، 25/ 15.

(5)

هوعبارة عن تحقيق الفوائد للكرماني، وكتاب شيخه، الإيجي، الفوائد الإغاثية دمجهما الكرماني مع بعضهما البعض.

ص: 47

وصل فيها إلى سورة يوسف 9 ورسالة في مسألة الكحل 10 الكواشف البرهانية في شرح المواقف السلطانية

(1)

11 رسالة في التصوير والتصديق في المنطق، 12 أسئلة واعتراضات على شرح القطب التحتاني للمطالع في المنطق، 13 ذيل مسالك الأبصار في التاريخ 14 شرح أخلاق عضد الدين، 15 شرح أخلاق عضد الدين 16 ضمائر القرآن، وأغلبها مازال مخطوطاً حبيس المكتبات

(2)

.

‌سادساً وفاته:

بعد حياة حافلة ومليئة بالخيرات، وطلب العلم ونشره، توفي الإمام الكرماني في يوم الخميس، السادس عشر من شهر محرم، سنة ست وثمانين وسبعمائة، (786 هـ)، في أثناء عودته من حج بيت الله الحرام، وكان قد أوصى ولده أن يدفنه في بغداد، في مكان اختاره في حياته، فنقله إلى بغداد، ودفنه بجوار أبي إسحاق الشيرازي

(3)

، بمقبرة باب أبرز، رحمه الله

(1)

أشار إليه في شرحه، 4/ 199، 25/ 220.

(2)

ينظر: الدرر الكامنة، 6/ 66، وطبقات الشافعية، ابن قاضي شهبة، 3/ 180، طبقات المفسرين، الداودي، 2/ 286، البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، الشوكاني، 2/ 292، كشف الظنون، حاجي خليفة، 1/ 541، والتاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول، القنوجي، 1/ 462، والضوء اللامع، السخاوي، 10/ 260، هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، البغدادي، 2/ 172، معجم المؤلفين، عمر كحالة، 12/ 129.

(3)

أبو إسحاق إبراهيم بن على ابن يوسف بن عبدالله الشيرازى الفيروزأباذى، منسوب إلى فيروز أباذ، الإمام المحقق، جمع بين العلم والعبادة والعمل والورع والزهد، وهو أحد فقهاء الشافعية، له التنبيه، والمهذب، (ت 476 هـ)، ينظر: طبقات الشافعية الكبرى، السبكي، 4/ 215، سير أعلام النبلاء، الذهبي، 18/ 452.

ص: 48

ورضي عنه

(1)

.

* * *

(1)

ينظر: الدرر الكامنة، 6/ 66، وطبقات الشافعية، ابن قاضي شهبة، 3/ 180.

ص: 49

‌الفصل الثاني

التعريف بكتاب الكواكب الدراري

في شرح صحيح البخاري

‌المبحث الأول

التحقق من اسم الكتاب، وصحة نسبته للمؤلف

‌أولاً التحقق من اسم الكتاب:

كما هي عادة المصنفين والمؤلفين أن يذكروا مقدمة لكتبهم التي يؤلفونها، ويذكروا فيها اسم الكتاب الذي اعتمدوه، فقد قال الكرماني في مقدمة كتابه في شرح البخاري:«ولا زلت متفكرا في تسميته، إذ كنت في بعض الليالي في المطاف، بعد فراغي من الطواف، فألهمني ملهم بأنه هو «الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري» فسميته به واسأل الله تعالى أن لا يؤاخذنا بما نسينا

»

(1)

.

وقال ابن حجر في الدرر الكامنة: «وذكر لي شيخنا العراقي

(2)

أنه اجتمع به

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 6.

(2)

عبد الرحيم بن الحسين أبو الفضل، زين الدين الحافظ العراقي، من كبار حفاظ الحديث، له: المغني عن حمل الأسفار، (ت 806 هـ) ينظر: الرد الوافر محمد بن عبدالله القيسي، 1/ 107.

ص: 50

بمكة أي بالكرماني وسمى شرحه للبخاري الكواكب الدراري وهو في مجلدين ضخمين

»

(1)

.

واشتهر عند علماء الحديث، وغيرهم أن للإمام الكرماني كتابا على شرح البخاري، وقد نال القبول عندهم.

ولم يقع الاختلاف فيما أعلم في تسمية الكتاب كما سمّاه الكرماني وهو «الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري» .

وقد تكلم أصحاب تعريف الكتب عن كتاب الكواكب الدراري، قال حاجي خليفة، وهو يتكلم عن شروح البخاري:«وشرح العلامة، شمس الدين: محمد بن يوسف بن علي الكرماني، المتوفى: سنة 796، ست وثمانين وسبعمائة، وهو شرح، وسط، مشهور بالقول، جامع لفرائد الفوائد، وزوائد الفرائد، وسماه: (الكواكب الدراري)»

(2)

.

‌ثانياً نسبته للمؤلف:

اشتهر كتاب: «الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري» أنه لمؤلفه: الإمام شمس الدين محمد بن يوسف الكرماني (المتوفى) 786 هـ ودل على ذلك عدة أمور:

1 -

تصريح المؤلف في مقدمة الكتاب كما مر.

2 -

إجماع كتب التراجم التي ترجمت للكرماني أن الكتاب له

(3)

.

(1)

/ 66.

(2)

كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، 1/ 541.

(3)

ذكرت هذه الكتب في ص 26.

ص: 51

3 -

نقول العلماء الذين نقلوا عن الكرماني، وخصوصا شرّاح الحديث، وكتب التراجم، وكتب فقه الشافعية وتارة يصرحون باسم الكتاب، وتارة يقولون شارح البخاري، ومن الكتب التي نقلت عن الكرماني ونسبت الكواكب الدراري إليه:

فتح الباري شرح البخاري

(1)

.

عمدة القاري شرح صحيح البخاري

(2)

.

اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح وقد قال فيه مؤلفه أنه جمع بين شرح الكرماني واختصر المطوّل، وبين كتاب التنقيح للزركشي بإيضاح واختصار

(3)

.

كشف الظنون

(4)

.

بغية الوعاة

(5)

.

أبجد العلوم

(6)

.

نهاية المحتاج

(7)

.

* * *

(1)

/ 8.

(2)

/ 23.

(3)

ينظر: اللامع الصبيح، بشرح الجامع الصحيح، شمس الدين البرماوي، في المقدمة، ص 5، وينظر كشف الظنون، ص 541.

(4)

/ 541.

(5)

/ 279.

(6)

/ 598.

(7)

/ 92.

ص: 52

‌المبحث الثاني

تاريخ التأليف وأسبابه ومكانه

‌1 - تاريخ التأليف ومكانه:

لم يذكر الكرماني عن تاريخ بدايته لتأليف الكواكب الدراري، إلا أن ابن حجر رحمه الله تعالى قال:«ثم حج واستوطن بغداد أي الكرماني ودخل إلى الشام ومصر لما شرع في شرح البخاري فسمعه بالجامع الأزهر من لفظ المحدث ناصر الدين الفارقي»

(1)

.

فكان شروعه في التأليف سنة دخوله إلى الشام ومصر، وسماعه في الجامع الأزهر من شيخه، ناصر الدين الفارقي، (ت 761 هـ) فتبين أن الكرماني شرع في شرح البخاري عند بدايته سماع صحيح البخاري من شيخه الفارقي، وأثناء سماعه من شيخه أبي الحسن علي بن يوسف بن الحسن الزَّرَنْدي، والشيخ جمال الدين محمد الأنصاري المكي، الذي قال إنه كان آخر سماع له في شهر رمضان سنة خمس وسبعين وسبع مئة كما ذكر في مقدمة الكتاب

(2)

.

وهي ذات السنة التي أنهى فيها تأليف الكتاب كما قال في آخره «في شوال سنة خمس وسبعين وسبعمائة»

(3)

.

وكان تأليف الكتاب في المدة التي عاشها في الحجاز وبغداد، وقد بيّض بعض أجزاء من شرحه وهو بالطائف، قال ابن حجر: «أنه انتهى في شرحه وهو

(1)

الدرر الكامنة، ابن حجر، 6/ 66.

(2)

الكواكب الدراري 1/ 163 - 166.

(3)

الكواكب الدراري 12/ 433.

ص: 53

بالطائف البلد المشهور بالحجاز، كأنه لما كان مجاوراً بمكة كان يبيض فيه وما أكمله إلا ببغداد»

(1)

.

قلت: لايتناقض قول ابن حجر مع ما ذكره الكرماني في المقدمة أنه كان يطوف بالكعبة فخطر له خاطر تسمية الكتاب، إذ قد يكون شرع في كتابة مقدمة الكتاب وهو في مكة، فسماه في فترة مكثه في مكة، ثم أتمّه في بغداد

(2)

.

فتبين ما يأتي:

أن الكرماني شرع في تأليف الشرح، في أثناء سماعه لصحيح البخاري من مشايخه في آن معا.

وأنه شرع في التأليف سنة دخوله الشام ومصر كما قال ابن حجر، وسماعه من شيخه الفارقي (ت 760 هـ) فكانت بداية التأليف بحدود سنة (755 هـ) إلى سنة (775 هـ) تقريباً. فاستغرق التأليف مايقارب عشرين عاما.

فكانت هذه المدة الطويلة حافلة بما جاد به الكرماني في شرحه من درر ونفائس، أتت بشرح واضح مختصر مفيد تدل على سعة اطلاع الكرماني في شتى العلوم.

‌2 - سبب التأليف:

بين الكرماني الدواعي والأسباب لتأليفه للكواكب الدراري (أنه لم يرَ لصحيح البخاري شرحا يشمل كل مايتعلق بالصحيح، وأن الشروح التي اطّلع

(1)

إنباء الغمر بأبناء العمر، 1/ 299.

(2)

مع أن بعض علماء التراجم رجح أن الكرماني فرغ من شرحه في مكة، منهم حاجي خليفة في كشف الظنون، 1/ 541، ومحمد صديق القِنوجي، في الحطة في ذكر الصحاح الستة، ص 185.

ص: 54

عليها لا تشفي الغليل كشرح صحيح البخاري لابن بطال، (ت 449 هـ)، وشرح صحيح البخاري لعلاء الدين مغلطاي

(1)

، (ت 762 هـ) فأراد أن يؤلف شرحا وافيا شاملا تام المصالح والمنافع، ضابطا فيه لأسماء الرواة وكل مايتعلق بهما، مهتما بعلوم الحديث رواية ودراية، وشارحا للحديث بكل علوم الشريعة من فقه وأصول، وعلوم العربية من نحو وصرف وبلاغة، مع اعترافه بفضلهم وعلمهم، وأن نقده لهم لا يُنقص من مكانتهم العلمية، وأنهم أصحاب الفضل والسبق،

ولا سيما أنه قد نقل وأخذ عنهم)

(2)

.

* * *

‌المبحث الثالث

مصادر الكرماني وموارده

تعددت مصادر الكرماني التي نقل عنها في كتابه الكواكب الدراري، من علوم الشريعة واللغة، وقد اقتبس منها، واستفاد، ومن الجدير بالملاحظة أن الكرماني لم ينقل نقلا حرفيا عن المصادر التي أخذ منها؛ بل أخذ المعنى وصاغه بأسلوبه.

وقد تنوعت المصادر والموارد التي اعتمدها الكرماني في شرحه، وكانت على الشكل الآتي:

(1)

مغلطاي بن قليج بن عبدالله الحنفي الإمام الحافظ علاء الدين، ولي التدريس بالظاهرية، وكان عارفاً بالأنساب، له شرح على البخاري، وشرح لسنن ابن ماجه لم يكمله، (ت 762 هـ)، ينظر: طبقات الحفاظ، السيوطي، 1/ 538.

(2)

الكواكب الدراري، بتصرف 1/ 3 - 4.

ص: 55

‌أولاً: مصادره في العقيدة والفِرَق.

‌ثانياً: مصادره في التفسير وأسباب النزول.

ثالثاً: مصادره في الحديث الشريف.

رابعا: مصادره في التاريخ والسّير.

خامساً: مصادره في اللغة والبلاغة.

سادساً: مصادره في النحو:

سابعاً: مصادره في الفقه وأصوله.

ثامناً: مصادره في الأنساب.

تاسعاً: مصادره في الاستدراكات والتتبع.

أولاً مصادره في العقيدة، والفِرَق:

المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (ت 505 هـ).

الملِل والنِحل، لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني (ت 548 هـ).

عيون الحكمة لأبي علي الحسين بن عبدالله بن سينا (ت 428 هـ).

ثانياً مصادره في التفسير وأسباب النزول:

جامع البيان في تأويل القرآن، لمحمد بن جرير الطبري، (ت 310)

(1)

.

معاني القرآن وإعرابه، إبراهيم بن السري، أبو إسحاق الزجاج

(1)

منها: 6/ 7، 16/ 165.

ص: 56

(ت 311 هـ)

(1)

.

الكشاف لجار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت 538)

(2)

.

‌ثالثاً: مصادره في الحديث الشريف:

وفيها فروع عديدة: أهمها:

كتب الرواية.

كتب الجرح والتعديل وعلوم الرجال.

كتب مصطلح الحديث.

كتب علل الحديث.

كتب غريب الحديث.

كتب المؤتَلِف والمختَلِف.

كتب شروح الحديث.

‌أ - كتب الرواية:

اعتمد الكرماني على كتب الرواية لتخريج الأحاديث، وبيان أهميته، وللمقارنة بين الرويات، ودراسة الأسانيد والمتون، وهذه أهم كتب الرواية، مع الإحالة لمواضعها:

1 -

كتب السنة:

مسند الحُميدي عبدالله بن الزبير المكي (ت 204 هـ).

(1)

/ 242.

(2)

وقد أخذ منه الكرماني، في الغريب ومسائل اللغة كذلك.

ص: 57

صحيح الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري (ت 261 هـ)

(1)

.

سنن أبي داود الإمام سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 227 هـ)

(2)

.

سنن ابن ماجه محمد بن يزيد القزويني (ت 273 هـ)

(3)

.

الجامع المشهور ب (سنن الترمذي) أبي محمد بن عيسى الترمذي، (ت 279)

(4)

.

سنن النسائي الكبرى، أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي (ت 303 هـ)

(5)

.

سنن البيهقي لأحمد بن الحسين بن علي بن موسى، أبو بكر البيهقي (ت 458 هـ)

(6)

.

مصنف عبد الرزاق بن همّام الصنعاني (ت 211 هـ)

(7)

.

مستخرج أبي عوانة، يعقوب بن إسحق الإسْفَرَاييني (ت 316 هـ)

(8)

.

(1)

/ 82، 1/ 126، وأحياناً يسميه باسمه «بالمسند» .

(2)

/ 209، 2/ 218، 25/ 233.

(3)

/ 133، 1/ 214.

(4)

/ 116.

(5)

/ 8، 12/ 61.

(6)

/ 50، 23/ 206.

(7)

/ 54.

(8)

/ 19.

ص: 58

مستخرج أبي نُعيم أحمد بن عبدالله الأصْبهاني (ت 430)

(1)

.

غرائب مالك للدارقطني (ت 385 هـ)

(2)

.

جامع الأصول في أحاديث الرسول، لمجد الدين أبي السعادات المبارك ابن محمد بن محمد ابن محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزري ابن الأثير (ت 606 هـ).

‌ب - مصادره في الجرح والتعديل (علم الرجال):

طبقات ابن سعد محمد بن سعد بن مَنيع الزهري (ت 230 هـ).

تاريخ ابن معين رواية الدوري، يحيى بن معين أبو زكريا (ت 233 هـ).

التاريخ الكبير للإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256 هـ)

(3)

.

التاريخ الأوسط للإمام محمد بن إسماعيل البخاري

(4)

.

معرفة الثقات لأبي الحسن أحمد بن عبدالله بن صالح العجلي الكوفي (ت 261 هـ)

(5)

.

المعارف لابن قتيبة أبي محمد عبدالله بن مسلم الدّيْنوري (ت 267 هـ)

(6)

.

(1)

/ 117، 18/ 170، 19/ 89، 22/ 216.

(2)

/ 167.

(3)

/ 30، 6/ 31، 5/ 49.

(4)

/ 148.

(4)

16/ 56، 16/ 246.

(5)

/ 77، 1/ 163.

(6)

/ 77، 4/ 182.

ص: 59

الجرح والتعديل: أبو محمد عبد الرحمن بن محمد الرازي ابن أبي حاتم (ت 327 هـ)

(1)

.

الكامل في ضعفاء الرجال أبو أحمد بن عدي الجرجاني (ت 365 هـ)

(2)

.

الهداية والإرشاد في معرفة أهل الثقة والسداد، لأحمد بن محمد بن الحسين أبو نصر البخاري الكلاباذي (ت 398 هـ)

(3)

.

رجال صحيح مسلم، أحمد بن علي بن محمد بن إبراهيم، أبو بكر ابن مَنْجُويَه (ت 428 هـ)

(4)

.

التعديل والتجريح لمن خرّج له البخاري في الجامع الصحيح، لأبي الوليد سليمان بن خلف التجيبي القرطبي الباجي الأندلسي (ت 474 هـ)

(5)

.

تقييد المهمل وتمييز المشكل (شيوخ البخاري المهملون)، لأبي علي الحسين بن محمد الغساني (ت 498 هـ)

(6)

.

الكمال في معرفة أسماء الرجال لعبد الغني بن عبد الواحد المقدسي الجماعيلي (ت 600 هـ)

(7)

.

(1)

/ 3، 10/ 6.

(2)

/ 133، 19/ 184.

(3)

/ 82، 5/ 198.

(4)

/ 94، 1/ 202.

(5)

/ 5.

(6)

/ 82، 6/ 87.

(7)

/ 25، 3/ 140.

ص: 60

‌ج - مصادره في مصطلح الحديث:

المدخل إلى الإكليل، لأبي عبدالله محمد بن عبدالله الحافظ البيِّع الحاكم النيسابوري (ت 405)

(1)

.

الكفاية في علم الرواية، لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب البغدادي (ت 463 هـ)

(2)

.

معرفة أنواع علوم الحديث، لعثمان بن عبد الرحمن، أبوعمرو، تقي الدين المعروف بابن الصلاح (ت 643 هـ)

(3)

.

صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط، لعثمان بن عبد الرحمن، أبوعمرو، تقي الدين المعروف بابن الصلاح (ت 643 هـ)

(4)

.

شرح صحيح مسلم للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي الشافعي (ت 676 هـ)

(5)

.

‌د - مصادره في علل الحديث:

العلل الواردة في الأحاديث النبوية، لأبي الحسن علي بن عمر بن أحمد

(1)

/ 133، 5/ 79.

(2)

/ 9، 8/ 39.

(3)

/ 209، 2/ 114.

(4)

/ 177، 7/ 222.

(5)

/ 82، 5/ 102.

ص: 61

البغدادي الدارقطني (ت 385 هـ)

(1)

.

‌هـ - مصادره في غريب الحديث:

كتاب الألفاظ، لابن السكيت، أبو يوسف يعقوب بن إسحاق (ت 244 هـ)

(2)

.

غريب الحديث لإبراهيم بن إسحق الحربي (285 هـ)

(3)

.

مجمل اللغة لابن فارس أحمد بن فارس القزويني الرازي، (ت: 395 هـ)

(4)

.

الغريبين لأبي عبيد أحمد بن محمد الهروي (401 هـ)

(5)

.

الفائق (في غريب الحديث) لجار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت 538)

(6)

.

مطالع الأنوار (على صحيح الآثار) لابن قرقول إبراهيم بن يوسف (569 هـ)

(7)

.

النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير الجَزري أبي السعادات مبارك بن أبي الكرام (606 هـ)

(8)

.

(1)

/ 159، 11/ 58.

(2)

/ 42، 1446.

(3)

/ 148، 2/ 171.

(4)

/ 120، 5/ 184.

(5)

/ 36، 9/ 202.

(6)

/ 17، 5/ 193.

(7)

/ 54، 25/ 42.

(8)

/ 78، 5/ 24.

ص: 62

تهذيب الأسماء واللغات لأبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (ت 676 هـ)

(1)

.

‌و - كتب المؤتلف والمختلف:

المؤتَلِف والمختَلِف أبو الحسن علي بن عمرالدارقطني (المتوفى: 385 هـ)

(2)

.

الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب، لسعد الملك، أبو نصر علي بن هبة الله بن جعفر بن ماكولا (ت 475 هـ).

‌ز - مصادره في شروح الحديث:

مشكل الآثار، لأبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي الأزْديُّ (ت 321 هـ)

(3)

.

معالم السنن للإمام لأبي سليمان حمد بن أحمد الخَطّابي البُسْتي (ت 388 هـ)

(4)

.

أعلام الحديث (شرح صحيح البخاري) لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي

(5)

.

النصيحة في شرح البخاري، لأبي جعفر أحمد بن نصر الداودي الأسدي

(1)

/ 72، 15/ 81.

(2)

/ 53.

(3)

/ 205، 3/ 156.

(4)

/ 184، 25، 83.

(5)

/ 32، 3/ 181.

ص: 63

(ت 402 هـ)

(1)

.

شرح صحيح البخاري للمهلّب بن أحمد بن أسيد بن عبدالله أبو القاسم ابن أبي صفرة الأسدي (ت 435 هـ)

(2)

.

شرح صحيح البخاري لابن بطال أبي الحسن علي بن خلف المغربي المالكي (449 هـ)

(3)

.

الاستذكار، لأبي عمر يوسف بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي (ت 463 هـ)

(4)

.

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لأبي عمر يوسف بن عبد البر ابن عاصم النمري القرطبي

(5)

.

شرح السنة، لمحيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (ت 516 هـ).

التحرير في شرح صحيح مسلم، محمد بن إسماعيل بن محمد بن الفضل أبو عبدالله التيمي، الأصبهاني، (ت 526 هـ)

(6)

.

المُعلم بفوائد مسلم لأبي عبدالله محمد بن علي ا المازري المالكي

(1)

/ 239، 5/ 78، 10/ 216. وكتاب: النصيحة للداودي مفقود.

(2)

/ 188، 3/ 85، 6/ 168، 11/ 20.

(3)

/ 70، 11/ 164.

(4)

/ 58، 12/ 98.

(5)

/ 58.

(6)

/ 14، 1/ 130، 14/ 15.

ص: 64

(ت: 536 هـ)

(1)

.

عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي، للإمام الحافظ أبي بكر ابن العربي المالكي (ت 542 هـ)

(2)

.

إكمال المعلم بفوائد مسلم، للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي (ت 544 هـ)

(3)

.

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، لأبي العباس أحمد بن عمر القُرطبي (ت 656 هـ)

(4)

.

مطالع الأنوار، إبراهيم بن يوسف بن عبدالله ابن قرقول الحمزي، (ت 569 هـ)

(5)

.

الميسر في شرح مصابيح السنة فضل الله بن حسن بن حسين بن يوسف أبو عبدالله، شهاب الدين التُّورِبِشْتِي (ت 661 هـ)

(6)

.

شرح صحيح مسلم للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي الشافعي (ت 676 هـ)

(7)

.

(1)

/ 218، 7/ 152، 9/ 11، 79/ 70.

(2)

/ 133.

(3)

/ 209، 3/ 186، 6/ 62.

(4)

/ 49.

(5)

/ 54، 25/ 42.

(6)

/ 37، 7/ 98، 12/ 105.

(7)

/ 18، 2/ 57، 3/ 37، 8/ 19.

ص: 65

المتواري على تراجم أبواب البخاري، أحمد بن محمد بن منصور ابن المنير الجذامي الجروي الإسكندراني (ت 683 هـ)

(1)

.

تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة، للقاضي، ناصر الدين عبدالله بن عمر البيضاوي (ت 685 هـ)

(2)

.

المفاتيح في شرح المصابيح لمظهر الدين الزَّيْدَانيُّ الكوفي الضَّريرُ الشِّيرازيُّ الحَنَفيُّ المشهورُ بالمُظْهِري (ت 727 هـ)

(3)

.

شرح الطيبي على مشكاة المصابيح المسمى ب (الكاشف عن حقائق السنن)، شرف الدين الحسين بن عبدالله الطيب (ت 743 هـ)

(4)

.

التلويح في شرح الجامع الصحيح، لمغلطاي بن قَلِيج بن عبدالله البَكْجَريّ المصري الحكري الحنفي، أبو عبدالله، علاء الدين (ت 762 هـ)، وهو من الكتب التي لم تصل إلينا

(5)

.

‌رابعا مصادره في التاريخ والسّير:

مغازي ابن إسحق (151 هـ)

(6)

.

العرائس في قصص الأنبياء، لأحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أبو

(1)

/ 203، 6/ 193، 8/ 29.

(2)

/ 18، 3/ 129، 7/ 153.

(3)

/ 58، 20/ 59.

(4)

/ 23، 4/ 223، 9/ 79.

(5)

/ 216، 24/ 234.

(6)

/ 8، 16/ 247.

ص: 66

إسحاق (ت 427 هـ)

(1)

.

دلائل النبوة لأني نُعَيم أحمد بن عبدالله الأصبهاني (ت 430 هـ)

(2)

.

مناقب الشافعي، أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 هـ)

(3)

.

الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر، أبي يوسف عمر يوسف ابن عبدالله النّمري القُرطبي (ت 463)

(4)

.

‌خامسا مصادره في اللغة والبلاغة:

العين للخليل بن أحمد الفراهيديّ (175 هـ)

(5)

.

جمهرة اللغة، لأبي بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي (ت 321 هـ)

(6)

.

تهذيب اللغة، لمحمد بن أحمد بن الأزهري الهروي، أبو منصور (ت 370 هـ)

(7)

.

الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، لأبي نصر إسماعيل بن حمّاد الفارابي (ت 393 هـ)

(8)

.

(1)

/ 44، 16/ 7.

(2)

/ 202.

(3)

/ 43، 10/ 52.

(4)

/ 176، 12/ 7.

(5)

/ 80، 17/ 116.

(6)

/ 56، 13/ 164.

(7)

/ 35، 9/ 34.

(8)

/ 38، 18/ 206.

ص: 67

المحكم والمحيط الأعظم لابن سيده أبي الحسن علي بن إسماعيل اللغوي (ت 458)

(1)

.

مفتاح العلوم ليوسف بن أبي بكر بن محمد بن علي السكاكي الخوارزمي الحنفي أبو يعقوب (ت 626 هـ)

(2)

.

‌سادساً مصادره في النحو:

الكتاب، لعمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء، أبو بشر، الملقب سيبويه (ت 180 هـ)

(3)

.

الكافية في علم النحو، لابن الحاجب جمال الدين بن عثمان الإسنوي المالكي (ت 646 هـ)

(4)

.

شَوَاهِد التَّوضيح وَالتَّصحيح لمشكلات الجامع الصَّحيح، لمحمد بن عبدالله، ابن مالك الطائي الجياني، أبو عبدالله، جمال الدين (ت 672 هـ)

(5)

.

‌سابعاً مصادره في الفقه وأصوله:

لم يصرح الإمام الكرماني بمصادره في الفقه كثيرا، ولعل السبب في ذلك أنه كان يكتفي بقول شرّاح الحديث في نقل أقوال الفقهاء، كالنووي الشافعي

(1)

/ 195، 6/ 42.

(2)

/ 37، 5/ 26.

(3)

/ 94، 6/ 30.

(4)

/ 78.

(5)

/ 155، 21/ 46.

ص: 68

في شرح مسلم، وابن بطال المالكي في شرحه على البخاري، وكان يقول قال أصحابنا، إلا أنه أشار إلى بعض مراجعه في الفقه فمن أهمها:

الكتاب الأم للشافعي أبو عبدالله محمد بن إدريس المطلبي القرشي المكي (ت 204 هـ)

(1)

.

الحاوي الكبير، وهو شرح مختصر المزني، لأبي الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (ت 450 هـ)

(2)

.

الأحكام السلطانية، لأبي الحسن علي بن البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (ت 450 هـ)

(3)

.

المستصفى، لأبي حامد، محمد الغزالي، (ت 505 هـ)

(4)

.

الهداية شرح بداية المبتدي، لأبي الحسن علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الرشداني المرغياني (ت 593)

(5)

.

فتح العزير بشرح الوجيز، (الشرح الكبير)، لعبد الكريم بن محمد الرافعي القزويني (ت 623 هـ)

(6)

.

(1)

/ 123/ 3/ 216.

(2)

/ 12، 8/ 168.

(3)

/ 106.

(4)

/ 23، 22/ 49.

(5)

/ 182، 8/ 44.

(6)

/ 9.

ص: 69

المحرر في فقه الإمام الشافعي، لأبي القاسم عبد الكريم بن محمد القزويني، (ت 624 هـ)

(1)

.

الفروق (أنوار البروق في أنواء الفروق)، لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي (ت 684 هـ)

(2)

.

‌ثامناً مصادره في كتب الأنساب:

كتاب الأنساب لحمد بن طاهر بن علي بن أحمد، أبو الفضل ابن القيسراني الشيباني، المقدسي الأثري، (ت 507 هـ)

(3)

.

الأنساب لعبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني المروزي، أبو سعد (ت 562 هـ). «5/ 154»

(4)

.

‌تاسعاً مصادره في الاستدراكات والتتبع:

الإلزامات والتتبع، لأبي الحسن علي بن عمر بن أحمد البغدادي الدارقطني (ت 385 هـ)

(5)

.

* * *

(1)

/ 12.

(2)

/ 14، 7/ 80.

(3)

/ 80.

(4)

/ 145.

(5)

/ 101، 21، 79.

ص: 70

‌المبحث الرابع

أهمية كتاب الكواكب الدراري، ومنزلته بين شروح الجامع الصحيح

‌1 - أهمية كتاب الكواكب الدراري:

تظهر أهمية كتاب الكواكب الدراري بما قاله الكرماني في مقدمة شرحه للكتاب (من أنه تصدى فيه لعلوم العربية من بلاغة ونحو، وعلوم الشريعة من أصول الفقه، والمسائل الفقهية والتعريفات الاصطلاحية، وعلم الرجال والسند، والاهتمام بتراجم البخاري ومناسبة التراجم للأحاديث

وبين اعتذار العلماء وعجز الفحول منهم عن موضوع تراجم البخاري وعلاقته بالأحاديث)

(1)

.

وقد كان شرح الإمام الكرماني شرحاً متوسطاً، فيه من الفوائد والفرائد، وقد تناول شرح الحديث من أغلب جوانبه النحوية والصرفية، ومايتعلق بعلم الحديث رواية ودراية، وغيرها

وماسنراه في طيات البحث إن شاء الله عز وجل.

وقد أثنى الكرماني على تأليفه فقال: «فجاء بحمد الله كتابا حافلا بكل

ما يحتاج إليه المحتفل به فهو شيخ للطالب، أستاذ للمتعلم، مرشد للمشتغل به فيا لها نعمة عظيمة أخلصت لك نقاوتها، وطعمة جسيمة حببت لك حلاوتها، وغنيمة باردة اخترت صنعها، ولقمة هنيئة أعددت لك نقيها»

(2)

.

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 4.

(2)

السابق، 1/ 5.

ص: 71

لذلك لاينكر فضل ما في الكتاب إلا جاحد غير منصف، وقد بين الكرماني أن هناك طائفة من الناس لاتنصف أحداً، وهناك طائفة تشهد بالخير وتعذر بالخطأ والزلل فقال: «ولو كان لكتابي هذا نفس ناطقة ولسان مطلقة، لقال بمقال صريح وكلام فصيح لله درّ مؤلف هذا التأليف الرائق الرئيس،

ولا شلّت يد مصنف هذا التصنيف الفائق النفيس وهذا الكتاب لابد أن يقع لأحد رجلين: إما عالم منصف فيشهد لي بالخير ويعذرني فيما كان من العثار، الذي هو لازم الإكثار وإما جاهل متعسّف، فلا اعتبار لوعوعته، ولا اعتداد بوسوسته، ومثله لا يعبأ به لا لمخالفته، ولا لموافقته وإنما هو الاعتبار بذي النظر الذي يعطي كلّ ذي حقّ حقّه»

(1)

.

فهذا يبيّن أهمية، وقيمة الكتاب العلمية للكواكب الدراري وذلك للأسباب الآتية:

‌1 - شرح لصحيح البخاري الذي هو أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل

-، والذي اعتمد فيه على أكثر من نسخة مخطوطة، وكان اعتماد الكرماني فيها كذلك على رواية، أبي الشيخ أبي عبدالله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح الفربري

(2)

(ت 320 هـ) وهي أوثق الرويات عن البخاري، وأصحها، لكونه آخر سماعًا عن

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 5 - 6.

(2)

محمد بن يوسف بن مطر الفربري، نسبته إلى (فربر) من بلاد بخارى، سمع من علي ابن خشرم وقتيبة وغيرهما، أوثق من روى صحيح البخاري، سمعه مرتين، ورواه عنه كثيرون، (ت 320 هـ)، ينظر: التقييد لمعرفة رواة السنن والمسانيد، محمد ابن نقطة الحنبلي، والوافي بالوفيات، الصفدي، 5/ 160.

ص: 72

البخاري وآخرهم حياة بعده، وقد سمع «الصحيح» من البخاري مرتين، وقيل ثلاث مرات)

(1)

.

‌2 - كثرة المراجع التي اعتمدها الكرماني في شروح الحديث، واللغة، والغريب

مما يدل على سعة اطلاعه، وغزير علمه.

‌3 - نقله عن مصادر لم تصل إلينا بعد، إما لضياعها وتلفها، أو أنها مازالت في خزائن المكتبات!

ككتاب التحرير في شرح صحيح مسلم، لمحمد بن إسماعيل ابن محمد بن الفضل أبو عبدالله التيمي، الأصبهاني، (ت 526 هـ)

(2)

، والنصيحة في شرح البخاري، لأبي جعفر الداودي، (ت 402 هـ)

(3)

.

‌4 - اهتمام الإمام الكرماني بعلوم الحديث رواية ودراية، ويبين المُشكل فيهما،

ويرد الشبهة عنهما، ويذكر العلة ويناقشها، ويذكر رأيه في المسألة، مما جعل

(1)

ينظر: الإفصاح عن معاني الصحاح، 1/ 144، والأنساب للسمعاني، 10/ 171.

(2)

محمد بن إسماعيل بن محمد بن الفضل بن علي بن أحمد بن طاهر التيمي الأصبهاني، أبو عبدالله، كان عالما إماما في العلوم كلها، وفاق أقرانه في الفصاحة، والبيان، والذكاء، والفهم، له تصانيف كثيرة مع صغر سنه، وله شرح على البخاري ومسلم ومات ولم يكمله، فأكمله والده إسماعيل الملقب بقوام السنة، وكان يروي عنه وجادة، (ت 526 هـ) ينظر: تاريخ الإسلام، الذهبي، 11/ 623، ومعجم المؤلفين، 9/ 61 - 62.

(3)

أحمد بن نصر الداودي، الأسدي، المالكي، (ابو جعفر)، محدث. فقيه، متكلم. سكن طرابلس الغرب، وتوفي بتلمسان، له مصنفات عدة منها: الواعي في الفقه، والنصيحة في شرح البخاري، (ت 402 هـ)، معجم المؤلفين، 2/ 194.

ص: 73

الكتاب يشتمل على فوائد شتى.

‌5 - احتوى الكتاب على ذكر أقوال الفقهاء في المسألة بشكل مبسط مختصر،

مستدلاً بأقوال الأصوليين في المسألة، مما جعله مرجعا مهما في هذا العلم.

‌6 - اهتمام الكرماني في الكتاب بالغامض والغريب من اللغة والمعاني،

فلا تمر معه كلمة إلا ويبين معناها، مستدلا بالمعاجم وكتب اللغة والغريب.

‌7 - اهتم الكرماني في شرحه بأمور العقيدة،

وعلم الكلام وتبنى عقيدة أهل السنة والجماعة الأشعرية ودافع عنها، كما رد على أهل الفِرَق المتنوعة كالخوارج، والمعتزلة.

‌2 - منزلة الكواكب الدراري بين شروح الجامع الصحيح:

هذا وقد اعتنى شراح الحديث بشرح الكرماني، ونقلوا منه الفوائد والفرائد، يقول ابن حجر:«وهو شرح مفيد على أوهام فيه في النقل؛ لأنه لم يأخذ إلا من الصحف»

(1)

.

فشرح الكرماني كان نبراسا يهتدي به، وينقل منه جملة من شرّاح الحديث الذين شرحوا صحيح البخاري ممن جاؤوا بعده.

وقد أخذ منه ابن حجر ونقل عنه، واستفاد من شرحه، وممن استفاد منه كذلك ولده تقي الدين يحيى الكرماني، شرح الجامع الصحيح للبخاري وقد أخذ من شرح والده وغيره، «استمد فيه من شرح أبيه، وشرح ابن الملقن

(1)

الدرر الكامنة، 6/ 66.

ص: 74

وأضاف إليه من شرح الزركشي وغيره، وما سنح له من حواشي الدمياطي، وفتح الباري، والبدر. وسماه:«مجمع البحرين، وجواهر الحبرين»

(1)

.

وممن أخذ عن الكرماني في شرحه البدرالعيني

(2)

، في كتابه: عمدة القاري، (ت 855 هـ).

ومنهم أحمد بن إسماعيل الكوراني، (ت 893 هـ)، في كتابه: الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري.

ومنهم الإمام القسطلاني (ت 923 هـ)، في كتابه إرشاد الساري، وغيرهم.

* * *

‌المبحث الخامس

المنهج العام للكرماني في كتاب الكواكب الدراري

كما هي عادة المؤلفين بدأ الكرماني شرحه بمقدمة تناولت أهم المواضيع المتعلقة بشرحه على البخاري، وبيّن منهجه العام، وطريقته في شرح الحديث.

قال الكرماني: «وإنما قصدت بذلك إظهار احتياج هذا الكتاب الذي هو ثاني كتاب الله تعالى إلى شرحٍ مكمّل للفوائد شامل للعوائد عام المنافع تامّ المصالح، جامع لشرح الألفاظ اللغوية الغريبة، ووجه الأعاريب النحوية البعيدة

(1)

كشف الظنون، ص 541.

(2)

محمود بن أحمد بن موسى أبو محمد بدر الدين العيني الحنفي، من كبار المحدثين، أصله من حلب، ومولده في عينتاب، واشتغل بالفقه، وبرع فيه، له شرح على البخاري، اسمه عمدة القاري، (ت 855 هـ)، ينظر: بغية الوعاة، السيوطي، 2/ 275.

ص: 75

وبيان الخواص التركيبية واصطلاحات المحدثين ومباحث الأصوليين، والفوائد الحديثية والمسائل الفقهية، وضبط الروايات الصحيحة، وتصحيح أسماء الرجال وألقاب الرواة وأنسابهم وصفاتهم، ومواليدهم ووفياتهم، وبلادهم ومروياتهم، والتلفيق

(1)

بين الأحاديث المتنافية الظواهر، والتوفيق بينها وبين التراجم المستورة عن أكثر الضمائر.

ولتوضيح ما صعب من سلوك مناهجها، وتبيين ما لم يظهر من مقدماتها ونتائجها، وتليين ما لم يذلل من صفاتها، ولم يخضع للفهم رقابها وبعض عويصاتها، مما جعل جنابها عن أن يكون شريعة لكل وارد، أو يطلع عليه إلاّ واحد بعد واحد

»

(2)

.

فبين الكرماني أن منهجه يقوم على:

التعريف بصحيح الإمام البخاري في مقدمة شرحه، تعريفاً موجزاً، بيّن فيه عدد الأحاديث فيه، وعدد المكرر، وعدد الذين تفردوا بالرواية عن البخاري دون مسلم.

بيان الغامض من الألفاظ في الشرح، والترجيح بالقرائن، والأدلة، مع بيان وجه الأعاريب النحوية غير الظاهرة.

(1)

يستعمل الكرماني لفظ التلفيق بمعنى التوفيق بين المعاني، والأحاديث، وقد قال أهل اللغة أن التلفيق من معانيه الملاءمة، يُقال تلافق القوم أي تلاءمت أمورهم. ينظر: القاموس المحيط: 1/ 922.

(2)

الكواكب الدراري: 1/ 4.

ص: 76

التنبيه على بعض الفروق في ألفاظ الحديث على حسب نسخ صحيح البخاري.

بيان خواص التراكيب البلاغية على حسب علم المعاني.

ذكر مباحث الأصوليين من عام وخاص ومجمل ومبين

والمسائل، والقواعد الفقهية المتنوعة، ونسبة الأقوال لأصحابها.

ذكر الفوائد الحديثية، وضبط الروايات الصحيحة.

ضبط أسماء الرجال، ويتوسع في ترجمة المشهورين منهم، ويذكر ألقابهم، وأنسابهم، وصفاتهم، وبلادهم، ومروياتهم، وبيان المؤتلف والمختلف من الأسماء.

التوفيق بين الأحاديث ظاهرة التعارض، مع التوفيق بينها وبين التراجم المستورة، مع بيان مناسبة الأحاديث التي في كل باب لما ترجم له.

ومما تبين كذلك:

الذبّ عن صحيح البخاري فيما انتُقد عليه، في إسناد معلق، أو مرسل، أو مقطوع، أو سبب تقديم البخاري عناوين الكتب بعضها على بعض.

يشير إلى أسباب ترجيح صحيح البخاري، على صحيح مسلم.

يبين مراد البخاري، من ذكر باب ما، أوترجمة لباب، أوبيان عبارة قد تُوهم الإشكال.

أغلب آراء الكرماني الحديثية وافق فيها جماهير المحدثين، ويذكر في بعض الأحيان آراؤه الحديثية التي انفرد بها، عن المتفق عليه بينهم.

ص: 77

يذكر آراء أصحاب الفِرَق، كالخوارج، والشيعة، والمعتزلة ويرد عليهم.

الاكتفاء في النقل عن شرّاح الحديث في كثير من الأحايين، من دون التعليق عليها، كالنووي في شرحه على مسلم، وابن بطال في شرحه على البخاري وغيرهم.

له مصطلحات تُعرف من خلال سياق الكلام، فمثلاً كلمة رواه أحياناً يقصد بها الصحابي أو التابعي الذي روى الحديث، وأحياناً يقصد بها معنى التخريج.

بعد أن يذكر الأقوال في المسألة، ينقل ما قيل من أقوال غير معتمدة بصيغة التمريض «قيل» .

إذا تكرر الحديث يترك أحيانا بعض أجزاء الشرح، ولطائفه، ويذكرها عند ذكر الحديث مرة أخرى، وكثير من الأحيان يمر على الحديث المكرر سريعا، ولا يُعيد الشرح، وخصوصاً في الأجزاء الأخيرة من شرحه.

الإشارة إلى نهاية كتاب وبداية آخر، أو يُنهي الكتاب بقوله:«تم» ، أحياناً يختم الكتاب بالدعاء ويكفي به.

عند توثيقه لكلامه يصف من نقل عنهم بأهل كذا

كقوله، قال أهل اللغة، قال أهل البلاغة، قال أهل البيان، قال أهل العلم.

وهناك نقاط كثيرة في تفصيل منهج الكرماني ستظهر بمشيئة الله أثناء البحث.

* * *

ص: 78

‌المبحث السادس

بعض المآخذ على الكرماني

ويشمل:

‌1 - اعتراض ابن حجر في فتح الباري:

2 -

اعتراض البرماوي

(1)

في اللامع الصبيح:

على جلالة قدر علم الإمام الكرماني، وكتابه الكواكب الدراري، إلا أنه لم يخلُ من انتقادات الأئمة، وذكر ما فيه من ثغرات، وملاحظات، منها ما هو واضح، ومنها ما يُمكن الرد عليه، ورد الشبهة في التوفيق بين قول الكرماني، والمعترض.

فمن الاعتراضات على الكرماني:

1 -

اعتراض ابن حجر في فتح الباري:

قال ابن حجر: «وهو شرح مفيد على أوهام فيه في النقل لأنه لم يأخذ إلا من الصحف»

(2)

«وفيه أوهام فاحشة وتكرار كثير لا سيما في ضبط أسماء

(1)

محمد بن عبد الدائم بن موسى، شمس الدين أبوعبدالله العسقلاني، الأصل البرماوي المصري، أخذ عن سراج الدين البلقيني وابن الملقن وزين الدين العراقي وعز الدين ابن جماعة، كان عالماً بالفقه والنحو والحديث والأصول، له شرح على البخاري اسمه: اللامع الصبيح على الجامع الصحيح، (ت 831 هـ)، طبقات الشافعية، 4/ 101، ومعجم المؤلفين، 10/ 132.

(2)

الدرر الكامنة، ابن حجر 6/ 66.

ص: 79

الرواة»

(1)

.

من هذه الأوهام التي وقع فيها الكرماني وانتقده فيها الحافظ ابن حجر، الوهم في العزو إلى المصادر.

مثاله: قال البخاري: «أَذِنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ بَيْتٍ مِنْ الْأَنْصَارِ أَنْ يَرْقُوا مِنْ الْحُمَةِ وَالْأُذُنِ

»

(2)

.

فالكرماني نقل عن ابن بطال في ضبط كلمة الأذن فقال: «قال ابن بطال: الأدر جمع الآدر،. أقول يعني نحو الحمر والأحمر من الأدرة وهي نفخة الخصيتين وهو غريب شاذ»

(3)

.

فقال ابن حجر: «ولم أر ذلك في كتاب ابن بطال فليحرر»

(4)

وبالفعل هذا الكلام غير موجود في كتاب ابن بطال.

وأكثر من انتقد الكرماني هو ابن حجر، ومن بعض هذه الانتقادات.

الوهم في الراوي المقصود

(5)

.

غفلة الكرماني عن بعض الروايات، وعدم استحضارها، أدى إلى الوهم في فهم المقصود

(6)

.

(1)

طبقات الشافعية، ابن قاضي شهبة، 3/ 108.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الطب، باب: ذَاتِ الْجَنْبِ، رقم (5362).

(3)

الكواكب الدراري، 21/ 11.

(4)

فتح الباري، 10/ 173.

(5)

ينظر: فتح الباري، 5/ 69، 8/ 378.

(6)

ينظر: فتح الباري، 5/ 176.

ص: 80

القول بمسألة ما أنه مجمع عليها، والصحيح خلاف ذلك

(1)

.

وغير ذلك من الانتقادات، وقد انتصر البدر العيني الحنفي للكرماني في كتابه عمدة القاري

(2)

، ورد بعض انتقادات ابن حجر

(3)

.

حتى إن البدر العيني الحنفي انتقد الكرماني في نقله لرأي الحنفية، وأن المسألة فيها خلاف بين أئمة المذهب، وليس قولا واحداً كما قال الكرماني

(4)

.

(1)

السابق، 2/ 312.

(2)

قال السخاوي عن عمدة القاري: «سماه عمدة القاري استمد فيه من شرح شيخنا

يقصد ابن حجر بحيث ينقل منه الورقة بكمالها، وربما اعترض، لكن قد تعقبه شيخنا في مجلد حافل بل عمل قديما حين رآه تعرض في خطبته له وأنها مأخوذة من مقدمة النووي جزءا سماه الاستنصار على الطاعن المعثار، بيّن فيه ما نسبه إليه مما زعم انتقاده في خصوص الخطبة، وقف عليه الأكابر من سائر المذاهب كالجلال البلقيني، وللشمسين البرماوي وابن الديري والشرف التباني والجمال الأقفهسي والعلاء بن المغلي، فبينوا فساد انتقاده وصوّبوا صنيع شيخنا وأنزلوه منزلته». الضوء اللامع، 10/ 133. ثم لما ألف البدر العيني كتابه: عمدة القاري، واستفاد منه كثيرا وانتقده كثيرا، ألف ابن حجر كتابه: انتقاض الاعتراض، في الرد على البدر العيني، ينظر: مقدمة انتقاض الاعتراض لابن حجر، 1/ 9.

كما أن هناك كتاب لابن حجر أفرده في التأليف، غير الفتح وجعله مخصصاً لتعقب الكرماني في شرحه، هو وصول الأماني، بذكر تعقُّبات الحافظ ابن حجر العسقلاني، على العلامة الكِرماني في شرحه لصحيح البخاري.

(3)

ينظر عمدة القاري: 1/ 181، 2/ 8، 3/ 174، 15/ 134،

(4)

ينظر عمدة القاري، 12/ 298.

ص: 81

‌2 - اعتراض البرماوي في اللامع الصبيح:

وقال شمس الدين البرماوي، بعد أن أثنى على الكرماني وشرحه:«إلا أنه كرر فيه كثيرا، لا سيما في التراجم والأسماء، فإنه زاد تكريرا، وربما أغلق في بعض العبارة، وأطال بما يمكن أن يشار إليه بأخصر إشارة، وربما قدم ما يحسن تأخيره، وأخر ما يحسن تقديمه وتوفيره، وربما غاير بين أقوال راجعة في المعنى إلى واحد، حتى كاد أن تلتبس في ذلك المقاصد»

(1)

.

إذا تبين أن المآخذ كانت في:

الوهم في النقل لأنه لم يأخذ إلا من الصحف.

الاكتفاء في النقل عن شرّاح الحديث في كثير من الأحايين، من دون التعليق عليها، كالنووي في شرحه على مسلم، وابن بطال

(2)

في شرحه على البخاري وغيرهم، وهو ما يعزز قول ابن حجر أنه أخذه من الصحف.

وقد انتقد ابن حجر الكرماني بقوله أن البخاري لا يراعي حسن الترتيب

(3)

فقال ابن حجر: «والعجب من دعوى الكرماني أنه لا يقصد تحسين الترتيب بين الأبواب مع أنه لا يعرف لأحد من المصنفين على الأبواب من اعتنى

(1)

اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح، المقدمة، ص 4.

(2)

علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال القرطبي، أخذ عن أبي عمر الطلنكي، وكان من أهل العلم والمعرفة، له شرح على البخاري، (ت 449 هـ)، ينظر: سير أعلام النبلاء، 13/ 303.

(3)

الكواكب الدراري، 2/ 183.

ص: 82

بذلك غيره حتى قال جمع من الأئمة فقه البخاري في تراجمه»

(1)

.

وقد تبين لي أن وهم الكرماني في بعض النقول أنه كان ينقل معنى الكلام، دون أن يأخذه بالحرف، ولعله أخطأ في بعضها، كما أنه إلا في حالات قليلة، يقول بعد النقل:«تم كلامه»

(2)

ولا يذكر أين هي نهاية كلام المرجع الذي نقل منه، فهذا قد يؤدي إلى التداخل بين كلامه وكلام المنقول عنه.

التكرار في ضبط أسماء الرواة:

أما عن تكراره لضبط اسم الرواة:

ولعل الكرماني كان يعمد إلى ذلك في أسماء الرواة الذين قد يقع الإشكال في نطق أسمائهم، فتراه يكرر الضبط حتى يعلق في ذهن القاراء الضبط الصحيح مثال على ذلك:

فقد قال في ضبط اسم التابعي: «سعيد بن المسيَّب»

(3)

«بفتح الياء على المشهور، وقيل بالكسر وكان يكره فتحها»

(4)

.

(1)

فتح الباري، 1/ 234.

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 72، 4/ 196.

(3)

سعيد بن المسيَّب بن حزن، بن أبي وهب القرشي المخزومي المدني، التابعي، عالم أهل المدينة، ولد في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وروى له الجماعة كلهم، (ت 94 هـ)، ينظر الوافي بالوفيات، الصفدي، 15/ 163.

(4)

الكواكب الدراري، 1/ 125، وكرر الضبط في مواضع أخرى بقوله:«بفتح الياء على المشهور» 2/ 22، 2/ 173، 14/ 87، إلا أنه قال في موضع في ضبط ذات الاسم:«بفتح الياء على المشهور وبكسرها» 17/ 143. وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: «ويقال: المسيب، بفتح الياء وكسرها، والفتح هو المشهور، وحكى عنه أنه كان يكرهه، ومذهب أهل المدينة الكسر»، 1/ 219.

ص: 83

مثال ثانٍ:

كرر ضبط اسم الراوي: «محمد بن جعفر هو أبو عبدالله محمد الهزلي البصري المعروف بغُنْدَر بضم الغين المعجمة والنون الساكنة والدال المهملة المفتوحة هو المشهور»

(1)

.

ثم إنه كرر ضبط غُنْدَر في أكثر من عشر مواضع، ويقول: مر في باب ظلم دون ظلم، وتارة يكتفي بالضبط من دون الإحالة، وقد بيّن الكرماني في مقدمته بيان السبب في ذلك: «ولم أبال عن الإعادة في الإفادة عند الحاجة إلى البيان، ولا في تعجيم بعض الأسماء التي هي واضحة عند أهل هذا الشأن، لأني قصدت فيه النفع للمبتدئين والمنتهين، والفائدة للمتقدمين والمتأخرين

وذكر أن الناس اشتبهت عليهم أكثر الأسماء، حتى كادوا يتركون قراءة صحيح البخاري»

(2)

.

أما قول شمس الدين البرماوي، أن الكرماني كان يُطيل في موضع الاختصار، أو أنه يُقدم مايجب تأخيره أو العكس، فلعل هذا وجهة نظر البرماوي ورأيه، إذا أن منهج الكرماني كان أكثره يدور على الاختصار.

قلت: ومن المآخذ على الكرماني كذلك:

الحكم على أسانيد بالانقطاع، وهي موصولة من طرق أخرى، مع العلم أن الكرماني كم من أحاديث مرت قيل عنها أنها مقطوعة أو مرسلة إلا أنه بيّن

(1)

الكواكب الدراري، وقد ترجم له في بَابُ: ظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ 1/ 144.

(2)

السابق، 1/ 5.

ص: 84

أنها موصولة من طرق أخرى وأزال الإشكال إلا أنه ربما غفل عن بعضها كهذا المثال: قال البخاري:

«حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ قَرَأ تُ عَلَى مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ ابْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْماً، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْماً وَهْوَ بِالْعِرَاقِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيُّ فَقَالَ مَا هَذَا يَا مُغِيرَةُ أَلَيْسَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ جِبْرِيلَ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ فَصَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ «بِهَذَا أُمِرْتُ» . فَقَالَ عُمَرُ لِعُرْوَةَ اعْلَمْ مَا تُحَدِّثُ أَوَإِنَّ جِبْرِيلَ هُوَ أَقَامَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقْتَ الصَّلَاةِ. قَالَ عُرْوَةُ كَذَلِكَ كَانَ بَشِيرُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ. قَالَ عُرْوَةُ وَلَقَدْ حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي الْعَصْرَ، وَالشَّمْسُ فِي حُجْرَتِهَا قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ»

(1)

.

قال الكرماني: «واعلم أن الحديث بهذا الطريق ليس متصل الإسناد إذ لم يقل أبو مسعود شاهدت أنا أو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن جبريل نزل»

(2)

.

قال ابن حجر في فتح الباري يرد كلام الكرماني: «قلت هذا لا يسمى منقطعا اصطلاحا وإنما هو مرسل صحابي

(3)

.

ص: 85

لأنه لم يدرك القصة فاحتمل: أن يكون سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم أو بلغه عنه بتبليغ من شاهده أو سمعه كصحابي آخر، على أن رواية الليث عند المصنف تزيل الإشكال كله، ولفظه: فقال عروة سمعت بشير بن أبي مسعود يقول سمعت أبي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فذكر الحديث»

(1)

وهو «أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَّرَ الْعَصْرَ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ: أَمَا إِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام قَدْ نَزَلَ، فَصَلَّى أَمَامَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عُمَرُ: اعْلَمْ مَا تَقُولُ يَا عُرْوَةُ، فَقَالَ: سَمِعْتُ بَشِيرَ بْنَ أَبِي مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم

وذكر الحديث»

(2)

.

فبين ابن حجر أن الحديث من قبيل مرسل الصحابي، وأن الرواية الثانية عند البخاري فيها التصريح بالسماع فيزيل الإشكال.

مثال آخر: قال البخاري: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو قُتَيْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ المُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ

(1)

فتح الباري، 2/ 5.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: بدء الخلق، بَاب: ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ، رقم (3012).

ص: 86

لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي، وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ»

(1)

.

قال ابن حجر: «قوله عن عبدالله بن أبي قتادة قال أبو عبدالله لا أعلمه إلا عن أبيه انتهى أبو عبدالله هذا هو المصنف، وقع قوله قال أبو عبدالله في رواية المستملي وحده وكأنه وقع عنده، توقف في وصله لكونه كتبه من حفظه أو لغير ذلك، وهو في الأصل موصول لا ريب فيه فقد أخرجه الإسماعيلي عن بن ناجية عن أبي حفص، وهو عمر بن علي شيخ البخاري فيه فقال عن عبدالله بن أبي قتادة عن أبيه ولم يشك وأغرب الكرماني فقال إن هذا الإسناد منقطع وإن حكم البخاري بكونه موصولا لأن شيخه لم يروه إلا منقطعا»

(2)

كما أن البدر العيني نقد ابن حجر في مواضع عدة في كتابه: «عمدة القاري شرح صحيح البخاري»

(3)

.

لكن هذه الانتقادات القليلة بجانب الإيجابيات، والمحاسن الكثيرة، تتلاشى مع كثرة النقول والفوائد التي نقلها ابن حجر عن الكرماني في فتح الباري، وغيره كالبدر العيني، والشوكاني، وكل جهد بشري قابل للانتقاد، مهما بلغ فيه صاحبه غاية الجهد، فلذلك نلتمس له العذر.

وبعض المآخذ كانت في نسبة الكرماني لبعض الرواة لبلدان غير بلدانهم،

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الجمعة، بَاب: لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، رقم (869).

(2)

فتح الباري، 2/ 329.

(3)

عمدة القاري، شرح صحيح البخاري، البدر العيني، وهذه بعض الصفحات من نقله عن الكرماني:/ 18، 12/ 223، 12/ 298.

ص: 87

كما قال في نسبة: «المكي ابن إبراهيم» «المنسوب الى مكة شرفها الله تعالى»

(1)

.

وقد اعترض ابن حجر على ذلك فقال في الاسم: «هو اسم بلفظ النسب وليس بنسب لأنه بلخي»

(2)

وقد رد البدر العيني على اعتراض ابن حجر وبيّن أن المراد على صورة النسبة إلى مكة، فقال:«وقد اعترض عليه بعضهم بأن قال: منسوب إلى مكة وليس كذلك، بل هو اسمه، وهو من بلخ قلت: أراد به الكرماني أنه على صورة النسبة إلى مكة ولم يدع أنه منسوب إلى مكة حقيقة»

(3)

. قلت: وهو من النِسب التي على خلاف ظاهرها.

* * *

(1)

الكواكب الدراري، 8/ 83.

(2)

فتح الباري، 1/ 251.

(3)

عمدة القاري، 9/ 185.

ص: 88

الباب الثاني

الصناعة الحديثية عند الكرماني وطرائقه المتعلقة بالأسانيد، والتخريج وعلوم الرواة

* الفصل الأول: منهج الكرماني وصناعته الحديثية المتعلقة بالأسانيد.

* الفصل الثاني: منهج الكرماني في تخريج الأحاديث وبيان الفوائد من ذلك.

* الفصل الثالث: منهج الكرماني وصناعته الحديثية في علوم الرواة.

ص: 89

‌الباب الثاني

منهج الكرماني وصناعته وطرائقه المتعلقة بالأسانيد، والتخريج وعلوم الرواة

‌الفصل الأول

منهج الكرماني وصناعته الحديثية المتعلقة بالأسانيد

‌المبحث الأول

تعريف المنهج، والصناعة الحديثية

‌1 - تعريف المنهج في اللغة:

النَهْجُ: الطريق الواضح، وكذلك المَنْهَجُ والمِنْهاجُ. وأَنْهَجَ الطريقُ، أي استبانَ وصار نَهْجاً واضحاً بَيِّناً والجمع نهوج، ونهاج

(1)

.

ولم أجد فيما اطلعت عليه من عرّف المنهج تعريفاً اصطلاحياً، غير أنه يُقصد به الطريق الواضح، والعادة، والأسلوب الذي مشى عليه الكرماني في شرحه.

‌2 - تعريف الصناعة الحديثية:

يقصد بالصناعة في المعنى العام في علم ما هو التفنن في ذلك الموضوع

(1)

ينظر مادة: (نهج) الصحاح وتاج اللغة، الفارابي، وجمهرة اللغة، الأزدي، 1/ 498، 1/ 346. وأساس البلاغة، الزمخشري، 2/ 306.

ص: 91

والحذاقة، وترك بصمة واضحة فيه، وإظهار وبذل الجهد والطاقة، واستنباط قواعد هذا العلم، والإحاطة به.

وإلى هذا يشير حاجي خليفة: «المنظر الثالث: في أن العلم من جملة الصنائع، لكنه أشرفها واعلم: أن الحذاقة والتفنن في العلم، والاستيلاء عليه، إنما هو بحصول الملكة في الإحاطة بمباديه، وقواعده، والوقوف على مسائله، واستنباط فروعه من أصوله؛ وهذه الملكة هي غير الفهم والملكات كلها جسمانية، والجسمانيات كلها محسوسة، فتفتقر إلى التعليم، فيكون صناعيا، ولذلك كان السند فيه معتبرا، وجميع ما يسمونه علما أو صناعة، فهو عبارة عن ملكة نفسانية، يقتدر بها صاحبها على النظر في الأحوال العارضة لموضوع ما، من جهة ما، بحيث يؤدي إلى الغرض»

(1)

.

وجاء في تعريف الصناعة: «ملكة نفسانية تصدر عنها الأفعال الاختيارية من غير روية، وقيل: المتعلق بكيفية العمل»

(2)

.

فالمراد بالصناعة الحديثية عند الإمام الكرماني في كتابه، «الكواكب الدراري» هي الفوائد والمصطلحات والمواضيع التي مارسها الكرماني في كتابه بمايتعلق بعلم الحديث رواية ودراية.

وأهل الصنعة الحديثية هم الذين يذبّون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحفظونها من كيد الكائدين المشككين فيها، ويعرفون صحيح الأحاديث من

(1)

كشف الظنون 1/ 42 في المقدمة.

(2)

التعريفات للجرجاني 143. وانظر كتاب: الكليات لأبي البقاء الكفوي، قال كلاما عن الصناعة قريبا منه: ص 544.

ص: 92

سقيمها، ويعرفون خفايا عللها سنداً ومتناً، ويتفننون في طريقة عرضها، بما أوتوا من ملكة وموهبة.

قال البيهقي

(1)

: «وقد يَزلُّ الصدوق فيما يكتبه، فيدخل له حديث في حديث، فيصير حديث روي بإسناد ضعيف مركبا على إسناد صحيح، وقد يزل القلم ويخطئ السمع، ويخون الحفظ، فيروي الشاذ من الحديث عن غير قصد، فيعرفه أهل الصنعة الذين قيّضهم الله لحفظ سنن رسوله صلى الله عليه وسلم على عباده»

(2)

.

وقال الإمام مسلم: «واعلم رحمك الله أن صناعة الحديث ومعرفة أسبابه من الصحيح والسقيم إنما هي لأهل الحديث خاصة لأنهم الحفاظ لروايات الناس العارفين بها دون غيرهم»

(3)

.

إذاً: كل علم مارسه صاحبه وأتقنه وتفنن فيه، حتى أصبح له سجية وحِرفة، عندها يقال أنه:«أدرك الصناعة لهذا العلم» .

وهذا ما سنراه عند الإمام الكرماني في ثنايا هذا البحث، من منهج، وصناعة حديثية

إن شاء الله تعالى.

* * *

(1)

أحمد بن الحسين، بن علي، أبو بكر، البيهقي، الإمام المحدث، الحافظ، صاحب التصانيف الكثيرة، منها كتاب: السنن، والأسماء والصفات، وغيرها، (ت 458 هـ)، ينظر: تذكرة الحفاظ، الذهبي، 3/ 218 - 219.

(2)

معرفة السنن والآثار، البيهقي، 1/ 143.

(3)

التمييز للإمام مسلم: ص 218.

ص: 93

‌المبحث الثاني

منهج الكرماني في دراسة أسانيد صحيح البخاري

*‌

‌ تمهيد:

‌أهمية الإسناد:

من أعظم نعم الله عز وجل على الأمة المحمدية أن جعلها: «أمة الإسناد» ؛ فلا يقبل خبر أو رواية إلا إذا تحققنا من إسنادهما، فلذلك كان الإسناد حامياً وحافظاً لنصوص الشريعة من التحريف والتبديل «فقد كان الإسناد الشرط الأول في كل علم منقول فيها، حتى في الكلمة الواحدة، يتلقاها الخالف عن السالف، واللاحق عن السابق بالإسناد، حتى إذا مَنَّ الله تعالى على الأمة بتثبيت نصوص الشريعة وعلومها، وأصبحت راسخة البنيان، محفوظةً من التغيير والتبديل، تسامح العلماء في أمر الإسناد، اعتماداً منهم على شيوع التدوين وثبوت معالم الدين»

(1)

.

وقال شعبة بن الحجاج

(2)

: «كُلُّ حَدِيثٍ لَيْسَ فِيهِ حَدَّثَنَا أَوْ أَخْبَرَنَا، فَهُوَ خَلٌّ

(3)

.......................................................................

(1)

ينظر الإسناد من الدين للشيخ عبد الفتاح أبو غدة ص 11.

(2)

شعبة بن الحجاج، بن الورد، البصري، قال عنه النسائي: من الأمناء على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أحمد هو أمة وحده، له: الغرائب في الحديث، (ت 160 هـ) ينظر: تهذيب التهذيب، 4/ 338.

(3)

أي أنه لا يساوي شيئاً.

ص: 94

وَبَقْلٌ»

(1)

كما أن لعبدالله ابن المبارك

(2)

كلاماً يدل على أن طلب الإسناد من الدين، إذ قال:«الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال: من شاء ما شاء»

(3)

.

وقال أبو عبدالله الحاكم

(4)

معلقاً على قول ابن المبارك: «فلولا الإسناد وطلب هذه الطائفة له وكثرة مواظبتهم على حفظه لدرس منار الإسلام، ولتمكن أهل الإلحاد والبدع فيه بوضع الأحاديث، وقلب الأسانيد، فإن الأخبار إذا تعرت عن وجود الأسانيد فيها كانت بترا»

(5)

.

وقال الكرماني: «لما كان الإسناد خصيصة هذه الأمة المباركة ومن جملة

(1)

المحدث الفاصل بين الراوي والسامع للرامَهُرمُزِي ص 517، أدب الاملاء والاستملاء، للمروزي: ص 7، والكفاية للخطيب البغدادي: ص 238.

(2)

عبدالله بن المبارك بن واضح الحنظلي، المروزي، أحد الأئمة الأعلام، قال عنه أحمد: لم يكن في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه، (ت 181 هـ) ينظر: طبقات الحفاظ، السيوطي، 1/ 123.

(3)

معرفة علوم الحديث للحاكم، ص 6، وأتم هذه العبارة بعضهم فذكرها بلفظ (الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء: ماشاء، فإذا قيل له: من حدثك؟ بَقِي!» أي بقي ساكتاً مبهوتاً منقطعاً عن الكلام، ينظر: الإسناد من الدين للشيخ

عبد الفتاح أبو غدة، ص 53.

(4)

محمد بن عبدالله بن محمد بن حمدويه، أبو عبدالله بن البيع، الضبعي، النيسابوري، الشافعي، سمع بنيسابور عن ألف شيخ، له: كتاب: علوم الحديث في مصطلح الحديث، (ت 405 هـ)، ينظر: سير أعلام النبلاء، 12/ 571 - 572.

(5)

معرفة علوم الحديث، الحاكم، ص 41.

ص: 95

شرفها. فلا بد من اعتباره اقتداء بالسلف. وحفظاً للشرف»

(1)

.

وتعددت تعاريف العلماء بالنسبة للسند فقال البدر بن جماعة

(2)

: «هو الإخبار عن طريق المتن»

(3)

، وقال غيره: سلسلة الرواة الذين نقلوا الحديث واحدا عن الآخر، حتى يبلغوا به إلى قائله

«والبحث في السند دعامة أساسية في علوم الحديث، وفي التوصل إلى هدفه الأسمى والغرض المطلوب منه، وهو تمييز الحديث المقبول من المردود»

(4)

.

فلذلك كانت قواعد العلماء في السند وشروطه، ومعرفة أحوال الرواة وصفاتهم، وطريقة تزكيتهم أو جرحهم من علماء جمعوا بين العلم والورع

كانت قواعد، وأسس لم يُسبق إليها من قبل، جعلت منها ميزاناً يُحتكم إليه في صحة الروايات من عدمها.

إنّ طريقة البخاري في انتقاء الأحاديث التي وضعها في صحيحه جعلت منها من حيث الجملة في أعلى درجات الصحة، وجعلت أسانيدها قوية في رجالها (من حيث العدالة والضبط، والاتصال، والخلو من العلة)، وخالية من أي قدح يشوبها، «وتميزت أسانيد صحيح البخاري بقوتها، وخلوها مما يقدح في

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 7.

(2)

بدر الدين، أبو عبدالله، محمّد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الكناني الحموي، قال عنه الذهبي: قاضي القضاة شيخ الإسلام الخطيب المفسر له تعاليق في الفقه والأصول والتاريخ، وأخذ أكثر علومه بالقاهرة، وولي قضاء القدس، والديار المصرية (ت 773 هـ). شذرات الذهب 8/ 183، 184.

(3)

المنهل الروي في مختصر علوم الحديث النبوي، ص 29.

(4)

منهج النقد، د. نور الدين عتر، ص 344.

ص: 96

صحتها، حتى غدت بيضاء نقية شاهدة بأمانة نقلتها، ودقة تحري رواتها»

(1)

.

وكان من عادة شرّاح الحديث أن درسوا هذه الأسانيد، وجعلوها محط اهتمامهم قال الكرماني مبيناً حال رجال سند البخاري وقد قسّمهم إلى قسمين قسم عدول وهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم:«رجال بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفق الأمة المكرمة المعظمة الأقدار، على أنهم عدول ثقات أخيار أبرار، فما ذكرنا إلا أنسابهم ووفياتهم، ونحو ذلك مما تميل الخواطر إليها وذلك لتكثير الفوائد، وتعزير العوائد، والاستئناس بها، لا للتعديل والتجريح أو التصنيف والتصحيح، وصححنا أسماءهم احترازا الاختلاط والتحريف، واتقاء عن الاختباط والتصحيف»

(2)

.

وقسم بقية رجال السند من التابعين ومن بعدهم «ورجال بيننا وبين البخاري، ولا حاجة لنا إلى معرفتهم بذواتهم، فضلا عن جرحهم وعدالتهم. لأن صحيحه بالنسبة إلينا متواتر. ولا إلى الإسناد إليهم»

(3)

.

وقد ظهرت جهود الكرماني في الاعتناء بأسانيد البخاري والتعليق عليها، وذلك من خلال الآتي:

‌أولاً ذكر منهج البخاري في رواية الحديث تحملاً وأداءً:

عرف علماء الحديث الرواية فقالوا: «حمل الحديث ونقله وإسناده إلى من عُزي إليه بصيغة من صِيغ الأداء وقواعد هذا الباب تبحث في المنهج العلمي

(1)

جهود الإمام بدر الدين العيني في علوم الحديث، د. هند سحلول ص:179.

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 7.

(3)

السابق، 1/ 7.

ص: 97

للرواية في أخذ الراوي للحديث الذي سماه العلماء «التحمّل» . ثم في تبليغه الذي أطلقوا عليه: «الأداء» . وما ينبغي أن يكون عليه حال التحمل والأداء من الأدب، والإخلاص، والتحري، والإتقان، وذلك يتصل بعلوم الرواة بسبب قوي»

(1)

. وقد قام الإمام الكرماني بمناقشة طرق تحمّل الحديث، وأدائه عند الإمام البخاري، وذلك عند الأدلة التي ساقها البخاري في السن المعتبرة في التحمل والسماع فذكر الكرماني في ذلك.

‌أهلية التحمل والأداء وشروطهما:

‌أ - أهلية التحمل:

عرّف العلماء التحمّل بقولهم: «هو نقل الحديث عن الغير بأي طريق من طرق التحمّل الصحيحة المعتبرة وهذا الغير يسمى في عرف المحدثين شيخا»

(2)

.

‌شروط التحمّل:

تعددت أقوال العلماء في السن المعتبرة لأهلية تحمّل الحديث، وقد استقر العمل عند علماء الحديث أن السن المعتبرة في سن سماع الصغير هي خمس سنوات، محتجين بما أخرجه البخاري في صحيحه: في باب: متى يصح سماع الصغير «عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَ «عَقَلْتُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِي وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ دَلْوٍ»

(3)

.

(1)

منهج النقد في علوم لحديث ص 188.

(2)

الوسيط في علوم ومصطلح الحديث.، محد أبو شُهبة، ص 94.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: متى يصحُّ سماعُ الصّغير، رقم (76).

ص: 98

وأن العبرة في ذلك ترجع إلى التمييز والضبط، وقال القاضي عياض

(1)

معلقاً على هذا الحديث: «وقد حدد أهل الصنعة في ذلك أن أقله سن محمود ابن الربيع»

(2)

.

ولم يكن مذهب الإمام البخاري بعيداً عن رأي علماء الحديث في السن المعتبرة في التحمل فقد أخرج أيضاً في: «باب متى يصح سماع الصغير» .

«عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أَقْبَلْتُ رَاكِباً عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاِحْتِلَامَ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَىْ بَعْضِ الصَّفِّ وَأَرْسَلْتُ الأَتَانَ تَرْتَعُ، فَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ عَلَيَّ»

(3)

.

فقد ذكر الكرماني ونقل عن العلماء جواز مرور الصبي الصغير بين يدي المصلي، من دون سترة مستدلين «برواية ابن عباس وإنما تحمّله في الصبا فَعُلم منه قبول سماع الصبي إذا أداه بعد البلوغ»

(4)

فعُلم من كلام الكرماني أن مذهبه

(1)

عياض بن موسى بن عياض، القاضي أبو عبدالله اليحصبي السبتي، عالم المغرب، وإمام أهل الحديث والنحو واللغة في زمنه، له: الإلماع، ومشارق الأنوار، (ت 544 هـ)، ينظر: شجرة النور الزكية، محمد مخلوف، 1/ 205، ووفيات الأعيان، 3/ 483.

(2)

ينظر: الإلماع، القاضي عياض، ص 94، علوم الحديث لابن الصلاح ص 129 وتدريب الراوي 1/ 415. ومنهج النقد 210 - 213.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: متى يصحُّ سماعُ الصّغير، رقم (57).

(4)

الكواكب الدراري، 2/ 50.

ص: 99

كمذهب العلماء وهو جواز قبول سماع الصبي في الصغر، بشرط الأداء عند البلوغ، كما نقل الكرماني عن ابن بطال

(1)

في حديث محمود بن الربيع آنف الذكر قوله: «وفيه جواز سماع الصغير وضبطه السنن وجواز شهادة الصبيان بعد أن يكبروا فيما علموه في حال الصغير»

(2)

.

وذكر الحافظ ابن الصلاح

(3)

(أن السن المعتبرة، هي لمن فهم الخطاب ورد الجواب، وكان مميزا، صحيح السماع وإن لم يبلغ خمساً)

(4)

.

‌ب - أهلية الأداء:

الأداء هو: «رواية الحديث للغير، وهذا الغير يعرف عنه المحدثين بطالب الحديث»

(5)

.

شروط الأداء: بما أن الأداء يختص بنقل الحديث بما تحمّله فشروطه هي ذات الشروط التي تتوفر في الراوي وهي: «الإسلام، والبلوغ والعقل، والسلامة من أسباب الفسق، وخوارم المروءة والضبط»

(6)

.

(1)

شرح البخاري، ابن بطال، 1/ 162.

(2)

السابق 2/ 51.

(3)

تقي الدين أبو عمرو، عثمان الشهرزوري، الكردي المعروف بابن الصلاح، شيخ الإسلام، أحد فضلاء عصره، في التفسير والحديث والفقه، له علوم الحديث، وغيره كثير (ت 643 هـ)، ينظر: تذكرة الحفاظ، الذهبي، 4/ 149.

(4)

التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح، زين الدين العراقي، ص 164.

(5)

الوسيط في علوم ومصطلح الحديث، محمد أبو شُهبة، ص 94.

(6)

علوم الحديث، ابن الصلاح، ص 104، وعلوم الحديث ومصطلحه، صبحي الصالح، ص 126، ويضاف إليه هو أن يؤدي بعد البلوغ ماسمعه في الصِغر.

ص: 100

‌طرق التحمّل والأداء:

ذكر علماء الحديث طرق التحمّل، وبينوا أحكامها، ورتبوا درجاتها مع اختلاف بسيط بينهم في عددها هل هي ثمانية، أم سبعة؟ وفي رتبة القراءة على الشيخ هل هي كالسماع؟

إلا أن أكثر العلماء نصوا على أنها ثمانية

(1)

.

وهي كالترتيب الآتي:

‌1 - السماع، ومن العلماء من سماه «العرض» ،

2 القراءة على الشيخ، 3 الإجازة، 4 المناولة، 5 الكتابة أو المكاتبة، 6 الإعلام، 7 الوصية، 8 الوجادة.

وقد ذكر البخاري في صحيحه بعض طرق التحمل والأداء، وقد ذكر العلماء أن السماع هو: أن يقرأ الشيخ، ويسمع الطالب؛ سواء قرأ الشيخ من حفظه، أو كتابه، وسواء سمع الطالب، وكتب ما سمعه، أو سمع فقط ولم يكتب

(2)

. وهذه الطريقة هي أرفع وأعلى درجات التحمّل عند الجمهور.

وقد ذكر الكرماني في باب: دُعَاؤُكُمْ إِيمَانُكُمْ.

«حَدَّثنا عُبَيْدُاللهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخبَرَنا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ

(1)

ينظر: (ابن الصلاح في علوم الحديث، ص 132، والنووي في التقريب، ص 54، وابن الملقن في المقنع، 1/ 292، والسيوطي في التدريب، 1/ 418.

(2)

تيسير مصطلح الحديث، محمود النعيمي، ص 196.

ص: 101

عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما

»

(1)

فعلق الكرماني على ذلك مختصراً فقال: «قال البخاري أولاً: حدثنا يعني عن شيخه عبيدالله في غالب النسخ إذ في بعضها أخبرنا. وثانياً: أخبرنا أي حنظلة ففي الأول الشيخ قرأ وفي الثاني قرأ هو على الشيخ وهذا إذا قلنا بالفرق بين حدثنا وأخبرنا على ما هو المشهور وإلا فهما سواء كما سيأتي»

(2)

.

إلا أن البخاري لم يصرح بها كما صرح ببعض طرق التحمّل والأداء، وإنما بيّن الطريقة التي يُؤدى فيها عند «باب قَوْلِ الْمُحَدِّثِ حَدَّثَنَا أَوْ أَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا» .

وقد ذكر الكرماني الخلاف الحاصل في ألفاظ الأداء بهذه الطريقة وهي: هل يجوز أن يُقال فيما قُرئ على الشيخ حدثنا وأخبرنا؟

فقال: «أي لا تفاوت بينهما كما هو مقتضى اللغة وذهب مسلم الى أن حدثنا لا يجوز إطلاقه إلا على ما سمعه من لفظ الشيخ خاصة وأخبرنا لما قرأ على الشيخ وهو مذهب الشافعي وجمهور أهل المشرق وقيل هو مذهب أكثر أصحاب الحديث وهو الشائع والغالب على أهل الحديث والأول أعلى درجة»

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، بابٌ: دُعَاؤُكُمْ إِيمَانُكُمْ، رقم (7).

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 78.

(3)

الكواكب الدراري. 2/ 9، 20/ 170، وانظر أقوال العلماء في المسألة (نوادر الأصول في أحاديث الرسول للحكيم الترمذي 4/ 121، ابن الصلاح، ص 139، والكفاية، ص 292، وشرح النووي على مسلم 1/ 22، وذكر النووي مذهب القائلين بعدم الجواز وهم:«ابن المبارك ويحيى بن يحيى وأحمد بن حنبل والمشهور عن النسائي» .

ص: 102

ثم ذكر الكرماني رأي الإمام البخاري في عدم اختلافه مع رأي الجمهور فقال: «فإن قلت هل يُعلم من هذا الكتاب مختار البخاري في ذلك. قلت: حيث نقل مذهب الاتحاد من غير رد عليه وغير ذكر مذهب المخالف أشعر بأن ميله إلى عدم الفرق»

(1)

.

وقد قال الحافظ ابن حجر «أنه لا خلاف بين أهل العلم بين قول أخبرنا وأنبأنا من حيث اللغة، أما في الاصطلاح ففيه خلاف، فمن العلماء من استمر على أصل اللغة، ومنهم من رأى الخلاف بينهما»

(2)

.

وقال الخطيب

(3)

في الكفاية: «قال: سمعت أحمد بن صالح، وسئل عن «حدثنا» و «أخبرنا» وأنبأنا «فقال: «حدثنا» أحسن شيء في هذا وأخبرنا دون «حدثنا» وأنبأنا «مثل» أخبرنا» وقد قال بعض أهل العلم بالعربية: هذه الألفاظ الثلاثة بمنزلة واحدة في المعنى، وقال غيره:«حدثنا» ونبأنا «أدخل إلى السلامة من التدليس من» أخبرنا «وإنما استعمل من استعمل» أخبرنا «ورعا ونزاهة لأمانتهم، فلم يجعلوها للينها بمنزلة» حدثنا «ونبأنا» ، وإن كانت «نبأنا» تحتمل

ما تحتمله «حدثنا» و «أخبرنا» ، وبالجملة فإن النية هي الفارقة بين ذلك على الحقيقة»

(4)

.

(1)

الكواكب الدراري، 2/ 9.

(2)

فتح الباري، بتصرف، 1/ 144 - 155.

(3)

أحمد بن علي، بن ثابت أبو بكر الخطيب البغدادي، الإمام الحافظ الحجة، انتهت إليه الرياسة في الحفظ والإتقان، والقيام بعلوم الحديث، له: الكفاية في علم الرواية، وغيرها، (ت 463 هـ) ينظر: الوافي بالوفيات، 7/ 126.

(4)

ص 287.

ص: 103

هذا ولم يفت الإمام البخاري رحمه الله تعالى، بيان الدقة في أسانيد تنوعت فيها صيغ الأداء، فقال البخاري: «حَدَّثنا الْحُمَيْدِيُّ عَبْدُاللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَ: حَدَّثنا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنهما، عَلَى المِنْبَرِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ

»

(1)

قال الكرماني معلقاً على ذلك: «اعلم أن البخاري رضي الله عنه على ما في بعض النسخ ذكر الثلاثة الأول من السند بلفظ التحديث والثلاثة الأخر بلفظ السماع والرابع بلفظ الإخبار وعلى ما سيذكره هو عن الحميدي في كتاب العلم لا تفاوت بينها»

(2)

.

كما أن الكرماني يذكر صنيع البخاري، في تنوع أداء الأسانيد فقال معلقاً على قول البخاري: «حَدَّثنا أَبُو اليَمَانِ الحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: أَخبَرَنا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُاللهِ ابْنُ عَبْدِاللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَبْدَاللهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ؛ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ

»

(3)

.

قال الكرماني: «قال أولا حدثنا وثانيا بلفظ أخبرنا وثالثا بكلمة عن ورابعا بلفظ أخبرني محافظة على الفرق الذي بين العبارات أو حكاية عن ألفاظ الرواة بأعيانها مع قطع النظر عن الفرق أو تعليمها لجواز استعمال الكل أن قلنا

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي، رقم (1).

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 17.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الأحكام، بَاب: تَرْجَمَةِ الْحُكَّامِ وَهَلْ يَجُوزُ تَرْجُمَانٌ وَاحِدٌ، رقم (6756).

ص: 104

بعدم الفرق بينهما»

(1)

.

‌2 - القراءة على الشيخ (العرض):

قال ابن الملقن

(2)

يسميها أكثر المحدثين «عرضا»

(3)

.

وهي: «أن يقرأ الطالب، والشيخ يسمع؛ سواء قرأ الطالب، أو قرأ غيره وهو يسمع، وسواء كانت القراءة من حفظ، أو من كتاب، وسواء كان الشيخ يتبع للقارئ من حفظه، أو أمسك كتابه هو، أو ثقةٌ غيرُهُ»

(4)

.

قال الكرماني في شرحه لباب: «القراءة والعرض على المحدث» .

أن القراءة على الشيخ هو العَرض نفسه، وأن العطف بينهما تفسيري فقال:«العرض تفسير للقراءة ومثله يسمى: العطف التفسيري وجاز العطف لتغايرهما مفهوما وإن اتحدا بحسب الذات، وفائدته الإشعار بأنه جامع لهذين الاسمين»

(5)

.

وقد نبه الكرماني على المقصود من العرض هنا إذ لايقتصر على القراءة

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 53، ولعل البدر العيني نقل هذا الكلام عن الكرماني في عمدة القاري في التعليق على ذات الحديث ينظر عمدة القاري 1/ 84.

(2)

عمر بن علي بن أحمد، الأنصاري الشافعي، المعروف بابن الملقن، وابن النحوي، عالم محدث، له التوضيح في شرح الجامع الصحيح، والمقنع في علوم الحديث، (ت 804 هـ) ينظر: شذرات الذهب ابن العماد، 9/ 71.

(3)

المقنع، 1/ 297.

(4)

تيسير مصطلح الحديث، ص 197.

(5)

الكواكب الدراري، 2/ 13.

ص: 105

بالعرض، بل يعمُّ عرض المناولة فقال:«قلت: ما يريد بهذا العرض إذ العرض على قسمين عرض قراءة وعرض مناولة. قلت: عرض المناولة هو أي يجيء الطالب إلى الشيخ بكتاب فيعرضه عليه فيتأمله الشيخ وهو عارف متيقظ ثم يعيده إليه ويقول له وقفت على ما فيه وهو حديثي عن فلان فأجزت لك روايته عني ونحوه وهنا لا يريد به ذلك بل عرض القراءة بقرينة ما يذكر بعد الترجمة»

(1)

.

وصيغ الأداء في هذه الطريقة أن يقول قرأتُ على فلان، أو قرئ على فلان وأنا أسمع، أو حدثنا قراءة عليه

(2)

.

وقد اختلف العلماء في رتبة هذه الدرجة هل هي كالسماع أم هي مساوية لها أم دونها في الدرجة؟

تنقسم أقوالهم إلى ثلاثة أقسام:

الأول: منهم من قال هي كالسماع.

الثاني: ومنهم من قال أنها مساوية للسماع.

الثالث: أنه أدنى من السماع، وهذا الرأي رجحه جمهور العلماء ومنهم ابن الصلاح

(3)

.

(1)

السابق، 2/ 13، هذا وقد نقل البدر العيني كلام الكرماني في عمدة القاري 2/ 17.

(2)

الوسيط في علوم ومصطلح الحديث، ص 98، والإيضاح في، علوم الاصطلاح، ص 304.

(3)

ينظر: علوم الحديث، ابن الصلاح، 167.

ص: 106

ورجح الدكتور نور الدين عتر بالتوفيق بين أقوال العلماء فقال: «ويمكن أن نوفق فنقول برجحان العرض فيما إذا كان الطالب ممن يستطيع إدراك الخطأ فيما يقرأ والشيخ حافظ غاية الحفظ، أما إذا لم يكن الأمر كذلك فالسماع أرجح»

(1)

.

‌3 - المناولة:

ذكر الكرماني المناولة عند شرحه لقول البخاري: «باب ما يذكر في المناولة» في: «حَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ كَتَبَ لأَمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَاباً وَقَالَ «لَا تَقْرَأهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا» . فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَكَانَ قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم»

(2)

وذكر أنها تنقسم إلى قسمين القسم الأول: المناولة المقرونة بالإجازة، وقد عرفها الكرماني بقوله: «كما أن يرفع الشيخ إلى الطالب أصل سماعه مثلا ويقول هذا سماعي فأجزت لك روايته عني.

وهذه حالة محل السماع عند مالك والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري

والصحيح أنه منحط عن درجته وعليه أكثر الأئمة»

(3)

.

القسم الثاني: المناولة المجردة عن الإجازة «بأن يناوله أصل سماعه كما تقدم ولا يقول له أجزت لك الرواية عني ولهذا لا تجوز الرواية بها على الصحيح»

(4)

.

(1)

منهج النقد، ص 214.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: مَا يُذْكَرُ فِي الْمُنَاوَلَةِ وَكِتَابِ: أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْعِلْمِ إِلَى الْبُلْدَانِ.

(3)

الكواكب الدراري، 2/ 21.

(4)

التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح، العراقي، ص 94.

ص: 107

«فهذه مناولة مختلة لا تجوز الرواية بها وعابها غير واحد من الفقهاء والأصوليين على المحدثين الذين أجازوها وسوغوا الرواية بها» .

وصيغ الأداء بهذه الطريقة أن يقول: «ناولني فلان وأجازني» أو «ناولني مع الإجازة» أو «حدثني فلان بالمناولة» أو «أنبأنا فلان بالمناولة والإجازة»

(1)

.

‌4 - الكتابة أو المُكَاتبة:

«وهي أن يكتب الشيخ إلى الطالب، وهو غائب شيئا من حديثه بخطه، أو يكتب له ذلك، وهو حاضر. ويلتحق بذلك ما إذا أمر غيره بأن يكتب له ذلك عنه إليه»

(2)

.

وقد ذكر الكرماني أن المكاتبة كذلك تنقسم إلى قسمين فقال: «وهي أيضا نوعان المقترنة بالإجازة والمجردة عنها والأولى في الصحة والقوة شبيهة بالمناولة المقروءة»

(3)

.

ثم بيّن الكرماني طريق الأداء بها فقال: «وأما الثانية فالصحيح المشهور فيها أنه تجوز الرواية بها بأن تقول كتب إلى فلان قال حدثنا فلان بكذا وقال بعضهم بجواز حدثنا وأخبرنا فيها»

(4)

.

* * *

(1)

منهج النقد، ص 218، والإيضاح في علوم الحديث والاصطلاح، ص 306.

(2)

علوم الحديث لابن الصلاح 173. الكواكب الدراري 2/ 20، والإيضاح في علوم الحديث والاصطلاح ص 306.

(3)

الكواكب الدراري، 2/ 20.

(4)

الكواكب الدراري، 2/ 20، وينظر: وتدريب الراوي 1/ 484.

ص: 108

‌المبحث الثالث

تنبيه مهم من البخاري عن صيغ الأداء والتحمل وتعليق الكرماني

‌أ - التفريق بين صيغ الجمع والإفراد:

معنى هذا هل يجوز لمن سمع حديثاً وحده، هل يجوز أن يقول حدثنا

بصيغة الجمع ومن سمع من جماعة هل يجوز أن يقول حدثني بصيغة

الإفراد.

قال الحاكم: «والذي أختاره في الرواية، وعهدت عليه أكثر مشايخي وأئمة عصري أن يقول في الذي يأخذه من المحدث لفظا، وليس معه أحد: حدثني فلان، وما يأخذه عن المحدث لفظا مع غيره: حدثنا فلان، وما قرئ على المحدث بنفسه: أخبرني فلان

»

(1)

.

أخرج البخاري في صحيحه: حَدَّثنا الْحُمَيْدِيُّ عَبْدُاللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَ: حَدَّثنا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه، عَلَى المِنْبَرِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ

(2)

.

فذكر الكرماني التنبيه على صيغ الأداء في بعض روايات هذا الحديث عند الحُميدي شيخ البخاري فقال: «قال الحميدي: كان عند ابن عيينة حدثنا وأخبرنا وأنبأنا بين المفرد والجمع، كما قال في الأخبار بلفظ أخبرني مفردا وفي

(1)

معرفة علوم الحديث، الحاكم، ص 260.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي، رقم (1).

ص: 109

التحديث بلفظ حدثنا جمعا وقيل بغير ذلك أيضا»

(1)

.

فإشارة الكرماني لذلك فيه بيان لتعدد صيغ البخاري وأمانته في النقل، ودقة ضبطه، وفيه إشارة من الكرماني لبيان الجواز، والاستحباب، وليس للوجوب. وقد ذكر الخطيب في الكفاية الاستحباب

(2)

.

وقد تكرر هذا كثيراً من البخاري، ليس في صيغ الأداء فحسب بل بكل أجزاء الحديث سنداً ومتناً.

‌ب - ورود صيغة السؤال في السند من غير تصريح بالجواب:

قال البخاري: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قُلْتُ لِعَمْرٍو أَسَمِعْتَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللهِ يَقُولُ مَرَّ رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ سِهَامٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا»

(3)

.

قال الكرماني: «فإن قلت هذا استفهام فكيف دل على ثبوته. قلت: سكوته يدل عرفاً على التصديق، أو أنه مختصر من الحديث الذي هو دال عليه. قال ابن بطال: فإن قيل حديث جابر لا يظهر فيه الإسناد لأنه لم يقل أن عمر قال نعم، قلنا ذكر البخاري في غير كتاب الصلاة أنه قال نعم فبان بقوله نعم إسناد الحديث»

(4)

.

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 17.

(2)

الكفاية، ص 294.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: يَاخُذُ بِنُصُولِ النَّبْلِ إِذَا مَرَّ فِي الْمَسْجِدِ، رقم (442).

(4)

شرح ابن بطال، 2/ 102.

ص: 110

نعم ورد التصريح بقول: «نعم» في رواية البخاري الآتية: «حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِاللهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قُلْتُ لِعَمْرٍو يَا أَبَا مُحَمَّدٍ سَمِعْتَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللهِ يَقُولُ مَرَّ رَجُلٌ بِسِهَامٍ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا قَالَ نَعَمْ

»

(1)

.

وهذه المسألة وقع فيها خلاف بين العلماء، قال الإمام النووي

(2)

: «وقد جاء في الصحيحين في مواضع كثيرة مثل هذه العبارة ولا يقول في آخره قال نعم واختلف العلماء في اشتراط قوله: نعم في آخر مثل هذه الصورة، وهي إذا قرأ على الشيخ قائلا أخبرك فلان أو نحوه، والشيخ مصغ له فاهم لما يقرأ غير منكر، فقال بعض الشافعيين وبعض أهل الظاهر لا يصح السماع إلا بها، فإن لم ينطق بها لم يصح السماع، وقال جماهير العلماء من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول يُستحب قوله نعم ولا يشترط نطقه بشيء بل يصح السماع مع سكوته والحالة هذه اكتفاء بظاهر الحال، فإنه لا يجوز لمكلف أن يُقر على الخطأ في مثل هذه الحالة»

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الفتن، بَاب: قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا، رقم (6646).

(2)

يحيى بن شرف بن مري بن حسن النووي، محيي الدين أبو زكريا الإمام العلامة، حجة الله على اللاحقين، صاحب المصنفات الكثيرة، منها: شرحه على مسلم، ورياض الصالحين، والأذكار، (ت 676 هـ)، ينظر: طبقات الشافعية، السبكي، 8/ 395.

(3)

شرح مسلم 9/ 132. وانظر الكفاية ص 296، والتوضيح لابن الملقن 5/ 549، وفتح المغيث، السخاوي، 2/ 182.

ص: 111

وكان رأي الكرماني جواز سكوت الشيخ المتيقظ، مع وجود القرينة على ذلك فقال:«وفيه أن القارئ إذا قال للشيخ حدثكم فلان والشيخ يسكت مع قرينة الإجابة كفى»

(1)

وذلك عند الحديث الذي أخرجه البخاري «حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن عبيدالله أخبرني نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تسافر المرأة ثلاثا إلا مع ذي محرم»

(2)

.

* * *

‌المبحث الرابع

شرح سلسلة السند وما فيها من إشكال

كان من منهج الكرماني أنه كان يشرح سلسلة السند ويوضح ما فيها من إشكال، بشكل متوسط أحيانا، ومختصر أحيانا، وذلك للمنهجية التي اعتمدها في كتابه من الاختصار وعدم الإطالة.

سأتناول عمل الكرماني في:

‌1 - شرح سلسلة السند.

2 -

بيان ما أوهم وأشكل في السند.

1 -

شرح سلسلة السند:

علمنا مما سبق أن سلسلة السند هم رواة الحديث الذين نقلوه عن

(1)

الكواكب الدراري، 6/ 163.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: التقصير، باب: في كم يقصر الصلاة وسمى النبي صلى الله عليه وسلم يوما وليلة سفرا، رقم (1030).

ص: 112

بعضهم، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تعرّض الكرماني لهذه السلسلة بالبيان، والتوضيح، فمن هذه الأمور التي بينها الكرماني:

‌1 - بيان البخاري تلقيه الحديث الواحد عن أكثر من شيخ،

قال البخاري: «حَدَّثنا عَبْدَانُ، قَالَ: أَخبَرَنا عَبْدُاللهِ، قَالَ: أَخبَرَنا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِ (ح) وَحَدَّثنا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَخبَرَنا عَبْدُاللهِ، قَالَ: أَخبَرَنا يُونُسُ، وَمَعْمَرٌ. عَنِ الزُّهْرِيِّ، نَحْوَهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُاللهِ بْنُ عَبْدِاللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ

»

(1)

.

قال الكرماني: «واعلم أن البخاري حدث هذا الحديث عن الشيخين عبدالله وبشر كليهما عن عبدالله بن المبارك والشيخ الأول ذكر لعبدالله شيخا واحدا وهو يونس والثاني ذكر له شيخين يونس ومعمرا»

(2)

.

‌2 - بيان معنى الرمز في السند، مثل «ثنا» و «نا» و «وأنا» ، و «ح»:

قال الإمام النووي: «غلب عليهم الاقتصار على الرمز في حدثنا وأخبرنا وشاع بحيث لا يخفى، فيكتبون من حدثنا: الثاء والنون والألف، وقد تحذف الثاء، ومن أخبرنا: أنا»

(3)

.

مثال على ذلك:

قال البخاري: «حَدَّثنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثنا أَبُو عَوَانَةَ، قَالَ: حَدَّثنا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ، قَالَ: حَدَّثنا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي، رقم (4).

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 50.

(3)

التقريب والتيسير، ص 70.

ص: 113

عَبَّاسٍ

»

(1)

.

قال الكرماني مبيناً عادة المحدثين في التعامل مع مثل هذه الرموز «واعلم أنه جرت عادة أهل الحديث بحذف قال ونحوه فيما بين رجال الإسناد في الخط وبكتابة: ثنا مكان حدثنا: وأنا مكان أخبرنا، فينبغي للقارئ أن يلفظ بقال وحدثنا وأخبرنا صريحا، ولو ترك لكان مخطئا، لكن السماع صحيح للعلم بالمقصود ولدلالة الحال على المحذوف»

(2)

.

بيان معنى الحرف: «ح» .

قال البخاري: «حَدَّثنا عَبْدَانُ، قَالَ: أَخبَرَنا عَبْدُاللهِ، قَالَ: أَخبَرَنا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ح وَحَدَّثنا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَخبَرَنا عَبْدُاللهِ، قَالَ: أَخبَرَنا يُونُسُ، وَمَعْمَرٌ

»

(3)

.

قال الكرماني: معنى الحاء (ح) التي تكون في وسط السند وبيان الفائدة من ذلك فقال: «ح: أي حاء مهملة مفردة وعادتهم أنه إذا كان للحديث إسنادان أو أكثر كتبوا عند الانتقال من الإسناد إلى الإسناد ذلك أي مسمى حرف الحاء فقيل لأنها مأخوذة من التحويل لتحوله من إسناد إلى آخر وإنه يقول للقارئ إذا انتهى اليها (ح) مقصورة ويستمر في قراءة ما بعدها وفائدته أن لا يركب الإسناد الثاني مع الأول فيجعلا إسنادا واحدا

»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي، رقم (4).

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 45.

(3)

تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.

(4)

الكواكب الدراري، 1/ 50، ويُنظر فتح المغيث، السخاوي، 3/ 111.

ص: 114

وقال في موضع آخر مبينا طرق الحديث الواحد والواسطة بين الرواة عند حديث قال البخاري: «حَدَّثنا أَبُو الوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثنا شُعْبَةُ (ح) قَالَ: وحَدَّثَنِي بِشْرُ، قَالَ: حَدَّثنا مُحَمَّدُ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِاللهِ

».

قال الكرماني: «اعلم أن البخاري قد تحول من إسناد إلى إسناد آخر يعني له طريقان إلى شعبة فالأول: الواسطة بينه وبين شعبة رجل واحد، والثاني الواسطة بينهما رجلان وفي بعض النسخ كتب قبل وحدثني بشر لفظة (ح) إشارة إلى التحويل حائلاً بين الإسنادين

»

(1)

.

وقال الكرماني في موضع ثالث: «وأهل المغرب إذا وصلوا اليها أي حرف: الحاء، (ح) يقولون الحديث، وقد كتب جماعة من حفّاظ عراق العجم موضعها صح فيشعر بأنها رمز صح، وحسن هنا كتابة صح لئلا يتوهم أنه سقط من الاسناد الأول»

(2)

.

وقد أشار الإمام النووي أن هذا الأسلوب يكثر عند الإمام مسلم، ويقل عند الإمام البخاري

(3)

.

حذف «قال» التي تحذف في الخط وتثبت في القراءة:

قال البخاري: «حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ يَحْيَى وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 144.

(2)

الكواكب لدراري، 2/ 3.

(3)

شرح مسلم، 1/ 38.

ص: 115

سَأَلَ

»

(1)

.

(فيحيى) أي ابن أبي كثير، والتقدير: أي: قال الحسين: قال يحيى، ولفظ قال يُحذف في الخط عند المحدثين.

قال الكرماني معلقا على ذلك: «قال يحيى (وأخبرني) بالواو. فإن قلت أخبرني مقول قال وهو مفعول حقيقة فكيف جاز دخول الواو بينهما؟ قلت: إشعاراً بأنه من جملة ما سمع منه كأنه قال أخبرني بكذا وكذا، وأخبرني بهذا فهو للعطف على مقدر»

(2)

.

‌3 - بيان دقة البخاري في قوة الضبط، والمحافظة على لفظ الشيوخ:

كان من عادة البخاري المحافظة على لفظ الشيوخ، سواء أكان ذلك في السند كطرق تحمّله للحديث وأدائه

أو في المتن وما فيه من خلاف بين الألفاظ على حسب التلقي.

مثال على ذلك: قال البخاري: «حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ خَالِدُ بْنُ خَلِيٍّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ قَالَ الأَوْزَاعِيُّ أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِاللهِ بْنِ

»

(3)

.

قال الكرماني: «قوله (الزهري) بضم الزاي هو ابن شهاب ذكره البخاري في كل موضع باللفظ الذي نقله شيخه، ولذا تارة يقول ابن شهاب وتارة الزهري وتارةً محمد بن مسلم وهذا من جملة ضبطه واحتياطه»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الغسل، باب: غَسْلِ مَا يُصِيبُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ، رقم (290).

(2)

الكواكب الدراري، 3/ 154.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: الْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، رقبم (77).

(4)

الكواكب الدراري، 2/ 53.

ص: 116

ومثله قال البخاري: «حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ عُثْمَانَ يَعْنِي ابْنَ الْأَسْوَدِ قَالَ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ قَالَ سَأَلْتُ

»

(1)

.

قال الكرماني: «قوله (عثمان) وقال (يعني ابن الأسود) إشعاراً بأن شيخه لم يقل إلا عثمان وإنما ذكر نسبته فهو منه وهذا من جملة الاحتياطات

»

(2)

.

ومثله قال البخاري: «حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ قَالَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ عَنْ أَبِيه

»

(3)

.

قال الكرماني: «وهو الشيباني، بفتح المنقطة وسكون التحتانية وبالنون وقال بلفظ هو إشعاراً بأنه ليس من كلام شيخه بل هو تعريف من تلقاء نفسه»

(4)

.

ومثله قال البخاري: «حَدَّثنا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخبَرَنا أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ

»

(5)

.

قال الكرماني: عن الراوي: «إسماعيل بن إبراهيم» الملقب بابن علية، «وذكره البخاري ثمة بالكنية حيث قال ابن علية وههنا بالاسم، وهذا دليل على

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الشركة، بَاب: الِاشْتِرَاكِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَمَا يَكُونُ فِيهِ الصَّرْفُ، رقم (2334).

(2)

الكواكب الدراري، 11/ 61.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الحيض، باب: مباشرة الحائض، رقم (298).

(4)

الكواكب الدراري، 3/ 166.

(5)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، بَابُ: سُؤَالِ جِبْرِيلَ، رقم (47).

ص: 117

كمال ضبط البخاري وأمانته حيث نقل لفظ الشيوخ بعينه وأداه كما سمعه رحمه الله تعالى»

(1)

.

ومثله قال البخاري: «حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ الأَصْبَهَانِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ ذَكْوَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ»

(2)

.

وساق البخاري رواية أخرى للحديث فقال:

«قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ عَنْ ذَكْوَانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا

»

(3)

.

والملاحظ أنه قال في الرواية الأولى: حدثني ابن الأصبهاني، وفي الثانية عبد الرحمن ابن الأصبهاني، قال الكرماني معلقاً على ذلك: (قال أولا ابن الأصبهاني وههنا عبد الرحمن بن الأصبهاني محافظة على لفظ الشيوخ وهو من جملة احتياطاته»

(4)

.

ومثله قال البخاري: «حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا مَالِكٌ هُوَ ابْنُ مِغْوَلٍ، حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَاللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى رضي الله عنهما هَلْ

»

(5)

.

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 193.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم، رقم (100).

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم، رقم (102).

(4)

الكواكب الدراري، 2/ 100.

(5)

أخرجه البخاري، كتاب: الوصايا، بَاب: الْوَصَايَا وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصِيَّةُ الرَّجُلِ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ، رقم (2553).

ص: 118

الملاحظ أن البخاري رحمه الله تعالى عرّف بابن مالك فقال: هو ابن مِغول.

قال الكرماني:

«ولو لم يقل كلمة هو كان افتراء على شيخه إذ الشيخ لم ينسبه بل قال مالك فقط هذا من جملة احتياط البخاري»

(1)

.

‌4 - بيان وتوضيح العطف في الإسناد:

قال البخاري: «حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غُرَيْرٍ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ» ، وَعَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِحٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ أنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ بِهَذَا

(2)

.

بيّن الكرماني العطف على من يعود لمعرفة تسلسل السند فقال: «قوله (وعن أبيه) عطف على المذكور أولا في الإسناد أي قال يعقوب عن أبيه عن صالح عن إسماعيل ابن محمد بن سعد بن أبي وقاص الزهري

»

(3)

.

‌5 - بيان ما يوهم انقطاع الإسناد:

«ومنه توضيح العطف في السند يزداد أهمية حيث يُتوهم في السند المعطوف

(1)

الكواكب الدراري، 12/ 60.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الزكاة، بَاب: قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} ، رقم (1393).

(3)

الكواكب الدراري، 8/ 23.

ص: 119

انقطاع، إذ لابد حينئذٍ من بيان العطف على الوجه الصحيح فمن ذلك قول البخاري: «حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

»، وَعَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ قَالَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ»

(1)

فاللبس حاصل في عطف (حُسين) على ما قبله، فهو يحتمل أن يكون معطوفا على أول السند فيكون معلقاً، أو على شعبة»

(2)

قال الكرماني في ذلك: «قوله: (وعن حسين) هو عطف إما على حدثنا مسدد فيكون تعليقاً والطريق بين حسين والبخاري غير طريق مسدد وإما على شعبة فكأنه قال حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن حسين وإما على قتادة فكأنه قال عن شعبة عن حسين عن قتادة

ولا يجوز عطفه على يحيى لأن مسدداً لم يسمع من الحسين، وروايته عنه إنما هو من باب التعليق على التقدير الأول ذكره على سبيل المتابعة»

(3)

.

وقد رد البدر العيني على قول الكرماني بعد أن نقل كلامه في شرحه فقال: «هذا كله مبني على حكم العقل وليس كذلك، وليس هو بعطف على مسدد،

ولا على قتادة، وإنما هو عطف على شعبة»

(4)

.

وقد علل البدر العيني عدم جمع البخاري بينهما في سند واحد فقال: «وإنما لم يجمعهما لأن شيخه أفردهما، فأورده البخاري معطوفا اختصارا، ولأن شعبة

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: حُبُّ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الإِيمَانِ، رقم (12).

(2)

البدر العيني وجهوده في علوم الحديث وعلوم اللغة، د. هند سحلول، ص 201.

(3)

الكواكب الدراري، 1/ 96.

(4)

عمدة القاري، البدر العيني، 1/ 141.

ص: 120

قال: عن قتادة، وقال حسين: حدثنا قتادة»

(1)

.

إلا أن ابن حجر نقد الكرماني في تأويله هذا، واعتبره من قبيل التجويز العقلي فقال:«وأبدى الكرماني كعادته بحسب التجويز العقلي أن يكون تعليقا أو معطوفا على قتادة فيكون شعبة رواه عن حسين عن قتادة إلى غير ذلك مما ينفر عنه من مارس شيئا من علم الإسناد»

(2)

.

‌6 - بيان الوجه الصحيح للعطف:

قال البخاري: «حَدَّثَنَا عَلِيٌّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ»

(3)

.

قال الكرماني مبينا مُتعلق قوله عن «عمه» : «فإن قلت لفظ عن عمه يتعلق بابن المسيب، وبعباد كليهما أو بعباد وحده قلت: الظاهر أنه متعلق بهما لأن سعيدا سمع من عبدالله كثيرا وإن احتمل أن يكون بالنسبة إلى سعيد مرسلا، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم»

(4)

.

‌7 - (بيان ما قد يُوهم استواء ألفاظ طريقي الحديث)

(5)

:

مثل:

(1)

السابق، 1/ 141.

(2)

فتح الباري، 1/ 57.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: لَا يَتَوَضَّأُ مِنَ الشَّكِّ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ، رقم (137).

(4)

الكواكب الدراري، 2/ 173. وانظر البدر العيني وجهوده في علوم الحديث واللغة ص 202، هند سحلول.

(5)

البدر العيني وجهوده في علوم الحديث واللغة، ص 202، د. هند سحلول.

ص: 121

قول البخاري: «حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ

عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ح وَحَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ

»

(1)

.

قال الكرماني: «في بعض النسخ وجد قيل حدثنا آدم لفظ ح إشارةً إلى التحويل من الإسناد الأول إلى إسناد آخر وفي بعضها لم يوجد، وعلى النسختين ففيه تحول من إسناد إلى إسناد آخر قبل ذكر الحديثن وفي هاتين الروايتين زاد لفظ والناس أجمعين وذكر الناس بعد الوالدين»

(2)

.

وقد بيّن البدر العيني فقال: (أن هناك عطف في الإسنادين أحدهما على الآخر قبل أن يسوق المتن، وهذا يوهم استواءهما، وليس كذلك، فإن لفظ قتادة مثل لفظ حديث أبي هريرة

)

(3)

.

«وقد يقرن البخاري بالعطف راويا بآخر في روايتهما عن شيخ لعلة أرادها من تقوية لطريق الحديث، أو غير ذلك»

(4)

.

مثل: «حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِاللهِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَنْجُوفِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا رَوْحٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنِ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ

»

(5)

.

فقد قرن البخاري بين الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، لأن الحسن لم

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: حُبُّ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الإِيمَانِ، رقم (14).

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 92.

(3)

عمدة القاري، البدر العيني بتصرف، 1/ 145.

(4)

البدر العيني وجهوده في علوم الحديث واللغة، ص 203.

(5)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: اتباعُ الجنائِز من الإيمانِ، رقم (45).

ص: 122

يصح سماعه من أبي هريرة، وإنما صح سماع ابن سيرين منه فاعتمد عليه، قال الكرماني:«قالوا لم يصح سماع الحسن عن أبي هريرة أقول فعلى هذا التقدير يكون لفظ عن أبي هريرة متعلقاً بمحمد فقط أو يكون مرسلاً»

(1)

.

ومنه إضافة لفظة في الإسناد للبيان: «حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا

شُعْبَةُ عَنْ حُصَيْنٍ وَابْنِ أَبِي السَّفَرِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ عَنْ

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

»

(2)

.

قال الكرماني: «أعلم أن نسخ البخاري كانت في الأصل: سليمان عن شعبة عروة بن أبي الجعد بدون كلمة عن بين عروة وشعبة فألحقت بها على سبيل الإصلاح لفظة «عن» بينهما والصحيح كما كان في الأول إذ ليس المراد أن شعبة يروى عن عروة وأيضاً هو لم يدرك عصره بل المراد أن شعبة قال هو عروة بن أبي الجعد بزيادة لفظة الأب»

(3)

.

‌8 - ومنه لمعرفة العطف الصحيح، لابد من ضبط أواخر الأسماء، وبيان موضع الاسم من الإعراب لزيادة التوضيح)

(4)

:

قال البخاري: «حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 184.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الجهاد والسير، بَاب: الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، رقم (2654).

(3)

الكواكب الدراري، 12/ 136.

(4)

البدر العيني وجهوده في علوم الحديث واللغة، ص 204، بتصرف.

ص: 123

أَبِي السَّفَرِ وَإِسْمَاعِيلَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما

»

(1)

.

اختصر الكرماني القول فقال في ضبط إسماعيل بن أبي خالد: «وإسماعيل بفتح اللام لأنه عطف على عبدالله لا على شعبة»

(2)

.

والمعنى في هذا يبينه البدر العيني بقوله: «شعبة فيه يروي عن اثنين: أحدهما: عبدالله بن أبي السفر، والآخر: إسماعيل بن أبي خالد، وكلاهما يرويانه عن الشعبي، ولهذا إسماعيل بفتح اللام عطفا على عبدالله وهو مجرور، وإسماعيل أيضا مجرور جر ما لا ينصرف بالفتحة»

(3)

.

‌9 - بيان الاتصال ودفع ما يُوهم الإرسال:

قال البخاري: «وَعَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِحٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ بِهَذَا فَقَالَ»

(4)

.

قال الكرماني: «قوله (سمعت أبي) فإن قلت: أبوه محمد فروايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرسل إذ لا بد من توسيط ذكر سعد حتى يصير مسندا متصلا. قلت: لفظ هذا هو إشارة إلى قول سعد فهو متصل»

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، بابٌ: الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، رقم (9).

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 87.

(3)

عمدة القاري، 1/ 131.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: الزكاة، بَاب: قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} ، رقم (1393).

(5)

الكواكب الدراري، 8/ 23.

ص: 124

ومنه بيان معرفة عود الضمير المتصل في السند، ليزيل الإشكال:

قال البخاري: «حَدَّثَنَا عبْدُاللهِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِاللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم

»

(1)

.

بين الكرماني المقصود في الضمير الذي في جدته، حتى يزيل الإشكال فقال:«قوله مُليكة بضم الميم وفتح اللام وسكون التحتانية، هي أم سليم مصغر سالم بنت ملحان بكسر الميم وسكون اللام وبالمهملة الانصارية. فإن قلت هي الأم لأنس لا الجدة. قلت: الضمير راجع الى إسحق لا إلى أنس فإنها أم عبدالله ابن أبي أسحق لأنها كانت أولا زوجة مالك بن أنس ثم تزوجها أبو طلحة فولدت له عبدالله»

(2)

.

ومنه توضيح عبارات في السند:

قد ترد في السند عبارات لابد من بيان معناها حتى يستقيم الكلام، فكان الكرماني يبينها ويزيل عنها الإشكال مثال على ذلك قال البخاري: «حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَلَى غَيْرِ

مَا حَدَّثَنَاهُ الزُّهْرِي قَالَ سَمِعْتُ قَيْسَ

»

(3)

.

قال البدر العيني: «وقد ذكر أن الزهري حدثه بهذا الحديث بلفظ غير اللفظ الذي حدثه به إسماعيل، وهو معنى قوله: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد على غير ما حدثناه الزهري، برفع الزهري، لأنه فاعل: حدث، و: نا، مفعوله،

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: الصَّلَاةِ عَلَى الْحَصِيرِ، رقم (375).

(2)

الكواكب الدراري، 4/ 45.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: الاِغْتِبَاطِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، رقم (72).

ص: 125

والضمير يرجع إلى الحديث الذي يدل عليه: حدثنا»

(1)

.

وبين الكرماني الغرض من ذلك فقال: «والغرض من ذكره الإشعار بأنه سمع ذلك من إسماعيل على وجه غير الوجه الذي سمع من الزهري إما مغايرة في اللفظ وإما مغايرة في الإسناد وإما في غير ذلك وفائدته التقوية والترجيح بتعداد الطرق»

(2)

.

ومنه: قال أبو عبدالله البخاري: «حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ لَيْسَ أَبُو عُبَيْدَةَ ذَكَرَهُ وَلَكِنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْداللهِ

»

(3)

.

قال الكرماني مبيناً قوله: «ليس أبو عبيدة ذكره» فقال: «فإن قلت

ما الفائدة فيما قال وليس أبو عبيدة ذكره إذ الإسناد بدونه تمام ولا دخل له فيه، قلت غرض أبي إسحق في هذه اللفظة أن يبين أنه لا يروى هذا الحديث عن طريق أبي عبيدة عن عبدالله كما رواه غيره لان أبا عبيدة لم يسمع من أبيه شيئا فأراد دفع وهم من توهم ذلك فنقل البخاري لفظه بعينه»

(4)

.

وكان من عادة البخاري كذلك إذا أورد حديثا بسنده، ثم أورد آخر بعده بنفس السند يقول، وبإسناده كذا وكذا

(1)

عمدة القاري، 2/ 56.

(2)

الكواكب الدراري، 2/ 42.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: لَا يُسْتَنْجَى بِرَوْثٍ، رقم (156).

(4)

الكواكب الدراري، 2/ 203.

ص: 126

مثاله: قال البخاري: «حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ أَخْبَرَنَا

أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ هُرْمُزَ الأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ»

(1)

.

ثم قال بعده مباشرة: «وَبِإِسْنَادِهِ قَالَ «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ»

(2)

.

ومعنى بإسناده: «أن الضمير راجع إلى الحديث أي: حدثنا أبو اليمان بالإسناد المذكور»

(3)

.

ومن ذلك بيان معنى عبارة: (مثله أو نحوه) في السند، وأقوال العلماء فيها:

مثال ذلك أخرج البخاري: «عَنْ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنْ اللهِ وَالْحُلْمُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِذَا حَلَمَ فَلْيَتَعَوَّذْ مِنْهُ وَلْيَبْصُقْ عَنْ شِمَالِهِ فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ وَعَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ»

(4)

.

قال الكرماني: «قال أصحاب علوم الحديث: إذا روى الراوي حديثا بسنده ثم أتبعه بإسناد آخر له وقال: في آخر مثله أونحوه، فهل تجوز رواية لفظ

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: الماء الدائم، رقم (238).

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: الماء الدائم، رقم (238).

(3)

الكواكب الدراري، 3/ 92.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: التعبير، باب: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ، رقم (6568).

ص: 127

الحديث الأول بالإسناد الثاني؟ فقال شعبة: لا وقال الثوري نعم. وقال ابن معين: يجوز في مثله ولا يجوز في نحوه»

(1)

.

ساق هذه الأقوال الخطيب البغدادي في الكفاية

(2)

، واستحسن النووي في شرحه على مسلم قول الخطيب، وأضاف: «أما إذا ذكر الإسناد وطرفاً من المتن، ثم قال: وذكر الحديث، أو قال: واقتص الحديث، أو قال: الحديث أو

ما أشبهه، فأراد السامع أن يروى عنه الحديث بكماله، فطريقه أن يقتصر على

ما ذكره الشيخ ثم يقول: والحديث بطوله كذا ويسوقه إلى آخره فإن أراد أن يرويه مطلقا ولا يفعل ما ذكرناه فهو أولى بالمنع مما سبق في مثله ونحوه، وممن نص على منعه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراينى الشافعى، وأجازه أبو بكر الإسماعيلى

(3)

، بشرط: أن يكون السامع والمسمع عارفين ذلك الحديث»

(4)

.

* * *

(1)

الكواكب الدراري، 24/ 99.

(2)

ينظر: ص 233.

(3)

أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس أبو بكر الإسماعيلى، إمام أهل جرجان والمرجوع إليه فى الفقه والحديث وصاحب التصانيف، سمع إبراهيم بن زهير الحلوانى وحمزة بن محمد بن عيسى الكاتب، وغيرهم، له: المستخرج على الصحيح والمعجم وغيرها، (ت 371 هـ)، طبقات الشافعية، السبكي، 3/ 7، وتذكرة الحفاظ وتبصرة الأيقاظ، يوسف ابن المبرد الحنبلي، 1/ 23.

(4)

شرح النووي على مسلم، 1/ 37.

ص: 128

‌المبحث الخامس

تقوية الخبر بقول «أشهد»

قال محمد بن إسماعيل البخاري: «حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ سَمِعْتُ عَطَاءً قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَوْ قَالَ عَطَاءٌ أَشْهَدُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ وَمَعَهُ بِلَالٌ

»

(1)

.

قال الكرماني مبينا فائدة كلمة «أشهد» في تقوية الخبر والتأكد منه: «أشهد علي النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بلفظ الشهادة تأكيدا لتحقيقه وبيانا لوثوقه بوقوعه فإن قلت لم استعمل الشهادة بعلي لا باللام. قلت: ذلك أيضا لزيادة التأكيد في وثاقه لأنه يدل علي الاستعلاء بالعلم علي خروجه صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

ومنه قول البخاري: «حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ سَمِعْتُهُ أَوْ كُنْتُ سَأَلْتُهُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ

»

(3)

.

قال الكرماني: «قوله (أشهد) بلفظ المضارع الثلاثي لا بلفظ الأمر ولا من الأفعال وذكره تأكيداً للقصة وتحقيقاً لصدقه ومبالغةً فيه»

(4)

.

* * *

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، بَابُ: عِظَةِ الإِمَامِ النِّسَاءَ وَتَعْلِيمِهِنَّ، رقم (97).

(2)

الكواكب الدراري، 2/ 91.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: إِذَا صَلَّى في الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَلْيَجْعَلْ عَلَى عَاتِقَيْهِ، رقم (355).

(4)

الكواكب الدراري، 4/ 18.

ص: 129

‌المبحث السادس

بيان ما أوهم وأشكل في السند

قد يرد في بعض الأسانيد عبارات، قد يوهم ظاهرها القدح في صحة الحديث، أو وجود المجهولين في السند، إلا أن العلماء بينوا المراد منها وأزالوا الوهم والشك والإشكال عن الحديث.

‌1 - بيان عبارة «حدثني الثقة» :

روى البخاري في صحيحه: «حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ سَيَّارٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ فَلَمَّا قَفَلْنَا تَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ قَطُوفٍ فَلَحِقَنِي رَاكِبٌ مِنْ خَلْفِي فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ

مَا يُعْجِلُكَ قُلْتُ إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ قَالَ فَبِكر زَوَّجْتَ أَمْ ثَيِّبًا قُلْتُ بَلْ ثَيِّبًا قَالَ فَهَلَّا جَارِيَةً تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ قَالَ فَلَمَّا قَدِمْنَا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ فَقَالَ أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلًا أَيْ عِشَاءً لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ قَالَ وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْكَيْسَ الْكَيْسَ يَا جَابِرُ يَعْنِي الْوَلَدَ»

(1)

.

قوله: «وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ» قال الكرماني: «فإن قلت من القائل بهذا قلت الظاهر أنه البخاري أو مسدد، فإن قلت فهذا رواية عن المجهول، قلت إذا ثبت أنه ثقة فلا بأس بعدم العلم باسمه، فإن قلت لِمَ لم يصرّح بالاسم قلت لعله نسيه أو لم يتحققه»

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: النكاح، بَاب: تَزْوِيجِ الثَّيِّبَاتِ، رقم (4758).

(2)

الكواكب الدراري، 19/ 137.

ص: 130

قال الإمام النووي في التقريب: «وإذا قال: حدثني الثقة أو نحوه لم يكتف به على الصحيح، وقيل يكتفي فإن كان القائل عالماً كفى في حق موافقه في المذهب عند بعض المحققين، وإذا روى العدل عمن سماه لم يكن تعديلاً عند الأكثرين وهو الصحيح، وقيل هو تعديل وعمل العالم وفتياه على وفق حديث رواه ليس حكماً بصحته ولا مخالفته قدح في صحته ولا في راويه، والله أعلم»

(1)

.

‌2 - بيان عبارة غير كذوب:

مثاله: قال البخاري: «حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُاللهِ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ، وَهْوَ غَيْرُ كَذُوبٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَالَ سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَقَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدًا ثُمَّ نَقَعُ سُجُودًا بَعْدَهُ»

(2)

.

بين الكرماني معنى عبارة غير كذوب ناقلاً عن الخطابي

(3)

: «قال ابن معين القائل وهو غير كذوب هو أبو إسحاق، ومراده أن عبدالله غير كذوب، وليس المراد أن البراء غير كذوب، لأن البراء صحابي لا يحتاج إلى تزكية، ولا يقال لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله هذا الكلام.

وقال قلت: قوله وهو غير كذوب، لا يوجب تهمة في الراوي حتى يحتاج إلى أن ينفي عنه بهذا القول، إنما يوجب ذلك إثبات حقيقة الصدق له ليتأكد العلم به أي معناه تقوية الحديث والمبالغة في تمكينه من النفس لا التزكية التي

(1)

التقريب والتيسير، ص 49.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الأذان، باب: مَتَى يَسْجُدُ مَنْ خَلْفَ الإِمَامِ، رقم (660).

(3)

أعلام الحديث، 1/ 475.

ص: 131

تكون في مشكوك فيه، وهذا عادتهم فيما يروونه حيث يريدون إيجاب العمل به أو تأكيد العلم فيه كقول أبي هريرة سمعت خليلي الصادق المصدوق وقول ابن مسعود حدثني الصادق المصدوق، وهذا لا يوجب ظنة كانت فترفع بهذا القول؛ إنما هو نوع ثناء وضرب تأكيد إذا اشتدت العناية بالشئ من القائل به»

(1)

.

ثم إن الكرماني بين رد النووي

(2)

على الخطابي بقوله: «كلام ابن معين

لا وجه له من جهة أخرى أيضاً لأن عبدالله صحابي أيضاً فحكمه حكم البراء في ذلك»

(3)

.

‌3 - بيان عبارة زعم:

مثاله: قال البخاري: «حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ زَعَمَ عَطَاءٌ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللهِ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أَكَلَ ثُومًا، أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا

»

(4)

.

بين الكرماني أن زعم بمعنى قال، لأن الزعم يستعمل في الأمر المحقق ثم نقل عن الخطابي

(5)

القول فيها: «ليس قوله زعم على وجه التهمة لكنه لما كان أمرا مختلفا فيه جعل الحكاية عنه بلفظ الزعم وهذا اللفظ لا يكاد يستعمل إلا في

(1)

الكواكب الدراري، 5/ 73.

(2)

شرح النووي على مسلم، 4/ 190.

(3)

الكواكب الدراري، 5/ 73.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: الأذان، باب: مَا جَاءَ فِي الثُّومِ النَّىّيّ وَالْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ، رقم (817).

(5)

أعلام الحديث، 1/ 559.

ص: 132

أمر يرتاب به أو يختلف فيه»

(1)

.

* * *

‌المبحث السابع

بيان أصح الأسانيد، ورأي البخاري

ذكر علماء الحديث أصح الأسانيد، واختلفوا في أصحها، ويرجع سببه إلى اجتهاداتهم في تفاوت درجات توثيق الرواة، فكل راوٍ وُجدت فيه صفة العدل، والضبط والإتقان كان سنده أصح من غيره.

فقالوا في أصح الأسانيد على حسب اجتهاد كل منهم:

«قال الحافظ ابن كثير في أصح الأسانيد: «فعن أحمد وإسحق: أصحها: الزهري عن سالم عن أبيه.

وقال علي بن المديني والفلاس: أصحها محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي.

وعن يحيى بن معين: أصحها الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود

(2)

.

وعن البخاري، مالك عن نافع عن ابن عمر». وهذا القول نقله الكرماني عن البخاري فقال: «ومذهب البخاري أن أصح الأسانيد مالك عن نافع عن

(1)

الكواكب الدراري، 5/ 201.

(2)

الباعث الحثيث، ابن كثير، ص 22، وينظر الكواكب الدراري، 2/ 165.

ص: 133

ابن عمر ويسمى هذا الإسناد بسلسلة الذهب»

(1)

.

«وزاد بعضهم: الشافعي عن مالك، إذ هو أجلّ من روي عنه»

(2)

.

(ثم ذكر الكرماني أقوال بعض العلماء في أصح الأسانيد آنفة الذكر)

(3)

.

وقال بعض العلماء لا يمكن الحكم لإسناد بأنه أصح الأسانيد مطلقا، بسبب تفاوت نظرة النقاد في جرح الرواة وتعديلهم

(4)

.

وقال السيوطي في ألفيته:

والوَقْفُ عَنْ حُكْمٍ لِمَتْنٍ أَوْ سَنَدْ

بِأَنَّهُ أَصَحُّ مُطلَقًا أَسَدْ

وآخَرُونَ حَكَمُوا فاضْطَرَبُوا

لِفَوقِ عَشْرٍ ضُمِّنَتْهَا الْكُتُبُ

(5)

ومن العلماء من ذكر أصح الأسانيد عن صحابي معيّن أو بلد وأقوام معينين، منها:

1 -

أصح الأسانيد عن عائشة رضي الله عنها: عبيدالله بن عمر بن حفص بن عاصم ابن عمر بن الخطاب، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن عائشة.

2 -

أصح الأسانيد عن عمر: الزهري عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن عبدالله بن عباس عن عمر.

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 77.

(2)

الباعث الحثيث إلى اختصار علوم الحديث، ص 22.

(3)

الكواكب الدراري، 1/ 78.

(4)

معرفة علوم الحديث، الحاكم، ص 55، وتدريب الراوي، السيوطي، 1/ 76.

(5)

ألفية السيوطي، ص 5.

ص: 134

3 -

أصح الأسانيد عن أبي هريرة: مالك بن أنس عن أبي الزناد عبدالله ابن ذكوان عن الأعرج عبد الرحمن بن هرمز عن أبي هريرة، وهذا رأي البخاري كما نقله الكرماني

(1)

.

4 -

أصح أسانيد أهل البيت: جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي إذا كان الراوي عن جعفر ثقة.

5 -

أصح أسانيد المكيين: سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن جابر.

6 -

أصح أسانيد اليمانيين: معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة.

وقيل غير ذلك

(2)

.

* * *

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 97.

(2)

ينظر: معرفة علوم الحديث، الحاكم، ص 55، وفتح الباقي شرح ألفية العراقي، زين الدين السنيكي، 1/ 100.

ص: 135

‌الفصل الثاني منهج الكرماني في تخريج الأحاديث وبيان الفوائد من ذلك

‌المبحث الأول التخريج تعريفه، وفوائده

*‌

‌ تعريف التخريج في اللغة والاصطلاح:

‌1 - تعريف التخريج في اللغة:

خَرَجَ خروجاً ومَخْرَجاً. وقد يكون المَخْرَجُ موضع الخروج، وهو نقيض الدخول يقال: خرج مخرجاً حسناً، وهذا مَخْرَجُهُ، والمخرج موضع الخروج، والاستخراج، كالاستنباط

(1)

.

وقال ابن منظور: «الفرق بين الخروج والوصل أن الخروج أشد بروزا عن حرف الروي واكتنافا من الوصل لأنه بعده، ولذلك سمي خروجا لأنه برز وخرج عن حرف الروي»

(2)

.

فيكون المعنى اللغوي للتخريج هو الإبراز والإظهار، والاستخراج ..

(1)

ينظر: مادة (خرج) وينظر: الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية 1/ 308، ومختار الصحاح 1/ 89، وتاج العروس 5/ 508.

(2)

مادة (خرج)، لسان العرب، 2/ 245.

ص: 136

«ومنه قول المحدثين عن حديث ما: أخرجه البخاري، بمعنى أبرزه للناس وأظهره لهم ببيان مخرجه؛ وهم رجال إسناده الذين خرج الحديث عن طريقهم»

(1)

.

‌2 - التخريج في اصطلاح المحدثين:

قال السخاوي: «والتخريج إخراج المحدث الأحاديث من بطون الأجزاء والمشيخات والكتب ونحوها، وسياقها من مرويات نفسه أو بعض شيوخه أو أقرانه أو نحو ذلك، والكلام عليها وعزوها لمن رواها من أصحاب الكتب والدواوين مع بيان البدل والموافقة ونحوهما

»

(2)

.

ويطلق عند المحدثين كذلك بمعنى إبراز الحديث وإظهاره للناس، ومنه قول ابن الصلاح عند كلامه عن طريقة العلماء في تصنيف الحديث:«إحداهما: التصنيف على الأبواب، وهو تخريجه على أحكام الفقه، وغيرها»

(3)

.

ويراد به: «الدلالة على مصدر الأحاديث وعزوها»

ومنه قول المناوي في شرحه لقول السيوطي في مقدمة الجامع الصغير: اجتهدت في تهذيب عزو الأحاديث إلى مخرجيها من أئمة الحديث من الجوامع والسنن والمسانيد فلا أعزو إلى شيء منها إلا بعد التفتيش عن حاله وحال مخرجه ولا أكتفي بعزوه إلى من ليس من أهله وإن جل كعظماء المفسرين»

(4)

.

(1)

علم تخريج الأحاديث، أصوله طرائقه مناهجه، أ. د محمد محمود بكّار. ص 22.

(2)

فتح المغيث، السخاوي، 3/ 317.

(3)

علوم الحديث، ابن الصلاح، ص 253.

(4)

علم التخريج ودوره في حفظ السنة النبوية، د. محمد محمود بكار ص: 4، وينظر وقول المناوي في الجامع في فيض القدير شرح الجامع الصغير 1/ 17.

ص: 137

إلا أن العلماء المعاصرين عرفوه بقولهم: «عزو الحديث إلى مصادره الأصلية المسندة، فإن تعذرت فإلى الفرعية المسندة، فإن تعذرت فإلى الناقلة عنها بأسانيدها، مع بيان مرتبة الحديث غالباً»

(1)

.

ومن هنا يتظهر العلاقة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي «فمادة خرج يدور أحد معانيها على النفاذ عن الشيء الذي يلزم منه الظهور والبروز، فمن هنا تتضح مناسبة المعنى اللغوي للمعنى الاصطلاحي»

(2)

.

*‌

‌ فوائد التخريج:

1 -

التعرف على مكان وجود الحديث من مصادره الأصلية.

2 -

معرفة درجة الحديث إذ أن بعض المصنفين كالترمذي يحكمون على الحديث.

3 -

معرفة طرق الحديث، والمتابعات، والشواهد التي يمكن أن يتقوى بها الحديث إن كان ضعيفاً.

4 -

معرفة علل الحديث أوما فيه من شذوذ بعد جمع طرقه والمقارنة بينها.

(1)

التخريج ودراسة الأسانيد، حاتم بن عارف بن ناصر الشريف العوني، ص 2، وينظر أصول التخريج ودراسة الأسانيد د. محمود طحان: ص 12، وعلم تخريج الأحاديث ودوره في حفظ السنة النبوية ص 23. والمفَصَّلُ في أصولِ التخريجِ ودراسةُ الأسانيدِ ص 5، علي بن نايف الشحود.

(2)

ينظر تخريج الحديث الشريف د. نايف علي البقاعي ص: 16.

ص: 138

5 -

معرفة سبب ورود الحديث، ومعنى الغريب التي تذكر في روايات أخرى.

6 -

بالتخريج يستطيع الباحث أن يجمع الأحاديث ذات الموضوع الواحد وبالتالي إعطاء البحث حقه من الأدلة من الحديث

(1)

.

* * *

‌المبحث الثاني

عدد أحاديث صحيح البخاري

فقد ذكر علماء الحديث أن عدد الأحاديث في صحيح البخاري: «سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثا بالمكررة، ومن دون المكرر بلغت أربعة آلاف حديث، مع آثار الصحابة والتابعين، مع عد الحديث الواحد المروي بإسنادين حديثين»

(2)

.

على خلاف في عدد الأحاديث في الصحيح على حسب طريق البخاري فهذا الذي ذُكر من أن إجمالي الأحاديث في البخاري بلغت: سبعة آلاف ومائتان وخمسة وسبعون حديثا، على حسب رواية الفربري، وفي رواية حماد فدونها بمائتي حديث، ودون هذه بمائة رواية إبراهيم بنِ مَعْقلٍ)

(3)

.

(1)

ينظر: تخريج الحديث الشريف، د. علي البقاعي، ص 23 - 24، وعلم تخريج الأحاديث، أ. د. محمد بكار، ص 25.

(2)

ينظر: معرفة علوم الحديث، ابن الصلاح، ص 20، وتدريب الراوي، السيوطي، ص 109.

(3)

ينظر هدي الساري، ص 654 وشرح ألفية العراقي لابن العيني ص:64.

ص: 139

وقال ابن حجر: «فجميع أحاديثه بالمكرر سوى المعلقات والمتابعات على ما حررته وأتقنته سبعة آلاف وثلاث مائة وسبعة وتسعون حديثا فقد زاد على

ما ذكروه مائة حديث واثنان وعشرون حديثا على أنني لا أدعي العصمة

ولا السلامة من السهو

»

(1)

.

فحاصل الخلاف على حسب رواية شيوخ البخاري، وعلى حسب المكرر والمعلق والمختصر

بين عادّ له أو لا.

وعلى غير عادة الإمام مسلم، من جمع روايات الحديث الواحد في مكان واحد، نهج البخاري إلى عكس ذلك من تفريق الروايات في صحيحه، وله في ذلك أسباب تدل على صنعته الحديثية المميزة، قال ابن حجر في هدي الساري

(2)

عنها وأذكر أهمها:

1 -

إخراج الحديث عن حد الغرابة، إذ أنه يخرّج الحديث عن صحابي، ثم يورده عن صحابي آخر وفي هذا فائدة زائدة.

2 -

احتواء الحديث على معانٍ متغايرة، فيورده في كل باب من غير طريق الأولى.

3 -

نقل الأحاديث كما وردته والمحافظة على لفظ الشيوخ، بين من رواها تامة، ومن رواها مختصرة.

4 -

تعارض الوصل والإرسال، والوقف والرفع، وترجح لديه الوصل، أو الرفع وبين أن لا تأثير للإرسال أو الوقف.

(1)

فتح الباري، 1/ 468.

(2)

هدي الساري، ص 19 - 20.

ص: 140

5 -

إخراج حديث زاد فيه بعض الرواة رجلا في الإسناد، ونقصه آخر فيورده على الوجهين، حيث يصح عنده أن الراوي سمعه من شيخ حدثه به عن آخر، ثم لقيَ الآخر فحدثه به، فيرويه البخاري على الوجهين.

6 -

وقد يروي الحديث معنعناً، ثم يرويه من طريق آخر فيه التصريح بالسماع.

هذا وقد اهتم الكرماني في شرحه بالتخريج بكل أنواعه:

‌أولاً: تخريج أحاديث صحيح البخاري.

‌ثانياً: تخريج أحاديث الشرح من كتب الرواية المتنوعة.

* * *

‌المبحث الثالث

تخريج أحاديث صحيح البخاري

فبين أماكن تكرارها وتواجدها، وميّز ما بينها من فروق، مع ذكر الفوائد والأسباب الداعية لذلك.

من ذلك:

‌1 - بيان مواضع أحاديث صحيح البخاري وبيان سر التكرار:

بين العلماء أسرار تكرار الحديث عند البخاري قال ابن حجر ناقلاً عن الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي

(1)

:

(1)

محمّد بنُ طاهر ابن عليّ، الحافظ المُكْثر، الجَوّال، أبو الفَضْل، المَقْدسي، ويعرف بابن القَيسَرَاني، الشَّيبَاني، الفقيه نصر المقدسي، وغيره كثير، وسمع منه ابنه أبو زرعة، كان حسن المعرفة بالرجال والمتون، جيد الخط، لازما للأثر، بعيدأ من الفضول والتعصب، خفيف الروح، قوي السير في السفر، له أطراف الكتب الستة، (ت 507 هـ). وفيات الأعيان، 4/ 287، وطبقات علماء الحديث للصالحي، 4/ 13.

ص: 141

«اعلم أن البخاري رحمه الله كان يذكر الحديث في كتابه في مواضع، ويستدل به في كل باب بإسناد آخر، ويستخرج منه بحسن استنباطه وغزارة فقهه معنى يقتضيه الباب الذي أخرجه فيه، وقلما يُورد حديثاً في موضعين بإسناد واحد ولفظ واحد، وإنما يُورده من طريق أخرى لمعانٍ نذكرها والله أعلم بمراده منها، فمنها أنه يخرج الحديث عن صحابي ثم يُورده عن صحابي آخر، والمقصود منه أن يُخرج الحديث عن حد الغرابة، وكذلك يفعل في أهل الطبقة الثانية والثالثة، وهلم جرا إلى مشايخه فيَعتقد من يرى ذلك من غير أهل الصنعة أنه تكرار وليس كذلك لاشتماله على فائدة زائدة»

(1)

.

ثم إن الأحاديث التي كررها البخاري كما هي سنداً ومتناً قليلة جداً، وعن غير قصد منه، قال ابن حجر في هدي الساري:«ولا يوجد فيه حديث واحد مذكور بتمامه سندا ومتنا في موضعين أو أكثر إلا نادرا فقد عني بعض من لقيته بتتبع ذلك فحصل منه نحو عشرين موضعا»

(2)

.

(1)

هدي الساري، ص 19.

(2)

السابق، ص 16.، وقد ذكر القسطلاني في هدي الساري أنه وجد ورقة بخط ابن حجر فيها تحديد الأحاديث المكررة، التي بلغت واحد وعشرون حديثاً

وزاد عليها القسطلاني حديثاً وهو: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية

ينظر: إرشاد الساري، ص 25 - 26. وقال في كشف الظنون:«التي ذكرها أي البخاري في موضعين سنداً ومتناً معاداً ثلاثة وعشرون حديثاً» 1/ 541.

ص: 142

وقد تنوع صنيع الكرماني في ذلك فتارة يذكر الأبواب التي مرّ فيها الحديث، من دون أن يتطرق لذكر السند والمتن مثال على ذلك:

قال البخاري: «حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا مَعْبَدُ ابْنُ هِلَالٍ الْعَنَزِيُّ قَالَ اجْتَمَعْنَا نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَذَهَبْنَا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَذَهَبْنَا

»

(1)

وهو حديث الشفاعة الطويل.

قال الكرماني: مبينا وموضحا الأبواب التي ذكرت هذا الحديث عند البخاري مشيراً إلى التطويل والاختصار في صنيع البخاري.

«وهذا الحديث مخرّج في الجامع أكثر من اثني عشر موضعا، في الصلاة في باب فضل السجود وفي الزكاة في باب: من سأل الناس تكثرا، وفي كتاب الأنبياء في باب: نوح وفي باب إبراهيم عليهما السلام، وفي كتاب: التفسير في باب {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} وفي باب: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}، وفي باب: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} وفي باب: الصراط وفي باب: صفة الجنة والنار وفي كتاب: التوحيد وفي باب: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وفي باب: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} وفي هذا الموضع وغيره لكن في بعضها ذكره مطولا وفي بعضها مختصرا»

(2)

.

ومثله: قال البخاري في حديث الإسراء: «حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِاللهِ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِاللهِ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ لَيْلَةَ

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: التوحيد، بَاب: كَلَامِ الرَّبِّ عز وجل يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ، رقم (7057).

(2)

الكواكب الدراري، 25/ 200.

ص: 143

أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ

»

(1)

.

قال الكرماني: «والحديث مخرّج مطولاً ومختصراً أكثر من عشر مرات أولها في كتاب الصلاة، (باب كلام الرب مع أهل الجنة)»

(2)

.

ومن ذلك: ما أخرجه البخاري: «حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ تَخَلَّفَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَنَّا فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقْنَا الْعَصْرَ، فَجَعَلْنَا نَتَوَضَّأُ وَنَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ «وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ مرتين أوثلاثاً»

(3)

.

فقال الكرماني مبينا مواضع الحديث في الصحيح، ومنبها على بعض الفروق:«هذا الإسناد والحديث بعينهما تقدما في باب: من رفع صوته بالعلم، وفي باب: من أعاد الحديث ثلاثاً في كتاب: العلم لا تفاوت بينه وبينهما إلا في الراوي الأول، فإنه موسى ههنا وثمة في الباب الأول أبو النعمان وفي الباب الثاني مسدد»

(4)

.

‌2 - تكرار الحديث لبيان قصد الراوي ومطابقة الترجمة التي أرادها البخاري:

مثاله: قال البخاري: في باب إطعام الطعام من الإسلام: حَدَّثَنَا عَمْرُو

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: التوحيد، بَاب: قَوْلِهِ {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} ، رقم (7064).

(2)

الكواكب الدراري، 25/ 209.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: غسل الرجلين ولا يمسح على القدمين، رقم (162).

(4)

الكواكب الدراري، 2/ 214.

ص: 144

ابْنُ خَالِدٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الإِسْلَامِ خَيْرٌ قَالَ «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ»

(1)

.

ثم كرر البخاري الحديث بسند آخر في باب إفشاء السلام من الإسلام «حَدَّثنا قُتَيْبَةُ، قَالَ: حَدَّثنا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الخَيْرِ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍ

مثله»

(2)

.

فقال الكرماني عن تكرار الحديث بعينه: «فإن قلت الحديث بعينه هو المتقدم فلم ذكره مكرراً. قلت: ذكره ثمة للاستدلال على أن الإطعام من الإسلام وههنا للاستدلال على أن السلام منه. فإن قلت كان يكفيه أن يقول ثمة أو ههنا باب الإطعام والسلام من الإسلام بأن يدخلهما في سلك واحد ويتم المطلوب. قلت لعل عمرو بن خالد ذكره في معرض بيان أن الإطعام منه وقتيبة في بيان أن السلام منه فلذلك ميزهما مضيفاً إلى كل راو ما قصده في روايته والله أعلم»

(3)

.

‌3 - التكرار من أجل تقوية سند الحديث:

منه: بيان أن:

السماع أقوى من العنعنة.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، رقم (11).

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، بَابُ: كُفْرَانِ العَشِيرِ، وَكُفْرٍ دُونَ كُفْر، رقم (27).

(3)

الكواكب الدراري، 1/ 134.

ص: 145

مثاله:

أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الصلاة، قال: «حَدَّثَنَا عَلِيُّ

ابْنُ عَبْدِاللهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّهْرِي عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ

أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِي أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ «إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ

»

(1)

.

ثم كرر البخاري الحديث مباشرة بعد الرواية الأولى في مكان واحد فقال: «وَعَنِ الزُّهْرِي عَنْ عَطَاءٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا أَيُّوبَ عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ»

(2)

.

فقال الكرماني مبيناً هدف البخاري من ذلك: «فإن قلتَ ما الفائدة في تكرار هذا الإسناد وهو بعينه عن الزهري عن عطاء عن أبي أيوب عن

النبي صلى الله عليه وسلم؟ قلت: الأول: بلفظ عن أبي أيوب وأن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا بلفظ

ما سمعت أبا أيوب وعن النبي صلى الله عليه وسلم والسماع أقوى من العنعنة وعن أقوى من أن»

(3)

.

ومنه:

قال البخاري: «حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِي عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ فِيمَا

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: قِبْلَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الشَّامِ وَالْمَشْرِقِ، رقم (388).

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: قِبْلَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الشَّامِ وَالْمَشْرِقِ، رقم (388).

(3)

الكواكب الدراري، 4/ 57.

ص: 146

دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ مِنَ الإِبِلِ

»

(1)

وساق بعده البخاري مباشرة رواية لكن بسند: «حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ حَدَّثَني يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَني عَمْرٌو سَمِعَ أَبَاهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه سَمِعْتُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِهَذَا»

(2)

.

فقال الكرماني: «الغرض من هذا الطريق يقصد طريق محمد بن المثنى التي فيها لفظ السماع بيان التقوية لأنها هي المرتبة العليا لعدم احتمال الواسطة بخلاف الإسناد السابق وهو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه محتمل للواسطة»

(3)

.

ومثله: تصريح راو مدلس بالسماع، والدقة في اللفظ، أخرج البخاري فقال: «حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَرَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ

» وبعده قال: «قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى وَحَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا مِثْلَهُ «يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ»

(4)

.

قال الكرماني: «الغرض من ذكر هذا الإسناد يقصد الثاني الذي فيه لفظ سمعت التقوية وهذا اللفظ أيضا لأن الأعمش مدلس وعنعنة المدلس لاتعتبر إلا إذا علم سماعه فأراد التصريح بالسماع إذا الإسناد الأول معنعن، وقال ثمة حدثني محمد بن المثني وقال هنا قال ابن المثني إشارة الى رعاية الفرق الذي بينهما ولا يخفي أن «قال» أحط درجة من حدث»

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الزكاة، باب: زكاة الورق، رقم (1364).

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الزكاة، باب: زكاة الورق، رقم (1365).

(3)

الكواكب الدراري، 7/ 209.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: الاستتار من البول، رقم (217).

(5)

الكواكب الدراري، 3/ 69.

ص: 147

وبين الكرماني الفرق بين لفظي التحديث: «كما راعى أيضا ثمة الفرق بين حدثني وحدثنا

(1)

حيث أفرد في بعض وجمع في آخر فتأمل»

(2)

وذلك لبيان اختلاف مجالس السماع.

قال عبدالله بن وهب: «إذا قلت: «حدثني» فهو ما سمعته من العالم وحدي، وإذا قلت:«حدثنا» فهو ما سمعته مع الجماعة، وإذا قلت:«أخبرني» فهو ما قرأت على المحدث، وإذا قلت «أخبرنا» فهو ما قرئ على المحدث وأنا أسمع قال الخطيب: هذا هو المستحب وليس بواجب عند كافة أهل العلم»

(3)

.

ومثله: قال البخاري: «حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ قَالَ قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَحَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ قَالَ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ الْعَدَوِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ قَالَ رَأَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِي فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ

»

(4)

.

(1)

في نسخة البخاري في الشرح هنا غير النسخة التي اعتمدها الكرماني وهي رواية أبي ذر الهروي عن الكشميهني، فالرواية التي قصدها الكرماني هي: حدثني محمد بن المثنى حدثنا محمد بن خازم .. ولما أعاد قال أي البخاري قال ابن المثنى وحدثنا وكيع تعليقًا، لم يقل البخاري حدثنا محمد بن المثنى كما هي عموم رواياته عن شيخه، بل قال بالإفراد حدثني، و من أجل إظهار الفرق بين التعليق والتحديث.

(2)

السابق، 3/ 69.

(3)

الكفاية، ص 294، وعلل الترمذي، ص 752.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: يَرُدُّ الْمُصَلِّي مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، رقم (488).

ص: 148

قال الكرماني مبينا قوة الرواية الثانية: «الأول روى فيه حميد بلفظ عن أبي صالح وأن أبا سعيد، والثاني روى بلفظ قال أبو صالح ورأيت أبا سعيد والثاني أقوى»

(1)

.

‌4 - التكرار لدواعي تقطيع الحديث واختصاره:

لجأ البخاري في صحيحه، لتقطيع الحديث واختصاره، للحاجة إلى ذلك.

تعريف اختصار الحديث: وهو حذف بعضه والاقتصار في الرواية على بعضه

(2)

.

وقد أجاد الكرماني في ذلك وسماه: «خرماً» ، والخرم في اللغة:

قال ابن منظور: «الخرم: مصدر قولك خَرَمَ الخَرَزَة يخرِمها، بالكسر خَرْماً وخَرَّمَها فَتَخرَّمَتْ: فَصَمَها وَمَا خَرَمْتُ مِنْهُ شَيْئًا أَي مَا نَقَصْتُ وَمَا قَطَعْتُ وقال اللَّيْثُ: خَرِمَ أَنفُه يَخْرَمُ خَرَماً، وَهُوَ قَطْعٌ فِي الوَتَرَةِ وَفِي الناشِرتَيْنِ أَوْ فِي طَرَفٍ الأَرْنَبة لَا يَبْلُغُ الجَدْعَ»

(3)

.

فالخرم من معانيه في اللغة القطع، وهو ما وافق المعنى الاصطلاحي من قطع الحديث واختصاره.

واختصار الحديث، له أنواع فقد يروي الراوي الحديث وينقله مختصرا، فيقطّعه ويأخذ منه موطن الشاهد الذي يريد، بينما يرويه غيره تاماً، مما يؤدي إلى تعدد صور روايات الحديث، وهو حديث واحد، فلا يُظن أن هذا من قبيل

(1)

الكواكب الدراري، 4/ 160.

(2)

توجيه النظر إلى أصول الأثر، طاهر الجزائري، 2/ 703.

(3)

لسان العرب مادة: خرم، وانظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 27.

ص: 149

اضطراب المتن، إذ أن الاضطراب تكون الروايات فيه متساوية لايمكن الجمع بينها، مما يُشعر بعدم ضبط الراوي.

وقد جاء عن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى: (قال كنت أسمع الحديث من عشرة اللفظ مختلف والمعنى واحد»

(1)

.

فيُفهم من كلام ابن سيرين أن الرواة منذ الصدر الأول كانوا يتصرفون في الحديث فيختصرونه أو يرونه بالمعنى

(2)

.

وكان الكرماني يشير إلى اختصار الحديث عند البخاري ويبين سبب ذلك:

مثال على ذلك قال البخاري: «حَدَّثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، قَالَ: حَدَّثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِاللهِ بْنِ عَبْدِاللهِ، أَنَّ عَبْدَاللهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ. أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ

»

(3)

.

ذكر الكرماني

(4)

أن في إسناد هذا الحديث بين البخاري والزهري ثلاثة رجال وهم: إِبْرَاهِيمُ ابْنُ حَمْزَةَ وإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ وصَالِحٍ بن كيسان.

وفي الرواية الأخرى بين البخاري والزهري رجلان، والرواية هي:

(1)

العلل الصغير للترمذي، (746).

(2)

وسيأتي الكلام عن أحكم وأسباب اختصار الحديث، في قسم المصطلح.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: سُؤَالِ جِبْرِيلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الإِيمَانِ، وَالإِسْلَامِ، وَالإِحْسَانِ، وَعِلْمِ السَّاعَةِ، رقم (51).

(4)

الكواكب الدراري، 1/ 202.

ص: 150

«حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ الحَكَمُ ابْنُ نَافِعٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُاللهِ بْنُ عَبْدِاللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَبْدَاللهِ بْنَ عَبَّاسٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ ابْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُاللهِ بْنُ عَبْدِاللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَبْدَاللهِ بْنَ عَبَّاسٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ ابْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ

»

(1)

.

والرجلان هما: أَبُو اليَمَانِ الحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ وشُعَيْبٌ.

ثم بين الكرماني ممن وقع القطع والخرم فقال: «فإن قلت فممن وقع هذا الخرم؟ قلت: الظاهر أنه من الزهري لا من البخاري؛ لاختلاف شيوخ الإسنادين بالنسبة إلى البخاري، فلعل شيخه إبراهيم بن حمزة لم يذكر في مقام الاستدلال على أن الإيمان دين إلا هذا القدر»

(2)

.

ثم بين سبب الخرم فقال:

«فإن قلت فلم يقع الخرم. قلت: لأن المقامات مختلفة والسياقات متنوعة فمقام بيان كيفية الوحي يقتضي ذكر الحديث بتمامه ومقام الاستدلال على هذا المطلوب يقتضي ذكر ما به يتم المقصود به اختصاراً وتقريباً لفهم المراد والله تعالى أعلم»

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: بدء الوحي، باب: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ رقم (51).

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 202.

(3)

الكواكب الدراري، 1/ 202.

ص: 151

مثال ثانٍ: قال البخاري: «عَنْ أَبِي بَكْرَةَ ذُكِرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ» . وَكَانَ مُحَمَّدٌ يَقُولُ صَدَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ ذَلِكَ «أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ» مَرَّتَيْنِ»

(1)

.

فبيّن الكرماني أن هذا الحديث مخروم بمعنى مُقطّع حيث قال: «لأنه بعض من حديث طويل وقد سبق بعضه في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم رب مبلغ حيث قال: قَالَ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا» ، فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ، قَالَ:«أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ» قُلْنَا: بَلَى، قَالَ:«فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا» فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ:«أَلَيْسَ بِذِي الحِجَّةِ» قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا إلى آخره

وقد خُرم هنا اقتصارا على المقصود وهو بيان التبليغ»

(2)

.

ومثله: قال البخاري: «حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِاللهِ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ اجْتَنِبُوا الْمُوبِقَاتِ الشِّرْكُ بِاللهِ وَالسِّحْرُ»

(3)

.

قال الكرماني: «وثبت في الصحيح: اجتنبوا السبع الموبقات، الشرك بالله، السحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا،

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: لِيُبَلِّغِ العِلْمَ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، رقم (105).

(2)

الكواكب الدراري، 2/ 107.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الطب، باب: الشِّرْكُ وَالسِّحْرُ مِنَ المُوبِقَاتِ، رقم (5764).

ص: 152

والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات

(1)

، فهذا الذي في الكتاب مختصر من مطول، ولهذا ذكر اثنتين فقط، هو من قبيل قوله تعالى {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} »

(2)

.

ومن ذلك: ما أخرجه البخاري في كتاب الرقائق:

«حَدَّثَنِي أَبُو نُعَيْمٍ بِنَحْوٍ مِنْ نِصْفِ هَذَا الْحَدِيثِ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ حَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ أَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ»

(3)

.

قال الكرماني: «فإن قلت هذا مُشكل لأن نصف الحديث يبقى بدون الإسناد، ثم أن النصف مبهم أهو الأول أم الآخر، قلت: اعتمد على ما ذكر في كتاب الأطعمة

(4)

من طريق يوسف بن على المروزي، وهو قريب من نصف هذا

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الوصايا، باب: قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، رقم (2766) إلا أن الكرماني لم يذكر لفظ الغافلات وهي موجودة بروايات البخاري التي ذكرت الحديث كاملا.

(2)

الكواكب الدراري، 21/ 39.

(3)

أخرجه البخاري، بَاب: كَيْفَ كَانَ عَيْشُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ وَتَخَلِّيهِمْ مِنْ الدُّنْيَا، رقم (6066).

(4)

أخرجه البخاري، رقم (5030) وهو «حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَعَامٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى قُبِضَ. وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَصَابَنِي جَهْدٌ شَدِيدٌ فَلَقِيتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ

».

ص: 153

الحديث فلعل البخاري أراد بالنصف المذكور بأبي نُعيم ما لم يذكره، ثمة فيصير الكل مسندا ببعضه بطريق يوسف والبعض الآخر بطريق أبي نُعيم قال صاحب التلويح ذكر الحديث في الاستئذان

(1)

مختصرًا وكان هذا هو النصف»

(2)

وقد رجح بعض العلماء كلام الكرماني أن الحديث مروي في كتاب الأطعمة: والجواب الصحيح أنه روي في موضع آخر في أول كتاب الأطعمة «أنه سأل عمر عن معنى آية، فأجابه ولم يدخله بيته»

(3)

.

‌5 - التكرار للاختلاف في رجال الإسناد:

قد يكرر البخاري الحديث، وغرضه من ذلك بيان أن بعض رجال الإسناد يختلفون عن بعض، وعن اختلاف في متن الحديث.

مثاله: أخرج البخاري في باب: إذا أصاب ثوب المصلى امرأته إذا سجد، «حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ خَالِدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَأَنَا حِذَاءَهُ وَأَنَا حَائِضٌ وَرُبَّمَا أَصَابَنِي ثَوْبُهُ إِذَا سَجَدَ. قَالَتْ وَكَانَ يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ»

(4)

.

(1)

في بَاب إِذَا دُعِيَ الرَّجُلُ فَجَاءَ هَلْ يَسْتَاذِنُ، رقم (5868)، وهو: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُاللهِ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ أَخْبَرَنَا مُجَاهِدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ لَبَنًا.

(2)

الكواكب الدراري، 22/ 216.

(3)

الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري، أحمد بن إسماعيل الكوراني الحنفي، 10/ 145.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، رقم (374).

ص: 154

ثم كرر الحديث في الكتاب نفسه، ولكن في باب: الصلاة على الخمرة، «حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ»

(1)

.

ففي الحديث الأول شيخ البخاري المباشر هو: أبو الحسن بن مسرهد الأسدي البصري، وفي الحديث الثاني شيخه المباشر هو: أو الوليد الطيالسي، قال الكرماني معلقاً على تكرار البخاري للحديث:«قلت بعض رجال الاسناد مختلف، ثم أن لم يكن مختلفا فغرض البخاري في أمثاله بيان مقاصد شيوخه عند نقلهم الحديث، واختلاف استخراجاتهم الأحكام المذكورة منه، وذكر كل منهم الحديث في معرض مقصود غير مقصود الأخر»

(2)

.

* * *

‌المبحث الرابع

تخريج أحاديث الشرح من كتب الرواية المتنوعة

كما أن الكرماني يعنى بأحاديث الشرح من كتب الرواية المصنفة المعتمدة، وخصوصا صحيح الإمام مسلم، وكتب السنن

، ويقارن بين أسانيدها وألفاظها ويناقشها مما يدل على خبرته في هذا الفن، وسعة اطلاعه، وكان الكرماني في بعض الأحيان يشير إلى التخريج بقوله:«رواه» .

وقد تبين للباحث أن الكرماني كان يخرّج أحاديث الشرح لعدة أمور

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، رقم (376).

(2)

الكواكب الدراري، 4/ 46، 47.

ص: 155

أهمها:

‌أولاً: الاهتمام بالمتابعات، والشواهد.

ثانياً: بيان طرق الحديث.

ثالثاً: بيان المقصود من الحديث بحمل الروايات على بعضها.

رابعاً: تخريج أحاديث لها علاقة بالترجمة، والأبواب.

خامساً: بيان المجمل من رواية البخاري، عن طريق رواية أخرى.

سادساً: التنبيه على الزيادات، والمقارنة بين الألفاظ.

سابعاً: بيان الخطأ في أسماء الرواة.

ثامناً: ينقل حكم العلماء على الحديث.

المبحث الخامس صنعته في المعلقات.

المبحث السادس الإجابة على الأحاديث المنتقدة على البخاري.

المبحث السابع بيان اللطائف الإسنادية.

* * *

أولاً الاهتمام بالمتابعات، والشواهد:

‌القسم الأول: المتابعات.

القسم الثاني: الشواهد.

تعد المتابعات والشواهد من أهم الأمور التي يُعضد بها الحديث؛ إن كان فيه ما يخلُّ بصحته بسبب الانقطاع في سنده، كالإرسال والإعضال، أو وجود مجهول لم يُسمَّ

فجاءت المتابعة للحديث من طريق أخرى ترفع درجته، من

ص: 156

المردود إلى المقبول، وتُفيد رُجحان القوي

وقد اعتنى البخاري في صحيحه بهذا الجانب المهم.

تعريف المتابعة في اللغة: وتابع بين الأمور متابعة وتباعا: واتر ووالى؛ وتابعته على كذا متابعة وتباعا

(1)

، وقال الهروي:«يُقَال تَابع فلَان كَلَامه وَهُوَ تبيع الْكَلَام إِذا أحكمه»

(2)

.

المتابعة في اصطلاح المحدثين: أن يوافق راوي الحديث على ما رواه من قبل راو آخر فيرويه عن شيخه أو عمن فوقه

(3)

.

وقد عرّف الكرماني المتابعة بقوله: «هي أن يروي الراوي الآخر الحديث بعينه»

(4)

.

وقد بين العلماء فائدة المتابعة: «وفائدة المتابعة: رفع الغرابة في ذلك الموضوع الذي حصلت فيه الموافقة من الإسناد، وفيه تقوية الحديث من ذلك الطريق، بحسب قوة المتابع»

(5)

.

فالمتابعة ترفع الحديث الضعيف إلى الحسن، وترفعه إلى درجة الصحيح لغيره.

«إذا كان راوي المتابعة عدلاً خفيف الضبط وحديثه حسن أو دونه بقليل، فإن

(1)

لسان العرب مادة: (تبع) 8/ 29.

(2)

تهذيب اللغة، مادة:(تبع) 2/ 169.

(3)

ينظر: المقنع، ابن الملقن، ص 188، وتدريب الراوي 1/ 283، ومنهج النقد ص 418.

(4)

الكواكب الدراري، 10/ 66.

(5)

تحرير علوم الحديث، 1/ 53، وينظر: رسوم التحديث في علوم الحديث برهان الدين الجعبريّ، ص 85.

ص: 157

هذه المتابعة ترفع الحديث المتابَع إلى الحسن لغيره، أما إذا كان راوي المتابعة عدلا تام الضبط، وحديثه صحيحاً فترفعُ هذه المتابعة الحديث المتابَع إلى الصحيح لغيره»

(1)

، وقد ذكر الكرماني في شرحه في أكثر من موضع أن فائدة المتابعة هي التقوية

(2)

.

ولذلك ليست كل متابعة صالحة للاعتبار، ولا يُقوّى بها الحديث، قال ابن الصلاح:«قد يدخل في باب المتابعة والاستشهاد رواية من لا يحتج بحديثه وحده، بل يكون معدودا في الضعفاء، وفي كتابي البخاري ومسلم جماعة من الضعفاء ذكرناهم في المتابعات والشواهد، وليس كل ضعيف يصلح لذلك، ولهذا يقول الدارقطني وغيره في الضعفاء: «فلان يعتبر به وفلان لا يعتبر به»

(3)

.

قال الكرماني: «قوله: (تابعه عبدالله) أي التنيسي شيخ البخاري المذكور وهذا أول موضع جاء فيه ذكر المتابعة والبخاري رحمه الله قد أكثر ذكر المتابعة في صحيحه فينبغي أن يتحفظ بمعناها»

(4)

.

وقد ذكر العلماء أن المتابعة نوعان:

المتابعة التامة: هي التي تحصل للراوي نفسه بأن يروي حديثه راو آخر عن شيخه

(5)

.

(1)

محاضرات في الحديث التحليلي، أ. د أبو لبابة الطاهر حسين، ص 17.

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 44، 1/ 152، 2/ 126.

(3)

علوم الحديث، ص 84.

(4)

الكواكب الدراري، 1/ 43.

(5)

منهج النقد في علوم الحديث، د. نور الدين عتر، ص 418، وينظر نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر، ص 74، ومعرفة علوم الحديث، ابن الصلاح، ص 83.

ص: 158

وقد بين الكرماني ذلك بقوله: «وإذا كان أحد الراويين رفيقاً للآخر من أول الإسناد إلى آخره يسمى بالمتابعة التامة»

(1)

.

فشرط المتابعة التامة: أن يشترك راويان بالحديث عن الشيخ نفسه من بداية السند

(2)

.

المتابعة الناقصة أو (القاصرة): هي التي تحصل لشيخ الراوي أو لشيخ شيخه أو من فوقه

(3)

.

وقد أشار الكرماني إلى ذلك بقوله: «وإذا كان رفيقا له لا من الأول يسمى بالمتابعة الناقصة، ثم بيّن حال تسمية الراوي في النوعين ثم النوعان ربّما يسمّى المتابع عليه فيهما وربّما لا يسمّى»

(4)

.

وقال الكرماني في شرح الحديث نفسه: «واعلم أيضا أن المتابعة التامة تشبه بوجه بما ذكره الحاكم أن شرط البخاري أن يرويه الصحابي المشهور له راويان

(5)

.....................

ص: 159

وأن المتابعة الناقصة تشبه أن تكون من باب التعليق أيضا»

(1)

.

وقد ذكر الكرماني اعتناء البخاري في صحيحه بالمتابعات، وأنواعها،

فقال في حديث السيدة عائشة رضي الله عنها: «حَدَّثنا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثنا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الوَحْيِ

وفي آخره قال البخاري: وتَابَعَهُ عَبْدُاللهِ بْنُ يُوسُفَ، وَأَبُو صَالِحٍ. وَتَابَعَهُ هِلَالُ بْنُ رَدَّادٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَقَاَل يُونُسُ، وَمَعْمَرٌ بَوَادِرُهُ

(2)

»

(3)

.

ص: 160

وقد ذكر الكرماني المتابعة الحاصلة في هذا السند فقال: «والحاصل أن البخاري سمع الحديث بهذا الإسناد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يحيى ثم ثبت عنده بذلك الإسناد أيضا عن عبدالله»

(1)

.

وقد بين الكرماني أن هذا الحديث حوى نوعي المتابعة فقال: «وتابعه هلال ابن رداد عن الزهري) هو أهون نوعي المتابعة؛ لأنه سمى المتابع عليه وهو الزهري فيعلم بالضرورة أن مراده أن هلالا تابع الرواي عن الزهري، وهو عقيل بخلاف النوع الأول منها وهو قوله: تابعه عبدالله إذ لم يسمّ المتابع عليه، وهو الليث وقد وقع في هذا الحديث للبخاري المتابعة التامّة والناقصة ولم يسمّ المتابع عليه في الأول وسمّاه في الثانية»

(2)

.

ومثله: قال البخاري: حَدَّثنا أَبُو اليَمَانِ الحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: أَخبَرَنا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُاللهِ ابْنُ عَبْدِاللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَبْدَاللهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ؛ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ ابْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ؛ أَنَّ هِرَقْلَ

رَوَاهُ صَالِحُ ابْنُ كَيْسَانَ وَيُونُسُ وَمَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ»

(3)

.

قال الكرماني قوله: (رواه صالح بن كيسان، ويونس ومعمر عن الزهري) يعني هؤلاء الثلاثة تابعوا ووافقوا شعيباً في رواية هذا الحديث عن الزهري ومثله يسمى بالمتابعة وفائدتها التقوية والتأكيد والترجيح بكثرة الرواة وهذا هو المتابعة المقيدة لأنه سمّي المتَابع عليه وهو الزهري ولو لم يسمّ لكان النوع الآخر

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 43.

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 34.

(3)

أخرجه البخاري، باب: كيف بدء الوحي، رقم (6).

ص: 161

من المتابعة أي المطلقة»

(1)

.

وقد بيّن الكرماني أوجه الاحتمال في اللفظ فقال: «اعلم أن هذه العبارة تحتمل وجهين أن يروي البخاري عن الثلاثة بالإسناد المذكور أيضاً كأنه قال أخبرنا أبو اليمان الحكم بن نافع، قال أخبرنا هؤلاء الثلاثة عن الزهري وأن يروى عنهم بطريقٍ آخر كما أن الزهري أيضاً يحتمل في روايته للثلاثة أن يروى عن عبيدالله بن عبدالله عن ابن عباس وأن يروى لهم عن غيره والله أعلم. هذا

ما يحتمله اللفظ وإن كان الظاهر اتحاد الإسناد»

(2)

.

وقد شمل‌

‌ جهد الكرماني في متابعات البخاري

بيان الأمور الآتية:

‌أولاً توضيح وبيان عبارات البخاري في متابعاته:

‌1 - ضرورة وفوائد معرفة طبقات الرواة ومراتبهم:

قد يظهر جليا عود الضمير في المتابعة إذا سُمّي المُتابع، ولكن إذا لم يُسمَّ فعندئذٍ لابد من معرفة طبقات الرواة ومراتبهم، إذ أن لمعرفة طبقات الرواة ومراتبهم فوائد كثيرة، وخصوصاً في مايتعلق بسند الحديث، كتمييز ثبوت السماع بين راويين، وتمييز الانقطاع في الإسناد، ومعرفة تواريخ وفاة الرواة، وكشف الغلط والكذب، والأمنُ مِنْ تداخل المتشابهينَ في اسم، أو كنية

(3)

.

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 67، وينظر مثال ذكره الكرماني عن المتابعة التامة والناقصة، 1/ 152، 5/ 85.

(2)

المصدر السابق، 1/ 67 - 68.

(3)

ينظر تحرير علوم الحديث، عبدالله جديع، 109 - 110، والمدبج ورواية الأقران،

د. موفق بن عبدالله بن عبد القادر ص 30 - 53.

ص: 162

وتظهر الفائدة كذلك من خلال قول السخاوي: «الأمن من تداخل المشتبهين كالمتفقين في اسم أو كنية أو نحو ذلك كما بيناه في المتفق والمفترق، وإمكان الاطلاع على تبين التدليس، والوقوف على حقيقة المراد من العنعنة، وبينه وبين التاريخ عموم وخصوص وجهي، فيجتمعان في التعريف بالرواة، وينفرد التاريخ بالحوادث والطبقات، بما إذا كان في البدريين مثلا من تأخرت وفاته عمن لم يشهدهالاستلزامه تقديم المتأخر الوفاة»

(1)

.

قال الكرماني ناقلاً عن النووي: «ومما يحتاج إليه المعتني بصحيح البخاري فائدة يُنبه عليها وهو أنه تارة يقول: تابعه مالك عن أيوب وتارة يقول: تابعه مالك ولا يزيد، فإذا قال مالك عن أيوب فهذا ظاهر وأما إذا اقتصر على تابعه مالك عن أيوب فهذا ظاهر، وأما إذا اقتصر على تابعه مالك فلا يُعرف لمن المتابعة إلا من يعرف طبقات الرواة ومراتبهم»

(2)

.

المقصود من هذا الكلام أن البخاري يروي المتابعة بقوله: «تابعه» ، وأحيانا يقول:«رواه» ، وأحياناً يقول:«وقال» ، فمرة يسمّ المتابِع بكسر الباء قوله:«تابعه مالك عن أيوب» ، ومرة يذكره باسمه من دون كنيته أولقبه، قوله:«تابعه مالك» ، قال الكرماني:«وأقول على هذا فلا يعلم أنّ عبدالله يروي عن الليث أو عن غيره بخلاف التقرير الأول إلا أن يقال علم ذلك من معرفة الطبقات والمراتب»

(3)

.

(1)

فتح المغيث بشرح الفية الحديث للعراقي، السخاوي، 4/ 389.

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 43.

(3)

المصدر السابق، 1/ 43.

ص: 163

‌2 - بيان العطف في المتابعة، ومرجع الضمير:

قد يرجع الضمير في اللغة لأقرب مذكور، وقد لا يرجع إليه إذا دلت القرينة على ذلك، وقد تُوهم العبارة المقصود من مرجع الضمير في سياق الكلام لمن ليس عنده مُكنة في ذلك، لذلك لم يفت الكرماني توضيح مقصد البخاري.

وقد أتى بأمثلة كثيرة على ذلك منها قال البخاري: «حَدَّثنا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: حَدَّثنا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أَنَّهَا

تَابَعَهُ عَبْدُاللهِ بْنُ يُوسُفَ، وَأَبُو صَالِحٍ. وَتَابَعَهُ هِلَالُ بْنُ رَدَّادٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ يُونُسُ، وَمَعْمَرٌ بَوَادِرُهُ»

(1)

.

قال الكرماني: «والضمير في تابعه عائد إلى يحيى بن بكير، عبدالله تابع يحيى في رواية هذا الحديث فرواه عبدالله عن الليث كما رواه عنه يحيى»

(2)

.

ومنها: قال البخاري: «حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِاللهِ بْنِ عَلِيٍ الْمَنْجُوفِيُّ

قَالَ حَدَّثَنَا رَوْحٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنِ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ

رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً

تَابَعَهُ عُثْمَانُ الْمُؤَذِّنُ قَالَ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ»

(3)

.

قال الكرماني: «وضمير تابعه راجع إلى روح لا إلى أحمد لأنه في مرتبته

لا في مرتبة أحمد»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري، باب: كيف بدء الوحي، رقم (3).

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 43.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، بَابٌ: اتِّبَاعُ الجَنَائِزِ مِنَ الإِيمَانِ، رقم (47).

(4)

الكواكب الدراري، 3/ 53.

ص: 164

وقال الكرماني مبينا الفرق بين الروايتين: «وعوف في الإسناد الأول روى عن محمد والحسن وههنا عن محمد فقط وفي الأول كان الواسطة بين البخاري وبينه رجلين وههنا يحتمل كونهما رجلاً واحداً»

(1)

.

والملاحظ أن البخاري قدّم رواية: «الْمَنْجُوفِيُّ» «خماسية السند» فيها علو معنوي على متابعة: «عثمان» ، «رباعية السند» فيها علو مطلق، وقد علل البدر العيني ذلك في عمدة القاري بقوله:

«ثم البخاري رضي الله عنه، إن كان سمع هذا الحديث من عثمان هذا فهو له أعلى بدرجة. لأنه من روايته رباعي، ومن رواية المنجوفي خماسي، فإن قلت: فلم ذكر رواية عثمان؟ قلت: لأن رواية المنجوفي موصولة وهي أشد إتقانا من رواية عثمان. فان قلت: إذا كان الأمر كذلك، فما الحاجة إلى ذكر متابعة عثمان؟ قلت: لأجل التنبيه بروايته على أن الاعتماد في هذا السند على محمد بن سيرين لأن عوفا ربما كان ذكره، وربما كان حذفه مرة، فأثبت الحسن»

(2)

.

وقد قال ابن المبارك: «ليس جودة الحديث في قرب الإسناد ولكن جودة الحديث صحة الرجال»

(3)

.

ومنها ما أخرجه البخاري: «حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَتَابَعَهُ حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ وَأَبَانُ عَنْ يَحْيَى» .

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 186.

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 274.

(3)

الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، 2/ 101.

ص: 165

قال الكرماني: «ويحيى (هو ابن أبي كثير أحد الأعلام وذكر هذه المتابعة تعليق من البخارى ومرجع الضمير في تابعه هو شيبان»

(1)

.

ومنها ما أخرجه البخاري: «حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا نَافِعٌ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما

تَابَعَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ وَجُوَيْرِيَةُ وَابْنُ إِسْحَاقَ فِي النِّقَابِ وَالْقُفَّازَيْنِ»

(2)

.

قال الكرماني: «وتابعه أي تابع هؤلاء الأربعة الليث في الرواية عن نافع»

(3)

.

‌3 - بيان الفرق بين «تابعه» ، و «رواه»:

مثال على ذلك قال البخاري: «حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ قَالَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ

تَابَعَهُ

عَبْدُ الأَعْلَى عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَرَوَاهُ الأَوْزَاعِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ»

(4)

.

قال الكرماني: «فإن قلت لمَ قال أولاً تابعه وثانياً ورواه؟ قلت: لم يقل وتابعه الأوزاعي إما لأنه لم ينقل لفظ الحديث بعينه بل رواه بمعناه؛ إذ المفهوم من المتابعة الإتيان بمثله على وجهه بلا تفاوت والرواية أعم من ذلك وإما لأنه

(1)

الكواكب الدراري، 3/ 53.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الحج، بَاب: مَا يُنْهَى مِنْ الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ، رقم (1721).

(3)

الكواكب الدراري، 9/ 45.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: الغسل، باب: إِذَا ذَكَرَ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّهُ جُنُبٌ يَخْرُجُ كَمَا هُوَ وَلَا يَتَيَمَّمُ، رقم (273).

ص: 166

يكون موهماً بأنه تابع عثمان أيضاً وليس كذلك، إذ لا واسطة فيه بين الأوزاعي والزهري، وإما للتفنن في الكلام أو لغير ذلك»

(1)

.

ويذكر الكرماني تغليب جانب الرواية على المتابعة، فيذكر لفظ «رواه» دون «تابعه» .

مثاله: قال البخاري: «حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ شَدَّادٍ قَالَ سَمِعْتُ مَيْمُونَةَ

وَرَوَاهُ سُفْيَانُ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ»

(2)

.

قال الكرماني: «فإن قلت لم قال رواه ولم يقل تابعه؟ قلت: الرواية أعم منها فلعله لم يروها متابعة»

(3)

.

‌4 - بيان الفرق بين «قال» و «تابعه» :

أخرج البخاري في كتاب الغسل: «حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ ح وَحَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا

ثم قال: تَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ عَنْ شُعْبَةَ مِثْلَهُ. وَقَالَ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبَانُ قَالَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ مِثْلَهُ»

(4)

.

(1)

الكواكب الدراري، 3/ 137.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الحيض، باب: مباشرة الحائض، رقم (299).

(3)

الكواكب الدراري، 3/ 168، وينظر منحة الباري شرح صحيح البخاري، زكريا بن محمد السنيكي المصري، 1/ 621.

(4)

أخرجه البخاري: بَابٌ: إِذَا التَقَى الخِتَانَانِ، رقم (291).

ص: 167

قال الكرماني: «فإن قلت لم قال تابعه عمرو، وقال موسى ولم يسلك فيهما طريقاً واحداً؟ قلت: المتابعة أقوى لأن القول أعم من الذكر على سبيل النقل والتحميل، أو من الذكر على سبيل المحاورة والمذاكرة، فأراد الإشعار بذلك واعلم أنه يحتمل سماع البخاري من عمرو وموسى فلا يجزم بأنه ذكرهما على سبيل التعليق»

(1)

.

‌5 - بيان حدود المتابعة:

قال البخاري: «حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَشِيَّةً

تَابَعَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ وَأَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَمَّا بَعْدُ. تَابَعَهُ الْعَدَنِيُّ عَنْ سُفْيَانَ فِي أَمَّا بَعْدُ»

(2)

.

قال الكرماني: «قوله: في أما بعد أي تابعه في مجرد كلمة؛ أما بعد لا في تمام الحديث»

(3)

.

ومن ذلك: أخرج البخاري: «حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِاللهِ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ

تَابَعَهُ أَبُو عَوَانَةَ

(1)

الكواكب الدراري، 3/ 154، وقد نقل البدر العيني كلام الكرماني في الفرق بين:«قال» و «تابع» ، عمدة القاري، 3/ 251.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الجمعة، بَاب: مَنْ قَالَ فِي الْخُطْبَةِ بَعْدَ الثَّنَاءِ أَمَّا بَعْدُ، رقم (925).

(3)

الكواكب الدراري، 6/ 37.

ص: 168

وَابْنُ فُضَيْلٍ فِي السَّتْرِ»

(1)

.

قال الكرماني: «قوله (في الستر) أي تابعا سفيان في لفظ سترت النبي صلى الله عليه وسلم لا في تمام الحديث»

(2)

.

‌ثانياً بيان أحوال رواة المتابعات:

قال ابن الصلاح: «اعلم أنه قد يدخل في باب المتابعة والاستشهاد رواية من لا يحتج بحديثه وحده، بل يكون معدودا في الضعفاء، وفي كتابي البخاري ومسلم جماعة من الضعفاء ذكرهم في المتابعات والشواهد، وليس كل ضعيف يصلح لذلك، ولهذا يقول الدارقطني وغيره في الضعفاء: «فلان يعتبر به وفلان لا يعتبر به»

(3)

وقد أشار الكرماني إلى ذلك في شرحه

(4)

، ونبه على متابعات الضعفاء في صحيح البخاري فذكر منها: «حدثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ سَمِعْتُ أَنَساً قَالَ ذُكِرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمُعَاذٍ «مَنْ لَقِيَ

»

(5)

.

قال الكرماني: «فإن قلت لفظ ذُكر يقتضي أن يكون هذا تعليقا من أنس ولما لم يكن الذكر له معلوما كان من باب الرواية عن المجهول فهل هو قادح في

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الغسل، باب: التَّسَتُّرِ فِي الْغُسْلِ عِنْدَ النَّاسِ، رقم (278).

(2)

الكواكب الدراري، 3/ 145.

(3)

علوم الحديث، ص 84.

(4)

الكواكب الدراري، 1/ 44.

(5)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، بَابُ: مَنْ خَصَّ بِالعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ، كَرَاهِيَةَ أَنْ لَا يَفْهَمُوا، رقم (129).

ص: 169

الحديث؟ قلت: التعليق لا ينافي الصحة إذا كان المتن ثابتاً من طريق أخر وكذا الجهالة إذ معلوم إن أنساً لا يروي إلا عن العدل سواء رواه عن الصحابي، أو غيره وفي الجملة يحتمل في المتابعات والشواهد مالا يحتمل في الأصول»

(1)

.

يعني أن الاحتجاج بالمتابعة يُتساهل في حال راويها، فيجوز أن يكون راوي المتابعة ضعيفا، إلا أنه ممن ينجبر حديثه، يقول ابن الصلاح:«قد يدخل في باب المتابعة والاستشهاد رواية من لا يحتج بحديثه وحده، بل يكون معدودا في الضعفاء، وفي كتابي البخاري ومسلم جماعة من الضعفاء ذكراهم في المتابعات والشواهد، وليس كل ضعيف يصلح لذلك، ولهذا يقول الدارقطني وغيره في الضعفاء: «فلان يعتبر به وفلان لا يعتبر به»

(2)

.

ومن ذلك مارواه البخاري: «وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ»

(3)

.

قال الكرماني: «فإن قلت قد تُكُلّم في إبراهيم؟، قال عياش: إبراهيم عن يحيى ليس بشيء، وقال النسائي إبراهيم ليس بالقوي قلت: يُحتمل في المتابعات ما لا يُحتمل في الأصول»

(4)

.

ومن ذلك ما أخرجه البخاري: «حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مَعْمَرٍ

(1)

الكواكب الدراري، 2/ 157.

(2)

علوم الحديث، ابن الصلاح، ص 84.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: لَا يُسْتَنْجَى بِرَوْثٍ، رقم (156)، هذه المتابعة غير موجودة في بعض نسخ البخاري.

(4)

الكواكب الدراري، 2/ 206.

ص: 170

عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ هِنْدٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَعَمْرٍو وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ هِنْدٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتِ اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ

»

(1)

.

قال الكرماني على ما في بعض النسخ

(2)

، والروايات:«قوله «عن امرأة» والمراد بها هند المذكورة وفي بعضها هند بدل امرأة، فإن قلت شرط البخاري على ما اشتهر أن تكون شيوخه مشاهير ولا أقل من أن يكون مجهولا فكيف روى لها، قلت: يحتمل في المتابعات مالا يحتمل في الأصول، وهنا ذكر ومتابعة أو ليست مجهولة إذ الرواية السابقة قرينة مُعينة مُعرّفة لها»

(3)

.

‌القسم الثاني: الشواهد:

الشاهد في اللغة: المشاهدة: المعاينة. وشهده شُهوداً: أي حَضَرَه، فهو شاهدٌ. وقومٌ شُهودٌ، أي حُضورٌ، والشاهِدُ والشَّهيدُ: الْحَاضِر

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: العلم والعظة بالليل، رقم (115).

(2)

لم يرد في الحديث لفظ عن: (امرأة) ا في هذه النسخة، وإنما من رواية أبي ذر الهروي عن الكُشمهيني وهي التي فيها لفظ: عن الزهري عن امرأة، ولم يراعِ أصحاب دار النشر هذا الأمر، بل اعتمدوا نسخة للبخاري من دون النظر إلى النسخة التي اعتمدها الشارح!

(3)

الكواكب الدراري، 2/ 129، والرواية التي ذُكر فيها لفظ:«امرأة» بدل هند أخرجها ابن أبي شيبة في مسنده، رقم (987)، «نا عَبْدُاللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ لَيْلَةً فَنَظَرَ إِلَى أُفُقِ السَّمَاءِ وَقَالَ: «مَاذَا فُتِحَتْ مِنَ الْخَزَائِنِ

».

(4)

ينظر في مادة: (شهد) الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، 2/ 494، المحكم والمحيط الأعظم، 4/ 181.

ص: 171

الشاهد في الاصطلاح: هو الحديث الذي يشارك فيه رواته رواة الحديث الفرد لفظا ومعنى، أو معنى فقط، مع الاختلاف في الصحابي

(1)

.

مثّل الكرماني للشاهد ما رواه البخاري: «باب هَلْ تُنْبَشُ قُبُورُ مُشْرِكِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُتَّخَذُ مَكَانَهَا مَسَاجِدَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» . وَمَا يُكْرَهُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْقُبُورِ.

وَرَأَى عُمَرُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُصَلِّي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ الْقَبْرَ الْقَبْرَ. وَلَمْ يَأمُرْهُ بِالإِعَادَةِ»

(2)

.

قال الكرماني: «فالترجمة مشتملة على مسألتين الأولى اتخاذ المساجد في مكان القبور، والثانية اتخاذها بين القبور، ففي الأولى لا يبقى لصورة القبر أثر وفي الثانية، بخلافها والحديث الثاني شاهد للأولى كما أن الأثر المنقول عن عمر شاهد للثانية»

(3)

.

فحديث: «لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ» ترويه أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها

(4)

والحديث الثاني مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكلا

(1)

تيسير مصطلح الحديث، ص 176، لأبي حفص محمود الطحان، وينظر: شرح نخبة الفكر في مصطلحات أهل الأثر، علي القاري الهروي، ص 352.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، بابٌ: هَلْ تُنْبَشُ قُبُورُ مُشْرِكِي الجَاهِلِيَّةِ، وَيُتَّخَذُ مَكَانُهَا مَسَاجِدَ.

(3)

الكواكب الدراري، 4/ 87 - 88.

(4)

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ:«لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسْجِدًا» ، قَالَتْ: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَبْرَزُوا قَبْرَهُ غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا، أخرجه البخاري، كتاب: الجنائز، بَابُ: مَا يُكْرَهُ مِنَ اتِّخَاذِ المَسَاجِدِ عَلَى القُبُورِ، رقم (1330).

ص: 172

الحديثين احتوى على نفس المعنى.

وقد نهج الكرماني نهج الترمذي في الإشارة إلى أحاديث الباب، كقوله: وفي الباب

، ويريد الكرماني سرد شواهد للحديث بقوله هذا.

من ذلك ما أخرجه البخاري: «قَالَ عُرْوَةُ عَنِ الْمِسْوَرِ وَمَرْوَانَ خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَمَنَ حُدَيْبِيَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَمَا تَنَخَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ»

(1)

.

قال الكرماني: «وفي الباب بيان طهارة النخامة والبزاق، والتبرك بالفضلات الطاهرة، والتعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم غاية التعظيم»

(2)

.

‌ثانياً بيان طرق الحديث:

قال البخاري: «حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ ابْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِاللهِ ابْنِ مَوْهَبٍ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

»

(3)

.

قال الكرماني: ينقل طريقاً ثانية للحديث عند البخاري فقال: «قد ذكر البخاري هذا الحديث من رواية شعبة في كتاب الأدب فقال: حدثني عبد الرحمن حدثنا بهن حدثنا شعبة، حدثنا ابن عثمان بن عبدالله» والرواية هي: «وحَدَّثَنِي

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: الْبُزَاقِ وَالْمُخَاطِ وَنَحْوِهِ فِي الثَّوْبِ.

(2)

الكواكب الدراري، 3/ 99 - 100.

(3)

أ خرجه البخاري، كتاب: الزكاة، باب: وُجُوبِ الزَّكَاةِ، رقم (1396).

ص: 173

عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِاللهِ بْنِ مَوْهَبٍ، وَأَبُوهُ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِاللهِ: أَنَّهُمَا سَمِعَا مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي

»

(1)

.

ثم بين الكرماني

(2)

أن عند مسلم طريق ثالثة، فقال:«وقد خرّجه مسلم في مسنده عن عمرو بن عثمان عن موسى بن طلحة عن أيوب» قلت وهي:

قال مسلم: «حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي سَفَرٍ،

»

(3)

والملاحظ أن روايتي البخاري ذُكر فيها: «حَدَّثَنَا ابْنُ عُثْمَانَ» أما رواية مسلم ذكر اسمه فقال: «حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ» فكان ذكر الروايات والطرق مفيدًا لمعرفة اسم الراوي.

ومثله: قال البخاري: «حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ

»

(4)

قال الكرماني

(5)

مبيناً الطرق التي أخرجها مسلم في صحيحه:

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الأدب، باب: صلة الرحم، رقم (5983).

(2)

الكواكب الدراري، 7/ 169.

(3)

أخرجه مسلم، كتابر الإيمان، باب: وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} رقم (12).

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: النكاح، باب: مَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ، رقم (5177).

(5)

الكواكب الدراري، 19/ 125.

ص: 174

وروى مسلم في صحيحه هذا الحديث عن مالك عن ابن شهاب عن الأعرج عن أبي هريرة

(1)

، وأيضا عن الزهري عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة بمثله

(2)

، وروى عن زياد بالتحتانية ابن سعد عن ثابت الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «شر الطعام طعام الوليمة يمنع من يأتيها ويدعى اليها من يأباها ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله»

(3)

.

ومن ذلك بيان الفرق في عدد الرجال بين طرق الحديث:

مثاله: قال البخاري: «حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُاللهِ أَخْبَرَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ

وَأَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رضي الله عنه كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِقَتْلَى أُحُدٍ «أَيُّ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ أَخْذاً لِلْقُرْآنِ» . فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى رَجُلٍ قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ قَبْلَ صَاحِبِهِ. وَقَالَ جَابِرٌ فَكُفِّنَ أَبِي وَعَمِّي فِي نَمِرَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَا مَنْ سَمِعَ جَابِراً رضي الله عنه»

(4)

.

قال الكرماني: «واعلم أن الفرق بين هذه الطرق أن الليث ذكر

عبد الرحمن واسطة بين الزهري وجابر، والأوزاعي لم يذكر الواسطة بينهما،

(1)

أخرجه مسلم: كتاب: النكاح، باب: الْأَمْرِ بِإِجَابَةِ الدَّاعِي إِلَى دَعْوَةٍ، رقم (107).

(2)

أخرجه مسلم: كتاب: النكاح، باب: الْأَمْرِ بِإِجَابَةِ الدَّاعِي إِلَى دَعْوَةٍ، رقم (108).

(3)

أخرجه مسلم، كتاب: النكاح، باب: الْأَمْرِ بِإِجَابَةِ الدَّاعِي إِلَى دَعْوَةٍ، رقم (110).

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: الجنائز، باب: من يقدم في اللحد، رقم (1269).

ص: 175

وسليمان ذكر واسطة مجهولاً»

(1)

.

‌ثالثاً بيان المقصود من الحديث بحمل الروايات على بعضها:

قد لا يظهر المقصود والمعنى من رواية واحدة، ولا يمكن فهمه إلا بالاستعانة برواية أخرى حتى يتضح المعنى، ويظهر المقصود، قال ابن حجر رحمه الله: «المتعيّن على من يتكلم على الأحاديث، أن يجمع طرقها ثم يجمع ألفاظ المتون إذا صحت الطرق، ويشرحها على أنه حديث واحد، فإن الحديث أولى

ما فسر بالحديث»

(2)

.

مثاله: حديث أنس رضي الله عنه قال: «قَدِمَ أُنَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ، فَاجْتَوَوُا

(3)

المدينة

وفيه قَالَ أَبُو قِلَابَةَ فَهَؤُلَاءِ سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَحَارَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ» قال الكرماني: «فإن قلت ما الذي دل على كفرهم ومن أين استُفيد ذلك؟ قلت: عُلِم من الطرق الأخرى روى مسلم في صحيحه

(4)

، وكذا

(1)

الكواكب الدراري، 7/ 125.

(2)

فتح الباري، 6/ 475.

(3)

أي أصابهم الجوى: وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول، وذلك إذا لم يوافقهم هواؤها واستوخموها. ويقال: اجتويت البلد إذا كرهت المقام فيه وإن كنت في نعمة، ينظر: النهاية في غريب الحديث، 1/ 318.

(4)

أخرجه مسلم، كِتَابُ: الْقَسَامَةِ وَالْمُحَارِبِينَ وَالْقِصَاصِ وَالدِّيَاتِ، باب: حكم المحاربين والمرتدين، رقم (1671)، (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَخْرُجُوا إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَتَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا» ، فَفَعَلُوا، فَصَحُّوا، ثُمَّ مَالُوا عَلَى الرِّعَاءِ، فَقَتَلُوهُمْ وَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ).

ص: 176

الترمذي

(1)

أنهم ارتدوا عن الإسلام»

(2)

.

ومنه: الاستعانة بتخريج رواية أخرى للحديث، لتمييز كلام النبي صلى الله عليه وسلم، عن كلام الصحابي.

حديث البخاري، وفيه

«أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنه يَوْمَ عَاشُورَاءَ عَامَ حَجَّ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَلَمْ يَكْتُبْ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ وَأَنَا صَائِمٌ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ»

(3)

.

قال الكرماني ناقلاً عن النووي: «كل ما بعد «يقول» بتمامه كلام

رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء مبينا في رواية النسائي أن كله كلامه

(4)

.

‌رابعاً تخريج أحاديث لها علاقة بالترجمة، والأبواب:

من عادة الكرماني أن يخرّج أحاديث لها علاقة بالترجمة والأبواب، ولو

(1)

أخرجه الترمذي، كتاب: أبواب الطهارة، باب: ما جاء في بول ما يؤكل لحمه.

(2)

الكواكب الدراري، 3/ 87.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء، رقم (1879).

(4)

الكواكب الدراري» 9/ 150، وكلام النووي في شرحه على مسلم: 8/ 8، وهذه رواية النسائي:«عن حميد بن عبد الرحمن قال: سمعت معاوية يوم عاشوراء وهو على المنبر بالمدينة يقول أين علماؤكم يا أهل المدينة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هذا اليوم إني صائم فمن شاء منكم أن يصوم فليصم» كتاب: الصيام، باب: التأكيد في صيام يوم عاشوراء، رقم (2854).

ص: 177

كانت من غير الصحيح، قال الكرماني

(1)

شارحاً ترجمة البخاري: «بَاب مَا ذُكِرَ فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ» «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: نَزَلَ الحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنَ الجَنَّةِ، وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ. رواه الترمذي في صحيحه»

(2)

.

ومثله: قال البخاري: «بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ

الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَزَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» قال الكرماني

(3)

مستدلا على

تسمية باب البخاري بتخريج حديث في الترمذي: «وفيه عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:

قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ

»

(4)

.

‌خامساً بيان المجمل من رواية البخاري، عن طريق رواية أخرى:

مثاله: ما أخرجه البخاري: «عَنْ شَقِيقٍ قَالَ قَالَ عَبْدُاللهِ لَقَدْ تَعَلَّمْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَؤُهُنَّ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَقَامَ عَبْدُاللهِ وَدَخَلَ

(1)

الكواكب الدراري، 8/ 116.

(2)

أخرجه الترمذي، كتاب: الحج، باب: ماذُكر في الحجر الأسود، رقم (1502).

(3)

الكواكب الدراري، 25/ 233.

(4)

أخرجه الترمذي، كتاب: أبواب فضائل القرآن، باب: ما جاء في فضل قاراء القرآن، رقم (2904) وقال هو حسن صحيح، إلا أن الكرماني أحرجه مختصرا إلى قوله «البررة» وبقية الحديث عند الترمذي:«وَالَّذِي يَقْرَؤُهُ، قَالَ هِشَامٌ: وَهُوَ شَدِيدٌ عَلَيْهِ. قَالَ شُعْبَةُ: وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، فَلَهُ أَجْرَانِ» .

ص: 178

مَعَهُ عَلْقَمَةُ وَخَرَجَ عَلْقَمَةُ فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ عِشْرُونَ سُورَةً مِنْ أَوَّلِ الْمُفَصَّلِ عَلَى تَألِيفِ ابْنِ مَسْعُودٍ آخِرُهُنَّ الْحَوَامِيمُ حم الدُّ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ»

(1)

.

قال الكرماني مبينا اسم السور كاملة في رواية أخرى للحديث، غير أن رأي ابن مسعود في المفصل مخالف لرأي الجمهور «وتأليف ابن مسعود مخالف للتأليف المشهور إذ ليس شيء من الحواميم في المفصل على المشهور، وجاء في سنن أبي داود

(2)

بيان هذه العشرين وهي الرحمن والنجم في ركعة واقتربت والحاقة في أخرى والطور والذاريات ثم الواقعة ونون ثم سأل سائل والنازعات ثم التطفيف وعبس ثم المدثر والمزمل ثم هل أتى ولا أقسم وكذا عم والمرسلات وكذا الدخان والتكوير»

(3)

.

‌سادساً التنبيه على الزيادات، والمقارنة بين الألفاظ:

عمد الكرماني إلى التخريج للتنبيه على زيادة الألفاظ وللمقارنة بين متون الأحاديث، وعلى من انفرد من أصحاب المصنفات بالزيادة:

مثاله: أخرج البخاري: عن «أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ، لَمْ يَأكُلِ الطَّعَامَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حِجْرِهِ» .

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: فضائل القرآن، باب: تَأْلِيفِ القُرْآنِ، رقم (4996).

(2)

أخرجه أبو داود، كتاب: الصلاة، باب: تحزيب القرآن، رقم (1396).

(3)

الكواكب الدراري، 19/ 14 - 15، «قال الزرقاني: والمفصل ثلاثة أقسام: طوال وأوساط وقصار. فطواله من أول الحجرات إلى سورة البروج. وأوساطه من سورة الطارق إلى سورة لم يكن. وقصاره من سورة إذا زلزلت إلى آخر القرآن». مناهل القرآن في علوم القرآن 1/ 532.

ص: 179

قال الكرماني مبينا الفرق بين بول الغلام والجارية مستدلاً بحديث أخرجه الترمذي، وأبو داود منبهاً على الزيادة عند أبي داود فقال: «وقد جاء الحديث صريحا في الفرق بينهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: يغسل من بول الجارية وينضح من بول الغلام أخرجه أبو داود

(1)

والترمذي

(2)

وزاد أبو داود ما لم يطعم».

ومنه: قال البخاري في حديث السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النبي ورحمة الله

» قال الكرماني ناقلاً عن البيضاوي

(3)

في تحفة الأبرار: «وفي حديث ابن عباس لم يذكر العاطف أصلا وزاد المباركات وأخر لله فتكون صفات»

(4)

.

ومثله: في حديث المسيح الدجال «إِنَّ اللهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، أَلَا إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ» قال الكرماني مقارناً بين الألفاظ: «وجاء في آخر صحيح مسلم في رواية أعور العين اليسرى»

(5)

.

(1)

أخرجه أبو داود، كتاب: الطهارة، باب: بول الصبي يصيب الثوب، رقم (377).

(2)

أخرجه الترمذي، كتاب: أبواب السفر، باب: ما ذكر في نضح بول الغلام والرضيع، رقم (610) واللفظ لأبي داود.

(3)

عبدالله بن عمر بن محمد بن علي أبو الخير ناصر الدين البيضاوي، قاضي القضاة، المفسر والنحوي الأصولي الفقيه، كان معتزلياً شافعياً صالحا متعبدا زاهدا، له كتاب: الكشاف في تفسير القرآن، وله تحفة الأبرار وغيرها، (ت 685 هـ)، ينظر: بغية الوعاة، السيوطي، 2/ 50،

(4)

الكواكب الدراري، 5/ 183، وينظر تحفة الأبرار، 1/ 303. وحديث ابن عباس، أخرجه مسلم، كتاب: الصلاة، باب: التشهد في الصلاة، رقم (403).

(5)

الكواكب الدراري، 14/ 83. وحديث مسلم:«عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الدَّجَّالُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى، جُفَالُ الشَّعَرِ، مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ، فَنَارُهُ جَنَّةٌ وَجَنَتُهُ نَارٌ» أخرجه مسلم، كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الدجال وصفته وما معه رقم (2934).

ص: 180

ولم يكتفِ الكرماني بالمقارنة بين الألفاظ، والتنبيه على الزيادة فيها، بل يعقّب على العلماء الذين حصروا الزيادة عند صاحب مصنف دون غيره.

مثاله: «عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ»

(1)

.

قال الكرماني: «وقال أبو عيسى الترمذي لفظ من المسلمين انفرد بها مالكن دون سائر أصحاب نافع، وليس كما قال إذ وافقه فيها عمر بن نافع كما يروى، ووافقه الضحاك بن عثمان أيضا ذكره مسلم في صحيحه»

(2)

.

ومثله: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً

» قال الكرماني مبيناً الفرق بين روايات الحديث: «قوله: (وستون) كذا هنا وثبت في رواية صحيح مسلم وسبعون جزما

(3)

وفي رواية أخرى بضع وسبعون أو بضع وستون على الشك

(4)

وروى أبو داود والترمذي بضع

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الزكاة، باب: صَدَقَةُ الفِطْرِ عَلَى العَبْدِ وَغَيْرِهِ مِنَ المُسْلِمِينَ، رقم (1504).

(2)

الكواكب الدراري، 8/ 49، والحدبث (أخرجه مسلم، كتاب: الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير، رقم (984).).

(3)

أخرجه مسلم، كتاب: الإيمان، باب: شعب الإيمان، رقم (57).

(4)

أخرجه مسلم، كتاب: الإيمان، باب: شعب الإيمان، رقم (58).

ص: 181

وسبعون بلا شك

(1)

.

ومثله: أخرج البخاري في صحيحه: «عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَاءَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَجَعَلَ يَسُبُّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَالَ يَا رَسُولَ اللهِ مَا كِدْتُ أُصَلِّي الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ

»

(2)

قال الكرماني مقارناً بين الألفاظ: «واعلم أنه وقع هنا وفى صحيح مسلم

(3)

أن الصلاة الفائتة كانت صلاة العصر وفى الموطأ

(4)

أنها الظهر والعصر».

وهناك أمثلة أخرى عن بيان الكرماني الفروق بين الألفاظ قوله: «وفي كتاب الترمذي الذي يقرأ القرآن وهو به ماهر مع السفرة الكرام البررة وقال هو حسن صحيح»

(5)

.

وقد يقارن الكرماني في ألفاظ الروايات المتشابهة، في السند والمتن، من أحاديث الصحيح، ويبين الاختلاف في شيوخ البخاري المباشرين، مثاله:

(1)

أخرجه أبو داود، كتاب: السنة، باب: في الإرجاء، رقم (4676)، أخرجه الترمذي، كتاب: أبواب الإيمان، باب: ما جاء في أشكال الإيمان، رقم (2614، بلفظ: الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَابًا

».

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ جَمَاعَةً بَعْدَ ذَهَابِ الوَقْتِ، رقم (596).

(3)

أخرجه مسلم، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: الدليل لمن قال الصلاة الوسطى، رقم (209).

(4)

أخرجه مالك في الموطأ، كتاب: صلاة الخوف، باب: صلاة الخوف، رقم (443).

(5)

الكواكب الدراري، 25/ 233.

ص: 182

قتال البخاري رحمه الله في باب: مَنْ كَرِهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ مِنَ الإِيمَانِ: «حَدَّثنا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثنا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن أحب عبدا لا يحبه إلا لله ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله كما يكره أن يلقى في النار»

(1)

.

فقد روى البخاري هذا الحديث عن غير شيخه سليمان، بل عن محمد بن المثنى، فقال: «حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ

لَا يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»

(2)

.

فقال الكرماني معلقا على ذلك: «فإن قلت قد سبق هذا الحديث بعينه فما فائدة التكرار؟ قلت: لم يسبق بعينه بل بينهما تفاوت، وهو أنه ذكر ثمة بلفظ المضارع في المواضع الثلاثة، بلفظ: المرء ويقذف وهنا بلفظ الماضي في الثلاثة وبلفظ عبداً ويلقى وبزيادة بعد إذ أنقذه الله، فاختلف بعض الألفاظ مع اختلاف في الرواة أيضاً إذ شيخ البخاري ثمة محمد بن المثنى وههنا سليمان وهلم جرا»

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: مَنْ كَرِهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ مِنَ الإِيمَانِ، رقم (20).

(2)

أحرجه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: حلاوة الإيمان، رقم (15).

(3)

الكواكب الدراري، 1/ 114 - 115.

ص: 183

‌سابعاً بيان الخطأ في أسماء الرواة:

قد يقع الخطأ في اسم راوٍ ما من رواة الحديث في أحد المصنفات، ويُكشف هذا الخطأ عن طريق تخريج الأحاديث والمقارنة والموازنة بين الروايات.

فقد أخرج البخاري: «عن الأعْرَجِ قَالَ سَمِعْتُ عُمَيْراً مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أَقْبَلْتُ أَنَا وَعَبْدُاللهِ ابْنُ يَسَارٍ مَوْلَى مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَبِي جُهَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ ابْنِ الصِّمَّةِ الأَنْصَارِيِّ فَقَالَ أَبُو الْجُهَيْمِ أَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ قَالَ أَبُو الْجُهَيْمِ أَقْبَلَ النَّبِيُّ

»

(1)

.

قال الكرماني ناقلاً عن النووي: «وقع في صحيح مسلم بدل عبدالله بن يسار عبد الرحمن بن يسار وبدل أبي الجهيم أبو الجهم مكبراً وكلاهما غلط»

(2)

.

‌ثامناً ينقل حكم العلماء على الحديث:

يخرّج الكرماني الأحاديث التي استدل بها في الشرح، وينقل أقوال العلماء في بيان درجتها.

مثال: عند الكلام عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: التيمم، باب: التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء وخاف فوت الصلاة، رقم (337).

(2)

الكواكب الدراري، 3/ 217، وينظر: شرح مسلم للنووي، 4/ 63 - 64، وينظر التوضيح شرح الجامع الصحيح، ابن الملقن 2/ 661، وانظر الصناعة الحديثية في التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن، أحمد محمد ارحيّم، ص 111 - 112.

ص: 184

أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ»

(1)

.

قال الكرماني: «وقد استدل به على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة وقيل ليس الوضوء مختصا وإنما الذي اختصت به هذه الأمة الغرة والتحجيل، محتجا بقوله صلى الله عليه وسلم هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي، فأجيب بأنه حديث ضعيف وبأنه لو صح احتمل أن يكون الأنبياء اختصت بالوضوء دون أممهم إلا هذه الأمة»

(2)

* * *

‌المبحث الخامس

صنعته في المعلقات

‌أولاً تعريف الحديث المعلق لغة واصطلاحاً:

‌أ - لغة:

«علق: العين واللام والقاف أصل كبير صحيح يرجع إلى معنى

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: فَضْلِ الوُضُوءِ، وَالغُرُّ المُحَجَّلُونَ مِنْ آثَارِ الوُضُوءِ، رقم (136).

(2)

الكواكب الدراري، 2/ 172، والحديث بتمامه:«عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ وَاحِدَةً فَتِلْكَ وَظِيفَةُ الْوُضُوءِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا، وَمَنْ تَوَضَّأَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُ كِفْلَيْنِ، وَمَنْ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا فَذَلِكَ وُضُوئِي، وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي» أخرجه أحمد في مسنده، رقم (5735) وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط رحمه الله في تحقيقه للمسند: إسناده ضعيف لضعف أبي إسرائيل، وهو إسماعيل بن خليفة الملائي، وزيد العَمَي، وهو ابنُ الحواري. وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين. أسود بن عامر: هو الملقب بشاذان، ونافع: هو مهلى ابن عمر، وأخرجه ابن ماجه في سننه بلفظ:«هذا وضوئي ووضوء المرسلين قبلي» في كتاب: أبواب الطهارة، باب: مَا جَاءَ فِي الْقَصْدِ فِي الْوُضُوءِ وَكَرَاهَيةِ التَّعَدِّي فِيهِ، رقم (420).

ص: 185

واحد، وهو أن يناط الشيء بالشيء العالي. ثم يتسع الكلام فيه، والمرجع كله إلى الأصل الذي ذكرناه تقول: علقت الشيء أعلقه تعليقا. وقد علق به، إذا لزمه. والقياس واحد»

(1)

.

‌ب - اصطلاحاً:

هو الحديث الذي سقط من أول سنده راوٍ أو أكثر على التوالي، ولو كان الساقط السند كله

(2)

.

وزاد ابن حجر على التعريف: «معبراً بصيغة لا تقتضي التصريح بالسماع مثل: قال وروى وزاد وذكر أو يُروى ويُذكر ويُقال، وما أشبه ذلك من صيغ الجزم والتمريض»

(3)

.

وفي كلام ابن حجر رد على ابن الصلاح الذي قال: «ولم أجد لفظ التعليق مستعملا فيما سقط فيه بعض رجال الإسناد من وسطه أو من آخره، ولا في مثل قوله: «يروى عن فلان، ويذكر عن فلان» وما أشبهه مما ليس فيه جزم على من ذكر ذلك بأنه قاله وذكره.

وكأن هذا التعليق مأخوذ من تعليق الجدار، وتعليق الطلاق ونحوه، لما يشترك الجميع فيه من قطع الاتصال، والله أعلم»

(4)

.

(1)

معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، مادة (علق)4125.

(2)

ينظر: تغليق التعليق، ابن حجر، 2/ 7 - 8، والمنهل الروي في مختصر علوم الحديث النبوي، لأبي عبدالله الكناني، ص 94، والغاية في شرح الهداية في علم الرواية، للسخاوي، 1/ 174.

(3)

تغليق التعليق، 2/ 8.

(4)

علوم الحديث، ص 70.

ص: 186

وقال الحافظ ابن حجر كذلك في معرض الرد على ابن الصلاح: «أخْذُه من تعليق الجدار فيه بعد وأما أخذه من تعليق الطلاق وغيره فهو أقرب للسببيه لأنهما معنويان»

(1)

.

إذاً يتبين من التعريف أن التعليق يكون:

بسقوط راوٍ من أول السند أو أكثر ويُعرف ذلك عن طريق المعاصرة، ومعرفة الطبقات ولوكان الساقط كل رجال السند، «كقولنا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، من دون إسناد يُذكر، أو قال ابن عباس، أو قال عطاء»

(2)

.

أن يُروى بصيغة التمريض، والتضعيف، مثل: رُويَ، وذُكِرَ

كذلك لم يختص المعلق فقط بصيغ التمريض، والتضعيف، بل خصّوا به صيغة الجزم قال النووي:«ولم يستعملوا التعليق في غير صيغة الجزم كيروى عن فلان كذا، أو يقال عنه، ويذكر، ويحكى؛ وشبهها بل خصوا به صيغة الجزم. كقال، وفعل، وأمر، ونهى، وذكر، وحكى، ولم يستعملوه فيما سقط وسط إسناده»

(3)

.

‌ثانياً أسباب تعليق الحديث:

تنوعت عند أصحاب المصنفات أسباب التعليق، ويمكن حصرها في الآتي:

(1)

تغليق التعليق، 2/ 7.

(2)

بلوغ الآمال من مصطلح الحديث والرجال، بتصرف يسير، ص 225.

(3)

التقريب والتيسير، 838، وقال العراقي كلاما يوافق فيه النووي، تدريب الراوي، 1/ 251.

ص: 187

1 -

أن يكون الحديث المُعَلّق ليس من شرط صاحب التصنيف حتى يثبت، ويكون إيراده من قبيل تقوية الاستدلال على موضوع الباب.

2 -

الاختصار في إيراد الحديث، إذ أن الحاجة تدعو إليه

(1)

.

‌ثالثاً حكم الحديث المعلق:

الحديث المعلق ضعيف عند العلماء لا يُعمل به؛ بسبب انقطاع السند بحذف بعضه أو حذفه كله، وبالتالي لايُعرف ضبط وعدالة الراوي الساقط، إلا إذا جاء الحديث موصولاً من طريق أخرى، فعندها يجوز العمل به، وهذا الحكم ينطبق على كتب التزمت إخراج الصحيح في مصنفاتها كالبخاري ومسلم، فقد كثرت المعلقات في صحيح البخاري، إلا أنها جاءت موصولة ومسندة من طُرق أخرى كما سيأتي.

‌رابعاً معلقات صحيح البخاري:

بلغت الأحاديث المعلقة في صحيح البخاري «ألف وثلاث مائة وواحد وأربعون حديثا وأكثرها مكرر مخرج في الكتاب أصول متونه، وليس فيه من المتون التي لم تخرّج في الكتاب ولو من طريق أخرى إلا مائة وستون حديثا»

(2)

.

وقد برع الإمام البخاري رحمه الله في إيراد التعليقات في جامعه الصحيح وأكثر منها، وتفنن في وضعها في محلها، وخصوصاً في تراجم الأبواب، مراعياً شرطه الذي التزمه في الصحيح، وفوائد حديثية كثيرة

(1)

ينظر: منهج النقد في علوم الحديث، ص 374، وتحرير علوم الحديث، 2/ 851.

(2)

هدي الساري، ص 659.

ص: 188

‌خامساً أقسام المعلقات في الجامع الصحيح:

وقد تنوعت هذه التعاليق بين الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإما الوقف على الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وقد قسم العلماء معلقات البخاري إلى قسمين:

القسم الأول: ماجاء معلقاً في موضع من الصحيح وموصولاً في موضع آخر منه.

القسم الثاني: مالا يوجد فيه إلا معلقاً.

ويندرج تحت هذين القسمين، الصيغ التي كان يوردها البخاري:

ما علقه بصيغة الجزم، وهي على شرطه مثل: قال فلان، أو روى فلان، أو عن فلان، ويستفاد منها الصحة إلى من علق عنه.

ما علقه بصيغة الجزم، ولكن ليس على شرطه، قد يكون حسناً صالحا للحجة.

ما علقه بصيغة الجزم، ولكنها ضعيفة بسبب الانقطاع، وليس بسبب قدح في الرجال.

ما علقه بصيغة التمريض والتضعيف، عكس صيغة الجزم، مثل: رُويَ عن فلان، أويُذكر، أو يُقال

وهي صحيحة لكن ليست على شرطه، وهي يسيرة جداً، ويذكره البخاري معلقاً بالمعنى.

ما علقه بصيغة التمريض وهي حسنة، أقل درجة من السابقة.

ما علقه بصيغة التمريض وهي ضعيفة، لا جابر لها

(1)

.

(1)

هدي الساري، ص 21 - 22 - 23، بتصرف، وانظر الإيضاح في علوم الاصطلاح، ص 151 - 152، والمنهج الحديث في تسهيل علوم الحديث، د. علي نايف بقاعي، ص 101.

ص: 189

‌سادساً جواب العلماء على معلقات البخاري:

مما تواتر عند القاصي والداني، أن الإمام البخاري رحمه الله جمع في كتابه الصحيح ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك تلبية لرغبة شيخه:(إسحاق بن راهويه) الذي قال: «كنا عند إسحاق بن راهويه فقال لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصحيح»

(1)

.

وقد قال البخاري عن صفة الأحاديث التي جمعها في كتابه: «ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح»

(2)

.

ولما كان الحديث المعلق من أنواع الحديث المنقطع، للجهالة بحال الراوي المحذوف في السند فهو بالتالي من أنواع الحديث الضعيف، قد وُجه النقد للإمام البخاري لإيراده المعلقات في صحيحه، لأنها تخالف شرطه الذي التزم به، فأجاب العلماء على هذه الطعون وفندوها، وقد ألف الحافظ ابن حجر كتاباً في وصل تعليقات البخاري، أسماه:«تغليق التعليق» .

فقال فيه مبيناً الأسباب التي دفعت البخاري للتعليق: «إما لتكراره أو لأنه أسند معناه في الباب، ولو من طريق أخرى فنبه عليه بالتعليق اختصارا أو ليبين سماع أحد رواته من شيخه؛ إذا كان موصوفا بالتدليس، أو كان موقوفا لأن

(1)

هدي الساري ص 9.

(2)

المرجع السابق، ص 9، وقال نحوه في: الإرشاد في معرفة علماء الحديث، لأبي يعلى الخليلي، 3/ 962.

ص: 190

الموقوف ليس من موضوع الكتاب أو كان في رواته من لم يبلغ درجة الضبط والإتقان، أو إن كان ثقة في نفسه فلا يرتقي إلى شرط أبي عبدالله المؤلف في الصحيح فيعلق حديثه تنبيها عليه تارة أصلا، وتارة في المتابعات»

(1)

.

وبين ابن حجر كذلك أن الموقوفات من فتاوى الصحابة والتابعين، ومن تفاسيرهم للآيات إنما كان يوردها على سبيل التقوية لما يختاره من المذاهب في المسائل الخلافية، وأن التعاليق أكثر ما جاءت في تراجم الأبواب، وأن المقصود من كتاب البخاري هو الأحاديث الصحيحة المسندة، التي ترجم لها بالمعلق والآثار الموقوفة

(2)

.

وقال ابن الصلاح: «ما كان من ذلك أي المعلقات ونحوه بلفظ فيه جزم وحكم به على من علقه عنه، فقد حكم بصحته عنه

وقال أيضاً عن القسم الثاني: وأما ما لم يكن في لفظه جزم وحكم، مثل: روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، أو روي عن فلان كذا، أو في الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فهذا وما أشبهه من الألفاظ ليس في شيء منه حكم منه بصحة ذلك عمن ذكره عنه؛ لأن مثل هذه العبارات تستعمل في الحديث الضعيف أيضا. ومع ذلك فإيراده له في أثناء الصحيح مشعر بصحة أصله إشعارا يؤنس به ويركن إليه، والله أعلم»

(3)

.

وعلى هذا «فالمعلق مما في البخاري ومسلم ليس من قبيل الضعيف بل هو من قبيل الاختصار والتصرف، وإذا كان بعض المحدثين استعملوا لفظة (رُوي)

(1)

تغليق التعليق، 2/ 8.

(2)

هدي الساري بتصرف، ص 24.

(3)

علوم الحديث، ص 24 و 38.

ص: 191

وما أشبهها صيغة من صيغ التمريض، فإن ذلك لا يسلم لهم؛ فقد يكون من باب الاختصار فقط؛ إذ أن بناء الفعل للمجهول قد يكون للعلم به، وهذا موجود في كتب النحو، وعليه يُحمل ما جاء في البخاري ومسلم من هذا النوع»

(1)

.

ملاحظة: هذا الحكم في المعلقات إذا روى البخاري عن شيوخ شيوخه، ولكن قد يروي البخاري عن شيخه المباشر، بلفظ: قال فلان، بلفظ الجزم، ولم يكن بلفظ السماع فإن هذا يُعد من الصحيح المحمول على السماع، لأن البخاري التقى بشيخه المباشر وسمع منه، وروى عنه غالباً بصيغة السماع في أحاديث أخرى، وهو أدرى بشيخه، وقد يكون الحديث معروف الاتصال من غير جهة البخاري، ولأن هذا اللفظ تلقاه البخاري عن شيخه عرضاً ومناولة.

قال أبو جعفر ابن حمدان النيسابوري

(2)

: «كل ما قال البخاري: «قال لي فلان» فهو عرض ومناولة»

(3)

.

وقال كذلك ابن الصلاح: «إن وقع الحذف في كتاب التزمت صحته،

(1)

بلوغ الآمال من مصطلح الحديث والرجال، ص 227 - 228.

(2)

أبو جعفر أحمد بن حمدان بن علي بن سنان الحيري النيسابوري، والد الشيخين: أبي العباس محمد، وأبي عمرو محمد.، الحافظ الحجة، أحمد بن الأزهر، وعبدالله بن هاشم الطوسي، وغيرهما، كان من أوعية العلم، له: الصحيح المستخرج على صحيح مسلم، (ت 311 هـ)، ينظر سير أعلام النبلاء، 11/ 184.

(3)

علوم الحديث، ابن الصلاح ص 70، والمنهل الروي، ص 50، وقد نقله الذهبي في السير عن الحاكم: عن ابنه أبي عمرو عنه، 14/ 300.

ص: 192

كالبخاري، فما أتى فيه بالجزم دل على أنه ثبت إسناده عنده، وإنما حذف لغرض من الأغراض»

(1)

.

وقد مثّل الأستاذ الدكتور نور الدين عتر على هذا فقال: «ومن هذا البيان يتضح خطأ علي بن حزم الظاهري في رده لحديث البخاري قال: وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الْكِلَابِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الأَشْعَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الأَشْعَرِيُّ وَاللهِ مَا كَذَبَنِي سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ

(2)

.

فزعم ابن حزم أنه وإن رواه البخاري فهو غير صحيح، لأن البخاري قال فيه:«قال هشام بن عمار» . فهو منقطع ضعيف، واستروح ابن حزم إلى ذلك من أجل تقرير مذهبه الفاسد في إباحة الملاهي، وزعمه أنه لم يصح في تحريمها حديث»

(3)

.

وقد قال ابن الصلاح رداً على ابن حزم: «والبخاري رحمه الله قد يفعل ذلك، لكون ذلك الحديث معروفا من جهة الثقات عن ذلك الشخص الذي علقه عنه، وقد يفعل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسندا متصلا وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل

(1)

نزهة النظر، ابن حجر، ص 100.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الأشربة، باب: مَا جَاءَ فِيمَنْ يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ وَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ رقم (5239).

(3)

منهج النقد، ص 376، وينظر قول الصنعاني، في توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار، 1/ 127.

ص: 193

الانقطاع، والله أعلم»

(1)

.

وقد قال الكرماني عن هذا الحديث: «المشهور عند المحدثين أنه يقال حدثنا وأخبرنا إذا كان الكلام على سبيل النقل والتحميل، وأما إذا كان على سبيل المذاكرة يقال: قال»

(2)

.

‌سابعاً

[*]

منهج الكرماني في دراسة معلقات البخاري:

نهج الكرماني في شرحه دراسة تعاليق البخاري، بالإجابة عنها تارة، وبيان أسبابها تارة أخرى، رادّاً للشبهة عن الصحيح ومدافعاً عنه، وقد بذل الجهد والوسع في ذلك، فخرج بأجوبة مقنعة مستنداً في ذلك على أقوال المحدثين.

وقد تبين للباحث عناية الكرماني في المعلقات بالأمور الآتية:

‌1 - بيان صيغ البخاري في التعليق

(الجزم والتمريض وما يتبعهما ويدل عليهما).

2 -

ذكر أسباب التعليق عند البخاري.

3 -

بيان الفوائد من تعليقات البخاري.

4 -

وصل التعاليق، وتخريجها.

1 -

بيان صيغ البخاري في التعليق:

‌أ - صيغة الجزم:

مر سابقاً أن البخاري كان يتحرى الدقة في إطلاق الألفاظ، إذ أن لكل

(1)

علوم الحديث، ص 68.

(2)

الكواكب الدراري، 20/ 147، وينظر أقوال المحدثين، علوم الحديث، ص 69، 70، والتقريب والتيسير للنووي، ص 67.

[*] تعليق الشاملة: في المطبوع «سادسًا»

ص: 194

لفظ مدلول وخصوصا صيغ التحمّل والأداء، قال ابن حجر: «وقد اعتنى البخاري رحمه الله باعتبار هاتين الصيغتين يعني الجزم والتمريض وإعطائهما حكمهما في صحيحه فيقول في الترجمة الواحدة بعض كلامه بتمريض وبعضه بجزم مراعيا ما ذكرنا وهذا مشعر بتحريه وورعه وعلى هذا فيحمل قوله

ما أدخلت في الجامع إلا ما صح أي مما سقت إسناده والله تعالى أعلم»

(1)

.

وقد بيّن ابن الصلاح أن صيغة الجزم يسُتفاد منها الصحة على من علّق عليه، ولم يفت الكرماني أن ينبه لهذا فقال ناقلاً عن النووي:«قال العلماء إذا كان الحديث ضعيفاً لا يقال فيه قال لأنه من صيغ الجزم بل يقال: حُكِيَ أو قيل أو يقال بصيغة التمريض وقد اعتنى البخاري وهذا مما يزيدك معرفة للفرق في صحيحه فيقول تارة بلفظ الجزم، وأخرى بلفظ التمريض وهذا مما يزيدك اعتقادا في جلالته وتحقيقه»

(2)

.

مثاله: قال البخاري في: بابٌ الإِيمَانِ وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَمْسٍ «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى: «باب: الإِيمَانِ وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ

وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ إِنَّ لِلإِيمَانِ فَرَائِضَ

»

(3)

.

قال الكرماني: «قوله: «وكتب» هذا تعليق ذكره بصيغة الجزم وهو حكم منه بصحته»

(4)

.

(1)

هدي الساري، 23 - 24.

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 41، وينظر قول النووي في شرحه على مسلم، 1/ 71.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان.

(4)

الكواكب الدراري، 1/ 71.

ص: 195

ومن ذلك: قال البخاري: «باب رَفْعِ الْعِلْمِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ. وَقَالَ رَبِيعَةُ لَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ عِنْدَهُ شَىْءٌ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يُضَيِّعَ نفسه»

(1)

.

قال الكرماني: «وهذا تعليق من البخاري يقصد وقال ربيعة بصيغة الجزم الدالة على أنه من تصحيحات التعليق لا من تمريضاتها»

(2)

.

ومن ذلك قال البخاري: «وَقَالَ لِي يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ

وَقَالَ لِي عَيَّاشٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ مِثْلَهُ قِيلَ لَهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ نَعَمْ ثُمَّ قَالَ اللهُ أَعْلَمُ»

(3)

.

قال الكرماني: «قوله «الله أعلم» فإن قلت هذا يستعمل في مقام التردد، ولفظ نعم حيث قال أولا يدل على الجزم، قلت: جزم به حيث سمعه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحيث كان خبر الواحد غير مفيد لليقين؛ أظهر للتردد فيه أو حصل له بعد الجزم، تردد أو لا يلزم أن يكون استعماله للتردد والله أعلم»

(4)

.

‌ب - اجتماع صيغتي الجزم والتمريض:

قد يروي البخاري تعليقاً تارة بصيغة الجزم، وأخرى بصيغة التمريض، قال البخاري في كتاب: الغسل «حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «كَانَتْ بَنُو

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم.

(2)

الكواكب الدراري، 259.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الصوم، بَاب: الْحِجَامَةِ وَالْقَيْءِ لِلصَّائِمِ.

(4)

الكواكب الدراري، 9/ 113.

ص: 196

إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً

فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاللهِ إِنَّهُ لَنَدَبٌ بِالْحَجَرِ سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ ضَرْباً بِالْحَجَرِ»

(1)

.

ثم ساق البخاري بعده تعليقاً بصيغة التمريض عن أبي هريرة: «وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَاناً فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ»

(2)

.

قال الكرماني: «قوله (وعن أبي هريرة) هذا تعليق، فإن قلت لم قال أولا قال أبو هريرة وثانياً عن أبي هريرة. قلت إشارة إلى أن الأول تعليق بصيغة التصحيح لما فيه من الجزم، والثاني تعليق بصيغة التمريض»

(3)

.

ومثله: قال البخاري: «وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلاَّ خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذَّباً. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ

وَيُذْكَرُ عَنِ الْحَسَنِ مَا خَافَهُ إِلاَّ مُؤْمِنٌ، وَلَا أَمِنَهُ إِلاَّ مُنَافِقٌ. وَمَا يُحْذَرُ مِنَ الإِصْرَارِ»

(4)

.

قال الكرماني: «قوله: «ويذكر عن الحسن» أي البصري. فإن قلت فلم قال فيما علق عن إبراهيم وعن ابن أبي مليكة بلفظ: قال وفيما علق عن الحسن بلفظ: يذكر. قلت ليشعر بأن قوله: ما ثبت عنده صحيح الإسناد لأنه قال هو

(1)

أخرجه البخاري، باب: مَنِ اغْتَسَلَ عُرْيَاناً وَحْدَهُ فِي الْخَلْوَةِ، وَمَنْ تَسَتَّرَ فَالتَّسَتُّرُ أَفْضَلُ، رقم (276).

(2)

أخرجه البخاري في ذات الكتاب، والباب، رقم (277).

(3)

الكواكب الدراري، 3/ 142.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: خَوْفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُر.

ص: 197

صيغة الجزم، وصريح الحكم بأنه صدر منه ومثله يسمى تعليقاً بصيغة التصحيح بخلاف يُذكر فإنه لا جزم فيه فيُعلم أن فيه ضعفاً ومثله تعليق بصيغة التمريض»

(1)

.

ومن صنيع البخاري: تقديم الحديث الموقوف المعلق المروي بصيغة الجزم، على الحديث المرفوع المعلق المروي بصيغة التمريض.

مثاله: «وَقَالَ عُمَرُ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ وَيُرْوَى عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ»

(2)

.

قال الكرماني: «فإن قلت فذكْرُ عمر يكون مكررا، قلت فيه فوائد الأولى أنه تعليق بصيغة التصحيح أي وقال عمر وهذا بصيغة التمريض أي ويُروى عن عمرو، وهو بدون الزيادة وهذا معها، وهو غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهذا مرفوع إليه ومع هذا فالصحيح هو الأول»

(3)

.

ومن ذلك ما قاله ابن الصلاح: «أن صيغة الجزم يسُتفاد منها الصحة على من علّق عليه، ولا يدل على صحة كل الإسناد»

(4)

روى البخاري في صحيحه:

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 187 - 188، وقد علق الكرماني على صيغ البخاري في التمرض مثل:(عن إبراهيم) 2/ 209، و (وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) 4/ 30، و (لفظ: لم يصح) 11/ 138.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الحرث، بَاب مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا وَرَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ فِي أَرْضِ الْخَرَابِ بِالْكُوفَةِ مَوَاتٌ.

(3)

الكواكب الدراري، 10/ 159.

(4)

علوم الحديث، ص 24.

ص: 198

«وَقَالَ بَهْزٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «اللهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ»

(1)

.

قال الكرماني: «قال الحاكم أبو عبدالله بهز

(2)

كان من الثقات ممن يجمع حديثه وإنما سقط من الصحيح روايته عن أبيه عن جده لأنها شاذة، ولا متابع له فيها وقال الخطيب حدث عنه الزهري، ومحمد بن عبدالله الأنصاري وبين وفاتيهما إحدى وتسعون سنة وحكيم تابعي ثقة ومعاوية قال صاحب الكمال أنه صحابي وظاهر لفظ البخاري أيضاً مشعر بذلك»

(3)

.

وقال ابن حجر في الفتح: «فالإسناد إلى بهز صحيح ولهذا جزم به البخاري وأما بهز وأبوه فليسا من شرطه ولهذا لما علق في النكاح شيئا من حديث

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الغسل، باب: مَنِ اغْتَسَلَ عُرْيَاناً وَحْدَهُ فِي الْخَلْوَةِ، وَمَنْ تَسَتَّرَ فَالتَّسَتُّرُ أَفْضَلُ.

(2)

قال ابن عدي الجرجاني: «بهز بن حكيم هذا قد روى عنه ثقات الناس وقد روى عنه الزهري وجماعة من الثقات، وأرجو أنه لا بأس به في رواياته ولم أر أحدا تخلف في الرواية من الثقات ولم أر له حديثا منكرا وأرجو أنه إذا حدث عنه ثقة فلا بأس بحديثه» الكامل، في ضعفاء الرجال، 2/ 254، والمغني في الضعفاء، للذهبي

1 -

/ 116، وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب:«عن يحيى بن معين: «ثقة» ، وقال أيضا «إسناد صحيح إذا كان دون بهز ثقة» » 1/ 498.

(3)

الكواكب الدراري، 3/ 140، وينظر، التلخيص الحبير لابن حجر، 1/ 504، توجيه النظر إلى أصول الأثر، للشيخ طاهر الجزائري، قد جاء بهذا المثال (حذف الراوي من حدثه ويضيفه إلى من فوقه) ص 554.

ص: 199

جد بهز لم يجزم به بل قال ويذكر عن معاوية بن حيدة

(1)

فعرف من هذا أن مجرد جزمه بالتعليق لا يدل على صحة الإسناد إلا إلى من علق عنه وأما ما فوقه فلا يدل»

(2)

.

إذاً ألفاظ الجزم: قال، نعم، وكتب، وقال لي فلان

، وألفاظ التمريض: الله أعلم، يُذكر، يُروى، يُقال

‌2 - ذكر أسباب التعليق عند البخاري:

أثناء تتبع واستقراء الكرماني لمعلقات البخاري، كان يذكر أسباب التعليق ويدلل عليها ويناقشها، مما يدل على نظره الثاقب، وصنعته الحديثية المميزة، فمن هذه الأسباب:

‌أ - ما يتعلق بالراوي:

‌1 - عدم إدراك البخاري لزمن الراوي الذي يروي عنه:

من شرط الاتصال في السند اللقاء والمعاصرة بين الراوي ومن روى عنه هذا شرط البخاري في صحيحه وعند غيره إمكان اللقاء، أما إذا لم يتم اللقاء، أو لم يدرك الراوي زمن الذي روى عنه فإنه لا مجال لاتصال السند، فلذلك كان من عادة المصنفين الدقة في تحري لفظ التلقي والأداء، فإن كان التلقي يفيد الاتصال، عبروا عنه بصيغة تفيد السماع، وإن كان غير ذلك عبروا عنه بصيغة

(1)

والحديث بتمامه: «وَيُذْكَرُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ رَفْعُهُ غَيْرَ أَنْ لَا تُهْجَرَ إِلَّا فِي الْبَيْتِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ» أخرجه البخاري، كتاب: النكاح، بَاب: هِجْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ فِي غَيْرِ بُيُوتِهِنَّ.

(2)

فتح الباري: 1/ 386.

ص: 200

التعليق والانقطاع.

مثاله: قال البخاري: «قَالَ مَالِكٌ أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَنَّ عَطَاءَ ابْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِي

»

(1)

.

قال الكرماني: «قوله: (قال مالك) أعلم أنه لم يدرك زمن مالك فهذا تعليق منه بلفظ جازم فهو صحيح ولا قدح فيه»

(2)

.

ومنه: ما رواه في كتاب الوضوء فقال: «وَقَالَ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ إِذَا أَتَى الْخَلَاءَ

»

(3)

.

قال الكرماني: «وذكره البخاري تعليقا لأنه لم يدرك زمانه»

(4)

.

ومنه ما أخرجه في كتاب: الحيض، قال:«تَابَعَهُ خَالِدٌ وَجَرِيرٌ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ»

(5)

.

قال الكرماني: «قوله (خالد) أي ابن عبدالله الواسطي أبو الهيثم الطحان

مات بواسط سنة اثنتين وثمانين ومائة وهذا تعليق لأنه لم يدرك عصره»

(6)

.

ومن ذلك: أخرج البخاري في كتاب التهجد، «وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: حسن إسلام المرء.

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 167، إذ أن البخاري ولد سنة، (194 هـ) وتوفي سنة (256 هـ) والإمام مالك توفي سنة (179 هـ).

(3)

أخرجه البخاري، باب: مَا يَقُولُ عِنْدَ الْخَلَاءِ، رقم (142).

(4)

الكواكب الدراري، 2/ 185.

(5)

أخرجه البخاري، باب: مباشرة الحائض.

(6)

الكواكب الدراري، 3/ 167.

ص: 201

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ هُرْمُزَ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ

»

(1)

.

قال الكرماني: «قوله: وقال الليث، تعليق من البخاري لأنه لم يدرك عصره»

(2)

.

ومن ذلك قال محمد بن إسماعيل البخاري: «وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَطَاءٍ وَقَالَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم»

(3)

.

قال الكرماني: «وذكر البخاري رواية إسمعيل متابعة واستشهادا لتقوية

ما تقدم وهذا تعليق عن البخاري لأنه لم يدركه إذ هو إسمعيل بن علي وهو مات في عام ولادة البخاري سنة أربع وتسعين ومائة»

(4)

.

‌2 - ما كان بسبب علة في الراوي:

كأن يكون الحديث الذي رواه الراوي ليس على شرط البخاري.

مثاله: «باب قَوْلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «الدِّينُ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ»

(5)

.

قال الكرماني: «ولم يذكر البخاري إسناد هذا الحديث، لأن راوي هذا من طريق تميم الداري، وهو أشهر طرقه سهيل بن أبي صالح وليس سهيل من

(1)

أخرجه البخاري، باب: إِذَا دَعَتِ الأُمُّ وَلَدَهَا فِي الصَّلَاةِ.

(2)

الكواكب الدراري، 7/ 25.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، بَابُ: عِظَةِ الإِمَامِ النِّسَاءَ وَتَعْلِيمِهِنَّ. رقم (97).

(4)

الكواكب الدراري، 2/ 92.

(5)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» .

ص: 202

شرطه»

(1)

.

ومثله: «وَقَالَ بَهْزٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «اللهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ»

(2)

قال الكرماني ناقلاً عن الحاكم: «كان من الثقات ممن يجمع حديثه وإنما سقط من الصحيح روايته عن أبيه عن جده لأنها شاذة، ولا متابع له فيها»

(3)

فالإسناد إلى بهز صحيح، أما بهز وأبوه ليسا من شرط البخاري.

‌ب - كون الحديث موصولاً من رواية أخرى:

من عادة الإمام البخاري في التعليق، أن يروي الحديث معلقاً تارة، وتارة موصولاً في صحيحه، وقد يكون موصولاً في غيره، وله في ذلك أغراض وفوائد شتى.

من ذلك: قال البخاري: «قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللهِ الأَنْصَارِيَّ، قَالَ، وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الوَحْيِ

»

(4)

.

قال الإمام الكرماني: «ومثل هذا أي ما لم يذكر من أول الإسناد واحدا أو

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 218، والحديث أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الإيمان، باب: بَيَانِ أَنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، رقم (95) وهو من أفراد مسلم كما أشار الكرماني، 1/ 217، وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب عن: سهيل بن أبي صالح روى له البخاري مقرونا بغيره، 4/ 263.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الغسل، باب: مَنِ اغْتَسَلَ عُرْيَاناً وَحْدَهُ فِي الْخَلْوَةِ، وَمَنْ تَسَتَّرَ فَالتَّسَتُّرُ أَفْضَلُ.

(3)

الكواكب الدراري، 3/ 140.

(4)

أخرجه البخاري، باب: كيف كان بدء الوحي، رقم (3).

ص: 203

أكثر، يسمّى تعليقاً ولا يذكره البخاري إلاّ إذا كان مسنداً عنده، إما بالإسناد المتقدّم كأنّه قال حدثنا يحي ابن بكير حدّثنا الليث عن عقيل أنّه قال ابن شهاب أو بإسناد آخر وقد ترك الإسناد ههنا لغرض من الأغراض المتعلقة بالتعليق لكون الحديث معروفا من جهة الثقات كونه مذكورا في مواضع أخر أو نحوه»

(1)

.

ومنه قال البخاري: «وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ أَخْبَرَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ فَانْصَرَفَ

»

(2)

قال الكرماني: «قوله «قال أبو أسامة» أي حماد وههنا ذكره البخاري تعليقا وثمت ذكره مسنداً»

(3)

.

ومن ذلك: «وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِصَاحِبِ الْقَبْرِ «كَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ» . وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَى بَوْلِ النَّاسِ»

(4)

.

قال الكرماني: «قوله: قال النبي صلى الله عليه وسلم (هذا تعليق من البخاري وتقدم إسناده في الباب المتقدم عليه»

(5)

.

ومنه قال أبو عبدالله البخاري: «وَيُذْكَرُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ أَجْنَبَ فِي لَيْلَةٍ

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 41.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الخسوف، باب: قَوْلِ الْإِمَامِ فِي خُطْبَةِ الْكُسُوفِ أَمَّا بَعْدُ.

(3)

الكواكب الدراري، 6/ 145، وقد أخرج البخاري الحديث مسنداً في ذات الكتاب، باب: الذِّكْرِ فِي الْكُسُوفِ، رقم (1004).

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: مَا جَاءَ فِي غَسْلِ الْبَوْلِ.

(5)

الكواكب الدراري، 3/ 67.

ص: 204

بَارِدَةٍ فَتَيَمَّمَ

»

(1)

قال الكرماني: «ولفظ (يذكر) تعليق تمريض وأسنده أبو داود

(2)

وزاد فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك»

(3)

.

‌ج - يعلق البخاري الحديث على حسب تلقي الراوي:

قد يروي الراوي الحديث مرة موصولاً، ومرة منقطعاً أو مرسلاً، فيذكر البخاري رواية الوصل، ورواية الانقطاع.

مثاله قال البخاري: «وَقَالَ طَاوُسٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} أَعْطِيَا {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} أَعْطَيْنَا وَقَالَ الْمِنْهَالُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ

قَالَ أَبُو عَبْداللهِ حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ عَدِيٍّ حَدَّثَنَا عُبَيْدُاللهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ عَنْ الْمِنْهَالِ بِهَذَا»

(4)

.

قال الإمام الكرماني: «فإن قلت لم علق البخاري عنه أولاً وأسند آخراً

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: التيمم، باب: إِذَا خَافَ الْجُنُبُ عَلَى نَفْسِهِ الْمَرَضَ أَوِ الْمَوْتَ أَوْ خَافَ الْعَطَشَ، تَيَمَّمَ.

(2)

ورواية أبو داود هي: «عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السُّلَاسِلِ فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ فَتَيَمَّمْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟» فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الِاغْتِسَالِ وَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ اللهَ يَقُولُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا» أخرجه أبو داود، كتاب: الطهارة، باب: إذا خاف الجنب البرد تيمم، رقم (334).

(3)

الكواكب الدراري، 3/ 229.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: سورة حم السَّجْدَةِ.

ص: 205

قلت لعله سمع أولاً مرسلاً وآخراً مسنداً فنقله كما سمعه»

(1)

.

‌د - يعلق البخاري الحديث للاختلاف في صحته:

مثاله: قال أبو عبدالله البخاري: «وَكَانَ الْحَسَنُ لَا يَرَى لَهُ وِلَايَةً وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَيُذْكَرُ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَفَعَهُ قَالَ هُوَ

»

(2)

.

قال الكرماني: «واختلف أهل الحديث في صحته ولهذا ذكر البخاري في التعليق بصيغة التمريض»

(3)

.

بالإضافة إلى لفظ التمريض، قد يشير البخاري إلى وجود نظر في السند، مثاله قال البخاري:«وَيُذْكَرُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «يَزُرُّهُ وَلَوْ بِشَوْكَةٍ» . فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ

»

(4)

.

قال الكرماني: «قوله (ويذكر) هذا تعليق بصيغة التمريض ولذلك قال في إسناده نظر»

(5)

.

(1)

الكواكب الدراري 1876.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الفرائض، بَاب: إِذَا أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ.

(3)

الكواكب الدراري، 23/ 173.

(4)

أخرجه البخاري، كتب: الصلاة، باب: وُجُوبِ الصَّلَاةِ فِي الثِّيَابِ وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وَمَنْ صَلَّى مُلْتَحِفاً فِي ثَوْبٍ وَاحِد.

(5)

الكواكب الدراري، 4/ 10، وقد بين ابن حجر قول البخاري:(في إسناده نظر) فقال: «وقد وصله المصنف في تاريخه وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان واللفظ له من طريق الدراوردي عن موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة عن سلمة ابن الأكوع قال قلت يا رسول الله إني رجل أتصيد أفأصلي في القميص الواحد قال نعم زره ولو بشوكة ورواه البخاري أيضا عن إسماعيل بن أبي أويس عن أبيه عن موسى بن إبراهيم عن أبيه عن سلمة زاد في الإسناد رجلا ورواه أيضا عن مالك بن إسماعيل عن عطاف بن خالد قال حدثنا موسى بن إبراهيم قال حدثنا سلمة فصرح بالتحديث بين موسى وسلمة فاحتمل أن يكون رواية أبي أويس من المزيد في متصل الأسانيد أو يكون التصريح في رواية عطاف وهما فهذا وجه النظر في إسناده» فتح الباري، 1/ 464 - 465.

ص: 206

‌هـ - التعليق بسبب نقل الحديث بالمعنى:

قال الحافظ ابن حجر: «لا يخص صيغة التمريض بضعف الإسناد، بل إذا ذكر المتن بالمعنى أو اختصره أتى بها أيضا لما علم من الخلاف في ذلك»

(1)

.

من ذلك قال الإمام البخاري: «باب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ»

(2)

قال الكرماني: «وهذا الحديث رواه معلقا وهو إما معنى الحديث الذي ذكره بعد الإسناد، فهو من باب نقل الحديث بالمعني، وإما أنه ثبت عنده بهذا اللفظ من طريق آخر»

(3)

.

ومنه مارواه البخاري: «وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ فَرُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ، فَنَزَفَهُ

»

(4)

.

قال الكرماني: «ويذكر هذا تعليق أيضا ولكنه بصيغة التمريض بخلاف

(1)

فتح الباري، 1/ 111.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم.

(3)

الكواكب الدراري، 2/ 27.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: مَنْ لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ إِلاَّ مِنَ الْمَخْرَجَيْنِ، مِنَ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ.

ص: 207

قال ونحوه فانه تعليق بصيغة التصحيح مجزوما به»

(1)

.

وقد ذكر ابن حجر أن هذا التعليق صححه ابن خزيمة، وابن حبان والحاكم كلهم من طريق ابن إسحاق وشيخه صدقة ثقة، وعقيل لا أعرف راويا عنه غير صدقة ولهذا لم يجزم به المصنف أو لكونه اختصره أو للخلاف في ابن إسحاق»

(2)

.

إلا أن البدر العيني في عمدة القاري اعترض على كلام الكرماني وابن حجر فقال: «قلت: هذا أبعد من تعليل الكرماني، فإن كون الحديث مختصرا لايستلزم أن يذكر بصيغة التمريض، والصواب فيه أن يقال: لأجل الاختلاف في ابن إسحاق»

(3)

.

‌3 - بيان الفوائد من تعليقات البخاري:

إن لرواية البخاري للحديث المعلق في الصحيح لها فوائد شتى، يتجلى أهمها في بيان طرق الحديث، وذكر وبيان ما خفي من بعضها، فقد كان من صنيع البخاري أن جعل العلاقة وثيقة بين المعلقات والمتابعات، فمن هذه الفوائد:

1 -

فوائد متعلقة بالسند، 2 فوائد متعلقة بالمتن.

‌1 - الفوائد المتعلقة بالسند وذلك من خلال:

‌أ - تقوية الإسناد:

وذلك عن طريق بيان سماع الراوي من شيخه، إذا كان الراوي موصوفاً

(1)

الكواكب الدراري، 25/ 179.

(2)

فتح الباري، 1/ 281.

(3)

/ 50.

ص: 208

بالتدليس، وذلك عن طريق ورود التصريح بالسماع من طريق أخرى.

مثاله: روى البخاري بسنده: «حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ ح وَحَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ

وَقَالَ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبَانُ قَالَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ مِثْلَهُ»

(1)

.

قال الإمام الكرماني: «ولما روى قتادة أولا بلفظ عن وهو من المدلسين ذكر ثانياً بلفظ قال أخبرنا الحسن إشعاراً على التصريح بسماعه من الحسن»

(2)

.

ومنه: قال البخاري: «حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو ابْنِ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَساً ح قَالَ وَحَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ. قُلْتُ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ قَالَ يُجْزِئُ

»

(3)

.

قال الكرماني مبينا فوائد البخاري من ذكر السند الثاني: «أن سفيان من المدلسين والمدلس لا يحتج به الا أن يثبت سماعه من طريق آخر فذكر الطريق الثاني المصرح بالسماع فقال قال حدثني عمرو»

(4)

.

ومن ذلك قال أبو عبدالله البخاري: «حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الغسل، باب: إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ، رقم (289).

(2)

الكواكب الدراري، 3/ 154.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: الْوُضُوءِ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ، رقم (213).

(4)

الكواكب الدراري، 3/ 62.

ص: 209

إِلاَّ اللهُ

» قَالَ أَبُو عَبْدِاللهِ قَالَ أَبَانُ حدّثَنا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ

»

(1)

.

قال الكرماني مبيناً فوائد هذا التعليق: «ذكر البخاري عنه تعليقاً أي أبان وهو أبو يزيد البصري العطار لعدم تلاقيهما وذكره متابعة لا تأصلاً، إما لضعفه أو لغيره، وإما لضعف شيخه ونحوه،

واعلم أن فيه فوائد. الأولى: ما في سائر المتابعات من التقوية والثانية: ما في ذكر الإيمان بدل الخير والثالثة بيان الاحتجاج به لأن قتادة مدلس

(2)

لا يحتج بعنعنته إلا إذا ثبت سماعه لذلك الذي عنعن وقد وقع في الرواية الأولى عنه وهي رواية هشام بالعنعنة حيث قال عن أنس فإذا ثبت من رواية أبان عنه التحديث والسماع إذ قال: حدثنا أنس علمنا اتصال عنعنته واحتججنا بها وعلى هذا يحمل ما في الصحيحين من هذا النوع»

(3)

.

أي أن الرواية الأولى جاء فيها: «حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ» وجاء في التعليق من رواية أبان التصريح بالسماع، بقوله:«حدّثَنا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ» .

ومثله: قال البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة «دَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ وَمُوسَى

ابْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَا حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا

وَقَالَ حَبَّانُ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: زِيَادَةِ الإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ. رقم (42).

(2)

ينظر: تهذيب التهذيب، 8/ 351، وميزان الاعتدال، 3/ 385.

(3)

الكواكب الدراري، 1/ 174.

(4)

أخرجه البخاري، باب: مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا وَلَا يُعِيدُ إِلاَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ، رقم (574).

ص: 210

قال الكرماني: «والظاهر أنه تعليق أي قول حبان وذكره البخارى لأن قتادة من المدلسين وروى أولا عنه بلفظ عن أنس فأراد أن يقويه بالرواية عنه بلفظ حدثنا أنس»

(1)

.

ومن ذلك قال البخاري: «حَدَّثَنَا عَلِيٌّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَبْصَرَ نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَحَكَّهَا بِحَصَاةٍ

وَعَنِ الزُّهْرِيِّ سَمِعَ حُمَيْداً عَنْ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوَهُ»

(2)

.

قال الكرماني: «وعن الزهري تعليق وغرضه منه بيان أن الزهري رواه بطريق السماع أيضاً كما روى معنعناً في الإسناد الأول»

(3)

.

ومنه روى البخاري: «حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعَ أَنَسًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم»

(4)

.

قال الكرماني: «ولما كان قتادة مدلسا قوي الإسناد الأول بهذا حيث قال سمع أنسا إذ فيه التصريح بسماعه»

(5)

.

(1)

الكواكب الدراري، 4/ 233.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: ليبصق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى، رقم (406).

(3)

الكواكب الدراري، 4/ 73.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: الزكاة، بَاب: إِذَا تَحَوَّلَتْ الصَّدَقَةُ، رقم (1409).

(5)

الكواكب الدراري، 8/ 39.

ص: 211

ومن ذلك ما رواه البخاري: «حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ سَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

وقَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ وَمُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا وَقَالَ عَائِذًا بِاللهِ مِنْ شَرِّ الْفِتَنِ»

(1)

.

قال الكرماني مبيناً فائدة التعليق: «وحيث قال البخاري قال فلان فيه إشارة إلى أنه أخذه مذاكرة لا تحديثا وتحميلا وأراد بذكره ههنا التصريح بسماع سعيد عن قتادة عن أنس»

(2)

.

إذاً إيراد البخاري للمعلق بالأمثلة السابقة من أجل إثبات سماع قتادة الموصوف بالتدليس ولا تذهب عنه هذه الصفة إلا بإثبات السماع.

وقد يكون التعليق من أجل بيان متابعة الراوي، والإشارة إلى الفرق

بين الألفاظ، ومثاله ما رواه البخاري: «حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ أَخْبَرَنَا النَّضْر قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ ذَكْوَانَ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ

تَابَعَهُ وَهْبٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ. قَالَ أَبُو عَبْدِاللهِ وَلَمْ يَقُلْ غُنْدَرٌ وَيَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ الْوُضُوءُ»

(3)

.

قال الكرماني: «ولفظ لم يقل كلام البخاري، وهو تعليق قطعاً لأنه لم يدركهما وغرضه أنهما يتابعان أيضاً في هذا الإسناد عن شعبة لكنهما لم يذكرا لفظ

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الفتن، بَاب: التَّعَوُّذِ مِنْ الْفِتَنِ، رقم (6663).

(2)

الكواكب الدراري، 24/ 167.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: مَنْ لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ إِلاَّ مِنَ الْمَخْرَجَيْنِ، مِنَ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ، رقم (179).

ص: 212

الوضوء، قالا فعليك فقط بحذف المبتدأ، وجاز ذلك لقيام القرينة عليه والمقدر عند القرينة كالملفوظ»

(1)

.

‌ب - بيان طرق الحديث ومافيها من فوائد إسنادية:

من المعلوم أن ورود طرق أخرى للحديث ولوتعليقاً يزيل إشكالات كثيرة عنه في السند والمتن معاً.

من ذلك بيان اسم الراوي الذي أُبهم، قال البخاري: «حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ وَإِسْمَاعِيلَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

».

وقَالَ أَبُو عَبْدِاللهِ وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا دَاوُدُ عَنْ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَاللهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم».

وَقَالَ عَبْدُ الأَعْلَى عَنْ دَاوُدَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَبْدِاللهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

بيّن الكرماني أن:

روايته عن أبي معاوية على سبيل التعليق لأنه لم يدركه لذلك لم يقل حدثنا أو أخبرنا، وقد ساقه للمتابعة والتقوية.

وراعى أيضاً دقيقة حيث قال في طريق أبي معاوية: سمعت عبدالله وفي طريق عبد الأعلى عن عبدالله إشعاراً بالفرق بينهما ولا يخفى أن الأول أولى.

(1)

الكوكب الدراري، 3/ 20.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، رقم (9).

ص: 213

واعلم أن عامراً في التعليقين هو الشعبي المذكور، كما أن عبدالله فيهما هو عبدالله بن عمرو المذكور»

(1)

.

فبين في التعليق الثاني أن عبدالله الذي أُبهم في رواية عبد الأعلى هو عبدالله ابن عمروٍ الذي بُيّن في رواية أبي معاوية

(2)

.

كما أزالت رواية التعليق الأولى، والثانية الخلاف في اسم الشعبي وقد يُظن أنه غير المقصود إذ ورد اسمه بالرواية الأولى المسندة الموصولة ب (الشعبي) وورد في الأخريين أنه:(عامر) فعرف أنه عامر الشعبي لا سواه.

‌2 - الفوائد المتعلقة بالمتن وذلك من خلال:

‌1 - بيان حقيقة الأمر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم

-:

مثاله:

قال البخاري: في باب مَا جَاءَ فِي الْوُضُوءِ: «وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قَالَ أَبُو عَبْدِاللهِ وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ فَرْضَ الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً وَتَوَضَّأَ أَيْضاً مَرَّتَيْنِ وَثَلَاثاً، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلَاثٍ

»

(3)

.

قال الإمام الكرماني: (قوله: أبو عبدالله، أي البخاري وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا وتوضأ، كلاهما تعليق منه وكان غرضه من لفظ وبيّن الإشارة إلى أن الأمر

(1)

الكواكب الدراري ببعض التصرف، 1/ 90.

(2)

عمدة القاري، 1/ 134.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء.

ص: 214

من حيث هو لإيجاد حقيقة المشي المأمور به، لا مقتضيا للمرة ولا للتكرار محتملا لهما، فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد منه المرة حيث غسل مرة واحدة واكتفى بها؛ إذ لو لم يكن الغرض إلا مرة واحدة لو يجز الاجتزاء بها، والغرض من وتوضأ مرتين وثلاثا الإشارة إلى أن الزيادة عليها مندوب، إليها لأن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على الندب غالبا، إذ لم يكن دليل على الوجوب لكونه بيانا للواجب مثلا»

(1)

.

‌2 - إزالة شك الراوي في لفظ الحديث:

من ذلك: قال البخاري: «حَدَّثنا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَمْرِو ابْنِ يَحْيَى المَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَدْخُلُ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ

فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الحَيَا، أَوِ الحَيَاةِ، شَكَّ مَالِكٌ

قَالَ وُهَيْبٌ: حَدَّثنا عَمْرٌو: الحَيَاةِ»

(2)

أي شك مالك هل هي: (الحيا) أم (الحياة)؟

قال الكرماني مبينا رواية التعليق لإزالة شك مالك: «ذكره البخاري على سبيل التعليق لأنه لم يدركه ومعناه: قال وهيب حدثنا عمرو عن أبيه عن أبي سعيد بهذا الحديث، وقال فيه نهر الحياة بالهاء، ولم يشك كما شك مالك، وقال بدل من إيمان من خير والمراد من الخير الإيمان إذ هو أصل الخيور ولا خير أعظم منه ويجوز أن يقرأ الحياة بالجر على الحكاية عن لفظ الحديث»

(3)

.

(1)

الكواكب الدراري، 2/ 169.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، بابُ: تَفَاضُلِ أَهْلِ الإِيمَانِ فِي الأَعْمَالِ، رقم (21).

(3)

الكواكب الدراري، 1/ 116.

ص: 215

‌3 - تفسير كلمات من متن الحديث:

في ذات الحديث بين الكرماني فوائد التعليق من تفسير للكلمات فقال:

«قَالَ أَبُو عَبْدِاللهِ قَالَ أَبَانُ حدّثَنا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «مِنْ إِيمَانٍ» . مَكَانَ «مِنْ خَيْرٍ» »

(1)

.

قال الكرماني: «والثانية أي الفائدة ما في ذكر الإيمان بدل الخير»

(2)

.

وقال في موضع آخر: «وقال بدل من إيمان من خير والمراد من الخير الإيمان إذ هو أصل الخيور ولا خير أعظم منه»

(3)

.

‌4 - وصل التعاليق، وتخريجها:

تخريج الحديث المعلق عند البخاري ووصله، له أهمية كبرى في دفع اعتراض المعترضين، ونقد الناقدين، وقد وصل ابن حجر تعليقات البخاري، في كتابه:(تغليق التعليق)، وكان من جهود الإمام الكرماني رحمه الله في شرحه يبيّن في بعض الأحيان أماكن وصل المعلقات وتواجدها.

من ذلك يبيّن تعليق البخاري مسنداً وموصولاً من الصحيح.

مثاله:

ما أخرجه البخاري، في كتاب التوحيد: «وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ حَدَّثَنِي عَبْدُاللهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: زِيَادَةِ الإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ (42).

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 176.

(3)

المرجع السابق، 1/ 117.

ص: 216

رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ

»

(1)

.

قال الكرماني: «وهذا التعليق تقدم في أول الزكاة مسندا، لكن ليس فيه لفظ يصعد قال ثمة لا يقبل الله إلا الطيب نعم هو بعينه مسند في صحيح مسلم

(2)

»

(3)

.

ومن ذلك يبين تعليق البخاري مسنداً وموصولاً من غير الصحيح:

قال البخاري: «وَيُذْكَرُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ أَجْنَبَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فَتَيَمَّمَ

)

(4)

.

قال الكرماني: «ولفظ (يُذكر) تعليق تمريض أي لأنه لم يروه بصيغة الجزم وأسنده أبو داود وزاد فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك»

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري: بَاب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} ، رقم (6979).

(2)

أخرجه مسلم، كتاب: الزكاة، باب: قَبُولِ الصَّدَقَةِ مِنَ الْكَسْبِ الطَّيِّبِ وَتَرْبِيَتِهَا، رقم (63).

(3)

الكواكب الدراري، 25/ 136.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: التيمم، باب: إِذَا خَافَ الْجُنُبُ عَلَى نَفْسِهِ الْمَرَضَ أَوِ الْمَوْتَ أَوْ خَافَ الْعَطَشَ، تَيَمَّمَ.

(5)

الكواكب الدراري، 3/ 229، ورواية أبي داود هي:«عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السُّلَاسِلِ فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ فَتَيَمَّمْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟» فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الِاغْتِسَالِ وَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ اللهَ يَقُولُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا» أخرجه أبو داود، كتاب: الطهارة، باب: إذا خاف الجنب البرد تيمم، رقم (334).

ص: 217

وتارة يشير إلى بعض الروايات الموصولة من دون الإشارة إلى أماكن تواجدها من ذلك: قال أبو عبدالله البخاري في باب العلم قبل القول والعمل: «قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ، وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَرَّثُوا الْعِلْمَ مَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَطْلُبُ بِهِ عِلْماً سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ»

(1)

.

قال الكرماني: «ومن لفظ وأن العلماء إلى ههنا أي إلى لفظ (الجنة)

(2)

ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكره البخاري تعليقا لأنه ليس بشرطه»

(3)

.

* * *

‌المبحث السادس

الإجابة على الأحاديث المنتقدة على البخاري

‌تمهيد:

من المعلوم والمشهور أن صحيح الإمام أبي عبدالله البخاري أصح الكتب

(1)

أخرجه البخاي، كتاب: العلم.

(2)

أخرجه مسلم، كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، بَابُ: فَضْلِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَعَلَى الذِّكْرِ، رقم (2699)، بلفظ بدايته: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا

» والترمذي، في أبواب العلم، بَابُ: فَضْلِ طَلَبِ العِلْمِ، رقم (2646)، والإمام أحمد في مسند أبي هريرة، رقم (8316)، وابن حبان في كتاب: العلم، باب: ذِكْرُ تَسْهِيلِ اللهِ جَلَّ: وَعَلَا طَرِيقَ الْجَنَّةِ عَلَى مَنْ يَسْلُكُ فِي الدُّنْيَا طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا، بزيادة لفظ:«وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» رقم (84).

(3)

الكواكب الدراري: 2/ 30.

ص: 218

بعد كتاب الله عز وجل، لما عُلم من اشتراط البخاري الصحة في كتابه، ومن دلالة اسم الكتاب «الجامع الصحيح المُسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه»

(1)

وموافقة مضمون الكتاب للتسمية.

ومن خلال الاطلاع على سيرة الإمام البخاري الذاتية، وما فيها من قوّة حفظه، وشدة ذكائه، وسعة اطلاعه، وثناء العلماء عليه

نجد أن شخصية كالبخاري مؤهلة لإخراج كتاب يضم بين دفتيه ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا بشهادة العلماء المنصفين، وتلقي الأمة له بالقبول.

«فليس (صحيح البخاري) جهدًا لشخص واحد دون أي إعانة من علماء عصره من شيوخه وأقرانه، بل يكاد يكون جهدًا جماعيَّا.

وقد نصَّ أحد قدماء المحدّثين على هذا المنهج الذي كان يتّبعه المحدثون لنقْدِ السنة، فقد قال أبو عبدالله الحاكم في أثناء كلامه عن شروط الحكم على الحديث بالصحّة:«وليس لهذا النوع من العلم عونٌ أكثر من مذاكرة أهل الفهم والمعرفة، ليظهر ما يَخْفَى من علّة الحديث» ».

«وقال أبو جعفر محمد

(2)

بن عمرو العقيلي

(3)

لما ألف البخاري كتاب

(1)

هدي الساري، ص 8.

(2)

في نسخة فتح الباري، محمود، بدل محمد، والواقع أنه محمد بن عمرو بن موسى بن حماد.، ولعله من الأخطاء المطبعية.

(3)

أبو جعفر، محمد بن عمرو بن موسى بن حماد، العقيلي الحجازي، الإمام الحافظ الناقد، كان العقيلي جليل القدر، عظيم الخطر، وكان كثير التصانيف، عالم بالحديث، مُقدم بالحفظ، له مصنفات كثيرة، من أشهرها، كتاب: الضعفاء، (ت 322 هـ)، سير أعلام النبلاء، 8/ 157.

ص: 219

الصحيح عرضه على أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلى بن المديني وغيرهم، فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة الا في أربعة أحاديث قال العقيلي والقول فيها قول البخاري وهي صحيحة»

(1)

.

قال الإمام ابن الصلاح: «القول بأن ما انفرد به البخاري أو مسلم مندرج في قبيل ما يقطع بصحته؛ لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول على الوجه الذي فصلناه من حالهما فيما سبق، سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ؛ كالدارقطني وغيره، وهي معروفة عند أهل هذا الشأن، والله أعلم»

(2)

.

هذا وقد استدرك بعض العلماء على البخاري ومسلم، أحاديث حكموا عليها بالضعف، ومن هؤلاء العلماء أبو الحسن علي الدارقطني، في كتاب أسماه:«الإلزامات والتتبع» وهو من أوسع الكتب في هذا الموضوع، ومنهم أبو علي الجياني الغسّاني

(3)

في كتابه: «تقييد المهمل، وتمييز المشكل» ، وأبو مسعود

(1)

الجواب عن طعون في صحيح البخاري، أ. د. الشريف حاتم العوني، ص 9، ويُنظر قول أبي جعفر العقيلي في هدي الساري، ص 7، وينظر قول الحاكم، في معرفة علوم الحديث، ص 59.

(2)

معرفة علوم الحديث، ابن الصلاح، ص 29.

(3)

الحسين بن محمد بن أحمد الغساني الجياني الأندلسي المحدث كان إماما في الحديث والأدب، كان حسن الخط جيد الضبط وله معرفة بالغريب والشعر والنسب، له: تقييد المهمل وتمييز المشكل، (ت 498 هـ)، ينظر: الوافي بالوفيات، 13/ 21.

ص: 220

إبراهيم الدمشقي، في كتابه:«أطراف الصحيحين» .

والجامع في منهج نقد هؤلاء الأئمة للصحيحين، أنهم اجتهدوا فأخطأوا، لأنهم بنوا طعنهم ونقدهم على قواعد لبعض المحدثين، تخالف جمهورهم من أهل الفقه والأصول، والأدلة

(1)

.

وقد بلغ عدد الأحاديث المنتقدة على الصحيحين مئتان وعشرة أحاديث، اشترك البخاري ومسلم في اثنين وثلاثين منها، وانفرد البخاري بثمانية وسبعين حديثاً، ومئة حديث لمسلم

(2)

.

وقد تناول العلماء نقد الدارقطني وغيره بالرد والتفنيد، وقد عقد الإمام ابن حجر العسقلاني في هدي الساري فصلاً في الرد على المنتقدين، قال في أوله:«ينبغي لكل منصف أن يعلم أن هذه الأحاديث وإن كان أكثرها لا يقدح في أصل موضوع الكتاب فإن جميعها وارد من جهة أخرى»

(3)

.

وقال في موضع آخر: «وليست كلها قادحة بل أكثرها الجواب عنه ظاهر والقدح فيه مندفع وبعضها الجواب عنه محتمل واليسير منه في الجواب عنه تعسف»

(4)

.

وقال السخاوي: «وتكفل شيخنا يقصد ابن حجر في مقدمة شرح البخاري بما يخصه منه، والنووي في شرح مسلم بما يخصه منه، فكان فيهما مع

(1)

ينظر: شرح صحيح البخاري، للنووي، ص 11.

(2)

هدي الساري، ص 506.

(3)

هدي الساري، ص 505.

(4)

هدي الساري، 547.

ص: 221

تكلف في بعضه إجزاء في الجملة»

(1)

.

هذا وإن أكثر الأحاديث المُنتَقدة على البخاري غالبا ما تتعلق بعلوم السند، وأكثرها من مباحث علم العلل، كالاختلاف في عدد الرواة، أو تغيّرهم، والاختلاف في وقف الحديث ورفعه، ووصله وإرساله

وقد قسّم الإمام ابن حجر رحمه الله الأحاديث المنتقدة إلى أقسام

(2)

:

القسم الأول:

ماتختلف فيه الرواة بالزيادة والنقص، من رجال الإسناد، فإن حصلت الزيادة من صاحب المصنف وانتُقد عليها، فإن هذا مردود لأن الراوي قد يكون سمع بواسطة عن شيخه، وقد يكون سمع عنه مباشرة، وإن كان لم يسمعه من الطريق الناقصة فهو منقطع والمنقطع من أنواع الضعيف.

وإن أخرج صاحب الصحيح الطريق الناقصة، وعلله الناقد بالطريق المزيدة، تضمن اعتراضه دعوى انقطاع فيما صححه المصنف، فينظر إن كان ذلك الراوي صحابيا، أو ثقة غير مدلس قد أدرك من روى عنه إدراكاً بيّنا أو صرّح بالسماع إن كان مدلساً من طريق أخرى، فإن وجد ذلك اندفع الاعتراض بذلك، وإن لم يوجد وكان الانقطاع فيه ظاهرا فمحصل الجواب: عن صاحب الصحيح أنه إنما أُخرج مثل ذلك في باب ماله متابع وعاضد، أو ما حفته قرينة في الجملة تقويه، ويكون التصحيح وقع من حيث المجموع وربما علل بعض النقاد أحاديث ادعى فيها الانقطاع؛ لكونها غير مسموعة كما في الأحاديث المروية

(1)

فتح المغيث، 1/ 74.

(2)

هدي الساري، 506 - 508.

ص: 222

بالمكاتبة والإجازة، وهذا لا يلزم منه الانقطاع عند من يسوّغ الرواية

بالإجازة، بل في تخريج صاحب الصحيح لمثل ذلك دليل على صحة الرواية بالإجازة عنده.

القسم الثاني:

ما تختلف الرواة فيه بتغيير رجال بعض الإسناد.

فالجواب عنه إن أمكن الجمع بأن يكون الحديث عند ذلك الراوي على الوجهين جميعا، فأخرجهما المصنف، ولم يقتصر على أحدهما، حيث يكون المختلفون في ذلك متعادلين في الحفظ والعدد، وإن أمتنع بأن يكون المختلفون غير متعادلين بل متقاربين في الحفظ والعدد فيُخرّج المصنف الطريق الراجحة ويعرض عن الطريق المرجوحة أو يشير إليها فالتعليل بجميع ذلك من أجل مجرد الاختلاف غير قادح؛ إذ لا يلزم من مجرد الاختلاف اضطراب يوجب الضعف فينبغي الإعراض أيضا عما هذا سبيله والله أعلم.

القسم الثالث:

ما تفرد بعض الرواة بزيادة فيه دون من هو أكثر عددا أو أضبط ممن لم يذكرها، فهذا لا يؤثر التعليل به إلا إن كانت الزيادة منافية؛ بحيث يتعذر الجمع، أمّا إن كانت الزيادة لا منافاة فيها؛ بحيث تكون كالحديث المستقل، فلا إلا إن وضّح بالدلائل القوية أن تلك الزيادة مدرجة في المتن من كلام بعض رواته فما كان من هذا القسم فهو مؤثر.

القسم الرابع:

ما تفرد به بعض الرواة ممن ضعف من الرواة، وليس في هذا الصحيح من

ص: 223

هذا القبيل غير حديثين وهما السابع والثلاثون والثالث والأربعون

(1)

.

القسم الخامس:

ما حكم فيه بالوهم على بعض رجاله فمنه ما يؤثر ذلك الوهم قدحا ومنه ما لا يؤثر.

القسم السادس:

ما اختلف فيه بتغيير بعض ألفاظ المتن، فهذا أكثره لا يترتب عليه قدح؛ لإمكان الجمع في المختلف من ذلك، أو الترجيح على أن الدارقطني وغيره من أئمة النقد لم يتعرضوا لاستيفاء ذلك من الكتابين، كما تعرضوا لذلك في الإسناد

(2)

.

‌موقف الإمام الكرماني من الأحاديث المنتقدة على البخاري:

لم يشر الكرماني في مقدمة شرحه إلى الأحاديث المنتقدة على البخاري، وإنما أشار إلى إزالة اللبس والإشكال عن ما يخص السند والمتن بشكل عام، إلا أنه في بعض الأحيان يشير إلى الحديث المُنتَقد، مما استدركه الدارقطني على البخاري، ويرد عليه رداً موجزاً مختصراً، وفي كثير من الأحايين لا يذكر الانتقاد على الحديث ولا يشير إليه، وذلك إما للاختصار، وإما لعدم قناعته بالانتقادات التي وُجهت للبخاري، وإما لانشغاله في الشرح بموضوعات أخرى في علم السند والمتن

(3)

.

(1)

هدي الساري: ص 507.

(2)

السابق: ص (505 - 508).

(3)

هذا وقد أتيت بأمثلة عن بعض انتقادات وطعون العلماء على البخاري ورد الكرماني عليها في أماكن أخرى مثل: التنبيه على مزيد في متصل الأسانيد، وعند الكلام عن تكرار الحديث لتقوية سند الحديث، والكلام عن الإسناد العالي والنازل.

ص: 224

وسأذكر أقسام الإمام ابن حجر رحمه الله في الطعون على البخاري، مع الإتيان بالأمثلة من ردود الكرماني إن وُجدت.

*‌

‌ القسم الأول ما تختلف الرواة فيه بالزيادة والنقص من رجال الإسناد:

وهذا النوع يخص الانقطاع في السند، وقد عرّف الكرماني الحديث المنقطع بأصله العام:«ما لم يتصل إسناده على أي وجه كان»

(1)

على هذا يندرج تحته كل سند حصل فيه انقطاع، وهذا رأي ابن عبد البر فقال في تعريفه:«المنقطع عندي كل مالايتصل سواء كان يعزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى غيره»

(2)

.

وقال في موضع آخر يبين فيه تعريف المنقطع المعتمد عند المحدثين: «هو أن يسقط من الإسناد رجل أو يُذكر فيه رجل مبهم»

(3)

.

وقال العلماء في تعريفه: «هو الحديث الذي سقط من رواته راو واحد قبل الصحابي في موضع واحد أو موضع متعددة، بحيث لا يزيد الساقط في كل منها على واحد وألا يكون الساقط في أول السند»

(4)

.

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 167.

(2)

التمهيد، ابن عبد البر، 1/ 21.

(3)

الكواكب الدراري، 23/ 171، ونقل تعريف الخطيب في تعريف المنقطع:«ما روى عن التابعي فمن دونه موقوفا عليه من قوله أو فعله» ، الكفاية في علم الرواية، ص 21، ويُقارن بين قول ابن كثير في الباعث الحثيث، ص 50، وتعريف الكرماني.

(4)

منهج النقد، 366 - 367، وينظر: نزهة النظر، ص 84، المقنع لابن الملقن، 1/ 141.

ص: 225

ومن أمثلة الانتقادات على البخاري بسبب الانقطاع، ما أخرجه في صحيحه: «وحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُاللهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ

قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِاللهِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَلَّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوهَا إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ

»

(1)

.

قال الكرماني: «وقال الدارقطني

(2)

هذا الإسناد مرسل ولم يلتفت أي الدارقطني إلى قول عبد الرحمن بن عبدالله إلى ما قال سمعت كعباً لأنه عنده وهم، وقال محمد بن يحي الذهلي في «علل حديث الزهري» سمع الزهري من عبد الرحمن بن كعب ومن عبد الرحمن ابن عبدالله بن كعب قال ولا أظن أن عبد الرحمن سمع من جده كعب شيئاً وإنما سمع من أبيه عبدالله.

وأقول لو كان بدل «ابن» كلمة «عن» لصح الاتصال لأن عبد الرحمن سمع من أبيه عبدالله وهو من كعب وكذا لو حذف عبدالله من البين»

(3)

.

وقال بعض العلماء أن عبد الرحمن روى بعض الحديث عن جده كعب فلم يُثبّته لطول الحديث، ولصغر سن عبدالرحمن، وروى الحديث بأكمله عن أبيه وثبّته بعد أن كبُر سِنّه

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: مَنْ أَرَادَ غَزْوَةً فَوَرَّى بِغَيْرِهَا وَمَنْ أَحَبَّ الْخُرُوجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، رقم (2750).

(2)

الإلزامات والتتبع، ص 242.

(3)

الكواكب الدراري، 12/ 192 - 192.

(4)

هدي الساري، ص 525، والتوضيح شرح الجامع الصحيح لابن الملقن، 18/ 49 - 50.

ص: 226

ومنه: أخرج البخاري بسنده «حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ الْفَزَارِيُّ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسًا رضي الله عنه يَقُولُ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ابْنَةِ مِلْحَانَ فَاتَّكَأَ عِنْدَهَا ثُمَّ ضَحِكَ

»

(1)

.

قال الكرماني ناقلاً عن الغساني: «قال الغساني: قال أبو مسعود الدمشقي: سقط بين أبي إسحاق وعبدالله زائدة بن قدامة، أقول: هذا تحكم بلا دليل كيف وقد ثبت سماعه من عبدالله والله أعلم»

(2)

.

قال العلائي في جامع التحصيل: «وذكر أبو بكر بن مردويه الحافظ أنه لم يسمع من أبي طوالة وأن الصواب ما رواه المسيب بن واضح عن أبي إسحاق الفزاري عن زائدة عن أبي طوالة قلت: وفي ذلك نظر لما تقدم أن البخاري لا يكتفي بمجرد إمكان اللقاء وأبو إسحاق الفزاري ليس بمدلس والله أعلم»

(3)

.

وبين الحافظ ابن حجر نقد أبي مسعود وما أشكل عليه فيه فقال: «وسبب الوهم: من أبي مسعود أن معاوية بن عمرو رواه أيضا عن زائدة عن أبي طوالة، فظن أبو مسعود أنه عند معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عن زائدة وليس كذلك بل هو عنده عن أبي إسحاق وزائدة معا جمعهما تارة وفرقهما أخرى»

(4)

.

ومن ذلك: أخرج البخاري في صحيحه: «حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الجهاد والسير، بَاب: غَزْوِ الْمَرْأَةِ فِي الْبَحْرِ، رقم (2681).

(2)

الكواكب الدراري، 12/ 151.

(3)

ص 140، وينظر تحفة التحصيل، ص 17.

(4)

فتح الباري، 6/ 77.

ص: 227

أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما صَارَتْ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ أَمَّا وَدٌّ كَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ

»

(1)

.

قال الكرماني معرفاً بالراوي عطاء ناقلاً عن الغساني: «هو الخراساني أي لا ابن أبي رباح، ولا ابن يسار، وقال ابن جريج: أخذه من كتاب عطاء لا من السماع منه»

(2)

.

والحاصل في هذا السند: أن عطاء الخُراساني، لم يثبت له سماع من عبدالله ابن عباس رضي الله عنهما، بالإضافة أنه ضعيف يخالف شرط البخاري

(3)

وأن ابن

جُريج أخذ الكتاب من أبيه فنظر فيه، ولم يسمع الحديث من عطاء، كما قال الغسّاني

(4)

.

قال ابن حجر: «أخرج عبد الرزاق هذا الحديث في تفسيره عن ابن جريج فقال أخبرني عطاء الخرساني عن ابن عباس وقال أبو مسعود ثبت هذا الحديث في تفسير ابن جريج عن عطاء الخرساني عن بن عباس وابن جريج لم يسمع التفسير من عطاء الخرساني وإنما أخذه من ابنه عثمان بن عطاء فنظر فيه

وقال الإسماعيلي أخبرت عن علي بن المديني أنه ذكر عن تفسير ابن جريج كلاما معناه أنه كان يقول عن عطاء الخرساني عن ابن عباس فطال على الوراق أن يكتب

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: التفسير، باب: سورة إِنَّا أَرْسَلْنَا، رقم (4599).

(2)

الكواكب الدراري، 18/ 166.

(3)

المغني في الضعفاء، 2/ 434.

(4)

ينظر جامع التحصيل، ص 229.

ص: 228

الخرساني في كل حديث فتركه فرواه من روى علي أنه عطاء بن أبي رباح»

(1)

.

والبخاري ساق رواية ابن جريج مرة ثانية في كتاب: الطلاق، بَاب نِكَاحِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْمُشْرِكَاتِ وَعِدَّتِهِنَّ، «حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامٌ

عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

»

(2)

.

لكن البدر العيني رجح توهم البخاري من ظنه أن عطاءً الراوي عن ابن عباس عطاء بن أبي رباح فقال «فسبحان من لا يخفى عليه شيء»

(3)

.

والتمس ابن حجر العذر للبخاري فقال: «وهذا مما استعظم على البخاري أن يخفى عليه، لكن الذي قوي عندي أن هذا الحديث بخصوصه عند ابن جريج عن عطاء الخرساني، وعن عطاء بن أبي رباح جميعا ولا يلزم من امتناع عطاء بن أبي رباح من التحديث بالتفسير أن لا يحدث بهذا الحديث في باب آخر من الأبواب، أو في المذاكرة وإلا فكيف يخفى على البخاري ذلك مع تشدده في شرط الاتصال واعتماده غالبا في العلل على علي بن المديني شيخه، وهو الذي نبه على هذه القصة»

(4)

.

وقال في موضع آخر: «فيحتمل أن يكون هذان الحديثان عن عطاء بن أبي

(1)

فتح الباري، 8/ 668.

(2)

صحيح البخاري، رقم (4953).

(3)

عمدة القاري، 19/ 439، وينظر: البدر العيني وجهوده في علوم الحديث واللغة، د. هند محمود سحلول، ص 450 - 453.

(4)

فتح الباري، 8/ 666 - 667.

ص: 229

رباح وعطاء الخرساني جميعا والله أعلم، فهذا جواب إقناعي وهذا عندي من المواضع العقيمة عن الجواب السديد ولا بد للجواد من كبوة والله المستعان»

(1)

.

ومن ذلك أخرج البخاري في كتاب: الغسل «حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ يَحْيَى وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَقَالَ أَرَأَيْتَ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَلَمْ يُمْنِ. قَالَ عُثْمَانُ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ، وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ. قَالَ عُثْمَانُ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَطَلْحَةَ ابْنَ عُبَيْدِاللهِ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رضي الله عنهما فَأَمَرُوهُ بِذَلِكَ. قَالَ يَحْيَى وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

نقل ابن حجر عن ابن العربي

(3)

أن في الحديث ثلاث علل:

الأولى: عدم سماع الحسين بن ذكوان المعلم من يحي، وإنما جاء عن حسين.

الثانية: خولف حسين فيه عن يحيى، فرواه مرة مرفوعاً ومرة موقوفاً.

الثالثة: خولف أبو سلمة فيه أيضاً فرواه زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن زيد بن خالد موقوفا عن جماعة من الصحابة.

(1)

هدي الساري، 539 - 540.

(2)

أخرجه البخاري، باب: غَسْلِ مَا يُصِيبُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ، رقم (290).

(3)

القاضي أبو بكر محمد بن عبدالله بن محمد: المعروف بابن العربي الإشبيلي الإِمام الحافظ المتبحر، بقي يفتي أربعين سنة، له تآليف تدل على غزارة علمه وفضله منها عارضة الأحوذي في شرح الترمذي، وترتيب المسالك في شرح موطأ مالك، وغيرها، (ت 453 هـ)، ينظر: شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، 1/ 199.

ص: 230

والجواب عن الأولى أن ابن خزيمة والسراج والإسماعيلي وغيرهم رووا الحديث من طريق حسين المعلم، وصرحوا فيه بالإخبار ولفظ السراج بسنده إلى حسين أخبرنا يحيى بن أبي كثير أن أبا سلمة حدثه

وأما الجواب عن الثانية والثالثة فالتعليل المذكور بهما غير قادح لأن رواية حسين مشتملة على الرفع والوقف معا فإذا اشتمل غيرهما على الموقوف فقط كانت هي مشتملة على زيادة لا تنافي الرواية الأخرى فتقبل من الحفاظ وهو كذلك فتبين أن التعليل بذلك ليس بقادح

(1)

.

قلت: وقد أخرج مسلم الحديث في صحيحه: «وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ ح، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ ابْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ وَاللَّفْظُ لَهُ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ ذَكْوَانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، قَالَ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، وَلَمْ يُمْنِ؟ قَالَ عُثْمَانُ: «يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ، وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ» قَالَ عُثْمَانُ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

مع الملاحظة أن مسلماً قال: عن يحيى بن كثير، ولفظ البخاري: قال يحيى.

وأما الإمام الكرماني أجاب إجابة مختصرة عن العلة الأولى فقال: «قال يحيى (وأخبرني) بالواو. فإن قلت أخبرني مقول قال وهو مفعول حقيقة، فكيف جاز دخول الواو بينهما. قلت: إشعاراً بأنه من جملة ما سمع منه كأنه قال أخبرني

(1)

هدي الساري، ص 511، وعلل الدار قطني، 3/ 32.

(2)

أخرجه مسلم في كتاب: الحيض، باب: الماء من الماء، رقم (347).

ص: 231

بكذا وكذا وأخبرني بهذا فهو للعطف على مقدر»

(1)

.

ومن الأحاديث التي أعلها الدارقطني بالانقطاع، ما أخرجه البخاري:«حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ كُنَّا مَعَ عُتْبَةَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يُلْبَسُ الْحَرِيرُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا لَمْ يُلْبَسْ فِي الْآخِرَةِ مِنْهُ»

(2)

.

قال الكرماني ناقلاً عن النووي الرد على الدارقطني: (هذا مما استدركه الدارقطني علي البخاري: وقال أي الدارقطني لم يسمعه أبو عثمان من عمر بل أخبر من كتابه، وهذا الاستدراك باطل فإن الصحيح جواز العمل بالكتاب، وروايته عنه وذلك معدود عندهم في المفضل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب إلى امرأته وعماله، ويفعلون بما فيها وكتب عمر إليه وفي الجيش خلائق من الصحابة فدل على حصول الاتفاق منهم»

(3)

.

ولعل الدارقطني رجع عن استدراكه هذا، قال ابن حجر:«وقد نبه الدارقطني على أن هذا الحديث أصل في جواز الرواية بالكتابة عند الشيخين قال ذلك بعد أن استدركه عليهما وفي ذلك رجوع منه عن الاستدراك عليهما والله أعلم»

(4)

.

(1)

الكواكب الدراري، 3/ 154.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: اللباس، بَاب: لُبْسِ الْحَرِيرِ وَافْتِرَاشِهِ لِلرِّجَالِ وَقَدْرِ مَا يَجُوزُ مِنْهُ، رقم (5456).

(3)

الكواكب الدراري، 21/ 79، وينظر قول النووي في شرحه على مسلم، 14/ 45.

(4)

فتح الباري/ 10/ 286.

ص: 232

*‌

‌ القسم الثاني ماتختلف الرواة فيه بتغيّر رجال بعض الإسناد:

من المعروف عند العلماء أن الرواة لا يكونوا على درجة واحدة في الحفظ والإتقان، (منهم من يعتمد الكتاب في الرواية، ومنهم من يروي الحديث بالمعنى، ومنهم من يرويه بنصه ومنهم من يرويه مختصرا، ومنهم من يعتمد على ذاكرته

حيث أن المواهب الطبيعية متفاوتة لذلك قد يقع منهم تغيير وتبديل في بعض رجال السند، وخصوصاً إذا كثر الرواة في مجالس الحديث)

(1)

.

فإن وقع هذا يُشعر بعدم ضبط الرواة، وبالتالي يطعن في الحديث، وذلك بشرط أن يكون مخرج الحديث واحد، لأنه إن تعدد مخرج الحديث يتغير رجال الإسناد بعضهم أو كلهم، قال ابن معين:«لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجها ما عقلناه»

(2)

.

وإذا ما عرفنا المخالفة: «هي أن يروي الرواة عن شيخهم حديثاً ما، فيقع بينهم تغاير في سياق إسناده أو متنه.

وسبب هذا التغاير في بعض الأحيان، كثرة طرق هذا الحديث واتساع الشيخ في الرواية، وأحياناً يكون سببه الوهم والغلط، على أن يكون مخرج الحديث واحداً»

(3)

.

فالاختلاف في السند والمتن معاً، ويمكننا أن نقسم الاختلاف على ضربين:

(1)

ينظر الحديث المعلول، قواعد وضوابط، د. حمزة المليباري، ص 24.

(2)

الجامع لأخلاق الراوي، 2/ 212.

(3)

منهج الإمام البخاري، أبو بكر كافي، ص 259.

ص: 233

الأول: اختلاف الرواة في السند: وهو أن يختلف الرواة في سند ما زيادة أو نقصانا، بحذف راو، أو إضافته، أو تغيير اسم، أو اختلاف بوصل وإرسال، أو اتصال وانقطاع، أو اختلاف في الجمع والإفراد.

الثاني: اختلاف الرواة في المتن:

(1)

زيادة ونقصانا، أو رفعا ووقفا

(2)

.

‌أولاً اختلاف الرواة في سند الحديث:

من هذا القبيل قد يُختلف في سند الحديث بين الرفع والوقف، أو الوصل والإرسال.

‌1 - الاختلاف بين الرفع والوقف:

قد يحصل خلاف في حديث ما فيرويه بعضهم مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يرويه موقوفاً على الصحابي، فإذا وقع هذا فإن العلماء قالوا:

الرأي الأول: الحكم لرواية الرفع لأنها رواية مُثبت، وغيره ساكت، وفيها زيادة علم، والمُثبت مقدم على النافي، وهذا القول قول النووي والعراقي، وهو المُرجح عند أهل الحديث، وهو قول أهل الفقه والأصول

(3)

.

الرأي الثاني: الحكم لمن وقفه، نقله الخطيب عن أكثر أهل الحديث

(4)

.

(1)

سيأتي الكلام عنه، في القسم السادس، على حسب تقسيم ابن حجر رحمه الله.

(2)

أثر اختلاف المتون والأسانيد في اختلاف الفقهاء، د. ماهر ياسين الفحل، ص 10.

(3)

علوم الحديث، ابن الصلاح، 1/ 177، وشرح النووي على مسلم، 14/ 48، وفتح المغيث، 1/ 219.

(4)

فتح المغيث، 1/ 219.

ص: 234

الرأي الثالث: أصحاب هذا الرأي قالوا أن الترجيح يدور مع القرينة، وهي رواية الأكثر، وهو المعتمد عند المتأخرين من المحققين

(1)

فإذا وقف الحديث أكثر الرواة ورفعه واحد يؤخذ بقول من وقفه، لاحتمال أن الغلط وارد ممن رفعه.

ومن عادة الإمام البخاري رحمه الله تعالى إيراد أحاديث مرفوعة، ورُويت موقوفة، وهذا من صنعته الحديثية، وهذا ما انتُقد عليه البخاري، ومن هذه الأحاديث التي اختُلف فيها بين الرفع والوقف:

قال محمد بن إسماعيل البخاري: «حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا وَفِي يَمَنِنَا قَالَ قَالُوا وَفِي نَجْدِنَا قَالَ قَالَ اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا وَفِي يَمَنِنَا

»

(2)

.

فهذه الرواية موقوفة على الصحابي الجليل ابن عمر رضي الله عنه.

وأخرجها البخاري في كتاب الفتن موصولة بقوله: «حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِاللهِ حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا

»

(3)

.

قال الكرماني مختصراً الإجابة عن رواية الرفع وناقلاً عن النسفي: «قال

(1)

فتح المغيث، 1/ 219، وتوضيح الأفكار، 1/ 312.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الاستسقاء، بَاب: مَا قِيلَ فِي الزَّلَازِلِ وَالْآيَاتِ، رقم (984).

(3)

أخرجه البخاري، بَاب: قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْفِتْنَةُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، رقم (6666).

ص: 235

النسفي: قال أبو عبدالله هذا الحديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن ابن عون كان يوقفه»

(1)

.

فيميل الكرماني إلى القول بترجيح رواية الرفع على الوقف، وإن الوقف كان من ابن عون، وقال البدر العيني: «قال الحميدي: اختلف على ابن عون فيه، فروى عنه مسندا، وروى عنه موقوفا على ابن عمر من قوله، والخلاف إنما وقع من حسين بن الحسن فإنه هو الذي روى الوقف، وأما أزهر السمان وعبيدالله بن عبدالله بن عون فروياه عن ابن عون فروياه عن ابن عون عن نافع عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم

فذكره، وفي رواية: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث وقال ابن التين: قال الشيخ أبو الحسن: سقط من سنده ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، لأن مثل هذا لا يدري بالرأي»

(2)

.

فترجح القول برواية الرفع وذلك للقرينة في ذلك وهي أن مثل هذا الكلام لا يُقال بمجرد الرأي، بل لابد أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رجح ابن حجر كذلك رواية الرفع لهذه القرينة

(3)

.

ومن الأحاديث التي اختُلف فيها بين الوقف والرفع، ما أخرجه البخاري في كتاب المغازي: «حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ عَنِ الْقَاسِمِ ابْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ

(1)

الكواكب الدراري، 6/ 124.

(2)

عمدة القاري، 7/ 58.

(3)

فتح الباري، 2/ 522.

ص: 236

قَالَ يَقُومُ الإِمَامُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ

»

(1)

.

هذه الرواية موقوفة على سهل بن أبي حَثْمة، وساق البخاري بعدها رواية مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم «حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ

ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ عَنِ

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

وقد بين الكرماني أن اعتماد البخاري على الرواية الثانية فقال: «فإن قلت هذا مرسل أي الرواية الأولى قلت: لاشك أنه من مراسيل التابعي ظاهراً لكنه يحتمل أن يكون نوعاً من الاعتماد على الإسناد الذي بعده»

(3)

.

وقال ابن رجب الحنبلي مبينا سبب الإشكال في هذا الحديث: «حاصل الاختلاف في إسناد هذا الحديث الذي خرجه البخاري هاهنا: أن يزيد بن رومان رواه عن صالح بن خوات، عمن شهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع، ولم يسمه.

ورواه القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، واختلف عليه في رفعه ووقفه: فرواه يحيى بن سعيد الأنصاري، عن القاسم، فوقفه على سهل.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: المغازي، باب: غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ، رقم (3865).

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: المغازي، باب: غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ، رقم (3866).

(3)

الكواكب الدراري، 16/ 44.

ص: 237

وقد خرجه البخاري هاهنا من طريق يحيى القطان وابن أبي حازم، عن يحيى الأنصاري.

كذلك رواه شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الإمام أحمد: رفعه عبد الرحمن، ويحيى لم يرفعه. ثم قالَ: حسبك.

بعبد الرحمن، هو ثقة ثقة ثقة. قيل له: فرواه عن عبد الرحمن غير شعبة؟ قالَ: ما علمت.

ثم قال: قد رواه يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا يشد ذاك، يريد: أنه يقوي رفعه»

(1)

.

وقال الترمذي: «وحديث سهل بن أبي حثمة هو حديث حسن، وهو مرفوع رفعه شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم»

(2)

.

‌2 - الاختلاف بين الوصل والإرسال:

كما هو الحال في وقوع الاختلاف في رفع الرواية ووقفها، يقع في وصلها وإرسالها، وقد وردت أحاديث في صحيح البخاري، اختُلف فيها بين الوصل والإرسال، وهذا ما يجعل الحديث معلولاً، وقد تتبع الدارقطني هذه الأحاديث وغيره من العلماء.

وقد وقع الخلاف بين العلماء إذا رُوي الحديث مرة موصولاً ومرة مُرسلاً.

القول الأول: رجح جماعة من العلماء رواية الوصل على رواية الإرسال؛

(1)

فتح الباري لابن رجب الحنبلي، 8/ 379.

(2)

علل الترمذي الكبير، ص 98.

ص: 238

لأنها من قبيل زيادة الثقة، قال الخطيب البغدادي:«الحكم للمسِنِد إذا كان ثابت العدالة ضابطا للرواية، فيجب قبول خبره، ويلزم العمل به، وإن خالفه غيره، وسواء كان المخالف له واحدا أو جماعة، وهذا القول هو الصحيح عندنا، لأن إرسال الراوي للحديث ليس بجرح لمن وصله، ولا تكذيب له، ولعله أيضا مسند عند الذين رووه مرسلا أو عند بعضهم، إلا أنهم أرسلوه لغرض أو نسيان، والناسي لا يقضى له على الذاكر، وكذلك حال راوي الخبر إذا أرسله مرة ووصله أخرى، لا يضعف ذلك أيضا، لأنه قد ينسى فيرسله ثم يذكر بعده فيسنده، أو يفعل الأمرين معا عن قصد منه لغرض له فيه»

(1)

.

ووافق ابن الصلاح الخطيب في هذا الرأي، وقال:«ما صححه أي الخطيب هو الصحيح في الفقه والأصول»

(2)

.

هذا فيما إذا كان الحديث رواه بعض الرواة موصولاً، ورواه آخرون مرسلاً، أما إذا كان الذي أرسل ووصل هو ذات الراوي، فقال بعض العلماء هو كالحكم السابق بترجيح رواية الوصل على الإرسال وهو قول ابن الصلاح كذلك والبرماوي.

وذهب جماعة من العلماء إلى القول أن هذا يُدخل الريبة في المروي، وعدوا ذلك من قبيل الاضطراب في السند

(3)

.

(1)

الكفاية في علم الرواية، ص 411.

(2)

علوم الحديث، ص 72.

(3)

ينظر: توضيح الأفكار، 1/ 308.

ص: 239

القول الثاني: ترجيح رواية الإرسال:

ينسب هذا القول لأكثر أهل الحديث كما عزاه إليهم الخطيب

(1)

.

وقال السخاوي: «فسلوك غير الجادة دال على مزيد التحفظ، كما أشار إليه النسائي. وقيل: إن الإرسال نوع قدح في الحديث، فترجيحه وتقديمه من قبيل تقديم الجرح على التعديل»

(2)

.

القول الثالث: الحكم للأكثر:

فإن كان عدد الذي وصلوه أكثر من الذين أرسلوه فيحكم عليه بالوصل، والعكس صحيح، لأن قول الواحد يُخشى عليه الوهم والغلط، فيصار للأكثر

(3)

.

القول الرابع: الحكم للأحفظ:

إذا أرسله الأحفظ فهو مرسل، وإن وصله الأحفظ فهو موصول، قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله:«قال ابن رجب وكلام أحمد وغيره من الحفاظ إنما يدور على اعتبار قول الأوثق في ذلك والأحفظ أيضا»

(4)

.

القول الخامس: التماثل بين الروايتين ووجوب التوقف:

قال ابن حجر: «المختلفون إما يكونوا متماثلين في الحفظ والإتقان أم

(1)

الكفاية، ص 411.

(2)

فتح المغيث، السخاوي، 1/ 215.

(3)

ينظر المدخل إلى الإكليل، الحاكم، ص 12، وفتح المغيث، 1/ 216، توضيح الأفكار، 1/ 311.

(4)

شرح علل الترمذي، 1/ 220. والنكت على كتاب ابن الصلاح، 2/ 779.

ص: 240

لافالمتماثلون إما يكون عددهم من الجانبين سواء أو لا، فإن استوى عددهم مع استواء أوصافهم وجب التوقف حتى يترجح أحد الطريقين بقرينة من القرائن فمتى اعتضدت إحدى الطريقين بشيءمن وجوه الترجيح حكم لها»

(1)

.

وكان من منهج الكرماني في شرحه أنه يشير إلى الوصل والإرسال في الرويات، من دون تفصيل وكأنه يكتفي بصنعة البخاري ومقصده من إيراد الروايات المتنوعة.

ومن الأمثلة على ذلك قال البخاري: «حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَيَّانَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ. قَالَ «تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ» . قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا. فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا»

(2)

أورد البخاري هذه الرواية الموصولة ثم أتبعها بالمرسلة بقوله: «حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي حَيَّانَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو زُرْعَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا»

(3)

.

علق الكرماني فقال: «وهذا الطريق مرسل لأن أبا زرعة تابعي لا صحابي

(1)

النكت على ابن الصلاح، 2/ 778.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الزكاة، باب: وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} رقم (1318).

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الزكاة، باب: وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} رقم (1319).

ص: 241

فليس له أن يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بطريق الإرسال»

(1)

.

ومن ذلك: «حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَه هذه الرواية من طرق موصولة، ثم أردفها البخاري برواية مرسلة فقال: «قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

اكتفى الكرماني بالقول أن الرواية مرسلة، لأن عكرمة تابعي وليس صحابي

(3)

.

ومنه قال البخاري: «حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَمَّنْ شَهِدَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ

»

(4)

.

بين الكرماني أن هذا الإسناد من مراسيل التابعين، ولكنه علل صنيع البخاري بالاعتماد على الرواية الموصولة بعده

(5)

والرواية التالية هي: «حَدَّثَنَا

(1)

الكواكب الدراري، 7/ 170.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الأيمان والنذور، بَاب: مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ أَيَّامًا فَوَافَقَ النَّحْرَ أَوْ الْفِطْرَ، رقم (6302).

(3)

الكواكب الدراري، 23/ 136.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: المغازي، باب: غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ، رقم (3864).

(5)

الكواكب الدراري، 16/ 44.

ص: 242

مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ يَقُومُ الإِمَامُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ

»

(1)

.

وهناك من الأحاديث التي تختلف في زيادة رواة الحديث ونقصهم، وروايتهم للحديث على أوجه مختلفة مما يوهم الاضطراب.

ومن ذلك روى البخاري حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه: «حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُاللهِ أَخْبَرَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ ابْنِ مَالِكٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ «أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذاً لِلْقُرْآنِ» . فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ

إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ «أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ» . وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ. وَأَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رضي الله عنهما كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِقَتْلَى أُحُدٍ «أَيُّ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ أَخْذاً لِلْقُرْآنِ» . فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى رَجُلٍ قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ قَبْلَ صَاحِبِهِ. وَقَالَ جَابِرٌ فَكُفِّنَ أَبِي وَعَمِّي فِي نَمِرَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَا مَنْ سَمِعَ جَابِراً رضي الله عنه»

(2)

.

أعلّ الدار قطني هذا الحديث بأنه مضطرب، وذلك بسبب الزياة والنقص في رواة الحديث، وقد رواه بن المبارك عن الأوزاعي عن الزهري مرسلا عن جابر ورواه معمر عن الزهري عن ابن أبي صغيرة عن جابر ورواه سليمان بن

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: المغازي، باب: غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ، رقم، رقم (3865).

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الجنائز، باب: من يقدم في اللحد، رقم (1269).

ص: 243

كثير عن الزهري حدثني من سمع جابرا وهو حديث مضطرب

(1)

.

بيّن الكرماني فائدة إيراد الطرق، وأنها لم تغب عن بال البخاري فقال:«واعلم أن الفرق بين هذه الطرق أن الليث ذكر عبد الرحمن واسطة بين الزهري وجابر والأوزاعي لم يذكر الواسطة بينهما وسليمان ذكر واسطة مجهولاً»

(2)

.

وقد رد ابن حجر على من انتقد هذا الحديث بقوله:

إمكانية نفي الاضطراب عنه بأنه يُفسر المبهم من سمع جابراً الذي في رواية سليمان بالمسمى الذي في رواية الليث، تُحمل رواية معمر على أن الزهري سمعه من شيخين، ورواية الأوزاعي المرسلة قصر فيها بحذف الواسطة فهذه طريقة من ينفي الاضطراب عنه.

ثم بيّن ابن حجر سبب إيراد البخاري للروايات وتوجيهها.

وسبب إخراج البخاري لرواية الأوزاعي مع انقطاعها، لأن الحديث عنده عن عبدالله بن المبارك عن الليث والأوزاعي جميعا، عن الزهري فأسقط الأوزاعي عبد الرحمن بن كعب وأثبته الليث وهما في الزهري سواء، وقد صرحا جميعا بسماعهما له منه فقبلت زيادة الليث لثقته.

وأراد من رواية سليمان بن كثير عن الزهري

إثبات الواسطة بين الزهري وبين جابر فيه في الجملة وتأكيد رواية الليث بذلك ولم يرها علة توجب اضطرابا

أما رواية معمر وافقه عليها سفيان بن عيينة فرواه عن الزهري عن

(1)

هدي الساري، ص 516، ببعض التصرف.

(2)

الكواكب الدراري، 7/ 122.

ص: 244

ابن أبي صغيرة وقال ثبتني فيه معمر فرجعت روايته إلى رواية معمر

(1)

.

فالخلاصة أن السبيل في معرفة الروايات وطرقها:

هوالتتبع، واستيعاب كل الروايات، مع ما فيها من قرائن وأدلة.

*‌

‌ القسم الثالث ما تفرد بعض الرواة بزيادة فيه دون من هو أكثر عددا أو أضبط ممن لم يذكرها:

مثاله:

قال البخاري: «حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُاللهِ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا مِنْ مَمْلُوكِهِ فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ فِي مَالِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ قُوِّمَ الْمَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ ثُمَّ اسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ»

(2)

.

قال الكرماني ناقلاً نقد الدارقطني للحديث: «روى هذا الحديث شعبة وهشام عن قتادة وهما أثبت ولم يذكرا فيه الاستسعاء، ووافقهما همام ففصل الاستسعاء من الحديث وجعله من رأي قتادة

(3)

ثم نقل الكرماني قول العلماء في ذكر من روى السعاية ممن لم يروها، وقال ابن عبد البر الذين لم يذكروا السعاية أثبت ممن ذكرها

(4)

..........................................

(1)

هدي الساري، 516 - 517.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الشركة، بَاب: تَقْوِيمِ الْأَشْيَاءِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ بِقِيمَةِ عَدْلٍ، رقم (2329).

(3)

الالزامات والتتبع، 148 - 149.

(4)

التمهيد، 14/ 173 - 174، والاستذكار، 7/ 313.

ص: 245

وعن الخطابي

(1)

: بيّن همام أن ذكر السعاية إنما هو من قتادة وقال ابن المنذر هذا الكلام من فتيا قتادة ليس من نفس الحديث

(2)

.

وقد أخرج البخاري الحديث في موضع آخر: «حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ سَمِعْتُ قَتَادَةَ قَالَ حَدَّثَنِي النَّضْرُ بْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا مِنْ عَبْدٍ

».

«حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا أَوْ شَقِيصًا فِي مَمْلُوكٍ فَخَلَاصُهُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَإِلَّا قُوِّمَ عَلَيْهِ فَاسْتُسْعِيَ بِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ.

تَابَعَهُ حَجَّاجُ بْنُ حَجَّاجٍ وَأَبَانُ وَمُوسَى بْنُ خَلَفٍ عَنْ قَتَادَةَ اخْتَصَرَهُ شُعْبَةُ»

(3)

.

قال الكرماني ناقلاً أقوال علماء آخرين وهذا من نوادره أن يتكلم عمن نقد الحديث ويكرره في موضع آخر فقال: «قال الأصيلي وابن العطار وغيرهما: من أسقط السعاية من الحديث، أولى ممن ذكرها لأنها ليست في الأحاديث الأخر من رواية ابن عمر، وروى الحديث شعبة وهشام عن قتادة ولم يذكرا فيه

(1)

أعلام الحديث شرح الجامع الصحيح، 2/ 1253.

(2)

الكواكب الدراري، 11/ 58.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: العتق، باب: إِذَا أَعْتَقَ نَصِيبًا فِي عَبْدٍ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ اسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ غَيْرَ، رقم (2360).

ص: 246

الاستسعاء

(1)

وأما همام فقد فصل الاستسعاء من الحديث وجعله من رأي قتادة»

(2)

.

فالحاصل من أقوال العلماء في هذا الحديث:

من أسقط السعاية من الحديث أولى ممن ذكرها، لأنهم رجحوا أنها مدرجة في سياق المتن وليست منه، ولأنها لم ترد في الروايات الأخرى، وهي من رأي قتادة وفتياه

«وقدروى هذا الحديث شعبة وهشام وهما أثبت الناس في قتادة فلم يذكرا في الحديث الاستسعاء، مع موافقة همام لهما»

(3)

.

إلا أن الإمام الترمذي رجح كلا الروايتين، بتصريح الإمام البخاري، «وسألت محمدا عن هذا الحديث، يعني حديث السعاية، فقلت أي الروايتين أصح فقال: الحديثان جميعا صحيحان والمعنى فيه قائم وذكر فيه عامتهم عن قتادة «السعاية» إلا شعبة وكأنه قوى حديث سعيد بن أبي عروبة في أمره بالسعاية»

(4)

.

ورجح الدكتور نور الدين عتر: «فأشار أي: البخاري إلى ترجيح رواية الزيادة لتقويتها بالمتابعات وعدم منافاة رواية شعبة لها، لأن رواية شعبة

(1)

استسعى أي استكسب غير مشدد عليه في الاكتساب أي يكلف العبد بتحصيل قيمة نصيب الشريك الآخر بلا تشديد فإذا دفعها إليه عتق، الكواكب الدراري، 11/ 58.

(2)

الكواكب الدراري، 11/ 80.

(3)

هدي الساري، ص 523.

(4)

العلل، ص 204.

ص: 247

من قبيل اختصار الحديث»

(1)

.

*‌

‌ القسم الرابع: ما تفرد به بعض الرواة ممن ضُعّف من الرواة:

ذكر ابن حجر أنه ليس في الصحيحين من هذا القبيل غير حديثين

(2)

.

الحديث الأول:

حديث «أُبَيُّ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ كَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَائِطِنَا فَرَسٌ يُقَالُ لَهُ اللُّحَيْفُ قَالَ أَبُو عَبْداللهِ وَقَالَ بَعْضُهُمُ اللُّخَيْفُ»

(3)

.

لم يذكر الكرماني الرد على طعن العلماء في هذين الحديثين، إلا أنه أشار إلى أُبَي بن عباس ابن سعد الساعدي الأنصاري أنه ليس لأُبَي في الجامع غير هذا الحديث

(4)

وأُبَي قال عنه العلماء أنه ضعيف

(5)

.

(1)

من تعليقه على هذه المسألة في شرح علل الترمذي 1/ 423.

(2)

هدي الساري، 507.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: اسْمِ الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ، رقم (2659).

(4)

الكواكب الدراري، 12/ 139.

(5)

ديوان الضعفاء، 1/ 23، وميزان الاعتدال، 1/ 208، وقال العلامة بشار عواد معروف عن أُبي بن عباس بعد أن ذكر من ضعّفه: (وقد قواه أبو الحسن الدارقطني، وخرّج الحاكم حديثه في «المستدرك» ، وذكره ابنُ حِبَّان البستي في «الثقات» في طبقة التابعين لروايته عن جده سهل وأبي الطفيل عامر بن واثلة رضي الله عنه، وَقَال الإمام الذهبي في «الميزان»: أبي وإن لم يكن بالثبت فهو حسن الحديث، وأخوه عبد المهيمن واه. ولذلك ذكره في كتابه «من تكلم فيه وهو موثق» ، وذكره ابن سعد بن الطبقة السادسة من أهل المدينة وَقَال: وأمه جمال بنت جعدة بن مالك

من بني سليم «ولم يذكر فيه جرحا أو تعديلا» من تعليقه على تهذيب الكمال في أسماء الرجال، 2/ 259.

ص: 248

الحديث الثاني:

(حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ ابْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه اسْتَعْمَلَ مَوْلًى لَهُ يُدْعَى هُنَيًّا عَلَى الْحِمَى فَقَالَ يَا هُنَيُّ اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ

»

(1)

.

*‌

‌ القسم الخامس ما حُكم فيه بالوهم على بعض رجاله:

والوهم: الوَهْمُ: من خَطَراتِ القَلْبِ، أو مَرْجُوحُ طَرَفَيِ المُتَرَدَّدِ فيه جمع: أوهامٌ، وللقلب وهم. وتوهم الشيء: تخيله وتمثله، كان في الوجود أو لم يكن

(2)

.

ومن جملة الانتقادات التي وُجهت لصحيح الإمام البخاري، أنه أخرج في صحيحه لرواة، وصفهم أهل الجرح والتعديل:«بالوهم» ، وبعضهم:«بالغلط» مما يؤثر في صفة الضبط التي هي ركيزة أساسية يرتكز عليها الحديث الصحيح، إلا أن الحافظ ابن حجر فصّل الأمر فقال:

«وأما الغلط فتارة يكثر من الراوي وتارة يقل، فحيث يوصف بكونه كثير الغلط ينظر: فيما أخرج له إن وجد مرويًا عنده أو عند غيره من رواية غير هذا الموصوف بالغلط، عُلِم أن المعتمد أصل الحديث، لا خصوص هذه الطريق وإن لم يوجد إلا من طريقه فهذا قادح يوجب التوقف عن الحكم بصحة ما هذا

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: إِذَا أَسْلَمَ قَوْمٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَهُمْ مَالٌ وَأَرَضُونَ فَهِيَ لَهُمْ، رقم (2850).

(2)

ينظر: لسان العرب، ابن منظور، مادة، وهم، 12/ 664.

ص: 249

سبيله، وليس في الصحيح بحمد الله من ذلك شيء وحيث يوصف بقلة الغلط كما يقال سيء الحفظ أوله أو اهام أوله مناكير وغير ذلك من العبارات فالحكم فيه كالحكم في الذي قبله»

(1)

.

مثاله:

أخرج البخاري بسنده: «حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ يَحْيَى وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَقَالَ أَرَأَيْتَ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَلَمْ يُمْنِ، قَالَ عُثْمَانُ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ، وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ. قَالَ عُثْمَانُ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَطَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِاللهِ وَأُبَيَّ ابْنَ كَعْبٍ رضي الله عنهما فَأَمَرُوهُ بِذَلِكَ قَالَ يَحْيَى وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

أعل الدارقطني هذا الحديث بالوهم «لأن أبا أيوب لم يسمع هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما سمعه من أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال ذلك هشام ابن عروة: عن أبيه، عن أبي أيوب، عن أبي بن كعب»

(3)

.

إلا أن الكرماني بيّن أن الوهم مدفع بالرواية الثانية، التي ساقها البخاري مباشرة عقب الأولى وهي: «عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ

(1)

هدي الساري، ص 549.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الغسل، باب: غَسْلِ مَا يُصِيبُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ، رقم (290).

(3)

العلل، الدارقطني، 3/ 32.

ص: 250

أَخْبَرني أَبُو أَيُّوبَ قَالَ أَخْبَرَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ

»

(1)

.

فقال: «فإن قلت: أبو أيوب في هذا الطريق أي الأولى يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بواسطة أُبَي، وفيما تقدم يروي بدون الواسطة، قلت الحديثان مختلفان في اللفظ والمعنى وأن توافقا في بعض الأحكام مع جواز سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أُبي كليهما وذكر الواسطة يكون للتقوية ولأغراض أخر»

(2)

.

ومن ذلك قال أبو عبدالله البخاري: «حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئاً لَا تَعْرِفُهُ إِلاَّ رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ

»

(3)

.

بيّن الكرماني أن هذا الحديث مما استدركه الدارقطني

(4)

على البخاري، بسبب خلاف الرواية فيه عن ابن أبي مُليكة: فرُوي عنه عن عائشة، وعنه عن القاسم.

فقال الكرماني راداً الاستدراك: «وأقول هذا استدراك ضعيف؛ لأنه محمول على أنه سمعه عنها بالواسطة وبدون الواسطة، فرواه بالوجهين فالاستدراك مُسْتدرك»

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الغسل، باب: غَسْلِ مَا يُصِيبُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ، رقم (291).

(2)

الكواكب الدراري، 3/ 155.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: من سمع شيئا فراجعه حتى يعرفه، رقم (103).

(4)

الالزامات والتتبع، ص 348 - 349.

(5)

الكواكب الدراري، 2/ 101.

ص: 251

فهذا المثال والذي قبله من المزيد في متصل الأسانيد، وسيأتي الكلام عنه.

*‌

‌ القسم السادس وهو القسم الثاني من المخالفة الخاص بالمتن:

ما اختلف فيه بتغيير بعض ألفاظ المتن، فهذا أكثره لا يترتب عليه قدح؛ لإمكان الجمع في المختلف من ذلك.

وقد ينبه الكرماني أحياناً على أن التغيير في ألفاظ المتن بزيادة أو نقصان، قد يكون سببه تصرف الرواة، من اختصار، وما شابه ذلك وليس من قبيل الاختلاف الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

مثاله:

ومن ذلك حديث ووصية النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس «

فَقَالَ «آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ الإِيمَانِ بِاللهِ ثُمَّ فَسَّرَهَا لَهُمْ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تُؤَدُّوا إِلَيَّ خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ، وَأَنْهَى عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُقَيَّرِ وَالنَّقِيرِ»

(1)

.

فالحديث لم يذكر صيام رمضان والمقام مقام بيان وتفصيل في أركان الإسلام المفروضة آنذاك، والصيام منها، قال الكرماني: «فما السبب فى تركه ههنا والحال أنه كان واجبا حينئذ لأن وفادتهم كانت عام الفتح وإيجاب الصيام فى السنة الثانية من الهجرة قلت: قال ابن الصلاح:

(2)

وأما عدم ذكر الصوم فيه فهو

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: مواقيت الصلاة، باب:(منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين)، رقم (501).

(2)

صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط، ابن الصلاح، ص 155.

ص: 252

إغفال من الراوي، وليس من الاختلاف الصادر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل من اختلاف الرواة الصادر من تفاوتهم فى الضبط والحفظ»

(1)

.

ومنه: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَ مُعَاذاً رضي الله عنه عَلَى الْيَمَنِ قَالَ «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللهِ فَإِذَا عَرَفُوا اللهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَيْهُمْ زَكَاةً تُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ»

(2)

.

فقد نقل الكرماني عن ابن الصلاح

(3)

أن ما وقع في حديث معاذ من ذكر بعض دعائم الإسلام دون بعض، هو من تقصير الراوي

(4)

.

وقد يُعلّ الحديث لمخالفة ما يرويه الثقة بلفظة في متن الحديث، مخالفاً الثقات والمحفوظ من روايتهم، وقد يكون الاختلاف في بعض الألفاظ التي يمكن أن تُرد إلى معنى واحد وهو من الانتقادات التي انتُقد بها الإمام البخاري، إلا أن العلماء أجابوا عنها، وردوا شبهة الضعف عنها.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ومثال ما وقعت العلة في المتن دون الإسناد، ولا تقدح فيهما ما وقع من اختلاف ألفاظ كثيرة من أحاديث

(1)

الكواكب الدراري، 4/ 177.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الزكاة، باب: لَا تُؤْخَذُ كَرَائِمُ أَمْوَالِ النَّاسِ فِي الصَّدَقَةِ، رقم (1375).

(3)

صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط، ص 163.

(4)

ينظر: الكواكب الدراري، 7/ 222.

ص: 253

الصحيحين إذا أمكن رد الجميع إلى معنى واحد، فإن القدح ينتفي عنها»

(1)

.

ومن هذا النوع:

ما أخرجه البخاري «حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ ثُمَّ يَذْهَبُ الذَّاهِبُ مِنَّا إِلَى قُبَاءٍ، فَيَاتِيهِمْ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ»

(2)

.

والانتقاد الذي وُجّه للبخاري في هذا الحديث: أن رواية مالك مخالفة لرواية الثقات في لفظة (قباء) والمحفوظ من رواية غيره لفظة (العوالي) بدل (قباء).

وقد أعلَّ هذه الرواية الدارقطني إذ قال: «أخرجا جميعاً أي البخاري ومسلم حديث مالك عن الزهري عن أنس: كنا نصلي العصر ثم يذهب الذاهب منا إلى قباء.

وهذا مما يعتد به مالك لأنه رفعه، وقال فيه: وخالفه عدد كثير منهم صالح بن كيسان وشعيب وعمرو بن الحارث، ويونس بن يزيد والليث بن سعد ومعمر وابن أبي ذئب وإبراهيم بن أبي عبلة، وابن أخي الزهري والنعمان وأبو أويس وعبد الرحمن بن إسحاق، وقد أخرجا قول من خالف مالكاً أيضاً»

(3)

.

وأعلها النسائي

(4)

ونقل الكرماني إعلال الحديث نقلا عن التيمي بتفرد

(1)

النكت على ابن الصلاح، 315.

(2)

وهو رواية مالك في الموطأ بهذا اللفظ، باب: وقوت الصلاة، رقم (11).

(3)

الإلزامات والتتبع، ص 308.

(4)

ينظر فتح الباري، 1/ 352.

ص: 254

مالك بلفظة قباء

(1)

من دون أن يرد على هذا الإشكال.

إلا أن العلماء أجابوا عن ذلك قال بن عبد البر: «وقول مالك عندهم إلى قباء وهْمٌ لا شك فيه ولم يتابعه أحد عليه في حديث ابن شهاب هذا، إلا أن المعنى في ذلك متقارب على سعة الوقت؛ لأن العوالي مختلفة المسافة وأقربها إلى المدينة ما كان على ميلين أو ثلاثة، ومنها ما يكون على ثمانية أميال وعشرة ومثل هذا هي المسافة بين قباء وبين المدينة وقباء»

(2)

.

وقال ابن حجر: «والجماعة كلهم قالوا إلى العوالي

(3)

، ومثل هذا الوهم اليسير لا يلزم منه القدح في صحة الحديث، لا سيما وقد أخرجا الرواية المحفوظة»

(4)

وقد أحسن البدر العيني في الرد على إعلال هذه الرواية وأجاب بالآتي:

1 -

إن مالكاً لم بتفرد بروايته، بل تابعه بلفظه ابن أبي ذئب.

2 -

ولا يمكن الجزم والقطع أن الوهم موجه إلى مالك، لأنه وارد أن

(1)

الكواكب الدراري، 4/ 196.

(2)

التمهيد، 6/ 178، وممن قال نحو هذا الكلام الإمام النووي في شرحه على مسلم، 5/ 122، والبدر العيني في عمدة القاري، 5/ 37.

(3)

رواية العوالي أخرجها البخاري كتاب: مواقيت الصلاة، باب: وقت العصر، رقم (550)، ومسلم، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب التبكير بالعصر، رقم (192)، وأبو داود، كتاب: الصلاة، باب: في وقت صلاة العصر، رقم (404)، والنسائي، كتاب: المواقيت، باب: العصر.

(4)

فتح الباري، 1/ 352.

ص: 255

يكون ممن دونه، فقد يكون من الزهري حين حدث به مالك، وقال ابن بطال: روى خالد بن مخلد عن مالك فقال فيه: إلى العوالي، كما قاله الجماعة، فهذا يدل على أن الوهم فيه ممن دون مالك.

ورُدّ على ذلك بأن مالكا أثبته في (الموطأ) باللفظ الذي رواه عنه كافة أصحابه، فرواية خالد عنه شاذة.

3 -

ثم مال العيني للجمع بين الروايتين ووفق بينهما، ورفَعَ الإشكال، فقال: ومع هذا كله فقباء من العوالي، فلعل مالكا رأى في رواية الزهري إجمالا وفسرها بقباء، فعلى هذا لا يحتاج إلى نسبة الوهم إلى أحد فافهم

(1)

.

* * *

‌المبحث السابع

بيان اللطائف الإسنادية

*‌

‌ معنى اللطائف وعناية العلماء بها:

قال علماء اللغة: شيء لطيف، ليس بجاف، ولطفت بفلان: رفقت به، ولطف الشيء بالضم يلطف لطافة، أي صغُر ودق، فهو لطيف

(2)

.

إذاً كل ما كان رقيقاً، ودقيقاً، وصغيراً، ينطبق عليه معنى اللطف.

أما علماء الاصطلاح لم يعرّفوا مصطلح اللطائف الإسنادية تعريفاً خاصاً

(1)

عمدة القاري، 5/ 37.

(2)

ينظر مادة (لطف) الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، 4/ 1426، وأساس البلاغة للزمخشري، 2/ 169، والقاموس المحيط للفيروز آبادي، 1/ 853.

ص: 256

مستقلاً فيما أعلم وبما اطلعت عليه إلا أنه يُفهم من كلامهم في تعريفها: هي الغرائب والفرائد والنكات والمستظرفات، والمسائل التي تقع في أسانيد الأحاديث.

وقد اعتنى المحدثون باللطائف الإسنادية عناية بالغة، وقام شُرّاح الحديث بذكرها في شروحهم، ونبهوا عليها، لما لها من أهمية كبيرة في علوم السند، في معرفة كيفية تحمّل الحديث، ومعرفة ضبط أسماء الرواة، كرواية أهل بلد واحد عن بعضهم، إذ أن أهل البلد الواحد يعرفون أسماء بعضهم البعض أكثر من غيرهم، ومعرفة بيان سماع الراوي من شيخه، ومعرفة بعض العلل الواردة في السند.

وقد صُنّف في اللطائف الإسنادية مصنفات خاصة منها «ما روى الصحابة عن التابعين للخطيب البغدادي» وله رواية الأبناء عن آبائهم «ورواية الأباء عن أبنائهم» وكتاب: «الإخوة لأبي المطرف القرطبي»

(1)

وكتاب: «مارواه الكبار عن الصغار للحافظ أبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن يونس بن المنجنيقي البغدادي الوراق

(2)

» وكتاب: «رواية الأبناء عن آبائهم لأبي نصر

(1)

عبد الرّحمن بن محمّد بن فطيس الأندلسيّ القرطبي، أبو المطرف، كان من جهابذة المحدّثين وحفّاظهم، ومن علماء الحديث عارفًا بالرجال كان يملي من حفظه، وجمع من الكتب ما لم يجمعه أحد (ت 402 هـ)، ينظر: تذكرة الحفاظ، الذهبي، 3/ 175، وجمهرة تراجم الفقهاء المالكية، د. قاسم سعد، 2/ 622.

(2)

أحمد بن محمد بن سعيد بن عبيدالله بن أحمد بن سعيد بن أبي مريم أبو بكر القرشي الوراق، يعرف بابن فطيس، روى الحديث عن جماعة، صاحب الخط الحسن، (ت 135 هـ)، الوافي بالوفيات، الصفدي، 7/ 262.

ص: 257

عبيدالله بن سعيد السجزي الوائلي»

(1)

وغيرها من الكتب

(2)

.

وتتنوع هذه اللطائف بين من قَصَرها على بعض الأنواع التي مر ذكرها في أسماء المؤلفات وزاد عليها قليلاً، ومنهم من توسع فيها كما فعل: محمد بن الأصبهاني المديني، في كتابه:«اللطائف من دقائق المعارف في علوم الحفاظ الأعارف» فقد بلغت اللطائف في كتابه تسع عشرة نوع، وقد أتى بأمثلة عن كل نوع من كتب السنة المختلفة.

وقد ذكر العراقي في ألفيته أنواع اللطائف الإسنادية وهي:

رواية الأكابر عن الأصاغر.

رواية الأقران.

رواية الأخوة والأخوات.

رواية الآباء عن الأبناء.

رواية الأبناء عن الآباء

(3)

.

(1)

عبيدالله بن سعيد بن حاتم الوائلي، أبو نصر السِّجزي، كان عالماً بالرجال، نزيل الحرم ومصر وصاحب «الإبانة الكبرى» في مسألة القرآن، وله كتاب في المؤتلف والمختلف (ت 444 هـ)، ينظر: تذكرة الحفاظ، الذهبي، 3/ 211، وطبقات النسابين، بكر بن عبدالله، بن غيهب، 1/ 98.

(2)

ينظر: الرسالة المستطرفة، لأبي عبدالله محمد الكتاني، ص 163، التصنيف في السنة النبوية وعلومها في القرن الخامس الهجري، د. عبد العزيز الهليل، ص 24 - 25.

(3)

ألفية العراقي، ص 168 - 170.

ص: 258

‌منهج الكرماني في ذكر اللطائف الإسنادية:

وقد اعتنى الإمام الكرماني رحمه الله في شرحه باللطائف الإسنادية، وكان يشير إلى بعضها ويبين نوعها فمن ذلك:

‌1 - رواية الأكابر عن الأصاغر:

وهي أن يروي كبير القدر والسن عمّن دونه في المقدار

(1)

.

وقد ذكر العلماء فائدة هذا النوع، قال ابن الصلاح:«ومن الفائدة فيه أن لايتوهم كون المروي عنه أكبر وأفضل من الراوي، نظرا إلى أن الأغلب كون المروي عنه كذلك، فيجهل بذلك منزلتهما»

(2)

.

مثاله: «حَدَّثنا أَبُو اليَمَانِ، قَالَ: أَخبَرَنا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى رَهْطًا

وَرَوَاهُ يُونُسُ، وَصَالِحٌ، وَمَعْمَرٌ، وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ»

(3)

.

قال الكرماني: «وصالح هو ابن كيسان

(4)

المدني وروايته عن الزهري من رواية الأكابر عن الأصاغر لأنه أسن من الزهري»

(5)

.

(1)

المنهل الروي، ص 77، والباعث الحثيث ص 195.

(2)

علوم الحديث، ص 307.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، بَابُ: إِذَا لَمْ يَكُنِ الإِسْلَامُ عَلَى الحَقِيقَةِ، رقم (26).

(4)

صالح بن كيسان المدني أبو محمد، يعد في التابعين وقال النسائي وابن خراش ثقة، (ت 140)، تهذيب التهذيب 4/ 398 - 399.

(5)

الكواكب الدراري، 1/ 132.

ص: 259

ومثله: «حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَال أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ

»

(1)

.

قال الكرماني: «واجتمع في إسناد طرفتان إحداهما رواية الأكابر عن الأصاغر والأخرى ثلاثة تابعيون بعضهم عن بعض»

(2)

.

ويدخل تحت رواية الأكابر عن الأصاغر، رواية الصحابي عن التابعي، مثاله قال أبو عبدالله البخاري: «حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِاللهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاه قَالَ حَدَّثَنِي سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَّهُ رَأَى مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ فِي الْمَسْجِدِ فَأَقْبَلْتُ حَتَّى جَلَست

»

(3)

.

قال الكرماني: «وهذا من رواية الصحابي عن التابعي لأن سهلا صحابي ومروان تابعي»

(4)

.

ومما يندرج تحت رواية الأكابر عن الأصاغر:

السابق واللاحق: هو أن يشترك في الرواية عن الراوي راويان: أحدهما متقدم الوفاة، والآخر متأخر في الوفاة، بينهما أمد بعيد، فيحصل في وقت

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الجنائز، باب: إِذَا قَالَ الْمُشْرِكُ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، رقم (1280).

(2)

الكواكب الدراري، 7/ 135.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: تفسير القرآن، بَاب:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، رقم (4278).

(4)

الكواكب الدراري، 17/ 86.

ص: 260

وفاتيهما تبايناً شديداً

(1)

.

وفائدته: تقرير حلاوة علو الإسناد في القلوب، ودفع ظن الغلط في تلاميذ الراوي، والأمن من ظن سقوط شيء في إسناد المتأخر، وتفقه الطالب في معرفة العالي والنازل

(2)

.

وقد نبه الكرماني أثناء ترجمته على ذلك:

مثاله: «سليمان أبو أيوب بن حرب، ولد سنة (140 هـ)، ومات سنة:(224 هـ) قال الكرماني في ترجمته: «قال الخطي يُحدث عنه يحيى القطان، وأبو خليفة أي الفضل بن الحباب الجمحي

(3)

وبين وفاتيهما مائة وسبع سنين توفي القطان سنة ثمان وتسعين ومائة وأبو خليفة سنة خمس وثلاثمائة»

(4)

.

ومن ذلك: «حمّاد بن زيد بن درهم الأزدي البصري أبو إسماعيل الأزرق»

(5)

قال الكرماني: «وحدث عنه أبو الهيثم والثوري وبين وفاتيهما مائة سنة فأكثر»

(6)

.

(1)

معرفة علوم الحديث، ابن الصلاح، ص 318، وفتح المغيث، 4/ 193.

(2)

فتح المغيث، 4/ 193، وتدريب الراوي، 2/ 737.

(3)

قال ابن حجر في تهذيب التهذيب، روى عن سلمان بن حرب يحيى القطان وهو أكبر منه

وروى عنه جماعة آخرهم أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي، 4/ 178.

(4)

الكواكب الدراري، 1/ 114.

(5)

قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: وروى عن حمّاد ابن المبارك

وابن عيينة وهو من أقرانه والثوري وهو أكبر منه، 3/ 9.

(6)

الكواكب الدراري، 1/ 141.

ص: 261

ومثله: «بهز بن حكيم ابن معاوية القشيري» قال الكرماني في ترجمته: «وقال الخطيب حدث عنه الزهري ومحمد بن عبدالله الأنصاري وبين وفاتيهما إحدى وتسعون سنة»

(1)

.

‌2 - رواية الأقران (المدبج):

«القرين من الرواة: من يجتمع مع الراوي الآخر في الطبقة أو الشيوخ والتلاميذ»

(2)

.

وقد يروي القرينان بعضهم عن بعض كعائشة وأبي هريرة، وهو المدبج.

وغير المدبج: رواية أحد القرينين عن الآخر، ولا يروي الآخر عنه مثل رواية: رواية سليمان التيمي عن مسعرولم يروِ مسعر عن التيمي.

ويدخل في رواية الأقران عن بعضهم رواية صحابي عن صحابي، مثاله: «حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ ابْنَةَ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ حَدَّثَتْهَا عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعاً يَقُولُ «لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ

»

(3)

.

فقد اجتمع في هذا الإسناد ثلاث صحابيات وهنّ: (زينب بنت جحش، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وزينب بنت أبي سلمة).

(1)

السابق، 3/ 140، وينظر ترجمته في تهذيب التهذيب، 1/ 498.

(2)

تحرير علوم الحديث، ص 91، ومنهج النقد، ص 154.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الأنبياء، باب: علامات النبوة في الإسلام، رقم (3369).

ص: 262

ومن ذلك أخرج البخاري: «حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ جَنَازَةً

»

(1)

.

فقد بيّن الكرماني أن هذا السند من قبيل رواية صحابي عن صحابي، إذ أن عبدالله بن عمر، وعامر بن ربيعة صحابيان جليلان

(2)

ومن ذلك رواية أنس بن مالك عن عبادة بن الصامت رضي الله عنهما

(3)

، ورواية أنس عن زيد رضي الله عنه

(4)

، ورواية ابن عباس عن أبي طلحة رضي الله عنهم

(5)

، وحديث أنس عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهم

(6)

.

ومن فائدة هذا النوع ألا يتوهم الناظر أن ذكر أحد المتقارنين وقع في السند خطأ، وألا يفهم أن «عن» خطأ

(7)

.

مثاله: أخرج البخاري في كتاب: بدء الوحي، حديث «حَدَّثنا الْحُمَيْدِيُّ عَبْدُاللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَ: حَدَّثنا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه، عَلَى المِنْبَرِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّمَا

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الجنائز، باب: مَتَى يَقْعُدُ إِذَا قَامَ لِلْجَنَازَةِ، رقم (1233).

(2)

الكواكب الدراري، 7/ 101.

(3)

السابق، 1/ 190.

(4)

السابق، 9/ 79.

(5)

السابق، 21/ 133.

(6)

السابق، 25/ 245.

(7)

ينظر منهج النقد، د عتر، ص 154.

ص: 263

الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ

»

(1)

.

قال الكرماني: (اعلم أن في هذا الإسناد لطيفة وهو: أن فيه ثلاثة من التابعين المدنيين يروي يعضهم عن بعض، وهم يحيى ومحمد وعلقمة، وقد يقع ما هو ألطف منه وهو ما عن أربعة من التابعين»

(2)

.

ومن هذا القبيل، ما أخرجه البخاري: «حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ

»

(3)

.

في هذا الحديث وقع عدة لطائف «أن فيه التحديث والعنعنة، ورواته أئمة أجلّاء ثقات، وفيه رواية تابعي عن تابعي زيد بن أسلم عن عطاء» . وهو مما انفرد به البخاري عن مسلم، وأخرجه الأربعة

(4)

.

‌3 - رواية أهل بلد عن بعضهم:

من اللطائف الإسنادية أن لايروي الراوي إلا عن أهل بلده، لذلك نجد عبارات عند أهل الجرح والتعديل قولهم في الراوي، ثقة إن روى عن أهل بلده، وضعيف عن غيرهم، أو ثقة إن روى عن أهل الشام

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري، باب: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الوَحْيِ، رقم (1).

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 17، وينظر ومثال كذلك، 2/ 190.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً، رقم (157).

(4)

عمدة القاري، العيني، 3/ 2. وكوثَر المَعَاني الدَّرَارِي في كَشْفِ خَبَايا صَحِيحْ البُخَاري، محمد الخضر الشنقيطي، 4/ 329.

(5)

قال ابن حبان في الثقات في محمد بن يحيى بن حمزة الحضرمي: روى عنه أهل الشام ثقة في نفسه يُتقى حديثه ما روى عنه أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة وأخوه عبيد فإنهما كانا يدخلان عليه كل شيء، 9/ 74.

ص: 264

وقد أكثر الكرماني في شرحه من الإشارة لهذا النوع:

مثاله: قال البخاري: «حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «يَسِّرُوا

وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا»

(1)

.

قال الكرماني: «ورجال هذا الإسناد كلهم بصريون»

(2)

.

ومنه: «حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهم أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الإِسْلَامِ خَيْرٌ

»

(3)

.

قال الكرماني: «في هذا الإسناد لطيفة وهو أن رواته كلهم مصريون وهذا من الغرائب لأنه في غاية القلة ويزداد قلة باعتبار جلالتهم لأنهم كانوا كلهم أئمة جلة»

(4)

.

ومن ذلك: «حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ ابْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ

»

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُهُمْ بِالْمَوْعِظَةِ، رقم (68).

(2)

الكواكب الدراري، 2/ 34.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، بابٌ: إطعامُ الطعام من الإسلَامِ، رقم (11).

(4)

الكواكب الدراري، 1/ 92.

(5)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، بابُ: فضل من استبرأ لدينه، رقم (49).

ص: 265

قال الكرماني: «ورجال الأسناد كلهم كوفيون ولفظ: سمعت مشعر ببطلان ما يقولون: من عدم تصحيح سماعه

(1)

من النبي صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

«حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ لَيْسَ أَبُو

عُبَيْدَةَ ذَكَرَهُ وَلَكِنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَاللهِ يَقُولُ أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْغَائِطَ، فَأَمَرَنِي

»

(3)

.

قال الكرماني: «في الإسناد لطيفتان كلهم كوفيون وفيهم تابعيون ثلاثة يروى بعضهم عن بعض»

(4)

.

وقد يبين الكرماني أن أكثر رجال السند من بلد معين وينبه على المُستثنى منهم، من ذلك قال البخاري: «حَدَّثنا عُبَيْدُاللهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخبَرَنا حَنْظَلَةُ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، قَالَ

»

(5)

.

(1)

أي سماع النعمان بن بشير من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن الأثير الجزري في أُسد الغابة: ولد قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بثماني سنين وسبعة أشهر

، قال أبو عمر: لا يصحح بعض أهل الحديث سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عندي صحيح، لأن الشعبي يقول عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، 5/ 310.

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 203.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: لَا يُسْتَنْجَى بِرَوْثٍ، رقم (156).

(4)

الكواكب الدراري، 2/ 203، وينظر أمثلة أخرى عن ذلك 2/ 43، 5/ 130، 24/ 50، 20/ 147.

(5)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، بابٌ: دُعَاؤُكُمْ إِيمَانُكُمْ، رقم (7).

ص: 266

قال الكرماني: «واعلم أن هذا الإسناد من الطرف، إذ رواته مكيون قرشيون إلا عبيدالله فإنه كوفي»

(1)

.

‌4 - رواية الأقارب عن بعضهم البعض:

قد يجتمع في سند الحديث الواحد أقارب رووا عن بعضهم البعض، مثاله: قال البخاري: حَدَّثنا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِاللهِ يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

فإسماعيل الأصبحي ابن أخت الإمام مالك، (وهو شيخه وخاله) روى عن عمه سهيل ابن مالك (وهو نافع بن مالك ابن أبي عامر المدني)، عن أبيه (وهومالك بن أبي عامر)، فصارت رواية إسماعيل: عن خاله عن عمه عن أبيه

(2)

.

ومثله:

قال البخاري: «حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ أَتَيْتُ عَائِشَةَ وَهِيَ تُصَلِّي فَقُلْتُ مَا شَانُ النَّاسِ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ، فَقَالَتْ سُبْحَانَ اللهِ

»

(3)

.

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 78.

(2)

ينظر الكواكب الدراري، 1/ 179.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: مَنْ أَجَابَ الفُتْيَا بِإِشَارَةِ اليَدِ وَالرَّاسِ، رقم (85).

ص: 267

فهشام هو: ابن عروة بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي المدني أبو المنذر وفاطمة هي: بنت المنذر بن الزبير ابن العوام زوجة هشام ابن عروة بن الزبير المذكور.

وأسماء هي: بنت أبي بكر الصديق زوجة الزبير بن العوام أخت

عائشة رضي الله عنها وهي أكبر من عائشة بعشر سنين، وأسماء هي جدة فاطمة بنت المنذر

(1)

والسيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق أخت أسماء.

قلت وقد يكون من اللطائف:

الإسناد العالي، ومنه: ثلاثيات البخاري، والنازل ومنه: تساعي البخاري وهو حديث واحد عنده

(2)

.

ومنها: رواية الراوي عن شيخه بواسطة وبدونها.

ومنه إذا ورد حديث بإسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، تأتي رواية أخرى بإسناد مختلف لكن عن ذات الصحابي الذي في الرواية الأولى.

(1)

ينظر: الكواكب الدراري، 2/ 66.

(2)

والحديث هو: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ ابْنَةَ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَتْهُ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ رضي الله عنهن أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعاً يَقُولُ «لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ» . وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا. قَالَتْ زَيْنَبُ ابْنَةُ جَحْشٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ «نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخُبْثُ» . في كتاب: الأنبياء، باب: قِصَّةِ يَاجُوجَ وَمَاجُوجَ، رقم (3130).

ص: 268

ومن اللطائف ما وقع في إسناد البخاري من اجتماع من قالوا بالقدر، روى أحدهم عن الآخر، وهما:«شبل بن عبّاد المكي القاري، يروي عن عبدالله ابن أبي نَجيح يسار الثقفي» .

والحديث هو: «حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَآهُ وَأَنَّهُ يَسْقُطُ

»

(1)

.

ومن اللطائف أن يكون السند مسلسلا على صفة أو حالة واحدة، كأن يكون الإسناد كله من الشاميين أو المصريين

أوأن يكون أحد رواة الحديث مُسلسلاً بكنيته لا باسمه.

مثاله قال البخاري: «وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الْكِلَابِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ غَنْمٍ الأَشْعَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي بُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الأَشْعَرِيُّ وَاللهِ مَا كَذَبَنِي سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ

»

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الحج، بَاب: النُّسْكُ شَاةٌ، رقم (1701) كما أن لهما حديثان آخران، واحد في كتاب: تفسير القرآن، بَاب:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} رقم (4216)، والثاني في كتاب: الطلاق، بَاب:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} إِلَى قَوْلِهِ {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ، رقم (5000).

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الأشربة، باب: مَا جَاءَ فِيمَنْ يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ وَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ.

ص: 269

قال الكرماني: «واعلم أن هذا الإسناد من الطرائف لأن الرجال كلهم شاميون فهو مسلسل الشامية»

(1)

.

أو أن يكون الإسناد مسلسلا بلفظ التحديث

(2)

وقد يتفق أن تتشابه أسماء الرواة في كل السند عدا الصحابي أشار الكرماني إلى ذلك، إلى سند مسلسل بالمحمديين.

قال البخاري: «حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبِ بْنِ عَطِيَّةَ الدِّمَشْقِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيُّ أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سَفْعَةٌ

»

(3)

.

أو أن يكون الحديث قد رواه كل واحد من رواته رواه عن والده،

مثاله:

قاله البخاري: «حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إِنِّي لَفِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ إِذْ الْتَفَتُّ فَإِذَا عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي فَتَيَانِ

»

(4)

.

قال الكرماني: (قوله: جده أي جد سعد، وهو عبد الرحمن والحديث

(1)

الكواكب الدراري، 20/ 147.

(2)

السابق، 7/ 212.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الطب، بَاب: رُقْيَةِ الْعَيْنِ، رقم (5380).

(4)

أخرجه البخاري، كتاب، المغازي، رقم (3736).

ص: 270

مسلسل بالأبوة؛ إذ هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن، روى كل واحد منهم عن أبيه»

(1)

.

* * *

(1)

الكواكب الدراري، 15/ 173.

ص: 271

‌الفصل الثالث

منهج الكرماني وصناعته الحديثية في علوم الرواة

‌تمهيد: التعريف بالراوي ومكانته

الراوي: «هو من تلقّى الحديث وأداه بصيغة من صيغ الأداء»

(1)

.

من المعروف أن رجال سند الحديث هم المُعوّل عليهم في قبول الحديث أو رده، لذلك نالت معرفة أحوالهم عناية فائقة عند العلماء، فقد أُفردت مصنفات كثيرة للتعريف بهم، وبكل ما يتعلق بهم من ضبط للأسماء والألقاب والكُنى، ومعرفة المتفق والمفترق، والمؤتلف والمختلف، وما قيل فيهم من جرح أو تعديل

وقد ظهرت عناية الكرماني أثناء شرحه بترجمة الرواة، قال في مقدمة شرحه أنه تعرض:«لأسماء الرجال وتعجيم ألفاظها وتوضيح ملتبسها، وتكشيف مشتبهها وتبيين مختلفها، وتحقيق مؤتلفها وأنسابهم وألقابهم وبلادهم ووفياتهم إلى آخر تراجمهم»

(2)

.

وكان من عادة الكرماني في بعض الأحايين يكرر اسم الراوي ويُعيد

(1)

منهج النقد، ص 75.

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 4.

ص: 272

ضبط اسمه، وهذا مما انتُقد عليه، إلا أنه بيّن سبب ذلك في مقدمة شرحه أن الناس عندما راحوا يقرأون في صحيح البخاري اشتبهت: «عليهم أكثر الأسماء مثل: ابن بكير هل هو مصغّر، أو مكبّر حتى كادوا يتركون قراءته، لذلك فصار هذا أيضا مضافاً إلى ما كنت قصدته من الزيادة على التوضيح في قسم الأسماء، لاسيما وقد صار هذا الفن مهجورًا في أكثر الأمصار، وليس للعقل فيه دخل

ولا للقياس فيه اعتبار»

(1)

فكان تكراره لضبط الاسم والنسب واللقب

من أجل أن يعْلق في الأذهان والله أعلم.

إلا أنه كان يكرر غير ضبط الاسم، فكان ينبه على الأسماء المشتركة بين الرجال والنساء، حتى لا يقع الالتباس، فقد بيّن في ترجمة:«جويرية» وفي لفظ «أسماء» بيّن أنهما «من الأعلام المشتركة بين الذكور والإناث»

(2)

وقد كرر هذا كثيراً.

فمن خلال البحث تبيّن منهج الكرماني في التعريف بالرواة وترجمتهم ويظهر هذا في عدة أمور.

* * *

‌المبحث الأول

ذكر ما يتعلق باسم الراوي

‌1 - ضبط اسم الراوي:

إن أول عمل يقوم به الكرماني بالنسبة للرواة هو التعريف بالراوي، إذ

(1)

السابق، 1/ 5.

(2)

السابق، 8/ 197.

ص: 273

لابد من معرفة الاسم بشكله الصحيح قبل معرفة الأمور الأخرى فيذكر اسم الراوي مضبوطاً بالحركات.

قال في ترجمة الصحابي الجليل: «زيد بن خالد الجُهَني بضم الجيم، وفتح الهاء، وبالنون»

(1)

.

وقال في ترجمة: علقمة بن وقاص الليثي: «عَلقمة: فهو بفتح العين المهملة، والوقّاص بتشديد القاف، والليثي: بالياء المثناة من تحت والثاء المثلثة»

(2)

.

‌2 - بيان الاختلاف في ضبط الأسماء:

ويشير الكرماني إلى اختلاف العلماء في ضبط بعض الأسماء، تبعا للغات أهل البلد، قال في ترجمة:(سَمُرة بن جُندب) ناقلاً عن الغساني: «ومنهم من يقول سمرة تكون الميم تخفيفاً نحو عضد في عضد وهي لغة أهل الحجاز وبنو تميم يقولون بضمها»

(3)

.

ومن ذلك تخفيف حرف اللام من «سلام» في الراوي: (محمد بن سلام) قال الكرماني: «بتخفيف اللام وهو الصحيح الذى عليه الاعتماد، ولم يذكر جمهور المحققين غيره وذكر بعضهم أن التشديد: لحن وادّعى صاحب المطالع

(4)

(1)

الكواكب الدراري، 2/ 80.

(2)

االسابق، 1/ 16.

(3)

السابق، 3/ 206.

(4)

إبراهيم بن يوسف بن إبراهيم بن عبدالله بن باديس بن القائد، أبو إسحاق بن قرقول الوهراني، الحمزي، صاحب الخط الأنيق، كان رحالا في العلم فقيها نظارا، أديبا، حافظا، يبصر الحديث ورجاله، له مطالع الأنوار الذي وضعه عل كتاب: مشارق الأنوار للقاضي عياض، (ت 569 هـ). تاريخ الإسلام، الذهبي، 12/ 402، والوافي بالوفيات، 6/ 109.

ص: 274

أن التشديد هو رواية الأكثر

(1)

فقيل إنها مخالفة للمشهور إلا أن يريد رواية أكثر شيوخه»

(2)

.

وقال في ترجمة عبدالله بن أبي السّفَر: «عبدالله ابن أبي السَّفَر) بفتح السين والفاء سعيد بن يُحمد الهمداني الكوفي. قال النووي: يُحمد بضم الياء وفتح الميم والحافظ بضم الياء وكسر الميم»

(3)

.

‌3 - ضبط الاسم من الناحية الصرفية:

ولا يخلو صنيع الكرماني أحياناً من ضبط الاسم من الجانب الصرفي، منها ما كان على صيغة اسم الفاعل، قال في ترجمة نُعيم المُجمِر:«اسم فاعل من الإجمار على الأشهر وفي بعضها التجمير العدوي المدني»

(4)

وقال في السائب بن يزيد: «اسم فاعل من السيب بالمهملة وبالتحتانية وبالموحدة»

(5)

.

ومنها ما كان على صيغة اسم المفعول، قال في ترجمة، مُعافى ابن عمران:«ومعافى، اسم مفعول من المعافاة بالمهملة والفاء»

(6)

.

(1)

مطالع الأنوار على صحيح الآثار، 5/ 558.

(2)

السابق، 1/ 111، وينظر ما قاله في ضبط أبي ذر جُندب بن جنادة، 1/ 138.

(3)

السابق، 1/ 87.

(4)

الكواكب الدراري: 2/ 171.

(5)

السابق، 3/ 36.

(6)

السابق، 6/ 110.

ص: 275

أو ما جاء على وزن الفعل مثل: «يَعْلى على وزن يحيى»

(1)

وما كان على وزن المؤنث: «وفاطمة هي بنت المنذر بن الزبير وجدتها أسماء على وزن حمراء»

(2)

.

‌4 - بيان معنى الاسم:

ويشير كذلك إلى معنى الاسم مثل قوله في: «ربعي بن حِراش» فقال في معنى اسمه: «والربعي بحسب اللغة المنسوب إلى الربع والحراش جمع الحرش وهو الأثر»

(3)

«نُفيع تصغير من النفع»

(4)

، «وأبو عُبيدة مصغر العبدة»

(5)

.

ويذكر الصفة وضدها في الراوي، مثل:«أبو الخير ضد الشر»

(6)

، و «الضحاك ضد البكّاء»

(7)

، «وحرب ضد الصلح»

(8)

، و «و يحيى أي ابن أبي كثير ضد القليل»

(9)

«سليمان بن يسار ضد اليمين»

(10)

ولعل صنيعهم هذا

(1)

الكواكب الدراري، 12/ 73.

(2)

السابق، 3/ 26.

(3)

السابق، 2/ 108.

(4)

السابق، 9/ 91.

(5)

السابق، 15/ 162.

(6)

الكواكب الدراري: 7/ 122.

(7)

السابق، 11/ 45.

(8)

السابق، 2/ 53.

(9)

السابق، 3/ 154.

(10)

السابق، 3/ 81.

ص: 276

لضبط الاسم ولو سقطت منه النقط بسبب النساخ، أوبسبب التصحيف والتحريف.

ويذكر مرادف الاسم مثل «الليثي مرادف الأسد»

(1)

«و (أبو الغيث) مرادف المطر اسمه سالم مولى ابن مطيع القرشي»

(2)

.

ويبيّن سبب الاسم فقال في: (مسروق بن الأجدع) (مسروق وسمي به لأنه سرق في صغره ثم وجدوه فغلب عليه ذلك»

(3)

.

‌5 - بيان من وافق اسمه اسم أبيه:

قد يحدث أن يوافق اسم الراوي اسم أبيه، وقد اعتنى العلماء بهذا الفن، وبينوه حتى لا يقع اللبس في سند الحديث، وقد صنّف أبو الفتح الأُزدي

(4)

كتاباً: فيمن وافق اسمه اسم أبيه من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المحدثين.

وقد أشار الكرماني في شرحه لبعض الرواة التي حصلت موافقة في أسمائهم وأسماء آبائهم قال في ترجمة: عبدالله بن عبدالله بن جبر: «بلفظ المكبر فى

(1)

السابق، 5/ 160.

(2)

السابق، 12/ 80.

(3)

السابق، 1/ 150.

(4)

محمد بن الحسين أبو الفتح الأزدي الموصلي الحافظ، قال الخطيب: في حديثه مناكير وكان حافظا ألف في علوم الحديث. وله كتاب: كبير في الجرح والضعفاء عليه فيه مؤاخذات. (ت 374 هـ). ينظر: لسان الميزان، لابن حجر: 7/ 90.

ص: 277

اسمه واسم أبيه»

(1)

.

‌6 - بيان الأسماء المشتركة بين الذكور والإناث:

هناك من أسماء الرواة مايشترك فيه الرجال والنساء، وقد بينها الكرماني، وأشار إليها، مثل اسم:«أمية» بصيغة التصغير «جويرية» مصغر الجارية بالجيم، و «عبدالله بن محمد بن أسماء» و «زُهرة بن مَعْبَد» بضم الزاي وسكون الهاء، بيّن أنها من الأسماء المشتركة بين الذكور والإناث

(2)

.

‌7 - التنبيه على الأسماء المُختلف فيها وذكر الراجح:

اهتم الكرماني بالتنبيه على الأسماء المُختلف فيها، ويحقق في الأسماء المختلف فيها ويذكر الراجح منها، ويعوّل على رأي الأكثرية ومثال ذلك ما قاله في ترجمة الصحابي الجليل «أبو هريرة» رضي الله عنه، فقال:«اختُلِف في اسمه واسم أبيه، على نحو ثلاثين قولاً أصحها عند الأكثر، عبد الرحمن ابن صخر الدوسي»

(3)

.

وقال في ترجمة أبي ثعلبة الخُشني رضي الله عنه: «وأبو ثعلبة: بلفظ الحيوان المشهور الخُشني بضم المعجمة الأولى وفتح الثانية وبالنون في اسمه واسم أبيه اختلاف والأكثر على أنه جُرْهُم بضم الجيم والهاء وسكون الراء ابن ناشر بالنون وكسر المعجمة»

(4)

.

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 102.

(2)

الكواكب الدراري، مرتبة على حسب الصفحات، 3/ 56، 8/ 197، 11/ 63.

(3)

الكواكب الدراري، 1/ 81، وينظر تحقيقه في اسم الصحابي الجليل أبي ثعلبة الخُشني، 20/ 80.

(4)

السابق، 20/ 80، وقيل في اسمه جُرثوم، وجُرثم، وقيل في اسم أبيه، ناشر، وناسم، ولاسر

ينظر الإصابة في تمييز الصحابة، 7/ 50.

ص: 278

وإن كان للراوي أكثر من اسم ذكر الراجح، وعبّر عن المرجوح بلفظ:«قيل» مثاله قال الكرماني في ترجمة: أبو حُميد عبد الرحمن بن سعد الساعدي المدني: «وقيل اسمه المنذر بسكون النون وكسر المعجمة»

(1)

.

وقال في ترجمة:

عبد الرحمن بن اللتبية «بضم اللام وسكون الفوقانية أو فتحها وكسر الموحدة وشدة التحتانية، ومنهم من يقول بضم الهمزة بدل اللام ففيه أربعة أوجه والأصح: أنه باللام وبسكون المثناة الفوقانية فإنها نسبة على بني لتب قبيلة معروفة»

(2)

.

‌8 - ذكر الأسماء المفردة:

والأسماء المفردة: «وهي التي لم يشارك من يسمى بشيء منها غيره فيها»

(3)

.

والأفراد على أقسام:

‌1 - الرواة الذين لم يشترك معهم أحد في الاسم:

وقد ذكر الكرماني بعضا منهم:

قال في: «ورقاء» ابن عمر اليشكري الكوفي أبو بشر، «وهو من أفراد

(1)

الكواكب الدراري، 4/ 53.

(2)

السابق، 11/ 130.

(3)

اليواقيت والدرر، زين الدين محمد المناوي، 2/ 409.

ص: 279

الأسماء»

(1)

.

وقال في سِيدان الباهلي البصري: «وهو من أفراد الأسماء غريب»

(2)

.

‌2 - الرواة الذين لم يشاركهم أحد في الاسم عند البخاري:

منهم: عمرو بن خالد بن فروخ الحراني، قال الكرماني ناقلا عن الغساني:«ليس في شيوخ البخاري عمر بن خالد وإنما هو عمرو بن خالد بالواو في جميع الكتاب»

(3)

.

‌3 - الرواة الذين انفرد البخاري بالرواية عنهم:

هناك من الرواة من انفرد البخاري بالرواية عنهم دون مسلم، كما لمسلم رواة انفرد بالرواية عنهم دون البخاري، وقد بيّن ابن حجر رحمه الله عدد الرواة الذين انفرد بهما كلا الشيخين عن الآخر فقال: «أن الذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون مسلم أربعمائة وخمسة وثلاثون رجلا. المتكلم فيهم بالضعف (نحو من ثمانين رجلا)، والذين انفرد مسلم بإخراج حديثهم دون البخاري ستمائة وعشرون رجلا. المتكلم فيهم بالضعف منهم مائة وستون رجلا على

(1)

الكواكب الدراري، 2/ 186. وينظر: تهذيب الكمال في أسماء الرجال، المزي،

30 -

/ 433.

(2)

السابق، 21/ 21، وينظر: تهذيب الكمال في أسماء الرجال، المزي، 12/ 319، وقد أفرد، الحافظ أحمد بن هارون البرديجي البرذعي، كتاباً يخص الأسماء المفردة واسمه «الأسماء المفردة» .

(3)

الكواكب الدراري، 1/ 163، وينظر، رجال صحيح البخاري، الكلاباذي، 2/ 540.

ص: 280

الضعف من كتاب البخاري»

(1)

.

فكان من منهج الكرماني أنه يشير أحيانا إلى الرواة الذين أخرج لهم البخاري في صحيحه دون الإمام مسلم قال عن: (محمد بن سنان أبو بكر العوقي)

(2)

، تفرد به تفرد به البخاري

(3)

.

وكذلك قال عن محمد بن زياد الألهاني

(4)

، أنه من الرواة الذين تفرد بهم البخاري عن مسلم

(5)

.

وهناك من الرواة من أخرج لهم البخاري في جامعه الصحيح أحاديث مسندة، ومعلقة وغيرها، وكان الكرماني يشير إلى الراوي الذي أخرج له البخاري حديثاً واحداً مُسنداّ كما قال عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى

(6)

.

‌4 - أفراد الصحيحين البخاري ومسلم:

أمثال: «زُبَيد أبو عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الكريم اليامي» ، وليس في الصحيح زبيدب المثناة المكررة تصغير زيد أخي عمرو عادة

(7)

.

(1)

هدي الساري، ص 11.

(2)

ينظر: المعلم بشيوخ البخاري ومسلم، لأبي بكر محمد بن خلفون، ص 278، ورجال صحيح البخاري، 2/ 652.

(3)

الكواكب الدراري، 3/ 212.

(4)

قال المزي في تهذيب الكمال روى له الجماعة سوى مسلم، 25/ 221.

(5)

الكواكب الدراري، 10/ 148.

(6)

السابق، 16/ 253.

(7)

السابق، 1/ 189.

ص: 281

وأمثال: «أبي جمرة، بالجيم والراء، ابن عمران بن عصام بن ضبيعة الضبعي، قال الكرماني: «قالوا ليس في الصحيحين جمرة ولا أبو جمرة بالجيم خلا هذا، وقال الحاكم أبو أحمد ليس في المحدثين من يكنى أبا جمرة سواه فهو من الأفراد»

(1)

.

وقال في ترجمة أبي حُصين ناقلا عن الغساني: «لا أعلم في الصحيحين من اسمه حصين بفتح الحاء ومن يكنى بأبي حصين غير هذا الرجل، وهو عثمان بن عاصم الأسدي الكوفي التابعي الحافظ العثماني كان شيخا ثقة صاحب سنة مات سنة ثمان وعشرين ومائة»

(2)

.

‌9 - التنبيه على الخطأ، والاشتباه، والتصحيف في أسماء الرواة:

مهما بلغت قوة الضبط عند العلماء، فإن الوقوع في الخطأ في ضبط أسمائهم وارد، أو الاشتباه بها وإبدال بعض الأسماء ببعض، وذلك لكثرة الرواة، وتشابه كثير من الأسماء، والألقاب واختلاف اللهجات في النطق بالأسماء

قال الإمام مسلم: «فليس من ناقل خبر، وحامل أثر من السلف الماضين الى زماننا وإن كان من أحفظ الناس وأشدهم توقياً وإتقانا لما يحفظ، وينقل إلا الغلط والسهو ممكن في حفظه ونقله»

(3)

.

قال الإمام أحمد: «ما أكثر ما يخطئ شعبة في أسامي الرجال»

(4)

.

(1)

السابق، 1/ 206.

(2)

االكواكب الدراري، 2/ 216.

(3)

التمييز، الإمام مسلم، ص 170.

(4)

شرح علل الترمذي، لابن رجب، 1/ 102.

ص: 282

وقيل للإمام مالك إنك تُخطىْ في أسماء الرجال فقال: «هكذاحفظنا، وهكذا وقع في كتابي، ونحن نخطئ، ومن يسلم من الخطأ»

(1)

.

وقد نبّه الكرماني على ذلك مما قد يقع الخطأ فيه:

وقد يقع التصحيف في أسماء الرواة، والتصحيف هو:«تحويل الكلمة من الهيئة المتعارفة إلى غيرها»

(2)

.

وقد يُطلق التصحيف على التحريف، والعكس صحيح، كما يُفهم من كلام الصنعاني، ومال إلى هذا الرأي السخاوي، والشيخ طاهر الجزائري، وغيرهم

(3)

.

وسببه الأخذ من بطون الكتب، وسبيل السلامة منه أن يأخذ المتلقي أسماء الرجال من أفواههم

(4)

.

وقد نبه الإمام الكرماني على التصحيف الذي قد يقع في أسماء الرواة، قال في ترجمة:«جعفر أبو بشر» «وفي بعض النسخ يونس بدله وهو تصحيف من الناسخ»

(5)

.

(1)

فتح المغيث، 1/ 552.

(2)

توضيح الأفكار، 2/ 240، وينظر: الجامع لأخلاق الراوي، الخطيب البغدادي،

1 -

/ 269.

(3)

يُنظر: الغاية شرح الهداية، السخاوي، ص 222، وتوجيه النظر، طاهر الجزائري،

2 -

/ 592.

(4)

علوم الحديث لابن الصلاح، ص 218.

(5)

الكواكب الدراري، 17/ 188.

ص: 283

وقال في: «محمد بن حِمْيَر» «و محمد بن حمير، بكسر المهملة وإسكان الميم، وفتح التحتانية وبالراء. قال الغساني في بعض النسخ حمير بضم المهملة وفتح الميم وهو تصحيف»

(1)

.

وينبه الكرماني على أن بعض الأسماء يُحذف منه أحد حروفه تخفيفاً، فلا يُظن هذا أنه من التصحيف، فقال عند ترجمة ميمونة بنت الحارث، «والحارث بالمثلثة وقد يكتب بدون الألف تخفيفاً»

(2)

.

* * *

‌المبحث الثاني

ذكر ما يتعلق بلقب الراوي وكنيته ونسبه

‌1 - تعريف اللقب:

أن يدعى الإنسان بغير اسمه من الأوصاف التي تلحقه لسبب، وتجيء مدحاً وهو قليل، مثل:(الصديق، والصادق)، أو ذماً وهو الغالب، ويقع نسبة لحرفة أو عاهة

(3)

.

وقال الجرجاني: «ما يسمى به الإنسان بعد اسمه العلم؛ من لفظ يدل على المدح أو الذم، لمعنى فيه»

(4)

.

‌2 - تعريف الكنية في اللغة:

مصدر كنى بِهِ عَنْ كَذَا يكني أَوْ يكنو إِذا

(1)

السابق، 20/ 111.

(2)

السابق، 3/ 128.

(3)

تحرير علوم الحديث، عبدالله جديع، 1/ 81 - 82.

(4)

التعريفات، ص 193.

ص: 284

تكلم بِشَيْء يسْتَدلّ بِهِ على غَيره، ويقال: اكْتَنى فلان بكذا. وفلان يُكْنى بأبي عبدالله

(1)

.

وما اتفق عليه أهل العربية هو: ما صُدّر بأب أو أم، أو ابن أو بنت

(2)

.

وقد بيّن الكرماني أن ما أشعر بمدح أو ذم فهو اللقب، وإمّا أن يُصدّر بنحو الأب والأم وهو الكنية، وأتى بمثال عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن اسمه محمد، وكنيته أبو قاسم، ولقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سيد المرسلين مثلاً

(3)

.

‌3 - أهمية علم الكنى والألقاب:

قد يحصل الإشكال بين الاسم والكنية، وبين الكنية واللقب، لأنه قد يُصدّر الاسم بأب ك «أبو بكر» وك «أم كلثوم» فيكون الاسم أبو بكر، والكنية أبو عبد الرحمان.

وقد تتعدد الأسماء والألقاب، والكنى لذات الشخص، فيذكر الراوي مرة في كنية أو لقب غير المعروف بهما، أو أن الراوي يُذكر في السند بلقبه دون اسمه، فيُظن أنه اسمه، وقد وقع هذا عند بعض المحدثين «كعلي بن المديني

وعبد الرحمن بن يوسف بن خراش وأبي أحمد بن عدي؛ إذ فرقوا بين عبدالله بن أبي صالح أخي سهيل وبين عباد بن أبي صالح، وجعلوهما اثنين، وليس عباد

(1)

ينظر مادة (كنى) الصحاح وتاج اللغة، 6/ 2477، والكليات لأبي البقاء الحنفي، 716، والقاموس الفقهي، سعدي أبو جيب ص 325.

(2)

تاج العروس، 8/ 377.

(3)

ينظر الكواكب الدراري، 2/. 116.

ص: 285

بأخ لعبدالله»

(1)

.

وهناك من لا يُعرف إلا باسمه دون كنيته، والعكس صحيح، وهناك من اسمه كنيته فيدخل الإشكال ويُظن أن الراوي غير المقصود.

فمعرفة الأسماء والكنى والألقاب ترفع ظن الواحد جماعة

(2)

، وقال ابن كثير عن فائدة علم الألقاب:«وفائدة هذا العلم لا يظن أن هذا اللقب لغير صاحب الاسم»

(3)

.

وقد قال ابن الصلاح عن فائدة علم الكُنى: «وهذا فن مطلوب، لم يزل أهل العلم بالحديث يعنون به ويتحفظونه ويتطارحونه فيما بينهم ويتنقصون من جهله»

(4)

.

وقد قسّم ابن الصلاح أصحاب الكنى إلى عشرة ضروب

(5)

.

ولأهمية هذا الفن وخطورة الجهل فيه، صُنّفت فيه مصنفات كثيرة منها كتاب:«الأسامي والكنى» لأبي أحمد الحاكم

(6)

، وكتاب: «نزهة الألباب في

(1)

فتح المغيث، 4/ 220، وشرح نخبة الفكر للقاري، ص 748.

(2)

التوضيح الأبهر، السخاوي، ص 95.

(3)

الباعث الحثيث، 1/ 220، وتدريب الراوي، ويُنظر تدريب الراوي، 2/ 780.

(4)

معرفة علوم الحديث، ص 230.

(5)

السابق، ص 435 - 441.

(6)

الحاكم الكبير محمد بن محمد بن إسحاق النيسابوري الكرابيسي، كان إمام عصره

في الصنعة، وكان من الصالحين وماشياً على سنن السلف، وصنف في العلل، والشروط، (ت 398 هـ)، ينظر: لسان الميزان، ابن حجر، 7/ 262، وذيل ميزان الاعتدال، زين الدين العراقي، 1/ 212.

ص: 286

الألقاب» لابن حجر العسقلاني، وغيرها.

وقد ظهرت عناية الكرماني بألقاب الرواة وكناهم في شرحه، من ذلك

ما قاله في ترجمة» «أبو بحر بن قيس التميمي البصري التابعي، قالوا اسمه الضحاك وقيل صخر والأحنف لقبه»

(1)

.

وقال عن: «محمد بن حرب» «محمد بن حرب، هو الأبرش أي الذي فيه نكت صغار تخالف سائر لونه»

(2)

.

ويذكر سبب لقب الراوي، فقد قال في الراوي: محمد بن جعفر أبو عبدالله الهُذلي، الملقب ب (غُنْدَر)«والغندرة التشغيب، وأهل الحجاز يسمون المشغب غُندرًا، وسبب تسميته به أن ابن جُريج قدم البصرة فاجتمع الناس عليه، فحدّث بحديث عن الحسن وأنكر الناس عليه وكان محمد يُكثر الشغب عليه فقال اسكت يا غُنْدَر»

(3)

.

ومن ذلك ما قاله عن «محمد بن ميمون السكري» «وإنما سمي السكري لحلاوة كلامه وقيل لأنه كان يحمل السكر في كمه»

(4)

.

ومن ذلك ما قاله في ترجمة «محمد بن على بن الحسين بن على بن أبي طالب

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 142.

(2)

الكواكب الدراري: 2/ 51.

(3)

السابق، 1/ 144.

(4)

السابق، 3/ 138.

ص: 287

الهامشي

المعروف بالباقر، سُمى به لأنه بقر العلم أي شقه بحيث عرف حقائقه»

(1)

.

وقال في «نُعيم المُجْمَر» (وسمي به لأنه كان يجمر المسجد أي يبخره بالعود ونحوه»

(2)

.

وغير ذلك من الأمثلة التي بيّن فيها أسباب الألقاب.

وقد يُطلق على الراوي لقبا على خلاف ظاهره ومُراده وكان الكرماني يشير إلى ذلك ويبينه، من ذلك ما قاله في ترجمة:«يزيد بن صهيب الملقب بالفقير» «قيل شكا فقار ظهره فقالوا الفقير»

(3)

.

وقال في: «محمد بن الفضل السدوسي البصري» «المعروف بعارم، وهو لقب له رديء لأن العارم الشرير المفسد وكان رضي الله عنه بعيداً منه، لكن لزمه هذا اللقب فاشتهر بهن روى عنه الذهلي وقال كان بعيداً من العرامة»

(4)

.

فائدة:

هل يجوز ذكر الراوي بلقبه؟

نقل الكرماني أقوال العلماء في ذلك فقال: «قال العلماء يجوز ذكر الراوي بلقبه أو صفته التي يكرهها إذا كان المراد تعريفه لاإنقاصه، وجوّزوا ذلك كما

(1)

السابق، 3/ 15.

(2)

السابق، 2/ 171.

(3)

السابق، 3/ 212.

(4)

الكواكب الدراري، 1/ 219.

ص: 288

جوزوا جرحهم للحاجة»

(1)

.

وقد قال العلماء أن هناك أموراً ليست من الغيبة، «وقد حصر بعضهم

ما لا يعد غيبة في ستة أشياء ونظمها في قوله:

القدحُ ليس بغيبةٍ في ستةٍ

متظلمٍ ومعرفٍ ومحذّرِ

ولمظهرٍ فسقاً ومستفتٍ ومن

طلبَ الإعانةَ في إزالةِ منكرِ

(2)

ويندرج التعريف بالرواة وذكرهم بألقابهم تحت هذه الأمور الست، ويجوز ذكر الإنسان بلقبه، للتعريف، لأن هناك من الناس من لايُعرف إلا بلقبه

(3)

.

كما ظهرت عناية الكرماني بالتعريف بكنى الرواة مثال ذلك، قال عن عوف ابن أبي جميلة:«كنيته أبو سهل»

(4)

، وقال عن «جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه» «وكنيته أبو عبدالله»

(5)

، وقال عن:«عمروبن دينار» «وكنيته أبو محمد»

(6)

.

وكان من منهج الإمام الكرماني الإشارة لكل مايتعلق بالكنية من ذلك:

(1)

السابق، 2/ 134.

(2)

إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين، لأبي بكر الدمياطي الشافعي، 3/ 312.

(3)

ينظر تفصيل المسألة في رياض الصالحين، للإمام النووي، ص 432، وإحياء علوم الدين، للإمام الغزالي، 3/ 152 - 153.

(4)

الكواكب الدراري، 1/ 184.

(5)

السابق، 15/ 2.

(6)

السابق، 23/ 52.

ص: 289

بيان من وافق اسمه كنيته:

ومن كانوا من هذا النوع قليلون

(1)

، وقد نبّه الكرماني على من وافق اسمه كنيته، قال في أبي كبشة:«اسمه كنيته»

(2)

وقال عن: «أبو عبيدة بن عبدالله: «وقال أبو زرعة

(3)

اسمه وكنيته

(4)

واحد»

(5)

.

بيان من غلبت عليه كنيته: ويشير الكرماني إلى من غلبت عليه كنيته قال في ترجمة أبو حُميد عبد الرحمن بن سعد الساعدي «غلبت عليه كنيته»

(6)

.

وقال في أبي أيوب خالد بن زيد بن كليب الخزرجى الصحابي الجليل «ممن غلبت عليه كنيته»

(7)

.

وممن غلبت عليه كنيته، الصحابي الجليل: «عمرو بن قيس بن

زائدة القرشي العامري» ابن أم مكتوم، قال الكرماني «وهو مشهور بالكنية

(1)

نزهة النظر، بتحقيق د. عتر ص 140.

(2)

الكواكب الدراري، 11/ 151.

(3)

عبد الرحمن بن عمرو، الحافظ أبو زرعة النصري الدمشقي، محدث الشام، الملقب بشيخ الشباب، روى عن: أحمد بن خالد الوهبي، وأبي نعيم، وعنه خلق كثير، (ت 281 هـ). تاريخ الإسلام، الذهبي، 6/ 772.

(4)

ينظر قول أبي زرعة عند ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، 9/ 403.

(5)

السابق، 8/ 11.

(6)

السابق، 4/ 53.

(7)

السابق، 2/ 188.

ص: 290

كأمه رضي الله عنه»

(1)

.

وهناك من كان كنيته كاسم جده وكنيته مثل الصحابي االجليل: أسعد بن سهل بن حنيف أبو أمامة، قال الكرماني:«سماه النبي صلى الله عليه وسلم أسعد وكناه أبا أمامة باسم جده لأمه وكنيته»

(2)

أي أسعد بن زرارة، جد أسعد بن سهل، وكنية أسعد بن زرارة أبو أمامة

(3)

.

وكما أن لبعض الأسماء مالايشترك فيها أحد، كذلك الألقاب فقد قال الكرماني عن:«نصر ابن عمران الضبعي وكنيته أبو جمرة»

(4)

، «وقال الحاكم أبو أحمد ليس في المحدثين من يُكْنى أبا جمرة سواه فهو من الأفراد»

(5)

.

‌4 - العناية بأنساب الرواة:

تعريف النسب: النسب في اللغة: يعني القرابة، (أي قرابة الدم والقُرْبَى في الرحم)، وقيل: النسبة مصدر الانتساب، وقال ابن السكيت: ويكون من قبل الأم والأب، وقال اللبي: النسب معروف وهو أن تذكر الرجل فتقول: هو فلان

(1)

السابق، 5/ 18.

(2)

الكواكب الدراري: 1/ 118.

(3)

ينظر أسد الغابة، 1/ 205.

(4)

قال ابن حجر: مشهور بكنيته ثقة ثبت من الثالثة، تقريب الهذيب، 1/ 1000، وقال في الفتح:«وليس في البخاري ما يشتبه به من الكنى غير أبي حمزة الأنصاري الراوي عن زيد بن أرقم» 1/ 210.

(5)

الكواكب الدراري، 1/ 206.

ص: 291

ابن فلان، وقد يُنسب الرجل إلى قبيلة أو بلد أو صناعة

(1)

.

عُرف عن العرب في جاهليتهم العناية بالأنساب، فكانوا يحفظونها ويعلموها لأولادهم، وجاء الإسلام وأقرهم عليها، أخرج الترمذي في سننه:«عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِي المَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الأَثَرِ»

(2)

.

وقد صُنفت مصنفات كثيرة في هذا العلم، ومن أهم هذه المصنفات، كتاب:«الأنساب» ، لأبي سعيد عبد الكريم بن محمد السمعاني، وكتاب:«اللباب في تهذيب الأنساب» لأبي الحسن الأثير ابن الجزري، وكتاب:«أنساب المحدثين» لمحب الدين محمد بن محمود بن النجار البغدادي

(3)

.

وقد أولى الإمام الكرماني عنايته بذكر أنساب الرواة، على اختلاف أنواعها، وتنقسم إلى عدة أمور:

‌1 - يذكر نسب الراوي:

من المعروف عند العلماء أن هناك من الرواة من يُنسب لأبيه، ومنهم من يُنسب لأمه، ومنهم لقبيلته

، وقد يقع الإشكال في ضبط اسم الراوي، ولا يُعرف بعدها من روى الحديث.

(1)

ينظر مادة (نسب)، تهذيب اللغة، 9/ 110، وتاج العروس، 4/ 260، ومعجم الصواب اللغوي، 9/ 110.

(2)

أخرجه الترمذي، كتاب: البر والصلة، بَابُ: مَا جَاءَ فِي تَعْلِيمِ النَّسَبِ، رقم (1979).

(3)

ينظر الرسالة المستطرفة، عبد الحي الكتاني، 1/ 52، 7/ 32، وفهرس الفهارس والأثبات للكتاني، 2/ 1040، وكشف الظنون، 1/ 179.

ص: 292

فقد كان الكرماني يهتم بذكر أنساب الرواة، وينبه على الإشكال إن وقع.

مثال على ذلك: قال البخاري: «أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُضَرَ عَنْ جَعْفَرٍ عَنِ ابْنِ هُرْمُزَ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ مَالِكٍ ابْنِ بُحَيْنَةَ

».

فعبدالله ابن بن مالك بن بحينة

(1)

، وهو ممن يُنسب لأمه قال الكرماني:«و (بحينة) بضم الموحدة وفتح المهملة وسكون التحتانية وبالنون اسم أم عبدالله فهو منسوب الى الوالدين أسلما قديما وصحب النبي صلى الله عليه وسلم وكان ناسكا فاضلا يصوم الدهر مات زمن معاوية. ثم ينقل الكرماني عن النووي: الصواب في أن ينون الملك ويكتب ابن بالألف لأن ابن بحينة ليس صفة لمالك بل صفة لعبدالله لأن عبدالله اسم أبيه مالك واسم أمه بحينة فبحينة امرأة مالك وأم عبدالله فليس الابن واقعا بين علمين متناسلين»

(2)

.

ثم بين النووي الفائدة من ذلك فقال: «ولو قرئ بإضافة مالك إلى بن فسد المعنى واقتضى أن يكون مالك ابناً لبحينة وهذا غلط وإنما هو زوجها» .

وقد بين البخاري في التاريخ الكبير فقال: «وقال بعضهم: مالك ابن

(1)

بنت الحارث، وقيل: إنها أزدية، واسم أبيه مالك بن القشب الأزدي، من أزد شنوءة، كان حليفاً لبني المطلب بن عبد مناف، وله صحبة، وقد ينسب إلى أبيه وأمه معا، فيقال: عبدالله بن مالك بن القشب الأزدي، من أزد شنوءة، وبحينة أمه بنت الحارث بن المطلب بن عبد مناف، وقد يُنسب لأبيه وأمه معًا فيقال: عبدالله بن مالك بن بحينة. كان حليفًا لبني عبد المطلب بن عبد مناف، وله صحبة، كان ناسكًا فاضلاً يصوم الدهر، مات في زمن معاوية رضي الله عنه، أسد الغابة، 3/ 182.

(2)

شرح مسلم 4/ 210. وانظر كلاما لابن الجوزي قريبا من كلام النووي في كتاب: كشف المشكل من حديث الصحيحين 4/ 67.

ص: 293

بحينة، والأول أصح»

(1)

.

ويقصد بقوله الأول أصح أن اسمه الصحيح هو: عبدالله بن مالك ابن بحينة.

وقال ابن حجر رحمه الله تعالى: «وهذا لا يعل أي الخلاف في الاسم هذا الخبر لأن أهل النقد اتفقوا على أن رواية أهل العراق له عن سعد فيها وهم والظاهر أن ذلك من سعد بن إبراهيم إذ حدث به بالعراق وقد اغتر بن عبد البر بظاهر هذا الإسناد فقال لعبدالله بن بحينة ولأبيه مالك صحبة والله أعلم الحديث»

(2)

.

قال في ترجمة الصحابي الجليل: «زيد بن خالد الجُهني» «منسوب إلي جهينة بن يزيد بن ليث»

(3)

.

قال عن: «عبد الأعلى» «هو ابن عبد الأعلى السامي منسوب إلى أسامة ابن لؤي القرشي البصري»

(4)

.

‌2 - بيان من نُسب إلى مكان:

كأن يُنسب الراوي إلى بلد ما، من ذلك ما قاله عن: «قتيبة هو أبو رجاء ابن سعيد بن جميل البَغْلاني، منسوب إلى بغلان بفتح الموحدة وسكون الغين

(1)

التاريخ الكبير، البخاري، 5/ 11.

(2)

فتح الباري، 1/ 352.

(3)

الكواكب الدراري، 2/ 80.

(4)

السابق، 1/ 90.

ص: 294

المعجمة قرية من قرى بلخ»

(1)

.

وقال في «محمد بن حوشب الطائفي» «منسوب إلى بلد بقرب مكة المكرمة»

(2)

.

وقال في: «بَهز الجُدّي» ضابطاً حركات النسب «منسوب إلى جُدّة

التي بساحل البحر من ناحية مكة وهو بالجيم المضمومة وتشديد

المهملة»

(3)

.

وقال عن «عمرو بن ميمون الجزري» «منسوب إلى جزيرة الرفى»

(4)

.

ومن ذلك قوله عن «سعيد بن سعيد المُقبري» مبيناً الأقوال في سبب النسبة (منسوب إلى مقبرة بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مجاوراً لها وقيل كان منزله عند المقابر وقيل جعله عمر رضي الله عنه على حفر القبور ويحتمل أنه اجتمع فيه الأمران»

(5)

.

‌5 - بيان من نُسب إلى قبيلته:

ومن الجدير بالذكر أن الكرماني كان يعرّف بقبيلة الراوي، ويشير إلى المنتسبين إليها من ذلك قال عن هشام هو «ابن عروة بن الزبير بن العوام بن

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 133.

(2)

السابق، 24/ 63.

(3)

السابق، 3/ 115.

(4)

السابق، 3/ 81.

(5)

السابق، 1/ 161.

ص: 295

خويلد

القرشي الأسدي»

(1)

وقال عن عبادة بن الصامت الأنصاري

(2)

.

مثاله: «وإن أويساً منسوب إلى قبيلة يقال لهم بنو قَرْن»

(3)

.

وقال الكرماني في موضع آخر مصححاً لمن أخطأ في اسم ونسب أويس القرني «وقَرْن بفتح القاف وإسكان الراء، جبل مدور أملس كأنه بيضة معلل على عرفات، قالوا غلط الجوهري

(4)

في صحاحه غلطين فقاله: بفتح الراء وزعم أن أويسا القرني منسوب إليه، والصواب سكون الراء وأن أويسا منسوب إلى قبيلة يقال لهم بنو قرن، وهو على نحو مرحلتين من مكة واقرب المواقيت إليها»

(5)

.

«أبو طلحة اسمه زيد الأنصاري النجاري وتسمى القبيلة ببني النجار لأن جدهم نجر وجه رحله بالقدوم»

(6)

.

(1)

السابق، 1/ 24.

(2)

السابق، 1/ 104.

(3)

السابق، 2/ 164.

(4)

إسماعيل بن حمّاد الجوهري، إمام في علم اللغة، ويُضرب المثل بحسن خطه، وهو من فرسان الكلام، وممّن آتاه الله قوّة بصيرة، وحسن سريرة وسيرة، وله (كتاب: الصّحاح فى اللغة)، و (العروض) وغيرها، (ت 393 هـ)، ينظر: إنباه الرواة على أنباه النحاة، جمال الدين القفطي، 1/ 229، وبغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، للسيوطي، 1/ 446.

(5)

الكواكب الدراري، 2/ 164.

(6)

السابق، 20/ 23.

ص: 296

وقال كذلك: «عبد الوهاب هو أبو محمد بن عبد المجيد الثقفي البصري، منسوب إلى ثقيف جد القبيلة»

(1)

.

وقال عن عبد الرحمن بن عبد القاري، «منسوبا إلى القارة التي هي قبيلة المدني»

(2)

.

ويذكر نسبة الراوي إلى بطن القبيلة كما قال عن أبي عبدالله اليزني: «أبي الخير هو مرثد بالميم المفتوحة، والراء والثاء المثلثة، أبو عبدالله اليَزَني منسوب إلى يزن بطن من حِمْير»

(3)

.

‌6 - بيان من نُسبوا من الرواة لغير آبائهم:

قال السيوطي: «وفائدة هذا النوع دفع توهم التعدد عند نسبتهم إلى آبائهم وهم على أقسام:

الأول: من نُسب إلى أمه، كمعاذ ومُعوذ ابني عفراء.

الثاني: من نسب (إلى جدته) دنيا، أو عليا، (كيعلى بن منية).

الثالث: (الثالث: من نسب إلى جده) منهم: (أبو عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه عامر بن عبدالله بن الجراح.

الرابع: من نسب (إلى أجنبي لسبب: كالمقداد بن عمرو) بن ثعلبة

»

(4)

.

(1)

السابق، 1/ 99.

(2)

السابق، 9/ 153.

(3)

السابق، 1/ 92.

(4)

تدريب الراوي، 2/ 845 - 850.

ص: 297

وقد بيّن الكرماني في بعض التراجم، من نُسب لغير أبيه، مبيناً السبب في ذلك.

قال في ترجمة: «منصور ابن صفية» «هو ابن عبد الرحمن الحجي العبدري المكي كان يحجب البيت وهو شيخ كبير وإنما نُسب إلى أمه لأنه اشتهر بها ولأنه روى عنها»

(1)

وهو من قسم الأول الذي ذكره السيوطي.

وقال في ترجمة: «يزيد بن خُصيفة» «يزيد بالزاي ابن عبدالله بن خصيفة بضم الخاء المعجمة وفتح المهملة وسكون التحتانية وبالفاء الكوفى المدني

وقد نسب إلى جده تخفيفا»

(2)

وهو من القسم الثالث.

ويذكر الكرماني نسبة الراوي إلى جده ومن ذلك ذكره لنسب: أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «أبو سعيد هو سعد بن مالك، بن سنان الخزرجى، الأنصارى الخُدْري بضم الخاء المعجمة وسكون الدال المهملة، منسوب الى خَدْرة أحد أجداده أو إحدى جداته»

(3)

.

ومن ذلك: «إسحق بن نصر منسوب إلى جده إذ هو إسحق بن إبراهيم ابن نصر»

(4)

وفي: «إسحق بن إبراهيم بن يزيد»

(5)

.

(1)

الكواكب الدراري، 3/ 162.

(2)

السابق، 4/ 133.

(3)

السابق، 1/ 109.

(4)

السابق، 11/ 96.

(5)

السابق، 15/ 110.

ص: 298

ويذكر نسبة الراوي إلى جده الأعلى من ذلك: «أبو بكر الحميدي عبدالله ابن الزبير ابن عيسى بن عبيدالله بن الزبير بن عبيدالله بن حميد القرشي الأسدي منسوب إلى جده الأعلى»

(1)

، ومنه:«عبد الرحمن بن الغسيل، كان جده الأعلى واسمه حنظلة غسلته الملائكة حين استشهد جنبا»

(2)

.

ويذكر نسبة الراوي إلى جد أبيه، مبينا عدم الاشتباه براو آخر «صالح هو ابن صالح بن مسلم ابن حيان أبو حسن الهمداني الكوفي ونسبه إلي جد أبيه وليس المراد به صالح بن حيان القرشي»

(3)

.

‌7 - التنبيه على الموالي من الرواة:

قال ابن الصلاح: «الظاهر في المنسوب إلى قبيلة كما إذا قيل: «فلان القرشي» أنه منهم صليبة، فإذا بيان من قيل فيه «قرشي» من أجل كونه مولى لهم مهم»

(4)

.

يتنوع الولاء إلى أقسام:

إذا قيل في الراوي: «مولى فلان» ، أو «لبني فلان» فيراد به مولى العتاقة وهو الأغلب.

(ومن أُطلق عليه لفظ: «المولى» يُراد به: بها ولاء الإسلام، كأبي عبدالله

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 16.

(2)

السابق، 15/ 171.

(3)

السابق، 2/ 87.

(4)

معرفة علوم الحديث، ص 400.

ص: 299

محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي مولاهم، نُسب إلى ولاء الجعفيين، لأن جده أسلم بعد أن كان غير مسلم، ومن الولاة: مولى بولاء الحِلْف والموالاة، كمالك ابن أنس، ونفره هم: أصبحيون حميريون صليبة، وهم موال لتيم قريش بالحِلْف، وقسم رابع كما إذا قيل في الراوي «مولى ابن عباس» للزومه إياه)

(1)

.

وقد بيّن الكرماني الموالي في الرواة أثناء ترجمته لهم فقال في: «يونس بن يزيد» «القرشي مولى معاوية بن أبي سفيان»

(2)

وقال في: «زيد بن أسلم» «مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه»

(3)

.

وقال عن سالم مولى أبي حذيفة: (من فضلاء الموالي ومن خيار الصحابة وهو معدود في المهاجرين، وهو من القراء الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أخذ القران منهم، وشهد بدر واستشهد يو اليمامة)

(4)

.

ويبين المنسوبين إلى القبائل من مواليهم فقال في: «أبو معاوية» يعني الضرير محمد بن خازم، وليس في البخاري خازم بالإعجام إلا أبو هذا الرجل وهو مولى لتميم»

(5)

وقال في «أبي نُعيم الفضل بن دُكين» ، «واسمه عمرو بن

(1)

السابق، بتصرف، 399 - 400، وبلوغ الآمال من مصطلح الحديث والرجال، ص 688 - 689.

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 43.

(3)

السابق، 1 - 135.

(4)

السابق، 5/ 75.

(5)

السابق، 1/ 90.

ص: 300

حمّاد القرشي التيمي الطلحي مولى آل طلحة بن عبيدالله الكوفي الملائي»

(1)

.

وقال في: «موسى بن عقبة» «أبو الأسدى التابعي مولى أل الزبير بن العوام صاحب المغازي»

(2)

.

وقال في: «عبد الرزاق الصنعاني» «هو ابن همّام بن نافع أبو بكر الحمْيَري مولاهم اليماني الصنعاني»

(3)

، وقال في:«الحكم بن عُتيبة» ، «ابن المنهال أبو محمد أو أبو عبدالله مولى امرأة من بني عدي بن كندة الكوفي»

(4)

.

وقد ينسب إلى القبيلة، مولى مولاها، كما قال في:«أبو أسامة» «هو حمّاد مولى لمولى الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه»

(5)

.

‌8 - بيان النسب التي على خلاف ظاهرها:

ويقصد بها أن يُنسب الراوي نسبة مجازية لغير بلده، لأنه نزل واستوطن في غيرها، فغلبت عليه التسمية الثانية، وذلك كأبي مسعود البدري نزل بدراً، فنُسب إليها، ولم يشهد موقعتها

(6)

.

وقال عن: «خالد بن مهران الحذّاء البصري» (قيل إنه ما حذا نعلاً قط،

(1)

السابق، 1/ 202.

(2)

السابق، 2/ 178.

(3)

السابق، 1/ 170.

(4)

السابق، 2/ 132.

(5)

السابق، 20/ 108.

(6)

المنهل الروي، ص 131.

ص: 301

ولا باعها ولكن تزوج امرأة فنزل عليهما في الحذائيين، فنسب إليهم وقال ابن سعد لم يكن بحذاء، ولكن كان يجلس إليهم وقال غيره لم يحذ خالد قط، وإنما كان يقول احذروا علي هذا النحو وعلي هذا الحديث لقب بالحذاء»

(1)

.

وقد بين الكرماني هذه النسب التي على خلاف ظاهرها أثناء ترجمته للرواة، من ذلك ما قاله في:«محمد بن عبدالله بن المثنى الأنصاري» شيخ البخاري، «قد نُسب إلى الجمع لأنه كالعلم لأصحاب المدينة الذين آوو ونصروا»

(2)

.

وقال في: «خالد بن يزيد المصري» «هو ابن يزيد من الزيادة المصري أبو عبد الرحيم الأسكندراني البربري الأصل»

(3)

.

وقال في: «هشام البصري الدّسْتُوائي» «ودستواء كورة من كور الأهواز كان يبيع الثياب التي تجلب منها فنسب إليها»

(4)

.

ومن ذلك ما قاله في «سعيد بن الربيع الهروي» «كان يبيع الثياب الهروية فنسب إليها وهو العامري البصري»

(5)

.

* * *

(1)

الكواكب الدراري، 2/ 48.

(2)

السابق، 7/ 212، ومحمد بن عبدالله، ابن المثنى الأنصاري النجاري الأنسي البصري الفقيه قاضي البصرة ثم قاضي بغداد، ميزان الاعتدال، 6/ 208.

(3)

الكواكب الدراري، 2/ 171.

(4)

السابق، 1/ 174.

(5)

السابق، 9/ 34.

ص: 302

‌المبحث الثالث

ذكرما يتعلق بشيوخ الراوي وتلامذته ومكانته ووفاته

‌1 - ذكر شيوخ الراوي وتلامذته:

كما أن الكرماني يبين شيوخ الراوي، ومن سمع منهم، قال في ترجمة:«إسماعيل» «هو ابن أبي خالد أبو عبدالله البَجلي

سمع جماعة من الصحابة والتابعين»

(1)

.

وقال عن: «أبو عمرو مرزوق البصري أبو عثمان الباهلي» أنه سمع من قتادة ومن الحسن

(2)

.

ويبيّن الكرماني تلامذة الراوي ومن أخذ عنه، قال عن الحُميدي أبو بكر عبدالله ابن الزبير، أنه صاحب الشافعي وأخذ عنه

(3)

.

وقال عن: «قتيبة ابن سعيد الثقفي البلخي» روى عنه الشيوخ الستة أصحاب الأصول

(4)

.

وقال عن: «منصور» «هو ابن عبد الرحمن التيمى روى عنه الثورى وابن عيينة»

(5)

.

(1)

الكواكب الدراري، ا/ 87.

(2)

السابق، 3/ 153.

(3)

السابق، 2/ 42.

(4)

السابق، 1/ 190.

(5)

السابق، 19/ 123.

ص: 303

‌2 - بيان مكانة الراوي ومناقبه، وغرائبه:

يذكر الكرماني مناقب الرواة، وورعهم، وأهم ما تميزوا به، ويتوسع في مناقب الصحابة الكرام رضي الله عنهم، والمكثرين منهم في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفعل هذا مع أئمة التابعين من الأعلام المشهورين.

قال الكرماني في ترجمة: «عبدالله بن عباس رضي الله عنهما» «يُلقب بحبر الأمة والبحر لكثرة علمه وفضله

ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمه أم الفضل أخت ميمونة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم علمه الكتاب

(1)

وفي رواية اللهم فقهه في الدين

(2)

، وقال ابن مسعود نِعم ترجمان القرآن ابن عباس

وتعظيم عمر بن الخطاب له وتقديمه على الصغار والكبار معروف

وابن عباس أحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم»

(3)

.

كما أن الكرماني يذكر عدد الأحاديث التي رواها الصحابي، وكم أخرج البخاري منها في صحيحه قال عن ابن عباس رضي الله عنهما، «روى له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف حديث وستمائة حديث وستون حديثا، ذكر البخاري منها مائتين وخمسة عشر»

(4)

.

وقال في ترجمة «زيد بن خالد الجُهني» «له أحد وثمانون حديثا ذكر

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ عَلِّمْهُ الكِتَابَ» بَابُ: قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ عَلِّمْهُ الكِتَابَ» ، رقم (75).

(2)

أخرجه البخارين كتاب: الوضوء، باب: وَضْعِ المَاءِ عِنْدَ الخَلَاءِ، رقم (143).

(3)

الكواكب الدراري، 1/ 46.

(4)

السابق، 1/ 46.

ص: 304

البخاري منها خمسة»

(1)

.

كما أنه يشير إلى عدد الأحاديث التي تفرد به البخاري من جملة

ما للصحابي من حديث قال عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: «روى له عشرين حديثا تفرد البخاري منها بثمانية»

(2)

.

وقال في ترجمة: «عمر بن الخطاب رضي الله عنه» : «أسلم رضي الله عنه بمكة قديماً وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدرا والمشاهد كلها، وهو أول من سُمي بأمير المؤمنين من الخلفاء وليَ الخلافة عشرة سنين وخمسة أشهر أو ستة أشهر

ومناقبه أكثر من أن تحصى»

(3)

.

ويذكر آخر الصحابة موتاً في البلد التي مات فيها، كما قال عن الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه آخر الصحابة موتاً في البصرة،

(4)

وآخر من مات في المدينة، وهو سهل بن ساعد الساعدي،

(5)

ومن هو آخر من مات منهم مطلقاً كأبي الطفيل عامر بن واثلة الكناني

(6)

،

وأحيانا يستطرد الكرماني في بعض التراجم، فعند ترجمته لأم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها، راح يذكر الخلاف الحاصل بين العلماء، من دخول أزواج

(1)

السابق، 2/ 80.

(2)

السابق، 2/ 10.

(3)

السابق، 1/ 16.

(4)

الكواكب الدراري، 1/ 95.

(5)

السابق، 3/ 103.

(6)

السابق، 2/ 154.

ص: 305

النبي صلى الله عليه وسلم في آل البيت أم لا

(1)

.

وقال في ترجمة حبر الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: «وهو أحد العبادلة وهم أربعة: عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر، وعبدالله بن الزبير وعبدالله بن عمر وابن العاص، وأما قول الجوهري في الصحاح

(2)

بدل ابن العاص ابن مسعود فمردود عليه؛ لأنه منابذ لما قال أعلام المحدّثين، كالإمام أحمد ابن حنبل وغيره، وهم أهل هذا الشأن والمرجوع فيه إليهم»

(3)

.

وقال في ترجمة: «محمد بن مسلم بن شهاب الزهري» ذاكراً أقوال العلماء فيه «هو تابعي كبير سمع عشرة من الصحابة بل أكثر، قال الليث: ما رأيت عالما أجمع من الزهري ولا أكثر علما منه، وقال عمرو ابن دينار: ما رأيت أتقن للحديث من الزهري وما رأيت أحدًا الدينار والدرهم أهون عنده منه أن كانت الدراهم والدنانير عنده بمنزله البعر. قال البخاري في التاريخ: إنه أخذ القرآن في ثمانين ليلة، وعلى الجملة العلماء متفقون على إمامته وجلالته وحفظه وإتقانه وضبطه وعرفانه وقد وصفوه بأنه جمع علم جميع التابعين»

(4)

.

فالكرماني يشير ضمنا في التراجم على تعريف التابعي الذي لقي الصحابي، كما في ترجمته لمحمد بن مسلم بن شهاب الزهري

(5)

وفي ترجمة صالح

(1)

السابق، 1/ 25.

(2)

نعم وقول الكرماني هو الصواب في ذلك، ينظر: التقريب والتيسير، النووي، ص 93، والتقييد والإيضاح، زين الدين العراقي، ص 303.

(3)

الكواكب الدراري، 1/ 46،

(4)

السابق، 1/ 30، وينظر توسعه في ترجمة:«سفيان الثوري» 1/ 150.

(5)

الكواكب الدراري، 1/ 30.

ص: 306

ابن كيسان أبي محمد الغافري

(1)

.

وقال عن عبدالله بن المبارك: «المتفق على جلالته وإمامته وعظم محله، وسيادته وورعه وعبادته وسخائه وشجاعته، تستنزل الرحمة بذكره وترتجى المغفرة بحبه»

(2)

.

ويذكر عن الراوي رأيه في مسألة فقهية أو حديثية

كما قال في: «محمد ابن سيرين» «وهو ممن لا يجوّز نقل الحديث بالمعنى، وكان يُحدّث بالحديث على حروفه، وهو ثقة رفيع الرتبة إمام في العلوم ورع في فقهه فقيه في ورعه مشهور بعلم العبارة»

(3)

.

ويذكر الكرماني غرائب الراوي، من أقوال أو فتاوى، كما قال في:«عطاء ابن أبي رباح» «من غرائبه أنه قال: إذا كان العيد يوم الجمعة، وجبت صلاة العيد ولا يجب بعدها لا ظهر ولا جمعة ولا صلاة بعد العيد إلى العصر»

(4)

.

(1)

السابق، 1/ 118.

(2)

السابق، 1/ 49.

(3)

السابق، 1/ 184.

(4)

الكواكب الدراري، 2/ 91، والخلاف الحاصل أنه إذا صادف يوم العيد في يوم الجمعة، فهل تجب صلاة الجمعة على من صلى العيد؟ قال الحنفية والمالكية بوجوب صلاة الجمعة ولا تسقط عمن صلى العيد، وقال الحنابلة لمن صلى العيد والظهر تسقط عنه الجمعة، ويكون إسقاط الجمعة إسقاط حضور لا إسقاط وجوب، فحكمه كحكم المريض والمعذور، أو شغل يبيح ترك الجمعة، ينظر الموسوعة الفقهية الكويتية، 27/ 209، ووجه الغرابة في قول عطاء، قال بوجوب صلاة العيد، وأنه لاصلاة بعدها إلا صلاة العصر!

ص: 307

‌3 - يذكر تاريخ ومكان وفاة الراوي:

إن معرفة تاريخ وفاة الراوي أمر مهم في علم الطبقات، وبه يُعرف اتصال سلسلة السند من انقطاعها، لذلك كان الكرماني يحرص على ذكر تاريخ ومكان وفاة الراوي، قال الكرماني عند ترجمته للصحابي الجليل:«جابر بن عبدالله رضي الله عنه» «توفي بالمدينة سنة ثلاث وتسعين وهو ابن أربع وتسعين»

(1)

.

وقال في ترجمة التابعي الجليل: «مجاهد بن جبير» (توفي سنة إحدى ومائة بمكة وهو ساجد»

(2)

.

وقال في ترجمة: «عبدالله بن وهب بن مسلم المصري» «توفي بمصر سنة سبع وتسعين ومائة»

(3)

ويذكر الخلاف في تاريخ ومكان وفاة الراوي إن وُجد كما في ترجمته: «ليحيى أبي سعيد بن سعيد بن قيس الأنصاري» «توفي سنة أربع أو ثلاث أو ست وأربعين ومائة بالعراق وقيل بالهاشمية»

(4)

.

* * *

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 41.

(2)

السابق، 1/ 75.

(3)

السابق، 2/ 36.

(4)

السابق، 1/ 16.

ص: 308

‌المبحث الرابع ذكر ما يتعلق بالاشتباه والالتباس في أسماء الرواة وأنسابهم

من ذلك:

قد يقع الاشتباه والتداخل في أسماء بعض الرواة وأنسابهم، وذلك لتشابه كثير من الأسماء وقد قسمه العلماء إلى قسمين رئيسين هما: 1 المتفق والمفترق، و 2 والمؤتلف والمختلف.

‌1 - بيان المتفق والمفترق:

هو مااتفق لفظاً وخطاً، وهو مختلف في مسمّاه، بمعنى إطلاق الاسم الواحد على أكثر من اسم

(1)

.

وللخطيب البغدادي كتاب في هذا العلم اسمه: «المتفق والمفترق» قال في تعريف هذا العلم: «وهو بيان أسماء وأنساب وردت في الحديث متفقة متماثلة وإذا اعتبرت وجدت مفترقة متباينة فلم يؤمن وقوع الإشكال فيها ولو في بعضها لاشتباهها وتضاهيها»

(2)

.

‌أهمية هذا الفن:

تكمن أهمية هذا الفن في معرفة الراوي الحقيقي المقصود لاغيره، فيُزال

(1)

ينظر فتح المغيث للسخاوي، 4/ 266، ومنهج النقد ص 180.

(2)

المتفق والمفترق، الخطيب البغدادي، 1/ 105، وكتاب: المتفق والمفترق في الأنساب، محمد بن طاهر بن على بن أحمد بن أبي الحسن الشيباني، المعروف بابن القيسرانى، ينظر، هدية العارفين، إسماعيل محمد البغدادي، 2/ 82 - 83.

ص: 309

اللبس، فقد يكون أحد الرواة المتفقين ثقة، والآخر ضعيفاً فيُظن أنه المقصود، فيُعكس الأمر

(1)

.

وقد قسم ابن الصلاح هذا النوع إلى أقسام:

الأول: المفترق ممن اتفقت أسماؤهم وأسماء آبائهم.

الثاني: المفترق ممن اتفقت أسماؤهم وأسماء آبائهم وأجدادهم أو أكثر من ذلك.

الثالث: ما اتفق من ذلك في الكنية والنسبة معا.

الرابع: عكس السابق، أي: مااتفق في النسبة فقط.

الخامس: المفترق ممن اتفقت أسماؤهم وأسماء آبائهم ونسبتهم.

السادس: ما وقع فيه الاشتراك في الاسم خاصة، أو الكنية خاصة، وأشكل مع ذلك، لكونه لم يذكر بغير ذلك

(2)

.

وقد أولى الإمام الكرماني عناية خاصة في هذا العلم، عند الأسماء المتشابهة، والتي قد يحصل بسببها اللبس، فكان ينبه على الراوي المقصود، وينبه على عدم الاشتباه بغيره.

قال في ترجمة: «يحيى بن سعيد القرشي» مبيناً قول سعيد حدثنا أبي «وهو يحيى المذكور آنفاً يحيى بن سعيد البغدادي القرشي وهو غير يحيى بن سعيد القطان وغير يحيى بن سعيد السابق في أول الكتاب في حديث إنما الأعمال بالنية،

(1)

فتح المغيث، السخاوي، 4/ 266.

(2)

معرفة علوم الحديث، ص 358 - 362.

ص: 310

لأنه أنصاري مدني تابعي يكنى بأبي سعيد المتوفي سنة ثلاث أو ست وأربعين ومائة، وهذا قرشي عيشمي أموي كوفي سكن بغداد. نعم يحيى السابق من جملة شيوخ يحيى هذا توفي سنة أربع وتسعين ومائة»

(1)

.

وبيّن الكرماني الفرق بين من اشتبهت أسماؤهم من الصحابة مثل: «عبدالله بن زيد بن عاصم الصحابي المدني المازني» فقال: «وهو غير عبدالله بن زيد بن عبد ربه صاحب رؤيا الأذان وإن غلط فيه بعض الأكابر يعني ابن عيينة»

(2)

.

فصاحب رؤيا الآذان هو: «عبدالله بن زيد واسم جده عبدربه بن ثعلبة الأنصاري» ، والمقصود هو عبدالله بن زيد بن عاصم المازني الأنصاري «اتفقا في الاسم واسم الأب والقبيلة، وافترقا في الجد والبطن من القبيلة، فالأول مازني، والثاني حارثي، وكلاهما خزرجيان، فيدخلان في نوع المتفق والمفترق»

(3)

.

وقال عن: «أبو حازم سليمان الأشجعي الكوفي، «واعلم أن أبا حازم هو من نوع المتشابه في الأسماء لأنه وأبا حازم السابق آنفاً أي في الحديث الذي قبل هذا، وهو أبو حازم سلمة بن دينار الأعرج كلاهما تابعيان يرويان عن الصحابة فاحفظ واعرف الامتياز بينهما»

(4)

.

وقال عن: «ثور بن يزيد «وثور بلفظ الحيوان المشهور (ابن زيد) أخي

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 89/ 90.

(2)

السابق، 2/ 174.

(3)

عمدة القاري، 2/ 251، وينظر نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر، 1/ 133.

(4)

الكواكب الدراري، 4/ 102.

ص: 311

عمرو المدني الدبلي، وهو غير ثور بن يزيد بلفظ الفعل فإنه شامي كلاعى»

(1)

.

ومن ذلك قوله عن: «عبّاد ابن عبدالله بن الزبير بن العوام التابعي» «وهو غير عبّاد بن بشر الأنصاري الصحابي القاري المصلي في المسجد فاعرف، فإن لفظ البخاري موهم بكونهما واحداً وفي بعض النسخ فسمع صوت عباد بن تميم وهو سهو»

(2)

.

ومثله قوله عن: «عقبة أي ابن عمرو أبو مسعود البدري، وهو غير عقبة ابن عبد الغافر المذكور آنفاً فلا يلتبس عليك»

(3)

.

وقال عن: «حيوة ابن شريح» «حَيوة، ابن شريح مصغر الشرح المصري وهذا يسمى بالأكبر، وهو غير حيوة ابن شريح الحضرمي فلا يشتبه عليك بالحضرمي»

(4)

.

وقال في ترجمة: «أَبِي يَعْفُورٍ» «أبو يعفور، بفتح التحتانية وإسكان المهملة، وضم الفاء وبالواو وبالراء منصرفاً اسمه: وقْدان بسكون القاف وبإهمال الدال وبالنون العبدي، وهو المشهور بالأكبر، ولهم أبو يعفور آخر مشهور بالأصغر اسمه: عبد الرحمن فلا يشتبه عليك وكلاهما تابعيان»

(5)

.

وفي حديثين متتاليين في البخاري راوٍ اسمه أبو حازم يروي عن أبي

(1)

الكواكب الدراري، 10/ 193.

(2)

السابق، 11/ 177.

(3)

السابق، 14/ 107.

(4)

السابق، 17/ 28.

(5)

السابق، 20/ 91.

ص: 312

هريرة، والثاني يروي عن سهل بن سعد، فنبّه الكرماني أنهما يختلفان عن بعضهما فقال:«واعلم أن أبا حازم الأول الذي روى عن أبي هريرة اسمه سلمان والثاني الراوي عن سهل اسمه سلمة»

(1)

.

ومن ذلك قال البخاري: «حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِاللهِ رضي الله عنه قَالَ كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ

»

(2)

.

ترجم الكرماني ابن نُمير بقوله هو: محمد بن عبدالله بن نمير أبو عبد الرحمن الهمداني الكوفي، وكان قد مر ابن نُمير في باب: إتيان مسجد قباء

(3)

(4)

، وترجم له أنه عبدالله بن نُمير فكيف فرّق بينهما، وكيف علم أنهما مختلفان؟

فأجاب الكرماني عن ذلك «قلت علم الفرق بينهما بذكر شيوخهما، ومعرفة طبقتهما وتاريخ وفاتهما، ولعل غرض البخاري في مثل هذا الإبهام

(1)

السابق، 23/ 50.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: التهجد، باب: مَا يُنْهَى عَنْهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، رقم (1129).

(3)

قباء: وهي قرية على ميلين من المدينة على يسار القاصد إلى مكة بها أثر بنيان كثير وهناك مسجد التقوى عامر قدّامه رصيف وفضاء حسن وآبار ومياه عذبة، وهي مساكن بني عمرو بن عوف من الأنصار، ينظر: معجم البلدان ياقوت الحموي، 4/ 302.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ، رقم والحديث هو:«حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِاللهِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَاتِي قُبَاءً رَاكِباً وَمَاشِياً. زَادَ ابْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُاللهِ عَنْ نَافِعٍ فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ» . في ذات الكتاب السابق، رقم (1124).

ص: 313

الترغيب في معرفة طبقات الرجال وامتحان استحضارهم ونحو ذلك»

(1)

.

ابنُ نمير هنا هو محمد بن عبدالله بن نُمير شيخ البخاري المباشر وهو الإبن، أما هناك فهو الأب لم يُدركه البخاري، لأن البخاري ولد، سنة (194 هـ)، وعبدالله والد محمد مات سنة (199 هـ)

(2)

.

ولمعرفة المتفق والمفترق، والمبهم والمهمل والعنعنة والمرسل وغيرها

لابدمن معرفة طبقات الرواة.

وقد عرّف العلماء الطبقة:

‌تعريف الطبقة في اللغ

ة: الطبق: جماعة من الناس يعدلون طبقا مثل جماعة، ويقال: ويقال: أتانا طَبَقٌ من الناس، وطَبَقٌ من الجراد، أي جماعةٌ

(3)

.

وفي اصطلاح المحدثين: قوم تقاربوا في السن والإسناد أو في الإسناد فقط بأن يكون شيوخ هذا هم شيوخ الآخر، أو يقاربوا شيوخه

(4)

.

وقال الكرماني عن الطبقة وهو يعرف القرن: «والقرن كل طبقة مقترنين

(1)

الكواكب الدراري، 7/ 19.

(2)

ينظر: الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم، 5/ 186، والثقات لابن حبان، 7/ 60، وتهذيب التهذيب، 6/ 57.

(3)

لسان العرب مادة «طبق» ، 5/ 108، والصحاح تاج اللغة وصحاح العربية للجوهري، 4/ 1511.

(4)

تدريب الراوي، 4/ 168، وينظر فتح المغيث للسخاوي، 4/ 168، وكشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، محمد بن علي التهانوي، 2/ 1125.

ص: 314

فى وقت. ومنه قيل لأهل كل مدة أو طبقة بعث فيها نبى قرن»

(1)

.

‌فائدة معرفة الطبقات:

قال ابن الصلاح: «والباحث الناظر في هذا الفن يقصد علم الطبقات يحتاج إلى معرفة المواليد والوفيات، ومن أخذوا عنه ومن أخذ عنهم، ونحو ذلك

ثم ذكر مثالاً على ذلك فقال: فرب شخصين يكونان من طبقة واحدة لتشابههما بالنسبة إلى جهة، ومن طبقتين بالنسبة إلى جهة أخرى لا يتشابهان فيها، فأنس بن مالك الأنصاري وغيره من أصاغر الصحابة مع العشرة وغيرهم من أكابر الصحابة من طبقة واحدة إذا نظرنا إلى تشابههم في أصل صفة الصحبة، وعلى هذا فالصحابة بأسرهم طبقة أولى، والتابعون طبقة ثانية، وأتباع التابعين ثالثة، وهلم جرا»

(2)

.

ويقول السخاوي كذلك في فوائد معرفة الطبقات: «الأمن من تداخل المشتبهين كالمتفقين في اسم أو كنية

وإمكان الاطلاع على تبين التدليس، والوقوف على حقيقة المراد من العنعنة.

وبينه وبين التاريخ عمومٌ وخصوصٌ وجهيٌّ، فيجتمعان في التعريف بالرواة، وينفرد التأريخ بالحوادث، والطبقات بما إذا كان في البدريين مثلاً من تأخرت وفاته عمن لم يشهدها لاستلزامه تقديم المتأخر الوفاة»

(3)

.

وتظهر أهمية هذا العلم باهتمام العلماء فيه، فقد أفردوا له المصنفات

(1)

الكواكب الدراري، 4/ 236.

(2)

علوم الحديث، ص 399.

(3)

فتح المغيث، 4/ 389.

ص: 315

والمؤلفات، ومن أشهر هذه المصنفات كتاب: طبقات خليفة بن خياط

(1)

، وكتاب الطبقات لمسلم بن الحجاج، والطبقات الكبرى لأبي عبدالله محمد بن سعد

(2)

.

وقد أشار الكرماني في شرحه لضرورة معرفة طبقات الرواة ومراتبهم، فقال:«فلا يُعرف لمن المتابعة إلا من يَعرف طبقات الرواة ومراتبهم»

(3)

.

حتى إنه أشار إلى أسماء الرواة الذين تتشابه أسماؤهم فلا يُعرفون إلا عن طريق طبقاتهم وشيوخهم، «عُلم الفرق بينهما بذكر شيوخهما، ومعرفة طبقتهما وتاريخ وفاتهما.

وبين غرض البخاري من إيهام الأسماء للتحري والبحث:

ولعل غرض البخاري في مثل هذا الإبهام، الترغيب في معرفة طبقات الرجال وامتحان استحضارهم ونحو ذلك»

(4)

.

(1)

خليفة بن خياط بن أبي هبيرة، أبو عمرو، الشيباني البصري، كان حافظاً عارفاً بالتواريخ وأيام الناس غزير الفضل، أخذ عن: ابن عيينة ويزيد بن زريع، وأخذ عنه البخاري في صحيحه وتاريخه، (ت 230 هـ)، وفات الاعيان، لأبي العباس البرمكي، 2/ 243.

(2)

محمد بن سعد بن منيع الهاشمي أبو عبدالله البصري نزيل بغداد، وأحد الحفاظ الكبار الثقات المتحرين، له: طبقات الصحابة والتابعين إلى وقته فأجاد فيه وأحسن، (ت 230 هـ)، تهذيب التهذيب، ابن حجر، 9/ 182.

(3)

الكواكب الدراري، 1/ 43.

(4)

السابق، 7/ 19.

ص: 316

والطبقات على أقسام: 1 طبقات الصحابة، 2 والتابعين، 3 وأتباع التابعين، 4 وأتباع 5 أتباع التابعين وأتباع أتباع أتباع التابعين، وهذه الطبقات الخمس هي طبقات الرواة حتى نهاية القرن الثالث، وهو نهاية عصر الرواية

(1)

.

وهناك من قسّم الطبقات إلى ثنتي عشرة طبقة، كابن حجر

(2)

.

وفي كل طبقة من هذه الطبقات أقسام ففي طبقة الصحابة من تقدّم إسلامهم كالخلفاء الأربعة، ومهاجرةالحبشة، وكبارالصحابةوصغارهم، والمكثرين والمقلين من رواية الحديث

وهكذا

(3)

.

‌1 - طبقة الصحابة:

عرف ابن حجر الصحابي بقوله: «من لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مؤمنا به ومات على الإسلام

(4)

، ولو تخللت ردة؛ في الأصح»

(5)

.

ولمعرفة الصحب الكرام رضي الله عنهم فوائد جمة منها: «هي فن مهم، وفائدته: تمييز المرسل، والحكم لهم بالعدالة، وغيرهما»

(6)

.

تظهر عناية الكرماني رحمه الله تعالى في تراجم الصحابة وبيان طبقاتهم، فقد كان يشير إلى طبقة الصحابي، وأنه من كبارهم، ومن المكثرين من

(1)

منهج النقد، د. نور الدين عتر، ص 146.

(2)

تقريب التهذيب، ص 75.

(3)

علوم الحديث، ابن الصلاح، ص 399.

(4)

وهو قول السيوطي في تدريب الراوي، 2/ 667.

(5)

نزهة النظر، ابن حجر ص 111.

(6)

فتح الباقي بشرح ألفية العراقي، السنيكي، 2/ 185.

ص: 317

الرواية عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال عن الصحابي الجليل «جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه» ،

(1)

وعن أبي موسى الأشعري: عبدالله بن قيس، أنه من كبار الصحابة، وفضلائهم وفقهائهم

(2)

.

ومن كبارهم عبدالله بن مسعود الصحابي ابن الصحابية رضي الله عنهم، وأنه من المبشرين بالجنة

(3)

.

ويقوم الكرماني بذكر الخلاف في صحبة الراوي من عدمها، كما قال عن «مالك بن أوس» أنه تابعي وقيل أنه صحابي

(4)

وقال كذلك عن سويد بن غفلة

(5)

.

وقد ذكر الخلاف في صحبة عَدِيّ بن عَدِي: «اختلفوا في أنه صحابي أم

لا، والصحيح أنه تابعي، وسبب الاختلاف أنه روى الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلة، فظنه بعضهم صحابياً، وكان عدي عاملَ عمر بن عبد العزيز

على الجزيرة والموصل، واستعمال عمر له يدل على أنه لا صحبة له، لأنه

عاش بعد عمر، ولم يبق أحد من الصحابة إلى خلافته واتفقوا على

جلالته»

(6)

.

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 41.

(2)

السابق، 1/ 91.

(3)

الكواكب الدراري، 2/ 196.

(4)

السابق، 10/ 22.

(5)

السابق، 11/ 2.

(6)

السابق، 1/ 72.

ص: 318

‌2 - طبقة التابعين:

التابعي: وهو من لقي الصحابي

(1)

.

وقد أشار الكرماني لهذا التعريف عند ترجمته لصالح بن كيسان، أبو محمد الغفاري، التابعي الجليل الذي التقى جماعة من الصحابة رضي الله عنهم

(2)

.

كما أشار الكرماني لكبار الصحابة رضي الله عنهم، أشار كذلك لكبار التابعين: كسعيد بن جبير

(3)

وجعفر بن أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ

(4)

و «نفيع» بن رافع الصائغ أبو رافع

(5)

.

كما أشار إلى صغار التابعين كأبي الزناد عبدالله بن ذَكوان

(6)

كما أن الكرماني يشير إلى التابعي الذي أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلتقِ به، كما قال عن «أبي رجاء العطاردي، عمران بن مِلحان»

(7)

وعن: «يزيد النخعي»

(8)

.

كما أن الكرماني يشير إلى الرواة المخضرمين، الذين عاشوا في الجاهلية قبل

(1)

نزهة النظر، ابن حجر، ص 143.

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 118، وينظر تهذيب التهذيب، 4/ 399.

(3)

السابق، 1/ 45، وينظر تهذيب التهذيب، 4/ 11.

(4)

السابق، 3/ 53، وينظر تهذيب التهذيب، 2/ 100.

(5)

السابق، 3/ 146. وينظر تهذيب التهذيب، 10/ 472.

(6)

الكواكب الدراري، 1/ 96، وينظر: تهذيب التهذيب، 5/ 203.

(7)

السابق، 3/ 323، وينظر: تهذيب التهذيب، 8/ 140.

(8)

السابق، 2/ 151، وينظر: تهذيب التهذيب، 1/ 342.

ص: 319

البعثة أو بعدها في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يروه عليه الصلاة والسلام، أو رآه على غير الإسلام، وأسلم في حياته أو بعده، ولا تثبت له صحبة

(1)

.

كما قال عن: سعد بن إياس، أبي عمرو

(2)

، قيس بن أبي حازم،

(3)

ورُفيع ابن مهران الرياحي، أبي العالية

(4)

.

‌2 - بيان المُهمل:

الإهمال في اللغة: الترك والسُّدى، وما ترك الله الناس هملا، أي: سُدى بلا ثواب وبلا عقاب. وأمر مهمل، أي: متروك

(5)

.

في الاصطلاح: وهو أن يروي الراوي عن اثنين متفقي الاسم فقط، أو والكنية أو مع اسم الأب، أو مع اسم الجد، أو مع نسبته ولم يتميزا بما يخص كلا منهما. مثل أن يقول حدثنا محمد حدثنا أحمد ولا ينسبهما

(6)

.

من هذا يتبين أن المُهمل من أنواع المتفق والمفترق، والجامع المشترك بينهما عدم التمييز بين الرواة، وقد عده جماعة من العلماء كالعراقي والسخاوي والسيوطي من أنواع المتفق والمفترق، «ومن ها هنا ظهر أن المُهمل والنوع

(1)

ينظر: علوم الحديث، ابن الصلاح، ص 512، وفتح المغيث، السخاوي، 4/ 157.

(2)

الكواكب الدراري، 4/ 181.

(3)

السابق، 6/ 218.

(4)

السابق، 2/ 10.

(5)

ينظر مادة (همل)، العين، 4/ 56، والصحاح تاج اللغة، 5/ 1854.

(6)

ينظر اليواقيت والدرر، 2/ 267، ونزهة النظر، 1/ 153، وتقييد المهل وتمييز المشكل للغساني، ص 3.

ص: 320

المسمى بالمتفق والمفترق شيء واحد، والفرق بينهما اعتباري، فالرواة إذا اتفقت في الأمور المذكورة، فالبحث عن تعيينهم من حيث ذكرُهم في جامع أو مسنَد أو غير ذلك، يُسمى البحث عن المُهمل»

(1)

.

أهمية معرفة هذا العلم:

تكمن أهمية هذا العلم بتعلقه برواة الحديث، الذين عليهم المُعوّل في صحة الحديث، فعند تشابه الأسماء قد يقع الخلط بينهم، ولا سيما إذا كانوا في طبقات متقاربة، وقد وقع الخلط لكبار الأئمة

(2)

.

طُرق معرفته:

1 -

أن يرد اسم الراوي المهمل مميزا من طريق آخر.

قال السخاوي: «ويتبين المهمل ويزول الإشكال عند أهل المعرفة بالنظر في الروايات، فكثيرا ما يأتي مميزا في بعضها»

(3)

.

2 -

أن يختص الراوي روى عنه على الإهمال، وله صور:

أ - أن يكون لم يرو إلا عنه فقط.

ب - أو يكون الاختصاص بكون الراوي من المكثرين عنه الملازمين له دون سواه.

(1)

ظفر الأماني بشرح مختصر السيد الشريف الجرجاني، عبد الحي اللكنوي الهندي، ص 90.

(2)

ينظر: المتفق والمفترق فيمن ذكر بكنيته من الرواة في الكتب الستة، يوسف بن جودة ياسين يوسف الداودي، ص 22.

(3)

فتح المغيث، 4/ 280.

ص: 321

ج - وإما أن يكون الراوي المهمل اين بلده وقريته.

د - وإما أن يكون الاختصاص بمعرفة منهج الراوي في رواية الحديث، فإذا روى عن راوٍ مهمل أراد به شخصاً معينا، وإلا ميّزه وعيّنه

(1)

.

إذاً هناك قرائن، ودلائل لمعرفة الراوي المُهمل، يقول ابن الصلاح:«قد يدرك بالنظر في رواياته، فكثيرا ما يأتي مميزا في بعضها، وقد يدرك بالنظر في حال الراوي والمروي عنه، وربما قالوا في ذلك بظن لا يقوى»

(2)

.

وقد اهتم الكرماني ببيان المُهمل من الرواة، فقال: «وصححنا أسماءهم احترازًا الاختلاط والتحريف، واتقاء عن الاختباط والتصحيف، وذلك إنما هو من كتب متعددة مشهورة عند أبناء الزمان، وصحف متكثرة مذكورة بين أصحاب هذا الشأن وأكثرها

الكَلاباذي

(3)

، والغساني الجيَّاني

(4)

وكتاب

(1)

السابق، 4/ 280.

(2)

علوم الحديث، ص 364، وينظر: نزهة النظر ص 121.

(3)

محمد بن أحمد الكلاباذي أبو النصر البخاري، سمع من: الهيثم بن كليب الشاشي، وعلي بن محتاج، وروى عنه الدار قطني، وكان حسن الحفظ والمعرفة، له: معرفة رجال صحيح البخاري، (ت 398 هـ)، سير أعلام النبلاء، الذهبي، 17/ 94 - 95، وكتابه الهداية والارشاد في معرفة اهل الثقة والسداد، والكتاب يختص بالرواة الذين أخرج لهم البخاري في جامعه، والكتاب مطبوع، يُنظر: الرسالة المستطرفة، الكتاني، ص 207.

(4)

كتاب: تقييد المهمل وتمييز المشكل، لأبي علي الحسين الغساني المعروف: بالجياني، (ت 498 هـ) كذلك الكتاب يختص يرواة البخاري، ضبط فيه مؤلفه كل لفظ يقع فيه اللبس من رجال الصحيحين، والكتاب مطبوع، ينظر: الرسالة المستطرفة، ص 118، وكشف الظنون، ص 470.

ص: 322

الإكمال

(1)

وجامع الأصول

(2)

»

(3)

.

وقد قال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر اعتراض بعض الناس على البخاري من إيراده لأسماء لايزيد فيها عن الاسم المجرد: «وقد تكلم في بيان بعض ذلك الحاكم والكَلاباذي وابن السَّكن

(4)

والجيَّاني وغيرهم قلت وقد نقل البَيَاشي

عن الفربري ما نصه: كل ما في البخاري محمد عن عبدالله فهو بن المبارك، وكل ما فيه عبدالله غير منسوب أو غير مُسمى الأب فهو بن محمد الأسدي، وما فيه

(1)

كتاب الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب، لمؤلفه: سعد الملك، بن ماكولا (ت 475 هـ)، وهو كتاب يختص بضبط أسماء الرواة، وحركات الكلمات، وهو في غاية الإفادة، وعليه اعتماد المحدثين، والكتاب مطبوع، ينظر: الرسالة المستطرفة، ص 116، وهدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين، إسماعيل البغدادي، 1/ 693.

(2)

كتاب جامع الأصول في أحاديث الرسول، لمجد الدين أبي السعادات ابن الجزري ابن الأثير (ت 606 هـ)، وهو كتاب جمع بين أصول كتب السنة السنة، وهي: البخاري ومسلم والموطأ، وجامع الترمذي وسنن أبي داود والنسائي، ورتب أبوابه وشرح غريبه، والكتاب مطبوع، ينظر: أبجد العلوم، محمد صديق القِنوجي، ص 365.

(3)

الكواكب الدراري، المقدمة، 1/ 7 ببعض التصرف.

(4)

أبو علي سعيد بن عثمان بن سعيد بن السكن البغدادي نزيل مصر، وهو أول من جلب صحيح البخاري إلى مصر وحدّث به، وقد جمع وصنف، وجرح وعدّل، وصحّح وعلّل، له: الصحيح المنتقى، (ت 353 هـ)، سير أعلام النبلاء، الذهبي، 12/ 199.

ص: 323

عن إسحاق كذلك فهو بن راهويه، وما كان فيه محمد عن أهل العراق مثل أبي معاوية وعبدة بن سليمان ومروان الفزاري فهو بن سلام البِيْكَنْدي، وما فيه عن يحيى فهو ابن موسى البلخي»

(1)

.

ومن الأمثلة على ذلك كقول البخاري قال إسحاق، فقال الكرماني مستعينا ببعض النُسخ وفي بعض النسخ بعده أي بعد إسحاق عن أبي أسامة يعني حمّاد بن أسامة، قلت وهذا من القرائن التي يُستعان بها على معرفة المُتشابهات (أي معرفة من روى عنه إسحاق).

فقال الكرماني عن إسحاق فالأشبه أن المراد به ابن راهويه، (إسحق ابن إبراهيم بن مخلد)

ويُحتمل أن يُراد به إسحاق بن إبراهيم بن نصر السعدي البخاري،

أو إسحق بن بهرام الكوسج المَروزي

إذ البخاري في هذا الكتاب يروى عن الثلاثة عن أبي أسامة، قال الغساني في كتاب تقييد المهمل: إن البخاري إذا قال حدثنا إسحاق غير منسوب حدثنا أبو أسامة يعني به أحد هؤلاء الثلاثة ولا يخلو منهم»

(2)

.

ويبين الكرماني الاحتمال في الراوي المقصود إذا أن البخاري يروي عنهما، مثاله: قوله عن: «سفيان» جاء اسمه مجرداً من الكنية واللقب «يُحتمل أن يُراد به الثوري ويُحتمل أن يُراد به ابن عيينة، لأن وكيعاً يروي عنهما، وهما يرويان عن مُطرف ولا قدح بهذا الالتباس في الإسناد لأن أياً كان منهما فهو أمام حافظ ضابط عدل مشهور على شرط البخاري، ولذا يروي لهما في الجامع كثيرًا، لكن

(1)

هدي الساري، 351.

(2)

الكواكب الدراري، 2/ 59، بتصرف.

ص: 324

قال الغساني في كتاب التقييد هذا الحديث محفوظ عن ابن عيينة ولم يُنبه عليه البخاري

(1)

.

وينقل الكرماني تارة خلاف العلماء في الراوي المعنيّ، مثل جاء اسم «يزيد» قال البخاري: «حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرٌو

».

ترجم له الكرماني بقوله هو: «يزيد بن هارون بن خالد الواسطي

قال الغساني في كتاب التقييد: قال ابن السكن; هو ابن زريع وإليه أشار أبو نصر الكلاباذي في كتابه وقال أبو مسعود الدمشقي: هو ابن هارون وليس بابن زريع تم كلامه. وأقول وبهذا الالتباس لا يلزم قدح في الحديث لأن أيا كان فهو عدل ضابط بشرط البخاري»

(2)

.

وقد رجح الحافظ ابن حجر على أن يزيد هو: يزيد بن زُريع، وذلك لأن الإسماعيلي وغيره خرجه من حديث يزيد بن هارون بلفظ آخر، وأن قتيبة معروف بالرواية عن يزيد بن زريع دون بن هارون، ثم بيّن القاعدة في ذلك: في من أهمل أن يحمل على من للراوي به خصوصية كالإكثار وغيره

(3)

.

ومثله ورود اسم الراوي المُهمل من رواية أخرى قال البخاري: «حَدَّثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: أَخبَرَنا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: حَدَّثنا أَبُو العُمَيْسِ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالأَبْطَحِ، فَجَاءَهُ بِلَالٌ

(1)

السابق، 2/ 118.

(2)

السابق، 3/ 82.

(3)

فتح الباري، 1/ 332 - 333.

ص: 325

فَآذَنَهُ بِالصَّلَاةِ

»

(1)

.

قال الكرماني: عن إسحاق «قال الغساني: قال البخاري في باب الأذان، حدثنا إسحق حدثنا جعفر بن عون فقال أبو نصر لا يخلو من ابن راهويه أو من ابن منصور، والأشبه عندي أنه ابن منصور وقد خرّج مسلم

(2)

أيضاً هذا الحديث في مسنده عن ابن منصور عن جعفر بن عون»

(3)

.

ومن ذلك قال البخاري: «حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلاً

»

(4)

.

قال الكرماني في ترجمة: «يحيى» «أي ابن أبي كثير

أبو نصر اليماني البصري

مات سنة تسع وعشرين أو اثنتين وثلاثين ومائة»

(5)

ولعل القرينة هنا معرفة طبقة الراوي.

ومن ذلك قال البخاري، «حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِاللهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ عَنْ أَخِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ

»

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الأذان، بَابُ: الأَذَانِ لِلْمُسَافِرِينَ إِذَا كَانُوا جَمَاعَةً وَالإِقَامَةِ، رقم (609).

(2)

أخرجه مسلم، في كتاب: الصلاة، بَابُ: سُتْرَةِ الْمُصَلِّي، رقم (251).

(3)

الكواكب الدراري، 5/ 28.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، رقم (112).

(5)

الكواكب الدراري، 2/ 120.

(6)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، رقم (113).

ص: 326

قال الكرماني في ترجمة «عمرو» «هو بالواو ابن دينار أبو محمد المكي الجُمَحي

وإنما قال أخبرني لأنه لا شريك له في السماع عند الأخبار له»

(1)

قلت: وقول الكرماني: وإنما قال أخبرني

الخ هي من القرائن التي تميّز بها عمرو عن غيره.

كما بيّن الكرماني الخلاف الحاصل في الراوي: «يَعلى» «أعلم أن يعلي بن مسلم ويعلي بن حكيم كليهما يرويان عن سعيد بن جبير، وابن جريج يروي عنهما ولا قدح في الإسناد بهذا الالتباس لأن كلا منهما على شرط البخاري»

(2)

.

وقد يقع الخلاف كذلك في اسم الراوي ومن بعده

مثاله: «حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ صَفِيَّةَ عَنْ أُمِّهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ أَوْلَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ»

(3)

.

قال الكرماني: «محمد بن يوسف الفريابي

(4)

سمع الثورى وفحمد بن يوسف هو البيكندي

(5)

سمع ابن عيينه والمقام يحتملهما ولا قدح في الإسناد بهذا

(1)

الكواكب الدراري، 2/ 125.

(2)

الكواكب الدراري، 18/ 69.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: النكاح، بَاب: مَنْ أَوْلَمَ بِأَقَلَّ مِنْ شَاةٍ، رقم (4845).

(4)

محمد بن يوسف بن واقد بن عثمان الضبي أبو عبدالله الفريابي، أدرك الأعمش وروى عن جرير بن حازم ونافع مولى بن عمر، وعن الثوري، وروى عنه البخاري، ثقة، (تهذيب التهذيب، 9/ 535).

(5)

محمد بن يوسف البخاري أبو أحمد البيكندي، روى عن بن عيينة وأبي أسامة والنضر ابن شميل ووكيع، وروى عنه البخاري، وعبدالله بن واصل، وهو ثقة متفق عليه، (تهذيب التهذيب، 9/ 538).

ص: 327

الالتباس لأن كلا منهما بشرط البخاري»

(1)

.

فبيّن الكرماني أن محمد بن يوسف الفريابي سمع من سفيان الثوري، وسفيان ورد اسمه مجرداً، ومحمد بن يوسف البيكندي سمع من سفيان ابن عيينة.

فحمد بن يوسف هو البيكندي، وسفيان هو ابن عيينة، لأن الغالب أن البيكندي يروي عن ابن عيينة، قال به الكرماني

(2)

، كما أن محمد بن يوسف الفريابي يروي كذلك عن سفيان الثوري، وبه قال ابن حجر

(3)

، وشمس الدين البرماوي في اللامع الصبيح

(4)

بشرح الجامع الصحيح

(5)

، وجعل البدر العيني

(1)

الكواكب الدراري، 19/ 123.

(2)

الكواكب الدراري، 2/ 206.

(3)

فتح الباري، 1/ 255، قلت ووجه ترجيح ابن حجر أن سفيان هو الثوري لاشتهراه بالرواية عن زيد بن أسلم، لأن البخاري إذا أطلق اسم سفيان يقصد به الثوري، لأن الثوري من شيوخ البخاري الذين أكثر عنهم النقل، وإن كان ابن عيينة سماه باسمه، وكان هذا من عادة البخاري، فتارة يقول: عن ابن عيينة، حدثنا ابن عيينة، أخبرنا ابن عيينة

قال ابن حجر ناقلا عن أبي مسعود الدمشقي في الأطراف: «لأن القاعدة في كل من روى عن متفقي الاسم أن يحمل من أهمل نسبته على من يكون له به خصوصية من إكثار ونحوه» ينظر فتح الباري، 1/ 204.

(4)

/ 188.

(5)

اللامع الصبيح كتاب: شرح فيه البرماوي البخاري في أربعة أجزاء، جمع فيه مؤلفه بين: شرح الكرماني باقتصار، وبين التنقيح للزركشي بإيضاح وتنبيه، ولم يُبيّض إلا بعد موته، ينظر: كشف الطنون، حاجي خليفة، ص 541.

ص: 328

هذا القول مرجوحاً

(1)

.

ويحتمل أن يراد به الفريابي عن ابن عيينة لأن السفيانين كليهما شيخاه كما أن زيد بن أسلم شيخ السفيانين وكما أن ابني يوسف شيخا البخاري.

الحاصل أن رجال السند وقع التشابه في أسمائهم.

فالبيكندي، والفريابي شيخا البخاري.

وابن عيينة، شيخ البيكندي، وغالب روايته عنه.

وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة شيخا الفريابي.

وزيد بن أسلم شيخ السفيانين.

فهل يؤدي هذا الاشتباه إلى التدليس كون الراوي مجهولاً؟

قال الكرماني: «مثله لا يقدح فيه لأن أيا كان منهم فهو عدل ضابط بشرط البخاري لا يتفاوت الحكم باختلاف ذلك»

(2)

.

ومن ذلك: «حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عَبْدُاللهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ»

(3)

.

قال الكرماني مبيناً المقصود بشيخ البخاري، «أحمد»: «قال الغساني قال

(1)

عمدة القاري، 3/ 2.

(2)

الكواكب الدراري، 2/ 206.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: رفع الصوت في المساجد، رقم (460).

ص: 329

البخاري في كتاب الصلاة في موضعين حدثنا أحمد ابن وهب فقال ابن السكن: هو أحمد بن صالح المصري، وقال الحاكم في المدخل: إنه هو وقيل إنه أحمد بن عيسى التسترى، ولا يخلو أن يكون واحدا منهما.

وقال الكلاباذى: قال ابن منده الأصفهاني: كل ما قال البخاري في الجامع أحمد عن وهب فهو ابن صالح المصري»

(1)

وقال الكرماني في موضع آخر ناقلاً قول ابن منده «وإذا حدث أي البخاري عن أحمد بن عيسى ذكره بنسبه»

(2)

.

قلت يُشعر كلام الكرماني أنه يُرجح أن الراوي المعني هو: أحمد بن صالح المصري وهذا من القرائن التي اعتمدها الكرماني في معرفة الراوي المُشتبه به، عن طريق قواعد عامة كقول الكلاباذي.

وقال الكرماني في «أبي جمرة» «قال بعض الحفاظ: يروى شعبة عن سبعة؛ رجال يروون عن ابن عباس كلهم أبو حمزة بالحاء والزاي، إلا هذا نصر بن عمران فإنه بالجيم والراء، ويُعرف هذا منهم بأنه إذا أُطلق أبو جمرة عن ابن عباس فهو هذا، وإذا أرادوا غيره ممن هو بالحاء قيدوه بالاسم أو الوصف أو النسب أو غير ذلك، قالوا ليس في الصحيحين جمرة ولا أبو جمرة بالجيم غير هذا»

(3)

.

ومن ذلك: ما قيل في: «ابن أبي ليلى» قال الكرماني: «قال في جامع

(1)

الكواكب الدراري، 4/ 133.

(2)

السابق، 7/ 65.

(3)

السابق، 1/ 206.

ص: 330

الأصول

(1)

: إذا أطلق المحدثون ابن أبي ليلى فإنما يعنون عبد الرحمن بن أبي ليلى، وإذا أطلقه الفقهاء يعنون به محمد بن عبد الرحمن. ابن أبي ليلى»

(2)

.

قلت وهذه قرينة أخرى، وهي معرفة اصطلاح المحدثين من غيرهم، واصطلاح صاحب المصنف كالبخاري مثلاً.

وغير هذا من الأمثلة وقد تبين منهج الكرماني في هذا:

الاستعانة بالنسخ الأخرى للبخاري، التي قد يُذكر فيها كنية الراوي أو لقبه.

إما أن يذكر الراوي المقصود ويترجم له لأنه ترجح لديه كقوله عن الراوي المجرد: هو فلان.

وإما ينقل خلاف العلماء في ذلك، من دون ترجيح، مبيناً رأيه ويدعمه بأقوال العلماء.

وإما ينقل الاحتمالات في الراوي المعني، ويبين أنه لا طعن في الإسناد لأن كِلا الراويين ثقة وعلى شرط البخاري.

‌3 - بيان المُؤتلف والمُختلف:

المؤتلف في اللغة: المؤتلف اسم فاعل، من الائتلاف، ويقال: ألف بين الشيئين تأليفا، أي: اتفقا واجتمعا، وجمع بينهما بعد تفرقهما

(3)

.

(1)

جامع الأصول في أحاديث الرسول، ابن الأثير الجزري، 12/ 831.

(2)

الكواكب الدراري، 14/ 244.

(3)

ينظر مادة (ألف)، مختار الصحاح، 1/ 20، وتاج العروس، 23/ 33.

ص: 331

المختلف: اسم فاعل من الاختلاف، والخلاف: المضادة، وقد خالفه مخالفة وخلافا، وتخالف الأمران واختلفا: لم يتفقا

(1)

.

اصطلاحاً: وهو ما يتفق في الخط ويختلف في اللفظ

(2)

.

فهو مؤتلف باعتبار الخط، ومختلف باعتبار النُطق

(3)

.

إذاً هو ما يتعلق بضبط الأسماء بالحركات، ولاضابط له إلا بالحفظ، «وكل اسم بمفرده، وما له ما له ضابط بالنسبة لكتاب خاص أو كتب خاصة كأن يُقال: كل ما وقع في الصحيحين والموطأ «يسار» فهو بالمثناة ثم المهملة إلا محمد ابن «بشار» فهو بالموحدة ثم المعجمة.

أو ما كان مضبوطاً على العموم: أي لا بالنسبة لكتاب أو كتب خاصة. مثل أن نقول: «سلام» كله مشدد اللام إلا خمسة، ثم نذكر تلك الخمسة»

(4)

.

أهميته:

ومعرفته من مهمات هذا الفن، قال علي بن المديني: «أشد التصحيف

ما يقع في الأسماء»، ووجهه بعضهم بأنه شيء لا يدخله القياس، ولا قبله شيء يدل عليه ولا بعده

(5)

.

(1)

ينظر مادة: (خلف)، المحكم والمحيط الأعظم، لأبي الحسن علي المرسي، 5/ 200، ولسان العرب، 9/ 90 - 91.

(2)

الباعث الحثيث، 1/ 223، وتدري الراوي، 2/ 790.

(3)

شرح نخبة الفكر للقاري، ص 699.

(4)

تيسير مصطلح الحديث، محمود الطحان بتصرف يسير، ص 254.

(5)

نزهة النظر، ص 130.

ص: 332

لذلك أُلفت فيه المؤلفات مثل كتاب: الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب، لسعد الملك، ابن ماكولا، وقد أخذ عنه الكرماني في شرحه، وكتاب:«المشتبه للإمام الذهبي، جمع فيه كتاب ابن ماكولا واستدرك عليه وعلى غيره»

(1)

.

وقد أولى الإمام الكرماني عنايته بهذا الفن ونبه عليه، من دون أن يسميه باسمه، وراح يضبط الأسماء ويبين الفروق بينها.

قال في: «محمد بن سلَام» بتخفيف اللام وهو الصحيح الذي عليه الاعتماد ولم يذكر جمهور المحققين غيره

(2)

.

وقال عن: «واقد بن محمد» «واقد بالقاف وليس في الصحيح وافد بالفاء، ابن محمد بن زيد ابن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم»

(3)

.

ومن ذلك، كما قال في ترجمة:«شَبابة» «بفتح المنقطة وخفة الموحدتين، وقيل اسمه مروان وغلب عليه شَبابة ابن سوّار بإهمال المفتوحة وشدة الواو، وبالراء الفَزَاري بفتح الفاء وتخفيف الزاي المدائني»

(4)

.

وقال في ترجمة أبي حُصين ناقلا عن الغساني: «قال الغسّاني لا أعلم في الصحيحين من اسمه حَصين بفتح الحاء ومن يكنى بأبي حَصين غير هذا الرجل، وهو عثمان بن عاصم الأسدي الكوفي التابعي الحافظ العثماني كان شيخا ثقة

(1)

الرسالة المستطرفة، 116 - 119، ومنهج النقد، ص 184.

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 111.

(3)

الكواكب الدراري، 1/ 121.

(4)

السابق، 3/ 206.

ص: 333

صاحب سنة مات سنة ثمان وعشرين ومائة»

(1)

.

وقال في: «أبي معاوية الضرير» «محمد بن خازم بالخاء المعجمة والزاي، وليس في البخاري خازم بالإعجام إلا أبو هذا الرجل»

(2)

.

‌4 - معرفة المُبهم:

وهو عدم تسمية الراوي، اختصارا من الراوي عنه كقوله: أخبرني فلان، أو شيخ، أو رجل، أو بعضهم، أو ابن فلان

(3)

.

وقد عد بعض العلماء المبهم من نوع المجهول، لأن حقيقته تشبه حقيقة المجهول ولذلك كان الكرماني يسميه بالمجهول

(4)

.

ومجهول العين:

قال عنه الحافظ ابن حجر: «فإن سمي الراوي، وانفرد راو واحد بالرواية عنه، فهو مجهول العين، كالمبهم»

(5)

.

يتوقف على معرفة هذا الفن صحة الحديث من عدمه، إذ أن الراوي المُبهَم وقد يكون غير ثقة كقولهم في السند: (عن رجل، أو عن امرأة، أو

(1)

الكواكب الدراري، 2/ 216، وينظر مشارق الأنوار على صحاح الآثار، القاضي عياض، 1/ 222.

(2)

السابق، 1/ 89 - 90.

(3)

نزهة النظر، 1/ 125، وتدريب الراوي، 2/ 853، واليواقيت والدرر، 2/ 136.

(4)

ينظر: تيسير مصطلح الحديث، محمود الطحان، ص 151.

(5)

نزهة النظر، ص 232.

ص: 334

عن فلان، عن بعض أصحابنا

) إن لم يُعرف ويُتَعيّن يوجب علة قادحة في السند.

وقد ذكر العلماء طُرق معرفة المُبهم، وذلك إذا:

1 -

ورد اسم الراوي المُبهم من طريق أخرى «بشرط أن تكون هذه التسمية محفوظة، وليست خطأ من قِبَل بعض الرواة، فربما سُمِّي المبهم في رواية أخرى، ولا يكون ذلك محفوظاً، إنما المحفوظ عدم تسميته»

(1)

.

2 -

أو بتنصيص أهل الحديث والسير على كثير منهم

(2)

قلت: وبمعرفة طبقات الرواة ومراتبهم.

والإبهام يقع في السند، والمتن.

‌أولاً الإبهام في السند:

وقد يكون الراوي الذي أُبهم إما من الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وإما من غيرهم، فإن كان المُبهم من الصحابة فلا يؤثر ذلك على صحة الحديث سواء سُمّي في رواية أخرى، أم لم يُسمَّ، وذلك لأن الصحابة الكرام رضي الله عنه كلهم عدول

(3)

.

(1)

الإرشادات في تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات، طارق بن عوض الله محمد، ص 112.

(2)

شرح نخبة الفكر، للقاري، 1/ 90، وتدريب الراوي، 2/ 853، والوسيط في علوم مصطلح الحديث، ص 646.

(3)

ينظر: فتح المغيث، 4/ 99، تحرير علوم الحديث، عبدالله جديع، ص 339.

ص: 335

مثال المُبهم في الصحابة رضي الله عنهم، أخرج البخاري:«عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّامِ مِنْ الْجُحْفَةِ وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ قَالَ عَبْدُاللهِ وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ»

(1)

.

قال الكرماني: قوله: وبلغني فإن قلت هل يكون مثله حجة أو هو من قبيل المجهول؟ لأن راويه غير معلوم قلت: لا ينقد حديثه لأن الظاهر أنه

لا يرويه إلا عن صحابي آخر والصحابة رضي الله عنهم كلهم عدول»

(2)

.

ومثله: «أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ رضي الله عنه يُخْبِرَانِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَمَّا كَاتَبَ سُهَيْلُ

»

(3)

.

قال الكرماني معلقاً على ذلك «فإن قلت هذا رواية عن المجهول، قلت الصحابة كلهم عدول فلا قدح فيه بسبب عدم معرفة أسمائهم»

(4)

.

ومثله: «حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَّاتٍ عَمَّنْ شَهِدَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ

»

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الحج، بَاب: مِيقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَا يُهِلُّوا قَبْلَ ذِي الْحُلَيْفَةِ، رقم (1436).

(2)

الكواكب الدراري، 8/ 63 - 64.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الشروط، بَاب: مَا يَجُوزُ مِنْ الشُّرُوطِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْأَحْكَامِ وَالْمُبَايَعَةِ، رقم (2530).

(4)

الكواكب الدراري، 12/ 23.

(5)

أخرجه البخاري، كتاب: المغازي، باب: غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ، رقم (8364).

ص: 336

قال الكرماني في قول عمّن شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم «فإن قلت هذا رواية عن المجهول حيث قال لا بأس به إذ الصحابة كلهم عدول»

(1)

.

وقد بين الكرماني المبهمات في سند البخاري، ما دون الصحابة الكرام رضي الله عنه، وكان منهجه في ذلك أن يذكر احتمالات الإجابة كما هي عادته في شرحه.

فإن كان المُبهم في المتابعات فإنه يُحتمل فيها مالا يُحتمل في الأصول كما قال الكرماني، مثال ذلك: أخرج البخاري: «حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ هِنْدٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَعَمْرٍو وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ هِنْدٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتِ اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ «سُبْحَانَ اللهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ

»

(2)

.

قال الكرماني: «عن امرأة

(3)

والمراد بها هند المذكورة وفي بعضها هند بدل امرأة، فإن قلت شرط البخاري على ما اشتهر أن تكون شيوخه مشاهير ولا أقل من أن يكون مجهولا فكيف روى لها، قلت يحتمل في المتابعات مالا يحتمل في الأصول، وهنا ذكر ومتابعة أو ليست مجهولة إذ الرواية السابقة قرينة معينة معرفة لها»

(4)

.

(1)

الكواكب الدراري، 16/ 43 - 44.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: العلم والعظة بالليل، رقم (115).

(3)

لم يرد في الحديث لفظ عن: «امرأة» ، والظاهر أن الكرماني قد اعتمد نسخة للبخاري غير هذه النسخة، ولم يراعِ أصحاب دور النشر هذا الأمر، بل اعتمدوا نسخة للبخاري من دون النظر إلى النسخة التي اعتمدها الشارح!

(4)

الكواكب الدراري، 2/ 129.

ص: 337

فبين الكرماني إجابة أخرى، وهي بيان اسم المرأة في الرواية السابقة واسمها:«هند» .

ومن ذلك أخرج البخاري: «وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَتْنِي هِنْدُ الْفِرَاسِيَّةُ. وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَتْنِي هِنْدُ الْفِرَاسِيَّةُ. وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ، أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ الْحَارِثِ الْقُرَشِيَّةَ أَخْبَرَتْهُ

»

(1)

.

قال الكرماني مبيناً صنيع البخاري في ذكره لاسم الراوي تارة، وتارة مبهما في ذات السند: «وامرأة من قريش المقصود بها هند وغرض البخاري من هذه الطرق بيان أن الزهري تارة نسب هند إلى بني فراس وتارة إلى قريش

(2)

قال في ثلاث منها الفراسية وفي ثلاث أخرى القرشية وفي السابعة

(3)

قال امرأة من قريش والله در البخاري وضبطه»

(4)

.

ومن ذلك أخرج البخاري «حدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِاللهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنٍ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ امْرَأَةً ذَبَحَتْ شَاةً بِحَجَرٍ

»

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: مكث الإمام في مصلاه بعد السلام، رقم (812).

(2)

هند بنت الحارث الفراسية ويقال القرشية، تهذيب التهذيب، ابن حجر،

12 -

/ 457.

(3)

هذا التنوّع من البخاري كان في روايات الحديث مجتمعة.

(4)

الكواكب الدراري، 5/ 197 - 198.

(5)

أخرجه البخاري، كتاب: الصيد والذبائح، باب: ذبيحة المرأة والأمة، رقم (5156).

ص: 338

قال الكرماني: «وإسناد الحديث مجهول لأن الرجل غير معلوم، وقيل: هو ابن لكعب ابن مالك السلمي الأنصاري»

(1)

.

ومن ذلك: «حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمِّهِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ خَرَجْتُ بِسِلَاحِي لَيَالِيَ الْفِتْنَةِ

»

(2)

.

قال الكرماني: «رجل لم يسمه قالوا هو هشام بن حسان القردوسي، بضم القاف والمهملة وسكون الراء بينهما وبالواو والمهملة»

(3)

.

وأخرج البخاري: «حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ فُلَانٍ قَالَ تَنَازَعَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَحِبَّانُ

»

(4)

.

قال الكرماني: «وفلان قيل هو سعد بن عبيدة بضم المهملة مصغرا ضد الحرة»

(5)

.

ومن المبهم كذلك قال أبو عبدالله البخاري: «حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَمَّايَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْرُونَ الْأَرْضَ

»

(6)

.

(1)

الكواكب الدراري، 20/ 98.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الفتن، بَاب: إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا، رقم (6656).

(3)

الكواكب الدراري، 24/ 159.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: استتابة المرتدين، بَاب: مَا جَاءَ فِي الْمُتَأَوِّلِينَ، رقم (6523).

(5)

الكواكب الدراري، 24/ 57.

(6)

أخرجه البخاري، كتاب: الحرث، بَاب: كِرَاءِ الْأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، رقم (2194).

ص: 339

فالمبهم في السند هنا هوقول رافع حدثني «عمّايَ» قال الكرماني مبيناً ذلك: «فأحدهما هو ظهير وأما العم الأخر فقال الكلاباذي لم أقف على اسمه

(1)

»

(2)

.

مسألة:

إذا ورد راو مبهم في سند حديث التزم مصنفه أن لايروي إلا عن الثقة، كصحيح الإمام البخاري ماهو حكمه؟

مثاله: أخرج البخاري فقال: «حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ «مَنْ رَأَى مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا» . قَالَ فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا، فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللهُ، فَسَأَلَنَا يَوْماً، فَقَالَ «هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا» . قُلْنَا لَا. قَالَ «لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخَذَا بِيَدِي، فَأَخْرَجَانِي إِلَى الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ مُوسَى إِنَّهُ يُدْخِلُ ذَلِكَ الْكَلُّوبَ فِي شِدْقِهِ

»

(3)

.

فقوله: «قال بعض أصحابنا» فهذه رواية عن مجهول، ولا نعرف من هم الأصحاب، وقد قال ابن الصلاح: «لا يجزئ التعديل على الإبهام من غير تسمية المعدل، فإذا قال: حدثني الثقة أو نحو ذلك مقتصرا عليه لم يكتف به

فإن كان

(1)

قال ابن عبد البر في ترجمة رافع بن خديج، (هو ابن أخي ظهير ومظهر ابني رافع بن عدي) الاستيعاب في معرفة الأصحاب، 2/ 479.

(2)

الكواكب الدراري، 10/ 165.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الجنائز، رقم (1306).

ص: 340

القائل لذلك عالما أجزأ ذلك في حق من يوافقه في مذهبه، على ما اختاره بعض المحققين»

(1)

.

وقال الكرماني مجيباً عن تصرف البخاري: «لما علم من عادة البخاري أنه لا يروي إلا عن العدل الذي بشرطه فلا بأس يجهل اسمه فإن قلت: لم ما صرح باسمه حتى لا يلزم التدليس قلت لعله نسي اسمه أو لغرض آخر»

(2)

.

‌ثانياً الإبهام في المتن:

من أمثلته:

يقول ابن الصلاح: «ما قيل فيه «رجل» أو «امرأة» ، ومن أمثلته: حديث ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله! الحج كل عام؟

(3)

هذا الرجل هو الأقرع بن حابس، بينه ابن عباس في رواية أخرى»

(4)

.

فوائد معرفة المبهم في المتن:

«فوائده أن يكون المبهم سائلا عن حكم عارضه حديث آخر فيستفاد بمعرفته النسخ وعدمه إن عرف زمن إسلام ذلك الصحابي وكان قد أخبر عن قصة قد شاهدها وهو مسلم»

(5)

.

(1)

علوم الحديث ابن الصلاح، ص 110.

(2)

الكواكب الدراري، 7/ 154.

(3)

أخرجه أحمد في مسند ابن عباس رضي الله عنهما، رقم (2741).

(4)

معرفة علوم الحديث، ص 376.

(5)

فتح المغيث، السخاوي، 4/ 299.

ص: 341

وإبهام الاسم في المتن لا يضر ولا تأثير له في تصحيح الحديث أوتضعيفه

(1)

.

وقد كان الكرماني رحمه الله تعالى يذكر اسم المبهم في الروايات، مستعينا بورود اسمه في الروايات الأخرى، مثاله كحديث: «عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ

»

(2)

.

فذكر الكرماني أن الرجل هو سُليك الغَطَفاني

(3)

، كما جاء في بعض الروايات

(4)

.

ويسمي المبهم في المتن في أكثر من موضع، كما في حديث: «عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلَادَةً فَهَلَكَتْ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً

»

(5)

.

فسماه الكرماني، وهو الصحابي الجليل: اُسيد بن حُضير

(6)

.

وفي حديث «عنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: ذَهَبْتُ لأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ

»

(7)

.

(1)

شرح المنظومة البيقونية، يوسف جودة الداودي، ص 37.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الجمعة، باب: إذا رأى الإمام رجلا جاء وهو يخطب أمره أن يصلي ركعتين، رقم (889).

(3)

الكواكب الدراري، 6/ 39.

(4)

الرواية عند مسلم، كتاب: الجمعة، بَاب: التَّحِيَّةُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، رقم (58).

(5)

أخرجه البخاري، كتاب: التيمم، باب: إذا لم يجد ماء ولا ترابا، رقم (331).

(6)

الكواكب الدراري، 3/ 215.

(7)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، باب:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} . فَسَمَّاهُمُ المُؤْمِنِينَ، رقم (30).

ص: 342

فذكر الكرماني أن الرجل المقصود هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه

(1)

.

ومن ذلك حديث «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرُ الرَّاسِ

»

(2)

.

فذكر الكرماني نقلاً عن ابن بطال أنَّ: «هذا الرجل النجدي هو ضِمام بالضاد المعجمة المكسورة ابن ثعلبة من بني سعد بن بكر»

(3)

.

ولاشك أن الكرماني استدل على الأسماء المبهمة في المتن عن طريق ورود ذكرها في روايات أخرى، إلا أنه في بعض الأحيان لا يذكر ذلك ولعله يميل إلى الاختصار.

3 -

بعض المسائل المتفرقة المتعلقة بالصحابة:

كان من منهج الكرماني رحمه الله عند ترجمة الصحابي يذكره مُعظماً إياه بقوله: الصحابي الجليل أو المشهور، أو الكبير أو الشريف

، وإن كان أبوه صحابي يذكر ذلك ويقول: صحابي ابن صحابي

(4)

، أو صحابي ابن الصحابي

(1)

ينظر: الكواكب الدراري، 1/ 142.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، بَاب: الزَّكَاةُ مِنَ الإِسْلَامِ. وَقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} ، رقم (44).

(3)

الكواكب الدراري، 1/ 180.

(4)

الكواكب الدراري، ينظر ترجمته للصحابي الجليل:(عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما)، 2/ 63، وينظر في ترجمة الصحابي الجليل:(عامر بن عبدالله بن الزبير)، 2/ 111، وفي (عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنهما)، 10/ 27.

ص: 343

والصحابية

(1)

أو الصحابي ابن الصحابية

(2)

.

قال الكرماني عن الصحابي في تعريف البخاري للصحابي: «وَمَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْ رَآهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَهْوَ مِنْ أَصْحَابِهِ»

(3)

: «قوله (ومن صحب النبي؟ أو رآه) يعني الصحابي مسلم صحب النبي؟ أو رآه

فإن قلت إذا صحبه فقد رآه، قلت: لا يلزم إذ عمرو بن أم مكتوم صحابي اتفاقاً مع أنه لم يره إذ هو أعمى، فإن قلت: ما وجه قول من اكتفى بالرؤية قلت: لعله جعل الرؤية عرفية إذ من صحب زيداً وإن كان أعمى يقال أنه رآه عرفاً، فإن قلت من رآه بعد وفاته؟ قبل دفنه هل يسمى صحابياً؟ قلت: نعم. فإن قلت من رآه في المنام فقد رآه حقاً فيكون صحابياً قلت: المتبادر إلى الذهن الرؤية في اليقظة»

(4)

.

وقال في موضع آخر عند حديث: «مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَ عَقَلْتُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَجَّةً مَجَّهَا فِي وَجْهِي وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ دَلْوٍ»

(5)

فقال الكرماني عند شرح (وأنا ابن خمس سنين) فإن قلت فهل يحكم بمثل هذا الصبي بأنه صحابي.

(1)

السابق، ينظر ترجمته للصحابي الجليل (النعمان بن بشير، وأمه عَمْرة بنت رواحة) والكل من الصحابة رضي الله عنهم، 1/ 202.

(2)

السابق، ينظر ترجمته للصحابي الجليل (عبدالله بن مسعود رضي الله عنه) 2/ 196، وفي (عبدالله بن جعفر رضي الله عنهما)، 15/ 3.

(3)

صحيح البخاري، 5/ 2، طبع دارطوق النجاة، بتحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر.

(4)

الكواكب الدراري، 14/ 198.

(5)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: الْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، رقم (76).

ص: 344

قلت نعم لصدق حد الصحابي عليه وهو مسلم رأي النبي صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

وقال في موضع ثالث عند حديث من رآى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام «فمن رآه في المنام هل يطلق عليه صحابي أم لا؟ قلت: لا إذ لا يصدق عليه حد الصحابي، وهو مسلم رأى النبي صلى الله عليه وسلم إذ المراد منه الرؤية المعهودة الجارية على العادة، أي الرؤية في حياته الدنيا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو المخبر عن الله تعالى، وهو ما كان مخبرًا للناس عنه إلا في الدنيا، لا في القبر.

ولهذا يقال مدة نبوته عليه السلام ثلاث وعشرون سنة على أنا لو التزمنا إطلاق لفظ الصحابي عليه لجاز وهذا أحسن وأولى»

(2)

.

يتبين من كلام الكرماني أن الصحابي: هو مسلم رأى النبي صلى الله عليه وسلم.

ويُفهم من بقية كلامه أن المعتمد عنده في حد الصحابي:

من رآى النبي صلى الله عليه وسلم، وآمن به، أولقيه، أوصحبه، مميزاً في حال الحياة الدنيا يقظة، أو بعد (موت النبي صلى الله عليه وسلم وقبل دفنه).

واستحسن الكرماني أن من رآى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام أن يُعد من الصحابة إلا أنه لم يعتمد هذا القول بناء على قوله: المتبادر إلى الذهن الرؤية في اليقظة.

وقول الكرماني في تعريف الصحابي هو تعريف جمع من العلماء منهم البخاري قال في تعريف الصحابي: «ومن صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه»

(3)

.

(1)

الكواكب الدراري، 2/ 52.

(2)

الكواكب الدراري، 2/ 116 - 117.

(3)

صحيح البخاري، كتاب: الأنبياء، باب: فَضَائِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

ص: 345

وقال آخرون: كل من رآى النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين فهو من الصحابة

(1)

ويشمل هذا كل من رآى النبي صلى الله عليه وسلم، من الأحرار والموالي، والذكور والإناث

(2)

.

وشرط بعض الأصوليّين في تعريف الصحابي: إطالة الصحبة، وكثرة مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم على طريق التّبعِ له، والأخذ عنه

(3)

.

إلا أن ابن حجر رحمه الله قال في تعريف الصحابي: «من لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مؤمنا به ومات على الإسلام

(4)

، ولو تخللت ردة؛ في الأصح»

(5)

.

واللقاء أعم من المجالسة والرؤيا، لأنه يدخل فيها الأعمى الذي لقي النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره فتوافق قول ابن حجر مع قول الكرماني في التعريف.

محترزات تعريف الصحابي:

1 -

ومن رآه كافرا ثم أسلم بعد موته كرسول قيصر فلا صحبة له.

2 -

ومن رآه بعد موته صلى الله عليه وسلم قبل الدفن، وقد وقع ذلك لأبي ذؤيب خويلد ابن خالد الهذلي؛ فإنه لا صحبة له. (وفي هذا رد على الكرماني الذي قال أنه من

(1)

وهو قول أكثر المحدثين، كابن الصلاح، في علوم الحديث، ص 293، والنووي في التقريب والتيسير، ص 92، والسيوطي في التدريب، 2/ 667.

(2)

فتح المغيث، 4/ 79.

(3)

ينظر: المستصفى للغزالي، 1/ 130، والبحر المحيط في أصول الفقه، للزركشي، 6/ 190.

(4)

وهو قول السيوطي في تدريب الراوي، 2/ 667.

(5)

نزهة النظر، ابن حجر ص 111.

ص: 346

الصحابة).

3 -

من ارتد بعده صلى الله عليه وسلم ثم أسلم ومات مسلما، فقد نص الشافعي وأبو حنيفة على أن الردة محبطة للعمل، والظاهر أنها محبطة للصحبة السابقة

(1)

، كقُّرة ابن هبيرة، والأشعث بن قيس، أما من رجع إلى الإسلام في حياته كعبدالله بن أبي سرح، فلا مانع من دخوله في الصحبة

(2)

.

4 -

ويشترط في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم المُعتبرة أن تكون بعد نبوته صلى الله عليه وسلم، فلا ينطبق عليه اسم الصحابي من رآه قبلها كزيد بن عمرو بن نفيل، وقد عده ابن منده

(3)

في الصحابة

(4)

.

(1)

قال العلامة المحدث محمد عوامّة «هذا هو الأوجه دليلاً، وذهب بعض الحفاظ إلى أن الأصح أن اسم الصحبة باقٍ للراجع للإسلام، سواء رجع إليه في حياته عليه السلام أم بعده، وسواء لقيه ثانياً أو لا، ويدل على رجحانه قصة الأشعث بن قيس، فإنه كان ممن ارتد، وأُتي به إلى الصديق أسيراً، فعاد إلى الإسلام، فقبل منه ذلك وزوّجه أخته، ولم يتخلف أحد من ذكره في الصحابة» من تحقيقه لتدريب الراوي طبعة دار اليسر، ودار والمنهاج، ص 156.

(2)

تدريب الراوي، 2/ 667 - 668، ونزهة النظر، ص 111 - 112.

(3)

محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى ابن منده بن الوليد، الأصبهاني، ومنده لقبه، الحفاظ المشهورين وأحد أصحاب الحديث المبرزين، الثقة الحافظ، كثير التصانيف، له:(معرفة الصحابة)، و (فتحُ الباب في الكُنى والألقاب)، (ت 395 هـ)، ينظر: وفيات الأعيان، ابن خلكان، 6/ 168، ولسان الميزان، ابن حجر، 6/ 555.

(4)

تدريب الراوي، 2/ 668.

ص: 347

5 -

ويشترط التمييز في الرَّائي، وذلك إستناداً لحديث محمود بن الربيع الذي عَقِل مجّة مجّها النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وهو ابن خمس سنين، فقال العلماء هذا حد التمييز، ويخرج بذلك من رآه وهو لا يعقل، والأطفال الذين حنكهم ولم يروه بعد التمييز

(1)

.

6 -

ويعرف الصحابي:

1 -

بالتواتر، كأبي بكر وعمر وعائشة، وبقية العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم.

2 -

بالشهرة والاستفاضة، كعكاشة بن محصن، وضمام بن ثعلبة.

3 -

أن يُخبر عن نفسه أنه من الصحابة، كما قال البخاري في صحيحه: «عَنْ سُنَيْنٍ أَبِي جَمِيلَةَ

(2)

قَالَ أَخْبَرَنَا وَنَحْنُ مَعَ ابْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ وَزَعَمَ أَبُو جَمِيلَةَ أَنَّهُ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَخَرَجَ مَعَهُ عَامَ الْفَتْحِ»

(3)

، قال الكرماني

(4)

معلقاً على ذلك: «وجمهور الأصوليين أن العدل المعاصر للرسول صلى الله عليه وسلم إذا قال أنا صحابي يصدق فيه ظاهرا»

(5)

.

(1)

تدريب الراوي، 2/ 668، وفتح المغيث، 4/ 83.

(2)

وقد تُرجم لسُنين أبي جميلة في كتب التراجم، وعُدّ من الصحابة الكرام رضي الله عنهم، ينظر، طبقات ابن سعد، 5/ 46، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، 689، وأسد الغابة، 2/ 567.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: المغازي، باب: وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُاللهِ بْنُ ثعلبة، رقم (4010).

(4)

الكواكب الدراري، 16/ 141.

(5)

والأمر فيه خلاف «إن ادعى العدل المعاصر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يقبل قوله قال القاضي أبو بكر: نعم؛ لأن وازع العدل يمنعه من الكذب، إذا لم يرد عن الصحابة رد قوله، وجرى عليه ابن الصلاح والنووي. ومنهم من توقف في ثبوتها بقوله لما في ذلك من دعواه رتبة لنفسه، وهو ظاهر كلام ابن القطان المحدث، وهو قوي، فإن الشخص لو قال: أنا عدل، لم تقبل لدعواه لنفسه مزية، فكيف إذا ادعى الصحبة التي هي فوق العدالة؟» البحر المحيط في أصول الفقه، بدر الدين الزركشي، 6/ 198، وينظر الأصول في الإبهاج في شرح المنهاج، تقي الدين السبكي، 2/ 331.

ص: 348

4 -

أو أن يُخبر عن نفسه أنه صحابي، بعد ثبوت عدالته ومعاصرته

للنبي صلى الله عليه وسلم.

5 -

أن يخبر أحد التابعين بأنه صحابي بناء على قبول التزكية من واحد وهو الراجح

(1)

.

وإن مقام الصحبة، لا يعلوه مقام، قال الكرماني «قال العلماء: إن

إدراك صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لحظة خير وفضيلة لا يوازيها عمل ولا تنال

درجتها بشيء»

(2)

وقال في موضع آخر: «ليس للصحابي فضيلة أفضل من فضيلة الصحبة، ولهذا سُّمو بالصحابة؛ مع أنهم علماء كرماء شجعاناً إلى تمام فضائلهم رضي الله عنهم»

(3)

.

(1)

ينظر معرفة علوم الحديث، ابن الصلاح، ص 294، والمنهل الروي، ابن جماعة، 112، وتدريب الراوي، السيوطي 2/ 672، والسنة قبل التدوين، محمد عجاج الخطيب، ص 393.

(2)

الكواكب الدراري، 5/ 192.

(3)

السابق، 20/ 112.

ص: 349

وكان يُشير إلى صنيع البخاري أوشيوخه من ذكرهم للراوي أنه من الصحابة، مع أنه من المشهورين والمعروفين فيبين سبب ذلك مثاله: «حَدَّثنا أَبُو اليَمَانِ، قَالَ: أَخبَرَنا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الأَنْصَارِيُّ، وَكَانَ تَبِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَخَدَمَهُ وَصَحِبَهُ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فِي وَجَعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ

»

(1)

.

قال الكرماني: «قوله: تبع ماذكر المتبوع فيه ليشعر بالعموم أي تبعه في العقائد، والأقوال والأفعال والأخلاق، وذكر خدمته لبيان زيادة شرفه، وهو كان له خادما عشر سنين ليلا ونهارا، وذكر صحبته لأن الصحبة معه صلى الله عليه وسلم أفضل أحوال المؤمنين واعلى مقاماتهم»

(2)

.

ومن ذلك: «حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيَّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفُرْسَانِهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ الرُّؤْيَا مِنْ اللهِ

»

(3)

.

ومعرفة الصحابة فن عظيم، يُعرف به الحديث المرسل من المتصل

(4)

.

ولذلك كان الكرماني يبين الخلاف في صحبة الصحابي والسبب في ذلك

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الأذان، بَابُ: أَهْلُ العِلْمِ وَالفَضْلِ أَحَقُّ بِالإِمَامَةِ، رقم (650).

(2)

الكواكب الدراري، 5/ 62.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: التعبير، بَاب: الْحُلْمُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِذَا حَلَمَ فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ وَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ عز وجل، رقم (6586).

(4)

ينظر: التقريب والتيسير، للنووي، ص 92، وفتح الباقي شرح ألفية العراقي، زين الدين السنيكي، 2/ 185.

ص: 350

ويرجح مستعيناً بالقرائن والأدلة فقال في ترجمة: «عدي بن عدي» «اختلفوا في أنه صحابي أم لا؟ والصحيح أنه تابعي، وسبب الاختلاف أنه روى الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسلة فظنه بعضهم صحابياً وكان عدي عامل عمر بن عبد العزيز على الجزيرة والموصل، واستعمال عمر له يدل على أنه لا صحبة لهن لأنه عاش بعد عمر ولم يبق أحد من الصحابة إلى خلافته واتفقوا على جلالته»

(1)

.

وقال في ترجمة: التابعي «شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ» مرجحاً أنه من التابعين، ومبيناً الخلاف في صحبته:«وقال صاحب جامع الأصول: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وقيل إن في صحبته خلافاً»

(2)

.

وقال في: «جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ» «مختلف في صحبته»

(3)

.

* * *

‌المبحث الخامس

الجرح والتعديل

‌أولاً تعريف علم الجرح والتعديل لغة واصطلاحًا، وتعريفه علمًا مركبًا:

‌1 - تعريف الجَرح لغة واصطلاحًا:

قال ابن منظور

(4)

: الجَرْح الفعلُ جَرَحه يَجْرَحُه جَرْحاً: أثر فيه بالسلاح؛

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 72.

(2)

الكواكب الدراري، 6/ 54.

(3)

السابق، 6/ 205.

(4)

ينظر مادة (جرح) لسان العرب، 2/ 422، وانظر تاج العروس: 6/ 336.

ص: 351

وجرّحه: أكثر ذلك، وجرحه بلسانه: شتمه، ويقال: جرح الحاكم الشاهد؛ إذا عثر منه على ما تسقط به عدالته من كذب وغيره.

تعريف الجَرح اصطلاحًا: وَصْفُ الحافظ الناقد للراوي بما يقتضي ردّ روايته أوتضعيفها

(1)

.

‌2 - تعريف التعديل لغة واصطلاحًا:

العدل: ما قام في النفوس أنه مستقيم، وهو ضدالجور

(2)

.

اصطلاحًا: وَصْفُ الحافظ الناقد للراوي بما يقتضي سلامته من الجارح في دينه وسلوكه، وتوثيقَه وقَبول روايته

(3)

.

ومن العلماء من عرف علم الجرح والتعديل تعريفًا مركبًا:

قال حاجي خليفة في كشف الظنون: هو علم يُبحَث فيه عن جرح الرواة وتعديلهم بألفاظ مخصوصة، وعن مراتب تلك الألفاظ)

(4)

.

‌ثانياً أهمية الجرح والتعديل:

إن علم الجرح والتعديل من الأسس التي يُبنى عليها صحة الأحاديث

(1)

لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث، للشيخ عبد الفتاح أبو غدة ص 177، وانظر كتاب: منهج النقد في علوم الحديث لأستاذنا الدكتور نور الدين عتر ص، 92.

(2)

ينظر مادة (عدل)، تهذيب اللغة، 2/ 124، ولسان العرب، 11/ 430.

(3)

لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث ص، 178، وانظر منهج النقد ص، 92.

(4)

كشف الظنون، 1/ 582، وينظر: علم الرجال نشأته وتطوره من القرن الأول إلى نهاية القرن التاسع، محمد الزهراني، ص 115.

ص: 352

والروايات؛ فلا بد لناقل الخبر أن يتصف بالصدق والعدالة؛ حتى يُحكم على كلامه بالصحة. وقال الحاكم في معرفة علوم الحديث: «النوع الثامن عشر من علوم الحديث: هذا النوع من علم الحديث معرفة الجرح والتعديل، وهما في الأصل نوعان: كل نوع منهما علم برأسه، وهو ثمرة هذا العلم، والمرقاة الكبيرة منه»

(1)

.

وقال ابن الصلاح مُبَيِّنًا شروط قبول الرواية من الراوي: «أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على أنه يُشتَرط فيمن يحتج بروايته أن يكون عدلًا ضابطًا لما يرويه، وتفصيله أن يكون مسلمًا بالغًا عاقلًا سالِمًا من أسباب الفسق وخوارم المروءة، متيقظًا غير مغفل، حافظًا إن حدث من حفظه، ضابطًا لكتابه إن حدَّث من كتابه، وإن كان يحدث بالمعنى؛ اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالمًا بما يحيل المعاني»

(2)

.

وقد سماه ابن الصلاح: معرفة صفة من تقبل روايته ومن ترد روايته،

وما يتعلق بذلك من قدح وجرح وتوثيق. وهو عِلْم معروف من عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام رضي الله عنهم؛ إلا أنه لم يكن معروفًا بهذا الاسم.

وقال محمد بن سيرين: «إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ» .

وقال كذلك: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا:

(1)

معرفة علوم الحديث، ص 52.

(2)

علوم الحديث، ابن الصلاح، ص 104 - 105.

ص: 353

سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم»

(1)

.

‌ثالثاً مشروعية الجرح والتعديل:

‌1 - من القرآن الكريم:

أدلة الجرح والتعديل كثيرة في كتاب الله عز وجل منها قوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].

وقول الله عز وجل {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2]. وقوله سبحانه: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16].

وغيرها من الآيات التي تدل على التثبت في نقل الأخبار.

‌2 - من السنة الشريفة:

وقوله صلى الله عليه وسلم في الأحمق المطاع: «عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: «بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ، وَبِئْسَ ابْنُ العَشِيرَةِ» فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ

النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطْتَ إِلَيْهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَائِشَةُ، مَتَى عَهِدْتِنِي فَحَّاشًا، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً

(1)

مقدمة صحيح الإمام مسلم، ص 15.

ص: 354

يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ»

(1)

.

قال ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث: «وهذا الحديث أصل في المداراة وفي جواز غيبة أهل الكفر والفسق ونحوهم والله أعلم»

(2)

.

ويبين الإمام النووي رحمه الله تعالى أن جرح الرواة لا يُعد من الغيبة المحرمة؛ بل من النصيحة المطلوبة فقال: «اعلم أن جرح الرواة جائز بل واجب بالاتفاق؛ للضرورة الداعية إليه لصيانة الشريعة المكرمة، وليس هو من الغيبة المحرمة؛ بل من النصيحة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ولم يزل فضلاء الأئمة وأخيارهم وأهل الورع منهم يفعلون ذلك»

(3)

.

حتى أن الإمام الكرماني رحمه الله بين عدم جواز الستر على الرواة المجروحين فقال: «وأما ما يتعلق بجرح الرواة والشهود فلا يحل الستر عليهم وليس هذا من الغيبة المحرمة بل من النصيحة الواجبة»

(4)

.

‌رابعاً إذا اجتمع في الراوي جرح وتعديل أيهما يُقدم؟

قال ابن الصلاح: «إن اجتمع الجرح والتعديل في راو ما فالجرح مقدم؛

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الأدب، بَابُ: «لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا، رقم (6032).

(2)

فتح الباري، 10/ 454، وينظر مشروعية الجرح والتعديل، في فتح المغيث،

4 -

/ 352، وتدريب الراوي، 2/ 891، والسنة قبل التدوين، 23، والسنة ومكانتها في التشريع، مصطفى السباعي، ص 110.

(3)

شرح مسلم على النووي، 1/ 124.

(4)

الكواكب الدراري، 11/ 18.

ص: 355

لأن المعدل يخبر عما ظهر من حاله، والجارح يخبر عن باطن خفي على المعدل فإن كان عدد المعدلين أكثر فقد قيل التعديل أولى، والصحيح والذي عليه الجمهور أن الجرح أولى لما ذكرناه»

(1)

.

‌خامساً عدد المعدلين:

اختلف العلماء في ثبوت الجرح والتعديل بقول اثنين أم يُكتفى بواحد؟ فمنهم من قال أنه لابد من اثنين كما هي الشهادات، ومنهم من قال أنه يُكتفى بواحد وهو الصواب وعليه قول الجمهور، لأن العدد لم يشترط في قبول الخبر، فلم يشترط في جرح راويه وتعديله، بخلاف الشهادات

(2)

.

وقال الكرماني ناقلاً عن ابن بطال: «اختلفوا في عدد المعدلين، فقال مالك والشافعي: لا يقبل في الجرح والتعديل أقل من رجلين، وقال أبو حنيفة: يقبل تعديل الواحد وجرحه»

(3)

.

‌منهج الإمام الكرماني في الجرح والتعديل:

يظهر اهتمام الكرماني رحمه الله تعالى في شرحه بموضوع جرح الرجال وتعديلهم، وهناك الكثير من التراجم لم يذكر فيهم تعديلاً أو تجريحاً، وذلك إما اختصاراً كما هو منهجه في الشرح، وإما اكتفاء بشهرتهم، وفي الاستقراء والتتبع

(1)

علوم الحديث، ص 109 - 110.

(2)

ينظر: علوم الحديث، ابن الصلاح، ص 109، وشرح التبصرة، العراقي، 1/ 345، وتوضيح الأفكار، الصنعاني، 2/ 106.

(3)

الكواكب الدراري، 11/ 164.

ص: 356

تبين أن الكرماني ناقش بعض الأمور في الجرح والتعديل ومن أهمها:

‌1 - ينقل أقوال علماء الجرح والتعديل في الرجال:

كان من منهج الكرماني أن ينقل آراء علماء الجرح والتعديل في الرواة

كأبي حاتم الرازي

(1)

، وابن سعد، ويحيى بن معين

(2)

، وأحمد بن حنبل

(3)

وغيرهم.

مثال على ذلك: قال في ترجمة: «آدم بن أبي إياس» ناقلاً عن أبي حاتم «قال أبو حاتم هو ثقة مأمون متعبد من خيار عباد الله»

(4)

.

(1)

أبو حاتم الرازي محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران، الحنظلي، الإمام الحافظ الناقد، شيخ المحدثين، وجرح وعدّل، وصنف، وألف من مصنفاته: الجرح والتعديل، (ت 277 هـ)، ينظر سير أعلام النبلاء، الذهبي، 13/ 247.

(2)

يحيى بن معين بن عون بن زياد بن بسطام، أبو زكريا، إمام الحديث

في زمانه، والمعول عليه فيه، قال أحمد بن حنبل: السماع من يحيى بن معين شفاء لما

فى الصدور، سمع ابن المبارك وابن عيينة وغيرهم، (ت 233 هـ)، ينظر:

تهذيب الأسماء واللغات، النووي، 2/ 156، وسير أعلام النبلاء، الذهبي،

9 -

/ 123.

(3)

أحمد بن حنبل بن هلال بن أسد، الشيباني، الإمام الفقيه المحدث اللغوي، الزاهد العابد الورع، إمام أهل السنة كثير التصنيف والجمع، إليه يُنسب المذهب الحنبلي، له المسند، والجرح والتعديل وغيرها. (ت 242 هـ)، ينظر: طبقات الحنابلة، ابن أبي يعلى، 4/ 1، ومناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي.

(4)

الكواكب الدراري، 1/ 87.

ص: 357

وقال عن: «عبدة أبو محمد بن سليمان بن الحاجب الكلابي الكوفي» «قال الإمام أحمد هو ثقة ثقة ثقة وزيادة مع صلاح»

(1)

.

وقال عن: «إبراهيم بن حمزة الأسدي المدني» «قال ابن سعد ثقة صدوق»

(2)

.

وأحياناً يكتفي الكرماني بنقل عالم واحد في الراوي المُترجَم له قال عن: «زياد ابن عبدالله العامري البَكّائي» «قال ابن معين لا بأس به في المغازي خاصة»

(3)

.

كذلك يذكر الكرماني اتفاق العلماء على توثيق الراوي وجلالته، من ذلك: ما قاله عن: «أبو عامر العقدي عبد الملك ابن عمرو البصري»

(4)

وفي: «يزيد مولى المنبعث»

(5)

.

وكان الكرماني كذلك يذكر ألفاظ العلماء في الجرح والتعديل، من ذلك

ما قاله عن: «أبو حفص بن غياث بن طلق النخعي» «أوثق أصحاب الأعمش ثقة فقيه عفيف حافظ»

(6)

.

وقال في: «هاشم بن القاسم أبو النضر» «حافظ ثقة صاحب سنة»

(7)

.

(1)

السابق، 1/ 112.

(2)

السابق، 1/ 200.

(3)

السابق، 12/ 108.

(4)

السابق 1/ 81.

(5)

السابق، 2/ 80.

(6)

الكواكب الدراري، 3/ 122.

(7)

السابق، 2/ 186.

ص: 358

‌2 - ينقل اختلاف علماء الجرح والتعديل في الراوي الواحد:

من المعروف عند علماء الجرح والتعديل أن للتعديل مراتب ودرجات، وكذلك الجرح، ولكل درجة لها مدلولها الخاص بالراوي، وقد تختلف أقوال العلماء في الراوي الواحد وذلك لأسباب عدة منها اختلاف اجتهادهم، وحكمهم على الرجال بين متشدد ومتساهل ومعتدل

(1)

«ولم يكونوا معصومين رحمهم الله تعالى؛ ولكن كانوا يغلب على غالبهم الورع والدقة والأمانة والنَّصَفَة، والكمال المطلق إنما هو لله تعالى، والعصمة

لنبيه صلى الله عليه وسلم، بفضل الله عليه. وصدرت منهم هذه الألفاظ قبل توحد المصطلحات الحديثية واستقرارها الذي يمكن تحديده تقريبًا بالقرن الرابع وما بعده. كان الحافظ الناقد منهم يقولها في الراوي بحسب ما يتراءى له من حاله؛ تبعًا لمعرفته بأحاديثه ونقده مروياته، وتبينه فيه؛ يقول قوةَ العدالة والضبط أو الضعف

(1)

ذكر الإمام الذهبي رحمه الله تعالى، «والكلام في الرواة يحتاج إلى ورع تام، وبراءة من الهوى والميل، وخبرة كاملة بالحديث، وعلله، ورجاله. ثم نحن نفتقر إلى تحرير عبارات التعديل والجرح، وما بين ذلك من العبارات المتجاذبة. ثم أهم من ذلك، أن نعلم بالاستقراء التام عرف ذلك الإمام الجهبذ، واصطلاحه، ومقاصده، بعباراته الكثيرة

فالحادُّ فيهم، يحيى بن سعيد، وابن معين، وأبو حاتم، وابن خِراش، وغيرهم، والمعتدل فيهم أحمد بن حنبل، والبخاري، وأبو زُرعة، والمتساهلُ كالترمذي، والحاكم، والدار قطني في بعض الأوقات

ولكن هذا الدين مؤيد محفوظ من الله تعالى، لم يجتمع علماؤه على ضلالة، لا عمداً ولا خطأ، فلا يجتمع اثنان على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة» المُوقظة ص 82 - 83 - 84.

ص: 359

فيهما»

(1)

.

ومن الأمثلة على ذلك يذكر الكرماني أقوال العلماء في ترجمة: «عدي بن ثابت» «قال أحمد بن حنبل هو ثقة وقال أبو حاتم صدوق»

(2)

.

‌3 - ذكر مايتعلق بعدالة الراوي:

من ذلك:

‌1 - التنبيه على عدالة الصحابة رضي الله عنهم

-:

أجمع العلماء على عدالة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ولا يُحتاج للسؤال عنهم، لأنها ثابتة بعديل الله لهم في القرآن، وتزكية الرسول صلى الله عليه وسلم لهم

(3)

.

وقد كان الكرماني رحمه الله تعالى ينص على ذلك في أثناء شرحه، إذا ورد اسم صحابي في الحديث وجُهل اسمه فإن هذا لا يضر لأن الصحابة كلهم عدول.

مثال على ذلك، أخرج البخاري في صحيحه في كتاب: الحج،

«عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَيُهِلُّ أَهْلُ الشَّامِ مِنْ الْجُحْفَةِ وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ قَالَ عَبْدُاللهِ وَبَلَغَنِي أَنَّ

(1)

من تعليق العلامة المحدث الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى، على كتاب: الرفع والتكميل في الجرح والتعديل، لعبد الحي اللكنوي الهندي، ص 129.

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 214.

(3)

ينظر: الكفاية، الخطيب البغدادي، ص 46، اليواقيت والدرر، المناوي، 2/ 214، منهج النقد، د. نور الدين عتر، ص 121.

ص: 360

رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ»

(1)

.

فعبارة سيدنا عبدالله بن عمر بلغني هل تقوم بها الحجة أم أنها من قبيل المجهول؟ قال الكرماني: «أن الظاهر من هذا البلاغ لايرويه إلا عن صحابي آخر، والصحابة كلهم عدول»

(2)

.

ومثله:

قال البخاري: «حدثنا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَرِدُ عَلَى الْحَوْضِ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِي

»

(3)

.

فقول ابن المسَيَّب أنه كان يُحدث عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لايعد هذا من الرواية عن المجاهيل، ولا ينقدح الإسناد بسببه، وذلك لأن الصحابة كلهم عدول

(4)

.

‌2 - التنبيه على من رُمي ببدعة:

المبتدع: هو من اعتقد بالمذموم مما هو خلاف المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم،

لا بمعاندة بل بنوع شبهة

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري، باب: ميقات أهل المدينة ولا يهلوا قبل ذي الحليفة، رقم (1436).

(2)

ينظر: الكواكب الدراري، 8/ 63.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الحوض، باب: في الحوض، رقم (6192).

(4)

ينظر: الكواكب الدراري، 23/ 68.

(5)

فتح المغيث، 2/ 62.

ص: 361

حكم رواية المبتدع:

وقد قسم العلماء البدعة إلى أقسام، وعلى وفقها يُقبل الراوي أو يُرد:

1 -

أن تكون بدعته مُفَسِّقة أو مُكَفِّرة؛ فهذا رَدُّوا روايته.

2 -

ومَن كانت فيه بدعة غير مُفَسِّقة أو مُكَفِّرة، وإنما تأولوا قوله بدليل. قال ابن الصلاح: «اختلفوا في قبول رواية المبتدع الذي لا يُكَفَّر في بدعته؛ فمنهم من رد روايته مطلقًا؛ لأنه فاسق ببدعته، وكما استوى في الكفر المتأوِّل وغير المتأوِّل؛ يستوي في الفسق المتأول وغير المتأول. ومنهم من قبل رواية المبتدع إذا لم يكن ممن لا يستحل الكذب في نصرة مذهبه أو لأهل مذهبه؛ سواء أكان داعية إلى بدعته أو لم يكن، وعزا بعضهم هذا إلى الشافعي لقوله: «أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية

(1)

من الرافضة؛ لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم وقال قوم: «تُقبل روايته إذا لم يكن داعية إلى بدعته، ولا تقبل إذا كان داعية، وهذا مذهب الكثير أو الأكثر من العلماء»

(2)

.

(1)

الخطابية: فرقة من غلاة الشيعة أصحاب أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي الأجدع مولى بني أسد، وهم يستحلون الكذب لإثبات الحق لهم على خصومهم من أهل الفرق الأخرى؛ ولذلك لا تقبل شهادتهم. ينظر: الملل والنحل للشهرستاني: 1/ 179، والتوقيف على مهمات التعاريف لزين الدين المناوي ص، 156، ومعجم لغة الفقهاء لمحمد رواس قلعجي ص، 197.

(2)

علوم الحديث لابن الصلاح ص: 114 - 115، وانظر فتح المغيث شرح ألفية الحديث: 2/ 62 - 63، وشرح النخبة للقاري: 1/ 532. وتوجيه النظر إلى أصول الأثر ص: 887 - 893.

ص: 362

وقال اللكنوي عند نقله لبعض الأقوال في قبول رواية المبتدع أو ردها: «وقيل: إنما تقبل أي رواية المبتدع إذا كانت بدعته صغرى، وإن كانت كبرى؛ فلا تُقبل؛ فتُقبل رواية أرباب التشيّع بالمعنى المشهور في عرف المتقدمين

(1)

؛

وهو اعتقاد تفضيل عَلِيٍّ على عثمان رضي الله عنهما، أو اعتقاد أنَّ عليًّا أفضلُ الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه مصيب في حروبه كلها، ومخالفها مُخطاء، وبهذا نُسب جمع من أهل الكوفة المتقدمين إلى التشيُّع»

(2)

.

وقال الكرماني: «اعلم أن المبتدع إذا وجدت فيه سائر شروط الرواية تقبل روايته، قال الإمام مسلم في صحيحه

(3)

الواجب أن يتقي من أهل التهم والمعاندين من أهل البدع فقيد بلفظ المعاندين وقال النووي في شرحه

(4)

وقع في الصحيحين وغيرهما من كتب أئمة الحديث الاحتجاج بكثير من المبتدعة غير

ص: 363

الدعاة إلى بدعتهم ولم يزل السلف والخلف على قبول الرواية منهم والاستدلال بها والسماع منهم وإسماعهم من غير إنكار»

(1)

.

وكان منهج الكرماني عند ترجمة الرواة، أن يبين مذهبهم العَقَدي، فكان ينبّه على القائلين بمذهب القَدَر، ومن كانوا من الخوارج والشيعة، والمرجئة.

فالرواة الذين قال عنهم أنهم من القدرية هم:

«1 هشام الدستوائي عبدالله الثقفي ابن أبي نَجيح عبدالله بن عمرو ابن الحجاج البصري، عبد العزيز بن أبي سلمة، شبل ابن عبادة، ثور بن يزيد الكلاعي، عبد الرحمن بن إسحاق القرشي»

(2)

.

وقال عن: «عمران بن حطّان السدوسي» أنه من الخوارج

(3)

وهو الخارجي الوحيد الذي أخرج له البخاري في صحيحه.

وقد قال ابن حجر معللاً إخراج البخاري لعمران بن حطان في صحيحه: «قلت ذكر أبو زكريا الموصلي في تاريخ الموصل عن محمد بن بشر العبدي الموصلي قال لم يمت عمران بن حطان حتى رجع عن رأي الخوارج، هذا أحسن ما يعذر به عن تخريج البخاري له»

(4)

.

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 77.

(2)

الكواكب الدراري، على ترتيبهم المذكور وفق الصفحات، 1/ 174، 1/ 184،

2 -

/ 40، 2/ 48، 2/ 148، 9/ 25، 9/ 198، 10/ 66.

(3)

السابق، 21/ 82.

(4)

تهذيب التهذيب، 8/ 128.

ص: 364

وقال عن: «عوف ابن أبي جميلة» «كان يتشيع»

(1)

«عدي بن ثابت الخطيم الخطمي» «كان إمام مسجد الشيعة بالكوفة وقاضيهم»

(2)

.

وقال عن: «عبّاد بن العوام الواسطي» «ثقة صدوق وعن أحمد أنه مضطرب الحديث وقال محمد بن سعد كان يتشيع»

(3)

.

وقال عن: «إبراهيم بن يزيد التيمي» (قال يحيى هو ثقة مرجئ قتله الحجاج وهو تابعي عابد»

(4)

.

وقد أجاب العلماء على إخراج البخاري في صحيحه للرواة المبتدعة قال ابن حجر: «واعلم أنه قد وقع من جماعة الطعن في جماعة بسبب اختلافهم في العقائد، فينبغي التنبه لذلك، وعدم الاعتداد به إلا بحق وكذا عاب جماعة من الورعين جماعة دخلوا في أمر الدنيا فضعفوهم لذلك ولا أثر لذلك التضعيف مع الصدق والضبط»

(5)

.

وعند ترجمة ابن حجر رحمه الله ل: «ثور بن زيد الديلي» وكان يرى رأي الخوارج: «عن مالك أنه سئل كيف رويت عن داود بن الحصين وثور بن زيد وذكر غيرهما وكانوا يرون القدر فقال كانوا لأن يخروا من السماء إلى الأرض

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 184.

(2)

السابق، 1/ 214.

(3)

السابق، 3/ 8.

(4)

السابق، 1/ 187.

(5)

هدي الساري، ص 550، وينظر معرفة علوم الحديث لابن الصلاح، 299 - 300.

ص: 365

أسهل عليهم من أن يكذبوا»

(1)

.

وقال بعض العلماء في سبب قبول رواية البخاري لرواية الخوارج «والخوارج وهم أشد الناس بدعة لأنهم يكفرون من يكذب فقبولهم لحصول الظن بخبرهم قال أبو داود ليس في أهل الأهواء أصح حديثا من الخوارج»

(2)

.

والظاهر أن قبول البخاري للرواة المبتدعة هم الذين لا يدعون لبدعتهم، وعُرف عنهم الصدق والضبط، أو من كان على بدعة ثم رجع عنها كما علل ابن حجر لرواية البخاري عن عمران بن حطان الخارجي ومن حيث الجملة فهذا الأمر لا يطعن بالصحيح.

‌3 - بيان الراوي المدلس:

المُدلس: هو من لم يُسم مَنْ حدثه، وأوهم سماعه للحديث ممن لم يحدثه به

(3)

.

وحكم الراوي المدلس عند العلماء يختلف من راوٍ لآخر، فإن كان التدليس نادراً أو أنه لا يدلس إلا عن ثقة، أو يصرح به بالسماع من طريق آخر

(1)

فتح الباري، 1/ 394.

(2)

ثمرات النظر في علم الأثر، الصنعاني، ص 84، وقال الحافظ ابن حجر عن عمران بن حطان:«وقد وثقه العجلي وقال قتادة كان لا يتهم في الحديث وقال أبو داود ليس في أهل الأهواء أصح حديثا من الخوارج ثم ذكر عمران هذا وغيره» الفتح 1/ 432.

(3)

نزهة النظر، ابن حجر ص 103، وينظر الباعث الحثيث، ص 53، والموقظة، الذهبي ص 47.

ص: 366

فهو مقبول عندهم

(1)

.

حكم الرواة المدلسين في الصحيحين:

في صحيح البخاري رواة قال عنهم العلماء أنهم موصوفون بالتدليس، منهم: قتادة بن دِعامة السّدوسي، وسفيان بن عيينة، قال عنه ابن حجر «ثقة حافظ فقيه إمام حجة إلا أنه تغير حفظه بأخرة وكان ربما دلس لكن عن الثقات»

(2)

.

وقال أبو الفتح الأزدي: «والتدليس على ضربين، فإن كان تدليسا عن ثقة لم يحتج أن يوقف على شيء وقبل منه، ومن كان يدلس عن غير ثقة لم يقبل منه الحديث إذا أرسله حتى يقول: حدثني فلان، أو سمعت، فنحن نقبل تدليس ابن عيينة ونظرائه لأنه يحيل على مليء ثقة، ولا نقبل من الأعمش تدليسه لأنه يحيل على غير مليء، والأعمش إذا سألته: عمن هذا؟ قال: عن موسى بن طريف، وعباية بن ربعي، وابن عيينة، إذا وقفته، قال: عن ابن جريج، ومعمر، ونظرائهما، فهذا الفرق بين التدليسين»

(3)

.

وقال النووي: «ما كان فى الصحيحين عند المدلسين بعن ونحوها فمحمول على ثبوت السماع من جهة أخرى وقد جاء كثير منه فى الصحيح

(1)

فتح المغيث، 1/ 231، ومقدمة في أصول الحديث، عبد الحق الدهلوي، ص 48.

(2)

تقريب التهذيب، ص 245.

(3)

الكفاية، ص 362، وينظر ما قاله ابن عبد البر في التمهيد من نحو كلام أبي الفتح الأزدي، 1/ 30.

ص: 367

بالطريقتين جميعا»

(1)

.

وقال الكرماني: «معنعنات الصحيحين كلها مقبولة، محمولة على السماع والاتصال من طريق أخرى، سواء استُشهد وتُوبع عليها أم لا»

(2)

.

وكان موقف الإمام الكرماني من الرواة المدلسين عند البخاري، أنه تارة ينقل توثيق العلماء فيهم من دون تعرضه لذكر أن الراوي كان مدلساً، كما قال في ترجمة:«سليمان بن مهران»

(3)

، و «حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ»

(4)

، و «محمد بن مسلم أبو الزبير»

(5)

والظاهر أنه اكتفى بتوثيق العلماء لهم، وأن معنعنات الصحيح مقبولة محمولة على الاتصال.

وينقل أحياناً آراء العلماء فيهم، مع وصفهم بالتدليس.

من ذلك ما قاله عن: «عمر بن علي المُقَدَّمي» «قال ابن سعد كان عمر ثقة ويدلس تدليساً شديداً

قال عثمان لم يكونوا ينقمون منه غير التدليس ولم أكن أقبل منه حتى يقول حدثنا»

(6)

.

(1)

شرح النووي على مسلم، 1/ 33، والنكت على كتاب ابن الصلاح، ابن حجر، 2/ 635.

(2)

الكواكب الدراري، 4/ 67.

(3)

الكواكب الدراري، 1/ 144، وينظر ترجمة سليمان بن مهران ووصفه بالتدليس في، تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس، ابن حجر، ص 33.

(4)

السابق، 9/ 137، وينظر ترجمة حبيب ووصفه بالتدليس، في ثقات ابن حبان، 4/ 137.

(5)

السابق، 5/ 85، وينظر ترجمة محمد بن مسلم ووصفه بالتدليس، جامع التحصيل ص 110، وتقريب التهذيب، ص 895.

(6)

الكواكب الدراري، 1/ 160.

ص: 368

ثم قال الكرماني معللاً أخذ البخاري عن المدلسين في صحيحه: «وأقول وما كان في الصحيحين عن المدلسين بعن فمحمول على ثبوت سماعهم من جهة أخرى»

(1)

.

وقال مبيناً ضعف عنعنة: «هُشيم بن بشير» «إذ قيل إنه مدلس، مع أن معنعنات الصحيحين كلها مقبولة، محمولة على السماع والاتصال من طريق أخرى، سواء استُشهد وتوبع عليها أم لا»

(2)

.

‌4 - يذكر أقوال العلماء في الراوي ما كان متعلقاً بضبطه وإتقانه:

بيان اختلال ضبط الراوي:

من ذلك ما قيل في ترجمة: «فُليح ابن سليمان بن أبي المغيرة الخزاعي المدني أبو يحيى واسمه عبدالملك» «قال أبو حاتم

(3)

وابن معين إنه ليس بالقوى وقال ابن عدى لا بأس به

(4)

، وقد اعتمده البخاري وروى له مسلم وأبو داود والترمذي»

(5)

.

ومما يقوي الرجال وإن قيل فيهم بعض المقال أن يروي لهم أصحاب مصنفات اشترط أصحابها الصحة كالبخاري ومسلم، وفُليح ابن سليمان

(1)

السابق، 1/ 160.

(2)

السابق، 4/ 67.

(3)

الجرح والتعديل، 7/ 85.

(4)

الكامل في ضعفاء الرجال، ابن عدي الجرجاني، 7/ 144.

(5)

الكواكب الدراري، 2/ 3.

ص: 369

اعتمده البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي، قال الحاكم أبو عبدالله:«اتفاق الشيخين عليه أي فُليح بن سليمان يقوي أمره»

(1)

.

وقال عن: «سعيد المُقبري» «وقال ابن سعد هو ثقة كثير الحديث، لكنه كبر وبقي حتى اختلط قبل موته بأربع سنين»

(2)

.

ويذكر ما كان من الراوي قبل اختلاطه، وأنه لايؤثر على صحة الرواية، كما قال عن زهير أبي معاوية وأن روايته عن أبي إسحق «عمرو بن عبدالله السَبيعي» قبل الاختلاط

(3)

.

ويذكر ما كان من تفرد الراوي ومخالفته فقال عن: «شريك بن عبدالله بن أبي نمر» «كثير التفرد بمناكير لا يتابعه عليها سائر الرواة»

(4)

.

(1)

تهذيب الهذيب، 8/ 305.

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 161.

(3)

السابق، 2/ 204.

(4)

السابق، 25/ 207، وقال الذهبي عنه: (ذكره أبو محمد بن حزم فوهاه، واتهمه بالوضع. وهذا جهل من ابن حزم، فإن هذا الشيخ ممن اتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج به، نعم غيره أوثق منه وأثبت، وهو راوي حديث المعراج وانفرد فيه بألفاظ غريبة؛ منها:«ودنا الجبار فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى» تاريخ الإسلام، 3/ 891، وقال مسلم: عن شريك في حديث الإسراء «وَقَدَّمَ فِيهِ شَيْئًا وَأَخَّرَ وَزَادَ وَنَقَصَ» ، صحيح مسلم، 1/ 148. وقال ابن كثير في تفسيره:«شريك ابن عبدالله بن أبي نمر اضطرب في هذا الحديث وساء حفظه ولم يضبطه» ، تفسير القرآن العظيم، 8/ 376.

ص: 370

بيان ضعف الراوي عن شيخ معين دون غيره:

ومن دقة علماء الجرح والتعديل أنهم كانوا يبينوا أن الضعف وارد في الراوي إذا روى عن شيخ معين، أما إن روى عن غيره فهو ثقة.

مثال ذلك: قال ابن حجر في تقريب التهذيب: «يزيد ابن إبراهيم التُسْتري

أبو سعيد ثقة ثبت إلا في روايته عن قتادة ففيها لين»

(1)

.

وقد نهج الكرماني هذا النهج في نقله عن علماء الجرح والتعديل فقال في ترجمة: «قَبيصة بن عُقبة» مبيناً خلاف العلماء في توثيقه «قالوا سمع من سفيان صغيراً فلم يضبط منه كما هو حقه فهو حجة إلا فيما روي عن سفيان»

(2)

.

وقال في: «سليمان ابن كثير العبدري» ، و «سليمان بن حسين الواسطي» «قال النسائي ليس به بأس إلا في الزهري»

(3)

.

* * *

‌المبحث السادس

رواة صحيح البخاري وأقوال العلماء فيهم

*‌

‌ تمهيد:

أجمع العلماء على توثيق رواة الصحيحين، حتى في الرواة الذين لم يُذكر فيهم جرح أو تعديل، وأخرج لهم الإمامان البخاري ومسلم فهذا دلالة على

(1)

تقريب التهذيب، 1/ 599.

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 149، وينظر: تهذيب التهذيب، 8/ 347.

(3)

السابق، 6/ 149.

ص: 371

ثقتهم

(1)

وقد عرّف العلماء الثقة بقولهم: هو الجامع بين وصف العدالة والضبط

(2)

.

وقال الإمام ابن دقيق العيد

(3)

: «كان شيخ شيوخنا الحافظ أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل يخرج عنه في الصحيح هذا جاز القنطرة يعني بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه وهكذا يعتقد وبه نقول ولا نخرج عنه إلا ببيان شاف وحجة ظاهرة تزيد في غلبة الظن على المعنى الذي قدمناه من اتفاق الناس بعد الشيخين على تسمية كتابيهما بالصحيحين ومن لوازم ذلك تعديل رواتهما»

(4)

.

وقد قسم العلماء رواة من أخرج له الشيخان، أو أحدهما على قسمين: أحدهما: ما احتجا به في الأصول.

وثانيهما: من خرجا له متابعة وشهادة واعتبارا

(5)

.

(1)

المُوقظة في علم مصطلح الحديث، الذهبي، ص 78، واليواقيت والدرر في شرح نخبة ابن حجر، المناوي، 1/ 378.

(2)

توجيه النظر إلى أصول الأثر، طاهر الجزائري، ص 181.

(3)

الشيخ الإمام العلامة قاضي القضاة تقي الدين محمد بن علي بن وهب القشيري الشافعي أحد علماء وقته، وأكبرهم علمًا ودينًا، وله التصانيف المشهورة، تمذهب بمذهب الإمام مالك، ثم صار شافعياً، له الاقتراح في بيان الاصطلاح، شرح مقدمة المطرز في أصول الفقه، (ت 702)، ينظر: فوات الوفيات، 3/ 441 - 442، وطبقات الشافعيين، ابن كثير الدمشقي، ص 952.

(4)

الاقتراح في بيان الاصطلاح، ص 55، والموقظة للذهبي، ص 80، وينظر الجرح والتعديل، القاسمي ص 23.

(5)

المُوقظة، ص 79.

ص: 372

وقال ابن حجر رحمه الله تعالى عن القسم الأول: «ينبغي لكل منصف أن يعلم: أن تخريج صاحب الصحيح لأي راو كان مقتضٍ لعدالته عنده وصحة ضبطه، وعدم غفلته، ولا سيما ما انضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين، وهذا معنى لم يحصل لغير من خُرّج عنه في الصحيح، فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذُكر فيهما، هذا إذا خُرّج له في الأصول»

(1)

.

ومع هذا التوثيق لرواة الصحيح، إلا أنهم لم يسلموا من النقد والطعن، إلا أن العلماء ردوا على هذه الطعون، وفندوها.

قال ابن حجر عن القسم الثاني، مبيناً أسباب الطعن، وأنه ليس كل طعن معتبر:«فأمّا إن خَرَّج له في المتابعات والشواهد والتعاليق، فهذا يتفاوت درجات من أخرج له منهم في الضبط وغيره، مع حصول اسم الصدق لهم وحينئذ إذا وجدنا لغيره في أحد منهم طعناً فذلك الطعن مقابل لتعديل هذا الإمام؛ فلا يقبل إلا مُبين السبب مفسراً بقادح يقدح في عدالة هذا الراوي وفي ضبطه مطلقا، أو في ضبطه لخبر بعينه، لأن الأسباب الحاملة للأئمة على الجرح متفاوتة منها ما يقدح ومنها ما لا يقدح»

(2)

.

وهذه القاعدة «أنه يُحتمل في المتابعات مالا يُحتمل في الأصول» سار عليها الكرماني في شرحه، في أكثر من موضع

(3)

.

(1)

هدي الساري، ص 548.

(2)

السابق، ص 548.

(3)

الكواكب الدراري، 2/ 129، 2/ 157، 6/ 149.

ص: 373

وقال الزيلعي

(1)

معللاً إخراج البخاري ومسلم لرواة تُكلم فيهم: «صاحبا الصحيح رحمهما الله إذا أخرجا لمن تكلم فيه، فإنهم ينتقون من حديثه ما تُوبع عليه، وظهرت شواهده، وعُلم أن له أصلاً، ولا يروون ما تفرد به، سيما إذا خالفه الثقات»

(2)

.

وقد عقد ابن حجر رحمه الله تعالى، فصلاً كاملاً في هدي الساري، عن أسماء من طُعن فيهم من رجال صحيح البخاري، مع الإجابة عن هذه الطعون، وبيان من أخرج له البخاري في الأصول، ومن أخرج له في المتابعات والشواهد

(3)

.

وكان منهج الكرماني رحمه الله تعالى في شرحه أنه كان يترجم لكل الرواة، ولم يذكر الرواة المطعون فيهم إلا قليلا، وذلك لأنه قال في مقدمة شرحه: «اعلم أن صحيح البخاري لا حاجة له في بيان حاله، إلى تعديل رجاله. لأنه ينقسم إلى قسمين: رجال بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفاق الأمة المكرمة المعظمة الأقدار، على أنهم عدول ثقات أخيار أبرار

ويذكر الكرماني أنه كان يصحح أسماء الرواة ويضبطها، لا للتعديل

(1)

عبدالله بن يوسف بن محمد الزيلعي الحنفي جمال الدين الزيلعي، المحدث المفيد، أخذ عن القاضي علاء الدين ابن التركماني، وابن عقيل، خرّج أحاديث الهداية وأحاديث الكشاف مع الاستيعاب الكامل لذلك، (ت 762 هـ). طبقات الحفاظ للسيوطي،

3 -

/ 95.

(2)

نصب الراية، 1/ 10.

(3)

هدي الساري، الفصل التاسع، ص 548.

ص: 374

والتجريح أو التصنيف والتصحيح

والقسم الثاني: ورجال بيننا وبين البخاري، ولا حاجة لنا إلى معرفتهم بذواتهم، فضلا عن جرحهم وعدالتهم. لأن صحيحه بالنسبة إلينا متواتر»

(1)

.

وهذه بعض الأمثلة التي تعرض لها الكرماني عن الرواة المطعون فيهم:

‌1 - أبان أبو يزيد البصري العطار.

قال الكرماني في ترجمته: «ذكر البخاري عنه تعليقاً لعدم تلاقيهما، وذكره متابعة لا تأصلاً إما لضعفه أو لغيره، وإما لضعف شيخه ونحوه، وأما مسلم فقد روى له في الأصول»

(2)

.

وقال ابن حجر في ترجمته: «قال أحمد: «ثبت في كل المشائخ» ، وقال بن معين:«ثقة كان القطان يروي عنه وكان أحب إليه من همام، وهمام أحب إلي» ، وقال النسائي: ثقة»

(3)

.

‌2 - الحسن بن عمارة:

وهو الْحسن بن عمَارَة بن مضرب أَبُو مُحَمَّد الْكُوفِي مولى بجيلة، قال شعبة كذاب، وقال غيره متروك

(4)

.

وقد تُوّهم أن البخاري روى عن الحسن بن عمارة في صحيحه، إلا أن

(1)

الكواكب الدراري، ببعض التصرف، 1/ 7.

(2)

السابق، 1/ 176.

(3)

تهذيب التهذيب، 1/ 101.

(4)

ينظر ترجمته في الضعفاء والمتركون، ابن الجوزي، 1/ 207، وديوان الضعفاء، الذهبي، 1/ 84.

ص: 375

السياق لا يدل عليه، أخرج البخاري: «حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِاللهِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا شَبِيبُ بْنُ غَرْقَدَةَ قَالَ سَمِعْتُ الْحَيَّ يُحَدِّثُونَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهُ دِينَاراً يَشْتَرِي بِهِ شَاةً، فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ، فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ وَجَاءَهُ بِدِينَارٍ وَشَاةٍ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي بَيْعِهِ، وَكَانَ لَوِ اشْتَرَى التُّرَابَ لَرَبِحَ فِيهِ. قَالَ سُفْيَانُ كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ جَاءَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْهُ

»

(1)

.

قال الكرماني: «فإن قلت الحسن بن عمارة كاذب مُكذب، فكيف جاز النقل عنه؟ قلت: ما أثبت شيء بقوله من هذا الحديث مع احتمال أنه قال ذلك بناء على ظنه»

(2)

.

وقال ابن حجر: «لم يقصد البخاري الرواية عن الحسن بن عمارة ولاالاستشهاد به بل أراد بسياقه ذلك أن يبين أنه لم يحفظ الإسناد الذي حدثه به عروة ومما يدل على أن البخاري لم يقصد تخريج الحديث الأول أنه أخرج هذا في أثناء أحاديث عدة في فضل الخيل»

(3)

.

‌3 - عكرمة أبو عبدالله مولى ابن عباس،

المفسر، الهاشمي المدني، اتُهم بالكذب، «كان ينتحل رأي الصُّفريَّة

(4)

قال أبو بكر: سمعت مصعب بن عبدالله

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: المناقب، من دون ذكر اسم للباب (تراجم مرسلة)، رقم (3408).

(2)

الكواكب الدراري، 14/ 195.

(3)

هدي الساري، ص 565.

(4)

الصفرية من الخوارج: هم اتباع زياد بن الأصفر، وقولهم في الجملة كقول الأزارقة في أن أصحاب الذنوب مشركون غير أن الصفرية لا يرون قتل أطفال مخالفيهم ونسائهم، والأزارقة يرون ذلك وقد زعمت فرقة من الصفرية أن ما كان من الأعمال عليه حد واقع لا يسمى صاحبه إلا بالاسم الموضوع له كزان وسارق وقاذف وقاتل عمد وليس صاحبه كافرا ولا مشركا وكل ذنب ليس فيه حد كترك الصلاة والصوم فهو كفر وصاحبه كافر! ينظر الفرق بين الفِرق، عبد القادر البغدادي، 70 - 71.

وذكر أبو محمد القرطبي الظاهري، «وقالت طائفة من الصفرية بوجوب قتل كل من أمكن قتله من مؤمن عندهم أو كافر، وكانوا يؤلون الحق بالباطل، وقد بادت هذه الطائفة وقالت الميمونية وهم فرقة من العجاردة والعجاردة فرقة من الصفرية بإجازة نكاح بنات البنات وبنات البنين وبنات بني الإخوة والأخوات!» ينظر: الفصل في الملل والأهواء والنِحل، 4/ 145.

ص: 376

يقول كان عكرمة يرى رأي الخوارج وادعى على بن عباس أنه كان يراه»

(1)

.

وقال ابن حجر عن عكرمة: «لم يثبت تكذيبه عن ابن عمر ولا تثبت عنه بدعة»

(2)

.

وقد نقل الكرماني في ترجمته أقوال العلماء فيه، وبين من وثّقه، ومن جرحه: «قال محمد بن سعد كان كثير العلم بحرًا من البحور، ولكن يتكلم الناس فيه وكان ذلك لأنه يرى رأى الخوارج، وقال يحي بن معين: إذا رأيت من يتكلم في عكرمة فاتهمه على الإسلام.

وقال البخاري ليس أحد من أصحابنا إلا يحتج بعكرمة وقال أبو أحمد بن

(1)

التعديل والتجريح، لمن خرج له البخاري في الجامع الصحيح، أبو الوليد الباجي، 3/ 1023، وينطر: العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، محمد بن إبراهيم ابن الوزير، 9/ 255.

(2)

تقريب التهذيب، 1/ 397.

ص: 377

عدى: لم يمتنع الأئمة من الرواية عن عكرمة وأدخله أصحاب الصحاح صحاحهم، وقال البيهقي روى له البخاري دون مسلم وقيل لسعيد بن جبير هل أحد أعلم منك قال عكرمة»

(1)

.

نتيجة المبحث: لم يتناول الكرماني الكلام عن كل الرجال الذين انتُقدوا على البخاري، ولعله كان يختصر الكلام في شرحه، أو أنه كان يكتفي برواية البخاري ومسلم عنهم، إشارة إلى توثيقهم.

* * *

(1)

الكواكب الدراري، 2/ 48.

ص: 378

الباب الثالث

منهج الكرماني في تراجم أبواب البخاري، ودراسة متونه وفيه

* الفصل الأول: منهج الكرماني في تراجم الأبواب.

* الفصل الثاني: منهج الكرماني فيما يتعلق بمتون الصحيح.

ص: 379

‌الباب الثالث

منهج الكرماني في تراجم أبواب البخاري، ودراسة متونه وفيه

‌الفصل الأول

منهج الكرماني في تراجم الأبواب

‌المبحث الأول

‌تمهيد

إن مميزات صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى كثيرة، منها ما يتعلق بالضبط والإتقان، وشروط الحديث الصحيح

، ومنها ما يتعلق بحسن التبويب والترتيب، والإبداع في الصنعة الفقهية التي أودعها في أسماء الكتب والأبواب في صحيحه، حتى قيل أن فقه الإمام البخاري في تراجمه

(1)

.

وإن تنوّع، وانتقاء التراجم والأبواب، من الآيات والأحاديث، وفتاوى الصحابة والتابعين، تدل على سعة علم البخاري واطلاعه.

وقد أثنى العلماء على تراجم البخاري قال ابن حجر في مقدمة شرحه: «وكذلك الجهة العظمى الموجبة لتقديمه يعني صحيح البخاري وهي

(1)

الإمام البخاري وفقه التراجم في جامعه الصحيح، د. نور الدين عتر، ص 62.

ص: 381

ما ضمَّنَه أبوابَه من التراجم التي حيّرت الأفكار وادهشت العقولَ والأبصار»

(1)

.

وقال الإمام القسطلاني واصفاً تلك التراجم، ومثنياً على البخاري:«وأما بيان موضوعه وتفرُّده بمجموعه، وتراجمه البديعة المثال، المنيعة المنال، فاعلم أنه رحمه الله تعالى قد التزم مع صحة الأحاديث استنباطَ الفوائد الفقهية، والنُّكت الحكمية، فاستخرج بفهمه الثاقب من المتون معاني كثيرة، فرقها في أبوابه بحسب المناسبة، واعتنى فيها بآيات الأحكام، وانتزع منها الدلالات البديعة، وسلك في الإشارات إلى تفسيرها السُبل الوسيعة»

(2)

.

كما أن العلماء بينوا مقصد البخاري من تراجمه المتنوعة، قال ابن حجر قال قال الزين بن المنير «من أمعن النَّظر في تراجم هذا الكتاب، وما أودعه فيها من أسرار المقاصد، استبعد أن يُغفِل أو يُهمِل، أو يضعَ لفظاً بغير معنى، أو يرسمَ في الباب خبراً يكون غيرُه به أقعد، وأولى، وإنما قصد بذكر ما لم يترجم به أن يقررَ أن المفقودَ إذا وُجد الأكملُ منه أو الأنقص شرعَ الجبران»

(3)

.

وقد اعتنى العلماء بتراجم الإمام البخاري في صحيحه، وأفردوا المصنفات الكثيرة في ذلك:

منها:

1 -

المُتواري على تراجم البخاري، لزين الدين أبي الحسن علي بن محمد

(1)

هدي الساري، ص 16.

(2)

إرشاد الساري، 1/ 23.

(3)

فتح الباري، 3/ 317.

ص: 382

ابن المُنِير (ت 695).

2 -

تُرجمان التراجم لأبي عبدالله محمد بن رشيد السَّبتي (ت 721 هـ).

3 -

فك أغراض البخاري المبهمة في الجمع بين الحديث والترجمة، محمد منصور بن حَمَامة السجِلْماسي.

4 -

شرح تراجم أبواب البخاري للشاه ولي الله الدهلوي (ت 828 هـ).

5 -

الإمام البخاري وفقه التراجم في جامعه الصحيح، د. نور الدين عتر

(1)

وغيرها من الكتب.

وقد قسّم العلماء التراجم من حيث الجملة إلى أربعة أقسام:

تراجم ظاهرة، وتراجم استنباطية، وتراجم مرسلة، وتراجم مفردة.

قال د. نور الدين عتر:

«فأما التَّرَاجِمُ الظَّاهِرَةُ: وهي التي تطابق الأحاديث التي تخرج تحتها مطابقة واضحة جلية، دون حاجة للفكر والنظر.

‌ثَانِيًا التَّرَاجِمُ الاسْتِنْبَاطِيَّةُ: وهي التي تدرك مطابقتها لمضمون الباب بوجه من البحث والتفكير القريب أو البعيد.

‌ثَالِثًا التَّرَاجِمُ المُرْسَلَةُ: وهي التي اكتفي فيها بلفظ (باب)، ولم يُعَنْوِنْ بشيء يدل على المضمون بل ترك ذلك العنوان.

(1)

ينظر: هدي الساري، 18، كشف الظنون، ص 541، وهدية العارفين، 1/ 99، والحطة في ذكر الصحاح الستة، محمد صديق خان القِنوجي، ص 185 - 191، والأعلام للزركلي، 1/ 149.

ص: 383

‌رَابِعًا التَّرَاجِمُ المُفْرَدَةُ: وهي تراجم لا يُخْرِجُ البخاري فيها شَيْئًا من الحديث للدلالة عليها»

(1)

.

وقد بيّن الشاه ولي الله الدهلوي أقسام التراجم وأتى ببعض الصور والأمثلة

(2)

.

أن يترجم بحديث مرفوع ليس على شرطه، لمسألة بدت له.

يترجم لمذهب ذهب إليه ذاهب قبله، ويذكر في الباب مايدل عليه فيقول في الباب كذا.

يترجم بمسألة اختلف فيها الأحاديث، فيأتي بتلك الأحاديث على اختلافها ليقرب إلى الفقيه من بعده أمرها، مثاله قوله «باب خروج النساء إلى البراز» جمع فيه حديثين مختلفين.

ويترجم عند تعارض الأدلة، ويكون عند البخاري وجه تطبيق بينها يحمل كل واحد محملا فيترجم بذلك المحمل إشارة إلى التطبيق.

ومنها قد يجمعُ في الباب أحاديث كثيرة كل واحد منها يدل على الترجمة، ثم يظهر له في حديث واحد فائدة أخرى سوى الفائدة المترجم عليها، فيُعْلِم ذلك الحديث بعلامة الباب، وليس غرضه أن الباب الأول قد انقضى بما فيه،

(1)

الإمام البخاري، وفقه تراجمه، د. نور الدين عتر، ص 15.

(2)

ينظر: شرح تراجم أبواب البخاري، شاه ولي الله دهلوي، ص 19 - 20، وقد انتقد

د. نورالدين عتر الشاه ولي الله الدهلوي، بأنه لم يضبط أنواع التراجم كأنواع كما فعل ابن حجر، وأنه سرد صوراً من التراجم عدها من الأقسام، وأنه لم يشمل التراجم المفردة. ينظر المرجع السابق، ص 14 - 15.

ص: 384

وجاء الباب الآخر برأسه ولكن قوله «باب» هنالك بمنزلة ما يكتب أهل العلم على الفائدة المهمة لفظ «تنبيه» أو لفظ فائدة أو لفظ وقف.

منها أنه قد يكتب لفظ باب مكان قول المحدثين وبهذا الإسناد وذلك حيث جاء حديثان بإسناد واحد كما يكتب حيث جاء حديث واحد بإسنادين.

ومنها أنه قد يترجم بمذهب بعض الناس، أو بما كاد يذهب إليه بعضهم أو بحديث لم يثبت عنده ثم يأتي بحديث يستدل به على خلاف ذلك المذهب والحديث، إما بعمومه أو غير ذلك.

ومنها أنه يذهب في كثير من التراجم إلى طريقة أهل السير في استنباطهم خصوصيات الوقائع والأحوال من إشارات طرق الحديث.

منها أنه يقصد التمرن على ذكر الحديث وفق المسألة المطلوبة، ويهدي طالب الحديث إلى هذا النوع

(1)

.

وقد نالت التراجم حظاً وافراً من شرّاح الحديث بالاعتناء بها، وبيان مناسبة الترجمة لما قبلها وما بعدها، وبيان الغرض من الترجمة

فقد قال الإمام الكرماني في مقدمة شرحه: «وبينت مناسبة الأحاديث التي في كل باب لما ترجم عليه، ومطابقتها بما عقد له وأشير إليه، وهو قسم عجز عنه

(1)

ينظر الحطة في ذكر الصحاح الستة، ص 173 - 174، بتصرف، نقلا عن شرح تراجم البخاري، للشاه ولي الله الدهلوي، وينظر عادات الإمام البخاري في صحيحه،

عبد الحق بن عبد الواحد الهاشمي المكي، فقد ذكر فيه عادات الإمام البخاري في صحيحه، ومنها ما يتعلق يتراجم الأبواب التي فصل فيها مما يندرج تحت الأقسام التي ذكرها الشاه ولي الله الدهلوي.

ص: 385

الفحول البوازل

(1)

في الأعصار، والعلماء الأفاضل من الأنصار فتركوها واعتذروا عنها بأعذار»

(2)

.

* * *

‌المبحث الثاني

بيان مناسبات تراجم البخاري بأنواعها

كما أن علم المناسبة في القرآن الكريم علم يبحث في المعاني الرابطة بين الآيات بعضها ببعض، وبين السور بعضها ببعض، حتى تعرف علل ترتيب أجزاء القرآن الكريم

(3)

.

كذلك علم المناسبات في التراجم يُراد به معرفة الروابط بين عنواين كتب صحيح البخاري، وبين أبوابها المتتالية، والمتفرقة، والمناسبة بين الترجمة وحديث الباب

وقد كان ترتيب أحاديث الصحيحين، والسنن، مرتباً على حسب عنواين الكتب، وينزل تحت الكتاب الباب، وكان هذا الترتيب اجتهادياً من صاحب المُصنّف، وكان يتحرى المناسبة، والرابط الذي يربط بين الكتب، والأبواب

،

(1)

الرجل الكامل في تجربته وعقله. وقال ابن دريد: رجل بازل: إذا احتنك، ينظر تاج العروس، مادة (بزل) 28/ 78.

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 4.

(3)

مصابيح الدرر في تناسب آيات القرآن الكريم والسور، عادل بن محمد أبو العلاء، ص 18.

ص: 386

فمنها ما هو ظاهر للعيان، وجلي، ومنها ما هو بحاجة إلى بيان؛ كشف عنه العلماء من شُرّاح الحديث، وغيرهم.

فقد نهج الكرماني في شرحه، لبيان ذلك، وفق ما أوصله اجتهاده إليه فمن هذه الأمور التي ذكرها الكرماني:

‌أولاً بيان مناسبات عناوين كتب صحيح البخاري، مع بعضها البعض:

قال الكرماني مُثنياً على عمل البخاري في بيان مناسبة عناوين كتبه في الصحيح، وحسن ترتيبها «اعلم أن البخاري لم يسبقه أحد في مثل ترتيب هذا الكتاب، ومحاسنه كثيرة، منها: أنه بدأ بعد مقدمة الكتاب في شأن بدء الوحي بذكر كتاب الإيمان، ثم بكتاب الصلاة بسوابقها من الطهارة وغيرها، ثم بكتاب الزكاة وما يتعلق بها، ثم بكتاب الحج وأبوابه، ثم بكتاب الصيام، قاصداً الاعتناء بالترتيب، الذي رتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أي حديث بُني الإسلام على خمس الذي فيه بيان قواعد الدين وأركان الإسلام»

(1)

.

ثم بيّن الكرماني سر التقديم في الحديث: «فإن قلت فما سر التقديم في الحديث؟ قلت: قدّم الإيمان لأنه ملاك الأمر كله، وأصله إذ الباقي مبني عليه مشروط به، وبه النجاة في الدارين ثم الصلاة لأنها عماد الدين، وبين العبد وبين الكفر ترك الصلاة، ويقتل تاركها على الأصح ولشدة الحاجة إليها لتكررها كل يوم خمس مرات، ثم الزكاة لكونها قرينة الصلاة في أكثر من موضع، أو لأنها قنطرة الإسلام، أو لاعتناء الشارع بها لذكرها أكثر من غيرها من الصوم والحج، في

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 69.

ص: 387

الكتاب والسنة أو لشمولها المكلف وغيره، كما هو مذهب أكثر العلماء ثم الحج للتغليظات الواردة فيه نحو {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] ونحو «فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا»

(1)

أو لعدم سقوطه بالبدل لوجوب الإتيان به إما مباشرةً وإما استنابة بخلاف الصوم

»

(2)

.

وبين سر تقديم كتاب: «بدء الوحي، على كتاب: «الإيمان» فقال: «وأما تقديم كتاب الوحي فلتوقف معرفة الإيمان وجميع ما يتعلق بالدين عليه، أو لأنه أول خير نزل من السماء إلى هذه الأمة»

(3)

.

وقال ناقلاً عن أبي عبدالله التيمي الأصفهاني: «واعلم أنه لما كان كتابه معقودا على أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم طلب تصديره بأول شأن الرسالة والوحي ولم يرد أن يقدم عليه الخطبة»

(4)

.

وقال الكرماني كذلك مبيناً سبب توسط كتاب «العلم» ، بين كتابي «الإيمان» ، و «الصلاة» «إنما قدّم هذا الكتاب على سائر الكتب التي بعده، لأن

(1)

والحديث بتمامه: «عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ عَنِ الْحَجِّ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ، أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ، أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ فَمَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ، فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا» أخرجه الدارمي في سننه، كتاب: المناسك، بَابُ: مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ، رقم (1826)، وقال محقق الكتاب، حسين سليم أسد الداراني، إسناده ضعيف لضعف ليث وهو: ابن أبي سليم.

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 69 - 70.

(3)

الكواكب الدراري، 2/ 2.

(4)

الكواكب الدراري، 1/ 14.

ص: 388

مدار تلك الكتب كلها على العلم. فإن قلت لم يقدم على الكتاب الإيمان. قلت: لأن الإيمان أول واجب على المكلف، أو لأنه أفضل الأمور على الإطلاق وأشرفها وكيف لا وهو مبدأ كل خير علماً وعملاً ومنشأ كل كمال دق وجل»

(1)

.

وقال في موضع آخر عن سر تقديم كتاب: «الإيمان» على كتاب: «العلم» «أنه ميز الأجناس بالكتب، والأنواع بالأبواب، إشعاراً بما به الاشتراك وبما به الامتياز بين الأحاديث»

(2)

.

ومن ذلك بيان سبب تقديم كتاب الوضوء على ما بعده: «والصلاة مقدمة على سائر العبادات لأنها أفضلها ولأنها تتكرر في كل يوم خمس مرات، وهي متوقفة على الوضوء فلهذا قدّم كتاب الوضوء على سائر الكتب الأحكامية»

(3)

.

وكان الكرماني يذكر من نقد تسمية الأبواب، وترتيب البخاري للأحاديث، في الباب الواحد، ويرد عليه، كما نقل كلام، إسماعيل أبو عبدالله التيمي الأصبهاني:«واعلم أنه لو قال كيف كان الوحي وبدؤه لكان أحسن؛ لأنه تعرض لبيان كيفية الوحي لا بيان كيفية بدء الوحي، وكان ينبغي أن لا يُقدم عليه بعقب الترجمة غيره ليكون أقرب إلى الحُسن، وكذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما كَان رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ» ،

(4)

لا على بدء الوحي ولا تعرض له غير أنه لم يقصد بهذه الترجمة تحسين العبارة وإنما مقصوده فهم القارئ والسامع إذا قرأ

(1)

السابق، 2/ 2.

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 70.

(3)

السابق، 2/ 168.

(4)

أخرجه البخاري، بابٌ: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الوَحْيِ، رقم (5).

ص: 389

الحديث علم مقصوده من الترجمة فلم يشتغل بها تعويلا على فهم القارئ»

(1)

.

فقال الكرماني رداً عليه: «أقول ليس قوله: لكان أحسن مسلما لأنا

لا نُسّلم أنه ليس بيانا لكيفية بدء الوحي؛ إذ يعلم بما في الباب أن الوحي كان ابتداؤه على حال المنام ثم في حال الخلوة بغار حراء على الكيفية المذكورة من الغط ونحوه، ثم ما فر هو عنه لازم عليه على هذا التقريب أيضا إذ البدء عطف على الوحي كما قرره فيصح أن يقال ذلك إيرادا عليه أيضا.

وكذا حديث ابن العباس مُسلماً إذ فيه بيان حال الرسول صلى الله عليه وسلم، ابتداء نزول الوحي أو عند ظهور الوحي، والمراد من حال ابتداء الوحي حاله مع كل

ما يتعلق بشأنه أي تعلق كان كما في التعلق الذي للحديث الهرقلي، وهو أن القصة وقعت في أحوال البعثة ومبادئها أو المراد من الباب بجملته بيان كيفية بدء الوحي لا كل حديث منه، فلو علم من مجموع ما في الباب كيفية بدء الوحي من كل حديث شيء مما يتعلق به لصحت الترجمة»

(2)

.

‌ثانياً بيان مناسبة عنوان الباب لعنوان الكتاب:

قد يُظن للوهلة الأولى أنه لا رابط بين اسم الكتاب واسم الباب، لأن الكتاب يتكلم عن موضوع، والباب عن موضوع آخر، فينبه الكرماني على أن هناك رابط يربط بينهما، مستعيناً بالقرائن والأدلة على ذلك.

مثاله: بيان مناسبة باب: قيام ليلة القدر من الإيمان، لكتاب: الإيمان، قال

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 14.

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 14 - 15.

ص: 390

الكرماني: «وأما مناسبة هذا الباب لكتاب الإيمان؛ أن يبين أن هذه علامة عدم الإيمان، أو يعلم منه أن بعض النفاق كفر دون بعض»

(1)

.

ومن ذلك ذكر البخاري في كتاب: العلم، باب من قعدَ حيث ينتهي بهِ المجلِسُ ومن رأى فرجة في الحلقة، فقال الكرماني مبيناً وجه المناسبة بين عنوان الكتاب والباب: «فإن قلت ما وجه مناسبة هذا الباب بكتاب العلم. قلت: من جهة أن المراد بالحلقة حلقة العلم، وفي الحديث أن السنة الجلوس علي وضع الحلقة، وللداخل أن يجلس حيث ينتهي إليه المجلس، وأن لا يزاحم الجلاّس إن لم يجد فرجة وأن الإعراض عن مجلس العلم مذموم

»

(2)

.

ومن ذلك بيان مناسبة كتاب: الوضوء، لباب السواك، قال الكرماني:«فإن قلت ما وجه مناسبة الباب للكتاب، قلت: من جهة أنه من سنن الوضوء، أو أنه من باب النظافة»

(3)

.

ومثله بيان مناسبة كتاب: الصيد والذبائح، لباب: المسك، «فإن قلت

ما وجه مناسبة الباب بالكتاب قلت كون المسك فضلة الظبي وهو مما يصاد»

(4)

.

ومن ذلك ذكر البخاري في كتاب: «اللباس» باب: حَمْلِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ غَيْرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ.

(1)

السابق، 1/ 152.

(2)

السابق، 2/ 26.

(3)

السابق، 3/ 105.

(4)

السابق، 20/ 112.

ص: 391

قال الكرماني: «فإن قلت: ما وجه مناسبة الباب بالكتاب قلت الغرض منه الجلوس على لباس الدابة وإن تعدد أشخاص الراكبين عليها والتصريح بلفظ القطيفة

(1)

في الحديث السابق مشعر بذلك»

(2)

.

قلت وقول الكرماني، والتصريح بلفظ القطيفة

، يدل على أن أحاديث الباب كلها متعلقة ببعضها البعض، وتربط بينها أمور عدة.

ومنه بيان مناسبة كتاب: الاستئذان، باب: طُولِ النَّجْوَى، قال الكرماني:«من جهة أن مشروعيته الاستئذان، هو لئلا يطلع الأجنبي على أحوال داخل البيت، أو أن المناجاة لا تكون إلا في البيوت والمواضع الخاصة الخالية، فذكره على سبيل التبعية للاستئذان»

(3)

.

ومن ذلك بيان مناسبة بَاب: صَاعِ الْمَدِينَةِ وَمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَرَكَتِهِ

وَمَا تَوَارَثَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذَلِكَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، لكتاب: الكفارات، قال الكرماني:«قلت: كفارة اليمين فيها إطعام عشرة أمداد، لعشرة مساكين، وكفارة الوقاع إطعام ستين مسكينا ستين مدا، وفي كفارة الحلف إطعام ثلاثة آصع لستة مساكين»

(4)

.

(1)

حديث القطيفة هو: «عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ» أخرجه البخاري، كتاب: اللباس، بَاب: الِارْتِدَافِ عَلَى الدَّابَّةِ، رقم (5594).

(2)

الكواكب الدراري، 21/ 141.

(3)

السابق، 22/ 117.

(4)

السابق، 23/ 144/ 145.

ص: 392

ثانياً بيان مناسبة الآية لعنوان الكتاب:

من عادة الإمام البخاري، أن يُصَدّر الكتاب بآية من القرآن الكريم، مناسبة لعنوان الكتاب مثال على ذلك:

كتاب المرضى، مَا جَاءَ فِي كَفَّارَةِ الْمَرَضِ وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} .

قال الكرماني: «فإن قلت: ما وجه مناسبة الآية بالكتاب إذ معناها

من يعمل سيئة يجزيها يوم القيامة، قلت: اللفظ أعم من يوم القيامة فيتناول الجزاء في الدنيا بأن يكون مرضه عقوبة لتلك المعصية فيغفر له بسبب ذلك المرض»

(1)

.

وقال الكرماني عن عادة الإمام البخاري في ذلك: «أنه إذا ذكر آية مناسبة للمقصود يذكر معها بعض ما يتعلق بتلك السورة التي فيها تلك الآية ثبت عنده من تفسيره على سبيل التبعية»

(2)

.

حتى أنه يذكر تفسيرا لبعض ألفاظ القرآن يناسب ترجمة الباب، قال الكرماني: «اعلم أن عادة البخاري أنه يذكر بعض تفسير ألفاظ القرآن المناسب لترجمة الباب وللحديث الذي فيه تكثيراً للفوائد وإن كان بينهما مناسبة بعيدة مثاله: فقد قال البخاري في كتاب الجنائز في باب: موعظة المحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله، قال: يخرجون من الأجداث، الأجداث: القبور بعثرت

(1)

الكواكب الدراري: 20/ 175.

(2)

السابق، 25/ 212.

ص: 393

أثيرت، بعثرت حوضي: أي جعلت أسفله أعلاه، ألا يفاض الإسراع، وهو يفسر الآية: (فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون»

(1)

.

ثالثاً بيان مناسبة الآية لعنوان الباب:

ومن عادة البخاري كذلك أن يُصَدّر الباب بآية من القرآن الكريم، لرابط أو أكثر يربط بينهما قال الكرماني:«وذكر البخاري الآية الكريمة لأن عادته أن يستدل للترجمة بما وقع له من قرآن أو سنة مسندة وغيرها»

(2)

.

قلت فإن كانت الآية واضحة في تعلقها بالباب، يسكت عنها الكرماني ولا يذكر وجه المناسبة، أما إذا أشكلت فيبين ذلك.

مثال: قال البخاري: «باب الرِّيَاءِ فِي الصَّدَقَةِ لِقَوْلِهِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى) إِلَى قَوْلِهِ (الْكَافِرِينَ)

قال الكرماني ناقلا عن شارح التراجم

(3)

ابن المنيّر: «وجه مطابقة الترجمة للآية؛ أن الأذى بعد الصدقة يبطلها، فكيف بالأذى المقارن لها، وذلك أن الغال تصدق بمال مغصوب، والغاصب مؤذ لصاحب المال عاص بتصرفه فيه، فكان أولى

(1)

السابق، 7/ 138.

(2)

السابق، 1/ 13.

(3)

ناصر الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن منصور الجذامي الإسكندراني، ابن المنير، المفسر والمحدث، والفقيه، النحوي، سمع من السراج ابن فارس، وتفقه بعمه ناصر الدين، وهو الذي يشير إليه الحافظ ابن حجر في فتح الباري، في مناسبات البخاري وله ديوان خطب، وتفسير حديث الإسراء (ت 683 هـ) ينظر الوافي بالوفيات، الصفدي، 8/ 84، وبغية الوعاة، السيوطي، 1/ 384.

ص: 394

بالإبطال»

(1)

.

ومن ذلك: قال في كتاب الرقائق:

بَاب فِي الْأَمَلِ وَطُولِهِ وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185] وَقَوْلِهِ {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3] وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ارْتَحَلَتْ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً وَارْتَحَلَتْ الْآخِرَةُ مُقْبِلَةً وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ {بِمُزَحْزِحِهِ} .

قال الكرماني: «فإن قلت ما وجه مناسبة الآية الأولى للترجمة

قلت صدرها وهو قوله تعالى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} أو عجزها وهو

{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185] أو ذكر لمناسبة قوله تعالى «وما هو بمزحزحه» إذ في تلك الآية {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} والله أعلم»

(2)

.

‌ثالثاً ذكر المناسبة بين البابين المتتاليين:

يذكر الكرماني بيان المناسبة بين الأبواب المتتالية، وقد فعل هذا في عدة مواضع في شرحه، إلا أنه لم يتابع ذلك إلى آخر شرحه، ومن أمثلة ذلك:

(1)

الكواكب الدراري، 7/ 181.

(2)

الكواكب الدراري، 22/ 194.

ص: 395

قال الكرماني: «فإن قلت هل لترتيب الكتاب أي كتاب

الإيمان وتوسيط الجهاد بين قيام ليلة القدر وقيام رمضان وصيامه مناسبة أم

لا، قلت: مناسبة تامة وهي المشاركة في كون كل من المذكورات من أمور الإيمان، وتوسيط الجهاد مشعر بأن النظر مقطوع من غير هذه المناسبة والله أعلم»

(1)

.

‌رابعاً ذكر المناسبة بين باب وأبواب متعددة سبقته:

قال الكرماني: «فإن قلت: ما وجه الجمع بين ما في الباب من كراهة الصلاة أو تحريمها، ويقصد الكرماني هنا جمع من الأبواب المتتالية تكلمت عن موضوع واحد وهو كراهة الصلاة وتحريمها

(2)

وبين ما في باب من صلى وقدامه نار أو شئ مما يعبد من جواز الصلاة وعدم كراهتها؟

قلت: التماثيل حكمها غير حكم سائر المعبودات؛ لأنها من أنفسها منكرات؛ إذ الصور محرمة سواء أكانت تعبد أم لا، بخلاف النار مثلاً فإن عبادتها محرمة، أو لأن التماثيل شاغلة عن الحضور في الصلاة، كما سبق في باب إذا صلى في ثوب له أعلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم فإنها ألهتني عن صلاتي. وقال: كنت أنظر إلى علمها وأخاف أن تفتنني بخلاف غيرها.

(1)

السابق، 1/ 159.

(2)

والأبواب هي: (باب كراهية الصلاة في المقابر، وباب الصَّلَاةِ فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ وَالْعَذَابِ، وباب الصَّلَاةِ فِي الْبِيعَةِ).

ص: 396

قال ابن بطال:

(1)

لا معارضة بين البابين لأنها كانت بغير الاختيار،

وما في هذا الباب كقول عمر إنا لا ندخل كنائسكم فإنما ذلك على الاختيار والاستحسان دون ضرورة تدعو إلى ذلك»

(2)

.

ومن ذلك: بيان المناسبة بين باب: (باب الاستجمار وترا) وبين أبواب الوضوء.

قال الكرماني: «ولما كان الاستجمار مقدماً في الوجود على الاستنثار، كان المناسب في الترتيب تقديمه عليه في وضع الأبواب»

(3)

.

‌خامساً نقد ترتيب الأبواب:

ومن العجيب أن الكرماني انتقد صنيع البخاري في ترتيب بعض الأبواب، إذا لا مناسبة في ترتيبها، وقد أثنى العلماء على البخاري، في تراجمه وحسن ترتيبها، وتبويبها، وقالوا أن فقه البخاري في تراجمه، والأعجب من ذلك أن الكرماني نفسه أثنى على البخاري في كثير من الأماكن في حسن ترتيبه وصنيعه في التراجم

(4)

. فلذلك تنوّع نقد الكرماني للبخاري إيجاباً وسلباً.

(1)

شرح صحيح البخاري، ابن بطال، 2/ 88.

(2)

الكواكب الدراري، 4/ 96.

(3)

السابق، 2/ 213.

(4)

وقد دافع الكرماني عن البخاري وبيّن وجهة نظره عندما كان يترجم للأبواب ولا يذكر في ذلك حديثاً، ولايذكر ما ترجم عليه، فال الكرماني ناقلاً عن بعض شيوخه: أن البخاري ترجم التراجم وبوّب الأبواب أولاً، ثم كان يذكر الأحاديث المناسبة للأبواب بالتدريج، فلم يتفق له إثبات الحديث لبعض التراجم حتى توفاه الله عز وجل، ونقل الكرماني عن بعض شيوخه كذلك أن عمل البخاري في ذلك كان اختيارياً؛ لأنه لم يثبت عنده حديث بشرطه مناسب للترجمة» ينظر، الكواكب الدراري، 1/ 113، قلت وهو توجيه حسن، ودلالة على أن الكرماني مع البخاري في صنيعه وترتيبه.

ص: 397

إلا أن الكرماني كان نقده الإيجابي، أكثر من نقده السلبي على تبويب وترجمة البخاري.

‌أولاً نقد الكرماني الإيجابي:

لقد أثنى الكرماني على الإمام البخاري رحمه لله تعالى على صنيع البخاري على ترتيبه للأبواب فقال: «اعلم أن البخاري لم يسبقه أحد في مثل ترتيب هذا الكتاب، ومحاسنه كثيرة، منها: أنه بدأ بعد مقدمة الكتاب في شأن بدء الوحي بذكر كتاب الإيمان، ثم بكتاب الصلاة بسوابقها من الطهارة وغيرها، ثم بكتاب الزكاة وما يتعلق بها، ثم بكتاب الحج وأبوابه، ثم بكتاب الصيام، قاصداً الاعتناء بالترتيب، الذي رتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أي حديث بُني الإسلام على خمس الذي فيه بيان قواعد الدين وأركان الإسلام»

(1)

.

فمن الأمثلة على ذلك:

فقد قال مُثنيا على صنيع البخاري في ترتيب الأبواب، من جعل باب: غزوة أنْمار بين باب غزوة بني المصطلق، وبين باب حديث الإفك:«فإن قلت فلم أدرج بينها أي غزوة بني المصطلق وبين حديث الإفك غزوة أنمار قلت لاهتمام البخاري بترتيب الأبواب أو لاحظ التعلق الذي بين الغزوتين»

(2)

.

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 69.

(2)

الكواكب الدراري، 16/ 51.

ص: 398

وقال كذلك رداً على من انتقد ترتيب الأبواب، وأن ورود حديث

ما غير مناسب للباب الذي ذُكر فيه، كما قال في حديث: «عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ إِنْ اشْتَرَى دَارًا بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَلَا بَاسَ أَنْ يَحْتَالَ حَتَّى يَشْتَرِيَ الدَّارَ بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَيَنْقُدَهُ تِسْعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَتِسْعَ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَيَنْقُدَهُ دِينَارًا بِمَا بَقِيَ مِنْ الْعِشْرِينَ الْأَلْفَ فَإِنْ طَلَبَ الشَّفِيعُ أَخَذَهَا بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ

».

أورد البخاري هذا الحديث، في بَاب: احْتِيَالِ الْعَامِلِ لِيُهْدَى لَهُ، وموضوعه في الباب الذي قبله وهو: بَاب فِي الْهِبَةِ وَالشُّفْعَةِ، فقال الكرماني معللاً ذلك:«فإن قلت: هذا الفرع مع ما بعده إلى آخر الباب ومع الحديث الذي قبله، موضعه المناسب قبل باب: احتيال العامل لأنه من بقية مسائل الشفعة، وتوسيط ذلك الباب بينها أجنبي، قلت: لعله من جملة تصرفات النقلة عن الأصل، ولعله كان في الحاشية ونحوها فنقلوه إلى غير مكانه، أو باعتبار أنه لما جعل الترجمة مشتركة بينهما حيث قال «باب في الهبة والشفعة» فلم يفرق بين مسائلها»

(1)

.

وقد يزيل الشك عن صنيع البخاري من تسمية بابيين، قد يُظن أنهما واحد، من ذلك قوله باب من أدرك من الصلاة ركعة، ما الفرق بينه وبين الباب الذي قبله، باب من أدرك من الفجر ركعة، «الأول: فيمن أدرك من الوقت قدر ركعة وهذا فيمن أدرك من نفس الصلاة ركعة»

(2)

.

(1)

السابق، 24/ 92.

(2)

السابق، 4/ 220.

ص: 399

وقال الكرماني في موضع يُثني على صنيع البخاري في ترجمته ومناسبتها للأحاديث فقال: «ولله در البخاري وحسن تعقلاته ودقة استنباطه»

(1)

.

‌ثانياً نقد الكرماني السلبي:

مثال على ذلك:

قال الكرماني: «فإن قلت: ما وجه الترتيب الذي لهذه الأبواب؛ إذ التسمية إنما هي قبل غسل الوجه لا بعده، أي أن البخاري قدّم باب غسل الوجه، على باب التسمية ثم إن توسط أمر الخلاء بين أبواب الوضوء

لا يناسب ما عليه الوجود. قلت: البخاري لا يراعي حسن الترتيب وجملة قصده إنما هو في نقل الحديث وما يتعلق بتصحيحه لا غير ونعم المقصد»

(2)

.

وقد رد ابن حجر رحمه الله تعالى على انتقاد الكرماني فقال: «والعجب من دعوى الكرماني أنه لا يقصد تحسين الترتيب بين الأبواب مع أنه لا يعرف لأحد من المصنفين على الأبواب من اعتنى بذلك غيره حتى قال جمع من الأئمة فقه البخاري في تراجمه، وذكر أنه للوهلة الأولى أن البخاري لا يراعي حسن الترتيب إلا أنه تبين له غير ذلك.

وقد يتلمح أنه ذكر أولا فرض الوضوء كما ذكرت، وأنه شرط لصحة الصلاة ثم فضله، وأنه لا يجب إلا مع التيقن وأن الزيادة فيه على إيصال الماء إلى العضو ليس بشرط، وأن ما زاد على ذلك من الإسباغ فضل، ومن ذلك الاكتفاء

(1)

السابق، 3/ 140.

(2)

الكواكب الدراري: 2/ 183.

ص: 400

في غسل بعض الأعضاء بغرفة واحدة، وأن التسمية مع أوله مشروعة، كما يُشرع الذكر عند دخول الخلاء، فاستطرد من هنا لآداب الاستنجاء وشرائطه ثم رجع لبيان أن واجب الوضوء المرة الواحدة وأن الثنتين والثلاث سنة ثم ذكر سنة الاستنثار إشارة إلى الابتداء بتنظيف البواطن قبل الظواهر

ثم بين أن التقديم والتأخير، في ترتيب البخاري، إنما هو من باب التفنن»

(1)

.

قلت: وتعليل ابن حجر لصنيع البخاري حسن، وفيه اجتهاد ومخرج لطيف.

وقد يبيّن الكرماني المناسبة بين الأبواب، ومع هذا ينتقد البخاري بأنه

لا يهتم بترتيب الأبواب مثاله:

قال عن ترتيب البخاري أن قدم باب الاِسْتِنْثَارِ فِي الْوُضُوءِ، على باب: الاستجمار وترا، «لما كان الاستجمار مقدماً في الوجود على الاستنثار كان المناسب في الترتيب تقديمه عليه في وضع الأبواب، قلت: معظم نظر البخاري إلى نقل الحديث وإلى ما يتعلق بتصحيحه غير مهتم بتحسين الوضع وترتيب الأبواب لأن أمره سهل»

(2)

.

قلت: إن قول الكرماني أن اهتمام البخاري كان في نقل الحديث وتصحيحه، من دون الاهتمام بترتيب الأبواب، هو مخالف لأقوال العلماء، وشهادتهم في حسن التبويب والترتيب عند البخاري.

وقد ينقد الكرماني الإمام البخاري في معنى كلمة، ويبين أنه ليست

(1)

فتح الباري، 1/ 242 ببعض التصرف.

(2)

الكواكب الدراري، 2/ 213.

ص: 401

المقصودة أو أنها ليست في محلها مثاله:

فقد بوّب البخاري فقال: سُورَةُ يُوسُفَ وَقَالَ فُضَيْلٌ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ {مُتَّكَأً} .

الْأُتْرُجُّ قَالَ فُضَيْلٌ الْأُتْرُجُّ بِالْحَبَشِيَّةِ مُتْكًا وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ رَجُلٍ

عَنْ مُجَاهِدٍ مُتْكًا قَالَ كُلُّ شَيْءٍ قُطِعَ بِالسِّكِّينِ وَقَالَ قَتَادَةُ {لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ}

(1)

.

قال الكرماني منتقداً البخاري: «واعلم أن البخاري يريد أن بين أن المتكأ في قوله تعالى {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} اسم مفعول من الاتكاء وليس هو متكأ بمعنى الأترج ولا بمعنى طرف الفرج فجاء فيها بعبارات معجرفة»

(2)

.

وقد ذكر ابن حجر رحمه الله تعالى أنه «لا مانع أن يكون المتكأ مشتركا بين الأترج وطرف البظر والبظر بفتح الموحدة وسكون الظاء المشالة موضع الختان من المرأة وقيل البظراء التي لا تحبس بولها

وقد رد على الكرماني بنقده البخاري فقال:

فوقع في أشد مما أنكره فإنها إساءة على مثل هذا الإمام الذي لا يليق لمن يتصدى لشرح كلامه وقد ذكر جماعة من أهل اللغة أن البظر في الأصل يطلق على ماله طرف من الجسد كالثدي»

(3)

.

(1)

البخاري، كتاب: الإيمان، قوله سورة يوسف.

(2)

السابق، 17/ 157 - 158.

(3)

فتح الباري، 8/ 359.

ص: 402

‌سادساً ذكر المناسبة بين الحديث وترجمة الباب:

وقد ظهرت عناية الإمام الكرماني ببيان مناسبة الحديث لترجمة الباب، وأولى اهتمامه فيها أكثر من غيرها في قسم العناية بتراجم الأبواب.

ومن خلال الاستقراء والتتبع ذكر العلماء بعض عادات الإمام البخاري في طريقة تعامله مع تراجم الأبواب، قال الكرماني: «وهنا ننبهك على

قاعدة كلية فاعلمها، وذلك أن البخاري رحمه الله كثيرا ما يترجم الأبواب،

ولا يذكر في ذلك حديثا أصلا، أو لا يذكر ما ترجم الباب عليه، قال

بعض شيوخنا من حفاظ الشام: سببه أن البخاري بوّب الأبواب

وترجم التراجم أولا، ثم كان يذكر بعده في كل باب الأحاديث المناسبة له بالتدريج، فلم يتفق له إثبات الحديث لبعض التراجم حتى انتقل إلى الدار الآخرة، وقال بعض العراقيين عمل ذلك اختيارا وغرضه أن يبين أنه لم يثبت عنده بشرطه حديث في المعنى الذي ترجم عليه، والله أعلم فيحتمل أن تكون الترجمة منها»

(1)

.

قلت ولعل قول بعض العراقيين أن عمل البخاري ذلك اختياراً هو أوجه وأقرب، ويقويه نقل ابن حجر عن أبي محمد بن أبي جمرة، في مدحه للصحيح فقال: «الجهة العظمى الموجبة لتقديمه وهي ما ضمنه أبوابه من التراجم التي حيّرت الأفكار، وأدهشت العقول والأبصار، وإنما بلغت هذه الرتبة وفازت بهذه الخطوة لسبب عظيم، أوجب عِظمها، وهو ما رواه أبو أحمد بن عدي عن

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 113.

ص: 403

عبد القدوس بن همام قال: شهدت عدة مشايخ يقولون حوّل البخاري تراجم جامعه يعني بيضها بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره، وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين»

(1)

.

ويؤيده ما قاله د. نور الدين عتر، بعد الاستقراء أن البخاري رحمه الله تعالى كان يتعمّد هذا ويتخذه منهجاً، وهو ما يُسمّى بالتراجم المرسلة فقال: أ أن العنوان (بَابٌ) يستعمل على وجهين من التناسب:

1 -

أن يكون مضمون الباب مُتَّصِلاً بالباب السابق مُكَمِّلاً له، فيفصل لفائدة زائدة في مضمونه، فيكون بمنزلة الفصل من السابق.

2 -

والكثير الغالب أن يكون ضمن الباب فائدة تتصل بأصل الموضوع الذي عَنْوَنَ لَهُ (بأبواب) ويكون قد ذكره عقبه لهذه الملابسة

(2)

.

كما أن البخاري رحمه الله، كان يترجم بالآيات والأحاديث التي ليست على شرطه، وبالمعلقات، وفتاوى الصحابة والتابعين، فلم يكن يُعجزه عن انتقاء تراجم تخص الباب، وهو الذي اختار صحيحه من بين ستمائة ألف حديث في ست عشرة سنة.

وكان من عادة البخاري أن يستدل على ترجمة الباب، بأي شيء يراه مناسباً، قال الكرماني:«عادته أن يستدل للترجمة بما وقع له من قرآن أو سنة مسندة وغيرها أو أثر عن الصحابة أو قول للعلماء»

(3)

.

(1)

هدي الساري، ص 16.

(2)

الإمام البخاري وفقه التراجم في جامعه الصحيح، ص 84 - 85.

(3)

الكواكب الدراري، 1/ 14، 1/ 71.

ص: 404

وهذه المناسبات قسمها العلماء إلى قسمين: ظاهرة وخفية (استنباطية).

قال ابن حجر: «أما الظاهرة فليس ذكرها من غرضنا هنا، وهي أن تكون الترجمة دالة بالمطابقة لما يورد في مضمنها، وإنما فائدتها الإعلام بما ورد في ذلك الباب من غير اعتبار لمقدار تلك الفائدة، كأنه يقول: هذا الباب الذي فيه كيت وكيت، أو باب ذكر الدليل على الحكم الفلاني مثلا

»

(1)

.

بمعنى أنه لا تريد مزيد جهد في معرفة الاستدلال بها، فدلالة العنوان على مضمون الحديث واضحة.

ومن الأمثلة الظاهرة التي بينها الكرماني كذلك:

ما يكون عنوان الباب مطابقا لما في الحديث، وقد يكون في جزء منه، وقد يكون في بعض أحاديث الباب لا كلها، وقد تكون الترجمة مأخوذة من أكثر من حديث.

مثال لمطابقة الترجمة للحديث: «باب لَا يَقْبَلُ اللهُ صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ

وَلَا يَقْبَلُ إِلاَّ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ لِقَوْلِهِ (وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

قال الكرماني: «قال شارح التراجم: وجه مطابقة الترجمة للآية أن الأذى بعد الصدقة يبطلها؛ فكيف بالأذى المقارن لها، وذلك أن الغال تصدق بمال مغصوب، والغاصب مؤذ لصاحب المال عاص بتصرفه فيه، فكان أولى بالإبطال»

(2)

.

(1)

فتح الباري، ص 16.

(2)

الكواكب الدراري، 7/ 181.

ص: 405

ومثله قال البخاري: بَاب لَا يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ جَوْرٍ إِذَا أُشْهِدَ، وساق بعده حديث النعمان ابن بشير رضي الله عنه قال:«قَالَ سَأَلَتْ أُمِّي أَبِي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِي مِنْ مَالِهِ ثُمَّ بَدَا لَهُ فَوَهَبَهَا لِي فَقَالَتْ لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ بِيَدِي وَأَنَا غُلَامٌ فَأَتَى بِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إِنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْنِي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِهَذَا قَالَ أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَأُرَاهُ قَالَ لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ وَقَالَ أَبُو حَرِيزٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ»

(1)

بين الكرماني أنه من التراجم الظاهرة والمطابقة

(2)

.

قال البخاري: «باب: مَنْ لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ إِلاَّ مِنَ الْمَخْرَجَيْنِ، مِنَ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ» وساق في هذا الباب حديث عثمان بن عفان: «قُلْتُ أَرَأَيْتَ إِذَا جَامَعَ فَلَمْ يُمْنِ قَالَ عُثْمَانُ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ، وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ. قَالَ عُثْمَانُ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم»

(3)

.

قال الكرماني: «فإن قُلت ما وجه مناسبته بالترجمة؟ قلتُ: هو مناسب لجزء من الترجمة إذ هو يدل على وجوب الوضوء من الخارج من المخرج المعتاد، نعم لا يدل على الجزء الآخر وهو عدم الوجوب في غيره.

ثم يقرر الكرماني قاعدة عند البخاري فيقول

ولا يلزم أن يدل كل حديث في الباب على كل الترجمة، بل لو دلَّ البعض

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الشهادات، بَاب: لَا يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ جَوْرٍ إِذَا أُشْهِدَ، رقم (2474).

(2)

الكواكب الدراري، 11/ 171.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، رقم (178).

ص: 406

على البعض بحيث يدل في كل ما في الباب على كل الترجمة، لصح التعبير بها»

(1)

.

وقد يكون أخذ البخاري لترجمة الباب من أكثر من حديث.

من ذلك في باب مَا جَاءَ فِي الْقِبْلَةِ، وَمَنْ لَا يَرَى الإِعَادَةَ عَلَى مَنْ سَهَا فَصَلَّى إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ.

عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ وَافَقْتُ رَبيِّ فِي ثَلَاثٍ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى

(2)

.

فقد بين الكرماني أن دلالة الحديث تدل على الجزء الأول منهما أي قول البخاري ماجاء في القبلة

وأن الحديث التالي «عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ»

(3)

.

يدل على باقي الترجمة أي وَمَنْ لَا يَرَى الإِعَادَةَ عَلَى مَنْ سَهَا فَصَلَّى إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ.

«فأول ما فى الباب وآخره يدل على كل الترجمة على سبيل التوزيع وأما كيفية الدلالة فعلى قول من فسر مقام ابراهيم بالكعبة فظاهر، وأما على قول من

(1)

الكواكب الدراري، 3/ 19، 4/ 136.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: مَا جَاءَ فِي الْقِبْلَةِ، وَمَنْ لَا يَرَى الإِعَادَةَ عَلَى مَنْ سَهَا فَصَلَّى إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، رقم (395).

(3)

الكواكب الدراري، 4/ 67.

ص: 407

قال هو الحرم كله فيقال إن من للتبعيض»

(1)

.

- ومن عادة البخاري أنه إذاكان في الباب حديث دال على الترجمة ذكره ويتبعه أيضا بذكر ما يناسب وإن لم يتعلق بالترجمة.

مثاله: بوّب البخاري فقال: «باب إِيجَابِ التَّكْبِيرِ وَافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ» . ثم ساق حديثاً: «أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الأَنْصَارِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ فَرَسًا فَجُحِشَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه، فَصَلَّى لَنَا يَوْمَئِذٍ صَلَاةً مِنَ الصَّلَوَاتِ وَهْوَ قَاعِدٌ فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا ثُمَّ قَالَ: لَمَّا سَلَّمَ إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ»

(2)

.

قال الكرماني: «فإن قلت: ما وجه دلالة الحديث على إيجاب التكبير؟ قلت: هو دليل على الجزء الثاني من الترجمة؛ لأن لفظ إذا صلى قائما متناول لكون الافتتاح أيضا في حال القيام، فكأنه قال إذا افتتح الإمام بالصلاة قائما فافتتحوا أنتم أيضا قائمين إلا أن يقال الواو بمعنى مع، والغرض بيان إيجاب التكبير عند افتتاح الصلاة، يعني لا يقوم مقامه التسبيح والتهلل فحينئذ دلالته على الترجمة مشكل وقد يقال عادة البخاري أنه إذا كان في الباب حديث دال على الترجمة ذكره ويتبعه أيضا بذكر ما يناسب وإن لم يتعلق بالترجمة»

(3)

.

* * *

(1)

الكواكب الدراري، 4/ 64.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الأذان، رقم (701).

(3)

الكواكب الدراري، 5/ 103.

ص: 408

‌المبحث الثالث

الإجابة عن المناسبات الخفية (الاستنباطية)

وهذا هو القسم الثاني من أقسام المناسبات، ليست كل التراجم واضحة المعنى، فهناك تراجم بحاجة لتوضيح وبيان، وهذه المناسبات استنبطها العلماء لموافقتها لمضمون الباب ولو من ناحية بعيدة.

قال ابن حجر: «لكنه جرى أي البخاري على عادته في إدخال الحديث في الباب للفظة تكون في بعض طرقه هي المناسبة لذلك الباب يشير إليها، ويريد بذلك شحذ الأذهان والبعث على كثرة الاستحضار»

(1)

.

وقال القسطلاني

(2)

: «وأكثر ما يفعل ذلك إذا لم يجد حديثًا على شرطه في الباب ظاهر المعنى في المقصد الذي يترجم به، ويستنبط الفقه منه، وقد يفعل ذلك لغرض شحذ الأذهان في إظهار مضمره واستخراج خبيئه»

(3)

.

ومن الأمثلة على ذلك:

«بَاب: الِاعْتِكَافِ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ» ساق البخاري حديثاً

(1)

فتح الباري، 13/ 418.

(2)

أحمد بن محمد بن أبي بكر بن عبد الملك بن الزين، القسطلاني الأصل المصري الشافعي، كان زاهداً منقادا إلى الحق، أخذ عن ابن حجر العسقلاني وغيره، من أشهر مؤلفاته: إرشاد الساري شرح صحيح البخاري، والأنوار، في الأدعية والأذكار، وغيرها (ت 923 هـ) الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة، نجم الدين الغزي، 1/ 128، البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، محمد بن علي الشوكاني، 1/ 102.

(3)

إرشاد الساري، 1/ 24.

ص: 409

بعده: «عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانٍ عَشْرَةَ أَيَّامٍ فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا»

(1)

.

قال الكرماني مبيناً وجه المناسبة: «فإن قلت كيف يدل على ترجمة وهو أنه العشر الأوسط قلت: هذا مطلق والروايات الأخر مقيدة بالأوسط، فيحمل المطلق عليه أو الغالب أنه لا يفهم من إطلاق العشرين إلا عشرين يوما متوالية فيلزم اعتكاف العشر الأوسط ضرورة»

(2)

.

ومنه: بَاب مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} .

أورد البخاري فيه حديثاً: «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَاذَنْ اللهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ وَقَالَ صَاحِبٌ لَهُ يُرِيدُ يَجْهَرُ بِهِ»

(3)

.

بين الكرماني وجه المطابقة: «فإن قلت: الحديث أثبت التغني بالقرآن فلِم ترجم الباب بقوله من لم يتغن بصورة النفى؟ قلت: إما باعتبار ما رُوي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال من لم يتغن بالقرآن فليس منا، فأراد الإشارة إلى ذلك الحديث، ولما لم يكن بشرطه لم يذكره وإما باعتبار مفهومه»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: أبواب الاعتكاف، رقم (1918).

(2)

الكواكب الدراري، 9/ 174 - 175.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: فضائل القرآن، رقم (4700).

(4)

الكواكب الدراري، 19/ 31.

ص: 410

ومن ذلك «باب وما لِلْوَصِيِّ أَنْ يَعْمَلَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ وَمَا يَأكُلُ مِنْهُ بِقَدْرِ عُمَالَتِهِ» .

أورد البخاري فيه حديثاً قد تخفى مناسبته للترجمة وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه «عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ تَصَدَّقَ بِمَالٍ لَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ يُقَالُ لَهُ ثَمْغٌ وَكَانَ نَخْلًا فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي اسْتَفَدْتُ مَالًا وَهُوَ عِنْدِي نَفِيسٌ فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ فَتَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ فَصَدَقَتُهُ تِلْكَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَفِي الرِّقَابِ وَالْمَسَاكِينِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَلَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأكُلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُوكِلَ صَدِيقَهُ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ بِهِ»

(1)

.

فبين الكرماني وجه المطابقة بين الحديث والترجمة فقال: «وأما وجه مطابقة الحديث للترجمة فمن جهة أن المقصود جواز أخذ الأجرة من مال اليتيم لقول عمر: لا جناح على من وَلِيَه أن يأكل بالمعروف»

(2)

.

ومن ذلك «بَاب فِي تَرْكِ الْحِيَلِ وَأَنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فِي الْأَيْمَانِ وَغَيْرِهَا» .

ساق البخاري حديث مهاجر أم قيس «عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَخْطُبُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ هَاجَرَ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الوصايا، رقم (2576).

(2)

الكواكب الدراري، 12/ 80.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الْحِيَلِ، رقم (6536).

ص: 411

في الظاهر قد يُرى أن لا مناسبة واضحة بين الباب والحديث فأجاب الكرماني عن ذلك: «قال صاحب شارح التراجم: وجه مطابقة الحديث لترك الحيل أن مهاجر أم قيس جعل الهجرة حيلة في تزويج أم قيس»

(1)

.

قال البخاري: باب إِذَا جَامَعَ ثُمَّ عَادَ، وَمَنْ دَارَ عَلَى نِسَائِهِ فِي غُسْلٍ وَاحِدٍ.

وساق بعده حديث، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها:«كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَيَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِماً يَنْضَخُ طِيباً»

(2)

.

قال الكرماني: «فإن قلت: دلالة هذا الحديث على الترجمة ظاهرة إذ يتعذر في ساعة واحدة المباشرة والغسل إحدى عشرة مرة فما وجه دلالة الحديث السابق عليها. قلت هو مطلق يحمل على هذا المقيد أو دل عليها من حيث العادة إذ الغالب أنه يتعسر في ليلة واحدة مثل ذلك»

(3)

.

وقد يخفى جزء من الترجمة لا كلها، فيبينها الكرماني من ذلك:«بَاب كُلُّ لَهْوٍ بَاطِلٌ إِذَا شَغَلَهُ عَنْ طَاعَةِ اللهِ وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}» .

أورد البخاري حديثا بعد الترجمة «عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ حَلَفَ مِنْكُمْ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَمَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ تَعَالَ أُقَامِرْكَ فَلْيَتَصَدَّقْ»

(4)

.

(1)

الكواكب الدراري، 24/ 74.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الغسل، رقم (266).

(3)

الكواكب الدراري، 3/ 130.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: الاستئذان، رقم (5921).

ص: 412

‌الفصل الثاني

منهج الكرماني فيما يتعلق بمتون الصحيح

‌المبحث الأول

غريب الحديث

*‌

‌ تمهيد:

لم يكن اهتمام شُرّاح الحديث منصباً على علوم السند دون المتن، بل كانوا يتناولون شرح الحديث من كل جوانبه، سنداً، ومتناً، ويستنبطون ما فيه من أحكام فقهية، ويناقشون الآراء ويرجحونها، ويُظهرون غريب الحديث وغامضه

وقد أُلفت المصنفات الكثيرة في بيان غريب الحديث وغامضه، ككتاب:(غريب الحديث لأبي سليمان الخطابي البستي)، (وغريب الحديث لابن الأثير الجزري)

(1)

وغيرها من المؤلفات.

تعريف علم غريب الحديث (2):

(2)

«هو عبارة عما وقع في متون الأحاديث من الألفاظ الغامضة البعيدة من

(1)

الرسالة المستطرفة، ص 154 - 155.

(2)

علم غريب الحديث يختلف عن الحديث الغريب الذي هو: الحديث الذي يتفرد به بعض الرواة ويتفرد فيه بعضهم بأمر لا يذكره فيه غيره: إما في متنه، وإما في إسناده، ينظر: علوم الحديث ابن الصلاح ص 270، والحديث الغريب لا ينافي الصحة، وقد ساقهما ابن الصلاح وراء بعضهما البعض.

ص: 414

الفهم، لقلة استعمالها»

(1)

.

وقال الإمام الخطابي رحمه الله تعالى: «الغريب من الكلام إنما هو الغامض البعيد من الفهم كالغريب من الناس، إنما هو البعيد عن الوطن المنقطع عن الأهل

ثم إن الغريب من الكلام يقال به على وجهين:

أحدهما: أن يراد به بعيدُ المعنى غامضه، لا يتناوله الفهم إلا عن بعد ومعاناة فكر.

والوجه الآخر: أن يُراد به كلام من بعدت به الدار ونأى به المحل من شواذِّ قبائلِ العرب، فإذا وقعت إلينا الكلمة من لغاتهم استغربناها، وإنما هي كلام القوم وبيانهم»

(2)

.

*‌

‌ أهمية معرفة علم غريب الحديث:

قال ابن الصلاح: «وهذا فن مهم، يقبح جهله بأهل الحديث خاصة، ثم بأهل العلم عامة، والخوض فيه ليس بالهين، والخائض فيه حقيق بالتحري جدير بالتوقي»

(3)

.

(1)

علوم الحديث، ابن الصلاح، ص 272، وينظر فتح المغيث للسخاوي، 4/ 24.

(2)

غريب الحديث، الخطابي، 1/ 69 - 70.

(3)

علوم الحديث، ابن الصلاح، ص 272.

ص: 415

وقال السخاوي: «وهو من مهمات الفن لتوقف التلفظ ببعض الألفاظ فضلا عن فهمها عليه. وتتأكد العناية به لمن يروي بالمعنى»

(1)

.

وقال السخاوي كذلك في موضع آخر وقد سُئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن حرف من غريب الحديث فقال: «سلوا أصحاب الغريب; فإني أكره أن أتكلم في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظن، فأخطئ» . وقال شعبة في لفظه: (خذوها عن الأصمعي; فإنه أعلم بهذا منا)

(2)

.

وقد تجلى اهتمام الكرماني في شرحه لغريب الحديث، وكان منهجه يتلخص في الأمور الآتية:

1 -

شرح الكلمات الغريبة والغامضة.

2 -

الاستدلال بأقوال علماء اللغة والشعر.

3 -

شرح الغريب بالاستعانة بروايات الحديث الأخرى.

4 -

تفسر الحديث بالقرآن الكريم.

5 -

بيان المعنى الحقيقي للألفاظ.

6 -

ترجيح المعنى المراد من اللفظ بالقرائن.

‌أولاً شرح الكلمات الغريبة والغامضة وضبطها:

كان من منهج الكرماني أن لا يدع كلمة غريبة إلا وبيّن معناها، وردها إلى أصلها، وبين وزنها، من ذلك في تفسيره لمعنى كلمة:(الوحي) «والوحي أصله

(1)

فتح المغيث شرح ألفية الحديث، 4/ 24.

(2)

السابق، 4/ 32.

ص: 416

الإعلام في خفاء، وقيل الإعلام بسرعة، وكل ما دلت به من كلام أو كتابة أو رسالة أو إشارة فهو وحي ومن الرؤيا والإلهام، وأوحى ووحي لغتان، والأولى أفصح وبها ورد القرآن

»

(1)

.

ومن ذلك ماقاله في حديث: «عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ «اعْرِفْ وِكَاءَهَا أَوْ قَالَ وِعَاءَهَا وَعِفَاصَهَا

»

(2)

.

قال الكرماني مبيناً الكلمات الغريبة: «و (الوِكاء) بكسر الواو وبالمد هو الذي يشد به رأس الصرة والكيس ونحوهما (أو قال) شك من زيد. و (الوعاء) هو الظرف. و (العِفاص) بكسر المهملة وبالفاء هو الذي يكون فيه النفقة سواء كان من جلد أو خرقة أو غيرهما»

(3)

.

ومن ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ

»

(4)

.

قال الكرماني في بيان معنى: (مغبون) مبيناً أصل اشتقاق الكلمة: «هو مشتق إما من الغبن بإسكان الموحدة وهو النقص في البيع، وإما من الغبَن

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 14، وينظر: الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، الجوهري، 6/ 2519.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: الْغَضَبِ فِي الْمَوْعِظَةِ وَالتَّعْلِيمِ إِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ، رقم (90).

(3)

الكواكب الدراري، 2/ 80، وينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الجزري، 5/ 222، و 3/ 263.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: الرقائق، بَاب: لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ، رقم (6028).

ص: 417

بفتحها وهو النقص في الرأي، فكأنه قال هذان الأمران إذا لم يستعملا فيما ينبغي فقد غُبن صاحبهما فيهما، أي باعهما ببخس لا تحمد عاقبته»

(1)

.

وتارة يذكر اللغات الواردة في الكلمة، ويرجح أكثر اللغات شهرة، مثاله قال في بيان «الفسطاط) بضم الفاء البيت من الشعر وفيه لغات فستاط وفساط بالتشديد وكسر الفاء فيهن»

(2)

.

وتارة يبين وزن الكلمة ويبين معناها، قال في حديث:«قَالَ جُرَيْجٌ أَيْنَ هَذِهِ الَّتِي تَزْعُمُ أَنَّ وَلَدَهَا لِي قَالَ يَا بَابُوسُ مَنْ أَبُوكَ قَالَ رَاعِي الْغَنَمِ»

(3)

.

قال الكرماني: «بابوس بالموحدتين، والثانية منهما مضمومة، وبضم السين المهملة لأنه منادى معرفة وهو على وزن فاعول، اسم الولد الرضيع، ولو صح الرواية بكسر السين وتنوينها بكون كنية له ومعناه يا أبا الشدة»

(4)

.

وتارة يينقل الكرماني كلام العلماء في ضبط الكلمات ويبين الشائع، ومن دون أن يذكر رأيه، مثال ذلك حديث أنس رضي الله عنه «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ قَالَ «اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ»

(5)

.

(1)

الكواكب الدراري، 22/ 191، وينظر: الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية،

6 -

/ 2172.

(2)

الكواكب الدراري، 7/ 136، وينظر: غريب الحديث، لابن الجوزي، 2/ 193.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: التهجد، باب: إِذَا دَعَتِ الأُمُّ وَلَدَهَا فِي الصَّلَاةِ.

(4)

الكواكب الدراري، 7/ 25، وينظر: الفائق في غريب الحديث والأثر، الزمخشري، 1/ 72.

(5)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: مَا يَقُولُ عِنْدَ الْخَلَاءِ، رقم (142).

ص: 418

قال الكرماني في تفسير وضبط كلمة: (الخُبث) ناقلا عن الخطابي في معالم السنن: «الخبُث بضم الباء جمع الخبيث والخبائث جمع الخبيثة، يريد بهما ذكر أن الشياطين وإناثهم وعامة أصحاب الحديث يقولون ساكنة الباء، وهو غلط والصواب ضمها، وأصل الخبث في كلامهم المكروه فان كان من الكلام فهو الشتم، وإن كان من المِلل فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار»

(1)

.

ثم يبين الكرماني أن هذا الكلام فيه نظر مستدلا بأقوال علماء آخرين قال: «في إيراد الخطابي هذا اللفظ في جملة الألفاظ الملحونة نظر، لأن الخبيث إذا جُمع يجوز أن تسكن الباء للتخفيف، وهذا مستفيض لا يسع أحدا مخالفته إلا أن يزعم أن ترك التخفيف فيه أولى لئلا يشتبه بالخبث الذي هو المصدر

(2)

، وقال في شرح السنة

(3)

الخبث بالضم جمع الخبيث والخبائث جمع الخبيثة، يريد ذكر أن الشياطين وإناثهم وبعضهم، يروى بالسكون وقال الخبث الكفر والخبائث الشياطين وقال ابن بطال

(4)

الخُبث بالضم يعم الشر والخبائث الشياطين وبالسكون مصدر خبث الشيء يخبث خبثا وقد يجعل اسما»

(5)

.

قلت وقد رد النووي على الخطابي مستدلاً بأقوال علماء اللغة فقال: «وهذا

(1)

معالم السنن، 1/ 10 - 11.

(2)

الكواكب الدراري، 2/ 184.

(3)

شرح السنة، فضل الله التوربشتي، 1/ 131.

(4)

شرح ابن بطال، 1/ 234.

(5)

الكواكب الدراري، 2/ 184.

ص: 419

الذي غلطهم فيه ليس بغلط، ولا يصح إنكاره جواز الإسكان؛ فإن الإسكان جائز على سبيل التخفيف، كما يقال كتب ورسل وعنق وأذن ونظائره، فكل هذا وما أشبهه جائز تسكينه بلا خلاف عند أهل العربية، وهو باب معروف من أبواب التصريف لايمكن إنكاره، ولعل الخطابي أراد الإنكار على من يقول أصله الإسكان، فإن كان أراد هذا فعبارته موهمة وقد صرح جماعة من أهل المعرفة بأن الباء هنا ساكنة منهم الإمام أبوعبيد إمام هذا الفن والعمدة فيه»

(1)

.

‌ثانياً الاستدلال بأقوال علماء اللغة والشعر:

كان من منهج الكرماني أنه أكثر النقل عن علماء اللغة، والشعر من ذلك:«عن أبي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ»

(2)

.

قال الكرماني ناقلاً عن الجوهري معنى (الغدوة) «الجوهري: الغدوة

ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس»

(3)

.

وينقل عن العلماء معنى (الكلالة) الجوهري: الكَلّ الذي لا ولد لهن

ولا والد يقال كلَّ الرجل يَكل كلالةً، الزمخشري: تنطلق الكلالة على ثلاثة على من لم يخلف ولداً، ولا والداً، وعلى من ليس بولد ولا والد، من المخلفين وعلى

(1)

شرح النووي على مسلم، 4/ 70.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: الدِّينُ يُسْرٌ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «أَحَبُّ الدِّينِ

إِلَى اللهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ»، رقم (39).

(3)

الكواكب الدراري، 1/ 168، وينظر قول الجوهري في الصحاح، 6/ 6444.

ص: 420

القرابة من غير جهة الولد والوالد»

(1)

.

ومن ذلك حديث: «مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الحَيَاءِ

»

(2)

.

قال الكرماني: «قوله وهو يعظ أخاه، أي ينصح أخاه والوعظ النصح والتذكير بالعواقب قال ابن فارس

(3)

هو التخويف والإنذار وقال الخليل

(4)

هو التذكير بالخير فيما يرق القلب

(5)

»

(6)

.

ومن ذلك حديث «بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ، دَخَلَ

(1)

الكواكب الدراري، 3/ 42، وينظر قول الزمخشري في: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، 1/ 485، وينظر غريب الحديث، ابن قتيبة، 1/ 226.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، بَابُ: الحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ، رقم (23).

(3)

أحمد بن فارس بن زكريا بن محمد بن حبيب أبو الحسين اللغوي القزويني كان نحويا على طريقة الكوفيين، سمع من والده، وقرأ عليه البديع الهمداني، له: المجمل في اللغة، وفقه اللغة، (ت 395 هـ)، ينظر: بغية الوعاة، السيوطي، 1/ 352.

(4)

الخليل بن أحمد بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن الفراهيديّ الأزديّ، نحويّ لغويّ عروضيّ، استنبط من العروض وعلله ما لم يستخرجه أحد، ولم يسبقه إلى علمه سابق من العلماء كلّهم، له كتاب:(العين)، و (معاني الحروف)، (ت 170 هـ) ينظر (إنباه الرواة)، 1/ 375 - 376، وبغية الوعاة، 1/ 557.

(5)

هذه العبارة (هو التخويف والإنذار وقال الخليل هو التذكير بالخير فيما يرق القلب) هي قول ابن فارس، ينظر معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، 6/ 126.

(6)

الكواكب الدراري، 1/ 120، وينظر قول ابن فارس في مجمل اللغة، 1/ 931.

ص: 421

رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ

»

(1)

.

قال الكرماني: «قوله بين ظهرانيهم بفتح الظاء والنون، قال في الفائق: يقال أقام فلان بين أظهر قومه وبين ظهرانيهم، أي بينهم وإقحام لفظ الظهر ليدل على أن إقامتهم بينه على سبيل الاستظهار بهم، والاستناد إليهم»

(2)

.

وقد يستدل الكرماني بقول الشعراء للاستلال على معنى الكلمات، مثل (خَرْبَة) «بخَرْبَة بفتح المعجمة وإسكان الراء وبالموحدة على المشهور، ويقال بضم الخاء أيضا، وأصلها سرقة الإبل وتطلق على كل جناية، وقال الخليل هو الفساد في الدين

(3)

من الخارب وهو اللص المفسد في الأرض قال الشاعر:

والخارب اللص يحب الخاربا

(4)

وقد تجرى الخربة في أكثر الكلام مجرى التهمة، وقيل العيب وقيل بضم الخاء العورة، وبفتحها الفعلة الواحدة من الخرابة وهي اللصوصية»

(5)

.

كما أن الكرماني قام بنقد أصحاب المصنفات في الغريب، ويصحح لهم الكلمة لورودها في لسان العرب، ولسان أفصح الفصحاء صلى الله عليه وسلم، من ذلك

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: مَا جَاءَ فِي الْعِلْمِ، رقم (62).

(2)

الكواكب الدراري، 2/ 17، وينظر قول الزمخشري في الفائق في غريب الحديث والأثر، 1/ 41.

(3)

كتاب: العين، للخليل الفراهيدي، 4/ 256.

(4)

انظر: الكامل في اللغة والأدب لأبي العباس أحمد بن يزيد المبرد، 3/ 33.

(5)

الكواكب الدراري، 2/ 105.

ص: 422

حديث:

«عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ: كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ: فَلَمَّا رَفَعَ رَاسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ، قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: مَنِ الْمُتَكَلِّمُ؟ قَالَ: أَنَا، قَالَ: رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ»

(1)

.

«والبِضع بكسر الموحدة وجاء فتحها هو ما بين الثلاث والتسع، يقال بِصنع سنين وبضعة عشر رجلا، الجوهري: وإذا جاورت لفظ العشرين ذهب البضع لا تقول بضع وعشرون

(2)

أقول وهذا خطأ منه لأن أفصح الفصحاء صلى الله عليه وسلم تكلم به»

(3)

.

ومنه: إطلاق النبي صلى الله عليه وسلم لفظ الشجرة على (الثوم) قال الكرماني: «(هذه

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الأذان، رقم (767).

(2)

قال ابن منظور في لسان العرب: «وحكي عن الفراء في قوله بضع سنين أَنْ البضع

لا يُذْكر إِلا مع العشر والعشرين إِلى التسعين، ولا يقال فيما بعد ذلك يعني أَنه يقال مائة ونَيِّف، وأَنشد أَبو تَمّام في باب الهِجاء من الحَماسة لبعض العرب:

أَقولُ حِين أَرَى كَعْباً ولِحْيَتَه

لا بارك الله في بِضْعٍ وسِتِّينِ

من السِّنين تَمَلاَّها بلا حَسَبٍ

ولا حَياءٍ ولا قَدْرٍ ولا دِينِ

وقد جاء في الحديث بِضْعاً وثلاثين ملَكاً وفي الحديث صلاةُ الجماعةِ تَفْضُل صلاةَ الواحد بِبِضْع وعشرين دَرجةً (لسان العرب 1/ 298)، والبيتان في شرح ديوان الحماسة، من دون ذكر القائل، لأبي علي أحمد الأصفهاني، ص 1068.

(3)

الكواكب الدراري، 5/ 154.

ص: 423

الشجرة) فإن قلت الشجر هو ما كان على ساق من النبات، والنجم مالا ساق له

(1)

كالثوم، فما وجه إطلاق الشجر عليه. قلت: وقد يُطلق كل منهما على الآخر، وتكلم أفصح الفصحاء صلى الله عليه وسلم به أقوى الدلائل»

(2)

.

‌ثالثاً شرح الغريب بالاستعانة بروايات الحديث الأخرى:

قد تكون بعض ألفاظ الحديث غامضة غير واضحة، فتأتي مفسرة من رواية أخرى للحديث، فكان الكرماني يستدل بها على معنى الكلمة الغامضة من ذلك:

في حديث أن وفد عبد القيس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم «قَالَ «مَنِ الْقَوْمُ أَوْ مَنِ الْوَفْدُ» . قَالُوا رَبِيعَةُ

وفيه وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ عَنِ الْحَنْتَمِ وَالدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ

(3)

»

(4)

.

(1)

ينظر تهذيب اللغة، الأزهري، 11/ 89.

(2)

السابق، 5/ 200، وقد قال ابن دريد الأزدي عن الثوم:(والثوم شجر مَعْرُوف) جمهرة اللغة، 1/ 433.

(3)

الحنتم: جرار حُمْر يُحمل فيها الخمر، الدُّبَّاء: القرع، واحدها دباءة، كانوا ينتبذون فيها فتسرع الشدة في الشراب، المزفت: هو الإناء الذي طلى بالزفت وهو نوع من القار، ثم انتبذ فيه، قال أبو عبيد: فهذه الأوعية الَّتي جاء فيها النَّهي، وهي عند العرب على ما فسَّرها «أبو بكرة» وإنمَّا نهى عنها كلَّها لمعنى واحد أنَّ النَّبيذ يشتدُّ فيها حتَّى يصير مسكرًا، ثمَّ رخَّص فيها وقال:«اجتنبوا كل مسكر» فاستوت الظُّروف كلُّها، ورجع المعنى إلى المسكر، فكلُّ ما فيها وفي غيرها من الأوعية بلغ ذلك، فهو المنهي عنه،

وما لم يكن فيه منها ولا من غيرها مسكرًا فلا بأس به.) ينظر غريب الحديث للهروي، 1/ 402، والنهاية في غريب الحديث، ابن الأثير، 2/ 96، 2/ 304.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، بابٌ: أداء الخمس من الإيمان، رقم (50).

ص: 424

قال الكرماني في تفسير كلمة (النَّقِير) بالنون المفتوحة والقاف المكسورة وجاء تفسيره في صحيح مسلم

(1)

أنه جذع ينقرون وسطه وينبذون فيه»

(2)

.

ومن ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنه: «ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ قَالَ عَطَاءٌ أَشْهَدُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يُسْمِعِ النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ، وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ

»

(3)

.

فالصدقة في الحديث قد يُراد بها الزكاة المفروضة، وقد يُراد بها صدقة التطوع، فقد استدل الكرماني عليها بقوله: «بالصدقة وهي ما يبذل من المال لثواب الآخرة، وهي تتناول الفريضة والتطوع لكن المراد ههنا هو الثاني، فاللام فيه للعهد عنها وإنما أمرهن بها لما رآهن أكثر أهل النار، وجاء في الصحيح: تصدقن يا معشر النساء فإني أريتكن أكثر أهل النار

(4)

وقيل أمرهن بها لأنه كان وقت حاجة إلي المواساة والصدقة يومئذ كانت أفضل وجوه البر»

(5)

.

(1)

أخرج الإمام مسلم في صحيحه في كتاب: الإيمان، بَابُ: الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَشَرَائِعِ الدِّينِ، وَالدُّعَاءِ إِلَيْهِ، رقم (28)«أنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، أَخْبَرَهُ أَنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوْا نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، جَعَلَنَا اللهُ فِدَاءَكَ مَاذَا يَصْلُحُ لَنَا مِنَ الْأَشْرِبَةِ؟ فَقَالَ: «لَا تَشْرَبُوا فِي النَّقِيرِ» ، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، جَعَلَنَا اللهُ فِدَاءَكَ، أَوَ تَدْرِي مَا النَّقِيرُ؟ قَالَ:«نَعَمْ، الْجِذْعُ يُنْقَرُ وَسَطُهُ، وَلَا فِي الدُّبَّاءِ، وَلَا فِي الْحَنْتَمَةِ، وَعَلَيْكُمْ بِالْمُوكَى» .

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 210.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، بَابُ: عِظَةِ الإِمَامِ النِّسَاءَ وَتَعْلِيمِهِنَّ، رقم (97).

(4)

أخرج البخاري في صحيحه كتاب: الزكاة، بَابُ: الزَّكَاةِ عَلَى الأَقَارِبِ، رقم (1462).

(5)

الكواكب الدراري، 2/ 92.

ص: 425

وقد يفسر الكرماني المجمل من الحديث برواية أخرى موضحة ومبينة، من ذلك حديث المَعْرور بن سويد قال: «لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلاً فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ

»

(1)

.

فبين الكرماني أن التعيير المقصود هو ماورد في رواية أخرى عند البخاري في كتاب الأدب: أنه قال كان بيني وبين رجل كلام وكانت أمه أعجمية فنلت منها

(2)

.

‌رابعاً تفسر الحديث بالقرآن الكريم:

من أجل أنواع التفسير أن يُفسر الحديث بالقرآن الكريم، وكان من منهج الكرماني رحمه الله تعالى يستعين لتفسير الحديث بآيات من القرآن الكريم، ليبين المقصود ويقرب المعنى للأذهان.

مثاله:

ومن ذلك تقريب المعنى المراد والاستشهاد له بآية، كحديث أسماء رضي الله عنها قالت: «أَتَيْتُ عَائِشَةَ وَهِيَ تُصَلِّي فَقُلْتُ مَا شَانُ النَّاسِ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ، فَقَالَتْ سُبْحَانَ اللهِ. قُلْتُ آيَةٌ فَأَشَارَتْ بِرَأسِهَا، أَي نَعَمْ

»

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، بَاب: المَعَاصِي مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ، رقم (29).

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 139.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: مَنْ أَجَابَ الفُتْيَا بِإِشَارَةِ اليَدِ وَالرَّأسِ، رقم (85).

ص: 426

قال الكرماني: «أي هي آية أي علامة لعذاب الناس كأنها مقدمة له قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]»

(1)

.

ومنه الاستشهاد بآية في شرح الحديث لتأكيد معناه.

كحديث: «الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ»

(2)

.

استشهد الكرماني أن الحسنة بعشر أمثالها

(3)

بآية: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] وواستشهد على قوله: «سبعمائة ضعف، بقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261]» .

ومنه بيان االمراد من قوله صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ، وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم

»

(4)

.

فذكر الكرماني الخلاف بين العلماء في بيان المقصود من: «أهل الكتاب» فقال بعضهم أن اللفظ يجري على عمومه، أو أنهم اهل التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى،

إلى أن قال: وفي الجملة اللام في الكتاب للعهد، إما عن التوراة والإنجيل، وإما عن الإنجيل قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ

(1)

الكواكب الدراري، 2/ 67.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: حسن إسلام المرء

من دون رقم

للحديث.

(3)

الكواكب الدراري، 1/ 167.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: تعليم الرجل أمته وأهله، رقم (96).

ص: 427

هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ}

إلى قوله: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 52 - 54].

ومن ذلك بيان المراد من الحديث، من خلال آية وافقت الحديث في المعنى، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «انْتَدَبَ اللهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ

»

(1)

.

فبين الكرماني معنى الانتداب هنا فقال: «ندبه لأمر فانتدب له أي دعاه له فأجاب فههنا كأن الله تعالى جعل جهاد العباد في سبيله سؤالاً ودعاء له

وبين أقوالاً أخرى في المعنى مستعيناً برواية مسلم التي فيها لفظ: تضمّن الله

(2)

وتكفل الله

(3)

.

تكفل الله ومعناه: أوجب تفضلاً أي حقق وحكم أن ينجز له ذلك، وهو موافق لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ .. } [التوبة: 111].

‌خامساً بيان المعنى الحقيقي للألفاظ:

قد يرد في الحديث لفظة غامضة، ونرى الكرماني يغوص في بحر المعاني

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: الجهاد من الإيمان، رقم (35).

(2)

في كتاب: الإمارة، باب: فَضْلِ الْجِهَادِ وَالْخُرُوجِ فِي سَبِيلِ اللهِ، رقم (103).

(3)

والرواية هي: «تَكَفَّلَ اللهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ، لَا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا جِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ، وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ، بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ، مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» في كتاب: الإمارة، بُاب: فَضْلِ الْجِهَادِ وَالْخُرُوجِ فِي سَبِيلِ اللهِ، رقم (103)، كما أن هذه الرواية عند البخاري، كتاب: فرض الخمس، بَابُ: قَوْلِ

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أُحِلَّتْ لَكُمُ الغَنَائِمُ» ، رقم (3123).

ص: 428

ليبيّن المقصود منها، وتارة يصل فيها إلى وجوه مُحتملة للمعنى.

من ذلك حديث سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في باب: التناوب في طلب العلم، وفيه:«فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ. قَالَ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإِذَا هِي تَبْكِي فَقُلْتُ طَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ لَا أَدْرِي. ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ قَالَ «لَا» . فَقُلْتُ اللهُ أَكْبَرُ»

(1)

.

قال الكرماني: «قوله أمر عظيم أراد اعتزال الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأزواج.

فإن قلتَ ما العظمة فيه: قلت كونه مظنة للطلاق، وهو عظيم لاسيما بالنسبة إلي عمر فإن ابنته إحدي زوجاته

قوله (الله أكبر) فإن قلت هذا الكلام في أمثال هذه المقامات يدل علي التعجب، فما ذلك ههنا قلت كأن الأنصاري ظن الإعتزال طلاقاً، أو ناشئاً عن الطلاق فأخبر عمر بالطلاق بحسب ظنه تعجب منه بلفظ الله أكبر»

(2)

.

ومن ذلك حديث «أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم

أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، خَالِصاً مِنْ قَلْبِهِ أَوْ نَفْسِهِ»

(3)

.

قال الكرماني: «من قال لا إله إلا الله) احترازاً من المشرك وخالصا من

(1)

أخرجه البخاري، في كتاب: العلم، رقم (88).

(2)

الكواكب الدراري، 2/ 77.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، بَابُ: الحِرْصِ عَلَى الحَدِيثِ، رقم (98).

ص: 429

قلبه احترازًا من المنافق، فإن قلت المشرك والمنافق لا سعادة لهما وأفعل التفضيل يدل علي الشركة، قلت: الأفعل بمعني الفعيل، يعني سعيد الناس

أو هو بمعناه الحقيقي المشهور في التفضيل بحسب المراتب أي هو: أسعد بمن لم يكن في هذه المرتبة من الإخلاص المؤكد البالغ غايته، والدليل علي إرادة تأكيده ذكر القلب إذ الإخلاص معدنه القلب ففائدته التأكيد كما في قوله تعالى {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283].

الكشاف: فإن قلت هلّا اقتصر علي قوله فإنه آثم، وما فائدة ذكر القلب والجملة هي الآثمة لا القلب وحده؛ قلت: كتمان الشهادة هو أن يضمها

ولا يتكلم بها، ولما كان آثما مقترفا بالقلب أسند إليه؛ لأن إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ، ألا تراك تقول إذا أردت التأكيد أبصَرتُه عَينيّ، وسَمعتْ أُذني، أو تقول عُلم عدم السعادة لهما من الدلائل الخارجية الدالة بالتصريح عليه»

(1)

.

‌سادساً ترجيح المعنى المراد من اللفظ بالقرائن:

وقد يكون المعنى الظاهر غير مراد، ويترجح المراد بقرينة تدل عليه، وقد بين الكرماني ذلك عند حديث: «عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ آلَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا وَقَعَدَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ فَنَزَلَ لِتِسْعٍ وَعِشْرِينَ

»

(2)

.

(1)

الكواكب الدراري، 2/ 94 - 95، وينظر قول الزمخشري في: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، 1/ 329.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: النكاح، باب: قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} إِلَى قَوْلِهِ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} ، رقم (4873).

ص: 430

قال الكرماني مبينا معنى الإيلاء الوارد في الحديث فقال: «لا يريد

به المعنى الفقهي بل المعنى اللغوي وهو الحلف، فإن قلت إذا كان للفظ

معنى شرعي، ومعنى لغوي، يقدم الشرعي على اللغوي،

(1)

قلت: إذا

لم يكن ثمة قرينة صارفة عن إرادة معناه الشرعي والقرينة كونها شهرا واحدا»

(2)

.

ويبين الكرماني كذلك مايصرف الكلام عن حقيقته كذلك بالدلائل الدالة عليه، مثاله: ما أخرجه البخاري: «عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ»

(3)

.

فهل لفظ الصدقة الوارد في الحديث يأخذ أحكام الصدقات، فيحرم على الأزواج أن يُنفقوا على زوجاتهم الهاشميات

(4)

أم لا؟

(1)

ينظر قول الرازي في المسألة، المحصول، 5/ 429 - 430.

(2)

الكواكب الدراري، 19/ 150.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، بابٌ: مَا جَاءَ أَنَّ الأَعْمَالَ بِالنِّيَّةِ وَالْحِسْبَةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، رقم (52).

(4)

من المعلوم أنه بإجماع العلماء، أنه لا يجوز لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا من أموال الصدقات، لقوله صلى الله عليه وسلم:«نَّ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ، وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ» أخرجه مسلم، كتاب: الزكاة، باب: تَرْكِ اسْتِعْمَالِ آلِ النَّبِيِّ عَلَى الصَّدَقَةِ، رقم (1072). وينظر إجماع الفقهاء في المسألة: المبسوط للسرخسي، 3/ 142، والذخيرة للقرافي، 3/ 142، والمجموع شرح المهذب للنووي، 6/ 168، والمغني لابن قدامة، 2/ 491.

ص: 431

فبين الكرماني أن لفظ الصدقة مجازيا، وقد صُرف اللفظ عن معناه الحقيقي، بقرينة الإجماع على عدم حرمة الإنفاق على الزوجات هاشمية وغيرها»

(1)

.

ومن القرائن التي يستعين بها الكرماني لمعرفة المراد من اللفظ، هو المقابلة، والمقابلة «هي: أن تجمع بين شيئين متوافقين أو أكثر، وبين ضديهما»

(2)

.

مثال ذلك ما أخرجه البخاري: «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَامَرَ وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَاذَنَ قَالُوا كَيْفَ إِذْنُهَا قَالَ أَنْ تَسْكُتَ»

(3)

.

قال الكرماني: «و (الأيم) من لا زوج لها بكرا أو ثيبا

(4)

لكن المراد منها هنا الثيب بقرينة المقابلة للبكر»

(5)

.

* * *

(1)

ينظر الكواكب الدراري، 1/ 214 - 215.

(2)

الفوائد الغياثية، محمد بن يوسف الكرماني، 2/ 794.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب، الحيل، باب: في النكاح، رقم (6552).

(4)

ينظر الأثير في غريب الحديث، ابن الأثير، 1/ 85.

(5)

الكواكب الدراري، 24/ 83.

ص: 432

‌المبحث الثاني

العناية بمسائل اللغة العربية

اهتم الكرماني رحمه الله تعالى بمسائل اللغة العربية، في شرحه للبخاري، إذ لا يُتصور فهم الحديث، واستنباط الأحكام من دون معرفة علوم العربية، من نحو وصرف، وبلاغة

وقد تبين من خلال التتبع والاستقراء اهتمام الكرماني بعلوم اللغة بما يأتي:

‌أولاً شرح المفردات وضبطها:

قال الكرماني في بيان معنى الصَلصَلة «بفتح الصادين صوت كل شيء مُصوّت كصوت السلسلة، وقيل هو الصوت المُتَدَارك ومثل هو حال أي يأتيني مشابهاً صوته صلصلة الجرس»

(1)

.

ومن ذلك: بيان معنى الكلمات على حسب ضبط الكلمة، وجواز أكثر من وجه في ضبطها مثل: قول السيدة عائشة رضي الله: «أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ

فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حتى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ

»

(2)

.

قال الكرماني: «قوله: الجَهْد يُروى فيه فتح الجيم وضمها، ونصب الدال ورفعها، ومعناه الطاقة والغاية والمشقة، فعلى الرفع معناه بلغ الجهد مبلغه فحذف مبلغه، وعلى النصب معناه بلغ الملك مني الجهد»

(3)

.

(1)

الكواكب الدراري: 1/ 27.

(2)

أخرجه البخاري، باب: كيف كان بدء الوحي، رقم (3).

(3)

الكواكب الدراري، 1/ 34.

ص: 433

ونجد الدقة عند الكرماني في بيانه للألفاظ التي قد تتشابه بالمعنى، مثال ذلك:«والنسيان جهل بعد العلم، والفرق بينه وبين السهو، أنه زوال عن الحافظة والمدركة، والسهو: زوال عن الحافظة فقط، ثم الفرق بين السهو والخطأ: أنه ما يتنبه صاحبه بأدنى تنبيه والخطأ لا يتنبه له»

(1)

.

ومن ذلك: قال في بيان معنى: (الْوَرْسُ)«بفتح الواو وسكون الراء وبالمهملة نبت أصفر تصبغ به الثياب»

(2)

.

‌ثانياً ذكر التصحيف الوارد في بعض كلمات المتن والإشارة وبيان الصواب:

كان الكرماني يشير إلى التصحيف الوارد في بعض كلمات المتن مع بيان الصواب، وكان يستدل على ذلك من السياق والمعنى، والاستعانة بالروايات الأخرى، مثاله: حديث فرض الاصلاة في ليلة الإسراء والمعراج، من ذلك حديث: «كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ

وفيه ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا حَبَايِلُ اللُّؤْلُؤِ

»

(3)

.

فوقع الخلاف في لفظ: (حبايل) أنه محرف عن: جُنابذ، واستدل الكرماني على ذلك بقول العلماء فقال:«قوله: «حبايل» جمع الحبالة بالحاء المهملة وبالموحدة أي عقود اللؤلؤ.

(1)

السابق، 2/ 136.

(2)

الكواكب الدراري: 9/ 45.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: كَيْفَ فُرِضَتِ الصَّلَاةُ فِي الإِسْرَاءِ، رقم (343).

ص: 434

قال الخطابي وغيره: إنه تصحيف والصواب جُنابذ جمع الجُنبذ بضم الجيم وسكون النون، وبالموحدة المضمومة وبالمنقطة ما ارتفع من الشئ واستدار كالقبة، والعامة تقول بفتح الموحدة والظاهر أنه فارسي معرب)

(1)

.

وقد وردت عند البخاري التصريح في رواية أخرى الجنابذ

(2)

.

وقال ابن الأثير: «فإن صحت الرواية فيكون أراد به مواضع مرتفعة كحبال الرمل، كأنه جمع حبالة، وحبالة جمع حبل، وهو جمع على غير قياس»

(3)

.

اذا فمعنى القباب يتم المعنى به أكثر من الحبائل ولا سيما أن التصريح بالجنابذ ورد في الرواية الأخرى.

ومن ذلك حديث: «عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ

وفيه: كُنْتُ أَقُولُ أي المنافق مَا يَقُولُ النَّاسُ. فَيُقَالُ لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ

».

قال الكرماني: قال الخطابي: «هكذا يرويه المحدثون وهو غلط والصواب إتليت على وزن أفعلت من قولك ما ألوته أي: ما استطعته ويقال لا آلو كذا أي: لا أستطيعه كأنه قال لا دريت ولا استطعته»

(4)

.

وأضاف الخطابي وجها آخر فقال: «وفيه وجه آخر: وهو أن يقال: ولا أَتْلَيْت به، يدعو عليه بأن لا تتلى إبله: أي لا يكون لها أولاد تتلوها، أي

(1)

الكواكب الدراري، 4/ 8.

(2)

في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: ذكر دريس عليه السلام، رقم (3342).

(3)

النهاية في غريب الحديث. 1/ 333.

(4)

الكواكب الدراري، 7/ 118.

ص: 435

تتبعها»

(1)

.

‌ثالثاً الاهتمام بالمسائل النحوية:

لقد أُوتيَ النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، وهو أفصح من نطق بالضاد، فنجد في كلامه صلى الله عليه وسلم ماعرفته العرب في لغتها من المسائل النحوية المختلفة، ولا ينفك علم الحديث عن علم اللغة العربية، قال الحافظ السيوطي:«وعلم الحديث واللغة أخوان يجريان من واد واحد»

(2)

وقد أولى الكرماني اهتمامه بمسائل اللغة في أمور كثيرة أذكر بعضاً منها:

‌1 - بيان الأوجه الإعرابيّة:

يذكر الكرماني أوجه الإعراب المختلفة في الكلمة، مثال ذلك أخرج البخاري في باب: إِذَا نَفَرَ النَّاسُ عَنْ الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَصَلَاةُ الْإِمَامِ وَمَنْ بَقِيَ جَائِزَةٌ، من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما «قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ أَقْبَلَتْ عِيرٌ تَحْمِلُ طَعَامًا فَالْتَفَتُوا إِلَيْهَا حَتَّى مَا بَقِيَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}

(3)

.

قال الكرماني: «إلا اثنا عشر وفي بعضها اثني عشر، فإن قلت الاستثناء مفرغ فيجب رفعه لأن إعرابه على حسب العامل، قلت: ليس مفرغا إذ هو مستثنى من ضمير «بفي» العائد إلى المصلي، فيجوز فيه الرفع والنصب، أو يقال

(1)

ينظر غريب الحديث 3/ 263. وإصلاح غلط المحدثين، 1/ 69.

(2)

المزهر في علوم اللغة وأنواعها، السيوطي، 2/ 268.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الجمعة، رقم (895).

ص: 436

أن اثني عشر أعطى له حكم أخواته التي هي ثلاثة عشر، إذ الأصل فيه البناء لتضمنه الحرف، أو المستثنى محذوف وتقديره ما بقي أحد إلا عدد كانوا اثني عشر رجلا»

(1)

.

ومن ذلك أخرج البخاري تعليقاً: «وَيُذْكَرُ عَنْ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ كَتَبَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدٍ بَيْعَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ لَا دَاءَ وَلَا خِبْثَةَ وَلَا غَائِلَةَ

»

(2)

.

قال الكرماني مبيناً أوجه الإعراب في: «بيعَ المسلم نصب على أنه مصدر من غير فعله، لأن البيع والشراء متقاربان، ويجوز الرفع على كونه خبر المبتدأ المحذوف، و «المسلم» الثاني منصوب بوقوع فعل البيع عليه»

(3)

.

ومن ذلك حديث: «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ لَا تَحْقِرَنَّ

»

(4)

.

ذكر الكرماني الأقوال في إعراب (نساء المسلمات) فقال: «فيه ثلاثة أوجه: نصب النساء وجر المسلمات على الإضافة، وهو من باب إضافة الموصوف إلى صفته، ولابد عند البصريين من تقدير نحو: يا نساء الأنفس المسلمات أو الجماعات المسلمات، وقيل تقديره يا فاضلات المسلمات، كما يقال هؤلاء رجال القوم أي أفاضلهم، والثاني رفعهما على معنى يا أيها النساء المسلمات، والثالث

(1)

الكواكب الدراري، 6/ 44.

(2)

أخرجه البخاري، بَاب: إِذَا بَيَّنَ الْبَيِّعَانِ وَلَمْ يَكْتُمَا وَنَصَحَا.

(3)

الكواكب الدراري، 9/ 202.

(4)

أخرجه البخاري، كِتَاب: الْهِبَةِ وَفَضْلِهَا وَالتَّحْرِيضِ عَلَيْهَا، رقم (2396).

ص: 437

رفع النساء وكسر التاء من المسلمات على أنه منصوب على الصفة على المحل نحو يا زيد العاقل بنصب العاقل»

(1)

.

‌2 - تقدير المحذوف في الإعراب:

مثاله: عند إعرب (إلى ما هاجر إليه) «إمّا أن يكون متعلقا بالهجرة والخبر محذوف، أي هجرته إلى ما هاجر إليه غير صحيحة أو غير مقبولة، وإما أن يكون خبر فهجرته والجملة خبر المبتدأ الذي هو من كانت، وأدخل الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط.

فإن قلت المبتدأ والخبر بحسب المفهوم متحدان فما الفائدة في الإخبار؟ قلت: لا اتحاد إذ الخبر محذوف وهو فلا ثواب له»

(2)

.

ومن ذلك حديث: «عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ «اعْرِفْ وِكَاءَهَا أَوْ قَالَ وِعَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ» . قَالَ فَضَالَّةُ الإِبِلِ

»

(3)

.

قال الكرماني في إعراب: «فضالة الإبل مبتدأ خبره محذوف أي ما حكمها أكذلك أم لا وهو من إضافة الصفة الموصوف»

(4)

.

(1)

الكواكب الدراري، 11/ 109.

(2)

الكواكب الدراري: 1/ 19.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: الْغَضَبِ فِي الْمَوْعِظَةِ وَالتَّعْلِيمِ إِذَا رَأَى

مَا يَكْرَهُ، رقم (90).

(4)

الكواكب الدراري، 2/ 81.

ص: 438

‌3 - الاستثناء:

«وهو المخرج تحقيقاً، أو تقديراً من مذكور او متروك ب «إلا» أو ما بمعناها بشرط الفائدة.

فإن كان بعض المستثنى منه حقيقة فمتصل، وإلا فمنقطع، مقدر الوقوع بعد «لكن» عند البصريين، وبعد «سوى» عند الكوفيين»

(1)

.

وقد تعرض الكرماني في الكواكب الدراري للاستثناء بنوعيه، من ذلك حديث «إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ»

(2)

.

قال الكرماني مبيناً آراء العلماء في هذا الاستثناء: «واختلف العلماء في هذا الاستثناء فقال الشافعي رحمه الله وغيره ممن يقول لا نلزم النوافل بالشروع أنه استثناء منقطع تنكيرهن لكن التطوع خير لك، وقال من شرع في تطوع يُستحب له إتمامه ولا يجب بل يجوز قطعه

(3)

، وقال آخرون

(4)

استثناء متصل ويقولون تلزم النوافل بالشروع ويستدلون بهذا الحديث وبقوله: تعالى {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وبالاتفاق على أن حج التطوع يلزم بالشروع»

(5)

.

(1)

تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، محمد بن عبدالله، ابن مالك الطائي الجياني، ص 101.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الزكاة، باب: الزكاة من الإسلام، رقم (44).

(3)

ينظر المجموع شرح المهذب، النووي، 6/ 394.

(4)

وهم الحنفية، ينظر البحر الرائق شرح كنز الدقائق، 2/ 61، ورد المحتار على الدر المختار، (حاشية ابن عابدين)، 2/ 30.

(5)

الكواكب الدراري، 1/ 181.

ص: 439

ومن ذلك: «عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ يُومِئُ إِيمَاءً صَلَاةَ اللَّيْلِ إِلَّا الْفَرَائِضَ وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ بَاب الْقُنُوتِ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَبَعْدَهُ»

(1)

.

قال الكرماني قوله: «إلا الفرائض استثناء منقطع أي لكن الفرائض لم تكن تُصلي على الراحلة، فإن قلت: لم لا يكون متصلا لأن الليل أيضا له فريضتان المغرب والعشاء، ويراد بالجمع إتيان إما حقيقة وإما مجازا قلت: المراد استثناء فريضة الليل فقط، إذ لا تصلى فريضة أصلا على الراحلة ليلية أو نهارية»

(2)

.

‌4 - المتعدي:

هو: «المتعدّي هو الذي لا يعقل إلّا بمتعلّق غير الفاعل نحو: ضرب زيد، فإنّ فهمه يتوقف على شيء يتعلّق به ضرب الضّارب»

(3)

.

مثّل الكرماني لذلك في حديث: «أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تُجَّارًا

ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ

»

(4)

.

قال الكرماني: «فإن كَذَبَني أي نقل إلى الكذب وقال لي خلاف الواقع،

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الوتر، بَاب: الْوِتْرِ فِي السَّفَر، رقم (952).

(2)

الكواكب الدراري، 6/ 96.

(3)

الكناش في فني النحو والصرف، أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن علي الملك المؤيد، 2/ 33، والكافية في علم النحو، ابن الحاجب، ص 47.

(4)

أخرجه البخاري، باب: كيف بدء الوحي، رقم (6).

ص: 440

التيمي: كَذَبَ يتعدّى على مفعولين، يُقال كَذَبَني الحديث وكذا نظيره صَدَقَ قال الله تعالى {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا} وهما من غرائب الألفاظ ففعل بالتشديد يقتصر على مفعول واحد وفعل بالتخفيف يتعدى إلى مفعولين»

(1)

.

وقال الكرماني مبيناً رأي العلماء في: (مظلمة)«بكسر اللام. الجوهري يُقال أظلم الليل، وقال الفراء ظلم الليل بالكسر وأظلم بمعنى ويقول ضاءت النار وأضاءت مثله وأضاءته يتعدى ولا يتعدّى. الزمخشري: أضاء إما متعد بمعنى نور، وإما غير متعد بمعنى لمع، وأظلم يُحتمل أن يكون غير متعد وهو الظاهر وأن يكون متعدياً»

(2)

.

‌5 - الاهتمام بأدوات الإعراب المختلفة:

مثل بَيْنَا، «بَيْنَا أَنَا أَمْشِي، إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا»

(3)

قال الكرماني في بيان الأداة: (بَيْنَا)، «أصله بين فأُشبعت الفتحة فصارت ألفاً، وهو من الظروف الزمانية اللازمة للإضافة إلى الجملة الإسمية، والعامل فيه الجواب إذا كان مجرّدا من كلمة المفاجأة، وإلاّ فمعنى المفاجأة المتضمنة هي إياها، وتحتاج إلى جواب يتم به المعنى، وقيل اقتضى جواباً لأنه ظرف متضمن المجازاة، والأفصح في جوابه أن يكون فيه إذ وإذا، خلافا للأصمعي والمعنى أن في أثناء أوقات المشي فاجأني السماع»

(4)

.

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 55.

(2)

الكواكب الدراري، 4/ 125.

(3)

أخرجه البخاري، باب: كيف كان بدء الوحي، رقم (3).

(4)

الكواكب الدراري، 1/ 141.

ص: 441

ومن ذلك رويدك، في حديث: «أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ وَمَعَهُنَّ أُمُّ سُلَيْمٍ فَقَالَ وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ رُوَيْدَكَ سَوْقًا بِالْقَوَارِيرِ

»

(1)

.

قال الكرماني: «رويدك اسم فعل بمعنى أمهل، والكاف حرف للخطاب ليس منصوبا ولا مجرورا»

(2)

.

ومن ذلك بيان اسم الفعل (مَهْ) ومثاله في حديث السيدة عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم، «دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ قَالَ «مَنْ هَذِهِ» . قَالَتْ فُلَانَةُ. تَذْكُرُ مِنْ صَلَاتِهَا. قَالَ «مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ

»

(3)

.

قال الكرماني: «مه: الجوهري هي كلمة بنيت على السكون، وهي اسم سُمي به الفعل ومعناه اكفف فإن وُصلت نونته، فقلت مهٍ مهٍ يقال مهمهت به أي زجرته، التيمي: إذا دخله التنوين كان نكرة، وإذا حُذف كان معرفة، وهذا القسم من أقسام التنوين الذي يختص بالدخول على النكرة ليفصل بينها وبين المعرفة، فالمعرفة غير منون والنكرة منون»

(4)

.

‌رابعاً الاهتمام بالصرف:

بيّن الكرماني في شرحه بعض المسائل الصرفية، كالجمع، وميزان الفعل، والممنوع من الصرف، والمنسوب، وغيرها.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الأدب، بَاب: مَا يَجُوزُ مِنْ الشِّعْرِ وَالرَّجَزِ وَالْحُدَاءِ وَمَا يُكْرَهُ مِنْهُ، رقم (5773).

(2)

الكواكب الدراري، 22/ 22.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهُ، رقم (41).

(4)

الكواكب الدراري، 1/ 172.

ص: 442

‌1 - الاهتمام بالجمع:

مثال ذلك، قال في جمع:«قمص جمع القميص نحو رغيف ورغف ويجمع أيضاً على قمصان وأقمصة»

(1)

وقال في جمع: حكيم (حكماء)، وقال في جمع: فقيه (فقهاء)

(2)

.

وهناك أمثلة كثيرة نبه فيها الكرماني على الجموع

(3)

.

كما أن الكرماني نبه على شواذّ الجمع، وهي الجموع التي «جاءت على خلاف القياس الذي ينبغي أن يجئ عليه الجموع»

(4)

.

قال البخاري: «بَاب دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ» .

قال الكرماني في جمع: (سنين)«قوله سنين جمع للسنة، وفيه شذوذان تغيير مفرده من الفتح إلى الكسر، وكونه غير علم عاقل، وحكمه أيضا مخالف لسائر الجموع في أنه يجوز فيه ثلاث أوجه أن يُعرب كالمسلمين وأن يُجعل نونه متعقب الإعراب منونا وغير منون منصرفا وغير منصرف»

(5)

.

وقال كذلك في جمع: (رهط).

«رهطا أي جماعة وأصله الجماعة دون العشرة من الرجال، لا يكون فيهم

(1)

السابق، 1/ 119.

(2)

السابق، 2/ 31.

(3)

السابق، ينظر: 1/ 104، 1/ 119، 2/ 28، 3/ 33، 4/ 8، 5/ 70.

(4)

شرح شافية ابن الحاجب، الاسترباذي، 2/ 204 - 205.

(5)

الكواكب الدراري، 6/ 99.

ص: 443

امرأة وقيل دون الأربعين، والجمع أرهاط وأرهط»

(1)

.

ومن منهج الكرماني أنه كان يبين أقوال العلماء في بعض المسائل التي فيها جواز الانتقال عن أصل القاعدة.

مثال ذلك:

قد يُستعمل جمع القلة في موضع جمع الكثرة والعكس صحيح، ففي حديث الوضوء «ثلاث مرات» وفي لفظ «ثلاث مرار» فجاء به بصيغة جمع الكثرة ومرة بجمع القلة.

قال الكرماني: «فإن قلت حكم العدد من ثلاثة إلى عشرة أن يضاف إلى جمع القلة فلم أضيف إلى جمع الكثرة مع وجود القلة وهو مرات؟

قلت: هما يتعاوضان فيستعمل كل منهما مكان الآخر

(2)

كقوله تعالى {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} »

(3)

.

‌2 - بيان ميزان الفعل:

اهتم الكرماني رحمه الله تعالى ببيان الميزان الصرفي للأفعال، مثال ذلك حديث: «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما نَشَأَ قَامَ بِالْحَبَشِيَّةِ {وِطَاءً} قَالَ مُوَاطَأَةَ الْقُرْآنِ

(1)

السابق، 1/ 129، وقال الاسترباذي في شرح شافية ابن الحاجب: «فأراهط جمع رَهْط، وكان ينبغي أن يكون جمع أرْهُطٍ، قيل: وجاء أرهط،

فهو إذاً قياس) 2/ 205.

(2)

ينظر: القول في المسألة، المفصل في صنعة الإعراب، الزمخشري، ص 296 وشرح المفصل، ابن يعيش، 4/ 15.

(3)

الكواكب الدراري، 3/ 74.

ص: 444

أَشَدُّ مُوَافَقَةً لِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقَلْبِهِ {لِيُوَاطِئُوا} لِيُوَافِقُوا»

(1)

.

قال الكرماني: «وِطاء بكسر الواو وبالهمزة بعد الألف على وزن فعال، ظاهر أنه بمعنى المواطأة، وبفتح الواو وسكون الطاء بمعنى الموَاطْأة غير قياسي»

(2)

.

‌3 - بيان الممنوع من الصرف:

الممنوع من الصرف: «وهو اسم معرب لا يدخله تنوين التمكين، ويجر بالفتحة نيابة عن الكسرة، إلا إذا أضيف أو أدخلته أل فإنه يجر بالكسرة»

(3)

. مثاله: قال الكرماني في اسم: (جبريل) عليه السلام، ومنع الصرف فيه للتعريف والعجمة

(4)

»

(5)

.

وإن كان الاسم يحتمل المنع من الصرف وعدمه يذكره الكرماني، وينقل آراء العلماء في ذلك مثال ذلك اسم المكان (مِنى) «الجوهري: مِني مقصور موضع بمكة وهو مذكر يصرف، فإن قلت هو علم للبقعة فيكون غير منصرف، قلت لما استعمل منصرفا فاعلم أنهم جعلوه علما للمكان، النووي: فيه لغتان

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: التهجد، بَاب: قِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ وَنَوْمِهِ وَمَا نُسِخَ مِنْ قِيَامِ.

(2)

الكواكب الدراري، 6/ 195.

(3)

التطبيق النحوي، الدكتور عبده الراجحي، ص 391.

(4)

والمعرفة: شرطها أن تكون علميّة، العجمة: شرطها أن تكون علميّة في العجميّة، وتحرّك الأوسط، أو زيادة على الثلاثة، الكافية في علم النحو، ابن الحاجب، 1/ 12.

(5)

الكواكب الدراري، 1/ 185.

ص: 445

الصرف والمنع ولهذا يكتب بالألف والياء الأجود صرفها وكتائبها بالألف سميت بها لما يمني بها من الدماء أي يراق»

(1)

.

وذكر الكرماني كذلك ما يجوز فيه المنع من الصرف من عدمه مثل: هند، وعفان، وذوي طُوى، وقباء

(2)

.

‌خامساً الاهتمام بالبلاغة:

كثيرة هي الأمور البلاغية التي اهتم بها الكرماني، قال في مقدمة شرحه:«وتعرّضت لبيان خواصّ التراكيب، بحسب علم المعاني وإظهار أنواع التصرفات البيانية، من المجاز والاستعارة، والكناية والإشارة، إلى ما يُستفاد منها من القواعد الكلامية»

(3)

.

‌1 - المجاز:

«والمجاز مَأْخُوذ من جَازَ الشَّيْء يجوزه أَي تعداه، وهُوَ اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل فِي غير الْمَوْضُوع لَهُ لمناسبة بَينهمَا سَوَاء قَامَت قرينَة دَالَّة على عدم إِرَادَة الْمَوْضُوع لَهُ أَوْ لَا»

(4)

.

وتارة يُبين الكرماني رحمه الله أن المقصود من اللفظ المعنى المجازي، وليس

(1)

السابق، 2/ 50.

(2)

السابق، ينظر صفحات هذه الأمثلة على حسب ترتيبها المذكور، 2/ 129،

3 -

/ 105، 4/ 149، 5/ 75.

(3)

السابق، 1/ 4.

(4)

دستور العلماء جامع العلوم في اصطلاحات الفنون، القاضي عبد النبي بن

عبد الرسول الأحمد نكري، 3/ 152.

ص: 446

المعنى الحقيقي للفظ، من ذلك: أخرج البخاري في باب: من قعدَ حيث ينتهي بهِ المجلِسُ ومن رأى فرجة في الحلقة: «أنّ رسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ، إِذْ أَقْبَلَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ

«أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللهِ، فَآوَاهُ اللهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا، فَاسْتَحْيَا اللهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ، فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ»

(1)

.

قال الكرماني في قوله: «فآوى إلى الله) واعلم أن الإيواء وهو الإنزال عندك لا يُتصور في حق الله تعالى، وكذلك الاستحياء لأنه تغيّر وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يغم به، وكذا الإعراض لأنه التفات إلي جهة أخري فهي مجازاة عن لوازمها كإرادة إيصال الخير اللازمة للإيواء وترك العقاب، للاستحياء والإذلال للأعراض ونحو ذلك والقاعدة الكلية في هذه الإطلاقات التي لا يمكن حملها على ظواهرها أن يُراد بها غاياتها ولوازمها.

فإن قلت ما العلاقة بين المعني الحقيقي والمعني المجازي. قلت اللزوم. فإن قلت ما القرينة الصارفة عن إرادة الحقيقة. قلت: العقل إذ لا يتصور عقلا صدورها عن الله تعالى

فإن قلت هذا من أي نوع من المجاز. قلت من باب المشاكلة

(2)

»

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، رقم (65).

(2)

المشاكلة: هي من المحسّنات المعنوية وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقا أو تقديرا، (موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، التهانوي،

2 -

/ 1544.

(3)

الكواكب الدراري، 2/ 26.

ص: 447

ومن ذلك حديث: «عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ قَالَ عَبْدُاللهِ رضي الله عنه مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالًا وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»

(1)

قال الكرماني: «وإطلاق الغضب على الله تعالى من باب المجاز، إذ المراد لازمه وهو إرادة إيصال العذاب»

(2)

.

‌2 - الكناية:

الكناية التَّوْرِيَةُ عن الشيء بأن يُعبَّر عنه بغيرِ اسمه، لضرب من الاستحسان، نحوَ قوله تعالى:{كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75]، كنى به عن قَضاء الحَاجة، إذ كان أكْلُ الطعام سببًا لذلك

(3)

.

مثال على ذلك، قال تعالى:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] قال الكرماني: «فإن قلت: هذا الكلام من أي الأساليب إذ النسيان ممتنع على الله سبحانه وتعالى؟ قلت: هو من أسلوب التجوّز أطلق الملزوم وأراد اللازم، إذ نسيان الشيء مستلزم لتركه. فإن قلت لم ما قلت إنه كناية، قلت: لأن شرط الكناية إمكان إرادة معناه الأصلي، وهنا ممتنع وشرطه أيضا المساواة في الملزوم وههما الترك، ليس مستلزما للنسيان إذ يكون الترك بالعمد هذا عند أهل المعاني، وأما عند الأصولي فالكناية أيضا نوع من المجاز»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الرهن، بَاب: إذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ وَنَحْوُهُ فَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، رقم (2349).

(2)

الكواكب الدراري، 11/ 72.

(3)

شرح المفصل لابن يعيش، 3/ 165.

(4)

الكواكب الدراري، 5/ 135.

ص: 448

ومن ذلك حديث: «عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ»

(1)

.

قال الكرماني مبيناً معنى فتح أبواب السماء، وغلق أبواب جهنم:«فتح أبواب السماء كناية من تنزيل الرحمة وإزالة الغلق عن مصاعد أعمال العباد، تارة ببذل التوفيق وأخرى بحسن القبول و (غلق أبواب جهنم) كناية عن تنزّه أنفس الصوّام عن رجس الفواحش والتخلص من البواعث على المعاصي بقمع الشهوات»

(2)

.

‌3 - الحصر:

وهو القصر وهو إثبات الحكم للمذكور ونفيه عمّا عداه

(3)

.

وقد ذكر الكرماني الحصر في شرحه في حديث: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»

(4)

قال الكرماني: «هذا التركيب مفيد للحصر اتفاقا من المحققين، أي لا عمل إلا بالنية فقيل لأن الأعمال جمع محكي باللام مفيد للاستغراق، وهو مستلزم للقصر

(1)

أخرجه البخاري، كتب: الصوم، بَاب: هَلْ يُقَالُ رَمَضَانُ أَوْ شَهْرُ رَمَضَانَ وَمَنْ رَأَى كُلَّهُ وَاسِعًا، رقم (1780).

(2)

الكواكب الدراري، 9/ 84.

(3)

موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، محمد بن علي الحنفي التهانوي

1 -

/ 680.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: بدء الوحي، باب: كيف كان بدءالوحي، رقم (1).

ص: 449

إذ معناه كل عمل بالنية فلا عمل إلا بالنية، وإلا فلا يصدق كل عمل بالنية وأما إنما فلا تفيد إلا التأكيد وعليه بعض الأصوليين»

(1)

.

ثم ذكر الكرماني الخلاف فيه هل هو بالمنطوق، أم بالمفهوم؟ «وقيل إنما للحصر فقيل إنما إفادته له بالمنطوق، وقيل بالمفهوم ووجهه بأن إنّ للإثبات

وما للنفي فيجب الجمع بينهما، وليس كلاهما متوجهين إلى المذكور، ولا إلى غير المذكور بل الإثبات متوجه إلى المذكور، والنفي إلى غير المذكور إذ لا قائل بالعكس اتفاقا»

(2)

.

ومن ذلك حديث السيدة عائشة رضي الله عنها: «عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قَالَتْ فَقُلْتُ مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ فَقَالَ أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً فَإِنَّكِ تَقُولِينَ لَا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى قُلْتِ لَا وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ قَالَتْ قُلْتُ أَجَلْ وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ»

(3)

.

قال الكرماني ناقلاً عن العلماء الحصر في قول السيدة عائشة رضي الله عنها «مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ» قال الطيبي

(4)

: «هذا الحصر غاية من اللطف؛ لأنها أخبرت أنها

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 17.

(2)

السابق، 1/ 17.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: النكاح، بَاب: غَيْرَةِ النِّسَاءِ وَوَجْدِهِنَّ، رقم (4899).

(4)

الحسين بن محمد بن عبدالله الطيبي الإمام المشهور، كان كريما متواضعا حسن المعتقد شديد الرد على الفلاسفة والمبتدعة مظهرا فضائحهم، وكان معظماً للشريعة، مقبلاً على العلم، في استخراج دقائق القرآن والسنة النبوية، له شرح المشكاة، (ت 743 هـ). الدرر الكامنة، 2/ 185 - 186، وبغية الوعاة، 1/ 522.

ص: 450

إذا كانت في غاية الغضب الذي يسلب العاقل اختياره لا يغيرها عن كمال

المحبة المستغرقة ظاهرها وباطنها الممتزجة بروحها، وإنما عبّرت عن

الترك بالهجران لتدل به على أنها تتألم من هذا الترك الذي لا اختيار لها. وقال الشاعر:

إني لأمنحُكَ الصُدودَ وإنني

قَسَماً إليكَ مع الصُّدودِ لأَمّيَلُ

(1)

»

(2)

* * *

‌المبحث الثالث

منهج الكرماني في تناول الأحكام الفقهية

يظهر اهتمام الكرماني في شرحه بالأحكام الفقهية، وعرض أدلتها ومناقشتها، مستدلاً بأقوال الفقهاء والأصوليين، مما يدل على سعة علمه واطلاعه ليس في علم الحديث فحسب بل في كل علوم الشريعة، ويُعد الإمام الكرماني رحمه الله تعالى من الفقهاء، فقد نقل عن الكرماني من أصحاب المصنفات في الفقه الشافعي الذين جاءوا من بعده نقلوا عنه من شرحه أمثال: نهاية المحتاج إلى شرح

(1)

البيت من قصيدة للأَحْوص بن مُحمد الأنصاري، مطلعها، يا بيتَ عاتكةَ التي أتَعزلُ .... حَذَرَ العِدا وبه الفؤادُ موكَّلُ، ينظر: لباب الآداب، أبو منصور عبد الملك الثعالبي النيسابوري، 1/ 167،

(2)

الكواكب الدراري، 19/ 165، وينظر قول الطيبي في: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح المسمى ب (الكاشف عن حقائق السنن) 7/ 2328.

ص: 451

المنهاج

(1)

، لشمس الدين الرملي

(2)

، وفتوحات الوهاب بتوضيح شرح منهج الطلاب المعروف بحاشية الجمل

(3)

، لسليمان بن عمر الأزهري المعروف بالجمل

(4)

وكذلك: تحفة الحبيب على شرح الخطيب، حاشية البجيرمي

(5)

على الخطيب

(6)

وغيرها من المصنفات.

(1)

ينظر: 3/ 92، 3/ 95، 6/ 54.

(2)

محمد بن أحمد بن حمزة، شمس الدين الرمليّ: فقيه الديار المصرية في عصره، ومرجعها في الفتوى. يقال له: الشافعيّ الصغير. نسبته إلى الرملة. ولي إفتاء الشافعية. وجمع فتاوى أبيه له: عمدة الرابح شرح على هدية الناصح في فقه الشافعية، و (غاية البيان في شرح زبد ابن رسلان وغاية المرام في شرح شروط الإمامة لوالده، ينظر: الإعلام، الزركلي، 6/ 7.

(3)

ينظر 1/ 495، 2/ 256، 3/ 594.

(4)

سليمان بن عمر بن منصور العجيلي الأزهري، المعروف بالجمل، مفسر، من فقهاء الشافعية، مشارك في بعض العلوم، من أهل منية عجيل، وانتقل إلى القاهرة، وتفقه على شيوخ وقته، له حاشية على تفسير الجلالين، (ت 1204 هـ) ينظر: معجم المفسرين، من صدر الإسلام وحتى العصر الحاضر، عادل نهويض، 1/ 217، وعمركحالة المؤلفين، عمر كحالة، 4/ 271.

(5)

سليمان بن محمد بن عمر البجيرمي: فقيه مصري. ولد في بجيرم تعلم في الأزهر، ودرّس، وكف بصره. له (التجريد وهو حاشية على شرح المنهج في فقه الشافعية، و (تحفة الحبيب حاشية على شرح الخطيب، المسمى بالإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، (ت 1221 هـ)، ينظر: الأعلام، الزركلي، 3/ 133، ومعجم المؤلفين، 4/ 275.

(6)

ينظر: 2/ 420، 3/ 295.

ص: 452

ويتلخص منهج الكرماني في تناوله للأحكام الفقهية بما يأتي:

‌1 - عرض الأقوال في المسألة الفقهية

وأدلة الفقهاء عليها.

2 -

منهجه في ترجيح الأقوال.

3 -

الاستدلال بالقواعد الفقهية.

4 -

يعرض أقوال الفقهاء من غير الأئمة الأربعة.

5 -

بيان عقيدة الأشاعرة.

6 -

الرد على أهل الفِرق في العقيدة.

7 -

بيان رأي الإمام البخاري الفقهي.

8 -

بيان بعض الفوائد الفقهية.

9 -

بيان بعض اللطائف الواردة في المتن.

1 -

عرض الأقوال في المسألة الفقهية:

بعد أن يُنهي الإمام الكرماني كلامه فيما يتعلق بالسند، وغريب الحديث يبدأ بعرض أقوال الفقهاء المستنبطة من الحديث فتارة يعرض الأقوال في المسألة وينسبها إلى أصحابها من دون أن يرجح بينها وذلك عند نقله لأقوال العلماء في عدد الرضعات المحرمات «قال مالك

(1)

وأصحاب أبي حنيفة

(2)

رضي الله عنهم قليل الرضاع وكثيره سواء في التحريم، وداود

(3)

وأبو ثور أقله ثلاث رضعات،

(1)

ينظر الذخيرة للقرافي، 4/ 274.

(2)

ينظر بدائع الصنائع وترتيب الشرائع، لعلاء الدين الكاساني،/ 7، والبناية شرح الهداية، لبدر الدين العيني، 5/ 258.

(3)

داود بن علي بن خلف، أبو سليمان البغدادي الإصبهاني، مولى المهدي، الفقيه الظاهري، رأس أهل الظاهر، سمع من إسحاق بن راهويه، ومن غيره، كان ورعاً ناسكاً وزاهداً، (ت 270 هـ)، ينظر: تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام، الذهبي، 6/ 327.

ص: 453

والشافعي

(1)

وأحمد

(2)

خمس رضعات وقد رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان فيما أُنزل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر رضعات يُحرمن فنُسخت بخمس رضعات

(3)

».

ومرة ينقل الكرماني، قول أحد الفقهاء في حكم مسألة ما من دون أن يزيد عليه من ذلك القول في مسألة فك الضفيرة عند الاغتسال من الجنابة قال الكرماني ناقلا عن ابن بطال المالكي القول في المسألة «قال ابن بطال

(4)

: اختلفوا في نقض المرأة شعرها للاغتسال، فرويَ عن ابن عمر أنه كان يأمر النساء بالنقض، وقال طاووس تنقض الحائض لا الجنب، وقال الجمهور

(5)

ليس عليها النقض مطلقاً، والمرأة إذا أوصلت الماء إلى أصول شعرها وعمته بالغسل أنها

قد أدت ما عليها، وحجتهم حديث أم سلمة أنها قالت يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه للجنابة قال لا إنما يكفيك أن تحثي عليه ثلاث

(1)

ينظر: الأم للشافعي، 5/ 28.

(2)

ينظر: الإرشاد إلى سبيل الرشاد، محمد البغدادي، 1/ 314.

(3)

أخرجه مسلم، كتاب: الرضاع، بَابُ: التَّحْرِيمِ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ، رقم (24).

(4)

شرح ابن بطال على البخاري، 1/ 477.

(5)

ينظر قول الفقهاء في المسألة، المبسوط، محمد بن أحمد السرخسي، 1/ 45، والفواكه الدواني، 1/ 149، والحاوي الكبير، 1/ 224، والكافي في فقه الإمام أحمد،

1 -

/ 114.

ص: 454

حثيات

(1)

، وحديث عائشة أصح إسناداً غير أن العمل عند الفقهاء على حديث أم سلمة، وجمع حمّاد بين الحديثين فقال: إن كانت ترى أن الماء أصاب أصول الشعر أجزأ عنها، وإن كانت ترى أنه لم يصب فلتنقضه»

(2)

.

وقد اعتاد الفقهاء أن يقولوا عن حديث ما أنه أصل في مسألة كذا، أو العمدة في المسألة الفلانية، وقد ذكر الكرماني أن حديث أنصبة الزكاة، «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ»

(3)

.

وقال أنه أصل في بيان مقادير الزكاة، وراح يذكر الحكم الفقهي في مقاديرالزكاة، المتفق عليه عند الفقهاء فقال:«وهذا الحديث أصل في بيان مقادير أنصبة الأموال التي تجب فيها الزكاة، فنصاب الفضة مائتا درهم، ونصاب الإبل خمسة ونصاب الحبوب والثمار التي توسق ستون صاعاً»

(4)

.

(1)

«عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي فَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ؟ قَالَ: «لَا. إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ» أخرجه مسلم، كتاب: الحيض، بَابُ: حُكْمِ ضَفَائِرِ الْمُغْتَسِلَةِ، رقم (58).

(2)

الكواكب الدراري، 3/ 183 - 184.

(3)

أحرجه البخاري: كتاب: الزكاة، باب: مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ، رقم (1325).

(4)

ينظر: تحفة الفقهاء، السمرقندي، 1/ 322، النهر الفائق، 1/ 421، 437، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد، ابن رشد القرطبي، 2/ 16، والفواكه الدواني، 1/ 327 و 341، والمجموع للنووي، 6/ 16، وحاشية البجيرمي على الخطيب، 2/ 338، والإرشاد إلى سبيل الرشاد، 1/ 131.

ص: 455

‌2 - منهجه في ترجيح الأقوال:

وتارة يبّين المسألة الفقهية ويقارن بين أقوال الفقهاء مرجحاً من كان دليله أقوى من ذلك كما فعل في أقوال العلماء في مسألة ترتيب أعمال يوم النحر بالنسبة للحاج.

قال الكرماني: «واختلف العلماء في ترتيب هذه الأربعة على الترتيب المذكور، في أنه سنة لا شيء في تركه، أو واجب يتعلق الدم بتركه، إلى الأول ذهب الشافعي

(1)

رحمه الله تعالى، وأحمد

(2)

وإلى الثاني ذهب مالك

(3)

وأبو حنيفة

(4)

؛ وأولو قوله لا حرج على رفع الإثم دون الفدية، والصحيح عدم الوجوب إذ لا حرج معناه لا شيء عليك مطلقاً من الإثم لا في ترك الترتيب ولا في ترك الفدية وقد صرح في بعض الروايات بتقديم الحلق على الرمي»

(5)

.

ويؤكد الكرماني أدلة الفقهاء فيما اتفقوا وأجمعوا عليه، مبيناً وجه الاستدلال، من الدليل والقرائن وحسن الاستنباط وذلك في مسألة غسل الرجلين إلى الكعبين في الوضوء، في حديث ابن عمر رضي الله عنهما وفيه:«فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ «وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» . مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثاً»

(6)

.

(1)

ينظر الحاوي الكبير، 4/ 192.

(2)

ينظر المغني، ابن قدامة، 3/ 397.

(3)

ينظر الفواكه الدواني، 1/ 364.

(4)

ينظر النهر الفائق، 2/ 130.

(5)

الكواكب الدراري، 2/ 64.

(6)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: من رفع صوته بالعلم، رقم (95).

ص: 456

فقال ناقلا عن محيي السنة البغوي: «وفيه دليل على وجوب غسل الرجلين في الوضوء، وأقول وجه الاستدلال به أن الوعيد بالنار لعدم طهارتها، ولو كان المسح كافيًا لما أوعد من ترك غسل العقب بالنار، أو لأن من قال بالمسح قال بالوجوب مسح الأعقاب فدل على أن المراد الغسل، وإنما قال يمسح إشارة إلى تقليل استعمال الماء فيه وعدم الإسباغ، أو أراد بالمسح الغسل لما روى عن أبي زيد الأنصاري أنه قال المسح في كلام العرب قد يكون غسلاً ومنه يقال مسح الله ما بك أي غسل عنك وطهرك»

(1)

.

ثم يُكمل الكرماني ترجيح غسل الرجلين، بدليل التأويل، واللغة،

وما نقله الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.

«فإن قلت ظاهرة القرآن {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] بالخفض يدل على وجوب المسح عليهما.

قلت: قراءة الجر تعارض قراءة النصب فلا بد من تأويل وتأويل الجر بأنه على المجاورة، كقولهم جُحر ضَب خرب أولى من تأويل النصب بأنه محمول على محل الجار والمجرور لأنه الموافق للسنة الثابتة الشائعة فيجب المصير إليه، وأخصر الاستدلالات عليه أن جميع من وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن متعددة متفقون على غسل الرجلين»

(2)

.

وقد يبيّن الكرماني مراد الفقهاء من مسألة ما بالاستشهاد لها من حديث

(1)

السابق، 2/ 8، وينظر: قول محيي السنة البغوي، في شرح السنة، 1/ 429.

(2)

الكواكب الدراري، 2/ 8.

ص: 457

آخر كما بين الحكم في مسألة الأكل في آواني الكفار: «فإن قلت قال الفقهاء: يجوز استعمال أوانيهم بعد الغسل بلا كراهة؛ سواء وجد غيرها أم لا، وهذا يقتضي كراهة استعمالها إن وجد غيرها

(1)

قلت: المراد النهي في الآنية التي كانوا يطبخون فيها لحوم الخنازير ويشربون فيها الخمور، وإنما نهى عنها بعد الغسل للاستقذار وكونها معتادة للنجاسة، ومراد الفقهاء أواني الكفار التي ليست مستعملة في النجاسات غالباً وذكره أبو داود

(2)

في سننه صريحاً»

(3)

.

ومن القرائن التي كان يستشهد بها الكرماني في ترجيح الأقوال، هي تفسير الراوي للحديث، أو بيان لفظة منه، لأنه أدرى بها، قال أبو الحسن الآمدي

(4)

، وهو يتكلم عن الترجيحات العائدة إلى أمر خارج: «

الثالث عشر: أن يقترن بأحد الخبرين تفسير الراوي بفعله أو قوله، فإنه يكون مرجحا

(1)

ينظر أقوال الفقهاء في المسألة، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، شمس الدين أبو عبدالله محمد الرُّعيني المالكي، 1/ 122، المجموع، النووي، 1/ 261، والكافي في فقه الإمام أحمد، ابن قدامة، 1/ 47.

(2)

أخرج أبو داوود في سننه، كتاب: الأطعمة، بَابُ: الْأَكْلِ فِي آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ، رقم (3838)، «عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنُصِيبُ مِنْ آنِيَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَسْقِيَتِهِمْ فَنَسْتَمْتِعُ بِهَا، فَلَا يَعِيبُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ» ».

(3)

الكواكب الدراري، 20/ 80.

(4)

علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي، أبو الحسن الآمدي، أحد أذكياء العالم، كان حنبيلياً، ثم تحول إلى مذهب الشافعي، تفنن في علم النظر وأحكم الأصلين والفلسفة وسائر العقليات، له مصنفات كثيرة، منها: الإحكام في أصول الفقه، والأبكار في أصول الدين، (ت 631 هـ)، طبقات الشافعية الكبرى، السبكي، 8/ 306، 307.

ص: 458

على ما ليس كذلك؛ لأن الراوي للخبر يكون أعرف وأعلم بما رواه»

(1)

.

مثاله، أخرج البخاري: (عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَكَانَ بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الْجَزُورَ إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ ثُمَّ تُنْتَجُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا»

(2)

.

قال الكرماني: «واختفوا في المراد منه، فقال الشافعي: هو البيع بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة، ويلد ولدها، وهو ما فسر به ابن عمر، وقيل هو بيع ولد ولد الناقة وهذا أقرب لفظا، لكن الأول أقوى؛ لأنه تفسير الراوي وهو أعرف به، قال المحققون تفسير الراوي مقدم إذا لم يخالف الظاهر»

(3)

.

فقول ابن عمر وهو تفسير الراوي (كَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الْجَزُورَ إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ ثُمَّ تُنْتَجُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا) وهو الذي رجحه الشافعي.

ومن ذلك ترجيح تفسير الراوي في معنى القزع، «وهو أن يحلق رأس الصبي ويترك في مواضع منه الشعر متفرقا»

(4)

.

ومن القرائن التي كان يعتمدها في ترجيح الأقوال هو: زيادة الثقة، مثاله:

(1)

الإحكام في أصول الأحكام، لأبي الحسن، علي الآمدي، 4/ 267، والاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار، لأبي بكر محمد الحازمي الهمداني، ص 18.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: البيوع، بَاب: بَيْعِ الْغَرَرِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ، رقم (2012).

(3)

الكواكب الدراري، 10/ 28.

(4)

السابق، 21/ 121، وينظر تهذيب اللغة في معنى القزع، فقد بين الهروي المعنى الذي ذكره أبو عبيد في الحديث، 1/ 127.

ص: 459

أخرج البخاري: عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ، وَأَنْ يُوتِرَ الإِقَامَةَ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ: فَذَكَرْتُ لأَيُّوبَ، فَقَالَ: إِلاَّ الإِقَامَةَ»

(1)

.

قال الكرماني مرجحاً إفراد الإقامة: «فقال إلا الإقامة أي زاد في آخر الحديث هذا الاستثناء.

قال المالكية: عمل أهل المدينة خلفاً عن سلف على إفراد الإقامة، ولو صحت زيادة أيوب، وما رواه الكوفيون من تثنية الإقامة جاز أن يكون ذلك في وقت ما، ثم ترك العمل به أهل المدينة على الآخر الذي استقر الأمر عليه. والجواب: أن زيادة الثقة مقبولة وحجة بلا خلاف، وأما عمل أهل المدينة فليس بحجة، مع أنه معارض بعمل أهل مكة وهي مجمع المسلمين في المواسم وغيرها»

(2)

.

الحاصل أن الحديث ذكر أن الإقامة تكون وتراً، إلا لفظ قد قامت الصلاة فإنه يكرره مرتين للزيادة التي ذكرها أيوب: إلا الإقامة.

يقول الإمام الخطابي في معالم السنن عن إفراد الإقامة: «وهو مذهب أكثر علماء الأمصار، وجرى به العمل في الحرمين والحجاز وبلاد الشام، واليمن وديار مصر ونواحي المغرب إلى أقصى حجر من بلاد الإسلام. وهو قول الحسن البصري ومكحول، والزهري ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الأذان، بَابُ: الإِقَامَةُ وَاحِدَةٌ إِلاَّ قَوْلَهُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، رقم (584).

(2)

الكواكب الدراري، 5/ 6 - 7.

ص: 460

وإسحاق بن راهويه وغيرهم»

(1)

.

ومن القرائن التي يستدل بها الكرماني في مناقشة الآراء الفقهية وترجيح بعضها على بعض هو مخالفة الراوي لما رواه

(2)

.

فذهب الحنفية إلى أن القول قول الراوي، وذهب غيرهم أن العمل بالخبر، وترك مخالفة الراوي

(3)

.

مثاله: أخرج البخاري:

«عن عائشة رضي الله عنها قالت الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر قال الزهري فقلت لعروة ما بال عائشة تتم قال تأولت

ما تأول عثمان»

(4)

.

بين الكرماني أن الحنفية استدلوا من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها، على وجوب قصر صلاة المسافر

(5)

، فرد عليهم وقال: «لا دلالة فيه لأنهم لو كان

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 152.

(2)

سيأتي الكلام عن حكم مخالفة الراوي لماروى في قسم العلل.

(3)

نفائس الأصول في شرح المحصول شهاب الدين القرافي، 7/ 2997.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: التقصير، باب: يقصر إذا خرج من موضعه، رقم (1033).

(5)

شرح مختصر الطحاوي، لأبي بكر الرازي الجصاص، 2/ 91. وقال الجمهور بعدم وجوب قصر الصلاة في السفر، وأن الأصل هو الإتمام، والقصر رخصة، والقصر سنة عند المالكية، والقصر أفضل عند الشافعية، والحنابلة ينظر: مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، شمس الدين، شمس الدين الحطاب الرُعيني، المجموع، النووي، 4/ 321، الكافي في فقه الإمام أحمد، ابن قدامة المقدسي، 1/ 309.

ص: 461

الحديث مجرى على ظاهره لما جاز لعائشة رضي الله عنها إتمامها ثم أنه خبر واحد لا يعارض لفظ القرآن وهو (أن تقصروا من الصلاة) الصريح في أنها كانت في الأصل زائدة عليه إذ القصر معناه التنقيص ثم إن الحديث مخصص بالمغرب والصبح وحجية العام المخصص مختلف فيها ثم إن راوية الحديث عائشة وقد خالفت روايتها وإذا خالف الراوي روايته لا يجب العمل بروايته عندهم»

(1)

.

ومن منهج الكرماني كذلك أنه كان يرد على من ضعّف قول الشافعي، من غير الشافعية من ذلك (حكم الصلاة في مرابض الغنم) في حديث:«عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ بَعْدُ يَقُولُ كَانَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ قَبْلَ أَنْ يُبْنَى الْمَسْجِدُ»

(2)

.

قال الكرماني ناقلاً عن ابن بطال المالكي: «قال ابن بطال: قال الشافعي

لا أكره الصلاة في مرابض الغنم إذا كان سليماً من أبوالها وأبعارها

(3)

، قال وهذا الحديث حجة على الشافعي

(4)

لأن قول أنس كان يصلي في المرابض لم يخص مكاناً من مكان، ومعلوم أن مرابضها لا تسلم من الأبوال والأبعار فدلَّ على أن الأبوال والأبعار طاهرة

(5)

.

(1)

الكواكب الدراري، 6/ 165.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في مرابض الغنم، رقم (421).

(3)

ينظر الحاوي الكبير، 1/ 206.

(4)

يقصد ابن بطال أن الحديث حجة على الشافعي بطهارة بول وروث مأكول اللحم، الذي قال الشافعي بنجاسته.

(5)

هذا على رأي المالكية الذين يقولون بطهارة بول وروث الحيوان مأكول اللحم وهو رأي الحنابلة ومحمد بن الحسن وزفر من الحنفية قالوا بطهارتهما في حياة الحيوان أو بعد ذكاته، وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أن بول ما يؤكل لحمه نجس نجاسة خفيفة، أما روثه فهو عند أبي حنيفة نجس نجاسة غليظة، وعند أبي يوسف نجاسته خفيفة، وذهب الشافعية إلى أن بول الحيوان المأكول اللحم نجس وكذلك روثه، وكذا ذرق الطير، ينظر الموسوعة الفقهية الكويتية، 40/ 90/ 91.

ص: 462

أقول أي الكرماني ليس حجة عليه لأن عدم السلامة منهما ظاهر، والأصل الطهارة وقد تقرر في موضعه أن الأصل والظاهر إذا تعارضا تقدم الأصل، ثم إنه لم يدل على عدم الحائل بين المصلي وبين الأرض، فقد يفرش عليها نحو السجادة ثم يصلي عليها، أو أن نجاستها ووجوب احتراز المصلي عن النجاسة معلومة من دليل آخر»

(1)

.

وأوحياناً يبيّن أن الحديث حجة على من خالفه الرأي، من ذلك عند الكلام عن الحكم في:(بداية وقت العصر) قال البخاري: «عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ ثُمَّ يَخْرُجُ الإِنْسَانُ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَنَجِدُهُمْ يُصَلُّونَ الْعَصْرَ»

(2)

قال الكرماني: «قال النووي

(3)

: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجل فى كونها أول وقتها ولعل تأخيرهم لكونهم كانوا أهل أعمال فى زروعهم وحوائطهم فإذا فرغوا من أعمالهم تأهبوا للصلاة بالطهارة وغيرها، ثم اجتمعوا لها فتتأخر صلاتهم إلى وسط الوقت.

(1)

الكواكب الدراري، 4/ 91.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: وقت العصر، رقم (524).

(3)

في شرحه على مسلم، 5/ 122 - 123.

ص: 463

قال وهذا الحديث حجة على الحنفية حيث قالوا لا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل الشاء مثليه

(1)

»

(2)

.

وكان الكرماني رحمه الله تعالى يُبيّن أدلة الشافعية وحجتهم في المسألة، مختصراً القول في المسألة بعد عرض أقوال الأئمة، من ذلك بيان حكم البسملة هي من الفاتحة أم لا؟ في حديث النبي صلى الله عليه وسلم:«عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»

(3)

.

قال الكرماني: «واستدل به مالك وغيره

(4)

ممن يقول أن البسملة ليست من الفاتحة وأوّله الشافعي بأن معناه كانوا يبتدئون الصلاة بقراءة الفاتحة قبل السور، فالمراد بيان السورة ابتُدئ بها، وليس معناه أنهم كانوا لا يقرأون بسم الله إذ هو كما يقال قرأت البقرة وآل عمران، ويُراد السورة التي يُذكر فها البقرة وآل

(1)

ينظر: النهر الفائق شرح كنز الدقائق، ورأي الجمهور أن وقت العصر يبدأ إذا صار ظل كل شيء مثله، ينظر: التاج والإكليل، 2/ 19، والأم للشافعي، 1/ 91، والكافي في فقه الإمام أحمد، 1/ 88.

(2)

الكواكب الدراري، 4/ 195.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الآذان، باب: مَا يَقُولُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ، رقم (712).

(4)

ينظر: شرح التلقين، محمد بن علي المازري، 1/ 573، ووافق الحنابلة رأي المالكية، ينظر المغني لابن قدامة، 1/ 346، ويرى الأحناف أنه يُسن أن تُقرأ البسملة سراً في الصلاة الجهرية والسرية. ينظر البناية شرح الهداية، 2/ 192، وقال الشافعية أنها آية من الفاتحة ويجب قراءتها في الصلاة، يُجهر بها في الصلاة الجهرية، ويُسر بها في الصلاة السرية، ينظر: المجموع، 3/ 334.

ص: 464

عمران مع قطع النظر عن حكم البسملة وقد قامت الأدلة على أن البسملة منها»

(1)

.

وكان يعبر عن رأي السادة الشافعية بقوله ومذهبنا

(2)

، وبقوله مذهب أصحابنا

(3)

، وتارة يقول: قال أصحابنا الشافعية

(4)

، أو إذا أراد أن ينقل عن علماء المذهب الشافعي يقول: قال بعض أصحابنا

(5)

.

وكان من منهج الكرماني رحمه الله تعالى يعرض أقوال العلماء في المعنى المقصود من الحديث، ثم يُرجّح أحياناً مايراه أقوى، مثاله:

أخرج البخاري: «عن أبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً قَالَ أَحْسِبُهُ قَالَ هُنَيَّةً فَقُلْتُ بِأَبِي وَأُمِّي

يَا رَسُولَ اللهِ إِسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ قَالَ أَقُولُ اللهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ اللهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ»

(6)

.

قال الكرماني: «و (البرد) بفتح الراء هو أيضا هو حب الغمام. فإن قلت

(1)

الكواكب الدراري، 5/ 111.

(2)

الكواكب الدراري: 2/ 212، 2/ 214، 4/ 46، 6/ 6.

(3)

السابق، 1/ 205.

(4)

السابق، 4/ 47، 1/ 158.

(5)

السابق، 1/ 168، 2/ 212، 3/ 131.

(6)

أخرجه البخاري، كتاب: الأذان، باب: مَا يَقُولُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ، رقم (713).

ص: 465

الغسل البالغ إنما يكون بالماء الحار فلم ذكر ذلك.

فنقل أقوال العلماء في المعنى أن ذلك هو للمبالغة في التطهير وهو قول محيي السنة، أو أنهما مبالغة في التطهير وأن والثلج والبرد ماءان لم تمسهما الأيدي ولم يمتهنهما إستعمال فكان ضرب المثل بهما أوكد، وهو قول الخطابي، أو أن أنواع هذه المطهرات من السماء لايمكن الحصول على الطهارة الكاملة إلا بأحدها لأن المغفرة أنواع، فطهرني يارب من الخطايا بأنواع مغفرتك التي هي في تمحيص الذنوب بمثابة هذه الأنواع الثلاثة في إزالة الأرجاس ورفع الأحداث، وهو قول التوربشتي، أو أن ذكر الثلج والبَردَ بعد الماء، هو طلب شمول الرحمة بعد المغفرة، وهو قول الطيبي.

ثم رجح الكرماني فقال أن الأقرب أن الخطايا موجبة لنار جهنم، فعبّر عن إطفاء حرارتها بالماء، وبالغ في استعمال ما هو أبرد من الماء على الترتيب الثلج ثم البَرَد لجموده

(1)

.

‌3 - الاستدلال بالقواعد الفقهية:

كما أن الإمام الكرماني رحمه الله تعالى كان يستدل بالقواعد الفقهية في عرضه للآراء الفقهية

تعريف القاعدة الفقهية: بمعنى الضابط، وهي الأمر الكلي المنطبق على جميع جزئياته، فالقاعدة: قضية كلية يدخل تحتها جزئيات كثيرة، وتحيط بالفروع والمسائل من الأبواب المتفرقة»

(2)

.

(1)

ينظر الكواكب الدراري، 5/ 112.

(2)

القواعد الفقهية وتطبيقاتها على المذاهب الأربعة، د. محمد مصطفى الزحيلي، 1/ 19.

ص: 466

من ذلك في حديث: «عَبْدِاللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ، أَوْ ذَنُوباً مِنْ مَاءٍ

»

(1)

.

فبيّن الكرماني في قاعدة ارتكاب أخف الضررين في قول النبي صلى الله عليه وسلم دعوه: «وفيه دفع أعظم الضررين

(2)

باحتمال أخفهما، وقال العلماء كان قول النبي صلى الله عليه وسلم دعوه لمصلحتين إحداهما: أنه لو قطع عليه بوله لتضرر به، وأصل التنجيس قد حصل فكان احتمال زيادته أولى من إيقاع الضرر به، والثانية أن التّنجيس قد حصل في جزء يسير من المسجد، فلو أقاموه أثناء بوله لتنجست ثيابه وبدنه ومواضع كثيرة في المسجد»

(3)

.

ومن ذلك قاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات)

(4)

في استثناء

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: صب الماء على البول في المسجد، رقم (219).

(2)

وتوضيح هذه القاعدة: إن الشريعة جاءت لمنع المفاسد، فإذا وقعت المفاسد فيجب دفعها ما أمكن، وإذا تعذر درء الجميع لزم دفع الأكثر فساداً فالأكثر، لأن القصد تعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، فإذا اضطر إنسان لارتكاب أحد الفعلين الضارين، دون تعيين أحدهما، مع تفاوتهما في الضرر أو المفسدة، لزمه أن يختار أخفهما ضرراً ومفسدة، القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة د. محمد مصطفى الزحيلي، 1/ 226.

(3)

الكواكب الدراري، 3/ 219.

(4)

ومعنى هذه القاعدة: والضرورة هي بلوغ الحد الذي إذا لم يتناول معه، الممنوع حصل الهلاك للمضطر أو قريب منه، كفقد عضو أو حاسة من الحواس، فهذه هي الضرورة الشرعية ويشترط في هذه القاعدة نقصان المحظورات عن الضرورات، فإن لم ينقص المحظور فلا يباح، القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة د. محمد مصطفى الزحيلي، 1/ 176، وانظر: شرح القواعد الفقهية أحمد بن الشيخ محمد الزرقا، ص 185.

ص: 467

النبي صلى الله عليه وسلم، شجر الإذخر إذ جعله النبي صلى الله عليه وسلم حلالاً بقطعه من مكة لعدم استغناء الناس عنه، قال الكرماني:«لما علم أنه محتاج إليه استثنى بحكم الضرورات تبيح المحظورات»

(1)

.

ومن ذلك العمل بقاعدة: (إذا ضاق الأمراتسع)

(2)

القول في الذبابة التي علق برجليها النجاسة ثم وقعت على ثوب الرجل، قال الكرماني:«وقال سفيان الثوري لم نجد في أمر الماء إلا السعة وقال الربيع بن سليمان: وسئل الشافعي عن الذبابة تقع في النتن ثم تطير وتقع على ثوب الرجل، فقال: يجوز أن يكون في طيرانها ماييبّس ما برجلها فإن كان كذلك، وإلا فالشيء إذا ضاق اتسع»

(3)

.

ومنه العمل بقاعدة: (اليقين لا يزول بالشك)

(4)

، في حديث: «عَنْ عَبَّادِ

(1)

الكواكب الدراري، 2/ 124.

(2)

ومعنى هذه القاعدة: إذا ظهرت مشقة في أمر فإنه يرخص فيه ويوسع، وهذه القاعدة قريبة المعنى من قاعدة: المشقة تجلب التيسير ومتفرعة عنها، والأصل فيها قوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة د. محمد مصطفى الزحيلي، 1/ 172.

(3)

الكواكب الدراري، 3/ 71.

(4)

ومعنى هذه القاعدة: من شك هل فعل شيئاً أو لا، فالأصل أنه لم يفعله، ومن تيقن الفعل وشك في القليل أو الكثير عمل على القليل، لأنه المتيقن، والثابت باليقين

لا ينتقض إلا بيقين مثله، القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة د. محمد مصطفى الزحيلي، 1/ 96.

ص: 468

ابْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ شُكِيَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الرَّجُلُ يَجِدُ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا أَيَقْطَعُ الصَّلَاةَ قَالَ لَا حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَفْصَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ لَا وُضُوءَ إِلَّا فِيمَا وَجَدْتَ الرِّيحَ أَوْ سَمِعْتَ الصَّوْتَ»

(1)

.

قال الكرماني قوله: «وشيئا أي وسوسة في بطلان الوضوء وحاصله أن يقين الطهارة لا يزول بالشك بل يزول بيقين الحدث»

(2)

.

وهناك قواعد فقهية كان الكرماني يلتزمها في شرحها وإن لم يسميها، ولكنّ السياق يدل عليها، مثل قاعدة، (الأصل بقاء ما كان على ما كان)

(3)

وذلك عند الكلام عن ثبوت شهر رمضان وتعذرت رؤية الهلال فيصار إلى التقدير، قال الكرماني: «واختلفوا في هذا التقرير فقيل: معناه قدّروا عدد

الشهر الذي كنتم فيه ثلاثين يوما إذ الأصل بقاء الشهر، وهذا هو المرضي

عند الجمهور وقيل قدّروا له منازل القمر وسيره، فإن ذلك يدل على أن الشهر تسعة وعشرون أو ثلاثون، فقالوا هذا خطاب لمن خصه الله بهذا العلم والوجه

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: البيوع، بَاب: مَنْ لَمْ يَرَ الْوَسَاوِسَ وَنَحْوَهَا مِنْ الشُّبُهَاتِ، رقم (1930).

(2)

الكواكب الدراري، 9/ 188.

(3)

ومعنى هذه القاعدة: أن الواقع أو الحكم الذي ثبت في الزمان الماضي، ثبوتاً أو نفياً، يبقى على حاله، ولا يتغير ما لم يوجد دليل يغيره، أو أن الأس والمعيار في الأمور المتأخرة أن تبنى على الأمور المتقدمة، القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة د. محمد مصطفى الزحيلي، 1/ 129.

ص: 469

هو الأول»

(1)

.

‌4 - يعرض أقوال الفقهاء من غير الأئمة الأربعة:

يذكر الكرماني أحياناً أقوال الظاهرية، ويرد عليهم من ذلك عند الكلام عن حكم من صلى في ديار ثمود وهو غير باك، قال الكرماني ناقلاً عن ابن بطال:

«هذا هو من جهة التشاؤم بالبقعة التي نزل بها سخط وقد تشاءم صلى الله عليه وسلم بالبقعة التي نام عن الصلاة فيها ورحل عنها ثم صلى، فكراهته الصلاة في موضع الخسف أولى لا أن إباحته صلى الله عليه وسلم الدخول فيه على وجه البكاء والاعتبار يدل على أن من صلى هناك لا تفسد صلاته؛ لأن الصلاة موضع بكاء واعتبار، وزعم الظاهرية أن من صلى في بلاد ثمود وهو غير باك فعليه سجود السهو، إن كان ساهياً، وإن تعمد ذلك بطلت صلاته

(2)

، قال وهذا خلف من القول إذ ليس في الحديث ما يدل على فساد صلاة من لم يبك وإنما فيه خوف نزول العذاب

(1)

الكواكب الدراري، 9/ 58.

(2)

إلا أن ابن حزم قال بجواز الصلاة في مواضع الخسف، المحلى، 2/ 400، وقال ابن عبد البر في التمهيد: «وكل ما روي في هذا المعنى من النهي عن الصلاة في المقبرة، وبأرض بابل وفي الحمام وفي أعطان الإبل والخروج من ذلك الوادي وغير ذلك مما في هذا المعنى مما قد تقدم ذكرنا له كل ذلك عندنا منسوخ ومدفوع بعموم قوله صلى الله عليه وسلم جعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا، وقوله هذا صلى الله عليه وسلم مخبرا أن ذلك من فضائله، ومما خص به وفضائله عند أهل العلم لا يجوز عليها النسخ ولا التبديل، ولا النقص) 5/ 218، وحكم الصلاة عند الفقهاء أن الصلاة صحيحة مع الكراهة، ينظر الموسوعة الفقهية الكويتية، 3/ 114.

ص: 470

به»

(1)

.

ومن ذلك: عند الكلام عن حكم البول في الماء الراكد، ينقل عن العلماء قول الظاهرية في المسألة فيقول: «وقالوا ولم يأخذ أحد من الفقهاء بظاهر الحديث إلا داود الظاهري؛ فإنه قال النهي مختص بالبول والغائط، ليس كالبول ومختص ببول نفسه وجائز لغير البائل أن يتوضأ بما بال فيه غيره! وجاز أيضا للبائل إذا بال في إناء ثم صبه في الماء، أو بال بقرب الماء وجرى إليه

(2)

وهذا من أقبح ما نقل عنه في الحمل على الظاهر!»

(3)

.

كما أن الكرماني كان يرد على بعض أهل الفِرَق كالشيعة في مذهبهم الفقهي، فعند الكلام عن نكاح المتعة قال الكرماني: «والعجب من الشيعة أنهم يُجوّزون نكاح المتعة وراوي النهي

(4)

عنها علي رضي الله تعالى عنه»

(5)

.

(1)

الكواكب الدراري، 4/ 95.

(2)

ينظر قول الظاهرية في المحلى بالآثار، لابن حزم الظاهري، 1/ 145، والعجيب بقول ابن حزم أنه قال كذلك:«فلوأراد عليه السلام أن ينهى عن ذلك غير البائل لما سكت عن ذلك عجزا ولا نسيانا ولا تعنيتا لنا بأن يكلفنا علم ما لم يبده لنا من الغيب!» .

(3)

الكواكب الدراري، 3/ 93.

(4)

والحديث هو «عَنْ عَلِيَّ رضي الله عنه قَالَ نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُتْعَةِ عَامَ خَيْبَرَ وَلُحُومِ حُمُرِ الإِنْسِيَّةِ» أخرجه البخاري، كتاب: الصيد والذبائح، باب: لُحُومِ الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ، رقم (5176).

(5)

الكواكب الدراري، 24/ 78.

ص: 471

كما أنه يذكر رأي الخوارج الفقهي، فقال عن طائفة منهم أنهم يوجبون على الحائض قضاء الصلاة وقت الحيض خلاف الإجماع

(1)

، وعدم جواز المسح على الخفين لأن القرآن لم يقل به، كما هو رأي الشيعة الذين يقولون أن علياً رضي الله عنه امتنع منه

(2)

.

وقد بيّن الكرماني اتفاق علماء السنة

(3)

على سنية واستحباب المسح على الخفين، للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام.

ومن منهج الإمام الكرماني رحمه الله تعالى أنه كان يبين رأي هذه الفِرق العَقدي ويرد عليهم من منظور أهل السنة.

‌5 - بيان عقيدة الأشاعرة:

كما مرّ في ترجمة الإمام الكرماني أنه على مذهب أهل السنة «الأشاعرة» فقد قال في ترجمة الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري «والشيخ أبو الحسن الأشعري الذي هو إمام أهل السنة من نسله»

(4)

.

من منهج الكرماني رحمه الله تعالى، أنه كان يقرر مذهب الأشاعرة، في عدة أمور منها:

(1)

ينظر: الإجماع، ابن المنذر، ص 37.

(2)

الكواكب الدراري، 3/ 51.

(3)

ينظر: النهرالفائق، ابن نُجيم، 1/ 115، والتاج والإكليل، محمد بن يوسف، 1/ 465، المجموع، النووي، 1/ 476، والكافي في فقه الإمام أحمد، ابن قدامة، 1/ 71. وقد نقل ابن المنذر الإجماع في جواز المسح على الخف، الإجماع، ص 35.

(4)

الكواكب الدراري، 1/ 91.

ص: 472

‌أولاً عند تعريفه للعقل فقال: «والعقل هو عند أبي الحسن الأشعري العلم ببعض الضروريات الذي هو مناط التكليف»

(1)

.

‌ثانياً تنزيه المولى عز وجل عن المكان، والحركة والنزول:

كما أن الكرماني رحمه الله تعالى، ينفي الجهة والمكان لله عز وجل، فقد قال في حديث:«عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ فِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَأَطْعَمَ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ خُبْزًا وَلَحْمًا وَكَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ تَقُولُ إِنَّ اللهَ أَنْكَحَنِي فِي السَّمَاءِ»

(2)

.

فعند شرحه لعبارة: «إن الله أنكحني في السماء» قال الكرماني معلقاً وموضحاً ما قد يُوهم فهم المقصود: «فإن قلت في السماء قلت: ما المقصود منه إذ الله تعالى منزه عن المكان والجهة قلت: جهة العلو أشرف فيضاف إليه إشارة إلى علو الذات، والصفات وليس ذلك باعتبار أنه محله أو جهته؛ تعالى الله عنه علوا كبيرا»

(3)

.

وقال في حديث: (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى، كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ يَقُولُ مَنْ

(1)

الكواكب الدراري، 3/ 169، وينظر: البرهان في أصول الفقه، 1/ 11، والغيث الهامع شرح جمع الجوامع، لأبي زرعة العراقي، ص 694.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: التوحيد، بَاب:{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ، رقم (6971).

(3)

الكواكب الدراري، 25/ 139، وينظر: الإنصاف للباقلاني، ص 12، ورائحة الجنة شرح إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة، ص 47.

ص: 473

يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ»

(1)

.

قد يوهم هذا الحديث المكان والحركة والنزول لله عز وجل فقال الكرماني دافعاً هذا الاعتقاد والتصور: «قلت: الحديث من المتشبهات ولابد من التأويل إذ البراهين القاطعة دلت على تنزيهه عنه فالمراد نزول ملك الرحمة ونحوه أو من التفويض»

(2)

.

‌ثالثاً دفع ما أوهم التشبيه والجسمية لله عز وجل

-:

كما أنّ الكرماني كان يدفع كل ما أوهم التشبيه والجسمية لله عز وجل مثاله حديث: «عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِاللهِ قَالَ ذُكِرَ الدَّجَّالُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إِنَّ اللهَ

لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ إِنَّ اللهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عَيْنِهِ وَإِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ»

(3)

.

قال الكرماني: «ولما كان منزها عن الجسمية والحدقة ونحوها لابد من الصرف إلى ما يليق به»

(4)

.

فموقفه من المتشابهات وما أوهم التشبيه والتمثيل ماقاله كذلك: «إما أن يفوض، وإما أن يؤول بأن المراد رفعته واعتلاؤه ذاتا وصفة، لاجهة ومكانا،

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: التهجد، بَاب: الدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، رقم (1083).

(2)

الكواكب الدراري، 22/ 135 - 136.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: التوحيد، باب: قَوْلِ اللهِ {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} ، رقم (6958).

(4)

الكواكب الدراري، 25/ 120، ويُنظر كذلك: 23/ 84، 25/ 104، 25/ 128.

ص: 474

وكذا وصف الكلام بالصعود إليه لأن الكلام عرض فالمراد الملائكة الصاعدون إليه»

(1)

.

ومن ذلك ما جاء في باب: قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنْ اللهِ.

قال الكرماني: ماهو وجه إطلاق الشخص على الله عز وجل، فنقل عن الخطابي أن الشخص لا يكون إلا جسماً، ويسمى شخصاً من كان له شخوص وارتفاع، ويجب أن ينزه االله عن هذه اللفظة، وهي من تصحيف الراوي، ولا سيما أنها لم ترد في الروايات الأخرى، لأن بعض الرواة أرسل الكلام على بديهة الطبع، من غير تأمل وتنزيل له على المعنى الأخص به، ثم أن عبيدالله منفرد به لم يُتابع عليه

(2)

.

إلا أن الكرماني رد على الخطابي فقال: لا حاجة إلى تخطئة الرواة والثقاة، بل حكمه: حكم سائر المتشابهات، فإمّا أن يُفوّض وإمّا أن يُؤوّل بلازمه وهو العالي؛ لأن الشاخص عالٍ مرتفع، أو هو من باب: إطلاق الخاص وإرادة العام، كالشيء الذي هو منصوص به في الروايات، وقيل معناه لا ينبغي لشخص أن يكون أغير من الله تعالى»

(3)

.

قلت: لعل الخطابي أصاب أن الراوي تصرف في اللفظ من غير دراية في مؤداه، ولا سيما أنه لم يُتابع عليه فعبيدالله بن عمر قد تَفرَّد به عن عبدالملك، ولم يتابع عليه.

(1)

الكواكب الدراري، 25/ 39.

(2)

أعلام الحديث، 4/ 2344 - 2345 - 2346.

(3)

الكواكب الدراري، 25/ 128.

ص: 475

والكرماني مال إلى التفويض أو التأويل بما يليق بجلال الله عز وجل وتنزيهه عن النقص والتشبيه.

‌رابعاً بيان أن المؤثر في الأشياء هو الله عز وجل

-:

كما بيّن الكرماني مسألة التأثير في الأشياء، إذلامؤثر في الوجود إلا الله عز وجل، إذ أن ابن عباس رضي الله عنهما نسب الإضحاك والإبكاء لله عز وجل، «وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ اللهَ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى» .

والناس في قضية التأثير ينقسمون إلى أربعة فِرق الأولى: تعتقد أن النار أو السكين مثلاً تؤثر بطبعها وذاتها، والثانية: تعتقد أن النار أو السكين مثلاً تؤثر بقوة جعلها الله فيها، والثالثة: تعتقد أن التأثير ليس إلا لله عز وجل لكنها تعتقد وجود التلازم بين النار والسكين مثلا وبين آثارهما، والرابعة: تعتقد أن التأثير ليس إلا لله عز وجل وتعتقد إمكان التخلف بين النار أو السكين مثلا وبين آثارهما، فقد توجد النار ولا يوجد الإحراق فالتخلف وارد، وقد يحدث الأكل ولا يوجد الشبع، وهذا هو الاعتقاد الصحيح

(1)

.

‌خامساً بيان رؤية الله عز وجل يوم القيامة:

كما بيبين الكرماني معتقد الأشاعرة في رؤية الله عز وجل يوم القيامة، فقال:

«لا يشترط فيها خروج الشعاع ولا انطباع صورة المرئي في الحدقة، ولا مواجهة ولا مقابلة، ولا رفع الحجب، فيجوز أن يكون الله مرئياً لنا يوم القيامة إذ هي حالة يخلقها الله تعالى في الحاسة»

(2)

.

(1)

ينظر: حاشية الباجوري على السنوسية، الشيخ إبراهيم البيجوري، ص 46.

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 197، وينظر: الإنصاف، الباقلاني، ص 73.

ص: 476

يقول الإمام الباقلاني: «ويجب أن يعلم: أن الرؤية جائزة عليه سبحانه وتعالى، من حيث العقل، مقطوع بها للمؤمنين في الآخرة؛ تشريفاً لهم وتفضلا، لوعد الله تعالى لهم بذلك.

والدليل على جوازها من حيث العقل: سؤال موسى عليه السلام، حيث قال «رب أرني أنظر إليك» ، ويستحيل أن يسأل نبي من أنبياء الله تعالى مع جلالة قدره وعلو مكانه ما لا يجوز عليه سبحانه، ولولا أنه اعتقد جوازها لما سألها، ولأنه تعالى علقها باستقرار الجبل، ومن الجائز استقرار الجبل، ويدل عليه أيضاً: أنه موجود، والموجود يصح أن يرى».

ثم بين الباقلاني حقيقة الرؤية فقال: «فكذلك الناظر إليه سبحانه وتعالى في الجنة لا يشك أن الذي يراه سبحانه وتعالى بلا تكييف، ولا تشبيه، ولا تحديد، وهذا كما يقول القائل: أعرف صدقك كما أعرف النهار، ورأيت زيداً كما رأيت الشمس»

(1)

.

«أي لا يُشترط عند أهل السنة اتصال شعاع ولا مقابلة ولا قربة ولاجهته، إنما هذه أمور عادية يجوز تخلقها ووقوع لرؤية بدونها كما وقع علمنا به إذ كل منهما إدراك»

(2)

.

كما أن الكرماني قرر عدة أمور من عقيدة أهل السنة.

1 -

أن الجنة دار المتقين، وأن النار التي هي عقاب دار الآخرة مخلوقة اليوم

(3)

.

(1)

الإنصاف، ص 14.

(2)

إضاءة الدُّجنة في اعتقاد أهل السنة، أحمد المقري المغربي المالكي، ص 53.

(3)

الكواكب الدراري، 13/ 182.

ص: 477

2 -

الإجماع على أن المسلم لا يكفر بالقتل، أو بأي معصية أخرى

(1)

.

3 -

أن الله تعالى قد علم أحوال الخلق قبل خلقهم وعلم آجالهم وأرزاقهم وسبق علمه فيهم بالسعادة والشقاوة

(2)

.

4 -

العاصي والفاسق لا يُخلّد في النار

(3)

.

5 -

إثبات الكرامة للأولياء

(4)

.

6 -

إثبات عذاب القبر

(5)

.

7 -

لايجب على الله شيء وبناء عليه: «لا يثبت بالفعل ثواب ولا عقاب بل ثوبتهما بالشريعة حتى لو عذب الله جميع المؤمنين كان عدلا، ولو أدخلهم الجنة فهو فضل لا يجب عليه شيء، وكذا لو أدخل الكافرين الجنة كان له ذلك، ولكنه أخبر بأنه لا يفعل بل يغفر للمؤمن ويعذب الكافر»

(6)

.

8 -

أفعال العباد مخلوقة لله تعالى

(7)

.

‌6 - الرد على أهل الفِرق في العقيدة:

وكان الكرماني في معرض شرحه للأحاديث يرد على الفِرق المبتدعة

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 190.

(2)

السابق، 3/ 188.

(3)

السابق، 4/ 216.

(4)

السابق، 4/ 240.

(5)

السابق، 7/ 118.

(6)

الكواكب الدراري، 7/ 144، 20/ 199.

(7)

السابق، 23/ 92، 25/ 212.

ص: 478

كالخوارج، والمعتزلة والشيعة.

فقال معرفاً بالخوارج ناقلاً عن الشهرستاني: «كل من خرج على الإمام الحق فهو خارجي»

(1)

. ثم نقل عن الفقهاء قولهم في الخوارج: «الخوارج غير الباغية، وهم الذين خالفوا الإمام بتأويل باطل ظنا، والخوارج خالفوا لا بتأويل أو بتأويل باطل قطعا، وقيل هم طائفة من المبتدعة لهم مقالات خاصة مثل تكفير العبد بالكبيرة، وجواز كون الإمام من غير قريش سموا به لخروجهم على الناس بمقالاتهم»

(2)

.

ويبين صفتهم ويذكر انهم المقصودين من حديث، كما أخرج البخاري: «

قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ» فقال:«يريد أنهم يخرجون من طاعة الأئمة وهذا نعت الخوارج الذين لا يدينون للأئمة ويخرجون عليهم»

(3)

.

ومعتقد أهل السنة والجماعة أن الكبائر يغفرها الله عز وجل بالتوبة الصادقة،

(1)

الملل والنحل، الشهرستاني، 1/ 114.

(2)

الكواكب الدراري، 24/ 50. ويُنظر اقوال الفقهاء في الخوارج، في كتاب: العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير، الرافعي، 11/ 79، رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين، 4/ 262، الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، شهاب الدين النفراوي، 1/ 95، الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل، موسى المقدسي، 4/ 293.

(3)

الكواكب الدراري، 14/ 6 - 7.

ص: 479

وشفاعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه لا خلود في النار للموحدين من أمة سيدنا

محمد صلى الله عليه وسلم «عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: شَفَاعَتِي لأَهْلِ الكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي»

(1)

.

وحديث الشفاعة المعروف الذي فيه يأتي الناس إلى الأنبياء لطلب الشفاعة

فيعتذرون عن ذلك، حتى يأتون النبي صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا عَلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا

وفيه. فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُقَالُ لِي: ارْفَعْ رَأْسَكَ: سَلْ تُعْطَهْ، وَقُلْ يُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِي، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، ثُمَّ أُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ، وَأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ

»

(2)

.

والكبيرة كما عرفها الكرماني: «كل معصية وقيل كل ذنب ختمه الله بالنار، أو لعنة أو غضب أو عذاب»

(3)

.

وقيل هي: «الكبيرة: كل معصية تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين، ورقة الديانة، أو كل ما توعد عليه بخصوصه في الكتاب أو السنة، أو ما فيه حد أو

(1)

أخرجه الترمذي، أَبْوَابُ صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالرَّقَائِقِ وَالْوَرَعِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، باب:

ما جاء في الشفاعة، رقم (2435).

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: تفسير القرآن، بَاب: قَوْلِ اللهِ {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ، رقم (4164).

(3)

الكواكب الدراري، 3/ 65.

ص: 480

غير ذلك»

(1)

.

ففي هذه الأحاديث رد على الخوارج الذين قالوا بتكفير أهل الكبائر، وأنهم في النار خالدين فيها! والمعتزلة

(2)

الذين قالوا: أصحاب الكبائر هم بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر

(3)

.

وقد بين الكرماني أن غرض البخاري من باب: «المعاصي من أمر الجاهلية. ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلابالشرك» فقال: «وغرض البخاري فيه الرد على الخوارج في قوله: المذنب من المؤمنين لا يخلد في النار كما دل عليه الآية {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} والمراد به من مات على الذنوب، ولو كان المراد من تاب قبل الموت لم يكن للتفرقة بين الشرك وغيره معنى إذ التائب من الشرك قبل الموت مغفور له. أقول وفي ثبوت غرض البخاري من الرد عليهم دغدغة إذ

(1)

التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي، ص 279.

(2)

قال الزمخشري في الكشاف بعد الكلام عن قتل المؤمن عمدا في سورة النساء: «قلت هل فيها دليل على خلود من لم يتب من اهل الكبائر قلت ما أبين الدليل وهو تناول قوله ومن يقاتل أي قاتل كان من مسلم أو كافر تائب أو غير تائب الا ان التائب أخرجه الدليل فمن ادعى إخراج المسلم غير التائب فليأت بدليل مثله) الكشاف، 1/ 584، وقد نقل الكرماني قولهم هذا، الكواكب الدراري 1/ 108.

قلت: وما أكثر الأدلة على أنه لا خلود في النار لأهل التوحيد والإيمان، ومنها الأحاديث التي مرت معنا حديث الشفاعة وغيره من الأحاديث.

(3)

ينظر الإنصاف، الباقلاني، ص 66، والملل والنِحل، الشهرستاني، 1/ 48، والكواكب الدراري، 1/ 137.

ص: 481

لا نزاع في أن الصغيرة لا يكفر صاحبها»

(1)

.

ومع كل هذه الصفات التي فيهم، نبّه الكرماني أنهم غير خارجين عن دائرة الإسلام بالاتفاق،

(2)

وبيّن حجة من كفّرهم

(3)

، في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»

(4)

.

وبين رأي المعتزلة في أن المعصية تُحبط العمل على خلاف عندهم

(5)

وأن الأجر الزائد عن العمل هو فضل فقط

(6)

، وأهل السنة يقولون أن الكل هو فضل من رب العزة سبحانه وتعالى

(7)

.

كما أن الكرماني رد على المعتزلة في عدة أمور في مخالفتهم لأهل السنة والجماعة

(8)

.

‌7 - بيان رأي الإمام البخاري الفقهي:

كان الإمام البخاري له مذهبه الفقهي له فيه اجتهاده، قال الإمام

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 140.

(2)

السابق، 1/ 173.

(3)

السابق، 14/ 172.

(4)

أخرجه البخاري، كتاي: الأنبياء، باب: علامات النبوة في الإسلام، رقم (3379).

(5)

الكواكب الدراري، 4/ 197.

(6)

ينظر: الكشّاف، الزمخشري، 1/ 602.

(7)

السابق، 4/ 203. وينظر: التحصيل من المحصول، سراج الدين الأرموي، 2/ 197. وتحفة المريد شرح جوهرة التوحيد، الباجوري، ص 120.

(8)

ينظر: الكواكب الدراري، 1/ 194، 4/ 203، 5/ 14، 9/ 75، 17/ 77.

ص: 482

الكشميري رحمه الله تعالى: «البخاري عندي سلك مسلك الاجتهاد ولم يقلد أحدا في كتابه، بل حكم بما حكم به فهمه»

(1)

وقد دلت تراجمه في صحيحه على فقهه وسعة اطلاعه، وله آراء وافق فيها أصحاب المذاهب الأربعة، أو أنه وافق فيها بعض علماء المذهب، وآراء خالفهم فيها.

«أما البخاري فكان في الفقه أكثر عمقا وغوصا، وهذا كتابه كتاب إمام مجتهد غواص في الفقه والاستنباط، بما لا يقل عن الاجتهاد المطلق، لكن على طريقة الفقهاء المحدثين النابهين

وهذا كتابه شاهد صدق على ذلك، حيث يستنبط فيه الحكم من الأدلة، ويتبع الدليل دون التزام مذهب من المذاهب، والأمثلة التي ضمها بحثنا عن فقهه وما أوجزنا من القول في عمق تراجمهم وتنوع طرق استنباطه، يدل على أنه مجتهد بلغ رتبة المجتهدين، وليس مقلدا لمذهب ما كما يدعي بعض أتباع المذاهب»

(2)

.

وإن كان بعض العلماء قال أن البخاري شافعي المذهب، أو أن فقهه مُستمد من فقه الإمام الشافعي، قال ابن حجر عن فقه البخاري: «وأما المباحث الفقهية فغالبها مستمدة من الشافعي وأبي عبيد

(3)

وأمثالهما»

(4)

.

(1)

فيض الباري على صحيح البخاري، محمد أنور شاه الكشميري، 1/ 438.

(2)

الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه وبين الصحيحين نور الدين عتر، 1/ 391.

(3)

الإمام الحافظ المجتهد، ذو الفنون أبو عبيد القاسم بن سلام بن عبدالله. سمع من: إسماعيل بن عياش، وسفيان بن عيينة وأبا بكر بن عياش وعبدالله بن المبارك، له كتاب: الأموال، والأمثال السائرة، وله مصنفات في التاريخ والأنساب، (ت 224 هـ)، سير أعلام النبلاء، 8/ 501 - 502)، وطبقات الحنابلة، 1/ 259.

(4)

فتح الباري، 1/ 243.

ص: 483

وكان منهج الكرماني أن يذكر مذهب الإمام البخاري الذي اختاره، فمن ذلك ما قاله في ترجم أحد الأبواب: باب وَقْتِ الْعِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ قال الكرماني: «وظاهر الترجمة يشعر بأن مذهب البخارى أيضا أن وقتها إلى النصف فقط ولهذا لم يذكر حديثا يدل على امتداد وقتها إلى الصبح»

(1)

.

ومن مذهبه أيضاً:

لابأس للجنب أن يقرأ القرآن

(2)

.

جواز حمل الحائض المصحف وقراءتها القرآن

(3)

.

جواز تطويل القيام في الاعتدال بذكر الأدعية فيه سواء كان دعاء قنوت أو غيره

(4)

.

جواز إعطاء الزكاة للفقراء أينما كانوا

(5)

.

جواز صوم النفل من دون تبييت النية

(6)

.

لا طلاق قبل النكاح

(7)

.

(1)

الكواكب الدراري، 4/ 213 - 114.

(2)

الكواكب الدراري، 3/ 173.

(3)

السابق، 3/ 162.

(4)

السابق، 5/ 155.

(5)

السابق، 8/ 39.

(6)

الكواكب الدراري، 9/ 100.

(7)

السابق، 19/ 191.

ص: 484

أن الحرمة في الرضاع تثبت برضعة واحدة

(1)

.

‌8 - بيان بعض الفوائد الفقهية:

اهتم الكرماني بإيراد بعض الفوائد الفقهية، واللطائف، في ثنايا شرحه منها على سبيل المثال:

مراجعة المتعلم العالم والتابع المتبوع فيما قاله إذا لم يظهر له معناه

(2)

.

جواز الحلف من غير استحلاف وأنه لا كراهة فيه لتعظيم أمر أو تحذير منه

(3)

.

جواز أخذ الأجرة على التعليم

(4)

.

ينبغي للمعلم أن يحتاط في تنبيه المتعلم والإحضار بمجامع قلبه

(5)

.

الوضوء من خصائص هذه الأمة

(6)

.

اليوم عند أهل الشرع من وقت طلوع الفجر لا من وقت طلوع الشمس

(7)

.

جواز الاجتهاد في المسائل الفروعية والاختلاف فيها

(8)

.

(1)

السابق، 19/ 80.

(2)

السابق، 1/ 137.

(3)

الكواكب الدراري: 1/ 173.

(4)

السارق، 1/ 211.

(5)

السارق، 1/ 34.

(6)

الكواكب الدراري، 2/ 172.

(7)

السابق، 6/ 8.

(8)

السابق، 9/ 36.

ص: 485

‌9 - بيان بعض اللطائف الواردة في المتن:

كان من عادة الكرماني رحمه الله تعالى يذكر اللطائف والمعاني الدقيقة، والنكت المتنوعة في الشرح مثال على ذلك:

من عظيم اللطائف، التي أوردها الكرماني في شرحه، أنه في الحديث الأول من الجامع الصحيح، وقبل أن يُترجم لرجال البخاري، أراد الكرماني أن يَشْرف كتابه بنسب سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فذكر النسب الشريف

(1)

ثم شرع في الشرح.

قلت: وهذا من عظيم الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبراعة في الاستهلال، وذوق ومحبة واتباع

وفي حديث: عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ» .

قال الكرماني ناقلاً عن النووي: «هذا بيان لقاعدة مهمة وهو أن ما أريد به وجه الله ثبت فيه الأجر، وإن حصل لفاعله في ضمنه حظ النفس من لذة أو غيرها ولهذا مثّل النبي صلى الله عليه وسلم بوضع اللقمة في فم الزوجة، ومعلوم أنه غالباً يكون الحظ النفس والشهوة واستمالة قلبها، فإذا كان الذي هو من حظوظ النفس بالمحل المذكور من ثبوت الأجر فيه وكونه طاعة وعملاً أخروياً إذا أريد به

وجه الله فكيف الظن بغيره مما يراد به وجه الله تعالى وهو مباعد للحظوظ

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 15.

ص: 486

النفسانية»

(1)

.

يقول عند حديث عن عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ، فَأُتِيَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ فِيهِ شَىْءٌ مِنْ مَاءٍ، فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِيهِ. قَالَ أَنَسٌ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، قَالَ أَنَسٌ فَحَزَرْتُ مَنْ تَوَضَّأَ مَا بَيْنَ السَّبْعِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ)

(2)

.

ينقل عن الخطابي فيقول: «وفي هذا آية من آيات نبويته صلى الله عليه وسلم ومعجزة من معجزاته. وقد قيل: إن هذا أبلغ في الإعجاز من تفجير الماء من الحجر لموسى صلوات الله عليه، لأن في طبع الحجارة أن يخرج منها الماء الغدق الكثير، وليس ذلك في طباع أعضاء بني آدم»

(3)

.

ومن ذلك حديث: عن عَبْدَاللهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ

).

قال الكرماني مشيرا إلى لطيفة في قوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم) فقال: «فإن قلت إذا لم يكن للرجل أهل ولا سيد ولا أب ولم يكن إماما فعلام رعايته؟ قلت: على أصدقائه وأصحاب معاشرته. فإن قلت إذا كان كل منا راعيا فمن الرعية؟ قلت: أعضاء نفسه وجوارحه وقواه وحواسه، والراعي يكون مرعيا باعتبار آخر ككون الشخص مرعيا للإمام راعيا لأهله أو الخطاب خاص بأصحاب

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 216، وينظر قول النووي، في شرحه على مسلم، 11/ 76 - 77.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: الوضوء بالمد، رقم:(199).

(3)

الكواكب 1/ 264، وينظر: أعلام الحديث، 3/ 48.

ص: 487

التصرفات ومن تحت نظره وما عليه إصلاح حاله»

(1)

.

ومن ذلك في قصة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، المُفتَرى عليه، عَنْ جَابِرِ ابْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ رضي الله عنه، فَعَزَلَهُ

وفيه: قَالَ سَعْدٌ: أَمَا وَاللهِ لأَدْعُوَنَّ بِثَلَاثٍ، اللهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ

»

(2)

.

قال الكرماني: «فان قلت كيف جاز لسعد أن يدعو على أخيه المسلم وإن جاز فلم لم يكتف بدعوة واحدة؟ قلت: جاز لأنه كان مظلوما بالافتراء، وأما التثليث فلأنه أيضا ثلّث في نفي الفضائل عنه، سيما الثلاث التي هي أصل الفضائل وأمهات الكمالات يعني الشجاعة التي هي كمال القوة الغضبية حيث قال لا يسير، والعفة التي هي كمال القوة الشهوانية حيث قال لا يقسم، والحكمة التي هي كمال القوة العقلية حيث قال لا يعدل، وراعي أمرا آخر في الدعاء وهو: أنه قابل كل ما نسب اليه التقصير مما يتعلق بالنفس والمال والدين، ممثله فدعا عليه بما يتعلق بالنفس وهو طول العمر والمال وهو الفقر والدين والوقوع في الفتن»

(3)

.

كما أن الكرماني كان يشير للأحاديث التي عليها مدار الإسلام

(4)

.

(1)

الكواكب الدراري، 6/ 16.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الأذان، باب: وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر وما يجهر فيها وما يخافت، رقم (724).

(3)

الكواكب الدراري، 5/ 122.

(4)

الحديث الأول: «إنما الأعمال بالنيات» ينظر: 1/ 22، والحديث الثاني: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ

» والحديث الثالث: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» ينظر: 1/ 203، والحديث الرابع «الدِّينُ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» ، ينظر: 1/ 217. وقد قيل في أكثر من قول أن هذه الأحاديث الأربعة هي التي يدور عليها الإسلام، وزيد عليها، حديث «وازهد في الدنيا يحبك الله» وقد نظمها أبو الحسن المعرو رحمه الله الله تعالى فقال:

عمدة الدين عندنا كلمات

أربع من كلام خير البرية

اتق الشبهات وازهد

ودع ما ليس يعنيك واعملن بنية

وأبدل بعضهم بعض هذه الأحاديث ومنهم من قال هي حديث «لا يحل دم امرئ مسلم إلَّا بإحدى ثلاث» ، وحديث «بني الإِسلام على خمس» وحديث: و «البينة على المدعي واليمين على من أنكر»

وقيلت أقوال كثيرة فيها جمعها ابن الملقن رحمه الله في كتاب: الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، ص 153 - 154.

ص: 488

ومن المعاني الدقيقة التي ذكرها الكرماني في حديث سيدنا عمر رضي الله عنه الذي أورده البخاري في باب: التناوب في العلم.

وذكر فيه: «فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ. قَالَ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإِذَا هِيَ تَبْكِي فَقُلْتُ طَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ لَا أَدْرِي. ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ قَالَ «لَا» . فَقُلْتُ اللهُ أَكْبَرُ»

(1)

.

قال الكرماني: «قوله: أمر عظيم، أراد اعتزال الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأزواج.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، رقم (88).

ص: 489

فإن قلت ما العظمة فيه؟ قلت: كونه مظنة للطلاق، وهو عظيم لاسيما بالنسبة إلي عمر، فإن ابنته إحدي زوجاته

وقوله: «الله أكبر» فإن قلت هذا الكلام في أمثال هذه المقامات يدل علي التعجب، فما ذلك ههنا؟ قلت: كأن الأنصاري ظن الاعتزال طلاقاً أو ناشئاً عن الطلاق، فأخبر عمر بالطلاق بحسب ظنه فتعجب منه بلفظ الله أكبر»

(1)

.

* * *

‌المبحث الرابع

الاهتمام بالقواعد الأصولية

(2)

من المعلوم أنه لا ينفك علم الفقه عن علم الأصول، إذ أن الثاني هو

(1)

الكواكب الدراري، 2/ 77.

(2)

يذكر الدكتور محمد الزحيلي الفرق بين القواعد الأصولية، والقواعد الفقهية فقال: «إن القواعد الأصولية ناشئة في أغلبها من الألفاظ العربية، والقواعد العربية، أما القواعد الفقهية فناشئة من الأحكام الشرعية، والمسائل الفقهية.

2 -

إن القواعد الأصولية خاصة بالمجتهد، يستعملها عند استنباط الأحكام.

الفقهية، ومعرفة حكم الوقائع والمسائل المستجدة أما القواعد الفقهية فإنها خاصة بالفقيه، أو المفتي، أو المتعلم الذي يرجع إليها لمعرفة الحكم الموجود للفروع، ويعتمد عليها بدلاً من الرجوع إلى الأبواب الفقهية المتفرقة.

3 -

تتصف القواعد الأصولية بالعموم والشمول لجميع فروعها، أما القواعد الفقهية فإنها، وإن كانت عامة وشاملة، تكثر فيها الاستثناءات، وهذه الاستثناءات تشكل أحياناً قواعد مستقلة، أو قواعد فرعية.

4 -

تتصف القواعد الأصولية بالثبات، فلا تتبدل ولا تتغير، أما القواعد الفقهية فليست ثابتة، وإنَّما تتغير أحياناً بتغير الأحكام المبنية على العرف، وسد الذرائع، والمصلحة.

5 -

إن القواعد الأصولية تسبق الأحكام الفقهية، وأما القواعد الفقهية فهي لاحقة وتابعة لوجود الفقه وأحكامه وفروعه.» القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة، 1/ 24.

ص: 490

مفتاح الأول في طريقة الاستنباط والاستدلال من النص القرآني أو الحديث النبوي، وقد أبدى الكرماني في شرحه اهتمامه في المسائل والقضايا الأصولية، فكان يستدل عليها ويناقشها ويعرض أقوال العلماء فيها، فمن أهمها:

‌1 - بيان الحكم التكليفي:

عرّف الكرماني الحكم التكليفي بقوله ناقلاً عن الأصوليين: «الحكم هو إسناد أمر إلى آخر إثباتًا أو نفيًا

(1)

وفي اصطلاح الأصوليين خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير

(2)

».

وقال علماء الأصول أنه ينقسم إلى خمسة أقسام، وهي: الإيجاب والندب والإباحة والكراهة والتحريم

(3)

ومن العلماء من جعلها سبعة، وزاد الصحيح

(1)

ينظر الكليات، لأبي البقاء الحنفي، 1/ 380، كشاف اصطلاح الفنون، 1/ 693.

(2)

الكواكب الدراري، 24/ 192، وقد وقع عند الكرماني بلفظ التقييد بدل التخيير وهو محرف ومصحف، وينظر التعريف، في: نهاية السول شرح منهاج الوصول،

عبد الرحيم بن الحسن الإسنوي الشافعيّ، 1/ 16، وشرح التلويح على التوضيح، سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني، 1/ 20.

(3)

ينظر: رَفْعُ النِّقَابِ عَنْ تنقِيح الشّهابِ، الحسين بن عبدالله السَملاي، 1/ 653.

ص: 491

والباطل

(1)

.

«وعند علماء الحنفية المطلوب فعله ثلاثة أقسام: الفرض، والواجب، والمندوب. والمطلوب الكف عنه ثلاثة أقسام: المحرم، والمكروه تحريما، والمكروه تحريما، والمكروه تنزيها

(2)

.

إلا أن الحنفية قالوا: إن المكروه تحريمًا يعاقب فاعله، ولا يكفر منكره، أما المكروه تنزيهًا فإن فاعله لا يستحق عتابًا ولا ذنبًا ولا إثمًا، لكنه فعل غير الأولى، وقال الجمهور: المكروه نوع واحد، وفاعله لا يستحق عقابًا لكنه يعاتب، وإن المكروه تحريمًا يدخل في الحرام

(3)

.

وقد بيّن الكرماني بعض أنواع الحكم التكليفي في شرحه عند بعض المسائل الفقهية، كمسألة (السواك عند كل صلاة) قال الكرماني:«وقد استدل الأصوليون به على أن المندوب ليس مأمورا به»

(4)

.

ويبين رأي الحنفية والجمهور كذلك في حكم زكاة الفطر، قال الكرماني: «ومعنى فرض قدر وقال أبو حنيفة واجبة

(5)

ليست بفريضة بناء على مذهبه في الفرق بين الفرض والواجب

(6)

..................................

(1)

ينظر: شرح الورقات في أصول الفقه، جلال الدين المحلي، 1/ 70.

(2)

علم أصول الفقه، عبد الوهاب خلاّف، ص 116.

(3)

الوجيز في أصول الفقه، د. محمد الزحيلي، ص 302.

(4)

الكواكب الدراري، 6/ 12.

(5)

ينظر: النهر الفائق، 1/ 470.

(6)

فرق الحنفية بين الفرض والواجب، أن جعلوا الفرض وهو ما طلب الشارع فعله طلبًا جازمًا بدليل قطعي الثبوت والدلالة، كالصلاة والزكاة، وحكمه وجوب فعله، ومنكره يكفر، وتاركه بلا عذر فاسق، والفرض: وهو ما طلب الشارع فعله طلبًا جازمًا بدليل ظني الثبوت أو ظني الدلالة، مثل صدقة الفطر والأضحية وقراءة الفاتحة وصلاة الوتر

وحكمه وجوب إقامته كالفرض، لا يكفر جاحده، ويفسق تاركه إذا تركه استخفافًا، ينظر الوجيز في أصول الفقه، محمد الزحيلي، ببعض التصرف، ص 301 - 302.

ص: 492

.....

والجمهور

(1)

على أنها فريضة لأن المفهوم بحسب عرف الشرع من لفظ فرض ذلك ولا يجوز للراوي أن يعبر بالفرض على المندوب مع علمه بالفرق بينهما»

(2)

.

ومن ذلك يبين حكم الكراهة بين كراهة التحريم والتنزيه على رأي الحنفية، حديث عن السيدة عائشة أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَذَكَرَتَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ «إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

(3)

.

فيبين الكرماني هل الحرمة هي للتصوير، أم لاتخاذ القبور مساجد؟

(1)

ينظر: التاج والإكليل، 3/ 255، وعمدة السالك وعدة الناسك، أحمد بن لؤلؤ شهاب الدين النقيب، 1/ 107، ومنتهى الإيرادات، تقي الدين الحنبلي النجار، 1/ 496.

(2)

الكواكب الدراري، 9/ 48.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: هَلْ تُنْبَشُ قُبُورُ مُشْرِكِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُتَّخَذُ مَكَانَهَا مَسَاجِدَ، رقم (419).

ص: 493

«قلت المذمة قد تكون على التصوير لا على الاتخاذ ولئن سلمنا فالمراد من الترجمة اتخاذ قبور غير الأنبياء ومن في حكمهم من الصالحين، فالحاصل أن تعلقه بالأولى من حيث إنه موافق لمفهوم حديث لعن الله اليهود، وبالثانية من حيث إن بناء المسجد في القبور مشعر بالصلاة فيها، فإن قلت فيلزم حرمة الصلاة فيها؛ لقوله أولئك شرار الخلق والمدعي الكراهة قلت إن أريد بالكراهة كراهة التحريم فلا إشكال فيه، وإن أريد كراهة التنزه فنختص المذمة بالتصوير، فإن قلت التصوير معصية ولا يصير المؤمن بالمعاصي كافراً وشراراً الخلق هم الكفرة، قلت هم أيضاً كفرة لأنهم كانوا يصورونه ويعبدونه كالأصنام»

(1)

.

وقال عند: «(باب ما يكره من النياحة على الميت) أي كراهة التحريم»

(2)

.

‌2 - الإجماع:

والإجماع هو: «الإجماع عبارة عن اتفاق جملة أهل الحَل والعقْد من أمة محمد في عصر من الأعصار على حكم واقعة من الوقائع»

(3)

وقد عرّفه الكرماني كذلك بنحو من هذا التعريف

(4)

.

وقد نقل الكرماني في بعض المسائل الفقهية المجمع عليها، وكان يذكر من شذّ وخالف الإجماع منها:(أنه لا يجب على الحائض والنفساء قضاء الصلاة):

(1)

الكواكب الدراري، 4/ 89.

(2)

السابق، 7/ 86.

(3)

الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي، 1/ 195، وانظر العدة في أصول الفقه، القاضي أبي يعلى، 1/ 170.

(4)

الكواكب الدراري، 25/ 63.

ص: 494

فقال: «وهذا الحديث

(1)

أصيل في إجماع المسلمين أن الحائض لا تقضي الصلاة ولا خلاف بين الأئمة

(2)

فيه إلا لطائفة من الخوارج

ثم نقل عن النووي الإجماع في ذلك»

(3)

.

(أن صلاة العيد قبل الخطبة): قال الكرماني: «وأما الصلاة قبل الخطبة فهو إجماع من العلماء قديما وحديثا إلا ما كان من بني أمية»

(4)

.

ثم إن الكرماني ينقل الخلاف في إجماع أهل المدينة دون غيرهم، وذلك عند ما قاله البخاري: «بَاب مَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَحَضَّ عَلَى اتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ

وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْحَرَمَانِ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَمَا كَانَ بِهَا مِنْ مَشَاهِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

(1)

وهو حديث: «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ أَتَجْزِي إِحْدَانَا صَلَاتَهَا، إِذَا طَهُرَتْ فَقَالَتْ أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ كُنَّا نَحِيضُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَامُرُنَا بِهِ أَوْ قَالَتْ فَلَا نَفْعَلُهُ» أخرجه البخاري، كتاب: الحيض، باب: لَا تَقْضِي الْحَائِضُ الصَّلَاةَ، رقم (317)، ومعنى حرورية قال الكرماني:«وهي نسبة إلى حروراء وهي قرية بقرب الكوفة، وكان أول اجتماع الخوارج بهان قال الهروي تعاقدوا في هذه القرية فنسبوا إليها فمعنى قولها أخارجية أنتِ؟ لأن طائفة من الخوارج يُوجبون على الحائض قضاء الصلاة الفائتة في زمن الحيض وهو خلاف الإجماع» الكواكب الدراري، 3/ 193.

(2)

يُنظر إجماع الفقهاء في الإجماع على أن الحائض لا تقضي الصلاة، البناية شرح الهداية، 4/ 99، ومواهب الجليل، 1/ 411، والأم للشافعي، 1/ 77، والمغني لابن قدامة، 1/ 255، وقد نقل الإجماع ابن المنذر النيسابوري في كتابه الإجماع، ص 42.

(3)

الكواكب الدراري، 3/ 193.

(4)

السابق، 6/ 69.

ص: 495

وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمُصَلَّى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمِنْبَرِ وَالْقَبْرِ»

(1)

.

قال الكرماني: «فاتفاق مجتهدي الحرمين دون غيرهم ليس بإجماع عند الجمهور، قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: إجماع أهل المدينة حجة

(2)

وعبارة البخاري مشعرة بأن اتفاق أهل الحرمين كليهما إجماع»

(3)

.

قلت: لعل الكرماني يشير إلى أن مذهب البخاري في الإجماع يوافق رأي المالكية، من أن إجماع أهل المدينة حجة.

وأحياناً يشير الكرماني إلى الإجماع السكوتي وهو: وهو أن يقولَ بعض المجتهدين في المسألة قولاً أو يعمل على وفقها، ويسكت الباقون بعد اطلاعهم على هذا القول من غير إنكار»

(4)

.

وقد وقع خلاف بين الأصوليين على حجية الإجماع السكوتي، فقال الشافعية والظاهرية بعدم حجيته، وقال الحنفية والمالكية وأحمد: إنه حجة

(5)

.

ومن الأمثلة التي ساقها الكرماني عن الإجماع السكوتي مسألة:

(زيادة النداء الثالث يوم الجمعة على الزوراء في عهد عثمان رضي الله عنه) قال

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة.

(2)

الفروق للقرافي، 1/ 140.

(3)

الكواكب الدراري، 25/ 63.

(4)

تلخيص الأصول، حافظ ثناء الله الزاهدي، ص 37، وينظر العدة في أصول الفقه، 4/ 1170.

(5)

ينظر البحر المحيط في أصول الفقه، الزركشي، 6/ 456، والوجيز في أصول الفقه، د. محمد الزحيلي، 1/ 233.

ص: 496

الكرماني: «فإن قلت كيف شرع، قلت: باجتهاد عثمان وموافقة سائر الصحابة له بالسكوت وعدم الإنكار فصار إجماعا سكوتيا»

(1)

.

ومن ذلك بيان (حكم سجود التلاوة هل هو واجب أم مندوب؟):

أخرج البخاري حديث سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه: «قَرَأَ يَوْمَ الجُمُعَةِ عَلَى المِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ، فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ حَتَّى إِذَا كَانَتِ الجُمُعَةُ القَابِلَةُ قَرَأَ بِهَا، حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ، قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ، فَمَنْ سَجَدَ، فَقَدْ أَصَابَ وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ رضي الله عنه» وَزَادَ نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، «إِنَّ اللهَ لَمْ يَفْرِضِ السُّجُودَ إِلَّا أَنْ نَشَاءَ»

(2)

.

قال الكرماني قوله «(فلا إثم عليه) دليل صريح في عدم الوجوب

(3)

، وهذا كله بمحضر الصحابة ولم ينكر عليه أحد، وكان إجماعاً سكوتياً على ذلك وكذا لفظ (ولم يفرض) دليل آخر، فإن قلت الحنفي قائل بعدم الفرضية إذ

(1)

الكواكب الدراري، 6/ 27.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: أبواب سجود القرآن، باب: من رأى أن الله عز وجل لم يوجب السجود، رقم (1020).

(3)

قال الشافعية والحنابلة أن سجدة التلاوة سنة مؤكدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، المهذب للشيرازي، 1/ 161 - 162، وكشاف القناع عن متن الإقناع، منصور بن يونس البهتوي، 1/ 447، وقع خلاف عند المالكية عند المالكية بين القول بسنية سجود التلاوة أم أنه فضيلة، (شرح الزرقاني على مختصر خليل) 1/ 479، وقال الحنفية أن سجود التلاوة واجب، النهر الفائق، 1/ 338.

ص: 497

الفرض عنده غير الواجب. قلت: هذا اصطلاح جديد لم تكن الصحابة يتخاطبون به»

(1)

.

‌3 - القياس:

والقياس هو تسوية فرع بأصل في حكم لعلة جامعةبينهما

(2)

.

وقد ذكر الكرماني مسألة القياس في شرحه في عدة مواضع منها:

حديث: «عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا قَالَ نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً اقْضُوا اللهَ فَاللهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ»

(3)

.

قال الكرماني: «واقضوا الله أي اقضوا حق الله، فالله أحق بوفاء حقه من غيره، وفيه جواز القياس وأن الحج الواجب كالدين الواجب يقضى وإن لم يوص به

وقال أي الكرماني في موضع آخر عند الحديث نفسه، وما فيه يدل على صحة القياس وأنه ليس مذموما

وفي الباب دليل على وقوع القياس منه صلى الله عليه وسلم»

(4)

.

(1)

الكواكب الدراري، 6/ 157.

(2)

الشرح الكبير لمختصر الأصول من علم الأصول، لأبي المنذر المنياوي، ص 475.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الحج، بَاب: الْحَجِّ وَالنُّذُورِ عَنْ الْمَيِّتِ وَالرَّجُلُ يَحُجُّ عَنْ الْمَرْأَةِ، رقم (1734).

(4)

الكواكب الدراري، 9/ 53، 25/ 60.

ص: 498

في حديث: «عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا رَجُلٌ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ فِي جَيْشِ كَذَا وَكَذَا وَامْرَأَتِي تُرِيدُ الْحَجَّ فَقَالَ اخْرُجْ مَعَهَا»

(1)

.

فبين الكرماني جواز الدخول على المرأة مع من يحشمها كالزوجة والنساء الثقات قياساً على المُحرم لاتحاد العلة بينهما، فقال: «فإن قلت: قد جوّز الفقهاء أيضا الدخول عليها مع من يحتشمها كالزوجة والنسوة الثقات قلت: ثبت بالقياس على المحرم إذ العلة الأمن من الوقوع في الفتنة، وبالنظر إلى العلة عمم الشافعي

(2)

الحكم في جواز سفر المرأة في كل صورة تأمن على نفسها على أحد أقواله»

(3)

.

‌4 - النسخ:

تعريفه: الخطاب الدال على رفع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه

(4)

.

وقديقع النسخ في المصادرالشرعية، كنسخ القرآن بالقرآن، والسنة بالسنة، ونسخ السنة بالقرآن

(5)

، ..........................

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الحج، بَاب: حَجِّ النِّسَاءِ، رقم (1742).

(2)

ينظر المجموع، 7/ 86.

(3)

الكواكب الدراري، 9/ 57.

(4)

شرح الورقات، 1/ 158 - 159، وينظر الشرح الكبير لمختصر الأصول، ص 332.

(5)

اختلف العلماء بجواز نسخ السنة بالقرآن على قولين، القول الأول: جواز نسخ السنة بالقرآن، وهو قول الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة والظاهرية، وكثير من الشافعية، واستدلوا بنسخ استقبال القبلة إلى بيت المقدس المقرر بالسنة، وغيرها من الأدلة، والقول الثاني: منع نسخ السنة بالقرآن، وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى، وقال: وسنة رسول الله لا ينسخها إلا سنة لرسول الله، ويفترض الشافعي أن سنة أخرى نسخت السنة السابقة؛ لأن وظيفة الرسول البيان لقوله تعالى:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ينظر الوجيز في أصول الفقه، محمد الزحيلي، 2/ 254 - 255، وينظر تفصيل المسألة في البحر المحيط، 5/ 252 ومابعدها.

ص: 499

ونسخ القرآن بالسنة وفيه اختلاف

(1)

.

وقد استدل الكرماني رحمه الله على جواز النسخ في حكم الصلاة خلف الإمام بالنسبة للقيام أو القعود، قال الكرماني ناقلاً عن الخطابي: «وأما قوله عليه السلام وإن صلى قاعدا فصار قعودا فهذا أمر قد اختُلفوا فيه فذهب الأكثرون الى أنه منسوخ بإمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى آخر صلاة صلاها في مرضه أمَّ بهم فيها

(1)

كذلك وقع الخلاف على قولين: اختلف العلماء في ذلك على قولين (1).

القول الأول: يجوز نسخ آية من القرآن بالسنة عقلًا، ووقع ذلك شرعًا، وهو رأي جمهور العلماء، وهم الحنفية والمالكية وبعض الحنابلة، والظاهرية، لاستفاضتها، ولكن الحنفية أجازوا نسخ القرآن بالسنة المتواترة أو المشهورة بين الناس، والمالكية وبعض الحنابلة حصروا ذلك بالمتواتر، وذهب ابن حزم الظاهري إلى جواز نسخ القرآن بالمتواتر وخبر الآحاد؛ لأن خبر الآحاد عنده قطعي كالمتواتر.

القول الثاني: لا يجوز نسخ القرآن بالسنة، وهو رأي الشافعي وأكثر أصحابه، والمشهور عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، سواء كانت السنة متواترة أو مشهورة، أو خبر آحاد، الوجيز في أصول الفقه، 2/ 256 - 258، وينظر تفصيل المسألة في البحر المحيط للزركشي، 5/ 261، وما بعدها.

ص: 500

قاعدا والناس من وراءه قيام، وذهب غير واحد من أصحاب الحديث إلى أن هذا الحكم ثابت غير منسوخ، منهم أحمد بن حنبل وزعموا أن حديث إمامته صلى الله عليه وسلم في مرضه مختلف فيه، هل كان الإمام رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر.

قال: والنسخ أصح والأصول تشهد أن كل من أطلق عبادة بالصفة التي وجبت عليه في الأصل لم يجز له تركها إلا أن يعجز عنها»

(1)

.

‌5 - حكم الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم

-:

ومن المسائل الأصولية التي ناقشها الكرماني في شرحه، هل يجوز للصحابة أن يجتهدوا والنبي صلى الله عليه وسلم بينهم؟

قال الكرماني: «وفي قصة عمار

(2)

جواز الاجتهاد في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وقد اختلفوا في هذه المسألة على ثلاثة أقوال أصحها يجوز الاجتهاد في زمنه بحضرته وغير حضرته والثاني لا يجوز بحال والثالث لا يجوز بحضرته فقط»

(3)

.

يقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى مبيناً الخلاف في هذه المسألة: «وأن

(1)

الكواكب الدراري، 4/ 43، وينظر قول الخطابي في أعلام الحديث، 1/ 362.

(2)

والقصة هي: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِبِ الْمَاءَ. فَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَمَا تَذْكُرُ أَنَّا كُنَّا فِي سَفَرٍ أَنَا وَأَنْتَ فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فَصَلَّيْتُ، فَذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا» فَضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَفَّيْهِ الأَرْضَ، وَنَفَخَ فِيهِمَا ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ باب التيمم للوجه والكفين» أخرجه البخاري، كتاب: التيمم، باب: المتيمم هل ينفخ فيهما، رقم (333).

(3)

الكواكب الدراري، 3/ 219.

ص: 501

شرط الاجتهاد أن لا يقع في زمن النبوة؛ فنرسم فيه مسألتين:

مسألة اختلفوا في جواز التعبد بالقياس والاجتهاد في زمان الرسول عليه السلام.

فمنعه قوم وأجازه قوم، وقال قوم: يجوز للقضاة والولاة في غيبته لا في حضور النبي صلى الله عليه وسلم.

والذين جوّزوا منهم من قال: يجوز بالإذن، ومنهم من قال: يكفي سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم اختلف المجوّزون في وقوعه والمختار أن ذلك جائز في حضرته وغيبته وأن يدل عليه بالإذن أو السكوت؛ لأنه ليس في التعبد به استحالة في ذاته ولا يفضي إلى محال ولا إلى مفسدة. وإن أوجبنا الصلاح فيجوز أن يعلم الله لطفا يقتضي ارتباط صلاح العباد بتعبدهم بالاجتهاد لعلمه بأنه لو نص لهم على قاطع لبغوا وعصوا»

(1)

.

وقد استدل الكرماني في شرحه على بعض أنواع النسخ بالنسبة للمصادر الشرعية كنسخ السنة بالقرآن

(2)

ونسخ السنة بالسنة

(3)

.

كما أن الكرماني استدل بشرع من قبلنا في شرحه

(4)

والعرف

(5)

.

(1)

المستصفى، الغزالي، ص 345، وينظر: الفائق في أصول الفقه، صفي الدين الهندي الشافعي، 2/ 386.

(2)

الكواكب الدراري، 3/ 51، 8/ 113، 12/ 50.

(3)

السابق، 13/ 25، 20/ 135.

(4)

السابق، 13/ 142، 4/ 232، 11/ 98، 14/ 98، 21/ 114.

(5)

السابق، 1/ 205، 10/ 64.

ص: 502

وقد ذكر الكرماني بعض المسائل الأصولية منها على سبيل المثال:

إذا روى الصحابي حديثاً هل يكون أولى بتأويله من غيره؟

فقالت طائفة أن الصحابي هو أولى بتأويله، لأنه أعرف بمخرجه، وسببه، وقال غيرهم لا يلزم بتأويله إذا لم يصب التأويل)

(1)

.

أن المخاطِب بكسر الطاء داخل تحت عموم متعلق خطابه أمرا أو نهيا أوخبرا

(2)

، وهي قضية خلافية، منهم من قال أن الخطاب يشمله، ومنهم من قال لايشمله إلا إذا اقتضت القرينة ذلك، ودل السياق عليه

(3)

.

جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب كما هو مذهب أهل السنة، وذلك لأن ثم تدل على التراخي

(4)

.

المطلق والمقيد إذا اتحد سببهما حُمل المطلق علي المقيد

(5)

.

اللفظ إذا كان له مفهومان شرعي ولغوي يقدم الشرعي عليه

(6)

.

* * *

(1)

السابق، 2/ 105.

(2)

السابق، 2/ 192.

(3)

ينظر: البرهان في أصول الفقه، الجويني، بتصرف، 1/ 130.

(4)

الكواكب الدراري: 1/ 48.

(5)

السابق، 3/ 10.

(6)

الكواكب الدراري، 5/ 21.

ص: 503

‌المبحث الخامس

مختلف الحديث ومشكله

‌أولاً تعريف مختلف الحديث:

أ - لغة: يقال تخَالف الأمْران وَاخْتلفَا وكل مَا لم يتساوَ فقد اختلف وتخالف وهما خِلْفان أَي مُخْتَلِفَانِ، أي لم يَتَّفقا

(1)

.

ب - اصطلاحاً: وهو أن يأتي حديثان متضادان في المعنى ظاهراً فيوفق بينهما أو يرجح أحدهما

(2)

.

‌ثانياً تعريف المُشْكِل:

أ - لغةً: المختلط والملتبس، يُقال: أشكل الأمر التبس، وأشبه وتشابه

(3)

وقال الهروي: وقد أشكل الأمر إذا اشتبه عليك لدخوله شكل غيره واشتباهه عليك للمماثلة

(4)

.

ب - اصطلاحاً: هو حديث مقبول أُخرج في الكتب المعتبرة ولكنه عُورض بقاطع من عقل أو حس أو علم، أو أمر مقرر في الدين ويُمكن تخريجه

(5)

.

(1)

ينظر مادة: (خلف) المخصص ابن سيده، 3/ 371، ولسان العرب، 9/ 91، وتاج العروس، 23/ 279.

(2)

التقريب والتيسير، النووي، ص 90، وتوضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار، الصنعاني، 2/ 242، وينظر تحرير علوم الحديث، 2/ 651.

(3)

ينظر مادة: (شكل)، أساس البلاغة، 1/ 517، ومختار الصحاح، 2/ 168.

(4)

ينظر مادة: (شكل)، الغريبين في القرآن والحديث، 3/ 1026.

(5)

بلوغ الآمال من مصطلح الحديث والرجال، محمد بكار، ص 386.

ص: 504

‌ثانياً الفرق بين مُختلف الحديث ومُشكله:

بعض العلماء يرى أن المُشكل والمُختلف بمعنى واحد

(1)

فقد سوّى بينهما كل من الطحاوي

(2)

، وابن فورك

(3)

(4)

.

وبعض العلماء فرق بينهما وجعلوا مشكل الحديث أعم من مختلفه «الحق أن بين المختلف والمشكل فرقا في الاصطلاح.

فمختلف الحديث يكون بوجود تعارض: تضاد أو تناقض بين حديثين أو أكثر.

وأما مشكل الحديث فهو أعم من ذلك فقد يكون سببه وجود تعارض بين

(1)

ومن العلماء كذلك من سوّى بينهما أ. د نور الدين عتر في كتابه منهج النقد، فإنه قال عن مختلف الحديث (وربما سماه المحدثون «مشكل الحديث») فعبارته هذه تُشعر أنه لا يُفرق بينهما، ص 337.

(2)

أحمد بن سلامة أبو جعفر الأزدي، المصري الطحاوي، ويُنسب إلى طحا قرية في صعيد مصر، تفقه على المزني صاحب الشافعي، وسمع الحديث من أهل عصره، كان على مذهب الشافعي ثم تحول إلى المذهب الحنفي، له مُشكل الآثار، (ت 321 هـ)، ينظر: الطبقات السنية في تراجم الحنفية، تقي الدين الغزي، ص 136، ولسان الميزان، ابن حجر، 1/ 620.

(3)

محمد بن الحسن بن فُوْرَك، أبو بكر الأنصاري، الإمام الجليل الفقيه، أقام بالعراق ودرس بها المذهب الأشعري، وكثر سماعه بالبصرة وبغداد وحدث بنيسابور، له مُشكل الحديث وبيانه، (ت 406 هـ)، ينظر طبقات الشافعية، السبكي، 4/ 128، ووفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، للبرمكي، 4/ 272.

(4)

بلوغ الآمال من مصطلح الحديث والرجال، ص 386.

ص: 505

حديثين أو أكثر، وقد يكون سببه كون الحديث مشكلا في معناه لمخالفته في الظاهر للقرآن مثلا أو لاستحالة معناه أو لمخالفته لحقيقة من الحقائق المتعلقة بالأمور الكونية التي كشفت عنها العلوم والمعارف الحديثة كعلم الفلك، أو الطب، أو علم سنن الله الكونية، وهو ما يسمى في لسان الناس: علم الطبيعة»

(1)

.

‌ثالثاً أهمية علم مختلف الحديث ومشكله:

لقد اهتم العلماء بهذا الفن وذلك لأن بعض الأحاديث تحتاج إلى توضيح وبيان، وأن التعارض لا يمكن أن يكون بين أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من حيث الظاهر فقط، مادام أن هذه الأحاديث صحيحة.

قال الإمام الخطابي: «فكل خبرين عُلم أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بهما؛ فلا يصح دخول التعارض فيهما على وجه، وإن كان ظاهرهما متعارضين، لأن معنى التعارض بين الخبرين والقرآن من أمر ونهي وغير ذلك، أن يكون موجب أحدهما منافيا لموجب الآخر، وذلك يبطل التكليف إن كانا أمراً ونهياً وإباحةً وحظراً، أو يوجب كون أحدهما صدقاً والآخر كذباً إن كانا خبرين، والنبي صلى الله عليه وسلم مُنزّهٌ عن ذلك أجمع، ومعصوم منه باتفاق الأمة وكلٌ مثبت للنبوة»

(2)

.

وقال النووي عن أهمية علم مختلف الحديث: «هذا من أهم الأنواع، ويضطر إلى معرفته جميع العلماء من الطوائف»

(3)

.

وقال ابن حزم: «وهذا من أدق ما يمكن أن يعترض أهل العلم من تأليف

(1)

الوسيط في علوم ومصطلح الحديث، أبو شهبة، ص 442.

(2)

الكفاية، ص 433.

(3)

التقريب والتيسير، ص 90.

ص: 506

النصوص وأغمضه وأصعبه»

(1)

.

وقد اهتم العلماء بهذا الفن، وجمعوا بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض قال محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول:«لا أعرف أنه رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان بإسنادين صحيحين متضادان، فمن كان عنده فليأت به حتى أؤلف بينهما»

(2)

.

‌رابعاً منهج الكرماني في مختلف الحديث:

كان الكرماني يتعامل مع الأحاديث المُختلف فيها أن يوفق بينها

ما استطاع، باذلاً الجهد في ذلك من خلال:

‌1 - التوفيق والتلفيق جمعاً بين الأحاديث:

قرر علماء الأصول أنه عند التعارض بين الأدلة، يُصار إلى ما أمكن، وقرروا القاعدة في ذلك:(الإعمال أولى من الإهمال)

(3)

، وقال الشوكاني

(4)

:

(1)

الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم، 2/ 26.

(2)

الكفاية، الخطيب البغدادي، 432.

(3)

ينظر: حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع، حسن بن محمد الشافعي، 2/ 66.

(4)

أحمد بن محمد بن علي الشوكاني: قاض، من فضلاء اليمانيين، من أهل صنعاء وهو ابن العلامة (الشوكاني) الكبير، له نيل الأوطار، وإرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، (ت 1250 هـ)، ينظر: معجم المؤلفين، 2/ 134، والأعلام، الزركلي،

2 -

/ 246.

ص: 507

(1)

إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، الشوكاني، 2/ 264.

(2)

شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس القرافي المصري، أخذ عن جمال الدين بن الحاجب والعز بن عبد السلام وشرف الدين الفاكهاني، له التنقيح في أصول الفقه، والذخيرة في الفقه المالكي، وغيرها، (ت 684 هـ)، ينظر: الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، ابن فرحون، 1/ 236، وشجرة النور الزكية في طبقات المالكية، محمد مخلوف، 1/ 270.

(3)

شرح تنقيح الفصول، القرافي، ص 421، وقال ابن حزم الظاهري:«إذا تعارض الحديثان أو الآيتان أو الآية والحديث فيما يظن من لا يعلم ففرض على كل مسلم استعمال كل ذلك لأنه ليس بعض ذلك أولى بالاستعمال من بعض ولا حديث بأوجب من حديث آخر مثله ولا آية أولى بالطاعة لها من آية أخرى مثلها وكل من عند الله عز وجل وكل سواء في باب، وجوب الطاعة والاستعمال ولا فرق» الإحكام في أصول الأحكام، 2/ 21.

ص: 508

ج - حمل المطلق على المقيد.

ح - تخصيص العام.

خ نفي اعتبار مفهوم العدد.

‌أ - التوفيق بين المعاني:

كان من منهج الكرماني رحمه الله الميل إلى التوفيق بين الحديثين والأخذ بكلايهما دون ترك أحدهما، فيجمع بين الأدلة، ويجتهد رأيه في التوفيق بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض بوجه يراه مناسباً.

مثاله: حديث السيدة خديجة رضي الله عنها «

كَلاَّ وَاللهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ

»

(1)

.

قال الكرماني: «وفيه جواز مدح الإنسان في وجهه لمصلحة تطرأ وليس بمعارض لقوله: (احثوا في وجوه المادحين التراب»

(2)

إذ هو فيما مدح بباطل أو يؤدي إلى باطل»

(3)

.

ومن ذلك حديث أخرجه البخاري في باب: كيف يُقبض العلم، «عَنْ

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (3).

(2)

أخرجه مسلم، كتاب: الزهد والرقائق، باب: النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط، وخيف الفتنة على الممدوح، رقم 3002.

(3)

الكواكب الدراري، 1/ 36.

ص: 509

عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعاً، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِماً، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوساً جُهَّالاً فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّو»

(1)

.

قال الكرماني: «فإن قلت ما وجه التوفيق بين هذا الحديث وهو الذي مر في باب: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وهو لن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتي يأتي أمر الله

(2)

وأمثاله: قلت: هذا بعد إتيان أمر الله إن لم يفسر إتيان الأمر بإتيان القيامة، أو عدم بقاء العلماء إنما هو في بعض المواضع دون بعض، ففي غير بيت المقدس مثلاً إن فسرناه به فيكون محمولاً علي التخصيص جمعاً بين الأدلة»

(3)

.

ومن ذلك حديث: «عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ كِيلُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكْ لَكُمْ»

(4)

.

قال الكرماني: «فإن قلت ما وجه التوفيق بينه وبين ما ذكر في كتاب الرقائق أن عائشة قالت فكلته

(5)

، تعني وهو مشعر بأن الكيل سبب البركة؟

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: كَيْفَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ، رقم (99).

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، رقم (70).

(3)

الكواكب الدراري، 2/ 98.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: البيوع، بَاب: مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الْكَيْلِ، رقم (1997).

(5)

وهو حديث: «عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ لَقَدْ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَا فِي رَفِّي مِنْ شَيْءٍ يَأكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ» أخرجه البخاري، كتاب: الرقائق، باب: فضل الفقر، رقم (6065).

ص: 510

قلت: البركة عند البيع وعدمها عند النفقة وسببها ظاهر»

(1)

.

ومن ذلك حديث: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً» . وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ»

(2)

.

بين الكرماني أن البخاري استدل على تسمية الباب (باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره) فقال ناقلاً عن شارح التراجم: «ولعل مراده جواز التشبيك مطلقا لأنه إذا جاز فعله في المسجد ففي غيره أولى بالجواز وقد يجاب بأنه كان لحكمة تمثيل تعاضد المؤمنين وتناصرهم بذلك فمثل المعنى بالصورة لزيادة التبيين

(3)

ثم بين الكرماني إزاحة الإشكال عما أوهم التعارض فقال: فإن قيل قد جاء في الحديث الآخر

(4)

أنه يشعر بجوازه في غير تمثيل. قلنا: لعله كان لإراحة الأصابع كما هو المعتاد، لا على وجه العبث فيفيد أنه هذا كأن التشبيك لغرض صحيح جاز بخلاف العبث»

(5)

.

(1)

الكواكب الدراري، 10/ 20.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، رقم (468).

(3)

المتواري على تراجم أبواب البخاري، ابن المنيّر، 1/ 90.

(4)

وهو: «عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَوِ ابْنِ عَمْرٍو شَبَّكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصَابِعَهُ.» أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، رقم (467).

(5)

الكواكب الدراري، 4/ 441.

ص: 511

ومن ذلك أخرج البخاري: «عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ وَهُمُ الْيَهُودُ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ مَا صَلَّى، فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الأَنْصَارِ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ

»

(1)

.

في هذه الرواية أن الرجل مر على الأنصار في صلاة العصر، ووقع التعارض مع هذه الرواية ماورد في الصحيح كذلك من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما:«عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ»

(2)

.

فجمع الكرماني بين الأحاديث وبين أن لا منافاة بين الروايتين فقال: «لأن هذا الخبر وصل إلى قوم كانوا يصلون فى نفس المدينة فى صلاة العصر، ثم وصل الى أهل قباء فى صبح اليوم الثانى لأنهم كانوا خارجين عن المدينة، لأن قباء من جملة سوادها وفى حكم بساتينها»

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: الصَّلَاةُ مِنَ الإِيمَانِ، رقم (39).

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: مَا جَاءَ فِي الْقِبْلَةِ، وَمَنْ لَا يَرَى الإِعَادَةَ عَلَى مَنْ سَهَا فَصَلَّى إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، رقم:(397).

(3)

الكواكب الدراري، 4/ 62.

ص: 512

ومال بعض العلماء إلى ترجيح رواية صلاة الصبح «لأنها جاءت في رواية ابن عمر وأنس، وأهملت في بعض الروايات حديث البراء، وعينت بالعصر في بعض الطرق. قال: فتقدمت رواية الصبح لأنها من رواية صحابيين. قلت: الأول هو الصواب، وقد قال النووي: لأنه أمكن حمل الحديثين على الصحة فهو أولى من توهين رواية العدول المخرجة في الصحيح»

(1)

.

حتى إن الكرماني يأتي برواية من غير صحيح البخاري ويوفق بينها وبين ما في البخاري مما يُوهم التعارض، مثاله: حديث الأعرابي الذي جاء يسأل عن الإسلام، وأنه سيلزم الفرائض فقال له صلى الله عليه وسلم:«أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ»

(2)

.

قال الكرماني: «وقد جاء في بعض الروايات (أفلح وأبيه إن صدق)

(3)

وقد يسئل عن التوفيق بينه وبين حديث (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)

(4)

والجواب أن وأبيه ليس حلفاً؛ وإنما هي كلمة جرت عادة العرب أن تدخلها في كلامهم غير قاصدين بها حقيقة الحلف، والنهي إنما ورد فيمن قصد الحقيقة لما فيه من إعظام المحلوف به ومضاهاته بالله، وقيل أنه كان قبل النهي عن الحلف بالآباء»

(5)

.

(1)

عمدة القاري، البدر العيني، 1/ 246.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، بَابُ: الزَّكَاةُ مِنَ الإِسْلَامِ، رقم (44).

(3)

أخرجه مسلم، كتاب: الإيمان، بَابُ: بَيَانِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي هِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، رقم (9).

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: الأدب، بَاب: مَنْ لَمْ يَرَ إِكْفَارَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُتَأَوِّلًا أَوْ جَاهِلًا، رقم (5733).

(5)

الكواكب الدراري، 1/ 183.

ص: 513

ومن ذلك حديث: «عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ

(1)

قَالَتْ كُنَّا لَا نَعُدُّ الْكُدْرَةَ وَالصُّفْرَةَ شَيْئاً»

(2)

.

فبين الكرماني

(3)

أن المقصود من كلام أم عطية أن الكدرة ووالصفرة لا تعني شيئا في غير أيام الحيض، أما إن كان في أثناء الحيض فهو تابع له

(4)

، وهو ما وفّق فيه بين حديث أم عطية وحديث عائشة رضي لله عنها: «حتى ترى القصة البيضاء

(5)

» دليل أنهما عند إدبار الحيض من بقايا الحيض، وحديث «ما كنا نعد الكدرة والصفرة شيئا»

(6)

.

(1)

أم عطية الانصارية، نسيبة بنت الحارث، كانت من نساء كبار الصحابة الكرام، وكانت تغسل الموتى، وتغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، روت عنه صلى الله عليه وسلم، وعن عمر، وروى عنها محمد بن سيرين، وعلي بن الأقمر، ينظر: أسد الغابة، ابن الأثير، 7/ 356، والإصابة، ابن حجر، 8/ 437.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الحيض، باب: إِذَا رَأَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ الطُّهْرَ، رقم (326).

(3)

الكواكب الدراري، 3/ 201.

(4)

ذهب الحنفية والحنابلة إلى أن الصفرة والكدرة ليسا بحيض في غير أيام الحيض، ودليهم حديث أم عطية، وذهب الشافعية والمالكية إلى أنهما حيض إذا رأتهما بعد عادتها. ينظر: البحر الرائق، 1/ 202، مواهب الجليل، 1/ 536، المهذب للشيرازي، 1/ 79، والمغني لابن قدامة، 1/ 241.

(5)

أخرجه البخاري تعليقا، كتاب: الحيض، باب: إِقْبَالِ المَحِيضِ وَإِدْبَارِهِ، وأخرجه مالك في الموطأ في طهر الحائض، رقم (189).

(6)

لم أقف على هذا اللفظ الذي ذكره الكرماني، إلا أني وجدت الإمام النووي رحمه الله تعالى يقول عن حديث عائشة رضي الله عنها:«وأما حديث عائشة رضي الله عنها المذكور في الكتاب فلا أعلم من رواه بهذا اللفظ لكن صح عن عائشة رضي الله عنها قريب من معناه فروى مالك في الموطأ عن عقبة ابن أبي عقبة عن أمه مولاة عائشة قالت (كانت النساء يبعثن إلى عائشة رضي الله عنها بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة من دم الحيض فتقول لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء تريد بذلك الطهر من الحيضة» المجموع شرح المهذب،

2 -

/ 416.

ص: 514

وقد يقوم الكرماني بالتوفيق بين ألفاظ الحديث الواحد، مما يُوهم الإشكال، وذلك عن طريق اللغة والإعراب، مثاله: «عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ كُنْتُ أَقْعُدُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ، يُجْلِسُنِي عَلَى سَرِيرِهِ فَقَالَ أَقِمْ

»

(1)

.

قال الكرماني: «قوله: (كنت أقعد) فإن قلت: كنت ماض، وأقعد إما للحال، أو الاستقبال فما وجه الجمع بينهما؟ قلت: أقعدُ حكاية عن الحال الماضية، فهو ماض وذُكر بلفظ الحال استحضاراً لتلك الصورة للحاضرين»

(2)

.

‌ب - اختلاف الأحوال والمقامات:

قد تتعدد الأحوال والمقامات في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتنوع الخطاب، فيجيب صلى الله عليه وسلم عن أسئلة واحدة بأجوبة متعددة، مراعياً أحوال السائلين، فيُعطي كل واحد مسألته وحاجته، وهذا من أساليب دعوته عليه الصلاة والسلام.

مثاله: قال البخاري: «عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الإِسْلَامِ خَيْرٌ قَالَ «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ»

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: أداء الخمس من الإيمان، رقم (50).

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 206.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، بابٌ: إطعامُ الطعام من الإسلَامِ، رقم (11).

ص: 515

قال الكرماني: «فإن قلت جاء في الجواب ههنا أن الخير أن تطعم الطعام، وفي الحديث الذي قبله أنه من سلم المسلمون

(1)

فما وجه التوفيق بينهما؟

قلت: كان الجوابان في وقتين فأجاب في كل وقت بما هو الأفضل بحق السائل، أو أهل المجلس، فقد يكون ظهر من أحدهما قلة المراعاة ليده ولسانه وإيذاء المسلمين، ومن الثاني إمساك الطعام وتكبر فأجابهما على حسب حالهما، أو عَلِم صلى الله عليه وسلم أن السائل الأول سأل عن أفضل التروك، والثاني عن خير الأفعال، أو أن الأول سأل عما يدفع المضار والثاني عما يجلب المنافع، أو أنهما بالحقيقة متلازمان إذ الإطعام مستلزم لسلامة اليد والسلامة لسلامة اللسان»

(2)

.

ومن ذلك حديث: «أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ قَالَ «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا» . قَالَ ثُمَّ أَيُّ قَالَ «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» . قَالَ ثُمَّ أَيُّ قَالَ «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ» . قَالَ حَدَّثَنِي بِهِنَّ وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي»

(3)

.

قال الكرماني: «فإن قلت: تقدم أن إطعام الطعام

(4)

خير أعمال الإسلام، وأن أفضل أعماله أيضا أن يسلم المسلمون منه، وأن أحب الأعمال إلى الله أدومها

(5)

، وغير ذلك فما وجه التوفيق بينهما؟ قلت: أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: أي الإسلام أفضل، رقم (10).

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 93.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: فضل الصلاة لوقتها، رقم (505).

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: إطعامُ الطعام من الإسلَامِ، رقم (11).

(5)

أخرجه البخاري، كتاب: الرقائق، بَاب: الْقَصْدِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعَمَلِ، رقم 6077.

ص: 516

بما يوافق غرضه أو بما يليق به أو بالوقت وقد يقول القائل خير الأشياء كذا

ولا يريد تفضيله في نفسه على جميع الأشياء، ولكن يريد أنه خيرها في حال دون حال، ولو أحد دون واحد، ولقد تعاضدت النصوص على فضل الصلاة على الصدقة، ثم إن تجددت حال تقتضى مواساة مضطر تكون الصدقة أفضل وهلم جرا»

(1)

.

وقال في موضع آخر عند حديث «أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: إِيمَانٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ

»

(2)

.

فذكر أن هناك أشياء قدمها النبي صلى الله عليه وسلم في الأفضلية في غير هذه الرواية، وحذف بعضها فأجاب الكرماني عن ذلك فقال:«قال العلماء: اختلاف الأجوبة في هذه الأحاديث لاختلاف الأحوال، فأعلم كل قوم بما لهم الحاجة إليه دون ما لم تدع حاجتهم إليه، أو ذكر ما لم يعلمه السائل وأهل المجلس وترك ما علموه»

(3)

.

من ذلك حديث: «عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»

(4)

.

قال الكرماني: «فإن قلت ما وجه خيريته؟ ومن يُعلى كلمة الله ويجاهد بين

(1)

الكواكب الدراري، 4/ 181 - 182.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: من قال إن الإيمان هو العمل، رقم (25).

(3)

الكواكب الدراري، 1/ 127.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: فضائل القرآن، بَاب: خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ، (4704).

ص: 517

يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأتي بسائر الأعمال الصالحات كان هو أفضل قلت: المقامات مختلفة لابد من اعتبارها كما أنه عُلم أن أهل المجلس اللائق بحالهم التحريض على التعلم والعلم، أو المراد خير المتعلمين من كان تعليمه في القرآن لا غيره، إذ خير الكلام كلام الله تعالى، فكذلك خير الناس بعد النبيين من اشتغل به، أو المراد خيرية خاصة من الجهة ولا يلزم أفضليتهم مطلقاً»

(1)

.

‌ت - تعدد الحادثة:

قد تتعدد الحادثة وتتشابه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الاختلاف في بعض مجرياتها

فيوهم هذا الاختلاف والتعارض أن يكون سببه هو: الاضطراب، أو سوء حفظ الرواة، إلا أنه يكون من قبيل حمل الروايات على تعدد الحادثة والواقعة، وهذا يُزيل عنها إشكال التعارض.

مثاله: أخرج البخاري: «عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ، فَأُتِيَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ فِيهِ شَىْءٌ مِنْ مَاءٍ، فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِيهِ. قَالَ أَنَسٌ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، قَالَ أَنَسٌ فَحَزَرْتُ مَنْ تَوَضَّأَ مَا بَيْنَ السَّبْعِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ»

(2)

.

فقد صح في روايات أخرى أن عدد الصحابة كان يزيد عن ثمانين

(3)

، وفي

(1)

الكواكب الدراري، 19/ 33.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: الْوُضُوءِ مِنَ التَّوْرِ، رقم (199).

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: الغسل والوضوء في المخضب والقدح والخشب والحجار، رقم (194)، من حديث سيدنا أنس رضي الله عنه.

ص: 518

رواية أنهم زهاء ثلاثمئة

(1)

، وتارة أنهم سبعون

(2)

وتارة خمس عشرة مائة

(3)

.

والجواب على ذلك أن حادثة نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم كانت متعددة وليس مرة واحدة

(4)

.

وقد يُشكل هذا أن جميع الروايات التي فيها خلاف في العدد قد رواها سيدنا أنس رضي الله عنه، وهذا لا يمنع من تعدد الحادثة، ولا سيما إذا كان سيدنا أنس رضي الله عنه خادماً للنبي صلى الله عليه وسلم ملازماً له، قال السيوطي:«قال العلماء هما قضيتان جرتا في وقتين ورواهما جميعا أنس»

(5)

.

كما أن تعدد هذه الحادثة، ورد من غير حديث أنس رضي الله عنه، قال النووي: «في هذه الأحاديث في نبع الماء من بين أصابعه وتكثيره وتكثير الطعام، هذه كلها معجزات ظاهرات وُجدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن مختلفة، وعلى أحوال متغايرة، وبلغ مجموعها التواتر، وأما تكثير الماء فقد صح من رواية أنس وابن مسعود وجابر وعمران بن الحصين وكذا تكثير الطعام وُجد منه صلى الله عليه وسلم في مواطن

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الأنبياء، باب: علامات النبوة في الإسلام، رقم (3344) من حديث سيدنا أنس رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الأنبياء، باب: علامات النبوة في الإسلام، رقم (3350)، من حديث سيدنا أنس رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الأنبياء، باب: علامات النبوة في الإسلام، رقم (3348)، من حديث سيدنا جابر بن عبدالله رضي الله عنه.

(4)

ينظر: الكواكب الدراري، 3/ 48.

(5)

شرح السيوطي على مسلم، 5/ 299.

ص: 519

مختلفة وعلى أحوال كثيرة وصفات متنوعة»

(1)

.

‌ج - اختلاف صور فعل النبي صلى الله عليه وسلم

-:

قد يفعل النبي صلى الله عليه وسلم الفعل الواحد على صور وطرق مختلفة، فتتعدد الرويات في ذلك، ويرجع ذلك للحال التي يكون عليها صلى الله عليه وسلم، من مرض وصحة، أو لبيان الجواز والتعليم لأمته صلى الله عليه وسلم من أن الأمر فيه سعة، فيكون العبد مخيّراً بين صور الاختلاف المنقولة عنه صلى الله عليه وسلم

ولا يظنن أحد أن هذا الاختلاف سببه الاضطراب، أو سوء حفظ الرواة واختلاط الأمر عليهم.

على سبيل المثال:

فقد ورد عن السيدة عائشة رضي الله عنها رويات عدة تنقل فيها صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل، وهذه الروايات فيها اختلاف في عدد الركعات، أو الكيفية المنقولة

عنه صلى الله عليه وسلم، منها:

أخرج البخاري في صحيحه: عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل السيدة عَائِشَةَ رضي الله عنها كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ فَقَالَتْ مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ فَقَالَ يَا عَائِشَةُ إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي»

(2)

.

(1)

شرح مسلم، 15/ 38، وينظر: إكمال المُعلم بفوائد مسلم، القاضي عياض،

7 -

/ 239.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: صلاة التراويح، باب: فَضْلِ مَنْ قَامَ رَمَضَانَ، رقم (1888).

ص: 520

وأخرج البخاري كذلك: «عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ يُصَلِّي إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ بِالصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ»

(1)

.

وورد عن الزهري عن عروة أن السيدة عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً كَانَتْ تِلْكَ صَلَاتَهُ تَعْنِي بِاللَّيْلِ فَيَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَاسَهُ وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ ثُمَّ يَضْطَجِعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ حَتَّى يَاتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ لِلصَّلَاةِ»

(2)

.

ووردت صور غير ذلك عن السيدة عائشة رضي الله عنها

(3)

.

وقد أجاب العلماء عن ذلك: «أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت مرة من دون صلاة الفجر، ومرة معها، ومرة كان يصلي الوتر بعد النوم

»

(4)

.

قال الإمام النووي: «وأما الاختلاف في حديث عائشة فقيل هو منها وقيل من الرواة عنها، فيحتمل أن إخبارها بأحد عشرة هو الأغلب، وباقي

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: التهجد، بَاب: مَا يُقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، رقم (1104).

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الوتر، باب: ما جاء في الوتر، رقم (946).

(3)

من هذه الروايات ما أخرجه البخاري، كتاب: التهجد، بَاب: قِيَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ وَنَوْمِهِ وَمَا نُسِخَ مِنْ قِيَامِ، رقم (1078)، ومنها ما أخرجه مسلم، كتاب: صلاة المسافرين قصرها، بَابُ: صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَعَدَدِ رَكَعَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي اللَّيْلِ، وَأَنَّ الْوِتْرَ رَكْعَةٌ، وَأَنَّ الرَّكْعَةَ صَلَاةٌ صَحِيحَةٌ، رقم (124)، وأبو داود، كتاب: الصلاة، باب: في صلاة الليل، رقم (1360)

وغيرها من الروايات.

(4)

ينظر: الكواكب الدراري، 6/ 201.

ص: 521

رواياتها إخبار منها بما كان يقع نادرا في بعض الأوقات، فأكثره خمس عشرة بركعتي الفجر وأقله سبع وذلك بحسب ما كان يحصل من اتساع الوقت أو ضيقه بطول قراءة كما جاء في حديث حذيفة وبن مسعود أو لنوم أو عذر مرض أو غيره أو في بعض الأوقات عند كبر السن، كما قالت فلما أسن صلى سبع ركعات أو تارة تعد الركعتين الخفيفتين في أول قيام الليل كما رواه زيد بن خالد وروتها عائشة بعدها هذا في مسلم وتعد ركعتي الفجر تارة وتحذفهما تارة أو تعد إحداهما وقد تكون عدت راتبة العشاء مع ذلك تارة وحذفتها تارة»

(1)

.

وقال القاضي عياض: «ولا خلاف أنه ليس فى ذلك حدٌّ لا يزاد عليه

ولا ينقص منه، وأن صلاة الليل من الفضائل والرغائب التى كلما زيد فيها زيد فى الأجر والفضل، وإنما الخلاف فى فعل النبي صلى الله عليه وسلم وما اختاره لنفسه»

(2)

.

‌د - حفظ الرواة وضبطهم واطلاعهم:

من المعلوم أن رواة الحديث ليسو على درجة واحدة في الحفظ والضبط والإتقان، وإنما تتفاوت قدراتهم في التحمّل والأداء، فيقع التباين والاختلاف فيما رووه من الأحاديث.

مثاله: حديث عن طلحة بن عبيدالله قال: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرُ الرَّاسِ، يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ، وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي

(1)

شرح النووي على مسلم، 6/ 18 - 19، وينظر قول القرطبي في المُفهم لما أشكل من تلخيص مسلم، 7/ 2، وقول الباجي القرطبي في شرحه على الموطأ، 1/ 216.

(2)

إكمال المعلم شرح صحيح مسلم، 3/ 82.

ص: 522

الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ». فَقَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا قَالَ «لَا، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ» . قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «وَصِيَامُ رَمَضَانَ» . قَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ قَالَ «لَا، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ» . قَالَ وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ. قَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا قَالَ «لَا، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ» . قَالَ فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ وَاللهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ»

(1)

.

بيّن الكرماني أن هذه الرواية لم تأتِ على ذكر الحج وذلك لأنه لم يُفرض، أو أن السائل لايجب عليه الحج، وفي بعض الروايات لايوجد فيها ذكر الصوم، وفي بعضها لايوجد فيها ذكر الزكاة، وفي بعضها ذُكر صلة الرحم، وفي بعضها أداء الخمس فتتفاوت هذه الروايات في خصال الإيمان زيادة ونقصاً

(2)

.

فبين الكرماني السبب في ذلك فقال: «وسبب ذلك تفاوت الرواة في الحفظ والضبط؛ فمنهم من قصر فاقتصر على ما حفظه فأداه ولم يتعرض لما زاده غيره بنفي ولا إثبات، وذلك لا يمنع من إيراد الجميع في الصحيح؛ لما عرفت أن زيادة الثقة مقبولة، والقاعدة الأصولية فيها أن الحديث إذا رواه راويان واشتملت إحدى الروايتين على زيادة فإن لم تكن مغيرة لإعراب الباقي قُبلت وحملت ذلك على نسيان الراوي أو ذهوله أو اقتصاره بالمقصود منه في صورة الاستشهاد وإن كانت مغايرة تعارضت الروايتان وتعين طلب الترجيح

(3)

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، بَابُ: الزَّكَاةُ مِنَ الإِسْلَامِ، رقم (44).

(2)

ينظر الكواكب الدراري، 1/ 183.

(3)

ينظر تفصيل المسألة في: البحر المحيط، الزركشي، 6/ 237، ورفع النقاب، لأبي عبدالله الشوشاوي، 5/ 246.

ص: 523

ولأصحاب الحديث فيه تفاصيل»

(1)

.

ومن ذلك حديث ووصية النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس «

فَقَالَ «آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ الإِيمَانِ بِاللهِ ثُمَّ فَسَّرَهَا لَهُمْ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنِّى رَسُولُ اللهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تُؤَدُّوا إِلَيَّ خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ، وَأَنْهَى عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُقَيَّرِ وَالنَّقِيرِ»

(2)

.

فالحديث لم يذكر صيام رمضان والمقام مقام بيان وتفصيل في أركان الإسلام المفروضة آنذاك، والصيام منها، قال الكرماني: «فما السبب فى تركه ههنا والحال أنه كان واجبا حينئذ لأن وفادتهم كانت عام الفتح وإيجاب الصيام فى السنة الثانية من الهجرة قلت: قال ابن الصلاح:

(3)

وأما عدم ذكر الصوم فيه فهو إغفال من الراوى، وليس من الاختلاف الصادر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل من اختلاف الرواة الصادر من تفاوتهم فى الضبط والحفظ»

(4)

.

وقد يكون ما أوهم التعارض سببه عدم اطلاع راوٍ على مارواه الآخر، من ذلك حديث السيدة عائشة رضي الله عنها: «قَالَتْ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَبَّحَ سُبْحَةَ

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 183.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: مواقيت الصلاة، باب:(منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين)، رقم (501).

(3)

صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط، ابن الصلاح، ص 155.

(4)

الكواكب الدراري، 4/ 177.

ص: 524

الضُّحَى وَإِنِّي لَأُسَبِّحُهَا»

(1)

.

فإن قول السيدة عائشة رضي الله عنها هذا يخالف الأحاديث الصحيحة في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الضحى، منها «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ لَا أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلَاةِ الضُّحَى، وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ»

(2)

.

فقال الكرماني مبيناً ذلك: «وسبب عدم رؤيتها أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يكون عند عائشة في وقت الضحى إلا في النادر؛ لكونه أكثر النهار في المسجد، أو في موضع آخر، وإذا كان عند نسائه فإنها كان لها يوم من تسعة أيام وثمانية، أو المراد ما داوم عليها فيكون نفياً للمداومة لا أصلها»

(3)

.

وقد رد الكرماني على من لم يرَ صلاة الضحى محتجاً بحديث السيدة عائشة رضي الله عنها: «قال ابن بطال

(4)

أخذ قوم بحديث عائشة ولم يروا صلاة الضحى، وقالوا إن الصلاة التي صلّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ثمان ركعات إنما كانت لأجل الفتح وهي سنة الفتح.

وهذا التأويل لا يدفع صلاة الضحى لتواتر الروايات بها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في حديث عائشة نفيها لأنها أخبرت بما علمت، ولم تقل لم يصلها بل قالت

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: التهجد، باب: من لم يصلي الضحى ورآه واسعاً، رقم (1111).

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: التهجد، باب: صَلَاةِ الضُّحَى فِي الْحَضَرِ، رقم (1112).

(3)

الكواكب الدراري، 7/ 5.

(4)

شرح ابن بطال على البخاري، 3/ 183.

ص: 525

ما رأيت ومعناه ما رأيته معلناً بها، وإن كان مذهب السلف الاستتار بها وترك إظهارها لئلا يروها واجبة»

(1)

.

ويدرج تحت ضبط الرواة (زيادة الثقة) التي جعلها الكرماني من مسائل التوفيق في الأحاديث التي أوهمت الاختلاف والإشكال، مثاله: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ تَوَضَّأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ غَيْرَ رِجْلَيْهِ، وَغَسَلَ فَرْجَهُ وَمَا أَصَابَهُ مِنَ الأَذَى، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ، ثُمَّ نَحَّى رِجْلَيْهِ فَغَسَلَهُمَا، هَذِهِ غُسْلُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ»

(2)

.

قال الكرماني: «فإن قلت ما التلفيق بينه وبين رواية عائشة

(3)

قلت: زيادة الثقة مقبولة، فيُحمل المطلق على المقيد، فرواية عائشة محمولة على أن المراد بوضوء الصلاة أكثره وهو ما سوى الرجلين

(4)

.

فإن قلت الزيادة في رواية عائشة حيث أثبتت غسل الرجلين، قلت: مراد المحدثين بزيادة الثقة الزيادة في اللفظ وقال بعضهم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيد غسل القدمين بعد الفراغ لإزالة الطين لا لأجل الجنابة، ويحتمل أن يقال أنه

(1)

الكواكب الدراري، 7/ 4.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الغسل، باب: الْوُضُوءِ قَبْلَ الْغُسْلِ، رقم (248).

(3)

حديث عائشة: عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي الْمَاءِ، فَيُخَلِّلُ بِهَا أُصُولَ شَعَرِهِ ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَاسِهِ ثَلَاثَ غُرَفٍ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ، أخرجه البخاري، في نفس الكتاب والباب السابقين، رقم (247).

(4)

وقال ابن حجر نحو هذا الكلام في فتح الباري، 1/ 361.

ص: 526

ما كانا في وقتين مختلفين فلا منافاة بينهما»

(1)

.

‌هـ - حمل المطلق على المقيد:

معناه: معناه بيان المقيد للمطلق، أو تقييد المطلق بالمقيد

(2)

.

مثاله حديث: «عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ بَعْدُ يَقُولُ كَانَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ قَبْلَ أَنْ يُبْنَى الْمَسْجِدُ»

(3)

.

في الحديث ورد صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في مرابض الغنم مطلقاً، ثم قيّدها ببناء المسجد، أجاب الكرماني عن ذلك:«والغرض أنه قال أولاً مطلقاً وثانياً مقيداً بقيد بناء المسجد، وإذا ورد مطلقاً ومقيداً سواء تقدم المطلق أو تأخر، يُحمل المطلق على المقيد عملاً بالدليلين، والمراد من المسجد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم»

(4)

.

ومن ذلك حديث: «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ»

(5)

قال الكرماني: «فإن قلت لا يُعلم من الحديث مزج الماء في إحدى الغسلات بالتراب فمن أين حكم به؟ قلت: الأحاديث الأخرى الدالة عليه

(6)

، وهذا الحيث وإن كان مطلقا يقيد بذلك؛ لأن

(1)

الكواكب الدراري، 3/ 112.

(2)

الوجيز في أصول الفقه، د. محمد الزحيلي، 2/ 42.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في مرابض الغنم، رقم (421).

(4)

الكواكب الدراري، 4/ 91.

(5)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعاً، رقم (171).

(6)

أخرج مسلم في صحيحه، كتاب: الطهارة، بَابُ: حُكْمِ وُلُوغِ الْكَلْبِ، رقم (91) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ، أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» .

ص: 527

المطلق والمقيد إذا اتحد سببهما حُمل المطلق عليه عملا بالدليلين»

(1)

.

ومن أمثلة حمل المطلق على المقيد التي استدل بها الكرماني ما أخرجه البخاري: «عن أَنَس بْن مَالِكٍ يَقُولُ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمَرْأَةُ مِنْ نِسَائِهِ يَغْتَسِلَانِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ. زَادَ مُسْلِمٌ وَوَهْبٌ عَنْ شُعْبَةَ مِنَ الْجَنَابَةِ»

(2)

. وحديث: «عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ غَسَلَ يَدَهُ»

(3)

.

قال الكرماني: «فإن قلت: كيف التوفيق بينه وبين حديث هشام إذا اغتسل من الجنابة غسل يده. قلت: ذلك مندوب وهذا جائز وقد يقال هذا مطلق وذاك مقيد فيحمل المطلق على المقيد فيحكم بالندب»

(4)

.

أي أن حديث أنس مطلق، وحديث عائشة مقيد، فيحمل حديث أنس على حديث عائشة.

‌و - تخصيص العام:

يأتي بمعنى: «إذا عُقّب اللفظ العام باستثناء أو تقييد بصيغة أو حكم

(1)

الكواكب الدراري، 3/ 9 - 10.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الغسل، باب: مسح اليد بالتراب ليكون أنقى، رقم، (261).

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الغسل، باب: مسح اليد بالتراب ليكون أنقى، رقم، (263).

(4)

الكواكب الدراري، 3/ 126.

ص: 528

خاص لا يتأتى في كل مدلوله بل في بعضه»

(1)

.

يبين الكرماني طريقة للتوفيق بين الأحاديث وهي: «أن الخاص إذا عارض العام يُخصصه) مثاله حديث: «عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ المُؤَذِّنُ إِذَا أَذَّنَ، قَامَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ، حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ كَذَلِكَ، يُصَلُّونَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ المَغْرِبِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ شَيْءٌ.

قَالَ عُثْمَانُ بْنُ جَبَلَةَ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ شُعْبَةَ: لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إِلاَّ قَلِيلٌ»

(2)

.

فيبين الكرماني وجه الجمع بين هذا الحديث والحديث الذي قبله: «عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ المُزَنِيِّ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ، ثَلَاثًا لِمَنْ شَاءَ»

(3)

.

قال الكرماني: «قلت: هذا خاص بأذان المغرب وإقامته، وذلك عام والخاص إذا عارض العام يُخصصه عند الشافعية

(4)

، سواء علم تأخره أم

(1)

الإبهاج في شرح المنهاج، 2/ 197، تاج الدين السبكي وولده، تاج الدين

عبد الوهاب بن علي السبكي.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الأذان، بَابُ: كَمْ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ وَمَنْ يَنْتَظِرُ الإِقَامَةَ، رقم (600).

(3)

أخرجه البخاري، في نفس الكتاب والباب السابقين، رقم (601).

(4)

«ويجوز التخصيص مطلقا عند الأئمة الأربعة والأكثر، أي: سواء كان العام أمرًا أو نهيًا أو خبرًا، خلافًا لبعض الشافعية، وبعض الأصوليين في الخبر، وعن بعضهم وفي الأمر» ، شرح الكوكب المنير، ابن النجار، 3/ 269، وقال المحققان د. محمد الزحيلي، ود. نزيه حمّاد، اشترط الحنفية في تخصيص العام أن يكون مقارنا له، ولا يصح أن يكون متراخيا، وإلا كان نسخا، ينظر حاشية التحقيق، 3/ 269.

ص: 529

لا فالمراد بقوله كل أذانين غير أذاني المغرب»

(1)

.

‌ز - نفي اعتبار مفهوم العدد:

يقصد بمفهوم العدد: تقييد الخطاب بعدد مخصوص وتعليق الحكم به، فيدل على نفي الحكم عما عدا ذلك العدد زائدا أو ناقصا

(2)

.

وهو حجة عند الإمام مالك والشافعي وأحمد، ومن قال بالممفهوم، ومنعه المعتزلة وآخرون

(3)

.

وقد يدل الدليل والقرينة من سياق الكلام، أو من خارجه عن العدد على أنه مقصود بذاته لا غير كقوله تعالى {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] أو قد يدل على على عدم نفي الزائد، أو أن مفهمومه غير مقصود إذا جاء للمبالغة

مثلاً، يقول علاء الدين الصالحي

(4)

: «فائدة: محل الخلاف في ذلك في عدد لم

(1)

الكواكب الدراري، 5/ 23.

(2)

ينظر: شرح الكوكب المنير، 3/ 509.

(3)

ينظر: شرح الكوكب المنير، 3/ 509، وأصول الفقه لابن مفلح، 3/ 1096، والتحبير شرح التحرير، الصالحي، 6/ 2941.

(4)

علي بن سليمان المرداوى، الإمام العلاّمة، علاء الدين على المرداوى الأصل، الصالحي الحنبلي، الفقيه النحوي الأصولي، المحدث الفرضي، أخذ عن: تقى الدين بن قندس، ومحمد السبكي، ودرّس وأفتى في المدرسة الضيائية، وناب في القضاء، له المقنع، والخلاصة، والتحبير، (ت 885 هـ). ينظر: الجوهر المنضد في طبقات متأخري أصحاب أحمد، لابن المبرد الحنبلي 1/ 99 - 100.

ص: 530

يقصد به التكثير كالألف والسبعين، ونحوهما مما يستعمل في لغة العرب للمبالغة.

قال ابن فورك وغيره: فإن قولهم العدد نصوص إنما هو حيث لا قرينة تدل على إرادة المبالغة، نحو: جئتك ألف مرة فلم أجدك. قال: وبذلك يعلم ضعف الاحتجاج بقوله صلى الله عليه وسلم لما نزل: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]«لأزيدن على السبعين» ، فعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمفهوم فيه، وذلك من أشهر حجج المعتبرين لمفهوم العدد»

(1)

.

وكان الإمام الكرماني رحمه الله تعالى يوفق ويجمع بين الأحاديث عن طريق مفهوم عدم اعتبار العدد.

مثاله: حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن فضل صلاة الجماعة: «عن أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «صَلَاةُ الْجَمِيعِ تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَصَلَاتِهِ فِي سُوقِهِ خَمْساً وَعِشْرِينَ دَرَجَةً

»

(2)

.

وقد ورد في رواية أخرى عند البخاري فيها اختلاف في عدد الدرجات، «عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: صَلَاةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً»

(3)

.

فأجاب الكرماني عن ذلك من عدة وجوه فقال: «أحدهما: أنه لا منافاة

(1)

التحبير شرح التحرير، 6/ 2941.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: الصَّلَاةِ في مَسْجِدِ السُّوقِ، رقم (466).

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الأذان، باب: فضل صلاة الجماعة، رقم (621).

ص: 531

بينهما إذ ذكر القليل لا ينفي الكثير لأن مفهوم العدد لا اعتبار له، وثانيها: أن يكون أخبر أولا بالقليل، ثم أعلمه الله بزيادة الفضل فأخبر بها، وثالثها: أنه يختلف باختلاف أحوال المصلى بحسب كمال الصلاة ومحافظته على هيئاتها، وخشوعها وكثرة جماعتها وشرف البقعة ونحوها»

(1)

.

ومثله: «عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم افْتَقَدَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللهِ أَنَا أَعْلَمُ لَكَ عِلْمَهُ فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ جَالِسًا فِي بَيْتِهِ مُنَكِّسًا رَاسَهُ فَقَالَ لَهُ مَا شَانُكَ فَقَالَ شَرٌّ كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَأَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ مُوسَى فَرَجَعَ إِلَيْهِ الْمَرَّةَ الْآخِرَةَ بِبِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ فَقَالَ اذْهَبْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَلَكِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ»

(2)

.

في هذا الحديث يُخبر صلى الله عليه وسلم أن ثابت بن قيس من أهل الجنة، وهو لا ينافي حديث العشرة المبشرين بالجنة، أخرج الترمذي في سننه: «عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ، حَدَّثَهُ فِي نَفَرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: عَشَرَةٌ فِي الجَنَّةِ: أَبُو بَكْرٍ فِي الجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ وَطَلْحَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ. قَالَ: فَعَدَّ هَؤُلَاءِ التِّسْعَةَ وَسَكَتَ عَنِ العَاشِرِ، فَقَالَ القَوْمُ: نَنْشُدُكَ اللهَ يَا أَبَا الأَعْوَرِ مَنِ العَاشِرُ؟ قَالَ: نَشَدْتُمُونِي بِاللهِ، أَبُو الأَعْوَرِ فِي الجَنَّةِ.

(1)

الكواكب الدراري، 4/ 139.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: تفسير القرآن، بَاب:{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} ، رقم (4526).

ص: 532

أَبُو الأَعْوَرِ هُوَ: سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ»

(1)

.

قال الكرماني: «فإن قلتَ هذا صريح في أنه من أهل الجنة أي ثابت بن قيس فما معنى قولهم العشرة المبشرة بالجنة؟ قلت: مفهوم العدد لا اعتبار له،

لا ينتفي الزائد، والمقصود من العشرة الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ بشره بالجنة، أو المبشرون بدفعة واحدة في مجلس واحد، ولابد من التأويل بالإجماع، إذ بالإجماع أزواج الرسول وفاطمة والحسنان ونحوهم من أهل الجنة»

(2)

.

‌2 - الترجيح:

‌تعريف الترجيح:

«تغليب بعض الأمارات على بعض في سبيل الظن»

(3)

.

مذهب الجمهور يقدم الترجيح على النسخ، خلافا للحنفية الذين قالوا يُقدم النسخ على الترجيح

(4)

.

وقد عد الإمام الكرماني على ترجيح بعض الأحاديث على بعض عند تعذر الجمع بينها، من ذلك ترجيح ما في الصحيح على ما في غيره، وذلك عن طريق استدلاله بأقوال العلماء في الحكم على الحديث الذي أوهم المخالفة.

(1)

أخرجه الترمذي، في أبواب المناقب، بَاب: مَنَاقِبِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ عَوْفٍ الزُّهْرِيِّ رضي الله عنه، رقم، (348).

(2)

الكواكب الدراري، 18/ 102.

(3)

البرهان في أصول الفقه، الجويني، 2/ 175، وينظر: الإبهاج في شرح المنهاج، 3/ 208.

(4)

التمهيد شرح مختصر الأصول من علم الأصول، المنياوي، ص 110.

ص: 533

مثاله قال البخاري: «عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَتَوَضَّئُونَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَمِيعاً»

(1)

.

فبعد أن ساق الكرماني أقوال العلماء في هذه المسألة بيّن ما يعارضه فقال: «ما روى أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة

(2)

. قلت: حديث الإباحة أصح.

فإن قلت مقتضاه الإباحة إذا استعملا جميعاً والتنازع إنما هو فيما إذا ابتدأ أحدهما قبل الآخر. قلت: النجاسات إذا وقعت في الماء قبل أن يتوضأ منه أو مع التوضؤ منه حكمهما سواء فلما كان وضوء كل واحد من الرجل والمرأة مع صاحبه لا ينجس الماء عليه كان وضوؤه بعده من فضلها كذلك بناء على أن حكم القبلية والمعية واحد.

النووي:

(3)

أجاب العلماء عن حديث النهي بأجوبة أولها أنه ضعيف ضعّفه البخاري وغيره ثانيها: أن المراد النهي عن فضل أعضائها وهو المتساقط عنها ثالثها أن النهي للاستحباب لا للإيجاب»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: وضوء الرجل مع امراته وفضل وضوء المرأة وتوضأ عمر بالحميم ومن بيت نصرانية، رقم (192).

(2)

أخرج أبو داود في سننه، كتاب: الطهارة، باب: النهي عن الوضوء بفضل المرأة، رقم (81) «نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن تَغتَسِلَ المرأةُ بفَضلِ الرجلِ، أو يَغتَسِلَ الرجلُ بفَضلِ المرأةِ. زاد مُسدَّدٌ: وليَغتَرِفا جميعاً، وأخرجه النسائي في الكبرى، كتاب: الطهارة، باب: النَّهْيُ عَنِ الِاغْتِسَالِ بِفَضْلِ الْجُنُبِ، رقم (235).

(3)

شرح النووي على مسلم، 2/ 3.

(4)

الكواكب الدراري، 3/ 41.

ص: 534

ومن ذلك حديث السيدة عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها بشأن الظفائر: «انْقُضِي رَاسَكِ، وَامْتَشِطِي، وَأَمْسِكِي عَنْ عُمْرَتِكِ

»

(1)

قال الكرماني ناقلاً عن ابن بطال «ما روي عن ابن عمر أنه كان يأمر النساء بالنقض وقال طاووس تنقض الحائض لا الجنب أنه لا يجب على المرأة أن تنقض شعرها عند الاغتسال من الجنابة، إذا أوصلت الماء إلى أصول الشع،

وحجتهم حديث أم سلمة أنها قالت: «يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه للجنابة قال لا إنما يكفيك أن تحثي عليه ثلاث حثيات»

(2)

، وحديث عائشة أصح إسناداً غير أن العمل عند الفقهاء على حديث أم سلمة، وجمع حماد بين الحديثين فقال إن كانت ترى أن الماء أصاب أصول الشعر أجزأ عنها وإن كانت ترى أنه لم يصب فلتنقضه»

(3)

.

ومنه حديث: «عن ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُحْرِمٌ»

(4)

.

قال الكرماني ناقلاً عن النووي: قال أبو حنيفة يصح نكاح المحرم استدلالاً بحديث ميمونة وهو رواية ابن عياش وأجيب عنه بأن ميمونة نفسها روت أنه تزوجها حلالا قال الشاعر:

قتلوا ابن عفان الخليفة محرما

(5)

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الحيض، باب: امتشاط المرأة عند غسلها من المحيض، رقم (312).

(2)

أخرجه مسلم، كتاب: الحيض، بَابُ: حُكْمِ ضَفَائِرِ الْمُغْتَسِلَةِ، رقم (58).

(3)

الكواكب الدراري، 3/ 184.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: النكاح، بَاب: نِكَاحِ الْمُحْرِمِ، رقم (4792).

(5)

وتكملة البيت: «ودعا فلم أر مثله مخذولا» والبيت للراعي النُميري، ينظر لسان العرب، 12/ 123.

وقال ابن الأثير: «كل مسلم عن مسلم محرم يقال إنه لمحرم عنك: أي يحرم أذاك عليه. ويقال: مسلم محرم، وهو الذي لم يحل من نفسه شيئا يوقع به. يريد أن المسلم معتصم بالإسلام ممتنع بحرمته ممن أراده أو أراد ماله.

ومنه حديث عمر «الصيام إحرام» لاجتناب الصائم ما يثلم صومه. ويقال للصائم محرم. ومنه قول الراعي:

قتلوا ابن عفان الخليفة محرما

ودعا فلم أر مثله مخذولا وقيل: أراد لم يحل من نفسه شيئا يوقع به. ويقال للحالف محرم لتحرمه به.» النهاية في غريب الحديث والأثر، 1/ 372.

ص: 535

وهي أعرف بالقضية من ابن عباس؛ لتعلقها بها وبأن المراد من المُحرم أنه في الحرم، ويقال لمن قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً أي: في حرم المدينة، وبأن فعله معارض بقوله:«لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ»

(1)

وإذا تعارضا يُرجح القول بأن ذلك من خصائصه عليه الصلاة والسلام»

(2)

.

وتارة يعمد الكرماني إلى ترجيح رواية على رواية، إذا ظهرت له قرينة كالإثبات ففيه زيادة علم، مثال قال البخاري: «عن مجاهد أُتِيَ ابْنُ عُمَرَ فَقِيلَ لَهُ هَذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْكَعْبَةَ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فَأَقْبَلْتُ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ خَرَجَ، وَأَجِدُ بِلَالاً قَائِماً بَيْنَ الْبَابَيْنِ، فَسَأَلْتُ بِلَالاً فَقُلْتُ أَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَعْبَةِ

(1)

أخرجه مسلم، كتاب: النكاح، بَابُ: تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ، وَكَرَاهَةِ خِطْبَتِهِ، رقم (1409).

(2)

الكواكب الدراري، 19/ 88.

ص: 536

قَالَ نَعَمْ رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ عَلَى يَسَارِهِ إِذَا دَخَلْتَ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى فِي وَجْهِ الْكَعْبَةِ رَكْعَتَيْنِ»

(1)

.

ويعارضه حديث ابن عباس «قَالَ لَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا، وَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي قُبُلِ الْكَعْبَةِ وَقَالَ «هَذِهِ الْقِبْلَةُ»

(2)

.

فبين الكرماني أن حديث ابن عباس مرسل، لأنه لم يثبت أنه دخل الكعبة مع النبي صلى الله عليه وسلم فيقدّم عليه حديث بلال رضي الله عنه

وقال في موضع آخر ناقلاً عن النووي: «قال وأجمع أهل الحديث باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}؛ لأنه مثبت فمعه زيادة علم فوجب ترجيحه»

(3)

.

وقاعدة تقديم المثبت على النافي هي قاعدة معروفة عند الأصولييين، حتى إنهم مثّلوا بحديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، من عدمها، استدلالا بكلا الحديثين «ويقدم الخبر المثبت «على النافي» ، يعني الدال على ثبوت الحكم على الخبر الدال على نفيه، كإثبات بلال رضي الله عنه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة على رواية ابن عباس في نفيها، لأن عند المثبت زيادة علم ممكنة وهو عدل جازم بها»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ، رقم (390).

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ، رقم (391).

(3)

ينظر الكواكب الدراري، 4/ 61 - 62، و 8/ 119.

(4)

شرح مختصر الروضة، الطوفي، 3/ 700.

ص: 537

إلا أن الكرماني مع ترجيحه هذا لم يخلو كلامه من التوفيق بين المعاني بسبب ورود حديث آخر في صحيح مسلم وهو: «عن أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ، دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا، وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ حَتَّى خَرَجَ، فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ فِي قُبُلِ الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ، وَقَالَ «هَذِهِ الْقِبْلَةُ» ، قُلْتُ لَهُ: مَا نَوَاحِيهَا؟ أَفِي زَوَايَاهَا؟ قَالَ: بَلْ فِي كُلِّ قِبْلَةٍ مِنَ الْبَيْتِ»

(1)

.

فعلل تعليلا حسناً ناقلا عن النووي: «وأما نفي من نفى كأسامة فسببه: أنهم لما دخلوا الكعبة أغلقوا الباب، واشتغلوا بالدعاء فرأى أسامة النبي صلى الله عليه وسلم يدعو؛ فاشتغل هو أيضا بالدعاء فى ناحية من نواحى البيت، والرسول صلى الله عليه وسلم فى ناحية أخرى وبلال قريب منه ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم، فرآه بلال لقربه ولم يره أسامة لبُعده مع خفة الصلاة وإغلاق الباب واشتغاله بالدعاء، وجاز له نفيها عملا بظنه»

(2)

.

إلا أن هناك في مسلم كذلك مايُفيد أن أسامة رضي الله عنه يُثبت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في جوف الكعبة: «عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْكَعْبَةَ هُوَ وَأُسَامَةُ، وَبِلَالٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْحَجَبِيُّ، فَأَغْلَقَهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ مَكَثَ فِيهَا. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَسَأَلْتُ بِلَالًا، حِينَ خَرَجَ: مَا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: «جَعَلَ عَمُودَيْنِ عَنْ يَسَارِهِ، وَعَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ، وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ ثُمَّ صَلَّى»

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم، كتاب: الحج، باب: استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره، والصلاة فيها، والدعاء في نواحيها كلها، رقم (395).

(2)

شرح النووي على مسلم، 9/ 82.

(3)

أخرجه مسلم، كتاب: الحج، باب: استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره، والصلاة فيها، والدعاء في نواحيها كلها، رقم (388).

ص: 538

فقال الكرماني ما يوفق بين الأحاديث فقال: «وقال بعض العلماء يحُتمل أنه صلى الله عليه وسلم دخل البيت مرتين، مرة صلى فيه ومرة دعا ولم يصل، فلم تتضاد الأخبار والله أعلم»

(1)

.

‌3 - الحكم بالنسخ:

إذا تعذّر الجمع بين الروايات أو ترجيح رواية على أخرى بإحدى القرائن، يُصار إلى النسخ.

و‌

‌تعريف النسخ:

رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر

(2)

.

وعلم الناسخ والمنسوخ علم مهم لا يعرفه كل أحد، وقد أعجز العلماء.

قال الزهري: «أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخه»

(3)

.

ويُروى أن سيدناعلي رضي الله عنه مرّ على قاضٍ فقال له: «فقال له: هل تعلم الناسخ من المنسوخ، قال: لا، قال: هلكت، وأهلكت»

(4)

.

وقال ابن الصلاح: «إذا تضادّ حديثان فإما أن يظهر كون أحدهما ناسخا

(1)

الكواكب الدراري، 4/ 61.

(2)

الموافقات، الشاطبي، 3/ 341.

(3)

حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، 3/ 365.

(4)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب: آداب القاضي، باب: إثم من أفتتن أو قضى بالجهل، رقم (20360).

ص: 539

والآخر منسوخا، فيعمل بالناسخ ويُترك المنسوخ»

(1)

.

وقد كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يعملون بالأحدث والمتأخر من حديث

رسول الله صلى الله عليه وسلم «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ، ثُمَّ أَفْطَرَ» قَالَ: وَكَانَ صَحَابَةُ

رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَّبِعُونَ الْأَحْدَثَ فَالْأَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانُوا يَتَّبِعُونَ الْأَحْدَثَ فَالْأَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ، وَيَرَوْنَهُ النَّاسِخَ الْمُحْكَمَ»

(2)

.

وكان الكرماني

(3)

يبين ناسخ الحديث من منسوخه، من ذلك، وجوب الغُسل عند الجماع وإن لم يُنزل، فبيّن قول بعض الصحابة أن الغسل لا يجب إلا بالإنزال، ورجوع بعضهم، وبين الكرماني أن حكم الجماع من دون إنزال يُوجب الغسل، لأنه منسوخ بحديث «إِذَا جَاوَزَ الخِتَانُ الخِتَانَ وَجَبَ الغُسْلُ»

(4)

.

ومنسوخ بحديث: عن عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن موجبات الغسل فقالت: «إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل»

(5)

.

(1)

علوم الحديث، 1/ 286.

(2)

أخرجه مسلم، كتاب: الصيام، بَابُ: جَوَازِ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِلْمُسَافِرِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، رقم (88).

(3)

ينظر الكواكب الدراري، 3/ 18، و 3/ 152.

(4)

أخرجه الترمذي، كتاب: الطهارة، بَابُ: مَا جَاءَ إِذَا التَقَى الخِتَانَانِ وَجَبَ الغُسْلُ، رقم (109).

(5)

أخرجه مسلم، في كتاب: الحيض، بَابُ: نَسْخِ الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ وَوُجُوبِ الْغُسْلِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، رقم (88).

ص: 540

ومن ذلك: الصيام في السفر في بداية الأمر إلا أنه نُسخ لعدم الصيام «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فِي رَمَضَانَ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَذَلِكَ عَلَى رَاسِ ثَمَانِ سِنِينَ وَنِصْفٍ مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ، فَسَارَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَكَّةَ، يَصُومُ وَيَصُومُونَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ وَهْوَ مَاءٌ بَيْنَ عُسْفَانَ وَقُدَيْدٍ أَفْطَرَ وَأَفْطَرُوا. قَالَ الزُّهْرِيُّ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الآخِرُ فَالآخِرُ»

(1)

.

قال الكرماني: «يؤخذ أي يجعل الأخر اللاحق ناسخا للأول السابق والصوم في السفر كان أولا والإفطار أخرا»

(2)

.

وقال في موضع آخر: «فقال البخاري إنما يؤخذ بالآخر من فعل

رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه ناسخ للأول وقد أفطر عند الكديد»

(3)

.

ومن ذلك نسخ النهي عن تخزين لحم الأضحية فوق ثلاث، مبيناً الخلاف في ذلك قال البخاري:«عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ الضَّحِيَّةُ كُنَّا نُمَلِّحُ مِنْهُ، فَنَقْدَمُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ «لَا تَاكُلُوا إِلاَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» . وَلَيْسَتْ بِعَزِيمَةٍ، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يُطْعِمَ مِنْهُ وَاللهُ أَعْلَمُ»

(4)

.

قال الكرماني: «قوله: عزيمة أي ليس النهي للتحريم ولا ترك الأكل بعد

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: المغازي، باب: غزوة الفتح في رمضان، رقم (3988).

(2)

الكواكب الدراري، 16/ 229.

(3)

الكواكب الدراري، 12/ 196.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: الأضاحي، باب: مَا يُؤْكَلُ مِنْ لُحُومِ الأَضَاحِيِّ وَمَا يُتَزَوَّدُ مِنْهَا، رقم (5222).

ص: 541

الثلاثة واجباً؛ بل كان غرضه أن يصرف شيء منه إلى الناس واختلفوا في الأخذ بهذه الأحاديث فقال قوم يحرم إمساك لحوم الأضاحي والأكل منها بعد ثلاث وأن حكمه باق.

وقال الجمهور يباح الأكل والإمساك بعد الثلاث والنهي منسوخ، وهذا من باب نسخ السنة بالسنة، وقال بعضهم ليس هذا نسخاً بل كان التحريم لعلة فلما زالت زال الحكم وقيل كان النهي للكراهة لا للتحريم والكراهة باقية إلى اليوم»

(1)

.

قلت: منسوخ بحديث أخرجه مسلم، وبوّب مسلم أنه منسوخ:«إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ، فَكُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا»

(2)

.

ومن خلال الاستقراء والتتبع تبين أن الكرماني لاينبه على بعض الأحاديث المنسوخة، وتراه ينشغل عنها بذكر أقوال الفقهاء، وتارة يميل إلى الاختصار.

‌خامساً منهج الكرماني في مشكل الحديث:

كان من منهج الكرماني رحمه الله أن يُجيب عن الأحاديث التي ظاهرها الإشكال، ويستعين بآراء العلماء في ذلك.

مثال ذلك: «عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقَالَتْ كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ وَقِيَّةٌ فَأَعِينِينِي فَقُلْتُ إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ

(1)

الكواكب الدراري، 20/ 135.

(2)

أخرجه مسلم، كتاب: الأضاحي، باب: بَيَانِ مَا كَانَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَبَيَانِ نَسْخِهِ وَإِبَاحَتِهِ إِلَى مَتَى شَاءَ، رقم (88).

ص: 542

وَيَكُونَ وَلَاؤُكِ لِي فَعَلْتُ فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا فَقَالَتْ لَهُمْ فَأَبَوْا ذَلِكَ

عَلَيْهَا فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فَقَالَتْ إِنِّي قَدْ عَرَضْتُ

ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ فَسَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ خُذِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ

»

(1)

.

قال الكرماني عن النووي: «فإن قلت: إن هذا مشكل من حيث أن هذا الشرط يفسد العقد ومن حيث أنها خدعت البائعين حيث شرطت لهم ما لا يحصل، وكيف أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة في ذلك؟ قلت أُوّلَ بأن معناه واشترطي عليهم كقوله تعالى {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] أو أظهري لهم حكم الولاء أو بأن المراد التوبيخ لهم لأنه صلى الله عليه وسلم كان قد بيّن لهم أن هذا الشرط لا يصح، فلما ألحوا في اشتراطه قال ذلك أي لا تبالي به سواء شرطته أم لا، والأصح أنه من خصائص عائشة لا عموم له، والحكم في إذنه ثم إبطاله أن يكون أبلغ في قطع عادتهم وزجرهم عن فعله»

(2)

.

وأحياناً يستعين الكرماني برأي العلماء كلٌ في تخصصه كالأطباء مثلاً إن كان الموضوع له علاقة بالطب. مثال على ذلك:

حديث: «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ شَرْطَةِ

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: البيوع، بَاب: إِذَا اشْتَرَطَ شُرُوطًا فِي الْبَيْعِ لَا تَحِلُّ، رقم (2036).

(2)

الكواكب الدراري، 10/ 41، و 11/ 105.

ص: 543

مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الْكَيِّ»

(1)

.

فبيّن الكرماني اعتراض البعض من أنه إذا كان الشفاء في الكي فلا معنى للنهي لأنه صار تناقضاً، فأجاب عن ذلك:«قلت: النهي من أجل أنهم كانوا يرون أنه يحسم الداء ويبرئه. فنهى أمته عنه على ذلك الوجه، وأباح استعماله على معنى طلب الشفاء من الله تعالى والترجي للبرء بما يحدث الله تعالى من صنيعه أو النهي إذا استعمل على سبيل الاحتراز من حدوث المرض، وقبل الاضطرار إليه أو إذا كان ألمه زائداً على ألم المرض مع أنه نهى تنزيه لا ينافي الجواز»

(2)

.

ومن ذلك حديث: «أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ. فَقَالَ «اسْقِهِ عَسَلاً» . ثُمَّ أَتَى الثَّانِيَةَ فَقَالَ «اسْقِهِ عَسَلاً» . ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ فَعَلْتُ. فَقَالَ «صَدَقَ اللهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ، اسْقِهِ عَسَلاً» . فَسَقَاهُ فَبَرَأَ»

(3)

.

يرد الكرماني في هذا الحديث على بعض الملاحدة الذين قالوا أن العسل من مُسهلات البطن، والرجل يشكو من الإسهال، فأجاب: «النووي

(4)

: اعترض بعض الملاحدة فقال: العسل مُسهّل فكيف يسقي لصاحب الإسهال،

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الطب، باب: الدَّوَاءِ بِالْعَسَلِ وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} ، رقم (5330).

(2)

الكواكب الدراري، 20/ 206.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الطب، باب: الدَّوَاءِ بِالْعَسَلِ وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} ، رقم (5333).

(4)

شرح مسلم، 14/ 191.

ص: 544

وهذا جهل من المعترض وهو كما قال تعالى {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} فإن الإسهال يحصل من أنواع كثيرة، ومنها: الإسهال الحادث من الهيضة، وقد أجمع الأطباء بأن علاجه: بأن تترك الطبيعة وفعلها وإن احتاجت إلى معين على الإسهال أعينت. فيحتمل أن يكون إسهاله من الهيضة فأمره بشرب العسل معاونة إلى أن فنيت المادة فوقف الإسهال، فالمعترض جاهل ولسنا نقصد الاستظهار لتصديق الحديث بقول الأطباء، بل لو كذبوه لكذبناهم وكفرناهم، وقد يكون ذلك من باب التبرك، ومن دعائه وحسن أثره، ولا يكون ذلك حكماً عاماً لكل الناس، وقد يكون ذلك خارقاً للعادة من جملة المعجزات»

(1)

.

ومنه حديث: «عَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ قَالَتْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيِّ، فَإِنَّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ، يُسْتَعَطُ

(2)

بِهِ مِنَ الْعُذْرَةِ

(3)

، وَيُلَدُّ

(4)

بِهِ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ».

بيّن الكرماني معنى: (ذات الجَنب) هو ورم في الغشاء المستبطن للأضلاع، وذكرالكرماني اعتراض بعض الأطباء على المداوة بالعود الهندي فقال: «اعترض عليه بأن الأطباء قالوا: مداواة ذات الجنب به مما فيه من الحرارة الشديدة خطر،

(1)

الكواكب الدراري، 20/ 208.

(2)

وهو وَهُوَ الْقُسْطُ فِي أنف المريض، ينظر غريب الحديث، إبراهيم الحربي، 1/ 269.

(3)

وهو وجعٌ في الحلقِ، ينظر الغريب المصنف، ابن سلّام الهروي، 2/ 484، والفائق في غريب الحديث، الزمخشري، 1/ 428.

(4)

وهو وجع يأخذ في الفم والحلق)، فيجعل عليه دواء ويوضع على الجبهة من دمه، ينظر تاج العروس، مادة (لدد) 9/ 138، والكواكب الدراري، 20/ 213.

ص: 545

قال ابن سيناء

(1)

: (هو حار في الدرجة الثالثة يابس في الثانية)

(2)

فأجيب بأنهم أيضاً قالوا: أنه يستعمل حيث يحتاج إلى جذب الخلط من باطن البدن إلى ظاهره مع أن الشيء الذي هو خارج عن القواعد الطبية داخل في المعجزات»

(3)

.

ومن ذلك حديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ فَقَالَ أَبَا هِرٍّ الْحَقْ أَهْلَ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ إِلَيَّ قَالَ فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا فَاسْتَاذَنُوا فَأُذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا»

(4)

.

بيّن الكرماني أن في هذا الحديث أنه لابد للمدعو من الاستئذان، والحديث الذي قبله على عكسه وهو: «عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ فَقَالَ اسْتَأذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ فَقَالَ مَا مَنَعَكَ قُلْتُ اسْتَأذَنْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَأذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ فَقَالَ

(1)

هو أبو علي الحسين بن عبدالله بن علي بن سينا، صاحب المصنفات في الطب والرياضيات والفلسفة والطبيعة وغيرها، نشأ وتعلم في بخارى، وطاف البلاد، وناظر العلماء، له كتاب: المعاد، وأسرار الحكمة المشرقية، (ت 428) عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ابن أبي أصيبعة، 1/ 437، ووفيات الأعيان، ابن خلكان، 2/ 157، والأعلام للزركلي، 2/ 241 - 242.

(2)

عيون الحكمة، ابن سينا، ص 31.

(3)

الكواكب الدراري، 20/ 213.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: الاستئذان، بَاب: إِذَا دُعِيَ الرَّجُلُ فَجَاءَ هَلْ يَسْتَأذِنُ، رقم (5868).

ص: 546

وَاللهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

فيجيب الكرماني عن هذا الإشكال بقوله: «قال الملهب إذا دعي فأتى مجيبا للدعوة ولم يتراخ المدة أو كان في الموضع المدعو إليه مدعو آخر مأذونًا له فهذا دعاؤه إذنه وإن تراخت ولم يسبقه أحد في الدخول فلا وهذا وجه الجمع بينهما»

(2)

.

* * *

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الاستئذان، بَاب: التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِئْذَانِ ثَلَاثًا، رقم (5867).

(2)

الكواكب الدراري، 22/ 86 - 87.

ص: 547

الباب الرابع

منهج الكرماني وطريقته

في علوم مصطلح الحديث وعلله

* الفصل الأول: جهوده المتعلقة بعلم مصطلح الحديث.

* الفصل الثاني: جهود الكرماني في العلوم المتعلقة بعلم العلل.

ص: 549

‌الباب الرابع

منهج الكرماني وطريقته

في علوم مصطلح الحديث وعلله

‌الفصل الأول

جهوده المتعلقة بعلم مصطلح الحديث

من منهج الكرماني أنه كان في ثنايا شرحه يذكر الأمور الاصطلاحية، ويعرفها ويناقشها، ويذكر آراء العلماء فيها، وأحياناً يذكر رأيه الشخصي الذي انفرد به عن إجماع العلماء سواء أكان تعريفا اصطلاحياً، أوقول في مسألة ما

(1)

.

وفي هذا الفصل أذكر هذه المسائل مع مناقشتها.

‌المبحث الأول

معنى الحديث والخبر والأثر والحديث القدسي عند الكرماني

1 -

عرف الكرماني الحديث: بأنه ما أُضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم دون الصحابة والتابعين» وبين أن موضوعه هو ذات رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده

(2)

، وغايته الفوز

(1)

وهناك بعض مسائل المصطلح ذكرتها فيما سبق في مكانها كالاعتبار والمتابعات وغيرها.

(2)

تعقب السيوطي هذا القول فقال: وهذا الحد مع شموله لعلم الاستنباط غير محرر، ولم يزل شيخنا العلامة محيي الدين الكافيجي يتعجب من قوله: إن موضوع علم الحديث ذات الرسول، ويقول: هذا موضوع الطب لا موضوع الحديث، تدريب الراوي، 1/ 27.

ص: 551

بسعادة الدارين

(1)

.

إلا أن التعريف المعتمد عند علماء الاصطلاح هو: «ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خِلْقِيٍّ أو خُلُقِيٍّ أو أضيف إلى الصحابي أو التابعي»

(2)

.

وأضاف الحافظ السخاوي غير القول والفعل والتقرير: «حتى الحركات والسكنات في اليقظة والمنام»

(3)

.

لأنه على تعريف الكرماني ومن وافقه، لا يدخل الحديث الموقوف والمقطوع تحت مسمى الحديث.

‌2 - تعريف الخبر:

وقد عرف الكرماني الخبر بقوله: هو «الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم»

(4)

.

قال ابن حجر: الخبر: عند علماء هذا الفن مرادف للحديث.

وقيل: الحديث: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والخبر: ما جاء عن غيره

(5)

.

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 12.

(2)

منهج النقد، د. عتر، ص 26.

(3)

فتح المغيث، السخاوي، 1/ 22.

(4)

الكواكب الدراري، 5/ 141.

(5)

نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر، ابن حجر، ص 35.

ص: 552

فلذلك لافرق عند جمهور العلماء بين الخبر والحديث

(1)

.

وكان من منهج الكرماني، أنه يشير إلى هذا في شرحه يقول وفي الخبر، ومرة يقول لوصح الخبر ويقصد بالخبر الحديث

(2)

.

‌3 - تعريف الأثر:

«والأثر مرادف للخبر وَالسُنَّةِ وَالحَدِيثِ، يُقَالُ: أَثَرْتُ الحَدِيثَ: بِمَعْنَى رَوَيْتُهُ، وَيُسَمَّى المُحدِّثُ أَثَرِيًّا»

(3)

.

وقال العلماء أن الأثر «يُطلق على المرفوع والموقوف وفقهاء خراسان يسمون الموقوف بالأثر والمرفوع بالخبر»

(4)

.

وقال د. نور الدين عتر: الحاصل: «أن هذه العبارات الثلاثة: الحديث، الخبر، الأثر، تطلق عند المحدثين بمعنى واحد هو: ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا أو تقريرا أو صفة خلقية أو خلقية أو أضيف إلى الصحابي أو التابعي»

(5)

.

ومن خلال التتبع تبين أن الكرماني يستعمل الأثر بما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم، وذلك عند قوله: «أن البخاري كثيراً ما يستدل بترجمة الباب بالقرآن وبما وقع له

(1)

منهج النقد، ص 27.

(2)

ينظر الكواكب الدراري، 2/ 213، 3/ 102، 3/ 75، 15/ 73، 189/ 70.

(3)

علوم الحديث ومصطلحه، صبحي الصالح، ص 10.

(4)

توجيه النظر، ص 40، ومنهج النقد، ص 28.

(5)

منهج النقد، ص 29.

ص: 553

من سُنة مسندة وغيرها أو أثرٌ عن الصحابة أو قول للعلماء»

(1)

.

وقال عن قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «وَرَأَى عُمَرُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُصَلِّي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ الْقَبْرَ الْقَبْرَ، وَلَمْ يَأمُرْهُ بِالإِعَادَةِ»

(2)

.

فقد سمّى الكرماني قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه -أثراً

(3)

.

‌4 - الحديث القدسي:

«هو ما أضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسنده إلى ربه عز وجل. مثل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسنده إلى ربه عز وجل: مثل: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه» ، أو «قال الله تعالى فيما رواه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم». ويقال له أيضا: الحديث الإلهي، أوالرباني»

(4)

.

إلا أن بعض العلماء رجح القول: بأن الحديث القدسي: هو كل قول صريح يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل

(5)

.

ومن العلماء من قال في تعريف الحديث القدسي، أن ما كان معناه من الله عز وجل،

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 71.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: هَلْ تُنْبَشُ قُبُورُ مُشْرِكِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُتَّخَذُ مَكَانَهَا مَسَاجِدَ.

(3)

الكواكب الدراري، 4/ 88.

(4)

منهج النقد، ص 323.

(5)

وهو قول الشيخ محمد عوامة في كتابه: صحاح الأحاديث القدسية مائة حديث مع شرحها، ص 9، وقد نقل هذا التعريف عن الشيخ العلامة عبدالله سراج الدين رحمه الله، وزاد أي محمد عوامة قوله:(كل قول صريح) توضيحا للتعريف (هو الذي).

ص: 554

ولفظه من النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

، وانتُقد هذا التعريف لأنه وجه فرق بين الحديث والقرآن

(2)

.

وقد ذكر الكرماني عند حديث: «عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ

وفيه: يتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي الصِّيَامُ لِي)

(3)

.

قال الكرماني مبينا التقدير المحذوف: «قوله: من أجلي فإن قلت: السياق يقتضي أن يكون ضمير المتكلم في لفظ والذي نفسي بيده ولفظ لأجلي، عبارة عن متكلم واحد لكن لا يصح المعنى عليه قلت: لابد من تقدير نحو قال الله

(4)

(1)

قال أبو البقاء الكفوي في كتاب الكليات: والقرآن ما كان لفظه ومعناه من عند الله بوحي جلي وأما الحديث القدسي فهو ما كان لفظه من عند الرسول ومعناه من

عند الله بالإلهام أو بالمنام، ص 722.

(2)

ينظر: تحرير علوم الحديث، عبدالله جديع، 1/ 73.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الصوم، بَاب: فَضْلِ الصَّوْمِ، رقم (1775).

(4)

قال العلامة المحدث محمد عوامة عند شرحه بعض المسائل التي تتعلق بالحديث القدسي: هل يُشترط ليكون الحديث قدسيا أن يُصَدَّر ب: قال الله تعالى، أو: إن الله تعالى قال، أو يقول الله تعالى؟ أولا يُشترط، كما هو الحال في أحاديث كثيرة مفتتحة بكلام للنبي صلى الله عليه وسلم، ويرد في أثنائها أو في آخرها جملة منسوبة لله عز وجل؟

مثل حديث مسلم، كتاب: الحج، بَابٌ: فِي فَضْلِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ، رقم (436):«مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟» والجواب: أن الكل يسميه قدسيا،

وقد وجد ذلك صريحا من كلام ابن حجر في الفتح، (من صحاح الأحاديث القدسية، ص 11 - 12، وينظر: تحرير علوم الحديث، عبدالله جدعان، 1/ 138.

ص: 555

قبل لفظ يترك لا نصاب المعنى على نحوه

ثم بيّن الكرماني الفرق بين الحديث القدسي والقرآن فقال: (القرآن لفظه معجز، ومنزل بواسطة جبريل وهذا غير معجز وبدون الواسطة، ومثله يسمى بالحديث القدسي والإلهي والرباني، فإن قلت: الأحاديث كلها كذلك وكيف

لا وهو ما ينطق عن الهوى؟ قلت: الفرق بأن القدسي مضاف إلى الله ومروي عنه بخلاف غيره وقد يُفرّق بأن القدسي ما يتعلق بتنزيه ذات الله تعالى، وبصفاته الجلالية والجمالية منسوبا إلى الحضرة المقدسة تعالى وتقدس»

(1)

.

وقال في موضع آخر: «إن هذا الحديث كلام قدسي أي نص إلهي في الدرجة الثانية لأن الله أخبر به نبيه معناه بالإلهام وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم به أمته بعبارة نفسه»

(2)

.

فقد سمى الحديث القدسي أنه نص إلهي من الدرجة الثانية، باعتبار أن القرآن نص إلهي من الدرجة الأولى ونقل عن الطيبي هذا المعنى

(3)

.

* * *

(1)

الكواكب الدراري، 9/ 79. وينظر أقوال العلماء في بيان الفرق بين الحديث القدسي والقرآن، في منهج النقد، د. نور الدين عتر، ص 325.

(2)

الكواكب الدراري، 13/ 153.

(3)

وقد نقل العلامة محمد عوامة، من نحى هذا القول وتبناه، منهم السيد الشريف الجُرجاني في كتابه التعريفات ص 83، والبدر العيني الحنفي في عمدة القاري.

10 -

/ 259، ينظر: من صحاح الأحاديث القدسية لمحمد عوامة، ص 14.

ونقل أقوالاً أخرى في تعريف الحديث القدسي والفرق بينه وبين القرآن فيها فائدة كبيرة فلينظر.

ص: 556

‌المبحث الثاني

الحديث المرفوع والموقوف والمقطوع

‌أولاً الحديث المرفوع:

عرف الكرماني الحديث المرفوع بقوله: «ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا متصلا أو منقطعا»

(1)

.

وكان منهج الكرماني في الكلام عن الحديث المرفوع فيما يأتي:

‌1 - بيان رفع الحديث بالقرائن والأدلة:

وكان الكرماني يُبين الاختلاف في الحديث بين الرفع والوقف مثاله: قال البخاري: «عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ جَاءَتْ فَاطِمَةُ ابْنَةُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «لَا، إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ، وَلَيْسَ بِحَيْضٍ فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي قَالَ وَقَالَ أَبِي «ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ، حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ»

(2)

.

يُبيّن الكرماني أن قول عروة: «ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ، حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ» يفيد الرفع لا الوقف لأن السياق يقتضي ذلك

(3)

.

(1)

الكواكب الدراري، 5/ 109، ويُنظر: معرفة علوم الحديث، ابن الصلاح، ص 45، شرح التبصرة والتذكرة، العراقي، 1/ 181.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: غسل الدم، رقم (228).

(3)

الكواكب الدراري، 3/ 81.

ص: 557

ومنه: «عن ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أُنَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ يُكَثِّرُونَ سَوَادَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَيَأتِي السَّهْمُ فَيُرْمَى فَيُصِيبُ أَحَدَهُمْ فَيَقْتُلُهُ أَوْ يَضْرِبُهُ فَيَقْتُلُهُ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}»

(1)

.

اعتمد الكرماني في رفع هذا الحديث على قرينة وهي: «قال مغلطاي الشارح المصري هو حديث مرفوع لأن تفسير الصحابي إذا كان مسندا إلى نزول آية فهو مرفوع اصطلاحا»

(2)

.

ومن ذلك: «عَنْ أَنَسٍ قَالَ ذَكَرُوا النَّارَ وَالنَّاقُوسَ، فَذَكَرُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فَأُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ وَأَنْ يُوتِرَ الإِقَامَة»

(3)

.

قال الكرماني مبيناً قرينة الرفع: «قوله: أُمرَ أي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم مثل هذا اللفظ موقوف لاحتمال أن يكون الآمر غير رسول الله صلى الله عليه وسلم والصواب وعليه الأكثر أنه مرفوع؛ لأن إطلاق مثله ينصرف عرفاً إلى صاحب الأمر والنهي، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً مقصود الراوي بيان شرعيته، وهي

لا تكون إلا إذا كان الأمر صادراً من الشارع»

(4)

.

ومنه حديث: «عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا وَفِي يَمَنِنَا

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الفتن، بَاب: مَنْ كَرِهَ أَنْ يُكَثِّرَ سَوَادَ الْفِتَنِ وَالظُّلْمِ، رقم (6659).

(2)

الكواكب الدراري، 24/ 163.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الأذان، باب: بَدْءُ الأَذَانِ، رقم (580).

(4)

الكواكب الدراري، 5/ 3.

ص: 558

قَالَ قَالُوا وَفِي نَجْدِنَا قَالَ قَالَ اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا وَفِي يَمَنِنَا قَالَ قَالُوا وَفِي نَجْدِنَا قَالَ قَالَ هُنَاكَ الزَّلَازِلُ وَالْفِتَنُ وَبِهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ»

(1)

.

اعتمد الكرماني رفع هذا الحديث بقرينة أنه لامجال للرأي فيه، قال الكرماني عن ابن بطال:«وقال سقط من حديث ابن عمر لفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ لاشك أن مثل ذلك لا يدرك بالرأي»

(2)

.

‌2 - ما يأخذ حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم

-:

نقلة الشرع والدين هم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين، فإذا وردعنهم:(من السنة كذا أُمرنا بكذا، أو نُهينا عن كذا) فهل يأخذ هذا حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟

قال الكرماني: «إذا قال الصحابي أمرنا بكذا فُهِمَ منه أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الآمر له، فإن من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك فُهِمَ منه أن الرئيس أمره به، وفائدة العدول عن التصريح دعوى اليقين، والتعويل على شهادة العقل»

(3)

.

مثاله: حديث: «عَنْ أَنَسٍ قَالَ مِنْ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَقَسَمَ وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ قَسَمَ قَالَ أَبُو قِلَابَةَ وَلَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ إِنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الاستسقاء، بَاب: مَا قِيلَ فِي الزَّلَازِلِ وَالْآيَاتِ، رقم (984).

(2)

الكواكب الدراري، 6/ 124.

(3)

السابق، 1/ 122، وينظر كذلك في، 3/ 139.

ص: 559

سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ وَخَالِدٍ قَالَ خَالِدٌ وَلَوْ شِئْتُ قُلْتُ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

قال الكرماني: «النووي

(2)

: هذا اللفظ يقتضى رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قال الصحابي: السنة كذا، أو من السنة كذا، فهو في الحكم كقوله قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا

(3)

قال ولو شئت لقلت معناه أن هذا اللفظ، وهو من السنة كذا صريح في رفعه فلو شئت أن أقول رَفَعه بناء على الرواية بالمعنى لقلت ولو قلت لكنت صادقاً»

(4)

.

كذلك يشير الكرماني إلى رجحان عدم الرفع بالقرائن والأدلة، مثاله حديث:«عَنْ نَافِعٍ قَالَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي فِي مَكَانِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْفَرِيضَةَ وَفَعَلَهُ الْقَاسِمُ وَيُذْكَرُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ لَا يَتَطَوَّعُ الإِمَامُ فِي مَكَانِهِ وَلَمْ يَصِحَّ»

(5)

.

قال الكرماني: «ولفظ (لم يصح) هو كلام البخاري أي لم يصح رفع أبي هريرة الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بلفظ يُذكر غير جازم به لأنه صيغة التعليق التمريض»

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: النكاح، بَاب: إِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ، رقم (4885).

(2)

شرح النووي على مسلم، 1/ 30.

(3)

ينظر أقوال العلماء في المسألة، في الكفاية، للخطيب البغدادي، ص 421، والتقريب والتيسير للنووي، ص 33، وقواعد التحديث، للقاسمي، ص 144.

(4)

الكواكب الدراري، 19/ 155.

(5)

أخرجه البخاري، كتاب: الأذان، باب: مكث الإمام في مصلاه بعد السلام.

(6)

الكواكب الدراري، 5/ 196.

ص: 560

‌ثانياً الحديث الموقوف:

‌تعرف الحديث الموقوف:

ما أسنده الراوي إلى الصحابي ولم يتجاوزه

(1)

.

وقال ابن الصلاح: «وهو ما يروى عن الصحابة رضي الله عنه من أقوالهم أو أفعالهم ونحوها، فيوقف عليهم، ولا يتجاوز به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

وقد أشار الكرماني إلى بعض الأحاديث الموقوفة على الصحابة رضي الله عنهم، منه حديث:«عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ نُهِيَ عَنِ الْخَصْرِ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ هِشَامٌ وَأَبُو هِلَالٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم»

(3)

. فذكرأن الحديث موقوف على أبي هريرة

(4)

.

ومنه حديث: «عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ أَيُّمَا نَخْلٍ بِيعَتْ قَدْ أُبِّرَتْ لَمْ يُذْكَرْ الثَّمَرُ فَالثَّمَرُ لِلَّذِي أَبَّرَهَا وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَالْحَرْثُ سَمَّى لَهُ نَافِعٌ هَؤُلَاءِ الثلاث»

(5)

.

قال الكرماني: «وهو بتمامه موقوف على نافع»

(6)

كما ينبه الكرماني على أن

(1)

الكفاية في علم الرواية، الخطيب البغدادي، ص 21.

(2)

علوم الحديث، ابن الصلاح، ص 46.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: التهجد، باب: الخصر في الصلاة، رقم (1149).

(4)

الكواكب الدراري، 7/ 35.

(5)

أخرجه البخاري، كتاب: البيوع، بَاب: مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ أَوْ أَرْضًا مَزْرُوعَةً أَوْ بِإِجَارَةٍ.

(6)

الكواكب الدراري، 10/ 60.

ص: 561

بعض الحديث موقوف وليس كله

(1)

.

‌ثالثاً الحديث المقطوع:

«وهو ما جاء عن التابعين موقوفا عليهم من أقوالهم وأفعالهم»

(2)

.

وقد بيّن الكرماني بعض الأسانيد التي قيل فيها أنها مقطوعة

(3)

، مثاله:«أن حَزْنًا جد سعيد بن المسيب قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مَا اسْمُكَ قَالَ اسْمِي حَزْنٌ قَالَ بَلْ أَنْتَ سَهْلٌ قَالَ مَا أَنَا بِمُغَيِّرٍ اسْمًا سَمَّانِيهِ أَبِي قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ فَمَا زَالَتْ فِينَا الْحُزُونَةُ بَعْدُ»

(4)

.

* * *

‌المبحث الثالث

الحديث المنقطع والمرسل والمدلس

‌أولاً الحديث المنقطع:

قال الكرماني المنقطع: ما لم يتصل إسناده على أي وجه كان

(5)

وقد عرّف الكرماني الحديث المنقطع بأصله العام

(1)

السابق، 5/ 64، كتاب: الأذان، بَابُ: مَنْ قَامَ إِلَى جَنْبِ الإِمَامِ لِعِلَّةٍ، رقم (653).

(2)

الشذا الفياح في علوم ابن الصلاح، ص 141، وينظر تدريب الراوي، 1/ 218.

(3)

الكواكب الدراري، 22/ 48.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: الأدب، بَاب: تَحْوِيلِ الِاسْمِ إِلَى اسْمٍ أَحْسَنَ مِنْه، رقم (5816).

(5)

الكواكب الدراري، 1/ 167.

ص: 562

على هذا يندرج تحته كل سند حصل فيه انقطاع، وهذا رأي ابن عبد البر فقال في تعريفه:«المنقطع عندي كل مالايتصل سواء كان يُعزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى غيره»

(1)

.

وقال في موضع آخر يبين فيه تعريف المنقطع المعتمد عند المحدثين: «هو أن يسقط من الإسناد رجل أو يُذكر فيه رجل مبهم»

(2)

.

وبين الكرماني أنه إذا كان الساقط من إسناده رجلين فأكثر سمي معضلاً

(3)

.

وقد أشار الكرماني في شرحه للحديث المنقطع، مثاله قال البخاري تعليقاً: «قَالَ مَالِكٌ أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَنَّ عَطَاءَ ابْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ

»

(4)

.

«قال الكرماني أن هذا التعليق يصدق عليه عند المحدثين أنه منقطع لأن البخاري لم يُدرك زمن مالك، إلا أنه أجاب أنه موصول من طرق أخرى، ولما عُلم من شرط البخاري وشرط الكتاب»

(5)

.

(1)

التمهيد، 1/ 21.

(2)

الكواكب الدراري، 23/ 171، ونقل تعريف الخطيب في تعريف المنقطع:«ما روى عن التابعي فمن دونه موقوفا عليه من قوله أو فعله» ، الكفاية في علم الرواية، ص 21، ويُقارن بين قول ابن كثير في الباعث الحثيث، ص 50، وتعريف الكرماني.

(3)

الكواكب الدراري، 1/ 167.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: حسن إسلام المرء.

(5)

ينظر الكواكب الدراري، 1/ 167.

ص: 563

ومنه وقد يبين الكرماني الانقطاع، ولكنه يُعطي الاحتمال للاتصال مستعينا بالروايات الأخرى مثاله:

«حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ سَمِعَ الزُّهْرِيَّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رضي الله عنهن أَنَّهَا قَالَتْ اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ النَّوْمِ مُحْمَرًّا

»

(1)

.

قال الكرماني: «قالوا هذا الإسناد منقطع وصوابه كما في صحيح مسلم

(2)

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الفتن، بَاب: قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ، رقم (6634).

(2)

قلت: الرواية التي في صحيح مسلم (فيما عندي من النسخ المطبوعة والتي في الشاملة، والتي عليها شرح النووي ليس فيها ذكر حبيبة وإنما هي كرواية البخاري: عَنْ عُرْوَةَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ

».

إلا أن النووي قال في شرحه على مسلم: «هذا الإسناد اجتمع فيه أربع صحابيات زوجتان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وربيبتان له بعضهن عن بعض ولايعلم حديث اجتمع فيه أربع صحابيات بعضهن عن بعض غيره» 18/ 2، فلا يوجد ذكر (عن حبيبة) فلعل هذه النسخة نسخة الصحيح التي اعتمدتها المطبعة في شرح مسلم غير النسخة التي اعتمدها النووي، والرواية التي فيها ذكر حبيبة، جاءت عند الترمذي، في أبواب الفتن، بَابُ: مَا جَاءَ فِي خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، رقم (2187): عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ حَبِيبَةَ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَوْمٍ مُحْمَرًّا».

وقال الترمذي بعد أن أخرج الحديث: «هذا حديث حسن صحيح، وقد جود سفيان هذا الحديث هكذا روى الحميدي، وعلي بن المديني، وغير واحد من الحفاظ، عن سفيان بن عيينة نحو هذا وقال الحميدي: قال سفيان بن عيينة: حفظت من الزهري في هذا الحديث أربع نسوة: زينب بنت أبي سلمة، عن حبيبة، وهما ربيبتا النبي صلى الله عليه وسلم، عن أم حبيبة، عن زينب بنت جحش زوجي النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا روى معمر، وغيره هذا الحديث، عن الزهري، ولم يذكروا فيه عن حبيبة، وقد روى بعض أصحاب ابن عيينة هذا الحديث، عن ابن عيينة ولم يذكروا فيه عن أم حبيبة.» وأخرجه ابن ماجه، في أبواب الفتن، بَابُ: مَا يَكُونُ مِنْ الْفِتَنِ، رقم (3953).

ص: 564

زينب عن حبيبة عن أم حبيبة عن زينب بزيادة حبيبة، وهذا من الغرائب اجتمع فيه أربع صحابيات زوجات لرسول الله صلى الله عليه وسلم وربيبتان له أقول: يُحتمل أن زينب سمعت من حبيبة ومن أمها وكلاهما صواب»

(1)

.

‌ثانياً الحديث المرسل:

بيّن الكرماني أن الحديث المرسل من نوع الحديث المنقطع، وقال في تعريفه عند الأصوليين:«المرسل قول التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم قال قول العدل قال صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

وكان الكرماني يشير إلى رأيهم هذا في معرض شرحه، فعندما بوّب البخاري فقال: باب مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، قال الكرماني «اعلم أن مثله يسمي مرسلا عند طائفة. والحق وعليه الأكثرون أنه إذا ذكر الحديث مثلا ثم وصل به إسناده يكون مسندا، لا مرسلا»

(3)

.

(1)

الكواكب الدراري، 24/ 149.

(2)

السابق، 1/ 167.

(3)

السابق، 2/ 35.

ص: 565

وقد قال الشوكاني: «وأما جمهور أهل الأصول فقالوا: المُرسَل قولُ مَنْ لم يلقَ النبي صلى الله عليه وسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء كان مِنْ التابعين، أو مِنْ تابعي التابعين، أو ممن بعدهم»

(1)

.

وقد أشار الكرماني إلى تعريف المرسل عند علماء الاصطلاح من عدم إسناد الحديث إلى الصحابي

(2)

.

‌حكم الحديث المرسل:

ذهب جمع من العلماء إلى أن الحديث المرسل ليس حجة، ولا يُعمل به وأصحاب هذا القول جماهير المحدثين والشافعي، وعند مالك وأبي حنيفة وأحمد وأكثر الفقهاء يُحتج به

(3)

.

وقال ابن جرير

(4)

: وأجمع التابعون بأسرهم على قبول المرسل، ولم يأت عنهم إنكاره، ولا عن أحد من الأئمة بعدهم إلى رأس المائتين

(5)

.

(1)

إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، 1/ 173.

(2)

السابق، 2/ 101، 23/ 171، وينظر تعريف المرسل عند علماء الاصطلاح، في فتح الباقي، السنيكي، 1/ 195، التقريب والتيسير، النووي، ص 34.

(3)

ينظر: معرفة علوم الحديث، ابن الصلاح، ص 55 - 56، وتدريب الراوي، 1222 - 223.

(4)

محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الحافظ أبو جعفر الطبري، شيخ المفسرين، الفقيه، المحدث، المؤرخ، وهو أحد الأئمة يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، له تاريخ الأمم، وكتاب: التفسير، (ت 310 هـ)، طبقات علماء الحديث، محمد بن أحمد الصالحي، وتذكرة الحفاظ، 2/ 201.

(5)

تدريب الراوي، 1/ 223.

ص: 566

إلا أن الشافعي قال إذا انضم إلى المرسل ما يعضده، كأن يُروى مسنداً، أو يَعمل به بعض الصحابة، وأكثر العلماء

فإنه يُعمل به

(1)

.

مثاله: قال البخاري: «حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي حَيَّانَ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو زُرْعَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا»

(2)

.

فذكرالكرماني أن هذا الحديث مرسل لأن أبا زرعة تابعي وليس صحابي وليس له أن يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

.

ومن ذلك: «حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ عَنْ عِرَاكٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ عَائِشَةَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ إِنَّمَا أَنَا أَخُوكَ فَقَالَ أَنْتَ أَخِي فِي دِينِ اللهِ وَكِتَابِهِ وَهِيَ لِي حَلَالٌ»

(4)

.

فقال الكرماني أنه مرسل لأن عروة تابعي

(5)

.

حتى أنّ الكرماني يشير إلى بعض الحديث أنه من المرسل، مثاله: «حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ

(1)

ينظر الرسالة للإمام الشافعي، ص 462، وينظر قول البزدوي في: كشف الأسرار شرح أصول البزدوي، عبد العزيز الحنفي، 3/ 2، فقد نقل قول الشافعي.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الزكاة، باب: وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ، رقم (1319).

(3)

ينظر الكواكب الدراري، 7/ 170.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: النكاح، بَاب: إِلَى مَنْ يَنْكِحُ وَأَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ وَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَخَيَّرَ لِنُطَفِهِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ، رقم (4761).

(5)

ينظر الكواكب الدراري، 19/ 65.

ص: 567

عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئاً لَا تَعْرِفُهُ إِلاَّ رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ». قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ أَوَ لَيْسَ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا .. } [الانشقاق: 8]»

(1)

.

قال الكرماني: «قوله: (وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حُوسب عُذّب) عطف على قوله أن عائشة، واعلم أن هذا القدر من كلام ابن أبي مليكة مرسل؛ إذ لم يُسنده إلى صحابي»

(2)

.

مرسل الصحابي: مرسل الصحابي هو ما يرويه الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمعه منه، إما لصغر سنه، أو تأخر إسلامه أو غيابه عن شهود ذلك»

(3)

.

وقال ابن الصلاح في حكم الاحتجاج بمراسيل الصحابة «ثم إنا لم نُعد في أنواع المرسل ونحوه ما يسمى في أصول الفقه مرسل الصحابي مثلما يرويه ابن عباس وغيره من أحداث الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسمعوه منه؛ لأن ذلك في حكم الموصول المسند، لأن روايتهم عن الصحابة، والجهالة بالصحابي غير قادحة، لأن الصحابة كلهم عدول، والله أعلم)

(4)

.

وقد بيّن الكرماني كذلك مراسيل الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وأن مراسيلهم حجة فقال:

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: من سمع شيئا فراجعه حتى يعرفه، رقم (103).

(2)

الكواكب الدراري، 2/ 101.

(3)

منهج النقد، ص 373.

(4)

علوم الحديث ص 56، والتقريب والتيسير، النووي، ص 35، وتوجيه النظر 2/ 561.

ص: 568

«ومرسل الصحابي حجة عند جميع العلماء إلاماانفردبهالإستاذ أبوإسحاق

(1)

الإسفرايني

(2)

»

(3)

.

مثاله: قال أبو عبدالله البخاري: «حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَرَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا أُمِرَ وَسَكَتَ فِيمَا أُمِرَ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]»

(4)

.

فذكر الكرماني أن الحديث من مراسيل الصحابة، لأن ابن عباس رضي الله عنهما، لم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم

(5)

.

(1)

إبراهيم بن محمد بن مهران الأستاذ ركن الدين أبو إسحاق الإسفراييني، المتكلم الأصولي الفقيه الشافعي، شيخ أهل خراسان، قيل أنه بلغ درجة الاجتهاد، جامع الحلي) في أصول الدين، و (الرد على الملحدين)، ينظر: طبقات الشافعية، ابن كثير الدمشقي، ص 367، وطبقات الشافعية، ابن قاضي شهبة، 1/ 170.

(2)

ويحكى عن أبي إسحاق أنه رد المرسل مطلقاً بأنواعه، إلا أنه لم يتفرد بهذا القول فقد قيل عن أبي بكر الباقلاني أنه رد المرسل حتى مرسل الصحابة رضي الله عنهم، ليس شكاً في عدالتهم، وعلل ذلك لأنه قد يروي عن تابعي، إلا إذا صرّح أنه لا يروي إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم. ينظر: النكت على كتاب ابن الصلاح، ابن حجر، 2/ 546 - 547، وينظر أقوال العلماء في حكم مراسيل الصحابة في المستصفى للغزالي، ص 134.

(3)

الكواكب الدراري، 1/ 31.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: الأذان، باب: الْجَهْرِ بِقِرَاءَةِ صَلَاةِ الْفَجْرِ، رقم (742).

(5)

ينظر الكواكب الدراري، 5/ 135.

ص: 569

ومثله حديث: «حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ

»

(1)

.

قال الكرماني: «والحديث من مراسيل الصحابة لأن أبا هريرة لم يدرك خديجة وأيامها»

(2)

.

‌ثالثاً الحديث المدلس:

قال النووي: «التدليس وهو قسمان الأول: تدليس الإسناد بأن يروي عمن عاصره ما لم يسمعه منه موهماً سماعه قائلاً: قال فلان، أو عن فلان ونحوه وربما لم يسقط شيخه وأسقط غيره ضعيفاً أو صغيراً تحسيناً للحديث.

الثاني: تدليس الشيوخ بأن يُسمي شيخه، أو يُكنيه أو ينسبه، أو يصفه بما لا يُعرف»

(3)

.

وحكم الراوي المدلس عند العلماء يختلف من راوٍ لآخر، فإن كان التدليس نادراً أو أنه لا يدلس إلا عن ثقة، أو يصرح به بالسماع من طريق آخر فهو مقبول عندهم

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الأنبياء، بَاب: تَزْوِيجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَدِيجَةَ وَفَضْلِهَا رضي الله عنها رقم (3576).

(2)

الكواكب الدراري، 15/ 58.

(3)

التقريب والتيسير، النووي، ص 39.

(4)

فتح المغيث، 1/ 231، ومقدمة في أصول الحديث، عبد الحق الدهلوي، ص 48.

ص: 570

وقد بين الكرماني قول العلماء في أن عنعنة المدلس لا تُعتبر إلا إذا عُلم سماعه»

(1)

.

* * *

‌المبحث الرابع

الحديث الغريب والفرد

الحديث الفرد: هو ما تفرد به روايه بأي وجه من وجوه التفرد. أعم من الغريب تدخل فيه أقسام لا تدخل في الغريب

(2)

.

والحديث الغريب هو: الحديث الذي تفرد به راويه، سواء تفرد به عن إمام يجمع حديثه أو عن راو غير إمام

(3)

.

وقد أشار الكرماني رحمه لله تعالى إلى الحديث الفرد الغريب في شرحه، وذلك عند حديث، «حَدَّثنا الْحُمَيْدِيُّ عَبْدُاللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَ: حَدَّثنا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه، عَلَى المِنْبَرِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى

»

(4)

.

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 167، 3/ 69.

(2)

منهج النقد، د. نور الدين عتر، ص 399.

(3)

منهج النقد، د. نور الدين عتر، ص 399، وينظر: المنهل الروي، ابن جماعة، ص 55، وتحرير علوم الحديث، 1/ 47.

(4)

أخرجه البخاري، باب: كيف كان بدء الوحي، رقم (1).

ص: 571

قال الكرماني: هو حديث مشهور بالنسبة إلى آخره، غريب بالنسبة إلى أوله، وليس متواتراً لعقد شرط التواتر في أوله، ولكنه مجمع على صحته وعظم موقعه وجلالته وكثرة فوائده، وقال الحفّاظ لا تصح روايته عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، إلا من جهة عمر، ولا من جهة عمر رضي الله عنه إلا من جهة علقمة، ولا عن علقمة إلا من محمد بن إبراهيم، ولا عن محمد بن إبراهيم إلا من يحي بن سعيد، وعن يحي انتشر، فرواه عنه أكثر من مائتي إنسان أكثرهم أئمة»

(1)

.

وقال ابن الصلاح أنه: «حديث فرد، تفرد به عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تفرد به عن عمر علقمة بن وقاص، ثم عن علقمة محمد بن إبراهيم، ثم عنه يحيى بن سعيد على ما هو الصحيح عند أهل الحديث»

(2)

.

قال السيوطي: «إذا اشتهر الفرد؛ فرواه عن المنفرد كثيرون صار غريبا مشهورا، غريبا متنا لا إسنادا بالنسبة إلى أحد طرفيه كحديث «إنما الأعمال بالنيات»

(3)

.

فالحديث أوله فرد، وآخره مشهو، وقد طرأت الشهرة من ند يحيى بن سعيد

(4)

.

* * *

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 22.

(2)

علوم الحديث، ص 77.

(3)

تدريب الراوي، 2/ 633.

(4)

السابق، 2/ 622.

ص: 572

‌المبحث الخامس

الحديث المعنعن والمؤنن

‌أولاً الحديث المعنعن:

المعنعن وهو الذي يقال فيه فلان عن فلان، من غير بيان للتحديث والإخبار أو السماع

(1)

.

‌حكم العنعنة:

ذهب طائفة من العلماء أن السند المعنعن هو من قبيل المنقطع حتى يتبين اتصاله، إلا أن الراجح وهو قول جماهير أهل الحديث والفقه والأصول هو من قبيل المتصل، بشرط أن لايكون المعنعن مُدلساً، وثبوت لقاء الراوي عمن روى عنه

(2)

.

وقال الكرماني: «واختلف في المعنعن فقال بعض العلماء هو مرسل والصحيح الذي عليه الجماهير أنه متصل إذا أمكن لقاء الراوي المروي عنه»

(3)

.

وشرط اللقاء فيه خلاف، وقال الإمام مسلم رحمه الله تعالى أن المعنعن من قبيل المتصل إذا سَلِم المُعَنْعِن من التدليس، ومعاصرة الراوي من يروي عنه مع إمكانية اللقاء، وقد ادعى مسلم الإجماع على ذلك

(4)

.

(1)

ينظر: شرح التبصرة والتذكرة، 1/ 219، فتح المغيث، 1/ 203 و التقييد والإيضاح، ص 83.

(2)

التقييد والإيضاح، ص 83.

(3)

الكواكب الدراري، 1/ 26.

(4)

ينظر: مقدمة صحيح مسلم 1/ 29، وقد نقل الكرماني شرط مسلم ناقلاً عن النووي، الكواكب الدراري، 1/ 26.

ص: 573

فإذا قال الراوي حدثنا فلان عن فلان، من غير التحديث بالسماع أو التحديث، فهل يُعد هذا من قبيل الإسناد المتصل؟

قال الكرماني: «فإن قلت إذا قال البخاري عن فلان يجزم بأنه سمعه منه عند إمكان السماع»

(1)

.

فالراجح عند العلماء أنه يُعد من قبيل الاتصال بشرط إمكان اللقاء، والبراءة من التدليس، وعدالة الرواة)

(2)

.

وقد ذكر الكرماني حكم معنعات الصحيحين بشكل خاص، أنها صحيحة ومقبولة، لأنها محمولة على السماع والاتصال من جهة أخرى، سواء استُشهد وتُوبع عليها أم لا

(3)

.

وقد مثّل الكرماني للإسناد المعنعن، بقول البخاري:«حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ قَالَ لِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمْ أَسْمَعْهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ حَدِيثاً وَاحِدًاقَالَ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأُتِيَ بِجُمَّارٍ فَقَالَ «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً مَثَلُهَا كَمَثَلِ الْمُسْلِمِ» فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِيَ النَّخْلَةُ فَإِذَا أَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ فَسَكَتُّ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «هِيَ النَّخْلَةُ»

(4)

.

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 186.

(2)

ينظر: شرح النووي على مسلم، 1/ 127، الموقظة، الذهبي، ص 45، وعلوم الحديث ومصطلحه، صبحي الصالح، ص 222.

(3)

/ 67.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: الفهم في العلم، رقم (71).

ص: 574

قال الكرماني: «واعلم أنه رُوي عن مجاهد معنعناً، وعن أبي نجيح بلفظ قال والبخاري لا يذكر المعنعن إلا إذا ثبت السماع، ولا يكتفي بمجرد إمكان السماع كما اكتفي به مسلم، والمعنعن إذا لم يكن من المدلس كان أعلى درجة من قال، لأن قال إنما تُذكر عند المحاورة لا علي سبيل النقل والتحميل»

(1)

.

‌ثانياً الحديث المؤنن:

«هو الذي يقال في سنده: فلان أن فلانا»

(2)

.

‌حكم المؤنن:

مذهب جماهير العلماء أن حكم المؤنن، هو كحكم المعنعن، ولا عبرة بالحروف والألفاظ إنما هو باللقاء والمجالسة والسماع، وخالف الإمام مسلم واشتراط التنصيص على ثبوت اللقاء والاجتماع في المعنعن والمؤنن

(3)

.

ونقل الكرماني رأي العلماء في حكم المؤنن فقال: «هو أي المؤنن كعن محمول على السماع بشرط أن يكون المعنعن غير مدلس، وبشرط ثبوت اللقاء بينهما، وقال الإمام أحمد لا يلتحق ذلك بعن

(4)

، بل يكون ذلك منقطعا حتى يتبين السماع».

(1)

الكواكب الدراري، 2/ 40.

(2)

منهج النقد، ص 351.

(3)

منهج النقد، ص 351، وينظر شرح علل الترمذي، همام سعيد، ص 195.

(4)

نقل قول الإمام أحمد في أن المؤنن يختلف في الحكم عن المعنعن، الإمام ابن الصلاح، في معرفة علوم الحديث، ص 61.

ص: 575

ومثّل الكرماني له بحديث: «حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ أَنَّ عَبْدَاللهِ بْنَ مَسْعُودٍ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ

»

(1)

.

فقوله: حدثني عمرو بن ميمون أنَّ عبدالله بن مسعود، حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم

فأنَّ هذه هي لفظ المؤنن.

* * *

‌المبحث السادس

الحديث المسلسل

الحديث المسلسل:

قال الإمام النووي في تعريفه: هو ما تتابع رجال إسناده على صفة أو حالة للرواة تارة وللرواية تارة، وصفات الروات أقوال وأفعال وأنواع كثيرة غيرها كمسلسل التشبيك باليد والعد فيها، وكاتفاق أسماء الرواة أو صفاتهم أو نسبتهم كأحاديث رويناها كل رجال دمشقيون، وكمسلسل الفقهاء، وصفاة الرواية كالمسلسل بسمعت، أو بأخبرنا، أو أخبرنا فلان والله، وأفضله ما دل على الاتصال)

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: إِذَا أُلْقِيَ عَلَى ظَهْرِ الْمُصَلِّي قَذَرٌ أَوْ جِيفَةٌ لَمْ تَفْسُدْ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ، رقم (239).

(2)

التقريب والتيسير، ص 87.

ص: 576

فضيلة الحديث المسلسل أنه يدل على مزيد الضبط من الرواة.

إلا أن العلماء قالوا أن هذه المسلسلات أكثرها باطلة، وأسانيدها واهية، منقطعة، ولاتصاف رواتهابالكذب

(1)

.

وأقواها المسلسل بقراءة سورة الصف، والمسلسل بالدمشقيين، والمسلسل بالمصريين، والمسلسل بالمحمدين إلى ابن شهاب، وما كان يدل على السماع وعدم التدليس

(2)

.

وكان الكرماني رحمه الله تعالى يذكر الحديث المسلسل ونوعه، يقول مرة مسلسل بالأنسيين

(3)

(ومرة يذكر أن الحديث مسلسل بصورة معينة كما قال في حديث: «حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ يَعْرِضُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً

» أنه مسلسل بالكنى إلا الرجل الأول

(4)

.

كما بين الكرماني الحديث المسلسل بالمحمَّدين

(5)

، الذي أخرجه البخاري: «حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبِ بْنِ عَطِيَّةَ الدِّمَشْقِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيُّ أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي

(1)

ينظر: علوم لحديث، ابن الصلاح، ص 276، والموقظة، الذهبي، ص 44.

(2)

معرفة علوم الحديث، ابن الصلاح، ص 276، والموقظة، الذهبي، ص 44.

(3)

الكواكب الدراري، ينظر: 7/ 211، ومرة بالشاميين، 11/ 53. 20/ 147.

(4)

الكواكب الدراري، 19/ 15 - 16.

(5)

السابق، 12/ 22.

ص: 577

وَجْهِهَا سَفْعَةٌ فَقَالَ اسْتَرْقُوا لَهَا فَإِنَّ بِهَا النَّظْرَةَ»

(1)

.

* * *

‌المبحث السابع

زيادة الثقة

تعريف زيادة الثقة: «خبر العدل إذا انفرد برواية زيادة فيه لم يروها غيره»

(2)

.

وقد بيّن الإمام الكرماني أن مراد المحدثين في زيادة الثقة تكون في اللفظ

(3)

.

حكم زيادة الثقة: «قال جمهور علماء المحدثين والفقهاء: تُقبل زيادة الثقة مطلقاً سواء وقعت ممن رواه أولاً ناقصا أم من غيره، وسواء تعلق بها حكم شرعي أم لا، وسواء غيّرت الحكم الثابت أم لا، وسواء أوجبت نقض أحكام ثبتت بخبر ليست هي فيه أم لا»

(4)

.

وقال الكرماني: «زيادة الثقة مقبولة والقاعدة الأصولية فيها: أن الحديث إذا رواه راويان واشتملت إحدى الروايتين على زيادة، فإن لم تكن مغيّرة لإعراب الباقي قُبلت وحُمل ذلك على نسيان الراوي، أو ذهوله أو اقتصاره

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الطب، بَاب: رُقْيَةِ الْعَيْنِ، رقم (5380).

(2)

الكفاية في علم الرواية، الخطيب البغدادي، ص 224.

(3)

الكواكب الدراري، 3/ 112.

(4)

تدريب الراوي، 1/ 286، والكواكب الدراري، 5/ 7.

ص: 578

بالمقصود منه في صورة الاستشهاد، وإن كانت مغايرة تعارضت الروايتان وتعين طلب الترجيح»

(1)

.

وقال جماعة من أهل الحديث لا تُقبل مطلقاً، وقول ثالث أنها تُقبل إذا كانت من غيرالراوي، أما منه فلا، وبعضهم قال تُقبل إذا تعدد مجلس السماع، ولا تقبل إذا اتحد، وقيل أنها تُقبل إذا كانت مخالفة لما رواه الباقون، وتُقبل إذا لم تخالف، وقول يقول إذا كان راوة الزيادة يغلب عليه الفقه فتقبل وإلا لا تقبل

(2)

.

وقد نبّه الكرماني في شرحه على زيادة الثقة، مثاله: حديث حمْران أنه رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِإِنَاءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الإِنَاءِ فَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثاً، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلَاثَ مِرَارٍ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَاسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»

(3)

.

وقد وردت روايات تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، ورواية أخرى كذلك أنه توضأ مرتين مرتين، وهذه الرواية تدل أنه توضأ ثلاثاً، فبين الكرماني أن اختلاف الرواة هذا في العدد، يُحمل على أن بعض الرواة حفظ وبعضهم نسي

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 183.

(2)

ينظر هذه الأقوال في: الكفاية في علم الرواية، الخطيب البغدادي، ص 425، وتدريب الراوي، السيوطي، 1/ 286، وشرح ألفية العراقي، زين الدين السنيكي، 1/ 251، وقفو الأثر في صفوة علم الأثر، ابن الحنبلي، 1/ 160.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: الْوُضُوءِ ثَلَاثاً ثَلَاثاً، رقم (159).

ص: 579

فيؤخذ بما زاد الثقة

(1)

.

وقد يرد الكرماني على بعض العلماء الذين حكموا على اختلاف روايتين أنها من قبيل زيادة الثقة مثاله حديث: «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ»

(2)

.

وقد ذكر الكرماني اختلاف الروايات في عدد شُعب الإيمان فقال: «وثبت في رواية صحيح مسلم وسبعون جزماً

(3)

وفي رواية أخرى أي عند مسلم بضع وسبعون، أو بضع وستون

(4)

على الشك وروى أبو داود والترمذي

(5)

بضع وسبعون بلا شك»

(6)

.

ونقل عن النووي ترجيح رواية بضع وسبعون شعبة، لأنها زيادة ثقة وهي مقبولة، إلا أن أن الكرماني رد على النووي بقوله: «إن المراد من زيادة الثقات زيادة لفظ في الرواية، ومثله ليس منها بل من باب اختلاف الروايتين فقط، وأن رواية بضع وستون لا تنافي ما عداها؛ إذ التخصيص بالعدد لا يدل على نفي

(1)

ينظر الكواكب الدراري، 2/ 209.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: أُمُورِ الإِيمَانِ، رقم (9).

(3)

أخرجه مسلم، كتاب: الإيمان، بَابُ: شُعَبِ الْإِيمَانِ، رقم (57).

(4)

أخرجه مسلم، كتاب: الإيمان، بَابُ: شُعَبِ الْإِيمَانِ، رقم (58).

(5)

أخرجه أبو داود، كتاب: السنة، بَاب: فِي رَدِّ الْإِرْجَاءِ، رقم (4676)، وأخرجه الترمذي، في كتاب: أبواب الإيمان، بَاب: مَا جَاءَ فِي اسْتِكْمَالِ الإِيمَانِ وَزِيَادَتِهِ وَنُقْصَانِهِ، رقم (2614).

(6)

الكواكب الدراري، 1/ 81.

ص: 580

الزائد، ويحتمل أن تكون رواية الستين مقدمة على رواية السبعين، وكان شعب الإيمان عند صدوره من النبي صلى الله عليه وسلم هذا القدر، ثم قال مرة أخرى عند زيادة الشعب بلفظ سبعون فيكون كلاهما صواباً

(1)

.

* * *

‌المبحث الثامن

بيان الإسناد العالي والنازل

طلب الإسناد العالي مزية وفضيلة، وفيه سنة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد طلب علو الإسناد غير واحد من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وسافروا وقطعوا المسافات، وتحملوا الصعاب في ذلك، «سُئِلَ أَحْمَدُ عَنِ الرَّجُلِ يَطْلُبُ الْإِسْنَادَ الْعَالِيَ، قَالَ: «طَلَبُ الْإِسْنَادِ الْعَالِي سُنَّةٌ عَمَّنْ سَلَفَ، لِأَنَّ أَصْحَابَ عَبْدِاللهِ

(2)

كَانُوا يَرْحَلُونَ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْ عُمَرَ وَيَسْمَعُونَ مِنْهُ».»

(3)

.

وأخرج الإمام مسلم في صحيحه: «عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ، فَيَسْأَلَهُ، وَنَحْنُ نَسْمَعُ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَتَانَا رَسُولُكَ فَزَعَمَ لَنَا أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَكَ، قَالَ: «صَدَقَ»

»

(4)

.

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 81 - 82.

(2)

وهو الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.

(3)

الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي، 1/ 123.

(4)

أخرجه مسلم، كتاب: الإيمان، باب: فِي بَيَانِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَشَرَائِعِ الدِّينِ، رقم (10).

ص: 581

قال الحاكم معلقاً على هذا الحديث: «وفيه دليل على إجازة طلب المرء العلو من الإسناد، وترك الاقتصار على النزول فيه، وإن كان سماعه عن الثقة إذ البدوي لما جاءه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما فرض الله عليهم لم يقنعه ذلك، حتى رحل بنفسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمع منه ما بلغه الرسول عنه، ولو كان طلب العلو في الإسناد غير مستحب لأنكر عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم سؤاله إياه عما أخبره رسوله عنه، ولأمره بالاقتصار على ما أخبره الرسول عنه»

(1)

.

وقد سلك العلماء من بعد الصحابة الكرام رضي الله عنه، من التابعين ومن بعدهم هذا المسلك في طلب علو الإسناد، لأنه كلما قل عدد رجال الإسناد قل الخطأ والخلل فيه، وكان من عادة الإمام البخاري ومنهجه في صحيحه الاهتمام بذكر الأحاديث ذات الأسناد العوالي، ومنه ما يُسمى بثلاثيات البخاري.

قال العلماء في تعريف الإسناد العالي: «هو الذي قل عدد رجاله مع الاتصال، وكذا إذا تقدم سماع راويه، أو تقدمت وفاة شيخه»

(2)

.

ينقسم العلو إلى قسمين أساسيين: «العلو المطلق، والعلو النسبي» .

‌القسم الأول: العلو المطلق:

القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح نظيف: وهذا هو العلوُّ المطلق، وهو أجلُّ أقسام العلوِّ، وهذا ما يُطلق عليه اسم:«الثلاثيات» أي ما كان بين المصنف والنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث وسائط فقط.

‌القسم الثاني: العلو النسبي:

وهو يتنوع إلى أربعة أقسام هي:

الأول: القرب من إمام من أئمة الحديث، وإن كثر العدد، إلى النبي صلى الله عليه وسلم،

(1)

معرفة علوم الحديث، ص 5.

(2)

منهج النقد، ص 358.

ص: 582

مثل الأئمة مالك والشافعي وأحمد والبخاري أو مسلم والأعمش وغيرهم.

الثاني: العلو بالنسبة إلى الكتب الحديثية المعتمدة المشتهرة، كالكتب الستة وغيرها، وهذا النوع لقي اهتماماً بالغاً من المتأخرين.

ويتفرع عنه: الموافقة، والإبدال، والمساواة، والمصافحة

(1)

.

الثالث: هو ما يُسمى بالعلو المعنوي، ويعتمد على صفات القبول في الراوي، كأن يكون أفقه أو أتقن، أو أضبط، أو أكثر ملازمة للمروي عنه

وهو قسمان:

الأول: العلو بتقدم موت الراوي في هذا السند، على موت الراوي في السند الآخر، ولو تساويا في العدد.

الثاني: العلو بتقدم السماع من الشيخ، فمن سمع من الشيخ قبل الآخر كان حديثه أعلى من الثاني بشرط تساوي العدد بينهما

(2)

.

وقد بنبه الكرماني في شرحه الإسناد العالي عن البخاري وخصوصا القسم الأول «العلو المطلق» ثلاثيات البخاري.

مثاله قال البخاري: «حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّا

(1)

ينظر إلى تعريفها في علوم الحديث لابن الصلاح، ص 364، وتقريب النووي، ص 84 - 85.

(2)

ينظر التقريب والتيسير للنووي، ص 84 - 85، ومعرفة علوم الحديث، ص 256 - 260، وتدريب الراوي، ص 2/ 607 - 613. ومنهج النقد، ص 360 - 361.

ص: 583

مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».

قال الكرماني: «واعلم أن هذا الحديث إسناده من عوالي الأسانيد لأن الرجال بين البخاري وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وهذا ثلاثيات البخاري فاعرفه»

(1)

.

وكل حديث يذكره البخاري من الثلاثيات يشير إليه الكرماني بقوله: (وهذا ثاني ثلاثيات البخاري، وهذا رابعها

وترك الإشارة لبعضها إلى أن وصل إلى آخرها

فقال: وهذا هو الثاني والعشرون من ثلاثيات البخاري وهو آخر ثلاثياته)

(2)

.

قال البخاري: «حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ طَهْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه يَقُولُ نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ فِي زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَأَطْعَمَ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ خُبْزًا وَلَحْمًا وَكَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ تَقُولُ إِنَّ اللهَ أَنْكَحَنِي فِي السَّمَاءِ»

(3)

قال الكرماني آخر ثلاثيات البخاري التي فاق فيهاأقرانه: «وهذا هو الثاني والعشرون من ثلاثيات البخاري وهو آخر ثلاثياته»

(4)

.

إلا أنه ينبه على ما يُتوَهم أنه من الثلاثيات وهو ليس كذلك، مثاله: قال أبو عبدالله البخاري: «حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ سَمِعْتُ مَهْدِيَّ بْنَ مَيْمُونٍ

(1)

الكواكب الدراري، 2/ 115.

(2)

ينظر 4/ 153، 4/ 206، 10/ 123، 25/ 131.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: التوحيد، بَاب:{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ، رقم (6077).

(4)

الكواكب الدراري، 25/ 131.

ص: 584

قَالَ سَمِعْتُ أَبَا رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيَّ يَقُولُ كُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ، فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَراً هُوَ أَخْيَرُ مِنْهُ أَلْقَيْنَاهُ وَأَخَذْنَا الآخَرَ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَراً جَمَعْنَا جُثْوَةً مِنْ تُرَابٍ

»

(1)

.

قال الكرماني: «وهذا لا يحسب من الثلاثيات لأنه لم يرو حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم بل حكي عن حاله فقط»

(2)

.

ويشير الكرماني كذلك إلى تخريج البخاري لأحاديث عن شيوخه تارة ينقل عنهم مباشرة وتارة ينقل عنهم بواسطة، أي أنه يروي الحديث على الوجهين عالياً ونازلاً.

مثاله: قال البخاري: «حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ السُّرْمَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُاللهِ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِاللهِ قَالَ بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم»

(3)

.

قال الكرماني: «وعبيدالله تقدم فى باب دعاؤكم إيمانكم روى البخاري عنه ثمة بدون واسطة وههنا بواسطة أحمد»

(4)

والحديث الآخر: قال البخاري: «حَدَّثنا عُبَيْدُاللهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخبَرَنا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: المغازي، باب: وفد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أُثال، رقم (4076).

(2)

الكواكب الدراري، 16/ 194.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: المرأة تطرح عن المصلّي شيئا من الأذى، رقم (499).

(4)

الكواكب الدراري، 4/ 171.

ص: 585

خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما

»

(1)

.

ومثله: قال البخاري «حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُاللهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا

»

(2)

.

وساق البخاري بعده سنداً آخر: «حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِاللهِ حَدَّثَنِي سَعِيدٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ

»

(3)

.

قال الكرماني: «فإن قلت روى سعيد في الطريقة السابقة عن أبي هريرة بلا واسطة، وفي هذه روى عن أبيه عن أبي هريرة، فذكر كلمة الأب زائدة هاهنا أو ناقصة ثمة قلت: لا زائدة ولا ناقصة لأن سعيدًا سمع منهما فتارة روى عن الأب، وأخرى عن أبي هريرة»

(4)

.

ومثله: يشيرالكرماني سر تقديم البخاري إسناد على آخر وذلك لعلو

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، بابٌ: دُعَاؤُكُمْ إِيمَانُكُمْ، رقم (7).

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الاستئذان، بَاب: مَنْ رَدَّ فَقَالَ عَلَيْكَ السَّلَامُ، رقم (5873).

(3)

المصدر السابق، في نفس الكتاب، والباب، رقم (5874).

(4)

الكواكب الدراري، 22/ 90، هذا وقد بين الكرماني أمثلة أخرى عن رواية البخاري عن شيوخه بواسطة وبدونها، قال عن: سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ «روى عنه البخاري بلا واسطة في باب وقت الجمعة» 8/ 121، وقال عن: سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ «وكثيراً يروى البخاري عنه بدون واسطة محمد بن عبد الرحيم» 11/ 207، وقال عن: خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، «روى عنه البخاري بلا واسطة في العلم وغيره» ، 23/ 204.

ص: 586

الدرجة، أخرج البخاري في كتاب العلم: «حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ الأَصْبَهَانِيِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ ذَكْوَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ. قَالَتِ النِّسَاءُ

»

(1)

.

ثم ساق سنداً آخر: «حَدَّثَنَامُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ عَنْ ذَكْوَانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا

»

(2)

.

قال الكرماني: «وقدم الإسناد الأول لعلو درجته إذ بين شعبة والبخاري رجل واحد وهو آدم بخلاف الثاني فإن بينهما رجلين»

(3)

.

ويشير الكرماني كذلك إلى نقل الراوي عن الصحابي مباشرة، وتارة بواسطة، مثاله قال البخاري:«حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ»

(4)

قال الكرماني: «عبدالله ابن أبي مليكة» مصغر الملكة وهو يروي تارة عن عائشة بلا واسطة وأخرى بواسطة القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه»

(5)

.

كما مدح العلماء الإسناد العالي، كذلك ذمّوا الإسناد النازل قال ابن الصلاح: «وهذا مذهب ضعيف ضعيف الحجة، وقد روينا عن علي بن المديني

(1)

أخرجه البخاري: باب: هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم، رقم (100).

(2)

أخرجه البخاري، في ذات الكتاب والباب، رقم (101).

(3)

الكواكب الدراري، 2/ 99.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: تفسير القرآن، سورة إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، رقم (4620).

(5)

الكواكب الدراري، 18/ 184.

ص: 587

وأبي عمرو المستملي النيسابوري أنهما قالا: النزول شؤم»

(1)

.

«وقال ابن معين: الإسناد النازل قرحة في الوجه»

(2)

.

كما بين العلماء أن الإسناد النازل هو ضد العالي وهو ما كثر رجال إسناده، وسبب النزول يرجع إلى خمسة أقسام:

1 -

كثرة الوسائط إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو نزول مسافة مطلق.

2 -

كثرة الوسائط إلى إمام من أئمة الحديث، وهو نزول مسافة نسبي.

3 -

نزول الإسناد من طريق غير الكتب الستة عن الإسناد من طريقها، وهو نزول مسافة نسبي أيضا.

4 و 5 - تأخر الوفاة وكذا تأخر السماع وهما نزول صفة

(3)

.

إلا أن العلماء استثنوا من النزول ما يجبره ويجعل له مزيةكأن تكون

هناك زيادة ثقة مقبولة، أو أن يكون رجال الإسناد النازل أحفظ أو أثبت أوأفقه

(4)

.

كما أن الكرماني لم يفته التنبيه على الإسناد النازل مثال على ذلك: «حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عُبَيْدِاللهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرٍ حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ

(1)

علوم الحديث، ابن الصلاح، ص 263.

(2)

تدريب الراوي، 2/ 619.

(3)

منهج النقد، ص 362.

(4)

السابق، ص 364.

ص: 588

رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» قال الكرماني: «ومثل هذا الإسناد قليل في الكتاب لأنه من ثمانيات البخاري»

(1)

.

والحديث الذي بعده قال البخاري: «حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ البَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟»

(2)

.

إلا أن الكرماني لم ينبه عليه، ونبه عليه غيره من شرّاح الحديث كابن الملقن في التوضيح قال ابن الملقن:«وإسناده ثُماني وهو غريب في البخاري»

(3)

.

كما أنه ورد في البخاري حديث تساعي الإسناد! قال البخاري: «حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، ح وحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، حَدَّثَتْهُ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا فَزِعًا يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ»

(4)

.

قال ابن حجر في الفتح: «ويقال إنه أطول سندا في البخاري فإنه

(1)

الكواكب الدراري، 9/ 122.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الصوم، بَاب: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ، رقم (1831).

(3)

التوضيح شرح الجامع الصحيح، ابن الملقن، 13/ 373.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: الفتن، بَاب: يَأجُوجَ وَمَأجُوجَ، رقم (6701).

ص: 589

تساعي»

(1)

.

* * *

‌المبحث التاسع

مسائل متفرقة في المصطلح

‌1 - ضبط الراوي:

لابد للراوي أن يكون عاقلاً واعياً لما يتحمله من حديث ويؤديه كما سمعه

قال الصنعاني: «والضابط عندهم من يكون حافظا متيقظا غير مغفل

ولا ساه ولا شاك في حالتي التحمل والأداء وهذا الضبط التام»

(2)

.

وهذا لا يتأتّى للراوي النائم، فلذلك لايصح الاحتجاج بحديث من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وسمع منه حديثاً ما.

قال الكرماني: «يشترط في الاستدلال به أن يكون الراوي ضابطا عند السماع والنوم ليس حال الضبط»

(3)

.

‌2 - الراوي مجهول العين:

هناك طائفة من الرواة ومنهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم

لم يرو عنهم إلا راوٍ واحد لاغير، وهذا يُسمّى في اصطلاح المحدثين: مجهول العين.

(1)

/ 107.

(2)

توضيح الأفكار، 1/ 16.

(3)

الكواكب الدراري، 2/ 118.

ص: 590

قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى: «هو كل من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه، ولا عرفه العلماء به، ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد»

(1)

.

وذلك لأن الجهالة نقيض الشهرة، فحتى يكون الراوي معروفاً بالرواية عن المحدثين؛ لابد أن يكون مشهوراً بالرواية عنهم، والمجهول لا توجد فيه هذه الصفة.

والجمهور من المحدثين على رد رواية مجهول العين، لأن الإجماع قائم على عدم قبول غير العدل، والمجهول ليس عدلا، قال زين الدين السنيكي

(2)

: «من العلماء، فلا يقبلونه مطلقا أي مجهول العين وهو الصحيح، للإجماع على عدم قبول غير العدل، والمجهول ليس عدلا، ولا في معناه في حصول الثقة به»

(3)

.

قلت: يُفهم من كلام السنيكي أن الأمر ليس على إطلاقه ففيه استثناء لمن عُرف بالعدالة والأمانة، لذلك قال ابن عبد البر رحمه لله تعالى:«من لم يرو عنه إلا رجل واحد فهو مجهول عندهم إلا أني أقول إن كان معروفا بالثقة والأمانة والعدالة فلا يضره إذا لم يرو عنه إلا واحد»

(4)

.

(1)

الكفاية، ص 88.

(2)

زين الدين زكريا بن محمد بن أحمد السُنيكي، نسبة إلى بلده سُنيكة، القاهري الشافعي، أخذ عن أخذ عن القاياتي والبُلقيني، والشرف المناوي، والكافيجي، وغيرهم، برع في الأصول والفقه والحديث والنحو

له: غاية الوصول إلى شرح الفصول، وشرح شذور الذهب في النحو، مات سنة:(928 هـ)، ينظر: سلم الوصول إلى طبقات الفحول، حاجي خليفة، 2/ 113.

(3)

فتح الباقي، شرح ألفية العراقي، ص 324.

(4)

الاستذكار، 6/ 375.

ص: 591

وقال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى: «الحق أنه متى عرف عدالة الراوي قبل خبره سواء روى عنه واحد أو أكثر وعلى هذا كان الحال في العصر الأول من الصحابة وتابعيهم إلى أن تنطع المحدثون»

(1)

.

فيُعلم مما سبق أن الراوي المجهول الذي لم يروِ عنه إلا واحد، ولم يُعرف حاله، فهو الضعيف المستور، أما المجهول الثقة المعروف بصدقه وأمانته فتقبل روايته، ولاسيما أن هناك جمع من الصحابة الكرام رضي الله عنهم من لم يرو عنهم إلا راوٍ واحد.

قلت: فالرواة المجهولون الذين أخرج لهما الشيخان في صحيحهما هم ممن عُرف بالصدق والعدالة كعمرو بن تغلب، ورافع بن عمرو الغفاري، وغيرهما، فلذلك قال ابن الصلاح رحمه الله:«وذلك دال على مصيرهما إلى أن الراوي قد يخرج عن كونه مجهولا مردودا برواية واحد عنه»

(2)

.

وبناء على ماسبق من حكم الراوي مجهول العين الذي لم يرو عنه إلا راوٍ واحد لا غير، فهل اشترط الإمام البخاري رحمه الله تعالى، أن لا يذكر في صحيحه حديثاً لراوٍ رُوي عنه بأقل من اثنين في كل درجة؟

قال الحاكم وهو يقسّم الحديث الصحيح إلى أقسام: «فالقسم الأول من المتفق عليها اختيار البخاري ومسلم، وهو الدرجة الأولى من الصحيح ومثاله: الحديث الذي يرويه الصحابي المشهور بالرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله راويان

(1)

ينظر النكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي، 3/ 384. وينظر قول ابن حجر في نزهة النظر، ص 101 - 102.

(2)

علوم الحديث، 321.

ص: 592

ثقتان، ثم يرويه عنه التابعي المشهور بالرواية عن الصحابة وله راويان ثقتان، ثم يرويه عنه من أتباع التابعين الحافظ المتقن المشهور وله رواة ثقات من الطبقة الرابعة، ثم يكون شيخ البخاري أو مسلم حافظا متقنا مشهورا بالعدالة في روايته فهذه الدرجة الأولى من الصحيح»

(1)

.

إلا أن العلماء ردوا على الحاكم في قوله هذا، ولاسيما أنه قال أن هذا الشرط متفق عليه!، وأن الشيخان قد أخرجا في صحيحيهما من لم يتوفر فيه شرط الحاكم هذا.

قال النووي

(2)

«وأما قول الحاكم إن من لم يرو عنه الا راو واحد فليس هو من شرط البخاري ومسلم فمردود غلّطه الأئمة فيه؛ بإخراجهما حديث المسيب بن حزن، والد سعيد بن المسيب في وفاة أبي طالب

(3)

، لم يرو عنه غير ابنه

(1)

ينظر قول الحاكم، في المدخل إلى كتاب الإكليل، ص 33.

(2)

شرح مسلم، 1/ 28.

(3)

الحديث هو: حدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَاللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ المُغِيرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي طَالِبٍ:«يَا عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ» فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُاللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ المَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«أَمَا وَاللهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} [التوبة: 113] الآيَةَ، أخرجه البخاري، كتاب: الجنائز، باب: إِذَا قَالَ الْمُشْرِكُ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، رقم (1280).

ص: 593

سعيد

(1)

وبإخراج البخاري حديث عمرو بن تغلب

(2)

»

(3)

وقد نقل الكرماني قول النووي

(4)

.

وقد أورد الكرماني رد النووي عند شرح حديث وفاة أبي طالب فقال ناقلا عن النووي: «قال النووي

(5)

: حديث وفاته اتفق الشيخان على إخراجه في صحيحيهما من رواية سعيد عن أبيه ولم يرو عن المسيب إلا ابنه سعيد كذا قاله

(1)

قال الحافظ المزي في ترجمة المسيَّب بن حسن: رَوَى عَنه: ابنه سَعِيد بْن المُسَيَّب، ولم يذكر غيره، ينظر: تهذيب الكمال، 27/ 585.

(2)

كذلك قال الحافظ المزي في ترجمة عمرو بن تغلب، رَوَى عَنه: الحسن البَصْرِيّ، ولم يرو عنه غيره. قاله غير واحد، ينظر تهذيب الكمال، 21/ 553.

(3)

الحديث هو: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِمَالٍ أَوْ سَبْيٍ فَقَسَمَهُ فَأَعْطَى رِجَالًا وَتَرَكَ رِجَالًا فَبَلَغَهُ أَنَّ الَّذِينَ تَرَكَ عَتَبُوا فَحَمِدَ اللهَ ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ فَوَاللهِ إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَأَدَعُ الرَّجُلَ وَالَّذِي أَدَعُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ الَّذِي أُعْطِي وَلَكِنْ أُعْطِي أَقْوَامًا لِمَا أَرَى فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى

مَا جَعَلَ اللهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْغِنَى وَالْخَيْرِ فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ فَوَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حُمْرَ النَّعَمِ.» أخرجه البخاري، كتاب: الجهاد في سبيل الله، بَاب: قَوْلِ اللهِ تَعَالَى {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} ، رقم (7082).

(4)

الكواكب الدراري، 6/ 35.

(5)

شرح مسلم، 1/ 28.

ص: 594

الحفاظ وفيه رد على الحاكم أبي عبدالله فيما قال أنهما لم يخرجا عن أحد ممن لم يرو عنه إلا راو واحد ولعله أراد من غير الصحابة»

(1)

.

قال الحافظ ابن طاهر المقدسي: إن البخاري ومسلم لم يشترطا هذا الشرط، ولا نقل عن واحد منهما أنه قال ذلك، والحاكم قدر هذا التقدير، وشرط لهما هذا الشرط على ما ظن، ولعمري إنه شرط حسن لو كان وجداً في كتابيهما، إلا أنا وجدنا هذه القاعدة التي أسسها الحاكم منتقضة في الكتابين جميعاً»

(2)

.

وقد ذكر العلاّمة المحدث الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى في تعليقه على كتاب المقدسي، فقال:«وهكذا صنع ابن الجوزي في مقدمة «الموضوعات» ، فقد نقض كلام الحاكم فيما زعمه من شرط الشيخين على ضوء كلام المؤلف ولم يعزه إليه

(3)

.

وهكذا صنع أيضا النووي في مقدمته لشرح صحيح مسلم

وقال ناقلا عن الحاكم في المستدرك»

(4)

بعد أن خرّج حديثا لهِصَّان بن كاهن: «هذا حديث صحيح وقد تداوله الثقات، ولم يخرجاه جميعا بهذا اللفظ، والذي عندي والله أعلم أنهما أهملاه لهصان بن كاهل، ويقال: ابن كاهن، فإن المعروف بالرواية عنه حميد بن هلال العدوي فقط «وقد ذكر ابن أبي حاتم، أنه روى عنه قرة بن

(1)

الكواكب الدراري، 7/ 135.

(2)

شروط الأئمة الستة، للحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي ص 96.

(3)

الموضوعات لابن الجوزي، 1/ 34.

(4)

المستدرك على الصحيحين، 1/ 50.

ص: 595

خالد أيضا» وقد أخرجا جميعا عن جماعة من الثقات لا راوي لهم إلا واحد، فيلزمهما بذلك إخراج مثله».

فقال الشيخ عبد الفتاح رحمه الله تعالى: «فهذا مما يُستغرب من الحاكم، قدّر من عنده شرطاً للشيخين ثم بدأ يُلزمهما بمخالفته»

(1)

.

قلت: لعله وهماً وقع فيه الحاكم في كتابه المدخل، عمَّا كان قد قرره في المستدرك.

‌3 - تدليس الشيوخ:

من أنواع التدليس تدليس الشيوخ وهو: بأن يسمي شيخه أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف

(2)

.

فإن كان المقصود من هذا التدليس التعمية على حال الراوي، أو إبهام حاله، فهو مكروه جداً، وقد يبلغ التحريم

(3)

.

إلا أنه قد يُسمّى الراوي بغير اسمه الذي اشتُهر به، أو يشتبه اسمه المجرد باسم غيره، فيوهم التدليس

وهو ليس كذلك.

مثاله: قال البخاري، كتاب الوضوء، باب: الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ

(1)

ينظر قول الشيخ عبد الفتاح في تعليقه على كتاب: شروط الأئمة الستة، للمقدسي، ص 98.

(2)

التقريب، النووي، ص 37.

(3)

علوم الحديث، ابن الصلاح، ص 74، التقريب والتيسير، النووي، ص 39.

ص: 596

عَبَّاسٍ قَالَ تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرَّةً مَرَّةً

(1)

.

الحاصل أن رجال السند وقع التشابه في أسمائهم

فالبيكندي، والفريابي شيخا البخاري.

وابن عيينة، شيخ البيكندي، وغالب روايته عنه.

وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة شيخا الفريابي.

وزيد بن أسلم شيخ السفيانين.

فهل يؤدي هذا الاشتباه إلى التدليس كون الراوي مجهولاً؟

قال الكرماني: «مثله لا يقدح فيه لأن أيا كان منهم فهو عدل ضابط بشرط البخاري لا يتفاوت الحكم باختلاف ذلك»

(2)

.

ومثله في حديث البخاري: (حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَقَالَ «يَا مُغِيرَةُ، خُذِ الإِدَاوَةَ»

(3)

.

فأبو معاوية هو: «هو محمد بن حازم» ، ويحتمل أن يكون:«أبو معاوية شيبان النحوي» ، ومسلم هو:«ابن عمران أبو عبدالله البطين» ، ويحتمل أن يكون:«مسلم بن صبيح» ، وكل هذا لايضر ولا يقدح في صحة الحديث أو

(1)

أخرجه البخاري، رقم (157).

(2)

الكواكب الدراري، 2/ 206، وينظر كذلك: 2/ 778، النكت على كتاب ابن الصلاح، ابن حجر، تدريب الراوي للسيوطي، 1/ 314.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: الصَّلَاةِ فِي الْجُبَّةِ الشَّامِيَّةِ، رقم (358).

ص: 597

إسناده، وكل منهم عدل ضابط بشرط البخاري، وقد روعنهم جميعاً

(1)

.

* * *

(1)

ينظر: الكواكب الدراري، 4/ 22.

ص: 598

‌الفصل الثاني

جهود الكرماني في العلوم المتعلقة بعلم العلل

‌المبحث الأول

تعريف العلة لغة واصطلاحاً، وأهمية معرفة علم العلل

‌العلة في اللغة:

العِلَّةُ بالكسر: المرض.

قَالُوا عَلَّ الرجلُ بَعلُّ وبَعَلُّ واعْتَلَّ ورجُل عَليل، أعَله الله، فَهُوَ مُعَلّ

(1)

.

تعريف العلة اصطلاحاً: قال ابن الصلاح في تعريف الحديث المعلول: «هو الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته، مع أن ظاهره السلامة منها»

(2)

.

وقال أستاذنا الدكتور نور الدين عتر في تعريف الحديث المعلول: «هو الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته، مع أن ظاهره السلامة منها»

(3)

.

(1)

ينظر: (مادة: علل) الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، 5/ 1773، والمخصص، ابن سيده، 1/ 471، وتهذيب اللغة، 1/ 80، ولسان العرب، ابن منظور، 11/ 467.

(2)

علوم الحديث، ص 90.

(3)

منهج النقد ص 447.

ص: 599

«فالعلة عبارة عن سبب غامض يدل على وهم الراوي سواء أكان الراوي ثقة أم ضعيفاً. سواء أكان الوهم فيما يتعلق بالإسناد أم فيما يتعلق بالمتن»

(1)

.

‌أهمية معرفة علم العلل:

إن لمعرفة علم علل الحديث أثر كبير في معرفة صحاح الأحاديث من ضعيفها، فمن هنا تظهر أهمية هذا الفن، قال ابن حجر:«هذا الفن أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكا، ولا يقوم به إلا من منحه الله تعالى فهما غايصا، وإطلاعا حاويان وإدراكا لمراتب الرواة ومعرفة ثاقبة، ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذاقهم وإليهم المرجع في ذلك لما جعل الله فيهم من معرفة ذلك، والاطلاع على غوامضه دون غيرهم ممن لم يمارس ذلك»

(2)

.

ولأهمية هذا العلم أُلفت فيه المصنفات الكثيرة، منها:

1 -

التاريخ والعلل: للإمام يحيى بن معين (ت 233 هـ).

2 -

العلل: للإمام علي بن المديني، (ت 234 هـ).

3 -

العلل ومعرفة الرجال: للإمام أحمد بن حنبل (ت 241 هـ).

4 -

التمييز: للإمام مسلم بن الحجاج، (ت 261 هـ)

(3)

وغيرها من المصنفات.

هذا وتنقسم العلة إلى علة متعلقة بالسند، وأخرى متعلقة بالمتن، وعلل تكون في السند والمتن معاً.

(1)

الحديث المعلول، قواعد وضوابط، د. حمزة المليباري، ص 10.

(2)

النكت على كتاب ابن الصلاح، 2/ 710.

(3)

ينظر الرسالة المستطرفة، ص 38 - 147 - 148، وكشف الظنون، 2/ 1440.

ص: 600

وسأتكلم عن بعض هذه العلل التي ذكرها الكرماني في شرحه.

* * *

‌المبحث الثاني

الإعلال بالاضطراب

تعريف الحديث المضطرب: «هو الحديث الذي يروى من قِبل راو واحد أو أكثر على أوجه مختلفة متساوية، لا مرجح بينها، ولا يمكن الجمع»

(1)

.

فيفهم من التعريف أنه لا بد من تحقق شروط الاضطراب:

أولاً: تساوي الروايات المضطربة، ولا تترجح إحداهما على الأخرى، فإذا ترجحت إحداهما على الأخرى كان الحكم للراجحة.

قال الحافظ العراقي: «أمَّا إذا ترجَّحَتْ إحداهما بكونِ راويها أحفظَ، أو أكثرَ صحبةً للمرويِّ عنهُ، أو غيرَ ذلك من وجوهِ الترجيحِ، فإنهُ لا يُطلقُ على الوجهِ الراجحِ وصفُ الاضطرابِ، ولا لَهُ حكمُهُ، والحكمُ حينئذٍ للوجهِ الراجحِ»

(2)

.

ثانياً: لايمكن التوفيق بينهما، ولو بوجه معتبر صحيح، يزول الاضطراب

(3)

.

(1)

منهج النقد، ص 433، وينظر، التقريب والتيسير، النووي، ص 45، وتوجيه النظر، ص 581.

(2)

شرح التبصرة والتذكرة، 1/ 291.

(3)

ينظر: تدريب الراوي، 1/ 308، ومنهج النقد، ص 433، ويرى شيخنا د. نورالدين عتر حفظه الله، لابد من اجتماع الشرطين معاً أي تساوي الروايات المضطربة، وعدم إمكان التوفيق بينهما حتى يُحكم بالاضطراب.

ص: 601

ثالثاً: وزاد ابن حجر: «إذا اختلفت مخارج الحديث وتباعدت ألفاظه أو كان الحديث في سياق واقعة وظهر تعددها فالذي يتعين القول به أن يُجعلا حديثين مستقلين»

(1)

.

وقد يقع الاضطراب في السند، والمتن، قال ابن حجر:«وهو يقع في الإسناد غالبا، وقد يقع في المتن، لكن قل أن يحكم المحدث على الحديث بالاضطراب بالنسبة إلى الاختلاف في المتن دون الإسناد»

(2)

.

وقد عدّ العلماء الاضطراب من العلل التي تُوجب قدحاً في صحة الحديث، وكان الكرماني يُشير أحياناً لهذا الاختلاف الحاصل في السند أو المتن.

‌1 - الاضطراب في السند:

مثاله: قال البخاري: «حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ لَيْسَ أَبُو عُبَيْدَةَ ذَكَرَهُ وَلَكِنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَاللهِ يَقُولُ أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْغَائِطَ، فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ

»

(3)

.

قال الكرماني معلقاً على قول أبي إسحاق في السند «ليس أبو عبيدة ذكره» «قلت ما الفائدة فيما قال؟ وليس أبو عبيدة ذكره؛ إذ الإسناد بدونه تمام ولا دخل

(1)

النكت على ابن الصلاح، ص 337.

(2)

نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر، ص 96.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: لَا يُسْتَنْجَى بِرَوْثٍ، رقم (156).

ص: 602

له فيه، قلت: غرض أبي إسحق في هذه اللفظة أن يبين أنه لا يُروى هذا الحديث عن طريق أبي عبيدة عن عبدالله كما رواه غيره، لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه شيئا، فأراد دفع وهم من توهم ذلك فنقل البخاري لفظه بعينه»

(1)

.

ثم نقل الكرماني عن الترمذي فقال: «حدثنا هناد وقتيبة قالا حدثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي اسحق عن أبي عبيدة عن عبدالله قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته فقال التمس لي ثلاثة أحجار

وساق الحديث ثم قال الترمذي وهكذا روى قيس بن الربيع هذا الحديث، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبدالله نحو حديث إسرائيل. وروى معمر، وعمار بن رزيق، عن أبي إسحاق، عن علقمة، عن عبدالله. وروى زهير، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه الأسود بن يزيد، عن عبدالله.

والحاصل:

أن أصح الروايات عند الترمذي حديث قيس بن الربيع وإسرائيل عن أبي عبيدة، عن عبدالله لأن إسرائيل أثبت وأحفظ لحديث أبي إسحاق من هؤلاء، وتابعه في ذلك قيس بن الربيع، وزهير، عن أبي إسحاق ليس بذاك لأن سماعه منه بآخرة

(2)

.

ثم بين الترمذي من روى الحديث: «وروى زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن الأسود بن يزيد، عن عبدالله، وهذا

(1)

الكواكب الدراري، 2/ 203.

(2)

سنن الترمذي، 1/ 70 - 71.

ص: 603

حديث فيه اضطراب

ثم قال الترمذي: سألت عبدالله بن عبد الرحمن أي الدارمي: أي الروايات في هذا عن أبي إسحاق أصح؟ فلم يقضِ فيه بشيء، وسألت محمدا عن هذا، فلم يقضِ فيه بشيء وكأنه رأى حديث زهير، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عبدالله، أشبه، ووضعه في كتاب الجامع»

(1)

.

قال الكرماني معلقاً على قول الترمذي من ترجيحه للرواية التي ذكرها في سننه، وأن الراجح رواية البخاري في صحيحه، وذلك لأن أبا عبيدة بن عبدالله لم يسمع من أبيه: «فتكون روايته عن أبيه مرسلا فكيف يكون حديث إسرائيل عن أبي اسحق عن أبي عبيدة عن عبدالله أصح، بل الأصح ما ذكره البخاري وأما سماع زهير من أبي اسحق بآخره فلا يقدح فيه لأنه قد ثبت عنه هذا الحديث قبل الاختلاط بطرق متعددة

(2)

، نعم لو كان زهير منفردا بالنقل عنه لكان منقدحا بذلك لكنه ليس كذلك»

(3)

.

وقال ابن حجر أن أبا عبيدة هو ابن عبدالله بن مسعود، وقوله: «وقوله: ذكره؛ أي لي، ولكن عبد الرحمن بن الأسود؛ أي هو الذي ذكره لي؛ بدليل قوله

(1)

السابق، 1/ 69 - 70.

(2)

وحكم الراوي الذي اختلط، يُقبل منه ما كان قبل الاختلاط، ويُترك ما كان بعده، وإذا لم يُعرف ولم يتميّز ما كان قبل الاختلاط عن بعده، يُتوقف فيه حتى يتبين. ينظر: علوم الحديث، ابن الصلاح، ص 392، ونزهة النظر، ص 125، واليواقيت والدرر، 2/ 165.

(3)

الكواكب الدراري، 2/ 204.

ص: 604

في الرواية الآتية المعلقة: حدثني عبد الرحمن، وإنما عدل أبو إسحاق عن الرواية عن أبي عبيدة إلى الرواية عن عبد الرحمن، مع أن رواية أبي عبيدة أعلى له؛ لكون أبي عبيدة لم يسمع من أبيه على الصحيح، فتكون منقطعة، بخلاف رواية

عبد الرحمن؛ فإنها موصولة، ورواية أبي إسحاق لهذا الحديث عن أبي عبيدة عن أبيه عبدالله بن مسعود عند الترمذي وغيره من طريق إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق»

(1)

.

في الحاصل يدل كلام الكرماني أن هذه الروايات ليست من قبيل الاضطراب، ولكن من قبيل الاختلاف الذي يكون سببه الوهم والغلط من الرواة أو من كثرة طرق الحديث.

‌2 - الاضطراب في المتن:

حديث المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم قال البخاري: «حَدَّثَنَا عَمْرُو ابْنُ عَوْنٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ فَقَالَتْ إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مَا لِي فِي النِّسَاءِ مِنْ حَاجَةٍ فَقَالَ رَجُلٌ زَوِّجْنِيهَا قَالَ أَعْطِهَا ثَوْبًا قَالَ لَا أَجِدُ قَالَ أَعْطِهَا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَاعْتَلَّ لَهُ فَقَالَ مَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ قَالَ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ»

(2)

.

نقل الكرماني إعلال الدارقطني لهذه الرواية، وأنها مضطربة متناً،

فقال:

(1)

فتح الباري، 1/ 257.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: فضائل القرآن، باب: بباب: خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ، رقم (4706).

ص: 605

«قال الدارقطني: رواية ملكتها وهم، والصواب رواية من روى زوجتكها»

(1)

.

وقد بين الحافظ ابن حجر رحمه الله الإشكال مع الإجابة عنه فقال:

إن مداره على أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه واختلف الرواة عن أبي حازم، فقال مالك وجماعة معه:«فقد زوجتكها»

(2)

.

وقال ابن عيينة: «أنكحتكها» .

وقال ابن أبي حازم ويعقوب بن عبد الرحمن: «ملكتكها» .

وقال الثوري «أملكتكها» .

وقال أبو غسان: «أمكناكها» .

وأكثر هذه الروايات في الصحيحين

(3)

، فمن البعيد جدا أن يكون سهل ابن سعد رضي الله عنه شهد هذه القصة من أولها إلى آخرها مرارا عديدة، فسمع في كل مرة لفظا غير الذي سمعه في الأخرى.

بل ربما يُعلم ذلك بطريق القطع أيضا فالمقطوع به أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل هذه الألفاظ كلها في مرة واحدة تلك الساعة، فلم يبق إلا أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

الكواكب الدراري، 19/ 35.

(2)

أخرجه مالك في الموطأ، كتاب: النكاح، باب: مَا جَاءَ فِي الصَّدَاقِ، وَالْحِبَاءِ، رقم (496).

(3)

هذه الروايات ذكرها ابن الجزري في جامع الأصول بعد أن ساق الحديث تحت رقم، (4977).

ص: 606

قال لفظا منها، وعبّر عنه بقية الرواة بالمعنى، والله أعلم

(1)

.

وقال النووي: «ويحتمل صحة اللفظين ويكون جرى لفظ التزويج أولا فملكها ثم قال له اذهب فقد ملكتها بالتزويج السابق والله أعلم»

(2)

.

وقد اكتفى الكرماني في الرد على إعلال الرواية بنقل كلام النووي هذا.

* * *

‌المبحث الثالث

العلل الناتجة بسبب وهم الراوي

‌المقصود بوهم الراوي:

والمقصود من وهم الراوي: أن يروي الراوي على سبيل الخطأ، حديثاً مرسلاً أو منقطعاً موصولاً، أو يرفع أثراً موقوفا، أو يُدخل حديثا بحديث آخر

(3)

.

من المعلوم أن ضبط الراوي في تأدية الحديث كما سمعه من شيخه، شرط لصحة المروي، فإذا فقد الراوي صفة الضبط، أو كثر وَهْمُهْ وخطأه، دخل الخلل والضعف لمروياته.

ولكن قد يقع الوهم والخطأ عند الراوي الضابط الثقة في مروياته، وقلَّ أن يسلم من ذلك أحد الرواة

وهذا لايؤثر على ضبط الراوي إن كان

(1)

النكت على ابن الصلاح، ص 337.

(2)

شرح مسلم، 9/ 214.

(3)

ينظر: نزهة النظر، ابن حجر، ص 92.

ص: 607

الخطأ والوهم قليلاً.

وقد يقع وهم الراوي في السند وفي المتن.

‌1 - الوهم في السند:

مثال عن الخطأ في السند ناتج من تبديل راوٍ بآخر.

قال البخاري: «حَدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِاللهِ، قَالَ: حَدَّثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ مَالِكٍ ابْنِ بُحَيْنَةَ، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ قَالَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثنا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ، قَالَ: حَدَّثنا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: سَمِعْتُ حَفْصَ بْنَ عَاصِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلاً مِنَ الأَزْدِ يُقَالُ لَهُ: مَالِكٌ ابْنُ بُحَيْنَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَاثَ بِهِ النَّاسُ، وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: آلصُّبْحَ أَرْبَعًا، آلصُّبْحَ أَرْبَعًا. تَابَعَهُ غُنْدَرٌ، وَمُعَاذٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَالِكٍ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: عَنْ سَعْدٍ، عَنْ حَفْصٍ، عَنْ عَبْدِاللهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ. وَقَالَ حَمَّادٌ: أَخبَرَنا سَعْدٌ، عَنْ حَفْصٍ، عَنْ مَالِكٍ»

(1)

.

بين الكرماني

(2)

أن رواية عبد العزيز عن عبدالله بن مالك ابن بحينة، أصح من رواية شعبة عن مالك بحذف لفظ عبدالله

فوقع الوهم من شعبة وغيره، والدليل على ذلك ما نقله الكرماني من أقوال العلماء، فقد روى الإمام مسلم: «حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ،

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الأذان، باب: إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلاَّ المَكْتُوبَةَ، رقم (634).

(2)

الكواكب الدراري، 5/ 49.

ص: 608

عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ مَالِكٍ ابْنِ بُحَيْنَةَ

» وفي نهاية الحديث قال: قَالَ الْقَعْنَبِيُّ عَبْدُاللهِ بْنُ مَالِكٍ ابْنُ بُحَيْنَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمٌ:«وَقَوْلُهُ عَنْ أَبِيهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ خَطَأٌ» .

ورواية مسلم هذه كذلك أخرجها الطبراني في الكبير

(1)

.

وقال أبو مسعود الدمشقي أن أهل العراق كشعبة وحماد بن زيد، يقولون عن مالك بن بحينة وأهل الحجاز يقولون عن عبدالله بن مالك بن بحينة وهذا أصح، واستشهد الكرماني بأقوال علماء الجرح والتعديل كذلك:

قال البخاري في تاريخه: أنه «عبدالله بن مالك بن بحينة» وذكر أن بعضهم قال مالك بن بحينة والأول أصح

(2)

.

وقال عن ابن معين: عبدالله هو الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس يروي أبوه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً

(3)

.

وقد روى النسائي حديثاً: «أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ بُحَيْنَةَ»

(4)

فبين النسائي أن هذا خطأ والصواب: عبدالله بن مالك

(1)

في الكبير، جزء/ 19/ رقم (663).

(2)

التاريخ الكبير، 5/ 11.

(3)

تاريخ ابن معين، رواية الدوري، 3/ 148.

(4)

أخرجه النسائي، كتاب: السَّهْوِ، ذِكْرُ مَا يَنْقُضُ الصَّلَاةَ، وَمَا لَا يَنْقُضُهَا، باب:

ما يفعل من اثنتين من الصلاة ولم يتشهد، رقم (600).

ص: 609

ابن بحينة

(1)

.

وقال أبو حاتم الرازي «وَلَيْسَ لابْنِ بُحَيْنَةَ أصلٌ» ، وقال أَبُو زُرْعَةَ: إِنَّمَا هُوَ: عبدُالله بنُ مالكٍ ابنُ بُحَيْنَةَ الأَسَدِيُّ حليفُ بني عَبْد المُطَّلِب

(2)

.

وقد ذكر الحافظ ابن حجر هذه الأقوال في الإصابة

(3)

.

ومما تجدر الإشارة إليه أن من الرواة من يُنسب لأبيه وأمه، فعبدالله بن مالك ابن بحينة، هو كذلك، فمالك أبوه، وأمه بحينة وقد أشار الكرماني لهذا في شرحه

(4)

.

‌2 - الوهم في المتن:

كما وقع الوهم في السند يقع في المتن، كزيادة في متن الحديث أتت من حديث آخر.

مثاله: حديث البخاري «حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ وَالْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ أَتَيْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ إِنَّ قُرَيْشًا أَبْطَئُوا عَنْ الْإِسْلَامِ فَدَعَا عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَتَّى هَلَكُوا فِيهَا وَأَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْعِظَامَ

».

قال البخاري: «وَزَادَ أَسْبَاطٌ عَنْ مَنْصُورٍ فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسُقُوا

(1)

السنن لكبرى، النسائي، 1/ 311.

(2)

علل الحديث، ابن أبي حاتم، 2/ 350 - 462.

(3)

الإصابة في تمييز الصحابة، 5/ 528.

(4)

الكواكب الدراري، 5/ 48.

ص: 610

الْغَيْثَ فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ سَبْعًا وَشَكَا النَّاسُ كَثْرَةَ الْمَطَرِ قَالَ اللهُمَّ حَوَالَيْنَا

وَلَا عَلَيْنَا فَانْحَدَرَتْ السَّحَابَةُ عَنْ رَاسِهِ فَسُقُوا النَّاسُ حَوْلَهُمْ»

(1)

.

ذكر الكرماني أن قصة قريش، التماس أبي سفيان، هي قصة مكية إلا أن قوله: وزاد أسباط عن منصور

هي مدنية وليست في مكة

(2)

.

فهذا يدل على أن زيادة أسباط وهم وخطأ، لأنه أدخل قصة المدينة، في قصة قريش.

قال الشمس البرماوي: «وَزَادَ أَسْبَاطٌ عَنْ مَنْصُورٍ فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسُقُوا الْغَيْثَ فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ سَبْعًا وَشَكَا النَّاسُ كَثْرَةَ الْمَطَرِ قَالَ اللهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا فَانْحَدَرَتْ السَّحَابَةُ عَنْ رَاسِهِ فَسُقُوا النَّاسُ حَوْلَهُمْ»

(3)

.

وقد بيّن جملة من شراح الحديث هذا الوهم منهم ابن الملقن في التوضيح لشرح الجامع الصحيح،

(4)

ونقل ذلك عن الداودي، والحافظ شرف الدين الدمياطي

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الاستسقاء، بَاب: إِذَا اسْتَشْفَعَ الْمُشْرِكُونَ بِالْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْقَحْطِ، رقم (970).

(2)

الكواكب الدراري، 6/ 113.

(3)

اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح، 4/ 430.

(4)

/ 257.

(5)

عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن، أبو محمد، شرف الدين الدمياطي، الشافعي، حافظ زمانه، عالم بالأنساب الحديث، من أشهر طلابه الحافظ المزي، له: الأربعين الأبدال التساعيات للبخاري ومسلم، والأربعون الحلبية في الأحكام النبوية، وغيرها، (ت 705 هـ).

ص: 611

إلا أن ابن حجر رحمه الله خالف الذين نسبوا إلى أسباط بن نصر الوهم، بأنه أدخل حديثاً بحديث، وأن الحديث الذي فيه شكوى كثرة المطر

وقوله: «اللهم حوالينا ولا علينا» لم يكن في قصة قريش، وإنما هو في القصة التي رواها أنس رضي الله عنه.

فقال: «وليس هذا التعقب عندي بجيد؛ إذ لا مانع أن يقع ذلك مرتين، والدليل على أن أسباط بن نصر لم يغلط: ما جاء في تفسير الدخان من رواية أبي معاوية عن الأعمش عن أبي الضحى في هذا الحديث، فقيل: يا رسول الله استسق الله لمضر؛ فإنها قد هلكت قال لمضر إنك لجريء، فاستسقى، فسقوا»

(1)

.

مثال آخر:

حديث: «هَمَّامٌ عَنْ إِسْحَاقَ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَقْوَامًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ إِلَى بَنِي عَامِرٍ فِي سَبْعِينَ فَلَمَّا قَدِمُوا قَالَ لَهُمْ خَالِي أَتَقَدَّمُكُمْ فَإِنْ أَمَّنُونِي حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ

»

(2)

.

وقع الوهم في هذا الحديث في قوله: «من بني سليم» والصواب: «من الأنصار» وقد نبه الكرماني على هذا، وذلك بسبب:«إذا المبعوث إليهم، هو من بني سليم لأن رعلا هو ابن مالك بن عوف بن امرئ القيس»

(3)

.

وقد أكد الحافظ ابن حجر هذا الوهم فقال: «التحقيق: أن المبعوث إليهم بنو عامر، وأما بنو سليم فغدروا بالقراء المذكورين، والوهم في هذا السياق من

(1)

فتح الباري، 2/ 511.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: من ينكب في سبيل الله، رقم (2801).

(3)

الكواكب الدراري، 6/ 19.

ص: 612

حفص بن عمر شيخ البخاري، فقد أخرجه هو في المغازي عن موسى بن إسماعيل عن همامن فقال: بعث أخا لأم سليم في سبعين راكبا وكان رئيس المشركين عامر بن الطفيل

فلعل الأصل بعث أقواما معهم أخو أم سليم إلى بني عامر فصارت من بني سليم.

وقد بين ابن حجر كذلك تكلّف من تأوّل الحديث من بعض شراح الحديث

(1)

.

‌3 - التصحيف:

«تحويل الكلمة من الهيئة المتعارفة إلى غيرها، مع بقاء صورة الخط»

(2)

.

قد يقع التصحيف في الحديث، وسببه وهم وخطأ من الراوي، فالتصحيف إما يكون في السمع الراوي، أو بصره والحديث المصحف، من أنواع الحديث المعلول، لأن الخطأ في تصحيف كلمة يؤدي إلى تغيير المعنى، وربما إبدال راوٍ ثقة، بآخر غير ثقة، وأكثر ما يكون التصحيف في السند، وقد يكون التصحيف في طرق التحمل والأداء كأن يُبدل الراوي، «حدثنا» ب «أخبرنا» ، أو إبدال «عن» ب «ابن»

(3)

.

وقد يقع التصحيف في سند الحديث ومتنه

(1)

ينظر: فتح الباري، 6/ 19.

(2)

توضيح الأفكار، 2/ 240، وينظر: الجامع لأخلاق الراوي، الخطيب البغدادي، 1/ 269.

(3)

روايات الجامع الصحيح ونسخه «دراسة نظرية تطبيقية» ، د. جمعة فتحي عبد الحليم، 2/ 468.

ص: 613

‌1 - التصحيف في السند:

بعد أن ذكرت آنفاً أن التصحيف في السند يكون على عدة أوجه، ولكن سأذكر التصحيف المتعلق باسم الراوي، وقد نبه الكرماني رحمه الله على ذلك.

مثاله: حديث: «مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو مَرْوَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَكَرِيَّاءَ الْغَسَّانِيُّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَهُوَ بِمَكَّةَ وَأَرَادَ الْخُرُوجَ

»

(1)

.

وكعادة الكرماني عند التعريف برواة الحديث كان يذكر أحيانا ما اعترى الاسم من تصحيف وتغيير.

فقال في ترجمة: «يَحْيَى بْنُ أَبِي زَكَرِيَّاءَ الْغَسَّانِيّ» هو بالمعجمة المفتوحة وشدة المهملة وبالنون مات سنة ثمان وثمانين ومائة.

ونقل الكرماني عن ابن السكن أنّ هناك من صحّف الاسم فقال: العُشانيّ، بضم المهملة وتشديد المعجمة، وقال بعضهم: العثماني والصواب: بالمعجمة ثم المهملة أي كما ضبطناها أولاً»

(2)

.

وقد ذكر الحافط ابن حجر رحمه الله تعالى ونقل عن من قال أنَّه العُشانيّ، أو أنه العثماني، إلا أن هذا من التصحيف والمعتمد هو الضبط الأول:

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الحج، بَاب: مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ خَارِجًا مِنْ الْمَسْجِدِ، رقم (1527).

(2)

الكواكب الدراري، 8/ 133 - 134، ويُنظر ضبط الاسم كما ضبطه الكرماني، عند ابن حجر في تهذيب التهذيب، 11/ 211.

ص: 614

«الغَسَّانيّ»

(1)

.

‌2 - التصحيف في المتن:

أشار الكرماني إلى التصحيف الذي وقع في هذا الحديث: «

وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَنْقَذِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ

»

(2)

.

بين الكرماني أن كلمة «فينقذف» هي من التصحيف، ونقل عن الخطابي الذي قال:«هذا هو المحفوظ، وأما يتقذف فلا وجه ههنا، إلا أن يُجعل من القذف أي يتدافعون فيقذف بعضهم بعضاً ويتساقطون عليه»

(3)

.

* * *

‌المبحث الرابع

الإعلال بالإدراج

تعريف الحديث المدرج: ما ذكر في ضمن الحديث متصلا به من غير فصل وليس منه

(4)

.

وقد يقع الإدراج في السند أو المتن أو فيهما معاً، وقد أشار الكرماني على

(1)

ينظر: فتح الباري، 3/ 486.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الأنبياء، بَاب: هِجْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، رقم (3657).

(3)

الكواكب الدراري، 15/ 115، وينظر كلام الخطابي في أعلام الحديث، 3/ 1690.

(4)

منهج النقد، ص 439، وينظر علوم الحديث، ابن الصلاح، ص 274.

ص: 615

ما استُدرك على البخاري من بعض الألفاظ المدرجة في المتن، مثاله: ومن ذلك حديث: عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلَاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ، وَهُوَ التَّعَبُّدُ، اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى

»

(1)

.

فقد بين الكرماني أن لفظ «التعبد» مدرجة من كلام السيدة عائشة رضي الله عنها أو من كلام الزهري

(2)

كعادته

(3)

.

ومن ذلك: أخرج البخاري: «عَنْ قَتَادَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ قَالَ «يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ» . قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ «يَا مُعَاذُ» . قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. ثَلَاثاً. قَالَ «مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صِدْقاً مِنْ قَلْبِهِ إِلاَّ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ» . قَالَ يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا قَالَ «إِذاً يَتَّكِلُوا» . وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّماً»

(4)

.

فبين الكرماني أن آخر الحديث من قوله: وأخبر بها معاذ

هي مدرجة

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي، رقم (3).

(2)

بل هي مدرجة من كلام الزهري، كما بين أورده الحافظ ابن حجر في الفتح، 1/ 23، والنكت، 2/ 825.

(3)

ينظر الكواكب الدراري، 1/ 32.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لَا يَفْهَمُوا، رقم (128).

ص: 616

من كلام أنس رضي الله عنه

(1)

.

ومن ذلك حديث: «حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُاللهِ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا

(2)

مِنْ مَمْلُوكِهِ فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ فِي مَالِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ قُوِّمَ الْمَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ ثُمَّ اسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ

(3)

عَلَيْهِ»

(4)

.

والخلاف في الحديث حاصل في ذكر الاستسعاء على أنه من أصل الحديث، أم إنه مدرج فيه؟

فبيّن الكرماني الإدراج في الحديث ونقل عن الدارقطني فقال: «قال الدارقطني

(5)

روى هذا الحديث شعبة وهشام عن قتادة وهما أثبت، ولم يذكرا فيه الاستسعاء ووافقهما همام ففصل الاستسعاء من الحديث وجعله من رأي

(1)

ينظر الكواكب الدراري، 2/ 155.

(2)

وهو النصيب قليلاً كان أو كثيرا، ينظر: مشارق الأنوار على صحاح الآثار، القاضي عياض، 2/ 257.

(3)

استسعاء العبد إذا عتق بعضه ورق بعضه: هو أن يسعى في فكاك ما بقي من رقه، فيعمل ويكسب ويصرف ثمنه إلى مولاه، فسمى تصرفه في كسبه سعاية، ومعنى غير مشقوق عليه: أي لا يكلفه فوق طاقته، ينظر: غريب الحديث والأثر ابن الجزري، 2/ 370.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: الشركة، بَاب: تَقْوِيمِ الْأَشْيَاءِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ بِقِيمَةِ عَدْلٍ، رقم (2329).

(5)

العلل، الدارقطني، 10/ 317.

ص: 617

قتادة، وقال ابن عبد البر الذين لم يذكروا السعاية أثبت ممن ذكرها

(1)

الخطابي

(2)

: بيّن همام أن ذكر السعاية إنما هو من قتادة وقال ابن المنذر هذا الكلام من فتيا قتادة ليس من نفس الحديث»

(3)

.

وقال كذلك ناقلاً عن العلماء في حكم ذكر السعاية، وذلك عند الرواية الأخرى للحديث، وهي قال البخاري: «حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى ابْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ سَمِعْتُ قَتَادَةَ قَالَ حَدَّثَنِي النَّضْرُ بْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا مِنْ عَبْدٍ.

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا أَوْ شَقِيصًا فِي مَمْلُوكٍ فَخَلَاصُهُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَإِلَّا قُوِّمَ عَلَيْهِ فَاسْتُسْعِيَ بِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ. تَابَعَهُ حَجَّاجُ بْنُ حَجَّاجٍ وَأَبَانُ وَمُوسَى بْنُ خَلَفٍ عَنْ قَتَادَةَ اخْتَصَرَهُ شُعْبَةُ»

(4)

.

أي تابع سعيد بن أبي عروبة في روايته عن قتادة حجاج بن حجاج، فسعيد ابن أبي عَروبة ومن تابعه ذكروا السعاية، وشعبة وهشام لم يذكرا الاستسعاء.

(1)

التمهيد، ابن عبد البر، 14/ 277.

(2)

أعلام الحديث، 2/ 1254.

(3)

الكواكب الدراري، 11/ 58.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: العتق، بَاب: إِذَا أَعْتَقَ نَصِيبًا فِي عَبْدٍ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ اسْتُسْعِيَ الْعَبْدُ غَيْرَ، رقم (2360).

ص: 618

«قال الأصيلي وابن العطار وغيرهما: من أسقط السعاية من الحديث أولى ممن ذكرها لأنها ليست في الأحاديث الأخر من رواية ابن عمر»

(1)

.

والظاهر مِنْ نَقْل الكرماني عن العلماء أنه يميل إلى القول الذي يرجح عدم ذكر السعاية، وأن لفظ السعاية هي مدرجة.

إلا أن البخاري صرّح بصحة الطريقين، وذلك عند سؤال الإمام الترمذي له إذ قال:«وسألت محمداً عن هذا الحديث، يعني حديث السعاية، فقلت: أيُّ الروايتين أصح؟ فقال: الحديثان جميعا صحيحان، والمعنى فيه قائم، وذكر فيه عامتهم عن قتادة «السعاية» إلا شعبة، وكأنه قوّى حديث سعيد بن أبي عَروبة في أمره بالسعاية»

(2)

.

وأشار البدر العيني رحمه الله وحقق في المسألة ولفت النظر لغرض البخاري من ذكر المتابعة فقال: «أراد البخاريُّ بذكر متابعة هؤلاء الرد على من زعم أن الاسْتِسعاء في هذا الحديث غير محفوظ، وأن سعيد بن أبي عروبة تفرد به، فاستظهر له بمتابعة هؤلاء المذكورين»

(3)

.

وقد رجح ابن حجر كلا الروايتين، وما قيل عن تعليل رواية سعيد بن أبي عروبة مردود؛ لأن سعيداً أعرف بحديث قتادة، لكثرة ملازمته له، وعدم نفي شعبة وهشام لما روى سعيد، ولأن سعيد لم ينفرد بذكر السعاية؛ بل تابعه جرير بن حازم وحجاج بن حجاج وموسى بن خلف وحجاج بن أرطأة، وأما

(1)

الكواكب الدراري، 11/ 80.

(2)

علل الترمذي الكبير، ص 204.

(3)

عمدة القاري، البدر العيني، 13/ 86.

ص: 619

تعليل الحديث بدعوى أن سعيد اختلط فمردود لأن ما في الصحيحين من روايته كان قبل الاختلاط»

(1)

.

* * *

‌المبحث الخامس

رواية الحديث بالمعنى

رواية الحديث بالمعنى:

الذين نقلوا لنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وهو ما أُضيف إليه صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة

(2)

.

وقد أُتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، كما أُتيَ صحابته رضي الله عنهم الفصاحة والبلاغة والشعر

وعند نقل الحديث للآخرين من الصحابة أو من بعدهم قد يُغيَّر ببعض ألفاظه فتُنقل بمعانيها، وهذا الفعل من الرواة هو عين الأمانة والصدق في نقل الأخبار، وهو مايُسمى برواية الحديث بالمعنى، وتعني الرواية بالمعنى:«هي نقل الحديث وروايته بألفاظ مختلفة مع بقاء المعنى موحَّداً»

(3)

أخرج البخاري في صحيحه، «عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنْ

(1)

فتح الباري، 5/ 157.

(2)

ينظر: شرح التبصرة، 1/ 181، تدريب الراوي، 1/ 202.

(3)

العلة في علم الحديث الشريف موضعها وأثرها، د. محمد عيد وفا المنصور، ص 242.

ص: 620

قَالَ السُّنَّةُ إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا»

(1)

.

وقال الكرماني: «ولو شئت لقلت معناه أن هذا اللفظ وهو من السنة كذا صريح في رفعه فلو شئت أن أقول رفعه بناء على الرواية بالمعنى لقلت ولو قلت لكنت صادقاً»

(2)

.

فيُفهم من فعل أنس رضي الله عنه التحري والدقة في النقل، وإن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الصدق، لأنه ينقل فعل النبي صلى الله عليه وسلم. قال النووي: «هذا اللفظ يقتضي رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قال الصحابي السنة كذا أو من السنة كذا فهو في الحكم كقوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا هذا مذهبنا ومذهب المحدثين وجماهير السلف والخلف

(3)

وجعله بعضهم موقوفا وليس بشيء قوله»

(4)

.

والأحاديث ليست كلها قولية، بل منها ما هو إخبار لفعل النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة، كقولهم أُمرنا بكذا، ونُهينا عن كذا، ومن السنة كذا

فهذا لا إشكال فيه فلا تدخله الرواية بالمعنى، أما ما كان من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ونقله الصحابة قولاً، فهذا الذي تدخله الرواية بالمعنى

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: النكاح، باب: إذا تزوج البكر على الثيب، رقم (4884).

(2)

الكواكب الدراري، 19/ 155.

(3)

ينظر: علوم الحديث، ابن الصلاح ص 50، التقييد والإيضاح، ص 69، وفتح المغيث، 1/ 142.

(4)

شرح مسلم، 10/ 45.

(5)

ينظر: الأنوار الكاشفة لما في كتاب: «أضواء على السنة» من الزلل والتضليل والمجازفة، عبد الرحمن اليماني، ص 79.

ص: 621

ولا يُفهم من فعل الصحابة رضي الله عنهم إذا حكوا قوله صلى الله عليه وسلم أنهم لم يكونوا يتحروا الدقة بلفظه صلى الله عليه وسلم أو أنهم كانوا يُهملونه، ولكنهم عند الأداء يقع من بعضهم تقديم أو تأخير أو إبدال كلمة مكان أخرى

(1)

.

وكما أن الرواة متفاوتون في قوة الحفظ والدقة في نقل الكلام؛ كان له دور في نقل الحديث بالمعنى، فاللغة العربية واسعة المعاني، وجزلة الألفاظ، فمن كان عالماً بما يؤديه اللفظ من معنى مقصود جاز له أن يروي الحديث بالمعنى، وهو دأب الحفّاظ والمحدثين في ذلك فقد ذكرالإمام الترمذي رحمه الله تعالى في جامعه عن طائفة من الرواة الثقات نقلهم للحديث بالمعنى.

عن سفيان الثوري قال: «فقال إن قلت لكم إنى أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني إنما هو الْمعنى.

وقال وكيع بن الجراح: «إن لم يكن الْمعنى واسعا فقد هلك الناس»

(2)

.

‌حكم الرواية بالمعنى:

قال العلماء أن رواية الحديث بألفاظه كما هي من دون تغيير هو الأفضل والأحسن

(3)

، قال القاضي عياض: «ينبغي سد باب الرواية بالمعنى؛ لئلا يتسلط من لا يحسن، ممن يظن أنه يحسن، كما وقع لكثير من الرواة، قديما

(1)

الأنوار الكاشفة، ص 79.

(2)

جامع الإمام الترمذي، 6/ 243.

(3)

الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي، 2/ 103.

ص: 622

وحديثا»

(1)

.

أجاز طائفة من العلماء رواية الحديث بالمعنى وهو مروي عن مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم وهو قول الجمهور، وذلك للعالِم بمواقع الخطاب ومدلول الكلمة واللفظ بشرط المطابقة للمعنى، وقال النووي:«ولا خلاف في المنع إذا اختلف المعنى»

(2)

.

ومنع طائفة منهم ذلك وهو مروي عن ابن سيرين والقاسم بن محمد ورجاء بن حيوة

(3)

.

وقال طائفة من العلماء هناك جملة من الأحاديث لايجوز أن تُروى بالمعنى، إذا كان فيها الصفات الآتية:

1 -

الأحاديث التي وُصفت أنها من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم

(4)

.

2 -

الأحاديث التي يُتعبد بلفظها فلا يجوز تغيرها إلى المعنى، قاله ابن حجر

(5)

.

3 -

الأحاديث التي تدخل في باب المتشابهات كأحاديث الصفات، لأنه

(1)

إكمال المعلم شرح صحيح مسلم للقاضي عياض، في المقدمة، ص 86.

(2)

شرح مسلم، 17/ 34.

(3)

ينظر: المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، الحسن الرامهرمزي، 538، والتقريب للنووي ص 74، وفتح المغيث، السخاوي، 3/ 138، ونزهة النظر، ابن حجر ص 116.

(4)

تدريب الراوي، 1/ 537، وإرشاد الفحول، الشوكاني، 1/ 156.

(5)

فتح الباري، 8/ 304.

ص: 623

لا يؤمن أن اللفظ الذي تكلم به الراوي يساوي لفظ النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

.

إذاً هذه عوامل منع نقل الرواية بالمعنى للأسباب التي ذُكرت، إذا غيّرت المعنى، وأبدلته، وكانت الأحاديث ذات معنى معين، وقد أجملها القاضي عياض بقوله:

«لا خلاف أن على الجاهل والمبتداء ومن لم يمهر في العلم، ولا تقدم في معرفة تقديم الألفاظ وترتيب الجمل وفهم المعاني، أن لا يكتب ولا يروي

ولا يحكي حديثا إلا على اللفظ الذي سمعه، وأنه حرام عليه التعبير بغير لفظه المسموع؛ إذ جميع ما يفعله من ذلك تحكم بالجهالة وتصرف على غير حقيقة في أصول الشريعة، وتقول على الله ورسوله ما لم يحط به علما»

(2)

.

إذا حاصل الأقوال في المسألة:

أن الذين أجازوا الرواية بالمعنى بشرط معرفة ما يؤديه المعنى بكلمة مرادفة لا تغير المعنى المراد.

وتشدد قوم منعوا الرواية بالمعنى مطلقاً.

ومنع قوم الرواية بالمعنى لأحاديث معينة كأحاديث الصفات، والمتشابهات وجوامع الكلم.

وقد كان الكرماني رحمه الله تعالى يبين جواز الرواية بالمعنى إذا نصّ الراوي على ذلك مثاله: أخرج البخاري: «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ اتَّبَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم

(1)

إرشاد الفحول، 1/ 156.

(2)

الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع، 174.

ص: 624

وَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ، فَكَانَ لَا يَلْتَفِتُ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقَالَ «ابْغِنِي أَحْجَاراً أَسْتَنْفِضْ بِهَا

أَوْ نَحْوَهُ وَلَا تَأتِنِي بِعَظْمٍ وَلَا رَوْثٍ». فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ

»

(1)

.

فقول أبي هريرة أو نحوه دلالة على جواز الرواية بالمعنى كما قال الكرماني

(2)

.

وكان الكرماني في شرحه يُشير إلى تصرف الراوي في الحديث، إذا نقله بالمعنى

(3)

.

فائدة:

قد يتصرف الراوي في بعض ألفاظ المتن بسبب الحاجة لذلك، كأن يكون اللفظ قبيحا، فيرويه الراوي بصيغة ضمير الغائب.

مثاله:

عن سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَاللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَبِي طَالِبٍ «يَا عَمِّ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ» . فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُاللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ

».

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: الاستنجاء بالحجارة، رقم (155).

(2)

الكواكب الدراري، 2/ 203.

(3)

الكواكب الدراري، 5/ 202، 12/ 29، 17/ 162.

ص: 625

فعبارة: هو على ملة عبد المطلب هي تصرف من الراوي فالأصل أن يقول ناقلاً لكلام أبي طالب قوله: «أنا على ملة عبد المطلب» فالراوي «لم يحك كلامه بعينه لقبحه وهو من التصرفات الحسنة»

(1)

.

وقال النووي: «فهذا من أحسن الآداب والتصرفات وهو أن من حكى قول غيره القبيح أتى به بضمير الغيبة لقبح صورة لفظه الواقع»

(2)

.

* * *

‌المبحث السادس

اختصار الحديث وتقطيعه

‌تعريف اختصار الحديث:

وهو حذف بعضه والاقتصار في الرواية على بعضه

(3)

.

واختصار الحديث وتقطيعه يتبع لرواية الحديث بالمعنى.

وقد أجاد الكرماني في ذلك وسماه: «خرماً» ، والخرم في اللغة:

قال ابن منظور: «مَصْدَرُقَوْلِكَ خَرَمَ الخَرَزَةَ يَخْرِمُها، بِالْكَسْرِ، خَرْماً وخَرَّمَها فَتَخرَّمَتْ: فَصَمَها وَمَا خَرَمْتُ مِنْهُ شَيْئًا أَي مَا نَقَصْتُ وَمَا قَطَعْتُ. وقال الليث: خَرِمَ أنفه يَخْرَمُ خرماً، وهو قطع في الوترة وفي الناشرتين أو في طرف الأرنبة لا يبلغ الجدْع»

(4)

.

(1)

الكواكب الدراري، 7/ 135.

(2)

شرح مسلم، 1/ 214.

(3)

توجيه النظر إلى أصول الأثر، طاهر الجزائري، 2/ 703.

(4)

لسان العرب مادة: «خرم» ، وانظر: النهاية في غريب الحديث 2/ 27.

ص: 626

فالخرم من معانيه في اللغة القطع، وهو ما وافق المعنى الاصطلاحي من قطع الحديث واختصاره.

واختصار الحديث، له أنواع فقد يروي الراوي الحديث وينقله مختصرا، فيقطّعه ويأخذ منه موطن الشاهد الذي يريد، بينما يرويه غيره تاماً، مما يؤدي إلى تعدد صور روايات الحديث، وهو حديث واحد، فلا يُظن أن هذا من قبيل اضطراب المتن، إذ أن الاضطراب تكون الروايات فيه متساوية لايمكن الجمع بينها، مما يُشعر بعدم ضبط الراوي.

وقد جاء عن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى: «قال كنت أسمع الحديث من عشرة اللفظ مختلف والمعنى واحد»

(1)

.

فيُفهم من كلام ابن سيرين أن الرواة منذ الصدر الأول كانوا يتصرفون في الحديث فيختصرونه أو يرونه بالمعنى.

أسباب اختصار الحديث:

لجأ البخاري في صحيحه، لتقطيع الحديث واختصاره، للحاجة إلى ذلك

(2)

، وذلك إما لشهرته وإما لأنه رواه كاملا سابقا، وإما لذكر موطن

ص: 627

الشاهد والحاجة من الحديث.

وقد بين الحافظ ابن حجر رحمه الله في مقدمة الفتح: موضوع تقطيع الحديث تارة واختصاره للحاجة في ذلك، وبيان المقامات، لأن الحديث قد يكون مشتملا على حكمين فأكثر فيعيده في مكان آخر مناسب، ولتكثير الطرق وذلك بإخراجه عن شيخ غير الشيخ الذي في الرواية الأولى، وتارة يورده موصولا، وتارة معلقاً

)

(1)

.

وقال في نزهة النظر: «أما اختصار الحديث؛ فالأكثرون على جوازه بشرط أن يكون الذي يختصره عالما؛ لأن العالم لا ينقص من الحديث إلا ما لا تعلق له بما يبقيه منه؛ بحيث لا تختلف الدلالة، ولا يختل البيان، حتى يكون المذكور والمحذوف بمنزلة خبرين، أو يدل ما ذكره على ما حذفه؛ بخلاف الجاهل، فإنه قد ينقص ما له تعلق؛ كترك الاستثناء»

(2)

.

حكم اختصار الحديث:

وقد قال ابن المبارك: «عَلْمَنا سفيان الثوري

(3)

.........................

(1)

هدي الساري، ص 20، وينظر الفتح كذلك قال كلاماً قريباً منه، 1/ 15.

(2)

نزهة النظر، ص 97.

(3)

أبو عبدالله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع، التابعي الثقة، أمير المؤمنين في الحديث، واتفق العلماء على وصفه بالبراعة فى العلم بالحديث، والفقه، والورع، والزهد، وخشونة العيش، والقول بالحق، وغير ذلك من المحاسن، قال يحيى بن معين: كل من خالف الثوري فالقول قول الثوري. وقال ابن مهدى: ما رأيت أحفظ للحديث من الثوري، (ت 161 هـ)، تهذيب الأسماء واللغات، النووي، 1/ 222، وطبقات علماء الحديث، لأبي عبدالله الهادي الصالحي، 1/ 310.

ص: 628

اختصار الحديث»

(1)

وقد أجاز أكثر العلماء تقطيع الحديث واختصاره بشرط أن يكون من اختصره عالما بمدلول الألفاظ بحيث لا يؤثر الاختصار على معنى الحديث، ومن العلماء من منع ذلك

(2)

.

وقد بيّن الخطيب في الكفاية حجة ومقصد من لا يرى اختصار الحديث وتقطيعه فقال: «قال كثير من الناس: يجوّز ذلك للراوي على كل حال، ولم يفصّلوا، والذي نختاره في ذلك أنه إن كان فيما حذف من الخبر معرفة حكم شرط وأمر لا يتم التعبد والمراد بالخبر إلا بروايته على وجهه، فإنه يجب نقله على تمامه، ويحرم حذفه، لأن القصد بالخبر لا يتم إلا به، ولا فرق بين أن يكون ذلك تركا لنقل العبادة، كنقل بعض أفعال الصلاة، أو تركا لنقل فرض آخر هو الشرط في صحة العبادة، كترك نقل وجوب الطهارة ونحوها، وعلى هذا الوجه يحمل قول من قال: لا يحل اختصار الحديث»

(3)

.

وقد بين الكرماني أقوال العلماء في مسألة القطع والاختصار فقال: «اختلف في جواز اختصار الحديث بترك البعض وذكر البعض ومثله يسمى بالخرم فمُنع مطلقاً وجوّز مطلقاً والصحيح أنه يجوز من العالم إذا كان ما تركه غير متعلق بما رواه بحيث لا يختل البيان ولا تختلف الدلالة ولا فرق بين أن

(1)

المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، الرامهرمزي، ص 543.

(2)

ينظر أقوال العلماء في ذلك، علوم الحديث لابن الصلاح، 1/ 215، ونزهة النظر لابن حجر، ص 97، وتوجيه النظر، طاهر الجزائري، 2/ 704.

(3)

ص 190.

ص: 629

يكون قد رواه قبل على التمام أو لم يروه»

(1)

.

وكان الكرماني يشير إلى اختصار الحديث عند البخاري ويبين سبب ذلك:

مثال على ذلك قال البخاري: «حَدَّثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، قَالَ: حَدَّثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِاللهِ بْنِ عَبْدِاللهِ، أَنَّ عَبْدَاللهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ. أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ

»

(2)

.

ذكر الكرماني

(3)

أن في إسناد هذا الحديث بين البخاري والزهري ثلاثة رجال وهم: إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ وإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ وصَالِحٍ بن كيسان.

وفي الرواية الأخرى بيّن البخاري والزهري رجلان، والرواية هي: «حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ الحَكَمُ ابْنُ نَافِعٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُاللهِ بْنُ عَبْدِاللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَبْدَاللهِ بْنَ عَبَّاسٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ ابْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُاللهِ بْنُ عَبْدِاللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَبْدَاللهِ بْنَ عَبَّاسٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ ابْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ

»

(4)

.

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 202.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الإيمان، باب: سُؤَالِ جِبْرِيلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الإِيمَانِ، وَالإِسْلَامِ، وَالإِحْسَانِ، وَعِلْمِ السَّاعَةِ، رقم (51).

(3)

الكواكب الدراري، 1/ 202.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: بدء الوحي، باب: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟، رقم (51).

ص: 630

والرجلان هما: أَبُو اليَمَانِ الحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ وشُعَيْبٌ.

ثم بين الكرماني ممن وَقَعَ القطع والخرم فقال: «فإن قلت فممن وقع هذا الخرم؟ قلت: الظاهر أنه من الزهري لا من البخاري؛ لاختلاف شيوخ الإسنادين بالنسبة إلى البخاري، فلعل شيخه إبراهيم بن حمزة لم يذكر في مقام الاستدلال على أن الإيمان دين إلا هذا القدر»

(1)

.

ثم بين‌

‌ سبب الخرم

فقال:

«فإن قلت فلم يقع الخرم؟ قلت: لأن المقامات مختلفة والسياقات متنوعة فمقام بيان كيفية الوحي يقتضي ذكر الحديث بتمامه ومقام الاستدلال على هذا المطلوب يقتضي ذكر ما به يتم المقصود به اختصاراً وتقريباً لفهم المراد والله تعالى أعلم»

(2)

.

مثال ثانٍ قال البخاري: «عَنْ أَبِي بَكْرَةَ ذُكِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ» وَكَانَ مُحَمَّدٌ يَقُولُ صَدَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ ذَلِكَ «أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ» مَرَّتَيْنِ»

(3)

.

فبيّن الكرماني أن هذا الحديث مخروم بمعنى مُقطّع حيث قال: «لأنه بعض من حديث طويل وقد سبق بعضه في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم رب مبلغ حيث قال: قَالَ: «أَيُّ يَوْمٍ هَذَا» ، فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ يَوْمَ

(1)

الكواكب الدراري، 1/ 202.

(2)

الكواكب الدراري، 1/ 202.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: لِيُبَلِّغِ العِلْمَ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، رقم (105).

ص: 631

النَّحْرِ» قُلْنَا: بَلَى، قَالَ:«فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا» فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ:«أَلَيْسَ بِذِي الحِجَّةِ» قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا إلى آخره

وقد خُرم هنا اقتصارا على المقصود وهو بيان التبليغ»

(1)

.

ومثله: قال البخاري: «حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِاللهِ قَالَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ اجْتَنِبُوا الْمُوبِقَاتِ الشِّرْكُ بِاللهِ وَالسِّحْرُ»

(2)

.

قال الكرماني: «وثبت في الصحيح: اجتنبوا السبع الموبقات، الشرك بالله، السحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات

(3)

، فهذا الذي في الكتاب مختصر من مطول، ولهذا ذكر اثنتين فقط، هو من قبيل قوله تعالى {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ}

(4)

.

(1)

الكواكب الدراري، 2/ 107.

(2)

أخرجه البخاري، كتاب: الطب، باب: الشِّرْكُ وَالسِّحْرُ مِنَ المُوبِقَاتِ، رقم (5764).

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الوصايا، باب: قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، رقم (2766) إلا أن الكرماني لم يذكر لفظ الغافلات وهي موجودة بروايات البخاري التي ذكرت الحديث كاملا.

(4)

الكواكب الدراري، 21/ 39.

ص: 632

ومن ذلك: ما أخرجه البخاري في كتاب الرقائق:

«حَدَّثَنِي أَبُو نُعَيْمٍ بِنَحْوٍ مِنْ نِصْفِ هَذَا الْحَدِيثِ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ حَدَّثَنَا مُجَاهِدٌ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ أَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ»

(1)

.

قال الكرماني: «فإن قلت هذا مشكل لأن نصف الحديث يبقى بدون الإسناد، ثم أن النصف مبهم أهو الأول أم الآخر، قلت: اعتمد على ما ذكر في كتاب الأطعمة

(2)

من طريق يوسف بن على المروزي، وهو قريب من نصف هذا الحديث فلعل البخاري أراد بالنصف المذكور بأبي نُعيم ما لم يذكره، ثمة فيصير الكل مسندا ببعضه بطريق يوسف والبعض الآخر بطريق أبي نُعيم قال صاحب التلويح ذكر الحديث في الاستئذان

(3)

مختصرًا وكان هذا هو النصف»

(4)

وقد رجح بعض العلماء كلام الكرماني أن الحديث مروي في كتاب الأطعمة:

(1)

أخرجه البخاري، بَاب: كَيْفَ كَانَ عَيْشُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ وَتَخَلِّيهِمْ مِنْ الدُّنْيَا، رقم (6066).

(2)

أخرجه البخاري، رقم (5030) وهو «حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَعَامٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى قُبِضَ. وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَصَابَنِي جَهْدٌ شَدِيدٌ فَلَقِيتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ

».

(3)

في بَاب إِذَا دُعِيَ الرَّجُلُ فَجَاءَ هَلْ يَسْتَاذِنُ، رقم (5868)، وهو: «حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُاللهِ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ أَخْبَرَنَا مُجَاهِدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَ لَبَنًا

».

(4)

الكواكب الدراري، 22/ 216.

ص: 633

«والجواب الصحيح أنه روي في موضع آخر في أول كتاب الأطعمة «أنه سأل عمر عن معنى آية، فأجابه ولم يدخله بيته»

(1)

.

* * *

‌المبحث السابع

شك الراوي في الحديث

وقد يكون الشك في الحديث سندا أو متنا:

تعريف الشك في اللغة:

وفي اصطلاح العلماء من المحدثين وغيرهم قال بعضهم: الشك «هو التردد بين النقيضين بلا ترجيح لأحدهما على الآخر عند الشاك، وقيل: الشك: ما استوى طرفاه، وهو الوقوف بين الشيئين لا يميل القلب إلى أحدهما»

(2)

.

الشك عند الراوي يكون في السند والمتن:

‌1 - في السند:

قد يكون عند الراوي عشرات الشيوخ، بل المئات، فتجد أحياناً أن الراوي يشك ويتردد فيمن روى عنه الحديث من شيوخه، أهو فلان أم غيره، وهذا الشك عند الراوي يدل على اختلال في ضبطه، من هذه الجهة، أومن هذا الطريق أوشيخه فلان

مما يوجب علة في الحديث تطعن به.

وقد بيّن الخطيب البغدادي رحمه الله ثلاث صور لشك الراوي وحكم كل

(1)

الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري، أحمد بن إسماعيل الكوراني الحنفي، 10/ 145.

(2)

التعريفات، الجرجاني، ص 168.

ص: 634

صورة:

(الصورة الأولى: أن يكون كل واحد من الرجلين اللذين سماهما عدلا، فلو كان هذا الحال، فإن الحديث ثابت، والاحتجاج به جائز، لأنه قد عينهما، وتحقيق سماع ذلك الحديث من أحدهما وكلاهما ثابت العدالة.

الصورة الثانية: تردد الراوي كقوله: عن فلان أو غيره.

فهذه الصورة يدخلها الوهن، لأننا لا نعلم من هو هذا الغير، لأن الغير الذي لم يسم لا يعرف: أهو عدل أم لا؟، مع احتمال حالة الأمرين معا.

الصورة الثالثة: أن يروي عن أحد الرجلين اللذين سماهما ثقة والآخر مجروحاً:

وهذه الصورة من صور الطعن في الحديث؛ لاحتمال أن يكون الراوي المجروح هو صاحب الحديث)

(1)

.

وكل هذا إذا كان التردد والشك في غير الصحابة الكرام رضي الله عنهم أما إذا كان التردد والشك في اسم صحابي، وصحابي آخر غيره، أيهما صاحب الحديث فإن هذا لا يؤثر على صحة الحديث، لأن الصحابة الكرام كلهم عدول ثقات، فلا يضر الإبهام بمعرفة عين الصحابي الذي روى الحديث، كما هو مقرر عند العلماء

(2)

.

(1)

الكفاية بتصرف، ص 375، ومابعدها.

(2)

ينظر: الكفاية، الخطيب البغدادي، ص 46، السنة قبل التدوين، د. محمد عجاج الخطيب، ص 394.

ص: 635

‌2 - الشك في المتن:

قد يأتي الشك من أحد الرواة في المتن، ويتردد في عبارة معينة، وأخرى مبهمة، أو يكون التردد في كلمتين مختلفيتين في مدلول كل منهما.

مثاله ما أخرجه البخاري: «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا، فَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ إلَى مَنْزِلِهِ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، ثُمَّ قَالَ لَى مَنْزِلِهِ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، ثُمَّ قَالَ «نَامَ الْغُلَيِّمُ» . أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا، ثُمَّ قَامَ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، ثُمَّ قَامَ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ

»

(1)

.

قوله: ثم «نَامَ الْغُلَيِّمُ» . أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا

هي شك من الراوي، وهو ابن عباس رضي الله عنهما كما قال الكرماني.

«وقال بجواز الرواية عند الشك في كلمة بشرط التنبيه عليها»

(2)

.

قلت: ومثل هذا الشك لا يؤثر على صحة الحديث، إذ أن العبارة المشكوك فيها رديفة لعبارة «نام الغُليم» كما فُهم من كلام ابن عباس رضي الله عنهما.

ويذكر الكرماني ممن صدر الشك عنه في الحديث، كما بين ذلك في حديث: «حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً أَسْوَدَ أَوِ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ، فَمَاتَ

»

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: السمر بالعلم، رقم (117).

(2)

الكواكب الدراري، 2/ 134، 4/ 240.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: الصلاة، باب: كنس المسجد والتقاط الخرق والقذى والعيدان، رقم (447).

ص: 636

فقال: «الظاهر أن الشك في أنه رجل أو امرأة، من أبي رافع أو أبي هريرة» ، طبعا من دون الجزم كعادته في التردد، إلا أن ابن حجر رحمه الله تعالى قال أن الشك فيه من ثابت لأن جماعة رووه عنه هكذا بالشك، أو أن الشك من أبي رافع»

(1)

.

إذاً معرفة الراوي صاحب الشك يُعرف عن طريق أخرى رواها أحد الرواة بالشك، وأخذها عنه غيره بالشك كذلك، فثابت روى الحديث بالشك وأخذها عنه جماعة بالشك كما تلقوها.

ويُزال هذا الشك أن تأتي العبارة المشكوك فيها مجزومة من دون تردد من طريق أخرى، بشرط «أن تكون الرواية الجازمة محفوظة، وليست مما أخطأ فيه بعض الرواة الثقات أو الضعفاء، وأن صواب الرواية أنها بالشك وليست بالجزم.

فقد يقع الجزم من قِبَل بعض الرواة خطأً منهم، ويكون الصواب التردد والشك، فحينئذ لا اعتبار بالرواية الجازمة، ولا يُدفع الشك بها؛ لأنها خطأ، والخطأ لا يعتبر به»

(2)

.

وأحيانا يجزم الكرماني بصدور الشك من الراوي فيعينه من دون تردد مثاله:

(1)

فتح الباري، 1/ 553.

(2)

الإرشادات في تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات، أبو معاذ طارق بن عوض الله ابن محمد، ص 317.

ص: 637

قال البخاري: «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قُمْتُ لَيْلَةً أُصَلِّي عَنْ يَسَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ بِيَدِي، أَوْ بِعَضُدِي حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ وَقَالَ بِيَدِهِ مِنْ وَرَائِي»

(1)

.

فقوله: فأخذ بيدي، أو عضدي، هو شك جزم الكرماني

(2)

أنه من ابن عباس رضي الله عنهما، لأن القرينة تدل عليه

(3)

.

أو قد يضع الكرماني الاحتمالات بين الشك والتنويع من دون أن يرجح:

مثاله: «عن سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَقُولُ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي حَتَّى تَرِمَ أَوْ تَنْتَفِخَ قَدَمَاهُ فَيُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»

(4)

.

قال الكرماني: «وكلمة أو تنتفخ للتنويع ويحتمل أن يكون شكا من الراوي»

(5)

.

وفي رواية تتفطر قدماه

(6)

وكل هذه الكلمات مترادفة لا اختلاف فيها، فإن الانتفاخ، والورم واحد، وعند حصوله قد يحصل التفطر وهوالتشقق

(7)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الأذان، باب: ميمنة المسجد والإمام، رقم (797).

(2)

الكواكب الدراري، 5/ 99.

(3)

وينظر أمثلة على جزم الكرماني بتعيين الراوي الذي صدر منه الشك، 2/ 133.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: الرقائق، بَاب: الصَّبْرِ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ، رقم (6085).

(5)

الكواكب الدراري، 22/ 228.

(6)

الحديث من رواية السيدة عائشة رضي الله عنها، أخرج الحديث البخاري، كتاب: سورة الفتح، بَاب: لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، رقم (4518).

(7)

ينظر: فتح الباري، 3/ 15.

ص: 638

أو قد يجزم أن حرف العطف أو هو للتنويع مثاله: قال البخاري: «إنَّا إِذَا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ قُلْنَا السَّلَامُ عَلَى اللهِ مِنْ عِبَادِهِ السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ

فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمْ أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ فِي السَّمَاءِ، أَوْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ

»

(1)

.

قال الكرماني: «قوله أو بين السماء لفظة أو، ليست للشك ولا للترديد بل للتنويع»

(2)

.

إلا أن الظاهر ليس تنويعاً، وإنما هو شك من مسدد وإلا فقد رواه غيره عن يحيى بلفظ من أهل السماء والأرض

(3)

، وقد روى البخاري نفسه الحديث مرات عدة من غير طريق مسدد، وكل هذه الروايات لا يوجد فيها هذا الشك، وإنما جاءت بصيغة الجزم.

والعجيب إن الكرماني لم يتنبه لهذه الرواية التي فيها التردد، مع أن الرواية التي فيها الجزم جاءت قبل رواية التردد بقليل، وجاء بعدها روايتين كذلك بالجزم

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الأذان، باب: مَا يُتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، رقم (800).

(2)

الكواكب الدراري، 5/ 186.

(3)

ينظر: فتح الباري، 2/ 315.

(4)

من هذه الروايات: قال البخاري: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُاللهِ كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُلْنَا السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّلَامُ فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ

أصابت كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ

» أخرجه البخاري: كتاب: الأذان، باب: الدعاء قبل السلام، رقم (798).

ص: 639

ويبين الكرماني ماورد في الرواية أنه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس من قبيل شك الراوي أو تردده.

مثاله: أخرج البخاري في كتاب الجنائز: «عن محمد بن المكندر قال سمعت جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللهِ رضي الله عنهما قَالَ لَمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْتُ أَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ أَبْكِي، وَيَنْهَوْنِي عَنْهُ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَنْهَانِي، فَجَعَلَتْ عَمَّتِي فَاطِمَةُ تَبْكِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «تَبْكِينَ أَوْ لَا تَبْكِينَ، مَا زَالَتِ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ»

(1)

.

فقوله صلى الله عليه وسلم: تبكين أولا تبكين هي من باب التخيير من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم للتسوية بين البكاء وعدمه أي: فوالله أن الملائكة تظله سواء تبكين أم لا»

(2)

.

إذاً لمعرفة حرف العطف أو في الروايات أكان من قبيل الشك، أو التنويع، أو التخيير

لابد من معرفة السياق وتمعّنه بشكل جيد، والاستعانة بالقرائن على ذلك، ومعرفة الروايات الأخرى للحديث وطرقه.

* * *

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الجنائز، باب: الرَّجُلِ يَنْعَى إلَى أَهْلِ الْمَيّتِ، رقم (1175).

(2)

الكواكب الدراري، 7/ 56.

ص: 640

‌المبحث الثامن

مخالفة الراوي لماروى

قد يحصل في بعض الأحيان، أن يُخالف الراوي ما وقع من روايته، فتنوعت أقوال العلماء في ذلك.

فذهب الحنفية إلى أن القول قول الراوي، وذهب غيرهم أن العمل بالخبر، وترك مخالفة الراوي

(1)

.

وقد عدّ الإمام ابن رجب هذا النوع من أنواع العِلل التي تلحق المتن، فقال في القسم الثالث منها، وقال: قد ضعّف الإمام أحمد وأكثر الحفاظ أحاديث كثيرة بمثل هذا

(2)

.

وقال إمام الحرمين الجويني

(3)

: «وهو أنه إن تحققنا أن مخالفة الراوي كانت لنسيان الخبر أو لعدم فهمه له فلا شك في وجوب اتباع الخبر، ولذلك إذا كان لورع في الراوي بأن يكون الخبر يقتضي ترخصا والراوي، شديد الورع فإنه تحمل المخالفة على أخذه بالاحتياط والمبالغة في الورع وإن خفي عنا سبب

(1)

نفائس الأصول في شرح المحصول شهاب الدين القرافي، 7/ 2997.

(2)

شرح علل ابن رجب، همّام سعيد، 1/ 164.

(3)

عبد الملك بن عبدالله بن يوسف، النيسابوري إمام الحرمين أبو المعالي، الإمام المحقق النظار الأصولي المتكلم البليغ، شيخ الإسلام، أخذ عن والده وغيره كثير، وبرع في علوم شتى، قال أبو إسحاق الشيرازي فيه: تمتعوا بهذا الإمام فإنه نزهة هذا الزمان، له: الشامل في أصول الدين، والبرهان في أصول الفقه، (ت 478 هـ). طبقات الشافعية، السبكي، 5/ 1654.

ص: 641

المخالفة ولكن علمنا أنه خالف ما رواه عمدا فالرجوع هنا إلى قوله لأن الظاهر أنه لا يرتكب مثل هذه المخالفة إلا لمسوغ يقتضي مخالفة ما رواه.

وإن خفي عنا أن المخالفة وقعت عمدا أو لسبب من الأسباب ولم نحط به علما فالواجب اتباع الخبر وترك ما ذهب إليه الصحابي الراوي»

(1)

.

ويقف الإمام القرافي من المسألة، أن لا يؤخذ هذا في كل الأحوال فقال: «هذه المسألة عندي ينبغي أن تُخصص ببعض الرواة، فتُحْمل على الراوي المباشر للنقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يحسن أن يقال هو أعلم بمراد المتكلم

حتى يحسن أن يقال: فيه لعله شاهد من القرائن الحالية أو المقالية ما يقتضي مخالفته، فلا تكون المسألة على عمومها»

(2)

.

مثاله: أخرج البخاري:

«عن عائشة رضي الله عنها قالت الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر قال الزهري فقلت لعروة ما بال عائشة تتم قال تأولت

ما تأول عثمان»

(3)

.

بين الكرماني أن الحنفية استدلوا من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها، على وجوب قصر صلاة المسافر

(4)

، فرد عليهم وقال: «لادلالة فيه لأنهم لو كان

(1)

إجمال الإصابة في أقوال الصحابة، 1/ 92 - 93، صلاح الدين العلائي، وينظر كلام أبي الحسنات عبد الحي اللكنوي، في كتابه الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة، ص 223.

(2)

شرح تنقيح الأصول، القرافي، ص 371.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: التقصير، باب: يقصر إذا خرج من موضعه، رقم (1033).

(4)

شرح مختصر الطحاوي، لأبي بكر الرازي الجصاص، 2/ 91. وقال الجمهور بعدم وجوب قصر الصلاة في السفر، وأن الأصل هو الإتمام، والقصر رخصة، والقصر سنة عند المالكية، والقصر أفضل عند الشافعية، والحنابلة ينظر: مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، شمس الدين، شمس الدين الحطاب الرُعيني، المجموع، النووي، 4/ 321، الكافي في فقه الإمام أحمد، ابن قدامة المقدسي، 1/ 309.

ص: 642

الحديث مجري على ظاهره لما جاز لعائشة رضي الله عنها إتمامها ثم أنه خبر واحد لا يعارض لفظ القرآن وهو (أن تقصروا من الصلاة) الصريح في أنها كانت في الأصل زائدة عليه إذ القصر معناه التنقيص ثم إن الحديث مخصص بالمغرب والصبح وحجية العام المخصص مختلف فيها ثم إن راوية الحديث عائشة وقد خالفت روايتها وإذا خالف الراوي روايته لا يجب العمل بروايته عندهم»

(1)

.

* * *

‌المبحث التاسع

التنبيه على مزيد في متصل الأسانيد

هذا النوع يختص بالسند، ويقابله «زيادة الثقات» الذي يختص بالمتن.

تعريفه: أن يزيد الراوي الثقة رجلاً في الإسناد المتصل، لم يذكره غيره من الثقات

(2)

فيُظن أنه من الوهم الذي وقع فيه الراوي، وإنما هو من تصرف

(1)

الكواكب الدراري، 6/ 165، وينظر قول السادة الاحناف في المسألة، في المبسوط، السرخسي، 1/ 239.

(2)

ينظر التقريب والتيسير للنووي، 1/ 91، والباعث الحثيث، ص 176، وشرح نخبة الفكر للقاري، ص 478، والتقييد والإيضاح في علوم الحديث والاصطلاح، ص 253.

ص: 643

الراوي الذي سمعه مرة عالياً من دون واسطة، ومرة نازلاً بواسطة، فرواه على الوجهين، وقد ثبت سماعه عن شيخه وشيخ شيخه.

وشرط المزيد في متصل الأسانيد:

قال ابن الصلاح: «وإن كان فيه تصريح بالسماع أو بالإخبار

فجائز أن يكون قد سمع ذلك من رجل عنه، ثم سمعه منه نفسه»

(1)

.

وترد الزيادة بشرط أن يصرح الراوي بالسماع، فإن عنعن ب «عن» ، اعتُبر الإسناد الخالي من الزيادة منقطعاً.

قال ابن الصلاح: «لأن الإسناد الخالي عن الراوي الزائد إن كان بلفظة «عن» في ذلك فينبغي أن يحكم بإرساله، ويجعل معللا بالإسناد الذي ذكر فيه الزائد»

(2)

.

وقال العلماء عن هذا النوع:

«الحكم بالزيادة في هذا النوع صعب شديد، يقف على حافة النقد، وخطر الانتقاض بأن يكون الراوي قد سمع من الشخص الزائد ثم طلب العلو فسمعه من الشيخ الأعلى مباشرة، وقد وقع ذلك في أحاديث كثيرة، لكنا نستأنس في هذه الحال بالقرائن»

(3)

.

مثاله قال البخاري: «حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِاللهِ

(1)

مقدمة ابن الصلاح، ص 288.

(2)

السابق، ص 287.

(3)

منهج النقد، ص 356.

ص: 644

قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

»

(1)

.

قال الكرماني ناقلاً عن الدارقطني: «خالف يحيى فيه جميع أصحاب عبدالله لأنهم كلهم رووه عن عبيدالله عن سعيد عن أبي هريرة ولم ذكر أباه»

(2)

.

ووردت روايات أخرى للحديث في كتاب الاستئذان: «حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ ابْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُاللهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ المَسْجِد

»

(3)

.

وفي كتاب الأيمان والنذور: «حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُاللهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ المَسْجِدَ

»

(4)

.

قال الإمام الترمذي: «وقد روى ابن نمير هذا الحديث، عن عبيدالله بن عمر، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، ولم يذكر فيه عن أبيه، عن أبي هريرة. ورواية يحيى بن سعيد، عن عبيدالله بن عمر، أصح، وسعيد المقبري، قد سمع من أبي هريرة، وروى عن أبيه، عن أبي هريرة»

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري، كتاب: الاستئذان، باب: وجوب القراءة للإمام والمأموم، رقم (726).

(2)

الكواكب الدراري، 5/ 124، وينظر كلام الدارقطني في الإلزامات والتتبع، ص 132.

(3)

أخرجه البخاري، باب: من ردّ فقال: عليك السلام، رقم (5873).

(4)

أخرجه البخاري، باب: إذا حنث ناسياً في الأيمان، رقم (6267).

(5)

سنن الترمذي، 1/ 394.

ص: 645

والحاصل أن الروايات الأخرى لم تذكر الزيادة (أبي سعيد) التي في رواية يحيى بن سعيد وقد قال العلماء أن هذه الزيادة صحيحة وذلك للأسباب الآتية:

ثبات سماع سعيد المقبريّ عن أبيه واسمه (كيسان مولى ليث، وهو صحابي)

(1)

عن أبي هريرة، وسماعه من أبي هريرة مباشرة من دون واسطة أبيه

(2)

.

نقل الكرماني تصحيح رواية يحيى التي فيها الزيادة عن الدارقطني «يحيى حافظ يعني فيُعتمد ما رواه فالحديث صحيح لا علة فيه»

(3)

.

ومثله قال البخاري: «حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم

»

(4)

.

وأخرجه كذلك من طريق أخرى عن: «حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ»

(5)

.

(1)

أسد الغاية، 6/ 140.

(2)

ينظر الثقات لابن حبان، 4/ 484، وتهذيب التهذيب، 4/ 39، وتحفة التحصيل، 1/ 127.

(3)

الكواكب الدراري، 5/ 124.

(4)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: مِنَ الْكَبَائِرِ أَنْ لَا يَسْتَتِرَ مِنْ بَوْلِهِ، رقم (215)، وفي كتاب: الأدب، بَاب: النَّمِيمَةُ مِنْ الْكَبَائِرِ، بَاب: النَّمِيمَةُ مِنْ الْكَبَائِرِ، رقم (5684).

(5)

أخرجه البخاري، كتاب: الوضوء، باب: الاستتار من البول، رقم (217)، وكتاب: الجنائز، باب: عَذَابِ الْقَبْرِ مِنَ الْغيبَةِ والْبَوْلِ، وباب: الْجَرِيدِ عَلَى الْقَبْرِ، رقم (1281)، وفي كتاب: الأدب، بَاب: الْغِيبَةِ، رقم (5681).

ص: 646

قال الكرماني: «وسبق شرح الحديث في باب من الكبائر ألا يستبرئ من بوله لكن ثمت قال: عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس وههنا قال: عن مجاهد عن ابن عباس بحذف طاوس وكلاهما صحيح لأن مجاهداً يروي عنهما»

(1)

.

قلت: سبق قلم الكرماني رحمه الله تعالى فعكسهما، لأن الرواية التي في باب: من الكبائر ألا يستبراء من بوله، هي عن: منصور عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما، والرواية هنا في باب: الجريد على القبر، هي عن الأعمش عن مجاهد عن طاوس، عن ابن عباس.

إذاً: حكم الكرماني على الروايتين بالصحة لأن مجاهداً سمع الحديث من طاوس عن ابن عباس، وسمعه مباشرة من ابن عباس من دون واسطة، وقد ثبت سماع مجاهد عن طاوس وابن عباس

(2)

.

وقد رجّح الترمذي في العلل رواية الأعمش فقال: «سألت محمدا عن حديث مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين، فقال: الأعمش يقول: عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس، ومنصور يقول: عن مجاهد، عن ابن عباس ولا يذكر فيه: عن طاوس، قلت: أيهما أصح؟ قال:

(1)

الكواكب الدراري، 7/ 137.

(2)

ينظر: الجرح والتعديل، ابن أبي حاتم، 8/ 319، وميزان الاعتدال في نقد الرجال، للذهبي، 3/ 439.

ص: 647

حديث الأعمش»

(1)

.

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: «وإخراجه له على الوجهين يقتضي صحتهما عنده، فيحمل على أن مجاهداً سمعه من طاوس عن ابن عباس، ثم سمعه من ابن عباس بلا واسطة، أو العكس ويؤيده أن في سياقه عن طاوس زيادة على ما في روايته عن بن عباس، وصرح بن حبان بصحة الطريقين معا»

(2)

.

ومن ذلك قال أبو عبدالله البخاري: «حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ أَخْبَرَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ لَا تَسْمَعُ شَيْئاً لَا تَعْرِفُهُ إِلاَّ رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ

»

(3)

.

بيّن الكرماني أن هذا الحديث مما استدركه الدارقطني

(4)

على البخاري، بسبب خلاف الرواية فيه عن ابن أبي مُليكة: فرُوي عنه عن عائشة، وعنه عن القاسم

(5)

.

(1)

علل الترمذي، ص 42.

(2)

فتح الباري، 1/ 317.

(3)

أخرجه البخاري، كتاب: العلم، باب: من سمع شيئا فراجعه حتى يعرفه، رقم (103).

(4)

الالزامات والتتبع، ص 348 - 349.

(5)

أخرج البخاري في كتاب: تفسير القرأن، باب: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، رقم (4939). حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الأَسْوَدِ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ، سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، ح وَحَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ح وحَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي يُونُسَ حَاتِمِ بْنِ أَبِي صَغِيرَةَ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ القَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ إِلَّا هَلَكَ» قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ، أَلَيْسَ يَقُولُ اللهُ عز وجل:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} قَالَ: «ذَاكَ العَرْضُ يُعْرَضُونَ وَمَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ هَلَكَ» أخرج مسلم: كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: إثبات الحساب، رقم (80) حدثني عبد الرحمن بن بشر بن الحكم العبدي، حدثنا يحيى يعني ابن سعيد القطان، حدثنا أبو يونس القشيري، حدثنا ابن أبي مليكة، عن القاسم، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«ليس أحد يحاسب إلا هلك» قلت: يا رسول الله أليس الله يقول: حسابا يسيرا؟ قال: «ذاك العرض، ولكن من نوقش الحساب هلك» .

ص: 648

‌الخاتمة

الحمد لله على تمام فضله وتوفيقه، والحمد لله الذي مَنَّ عليَّ وأعانني على إنجاز هذا البحث، وأسأله عز وجل أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يتقبل مني، وأن ينفع به إنه أكرم مسؤول.

وبعد هذه الرحلة في رحاب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، في شرح أهم وأصح كتب السنة النبوية المطهرة، للإمام الكرماني والذي كان نبراساً يهتدي به من شرح الصحيح بعده، وقفت في هذا البحث على بعض النتائج والتوصيات:

‌أولاً النتائج:

1 -

أهمية كتاب الكواكب الدراري ومكانته بين شروح السنة النبوية.

2 -

سعة اطلاع الكرماني في أكثر أنواع العلوم مكنته من إخراج شرح متوسط وفيه جهد واضح ظهرت فيه شخصيته العلمية.

3 -

المرحلة التي عاش فيها الكرماني، وما فيها من اضطرابات وفتن، لم تُثنه على تحقيق مراده، والصبر على تعليم العلم.

4 -

شَرحُ الكرماني شرح متوسط يميل فيه إلى الاختصار، ليس كغيره من المطولات، وقد توسع الكرماني بعض الشيء في القسم الأول منه، واختصر أكثر

ص: 651

في القسم الآخر، ومع هذا كان عمدة لمن شرح البخاري بعد الكرماني.

5 -

اعتمد الكرماني تقوية شرحه فوثّق نقوله عن الآخرين، وأكثر من أخذ عنهم: الخطابي في أعلام الحديث، والنووي في شرحه على مسلم، وابن بطال المالكي في شرحه للبخاري، ورجع في كل علم إلى مصنفاته، وأحال إليها، وتارة يُسميها بالاسم، وتارة باسم أصحابها.

6 -

وكان الكرماني يأخذ المعنى في النقول دون النقل الحرفي، إلا في مواطن قليلة، وفي كثير من الأحايين يكتفي بنقول العلماء من دون التعليق عليها، وتارة يُعلق ويُبدي رأيه في المسألة.

7 -

اعتمد الكرماني في شرحه طريقة سؤال المستفهم، كقوله فإن قلتَ، ويُجيب على هذا التساؤل، وفي كثير من الأحايين يُعطي احتمالات للإجابة، من دون ترجيح بينها، وأحيانا يُرجح، متّبعاً المنهج النقدي، والتحليلي.

8 -

اتسم الكرماني بالموضوعية في شرحه، فتارة يمدح البخاري على صنيعه، وتارة ينقده في بعض الأمور.

9 -

ظهر اهتمام الكرماني في شرحه ببعض الأمور دون بعض، فتخريج الحديث من غير الصحيح والحكم عليه، وعلم العلل لم يلقيا اهتماماً كبيراً منه؛ بخلاف الكلام عن تراجم البخاري مثلاً والاهتمام بغريب الحديث، وما تعلق بعلوم الرواة، وبعض أمور مصطلح الحديث.

10 -

اهتم الكرماني بترجمة الأعلام وخصوصا المشاهير منهم كالصحابة وبعض التابعين العلماء، وتوسع في ترجمتهم، وكرر هذه التراجم كما أشار في مقدمته، ليُحفظ العَلَم وينطبع في ذاكرة القاراء.

ص: 652

11 -

أجاب الكرماني عن بعض الانتقادات التي وُجهت للبخاري، إلا أنه لم يستوعبها كاملة.

12 -

جمع الكرماني في شرحه من علوم شتى، كالطب والجغرافيا، والفلك وغيرها، وأحال إلى مصادرها، وإن لم تكن من تخصصه لأن كتب التراجم لم تذكر ذلك عنه.

13 -

ظهر اعتناء الكرماني في علوم السند، أكثر من علوم المتن، فأجاب عن إشكالات قد تقع في السند، وأحيانا يُجيب عن بعض إشكالات المتن.

14 -

اعتنى الكرماني بالمعلّقات في البخاري، وأجاب عنها واهتم بذكر اللطائف الإسنادية.

15 -

ظهر اهتمام الكرماني بعلم مختلف الحديث ومشكله، وأجاب عن بعض الأحاديث التي تُوهم التعارض، ووفّق بينها.

16 -

اهتم الكرماني بعرض المسائل الفقهية، بشكل مختصر كما هو منهجه في الكتاب، وتارة يرجح وتارة ينقلها فقط، ويُحيل أحيانا للكتب الفقهية، ويعبر عنها بقوله «الفقهيات» ، لمن أراد التوسع.

17 -

انفرد الكرماني ببعض المسائل برأي خاص، على خلاف المتفق عليه، كتعريف الحديث مثلاً.

18 -

اهتم الكرماني بالمسائل اللغوية، والنحوية والبلاغية، ويذكر أقوال العلماء في الإعراب والخلاف فيه.

19 -

ذكر الكرماني أقوال بعض الفِرق العقدية كالخوارج والمعتزلة، ورد عليهم من منظور أهل السنة والجماعة.

ص: 653

20 -

ظهر اهتمام الكرماني ببيان رأي البخاري العَقَدي والفقهي.

21 -

تعرض الكرماني للنقد في شرحه، من بعض العلماء كابن حجر في فتح الباري، والبدر العيني في عمدة القاري، وشمس الدين البرماوي في اللامع الصبيح.

22 -

التزم الكرماني بالنقاط التي تكلم عنها في المقدمة، وإن وُجد فيها التفاوت، بمعنى كان اهتمامه ببعض النقاط أكثر من بعض، وقد ذكر في مقدمة الكتاب أن من أسباب تصنيفه للشرح أنه لم يجد شرحا من الذين سبقوه يشفي العليل بكشف بعض ما يتعلق بالكتاب

وقد أوصله جهده بإخراج الكواكب الدراري، وقد انتقد الشرح ممن جاء بعده.

23 -

تأثّر العلماء ممن شرح الحديث ممن جاء بعده بشرحه، ولو أنهم نقدوه في بعض الأمور إلا أنهم أكثروا من النقل عنه في شرحه.

24 -

ظهرت شخصية الإمام الكرماني رحمه الله تعالى في شرحه، ونقده للأقوال، وتفنيده لها.

25 -

كل جهد وكل عمل مهما بلغ صاحبه من العلم

لابد من الخطأ والسهو، وسبحان من له الكمال.

‌ثانياً والتوصيات:

1 -

أوصي بإعادة إخراج كتاب الكواكب الدراري، محققاً على أحسن حال، وخالياً من أخطاء المطابع، وتصحيفاته وتحريفاته، فالطبعات الموجودة مليئة بذلك وهي غير محققة، وذلك بالاعتماد على مخطوطات الكتاب.

2 -

إفراد بحث خاص عن جهود الكرماني في علوم اللغة في كتابه

ص: 654

الكواكب الدراري.

3 -

وإفراد بحوث خاصة للمقارنة بين شروح البخاري، كابن بطال المالكي، والكرماني، وابن الملقن، وابن حجر، شافعيو المذهب، والبدر العيني حنفي المذهب.

وفي الختام:

حسبي أني بذلت جهدي قدر المستطاع في البحث، فإن أصبت فمن الله وحده وتوفيقه، وإن قصرت؛ فمن نفسي، وأسأل الله العافية والصواب في كل أمر وحال، وأسأل الله أن يتقبل مني هذا العمل، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن يغفر لي ولمشايخي، ولوالديّ والمسلمين أجمعين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه.

أبوظبي حرسها الله، يوم الخميس الموافق 17/ جمادى الآخرة/ 1438 هـ، الموافق: 16/ آذار/ 20.

* * *

ص: 655