المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[مقارنة بين ما سموه مذهب السلف ومذهب الخلف] - منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات - ضمن «محاضرات الشنقيطي»

[محمد الأمين الشنقيطي]

الفصل: ‌[مقارنة بين ما سموه مذهب السلف ومذهب الخلف]

الْبَصِيرُ (11)}.

3 -

وتقطعوا الطمع في إدراك الكيفية؛ لأن الله يقول: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)}

(1)

.

[مقارنة بين ما سموه مذهب السلف ومذهب الخلف]

ثم أنا نريد إنهاء البحث بالمقارنة بين ما يسمونه مذهب السلف ومذهب الخلف. وقولهم: إن مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أحكم وأعلم. فنقول:

أولًا: وصفوا مذهب السلف بأنه أسلم، وهي صيغة تفضيل من السلامة، وما كان يفوق غيره ويفضله في السلامة، فلا شك أنه أعلم منه وأحكم.

ثانيًا: اعلموا أن المؤولين ينطبق عليهم بيت الشافعي رحمه الله:

رامَ نفعًا فضرَّ من غيرِ قصدٍ

ومن البرِّ ما يكون عقوقا

وإيضاح المقارنة: أن من كان على معتقد السلف الصالح إذا سمع مثلًا قوله تعالى: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} امتلأ قلبه من الإجلال

(1)

انقطع التسجيل هنا، وما سيأتي إلى الآخر أثبتناه من بعض طبعات المحاضرة. وهذه المقارنة عقدها المؤلف أيضًا بنحوٍ مما هنا في آخر كتابه "آداب البحث والمناظرة": 2/ 158 - 161.

ص: 119

والتعظيم والإكبار لصفة رب العالمين التي مدح بها نفسه وأثنى عليه بها، فجزم بأن تلك الصفة التي تمَدَّح بها خالق السموات والأرض بالغة من غايات الكمال والجلال ما يقطع علائق أوهام المشابهة بينها وبين صفات الخلق، لأن الصفة لا يمكن أن تشبه صانعها في ذاته، ولا في شيء من صفاته.

وبإجلال تلك الصفة وتعظيمها وحَمْلها على أشرف المعاني اللائقة بكمال من وصف بها نفسه وجلاله، يسهل على ذلك المؤمن السلفي أن يؤمن بتلك الصفة، ويثبتها لله كما أثبتها الله لنفسه على أساس التنزيه. فيكون أولًا: منزِّهًا سالمًا من أقذار التشبيه. وثانيًا: مؤمنًا بالصفات، مصدقًا بها على أساس التنزيه. فيكون سالمًا من أقذار التعطيل.

فيجمع التنزيه والإيمان بالصفات على نحو {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} .

فمعتقده طريق سلامة محققة، لأنه مبني على ما تضمنته آية {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} الآية من التنزيه، والإيمان بالصفات. فهو تنزيه من غير تعطيل، وإيمان من غير تشبيه ولا تمثيل. وكل هذا طريق سلامة محققة، وعمل بالقرآن. فهذا هو مذهب السلف.

وأما ما يسمونه مذهب الخلف؛ فالحامل لهم فيه على نفي الصفات وتأويلها هو قصدهم تنزيه الله عن مشابهة الخلق. ولكنهم في محاولتهم لهذا التنزيه وقعوا في ثلاث بلايا. ليست واحدة منها إلا وهي أكبر من أختها.

ص: 120

الأولى من هذه البلايا الثلاث: أنهم إذا سمعوا قول الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} زعموا أن ظاهر الاستواء في الآية هو مشابهة استواء المخلوقين. فتهجموا على ما وصف الله به نفسه في محكم كتابه، وادعوا عليه أن ظاهره المتبادر منه هو التشبيه بالمخلوقين في استوائهم.

فكأنهم يقولون لله: هذا الاستواء الذي أثنيت به على نفسك في سبع آيات من كتابك ظاهره قَذِر نَجِس لا يليق بك لأنه تشبيه بالمخلوقين، ولا شيء من الكلام أقذر وأنجس من تشبيه الخالق بخلقه. سبحانك هذا بهتان عظيم! وهذه هي البلية الأولى التي هي التهجُّم على نصوص الوحي وادعاء أن ظاهرها تشبيه الخالق بالمخلوق، وناهيك بها بلية.

ثم لما تقررت هذه البلية في أذهانهم، وتقذرت قلوبهم بأقذار التشبيه، اضطروا بسببها إلى نفي صفة الاستواء فرارًا من مشابهة الخلق التي افتروها على نصوص القرآن أنها هي ظاهرها. ونفى الصفة التي أثنى الله بها على نفسه من غير استناد إلى كتاب أو سنة هو البلية الثانية التي وقعوا فيها. فحملوا نصوص القرآن أولًا على معان غير لائقة بالله، ثم نفوها من أصلها، فرارًا من المحذور الذي زعموا.

والبلية الثالثة: أنهم يفسرون الصفة التي نفوها بصفة أخرى، من تلقاء أنفسهم، من غير استناد إلى وحي، مع أن الصفة التي فسرها بها هي بالغة غاية التشبيه بالمخلوقين.

فيقولون {اسْتَوَى} ظاهره مشابهة استواء المخلوقين. فمعنى

ص: 121

استوى "استولى"، ويستدلون بقول الراجز في إطلاق الاستواء على الاستيلاء:

قد استوى بشرٌ على العراق

من غير سيف ودَمٍ مُهْراق

ولا يدرون أنهم شبهوا استيلاء الله على عرشه الذي زعموه باستيلاء بشر بن مروان على العراق، فأي تشبيه بصفات المخلوقين أكبر من هذا؟!

وهل يجوز لمسلم أن يُشَبِّه صفةَ الله التي هي الاستيلاء المزعوم بصفة بشر التي هي استيلاؤه على العراق؟ وصفة الاستيلاء من أوغل الصفات في التشبيه بصفات المخلوقين، لأن فيها التشبيه باستيلاء مالك الحمار على حماره، ومالك الشاة على شاته. ويدخل فيها كل مخلوق قَهَر مخلوقًا واستولى عليه.

وفي هذا من أنواع التشبيه ما لا يحصيه إلا الله.

فإن زعم من شبه أولًا، وعطل ثانيًا، وشبه ثالثًا أيضًا، أن الاستيلاء المزعوم منزه عن مشابهة استيلاء المخلوقين، قلنا: نحن نسألك ونطلب منك الجواب بإنصاف: أيهما أحق بالتنزيه عن مشابهة الخلق؛ الاستواء الذي مَدَح الله به نفسه في محكم كتابه وهو نفس القرآن الذي يُتْلى، ولتاليه بكل حرف منه عشر حسنات لأنه كلام الله، أم الأحق بالتنزيه هو الاستيلاء الذي جئتم به من تلقاء أنفسكم من غير استناد إلى وحي؟

ص: 122

ولا شك أن الجواب الحق: أن اللفظ الوارد في القرآن أحق بالتنزيه والحمل على أشرف المعاني وأكملها، من اللفظ الذي جاء به مُعَطِّل من كيسه الخاص لا مستند له من الوحي.

وبهذه الكلمات القليلة يظهر لكم أن مذهب السلف أسلم وأحكم وأعلم.

وقد بسطنا هذه المقارنة في غير هذا الموضع فاختصرناها هنا. والعلم عند الله تعالى، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

محمد الأمين الشنقيطي

ص: 123