الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع: الحسيدية
حسيد
Hasid
«حسيد» كلمة وردت في العهد القديم وتشير إلى «الرجل التقي الثابت على إخلاصه للإله وإيمانه به» . وقد استُخدمت هذه الكلمة بعد ذلك للإشارة إلى جماعات من مؤيدي التمرد الحشموني كانت تتسم بالحماس الديني والتقوى (القرن الثاني قبل الميلاد) ، ثم استُخدمت للإشارة إلى الحركة الصوفية التي نشأت في ألمانيا في القرن الثاني عشر، ثم أصبحت الكلمة تشير إلى أتباع الحركة الحسيدية التي نشأت في بولندا في القرن الثامن عشر. وهذا هو الاستخدام الشائع في الوقت الحالي.
الحسيدية: تاريخ
Hassidism: History
«الحسيدية» بالعبرية «حسيدوت» وهو مصطلح مشتق من الكلمة العبرية «حسيد» ، أي «تقي» . ويُستخدَم المصطلح للإشارة إلى عدة فرق دينية في العصور القديمة والوسطى، ولكنه يُستخدَم في العصر الحديث للدلالة على الحركة الدينية الصوفية الحلولية التي أسسها وتزعمْها بعل شيم طوف. وبدأت الحركة في جنوب بولندا وقرى أوكرانيا في القرن الثامن عشر، وخصوصاً في مقاطعة بودوليا التي ظهرت فيها الحركة الفرانكية كما ظهرت فيها فرق مسيحية حلولية ذات طابع غنوصي متمردة على الكنيسة الأرثوذكسية الروسية (مثل الدوخوبور والخليستي والسكوبستي) . وقد كانت هذه المقاطعة تابعةً لتركيا في نهاية القرن السابع عشر، وانتشرت الحسيدية منها إلى وسط بولندا وليتوانيا وروسيا البيضاء ثم المناطق الشرقية من الإمبراطورية النمساوية المجرية: جاليشيا، وبوكوفينا، وترانسلفانيا، وسلوفاكيا، فالمجر ورومانيا. ولكن أقصى تركيز لها كان في الأراضي البولندية التي ضمتها روسيا إليها. وقد انتشرت الحسيدية في بادئ الأمر في القرى بين أصحاب الحانات والتجار والريفيين والوكلاء الزراعيين، ثم انتشرت في المدن الكبيرة حتى أصبحت عقيدة أغلبية الجماهير اليهودية في شرق أوربا بحلول عام 1815، بل يُقال إنها صارت عقيدة نصف يهود العالم آنذاك، إلى جانب أنها عقيدة أغلبية يهود اليديشية. ويُلاحَظ أن الحركة الحسيدية لم تضم في صفوفها كثيراً من العمال والحرفيين اليهود، لأن الأساس الاقتصادي لوجودهم كان ثابتاً، كما أن أولادهم كانوا لا يدرسون إلا التوراة، بل كانوا يتركون المدارس بسبب فقرهم. ولهذا، فإنهم لم يكونوا يخوضون في دراسة الشريعة الشفوية. وبالتالي، وجدوا أفكار الحسيدية غريبة وغير مفهومة، كما أن الأحزاب الاشتراكية والثورية نجحت في ضمهم إلى صفوفها.
ويرجع نجاح الحسيدية إلى أسباب اجتماعية وتاريخية عدة، فالجماهير اليهودية كانت تعيش في بؤس نفسي وفقر اقتصادي شديد بسبب التدهور التدريجي للاقتصاد البولندي، إذ طُرد كثير من يهود الأرندا، وأصحاب الحانات من القرى الصغيرة، الأمر الذي زاد من عدد المتسولين واللصوص والمتعطلين. ويُقال إن عُشْر أرباب العائلات كانوا بلا عمل. وكانت قيادة الحركة الحسيدية - أساساً - من يهود الأرندا السابقين ومستأجري الحانات وأصحاب المحال الصغيرة. وكانت هذه الجماهير في خوف دائم بعد هجمات شميلنكي، وعصابات الهايدماك من الفلاحين القوزاق. كما كانت تشعر بالإحباط العميق، بعد فشل دعوة شبتاي تسفي وتحوُّله إلى الإسلام. وهي مشاعر زادت من حدتها التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تخوضها مجتمعات شرق أوربا آنئذ، هذه التحولات التي جعلت من القهال شكلاً إقطاعياً طفيلياً لا مضمون له، يقوم باستغلال اليهود لحساب الحكومة البولندية والنبلاء البولنديين، ولحساب موظفي القهال من اليهود الذين كانوا يشترون المناصب. وقد صاحب هذا الوضع تدنِّي الحياة الثقافية والدينية داخل الجيتو والشتتل إلى درجة كبيرة، وصار اليهود يعيشون في شبه عزلة عن العالم، بل في عزلة عن المراكز التلمودية في المدن الكبرى. وعلى أية حال، كانت اليهودية الحاخامية قد تحولت إلى عقيدة شكلية، تافهة وجافة، خالية من المضمون الروحي والعاطفي، تؤكد الأوامر والنواهي دون اهتمام بالمعنى الروحي لها.
ويُلاحَظ أن القبَّالاه كانت قد أحكمت هيمنتها على الفكر الديني اليهودي بين جماهير اليهود وحتى بين طلاب المدارس التلمودية العليا وأعضاء المؤسسة الحاخامية. والفكر القبَّالي الحلولي قادر على إشباع التطلعات العاطفية لدى الجماهير الساذجة اليائسة. ومن المفارقات أن أعضاء الجماعات اليهودية، بعد أن عاشوا بين فلاحي أوكرانيا وشرق أوربا لمئات السنين، بعيداً عن المؤسسات الحاخامية في المدن الكبرى والمدن الملكية، تأثروا بفولكلور فلاحي شرق أوربا، وبمعتقداتهم الشعبية الدينية، وبوضعهم الحضاري المتدني بشكل عام. ويبدو أن الحسيديين تأثروا بالتراث الديني المسيحي، وخصوصاً تراث جماعات المنشقين (بالروسية: راسكولنيكس Raskolniks من فعل «راسكول raskol» بمعنى «ينشق» ) في روسيا وأوكرانيا. فالقرنان السابع عشر والثامن عشر شهدا ظهور جماعات دينية مسيحية متطرفة، مثل: الدوخوبور (المتصارعون مع الروح، وكان بينهم مدام بلافاتسكي) والخليستي (من يضربون أنفسهم بالسياط) والسترانيكي (الهائمون على وجوههم)(كان راسبوتين عضواً في هاتين الجماعتين) والسكوبتسي (المخصيون) ، والمولوكاني (شاربو اللبن) ، وغيرهم. وكان عدد أعضاء هذه الجمعيات كبيراً إلى درجة غير عادية حيث كان يصل إلى خمس عدد السكان حسب التقديرات الرسمية وإلى نحو نصفهم حسب التقديرات الأخرى. وكان أتباع هذه الفرق يتبعون أشكالاً حلولية متطرفة، فالسكوبتسي (على سبيل المثال) طالبوا بالإحجام عن الجماع الجنسي، ولكنهم كانوا يقومون في الوقت نفسه بتنظيم اجتماعات ذات طابع جنسي جماعي داعر. وقيادات هذه الجماعات كانوا يتسمَّون بأسماء غريبة مثل:«المسيح» أو «النبي» أو «أم الإله» ، فقد كانوا يؤمنون بأن القيادة هي تجسيد للإله، تماماً مثل المسيح.
وأقرب الجماعات المسيحية المنشقة إلى الحسيدية هي جماعات الخليستي. وقد ذهب قادة هذه الجماعة إلى أنه حينما صُلب المسيح، ظل جسده في القبر. أما البعث، فهو هبوط الروح القدس بحيث تحل في مسيح آخر هو قائد الجماعة. ولذا، فإن قادتهم مسحاء قادرون على الاتيان بالمعجزات، يحل فيهم الإله. والواقع أن مفهوم التساديك في الحسيدية قريب جداً من هذا، فالتساديك هو القائد الذي يحل فيه الإله، وعادةً ما يتم توارث الحلول. ولذا، فإننا نجد أن قيادات الخليستي يكونون أسراً حاكمة يتبع كل واحدة منها مجموعة من الأتباع، وهذا ما حدث بين الحسيديين أيضاً. بل إن التماثل في التفاصيل كان يصل إلى درجة مدهشة، فكان الخليستي يعيشون بعيداً عن زوجاتهم باعتبار أن الإله إن شاء أن تحمل العذراء لحملت. وهذا هو موقف بعل شيم طوف، برغم أن فكرة «الحمل بلا دنس» أبعد ما تكون عن اليهودية. فعندما ماتت زوجته وعُرض عليه أن يتزوج من امرأة أخرى، احتج ورفض وقال إنه لم يعاشر زوجته قط، وإن ابنه هرشل قد وُلد من خلال الكلمة (اللوجوس) .
وكان دانيال الكوسترومي (1600 ـ 1700) من أهم زعماء الخليستي. وقد وُلد ابنه (الروحي) بعد أن بلغت أمه من العمر مائة عام. وكذلك بعل شيم طوف، فقد وُلد، حسب الأساطير التي نُسجت حوله، بعد أن بلغت أمه من العمر مائة عام. وكان الخليستي يرتدون ثياباً بيضاء في أعيادهم، وكذلك الحسيديون. وقد كان الخليستي يُعدون أنفسهم، من خلال الغناء والرقص، لحلول روح المسيح فيهم، وهذا قريب من تمارين الحسيديين أيضاً. والمضمون الفكري الاجتماعي لكلٍّ من الخليستي والحسيديين مضمون شعبي يقف ضد التميزات الطبقية بشكل عام.
وفي هذا المناخ، ظهر الدراويش الذين يحملون اسم «بعل شيم» ، أي «سيد الاسم» ، وهم أفراد كانت الجماهير البائسة تتصور أنهم قادرون على معرفة الأسرار الباطنية، وإرادة الإله، وطرد الأرواح الشريرة من أجساد المرضى، كما أنهم كانوا يتسمَّون بالتدفق العاطفي الذي افتقدته الجماهير في الحاخامات. وظهرت الحسيدية بحلوليتها المتطرفة وبريقها الخاص ورموزها الشعبية الثرية التي تروي عطش الجماهير اليهودية الفقيرة التي كان يخيم عليها التخلف.
وقد تبدَّت هذه الأفكار الحلولية المتطرفة في التصادم الحاد بين الحسديين والمؤسسة الحاخامية (متنجديم) ، وهو تصادم كان حتمياً، باعتبار أن الحسيدية تمثل رؤية بعض قطاعات الجماعة اليهودية التي استُبعدت من جانب المؤسسة الحاخامية والقهال. وكانت الحسيدية تحاول أن تحقق لهم قسطاً ولو ضئيلاً من الحرية ومن المشاركة في السلطة. والحسيدية، في جانب من أهم جوانبها، محاولة لكسر احتكار المؤسسة التلمودية للسلطة الدينية، ومحاولة لحل مشكلة المعنى. وقد انعكس هذا التصادم، على المستوى الفكري، حين قام الحسيديون بالتقليل من شأن الدراسة التلمودية أو دراسة التوراة. فإذا كان الهدف من الحياة ليس الدراسة وإنما التأمل في الإله والالتصاق به والتوحد معه وعبادته بكل الطرق، فإن هذه العملية لابد أن تستغرق وقتاً طويلاً، وهو ما لا يترك للإنسان أي وقت لدراسة التوراة على الطريقة الحاخامية القديمة. كما أن التواصل المباشر مع الإله يطرح إمكانيةً أمام اليهود العاديين، ممن لا يتلقون تعليماً تلمودياً، لأن يحققوا الوصول والالتصاق (ديفيقوت) . بل إن الجهل، في إطار التجربة الوجودية المباشرة، يصبح ميزة كبرى.
وهدف التجربة الدينية هو الفرح والنشوة، وهو إعادة تعريف للتجربة الدينية تؤكد العاطفة (الجوانية) كوسيلة للوصول إلى الإله، بدلاً من الشعائر والدراسات التلمودية (البرانية) ، فالإله (حسب تصوُّر بعل شيم طوف) لا يسمع الدعاء ولا يقبل الصلاة إلا إذا نبعت من قلب فَرح. ومن ثَّم، يصبح الإخلاص العاطفي أهم من التعليم العقلي. وقد قلَب الحسيديون الأمور رأساً على عقب، إذ تبنوا الفكرة اللوريانية الخاصة بحاجة الإله إلى الشعب اليهودي ككل، وخصوصاً القادة التساديك. وقد ذهب الحسيديون إلى أنه لا يوجد ملك دون شعب. وبالتالي، فإن ملك اليهود في حاجة إليهم، ومن خلال حاجته إليهم تتضاءل أهمية الأوامر والنواهي.
وقد نجحت الحسيدية في تحقيق قدر من الاستقلال عن المؤسسة الحاخامية، فاتبعت بعض التقاليد السفاردية في الشعائر (ربما تحت تأثير القبَّالاه اللوريانية ذات الأصول السفاردية) ، كما أدخلوا بعض التعديلات على طريقة الذبح الشرعي (وهو ما يعني في واقع الأمر السيطرة على تجارة اللحم) . وأصبح للحسيديين معابدهم الخاصة وطريقة عبادتهم، ولذلك تحوَّلت الحركة من يهودية حسيدية إلى يهودية تساديكية (نسبة إلى التساديك الذي يقوم بالوساطة بين أتباعه والإله) . وقد أصبح هذا مفهوماً محورياً في الفكر الحسيدي. وكان الحسيديون يعمدون إلى إحلال التساديك محل الحاخام (لتقليص سلطان المؤسسة الحاخامية) كلما كان ذلك بوسعهم. والتساديك نوع من القيادة الكاريزمية يحل مشكلة المعنى والانتماء لأتباعه متجاوزاً المؤسسات التلمودية.
وقد تحولت الحسيدية (التساديكية) إلى بيروقراطية دينية لها مصالحها الخاصة، واستولت على القهال في كثير من الأحيان، ولكنها لم تدخل أية إصلاحات اجتماعية. بل كان القهال أحياناً يزيد الضرائب على اليهود بعد استيلاء الحسيديين عليه.
وقد ارتبطت كل جماعة حسيدية بالتساديك الخاص بها. ولذا، فقد انقسمت الحركة إلى فرق متعددة. فبعض هذه الفرق اتجه اتجاهاً صوفياً عاطفياً محضاً، في حين اتجه بعضها الآخر، مثل حركة حبد، اتجاهاً صوفياً ذهنياً يعتمد على دراسة كل من القبَّالاه والتلمود. كما أن وجود هؤلاء الحاخامات داخل دول مختلفة، زاد من هذا الانقسام. وأثناء الحرب النابليونية ضد روسيا، أيَّد بعض الحسيديين الروس روسيا ضد نابليون، ولكن بعض الجماعات أيدته ضد روسيا، بل تجسست لحسابه. وقد حاولت المؤسسة الحاخامية القضاء على الحسيدية، فأصدر معارضو الحسيدية الذين كان يُقال لهم المتنجديم قراراً بطرد اليهود من حظيرة الدين، وحرق كتاباتهم كلها، وعدم التزاوج بهم. وكان من أهم الشخصيات الحاخامية التي قادت الحرب ضدهم الحاخام إلياهو (فقيه فلنا) . ومع هذا، ورغم الانقسامات والخلافات بين الحسيدية واليهودية الحاخامية، فقد وحدوا صفوفهم في النهاية بسبب انتشار العلمانية ومُثُل الاستنارة والتنوير والنزعات الثورية بين اليهود. ولما كان القهال قد تداعى كإطار تنظيمي، فإن الحسيدية استطاعت أن تحل محله كإطار تنظيمي جديد. ولذا، فإن الحسيدية لم تنتشر جغرافياً وحسب، بل انتشرت عبر حدود الطبقات أيضاً.
ويتكون الأدب الحسيدي من الكتب التي تلخص تفاسير الزعماء التساديك للكتاب المقدَّس، وتعاليمهم وأقوالهم، وقصص الأفعال العجائبية التي أتوا بها. ومن أشهر القادة التساديك شيناءور زلمان وليفي إسحق ونحمان البراتسلافي (حفيد بعل شيم طوف) . وكان لكل مجموعة من الحسيديين أغانيها وطرقها في الصلاة، وكذلك عقائدها وقصصها. وكانت لهم شبكة من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية خارج القهال.
وقد أتت النازية على المراكز الحسيدية الأساسية في شرق أوربا. وقد انتقلت الحركة الحسيدية إلى الولايات المتحدة، مع انتقال يهود اليديشية إليها، منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، لكن جماعات الحسيديين تفرقت وتبعثرت نظراً لابتعاد زعامتها المتمثلة في التساديك. وقد هاجر بعض القادة التساديك بعد الحرب العالمية الأولى، لكن الحركة الحسيدية لم تبدأ نشاطها الحقيقي إلا بعد الحرب العالمية الثانية. وقد استقر الحسيديون في بروكلين في منطقة وليامزبرج. وأهم الجماعات الحسيدية هي: جماعة لوبافيتش (حبد) ، وجماعة الساتمار، وبراتسلاف وتشرنوبيل، ولا تزال توجد بينهم جيوب قوية معارضة للصهيونية. ويوجد مركزان أساسيان للحسيدية في الوقت الحاضر: أحدهما في الولايات المتحدة والآخر في إسرائيل.
الحسيدية والحلولية
Hassidism and Pantheism
الحسيدية تعبير متبلور عن الطبقة الحلولية داخل التركيب الجيولوجي اليهودي الذي يمزج بين الشعب والأرض والإله. وكثيراً ما كانت هذه الحلولية تتبدَّى في شكل حركات مشيحانية كان آخرها الحركة الشبتانية. ومع هذا، فإن الحسيدية قد حددت هذه الأفكار وعمقتها بطريقتين: فقد أوصلت كثيراً منها إلى نتائجها المنطقية وأكسبتها أبعاداً جديدة من خلال القبَّالاه اللوريانية التي تشكل الإطار النظري الكامن للحسيدية. فالقبَّالاه اللوريانية لا تركز على حادثة تَهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم) وحسب، وإنما تركز أيضاً على تَبعثُّر الشرارات الإلهية (نيتسوتسوت) ، أي وجود الإله في كل مكان. ويظهر هذا في تأكيد بعل شيم طوف وجود الإله، أو الشرارات الإلهية، فعلاً في النبات والحيوانات، وفي أي فعل إنساني، بل في الخير والشر نفسيهما. ويرى الحسيديون أن العالم بمنزلة ثوب الإله، صَدَر عنه ولكنه جزء منه، تماماً مثل محارة الحيوان البحري المعروف بالحلزون، قشرته الخارجية جزء لا يتجزأ منه. والحسيديون يؤمنون بالتالي بأن الإله هو كل شيء وما عدا ذلك وهم وباطل، أي أن الحسيدية تعبير عن الحلولية في مرحلة وحدة الوجود الروحية التي لا تختلف عن وحدة الوجود المادية إلا في تسمية المبدأ الواحد أو القوة الكامنة في المادة الدافعة لها، إذ يسميها دعاة وحدة الوجود الروحية «الإله» ، أما دعاة وحدة الوجود المادية فيسمونها «قوانين المادة والحركة» .
وقد استفادت الحركة الحسيدية كذلك من القبَّالاه اللوريانية في نزعتها الكونية. ولكن إذا كانت القبَّالاه اللوريانية تَحصُر اهتمامها في الكون والاعتبارات الكونية، فإن الحسيدية تربط بين الحقيقة النفسية والحقيقة الكونية، كما أنها حولت التأملات الميتافيزيقية إلى تأملات نفسية، وحولت القبَّالاه نفسها من نظرية عن أصل العالم وطرق إصلاحه (تيقون) إلى طريقة للوصول إلى السعادة الداخلية. ولذا، فإن الحسيدية تطالب اليهودي بالغوص في أعماق ذاته. وفي هذه الأعماق، يستطيع الإنسان أن يرتفع ويتسامى على حدود الكون والطبيعة حتى يصل إلى أن الإله هو الكل في الكل ولا يوجد سواه (الواحدية الكونية) . ولم تَعُد وسيلة الوصول إلى الإله هي التفكير العقلاني الجاف، وإنما الفرح والرقص والنشوة وصفاء الروح والنية الصادقة.
وكان للإيمان بهذه الصيغة المتطرفة من الحلولية، أو وحدة الوجود، نتائج فكرية عديدة، نجملها فيما يلي:
1 ـ يرى الحسيديون أن الهدف من حياة الإنسان ليس فهم أو تغيير الكون وإنما الالتصاق بالإله والتوحد معه وبإرادته المستقلة (ديفيقوت) . وبتأكيد أن الإله هو كل شيء، لا يصبح هناك مجال لممارسة الإرادة الإنسانية ولا مجال للحزن أو المأسأة. ولذا، نجد أن الحسيديين يرفضون ثنائية الموقف الديني التقليدي (وهي مختلفة عن الثنوية) ويحلون محلها واحدية صوفية عمياء. والواقع أن رفضهم هذه الثنائية إنكار ضمني لوجود الإله، هذا الوجود الذي يفترض وجود قطبين متعارضين؛ التاريخ والإله، الإنسان والخالق، الأرض والسماء، وهكذا.
2 ـ ويُلاحَظ أن الحسيدية حاولت أيضاً أن تخفف عن اليهودي إحساسه بوطأة وجوده في المنفى. والمفهوم الحاخامي التقليدي يؤكد أن وجود اليهود في بلاد غير فلسطين هو عقاب لهم على ما اقترفوه من ذنوب. وقد كان هذا الإحساس بالذنب ثقيلاً، فجاءت الحسيدية وأنكرت حقيقة الشر، فالشر إن هو إلا اختفاء الخير وتشويهه، بل إن الشر ليس إلا جسراً للوصول إلى الخير، ويمكن تعديل الشر ليصبح خيراً. وقد ولَّدت هذه الرؤية شكلاً من أشكال القبول لدى اليهود لوضعهم البائس والرضا عنه، وخففت من حدة التطلعات المشيحانية التي تؤدي باليهود إلى الارتطام بالواقع والحكومات، كما خففها أيضاً التركيز على التأمل الباطني بدلاً من التفكير في الكون.
3 ـ نادى الحسيديون بأن عبادة الإله يحب أن تتم بكل الطرق، كما يجب أن نخدمه بكل شكل: بالجسد والروح معاً مادام أنه إله غير مفارق، لا يتجاوز الطبيعة والتاريخ، كامن في كل شيء، حتى في مذاق الطعام وتدخين التبغ وفي العلاقات الجنسية والتجارية. وقد قال أحد زعماء الحسيدية إن على المرء أن يشتهي كل الأشياء المادية، ومنها المرأة، حتى يصل إلى ذروة الروحانية. فالفرح الجسدي عند الحسيديين، يؤدي إلى الفرح الروحي، والحسيدية تؤمن بروحانية المادة لأن الروح ليست إلا شكلاً من أشكال المادة. بل إن العبادة والخلاص بالجسد يصلان إلى حد عبادة الإله من خلال العلاقات الجنسية. ومثل هذا الموقف كامن في أية رؤية حلولية متطرفة، حيث تلتقي وحدة الوجود الروحية بوحدة الوجود المادية.
4 ـ وتنعكس الحلولية في شكلين هما في الواقع شيء واحد: حب عارم لفلسطين أو إرتس يسرائيل، يقابله كره عميق للأغيار. ولذلك، لم يكن مفر من أن يخرج الحسيديون من بين الأغيار المدنَّسين، وبلاد الأغيار المدنسة، ليستقروا في الأرض الطاهرة المقدَّسة التي هي هدف القداسة ومصدرها في وقت واحد. ومما دعَّم هذا الشوق إلى صهيون، تفاقم وضع يهود اليديشية بسبب عمليات التحديث والعلمنة في مجتمعات شرق أوربا.
وتأثير الحركة الشبتانية على الحسيدية واضح، فقد نشأت الحركتان في التربة نفسها وفي المنطقة نفسها. وتتبدَّى نقط التشابه في صدورهما عن القبَّالاه اللوريانية، وفي الدعوة إلى المتعة الجسدية، وفي اعتبار هذه المتعة طريقاً إلى الخير (عفوداه بجشميوت، أي «الخلاص بالجسد» ) ، وفي تسامحهما في تنفيذ الشريعة، وفي مفهومهما المتساهل إزاء الشر، ورؤيتهما لإمكانية إعلاء الشر، بل في وجود عناصر من الخير داخل الأفكار الشريرة، ثم في إمكانية الوصول إلى الخير من خلال الشر. كما يأخذ الحسيديون بالرؤية اللوريانية للخلق والعالم. ولكنهم، بدلاً من التركيز على حادثة تَهشُّم الأوعية وسجن الشرارات، يؤكدون وجود الإله في كل الوجود.
ولكن الحسيدية تختلف عن الشبتانية في أنها ظلت، في نهاية الأمر، داخل إطار من الشريعة يَتقبَّل الأوامر والنواهي. فالحسيديون قللوا، على سبيل المثال، من أهمية دراسة التوراة، ولكنهم لم ينكروا تعاليمها، وقد انسحبوا من المعابد اليهودية القائمة، لكنهم أسسوا معابدهم الخاصة التي كانوا يمارسون فيها صلواتهم. وهاجموا الحاخامات وطردوهم، ولكنهم أحلوا التساديك محل الحاخام. ورفضوا كتاب الصلوات الأشكنازي، ولكنهم تبنوا بدلاً منه كتاب الصلوات السفاردي. ورفضوا طريقة الذبح الشرعي السائدة، ولكنهم أحلوا محلها طريقة أخرى للذبح. والأهم من كل هذا أنهم رفضوا تماماً الفكرة الشبتانية القائلة بأن الماشيَّح قد وصل بالفعل (ومن هنا كان رفض الحسيدية للهجرة الفعلية) . كما أن الممارسات الجنسية ظلت في أضيق الحدود، وأخذت شكل طقوس ورقصات وشطحات، أكثر من كونها ممارسات فعلية.
وقد تكون إحدى نقط الاختلاف الأساسية أن الشبتانية جعلت الفكرة المشيحانية تدور حول شخص الماشيَّح الواحد: شبتاي تسفي أو فرانك. أما الحسيدية، فقد أصبحت مشيحانية بلا ماشيَّح واحد، وأصبح هناك عدد من المشحاء الصغار، يظهرون في شخصية التساديك، وتتوزع عليهم القداسة أو الحلول الإلهي، وهو ما قلل من تركُّزه وقلل بالتالي من تَفجُّر الحسيدية. كما أن النزعة المشيحانية عبرت عن نفسها في النفس الإنسانية لا في الواقع الخارجي. وجعلت النفس البشرية مجال المشيحانية لا مسرح التاريخ. ولذا، كان على الحسيدي أن يغوص في فردوس الذات بدلاً من أن يحاول تحقيق الفردوس الأرضي. وإذا كانت الرؤية المشيحانية التقليدية رؤية أبوكاليبسية تَحدُث بغتة عن طريق تَدخُّل الإله في التاريخ، فالمشيحانية الحسيدية تدرجية، وقد حوَّلت المشيحانية إلى حركة بطيئة متصاعدة يشترك فيها كل جماعة يسرائيل، بقيادة عدد كبير من التساديك، ولا تتوقع أية تحولات فجائية (وقد تأثر الفكر الصهيوني بهذه الفكرة) .
التساديك (الصديق)
Tzaddik
«تساديك» كلمة عبرية معناها «الرجل الصالح» أو «الصديق» . وتُعتبر كلمة «ربي» ، اسماً آخر للتساديك ومعناها «السيد» ، كما كان يُدعى أحياناً «أدمور» ، وهي اختصار للكلمات «أدونينو» و «مورينو» و «رابينو» ، أي «سيدنا» و «أستاذنا» و «معلمنا» . ويُعتبر هذا التصور لقائد الجماعة من أهم أشكال التمرد الحسيدي على المؤسسة الدينية، وعلى القيادة الحاخامية التي انعزلت عن الجماهير الفقيرة وارتبطت بالأقلية المالية التي كانت تسيطر على القهال. ومن المعروف أن منصب الحاخام، مع منتصف القرن الثامن عشر، كان يُباع ويُشتَرى، وتتحكم فيه الأقلية الثرية. وقد تَحدَّت الحسيدية المؤسسة الحاخامية، وخلخلت قبضتها على الجماهير في عدة مجالات من بينها وظيفة الحاخام الذي حل التساديك محله.
والتساديك، حسب التصور الحسيدي المتأثر بتصورات القبَّالاه اللوريانية، تعبير متطرف عن الرؤية الحلولية اليهودية. فهو أولاً شخص ذو قداسة خاصة يقف في منزلة لا تتلو إلا منزلة الإله، وهو أحد التجليات النورانية العشرة (سفيروت) ، أي أنه جزء من الإله. بل هو أحد العُمُد التي تستند إليها الدنيا، وهو أساس العالم (يسود) . وأكثر من ذلك، فإن العالم خُلق من أجله. وكما هو الحال دائماً مع الحلولية، ينتهي بها الأمر إلى تعادل بين الإله ومخلوقاته، ثم إلى ترجيح كفة المخلوقات على حساب الإله، فالتساديك شخصية تبلغ حداً من القداسة يجعلها تقترن بكلام الإله وتتوحد معه، ولذا فقد كان الحسيديون يقولون دائماً:«لقد تحدَّث التساديك توراة» ، أي أن كلامه في قداسة التوراة وقداسة الإله، ولذا فإن من يعارضه يجدف في الإله.
ولكن الحسيديين يدينون بالمفهوم اللورياني للشرارات الإلهية (نيتسوتسوت) وضرورة استعادتها بعد تَهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم) . والواقع أن مهمة التساديك هي تحرير هذه الشرارات الإلهية المحبوسة، أي تحرير الإله. ومن هنا كانت حاجته إلى التساديك. بل إن الإله يحتاج إليه في أمر آخر، وهو الوصول إلى الناس، فالتساديك هو الوسيلة الوحيدة التي تربط الأرض بالسماء.
ومهمة التساديك هي أن يقوم بقيادة جماعته، وأن يربط بينها وبين السماء، فهو قادر على التأمل الصوفي الذي يقربه من الإله ويوحده معه، وبذا فإنه يصبح حلقة الوصل بين الخالق ومخلوقاته، وهو إن لم يقم بهذه المهمة فلا معنى لوجوده. ولكن إذا كان التساديك حلقة الوصل، فإن الجماهير تحتاج إليه احتياج الإله إليه، فهو الذي يأتي إليها بالشفاعة، ويحضر لها الحياة من السماء، كما أنه يوصل روح الإله إليها، وهو قادر على الالتصاق بالإله (ديفيقوت) ، ومن خلال التصاقه هو بالإله تتمكن الجماهير هي الأخرى من تحقيق الالتصاق بالخالق. وقد تَعمَّق هذا المفهوم حتى أصبح الإيمان بالإله هو الإيمان بقدرات التساديك العجائبية. ويُعَدُّ هذا تطوراً جديداً كل الجدة في اليهودية التي ترفض الوساطة والكهانة، على الأقل من الناحية النظرية. وإذا كانت اليهودية التقليدية تدعو إلى احترام الحاخامات، فاليهودية الحسيدية تدعو إلى تقديس التساديك، فهو يشبه القديسين المسيحيين. وهنا يظهر أثر المعتقدات الدينية الفلاحية السلافية على الحسيديين، وخصوصاً فرقة الخليستي التي كان يرأسها مشحاء، تحل فيهم الروح القدس، فليست تعاليم التساديك هي التي تهم وإنما أفعاله، فكل فعل من أفعاله، مهما كان تافهاً، معبَّأٌ بالمعنى.
لكل هذا، يتمتع التساديك بقدرات خرافية خارقة. وقد جاء في الأدب الحسيدي أنه كان يمكنه شفاء المرضى، وله سلطة على الحياة والموت تفوق قدرة الإله نفسه، إذ يمكنه أن يتدخل لدىه ويجعله يرجئ قراره بشأن موت فرد ما. وقد ورد في أحد الكتب الحسيدية أن مجموعة من الحسيديين كانوا في طريقهم بحراً إلى فلسطين، حين هبت عاصفة هددت السفينة. وحينئذ جمع التساديك كل رعاياه، وأمسك مخطوط التوراة، وقال للإله "إذا كان قد تقرر في محكمة الأعالي أن نقضي نحبنا، فإننا نعلم، باعتبارنا محكمة الجماعة المقدَّسة، أننا لا نوافق على هذا القرار". وقال الجميع «آمين» . فتوقفت العاصفة. وكان بعض القادة التساديك يلومون الإله على أي أذى يحل بهم، ويتناقشون معه بصوت عال. وتعود قدرات التساديك هذه ـ حسب التصور الحسيدي ـ إلى صفاء روحه وشفافيتها التي تمكِّنه من الوصول إلى تلك العوالم (سفيروت) التي لا توجد فيها أية قرارات أو حدود، لأن الرحمة وحدها هي التي تسود فيها.
ولكن لمَ يتمتع التساديك بكل هذه القوى الخارقة وبكل هذه الإعجازية التي لم تُمنَح لعظماء اليهود في الماضي؟ ولمَ يتمتع وحده بهذه الشفافية وهذه المقدرات؟ يقول الحسيديون إن الشعب اليهودي يوجد الآن في المنفى. ولذلك، يحل الإله في أي إنسان متواضع شأنه في هذا شأن الملك المسافر الذي يمكنه أن يحط رحاله في أي منزل مهما بلغ تواضعه. وعلى العكس من هذا، فلو أن الملك كان في عاصمته، فإنه لن ينزل إلا في قصره وحده. وفي الماضي، كان الزعماء والأنبياء اليهود هم وحدهم القادرون على الوصول إلى الروح الإلهية، ولكن الشخيناه الآن في المنفى، ولذلك يحل الإله في أية روح خالية من الذنوب، أي أن التساديك أصبح تجسيد الإله، ومن ثم وسيلة اليهودي المنفي للوصول إلى الإله. إنها إذن الحلولية اليهودية في المنفى. وبدلاً من أن يحل الإله في أرض الميعاد ويتكون الثالوث الحلولي: الإله، الأرض، الشعب، يحل الإله في التساديك، ويظل الثالوث على حاله بعد تعديل طفيف (الإله ـ التساديك ـ الشعب في المنفى) . ويُلاحَظ هنا التشابه القوي بين المسيحية والحسيدية في أن الحلول الإلهي ينتقل من الشعب إلى شخص واحد هو: المسيح في المنظومة المسيحية والتساديك في المنظومة الحسيدية.
ومهما بلغ التساديك من سمو روحي، فليس بإمكانه، ما دام يقوم بأفعاله وحده، تغيير نظام العالم أو الإسراع بالخلاص، فهو، كما تَقدَّم، لم يكن منفصلاً عن جماعته، ولذا فإن سموه الروحي عديم الجدوى بل قد يأتي ذلك بأثر عكسي، فهو حينما يتسامى ولا يلحق به أتباعه (لأنهم لا يمكنهم أن يصلوا إلى الأعالي التي وصلها) ، فإن السماء ستحكم عليهم بقسوة ودون رحمة، ولذا سيلحق بهم الأذى نتيجة تقوى التساديك. ولهذا، فلكي يحقق لشعبه إمكانية الالتصاق بالإله من خلاله دون أن يلحق بهم الأذى، عليه أن ينزل من سموه الروحي حتى يرتفع بالناس، ويقود أتباعه إلى النور المقدَّس، فهو يختلط بالناس في السوق بتواضع، ولكنه في الوقت نفسه ملتصق بالإله في أعاليه. ويمكن القول بأن المفهوم الحسيدي الخاص «يريداه لتسورخ هعالياه» ، أي «الهبوط من أجل الصعود» أو «التسامي عن طريق الغوص في الرذيلة» هو ترجمة حسيدية معتدلة للتصور الشبتاني للماشيَّح الفاسد ظاهراً الطاهر باطناً.
وقد كان يرأس كل جماعة حسيدية تساديك خاص بها، له بلاطه الذي يُعَد مركز القداسة الخاص بها، فهو مركز الحلول الإلهي أو اللوجوس الذي يوحد بينهم. وكان التساديك يعيش قريباً من الجماهير محبوباً منهم يتحدث لغتهم، فكان يُدخل على قلبهم الطمأنينة التي افتقدوها في عالم تَعثُّر التحديث والعلمانية والثورة، على عكس الحاخام البعيد عنهم، المنغلق على دراساته التلمودية، وبهذا صار نوعاً من القيادة الكاريزمية التي تتجاوز المؤسسات. وكان المريدون يسافرون يوم السبت إلى بيت التساديك ليسمعوا مواعظه، وليأتنسوا بمشورته، وأحياناً لم يكونوا يزورنه إلا ثلاث مرات سنوياً. وكان التساديك يعيش على معوناتهم. فمن فرط حبهم له، كانوا يساعدونه مالياً، وهو من فرط حبه لهم كان يعتمد عليهم مالياً، أي أن المساعدة المالية كانت وسيلة للارتباط الروحي والعاطفي، فكان يقف المحصل أو الجابي (بالعبرية: الجَبَّاي) على بابه فيكتب اسم المريد ويدوِّن احتياجاته الروحية والمالية، ويقوم التساديك بإسداء النصح له، ويعطيه السيجيلوت أو الصيغة الصوفية التي تضمن له النجاح. وكان لدى التساديك أحجبة لا حصر لها لكل المناسبات والأمراض (وكما هو واضح، فإن البحث عن الصيغة السحرية للتحكم في العالم سمة أساسية في النظم الحلولية) . وبعد الزيارة، يقوم المريد بإعطاء المحصل بعض المال (بالعبرية: فيديون) ، من أجل الخلاص الروحي وهي اختصار «فيديون نيفيش» ، أي «فدية أو خلاص النفس» . ويرى أحد المؤرخين اليهود أن هذه العادة تشبه من بعض الوجوه صكوك الغفران المسيحية في العصر الوسيط. وكان التساديك يلبس الأبيض مثل قيادات الجماعات المسيحية كالدوخوبور والخليستي وغيرهما. وكان يبدأ في تفسير تعاليمه لمريديه بعد أن يتناول وجبة الطعام، ويترك فضلات الطعام ليتخاطفها المريدون باعتبارها مصدر بركة.
وبعد انتهاء طقس تناول وجبة الطعام، يقوم المريدون بالرقص والغناء، وكان التساديك يشاركهم هذا الطقس أيضاً. وحينما يموت التساديك، كان يُدفَن في ضريح فاخر يحج إليه المريدون. ويُقال إن بعض المريدين كانوا يقومون بالإدلاء باعترافاتهم أمامه على طريقة الكنائس المسيحية.
وكان بعض القادة التساديك يتصف بالتقوى والزهد والتضحية بالنفس، وكانوا يؤكدون زعامتهم على أساس تفوقهم الأخلاقي والروحي. ولكن بعضهم الآخر أثرى ثراءً فاحشاً أدَّى إلى ظهور عوامل الانحلال بينهم في نهاية الأمر، مثال ذلك حفيد بعل شيم طوف الذي كان يعيش مثل النبلاء البولنديين ويمتلك مهرجاً داخل بلاطه، وكان يطارد أي تساديك حسيدي آخر يدخل منطقته. وكان بعض القادة التساديك يتجولون في عربات تجرها عدة أحصنة مثل النبلاء البولنديين (ومثل جيكوب فرانك من قبلهم) . وقد تحوَّل منصب التساديك إلى منصب يتوارثه أعضاء الأسرة. وقد أصبح هذا التوارث القاعدة فيما بعد، الأمر الذي يعكس التأثر بالنظم الإقطاعية البولندية السائدة. وبهذا، أصبحت القداسة، مثل الكهنوت، مسألة داخلية تُورَّث. ولكن الحسيديين يفسرون هذا الفساد باعتباره ضرورياً للوصول (كما هو الحال مرة أخرى مع الماشيَّح) ، ولكن توارث القداسة هو في واقع الأمر سمة أساسية في الأنساق الحلولية.
بعل شيم طوف (1700-1760 (
Baal Shem Tov
«بعل شيم طوف» هو التساديك الحسيدي إسرائيل بن إليعارز. وكان يُدعَى أيضاً «بشط» ، وهي الأحرف الأولى من اسمه. و «بعل شيم» عبارة عبرية تعني «سيد الاسم» أو «الذي تملَّك ناصية الاسم» ، والاسم هنا هو اسم الإله (الغنوص) ، فمن امتلك ناصيته (أي نطق به واستخدمه بحيث يمكنه التأثير في الإرادة الإلهية) أصبح قادراً على التحكم في الكون من خلال التحكم في الذات الإلهية. والبعل شيم مجموعة من الدراويش اشتهروا بتملُّك ناصية الاسم، وبالتالي بمقدرتهم على الإتيان بالمعجزات. وكان بعل شيم طوف (مؤسس الحركة الحسيدية) أحد هؤلاء، ومعنى اسمه «ذو السمعة الطيبة» أو «صاحب السيرة العطرة» ، ولكن هذا الاسم كان يحمل أيضاً دلالة الإتيان بالمعجزات فهو يعني «الذي يعرف اسم الإله» .
ويكتنف الغموض حياة بعل شيم طوف، إذ أحاطته الروايات والمأثورات الشعبية بهالة من القداسة، ووُصفَت حياته بأنها سلسلة من الأحداث الخارقة والمعجزات. وكانت روحه تُعَدُّ شرارة الماشيَّح المخلِّص نفسه (الشرارات الإلهية) . وحسبما جاء فيما نشر عنه بعد وفاته، فإنه وُلد لأبوين فقيرين في جنوب بولندا، وقد تيتم في طفولته، وقضى أول مراحل شبابه يعمل في المدارس الدينية. وفي العشرينيات من عمره، ذهب إلي الغابات، واشتغل بالأعمال اليدوية، وبدأ دراسة القبَّالاه. ويُلاحَظ أنه لم يدرس التلمود دراسة كافية. وقد أمضى بعل شيم طوف شطراً من حياته متجولاً في بلدان كثيرة داخل بولندا وأوكرانيا يواسي المحتاجين ويشفي المرضى، شأنه في هذا شأن فئة الدراويش من بعل شيم. ومع أنه لم يتلق التعليم الحاخامي اللازم، فإنه كان يلقي المواعظ الدينية. وكان عدد الوعاظ الشعبيين (مُجِّيديم) قد زاد زيادة كبيرة بسبب ضعف اليهودية الحاخامية. وكان اليهود المعادون له يشيرون إلى كسله وغبائه وفشله في إنجاز أي شيء عهد به إليه، ولذا فقد فُصل من كل الوظائف التي التحق بها. أما المريدون، فكانوا يرددون أن بعل شيم طوف كان يتعمد كثرة النوم لأنه كان ينتظر الوحي الإلهي! وكان سلوكه الجنسي مثار النقاش، فأعداؤه يشيرون إلى كثرة النسوة اللائي كن يصحبنه. ولكن يبدو أن سلوكه الجنسي يشبه، من بعض الوجوه، سلوك شبتاي تسفي الذي كان يتأرجح بين الإباحية والشذوذ أحياناً والامتناع عن الجنس أحياناً أخرى. فقد جاء على سبيل المثال في كتاب مدائح بعل شيم طوف أنه امتنع عن معاشرة زوجته جنسياً مدة أربعة عشر عاماً، وأنها حملت ابنهما هرشل من خلال الكلمة (لوجوس) . وقد تواترت قصة أخرى عنه مفادها أن فتاة حملت من بعل شيم طوف من خلال دعائه. وكل هذه القصص تبين أثر الفكر الديني المسيحي، وخصوصاً جماعة السكوبتسي (المخصيين) التي نادت بالامتناع عن ممارسة الجنس، وقالت إنه لو أراد الإله
أن تحمل عذراء فإن ذلك سيتم من خلال الروح القدس.
ويبدو أنه تأثر ببيئته السلافية أكثر من تأثره بالمعتقدات الدينية اليهودية، فكان محباً للطبيعة والخمر والخيل، كما كان يدخن الغليون طول الوقت (وقد كان أعداؤه يتهمونه بأنه كان يدخن شيئاً غير الطباق) . كما كان يتسم بخشونة الطبع، شأنه في هذا شأن الفلاحين السلاف، وكان يحشو مخه بعدد كبير من الأساطير والقصص الخاصة بالعفاريت والأشباح. كما كان يرتدي ملابس تشبه أردية رجال الحركات الدينية المسيحية المقدَّسين في تلك المنطقة. وقد استقر بعل شيم طوف سنة 1740 في بلدة مودزيبوز حيث أقام مدرسة اجتذبت إليها المريدين والتلاميذ ليحظوا بالراحة النفسية والجسدية. وقد كانت نظرياته مستقاة من مصادر يهودية، وبخاصة القبَّالاه، غير أنه أضاف إليها الكثير من الفلكلور الديني المسيحي بحيث خلق نوعاً جديداً من الفلسفة الصوفية الحلولية. وتتلخص تعاليمه في أن الإنسان يبحث عن وسيلة للالتحام والالتصاق بالإله (ديفيقوت) بل التوحد معه حتى يستطيع التوصل إلى القوة الروحية الموجودة والكامنة في كل شيء. أما وسيلة الإنسان إلى ذلك فهي حب الإله والثقة به والبُعد نهائياً عن الحزن والخوف اللذين يفسدان القلب، وأن يصلي الإنسان بإخلاص وتفان ومرح ونشوة، صلاةً حقيقية تحمي الروح من قيود الجسد وتسمو بها إلى السماء. ويُلاحَظ في كل هذا ابتعاده عن التعاليم الحاخامية الشكلية الجافة التي كانت تؤكد أهمية تنفيذ الأوامر والنواهي بدقة شديدة. وقد كان لتعاليم بعل شيم طوف هذه تأثير قوي، وكانت أقواله تبعث الدفء والمرح في نفوس مريديه من اليهود.
ولم يترك بعل شيم طوف أية كتابات باسمه ما عدا بضعة خطابات. ولكن تعاليمه الشفوية ظهرت مطبوعة بعد عشرين عاماً من موته، في ثمانينيات القرن الثامن عشر، وظهرت القصص التي كانت تُتداوَل عنه عام 1814. ومن أهم الكتب عن أقواله وأفعاله والقصص التي نسجت حوله كتاب مدائح بعل شيم طوف. والجدير بالذكر أن أقواله وتعاليمه قد ساهمت في فصل يهود اليديشية عن واقعهم التاريخي، وهذا ما جعلهم أكثر تَقبُّلاً للأفكار الصهيونية. كما تأثر بأفكاره كثير من المفكرين الصهاينة، وخصوصاً الفيلسوف الوجودي الصهيوني مارتن بوبر.
دوف بير (واعظ ميجيريك) (1704-1772 (
Dov Ber (The Maggid) of Mezhirech
ويُعرف أيضاً باسم «هامجيد» ، أي «الواعظ المتجول» ، وهو المؤسس الحقيقي للحركة الحسيدية وخليفة بعل شيم طوف، تلقَّى تعليماً دينياً تقليدياً في إحدى المدارس التلمودية العليا. ثم بدأ يعمل واعظاً متجولاً إلى أن وصل إلى مدينة ميجيريك في مقاطعة فولونيا التي أصبحت واحداً من أهم مراكز الحركة الحسيدية. ويُقال إنه أصبح من الزهاد الأمر الذي أثر في صحته، وذهب يبحث عن دواء لدائه عند بعل شيم طوف مؤسس الحركة الحسيدية الذي ذاع صيته كأحد الموآسين. وقد قال دوف بير «إن بعل شيم طوف كشف له لغة الطير والأشجار، وأسرار القديسين والتجسدات الربانية، وأنه بيَّن له كتابات الملائكة وشرح له المغزى الكامن في حروف الأبجدية العبرية» . وعندما مات بعل شيم طوف عام 1760، أصبح دوف بير زعيم الحركة عام 1766 رغم معارضة جيكوب جوزيف له، ورغم أنه كان مريضاً قعيداً في الفراش، ورغم أنه لم يكن رجلاً شعبياً مثل بعل شيم طوف. ولعله نجح في أن يصبح زعيم الحركة لأن شخصيته كاريزمية إلى درجة أن أتباعه قاموا بتقديسه، فكان بعضهم يزوره ليرى كيف يلبس حذاءه ويربط رباطه، فكأن كل فعل يقوم به، مهما ضؤلت قيمته، له معناه. وقد نقل دوف بير مركز الحسيدية من بودوليا إلى فولونيا، الأمر الذي سهَّل عملية انتشارها، كما قام بحركة تبشيرية بين طبقات جديدة وفي مناطق جديدة في بولندا بأسرها، ولذا يُعتبر نشاطه البداية الحقيقية للحسيدية كحركة وعقيدة. وتحت قيادته، انتشرت الحسيدية في أوكرانيا وليتوانيا وبوزنان وتَجذَّرت في وسط بولندا، ومن ثم تحولت إلى أهم حركة شعبية بين يهود اليديشية، ويُقال إن سلوكه الشخصي هو الذي أدَّى إلى ظهور مؤسسة التساديك بشكل عملي، رغم أنه لم يكن له إسهامات نظرية في هذا المجال. وقد أصبح أتباعه زعماء الحركة الحسيدية.
ولا شك في أن دراسته للتلمود ساعدته كثيراً على صياغة العقيدة الحسيدية بطريقة تشكل تحدياً للمؤسسة التلمودية. فقد جعل الحسيديين يتبنون الشعائر اللوريانية (السفاردية) ، وغيَّر بعض تفاصيل الذبح الشرعي، وبذلك جعل جماهيره غير خاضعة للقيادات الحاخامية التلمودية التقليدية التي تحكمت في الجماهير من خلال الشعائر، وخصوصاً الذبح الشرعي. وقد شجع دوف بير الشباب على إهمال دراسة التوراة ليعيشوا تجربتهم الدينية بشكل عاطفي ومباشر، مبتعدين بذلك عن الطقوس الجامدة الخالية من الروح التي تفرضها المؤسسة التلمودية. والعبادة عند أتباعه كانت تأخذ شكل رقص وشطحات. وقد اتهمته المؤسسة الحاخامية بالكفر والحلولية، فصدر قرار بطرده من حظيرة الدين في فلنا قلعة الأرثوذكسية.
ونسق دوف بير نسق حلولي غنوصي واحدي وصل إلى مرحلة وحدة الوجود، فالعالم هو الإله «ولا يوجد مكان لا يشغله الإله» . فالتجليات الربانية التي تتبدَّى من خلال كل الكائنات والتي تملأ الفراغات والثغرات تجعل الوصول إلى جذور الوجود من خلال التأمل الداخلي أمراً ممكناً. والتساديك من ثم هو الإنسان الذي يتمتع بعلاقة خاصة مع الإله. والهدف من وجود الإنسان هو أن يلغي الوجود المتعين للواقع الذي يكتسب تعيُّنه من خلال الحدود المفروضة عليه ويعود إلى حالة الآيين (العدم) وهي حالة اللا تحدد التي تسبق الخلق ( «الإله خلق الوجود من العدم وهو يخلق العدم من الوجود» ) . فالعدم (وحالة السيولة الرحميّة الكونية ـ الحالة الروحانية التامة اللا إنسانية) هي نقطة البدء الأولى ونقطة العودة النهائية، فوجود الإنسان في هذا الكون عملية عذاب وسقوط في الحدود (كما هو الحال دائماً في الأنساق الغنوصية) . بل إن الحالة الإنسانية نفسها هي حالة خلل، إذ أنها حالة تُفرض فيها حدود على الإنسان. لكل هذا، تُعتبَر مرحلة الوجود هذه مرحلة مؤقتة تسبق المرحلة النهائية، ومرحلة العدم التي تنتفى فيها الحدود، وهي الحالة التي يسعى إليها كل إنسان، سقط في هذا الكون. وقد نزلت الروح من الأعالي حتى ترتفع بالوجود المادي المحدود من خلال تساميها الروحي الذي لا حدود له، وهي بذلك تستعيد حالة الوحدة التامة (حالة وحدة الوجود) وانتفاء الحدود. عندئذ تصبح الصلاة، بل كل الشعائر (رمز الحدود المفروضة على الإنسان ووسيلته لإظهار طاعته للإله) ، تصبح (داخل الإطار الحلولي) الطريقة التي يفقد بها الإنسان ذاتيته ويتجاوز حدوده فيلتصق بالإله ويصبح جزءاً منه. بل إن كلام مثل هذا الإنسان (الذي ينجح في تجاوز حدوده) يتحول من كونه كلاماً عادياً إلى كلام إلهي مقدَّس. بل إن عملية العبادة بأسرها تفقد حدودها وهويتها، فأي فعل يأتي به الإنسان هو شكل من أشكال العبادة.
وكما هو الحال دائماً مع الأنساق الغنوصية، ليس هناك وجود حقيقي للشر، فالعالم كله سلسلة واحدة متصلة، وما يبدو منها شراً إن هو إلا حلقة في السلسلة. ومن هنا ظهرت فكرة «عفوداه بجاشيموت» ، أي «الخلاص بالجسد» كوسيلة لجمع الشرارات الإلهية (نيتسوتسوت) ، وهي فكرة تعني أن أفعال الإنسان، مهما تدنت وتدنست، هي وسيلة للالتصاق بالإله (ديفيقوت) وعوناً له على استعادة وحدته. ولعل إحساس دوف بير بأن مثل هذه الأفكار قد تفتح الباب على مصراعيه مرة أخرى للعدمية الشبتانية جعله يتراجع قليلاً ويقول إن الالتصاق يجب أن يكون روحياً وحسب، وأن على اليهودي أن يراعي الشعائر بدقة بالغة. وقد ذهب إلى أن القداسة من خلال الجسد (والدنس) أمر صعب على البشر العاديين، ولذا جعله مقصوراً على الرجال المتميزين (فهم وحدهم الذين يمكنهم تجاوز مقولات الخير والشر كأبطال نيتشه (.
وقد أعاد دوف بير تفسير مفهوم الانكماش (تسيم تسوم) ، فتخلى عن المفهوم اللورياني الذي يذهب إلى أنه عملية انكماش في ذات الإله، إذ يذهب بدلاً من ذلك إلى أن التسيم تسوم إنما هو في واقع الأمر زيادة في التجليات. ويختلف معنى التسيم تسوم حسب زاوية الرؤية والإدراك، فزاوية المعطي غير زاوية المُتلقِّي، فهي شكل من أشكال التجلي والمعرفة التي تفرض على الإله أن يتبدَّى حسب قوانين العقل. فانكماش الضوء يشبه تَبدِّي الفكر من خلال الصوت والكلام. وبذا، ينجح دوف بير في أن يبتعد عن فكرة الكارثة الكونية الموجودة في مركز المنظومة اللوريانية، فلا يصبح حادث تَهشُّم الأوعية (شفيرات هكليم) كارثة داخل الذات الإلهية وإنما واقعة تهدف إلى إشاعة النور، تماماً مثل الترزي الذي يقطع ليحيك، ومن ثم يتم تقديم حادثة تَهشُّم الأوعية من خلال مصطلحات نفسية مثل «القلب الكليم» ، وهو أمر لا يحدث في الذات الإلهية وإنما في حياة الإنسان. وحيث إن الكارثة الكونية انتقلت من الإله والكون إلى الإنسان، فإن النسق يتخلص بالتالي من أي نزوع نحو التفجر المشيحاني. فالحياة عملية خلاص روحية مستمرة، ولم تعد حادثة تاريخية قومية واحدة. وعلى كل، فإن مثل هذا الانتقال ليس أمراً صعباً داخل الأنساق الحلولية التي تلغي كل الثنائيات والتعددية، وفي القبَّالاه نجد أن الميكروكوزم (الإنسان) هو الماكروكوزم (الكون) ، ولذا فالانتقال من الخارج إلى الداخل (والعكس) أمر متيسر للغاية وأصبح الصراع بين الخير والشر يتم في المجال الفردي وأصبح إصلاح الخلل الكوني عملية فردية، وتيقون آدم قدمون (إصلاح آدم القديم أو الرمز الكامل للإنسان) مرتبط تماماً بالآدم تحتون (أي آدم السفلي أو التحتي) . ويُعَدُّ هذا من أهم إسهامات الحسيدية التي استوعبت النزعة المشيحانية داخل النفس اليهودية ومنعتها من التفجرات التي تؤدي إلى كوارث، كما حدث في حالة شبتاي تسفي وغيره من المشحَّاء المخلصين
الدجالين. ولكنها، مع هذا، ضمنت لها الاستمرار في حالة كمون، إلى أن حانت اللحظة التاريخية، فظهرت مرة أخرى في إطار الصهيونية.
ولم يترك دوف بير أي كتب، ومع هذا فقد استُخلص نسقه الفكري والعقائدي من تفسيراته للعهد القديم والتلمود. وقد جُمعت بعض أقواله في كتاب بعنوان ليقوطي أماريم (مجموعة الأقوال) ، وماجيد دفاراف ليعقوف (الذي يخبر يعقوب أقواله (.
إليميليك الليجانسكي (1717-1787 (
Elimelech of Lyzhansk
تساديك حسيدي، من تلاميذ دوف بير، وأحد مؤسسي الحركة الحسيدية في جاليشيا. تجوَّل هو وأخوه في جاليشيا وغيرها من الأماكن، باعتبار أن تجوالهما هذا تعبير عن تجوال الشخيناه (التجلي الأنثوي للحضرة الإلهية) . وبعد موت دوف بير، استقر إليميليك في ليجانسك في جاليشيا التي أصبحت من ثم مركزاً للحسيدية وأسس بلاطه فيها.
وقد أكد إليميليك أهمية التساديكية في النسق الحسيدي، فهو أهم من الملائكة، بل هو قادر على التأثير في الأعالي، وعلى حد قوله:«التساديك يشاء، والإله ينفذ» . فكل قول من أقوال التساديك يتحول إلى ملاك يؤثر في الأعالي. والتساديك يخوض حرباً تهدف إلى التصاقه هو والجماعة بالإله والصعود إلى المطلق. والتساديك يعيش في الأرض في الظاهر ولكنه في الواقع يعيش في السماء.
ويذهب إليميليك إلى أن ثمة نوعين من أنواع السقوط: السقوط من أجل إصلاح الخلل الكوني (تيقون) والسقوط من أجل الشيطان. والسقوط من أجل إصلاح الخلل الكوني عملية طوعية. فالتساديك يعرف أن عليه أن يصلح من حال جماعته، ولذا فعليه أن يهبط إلى مستواها ليصعد بها. أما السقوط من أجل الشيطان، فهو أمر تلقائي وتعبير عن قوى داخل التساديك وداخل جماعته. ومهما كان الأمر، فعلى التساديك أن يتوحد مع جماعته وبالتالي يتحول المدنَّس إلى مقدَّس. وسقوط التساديك ومقدرته على ارتكاب الخطيئة أمر أساسي لقيادته إذ سيعوقه فشله في السقوط عن السمو بنفسه وبجماعته. وسموه بعد سقوطه سيصل إلى مرتبة أعلى من تلك التي كان يشغلها من قبل، ومن ثم فالشر هو الذي يدعم القداسة. والتغلب على الشر يكون بالاستسلام له، كما أن هزيمة المادة تكون بتقبلها تماماً، أي أن ثنائية الخير والشر يُقضَي عليها بأن يتحول الشر إلى خير، وهو أمر سيعجل بمجيء الماشيَّح، وهي اللحظة التي سيعود فيها الجميع إلى الوحدة الأصلية.
وفكر إليميليك فكر حلولي متطرف يظهر فيه التساديك باعتباره إلهاً في الأرض تتحول كلماته إلى ما يشبه التعويذة السحرية التي تؤثر في الإرادة الإلهية. كما أن أثر الشبتانية واضح للغاية في كتاباته وتأخذ شكل محاولة محو الثنائية الأخلاقية. ويُقال إن حياته الشخصية كانت مليئة بالسقطات الأخلاقية المتعددة. ولكن داخل الإطار الحلولي، لا يمكن تسمية السقطات الأخلاقية «سقطات» ، فما هي إلا آلية من آليات الصعود وجزء لا يتجزأ من الخير النهائي. ومن أهم مؤلفاته نُوعَم إليميليخ (بهجة إليميليك) ، وليقوُّطي شوشانيم (مقتطفات الزهور) .
مناحم البراتسلافي (1772-1811 (
Menahem of Bratslav
تساديك حسيدي في بودوليا وأوكرانيا ومؤسس فرقة براتسلاف الحسيدية، وهو حفيد بعل شيم طوف من ناحية الأم، وحفيد أحد القادة الصوفيين (قبل ظهور الحسيدية) من ناحية الأب. وقد كانت أمه معروفة بأنها «ممن تملكتهم الروح المقدَّسة» . تزوج مناحم في سن مبكرة ونشأ في بيت حميه، وكان من يهود الأرندا. ثم انتقل إلى مقاطعة كييف بعد أن تزوج حموه للمرة الثانية. زار فلسطين في بداية حياته وعاد عندما وصلت حملة نابليون على مصر إلى فلسطين. وقد اتُهم منذ مطلع حياته بأن تعاليمه ذات طابع شبتاني فرانكي، بل اتهمه بعض القادة الحسيديين بأن سلوكه إباحي داعر، واتهمهم هو بأنهم من أتباع الشيطان.
كان مناحم البراتسلافي يدَّعي أنه استمرار لسلسلة طويلة من المفكرين اليهود المتصوفين تبدأ بشمعون بريوحاى وتنتهي ببعل شيم طوف مروراً بإسحق لوريا. وهو محقّ تماماً فيما يقول وإن كان قد قام ببلورة بعض الأفكار الحلولية في أنساقهم الفكرية ودفعها إلى نتيجتها المنطقية، وهذا ما أثار ذعر كثير من القيادات الحسيدية. ونسق مناحم حلولي متطرف فالإله هو الإين سوف (اللامتناهي) الذي خلق العالم وحلَّ فيه كله، من ضمنه عالم الشر والمحارة (قليبوت) . ولذا، حينما يغوص الإنسان في حمأة الرذيلة، فإنه حتماً سيجد الإله. وهو يفسر مفهوم الانكماش (تسيم تسوم) تفسيراً يوحِّد بين الشر والخير، فالانكماش يؤدي إلى انسحاب الإله من ذاته بل إلى اختفائه (شحوب الإله وموته) ، ومن ثم يؤدي إلى خلق فراغ. ولكن الفراغ في الأعالي يعني، في واقع الأمر، الامتلاء الأرضي، أي الحلول الإلهي في كل كائنات الكون.
والانكماش يؤدي إلى ظهور الفراغ، والفراغ قد يطرح على الإنسان بعض الأسئلة النهائية ويولد الشك في نفسه. ولكن هناك سؤالاً آخر ينبع من تحطُّم الأوعية (شفيرات هكليم) . وحسب هذه النظرية، فإن الانكماش أدَّى إلى ظهور المحارة، وهذه المحارة هي الدراسات العلمانية، مصدر الشك والهرطقة. فالأسئلة الكبرى تأتي من الفراغ، ثم من خلال الصمت. ولذا، فإن الإجابة عنها لا تكون إلا «بالصمت المقدَّس» (وهي من عبارات جيكوب فرانك الأثيرة) . والصمت المقدَّس هو الإيمان الأعمى، الذي يتجاوز الشك تماماً ويصل إلى الجوهر الإلهي، وهو أمر غير متاح للإنسان إلا بأن يعبد الإله بطريقة مباشرة ساذجة. ولذا، عارض مناحم دراسة الفلسفة. فالإيمان يبتدئ حينما ينتهي العقل. وحالة المنفى مستمرة بسبب ضعف الإيمان، فالخلاص إن هو إلا حسم كل التناقضات والشكوك. ولكن السقوط في الشك ليس أمراً سيئاً تماماً، فالسقوط شرط من شروط الصعود.
وتشكل الأرض عنصراً أساسياً في نسق مناحم الذي يذهب إلى أن الإنسان الذي يعرف كيف يتكيف مع إيقاع الكون يمكنه أن يفقد ذاته من خلاله، ومن ثم يكشف الإله له نفسه من خلال المراحل المختلفة في الطبيعة فيستطيع الإنسان الالتصاق به. وأرض إسرائيل تعطي الإنسان اليهودي الفرصة لهذا الالتصاق بالإله. وكان مناحم يدَّعي أنه أصبح أعظم القادة التساديك لأن جو أرض إسرائيل قد منحه الحكمة.