الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس: الصهيونية التوطينية
الصهيونية التوطينية: تعريف
Settlement Zionism: Definition
» الصهيونية التوطينية «هي صهيونية اليهودي الذي يرفض الهجرة إلى فلسطين والاستيطان فيها، ومع هذا يستمر في الادعاء بأنه صهيوني وتأخذ "صهيونيته" المزعومة شكل دَعْم الدولة الصهيونية مالياً وسياسياً والمساهمة في توطين اليهود الآخرين. ونحن نضع «الصهيونية التوطينية» مقابل «الصهيونية الاستيطانية» . وتاريخ الصهيونية التوطينية منفصل إلى حدٍّ كبير عن تاريخ الصهيونية الاستيطانية، كما أن جماهير الأولى مختلفون بشكل جوهري عن جماهير الثانية. وترجمة كلمة «توطينية» باللغة الإنجليزية صعبة بعض الشيء ويمكن أن تكون «ستلنج Settling» بمعنى «من يقوم بتوطين آخر» ، ولكننا ترجمناها بكلمة «ستلمنت Settlement» نظراً لسلاستها، ونظراً لأنها استُخدمت بهذا المعنى في أسماء المنظمات الصهيونية التوطينية على أن نترجم كلمة «صهيونية استيطانية» بـ «ستلركولونيال زايونيزم Settler Colonial Zionism» .
الصهيونية التوطينية: تاريخ
Settlement Zionism: History
«الصهيونية التوطينية» مصطلح قمنا بسكه لنشير إلى الصهيوني الذي يؤمن بأن الصيغة الصهيونية الأساسية (َقْل بعض أو كل يهود أوربا خارجها) تنطبق على يهودي أو صهيوني آخر ولا تنطبق عليه هو شخصياً. وتقف صهيونية مثل هذا الصهيوني عند حد الدعم المالي والسياسي للمشروع الاستيطاني دون الهجرة بنفسه، أي أنه يتخلى عن التطبيق الفعلي لأحد أهم جوانب الصهيونية (الاستيطانية) دون التخلي عن تأييده ودعمه. ولذا، فإن الصهيونية التوطينية هي أهم أشكال التملص اليهودي من الصهيونية. والواقع أن تاريخ الصهيونية التوطينية مواز تماماً لتاريخ الصهيونية الاستيطانية وينقسم إلى مرحلتين أيضاً: مرحلة ما قبل هرتزل وبلفور وما بعدها.
المرحلة الأولى: مرحلة ما قبل هرتزل وبلفور.
1 ـ صهيونية غير اليهود: وهي صهيونية توطينية بطبيعتها، إذ أن المادة البشرية المُستهدَفة هي اليهود وهم جماعة لا ينتمي إليها الصهيوني غير اليهودي.
2 ـ صهيونية الأثرياء اليهود المندمجين وتُسمَّى أيضاً الصهيونية الخيرية: تبنَّى بعض أثرياء الغرب الصيغة التوطينية بهدف إبعاد يهود اليديشية المهاجرين إلى بلدهم. وقد أُسِّست مؤسسات توطينية لهذا الهدف.
ثم ظهر هرتزل وطوَّر الخطاب الصهيوني المراوغ وطرح صيغته الصهيونية والعقد الصهيوني الصامت الذي يسمح للصهاينة التوطينيين من الغرب والاستيطانيين من يهود اليديشية من الشرق بالانخراط في حركة سياسية واحدة (رغم تباين الأهداف) تحت مظلة الإمبريالية الغربية. ويتبنَّى الجميع (الصهاينة اليهود والصهاينة غير اليهود التوطينيون والاستيطانيون) الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة، ويُسقط عليها اليهود منهم الخطاب الحلولي الكموني العضوي. وقد أخذ وعد بلفور في الاعتبار هذا الانقسام حين أسقط كلمة «الجنس اليهودي» وحين أكد أن الوعد لم يخل بالحقوق والأوضاع القانونية التي يتمتع بها اليهود في أية دولة أخرى.
المرحلة الثانية: مرحلة ما بعد هرتزل وبلفور.
أصبحت الصهيونية التوطينية هي صهيونية الشتات أو الدياسبورا إذ تحوَّلت الصهيونية التوطينية من صهيونية الأثرياء إلى صهيونية كل صهاينة العالم الغربي، وأصبحت مهمتهم العمل من أجل دعم المُستوطَن الصهيوني (مالياً وسياسياً) . وقد كانت هناك توترات بين الاستيطانيين والتوطينيين في هذه المرحلة ولكنها ظلت تحت السطح بسبب حاجة المستوطنين للتوطينيين، وبسبب انشغالهم في قضية الاستيطان وطَرْد العرب وبسبب عجزهم عن الحركة بسهولة بين أعضاء الجماعات اليهودية في العالم وفي أروقة الحكومات الغربية. وبعد عام 1913 (المؤتمر الصهيوني الحادي عشر) ، تتغير الصورة بعض الشيء، إذ يصبح الاستيطانيون (من شرق أوربا) قادة الحركة الصهيونية بلا منازع وتكتسب صهيونية الدياسبورا مضموناً جديداً وهو قضية الهوية إذ يصبح تقسيم العمل كما يلي: يدعم الصهاينة التوطينيون المُستوطَن الصهيوني ويصبح هو مركزاً للهوية اليهودية وركيزة أساسية لها.
وفي هذه الموسوعة، حينما تكون الإشارة للصهيونية التوطينية، فإن الإشارة تكون عادةً للمرحلة الثانية التي تتضمن الدعم المالي والضغط السياسي من أجل المُستوطَن الصهيوني وتدعيم هوية يهود الخارج. وينقسم الصهاينة التوطينيون إلى اثنيين دينيين وإثنيين علمانيين.
الصهيوني اليهودي غير اليهودي
Non-Jewish Jewish Zionist
«الصهيوني اليهودي غير اليهودي» مصطلح قمنا بصياغته لوصف بعض زعماء الحركة الصهيونية في مرحلة تأسيسها، كما يمكن استخدامه لوصف كثير من جماهير الصهيونية في الوقت الحالي. و «اليهودي غير اليهودي» هو يهودي فقد الإيمان الديني، ومن ثم فإنه لا يمارس شعائر دينه، كما أنه اندمج تماماً في مجتمعه بحيث لم يَعُد يتسم بأية سمات إثنية يمكن أن يُطلَق عليها «يهودية» إذ لم يبق من هذه الهوية إلا قشرة رقيقة لا أهمية لها، ولكنه رغم ذلك يُصنَّف باعتباره يهودياً إما لأن الآخرين يقومون بتصنيفه كذلك رغماً عنه أو لأنه يدَّعي ذلك.
ونحن نذهب إلى أن مؤسسي الحركة الصهيونية من ذوي الخلفية الألمانية (هرتزل ونوردو ونوسيج) هم يهود غير يهود فقدوا كل ما يربطهم باليهودية، ولكنهم وجدوا أنفسهم، بسبب هجرة يهود اليديشية، قد أُعيد تصنيفهم كيهود. وبدأ الهمس بشأن تهديد «اليهود» للأمن القومي، ولذا فقد بدأ هؤلاء في البحث عن حل لمسألتهم اليهودية التي فُرضت عليهم فرضاً. وقد كانت الصيغة الصهيونية الأساسية مطروحة في أوربا، فقام هرتزل باكتشافها واكتشاف الإمبريالية كآلية لتنفيذها وطوّر صياغته الهرتزلية المراوغة التي جعلت بإمكان يهود شرق أوربا قبول الصيغة الأساسية الشاملة وتهويدها. وكان بإمكان هرتزل اليهودي غير اليهودي أن يلعب هذا الدور لأنه كان يُعَد يهودياً في نظر عالم غير اليهود (بسبب القشرة اليهودية المتبقية) ، كما كان يُعَد غربياً من قِبل يهود شرق أوربا إذ لم يروا فيه شيئاً يهودياً. ولذا، أمكن هرتزل أن يقوم بدور الجسر الموصل بين هذين العالمين.
ورغم الاختلاف بين هرتزل وأثرياء الغرب المندمجين، فإن هؤلاء أيضاً كانوا صهاينة يهوداً غير يهود وجدوا أنفسهم مشغولين بحل المسألة اليهودية رغم أنفهم ومتورطين في الحلول الصهيونية. ويُلاحَظ أن القيادة الصهيونية اليهودية غير اليهودية كانت دائماً مشغولة بإفراغ أوربا من اليهود وفي أسرع وقت وكانت لا تكترث إلا قليلاً بطبيعة الدولة الوظيفية المزمع إنشاؤها بتوجهها الإثني أو الديني أو العقائدي.
ويمكن القول بأن صهيونية هؤلاء اليهود غير اليهود لا تختلف كثيراً عن صهيونية غير اليهود، فكلاهما ينظر للمادة البشرية المُستهدَفة من الخارج، وكلاهما يحاول تخليص أوربا منها وتوظيفها لصالحها ولا يرى لها أية قيمة في حد ذاتها. وحينما تم تهويد الصيغة الصهيونية الأساسية واستبطنتها المادة البشرية، استولت القيادات من يهود شرق أوربا على المنظمة الصهيونية وتخلَّى الصهاينة اليهود غير اليهود عن القيادة بالاستمرار في الدعم المالي والمعنوي، شأنهم في هذا شأن دول العالم الغربي.
وبعد تأسيس الدولة، وبعد استيلاء الصهيونية على مقاليد الأمور بالنسبة للجماعات اليهودية والغرب، حَدَث تطوُّر من نوع آخر إذ ظهر في الغرب اليهودي غير اليهودي مدَّعي اليهودية. وقد انضمت أعداد كبيرة من هؤلاء للحركة الصهيونية للحفاظ على بقايا هويتهم. وقد قبلتهم الحركة الصهيونية حتى يمكنها الاستمرار في ابتزازهم مالياً وتوظيفهم في دعم المُستوطَن الصهيوني وفي الضغط السياسي من أجله. ومثل هؤلاء الصهاينة اليهود غير اليهود على استعداد تام للقيام بهذه المهمة ما دامت لا تؤدي إلى وضع ولائهم لأوطانهم موضع الشك وما دامت لا تضطرهم إلى الهجرة، وهو ما يعني أن نشاطهم الصهيوني يدور في نطاق المصالح الغربية والعقد الاجتماعي الغربي. ولذا، يمكن القول بأن صهيونية اليهود غير اليهود (رغم اختلاف جذور اليهودية المزعومة من القسر الخارجي إلى الادعاء الذاتي) لم تتغيَّر، وهي امتداد غربي داخل اليهود واليهودية وليست امتداداً يهودياً داخل الحضارة الغربية.
صهيونية الصالونات
Salon Zionism
«صهيونية الصالونات» اصطلاح سكه المفكر الصهيوني العمالي بوروخوف، ويشير إلى صهيونية أعضاء الطبقة الوسطى اليهود الذين لا يوجد لديهم حافز قوي لتأسيس الدولة الصهيونية، ولذا فهم يتحدثون عنها ولكنهم، بسبب موقعهم الطبقي، لن يبحثوا بشكل جذري عن طريقة عملية لتأسيسها. ولم يجد المصطلح رواجاً ولم يستخدمه أحد في الأدبيات الصهيونية رغم أهميته، وهو يكاد يرادف مصطلح «الصهيونية التوطينية» .
صهيونية أثرياء الغرب اليهود المندمجين (لتوطينية (
Settlement Zionism of the Assimilated Wealthy Jews of Western Europe
«صهيونية أثرياء الغرب» شكل من أشكال الصهيونية التوطينية (بين اليهود في مرحلة ما قبل هرتزل وبلفور) ظهرت بين أثرياء الغرب اليهود المندمجين. وقد كان هؤلاء الأثرياء بمنزلة قيادة ليهود العالم بسبب نفوذهم المستمد من ثروتهم وتواجدهم في مواقع مهمة داخل التشكيل الحضاري الغربي، فهم كانوا لا يزالون يلعبون دور الوسيط (شتدلان) التقليدي، ويتشفعون لأعضاء الجماعات اليهودية عند الحكام والسلطات الرسمية. ولعل حادثة دمشق وتدخُّل موسى مونتفيوري من أهم الأمثلة على ذلك.
ومع النصف الأخير من القرن التاسع عشر، تدفَّق يهود اليديشية من شرق أوربا على غربها وتحوَّلت القضية بالتدريج من مجرد تشفُّع لهذا اليهودي أو تلك الجماعة إلى قضية توطين اليهود في أماكن متفرقة من العالم، أي أنها أصبحت قضية الصهيونية التوطينية. والواقع أن تبنِّي أثرياء الغرب المندمجين أحد أشكال الصهيونية ينم عن تناقض عميق، إذ أن طبيعة وضعهم في مجتمعاتهم كان يستند إلى تصوُّر أنهم أعضاء أقلية دينية وحسب لا يربطهم بأعضاء الجماعات اليهودية الأخرى سوى رباط واه، وأن ولاءهم يتجه لأوطانهم بالدرجة الأولى والأخيرة، وأن هويتهم القومية (الإنجليزية أو الفرنسية مثلاً) لا علاقة لها بانتمائهم الديني ولا تتأثر به. وهم في اندماجهم هذا يُعدُّون مثلاً حياً لانتصار المُثُل الليبرالية وعلى مدى عظمة الحضارة الغربية. ولكنهم بتورُّطهم في مشروع صهيوني (حتى لو كان توطينياً) ، يقرون ضمناً بوحشية الحضارة الغربية التي تقتلع أعضاء الأقليات التي تعيش بين ظهرانيها وبفشل المُثُل الليبرالية ومُثُل الاندماج والتحديث. ولكن أثرياء الغرب المندمجون وقعوا في هذا المأزق لأسباب خارجة عن إرادتهم، فرغم عدم تَماثُل تجربة أثرياء الغرب مع التجربة اليديشية الحضارية والسياسية، ورغم أن مصير أعضاء كل جماعة كان مرتبطاً تماماً بالحركيات التاريخية لمجتمعهم، ومع تعثُّر التحديث في شرق أوربا (وهو تعثُّر صاحَبه انفجار سكاني حاد بين أعضاء الجماعات اليهودية) خرج مئات الألوف بل الملايين من اليهود الفائضين من شرق أوربا ووصلت جحافلهم إلى النمسا وفرنسا وشواطئ بريطانيا. وقد هدَّد هؤلاء اليهود المواقع الطبقية والمكانة المتميِّزة الجديدة التي كان يشغلها يهود الغرب المندمجون. بل يُقال إنهم كانوا يهددون الأمن الاجتماعي للدول التي يهاجرون إليها. وهنا حدث التشابك بين «مصير» يهود شرق أوروبا وأثرياء يهود الغرب (و «تشابك المصير» يختلف عن وحدة المصير التي
يتحدث عنها الصهاينة) ، فيهود الغرب نظروا إلى القادمين على أنهم (على أسوأ تقدير) خطر يتهددهم أو على أنهم (على أحسن تقدير) إخوة في الدين سيئو الحظ يستحقون الإحسان. وقد عبَّر ذلك عن نفسه من خلال مشاريع صهيونية توطينية يمولها يهود الغرب لإغاثة يهود الشرق وللتخلص منهم في الوقت نفسه.
وقد كان أثرياء اليهود في الغرب، مثل روتشيلد وهيرش ومونتفيوري، على استعداد لتمويل مشروعات لتوطين يهود شرق أوربا في أية بقعة خالية (أو يُتصوَّر أنها خالية) خارج أوربا (مثل الأرجنتين) وظهرت المؤسسات التوطينية اليهودية المختلفة التي كان يدعمها هؤلاء الأثرياء (مثل الأليانس وجمعية الإغاثة التي كانت تهدف إلى توطين اليهود في مختلف أنحاء العالم وإلى تحسين أحوال أعضاء الجماعات اليهودية، وخصوصاً في شرق أوربا في أوطانهم بما يكفُل عدم هجرتهم) . وكانت هذه المؤسسات تقوم بتدريب أعضاء الجماعات اليهودية حتى يمكنهم إما التكيف مع الأوضاع الاقتصادية الجديدة في أوطانهم الأصلية أو العمل في مهنة جديدة تحتاج إليها الأوطان الجديدة التي وُطِّنوا فيها.
ويجب تأكيد أن هذه المشاريع والمساعدات التي يمكن أن نطلق عليها «الصهيونية الخيرية» أو «صهيونية الإغاثة والإنقاذ» كانت تتسم بما يلي:
1 ـ قلّصت الصهيونية التوطينية نطاق اهتمامها، فهي لا تهتم باليهود ككل، وإنما بيهود شرق أوربا وحسب، وخصوصاً الفقراء الذين يتم توجيه عملية الإنقاذ والإغاثة إليهم وحدهم (أما يهود الغرب أنفسهم فيتم إنقاذهم من يهود اليديشية. وقد لاحَظ هرتزل أن الصهيونية التوطينية تتضمن نزعة معادية لليهود (
2 ـ تتم عملية الإنقاذ بشكل عملي برجماتي خارج أي مشروع قومي أو سياسي يهودي مستقل، فالصهيونية التوطينية معادية لما يُسمَّى «القومية اليهودية» ، ولذا فإن مشاريعها لم تكن مرتبطة بفلسطين أو أرض الميعاد ولا بالأفكار الدينية اليهودية التقليدية ولا باللغة العبرية، وكانت الأليانس (على سبيل المثال) تدافع عن استخدام الفرنسية.
3 ـ يُلاحَظ أن كل شخصية، وكل جمعية صهيونية خيرية، كانت تتبع في نشاطها الدولة الأوربية التي تنتمي إليها، فالأليانس كانت تتبع فرنسا وتحاول الدفاع عن المصالح والثقافة الفرنسية، على عكس جمعية الإغاثة التي كانت تحاول الدفاع عن المصالح والثقافة الألمانية، وبهذا يؤكد الصهاينة التوطينيون انتماءهم الكامل لأوطانهم.
4 ـ لا يمكن إنكار أن روتشيلد، أو غيره من أثرياء الغرب، استفادوا كأفراد من نفوذهم في العالم الغربي ومن علاقتهم مع الحكومات الاستعمارية المختلفة في عملية شراء الأرض لتوطين الفائض اليهودي من شرق أوربا. ولكن هذا لا يغيِّر بتاتاً التوجُّه الكلي ذا الطابع الخيري الإغاثي الذي ينفر من الإطار العقائدي الصهيوني.
5 ـ لما كانت عملية التوطين عملية إنقاذ وإغاثة بدون ديباجة قومية، فإنها ستتم في أية بقعة من العالم) لأرجنتين أو شرق أفريقيا أو فلسطين) ، وبشكل قانوني عن طريق شراء الأرض. ولم يول صهاينة الغرب المندمجون مشكلة السكان الأصليين أي اهتمام لأن الأمر لم يكن يعنيهم كثيراً، ولأن اهتمامهم كان ينصب بالدرجة الأولى على تخليص أوربا من فائضها اليهودي وتوطينه في أي مكان وبأية شرط (تجدُر الإشارة هنا إلى أنه، على مستوى الممارسة، كان مندوبو روتشيلد وجماعة أحباء صهيون يشترون الأرض في فلسطين ويطردون سكانها منها ويوطنون فيها اليهود (
ويمكننا أن نقول إن أولى الاتجاهات الصهيونية بين اليهود هي صهيونية الأثرياء المندمجين في غرب أوربا. وقد توجَّه إليهم صهاينة شرق أوربا التسلليون. ويمكن أن نضع داخل هذا الإطار محاولات السير موسى مونتفيوري، والبارون موريس دي هيرش المليونير اليهودي الذي ساهم بتبرعات سخية للأليانس وموَّل مشروعات توطين اليهود في الأرجنتين وغيرها من البلدان وأسَّس جمعية الاستيطان اليهودي (إيكا) لهذا الغرض، وإدموند جيمس دي روتشيلد، وجمعية الإغاثة اليهودية في ألمانيا، وجمعية الأليانس، والمحاولات المختلفة الرامية إلى توطين اليهود في الأرجنتين والبرازيل.
وقد ظهرت عدة مؤسسات توطينية استمرت في نشاطها حتى الحرب العالمية الثانية. بل لا يزال بعضها يمارس نشاطه في الوقت الحالي رغم اعتراض المنظمة الصهيونية العالمية.
ورغم أن يهود الغرب وأثرياءهم هم الذين مولوا عمليات التوطين الأولى، فإنهم لم يكونوا قط مرشحين لقيادة الحركة الصهيونية لعدة أسباب:
1 ـ لم يوافق هؤلاء اليهود قط على المضمون القومي للتوطين الذي كان يهود الشرق يحاولون فرضه.
2 ـ بعد أن أصبح المشروع الصهيوني جزءاً لا يتجزأ من المشروع الاستعماري الغربي، رضخ يهود الغرب للأمر الواقع. ولكنهم آثروا، مع هذا، الاحتفاظ بمسافة بينهم وبينه، فهم في نهاية الأمر مستفيدون من المُثُل الليبرالية السائدة في مجتمعاتهم، وهي مُثُل تتناقض مع المُثُل التي ينطلق منها المشروع الصهيوني.
3 ـ لم يكترث يهود الغرب بيهودية المشروع الصهيوني، فما كان يعنيهم أساساً هو إبعاد يهود شرق أوربا عنهم. وهم، في هذا، كانوا أقرب للصهاينة غير اليهود منهم للصهاينة من اليهود، ولذا فهم صهاينة يهود غير يهود.
4 ـ لم تكن هذه القيادات تعرف شيئاً عن المادة البشرية اليهودية المستهدفة التي كان يُراد نَقْلها إلى فلسطين، كما لم تكن تدرك لغتها ولا طموحاتها أو آلامها، ولذا فقد كانت تنظر إليها من الخارج شأنها في هذا شأن صهيونية غير اليهود.
5 ـ كانت قوة أثرياء الغرب في نهاية الأمر محدودة، فقد كانوا يملكون أن يتوسطوا لدى السلطان العثماني ليُحسِّن أحوال اليهود أو ليمنحهم قطعة أرض، ولكن لم يكن بوسعهم أن يطلبوا لليهود أرضاً ينشئون عليها دولة، كما أنهم لم يكن عندهم أي إدراك لحتمية الاستعانة بالإمبريالية في أية عملية توطينية.
وحينما ظهرت الصهيونية التسللية، حاول الصهاينة التسلل إلى فلسطين لإنشاء دولة يهودية دون مظلة إمبريالية (أي أن التسلليين ـ رغم اختلاف مقاصدهم عن مقاصد أثرياء اليهود في الغرب ـ وقعوا في الخطأ نفسه، فقد نظروا إلى قضية الاستيطان دون إدراك حتمية الاستعانة بالإمبريالية) . ولذا، فقد توجَّهت الصهيونية التسللية إلى روتشيلد وغيره طالبة منهم العون. ولعل عدم إدراك حتمية الاستعانة بالإمبريالية في عملية الاستيطان والتوطين هي الرقعة المشتركة بين التسلليين وأثرياء الغرب المندمجين، وذلك رغم أن التسلليين استيطانيون والأثرياء توطينيون. ثم ظهر هرتزل الذي أدرك حتمية الاستعانة بالإمبريالية الغربية لإنشاء الدولة اليهودية، فتخطى يهود الغرب وأثرياءهم وتسلليي الشرق، وتوجَّه إلى الدول الاستعمارية مباشرةً فسقطت القيادة في يده منذ البداية.
ويتفق هرتزل مع أثرياء الغرب التوطينيين في عدم اكتراثه بمشاكل الهوية والوعي، فهو ينظر إلى يهود اليديشية من الخارج تماماً كما ينظر إليهم أثرياء الغرب. ولكنه، مع هذا، طوَّر الصيغة المراوغة التي تركت الباب مفتوحاً أمامهم ليلقوا بالصدقات على الاستيطانيين دون أن تطأ أقدامهم أرض الميعاد نظير ألا يهاجمهم أحد أو يتهمهم بالتنكر ليهوديتهم. والواقع أن هذا جزء من العقد الصهيوني الصامت.
ومع صدور وعد بلفور، دخلت الصهيونية التوطينية مرحلة جديدة تماماً، فقد سقطت تهمة ازدواج الولاء إذ تحولت الصهيونية نفسها إلى مشروع تابع للحضارة الإمبريالية الغربية، وتأييد مثل هذا المشروع يمكن أن ينبع من الولاء للوطن الأم ولا يتناقض مع وطنية المرء، وهذا ما كان يعنيه برانديز حين قال:"كي أصبح مواطناً أمريكياً صالحاً، يجب أن أصبح يهودياً أفضل، وكي أصبح يهودياً أفضل يجب أن أصبح صهيونياً"، ذلك أن الصهيونية واليهودية والوطنية الأمريكية أمور مترادفة بالنسبة له ولصهاينة الغرب التوطينيين، ومن ثم أصبح بالإمكان اندماج الصهيونية الدبلوماسية الاستعمارية وصهيونية الأثرياء المندمجين لتظهر صهيونية الشتات التوطينية.
موسى مونتفيوري (1784-1885 (
Moses Montefiore
ثري ومالي بريطاني يهودي، زعيم الجماعة اليهودية في إنجلترا، ومن كبار المدافعين عن الحقوق المدنية لليهود في إنجلترا والعالم. وُلد في بريطانيا لأسرة إنجليزية ذات أصول إيطالية سفاردية استقرت في إنجلترا في القرن الثامن عشر. وبدأ عمله كسمسار في بورصة لندن حيث حقق ثراءً سريعاً. وقد ارتبط بعائلة روتشيلد المالية الثرية من خلال المصاهرة، الأمر الذي ساعده في مجال أعماله. وقد كان مونتفيوري من أوائل المشاركين في تأسيس البنوك الصناعية بالتعاون مع المؤسسة الإنجليزية ـ الأمريكية العاملة في مجال الماس والمال والتي اشترك في تأسيسها إرنست أوبنهايمر اليهودي الثري رجل الصناعة والمال في جنوب أفريقيا. وقد حقق مونتفيوري ثروة طائلة من خلال أعماله، وهو ما مكَّنه من اعتزال العمل عام 1824. وقد كان مونتفيوري ثاني يهودي يتولى منصب عمدة لندن وأول يهودي يحصل على لقب «سير» .
وقد كرَّس مونتفيوري جهوده بعد ذلك للقضايا المرتبطة بأوضاع الجماعات اليهودية في شرق أوربا والعالم الإسلامي، وزار فلسطين سبع مرات، وقدم لمحمد علي باشا عام 1838 خطة لتوطين اليهود في فلسطين تتضمن توفير وضع متميِّز لليهود وقدر كبير من الاستقلال الذاتي وتنمية المشاريع الزراعية والصناعية في فلسطين حتى يحقق اليهود الاعتماد على الذات. وفي المقابل، اقترح مونتفيوري تأسيس البنوك في المدن الرئيسية في المنطقة لتقدِّم التسهيلات الائتمانية للمنطقة بأكملها. وقد ساهم مونتفيوري في تأسيس بعض المستوطنات الزراعية في الجليل ويافا، وأسَّس أول حي يهودي خارج أسوار مدينة القدس القديمة، كما أسس بعض المشاريع الصناعية. وقد التقى بمحمد علي مرة أخرى في القاهرة عام 1840 لبحث قضية دمشق، إلا أن مشاريعه في فلسطين تعثرت بعد خروج محمد علي من فلسطين تحت ضغط القوى العظمى في تلك الفترة. ومع ذلك، نجح في إقناع السلطان العثماني بمنح الامتيازات التي كان يتمتع بها الأجانب لليهود في جميع أرجاء الإمبراطورية العثمانية، وهو ما ساهم بدون شك في تحويلهم إلى عنصر أجنبي منبتّ الصلة بالمنطقة وذي قابلية خاصة للتحول إلى جماعة وظيفية استيطانية.
وقد اهتم مونتفيوري أيضاً بأوضاع الجماعات اليهودية في شرق أوربا، فزار روسيا عامي 1846 و1872 لبحث حالتهم مع الحكومة القيصرية، كما زار المغرب عام 1863 ورومانيا عام 1867 للغرض نفسه.
وقد اكسبته جهوده لصالح الجماعات اليهودية، ومهاراته وحنكته الدبلوماسية، وقدرته على الوصول إلى الحكام المناسبين، مكانة واحتراماً كبيراً، خصوصاً لدى الحكومة البريطانية حيث كان كثير من نشاطاته متفقة مع السياسات الاستعمارية البريطانية. وكان تأييده للاستيطان اليهودي في فلسطين، شأنه شأن معظم الأثرياء اليهود المندمجين في الغرب، يهدف إلى تحويل تيار الهجرة المتدفق من شرق أوربا على غربها بعيداً عنها، لأن هذا التيار كان يهدد وضعه الطبقي والحضاري في إنجلترا. ولذلك، كان من أهم اهتماماته تحويل اليهود إلى قطاع اقتصادي منتج، عن طريق رَبْطهم بالأرض ومهنة الزراعة وإنشاء المستوطنات الزراعية وإدخال العلوم العصرية في المدارس اليهودية في شرق أوربا.
وقد واصل ابن أخته يوسف سيباج مونتفيوري (1822 ـ 1903) نشاط خاله في فلسطين، وتولَّى منصب نائب رئيس حركة أحباء صهيون. وقد أُعيد دفن جثمان مونتفيوري وزوجته في إسرائيل عام 1973.
موريس دي هيرش (1831-1896 (
Maurice de Hirsch
ثري ألماني يهودي، ومؤسس جمعية الاستيطان اليهودي، وأول من فكر في إعادة توطين اليهود على نطاق واسع. وقد وُلد هيرش لعائلة يهودية ثرية ومرموقة وكان والده من يهود البلاط. وقد تلقى في صباه دراسة دينية وتعلَّم العبرية. وفي بروكسل، اشتغل في مؤسسة مصرفية كبيرة مملوكة لعائلة يهودية مالية ذات مكانة مرموقة في بلجيكا، هي عائلة بيسخوفشايم. وقد ارتبط هيرش بهذه العائلة من خلال الزواج، وهو ما سهَّل له البدء في مشاريع تمويل بناء السكك الحديدية في تركيا والنمسا ودول البلقان. وقد كان للمموِّلين اليهود بصفة عامة (في القرن التاسع عشر) دور مهم في تمويل بناء السكك الحديدية في أوربا وهو مجال كان لا يزال في بداياته، وبالتالي كان ينطوي على كثير من المجازفة. إلا أن تراث اليهود كجماعة وظيفية، وتَشعُّب خبراتهم وعلاقاتهم المالية، أهَّلهم لدخول هذه المجالات الجديدة وتحقيق قدر كبير من النجاح. وقد حقق هيرش من خلال نشاطه في هذا المجال، وأيضاً من خلال نشاطه في المضاربات على سلعتي السكر والنحاس، ثروة طائلة في عام 1890، وإن كانت الشبهات تحيط بمصادر الجانب الأعظم من هذه الثروة. وليس أدل على ذلك من الفضيحة المالية التي تفجرت عقب نجاح هيرش عام 1869 في إبرام صفقة مع الدولة العثمانية للحصول على امتياز إنشاء وتشغيل شبكة خطوط حديدية في البلقان، حيث كُشف النقاب آنذاك عن الأساليب الملتوية التي لجأ إليها هيرش للحصول على الصفقة، ثم أشكال التلاعب في تنفيذ المشروع نفسه.
وقد كان هيرش واعياً بالمسألة اليهودية في شرق أوربا، فاهتم بنشاط الأليانس إسرائيليت يونيفرسل التعليمي، وتبرع لها بمبلغ مليون فرنك، ثم خصص لها صندوقاً يوفر لها عائداً سنوياً كبيراً. كما قدم للحكومة الروسية مبلغ مليونين من الجنيهات لإنشاء نظام تعليمي حديث، إلا أن تبرعه رُفض نظراً لإصراره على فرض الوصاية على هذا المشروع. فقام بتأسيس جمعية الاستيطان اليهودي (إيكا) برأسمال قدره مليونين من الجنيهات دفعها كلها تقريباً. وكانت الجمعية تهدف إلى تهجير وتوطين اليهود في كندا والولايات المتحدة والأرجنتين والبرازيل وتحويلهم إلى قطاع اقتصادي منتج عن طريق تعليمهم الزراعة والحرف المختلفة. ويمكن فَهْم اهتمام هيرش سواء بتعليم يهود شرق أوربا أو بإعادة توطينهم في ضوء حقيقتين: أن الهجرة من الشرق كانت تهدد وَضْع يهود الغرب المندمجين، وهو ما دفع هؤلاء إلى محاولة إبعاد هذه الهجرة من أوربا إما عن طريق إعادة توطين اليهود في دول أخرى، ومن ناحية أخرى عن طريق إعادة تعليمهم حتى يكتسبوا خبرات صناعية وزراعية تؤهلهم للانضمام للمجتمع الأم الذي لم يَعُد بحاجة إلى اليهودي بخبراته القديمة. كما أن حركة توطين اليهود كانت تتم في إطار اهتمام أوربا بإنشاء مجتمعات استيطانية في الدول المختلفة في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية كجزء من سياسة التوسع الاستعماري. ـ
وقد حاول أحباء صهيون وهرتزل أن يطلبوا من هيرش العون لمشاريعهم ولكنه اعتبر محاولة إنشاء دولة صهيونية في فلسطين مجرد وهم كبير. ومع ذلك، فقد ظل على إيمانه بإمكانية تحويل يهود أحياء الجيتو في شرق أوربا إلى شعب زراعي. وقد استمرت جمعية الاستيطان اليهودي في نشاطها بعد وفاته، لكن صندوقها تحوَّل لخدمة الاستيطان في فلسطين. وفي عام 1923، تم دَمْج مؤسستي روتشيلد وهيرش تحت اسم بيكا (هيئة الاستيطان اليهودي في فلسطين) وبلغ مجموع ما امتلكته هذه المؤسسة الموحَّدة خلال ربع قرن (1922 ـ 1948) ما مساحته 45 ألف دونم، أو ثلث ما كان بحوزة اليهود من أراض عند إعلان قيام إسرائيل.
بنيامين بيشوتو (1834-1890 (
Benjaminn Peixotto
محام ودبلوماسي أمريكي يهودي. وُلد في نيويورك لعائلة يهودية سفاردية هاجرت إلى الولايات المتحدة في أوائل القرن التاسع عشر قادمة من أمستردام. عاش في كليفلاند، واشتغل في تجارة الملابس، كما درس القانون ونشط في السياسة وساهم بالافتتاحيات السياسية في إحدى صحف كليفلاند المحلية. كما نشط في مجال شئون الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة، فانضم إلى منظمة أبناء العهد (بناي بريت) عام 1863 وانتُخب رئيساً للمحفل الأعلى في العام نفسه واحتفظ بهذا المنصب لمدة أربع دورات. وكان بيشوتو وراء جهود المحفل لإقامة ملجأ للأيتام اليهود في كليفلاند عام 1869. كما كان من مؤسسي اتحاد الطوائف الأمريكية العبرية وجريدة منوراه منثلي. وتعود أهمية بيشوتو إلى أنه اختير أول قنصل عام أمريكي لدى رومانيا بعد أن رشحه الرئيس الأمريكي يوليسس جرانت لهذا المنصب عام 1870 وذلك بإيعاز من بعض أثرياء اليهود الأمريكيين، وخصوصاً عائلة سليجمان المالية الثرية. وقد جاء ذلك بعد تدهور أوضاع الجماعة اليهودية في رومانيا وتزايد حدة الاضطهاد ضدهم، فكان الغرض من إرسال بيشوتو الضغط على الحكومة الرومانية لإعتاق اليهود وتحسين أوضاعهم. ونظراً لأن الحكومة الأمريكية لم توفر التكاليف المادية لهذا المنصب، فقد تكفَّلت بها مجموعة من الأثرياء اليهود الأمريكيين ومنظماتهم الإسرائيلية وعدد من الشخصيات اليهودية الفرنسية والإنجليزية البارزة وعلى رأسهم سير فرانسيس جولد سميد. وفي رومانيا، نجح بيشوتو في إقامة علاقة طيبة مع الأمير شارل حاكم البلاد. وبادر بتأسيس مدارس يهودية وجمعيات ثقافية. كما حاول بيشوتو توحيد يهود رومانيا داخل إطار واحد، فأسَّس منظمة «جماعة صهيون» التي ارتبطت فيما بعد بمنظمة أبناء العهد (بناي بريت) . وخلال السنوات الخمس التي أمضاها بيشوتو في رومانيا، تقلَّص عدد الهجمات ضد اليهود وكذلك القوانين المناهضة لهم. كما لعب بيشوتو دوراً مهماً
بالتعاون مع بعض الشخصيات اليهودية الأوربية البارزة في الدعوة إلى انعقاد مؤتمر بروكسل عام 1872 الذي بحث أوضاع الجماعات اليهودية في دول البلقان.
والواقع أن إرسال بيشوتو إلى رومانيا وجهوده فيها، والدعم المادي والسياسي الذي توافر له من قبَل كبار الشخصيات اليهودية الأمريكية والأوربية، لم يكن بدافع إنساني محض أو بدافع إنقاذ بني جلدتهم من يهود رومانيا ودول البلقان، فقد كان الدافع الأساسي والأهم تحسين أوضاع الجماعات اليهودية في رومانيا وفي شرق أوربا بشكل عام في ظل التدهور الاقتصادي والاجتماعي الذي كانت تشهده هذه المنطقة حتى لا تتدفق هجرتهم إلى غرب أوربا والولايات المتحدة بما قد يسفر عنه ذلك من تهديد للأوضاع الطبقية والمراكز الاجتماعية لأثرياء اليهود المندمجين. وتأكيداً لذلك، عندما اقترح بيشوتو فَتْح باب الهجرة أمام يهود رومانيا إلى الولايات المتحدة قوبل بهجوم شديد من المجموعات اليهودية الغربية التي كانت تدعمه ثم أعلنت رفضها التام والقاطع لهذه السياسة. كما أن يهود رومانيا أنفسهم عارضوا مثل هذا القرار الصهيوني لأنه يضع حقوقهم السياسية في وطنهم موضع التساؤل. وبطبيعة الحال، كانت القوة الوحيدة التي أيَّدت جهود بيشوتو هي الحكومة الرومانية المعادية لليهود.
إدموند دي روتشيلد (1845-1934 (
Edmond de Rothschild
أحد زعماء الفرع الفرنسي لعائلة روتشيلد المالية اليهودية، وهو أحد الأبناء الخمسة لجيمس ماير دي روتشيلد (1792 ـ 1868) مؤسس فرع العائلة في فرنسا. ترجع أهميته لمساهمته الكبيرة في المشاريع الاستيطانية اليهودية في فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
بدأ اهتمام إدموند جيمس روتشيلد بقضية يهود اليديشية وبعملية توطين اليهود في فلسطين في الثمانينيات من القرن التاسع عشر، وهي الفترة التي شهدت هجرة أعداد كبيرة من يهود شرق أوربا إلى غربها وإلى الولايات المتحدة وغيرها من الدول الاستيطانية، عقب تعثُّر عملية التحديث في شرق أوربا ثم توقُّفها. وقد تحمَّس روتشيلد وغيره من أثرياء اليهود المندمجين في أوربا للمشروع الصهيوني نظراً لتخوفهم مما قد يخلقه تدفُّق هذه الأعداد الكبيرة من يهود شرق أوربا ذوي الثقافة اليديشية الشرق أوربية المتميِّزة (والمتخلفة في نظرهم) والتقاليد الدينية المحافظة ذات الطابع اليهودي الواضح على غرب ووسط أوربا. فوصول مثل هذه الجماعات من يهود اليديشية كان يمثل تهديداً لمكانتهم الاجتماعية ومواقعهم الطبقية، وبالتالي فقد تبنوا ما نسميه «الصهيونية التوطينية» ، أي محاولة يهود العالم الغربي المندمجين توطين يهود آخرين (عادةً من شرق أوربا) في فلسطين. وقد عبَّر روتشيلد نفسه عن هذه المفارقة في ملاحظة طريفة ذكية، إذ سُئل مرة عن الوظيفة التي يود أن يشغلها عند تأسيس الدولة الصهيونية فقال:"سفيرها في باريس بالطبع".
ولم يكن روتشيلد مؤيداً أول الأمر لصهيونية هرتزل السياسية، وقد اتسمت أول مقابلة بينهما في باريس عام 1896 بالفتور الشديد، بل كان يرى أن هرتزل ليس إلا شنورر، أي متسول مثل آلاف المتسولين من شرق أوربا الذين كانوا يتدفقون على وسطها وغربها. كما أن روتشيلد كان يذهب إلى أن المشروع الصهيوني برمته مشروع غير عملي، وأن فلسطين لن تستطيع استيعاب هجرة جماعية ضخمة. وكان يرى أنه بالرغم من حاجة السلطان العثماني إلى النقود إلا أنه لن يمنح فلسطين للصهاينة لتأسيس دولة فيها، وأنه سيكتفي بإعطاء بعض الوعود الغامضة التي لا قيمة لها. كما كان يخشى من أن تثير إقامة دولة يهودية مشاعر معادية لليهود وتؤدي إلى المطالبة بطرد اليهود من البلاد التي يعيشون فيها. لكل هذا، كان روتشيلد يفضل أن تتم عملية الاستيطان في فلسطين بشكل هادئ وتدريجي. إلا أنه مع توسُّع الاستيطان اليهودي في فلسطين، والذي تم تحت رعايته، ونجاح المشاريع المختلفة التي أسسها هناك، توطدت علاقته بالمنظمة الصهيونية، وخصوصاً بعد الحرب العالمية الأولى، حيث استخدم نفوذه للحصول على موافقة فرنسا على وعد بلفور وعلى إدخال فلسطين تحت الانتداب البريطاني.
كما أن عملية توطين اليهود في فلسطين كان لها بعدها السياسي، فروتشيلد كان مرتبطاً بالمصالح الرأسمالية الإمبريالية الفرنسية التي كانت تريد توسيع رقعة نفوذها في الشرق وكانت تفكر بحماس شديد في التركة التي سيتركها رجل أوربا المريض (الدولة العثمانية) . والمشروع الصهيوني هو في نهاية الأمر جزء من المخطط الإمبريالي لاقتسام الإمبراطورية العثمانية.
وقد بدأ روتشيلد اهتمامه بأعمال الاستيطان اليهودي في فلسطين بعد أن توجهت إليه حركة أحباء صهيون التي كانت تتولى أعمال الاستيطان في فلسطين في تلك الفترة، كما توجَّه إليه زعماء مستوطنة ريشون لتسيون التي كانت تعاني أزمة مالية حادة مطالبين إياه بتقديم دعمه المالي لنشاطهم في فلسطين. وبالفعل، ما كان بوسع المستوطنات الأولى التي أقيمت في فلسطين الاستمرار لولا معونات روتشيلد. وقد وصل إنفاقه على المستوطنين خلال الفترة بين 1883 و 1899 نحو 1.600.000 جنيه إسترليني في حين كان إسهام حركة أحباء صهيون 87.000 جنيه إسترليني فقط. وقد اشترى روتشيلد أرضاً في فلسطين أواخر عام 1883 لإقامة مستوطنة زراعية نموذجية لحسابه الخاص أطلق عليها اسم والدته. كما أسس عدة صناعات للمستوطنين الصهاينة مثل صناعة الزجاج وزيت الزيتون، وعدداً من المطاحن في حيفا، وملاحات في عتليت، كما ساهم في تأسيس هيئة كهرباء فلسطين عام 1921. إلا أن أهم الصناعات التي أقامها وأوسعها نطاقاً كانت صناعة النبيذ التي كان يسعى روتشيلد إلى ربطها بصناعة النبيذ المملوكة لعائلة روتشيلد في فرنسا.
وقد وصل حجم رعاية روتشيلد ودعمه للمستوطنات إلى الحد الذي أكسبه لقب «أبو اليشوف» أي أبو المُستوطَن الصهيوني. وحينما اختلف المستوطنون الصهاينة، حذَّرهم ليو بنسكر، أحد زعماء ومفكري حركة أحباء صهيون، قائلاً "إن مفاتيح المُستوطَن الصهيوني توجد في باريس". وكان روتشيلد يحكم المستوطنات من خلال جهاز بيروقراطي يشغله موظفون فرنسيون من اليهود وغير اليهود يراقب عمليات إنفاق أموال روتشيلد واستثمارها ويقدم الخبرات للمستوطنين في المجال الزراعي. وقد كانت هذه الرعاية البيروقراطية للمستوطنات مصدر مشاكل كثيرة ومثاراً للانتقادات الحادة نظراً لما كانت تثيره من خلافات بين المستوطنين من ناحية والموظفين الفرنسيين من ناحية أخرى. وقد دفع ذلك زعماء أحباء صهيون وزعماء المستوطنات إلى مطالبة روتشيلد بإنهاء هذا النظام عام 1901. وكان روتشيلد قد حوَّل إدارة مشاريعه في فلسطين عام 1899 إلى جمعية الاستيطان اليهودي وقدَّم لها منحة قدرها 4000.000 فرنك من أجل أن تموِّل نفسها ذاتياً. وفي عام 1924، أسس جمعية الاستيطان اليهودي في فلسطين والتي ترأسها ابنه جيمس أرماند (1878 ـ 1957) . وقد أسَّس روتشيلد من خلال هذه الهيئة أكثر من 30 مستوطنة في جميع أنحاء فلسطين، ووصل حجم إنفاقه على هذه المشاريع بعد عام 1900 نحو 7.000.000فرنك ذهبي.
وإلى جانب المشاريع الاقتصادية، امتد نشاط روتشيلد إلى مجال التعليم حيث قدَّم دعماً مالياً عام 1923 للمدارس الصهيونية في المُستوطَن الصهيوني والتي كانت تواجه أزمة مالية، كما أمد حاييم وايزمان بالمعونة اللازمة لإنشاء الجامعة العبرية في القدس. وفي عام 1929، عُيِّن روتشيلد رئيساً فخرياً للوكالة اليهودية التي كانت قد أُنشئت قبل ذلك بسنوات قليلة. ولا شك في أن دعم روتشيلد وغيره من الأثرياء اليهود للحركة الصهيونية، بصرف النظر عن النوايا أو المصالح الذاتية، كانت مسألة أساسية، لولاها ما قامت للحركة قائمة ولما استطاعت أن تضرب بجذورها في أرض فلسطين.
ويُعتبر روتشيلد نمطاً متكرراً له دلالة عميقة:
1 ـ فهو من يهود العالم الغربي الذين حققوا حراكاً اجتماعياً ووصلوا إلى قمة المجتمع، ثم جاءت أفواج يهود اليديشية من شرق أوربا فهددوا مواقعهم الطبقية، ومن ثم تحوَّل يهود العالم الغربي إلى صهاينة توطينيين.
2 ـ تأييد روتشيلد للمشروع الصهيوني لم يكن تعبيراً عن هويته اليهودية أو جوهره اليهودي وإنما هو تعبير عن انتمائه الكامل للحضارة الغربية وللتشكيل الاستعماري الغربي. كما أن صهيونيته هي تعبير عن انتمائه الغربي وعن اندماجه في الحضارة الغربية، فالمشروع الصهيوني لا يمثل أيَّ تحدٍّ للمشروع الاستعماري الغربي، فالأول هو الجزء الأصغر أما الثاني فهو الكل الأكبر. ويُلاحَظ أن روتشيلد كان يعارض المشروع الصهيوني في بادئ الأمر ثم أيده بعد ذلك. والواقع أنه، في معارضته ثم في تأييده، ينطلق من انتمائه للتشكيل الحضاري الغربي ومن محاولة خدمة المصالح الغربية.
3 ـ قام روتشيلد بدعم المشروع الصهيوني، ولكنه دعم لم يكن يهدف إلى تأكيد استقلالية هذا المشروع إذ ظلت المفاتيح في باريس ولندن، بل يُلاحَظ تزايد اعتماد المشروع على الغرب ثم انتقال مفاتيحه إلى واشنطن.
صهيونية الشتات
Diaspora Zionism
«صهيونية الشتات» أو «صهيونية الدياسبورا» هي الصهيونية التوطينية في مرحلة ما بعد هرتزل وبلفور.
الصهيونية التوطينية بعد بلفور
Settlement Zionism after Balfour
«الصهيونية التوطينية» مصطلح نستخدمه للإشارة لإيمان بعض الصهاينة أن الجانب الاستيطاني في الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة ينطبق على يهودي أو صهيوني آخر غيره وهي تشير إلى كلٍّ من صهيونية أثرياء الغرب المندمجين (ما قبل هرتزل) ودعاة الصهيونية الدبلوماسية الذين لا ينوون الاستيطان في فلسطين. كما تشير إلى ما يسمَّى «صهيونية الشتات» أو «صهيونية الدياسبورا» ، في مرحلة ما بعد هرتزل وبلفور. وحينما نستخدم المصطلح دون تخصيص، فإننا عادةً ما نشير إلى «الصهيونية التوطينية في مرحلة ما بعد بلفور» .
ونحن نضع «الصهيونية التوطينية» مقابل «الصهيونية الاستيطانية» . ولم تكن هناك فلسفة واضحة وراء صهيونية أثرياء الغرب المندمجين، فقد تبنوا الحل الصهيوني لأسباب نفعية عملية واضحة (تحويل سيل الهجرة عن بلادهم لأية بقعة أخرى في العالم) وكان انتماؤهم لأوطانهم أمراً واضحاً تماماً، ولذا فإنهم لم يكونوا في حاجة إلى أية اعتذاريات أو أنساق فلسفية أو فكرية لتبرير التناقض الكامن في موقفهم كصهاينة توطينيين يعيشون في أوطانهم ويسعدون بحياتهم فيها. وينطبق الموقف نفسه على دعاة الصهيونية الدبلوماسية.
ولكن الوضع مختلف تماماً بالنسبة إلى الصهاينة التوطينيين بعد هرتزل وبلفور، وازداد الأمر حدة بعد إعلان الدولة الصهيونية إذ كيف يتأتى لأحد أن يُسمِّي نفسه صهيونياً (متشدداً في بعض الأحيان) ثم يضرب خيامه في باريس ولندن ونيويورك. ولذا، فقد حاول بعض مفكري الصهيونية التوطينية تطوير رؤية متكاملة لوضعهم كصهاينة يرفضون الهجرة، فحاولوا المزاوجة بين المُثُل الصهيونية التي ترى اليهود شعباً عضوياً منبوذاً معرضاً لكراهية الأغيار الأزلية من جهة، وبين مُثُل حركة الاستنارة التي ترى أن كل الناس متشابهون ومتساوون من جهة أخرى. وهذه المحاولة هي محاولة لاكتشاف رقعة واسعة مشتركة بين المثل الأعلى الصهيوني الذي يؤمن به التوطينيون والمُثل العليا الليبرالية التي تسيطر على المجتمعات التي يعيشون فيها. ولذا، نجد أن المحاولة تتلخص في رفض الرؤية الحلولية الكمونية العضوية أو تقليص مجالها لتحل محلها أو تكملها رؤية نسبية تعددية ترى أن كل الأمور متساوية.
ينطلق مفكرو الصهيونية التوطينية من أن الصهيونية لا تعادي حركة التنوير اليهودية وإنما هي امتداد لها، فالصهيونية تهدف إلى بعث الحياة اليهودية على أسس علمانية، أي على الأسس نفسها التي تُبنَى عليها المجتمعات الغربية. إن الصهيونية تؤيد الانعتاق الذي نادت به حركة التنوير الأوربية وتُطبِّقه على اليهود، والقومية اليهودية إن هي إلا قومية واحدة بين عديد من القوميات التي لها برنامج معيَّن يهدف إلى البعث القومي، واليهود إن هم إلا شعب تاريخي مثل بقية الشعوب، ليس أسوأ وليس أفضل منها.
ويذهب هوارس ماير كالن، أحد أهم مفكري الصهيونية التوطينية، إلى أن مكان اليهودية ووظيفتها في الحياة اليهودية يشبهان مكان ووظيفة أي دين آخر في أية حياة قومية أخرى. ويطالب كالن بضرورة تحرير اليهودية من الحلولية الوثنية وضرورة اكتشاف الدوافع الأخلاقية والروحية الدائمة والكامنة وراء الطقوس اليهودية المختلفة، أي أنه يحاول اكتشاف الإنساني والعالمي وراء الطقوس الدينية الحلولية. وينظر كالن إلى التراث اليهودي نظرة تاريخية، كما يرى أن جوهر النمو هو في استمرار التغير، وذلك على عكس الصهاينة الذين يؤكدون الاستمرار أو حتى التكرار. ولذا، يجب أن يظل اليهود واعين بالتغيرات التي حدثت في معرفة العالم الطبيعي، وفي فكرة الإله، وفي القيم الأخلاقية التي تميِّز عالم الإنسان العصري عن عالم الإنسان القديم. والواقع أن تأكيد كالن العنصر التاريخي يتبدَّى في إصراره على أن البعث اليهودي يتطلب بحثاً في الخلفية التاريخية، وفي جميع جوانب العالم الفكري الذي وُجدت إسرائيل القديمة ضمنه، وفي ضرورة إعادة التركيب الاجتماعي للشعب اليهودي حتى يتسنى لليهود أن يحتلوا مكاناً (وليس مكانة خاصة) داخل إطار المجتمع العصري، أي أنه يُعلمن الشعب اليهودي ليصبح شعباً مثل كل الشعوب الأخرى. ويحاول الحاخام سيلفر أن يُعلمن أو يقلل من حرارة فكرة الماشيَّح والعودة في نهاية التاريخ التي تستند إليها الصهيونية الاستيطانية، فيصف اليهود بأنهم شعب يواجه المستقبل دون مركبات وهمية مشيحانية، ولكن ليس بدون أمل أبداً، أي أن توقعاتهم ستكون توقعات إنسانية محدَّدة. ويستطرد الحاخام سيلفر قائلاً: "إن اليهود سوف يستمرون في مقاومة قوى الظلام
…
ولكننا سنفكر في ذلك بأمل يشبه فكرة الماشيَّح بين شعبنا الذي هو مزيج من الأمل والشك. سنتصرف كشعب نضج نهائياً ولا يحاول أن يهرب إلى الوهم أو الغرور الذاتي".
وموقف الصهاينة التوطينيين من معاداة اليهودية يتسم بالعملية، وتحليلهم لهذه الظاهرة يبتعد عن المغالاة الصهيونية التي تضفي صفة الإطلاق عليها. فينقد الحاخام كابلان المفكرين التربويين اليهود الذين يتصورون أن معاداة اليهود ليست مجرد جنون عابر وإنما مرض مزمن. أما الحاخام هليل سيلفر فيميِّز بين نوعين من معاداة اليهود (وهذه ظاهرة جديدة أيضاً لأن المطلق لا يتحمل التصنيف) ، فهناك المعاداة الاستثنائية لليهود التي مارسها النازيون كما أن هناك معاداة اليهود العادية التي تُسمَّى «تَحامُل» (وهذه هرطقة من وجهة نظر صهيونية تقليدية) . ويرى الحاخام سيلفر، أن مثل هذا التحامل سيبقى عاملاً ثابتاً في الحياة اليهودية في أمريكا. ويمكن أن نضيف أن الحاخام سيلفر ساوى بين الضغوط التي يتعرض لها اليهود كأقلية في أمريكا والضغوط التي تتعرض لها أية أقلية عرْقية أو دينية أخرى في العالم، فيطالب اليهود بأن يعتادوا مواجهة مشاكلهم كأقلية بشكل واقعي، ومعنى هذا أن التقسيم الثنائي الصلب للعالم كيهود وأغيار قد خفتت حدته.
ويرى مفكرو الصهيونية التوطينية أن حركة الاستنارة في الولايات المتحدة حققت نجاحاً كاملاً، وحقق اليهود اندماجاً واضحاً، وليس لديهم ما يدفعهم للعودة إلى أرض الميعاد. فظروفهم طيبة جداً، كما أنهم ليسوا ضحية للاضطهاد العنصري، وكذلك فإن أمريكا ليس لها تاريخ مسيحي طويل يلعب فيه اليهود دور الشرير وقاتل الرب (بل إن التجار اليهود أسهموا في حرب الاستقلال الأمريكية نفسها) . ويبحث الحاخام سيلفر تواريخ الجماعات اليهودية، ليجد بعض السوابق التاريخية التي يمكنه عن طريقها أن يُعدِّل ويهذِّب الأسطورة الصهيونية المطلقة وقراءتها المتحيزة للتاريخ. وهو يجد هذه الحقائق والوقائع بالفعل، فيبين أن اليهود منذ قديم الأزل عاشوا داخل وخارج فلسطين. ففي القرن الأول قبل الميلاد، وذلك قبل تحطيم الهيكل الثاني على يد الرومان، كانت أغلبية اليهود تعيش خارج فلسطين: خمسة ملايين ونصف يعيشون خارجها بينما كان تعداد يهود الدولة يبلغ مليونين ونصف فقط. ومع هذا، ظل اليهود الذين يعيشون خارج فلسطين يهوداً.
والوضع نفسه يسري على يهود العالم الذين سيتخذون الموقف نفسه من دولة إسرائيل، فيهود إسرائيل سيظلون إسرائيليين، أما يهود الولايات المتحدة فسيظلون أمريكيين. وعلى كلٍّ، لا تستطيع إسرائيل أن تضم كل يهود العالم. بل إن الحاخام سيلفر يحاول أن يضفي طابعاً صوفياً على ظاهرة بقاء اليهود في الشتات (أنحاء العالم) بعد ظهور إسرائيل، وذلك بتأكيده أن المنفى ليس مصدر بلاء خالص بل هو حقيقة ينبغي الترحيب بها.
ويهاجم كابلان الصهاينة الذين يحاولون فَرْض نظرية تربوية تهدف إلى تنمية الحنين لدى الطفل اليهودي للهجرة وإلى غَرْس الإحساس في وجدانه بأنه لا يمكنه أن يحيا حياة سوية في الدياسبورا ولا يمكنه الاحتفاظ بهوية مستقلة. والواقع أن هذه المفاهيم لها نتائج هدامة على سعادة الطفل وعلى شخصيته (كما يقول كابلان) ، فهي تطلب منه أن يحيا حياة غير عادية دون أن تفسر له الأسباب. ويشير كابلان إلى أن الافتراض الصهيوني بأن اليهودي من المستحيل أن يشعر وكأنه في وطنه ضمن بيئة غير يهودية هو افتراض مبني على اليأس أو على الاستسلام والقدرية. ولذا، فإن على اليهودي التوطيني أن يشعر (حينما يذهب لزيارة أرض إسرائيل لخدمة شعبها) تماماً مثل أي أمريكي يقوم بعمل تبشيري أو ثقافي خدمة لمختلف الشعوب في الشرق الأقصى.
تدور الصهيونية التوطينية حتى الآن في إطار فكر حركة الاستنارة الليبرالي التعاقدي (وفي إطار صورة مجازية ذرية آلية) . ولكن الصورة المجازية العضوية تبدأ في الظهور، فالانعتاق ليس انعتاق أفراد وحسب وإنما ينبغي أن يتم بشكل جماعي قومي. فالانعتاق هو منح الحرية للفرد والجماعة في آن واحد، حتى يتسنَّى للفرد أن يعبِّر عن نفسه من خلال حياته المشتركة مع مجموعته القومية. والصهيونية ليست ضد الاندماج وإنما هي ضد الاندماج الذي يؤدي إلى فقدان الذات والانصهار الكلي للأقليات. ولذا، فإن الرؤية النهائية هي رؤية مبنية على التنوع تؤيد انسجام وتنظيم الجماعات العضوية المختلفة بشكل تعاوني لإيجاد حياة مشتركة، ولكنها لا تؤيد دَمْج الفوارق لتزول وتصبح ذاتاً واحدة. والتأرجح هنا، بين الرؤية التعاقدية الآلية والرؤية العضوية، هو محاولة للتوصل إلى عقد اجتماعي بين أقليات أو قوميات عضوية تود كل واحدة منها الاحتفاظ بإثنيتها مع انتمائها إلى المجتمع الأمريكي، فكأن الإثنية جزء من كل، وهي الرؤية التي يستند إليها العقد الاجتماعي الأمريكي.
وتستمد كل أقلية في المجتمع الأمريكي إثنيتها من الوطن الأصلي، كما أن العقد الاجتماعي الأمريكي يسمح بالحفاظ بهذه الإثنية وتنميتها ما دامت لا تتعارض مع مصلحة الدولة (ولعل هذا هو ما يُفسِّر إصرار الزعماء الصهاينة على أن تكون المصالح الأمريكية والإسرائيلية متماثلة حتى يتسنى لهم استغلال الأغلبية العظمى من يهود العالم الموجودين في الولايات المتحدة) . وقد صرح برانديز، عام 1912، بأن تعددية الولاء مرفوضة إذا كانت الولاءات متعارضة، ولكنه أكد أن هذا الوضع لا ينطبق على الصهيونية. ثم ذهب إلى حد التصريح بأن الولاء لأمريكا يتطلب أن يعتنق كل يهودي أمريكي العقيدة الصهيونية، مع أنه يعلم تماماً أنه لا هو، ولا حتى نسله، يمكن أن يعيشوا في فلسطين، وهذا أمر مفهوم طبعاً في إطار تماثل المصالح بين الدولة الصهيونية والدولة الأمريكية، وهو في هذا لا يختلف عن أي مواطن أمريكي آخر.
وقد نجح الصهاينة التوطينيون في أن يعيدوا صياغة رؤيتهم لإسرائيل وعلاقتهم بها، فقد أصبحوا أقلية يهودية عضوية تنتمي إلى أمريكا وتنظر إلى إسرائيل باعتبارها الوطن الأصلي وباعتبارها مركزاً روحياً وركيزة للهوية. ومعنى هذا أنه تم تبنِّي الصيغة الصهيونية الإثنية (العلمانية)، ومن ثم فإن الصهاينة التوطينيين لهم مركزان: أحدهما سياسي في الولايات المتحدة، والآخر إثني في إسرائيل. ولهذا، فإنهم يطالبون بفصل الدين عن الدولة في الولايات المتحدة ولكن بعضهم يحتج على انتشار العلمنة في الدولة اليهودية. ولكن مشكلة مثل هذا الصيغة أن الوطن الأصلي هو الوطن الذي يهاجر الإنسان منه لا إليه، ولذا فالتوطينيون قد أعطوا أساساً فلسفياً تاريخياً لتوطينيتهم ولتملصهم من الصهيونية.
وقد أدرك الصهاينة الاستيطانيون منذ البداية ضرورة تَقبُّل هذا النوع من الصهيونية حتى يستفيدوا من دعم يهود الغرب الأثرياء، وأصبح هذا القبول جزءاً من العقد الصامت بين الحضارة الغربية والمنظمة الصهيونية بخصوص يهود العالم. ولذا، نجد أن الفيدرالية الصهيونية في نيويورك تعلن (عام 1899) عن ولائها للولايات المتحدة وأن هدفها هو دَعْم الصهيونية، من قبيل التعاطف وحسب. وقد ساعدت الصياغة الهرتزلية المراوغة على إنجاز هذا.
وبعد وعد بلفور، أصبح مجال نشاط الصهيونية التوطينية العالم كله (خارج فلسطين) ، مهمتها الأساسية دعم النشاط الاستيطاني سياسياً ومالياً، وضمان استمرار الدعم الإمبريالي عن طريق الترغيب والترهيب. وتقوم الصهيونية التوطينية بتجنيد يهود الغرب لهذا الغرض، كما تقوم بتحقيق المفهوم الصهيوني الخاص بغزو الجماعات والقضاء على أية معارضة قد تنشأ في صفوفها. وحيث إن الغرب لم يعد يواجه مشكلة فائض يهودي ينبغي التخلص منه (وخصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية) ، وحيث إن المُستوطَن الصهيوني يواجه أزمة طاقة بشرية، فقد أصبحت إحدى مهام الصهيونية التوطينية البحث عن مهاجرين.
وقد تحاول الصهيونية التوطينية قدر استطاعتها ألا تتدخل في الأمور السياسية والاقتصادية والدينية الخاصة بالمُستوطَن الصهيوني، وإن كانت تتدخل في الأمور التي تخصها مثل قضية الهوية اليهودية. كما يُلاحَظ أن الولايات المتحدة (الدولة الراعية والتي تضم أكبر جماعة يهودية في العالم وأكثرها نفوذاً) تستخدم الصهاينة التوطينيين في الضغط والتأثير على الدولة الصهيونية. وبوسع هذه الصهيونية التوطينية أن تستوعب أية ديباجات سياسية (اشتراكية ـ ليبرالية ـ فاشية) . وقد كانت الصهيونية العمومية الاتجاه الذي يقوم بتنظيم الصهاينة التوطينيين. ولا يزال هناك اتحاد الصهاينة العموميين، ولكن منظمات صهيونية أخرى تشاركه هذه المهمة في الوقت الحالي، من أهمها منظمة الهاداساه في الولايات المتحدة. كما أن فروع المنظمة الصهيونية في أنحاء العالم تسهم بشكل أساسي في نشاط الصهيونية الخارجية.
وقد جعلت الصهيونية الإثنية الدينية والعلمانية كل يهود العالم داخل وخارج إسرائيل مجالاً لها، ولذا نجد أن الصهاينة التوطينيين ينقسمون إلى دينيين وعلمانيين، شأنهم في هذا شأن المستوطنين الصهاينة (وإن كانت الأغلبية الساحقة للصهاينة التوطينيين علمانية)
وبطبيعة الحال، ورغم العقد الصامت، هناك لحظات من الصراع بسبب اختلاف أهداف كلٍّ من الصهيونية التوطينية والصهيونية الاستيطانية. ولعل أشرس هذه اللحظات هي التي شهدت الصراع بشأن معاهدة الهعفراه (النقل) ، حيث وجد الاستيطانيون أن من صالحهم توقيع معاهدة مع ألمانيا النازية لضمان تدفُّق رأس المال والمهاجرين، وهو ما كان يعني ضَرْب المقاطعة اليهودية للبضائع النازية، بينما رأى التوطينيون ضرورة الاستمرار في المقاطعة. وبعد إنشاء الدولة، ظن الصهاينة التوطينيون أنهم سيستمرون في إدارة دفة المنظمة الصهيونية العالمية وفي الإشراف على الدولة كما كانوا يفعلون حتى عام 1948.
ولكن الصهاينة الاستيطانيين كانوا قد فرغوا من عملية الاستيلاء على الأرض وطَرْد سكانها، ولذا فقد دخلوا صراعاً مع الصهاينة التوطينيين واستولوا على المنظمة تماماً. وقد استمرت عملية التهميش حتى أصبحوا يقنعون بدور ثانوي لأقصى حد.
والصهيونية الاستيطانية لا تهدف إلى إنقاذ اليهود وإنما تهدف إلى توظيفهم في خدمة الصهيونية، ولذا فكثيراً ما يحاول الصهاينة الاستيطانيون إفشال محاولات يهود العالم إنقاذ أنفسهم بالهجرة إلى أي مكان، وإغلاق الأبواب دونهم حتى يضطروا للهجرة إلى فلسطين. ولذا، يُلاحَظ أن الصهيونية التوطينية ظهرت مرة أخرى أثناء الاضطهاد النازي كقوة مستقلة إذ أن الصهيونية الاستيطانية ركزت على تهجير العناصر البشرية القادرة على المساهمة في بناء المُستوطَن الصهيوني إلى فلسطين وأهملت الآخرين.
كما أن موقف الدولة الصهيونية من المهاجرين السوفييت وإغلاقها أبواب الولايات المتحدة دونهم هو تعبير عن التناقض نفسه. وتحاول الدولة الصهيونية أحياناً إحراج التوطينيين والتقليل من شأنهم، ولذا قُدِّم اقتراح في المؤتمر الصهيوني الثامن والعشرين في القدس (1972) بأن الزعيم الصهيوني الذي لا يهاجر إلى إسرائيل خلال أربع سنوات من انتخابه لا يُنتخَب مرة أخرى. وقد أثار هذا الاقتراح ما يشبه الثورة، وهددت منظمة الهاداساه بالانسحاب إذا تمت الموافقة علىه.
ويمكن إيجاز السمات الأساسية للصهيونية التوطينية فيما يلي:
1 ـ يتبنَّى اليهودي الشعارات الصهيونية كافة ويدافع عنها (قولاً) بحماس شديد.
2 ـ على مستوى الممارسة، لا يُتوقَّع من هذا اليهودي أن يهاجر بنفسه ويستوطن في فلسطين. ويُطلَب منه أمران اثنان: