المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب السابع: الثنائية الصلبة والسيولة الشاملة وما بعد الحداثة - موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية - جـ ٢

[عبد الوهاب المسيري]

الفصل: ‌الباب السابع: الثنائية الصلبة والسيولة الشاملة وما بعد الحداثة

‌الباب السابع: الثنائية الصلبة والسيولة الشاملة وما بعد الحداثة

الواحدية الذاتية والموضوعية والثنائية الصلبة: نمط حلولى مادى عام

العلمانية الشاملة (وحدة الوجود المادية) هي منظومة حلولية كمونية تتبع نفس نمط النماذج الحلولية الكمونية الواحدية المادية. وتصاعد معدلات العلمنة والتحديث هي في جوهرها تصاعد معدلات الحلولية الكمونية، ومن ثم نجد أن متتالية الحلولية الأساسية (واحدية ذاتية ـ واحدية موضوعية ـ ثنائية صلبة تمحى لتهيمن الواحدية الموضوعية المادية ـ الانتقال من الصلابة للسيولة) تتبدى حلقاتها داخل الفكر والمجتمع العلماني. وتبدأ المتتالية بإعلان أن العالم (الإنسان والطبيعة) يحوي داخله ما يكفي لتفسيره وأن هناك كلاً ثابتاً متجاوزاً ذا غرض وغاية، ولكنه رغم أن هذا الكل يتسم بالتجاوز إلا أنه يوجد داخل عالمنا المادي (الحياة الدنيا) في الزمان والمكان. هذا يعني أنه يوجد نقطتا انطلاق للمنظومة التحديثية: الذات والموضوع، أو الإنسان والطبيعة.

1 ـ الواحدية الذاتية: وتنقسم إلى عدة مراحل:

أ) الواحدية الإنسانية (الهيومانية) :

ص: 117

نقطة الانطلاق الأولى لمشروع التحديث والعلمنة الغربي هي الإيمان بضرورة أن يواجه الإنسان الكون دون وسائط، حراً تماماً من قيود الحضارة والتاريخ والأخلاق، يرفض أية غيبيات أو ثوابت أو مطلقات متجاوزة لعالمه المادي ولحدود عقله. فالإله إما غير موجود، وإن وُجد فهو لا يتدخل في شئون هذه الدنيا، ويتركها للإنسان يسيرها حسب ما يراه. وهو إنسان متمركز تماماً حول ذاته التي لا حدود لها ولا قيود عليها، يرفض كل القيم القَبْلية والتعميمات والتجريد، يعيش حسب قوانينه الخاصة الفريدة النابعة من ذاته. فهو مرجعية ذاته ومقياس كل شيء لا يمكن محاسبته بأية معايير خاصة. والعقل بوسعه من خلال التعامل مع الواقع الطبيعي والتاريخي، ودون أية حاجة إلى وحي إلهي، أن يصل إلى تفسير كلي شامل لهذا العالم وأن يولِّد المنظومات المعرفية والأخلاقية والجمالية اللازمة لأن يسيِّر حياته. وهذا يعود إلى وجود تماثل كامل بين قوانين العقل وقوانين الطبيعة. وعقل الإنسان الرشيد يولِّد لغة رشيدة، يمكنه من خلالها التواصل والحوار ومراكمة المعرفة، ويمكنه أن يدرس التاريخ (ثمرة احتكاك الإنسان بالطبيعة) فيزداد الإنسان وعياً وإدراكاً لما حوله ويزداد تقدُّمه.

ص: 118

كل هذا يعني وجود حقيقة كلية (قصة عظمى) وأن الإنسان هو الذي يدركها ويعيها، فهو إذن الكل الثابت المتجاوز. لكل هذا يعلن الإنسان أنه سيِّد الكون والمخلوقات بلا منازع، ومركز العالم بلا منافس، يتجاوز كل شيء ولا يتجاوزه شيء، لديه نزعة بروميثية فاوستية لأن يبتلع الكون بأسره ويهزمه ويُسخِّره، فهو إنسان إمبريالي كامل، الطبيعة بالنسبة له مجرد مادة استعمالية يهزمها ويُسخِّرها ويحوسلها. انطلاقاً من هذا الافتراض، يحاول هذا الإنسان أن يؤكد جوهره الإنساني (المستقل عن الطبيعة، السابق عليها) ، وأن يتجاوز الطبيعة/المادة، بل طبيعته المادية نفسها، بقوة إرادته، وأن يفرض ذاته الإنسانية عليها، باسم إنسانيتنا المشتركة، أي باسم الإنسانية جمعاء (تأليه الإنسان وإنكار الطبيعة والإله) . وقد وُلد من رحم هذه الرؤية المشروع التحديثي في مراحله البطولية الأولى، والفكر الإنساني الهيوماني وفكر حركة الاستنارة.

ب) الواحدية الإمبريالية والعرْقية:

يتحدث الإنسان الذي يؤكد جوهره الإنساني باسم كل البشر. ولكن في غياب أية مرجعية متجاوزة لذاته الفردية، ينغلق الإنسان على هذه الذات، فيصبح تدريجياً إنساناً فرداً لا يفكر إلا في مصلحته ولذته، ولا يشير إلى الذات الإنسانية وإنما إلى الذات الفردية. حينئذ تصبح الذات الفردية، لا "الإنسانية جمعاء"، هي موضع الحلول، فيؤله الإنسان الفرد نفسه في مواجهة الطبيعة وفي مواجهة الآخرين ويصبح إنساناً إمبريالياً. وحينما يستمد هذا الإنسان الإمبريالي معياريته من ذاته الإمبريالية التي تستبعد الآخرين يصبح إنساناً عنصرياً يحاول أن يستعبد الآخرين ويوظفهم، بل يوظف الطبيعة نفسها لحسابه. وهنا تظهر الثنائية الصلبة، ثنائية الأنا والآخر (تأليه الإنسان الغربي وإنكار الآخرين (.

2 ـ الواحدية الموضوعية المادية:

ص: 119

نقطة الانطلاق الثانية لمشروع التحديث والعلمنة الغربية هي الطبيعة/المادة، التي تصبح هي الأخرى مرجعية ذاتها، وموضع الحلول والكمون، ومركز الكون (اللوجوس) ، قوانينها تتجاوز كل شيء ولا يتجاوزها شيء، وهي قوانين لا هدف لها ولا غاية، ولا تمنح الإنسان أية أهمية خاصة، وهو ما يعني أسبقية الطبيعة/المادة على كل شيء، وضمن ذلك الإنسان، كما يعني أن الكل الثابت المتجاوز هو في واقع الأمر الطبيعة/المادة (تأليه الطبيعة وإنكار الإله والإنسان) . ومن رحم هذه الرؤية ظهرت الاستنارة المظلمة، التي ترى أن المشروع التحديثي (في إطار العلمانية الشاملة) هو في جوهره مشروع تفكيكي لا يؤدي إلى تأكيد مركزية الإنسان وإنما إلى رده إلى ما هو دونه (الطبيعة/المادة) ، وإلغائه تماماً كمقولة مستقلة مركزية في النظام الطبيعي. فإذا كان الإنسان الحديث إنساناً عقلانياً مادياً حقاً كما يزعم، فعليه أن يتبنَّى رؤية علمية مادية موضوعية تجاه ذاته الإنسانية. ولكن المعرفة العلمية المادية معرفة موضوعية تنبع من نموذج الطبيعة/المادة، ولذا فهي ترفض الغائيات الإنسانية والخلقية. والحقيقة العلمية المادية منفصلة تماماً عن القيمة، والعقل (المادي) الذي يقوم بعملية مراكمة المعلومات وتطبيقها أداة تفكيكية لا تحترم الخصوصيات والأسرار ولا تهتم إلا بالتشابه والتجانس والنفع. وهذه المعرفة العلمية المادية (رغم تَجاوُّزها للإنسان وعدم اكتراثها به) ستُطبَّق على الإنسان لترشيده وترشيد حياته ثم لتفكيك العالم وتفكيك الذات الإنسانية.

وتنشأ في إطار هذه المنظومة التحديثية العلمانية الشاملة، ذات نقطتي البدء، ثنائية صلبة وحالة استقطاب شديد بين نموذجين: النموذج المتمركز حول الذات الإنسانية (المتألهة المطلقة المغلقة) التي تصبح مرجعية ذاتها ومرجعية الكون، والنموذج المتمركز حول الطبيعة/المادة (المتألهة المطلقة المغلقة) التي تصبح بدورها مرجعية ذاتها ومرجعية الكون.

ص: 120

ولإلقاء مزيد من الضوء على عملية الصراع بين النموذجين في مرحلة الثنائية الصلبة (التمركز حول الذات والتمركز حول الموضوع) ، سنورد بعض معالم كل نموذج وتجلياته، وسنرمز للتمركز حول الذات بالحرف (أ) والتمركز حول الموضوع بالحرف (ب) :

1ـ أ) التمركز حول الذات ووهم انتصار الذات على الموضوع والواحدية الذاتية، الإنسانية الهيومانية والإمبريالية (تأله الإنسان وإنكار الكون) .

ب) ذوبان الذات في الطبيعة تدريجياً واختفاؤها وانتصار الموضوع وهيمنة الواحدية الموضوعية المادية (تأليه الكون وتكيف الإنسان مع الطبيعة وإذعانه لها، وإنكار الإنسان) .

2ـ أ) مركز الكون كامن في الإنسان، والإنسان مرجعية ذاته.

ب) مركز الكون كامن في الطبيعة، والطبيعة مرجعية كل شيء، وضمن ذلك الإنسان، ولذا يفقد الإنسان مركزيته.

3ـ أ) الإنسان مقياس كل شيء، والإرادة هي إرادة القوة.

ب) القوانين الواحدية المادية تسري على الإنسان سريانها على الطبيعة.

4ـ أ) الطبيعة مادة يُسخِّرها الإنسان لاستعماله (فهي مجرد وسيلة بالنسبة للإنسان) .

ب) الإنسان جزء من الطبيعة، ولذا فهو يُسخَّر في خدمة الموضوع، ويتحوَّل الإنسان (الغاية) إلى مجرد موضوع.

5ـ أ) الذاتية الكاملة والاهتمام فقط بالعالم الجواني وبخبايا ذات الإنسان وأبعاده المركبة والمظلمة.

ب) الموضوعية المصمتة والاهتمام فقط بالعالم البراني وبسطح الأشياء وبالسلوك.

6ـ أ) الخصوصية المفرطة ورفض كل التجريدات والتعميمات والإصرار على الشواهد المادية المحسوسة.

ب) العمومية المفرطة وتقبُّل المجردات والكليات اللاإنسانية والإذعان لها.

كما يأخذ الصراع بين النموذجين الأشكال التالية:

7ـ أ) الصدفة وعدم التحكم واختفاء المعيارية.

ب) الضبط الكامل للواقع والتحكم فيه والمعيارية الصارمة.

8ـ أ) الإبهام وعدم التحدد وعدم الفهم والشك الكامل.

ب) الوضوح الكامل والتحدد الموضوعي، والفهم الكامل لعالم الأشياء، واليقينية الكاملة.

ص: 121

9ـ أ) التعددية المفرطة وزيادة المعطيات الحسية.

ب) التنميط وظهور حضارة قطع الغيار.

ولكن رغم الصراع بين الطرفين يظل هناك مركز واحد، إما الإنسان أو الطبيعة/المادة، هو مصدر الوحدة والتماسك، هو الكل الثابت المتجاوز (الإنساني والطبيعي/المادي) الذي يتسم بجميع سمات الكل في النظم الميتافيزيقية.

الواحدية الذاتية والموضوعية والثنائية الصلبة فى الحضارة الغربية (عصر التحديث والحداثة)

نمط الواحدية الذاتية والموضوعية والثنائية الصلبة هو النمط السائد في الحضارة الغربية الحديثة منذ عصر النهضة حتى منتصف الخمسينيات تقريباً (حين تبدأ المرحلة السائلة الشاملة) . ويتبدى النمط في المفاهيم الفكرية السائدة والتطور التاريخي والواقع الاجتماعي والحضاري اليومي. ولنا أن نلاحظ أن الطبيعة/المادة تتحول إلى المطلق العلماني والتنويعات المختلفة عليه (الحتمية التاريخية ـ حركة التاريخ ـ إرادة الشعب ـ الفولك ـ إرادة القوة ـ عبء الرجل الأبيض ـ الدولة المطلقة ـ السوق/المصنع ـ قوانين العرض والطلب) . أما الإنسان فبدلاً من أن يصبح الإنسان الطبيعي/المادي فإنه يصبح الإنسان الاقتصادي أو الإنسان الجسماني أو الإنسان الاشتراكي أو الإنسان القومي. ورغم تغيُّر الأسماء فالمسميات واحدة والنمط واحد: فالإنسان (القومي أو الاشتراكي) يحاول أن يؤكد ذاته بشكل مطلق وينتهي به الأمر أن يُستوعَب في إحدى المطلقلات العلمانية بشكل كامل. وفي هذا المدخل سنحاول أن ندرس تبديات النمط على هذه المستويات الفكرية والتاريخية والاجتماعية وسنرمز للتمركز حول الذات الإنسانية بالحرف (أ) والتمركز حول الموضوع المادي بالحرف (ب (.

1 ـ النزعة الإنسانية والنزعة الطبيعية المعادية للإنسان:

ص: 122

أ) بدأ تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة بالفلسفة الإنسانية الهيومانية التي تتمركز حول الإنسان وتضعه بشكل كامل فوق الطبيعة، باعتبار أن له عقلاً قادراً على توليد معياريته وقيمه وغائيته من داخله يعيش في حالة حرية كاملة وإرادة واعية. فالإنسان، أو الإنسانية جمعاء، هي موضع الحلول ومركز الكون. ثم تحوَّلت هذه الهيومانية تدريجياً إلى فلسفة إنسانية غربية متكبرة متعجرفة تحوسل الطبيعة وتحلم بالتحكم الكامل في الكون. ثم أصبح الإنسان الغربي هو وحده هذا المركز (فالإنسانية جمعاء، مفهوم ميتافيزيقي، ماهيةً وجوهراً، متجاوز لعالم الطبيعة/المادة، والزمان والمكان) . ومن ثم، بدلاً من توظيف الطبيعة وتسخيرها للإنسانية جمعاء بدأ الإنسان الغربي في حوسلة بقية البشر والطبيعة باسم حقوقه المطلقة وباسم تفوقه الحضاري. فتحولت الهيومانية إلى إمبريالية كاملة لا تعترف إلا بالقوة والتفوق العرْقي باعتبارها المعايير الوحيدة. وهكذا تدهورت الهيومانية الغربية إلى إمبريالية وعرْقية وعداء صريح للآخر وللإنسان ككل.

ب) كانت الفلسفة الغربية منذ البداية تحوي نموذجاً متمركزاً حول الطبيعة/المادة والإنسان الطبيعي (ماكيافللي ـ هوبز ـ المادية الميكانيكية ـ العدمية ـ التجريبية) ولكنه كان هامشياً. وبالتدريج، تراجع النموذج المتمركز حول الإنسان وتزايد التمركز حول الموضوع وانتهى الأمر بظهور نزعة واحدية مادية معادية للإنسان تطالبه بأن ينفض عن نفسه وهم الكون المتمركز حول الإنسان والوهم الهيوماني القائل بحرية الإنسان وبمقدرته على توليد معياريته وغائياته من داخل ذاته، وتُبيِّن له أن الطريق الوحيد أمامه هو أن يُذعن للقوانين المادية الحتمية المنفصلة عن القيم والغائيات الإنسانية (وهو ما يعني النفي الكامل للحرية) وأن يستمد منها معياريته. ثم سادت النماذج الكمية التكنوقراطية.

2 ـ المفهوم الكالفني للإله:

ص: 123

أ) الإله يُعبِّر عن نفسه في شواهد مادية محسوسة تزيد يقين المؤمن بخلاصه واصطفائه، وهو إله يذوب في الأفراد ويتجسد من خلالهم (انتصار الذات (.

ب) الإله لا يُسبَر له غور، فهو يختار من يشاء ومتى يشاء دون سبب واضح، ولا يكترث بالأفراد، فهو إله متمركز حول ذاته غير الإنسانية (انتصار الموضوع على الذات (.

3 ـ الإنسان البروتستانتي:

أ) هو فرد مختار يغزو العالم باسم الإله (فهو تَجسُّد للإله) ، واثق من نفسه ومن مقدرته على الغزو (تمركز حول الذات (.

ب) ولكنه فرد يعيش في حالة عدم أمن وفي خوف كامل مما حوله، فهو غير متأكد من رضاء الإله عنه ومن الخلاص، وهو دائم البحث عن شواهد في العالم المادي تقوم دليلاً على هذا الرضا وهذا الاختيار. والثروة من أهم علامات الاختيار، ولذا فهو يلهث دائماً وراءها لا يكف عن مراكمتها (تمركز حول الموضوع (.

4 ـ ثنائية العقل الإمبريالي النيتشوي والعقل الأداتي البرجماتي (النفعية الداروينية (:

أ) يستطيع العقل المادي أن ينظر إلى نفسه باعتباره تجسيداً لقوانين الطبيعة/المادة، وللمعيارية المشتقة منها والتي تتجاوز القيم والغائيات الأخلاقية والإنسانية. ولذا يتخلى هذا العقل تماماً عن مفهوم الإنسانية العامة أو المشتركة أو الإنسانية جمعاء باعتباره مفهوماً غائياً أخلاقياً ميتافيزيقياً يمثل شكلاً من أشكال الثبات داخل حركة المادة وصيرورتها، وشكلاً من أشكال التجاوز لقوانين الطبيعة/المادة. ويعلن هذا العقل أنه فوق الجميع وأنه مرجعية ذاته، ويصبح من حق العقل الإمبريالي المطلق أن يفعل ما يشاء للدفاع عن مصالحه وتحقيقها، ومن ذلك توظيف الآخرين وحوسلتهم. هذا العقل الإمبريالي هو عقل السوبرمن من أعضاء النخبة، ممن هم فوق الإنسان. ولكن العقل الإمبريالي الذي يُوظِّف يفترض وجود المادة التي تُوظَّف، ومن هنا يظهر العقل الثاني.

ص: 124

ب) العقل المادي يمكنه أن ينظر إلى نفسه باعتبار أن وظيفته الأساسية هي التكيف مع المعيارية الطبيعية/المادية والإذعان لقوانين الطبيعة/المادة، وحينئذ يصبح العقل المادي عقلاً أداتياً، أي عقل السبمن من أعضاء الجماهير، ممن هم دون الإنسان الذين يؤدون ما يوكل لهم من أعمال ويُوظَّفون في خدمة السوبرمن دون تساؤل عن المضمون الأخلاقي والإنساني للأوامر التي أتتهم من عل. وهؤلاء السبمن لهم أسماء برجماتية مختلفة: الإنسان البرجماتي ـ الإنسان الوظيفي ـ الإنسان الاقتصادي ـ الإنسان ذو البُعد الواحد ـ الإنسان المُرشَّد أو المُدجَّن ـ الإنسان المُتشيِّئ، وهو إنسان يمكن توظيفه وحوسلته بسهولة ويسر، فهكذا يدرك ذاته وهكذا يرى نفسه.

5 ـ السوبرمان super-man) بالألمانية: أوبرمنش Ubermensch) (ما فوق الإنسان) والسبمان sub-man) بالألمانية: أونترمنش Untermensch) (ما دون الإنسان (:

أ) يُلاحَظ ظهور شخصيات بطولية خارقة ذات إرادة مستقلة مثل الزعامات الكاريزمية العلمانية التاريخية (المخلِّص العلماني: هتلر ـ روبسبيير ـ ستالين ـ فورد ـ روكفلر) . وتظهر شخصيات مماثلة في الأدب والسينما (فاوستوس ـ ماكبث ـ بروميثيوس ـ باتمان ـ سوبرمان ـ طرزان) . وقد ظهر في عصر النهضة دون كيشوت الذي يتمركز تماماً حول ذاته ولا يرى إلا طواحين الهواء غير الموجودة وعالم الفروسية والمثاليات الذي انقضى.

ص: 125

ب) يُلاحَظ ظهور شخصيات نمطية ليس لها ملامح مستقلة تتبع ما يصدر لها من أوامر ولا تتمتع بأية مقدرة على التجاوز، وأيخمان هو مثل تاريخي جيد لذلك. وكذلك الإنسان العادي في الأدب الواقعي، والشخصيات التي تحاصرها ظروفها الاجتماعية أو الوراثية، ومادونا إنسان طبيعي تماماً لا تعاني من أي تركيب. كما ظهرت شخصيات دون الإنسان (دراكيولا ـ فرانكنشتاين ـ كنج كونج

إلخ) . وكما ظهر دون كيشوت في عصر النهضة، ظهر معه سانخوبانزا الذي لا يرى إلا حماره، والطريق عند قدميه، ومصلحته المادية.

6 ـ حلم اليوتوبيا التكنولوجية (ونهاية التاريخ (:

أ) يحلم الإنسان بعالم منظم تماماً خاضع للقوانين التي سيكتشفها الإنسان ويتحكم فيها من خلال التكنولوجيا المتقدمة والتطور العلمي المذهل، فيصبح سيد الكون، ويُنهي الصراعات الطبقية والانحرافات الذاتية عن مسار التاريخ، وينتهي التاريخ كما نعرفه ويبدأ تأريخ جديد منظم عقلاني مفهوم تتحد فيه الذات بالموضوع والتاريخ بالطبيعة والفكرة المطلقة بالمادة (على حد قول هيجل (.

ب) يتحقق الحلم فيجد الإنسان نفسه يعيش في عالم تحكمه قواعد وإجراءات بيروقراطية صارمة. وحين تتحد الذات بالموضوع وتُمحَى كل الفوارق بينهما تصبح الذات موضوعاً وتدعم القوانين الموضوعية، أي أن القواعد والإجراءات البيروقراطية الصارمة، تتجاوز الإنسان وتتحكم فيها ولا يتحكم فيها وتسيطر عليه ولا يسيطر عليها، فاليوتوبيا التكنولوجية البيروقراطية آلة ضخمة تسيطر على الجميع ولا يسيِّرها أحد.

7 ـ الاشتراكية الإنسانية والاشتراكية العلمية:

أ) بدأ الفكر الاشتراكي بالحديث عن ضرورة الدفاع عن الإنسان الذي يتزايد اغترابه عن جوهره الإنساني في المجتمع الرأسمالي الذي يطحن الإنسان الفرد ويُحيِّده ويُشيِّئه ويُنمِّطه ويؤدي إلى اختفائه من خلال آليات السوق والعرض والطلب، ومن خلال وسائل الإعلام وهيمنة الدولة على الفرد.

ص: 126

ب) وفي الوقت نفسه تُوجَد داخل الفكر الاشتراكي منذ البداية اتجاهات علمية مادية (مرجعية كامنة) تتصارع مع المرجعية الإنسانية المتجاوزة. فبدأ تهميش النزعة الإنسانية تدريجياً وتعاظمت النزعة العلمية المادية وانتهى الفكر الاشتراكي بالحديث عن أسبقية الطبقة على الشعب وأسبقية الحزب على الجميع وضرورة التخطيط العلمي الشامل الصارم وإعادة صياغة الواقع على هدي قوانينه المادية الجدلية التي لا تكترث كثيراً بالإنسان الفرد. وتصل هذه النزعة العلمية إلى قمتها في ممارسات ستالين وفكر ألتوسير.

8 ـ حركة التمركز حول الأنثى:

أ) تبدأ الحركة بتمركز الأنثى الكامل حول ذاتها فترفض عالم الرجال تماماً وتطالب بتعديل التاريخ البشري واللغة الإنسانية، وتؤكد أن الأنثى هي الأصل وهكذا.

ب) ينحل هذا التمركز ويذوب وتظهر الدعوة إلى الجنس الواحدي unisex، ولذا بدلاً من المرأة المتمركزة حول نفسها تتمركز حول شيء مجرد لا وجود له.

9 ـ النسبية الأخلاقية والمعرفية:

أ) النسبية الأخلاقية والمعرفية تعني أن الإنسان يحكم على الأمور بالطريقة التي ترضيه هو وبما تمليه عليه مصالحه وتحقق أقصى حرية لنفسه ويدرك العالم من خلال مقولاته الإدراكية الخاصة (تمركز حول الذات) .

ب) ولكن هذا يعني أن الآخرين لهم نفس الحريات ويتحركون هم أيضاً خارج أية حدود، ويعني سقوط أية مرجعيات أخلاقية متجاوزة، وهو ما يعني سيادة إرادة القوة وانتشار حالة من الفوضى تنفي الحرية تماماً (التمركز حول الموضوع) . كما أن الإنسان الذي يعلم أنه يدرك العالم من خلال مقولاته الإدراكية الذاتية يدرك أنه ليس له فعالية خارج ذاته، ومن ثم يفقد الثقة في نفسه ويهتز ويفقد قدرته على اتخاذ القرار.

10 ـ القومية الإثنية العضوية:

أ) القومية العضوية هي قومية تمنح أصحابها حقوقاً مقدَّسة مطلقة لا يمكن أن يتساءل أحد بشأنها، وهي فريدة في خصائصها لا يمكن أن يضاهيها أحد (تمركز حول الذات) .

ص: 127

ب) أعضاء القومية العضوية يصبحون جزءاً عضوياً لا يتجزأ من الذات القومية التي تُعبِّر عنهم ولا يملكون من أمرهم شيئاً. وأعضاء القوميات الأخرى يصبحون بلا حقوق (تمركز حول الموضوع) .

ونموذج التمركز حول الذات وحول الموضوع لا يتبدى في الأفكار والرؤى الأساسية الغربية الحديثة وحسب بل يتبدى أيضاً على مستوى الواقع التاريخي والاجتماعي.

11 ـ الإنسان في السوق الرأسمالية بين الحرية الكاملة والحتمية الشاملة:

أ) الإنسان داخل إطار اقتصادي، فرد حر تماماً يذهب إلى السوق ليبيع ويشتري في حرية كاملة، ولا يمكن لأحد أن يتدخل في حريته (من الناحية النماذجية المثالية) ، ولا حتى الدولة أو المجتمع. وهو، كرأسمالي، حر تماماً في استثمار أمواله أو عدم استثمارها، والعامل حر تماماً في بيع عمله أو عدم بيعه.

ب) الإنسان يختفي تماماً ويتشيأ ويُحيَّد إذ تسيطر على السوق اليد الخفية (الحديدية) وآليات العرض والطلب، كما يسيطر على المصنع خط التجميع وإيقاع آلي غير إنساني. والرأسمالي نفسه خاضع تماماً لحتميات السوق لا يمكنه أن يمارس إرادته الحرة. وكذا العامل، فهو أيضاً حر من الناحية النظرية، في أن يبيع عمله أو يمتنع عن ذلك، ولكنه فعلياً لا يملك إلا أن يبيعه حسب قوانين العرض والطلب.

12 ـ الإنسان في الدولة الاشتراكية بين الحرية الكاملة والحتمية الشاملة:

أ) الإنسان في الدولة الاشتراكية هو إنسان يود أن يلغي الطبقات ويحقق المساواة الكاملة ثم يلغي الدولة نفسها ليعيش حراً تماماً من كل قيود وظلم واستغلال.

ب) ما حدث هو أن الدولة في النظم الاشتراكية تغولت ودعمت وجود الطبقات وفرضت على الإنسان قدراً من القيود لم ير مثله الإنسان من قبل أو بعد.

13 ـ ثنائية الحياة الخاصة والحياة العامة:

ص: 128

أ) بدأت الحياة الحديثة في الغرب بإعلان ظهور الإنسان الفرد الذي لا يذعن في حياته الخاصة لأية قوانين، ولا ينضوي داخل إطار أية مؤسسات ويُحقق في رقعة الحياة الخاصة خصوصيته وتَفرُّده وإبداعه. وعلى المستوى الاجتماعي، أُعلن أن الإنسان قادر على ممارسة إبداعه وإعمال عقله وهو ما يمكِّنه من الوصول إلى منظومات معرفية يمكنه من خلالها ترشيد بيئته ومجتمعه وذاته وتعظيم لذته ومنفعته والتحكم في كل شيء.

ب) أخذت عمليات الترشيد في التوسع التدريجي حتى اقتحمت حياة الإنسان الخاصة واستعمرتها (على حد قول هابرماس) ، وتم إخضاعها للقوانين الرشيدة العامة وكذلك تنميطها، فظهر الإنسان ذو البُعد الواحد المتشيئ الذي لا يعرف أية خصوصية؛ إنسان بلا باطن، خاضع تماماً لعمليات الحوسلة والتغير. ومن ثم، أدَّت عمليات الترشيد إلى هيمنة الشمولية وتَغوُّل الدولة والمؤسسات البيروقراطية اللاشخصية على الإنسان، وتنميط حياته اليومية، وإعلان نهاية التاريخ والإنسان.

14 ـ التقاليد (الموضة (:

أ) تُعبِّر مسايرة التقاليد (الموضة) عن رغبة الإنسان العلماني (الطبيعي) في التجديد المستمر والتنوع والتعبير عن ذاته وإرادته. وهذا تعبير عن التمركز حول الذات.

ب) ولكن هذه التقاليع (الموضة) ليست ثمرة الإبداع الشخصي للإنسان، بل تقوم بها مؤسسات ليست ملتزمة سوى بقيمة واحدة هي الربح، ولذا فهي تخلق جواً إعلامياً يجعل من المستحيل على المرأة أن ترفض التقاليع (الموضة) . ويتم تغيير التقاليع (الموضة) سنوياً بهدف تعظيم الربح دون أية اعتبارات أخلاقية أو دينية أو إنسانية. ولكن على الجميع أن يعمل ويكد ليحقق الدخل المطلوب لمواكبة التقاليع (الموضة) . بل يمكن أن يكون اتّباع التقاليع (الموضة) تعبيراً عن محاكاة ببغائية لأزياء ممثلة مشهورة أو لاعب كرة، ولذا نجد أن التمركز حول الذات قد أدَّى إلى فقدانها وإلى التمركز حول الموضوع.

15 ـ الجنس العرضي:

ص: 129

أ) من يمارس الجنس العرضي إنسان (طبيعي/مادي) لا يكترث بالقيم الاجتماعية أو الأخلاقية أو الإنسانية ولا حتى بالآخر الذي يصبح موضع شهوته العابرة (تمركز حول الذات) .

ب) ولكن الإنسان، بممارسته الجنس العرضي، يُسقط كل القيم الجوانية التي تُعبِّر عن خصوصيته وتركيبيته وتفرُّده (أي إنسانيته) ويتحرك في عالم السطح وحسب ويتشيأ ويُشيِّئ الآخر (تمركز حول الموضوع) .

وما يهمنا في هذه الثنائية أنها، سواء في تمركزها حول الذات أو في تمركزها حول الموضوع، لا علاقة لها بالإنسان الإنسان، أي الإنسان ككائن اجتماعي حر متعيِّن. فالإنسان المتمركز حول ذاته، شأنه شأن الإنسان المتمركز حول الموضوع، ليس إنساناً مركباً متجاوزاً.

والنمط الذي بيَّناه (استبعاد الذات الإنسانية المركبة، متعددة الأبعاد، المتجاوزة للطبيعة/المادة من خلال التمركز حول الذات الطبيعية، ذلك التمركز الذي يؤدي إلى ذوبانها في الموضوع وخضوعها للمرجعية المادية النهائية فيسري عليها ما يسري على الأشياء من قوانين فتتمركز حول الموضوع) هو النمط الكامن وراء معظم عمليات العلمنة في مرحلة الثنائية الصلبة، ويفسر كثيراً من أشكالها.

تقويض الذات الإنسانية وهيمنة الواحدية الموضوعية المادية

ص: 130

لا تدوم حالة الثنائية الصلبة (الواحدية الذاتية مقابل الواحدية الموضوعية) إذ يتم محوها لصالح الواحدية الموضوعية إذ يكتشف الإنسان العلماني الحديث أنه اكتسب مركزية في الكون من خلال تبنِّيه نموذج الحلولية الكمونية، إلا أن هذه الرؤية نفسها تؤكد أن كل شيء كامن في هذا العالم في حركة المادة وقوانينها. ولذا فالمبدأ المادي الواحد المحرك للكون يساوي بين الإنسان وكل الكائنات الأخرى ويسوي بينهم، فلا فارق بين الإنسان والشجرة، أو بينه وبين الحشرة. وانطلاقاً من نفس الحلولية يكتشف الإنسان أنه ليس له أصل إلهي متجاوز لهذا العالم. فأصله طبيعي/مادي لا يفصله فاصل عن الطبيعة/المادة، فمهما حقق من تجاوز لها فإنه (في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير) ، شأنه شأن كل الكائنات الأخرى، يعيش داخل الطبيعة/المادة، داخل الزمان والمكان، وحتى رغباته النابعة من صميم ذاته، هي رغبات طبيعية/مادية حتمية، لا يستطع أن يتحكم فيها. فما يتحكم فيه هو خصائصه الوراثية ودوافعه البيولوجية وظروفه الموضوعية، أي أن الإنسان حينما يتمركز حول ذاته إنما يتمركز حول ذات طبيعية/مادية.

وفي محاولته تحقيق هذه الذات يتزايد اقترابه وذوبانه في الطبيعة/المادة التي لا تكترث به ولا تمنحه أية مكانة خاصة، وعليه أن يذعن لها ويتكيف معها، أي أن تحقيق الذات يعني تفكيك الذات. ومن ثم تهيمن الواحدية المادية ويخضع الإنسان تماماً للمعايير والمنظومات الطبيعية/المادية، الكمية الهندسية، التي لا تكترث بفرديته أو خصوصيته أو غاياته.

ص: 131

وقد قام مفكرو الاستنارة المظلمة بتوجيه الضربات المتتالية لمقولة الإنسان فأكد هوبز أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان وأن الواقع إن هو إلا حلبة صراع يخوضه الجميع ضد الجميع. وتبعه كثير من الفلاسفة الماديين مثل إسبينوزا والفلاسفة الماديين في فرنسا الذين يفككون الذات الإنسانية تماماً. وانضم لهم بنتام الذي ذهب إلى أن سلوكنا الأخلاقي يمكن تفسيره مادياً في إطار المنفعة واللذة ثم داروين الذي ذهب إلى أن عالم الإنسان عالم حركة وصراع وأن الإنسان لا أصل إلهي له، فهو سليل القرود، ثم ماركس الذي اكتشف أن المجتمع حلبة صراع خاضع لحتميات مادية اقتصادية، وفرويد الذي أكد لنا أن ما يحركنا هو أساساً لا وعينا وأن لا وعينا تحكمه قوى مظلمة مثل الجنس، وذهب أيضاً إلى أننا لا ندرك الحقيقة فما ندركه هو ما يتراءى لنا أنه الحقيقة. ويونج الذي قال إن لا وعينا هو لا وعي جمعي، ثم جاء البنيويون الذين أعلنوا أن البنية تتحدث من خلال الإنسان وأن الإنسان لا يتحدث من خلال البنية، وانتهى الأمر بأن أعلن فوكوه موت الإنسان. وهكذا تم ضرب الإنسان وتفكيكه أنطولوجيا (فالإنسان إن هو إلا مجموعة من الدوافع المادية والاقتصادية والجنسية لا يختلف في سلوكه عن سلوك أي حيوان أعجم) وإبستمولوجيا (فإدراك الإنسان للواقع ليس عقلانياً وإنما تحكمه مصالحه الاقتصادية وأهواؤه النفسية) .

ص: 132

وإذا كان هذا هو منطق منظومة الحداثة الحلولية العلمانية الشاملة، فإن تطور الواقع وتشكُّله ساهم هو الآخر في تقويض الذات الإنسانية. إذ نجد أن مجالات الواقع أخذت تنفصل تدريجياً عن الإنسان من خلال تصاعد معدلات الحلولية والعلمنة. وقد لاحظنا أنه داخل منظومة الحلولية المادية أصبحت الطبيعة/المادة مرجعية ذاتها، غير مكترثة بالإنسان لا تمنحه أية مركزية، ويمكننا أن نلاحظ أن الشيء نفسه ينطبق على مجالات حياة الإنسان المختلفة، إذ يصبح كل مجال مرجعية ذاته فيفلت من قبضة الإنسان ولا يكترث به ولا يمكنه التحكم فيه.

ص: 133

وقد بدأت المتتالية بانفصال المجال الاقتصادي عن المنظومات القيمية والغائيات الدينية ثم الإنسانية، إذ تحرَّر المجال الاقتصادي من هذه المنظومات والغائيات ومن أية معيارية مستمدة منها، بحيث أصبح الاقتصاد هو نفسه موضع الحلول والكمون يحوي داخله معياريته وغائيته وكل ما يكفي لتفسيره. ويتم الحكم على عالم الاقتصاد، في هذه الحالة، بمعيار مدى تحقيقه للأهداف الاقتصادية (متجاوزاً الجانب الديني والأخلاقي والإنساني تماماً) ، ويُشير عالَم الاقتصاد إلى ذاته ويحكم على الإنسان ذاته حين يتحرك داخل عالم الاقتصاد بمعايير اقتصادية. وبذلك يتحوَّل الإنسان من كونه غاية ومرجعية تتحرك داخل حيزها الإنساني ليصبح مجرد آلة أو وسيلة حين يتحرك داخل الحيز الاقتصادي. ثم تنفصل مجالات الحياة العامة الواحدة تلو الأخرى فينفصل المجال السياسي عن المنظومات القيمية والغائيات الإنسانية، لتصبح الدولة نهاية في حد ذاتها، أي أنها تصبح موضع الحلول، ويُحكَم على المجال السياسي بمعايير سياسية، كما يُحكَم على الإنسان ذاته بمعايير سياسية حين يتحرك داخل الحيز السياسي. ثم تنفصل الفلسفة ويصبح العقل المنفصل عن القيم والغائيات المسبقة هو موضع الحلول ومعيارية ذاته. وتتالى المجالات وتتساقط إلى أن يصبح العلم مركز الكمون وموضع الحلول المستقل عن القيم والغائيات الإنسانية، ويُحكَم على مدى نجاح العلم أو فشله بمقدار ما يحققه من أهداف علمية محضة، مثل مراكمة المعلومات وإجراء التجارب "الناجحة"(بمقاييس علمية، بطبيعة الحال) ، ويصبح العلم مرجعية ذاته وتنفصل الحقائق تماماً عن القيمة. وتتغلغل عمليات العلمنة الشاملة وتتصاعد معدلات الحلول وتنتقل من الحياة العامة إلى الحياة الخاصة، فتتم علمنة الوجدان والأحلام (الثورة الرومانسية ـ الأدب مرجعية ذاته ـ الذات مرجعية ذاتها) وتتم علمنة الرغبات (البحث عن اللذة والإشباع الفوري) وأخيراً علمنة الجسد والجنس،

ص: 134

فيتحرر الجنس من سائر المعايير والغائيات ليصبح موضع الحلول ومعيارية ذاته، ويُحكَم على مقدار نجاحه أو فشله بمقدار ما يحققه من أهداف جنسية محضة مثل اللذة، خارج أي نطاق اجتماعي أو أخلاقي. وهكذا تتفتت الحياة الإنسانية وتتحول جوانبها المختلفة إلى مجالات غير متجانسة غير مترابطة ويختفي الحيز الإنساني ويصبح العالم بالفعل مادة نسبية محايدة خاضعة لحركة المادة وحسب وتسيطر الواحدية الموضوعية المادية التي تستبعد الحيز الإنساني إذ يصبح العالم الموضوعي هو اللوجوس.

وهكذا يختفي الإنسان الإنسان، الإنسان المركب الفرد الحر الواعي المسئول أخلاقياً، القادر على تجاوز ذاته الطبيعية/المادية وعلى تجاوز الطبيعة/المادة (والمطلقات العلمانية) وعلى اتخاذ قرارات تعبِّر عن ذاته الإنسانية المركبة ويختفي الإنسان كمقولة مستقلة عن الطبيعة/المادة (والمطلقات العلمانية المادية المختلفة) وتختفي فكرة الإنسانية المشتركة المنفصلة عن الطبيعة/المادة ويتم استيعاب الإنساني في الطبيعي ويظهر ما يُسمَّى «الإنسان الطبيعي/المادي» (أو الإنسان الاقتصادي أو الإنسان الجسماني) وهو إنسان ليس فيه من الإنسان سوى الاسم، إنسان جوهره طبيعي/مادي، إنسان ذو بُعد واحد، باطنه مثل ظاهره، يمكن تشييئه وتسليعه وحوسلته بسهولة ويسر.

ص: 135

إن التحديث (في إطار العلمانية الشاملة) يَصدُر عن تأكيد زمنية ومكانية ومادية كل شيء، وإخضاع كل شيء، وضمن ذلك الإنسان، لعمليات الترشيد العقلاني المادي في إطار معايير عقلانية صارمة. وعملية التحديث متتالية تحققت تدريجياً. وتَحقُّقها التدريجي هذا يعني التصاعد التدريجي والمستمر للواحدية المادية إلى أن تسيطر تماماً. ولذا، فإن ثمة تراجعاً مستمراً عن الفلسفة الإنسانية (الهيومانية) وعن ثنائية الإنسان والطبيعة وعن الإيمان بالثبات والتجاوز، وهو في واقع الأمر تَصاعُد مطرد للواحدية المادية ومحو لكل الثنائيات والخصوصيات والهويات والثبات وتفكيك لمقولة الإنسان كمقولة لها حدودها المستقلة المتماسكة ليسقط الإنسان تماماً في قبضة الصيرورة وزمانية ومكانية منظومة الحداثة العلمانية الشاملة. ولعل ما يُسمَّى التلاقي (بين النظم الرأسمالية والاشتراكية) ، وهيمنة النماذج البيروقراطية والكمية، وإزاحة الإنسان عن المركز، والتَسلُّع، والتحييد، والتَشيُّؤ، والاغتراب، ونزع القداسة عن العالم، وإنكار الجوهر الإنساني، والهجوم على الإنسانية المشتركة، والنظام العالمي الجديد

إلخ هو تعبير عن نفس الظاهرة وليس مجرد انحرافات عن مسار التحديث وعن جوهره.

ص: 136

وقد عبَّر رورتي عن هذا بأن وصف التحديث بأنه مشروع نزع الألوهية عن العالم (بالإنجليزية: دي ديفينايزيشن بروجكت dedivinization project) وهو يعني ألا يُؤلِّه الإنسان شيئاً وألا يَعبُد شيئاً ولا حتى ذاته، وألا يجد في الكون أي شيء مقدَّس أو رباني أو حتى نصف رباني. ومن ثم، لا تُوجَد مقدَّسات أو محرَّمات من أي نوع، فلا حاجة لتجاوز المُعطَى المادي (الزماني المكاني) . فالإنسان يوجد في عالمه المادي لا يتجاوزه، فالعالم مكتف بذاته، موضع الحلول والكمون وهو مُستقَر كل القوانين التي يحتاج لمعرفتها. ثم يبيِّن لنا رورتي النتائج المنطقية لهذا الموقف بقوله "إن الحضارة العلمانية الحديثة لن تكتفي باستبعاد فكرة القداسة أو بإعادة تفسيرها بشكل جذري، وإنما ستهاجم الذات الإنسانية نفسها كمصدر الحقيقة". فهي ستهاجم فكرة "تكريس الذات للحق (الحقيقة) " أو "تحقيق الحاجات العميقة للذات"، كما ستبيِّن أن مصدر المعنى ليس كلاًّ متجاوزاً وإنما هو الإنسان، والإنسان كائن حادث زمني متناه، أي أنه ليس مصدراً جيداً للحقيقة.

ويبيِّن لنا رورتي بعض النتائج المنطقية الأخرى للتحديث في الإطار المادي والعلماني الصلب، فالتحديث هو إيمان عقلاني مادي بالتقدم وإيمان بالمستقبل الذي سيتحقق فيه التقدم، الذي أصبح المعيار الواحد والوحيد. ولكن التقدم نفسه هو مجرد حركة وحركة مستمرة لا متناهية، ولأنها حركة في عالم المادة فلا يمكن أن تكون لها أية غائية، وهو ما يعني سقوط الثبات.

ص: 137

وانطلاقاً من أرضيتنا الحديثة العقلانية المادية، فإن العقل سيقوم بعملية نقدية صارمة لمسلماتنا العقلية وموروثاتنا الثقافية ولن نقبل من التاريخ إلا ما يتفق مع نماذجنا العقلية والمادية، والرؤية التحديثية المادية تُعرِّف «الزمان» و «المكان» و «الآن وهنا» كمقولات مجردة، كصيرورة لا معنى لها، كعلامة على ماديتنا، ولكنها لا تقبل التاريخ أو الذات ولا تعرفهما لأنهما يحتويان مخزوناً لقيم تُغاير ما في واقعنا المادي وما في نماذجنا العقلانية المادية وتتحداها.

وعلى هذا، فإن التحديث (بالنسبة لرورتي وآخرين) هو نسيان نشط للتاريخ والذات، أي أنه تجريد للإنسان من ذاكرته التاريخية بعد أن جُرد من مكانته الأنطولوجية. وهكذا، تم ضرب الذات الإنسانية وتفكيكها تماماً، ولم يبق من الإنسان شيء، لا مقدرته على الإدراك المبدع للواقع ولا الذاكرة التاريخية. ولا غرو أن المشروع التحديثي قد َحوَّل الإنسان من غاية إلى وسيلة. وهناك كثير من آليات التحديث، مثل الدولة المركزية أو السوق القومية أو الترشيد، تستقل عن الأهداف الإنسانية منها (إشباع حاجات الإنسان وتحقيق الكفاية والأمن له

إلخ) لتصبح غايات وتهيمن على الإنسان ويصبح عليه أن يُذعن لها.

ورغم تصفية الإنسان وتقويضه، فإن الطبيعة (مع هذا) تظل مركز الكون تزوده بمعيارية ويصبح الإنسان مذعناً لها، يصبح هناك كون طبيعي صلب وقوانين طبيعية صلبة. أي أن مرحلة الصلابة مرحلة متمركزة حول اللوجوس الكل الثابت المتجاوز، الإنساني (في البداية) أو الطبيعي/المادي (في النهاية) ، فهو عالم لوجو سنتريك logo-centric.

السيولة الشاملة (عصر ما بعد الحداثة)

ص: 138

امتدت المرحلة الثنائية والواحدية والواحدية الصلبة منذ عصر النهضة في الغرب حتى منتصف الخمسينيات. ورغم أن رؤية السيولة الكاملة كانت كامنة في الرؤية الغربية للعالم إلا أنها ظلت هامشية وبدأت تتحرك نحو المركز في نهاية القرن التاسع عشر واستقرت فيه في العقود الأخيرة من القرن العشرين (في عصر ما بعد الحداثة) .

ومع نهاية القرن التاسع عشر بدأت تظهر عناصر جديدة جعلت من المستحيل الاستمرار في حالة الصلابة القديمة:

1 ـ بدأ الإنسان الغربي يدرك استحالة تنفيذ مشروعه التحديثي وأن ما تحقَّق منه قد بدأ يؤدي إلى اختفاء الإنسان. ورغم إدراك الإنسان الغربي لهذا الوضع فإنه كان لا يعرف بديلاً له، كما أنه لا يزال يحمل ذكرى عصر المادية البطولي، ولذا استمر فيه واستمر في الإبداع وفي التمرد على وضعه. وقد سمينا هذا عصر الحداثة المأساوي/الملهاوي/العبثي.

2 ـ لاحظنا تفكيك مقولة الذات الإنسانية المستقلة. ولكن الأمر لم يتوقف عند هذه النقطة، بل تستمر عملية التفكيك وتصل إلى مستويات أكثر عمقاً وجذرية، إذ يتم ضرب فكرة الواقع الموضوعي نفسه أيضاً. فالواقع (الطبيعة/المادة) ، من المنظور التحديثي، في حالة حركة دائمة وتَغيُّر دائم، والتغيُّر هو الصفة الثابتة الواحدة لعالمنا، سجن الزمان والمكان. ومن ثم سقطت الطبيعة نفسها في قبضة الصيرورة.

وقد "أثبت" داروين أن الطبيعة في حالة صراع دائم يحكمها منطق القوة. و"أثبت" علم النفس أن إدراكنا لها ليس موضوعياً، ومن ثم فهي ليست مصدر موضوعية للمعرفة. ثم جاءت ثورة العلوم الطبيعية (نظرية عدم التحدد ـ النظرية النسبية.. إلخ) التي أكدت استحالة رصد الواقع الموضوعي واستحالة تجاوزه.

ص: 139

لكل هذا، تبدأ الطبيعة/المادة نفسها في الاختفاء كمعيارية ومرجعية وككل ثابت متجاوز، ويصبح كل شيء مرجعية ذاته، وهذا ما يؤدي إلى تشظي الكون وتحوُّله إلى ذرات (بالإنجليزية: أتومايزيشن atomization، أو أتوميستيك فراجمنتيشن atomistic fragmentation) ويظهر عالم لا مركز له، أو متعدد المراكز، يتسم بعدم وجود حقيقة أو بتعدد الحقائق، وبعدم وجود مطلق أو بتعدد المطلقات، عالم ما بعد الحداثة والقصص الصغرى والنظام العالي الجديد، عالم ليس فيه ذات متماسكة ولا موضوع متكامل. ويصبح العالم مفككاً لا مركز له (بالإنجليزية: نان لوجو سنتريك non logo-centric) ، وتصبح الصيرورة مركز الحلول والكمون، ويصبح النسبي هو المطلق الوحيد، ويصبح التغيُّر هو نقطة الثبات الوحيدة.

ص: 140

ويتحول العالم إلى كيان شامل واحد تتساوى تماماً فيه الأطراف بالمركز، عالم لا يوجد فيه قمة أو قاع، أو يمين أو يسار (أو ذكر أو أنثى) ، وإنما يأخذ شكلاً مسطحاً تقف فيه جميع الكائنات الإنسانية والطبيعية على نفس السطح وتُصفى فيه كل الثنائيات الصلبة والفضفاضة، وتنفصل الدوال عن المدلولات فتتراقص بلا جذور ولا مرجعية ولا أسس، وتصبح كلمة «إنسان» دالاً بلا مدلول، أو دالاً متعدد المدلولات، وهي مرحلة السيولة الشاملة (أو الواحدية السائلة) ، وبدلاً من الصراع بين الذات والموضوع، تذوب الذات في الموضوع والموضوع في الذات (خير/شر ـ حقيقة/زيف ـ مطلق/نسبي ـ عدل/ظلم ـ إنساني/طبيعي ـ خالق/مخلوق) . وهذا هو الانتقال من الثنائية الصلبة والواحدية الموضوعية الصلبة إلى الواحدية السائلة التي لا تعرف حدوداً ولا قيود. وهو أيضاً الانتقال من عالم التحديث والحداثة (والإمبريالية) إلى عصر ما بعد الحداثة (والنظام العالمي الجديد) . ولذا كان السؤال الذي طُرح في مرحلة الثنائية الصلبة (والتحديث والحداثة) هو: أيهما مركز الكون: الإنسان أم الطبيعة؟ أما في هذه المرحلة مرحلة السيولة الشاملة فتطرح تساؤلات أكثر جوهرية تتصل بالكل الثابت المتجاوز: هل يمكن الإيمان بوجود كلٍّ ثابت متجاوز له معنى داخل الإطار المادي؟ وكيف يكون هناك كلٌّ، والعالم المادي مكون من جزئيات وتفاصيل وظواهر متناثرة؟ وكيف يكون هناك ثبات داخل الإطار المادي، والمادة المتحركة؟ وهل يمكن تحقيق التجاوز، والمادة لا تعرف التجاوز؟ هل يمكن أن يكون هناك معنى للكون، والمادة حركة بلا قصد أو معنى؟ هل يمكن الاحتفاظ بثنائية الإنسان/الطبيعة في عالم واحدي مادي، والمادة لا تعرف إلا قانوناً واحداً؟ هل يستطيع شيء أن يفلت من قبضة الصيرورة في إطار فلسفة مادية؟ هذه هي الأسئلة الأنطولوجية المعرفية التي طرحها الإنسان الغربي على نفسه.

ص: 141

وبعد تفكيك الذات والموضوع كانت الإجابة أنه لا يوجد أي أساس لظهور الكل المادي المتجاوز (الإنساني أو الطبيعي) أو لأي شكل من أشكال الثبات، فالإنسان غير قادر على السيطرة على الطبيعة وإنما عليه الإذعان لها وهو غير قادر على إدراكها تماماً، والطبيعة نفسها متحركة فلا يمكن رصدها ولا الإمساك بها، ومن ثم لا توجد ثوابت أو كليات أو مطلقات معرفية أو أخلاقية.

وفيلسوف عصر السيولة هو نيتشه، الذي ظهر من الناحية الزمنية في أواخر القرن التاسع عشر (مع بدايات ظهور الحداثة) إلا أنه في واقع الأمر فيلسوف نهاية الحداثة، أي ما بعد الحداثة. فقد أدرك بثاقب نظره أن الحقيقة الكلية المادية التي بشَّر بها دعاة الاستنارة (المضيئة) والتحديث والعقلانية المادية مرتبطة حتماً بالتجاوز والميتافيزيقا لا يمكنها أن تنفصل عنهما. وهذا يعني في واقع الأمر أن من داخل نظام يدَّعى المادية يُولَد مرة أخرى الرباني والمقدَّس والمدلول المتجاوز ( «ظلال الإله» حسب تعبير نيتشه) . ولكن هذا أمر غير معقول داخل إطار مادي، ففي داخل هذا الإطار لا مناص من قبول أطروحات الاستنارة المظلمة التي لا تعرف ظلال الإله، فهذا هو مصير الإنسان الموجود في الزمان والمكان وبعد موت الإله، ولا داعي للتمحك في ظلاله. والأمل التحديثي في عصر المادية البطولي هو هذا التمحك، وهو أمل جبان غير قادر على قبول وضع الإنسان في عالم الصيرورة المادية، وهذه المنظومات المعرفية والأخلاقية العقلانية هي مؤامرة الضعفاء على الأقوياء من أبناء الطبيعة. لكل هذا رحب نيتشه بالعدمية زائراً دائماً في وسطنا في عصرنا الحديث المادي، وأعلن فلسفة القوة الشجاعة التي لا تعرف الضحك والبكاء ولا تكترث بالضعفاء حيث لا ذات ولا موضوع، ولا داخل ولا خارج، ولا ظاهر ولا باطن، ولا دال ولا مدلول، ولا مُقدَّس ولا مُدنًَّس، ولا حلال ولا حرام، ولا حقائق ولا حق ولا حقيقة، وإنما صراع بين قوى مظلمة ظالمة

ص: 142

يُحسَم بطريقة مادية طبيعية. وفي إطار فلسفة القوة، لا تُوجَد لغة تواصلية إذ أن إرادة القوة هي التي تربط السبب بالنتيجة والدال بالمدلول وتصبح هي مبدأ التماسك أو السيولة في العالم ومصدر المعنى أو اللامعنى. وهذه هي فلسفة الواحدية المادية الكمونية والعلمانية الشاملة التي تؤكد تناهي الإنسان داخل الزمان والمكان وتؤدي إلى اختفاء المرجعية الإنسانية بل المرجعية الموضوعية نفسها (أي كل المرجعيات وأية مركزية وأي كل مادي متجاوز) ، فالمادة حركة والحركة لا تعرف التمييز بين مركز وهامش وبين معنى ولا معنى وبين القيمة والعدم. وكان نيتشه يدرك تماماً أن دعوته لإزالة ظلال الإله هذه، والتخلص من الكل المادي المتجاوز (إنسانياً كان أم طبيعياً/مادياً) ومن كل من الذات والموضوع، وتشكل أساس الأنطولوجيا الغربية، لم تكن من بنات أفكاره وإنما كانت كامنة في الجذور الفلسفية للمشروع التحديثي العقلاني المادي.

وقد قامت محاولات كثيرة للإجابة على تحديه. فظهرت فلسفات مثل البرجماتية وفلسفات الحياة (برجسون) ، ثم ظهرت أخيراً الفلسفة الفينومينولوجية كنوع من محاولة الوصول إلى تعريف للحقيقة يتجاوز ثنائية الذات والموضوع، والتجاوز والكمون، والثبات والحركة، والغائية والعدمية عن طريق فكرة الوعي والقصد حيث لا توجد الذات إلا من خلال الموضوع ولا يوجد الموضوع إلا من خلال الذات، بمعنى أننا قد يمكننا أن نصل إلى الحقيقة الكلية دون حاجة إلى تَجاوُز أو ثبات أو غائيات أو ثنائيات، وبذا يمكن تقويض أساس الأنطولوجيا الغربية (ثنائية الذات والموضوع، ووجود الكل والجزء، ووجود حقيقة موضوعية وذات متماسكة ومعنى وهدف) دون السقوط في العدمية أو الميتافيزيقا، أي أننا يمكننا أن نصل إلى الحقيقة الكلية والمعنى الكلي بدون ميتافيزيقا.

ص: 143

وكانت هذه هي آخر المحاولات شبه العقلانية المادية، إذ ظهرت ما بعد الحداثة وهي فلسفة لاعقلانية مادية لا تعرف البطولة ولا تعرف المأساة ولا الملهاة ولا التمرد العبثي؛ فلسفة تدرك حتمية التفكيك الكامل، والسيولة الشاملة، إذ يتم التوصل إلى أن كل شيء نسبي مادي، وأن الفلسفة الإنسانية وهم، وأن الاستنارة المضيئة حلم وعبث، وأن الواقع في حالة سيولة حركة (مثل المادة الأولى) ، وأن ليس ثمة ذات إنسانية متماسكة ثابتة ولا موضوع طبيعي/مادي ثابت متماسك (فهذه كلها مجرد تقاليد لغوية وعادات فكرية وصور مجازية) وحتى إن وُجدت الذات ووُجد الموضوع فلن يتفاعلا، إذ لا تُوجَد لغة للتواصل أو التفاعل. كل هذا يعني اختفاء فكرة الكل تماماً، والأجدر للإنسان أن يتكيف بطريقة برجماتية مع حالة السيولة، فهي فلسفة خضوع وتَكيُّف وتطبيع لحالة اللامعيارية (ولذا يُطلَق عليها أحياناً «البرجماتية الجديدة» ) . هذا هو عصر ما بعد الأيديولوجيا وما بعد الإنسانية وما بعد الميتافيزيقا وما بعد الحقيقة وما بعد التاريخ ـ عصر تكتسح فيه الكوزموبوليتانية جميع الحضارات وتدمر خصوصياتها، كما تدمر المطلقات والثوابت كافة.

ما بعد الحداثة

ص: 144

مصطلح «ما بعد الحداثة» مصطلح نفي سلبي، وهو ترجمة لمصطلح «بوست مودرنيزم» ( «post-modernism» أو «post-modernism» . وقد تُستخدَم كلمة «بوست مودرنيتي post modernity» للدلالة على الشيء نفسه. وأحياناً يُطلَق على مصطلح «ما بعد الحداثة» تعبير «ما بعد البنيوية» (بالإنجليزية: بوست ستراكتشراليزم post-structuralism) باعتبار أن فلسفات ما بعد الحداثة قد ظهرت بعد ظهور وسقوط (الفلسفة) البنيوية. ويكاد مصطلح «ما بعد الحداثة» يترادف مع مصطلح «التفكيكية» . وللتمييز بينهما، يمكن القول بأن «ما بعد الحداثة» هي الرؤية الفلسفية العامة، أما «التفكيكية» فهي بالمعنى العام أحد ملامح وأهداف هذه الفلسفة. فهي تقوم بتفكيك الإنسان، كما أنها منهج لقراءة النصوص يستند إلى هذه الفلسفة. ويجب ملاحظة أن اصطلاح «ما بعد الحداثة» يكتسب أبعاداً مختلفة بانتقاله من مجال إلى مجال آخر، فمعنى «ما بعد الحداثة» في عالم الهندسة المعمارية يختلف، من بعض الوجوه، عن معناه في مجال النقد الأدبي أو العلوم الاجتماعية.

ص: 145

وقد بيَّنا أن المشروع التحديثي العقلاني المادي كان يحوي عناصر تفكيكية معادية للإنسان داخله وأن المتتالية التحديثية بدأت تتحقق تدريجياً فمرت من عصر التحديث إلى عصر الحداثة إلى ما بعد الحداثة، وهي النقطة التي تصل عندها المتتالية التفكيكية إلى نهايتها. ويمكن تشبيه ما بعد الحداثة بالفلسفة السوفسطائية (بروتاجوراس [480 ـ 410 ق. م] وجورجياس [؟ ـ 375 ق. م] وغيرهما) ، وهي فلسفة مادية عدمية تماماً نادت في بداية الأمر، بأن الإنسان مقياس كل شيء، شأنها في هذا شأن المنظومة التحديثية في عصرها البطولي، ولكنها تدريجياً بدأت تزيح الإنسان عن المركز، وتحل محله الطبيعة/المادة، ثم انتهى الأمر بالسوفسطائيين أن أنكروا أية حقيقة كلية نهائية متجاوزة لحواسنا، فلا يوجد ما يُسمَّى «روح العالم» أو «العقل الكلي» خلف الظواهر المتغيرة التي ندركها من خلال حواسنا. ومن ثم أصبح كل إنسان حبيس حواسه (قصته الصغرى) والحواس تختلف باختلاف الأشخاص. ولذا أصبحت المعرفة المستقلة عن الحواس مستحيلة. ولذا يمكن إنكار الوجود ذاته: لا شيء موجود، وإن وُجد شيء فلا يمكن أن يُعرَف، وإذا أمكن أن يُعرف فلا يمكن إيصاله للغير. وإذا لم يكن هناك معرفة مشتركة فلا تُوجَد بالتالي قوانين أخلاقية خارجية يخضع لها الناس جميعاً. ولا يوجد قانون عام مُؤسَّس على العدالة إذ ليست هناك عدالة عامة بالمعنى الذي يفهمه الناس، فالقوانين من اختراع الأقوياء ليخضعوا بها الضعفاء، ولذا يحق للإنسان القوي أن يَخرُج على القانون إن استطاع ذلك. والدافع الأساسي لسلوك الإنسان هو الأنانية، وإذا أصبح الإنسان خيِّراً فهذا ليس بسبب خير أو شر مفطور فيه وإنما بسبب عملية التنشئة الاجتماعية والفكرية. والمجتمع في حالة صراع دائم يسود فيها منطق البقاء للأصلح، أي أن السوفسطائيين نجحوا في دفع كل المقدمات المادية إلى نتائجها المنطقية العدمية. ويمكن القول بأن الانتقال من الحداثة

ص: 146

إلى ما بعد الحداثة هو انتقال من مرحلة مادية صلبة ورثت كثيراً من مقولات الأفلاطونية والمسيحية بعد علمنتها إلى مرحلة مادية سائلة تشبه مقولاتها مقولات الفلسفة السوفسطائية.

ويمكن تلخيص المقولات الأساسية لرؤية دعاة ما بعد الحداثة فيما يلي:

1 ـ الأنطولوجيا:

يرى دعاة ما بعد الحداثة (دريدا مثلاً) أن الأنطولوجيا الغربية بدأت مع أفلاطون وظلت أفلاطونية حتى النخاع. وجوهر المنظومة الأفلاطونية هو الإيمان بوجود عالم المُثُل (عالم الحق المطلق والمُثُل الثابتة، وهو عالم كلي متجاوز لعالمنا له هدف وغاية) من جهة، ومن جهة أخرى عالم المادة والتغير الذي يحجب عالم المُثُل، أي أن ثمة ثنائية أساسية في المنظومة الأفلاطونية تُعبِّر عن نفسها في ثنائية الدال (المحسوس) والمدلول (المتجاوز) وانفصال الواحد عن الآخر. ورغم أن عالم المادة يحجب عالم المُثُل فإن المنظومة الأفلاطونية تذهب إلى أن بإمكاننا التوصل إلى معرفة إنسانية من خلال الحواس والعقل ويمكننا توصيلها من خلال اللغة. ولكن كل ما نصل إليه من معنى هو ظلال لهذا العالم الكلي الثابت المتجاوز (يُطلق عليه أنصار ما بعد الحداثة «الحضور» أو «المدلول المتجاوز» ، وهو معادل «الإله» في الديانات التوحيدية) ، أي أن المعنى الذي نصل إليه يستند إلى ميتافيزيقا التجاوز، فثمة علاقة وثيقة حتمية بين ما يُسمَّى «الحقيقة» وبين ما يُسمَّى «الميتافيزيقا» . ويُلاحَظ أن الحواس والعقل واللغة، كلها، مجرد آليات للوصول إلى الهدف النهائي، أي المعنى الكلي الثابت المتجاوز ذي الغرض، وهو الحقيقة، ولذا فهذه الآليات تُعتبَر ثانوية بالنسبة للأصل وتأتي بعده في الدرجة والمنزلة.

ص: 147

والمشروع التحديثي الغربي (في إطار العلمانية الشاملة) يقف على الطرف النقيض من هذه الرؤية الأفلاطونية الثنائية، فهو مشروع يهدف إلى إلغاء الثنائيات كافة وإلى فرض الواحدية المادية على العالم بحيث لا تُوجَد كليات من أي نوع، مادية أو روحية، ولا يوجد مبدأ واحد نهائي يمنح العالم التماسك والوحدة. والمشروع ما بعد الحداثي بهذا المعنى هو التحق النهاذي لمشروع الحداثة في محاولته القضاء على خرافة الميتافيزيقا وعلى أوهام الفلسفة الإنسانية الهيومانية بشكل كامل عن طريق القضاء على خرافة الحقيقة الكلية، فمثل هذه الحقيقة الكلية تستدعي عالماً متماسكاً متجاوزاً لعالمنا المادي المتبعثر. وإذا كان المشروع التحديثي يستند إلى ثنائية الذات المتماسكة التي تتفاعل مع موضوع متماسك داخل إطار الكل الثابت الذي يشير حتماً إلى الأصل المتجاوز (المدلول المتجاوز) ، أي إلى الإله أو على الأقل إلى ظلاله، فإن "مشروع" ما بعد الحداثة (إن كان من الممكن تسميته كذلك) يحاول أن يزيل هذه الظلال فيعكس الآية وينكر الأصل المتجاوز أو أي أصل من أي نوع. فالكل المادي المتجاوز الذي له معنى لا يبقى منه سوى ماديته، والحقيقة كامنة في الحقائق، والكل كامن في الأجزاء المادية التي لا يربطها رابط، وكل حقيقة وجزء منغلق على ذاته، لكلٍّ مركزه، والعالم في حالة حركة دائمة وتَغيُّر دائم ولكنه ليس بالضرورة تطوراً ذا معنى وقصد. وهذا هو جوهر ميتافيزيقا ما بعد الحداثة، فهي تفترض أن العالم مادة في حالة حركة دائمة: لا أصل لها ولا قصد. وتتسم كل مفاهيم ما بعد الحداثة (انظر: «الاخترجلاف» ـ «الهوة» ـ «الدال والمدلول» ) بهذه السمات الجوهرية، ورغم أنهم يصفونها بأنها حالة لا حضور ولا غياب، فإن جوهرها سلبي له صفات محددة، فميتافيزيقا ما بعد الحداثة ميتافيزيقا سلب تستند إلى حضور جوهر سلبي (انظر:«الهوة» ) .

ص: 148

وكل هذا يعني غياب أي مركز أو مرجعية أو معيارية ومن ثم أية ثنائية. ولذا، فإن أنصار ما بعد الحداثة يعتبرون مجرد استخدام كلمات مثل «يقين» أو «دوافع» أو «حق» أو «ذات» سقوطاً في الميتافيزيقا، وذلك باعتبار أن مثل هذه الكلمات تتضمن إشارة إلى حقائق.

وبطبيعة الحال، لا تعترف ما بعد الحداثة بثنائية الذات والموضوع (التي ظهرت بحدة مع ظهور العقلانية المادية) ، وهي تحل إشكالية الثنائية الصلبة عن طريق السيولة الشاملة. فالذات لا تعرف مراكز مادية أو روحية، ولذا فهي لا يمكن أن تحدد هويتها ولا أن تتمتع بأي تماسك، وخصوصاً أنها تم تفكيكها وردها إلى المادة وإخضاعها للحركة التي من حولها. والموضوع ذاته ينطبق عليه نفس الوضع، فهو في حالة حركة، وكل شيء فيه عرضي إذ لا يوجد شيء ضروري. وهذا يعني، في واقع الأمر، أن الذات مساوية للموضوع ومنفصلة عنه تماماً، أي أن كل الأمور متساوية تماماً ومنفصلة تماماً ومختلفة تماماً. ولكن إذا كانت الذات جزءاً من واقعها المتحرك المتغير فهي حرة تماماً، إرادة كاملة ولكنها إرادة لا علاقة لها بالموضوع. وعلى كلٍ، فمن المستحيل للذات أن تصل إلى الموضوع، فالموضوع مساو لها ومنفصل عنها، ولذا فإن الحرية التي تمارسها الذات هي حرية لا تتجاوز حدودها وليست في نطاق موضوع آخر، ولا تدخل أبداً عالم التحقق الموضوعي، فهي محصورة بحدودها. وغياب المرجعية هذا يعني أن الحالة الإنسانية متعددة بشكل متطرف ونهائي، وأن البشر مُقسَّمون إلى وحدات متعددة لا يربطها رابط (إنسانية مشتركة) . وكل هذا يعني سقوط الأسس التي يستند إليها الذات والموضوع واتصالهما، فتسقط الثنائية وتسود الواحدية. ولذا، لا يمكن الحديث في واقع الأمر عن ذات أو عن موضوع أو عن أية معيارية من أي نوع، أو عن أية مرجعية، مادية كانت أم روحية، إنسانية كانت أم موضوعية، إذ تسود التعددية المفرطة التي هي في واقع الأمر تعبير عن غياب أي مركز أو أساس وعن

ص: 149

طبيعة بشرية مشتركة. إن ظلال الإله قد اختفت تماماً، وأدركت الذات أن الاستنارة المظلمة قد خيمت على العالم فتكيفت مع حالة اللامعيارية باعتبارها حالة كلية نهائية. وإذا كان الحقيقي هو العقلاني (المادي) في عصر التحديث وهو المادي المتغير في عصر الحداثة، ففي عصر ما بعد الحداثة لا يوجد أي أساس للتمييز بين الحقيقي والزائف، وبالتالي فلا حقيقي ولا زائف.

وفي عصر التحديث، كان من الممكن ترتيب الواقع ترتيباً هرمياً من خلال المعيارية التي يستمدها الإنسان من ذاته ومن الطبيعة، أما في عصر ما بعد الحداثة فلا يوجد أي نظام أفقي أو رأسي. فلا تظهر معيارية وإنما تظهر القوة (النيتشوية) والتكيف (البرجماتي) ، وتظهر الذاتية المطلقة المنغلقة على ذاتها، وتظهر التسوية الكاملة بين الكائنات، أي تَساوي كل الكائنات من جميع الوجوه (النساء ـ اليهود ـ الغجر ـ القرود ـ الشواذ جنسياً) ، فهو عالم غير هرمي إما أن يتحكم فيه الإنسان تماماً أو يخضع له تماماً.

ولذا، فإن عالم ما بعد الحداثة ليس نظاماً حركياً منفتحاً له مركز وغاية وتراتبه الهرمي مثل عالم التحديث، ولا هو بعالم مغلق يحاول الانفتاح مثل عالم الحداثة وأن يفرض ترتيباً هرمياً له معنى، وإنما هو نظام لا مركز له مُكوَّن من أنظمة صغيرة مغلقة، يدور كل منها حول مركزه وحول نفسه ويأخذ شكل صور متجاورة لكلٍّ معناها المستقل لا يربطها رابط ولا تُوجَد أية صلة بينها ولا توجد علاقة سببية واضحة، فكل إنسان يدرك الصورة القريبة منه. هذا يعني أن ليس ثمة طبيعة مادية موضوعية ولا طبيعة بشرية (ذاتية) ولا تُوجَد مبادئ متجاوزة، فهو عالم ذري متشظ ولكن ذراته سائلة متلاصقة، ولذا فهو عالم هلامي سائل دون أن تكون فيه ثغرات أو مسام وإن كان فيه هوة.

ص: 150

وعالم ما بعد الحداثة هو عصر البعديات (وسقوط كل القَبْليات بسقوط الكل المتجاوز) ، فهو عصر ما بعد التاريخ وما بعد الإنسانية وما بعد السببية وما بعد المحاكاة وما بعد الميتافيزيقا وما بعد التفسير وما بعد التجاوز. ولعلنا لو أحللنا البادئة «أنتي anti» بمعنى «ضد» أو ربما عبارة «إند أوف end of» بمعنى «نهاية» ، محل بادئة «بوست post» بمعنى «ما بعد» لاتضح المعنى ولأدركنا أن «ما بعد الحداثة» تعني في واقع الأمر «نهاية التاريخ» و «نهاية الإنسانية» و «نهاية السببية» و «نهاية المحاكاة» و «نهاية الميتافيزيقا» و «نهاية التفسير» (ويُعدُّ كتاب سوزان سونتاج ضد التفسير الصادر عام 1965 أول مانيفستو لما بعد الحداثة) . وما بعد الحداثة، بهذا المعنى، تعني العداء للحداثة وفشل الحداثة ونهاية الحداثة وإفلاس الحداثة. فإذا كان جوهر المشروع الحضاري الغربي هو التحديث، فهل ما بعد الحداثة تعني نهاية الحداثة ونهاية الغرب؟ وهل يفسر هذا أن أيديولوجيا ما بعد الحداثة، التي تقف ضد العقل والمنطق والإنسان والمعنى وضد رؤية الأشياء في علاقتها الجدلية مع الإنسان وضد الكل وحدوده، تقف ضد كل ما هو عظيم وله قيمة في الحضارة الغربية الحديثة؟ وعلى هذا فإن السؤال يطرح نفسه وبحدة على هذا النحو: لم ظهرت هذه الفلسفة ولم اكتسحت الجميع في طريقها؟

وقد كانت تناقضات المشروع التحديثي تأخذ طابعاً معرفياً (إبستمولوجي) : هل يمكن معرفة الواقع؟ هذا ما اتضح بشكل واضح في الحداثة، ولكنها في عصر ما بعد الحداثة ذات طابع أنطولوجي راديكالي: هل توجد حقيقة أساساً؟ هل يوجد عالم موضوعي؟ ما هو مكان الإنسان في الكون؟ ما هي الذات وما هو الموضوع؟

2 ـ المعرفة:

ص: 151

ينقسم العالم إلى وحدات طبيعية وإنسانية، متساوية ومستقلة ومختلفة ومنفصلة ومنغلقة، بسبب عدم وجود مركز ومرجعية كلية مشتركة، وتصبح كل وحدة ذات سيادة مطلقة ومرجعية ذاتها. وهذا يعني غياب أية مرجعية نهائية إنسانية أو موضوعية، ولذا فالعالم يتسم بالتعددية والتفتت والانقطاع والفوضى والمساواة والتساوي وحكم الصدفة وغياب السببية وظهور الاحتمالية والنسبية الكاملة والتَغيُّر الكامل والمستمر، ومن ثم يصبح من العسير الوصول إلى العالم، وإن وصل العقل إليه فلا يمكنه الإمساك به. ولذا تصبح المعرفة الكلية الإنسانية الشاملة مستحيلة فليس لها أساس إنساني أو طبيعي أو إلهي، ولا يمكن التمييز بين الحقيقي والزائف. ويرفض كل أنصار ما بعد الحداثة فكرة الحقيقة الكلية، فهي مخلفات عصر الاستنارة الذي افترض وجود نظام وقواعد ومنطق. والسؤال عن الحقيقة سؤال ميتافيزيقي، فالسؤال عن الحقيقة (أو ما الحق؟) لا يختلف تماماً عن: ما الإله؟ ولا يوجد شيء في واقع الأمر يُسمَّى «الحقيقة في ذاتها» (على حد قول دريدا) وإنما يوجد دائماً فائض من الحقيقة. "وحتى لو كان الأمر يخصني، عني، فإن الحقيقة دائماً تعددية. إن ما يوجد هو حقائق منفصلة وليس حقيقة كلية وهي شبكة من الألعاب اللغوية". وينكر فوكوه (الذي يؤمن بميتافيزيقا الصراع) وجود الحقيقة، فالحق ـ في تصوُّره ـ هو نتيجة القوة، يفرضه أصحاب المصلحة في فرضه، ولذا لا يمكن فصل الحقيقة عن القوة. بل إن ادعاء الحقيقة شكل من أشكال الإرهاب والشمولية. وبدلاً من الحقيقة الكلية والنظريات العظمى، يطالب أنصار ما بعد الحداثة بالقصص الصغرى، والمعارف البرجماتية غير المترابطة التي تدور داخل حدود سياقها. والوصول إلى الحقيقة يتم من خلال المحادثة والتفاوض البرجماتي (أي الاتصال بين قصتي الصغرى وقصتك الصغرى) لا الحوار في إطار قصة عظمى لها شرعية عند كل أو معظم البشر. داخل هذا الإطار، تصبح العلوم الإنسانية

ص: 152

بغير جدوى ولا تؤدي إلى تحضُّر الإنسان ولا إلى مساعدته في تحقيق إنسانيته (وما جوهر هذه الإنسانية أصلاً؟ وما هو الجوهر أساساً؟) . لكل ما تقدَّم، لا يمكن القول بأن العقل يستطيع محاكاة الواقع، فهو ليس مرآة له، ويستحيل من ثم إصدار الأحكام والتفسير والتخطيط والتحكم ومراكمة المعلومات والاستفادة منها، بل يعني هذا استحالة الإبداع الحقيقي.

وهنا يظهر نوعان من ما بعد الحداثة يحلان محل المشروع الاستناري القديم، حين كان هدف الفلسفة هو محاولة التوصل إلى الحقيقة الكبرى الكامنة في حركة الطبيعة وقوانينها وتجريدها والوصول إلى نماذج مادية تفسيرية تتسم بالشمول الكامل. يرى أنصار ما بعد الحداثة أن المعرفة قابعة في القصص الصغرى المرتبطة بظروفها والمحددة بزمنيتها، الأمر الذي يترك عنصراً فعالاً واحداً وقيمة حاكمة كبرى ومقولة تحليلية كبرى هي إما اللغة أو القوة:

أ) ما بعد الحداثة النصوصية أو اللغوية: وهي ترى أن اللغة ليست أداة لمعرفة الحقيقة وإنما هي أداة إنتاجها، فثمة أسبقية للغة على الواقع، ولذا فإن النموذج المهيمن هنا هو النموذج اللغوي. وترى ما بعد الحداثة النصية أن اللغة مكونة من صور مجازية لا تكشف الواقع وإنما تحجبه، فهي تشبه الزجاج المُعشَّق الذي تحاول أن ترى ما وراءه فتنشغل بألوانه وتنسى المدلول. واللغة مكونة من لعب الدوال المنفصلة عن المدلولات. ولذا، كما يقول دريدا، يستحيل معرفة الواقع خارج نطاق الخطاب المستخدم ويستحيل التعبير عنه. والنص، أدبياً كان أم فلسفياً، مُعبَّأ بالصور المجازية التي تحجب الرؤية. ومن ثم، فإن النصوص الفلسفية، بل العلمية، إن هي إلا نصوص بلاغية مجازية مكتفية بذاتها ولا تشير إلى أي شيء خارجها (فلا يُوجَد شيء خارج النص) . والنص شيء منفتح تماماً مرتبط بالنصوص الأخرى، ولكنه منعزل تماماً عن أي واقع موضوعي خارجه.

ص: 153

ب) ما بعد الحداثة الصراعية: النموذج هنا ليس اللغة وإنما إرادة القوة والحرب والمعارك، فالخطاب لا يُوجَد في ذاته على الإطلاق وإنما يُردُّ بأسره إلى الواقع. وإذا كانت ما بعد الحداثة اللغوية تقول "لا يُوجَد شيء خارج النص" فإن ما بعد الحداثة الصراعية تقول "لا يُوجَد شيء خارج القوة ولا يُوجَد أحد خارج نطاق القوة، فالمعرفة لا تُفهَم إلا في إطار علاقات القوة وتوزيعها، ومن يتحكم فيها يتحكم في كل شيء". والقوة في هذا السياق تحل محل اللغة (ومحل العلوم الطبيعية) فهي لا تهيمن على الواقع وحسب وإنما تعيد إنتاجه، وهي لا تكبح جماح الناس وإنما تعيد صياغتهم. واللغة نفسها ليست أداة للتواصل ولا حتى أداة للقمع بل هي القمع نفسه. والقوة ليست مركزاً ثابتاً وإنما هي مجموعة من العلاقات تتخلل النظام الاجتماعي بأسره بأشكال مختلفة. ولذا، لا يمكن إعطاء أسبقية أو أولوية سببية للعنصر الاقتصادي. والانعتاق لا يكمن في العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للدخل وإنما يكمن في التعبير عن الرغبة (التي تحاول النظم الاجتماعية أن تقمعها) ، ولكن الرغبة نفسها أصبحن نهباً للتغلغل وسيطرت عليها صناعة اللذة والأحلام. ولذا، يصبح الشذوذ الجنسي أكثر أشكال الرغبة انعتاقاً، بل تصبح الرغبات السادية/المازوكية الشاذة قمة الانعتاق (وقد صرح فوكوه، وكان شاذاً جنسياً يمارس السادية/المازوكية، ويتردد دائماً على عاصمة الشذوذ الجنسي في العالم [سان فرانسيسكو] ، بأن لحظة الانعتاق الوحيدة التي كان يشعر بها، هي لحظة ممارسته الجنس الشاذ على الطريقة السادية المازوكية، فهو بذلك يزيل آثار الميتافيزيقا تماماً وظلال الإله، إذ لا يبقى في العالم سوى جسده وجهازه العصبي وخلاياه وصيرورته الكاملة) .

ص: 154

إن اللغة أو القوة هما الحقيقة (اللوجوس) وهما بديل مقولة المادة في الفلسفات المادية في عالم لا قوانين له ولا يتبع مُخطَطاً ولا يحركه شيء سوى دينامية كامنة فيه نابعة منه وغير مفهومة.

ولكن كيف تأتَّى لفلاسفة ما بعد الحداثة أن يدركوا غياب المرجعية والمعيارية وهيمنة القوة وسيطرة الصيرورة دون الاستناد إلى مرجعية ما ومعيارية ما ومعرفة بعالم عادل فيه كليات ثابتة؟ وكيف يكتبون وهم يعرفون أنهم لن يصلوا إلى شيء؟ لم لا يحجمون عن الكتابة والتفكير وكتابة المجلدات الفلسفية المعقدة؟ أليس من الأجدى لهم أن يبقوا في عالم الصيرورة الأكيدة الحسية ويحتسوا أفخر الخمور ويضاجعوا أجمل النساء والغلمان كما فعل الرومان في أواخر أيام الإمبراطورية، وكما يفعل الوثنيون العدميون عندما يشعرون بالعدمية تُطبق عليهم؟ ففي الخمر والنساء صيرورة ويقين الغياب والعدم. لا يُوجَد رد على هذا داخل النظام ما بعد الحداثي وإن كان دريدا قد حاول مرة الإجابة بقوله بأنه يعترف بأنه يقف داخل النظام الميتافيزيقي ويدرك هذا، أما الآخرون فيقفون في نظمهم الميتافيزيقية ولا يدركون هذه الحقيقة. وهذا هراء إذ تظل المشكلة قائمة: لم الكتابة المضنية إذن، وسهر الليالي، بدلاً من الصيرورة السهلة والانزلاق المستمر؟ من أجل مَنْ كل هذا العناء وكل هذه المعاناة؟

3 ـ الترشيد:

ص: 155

لا يمكن، بطبيعة الحال، الحديث عن الترشيد في إطار ما بعد الحداثة، فهي ثورة ضد الترشيد وضد البحث عن الانعتاق من خلال المعرفة العلمية ومن خلال التكنولوجيا والنظريات العظمى. وتَصدُر ما بعد الحداثة عن الإيمان بأن ثمة قوى لغوية (ما بعد الحداثة اللغوية) أو تاريخية (ما بعد الحداثة الصراعية) غير واعية ولا يمكن التحكم فيها. وقد اكتشف الإنسان أن المشروع التحديثي والعقلانية المادية قد أنتجا روبسيير وستالين اللذين يقتلان بالطرق التقليدية باسم روح العالم والتاريخ، أما المشروع الحداثي واللاعقلانية المادية فقد أنتجا هتلر الذي يقتل بمنتهى الرشد من خلال أفران الغاز باسم الجايست، وأخيراً يظهر ريجان وبوش وكلينتون الذين يقتلون الجسد بالقنابل الذكية ويقتلون الروح من خلال التغليف الجيد والسلع باسم الإجراءات والحركة المستمرة.

ص: 156

ويُلاحَظ تزايد هيمنة المؤسسات البيروقراطية الحكومية وغير الحكومية، كما يُلاحَظ تصاعد معدلات التنميط والترشيد الذي يتزايد بشكل مخيف حتى تُصبح له حركيته المستقلة ويتزايد التجريد ويخضع كل شيء للتفاوض والتبادل بحيث يمكن تحويل أي شيء إلى شيء آخر. كما تتزايد السلع والمعلومات والمعارف. ولكن السلع لا تأتي بالسعادة بل تهيمن على الإنسان، فاستهلاكها يصبح الغاية النهائية من وجوده، فهو متمركز حولها وهو ما يؤدي إلى تَسلُّعه وإلى استقلالها المتزايد عن إرادته. والمعلومات لا تأتي للإنسان بالحكمة ولا تنير الواقع ولا تكشف المعنى بل تحجبه، فالأخبار تصبح قصصاً والوهم يصبح واقعاً ويتم "إخراج" كل شيء كما تُخرَج الأفلام، حتى الانتخابات أصبحت تشبه الأفلام، وحتي حياتنا الخاصة بدأنا في "إخراجها"، ويتداخل الأصل والصورة. ومع هذا، تستمر ثورة المعلومات والسلع بلا توقف. كل هذا يُولِّد إحساساً لدى الإنسان بأنه قد تحكَّم في كل شيء، والدليل على هذا وفرة المعلومات والسلع و"إخراجه" لكل شيء. ولكنه يحس أيضاً بعدم التحكم في المعلومات والسلع، فالعالم يُدار من الخارج تماماً، وهناك من يقرر ما يُنشَر وما لا يُنشَر ويقرر معنى المعلومات، ويتزايد الإحساس بأن العلم والتكنولوجيا لا يمكن التحكم فيهما، بل هي التي تتحكم في الإنسان. والتقدم العلمي أتى بالخيرات المادية ولكنه أدَّى إلى ثقوب الأوزون وتراكم أسلحة الدمار التي تكفي لتدمير العالم عدة مرات.

ص: 157

وتظهر الهندسة الوراثية والاستنساخ والهندسة الاجتماعية والبيولوجيا الاجتماعية والمفاهيم السلوكية والحتمية التي تتضاءل معها مقدرات الإنسان. وبدلاً من التطور، يظهر مفهوم التطوير ويتم حوسلة الإنسان تماماً. ومع ظهور الكمبيوتر، تتغير رؤية الإنسان تماماً للكون ويصبح العالم وحدات رياضية تُدرَك هندسياً. وهكذا يدرك الإنسان أنه يعيش في حرية كاملة بلا قواعد ولا قصص مع أنه في واقع الأمر يعيش في قفص حديدي. وهو عالم لا قانون له، عالم الحرية الكاملة، ولكن الحرية الكاملة هي نفسها الصدفة الكاملة. وبدلاً من التمرد على ما يحدث، يتقبل الإنسان نتائج الترشيد من الداخل والخارج ويقبل أن يُكتسَح بكل سرور وأن يتشيأ ويذعن للتحكم التكنوقراطي. وبدلاً من حلم التحكم، تظهر الرغبة في اللعب.

4 ـ المعنى (والوحدة والتماسك) والتجاوز:

وجود المعنى هو وجود عنصر أفلت من قبضة الصيرورة، ولكن ما بعد الحداثة هو عالم صيرورة كاملة، كل الأمور فيه متغيِّرة، ولذا لا يمكن أن يوجد فيه هدف أو غاية. وقد حلت ما بعد الحداثة مشكلة غياب الهدف والغاية والمعنى بقبول التبعثر باعتباره أمراً نهائياً طبيعياً وتعبيراً عن التعددية والنسبية والانفتاح، وقبلت التَغيُّر الكامل والدائم. ولا تتحقق الوحدة أو التماسك فبدلاً من المركز تظهر عدة مراكز، وبدلاً من اليد الخفية الواحدة تظهر أيد خفية عديدة. كما تظهر الذات الحرة تماماً، ولكنها حرة داخل سياقها الخاص وعالمها الخاص وحدودها الضيقة، فهي حرية كاملة داخل حدود كاملة خاصة. أما العالم الخارجي، فهو عالم تحكمه الحتميات الصارمة والصدفة الكاملة، عالم لا مركز له ولا يُوجَد فيه نظام أفقي أو رأسي.

ص: 158

لكل هذا، فإن الإرادة المطلقة داخل السياق الفردي الخاص تصبح إرادة عاجزة داخل السياق الإنساني العام. ولهذا، يظهر اللعب بديلاً عن التحكم، والانزلاق والرقص بديلاً عن التخطيط، تماماً كما تحل القصة الصغرى محل الوعي الإنساني الشامل. في هذا الإطار، لا يمكن التمرد أو الثورة أو التجاوز. وفي واقع الأمر، يتصور البعض أن ما بعد الحداثة، بإصرارها على أن كل شيء خاضع للصيرورة وأن الواقع تعددي، هي أيديولوجيا ثورية تعددية. لكن ما لا يدركه هؤلاء هو أن ما بعد الحداثة دعوة للتسوية لا للمساواة، وأن تعدديتها إنكار للمعيارية ولأية نظم من أي نوع، وأنها قد تأخذ شكلاً بروميثياً في رفض فكرة الإله المتجاوز ولفكرة القداسة مع أن مضمونها معاد للإنسان بإنكارها له ولمركزيته ولفكر الطبيعة البشرية، ورجعيٌّ مغرق في الرجعية بسبب إنكارها أية معيارية يمكن أن يتم التغيير باسمها. فهي أيديولوجيا القبول البرجماتي للوضع القائم والإذعان والخنوع له والتكيف معه، أي اللعب مع الواقع بدلاً من تغييره، وبدلاً من الحديث عن معنى اللعب، يصبح الحديث عن لعب المعنى. والحل البرجماتي يتضمن إعادة تسمية الظواهر السلبية. وإذا هزمت السلع الإنسان، فإن الحل هو أن يذعن لها الإنسان ويعتبرها أعمالاً فنية ومصدر لذة حقيقية، بل تصبح الوفرة السلعية هدفاً نهائياً للمجتمع والإنسان. وإذا كان التحديث يفكك الإنسان، والحداثة ترصد موت الإنسان، فإن ما بعد الحداثة تتكيف مع موت الإنسان وتقبله باعتباره أمراً طبيعياً متوقعاً.

5 ـ المنظومة الأخلاقية:

ص: 159

لأن الواقع لا اتجاه له، ولأن الكون لا ثبات فيه، ولأن الحقائق منفصلة عن القيمة، ولأن كل الأمور متساوية، بسبب كل هذا، لا يمكن قيام أية معيارية، ولا يمكن تأسيس نظم أخلاقية عامة، وإنما يمكن تأسيس اتفاقات محدودة الشرعية لا تتحدد في ضوء منظومة أخلاقية كلية وإنما في ضوء الوظيفة والنتيجة. كل ما يمكن التوصل إليه هو أخلاقيات برجماتية تأخذ شكل فلسفة القوة والهيمنة (للأقوياء) وفلسفة الإذعان والتكيف (للضعفاء) ، إذ لا تُوجَد معايير متجاوزة للإنسان ولا تُوجَد وسيلة لتعريف الظلم والعدل.

والحديث عن قمع الإنسان لبعض رغباته وإرجاء تحقيق البعض الآخر مستحيل، فمثل هذا لا يمكن أن يتم إلا باسم كل متجاوز وفي إطار قصة عظمى. ومن هنا تصبح الرغبة والتعبير عنها معياراً أخلاقياً أساسياً. فما يُعبِّر عن الرغبة هو خير، وهذا ما يعني الانفتاح الكامل والسيولة، أما الإرجاء فهو مرتبط بالقوة والقمع وتصبح المنظومة الأخلاقية منظومة جمالية، إذ لا يوجد واقع ولا حقيقة وإنما تُوجَد أشكال من التناسق يصل إليها الإنسان بنفسه. والتجربة الإنسانية خطاب خيالي وحقيقة إمبريقية في آن واحد (على حد قول بول دي مان) ، ومن المستحيل أن نقرر أيهما الواقع. وهذا التردد يجعل من الممكن غفران أي ذنب، مهما بلغ فحشه.

6 ـ التاريخ والتقدم:

ص: 160

يختفي المركز والأطروحات الكلية والسببية، ومن ثم يستحيل الوصول إلى معرفة كلية، وتختفي الذات ويتراجع الموضوع. وذاكرة الإنسان، مستودع تجربته وتجارب السابقين والملكة التي يقوم من خلالها بمراكمة المعنى والإنجازات، تهتز هي الأخرى. فالحقائق تتغير، والإعلام يعطيه حقائق/قصصاً متعددة مفرطة في تعدديتها، والقواعد تتغير، فيختفي الإحساس بالتاريخ والاستمرار كما تختفي النماذج الخطية التطورية ويختفي أي نموذج تفسيري. ويظهر ما سماه أحدهم «ذاكرة الكلمات المتقاطعة» ، أي معلومات متناثرة لا يربطها رابط. وينشأ الإحساس بأننا في الحاضر الأزلي، تَغيُّر مستمر بلا ماض ولا مستقبل. ويتحول التاريخ من تاريخ إلى مجرد زمان، لحظات جامدة، زمن مُسطَّح لا عمق له ملتف حول نفسه لا قسمات له ولا معنى. ويتزامن الحاضر والماضي والمستقبل تتساوى تماماً مثل تَساوي الذات والموضوع والإنسان والأشياء، ولكنها في الوقت نفسه متزامنة دون استمرار، فثمة انقطاع كامل. وإن بقي تاريخ، فهو يصبح كالأنتيكة، أشياء مبعثرة، وقائع منفصلة غير قابلة للتفسير تُشبه الصور المتجاورة التي تفصلها مساحات شاسعة، ولذا فإن الستينيات ليست حلقة في سلسلة تؤدي إلى التسعينيات وإنما هي حقبة تاريخية تنتمي إلى تاريخ قديم. وهذا يعني اختفاء القصة العظمى الإنسانية الشاملة لتظهر القصص الصغرى التي لا يتجاوز مغزاها حدودها والتي تؤكد التعددية والنسبية واختفاء مفهوم الإنسانية الشامل. كل هذا يعني اختفاء فكرة التقدم، وإن كان يواكبه إحساس بأن وتيرة التقدم قد تسارعت بشكل يفوق تَحكُّم الإنسان.

ص: 161

ونحن نذهب إلى أن ما بعد الحداثة هي أيديولوجية النظام العالمي الجديد، فبعد حرب فيتنام وتَصاعُد معدلات الاستهلاكية في العالم الغربي (وغير ذلك من الأسباب) اكتشف العالم الغربي والنظام العالمي القديم أن المواجهة المباشرة مع العالم الثالث وقوى المقاومة والجهاد أصبحت شبه مستحيلة، ولذا لابد من اللجوء للإغواء بدلاً من المواجهة فجدة النظام العالمي تكمن في الآليات وليس في الأهداف. ومن الصعب إغواء الشعوب المتماسكة ذات الرؤية القومية أو الدينية الواضحة، ولذا لابد من تسييل العالم والهجوم على الحدود المتعينة، حدود الذات (الوعي القومي ـ الذاكرة القومية ـ الرؤى القومية) وحدود الموضوع (السوق القومية ـ الدولة القومية ـ والمصالح القومية المشتركة) . والنسبية الكاملة والقصص الصغرى وتَناثُر المعنى والنص المفتوح وما شابه ذلك من مصطلحات ومفاهيم هي خير آلية لتحقيق هذا.

التفكيكية

ص: 162

«التفكيكية» ترجمة شائعة مباشرة ومعجمية لعبارة «دي كونستراكشن deconstruction» ، ولكنها لا تنقل مضمون الكلمة الأجنبية التي قد يكون من الأفضل ترجمتها بكلمة «التقويضية» (سعد البازعي وميجان الرديلي) أو «الانزلاقية» . ولكن كلمة «تفكيكية» هي الأكثر شيوعاً ومن هنا استخدامنا لها. وقد تحدَّث كارل مانهايم عن «ديستراكشن destruction» ، وهو هدم كل الأيديولوجيات التي تُخادع ذاتها بالضرورة وتتصور أنها تفلت من التاريخانية النسبية ومن قبضة الصيرورة. كما استخدم هايدجر نفس الكلمة بنفس المعنى تقريباً، ففي كتابه كانط ومشكلة الميتافيزيقا، تَحدَّث عن الحاجة إلى إعادة النظر في تاريخ الأنطولوجيا الغربية بطريقة تهدف إلى كشف موضوع دراستها وتطوُّرها وهو ما يتطلب فك تقاليد الأنطولوجيا الجامدة المتكلسة من خلال عملية «هدم» . وقد استخدم دريدا كلمة «هدم» أو «تقويض» (ديستراكشن) في بداية الأمر ولكنه عدل عنه واستخدم بدلاً منها كلمة «تفكيك» . ومع هذا، تظهر النزعة التقويضية بشكل صريح في حديثه عن إجهاد اللغة الذي سيؤدي إلى موت الكلام وحضارة الكتاب. وقد عرَّف هو نفسه التفكيكية بأنها "تهاجم الصرح الداخلي، سواء الشكلي أو المعنوي، للوحدات الأساسية للتفكير الفلسفي، بل تهاجم ظروف الممارسة الخارجية، أي الأشكال التاريخية للنسق التربوي لهذا الصرح والبنيات الاجتماعية الاقتصادية والسياسية لتلك المؤسسة التربوية". وحيث إنه لا يذكر بديلاً لهذه المؤسسات كافة، فإن ما يهدف إليه هو تقويض وهدم حتى لو سماه «التفكيك» .

ص: 163

وكلمة «تفكيك» تأتي في بعض الأدبيات مرادفة لمصطلح «ما بعد الحداثة» ، ولكننا نذهب إلى أن التفكيكية إحدى أوجه ما بعد الحداثة، ففكر ما بعد الحداثة فكر تقويضيّ معاد للعقلانية وللكليات، سواء أكانت دينية أم مادية، فهو فكر يحاول أن يهرب تماماً من الميتافيزيقا ومن الحقيقة والمركزية والثبات ويحاول أن يظل غارقاً في الصيرورة. وتَصدُر ما بعد الحداثة عن الإيمان بأن أي نظام فلسفي أو ديني يستند إلى نقطة بدء ثابتة متجاوزة (أساس) ، وفي حالة التصور الديني فإن نقطة البدء هي الإله الخالق المفارق للمادة. ولكن الأمر لا يختلف كثيراً في حالة النظم المادية (الصلبة) ، فنقطة البدء هي مفهوم الكل المادي الثابت المتجاوز (الذي نشير إليه بأنه الطبيعة/المادة) . هناك، إذن، لوجوس أساسي (الإله أو المادة) والعالم كله متمركز حول اللوجوس، ولا يمكن أن يُوجَد نظام دون مركز/لوجوس. وعادةً ما يَنتُج عن نقطة البدء ثنائية هي ثنائية الخالق والمخلوق (في النظم الدينية) أو ثنائية الكل والمركز والثبات مقابل الجزء والهامش والصيرورة. ويرى أنصار ما بعد الحداثة أن الثنائيات المتعارضة تظل في تعارضها ولعبها وحركتها إلى ما لا نهاية حيث تُوجَد نقطة أصل وأساس ثابتة. وهي تترجم نفسها إلى تراتب هرمي. وداخل كل ثنائية، يحكم أحد أطراف الثنائية الطرف الآخر.

وترى ما بعد الحداثة أن هذا الإيمان بالأصل الثابت المتجاوز (الإله أو الكل المادي المتجاوز) الذي يعلو على لعب الدوال وصيرورة المادة يتناقض تماماً مع الواقع المادي الذي يعيش فيه الإنسان وصيرورته الدائمة، فالمادية الحقة ضد الثبات وتؤمن بأن العالم بلا أصل.

ص: 164

كما يرى أنصار ما بعد الحداثة أن اللغة ليست أداة جيدة للتواصل، فثمة انفصال بين الدال والمدلول يؤدي إلى لعب الدوال المستقل عن إرادة المتكلم. فالإنسان لا يتحكم في اللغة بل إن اللغة هي التي تتحكم فيه. فاللغة تشبه المرأة اللعوب التي توهم المتحدث/الذكر، الذي يريد أن يُطوِّعها بأنها تطيع أمره، ولكنها في واقع الأمر تفعل عكس ما يريد تماماً.

لكل هذا يرى أنصار ما بعد الحداثة أن ثمة تناقضاًَ لا يمكن حسمه داخل كل نص يدعي لنفسه الثبات، هو التناقض بين ظاهره الثابت المتجاوز للصيرورة، وباطنه الواقع في قبضة الصيرورة وأن كل نص يحتوي على أفكار متسقة بشكل ظاهري، متعارضة بشكل فعلي. ولكن علاقة النص بالواقع لا تختلف عن علاقة الدال بالمدلول، أي أنها علاقة واهية جداً لأن النص في واقع الأمر يستند إلى ذاته ويُشير إلى ذاته ولا يُشير إلى أي شيء خارجه. وقد جعل أنصار ما بعد الحداثة همهم تفكيك كثير من الأفكار الأصولية (الدينية والمادية) وتوضيح استحالتها وتناقض الأساس الكامن داخلها، بحيث يظهر أن اللوجوس الذي يستند إليه نص أو ظاهرة إنما هو مجرد عنصر واحد من بين عناصر شتى، وأن الثنائيات الكامنة داخل نص ما ثنائيات متعارضة بشكل لا يمكن حسمه من خلال العودة إلى نقطة الأصل الثابتة، ومن ثم تسود حالة من الانزلاقية واللعب ويتهدم أي تراتب هرمي أو أي تنسيق للواقع.

في هذا الإطار يمكن القول بأن الرؤية الفلسفية هي «ما بعد الحداثة» ، أما «التفكيكية» فهي منهجها في تفكيك النصوص وإظهار التناقض الأساسي الكامن فيها، وقد قيل إن الجراماتولوجي هو «علم الكتابة» ، وذلك باعتبار أن الكتابة كتابة أصلية أو أولية، أما التفكيكية فهي الشكل الذي تأخذه حينما تتوجه إلى نصوص بعينها.

ص: 165

والتفكيكية تحاول تفكيك/تقويض النص بأن تبحث داخله عما لم يقله بشكل صريح واضح (وهو ما يُشار إليه بعبارة «المسكوت عنه» ) وهي تعارض منطق النص الواضح المُعلَن وادعاءاته الظاهرة، بالمنطق الكامن في النص، كما أنها تبحث عن النقطة التي يتجاوز فيها النص القوانين والمعايير التي وضعها لنفسه، فهي عملية تعرية للنص وكشف أو هتك لكل أسراره وتقطيع لأوصاله وصولاً إلى أساسه الذي يستند إليه، فيتضح تناقض هذا الأساس وضعفه ونسبيته وصيرورته فتسقط عنه قداسته وزعمه بأنه كلٌ ثابتٌ متجاوزٌ.

ويصل النص إلى طريق مسدود إذ تظهر الهوة الموجودة داخله (العنصر الذي يهرب من قبضة كل النظم المعرفية) . عندئذ، يظهر عدم تماسك النص وانعدام اتساقه الداخلي فيتعثر المعنى الظاهر ويتناثر، بعد أن كان متماسكاً وله مركزه الواضح، وتنزلق الدلالة من عالم تَرابُط الدال والمدلول إلى عالم من اللا تحدد ولا يرتبط فيه الدال بالمدلول.

وتتم عملية التفكيك على مرحلتين: يقوم الناقد بالتعمق في النص حتى يصل إلى الافتراضات الكامنة في النص ومنظوماته القيمية والهرمية وافتراضاته الأصولية وأساسه الميتافيزيقي الكامن (التمركز حول اللوجوس) . أما المرحلة الثانية، فهي حين يبدأ الناقد في اكتشاف عنصر ممالئ في النص (تفصيلات هامشية ـ مصطلحات غير هامة متكررة ـ إشارات عابرة) ، فيأخذها الناقد التفكيكي، ويظل يُعمِّق فيها ويُحِّملها بالمعاني حتى يبيِّن احتواء الكل الثابت المتجاوز على تفاصيل تُقوِّض من كليته وثباته وتجاوزه، وحتى يبيِّن مدى اشتراك الثنائيات في السمات رغم اختلافها، فهما ليسا متعارضين بما فيه الكفاية حتى يتداخل القطبان.

ص: 166

إن النقد التفكيكي لا يفكِّك النص ويعيد تركيبه ليبيِّن المعنى الكامن في النص (كما هو الحال مع النقد التقليدي) وإنما يحاول أن يكشف التوترات والتناقضات داخل النص وتعددية المعنى والانفتاح الكامل، بحيث يفقد النص حدوده الثابتة ويصبح جزءاً من الصيرورة ولعب الدوال، ومن ثم تختفي الثنائيات والأصول الثابتة والحقيقة والميتافيزيقا.

وقد أشار كثير من الدارسين إلى أن النقد التفكيكي يتسم بما يلي:

1 ـ النقد التفكيكي نقد ممل لأنه يقول الشيء نفسه عن النصوص كافة ونتيجته معروفة مسبقاً.

2 ـ لم يأت التفكيك بأي عنصر جديد، فكل العناصر موجودة في النقد التقليدي ولكنها مبالغ فيها ويتم تناولها بشكل لا تسمح به حدود النص.

3 ـ النقد التفكيكي نقد واحدي، فكل العناصر سيتم تفكيكها، وإن بقي عنصر سيأتي ناقد آخر ليكمل عملية التفكيك إلى أن ينتهي التفكيك بواحدية سائلة محضة.

4 ـ النقد التفكيكي نقد ثوري فيما يتعلق بتحليل خطاب الآخر، ولكنه رجعي في كل شيء آخر، فهو لا يمكن أن يطرح بدائل.

قبضة الصيرورة

«الصيرورة» من فعل «صار» وهي انتقال الشيء من حالة إلى أخرى وهي مرادفة للحركة والتغير. والصيرورة نقيض الثبات والسكون. أما «قبضة الصيرورة» فهي صورة من نحتنا ومن خلالها نبيِّن أن الإشكالية الأساسية في الفلسفة الغربية منذ عصر النهضة مع هيمنة الفلسفات العلمانية الشاملة (المادية) هي محاولة البحث عن مركز ثابت في عالم مادي كل ما فيه في حالة تَغيُّر وحركة، عالم لا ثبات فيه إلا للحركة ولا مطلق فيه إلا النسبي، وهي محاولة فاشلة فكل شيء يسقط، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، في قبضة الصيرورة، وهو ما يؤدي إلى غياب المركز وسقوط المرجعية وسيادة النسبية والعدمية.

ص: 167

وفلسفة ما بعد الحداثة هي الفلسفة التي تحاول أن تدفع بكل شيء إلى قبضة الصيرورة، ويتم ذلك من خلال نزع القداسة عن كل الظواهر وردها إلى عناصر مادية، خاضعة لقانون الحركة. وعلى المستوى اللغوي يتم فصل الدال عن المدلول وتبدأ لعبة الدوال وتسقط اللغة نفسها في قبضة الصيرورة.

انفصال الدال عن المدلول

«الدال» هو الجانب المحسوس (بالإنجليزية: سنسبل sensible) من الكلمة، فهو الصورة الصوتية أو مساويها المرئي. أما «المدلول» فهو الجانب المعقول (المُدرَك بالعقل) من المعنى (بالإنجليزية: إنتليجيبل intelligible) . وكان بوسعنا أن نقول ببساطة إن «الدال» هو «الاسم» و «المدلول» هو «المسمى» ، وأن «الدال» هو «الكلمة التي تشير إلى شيء» و «المدلول» هو «الشيء الذي يُشار إليه» . ولكن حيث إن كلمة «دال» لا تشير إلى الكلمات وحسب وإنما تشير إلى النظم الإشارية (علامات المرور ـ الرموز

إلخ) ، فإننا نُؤثر استخدامها لأنها أكثر شمولاً. والدال مرتبط دائماً بالمدلول، ولكنه منفصل عنه، فالدال جزء من النظام الإشاري اللاشخصي أما المدلول فهو جزء من نظام المعنى.

ومن القضايا الأساسية التي تُثار في فلسفة اللغة في الغرب قضية علاقة الدال بالمدلول، وهي قضية معرفية، تشير إلى علاقة العقل بالواقع (والإنسان بالطبيعة/المادة) ، فإن كانت علاقة الدال بالمدلول مباشرة وبسيطة فهذا يعني أن علاقة العقل بالواقع مباشرة وبسيطة، وأن عقل الإنسان سلبي يعكس الواقع دون تحوير أو تعديل أو إبداع، فالنموذج هنا تراكمي. والعكس صحيح. فإن كانت علاقة الدال بالمدلول غير مباشرة ومركبة، فهذا يعني أن علاقة العقل بالواقع (الحسي/المادي أي الطبيعة/المادة) علاقة مركبة وتعني استقلال العقل عن الواقع (الطبيعة/المادة (.

ويمكن أن تأخذ علاقة الدال بالمدلول شكلين أساسيين:

ص: 168

1 ـ انفصال الدال عن المدلول واتصالهما، وهو ما يعني أن ثمة مسافة بين الواحد والآخر ولكنها ليست هوة (أبوريا) إذ تُوجَد نقطة مرجعية نهائية يتصل من خلالها الدال بالمدلول، وهي المدلول المتجاوز، وهو ليس جزءاً من اللغة فوجوده يسبق وجودها. وهذا يفترض استقلال الفكر عن اللغة واستقلال اللغة عن الواقع، ولكنه يعني أيضاً أن اللغة أداة صالحة للتواصل، فهي تشير إلى الواقع (وهذا يعني أن العقل قادر على معرفة الواقع والتعامل معه) رغم وجود مسافة بينهما.

وثنائية الدال والمدلول تشير إلى ثنائيات أخرى مثل: لغة/فكر ـ شكل/مضمون ـ خارج النص/داخل النص ـ وسيلة/غاية ـ منطوق/مكتوب. وهذه الثنائيات متكاملة في النظم العقلانية. وثمة أولوية وأسبقية للطرف الثاني على الطرف الأول، فالمدلول يسبق الدال، تماماً كما أن المضمون والفكر هما الغاية وكما أن الشكل واللغة هما الوسيلة.

ويحاول دعاة ما بعد الحداثة أن يُبيِّنوا انفصال الدال عن المدلول لتقويض هذه الثنائية التكاملية الأولية، الضرورية لتطوير نظم فلسفية وأخلاقية. فهذه الثنائية، في تصوُّرهم، هي صدى للحضور وللوجوس. وكما يقول دريدا "إن الوجه المعقول للإشارة (المدلول) يتجه دائماً نحو وجه الإله (المدلول المُتجاوز) "، فإن ربطنا الدال (وجه الإشارة المحسوس) بالمدلول، فإن اللغة تصبح بذلك متمركزة حول اللوجوس (متوجهة نحو أصل الإنسان الرباني)، ولذا تأخذ الإستراتيجية ما بعد الحداثية شكل محاولة إلغاء المسافة بين الدال والمدلول وهذا يأخذ شكلين:

2 ـ الالتحام أو الانفصال الكامل للدال عن المدلول:

ص: 169

أ) التحام الدال بالمدلول، وهذا يعني أن الدال يصبح مدلولاً كما هو الحال في حالة الأيقونات واللغة الجبرية والتفسيرات الحرفية واللغة المحايدة والصيحات الجنسية واللغة الذاتية المغرقة في الذاتية (وهذا يعني أن العقل لا يَدخُل في علاقة مع الواقع، فهو جزء لا يتجزأ من الواقع عليه أن يذعن له أو أن يهيمن تماماً على الواقع ويمكنه تجاهله (.

ب) الانفصال الكامل للدال عن المدلول، وفي هذه الحالة تصبح اللغة نظاماً دلالياً مستقلاً تماماً عن الواقع، أو على علاقة به واهية للغاية. ومن أهم أسباب انفصال الدال عن المدلول تَغيُّر المدلولات بشكل سريع وتَداخُل الحدود حتى تصل إلى تعددية مفرطة في عالم المدلولات تجعل الدال لا قيمة له (وهذا يعني أن العقل لا يمكنه أن يتعامل مع الواقع، فالواقع لا يمكن الوصول إليه، ولذا فعلى العقل ألا يكترث بالواقع وأن يذعن للعب الدوال ويتكيف معه ويذعن له (.

إن الفصل الكامل للدال عن المدلول أو التحامهما هو تحطيم للغة وتحطيم للثنائية التكاملية وإطلاق للصيرورة بحيث لا يتوجه المدلول نحو المركز المتجاوز ويسقط كل شيء في قبضة لعب الدوال والصيرورة، وبذا تطمس حدود الكلمات ويهتز معناها وينسى الإنسان أصله الإلهي.

التحديث والحداثة وما بعد الحداثة والمنظومات الحلولية الكمونية المادية

ص: 170

يذهب معظم الدارسين إلى أن المشروع التحديثي (العقلاني المادي) هو مشروع غربي بالدرجة الأولى، ومن ثم يرون أن من يريد التحديث عليه استيراد النماذج الغربية. كما أن هناك من يذهب إلى القول بأن المشروع التحديثي العقلاني المادي إذا كان غربياً، فنحن إذن "بروحانياتنا وإسلامنا" محصنون (والحمد لله) ضده. والنموذج التفسيري الكامن في كلتا الرؤيتين هو نموذج تراكمي وليس توليدياً، يرى أن المعرفة كلها مكتسبة من الخارج (وأن المعرفة الحديثة مكتسبة من الغرب) وينكر أن بعض جوانب المعرفة الأساسية (حديثة أم قديمة) تُولَد من داخل عقل الإنسان نفسه.

ونحن نفضل استخدام نموذج توليدي في تحليل الظواهر الإنسانية لأنه أكثر تفسيرية وتركيبية، دون أن نرفض بطبيعة الحال النماذج التحليلية التراكمية. فمن غير الممكن إنكار أن النموذج التحديثي العقلاني المادي له جذور غربية واضحة، وأنه وصل إلى أول تَحقُّق تاريخي له في الحضارة الغربية من خلال ظروف (سياسية واقتصادية وحضارية) وبخاصة أنه انتقل من العالم الغربي إلى بقية العالم بل اكتسحه اكتساحاً (لأسباب خاصة بالحضارة الغربية من بينها نجاحه المادي في المجتمع الغربي الذي يستند إلى نجاحه في تجربته الإمبريالية) ولكن تفسير جاذبية النموذج التحديثي على أساس تراكمي لا يكفي لتفسير ظاهرة الاكتساح هذه. ونحن نرى أن أحد أهم أسباب نجاحه على المستوى العالمي هو أن جذوره كامنة في النفس البشرية ذاتها.

ص: 171

وقد تحدثنا عن أن الإنسان يتنازعه اتجاهان: النزعة الجنينية والنزعة الربانية. أما النزعة الجنينية فهي الرغبة في الهروب من عبء الهوية والتركيبية والتعددية والخصوصية والمسئولية والإنسانية المشتركة والقيم الإنسانية والأخلاقية العالمية والحدود (بمعنى العقوبة وبمعنى التعريف وبمعنى الحدود النفسية) والزمان والمكان والمقدرة على التجاوز حتى يعود الإنسان إلى عالم الطفولة الأولى والإنسان الطبيعي، بل إلى ما قبل الطفولة الأولى داخل رحم الأم؛ عالم سائل بسيط لا تُوجَد فيه أية حاجة للتجاوز، إذ لا أبعاد له ولا تُوجَد فيه كليات أو مطلقات أو ثوابت؛ عالم يهبط الإنسان فيه ويستقر في قاعه، لا يُوجَد فيه حيز إنساني أو زمان أو ثغرات أو جدل أو حدود أو صراع أو فارق زمني بين المثير والاستجابة؛ عالم بلا ذاكرة لا قيمة فيه ولا قداسة ولا دَنَس ولا عدل ولا ظلم ولا حق ولا حقيقة؛ عالم من الصيرورة الدائمة التي تشكل الثبات الوحيد؛ عالم من الأيقونات المكتفية بذاتها والتي لا تشير إلى إله، فهي تَجسُّد بلا لوجوس؛ عالم خال من الثنائيات قبل أن يُمنَح آدم المقدرة على تسمية الأشياء، حين كان إنساناً طبيعياً ذا بُعد واحد، جزءاً من الطبيعة يُعرَّف في ضوء وظائفه البيولوجية، قطعة من الطين (مادة أولية) لم ينفخ الإله بعد فيها من روحه، ولذا فهو لم يكن يعي بعد أصله الإلهي والمسافة بين الخالق والمخلوقات وبين الدال والمدلول والمحرمات والمباحات والحقيقة والزيف والحق والباطل والعدل والظلم، عالم يشبه ذلك العالم الذي يحلم به دريدا: عالم براءة الصيرورة ـ عالم الإشارات بلا حقيقة وبلا أصل. وكما يقول رورتي، فإنه "عالم مادي تماماً، خال من القداسة، لا يَعبُد الإنسان فيه شيئاً ولا حتى نفسه "، أي أنه عالم خال من الكليات الميتافيزيقية والمادية، ومن النزعات الدينية والإنسانية (يمكن العودة لوصف لاكان للمتخيل ولوصف بياجيه لمراحل تَطوُّر الطفل

ص: 172

لإدراك معالم المرحلة الجنينية) .

وقد عبَّرت هذه النزعة الجنينية والرغبة في السيولة عن نفسها دائماً من خلال المنظومات الحلولية الكمونية الواحدية سواء أكانت روحية (وحدة الوجود الروحية) أم مادية (وحدة الوجود المادية) في إنكارها الشرس للكليات المفارقة لعالم الصيرورة وفي دمجها بين الإله والطبيعة والإنسان بحيث يصبح العالم جوهراً واحداً لا اختلاف فيه ولا تمايز. ومن بين المنظومات الروحية، يمكن أن نذكر الغنوصية والقبَّالاه اليهودية وغلاة المتصوفة وكثير من الهرطقات الدينية والحركات الشعبوية الشيوعية، ذات الطابع المشيحاني الآدمي (أي نسبة إلى آدم) . ومن بين المنظومات المادية، يمكن أن نشير إلى كل الفلسفات المادية خاصةً الفلسفات المادية العدمية مثل السفسطائيين الذين لا يجدون في العالم سوى حركة. ولا تتمرد كل هذه الفلسفات الواحدية على فكرة الإله المفارق وحسب وإنما ترفض كل الكليات والتجاوز والحدود، وضمن ذلك الحدود التي تحدد الإنسان كإنسان وتفصله عن الكائنات الطبيعية، ولذا فهي تذيب الإنسان كمقولة مستقلة وككائن متجاوز للطبيعة/المادة. وقد كانت الجماعات الوظيفية تحمل دائماً فكراً حلولياً كمونياً واحدياً، روحياً مادياً في آن واحد (روحياً بالنسبة للجماعة الوظيفية، مادياً بالنسبة للأغلبية) ، والإنسان الوظيفي إنسان ذو بُعد واحد، إنسان اقتصادي غير قادر على التجاوز، يُفهَم في ضوء وظيفته المادية وحسب.

ص: 173

وقد عادت النزعة الحلولية الكمونية الواحدية وأكدت نفسها وبحدة في عصر النهضة في الغرب، فالمشروع التحديثي الغربي العلماني الشامل هو مشروع يدور في إطار المرجعية الواحدية المادية الكامنة في إطار الإنسان الطبيعي الذي يعيش في الطبيعة وعلى الطبيعة، إنسان ذو بُعد واحد. ولكن المشروع التحديثي كان يدور في مراحله الأولى في إطار كل مادي متجاوز، ولذلك فقد أنتج فلسفات عقلانية مادية تؤله الكون ـ تارة تُغلِّب الذات على الموضوع وتعلن أسبقية الإنسان على الطبيعة (تأليه الإنسان) ، وتارة أخرى تُغلِّب الموضوع على الذات وتُعلي شأن الطبيعة على حساب الإنسان (تأليه الطبيعة) ـ إلا أنها في تأرجحها هذا ظلت فلسفة عقلانية، تدور حول مركز وتتسم بالصلابة تشبه ما يسميه فيبر «الديانة العالمية» ، وهي ديانة يرى أنها تستند إلى رؤية كوزومولوجية عالمية شاملة، تتفرع عنها نظم معرفية وأخلاقية شاملة، وتجيب على كل أو معظم الأسئلة الكلية والنهائية التي تواجه الإنسان بطريقة معقولة تتسم بالاتساق، ولذا فهي تُدخل على قلوب المؤمنين بها الطمأنينة والأمن وقدراً عالياً من التفاؤل. وتفي بالاحتياجات النفسية للإنسان في فهم العالم وفي التوازن مع ذاته ومع عالمه، وتحل له مشكلة المعنى. ويمكن القول بأن المنظومة التحديثية المادية في مرحلة التحديث والصلابة حاولت أن تجيب على الأسئلة الكلية والنهائية والتقليدية وأن تزود الإنسان بمنظومات معرفية وقيمية، ونجحت في هذا بأن أخذت المنظومات المعرفية والأخلاقية المسيحية والإجابات المسيحية على الأسئلة النهائية وقامت بعلمنتها بأشكال مختلفة، فحلّ محل الإله مطلقات علمانية مختلفة مثل «العقل الكلي» أو «روح التطور» أو «المجتمع» أو «الطبقة العاملة» . وحلّ محل «تَجسُّد الإله في العالم» مسميات أخرى مثل «تَحقُّق العقل الكلي في التاريخ» أو «حتمية التقدم» أو «مسار التاريخ» . وحلّ محل «الآخرة والبعث ويوم الحساب»

ص: 174

مفاهيم مثل «حكم التاريخ» و «نهاية التاريخ» و «اليوتوبيا التكنوقراطية» و «الفردوس الأرضي» . وتغيرت المطلقات العلمانية وتغيرت تجسداتها ولكن ظل هناك دائماً مطلق ما (المدلول المتجاوز في المصطلح ما بعد الحداثي) يمكن من خلاله إدراك الكليات والمطلقات والثوابت، ويمكن استناداً إليه ترتيب الواقع ترتيباً هرمياً وتحديد ما هو حلال وما هو حرام وما هو كلي وما هو جزئي وهكذا، ويمكن من خلاله ترويض الإنسان الطبيعي ووضعه داخل حدود حضارية، بحيث يمكنه تَجاوُز ذاته الطبيعية المادية.

ص: 175

ولكن معدلات الترشيد المادي والعلمنة المادية والحلولية الكمونية المادية أخذت في التزايد، فزادت معدلات النسبية إلى أن سيطرت تماماً وسقط الكل المادي المتجاوز (إنسانياً كان أم طبيعياً/مادياً) ووقع كل شيء في قبضة الصيرورة. وبدأت الحضارة الغربية تُنتج فلسفات معادية للعقل تنكر الكون والكليات والمطلقات والحدود وتنكر وجود الذات والموضوع وتنكر وجود أي مركز، وتعلن استحالة قيام نظم معرفية وأخلاقية عالمية. هذه الفلسفات المادية اللاعقلانية هي نفسها فلسفات جنينية لا تقف ضد الديانات العالمية التقليدية وحسب وإنما ضد العقلانية المادية الصلبة نفسها، ولا تقف ضد الميتافيزيقا الإيمانية وحسب وإنما ضد الميتافيزيقا المادية أيضاً، أي ضد أية ميتافيزيقا. والحضارة المعاصرة هي نتاج هذه النسبية الكاملة وهذه السيولة الفلسفية الشاملة، نتاج هذا النزوع الجنيني نحو إنكار الحدود والهوية والكليات. وهذه السيولة نمط سائد في سائر الأنساق الحلولية الكمونية المادية في كل الحضارات. وعادةً ما تُظهر هذه المنظومات قدراً من التماسك في العصر البطولي ولكنها تنحل دائماً إلى مادة محضة غير متشكلة لا مركز لها ولا قوام، ولا تسمح بقيام أية كليات. وقد نبهنا إلى ذلك السوفسطائيون في بداية تاريخ الفلسفة الغربية، وكما نبهنا نيتشه في نهاية القرن الماضي، كما يبين لنا أنصار ما بعد الحداثة هذه الأيام.

ص: 176

ومما لا شك فيه أن الحضارة الغربية قد وصلت إلى معدلات عالية من السيولة إلا أننا لا يمكن أن نراها متجذرة في هذه الحضارة وحسب، ولا يمكن أن نراها مقصورة عليها، ولا يمكن أن نَعتبر الحضارة الغربية مصدرها الوحيد، بل هي تعبير عن نزوع بشري عميق وعن نمط يسم كل المنظومات الحلولية المادية الواحدية. فالحضارة الغربية الحديثة هي تعبير عن نمط متكرر ونزوع إنساني كوني، وهو النزوع الجنيني، ويجب أن ندركها في إطارها هذا ولا نراها مقصورة على الزمان والمكان الغربيين.

ورغم جدة الأطروحة التي نقدمها والتي تدور في إطار نموذج توليدي، فإن ماكس فيبر كان يتحسس طريقه نحوها. ومما له دلالته أنه كان يكتب في نهاية القرن التاسع عشر مع بداية تَحوُّل الحضارة الغربية من المرحلة البطولية المادية ومرحلة التحديث ومع بداية دخولها مرحلة السيولة والبرجماتية. وقد لاحظ فيبر وجود عناصر مشتركة بين الحضارة الغربية الحديثة والحضارات الوثنية البدائية ذات النزعة الجنينية الواضحة التي ترى الإنسان باعتباره جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة. والمنظومات الوثنية البدانية لم تظهَر فيها منظومات أخلاقية، إذ تظل مثل هذه المنظومات ملتصقة تماماً بعالم المادة والجسد وتدور في إطار النسبية المعرفية والأخلاقية، أي أن فيبر يربط بين الحضارة الغربية الحديثة وبين نموذج أكثر عالمية وشمولاً وإنسانية، وهو النموذج الوثني البدائي (الجنيني) ، أي أنه لا يراها حضارة ذات جذور غربية ولكن حضارة ذات جذور إنسانية كونية. ولنحاول أن نعرض لأطروحة فيبر مع تطويرها بعض الشيء (مثل ربطنا الديانات الوثنية بالنزعة الجنينية) لتصبح أكثر اتساعاً وشمولاً وخصوبة. ولكن تطويرنا وتعديلنا للأطروحة لا يُخل على الإطلاق بأساسياتها.

ص: 177

يرى فيبر أن ثمة تشابهاً عميقاً بين الإنسان البدائي والإنسان الحديث، ويمكن أن نُعدِّل كلمة «بدائي» لتصبح «الوثني» الذي يؤمن بديانة حلولية كمونية وثنية (وبالفعل، نلاحظ أن فيبر يتحدث أحياناً عن «الإنسان البدائي» وأحياناً أخرى عن «اليوناني القديم» ، واليوناني القديم أبعد ما يكون عن البدائية. ولذا فلنستبدل كلمة «وثني» بكلمة «بدائي» لنحاول فهم أطروحة فيبر) . كما يجب أن ندرك أن كلمة «إنسان حديث» تعني في واقع الأمر الإنسان الذي يدور في إطار الواحدية المادية (أي العلمانية الشاملة) .

ص: 178

يرى فيبر أن أهم نقط التشابه بين الإنسان الوثني القديم والإنسان الحديث هو أن كليهما يفتقر إلى إطار مرجعي معرفي وأخلاقي متكامل متماسك يكتسب تكامله وتماسكه من خلال عقيدة دينية أو ميتافيزيقية، أي أن كليهما لا يؤمن بـ «ديانة عالمية» . فكل من الإنسان الوثني والإنسان الحديث يعيش في عالم يفتقر إلى المركز ويتسم بتعدد العقائد والنظم المعرفية والأخلاقية (أي لا تُوجَد «قصة عظمى» وإنما هي «قصص صغرى» ، إن أردنا استخدام المصطلح ما بعد الحداثي) . ولذا، فإن الإنسان الوثني البدائي يعيش في عالم مخيف يتهدده من كل جانب، فهو لا يؤمن بعالم آخر ويعيش في هذه الدنيا محاطاً بآلهة وشياطين متصارعة لصيقة بعالمه المادي المباشر غير مفارقة له إلا بمسافة صغيرة. وعقيدته الدينية (قصته الصغرى) لا تجيب على أي أسئلة كلية، فهي لا تُقدِّم رؤية كونية شاملة (قصة عظمى) . ولذا، فهي قادرة على أن تُهدئ من روعه قليلاً وبشكل مؤقت شريطة أن يذهب إلى الساحر ليُزوِّده بالتعويذة اللازمة لهذه المناسبة، وبعد أن يُقدِّم القرابين لإلهه الخاص أو لإله الجماعة أو لإله المكان (دون الآلهة الأخرى) في مذبح معيَّن، وبعد أن يقوم بالشعائر المطلوبة بكل دقة، دون وجود منطق كلي واضح وراء كل هذا. وعلاقة الوثني بالآلهة وبالساحر علاقة مادية تعاقدية مباشرة، محددة بنظام المناسبة المباشرة: اتقاء شر إله المكان، أو طلب مساعدة في مهمة معينة، دون وجود منظومة كونية عالمية شاملة.

ص: 179

ويبيِّن فيبر أن العلم الحديث همَّش الشرعية الدينية إن لم يكن قد ألغاها تماماً. ولكن العلم لا يجيب على الأسئلة الكلية والنهائية (فهو يتعامل مع الجزئيات التي تشبه آلهة المكان والجماعة ولا يتناول الكليات) . وإجابات العلم على القلق الميتافيزيقي هو مثل تقديم القرابين لآلهة محلية للحصول على طمأنينة مؤقتة، تأخذ في بعض الأحيان شكل مسكنات أو طبيب نفسي. كما أن العلم بسبب افتقاده الرؤية الكلية يسمح بظهور عقائد مختلفة متصارعة، ليس لأيٍّ منها مركزية، تشبه آلهة وشياطين الإنسان الوثني البدائي القديم. (ألا يُفسِّر هذا ظهور العبادات الجديدة البدائية وانتشار التنجيم والسحر وعبادة الشيطان في العالم الغربي المتقدم حيث يسود العلم والتكنولوجيا؟) .

ص: 180

بل إن مشكلة المعنى بالنسبة للإنسان الحديث تزداد حدة، إذ عليه أن يتعامل مع أكثر من عالمين (هذا العالم والعالم الآخر) . فالوجود الإنساني في المجتمع الحديث قد تم تقسيمه إلى عوالم ومجالات مختلفة منفصلة يسميها فيبر «نظم الحياة» (بالإنجليزية: لايف أوردرز life orders) ، فهناك النظم أو المجالات العامة مثل المجال الاقتصادي والمجال السياسي، وهناك المجالات الخاصة مثل المجال الجماعي والمجال الجنسي والمجال الفكري. ولكل نظام إجابته الخاصة على الأسئلة الكلية دون وجود إطار كلي ينتظمها جميعاً، ومثل هذا التشظي لا يمكنه أن يزود الإنسان بإجابة على الأسئلة النهائية، ولذا يظل عالم المعنى فارغاً ويظل كذلك عالم الأخلاق فارغاً، فمع غياب المعنى ونسبية المعرفية تسيطر النسبية الأخلاقية والنفعية المادية التي لا تختلف كثيراً عن أخلاقيات الوثني البدائي النسبية النفعية. ونحن نضيف إلى هذا أن كثيراً من المجالات التي يشير إليها فيبر قد أسقطت تماماً الأسئلة الكلية والنهائية ولم تثرها أساساً، أي أنها حلت مشكلة المعنى عن طريق إلغائها واكتفت بالترشيد الإجرائي وأخلاقيات الصيرورة، أي الالتزام بقواعد اللعب وبالإجراءات دون أي بحث عن معنى كلي أو نهائي.

ص: 181

وتؤدي هذه النسبية المعرفية والأخلاقية في حالة الإنسان الوثني البدائي والإنسان الحديث إلى غياب إطار متكامل للوفاء باحتياجاتهما النفسية، ولذا، يعود كل منهما إلى مصادره الشخصية. وإذا كان البدائي يعود للقبيلة والآلهة المحلية ويفقد ذاته فيهما، فإن الإنسان الحديث قد فقد إيمانه بالكل المادي ولم يبق أمامه سوى المؤسسات الرشيدة التي تُرشِّد حياته وتُنمِّطها وتضع له سيناريوهات عديدة بديلة، ولكنها جميعاً تنويعات رياضية فارغة من المعنى. وحينما يتمرد الإنسان على حياته، تظهر الحركات الشمولية والقوميات العضوية التي تزود حياته بالمعنى بأن تُحوِّله إلى إنسان ذي بُعد واحد لا يسأل أية أسئلة نهائية أو كلية ولا يشعر بأي قلق ميتافيزيقي ولا يلتزم بأية منظومات أخلاقية متجاوزة لذاته القومية الضيقة وتذيب الذات المركبة المتعينة في كل أكبر ملون هو الشعب القومي العضوي وأرض الوطن والأجداد المختارة (التي تشبه آلهة المكان المحلية) ، أو الدولة والفوهرر في النازية، والوطن والدوتشي في الفاشية، وديكتاتورية البروليتاريا والزعيم الفرد في الشيوعية، والشعب اليهودي المختار وأرض الميعاد في الصهيونية. ولعل ظهور العبادات الجديدة والنزعات البيئية المتطرفة وعبادة جايا، أي الأرض، هو تعبير عن هذه الرغبة الوثنية البدائية/ الحديثة/الجنينية في العودة إلى كل أكبر تُفقَد فيه الذات وتهبط في القاع وتستقر فيه.

ولعل ظهور الجسد والجنس (والصور المجازية الأساسية في النظم الحلولية الكمونية) كصور مجازية أساسية تعبير آخر عن النزعة الجنينية (الوثنية الحديثة) ومحاولة حل مشكلة المعنى بإلغائها، فحينما يصبح الجسد والجنس هما المعنى، فقد عدنا مرة أخرى لإله المكان وإله اللحظة وإلى القرابين المباشرة النفعية دون منطق واضح ودون معنى كلي.

ص: 182

تَجاوَز فيبر حدود المكان والزمان ولاحظ التشابه العميق بين رؤية الكون التي تسود في الحضارة الغربية الحديثة والحضارات الوثنية البدائية (في كثير من الأمكنة) ، ولاحظ السيولة الفلسفية التي تسم هذه الرؤى وعجزها عن النهوض إلى عالم الكليات بكل ما يحمل من مسئولية. ولعل أطروحة فيبر لم تنل ما تستحقه من تقدير ودراسة لأنه ذكرها بشكل عرضي في كتاباته. ولكن الأهم من هذا هو سقوط فيبر في التعميم المخل. فقد أدرك بثاقب نظره أننا على عتبات السيولة والنسبية وما بعد الحداثة. ولكنه، بدلاً من أن يرى السيولة باعتبارها إمكانية كانت كامنة وبدأت في التحقق في المرحلة المقبلة، عمَّم بناءً على إدراكه وأسقط هذا التعميم بشكل مطلق على الحضارة الغربية الحديثة بأسرها. ومن الواضح أن التعميم لا يَصدُق إلا على المراحل الأخيرة من الحضارة الغربية الحديثة حيث يسقط كل شيء في قبضة الصيرورة.

ص: 183

ولعله، بإخفاقه هذا، لم ينجح في تفسير عظمة هذه الحضارة الحديثة في مراحلها الأولى (في عصرها البطولي) وطموحها نحو النظرية العامة وتفسير الكون بأسره، بل الهيمنة الإمبريالية العالمية عليه، كما لم ينجح في تفسير كيف أن ما تُصدِّره لنا الآن هذه الحضارة الغربية الحديثة يقف على طرف النقيض من كل ما تعلمناه منها من قبل. فهي حضارة لم تَعُد تبحث عن الحقيقة الكلية والقصة العظمى، وإنما أصبحت قانعة راضية بالنسبية. وهي حضارة كانت تُنتج أشكالاً فنية متماسكة ذات معنى فانغمست في التجريب وأدمنت البدايات الجديدة بشكل دائم وغاصت في التشظي الفلسفي والفني. وبعد أن كانت تؤمن بالمحاكاة والمقدرة على التواصل، أصبحت تنكر هذا الآن، وأخيراً فإن هذه الحضارة العقلانية المادية أصبحت حضارة لاعقلانية مادية. ونموذجنا التفسيري قادر على الإحاطة بهذا التناقض، فقد كانت رغم أن السيولة الفلسفية كامنة في المشروع التحديثي في ماديته وتفكيكيته، إلا أنها كانت في حالة كمون وحسب، ولم تبدأ في التحقق إلا مع نهايات القرن التاسع عشر ثم اكتسحت أوربا مع منتصف القرن العشرين، وها هي ذي تكتسح العالم بأسره على هيئة فكر ما بعد الحداثة والنظام العالمي الجديد.

ص: 184

ولكن منتجات الحضارة الغربية الحديثة في مرحلة السيولة (المتجذرة في النزعة الجنينية عند الإنسان) ليست معادية للحضارة الشرقية أو الإسلامية وحسب، وإنما هي معادية لكل الحضارات وضمنها الحضارة الغربية نفسها (تماماً كما أنها ليست معادية للميتافيزيقا الدينية وحسب ولكنها معادية لكل أنواع الميتافيزيقا وضمن ذلك الميتافيزيقا المادية) . ولذا فإن منتجات هذه الحضارة لا تُقوِّض خصوصيتنا وهويتنا وتماسكنا وحدنا وحسب، وإنما تُقوِّض خصوصية وهوية وتَماسُك المجتمعات الغربية نفسها. فالهامبورجر طعام طبيعي مادي أقرب إلى قطعة الغيار لا علاقة له بالأطعمة الغربية (من مطبخ فرنسي إلى مطبخ إيطالي إلى مطبخ إسباني أو حتى مطبخ أمريكي سواء أكان جنوبياً أم شمالياً إلى مطبخ الكريول في لويزيانا) ، وهو يحل محلها جميعاً بالتدريج، وهو طعام وظيفي محض لا طعم له ولا لون ولا رائحة، بروتين حيواني، يمكن أن تحل محله حبوب البروتين حينما يتم اختراعها في عصر اليوتوبيا التكنولوجية التكنوقراطية. وقل الشيء نفسه عن موسيقى الديسكو، فليست لها علاقة كبيرة بموتسارت أو بيتهوفن أو باخ أو تليمان أو موسيقى الباروك، ومع هذا فهي تُقوِّضها كلها وتحل محلها. والشيء نفسه ينطبق على الطرز المعمارية، فما يُسمَّى «الطراز الدولي» هو طراز وظيفي وعبارة عن حوائط تشكل حيزاً محايداً يمكن لأي إنسان وظيفي أن يمارس فيه وظائفه البيولوجية الأساسية، دون خصوصية أو هوية أو آلام أو أحلام خاصة.

ص: 185