المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثانى: إشكالية الوحدة اليهودية والنفوذ اليهودي - موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية - جـ ٣

[عبد الوهاب المسيري]

الفصل: ‌الباب الثانى: إشكالية الوحدة اليهودية والنفوذ اليهودي

ولذا، كان لابد من العدول عن استخدام كلمة «عرْق» . وبدلاً من ذلك، بدأ تعريف اليهودي على أساس إثني، أي على أساس التراث والثقافة المشتركة، ومن ثم حلت الإثنية محل العرْقية كنقطة مرجعية وكأساس للهوية. لكن التعريف الإثني لا يختلف في جوهره عن التعريف العرْقي، فكلاهما يفرز نظرية في الحقوق (العرْقية أو الإثنية) تعطي صاحب الهوية العرْقية أو الإثنية مزايا معينة وقوة مطلقة تنكرها على غيره من البشر. (انظر الباب المعنون «ثقافات أعضاء الجماعات اليهودية [تعريف وإشكالية] » ) .

‌الباب الثانى: إشكالية الوحدة اليهودية والنفوذ اليهودي

الوحدة اليهودية

Jewish Unity

«الوحدة اليهودية» عبارة تفترض أن ثمة وحدة تربط بين أعضاء الجماعات اليهودية كافة في كل زمان ومكان، وأن هذه الوحدة تتمثل في وحدة الهوية والشخصية والسلوك، وفي أشكال مختلفة من التضامن، وفي نهاية الأمر في القومية اليهودية وفي الشعب اليهودي الواحد ذي الهوية الواحدة المستمرة وكذلك في التاريخ اليهودي الواحد. ويذهب البعض إلى القول بوجود عرْق يهودي واحد. وينتهي هذا الافتراض إلى أن اليهود حافظوا على هذه الوحدة منذ خروجهم من مصر الفرعونية حتى يومنا هذا. وقد فُسِّر مصدر هذه الوحدة تفسيرات عدة، فالصهاينة الدينيون يرون أن مصدر الوحدة هو حلول الروح الإلهية أو الشخيناه وكمونها في الشعب اليهودي، فهي تَقطُن وسطهم، وهي التي تُحوِّلهم إلى شعب من الكهنة والقديسين، بينما يرى الصهاينة اللادينيون أن مصدر وحدة اليهود هو الجوهر اليهودي الكامن في كل اليهود، أو هو نزعة معاداة اليهود في مجتمعات الأغيار، أو تَميُّز اليهود وظيفياً واضطرارهم إلى الاضطلاع بدور الجماعة الوظيفية الوسيطة وبالأعمال التجارية والربوية. ويميل الخطاب الصهيوني في الوقت الحاضر إلى تأكيد أن هذه الوحدة هي تعبير عن تَطلُّع قومي في حالة اللادينيين، وعن تَطلُّع قومي ديني في حالة الدينيين.

ص: 26

ولكن النموذج الصهيوني الاختزالي يختلف عن بنية الواقع التاريخي المُركَّب المتعيِّن لأعضاء الجماعات اليهودية، وهو واقع لا يتسم بالوحدة. فمن الناحية الدينية، تأخذ اليهودية شكل تكوين جيولوجي تراكمي غير متجانس تتعايش فيه العناصر المختلفة جنباً إلى جنب أحياناًً وتتفجر أحياناًً أخرى. وقد حدثت تَفجُّرات وانقسامات كثيرة من البداية، من أهمها ما كان يحدث داخل المملكتين العبرانيتين (المملكة الشمالية والمملكة الجنوبية) من صراع بين عبادة يهوه وعبادة بعل، وصراع بين عبادة مملكة الشمال وعبادة مملكة الجنوب. وعند عودة بعض اليهود من بابل إلى فلسطين، حدث انقسام حاد بينهم وبين اليهود المقيمين الذين جاء منهم فريق السامريين. وقد انقسم اليهود دينياً بعد ذلك إلى صدوقيين وفريسيين وأسينيين، ثم ظهر الاحتجاج القرّائي على اليهودية الحاخامية، كما ظهرت الحركات المشيحانية المختلفة (وآخرها الحركة الحسيدية) ، وهي حركات احتجاج ضد المؤسسة الحاخامية تنفي مفهوم الوحدة تماماًً. كما انفصلت بعض الجماعات اليهودية مثل الفلاشاه ويهود الهند عن اليهودية الحاخامية، وأصبح لها صيغ يهودية مختلفة جوهرياً عن الصيغة الحاخامية. وفي العصر الحديث، انقسمت اليهودية إلى فرق: اليهودية الإصلاحية، واليهودية المحافظة، واليهودية التجديدية، واليهودية الأرثوذكسية، واليهودية الأرثوذكسية الجديدة. وهناك، بطبيعة الحال، الانقسام بين الإشكناز والسفارد على المستوى الديني. وكثير من هذه الفرق قد تُكفِّر بعضها البعض وقد تجد أن الانقسام من الحدة بحيث تُقاطع الواحدة منها الأخرى، وهو ما يجعل الحديث عن الوحدة اليهودية أمراً صعباً. ومما زاد من تعميق هذا التفتت، غياب سلطة مركزية يهودية جماعية، دينية أو دنيوية، تُحدِّد المعايير لأعضاء الجماعات اليهودية.

ص: 27

والخاصية الجيولوجية التراكمية نفسها تسم أعضاء الجماعات اليهودية وهوياتهم المختلفة. فحتى قبل دخول العبرانيين إلى مصر، يُحدِّثنا العهد القديم عن الخلاف بين يوسف وأعضاء أسرته. كما أن القبائل العبرانية تشترك جميعها في الثورة ضد الفلستيين وأعداء العبرانيين الآخرين إبَّان حكم القضاة. وقد اندلعت الثورات الأهلية داخل مملكة داود وسليمان، ووصل التوتر إلى درجة عالية داخل المملكة المتحدة، فانحلت بعد موت سليمان وانقسمت إلى مملكتين تتصارعان معاً. واستعانت المملكة الجنوبية بآشور ضد المملكة الشمالية، الأمر الذي أدَّى إلى تَدخُّل هذه القوة العظمى، فقامت بتدمير المملكة الشمالية تماماًً وتهجير نخبتها الحاكمة.

ص: 28

وقد حقق اليهود قدراً من الوحدة والاستقرار حينما سيطرت الدولة الفارسية على الشرق الأدنى القديم، حيث كانت كل التجمعات اليهودية تحت هيمنتها. وقد انتهت هذه الوحدة المؤقتة بانحسار نفوذ هذه الإمبراطورية بعد غزو الإسكندر لكلٍّ من مصر وسوريا وفلسطين وغيرها من المناطق. وقد كانت الخصومات بين بعض قطاعات اليهود تتطور إلى حروب أهلية طاحنة يقتتل فيها اليهود ويتعرضون للإبادة الجسدية على أيدي بعضهم البعض كما حدث في العام الرابع الميلادي في عهد أرخيلاوس ابن هيرود الذي أباد ثلاثة آلاف يهودي، أو كما حدث في تَمرُّد عام 70م حين قتل المتطرفون من اليهود اثنى عشر ألف يهودي من الأثرياء. وقد كان هناك، إلى جانب تيتوس، جيش يهودي تحت قيادة أجريبا الثاني يحارب ضد المتمردين اليهود. وفي العصور الوسطى، كان لسكان أي جيتو في أوربا حق تحريم استيطان اليهود الآخرين فيه (حيرىم هايشوف) ، وهو حق كانت تمارسه كل الجيتوات. وكان الصراع بين أعضاء الجماعات اليهودية واضحاً في أوربا في القرن السابع عشر. أما في الدولة العثمانية، فكان لكل مجموعة يهودية معبدها اليهودي وحاخامها الخاص، وكانت كل مجموعة يهودية تستعدي السلطة على المجموعة الأخرى. وعندما هاجر يهود اليديشية إلى الولايات المتحدة، ناصبهم اليهود ذوو الأصل الألماني العداء. وكان هؤلاء قد لاقوا رفضاً من جانب اليهود السفارد الذين سبقوهم. غير أن الولايات المتحدة قامت بصهرهم ضمن من صهرتهم من مهاجرين، فحققوا شيئاً من الوحدة والتماسك لا بوصفهم يهوداً بشكل عام وإنما بوصفهم يهوداً أمريكيين تحولوا بالتدريج إلى أمريكيين يهود.

ص: 29

وقد تكررت الظاهرة في أمريكا اللاتينية. ولكن نظراً لأن الحضارة الكاثوليكية هناك لم تقم بصهر أعضاء الجماعات اليهودية الذين هاجروا إلىها، فقد احتفظوا بخاصية عدم التجانس، وقامت كل جماعة يهودية تنتمي إلى هذا البلد أو ذاك بتنظيم نفسها بشكل مستقل. فنجد أن المكسيك تضم عشرات التنظيمات اليهودية، من بينها تنظيمان ليهود سوريا: واحد للدمشقيين والآخر للحلبيين. والمعركة الدائرة بين اليهود الأرثوذكس واليهود غير الأرثوذكس حول تعريف اليهودي، داخل وخارج إسرائيل، أصبحت معركة أساسية تفوق في أهميتها الصراع بين الإشكناز والسفارد.

ويمكننا أن نقول إن أعضاء الجماعات اليهودية لم يحققوا وحدة عامة شاملة إلا حينما كانوا جماعة عرْقية أو إثنية دينية متماسكة (عبرانيين) . ولكنهم، حتى في تلك الآونة، كانت تُمزِّقهم الخلافات السياسية، وأحياناًً الثقافية والدينية. ومع انتشار الجماعات اليهودية، لم تَعُد الخلافات مجرد خلافات سياسية، وإنما أصبحت خلافات حضارية قومية عميقة. وقد حققت بعض الجماعات اليهودية وحدة «قومية» داخل التشكيلات الحضارية المختلفة، كما حدث ليهود شرق أوربا من يهود اليديشية، ويهود الولايات المتحدة. ولكن أية وحدة بين هؤلاء هي وحدة يتمتعون بها داخل التشكيل القومي الذي ينتمون إلىه، ومن خلاله وبسببه، لا من خارجه ورغماً عنه. كما أنها، من ناحية أخرى، لا ترقى ألبتة إلى مستوى الوحدة اليهودية العالمية الشاملة.

ص: 30

وقد تمتع أعضاء الجماعات اليهودية في الحضارة الغربية، منذ العصور الوسطى، بشكل من أشكال الوحدة، وذلك من خلال علاقاتهم كجماعات وظيفية وسيطة تشكل ما يشبه النظام الائتماني العالمي ومن مصلحتهم الحفاظ على هذه العلاقات. ورغم أنها بدت كما لو كانت وحدة قومية، فقد كانت علاقات مالية فحسب، إذ أن كل جماعة وظيفية يهودية كانت مرتبطة، في نهاية الأمر، بالمجتمع الذي تنتمي إلىه وتتفاعل معه وتستمد هويتها منه. ولكن الصهاينة يؤكدون، مع هذا، أن هناك وحدة أزلية لليهود، ويَخلُصون من هذا إلى أن الدولة الصهيونية في فلسطين أمر منطقي بل وحتمي.

الاستقلال اليهودي

Jewish Independence

«الاستقلال اليهودي» عبارة تفترض أن لليهود شخصيتهم اليهودية المستقلة وتاريخهم اليهودي المستقل عن تواريخ الأغيار. وتشير الأدبيات الصهيونية إلى مؤسسات الإدارة الذاتية، مثل القهال ومجلس البلاد الأربعة، باعتبارها مؤسسات الحكم الذاتي، كما تشير إلى اللهجات التي يتحدث بها أعضاء الجماعات اليهودية باعتبارها لغات اليهود. وتستند كل من العقيدة الصهيونية ونزعة معاداة اليهود إلى المفهوم الواحد نفسه، فيتحدث أعداء اليهود عن حب اليهود للعزلة ورفضهم الاندماج وتفضيلهم الجيتو على الحياة مع الأغيار، بل ويتحدثون عن سمات جوهرية داخل الطبيعة البشرية اليهودية تجعلهم مستقلين عن باقي البشر ومختلفين عنهم. ومن المفارقات أن القبَّالاه اللوريانية تذهب إلى درجة من التطرف حيث تطرح تصوراً لليهود باعتبارهم قد خُلقوا من عجينة مغايرة لتلك التي خُلق منها الأغيار، وهذا يتناقض مع قصة الخلق في العهد القديم.

ص: 31

وغني عن القول أنه لا يوجد استقلال يهودي، إذ تدل القرائن التاريخية على أن أعضاء الجماعات اليهودية اندمجوا وانصهروا في مجتمعاتهم، وأن ما يتمتع به أعضاء الجماعات اليهودية من استقلال أو انفصال نسبي عن مجتمع الأغلبية لا يختلف بأية حال عما يتمتع به أعضاء أية أقلية دينية أو إثنية في أي مجتمع، وخصوصاً في المجتمعات التقليدية. ويعود شيوع مفهوم مثل مفهوم استقلال اليهود إلى اضطلاع أعضاء الجماعات اليهودية في كثير من المجتمعات، خصوصاً في العالم الغربي، بوظيفة الجماعة الوظيفية التي يعيش أعضاؤها في عزلة عن بقية أعضاء المجتمع.

ونحن نرى أن استخدام مصطلح كمصطلح «اليهود» يؤكد مثل هذا الاستقلال، وقد يشي بدرجة من الوحدة والتجانس لم يتمتع بهما اليهود قط. ولذا، فإننا نؤثر استخدام مصطلح مثل «الجماعات اليهودية» لأنه يؤكد التنوع وعدم التجانس والانفصال ولا ينفي في الوقت نفسه ذلك القدر من الوحدة والتجانس.

الوعي اليهودي

Jewish Consciousness

ص: 32

«الوعي اليهودي» عبارة تفترض أن ثمة هوية يهودية محدَّدة وشخصية يهودية لها خصوصية يهودية وتاريخاً وتراثاً مستقلين عن تاريخ وتراث الشعوب، بل وتفترض أن ثمة جوهراً يهودياً وطبيعة يهودية. ويرى المعادون لأعضاء الجماعات اليهودية أن اليهود يتمتعون بوعي عميق لخصائصهم اليهودية هذه، وأن هذا الوعي يتبدى في دفاعهم عن مصالحهم اليهودية، وفي انعزالهم داخل الجيتو، وفي نهاية الأمر في المؤامرة اليهودية الكبرى (وهي المؤامرة التي يقول البعض إن اليهود يحيكونها ضد الأغيار في كل زمان ومكان) . ومثل هذه النظرة تتجاهل عدم تجانس الجماعات اليهودية، وخاصيتها الأساسية كتركيبة جيولوجية، وانفصالها الواحدة عن الأخرى عبر التاريخ. كما تتجاهل الصراعات الحادة التي نشبت بين هذه الجماعات، لا بسبب اختلاف المصالح وحسب وإنما بسبب اختلاف الهوية والرؤية. وفي الحقيقة، فإن الصراع بين السفارد والإشكناز، ذلك الصراع الممتد منذ القرن السابع عشر حتى الوقت الحاضر، هو تعبير عن هذا الاختلاف الذي يجعل من مقولة الوعي اليهودي الواحد أمراً محالاً.

لكن الصهيونية تؤمن بأن اليهود شعب واحد، ومن ثم فلابد أن يُقوَّى الوعي اليهودي للمحافظة على وحدة هذا الشعب وعلى هويته. ومن المفارقات أنه، بعد إنشاء الدولة الصهيونية، اتضح تهافت ما يُسمَّى «الهوية اليهودية» وانقسامها إلى عشرات الهويات، كما اتضح أن أبناء المستوطنين الصهاينة من جيل الصابرا لهم هوية جديدة مختلفة عن هوية أعضاء الجماعات الموجودين في العالم، بل ويُكِّن الكثير منهم الاحتقار ليهود المنفى، أي معظم يهود العالم. ومن ثم، فقد أُدخلت مادة الوعي اليهودي في مقررات الدراسة في المدارس الإسرائيلية.

ص: 33

ويؤكد المقرر الجوانب الإيجابية لوجود اليهود على هيئة جماعات منتشرة في العالم، ويمجِّد إنجازاتهم الحضارية، وهو ما يعطي صورة إيجابية لحياتهم في المنفى، أي في أنحاء العالم خارج فلسطين. ولكن هذا التمجيد يتنافى مع العقيدة الصهيونية التي تصدر عن الإيمان بأن حياة اليهود خارج فلسطين إن هي إلا انحراف عما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» . ومن ثم، فإن مثل هذه الرؤية لا تزيد ألبتة من الوعي اليهودي الأحادي. ولكن، إن تم التركيز على الجوانب السلبية وحدها، وُصوِّر تاريخ الجماعات على أنه تاريخ هجمات ومذابح، كما تفعل بعض كتب التاريخ الصهيونية (وهو ما سميناه «التأريخ من خلال الكوارث» ) ، فإن هذا سيقلل من احترام الأجيال الصاعدة ليهود العالم، وبالتالي سيقوض دعائم الوعي اليهودي. ولذا، فإن هناك اتجاهاً الآن للتأكيد على عنصر المقاومة بين يهود المنفى. واليهود، حسب هذه الرؤية، كانوا دائماً معرضين للاندماج، ولكنهم تصدوا له فأبدعوا وأبقوا على جوهرهم اليهودي. وعندما تعرضوا للمذابح، ثاروا ضد من قاموا بذبحهم، ومن هنا التأكيد على أهمية التمرد الحشموني والأحداث المماثلة في التاريخ اليهودي مثل: التمرد اليهودي الأول، والتمرد اليهودي الثاني ضد الرومان، وتمرد جيتو وارسو. بل ويصبح تاريخ الصهيونية هو تاريخ هذا الوعي اليهودي وتاريخ تلك المقاومة المستمرة. ويشكو اليهود السفارد والشرقيون من أن مادة الوعي اليهودي تركز على إسهامات اليهود الإشكناز وحدهم ولا تؤكد على إسهاماتهم الحضارية.

عدم الانتماء اليهودي

Jewish Rootlessness

ص: 34

«عدم الانتماء اليهودي» عبارة تفترض وجود انتماء يهودي مستقل للجماعة اليهودية يتبدَّى في شكل ولاء كامل للشعب اليهودي وعدم انتماء للشعوب أو الأوطان الأخرى. ونحن نرى أنه إن كان ثمة انتماء يهودي فهو انتماء إلى العقيدة أو العقائد اليهودية، إذ لا يوجد تراث أو ماضٍ يهودي مشترك، فماضي أو تاريخ كل جماعة يهودية هو ماض أو تاريخ المجتمع الذي توجد فيه.

ومن الإشكاليات الأساسية التي تُثار في الأدبيات الغربية (اليهودية وغير اليهودية) إشكالية الانتماء اليهودي. وقد طُرح السؤال منذ البداية كما يلي: هل ينتمي اليهودي إلى الجنس البشري ككل أم إلى الشعب اليهودي المختار أو (المقدَّس) ؟ وهل الخالق هو إله اليهود وحدهم (كما يتصور بعض اليهود) أم إله العالمين؟ والإجابة القاطعة عن هذا السؤال داخل النسق الديني اليهودي غير ممكنة؛ فهناك من القرائن ما يؤيد النزعة العالمية والانتماء إلى الجنس البشري، وهناك من القرائن ما يساند الرأي المناقض. ففي تراث القبَّالاه، أصبح التمييز بين الشعب اليهودي والأغيار حاداً إلى أقصى درجة، حتى أن القبَّاليين ذهبوا إلى أن اليهود قد خُلقوا من طينة مختلفة عن تلك التي خُلق منها بقية البشر وإلى أن الأغيار خُلقوا على شكل الإنسان حتى يمكنهم القيام بخدمة اليهود. وفي فكر الاستنارة، وفي اليهودية الإصلاحية، بل وفي التلمود ذاته، ما يناقض هذا الموقف، وذلك بالتأكيد على الانتماء الإنساني العالمي لليهود.

ص: 35

ولكن الانتماء اليهودي قضية ترتبط بالدور الذي لعبته الجماعات اليهودية في كثير من المجتمعات، خصوصاً المجتمعات الغربية، كجماعة وظيفية وسيطة. بيد أن أية جماعة وظيفية وسيطة داخل أي مجتمع لا تنتمي إليه، وإنما تنتمي عاطفياً إلى الوطن الأصلي (الوهمي أو الفعلي) ، كما تنتمي فعلياً إلى الطبقة الحاكمة فهي أداتها وسوط العذاب في يدها. وقد نَجَم عن ذلك الوضع ابتعاد الجماعة اليهودية عن الجماهير الشعبية وهامشيتها بالنسبة إلى الحركات الجماهيرية الكبرى. ويرى ماكس فيبر، على سبيل المثال، أن الرأسمالية اليهودية رأسمالية منبوذة لم تساهم في نمو الرأسمالية الرشيدة، كما أن الفكر الاشتراكي الغربي كان يرى أن انتماء اليهودي هو انتماء إلى رأسماله وحسب. وقد عبَّرنا عن هذه الإشكالية بمصطلح «الشعب العضوي المنبوذ» .

والواقع أن قضية الانتماء طُرحت بحدة مع ظهور الدولة القومية المركزية التي حاولت توحيد السوق وتوحيد الأمة حسب نموذج ثقافي أحادي موحَّد يستبعد الجيوب القومية الإثنية الأخرى، ويتطلب انتماءً كاملاً من المواطن. وقد نجح كثير من أعضاء الجماعات اليهودية في تحديد انتمائهم القومي بالاندماج في محيطهم الثقافي. ويرى الدارسون أن تَصاعُد معدلات العلمنة في العالم الغربي سيؤدي إلى ضعف الانتماء الديني للجماعات اليهودية، وهو أمر تساهم الصهيونية في خلقه طارحةً نفسها كعقيدة علمانية تحل محل العقيدة الدينية.

ص: 36

وقد أكد الصهاينة والنازيون عدم انتماء أعضاء الجماعات اليهودية إلى التشكيلات الحضارية أو القومية التي يتواجدون فيها مفترضين أن ثمة انتماءً يهودياً خالصاً. وأكد البرنامج السياسي الصهيوني وجود مثل هذا الانتماء. ولكن السلوك الفعلي ليهود أمريكا، على سبيل المثال، يبين أنهم ينتمون إلى وطنهم الأمريكي، ومن ثم لا يهاجر منهم إلى إسرائيل إلا نسبة ضئيلة جداً. وكذلك، فإن انتماء يهود الاتحاد السوفيتي (سابقاً) كان انتماءً إلى مصالحهم الاقتصادية أو السياسية. ولذلك، فإنهم يحاولون الهجرة إلى الولايات المتحدة ولا يتوجهون إلى إسرائيل إلا عند الاضطرار. كما أن تَفجُّر قضية الهوية داخل إسرائيل يبين أن لليهود انتماءات مختلفة وليس انتماءً يهودياً واحداً. وترتبط قضية ازدواج الولاء بقضية الانتماء اليهودي، إذ أن من يؤمن بأن اليهود لا انتماء لهم لابد أن ينظر إلى اليهود بعين الشك ويرى أن ولاءهم لأوطانهم أمر مستحيل، أو يرى على الأقل حتمية ازدواج هذا الولاء، باعتبار أن ولاءهم اليهودي شيء راسخ متأصل.

ويحاول الصهاينة في الوقت الحاضر أن يُعرِّفوا انتماء اليهود تعريفاً جديداً يتفق مع واقعهم كجماعات تعيش خارج فلسطين وترفض الهجرة. ومن ثم، أصبح الانتماء السياسي والاقتصادي لليهودي إلى وطنه الفعلي، أما انتماؤه الديني والثقافي فلوطنه المثالي أو الوهمي، أي الدولة الصهيونية. وبهذا، لا تصبح الترجمة العملية للبرنامج الصهيوني الهجرة إلى فلسطين المحتلة وإنما تعميق الأبعاد اليهودية الإثنية للهوية، وهو ما يُسمَّى «صهيونية الدياسبورا» أو «الصهيونية الإثنية» .

الولاء اليهودي المزدوج

Jewish Double Loyality

ص: 37

«الولاء اليهودي المزدوج» مصطلح يستخدمه المعادون لليهود والصهاينة الذين ينطلقون من الإيمان بأن اليهود لا يدينون بالولاء إلا لوطنهم القومي ومصالحهم اليهودية، لأنهم لا جذور لهم في مجتمعاتهم ولا ينتمون إليها انتماءً حقيقياً، فاليهود شعب عضوي مرتبط بأرضه. لذلك فهم دائماً موزعو الولاء، يمارسون إحساساً عميقاً بازدواج الولاء.

وقد أكد الزعماء والمفكرون النازيون أثناء محاكمات نورمبرج، الواحد تلو الآخر، أنهم تَعرَّفوا إلى اليهود واليهودية والمسألة اليهودية من خلال الكتابات الصهيونية التي تتحدث عن عدم انتماء اليهود إلى أوطانهم الواقعية وعدم ولائهم لها. وتنطلق التشريعات النازية من هذا الفهم، ومن تَصوُّر أن اليهود لا ينتمون إلى الوطن القومي الألماني، إذ أن لكل شعب عضوي وطنه! وفي الوقت الحاضر، يشير أعداء اليهود إلى قرائن عدة تدل على عدم انتماء اليهود مثل كمية الأموال التي تُرسل إلى إسرائيل من أعضاء الجماعات اليهودية في العالم وتحديد هذه الجماعات اليهودية لمواقفها السياسية بطريقة تتفق ومصالح إسرائيل، ووقوف كثير من المفكرين اليهود الليبراليين والثوريين ضد حرب فرنسا في الجزائر وحرب الولايات المتحدة في فيتنام في الوقت الذي يؤيدون فيه إسرائيل في حروبها العدوانية ضد العرب.

ص: 38

ولا يمكن الحديث عن ولاء يهودي محدد ومطلق، فولاء أعضاء الجماعات اليهودية يتحدد بحسب مركب تاريخي طبقي إنساني أخلاقي، كما لا يمكن تحديد كيفية تصرف أعضاء الجماعات اليهودية مسبقاً، وكأنهم كائنات بسيطة تعيش بمعزل عن التاريخ الإنساني. وتدل تواريخ أعضاء الجماعات اليهودية على أن ازدواج الولاء ليس سمة أساسية أو لصيقة بهم، وعلى أنهم في كثير من الأحيان أخلصوا لأوطانهم (التي يعيشون في كنفها) وانتموا إليها انتماءً كاملاً واندمجوا فيها، وتمثلوا قيمها واستبطنوها تماماً. ومنذ أيام التهجير البابلي، حيث ظهرت أول جماعة يهودية خارج فلسطين، طوَّرت الشريعة اليهودية مفهوم «شريعة الدولة هي الشريعة» ، الأمر الذي يحدد ولاء أعضاء الجماعة بشكل صارم باعتبارهم جماعة بشرية لا تدين بالولاء إلا لقوانين الدولة التي يعيشون في كنفها. وقد التزم معظم أعضاء الجماعات اليهودية بهذا المفهوم عبر التاريخ الإنساني، شأنهم في هذا شأن كثير من البشر من أعضاء الأقليات والأغلبية. وعلى كل حال، لم يكن هناك احتمال لازدواج الولاء لعدم وجود حكومة أو دولة يهودية يدين لها اليهودي بالولاء. وبتحول أعضاء الجماعات اليهودية إلى جماعة وظيفية وسيطة داخل التشكيل الحضاري الغربي، منذ العصور الوسطى وحتى الثورة الفرنسية، توجه ولاء اليهودي إلى جماعته أساساً، ثم إلى الطبقة الحاكمة التي تحمي هذه الجماعة وتضمن بقاءها. وهذه سمة أساسية تسم مثل هذه الجماعات وليست مقصورة على الجماعات الوظيفية اليهودية، فنجد أن الصينيين في الفلبين، والعرب في بعض البلاد الأفريقية وإندونيسيا، يندرجون تحت هذا النمط. وعلى كلٍّ، لم تكن مفاهيم الوطن (والولاء القومي له) واضحة أو متبلورة حتى نهايات القرن الثامن عشر وظهور الفكر القومي.

ص: 39

وقد طُرحت قضية الولاء في عصر التنوير في أوربا، حينما وُصف اليهود بأنهم «دولة داخل دولة» بسبب خصوصيتهم وانعزاليتهم الحقيقية أو الوهمية، وقد طُلب إلى أعضاء الجماعات اليهودية، وكذلك إلى الأقليات الإثنية والدينية كافة، أن يدينوا بالولاء للدولة القومية وحدها وأن يرفضوا أية ولاءات أخرى. وبالفعل، كان اليهود من أكثر العناصر ترحيباً بهذه الدعوة، فاندمجوا في مجتمعاتهم بنسبة عالية كلما سنحت لهم الفرصة. ولم يُعرْقل هذه العملية سوى تَعثُّر التحديث سواء في روسيا أو في ألمانيا، وهي المجتمعات التي طرحت تصوراً عضوياً لفكرة الولاء.

ص: 40

وفي العصر الحديث، يشعر يهود الولايات المتحدة بالولاء العميق لبلدهم أمريكا، فهم ينتمون إليه انتماءً كاملاً ويحاربون ويموتون دفاعاً عنه، ومصيرهم مرتبط بمصيره. وحينما يشكك الدعاة الصهاينة في هذا الولاء، فإن أعضاء الجماعات اليهودية يثورون. ويتضح ولاؤهم أيضاً في رفضهم الهجرة إلى إسرائيل وفي اندماجهم في مجتمعاتهم. أما يهود جنوب أفريقيا، فهم لا يشعرون بالولاء تجاه وطنهم لأن وضعهم في بلادهم مقلقل، وبالتالي فقد يكون ولاؤهم غير راسخ، ولذا فهم يفكرون في الهجرة منها. ولكن عدم ولائهم لا ينبع من مصالحهم اليهودية أو من جوهرهم أو طبيعتهم أو شخصيتهم، وإنما ينبع من أن المستوطن الأبيض في جنوب أفريقيا قد بدأ يتعرض لضغوط حقيقية من السكان الأصليين تهدد وجوده. وحينما يهاجر اليهود الروس من روسيا، فهم لا يفعلون ذلك من باب الولاء اليهودي، وإنما من باب الولاء الدنيوي للمستوى المعيشي المرتفع، ومن ثم يتجهون إلى الولايات المتحدة بدلاً من إسرائيل. وقد اتخذت الولايات المتحدة من التشريعات ما يكفل إغلاق باب الهجرة لتحويلهم عنوة إلى الدولة الصهيونية. وفي هذا، لا يختلف المهاجرون اليهود المرتزقة من روسيا أو أوكرانيا كثيراً عن معظم أعضاء المجتمعات العلمانية في الغرب. فماركس يتحدث عن ولاء الرأسمالي، وهو ولاء يتجاوز الولاء القومي، كما يتحدث بنتام (فيلسوف النفعية) عن المنفعة الشخصية، وهي منفعة تتجاوز الصالح القومي.

ص: 41

ويَصدُر الصهاينة عن فكرة ازدواج الولاء، شأنهم في هذا شأن النازيين والمعادين لليهود، وينطلق برنامجهم السياسي منها. فيتحدث المفكرون الصهاينة، كلاتزكين وجولدمان وبن جوريون، عما يسمُّونه «الولاء القومي اليهودي» . وبالتالي، فإن اليهودي الذي يعيش في بلد غير الدولة اليهودية لن يشعر تجاهه بأي ولاء، أو سيكون ولاؤه له ضعيفاً إذ سيكون موزعاً بين وطنه الفعلي الذي يقيم فيه ووطنه القومي الصهيوني، وهو ما يُطلق عليه «ازدواج الولاء» . وقد كان هرتزل يتفاوض مع السلطات الإمبريالية المختلفة في إطار تصور أنه قادر، حسب قوله، على تحويل كل يهود العالم إلى عملاء يدينون بالولاء لا لأوطانهم وإنما لأية دولة تساند الفكرة الصهيونية. والعميل إما شخص عديم الولاء أو شخص ذو ولاء مزدوج.

وتنطلق الدولة الصهيونية من الإيمان بازدواج الولاء لدى أعضاء الجماعات اليهودية في العالم. ولذلك، فهي تحاول دائماً تجنيدهم لخدمة مصالحها ومآربها، بل إن بن جوريون قد صرح بأن السفير الإسرائيلي في كل عاصمة هو الممثل الحقيقي للجماعة اليهودية فيها.

ص: 42

وثمة قوانين في الكيان الصهيوني لتكريس هذا الاتجاه، مثل قانون العودة وقانون الجنسية. وقد عُدِّل هذا القانون الأخير بحيث تستطيع الدولة الصهيونية أن تمنح أي مواطن يهودي جنسيتها وهو لا يزال بعد في وطنه الأصلي، دون أن يتنازل عن جنسيته الأصلية، ويكفي أن تكون لديه النية للهجرة. والصهيونية، بوصفها حركة سياسية ودولة استيطانية، تحاول ترجمة فكرة الولاء اليهودي، أي ازدواج الولاء، إلى واقع عملي. ومما له دلالته أن بيان إعلان قيام الدولة الصهيونية عام 1948 قد تم عن طريق مجلس قومي يتحدث باسم كل «الشعب اليهودي» ، سواء في فلسطين أو خارجها. وقد اكتشفت الدولة الصهيونية (بعد إعلانها) أنها لن تستطيع الوصول بسهولة ويُسر إلى جميع أعضاء الشعب اليهودي، نظراً لضآلة سلطتها خارج حدودها. ولذا، حوَّلت المنظمة الصهيونية نفسها إلى أداة موظفة في يد الدولة الصهيونية، تصل عن طريقها إلى أعضاء الجماعات اليهودية.

وقد كانت حادثة بولارد ترجمة عملية لنظرة الصهاينة لأعضاء الجماعات اليهودية. فقد قامت المخابرات الإسرائيلية بتجنيده باعتبار أنه مزدوج الولاء، ولكن أعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة رفضوا هذا التعريف وأكدوا أن ولاءهم للولايات المتحدة أولاً وأخيراً، واحتجوا على سلوك إسرائيل. ولكن حادثة بولارد ليست سوى جزء من نمط عام، إذ قامت الحركة الصهيوينة من قبل بتجنيد بعض يهود البلاد العربية للتجسس ضمن قسم خاص أسِّس لهم في الوكالة اليهودية قبل عام 1948، كما أن حادثة لافون تُبيِّن أن المخابرات الإسرائيلية قامت بتجنيد بعض يهود مصر للتجسس لصالح الدولة الصهيونية.

ص: 43

ولا شك في أن هذا الوضع يخلق كثيراً من المشكلات لليهود في العالم. وقد تنبَّه سير إدوين مونتاجو، العضو اليهودي الوحيد في الوزارة البريطانية التي أصدرت وعد بلفور، إلى هذا البعد حيث احتج على إصدار هذا الوعد لأن الاتهام بازدواج الولاء، بحسب رأيه، اكتسب لأول مرة أساساً موضوعياً. وتحاول الصهيونية التوطينية التغلب على هذا الوضع الذي يسبب الحرج لأعضاء الجماعات اليهودية، بأن تعود إلى الصيغة الصهيونية الإثنية التي ترى أن اليهود ينتمون سياسياً إلى الوطن الذي يعيشون فيه، مع أنهم، من ناحية القيم الدينية والثقافية والروحية، ينتمون إلى مركزهم الروحي (أو الإثني) في إسرائيل. ويحاول الصهاينة في الولايات المتحدة أن يُذيبوا ازدواج الولاء داخل النمط الأمريكي العام بحيث تصبح علاقة الأمريكي اليهودي بإسرائيل مثل علاقة الأمريكي الإيطالي بإيطاليا، وبالتالي يصبح لليهودي وطنان قوميان: الأول هو مسقط الرأس الذي هاجر منه، والثاني هو البلد الذي هاجر إليه.

المصالح اليهودية

Jewish Interests

«المصالح اليهودية» عبارة تفترض أن ثمة مصالح يهودية محددة متفقاً علىها بين «اليهود» (أعضاء الجماعات اليهودية) ، وأنهم يدافعون عنها علناً أو سراً متى وأينما سنحت لهم الفرصة، وهو افتراض شائع في الكتابات الصهيونية والمعادية لليهود. وتذهب الكتابات التي تتبني مثل هذا النموذج التفسيري إلى أن اليهود لا يدينون بالولاء إلا لما يُسمَّى «المصالح اليهودية» ، وبالتالي فهم لا يعملون إلا من أجلها.

ص: 44

ولكن من الثابت تاريخياً أنه لم تكن هناك مصالح يهودية واحدة، بل إن الصراعات بين الجماعات اليهودية المختلفة حقيقة تاريخية. وكثيراً ما كانت تستعدي جماعة ما السلطات على جماعة أخرى وتطالب بطردها. ويظهر الصراع في حق حظر الاستيطان (حيريم هايشوف) ، أي حق أية جماعة يهودية في أن ترفض إيواء أي يهودي من جماعة أخرى، وهو حق كانت تسعى الجماعات اليهودية في أوربا في العصور الوسطى للحصول عليه. ولعل أهم الصراعات عبر التاريخ هو الصراع بين الإشكناز والسفارد في العالم الغربي، والذي لا يزال له أصداؤه في إسرائيل حتى الآن. وكذلك، فإن مصالح الدولة الصهيونية تتعارض في كثير من الأحيان مع مصالح الجماعات اليهودية كما اتضح في حادثة بولارد على سبيل المثال، أو في تَورُّط الإسرائيليين في تجارة المخدرات في كولومبيا. وقد فجرت الانتفاضة قضية التعارض بين مصالح الجماعات اليهودية ومصالح إسرائيل، إذ أن منظر الجنود الإسرائيليين (ممثلي الدولة اليهودية) وهم يكسرون أذرع الشباب الفلسطيني، لم يُحِّسن الصورة الإعلامية ليهود العالم، ولم يخدم مصالحهم، مع أنه يخدم مصلحة الدولة التي يُقال إنها «يهودية» !

ونحن نرى أن أعضاء الجماعات اليهودية لهم مصالح مختلفة باختلاف الزمان والمكان، ولتفسير سلوكهم لابد من العودة إلى سياقهم الحضاري والتاريخي والإنساني العريض، لأن النموذج التفسيري الذي يُركِّز على المصالح اليهودية والمرجعية اليهودية سيعجز عن تفسير كثير من جوانب هذا السلوك.

ص: 45

وفي مجموعة المداخل التي تلي هذا المدخل سنتناول سيَر بعض مشاهير اليهود ممن شغلوا مواقع مهمة تجعلهم في موضع التأثير في صنع القرار (ابتداءً من بيرنيكي عشيقة الإمبراطور تيتوس وانتهاءً بكيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة) . وسنحاول أن نُبيِّن أن سلوكهم السياسي وغير السياسي (في معظم الأحيان) لم تكن تحكمه المصالح اليهودية وإنما مجموعة من العناصر الأخرى المرتبطة عادةً بمصالح الدولة التي ينتمي لها عضو الجماعة اليهودية.

بيرنيكي (32م-؟)

Berenice

«بيرنيكي» اسم يوناني معناه «حاملة النصر» ، وتُنطَق «بيرنيس» في اللغات الأوربية الحديثة. وهي حفيدة أخت هيرود الأعظم «ملك اليهود» وابنة أجريبا الأول. وُلدت عام 33 ميلادية، وكانت مشهورة بجمالها وبتعدد أزواجها وعشاقها. تزوَّجت وهى بعد في الثالثة عشرة من ماركوس، ابن ألكسندر ليسيماخوس كبير موظفي (ألبارخ) الإسكندرية. وبعد موته، تزوَّجت عمها شقيق أبيها هيرود حاكم كالخيس. وبعد موت هذا الأخير، عاشت مع أخيها أجريبا الثاني. وقد انتشرت الشائعات بين الرومان أنها كانت على علاقة آثمة بأخيها هذا. ويُلاحَظ أن الجماع بالمحارم في فترة انحلال الإمبراطورية الرومانية لم يكن أمراً غريباً بين أعضاء الأرستقراطية التي كانت تنتمي إليها بيرنيكي وأخوها. وربما لإسكات الشائعات، ونظراً لغيرتها من أختها دروسيلا التي تزوجت من ملك، أقنعت بيرنيكي بوليمون الثاني ملك كليكيه بأن يتهود ويتختن ويتزوجها فتزوجها في عام 69م. ولكن بيرنيكي لم تكن على مستوى عال من الأخلاق أو الوفاء الزوجي الأمر الذي أثار اشمئزاز بوليمون منها ومن عقيدتها فطلَّقها. وعادت بيرنيكي لتعيش مع أخيها، ووقفت إلى جواره في محاولته تهدئة الجماهير اليهودية الحانقة مع بدايات التمرد اليهودي الأول (66 ـ 70م) ، ولكن الجماهير أضرمت النار في قصرها.

ص: 46

ومع سقوط القدس في يد المتمردين، فرَّت بيرنيكي إلى الإسكندرية عند أقاربها (تايبريوس يوليوس ألكسندر ابن عم فيلون السكندري، وغيره) . وهناك، قابلت الجنرال تيتوس ابن الإمبراطور فسبسيان الذي كان يُعدُّ حملته لقمع التمرد اليهودي الأول وأصبحت عشيقته، وأعلن هو عن حبه لها وكان عمرها (حينذاك) تسعة وثلاثين عاماً. وقد صاحبته هي وأخوها أجريبا الثاني (الذي كان يقود جيشاً يهودياً صغيراً) أثناء حملته التي انتهت بسقوط القدس وتحطيم الهيكل. وحين عاد تيتوس إلى روما، انضمت إليه هناك عام 75م، واستمرا في علاقتهما، بل وكان يشار إليها باعتبارها «زوجة تيتوس» . ويبدو أنه كان على وشك الزواج منها بالفعل، ولكن الأرستقراطية الرومانية عارضت ذلك. وحينما عادت بيرنيكي إلى روما مرة أخرى عام 79م، بعد أن أصبح تيتوس إمبراطوراً، وبعد أن بلغت هي الخمسين، تجاهلها عشيقها السابق، فعادت أدراجها إلى فلسطين حيث لم يُسمع عنها شيء بعد ذلك التاريخ.

ووجود بيرنيكي اليهودية (وجيش أخيها) إلى جوار تيتوس أثناء حملته على القدس لهدم الهيكل لم يُغيِّر شيئاً في خطته العسكرية التي كانت تمليها الاعتبارات الإستراتيجية الكبرى للإمبراطورية الرومانية. ربما لو كان تيتوس قد عدل عن تحطيم الهيكل في آخر لحظة (لاعتبارات خاصة بمصالح الإمبراطورية الرومانية) لانقض على هذه الواقعة أصحاب النماذج الاختزالية وتحدثوا عن نفوذ المرأة اليهودية، وكيف أن اليهود يستخدمون الجنس في تنفيذ مخططاتهم. بل ولأضافوا أن بيرنيكي، صاحبة الاسم اليوناني والسلوك الوثني والرؤية المنحلة، ظلت مع هذا يهودية تخدم المصالح اليهودية، وهو ما يدل (حسب رأيهم) على أن وظيفة اليهود ثابتة عبر الزمان والمكان. ولا تتحدث المراجع الصهيونية عن عبقرية بيرنيكي اليهودية في اصطياد الرجال بخاصة من فئة الملوك وقواد الجيوش.

ص: 47

ولم تكن بيرنيكي المرأة اليهودية الوحيدة التي لعبت دوراً في دهاليز النخبة الحاكمة. فقد تزوجت اختها دروسيلا من ملك يُدعَى عزيز في إميسيا (حمص) . ويبدو أن إيزاط ملك حدياب في بابل (36 ـ 60م) تَهوَّد بسبب علاقته بامرأة يهودية.

ديفيد باسيفيكو (1784-1854 (

David Pacifico

تاجر ودبلوماسي بريطاني يهودي وُلد في جبل طارق وأخذته أعماله التجارية إلى البرتغال حيث استقر عام 1812. ورغم أنه ظل من رعايا بريطانيا، إلا أنه نشط في السياسة المحلية البرتغالية وعُيِّن قنصلاً عاماً للبرتغال لدى المغرب في الفترة بين عامي 1835 و1837 ثم لدى اليونان في الفترة بين عامي 1837 و1842، ولكنه أُقيل من منصبه نتيجة خلافات مع الحكومة البرتغالية. كل هذا يدل على أن المارانو، حتى منتصف القرن التاسع عشر، وحتى بعد ذلك التاريخ، كانوا لا يزالون يضطلعون بدورهم كممثلين للبلد الذي طردهم والذي ينتمون إليه لغوياً وحضارياً.

ص: 48

وقد ظل باسيفيكو في اليونان أعوام 1843 ـ 1847 مشتغلاً بالتجارة، ولكنه دخل عام 1847 في مواجهة خطيرة مع الحكومة اليونانية أسفرت عن مجئ الأسطول البريطاني إلى شواطئ اليونان وهو ما أثار ضجة كبيرة في أنحاء أوربا وداخل بريطانيا. ففي هذا العام منعت الحكومة اليونانية الجماهير المسيحية من إجراء الطقوس التقليدية لعيد الفصح، وهو إحراق تمثال خشبي يرمز إلى يهوذا، وذلك احتراماً لوجود أحد أفراد عائلة روتشيلد المالية اليهودية في أثينا لإجراء مفاوضات مع الحكومة اليونانية بشأن قرض. وقد استثار ذلك غضب الجماهير التي تظاهرت وهاجمت منزل باسيفيكو ودمرته وأحرقت أوراقه. وقد طالب باسيفيكو الحكومة اليونانية بتعويض قدره أكثر من 800 ألف دراخمة وأيده في ذلك ممثل إنجلترا لدى اليونان باعتبار أن باسيفيكو من رعايا بريطانيا. وقد رفضت الحكومة اليونانية طلبه بل قامت بمصادرة أملاكه. وإزاء ذلك، أمر بالمرستون، وزير الخارجية البريطاني آنذاك، الأسطول البريطاني بفرض حصار على ميناء بيريوس اليوناني Piraeus كما استولى البريطانيون على 200 سفينة يونانية. واستمر هذا الحصار من يناير 1850 حتى أبريل من العام نفسه عندما رضخت الحكومة اليونانية ودفعت لباسيفيكو تعويضاً قدره 150 ألف دراخمة.

ص: 49

وقد أثارت هذه الحادثة، التي تضمنت تحريك الأسطول البريطاني لمعاقبة حكومة مسيحية لصالح يهودي، ضجة كبيرة في أنحاء أوربا وداخل بريطانيا، فأعربت كلٌّ من روسيا وفرنسا وبروسيا عن غضبها البالغ وتشكلت في إنجلترا جبهة معارضة لبالمرستون حاولت إقصاءه من منصبه. وكان من بين أفراد هذه الجبهة السياسي البريطاني دزرائيلي (اليهودي الأصل) . وقد دافع بالمرستون عن نفسه قائلاً:«إن أي إنسان من رعايا بريطانيا يجب أن يتأكد أينما وُجد أن ذراع إنجلترا الطويلة ستحميه من أية إساءة أو ظلم. وهذا الموقف يجب أن يسري على جميع الرعايا وضمن ذلك من يعتنق اليهودية منهم» . ورغم حديثه الليبرالي المعسول كانت لبالمرستون دوافع أخرى جعلته يُحرِّك الأسطول البريطاني ضد اليونان، فقد كان يسعى لتأديب وإذلال الأسرة المالكة البافارية التي كان أفرادها يحكمون اليونان، على حين مثلت قضية باسيفيكو ذريعة مواتية لتبرير هذا الإجراء. والواقع أن يهودية باسيفيكو أو عدم يهوديته لم تمثل أي اعتبار حقيقي في هذه الحادثة التي خضعت أولاً وأخيراً، سواء بالنسبة إلى الحادثة نفسها أو بالنسبة إلى الاعتراضات التي أثيرت بشأنها، لاعتبارات سياسية دولية أو لاعتبارات السياسة الداخلية البريطانية وصراعاتها. وقد تحرك الأسطول البريطاني دفاعاً عن باسيفيكو، لا بسبب قوة اللوبي اليهودي (فلم يكن هناك مثل هذا اللوبي) وإنما دفاعاً عن المصالح البريطانية.

بنيامين دزرائيلي (1804-1881)

Benjamin Disraeli

ص: 50

سياسي ورجل دولة بريطاني شهير. لعب، بوصفه رئيساً لوزراء بريطانيا، دوراً مهماً في رسم سياستها الخارجية والاستعمارية وترسيخ مصالحها في الشرق الأوسط، وهو الدور الذي تحدَّد على أساسه فيما بعد مصير مصر وفلسطين، وقد حظيت مهارته بمكانة بارزة في تاريخ السياسة البريطانية الاستعمارية. ومما له دلالته أن هذا الإمبريالي القح الذي وسَّع نطاق الإمبريالية الإنجليزية في الخارج، قام في الوقت نفسه بتوسيع نطاق الديموقراطية والعدالة الاجتماعية في الداخل.

وُلد دزرائيلي لعائلة بريطانية يهودية ذات أصول إيطالية سفاردية (مارانية) . وكان اليهود السفارد في أوربا مختلفين عن الإشكناز، فرغم أن كليهما كان جزءاً من جماعة وظيفية، إلا أن السفارد كانوا يشكلون جزءاً من أرستقراطية مالية متقدمة مندمجة إلى حد ما في المجتمع، على عكس الإشكناز الذين كانوا جماعة وظيفية تضطلع بالوظائف الاقتصادية الوضيعة (الربا والتجارة الصغيرة) وتقف على هامش المجتمع. لكن اندماج السفارد أضعف هويتهم تماماً. ورغم أن اندماجهم في المجتمع لم يكن كاملاً (فالمجتمعات الغربية كانت لا تزال تدور في إطار مسيحي) ، إلا أن عملية الاندماج، التي أدَّت في نهاية الأمر إلى الانصهار في حالة السفارد، كانت قد قطعت أشواطاً كبيرة. ويظهر ضعف الهوية في حادثة خروج والد دزرائيلي على اليهودية. فقد اختلف مع مجلس الماهاماد، الذي كان يتولى قيادة الجماعة اليهودية السفاردية في لندن، حول مقدار الضرائب المقررة عليه، فاستقال منه واعتنق المسيحية. وكان بنيامين في الثالثة عشرة من عمره، فعُمِّد ونُشِّئ تنشئة مسيحية.

ص: 51

وقد دخل دزرائيلي مجال السياسة وانتُخب عضواً في البرلمان عن حزب المحافظين عام 1837، كما تزعَّم حركة إنجلترا الشابة، وهي حركة رومانسية تستند إلى الإيمان بضرورة بناء قاعدة شعبية لحزب المحافظين الأرستقراطي واستقطاب الطبقات العاملة من خلال الإصلاحات الاجتماعية والسياسية. ومن الجدير بالذكر أن وضع دزرائيلي الاجتماعي والاقتصادي تَدعَّم بعد زواجه من أرملة مسيحية ثرية تكبره بنحو اثنى عشر عاماً وأصبح من ملاك الأراضي الأثرياء.

وفي عام 1852، أصبح دزرائيلي رئيساً لمجلس العموم. وفي عام 1868، أصبح رئيساً للوزراء، وهو منصب تقلده مرة أخرى في الفترة ما بين عامي 1874 و1880. وقد صدرت قرارات تشريعية عديدة في عهده ذات طابع ليبرالي مثل تنظيف الأحياء الشعبية والاعتناء بمؤسسات الصحة العامة وتحسين أحوال العمل في المصانع. وقد حقق دزرائيلي أهم إنجازاته في مجال السياسة الخارجية، فقد كان وراء الصفقة التي اشترت بريطانيا بمقتضاها نصيب مصر من أسهم قناة السويس في عام 1875، وذلك بمساعدة مالية من عائلة روتشيلد (اليهودية) . وتُعتبَر هذه الصفقة من أهم خدماته للإمبراطورية البريطانية حيث حققت لها السيطرة الإستراتيجية على أهم الممرات المؤدية إلى الشرق. كما أعطت هذه الصفقة أهمية خاصة لمصر بالنسبة لبريطانيا والتي احتلتها في آخر الأمر. وقد أعقب كل هذا موافقة البرلمان الإنجليزي على منح الملكة لقب «إمبراطورة الهند» . كما مُنح دزرائيلي لقب «إيرل أوف بيكونزفيلد» تقديراً لخدماته.

ص: 52

وقد تَبنَّى دزرائيلي سياسة تهدف إلى الحفاظ على الدولة العثمانية وإلى تأييدها في صراعها مع روسيا. وجاءت سياسته هذه في الواقع تعبيراً عن صراع القوى الأوربية الكبرى في تلك الفترة، ومن بينها بريطانيا وروسيا، للحصول على أكبر نصيب ممكن من تركة الإمبراطورية العثمانية. وبالتالي، جاء دعم بريطانيا لتركيا بهدف صد التوسع الروسي باتجاه الجنوب والذي كان يشكل تهديداً للممرات الحيوية المؤدية إلى الهند. وقد نجح دزرائىلي في مؤتمر برلين (عام 1878) في عدم المساس بوضع الدولة العثمانية، كما حصل لبريطانيا على قبرص التي كانت تُعتبَر البوابة لآسيا الصغرى. كما حصل للجماعات اليهودية في دول البلقان على بعض الحقوق والامتيازات. وقد اعتبر دزرائيلي هذا المؤتمر تتويجاً لحياته السياسية. وقيل إنه قدَّم، في هذا المؤتمر، مذكرة غير موقعة حول المسألة اليهودية تدعو إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين. وتبيَّن، فيما بعد، أن من قدمها شخص آخر.

لم تكن مسألة توطين اليهود في فلسطين غائبة عن ذهن دزرائيلي كما لم تكن غائبة عن أذهان الساسة البريطانيين المعاصرين له، وقد كانت أهمية فلسطين لبريطانيا تزداد مع تزايد مصالحها الإمبريالية وأطماعها في ثروات الشرق، ففلسطين كانت تشكل حلقة وصل برية بين الشرق والغرب، وبين آسيا وأفريقيا. وقد زاد ذلك من الأطماع البريطانية فيها، ومن ثم التوجه الصهيوني للسياسة البريطانية الخارجية، حتى قبل ظهور الحركة الصهيونية بين أعضاء الجماعة اليهودية.

ص: 53

كتب دزرائيلي عدة روايات ومؤلفات ليست لها أهمية أدبية كبيرة، ولا يتعرض معظمها للموضوع اليهودي مثل رواية سيبيل أو الأمّتان (1845) التي تصف الهوة الساحقة التي تفصل بين الفقراء والأغنياء في عصره ويُبيِّن أوضاع العمل غير الإنسانية في المصانع في ذلك الوقت. ومن بين رواياته التي تتعرض للموضوع اليهودي قصة داود الرائي المدهشة (1833) وهي عن ذلك الماشيَّح الدجال، ورواية كونينجسبي أو الجيل الجديد (1844) ويشرح فيها دزرائيلي أفكاره السياسية ويصف وضع اليهود (بشكل هامشي) . أما رواية تانكريد أو الحرب الصليبية الجديدة (1847) فهي تدور حول حياة أرستقراطي بريطاني يسافر إلى القدس ليبحث عن شفاء لروحه من المادية الغربية. وفي السيرة التي كتبها دزرائيلي عن لورد جورج بنتتيك (1852) شرح نظريته الخاصة بتفوق العنصر السامي وروحانية اليهود التي تتبدَّى كلها في الكنيسة المسيحية! ولدزرائيلي روايات أخرى مثل إندميون.

ويمكننا الآن أن نتناول قضية هوية دزرائيلي اليهودية. ومن المعروف أن بعض معاصريه وجهوا له بعض الانتقادات حول سياسته الخاصة بمصير الدولة العثمانية إذ اتهموه بأنه يحدد هذه السياسة (وسياسة بريطانيا الخارجية بشكل عام) في ضوء موقفها من الجماعات اليهودية. وقد ساعد دزرائيلي بنفسه على ترسيخ صورته اليهودية، فقد كان يتباهى بأصله اليهودي العرْقي، كما أن دفاعه عن قضية إعتاق اليهود أمام البرلمان البريطاني كان ينبع من اعتقاده بأن اليهود يمثلون جنساً أكثر سمواً بين سائر الأجناس الأخرى في كثير من الصفات. ومن جهة أخرى تتخلل كتابات دزرائيلي فكرة صهيونية مبهمة تدور حول «الارتباط الأزلي لليهود بأرض فلسطين» . وقد اتهمه الروائي الروسي دوستويفسكي بأنه يُدبر مؤامرة يهودية لهزيمة روسيا ونصرة الدولة العثمانية. ومع هذا، يمكن أن نشير إلى ما يلي:

ص: 54

1 ـ كان دزرائيلي مبتعداً تماماً عن العقيدة اليهودية وشعائرها ورموزها، كما هو الحال مع بقية أعضاء الجماعة اليهودية في إنجلترا، خصوصاً السفارد منهم. وقد خرج أبوه على الجماعة لسبب واه ـ كما تَقدَّم ـ وعَمَّد ابنه. ويُلاحَظ أن دزرائيلي يُعرِّف اليهود تعريفاً عرْقياً لا دينياً لا علاقة له بالدين اليهودي.

2 ـ وكان دزرائيلي يرى اليهود شعباً عضوياً متماسكاً، له شخصيته المستقلة وتفوقه (التجاري في العادة) وارتباطه الأزلي بفلسطين، وهذا الخطاب الصهيوني لم يكن خاصاً بدزرائيلي وإنما كان جزءاً لا يتجزأ من الخطاب الغربي بشأن اليهود.

3 ـ ولم تكن سياسة دزرائيلي تجاه الدولة العثمانية سوى تعبير عن المصالح الإمبريالية ودفاع ذكي عنها. وبالتالي، فإن هوية من قام بتنفيذ هذه السياسة ليس أمراً مهماً على الإطلاق.

لكل هذا، ورغم اتهام أعدائه له بتحيزه اليهودي (بل واتهامه بأنه «يهودي متخفي» ) ورغم إدعاءاته هو عن نفسه، إلا أن سلوك دزرائيلي لا يمكن تفسيره على أساس يهوديته وإنما على أساس انتمائه للتشكيل الاستعماري الغربي. ولعل أدق وصف لدزرائيلي هو وصفه لنفسه بأنه يشبه الصفحة البيضاء التي تفصل العهد القديم عن العهد الجديد، أي أنه فَقَد هويته اليهودية ولم يكتسب الهوية المسيحية رغم تَنصُّره. وهو في هذا لا يختلف عن كثير من يهود المارانو (السفارد) الذين فقدوا هويتهم الدينية وتحولوا إلى عنصر أساسي نافع في التشكيل الرأسمالي الغربي والتشكيل الاستعماري الغربي (بشقّيه العسكري والاستيطاني) .

ومما له دلالته أن الموسوعة البريطانية (ماكروبيديا) أفردت مدخلاً كاملاً طويلاً لتناول حياة دزرائيلي الخاصة والعامة، ولم يُشر إلا بشكل عابر في بداية المدخل لأصوله اليهودية، ثم أهملتها تماماً بعد ذلك، لأنها ليست ذات قيمة تفسيرية تُذكَر.

إسحق كرمييه (1796-1880 (

Isaac Cremieux

ص: 55

رجل دولة فرنسي. تلقَّى تعليماً فرنسياً علمانياً في مدارس الليسيه الإمبراطورية حيث كان من أوائل الطلبة اليهود الدارسين بها، ثم درس القانون بعد ذلك، وأصبح خلال فترة دراسته من أشد المعجبين بنابليون. اشتغل عام 1817 بالمحاماة واكتسب سمعة طيبة في هذا المجال بفضل مهارته القانونية، وكان من أشد المؤيدين لقضايا الليبرالية حيث ترافع في عديد من المحاكمات السياسية أثناء فترة عودة الملكية. وبعد قيام ثورة عام 1830، انتقل إلى باريس حيث تعاون مع العناصر الليبرالية في نشاطها المعادي لحكم الملك لويس فيليب وطالب بحرية الصحافة. وفي الفترة بين عامي 1842 و1846 انتُخب نائباً في البرلمان الفرنسي حيث كان من قادة المعارضة. واشترك كريمييه في ثورة 1848، وتولى منصب وزير العدل في الحكومة الجديدة لعدة أشهر حيث عمل على إدخال عدة إصلاحات من أهمها إلغاء نظام الرق في المستعمرات الفرنسية وإلغاء عقوبة الإعدام في القضايا السياسية. ودخل البرلمان مرة أخرى خلال الجمهورية الثانية وظل نائباً حتى عام 1852، ثم ابتعد عن الحياة السياسية في فرنسا منذ ذلك العام نظراً لخلافه مع إدارة لويس نابليون، وبقي كذلك حتى عام 1869 حينما دخل البرلمان مرة أخرى. وقد تولى كريمييه منصب وزير العدل مرة أخرى عام 1870 في الحكومة الانتقالية التي حلت محل حكم لويس نابليون بعد هزيمته العسكرية في العام نفسه. كما انتُخب كريمييه عام 1871 نائباً ممثلاً للجزائر، ثم انتُخب عام 1875 عضواً لمجلس الشيوخ مدى الحياة.

ص: 56

وظل كريمييه مهتماً بالقضايا الخاصة بالجماعات اليهودية سواء في فرنسا أو خارجها، فعمل منذ عام 1827 على إلغاء القَسَم اليهودي في فرنسا (الذي ألغي بالفعل عام 1846) ، وتعاون مع موسى مونتيفيوري عام 1840 بشأن حادثة دمشق، واشترك عام 1866 في الدفاع عن بعض اليهود المتهمين في قضية قتل في روسيا، كما اهتم بالقضايا الخاصة بحقوق يهود رومانيا، وعمل من خلال مؤتمر برلين عام 1878 على دعم قضية إعتاق يهود دول البلقان. وقد اختير كريمييه عام 1863 رئيساً للأليانس إسرائيليت يونيفرسل، وعمل بها حتى عام 1866، ثم مرة أخرى من عام 1868 وحتى وفاته. كما أصدر كريمييه عام 1870، عندما كان وزيراً للعدل، قانون كريمييه الذي منح الجنسية الفرنسية لأعضاء الجماعة اليهودية في الجزائر.

ورغم اهتمام كريمييه بالقضايا اليهودية، إلا أن هذا الاهتمام كان مرتبطاً في المقام الأول بمصالح الدولة الفرنسية. والواقع أن منحه الجنسية الفرنسية ليهود الجزائر، والذي اعتُبر من نجاحاته الكبرى في مجال القضايا اليهودية، كان إجراءً يهدف إلى تحويل يهود الجزائر إلى جماعة وظيفية استيطانية تزيد الكثافة السكانية الفرنسية، ومن ثم تخدم مصالح الاستعمار الفرنسي في الجزائر. كما أن نشاط الأليانس إسرائيليت، التي تولى رئاستها، كان يهدف أيضاً إلى صبغ أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الإسلامي بصفة عامة، ودول المغرب العربي بصفة خاصة، بالثقافة الفرنسية وتحويلهم إلى جماعات وظيفية وسيطة تعمل في مؤسسات الاحتلال الفرنسي وتدين له بالولاء وتخدم مصالحه في المنطقة. ومن الجدير بالذكر أن كريمييه اضطر عام 1845 إلى التخلي عن منصبه كرئيس للمجلس الكَنْسي المركزي اليهودي في باريس بعد أن تبيَّن أنه سمح لزوجته بتنصير أبنائهما. وكان كريمييه نشطاً في الحركة الماسونية في فرنسا وكان من أبرز قياداتها.

ديفيد يولي (1810-1886 (

David Yulee

ص: 57

سياسي أمريكي وأول عضو يهودي في مجلس الشيوخ الأمريكي. وُلد في جزيرة سانت توماس ببحر الكاريبي. وفي عام 1818، انتقل إلى الولايات المتحدة مع والده الذي كان من أوائل من استوطنوا ولاية فلوريدا الأمريكية. وقد أدار يولي إحدى مزارع والده ثم درس القانون وأصبح محامياً عام 1832، ثم انخرط في السياسة وانتُخب عام 1837 عضواً بالهيئة التشريعية الإقليمية. وفي عام 1838 اشترك يولي في المؤتمر الذي وضع دستور فلوريدا. وشارك بحماس في الحملة المطالبة بانضمام فلوريدا إلى اتحاد الولايات الأمريكية. وبعد انضمامها عام 1845، انتُخب يولي ليكون أول عضو في مجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية فلوريدا، كما أصبح أول عضو يهودي به، وظل عضواً بالمجلس حتى عام 1851 وأعيد انتخابه مرة أخرى عام 1855 وحتى عام 1861. وقد أيد يولي نظام العبودية في الولايات المتحدة بشدة ورفض إلغاءه، كما رفض إلغاء عقوبة الجلد في البحرية الأمريكية، وكان من أشد من دافعوا عن حق البيض في الاستيطان (وخصوصاً خلال حروب السيمينول، وهي الحروب التي دارت بشكل متقطع بين عامي 1817 و1858 والتي شنها الجيش الأمريكي ضد قبائل السيمينول من الهنود الحمر لإرغامهم على التخلي عن أراضيهم وإفساح المجال أمام استيطان الرجل الأبيض) . وقد أيَّد يولي انفصال فلوريدا عن الاتحاد عام 1861، واشترك في كونجرس اتحاد ولايات الجنوب أثناء الحرب الأهلية الأمريكية. وبعد هزيمة الجنوب، سُجن لمدة عام خرج بعدها ليعتزل السياسة ويتفرغ لأعمال إعادة بناء خطوط السكك الحديدية في فلوريدا، وهي عملية حقق من خلالها مكاسب كثيرة. وقد تزوج يولي عام 1846 من ابنة حاكم سابق لولاية كنتاكي، وبعد زواجه مباشرةً أضاف اسم يولي إلى اسمه الذي كان حتى ذلك الحين ديفيد ليفي فقط. وبرغم أنه لم يعتنق المسيحية بشكل رسمي، إلا أنه كان يذهب إلى الكنيسة كما قام بتنشئة أبنائه على العقيدة المسيحية.

ص: 58

ولا يمكن الحديث عن ديفيد يولي في إطار المصالح اليهودية الخاصة. فسيرته السياسية لا تختلف عن سيرة كثيرين غيره من رجال السياسة الأمريكيين الذين راهنوا على الجانب الخاطئ في الحرب الأهلية الأمريكية.

جوليوس فوجل (1835-1899)

Julius Vogel

رئيس وزراء نيوزيلندا. وُلد في إنجلترا لأسرة يهودية، واشتغل في تجارة جدِّه الثري، ثم انتقل إلى أستراليا عام 1852 بعد اكتشاف الذهب هناك. ولكنه لم ينجح في مجال التنقيب عن الذهب واتجهت اهتماماته بعد ذلك نحو السياسة والصحافة، فهاجر عام 1861 إلى نيوزيلندا حيث قام بتحرير أول جريدة يومية في المستعمرة. وفي عام 1863 انتُخب عضواً في مجلس مقاطعة أوتاجو، كما انتُخب في العام نفسه عضواً في مجلس النواب ليصبح أول عضو يهودي به. وقد عارض خلال عضويته في المجلس تعليم الدين في المدارس. كما ظهرت كفاءته في الشئون المالية، الأمر الذي أدَّى إلى تعيينه وزيراً للمالية بالمستعمرة عام 1869. وقد اكتسب مكانة واحتراماً كبيراً بفضل مفاوضاته الناجحة مع الحكومة البريطانية للحصول على القروض اللازمة لفتح البلاد للاستيطان وتمويل مشاريع بناء الطرق والسكك الحديدية. وفي عام 1873 أصبح رئيساً للوزراء حتى عام 1875. وفي الفترة ما بين عامي 1876 و1881 أصبح وكيلاً عاماً لنيوزيلندا في إنجلترا، ثم عاد إلى نيوزيلندا عام 1884 ليتولى وزارة المالية مرة أخرى، ولكن سياسته تعرضت لانتقادات حادة الأمر الذي دفعه إلى الاستقالة عام 1887. وكان قد سبق أن تعرض للهجوم عام 1880 (أثناء وجوده في إنجلترا) بسبب تَورُّطه في فضيحة خاصة بشركة نيوزيلندا الزراعية التي كانت تقوم ببيع الأراضي للراغبين في الهجرة. وفي عام 1888 انتقل فوجل إلى إنجلترا حيث استقر بصفة دائمة حتى وفاته.

ص: 59

ويُعدُّ فوجل من أبرز رجال السياسة والدولة في نيوزيلندا، حيث نجح في تطويرها اقتصادياً وفي توسيع رقعة الاستيطان بها، وقد مُنح فوجل لقب «سير» عام 1875. وهو نموذج جيد لليهودي الغربي الذي يفقد ما يُميِّزه كيهودي أو يُهمِّشه ليصبح جزءاً لا يتجزأ من التشكيل الحضاري الاستعماري الغربي، خصوصاً الأنجلو ساكسوني.

أيزاك أيزاكس (1855-1948 (

Isaac Isaacs

رجل دولة أسترالي يهودي، عمل حاكماً عاماً لأستراليا. وُلد في ملبورن لأبوين من أصل بولندي هاجرا إلى أستراليا بعد اكتشاف الذهب بها. ودرس القانون في جامعة ملبورن وتَخرَّج ليشتغل بالمحاماة واكتسب سمعة طيبة بفضل كفاءته القانونية. وفي عام 1892 انخرط في العمل السياسي حيث انتُخب عضواً في البرلمان وظل عضواً به حتى عام 1901. وفي عام 1894 عُيِّن نائباً عاماً. وقد اشترك أيزاكس في المداولات التي مهدت لتشكيل الحكومة الفدرالية في أستراليا، وكان عضواً في اللجنة التي وضعت الدستور. كما انتُخب عام 1901 عضواً في أول برلمان فيدرالي وساهم في تنظيم النظام القضائي الفيدرالي. وفي عام 1906 عُيِّن قاضياً في المحكمة الفيدرالية العليا حيث خدم حتى عام 1930 حينما عُيِّن في منصب كبير القضاة في أستراليا. وفي عام 1931 عُيِّن أيزاكس حاكماً عاماً لأستراليا ليصبح أول شخص أسترالي المولد يتولى هذا المنصب الذي احتفظ به حتى عام 1936. وحصل أيزاكس على لقب «سير» عام 1928.

ص: 60

وقد عارض أيزاكس الصهيونية بشدة واعتبر اليهودية عقيدة دينية رافضاً أي مضمون قومي أو سياسي لها، ونشر عام 1943 سلسلة من المقالات في جريدة يهودية أدان فيها الصهيونية السياسية وأكد أن اليهود مواطنون عاديون يتجه ولاؤهم إلى أستراليا أو إلى غيرها من الدول التي ينتمون إليها واعتبر كل من يخالف هذا الرأي خائناً. وقد أيَّد أيزاكس سياسة الحكومة البريطانية في فلسطين واعتبر الاعتراضات التي أثيرت عام 1941 حول سياسة الكتاب الأبيض البريطانية في فلسطين عملاً يتنافى مع الانتماء لأستراليا. والبُعد اليهودي في تفكير أيزاكس وسلوكه كان قد تقلص تماماً واختفى، إذ أن ما كان يحركه هو انتماؤه لكلٍّ من إنجلترا والتشكيل الاستعماري الاستيطاني الأنجلو ساكسوني في أستراليا.

عمانويل قاراصو (1862-1934 (

Emmanuel Carasso

محام وسياسي تركي من يهود الدونمه، من أعضاء حركة تركيا الفتاة وأحد قادة الحركة الماسونية. وُلد في سالونيكا، وحاضر في جامعتها، وانضم في عهد السلطان عبد الحميد إلى حركة تركيا الفتاة حيث كان واحداً من أبرز أعضائها، وبعد استيلاء الحركة على السلطة عام 1908 انتُخب نائباً في البرلمان التركي كما ترأس اللجنة الرباعية التي تولت مهمة إبلاغ السلطان عبد الحميد بقرار خلعه. وفي عام 1912 كان عضواً في اللجنة البرلمانية التي تولت إجراء مفاوضات السلام مع إيطاليا. وخلال الحرب العالمية الأولى، لعب قاراصو دوراً سياسياً مهماً في إستنبول، ومُنح مقابل خدماته حق تصدير السلع التركية إلى ألمانيا، الأمر الذي مكَّنه من جمع ثروة ضخمة. ومع وصول كمال أتاتورك إلى الحكم عام 1923، فقد قاراصو مكانته، ويُقال إنه لعب دوراً مهماً في مساعدة الاحتلال الإيطالي نظير مبلغ من المال دفعته إليه إيطاليا واضطُر نتيجة خيانته للدولة التركية إلى أن يهرب إلى إيطاليا ويحصل على حق المواطنة الإيطالية حيث عاش في فقر وعزلة حتى وفاته.

ص: 61

ويمكن ملاحظة ما يلي:

1 ـ أن قاراصو لم يكن يهودياً حاخامياً، وإنما كان من يهود الدونمه وهم جماعة خارجة على اليهودية، ولا يعتبرها الحاخاميون يهوداً، كما أن معظم أعضاء الجماعة اليهودية الذين لعبوا دوراً نشطاً في حركة كمال أتاتورك كانوا من يهود الدونمه.

2 ـ أن قاراصو فقد حظوته لدى كمال أتاتورك، ثم مات فقيراً، وهذا ما يُهمَل ذكره في كثير من الدراسات، حتى يبدو أعضاء الجماعات اليهودية كما لو كانوا المحركين لكل شيء والمسئولين عن سقوط الخلافة العثمانية، مع أن أسباب سقوطها كانت أسباباً تاريخية مركبة. ومما لا شك فيه أن ثورة الأقليات والجماعات العرْقية والدينية والإثنية على الدولة العثمانية كانت ضمن مركب الأسباب الذي أدَّى إلى سقوطها. ولكن الجماعة اليهودية لم تكن سوى أقلية واحدة ضمن أقليات أخرى أكثر عدداً وفعالية. كما أن موقف أعضاء الجماعات اليهودية من الدولة العثمانية لم يكن موحَّداً، وإنما انقسموا بين مؤيد ومعارض، تماماً مثل بقية أعضاء المجتمع العثماني وطبقاته.

هربرت صمويل (1870-1963 (

Herbert Samuel

سياسي بريطاني يهودي، وأول مندوب سام بريطاني في فلسطين. وُلد لعائلة يهودية أرثوذكسية تعمل بتجارة الذهب والأعمال المالية (كان أبوه شريكاً في شركة صمويل ومونتاجو) . وقد تلقَّى تعليمه في جامعة أكسفورد، وانضم إلى الحزب الليبرالي ورشح نفسه للانتخابات ونجح (عام 1902) . وتدرج صمويل في عدد من الوظائف إلى أن أصبح وزيراً في الوزارة البريطانية، وكان بذلك أول إنجليزي يهودي يشغل مثل هذا المنصب.

ص: 62

بدأ صمويل اهتمامه بالأمور اليهودية حين عيَّنته الحكومة البريطانية في بعثة خاصة لتقصي أحوال يهود اليديشية الذين كانوا يتوافدون على إنجلترا بأعداد متزايدة. كما دخل في نقاش على صفحات الجرائد مع السفير الروسي في إنجلترا بشأن تهمة الدم التي وُجِّهت لليهودي الروسي منديل بليس. وقد اهتم صمويل بالشئون الاجتماعية وكان مسئولاً عن إصدار قانون تعويض العمال، كما كان مسئولاً عن إصدار ميثاق للأطفال.

كان صمويل، باعتباره يهودياً مندمجاً، يرى أن الحل الصهيوني حل غير عملي وضد مصالح اليهود، ولذا كان مشهوراً بعدائه للصهيونية. ولكن، مع ظهور تلك البوادر التي دلت على أن الدولة العثمانية ستُهزَم، اكتشف صمويل، شأنه شأن جميع الصهاينة اليهود غير اليهود، إمكانية حل المسألة اليهودية عن طريق توطين اليهود في إطار الدولة الوظيفية التابعة للغرب، وهو تَغيُّر في موقف صمويل لم يتوقعه أو يلحظه وايزمان. ولذا، حين اقترح لويد جورج على وايزمان (بعد عودته من سويسرا مع اندلاع الحرب العالمية الأولى) أن يجتمع بصمويل، رفض وايزمان ذلك ظناً منه أن صمويل لا يزال معادياً للصهيونية، ولكنه اضطر إلى أن يقبل على مضض ليفاجأ بأن صمويل يؤيد المشروع الصهيوني. بل والأدهى من ذلك أنه حينما تَقدَّم إليه وايزمان بالمطالب الصهيونية، أخبره صمويل بأنها مطالب متواضعة للغاية وأن عليه أن يفكر بشكل أكبر، وذُهل الزعيم الصهيوني (من شرق أوربا) وقال إنه لو كان مؤمناً بالعقيدة اليهودية لظن أن تَحوُّل صمويل هو إحدى علامات مَقْدم الماشيَّح.

ص: 63

وقد كتب صمويل مذكرة (عام 1915) مررها على أعضاء الوزارة البريطانية تنطلق من افتراض أن تركيا ستُهزَم، واقترح فيها إنشاء محمية إنجليزية في فلسطين بعد الحرب وتشجيع الاستيطان اليهودي فيها، وإعطاء الأولوية للهجرة اليهودية ولبناء مؤسسات استيطانية تساعد في نهاية الأمر على توطين جماعة يهودية يبلغ عددها ثلاثة ملايين تصبح مكتفية ذاتياً إلى أن تشكل دولة ذات سيادة تكون مركزاً لحضارة جديدة وتنظر في الوقت ذاته بعين الاعتبار للمصالح البريطانية في المنطقة. وقد جذبت المذكرة اهتمام لويد جورج، لكن رئيس الوزراء إسكويث لم يكن متحمساً بقدر كاف. وحين تولَّى لويد جورج رئاسة الوزارة (التي كانت تضم بلفور) ، قرر تَبنِّي هذا المشروع الذي سُمِّي «وعد بلفور» . وبسبب اهتماماته الاستعمارية، عُيِّن صمويل أول مندوب سام بريطاني في فلسطين عام 1920 (أي بعد وضعها تحت الانتداب) . وفي أغسطس من العام نفسه، استصدر قانون الهجرة الذي سمح لـ 16.500 يهودي بدخول فلسطين. ولكن، بسبب رد الفعل العربي الرافض، عدلت بريطانيا عن سياستها قليلاً وبدأت تتحرك في إطار مفهوم القوة الاستيعابية للبلد. ولكن، ومع هذا، زاد عدد السكان اليهود في الفترة 1918 ـ 1925 من 105 آلاف إلى 118 ألفاً. وقد ساعد صمويل النشاط الاستيطاني الصهيوني على مستويات أخرى عديدة من بينها الاعتراف بالمؤسسات السياسية الصهيونية في فلسطين والاعتراف باللغة العبرية كإحدى اللغات المحلية في فلسطين. وقد زاد عدد المستوطنات الصهيونية في عهده من 44 إلى 100 مستوطنة.

وقد استمر اهتمامه بالمُستوطَن الصهيوني بعد تركه منصبه، فكان رئيساً لشركة فلسطين للكهرباء، ورئيساً للجامعة العبرية. وقد هاجم صمويل الكتاب الأبيض لعام 1939، كما هاجم سياسة بيفين المعادية للصهيونية.

وكان هربرت صمويل زعيماً للحزب الليبرالي في مجلس اللوردات بين عامي 1924 و1955، وله مؤلفات عديدة في الفلسفة الليبرالية.

ص: 64

وصمويل نموذج جيد للصهيوني اليهودي غير اليهودي الذي لا تختلف رؤيته لليهود عن رؤية أي منتم للحضارة الغربية، فهو لا يهتم بالإثنية اليهودية ولا بالمصالح اليهودية ولا بالتاريخ اليهودي ولا بالعقيدة اليهودية: إنه يهودي مندمج تماماً يود الحفاظ على وضعه. ولكنه، شأنه شأن أي سياسي غربي، كان ينظر إلى اليهود من الخارج ويراهم كمادة بشرية نافعة يمكن أن تُوظَّف لصالح الحضارة الغربية.

ويبدو أن قطاعات من أعضاء الجماعات اليهودية في فلسطين وخارجها صنفت صمويل باعتباره أول حاكم يهودي لفلسطين منذ سقوط الهيكل. وهذا التصنيف لا يأخذ في اعتباره التكوين الثقافي أو السياسي لدى صمويل ولا الإطار الذي تم فيه تقليده منصبه. فقد كان صمويل، في واقع الأمر، مندوب الإمبراطورية البريطانية لدى اليهود، وليس مندوب اليهود لدى الإمبراطورية البريطانية.

ليون بلوم (1872-1950)

Leon Blum

رجل دولة وكاتب فرنسي، كان أول يهودي واشتراكي فرنسي يتولى رئاسة وزراء فرنسا. وُلد لعائلة يهودية تجارية ثرية في باريس، ودرس القانون في جامعة السوربون ونجح في تحقيق مكانة مرموقة كرجل قانون حيث عُيِّن في مجلس الدولة عام 1895 ووصل إلى أعلى المناصب فيه. كما كان يُعَدُّ، وهو مازال في الثانية والعشرين من عمره، من الكتاب والأدباء الفرنسيين اللامعين في تلك الفترة. وقد كتب عدة مؤلفات من بينها كتابه في الزواج (1907) الذي أثار ضجة واسعة بسبب آرائه الجريئة حول الزواج وحقوق المرأة.

ص: 65

وقد تأثر بلوم بقضية دريفوس واشترك عام 1896 في الحملة من أجل إطلاق سراحه. وكانت هذه القضية من العوامل التي دفعته إلى العمل السياسي حيث انضم عام 1898 إلى الحزب الاشتراكي وساهم في جريدته لومانيتيه ككاتب وناقد أدبي. وقد أصبح بلوم بعد الحرب العالمية الأولى من الزعماء البارزين للحزب، وانتُخب في البرلمان الفرنسي عام 1919. وعمل بلوم على إعادة بناء الحزب بعد انشقاق العناصر الشيوعية عنه في عام 1920، ويُعتبَر بذلك أحد المؤسسين الرئيسيين للحزب الاشتراكي الفرنسي الحديث. وقد أعيد انتخابه في البرلمان عامي 1924 و1929. ونجح عام 1936 في أن يصبح رئيساً لوزراء فرنسا بعد أن نجحت جبهة واسعة من الأحزاب اليسارية في الانتخابات. وقد أدخلت حكومته بعض الإصلاحات الاجتماعية الواسعة واتخذت إجراءات تأميمية في قطاعي المال والتجارة. وقد اتُهم بلوم من جانب قوى اليسار الفرنسي بمهادنة دول المحور بسبب تَبنِّيه سياسة عدم التدخل في الحرب الأهلية الإسبانية، كما واجه معارضة شديدة من رجال الصناعة بسبب إصلاحاته الاجتماعية والعمالية. وقد اضطُر بلوم عام 1937 إلى الاستقالة من منصبه وعمل نائباً لرئيس الوزراء في حكومة الجبهة الشعبية ثم رئيساً للوزراء مرة أخرى عام 1938.

وقد أُلقي القبض عليه بعد سقوط فرنسا في أيدي الألمان عام 1940، وظل في معسكر اعتقال ألماني حتى عام 1945. ولكنه عاد إلى فرنسا في العام نفسه، وشَكَّل عام 1946 حكومة انتقالية اشتراكية ظلت في الحكم شهراً واحداً فقط. وابتعد بلوم بعد ذلك عن الحياة العامة فيما عدا فترة قصيرة (عام 1948) عمل خلالها نائباً لرئيس الوزراء. ويُعتبَر بلوم من أبرز الشخصيات في الحركة العمالية الفرنسية ومن مؤسسي الدولية الاشتراكية خلال الفترة بين الحربين العالميتين.

ص: 66

وقد كان بلوم من مؤسِّسي اللجنة الاشتراكية من أجل فلسطين عام 1928، وقَبل دعوة وايزمان للانضمام إلى الوكالة اليهودية كممثل ليهود فرنسا، ولعب بلوم دوراً مهماً في التأثير على تصويت الحكومة الفرنسية في الأمم المتحدة والمؤيد لقرار تقسيم فلسطين. ولا يمكن تفسير سلوك بلوم في إطار المصالح اليهودية الخالصة أو النفوذ اليهودي، فباستثناء بعض التفاصيل اليهودية الهامشية في حياته، نجد أن حياته السياسية وتوجهاته الفكرية لا تختلف عن حياة وتوجهات أي سياسي اشتراكي فرنسي آخر.

بيير منديس فرانس (1907-1982)

Pierre Mendes-France

رجل دولة فرنسي وُلد في باريس لعائلة يهودية من المارانو، وتلقى تعليماً فرنسياً علمانياً. فدرس القانون في جامعة السوربون حيث كتب رسالته الجامعية عام 1928، ووجَّه فيها انتقادات حادة للسياسات المالية للحكومة آنذاك، وطالب باقتصاد أكثر عدلاً وبدور أكبر للدولة. وحظيت الدراسة باهتمام واسع بين رجال القانون والاقتصاد والسياسة في فرنسا كما نالت إعجاب الأحزاب اليسارية الفرنسية، وأصبح منديس فرانس من المستشارين الماليين للحزب الراديكالي. واتسم فكره بالعقلانية الشديدة وبابتعاده عن أية تصورات مثالية، كما تأثر بالفكر الاقتصادي لكينز. وقد انتُخب منديس فرانس عام 1932 ليكون أصغر نائب في البرلمان الفرنسي، وأُعيد انتخابه مرة أخرى في عام 1936. وعمل فرانس في حكومة الجبهة الوطنية تحت رئاسة ليون بلوم عام 1938 نائباً لوزير الخزانة حيث عمل على تطبيق سياساته الاقتصادية.

ص: 67

وبعد سقوط فرنسا في أيدي الألمان عام 1940، رحل منديس فرانس إلى المغرب حيث حاول تنظيم المعارضة ضد حكومة فيشي، ولكن تم إلقاء القبض عليه وترحيله إلى فرنسا حيث نجح في الفرار عام 1941 إلى إنجلترا، وانضم إلى حركة الفرنسيين الأحرار تحت قيادة ديجول الذي عينه فيما بعد في منصب المندوب المالي للجزائر. وقد تولى منديس فرانس منصب وزير الشئون الاقتصادية في الحكومة المؤقتة بين عامي 1944 و1945، إلا أنه استقال بسبب الخلافات حول السياسات الاقتصادية. وعُيِّن عام 1946 في منصب المدير الفرنسي للبنك الدولي للإنشاء والتعمير. وفي عام 1954، نجح منديس فرانس في الوصول إلى رئاسة الوزراء وعمل من خلال هذا المنصب على إنهاء الوجود الفرنسي في الهند الصينية بعد هزيمة قوات الاستعمار الفرنسي أمام قوى التحرر الوطني في المنطقة. ثم قدَّم استقالته عام 1955 إثر فشل سياسته الخاصة بمنح الاستقلال للمغرب وتونس. وعاد منديس فرانس مرة أخرى وزيراً بلا وزارة في حكومة الجبهة الجمهورية عام 1956، إلا أنه استقال بعد عدة أشهر بسبب خلافه مع رئيس الوزراء حول السياسة الفرنسية بشأن الجزائر إذ كان يرى ضرورة الاستمرار في ضم الجزائر إلى فرنسا.

وقد ظل منديس فرانس شخصية مهمة في السياسة الفرنسية، كما كان من المؤيدين للصهيونية وإسرائيل. وقد أيَّد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ولكن موقفه هذا كان ينبع في المقام الأول من كونه سياسياً فرنسياً حريصاً على حماية المصالح الفرنسية والغربية في فترة اتسمت بانحسار الاستعمار ونمو قوى التحرر الوطني في بلاد آسيا وأفريقيا والعالم العربي. وقد كان منديس فرانس من المؤيدين لفتح الحوار بين العرب وإسرائيل في الفترة 1968 - 1973.

برونو كرايسكي (1911-1990)

Bruno Kreisky

ص: 68

رجل دولة نمساوي وأول يهودي يتولى منصب مستشار النمسا. وُلد في فيينا وكان والده تاجر منسوجات ثرياً. انضم كرايسكي في سن مبكرة إلى الحزب الاشتراكي. وعندما مُنع الحزب من مزاولة نشاطه عام 1934، اشترك كرايسكي في نشاطه السري وتم إلقاء القبض عليه عام 1935 وحُكم عليه بالسجن ستة عشر شهراً. وفي عام 1938، تَخرَّج في جامعة فيينا. وبعد أن قامت ألمانيا النازية بضم النمسا إليها، طُرد كرايسكي واستقر في السويد حيث عمل كمراسل أجنبي. ومع نهاية الحرب، التحق بالسلك الدبلوماسي النمساوي واشتغل في سفارة بلاده في السويد. وفي عام 1951، عاد إلى النمسا حيث عُيِّن مساعداً للرئيس النمساوي الاشتراكي، ثم أصبح عام 1953 وكيل وزارة الخارجية ولعب دوراً أساسياً في المفاوضات التي جرت مع الاتحاد السوفيتي والتي أُبرمَت بمقتضاها معاهدة النمسا عام 1955 والتي أعطت النمسا استقلالها مقابل تعهدها بالحياد الدائم. ومنذ عام 1959، وحتى عام 1966، أصبح كرايسكي وزيراً للخارجية. وفي عام 1967، اختير رئيساً للحزب الاشتراكي وزعيماً للمعارضة، فقاد حزبه للحكم عام 1970 وتولى منصب مستشار النمسا. وقد حققت النمسا في ظل حكمه قدراً كبيراً من الرخاء الاقتصادي، كما لعب دوراً متميِّزاً في السياسة الدولية، خصوصاً في علاقة الشرق بالغرب والشمال بالجنوب.

كتب كرايسكي كتابه النمسا بين الشرق والغرب (1968) ، الذي اتهم فيه إسرائيل باحتكار تعاطف الأحزاب الاشتراكية وتأييدها بسبب عقدة الذنب تجاه اليهود بعد الإبادة النازية، وبيَّن أن الوقت قد حان لتتخلص هذه الأحزاب من هذا الاحتكار الإسرائيلي وهذا الإحساس بالذنب. كما حثّ كرايسكي أوربا على ضرورة القيام باتصالات مع العالم العربي لتحقيق حل سلمي للشرق الأوسط. ورفض كرايسكي مفهوم الأمة اليهودية الواحدة، فاليهودية بالنسبة له عقيدة وليست انتماءً عرْقياً.

ص: 69

وقد لعب كرايسكي أيضاً دوراً بارزاً في قضايا الشرق الأوسط يتسم بقدر من التوازن، وهو ما جعله هدفاً لانتقادات حادة من جانب إسرائيل. ففي عام 1973 قَبل كرايسكي مطالب مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين الذين استولوا على قطار نمساوي يحمل عدداً من اليهود السوفييت المهاجرين إلى إسرائيل وطالبوا بوقف الهجرة اليهودية المارة عبر فيينا إلى إسرائيل. وقد أثار ذلك غضب إسرائيل ووصفت جولدا مائير كرايسكي بأنه يهودي كاره لنفسه. وفي عام 1980، كان كرايسكي أول زعيم غربي يلتقي بياسر عرفات ويمنح منظمة التحرير الفلسطينية اعترافاً دبلوماسياً على أرض الواقع (دي فاكتو) . كما عمل على تخفيف موقف الدولية الاشتراكية (المتحيِّز) لإسرائيل وعلى تبنيها موقفاً أكثر حياداً. وفي الوقت نفسه، حثّ منظمة التحرير الفلسطينية على الاعتراف بوجود إسرائيل نظير اعتراف إسرائيل بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة، أي أن الحل الذي اقترحه هو الاعتراف المُتبادَل بين الدولتين على أساس قرار 242. كما ساهم كرايسكي عدة مرات في بعض المفاوضات التي جرت من وراء الكواليس للإفراج عن الرهائن والأسرى الإسرائيليين لدى بعض المجموعات الفدائية الفلسطينية.

وقد استقال كرايسكي من منصب المستشارية ثم من رئاسة الحزب الاشتراكي عام 1983 بعد أن فشل حزبه في الحصول على أغلبية مطلقة في الانتخابات.

هنري كيسنجر (1923 (

Henry Kissinger

ص: 70

عالم سياسة أمريكي، وأول أمريكي يهودي يتولى منصب وزير الخارجية الأمريكية، وكذلك أول أمريكي غير أمريكي المولد يتولى هذا المنصب. وُلد في مقاطعة بافاريا في ألمانيا، وقضى صباه في ظل الحكم النازي حيث طُرد مع أخيه من المدارس الحكومية، كما طُرد والده من وظيفته كمعلم. وفي عام 1938، رحل كيسنجر مع أسرته إلى الولايات المتحدة حيث استقروا في نيويورك. وجُنِّد في الجيش الأمريكي عام 1943 ثم عمل في المخابرات حتى عام 1946، وخدم في ألمانيا كمترجم وكمدرس في المدرسة الأوربية لقيادة المخابرات.

وبعد الحرب، درس في هارفارد ثم انضم إلى هيئة التدريس وتدرَّج في السلم الأكاديمي حتى حصل على درجة الأستاذية عام 1962. واكتسب كيسنجر مكانة مهمة كمفكر مختص في شئون الدفاع والأمن القومي وكتب عدة كتب مهمة في هذا المجال. وعمل كيسنجر مستشاراً لعدة رؤساء أمريكيين (أيزنهاور، وكنيدي، وجونسون) . وفي عام 1968، عمل بصفة دائمة في شئون الرئاسة الأمريكية. وحين عمل مستشاراً للرئيس نيكسون للأمن القومي، اتسمت علاقتهما بقدر كبير من التفاهم وأتاح نيكسون لكيسنجر مساحة كبيرة من حرية العمل. وقد اكتسب كيسنجر سمعة عالمية من خلال تمهيده للزيارتين التاريخيتين التي قام بهما الرئيس الأمريكي نيكسون إلى الصين والاتحاد السوفيتي عام 1972، وتدشينه سياسة الوفاق الدولي مع الاتحاد السوفيتي وتَوصُّله لمعاهدة الحد من الأسلحة الإستراتيجية الأولى (سولت) عام 1972.

ص: 71

ومع انتهاء حرب فيتنام، وجَّه كيسنجر اهتمامه نحو الشرق الأوسط حيث كانت الإدارة الأمريكية تسعى إلى الحد من النفوذ السوفيتي في المنطقة وتقليصه في نهاية الأمر من خلال خلق وجود أمريكي متزايد في العالم العربي وضمان استمرار تدفق النفط العربي إلى الغرب. وبالفعل، لعب كيسنجر دوراً بارزاً في ترتيب وقف إطلاق النار في أثناء حرب 1973، ثم في عقد مفاوضات بين الجانبين العربي والإسرائيلي، وأخيراً في إعادة العلاقات الدبلوماسية مع مصر، الأمر الذي مهَّد بالفعل لتزايد الوجود الأمريكي بالمنطقة وتزايد دور أمريكا في قضية الشرق الأوسط وما انتهى إليه من معاهدة صلح بين مصر وإسرائيل.

وقد مُنح كيسنجر عام 1973 جائزة نوبل للسلام، كما عُيِّن في العام نفسه وزيراً للخارجية الأمريكية. ومع مجئ الرئيس كارتر إلى الحكم، انتهى عمله بهذا المنصب. وقد تولى كيسنجر بعد ذلك، مواقع مرموقة في المؤسسات الأكاديمية والمالية والتجارية الأمريكية، فعمل أستاذاً في جامعة جورج تاون، وعُيِّن نائباً لرئيس اللجنة الاستشارية الدولية لبنك تشيز مانهاتن، كما عمل مستشاراً للشئون العالمية لشركة إن. بي. سي. NBC وفي مؤسسة جولدمان ساخس للمال والسمسرة لتقديم المشورة حول تأثير التطورات السياسية الدولية على الشئون الاقتصادية والمالية للشركة وعملائها.

وفي عام 1983 اختاره الرئيس الأمريكي ريجان لرئاسة اللجنة الخاصة بشئون أمريكا اللاتينية المنوط بها مهمة تقييم السياسة الخارجية الأمريكية في هذه المنطقة.

ص: 72

ويتمحور فكر كيسنجر الإستراتيجي حول مفهوم النظام الدولي الشرعي والمستقر. فالاستقرار يصنع السلام (وليس العكس) وهو لا يتحقق إلا بوجود شرعية دولية تقبلها الأطراف الأساسية في النظام الدولي. والشرعية والاستقرار لا يتحققان إلا من خلال أداتين لا انفصال بينهما هما الدبلوماسية والقوة المسلحة. وهذا النظام لا ينفي الصراع تماماً بل يخفضه إلى نوع من التنافس والتوتر المحكوم بإطار مقبول من الترتيبات والقواعد حول السلوك والأهداف والوسائل المسموح بها. والمعضلة الأساسية بالنسبة لكيسنجر هي كيفية الحفاظ على النظام الشرعي المستقر في ظل عصر الأسلحة النووية وفي مواجهة النظم الثورية التي ترفض الإطار القائم وتشكل مصدراً للصراعات التي تعيق (في نظره) التطور، ومن هنا كان اقتراحه القائل بتَبنِّي إستراتيجية تعتمد على التزاوج بين الدبلوماسية والمفاوضات من جهة، والحرب المحدودة من جهة أخرى.

ص: 73

وقد كانت القضية الأساسية التي شغلت كيسنجر وحدَّدت مواقفه من القضايا الدولية كافة هي قضية العلاقة بين القوتين الأعظم والتوازن الدقيق بينهما. فأية مشكلة تمس هذا الميزان، وتهدد المصالح الأمريكية والغربية، كانت تثير اهتمامه وتَحرُّكه السريع، مثل مشكلة الأمن الأوربي وحرب فيتنام وأزمة الشرق الأوسط بخاصة بعد حرب 1973، في حين نجد أن اهتمامه يتراجع بمشاكل أخرى لا تمس هذا التوازن مثل غزو تركيا لقبرص عسكرياً عام 1974 وتحديها لليونان، رغم أن كلتا الدولتين عضو في حلف ناتو، وكذلك إهماله التام لأفريقيا وعدم اهتمامه بقضاياها إلا بعد دخول الاتحاد السوفيتي طرفاً في حرب تحرير أنجولا، فعندئذ جاء تَحرُّكه السريع لغلق الباب الأفريقي أمام السوفييت. وإلى جانب تَحدِّي الكتلة الشرقية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي كان كيسنجر يرى أن حركات التحرر الوطني والنظم الثورية الوطنية في العالم الثالث تشكل تحدياً آخر للولايات المتحدة والمعسكر الغربي؛ فهي تنزع نحو فرض نظام عالمي جديد يتسم بقدر أكبر من المساواة، وترى القوة الأمريكية المالية نوعاً من الاستعمار الجديد ومن ثم كان اقترابها أكثر من الاتحاد السوفيتي وتأثير ذلك على العلاقات والتوازن بين القوتين الأعظم. وهو يرى إمكانية احتواء هذه النظم الثورية "بالغواية والتخويف وكذلك ضربها بالحروب المحدودة حتى بغير اشتراك الولايات المتحدة. وعلى الولايات المتحدة أن تتأكد أنه يوجد لها في كل منطقة من العالم الثالث سوط مستعد في كل لحظة لأن يهوي على أي ظهر يحاول أن يرفع رأسه بعد حد معيَّن".

ص: 74

ومحاولة اكتشاف البُعد اليهودي في تفكير كيسنجر أمر لا طائل من ورائه، فطريقة تفكيره وأولوياته وإدراكه لمصالح العالم الغربي وإدارته للأزمات الدولية (سواء في الشرق الأوسط أو غيرها من المناطق) هي جزء لا يتجزأ من التفكير الإستراتيجي العام في الغرب بمنطلقاته الصراعية الداروينية والتي تعود إلى عصر النهضة، وفلسفة الدولة. وهو تفكير يسعى إلى حماية أمن الغرب والدفاع عن مصالحه من خلال استخدام كل أشكال القوة (من ضغط سياسي إلى نشاط استخباري إلى انقلابات عسكرية مُدبَّرة إلى استخدام القوة العسكرية بشكل مباشر) . وفي داخل هذا الإطار يرى كيسنجر أن الولايات المتحدة هي زعيمة العالم الغربي ويرى أن لمصالحها أسبقية على مصالح الدول الأخرى وضمن ذلك الدول الغربية واليابان. ومن هنا اهتمامه بالبترول العربي فهو أداة ضغط أساسية على الدول "الحليفة" التي تعتمد على البترول المستورد. وما يُحدِّد موقف كيسنجر من إسرائيل ليس يهوديته أو رغبته في الدفاع عن المصالح اليهودية أو زيادة النفوذ اليهودي أو حماية الدولة اليهودية، وإنما حرصه على أن تكون إسرائيل حليفاً إستراتيجياً للولايات المتحدة وسوطاً رادعاً في يدها. ومن ثم لا يمكن تفسير مواقف كيسنجر السياسية على أساس يهوديته، كما يفعل بعض المحللين العرب.

المال اليهودي

Jewish Money

ص: 75

«المال اليهودي» عبارة تتواتر في الأدبيات المُتداوَلة عن أعضاء الجماعات اليهودية، وهي عبارة تفترض وجود ثروة (ضخمة) يمتلكها اليهود ويوظفونها بالطريقة التي تروق لهم. ولعل أساس العبارة هو دور اليهود كجماعة وظيفية تجارية تمتلك رأسمال توظفه في التجارة البدائية والربا ويدر عليها ربحاً (كان النبيل الإقطاعي يستولي على معظمه) . ونظراً لوجود هذا الرأسمال خارج العملية الإنتاجية الزراعية، فقد بدا كما لو كان مستقلاً. أما في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، فقد تَركَّز أعضاء الجماعات اليهودية في قطاعات اقتصادية بعينها، فكان يبدو كما لو كان اليهود عنصراً مستقلاً.

ويذهب البعض إلى أن هذا المال اليهودي هو سر قوة اليهود، فهم يوظفونه في شراء النفوذ وفي ممارسة السلطة وفي تخريب الضمائر وإفساد العباد. وهذه أيضاً تهمة لها جذورها، فأعضاء الجماعات اليهودية كانوا يشترون المواثيق والحماية والمزايا من الملك أو الأمير، كما أنهم تركزوا في كثير من القطاعات المشينة في المجتمعات الحديثة (البغاء - المجلات الإباحية) .

وكما هو واضح، فإن ثمة أساساً موضوعياً أو مادياً لكل التهم، ومع ذلك يظل الواقع أكثر تركيباً من التهم الاختزالية البسيطة ومن الواقع المادي المباشر. فالمال اليهودي في المجتمع الإقطاعي كان بالفعل في قبضة أعضاء الجماعات اليهودية، ولكنهم هم أنفسهم كانوا في قبضة الأمير الإقطاعي، وكانت المواثيق الممنوحة لهم تتحدث عن تبعيتهم للأمير تبعية المملوك للمالك. وكانت بعض المواثيق تشير إلى هذا بشكل مجازي، بينما كان البعض الآخر يشير إليه بشكل حرفي.

ص: 76

والمال اليهودي في العصر الحديث لا يختلف كثيراً عن المال اليهودي في العصور الوسطى في الغرب. فرأس المال اليهودي يتحرك حسب حركة رأس المال المحلي الذي يتحرك بدوره حسب حركة رأس المال العالمي. ولعله بعد عمليات التدويل المختلفة التي خاضها العالم، وظهور النظام العالمي الجديد والشركات متعددة الجنسيات، زادت تبعية المال اليهودي وتناقصت مقدرة الرأسمالي من أعضاء الجماعات اليهودية على التحكم في رأس ماله.

وكل هذا لا ينفي ما يلي:

1 ـ أن هناك رقعة من الحرية للرأسمال اليهودي يتحرك فيها، خصوصاً إذا تماثلت الظروف.

2 ـ أن كثيراً من القرارات السياسية التي اتخذها غير اليهود كانت تَصدُر عن الإيمان بوجود هذا المال اليهودي، ومن ثم أخذه صانع القرار في الحسبان وهو يتخذ قراره، أي أن المال اليهودي (في هذه الحالة) عنصر مؤثر تأثيراً لا يتناسب بتاتاً مع قوته الفعلية.

العجز اليهودي (بسبب انعدام السيادة وعدم المشاركة في السلطة (

Jewish Powerlessness

ص: 77

«العجز بسبب انعدام السيادة وعدم المشاركة في السلطة» عبارة ظهرت مؤخراً في الأدبيات الصهيونية وغيرها، وهي عبارة تحاول أن تفسر المسألة اليهودية على أنها تتلخص في افتقار اليهود إلى السيادة القومية وعدم مشاركتهم في صنع القرار. وتعود هذه الحالة (حسب التصور الصهيوني) إلى عام 70م عندما قام تيتوس بهدم الهيكل رمز السيادة القومية وأصبح اليهود جماعات مشتتة ليست لها سيادة قومية مستقلة، يوجد أعضاؤها خارج نطاق مؤسسات صنع القرار بعيداً عن أية سلطة، وبالتالي أصبحوا غير متحكمين في مصيرهم. ويستند هذا النموذج التفسيري إلى عدة افتراضات اختزالية من بينها تَصوُّر أن العبرانيين القدامى والعبرانيين اليهود، أي اليهود حتى عام 70م، كانوا يمارسون سيادة قومية كاملة. وهذا أمر مشكوك فيه. فلقد كان العبرانيون ـ حسب ما وصلنا من معلومات - أقناناً أو عبيداً أو قبائل رحلاً. وبعد التسلل العبراني في كنعان، ظل العبرانيون جيوباً متفرقة لا تمتلك كثيراً من السيادة القومية. والاستثناء الوحيد من هذه الصورة العامة هو حكم كلٍّ من داود وسليمان (المملكة العبرانية المتحدة) الذي لم يدم أكثر من أربعين عاماً بسبب الغياب المؤقت للقوى العظمى في الشرق الأدنى القديم. ثم ظهرت الدويلتان العبرانيتان اللتان كانتا تتبعان في سياستهما إما آشور وبابل أو مصر أو آرام دمشق. وقد دام حكم الحشمونيين فترة قصيرة لا تزيد على مائة عام، بدأت بتوقيع معاهدة مع روما (القوة العظمى الصاعدة) وانتهت بتَدخُّل بومبي في تعيين الملك الحشموني.

ويفترض هذا النموذج التفسيري أيضاً وحدة المصير اليهودي ووحدة أعضاء الجماعات. وهذا أمر يتناقض تماماً مع الحقائق التاريخية، فقد كان مصير كل جماعة يهودية يتحدد بآليات وحركيات التشكيل الحضاري والسياسي الذي تواجدت داخله.

ص: 78

ويُنكر هذا النموذج التفسيري أن أعضاء الجماعات اليهودية كانوا في كثير من الفترات، شأنهم شأن أعضاء الجماعات الدينية والإثنية الأخرى، يشاركون في السلطة من خلال المؤسسات التقليدية للحكم. فالمجتمعات التقليدية كان لها نظامها الخاص في تقسيم السلطة بحيث تسيطر السلطة الحاكمة على الجيش والسياسة الدولية. أما الشئون الأخرى، وضمنها الأمن الداخلي، فكان تسييرها يتم عن طريق مؤسسات الإدارة الذاتية.

ثم يفترض هذا النموذج التفسيري وجود إدارة وسيادة يهودية مستقلة، وهو افتراض خاطئ تماماً. ففي العصر الحديث، يشارك أعضاء الجماعات، منفردين أو مجتمعين، في السلطة وفي صنع القرار من خلال مؤسسات الدولة الحديثة (البرلمانات والأحزاب السياسية) . فعلى سبيل المثال، يُعدُّ تعيين هنري كيسنجر وزيراً للخارجية الأمريكية، وهو من أهم المناصب السياسية في العصر الحديث، تعبيراً عن هذا الشكل من أشكال المشاركة في السلطة. وبالمثل فإن اللوبي الصهيوني شكل آخر لهذه المشاركة؛ حيث يشكل بعض أعضاء الجماعة اليهودية قوة ضغط داخل الكونجرس الأمريكي تقوم بممارسة الضغط لصالح الدولة الصهيونية. وهذه هي إحدى الآليات الأساسية للنظام السياسي الديموقراطي في الغرب.

وسيجد الدارس المدقق لهذا النموذج التفسيري أن المفكرين الصهاينة، ومعظمهم من أصول إشكنازية شرق أوربية، حين يتحدثون عن العجز بسبب انعدام السيادة وعدم المشاركة في السلطة، إنما يفكرون في تجربة أعضاء الجماعات اليهودية في أوربا ابتداءً من العصور الوسطى حتى بداية القرن الحالي. ولذا، فإن المقولة تحمل شيئاً من الصحة إن تَحدَّد مجالها الدلالي على هذا النحو.

ص: 79

ومن المعروف أن أعضاء الجماعات اليهودية في العصور الوسطى في الغرب، كانوا تجاراً ومرابين وأقنان بلاط وأرندا ويهود بلاط، وكلها أشكال مختلفة من أنماط الجماعة الوظيفية، وكانوا كذلك قريبين دائماً من الحاكم ملتصقين به، كما كانوا يشكلون أدواته الطيعة في عملية الاستغلال وامتصاص فائض القيمة من الجماهير. ولكنهم، مع هذا، لم يشاركوا في صنع القرار، فقد كانوا منبتي الصلة بالجماهير وتعوزهم القوة العسكرية، وهذا ما جعلهم في حالة عجز واعتماد كامل على الحاكم الذي كانت ثقته بهم تتزايد لأنهم لا يشكلون أية خطورة عليه بسبب عجزهم عن الاستيلاء على السلطة أو لعدم وجود أساس من القوة يؤهلهم للمطالبة بنصيب فيها.

وقد طرحت الصهيونية نفسها على أنها الحركة التي ستحل هذه الإشكالية وتضع نهاية لعجز اليهود وعدم مشاركتهم في السلطة عن طريق تأسيس دولة يهودية مستقلة ذات سيادة. وذلك على اعتبار أنه، مهما تكن مشاركة أعضاء الجماعات في صنع القرار، فإن هذا القرار يظل في النهاية غير يهودي، ويظل اليهودي بالتالي مهدداً في أية لحظة بسحب البساط من تحت قدميه. وفي هذا المقام، يُشار دائماً إلى ألمانيا النازية حيث كان كثير من يهود ألمانيا يشغلون، حتى ظهور النازية (عام 1933) ، مناصب حكومية وسياسية قيادية. وينسى الصهاينة أن النظام السياسي الألماني لم يَحرم أعضاء الجماعات اليهودية وحدهم من المشاركة في السلطة، فقد حَرَم قطاعات كبيرة من الشعب الألماني والشعوب الأخرى التي سيطرت عليها القوات الألمانية من أية سلطة أو إرادة مستقلة.

ص: 80

والأهم من ذلك كله أن الاستعمار الصهيوني كان استعماراً عميلاً منذ بداية الاستيطان، كما أن شرعيته لم تكن تستند إلى قوة اليهود أو إلى حركة جماهيرية وإنما استندت إلى وعد أصدرته القوة الإمبراطورية الصاعدة في الشرق وإلى الضمانات العسكرية التي قدَّمتها، أي أن النمط الذي ساد أوربا حتى القرن التاسع عشر، داخل التشكيل السياسي الغربي، عاد وأكد نفسه بحيث أصبح المستوطنون الصهاينة عنصراً قريباً من القوة الإمبريالية الحاكمة لصيقاً بها، ولكن القرار الخاص بالسياسة الاستعمارية الدولية ظل من اختصاص الحاكم الإمبريالي، أي أن الصهاينة أسسوا في نهاية الأمر دولة وظيفية ليست لها إرادة مستقلة؛ بل وعاجزة عن البقاء والحركة بدون الدعم الإمبريالي.

لكن الدولة، بعد إنشائها، تمتعت بشيء من الاستقلال النسبي نتيجة تَصارُع القوى الإمبريالية فيما بينها على مناطق النفوذ في الشرق الأوسط. ومع صعود قوة الولايات المتحدة وتزايد اعتماد المستوطن الصهيوني على الدعم الأمريكي، تناقص الاستقلال اليهودي وتضاءل تحكم الإسرائيليين في مصيرهم، وأصبحت المؤسسة الحاكمة الإسرائيلية تتخذ قراراتها وعيونها على الممول الموجود في واشنطن. ومن المتوقع أن يزداد هذا الاتجاه مع تزايد الرفض العربي للمُستوطَن الصهيوني.

ص: 81

وقد وجدت إشكالية العجز طريقها إلى التفكير الديني اليهودي، فيذهب ريتشارد روبنشتاين إلى أن اليهودية الحاخامية قد ولَّدت لدى اليهود استعداداً كامناً للاستسلام والخنوع والخضوع والعجز. ولا يمكن تفسير تعاون المجالس اليهودية في أوربا مع القوات النازية واشتراكها في تسليم اليهود إلى النازي إلا بالتراث الحاخامي الذي يجعل من العجز والسلبية فضيلة. أما إرفنج جرينبرج، فقد ساهم في تطوير ما يُسمَّى «لاهوت البقاء» الذي يجعل الحصول على السيادة هدف التاريخ اليهودي الزمني والمقدَّس، ويجعل دستور إسرائيل كتاب إسرائيل المقدَّس، ويجعل دولة إسرائيل التجسد الحقيقي لهدف التاريخ اليهودي (تيلوس) .

وتجدر ملاحظة أن مصطلح «عجز اليهود» يُستخدَم في الكتابات الدينية، وخصوصاً الأرثوذكسية، للإشارة إلى أن اليهود شعب مختار ذو صلة خاصة بالإله، وأن هذه العلاقة الخاصة تجعله يقف خارج التاريخ ليشهد على الأمم، ولذا فإنه لابد أن يظل خارج نطاق السلطة والسيادة. والمصطلح، في هذا السياق، لا يحمل أية تضمينات قدحية، بل العكس هو الصحيح إذ أن العجز هنا يصبح علامة من علامات الاختيار.

ص: 82