المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب العاشر: لهجات أعضاء الجماعات اليهودية ولغاتهم - موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية - جـ ٧

[عبد الوهاب المسيري]

الفصل: ‌الباب العاشر: لهجات أعضاء الجماعات اليهودية ولغاتهم

‌الباب العاشر: لهجات أعضاء الجماعات اليهودية ولغاتهم

اللغات اليهودية

Jewish Languages

«اللغات اليهودية» اصطلاح تستخدمه بعض المراجع الصهيونية (أو المتأثرة بها) للإشارة إلى اللغات واللهجات والرطانات التي يتحدث بها أعضاء الجماعات اليهودية في العالم. وهو اصطلاح غير دقيق بالمرة، فالجماعات اليهودية تتحدث اللغات نفسها التي يتحدث بها أغلبية أعضاء المجتمعات التي يعيش اليهود في كنفها، وإذا كان ثمة اختلافات، فهي عادةً اختلافات طفيفة تجعل طريقة حديثهم مجرد لهجة أو رطانة.

لغات الجماعات اليهودية ولهجاتها ورطاناتها

Languages، Dialects and Jargons of the Jewish Communities

ص: 438

لم يتحدث اليهود اللغة التي تُعرَف بالعبرية إلا لفترة قصيرة للغاية، فلغة الآباء (إبراهيم وإسحق ويعقوب)(2100 ـ 1200 ق. م) كانت لهجة سامية قريبة من العربية أو الآرامية، أما العبرية فكانت لهجة من اللهجات الكنعانية ولم يتخذها اليهود لساناً لهم إلا بعد إقامتهم في كنعان (ابتداءً من 1250 ق. م) . ويبدو أن العبرية قد اختفت بوصفها لغة الحديث بين اليهود مع التهجير البابلي (567 ق. م)(وثمة نظرية تذهب إلى أن الآرامية كانت لغة المسئولين في بلاط ملوك مملكة يهودا الجنوبية) . ورغم أنه بقي بعض اليهود في فلسطين يتحدثون العبرية، إلا أن الآرامية حلت تماماً محل العبرية نحو 250 ق. م. أما اللغات التي كان يستخدمها أعضاء الجماعات اليهودية في تعاملهم مع الآخرين بعد انتشارهم في العالم، فكانت في معظم الأحيان لغة الوطن الذي استقروا فيه وانتموا إليه، أو إحدى اللغات الدولية السائدة. فكان يهود بابل يتحدثون الآرامية، لغة التجارة الدولية والإدارة في الشرق الأدنى القديم. وكان يهود الإسكندرية في العصر الهيليني يتحدثون اليونانية، كما أن يهود فلسطين كانوا يتكلمون إما الآرامية أو اليونانية (جاء في العهد الجديد أن القديس بولس تحدَّث للناس في فلسطين باليونانية ثم تحدَّث معهم بالآرامية بعد ذلك) . وبعد انقسام الإمبراطورية الرومانية، كان يهود الإمبراطورية الشرقية يتحدثون لغة هذه الإمبراطورية، أي اليونانية (وظلوا يتحدثون بها حتى الفتح العثماني) . أما يهود الإمبراطورية الغربية وأفريقيا وغرب أوربا، فكانوا يتحدثون اللاتينية.

ص: 439

ويبدو أن بعض يهود الإمبراطورية الإيرانية كانوا يتحدثون باللهجات الفارسية المختلفة (ففي سفر إستير ورد أن أعضاء الجماعات اليهودية كانوا يتحدثون بالفارسية مع الفرس بدون صعوبة) ، وكان يهود العالم العربي يتحدثون العربية في العالم العربي، وهكذا. وفي بعض الأحيان، كان أعضاء الجماعات اليهودية يستخدمون، في التعامل فيما بينهم، رطانات مُكوَّنة من لغة الوطن أو لغة المنشأ بعد أن يُدخلوا عليها بضع كلمات ومصطلحات عبرية أو آرامية أو ألفاظاً من أية لغة أخرى كانوا يتحدثون بها في البلد الذي كانوا فيه قبل هجرتهم. فيهود الأندلس، على سبيل المثال، كانوا يتحدثون رطانة تُسمَّى «العربية اليهودية» ، ويهود إسبانيا كانوا يتحدثون اللادينو. أما يهود أوربا الشرقية، فكانوا يتحدثون اليديشية، وهي رطانة ألمانية تحوَّلت في مرحلة لاحقة إلى ما يشبه اللغة المستقلة للحديث والكتابة. وفي القرن السادس عشر، يبدو أن معظم يهود العالم كانوا يتحدثون إما اليديشية (في أوربا) أو اللادينو (في الدولة العثمانية) . وكثيراً ما كان أعضاء الجماعات اليهودية يستخدمون الحروف العبرية في كتابة هذه الرطانات في المعاملات اليومية، مثل الفواتير التجارية أو غير ذلك من أمور الدنيا. ولم يكتب أعضاء الجماعات اليهودية بهذه الرطانات أدباً ذا بال، لا في الماضي ولا في العصر الحديث. وربما يمكن استثناء اليديشية من ذلك، فنظراً لأنها عمرت طويلاً (نسبياً) وأصبحت، مع القرن التاسع عشر، لغة مستقلة يتحدث بها معظم يهود العالم الغربي الذين كانوا مُركَّزين في روسيا وبولندا، فكُتب بها أدب شعبي للنساء والعامة في بادئ الأمر، ثم كُتبت بها أعمال أدبية بعضها يرقى إلى مستوى الأعمال الجادة. ولكن هذه المرحلة دامت فترة قصيرة للغاية بسبب اختفاء اليديشية.

ص: 440

وفي محاولة تفسير وجود لغة أو رطانة أو لهجة خاصة بأعضاء الجماعات اليهودية، يمكن القول بأن كثيراً من الجماعات اليهودية شكلت جماعات وظيفية وسيطة تضطلع بدور التجارة والربا والأعمال الشبيهة الأخرى، ومثل هذه الجماعات كانت في العادة تربطها بالمجتمع علاقة موضوعية، الأمر الذي تطلَّب خَلْق مسافة بينها وبين المجتمع. واللغة الخاصة تزيد من غربة الجماعة الوظيفية وتزيد تجردها وتحتفظ لها بعزلتها وهو ما يُيسِّر اضطلاعها بدورها الخاص في المجتمع، فجماعات الغجر تتحدث لغة خاصة بهم تماماً كما كان المماليك يتحدثون الشركسية.

أما بالنسبة للغة التأليف الديني، فإننا نجد أن العهد القديم كُتب بعبرية العهد القديم التي اختفت كلغة مُستخدَمة بعد التهجير البابلي، ولذا نجد أن لغة التلمود هي الآرامية بالأساس. ومع هذا، ظلت العبرية لغة المؤلفات الدينية في معظم الأحيان وليس كلها، فوضع هليل وشماي مؤلفاتهما بالعبرية، في حين وضع المفكرون اليهود، في الإسكندرية في العصر الهيليني، مؤلفاتهم الدينية والدنيوية باليونانية. وكان موسى بن ميمون يكتب بالعربية، أما راشي، فكان يكتب بالعبرية، وكُتب معظم أدب القبَّالاه الصوفي بالآرامية. وظل هذا الوضع قائماً حتى القرن التاسع عشر، حين بدأ المفكرون اليهود يضعون مؤلفاتهم الدينية بلغة الوطن الأم وحسب. فكتب موسى مندلسون بالألمانية، وكذا كل المفكرين اليهود الإصلاحيين ومارتن بوبر. ويكتب كثير من المفكرين اليهود الآن، مثل جيكوب نيوزنر في الولايات المتحدة، مؤلفاتهم الدينية باللغة الإنجليزية، بل إن لغة الصلاة عند اليهود الإصلاحيين والمحافظين والتجديديين أصبحت الإنجليزية، ولا يستخدم العبرية سوى الأرثوذكس.

ص: 441

أما بالنسبة إلى الكتابات التي تقع خارج نطاق التفكير الديني من أدب وفلسفة وعلم، والتي قام بوضعها مؤلفون يهود، وهم قلة نادرة حتى القرن التاسع عشر، فقد كانت اللغة منذ البداية لغة الوطن الأم. ففيلون السكندري وضع مؤلفاته باليونانية، وموسى بن ميمون كان يستخدم العربية، وكذلك معظم الشعراء اليهود في الأندلس. أما في العصور الوسطى في الغرب، فلم يظهر مؤلفون يهود يُعتد بهم حتى القرن السابع عشر حيث ظهر إسبينوزا، المنشق على اليهودية، الذي كتب مؤلفاته باللاتينية شأنه شأن كثير من الكُتَّاب الغربيين في عصره. وغني عن البيان أن المؤلفات غير الدينية للمؤلفين من أعضاء الجماعات اليهودية تُكتب كلها في الوقت الحاضر بلغة الوطن الذي يعيشون في كنفه. فيعقوب صنوع (الكاتب المصري اليهودي) كتب بالعربية، وهايني وماركس بالألمانية، وبروست بالفرنسية، ودزرائيلي وسول بيلو بالإنجليزية، بل إن معظم كلاسيكيات الفكر الصهيوني كُتبت بالألمانية أو الإنجليزية. وكان هرتزل لا يعرف العبرية ولا أبجديتها، لكنه حاول في المؤتمر الصهيوني الأول (1897) أن يُدخل البهجة على قلوب الحاخامات الأرثوذكس فنطق ببعض كلمات عبرية كُتبت له بالأبجدية اللاتينية، وكتب فيما بعد في مذكراته ملاحظة يقول فيها:«إن محاولتي هذه قد سببت لي مشقة كبيرة تفوق كل متاعبي في الإعداد للمؤتمر» . وقد كان هرتزل ونوردو وكثير من المفكرين الصهاينة الأوائل، لا يؤمنون بوجود ما يُسمَّى الثقافة اليهودية. وقد سخر هرتزل من هذا المفهوم بصوت عال حينما طُرح لأول مرة في أحد المؤتمرات. ولم يكن هرتزل يتصوَّر أن تكون العبرية هي لغة الوطن القومي الذي يقترحه، إذ كان يرى أن كل مستوطن يهودي سيتحدث بلغته. وقد نشبت في السنين الأولى من الاستيطان حرب سُمِّيت «معركة اللغة» بين دعاة استخدام الألمانية من أتباع الاستعمار الألماني ودعاة استخدام العبرية من يهود شرق أوربا التابعين للاستعمار

ص: 442

الإنجليزي.

ولغة يهود العالم الأساسية الآن هي الإنجليزية التي يتحدث بها يهود الولايات المتحدة وكندا وإنجلترا وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا، وهؤلاء يشكلون الأغلبية العظمى من يهود العالم (وهذا يعود إلى ارتباط الجماعات اليهودية في العصر الحديث بالتشكيل الاستعماري الاستيطاني الغربي بشكل عام، والأنجلو ساكسوني على وجه الخصوص) ثم تأتي العبرية لغة يهود إسرائيل في المرتبة التالية، أما اليديشية فقد اختفت تماماً تقريباً في الولايات المتحدة، وهي آخذة في الاختفاء في روسيا. واللادينو لم يَعُد لها من أثر.

ويُقال إن تعدد لغات الجماعات اليهودية في شرق أوربا كان سبباً أساسياً في أزمة الهوية التي جابهوها، فقد كانت لغتهم المقدَّسة هي العبرية، ولغتهم القانونية هي الآرامية (لغة التلمود) ، ولغة الحديث هي اليديشية، ولغة المثل الأعلى الاندماجي هي الألمانية أو البولندية أو الروسية وأحياناً الأوكرانية، ولغة المثل الأعلى الصهيوني هي العبرية كلغة حديث لا كلغة عبادة. وكان يقابل هذه الانقسامات اللغوية انقسام طبقي واجتماعي. وساعدت كل هذه الانقسامات على تصعيد الأزمة.

ومع بدايات العصر الحديث وخروج اليهود من الجيتو، وبعد تحديثهم وزوال تميُّزهم الوظيفي، بدأت تختفي هذه الرطانات إذ طالبت الدولة القومية الحديثة أعضاء الأقليات بأن يكون انتماؤهم القومي لأوطانهم كاملاً. وتعرضت اليديشية بالذات لهجوم شديد، خصوصاً أن التجار اليهود كانوا يستخدمونها وهو ما كان يُسهِّل لهم غش الآخرين. وتظل الصورة اللغوية العامة بالنسبة لأعضاء الجماعات اليهودية في العالم، وفيما يختص بالحديث ولغة المعاملات اليومية، هي أنهم من ناحية الأساس يتحدثون لغة الموطن الذي كانوا يعيشون في كنفه.

اللغات السامية

Semitic Languages

ص: 443

يضم الفرع السامي من اللغات عدداً من اللغات القديمة والحديثة. واللغات السامية من أقدم اللغات التي وصلت إلينا مدوَّنة، إذ دُوِّنت الأكادية عام 2500 ق. م، ودُوِّنت الأجريتية نحو عام 1400 ق. م. وأقرب المجموعات اللغوية الأخرى إليها هي المجموعة الحامية، حتى أن بعض العلماء يجعلونها مجموعة واحدة: سامية حامية.

وثمة نواحي تشابه بين اللغات السامية في الخصائص الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية. أما من الناحية الصوتية، فإننا نجد أن اللغات السامية تضم مجموعة حروف الحلق (مثل: العين والحاء والغين والخاء) وهي موجودة في العربية، ومنها تداخلت في العبرية. ومن الناحية الصرفية، نجد أن اللغات السامية تتَّسم بوجود الفعل الثلاثي مصدراً أساسياً للتصريف (لبعضها أصل ذو حرفين) . وتصريف الفعل يتبع الأسلوب نفسه، ويتم اشتقاق معظم الكلمات بتغيير الصيغ التي يتوقف عليها نوع الدلالة. ومن ناحية الجنس النحوي، تُصنَّف الصيغ في اللغات السامية إلى مذكر ومؤنث، ومن ناحية العدد إلى مفرد ومثنى وجمع. ويوجد زمنان للفعل هما الماضي (التام وغير التام) والمضارع. وقد نشأ من اشتقاق الكلمات من أصل «فعل» أن سادت ما يمكن تسميته «العقلية الفعلية» ، إن صح هذا التعبير، على اللغات السامية، أي أن لأغلب الكلمات في هذه اللغات مظهراً فعلياً. وحتى الأسماء الجامدة والألفاظ الدخيلة التي تسربت من اللغات الأعجمية إليها، اكتسبت هي الأخرى هذه الصفة. والفعل في اللغات السامية هو كل شيء، فمنه تتكون الجملة. ولم يخضع الفعل للاسم والضمير، بل نجد الضمير مسنداً إلى الفعل ومرتبطاً به ارتباطاً وثيقاً.

وفي جميع اللغات السامية نجد تشابهاً بين الكلمات الأساسية كالضمائر الشخصية والأسماء التي تدل على القرابة والأعداد وأعضاء الجسم الرئيسية والنبات والحيوان:

إثيوبية (جعفرية) / أكادية / آرامية / عبرية / عربية

أحادو / إيدو / حاد / أحاد / أحد (واحد)

ص: 444

شلاش / شلاشو / تلات / شالوش / ثلاثة

أم / أم / أم (أما) / أم / أم

ويرى بعض العلماء أنه كانت هناك لغة سامية واحدة تفرعت عنها كل هذه اللغات، وأن أقرب اللغات الحية إلى هذه السامية الأصل هي العربية.

وتُقسَّم اللغات السامية إلى قسمين أساسيين:

1 ـ السامية الشمالية: وتشمل الآشورية/البابلية، واللهجات الكنعانية المختلفة (العبرية والمؤابية والفينيقية واللهجات الآرامية والقرطاجية) .

2 ـ أما السامية الجنوبية: فتشمل العربية الشمالية بلهجاتها المختلفة، والعربية الجنوبية، والإثيوبية.

وقد اشتبكت اللغات السامية في صراع مع بعضها البعض. وأول صراع حدث فيما بينها كان صراع الآرامية مع اللغات الأكادية والكنعانية. فقد اشتبكت الآرامية في صراع مع الأكادية أولاً وقضت عليها في أوائل القرن الرابع قبل الميلاد، ثم صرعت العبرية في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، وتغلبت على الفينيقية (في آسيا) في القرن الأول قبل الميلاد. وكان الصراع الثاني صراع العربية مع أخواتها. فاشتبكت في صراع مع اللغات اليمنية القديمة وقضت عليها قبيل الإسلام. ولم يفلت من هذا المصير إلا بعض مناطق متطرفة نائية ساعد انعزالها وانزواؤها على نجاتها، فظلت محتفظة بلهجتها القديمة حتى العصر الحاضر. ثم اقتحمت العربية على الآرامية معاقلها في الشرق والغرب وانتزعتها منها معقلاً معقلاً حتى تم لها القضاء عليها نحو القرن الثامن الميلادي. ولم يفلت من هذا المصير إلا بعض مناطق منعزلة لا تزال تتكلم اللهجة الآرامية إلى العصر الحاضر. وامتد أثر العربية إلى الأمم الآرية والطورانية التي اعتنقت الدين الإسلامي (الفرس والهنود والأتراك

إلخ) ، فاحتلت لديها مكانة مقدَّسة سامية، وتركت آثاراً عميقة في كثير من لغاتها، فاتسعت بذلك مناطق نفوذها حتى بلغ عدد الناطقين بها والمتأثرين بها نحو خمسمائة مليون من سكان المعمورة.

العبرية: تاريخ

Hebrew:History

ص: 445

العبرية إحدى اللغات السامية من المجموعة الكنعانية (مع المؤابية والفينيقية) ، كان يتحدث بها الكنعانيون ثم اتخذها العبرانيون (الذين كانوا يتكلمون إحدى اللهجات الآرامية القديمة) لغة لهم بعد تسلُّلهم إلى أرض كنعان. وسُمِّيت هذه اللغة «عبرية» في وقت متأخر من العصور الوسطى، فلا يوجد في صحف العهد القديم ما يدل على أنهم كانوا يسمونها بهذا الاسم، إذ كان يُشار إليها بمصطلح «يهوديت» (يهودي) أو «لسان كنعان» ، ولم يظهر مصطلح «لاشون عفريت» ، أي «اللسان العبري» ، إلا مع المشناه، ثم ورد نفس المصطلح في كتاب حكم ابن سيراخ وفي مصنفات يوسيفوس.

وعمر العبرية قصير جداً، كما أن بدايتها يلفها الغموض، فهي مجرد لهجة من لغة أكبر (اللغة الكنعانية) ؛ لهجة لم تكن قد نضجت أو تبلورت بعد. وتبين ألواح تل العمارنة أن العبارات الكنعانية التي توجد عليها قريبة من العبرية للغاية، وكذا النقوش المؤابية على الحجر المؤابي المعروف باسم «حجر الملك ميشع» . ويُقسِّم الباحثون تاريخ اللغة العبرية على النحو التالي:

أ) العبرية القديمة:

ص: 446

يجد بعض الباحثين أن من الصعب إطلاق كلمة «العبرية» على تلك المرحلة الأولى من تاريخها فلم تكن قد توفَّر لها بعد أسباب الاستقلال اللغوي أو التمايز اللهجي (الرقعة الجغرافية المتسعة والتطور الطبيعي عبر الزمان) . وتُسمَّى عبرية هذه المرحلة «عبرية العهد القديم» أو «العبرية القديمة أو الكلاسيكية» أو «عبرية ما قبل المنفى» . وهي تتمثل في عبرية أسفار العهد القديم، وهي لغة دينية أساساً. وهذه العبرية استعارت كلمات كثيرة من اللغات المجاورة كالبابلية والآشورية والآرامية والمصرية القديمة والفارسية وأخيراً اليونانية. ويبدو أن العبرانيين كانوا يتحدثون بأكثر من لهجة من لهجات كنعان إذ كانت لهجة المملكة الجنوبية مختلفة عن لهجة المملكة الشمالية، كما يبدو أن المسئولين في البلاط الملكي في مملكة يهودا كانوا يتحدثون الآرامية. وظل العبرانيون يستخدمون هذه اللغة حتى التهجير البابلي في 586 ق. م. ثم أخذت عوامل الاضمحلال تدخل عليها نظراً لظهور الآرامية كلغة لأعداد كبيرة من العبرانيين وكلغة للتجارة والإدارة في الشرق. ويبدو أنها اختفت تماماً حتى في فلسطين نحو عام 250 ق. م.

ب) عبرية المشناه:

ظهرت بعد ذلك عبرية المشناه، وهي ليست مستقاة من عبرية العهد القديم وإنما هي عبرية مُشبَّعة بالآرامية أو آرامية مشوبة بمفردات عبرية وفارسية ويونانية

إلخ. وأصبحت لغة الكتابة من القرن الأول قبل الميلاد على يد معلمي المشناه (تنائيم) ، ثم ماتت هذه العبرية تماماً مع القرن الثاني بعد الميلاد. وكانت الآرامية هي اللغة السائدة في فلسطين، قبل عصر المسيح وأثناءه وبعده، إلى جانب اليونانية. أما يهود الإسكندرية، فكانوا قد نسوا العبرية والآرامية تماماً مع القرن الثالث قبل الميلاد، وهو ما اضطر علماء اليهود إلى ترجمة أسفار موسى الخمسة إلى اليونانية (الترجمة السبعينية) .

جـ) العبرية الوسيطة:

ص: 447

بعد انتشار اليهود في العالم القديم، استخدم يهود أوربا العبرية التلمودية في كتاباتهم الدينية أساساً، واستخدموا لغات البلاد التي يعيشون فيها للمؤلفات الدنيوية. واستخدم يهود البلاد العربية العبرية المستعربة، وهي عبرية في معظم المفردات الأساسية لكنها عربية النحو والدلالة والمفاهيم، كما استخدموا العربية في كتاباتهم الأخرى، وفي بعض الكتابات الدينية أيضاً مثل كتابات موسى بن ميمون الذي وضعها أصلاً بالعربية ولكن بحروف عبرية.

ومن العصور الوسطى في الغرب، أصبحت العبرية لغة دينية من ناحية الأساس، واقتصر استخدامها على الصلوات اليهودية وعلى الكتابات الدينية مثل المشناه وسائر كتب الهالاخاه والمدراش. أما الجماراه والباهير والزوهار، فكُتبت بالآرامية أساساً. ومع هذا، لم تكن «عبرية الصلوات» ذات سمات واحدة محدَّدة، إذ نجد أن النصوص العبرية التي يتعبد بها الإشكناز مختلفة عن تلك التي يتعبد بها السفارد، فتتسم الأخيرة بأنها أكثر فصاحة لمجاورتها اللغة العربية. ولذلك، ورغم التوجه الإشكنازي للدولة الصهيونية، فإن النطق المُعتَمد رسمياً للغة العبرية في التعليم والإذاعة والمسرح والأدب العبري الحديث هو النطق السفاردي للغة.

ص: 448

وترتَّب على موت اللغة العبرية، واستخدامها في الصلوات وحسب، أن أصبحت تُسمَّى «اللغة المقدَّسة» (بالعبرية: لاشون هاقوديش) (وهذا تعبير آخر عن الاتجاه الحلولي الذي سيطر على اليهودية) . وكان يُظَن أن العبرية هي اللغة التي يتحدث بها الملائكة، مع أن معظم ما جاء في التلمود قد كُتب بالآرامية. ومما زاد من اتساع هالة القداسة، أن الكتب القبَّالية تُسبغ على الحروف العبرية دلالة صوفية حتى أنه يُقال إن الرب استخدم اللغة العبرية في خلق العالم، وحيث إن لكل حرف عبري مقابلاً عددياً، فقد استخدم الخالق حروف العبرية وأرقامها أداة لخلق التنوع والتعدد في العالم. وتعتمد كثير من القراءات القبَّالية والباطنية للعهد القديم على هذا التصور لوجود دلالة رقمية لكل حرف عبري، فيُترجَم النص إلى مقابله الرقمي وتُستَخلص الدلالات التي يريدها المفسِّر عن طريق الجمع والطرح والقسمة. وقد كان يهود الجيتو أسرى تقديس الحروف العبرية رغم أنهم لم يكونوا يتحدثون العبرية أو الآرامية. ولذلك كانت اليديشية (اللغة أو الرطانة التي يتحدث بها يهود شرق أوربا) مكتوبة بحروف عبرية، كما أنهم منعوا أطفالهم من الدراسة في مدارس الأغيار لأن التصور الذي كان سائداً بينهم أن اليهودي الذي ينظر إلى حروف غير عبرية تُحرَق عيناه يوم القيامة.

د (العبرية الحديثة:

ص: 449

أُعيد بعث اللغة العبرية في العصر الحديث على يد مفكري حركة التنوير الذين حاولوا بعث ما تصوروه «التراث اليهودي» الأصلي. فتبنوا عبرية العهد القديم باعتبارها لغة خالصة، وأنتجوا أدباً حديثاً، ولكنهم فشلوا في المواءمة بين العبرية ومتطلبات العصر، وساعد على ذلك أن عبريتهم كانت قاصرة ومُتكلَّفة وجامدة، فاستعانوا بمفردات العبرية التلمودية، ثم لجأوا أخيراً إلى الاستعارة من اللغات الأوربية، وبخاصة الألمانية والروسية وغيرهما من اللغات. وبينما بلغ عدد مفردات عبرية التوراه ما بين 7،500 و8،500 كلمة، جاء قاموس العبرية الحديثة يضم ما يزيد على 68،000 كلمة. وظهرت أول مجلة عبرية في عام 1856. وقد تبنى الصهاينة فكرة بعث العبرية باعتبار أن اللغة تعبير عن الشعب العضوي (فولك) وعن بُعْد أساسي من أبعاد الشخصية القومية، وتأثر الصهاينة في هذا بالفكر القومي العرْقي الغربي. ونجد أن الأدباء الذين يكتبون بالعبرية في العصر الحديث هم أيضاً من أهم المفكرين الصهاينة. ويمكننا أن نذكر من بينهم آحاد هعام وبياليك وتشرنحوفسكي. وقد حاول المفكر الصهيوني إليعازر بن يهودا إحياء العبرية، وقوبلت محاولته بعداء شديد في بادئ الأمر من قبَل اليهود المتدينين الذين كانوا يرون أن العبرية لغة مقدَّسة يجب ألا تُمتَهَن باستخدامها في الحديث اليومي.

ص: 450

وقام صراع حول استخدام العبرية في الصلوات. وكان ذلك من المسائل الأساسية التي ناقشتها الفرق اليهودية المختلفة في العصر الحديث. فحاول الإصلاحيون استبعادها لتأكيد عدم ازدواج ولاء اليهود ولتشجيع اندماجهم الحضاري واللغوي مع الأمم التي يعيشون بين ظهرانيها، في حين حاول المحافظون والأرثوذكس (بدرجات متفاوتة) الإبقاء عليها. ونشبت حرب اللغة بين دعاة استخدام العبرية ودعاة استخدام الألمانية. وانتصرت العبرية في نهاية الأمر، فظهرت أول جريدة عبرية في فلسطين عام 1886، وأصبحت لغة التعليم عام 1913 في مدارس المستوطنين الصهاينة في فلسطين، وعملوا على أن تعترف حكومة الانتداب بها، إلى جانب الإنجليزية والعربية، كلغة رسمية.

والعبرية الحديثة هي مزيج من كل المراحل السابقة للعبرية، إذ أخذت منها مختلف العناصر التي توائمها، وأصبحت المفردات والعبارات المستقاة من فترات مختلفة مترادفات، أما بناء الجملة فتأثر باللغات الأوربية. وقد نُحتَت كلمات عديدة، كما تم توليد معان جديدة من كلمات قديمة للتعبير عن المفاهيم الجديدة، ودخلت على العبرية الحديثة كلمات أجنبية كثيرة خصوصاً من الإنجليزية واليديشية. ومؤخراً، بدأ ينتشر في اللغة العبرية الإكثار من استخدام الاختصارات بدلاً من كتابة العبارة كاملة.

ص: 451

والعبرية هي اللغة الرسمية في إسرائيل. بل تؤكد الحكومة الإسرائيلية لمواطنيها أن الرباط اللغوي يكاد يكون الرباط القومي الوحيد بينهم وليس التوراة، وذلك على اعتبار أن التراث الحضاري للجماعات اليهودية متنوع، كما أن الكتب الدينية اليهودية متنوعة وبعضها مكتوب بالآرامية ولا يؤمن به كثير من الإسرائيليين. وتحاول الحكومة الإسرائيلية استخدام اللغة كأداة لتذويب الفوارق القومية الدينية، فالعبرية أحد أُسُس أسطورة «بوتقة الصهر» الإسرائيلية. وقد جعلت إسرائيل المشاركة في الأعمال ذات الأهمية والحساسية في الدولة مقصورة على من يجيد العبرية. كما أن الجيش الإسرائيلي (أهم عناصر التكامل الاجتماعي في إسرائيل) يُدرِّس العبرية للمجندين القادمين من أطراف العالم ليصبغهم بالصبغة القومية المرجوَّة. كما أنه يتعيَّن على كبار موظفي الحكومة أن يعبرنوا أسماءهم.

ورغم كل هذه المحاولات، يبدو أن عملية الدمج لم تنجح بَعدُ تماماً. ويتضح هذا من عدد الصحف التي تظهر بلغة البلاد الأصلية التي هاجر منها الإسرائيليون، كما أن الإذاعة الإسرائيلية تذيع برامج بلغات عديدة، مثل: اليديشية والفرنسية والإنجليزية والرومانية والتركية والفارسية والعربية والروسية والإسبانية، ولكن معظم الإسرائيليين يتحدثون العبرية خارج منازلهم. أما داخلها، فإنهم يتحدثون إما لغة الموطن الذي جاءوا منه وإما العبرية باللهجة التي يعرفونها. ولكن الصابرا يتحدثون العبرية داخل المنازل وخارجها، فهي اللغة الأم بالنسبة إليهم.

ص: 452

ونجم عن هذا الوضع ظهور مستويات مختلفة للغة العبرية إذ توجد عبرية أدبية متعددة الانتماءات، فهناك عبرية توراتية وأخرى تلمودية متأثرة بالآرامية وثالثة يديشية (أي متأثرة لغوياً بالتراث اليديشي) . وهناك عبرية نمطية يتعلمها الطلاب في المدارس، وهي مبنية على نمط النحو العربي الذي قاس اللغويون اليهود عليه نحوهم منذ العصر الأندلسي ثم هناك العبرية التي يستخدمها العامة. ومن الجدير بالذكر أن مستويات نُطْق العبرية تختلف من فئة اجتماعية لأخرى تبعاً لاختلاف أصولهم. وثمة تهاون من جانب المستوطنين الصهاينة في إخراج الحروف من مخارجها، فهم مثلاً ينطقون العين كالهمزة والحاء كالخاء والراء غيناً والطاء تاء والقاف كافاً، كما يهملون الإدغام إهمالاً شبه تام. وقد لاحظ برنارد أفيشاي، أحد مؤرخي الحركة الصهيونية والأستاذ بمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا، أن اللغة العبرية لغة متحجرة جامدة، كما يرى أن هذه الخاصية تركت أثرها في الخطاب السياسي الإسرائيلي وعلى الفكر السياسي للإسرائيليين، وهي وجهة نظر خلافية تستدعي الدراسة والنظر.

ص: 453

وهناك أسلوب في الحديث يُسمَّى «الأسلوب الدوغري» (تُكتب في المراجع بالحروف اللاتينية dughri) وهو أسلوب مباشر في الحديث كان في الماضي ينم عن الإحساس بالتضامن وشيء من الوقاحة، ولكن يُقال إن التضامن قد بدأ يتراجع وأصبحت الطريقة الدوغري تعبيراً عن وقاحة الأجيال الجديدة وحسب. ويشكو كثير من الزوار اليهود لإسرائيل من فظاظة الإسرائيليين في الحديث. وقد أسَّس الكنيست عام 1953 أكاديمية اللغة العبرية لتطوير اللغة العبرية وهي تابعة للجامعة العبرية وتنشر قواميس متخصصة وقوائم مصطلحات ولكن قراراتها غير ملزمة. والإسرائيليون، شأنهم شأن كثير من البشر، يتسمون بالكسل اللغوي. فعلى سبيل المثال صاغت الأكاديمية كلمة تسيمريا tzimriya (من كلمة «صوت» العبرية) للإشارة إلى السويتر، ولكن الجميع يفضلون كلمة «سفيتر» . كما دخلت كلمات إنجليزية كثيرة مثل «لداسكيس» بمعنى «يُناقش» (من مصدر تو دسكس to discuss) ، و «لتربيد» (من مصدر تو توربيدو to torpedo) كما دخلت كلمات «هامبورجر» و «فوت بول» و «الفريزر» (كما هو الحال في العربية الحديثة) .

ومع وصول المهاجرين الروس بدأت اللغة الروسية تنافس اللغة الإنجليزية. فكلمة «بروتكشن protection» أي «حماية» ) وهي كلمة شائعة في عالم الجريمة المنظمة) تتنافس مع كلمة «بروتكسيا proteksia» ذات الأصل الروسي والتي تعني «الواسطة» (أو كما يُقال في العامية المصرية «الكوسة» ) .

ص: 454

ويشهد الكيان الصهيوني الآن بعثاً لليديشية، وهو تعبير عن محاولة الارتباط بماض ثقافي حي وثري (الأمر الذي لا يتوافر في العبرية) وعن أزمة الهوية في إسرائيل. ومما يزيد الوضع تعقيداً أن موجات المهاجرين تزيد من خلخلة هذه الوحدة المرجوة لأن كل مهاجر يُحضر معه انتماءه الحضاري واللغوي وهو ما يضمن للرطانات واللهجات اليهودية قدراً من الاستمرار والحياة. ومعنى ذلك أن الصورة العامة للعبرية الآن، على مستوى الجماعات اليهودية في العالم، هي كما يلي:

ص: 455

لا تزال العبرية لغة القلة من اليهود إذ يتحدث أعضاء الجماعات اليهودية لغة أوطانهم بما في ذلك ما يكتبونه عن أنفسهم وعن اليهودية، فيتحدث أكثر من عشرة ملايين يهودي الإنجليزية، ويتحدث مليونان الروسية وعدة آلاف تتحدث اليديشية (لكن عددهم آخذ في التناقص بسرعة) ، وأكثر من مليون ونصف المليون يتحدثون لغات أخرى مثل الفرنسية في فرنسا وغيرها أو الإسبانية أو البرتغالية لغة يهود أمريكا اللاتينية. ولا يتحدث العبرية سوى 38% من الإسرائيليين، وهم لا يتحدثونها طوال الوقت. ويبدو أن لغة الغالبية العددية من أعضاء الجماعات اليهودية في العالم هي الإنجليزية، فيهود الولايات المتحدة وإنجلترا وجنوب أفريقيا وكندا ونيوزيلندا، أي معظم يهود العالم، يتحدثونها ويكتبون بها، كما أن معظم الإسرائيليين يعرفونها. ويفضل كثير من العلماء الإسرائيليين نشر أبحاثهم بالإنجليزية حتى يكون لهم جمهور واسع من القراء. وقد أطلق أحد الصهاينة مصطلح «الهيلينية الجديدة الإنجليزية» على هذا الاتجاه، أي أنه قَرَن هذا الاندماج اللغوي والحضاري اللغوي بالاندماج الذي مارسه اليهود من قبل في العصر الهيليني. وتوجد جماعات صغيرة من المتحدثين بالعبرية في أنحاء العالم (الولايات المتحدة وألمانيا) من النازحين من إسرائيل. وقد ورد في أحد التحقيقات الصحفية أن العبرية لغة القوادين في هولندا لأن كثيراً من البغايا وقواديهم من بين هؤلاء النازحين.

وبحسب قانون الدولة الصهيونية، هناك لغتان رسميتان: العبرية والعربية. وتُكتَب معظم اللافتات باللغتين، ومن الاستثناءات المهمة لافتات المكاتب التابعة لوزارة الزراعة التي تُكتَب بالعبرية فقط. ويختلف الأمر في الأحياء التي يقطن فيها اليهود إذ تختفي اللافتات العربية. كما أن الشركات الخاصة لا تستعمل العربية. هذا إلى جانب أن برامج تدريس العربية للأطفال الإسرائيليين اليهود آخذة في التراجع.

الأبجدية والنحو العبري

ص: 456

Hebrew Alphabet and Grammar

يميل علماء اللغة إلى تأكيد أنه لا توجد علاقة كبيرة بين اللغة كنسق والكتابة. وأن طريقة الكتابة لا تؤثر في اللغة من قريب أو بعيد. وإن كان هناك الآن من يميل إلى رؤية أن ثمة علاقة ما بين نسق اللغة وطريقة كتابتها. ويُقسَّم تاريخ الكتابة إلى خمس مراحل مختلفة:

1 ـ في المرحلة الأولى: كانت كل كلمة أو دال عبارة عن صورة مجردة للمدلول، وهو ما يُسمَّى «الكتابة التصويرية» (بالإنجليزية:«بكتوجرافيك pictographic» ) ، فللتعبير عن «سمكة» مثلاً نرسم صورة لها، وللتعبير عن «ثور» نرسم صورة لرأسه وقرنيه، وللتعبير عن «القمح» نرسم سنبلة. وكان يُرمَز للأفعال بضروب من الأساليب البارعة، فصورة القدم تعني الذهاب وصورة فم الرجل مع إضافة العلامة الدالة على الخبز أو الماء تعني الأكل أو الشرب، وهكذا. وكانت هناك دوال مختلفة بعدد المدلولات، كما هو الحال في لغة سكان أمريكا الأصليين.

2 ـ وفي المرحلة الثانية: تجمدت الرموز الدالة وأصبحت أشكالاً أو صوراً ثابتة مجردة علاقتها ليست مباشرة مع المدلول، فكتابة الصور الدقيقة والخطوط المقوسة على الصلصال الأملس لم يكن أمراً يسيراً، كما أن النزوع الإنساني نحو التجريد قد ساهم في هذه العملية. ومن ثم، تحولت الرسوم المختلفة إلى مجموعات من الخطوط على نمط خاص تمثل فقط الفكرة التي تدل على أصولها، ومن ثم سميت الرموز التصويرية (بالإنجليزية:«إيديوجرام ideograms» ) ، كما هو الحال في الكتابة الصينية ويبلغ عدد الكلمات في هذه المرحلة الآلاف.

ص: 457

3 ـ وفي المرحلة الثالثة: اقترن صوت معيَّن ونُطْق معيَّن بصورة معيَّنة دون ارتباط بين هذا النطق وبين ما كانت الصورة تعبِّر عنه. فالكلمة الدالة هنا تشير إلى مقطع من الكلمة وحسب وليس إلى كلمة بأسرها. فكلمة «لبن» في السومرية هي «جا» . ولذا، أصبحت كلمة «جا» تستعمل لكتابة المقطع «جا» بغض النظر عن معناه. وعلى هذا المنوال، أمكن كتابة مقاطع أخرى، وأمكن بضم بعضها إلى بعض كتابة كلمات أو أجزاء من كلمات كما في صيغ الأفعال دون الرجوع إلى الرموز التصويرية، فلكتابة كلمة «جاز» (ومعناها «كسر» ) كانت تُكتَب العلامة «جا» (الدالة على «اللبن» ) ثم العلامة «آز» الدالة على «الدب» ، وهذه هي الكتابة الصوتية، وكان اختراعها خطوة واسعة إلى الأمام نحو تبسيط نظام الكتابة، ولكنها كانت أيضاً شديدة الصعوبة فالقيم الرمزية للعلامات لم تختف تماماً، فكان كثير من العلامات يُفسَّر إما على أساس رمزي أو على أساس صوتي، حسب السياق. هذا إلى جانب أن معظم الرموز، وهي وافرة الكثرة، تتألف من علامات لكل منها أكثر من قيمة صوتية، فالعلامة المشتقة من قدم الإنسان كانت تُقرأ جين gin (بمعنى سار) أو جاب gub (بمعنى وقف) أو تام tum (بمعنى حمل) . وكانت الكتابة الآشورية والمصرية تأخذ هذه الصبغة التصويرية والمقطعية.

4 ـ وفي المرحلة الرابعة: تخصَّصت بعض العلامات لتدل على الحروف الجامدة، وقد جعلوا هذه الحروف تمثل صوت الكلمة الأولى التي اقتُبست منها على أن تُفهَم الحروف المتحركة من السياق. ويبدو أن المصريين القدامى كانوا أول من طوَّر هذه الأبجدية، ويُقال إنه تم تطويرها في مناجم سيناء حيث كان من الصعب كتابة الهيروغليفية، وهي لغة تصويرية رمزية، فتم تبسيطها وظهرت الحروف عام 1800 ق. م.

5 ـ أما المرحلة الخامسة: فكانت تتعلق بالساكن والمتحرك من الحروف. وعادةً ما يكون عدد رموز هذا النظام الهجائي حوالي ثلاثين.

ص: 458

ومن المقطوع به أن الأبجدية وُلدت في منطقة سوريا وفلسطين، ولكن يبدو أن الكنعانيين والفينيقيين استقوها من أصول مصرية، وربما أيضاً من بلاد الرافدين من النمط المسماري للأبجدية. وقد عُثر في لاشيش على حجر عليه كتابة بالحروف السامية الكنعانية يعود إلى 1600 ق. م. ومن المحتمل أن يكون القرن السابع ق. م هو الذي انتهى فيه استخدام الكتابة المسمارية وتم استبدالها بالحروف السامية الكنعانية. ويبدو أن العبرانيين استقوا هذه الحروف فيما بين 1150 و1050 ق. م.

هذا، وتُستخدَم اليوم في كتابة حروف الأبجدية العبرية طريقتان: الأولى، ويُطلَق عليها الحرف المربع، وهي المستخدمة في المطبوعات. والثانية، الخط اليدوي، بالضبط كما هو الحال في اللغة العربية.

وفيما يلي جدول للأبجدية العبرية بحروفها المربعة واليدوية ومنطوقها العبري والعربي واللاتيني، بالإضافة إلى القيمة الرقمية لكل من هذه الحروف:

الأبجدية العبرية

يُلاحَظ من الجدول السابق أن الأبجدية العبرية تحتوي على اثنين وعشرين شكلاً. ولكنها تحتوي من الناحية الفعلية على ثمانية وعشرين منطوقاً صوتياً، حيث إن هناك ستة أحرف تتغيَّر طريقة نطقها حسب وضعها داخل الكلمة وهذه الأحرف هي ب، ك، ف، ت، ج، د. فإذا جاء أيٌّ من هذه الأحرف في أول الكلمة أو بعد سكون تام، وُضع في داخله نقطة كما هو، فيما عدا حرف الفاء، فإنه يُطق أ.

أما إذا جاءت في غير الحالتين السابقتين، فإنها تأتي خالية من النقطة وتنطق هكذا:

ت = ث / ب = v

ج = غ / ك = خ

د = ذ / أما الفاء فتنطق فاءً كما هي.

وقد أهملت اللغة العبرية الحديثة تطبيق هذه القاعدة على حروف (ت، ج، د) ، فأصبحت تُنطَق (ت، ج، د) سواء جاءت بداخلها نقطة أو كانت خالية منها. ولا تنطبق هذه القاعدة إلا على الحروف الثلاثة الأولى فقط وهي حروف (ب، ك، ف (.

ص: 459

وتُقرأ العبرية وتُكتَب، كالعربية، من اليمين إلى اليسار. كما أنها تُكتَب منفصلة بعضها عن بعض. ولكن بعض اليهود، في إسرائيل، أصبحوا الآن يستخدمون الخط اليدوي بحروف متشابكة نتيجة السرعة في الكتابة.

كما يُلاحَظ أيضاً أنه لا يوجد إعراب في اللغة العبرية، اللهم إلا في بعض الصياغات القديمة. وبالتالي، فإن آخر الكلمات في اللغة العبرية ساكن دائماً ولا تظهر علامة السكون إلا في حالات معيَّنة، وهي:

1 ـ الكاف إذا جاءت في آخر الكلمة.

2 ـ التاء المُصرَّفة مع ضمير المفردة المُخاطَبة.

كما توجد في الأبجدية العبرية خمسة أحرف تتغير طريقة كتابتها إذا جاءت في آخر الكلمة، وهذه الأحرف هي: ك، م، ص، ن، ف. وتجمعها عبارة (كم صنف) . وقد وضعناها في الجدول بين أقواس. هذا، وتقسَّم حروف الهجاء العبري تقسيماً يلائم طبيعة النطق بها، حسب اصطدامها بأجزاء الفم المختلفة، وهي كما يلي:

1 ـ حلقية أ، هـ، ح، ع (وتُعامَل الراء معاملة الحلقية في بعض القواعد (.

2 ـ شفوية ب، و، م، ف.

3 ـ حنكية ج، ي، ك، ق.

4 ـ لسانية د، ط، ل، ن، ت.

5 ـ صفيرية ز، س، ش، ص، ر.

ونتيجة تباين التكوين الاجتماعي داخل إسرائيل بين يهود قادمين من دول الشرق وآخرين قادمين من دول الغرب، فإنه يصعب على يهود الغرب نطق بعض الحروف غير المألوفة في اللغات الأوربية، وبخاصة الحروف الحلقية وحروف الإطباق. ولهذا، فإنهم يتهاونون في إخراجها من مخارجها السليمة، فينطقون العين همزة والحاء خاء والراء غيناً والطاء تاء والقاف كافاً. وكذلك، فإن حرف الصاد ينطق (تسادي) تمشياً مع نُطْق الحرف الألماني. وفي كثير من الأحيان، يهمل يهود الشرق نُطْق بعض هذه الأحرف مثل يهود الغرب، وبخاصة الطاء والقاف والصاد.

ص: 460

ولكل حرف في الأبجدية العبرية قيمته الرقمية، كما هو مُبيَّن في الجدول. وترجع أهمية هذه الأرقام إلى أن اللغة العبرية لا تستعمل أرقاماً خاصة، كما في العربية أو الإنجليزية، وبالتالي، فإنها لجأت إلى استخدام حروف الهجاء للتعبير عن الأرقام بعد وضع شرطة فوق الحرف للدلالة على أنه يأتي، في هذا الموضع، رقماً وليس حرفاً.

وكانت اللغة العبرية في بادئ الأمر تُكتَب بدون حركات. وفي حوالي القرن السادس الميلادي، طرأ إصلاح على الخط العبري، إذ استُعملت أحرف العلة أهـ وي كعلامات للحركات تساعدهم على ضبط النطق وحفظ الكلمات كلها من التحريف.

وبعد انتشار الجماعات اليهودية في أنحاء العالم، أضحت أحرف العلة غير كافية لصيانة الكلمات كلها من التحريف. وخشية تغيير لهجة اللغة وضياعها بعد ذلك، وضع عدد من علماء اللغة العبرية في أواخر القرن السابع، أو أوائل القرن الثامن، الترتيب النهائي للنصوص العبرية المشكلة بنظام الحركات للإشارة إلى أصوات المد القصيرة مستنيرين في ذلك بنظام الحركات عند العرب والسريان، وأحدثوا نظاماً جديداً قوامه النقط والخطوط. وقد اتُخذت طريقتان لرسم هذه الحركات، إحداهما الطريقة الطبرية نسبة إلى مدرسة طبرية في فلسطين (وهي الطريقة المُستعمَلة في الوقت الحاضر) ، حيث ترمز هذه الطريقة إلى أصوات المد القصيرة بنقط وخطوط تُوضَع تحت الحرف أو فوقه، وقد تتلوها حروف العلة للدلالة على أن الحركة مشبعة. أما الطريقة الثانية، فهي الطريقة البابلية. وهذه الطريقة ترمز لأصوات المد القصيرة بعلامات توضع فوق الحرف. وتنقسم الحركات في اللغة العبرية، كما في العربية، إلى حركات فتح وكسر وضم، بل وهناك أيضاً حركات مخطوفة وحركات ممالة. وقد أخضعت القبَّالاه الأبجدية العبرية للتفسيرات الصوفية والباطنية فيما يعرف بالجماتريا.

ص: 461

وأداة التعريف في العبرية هي حرف الهاء المُشكَّل بـ (-) مع تشديد الحرف الذي يليه (إذا كان غير حلقي) . ولا تدخل أداة التعريف على العَلَم لأنه معرَّف في ذاته. وكذلك يمكن استخدام أداة التعريف كاسم إشارة للقريب وذلك مع ظروف الزمان. وأحياناً تحل أداة التعريف محل الاسم الموصول إذا دخلت على اسم فاعل. وفي الكلمات المُركَّبة، تأتي أداة التعريف في المجلد الثاني من الكلمة المُركَّبة.

وواو العطف في العبرية تقابل واو العطف في العربية، وتأتي لعطف أو لربط اسم باسم أو فعل بفعل أو جملة بجملة، والأصل في تشكيلها في العبرية هو السكون، ولكن هذا التشكيل يتغير في حالات خاصة.

والفعل في العبرية يكون ثلاثياً أو رباعياً، والثلاثي أكثر استخداماً من الرباعي، وتُقسَّم الأفعال في العبرية إلى سبعة أوزان هي: فعل، نفعل، فعيل، فعل، هفعيل، هفعل، هتفعيل. ويقابلها في العربية فَعَل، فُعلَ، فَعَّل، فُعِّل، أَفْعَل، أُفْعلَ، تَفَعَّل.

وينقسم الاسم من حيث نوعه إلى قسمين:

1 ـ الاسم المذكر: يكون الاسم مذكراً إذا دل على جبل أو شعب أو نهر. وأغلب أسماء المعادن وأغلب الأسماء التي لا ترد فيها علامة من علامات التأنيث.

2 ـ الاسم المؤنث: يكون الاسم مؤنثاً في الحالات التالية:

أ) إذا دل على مؤنث حقيقي.

ب) إذا دل على اسم دولة أو مدينة.

جـ) إذا كان من أعضاء الجسم المزدوجة أو المتعددة.

د) إذا انتهى بعلامة من علامات التأنيث.

وتوجد أسماء لا تظهر فيها علامة التأنيث ولكنها في الأصل مؤنثة، وكذلك هناك أسماء تأتي مذكرة ومؤنثة. وهناك أسماء تختلف صورتها تماماً عند تأنيثها.

ويوجد في العبرية المفرد والمثنَّى والجمع:

1 ـ المفرد: هو ما دل على واحد.

2 ـ المثنى: ما دل على اثنين. ولا تُستعمَل صيغة المثنى في العبرية إلا في أحوال خاصة، وهي:

أ) أسماء أعضاء الجسم المزدوجة.

ب) الأعداد المثناة.

جـ) أدوات الصناعة المثناة.

ص: 462

د) أسماء الملابس المزدوجة بطبيعتها.

هـ) أسماء الزمان المزدوجة.

3 ـ الجمع: وينقسم إلى:

أ) جمع مذكر: وعلامته في العبري ياء متبوعة بميم تلحق بآخر الاسم المفرد بعد حذف علامة التذكير المفردة إن وُجدت.

ب) جمع المؤنث: وعلامته واو + تاء تضاف إلى الاسم المفرد وذلك بعد حذف علامة التأنيث المفردة إن وجدت.

وتوجد أسماء مُذكَّرة تُجمَع جمع مؤنث، وأسماء مؤنثة تُجمَع جَمْع مذكر، وأسماء تُجمَع مُذكَّراً ومؤنثاً، وأسماء لا تُجمَع مطلقاً مثل أسماء الأعلام وأغلب أسماء المعاني وأسماء الجنس. وهناك أسماء لا تأتي إلا في صورة الجمع ولا مفرد لها.

والأعداد في العبرية شديدة الشبه بالأعداد في العربية. فالعددان 1 و2 تأتيان وفق المعدود. أما الأعداد من 3 إلى 9 فتأتي عكس المعدود. فإن كان المعدود مذكراً ذكرت الأعداد مؤنثة والعكس صحيح. وألفاظ العقود تأتي في العبرية على صورة واحدة سواء كانت مذكرة أو مؤنثة. وفي حالة عطف الأعداد على ألفاظ العقود يُراعَى أن يكون العدد على عكس المعدود. وتمييز العدد يأتي جمعاً مع الأعداد من 2 إلى 10 ويكون مفرداً في الأعداد المركبة ومع ألفاظ العقود والمائة والألف. والعدد الترتيبي يأتي في العبرية بعد المعدود ويتبعه في التعريف والتنكير والإفراد والجمع والتذكير والتأنيث.

وفي العبرية، إذا جاءت كاف التشبيه قبل العدد أفادت التقريب.

المختصرات العبرية

Abbreviations in Hebrew

«المُختصَر» كلمة مُركَّبة من الحروف الأولى لكلمات عبارة ما ويدل على معنى العبارة بكاملها. ويعود تاريخ المختصرات في اللغة العبرية إلى القرن الثاني قبل الميلاد، واستمر استخدامها في العصور الوسطى حتى العصر الحديث. وشاع استخدام بعض المختصرات حتى نُسي الأصل نفسه.

ص: 463

ومن أشهر المختصرات في العبرية «راشي» (اسم عَلَم) وهو مُختصَر «رابي شلومو يتسحاق» ، و «تناخ» (عنوان كتاب) وهو ما مُختصَر لكلمات ثلاث:«توراة» أي أسفار موسى الخمسة - «نفيئيم» أي «أنبياء» - «كتوبيم» أي «المزامير وسفر الأمثال» . و «الماباي» (وهو اسم حزب) مُختصَر «مفليجيت بوعلي إيرتس يسرائيل» ، أي «حزب عمال أرض إسرائيل» . و «تسهال» هو مُختصَر اسم الجيش الإسرائيلي الذي يُسمَّى «تسافا هاجاناه ليسرائيلي» أي «جيش الدفاع الإسرائيلي» .

وأحياناً تحل أول كلمة في العبارة محل العبارة كلها مثل «هستدروت» حيث تُعتبَر اختصاراً لعبارة «هستدروت هاكلاليت شل هاعوفديم هاعفريم بإيرتس يسرائيل» ، أي «الاتحاد العام للعمال اليهود في أرض إسرائيل» .

الأسماء العبرية واليهودية

Hebrew and Jewish Names

كانت للأسماء والأعلام في الحضارات القديمة دلالة وفحوى ليس لها ما يوازيها في عصرنا الحديث، فالاسم كان يُعَدُّ ممثلاً لجوهر صاحبه، ولذلك كان الإنسان يُعطى اسماً جديداً حينما يدخل مرحلة جديدة من حياته. وفي العهد القديم، نجد أن بعض الشخصيات كانت تغيِّر أسماءها عقب مرورها بتجربة مهمة. فبعد مصارعة الرب، يتحول اسم «يعقوب» إلى «يسرائيل» . وفي الواقع فإن تغيير الاسم يُضفي دلالة خاصة على صاحبه.

ص: 464

وكثير من الأسماء العبرية يعود إلى جذر عبري، وبعضها يعبِّر عن عاطفة أو فكرة. فآدم يُسمِّي زوجته «حواء» أي «الحياة» لأنها أم المخلوقات، وحينما أنجبت راحيل ابناً أسمته «يوسف» أي «سوف يزيد» ، و «يتسحاق» تعني «يضحك» ، أما «بنيامين» فهو «ابن يدي اليمين» . وتتكون الأسماء في بعض الأحيان من كلمتين مثل «أب» ، أي «أب» بالعربية، و «بر» ، أي «ابن» ، على أن تضاف إلى أي من الكلمتين كلمة أخرى تحمل دلالة خاصة. فإبراهيم سُمِّي كذلك لأنه «أبو الأمم» ، وبرليف (أو بارليف) هو «ابن القلب» ، أو «صاحب القلب» . وبعض الأسماء العبرية تحتوي على اسم الخالق «إيل» ، كما هو الحال في كلمة «يسرائيل» ، أي المتصارع مع «إيل» (الرب) . وإطلاق اسم الحيوانات والنباتات والجماد على الإنسان عادة يهودية قديمة، فالاسم «ديبورا» تعني «نحلة» ، و «تامار» هي «النخلة» ، و «بن تسفي» هو «ابن الظبي» ، و «بركوخبا» هو «ابن الكوكب» .

وليست كل أسماء أعضاء الجماعات اليهودية من أصل عبري، فالاسم «إستير» مثلاً مأخوذ من «عشتروت» زوجة بعل، واسم «موسى» نفسه ليس عبرياً ويُقال إنه اختصار لكلمة مصرية قديمة تعني «ابن» . وقد اتخذ اليهود أسماء بابلية بعد التهجير من بابل، مثل «مردخاي» ، من اسم الإله البابلي «مردوك» . وكثير من قادة اليهود يحملون أسماء آرامية مثل «بركوخبا» ، ويونانية مثل «أنتيجون» ، ولاتينية مثل «يوسيفوس فلافيوس» ، وعربية مثل «موسى بن ميمون» و «سعيد بن يوسف الفيومي» (الذي يُشار إليه في الكتابات العبرية باسم «سعديا جاؤون» أي «الفقيه سعيد» ) .

ويؤكد التلمود أن اسم الشخص يؤثر في مستقبله، كما يرى الحاخامات أن اليهودي الفاضل يجب ألا يُغيِّر اسمه العبري خارج فلسطين. وأيُّ يهودي يحمل اسم «كوهين» ، أو أياً من أسماء الكهانة الأخرى، يُعتبَر من نسل كهنة المعبد وتسري عليه محظورات معيَّنة متصلة بالزواج والطلاق.

ص: 465

ولم يكن من عادة أعضاء الجماعات اليهودية، قبل الإعتاق، أن يحملوا اسم أسرة، فكان الشخص يُسمَّى فلان بن فلان، «يعقوب بن إسحق» مثلاً، وأحياناً كان يضاف اسم المهنة حتى يتم التمييز بين فرد وآخر في نفس الجماعة، مثل «صندلر» أي «صانع الأحذية» في العبرية، و «جولدشميت» في الألمانية هو الصائغ. ولكن، بظهور حركة الإعتاق، أسقط كثير من اليهود أسماءهم العبرية، كما طلبت إليهم الحكومات أن يحملوا اسم أسرة بشكل ثابت، مثل بقية المواطنين، حتى يمكن الاحتفاظ بسجلات رسمية عنهم، ويمكن فرض الضرائب عليهم وتجنيدهم. وقد قاوم أعضاء الجماعات اليهودية من التقليديين هذا الاتجاه، ولكنهم رضخوا في نهاية الأمر. وكان اليهود يُسمَّون أحياناً باسم المدن، مثل:«أوبنهايمر» أي «من مدينة أوبنهايم» على نهر الراين، أو «شابيرو» ، أي «من مدينة شبير» . أو كانوا يُسمَّون بأسماء ذات دلالات جميلة مثل «بلومنفيلد» أي «حقل الزهور» ، أو «روزنبرج» ، أي «جبل الورد» ، أو بترجمة أسمائهم من العبرية إلى لغة بلدهم، فالاسم «موسى بن مندل» يصير «موسى مندلسون» (فكلمة «سون» تعني «ابن» ) . كما أنهم كانوا يُسمَّون باسم الكاهن، مثل:«كوهين» و «كاتس» و «ليفي» و «هارون» . وقد تمت ألمنة هذه الأسماء فأصبحت على التوالي: «كوهينشتاين» و «كاتسمان» و «ليفينتال» و «أرونشتين» . وفي الحالات النادرة، كان أعضاء الجماعات اليهودية يحملون اسم عائلة، كما هو الحال مع العائلات اليهودية العريقة مثل «روتشيلد» . ويحمل بعض أعضاء الجماعات اليهودية أسماء غير لائقة لأن الموظف الحكومي المسئول عن تسميتهم منحهم إياها بسبب عدم رضاه عنهم مثل:«جروس» أي «ضخم» ، أو «كلاين» ، أي «صغير» ، أو «كالف» ، أي «العجل» ، أو «برونفن» أي «براندي» ، أو «شفارتز» أي «الأسود» أو «العبد» . ويستخدم الإشكناز هذه الكلمة الأخير للإشارة إلى يهود الشرق في العالمين العربي والإسلامي.

ص: 466

ومع تزايُد معدلات الاندماج في العالم الغربي، بدأ يهود العالم الغربي يبتعدون عن الأسماء اليهودية أو ذات النبرة اليهودية. وقد بدأت هذه العملية بإدغام الاسم فالاسم «أبراهام» يصبح «برام» ، و «سولومونسون» (أي ابن سليمان) أصبح «سولمس» ، و «صموئيل» أصبح «زيميل» . وأحياناً أخرى، كان الاسم يُعلمَن بتبسيط طريقة كتابته لتبسيط نُطْقه، وذلك حينما يهاجر عضو الجماعة اليهودي من بلد لآخر. وأحياناً كان ثمة صعوبات تواجه أعضاء الجماعات اليهودية في تغيير اسم الأسرة، لأن هذا كان يستلزم إجراءات قانونية معقدة، ولكن الإجراءات كانت في واقع الأمر بسيطة في معظم الأحيان، ومن ثم قامت الأغلبية العظمى من يهود الغرب بتسمية أبنائهم بأسماء غير يهودية. وقد توقف يهود ألمانيا، قبل الحرب العالمية الثانية، عن اختيار أسماء توراتية. ومع هذا، فقد كانوا يختارون أسماء تبدأ بحروف تُذكِّر المرء بشخصية توراتية، فبدلاً من «موسى» كانوا يُسمَّون «موريتز» ، وبدلاً من «سيمون» كانوا يقولون «سيجفريد» ، وبدلاً من «موردخاي» «مارتن» ، وبدلاً من «إسحق» «إيزيدور» . وكان من المفهوم أن هذه أسماء يهودية، ولذا كان المسيحيون يتحاشونها. وتكررت الظاهرة في الولايات المتحدة في الفترة نفسها، فبدلاً من «إسرائيل» قالوا «إرفنج» ، وبدلاً من «موسى» قالوا «مورتيمر» أو «موريتز» أو «موريس» أو «ماكس» أو حتى «مارفن» أو «مري» ، وكان من النادر أن يتسمَّى غير اليهود بهذه الأسماء. ولكن كل هذه الظواهر قد اختفت مع الحرب العالمية الثانية، ومع تزايُد مستويات العلمنة. وفي الوقت الحاضر، لا يختار أعضاء الجماعات اليهودية أية أسماء خاصة، ولم تَعُد أسماؤهم تختلف عن بقية أسماء أعضاء المجتمع، بل أحياناً نجد يهوداً يُسمَّون «كريستين» ، و «كريستوفر» ، وهي أسماء لها دلالة مسيحية واضحة. وقد تسمَّى يهود الدونمه المتخفون بأسماء عربية إسلامية يتعاملون بها مع أعضاء المجتمع التركي، ولكنهم

ص: 467

تسمَّوا أيضاً بأسماء عبرية يتعاملون بها فيما بينهم.

والأسماء التي يتسمَّى بها أعضاء الجماعات اليهودية متنوعة وعديدة، ولذا يَصعُب تحديد هوية الشخص بناء على اسمه. وحسب بعض التقاليد الدينية، كان يتحتم على اليهودي (خارج فلسطين) أن يتخذ لنفسه اسماً عبرياً إلى جانب اسمه الأصلي إن لم يكن عبرياً، وذلك لاستخدامه في الشعائر الدينية وليوضع على شاهد قبره بعد موته. وكان على اليهود، أثناء حكم النازي، أن يستخدموا أسماء عبرية، وهي عادة بُعثت أيضاً في إسرائىل حيث ينص القانون على أن من واجب الشخصيات المهمة في الدولة أن تغيِّر أسماءها، ومن ثم فقد غيَّر ديفيد جرين اسمه إلى «دافيد بن جوريون» ، أي «ابن الشبل» . ومع هذا، يُلاحَظ أن ثمة اتجاهاً ظهر مؤخراً، خصوصاً بين الإشكناز، للاحتفاظ بالأسماء الأصلية (اليديشية) . وقد سقط الحظر حينما رفض يوسف سياشاتوفر (مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية) أن يُعبرن اسمه في السبعينيات، وأيَّده في ذلك الكاتب الإسرائيلي عاموس آلون (الذي كان قد عبرن اسمه من قبل) .

وتمتد عبرنة الأسماء إلى المدن والقرى العربية التي تغزوها القوات الإسرائيلية، فأم الرشراش أصبحت «إيلات» ، وشرم الشيخ أصبحت «أوفير» ، والضفة الغربية يُشار إليها باسم «يهودا والسامرة» ، وفلسطين تذوب وتختفي لتصبح «إسرائيل» ، أو «إرتس يسرائيل» . ولا يختلف هذا كثيراً عن محاولات الدول الاستعمارية فرض أسماء جديدة على الأراضي التي تفتحها فيُعاد تسمىة «زمبابوي» باسم «روديسيا» نسبة إلى سيسل روديس، ويُفرَض على «إندونسيا» اسم «جزر الهند الهولندية» .

إليعازر بن يهودا (1857-1922)

Eliezer Ben Yehuda

ص: 468

رائد حركة إحياء اللغة العبرية الحديثة، واسمه الأصلي إليعازر بيرلمان. وُلد في إحدى قرى ليتوانيا وتلقى تعليماً دينياً تقليدياً، وقضى بعض سني شبابه في مدرسة تلمودية، ولكنه وقع تحت تأثير حركة التنوير اليهودية فالتحق بمدرسة علمانية وانقطع بشكل جذري عن موروثه اليديشي، واستهوته الأفكار الاشتراكية والعدمية والأفكار القومية العضوية (ذات الطابع الفاشي) التي انتشرت في أوربا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والتي نشأت في تربتها أفكار مثل «روح العصر» ، و «روح الشعب» ، و «الشعب العضوي» الذي لا يمكن أن يحقق ذاته إلا في أرضه ومن خلال خصوصيته الثقافية والذي يحوِّل الآخر إلى شعب عضوي منبوذ. وقد تأثر بن يهودا في بادئ الأمر بالحركة الشعبوية الروسية وبندائها بالعودة إلى الشعب، وهي حركة حملت ملامح النزعة السلافية القومية الروسية، ومن هنا جاء تبنِّيه الكامل للفكرة السلافية ومناداته بترويس اليهود.

ومع تزايد النزعات القومية والإمبريالية والعنصرية في أنحاء أوربا (وكلها حركات حلولية كمونية مادية تجعل الشعب العضوي هو الركيزة النهائية المكتفية بذاتها) ، اتجه بن يهودا إلى تبنِّي الحل الإمبريالي للمسألة اليهودية أي الحل الصهيوني (تصدير مشاكل الغرب، ومنها المسألة اليهودية، إلى الشرق) . ومما ساعد على ذلك أن بن يهودا تعرَّف إلى المفكر الصهيوني بيريتس سمولنسكين (وقد أسهم بن يهودا لمجلته بعدة مقالات ذات طابع صهيوني ابتداءً من عام 1879) .

ص: 469

وفي عام 1878، ذهب بن يهودا إلى باريس لدراسة الطب ولكنه اضطر إلى قطع دراسته لإصابته بالسل وانتقل إلى الجزائر للاستشفاء (1880 ـ 1881) ثم استقر عام 1881 في فلسطين مع زوجته حيث قام بالتدريس في مدارس الأليانس بعد أن أُعطي تصريحاً بتدريس الموضوعات اليهودية بالعبرية. وفي العام نفسه، اشترك في تأسيس جمعية صهيونية دعت إلى العمل في الأرض، أي فلسطين، وإلى إحياء اللغة العبرية وبناء أدب عبري حديث وغرس الروح القومية في الشباب. وفي عام 1884، نشر بن يهودا مجلة هاتسفي الأسبوعية والتي أصبحت فيما بعد جريدة يومية وحملت اسم هاأور منذ عام 1910. وقد نشر أفكاره الصهيونية فيها فهاجم نظام الصدقة (حالوقه) ودعا إلى العمل الزراعي.

ص: 470

أدرك بن يهودا ارتباط إحياء اللغة العبرية بالتجربة الاستيطانية الصهيونية، وأنه لا يمكن إنجاز الواحد دون الآخر، فبقاء أعضاء الجماعات اليهودية داخل التشكيل الحضاري الغربي كان يعني في واقع الأمر اندماجهم الثقافي ومن ثم اللغوي، أما استيطانهم في فلسطين فيعني عزلتهم ومن ثم وجود إمكانية حقيقية لظهور لغة مستقلة واستمرارها. وقد أكدت التطورات اللاحقة صدق حدس بن يهودا، فاللغة اليديشية قد اختفت ولم يعد أحد يكتب أو يتحدث بها. ولا يختلف الأمر كثيراً عن العبرية، فمعظم المفكرين الدينيين اليهود في العالم لا يكتبون بها، فالجميع يكتب بلغة الوطن الأم. هذا بالنسبة ليهود العالم، أما بالنسبة للاستيطان في فلسطين، فالأمر جد مختلف، فالدعوة للاستيطان كان لابد أن تستخدم ديباجات يهودية وأن تتم من داخل منظومة يهودية يمكنها اجتذاب الجماهير التي ستتحول إلى مادة استيطانية. وهذا ما أنجزه بن يهودا للحركة الصهيونية فقد فرَّغ اليهودية من محتواها الديني بأن أعاد تعريف الخلاص بحيث أصبح الخلاص الصحيح هو العودة الحرفية إلى فلسطين للاستيطان فيها لا " الانتظار السلبي " لمجئ الماشيَّح (وقد ذهب بن يهودا من هذا المنظور إلى أن النبي إرميا كان خائناً لوطنه حين قام بتسليم هذا الوطن للأجنبي) . واليهود الذين سيعودون إلى فلسطين لن يؤسسوا جماعة دينية تلتزم بقيم أخلاقية، ذلك أن المُثُل الدينية (حسب رؤيته) لم تنجح إلا في إنتاج أمة يهودية ميتة، لا أرض لها ولا لغة، أمة روحية ناقصة تثير ضحك الأمم الأخرى. إن اليهود الذين سيعودون هم نخبة من يهود المنفى الذين يرفضون وجودهم الهامشي، ولذا فإنهم سيتحولون إلى مستوطنين يزرعون الأرض ويشكلون أغلبية فيها، ثم يصبحون شعباً مثل كل الشعوب ويتخلون عن هامشيتهم وطفيليتهم ويصبحون أمة عضوية (على نمط الأمتين السلافية والجرمانية) وستعبِّر المؤسسات الثقافية لهؤلاء المستوطنين عن روح الشعب العضوي اليهودي.

ص: 471

وبذا يمكن بعث اللغة العبرية، أهم أوعية الهوية العضوية اليهودية، كما يمكن ضمان استمرار هذه اللغة ومن ثم استمرار الهوية اليهودية.

ويمكن القول بأن إسهام بن يهودا الأساسي في الحركة الصهيونية هو تأكيد عنصر اللغة في التشكيل القومي الاستيطاني العضوي المُقتَرح، فالأرض والأغلبية اليهودية هي الإطار اللازم لولادة اللغة العبرية بعد تحديثها. وقد انصبت معظم جهوده على إحياء اللغة العبرية، فبَحَث في أدب العبرية الكلاسيكي عن الألفاظ التي تصلح للاستعمال في الحياة اليومية في العصر الحديث، وقام باشتقاق كلمات عبرية جديدة واستعار بعض الألفاظ والعبارات من اللغة العربية وقام بتطوير أسلوب عبري جديد وبسيط. وحارب بن يهودا اللغة اليديشية، وعارض محاولات بعض الجماعات اليهودية الألمانية التي كانت تهدف إلى جعل الألمانية اللغة الرسمية للمستوطنين الصهاينة (فيما يُسمَّى «معركة اللغة» ) وأصر على اعتبار العبرية لغة اليهود الوحيدة. ولكن أهم أعمال بن يهودا إخراجه المعجم العبري القديم والمعجم الحديث بعد أن ظل يعمل فيه زهاء أربعين عاماً وإن لم يستطع أن يصدر أكثر من تسعة مجلدات. وهذا المعجم لا يتضمن أياً من الكلمات الآرامية التي ورد ذكرها في العهد القديم أو التلمود أو المدراش، كما لا يتضمن أية كلمة عبرية من أصل أجنبي.

وقد أسس بن يهودا جمعية اللغة العبرية عام 1889 وعمل رئيساً لها حتى وفاته. وتحولت هذه الجمعية عام 1953 إلى أكاديمية اللغة العبرية التي قامت بإكمال مشروع بن يهودا وأصدرت المعجم كاملاً (سبعة عشر جزءاً) عام 1959.

وبعد سقوط فلسطين تحت الاحتلال البريطاني في أعقاب الحرب العالمية الأولى، حث بن يهودا المندوب السامي البريطاني على إعلان اللغة العبرية كواحدة من اللغات الثلاث الرسمية في البلاد. كما قام بتأسيس جمعية سيفاتينو لنشر اللغة العبرية واحتل منصب أمين لجنة التخطيط في الجامعة العبرية.

ص: 472

ورغم إصرار بن يهودا على فكرة القومية العضوية المرتبطة بالأرض، إلا أنه لم يكن متصلباً في ممارسته. وعلى سبيل المثال، فإنه لم يتردد في مناقضة نفسه إذ أيَّد مشروع شرق أفريقيا، أي إنشاء المُستوطَن الصهيوني في شرق أفريقيا بدلاً من فلسطين، وهو في هذا لم يختلف كثيراً عن معظم المستوطنين الصهاينة الذين أرهقتهم السكنى في أرض الميعاد والحرب ضد أهلها (وقد لقي أحد أحفاد بن يهودا حتفه في إحدى العمليات الفدائية، إذ سقط ضمن الحافلة التي دفع بها أحد المنتفضين الفلسطينيين عام 1990 من على قمة أحد التلال العالية) . بل إن بن يهودا رغم إصراره العقائدي على القومية العضوية كان من أوائل الداعين إلى تقبل وجود اليهود خارج فلسطين (الشتات) على أن تربطهم رابطة ثقافية مع «وطنهم» بحيث يتحول هذا الوطن إلى مركز روحي.

وجدير بالذكر أن اهتمامه بالعبرية قد جلب عليه لعنة اليهود الأرثوذكس الذين كانوا يعتبرون العبرية لغة مقدَّسة لا تُستخدَم إلا في الصلاة.

معركة اللغة

Language War

ص: 473

«معركة اللغة» نشبت في المستوطنات الصهيونية في فلسطين تعبيراً عن تعدُّد الانتماءات والهويات اليهودية اللغوية والحضارية، وعن الصراع بين الدول الاستعمارية الكبرى (فرنسا وإنجلترا وألمانيا) من أجل فرض هوية ثقافية على المستوطَن الصهيوني وضمان بقائه في حيز نفوذها. فاحتفظت مدارس الأليانس باللغة الفرنسية، وأبقت المدارس الإنجليزية (اليهودية) على لغة الوطن الأصلي، وظلت العبرية فيها جميعاً لغة ثانية. وحينما تصاعدت الحملة بين المستوطنين من أجل تبنِّي العبرية، أوصت الحكومة الألمانية المستوطنين اليهود من الألمان (عام 1913) بأن يحتفظوا بلغتهم، وأن يحاولوا اتخاذ قرار من اتحاد المدرسين مفاده عدم وجود لغة رسمية للمستوطنين. وحاول هؤلاء جعل اللغة الألمانية لغة الدراسة في التخنيون وفي بقية مدارس جمعية عزرا الألمانية، ولكن النصر كُتب لدعاة العبرية في نهاية الأمر.

اللغة الآرامية

Aramaic

ص: 474

«الآرامية» فرع من مجموعة اللغات السامية الشمالية وأقربها إلى العبرية وتُسمَّى أحياناً بالكلدانية. ولكن العلماء يتجهون الآن إلى الرأي القائل بأن لغة الكلدانيين لم تكن الآرامية بل كانت لغة مستقلة تُسمَّى «الكلدانية» . بدأت الآرامية في الانتشار في الشرق الأدنى القديم مع ظهور الأقوام الآرامية في الربع الأخير من القرن الثاني قبل الميلاد. وفي سوريا، بدأ ظهور الوثائق المكتوبة بالآرامية في القرن السابع قبل الميلاد، ثم انتشرت الآرامية في منطقة وادي الرافدين إلى أن رسخت بعد ذلك في بابل حيث حلت محل اللغة البابلية الآشورية، وأصبحت في عهد دارا الأكبر (521 - 486 ق. م) اللغة الرسمية (الإدارية) بين مقاطعات الإمبراطورية الفارسية، كما أصبحت لغة التجارة الدولية ولغة النشاطات اليومية والدبلوماسية في الشرق الأدنى، وكان يتحدث بها كثير من الجماعات غير المتجانسة عنصرياً أو حضارياً في المنطقة. وقد دُوِّنت الآرامية بخط هجائي بسيط كان من أسباب الإقبال على استخدامها. وبلغت الآرامية أوج سلطانها في الفترة من 300 ق. م حتى 650م حين حلت العربية محلها.

ص: 475

بدأ اليهود يتحدثون الآرامية أثناء وجودهم في بابل حتى حلت محل العبرية تماماً مع عودتهم منها (وإن كان هناك رأي يذهب إلى أن المسئولين في البلاط الملكي في مملكة يهودا الجنوبية كانوا يتحدثون الآرامية) . وثمة إشارة في سفر نحميا (8/8) إلى هذا، إذ كان لابد أن يُفسَّر الكتاب المقدَّس بالآرامية. وقد كُتب بها معظم التلمود (البابلي والفلسطيني) ، وبعض الصلوات مثل صلوات عيد الفصح والقاديش ودعاء كل النذور، وكذلك بعض أجزاء العهد القديم. واللغة الآرامية لغة قريبة من العبرية في المفردات كما أنها أثرت فيها تأثيراً عميقاً، وإن كانت القواعد النحوية في اللغة الآرامية أقرب إلى قواعد اللغة العربية. وقد أخذ العبرانيون حروفهم الهجائية، المعروفة بالخط المربع أو الخط الآشوري، عن الآرامية بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد. وكان الآراميون أنفسهم قد اقتبسوا الهجائية الفينيقية ونشروها في العالم. وفقدت الآرامية كثيراً من هيمنتها في العصر الهيليني، حتى يُقال إن أغلبية اليهود كانت تتحدث اليونانية. وكان الحاخام يهودا الناسي يشير إلى الآرامية بأنها «سورسي» (أي سوري) وهي لفظة تحقير، وقال إن «سورسي» (أي الآرامي) لا علاقة له بأرض إسرائيل، وأن المرء اليهودي يجب أن يتحدث إما العبرية أو اليونانية. ويشبه موقفه هذا موقف دعاة التنوير بين اليهود، في أواخر القرن الثامن عشر تجاه اليديشية. وباختفاء الآرامية، حلت العربية محلها وأصبحت لغة يهود الشرق العربي جميعاً.

وتُقسَّم الآرامية إلى:

1 ـ الآرامية القديمة (حتى عام 7000 ق. م) . وقد وُجدت على النقوش القديمة في سوريا.

ص: 476

2 ـ الآرامية الرسمية (حتى عام 300 ق. م) . وقد وُجدت على النقوش القديمة في منطقة سوريا والعراق وكتب بها على برديات جزيرة إلفنتاين. ولم تكن هذه الآرامية هي اللغة الإدارية للإمبراطورية الفارسية وحسب، ولكن اللغة التي كانت تتفاهم بها الأقوام المختلفة في الشرق الأدنى القديم.

3 ـ الآرامية الوسطى (منذ حوالي عام 300 ق. م) . وتشمل الآرامية الوسطى الآرامية الغربية والآرامية الشرقية. أما الآرامية الغربية، فتشمل الآرامية الكتابية وهي لغة الأجزاء الآرامية في العهد القديم، وهي لغة التلمود الأورشليمي أو الفلسطيني وآرامية الترجوم (ترجمة يوناثان) ، واللغة التي تُرجمت بها أسفار موسى الخمسة السامرية (الآرامية السامرية) ، والآرامية النبطية، وآرامية تَدمُر (بالميرا) . وأما الآرامية الشرقية، فتشمل اللغة السريانية وآرامية التلمود البابلي ومخطوطات البحر الميت.

4 ـ الآرامية الحديثة أو المتأخرة.

ويعتقد بعض الحاخامات أن الآرامية لغة مقدَّسة مثل العبرية، لكن بعضهم كان يرى أن الملائكة لا تفهم إلا العبرية وحدها. والآرامية لغة الصوفية اليهودية لأن كتاب الزوهار مكتوب بها. ولا يزال بعض المسيحيين النسطوريين، في القرى والمقاطعات الكردية في سوريا والعراق وتركيا، يتحدثون الآرامية التي أصبحت خليطاً من الآرامية والعبرية واليونانية، كما يتحدث بها أيضاً بعض يهود تلك البلاد.

اللغة اليديشية

Yiddish

ص: 477

اليديشية ليست لغة أساساً، وتُسمَّى كذلك تجاوزاً، فهي لهجة ألمانية تُكتَب بحروف عبرية، وهي لغة اليهود الإشكناز في شرق أوربا منذ العصور الوسطى حتى العصر الحديث (ومن ثم أطلقنا عليهم اسم «يهود اليديشية» ) . وثمة نمط لغوي يتكرر بين أعضاء الجماعات اليهودية في العالم، فهم عادةً يتحدثون لغة البلد الذي يعيشون فيه بعد أن تصطبغ بصبغة عبرية خفيفة إذ تدخل مفرداتها هذه اللغة. ثم ينتقل أعضاء الجماعة من وطنهم هذا حاملين معهم لهجتهم، ويحتفظون بها حتى بعد أن تكون قد اختفت في البلد الأصلي. واليديشية تنتمي إلى هذا النمط.

ظهرت اللغة اليديشية في الفترة بين عامي 1000 و1350، حين تبنَّى أعضاء الجماعة اليهودية ألمانية العصور الوسطى، أي لغة الشعب الذي كانوا يعيشون بين ظهرانيه، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا في حاجة إلى مصطلح خاص بهم للتعبير عن نمط حياتهم الخاصة كجماعة وظيفية وسيطة تعمل في حرف خاصة مثل التجارة والربا. ولذلك، فقد استخدموا بعض مفردات العبرية والآرامية (وهما لغتا التراث الديني اليهودي، إذ أن التلمود مكتوب بالآرامية) ، خصوصاً أن نواة الجماعة اليهودية في ألمانيا جاءت من شمال فرنسا وشمال إيطاليا حيث كانوا يتحدثون رطانة فرنسية خاصة بهم أُطلق عليها اسم «لعز» . ومن هنا، نشأ ذلك الخليط اللغوي الذي أُطلق عليه في بادئ الأمر «يوديش دويتش» ، أي «ألماني يهودي» ، ولكن الكلمة حُرِّفت وأصبحت «يديش تايتش» ، ثم أصبح يطلق عليها «يديش» ، ونترجمها نحن فنقول «اليديشية» . ولم تكن هناك في بادى الأمر أية فروق بين ألمانية العصور الوسطى واليديش تايتش، إلا في بضع كلمات وعبارات عبرية والمزيد من التحريف الصوتي في نطق الكلمات الألمانية أو العبرية.

ص: 478

وحينما هاجرت أعداد من يهود ألمانيا إلى أوربا الشرقية، حملوا لهجتهم الألمانية معهم. وحينما استقر أعضاء الجماعة اليهودية في بولندا، تم توطينهم ضمن العناصر الألمانية التجارية، أي أنهم وُطِّنوا كألمان. ولم يتبنوا اللغة البولندية في وطنهم السلافي الجديد نظراً لتفوق ألمانيا حضارياً وبسبب التنظيم الإقطاعي الصارم الذي عزلهم عن بقية المجتمع. وكان يهود بولندا، في القرن السادس عشر، يشيرون إلى اللغة التي يتحدثون بها على أنها «الألمانية» . وفي البيئة الجديدة، دخلت كلمات وتراكيب لغوية سلافية على اليديشية، ساهمت في إبعادها عن الأصل الألماني وفي استقلالها نسبياً عن الألمانية. ومع هذا، ظلت «اللغة اليديشية» لهجة ألمانية ساهمت في الحفاظ على التوجه «الألماني» ليهود شرق أوربا.

وقد تحدى آرثر كوستلر هذا التفسير لبدايات اللغة اليديشية، فبيَّن استناداً إلى آراء اللغويين أنه لا توجد في اليديشية آثار لغوية مشتقة من الألمانية المنقولة إلى فرنسا، بل ويقرر أن المناطق الأكثر توسطاً في ألمانيا الغربية (فيما حول فرانكفورت) لم تشارك في تطور اللغة اليديشية، فالتأثير الغالب على اليديشية هو لهجات ألمانيا الوسطى الشرقية التي كانت مُستعمَلة، حتى القرن الخامس عشر، كلغة حديث في مناطق الألب النمساوية والبافارية، أي المناطق الشرقية من ألمانيا والمجاورة للحزام السلافي لأوربا الشرقية. وهو يَخلُص من ذلك إلى رفض الأصول الفرنسية الراينية ليهود شرق أوربا، ويعود بتلك الأصول إلى هجرة يهود الخزر من الإستبس إلى أن استقروا في بولندا.

ص: 479

ولكن كيف أصبحت اليديشية لغتهم؟ يرى كوستلر أن الثقافة الألمانية كانت ثقافة النخبة في بولندا وثقافة البورجوازية المتعلمة، كما كانت لغتهم هي الألمانية (أو على وجه الدقة لهجات ألمانيا الوسطى الشرقية) ، فكان التاجر اليهودي يتحدث ألمانية ركيكة مع عملائه الألمان، وبولندية ركيكة مع الأقنان، ويستخدم العبرية في المعبد اليهودي، ثم يخلطها كلها في بيته. وبالتالي، فقد هؤلاء اليهود لغتهم الأصلية (الخزرية) وتحدثوا هذه اليديشية. وهو ليس بالأمر الاستثنائي، فالمهاجرون عادةً ما يفقدون لغتهم في الجيل الثالث، كما حدث ليهود شرق أوربا الذين استقروا في الولايات المتحدة. ويبدو أن اليهود القرّائين (من الخزر) هم وحدهم الذين لم يتم دمجهم لغوياً. فوفق أول تعداد رسمي شامل أُجري سنة 1897 في روسيا القيصرية، كان هناك 12،894 يهودياً قرّائياً كان 2632 منهم يتكلمون الروسية. كما أفاد 9666 منهم أن التركية هي لغتهم الأصلية. وهذا يعني احتمال أن تكون هذه هي لغتهم الخزرية الأصل.

ولكن أياً كان الأمر الخاص بأصول اليديشية، فإن تركيبها اللفظي هو على النحو التالي: 70% كلمات ألمانية، و20% عبرية وآرامية، و10% بولندية وسلافية. وقد دخلتها في السنين الأخيرة كلمات إنجليزية (بعد الهجرة إلى الولايات المتحدة) ، وكلمات عبرية (بعد قيام إسرائيل) للتعبير عن المجالات الدينية والفكرية.

والبنية النحوية في اليديشية هي بنية ألمانية برغم احتوائها على مفردات غير ألمانية، ومن هنا تصنيفنا لها بأنها» لهجة. «

ويُقسِّم علماء اللغة تطوُّر اليديشية إلى أربع مراحل:

نهاية المرحلة المبكرة: حتى عام 1250

اليديشية القديمة: من 1250 إلى 1500

اليديشية الوسطى: من 1500 إلى 1700

اليديشية الحديثة: من 1750 حتى الآن

ص: 480

وتنقسم اليديشية إلى يديشية غربية (اختفت تماماً تقريباً) ، ويديشية شرقية تقسم بدورها إلى لهجات شمالية (في ليتوانيا) وأخرى جنوبية (في بولندا وأوكرانيا ورومانيا) . وتظهر مختلف اللهجات اليديشية في الولايات المتحدة، لكن النطق القياسي هو نطق لهجة اليديشية الشمالية، وقد تم توحيد طريقة التهجي. وظهر أدب يديشي شفاهي ومكتوب في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. كما ظهر أدب يديشي مطبوع في القرن السادس عشر.

واللغة اليديشية لغة الجيتو، فكان الأطفال اليهود لا يتعلمون سواها ـ إلا ما تيسر من العبرية ـ وذلك بسبب الاعتقاد السائد بين يهود الجيتو والخاص بأن من ينظر إلى الهجائية غير العبرية تُحرَق عيناه. وقد أحاطت باليديشية في نهاية الأمر هالة من القداسة، بما يعبِّر عن التيار الحلولي القومي في اليهودية حيث كان يُعتَقد أن أفكار التلمود المركبة لا يمكن تفسيرها إلا بهذه اللغة. ومع هذا، كانت اليديشية في بداية الأمر لغة العوام والسوقة والنساء ـ أي لغة الشارع ـ وكان الأدب المكتوب بها موجَّهاً إلى العوام. وظلت العبرية، ومعها الآرامية، لغة النخبة المثقفة، ولغة الأدبيات التي يكتبها ويقرؤها أعضاء هذه النخبة.

ص: 481

أصبحت اليديشية لغة التجارة والأعمال الربوية، وبذلك أصبحت من دعائم عزلة يهود شرق أوربا. ومن المعروف أن أعضاء الجماعات الوظيفية الوسيطة التجارية في المجتمعات التقليدية عادةً ما يتحدثون بلغة أو بلهجة مغايرة عن لغة البلد المضيف، حتى يتسنى لها الاستمرار في عملهم، ويُقال إن التجار اليهود استفادوا من معرفتهم باليديشية وجهل الآخرين بها في غشهم وخداعهم. كما أنها أصبحت لغة المجرمين والمهربين. ولذا، كانت الحكومات الأوربية (في القرن التاسع عشر) تُحرِّم على اليهود استخدامها في المعاملات التجارية. ولقد صدر قرار يُحرِّم على يهود ألمانيا استخدامها ويفرض عليهم أن يكتبوا الوثائق التجارية بالألمانية. كما أن لويس بونابرت طالب اليهود الفرنسيين بأن يفعلوا نفس الشيء. وطالب دعاة حركة التنوير، مع بدايتها في ألمانيا، بأن يتخلى أعضاء الجماعة اليهودية عن انفصالهم اللغوي وأن يتحدثوا بلغة الوطن الألماني الأصلية. وكان فرايدلندر (الزعيم الألماني اليهودي الإصلاحي) يؤكد أن اللغة اليديشية هي المسئولة عن فساد الدين والأخلاق بين اليهود.

ولما كان كثير من القوادين العاملين في تجارة الرقيق الأبيض في أوربا (بل وفي العالم) في الفترة من 1880 حتى عام 1930 من اليهود الذين أتوا من منطقة الاستيطان في روسيا (التي كانت تُعَدُّ أكبر مصدر للبغايا في العالم) فإن اليديشية كانت من أهم اللغات التي تُدار بها هذه التجارة في تلك الفترة، إلى أن قضى البوليس الدولي بمساعدة أعضاء الجماعات اليهودية عليها.

ص: 482

ورغم الهجوم على اليديشية، كُتب لها الاستمرار حتى أصبحت «لغة قومية» ليهود اليديشية، أي يهود شرق أوربا، ونسلهم ممن انتشروا في معظم أوربا والولايات المتحدة. وإذا كانت العبرية هي «لايشون هاقدوش» أي «اللسان المقدَّس» ، فاليديشية هي «ماما لاشون» ، أي «لغة الأم» . وقد تبناها بعض دعاة التنوير في روسيا بوصفها لغة قومية بدلاً من الروسية، ووضعوا بها مؤلفاتهم، وكانوا لا يختلفون في هذا عن أعضاء الأقليات والقوميات الأخرى. ولكن هذا وحده لا يكفي لتفسير ظاهرة استمرار اليديشية وازدهارها فيما بين العقدين الأخيرين من القرن الماضي والعقدين الأولين من القرن الحالي. ولتفسير هذه الظاهرة، علينا العودة إلى الظروف التاريخية والاجتماعية المحيطة بأعضاء الجماعة اليهودية في شرق أوربا حيث كانوا يشكلون كتلة بشرية ضخمة (بلغت نحو 80% من جملة أعضاء الجماعات اليهودية في العالم) تتحدث اليديشية. وفي إحصاء عام 1897 الذي أجرته الإمبراطورية الروسية، بلغ عدد أعضاء الجماعات اليهودية في روسيا من الناطقين باليديشية نحو 97% من جملة يهود روسيا، أي 5،054،300 (4،2% من مجموع سكان الإمبراطورية) . وبلغ عددهم في منطقة الاستيطان 4،889،427 مُشكِّلين نسبة 11،6% من مجموع سكان المنطقة البالغ عددهم 42،338،567 أما عدد أعضاء الجماعات اليهودية الذين كانوا لا يتحدثون اليديشية، فكان لا يتجاوز 161،500. ولم يكن الوضع مختلفاً كثيراً بالنسبة إلى يهود بولندا. وقد كانت هذه الكتلة الضخمة، في روسيا وبولندا، هي التي تُصدِّر اليهود المتحدثين باليديشية، إذ كان يحملونها المهاجرون معهم من شرق أوربا ويكوِّنون جيوباً تتحدث بها. وكانت ألمانيا، المجاورة لجاليشيا وبولندا، الممر بين الجيب الروسي البولندي اليديشي من جهة وبقية العالم من جهة أخرى، ولذا كانت تستوطن فيها أعداد كبيرة منهم. ولكن أكبر كتلة يهودية يديشية مهاجرة كانت قد انتقلت إلى الولايات المتحدة التي

ص: 483

أصبحت في أواخر القرن التاسع عشر المركز الثاني لليديشية في العالم.

وقد كُتب لليديشية الاستمرار بعض الوقت في كلٍّ من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في الفترة الزمنية نفسها. وكان ذلك لأسباب مختلفة؛ منها تعثر التحديث في شرق أوربا (روسيا وبولندا) ، وتوقف عمليات الدمج الثقافي واللغوي، وتوقف الحراك الاجتماعي، الأمر الذي زاد عزلة أعضاء الجماعة اليهودية والتفافهم حول أنفسهم، خصوصاً أنهم كان بوسعهم (ككتلة بشرية ضخمة) أن يتعاملوا مع بعضهم البعض في كثير من مناحي الحياة دون الحاجة إلى الاحتكاك بأعضاء الأغلبية (ولم يكن هناك في الواقع ما يُغري بمحاولة الاحتكاك أو الاندماج) . أما في الولايات المتحدة، فإن يهود اليديشية أصبحوا أيضاً كتلة ضخمة (ما يزيد على المليونين) في فترة زمنية وجيزة. وقد قوبلوا بعداوة من اليهود الألمان والسفارد الذين كانوا لا يفهمون هذه الرطانة، ومن المجتمع ككل كما هو الحال في معظم هذه الأحوال. وكانوا كجماعة مهاجرة، يستمدون شيئاً من الإحساس بالأمان والطمأنينة بالالتفاف حول أنفسهم وعن طريق تكوين جمعيات وجماعات لمساعدة بعضهم البعض في الشئون المالية والاجتماعية وفي عملية التكيف مع المجتمع الجديد. ولذا، كانت اليديشية، منذ عام 1881 حتى العشرينيات، لغة الشارع اليهودي والفلكلور اليهودي عند معظم يهود العالم (روسيا وبولندا ورومانيا وألمانيا وأمريكا وجنوب أفريقيا والأرجنتين وغيرها من بلاد أمريكا اللاتينية) الذين تعود أصولهم إلى الجيب الروسي البولندي ويهود اليديشية. ويُقال إن عدد المتحدثين باليديشية كان نحو عشرة ملايين يهودي، أي معظم يهود العالم.

ص: 484

وقد ازدهر، في هذه الفترة، الأدب اليديشي والسينما اليديشية والصحافة اليديشية. وبلغت الثقافة اليديشية ذروتها في كل من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، فكان يوجد في الولايات المتحدة أحد عشر مسرحاً يديشياً في نيويورك وسبعة عشر مسرحاً خارجها. وكانت الجرائد اليديشية توزع ما بين 500 و600 ألف نسخة يومياً. والشيء نفسه في الاتحاد السوفيتي، إذ بدأ يظهر أيضاً إحساس بالهوية اليديشية. ومن هنا، ظهر مفهوم دبنوف بشأن قومية الدياسبورا، والذي كان يعني في واقع الأمر «القومية اليديشية» ، ولذا كان دبنوف يطالب بالحفاظ على اليديشية باعتبارها الوعاء اللغوي لهذه القومية. وفي هذه الفترة، ظهر حزب البوند الذي كان يضم في صفوفه كثيراً من العمال اليهود (في روسيا وبولندا) المتحدثين بهذه اللغة. وكانت اليديشية اللغة الرسمية للحزب حيث أصدر منشوراته بها، وطالب الحزب البلاشفة بالاعتراف بها كلغة قومية. وقد اعترف الاتحاد السوفيتي باليديشية كلغة رسمية، وأصبحت إحدى اللغات المُعتَرف بها في المحاكم وتدار بها الجلسات، ولا تزال اللغة الرسمية في بيروبيجان. وقد وصل النظام التعليمي باليديشية إلى قمته في هذه الفترة، في كل من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، فكان عدد الطلبة المسجلين في المدارس اليديشية اثنى عشر ألفاً في الولايات المتحدة. أما في الاتحاد السوفيتي، فتم تأسيس شبكة من المدارس الابتدائية والثانوية يتم التدريس فيها باللغة اليديشية، كما أُسِّست كليات تربوية لإعداد مدرسين لليديشية. وقد وصلت نسبة عدد اليهود الذين التحقوا بهذه المدارس 51% من مجموع الطلاب اليهود عام 1926، وأُسِّست كلية لدراسة الثقافة اليديشية.

ص: 485

وبعد نهاية العشرينيات مباشرة، بدأ الاضمحلال والذبول يدبان في جسد اليديشية في كلٍّ من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، ولكن لأسباب مختلفة. ففي الولايات المتحدة، كانت اليديشية تُعتبَر لغة منقولة من بيئة قديمة، ولم يكن لها أساس اقتصادي أو حضاري في البيئة الجديدة، وبالتالي لم يكن لها مستقبل. وفي منتصف العشرينيات مع توقُّف الهجرة، أخذت اليديشية في الاضمحلال السريع. وأخذ أبناء المهاجرين (كما هو مُتوقَّع) يتعلمون الإنجليزية، وبدأت المدارس اليديشية تفرغ من طلبتها. وتدار جلسات معهد ييفو (معهد البحوث اليديشية) في الوقت الحالي باللغة الإنجليزية، كما أنه في حاجة دائمة إلى الدعم المالي الذي تحجبه عنه المؤسسات الصهيونية وهو غير قادر على الاستمرار بدون المعونات التي يحصل عليها من الحكومة الأمريكية. وتوجد الآن جريدة يديشية واحدة في الولايات المتحدة تعيش على المعونات وتَصدُر ثلاث مرات أسبوعياً، وثلاث مجلات توزع اثنين وعشرين ألف نسخة، (قُرَّاء هذه الجرائد والمجلات من المسنين) .

أما في الاتحاد السوفيتي، فمع تزايُد معدلات التحديث في المجتمع وإتاحة فرص الحراك الاجتماعي، بدأ اليهود ينصرفون عن اليديشية، وأخذت أعداد الطلبة اليهود في المدارس اليديشية في التناقص فوصلت عام 1931 إلى 33% من مجموع الطلبة اليهود في المدارس الروسية، ثم إلى 20% عام 1939. وتكاد النسبة تنعدم الآن، ولذا أُغلقت الغالبية الساحقة من المدارس اليديشية.

ص: 486

وقد انصرف الكُتَّاب اليهود الروس والأمريكيون عن الكتابة باليديشية، وآثرت أعداد متزايدة منهم الكتابة بالروسية أو الإنجليزية، كما قام بعضهم بترجمة الأعمال التي كتبها باليديشية إلى الإنجليزية. وهذا لا يعود فقط إلى معدلات التحديث العالية، ولكنه يرجع أيضاً إلى أن اليديشية ليس لها تاريخ حقيقي. كما أنها لا تملك تراثاً أدبياً ثرياً، الأمر الذي يجعل الإبداع الأدبي من خلالها أمراً صعباً. وهذا يُفسِّر تلك الظاهرة التي تبعث على الدهشة، ظاهرة قلة الكلمات اليديشية (معظمها ألماني) التي دخلت اللغة الإنجليزية مع أن ملايين اليهود كانوا يتحدثون هذه اللغة. وربما كان السبب الحاسم هو أن من يكتب أدبه باليديشية لن يجد قراء يُعتدُّ بهم ويصبح مؤلفاً بلا جمهور، وهو أمر يصعب على أي مؤلف قبوله.

ومن العناصر الأساسية المشتركة التي أدَّت إلى اختفاء اليديشية، في كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، تغيُّر وضع اليهود الوظيفي ودخولهم مجالات المهن الحرة بأعداد متزايدة، الأمر الذي كان يتطلب ابتعادهم عن مراكز الثقافة ذات الطابع اليهودي التقليدي، وهو ما أدَّى إلى انزواء ما تبقى من ثقافة يديشية منعزلة.

ص: 487

وفي الوقت الحالي، لا يوجد سوى بضعة آلاف في الولايات المتحدة يتحدثون اليديشية، أغلبيتهم من كبار السن. أما في الاتحاد السوفيتي، فعدد اليهود الذين صرحوا (في السبعينيات) بأن الروسية هي لغتهم نحو 86،7%، في حين توزَّع 17،7% بين مختلف اللغات، وهو ما يعني أن عدد المتحدثين باليديشية قد لا يزيد على 10%، معظمهم من المتقدمين في السن ويسكنون المناطق الغربية (ليتوانيا ولاتفيا ومولدافيا) التي كانت تضم كثافة سكانية يهودية في الماضي، مع العلم بأن عدداً لا بأس به ممن يصرحون بأن لغتهم هي اليديشية يفعلون ذلك تمسكاً بهويتهم ولكنهم في واقع الأمر لا يتحدثونها. وقد اختفت اليديشية تقريباً في جنوب أفريقيا، وقام النازيون بإبادة بقية يهود بولندا ممن كانوا لا يزالون يتحدثون بها. ولكن من الملاحظ أنه، على الرغم من عدم تصاعُد معدلات التحديث في المجتمع البولندي قبل الحرب العالمية الثانية، كانت اليديشية قد بدأت تذبل وتضمر، وبدأ يهود بولندا يتعلمون البولندية. فلم يكن يهود بولندا، مثلهم مثل يهود الولايات المتحدة أو يهود الاتحاد السوفيتي، يريدون أن يتعلم أولادهم لغة تعوقهم عن الحراك الاجتماعي وتحبسهم داخل حدود ضيقة، وبالتالي أرسلوا أولادهم إلى المدارس القومية (الهولندية أو الروسية أو الأمريكية) حيث يتعلمون اللغة القومية لينالوا حظهم من الحياة. وعلى هذا، فإن الحديث الصهيوني عن اضطهاد الاتحاد السوفيتي (سابقاً) للثقافة اليديشية لا أساس له من الصحة. وقد اختفت اليديشية في الولايات المتحدة دون اضطهاد، بل لم يعرها المجتمع أي التفات، لا تشجيعاً ولا اضطهاداً، وماتت من تلقاء نفسها.

ويمكن القول بأن الحركة الصهيونية أسهمت بشكل فعال في الإسراع بعملية موت اليديشية، فمنذ البداية ناصب الصهاينة اللغة اليديشية العداء على اعتبار أنها لغة المنفى، وطرحوا بدلاً منها اللغة العبرية: لغة التراث واللغة القومية «الحقة» !

ص: 488

وللغة اليديشية قيمة عالية في وجدان يهود شرق أوربا، فهي الوعاء الذي يحوي تراثهم الحيوي (لا موروثهم الديني الجامد) والذي عبَّروا عن تجربتهم التاريخية في شرق أوربا من خلاله، ولذلك فثمة حنين عاطفي لها في الدولة الصهيونية بين شباب الصابرا (الإشكناز) الذي يجدون أن العبرية لغة جامدة لا جذور لها، تفتقر إلى امتداد تاريخي يتصورون وجوده في اليديشية بدرجة أكبر. وقد أسقط بعض الإسرائيليين الأسماء العبرية التي اختاروها واستعادوا أسماءهم اليديشية التي كانوا قد أسقطوها. وكثير من المفكرين الصهاينة وأعضاء النخبة الحاكمة في إسرائيل (من الجيل القديم) يتحدثون اليديشية.

ولا تزال اليديشية لغة الدراسة بالمدارس الدينية العليا (يشيفا) في إسرائيل، كما أن نواطير المدينة (ناطوري كارتا) ، وهم جماعة يهودية أرثوذكسية معادية للصهيونية، يتحدثون اليديشية على اعتبار أن العبرية لغة الصلاة وحسب. وهي أيضاً اللغة التي يتحدث بها المهاجرون الإشكناز من شرق أوربا، ولذلك أصبحت اليديشية إحدى علامات التميز الاجتماعي في إسرائيل. ويُلاحَظ أن اليديشية مازالت مستخدَمة داخل بعض المنازل هناك، ويتعلمها الشباب سماعياً، ولكنهم لا يقرءونها ولا يكتبون بها. ويتكلف بعض الشباب في إسرائيل التحدث باليديشية، حتى السفارد ويهود العالم الإسلامي، إذ أن ذلك يجعلهم بحسب تصوُّرهم من الطبقة الحاكمة، ويعطيهم من ناحية أخرى قدراً من الرضاء الذاتي بالحصول على قيمة ثقافية يهودية، كما يُسهِّل في الوقت نفسه عملية الاتصال بالعناصر المهاجرة الجديدة. وتصدُر في إسرائيل عدة صحف ومجلات باليديشية، ولا يزال هناك أدباء يكتبون بها في كلٍّ من إسرائيل والولايات المتحدة، بعضهم صهيوني والبعض الآخر إما معاد لها أو غير مكترث بها.

مؤتمر تشيرنوفتس

Czernowitz Conference

ص: 489

«مؤتمر تشيرنوفيتس» مؤتمر عُقد عام 1908 ليُحدِّد دور اليديشية في حياة أعضاء الجماعات اليهودية، وقد دعا إلى عقد المؤتمر كل من نيثان برنباوم وحاييم جيتلوسكي. ونادى المؤتمر بالاعتراف باليديشية باعتبارها اللغة القومية «الوحيدة» ليهود شرق أوربا. وبطبيعة الحال، حدث صراع حاد بين دعاة اليديشية والعبرية. وقد وصل المؤتمر إلى صيغة وسط حيث اعتُبرت اليديشية «لغة قومية» (ضمن لغات أخرى) .

معهد البحوث اليهودية (ييفو (

Yivo

» ييفو» مختصر لعبارة «يديشر فيسينشافتليكر إنستيتوت «Yidisher Visenshaftlekher Institut» ، وهي عبارة يديشية تعني «معهد البحوث اليهودية» الذي أسسته مجموعة من العلماء اليهود عام 1925 في فلنا (ليتوانيا) لدراسة حياة الجماعات اليهودية في جميع أنحاء العالم، خصوصاً يهود اليديشية، وقد كان لهذا المعهد فروع في ثلاثين بلداً. وانتقل المعهد إلى نيويورك مع الحرب العالمية الثانية ونُقلت معه مكتبة فلنا، وتغيَّر اسمه من «معهد البحوث اليهودية» إلى «ييفو: معهد البحوث اليهودية» . وينشر المعهد عدة مطبوعات وكتباً، ولكنه يعاني أزمة مالية دائمة نظراً لاختفاء اللغة اليديشية وبالتالي عدم وجود قطاعات يهودية مهتمة بتمويله. كما أن المؤسسة الصهيونية تفضل تخصيص الاعتمادات للدراسات العبرية ولدعم المستوطَن الصهيوني. ولذا، فإن المعهد يعيش على معونات الحكومة الأمريكية. وتُدار جلسات مجلس إدارة المعهد بالإنجليزية. ويصدر المعهد حولية، كما يصدر بعض الكتيبات العلمية.

اللادينو

Ladino

ص: 490

كلمة «لادينو» تحريف لكلمة «لاتينو» ، واللادينو لهجة إسبانية، ولذا فهي تسمَّى أحياناً «إسبانيولي» ، كما يُطلَق عليها أحياناً «رومانسي» ، و «جوديزمو» . ويتحدث بهذه اللهجة اليهود السفارد، وبخاصة يهود المارانو. وتتكون مفردات اللادينو من إسبانية العصور الوسطى (القشطالية) بعد أن دخلتها بضع كلمات من العبرية والتركية واليونانية، وبعض المفردات من اللهجات الإسبانية الأخرى والبرتغالية، غير أن نسبة العناصر الدخيلة على إسبانية اللادينو غير كبيرة كما هو الحال في اليديشية. وتُستخدَم في اللادينو أيضاً النهايات العبرية التي تدخل على الكلمات العبرية. وقد ظهرت هذه اللغة في القرون التي سبقت طرد اليهود من إسبانيا عام 1492. وهي أساساً لغة حديث، ولذا فإن معظم ما كُتب بها كان مجرد شروح على الكتاب المقدَّس.

وكانت اللادينو تُكتَب بالحروف العبرية، ولكن المتحدثين بها الآن يكتبونها بالحروف اللاتينية. وهناك نصوص كُتبت باللادينو في العصور الوسطى. لكن أول كتاب مطبوع بهذه اللغة ظهر في القسطنطينية عام 1510، كما طُبعت بها بعض الروايات والجرائد في القرن التاسع عشر. وقد سادت اللادينو بين الجماعات اليهودية في الدولة العثمانية. وكان أهم مراكزها، حتى الحرب العالمية الثانية، مدينة سالونيكا اليونانية، عاصمة اليهود السفارد.

ص: 491

واللادينو على وشك الاختفاء، شأنها في ذلك شأن كل الرطانات التي تتحدث بها الجماعات اليهودية المختلفة في العالم، وذلك بسبب الاندماج أو الهجرة إلى إسرائىل. ويتراوح عدد اليهود الذين كانوا يتحدثون اللادينو، أو على الأقل يفهمونها، بين 200 ألف و300 ألف، حيث كانوا ينتشرون في حوض البحر الأبيض المتوسط وفي الولايات المتحدة. وتتأثر لهجة المتحدثين باللادينو بلغة البلد الذي يعيشون فيه، فالمتحدث باللادينو في يوغوسلافيا يستخدم مفردات سلافية، أما المتحدث بها في تركيا فيميل إلى استخدام اللغة التركية. وفي إسرائيل، تصدر في الوقت الحالي بعض المطبوعات باللادينو، لكن عدد المتحدثين بهذه اللغة يكاد ينعدم تماماً.

الإسبرانتو

Esperanto

«إسبرانتو» كلمة مُخلَّقة تعني «الذي عنده أمل» . وقد نشر لودفيج زامنهوف (1859 ـ 1917) وهو لغوي من يهود اليديشية (ومن أعضاء جماعة أحباء صهيون) مخططاً للغة دولية جديدة (عام 1877) بتوقيع «الدكتور إسبرانتو» ، وقد أصبحت الكلمة اسماً للغة التي وضعها.

ويستند نحو الإسبرانتو إلى التركيب النحوي في اللغات الأوربية. ولكن نحو الإسبرانتو بسيط إذ يتكون من 16 قاعدة ويخلو من أي شواذ. وقواعد اشتقاق الكلمات بسيطة إذ يمكن توليد كل الكلمات المطلوبة من عدد صغير من الكلمات الأساسية البالغ 900 كلمة وحسب (بالقياس إلى حوالي 20 ألف كلمة في كل لغة) . ومن ثم فمفرداتها لا نهاية لها، ولكن من السهل تذكرها. وقد فكر زامنهوف أن يجعل الإسبرانتو لغة المستوطَن الصهيوني، لكن إليعازر بن يهودا كان قد بدأ عملية بعث العبرية.

ص: 492

وقد عُقد أول مؤتمر للإسبرانتو في فرنسا عام 1905، ثم عُقدت عدة مؤتمرات حتى بداية الحرب العالمية الأولى. ومع أنه هناك عدة محاولات أخرى لتطوير لغات عالمية، فإن الإسبرانتو لا تزال هي أشهر هذه اللغات. ويبدو أن زامنهوف كان يدور في إطار فكر عصر الاستنارة الذي يُعادي كل الخصوصيات حتى يظهر الإنسان الطبيعي، ومن ثم فقد طوَّر لغة طبيعية عالمية علمانية محايدة تقترب من حالة الجبر والهندسة، معقمة من التاريخ والزمان والإنسانية. ولذا فهي لغة طبيعية وُلدت ميتة، وقد لاحظ دارسو الإسبرانتو أنها تصلح للتعبير عن الحاجات المادية (الطبيعية) للإنسان (مثل طلب الطعام والشراب) إلا أنها لا تصلح للتعبير عن أية قضايا إنسانية مركبة (تلك القضايا التي يتعامل معها الدين والفلسفة) . ومن الطريف أن زامنهوف حاول تطوير ديانة عالمية طبيعية محايدة (مثل الإسبرانتو) سماها الهليلية (نسبة إلى الحاخام هليل الذي كان يدَّعي زامنهوف أنه من نسله) . ولا شك في أنه كان يهدف من مساعيه العالمية هذه أن يتوصل إلى بنىًّ فكرية وفلسفية لا تتمتع بأية خصوصية قومية أو دينية وتقضي على أي تطلُّع إنساني أو ديني.

ص: 493