المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عصر النبوة والخلافة الراشدة - موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي - جـ ١

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌عصر النبوة والخلافة الراشدة

الجزء الأول

‌عصر النبوة والخلافة الراشدة

تأليف:

أ. د. عبد الشافي محمد عبد اللطيف

أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة الأزهر

الفصل الأول

*العالم قبل الإسلام

جغرافية بلاد العرب:

بلاد العرب شبه جزيرة، تقع جنوبى غربى قارة آسيا، يحدها «البحر

الأحمر» من الغرب، و «الخليج العربى» من الشرق، و «بحر العرب»

و «المحيط الهندى» من الجنوب، وبادية «الشام» من الشمال، وتبلغ

مساحتها أكثر من مليونى كيلو متر مربع، ويقسمها الجغرافيون إلى

خمسة أقاليم رئيسية هى:

- إقليم تِهامَة: وهو شريط ساحلى يطل على البحر الأحمر، وسمى

بتهامة لارتفاع درجة حرارته، وركود هوائه.

- إقليم الحجاز: ويقع شرقى «تهامة» ، ويمتد من «الشام» شمالاً إلى

«اليمن» جنوبًا، وتقع عليه سلسلة جبال «السراة» ، وسُمِّى بالحجاز؛

لأنه يحجز بين «تهامة» فى الغرب و «نجد» فى الشرق. وتقع فى هذا

الإقليم «مكة» المكرمة، و «المدينة» المنورة.

- إقليم نجد: ويقع شرقى «الحجاز» ويمتد من صحراء بادية

«السماوة» شمالاً حتى قرب حدود «اليمن» جنوبًا، وسُمِّى «نجدًا» ؛

لارتفاع أرضه.

- إقليم العروض: وهو الجزء الشرقى من شبه الجزيرة العربية، ويطل

على «الخليج العربى» .

- إقليم اليمن: وهو الجزء الجنوبى الغربى من شبه الجزيرة العربية.

وهذه المساحة الكبيرة ذات طبيعة صحراوية، لا يجرى فيها نهر

واحد، ولا تسقط الأمطار إلا نادرًا، باستثناء إقليم «اليمن» الذى

تسقط فيه بعض الأمطار الموسمية، وبخاصة فى فصل الصيف، مما

يسَّر لأهلها حياة مستقرة نتيجة اشتغالهم بالزراعة، وساعدهم على

إقامة حكومات منظمة، وإقامة حضارة راقية، وقد اشتهر هذا الإقليم

باليمن السعيد.

أما بقية أجزاء شبه الجزيرة العربية فقد قلَّت فيها الزراعة أو كادت

تنعدم؛ لندرة المياه عدا بعض الواحات التى بها عيون للمياه، ساعدت

على نمو الحشائش التى ترعاها الماشية، وزراعة بعض المحاصيل

كالشعير والقمح.

مكة المكرمة:

تقع «مكة» المكرمة فى إقليم «الحجاز» ، شرقى مدينة «جدة» بنحو

سبعين كيلو مترًا، وترتبط نشأتها بقصة «إبراهيم الخليل» وابنه

ص: 1

«إسماعيل» عليهما السلام، حيث أمر الله تعالى نبيَّه «إبراهيم» أن

يذهب بابنه «إسماعيل» إلى الوادى الذى نشأت فيه «مكة» ؛ وأن

يسكنه فيه، فامتثل «إبراهيم» لأمر الله، وارتحل إلى ذلك الوادى

وكان قفرًا (ليس به زرع أو ماء)، خاليًا من السكان، وترك زوجه

«هاجر» وابنها الطفل «إسماعيل» ، وفى هذا يقول الله تعالى على

لسان «إبراهيم» عليه السلام:

{ربنا إنى أسكنت من ذريتى بوادٍ غير ذى زرعٍ عند بيتك المحرم} .

[إبراهيم: 37].

وإكرامًا لإسماعيل فجَّر الله - تعالى - بئر «زمزم» ، بعد أن يئست أمه

«هاجر» من وجود الماء، وهى تسعى باحثة عنه بين صخرتى

«الصفا» و «المروة» ، وقد أصبح السعى بينهما ركنًا من أركان الحج.

كان وجود الماء فى هذا المكان عجبًا، فجذب القبائل التى كانت

تسكن بالقرب منه، وهى قبائل «جُرهم» فجاءوا إلى «هاجر» ،

وطلبوا منها السماح لهم بأن ينتفعوا بماء زمزم، فأذنت لهم ورحَّبت

بهم؛ ليؤنسوا وحدتها هى وابنها، وبدءوا يقيمون بيوتهم حول بئر

«زمزم» ، ومن هنا كانت نشأة «مكة» المكرمة، وفيها عاشت

«هاجر» وابنها «إسماعيل» بين قبائل «جرهم» ، ولما كبر تزوج

منهم، وأنجب أولاده الذين هم أجداد العرب المستعربة.

واتسعت «مكة» شيئًا فشيئًا، وزحف إليها العمران، وذاعت شهرتها

بين المدن، بعد أن أمر الله - تعالى- «إبراهيم» عليه السلام فى

إحدى زياراته لابنه «إسماعيل» ببناء «الكعبة المشرفة» ، فأصبحت

«مكة» مكانًا مقدسًا، وزادها الله تشريفًا بهذا البناء.

و «الكعبة» التى بناها نبى الله «إبراهيم» عليه السلام بناء مربع

الشكل تقريبًا، يبلغ ارتفاعه نحو خمسة عشر مترًا، وعرض جداريه

الشمالى والجنوبى نحو عشرة أمتار، والشرقى والغربى اثنا عشر

مترًا.

ويقع باب «الكعبة» فى الجدار الشرقى، وفى الطرف الجنوبى منه

يقع «الحجر الأسود» ، وهى منذ بنائها مثابة للناس وأمن، كما أخبر

بذلك الله - تعالى - فى القرآن الكريم، وظلت قبائل «جُرهُم» تقوم

ص: 2

على خدمة «الكعبة» ، ورعاية حجاجها، إلى أن ضعفت، فحلَّ مكانها

فى تلك المهمة قبائل «خزاعة» ، التى ضعفت هى الأخرى بعد فترة،

فخلفتها قبيلة «قريش» بزعامة «قصى بن كلاب» الجد الرابع للنبى

صلى الله عليه وسلم، فأسس دار الندوة فى «مكة» ، وهى أشبه ما

يكون ببرلمان صغير، يتشاور فيه زعماء «قريش» حول شئونها،

ونظَّم «قُصىَّ بن كلاب» السقاية، وهى جلب الماء للحجاج من آبار

بعيدة، بعد أن ردمت قبائل «جُرهُم» بئر «زمزم» عندما غلبتها

«خزاعة» على أمرها وتركت «مكة» ، واهتم بالسدانة، وبالرفادة

وهى إطعام الحجاج، وبالحجابة وهى خدمة «الكعبة» وتولى

مفاتيحها، وباللواء وهو راية الحرب، وكان ذلك كله فى يد «قصى» ،

ولكن بعد وفاته قُسمت هذه المناصب بين أحفاده.

أحوال العرب قبل الإسلام:

يُقسم علماء الأنساب العرب إلى:

- عرب بائدة؛ وهم الذين هلكوا ولم يبق من نسلهم أحد، مثل:«عاد» ،

و «ثمود» و «طُسُم» ، وغيرهم.

- وعرب باقية، وهم قسمان:

أ - عرب عاربة، وهم أهل «اليمن» الذين ينسبون إلى «يعرب ابن

قحطان».

ب - وعرب مستعربة، وهم الذين ينسبون إلى «عدنان» الذى يتصل

نسبه بإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وسُمُّوا مستعربة؛ لأن

أباهم غير عربى وهو «إسماعيل» عليه السلام وأمهم عربية من

«جُرهُم» .

أحوال العرب السياسية:

عرفت بلاد العرب الحياة السياسية المنظمة قبل الإسلام، وبخاصة فى

«اليمن» ، حيث الزراعة والاستقرار، فقامت فيها دول كثيرة متعاقبة،

مثل: دولة «معين» ، ودولة «قُتبان» ، ودولة «سبأ» التى سُميت بها

سورة من سور القرآن الكريم، ودولة «حمير» التى ظلت قائمة حتى

احتلتها «الحبشة» فى بداية القرن السادس الميلادى، ثم استولى

عليها «الفرس» ، وظلت كذلك إلى أن حررها الإسلام من الاحتلال

الفارسى، وأسلم أهلها.

وقامت فى «اليمن» حضارة عظيمة، فاشتهرت ببناء السدود كسد

مأرب، لخزن مياه الأمطار لاستخدامها فى الزراعة، وازدهرت فيها

ص: 3

التجارة؛ بسبب موقعها الجغرافى المتميز على المدخل الجنوبى

للبحر الأحمر؛ مما جعلها مركزًا تجاريّاً كبيرًا بين الشرق الأقصى

وشرقى «إفريقيا» بل و «أوربا» .

وبعد انهيار «سد مأرب» وتدهور الحياة الاقتصادية هاجر العرب من

«اليمن» إلى أطراف شبه الجزيرة العربية فى الشمال، وأقاموا

إمارات عربية، ظلت قائمة إلى ما بعد ظهور الإسلام، فنشأت إمارة

«المناذرة» فى «العراق» ، وكانت عاصمتها مدينة «الحيرة» ، وإمارة

«الغساسنة» فى جنوب «الشام» .

وكانت هناك إمارات عربية أخرى فى شرقى شبه الجزيرة العربية،

فى «البحرين» و «اليمن» ، وفى جنوبيها الشرقى فى «عمان» ،

وكلها أسلمت فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصبحت

جزءًا من الدولة الإسلامية.

وأما بقية شبه الجزيرة فكان يعيش أهلها حياة قبلية، حيث يحكم كل

قبيلة شيخ، هو صاحب الكلمة النافذة، والأمر والنهى فيها.

الحياة الاجتماعية:

اختلفت الحياة الاجتماعية فى بلاد العرب من مكان إلى آخر باختلاف

حياة الحضر والبدو، فالأجزاء الحضرية التى تتمتع بحياة مستقرة

وبنظم سياسية يُقسم المجتمع فيها إلى طبقات: طبقة الملوك والحكام

والأمراء، وهم يمثلون قمة الهرم الاجتماعى، وينعمون بحياة الترف

والنعيم، تليهم طبقة التجار والأثرياء، ثم تأتى طبقة الفقراء فى

أدنى الهرم الاجتماعى.

أما البدو فيتألفون من طبقتين:

- طبقة السادة، وهم فى الواقع كل العرب البدو، سواء أكانوا

أغنياء أم فقراء، فالفقر لم يكن يحد من حرية الإنسان العربى

وسيادته، فمهما يكن فقيرًا فهو مالك لزمام نفسه، معتز بحريته.

- وطبقة العبيد والخدم، وكان يمتلكهم الأغنياء، وعلى عاتق هذه

الطبقة قامت الحياة الاقتصادية.

واتسمت حياة البداوة بعادات بعضها جميل محمود، أبقى عليه

الإسلام وشجَّعه، كالكرم والنجدة وإغاثة الملهوف، وبعضها الآخر

قبيح مرذول حاربه الإسلام حتى قضى عليه، كوأد البنات خوفًا من

ص: 4

العار، وهذه العادة كانت - فى واقع الأمر - فى قبائل معينة ولا تمثل

نظرة العرب كلهم إلى المرأة، لأنها كانت عندهم محل اعتزاز وتقدير

بصفة عامة.

الحياة الدينية:

عرفت بلاد العرب التوحيد قبل الإسلام بزمن طويل، فقد نزلت فيها

رسالات سماوية، كرسالة «هود» عليه السلام فى جنوبى شرقى

الجزيرة العربية، ورسالة «صالح» عليه السلام فى شماليها

الغربى، كما عرفوا التوحيد من رسالة «إسماعيل» عليه السلام،

ولكن بمرور الزمن نسوا هذه الرسالات، وتحولوا إلى الوثنية وعبادة

الأصنام، وأصبح لهم آلهة كثيرة مثل:«هُبل» و «اللات» و «العزى» .

وعلى الرغم من انتشار عبادة الأصنام انتشارًا واسعًا فى بلاد العرب،

فإن هناك ما يدلُّ على أنهم لم يكونوا يعتقدون اعتقادًا حقيقيّاً

فيها، فيحكى القرآن الكريم على لسانهم قولهم: {ما نعبدهم إلا

ليقربونا إلى الله زلفى}.الزمر:3].

وكان منهم من رفض عبادة الأصنام رفضًا قاطعًا، وهم الذين سُمُّوا

بالحنفاء، كورقة بن نوفل، و «زيد بن عمرو بن نُفيل» ، و «عثمان بن

الحويرث»، و «عبيد الله بن جحش» ، و «قس بن ساعدة الإيادى» ،

وهؤلاء لم تقبل أذهانهم عبادة الأصنام، فاعتنق بعضهم المسيحية،

وترقب بعضهم الآخر ظهور الدين الحق.

وإذا كانت الوثنية قد سادت بلاد العرب، فإن اليهودية والمسيحية

عرفت طريقها إليها فتركزت المسيحية فى «نجران» التى كانت

وقتئذٍ من أرض «اليمن» ، فى حين استقرت اليهودية شمال «الحجاز» ،

فى «يثرب» و «خيبر» ، و «وادى القرى» و «تيماء» .

ومن العجيب أن اليهودية والنصرانية لم تنتشرا على نطاق واسع فى

بلاد العرب، ولعل ذلك راجع إلى أن اليهودية تُعدُّ ديانة مغلقة،

فأهلها كانوا يعتبرونها ديانة خاصة بهم، فلم يدعوا أحدًا إليها، ولم

يرحِّبوا باعتناق غيرهم لها، أما المسيحية، فعلى الرغم من أنها

ديانة تبشيرية، وأهلها يرغبون فى نشرها فى العالم فإنه يبدو

ص: 5

أنها حين وصلت إلى بلاد العرب كانت قد بلغت درجة من التعقيدات

والخلافات لم تستسغها عقول العرب.

الحياة الثقافية:

كان العرب قبل الإسلام أمة أمية، لا تعرف القراءة والكتابة إلا فى

نطاق ضيق، ولم يكن الذين يعرفونها فى «مكة» مثلاً يزيدون على

عشرين شخصًا، ومع ذلك فإنهم امتلكوا قدرًا لا بأس به من المعرفة،

واتصلوا بالعالم الخارجى من خلال رحلاتهم التجارية، فعرفوا الثقافة

الفارسية عن طريق إمارة «الحيرة» العربية، والثقافة اليونانية عن

طريق الإمارات العربية فى «الشام» .

واكتسب العرب أيضًا قدرًا كبيرًا من المعارف العلمية بالخبرة والتجربة

وبدافع الحاجة كالمعلومات الفلكية والجغرافية، دفعهم إلى معرفتها

تنقلاتهم الكثيرة، وارتحالهم من مكان إلى آخر، وحاجتهم إلى معرفة

مواسم نزول الأمطار وهبوب الرياح.

وتفوق العرب على غيرهم من الأمم فى مجال «علم الأنساب» ، وذلك

لاعتزازهم بانتسابهم إلى قبائلهم، وبلغ من شدة اهتمامهم بعلم

الأنساب أن اعتنوا بأنساب الخيل، غير مكتفين بأنساب البشر.

أما الميدان الثقافى الذى برع فيه العرب فهو البلاغة والفصاحة،

فالعربى كان فصيحًا بطبعه، بليغًا بفطرته، ودليل ذلك فهمهم للقرآن

الكريم، الذى نزل بلغتهم وهو ذروة البلاغة والفصاحة.

وبرع العرب فى ميدان الشعر براعة واضحة، فهو ديوان حياتهم،

وشعراؤهم يُعدُّون بالمئات، والشعر العربى إلى جانب كونه لونًا

راقيًا من ألوان الأدب يُعدُّ بعد القرآن الكريم مصدرًا من مصادر معرفة

الحياة العربية بكل خصائصها ومظاهرها.

وكما تفوَّق العرب فى الشعر تفوقوا فى الخطابة، وكانوا يقيمون

الأسواق الأدبية التى تشبه مهرجانات المسابقات الأدبية فى الوقت

الحاضر، ومن أشهر تلك الأسواق سوق «عكاظ» ، وكانت تعقد فيها

لجان للتحكيم بين الشعراء والخطباء، والقصيدة أو الخطبة التى يفوز

صاحبها يتناقلها الناس ويحفظونها، ويشيدون بقائلها، ومن القصائد

ص: 6

الرائعة ما كان يعلق فى «الكعبة» ، وهى التى عرفت باسم

«المعلقات» ، مثل معلقة «امرئ القيس» و «زهير بن أبى سلمى» .

ص: 7

الفصل الثاني

*نشأة الرسول

نسب الرسول صلى الله عليه وسلم:

الرسول هو «محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبدمناف» ،

يتصل نسبه بإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. وكان جده

«عبد المطلب» قد نذر وهو يعيد حفر بئر «زمزم» - بناءً على رؤية

رآها - أنه إن رزقه الله بعشرة من الأولاد ليذبحن أحدهم قربانًا

للآلهة، فلما تحقَّق له ذلك أراد أن يفى بنذره، فضرب الأقداح عند

«الكعبة» كما كانت عادتهم على أولاده جميعًا، ومن يخرج عليه

السهم يكن هو الذى ارتضته الآلهة قربانًا لها، فخرج السهم على

«عبد الله» فعزم «عبد المطلب» على ذبح ابنه.

ولما ذاع خبر «عبد المطلب» مع ابنه فى «مكة» فزع أهلها من هذا

الحدث، وذهبوا إليه يثنونه عن أمره، فلمَّا لم يجدوا منه استجابة

لرجائهم، اقترحوا عليه الذهاب إلى عرَّافة مشهورة؛ لعلهم يجدون

عندها لهذه المشكلة حلاً، فوافقهم على ذلك.

فلما ذهبوا إلى العرَّافة وقصُّوا عليها ماحدث، اقترحت عليهم أن

يضربوا القداح عند آلهتهم، على «عبد الله» وعلى عشرة من الإبل،

فإن خرجت على «عبد الله» زادوا عشرة من الإبل، حتى ترضى الآلهة

وتخرج القداح على الإبل، ففعل ذلك «عبد المطلب» ، حتى وصل العدد

إلى مائة، وعندئذٍ خرج السهم مشيرًا إلى الإبل، ففرح «عبد المطلب» ،

وفرحت معه «مكة» ، ونحر الإبل، وأطعم الناس ابتهاجًا بنجاة ابنه

الحبيب من الذبح.

زواج عبد الله من آمنة بنت وهب:

بعد نجاة «عبد الله بن عبد المطلب» من الذبح زوَّجه من «آمنة ابنة وهب

بن عبد مناف بن زُهرة».

وبعد أيام من العرس خرج عبد الله فى رحلة تجارية إلى «الشام» ،

فخرج مع قافلة قرشية وباع واشترى، وفى عودته مر بيثرب؛ ليزور

أخوال أبيه من «بنى النجار» ، لكنه مرض فى أثناء زيارته، فلما بلغ

«عبد المطلب» خبر مرض ابنه، أرسل على الفور أكبر أبنائه «الحارث

بن عبد المطلب» إلى «يثرب» ليعود بأخيه، لكن «عبد الله» تُوفِّى قبل

ص: 8

أن يصل أخوه إلى «يثرب» ، فحزن «عبدالمطلب» حزنًا شديدًا على

موت ابنه «عبدالله» الذى لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، ولم

يمضِ على زواجه سوى شهور قليلة.

ولما خفَّت موجة الحزن على آمنة، بدأت تحس بجنين يتحرك فى

أحشائها، فتعلَّق به أملُها، عسى أن يعوضها فقد زوجها الحبيب،

وأخبرت «عبدالمطلب» بحملها، ففرح لذلك فرحًا شديدًا، وامتلأ قلبه

أملاً ورجاءً فى أن يأتى هذا الحمل بولد يعوضه عن ابنه الفقيد.

حادثة الفيل:

بعد أن حكم «أبرهة» «اليمن» تملكته الغيرة من الكعبة المشرفة،

وأراد أن يصرف العرب عن زيارتها، فبنى كنيسة ضخمة بالغة

الروعة، تُسمَّى «القُلَّيس» ، وساق أهل «اليمن» إلى التوجه إليها

والتعبد فيها، لكنه لم يفلح فى ذلك، وزاد من غضبه أن أحد الأعراب

عبث بالكنيسة وقذَّرها، فأقسم «أبرهة» ليهدمن الكعبة، ويطأن

«مكة» ، وجهَّز لذلك جيشًا جرارًا، تصاحبه الفيلة، وفى مقدمتها فيل

عظيم، ذو شهرة خاصة عندهم.

وحينما علمت العرب بنية «أبرهة» تصدَّوا له، لكنهم لم يفلحوا فى

وقف زحفه، حتى إذا بلغ جيش «أبرهة» «المغمَّس» - وهو مكان بين

«الطائف» و «مكة» - ساق إليه أموال «تهامة» من «قريش» وغيرها،

وكان فيها مائتا بعير لعبد المطلب بن هاشم، فهمَّت «قريش» وقبائل

العرب بقتال «أبرهة» ، ولكنهم وجدوا أنفسهم لا طاقة لهم بحربه،

فتفرقوا عنه دون قتال.

أرسل «أبرهة» إلى «عبدالمطلب» يُبلغِه أنه لم يأتِ لحربهم، وإنما

جاء لهدم البيت، فإن تركوه وما أراد فلا حاجة له فى دمائهم، فذهب

«عبدالمطلب» إليه، فلما دخل نزل «أبرهة» من سريره، وجلس على

البساط، وأجلس «عبدالمطلب» إلى جانبه، وأكرمه وأجلَّه، فطلب

«عبدالمطلب» منه أن يرد عليه إبله التى أخذوها، فقال «أبرهة»:

أعجبتنى حين رأيتك، وزهدتُ فيك حين كلمتنى، تترك بيتًا هو دينك

ودين آبائك، جئتُ لأهدمه، وتكلمنى فى مائتى بعير أصبتها لك؟

ص: 9

فقال: «عبد المطلب» : إنى رب الإبل (أى صاحبها) وإن للبيت ربًا

سيحميه. قال «أبرهة» : ما كان ليمتنع منى، فرد عليه «عبد المطلب»:

أنت وذاك، ثم رد «أبرهة» الإبل لعبد المطلب.

أمر «عبد المطلب» قريشًا بالخروج من «مكة» ، والاحتماء فى شعاب

الجبال، وتوجه هو إلى باب «الكعبة» ، وتعلَّق به مع نفر من قريش

يدعون الله ويستنصرونه، وانطلق جيش «أبرهة» نحو «مكة» ، وحينما

اقترب منها برك الفيل الأكبر الذى يتقدم الجيش رافضًا الدخول،

وتعبوا فى إجباره على اقتحام «مكة» ، وكانوا عندما يوجهونه إلى

جهة غير «مكة» ينهض ويهرول.

ثم شاء الله أن يهلك «أبرهة» وجيشه، فأرسل عليهم جماعات من

الطير، أخذت ترميهم بحجارة، فقضت عليهم جميعًا، وتساقطوا

كأوراق الشجر الجافة الممزَّقة، كما حكى ذلك القرآن الكريم: [ألم تر

كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم فى تضليل وأرسل

عليهم طيرًا أبابيل ترميهم بحجارةٍ من سجيل فجعلهم كعصف

مأكول]. [سورة الفيل].

مولد النبى صلى الله عليه وسلم:

وفى يوم الاثنين الموافق (12 من شهر ربيع الأول سنة 570م) (عام

الفيل) ولدت «آمنة» وليدها، يتلألأ النور من وجهه الكريم، أكحل

أدعج مختونًا، يرنو ببصره إلى الأفق، ويشير بسبابته إلى السماء،

فهرولت قابلته، وهى «أم عبد الرحمن بن عوف» إلى جده «عبد

المطلب» تزف إليه البشرى، وتنقل إليه ذلك الخبر السعيد، فكاد

الرجل الوقور يطير من الفرحة، وفرح الهاشميون جميعًا، حتى إن عمه

«أبالهب» أعتق الجارية «ثويبة» التى أبلغته الخبر، وكانت أول من

أرضعت خير البشر.

سمَّى «عبد المطلب» حفيده «محمدًا» ، وهو اسم لم يكن مألوفًا أو

منتشرًا فى بلاد العرب، ولما سُئل عن ذلك، قال: رجوت أن يكون

محمودًا فى الأرض وفى السماء.

طفولته وصباه:

فى اليوم السابع لميلاد النبى صلى الله عليه وسلم أمر جده بجزور

فنحرت، وأقام حفلا دعا إليه كبار رجالات «قريش» احتفاءً بهذا

ص: 10

الوليد الكريم، وانتظرت «آمنة» المرضعات اللائى كن يأتين من البادية

إلى «مكة» ، ليأخذن الأطفال إلى ديارهن لإرضاعهم بأجر، وكانت

عادة أشراف «مكة» ألا ترضع الأم أطفالها، مفضلين أن تكون

المرضعة من البادية؛ لتأخذ الطفل معها، حيث يعيش فى جو ملائم

لنموه، من سماء صافية، وشمس مشرقة، وهواء نقى، وكانت هناك

قبائل مشهورة بهذا العمل مثل «بنى سعد» .

وكان محمد من نصيب واحدة منهن تُدعَى «حليمة السعدية» لم تكن

تدرى حين أخذته أنها أسعد المرضعات جميعًا، فقد حلَّت عليها

الخيرات، وتوالت عليها البركات، بفضل هذا الطفل الرضيع، فسمنت

أغنامها العجاف، وزادت ألبانها وبارك الله لها فى كل ما عندها.

مكث «محمد» عند «حليمة» عامين، وهو موضع عطفها ورعايتها، ثم

عادت به إلى أمه، وألحت عليها أن تدعه يعود معها، ليبقى مدة

أخرى، فوافقت «آمنة» وعادت به «حليمة» إلى خيام أهلها.

حادث شق الصدر:

بقى «محمد» عند «حليمة السعدية» بعد عودتها ثلاثة أعوام أخرى،

حدثت له فى آخرها حادثةُ شقِّ الصدر، وملخصها كما ترويها أوثق

مصادر السيرة: أن «محمدًا» كان يلعب أو يرعى الغنم مع أترابه من

الأطفال، خلف مساكن «بنى سعد» فجاءه رجلان عليهما ثياب بيض،

فأخذاه فأضجعاه على الأرض، وشقا صدره وغسلاه، وأخرجا منه

شيئًا، ثم أعاداه كما كان.

ولما رأى الأطفال ما حدث، ذهب واحد منهم إلى «حليمة» فأخبرها

بما رأى، فخرجت فزعة هى وزوجها «أبو كبشة» فوجدا «محمدًا»

ممتقعًا لونه، فسألته «حليمة» عما حدث فأخبرها، فخشيت أن يكون

ما حدث له مسٌ من الجن، وتخوفت عاقبة ذلك على الطفل، فأعادته

إلى أمه، وقصت عليها ماحدث لطفلها.

موت آمنة بنت وهب:

لما بلغ «محمد» السادسة من عمره أخذته أمه فى رحلة إلى «يثرب» ؛

ليزور معها قبر أبيه، ويرى أخوال جده «عبد المطلب» من «بنى

النجار».

وفى طريق العودة مرضت «آمنة» واشتدَّ عليها المرض، وتُوفيت فى

ص: 11

مكان يُسمى «الأبواء» بين «مكة» و «المدينة» . وهكذا شاءت إرادة

الله أن يفقد «محمد» أمه، وهو فى هذه السن الصغيرة، وهو أشد ما

يكون احتياجًا إليها، فتضاعف عليه اليتم، ولكن للهِ فى خلقهِ حِكم لا

يعلمها إلا هو تعالى، فإن كان «محمدٌ» قد حُرِمَ من أبويه. فإن الله

هو الذى سيتولى رعايته وتعليمه.

ضم «عبد المطلب» حفيده «محمدًا» إلى كفالته؛ لأن ابنه «عبد الله» لم

يترك ثروة كبيرة، وكل ما تركه كان خمسة من الإبل، وبعضًا من

الأغنام، و «أم أيمن» (بركة) التى أصبحت حاضنة «محمد» وراعيته

بعد فقد أمه، وقد عوضته كثيرًا عن حنان الأم.

لكن كفالة «عبد المطلب» لمحمد لم تدم طويلا، إذ استمرت عامين بعد

وفاة «آمنة» ، كان خلالهما نعم الأب الحنون، فحزن «محمد» على

فقده حزنًا شديدًا، وبكاه بكاءً مرا وهو يودعه إلى مثواه الأخير.

وبعد وفاة «عبد المطلب» انتقل «محمد» إلى كفالة عمه «أبى

طالب»، ومع أنه لم يكن أكثر أعمامه مالا وأوسعهم ثراءً، بل كان

أكثرهم أولادًا وأثقلهم مؤونة؛ فإنه كان شديد العطف عليه،

والرعاية له، فضمه إلى عياله، وكان يفضله عليهم فى كل شىء.

اشتغاله برعى الغنم:

لم يرض «محمدٌ» أن يكون عالة على عمّه، وبخاصة أنه يرى ضيق

ذات يده، فأراد أن يعمل ليعول نفسه، ويكسب قوته، ويساعد عمه

إن أمكن ذلك، فاشتغل برعى الأغنام، وهو عمل يناسب سنه، وهذه

كانت حرفة الأنبياء من قبله، لقول النبى صلى الله عليه وسلم: «ما

من نبى إلا ورعى الغنم»، قيل: وأنت يا رسول الله؟ قال: «وأنا» .

رحلته الأولى إلى الشام:

وجد «محمد» فى عمه «أبى طالب» عطفًا وحنانًا عوَّضه عن فقد

جدِّه، فكان يؤثره على أولاده، ولا يكاد يردُّ له طلبًا، فلما رغب

«محمد» فى أن يصحب عمه فى رحلة إلى «الشام» ، أجابه إلى ذلك،

رغم أنه كان يخشى عليه من طول الطريق، ومشقة السفر، وهو لم

يزل غلامًا صغيرًا لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره.

ص: 12

انطلق «محمد» مع عمه فى تلك الرحلة إلى «الشام» ، وهناك حدثت له

قصة عجيبة لفتت أنظار القافلة كلها، لكنهم لم يستطيعوا لها

تفسيرًا، وذلك أن راهبًا نصرانيا، يدعى «بحيرا» كان يتعبَّد فى

صومعته فى بادية «الشام» ، على طريق القوافل، ولم يكن يحفل

بأحدٍ يمرُّ عليه، لكنه فى هذه المرة نزل من صومعته لما رأى القافلة

القرشية وذهب إليهم، ودعاهم إلى طعام، وطلب منهم أن يحضروا

جميعًا ولا يتركوا أحدًا يتخلف.

ولما حضر «محمد» مع القوم سأل الراهبُ «أبا طالب» : من يكون منك

هذا الغلام؟ فقال: ابنى، فقال له: ما ينبغى لهذا الغلام أن يكون

أبوه حيا، فقال: ابن أخى، قال: صدقت. ثم رأى خاتم النبوة على

كتف النبى صلى الله عليه وسلم، وقال لأبى طالب: ارجع بابن أخيك

هذا فسوف يكون له شأن عظيم، واحذر عليه اليهود، فلو عرفوا منه

الذى أعرف ليمسنه منهم شر.

وقعت كلمات الراهب من «أبى طالب» موقعًا جميلا، فشكر الراهب

على هذه النصيحة الغالية التى لا تصدر إلا عن رجلٍ صالح، وعاد بابن

أخيه إلى «مكة» .

رحلته الثانية إلى الشام فى تجارة خديجة:

ذهب «محمد» هذه المرة إلى «الشام» فى مهمة تجارية، لا للتنزه أو

الزيارة كما كان فى الأولى، ذلك أن «أبا طالب» رأى ابن أخيه قد

بلغ مرحلة الشباب، ولابد له من أن يتزوَّج ويعول أسرة، ولكن من

أين لمحمد بالمال؟ فقال لابن أخيه بعد أن أحسن له التدبير: «يا ابن

أخى أنا رجل لا مال لى، وقد اشتدَّ الزمانُ علينا، وقد بلغنى أن

خديجة بنت خويلد استأجرت فلانًا ببكرين (أى جملين صغيرين) ولسنا

نرضى لك بمثل ما أعطته فهل لك أن أكلمها؟» قال «محمد» : «ما

أحببتَ ياعمى».

ويكشف هذا الحوار القصير الظروف المالية الصعبة التى كان يمر بها

«أبو طالب» ، لكن ذلك لم يجعله يضيق بابن أخيه، وإنما خاطبه فى

رفق وشاوره قبل أن يفاتحه فى أمر عمله مع «خديجة» ، وفى

الوقت نفسه نلمس أن «محمدًا» صلى الله عليه وسلم كان يشعر بما

ص: 13

يعانيه عمه، فلم يملك إلا أن يقول له:«ما أحببتَ يا عمى» .

توجه «أبو طالب» إلى «خديجة» وقال لها: «هل لك يا «خديجة» أن

تستأجرى «محمدًا» ؟ فقد بلغنا أنك استأجرت فلانًا ببكرين، ولسنا

نرضى لمحمد دون أربعة». فأجابت «خديجة» بلهجة تحمل الوداد

والاحترام للشيخ الوقور: «لو سألت ذلك لبعيد بغيض فعلنا، فكيف

وقد سألتَه لقريب حبيب» (1).

خرج «محمد» فى تجارة «خديجة» يصحبه غلامها «ميسرة» وكان

صاحب خبرة فى التجارة ومعرفة بأصولها، أثيرًا لديها، تأتمنه على

مالها وتجارتها، وكانت هذه الرحلة ناجحة وموفقة كل التوفيق،

وربحت أكثر من أية مرة سابقة.

وفى طريق العودة اقترح «ميسرة» على «محمد» أن يسبقه إلى

«مكة» ؛ ليكون أول من يبشر «خديجة» بعودتهما سالمين وبنجاح

تجارتها، وعندما بلغ «خديجة» الأمر سُرَّت أيما سرور، وأعجبت بما

قصَّه «ميسرة» على سمعها من شأن «محمد» ، من أمانة، ورقة

شمائل، وسمو خلق، وازدادت إعجابًا لما سمعت «محمدًا» ، وما لبث

هذا الإعجاب أن تحول إلى تقدير ورغبة فى الزواج.

مشاركة محمد فى الحياة العامة:

شارك «محمد» صلى الله عليه وسلم قومه فى حياتهم العامة قبل

البعثة، فاشترك فى «حرب الفِجَار» ، وهو فى نحو الخامسة عشرة

من عمره، وهى حرب وقعت أحداثها فى الأشهر الحرم، ولذا سميت

بحرب الفجار، وسببها أن «النعمان بن المنذر» أمير «الحيرة» اعتاد

أن يرسل كل موسم قافلة تجارية إلى سوق «عكاظ» بالقرب من

«مكة» المكرمة، وكان يستأجرُ لها حراسًا من القبائل القريبة من

«مكة» ، فعرض رجلان أنفسهما لهذه المهمة، أحدهما من «هوازن»

يسمى «عُروة» ، والآخر من «كنانة» يسمى «البَرَّاض» ، فاختار

«النعمان» «عروة» ، فقتله «البراض» ، فوقع القتال بين قبيلتيهما

لهذا السبب، واستمر أربع سنوات وانتهى بالصلح بين المتحاربين،

وقد وصف النبى صلى الله عليه وسلم مشاركته فى هذه الحرب

بقوله: «كنت أنبل على أعمامى» أى يرد إليهم نبل عدوهم إذا

رموهم بها.

ص: 14

حلف الفضول:

وكما شارك «محمد» قومه فى الحرب فقد شاركهم فى السلم؛ حيث

شهد «حلف الفضول» ، الذى تكوَّن عقب حرب الفجار، وكان أول من

دعا إليه عمه «الزبير بن عبد المطلب» ؛ لنصرة المظلوم أيا كان، من

أهل «مكة» أو من غيرهم، واجتمعت بعض بطون «قريش»: «بنو

هاشم» و «بنو زهرة» ، و «بنو أسد» ، و «بنو تيم» فى دار «عبد الله بن

جدعان»، وتعاهدوا ليكونن مع المظلوم حتى يُردَّ إليه حقه. ويصف

النبى مشاركته فى هذا الحلف بقوله: «لقد شهدت مع عمومتى حلفًا

فى دار «عبد الله بن جدعان» ما أحب أن لى به حمر النعم، ولو

أدعى به فى الإسلام لأجبت».

بناء الكعبة:

نزل سيل على «الكعبة» قبل بعثة النبى بحوالى خمسة أعوام، هدَّم

جدرانها، فعزمت «قريش» على إعادة بنائها، وقسَّمت العمل بين

بطونها، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يعمل بنفسه معهم،

ويحمل الحجارة، حتى إذا ارتفع البناء نحو قامة الرجل اختلفوا فيمن

يضع «الحجر الأسود» فىمكانه؛ كل قبيلة تريد أن تحوز هذا

الشرف دون غيرها، واشتد الخلاف بينهم حتى تداعوا إلى الحرب،

ففزع «أبو أمية بن المغيرة» وخشى عاقبة ذلك، فأشار عليهم بأن

يحتكموا إلى أول رجل يدخل عليهم، فوافقوا على ذلك.

كان النبى صلى الله عليه وسلم أول داخل عليهم، فاستبشروا

خيرًا، وقالوا: هذا الأمين رضينا به حكمًا، فطلب منهم أن يبسطوا

ثوبًا، ثم وضع الحجر فيه، وطلب من زعماء القبائل أن يمسك كل منهم

بطرف، ليتمكَّنوا من رفع الحجر إلى موضعه، ثم أخذه النبى

صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة، ووضعه فى مكانه.

زواج محمد من خديجة:

كانت «خديجة بنت خويلد الأسدية» امرأة شريفة، ذات حسب وجمال ومال

تزوجت مرتين من قبل، وعزمت بعد موت زوجها الثانى ألاتتزوج مرة

أخرى، وأن تتفرغ لإدارة ثروتها، وتنمية تجارتها. ولكنها حين اتصلت

بمحمد صلى الله عليه وسلم وعمل فى تجارتها، ورأت فيه من خصال

الخير أعجبت به ورغبت فى الزواج منه، وأسرَّت بذلك إلى إحدى

ص: 15

صديقاتها المقرَّبات، فذهبت إلى «محمد» وسألته ما يمنعك أن

تتزوج؟ قال ما بيدى ما أتزوج به. قالت فإن كُفِيتَ ذلك

ودُعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة، ألا تجيب؟ قال فمن هى؟

قالت خديجة، فقال كيف لى بذلك؟ قالت علىَّ ذلك، فوافق علىالفور،

وعادت «نفيسة» إلى «خديجة» ، تزفُّ إليها تلك البشرى فسُرَّت سرورًا عظيمًا.

وذهب «محمد» مع أعمامه إلى بيت «خديجة» لإعلان الخطبة، وألقى

«أبو طالب» خطبة قصيرة أثنى فيها على ابن أخيه، وأنه لا يعدله

شاب فى «قريش» ، فى خلقه وصدقه وأمانته، وإن كان قليل المال،

فالمال عرض زائل، ثم وجَّه كلامه إلى أهل «خديجة» فقال: «إن

محمدًا له فى «خديجة» رغبة، ولها فيه مثل ذلك»، فوافقوا على

الخطبة، وأقاموا وليمة بهذه المناسبة السعيدة، وقدَّم

«محمد» لخديجة صداقًا قدره عشرون بكرة، ثم تم الزواج،

وانتقل «محمد» إلى بيت «خديجة» حيث عاش معها.

وهكذا شاءت الأقدار لهذه السيدة الكريمة أن تقترن بسيد الخلق

أجمعين، وأن تصبح أول أُم للمؤمنين، وأن تكون خير عون له،

فكانت أول من آمن به وكانت تواسيه بمالها، كما كانت حياته معها

التى دامت نحو خمسة وعشرين عامًا تملؤها السعادة، ورزقه الله

منها بستة أولاد؛ اثنين من الذكور هما: «القاسم» و «عبد الله» ، وقد

ماتا قبل البعثة، وأربع بنات، هن:«زينب» وقد تزوجها ابن خالتها

«أبو العاص بن الربيع» ، و «رقية» و «أم كلثوم» وقد

تزوجهما «عثمان بن عفان» ، واحدة بعد الأخرى، و «فاطمة»

وتزوجت بعلى بن أبى طالب.

من الزواج إلى البعثة:

كان عمر النبى صلى الله عليه وسلم حين تزوج السيدة «خديجة» خمسًا وعشرين سنة،

وكان عمره حين بعثه الله بالرسالة على رأس الأربعين، فماذا كان

يعمل فى المدة التى بين الزواج والبعثة؟

إن مصادر السيرة النبوية لم تمدنا بمعلومات كثيرة عن هذه الفترة من

حياته، سوى أنه كان دائم التأمل فى الكون الفسيح، والتفكير فى

ص: 16

القوة التى أبدعته وأحكمت صنعه، وأنه رفض ما عليه قومه من

عبادة الأصنام، وما غرقوا فيه من الفساد والمجون، فلم يسجد لصنم،

ولم يحضر مجلس لهو وعبث، بل كان يعتكف شهرًا من كل سنة فى

غار «حراء» ، يتعبد فيه، ويجد فيه فرصة مناسبة للتفكر والتأمل،

بعيدًا عن صخب «مكة» وضجيجها. وكان شهره المفضل الذى يقضيه

فى الغار هو شهر رمضان المبارك.

ويبدو أنه فى تأمله هذا كان ينشد مخرجًا للعالم مما هو فيه من شرك

ووثنية؛ لأن ما بقى من الشرائع القديمة لم يكن كافيًا ليريح

نفسه المتشوقة إلى الحق المجرد والحقيقة المطلقة، وظل كذلك حتى

أتاه «جبريل» عليه السلام بالوحى.

ص: 17

الفصل الثالث

*بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم

بدء الوحى:

ظل «محمد» صلى الله عليه وسلم يتردد على غار «حراء» حتى

شارف الأربعين من عمره، وكان أول ما بدئ به من الوحى الرؤيا

الصادقة، كما جاء فى حديث «عائشة» ، فكان لا يرى رؤيا فى نومه

إلا جاءت كفلق الصبح، وزادته رؤاه الصادقة أملا فى قرب الوصول

إلى الحقيقة.

وبينما هو فى غار «حراء» غارق فى تأمله وتدبره؛ إذ جاءه

«جبريل» عليه السلام فى ليلة من ليالى رمضان، فقال:«اقرأ» ،

قال: «ما أنا بقارئ» ، قال: «فأخذنى فغطنى، حتى بلغ منى

الجهد، ثم أرسلنى، فقال:«اقرأ» ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى

فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال: اقرأ،

فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى الثالثة، ثم أرسلنى فقال

(اقرأ باسم ربك الذى خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم)

(سورة العلق: 1 - 3) فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده، فدخل على

«خديجة بنت خويلد» -رضى الله عنها - فقال: «زملونى زملونى»

فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: «لقد

خشيت على نفسى»، فقالت «خديجة»: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا،

إنك لتصلُ الرحم، وتحمل الكل، وتَكسِبُ المعدوم، وتَقرِى الضيف،

وتعين على نوائب الحق». [صحيح البخارى، كتاب بدء الوحى].

طمأنت «خديجة» «محمدًا» بتلك الكلمات الصادقة والعبارات المواسية،

وذهبت به إلى ابن عمها «ورقة بن نوفل» أحد الحنفاء العرب، وكان

قد اعتنق النصرانية، فقالت له: «يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك،

فقال له «ورقة» : يا ابن أخى ماذا رأيت، فأخبره رسول الله - صلى

الله عليه وسلم - خبر ما رأى، فقال له «ورقة»: هذا الناموس (جبريل

أمين الوحى) الذى نزله الله على «موسى» ، ياليتنى فيها جَذَعًا،

ليتنى أكون حيا، إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله - صلى الله عليه

وسلم -: «أو مخرجى هم؟» قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئتَ به

إلا عُودى، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا، ثم لم يلبث

ص: 18

«ورقة» أن تُوفِّى وفتر الوحى».

توقف الوحى بعد ذلك فترة من الزمن حتى شق على «محمد» فأحزنه

ذلك، فجاءه «جبريل» بسورة «الضحى» ، يقسم له ربه - وهو الذى

أكرمه بما أكرمه به - ما ودعه وما قلاه.

المسلمون الأوائل:

أخذ النبى صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام سرا، فكانت

«خديجة بنت خويلد» - رضى الله عنها - أول الناس إسلامًا وإيمانًا

بالله ورسوله، ثم تلاها «على بن أبى طالب» -رضى الله عنه - وكان

فى نحو العاشرة من عمره، ثم «زيد بن حارثة» مولى رسول الله

صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم «أبو بكر بن أبى قحافة» ، وكان

رجلا مألفًا لقومه، محببًا سهلا، فأسلم على يديه طائفة من كبار

الصحابة، أمثال:«عثمان بن عفان» ، و «الزبير بن العوام» ،

و «عبد الرحمن بن عوف» ، و «سعد بن أبى وقاص» ، و «طلحة بن

عبيد الله».

ثم أسلمت بعد هؤلاء طائفة أخرى، عد منهم «ابن إسحاق» نحو

خمسة عشر فردًا ما بين رجل وامرأة، هم:«أبو عبيدة بن الجراح» ،

و «أبو سلمة ابن عبد الأسد» و «عثمان بن مظعون» ، وأخواه «قدامة»

و «عبد الله» ، و «عُبيدة بن الحارث ابن المطلب» و «سعيد بن زيد بن

عمرو بن نفيل»، وامرأته «فاطمة بنت الخطاب» ، و «أسماء»

و «عائشة» بنتا «أبى بكر» ، و «خباب بن الأرت» ، و «عمير بن أبى

وقاص»، و «عبد الله بن مسعود» ، و «مسعود ابن القارى» - رضى الله

عنهم - وكان ذلك فى مرحلة الدعوة السرية.

الدعوة السرية:

كان النبى صلى الله عليه وسلم يعلم تمام العلم عناد «قريش»

وكبرياءها وإصرارها على التمسك بالقديم، واعتزازها بآبائها

وأجدادها وعبادتها للأصنام؛ لذا فلن تُسلِّم بسهولة، أو تذعن

لدعوته، بل ستقاومه حتى آخر سهم فى جعبتها، لأنها اعتقدت أن

الإسلام يهدد مصالحها ويقضى على سيطرتها على «مكة» وما

حولها، ولو علمت أن الإسلام سيجعلها سيدة العالم ما قاومته لحظة

واحدة ولرحَّبت بدعوته.

أدرك النبى صلى الله عليه وسلم ذلك، فقرَّر أن تكون دعوته لدينه

ص: 19

سرا فى بادئ الأمر، وبدأ فى دعوة أصدقائه وأقرب الناس إليه،

ومن يأنس فيهم خيرًا واستعدادًا لقبول الحق والهُدى، فآمن به - إلى

جانب من ذكرنا - عدد من رجالات «قريش» ونسائها، وطائفة من

العبيد والفقراء والضعفاء الذين رأوا فى الدين الجديد الخلاص مما هم

فيه من شقاء وبؤس، مثل:«بلال بن رباح» ، و «صهيب الرومى» ،

و «آل ياسر» ، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يجتمع بمن أسلم

سرا فى دار «الأرقم بن أبى الأرقم» يتلو عليهم آيات القرآن الكريم،

ويعلمهم شرائع الإسلام، واستمرت هذه الدعوة السرية نحو ثلاث

سنوات، ازداد فيها عدد المسلمين زيادة يسيرة.

ويبدو أن خبر الدعوة لم يعد سرا بصورة مطلقة بالنسبة إلى

«قريش» ، فقد تسرَّب إليها، لكنها لم تعبأ بهذا فى البداية، ولعلها

كانت واثقة بقوتها وقدرتها على مقاومة هذه الدعوة من ناحية،

وواثقة بأن حملها على ترك دين آبائها وأجدادها أمر صعب من ناحية

أخرى.

الجهر بالدعوة وموقف قريش:

أمر الله تعالى نبيه «محمدًا» صلى الله عليه وسلم أن يجهر بالدعوة

بعد مضى ثلاث سنوات من الدعوة سرا، فقال {فاصدع بما تؤمر

وأعرض عن المشركين} [الحجر: 94].

وقال تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من

المؤمنين فإن عصوك فقل إنى برىء مما تعملون}.

[الشعراء: 214 - 216].

وامتثالا لهذا الأمر الإلهى بدأ النبى بدعوة الأقربين من أهله وعشيرته

إلى الإسلام، وصنع لهم طعامًا فى بيته، وبعد أن تناولوه، حدَّثهم

قائلا: «ما أعلم إنسانًا فى العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به،

فقد جئتكم بخيرى الدنيا والآخرة، وقد أمرنى ربى أن أدعوكم إليه،

فأيكم يؤازرنى على هذا الأمر؟» فأعرضوا عنه جميعًا، وهمُّوا بتركه

عدا «على بن أبى طالب» ، وانصرفوا دون أن يستجيبوا لدعوة

النبى، غير أنهم لم يبادئوه بأذى فى أول الأمر، غير أن عداوتهم له

بدأت حين شرع فى تسفيه آلهتهم.

الجهاد فى العهد المكى:

ص: 20

قد يفهم بعض الناس أن المقصود بالجهاد الحرب فقط، لكنه يعنى

كثيرًا من أنواع الجهاد، فالصبر على الأذى والمكاره لا يقل أهمية

عن الجهاد بالسلاح، وقد تحمَّل النبى صلى الله عليه وسلم هو

وأصحابه صنوفًا من الأذى صبَّها عليهم المشركون فى الفترة المكية،

فكانوا يسبونه ويتعرضون له، ويرجمونه بالحجارة، ويلقون عليه

القاذورات، وأشهر من صنع ذلك معه:«عقبة بن أبى معيط» ، و «أبو

جهل» الذى حاول قتل النبى صلى الله عليه وسلم عند «الكعبة» .

وكان موقفهم هذا من النبى صلى الله عليه وسلم عنادًا له وحسدًا

من عند أنفسهم، لأنهم كانوا يعرفون أن دينه حق، وأن الذى يأتيه

وحى من السماء، ولكن حال الحسد بينهم وبين اتباعه وتصديقه.

وصبَّ المشركون جام غضبهم على المستضعفين من المسلمين،

وأذاقوهم ألوانًا من العذاب، مثل:«بلال بن رباح» الذى لم ينقذه من

العذاب إلا «أبو بكر الصديق» الذى اشتراه من سيده «أمية بن خلف»

وأعتقه، و «آل ياسر» وكانوا يُعذَّبون إذا حميت الظهيرة برمضاء

«مكة» ، وكان الرسول يمر بهم ولا يملك أن يمنع عنهم العذاب،

فيقول لهم: «صبرًا آل ياسر فموعدكم الجنة» ، فصبروا واحتملوا ولم

يتخلوا عن دينهم، حتى إن «أم عمار» طعنها «أبو جهل» بحربة

فقتلها وهى على إسلامها.

الهجرة إلى الحبشة:

اشتد الأذى والتعذيب بأصحاب النبى صلى الله عليه وسلم دون أن

يقدر على الدفاع عنهم، وكان هو فى منعة من أهله إلى حد ما، يقف

بجانبه «أبو طالب» يدفع عنه الأذى، ففكَّر لهم فى مخرج مما

يلاقونه من التعذيب، فقال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن

بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد، وهى أرض صدق، حتى يجعل الله لكم

فرجًا مما أنتم فيه» فخرج بعض المسلمين إلى أرض «الحبشة» مخافة

الفتنة، وفرُّوا إلى الله بدينهم، وكانت هجرتهم أول هجرة فى

الإسلام، وبلغ عددهم عشرة رجال وأربع نسوة، منهم: «عثمان بن

عفان» وزوجته «رُقية» بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 21

ثم خرجت مجموعة أخرى من المسلمين إلى «الحبشة» ، كان عددها

أكبر من الأولى؛ إذ بلغوا نحوًا من ثمانين رجلا وامرأة، وظلوا مدة

طويلة فى «الحبشة» ، بعد أن وجدوا الأمن والحماية من ملكها،

وعادت آخر مجموعة من هناك مع «جعفر» فى أول السنة السابعة

من الهجرة.

إسلام عمر بن الخطاب:

بعد هجرة المسلمين الأولى إلى «الحبشة» أسلم «عمر بن الخطاب» ،

وكان إسلامه حدثًا كبيرًا فى «مكة» ، ونصرًا عظيمًا للإسلام؛ إذ كان

من الشخصيات القوية فى «مكة» ، ومن أشد أعداء المسلمين، حتى

إنه أسلم فى الوقت الذى عزم فيه على الذهاب لقتل الرسول - صلى

الله عليه وسلم -، فأراد الله به الخير، واستجاب الله لدعوة النبى الذى

كان دائمًا يردد: «اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين» ، «عمر بن

الخطاب»، و «عمرو بن هشام» (أبى جهل)!

وبإسلام «عمر» قَوِى موقف المسلمين كما اشتد من قبل بإسلام

«حمزة بن عبد المطلب» عمِّ النبى صلى الله عليه وسلم،وأهاب

بالمسلمين أن يصلوا عند «الكعبة» تحت حمايته، فغلبت «قريش»

على أمرها، لمعرفتها بقوة شكيمة «عمر» ومضاء عزيمته، فلم

تتعرَّض لهم، وبدأت تلجأ إلى أسلوب آخر فى مواجهة الدعوة، وهو

أسلوب المقاطعة.

أسلوب المقاطعة:

استعملت «قريش» مع النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه أساليب

العنف والتعذيب والاضطهاد، فلم تنجح فى ردهم عن دعوتهم، فلجأت

إلى أسلوب الترغيب والمساومة، فعرضت على النبى - صلى الله عليه

وسلم - الملك والسيادة والمال، فرفض عرضهم، لأنه لم يكن طالب ملك

أو جاه، بل رسولا جاء من الله برسالة سماوية، تحمل الخير والعدل،

ولابد من تبليغها، ثم وسَّطوا «أباطالب» ليكف «محمدًا» عن تسفيه

آلهتهم فى مقابل ما يريد من ملك أو جاه، فكلمه قائلا: «إن القوم

يطلبون منك أن تكف عن سب آلهتهم، فأبق علىَّ وعلى نفسك»

فأجابه النبى بكلمات قليلة، لكنها قاطعة وحاسمة: «والله يا عم لو

وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر

ص: 22

ما تركته حتى يظهره الله أو أهلِكَ دونه» سمع «أبو طالب» هذا الرد

الحاسم، وأدرك إصرار النبى صلى الله عليه وسلم على السير فى

طريق الدعوة مهما تكن الصعاب والمشاق، فقال له فى رقةٍ بالغةٍ:

«يا ابن أخى امضِ فيما أنت فيه، فوالله لن أسلمك لشىء تكرهه

أبدًا».

ولما لم تنجح كل هذه الوسائل فى ثنى النبى صلى الله عليه وسلم

عن تبليغ دعوته، ورد أصحابه عن دينهم الجديد، لجأت قريش إلى

أسلوب المقاطعة، ولم يكن هذا مألوفًا فى بلاد العرب، ولعله لم يكن

مألوفًا كذلك فى أى مكان فى العالم آنذاك، ففرضت حصارًا على

«بنى هاشم» و «بنى المطلب» جميعًا، ممن يقفون مع النبى - صلى

الله عليه وسلم - ويذودون عنه، سواء من أسلم منهم أو لم يسلم،

وقررت ألا تبيع لهم أو تشترى منهم، وألا تزوجهم أو تتزوج منهم،

وألا تتزاور معهم، عقابًا لهم على مساندتهم للنبى - صلى الله عليه

وسلم -،وكتبوا بتلك المقاطعة وثيقة فى صحيفة، علقوها فى

«الكعبة» ، ليكون لها احترام والتزام.

واستمر هذا الحصار القاسى المجرد من الإنسانية نحو ثلاث سنوات،

عانى منه «بنو هاشم» و «بنو المطلب» أشدَّ المعاناة، وهم صابرون

صامدون، لم يتخلَّ أحدٌ منهم عن النبى صلى الله عليه وسلم، حتى

تحركت النخوة والشهامة فى نفوس بعض رجالات «قريش» ، كزهير بن

أبى أمية المخزومى، و «المطعم بن عدى» ، و «أبى البُخترى بن

هشام»، لما رأوا ما يعانيه «بنوهاشم» و «بنو المطلب» من هذه

المقاطعة الظالمة، فسعوا فى نقضها وإنهائها، وأقسموا على

تمزيق الصحيفة، وكان لهم ما أرادوا، فخرج النبى وأصحابه من

شعبهم الذى كانوا محاصرين فيه؛ ليستأنف رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - دعوته إلى دين الله.

عام الحزن:

استأنف النبى صلى الله عليه وسلم دعوته بعد انتهاء المقاطعة،

واستبشر المسلمون خيرًا بعهد جديد يمارسون فيه حياتهم الطبيعية،

لكن وقع للنبى حدثان جليلان فى عام واحد وهو العام العاشر من

ص: 23

البعثة، فقد مات كل من عمه «أبى طالب» ، وزوجته «خديجة» ، وكانا

نعم العون له والمساندة فى تبليغ رسالته، وعلى الرغم من ذلك فإن

النبى صلى الله عليه وسلم لم يضعف ولم تهن له عزيمة؛ ومضى

واثقًا بنصر الله يبلغ رسالة الله إلى العالمين.

رحلته إلى الطائف:

أراد النبى صلى الله عليه وسلم أن يخرج بالدعوة من نطاق «مكة» ،

لعله يجد نصيرًا أو معينًا بعد المضايقات الشديدة التى لقيها من

«قريش» وبخاصة بعد موت «خديجة» و «أبى طالب» ، فقرر الذهاب

إلى «الطائف» ؛ لعرض دعوته على «ثقيف» رجاء إيمانها به

وبرسالته، لكنهم رفضوا ما عرضه عليهم، ولم يكتفوا بذلك بل سبُّوه

وأهانوه، وسلطوا عليه سفهاءهم وصبيانهم؛ ليضربوه بالحجارة،

فتأثر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ إحساسه بالألم

مداه، فجأر بالشكوى إلى الله قائلا: «اللهم إليك أشكو ضعف

قوتى، وقلة حيلتى، وهوانى على الناس، ياأرحم الراحمين، أنت رب

المستضعفين، وأنت ربى، إلى من تكلنى؟ إلى بعيد يتجهمنى، أم

إلى عدو ملكته أمرى؟ إن لم يكن بك على غضب فلا أبالى، ولكن

عافيتك هى أوسع لى، أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات،

وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بى غضبك، أو يحل على

سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك».

وبعد أن قال الرسول هذا الكلام المؤثر جاءه «جبريل» ومعه ملك

الجبال عليهما السلام، فقال له ملك الجبال: «إن شئتَ أن أُطبق عليهم

الأخشبين» (2)، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن

يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئًا، ودعا لهم قائلا:

«اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون» .

الإسراء والمعراج:

فى هذا الجو الذى بدا قاتمًا وحزينًا بعد موت «أبى طالب» و «خديجة

بنت خويلد»، وما لقيه النبى من أهل «الطائف» والقبائل من عنت

وإيذاء، أراد الله تعالى أن يسرِّى عنه صلى الله عليه وسلم وأن

ص: 24

يعلمه ويطمئنه، فأسرى به إلى المسجد الأقصى وعرج به إلى

السماء. وموجز هذه الحادثة كما ترويها كتب الحديث والسيرة: أن

النبى صلى الله عليه وسلم كان فى بيت «أم هانئ بنت أبى طالب»

فجاءه «جبريل» ومعه «البراق» (وهى دابة أصغر من البغل وأكبر

من الحمار) وأخذه إلى «بيت المقدس» فى «فلسطين» ، حيث وجد فى

استقباله جمعًا من الأنبياء، فيهم «إبراهيم» و «موسى» و «عيسى» -

عليهم السلام جميعًا، فصلى بهم إمامًا ركعتين، ثم عرج إلى

السماوات العلى، حيث التقى بعدد من الأنبياء، وتحدث إليهم وحيوه

وهنئوه، ثم ارتقى فوق السماوات العلى لمناجاة ربه، وتلك مكانة لم

يبلغها نبى ولا رسول ولا ملك من الملائكة المقربين، وفى هذا اللقاء

فرضت الصلوات الخمس، وقد أراه الله من آياته الكبرى، فرأى الجنة

وما أعده الله من نعيم للمتقين، ورأى النار وما أعده الله من عذاب

للكافرين. ثم عاد إلى «مكة» فى الليلة نفسها، مزودًا بهذه الطاقة

الروحية الهائلة.

أبو لهب يحذر القبائل من دعوة النبى:

على الرغم مما تعرض له النبى صلى الله عليه وسلم من إساءات

أهل «الطائف» ، فإنه لم ييأس من دعوة الناس إلى الإسلام، فكان

يتصدى لوفود القبائل التى تأتى إلى «مكة» فى موسم الحج،

يعرض عليهم رسالة الإسلام، ومن الوفود التى التقى بها: وفد

«كندة» ، و «بنى حنيفة» و «بنى عامر بن صعصعة» ، غير أنه لم يجد

منهم مجيبًا، خاصة أن عمه «أبا لهب» كان يتتبع خطى رسول الله

صلى الله عليه وسلم، فإذا رآه جلس إلى وفد قبيلة من قبائل

العرب؛ جاءهم قائلا لهم: لا تصدقوه إنه كذَّاب ولا تطيعوه ولا تسمعوا

له. واستمر هذا الوضع حتى أذن الله بالفرج من ناحية «يثرب» .

الهجرة إلى المدينة:

لقد سبقت الهجرة إلى «المدينة» عدة أحداث كانت بمثابة مقدمة لها،

ومن بينها:

بيعة العقبة الأولى:

بدأت بشائر النصر تأتى ريحها من «يثرب» ، فقد التقى النبى - صلى

ص: 25

الله عليه وسلم - أثناء عرض دعوته على القبائل بوفد من أهل

«يثرب» فى موسم الحج، وعرض عليهم الإسلام، فلم يرفضوا ولم

يسلموا، عدا واحدًا منهم هو «إياس بن معاذ» فقد أسلم، لكنهم حين

عادوا إلى قومهم تحدثوا بما سمعوا من النبى، فنبهوهم إلى أنه من

المعقول أن يكون «محمد» هو النبى الذى كانت اليهود تحدثهم عنه

دائمًا، وكان فى «يثرب» كثير من قبائل اليهود (بنو قينقاع وبنو

النضير وبنوقريظة)، الذين علموا من كتبهم المقدسة أن هناك نبيًا قد

قرب زمانه وهو آخر الأنبياء.

وهذه المعلومات التى عرفها أهل «يثرب» من «الأوس» و «الخزرج»

كانت مفيدة لهم وللإسلام، فقد ذهب وفد منهم فى الموسم التالى -

العام الثانى عشر من البعثة - والتقوا برسول الله - صلى الله عليه

وسلم - وهم على استعداد للاستجابة له والتجاوب معه، فحدَّثهم عن

الإسلام فآمنوا وبايعوه عند العقبة فى «مِنى» «البيعة الأولى» ،

على أن يؤمنوا بالله وحده، ولا يشركوا به شيئًا، وألا يسرقوا، وألا

يزنوا، وألا يعصوا الله فى معروف. وأرسل النبى معهم عند عودتهم

إلى «يثرب» «مصعب بن عمير» ، يعلمهم القرآن ويفقههم فى الدين.

وكان هذا اللقاء بداية النصر وفاتحة الخير، فإذا كانت «مكة» قد

تحجرت عقولها وصمت آذانها عن سماع صوت الحق، فإن «يثرب»

تفتح له قلوبها وعقولها وآذانها.

بيعة العقبة الثانية:

نجح «مصعب بن عمير» فيما كُلِّف به نجاحًا عظيمًا، فازداد عدد

المسلمين فى «يثرب» على يديه زيادة كبيرة، ولم يبق بيت فيها إلا

ولذكر الإسلام والنبى فيه نصيب، وعاد «مصعب» فى الموسم التالى

(العام الثالث عشر من البعثة)، ليزف إلى النبى صلى الله عليه وسلم

بشرى نجاحه، وإقبال أهل «يثرب» على الإسلام، وأن وفدًا كبيرًا

منهم سوف يأتى إلى «مكة» لمقابلته، فقدم ثلاثة وسبعون رجلا

وامرأتان لهذا الغرض، وتم اللقاء سرا عند العقبة فى «منى» ، وسط

أيام التشريق (الثلاثة الأيام الأولى من عيد الأضحى)، وحضر اللقاء

ص: 26

«العباس بن عبد المطلب» ، وكان لا يزال مشركًا، لكنه رغب فى حضور

هذا الاجتماع؛ ليطمئن على ابن أخيه.

وفى هذا اللقاء بايع الحاضرون النبى صلى الله عليه وسلم «بيعة

العقبة الثانية» أو «بيعة القتال» ، لأن أهم ما تضمنته التزام أهل

«يثرب» بالدفاع عن النبى عندما يهاجر إليهم، ومنعه مما يمنعون منه

أنفسهم ونساءهم وأبناءهم. وبعد أن تمت البيعة اتفِقَ على ترتيبات

هجرة أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم إلى «يثرب» ، وما يلتزمه

أهل «يثرب» تجاههم من توفير المأوى والمعاش.

وقد أثبت أهل «يثرب» أنهم أهل كرم وشهامة وتضحية، فقدموا

لإخوانهم المهاجرين كل ما يحتاجون إليه، بل وآثروهم على أنفسهم.

المؤامرة الكبرى:

بدأ أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم من أهل «مكة» يهاجرون

إلى موطنهم الجديد، أفرادًا وجماعات متخفين عن أعين «قريش» ،

وبقى الرسول فى «مكة» ، ووقعت «قريش» فى حيرة شديدة؛ لأنها

لم تكن تعرف ما هو صانع؛ هل سيبقى فى «مكة» ، أم سيلحق

بأصحابه إلى «يثرب» ؟ وفى هذا خطر شديد عليهم، لأنه سيجد فى

«يثرب» المنعة والحماية والاستعداد للدفاع عنه، مما قد يجرُّهم إلى

الدخول فى عداء سافر مع «يثرب» .

وأمام هذه التطورات المتلاحقة قررت «قريش» أن تحزم أمرها سريعًا

قبل أن يهاجر النبى ويفلت من بين يديها، فعقدوا اجتماعًا فى دار

الندوة لم يحضره أحد من «بنى هاشم» سوى «أبى لهب» عم النبى،

وبحثوا فيه الأمر، وعُرضَت ثلاثة اقتراحات لمواجهة الموقف، الأول:

أن يضعوا «محمدًا» فى السجن، والثانى: أن ينفوه من «مكة» ،

والثالث: أن يقتلوه، وحاز الاقتراح الثالث الموافقة على تنفيذه،

وهذه هى المؤامرة التى عبَّر عنها القرآن الكريم، فى قوله تعالى:

{وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون

ويمكر الله والله خير الماكرين}. [الأنفال: 30].

وبعد أن اتفقوا على قتله، ناقشوا كيفية تنفيذ ذلك، فرأوا أن

ص: 27

تشترك جميع القبائل فى قتله، بأن تختار كل منها فتى شابا قويا

من بين أبنائها، وتعطيه سيفًا بتارًا، وأن يرابط هؤلاء جميعًا أمام

بيت النبى صلى الله عليه وسلم ليلا، حتى إذا خرج عليهم فى

الصباح ضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرَّق دمه فى القبائل، ولا يقوى

«بنو هاشم» على محاربة أهل مكة جميعًا.

علىٌّ فى فراش النبى صلى الله عليه وسلم:

علم رسول الله بما بيتته له «قريش» ، فأعد العدة للهجرة، وأسر بذلك

إلى صاحبه «أبى بكر الصديق» الذى كان ينتظر هذا بلهفة وشوق،

فأعد لذلك الأمر عدته من قبل، للقيام بأعظم رحلة فى تاريخ البشرية.

دعا النبى صلى الله عليه وسلم «على بن أبى طالب» ، لينام فى

فراشه فى تلك الليلة، ليضلل «قريشًا» من جهة، ومن جهة أخرى

لكى يتخلف فى «مكة» ، ليؤدى للناس ودائعهم التى كانت عند

الرسول، وخرج النبى صلى الله عليه وسلم فى عماية الصبح،

والمتآمرون واقفون على بابه، ينتظرون لحظة خروجه، للانقضاض

عليه، لكن الله أعمى أبصارهم، وأخذ النبى صلى الله عليه وسلم

حفنة من الحصى وقذفها فى وجوههم، وقال: شاهت الوجوه»، ثم

تلا قوله تعالى: {وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا

فأغشيناهم فهم لا يبصرون}. [يس: 9].

قصد النبى صلى الله عليه وسلم بيت «أبى بكر» الذى كان فى

انتظاره ومعه الرواحل، والزاد، وكل ما يلزم الرحلة المباركة، وكان

دليلهم فى رحلتهم «عبد الله بن أريقط» .

النبى فى غار ثور:

انطلقت الرحلة المباركة قاصدة غار «ثور» فى جنوب «مكة» ، مع أن

وجهتهم كانت «يثرب» فى الشمال؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم

يعرف أن «قريشًا» عندما تكتشف أنه نجا من كيدهم ستتجه فى

بحثها عنه إلى الشمال، عندئذٍ يكون هو قد وصل إلى الغار واختبأ

فيه.

والحق أن خطة الهجرة كانت دقيقة وسرية إلى أقصى حد، ووضِعَ

لها كل مافى وسع البشر أن يفعلوه لضمان نجاحها، فإذا لم يفلح

هذا كله، فستأتى عناية الله فى اللحظة المناسبة لإنقاذ الموقف،

ص: 28

فالذين علموا بأمر الهجرة كان عددهم محدودًا وكانوا موضع ثقة،

منهم: «عامر بن فهيرة» مولى «أبى بكر» وراعى غنمه، و «عبد الله

بن أبى بكر»، وأخته «أسماء» ، وكل واحد من هؤلاء له عمل محدد

وفى غاية الأهمية والخطورة، فعبد الله بن أبى بكر كانت مهمته أن

يتسمع أخبار «قريش» بالنهار فى أنديتها، ثم يبلغها الرسول - صلى

الله عليه وسلم - إذا جاء الليل، وكانت مهمة «أسماء» إعداد الطعام،

ولما لم تجد مرة حبلا تربط به حقيبة الزاد، شقت نطاقها الذى كانت

تشد به وسطها، وربطت بأحد الشقين الحقيبة فلقبت بذات النطاقين.

أما «عامر بن فُهيرة» فكانت مهمته أن يرعى الأغنام بالقرب من

الغار، فإذا ما حلَّ الظلام ذهب إلى الغار؛ ليزود النبى - صلى الله عليه

وسلم - و «أبابكر» باللبن، ويسير بأغنامه على آثار أقدام «عبد الله

بن أبى بكر» حتى يمحوها، فلا يفطن أحد إلى مكانهم.

جن جنون «قريش» حين علمت أن النبى صلى الله عليه وسلم أفلت

من قبضتها، وأن النائم فى الفراش لم يكن سوى «على بن أبى

طالب»، فأخذت تبحث عن «محمد» فى كل مكان، وبعد أن أعياهم

البحث فى طريق «يثرب» ؛ عادوا إلى الجنوب، ووصلت طلائع بحثهم

إلى باب الغار، ففزع «أبوبكر» ، حتى إنه بكى من شدة خوفه على

حياة النبى صلى الله عليه وسلم، فسأله:«ما يبكيك يا أبا بكر؟»

فقال: يارسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فقال له الرسول

صلى الله عليه وسلم مطمئنًا: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله

ثالثهما!».

وقد سجل القرآن الكريم هذا المشهد، فقال تعالى: {إلا تنصروه فقد

نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين إذ هما فى الغار إذ

يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده

بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هى

العليا والله عزيز حكيم}. [التوبة: 40].

استئناف الرحلة:

ظل النبى صلى الله عليه وسلم، وصاحبه فى الغار ثلاثة أيام، حتى

ص: 29

هدأت «قريش» ، وتعبت من البحث دون جدوى، بعد أن كانت قد

رصدت جائزة كبرى قدرها مائة من الإبل لمن يأتيها بمحمد حيا أو

ميتًا، لكن الله - سبحانه- عصمه من ذلك أيضًا،

ثم استأنف الرسول رحلته المباركة فى غرة ربيع الأول، وأخذ

دليلهما طريقًا غير طريق القوافل المعروف، لئلا يستدل عليهم أحد.

وكانت الرحلة شاقة واكتنفها كثير من المخاطر، من ذلك أن «سُراقة

بن مالك الجشمى» علم أن النبى صلى الله عليه وسلم و «أبا بكر»

سلكا ذلك الطريق، فأراد اللحاق بهما، والقبض عليهما ليفوز

بالجائزة، فلما اقترب منهما غاصت أقدام حصانه فى الرمال، وعجز

عن النهوض، فدهش «سراقة» ، فلم يعهد من حصانه هذا من قبل،

وحاول أكثر من مرة اللحاق بهما، ولكن تكرر فشله، والنبى - صلى

الله عليه وسلم - ينظر إليه فى إشفاق، و «سراقة» يظن أن النبى

منتقم منه لامحالة، فتوسل إليه أن يعفو عنه، وعاهده على ألا يدل

عليه أحدًا، فعفا عنه النبى صلى الله عليه وسلم.

وكان أهل «يثرب» منذ أن علموا بقرب مقدم النبى - صلى الله عليه

وسلم - إليهم ينتظرونه بحب وشوق ولهفة إلى رؤيته، وكانوا كل يوم

يخرجون إلى مشارف المدينة، يلتمسون وصوله، فما إن وقعت عليه

عيونهم حتى كادوا يطيرون من الفرح، وهتفوا مرحبين منشدين:

طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا مادعا لله داع أيها

المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع جئت شرفت المدينة مرحبًا ياخير داع.

وكان وصوله صلى الله عليه وسلم إلى «يثرب» ، التى أصبحت

عندئذٍ تسمى «مدينة الرسول» ، أو «المدينة المنورة» يوم الجمعة

الموافق الثانى عشر من شهر ربيع الأول؛ لأنه قضى أربعة أيام فى

«قُبَاء» (3) قبل دخوله «يثرب» ، فقد وصلها يوم الاثنين الثامن من

شهر ربيع الأول، وبقى فيها إلى يوم الجمعة، حيث صلَّى الجمعة فى

«المدينة» ، وصلى خلفه المهاجرون والأنصار فى مشهد عظيم.

وحادث الهجرة هو أعظم حدث فى التاريخ الإسلامى، لذلك اتخذه

ص: 30

الخليفة «عمر بن الخطاب» -رضى الله عنه - مبدأ للتاريخ الإسلامى؛

لأن الهجرة هى التى فتحت أمام الإسلام ذلك العالم الرحيب، ومكنت

النبى صلى الله عليه وسلم من بناء دولته وتكوين جيشه الذى

سيدافع عن دعوته، وأتاحت له أن يعلم أصحابه أصول دينهم وعلوم

السياسة والحرب والسلام، والإدارة والقيادة، وهيَّأهم ليقودوا الدنيا

كلها إلى الخير والعدل والحق، وينشروا فيها الحرية والعزة والكرامة

لكل الناس.

ص: 31

الفصل الرابع

*المسلمون فى المدينة

بناء الدولة الإسلامية:

أصبحت «المدينة» منذ أن وصل النبى صلى الله عليه وسلم إليها

منزل الوحى، ومعقل الإسلام، ومركز إشعاعه الذى أضاء العالم،

وشرع النبى فور وصوله فى بناء مسجده الذى شارك فى بنائه

بنفسه مع أصحابه، وكان بناؤه متواضعًا؛ حيث بُنى من الطين أو

الطوب اللبن، وكان سقفه من جريد النخل، وأعمدته من جذوعه،

وفرشه الحصى، كما كان مربع الشكل، طول ضلعه نحو مائة ذراع.

وهذا المسجد المتواضع البناء كان ذا شأن عظيم فى تاريخ الإسلام،

فلم تقتصر وظيفته على أداء الصلوات فيه، بل كان مدرسة تخرَّج

فيها الرعيل الأول من المسلمين، حملة لواء الإسلام ودعاته، مكانًا

تُعقد فيه الجلسات لمناقشة الأمور العامة التى تتصل بحياة المسلمين

ودينهم ودولتهم. وفيه استقبل الرسول صلى الله عليه وسلم وفود

القبائل وسفراء الملوك والأمراء.

الإخاء بين المهاجرين والأنصار:

وهو الأساس الثانى الذى أقام الرسول صلى الله عليه وسلم عليه

دولته، ذلك أن «المدينة» فتحت صدرها الرحيب للمهاجرين،

واستقبلهم الأنصار بحفاوة لا نظير لها فى التاريخ، فما نزل مهاجر

على أنصارى إلا بقرعة، لتنافس الأنصار وتزاحمهم على استضافة

المهاجرين، فآخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين الفريقين إخاءً

ربط بين قلوبهم جميعًا، فأصبحت عروة الإيمان فوق كل أسباب

الصلات البشرية، وأصبح النسب الإسلامى مقدمًا على سائر الأنساب.

معاهدة المدينة:

كانت الوثيقة الخالدة التى كتبها الرسول صلى الله عليه وسلم مع

اليهود الأساس الثالث لدولة الرسول فى «المدينة» ، فبعد أن اطمأن

على قوة جبهة المسلمين وسلامتهم، التفت إلى «المدينة» ، فوضع

لها نظامًا عامًا ثابتًا يحدد العلاقات والحقوق والواجبات بين سكانها

جميعًا؛ مسلمين وغير مسلمين، فاليهود يقيمون فى «المدينة» منذ

زمن طويل، وكانوا من قبل يقتسمون الزعامة مع الأوس والخزرج،

ص: 32

وهؤلاء آمنوا بالله ورسوله، على حين بقى اليهود على دينهم ولم

يؤمنوا، ولم يجبرهم الرسول على اعتناق الإسلام؛ إذ لا إكراه فى

الدين، ومن ثم كان لابد من تحديد وضعهم فى الدولة الجديدة بنصوص

صريحة، يُرجع إليها عند الضرورة.

ونص المعاهدة، كما رواها «ابن إسحاق»:

«بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد النبى - صلى الله عليه

وسلم - بين المؤمنين والمسلمين، من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق

بهم، وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس» وهذا إعلان

صريح للأساس العقدى للدولة الجديدة، وباب الانتساب إليها

هوالإيمان بالله ورسوله، وعلى هذا الأساس تمارس الدولة سياستها

وسلطتها العليا فى الداخل والخارج. وجاء فى المعاهدة؛ وهو فى

غاية الأهمية:

«وأنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة غير مظلومين، ولا

متناصر عليهم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين، ماداموا محاربين،

وأن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين

دينهم، .. وأن ليهود بنى الحارث مثل ما ليهود بنى عوف، .. ».

وأخذت الوثيقة تعدد سائر المجموعات اليهودية فى «المدينة» ، ثم

أضافت شيئًا مهمًا آخر، حيث نصت: «وأنه لا يخرج أحد منهم -من

«المدينة» - إلا بإذن محمد».

وهذا ليس تقييدًا لحريتهم، وإنما هو إجراء وقائى اقتضته ظروف

الدولة الناشئة؛ خوفًا من عمليات التجسس، ونقل أخبار الدولة إلى

أعدائها، وبخاصة أنها تعتبر فى حالة حرب مع «قريش» ، التى

أجبرت المسلمين على ترك أوطانهم وديارهم وأموالهم.

وهذه المعاهدة كانت مهمة وأساسية فى إعلان ميلاد دولة المسلمين

بقيادة النبى صلى الله عليه وسلم، باعتراف جميع أطرافها بهذه

القيادة، كما يفهم من عبارة النص الآتى: «وأنه ما كان بين أهل

هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله

عز وجل، وإلى «محمد» رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الله

على أتقى ما فى هذه الصحيفة وأبره».

ص: 33

وعلى هذه الأسس الثلاثة السابقة قامت الدول الإسلامية فى

«المدينة» ، وكان فى قيامها فتح جديد فى الحياة السياسية؛ إذ

قررت حرية الاعتقاد والرأى، وحرمة «المدينة» ، وحرمة الحياة،

وحرمة المال، وحددت أعداء الدولة فى صراحة ووضوح، فمنعت

إجارة «قريش» ومن نصرها.

حكومة الرسول:

كان النبى صلى الله عليه وسلم أول رئيس للدولة الإسلامية، كما

نصت على ذلك المعاهدة، وقد قام النبى صلى الله عليه وسلم بهذه

المهمة طوال حياته، فهو الذى يقضى فى الحقوق المدنية والجنائية

كافة، وينفذ القضاء، ويقيم الحدود، ويجبى الأموال من مواضعها

الشرعية، ويوزعها فى مصارفها الشرعية، ويعلن الحرب، ويعقد

معاهدات الصلح، ويخاطب رؤساء الدول، ويستقبل سفراءهم، ويولى

الولاة على الأماكن البعيدة عن «المدينة» .

وهو فى ذلك كله مؤيد من الله - تعالى - فإذا نزلت الحادثة بالأمة،

ولم يكن نزل فى شأنها وحى من الله، اجتهد النبى رأيه وشاور

أصحابه من أهل العلم والرأى، وكانوا تارة يجمعون على رأى

فيعمل به، وتارة يختلفون فيعمل برأى بعضهم، ويترك رأى البعض

الآخر، مجتهدًا فى ترجيح رأى على رأى.

ولما كانت أعباء الدولة كثيرة، وفى الوقت نفسه يقوم بمهمة تبليغ

الرسالة، وهى مهمة ثقيلة، فقد احتاج إلى معاونة أصحابه فى إدارة

الدولة، ومنهم تشكَّلت حكومته واختص بعضهم بملازمته، مثل «أبى

بكر الصديق»، و «عمر بن الخطاب» ،فأطلق عليهم «وزراء الرسول» ،

وكان له «صاحب سر» ، أشبه ما يكون بالسكرتير الخاص، إن صح

هذا التعبير، هو «حذيفة بن اليمان» ، و «صاحب شرطة» هو «قيس بن

سعد بن عبادة».

وكان له عدد من الحرَّاس، منهم:«سعدُ بن زيد الأنصارى» ، و «الزبير

بن العوام».

وكان له عدد من الحجَّاب الذين يستأذنون للناس فى الدخول عليه،

منهم: «أنس بن مالك» .

وكان له خاتم لختم الرسائل والمعاهدات، يحمله اثنان هما: «حنظلة بن

الربيع بن صيفى»، و «الحارث بن عوف المرِّى» .

ص: 34

واختص بعض الصحابة باستقبال الوفود التى تأتى لمقابلة الرسول

صلى الله عليه وسلم، فيعلمونهم كيف يحيونه، وينزلونهم فى بيت

الضيافة الذى كان من السعة بحيث اتسع لبنى قريظة، وكانوا زهاء

ستمائة رجل أثناء انتظارهم للمحاكمة بعد خيانتهم فى غزوة

«الأحزاب» .

وكان للرسول عدد من الكتاب تجاوز الأربعين كاتبًا، منهم «أبو بكر

الصديق»، و «عمر بن الخطاب» ، و «عثمان بن عفان» ، «وعلى بن أبى

طالب»، و «الزبير بن العوام» و «خالد» و «أبان» ابنا «سعيد بن

العاص»، وغيرهم، واختص بعض هؤلاء بكتابة الوحى، وبعضهم الآخر

بالكتابة فى الشئون العامة للدولة.

وكان له عدد كبير من السفراء، يرسلهم فى مهام إلى الملوك

والرؤساء وزعماء القبائل، وحرص الرسول على تعليم بعضهم اللغات

الأجنبية، إذ كانت تأتيه مراسلات بتلك اللغات، ومن هؤلاء «زيد بن

ثابت الأنصارى»، وكان يجيد الفارسية والعبرية، وبعضهم كان يعرف

إلى جانب لغته العربية خمس لغات هى الفارسية والعبرية واليونانية

والسريانية والحبشية.

وامتلك النبى صلى الله عليه وسلم جهازًا إعلاميا قوامه الشعراء،

مثل: «حسان بن ثابت» ، و «عبدالله بن رواحة» ، و «كعب بن مالك» ،

وكانوا يردون على شعراء المشركين حين كانوا يهاجمون النبى

صلى الله عليه وسلم ويهجونه.

وللنبى صلى الله عليه وسلم جهاز دقيق لجمع المعلومات عن

الأعداء، وهو ما يقابل الآن جهاز المخابرات فى الدول الحديثة، وكان

جهازًا فعالا، ومن رجاله:«بَسبَسة بن عمرو الجُهنى» ، و «طلحةُ بن

عُبيدِ الله»، و «سعيد بن زيد» ، و «عبد الله بن أبى حدرد الأسلمى» .

مشروعية القتال فى الإسلام:

تقطع آيات القرآن الكريم وأحاديث النبى صلى الله عليه وسلم،

وتصرفاته العملية بأن السلام هو الأصل والقاعدة الأساسية فى

علاقات المسلمين بغيرهم من الأمم، وأن الحرب هى الاستثناء،

فالحرب فى الإسلام ليست غاية، وإنما هى وسيلة لتحقيق السلام،

ص: 35

فإذا مال أعداء المسلمين إلى السلم وعزفوا عن الحرب، فعلى

المسلمين أن يستجيبوا لهم فورًا؛ لقوله تعالى: {فإن اعتزلوكم فلم

يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا}. [النساء:

من90].

وقال تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكَّل على الله} .

[الأنفال: من 61].

وتنحصر مسوغات الحرب فى الإسلام أو أسبابها المشروعة فى ثلاث

حالات هى:

- الدفاع عن النفس:

وهو عمل مشروع، أقرته الشرائع السماوية كافة، وكفلته القوانين

الوضعية، وحددته الآية السابق ذكرها: {وقاتلوا فى سبيل الله الذين

يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لايحب المعتدين}. [البقرة:190].

- والدفاع عن حرية نشر العقيدة:

لأن العقيدة ذاتها لا تحتاج إلى قوة لنشرها إذا خلت الطريق أمامها

من العوائق، ولم يحاربها الطغاة، وتركوها تشق طريقها إلى قلوب

الناس فى حرية وأمان وفى هذا يقول الله تعالى:

{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} . [الأنفال: من 39].

- الدفاع عن المظلومين:

وهذا واجب إنسانى على المسلمين، فمن أهداف الإسلام نصرة

المظلومين ودفع الظلم عنهم، يقول الله تعالى: {وما لكم لا تقاتلون

فى سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين

يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها}. [النساء: من 75].

ولم يأذن الله - تعالى - للمسلمين فى القتال، إلا بعد أن تعرضوا

للظلم، وتحملوا شتى ألوان الاضطهاد والتعذيب، وطُرِدوا من بلدهم،

وأخرجوا من ديارهم، وصودرت أموالهم وعندئذٍ كان لابد من الدفاع،

وجاء الإذن به من السماء فى قوله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم

ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق

إلا أن يقولوا ربنا الله .. }. [الحج: 39 - 40].

آداب الحرب فى الإسلام:

هى مجموعة القواعد والمبادئ والتقاليد العسكرية، التى أرساها

الإسلام، وطبقَّها النبى صلى الله عليه وسلم بنفسه، وكانت تعليماته

ص: 36

ووصاياه لقواده العسكريين، تدور فى نطاقها.

فيحتم الإسلام على المسلمين الاعتناء بجرحى أعدائهم ومداواتهم

وإطعامهم (4)، ويحرم الإجهاز عليهم أو إيذاؤهم بأى شكل من

أشكال الإيذاء.

كما يفرض على المسلمين تجنيب المدنيين شرور الحرب وأخطارها،

فالأطفال وكبار السن، والنساء والمرضى، بل الفلاحون فى حرثهم

والرهبان فى معابدهم، كل أولئك معصومون بحصانة الشريعة من

أخطار الحرب.

والإسلام لا يحرص على سلامة أرواح غير المقاتلين من الأعداء

فحسب، بل يوصى المسلمين المقاتلين بعدم التعرض للأهداف المدنية،

وينهاهم عن التدمير؛ لأن الإسلام إنما جاء ليبنى الحياة ويعمرها، لا

ليدمرها ويهدمها.

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه المثل الأعلى فى الالتزام

بهذه المبادئ والآداب فى ميادين القتال، فروى «أبو ثعلبة

الخشنى» رضى الله عنه:

«إن ناسًا من اليهود يوم خيبر جاءوا إلى رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - بعد تمام العهود، فقالوا: إن حظائر لنا وقع فيها أصحابك،

فأخذوا منها بقلا وثومًا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم

«عبد الرحمن بن عوف» - رضى الله عنه - فنادى فى الناس: إن رسول

الله يقول لكم: لا أحل لكم شيئًا من أموال المعاهدين إلا بحق».

غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم:

لم يكن أمام النبى صلى الله عليه وسلم بد من اللجوء إلى القوة

العسكرية إزاء الغطرسة القرشية واضطهاد المسلمين، وإخراجهم من

ديارهم قسرًا، وملاحقتهم بالأذى وهم فى مهاجرهم فى «المدينة» ،

بالإضافة إلى مؤامرات اليهود وغدرهم وخياناتهم.

من أجل ذلك كله أعد الرسول صلى الله عليه وسلم جيشًا قويا من

المجاهدين فى سبيل الله، وقاد بنفسه سبعًا وعشرين غزوة، قاتل

فى تسع منها، هى:«بدر» ، و «أحد» ، و «الأحزاب» ، و «بنو قريظة» ،

و «بنو المصطلق» ، و «خيبر» ، و «فتح مكة» ، و «حنين» ، و «الطائف» ،

وأناب بعض أصحابه فى قيادة سبع وأربعين حملة عسكرية.

ص: 37

وعلى الرغم من هذا العدد الكبير من الغزوات والحملات فإن عدد

الضحايا فيها كلها من الفريقين كان قليلا جدا، لا يتجاوز أربعمائة

قتيل، وكان شهداء المسلمين فى تلك المعارك نحو مائتى شهيد،

منهم سبعون قتلوا غدرًا فى «بئر معونة» ، فى حين لم يتجاوز قتلى

المشركين المائتين أيضًا، وهذا يدل على حرص النبى - صلى الله عليه

وسلم - على حقن الدماء، وصيانة الأرواح، وحصر الحرب فى أضيق

نطاق ممكن.

وسنتناول بالدراسة أهم الغزوات ذات الأثر الكبير والحاسم فى تاريخ

الإسلام، وهى:

1 -

غزوة بدر الكبرى:

وقعت هذه الغزوة الخالدة فى السابع عشر من شهر رمضان المبارك

من السنة الثانية من الهجرة عند بئر بين «مكة» و «المدينة» ، وقد

سمى الله - تعالى - يومها «يوم الفرقان» ؛ لأنه فرَّق بين الحق

والباطل، وأعلى كلمة الإسلام.

وسببها أن قافلة تجارية لقريش، كانت قادمة من «الشام» إلى

«مكة» ، فأمر النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتعرض لها

والاستيلاء عليها؛ تعويضًا لهم عن أموالهم التى استولت «قريش»

عليها فى «مكة» ، وهذا حق وعدل، ولم يكن فى وسع الرسول

صلى الله عليه وسلم أن يترك «قريشًا» حرة طليقة، تجوب الطرق،

وتتجر وتربح، وتعيش آمنة مطمئنة، وهى التى آذته وعذبت أصحابه،

وتآمرت على حياته، وأرادت قتله، فلابد من التضييق عليها،

وتهديدها فى تجارتها التى هى رزقها ومصدر قوتها؛ لتراجع

نفسها، وتقتنع بأن مواصلة العداء معه ليس فى مصلحتها، ولم يقصد

الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا التصرف إهلاك «قريش»

وتدميرها، لأنه جاء لإحيائهم وإسعادهم.

وعندما وصل النبى صلى الله عليه وسلم بجيشه إلى المكان الذى

دارت فيه المعركة علم أن القافلة أفلتت ونجت، بعد أن نجح قائدها

«أبو سفيان بن حرب» فى اتخاذ طريق الساحل بعيدًا عن طريق

القوافل المعتاد، حين علم بخروج المسلمين للاستيلاء عليها، وكان

قبل أن يفلت بقافلته قد أرسل سريعًا إلى «قريش» يستنفرها

ص: 38

للخروج لاستنقاذ أموالها التى توشك أن تقع فى أيدى المسلمين

فخرجت فى نحو ألف رجل للقتال، وأصروا على ذلك حتى بعد أن

علموا بنجاة قافلة «أبى سفيان» ، وقد حاول بعض زعماء «مكة»

مثل «عتبة بن ربيعة» أن يقنعوهم بالرجوع وعدم المضى قدمًا فى

الحرب، وبخاصة أن المسلمين الذين سيقاتلونهم هم أهلوهم ففيهم

الآباء والأبناء والأعمام والأخوال والإخوة، لكن تلك الدعوة فشلت

أمام إصرار أئمة الكفر - وعلى رأسهم «أبو جهل» - على إشعال نار

الحرب، حيث أراد هو وأمثاله أن يجعل من خروجهم مظاهرة

عسكرية؛ فأقسم على الذهاب إلى «بدر» ، ونحر الجزور، وشرب

الخمور، والاستمتاع بالرقص والغناء؛ لتسمع بهم العرب، فيهابوهم

أبد الدهر.

المواجهة العسكرية:

عندما علم المسلمون بإفلات القافلة، رأى بعضهم العودة إلى

«المدينة» ، لأن كثيرًا ممن خرجوا لم يكن فى حسبانهم أنهم خرجوا

لقتال وأن حربًا ستقع، وإنماخرجوا للاستيلاء على القافلة، فكرهوا

القتال.

لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن الرجوع إلى

«المدينة» ستفسره «قريش» على أنه جبن وضعف عن لقائها

ومواجهتها، وسوف تذيع ذلك فى أوسع نطاق ممكن من شبه

الجزيرة العربية، وفى هذا ضرر بالغ بالدولة الإسلامية ودعوتها،

فتصرف الرسول صلى الله عليه وسلم بحكمة بالغة وبعد نظر،

واستشار كبار أصحابه فيما يصنعون، فتحدث «أبو بكر الصديق»

و «عمر بن الخطاب» وغيرهما فأحسنوا الكلام، وأبدوا استعدادًا

للتضحية والجهاد فى سبيل الله.

سمع الرسول صلى الله عليه وسلم كلامهم فسعد به وسُرَّ، لكنه لا

يزال فى حاجة إلى معرفة رأى الأنصار فى وضوح وجلاء، لأن

بيعتهم معه كانت تنص على الدفاع عنه داخل «المدينة» لا خارجها،

فلما كرَّر قوله: «أشيروا علىَّ أيها الناس» ، قال له:«سعد بن معاذ»

وغيره من زعماء الأنصار: «لعلك تقصدنا يارسول الله» ، قال:«نعم» .

قالوا: «يا رسول الله، آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو

ص: 39

الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة،

فامضِ بنا يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذى بعثك بالحق،

لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد،

وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبر فى الحرب، صدق عند

اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر على بركة الله».

اطمأن الرسول صلى الله عليه وسلم لموقف أصحابه وسلامة

جبهتهم، وقوة ترابطهم، وبدأ يُعدُّ للمعركة الأولى فى تاريخ

الإسلام، وأعدَّ له المسلمون عريشًا (مقر قيادة) يدير منه المعركة.

وعرف الرسول صلى الله عليه وسلم عدد أعدائه وقوتهم من عيونه

ومخابراته العسكرية فكانوا نحو ألف رجل مدججين بالسلاح، فيهم

عدد كبير من الفرسان، فى حين كان عدد المسلمين نحو ثلاثمائة

وثلاثة عشر رجلا، فيهم فارسان فقط.

وبدأت المعركة صبيحة اليوم السابع عشر من شهر رمضان سنة (2هـ)

بالمبارزة، حيث خرج ثلاثة من صفوة المشركين، هم «عتبة بن

ربيعة»، و «شيبة بن ربيعة» ، و «الوليد بن عتبة» ، يطلبون المبارزة،

فأمر النبى صلى الله عليه وسلم عمه «حمزة» ، وابنى عمه «على

بن أبى طالب»، و «عبيدة بن الحارث» بالخروج إليهم، وهذا تصرف له

مغزاه من القائد الأعلى «محمد» رسول الله صلى الله عليه وسلم،

حيث بدأ المعركة بأقرب الناس إليه، فضرب المثل فى التضحية

والفداء لدين الله، واستطاع الثلاثة المسلمون القضاء على الثلاثة

المشركين من أعدائهم، وتركوهم صرعى فى ميدان المعركة، ثم

احتدمت الحرب، وتلاحم الناس، وحمى الوطيس، والرسول فى عريشه

يدعو الله سبحانه وتعالى ويستنزل نصره الذى وعده به، فيقول:

«اللهم نصرك الذى وعدتنى، اللهم إن تهلك هذه العصابة من المسلمين

فلن تُعبَد على وجه الأرض، يامولاى»، واستجاب الله لدعاء نبيه،

وانجلت المعركة عن نصر ساحق للمسلمين، وهزيمة ماحقة للمشركين

الذين قُتِلَ منهم سبعون، وأُسِرَ مثلهم، وفر الباقون، وامتلأت أيدى

ص: 40

المسلمين من غنائمهم التى تركوها، واستُشهد من المسلمين أربعة

عشر شهيدًا، وتحقق وعد الله، فنصر القلة القليلة المؤمنة، على

الكثرة المشركة المتغطرسة.

الغنائم والأسرى:

بينما كان حزن «قريش» طاغيًا على هزيمتها ورجالها الذين فقدتهم

فى المعركة بين قتيل وأسير، كانت فرحة المسلمين عظيمة لهذا

النصر المؤزر، وعادوا إلى مدينتهم يتقدمهم رسول الله - صلى الله

عليه وسلم -، يحملون الغنائم، ويسوقون الأسرى المقيدين بالأغلال،

ومع ذلك فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن

يحسنوا معاملة الأسرى وإطعامهم.

أما الغنائم فقد أنزل الله على رسوله حكم التصرف فيها فى سورة

«الأنفال» ، التى نزلت بشأن هذه المعركة، فقضى عز وجل بأن تقسم

الغنائم خمسة أقسام، خُمس للرسول، يتصرف فيه كيف يشاء فى

الأمور التى حددتها الآية الكريمة، فى حين توزع الأربعة الأخماس

على المجاهدين، للراجل سهم، وللفارس سهمان.

أما الأسرى، فقد استشار النبى صلى الله عليه وسلم فيهم

أصحابه، فمنهم من أشار بقتلهم؛ لأنهم عذَّبوا المسلمين وطردوهم من

ديارهم وعلى رأس هذا الفريق «عمر بن الخطاب» ، ومنهم من قال:

يارسول الله هم أهلك وعشيرتك، فاستبقهم وخذ منهم فداء، تتقوى

به على قتال أعدائنا. وكان على رأس هذا الفريق «أبو بكر

الصديق»، فمال النبى صلى الله عليه وسلم إلى الرأى الأخير، وقبل

منهم الفداء، وكان كريمًا معهم، فقد أطلق سراح الفقراء منهم بدون

مال، وطلب ممن يعرف القراءة والكتابة منهم أن يعلم عشرة من

أطفال المسلمين، ويكون هذا فداءً له، وهذا تصرف رائع من الرسول

صلى الله عليه وسلم له دلالة عظيمة على عناية الإسلام بالتعليم،

فهذه أول حادثة من نوعها فى تاريخ البشرية، فلم يُعرف أن فاتحًا

منتصرًا قبله صنع مثل هذا الصنيع.

عوامل النصر فى بدر:

أما عن أهم العوامل التى أدت إلى هذا النصر فى أول معركة كبرى

بين المسلمين والمشركين، فهى:

- القيادة:

ص: 41

كان الرسول صلى الله عليه وسلم نعم القائد، فقد استعد جيدًا

للمعركة، وأدارها بكفاءة عالية فى ظل الإمكانات المتاحة، وجعل

أصحابه يبذلون طاقاتهم كلها فى الدفاع عن دين الله، فكان

يستشيرهم فى كل أمر ويتقبل آراءهم واقتراحاتهم، ولا يتميز عنهم

فى أى شىء، حتى إنه تناوب الركوب على بعير واحد مع «على بن

أبى طالب»، و «مرثد بن أبى مرثد الغنوى» .

وكان لهذه الأسوة الحسنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم

أثرها الكبير فى نفوس أصحابه، حبًا لله ولرسوله لا ينازعه شىء،

وطاعة للأمر مهما يعظم، وسرعة فى تنفيذه، ودفاعًا عن دين الله

ودعوة رسوله بكل ما يملكون.

- العقيدة الراسخة:

كان للإيمان والثقة بنصر الله أثر بالغ فى النصر، فلم يتهيبوا الحرب

أبدًا، مع أنهم كانوا يعلمون أن قوة عدد المشركين ثلاثة أمثال

قوتهم.

- المعنويات العالية:

تمتع المجاهدون المسلمون فى «بدر» بمعنويات استمدوها من الإيمان

بالله، والثقة بنصره، ومن عظمة القائد وحكمته فى إدارة المعركة،

ولا شك أن المعنويات العالية تُعدُّ من أهم عوامل النصر فى كل

الحروب، فقد دلت التجارب أن قوة التسلح، وكثرة العدد لا تجديان ما

لم يتحل المقاتلون بمعنويات عالية.

2 -

غزوة أحد:

وقعت هذه الغزوة فى شهر شوال من العام الثالث للهجرة عند جبل

«أحد» ؛ شمالى «المدينة المنورة» ، فقد جندت «قريش» ثلاثة آلاف من

رجالها وحلفائها للانتقام من المسلمين، والثأر لهزيمتها الساحقة فى

«بدر» التى جلبت فى كل بيت من بيوت «مكة» مأتمًا.

وعندما وصلت أخبار ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ جمع

أصحابه على الفور، واستشارهم فى أفضل طريقة لمواجهة هذا

الموقف، فأشار عليه شيوخ «المدينة» أن يتحصنوا داخلها، ويتركوا

الأعداء خارجها لأن شوارع «المدينة» ضيقة، ويمكن إغلاقها عليهم،

وقتالهم فيها بكل طريقة ممكنة حتى بالحجارة، ويمكن أن يشترك

النساء والأطفال فى مقاومتهم، وكان هذا رأى الكبار ورأى النبى

ص: 42

- صلى الله عليه وسلم. أما الشباب فقد أخذهم الحماس، وخشوا أن

يتهمهم الأعداء بالجبن؛ ففضلوا الخروج لمواجهتهم فى مكان

مكشوف.

ولما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن الرأى الأخير هو رأى

الأغلبية قام إلى بيته ولبس درعه وحمل سلاحه وخرج إليهم، فأدركوا

أنهم أخرجوه مكرهًا، فقالوا له: يارسول الله، لقد استكرهناك وما

كان لنا ذلك، فافعل ما شئت، فقال صلى الله عليه وسلم: «ماكان

لنبى لبس لأمته - عدة حربه - أن ينزعها حتى يحكم الله بينه وبين

أعدائه».

وخرج النبى صلى الله عليه وسلم إلى ساحة «أحد» ، وجعل ظهر

جيشه إلى الجبل، والأعداء أمامه، ونظر إلى ميدان المعركة نظرة

فاحصة، وعرف أن الخطر يكمن خلف ظهر الجيش، فأعد خمسين رجلا

ممن يُحسنون الرمى بالنبل، وأمَّر عليهم «عبدالله بن جبير

الأنصارى»، وكلفهم بالصعود إلى قمة عالية خلف ظهورهم، سُميت

بعد ذلك بجبل الرماة، وقال لهم فى حسم: «احموا ظهورنا، لأنُؤتى

من قبلكم»، وأمرهم برمى المشركين بالنبال، وألا يتركوا مواقعهم

أبدًا سواء انتصر المسلمون أو انهزموا، لخطورة الموقع وأهميته،

وكرر عليهم أوامره مرارًا.

ودارت المعركة، وكانت الغلبة للمسلمين فى البداية، لكنهم تعجلوا

النصر ولم يصبروا، وظنوا أن المعركة انتهت، فالذين فى الميدان

تركوا القتال وبدءوا فى جمع الغنائم، والذين فوق الجبل خالفوا

أوامر النبى صلى الله عليه وسلم وأوامر قائدهم «عبدالله بن

جبير»، وتركوا مواقعهم، ليشتركوا فى جمع الغنائم.

انتهز «خالد بن الوليد» هذه الفرصة، وانقض بفرسانه من الخلف،

مستغلا الثغرة التى حدثت بترك الرماة مواقعهم، فحول بحركته

العسكرية سير المعركة من نصر للمسلمين فى أولها إلى هزيمة،

وارتبك المسلمون من هول المفاجأة، حتى إن بعضهم أخذ يقتل

بعضًا، وزاد ارتباكهم عندما أشاع المشركون أنهم قتلوا الرسول

صلى الله عليه وسلم الذى كان قد سقط فى حفرة، وجُرِح وكُسِرَت

ص: 43

رباعيته، وانجلت المعركة عن هزيمة للمسلمين، وسقوط واحد

وسبعين شهيدًا، وكان ذلك درسًا قاسيًا، أنزل الله بشأنه أكثر من

ستين آية فى سورة «آل عمران» ، وضح لهم أسباب ما حدث، وأن

الهزيمة إنما كانت لمخالفة أوامر الرسول، والحرص على جمع

الغنائم، قال تعالى: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى

إذا فشلتم وتنازعتم فى الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون

منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم

ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين}. [آل عمران: 152].

ثم واساهم وعفا عنهم، وذكرهم بأنهم إن كانوا قد أصابهم قرح

وخسروا معركة، فقد أصاب أعداءهم قرح مثله {وتلك الأيام نداولها

بين الناس}، ثم طلب من نبيه أن يعفو عنهم ويستغفر لهم، وألا يدع

مشورتهم، حتى لو أدت إلى الهزيمة فى معركة، فخسارة المعركة

أسهل من خسارة مبدأ الشورى الذى يربى الرجال ويدربهم على

إبداء الرأى والمشاركة فى صنع القرار.

3 -

غزوة الأحزاب:

أظهر يهود «بنى قينقاع» بعد غزوة «بدر» تصرفات بالغة السوء،

وأظهروا حزنًا شديدًا على هزيمة «قريش» ، وساءهم انتصار

المسلمين، وكان ذلك خيانة ونقضًا للمعاهدة التى وقعها الرسول

معهم، كما أنهم أرسلوا وفدًا إلى «مكة» لمواساتها، وهذا يخالف ما

اتفق عليه فى معاهدة «المدينة» التى نصت فى أحد بنودها على

عدم إقامة أية علاقات مع «مكة» ، ثم أساءوا إلى المسلمين

وانتهكوا حرماتهم، كما أغلظوا القول لرسول الله - صلى الله عليه

وسلم - حين نصحهم بالاستقامة والالتزام بنصوص المعاهدة، وقالوا:

«يا محمد لا يغرنك أنك لقيت قومًا لا علم لهم بالحرب - يقصدون

«قريشًا» - فلو حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس»، ولم يجد الرسول

صلى الله عليه وسلم بدا إزاء تصرفاتهم هذه إلا أن يجلوهم عن

«المدينة» ويتخلص من غدرهم وأذاهم، ثم أجلى الرسول بعد غزوة

أحد يهود «بنى النضير» بعد أن دبروا مؤامرة لقتله، فحقد اليهود

ص: 44

عليه، وألبوا «قريشًا» وحلفاءها لشن حرب شاملة ضد المسلمين،

وذهب وفد منهم لهذه المهمة بزعامة «حيى بن أخطب» إلى

«مكة» ،ووعدوهم بمساعدتهم، وقالوا لهم إنهم اتفقوا مع يهود «بنى

قريظة» - الذين كانوا لا يزالون يسكنون «المدينة» - على الانضمام

إليهم عندما يهاجمون المسلمين فاقتنعت «قريش» بذلك، ثم ذهبوا

إلى قبائل «غطفان» و «بنى أسد» ، وصنعوا معهم مثلما صنعوا مع

«قريش» ، ونجحت خطتهم الخبيثة بأن تجمع جيش من عشرة آلاف

مقاتل، من «قريش» وحلفائها، و «غطفان» و «بنى أسد» لمهاجمة

«المدينة» ، وكان ذلك فى شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة.

حفر الخندق:

علم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الأخبار المفزعة، فجمع كبار

الصحابة واستشارهم كيف يواجهون هذا الموقف، فأشاروا عليه

بالتحصن داخل «المدينة» ؛ لأنهم استفادوا من درس «أحد» ، وأخذوا

يعدُّون العدة لتحمل حصار طويل من الأعداء. وهنا جاءت فكرة رائعة

من «سلمان الفارسى» - رضى الله عنه - وهى حفر خندق فى الجهة

الشمالية الغربية من «المدينة» ؛ لمنع اقتحام جيوش الأحزاب لها، لأن

بقية جهاتها الأخرى كانت محصنة بغابات من النخيل، يصعب على

الخيول اقتحامها.

وتم حفر الخندق فى نحو أسبوع، وعمل النبى صلى الله عليه وسلم

بنفسه مع المسلمين فى حفره، وبشرهم وهم فى هذا الموقف

العصيب بفتح «الشام» و «العراق» و «اليمن» .

جاءت قوات الأحزاب وهى واثقة لا بالنصر على المسلمين فحسب، بل

باستئصالهم، لكن المفاجأة أذهلتهم عندما رأوا الخندق يحول بينهم

وبين اقتحام المدينة، وظلوا أمامه عاجزين، تأكل قلوبهم الحسرة،

لأنهم لم يتعودوا مثل هذا الأسلوب فى القتال، ولما حاول واحد منهم

اقتحام الخندق لقى حتفه فى الحال.

وعلى الرغم من أن الخندق قد حمى المسلمين من هجوم المشركين،

فإن الكرب قد اشتد عليهم، وضاقوا بطول الحصار، وكانوا فى

موقف عصيب بالغ الصعوبة، وصفه الله - تعالى - أدق وصف بقوله: {إذ

ص: 45

جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب

الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا

شديدًا}. [الأحزاب:10 - 11].

اجتهد النبى صلى الله عليه وسلم فى تفريج الكرب عن المسلمين،

فاتصل بقبائل «غطفان» وعرض عليها ثلث ثمار «المدينة» على أن

يعودوا إلى ديارهم ويتخلوا عن «قريش» فوافقوا، وعرض الرسول

صلى الله عليه وسلم هذا الأمر على الأنصار، فسألوه إن كان هذا

أمرًا من الله فليس لهم أن يخالفوه، أما إذا كان اجتهادًا من أجلهم

فلن يوافقوا عليه، فأعلمهم أنه اجتهاد منه لمصلحتهم ولتفريق

الأحزاب عنهم، فأبوا وعزموا على مواصلة الجهاد والدفاع عن بلدهم،

فأوقف النبى صلى الله عليه وسلم المفاوضات مع «غطفان» نزولا

على رأى أصحابه.

ثم لاحت فرصة عظيمة عندما عرض «نعيم بن مسعود» - وكان قد

أسلم وقدم مع الأحزاب دون أن يعلموا - أن يقوم بدور فى التخفيف

عن المسلمين؛ فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفرق بينهم

وبين «بنى قريظة» ، الذين نقضوا عهدهم مع النبى - صلى الله عليه

وسلم - واتفقوا مع الأحزاب على الانضمام إليهم حين تبدأ الحرب.

وقد نجح «نُعيم» فى مسعاه نجاحًا عظيمًا، وزرع الشكوك فى قلوب

الأحزاب و «بنى قريظة» تجاه بعضهم بعضًا، ثم أرسل الله ريحًا

شديدة قلعت خيام المشركين، وكفأت قدورهم، وانقلب الموقف كله

بفضل الله - تعالى - عليهم، وأدرك «أبو سفيان بن حرب» قائد

الأحزاب ألا فائدة من البقاء، فأمرهم بالرحيل فرحلوا، وقد علق

الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الموقف بقوله: «الآن نغزوهم

ولا يغزوننا».أى أن قريشًا لن تستطيع مهاجمة «المدينة» مرة

أخرى؛ لأن ميزان القوى أصبح يميل مع المسلمين.

عقاب بنى قريظة:

لما انسحبت الأحزاب، ونزع المسلمون لباس الحرب جاء «جبريل» -

عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «يامحمد

ص: 46

إن كنتم قد وضعتم سلاحكم، فما وضعت الملائكة سلاحها، إن الله

يأمرك أن تخرج إلى «بنى قريظة» ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - مناديًا ينادى فى الناس:

«لا يصلين أحدكم العصر إلا فى بنى قريظة» ، وحاصرهم الرسول

صلى الله عليه وسلم بضعة وعشرين يومًا، حتى نزلوا على حكمه،

وطلبوا أن يحكم فيهم «سعد بن معاذ» حليفهم، فحكم بقتل الرجال

منهم؛ جزاء غدرهم وخيانتهم، وانضمامهم إلى الأعداء وقت الحرب،

فلو نجحت خطة الأحزاب لقُضِى على الإسلام والمسلمين قضاءً مبرمًا.

وحين قضى «سعد» بهذا الحكم، قال له رسول الله - صلى الله عليه

وسلم -: «لقد حكمت فيهم بحكم الله» .

4 -

عمرة الحديبية:

قرر النبى صلى الله عليه وسلم، بعد هذه الحروب التى وقعت بينه

وبين «قريش» أن يذهب هو وأصحابه إلى «مكة» لأداء العمرة فى

شهر ذى القعدة من العام السادس للهجرة، لكن «قريشًا» رفضت

رفضًا حاسمًا فيه غرور وغطرسة، مع علمها بأن الرسول إنما جاء

«مكة» معتمرًا مسالمًا غير محارب، وليس من حقها أن تمنعه من زيارة

البيت الحرام، الذى جعله الله للناس جميعًا مثابة وأمنًا، فعسكر

الرسول صلى الله عليه وسلم فى «الحديبية» على مسافة قريبة من

«مكة» ، وجرت بينه وبينهم مفاوضات حرصًا منه على السلام وحقن

الدماء، انتهت إلى عقد هدنة عُرِفت بصلح الحديبية، وأهم شروطها

ما يلى:

1 -

وقف الحرب بين الفريقين لمدة عشر سنين، يأمن فيها الناس

ويسافرون وينتقلون فى أمان.

2 -

وأن يعود الرسول وأصحابه هذا العام بدون أداء العمرة، وكانوا

نحوًا من ألف وأربعمائة فرد، على أن يأتوا فى العام التالى،

وتخلى لهم «قريش» «مكة» ثلاثة أيام يؤدون مناسكهم خلالها ثم

يعودون إلى «المدينة» .

3 -

وأن من يأتى «مكة» مسلمًا بدون إذن وليه إلى «المدينة» يرده

الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم، أما من يأتى من المسلمين إلى

«مكة» مرتدًا، فإنها ليست مطالبة برده إلى «المدينة» .

ص: 47

4 -

وأن من أراد من القبائل العربية أن ينضم إلى أحد طرفى

المعاهدة، فله ذلك (فانضمت قبيلة «خزاعة» إلى النبى - صلى الله

عليه وسلم -، فى حين انضمت قبيلة «بنى بكر» إلى «قريش» ).

وهذا الصلح كان فى ظاهره إجحافاً سياسياً للمسلمين، حتى إنه

أثار اعتراضات بعض الصحابة، الذين رأوا فيه مهانة لهم، مثل «عمر

بن الخطاب» -رضى الله عنه - غير أنه كان فى الحقيقة فتحًا مبينًا

كما سماه الله -تعالى- فى سورة «الفتح» التى نزلت على الرسول

صلى الله عليه وسلم وهو عائد من «الحديبية» ؛ إذ كانت نتائجه فى

مصلحة المسلمين، وكان تمهيدًا لفتح «مكة» بعد عامين اثنين.

5 -

فتح خيبر:

وهى قرية كبيرة تقع شمالى شرقى «المدينة المنورة» بنحو مائة

وثمانين كيلو مترًا، يسكنها بعض اليهود الذين لم تبد منهم أية إساءة

إلى المسلمين من البداية، ولم يُسمع أن لهم ضلعًا فى أية مؤامرة أو

موقف من مواقف اليهود المخزية ضد الرسول صلى الله عليه وسلم

فاحترم الرسول موقفهم وحيادهم، غير أنهم تبدلوا وتغيرت مواقفهم.

منذ أن نزل عندهم يهود «بنى قينقاع» و «بنى النضير» ، فأفسدوهم

وجعلوا بلدهم وكرًا للتآمر على المسلمين والكيد لهم.

ولما كانت «خيبر» تقع على الطريق المؤدى إلى «الشام» ، فكان لابد

من تطهير ذلك الطريق من أية عوائق، وبخاصة أنه الطريق الرئيسى

للدعوة الإسلامية وللجيوش الإسلامية التى ستخرج بعد وقت قصير

لمواجهة دولة الروم، التى تكرر اعتداؤها على المسلمين؛ لذلك قرر

الرسول صلى الله عليه وسلم تصفية آخر وكر يهودى فى شبه

جزيرة العرب؛ لتسلم قاعدة الإسلام الأساسية ومنطلقه إلى العالم من

عدو ماكر، فبعد عودته من «الحديبية» بأقل من شهر - أى فى

المحرم من العام السابع للهجرة - غزا «خيبر» ، ودك حصونها،

فاستسلمت، وكان النبى صلى الله عليه وسلم كريمًا ورحيمًا مع

أهلها، فلم يجبرهم على الدخول فى الإسلام، ولم يطردهم من بلدهم،

ص: 48

بل أبقاهم يزرعون أرضهم، ولهم نصف محاصيلها، وللمسلمين النصف

الآخر.

ولما سمعت القرى اليهودية الأخرى المنتشرة فى وادى القرى، مثل:

«فدك» ، و «تيماء» بما حدث لخيبر، أرسلت وفودها إلى رسول الله

صلى الله عليه وسلم يطلبون منه أن يعاملهم معاملته مع أهل

«خيبر» فاستجاب لهم.

6 -

فتح مكة المكرمة:

التزمت «قريش» بمعاهدة «الحديبية» لمدة عام وبعض العام، فقد ذهب

الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأداء عمرة القضاء فى العام

السابع من الهجرة. لكنها ما لبثت أن نقضت المعاهدة عندما أعانت

قبيلة «بنى بكر» حليفتها على قبيلة «خزاعة» حليفة رسول الله

صلى الله عليه وسلم، فطلبت «خزاعة» من الرسول نصرتها طبقًا

للمعاهدة التى بينها وبينه، فوعدهم بالنصر، وبدأ فى الاستعداد

لغزو «مكة» .

شعر «أبو سفيان» زعيم «مكة» بالخطأ الفاحش الذى وقعوا فيه،

فسافر إلى «المدينة» لمقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم ولتجديد

المعاهدة، فلم يقبل الرسول اعتذاره.

وفى بداية الأسبوع الثانى من شهر رمضان من العام الثامن للهجرة

توجه الرسول صلى الله عليه وسلم على رأس جيش قوامه عشرة

آلاف مجاهد لفتح «مكة» ، وكان «أبوسفيان» يتوقع - منذ أن عاد من

«المدينة» دون أن يحقق هدفه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

سيغزو «مكة» ، ولكن لا يعرف متى يقع ذلك، فكان قلقًا ودائمًا

يتحسس الأخبار.

وفى ليلة من الليالى رأى أبو سفيان نيران جيش النبى التى أوقدها

المجاهدون فاستبد به الخوف والهلع، فسمع صوته «العباس بن

عبد المطلب»، وكان قد خرج من «مكة» من قبل، والتقى بالنبى

صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه، فلما التقى بأبى سفيان أخبره

بالجيش القادم لفتح «مكة» ، ولا قبل لهم به، وأخذه إلى الرسول

صلى الله عليه وسلم فأعلن إسلامه، وأعطاه النبى ميزة كبيرة،

بناء على اقتراح من «العباس بن عبد المطلب» ، ضمن الإعلان الذى

ص: 49

أمره أن يبلغه لأهل «مكة» : «من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن

أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن».

حرص النبى صلى الله عليه وسلم على دخول «مكة» بدون قتال،

فهى بلد الله الحرام، وأحبُّ بلاد الله إليه، وفيها أهله وذووه، فكانت

أوامره صريحة لجيشه، ألا يقاتلوا إلا إذا قوتلوا، وبالفعل دخل الجيش

«مكة» فى العشرين من شهر رمضان دون قتال، إلا مناوشات بسيطة

حدثت فى الجهة التى دخلت منها الفرقة التى كان يقودها «خالد بن

الوليد» عند جبل «خندمة» فقضى عليها «خالد» ، وكان قد أسلم هو

و «عمرو بن العاص» بعد عمرة القضاء سنة (7هـ).

دخل النبى صلى الله عليه وسلم «مكة» فاتحًا منتصرًا، وهى التى

طردته قبل ثمانى سنوات وتآمرت على حياته، فماذا هو فاعل

بهؤلاء الذين عادوه وآذوه أذى شديدًا هو وأصحابه؟ وهل فكر فى

الانتقام منهم؟ لم يحدث ذلك منه، بل جمعهم بعد أن دخل «الكعبة»

وطاف بها، وكسر أصنامها بيده وهو يتلو: {وقل جاء الحق وزهق

الباطل إن الباطل كان زهوقًا}.

وقال لهم: «ما تظنون أنى فاعل بكم؟» قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن

أخ كريم، قال:«اذهبوا فأنتم الطلقاء» .

وبهذا ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة فى العفو

والتسامح عندالمقدرة، فلم تحمله نشوة النصر وزهو القدرة على

الانتقام ممن أساء إليه، بل نسى كل ما فعلوه معه ومع أصحابه من

ألوان العذاب.

ص: 50

الفصل الخامس

*ما بعد فتح مكة

1 -

غزوة حنين والطائف:

بعد فتح «مكة» بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يرتب أمورها،

فعين لها واليًا من قبله، هو «عتاب بن أسيد» ، ومعلمًا يعلم أهلها

شرائع الإسلام هو «معاذ بن جبل» ، ولكن بعد أقل من أسبوعين من

ذلك الفتح العظيم وصلت إلى النبى صلى الله عليه وسلم أخبار بأن

قبائل «هوازن» و «ثقيف» قد جمعت جموعها فى وادى «حنين» بين

«مكة» و «الطائف» لمحاربته؛ لظنهم أن ذلك الفتح وعلو شأن الرسول

صلى الله عليه وسلم خطر عليهم، ولا شك أنهم كانوا فى ذلك

مخطئين، فالإسلام ليس خطرًا عليهم ولا على غيرهم، بل هو رحمة

وعدل وعزة وكرامة لهم وللعرب وللعالم أجمع.

أمر النبى صلى الله عليه وسلم الجيش بالتأهب لمواجهتهم فى

أوائل شهر شوال سنة 8هـ، وكان يضم اثنى عشر ألفًا بعد أن انضم

إلى جيش الفتح ألفان من أهل «مكة» ، واتجه به إلى وادى «حنين» ،

ففاجأتهم جموع «هوازن» و «ثقيف» من مكامنها فى الأودية

والجبال، وكادت تهزمهم، وفر معظم المسلمين من هول المفاجأة،

ولم يثبت مع النبى صلى الله عليه وسلم إلا قلة قليلة من أهله

وأصحابه، تقدر بنحو عشرة رجال، وصاح النبى - صلى الله عليه

وسلم - بالمسلمين «إلى أين أيها الناس؟ إلىَّ أيها الناس، أنا النبى لا

كذب أنا ابن عبد المطلب»، وأمام ثبات النبى صلى الله عليه وسلم

وشجاعته عاد المسلمون وراءه، وتماسكوا من جديد، وحملوا على

عدوهم حملة صادقة، فهزموهم هزيمة شديدة، وقتلوا منهم عددًا

كبيرًا، وأسروا كذلك نحوًا من ستة آلاف، وغنموا غنائم كثيرة.

وينبغى أن نشير إلى أن سبب الهزيمة التى كادت تحيق بالمسلمين

فى أول المعركة هو الاغترار بالكثرة، وكانوا اثنى عشر ألفًا،

وقالوا: لن نهزم اليوم من قلة، فأراد الله أن يعلمهم أن الكثرة لا

تكفى وحدها فى حسم المعارك؛ إذ لابد من عون الله تعالى، وقد

أشار القرآن الكريم إلى سبب ما حدث لهم فى أول المعركة، فقال

ص: 51

تعالى: {ولقد نصركم الله فى مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم

كثرتكم فلم تغن عنكم شيئًا وضاقت عليكم الأرض بما رحُبت ثم وليتم

مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل

جنودًا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين}. [التوبة:25 -

26].

2 -

حصار الطائف:

بعد هزيمة «هوازن» و «ثقيف» فى وادى «حُنين» . فرت فلولهم

وتحصنت بالطائف فحاصرهم النبى صلى الله عليه وسلم نحوًا من

ثلاثة أسابيع، وكانت حصونهم قوية، وأخذوا فى قذف المسلمين

بالنبال فآذوهم، فاضطر النبى أن يتراجع بقواته بعيدًا عن مرمى

النبال، ثم استشار أصحابه ماذا يفعل معهم، فقالوا له: «يارسول الله

هم كضب فى جحر إن أقمت عليه أخذته وإن تركته فلن يضرك»، أى

أنهم بعد فتح «مكة» وبعد هزيمتهم فى وادى «حنين» لن يستطيعوا

الصمود فى وجهك، وهم مستسلمون لا محالة إن أطلت الحصار، وإن

رفعته عنهم فسيقدمون عليك من تلقاء أنفسهم، فاقتنع الرسول

صلى الله عليه وسلم بهذا الرأى، ورفع عنهم الحصار، ورفض أن

يدعو عليهم عندما طلب منه ذلك بعض الصحابة، بل قال: «اللهم اهدِ

ثقيفًا وأتِ بهم».

وبعد أقل من عام جاءت وفودهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم

فى «المدينة» ، وأعلنوا إسلامهم، فى رمضان سنة 9هـ، وعين

الرسول صلى الله عليه وسلم «عثمان بن العاص الثقفى» واليًا

عليهم.

3 -

غزوة تبوك:

قام النبى صلى الله عليه وسلم بقيادة هذه الغزوة فى شهر رجب

سنة 9 هـ، وهى آخر غزوة غزاها، وكان سببها أن أخبارًا وصلت إليه

من عيونه التى بثها لمراقبة تحركات الروم فى الشمال، أنهم يعدون

العدة للهجوم عليه.

والحقيقة أن عدوان الروم كان قد تكرر كثيرًا على المسلمين من قبل،

فاعتدى الروم على المسلمين وحاربوهم فى غزوة «مؤتة» فى

جمادى الآخرة سنة 8هـ، وكادوا يستأصلونهم، لولا مهارة «خالد بن

الوليد» - رضى الله عنه - الذى انسحب من أمامهم وأنقذ جيش

المسلمين من براثنهم.

ص: 52

وكان عدوانهم ذلك بدون سبب يدعو إليه لأن المسلمين لم يذهبوا

لمحاربتهم، وإنما جاءوا لتأديب القبائل القاطنة بين «الحجاز»

و «الشام» ، التى دأبت على قطع الطريق على المسلمين، ثم ارتكبت

جرمًا كبيرًا حين قتلت «الحارث بن عُمير» أحد سفراء النبى - صلى الله

عليه وسلم - الذين حملوا رسائله إلى الملوك والأمراء، فأراد النبى

صلى الله عليه وسلم أن يؤدبهم بهذه الغزوة، ليكفوا أذاهم عن

المسلمين، ولكن الروم تدخلوا بجيش كبير - أكثر من مائة ألف - بدون

سبب.

أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يرصد تحركات الروم، فلما

وصلت إليه الأخبار بعزمهم على الهجوم عليه؛ أعد جيشًا لصده، وكان

عدده ثلاثين ألفًا، وهو أكبر جيش قاده النبى صلى الله عليه وسلم

وسُمى «جيش العسرة» ، لأن المسافة كانت بعيدة والجو صيف شديد

الحرارة، والناس يحبون المقام فى مزارعهم وبساتينهم لجنى الثمار،

والاستمتاع بالظل الوارف، ولكن مادامت الدولة الإسلامية ودعوتها

فى خطر، فلابد من التضحية والاستهانة بكل راحة ومتعة، وقد ضحى

أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم تضحيات كبيرة، وأسهموا فى

تجهيز الجيش وإعداده بأموالهم، وبخاصة «عثمان بن عفان» الذى

جهز نحو ثلث الجيش من ماله الخاص.

سار النبى صلى الله عليه وسلم حتى وصل إلى «تبوك» ، فإذا به

يعلم أن جيش الروم الذى كان يُعد يومئذٍ أقوى جيش فى الدنيا قد فرَّ

مذعورًا إلى داخل «الشام» ، فعسكر النبى صلى الله عليه وسلم فى

«تبوك» ثلاثة أسابيع، رتب خلالها أوضاع المنطقة، وأظهر هيبة

الإسلام وضرب هيبة الروم ضربة قاصمة، جعلت سكان الإمارات

الصغيرة فى المنطقة الخاضعة لسيطرة الروم - كأيلة و «أدرح»

و «الجرساء» - يهرعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

مذعنين، وقالوا له: ماذا تريد منا؟ فعرض عليهم الإسلام فرفضوا،

وقالوا: غير هذا، قال: «تدفعون الجزية ونؤمنكم على عقائدكم

وأرواحكم وأموالكم»؛ فقبلوا، فأعطاهم بذلك معاهدات، وكان

ص: 53

تصرف النبى صلى الله عليه وسلم مثلا عاليًا ودليلا على تسامح

الإسلام، وأنه لا يُفرض على الناس بالقوة.

وبعد أن أنجز النبى صلى الله عليه وسلم هذا الإنجاز الهائل،

وتجشم فى ذلك المتاعب والمشقات عاد إلى المدينة المنورة؛

لاستقبال وفود القبائل العربية التى أتت من كل أنحاء شبه الجزيرة

العربية تعلن إسلامها وخضوعها لله ولرسوله، فجاءت عشرات بل

مئات الوفود لهذا الغرض، وسُمى العام التاسع للهجرة عام

الوفود، وصدق الله العظيم القائل:

{إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجًا

فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابًا}. [سورة النصر].

عالمية الرسالة الإسلامية:

الإسلام هو الرسالة الخاتمة لرسالات الله - تعالى - إلى البشرية كلها،

فليس بعد القرآن الكريم كتاب سماوى، وليس بعد محمد - صلى الله

عليه وسلم - رسول؛ لقوله تعالى {ماكان محمد أبا أحد من رجالكم

ولكن رسول الله وخاتم النبيين}. [الأحزاب: من 40].

ولقول النبى صلى الله عليه وسلم: «إن مثلى ومثل الأنبياء من قبلى

كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل

الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، ..

فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين».

والإسلام هو دين الحق؛ لقوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} . [آل

عمران: من 19].

وهو الدين الذى دعا إليه الأنبياء جميعًا؛ فقال - تعالى - على لسان

«نوح» عليه السلام: {وأمرت أن أكون من المسلمين} . [يونس: من

72].

وقال على لسان إبراهيم عليه السلام: {أسلمت لرب العالمين} .

[البقرة: من 131].

وأوصى نبى الله «يعقوب» بنيه بقوله: {يا بنى إن الله اصطفى لكم

الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون}. [البقرة: من 132].

وقال «موسى» لقومه: {يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن

كنتم مسلمين}. [يونس: من 84].

وكل واحد من هؤلاء الرسل الكرام كان مُرسلا إلى قومه فقط،

ص: 54

فرسالاتهم كانت محدودة الزمان والمكان والبيئة البشرية بنص القرآن

الكريم (5).

أما رسالة «محمد» صلى الله عليه وسلم فعامة لكل الجنس البشرى،

قال تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرًا ونذيرا} . [سبأ: 28].

وقال تعالى: {قل يا أيها الناس إنى رسول الله إليكم جميعًا} .

[الأعراف: من 158].

وليس معنى عالمية الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان أن يفرض

على الناس بالقوة، إذ لا إكراه فى الدين، ولأن الأسلوب الذى أمر الله

- تعالى - به فى الدعوة إلى دينه هو: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة

والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن}. [النحل: من 125].

والمعنى الحقيقى لعالمية الإسلام أنه رسالة مفتوحة للبشر كلهم،

دون تمايز أو تفرقة، ودون قيود أو عوائق، فهو ليس ديانة مقصورة

على فئة بعينها، كما يدعى اليهود - مثلا - أن ديانتهم خاصة بهم

وحدهم، اختصهم الله بها دون غيرهم من البشر، بل الناس جميعًا فى

الإسلام سواء، لافضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى، فهم من أب

واحد وأم واحدة، وأكرمهم عند الله أتقاهم.

وكان من بين الصحابة مسلمون من غير العرب، مثل «سلمان

الفارسى»، و «صهيب الرومى» ، و «بلال الحبشى» ، وكانت منزلتهم

عند رسول الله تفوق منزلة كثير من الصحابة، كما كان الصحابة

أنفسهم يعاملونهم أكرم معاملة، حتى إن «عمر بن الخطاب» يقول

عن «بلال بن رباح الحبشى» : «أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا» ، يقصد

بلالا.

رسائل الرسول إلى ملوك العالم ورؤسائه:

كان النبى صلى الله عليه وسلم ينتظر الفرصة المواتية، والوقت

المناسب؛ ليخرج بالدعوة الإسلامية من شبه الجزيرة العربية إلى

النطاق العالمى، وجاءت هذه الفرصة بعد «صلح الحديبية» ، الذى أمِنَ

به إلى جانب «قريش» أعدى أعدائه فى الداخل يومئذٍ، وقضى على

خطر اليهود بفتح «خيبر» .

ومع بداية العام السابع من الهجرة ساد شبه الجزيرة العربية جو من

الهدوء النسبى، فبدأ النبى صلى الله عليه وسلم فى تبليغ دعوته

ص: 55

وتوجيهها إلى أكبر عدد ممكن من ملوك العالم ورؤسائه وأمرائه،

فأعد عددًا من أصحابه الكرام، ليكونوا سفراء بينه وبين الملوك

والرؤساء وحملهم رسائله إليهم، فأرسل «عبدالله بن حُذافة

السهمى» برسالة إلى «كِسرى أبرويز الثانى» ملك الفرس، و «دِحْيَة

بن خَلِيفَةَ الكَلبِى» برسالة إلى «هِرَقْل الروم» ، و «حَاطِب بن أبى

بَلتَعَةَ» برسالة إلى «المقوقس» حاكم «مصر» ، و «عمرو بن أمية

الضُّمَرى» برسالة إلى «النجاشى» ملك «الحبشة» ، و «العلاء بن

الحضرمى» برسالة إلى أمير «البحرين» ، و «عمرو بن العاص» برسالة

إلى ملكى «عمان» ، كما أرسل إلى سائر أمراء العرب فى

«الشام» و «اليمن» .

وتعد هذه الرسائل نقطة تحول فى تاريخ الإسلام من ناحية، ونقطة

البداية فى علاقات الإسلام بالعالم الخارجى من ناحية أخرى، فعلى

أساسها وعلى ضوء ردود الأفعال عند من أرسلت إليهم من الملوك

تشكلت علاقات المسلمين مع الأمم الأخرى فى حالتى الحرب والسلام.

وسنكتفى بإيراد نص رسالة النبى صلى الله عليه وسلم إلى

«هرقل» ، لأن الرسائل كلها تقريبًا متشابهة فى نصوصها

ومضمونها، فهى دعوة سلمية إلى الإسلام، لم تتضمن أى تهديد أو

تلويح باستخدام القوة ضد من يرفض الإسلام، ونص الرسالة:

«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبدالله ورسوله إلى هرقل عظيم

الروم، سلام على من اتبع الهدى .. أما بعد: فإنى أدعوك بدعاية

الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرتك مرتين، فإن توليت

فعليك إثم الأريسيين - رعايا هرقل - ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة

سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا، ولا يتخذ بعضنا

بعضًا أربابًا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون».

فماذا كان رد هرقل على هذه الرسالة السلمية؟ وماذا كانت نتائجها

؟

ذكرت بعض المصادر التاريخية أن «هِرَقل» رد على رسالة النبى

صلى الله عليه وسلم ردًا مهذبًا بل إنه مال إلى الإسلام، ولكن الروم

ص: 56

لم يطاوعوه، فاعتذر للنبى عن عدم قبول الإسلام بسبب رفضهم، فى

حين لا تشير مطلقًا إلى ذلك غالبية المصادر الإسلامية، كما أن تطور

العلاقات بين المسلمين والروم فى أواخر حياة النبى - صلى الله عليه

وسلم - وفى عهد خلفائه الراشدين يجعلنا نميل إلى أنه لم يرد؛ لأن

«هرقل» عندما وصلته رسالة النبى صلى الله عليه وسلم كان عائدًا

لتوه من حربه مع الفرس، وقد انتصر عليهم انتصارًا ساحقًا، ويبدو أنه

كان معتدا بنفسه اعتدادا كبيرًا، مزهوا بما حققه من فوز رد به اعتبار

دولته أمام الفرس، فخورًا بإعادة الصليب الأكبر الذى أخذه الفرس

إلى بلادهم أثناء غزوهم لفلسطين قبل سنوات، فلما جاءت رسالة

النبى صلى الله عليه وسلم إليه وهو فى هذه الحالة النفسية

المزهوة لم يحفل بها ولم يقدر أمرها التقدير الصحيح.

ويؤكد ذلك الرأى أن تطور العلاقات بين المسلمين والروم تصاعد إلى

الصدام المسلح، فاعتدى الروم على المسلمين فى غزوة مؤتة سنة

(8هـ)، ثم حاولوا الاعتداء مرة أخرى سنة (9هـ) مما جعل النبى - صلى

الله عليه وسلم - يخرج إليهم فى غزوة «تبوك» ، ثم دارت رحى الحرب

بين المسلمين والروم؛ لأنهم تدخلوا فى حركة الردة، وحرضوا القبائل

عليها وساعدوها، ونجح المسلمون فى فتح «الشام» و «مصر»

وطردوا الروم منها إلى الأبد، ومن ثم لا يستطيع أحد أن يلوم

المسلمين؛ لأنهم حملوا السلاح دفاعًا عن أنفسهم ضد عدوان الروم

المتكرر.

أما علاقة المسلمين بالإمبراطورية الفارسية، وهى يومئذٍ الدولة

الكبرى الثانية فى العالم، فلم تكن بأحسن حال من علاقة المسلمين

بالروم، بل كان «كسرى أَبْرَوِيز الثانى» ملك «فارس» أكثر غرورًا

وغطرسة من «هرقل» ، فلم تكد تصل إليه رسالة النبى - صلى الله

عليه وسلم - حتى استشاط غضبًا وقام بتمزيقها، مع أنها رسالة

سلمية للإسلام لا تخرج فى مضمونها عن رسالة النبى إلى «هرقل» ،

فدعا عليه النبى صلى الله عليه وسلم قائلا: «مزق الله ملكه» ، ولم

ص: 57

يكتف الإمبراطور المغرور بذلك، بل أمر نائبه على حكم «اليمن»

«باذان» أن يأتى له بالنبى مقيدًا فى الأغلال، ليحاكمه على جرأته

وكتابته إليه يدعوه إلى الإسلام، فامتثل «باذان» وأرسل قوة من

«اليمن» إلى «المدينة» لتنفيذ هذا الأمر، وفى هذه الأثناء كان

«كسرى أبرويز الثانى» قد قتل فى ثورة قادها ضده ابنه

«شَيْرَوَيْه» ، استجابة لدعوة النبى صلى الله عليه وسلم عليه.

فلما جاء رسل «باذان» أخبرهم النبى صلى الله عليه وسلم، بما

حدث لكسرى، واحترمهم وأكرم وفادتهم، وحملهم رسالة إلى

«باذان» حاكم «اليمن» ، يدعوه فيها إلى الإسلام، فإن أسلم أقره

الرسول صلى الله عليه وسلم حاكمًا على «اليمن» من قبله، فشرح

الله صدره للإسلام، فأسلم وأقره النبى على حكمها مع أنه فارسى،

وهذا دليل على سمو مبادئ الإسلام العادلة وأنه دين المساواة.

وقد تطورت العلاقات مع الفرس على طريق المواجهة، كما حدث مع

الروم، لأن الفرس اعتدوا على المسلمين فى حروب الردة، وأرسلوا

جيشًا مع «سجاح بنت الحارث اليربوعية» ، التى ادعت النبوة؛

لمحاربة المسلمين، فاضطر «أبو بكر الصديق» و «عمر بن الخطاب»

من بعده أن يضعوا حدا لاعتداءات الفرس، وأن يزيلوا دولتهم

ويخلصوا البلاد والعباد من ظلمهم وتجبُّرهم.

أما بقية الملوك والأمراء الذين وصلتهم رسائل النبى - صلى الله عليه

وسلم -. فمعظم العرب فى «اليمن» وشرقى شبه الجزيرة و «الخليج»

كانت ردودهم إيجابية وأعلنوا إسلامهم، فأبقاهم على إماراتهم،

وأرسل إلى كل إمارة معلمين من أصحابه يفقهونهم فى الدين.

أما «المقوقس» حاكم «مصر» فلم يسلم ولكنه رد ردًا مهذبًا، مصحوبًا

بكثير من الهدايا، مع جاريتين، هما «مارية القبطية» التى أعتقها

النبى صلى الله عليه وسلم وتزوجها، وأنجبت له ابنه «إبراهيم» ،

وأختها «سيرين» التى أهداها لشاعره «حسان بن ثابت» .

وأما «النجاشى» ملك «الحبشة» ، فقد استقبل مبعوث النبى استقبالا

ص: 58

حسنًا، ورد عليها برسالة مهذبة، أعلن فيها إسلامه صريحًا واضحًا.

وتُوفى «النجاشى» فى السنة التاسعة من الهجرة، ولما علم النبى

صلى الله عليه وسلم بذلك صلى عليه صلاة الغائب، وقد حفظ

المسلمون للحبشة موقفها من المهاجرين إليها، فظلت علاقاتهم بها

حسنة على الدوام.

حجة الوداع:

كانت «حجة الوداع» فى العام العاشر من الهجرة، وسُميت بذلك لأن

النبى صلى الله عليه وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى بعدها بوقت

قصير، ولأن العبارات التى افتتح بها النبى صلى الله عليه وسلم

خطبته كانت تفيد بأنه لن يلقى أمته بعدها فى الحج أبدًا، كما

سميت هذه الحجة بحجة البلاغ؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم ذكر

فى نهاية الخطبة عبارات التبليغ لرسالته للناس.

والحج ركن من أركان الإسلام الخمسة فُرِضَ على المسلمين فى العام

التاسع للهجرة، فبعد عودته صلى الله عليه وسلم من غزوة «تبوك»

أرسل «أبا بكر الصديق» - رضى الله عنه - أميرًا على الحج، وقضى

هو أكثر من عام مشغولا باستقبال وفود العرب التى توالت عليه من

كل أنحاء شبه الجزيرة العربية، تعلن بيعتها وإسلامها، وكان النبى

صلى الله عليه وسلم يبعث مع كل وفد من يعلمهم أمور دينهم من

الصحابة.

ولما اطمأن أن الإسلام قد انتشر فى بلاد العرب، وتجاوزها إلى ما

حولها رغب أن يقوم بأداء فريضة الحج، ويعلِّم المسلمين المناسك

بطريقة عملية، ويوصيهم خيرًا، ويلخص لهم فى خطبة شرائع الإسلام

وأهدافه.

فخرج من «المدينة» فى 25 من ذى القعدة من السنة العاشرة

للهجرة، وأحرم بالحج والعمرة من ذى الحُلَيْفة (6)، وخلفه أكثر من

مائة ألف من المسلمين، وكان المشهد رائعًا ومهيبًا، ينحنى له

التاريخ إجلالا وتقديرًا، فها هو ذا الرجل الذى بدأ دعوته وحده،

والعرب جميعهم يقفون ضده، ويحاربونه بكل ما يملكون يلتفون

حوله، ويسيرون خلفه، ويقودهم فى تواضع وبر ورحمة ومودة.

ص: 59

وقد خطب النبى صلى الله عليه وسلم فى هذه الجموع الكبيرة بعد

الإحرام، فوعظهم، وعلمهم مناسك الحج، وقال لهم: «خذوا عنى

مناسككم».

وسار ركب الحج النبوى إلى «مكة المكرمة» فى يوم التروية -الثامن

من ذى الحجة - وتوجه إلى «منى» ، فصلى بها الظهر والعصر

والمغرب والعشاء، وصبح يوم عرفة، وبعد الصلاة توجه إلى عرفات

فى التاسع من ذى الحجة، وهناك خطبهم «خطبة الوداع» ، وهى

خطبة طويلة، بدأها النبى صلى الله عليه وسلم بقوله: «أيها الناس،

اسمعوا قولى، فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا

الموقف أبدًا، أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، إلى أن

تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون

ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة

فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وإن كل ربا موضوع، ولكن لكم رءوس

أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون، قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا العباس

بن عبدالمطلب موضوع كله، وإن كل دم كان فى الجاهلية موضوع،

وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب - ابن عم

النبى صلى الله عليه وسلم - وكان مسترضعًا فى بنى ليث فقتلته

هذيل، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية».

ثم واصل خطبته مقررًا فيها قواعد الإسلام وشرائعه، هادمًا قواعد

الشرك والجاهلية، موضحًا المحرمات التى اتفقت جميع الشرائع

السماوية على تحريمها، وهى الدماء والأموال والأعراض، ووضع

أمور الجاهلية كلها تحت قدميه، وأوصاهم بالنساء خيرًا، وحذرهم

من الفتن، وختمها بتلك الكلمات المباركات، فقال: فاعقلوا أيها الناس

قولى، فإنى قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا

أبدًا، أمرًا بينًا، كتاب الله وسنة نبيه.

وبعد أداء بقية مناسك الحج، عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم

سعيدًا مغتبطًا إلى مدينته، ليستعد للقاء ربه راضيًا مرضيا عنه من ربه

الذى أرسله رحمة للعالمين، ومن أمته التى بلغها رسالة ربه،

ص: 60

وأخرجها من الظلمات إلى النور.

شخصية الرسول:

كانت أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته الشخصية من أهم

العوامل التى ساعدت على تكوين المجتمع الإسلامى الأول تكوينًا

سليمًا، فقد كانت أخلاقه رخاءً وسماحة وصفاء، وحسبه أن الله

وصفه بقوله: {وإنك لعلى خلق عظيم} . [القلم: 4].

كما كانت أخلاقه من الأسباب التى جمعت الناس حوله، لقوله تعالى:

{ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} .

[آل عمران: 159].

وعُرِفَ الرسول بأخلاقه السمحة قبل البعثة، فلم يسجد لصنم قط،

واشتهر بين أهله وقومه بالصادق الأمين، ولم يشترك فيما تعود

شباب «قريش» أن يقوموا به من عبث ومجون، ثم ازدادت أخلاقه

سموا بهدى الوحى، وأصبح أعظم العظماء فى كل شىء، فى

الصدق والأمانة، والوفاء والحياء، والشجاعة والكرم، والزهد، والصبر

على الشدائد، ومواجهة أعباء الرسالة، ومشكلات الحياة، رحيمًا فى

معاملة أصحابه، عارفًا بأقدارهم، عطوفًا على أهله وزوجاته.

وإذا كان الناس يقولون أن الرجل العظيم فى الحياة العامة قلما يكون

عظيمًا فى بيته، فإن «محمدًا» صلى الله عليه وسلم كان أعظم

العظماء فى التاريخ البشرى كله، فى الحياة العامة، وأعظمهم فى

بيته الذى ضم تسع زوجات، فى وقت واحد، من أعمار مختلفة ومن

قبائل مختلفة، بل ومن أجناس مختلفة، فمنهن العربية واليهودية

والمصرية، فكان المثل الأعلى معهن فى كل شىء، وكلهن يقدرن

شخصه وخلقه، وقد عاش بعضهن بعد موته أكثر من نصف قرن،

وألسنتهن تلهج بذكره والثناء عليه، فلم تشغله أعباء الرسالة

وتكاليفها، وتبعات الدولة ومسئولياتها عن القيام بواجباته نحوهن

على أكمل وجه، وكان يجد من الوقت ما يسمح له بملاطفتهن،

وإدخال السرور على قلوبهن.

وقد انبهر بأخلاق النبى صلى الله عليه وسلم عدد من كتاب الغرب،

فلم يسعهم إلا أن يقولوا كلمة الحق عنه، من ذلك ما قاله «وليم

موير»: «إن من صفات محمد الجديرة بالتنويه الرأفة والاحترام اللذين

ص: 61

كان يعامل بهما أصحابه، فإن التواضع وإنكار الذات والرأفة والأناة

والسماحة تغلغلت فى نفسه، فأحبه كل من حوله، ولم يكن الإصلاح

أعسر ولا أبعد منالا منه عند ظهور محمد، ولا نعلم نجاحًا تم كالذى

تركه عند وفاته».

ويقول الشاعر «لامارتين» : «إن محمدًا هو أعظم رجل بجميع المقاييس

التى وضعت لوزن العظمة الإنسانية، فإن كان مقياس العظمة

الإنسانية هو إصلاح شعب متدهور، فمن ذا الذى يطاول محمدًا فى

هذا المضمار. وإذا كان مقياس العظمة هو توحيد الإنسانية المفككة

الأوصال، فإن محمدًا أجدر الناس بهذه العظمة، لأنه جمع شمل العرب

بعد تفكك شامل. وإذا كان مقياس العظمة هو إقامة حكم السماء فى

الأرض، فمن ذا الذى ينافس محمدًا الذى محا مظاهر الوثنية، وثبت

عبادة الله وقوانينه فى عالم الوثنية والقوة».

أما الدكتور «مايكل هارت» فى كتابه «المائة الأوائل» فقد وضع

النبى صلى الله عليه وسلم على رأس القائمة، مبررًا ذلك أمام القراء

الغربيين الذين يكتب لهم فى الأساس بأنه «الإنسان الوحيد فى

التاريخ الذى نجح نجاحًا مطلقًا على المستوى الدينى والدنيوى،

ونشر الإسلام وهو من أعظم الديانات، وأصبح قائدًا سياسيا

وعسكريا ودينيا، وبعد مرور القرون العديدة فإن أثره لا يزال

متجددًا وقويا».

والحق أن جوانب العظمة والكمال الإنسانى فى شخصية الرسول لا

يستطيع أحد أن يحصرها أو يحيط بها، وستظل سيرته وأعماله

وأخلاقه مجالا رحبًا للبحث والدراسة، والتأمل والاقتداء.

مرض الرسول صلى الله عليه وسلم ووفاته

بدأ النبى صلى الله عليه وسلم يشعر بالمرض بعد عودته من حجة

الوداع بنحو شهرين، أى فى أواخر شهر صفر من العام الحادى عشر

للهجرة، وكان يشكو من الصداع، ويقول:«وارأساه» .

وكان النبى صلى الله عليه وسلم فى بداية مرضه يتحامل على

نفسه، ويخرج إلى الناس يصلى بهم إمامًا، فلما اشتد عليه المرض ولم

ص: 62

يعد قادرًا على الخروج، أمر «أبا بكر الصديق» أن يصلى بهم إمامًا،

وأصرَّ على ذلك، ورفض أن يصلى بهم «عمر بن الخطاب» ، وفى ذلك

إيماء إلى أفضلية «أبى بكر» - رضى الله عنه - على سائر الصحابة

كلهم.

وفى صبيحة يوم الاثنين الموافق (12 من شهر ربيع الأول سنة 11هـ)

فاضت روح النبى صلى الله عليه وسلم الطاهرة إلى بارئها، فكان

ذلك صدمة قاسية للمسلمين، الذين روعتهم وفاة نبيهم إلى الحد الذى

جعل بعضهم لا يصدق أن النبى تُوفِّى - من هول الصدمة - منهم «عمر

بن الخطاب» الذى كان أكثرهم فزعًا وحزنًا، أما «أبو بكر الصديق»

فلم يكن موجودًا لحظة وفاة النبى صلى الله عليه وسلم بل كان فى

منزله بالسُّنح من ضواحى «المدينة» فلما بلغه الخبر المفجع جاء على

الفور، فوجد الناس واجمين، قد استبد بهم الحزن، وعمتهم الحيرة،

وغشيهم الكرب، ووجد «عمر بن الخطاب» يخطب فى الناس ويتهدد

ويتوعد من يقول إن النبى قد مات، فلم يكلمه، وقصد بيت ابنته

«عائشة» حيث جسد النبى صلى الله عليه وسلم مسجى هناك،

فكشف الغطاء عن وجهه الشريف وتأكد من وفاته، فقبله فى جبينه،

وقال: «بأبى أنت وأمى، طبت حيا وميتًا يارسول الله» ، ثم خرج إلى

الناس، الذين كانوا ينتظرونه، وقد تعلقت به آمالهم، لعله يعلن أن

النبى لم يمت، ولكنه كان رجل الموقف العصيب، فأعلن الحقيقة التى

لا مفر من إعلانها للناس، ليواجهوا الموقف بكل أحزانه وتبعاته،

فقال للناس بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه: «أما بعد،

فمن كان يعبدُ محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبدُ اللهَ فإن الله

حى لا يموت»، ثم تلا قوله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من

قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على

عقبيه فلن يضر الله شيئًا وسيجزى الله الشاكرين}. [آل عمران: 144].

فقال «عمر بن الخطاب» حين سمع «أبا بكر» يتلو هذه الآية: «كأنى

لم أسمعها من قبل».

ص: 63

هذه هى الحقيقة التى أعلنها «الصديق» على الناس، فالنبى بشر

يخضع لقوانين الله فى البشر من حيث الحياة والموت، وقد قال الله

له: {إنك ميت وإنهم ميتون} . [الزمر: 30].

بدأ التفكير فى تجهيز النبى صلى الله عليه وسلم من غسل وتكفين

ودفن، فاختلفوا، أين يدفن، فقال لهم «أبو بكر الصديق»: سمعت

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مامات نبى إلا دفن حيث

مات». وشرعوا فى غسله، وكان الذين تولوا غسله هم أهل بيته:

«على بن أبى طالب» ، وعمه «العباس بن عبدالمطلب» ، وابنه

«الفضل» ، واشترك معهم «أسامة بن زيد» ، و «شقران» مولى

«أسامة» ، ولم يجردوه من قميصه أثناء غسله، ثم كفنوه فى ثلاثة

أثواب، وصلوا عليه فرادى، الرجال أولا، ثم تلاهم النساء، ثم

الأطفال، وفى يوم الثلاثاء التالى لوفاته وورى الجسد الطاهر فى

التراب.

ص: 64

الفصل السادس

*خلافة أبى بكر الصديق

قيام الخلافة:

أدرك الصحابة - رضوان الله عليهم - أهمية اختيار خليفة لرسول الله

صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، وضرورة أن يختاروا لدولتهم رئيسًا

يخلف النبى فى إدارة أمورهم، فاجتمع الأنصار فى «سقيفة بنى

ساعدة»، التى كانت لهم مثل دار الندوة لقريش فى «مكة» ؛ لاختيار

خليفة منهم، ظانين أنهم أحق الناس بذلك الأمر من غيرهم، فالمدينة

بلدهم، والدولة قامت على أرضهم، فرشحوا «سعد بن عبادة

الخزرجى» لهذا المنصب الجليل، وفى أثناء ذلك جاء «عويم بن

ساعدة»، و «معن بن عدى» ، وهما من الأنصار إلى «أبى بكر

الصديق» و «عمر بن الخطاب» ، وأخبراهما بما يجرى فى السقيفة،

فاتجها معهما على الفور إليها، وفى الطريق لقيا «أبا عبيدة بن

الجراح» فذهب معهم، ولما وصلوا إلى السقيفة حيث الأنصار

مجتمعون، و «سعد بن عبادة» يتكلم على الرغم من مرضه، مبينًا

أحقية الأنصار بالخلافة؛ أراد «عمر بن الخطاب» أن يتكلم، لكن «أبا

بكر» طلب منه أن ينتظر، فامتثل لأمر «أبى بكر» الذى تكلم، فقال

بعد أن حمد الله وأثنى عليه وعلى نبيه: «إن الله بعث محمدًا رسولا

إلى خلقه؛ ليعبدوا الله ويوحدوه، وهم يعبدون من دونه آلهة شتى

فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخص الله المهاجرين الأولين

من قومه بتصديقه والإيمان به والمواساة له .. فهم أول من عبدالله فى

الأرض، وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحق الناس

بهذا الأمر من بعده، لا ينازعهم إلا ظالم. وأنتم يا معشر الأنصار من لا

يُنكر فضلهم فى الدين ولا سابقتهم العظيمة فى الإسلام، رضيكم الله

أنصارًا لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته، وفيكم جلة أزواجه

وأصحابه، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا أحد بمنزلتكم، فنحن

الأمراء وأنتم الوزراء، لاتفتاتون فى مشورة، ولا تنقضى دونكم

الأمور»، ثم قال: «ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحى من قريش،

ص: 65

هم أوسط العرب نسبًا ودارًا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين،

فبايعوا أيهما شئتم» يقصد «عمر» و «أباعبيدة» ، ولكنهما رفضا أن

يتقدما على «أبى بكر» ، وقالا: «لا والله لا نتولى هذا الأمر عليك،

فإنك أفضل المهاجرين، وثانى اثنين إذ هما فى الغار، وخليفة

رسول الله على الصلاة، والصلاة أفضل دين المسلمين، فمن ذا ينبغى

له أن يتقدمك، أو يتولى هذا الأمر عليك».

فقام الحاضرون فى السقيفة بمبايعة «أبى بكر» بيعة عُرفت بالبيعة

الخاصة، لأن كثيرًا من المسلمين لم يحضروها، وبخاصة آل بيت النبى

صلى الله عليه وسلم الذين كانوا مشغولين فى مراسم دفنه، وتمت

البيعة فى جو من السكينة والإخاء والود، بعد مشاورة ونقاش هادئ

ورزين، مما دل على إحساس عميق بالمسئولية من كبار الصحابة،

وضرورة استمرارية الدولة، وكراهيتهم أن يبيتوا ليلة واحدة بعد

وفاة نبيهم بدون إمام يدير أمورهم، ويواجه الموقف، ويتخذ ما يلزم

من قرارات، وقدموا ذلك على تجهيز النبى ودفنه - صلى الله عليه

وسلم -.

البيعة العامة:

وفى اليوم التالى بعد الانتهاء من دفن رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - اجتمع المسلمون فى مسجده وبايعوا «أبا بكر» بيعة عامة،

حضرها جمهور الصحابة، وكأن البيعة الأولى كانت بمثابة ترشيح،

احتاجت إلى تصديق من عامة المسلمين وتوثيقهم.

والذى عليه جمهور علماء أهل السنة أن النبى صلى الله عليه وسلم

لم يعين خليفة له، ولم يوصِ بتعيين أحد، فلو أنه حدد لهم شخصًا

بعينه وجعله خليفة عليهم؛ لظن بعض الناس أنه تعيين من الله

ورسوله، وسيضفى على هذا الشخص نوعًا من القداسة تجعله فوق

النقد والمحاسبة، وهذا أمر خطير لا محالة، فولىُّ الأمر عند المسلمين

بشر، يخطئ ويصيب، فإذا أصاب أعانوه، وإذا أخطأ قوموه.

وكما لم يعين النبى صلى الله عليه وسلم شخصًا بعينه لتولِّى الأمر

من بعده، فإنه لم يحدد للمسلمين أيضًا الطريقة التى يختارون بها من

ص: 66

يتولى أمورهم؛ لأنها تخضع لتطور الظروف والأحوال، ومن هنا كان

فى ترك النبى لهذا الأمر مصلحة للمسلمين، حتى لا يقيدهم بشخص،

أو بطريقة معينة، وقد فهم الصحابة مراد نبيهم وقصده من عدم

التعيين، وتصرفوا على أساسه.

وكل ما يمكن قوله فى هذه المسألة الخطيرة أن النبى أومأ إيماءة

خفيفة ذات مغزى بتقديمه «أبا بكر» ليؤم المسلمين فى الصلاة أثناء

مرضه، وكأنه عليه الصلاة والسلام قد رشح «أبا بكر» للخلافة

مجرد ترشيح وليس إلزامًا، وكأنه أراد أن يقول: إذا رأيتموه جديرًا

بالخلافة وأهلا لها وقادرًا على تحقيق مصلحتكم فى دينكم ودنياكم،

فأنتم وذاك، وإلا فلتروا رأيكم.

والخلاصة أن ببيعة «أبى بكر» العامة فى مسجد رسول الله - صلى

الله عليه وسلم - فى اليوم التالى لوفاته قامت دولة الخلفاء الراشدين،

التى استمرت نحو ثلاثين عامًا (11 - 40هـ).

الخليفة الأول 11 - 13):

هو «عبد الله بن عثمان بن عامر» ، من قبيلة «تيم بن مرة بن كعب» ،

وفى «مرة بن كعب» يلتقى نسبه مع نسب النبى - صلى الله عليه

وسلم -، وأمه «أم الخير سلمى بنت صخر بن عامر» ، تيمية كأبيه

وكنيته: «أبو بكر» ، ولقبه:«عتيق» .

ولُد «أبو بكر» سنة (573م) بعد مولد الرسول صلى الله عليه وسلم

بثلاثة أعوام، ونشأ فى «مكة» ، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه

لغير واحد من الأمر؛ لعلمه وتجارته وحسن مجالسته.

وعُرف «أبو بكر» بترفعه عن عادات الجاهلية، وما كانوا يقترفونه

من مجون وشرب خمر، وارتبط قبل البعثة بصداقة قوية مع رسول الله

صلى الله عليه وسلم، وكان الاتفاق فى الطباع وصفاء النفس من

أقوى الروابط بين النبى و «أبى بكر» .

إسلامه:

تُجمع مصادر السيرة والتاريخ على أن «أبا بكر» كان أول من أسلم

وآمن بالنبى صلى الله عليه وسلم من الرجال الأحرار، وكان لسلامة

فطرته التى كانت تعاف ما عليه قومه من عبادة الأوثان أثر فى

تبكيره بالدخول فى الإسلام، وما إن دعاه النبى - صلى الله عليه

ص: 67

وسلم - إلى الإسلام حتى أسلم على الفور؛ لثقته بصدق النبى - صلى

الله عليه وسلم - وأمانته، يقول النبى صلى الله عليه وسلم: «ما

دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة - تأخر فى الإجابة-

إلا ما كان من أبى بكر بن أبى قحافة، ما عكم عنه - تأخر عنه -

حين ذكرته له، وما تردد فيه».

ومنذ أن أسلم وهو يهب نفسه وماله لله ورسوله، فكان يشترى من

أسلم من العبيد الذين كانت «قريش» تعذبهم، ويعتقهم كبلال بن

رباح، وكان يذود عن النبى صلى الله عليه وسلم بكل ما أوتى من

قوة، فيروى «البخارى» عن «عبد الله بن عمرو ابن العاص» قوله:

«رأيت عقبة بن أبى معيط جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم وهو

يصلى، فوضع رداءه فى عنقه، وخنقه به خنقًا شديدًا، فجاء أبو

بكر - رضى الله عنه - حتى دفعه عنه، فقال: أتقتلون رجلا أن يقول

ربى الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم». [صحيح البخارى].

ومن أجَلِّ مواقف «أبى بكر» تصديقه للنبى صلى الله عليه وسلم

فى حادث الإسراء، فحين أخبر النبى صلى الله عليه وسلم بذلك

أسرعوا إلى «أبى بكر» يخبرونه، ظنا منهم أنه لن يصدق، فقال

لهم: «والله لئن كان قاله لقد صدق، فإنى أصدقه فى أبعد من هذا،

أصدقه فى خبر السماء يأتيه فى ساعة من ليل أو نهار»، فلُقب

بالصديق من يومئذٍ. واختاره النبى صلى الله عليه وسلم -لثقته- به

ليرافقه فى رحلة الهجرة دون غيره من الصحابة، ثم لازم النبى بعد

الهجرة فى ليله ونهاره، فلم يتخلف عن غزوة من غزواته أو مشهد

من مشاهده، وكان مجاهدًا بنفسه وماله حتى وصفه النبى بقوله: «ما

لأحد عندنا يدٌ إلا وقد كافأناه بها، إلا أبا بكر، فإن له عندنا يدًا

يكافئه الله بها يوم القيامة، وما نفعنى مال أحد قط ما نفعنى مال

أبى بكر».

ومما لاشك فيه أن «أبا بكر الصديق» عند علماء الأمة أفضل

المسلمين مطلقًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليل ذلك أنه

ص: 68

جعله أميرًا على الحج فى العام التاسع من الهجرة، وأنابه فى

الصلاة عند مرضه - دون غيره -، وكان هذا أقوى مرشح له لتولى

الخلافة بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم.

أبو بكر الصديق ومسئوليات الخلافة:

بعد أن بويع «أبو بكر الصديق» البيعة العامة قام فخطب الناس خطبة

قصيرة، وضح لهم فيها منهجه فى الحكم، فقال بعد أن حمد الله

وصلى على نبيه: «أما بعد أيها الناس فإنى وليت عليكم ولست

بخيركم، فإن أحسنت فأعينونى، وإن أسأت فقومونى، الصدق

أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوى عندى حتى أزيح عليه

حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء

الله، لا يدع قوم الجهاد فى سبيل الله إلا ضربهم الله بالذلّ، ولا تشيع

الفاحشة فى قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعونى ما أطعت الله

ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم، قوموا إلى

صلاتكم يرحمكم الله».

كلمات قليلة وبسيطة، لكنها في غاية الأهمية، تحمل اعتراف الخليفة

الأول بحق الأمة فى مراقبة تصرفات حاكمها ونقده وتقويمه إن جانب

الصواب.

كان أول القرارات التى اتخذها «أبو بكر» وأصعبها قراره بإنفاذ

جيش «أسامة» إلى «جنوبى الشام» ، كما أمر به رسول الله - صلى

الله عليه وسلم -، وذلك لأن «الصديق» أقدم عليه فى ظروف دقيقة

وحرجة، فالعربُ قد ارتدت عن الإسلام، حتى «مكة» نفسها همت

بالردة، لولا أن «سهيل بن عمرو» روَّعهم، قائلا: «لماذا ترتدون

والنبوة كانت فيكم، والخلافة أصبحت فيكم؟»، وحاولت «الطائف»

أن ترتد، فمنع من حدوث ذلك عقلاؤها؛ إذ قالوا لقومهم: لقد كنتم

آخر من أسلم، فلا تكونوا أول من يرتد.

كما استفحل أمر مدعى النبوة «مسيلمة الكذاب» فى «اليمامة»

شرقى شبه الجزيرة العربية، و «طليحة بن خويلد الأسدى» فى «بنى

أسد»، فى منطقة «بذاخة» -ماء لبنى أسد يقع إلى الشرق من

«المدينة المنورة» - و «لقيط بن مالك» فى «عمان» جنوبى شرقى

بلاد العرب، و «الأسود العنسى» فى «اليمن» .

ص: 69

وكل أولئك ظهروا فى أواخر حياة النبى صلى الله عليه وسلم،

لكنه لم يحفل بهم كثيرًا؛ لثقته بالقدرة على القضاء على تلك

الحركات، وفى الوقت نفسه أمر بإنفاذ جيش «أسامة بن زيد» إلى

جنوب «الشام» ؛ لتأديب القبائل القاطنة هناك، التى تعادى

المسلمين، ولتثبيت هيبة الإسلام فى أعين الروم، التى فرضها عليهم

فى غزوة «تبوك» ، وللفت أنظار أصحابه إلى خطورة دولة الروم

على الإسلام، لكن هذا الجيش لم يذهب لأداء مهمته؛ لمرض النبى

صلى الله عليه وسلم ووفاته، فكان أول قرار للصديق، هو تنفيذ ما

عزم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم.

لكن الصحابة جميعًا عارضوا «أبا بكر» فى قراره بإرسال جيش

«أسامة» ، وتعللوا بأن الردة قد عمت شبه جزيرة العرب، وأن الخطر

داهم ومحدق بهم، حتى لم تسلم منه «المدينة» نفسها، واشرأبت

أعناق أعداء الإسلام من يهود ونصارى وغيرهما، وتحفزوا للقضاء

على الإسلام، ولذا فإن بقاء الجيش فى «المدينة» ضرورة ملحة؛

لحمايتها من الأخطار المحدقة بها.

لكن ذلك كله لم يثن عزيمة الصديق عن إرسال جيش «أسامة» ، ووقف

كالأسد الهصور يذود عن الإسلام باتخاذ ذلك القرار الصعب قائلا:

«والذى نفس أبى بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفتنى لأنفذت

بعث أسامة، كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبق

فى القرى غيرى لأنفذته».

وقد ظهرت نتائج سياسة «الصديق» الموفقة، عندما ذهب جيش

«أسامة» وحقق ما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم من أهداف،

وعاد محمَّلا بالغنائم، وألقى الرعب والفزع فى قلوب القبائل العربية

التى مرَّ عليها فى شمالى شبه الجزيرة العربية وهو فى طريقه إلى

الشام؛ لأنهم قالوا: «لو لم يكن بالمسلمين قوة لما أرسلوا هذا الجيش

الكبير إلى هذا المكان البعيد فى مثل هذا الوقت»؛ ولذا كانت حركة

الردة فى المناطق التى مرّ بها «أسامة» بجيشه أضعف منها فى أى

مكان آخر من شبه الجزيرة العربية.

حركة الردة:

ص: 70

يعد موقف «الصديق» من حركة الردة ومواجهته لها من أروع المواقف

فى التاريخ، لأنه آمن إيمانًا عميقًا بانتصار الحق مهما تكن قوة

أعدائه، وأظهر تصميمًا على الدفاع عن الإسلام مهما يبذل من جهد.

وقد بدأت حركة الردة بالقبائل التى منعت الزكاة كعبس و «ذبيان»

و «غطفان» وغيرها، حيث أرسلت وفدًا إلى «المدينة» ، يعرض على

«الصديق» مطالبهم، وأنهم لم يرفضوا الإسلام، ولكنهم يرفضون دفع

الزكاة لحكومة «المدينة» ؛ لأنها فى ظنهم معرَّة، ويعدُّونها إتاوة

تدفع لأبى بكر، ولم تدرك تلك القبائل أثر الزكاة فى التكافل

الاجتماعى بين المسلمين.

كان رأى فريق من الصحابة وعلى رأسهم «عمر بن الخطاب» أن

يستجيب «أبو بكر» لتلك القبائل، ولا يجبرها على دفع الزكاة،

وخاصة أن «المدينة» مكشوفة، وليس بها قوة تحميها وتدافع عنها؛

لأن جيش «أسامة» لما يعد بعد من شمالى بلاد العرب، لكن «الصديق»

لم يقتنع بهذا الرأى، ورد على «عمر بن الخطاب» ردا جازمًا قائلا له:

«والله لو منعونى عقالا -الحبل الذى يجرُّ به الحمل - لجاهدتهم عليه» .

وكان هذا الموقف الثابت من «الصديق» رائعًا كل الروعة، فماذا لو

وافق «أبو بكر» «عمر» ومن معه على رأيهم؟ ربما شجع هذا

التنازل قبائل أخرى، فتمتنع عن دفع الزكاة أسوة بهؤلاء، ولربما

تطور الموقف إلى أبعد من هذا، فتمتنع قبائل عن إقامة الصلاة أو

غيرها من أركان الإسلام، ويكون هذا هدمًا للدين من أساسه. وكأن

«الصديق» حين فعل هذا تمثل واقتدى بموقف لرسول الله - صلى الله

عليه وسلم - عندما جاءه وفد «ثقيف» يعلنون إسلامهم، ويطلبون منه

إعفاءهم من أداء الصلاة، فرفض النبى صلى الله عليه وسلم ذلك،

وقال لهم: «لا خير فى دين لاصلاة فيه» ، ولعل «الصديق» قصد ذلك

حين قال: «والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة» .

ولم يكن «الصديق» صاحب قرارات صائبة فحسب، بل كان يقرنها

بالعمل على تنفيذها، فلما رأى الغدر فى عيون مانعى الزكاة أدرك

ص: 71

أنهم سيهاجمون «المدينة» على الفور؛ لأنهم عرفوا غياب معظم

الرجال مع جيش «أسامة» ، وأعلن حالة الاستعداد للدفاع عن

«المدينة» عقب عودة المانعين إلى ديارهم، واتخذ مسجد رسول الله،

مقرا لغرفة عمليات عسكرية، وبات ليلته يُعد للمعركة ويستعد لها،

وأمر عددًا من كبار الصحابة بحراسة مداخل «المدينة» ، على رأسهم

«على بن أبى طالب» ، و «طلحة بن عبيد الله» ، و «الزبير بن العوام» ،

و «عبد الله بن مسعود» رضى الله عنهم.

وحدث ما توقعه «الصديق» فبعد ثلاثة أيام فقط هاجم مانعو الزكاة

«المدينة» ، فوجدوا المسلمين فى انتظارهم، فهزمهم المسلمون

وردوهم على أعقابهم إلى «ذى القصة» - شرقى «المدينة» . ثم

تعقبهم «الصديق» وألحق بهم هزيمة منكرة، وفرت فلولهم، وغنم

المسلمون منهم غنائم كثيرة، واتخذ «الصديق» من «ذى القصة»

مكانًا لإدارة المعركة ضد حركة الردة كلها، وفى هذه الأثناء جاءت

الأخبار بوصول جيش «أسامة» سالمًا غانمًا، فأسرع «الصديق»

بنفسه لاستقبال قائد الجيش الشاب، الذى قام بهذه المهمة الخطيرة

خير قيام، وبعد أن احتفى به وهنأه على عمله، أنابه عنه فى حكم

«المدينة» ، وعاد هو إلى «ذى القصة» ليدير المعركة مع المرتدين

بعزيمة لا تلين.

أسباب حركة الردة:

قبل الخوض فى الحديث عن مواجهة «أبى بكر» لحركة الردة، ينبغى

معرفة أسبابها، التى جعلت تلك القبائل ترتد بعد أن أعلنت إسلامها

أمام الرسول صلى الله عليه وسلم فى السنة الأخيرة من حياته.

- السبب الأول: أن إسلام أغلب هذه القبائل كان ضعيفًا، فقد أذعنوا

لقوة المسلمين، التى لم يكن لهم قِبَل بمواجهتها؛ فاستسلموا ولم

يسلموا إسلامًا حقيقيًا، فظنوا أن وفاة الرسول - صلى الله عليه

وسلم - ستفتُّ فى عضد المسلمين، ولن يستطيعوا مواجهتهم.

- والسبب الثانى: أن العصبية القبلية كانت عندهم قوية، فمعظم

المرتدين الذين التفوا حول مدعى النبوة كانوا يعلمون صدق النبى

ص: 72

- صلى الله عليه وسلم، ولكن كل قبيلة كانت تريد أن يكون لها نبى

من أبنائها ولو كان كذابًا، كما لقريش نبى من أبنائها، وعبروا عن

ذلك بوضوح وصراحة، فيقول أحد «بنى حنيفة» لمسيلمة: «أشهد

أنك كذاب، ولكن كذاب ربيعة - التى منها مسيلمة - خير من صادق

مضر- التى منها محمد»، وقال «عيينة بن حصن الفزارى» عن

«طليحة بن خويلد الأسدى» : «نبى من الحليفين خير من نبى من

قريش، ومحمد مات، وطليحة حى».

- والسبب الثالث: أن زعماء القبائل وشيوخها كانوا مستفيدين من

الوضع القبلى القديم؛ إذ كانت حياة معظم القبائل تقوم على الإغارة

والسلب والنهب، ويأخذ شيوخها ربع ما تحصل عليه من تلك الغارات،

ولذا تزعموا حركة الردة، وحرضوا أبناء القبائل عليها، ليستمروا فى

السيطرة على قبائلهم.

- والسبب الرابع: أن الفرس والروم حاولا القضاء على الإسلام

باستخدام العرب وتحريضهم ومساعدتهم، فلما فشلا فى ذلك تدخلا

تدخُّلا مباشرًا، فحرَّض الفرس عرب الخليج على الردة، ثم أمدوا

«سجاح بنت الحارث اليربوعية» - مدعية النبوة - بجيش كبير، قوامه

أربعون ألف رجل، جاءت بهم من «العراق» التى كانت تحت الحكم

الفارسى لمحاربة المسلمين، فلما فشلت تدخلوا مباشرة ضد «المثنى

بن حارثة»، الذى كان يحارب المرتدين على حدود «العراق» .

وفعل الروم البيزنطيون ما فعله الفرس، فاعتدوا فى حروب الردة

على جيش «خالد بن سعيد بن العاص» فى منطقة «تيماء» شمالى

«الحجاز» ، وألحقوا به هزيمة كبيرة وقتلوا معظم جنوده.

المواجهة السلمية:

أراد «أبو بكر الصديق» أن يبصِّر المرتدين بخطورة ما أقدموا عليه،

فواجههم مواجهة سلمية بأن دعاهم إلى العودة بدون قتال إلى

الإسلام، الذى أكرمهم الله به، وأرسل إليهم كتابًا يقرأ على القبائل

كلها؛ لعلهم يعقلون، جاء فى أخره:

«وإنى بعثت إليكم فلانًا فى جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين

بإحسان، وأمرته ألا يقاتل أحدًا ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية

ص: 73

الله، فمن استجاب له وأقرَّ وكف وعمل صالحًا، قبل منه وأعانه

عليه، ومن أبى أمرت أن يقاتله على ذلك، ثم لا يبقى على أحدٍ منهم

قدر عليه، .. ولا يقبل من أحدٍ إلا الإسلام فمن اتبعه فهو خير له، ومن

تركه فلن يعجز الله، وقد أمرت رسولى أن يقرأ كتابى فى كل

مجمع لكم، والداعية الأذان، فإذا أذن المسلمون فأذَّنوا كفوا عنهم،

وإن لم يؤذنوا عاجلوهم

».

الاستعداد العسكرى:

وفى الوقت الذى كان يأمل فيه أن يستجيب المرتدون، ويعودوا إلى

دين الله دون قتال؛ كان يعد أحد عشر جيشًا فى وقت واحد، تغطى

المناطق التى ارتد أهلها فى شبه جزيرة العرب، جاهزة للانطلاق إلى

كل منطقة؛ ليشغل كل قبيلة بالدفاع عن نفسها فى ديارها، ولا

تأخذ فرصة للتجمع والتكتل ضده، وكان هذا تصرفًا بارعًا وحكيمًا

من «الصديق» .

واختار «الصديق» لهذه الجيوش أمهر القادة وأكثرهم خبرة بالقتال،

وهم: «خالد بن الوليد» ، سيف الله وعبقرى الحرب، وأمره بقتال

المرتدين من «بنى أسد» و «غطفان» وحلفائهم بقيادة «طليحة بن

خويلد» فى «بذاخة» ، فإذا انتهى من مهمته توجه لقتال المرتدين من

«بنى تميم» فى «البطاح» ، إلى الشرق من ديار «بنى أسد» .

- و «عكرمة بن أبى جهل» وأردفه بشرحبيل بن حسنة، وأمرهما

بالتوجه إلى «مسيلمة الكذاب» ومن معه فى «اليمامة» ، وأمرهما ألا

يقاتلاه حتى يأمرهما بذلك، لمعرفة «أبى بكر» بقوة جيش

«مسيلمة» ، وأنهما لن يقدرا على هزيمته بسهولة، بل يشغلاه حتى

يحين الوقت المناسب لإرسال قوات أكبر؛ لمواجهة «بنى حنيفة» فى

جموعهم الكبيرة.

- و «العلاء بن الحضرمى» ، وأمره بقتال المرتدين فى «البحرين» وما

والاها.

- و «حذيفة بن محصن» ، وأمره بقتال المرتدين فى «دبا» فى جنوبى

شرقى شبه الجزيرة.

و «عرفجة بن هرثمة» ، وأمره بقتال المرتدين فى «مهرة» فى

جنوبى شبه الجزيرة.

و «المهاجر بن أبى أمية المخزومى» ، وأمره بقتال المرتدين فى

جنوبى «اليمن» .

ص: 74

و «سويد بن مقرن» ، وأمره بقتال المرتدين فى «تهامة اليمن» على

ساحل «البحر الأحمر» .

- و «عمرو بن العاص» ، وأمره بقتال قبائل «قضاعة» فى الشمال.

- و «معن بن حاجز» وأمره بقتال المرتدين فى «هوازن» و «بنى

سليم».

و «خالد بن سعيد بن العاص» ، وأمره أن يعسكر فى «تيماء» ، ولا

يقاتل أحدًا إلا إذا قوتل.

أهم معارك حروب الردة:

لم يستجب المرتدون لدعوة «أبى بكر» السلمية، فبدأ قادته ينفذون

ما عهد إليهم من مهام، وخاض «خالدبن الوليد» أول معارك الردة

فى «بذاخة» ضد المرتدين من «غطفان» و «بنى أسد» وحلفائهم ممن

التفوا حول «طليحة بن خويلد الأسدى» مدعى النبوة، وكان النصر

حليف «خالد» ، بعد أن ألحق بهم هزيمة منكرة وغنم كثيرًا، وأرسل

عددًا من زعمائهم أسرى إلى الخليفة، وفر «طليحة» ، وظهر كذبه،

ويجدر بالذكرى أن «طليحة» قد أسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه فى

عهد «أبى بكر الصديق» ، واشترك فى الفتوحات الإسلامية فى

«فارس» ، فى عهد «عمر بن الخطاب» ، وكان له دور بارز فيها.

وبعد ذلك توجه «خالد بن الوليد» إلى «البطاح» فى «نجد» لقتال

المرتدين من «بنى تميم» بزعامة «مالك بن نويرة» ، ونجح فى إلحاق

الهزيمة بهم، والقضاء على الردة فى بلادهم.

معركة اليمامة:

«اليمامة» مصطلح جغرافى قديم، يشمل المناطق الشرقية من شبه

الجزيرة العربية التى تقع فيها الآن مدينة «الرياض» عاصمة «المملكة

العربية السعودية». ووقعت معركة «اليمامة» نفسها فى مكان قريب

من هذه المدينة.

وسبق أن ذكرنا أن «أبا بكر» أرسل «عكرمة بن أبى جهل»

و «شرحبيل بن حسنة» للوقوف فى وجه «مسيلمة» ، ولم يأمرهما

بقتال؛ لكنهما تعجلا مخالفين أوامر الخليفة، واشتبكا مع «مسيلمة»

فى حرب لم يصمدا فيها، وعادا منهزمين، ولعلهما أرادا أن يتشبها

بخالد بن الوليد حتى يحوزا أكاليل النصر، كما حازها هو.

وما إن وصلت أنباء هزيمتهما إلى «أبى بكر» حتى غضب غضبًا

ص: 75

شديدًا، وطلب منهما ألا يعودا إلى «المدينة» ، وقرر فى الوقت نفسه

أن يرسل «خالد بن الوليد» إلى «اليمامة» للقضاء على فتنة

«مسيلمة» ، فهو أصلح الناس لهذه المهمة. وكان «خالد» قد فرغ من

القضاء على فتنة المرتدين من «بنى أسد» و «غطفان» و «تميم» ،

فجاءته أوامر من «أبى بكر» بالتوجه إلى «اليمامة» للقضاء على

فتنة «مسيلمة الكذاب» .

امتثل «خالد بن الوليد» لأوامر الخليفة، وسار فى صحراء وعرة نحو

ألف كيلو متر، حتى التقى بجيوش «مسيلمة» - وكانت نحو أربعين

ألفًا - فى مكان يسمى «عقرباء» فى حين كانت قوات «خالد» تبلغ

نحو ثلاثة عشر ألفًا، فيهم عدد كبير من المهاجرين والأنصار، ودارت

الحرب بين الفريقين، وكانت حربًا شرسة، اشتدت وطأتها على

المسلمين فى البداية، وكادوا ينهزمون، لولا أن زأر «خالد» كالأسد

الهصور، ونادى بأعلى صوته «وامحمداه» ، وكان شعار المسلمين

فى المعركة، فاشتعلت جذوة الإيمان فى القلوب، وهانت الحياة

على النفوس، وأقبل المسلمون على القتال دون خوف أو وجل، طمعًا

فى النصر أو الشهادة، وصبروا لأعداء الله حتى هزموهم هزيمة

منكرة، وقتلوا «مسيلمة» الكذاب مع نحو عشرين ألفًا من رجاله،

واستسلم من بقى من قواته أسرى للمسلمين، واستشهد من المسلمين

أكثر من ألف ومائتى رجل، منهم عدد كبير من القراء وحفظة القرآن

الكريم.

وحين ترامت إلى المرتدين أخبار انتصارات «خالد» وما فعله فى

«بنى حنيفة» ، وقر فى أذهانهم أن المسلمين لا ينهزمون؛ ولذا كانت

مهمة بقية القادة فى المناطق التى توجهوا إليها أقل صعوبة مما

واجهه «خالد بن الوليد» فى «اليمامة» .

وقبل أن يمضى عام على بدء حركة الردة كان «أبو بكر الصديق»

قد نجح فى القضاء عليها فى كل مكان، وعادت شبه الجزيرة

العربية موحدة دينيًا وسياسيًا تحت لواء المسلمين وحكومتهم فى

«المدينة» على ما كانت عليه فى آخر حياة الرسول.

الفتوحات الإسلامية فى عهده:

أسبابها:

ص: 76

من يتتبع حركة الفتوحات الإسلامية خارج شبه الجزيرة العربية يجد

أنها جاءت استطرادًا، وجاءت تحت ضغط الظروف، وأن المسلمين

اضطروا إليها اضطرارًا؛ إذ لم يكن لهم برنامج أو خطة معدة من قبل

للفتح أو التصادم مع الآخرين؛ لأن نشر الإسلام، وهو الغاية الأولى

للمسلمين، لا يتطلب أعمالا حربية أو الدخول فى معارك عسكرية،

وكل ما كان يطلبه المسلمون هو أن يفسح لهم الآخرون الطريق

ليدعوا إلى دينهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكن الفرس والروم لم

يعطوا المسلمين هذه الفرصة، فكادوا لهم واعتدوا عليهم، مما اضطر

المسلمين إلى خوض الحروب معهم، ورد عدوانهم، وتحقيق الحرية

لنشر العقيدة الإسلامية دون عوائق، وليس لنشر العقيدة، والفرق

كبير بين المعنيين.

فتح العراق:

فى أثناء حروب الردة طارد «المثنى بن حارثة» - أحد قادة المسلمين

- المرتدين إلى الشمال، على الساحل الغربى للخليج العربى، فلما

وصل إلى حدود «العراق» تكاثرت عليه قوات الفرس، بعد أن رأوا

فشل عملائهم من المرتدين فى القضاء على الإسلام فألقوا بثقلهم

فى المعارك ضد المسلمين.

ولما رأى «المثنى» أنه غير قادر بمن معه على مواجهة القوات

الفارسية، أرسل إلى الخليفة يشرح له الموقف، ويطلب منه المدد،

فأدرك الخليفة خطورة الموقف، ورأى أن يردع الفرس ويرد عدوانهم،

فرماهم بخالد بن الوليد أعظم قواده، وأردفه بعياض بن غنم.

وفى المحرم من العام الثانى عشر من الهجرة تحرك «خالد بن الوليد»

من «اليمامة» ، وكان لايزال بها، بعد أن قضى على فتنة «مسيلمة

الكذاب»، وتوجه إلى «العراق» . حيث خاض سلسلة من المعارك ضد

الفرس فى خلال عدة شهور، فى «ذات السلاسل» و «المذار» ،

و «الولجة» ، و «أليس» ، وهذه أسماء الأماكن التى دارت فيها

الحروب، وكان النصر حليفه فيها، ثم توَّج انتصاراته بفتح «الحيرة»

عاصمة «العراق» فى ذلك الوقت، واستقر بها فى شهر ربيع الأول من

العام نفسه، ثم فتح «الأنبار» و «عين التمر» إلى الشمال من

ص: 77

«الحيرة» ، ثم جاءته أوامر من «أبى بكر» أن يعود إلى «الحيرة»

ويستقر بها إلى أن تأتيه أوامر أخرى.

وخلاصة القول أنه فى خلال بضعة أشهر نجح «خالد» فى فتح أكثر

من نصف «العراق» ،وصالح أهله على دفع الجزية، ولم يجبر أحدًا

على الدخول فى الإسلام».

فتح الشام:

كان «خالد بن سعيد بن العاص» ، أحد قادة حروب الردة، معسكرًا

بقواته فى «تيماء» شمالى «الحجاز» بأمر من الخليفة الذى ألزمه

بألا يقاتل أحدًا إلا إذا قوتل، وقصد الخليفة بذلك أن يكون هذا الجيش

احتياطيًا، يمد -عند الضرورة - القوات المحاربة فى جهات أخرى،

وأن يراقب تحركات الروم؛ لأنه كان على يقين أنهم سوف يستغلون

فرصة انشغاله بحروب الردة، ويكرروا عدوانهم.

وحدث ما توقعه «أبو بكر الصديق» ، فقد هجم الروم على جيش

«خالد» ، ومعهم القبائل العربية القاطنة فى الشام، وألحقوا به هزيمة

قاسية، وقتلوا معظم جنوده، واستشهد ابنه فى المعركة، فلما

وصلت أخبار الهزيمة إلى الخليفة «أبى بكر» جمع كبار الصحابة

لدراسة الموقف، فاستقر رأيهم على ضرورة صد العدوان، وشرع

«أبو بكر» فى حشد أربعة جيوش لتحقيق ذلك:

- جيش بقيادة «أبى عبيدة بن الجراح» وجهه إلى «حمص» شمالى

الشام.

- وجيش بقيادة «يزيد بن أبى سفيان» ، ووجهه إلى «دمشق» فى

وسط الشام.

- وجيش بقيادة «شرحبيل بن حسنة» ، ووجهه إلى «الأردن» .

- وجيش بقيادة «عمرو بن العاص» ، ووجهه إلى «فلسطين» .

وقال «أبو بكر» لقادة جيوشه: إذا عملتم منفردين، فكل واحد منكم

أمير على من معه من قوات - وكان مع كل واحد منهم نحو ثمانية

آلاف جندى - ثم أمير على المنطقة التى يفتحها، أما إذا ألجأتكم

الظروف إلى الاجتماع فى مكان واحد، فالقائد العام «أبو عبيدة بن

الجراح».

موقعة اليرموك:

تحرك القادة الأربعة بجيوشهم، فلما دخلوا جنوبى الشام، وجدوا

جيشًا روميا، قوامه نحو (250) ألف جندى، بقيادة «تذراق» أخى

ص: 78

«هرقل» ، يساندهم نحو ستين ألفًا من العرب - تقريبًا - بقيادة «جبلة

بن الأيهم الغسانى»، فلم يستطيعوا الالتحام مع هذه الجموع

الحاشدة، فدارت بينهم مراسلات تجمعوا بعدها فى وادى

«اليرموك» ، تحت قيادة «أبى عبيدة بن الجراح» .

لكن تجمعهم لم يؤدِ إلى تحريك للموقف ضد الروم، فأخبروا الخليفة

«أبا بكر» بما هم فيه، وطلبوا المدد منه، فرأى أنه لن ينقذ الموقف

فى الشام سوى «خالد بن الوليد» ، وقال عبارته المشهورة: «والله

لأُنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد»، ثم كتب رسالة إليه:

«أما بعد فإذا جاءك كتابى هذا، فدع العراق، وأخلف فيه أهله الذين

قدمت عليهم وهم فيه وامضِ متخففًا فى أهل القوة من أصحابك الذين

قدموا العراق معك من اليمامة، وصحبوك من الطريق، وقدموا عليك

من الحجاز، حتى تأتى الشام، فتلقى أبا عبيدة بن الجراح ومن معه

من المسلمين، فإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة والسلام عليك».

امتثل «خالد» لأوامر الخليفة، وسار من «العراق» فى سبعة آلاف

جندى فى واحدة من أجرأ المسيرات العسكرية فى التاريخ وأكثرها

خطرًا، حيث قطعوا أكثر من ألف كيلو متر فى ثمانية عشر يومًا، فى

صحراء قاحلة مهلكة، حتى وصلوا إلى «وادى اليرموك» فتسلم

«خالد بن الوليد» القيادة من «أبى عبيدة» وخاض معركة مع الروم

تُعد من أعظم المعارك وأبعدها أثرًا فى حركة الفتح الإسلامى،

وسحق جيش الروم الذى كان يعد يومئذٍ أقوى جيوش العالم، إذ قتل

منه نحو مائة وعشرين ألفًا، وقد أدرك «هرقل» إمبراطور الروم حجم

الكارثة التى حلت بجيشه، فغادر المنطقة نهائيًا، وقلبه يقطر دمًا،

ويتحسر على جهوده التى بذلها فى استرداد الشام من الفرس، ثم ها

هى ذى يفتحها المسلمون، وقال: «السلام عليك يا سوريا، سلامًا لا

لقاء بعده، ونعم البلد أنت للعدو وليس للصديق، ولا يدخلك رومى بعد

الآن إلا خائفًا».

وقد استشهد من المسلمين نحو ثلاثة آلاف، وقد فتح هذا النصر

ص: 79

العظيم الطريق لفتح بقية الشام، الذى تم فى عهد «عمر بن الخطاب» .

الجمع الأول للقرآن فى عهد أبى بكر الصديق:

فزع «عمر بن الخطاب» لاستشهاد عدد كبير من حفظة القرآن فى

حروب الردة، وبخاصة معركة «اليمامة» ، فأشار على «أبى بكر»

بضرورة جمع القرآن فى مصحف واحد؛ خشية أن يُستشهد عدد آخر

من الحفاظ، فيضيع القرآن، أو يدخله تحريف إذا تباعد الزمن بين

نزوله وجمعه، كما حدث للكتب السابقة.

تردد «أبو بكر» فى بادئ الأمر من اقتراح «عمر» ، وقال: «كيف

أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم»، فقال له

«عمر» : «أرى والله أنه خير» ، فلم يزل «عمر» بأبى بكر حتى قبل،

ثم استدعى «أبو بكر» «زيد بن ثابت الأنصارى» ، وكلفه بمهمة جمع

القرآن، قائلا له: «إنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك، وقد كنت تكتب

الوحى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه»،

فقبل «زيد» هذه المهمة الثقيلة، وبدأ فى تتبع القرآن، وجمعه من

الرقاع والعظام، والعسب (سعف النخل) التى كان مكتوبًا عليها ومن

صدور الرجال، وجعل ذلك فى مصحف واحد.

وقد ظل هذا المصحف عند «أبى بكر» ، ثم انتقل بعد وفاته إلى «عمر

بن الخطاب»، ثم انتقل بعد وفاته إلى ابنته أم المؤمنين «حفصة» ،

وفى عهد «عثمان» دعت الضرورة إلى جمع الناس على قراءة

واحدة، فأخذه «عثمان» منها، ونسخ منه عدة نسخ ووزعها على

الأمصار.

وهكذا توَّج «أبو بكر الصديق» أعماله الجليلة بجمع القرآن.

وفاة أبى بكر الصديق:

قضى «أبو بكر» فى الخلافة سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام قام

فيها بجلائل الأعمال، ونهض بمسئولية قيادة الدولة على خير وجه،

وعاش حياته للإسلام وللمسلمين، ووهب حياته لخدمة رعيته، والدفاع

عن عقيدتها، دون أن يأخذ أجرًا على تحمله تبعات هذا المنصب

الجليل، منصب الخليفة، وعاش مثل بقية رعيته دون أن يمتاز عنهم

فى مسكن أو ملبس، بل إنه رد ما خصصه له كبار الصحابة من راتب

ضئيل، كى يترك التجارة ويتفرغ لمنصبه.

ص: 80

وفى أواخر شهر جمادى الآخرة من العام الثالث عشر للهجرة، فاضت

روح «أبى بكر» إلى بارئها بعد مرض استمر أسبوعين، كان سببه

الحمى، وتولى بعده الفاروق «عمر بن الخطاب» .

ص: 81

الفصل السابع

*خلافة عمر بن الخطاب (13 - 23 هـ)

نسبه وصفته وإسلامه:

هو «عمر بن الخطاب بن نُفيل بن عبدالعُزى بن رباح» وأمه «حنتمة

بنت هشام بن المغيرة».

أسلم فى العام الخامس من البعثة، وعمره سبع وعشرون سنة، بعد

أربعين رجلا، وإحدى عشرة امرأة، أسلموا قبله، وكان قبل إسلامه

معاديًا للإسلام شديدًا فى عداوته، لكن الله شرح صدره للإسلام

استجابة لدعاء النبى صلى الله عليه وسلم له: «اللهم أعز الإسلام

بعمر بن الخطاب».

وعُرف «عمر بن الخطاب» بشخصية قوية، وإرادة لا تلين، وحزم وعزم

فى الأمور، وهيبة فى القلوب، وكان سفير «قريش» فى الجاهلية،

وهى مهمة تحتاج إلى علم وعقل، وكياسة وحسن تصرف.

عمل «عمر» فى بداية نشأته بالرعى، ثم عمل فى التجارة إلى

الشام وإلى «اليمن» ، وكان يحرص على مقابلة ذوى الشأن فى تلك

البلاد؛ ليزداد علمًا وخبرة بالحياة، وكان واحدًا من سبعة عشر رجلا

من «قريش» يعرفون القراءة والكتابة فى «مكة» .

واشتهر «عمر بن الخطاب» أنه كان قوى البنية، طويل القامة، إذا

مشى بين الناس أشرف عليهم، كأنه راكب على دابته، أبيض اللون

تعلوه حمرة، جهورى الصوت، قليل الضحك، لا يمازح أحدًا، مقبلا

على شأنه.

أما صفاته الأخلاقية فهى «الإحساس الكامل بالمسئولية، والشدة

والفراسة، والعدل والهيبة، وواضح أن هذه الصفات هى نتاج عوامل

كثيرة متنوعة، مثل نشأة «عمر» الأولى وثقافته، والقيم التى

غرسها الإسلام فى نفسه. أما إحساس «عمر» الكامل بمسئوليته قِبَل

الرَّعية، فذلك ما لاحاجة بنا إلى التدليل عليه، ويمكن إرجاعه إلى

النزعة الدينية التى ملكت عليه شغاف نفسه، والتى شهد له بها

الجميع، وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالعقيدة

وحدها هى التى تبلغ بالمرء هذا المستوى القدسى، وهى التى

تجعل الإنسان رقيبًا على نفسه فى جميع حركاته وسكناته، ولن

تغنى عنها أية رقابة أخرى».

عمر والرسول صلى الله عليه وسلم:

ص: 82

احتل «عمر بن الخطاب» منذ أن أسلم المكانة التالية لمكانة «أبى

بكر الصديق» عند النبى صلى الله عليه وسلم، لصفاته العالية التى

سبق أن ذكرنا بعضها، ولدعوة النبى صلى الله عليه وسلم أن يُعز

الله الإسلام بعمر بن الخطاب، وكانت دعوة ناشئة عن معرفة دقيقة

بخصائص الرجل الذى سيكون ثالث ثلاثة فى الإسلام قدرًا ومنزلة.

وعلى أية حال فإن أخلاق «عمر» وصفاته مهما تكن لم تكن لتبلغ به

ما بلغ من المكانة العالية والقدر الرفيع إلا بإسلامه وبصلته برسول

الله صلى الله عليه وسلم، الذى تعهده بالتربية والرعاية، وأفسح

لمواهبه أن تنطلق إلى أفاق عالية، لتؤدى دورها الخلاق لا فى

تاريخ الإسلام فحسب، بل فى تاريخ البشرية، وليكون صاحبها واحدًا

من عظماء الدنيا، وقد وضعه الكاتب الأمريكى «مايكل هارت» بين

الخالدين المائة فى التاريخ الإنسانى كله.

ومنذ أن أسلم «عمر بن الخطاب» ، وهو من أكثر الصحابة ملازمة

للنبى صلى الله عليه وسلم، حتى إن الصحابة أطلقوا عليه وعلى

أبى بكر الصديق: وزيرَى محمد.

واشتهر «عمر» دون غيره من الصحابة بمواقف كثيرة، كان يناقش

النبى صلى الله عليه وسلم فيها ويعترض عليه فى صراحة، مثل:

موقفه من أسرى «بدر» ، و «صلح الحديبية» والصلاة على «عبد الله

بن أبى بن سلول» رأس النفاق، ولم يكن النبى صلى الله عليه وسلم

يضيق بذلك، بل يسمع برحابة صدر وسعة أفق، ويشجع «عمر»

وغيره على إبداء آرائهم دون خوف أو وجل، يعلمهم بذلك حرية

الرأى، والمشاركة فى صنع القرار.

وكثير من تلك الآراء التى عارض فيها النبى صلى الله عليه وسلم

نزل القرآن مؤيدًا لها لفرط إخلاصه لدينه، وشفافية روحه، وقد عدَّ

العلماء نحو عشرين موقفًا من هذا القبيل منها: تحريم الخمر، وضرب

الحجاب على زوجات النبى صلى الله عليه وسلم.

وقد وردت أحاديث كثيرة فى فضل «عمر» ، منها قوله - صلى الله

عليه وسلم -: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» .

توليه الخلافة:

ص: 83

أراد «الصديق أبو بكر» أن يختار المسلمون خليفتهم بأنفسهم دون

قيد، وبإرادتهم الحرة بلا تدخل، فقال لهم وهو على فراش المرض:

«إنى قد نزل بى ما ترون، ولا أظننى إلا ميتًا لما بى من المرض، وقد

أطلق الله أيمانكم من بيعتى، وحلَّ عنكم عقدتى، ورد عليكم أمركم،

فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمّرتم فى حياة منى كان أجدر

ألا تختلفوا بعدى».

لكنهم طلبوا منه أن يرشح لهم من يراه أهلا لتولى الخلافة بعده،

وأقدر على تحمل تبعاتها الجسام، فقبل ذلك، وطلب منهم مهلة حتى

ينظر لله ولدينه ولعباده، وبعد تفكير عميق، واستشارة لكبار

الصحابة مثل: «عثمان بن عفان» و «على بن أبى طالب»

و «عبدالرحمن بن عوف» استقر رأيه على «عمر بن الخطاب» .

ولم يكن ترشيح كبار الصحابة «عمر بن الخطاب» للخلافة وتزكيتهم

له، بعد «أبى بكر» غريبًا أو مفاجأة، فهم يعرفون قدره ومنزلته،

وقد سبق أن ذكرنا تقديم النبى صلى الله عليه وسلم «أبا بكر»

ليؤم الناس فى الصلاة، ورفضه أن يقوم بهذا «عمر بن الخطاب» ، فلما

تأخر «أبو بكر» يومًا عن الصلاة، قدَّم «بلال» «عمر بن الخطاب»

اجتهادًا منه ليؤم الناس، فلما سمع الرسول «عمر» يقيم الصلاة رفض

ذلك، وقال «أين أبو بكر؛ يأبى الله ذلك والمسلمون» .

وعلى الرغم من ذلك فإن هذا التصرف التلقائى من «بلال» يدل على

أن الصحابة كانوا يعلمون أن أفضل الناس بعد «أبى بكر الصديق»

هو «عمر بن الخطاب» .

ولم يعترض على ترشيح «عمر» للخلافة إلا عدد قليل من كبار

الصحابة، وعللوا ذلك بغلظته وشدته، لكن «أبا بكر» طمأنهم وبين

لهم أن ما يجدونه من شدته، إنما هو لله وفى الله، وإنه يشتد لأنه

يرانى أحيانًا لينًا، حتى يحدث نوعًا من التعادل، وأنه لو أفضى

الأمر - أى الخلافة - إليه لترك كثيرًا مما هو فيه.

ولا يقلل هذا الاعتراض من سداد رأى «أبى بكر» فى «عمر» ، ولا من

شأن «عمر» نفسه، بل يدل ذلك على حرية الرأى تجاه الشخصية

ص: 84

التى ستلى أمر الخلافة، فلن يضير «عمر» أن نفرًا من ذوى الرأى لم

يؤيدوا ترشيحه، بل يكفيه أن أغلب الصحابة أجمعوا على تزكيته،

ورضوا به لهذا المنصب الجليل، وهذا ما تسير عليه الآن الأمم الحرة

فى اختيار حكامها، فالإجماع ليس شرطًا ضروريًا فى اختيار الحاكم.

اطمأنت نفس «أبى بكر الصديق» بعد أن استشار كبار الصحابة إلى

اختيار «عمر بن الخطاب» خليفة من بعده، فأشرف على الناس وهو

مريض، وقال: «أترضون بمن أستخلف عليكم؟، فإنى والله ما آلوت

من جهد الرأى، ولا وليت ذا قربة، وإنى قد وليت عليكم عمر بن

الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا» فقالوا: سمعنا وأطعنا.

بايع المسلمون «عمر بن الخطاب» ، وبذا أصبحت خلافته شرعية.

وبعد الفراغ من دفن «أبى بكر الصديق» صعد «عمر بن الخطاب» منبر

رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقف على درجة أدنى من الدرجة

التى كان يقف عليها «أبو بكر الصديق» ، فحمد الله وأثنى عليه

وصلى على النبى صلى الله عليه وسلم، وذكر «أبا بكر» - رضى

الله عنه - بكل خير، وقال: «أيها الناس ما أنا إلا رجل منكم، ولولا

أنى كرهت أن أرد أمر خليفة رسول الله ما تقلدت أمركم»، فأثنى

المسلمون عليه خيرًا، وزاد ثناؤهم حين رأوه يرفع بصره إلى السماء

ويقول: «اللهم إنى غليظ فليِّنِّى، اللهم إنى ضعيف فقونى، اللهم إنى

بخيل فسخِّنى».

وفى اليوم التالى لتوليه الخلافة خطب خطبة أخرى، أراد أن يوضح

فيها طريقته فى الحكم، ويزيل ما قد علق فى نفوسهم من خوفٍ من

شدته التى صرحوا بها لأبى بكر حين رشحه للخلافة، فقال: «بلغنى

أن الناس هابوا شدتى وخافوا غلظتى، وقالوا: كان عمر يشتد علينا

ورسول الله بين أظهرنا، ثم اشتد علينا وأبو بكر والينا دونه، فكيف

وقد صارت الأمور إليه؟ ومن قال ذلك فقد صدق .. إننى كنت مع

رسول الله فكنت عبده وخادمه، وكان من لا يبلغ أحد صفته من اللين

والرحمة، وكان كما قال الله تعالى بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا، فكنت

ص: 85

بين يديه سيفًا مسلولا، حتى يغمدنى أو يدعنى فأمضى، فلم أزل

مع رسول الله حتى توفاه الله، وهو عنى راضٍ، والحمد لله كثيرًا،

وأنا به أسعد، ثم ولى أمر المسلمين أبو بكر، فكان من لا تنكرون

دعته وكرمه ولينه، فكنت خادمه وعونه، أخلط شدتى بلينه، فأكون

سيفًا مسلولا، حتى يغمدنى أو يدعنى فأمضى، فلم أزل معه كذلك

حتى قبضه الله عز وجل، وهو عنى راضٍ، فالحمد لله على ذلك

كثيرًا، وأنا به أسعد، ثم إنى وليت أموركم أيها الناس، فاعلموا أن

تلك الشدة قد أضعفت - أى زادت - فارتعد بعضهم من الخوف لكنه

طمأنهم فقال: ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدى على

المسلمين، فأما أهل السلامة والقصد - أى الاعتدال - فأنا ألين لهم

من بعضهم على بعض، ولست أدع أحدًا يظلم أحدًا أو يتعدى عليه

حتى أضع خده على الأرض، وأضع قدمى على الخد الآخر، حتى

يذعن بالحق، وإنى بعد شدتى تلك أضع خدى على الأرض لأهل

العفاف وأهل الكفاف، ولكم على أيها الناس خصال أذكرها لكم،

فخذونى بها، لكم على ألا أجبى شيئًا من خراجكم، ولا ما أفاء الله

عليكم إلا من وجهه، ولكم على إذا وقع فى يدى ألا يخرج منى إلا

فى حقه، ولكم على أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله -

تعالى - وأسد ثغوركم، ولكم على ألا ألقيكم فى المهالك، وإذا غبتم

فى البعوث فأنا أبو العيال - أى يرعاهم - فاتقوا الله عباد الله

وأعينونى على أنفسكم بكفها عنى، وأعينونى على نفسى بالأمر

بالمعروف والنهى عن المنكر، وإحضارى النصيحة فيما ولانى الله من

أمركم، أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم».

الفتوحات فى عهد عمر بن الخطاب:

مواصلة فتح العراق:

بعد أن رحل «خالد بن الوليد» من «العراق» إلى الشام؛ ليتولى قيادة

الجيوش فى «اليرموك» ؛ تنمَّر الفرس بالمثنى بن حارثة خليفة «خالد»

على قيادة الجيش فى «العراق» وبدءوا فى الضغط عليه، فطلب مددًا

من «أبى بكر» ، الذى كان مشغولا بحرب الروم.

ص: 86

فلما تأخر رد «الصديق أبى بكر» على «المثنى» جاء بنفسه ليعرف

سبب ذلك، فوجد الخليفة على فراش المرض، فلم يستطع أن يكلمه،

ولما علم بذلك الخليفة أدرك أن «المثنى» لم يأت إلا لضرورة، فكان

أخر كلامه لعمر بن الخطاب أن أوصاه بتجهيز جيش، يرسله مع

«المثنى» إلى «العراق» ، لصد عدوان الفرس، فعمل «عمر» بوصية

«أبى بكر» ، وأرسل جيشًا على الفور إلى «العراق» بقيادة «أبى

عبيد بن مسعود الثقفى».

موقعة الجسر:

وفى شهر شعبان من سنة 13هـ خاض «أبو عبيد بن مسعود» معركة

ضد الفرس سميت بموقعة الجسر، لأن المسلمين أقاموا جسرًا على

«نهر الفرات» لعبور قواتهم البالغة تسعة آلاف جندى، وكان عبورهم

النهر خطأ عسكريًا جسيمًا وقع فيه «أبو عبيد» ، ولم يستمع إلى

نصيحة قادة جيشه ومنهم «المثنى بن حارثة» ، الذين نبهوه إلى

خطورة ذلك، وأن موقف المسلمين غربى النهر أفضل وضع لهم،

وليتركوا قوات الفرس تعبر إليهم، فإذا انتصروا كان عبور النهر إلى

الشرق أمرًا سهلا، وإذا انهزموا كانت الصحراء وراءهم يتراجعون

فيها، ليعيدوا ترتيب أوضاعهم، لكن «أبا عبيد» لم يستجب لهم،

فحلت الهزيمة بالمسلمين على يد القائد الفارسى «بهمن جاذويه» ،

وقُتل «أبو عبيد» نفسه، واستشهد أربعة آلاف مسلم.

موقعة البويب:

بذل «المثنى بن حارثة» جهدًا كبيرًا فى تأمين عبور من بقى من

قوات المسلمين إلى الناحية الأخرى، وأدرك أنه لابد من خوض معركة

أخرى مع الفرس، حتى لا تؤثر الهزيمة فى معنويات المسلمين،

وبخاصة أنها كانت أول مرة يهزمون فيها فى هذه الجبهة منذ أن

بدأت الفتوحات.

استدرج «المثنى بن حارثة» قوات الفرس للعبور إلى غرب النهر،

فعبروا إليه مدفوعين بنشوة النصر السابق، وظنوا أن تحقيق نصر

آخر سيكون أمرًا سهلا، لكن «المثنى» فاجأهم بعد أن استثار حمية

العرب القاطنين فى المنطقة، وأوقع بالفرس هزيمة كبيرة، على

حافة نهر يُسمى «البويب» الذى سميت المعركة باسمه.

ص: 87

وعلى الرغم من هذا النصر الذى أعاد به «المثنى» الثقة إلى قواته،

فإنه أدرك بعد طول تجربة أنه لن يستطيع بمن معه من قوات أن

يواجه الفرس الذين ألقوا بثقلهم كله فى الميدان، فتراجع إلى الخلف،

ليكون بمأمن من هجمات الفرس، وأرسل «إلى» «عمر» يخبره بحقيقة

الموقف.

معركة القادسية:

لما وصلت إلى «عمر بن الخطاب» تقارير «المثنى» عن الوضع فى

جبهة «العراق» عزم على الخروج بنفسه على رأس جيش كبير،

لينسى الفرس وساوس الشيطان كما أنسى «خالد بن الوليد» الروم

تلك الوساوس، لكن الصحابة لم يوافقوه على رأيه، ورأوا أن الأفضل

أن يبقى هو فى «المدينة» يدير أمور الدولة، ويشرف على تجهيز

الجيوش، ويختار واحدًا لقيادة الحرب ضد الفرس، فقبل نصيحتهم،

وقال لهم: أشيروا على، فأشاروا عليه بسعد بن أبى وقاص، وقالوا

عنه: هو الأسد فى عرينه، فاستدعى «سعدًا» وأمَّره على الجيش،

فاتجه به «سعد» إلى «العراق» حيث عسكر فى القادسية.

وقبل نشوب المعركة أرسل «سعد» وفدًا إلى بلاط فارس، ليعرض

الإسلام على «يزدجرد الثالث» أخر ملوكهم، فإذا قبله فسيتركونه

ملكًا على بلاده، كما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم «باذان»

ملكًا على «اليمن» ، وإذا رفض الدخول فى الإسلام، فلن يكرهه عليه

أحد، ولكن لابد من دفع الجزية دليلا على عدم المقاومة، فإذا امتنع

عن دفعها، حاربوه، لأن رفضه دفع الجزية يعنى عزمه على حرب

المسلمين، ومنعهم بالقوة من تبليغ دعوة الإسلام إلى الناس.

سمع «يزدجرد» هذا الكلام، فأخذه العجب، وعلته الدهشة؛ لأنه لم

يتعود سماع مثل هذا الكلام من هؤلاء الناس، فخاطب رئيس الوفد

قائلا: «إنى لا أعلم أمة كانت أشقى، ولا أقل عددًا، ولا أسوأ ذات

بين منكم، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحى -الحدود- فيكفونناكم، لا

تغزون فارس، ولا تطمعون أن تقوموا لهم .. وإن كان الجهد - الجوع -

دعاكم فرضنا لكم قوتًا إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم،

ص: 88

وملكنا عليكم ملكًا يرفُق بكم».

فقام زعيم الوفد ورد على الملك الذى كان لا يزال يتحدث بروح

السيادة، ومنطق الاستعلاء، قائلا: «إن ماقلته عنا صحيح قبل بعث

النبى صلى الله عليه وسلم، الذى قذف الله فى قلوبنا التصديق له

واتباعه، فصار فيما بيننا وبين رب العالمين، فما قال لنا فهو قول

الله، وما أمرنا فهو أمر الله .. وقال: من تابعكم على هذا فله مالكم

وعليه ما عليكم، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية، ثم امنعوه مما

تمنعون منه أنفسكم، ومن أبى فقاتلوه».

رفض الملك هذا العرض فى كبرياء وصلف، ثقة منه بقدرة جيوشه

بقيادة «رستم» على سحق هؤلاء العرب، وعاد الوفد إلى «سعد بن

أبى وقاص» وقصوا عليه ما حدث، فاستعد هو للمعركة الحاسمة.

وفى «القادسية» دارت رحى الحرب بين الفريقين، واستمرت ثلاثة

أيام ونصف اليوم الرابع، وأسفرت عن نصر حاسم للمسلمين، وهزيمة

منكرة للفرس، وقتل قائدهم «رستم» ، وتشتيت من نجا منهم من

القتل.

وتُعد معركة «القادسية» من المعارك الفاصلة فى التاريخ؛ لأنها

حسمت أمر «العراق» العربى نهائيا، وأخرجته من السيطرة الفارسية

التى دامت قرونًا، وأعادته إلى أهله العرب المسلمين.

فتح المدائن:

انفتح الطريق أمام المسلمين بعد انتصارهم فى «القادسية» إلى

«المدائن» عاصمة الفرس، فعبر «سعد» نهر «دجلة» من أضيق مكان

فيه بنصيحة «سلمان الفارسى» ، ودخل «المدائن» ؛ ليجد الملك

الفارسى قد فرَّ منها، وكان قبل أيام قليلة يهدد المسلمين ويتوعدهم

من قصره الأبيض، مقر ملك الأكاسرة، الذى كان آية من آيات الفخامة

والبهاء.

وفى ذلك القصر صلى «سعد ابن أبى وقاص» صلاة الشكر لله على

هذا الفتح العظيم وتلا فى خشوع قول الله تعالى: {كم تركوا من

جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك

وأورثناها قومًا آخرين فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا

منظرين}. [الدخان: 25 - 29].

أرسل «سعد» إلى «عمر بن الخطاب» رسولا يبشره بالنصر وبما

ص: 89

حازوه من غنائم، ويطلب منه السماح لهم بمواصلة الفتح فى بلاد

فارس، لكن «عمر» رفض ذلك، وقال له: «وددت لو أن بيننا وبينهم

سدًا من نار، لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم، حسبنا من الأرض السواد -

أى أرض العراق- إنى آثرت سلامة المسلمين على الأنفال».

معركة نهاوند:

اعتقد «عمر بن الخطاب» أن الفرس سيجنحون إلى السلام بعد

هزيمتهم فى «القادسية» ، واسترداد المسلمين «العراق» وهى أرض

عربية، لكن الحوادث كثيرًا ماتكون أقوى من الرجال، وتدفعهم دفعًا

إلى تعديل سياساتهم، فقد وردت الأنباء إلى «عمر» أن الفرس التفوا

حول ملكهم الذى هرب من «المدائن» ، واحتشدوا فى جموع هائلة فى

«نهاوند» تصل إلى نحو مائتى ألف جندى بقيادة «الفيرزان» .

وكانت سياسة «عمر بن الخطاب» أن يقف بالفتوحات الإسلامية عند

حدود «العراق» و «الشام» ، ولايتعداها، حيث قبائل العرب التى نزحت

من شبه الجزيرة العربية وأقامت هناك، أما ما وراء ذلك من أرض

الفرس والروم فلم يكن للمسلمين مطمع فى غزوه وفتحه، ولكن ليس

كل ما يتمناه المرء يدركه، فقد حملت حوادث الفتوحات وتطوراتها

«عمر بن الخطاب» على تعديل سياسته تجاه الفرس والروم.

ولما وصلت أخبار استعداد الفرس جمع «عمر» كبار الصحابة

واستشارهم فى كيفية مواجهة هذا الموقف، فأشاروا عليه بتجهيز

جيش لردع الفرس قبل أن ينقضوا على المسلمين فى بلادهم، فعمل

بمشورتهم، وجهز جيشًا قوامه نحو أربعين ألف مجاهد تحت قيادة

«النعمان بن مقرن» .

ودارت معركة «نهاوند» ، وانتهت بنصر عظيم للمسلمين، وهزيمة

ساحقة للفرس، وقد سمى المؤرخون المسلمون هذ النصر «فتح

الفتوح»، لأن الفرس قد تفرقت كلمتهم، وانفرط عقد دولتهم بهذا

النصر.

الانسياح فى بلاد فارس:

كانت معركة «نهاوند» من المعارك الفاصلة فى التاريخ، فقد أزالت

نهائيًا الإمبراطورية الفارسية بعد معركتى «القادسية» و «نهاوند» ،

ولم تقم لها قائمة بعد ذلك.

ص: 90

وبعد «نهاوند» عقد «عمر بن الخطاب» العزم على القضاء تمامًا على

التهديد الفارسى للدولة الإسلامية ودعوتها، فأعد تسعة جيوش فى

وقت واحد، لفتح جميع المقاطعات الفارسية، من «خراسان» فى

أقصى الشمال الشرقى إلى إقليم «فارس» فى الجنوب الغربى،

ومن «أذربيجان» فى الشمال الغربى إلى «مكران» فى الجنوب

الشرقى، وفى خلال سنة (22هـ) كانت تلك المقاطعات كلها تحت

السيادة الإسلامية، ولم يجبر المسلمون أحدًا من سكانها على الدخول

فى الإسلام، وإنما قبلوا منهم الجزية، وأعطوهم معاهدات، ضمنوا

لهم بمقتضاها حرية العبادة، وحفظوا لهم أنفسهم وأموالهم.

وبدأ تاريخ جديد لبلاد فارس، ذاقت فيه طعم الحرية والعدل؛ وعرفت

معنى المساواة، وتحررت من استبداد الأكاسرة وظلمهم.

استكمال فتح الشام:

بعد تولى «عمر بن الخطاب» الخلافة عزل «خالد بن الوليد» من قيادة

جيوش الشام، وأعاد «أبا عبيدة بن الجراح» إليها، وجعل «خالداً»

تحت قيادته، وقد قبل القائد البطل هذا التعديل دون تذمر، لأنه كان

جنديًا يعمل للإسلام لا لمجده الشخصى، وإذا كان قد احتل المكان

الأعلى بين قادة الفتوحات ببطولاته وانتصاراته، فإنه اعتلى ذروة

أعلى بقبوله العزل، وضرب أروع الأمثلة فى الانضباط والطاعة، وتلك

أهم صفات القادة العظام.

وكانت تعليمات «عمر» لأبى عبيدة بعد «اليرموك» ، أن تعود الأمور

إلى ما كانت عليه من قبل فى مطلع فتح الشام، حين رتب ذلك «أبو

بكر الصديق»، فيسير «أبو عبيدة» ومعه «خالد بن الوليد» إلى

«حمص» ، و «يزيد بن أبى سفيان» إلى «دمشق» ، و «شرحبيل بن

حسنة» إلى «الأردن» ، و «عمرو بن العاص» إلى «فلسطين» ، وكل

قائد يكون أميرًا على منطقته التى يفتحها، على أن يكون ذلك بعد

أن يشتركوا جميعًا فى فتح «دمشق» .

وبعد أن نجح القادة جميعهم فى فتح «دمشق» وأعطوا أهلها

معاهدة صلح بقى «يزيد بن أبى سفيان» أميرًا عليها، فى حين اتجه

ص: 91

القادة الباقون إلى مناطقهم، وفى خلال عامين فقط تم فتح الشام

كله.

وفى سنة (15 هـ) جاء «عمر ابن الخطاب» إلى «فلسطين» ؛ ليتسلم

مفاتيح «بيت المقدس» من البطريرك «صفرونيوس» ، وأعطى معاهدة

لأهلها هى آية فى التسامح والعدل، أمنهم على عقائدهم وأموالهم

وأنفسهم، وأخذت منهم نظير ذلك الجزية لرفضهم الدخول فى

الإسلام.

وقد رفض «عمر بن الخطاب» أن يصلى فى «كنيسة القيامة» ، معللا

ذلك بخوفه أن يأتى من المسلمين من يقول: لقد صلى «عمر» فى

الكنيسة فهى من حقنا، وهذا ظلم للمعاهدين لا يقره عمر.

فتح مصر:

بعد فتح «بيت المقدس» اتجه «عمر» إلى الشمال، وعقد فى

«الجابية» جنوبى «دمشق» مؤتمرًا حضره جميع القادة المسلمين،

ناقش فيه ماتم إنجازه والترتيبات اللازمة لإدارة البلاد المفتوحة إدارة

حسنة، والعمل على إشاعة العدل والحرية بين الناس بعد الظلم

والاستبداد والاستعباد الذى ذاقوه من الروم.

وفى هذا المؤتمر عرض «عمرو بن العاص» والى «فلسطين» على

«عمر بن الخطاب» ضرورة فتح «مصر» ، لأن فلول قوات الروم فى

«الشام» لجأت إلى «مصر» التى كانت فى ذلك الوقت تحت حكم

الروم، كما لجأ «الأطربون» قائد قواتهم فى فلسطين إلى «مصر» ؛

ليستعد من جديد للانقضاض على المسلمين فى الشام، ولذا فإن بقاء

«مصر» فى أيدى الروم سيكون خطرًا على فتوحات المسلمين فى

الشام، بل قد يصل الخطر إلى شبه الجزيرة العربية نفسها.

ولما اقتنع «عمر بن الخطاب» بما أبداه «عمرو بن العاص» أذن له

بالسير إلى «مصر» لفتحها، فخرج فى أربعة آلاف جندى، ودخل

«العريش» دون قتال، ثم توجه إلى «الفرما» (مدينة قديمة شرقى

«بور سعيد» ) ففتحها بعد معارك يسيرة مع حاميتها الرومية، ثم

توجه إلى «بلبيس» فى محافظة «الشرقية» الحالية، فهزم جيشًا

روميا كان يقوده «الأطربون» ، ثم هزم الروم مرة أخرى فى «عين

شمس».

ولما تجمعت قوات الروم كلها فى «حصن بابليون» بالقرب من «مصر

ص: 92

القديمة» الحالية؛ طلب «عمرو» مددًا من الخليفة «عمر» ، فأمده

بثمانية آلاف جندى، مكنته من فتح الحصن والاستيلاء عليه، ثم اتجه

إلى «الإسكندرية» ففتحها، وأرسل فرقة من قواته لفتح «الفيوم» .

وفى نحو «عامين» (19 - 21هـ) فتُحت «مصر» بأكملها، وكان فتحًا

سهلا ويسيرًا، لأن القبط لم يشتركوا فى معارك ضد المسلمين، بل

ساعدوهم وقدموا لهم يد العون، فدلوهم على أيسر الطرق، وأمدوهم

بالطعام، تخلُصًا من حكم الروم الذين اضطهدوهم دينيا، مع أنهم

مسيحيون مثلهم، وأرهقوهم بالضرائب، واستغلوهم أبشع استغلال.

ولما تعامل أهل «مصر» مع الفاتحين المسلمين أدركوا أن ما سمعوه

كان حقيقة، فقد منحوهم الحرية الدينية الكاملة، وأعادوا بطريركهم

«بنيامين» إلى كنيسته بالإسكندرية، وكان الروم قد نفوه إلى

«وادى النطرون» ، وقد حفظ الرجل هذا العمل الجليل لعمرو بن

العاص، فعاونه كثيرًا فى إدارة «مصر» إدارة حسنة.

وقد أتاح الفتح الإسلامى لمصر جوا من الحرية والتسامح لم تشهده

البلاد منذ زمن بعيد، بنص المعاهدة التى أعطاها «عمرو بن العاص»

لأهل «مصر» : «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن

العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم

وصلبهم وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شىء من ذلك ولا ينتقص، ولا

يساكنهم النوب - أهل النوبة - وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية ..

ومن دخل فى صلحهم من الروم والنوب، فله مثل ما لهم، وعليه مثل ما

عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، على ما

فى هذا الكتاب عهد الله، وذمة رسوله، وذمة الخليفة أمير المؤمنين،

وذمة المؤمنين».

وقد عمل المسلمون بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التى

أوصاهم فيها بأهل «مصر» خيرًا عندما يفتحونها؛ لأن لهم ذمة

ورحمًا، كما نصحهم أن يتخذوا منها جندًا كثيفًا، فأجنادها من خير

أجناد الأرض، لأنهم وأزواجهم فى رباط إلى يوم القيامة.

ص: 93

عوامل نجاح الفتوحات الإسلامية فى عهد عمر:

فى خلال السنوات العشر التى تولى «عمر» فيها الخلافة (13 - 23هـ)

امتدت حدود الدولة الإسلامية من ولاية «برقة» - فى «ليبيا» حاليًا -

غربًا إلى نهر «جيحون» شرقًا، ومن بحر «قزوين» فى الشمال إلى

«المحيط الهندى» فى الجنوب.

وقد حار المؤرخون فى تفسير نجاح هذه الفتوحات، وتعليل

أسبابها، فقد أذهلهم أن العرب الذين كانوا قبل دخولهم الإسلام

قليلى الشأن، لا حول لهم ولا قوة، ولا يأبه بهم أحد ولا يحسب لهم

حساب، هم فى سنوات قليلة ينجحون فى إزالة الإمبراطورية

الفارسية كلها، وهى التى وقفت ندًا للإغريق والرومان نحو ألف

سنة، وفى فتح الشام، و «مصر» وهما أعظم ولايات الدولة البيزنطية

وأكثرها غنى فى الشرق بعد إنزال هزائم قاسية بجيوشها فى

«اليرموك» وغيرها.

وسبب حيرة هؤلاء المؤرخين أنهم يربطون عادة بين الانتصارات

والهزائم فى الحروب، وبين أعداد الجيوش المتحاربة وما معها من

عدة وأسلحة، ولما كان المسلمون أقل عددًا وعتادًا على نحو لا

يقارن بما كان عند الفرس والروم، راحوا يبحثون عن أسباب أخرى

غير قضية العدد والأسلحة، وذهبوا فى ذلك مذاهب شتى.

ذهب بعضهم إلى القول بأن المسلمين واجهوا دولتى الفرس والروم،

وهما فى حالة ضعف وانهيار بعد الحروب الطويلة التى دامت بينهما،

وانتصروا عليهما بسهولة وفى وقت قصير. غير أن هذا التفسير بعيد

عن الواقع ومخالف للحقيقة، فالمعارك التى دارت فى «القادسية»

و «نهاوند» و «اليرموك» لا تؤيد هذا التعليل؛ لأنها كانت معارك

كبيرة، ولم تكن جيوش الفرس والروم فيها ضعيفة، وهى لم تهزم أمام

المسلمين لضعف قوتها المادية من الرجال والأسلحة، ولكن لأن

معنويات أفرادها كانت منحطة إلى أبعد الحدود، فى حين كانت

معنويات المسلمين عالية، ويعرفون الهدف الذى يحاربون من أجله،

وكان الموت أحب إليهم من الحياة.

وهذا هو السبب الرئيسى فى انتصاراتهم الذى نسيه الكتاب الغربيون

ص: 94

أو تناسوه، فمنبع هذه القوة وسبب هذا الانقلاب العظيم الذى لا

يوجد له مثيل فى التاريخ أن العرب أصبحوا بفضل رسالة الإسلام

أصحاب دين ورسالة، فبعثوا بعثًا جديدًا، وخُلقوا من جديد، وعلموا

أن الله قد ابتعثهم ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة

العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان

إلى عدل الإسلام، .. وعرفوا أن الله قد ضمن لهم النصر ووعدهم

الفتح، فوثقوا بنصر الله ووعد رسوله، واستهانوا بالقلة والكثرة،

واستخفوا بالمخاوف والأخطار.

وفى ذلك قال المؤرخون: «لما أقبل خالد بن الوليد من العراق،

ليتولى قيادة الجيوش فى الشام لحرب الروم، قال رجل من نصارى

العرب أمامه: ما أكثر الروم وأقل المسلمين، فنهره خالد، وقال له:

ويحك بل قل: ما أكثر المسلمين وأقل الروم إن الجيوش تكثر بالنصر

وتقل بالهزيمة لا بعدد الرجال».

وهذه الحقيقة عرفها أعداؤهم حتى إن هرقل لما انتهى إليه خبر

زحف المسلمين وانتصاراتهم، قال وكان عندئذٍ موجودًا فى حمص:

«ويحكم إن هؤلاء أهل دين جديد، وإنهم لا قبل لأحد بهم، فأطيعونى

وصالحوهم على نصف خراج الشام، ويبقى لكم جبال الروم، وإن أنتم

أبيتم ذلك أخذوا منكم الشام، وضيقوا عليكم جبال الروم».

نتائج الفتوحات الإسلامية وآثارها على العالم:

لقد ترتب على الفتوحات الإسلامية نتائج وآثار بعيدة المدى فى

تاريخ العالم، وإذا ما قورنت بغيرها - مثل فتوحات «الإسكندر»

قبلها، وفتوحات المغول بعدها - فإن تلك المقارنة تظهر عظمة

المسلمين، وأن فتوحاتهم كانت أكثر الفتوحات فى العالم خيرًا

وبركة، ففتوحات «الإسكندر» وامبراطوريته التى شادها فى الشرق

انهارت وتمزقت أوصالها بعد وفاته مباشرة، وأصبحت ذكرى من

ذكريات التاريخ، أما غزوات المغول التى لم يعرف لها تاريخ العالم

مثيلا من قبل فى همجيتها ووحشيتها، فقد دمرت معظم العالم

الإسلامى فى الشرق بما كان فيه من حضارة مزدهرة، ولم يوقف

ص: 95

زحفها المدمر سوى الجيش المصرى فى معركة «عين جالوت» سنة

(658هـ).

وهذه الغزوات المغولية البربرية كان يمكن أن ينساها التاريخ أو

يذكرها باعتبارها عملا بربريا ألم بالإنسانية فى مسيرتها الطويلة،

لولا أن الله - تعالى - أدرك برحمته الواسعة هذه الجموع الوحشية

وهداها إلى دينه، فأسلم أغلب المغول، وأظلهم الإسلام بحضارته،

وحولهم من قوة مدمرة إلى طاقة خيرة، ومن أعداء مهاجمين إلى

أتباع مدافعين، بل مشاركين فى صنع الحضارة الإسلامية.

والخلاصة أن كل أرض وصلت إليها الفتوحات الإسلامية انتشر فيها

الإسلام بحرية تامة، ودون إكراه، وانتشرت اللغة العربية والثقافة

الإسلامية، ولم يتراجع الإسلام عن أية منطقة من العالم وصل إليها

سوى «الأندلس» وكان تراجعه لأسباب تعود إلى المسلمين لا إلى

الإسلام وعندما تراجع فى «الأندلس» امتد فى مناطق أخرى فى

«جنوب شرق آسيا» وفى «أوربا» و «إفريقيا» بدون حرب أو

معارك، بل عن طريق الدعاة والتجار المسلمين، مما يدحض كلام من

يقول إن الإسلام انتشر بحد السيف. كما يردد أعداء الإسلام فى

كتاباتهم.

عمر وإدارة الدولة:

تجلت عبقرية «عمر بن الخطاب» أعظم ما تجلت فى ميادين الإدارة،

فقد ضبط نظم الدولة الإسلامية، وكانت مترامية الأطراف، وأحكم

إدارتها بمقدرة فائقة تثير الدهشة والإعجاب، فى وقت كانت فيه

وسائل الاتصال بطيئة تمامًا.

ويصعب على أى باحث أن يحيط بالجوانب الإدارية عند «عمر بن

الخطاب»، ولذا سنتعرض لبعض منها:

أولا: عمر واختيار الولاة:

استعان «عمر بن الخطاب» برجال يديرون شئون الولايات البعيدة

عنه، أما القريبة منه فكان يديرها بنفسه، وكان يقول: «ما يحضرنى

من أموركم لا ينظر فيه أحد غيرى، أما ما بعد عنى فسوف أجتهد

فى توليته أهل الدين والصلاح والتقوى، ثم لا أكتفى بذلك، بل لابد

من متابعتهم؛ لأعرف هل يقومون بالعدل بين الناس أم لا؟».

وكان لعمر بن الخطاب طريقة فى اختيار ولاته، فلم يكن يستعمل

ص: 96

أحدًا من أهل بيته، وقلما استعمل كبار الصحابة على الأمصار، بل

استبقاهم معه فى «المدينة» ليعينوه فى شئون الدولة، ويقدموا له

المشورة، ومن أهم شروط «عمر» فى الوالى:

- القوة والأمانة: والمقصود بالقوة قوة الدين، وقوة الإرادة والحزم

فى الأمور، ومن أقواله المأثورة: «إنى لأتحرج أن أستعمل الرجل

وأنا أجد أقوى منه»، ولذا فقد عزل «شرحبيل بن حسنة» عن

«الأردن» ، و «عمير بن سعد» عن «حمص» ، وضم ولايتهما إلى

«معاوية بن أبى سفيان» ، وكان المعزولان أسبق إسلامًا من

«معاوية» وأفضل، فلما كلمه الناس فى ذلك قال إنه لم يعزلهما عن

سخط أو خيانة، ولكنه كان يريد رجلا أقوى من الرجل.

- الهيبة مع التواضع: أدرك «عمر بن الخطاب» حاجة ولى الأمر إلى

الهيبة واحترام الناس، حتى يستطيع أن يقودهم، ولكن لا ينبغى لها

أن تتجاوز الحد لتصبح تسلطًا وتعاليًا، وكان يقول: «أريد رجلا - أى

واليًا - إذا كان فى القوم وليس أميرهم، كان كأنه أميرهم، وإذا كان

أميرهم كان كأنه واحد منهم».

- الرحمة بالناس: كان «عمر» يختار للولاية من اشتهر بالرحمة ولين

الجانب وحب الخير للناس، وحين كان يولى أحدًا يكتب له كتاب تولية،

ويشهد عليه بعض الصحابة، ويشترط عليه ألا يظلم أحدًا فى جسده

ولا فى ماله، ومن وصاياه لعماله: «ألا وإنى لم أبعثكم أمراء ولا

جبارين، ولكن بعثتكم أئمة الهدى، يهتدى بكم فادرءوا على

المسلمين حقوقهم، ولا تضربوهم فتذلوهم، ولاتغلقوا الأبواب دونهم،

فيأكل قويهم ضعيفهم، ولا تستأثروا عليهم فتظلموهم، ولا تجهلوا

عليهم».

ثانيًا: قواعد العمل بالنسبة إلى العمال والولاة:

لم يكن «عمر» يقنع بحسن اختيار الولاة وفق شروطه، وإنما كان

يحدد لهم أسلوب العمل، والقواعد التى يسيرون عليها، إما فى

صورة خاصة محددة كما كان يحدث فى عهد الولاية، وإما فى

توجيهات عامة كما فى المؤتمرات التى كان يعقدها للعمال والولاة،

وبخاصة فى موسم الحج.

ثالثًا: المتابعة:

ص: 97

فطن «عمر بن الخطاب» إلى فاعلية المتابعة، وأثرها فى حسن سير

الإدارة، ولذا لم يكتفِ بالتدقيق فى اختيار الولاة، وإنما وضع عليهم

العيون والأرصاد، يحصون عليهم حركاتهم وسكناتهم، ويسجلون

أعمالهم وينقلونها إلى الخليفة فور وقوعها، لأنه أدرك أن الخطأ قد

يقع بدون قصد، وأن الانحراف لا يبدأ كبيرًا، وأن كل شىء يمكن

وقفه فى أوله قبل استفحاله، عملا بالحكمة الخالدة: «الوقاية خير من

العلاج».

رابعًا: سياسة الباب المفتوح:

أدرك «عمر بن الخطاب» أن آفة الإدارة فى كل عصر هى احتجاب

كبار المسئولين عن أصحاب الحاجات فتضيع مصالح الناس أو

تتعطل، ولذا لم يكن يتهاون مع أى أمير أو والٍ يسمع أنه يحتجب

عن الناس مهما يكن شأنه، وحين بلغه أن «سعد بن أبى وقاص» قد

بنى بيتًا فى «الكوفة» من طابقين، وسماه الناس قصر «سعد» ، لأن

بقية البيوت كانت من طابق واحد، وأنه اتخذ لمكانه الذى يباشر منه

أعمال الولاية بابًا، أرسل إليه «محمد بن مسلمة الأنصارى» ، وكان

مبعوث «عمر» فى المهمات الكبيرة، وأمره أن يحرق ذلك الباب الذى

يحول بين الأمير وبين الناس، وأن يقدم بسعد معه، فلما قدم عليه

وبخه ولم يقبل اعتذاره بأن داره قريبة من السوق وأنه كان يتضايق

من ارتفاع أصوات الناس وجلبتهم، ثم رده إلى عمله بعد أن أكد عليه

ألا يعود إلى مثل هذا أبدًا.

خامسًا: المؤتمرات العامة:

ابتكر «عمر» عقد المؤتمرات العامة لمناقشة أمور الدولة، حتى يتيح

لأكبر عدد من المسلمين المشاركة فى صنع السياسة والقرار بالحوار

والمشاورة، فاهتدى إلى استثمار مناسبة الحج، وتجمع الناس فى

البلد الحرام، وقرر أن يحج كل عام، عدا السنة الأولى من خلافته،

وأن يحج معه كل ولاة الأمصار، وهناك يدور النقاش والحساب مع

الولاة عما صنعوا فى عامهم الذى مضى، وما ينوون عمله فى العام

القادم، وفوق ذلك تكون تقارير عيونه بين يديه قبل مجىء الولاة،

بحيث تكون أمورهم كلها واضحة، ولا يستطيع أحد منهم أن ينكر

ص: 98

شيئًا، ولما كانوا يعرفون ذلك فإنهم حرصوا على أن تكون سجلات

أعمالهم نظيفة، فالخليفة لا يتهاون فى حساب المقصر أو من تثبت

عليه مخالفة لشرع الله.

سادسًا: محاسبة الولاة والأمراء:

دأب «عمر بن الخطاب» على محاسبة كل والٍ مقصر، أو من يشتبه

أنه قصر فى عمله، لا يمنعه من ذلك كون الوالى كبير القدر أوصاحب

سابقة فى الإسلام، وقلما نجا والٍ من ولاته من المحاسبة، وإذا كان

الجرم صغيرًا يمكن إصلاحه؛ اكتفى بالتوبيخ، ورد الوالى إلى عمله

كما فعل مع «سعد بن أبى وقاص» ، أما إذا كان الجرم كبيرًا من

وجهة نظره؛ فإنه يأمر بعزل الأمير على الفور، ومن أشهر إجراءاته

فى هذا المجال: عزله «خالد بن الوليد» حين علم بأنه أعطى

«الأشعث بن قيس» عشرة آلاف درهم، فساورته شكوك فى أن من

يعطى عشرة آلاف مرة واحدة لرجل واحد، كم يكون لديه؟ فأمر

«أبا عبيدة بن الجراح» أمير الأمراء فى الشام بمحاكمة «خالد»

ومقاسمته ماله، فامتثل «خالد» لهذا العزل كما امتثل من قبل للعزل

الأول عن القيادة العامة.

ولم يكن «عمر» يقصد بهذا التصرف الإساءة إلى «خالد» قط، وإنما

كان يريد أن يعلم الجميع أن الإسلام فوقهم، وليس هناك استثناء

لمخالف، ولو كان قائدًا عظيمًا فى مكانة «خالد» .

سابعًا: القدوة الحسنة:

أدرك «عمر» أثر القدوة فى سياسة الناس، وأن عليه أن يعلم الناس

بأعماله قبل أن يعلمهم بأقواله.

وكثيرًا ما كان يردد للناس قوله: «سأسوكم بالأعمال وليس

بالأقوال»، وأن الرعية مؤدية إلى الإمام ما أدى الإمام إلى الله، فإن

رتع الإمام رتعوا.

وكان «عمر» قدوة فى حياته الخاصة، يعيش كما يعيش عامة الناس

دون تميز، وحين فرضوا له عطاءً (راتبًا) من بيت مال المسلمين،

ليعول منه أسرته قدروا له راتبًا يمكنه من معيشة رجل من أوسط

الناس، لا أغناهم ولا أفقرهم.

وفوق ذلك هو يشارك المسلمين ويواسيهم إذا أصابهم ضر، كما حدث

فى عام «الرمادة» المشهور سنة (18هـ) الذى أصاب الناس فيه

ص: 99

مجاعة شديدة فى شبه الجزيرة العربية لقلة الأمطار، فكان يجلب

إليهم الأقوات من الأمصار، ويأكل مما يأكله الناس، حتى ساءت

صحته، فنصحه بعض أصحابه بأن يحسِّن من طعامه، ليقوى على

العمل وإنجاز مصالح المسلمين، لكنه أجاب بقوله: «كيف يعنينى

شأن الرعية إذا لم يصبنى ما أصابهم؟».

ولا شك أن ما عبر عنه الخليفة «عمر» هو مفتاح الحكم الصالح فى

كل عصر وزمان فيوم يحس الحاكم بإحساس شعبه فسوف يستقيم

الحكم، وينصلح حال الرعية، ويوم ينفصل الحاكم عن شعبه، وتكون

له حياته الخاصة، فحينئذٍ ينفتح باب الفساد.

وقد حرص «عمر» على أن يجعل من أبنائه وأهله قدوة كذلك،

فأخذهم بما أخذ به نفسه، لأنه الناس ينظرون إليهم، وكان يقول لهم

إذا عزم على أمر يهم المسلمين: «لقد عزمت على كذا وكذا، أو نهيت

الناس عن كذا وكذا، وأقسم بالله لو خالفنى أحد منكم لأضاعفن له

العقوبة».

بهذه الإجراءات حصن «عمر» نفسه وأولاده وكل من يلوذون به ضد

أية انحرافات أو إغراءات، فأطاعه المسلمون وأحبوه سواء أكانوا

أمراء أم من عامة الناس، ولم يعرف التاريخ رجلا بعد رسول الله

صلى الله عليه وسلم و «أبى بكر الصديق» أطاعه كبار الأمراء

وصغارهم كما أطاعوا «عمر بن الخطاب» ، لا لهيبته فى عيونهم

فحسب، بل للقدوة الحسنة فى حياته وانضباطه الشديد، ولهذا كله

احتل مكانة عالية فى التاريخ الإنسانى.

عدل عمر بن الخطاب:

لم ترتبط صفة من صفات «عمر» الكثيرة باسمه كما ارتبطت به صفة

العدل، فإذا ذُكر «عمر» ذكر الناس عدله، الذى كان لا يفرِّق بين

قريب وبعيد، أو كبير وصغير، أو صديق وعدو، والأخبار المتواترة

فى ذلك أكثر من أن تحصى، ولعل قصته مع «أبى مريم السلولى»

قاتل أخيه «زيد» فى معركة «اليمامة» أصدق مثال على تجرده فى

عدله، وعدم خلطه بين عواطفه ومسئولياته باعتباره حاكمًا يُجرى

العدل بين الناس.

فحين قابل «عمر» - وهو خليفة - قاتل أخيه بعد أن أسلم، قال له:

ص: 100

أأنت قاتل «زيد بن الخطاب» ؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: والله

لا أحبك أبدًا، فقال «أبو مريم»: أو تمنعنى بذلك حقا لى، قال: لا.

قال: إذًا يا أمير المؤمنين إنما يأسى على الحب النساء. يريد أنه

مادام لا يظلمه الخليفة فلا يعنيه أحبه أم كرهه، لأن النساء هن اللائى

يأسفن على الحب.

ولا لوم على «عمر» فى التعبير عن عواطفه التى لا يملكها تجاه

قاتل أخيه، فقد ورد أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لوحشى

قاتل عمه «حمزة بن عبدالمطلب» حين رآه بعدما أسلم: «غيِّب وجهك

عنى يا وحشى لا أراك». ولكن للقصة دلالة على ضبط النفس والتجرد

المطلق لعمر ابن الخطاب، فلم يحمله غضبه من قاتل أخيه على ظلمه.

وامتد عدل «عمر» ليشمل كل من يعيش على أرض الإسلام، سواء

أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، فحين رأى يهوديا يتسول أحزنه

ذلك. وأخذ الرجل من يده، وأعطاه معونة عاجلة من بيت الدقيق (8)،

وأمر له براتب دائم من بيت مال المسلمين.

إحساسه بالمسئولية:

بلغ من شدة إحساس «عمر» بالمسئولية أنه لم يكتفِ بأن يكون

مسئولا عن حياة البشر الذين يعيشون فى دولته، بل مسئولا عن

البهائم والدواب أيضًا. وذلك فى مقولته الشهيرة: «والله لو أن بغلة

عثرت بشط الفرات لكنت مسئولا عنها أمام الله، لماذا لم أعبد -

أسوى - لها الطريق».

وأعمال «عمر» العظيمة من الفتوحات واستكمال بناء الدولة

ومؤسساتها لم تشغله عن متابعة أحوال الناس وتفقدها؛ ليقف على

أوجه النقص ليتلافاها أولا بأول، فكان كثير الطواف ليلا بالمدينة،

وسمع ذات ليلة طفلا يبكى بكاء مستمرا، فسأل عن أمره، فعرف أن

أمه منعت عنه الرضاع، لأنه لا يُفرض عطاء من بيت المال إلا للأطفال

المفطومين، فانزعج «عمر» ، وأصدر أوامره أن يفرض عطاء لكل

مولود فى الإسلام، ونادى مناديه: لا تعجلوا فطام أولادكم.

وحوادث «عمر» التى من هذا القبيل كثيرة، وقد يظنها بعض الناس

ص: 101

أنها من المبالغات، ولكنها متواترة فى المصادر التى أرَّخت لعمر

وعصره، فمن يصدق أن خليفة المسلمين يأخذ امرأته «أم كلثوم بنت

على بن أبى طالب» ومعها كل ما تحتاج إليه عملية ولادة، لمساعدة

امرأة غريبة جاءها المخاض، فيشترك هو معها فى الإشراف على

ولادتها؛ وصنع الطعام لها، ولما أنجز مهمته، قال لزوج المرأة: «إذا

كان الغد فأتنا نأمر لك بما يصلحك»، ففعل الرجل فأجازه وأعطاه.

عمر والقضاء:

عندما بويع «أبو بكر» بالخلافة شكى لعمر من كثرة أعبائها وخوفه

من عدم النهوض بكل مسئولياتها، فقال له «عمر»: «أنا أكفيك

القضاء وأبو عبيدة يكفيك الأموال»، ومعنى ذلك أن «عمر» كان

قاضيًا لأبى بكر.

وفى عهد «عمر» اتسعت الدولة، واحتاج كل إقليم إلى قاضٍ، فعين

«عمر» القضاة وكان يدقق فى اختيارهم، فعين: «شريح بن الحارث

الكندى» على قضاء «الكوفة» ، و «أبا الدرداء» على قضاء الشام،

و «عثمان بن قيس» على قضاء «مصر» .

ولم يكن «عمر» فى حاجة إلى سن قوانين للقضاة، لأنهم يحكمون

طبقًا لكتاب الله وسنة رسوله، ولكنه كان فى حاجة إلى تعليمهم

كيف يتصرفون حين يلتبس الأمر عليهم، وقد كتب لأحدهم يقول له:

«فإن جاءك أمر ليس فى كتاب الله ولم تكن فيه سنة من رسول الله،

ولم يتكلم فيه أحد قبلك، فاختر أى الأمرين شئتَ، إن شئتَ أن تجتهد

رأيك وتقدِّم فتقدم، وإن شئتَ أن تأخَّر فتأخر».

ومن أعظم وصاياه للقضاة وصيته لأبى موسى الأشعرى، ومما جاء

فيها: «آس - أى سوِّ بين الناس فى مجلسك ووجهك - حتى لا يطمع

شريف فى حيفك - ظلمك - ولا ييأس ضعيف من عدلك، والبينة على من

ادعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا

حرَّم حلالا أو حلل حرامًا .. ».

إصلاحات عمر بن الخطاب وإنشاءاته:

لعمر بن الخطاب كثير من الإصلاحات والإنشاءات التى لم يُسبق إليها،

وسماها مؤرخو سيرته «أوليات عمر» ، فهو أول من سُمى أمير

ص: 102

المؤمنين، وأول من اتخذ حادث الهجرة مبدأ التاريخ للدولة الإسلامية،

بعد أن استشار فى ذلك كبار الصحابة، وهو أول من اتخذ بيت

المال، وهو يشبه خزانة الدولة، وأول من مصَّر الأمصار، أى بنى مدنًا

جديدة كالبصرة و «الكوفة» فى «العراق» ، و «الفسطاط» - حى مصر

القديمة حاليا - فى «مصر» ، وأول من وسَّع مسجد رسول الله - صلى

الله عليه وسلم -، وأدخل فيه دار «العباس بن عبد المطلب» ، وفرشه

بالحصباء، أى الحجارة الصغيرة، وكانوا قبل ذلك يصلون على

التراب.

وهو أول من دوَّن الدواوين، وهى تشبه الوزارات فى الوقت الحاضر،

وقد اقتبس هذا النظام من الفرس والروم، فأنشأ «ديوان العطاء» ،

وكان مختصًا بالعطاء الذى فرضه «عمر» للمسلمين، وأنشأ «ديوان

الجند» - وزارة الدفاع حاليًا - و «ديوان الخراج» - وزارة المالية -

و «نظام البريد» الذى كان يُستخدم فى أمور الدولة.

ومن أعظم اجتهاداته إبقاؤه الأرض المفتوحة فى أيدى أهلها

يزرعونها، ويدفعون خراجًا -إيجارًا - للدولة، تنفق منه على الجيش

والمرافق العامة، كما أمر بإعادة مسح الأرض - أى قياسها

واختبارها - ووضع الخراج المناسب عليها. حسب جودة الأرض.

وهو أول من قنن الجزية على أهل الذمة، فوضع على الأغنياء ثمانية

وأربعين درهما للفرد الواحد فى السنة، وعلى متوسطى الحال أربعة

وعشرين درهمًا، وعلى الفقراء القادرين على الكسب اثنى عشر

درهمًا، وأعفى منها الشيوخ والنساء والأطفال ورجال الدين

والعاجزين عن الكسب، وقد سبق القول إنه فرض للعاجزين عن

الكسب من أهل الذمة عطاءً من بيت المال.

وكما ترك «عمر بن الخطاب» الأرض لأهلها يزرعونها؛ ترك معظم

الدواوين - وبخاصة «ديوان الخراج» - فى أيدى أبناء البلاد المفتوحة

يزاولونها بلغاتها؛ لأنها كما يقول العقاد: «ليست من أسرار الدولة،

وليس من الميسور أن ينصرف إليها فتيان العرب عما هو أولى بهم،

وهو فرائض الدفاع والجهاد».

ص: 103

ولاشك أن ترك تلك الأعمال فى أيدى أبناء البلاد المفتوحة كان

مبعث ارتياح لهم، فاطمأنوا للحكم الإسلامى، بل أخذوا يعتنقون

الإسلام، ويتعلمون اللغة العربية.

استشهاده:

فى يوم الأربعاء الموافق 26 من شهر ذى الحجة سنة 23هـ وبينما

«عمر بن الخطاب» يسوِّى صفوف المسلمين فى صلاة الفجر كعادته

كل يوم، وبدأ ينوى مكبرًا للصلاة، إذا بأبى لؤلؤة المجوسى يسدد

للخليفة عدة طعنات بخنجر مسموم، فقطع أمعاءه، وسقط مغشيًا

عليه، واضطرب المسلمون فى الصلاة اضطرابًا شديدًا من هول

المفاجأة، وأقبلوا على القاتل محاولين القبض عليه، لكنه أخذ يضرب

شمالا ويمينًا بدون هدى، فأصاب اثنى عشر من الصحابة، مات ستة

منهم، ثم أتاه رجل من خلفه وألقى عليه رداءه وطرحه أرضًا فلما

أيقن «أبو لؤلؤة» أنه مقبوض عليه لا محالة، طعن نفسه بالخنجر

الذى طعن به أمير المؤمنين، ومات على الفور قبل موت الخليفة نفسه

ومات معه السر الخفى الذى دفعه إلى هذه الجريمة البشعة.

حمل المسلمون الخليفة إلى بيته، وظل فاقد الوعى فترة طويلة، فلما

أفاق كان أول سؤال سأله للمسلمين: هل صليتم الصبح؟ قالوا: نعم،

قال: الحمد لله، لا إسلام لمن ترك الصلاة، ثم سأل: من الذى قتلنى؟

قالوا: «أبو لؤلؤة» غلام «المغيرة بن شعبة» . قال: الحمد لله الذى

جعل منيتى على يد رجل كافر، لم يسجد لله سجدة واحدة يحاجنى

بها عند الله يوم القيامة.

المؤامرة:

كان «أبو لؤلؤة» غلامًا مجوسيا، أُسِرَ فى معركة «نهاوند» ، ووقع

من نصيب المغيرة بن شعبة، وكان يجيد حرفًا كثيرة كالحدادة

والنجارة، وكان سيده يتركه يعمل ويأخذ منه درهمين فى اليوم.

فاشتكى إلى أمير المؤمنين «عمر» مستكثرًا الدرهمين، فسأله

«عمر» عن صناعته، فأخبره، فقال: لا أرى ذلك كثيرًا، وكانت تلك

المهن رائجة فى ذلك الوقت وتدرُّ عليه مالا وفيرًا، فحقدها العبد

المجوسى وعزم على قتله.

هذا هو السبب الظاهر الذى روته كتب التاريخ والسير، لكنه لا يقنع

ص: 104

وحده بارتكاب جريمة خطيرة كهذه، فالأمر أكبر من ذلك وأبعد

مدى، ووراءه تدبير واسع ومؤامرة محكمة نُسجت خيوطها فى بلاد

فارس وكان فيها «أبو لؤلؤة» أداة تنفيذ فحسب، وكان هو مستعدًا

بتكوينه للقيام بها، فقد رُوى عنه أنه كان كلما رأى أسرى بلاده

فى «المدينة» ، يقول:«أكل عمر كبدى» ، لأن «عمر» هو الذى أزال

دولة الفرس وأنزل الأكاسرة من على عروشهم.

ولم تكن الجريمة فارسية فقط باشتراك «أبى لؤلؤة» ، و «الهرمزان»

الذى كان أميرًا فارسيا وأُسِرَ فى إحدى الحروب وجاء إلى

«المدينة» وأظهر الإسلام، بل كانت يهودية باشتراك «كعب الأحبار» ،

ونصرانية باشتراك «جفينة» .

وكان «كعب الأحبار» يهوديا ادعى الإسلام، جاء إلى «عمر» قبل

طعنه بثلاثة أيام، وقال له: يا أمير المؤمنين اعهد - أى اختر لك خلفًا

يعقبك فى الحكم - فإنك ميت بعد ثلاثة أيام، فتعجب «عمر» وسأله

كيف عرفت ذلك؟ قال: أجده فى التوراة، فقال «عمر»: يا سبحان

الله! هل تجد «عمر بن الخطاب» مذكورًا فى التوراة، قال: أجدك

بصفتك. لكن «عمر» لم يعط لهذا الحديث اهتمامًا، فهل كان «كعب

الأحبار» على علم بما دبره «أبو لؤلؤة المجوسى» وبقية شركائه؟

يقول الدكتور «هيكل» : «لابد إذًا أن يكون كعب الأحبار عرف بسر

ماكان يجرى، فوجه النذير إلى «عمر» ، وأغفل «عمر» أمر هذا

النذير .. فحدث ما حدث، ونذير «كعب» وطعنات «أبى لؤلؤة» تدل

على أن فى الأمر سرا لم يظهر ساعة ارتكاب الجريمة؛ لكنه ظهر من

بعد».

أما «الهرمزان» و «جفينة» فأمرهما أوضح من أمر «كعب الأحبار» ،

واشتراكهما فى الجريمة لا لبس فيه، فقد شهد «عبدالرحمن بن عوف»

أنه رأى الخنجر الذى طُعِن به «عمر» مع «الهرمزان» و «جفينة» فى

اليوم السابق ليوم الجريمة، وسألهما ماذا يصنعان به؟ فقالا: نقطع

به اللحم، وشهد «عبدالرحمن بن أبى بكر الصديق» أنه مرَّ فى الليلة

التى طعن «أبو لؤلؤة» «عمر» فى صبيحتها فى أحد طرق

ص: 105

«المدينة» ، فوجد «أبا لؤلؤة» و «الهرمزان» و «جفينة» يتناجون -

يتحدثون سرا - فلما طلع عليهم فجأة، قام «أبو لؤلؤة» مرتبكًا،

فسقط منه الخنجر نفسه الذى طعن به «عمر» .

ومما يؤكد أن قتل «عمر بن الخطاب» كان مؤامرة انتحار «أبى

لؤلؤة» نفسه، فليس هناك رجل يقدم على عمل كهذا من أجل بضعة

دراهم، حتى لو رأى أن «عمر» لم ينصفه، فقد كان بإمكانه أن

يعاود الشكوى ويأخذ حقه، ولكن العبد المجوسى مُلئ حقدًا، وأوعز

عليه فأقدم على جريمته إقدام من يؤمن بأنه يقوم بعمل بطولى

يستحق أن يدفع من أجله حياته.

وهناك أمر آخر يؤكد المؤامرة، وأنها نُسجت خيوطها فى بلاد فارس

نفسها، وهو ثورة معظم بلاد فارس على المسلمين، ونقض معاهدات

الصلح، التى وقعها معهم الفاتحون المسلمون، فور سماعهم خبر

مقتل «عمر» ، وكأنهم كانوا ينتظرون ذلك بصبر نافد؛ لأنهم ظنوا أن

وفاة «عمر» هى فرصتهم لإعادة الأمور إلى ماكانت عليه قبل

الفتوحات.

تفكير عمر فى أمر الخلافة ووفاته:

أيقن «عمر بن الخطاب» بعد طعنه أنه لم يبق من عمره سوى

ساعات، وكذلك أيقن المسلمون، ولذا ألحوا عليه أن يختار لهم من

يخلفه فيهم، فرشَّح لهم ستة من الصحابة، هم بقية العشرة المبشرين

بالجنة، يختارون من بينهم واحدًا للخلافة، ومع أن ابن عمه «سعيد بن

زيد بن عمرو بن نُفيل» واحد من العشرة المبشرين بالجنة، فقد

استبعده من الترشيح، خوفًا أن يقع عليه الاختيار لقرابته منه، كما

استبعد ابنه «عبد الله» من الترشيح تمامًا، بل رد على من اقترح عليه

ترشيحه ردا قاسيًا، إبعادًا لشبهة الوراثة عن نظام الحكم الإسلامى،

وجعل الأمر فى يد الأمة تختار الأصلح ليتولى أمرها.

قال «عمر» لهم: «عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله - صلى الله

عليه وسلم -: إنهم من أهل الجنة، سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل

منهم، ولست مدخله فيهم، ولكن الستة، هم: على بن أبى طالب،

وعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وسعد بن أبى وقاص،

ص: 106

وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله».

واهتم «عمر» وهو فى تلك الحال بأمر دفنه، وطلب أن يُدفن إلى

جوار الرسول صلى الله عليه وسلم و «أبى بكر الصديق» - رضى الله

عنه - فى بيت «عائشة» ، لينعم بصحبته فى الآخرة كما نعم بها فى

الدنيا، فأرسل ابنه «عبد الله» إلى «عائشة» - رضى الله عنهما -

وقال له: قل لها: «عمر» يقرأ عليك السلام ويستأذنك فى أن يُدفن

مع صاحبيه، فأتاها «عبد الله» فوجدها تبكى، فسلم عليها، ثم قال

لها ما أمره به أبوه، فقالت: «كنت والله أريده لنفسى - أى المكان -

ولأوثرنه به اليوم على نفسى»، فلما رجع «عبد الله» ، وأخبر أباه أن

«عائشة» أذنت له، تهلل وجهه، وقال: الحمد لله ماكان شىء أهم

إلى من ذلك المضجع.

وفى اليوم التالى لطعنه أى يوم الخميس الموافق 27 من ذى الحجة

سنة 23هـ فاضت روح «عمر» بعد أن قضى فى الخلافة عشر سنوات

وبضعة شهور، وكُفن فى ثلاثة أثواب أسوة بكفن رسول الله،

وصلى عليه «صهيب الرومى» -رضى الله عنه - وكان «عمر» قد أمره

أن يصلى بالناس بعد طعنه، ودُفن مع رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - و «أبى بكر الصديق» .

ص: 107

الفصل الثامن

*خلافة عثمان بن عفان (24 - 35)

نسبه:

هو «عثمان بن عفان بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد

مناف»، ولِد بعد «عام الفيل» بست سنوات (576م)، وأمه «أروى بنت

كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس»،فعثمان يلتقى فى نسبه من

جهة أمه وأبيه مع النبى صلى الله عليه وسلم فى «عبدمناف» .

صفاته:

كان ربعة من الرجال، ليس بالقصير ولا بالطويل، حسن الوجه أبيض

مشربًا بحمرة، غزير الشعر يكسو ذراعيه شعر طويل، طويل اللحية،

ومن أحسن الناس ثغرًا.

أخلاقه:

أجمعت المصادر التى أرخت له على وصفه بسماحة النفس، ورقة

المشاعر، وكان رضى الخلق، كريمًا، شديد الحياء، صوَّامًا قوَّامًا،

محبوبًا من الناس فى جاهليته وإسلامه.

وتحدث هو عن نفسه فقال: لقد اختبأت لى عند ربى عشرًا، إنى

لرابع أربعة فى الإسلام، ولقد ائتمننى رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - على ابنته - رقية - ثم توفيت، فزوجنى الأخرى - أم كلثوم -

ووالله ما سرقت ولا زنيت فى جاهلية ولا إسلام قط ولا تغنيت، ولا

تمنيت ولا مسحت فرجى بيمينى منذ بايعت رسول الله، ولقد جمعت

القرآن على عهد رسول الله، ولا مرت بى جمعة منذ أسلمت إلا وأنا

أعتق فيها رقبة، فإن لم أجد فيها رقبة أعتقت فى التى تليها

رقبتين.

إسلامه:

أسلم «عثمان» مبكرًا، وكان الذى دعاه إلى الإسلام هو «أبو بكر

الصديق»، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم على

يديه بعد إسلام «أبى بكر» مباشرة، ولذا كان يقول: «إنى لرابع

أربعة فى الإسلام بعد «أبى بكر» و «خديجة» و «زيد بن حارثة» ،

وحرص عثمان على إسلامه أشد الحرص، على الرغم من الضغوط التى

تعرض لها، فعندما علم عمه «الحكم بن أبى العاص» بإسلامه أوثقه

بالحبال، وقال له: «ترغب عن دين آبائك إلى دين محدث؟ والله لا

أدعك حتى تدع ما أنت فيه» فأجابه «عثمان» : «والله لا أدعه أبدًا

ولا أفارقه».

مصاهرته للرسول صلى الله عليه وسلم:

ص: 108

تزوج «عثمان بن عفان» من ابنتى رسول الله صلى الله عليه وسلم،

فتزوج «رقية» ، وظلت معه حتى تُوفيت يوم انتصار المسلمين فى

غزوة «بدر» ، ولهذا لم يحضر «عثمان» «بدرًا» ، لأن الرسول - صلى الله

عليه وسلم - أمره بالبقاء معها لتمريضها، وقد عده النبى - صلى الله

عليه وسلم - من البدريين رغم غيابه عن المعركة، وفرض له فى

غنائمها، ثم زوجه النبى صلى الله عليه وسلم ابنته «أم كلثوم» ،

ولهذا لُقب بذى النورين، فلما توفيت فى العام التاسع من الهجرة؛

حزن «عُثمان» حزنًا شديدًا؛ لانقطاع مصاهرته للنبى - صلى الله عليه

وسلم -، فواساه مواساة رقيقة قائلا: «لو كانت لنا أخرى لزوجناكها

يا عثمان».

عثمان مع النبى صلى الله عليه وسلم:

جاهد «عثمان بن عفان» منذ أن أسلم مع النبى - صلى الله عليه

وسلم - بماله ونفسه، فهاجر الهجرتين: إلى «الحبشة» وإلى

«المدينة» ، وصاحبته زوجه رقية بنت النبى صلى الله عليه وسلم،

وتحمل كثيرًا من الأذى.

بذل «عثمان» ماله فى سبيل الله ونصرة دعوته، وكان من أكثر

«قريش» مالا، فاشترى «بئر رومة» باثنى عشر ألف درهم، وجعلها

للمسلمين فى «المدينة» ، وكانوا يعانون من قلة المياه، وغلاء

أسعارها.

كما أنفق ماله فى تجهيز الجيوش وبخاصة جيش العسرة فى غزوة

«تبوك» فى العام التاسع من الهجرة، فقد جهز وحده ثلث الجيش،

وكان عدده نحو ثلاثين ألفًا، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - بخير، وقال:«ماضر عثمان مافعل بعد اليوم» ، قالها مرتين.

وشهد «عثمان» المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم،

عدا غزوة «بدر» ، فقد تخلف عنها بأمر من النبى - صلى الله عليه

وسلم -، وأرسله النبى إلى «مكة» عام «الحديبية» لمفاوضة «قريش» ،

بعد اعتذار «عمر بن الخطاب» لرسول الله بقوله: «إنى أخشى على

نفسى من «قريش» لشدتى عليها وعداوتى إياها، ولكنى أدلك على

رجل أمنع وأقوى بها منى، عثمان بن عفان».

ص: 109

ولما أشيع أن «قريشًا» قد قتلت «عثمان» ، قال النبى - صلى الله

عليه وسلم -: «لو كانوا فعلوها فلن نبرح حتى نناجزهم» ، وبايعه

أصحابه «بيعة الرضوان» تحت الشجرة، وبايع النبى نفسه نيابة عن

«عثمان» ، وقال:«إن عثمان بن عفان فى حاجة الله وحاجة رسوله»

وضرب بإحدى يديه على الأخرى مشيرًا إلى أن هذه بيعة «عثمان» ،

فكانت يد النبى صلى الله عليه وسلم لعثمان خيرًا من أيديهم

لأنفسهم.

وكان من كُتاب الوحى كما هو معلوم.

ثناء النبى صلى الله عليه وسلم على عثمان:

الأحاديث الواردة فى فضل «عثمان بن عفان» وثناء النبى عليه

كثيرة، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:

«ألا أستحى من رجل تستحى منه الملائكة؟» .

وكان عثمان بن عفان قريبًا من الخليفتين، «أبى بكر الصديق»

و «عمر بن الخطاب» ، وموضع ثقتهما وأحد أركان حكومتهما، ومن

كبار مستشاريهما، وكان يكتب لهما، وهو الذى كتب كتاب ولاية

العهد من «أبى بكر» إلى «عمر بن الخطاب» - رضى الله عنهما -

وترتيب «عثمان» فى الفضل بين الصحابة كترتيبه فى تولِّى الخلافة

عند جمهور علماء الأمة.

أهل الشورى وبيعة عثمان:

لم يشأ «عمر بن الخطاب» أن يعهد بالخلافة إلى شخص بعينه، وقال:

«إن أعهد - يعنى لشخص محدد - فقد عهد من هو خير منى - يقصد

أبا بكر عندما عهد إليه هو نفسه - وإن لم أعهد فلم يعهد من هو خير

منى - يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تركها شورى بين

المسلمين».

ولعل اجتهاده أدَّاه إلى أن تصرف الرسول و «أبى بكر» يعطى له

الفرصة أيضًا أن يختار طريقة أخرى لاختيار من يخلفه، ليثرى بذلك

طرق الاختيار، وليرسخ فى أذهان الناس أن أمر اختيار الحاكم منوط

دائمًا بالأمة وإرادتها ورضاها، وهى التى تملك محاسبته وعزله إن

ارتكب ما يوجب العزل.

رشح «عمر بن الخطاب» ستة من الصحابة، ليتولى واحد منهم منصب

الخلافة، ولم يأمر أحدًا منهم أن يصلى بالناس إمامًا، حتى لا يظن

ص: 110

الناس أنه يميل إليه، بل أمر صهيبًا أن يصلى بالناس، لتكون فرصتهم

فى الاختيار متساوية، وشدد على ألا تمضى ثلاثة أيام بعد وفاته إلا

ويكون عليهم أمير من هؤلاء الستة يتولى مسئولية الخلافة ويتحمل

تبعاتها.

وبعد أن فرغ المسلمون من دفن «عمر» ، شرع المرشحون الستة فى

التفاوض، وبعد نقاش طويل اقترح عليهم «عبد الرحمن بن عوف» أن

يتنازل عن حقه فى الخلافة. ويتركوا له اختيار الخليفة، فوافقوا على

ذلك، فشرع فى معرفة آرائهم واحدًا بعد واحد على انفراد، فرأى أن

الأغلبية تميل إلى «عثمان» ، ثم أخذ يسأل غيرهم من الصحابة، «فلا

يخلو به رجل ذو رأى فيعدل بعثمان».

اطمأن «عبد الرحمن» إلى أن الأغلبية تزكى «عثمان بن عفان»

فأعلن ذلك على ملأ من الصحابة فى مسجد النبى - صلى الله عليه

وسلم -، ولما كان يعلم أن الذى يلى «عثمان» فى المنزلة عند

الصحابة، هو «على بن أبى طالب» ، الذى مال إليه عدد منهم، فإنه

رأى أن يوضح له أن الأغلبية مع «عثمان» ، فقال له: «أما بعد

ياعلى، فإنى نظرت فى الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن

على نفسك سبيلا» - كأنه يحذره من المخالفة- ثم أخذ بيد «عثمان» ،

فقال: «نبايعك على سنة الله ورسوله، وسنة الخليفتين بعده» ،

فبايعه «عبد الرحمن» ، وبايعه المهاجرون والأنصار؛ ولم يتخلف أحد

عن بيعته من الصحابة، وكان ذلك بعد وفاة «عمر» بثلاثة أيام.

خطبة البيعة:

استقبل «عثمان» بخلافته أول المحرم سنة 24هـ، وصعد المنبر بعد

تمام البيعة، وخطبهم قائلا -بعد حمد الله والصلاة على رسوله-: «إنكم

فى دار قلعة -أى دار الدنيا - وفى بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير

ما تقدرون عليه .. ألا وإن الدنيا طويت على الغرور، فلا تغرنكم الحياة

الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور، اعتبروا بما مضى، ثم جدوا ولا

تغفلوا، فإنه لا يغفُل عنكم، أين أبناء الدنيا وإخوانها: الذين

أثاروها وعمروها، ومتعوا بها طويلا، ألم تلفظهم؟ ارموا الدنيا حيث

ص: 111

رمى الله بها، واطلبوا الآخرة .. ».

وأول ما يُلاحظ على الخطبة الأولى، التى افتتح بها «عثمان»

خلافته، خلوها من الإشارة إلى المنهج الذى سيسير عليه، ولعله

اكتفى بما قاله لعبدالرحمن بن عوف لحظة البيعة، من أنه سيعمل

بكتاب الله، وسنة نبيه، وسيرة الخليفتين بعده.

كتبه إلى العمال والولاة:

كتب «عثمان» - رضى الله عنه - فى الأيام الأولى من خلافته عددًا من

الكتب إلى الولاة وأمراء الجند، بل وإلى عامة الناس، تتضمن نصائحه

وإرشاداته، يقول «الطبرى»: أول كتاب كتبه «عثمان» إلى عماله:

«أما بعد فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة - يرعون مصالح الأمة -

ولم يتقدم إليهم - أى لم يطلب منهم - أن يكون جباة، وإن صدر هذه

الأمة خلقوا دعاة، ولم يخلقوا جباة، وليوشكن أئمتكم أن يصيروا

جباة ولا يكونوا دعاة، فإن عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة

والوفاء، ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا فى أمور المسلمين فيما

عليهم، فتعطوهم مالهم، وتأخذوهم بما عليهم، ثم تثنوا بالذمة،

فتعطوهم الذى لهم، وتأخذوهم بالذى عليهم، ثم العدو الذى

تنتابون، فاستفتحوا عليهم بالوفاء».

وكتب إلى أمراء الأجناد وقادة الجيوش: «أما بعد، فإنكم حماة

المسلمين وذادتهم، وقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا، بل كان عن ملإ

منا، فلا يبلغنى عن أحد منكم تغيير ولا تبديل، فيغير الله ما بكم،

ويستبدل بكم غيركم، فانظروا كيف تكونون، فإنى أنظر فيما

ألزمنى الله النظر فيه، والقيام عليه».

وكتب إلى عمال الخراج المسئولين عن الشئون المالية: «أما بعد فإن

الله خلق الخلق بالحق، ولا يقبل إلا الحق، خذوا الحق، وأعطوا الحق،

والأمانة الأمانة، قوموا عليها، ولا تكونوا أول من يسلبها .. والوفاء

الوفاء، ولا تظلموا اليتيم ولا المعاهد، فإن الله خصم لمن ظلمهم».

وكتب إلى عامة الرعية: «أما بعد فإنكم إنما بلغتم ما بلغتم بالاقتداء

والاتباع، فلا تفتنكم الدنيا عن أمركم، فإن أمرهذه الأمة صائر إلى

ص: 112

الابتداع بعد اجتماع».

وهذه الكتب توضح سياسة «عثمان بن عفان» العامة، التى كان

يتوخى أن يتبعها عماله وولاته فى إدارة شئون الأمة، وهى سياسة

طابعها الرفق بالرعية، والسهر على مصالحها، والإنصاف فى جمع

الخراج، وإيصال الحقوق إلى أصحابها، والإحسان إلى أهل الذمة،

ورعاية جميع طوائف الأمة.

الفتوحات فى عهد عثمان بن عفان:

المسلمون والفرس:

كان «عمر بن الخطاب» قد أمر المسلمين بالانسياح فى بلاد فارس

بعد موقعة «نهاوند» سنة (21هـ) وكلمة الانسياح من تعبيرات

المؤرخين القدماء، وهى تدل على سهولة الفتح بعد «نهاوند» ؛ إذ لم

يلق المسلمون هناك مقاومة تذكر.

وقد نجح قادة الجيوش التى أرسلها «عمر» فى فتح المقاطعات

الفارسية كهمذان، و «خراسان» و «أذربيجان» ، و «اصطخر» ،

و «أصبهان» ، وكان أمراؤها الفرس قد رأوا عدم جدوى المقاومة،

فسلموا بلادهم على شروط المسلمين، وقبلوا دفع الجزية، ووقعت

معهم معاهدات، هى آية فى الرحمة والعدل والتسامح، من ذلك

معاهدة «عتبة بن فرقد» لأهل «أذربيجان» :

«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عتبة بن فرقد عامل عمر بن

الخطاب أمير المؤمنين أهل أذربيجان: سهلها وجبلها وحواشيها

وشفارها، وأهل مللها كلهم، الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم

وشرائعهم، على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم، ليس على صبى

ولا امرأة ولا زمن - مريض - ليس فى يديه شىء من الدنيا، ولا متعبد

متخل ليس فى يديه شىء من الدنيا لهم ذلك ولمن سكن معهم،

وعليهم قِرَى المسلم من جنود المسلمين يومًا وليلة ودلالته - على

الطريق -ومن حشر منهم - أى من يُستعان به فى خدمات الجيش - فى

سنة، وضع عنه جزاء تلك السنة - أى لا يدفع جزية - ومن أقام فله

مثل ما لمن أقام من ذلك، ومن خرج فله الأمان حتى يلجأ إلى حرزه».

وبعد مقتل «عمر» نقضت معظم المقاطعات الفارسية معاهداتها مع

المسلمين، ظنا من أمرائها أن فى مقتل «عمر» فرصة لطرد المسلمين

ص: 113

من البلاد التى فتحوها، فوقف «عثمان بن عفان» لهذه الثورة

وقضى عليها، كما فعل «أبو بكر» حيث قمع الردة فى شبه الجزيرة

العربية، وأعاد إليها وحدتها الدينية والسياسية، وأخذ «عثمان»

يجهزالجيوش، ويصدر أوامره إلى أمراء الأمصار:«الوليد بن عقبة»

فى «الكوفة» ، و «عبدالله بن عامر» فى «البصرة» ، للتصدى بحزم

لحركة الردة الفارسية، وإعادة الفرس إلى الطاعة والنظام.

وكانت إعادة فتح تلك المقاطعات أصعب من فتحها الأول فى عهد

«عمر بن الخطاب» ؛ لأنها حينذاك سلمت بدون قتال تقريبًا بعد

هزيمتهم فى «نهاوند» فى حين بذل المسلمون فى عهد «عثمان»

جهدًا كبيرًا، وخاضوا معارك شرسة فى بضع سنوات (24 - 31هـ)

لإعادة فتح بلاد فارس مرة أخرى، وقد شهدت تلك المعارك الفصل

الأخير من حياة آخر ملوك «آل ساسان» «يزدجرد الثالث» ، حيث لقى

مصرعه على يد رجل فارسى فى «مرو» سنة (31هـ)، وبموته طويت

صفحة دولة فارس من التاريخ.

ومما يجدر ذكره ويثير الإعجاب أن المسلمين لم يقسوا على الفرس

ولم ينكلوا بهم بعد ثورتهم وخروجهم، بل قبلوا اعتذارهم، ولم

يفرضوا عليهم التزامات جديدة، واستمروا فى معاملتهم طبقًا

للمعاهدات الأولى.

وبدأت بلاد فارس تشهد تاريخًا جديدًا تحت راية الإسلام، يملؤه العدل

والتسامح والرحمة، وأسلمت الأمة الفارسية، وأصبحت جزءًا مهما من

العالم الإسلامى وأسهمت إسهامًا كبيرًا فى بناء الحضارة الإسلامية.

المسلمون والروم فى عهد عثمان:

بعد وفاة «عمر بن الخطاب» ، قام الروم بمحاولة لطرد المسلمين،

فهاجموا الشام - فى السنة الأولى من خلافة «عثمان» بقوات كبيرة

من آسيا الصغيرة، جعلت والى الشام القدير «معاوية بن أبى

سفيان» يطلب المدد من «عثمان بن عفان» ، الذى أمر بتحريك قوات

من «العراق» لنجدة الشام.

وكتب «عثمان بن عفان» إلى والى «الكوفة» «الوليد بن عقبة»

كتابًا يقول فيه: «أما بعد فإن معاوية بن أبى سفيان كتب إلىَّ

ص: 114

يخبرنى أن الروم قد أجلبت على المسلمين بجموع عظيمة - أى

هاجمت - وقد رأيت أن يمدهم إخوانهم من أهل الكوفة، فإن أتاك

كتابى هذا، فابعث رجلا ممن ترضى نجدته وبأسه وشجاعته

وإسلامه، فى ثمانية آلاف، أو تسعة آلاف، أو عشرة آلاف، إليهم من

المكان الذى يأتيك فيه رسولى، والسلام».

ولما بلغ الكتاب والى «الكوفة» ، جمع الناس وخطب فيهم وأبلغهم

أمر الخليفة، وقال: «قد كتب إلىَّ أمير المؤمنين يأمرنى أن أندب

منكم ما بين العشرة الآلاف إلى الثمانية الآلاف، تمدون إخوانكم من

أهل الشام، فإنهم قد جاشت عليهم الروم، وفى ذلك الأجر العظيم

والفضل المبين، فانتدبوا رحمكم الله مع سلمان بن ربيعة الباهلى،

فانتدب الناس، فلم يمض ثالثة - أى ثلاثة أيام - حتى خرج ثمانية آلاف

رجل من أهل الكوفة، فمضوا حتى دخلوا مع أهل الشام إلى أرض

الروم، وعلى جند أهل الشام حبيب بن مسلمة بن خالد الفهرى، وعلى

جند أهل الكوفة سلمان بن ربيعة، فشنوا الغارات على أرض الروم،

فأصاب الناس ماشاءوا من سبى، وملئوا أيديهم من المغنم، وافتتحوا

بها حصونًا كثيرة».

محاولات الروم العودة إلى مصر:

لم يكف الروم عن محاولاتهم الهجوم على المسلمين، على الرغم من

هزيمتهم فى الشام، وما إن اعتلى الإمبراطور «قنسطانز الثانى» (22

- 48هـ =642 - 668م) حتى سيطرت عليه فكرة استرداد الشام

و «مصر» من أيدى المسلمين، كما استردها جده «هرقل» من الفرس

قبل سنوات قليلة من الفتح الإسلامى، فأرسل فى سنة (25 هـ = 645

م) حملة بحرية كبيرة إلى «مصر» ، بقيادة «مانويل» ، تمكنت من

الاستيلاء على «الإسكندرية» ، بمساندة من بقى فيها من الروم

والإغريق، وبدأت تتوغل جنوبًا قاصدة «حصن بابليون» ، فكلف

الخليفة «عثمان» قائده «عمرو بن العاص» بمهمة الدفاع عن «مصر»

وطرد الروم، وكان «عمرو» قد أعفى من ولايتها بناء على طلبه فى

مطلع خلافة «عثمان» ، فلم يتردد الفاتح الكبير فى العودة إلى

ص: 115

«مصر» للقيام بهذه المهمة، ونجح فى طرد الروم نهائيا، بعد أن

ألحق بهم هزيمة منكرة، وقتل «مانويل» قائد حملتهم.

استمرار فتح شمال إفريقيا فى عهد عثمان:

لما ولى «عبدالله بن سعد بن أبى السرح» ولاية «مصر» من قبل

«عثمان بن عفان» ؛ كتب إليه أن الروم الذين لا يزالون يسيطرون على

«شمال إفريقيا» يغيرون على حدود «مصر» الغربية، ولابد من

مواجهتهم قبل أن يتجرءوا ويهاجموا «مصر» نفسها، فاقتنع

«عثمان» بعد أن استشار كبار الصحابة، وأذن له بتجريد حملات

عسكرية لردعهم وكف عدوانهم، كما أرسل إليه جيشًا من «المدينة»

مددًا، يضم عددًا من الصحابة كابن عباس، و «عبد الله بن الزبير» رضى

الله عنهما.

وفى سنة (27هـ = 647م) انطلق جيش المسلمين بقيادة «عبدالله بن

سعد»، وتوغل غربًا حتى وصل إلى «قرطاجنة» عاصمة إقليم

«تونس» فى ذلك الوقت، ودارت عدة معارك بين المسلمين وبين

ملكها «جريجوار» أو «جرجير» كما تسميه المصادر العربية، انتهت

بانتصارالمسلمين وقتل الملك «جريجوار» على يد «عبدالله بن

الزبير».

ولم تكن تلك الحملة تهدف إلى الاستقرار، بل إلى ردع العدوان، ولذا

اكتفى «عبدالله بن سعد» بعقد معاهدات صلح مع زعماء تلك البلاد

تعهدوا فيها بدفع مبلغ كبير.

وبعد عودة «عبدالله بن سعد» إلى «مصر» ، قام بفتح بلاد النوبة

جنوبًا سنة (31هـ = 651م)، وعلى الرغم من أنها لم تخضع بلاد

«النوبة» للمسلمين، فإنها انتهت بعقد صلح بين الطرفين، اتفقا فيه

على تبادل التجارة والمنافع.

نشأة الأسطول الإسلامى:

يُعد إنشاء الأسطول الحربى الإسلامى من أعظم الإنجازات التى تمت

فى عهد أمير المؤمنين «عثمان بن عفان» فبعد الفتوحات الإسلامية

فى «مصر» و «الشام» وجد المسلمون أنفسهم قد سيطروا على

الشواطئ الشرقية والجنوبية للبحر المتوسط، الذى كان يُعرَف وقتئذٍ

ببحر الروم، لأن سيطرتهم عليه كانت كاملة، ولم تنازعهم فى ذلك

ص: 116

دولة أخرى؛ ولذا كان المسلمون فى حاجة إلى قوة بحرية تمكنهم

من الحفاظ على شواطئهم ضد هجمات الأسطول البيزنطى.

وكان أول من تنبه إلى ذلك «معاوية بن أبى سفيان» والى الشام؛

لأنه اضطلع بفتح سواحل الشام، مثل:«صور» ، و «عكا» ، و «صيدا» ،

و «بيروت» منذ عهد الخليفتين «أبى بكر الصديق» و «عمر بن

الخطاب»، وواجه صعوبات كثيرة فى فتح تلك المدن، لقوة تحصينها

من ناحية، وتوالى الإمدادات التى تأتيها من البحر من ناحية أخرى،

كما أنها كانت محطات للأساطيل البيزنطية.

ولما أدرك «معاوية» أنه بدون قوة بحرية إسلامية فلن يتمكن من

الدفاع عن كل الساحل الشامى، فعرض الأمر على الخليفة «عمر بن

الخطاب»، مصورًا له حجم الخطر بقوله: «يا أمير المؤمنين، هناك قرية

من قرى الروم - يقصد جزيرة قبرص - فى عرض البحر، تتخذها

أساطيلهم قاعدة للعدوان علينا، وهذه القرية قريبة من حدودنا إلى

درجة أن أهل «حمص» - من مدن الشام - يسمعون نباح كلابها وصياح

دجاجها، فأذن لنا ببناء أسطول حربى بحرى»، لكن «عمر» رفض

ذلك رفضًا قاطعًا؛ لخوفه على المسلمين من أهوال البحار، وأن

الوقت لا يزال مبكرًا للدخول فى هذا المجال، وقال لمعاوية: «لمسلم

واحد أحب إلى مما حوت الروم»، يقصد أن سلامة المسلمين عنده

مقدمة على أى شىء آخر، وطلب من «معاوية» أن يستعيض عن ذلك

بتقوية حصون السواحل، فامتثل «معاوية» ، لكنه لم يفقد الأمل فى

تحقيق ما يصبو إليه.

بناء الأسطول:

بادر «معاوية بن أبى سفيان» بعد تولى «عثمان بن عفان» الخلافة

سنة (24 هـ) إلى عرض مشروعه القديم عليه، الذى يقضى بإنشاء

أسطول بحرى، لكن «عثمان» رفض فى البداية، وذكره بمادار بينه

وبين «عمر بن الخطاب» فى ذلك الشأن، وأنه حريص على سلامة

المسلمين كحرص «عمر» من قبل لكن «معاوية» ألح عليه إلحاحًا

شديدًا، وكان أجرأ عليه من «عمر» ، ولم يكف عن المحاولة حتى ظفر

منه بالإذن، وكان إذنًا مشروطًا، بألا يُكره أحدًا من الجنود على

ص: 117

العمل فى الأسطول.

بدأ «معاوية بن أبى سفيان» يعمل على الفور فى بناء الأسطول،

متعاونًا مع «عبدالله بن سعد بن أبى السرح» ، والى «مصر» ،

ومستثمرًا كل الإمكانات المتاحة والصالحة لصناعة السفن فى «مصر»

والشام، حيث كانت فى «مصر» دور قديمة لصناعة السفن، وعدد

كبير من العمال المهرة المدربين، وأشجار «السنط» التى تصلح لعمل

الصوارى وضلوع السفن، وكانت الشام تتمتع بكثير من المواد اللازمة

مثل أخشاب «الصنوبر» و «البلوط» و «العرعر» ، وأدى هذا التعاون

بين «مصر» والشام إلى بروز الأسطول الإسلامى وظهوره.

فتح جزيرة قبرص سنة (28هـ):

كان أول عمل بحرى ناجح قام به الأسطول الإسلامى، هو فتح

«جزيرة قبرص» التى كانت تهدد شواطئ المسلمين باستمرار لقربها

منها من ناحية، وباعتبارها محطة مهمة من محطات الأساطيل

البيزنطية من ناحية أخرى.

وقد غزاها «معاوية» سنة (28هـ)، أى بعد أربع سنوات فقط من بناء

الأسطول الإسلامى، وهى مدة ليست بالطويلة لإنشاء أسطول

بحرى، ولكنها عزيمة الرجال وإصرارهم على إنجاز العمل.

وكانت الغزوة مشتركة أسهمت فيها قوات الشام، وقوات «مصر»

بقيادة «عبدالله بن سعد» ، ونزلوا «قبرص» واستولوا عليها، فعرض

أهلها الصلح، فقبل «معاوية» ، واشترط لعقده عدة شروط:

- أن يدفع أهل «قبرص» جزية سنوية، مقدارها سبعة آلاف دينار.

- وأن يُعلموا المسلمين بأية تحركات عدائية من جانب الروم ضد

سواحلهم.

- وأن يقف أهل «قبرص» على الحياد، إذا نشبت حرب بين المسلمين

والروم، ولكن لا يمنعون المسلمين من المرور بجزيرتهم إذا احتاجوا

إلى ذلك.

ولم يلتزم أهل «قبرص» بما تعاهدوا عليه فى الصلح، مما جعل

«معاوية» يعاود غزو الجزيرة مرة أخرى سنة (33هـ) ويضمها إلى

دولة الخلافة، وينقل إليها اثنى عشر ألفًا من المسلمين من أهل

الشام، وأسكنهم فيها، وبنى لهم الدور والمساجد.

موقعة ذات الصوارى سنة (34هـ):

أثار بروز الأسطول الإسلامى فى البحر المتوسط حفيظة «قنسطانز

ص: 118

الثانى» الإمبراطور البيزنطى، وجعله يفكر فى القضاء على الأسطول

الإسلامى وتحطيمه، قبل أن تكتمل قوته، ويزداد خطره، وحتى تظل

السيطرة على «البحر المتوسط» للأسطول البيزنطى وحده دون

غيره، فعبأ الإمبراطور قواته البحرية كلها، واتجه بها قاصدًا سواحل

الشام، وهو لا يراوده شك فى قدرته على تدمير السفن الإسلامية؛

لحداثة نشأتها، وقلة خبرة رجالها، لكن المسلمين استعدوا لهذا

اللقاء جيدًا وتعاون الأسطولان فى «مصر» والشام، لرد هذا العدوان،

وأسندت قيادتهما إلى «عبدالله بن سعد» والى «مصر» .

والتقى الأسطولان الإسلامى والبيزنطى - الذى كان بقيادة الإمبراطور

نفسه - فى شرقى «البحر المتوسط» ، جنوبى شاطئ «آسيا

الصغرى» (تركيا الحالية)، ودارت بينهما معركة بحرية كبيرة، سُميت

بمعركة «ذات الصوارى» ، لكثرة السفن التى اشتركت من الجانبين

(خمسمائة سفينة من جانب الروم، مقابل مائتى سفينة من جانب

المسلمين) وانتهت المعركة بنصر عظيم للمسلمين، وهزيمة ساحقة

للأسطول البيزنطى، ونجاة الإمبراطور من القتل بأعجوبة.

ونتيجة لهذه الهزيمة لم يرجع الإمبراطور إلى عاصمة «القسطنطينية»

بعد المعركة، وإنما ذهب إلى «جزيرة صقلية» ، قبالة شاطئ

«تونس» ، فى محاولة منه لحماية ما تبقى من دولة الروم فى «شمال

إفريقيا»، لكنه قتل فى «صقلية» سنة (68هـ = 688م).

مصحف عثمان:

إذا كان لعهد «عثمان بن عفان» - رضى الله عنه - أن يفخر بما أنجز

فيه من الأعمال العظيمة؛ فإن له أن يفخر بما هو أعظم منها جميعًا،

وهو جمع القرآن الكريم على لغة واحدة.

للقرآن صورتان: صورة صوتية مقروءة، وأخرى مكتوبة مدونة، وقد

حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على تدوين الآيات فور نزولها،

وقبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى راجع مع «جبريل» عليه السلام

ترتيب الآيات والسور مرتين.

وقد حفظ الصحابة القرآن باللهجات التى درجوا عليها، وأجاز لهم

ص: 119

النبى صلى الله عليه وسلم ذلك، ولذا ظهرالاختلاف فى وجوه

القراءة بين الصحابة من بدء نزول القرآن، نتيجة للهجة التى اعتادها

اللسان.

ولما جُمِعَ القرآن الكريم الجمع الأول فى الصحف فى عهد «أبى بكر»

بهيئته المكتوبة، بقيت الصورة الصوتية كما هى، ولما فُتحت البلاد

وتفرق الصحابة فيها، أخذ أهل كل إقليم يقرءون القرآن بقراءة

الصحابى أو الصحابة الذين عاشوا بينهم، فتمسك أهل «الكوفة»

بقراءة «عبدالله بن مسعود» ، وأهل الشام بقراءة «أبى بن كعب» ،

وأهل «البصرة» بقراءة «أبى موسى الأشعرى» ، ومع اتساع

الفتوحات، زاد الخلاف بين المسلمين حول قراءة القرآن، وتحول الأمر

إلى تعصب، بل كاد أن يؤدى إلى فتنة بينهم، مما أفزع «حذيفة بن

اليمان» الصحابى الجليل، وكان يقرأ فى «أذربيجان» ، فرجع إلى

«المدينة» ، وأخبر «عثمان بن عفان» » بما رأى.

جمع «عثمان» الصحابة، وأخبرهم الخبر، فأعظموه، ورأوا جميعًا

مارأى «حذيفة» من ضرورة جمع الناس على مصحف واحد، وأرسل

«عثمان» إلى أم المؤمنين «حفصة بنت عمر» أن تبعث إليه بالمصحف

الذى جُمع فى عهد «أبى بكر» - وكان «عمر بن الخطاب» قد أخذه

بعد وفاة «أبى بكر» ، ثم حُفظ بعد موته عند ابنته «حفصة» - ثم أمر

«زيد بن ثابت» - الذى جمع القرآن الجمع الأول فى عهد «أبى بكر

الصديق» - و «عبدالله بن الزبير» ، و «سعيد بن العاص» ، و «عبدالرحمن

بن الحارث بن هشام»، أن ينسخوه، وقال لهم: إذا اختلفتم - يعنى

فى كلمة أو كلمات- فاكتبوها بلسان «قريش» ، فإنما نزل بلسانهم،

فلما نسخوه، أرسل إلى كل إقليم مصحفًا وأمر بإحراق ما سوى

ذلك، وقد سمى هذا المصحف بالمصحف الإمام أو «مصحف عثمان» .

الفتنة وأسبابها:

سارت الأمور فى الدولة الإسلامية على خير ما يرام فى الشطر الأول

من خلافة «عثمان» - رضى الله عنه - (24 - 30هـ)،ولكن مع بداية سنة

(31هـ) هبت على الأمة الإسلامية رياح فتنة عاتية، زلزلت أركانها،

ص: 120

وكلفتها تضحيات جسيمة، واستمرت هذه الفتنة نحو عشر سنين،

شملت ما تبقى من خلافة «عثمان بن عفان» ، وكل زمن خلافة «على

بن أبى طالب» -رضى الله عنهما- (31 - 40هـ).

ومما لاشك فيه أن تلك الفتنة كانت نتيجة لمؤامرة واسعة النطاق

كانت أحكم فى تدبيرها، وأوسع فى أهدافها، وأخطر فى نتائجها

من مؤامرة اغتيال «عمر بن الخطاب» - رضى الله عنه -، لأن اغتيال

«عمر» لم يخلف آثارًا خطيرة بين المسلمين، ولم يقسمهم شيعًا

وأحزابًا كما حدث فى آخر عهد «عثمان» ، ولأن الذين خططوا لقتل

«عمر» والذين قاموا بتنفيذ ذلك كانوا غير مسلمين وغير عرب، فى

حين أن الذين قتلوا «عثمان» و «عليا» من بعده كانوًا عربًا مسلمين،

وهذا هو وجه الخطورة، حتى وإن كان التخطيط من غيرهم.

والذى لاشك فيه أن الذى تولى التخطيط للفتنة، وقتل «عثمان» ،

وإغراق الأمة فى بحر من الدماء، هو «عبد الله بن سبأ» اليهودى،

الذى ادعى الإسلام؛ ليتمكن من الكيد له من داخله، والذى لُقِّب بابن

السوداء.

وقبل الحديث عنه يحسن تناول الظروف والأجواء التى كانت سائدة

فى عهد «عثمان» - رضى الله عنه - واستغلها «ابن سبأ» لتحقيق

أهدافه المدمرة:

أولا: تغيرت الظروف فى آخر حياة «عثمان» بل وفى بداية خلافته

عما كانت عليه فى خلافة «عمر بن الخطاب» ، وربما كان هذا تطورًا

طبيعيا فى حياة الأمة، فقد كثرت الغنائم فى أيدى الناس، وبدءوا

يتوسعون فى المأكل والملبس والمشرب، وبخاصة الجيل الجديد من

العرب الذى دخل فى الإسلام بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم،

ولم يتأدب بآدابه، ولم يتعود حياة القناعة والقصد فى المعيشة التى

كان يحياها الصحابة فى حياته صلى الله عليه وسلم.

ولم يُرضِ ذلك التوسع فى المعيشة صحابيا جليلا اشتهر بالزهد، هو

«أبو ذر الغفارى» ، فسخط على «عثمان» وولاته وعماله، وحملهم

مسئولية ذلك التطور الاجتماعى الطبيعى الذى لم يكن من صنعهم،

ص: 121

وراح ينادى بتحريم امتلاك المسلم لشىء من المال فوق حاجة يومه

وليلته، واستشهد على ذلك بقوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب

والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم}. [التوبة:

34].

ولم يوافق أحد من الصحابة «أبا ذر» فيما نادى به، وكانوا يرون أن

المال إذا جُمع من حلال، وأدى عنه صاحبه حق الله وهو الزكاة: لا

يعتبر كنزًا، ولا تنطبق عليه الآية موضع الاستشهاد، والنبى - صلى

الله عليه وسلم - كان يخزن مؤنة بيوته لمدة سنة إذا كانت الظروف

تسمح بذلك، وتشريع الله للمواريث فى نظام دقيق يقتضى ترك الميت

ثروة تقسم بين ورثته، وكثير من الصحابة كانوا أغنياء على عهد

النبى صلى الله عليه وسلم، ولم يعب النبى صلى الله عليه وسلم

ثراءهم، بل يُروى أنه قال:«نعم المال الصالح للمرء الصالح» . [مسند

أحمد].

وقد نصح النبى صلى الله عليه وسلم «سعد بن أبى وقاص» حين

أراد أن يتصدق بماله كله بقوله: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من

أن تذرهم عالة يتكففون الناس». [صحيح البخارى، كتاب الجنائز].

ولو أن «أبا ذر الغفارى» - رضى الله عنه - احتفظ برأيه لنفسه، لكان

الأمر هينًا، ولكنه أذاعه فى الناس؛ ووجد صداه عند الكسالى والذين

يريدون أن يعيشوا عالة على غيرهم، فألبوا الناس على «عثمان»

وولاته، وكانت تلك الدعوة سببًا من أسباب الفتنة.

وعلى الرغم من اعتزال «أبى ذر» الناس فى الربذة «شرقى المدينة»

امتثالا للخليفة؛ فإن دعوته كانت قد استشرت، وتلقفها «ابن سبأ»

اليهودى وأشعلها بين الناس.

ثانيًا: شارك عدد كبير من أهل «اليمن» ومنطقة «الخليج» فى

الفتوحات الإسلامية، وكان دورهم فى تحقيق النصر لا ينكر، ولكنهم

وجدوا بعد الفتح أن الإمارات والوظائف الرئيسية قد أُسندت إلى

غيرهم وبخاصة أبناء «قريش» ، وكبار المهاجرين والأنصار وأبنائهم،

فلم يعجبهم ذلك، ورأوا أنفسهم أحق بالإمارات التى فتحوها

ص: 122

بسيوفهم، مع أنه كان من الضرورى أن يتولى المهاجرون والأنصار

هذه الولايات؛ لأنهم يعرفون الإسلام وشرائعه أكثر، فقدمهم علمهم

وفقههم فى الدين وسابقتهم فى الإسلام، وجهادهم مع رسول الله

صلى الله عليه وسلم لا أنسابهم وأحسابهم.

ونتيجة لذلك تكونت جبهة عريضة من أبناء تلك المنطقة معارضة

لسيطرة أبناء المهاجرين والأنصار على الدولة الإسلامية، ولم تكن

شكواهم من الولاة واتهامهم بالظلم حقيقية، بل كانت ذريعة للنيل

منهم، ومن الخليفة «عثمان» ، وهدفًا لقلب الدولة وتغيير نظام الحكم

المتهم بالظلم، وهؤلاء كانوا صيدًا سمينًا لابن سبأ فاستغل السخط

الذى ملأ قلوبهم لتحقيق هدفه الشرير.

ثالثًا: عندما بدأت هذه الفتنة كان معظم ولاة الأقاليم من «قريش» ، بل

من «بنى أمية» أهل «عثمان» ، وأقربائه، مما سهل على «ابن سبأ»

مهمته فى إشعال نار الفتنة، والحق أن هؤلاء الولاة، وهم «معاوية

بن أبى سفيان» والى الشام، و «عبدالله بن سعد بن أبى السرح»

والى «مصر» ، و «عبدالله بن عامر» والى «البصرة» ، و «الوليد بن

عقبة» والى «الكوفة» ، كانوا من خيرة الولاة، وممن أسهموا فى

تثبيت الفتوحات الإسلامية بعد استشهاد «عمر» ، وممن مارسوا الحكم

قبل خلافة «عثمان» ، بل إن «معاوية بن أبى سفيان» كان واليًا

على الشام من عهد «أبى بكر الصديق» . ومن ثم لم يولِّهم «عثمان»

لهوى فى نفسه، أو لأنهم من أقربائه، بل ولاهم لكفايتهم ومقدرتهم

الإدارية.

ومما يؤسف له أن بعض الكتاب الكبار صوَّروا الأمر على غير ما

تقتضيه الحقيقة التاريخية، وكأن «عثمان بن عفان» أتى بهؤلاء

الولاة من قارعة الطريق، وعينهم على الولايات الكبيرة، وحملهم

على رقاب الناس؛ لأنهم أقرباؤه فحسب. ويذهب بعضهم إلى تصوير

أمر استعفاء «عمرو بن العاص» من إمارة «مصر» بناء على طلبه

على أنه عزل من «عثمان» ليعين مكانه أخاه من الرضاعة «عبدالله

بن سعد»، ولا يذكر شيئًا مما يعرضه مؤرخو «مصر» الإسلامية كابن

ص: 123

عبد الحكم و «الكندى» ، من أن «عبد الله بن سعد» كان واليًا على

صعيد «مصر» من قبل «عمر بن الخطاب» ، فلما تولى «عثمان بن

عفان» الخلافة طلب منه «عمرو بن العاص» أن يخصه وحده بإمارة

«مصر» كلها، فرفض «عثمان» ، فاعتزل «عمرو» الولاية بناء على

طلبه، ولم يعزله «عثمان بن عفان» .

رابعًا: أن من أبناء البلاد المفتوحة وبخاصة بلاد فارس، من لم يسترح

إلى سيادة العرب عليهم، وسيطرتهم على بلادهم، وهم الذين كانوا

بالأمس يحتقرونهم وينظرون إليهم فى استعلاء، فعزَّ على أنفسهم

ذلك، فلم يتركوا فرصة لزعزعة الدولة الإسلامية إلا وانتهزوها، خاصة

من لم يتمكن الإسلام فى قلوبهم منهم، وهؤلاء كان لهم دور فى

إثارة الفتنة على «عثمان» ، واستمر حتى آخر العصر الأموى.

خامسًا: أن كل ما تقدم كان يمكن تداركه وعلاجه، بل إن «عثمان» -

رضى الله عنه - حاول إجابة كل مطالب الثائرين عليه والمؤلبين للناس

ضده، لكنهم لم يقتنعوا؛ لأن الخليفة لان معهم وحلُم عليهم أكثر مما

كان ينبغى، ولو أخذهم بالشدة والحزم كما كان يفعل «عمر بن

الخطاب» مع أمثالهم لارتدعوا، ولحُسمت الفتنة.

عبد الله بن سبأ:

هو رجل يهودى من «صنعاء» ادعى الإسلام فى عهد «عثمان» ،

وأخذ يبث فى المسلمين أفكارًا غريبة وبعيدة عن الإسلام، مثل قوله

بالوصية أى أن «على بن أبى طالب» ، هو وصى النبى - صلى الله

عليه وسلم - وخليفته من بعده، ومعنى ذلك أن الخلفاء الثلاثة، «أبا

بكر» و «عمر» و «عثمان» اغتصبوا حق «على» فى الخلافة.

وبدأ «ابن سبأ» من هذه النقطة، مستغلا كل الأطراف التى سبق

الحديث عنها، ووضع للثائرين والناقمين على اختلاف مشاربهم

وأهدافهم خطة للتحرك ضد الخليفة وولاته، وأشار عليهم بالنيل من

الولاة أولا؛ لما كان يعرف أن «عثمان» نفسه فوق الشبهات، حتى

إذا نجحوا فى تشويه سمعة الولاة، انتقلوا إلى «عثمان» باعتباره

المسئول الأول عنهم، ومما قاله لأتباعه: «إن عثمان أخذها بغير حق،

ص: 124

وهذا وصى رسول الله - يقصد عليًّا - فانهضوا فى هذا الأمر

فحركوه، وابدءوا بالطعن فى أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف

والنهى عن المنكر، تستميلوا الناس».

أخذ «ابن سبأ» يتنقل بهذا التدبير الشيطانى بين الأقاليم من

«البصرة» إلى «الكوفة» إلى الشام إلى «مصر» ، يبث أفكاره

وسمومه، وكانت خطته بالغة الإحكام، جعلت أتباعه ينجحون فى

زرع الشكوك فى نفوس الصحابة فى «المدينة» ، مثل «على بن أبى

طالب»، و «الزبير بن العوام» ، و «طلحة بن عبيد الله» ، والسيدة

«عائشة» - رضى الله عنها - وهؤلاء كلهم كانت تصلهم معلومات

كاذبة عن ظلم ولاة الأقاليم، لكنهم صدقوها للأسف، ولم يتبينوا

كذبها إلا بعد فوات الأوان، وبعد أن وقعت الواقعة، وقتل الخليفة

الثالث مظلومًا.

موقف عثمان من الفتنة:

لما سمع «عثمان بن عفان» ما يقال عن ولاة أقاليمه جمع أهل

«المدينة» ، وقال لهم: أشيروا على، فأشاروا عليه أن يرسل رجالا

إلى الأقاليم للتحقيق فيما وصله من كلام عنهم، كما كان يفعل «عمر

بن الخطاب»، فاستجاب على الفور، وحدد أربعة من الصحابة من غير

«بنى أمية» - حتى لا يتهمهم أحد بالتحيز للولاة - للقيام بما كلفهم

به، فأرسل «محمد بن مسلمة» إلى «الكوفة» ، و «أسامة بن زيد»

إلى «البصرة» ، و «عبدالله بن عمر» إلى الشام، و «عمار بن ياسر»

إلى «مصر» ، وعاد الثلاثة الأول إلى «المدينة» ، وقدموا تقارير

للخليفة بأن الأمور تجرى على خير وجه، وأن الشكاوى التى تصل

إلى «المدينة» كلها باطلة، ولا أساس لها من الصحة؛ وأن الولاة

يقومون بعملهم خير قيام، أما «عمار بن ياسر» فلم يعد من «مصر» ،

لأنه لما وصل إليها، تصادف وجود «ابن سبأ» فيها، فاستقطبه

للأسف وضمه إلى صفه، مما جعل الأمر يستفحل ويزداد خطرًا.

وبعد أن تبين بطلان مزاعم أتباع «ابن سبأ» ، الذين ألبوا الناس على

«عثمان» - وكلهم عرب مسلمون- لان لهم الخليفة، وعطف عليهم

وحاول استرضاءهم بدلا من عقابهم وأخذهم بالشدة.

ص: 125

ولما تهيأ الجو، ورأى زعماء الفتنة أن الفرصة سانحة للتخلص من

الخليفة، خرجوا إلى «المدينة» على رأس وفود أهل «مصر»

و «البصرة» و «الكوفة» ، وكانوا نحو عشرة آلاف متظاهرين بالحج،

مخفين نياتهم الخبيثة عن عامة الناس، الذين شكوا إلى الخليفة من

تصرفات لولاتهم لا يرضونها، فوعدهم خيرًا، وأمرهم بالعودة إلى

أمصارهم، فرضوا لما رأوه من سماحته وعطفه، وعادوا. أما زعماء

الفتنة من أمثال: «الأشتر النخعى» ، و «عمرو بن الأصم» ، و «حرقوص

بن زهير السعدى»، و «الغافقى بن حرب» ، فقد ساءهم عودة عامة

الناس الذين لا علم لهم بالمؤامرة، وسُقِطَ فى أيديهم، وعزموا على

قتل الخليفة أو عزله، فتخلفوا فى «المدينة» ، وزوَّروا كتابًا، ادعوا

كذبًا أنهم وجدوه مع غلام من غلمان «عثمان» ، موجه إلى «عبدالله

بن سعد» والى «مصر» يأمره فيه بقتل بعض الثائرين وتعذيب بعضهم

الآخر.

عاد الثائرون من الطريق بهذا الكتاب، فعرضوه على «على بن أبى

طالب»، فأدرك أنه مزور، لأن الذين ادعوا أنهم وجدوه هم أهل

«مصر» ، ولكنهم عندما عادوا عادوا جميعًا، أهل «مصر» و «الكوفة»

و «البصرة» ، مع أن طرقهم مختلفة، فعودتهم فى وقت واحد، تدل

على أن الأمر مدبر، فقال لهم على: «كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا

أهل البصرة بما لقى أهل مصر وطريقكم مختلف وقد سرتم على

مراحل؟! هذا والله أمر أبرم بالمدينة».

ولما علموا أن أمرهم قد ظهر، وخطتهم انكشفت، قالوا لعلى:

«ضعوه حيث شئتم - أى الكتاب مصممين على كذبهم - لاحاجة بنا

إلى هذا الرجل، ليعتزلنا»، ولا شك أن هذا تسليم منهم بأن قصة

الكتاب مختلقة، وأن غرضهم الأول والأخير هو خلع أمير المؤمنين أو

سفك دمه، الذى عصمه الله بشريعة الإسلام.

محاصرة بيت الخليفة وقتله:

تشبث الأشرار بهذا الكتاب المزور، ولم يستجيبوا لنصح الصحابة

بالرجوع إلى بلادهم؛ لأن الخليفة لم يرتكب خطأ يستحق عليه العقاب،

فحاصروه فى بيته، ولم تكن هناك قوة تدافع عنه، فقد رفض عرضًا

ص: 126

من «معاوية بن أبى سفيان» بالذهاب معه إلى الشام، وكره أن

يغادر جوار رسول الله كما رفض أن يرسل «معاوية» إليه جندًا من

الشام لحمايته، لأنه كره أن يضيق على أهل مدينة رسول الله - صلى

الله عليه وسلم - بجيش يضايقهم فى معاشهم.

ولما رأى «على بن أبى طالب» و «الزبير بن العوام» و «طلحة بن عبيد

الله» وغيرهم الحصار المضروب على بيت الخليفة؛ أرسلوا أبناءهم

لحراسته، لكنه رفض ذلك أيضًا، وأقسم عليهم بما له من حق الطاعة

عليهم أن يذهبوا إلى بيوتهم ويغمدوا سيوفهم، لأنه أدرك أن أبناء

الصحابة وهم عدد قليل، إن تصدوا لهؤلاء الأشرار - وكانوا زهاء

عشرة آلاف - فقد يقتلونهم جميعًا، فآثر سلامتهم وحقن دماءهم،

ولعله كان يفكر أن الثوار إذا قتلوه هو فستنتهى المشكلة، فرأى

أن يضحى بنفسه، حقنًا للدماء، ولم يدر أن دمه الطاهر الذى

سيُسفك، كان مقدمة لبحور من دماء المسلمين، سالت بعد ذلك نتيجة

مقتله.

امتثل أبناء الصحابة لأمره، وعادوا إلى بيوتهم، لكنه طلب منهم ماء

للشرب، بعد أن منعه الثوار عنه، وهو الذى اشترى للمسلمين «بئر

رومة» ووهبها لهم، بناء على طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم

الذى بشره بنهر عظيم فى الجنة.

وكانت أم المؤمنين «أم حبيبة بنت أبى سفيان» أول المغيثين

لعثمان، لكنها لم تستطع أن توصل الماء إليه لأن الثوار منعوها،

وأساءوا معها الأدب وسبوها، ولم يراعوا لها حرمة.

فلما فعلوا بأم حبيبة ذلك، ذهب إليهم «على بن أبى طالب» - رضى

الله عنهم - وقال لهم: «إن الذى تصنعون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر

الكافرين، لاتقطعوا عن الرجل المادة (الطعام والشراب) فإن الروم

وفارس لتأسر فتطعم وتسقى، وما تعرض لكم هذا الرجل، فبم

تستحلون حصره وقتله؟! قالوا: لا والله ولا نعمة عين - يعنى ولا

قطرة ماء تصله - لا نتركه يأكل ويشرب».

وبعد ذلك اقتحموا على الخليفة داره اقتحامًا، متسلقين من دور

ص: 127

مجاورة، وقتلوه وهو صائم يقرأ القرآن، وروعوا الأمة الإسلامية فى

إمامها، الذى كانت تستحى منه الملائكة، والذى بشره النبى - صلى

الله عليه وسلم - بالجنة، وتنبأ له بالشهادة، وكان استشهاده فى

أواخر شهر ذى الحجة سنة (35هـ).

قُتِل «عثمان بن عفان» مظلومًا لم يرتكب ذنبًا أو يقترف جرمًا يستحق

به أن يرفع هؤلاء الأشرار أصواتهم عليه ولو كان كل ما رموه به من

تُهم صحيحًا - مع أنه باطل وملفق - ما أباح لهم قتله، ولكنه الحقد

الأسود والأفكار الهدامة، التى زرعها «ابن سبأ» فى نفوسهم

وعقولهم، جعلهم يرون فضائله وإنجازاته تهمًا وجرائم، فاتهموه -مثلا

- بأنه تخلف عن «بيعة الرضوان» فى «الحديبية» ، مع أنهم يعلمون

أنه عندئذٍ كان فى «مكة» سفيرًا للرسول صلى الله عليه وسلم يقوم

بمهمة اعتذر عنها «عمر بن الخطاب» لخطورتها، وناب النبى - صلى

الله عليه وسلم - نفسه عن «عثمان» فى البيعة، فكانت بيعة عن

«عثمان» أفضل من بيعة الصحابة لأنفسهم، كما اعتبروا جمعه للقرآن

فى مصحف واحد جريمة، مع أنه أعظم أعماله باعتراف الصحابة

أنفسهم.

وقد وصف «أبو بكر بن العربى» قتلة «عثمان» وصفًا صادقًا، فقال:

«وأمثل ما روى فى قصته - أى عثمان - أنه بالقضاء السابق، تألب

عليه قوم لأحقاد اعتقدوها، ممن طلب أمرًا فلم يصل إليه، أو حسد

حسادة أظهر داءها، وحمله على ذلك قلة دين، وضعف يقين، وإيثار

العاجلة على الآجلة، وإذا نظرت إليهم دلك صريح ذكرهم على دناءة

قلوبهم، وبطلان أمرهم».

وقد لا يصدق بعض الناس أن رجلا واحدًا هو «عبد الله بن سبأ»

يستطيع أن يفسد أمر أمة بكاملها، مهما تبلغ قدراته، بل وصل الأمر

ببعضهم إلى إنكار وجوده أصلا، ولكن الواقع أن «ابن سبأ» كان

موجودًا ووجوده حقيقة، وهو كأى متآمر خبيث يتمتع بقدر كبير من

الدهاء والمكر، مكنه من أن يستميل إلى صفه صحابيين جليلين هما

«أبو ذر الغفارى» و «عمار بن ياسر» ، وأن يستغل كل الساخطين من

ص: 128

أبناء العرب الطامعين فى الوظائف، بالإضافة إلى الحاقدين من

أبناء البلاد المفتوحة، الذين سقطت دولهم، وبادت عروشهم، وخلق

من ذلك كله تيارًا عامًّا، أدى إلى فتنة عارمة، ذهب ضحيتها «عثمان

بن عفان»، ولم تنته بعد موته.

ص: 129

الفصل التاسع

*خلافة على بن أبى طالب (35 - 40) هـ

نسبه ونشأته:

هو «على بن أبى طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف» ،

وأمه «فاطمة بنت أسد بن هاشم» ، وهى أول هاشمية ولدت

هاشميًّا، وقد أسلمت وهاجرت إلى «المدينة» ، وهو ابن عم النبى

صلى الله عليه وسلم، وتربى فى بيته، لأن أباه كان كثير العيال

قليل المال، فأراد النبى أن يخفف عن عمه أعباء المعيشة، فأخذ

«عليًّا» ليعيش معه فى بيته، وكان عمره يومئذٍ ست سنوات، فشاءت

إرادة الله أن ينشأ «على» فى بيت النبوة، فوقاه الله أرجاس

الجاهلية، فلم يسجد لصنم قط، وكان أول من أسلم من الصبيان.

صفته:

كان «على بن أبى طالب» ربعة من الرجال، يميل إلى القصر، أسمر

اللون، حسن الوجه واسع العينين، أصلع الرأس، عريض المنكبين،

غزير اللحية، قوى الجسم.

عُرف «على بن أبى طالب» بالشجاعة والعلم الغزير، والزهد فى

الدنيا مع القدرة عليها، وكان واحدًا ممن حفظوا القرآن كله من

الصحابة، وعرضوه على النبى صلى الله عليه وسلم، ومن أكثرهم

معرفة بالقرآن وبتفسيره وأسباب نزوله، وأحكامه، وكان من كتاب

الوحى، ولذا اختص فى سيرته بلقب «الإمام» لأفضليته العلمية

والفقهية، وكان أقضى الصحابة رضى الله عنهم جميعًا، واشتهر

بالفصاحة والخطابة وقوة الحجة، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة،

وقد تآخى الرسول صلى الله عليه وسلم مع على بعد الهجرة، ثم

زوجه ابنته «فاطمة» ، وأنجب منها «الحسن» و «الحسين» ، وهما

اللذان حفظا نسل الرسول صلى الله عليه وسلم.

شهد «على» المشاهد كلها -عدا تبوك - مع رسول الله - صلى الله عليه

وسلم -، فكان فى طليعة من صرعوا المشركين فى «بدر» ، وواحداً

من الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة

«أحد» ، وحمل اللواء عندما سقط من يد «مصعب بن عمير» بعد

استشهاده، حمله بيده اليسرى، وظل يقاتل بيده اليمنى، وصرع فى

غزوة الخندق «عمرو بن عبد ود» فارس «قريش» والعرب كلها عندما

ص: 130

لم يقدم أحد على مبارزته وأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم

الراية يوم «خيبر» ، وقال: «لأعطين اللواء غدًا رجلا يحب الله ورسوله

ويحبه الله ورسوله»، وأخبر أن الفتح سيكون على يديه، وتحقق

ذلك، وثبت مع من ثبتوا مع النبى صلى الله عليه وسلم فى «حنين» .

وفى غزوة «تبوك» خلفه النبى صلى الله عليه وسلم فى أهله

يرعى مصالحهم وشئونهم، ولما تأذى من ذلك، وقال: يارسول الله،

تخلفنى فى النساء والصبيان؟!، فقال له النبى - صلى الله عليه

وسلم -: «أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى غير أنه

لا نبى بعدى؟»، إشارة من النبى إلى أن «موسى» عندما ذهب

لمناجاة ربه، ترك أخاه «هارون» ، خلفًا له فى قومه، كما جاء فى

قوله تعالى: {وقال موسى لأخيه هارون اخلفنى فى قومى وأصلح

ولا تتبع سبيل المفسدين}. [الأعراف:142].

وكان رضى الله عنه موضع ثقة واحترام من الصحابة جميعًا، فكان من

أكبر أعوان «أبى بكر الصديق» فى قمع حروب الردة، ولازم «عمر

بن الخطاب»، فكان لا يقطع أمرًا دون مشاورته، والاستنارة برأيه،

وكان «عمر» يقول: «قضية ولا أبا حسن لها» . وعاون «عثمان»

بالرأى والمشورة مثلما كان يفعل مع «أبى بكر» و «عمر» ، فلم

يحجب عنه نصحه ومؤازرته فى الفتنة التى أطبقت على الأمة،

وأرسل أولاده مع بقية أولاد الصحابة لحراسته والدفاع عنه، ثم ذهب

بنفسه لمواجهة الأشرار.

بيعته بالخلافة:

رُوِّعت «مدينة» رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتل أمير المؤمنين

«عثمان بن عفان» - رضى الله عنه - وعم الناس الهلع والرعب، لهذه

الجريمة التى أقدم عليها هؤلاء الأشرار.

سيطر الثائرون على «المدينة» ، وظل «الغافقى بن حرب» زعيم ثوار

«مصر» ، وأحد كبار زعماء الفتنة يصلى بالناس إمامًا فى مسجد

رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أيام، والدولة كلها بدون

خليفة، ولم يكن فى وسع أحد من الثوار أن يرشح نفسه لها، لأنهم

يعلمون أن هذا الأمر يخص المهاجرين وحدهم.

ص: 131

وبدأ الثائرون يعرضون منصب الخلافة على كبار الصحابة: «على بن

أبى طالب»، و «طلحة بن عبيد الله» ، و «سعد بن أبى وقاص» ،

و «الزبير بن العوام» ، و «عبدالله بن عمر بن الخطاب» ، فرفضوا

جميعًا، وسماهم «على بن أبى طالب» الثائرين ولعنهم على فعلتهم

الشنعاء، فهددهم الثائرون بقتلهم جميعًا كما قتلوا «عثمان» إن لم

يقبل أحدهم منصب الخلافة.

وفى مثل هذه الظروف العصيبة كان لابد من رجل شجاع غير هياب،

يتقدم الصفوف لحمل الأمانة وسط الأخطار المحدقة بها، واتجهت

الأنظار إلى «على بن أبى طالب» ، وتعلقت به الآمال، ترجوه تحمل

المسئولية، وقيادة الركب إلى بر الأمان، وألح عليه كبار الصحابة

إلحاحًا شديدًا لتولى المنصب الشاغر، منصب الخلافة الجليل، فقبل

تجشم تبعاتها فى هذه الظروف الدقيقة، وكان قبوله لها ضربًا من

ضروب الفروسية والشجاعة، والاحتساب عند الله، والنزول على رغبة

كبار الصحابة.

كان «على بن أبى طالب» هو أول خليفة يخطب قبل البيعة، وكانت

خطبة قصيرة، أشهد الله عليهم، وأشهدهم على أنفسهم أنهم هم

الذين ألحوا عليه تقبل أمرٍ كان له كارهًا، لتبعاته ومسئولياته، فلما

وافقوا بايعوه، ولهذا كان عليه أن يخطب مرة أخرى خطبة يوضح

فيها أسلوبه فى الحكم، فقال: «إن الله أنزل كتابًا هاديًا، بين فيه

الخير والشر، فخذوا بالخير ودعوا الشر، الفرائض الفرائض أدوها إلى

الله تعالى يؤدكم إلى الجنة، إن الله حرم حرمات غير مجهولة، وفضل

حرمة المسلم على الحرم كلها، وشد بالإخلاص والتوحيد حقوق

المسلمين، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق، لا

يحل دم امرئ مسلم إلا بما يجب، بادروا أمر العامة، وخاصة أحدكم

الموت، فإن الناس أمامكم، وإن من خلفكم الساعة تحدوكم تخففوا

تلحقوا، فإنما ينتظر الناس أخراهم، اتقوا الله عباد الله فى بلاده

وعباده، إنكم مسئولون حتى عن البقاع والبهائم، أطيعوا الله فلا

ص: 132

تعصوه {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون فى الأرض} ». [الأنفال:

26].

خطبة قصيرة مناسبة للمقام وللظرف الذى قيلت فيه، فقد بدأها

بالتذكير بالله، وحث المسلمين على عمل الخير وتجنب الشر، وحذرهم

حرمات الله والوقوع فيها، وأهمها حرمة دم المسلم، ولعله بذلك

يعرض بقتلة «عثمان» ويحدد موقفه من هذه الفعلة الشنعاء، وأنه لن

يتساهل فى القصاص منهم، وإقامة الحد عليهم.

على والقرارات الصعبة:

تمت بيعة «على بن أبى طالب» فى اليوم الخامس والعشرين من شهر

ذى الحجة سنة (35 هـ)، فاستقبل بخلافته عام (36هـ)، وكان عليه

أن يواجه الموقف العصيب، الذى نتج عن استشهاد أمير المؤمنين

«عثمان بن عفان» ، باتخاذ قرارات صعبة تجاه عدد من المعضلات،

التى كان أولها:

- القصاص من قتلة «عثمان» - رضى الله عنه - وكان ذلك مطلب

الصحابة، ففى أول يوم من خلافته ذهب إليه «طلحة» و «الزبير» ،

وطالباه بإقامة الحد على القتلة، وكان هو مقتنعًا بذلك، ولذلك قال

لهما: «يا إخوتاه إنى لست أجهل ما تعلمون ولكن كيف أصنع بقوم

يملكوننا ولا نملكهم؟ هاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، وثابت

إليهم أعرابكم، وهم خلالكم -أى يعيشون بينكم - يسومونكم

ماشاءوا - أى يسيطرون عليكم - فهل ترون موضعًا لقدرة على شىء

مما تريدون؟ قالوا: لا، قال: فلا والله لا أرى إلا رأيًا ترونه أبدًا».

ويتضح من هذا أن «على بن أبى طالب» لم يكن أقل من غيره حرصًا

على إقامة الحد على قتلة «عثمان» ،ولكن الظرف الذى هم فيه لا

يمكنه من ذلك، فإذا كان الذين نفذوا القتل فى «عثمان» عددًا

محدودًا، وهم «الغافقى بن حرب» ، ومعه «سودان بن حمران»

و «كنانة بن بشر التجيبى» ، فإن وراءهم نحو عشرة آلاف من الثوار

الذين ضللوهم، وهم مستعدون للدفاع عنهم، ولذلك عندما كانوا

يسمعون قائلا يقول: من قتل «عثمان» ؟ كان هؤلاء جميعًا يصيحون:

نحن جميعًا قتلناه، ولذا كان رأى الإمام التريث حتى تهدأ الأمور،

ص: 133

ويعود الناس إلى بلادهم، حتى يتمكن من التحقيق فى الأمر وإقامة

الحد، وقد اقتنع الصحابة بهذا الحل، لكن الأمور تطورت تطورًا آخر

على غير ما يهوى الجميع.

- وتغيير كل ولاة «عثمان» على الولايات الكبرى: «مصر» و «الشام» ،

و «الكوفة» ، و «البصرة» حتى تهدأ الفتنة. وقد اتخذ «على» بالفعل

قرارًا بذلك، فعزل «معاوية بن أبى سفيان» عن الشام، وعين بدلا

منه «سهل بن حنيف» ، وعزل «عبدالله بن سعد بن أبى السرح» عن

«مصر» وعين بدلا منه «قيس بن سعد بن عبادة» ، وعزل «عبدالله بن

عامر» عن «البصرة» وعين بدلا منه «عثمان بن حنيف» ، وعزل «أبا

موسى الأشعرى» عن «الكوفة» ، وعين بدلا منه «عمارة بن شهاب» .

وهذا القرار الخطير راجعه فيه أقرب الناس وأخلصهم له، ابن عمه

«عبدالله بن عباس» ، ونصحه بالانتظار فترة ولو لمدة سنة، لتكون

الأمور قد هدأت واستقرت، ويتم التغيير فى ظرف مناسب، لكن الإمام

أصر على تنفيذ قراره محتجًا بأن هؤلاء الثوار ثاروا غضبًا من ولاة

«عثمان» ، سواء أكانوا مخطئين أم مصيبين، ولن تهدأ ثورتهم إلا إذا

عُزِلوا.

وإزاء إصرار على - رضى الله عنه - على تنفيذ قراره، اقترح «ابن

عباس» أمرًا آخر، بأن يعزل من يشاء من الولاة، ويُبقى «معاوية»

على ولاية الشام، وكان اقتراحًا ذكيًا وجيهًا، فمعاوية لم يكن موضع

شكوى أحد من رعيته، ولم يشترك أهل الشام فى الثورة على

«عثمان» وقتله، وعلى هذا فلو أقره علىّ فى ولاية الشام، فلن

يلومه أحد، وكان «ابن عباس» يعرف من ناحية أخرى أن «معاوية»

لن يذعن لقرار العزل، وسيبقى فى لايته، مسببًا متاعب كثيرة، ومع

هذا صمم الإمام «على بن أبى طالب» على عزل ولاة «عثمان» جميعًا

بما فيهم «معاوية» .

بدأ الولاة الجدد يتجهون إلى ولاياتهم لمباشرة أعمالهم، فذهب

«قيس بن سعد» إلى «مصر» ، ودخلها بدون متاعب؛ لأن واليها القديم

«عبدالله بن سعد» تركها منذ علمه بمقتل «عثمان» ، وذهب إلى

ص: 134

«فلسطين» ، واعتزل الفتنة، وبقى هناك حتى مات فى مدينة

«عسقلان» سنة (37هـ).

وكذلك دخل «عثمان بن حنيف» «البصرة» ، وتولى شئونها بدون

مشاكل؛ لأن واليها «عبدالله بن عامر» كان قد تركها وذهب إلى

«مكة» .

أما «عمارة بن شهاب» فلم يمكنه أهل «الكوفة» من دخولها،

وتمسكوا بواليهم «أبى موسى الأشعرى» ، فوافق الإمام «على»

على ذلك، وأقر عليهم «أبا موسى الأشعرى» .

وكذلك لم يستطع «سهل بن حنيف» دخول الشام، فقد منعه «معاوية

بن أبى سفيان»، رافضًا قرار العزل. وهنا لم يعامل الإمام «على»

الشام معاملة «الكوفة» ، فإنه رفض إقرار «معاوية» فى ولاية

الشام، مع أن تمسك أهلها به كان أشد من تمسك أهل «الكوفة»

بأبى موسى الأشعرى.

بين على ومعاوية:

دارت مراسلات عديدة بين «على» و «معاوية» - رضى الله عنهما -

يطلب الأول من الآخر مبايعته بالخلافة، والإذعان لأوامره، باعتباره

الخليفة الشرعى الذى بايعه معظم الصحابة فى «المدينة» ، على حين

يطلب الثانى من الأول القصاص من قتلة «عثمان» ، باعتباره ولى

دمه، لأنه ابن عمه، وبعدها ينظر فى بيعته.

ولم تكن وجهة نظر الإمام فى قضية القصاص رافضة، لكنه كان يرغب

فى تأجيلها حتى تتهيأ الظروف المناسبة، ولكن «معاوية» تمسك

بالقصاص أولا، وجعله شرطًا لازمًا يسبق البيعة.

ولما لم تؤد الاتصالات بينهما إلى نتيجة، وصلت رسالة من «معاوية»

إلى «على» تتضمن جملة واحدة، هى:«من معاوية إلى على» ،

بعثها «معاوية» بيضاء مع رجل يدعى «قبيصة» من «بنى عبس» ،

وأمره أن يدخل بها «المدينة» ، رافعًا يده حتى يراها الناس، ويعلموا

أن «معاوية» لم يبايع «عليًّا» ، إذ يخاطبه باسمه فقط دون أن يصفه

بأمير المؤمنين.

وأدرك علىٌّ رضى الله عنه- أن حمل معاوية على البيعة سلمًا غير

ممكن، فأخذ يعد العدة لحمله على البيعة بالقوة، باعتباره خارجًا

على طاعة الخليفة، على الرغم من أن كثيرين نصحوه بعدم اللجوء

ص: 135

إلى الحرب لعواقبها الوخيمة، ومن بينهم ابنه «الحسن» لكن الإمام

«على» أصر على موقفه، وبينما هو يستعد لذلك، جاءته أخبار

أخرى مفزعة من «مكة» ، تخبره بمسير «عائشة» وجماعتها إلى

«البصرة» .

موقعة الجمل (36هـ):

كانت أم المؤمنين «عائشة» - رضى الله عنها - عائدة من أداء فريضة

الحج، وسمعت بمقتل «عثمان» ، فعادت من الطريق إلى «مكة» ،

وأعلنت سخطها على قتله، وأخذت تردد «قُتل والله عثمان مظلومًا

لأطلبن بدمه»، ثم وافاها فى «مكة» «طلحة» و «الزبير» - رضى الله

عنهما - و «بنو أمية» ، وكل من أغضبه مقتل «عثمان» ، وراحوا

يتباحثون فى الأمر، وهداهم تفكيرهم إلى تجهيز جيش للأخذ بالثأر

من قتلة «عثمان» والسير به إلى «البصرة» ، باعتبارها أقرب بلد

إليهم من البلاد التى اشترك أهلها فى الثورة على «عثمان» وقتله،

وكان هذا اجتهادًا منهم مجانبًا للصواب، لأنهم بهذا العمل كأنهم

أقاموا حكومة أخرى غير حكومة الإمام، المبايع شرعًا من الأمة،

والمنوط به وحده إقامة الحدود والقصاص من القتلة، وربما كان

الأفضل من هذا أن يتوجهوا إلى «المدينة» ، ليشدوا من أزر الخليفة

فى هذا الوقت العصيب الذى تمر الأمة به، ويتشاوروا معه فى إيجاد

طريقة لحل المشكلات التى تواجهها الأمة.

وصلت أخبار سير «عائشة» ومن معها إلى «على» وهو يتأهب

للخروج إلى الشام لقتال «معاوية» ، فاضطر إلى تغيير خطته، فلم

يعد ممكنًا أن يذهب إلى الشام، ويترك هؤلاء يذهبون إلى

«البصرة» ، فاستعد للذهاب إلى هناك.

خرجت السيدة «عائشة» - رضى الله عنها - ومعها فى البداية نحو

ألف رجل لكن هذا العدد تضاعف عدة مرات، بانضمام كثيرين إلى

الجيش، نظرًا إلى مكانة «عائشة» ، فلما اقتربوا من «البصرة» ، أرسل

واليها «عثمان بن حنيف» إلى أم المؤمنين «عائشة» رسولين من

عنده، هما «عمران بن حصين» و «أبو الأسود الدؤلى» يسألانها عن

سبب مجيئها. فقالت لهما: «إن الغوغاء من أهل الأمصار ونزاع

ص: 136

القبائل غزوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحدثوا فيه

الأحداث وآووا فيه المحدثين، واستوجبوا لعنة الله ورسوله، مع

مانالوا من قتل إمام المسلمين، بلا ترة ولا عذر، فخرجت فى

المسلمين، أعلمهم ما أتى هؤلاء».

وكذلك سأل الرسولان «طلحة» و «الزبير» - رضى الله عنهما - عن

سبب مجيئهما، فقالا:«الطلب بدم عثمان» ، فرجع الرجلان وأخبرا

«عثمان بن حنيف» ، فقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون! دارت رحى

الإسلام ورب الكعبة»، وأصرَّ على منعهم من دخول «البصرة» ، فدارت

بينه وبينهم معركة عند مكان يُسمى «الزابوقة» قُتل فيها نحو

ستمائة من الفريقين، فلما رأوا كثرة القتلى تنادوا إلى الصلح والكف

عن القتال، وانتظار قدوم الإمام «على» إلى «البصرة» ، وتم الصلح

على أن يتركوا للوالى دار الإمارة والمسجد وبيت المال، وينزلوا هم

فى أى مكان بالبصرة.

وصول «على» إلى البصرة:

وصل «على» إلى «البصرة» وعلم بما حدث من سفك الدماء وهاله

ذلك، فأرسل على الفور «القعقاع بن عمرو التميمى» إلى معسكر

«عائشة» و «طلحة» و «الزبير» ، ليعرف ماذا يريدون، فقالت «عائشة»

- رضى الله عنها -: «خرجنا لنصلح بين الناس» ، وكذلك قال «طلحة»

و «الزبير» ، فسألهم «ما وجه الإصلاح الذى تريدون» ، قالوا: «قتلة

عثمان»، قال: «لقد قتلتم ستمائة من قتلة عثمان، فغضب لهم ستة

آلاف من قبائلهم، وكنتم قبل ذلك أقرب إلى السلامة منكم الآن»،

قالوا: «فماذا ترى أنت؟» ، قال: «أرى أن هذا الأمر دواؤه

التسكين»، واقترح عليهم تجديد البيعة لعلى، ومقابلته، والتفكير بعد

ذلك فيما يصلح المسلمين، فقبلوا.

ومعنى ذلك أن الجميع كانوا راغبين، فى الإصلاح، كل على حسب

اجتهاده، لكن عناصر الشر التى كانت لاتزال فى معسكر «على»

هى التى أفسدت السعى الذى قام به «القعقاع» .

أتباع ابن سبأ يفسدون الصلح ويبدءون المعركة:

كانت نقطة الضعف التى فى معسكر الإمام «على» هى وجود كثيرين

ص: 137

ممن اشتركوا فى قتل «عثمان» والتخطيط له، وعلى رأسهم «عبدالله

بن سبأ»، و «الأشتر النخعى» ، ولم يكن لعلى حيلة فى وجودهم معه،

ولا قدرة على إبعادهم، لكونهم قوة كبيرة تساندهم عصبات قبلية،

وقد أدرك زعماؤهم الذين تولوا كبر الثورة على «عثمان» أن الصلح

بين الفريقين سيجعل «عليًّا» يتقوى بانضمام الفريق الآخر إليه،

ويقيم الحد عليهم باعتبارهم قتلة «عثمان» ، فعزموا على إفساد الأمر

كله.

وترتب على هذا العزم أن عقد «ابن سبأ» لهم مؤتمرًا تدارسوا فيه

الأمر، فاقترح «الأشتر» أن يقتلوا «عليًا» كما قتلوا «عثمان» من

قبل، فتهيج الدنيا من جديد، ولا يقدر عليهم أحد، لكن هذا الاقتراح

لم يعجب «ابن سبأ» ، فهو يريد أن يدخل الأمة كلها فى حرب طاحنة،

لا أن يقتل فرد واحد وإن كان خليفة المسلمين، فأمرهم بشن هجوم

فى ظلام الليل على جيش «عائشة» و «طلحة» و «الزبير» ، بدون علم

الإمام «على» ، فاستجابوا لرأيه، وبينما الناس نائمون مطمئنون بعد

أن رأوا بوادر الصلح تلوح فى الأفق، إذا بهم يفاجئون بقعقعة

السلاح، وكانت هذه هى بداية حرب «الجمل» المشئومة التى راح

ضحيتها خيرة الصحابة «طلحة» و «الزبير» المبشران بالجنة، ونحو

عشرين ألفًا من المسلمين.

أسباب خروج عائشة ومن معها:

لم تكن أم المؤمنين «عائشة» ، ولا «طلحة» ولا «الزبير» ولا أمير

المؤمنين «على» يريدون سفك الدماء، ولا يتصورون حدوث ذلك،

وكل ما دفع السيدة «عائشة» ومن معها إلى الخروج إنما هو

اقتناعهم بأن «عثمان» قُتل مظلومًا، وعليهم تقع مسئولية إقامة الحد

على قتلته، ولم يكونوا أبدًا معادين لعلى، أو معترضين على

خلافته، وقد رأينا ميلهم جميعًا إلى الصلح، لولا أن أتباع «ابن سبأ»

(السبئية) أفسدوا كل شىء وأشعلوا الحرب، ولقد ندمت السيدة

«عائشة» ندمًا شديدًا على ماحدث، وقالت: «والله لوددت أنى مت

قبل هذا اليوم بعشرين سنة».

وخلاصة القول أن تبعة هذه المأساة تقع على عاتق «السبئية» ، فهم

ص: 138

الذين أشعلوا الفتنة من البداية، وقتلوا خليفة المسلمين ظلمًا،

وأشعلوا حرب «الجمل» ، أما الصحابة، فقد وصف «ابن خلدون»

موقفهم وصفًا دقيقًا، فقال: «وإذا نظرت بعين الإنصاف عذرت القوم

أجمعين، وعلمت أنها كانت فتنة ابتلى الله بها الأمة»

معركة صفين:

بعد معركة «الجمل» توجه «على ابن أبى طالب» بجيش يبلغ عدده

نحو مائة ألف إلى «صفين» ، واستعد «معاوية» لمقابلته بجيش يقاربه

فى العدد، ودارت بينهما معركة شرسة فى شهر صفر سنة (37هـ)

قُتِل فيها من الجانبين نحو سبعين ألفًا، خمسة وعشرين ألفًا من

جيش «على» ، وخمسة وأربعين ألفًا من جيش «معاوية» ، ولما رأى

الناس كثرة القتلى من الجانبين تنادوا يطلبون وقف القتال، فجعل

أهل «العراق» (جيش «على») يصيحون فى أهل الشام (جيش

«معاوية» ) قائلين: من لثغور «العراق» إن فنى أهل «العراق» . ويرد

الآخرون: من لثغور الشام إن فنى أهل الشام. ومن هنا جاءت فكرة

التحكيم.

التحكيم:

رفع جيش «معاوية» المصاحف للاحتكام إليها، ووقف القتال فورًا،

بدلا من سفك الدماء، وكانت فكرة التحكيم من عند «عمرو بن

العاص»، وقد قبلها الطرفان، وأوقفت الحرب، بعد أن فزع الناس

لكثرة عدد القتلى.

أوقفت الحرب، وطلب من «على» و «معاوية» أن ينيب كل منهما

شخصًا يتفاوض باسمه، للفصل فى القضايا محل الخلاف، فأناب

«معاوية» «عمرو بن العاص» ، وأناب «على» «أبا موسى الأشعرى»

على كره منه وذلك فى شهر صفر (37هـ) وكان «على» قد حاول أن

ينيب عنه «عبدالله بن عباس» ، لكن أنصاره، وبخاصة من أبناء

«اليمن» بزعامة «الأشعث بن قيس» ، رفضوا ذلك بحجة عصبية،

وأعلنوها صراحة، كيف يكون الخلاف بين رجلين من «قريش» ، ثم

يكون الحكمان رجلين من «قريش» أيضًا، لقد حسدوا قريشًا على

زعامتها للدولة الإسلامية التى استحقتها بسابقتها فى الإسلام، لا

بنسبها فقط.

واتفق على أن يأخذ الطرفان مهلة مدتها ستة أشهر، تهدأ فيها

ص: 139

النفوس، ويجتمع الحكمان للتباحث والوصول إلى حل، وبعد مفاوضات

طويلة وصل الحكمان إلى نتيجة رأياها أفضل الحلول، وهى عزل

«على» -رضى الله عنه- عن الخلافة، ورد الأمر إلى الأمة تختار من

تشاء، أما التصرف العملى فى إدارة البلاد التى كانت تحت يد كل من

الرجلين المتحاربين، فيبقى كما كان:«على» يتصرف فى البلاد التى

تحت حكمه (وهى كل الدولة الإسلامية عدا الشام) و «معاوية» يتصرف

فى البلاد التى تحت حكمه (الشام).

موقف على وأنصاره من التحكيم:

اجتهد الحكمان فيما توصلا إليه، وأعلناه على الناس، غير أن

«عليًّا» - رضى الله عنه - لم يقبل تلك النتيجة، واعتبر الحكمين قد

تجاوزا حدودهما؛ لأن الخلاف لم يكن على منصب الخلافة، وإنما على

إقامة الحد على قتلة «عثمان» ، وبيعة «معاوية» له، أيهما يسبق

الآخر، ولذلك عدَّ نفسه فى حل من هذه النتيجة، فعادت الأمور إلى ما

كانت عليه قبل التحكيم، أى إلى حالة الحرب.

ظهور الخوارج:

حاول «على» أن يدعو أنصاره إلى حرب «معاوية» من جديد لكنهم

كانوا قد ملوا القتال، وتقاعسوا عنه، بل إنهم انقسموا إلى «شيعة»

وافقوه على ماصنع «وخوارج» اعتبروا التحكيم كان خاطئًا من

أساسه، مع أنهم هم الذين فرضوه عليه، ثم تجاوزوا ذلك إلى ما هو

أكثر تطرفًا، فاتهموا «عليًّا» بالكفر، لأنه حكَّم الرجال فى القرآن،

وصاغوا شعارًا أخذوا يرددونه «الحكم لله لا لك يا على» ، وكان هو

يقول لهم: «كلمة حق أريد بها باطل» ، وطالبوه بأن يعلن كفره،

ويتوب ويسلم من جديد، حتى يعودوا إليه ويقاتلوا معه، فإذا لم يفعل

فسوف يقاتلونه.

ولا يمكن لمسلم أن يتصور كيف يُكفَّر رجل من صحابة رسول الله

المبشرين بالجنة، وممن رضى الله عنهم تحت الشجرة فى «بيعة

الرضوان»، وإزاء هذا التطرف من «الخوارج» اضطر الإمام أن يحاربهم

فى معركة شهيرة تُسمى معركة «النهروان» بالقرب من «الكوفة» ،

وبعدها لم يستطع أن يجمع شمل أنصاره لقتال «معاوية» من جديد

ص: 140

كما كان يريد، بل أجبرته الظروف على التفاهم والاتفاق معه.

الاتفاق بين على ومعاوية:

بعد انقسام جبهة «على» إلى «شيعة» و «خوارج» ازداد موقفه

ضعفًا؛ لأن صراعه مع «الخوارج» كبده متاعب جسيمة، وفى الوقت

نفسه كان موقف «معاوية» يزداد قوة، وبخاصة بعد أن استطاع

الاستيلاء على «مصر» سنة (38هـ)، بجيش قاده فاتحها الأول «عمرو

بن العاص»، ونشر قوات له فى أطراف «العراق» ، وضم «اليمن» إليه،

وأصبحت دولته تتسع بمرور الزمن، فى الوقت الذى تضيق فيه دولة

«على» .

وانتهى الأمر بأن جرت بينهما مفاوضات طويلة، اتفقا على وضع

الحرب بينهما وتكون لعلى «العراق» وبلاد فارس ولمعاوية الشام فلا

يدخل أحدهما على صاحبه فى عمله بجيش ولا غارة .. وتراضيا على

ذلك» .. وهكذا أجبرت الظروف التى تكون أحيانًا أقوى من الرجال

«على بن أبى طالب» أن يصالح «معاوية» ، ويسلم له بنصف الدولة

الإسلامية تقريبًا، يحكمها حكمًا مستقلا، وهو الذى رفض فى بادئ

الأمر إبقاءه واليًا على الشام وحدها يأتمر بأمره، وينتهى بنهيه.

إدارة الدولة وتثبيت الفتوحات فى عهده:

على الرغم من الظروف الصعبة التى واجهت الإمام «عليًّا» -رضى الله

عنه- فإنه أدار الدولة باقتدار وعدالة ونزاهة وتجرد، ولم يقصر فى

شأن من شئونها، واتخذ من «الكوفة» عاصمة لدولته منذ أن خرج من

«المدينة» إلى «البصرة» وبعد معركة «الجمل» ، وظل يحكم منها إلى

أن لقى الله، وعهد بإدارة بقية أجزاء دولته إلى أقرب الناس إليه،

وأخلصهم له، فجعل «عبدالله بن عباس» واليًا على «البصرة» وأخاه

«عبيد الله بن عباس» واليًا على «اليمن» ، وأخاهما الثالث «قثم بن

عباس» على «مكة» و «الطائف» ، وعزل «قيس بن سعد» عن «مصر» ،

وولى مكانه «محمد بن أبى بكر الصديق» .

ولا لوم على «عثمان» و «على» إذا وليا أهل قرابتهما؛ لأن كل واحد

منهما اجتهد لمصلحة الأمة، وكان أمينًا عليها، فعهد بإدارة الدولة

ص: 141

إلى من رأى أنهم ينفذون سياسته، ولم يولِّ أى منهما أحدًا محاباة

أو لقرابة.

ولم تشغل الإمام «عليًّا» مشكلات الدولة الداخلية عن التصدى

لمحاولات الانتقاض التى حدثت فى بلاد فارس، فقد حاول الفرس

تكرار ما فعلوه بعد استشهاد «عمر بن الخطاب» ، فأرسل إليهم

«زياد بن أبيه» فى جمع كثير، «فوطئ بهم أهل فارس، وكانت قد

اضطرمت، فلم يزل يبعث إلى رءوسهم، يعد من ينصره ويعينه،

ويخوّف من امتنع عليه، وضرب بعضهم ببعض، فدل بعضهم على

عورة بعض، وهربت طائفة، وأقامت طائفة، فقتل بعضهم بعضًا،

وصفت له فارس، فلم يلقَ منهم جمعًا ولا حربًا».

أما الروم فلم يتحركوا؛ لأن الإمبراطور «قنسطانز» لما عرض عليه

بعض قواده أن ينتهزوا فرصة الحروب التى جرت بين «على»

وأصحاب «الجمل» ، وبينه وبين «معاوية» ، ويغيروا من جديد على

«مصر» و «الشام» ، رفض الإمبراطور معللا ذلك بأن غزوه لمصر

والشام سيجعل المسلمين يتصالحون ويتحدون ويقاتلوننا جميعًا، ولن

نقوى عليهم، فخير لنا أن نتركهم يقتل بعضهم بعضًا حتى يضعف

شأنهم.

استشهاد على رضى الله عنه:

جاءت نهاية الإمام «على بن أبى طالب» على يد «الخوارج» ، أنصاره

السابقين، الذين بلغ بهم الغلو والتطرف حدًا اعتبروا فيه «عليًّا»

و «معاوية» و «عمرو بن العاص» أئمة ضلالة، وحمَّلوهم مسئولية ما

حدث، وقرروا قتل الثلاثة جميعًا، واتفقوا أن يتم التنفيذ فى وقت

واحد، هو فجر اليوم السابع عشر من شهر رمضان سنة (40هـ)؛ تيمنًا

بذكرى معركة «بدر» حسب تصور نفوسهم المريضة وعقولهم

الفاسدة، وانتدبوا ثلاثة للقيام بهذه المهمة، هم «عبدالرحمن بن

ملجم»، و «البرك بن عبدالله» ، و «عمرو بن بكر» ، على أن يذهب الأول

إلى «الكوفة» لقتل «على» ، والثانى إلى «دمشق» لقتل «معاوية» ،

والثالث إلى «مصر» لقتل «عمرو بن العاص» .

وشاءت إرادة الله - تعالى - أن ينجو «معاوية» و «عمرو» من القتل،

وأن تكون الشهادة من نصيب «على» ، حيث ضربه «عبدالرحمن بن

ص: 142

ملجم» بسيف مسموم فى جبهته، فشقها فمات من أثر الضربة بعد

وقت يسير، بعد أن قضى أربع سنوات وبضعة شهور، لم يذق فيها

طعم الراحة، وحاصرته المشكلات والمتاعب، وأنهكته الحروب من كل

جانب.

خلافة الحسن بن على: (40 - 41هـ)

وبعد وفاة الإمام «على» بايع أنصاره ابنه «الحسن» ، وكان «جندب

بن عبد الله» قد دخل على الخليفة بعد طعنه وتيقن ألا أمل فى حياته،

وسأله: «يا أمير المؤمنين إن فقدناك - ولا نفقدك - أنبايع للحسن؟

فقال: ما آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر»، ولم يوصِ لأحد من بعده، بل

قال لهم: «ولكن أدعو الله - تعالى- أن يجمعكم بعدى على خيركم

كما جمعنا بعد نبينا على خيرنا» -يقصد أبا بكر-، مرسخًا بذلك

قاعدة الشورى التى اتُبِعَت فى بيعته هو وبيعة الثلاثة الراشدين من

قبله.

أراد أنصار «الحسن» أن يتأهبوا لقتال «معاوية» من جديد، لكنه

رفض، ورأى عدم جدوى ذلك، بل إنه وقف ضد فكرة اقتتال

المسلمين من البداية.

راسل «الحسن» «معاوية» بشأن الصلح، فسر به سرورًا عظيمًا،

وجاء إلى «الكوفة» فى شهر ربيع الأول سنة (41هـ)، بعد ستة

أشهر من خلافة «الحسن» ، وبايعه «الحسن» و «الحسين» ، وتبعهما

الناس، وبهذا قامت الدولة الأموية رسميًّا، وأصبح «معاوية» خليفة

للأمة الإسلامية كلها، ولُقب لأول مرة بأمير المؤمنين، وكان يلقب قبل

ذلك بالأمير فقط.

استبشر المسلمون خيرًا بتلك المصالحة، وحمدوا الله على انتهاء

الفتنة وسفك الدماء، وسمُّوا ذلك العام «عام الجماعة» ، وترك صنيع

«الحسن» صدى طيبًا عند جمهور المسلمين، وأثنى عليه كثير من

علماء أهل السنة، ورأوا فيما فعل تحقيقًا لنبوءة جده محمد - صلى

الله عليه وسلم -، الذى قال «ابنى هذا سيد، ولعل الله يصلح به بين

فئتين عظيمتين من المسلمين».

ص: 143

- المراجع:

* بن الأثير (عز الدين): الكامل في التاريخ - دار الكتب العلمية بيروت - الطبعة الأولي 1987م

* جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ـ جامعة بغداد ـ الطبعة الثانية ـ 1993م

* بن حجر العسقلاني (أحمد بن علي): الإصابة في تمييز الصحابة ـ دار الجبل ـ بيروت ـ الطبعة الأولي ـ 1992م

* بن حجر العسقلاني (أحمد بن علي): فتح الباري بشرح صحيح البخاري - المكتبة السلفية ـ القاهرة ـ الطبعة الثالثة ـ 1407م

* سليمان الطماوي: عمر بن الخطاب وأصول السياسة والإدارة الحديثة ـ دار الفكر العربي ـ القاهرة ـ بدون تاريخ

* السيد سابق: فقه السنة ـ دار الريان للتراث ـ القاهرة ـ الطبعة الأولي ـ 1988م

* السيوطي (جلال الدين): تاريخ الخلفاء ـ دار الفكر العربي ـ القاهرة ـ بدون تاريخ

* الصالحي (محمد بن يوسف): سبيل الهدي والرشاد في سيرة خير العباد ـ الناشر: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ـ القاهرة ـ 1413هـ = 1993م

* الطبري (محمد بن جرير): تاريخ الطبري ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ الطبعة الثانية ـ 1418 هـ ـ 1998 م

* عباس محمود العقاد: عبقرية عمر ـ دار نهضة مصر ـ القاهرة ـ بدون تاريخ

* بن عبد البر (يوسف بن عبد الله): الدرر في اختصار المغازي والسير ـ دار المعارف ـ الطبعة الثانية ـ 1983م

* بن عبد الحكم (أبو القاسم عبد الرحمن): فتوح مصر وأخبارها ـ نشره وصححه: هنري ماسية ـ القاهرة ـ 1914م

* عبد الحي الكتاني: التراتيب الإدارية أو نظام الحكومة النبوية ـ دار الكتاب العربي ـ بدون تاريخ

* بن كثير (إسماعيل بن عمر): البداية والنهاية ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت - الطبعة الرابعة ـ 1408هـ = 1988م

* محمد بن الحسن الشيباني: كتاب السير الكبير ـ مطبعة شركة الإعلانات الشرقية ـ القاهرة ـ 1971م

* محمد حسين هيكل: الفاروق عمر ـ دار المعارف القاهرة ـ بدون تاريخ

ص: 144

* محمد أبو زهرة: خاتم النبيين ـ دار الفكر العربي ـ القاهرة ـ الطبعة الأولي ـ 1973م

* محمد أبو شهبه: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة ـ دار القلم ـ دمشق ـ الطبعة الأولي ـ 1988م

* محمد صادق عرجون: محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم منهج ورسالة ـ دار القلم ـ دمشق ـ الطبعة الأولي 1405 هـ = 1985م

* محمد بن عبد الله الأردي: فتوح الشام ـ تحقيق عبد المنعم عبدالله عامر ـ مؤسسة سجل العرب ـ 1970م

ص: 145