المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌العصر العباسي في العراق والمشرق - موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي - جـ ٣

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌العصر العباسي في العراق والمشرق

الجزء الثالث

‌العصر العباسي في العراق والمشرق

تأليف:

أ. د. حسن علي حسن

أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة القاهرة

د. عبد الرحمن سالم

مدرس التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة القاهرة

الفصل الأول

*الخلافة العباسية

ينتسب خلفاء «بنى العباس» إلى جدهم «العباس بن عبد المطلب» عم

النبى صلى الله عليه وسلم، الذى عاش فى «مكة» وأسلم بها،

وكانت له مكانته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد أنجب «العباس» عددًا من الأبناء، أشهرهم:«عبد الله بن عباس»

الذى أُطلق عليه «ترجمان القرآن» و «حَبْر الأمة» لسعة علمه وحدة

ذكائه.

ترك «عبد الله» كثيرًا من الأبناء منهم «على بن عبد الله» ، الذى يُقال

له «السجَّاد» ؛ لكثرة عبادته، وأنجب «السجاد» أولادًا كثيرين،

أشهرهم «محمد بن على» ، الذى نظم الدعوة العباسية وخرج بها إلى

حيز الوجود، وأحاط تحركاته بجو من السرية والكتمان، حتى أطلق

على المرحلة التى مرت بها الدعوة العباسية فى عهده «المرحلة

السرية»، وتمتد من سنة (100هـ= 718م) إلى سنة (129هـ= 746م)،

وتحركت الدعوة فيها من ثلاثة أماكن هى:

1 -

الحميمة: وهى قرية صغيرة منعزلة فى جنوب «الشام» ، اتخذتها

الأسرة العباسية مقرا لها.

2 -

الكوفة: وتعد المركز الرئيسى لنشاط الدعاة العباسيين، وتتوسط

بلاد «الشام» و «العراق» و «خراسان» .

3 -

خراسان: حيث نجح الدعاة العباسيون فى اجتذاب الآلاف إليهم.

وبدأت الدعوة بجماعة تُسمَّى «النقباء» ، قاموا بتكوين «مجلس

شورى» برئاسة «سليمان بن كثير الخزاعى» ، وكان مركز الدعوة

فى «الكوفة» يتلقى التعليمات من مقر البيت العباسى فى «الحميمة»

ويرسلها إلى أنصار الدعوة فى كل مكان، وخاصة «خراسان» .

وعقب وفاة الإمام «محمد بن على» سنة (125هـ= 742م) تولى ابنه

«إبراهيم» - المعروف بالإمام - شئون الدعوة، وقد نشطت فى عهده،

واتخذت اللون الأسود شعارًا لها.

وقد تهيأ للدعوة العباسية أسباب النجاح منذ أن أسندت مهمة

الإشراف على الدعوة فى «خراسان» إلى «أبى مسلم الخراسانى» ،

الذى جمع حوله الأنصار والأعوان، وخاض بهم ساحات القتال محققًا

العديد من الانتصارات، وقام بدور مهم فى قيام «الدولة العباسية» .

ص: 1

وقد واجه العباسيون بزعامة «أبى مسلم» قوى مختلفة فى

«خراسان» ، فور إعلان ثورتهم ليلة الخميس (25من رمضان سنة

129هـ= 9من يونيو سنة747م)، وتمثلت هذه القوى فى «نصر بن

سياد» الوالى الأموى، وقبائل «اليمن» و «ربيعة» ، و «الخوارج» ، لكن

«أبا مسلم» استطاع بذكائه ودهائه أن يوقع بينها مستغلا العنصر

القبلى وإثارة العصبية بين أفرادها.

وبعد معارك كثيرة استطاعت قوات «أبى مسلم الخراسانى» أن

تدخل مدينة «مرو» عاصمة إقليم «خراسان» ، ثم استولت على

«همدان» و «نهاوند» و «حلوان» و «خانقين» وغيرها، حتى دخلت

«العراق» ، وكان وراء ذلك النجاح الكبير الذى أحرزه العباسيون فى

نشاطهم الدعائى والعسكرى أسباب كثيرة، منها:

1 -

الدعوة الدائبة والمنظمة التى استمرت ما يقرب من ثلاثين سنة

على أيدى دعاة مدربين.

2 -

كثرة الجيوش العباسية واندفاعها لاكتساح القوات الأموية.

3 -

القيادة الحكيمة التى استطاعت تنظيم أنصار الدعوة العباسية

وتسليحهم وتوجيههم إلى ميادين القتال المختلفة.

4 -

تمزق صفوف الجيوش الأموية بسبب العصبية القبلية.

5 -

نجاح العباسيين فى جذب مجموعة من القادة الأكفاء الذين أداروا

المعركة باقتدار ضد الأمويين، ومنهم «أبو مسلم الخراسانى» ، و «أبو

سلمة الخلال» كبير الدعاة العباسيين بالكوفة، و «ابن شبيب الطائى»

الذى قاد الجيوش العباسية المتجهة إلى «العراق» .

انتقلت الأسرة العباسية من «الحميمة» سرا إلى «الكوفة» ، بعد إلقاء

القبض على «إبراهيم الإمام» وقتله فى أحد سجون «دمشق» ، وكان

قد أوصى بتولية أخيه «عبدالله» شئون الدعوة.

وفى «الكوفة» أقامت الأسرة العباسية عند «أبى سلمة الخلال»

كبير الدعاة أربعين يومًا حتى تهيأت الظروف لمبايعة أول خليفة

عباسى وهو «عبد الله بن محمد» .

ص: 2

الفصل الثاني

*العصر العباسى الأول

(132 - 232هـ = 749 - 847م):

يمتد العصر العباسى الأول قرنًا من الزمان، من سنة (132هـ= 749م)

إلى سنة (232هـ= 847م)، ويعد العصر الذهبى للخلافة العباسية؛ حيث

تمتع الخلفاء بسلطتهم الدينية والدنيوية.

وخلفاء هذا العصر تسعة، هم:

1 -

أبو العباس عبدالله (132 - 136هـ= 749 - 753م).

2 -

المنصور (136 - 158هـ= 753 - 775م).

3 -

المهدى (158 - 169هـ= 775 - 785م).

4 -

الهادى (169 - 170هـ= 785 - 786م).

5 -

الرشيد (170 - 193هـ= 786 - 809م).

6 -

الأمين (193 - 198هـ= 809 - 813م).

7 -

المأمون (198 - 218هـ= 813 - 833م).

8 -

المعتصم (218 - 227هـ= 833 - 842م).

9 -

الواثق: (227 - 232هـ= 842 - 847م).

الخليفة الأول: أبو العباس (132 - 136هـ= 749 - 753م):

هو «عبدالله بن محمد بن على بن عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب بن

هاشم»،ولد سنة (100هـ= 718م) تقريبًا.

بويع «أبو العباس» فى «الكوفة» فى شهر ربيع الأول سنة (132هـ=

749م).

واستمر فى الحكم أربع سنوات، استطاع خلالها توطيد أركان

الخلافة العباسية، والقضاء على كل مقاومة ظهرت فى عهده.

موقف العباسيين من الأمويين:

مما لاشك فيه أن هناك بعض التجاوزات التى حدثت فى إقليم

«الشام» على يد الوالى العباسى «عبدالله بن على» ، عم الخليفة

«أبى العباس» ؛ حيث تعقَّب الأمويين فى كل مكان وقتل كثيرًا منهم،

مما دفع بعضهم إلى الفرار إلى مناطق بعيدة، كما فعل «عبدالرحمن

بن معاوية» - صقر قريش - الذى فر إلى «المغرب» ومنها إلى

«الأندلس» ؛ حيث أسس دولة أموية هناك سنة (138هـ= 755م)، كما

حاول بعضهم الآخر التخفِّى وطلب العفو.

ومن ناحية أخرى لم يقف أنصار الأمويين وأعوانهم مكتوفى الأيدى

أمام انتصارات العباسيين، وما ارتكبه بعض ولاتهم من مذابح تجاه

البيت الأموى، فقاموا بعدة ثورات فى أماكن متفرقة، إحداها

بالبلقاء و «حوران» سنة (132هـ= 749م)، وأخرى فى «قِنَّسرين» ،

ص: 3

وثالثة فى «دمشق» ،لكن قوات العباسيين استطاعت الانتصار عليها

والسيطرة على الموقف.

موقف الخلافة من بعض زعماء الدعوة العباسية:

واجهت «الدولة العباسية» قبيل إعلانها وفى بداية قيامها انحراف

بعض المسئولين فيها، ولم تكن الظروف السياسية التى صاحبت قيام

«الدولة العباسية» تسمح بالتخلّص من هؤلاء، فلما بويع «أبو

العباس» بالخلافة وبدأت الدولة تأخذ طريقها إلى الاستقرار، قامت

بمعاقبة هؤلاء، وكان أول من عوقب «أبا سلمة الخلال» بسبب عدم

تحمسه كثيرًا لانتقال أفراد البيت العباسى من «الحميمة» إلى

«الكوفة» ، ولم يأذن لهم بدخول «الكوفة» إلا بعد فترة، وحاول نقل

الخلافة من البيت العباسى إلى البيت العلوى إلا أنه فشل فى ذلك،

كما حاول قتل «أبى العباس» وفشل فى ذلك أيضًا، فلما استقرت

أمور الدولة استقر رأى أفراد البيت العباسى على أخذ رأى «أبى

مسلم الخراسانى»، الذى وافق على التخلص منه، فتم اغتياله

وأعلنت القيادة العباسية أن جماعة من أعداء الدولة هم الذين نفذوا

هذه المؤامرة.

كما قام «أبو مسلم الخراسانى» والى إقليم «خراسان» بالتخلص من

أحد كبار الدعاة وهو «سليمان بن كثير» ، الذى كان يُعرف بنقيب

النقباء، عقب اتهامه بالاتصال بأحد أبناء البيت العلوى وتحريضه

على الثورة ضد البيت العباسى.

وتُوفى الخليفة العباسى الأول «أبو العباس» بالأنبار فى (13 من ذى

الحجة سنة 136هـ= 9 من يونيو سنة 754م)، وعمره نحو ست وثلاثين

سنة.

الخليفة الثانى: أبو جعفر المنصور (136 - 158هـ= 753 - 775م):

هو «عبدالله بن محمد بن على بن عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب

الهاشمى»، وكنيته «أبو جعفر» .

ولد سنة (95هـ= 714م) فى قرية «الحميمة» بالشام، وتربى وسط

كبار الرجال من «بنى هاشم» ، فنشأ فصيحًا عالمًا بسير الملوك

والأمراء، ودرس النحو والتاريخ والأدب شعرًا ونثرًا وغير ذلك، كما

كان كثير الأسفار والتنقل.

ص: 4

ولما تولى أخوه «أبو العباس» الخلافة استعان به فى محاربة أعدائه

وتصريف أمور الدولة، وكان ينوب عنه فى الحج، كما أوصى «أبو

العباس» قبيل وفاته مباشرة بولاية عهده لأخيه «أبى جعفر» ، الذى

كان غائبًا فى موسم الحج، فلما تُوفِّى «أبو العباس» قام ابن أخيه

«عيسى بن موسى» بأخذ البيعة لأبى جعفر من «بنى هاشم»

وغيرهم، وأرسل إلى عمه «أبى جعفر» بوفاة أخيه ومبايعته

بالخلافة.

ولما وصل «أبو جعفر» إلى «الأنبار» استكمل أخذ البيعة من القادة

والرؤساء، ثم خطب فيهم مبيِّنًا سياسته فى إدارة الدولة فى النقاط

الآتية:

1 -

زهده فى منصب الخلافة، وأنه لم يكن يتطلع إلى ذلك أو يرغب

فيه.

2 -

تعهده بتنفيذ ما ورد فى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه

وسلم -.

3 -

تعهده بإقرار العدل ورفع الظلم عن الناس، وإرجاع الحقوق إلى

أصحابها.

يُعدُّ «أبو جعفر المنصور» المؤسس الحقيقى للدولة العباسية، وقد

واجه بحزم واقتدار العديد من المشاكل والثورات حتى نجح فى

السيطرة عليها والقضاء على القائمين بها، ومنها: ثورة عمه «عبد الله

بن على»، وتمرد «أبى مسلم الخراسانى» ، وثورة «محمد النفس

الزكية»، وثورات الفرس، وحركات الخوارج.

أولاً: ثورة عبد الله بن على:

يُعدُّ «عبد الله بن على» - عم الخليفة «أبى جعفر المنصور» - من

الشخصيات العسكرية البارزة فى «الدولة العباسية» ، وقد شارك مثل

غيره من أفراد البيت العباسى، فى النشاط العسكرى والسياسى

حتى قامت «الدولة العباسية» ، وتولى إمارة «الشام» ، فلما تُوفِّى

الخليفة الأول «أبو العباس» ، رفض «عبد الله بن على» مبايعة الخليفة

الجديد «أبى جعفر المنصور» ، وأعلن أنه أحق منه بمنصب الخلافة،

وأن الخليفة «أبا العباس» كان قد وعده بذلك، ولم يكن هذا صحيحًا؛

لأن الخليفة «أبا العباس» كتب وصيته قبل وفاته بتولية أخيه «أبى

جعفر» الخلافة، كما أنه لم يرد عن أحد من أفراد البيت العباسى ما

يؤيد دعوى «عبد الله بن على» .

ص: 5

وقد أحدث هذا خللاً شديدًا فى كيان البيت العباسى، فحاول «أبو

جعفر» رأب هذا الصدع، وأرسل إلى عمه عدة رسائل يدعوه إلى

الدخول فى طاعته، ولزوم الجماعة، إلا أن عمه رفض ذلك، فأرسل

إليه «أبو جعفر» قائده «أبا مسلم الخراسانى» على رأس جيش

كبير، ودارت معركة فاصلة بين الجيشين فى (جمادى الآخرة سنة

137هـ= نوفمبر سنة 754م)، انتهت بانتصار جيش «أبى مسلم» وفرار

«عبدالله بن على» إلى «البصرة» ، ثم استطاع الخليفة «أبو جعفر»

إحضاره منها إلى «الكوفة» وسجنه حتى مات سنة (147هـ= 764م).

ثانيًا: تمرد أبى مسلم الخراسانى:

اختلفت المصادر التاريخية فى بيان أصل «أبى مسلم الخراسانى» ،

والراجح أنه من أصلٍ فارسى، وقد التحق فى بداية أمره بخدمة

«إبراهيم الإمام» الذى أُعجب به ووثق فيه، واستعان به فى أموره

المهمة، وكان له دور بارز فى نجاح الدعوة العباسية، وقيام دولتها.

ورغم الجهود والأعمال التى قام بها «أبو مسلم» فإنه ارتكب بعض

الأخطاء الجسيمة فى حق الخلافة العباسية منها:

انفراده بالحكم فى «خراسان» ، وتجاهله شيوخ الدعوة العباسية

ونقباءها هناك، وعدم تنفيذ أوامر الخليفة «أبى العباس» ثم تجاهله

لأبى جعفر فى مناسبات كثيرة، وتحريضه ابن أخيه «عيسى بن

موسى» على الثورة والاستئثار بمنصب الخلافة، وغير ذلك.

وقد حاول الخليفة «أبو جعفر» - فى البداية - معالجة الأمور بهدوء،

فاستدعى «أبا مسلم» من «خراسان» إلا أنه رفض الحضور فواصل

الخليفة مراسلاته، واستعان ببعض الزعماء للضغط على «أبى مسلم»

للحضور إلى مقر الخلافة فى «العراق» ، إلا أن «أبا مسلم» رفض

ذلك، فأرسل الخليفة إليه يهدده ويتوعده إن لم يرضخ ويستجب

لأمره، وبعد مشاورات بين «أبى مسلم» وأنصاره استجاب وحضر

إلى قصر الخلافة، فعدد عليه الخليفة «أبو جعفر» ما ارتكبه من

أخطاء فى حق الدولة، ثم أمر بقتله.

ثالثًا: ثورة محمد النفس الزكية:

هو «محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب» ،

ص: 6

المعروف بالنفس الزكية، زعيم البيت العلوى والشيعة، ومنذ مقتل

الإمام «على» - كرم الله وجهه - والشيعة يحاولون الوصول إلى مقعد

الحكم عن طريق الثورات والخروج على السلطة، باعتبارهم أصحاب

الحق الشرعى.

وبقيام «الدولة العباسية» وتولِّى العباسيين الخلافة انتقل صراع

العلويين على الخلافة من محاربة الأمويين إلى محاربة أبناء عمومتهم

العباسيين.

وعلى الرغم من أن أسرة «محمد النفس الزكية» لم تتخذ موقفًا عدائياً

واضحًا فى بدء الخلافة العباسية فإن الأمر تغير حين تولَّى «أبو

جعفر المنصور» الخلافة وبدأ يتعقب «محمدًا النفس الزكية» وأخاه

«إبراهيم» اللذين اختفيا وأخذا يعملان سرا فى الدعوة لنفسيهما

والخروج على «الدولة العباسية» .

ولما فشل «أبو جعفر المنصور» فى القبض على «محمد النفس

الزكية» أمر بالقبض على عدد كبير من أفراد أسرته، وحملهم إلى

سجون «العراق» وعذَّبهم لإرغام «محمد النفس الزكية» على الظهور،

وقد نجح «أبو جعفر» فى ذلك؛ فظهر «محمد النفس الزكية» فى

«المدينة المنورة» فى (رجب سنة 145هـ= سبتمبر سنة 762م) وقتله

العباسيون هناك، كما قتلوا أخاه «إبراهيم» بالعراق، وكثيرًا من

أهلهما.

رابعًا: ثورات الفرس:

واجهت الخلافة العباسية فى عهد «أبى جعفر» عدة ثورات فارسية،

كانت تعبيرًا عن معارضة بعض العناصر الفارسية للخلافة الإسلامية،

ومن هذه الثورات:

حركة سنباذ سنة (137هـ= 754م):

حيث قاد «سنباذ» - وهو أحد أتباع «أبى مسلم» - حركة ثورية للثأر

لمقتل «أبى مسلم الخراسانى» ، ومحاربة الإسلام، وأحس الخليفة

«المنصور» بخطر هذه الحركة فأرسل جيشًا كبيرًا استطاع القضاء

على قوات «سنباذ» وقتله وهو فى طريقه لاجئًا إلى حاكم

«طبرستان» .

حركة الرواندية (141هـ= 758م):

وهم قوم من أهل «خراسان» ، سُموا بذلك نسبة إلى قرية «رواند»

القريبة من «أصفهان» ، وكانوا من أتباع «أبى مسلم الخراسانى» ،

إلا أنهم زعموا أن ربهم الذى يرزقهم ويطعمهم ويسقيهم هو

ص: 7

«المنصور» ، وأعلنوا إيمانهم بفكرة «تناسخ الأرواح» واستطاعوا

دخول مدينة «الهاشمية» ، عاصمة الخلافة العباسية آنذاك، وهاجموا

قصر الخلافة فتصدَّى لهم بعض الجنود البواسل، وعلى رأسهم «معن

بن زائدة الشيبانى»، واستطاعوا القضاء على هذه الحركة.

حركة أستاذ سيس سنة (150هـ= 767م):

«أستاذ سيس» رجل فارسى ادَّعى النبوة، وقاد حركة تهدف إلى

تخليص بلاد فارس من قبضة العباسيين، واستطاع بجيوشه الضخمة

بسط نفوذه على مناطق «سجستان» و «هراة» و «كور خراسان»

وغيرها، فحشدت له الخلافة العباسية قوات ضخمة بقيادة «خازم بن

خزيمة التميمى»، استطاعت القضاء على هذه الحركة، وانتهى الأمر

بالقبض على «أستاذ سيس» وإعدامه.

خامسًا: حركات الخوارج:

نظر الخوارج إلى العباسيين على أنهم مغتصبون للخلافة التى ينبغى

أن يتقلدها أجدر المسلمين بها بالانتخاب، بغض النظر عن نسبه، ومن

ثم شهد العصر العباسى الأول عددًا من حركات الخوارج، بغرض

القضاء على الخلافة العباسية، ومنها:

1 -

ثورة ملبد بن حرملة الشيبانى سنة (137هـ= 754م) بأرض الجزيرة

(ديار بكر):

وشكلت خطرًا كبيرًا على العباسيين، إلا أن قائدهم «خازم بن

خزيمة» استطاع القضاء عليها.

2 -

ثورة حسان بن مجالد الهمدانى بالموصل سنة (148هـ= 765م):

انتهت بالفشل لتفرق أنصاره عنه.

وفاة المنصور:

تُوفى «المنصور» فى (6 من ذى الحجة سنة 158هـ= 7 من أكتوبر

سنة 775م)، وهو فى طريقه إلى الحج.

وقد أشار «ابن الأثير» فى كتابه «الكامل فى التاريخ» إلى أن

«المنصور» كان يجعل نهاره لتصريف أمور الدولة، فإذا صلَّى العصر

جلس مع أهل بيته، فإذا صلَّى العشاء الآخرة جلس ينظر فيما ورد إليه

من رسائل البلاد، حتى يمضى ثلث الليل الأول فينام، ثم يقوم فى

الثلث الأخير فيتوضأ ويصلى حتى يطلع الفجر، فيصلى بالناس، ثم

يجلس فى ديوانه لتصريف أمور البلاد، وهكذا يقضى وقته.

الخليفة الثالث: محمد المهدى (158 - 169هـ= 775 - 785م):

ص: 8

هو «محمد بن عبدالله بن محمد» وُلد بالحميمة سنة (126هـ=743م)،

وقد هيأه والده «المنصور» وأعده ليكون جديرًا بمنصب الخلافة من

بعده، فنشأ على ثقافة عربية واسعة، ودراية بفنون الحرب وأساليب

الإدارة.

وقد أوصى «المنصور» ابنه وولى عهده «محمدًا» وصية جامعة،

قبيل وفاته تضمنت:

1 -

التمسك بأن تظل «بغداد» عاصمة للخلافة.

2 -

الاهتمام بأهل بيته وحاشيته وأهل «خراسان» لدورهم فى قيام

الدولة.

3 -

تقوى الله وإبعاد النساء عن السياسة.

4 -

تجنب إهدار دماء المسلمين، ومعاقبة المفسدين والملحدين

وتتبعهم.

5 -

الاستعداد المستمر بالقوة والسلاح، وأن يباشر الأمور بنفسه.

وعقب وفاة «المنصور» بويع «المهدى» بيعة خاصة من قبل الزعماء

بمكة، ثم بايعه جمهور المسلمين فى «بغداد» فى (ذى الحجة سنة

158هـ= أكتوبر سنة 775م).

سياسة المهدى العامة:

اختلفت سياسة «المهدى» عمن سبقه، فاتسم عهده بالاستقرار

والهدوء والتسامح والصفح، فأطلق سراح المسجونين السياسيين،

واهتم بإقرار العدل بين الناس، وجلس للنظر فى مظالم الناس مستعينًا

بالقضاة، وأمر بالإنفاق على مرضى الجذام؛ حتى لا يختلطوا بالناس

فتصيبهم العدوى، كما اهتم اهتمامًا خاصا بالحرمين الشريفين

وبكسوة «الكعبة» .

وقد عفا «المهدى» عن بعض آل البيت ومنحهم الأموال والإقطاعات،

وحينما أدى فريضة الحج سنة (160هـ= 777م) وزع أموالاً كثيرة على

أهل «مكة» و «المدينة» ، وأصدر عفوًا عاما عمن عاقبهم «المنصور»

من أهل «الحجاز» ؛ لمشاركتهم فى الثورة العلوية، واختار خمسمائة

من رجال الأنصار وكوَّن منهم حرسه الخاص، كما قام ببث العيون

والجواسيس بالبلاد لرصد أى تحرك معادٍ للدولة، ورغم ذلك فقد حاول

بعض العلويين مثل «عيسى بن زيد بن على» و «على بن العباس بن

الحسن» القيام بثورة ضد الخلافة العباسية، لكنها لم تنجح؛ حيث

عاجلهما الموت.

سياسة المهدى تجاه الخوارج:

واجه «المهدى» عدة ثورات من الخوارج وقضى عليها بحزمه وسرعة

ص: 9

مواجهته، منها:

1 -

ثورة «يوسف بن إبراهيم البرم» فى «خراسان» سنة (160هـ=

777م).

2 -

حركة «عبدالسلام بن هاشم اليشكرى» فى «قنسرين» سنة

(160هـ= 777م).

3 -

حركة الخوارج بالموصل بزعامة «ياسين الموصلى التميمى» سنة

(168هـ= 784م).

الحياة الاجتماعية فى عهد المهدى:

ترك «المنصور» بعد وفاته فى بيت المال أربعة عشر مليون دينار

وستمائة مليون درهم، قام «المهدى» بتوزيعها على الناس؛ فشاع

بينهم الترف والنعيم واللهو واللعب، كما اتبعه الناس فى حبه للآداب

والفنون؛ فارتقت الآداب والفنون، وسادت بين طبقات الشعب، وكان

«المهدى» أول خليفة يُحمل إليه الثلج إلى «مكة» فى الحج، كما

كان مترفًا فى ملبسه ومأكله.

وفاة المهدى:

تُوفِّى «المهدى» سنة (169هـ= 785م) وعمره ثلاث وأربعون سنة،

وقد قضى فى الحكم إحدى عشرة سنة.

الخليفة الرابع: موسى الهادى (169 - 170هـ= 785 - 786م):

هو «موسى» ابن الخليفة «المهدى» ، تولى الخلافة فى (22 من

المحرم سنة 169هـ= 5 من أغسطس سنة 785م).

سياسته:

اتصف الخليفة «الهادى» بالغيرة والشهامة والجرأة، ورفض تدخل

أمه «الخيزران» فى سياسة الدولة كما كانت تفعل فى عهد والده

«المهدى» .

وقد واجه «الهادى» مشاكل خطيرة على رأسها ثورة البيت العلوى

بقيادة «الحسين بن على بن الحسن» فى «المدينة» سنة (169هـ=

785م)، إلا أن «الهادى» أرسل جيشًا على وجه السرعة نجح فى

القضاء عليها فى (8 من ذى الحجة سنة 169هـ=11من يونيو سنة

786م) وحاول «الهادى» نقل ولاية العهد من أخيه «الرشيد» إلى ابنه

«جعفر» ، الذى لم يكن قد بلغ الثامنة من عمره مخالفًا وصية والده

فى ترتيب ولاية العهد، إلا أن الموت عاجله فلم يتحقق له ما أراد.

وفاته:

تُوفِّى «الهادى» ليلة الجمعة، (نصف ربيع الأول سنة 170هـ= نصف

أغسطس 786م) وبذلك تكون مدة خلافته سنة وشهرًا واثنين وعشرين

يومًا.

الخليفة الخامس: هارون الرشيد (170 - 193هـ= 786 - 809م):

ص: 10

هو «هارون بن محمد المهدى» ، وُلد بالرى فى آخر (ذى الحجة سنة

145هـ= فبراير سنة 763م)، وتولى الخلافة فى الليلة التى مات فيها

أخوه «الهادى» وعمره اثنان وعشرون عامًا.

ويُعدُّ «الرشيد» أشهر خلفاء العباسيين وأبعدهم صيتًا، فقد ملأت

أخباره كتب التاريخ شرقًا وغربًا.

سياسته العامة:

لما استقر «الرشيد» فى «بغداد» عاصمة الخلافة العباسية قلَّد

«يحيى البرمكى» منصب الوزارة وفوضه فى إدارة شئون البلاد،

ومنحه لقب «أمير» ؛ فكان أول من لُقِّب بذلك من الوزراء الفرس فى

«الدولة العباسية» .

اهتم «الرشيد» بإقامة العدل فى الناس، فأمر بإعادة الأراضى التى

اغتصبها أهل بيته فى عهد الخلفاء السابقين إلى أصحابها، ورفع

الظلم عن المسجونين ظلمًا، وقسم أموال ذوى القربى بين «بنى

هاشم» كلهم بالعدل، وأصدر عفوًا عن المعتقلين السياسيين، فأخرج

من كان فى السجن من العلويين، وسمح لهم بالعودة إلى «المدينة» ،

ومنحهم الرواتب، كما أجرى «الرشيد» تعديلات واسعة فى مناصب

الدولة فى كل من «مكة» و «المدينة» و «الطائف» و «الكوفة»

و «خراسان» و «أرمينية» و «الموصل» .

موقفه من الشيعة:

حاول «الرشيد» فى الأعوام الأولى من خلافته مسالمة العلويين

والعفو عنهم، إلا أنه كان يخشى خطورة اثنين منهم فرَّا عقب موقعة

«الفخ» ، أما أولهما فهو «إدريس بن عبدالله» الذى نجح فى الوصول

إلى «المغرب الأقصى» وكون «دولة الأدارسة» ، وأما الآخر فهو

«يحيى بن عبدالله» الذى فرَّ إلى «بلاد الدَّيلم» وتجمع حوله

المتشيعون لآل البيت، فأرسل إليه «الرشيد» جيشًا بقيادة «الفضل

بن يحىى»؛ لإرجاعه إلى حظيرة الخلافة، فعاد به إلى «بغداد»

حيث لقيه «الرشيد» بكل ما أحب، إلا أن الحاسدين سرعان ما وشوا

به عند الخليفة بسبب قيام الكثير من العلويين بزيارته والتودد إليه،

فأمر «الرشيد» بسجنه حتى مات. وقد استطاع بعض رجال الحاشية

الذين يكنون العداء للبيت العلوى تعميق خوف «الرشيد» من زعماء

ص: 11

البيت العلوى واستغلال ذلك للقضاء عليهم، كما حدث مع «موسى

الكاظم»؛ حيث أمر «الرشيد» بحبسِه حتى أدركه الموت.

موقفه من الخوارج:

واصل الخوارج نشاطهم العسكرى ضد الخلافة العباسية فى عهد

«الرشيد» ، فقام «الوليد بن طريف الخارجى» بحركة تمرد وعصيان

فى «العراق» واستولى على أماكن عديدة، إلا أن «الرشيد» أرسل

إليه جيشًا بقيادة «يزيد الشيبانى» استطاع القضاء على هذه الحركة

وقتل قائدها فى (رمضان سنة 179هـ= نوفمبر سنة 795م).

موقفه من البرامكة:

تمتع البرامكة فى بداية عهد «الرشيد» بالسلطة والجاه والنفوذ،

وتقلدوا مناصب الدولة المهمة، حتى إذا جاء شهر (صفر سنة 187هـ=

يناير سنة 803م) أمر «الرشيد» بسجنهم، ومصادرة أموالهم

وممتلكاتهم، فيما عرف فى التاريخ بنكبة البرامكة.

وقد تضافرت عدة عوامل كانت سببًا فيما فعله «الرشيد» بالبرامكة،

منها:

1 -

اتهامهم بالزندقة والخروج عن الإسلام باعتبارهم من أصل

مجوسى.

2 -

محاولتهم إبعاد العرب عن المناصب المهمة وتقديمهم الفرس

لشغلها.

3 -

استبدادهم بالأمور وإظهارهم ما لا تحتمله نفوس الملوك.

4 -

قيام الحاسدين والحاقدين بتضخيم أخطاء «البرامكة» .

5 -

أن «الرشيد» كلف «جعفر بن يحيى البرمكى» بقتل رجل من آل

«أبى طالب» فلم يفعل.

المجتمع فى عهد الرشيد:

ازدهر المجتمع فى عهد «الرشيد» اقتصاديا وثقافيا وعلميا

وعمرانيا.

فقد تدفقت الأموال من كل مكان، واتسعت رقعة الدولة واستقر الأمن

بها وازدهرت التجارة، وأصبحت «بغداد» قبلة للطامحين فى الثراء

والترف، كما قصدها النوابغ والعباقرة والصناع المهرة من سائر

الشعوب، وشيدت فيها القصور الرائعة والمساجد الكبيرة، وانتشرت

الحدائق العامة، والأسواق المتخصصة كسوق الذهب والنحاس،

والنسيج وغير ذلك.

وكان «الرشيد» على قدر عالٍ من الثقافة والمعرفة، واجتمع عنده

أقطاب العلم والعمل والسياسة والحرب مثل: «أبى يوسف» تلميذ

ص: 12

الإمام «أبى حنيفة» ، و «الأصمعى» الراوية المشهور، و «أبى

العتاهية» و «أبى نواس» من الشعراء، وداهية السياسة «يحيى

البرمكى» وابنيه «الفضل» و «جعفر» ، ومن المغنين «إبراهيم

الموصلى» وابنه «إسحاق» ، ومن الموسيقيين «زلزل» و «برصوم» ،

وغيرهم من أمراء العباسيين القادة والخطباء والشعراء والساسة.

وفاة الرشيد:

أثناء سفر «الرشيد» من «بغداد» إلى «خراسان» اشتد المرض عليه،

وتُوفِّى صباح يوم الجمعة (2 من جمادى الآخرة سنة 193هـ= 23 من

مارس سنة 809م)، وعمره خمس وأربعون سنة.

وقد حكم «الرشيد» البلاد ثلاثة وعشرين عامًا، بلغت فيها «الدولة

العباسية» ذروة مجدها، وقد تحدث عنه كثير من المؤرخين، فقال

عنه «الطبرى» : «غزا سبع مرات، وجهز عشرين حملة للجهاد فى البر

والبحر». وقال عنه «ابن خلكان» : «حج فى خلافته تسع حجج،

وكان يصلى فى اليوم مائة ركعة».

الخليفة السادس: محمد الأمين (193 - 198هـ= 809 - 813م):

هو «محمد بن هارون الرشيد» ، وُلد بالرصافة وأمه «زبيدة» ابنة

«جعفر الأكبر بن المنصور» ، تولى الخلافة عقب وفاة أبيه «هارون

الرشيد» باعتباره ولى عهده، وكان عمره حينئذٍ ثمانية وعشرين

عامًا.

الصراع بين الأمين والمأمون:

تشير مصادر التاريخ إلى أن بداية الخلاف كانت من جانب «الأمين» ،

حين خالف أمر والده «الرشيد» فى مرضه، بأن يكون ما فى

معسكره من أموال ومتاع وجند لأخيه «المأمون» ، فى «مرو» ؛ مما

أحدث أثرًا سيئًا فى نفس «المأمون» .

وكانت الخطوة التالية قيام «الأمين» بتعيين ابنه «موسى» وليا للعهد

بدلاً من أخويه «المأمون» و «المؤتمن» ، فقام «المأمون» بإسقاط اسم

«الأمين» من الطرز والسّكَة، ومنع البريد من الوصول إليه بأخبار

«خراسان» ، ثم طلب من أخيه «الأمين» أن يرد إليه مائة ألف دينار

كان والده «الرشيد» قد أوصى بها إليه فرفض «الأمين» ، ثم تطور

الصراع بينهما إلى المواجهة العسكرية، فجهز «الأمين» جيشًا بقيادة

ص: 13

«على بن عيسى بن ماهان» ، وجهَّز «المأمون» جيشًا ضخمًا بقيادة

«طاهر بن الحسين» ، ودارت عدة معارك بين الجيشين انتهت

بمحاصرة «بغداد» ومقتل «الأمين» سنة (198هـ= 813م)، وقد دامت

خلافة «الأمين» أربع سنوات وثمانية أشهر وخمسة أيام.

الخليفة السابع: عبد الله المأمون (198 - 218هـ= 813 - 833م):

هو «عبد الله بن هارون الرشيد» ، وُلد فى منتصف (ربيع الأول سنة

170هـ= أغسطس سنة 786م) وأمه «أم ولد» فارسية تُسمَّى

«مراجل» ، وكان يكنى «أبا العباس» ، ويُلقب بالمأمون.

نشأ «المأمون» نشأة إسلامية، وتلقى العلوم العربية، وتدرَّب على

فنون القتال والنزال وقيادة الجند، كما أسند والده «الرشيد» إلى

وزيره «جعفر البرمكى» مهمة الإشراف على تنشئته، وقد أظهر

المأمون نبوغًا خلال دراسته.

ولما تولى «المأمون» الخلافةعزم أن يقدم القدوة الصالحة والسيرة

الحسنة فى الناس حتى يقتدى به رجال دولته، وكان يقول: «أول

العدل أن يعدل الملك فى بطانته، ثم الذين يلونهم، حتى يبلغ إلى

الطبقة السفلى».

كما اتصف «المأمون» بالعفو والحلم حتى اشتهر بذلك وهو القائل:

«لو عرف الناس حبى للعفو لتقربوا إلىّ بالجرائم، وأخاف ألا أؤجر

عليه»، يعنى لكونه طبعًا له يستلذ به.

سياسة المأمون:

انتهج «المأمون» سياسة واعية تقوم على أسس واضحة منها:

1 -

تأليف القلوب بالعفو والعطاء، وقد عد «اليعقوبى» سبع عشرة

حادثة يستحق صاحب كل واحدة منها القتل عند أمثال «المنصور» ،

لكنها قوبلت عند «المأمون» بالعفو.

2 -

العناية بالعلم والعلماء: كان للمأمون ولعٌ بالأمور العلمية

والفلسفية، فكان يعقد مجالس المناظرة ويبعث فى طلب العلماء

والأعلام من «بيزنطة» لحضورها، وكان يتصيَّد الكتب النادرة ويدفع

فيها المبالغ الطائلة، ويجعل حصوله عليها شرطًا من شروط الهدنة

ووقف القتال مع الروم، كما أقام «بيت الحكمة» وجعل فيها مكتبة

ضخمة، وجهازًا كبيرًا للترجمة من مختلف اللغات إلى اللغة العربية،

ص: 14

حشد له نحو سبعين مترجمًا.

المأمون والشيعة:

جمعت سياسة «المأمون» تجاه الشيعة بين أمرين هما السخط

والرضا.

أما العنف فقد تمثل فى سياسة «المأمون» تجاه الثورات الشيعية

المسلحة التى اندلعت فى عدة أماكن، مثل حركة «ابن طباطبا

العلوى» سنة (199هـ= 814م)، وحركة «الحسين بن الحسن» فى

«الحجاز» ، وحركة «عبدالرحمن بن أحمد» فى «اليمن» سنة (207هـ=

822م)، وقد انتهت هذه الحركات بالفشل فى تحقيق أغراضها.

وأما الرضا فقد تمثل فى قيام «المأمون» باختيار أحد أبناء البيت

العلوى وهو «على بن موسى الرضا» ليكون ولى العهد من بعده،

وهو ما لم يفعله أحد من خلفاء «بنى العباس» قبله، وقد اختلف

المؤرخون فى تعليل قيام «المأمون» بهذا الأمر، فمنهم من فسر ذلك

بميول «المأمون» الشيعية وحرصه على تولية أفضل العناصر ولاية

العهد، وآخرون أرجعوا ذلك إلى تأثير «الفضل بن سهل» وميوله

الشيعية.

وقد أحدثت بيعة «المأمون» لعلى بن موسى الرضا بولاية العهد ردود

فعل عنيفة فى أنحاء «الدولة العباسية» فرفض أفراد البيت

العباسى ومؤيدوهم هذه البيعة، وبايعوا «إبراهيم بن المهدى» عم

«المأمون» بالخلافة سنة (202هـ= 817م) ولما علم «المأمون» بذلك

وهو فى «مرو» بخراسان تحرك قاصدًا «بغداد» لمعالجة الموقف،

وأثناء ذلك مات «على الرضا» ولى العهد، فهدأ الموقف، وهرب

«إبراهيم بن المهدى» من «بغداد» ، ودخلها «المأمون» ، ثم عفا عنه.

المأمون والفرس:

يمكن تقسيم نشاط الفرس فى عهد المأمون إلى قسمين:

1 -

نشاط سياسي.

2 -

نشاط عسكرى.

ويتمثل النشاط السياسى فى الدور الذى لعبه «بنو سهل» مع

«الخليفة المأمون» ، وهو يشبه تمامًا دور البرامكة مع «هارون

الرشيد»، حيث سلم «المأمون» «الفضل بن سهل» مقاليد الأمور،

فصارت مهام الدولة فى يده، وبدأ فى إبعاد العناصر العربية من بلاط

«المأمون» ، وتعصب للعنصر الفارسى، وارتكب مجموعة أخرى من

ص: 15

الأخطاء؛ مما جعل «المأمون» يفكر فى التخلص منه، فقتل أثناء سفر

«المأمون» إلى «بغداد» .

أما النشاط العسكرى فيتمثل فى حركة «بابك الخرمى» ،التى

تُعدُّ أخطر الحركات الفارسية المعادية للخلافة العباسية، فقد استمرت

ما يزيد على عشرين عامًا واتسمت بدقة التنظيم وبراعة القيادة،

والاتصال السياسى بالأكراد والأرمن وغيرهم، وكانت تؤمن بمبادئ

هدامة منها:

1 -

الإيمان بالحلول والتناسخ حتى إن زعيمها «بابك» ادَّعى

الألوهية.

2 -

المشاعية المزدكية فى الأموال والأعراض.

3 -

ضرورة التخلص من السلطان العربى والدين الإسلامى.

وقد ألحقت هذه الحركة العديد من الهزائم بالجيش العباسى ولم يتم

القضاء عليها إلا فى عهد «المعتصم بالله» .

وفاة المأمون:

ظل «المأمون» خليفة للمسلمين عشرين سنة وخمسة أشهر وعشرين

يومًا، وقد تُوفِّى فى (18من رجب سنة 218هـ= 833م).

الخليفة الثامن: المعتصم بالله (218 - 227هـ= 833 - 842م):

هو «محمد بن هارون الرشيد» ، وُلد فى (شعبان سنة 180هـ= أكتوبر

سنة 796م)، وأمه جارية تركية اسمها «مارده» ، وقد تولى الخلافة

عقب وفاة أخيه «المأمون» .

كان «المعتصم» يتميز بقوته الجسمية وشدته فى الحرب، حتى قيل

عنه: إنه كان يصارع الأسود ويحمل ألف رطل ويمشى به خطوات

ويشد على الدينار بأصبعه السبابة والوسطى فيمحو كتابته، وقال

عنه المؤرخون: إنه لم يكن فى «بنى العباس» قبله أشجع منه ولا أتم

تيقظًا ولا أشد قوة.

ومع ذلك فقد كان «المعتصم» على خلاف أخويه «الأمين»

و «المأمون» فى العلوم والآداب، فقد كان قليل البضاعة منهما، حتى

ذكر بعض المؤرخين أنه نشأ أميا لا يكتب، أو أنه كان ضعيف الكتابة

على حد قول «ابن خلكان» و «ابن كثير» .

سياسة المعتصم:

اختلفت الأوضاع السياسية فى عهد «المعتصم» عنها فى عهد من

سبقه، بسبب ظهور عوامل جديدة على مسرح الأحداث، كان فى

مقدمتها ظهور العنصر التركى قوة مؤثرة فى حركة الأحداث؛ فتمتع

ص: 16

الأتراك بصفات عسكرية كالشدة والقوة والتحمل جعل «المعتصم»

يستكثر منهم، يضاف إلى ذلك أن أمه تركية.

إلا أن كثرة الأتراك سببت أضرارًا كبيرة لسكان «بغداد» ، مما دفع

«المعتصم» إلى البحث عن مكان جديد يكون عاصمة له فوقع الاختيار

على المكان الذى بنيت عليه مدينة «سُرّ من رأى» (سامراء حاليا)

التى بُدء البناء فيها سنة (221هـ= 836م)، ويتميز موقعها بميزات

سياسية واقتصادية وعسكرية، فمن الناحية السياسية فإنها فى

موقع متوسط يسهل الاتصال بأنحاء الدولة، ومن الناحية الاقتصادية

فإن موقعها يسهل عمليات التبادل التجارى بين النواحى الشمالية

والجنوبية، وعسكريا فإن إحاطة المياه بها يجعلها فى مأمن من أى

عدوان خارجى.

ومن الأعمال العظيمة التى تنسب إلى «المعتصم بالله» نجاحه فى

القضاء على ثورة «بابك الخرمى» ، فحينما تولى أمر البلاد جهز

جيشًا بقيادة «الأفشين» وزوَّده بكل أدوات القتال وبالمال اللازم؛

حيث دارت عدة معارك، انتهت بالقبض على «بابك الخرمى» وإعدامه.

المعتصم والشيعة:

لم تظهر فى عهد «المعتصم» حركات علوية مؤثرة كالحركات التى

حدثت فى عهد الخلفاء السابقين، وإنما حدثت بعض الحركات

الضعيفة، ومنها:

حركة «محمد بن القاسم» المعروف بالصوفى، سنة (219هـ= 834م):

والذى تحرك فى عدة أماكن كالحجاز و «الكوفة» ثم استقر فى

«خراسان» ، وشكلت حركته خطرًا على «الدولة العباسية» ، فكلف

«المعتصم» واليه على «خراسان» «عبدالله بن طاهر» بالتصدى لهذه

الحركة؛ حيث نجح فى القضاء عليها.

وفاة المعتصم بالله سنة (227هـ= 841م):

تُوفى «المعتصم بالله» فى شهر (ربيع الأول سنة 227هـ= ديسمبر

سنة 841م)، وقد أطلق عليه بعض المؤرخين «المُثَمن» ، لأن خلافته

دامت ثمانى سنين وثمانية أشهر ويومين، ومولده فى الشهر الثامن

من العام الهجرى، ومات عن ثمانية بنين وثمانى بنات.

الخليفة التاسع: الواثق بالله: (227 - 232هـ = 841 - 847م)

ص: 17

هو «هارون بن المعتصم بالله» ، يكنى «أبا جعفر» وأمه أم ولد

رومية تُسمى «قراطيس» ، وكان فطنًا لبيبًا فصيحًا ينظم الشعر ويحب

الموسيقى.

وقد تولى «الواثق بالله» الحكم يوم وفاة والده «المعتصم» .

سياسة الواثق بالله:

تظهر ملامح تلك السياسة فيما يلى:

أولاً: تمسكه بمذهب المعتزلة، حتى جعله المذهب الرسمى للدولة، مما

أثار أهل السنة ضده، إلا أنه تصدى لهم وقبض على زعمائهم.

ثانيًا: تقريبه للأتراك جريًا على سياسة والده «المعتصم» ، حتى إنه

قسم البلاد بين رجلين من الأتراك، الأول «أشناس» وأعطاه الشطر

الغربى من الدولة إلى آخر بلاد «المغرب» ، والثانى قائده «إيتاخ»

وأعطاه الشطر الشرقى: «دجلة» و «فارس» و «السند» ، وكان كل

منهما يعين الولاة الذين يريدهم، هذا بالإضافة إلى عدد من القادة

الأتراك الذين شغلوا مناصب خطيرة، مثل:«وصيف التركى» الذى

أوكل إليه «الواثق» القضاء على ثورة المتمردين الأكراد، و «بغا

الكبير» الذى أخمد ثورة الأعراب بنواحى «المدينة» .

وكان الواثق يغدق عليهم الأموال والهدايا.

ثالثًا: مصادرة أموال كبار الموظفين، مثل «أحمد بن إسرائيل» ، الذى

أخذ منه ثمانين ألف دينار، و «سليمان بن وهب» كاتب «إيتاخ» ،

الذى أخذ منه أربعمائة ألف دينار، وغيرهما، مما ترك آثارًا سيئة فى

الجهاز الإدارى والاستقرار المالى للدولة، وأصابهما بالفساد والخلل.

رابعًا: إحسانه إلى بعض طوائف الأمة، وفى مقدمتهم العلويون حيث

أغدق عليهم الأموال.

وفاة الواثق بالله:

استمر «الواثق» فى مقعد الخلافة خمس سنين وتسعة أشهر، ثم

أُصيب بمرض الاستسقاء، ومات فى (ذى الحجة سنة 232هـ= يوليو

سنة 847م)، وعمره اثنان وثلاثون عامًا، وقيل: ستة وثلاثون.

السمات العامة للعصر العباسى الأول (132 - 232هـ = 749 - 847م):

امتد العصر العباسى الأول مائة سنة، تولى الخلافة خلالها تسعة

خلفاء، بدءًا من «أبى العباس» وانتهاءً بالواثق بالله، ويمكن تقسيم

ص: 18

هذا العصر إلى ثلاثة عهود رئيسية:

1 -

عهد التأسيس من سنة: (132هـ=749م) إلى سنة (158هـ= 775م)،

ويشمل خلافة «أبى العباس» و «المنصور» .

2 -

عهد الاستقرار: من سنة (158هـ= 775م) إلى سنة (218هـ= 833م)،

ويشمل خلافة «المهدى» و «الهادى» و «الرشيد»

و «الأمين» و «المأمون» .

3 -

عهد القلق: من سنة (218هـ=833م) إلى سنة (232هـ= 847م)،

ويشمل «المعتصم بالله» و «الواثق بالله» .

ويتميز العصر العباسى الأول بالسمات الآتية:

أولاً: كثرة الصراعات: ومن ذلك:

1 -

الصراع بين العرب - ومنهم أسرة الخلافة - والفرس - ومنهم الوزراء

والإداريون وغيرهم- مثلما حدث بين «الرشيد» و «البرامكة» ،

و «المأمون» و «بنى سهل» .

2 -

الصراع بين فروع البيت الهاشمى: العباسيين، والعلويين، مثلما

حدث بين الخليفة «المنصور» و «محمد النفس الزكية» .

3 -

الصراع بين الخلافة العباسية والحركات المعادية لها من العرب

وغيرهم، وقد تمثل ذلك فى حركات الخوارج.

4 -

الصراع بين الإسلام - الدين الرسمى للدولة- وبين العقائد الأخرى

التى ظهرت فى بلاد فارس كالخُرَّمية وغيرها من العقائد الفاسدة.

ثانيًا: اتساع العلاقات الخارجية:

فقد بسطت الخلافة العباسية سلطانها على بلادٍ كثيرة شرقًا وغربًا،

وتعددت علاقاتها مع الدول الأخرى وفى مقدمتها:

أ - الدولة البيزنطية:

وكانت العدو التقليدى للدولة الإسلامية منذ عهد الرسول - صلى الله

عليه وسلم -، وقد اشتد هذا العداء بعد استيلاء المسلمين على بعض

المناطق التى كانت خاضعة للدولة البيزنطية، كالشام و «مصر»

و «المغرب» .

وخلال العصر العباسى الأول حدث الاحتكاك المباشر بين القوات

الإسلامية والبيزنطية على الحدود الشمالية فى منطقة «الشام» ، فقد

استغلت «الدولة البيزنطية» انشغال الخليفة العباسى الأول «أبى

العباس عبد الله بن محمد»، بتثبيت أركان الدولة سنة (132هـ= 749م)،

وقامت بمهاجمة الحصون والثغور الإسلامية؛ فأمر الخليفة «أبو

ص: 19

العباس» واليه على «الشام» بالإعداد لمواجهة البيزنطيين، ولكن

الموت عاجله، وجاء «المنصور» فأمر بتحصين الثغور وإعادة بناء ما

هدمه البيزنطيون، وجعل لها حكمًا إدارياً مستقلاً، وحشد فيها آلاف

المقاتلين والمرابطين فى سبيل الله.

وكانت هذه الثغور تنقسم إلى قسمين:

1 -

الثغور الجزرية: للدفاع عن الجزيرة الفراتية وشمال «العراق»

وأهم حصونها «ملطية» و «المصيصة» ، و «مرعش» .

2 -

الثغور الشامية: وتقع غرب الثغور الجزرية، وهى للدفاع عن

«الشام» ، وأهم حصونها «طرسوس» ، و «أدنة» .

وفى سنة (162هـ=779م) أرسل «المهدى» جيشًا ضخمًا بقيادة

«الحسن بن قحطبة» ، فتوغل فى بلاد الروم ونشر الرعب بين

صفوفهم.

وفى سنة (163هـ= 780م) خرج «المهدى» بنفسه على رأس الجيش

متجهًا إلى الحدود البيزنطية، ووصل إلى «الموصل» ثم «حلب» ؛ حيث

ترك ابنه «هارون الرشيد» ليتابع جهاده ضد البيزنطيين، وفى عهد

«الرشيد» (170 - 193هـ= 786 - 809م) أمر بجعل منطقة الثغور منطقة

مستقلة باسم «الثغور والعواصم» وأقام خطين للدفاع عن حدود

الدولة مع البيزنطيين، الخط الأول هو الثغور، والخط الثانى إلى

الجنوب من الخط الأول، ويُسمَّى: العواصم.

كما قام «الرشيد» ببناء حصون جديدة، مثل «عين زرية» ، و «زبطرة»

وغيرهما. وقد حاول «نقفور» إمبراطور «الدولة البيزنطية» الامتناع

عن دفع الجزية للخلافة العباسية، فأرسل إليه «الرشيد» يقول: «بسم

الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم،

قد قرأت كتابك يا بن الكافرة والجواب ما تراه دون أن تسمعه

والسلام». وخرج «الرشيد» بنفسه على رأس جيش ضخم ألحق الهزيمة

بالقوات البيزنطية وأرغم الإمبراطور «نقفور» على الخضوع ودفع

الجزية مرة أخرى.

ونظرًا لكثرة المعارك بين العباسيين والبيزنطيين، فقد وقع كثير من

جنود الطرفين أسرى، وقد حرصت الخلافة العباسية على فداء

أسرى المسلمين، فى عهد «الرشيد» سنة (181هـ= 797م).

ص: 20

وقد سار «المأمون» (198 - 218هـ= 813 - 833م) على سياسة والده

نفسها، فى استمرار النشاط العسكرى ضد البيزنطيين، وكان النصر

حليف المسلمين.

وتعدُّ معركة «عمورية» سنة (223هـ= 838م)، أبرز المعارك بين

المسلمين والبيزنطيين فى عهد «المعتصم بالله» ، وكان سببها اعتداء

الإمبراطور البيزنطى «تيوفيل بن ميخائيل» على بعض الثغور

والحصون على حدود «الدولة الإسلامية» ، وحين بلغ «المعتصم» ما

وقع للمسلمين فى هذه المدن، وصيحة امرأة مسلمة وقعت فى أسر

الروم: وامعتصماه، فأجابها وهو جالس على سريره: لبيك لبيك،

وجهز جيشًا ضخمًا أرسله على وجه السرعة لإنقاذ المسلمين، ثم خرج

بنفسه على رأس جيش كبير وفتح مدينة «عمورية» ، وهى من أعظم

المدن البيزنطية، واستولى على ما بها من مغانم وأموال كثيرة جدا.

ب - الدولة الأموية بالأندلس:

وكانت علاقة العباسيين بها علاقة عداء وتربص، فقد استطاع

«عبدالرحمن بن معاوية» - بعد فراره من العباسيين إلى «الأندلس» -

أن يؤسس «الدولة الأموية» بالأندلس وعاصمتها «قرطبة» سنة

(138هـ= 755م).

وقد حاولت الخلافة العباسية بسط نفوذها على بلاد «الأندلس»

والقضاء على «الدولة الأموية» بها، فدبَّر «أبو جعفر المنصور» ثورة

«العلاء بن مغيث الجذامى» فى مدينة «باجة» الأندلسية سنة (146هـ=

763م)، وقام «المهدى» بمساندة الثورات الداخلية التى كانت تقوم

لحساب «الدولة العباسية» ، ولكن كل هذه المحاولات والثورات باءت

بالفشل بسبب يقظة الأمير الأموى «عبد الرحمن الداخل» وحزمه، وقد

لقبه «أبو جعفر المنصور» بصقر قريش، بل إن «عبدالرحمن الداخل»

أشاع عزمه على غزو «الشام» وانتزاعه من «الدولة العباسية» ،

وكتب إلى أنصاره فى «الشام» بذلك وعهد إلى ابنه «سليمان»

بولاية «الأندلس» ، وذلك بغرض إزعاج «الدولة العباسية» وإرغامها

على وقف محاولاتها المستمرة لاسترداد بلاد «الأندلس» .

ج - الدولة الكارولونجية:

ص: 21

وكانت إحدى القوى الناشئة فى غربى «البحر المتوسط» (جنوبى

فرنسا حاليا)، وقام بينها وبين الدولة العباسية علاقات سياسية،

وجرى تبادل السفراء بين الدولتين فى عهد «هارون الرشيد» ، وقد

سعى زعيم «الدولة الكارولونجية» «شارلمان» إلى كسب وده لتعزيز

موقفه الداخلى والخارجى، وتبادل معه الهدايا الثمينة.

ص: 22

الفصل الثالث

*الأوضاع الحضارية فى العصر العباسى الأول:

أولاً: النظام السياسى والإدارى، ويشمل:

أ - الخلافة:

وقد أقام العباسيون دولتهم سنة (132هـ= 749م) وتولى أول خلفائهم

«أبو العباس عبدالله بن محمد» السلطة بناءً على وصية أخيه

«إبراهيم الإمام» بعد وقوعه فى قبضة الأمويين، وقد حكم «أبو

العباس» أربع سنوات، وقبيل وفاته عهد إلى أخيه «أبى جعفر

المنصور» بولاية العهد من بعده، ومن بعد «أبى جعفر» ، «عيسى بن

موسى»، وكتب العهد بهذا وصره فى ثوب وختم عليه بخاتمه وخواتم

أهل بيته وسلمه إلى «عيسى بن موسى» .

ومن هنا نلاحظ أن الحكم قد بدأ وراثيا فى عهد «الدولة العباسية»

منذ اللحظة الأولى، واقتصر على أهل البيت العباسى، كما أن أكثر

الخلفاء كان يوصى بولاية العهد إلى أكثر من شخص؛ مما أدى إلى

صراعات ساعدت على تصدع «الدولة العباسية» .

وحين تولى «أبو جعفر المنصور» الخلافة واجه اعتراضًا من عمه

«عبدالله بن على» الذى رفض مبايعته، ودعا لنفسه بالخلافة مدعيًا

أنه ولى عهد «أبى العباس» ، مما دعا «المنصور» إلى توجيه جيش له

بقيادة «أبى مسلم الخراسانى» تمكن من القبض عليه والقضاء على

دعوته.

وقد نقل «المنصور» ولاية العهد من ابن أخيه «عيسى بن موسى»

إلى ابنه «محمد» ، الذى تولى الخلافة بعد أبيه «المنصور» سنة

(158هـ= 775م) ولقب بالمهدى، واستمر فى منصبه حتى تُوفِّى سنة

(169هـ= 785م)؛ حيث تولى ابنه «موسى» الملقب بالهادى، ولم يمكث

سوى سنة واحدة فى الحكم؛ حيث تولى من بعده أخوه «هارون

الرشيد»، ومنذ عهد «الرشيد» أصبح الصراع السياسى على السلطة

إحدى السمات المميزة للعصر العباسى الأول، وكان الصراع بين

«الأمين» و «المأمون» من الأمثلة المعبرة عن هذه السمة، وقد انتهى

بقتل «الأمين» وتولية «المأمون» الخلافة.

ب - الوزارة:

تُعدُّ الوزارة المنصب الثانى بعد الخلافة فى «الدولة العباسية» وقد

قسَّم فقهاء المسلمين الوزارة إلى نوعين:

- وزارة التفويض:

ص: 23

حيث يفوض الخليفة الوزير فى تدبير أمور الدولة برأيه واجتهاده،

فتكون له السلطة المطلقة فى الحكم والتصرف فى شئون الدولة.

- وزارة التنفيذ:

حيث يكون الوزير وسيطاً بين الخليفة والرعية والولاة، ومجرد منفذ

لأوامر الخليفة.

وقد أحدث العباسيون نظام الوزارة فى بداية دولتهم متأثرين فى

ذلك بالنظم الفارسية، ولم تكن مسئوليات الوزير فى بداية الأمر تبعد

كثيرًا عن مسئوليات الكاتب، وقد حصر «أبو جعفر المنصور» مهمة

الوزير فى التنفيذ وإبداء الرأى والنصح، ولم يكن له وزير دائم، ومن

وزرائه: «الربيع بن يونس» الذى اشتهر باللباقة والذكاء وحسن

التدبير والسياسة.

وقد ظهرت شخصية الوزراء إلى حد كبير فى عهد الخليفة

«المهدى» ، لما ساد الدولة من هدوء نسبى، ومن هؤلاء الوزراء

الأقوياء «يعقوب بن داود» ، ثم صار للوزارة شأن كبير فى عهد

«الرشيد» ، و «المأمون» لاعتماد الأول على البرامكة، والثانى على

«بنى سهل» ، فمُنِحَ «يحيى البرمكى» وزير «الرشيد» ، و «الفضل بن

سهل» وزير «المأمون» صلاحيات وسلطات واسعة، جعلت نفوذهما

يمتد إلى جميع مرافق الدولة، ولكن سرعان ما تم التخلص منهما.

ج- الكتابة:

كانت طبقة الكُتَّاب ذات أهمية كبيرة فى «الدولة العباسية» ، وكان

الكاتب ذا علم واسع وثقافة عريضة؛ لأنه يقوم بتحرير الرسائل

الرسمية والسياسية داخل الدولة وخارجها، كما يتولَّى نشر القرارات

والبلاغات والمراسيم بين الناس، ويجلس على منصة القضاء بجوار

الخليفة لينظر فى الدعاوى والشكاوى ثم يختمها بخاتم الخليفة.

ومن أشهر الكُتَّاب فى العصر العباسى الأول «يحيى بن خالد بن

برمك» فى عهد «الرشيد» ، و «الفضل» و «الحسن» ابنا «سهل» ،

و «أحمد بن يوسف» فى عهد «المأمون» ، و «محمد بن عبدالملك

الزيات» و «الحسن بن وهب» ، و «أحمد بن المدبر» فى عهد

«المعتصم» و «الواثق» .

د - الحجابة:

وهى وظيفة تقوم بمساعدة الحكام فى تنظيم الصلة بينهم وبين

ص: 24

الرعية، فالحاجب واسطة بين الناس والخليفة، يدرس حوائجهم، ويأذن

لهم بالدخول بين يدى الخليفة أو يرفض ذلك إذا كانت الأسباب غير

مقنعة؛ وذلك حفاظًا على هيبة الخلافة وتنظيمًا لعرض المسائل حسب

أهميتها على الحاكم الأعلى للبلاد.

وقد اقتدى العباسيون بالأمويين فى اتخاذ الحُجَّاب، وأسرفوا فى

منع الناس من المقابلات الرسمية، ولعل هذا هو السبب المباشر فى

نشأة ما أسماه «ابن خلدون» «الحجاب الثانى» ، فكان بين الناس

والخليفة حاجزان عبارة عن دارين، أحدهما يُسمَّى «دار الخاصة»

والآخر «دار العامة» ، وكان الخليفة يقابل كل طائفة حسب حالتها

وظروفها فى إحدى هاتين الدارين تبعًا لإرادة الحُجَّاب على أبوابها.

هـ - ولاية الأقاليم:

المقصود بالأقاليم: المناطق التى تتكون منها الدولة. وقد كان النظام

الإدارى فى «الدولة العباسية» نظامًا مركزيا؛ حيث صار الولاة على

الأقاليم مجرد عمال للخليفة على عكس ما كانوا عليه فى «الدولة

الأموية».

وقد قسم العباسيون الولاية على الأقاليم إلى قسمين، وخصوصًا فى

عهد «الرشيد» ، الأول: الولاية الكبرى وهى التى تكون لأحد أبناء

الخليفة أو شخص مقرب من الخليفة؛ حيث يتولى هذا الوالى عدة

أقاليم فى الدولة ويقوم بتصريف أمورها من العاصمة، أو من أحد

تلك الأقاليم بعد الرجوع إلى الخليفة، ويرسل إليها ما يشاء من

الولاة. الثانى: الولاية الكاملة: حيث يتمتع الوالى ببعض السلطات التى

توسع دائرة نفوذه، مثل النظر فى الأحكام وجباية الضرائب والخراج

وحماية الأمن وإمامة الصلاة وتسيير الجيوش للغزو.

و الدواوين:

ظهرت الدواوين فى «الدولة الإسلامية» ، كبقية المؤسسات الإدارية،

نتيجة لاحتياج المسلمين إليها، وقد جعل «ابن خلدون» وجود الديوان

من الأمور اللازمة للملك.

وللديوان أهمية كبرى فيما يتعلق بأموال الدولة وحقوقها وحصر

جنودها ومرتباتهم، ويرجع الفضل فى تنظيم الدواوين فى العصر

العباسى إلى «خالد بن برمك» .

ص: 25

وقد اهتم الخلفاء العباسيون بالدواوين؛ فكثرت اختصاصاتها

وتنوعت بسبب التعاون الوثيق بين العباسيين والفرس، فقد أخذ

العباسيون الخبرة الفارسية فى مجال الإدارة، كما احتفظوا ببعض

تنظيمات «الدولة الأموية» ، خصوصًا فى الدواوين والدوائر الرسمية،

كما استحدثوا بعض الدواوين كديوان المصادرات، وديوان الأزمّة

(المحاسبة) وديوان المظالم، وغيرها.

ز - القضاء:

وهو من الوظائف المهمة فى «الدولة الإسلامية» ، ويقوم على

المحافظة على حقوق الرعية وإقرار العدل والإنصاف بين جميع

الطبقات، وحماية الأخلاق العامة، مستمِدا أحكامه من الكتاب والسنة،

ونظرًا لأهمية هذا المنصب فقد وضع العلماء المواصفات التى يجب

توافرها فى القاضى، ومنها: أن يكون رجلاً قوياً عاقلاً حرا مسلمًا

عادلاً، ويتمتع بالسلامة فى السمع والبصر، وأن يكون عالمًا بأحكام

الشريعة.

وقد حظى القضاة فى العصر العباسى الأول بالتبجيل والاحترام،

وكان تعيينهم وعزلهم يتم بأمر الخليفة، وأول من فعل ذلك الخليفة

«المنصور» ، فقد عين قضاة البلاد بأمره سنة (136هـ= 753م).

وقد استقرت المذاهب الفقهية فى عهد «الدولة العباسية» ، وتحددت

مهام القضاة وكيفية الإجراء القضائى، وتوحد القانون وأصبحت

جلسات القاضى علنية فى المسجد وخصوصًا فى عهد «المأمون» .

كما اهتم خلفاء العباسيين بالتثبت من الأحكام، فعيَّنوا جماعة من

المُزَكِّين، وظيفتهم تتبع أحوال الشهود، فإذا طعن الخصم فى

شهادة أحد الشهود سُئل عنه المزكى، كما اهتموا بأحوال القضاة

المادية حتى يعيشوا فى يسر ورخاء.

وقد تطور القضاء بصورة ملحوظة فى العصر العباسى الأول، وظهر

منصب «قاضى القضاة» ، وكان يقيم فى عاصمة الدولة، ويقوم

بتعيين القضاة فى الأقاليم والبلاد المختلفة، وأول من لقب «قاضى

القضاة» «أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم» ، صاحب كتاب «الخراج» ،

فى عهد «الرشيد» .

ثانيًا: الأوضاع الاقتصادية والعمرانية:

ص: 26

أدرك الخلفاء العباسيون أهمية الاقتصاد وتنمية الموارد المالية

لمواجهة النفقات المتعددة للدولة، واتخذ «المنصور» عدة خطوات

لزيادة موارد الدولة، فاستحدث نظام المصادرات للاستيلاء على

الأموال لمواجهة أعباء الثورات والحركات التى واجهها، وأعاد النظر

فى مقادير الضرائب المفروضة على الكور.

وفى عهد «الرشيد» ازدهرت أحوال الدولة الاقتصادية، وارتفع

مستوى المعيشة، بسبب تدفق الأموال على خزانة الدولة فى بغداد،

وتعدد موارد الدولة المالية، فكان منها الزكاة، والخراج، والجزية،

وأخماس المعدن، والرسوم على التجارة الخارجية، وغيرها.

وقد أسهمت تلك الموارد فى سدّ النفقات فى مجال النشاط العسكرى

والأمنى، ومجال البناء والتعمير وإنشاء المدن، مثل مدينة «بغداد»

و «سامراء» .

مدينة بغداد:

يرجع الفضل فى بنائها إلى الخليفة «أبى جعفر المنصور» ودفعه

إلى ذلك عدة أسباب، منها:

1 -

«ثورة الرواندية» سنة (141هـ = 758م) وما شكّلته من خطر كبير

على «المنصور» نفسه؛ الأمر الذى جعله يفكر جديا فى الانتقال من

«الهاشمية» لأنها لم تكن بالعاصمة الحصينة التى يأمن فيها على

نفسه.

2 -

أن «الهاشمية» وهى العاصمة المؤقتة للدولة العباسية كانت

قريبة من «الكوفة» مركز التشيع؛ مما يشكل خطرًا على العباسيين.

3 -

رغبة «المنصور» فى إنشاء عاصمة جديدة تليق بالدولة وتخلد

ذكره من بعده.

وقد جرت عدة محاولات لاختيار المكان المناسب لبناء عاصمة الدولة

الجديدة، حتى وقع الاختيار على المكان الذى بنيت فيه مدينة

«بغداد» ؛ وروعى فيها أن تتمتع بمزايا عديدة أهمها:

- أنها قريبة من «خراسان» مهد الدعوة العباسية، فضلاً عن قربها

من المراكز العربية الأخرى، وبعدها عن مراكز الاحتكاك البيزنطى.

- وأنها تقع بين نهرين كبيرين هما «دجلة» و «الفرات» ، وهما

يشكلان خطين للدفاع عن المدينة.

- وأنها تقع وسط «العراق» وعلى مسافة متساوية بين «البصرة»

ص: 27

و «الموصل» ؛ مما يجعلها سوقًا للبضائع والمنتجات، وملتقى للقوافل

التجارية البرية والنهرية؛ إذ إنها تقع أيضًا على طريق «الشام» -

الخليج العربى.

هذا بالإضافة إلى طبيعة المكان السهلة والمفتوحة؛ مما يشبع رغبة

العرب والمسلمين الذين اعتادوا السكنى فى مثل هذه الأماكن.

وقد حشد «المنصور» لبنائها العمال المهرة فى الصناعة والبناء،

وابتدأ فى بنائها سنة (145هـ= 762م)، وفقًا لأرجح الأقوال.

وقد تم تصميم المدينة على شكل دائرى، يحيط بها سور، ولها أربعة

أبواب، وبلغت نفقات بنائها حينئذٍ ثمانية عشر مليون درهم، وأُطلق

عليها اسم «دار السلام» ، إلا أن الشائع هو اسمها القديم «بغداد» .

مدينة سامراء:

أسسها الخليفة العباسى «المعتصم بالله» (218 - 227هـ = 833 -

842م) وجعلها عاصمة للخلافة، وقد دفعه إلى إنشائها احتكاك

الجنود الأتراك الذين جلبهم الخليفة للإقامة معه فى «بغداد» ، بسكان

المدينة وجنودها السابقين، مما أدى إلى حدوث إصابات كثيرة بين

سكان «بغداد» ومقتل كثير من النساء والأطفال والشيوخ، فاضطر

الخليفة «المعتصم بالله» إلى البحث عن مكان جديد، ينتقل إليه مع

جنوده وحاشيته؛ فوقع الاختيار على أرض «سامراء» ، على بعد

ستين ميلاً شمالى «بغداد» .

وقد حشد لها «المعتصم» العمال والبنائين وأهل الصناعات المهرة،

وشرع فى بنائها سنة (221هـ= 836م).

ثالثًا: الحياة الفكرية:

شهد العصر العباسى الأول نهضة فكرية عظيمة، وطفرة ثقافية

كبيرة فى شتى مجالات العلم والمعرفة نتيجة امتداد رقعة «الدولة

العباسية» ووفرة ثروتها ورواج تجارتها واهتمام الخلفاء بالحياة

الفكرية.

وقد ميز علماء المسلمين بين نوعين من العلوم:

1 -

علوم تتصل بالقرآن الكريم، وهى «العلوم النقلية أو الشرعية» ،

وتشمل علم التفسير، وعلم القراءات، وعلم الحديث، والفقه، وعلم

الكلام، والنحو، واللغة والبيان والأدب.

2 -

علوم أخذها العرب عن غيرهم من الأمم، وهى «العلوم العقلية»

ص: 28

وتشمل: الفلسفة والهندسة وعلم النجوم والموسيقى والطب والكيمياء

والتاريخ والجغرافيا.

وقامت المساجد بدور فعَّال فى نشر الثقافة الإسلامية؛ حيث كانت

تكتظ بحلقات العلم والدرس، وبخاصة العلوم الشرعية التى ازدهرت

فى العصر العباسى، ونشأت فى كنف علمى التفسير والحديث، ولم

يكن الحديث مقصورًا على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم،

وإنما ضم أيضًا ما كان مأثورًا عن الصحابة، ومن أشهر رجال الحديث

فى ذلك العصر: «حماد بن سلمة» المتوفى سنة (165هـ)، و «سفيان

بن عيينة» بمكة المتوفى سنة (198هـ)، و «وكيع بن الجراح»

بالكوفة المتوفىسنة (196هـ)، و «عبدالله ابن المبارك» المتوفى سنة

(181هـ)، و «سفيان الثورى» بالكوفة المتوفى سنة (161هـ)،

و «عبدالرحمن الأوزاعى» بالشام المتوفى سنة (157هـ)، و «عبدالملك

بن جريح» المتوفى سنة (150هـ)، و «معمر بن راشد» باليمن

(153هـ)، و «سعيد بن أبى عروبة» بالبصرة المتوفى سنة (156هـ)،

و «مالك بن أنس» بالمدينة.

ومن أبرز المؤلفات فى هذا المجال: كتاب «الموطأ» الذى ألفه الإمام

«مالك بن أنس» إمام دار الهجرة (المدينة المنورة) بناءً على طلب

«المنصور» ، فيروى أن الخليفة «أبا جعفر المنصور» قابل الإمام

«مالكًا» فى موسم الحج، وكلَّمه فى مسائل كثيرة من العلم، ثم قال

له: يا «أبا عبدالله» لم يبقَ فى الناس أفقه منى ومنك، وإنى قد

شغلتنى الخلافة فاجمع هذا العلم ودونه ووطئه للناس توطئة، وتجنب

فيه شدائد «عبد الله بن عمر» ، ورُخَص «عبدالله بن عباس» ، وشواذ

«عبدالله بن مسعود» ، واقصد إلى أواسط الأمور وما اجتمع عليه

الأئمة والصحابة رضى الله عنهم. فاعتذر الإمام «مالك» ، فلم يقبل

«المنصور» منه، فوضع «مالك» كتاب «الموطأ» .

ولم تظهر الطريقة المنظمة فى التفسير إلا فى العصر العباسى الأول؛

حيث كان قبل ذلك غير منظم ويقتصر على تفسير آيات صغيرة غير

مرتبة حسب ترتيب السور والآيات باستثناء تفسير ابن عباس.

ص: 29

وأهم المفسرين فى العصر العباسى الأول «مقاتل بن سليمان

الأزدى» المتوفى سنة (150هـ)، و «محمد بن إسحاق» المتوفى سنة

(151هـ)، ولم يصل من تفاسير هؤلاء شىء إلينا.

وازدهرت دراسة الفقه ازدهارًا عظيمًا وكانت له مدرستان، الأولى

مدرسة أهل الرأى والقياس فى العراق ومؤسسها «أبو حنيفة

النعمان» المتوفى سنة (150هـ)، وخلفه «أبو يوسف يعقوب بن

إبراهيم» المتوفى سنة (182هـ)، و «محمد بن الحسن الشيبانى»

المتوفى سنة (189هـ)، والثانية مدرسة أهل الحجاز ومؤسسها «مالك

بن أنس» وتسمى مدرسة أهل الحديث، ثم جاء الإمام الفقيه «محمد بن

إدريس الشافعى» المتوفى سنة (204هـ)، وجمع بين هاتين

المدرستين، أى جمع بين طريقة الحجازيين فى الاعتماد على الكتاب

والسنة وطريقة العراقيين فى الاعتماد على الرأى، ومن العلوم التى

ظهرت وتطورت فى ذلك العصر: علم الكلام، ويقصد به الجدل الدينى

فى الأمور العقيدية ويسمى المشتغلون به المتكلمين، ومن أشهر

فرقهم المعتزلة الذين دخلوا فى محاورات ومجادلات مع غيرهم من

المرجئة والرافضة والشيعة، والنصارى، واليهود، والمانويين.

وأهم رجال المعتزلة «واصل بن عطاء» المتوفى سنة (131هـ)،

و «عمرو بن عبيد» المتوفى سنة (145هـ)، و «بشر بن المعتمر»

المتوفى سنة (210هـ)، و «ثمامة بن أشدس» المتوفى سنة (213هـ)،

و «أبو الهذيل العلاف» المتوفى سنة (227هـ).

وشهد ذلك العصر نخبة كبيرة من علماء اللغة، منهم: «أبو عمرو بن

العلاء» المتوفى سنة (54هـ)، و «خلف الأحمر» المتوفى سنة

(180هـ)، و «الأصمعى» صاحب الأصمعيات المتوفى سنة (213هـ)،

و «أبو زيد الأنصارى» صاحب كتاب النوادر المتوفى سنة (214هـ)،

و «أبو عبيدة» صاحب «نقائض جرير والفرزدق» المتوفى

سنة (210هـ)، و «محمد بن سلام الجمحى» ، و «حماد الراوية» المتوفى

سنة (155هـ)، و «المفضل الضبى» ، و «أبو عمرو الشيبانى» المتوفى

سنة (206هـ)، و «أبو عبيد القاسم بن سلام» المتوفى سنة (224هـ).

ص: 30

وفى النحو: «عيسى بن عمر الثقفى» المتوفى

سنة (149هـ)،و «الخليل» الواضع الحقيقى لعلم النحو المتوفى

سنة (170هـ)، و «سيبويه» المتوفى سنة (180هـ)، و «معاذ بن مسلم

الهراء» المتوفى سنة (187هـ)، و «الكسائى» المتوفى سنة (189هـ)،

و «الفراء» المتوفى سنة (207هـ)،وعنى كثير من اللغويين والنحاة

بكتابة سيرة النبى صلى الله عليه وسلم وأشهرهم «محمد بن

إسحاق» المتوفى سنة (151هـ)، و «ابن هشام» المتوفى

سنة (213هـ)، و «محمد بن عمر الواقدى» المتوفى سنة (207هـ)،

و «محمد بن سعد» صاحب الطبقات المتوفى سنة (230هـ).

كما نشطت كتابة التاريخ فى العصر العباسى الأول، وأشهر من

اشتغل بذلك العلم: «محمد بن الحسين بن زبالة» ، و «أبو مخنف لوط بن

يحيى الأزدى» المتوفى سنة (157هـ)، و «سيف بن عمر التميمى»

المتوفى سنة (180هـ)، و «هشام بن محمد الكلبى» المتوفى

سنة (204هـ)، و «المدائنى» المتوفى سنة (225هـ).

كما شهد ذلك العصر نخبة كبيرة من فحول الشعراء على رأسهم

«بشار بن برد» المتوفى سنة (168هـ)، و «أبو نواس الحسن ابن

هانىء» المتوفى سنة (195هـ)، و «أبو العتاهية» المتوفى

سنة (211هـ)، و «مسلم بن الوليد» المتوفى سنة (208هـ)، و «أبو تمام

حبيب بن أوس» المتوفى سنة (231هـ)، وتطور النثر فى العصر

العباسى الأول بعد دخول كثير من الثقافات اليونانية والفارسية

والهندية التى امتزجت به، وأهم فنون النثر فى ذلك الوقت الخطابة

والوعظ، والمناظرات، والرسائل الديوانية- العهود والوصايا

والتوقيعات - والرسائل الإخوانية والأدبية، ومن أعلام الكتاب فى

ذلك العصر:

«ابن المقفع» المتوفى سنة (143هـ)، و «سهل بن هارون» المتوفى

سنة (215هـ)، و «أحمد بن يوسف» المتوفى سنة (213هـ)، و «عمرو بن

مسعدة» (217هـ).

وقد شجع الرشيد العلم والعلماء، وأنشأ «بيت الحكمة» ، وجمع فيه

كثيرًا من المؤلفين، والمترجمين والنساخ.

ومن أشهرهم: «سهل بن هارون» ، و «الحسين بن سهل» ، و «الفضل

ص: 31

بن نوبخت»، وكانوا يترجمون من الفارسية إلى العربية. و «حنين بن

إسحاق»، و «يوحنا البطريق» ، و «يوحنا بن ماسويه» ، وكانوا

يترجمون من اليونانية والسريانية إلى العربية، وفى عهد «المأمون»

نشطت حركة الترجمة والنقل من اللغات الأجنبية إلى العربية، فأرسل

البعوث إلى «القسطنطينية» لإحضار المصنفات الفريدة فى الفلسفة

والهندسة والموسيقى والطب.

وبجانب اهتمام الخلفاء بحركة الترجمة والنقل، اهتم ذوو اليسار

(الأغنياء) بتشجيع العلم والإنفاق على الترجمة إلى اللغة العربية،

ومنهم «محمد» و «أحمد» و «الحسن» أبناء «موسى بن شاكر» الذين

أنفقوا أموالاً ضخمة فى ترجمة كتب الرياضيات، وكانت لهم آثار قيمة

فى الهندسة والموسيقى والنجوم، وقد أرسلوا «حنين بن إسحاق»

إلى بلاد الروم فجاءهم بطرائف الكتب وفرائد المصنفات.

وقد اشتغل كثير من المسلمين بدراسة الكتب التى تُرجمت إلى

العربية، وتفسيرها والتعليق عليها، وتصحيح أخطائها، ومن هؤلاء:

«يعقوب بن إسحاق الكندى» ، الذى ترجم كثيرًا من كتب الفلسفة

وشرح غوامضها، ونبغ فى علوم الطب والفلسفة والحساب والمنطق

والهندسة وعلم النجوم.

ومن العوامل التى ساهمت فى ازدهار الحركة العلمية فى العصر

العباسى الأول ظهور الورق واستخدامه فى الكتابة، وقد أنشأ

«الفضل بن يحيى البرمكى» مصنعًا للورق فى عهد «الرشيد» ببغداد،

فانتشرت الكتابة فيه لخفته بعد أن كانوا يكتبون على الجلود

والقراطيس المصنوعة بمصر من ورق البردى.

ص: 32

الفصل الرابع

*العصر العباسى الثانى

[232 - 656هـ = 847 - 1258 م]

يمتد العصر العباسى الثانى أكثر من أربعة قرون، وقد قسم

المؤرخون هذه الفترة إلى أربعة عصور رئيسية هى:

1 -

عصر نفوذ الأتراك.2 - عصر البويهيين.

3 -

عصر السلاجقة.4 - عصر ما بعد السلاجقة.

أولاً: عصر نفوذ الأتراك [232 - 334 هـ = 847 - 945م]:

كان «المأمون» أول من استخدم الأتراك وقربهم، ولكنهم كانوا

محدودى العدد والنفوذ فى عهده، فلما تولى الخليفة «المعتصم»

الحكم جعلهم عنصرًا أساسيا فى جيشه، وبلغ عددهم بضعة عشر

ألفًا، وكانوا تحت سيطرة الخليفة.

وبدأ نفوذ الأتراك يتزايد فى عهد «الواثق» ، ثم ازداد حدة واتساعًا

فى عهد الخليفة «المتوكل» .

ويمتد عصر نفوذ الأتراك إلى ما يزيد قليلاً على قرن من الزمان،

تعاقب خلاله على كرسى الخلافة ثلاثة عشر خليفة هم:

1 -

المتوكل على الله «جعفر بن المعتصم» (232 - 247هـ= 847 - 861م).

2 -

- المنتصر بالله «محمد بن المتوكل» (247 - 248هـ= 861 - 862م).

3 -

المستعين بالله «أحمد بن المعتصم» (248 - 252هـ= 862 - 866م).

4 -

المعتز بالله «محمد أبو عبدالله بن المتوكل» (252 - 255هـ= 866 -

869م).

5 -

المهتدى بالله «محمد بن الواثق بن المعتصم» (255 - 256هـ= 869 -

870م).

6 -

المعتمد على الله «أحمد بن المتوكل بن المعتصم» (256 - 279هـ=

870 -

892م).

7 -

المعتضد بالله «أحمد بن الموفق طلحة بن المتوكل» (279 - 289هـ=

892 -

902م).

8 -

المكتفى بالله «أبو محمد على بن المعتضد» (289 - 295هـ= 902 -

908م).

9 -

المقتدر بالله «أبو الفضل جعفر بن محمد» (295 - 320هـ= 908 -

932م).

10 -

القاهر بالله «أبو منصور محمد بن المعتضد» (320 - 322هـ= 932 -

934م).

11 -

الراضى بالله «أبو العباس محمد بن المقتدر بن المعتضد» (322 -

329هـ= 934 - 941م).

12 -

المتقى لله «أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر» (329 - 333هـ= 941 -

945م).

ص: 33

13 -

المستكفى بالله «أبو القاسم عبد الله بن المكتفى» (333 - 334هـ=

945 -

946م).

(1)

المتوكل على الله: وقد تولى الخلافة فى ذى الحجة سنة (232هـ=

847م)، وكان عهده بداية حقبة الضعف والتدهور، وتفكك بنيان

الخلافة العباسية.

ورغم أن «المتوكل» : كان قوى الشخصية، وافر الهيبة فإنه لم

يستطع أن يضع حدا لاستفحال النفوذ التركى فى عهده، الذى كان

له دور فى توليته الخلافة بعد أن كادت البيعة تتم لمحمد بن الواثق،

وكان غلامًا.

وقد نجح «المتوكل» فى البداية فى التخلص من أخطر العناصر

التركية فى عهده، وهو «إيتاخ» الذى استفحل خطره حتى إنه همَّ

يومًا بقتل الخليفة «المتوكل» حين تبسَّط معه فى المزاح، لكن الخليفة

نجح فى التخلص منه سنة (235هـ= 849م)، كما عزم على التخلص من

قادة الأتراك ووجوههم، مثل «وصيف» و «بُغا» ، إلا أنهم استغلوا ما

بينه وبين ابنه وولى عهده «محمد المنتصر» من خلاف وجفوة ودبروا

مؤامرة انتهت بقتل «المتوكل» ووزيره «الفتح بن خاقان» فى

الخامس من شوال سنة (247هـ= 861م)، وبايعوا ابنه «المنتصر» خليفة.

وقد استطاع «المتوكل» فى عهده أن يظفر بمكانة عظيمة فى قلوب

جماهير المسلمين، حين منع النقاش فى القضايا الجدلية التى أثارها

المعتزلة، مثل قضية خلق القرآن، كما رد للإمام «أحمد بن حنبل»

اعتباره وجعله من المقربين إليه، بعد أن اضطُهد فى عهد «المأمون»

و «المعتصم» و «الواثق» ؛ لعدم إقراره القول بخلق القرآن، كما أمر

«المتوكل» الفقهاء والمحدِّثين أن يجلسوا للناس ويحدثوهم بالأحاديث

التى فيها رد على المعتزلة فأثنى الناس عليه، حتى قالوا: الخلفاء

ثلاثة: «أبو بكر الصديق» قاتل أهل الردة حتى استجابوا له، و «عمر

بن عبدالعزيز» رد مظالم «بنى أمية» ، و «المتوكل» محا البدع وأظهر

السنة.

(2)

المنتصر بالله:

تولى الخلافة فى اليوم الذى قُتل فيه أبوه، وذلك فى شوال سنة

(247هـ= ديسمبر سنة861م)، وعمره ستة وعشرون عامًا. وحاول

ص: 34

التصدى للنفوذ التركى بكل حزم، وصار يسب الأتراك ويقول: هؤلاء

قتلة الخلفاء.

ورغم أن «المنتصر بالله» كان وافر العقل قوى الشخصية فإن

الأتراك احتالوا على قتله، فأعطوا طبيبه «ابن طيفور» ثلاثين ألف

دينار، ففصده بمبضع مسموم فمات، فى (ربيع الآخر سنة 248هـ=

يونيو سنة862م) بعد حكم دام ستة أشهر فقط، ويروى أنه حينما

احتضر، قال لأمه: «يا أماه! ذهبت منى الدنيا والآخرة، عاجلت أبى

فعوجلت».

ومن مآثر «المنتصر بالله» ، خلال فترة حكمه القصيرة، إحسانه إلى

العلويين، وإزالته عنهم ما كانوا فيه من خوف وضيق فى عهد أبيه

«المتوكل» .

(3)

المستعين بالله:

هو «أحمد بن المعتصم» ، تولى الخلافة فى السادس من (ربيع الآخر

سنة 248هـ= يونيو سنة 862م)، وعمره ثمانٍ وعشرون سنة، فعقب

وفاة «المنتصر» اجتمع الأتراك بزعامة «بُغا الصغير» و «بُغا الكبير» ،

وقرروا عدم تولية أحد من أولاد «المتوكل» الخلافة، خوفًا من انتقامه

منهم، وبايعوا «أحمد بن المعتصم» ، الملقَّب بالمستعين بالله.

وكان من الطبيعى ألا يكون للمستعين بالله مع الأتراك أمر ولا نهى،

ولم يمضِ وقت طويل حتى غضب عليه الأتراك وقرروا خلعه ومبايعة

«المعتز بالله محمد بن المتوكل» ؛ فاشتعلت الحرب بين أنصار

«المستعين» وأنصار «المعتز» ، وانتهت بالقبض على «المستعين»

وقتله فى سجنه فى (شوال سنة 252هـ= ديسمبر سنة 866م).

وقد شهدت خلافة «المستعين بالله» قيام «الدولة العلوية» بطبرستان

سنة (250هـ= 864م)، على يد «الحسن بن زيد العلوى» الملقب

بالداعى الكبير، واستمرت هذه الدولة حتى سنة (316هـ= 928م).

(4)

المعتز بالله محمد بن المتوكل:

بويع له بالخلافة فى شوال سنة (252هـ= ديسمبر سنة 866م)، وعمره

تسعة عشر عامًا، وقد استضعفه الأتراك وطلبوا منه مالاً فاعتذر لهم

بفراغ بيت المال، فثاروا عليه وضربوه ومزقوا ملابسه، وأقاموه فى

الشمس، فكان يرفع رجلاً ويضع أخرى من شدة الحر، ثم سجنوه

ص: 35

وعذبوه حتى مات (فى شعبان سنة 255هـ= يوليوسنة 869م).

وكان من أهم الأحداث التى شهدتها خلافة «المعتز» قيام «الدولة

الصفَّارية» فى «فارس» بزعامة «يعقوب بن الليث الصفَّار» وذهاب

«أحمد بن طولون» إلى «مصر» سنة (254هـ= 868م) نائبًا عن واليها،

لكنه استطاع فى فترة لاحقة أن يستقل بها عن العباسيين، وأن

يضم إليها «الشام» مكونًا بذلك «الدولة الطولونية» فى «مصر»

و «الشام» .

(5)

المهتدى بالله محمد بن الواثق:

بايع الأتراك «المهتدى بالله» خليفة للمسلمين فى (رجب سنة 255هـ=

يونيو سنة869م)، عقب الإطاحة بالمعتز، وقد كان «المهتدى» تقيا

شجاعًا حازمًا، وكان يتخذ «عمر بن عبدالعزيز» مثله الأعلى، ويقول:

إنى أستحيى أن يكون فى «بنى أمية» مثله، ولا يكون مثله فى

«بنى العباس» ، ولذلك نبذ الملاهى وحرَّم الغناء والخمور وحارب

الظلم.

حاول «المهتدى بالله» أن يوقف طغيان الأتراك واستبدادهم فقتل

بعضهم، فثاروا عليه وأسروه وعذبوه ليخلع نفسه فرفض، فقاموا

بخلعه وسجنه وتعذيبه حتى مات فى (رجب سنة 256هـ= يونيو 870م).

وقد كان من أهم الأحداث التى شهدها عصر «المهتدى بالله» :

ثورة الزَّنج: وسُميت بذلك لأن أعدادًا كبيرة من الذين شاركوا فيها

كانوا عبيدًا سودًا، واندلعت هذه الثورة فى «البصرة» بزعامة «على

بن محمد»، الذى قيل إنه ينتسب إلى آل البيت، وحققت مكاسب

سياسية ومادية؛ فاستولت فى مدة قصيرة على بعض المدن المهمة

فى «العراق» ، مثل «البصرة» و «واسط» و «الأهواز» ، ووصلت إلى

«البحرين» و «هجر» ، وارتكبت مذابح بشعة ضد السكان الآمنين، وقد

استطاع القائد العباسى «الموفق طلحة بن المتوكل» القضاء على

هذه الثورة - فيما بعد - سنة (270هـ= 883م) فى خلافة أخيه «المعتمد

على الله».

(6)

المعتمد على الله، وصحوة الخلافة:

تولى «المعتمد على الله أحمد بن المتوكل» الخلافة بعد خلع

«المهتدى» سنة (256هـ= 870م)، وقد أتاحت الظروف التى تولى فيها

ص: 36

«المعتمد» مقاليد الحكم ظهور ما عُرف باسم «صحوة الخلافة» فى

«العصر العباسى الثانى» .

فقد تصاعد النزاع الداخلى بين القادة الأتراك، وساءت معاملتهم

لجنودهم، كما ازدادت شكوى الجمهور من مضايقاتهم، مما أدى إلى

ظهور اتجاه قوى داخل الجيش بحتمية جعل القيادة العسكرية العليا

فى يد أحد أمراء البيت العباسى؛ يقوم الخليفة باختياره، ويدين له

الجميع بالطاعة، وقد اختار «المعتمد» أخاه «الموفق» قائدًا للجيش،

فكانت «صحوة الخلافة» ؛ حيث استردت قوتها وهيبتها واستطاع

«الموفق» بحكمته وحزمه وصلابة إرادته أن يكبح جماح الأتراك، وأن

يعيد تنظيم الجيش، ويقر الأمن والنظام.

ورغم أن «المعتمد بالله» كان الخليفة الرسمى فإن أخاه «الموفق»

كان صاحب السلطة الفعلية، فكان له الأمر والنهى، وقيادة الجيش

ومحاربة الأعداء، ومرابطة الثغور، وتعيين الوزراء والأمراء، وكان

قضاء «الموفق» على «ثورة الزنج» سنة (270هـ= 883م) أعظم إنجاز

له.

وقد تُوفِّى «الموفق» فى (صفر سنة 278هـ= مايوسنة 891م)، وفى

العام التالى تُوفِّى الخليفة «المعتمد» فى (رجب سنة 279هـ=

سبتمبرسنة 892م)، بعد أن حكم البلاد ثلاثة وعشرين عامًا. وقد حفل

عهده بالعلماء الأعلام فى مجالات المعرفة المختلفة.

المعتضد بالله أبو العباس أحمد بن الموفق:

تولى الخلافة بعد وفاة عمه «المعتمد» ، وكان قوى الشخصية؛ فحفظ

هيبة الخلافة، كما كانت فى عهد أبيه «الموفق» وعمه «المعتمد» ،

يقول «السيوطى» : كان «المعتضد» شهمًا جلدًا، موصوفًا بالرُّجلة

(أى الشجاعة)، وقد خاض الحروب وعُرف فضله، فقام بالأمر أحسن

قيام، وهابه الناس ورهبوه أحسن رهبة، وسكنت الفتن فى أيامه

لفرط هيبته، وكانت أيامه طيبة كثيرة الأمن والرخاء.

وقد تمكن «المعتضد» خلال حكمه الذى دام عشر سنوات من تهيئة

المزيد من القوة والاستقرار للدولة العباسية، فقضى على مصادر

الفتن والثورات، وأخمد ثورة «بنى شيبان» بأرض الجزيرة سنة

ص: 37

(280هـ= 893م)، وثورة «حمدان بن حمدون» - رأس الأسرة الحمدانية -

بالموصل، واستولى على قلعة «ماردين» التى كان يتحصن بها سنة

(281هـ= 894م)، كما قضى على ثورة الخوارج فى «الموصل» بزعامة

«هارون بن عبدالله الشارى» الذى وقع فى الأسر، وأمر «المعتضد»

بضرب عنقه سنة (283هـ=896م)، ومن أخطر الحركات التى شهدها

عصر «المعتضد» :

- حركة القرامطة:

وترجع بداية هذه الحركة إلى عام (278هـ= 891م) قبل تولِّى

«المعتضد» الخلافة بعام، حين قدم إلى «الكوفة» رجل اسمه

«حمدان» ولقبه «قَرْمَط» ، تظاهر بالعبادة والتقشف والدعوة إلى إمام

من آل البيت، فلقيت دعوته صدى كبيرًا عند أنصار آل البيت، وحين

خمدت سيطرته الروحية عليهم أخذ يبث فيهم أفكارًا غريبة عن

الإسلام، منها: الشهادة بأن «أحمد بن محمد بن الحنفية» رسول الله،

وأن القبلة إلى بيت المقدس، وأن النبيذ حرام والخمر حلال، وغير ذلك

من الأفكار الشاذة.

وقد اشتد خطر هذه الحركة بعد ظهور زعيمها «أبى سعيد الجنَّابى»

فى «البحرين» سنة (286هـ= 899م)؛ حيث استطاع بسط سلطانه على

«البحرين» و «هجر» ، وكسب أنصارٍ كثيرين له فى المناطق التى

ينتشر فيها التشيع.

وقد تحولت «البحرين» إلى مركز رئيسى للقرامطة، خرجت منه

حملاتهم الحربية فى اتجاه «العراق» و «الحجاز» و «الشام» ؛ لنشر

أفكارهم الهدامة التى تهدف إلى هدم كيان المجتمع الإسلامى،

وبسط نفوذهم بواسطة خداع العامة بمبادئ وشعارات براقة،

كالعدالة والمساواة والبساطة، ومساعدة الآخرين، ولم تدرك الخلافة

العباسية مدى الخطورة التى تنطوى عليها هذه الحركة، ووجهت

جهودها الحربية إلى حركات أخرى تبدو أكثر منها خطورة، مثل

الحركة الصفارية والطولونية وغيرهما، ومن هنا لم تظفر هذه الحركة

من الخليفة «المعتضد» - الذى عاصر بدايتها الأولى - بما تستحقه من

اهتمام.

انتقال عاصمة الخلافة إلى بغداد:

ظلت مدينة «سامراء» أو «سر من رأى» عاصمة الخلافة العباسية منذ

ص: 38

حوالى سنة (221هـ= 836م) - فى خلافة «المعتصم بالله» - إلى أوائل

خلافة «المعتضد» الذى بنى «القصر الحسنى» ببغداد، وقرر انتقال

عاصمة الخلافة إليها سنة (280هـ= 893م) ..

وفاة المعتضد:

تُوفِّى «المعتضد» فى ربيع الآخر سنة (289هـ= 902م)، وكان

عصره يموج بالحركة العلمية والدينية والأدبية، فقد عاش فى عصره

عدد من العلماء والأدباء البارزين.

(8)

المكتفى بالله على بن المعتضد:

تولى الخلافة فى (ربيع الآخر سنة 289هـ= مارس سنة 902م) عقب

وفاة أبيه، وعمره خمس وعشرون سنة، ورغم أنه كان حسن السيرة

محبوبًا لدى الرعية فإنه لم يكن يتمتع بما كان يتمتع به أبوه

«المعتضد» ، من قوة الشخصية والحزم، فكانت خلافته تمهيدًا لعودة

الأمور إلى أوضاعها السابقة، وفترة انتقالية بين «صحوة الخلافة»

وانتكاستها.

وقد شهد عهد «المكتفى» أحداثًا كثيرة، منها: ازدياد خطر القرامطة

وتهديدهم للشام و «الحجاز» و «اليمن» ، وقد جرت على يد زعيمهم

«زكرويه بن مهرويه» مذابح بشعة ضد حجاج بيت الله الحرام وعامة

الناس، ونشروا الفزع فى أنحاء العالم الإسلامى، واستطاع

«زكرويه» أن يهزم جيشًا للخليفة «المكتفى» ، وأن يقتل منه عددًا

كبيرًا، فأعد له «المكتفى» جيشًا حشد فيه أكفأ القواد، نجح فى

قتل «زكرويه» وكثيرًا من أتباعه عام (294هـ= 907م)، وتتبعهم فى

«العراق» ، ولكنه لم يستطع القضاء عليهم تمامًا، فظلوا من بعده

مصدر خطر مؤكد على كيان الخلافة.

ومما شهده عصر «المكتفى» أيضًا من أحداث: تولية «المكتفى»

«أبى الهيجاء عبدالله بن حمدان التغلبى» ولاية «الموصل» والبلاد

التابعة لها سنة (293هـ=906م)، وكان ذلك مقدمة لاستقلال الحمدانيين

بالموصل - فيما بعد - وضمهم «حلب» إليها، ونشأة «الأسرة

الحمدانية».

وفاة المكتفى:

تُوفِّى «المكتفى» وفاة طبيعية فى (ذى القعدة سنة 295هـ= أغسطس

سنة 908م)، وترك خزانة الدولة ممتلئة بالأموال، وقد أرجع المؤرخون

ص: 39

ذلك إلى الجهد الذى بذله أبوه «المعتضد» فى جلب أسباب الاستقرار

الاقتصادى إلى الدولة، وحسن سيرة «المكتفى بالله» .

(9)

المقتدر بالله جعفر بن المعتضد:

تولى الخلافة بعد أخيه «المكتفى» بعهد منه فى (ذى القعدة سنة

295هـ= أغسطس سنة 908م)، وكان صبيا فى الثالثة عشرة من

عمره، ولم يلِ الخلافة قبله أصغر منه.

أثار تولى «المقتدر» الخلافة اعتراض كثير من رجال الدولة بسبب

صغر سنه، وعدم قدرته على الاضطلاع بشئون الخلافة مع وجود

الأقدر منه على تحمل المسئولية، خاصة «عبد الله بن المعتز» الشاعر

المعروف بتمام العقل وجودة الرأى، فاتفق رأى عدد منهم على خلع

«المقتدر» وتولية «عبدالله بن المعتز» ، وكان عمره نحو تسعة

وأربعين عامًا، وعندما عرضوا الأمر على «ابن المعتز» وافق بشرط

ألا يسفك دم أو تنشب حرب، فأخبروه أن الأمر يُسلَّم إليه عفوًا، وأن

جميع من وراءهم من الجند والقواد والكُتَّاب قد رضوا به فبايعهم على

ذلك، وتمت البيعة لابن المعتز فى (19من ربيع الأول سنة 296هـ=

نوفمبر سنة 908م)، ولقب بالراضى بالله، ولكن أنصار «المقتدر» -

وعلى رأسهم «مؤنس الخادم» - لم يرضوا بهذه البيعة، وتوجهوا نحو

«ابن المعتز» وأنصاره وقبضوا عليهم وفتكوا بهم وأعادوا تنصيب

«المقتدر» فى اليوم التالى لبيعة «ابن المعتز» ، الذى لم يمكث فى

الخلافة إلا يومًا أو بعض يوم، ولهذا يتجاهله المؤرخون عند ذكرهم

قائمة خلفاء «بنى العباس» .

وقد تدهورت الأوضاع فى عهد «المقتدر» ، وانتشرت الفتن وازداد

تمزق الدولة، وأصبحت الخلافة نهبًا للطامعين بسبب صغر سنه،

وأفلت زمام الأمور من يده، وتحكم النساء والخدم فى شئون البلاد،

فكانت «أم المقتدر» وتسمى «شغب» تولِّى من تشاء وتعزل من

تشاء، كما كان «مؤنس الخادم» صاحب مكانة متميزة وخطيرة فى

عهد «المقتدر» .

وقد ازداد خطر القرامطة اتساعًا وعنفًا فى عهد «المقتدر» ، ووصل

مداه سنة (317هـ= 929م)، حينما دخلوا «مكة» بقيادة «أبى طاهر

ص: 40

القرمطى» وقتلوا الحجاج فى المسجد الحرام، واستولوا على

الحجر الأسود وأخذوه إلى مركزهم الرئيسى «هَجَر» حتى تم رده

إلى مكانه فى عهد «المطيع» سنة (339هـ = 950م).

بداية ظهور الفاطميين:

ومن أهم الأحداث فى عهد «المقتدر» بداية ظهور العُبيديين أو

الفاطميين فى «شمالى إفريقيا» ..

ويرجع الفضل فى قيام «الدولة الفاطمية» إلى «أبى عبدالله الحسين

بن أحمد»، المعروف بأبى عبدالله الشيعى، أحد دعاة الفاطميين

البارزين فى المغرب وكان يعرف أحيانًا باسم «المحتسب» ؛ لأنه كان

مراقبًا لأسواق «البصرة» بالعراق قبل انتقاله إلى «المغرب» .

وقد تمكن «أبو عبدالله الشيعى» من القضاء على «دولة الأغالبة»

فى «المغرب» ، والاستيلاء على عاصمتهم «رقادة» سنة (296هـ=

909م)، وتم تنصيب أول إمام من أئمة الفاطميين وهو «عبيد الله

المهدى» - وكنيته «أبو محمد» - الذى قيل إنه من سلالة الإمام

«الحسين بن على بن أبى طالب» .

وقد تلقب «عبيدالله المهدى» بأمير المؤمنين، وبنى مدينة «المهدية»

عاصمةً له، وانتقل إليها من «رقادة» سنة (308هـ= 920م)، وقد نجح

الفاطميون فى الاستيلاء على «مصر» سنة (358هـ= 969م)، فى عهد

الخليفة الفاطمى «المعز لدين الله» .

قيام دولة بنى حمدان:

ومن الأحداث المهمة التى شهدها عهد «المقتدر» - أيضًا - قيام دولة

«بنى حمدان» فى «الموصل» ، فقد استمر «أبو الهيجاء عبدالله بن

حمدان» يحكم «الموصل» والبلاد التابعة لها من قِبل الخليفة

«المكتفى» حتى وفاته سنة (317هـ= 929م)، فورثه ابنه «حسن»

الملقب «ناصر الدولة» على ولاية «الموصل» ، واستطاع أن يمد

سلطانه إلى «ديار ربيعة» و «مضر» بأرض الجزيرة، وقد اتسع نفوذ

الحمدانيين وملكهم بعد وفاة الخليفة «المقتدر» ، ونجحوا فى بسط

سلطانهم على «حلب» و «شمال الشام» سنة (333هـ= 945م) بقيادة

زعيمهم المعروف «سيف الدولة الحمدانى» ، الذى قال فيه «المتنبى»

أروع قصائد المديح.

ص: 41

وقد أسهم أمراء «بنى حمدان» وفى مقدمتهم «سيف الدولة

الحمدانى» فى صد غارات الروم (البيزنطيين) عن مناطق الثغور

الإسلامية، وفى رعاية الحركة العلمية والأدبية التى بلغت فى عهدهم

مركزًا مرموقًا.

وفاة المقتدر بالله:

ساءت العلاقة بين «المقتدر بالله» وخادمه «مؤنس الخادم» ؛ مما أدى

إلى مقتله على يد أنصار «مؤنس» فى أواخر شوال سنة (320هـ=

932م)، بعد أن ظل فى الحكم خمسًا وعشرين سنة، هى أطول مدة

يقضيها خليفة عباسى فى الحكم حتى عصره.

ورغم تدهور أحوال البلاد السياسية فى عهد «المقتدر» فإن الحياة

العلمية قد شهدت ازدهارًا ملحوظًا فى هذا العصر. وبمقتل «المقتدر»

دخل عصر نفوذ الأتراك مراحله الأخيرة.

(10)

القاهر بالله أبو منصور محمد بن المعتضد:

تولى الخلافة فى شوال سنة (320هـ= 932م)، عقب مقتل «المقتدر» ،

وعمره ثلاث وثلاثون سنة.

وقد اتصف «القاهر» بالغلظة وقلة التثبت، ورغم أنه نجح فى التخلص

من «مؤنس الخادم» ، صاحب النفوذ الأكبر فى عهد «المقتدر» ، ومن

غيره من أعيان الدولة فإن سوء سياسته كان سببًا فى تدبير

الانقلاب عليه والإطاحة به.

وقد لعب الوزير المشهور «أبو على بن مقلة» الدور الأساسى فى

خلع «القاهر» والتنكيل به، لخوفه منه واعتقاده أنه كان يدبر للقضاء

عليه، فهاجم أعوانه الخليفة «القاهر» فى دار الخلافة وقبضوا عليه

وسملوا عينيه وعذبوه وأعلنوا خلعه فى الثالث من جمادى الأولى

سنة (322هـ= 934م).

ولعل من أبرز التطورات السياسية التى شهدها عهد «القاهر» - رغم

قصره - ظهور النفوذ البويهى فى بلاد فارس سنة (321هـ= 933م)،

وكان ذلك مقدمة لامتداد نفوذهم إلى «العراق» وسيطرتهم على

مقاليد الأمور هناك فى سنة (334هـ= 945م)، لتبدأ مرحلة جديدة فى

تاريخ الخلافة العباسية فى عصرها الثانى، كما سنبين بعد قليل.

(11)

الراضى بالله أبو العباس محمد بن المقتدر:

بايع الجند «الراضى بالله» فى السادس من جمادى الأولى سنة

ص: 42

(322هـ) وعمره خمسة وعشرون عامًا، وقد كان من خيار الخلفاء،

فاضلاً سمحًا جوادًا، شاعرًا محبا للعلماء.

ورغم ما كان يتحلى به «الراضى» من صفات حميدة فإن أمر الخلافة

قد اختل فى عهده اختلالاً خطيرًا، وازداد تمزق الدولة واستفحل نفوذ

المتطلعين للسيطرة على زمام الأمور؛ فقد ازداد نفوذ البويهيين فى

فارس وتطلعوا للاستيلاء على «العراق» ، وتمتع «بنو حمدان» بنفوذ

مطلق فى «الموصل» و «ديار بكر» و «ربيعة» و «مضر» ، واستقلت

«الدولة الإخشيدية» فى «مصر» و «الشام» عن الخلافة العباسية،

وكذلك «الدولة السامانية» فى «خراسان» و «ما وراء النهر» بزعامة

«نصر بن أحمد السامانى» ، وأصبح للأمويين خلافة مستقلة فى

«الأندلس» تحت حكم «عبدالرحمن الثالث» الأموى الملقب بالناصر (300

- 350هـ= 913 - 961م)، وسيطر القرامطة بزعامة «أبى طاهر

القرمطى» على «البحرين» » و «اليمامة» .

- ظهور منصب أمير الأمراء:

وتدهورت الأوضاع فى أوائل عهد «الراضى» تدهورًا كبيرًا، بسبب

عجز الوزراء وازدياد نفوذ كبار القواد وتدخلهم فى شئون الدولة،

وكان «محمد بن رائق» والى «واسط» و «البصرة» واحدًا من أبرز

هؤلاء القواد وأكثرهم نفوذًا وتأثيرًا، فاختاره الخليفة «الراضى»

ليقوم بمهمة إنقاذ الخلافة من التدهور الإدارى الحاد الذى تعانى منه،

وأسند إليه منصب «أمير الأمراء» فى عام (324هـ= 936م).

وقد أصبح «محمد بن رائق» بمقتضى هذا المنصب الخطير الذى لم

يظهر قبل ذلك على مسرح الأحداث السياسية فى الدولة الإسلامية،

القائد الأعلى للجيش، والمسئول عن إدارة شئون الدولة والخراج،

وأصدر الخليفة «الراضى» أمرًا بأن يُخطَب لابن رائق على جميع

المنابر فى جميع النواحى الخاضعة للخلافة، وبذلك تحولت الخلافة

إلى منصب شرفى، وأصبح شاغل منصب «أمير الأمراء» هو الحاكم

الفعلى للبلاد؛ مما جعل كبار رجال الدولة أمثال «أبى عبدالله

البريدى» صاحب «الأهواز» ، و «بَجْكم التركى» ، و «ناصر الدولة بن

ص: 43

حمدان» صاحب «الموصل» ، و «توزون التركى» رئيس الشرطة

وغيرهم، يتصارعون للوصول إليه، حتى جاء البويهيون فسيطروا

على زمام الأمور ووضعوا حدا لهذا الصراع.

وقد تُوفِّى الخليفة «الراضى بالله» وفاة طبيعية فى (منتصف ربيع

الأول سنة 329هـ= ديسمبر سنة 940م)، بعد أن فقد السيطرة على

مقاليد الأمور بصورة تكاد تكون كاملة.

(12)

المتقى لله أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر:

تولى الخلافة فى (ربيع الأول سنة 329هـ= ديسمبر سنة 940م) بتدبير

أمير الأمراء «بَجْكم التركى» وكاتبه «أبى عبدالله الكوفى» ، وكان

عمره حينئذٍ أربعًا وثلاثين سنة.

وقد كانت خلافة «المتقى» القصيرة (329 - 333هـ= 940 - 944م)

سلسلة من الصراع بين كبار رجال الدولة على منصب أمير الأمراء، مما

أضاف مزيدًا من الاضطراب والفوضى إلى الأوضاع الداخلية، وفقد

«المتقى» سيطرته على زمام الأمور، فقام أمير الأمراء «توزون

التركى» بسمل عينيه وخلعه، وبذلك انتهت خلافته فى (صفر سنة

333هـ=سبتمبر سنة 944م).

(13)

المستكفى بالله وانتهاء عصر نفوذ الأتراك:

تمت بيعته بالخلافة فى (صفر سنة 333هـ = سبتمبر سنة 944)

بحضور أمير الأمراء «توزون التركى» وإشرافه، وعمره واحد

وأربعون عامًا ولم يكن له أدنى سلطة فى إدارة شئون البلاد، بل

استمر زمام الأمور فى يد أمير الأمراء «أبى الوفاء توزون التركى» ،

وكاتبه «أبى جعفر بن شيرزاد» ، وكان من أبرز الأحداث التى

شهدتها خلافة «المستكفى بالله» امتداد سلطان الحمدانيين بقيادة

«سيف الدولة الحمدانى» على «حلب» و «حمص» اللتين كانتا تحت

سيطرة الإخشيديين.

وتدهورت الأحوال الداخلية فى عهد «المستكفى» بشكل غير

مسبوق؛ مما أدى إلى تطلع البويهيين - أصحاب النفوذ فى بلاد

فارس - منذ سنة (321هـ= 933م) إلى بسط سلطانهم على «العراق» ،

وقد نجحوا فى ذلك سنة (334هـ= 945م)، لتبدأ مرحلة جديدة فى

تاريخ العصر الثانى للخلافة العباسية، عُرفت فيما بعد باسم «عصر

نفوذ البويهيين».

ص: 44

الدول التى استقلت عن الخلافة العباسية فى عصر نفوذ الأتراك:

لم ينحصر ظهور الحركات الاستقلالية فى عصر نفوذ الأتراك، بل

ظهرت هذه الحركات منذ فجر الخلافة العباسية، فاستقل «عبدالرحمن

الداخل» بالأندلس سنة (138هـ= 755م) فى عهد «أبى جعفر

المنصور»، وقامت «دولة الأدارسة» فى «المغرب الأقصى» على يد

«إدريس بن عبدالله» ، و «دولة الأغالبة» على يد «إبراهيم بن الأغلب»

فى «تونس» ، فى عهد «هارون الرشيد» .

وفى خلافة «المأمون» تأسست «الدولة الطاهرية» فى «خراسان»

على يد «طاهر بن الحسين» قائد «المأمون» المشهور، وكانت دولتا

الأغالبة، والطاهرية تدينان بالولاء الأسمى للخليفة العباسى، وقد

مرت إشارات سريعة إلى الدول التى استقلت عن الخلافة فى عصر

نفوذ الأتراك وهى: «الدولة الصفَّارية» ، و «السامانية» و «الطولونية»

و «الإخشيدية» و «الحمدانية» و «دولة القرامطة» ، و «الدولة الفاطمية» ،

و «البويهية» .

وفيما يلى نبذة مختصرة عن أهم هذه الدول:

1 -

الدولة الصفارية (254 - 289هـ= 868 - 902م):

أسسها «يعقوب بن الليث الصفَّار» فى بلاد «فارس» و «خراسان»

على أنقاض «الدولة الطاهرية» ، فى عهد «المعتز بالله» (252 -

255هـ) بعد أن أظهر كفاءة ملحوظة فى محاربة الخارجين على

الخلافة والتخلص من الطاهريين بإذن من الخليفة العباسى «المعتز

بالله».

واستطاع «يعقوب بن الليث» أن يضم إلى «الدولة الصفارية» كثيرًا

من الأماكن التى استطاع السيطرة عليها فى بلاد «فارس»

و «خراسان» وأعلن ولاء دولته - فى البداية - للخلافة العباسية.

وعندما تولى «المعتمد على الله» الخلافة، أصر أخوه «الموفق»

على أن يكون ولاء «الدولة الصفارية» للخلافة ولاءً تاما لا صوريا، إلا

أن «يعقوب بن الليث» رفض ذلك، وتدهورت العلاقة بين الطرفين،

وهدد «يعقوب» بدخول عاصمة الخلافة وبسط سلطانه عليها، مما

أدى إلى حدوث صدام مسلح بين «الدولة الصفارية» ، والخلافة فى

ص: 45

منطقة «واسط» بالعراق، وكان لظهور الخليفة العباسى «المعتمد»

على رأس جيش الخلافة أثر كبير فى هزيمة «يعقوب بن الليث» ،

ورغم هزيمته فقد استمر فى تحدى الخلافة ورفض التفاهم معها حتى

تُوفى فى «جنديسابور» سنة (265هـ= 879م) ثم تولى رئاسة «الدولة

الصفارية» بعد وفاة «يعقوب بن الليث» أخوه «عمرو بن الليث» ،

الذى كان حريصًا على كسب ود الخلافة حتى يؤكد سلطانه الروحى

فى بلاده، فاعترف به الخليفة «المعتمد» واليًا على «خراسان»

و «السِّند» و «سجستان» و «كرمان» و «فارس» و «أصبهان» ، وعندما

تولى «المعتضد» الخلافة بعد وفاة عمه «المعتمد» أقر «عَمْرًا» على

ما فى يده.

وقد نشط «عمرو» فى توسيع حدود دولته وتطلع إلى غزو بلاد «ما

وراء النهر»، حيث «الدولة السامانية» ، وعبر نهر «جيحون» ولكن

السامانيين تصدوا له بقيادة زعيمهم «إسماعيل بن أحمد السامانى»

وهزموه، وأخذوه أسيرًا إلى الخليفة «المعتضد» الذى سجنه حتى

مات فى سجنه سنة (287هـ= 900م)، وقد تولى زعامة الصفاريين بعد

هزيمة «عمرو» وأسره حفيده «طاهر بن محمد بن عمرو» ، ولكن

أحوال الصفاريين تدهورت بشدة خلال هذه الفترة نتيجة الهجمات

المتلاحقة التى شنها عليهم السامانيون، وسقطت دولتهم سنة

(289هـ= 902م).

وقد لاحظ المؤرخون أن قادة هذه الدولة اتبعوا فى حياتهم مبدأ

العدالة والمساواة والأخوة، والبعد عن مظاهر الترف، فكانت حياة

رئيس الدولة لا تكاد تختلف فى مظهرها عن حياة أحد جنوده، وكان

العطاء يوزع بالإنصاف والعدل، وقد ازدهر اقتصاد الدولة نتيجة البعد

عن إنفاق الأموال فى غير وجوهها، فيروى أن «يعقوب ابن الليث»

ترك فى خزانة الدولة عند وفاته ثمانين مليون دينار وخمسين مليون

درهم، ولكن يؤخذ عليه اعتداده بقوته وطاعة جنده فتمرد على

الخلافة وحاول الاستقلال عنها؛ مما زعزع ثقتها به وكان له آثاره

السلبية فى تماسك الدولة واستمرارها.

2 -

الدولة السامانية [261 - 389هـ= 875 - 999م]:

ص: 46

ظهر السامانيون على المسرح السياسى لدولة الخلافة العباسية فى

عصر الخليفة «المأمون» (198 - 218هـ= 813 - 833م)، وسموا بذلك

نسبة إلى قرية «سامان» القريبة من «سمرقند» ؛ حيث كانوا

يتوارثون إمارتها، ويسمى أميرهم «سامان خداه» ، أى كبير قرية

«سامان» وصاحبها.

وقد اعتنق أحد السامانيين الإسلام أثناء خلافة الأمويين، وسمى ابنه

«أسدًا» ، كاسم حاكم «خراسان» فى عهد «هشام بن عبدالملك» ،

واسمه «أسد بن عبدالله القسرى» .

وطال العمر بأسد السامانى حتى أدرك «المأمون» ، فذهب إليه فى

«مرو» ، قبل انتقاله إلى «بغداد» (فى الفترة من سنة 193هـ= 809م

إلى سنة 202هـ = 817م)، ومعه أبناؤه الأربعة:«نوح» و «أحمد» ،

و «إلياس» ، و «يحيى» ، فاحتفى بهم «المأمون» وألحقهم بخدمته.

وبعد انتقال «المأمون» إلى «بغداد» أمر بإسناد عمل إلى كل واحد

من أبناء «أسد السامانى» ، فتم إسناد حكم «سمرقند» إلى «نوح» ،

وحكم «فرغانة» إلى «أحمد» ، وحكم «الشاش» إلى «يحيى» ، وحكم

«هراة» إلى «إلياس» ، فكان هذا مقدمة لتمكن نفوذ السامانيين فى

هذه المناطق المعروفة باسم «بلاد ما وراء النهر» (نهر جيحون) ..

وقد برز «أحمد بن أسد» حاكم «فرغانة» على إخوته، وكان له

سبعة أبناء هم «نصر» و «يحيى» و «يعقوب» و «إسماعيل»

و «إسحاق» و «أسد» و «حميد» ، وعند وفاته سنة (250هـ= 864م) حل

محله ابنه الأكبر «نصر» ، ودان له باقى إخوته بالطاعة والولاء.

وفى سنة (261هـ= 875م) حدَث التحول الحاسم فى تاريخ

السامانيين، حينما أسند الخليفة «المعتمد على الله» ولاية جميع بلاد

«ما وراء النهر» إلى «نصر بن أحمد بن أسد السامانى» ، فأقام

«نصر» فى «سمرقند» ، وعين أخاه «إسماعيل» نائبًا عنه ببخارى

وعهد إلى كل أخ من إخوته الباقين بحكم إحدى الولايات، مما يمكن

معه اعتبار عام (261هـ= 875م) بداية تكوُّن «الدولة السامانية» .

وعقب وفاة «نصر بن أحمد» فى «سمرقند» عام (279هـ= 892م) ضم

ص: 47

أخوه «إسماعيل» «سمرقند» إلى ملكه، وأصبح هو الحاكم الأعلى

لكل بلاد «ما وراء النهر» ؛ لذلك يرى بعض المؤرخين أن «إسماعيل

بن أحمد بن أسد السامانى» هو المؤسس الحقيقى للدولة السامانية؛

حيث خضع له سائر الأمراء السامانيين، ووسع حدود الدولة، فضم لها

«خراسان» ومعظم البلاد التى كانت خاضعة لنفوذ «الدولة الصفارية» ،

وبلغت «الدولة السامانية» قمة مجدها فى عهده (من 279 - 295هـ=

892 -

908م) ثم فى عهد حفيده «نصر بن أحمد بن إسماعيل» (301 -

331هـ= 913 - 943م) وبدأت «الدولة السامانية» تتدهور منذ عهد

«نوح بن نصر» (331 - 343هـ= 943 - 954م)، حتى سقطت فى يد

الغزنويين سنة (389هـ= 999م) ..

وقد كانت «الدولة السامانية» ملتزمة بمذهب أهل السنة، وكانت

علاقتها بالخلافة العباسية علاقة احترام وإجلال؛ حيث كان أمراؤها

يعدون أنفسهم نوابًا عن الخليفة. وقد ازدهرت الحياة العلمية فى

عصر السامانيين، وكانت «بخارى» ، و «سمرقند» تنافسان «بغداد»

فى مكانتها العلمية والأدبية، بسبب تشجيع الأمراء السامانيين للعلم

وحبهم للعلماء، فقد سمح الأمير السامانى «أبو القاسم نوح بن

منصور» (نوح الثانى) لابن سينا باستخدام مكتبة قصره، كما قام

الطبيب والفيلسوف المشهور «أبو بكر الرازى» (251 - 313هـ= 865 -

925م) بإهداء كتابه المعروف فى الطب «المنصورى» إلى الأمير

السامانى «أبى صالح منصور بن إسحاق» أمير «سجستان» .

وقد شهد الأدب الفارسى أيضًا عصره الذهبى خلال حكم السامانيين،

وعاش الشاعر الفارسى المعروف «الفردوسى» شطرًا من حياته فى

عصر «الدولة السامانية» .

3 -

دولة بنى حمدان فى الموصل وحلب (293 - 392هـ= 906 - 1002م):

ينتمى الحمدانيون إلى «حمدان بن حمدون بن الحارث» من قبيلة

«تغلب» ، وقد ظهر نفوذ «حمدان» فى شمال «العراق» سنة (254هـ)

أثناء خلافة «المعتز بالله» ، وتعاون مع خوارج الجزيرة فى شمال

«العراق» ، واستطاع أن يسيطر على بعض المواقع الحصينة هناك،

ص: 48

وأهمها «قلعة ماردين» ، ولكن الخليفة «المعتضد بالله» استطاع

استردادها، وقبض على «حمدان» وسجنه.

تعهد «حسين بن حمدان» بالطاعة والولاء للخليفة «المعتضد»

وساعده فى حربه ضد الخوارج حتى هزمهم، فقربه الخليفة وعفا عن

والده «حمدان بن حمدون» .

وفى خلافة «المكتفى بالله» (289 - 295هـ= 902 - 908م) تعاظمت

مكانة «حسين بن حمدان» وقام بدور بارز فى الحرب ضد القرامطة

وفى الحملة التى جهزها العباسيون لاسترداد «مصر» من يد

الطولونيين فى سنة (292هـ= 905م).

وقد شارك «حسين بن حمدان» فى المؤامرة الفاشلة التى دبرها

أنصار «ابن المعتز» لخلع «المقتدر» ، وهرب حتى عفا عنه «المقتدر»

وأسند إليه ولاية بعض البلاد وأهمها «ديار ربيعة» بالجزيرة سنة

(298هـ= 911م)، إلا أنه حدث بينه وبين «على بن عيسى» وزير

«المقتدر» نزاع انتهى بالقبض عليه، وقتله فى سجنه سنة (306هـ=

918م) ..

ورغم أن «حسين بن حمدان» كان من أعظم الأمراء بأسًا وشجاعة،

وكان أول من ظهر أمره من ملوك «بنى حمدان» فإن أخاه «أبا

الهيجاء عبدالله بن حمدان» كان أعمق تأثيرًا وأوسع نفوذًا فى

تاريخ الأسرة الحمدانية، وقد ولاه الخليفة «المكتفى» إمارة

«الموصل» وتوابعها سنة (293هـ= 906م)، ويعد «أبو الهيجاء عبدالله

بن حمدان» المؤسس الحقيقى لمملكة الحمدانيين فى «الموصل» ، التى

ظل حاكمًا لها إلى أن قتل سنة (317هـ= 929م) عقب اشتراكه فى

المؤامرة الفاشلة لخلع الخليفة «المقتدر» ، وقد خلفه ابنه «حسن»

الملقب بناصر الدولة، واستطاع أن يمد سلطانه على أقاليم الجزيرة

الثلاثة: «ديار ربيعة» ، و «ديار مضر» و «ديار بكر» ، بإذن من الخليفة

«الراضى» ، حتى أقعدته الشيخوخة، فخلفه على الحكم ابنه «فضل

الله أبو تغلب الغضنفر» سنة (353هـ= 964م) ..

وقد دخل «ناصر الدولة» وابنه «أبو تغلب الغضنفر» فى صراع طويل

مع البويهيين، أصحاب السلطة فى «العراق» منذ سنة (334هـ =

ص: 49

945م)، وانتهى هذا الصراع بهزيمة «أبى تغلب الغضنفر» أمام «عضد

الدولة البويهى» سنة (368هـ= 979م)، وانتهت بذلك مملكة الحمدانيين

فى «الموصل» و «الجزيرة» .

أما «الدولة الحمدانية» فى «حلب» ، فقد أسسها «على بن أبى

الهيجاء عبدالله بن حمدان»، الملقب بسيف الدولة؛ حيث استطاع

بمعاونة أخيه الأكبر «ناصر الدولة» انتزاع «حلب» من الإخشيديين

سنة (333هـ= 944م)، ثم استطاع بعد ذلك أن يبسط سلطانه على

«حمص» و «قنسرين» و «العواصم» وبعض بلاد «الجزيرة» سنة

(336هـ= 947م) ..

وقد قام «سيف الدولة الحمدانى» بمهمة جليلة أثناء حكمه الذى

استمر حتى سنة (356هـ= 967م)، وهى حماية حدود دولة الخلافة من

غارات الروم (البيزنطيين) المتواصلة، بعد أن ضعفت الخلافة المركزية

عن القيام بهذه المهمة المقدسة.

وكان «سيف الدولة الحمدانى» أديبًا شاعرًا، فجمع حوله العلماء

والأدباء، مثل «أبى نصر الفارابى» ، و «ابن خالويه» ، و «أبى الطيب

المتنبى»، و «أبى فراس الحمدانى» و «ابن نباتة» و «السَّرىّ الرَّفَّاء» ،

وغيرهم.

وتُوفِّى «سيف الدولة» سنة (356هـ= 967م)، وخلفه فى الحكم ابنه

«أبو المعالى شريف» المعروف بسعد الدولة، وضعفت فى عهده

سلطة الحمدانيين فى «الشام» ؛ لكثرة الضغوط التى تعرض لها من

البيزنطيين والبويهيين فى «العراق» ، والفاطميين فى «مصر» بغرض

الاستيلاء على «الشام» .

وتُوفِّى «سعد الدولة» سنة (381هـ= 991م)، وتولَّى بعده ابنه «أبو

الفضائل سعيد الدولة»، الذى تعرض لضغوط الفاطميين المتزايدة لضم

«الشام» إلى «مصر» ، فتحالف مع البيزنطيين لصد هجمات الفاطميين

عليه، ثم انتهت إمارته بمقتله سنة (392هـ= 1002م) على يد وزيره

«لؤلؤ الحاجب» ، وانتهت بذلك «الدولة الحمدانية» فى «الشام» الذى

أصبح خاضعًا لسلطان الفاطميين.

وقد كان الحمدانيون يميلون إلى التشيع، وكانت علاقتهم بالخلافة

العباسية تتأرجح بين الرضا، والسخط، والتوجس.

4 -

دولة بنى بويه قبل انتقالها إلى بغداد:

ص: 50

ينتسب البويهيون إلى «أبى شجاع بويه» الذى نشأ فى «بلاد

الديلم» التى تقع جنوبى غربى «بحر قزوين» أو «بحر الخزر» بين

منطقتى «طبرستان» و «الجبال» . وكانت هذه البلاد معقلاً لنفوذ

العلويين، فانتشر فيها التشيع.

ورغم أن «أبا شجاع بويه» كان فقيرًا فإنه كان يتحلى بروح

المغامرة والشجاعة، كما تشرب الروح الشيعية التى كانت سائدة

فى «بلاد الديلم» .

وقد انضم «أبو شجاع» إلى العلويين فى صراعهم مع السامانيين،

ومع ذلك فلم يكن هو المؤسس الحقيقى لأسرة «بنى بويه» ، وإنما

كان أبناؤه الثلاثة «على» ، و «حسن» ، و «أحمد» هم الذين قاموا

بذلك، فقد التحق أبناؤه بخدمة «ماكان بن كاكى» أحد القواد

البارزين المناصرين للداعية الشيعى «الحسن بن على» ، الملقب

بالأطروش، وأبرزوا تميزًا فى خدمته فارتقوا من مرتبة الجنود إلى

رتبة القادة، ثم حدث صراع بين «ماكان» و «مرداويج بن زيار» أحد

القادة الفرس فى منطقة «الديلم» ، وأحس أبناء «بويه» أن كفة

«مرداويج» هى الراجحة فى هذا الصراع، فانضموا إليه، فيما بين

عامى (316و317هـ= 928 و 929م)، وكان ذلك بداية تمكن نفوذهم

فى فارس والمناطق المحيطة بها.

وقد ظهر «بنو بويه» - أو البويهيون - على مسرح الأحداث فى أواخر

عصر نفوذ الأتراك، فبدءوا منذ عام (321هـ= 933م) يؤسسون لأنفسهم

مناطق نفوذ تخضع لسيطرتهم التامة، فاستولوا على «فارس» ،

و «شيراز» و «أصبهان» ، و «الرى» ، و «همذان» و «الكرج»

و «كرمان» ، وأغراهم ذلك على التطلع إلى مد نفوذهم إلى «العراق»

موطن الخلافة العباسية.

وقد ساعدهم على ذلك تضاؤل النفوذ التركى، واشتداد الصراع على

منصب «أمير الأمراء» الذى ابتدعه الخليفة «الراضى بالله» سنة

(324هـ= 936م)، مما أدى إلى تمزق الكلمة وضعف الجبهة التى يمكن

أن تحمى دار الخلافة فلم يجد «أحمد بن بويه» أى صعوبة فى دخول

«بغداد» والسيطرة عليها بدون قتال فى (الحادى عشر من جمادى

الأولى سنة334هـ = يناير سنة 946م) ..

ص: 51

الفصل الخامس

*عصر نفوذ البويهيين

[334 - 447 هـ = 945 - 1055م]

عندما دخل «أحمد بن بويه» «بغداد» فى جمادى الأولى سنة (334هـ =

ديسمبر سنة 945م) كان «المستكفى بالله» هو الخليفة العباسى، ولم

يكن أمامه إلا أن يظهر الترحيب به، بل إنه زاد على ذلك فخلع عليه

الخُلَع ولقبه «معز الدولة» ، كما لقَّب أخاه «عليا» «عماد الدولة» ،

وأخاه «الحسن» «ركن الدولة» ، وأمر بأن تُضرَبَ ألقابهم وكُناهم

على الدنانير والدراهم، وكان «على بن بويه» حاكمًا لإقليم «فارس» ،

و «الحسن ابن بويه» حاكمًا لعدة أقاليم أهمها

«الرى» ،و «الجبل» ،و «أصفهان» ، فى حين دخل أخوهم الأصغر

«أحمد» «بغداد» .

وقد تدهورت أحوال «الخلافة العباسية» ، واندثرت معالمها من

الناحية الواقعية حينما سيطر البويهيون على «بغداد» ، فقد جردوا

الخليفة من كل سلطاته، وعدُّوه مجرد موظف مهمته إضفاء صفة

الشرعية على سلطانهم لدى جماهير المسلمين، فحددوا له راتبه،

وسلبوه حقه فى تعيين الوزراء، وسمحوا له بأن يتخذ كاتبًا

(سكرتيرًا) فقط يشرف على أمواله.

ورغم أن البويهيين كانوا شيعة، فإنهم لم يسقطوا الخلافة العباسية

السُنِّية فى «بغداد» ، ليحلوا محلها خلافة علوية شيعية تتفق مع

مذهبهم، وسبب ذلك علمهم أن وجود خليفة من العلويين يهدد ملكهم

وسلطانهم، وليس الأمر كذلك مع الخليفة السنِّى الذى يستطيعون هم

أن يفعلوا به ما يشاءون.

وقد برهن سلوك البويهيين مع الخليفة «المستكفى» على صدق ذلك،

فقبل مرور شهر على دخولهم «بغداد» دخل «معز الدولة أحمد بن

بويه» على الخليفة «المستكفى» ، فوقف الناس حسب مراتبهم، فتقدم

اثنان من الديلم - وهم قوم «معز الدولة» - فمدَّ الخليفة يده إليهما ظنا

منه أنهما يريدان تقبيلها، فجذباه وطرحاه أرضًا، وجرَّاه بعمامته، ثم

هجم «الديلم» على دار الخلافة ونهبوها، وسار «معز الدولة» إلى

منزله، وساقوا الخليفة «المستكفى» ماشيًا إليه، ثم انتهت هذه

المأساة بخلع «المستكفى» وسمل عينيه.

ص: 52

وإذا استبعدنا خلافة «المستكفى» ، فإننا نجد أن الخلفاء الذين

شهدوا عصر نفوذ البويهيين كانوا أربعة هم:

1 -

المطيع لله «أبو القاسم الفضل بن المقتدر بن المعتضد» [334 -

363هـ = 945 - 974م].

2 -

الطائع لله «أبو بكر عبدالكريم بن المطيع» [363 - 381هـ= 974 -

991م].

3 -

القادر بالله «أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر» [381 - 422

هـ= 991 - 1031م].

4 -

القائم بأمر الله «أبو جعفر عبدالله بن القادر» [422 - 467هـ= 1031

- 1075م].

أولاً: خلافة المطيع لله:

بعد أن أمر «معز الدولة أحمد ابن بويه» بخلع «المستكفى» فى

(جمادى الآخرة سنة 334هـ= 945م)، أحضر «أبا القاسم الفضل ابن

المقتدر» وبايعه بالخلافة، ولقَّبه بالمطيع لله، وعمره - حينئذٍ- أربع

وثلاثون سنة، وحدد له «معز الدولة» راتبًا مائة دينار فى اليوم.

وقد شهدت خلافة «المطيع» أحداثًا كثيرة، أولها: نشوب الصراع بين

البويهيين فى «بغداد» بزعامة «معز الدولة» (أحمد بن بويهـ)، وبين

الحمدانيين فى «الموصل» بزعامة «ناصر الدولة» (الحسين بن

عبداللهـ)، وقد استمر هذا الصراع طويلاً فى محاولة كل منهما

الإطاحة بالآخر، وفى (المحرم سنة 335هـ = أغسطس سنة 946م) تم

الصلح بين «معز الدولة البويهى» وبين «ناصر الدولة الحمدانى» على

أن يدفع «ناصر الدولة» الخراج للبويهيين فى «بغداد» كل عام.

وفى سنة (336هـ= 947م) استطاع «معز الدولة» أن يستولى على

«البصرة» بعد هروب صاحبها «أبى القاسم عبدالله بن أبى عبدالله

البريدى» إلى القرامطة فى «هجر» .

وجدير بالذكر أن «معز الدولة» كان نائبًا فى «بغداد» عن أخيه

الأكبر «عماد الدولة» (على بن بويهـ) فى «فارس» ، ثم عن أخيه

الأوسط «ركن الدولة» (الحسن بن بويهـ)، عقب وفاة «عماد الدولة» .

ورغم أن الخليفة العباسى كان تحت سيطرة البويهيين فإنهم كانوا

يخضعون له من الناحية الشكلية فقط.

وقد حاول البويهيون صبغ «العراق» بمذهبهم الشيعى، واتخذ «معز

ص: 53

الدولة» فى سبيل ذلك خطوات بالغة الخطورة أسهمت فى إثارة

عوامل الفتنة والاضطراب داخل مجتمع «العراق» ؛ ففى (ربيع الآخر

سنة 351= مايو سنة 962م) أصدر «معز الدولة» أمرًا بأن يُكتَب على

المساجد لَعْنُ «معاوية بن أبى سفيان» وغيره من الصحابة كأبى

بكر و «عمر» ؛ حيث يتهمهم الشيعة بإساءة معاملتهم وغصبهم

حقوقهم، ولم يستطع الخليفة العباسى منع ذلك، وفى العاشر من

(المحرم سنة 352هـ= يناير سنة 963م) أصدر «معز الدولة» أمرًا بتوقف

الناس عن البيع والشراء فى ذلك اليوم، وإظهار البكاء والعويل،

وأمر النساء أن يخرجن حاسرات الرءوس قد شققن ثيابهن وهن

يلطمن الوجوه على «الحسين ابن على بن أبى طالب» فى ذكرى

استشهاده بكربلاء، وكان هذا أول يوم يحدث فيه ذلك ببغداد، ولم

يستطع الخليفة وأهل السنة أن يمنعوا ذلك لكثرة الشيعة ومناصرة

السلطان «معز الدولة» لهم.

وقد أحدثت هذه المظاهر الشاذة آثارها السيئة بين الناس، ففى

العاشر من (المحرم سنة 353هـ= يناير سنة 964م) - على سبيل المثال -

تم إغلاق الأسواق فى «بغداد» ، وفعل الناس ما تقدم ذكره، فثارت

فتنة عظيمة بين الشيعة والسنة، أُصيب فيها كثيرون ونُهبت الأموال،

وجدير بالذكر أن هذه الممارسات التى شجعها البويهيون ماتزال

آثارها موجودة حتى الآن.

ومن أهم ما سجله «معز الدولة» من انتصارات: تخليص «عُمان» فى

(ذى الحجة سنة 355هـ = نوفمبرسنة 966م) من يد القرامطة الذين

كانوا قد استولوا عليها وعاثوا بها فسادًا، فأصبحت بذلك ضمن

مملكة البويهيين.

ظل «معز الدولة» اثنين وعشرين عامًا يدير الأمور فى «بغداد» ، حتى

تُوفِّى فى الثالث عشر من (ربيع الآخر سنة 356هـ= مارس سنة 967م)،

فتولى ابنه «بختيار» إمارة «العراق» بعهد منه، ولُقب «عز الدولة» .

وقد قدم «عز الدولة» صورة صارخة لانصرافه عن المهام الكبرى

واهتمامه بملذاته الشخصية، فقد أنفق وقته فى اللهو والتسلية

ص: 54

وعِشرة النساء والاستماع إلى الغناء، واستولى على أموال كبار

رجال الدولة وعلى رأسهم الخليفة فى سبيل ذلك.

ففى سنة (361هـ= 972م) هاجم الروم ثغور «الجزيرة» ومن بينها

«الرها» و «نصيبين» ، فأحرقوا البلاد وخربوها وغنموا وسلبوا ما

استطاعوا ولم يجدوا من يردعهم بعد وفاة «سيف الدولة الحمدانى»

سنة (356هـ= 967م)، فسار جماعة من أهل «الجزيرة» إلى «بغداد»

لاستنفار المسلمين ضد الروم، فاستعظم الناس ذلك، وتوجهوا إلى

«عز الدولة بختيار» ، وأنكروا عليه انشغاله باللهو والصيد عن جهاد

الروم الذين انتهكوا حرمة دار الإسلام، فوعدهم بالإعداد لغزوهم،

واتصل بالخليفة «المطيع لله» يطلب منه المال ليجهز به المسلمين

للغزو، ولكن «المطيع لله» أجابه بقوله: «إن الغَزاة والنفقة عليها،

وغيرها من مصالح المسلمين تلزمنى إذا كانت الدنيا فى يدى،

وتُجبَى إلىَّ الأموال، وأما إذا كانت حالى هذه فلا يلزمنى شىء من

ذلك، وإنما يلزم مَن البلاد فى يده، وليس لى إلا الخطبة، فإن شئتم

أن أعتزل فعلت»، فهدد «بختيار» الخليفة «المطيع» واضطره إلى

دفع أربعمائة ألف درهم، فلما قبضها «عز الدولة» صرفها فى

مصالحه وملذاته!.

ونتيجة لسوء طبع بختيار واضمحلال شخصيته، بدأت أسباب الشقاق

والفتنة تظهر بين البويهيين، فقد حاول ابن عمه «ركن الدولة»

والملقب فيما بعد «عضد الدولة» انتزاع «العراق» من «بختيار» ولكن

والده «ركن الدولة» اعترض على ذلك، فاضطر «عضد الدولة» إلى

تأجيل ذلك إلى ما بعد وفاة والده.

ولعل من أخطر الأحداث التى شهدتها خلافة «المطيع لله» سيطرة

الفاطميين على «مصر» سنة (358هـ= 969م) وكانت «مصر» حينئذٍ

تحت حكم الإخشيديين الذين كانوا يخضعون للخليفة العباسى من

الناحية الشكلية، فلما دخلها القائد الفاطمى «جوهر الصقلى»

فى (شعبان سنة 358هـ= يونيو سنة 969م)، شرع فى بناء مدينة

«القاهرة» ؛ لتصبح عاصمة للفاطميين، كما بنى الجامع الأزهر سنة

ص: 55

(361هـ= 972م)، وظل حاكمًا لمصر نيابة عن مولاه «المعز لدين

الله» حتى سنة (362هـ= 973م)، حين قدم «المعز» إلى «مصر» فى

رمضان من هذه السنة، فقام بالأمر وأصبحت «مصر» منذ ذلك الوقت

مقرا للخلافة الفاطمية الشيعية حتى سنة (567هـ= 1172م).

ظل «المطيع لله» فى الخلافة ما يقرب من «ثلاثين عامًا» ، حتى أُصيب

بالفالج - وهو الشلل النصفى - فى أواخر حياته فتعذرت حركته وثقل

لسانه، مما دعا «سُبُكْتكين» ، حاجب «عز الدولة بختيار» إلى أن

يطلب منه خلع نفسه وتسليم الخلافة إلى ابنه «عبدالكريم» ، فتم ذلك

فى (13من ذى القعدة سنة 363هـ= يوليو سنة 974م)، ولقب

«عبدالكريم» بالطائع لله.

ثانيًا: خلافة الطائع لله (363 - 381هـ= 974 - 991م).

تولى «الطائع لله» الخلافة فى (ذى القعدة سنة 363هـ= يوليو سنة

974م) وعمره ثلاث وأربعون سنة، وقد تُوفِّى والده «المطيع لله» بعد

ذلك بفترة قصيرة، فى (سنة المحرم سنة 364هـ= سبتمبر 974م).

فى بداية خلافة «الطائع لله» حدثت الفتنة بين «عضد الدولة بن ركن

الدولة»، وابن عمه «بختيار بن معز الدولة» ، فقد شجع «عضد الدولة»

جند «بختيار» على الثورة عليه ووعدهم بالإحسان إليهم والنظر فى

أمورهم، فثار عليه الجند وتم القبض على «بختيار» وحبسه فى

(جمادى الآخرة سنة 364هـ= فبراير سنة 975م)، وأصبحت «بغداد»

و «العراق» تحت سلطان «عضد الدولة» ..

وقد عز على «ركن الدولة» أمير أمراء البيت البويهى ووالد «عضد

الدولة» أن يتصرف ابنه «عضد الدولة» مع ابن أخيه «بختيار» بهذه

الصورة، فكتب إلى أنصار «بختيار» يساندهم ويأمرهم بالثبات

والصبر ويعرفهم أنه عازم على المسير إلى «العراق» لإخراج «عضد

الدولة» وإعادة «بختيار» ، فانصرف أنصار «عضد الدولة» عنه

واضطر إلى الإذعان لإرادة أبيه، فأخرج «بختيار» من سجنه ورد إليه

ما سلبه من سلطانه، وعاد إلى «فارس» فى (شوال سنة 364هـ=

يونيو سنة 975م)، وكان الخليفة «الطائع لله» مسلوب الإرادة خلال

ص: 56

هذه الفتنة، لاحول له ولا قوة.

وقد قسم «ركن الدولة» ملكه بين أولاده فى (جمادى الأولى سنة

365هـ= يناير سنة 976م) فجعل لابنه «عضد الدولة» ملك البلاد من

بعده، ولولده «فخر الدولة» (أبى الحسن على)«همدان» وأعمال

«الجبل» ، ولولده «مؤيد الدولة» (أبى منصور بويهـ)«أصبهان»

وأعمالها، وجعلهما تحت رئاسة أخيهما «عضد الدولة» ، وأوصاهم

بالاتفاق وترك التنازع.

وفى (المحرم سنة 366هـ= أغسطس سنة 976م) تُوفِّى «ركن الدولة»

فأصبح ابنه «عضد الدولة» زعيم البويهيين بلا منازع.

وفى العام نفسه حشد «عضد الدولة» جنوده لغزو «العراق» ، وكان

«بختيار» ووزيره «أبو طاهر محمد بن محمد بن بقية» يعلمان نيات

«عضد الدولة» فحاولا استمالة كبار الأمراء من حكام الأقاليم

المختلفة، مثل «فخر الدولة بن ركن الدولة» ، و «أبى تغلب بن حمدان»

وغيرهما، وحدثت بعض المعارك بين جيوش «عضد الدولة» وجيوش

«بختيار» سنة (366هـ= 976م) انتهت بهزيمة «بختيار» وفراره من

«بغداد» إلى «الموصل» حيث تحالف مع واليها «أبى تغلب بن

حمدان» ضد «عضد الدولة» ، فسار إليهما «عضد الدولة» وهزمهما

بالقرب من «تكريت» فى (شوال سنة 367هـ= مايو سنة 978م) وأسر

«بختيار» وقتله، وضم مملكة الحمدانيين فى «الموصل» و «الجزيرة»

إلى أملاكه، واتخذ «العراق» مقرا لحكمه.

اهتم «عضد الدولة» بدعم سلطانه وتوسيع أملاكه؛ ففى سنة (368هـ=

978م) فتح «ميَّافارقين» و «آمد» و «ديار بكر» ، و «ديار مضر» منهيًا

بذلك نفوذ «أبى تغلب ابن حمدان» فى بلاد «الجزيرة» .

وفى عام (369هـ= 979م) استولى على الأقاليم الخاضعة لأخيه «فخر

الدولة» بسبب وقوفه إلى جانب «بختيار» ، فاستولى على «همدان»

و «الرى» وما بينهما من البلاد، وعين عليها أخاه «مؤيد الدولة» نائبًا

عنه فى حكمها، وفى سنة (371هـ= 981م) ضم إلى نفوذه بلاد

«جرجان» و «طبرستان» بعد أن أجلى عنها صاحبها «قابوس ابن

أبى طاهر» و «شمكير» (أحد أمراء آل زيار)، فتعاظم بذلك نفوذ

ص: 57

«عضد الدولة» وذاع صيته وتمكنت هيبته، وكان أول من خوطب

بشاهنشاه فى الإسلام، وأول من خُطب له على منابر «بغداد» بعد

الخلفاء.

وقد كان لعضد الدولة إنجازات حضارية بالإضافة إلى أمجاده

الحربية، فبعد دخوله «بغداد» بدأ فى عمارتها، كما أمر بإخراج

أموال الصدقات وتسليمها للقضاة وأعيان الناس، لإعانة من يستحق،

وبدفع أموال للعاطلين الذين يتعذر عليهم الحصول على العمل، بما

يكفى احتياجاتهم، ثم يردونها بعد ذلك إذا عملوا.

كما اهتم «عضد الدولة» بالعلم والعلماء، وأغدق عليهم العطاء

وأحاطهم بمظاهر التكريم، وقد كان مجلسه منتدى للعلماء، تدور فيه

المناقشات الدقيقة فى فروع العلم المختلفة، وكان يشترك مع

العلماء فى هذه المناقشات ويعارضهم فى المسائل، ومن أبرز

هؤلاء العلماء «أبو على الفارسى» الذى صنَّف له كتاب «الإيضاح»

و «التكملة» فى النحو، وكان «عضد الدولة» يقول: «أنا غلام أبى

على فى النحو»، ومنهم أيضًا «أبو إسحاق الصابى» الذى صنف

لعضد الدولة كتاب «التاجى فى أخبار بنى بويه» .

وكان «عضد الدولة» يحب الشعر ويطرب له، ويقرضه أحيانًا، ويغمر

الشعراء بفيض كرمه وجزيل عطائه، فقصده عدد من فحول الشعراء

فى عصره، وكتبوا فيه أروع قصائد المديح، وفى مقدمتهم «أبو

الطيب المتنبى» سنة (354هـ= 965م)، و «أبو الحسن محمد بن عبدالله

السَّلامى أبرز شعراء «العراق» ، وكان «عضد الدولة» يقول: «إذا

رأيت السَّلامى فى مجلسى ظننت أن عطارد قد نزل من الفَلك إلىَّ

ووقف بين يدى».

وقد اقتدى «مؤيد الدولة» و «فخر الدولة» بأخيهما «عضد الدولة» فى

تشجيع العلم وإكرام أهله، فعين «مؤيد الدولة» «الصاحبَ بن عباد»

وزيرًا له سنة (366هـ= 976م)، وكان من أعظم رعاة العلم والأدب،

وعقب وفاة «مؤيد الدولة» واستيلاء أخيه «فخر الدولة» على مملكته

أقر «الصاحب بن عباد» على وزارته، وعين مفكر المعتزلة المشهور

«عبدالجبار بن أحمد» قاضى قضاة للرى سنة (367هـ= 978م) لصلته

ص: 58

بالصاحب بن عباد، ثم عزله «فخر الدولة» سنة (385هـ= 995م) حينما

تُوفِّى «الصاحب بن عباد» .

وفاة عضد الدولة وبداية التفكك فى البيت البويهى:

تُوفِّى «عضد الدولة» فى (شوال سنة 372هـ= مارس سنة 983م)،

وعمره ثمانٍ وأربعون سنة، وقد تركت وفاته فراغًا هائلاً تعذر

على خلفائه أن يملئوه.

وكان أخطر ما ترتب على وفاة «عضد الدولة» ، الصراع الذى نشب

بين أولاده الخمسة على السلطة، وهم:«أبو كاليجار المرزبان»

(صمصام الدولة)، و «أبو الحسين أحمد» ، و «أبو طاهر فيروز شاه» ،

و «أبو الفوارس شيرزيل» الملقب «شرف الدولة» ، و «أبو نصر فيروز»

الملقب «بهاء الدولة» .

وقد استقر الأمراء والقادة على اختيار «أبى كاليجار المرزبان»

ليكون خلفًا لأبيه «عضد الدولة» ، ولقبوه «صمصام الدولة» وأقر

الخليفة «الطائع لله» هذا الاختيار وخلع على «صمصام الدولة» سبع

خلع، ولقبه «شمس الملة» ، فلم يكن للخليفة دور سوى إقرار ما يتفق

عليه القادة والأمراء.

وقد واجه «صمصام الدولة» انشقاقًا من أخيه «شرف الدولة» الذى

استطاع الاستقلال ببلاد «فارس» والاستيلاء على «البصرة» ، وتعيين

أخيه «أبى الحسين أحمد» نائبًا عنه فى حكمها، كما تمكن من

هزيمة الجيش الذى أرسله إليه «صمصام الدولة» ليسترد منه بلاد

«فارس» .

وقد استطاع «صمصام الدولة» استمالة عمه «فخرالدولة» إلى صفه

فى هذا الصراع، ولكن جنده فى «بغداد» ثاروا عليه وأعلنوا بيعتهم

لشرف الدولة، ورغم أن «صمصام الدولة» قضى على هذه الثورة

فإنه لم يستطع وضع حد لازدياد قوة أخيه «شرف الدولة» .

ففى سنة (375هـ= 985م) استولى «شرف الدولة» على «الأهواز»

وقبض على أخيه «أبى طاهر فيروز شاه» المناصر لصمصام الدولة،

وفى (رمضان سنة 376هـ= يناير سنة 987م) استولى على «العراق»

ودخل «بغداد» وقبض على أخيه «صمصام الدولة» ، فذهب إليه

الخليفة وهنأه بالسلطنة.

لم يستمر «شرف الدولة» طويلاً فى إمارته على «العراق» ، فقد تُوفِّى

ص: 59

فى غرة (جمادى الأولى سنة 379هـ= أغسطس سنة 989م)، ولم يجد

حرجًا وهو فى مرض موته أن يأمر بِسَمْل عينى أخيه «صمصام

الدولة» وهو فى سجنه.

وخلف «شرف الدولة» أخوه «أبو نصر فيروز» ، الذى لقبه الخليفة

«بهاء الدولة وضياء الملة» ، ولكن العلاقة بين «بهاء الدولة أبى نصر

فيروز» وبين الخليفة «الطائع» وصلت بعد قليل إلى الحد الذى جعل

«بهاء الدولة» يقوم بعزل الخليفة؛ فقد قلت الأموال عند «بهاء

الدولة»، وثار جنده عليه، فاقترح عليه أحد خواصه وهو «أبو الحسن

بن المعلم»، أن يقبض على الخليفة «الطائع» ويستولى على أمواله،

فدخل «بهاء الدولة» على الخليفة ومعه جمع كثير، وتقدم أحد رجاله

كأنه يريد أن يقبل يد الخليفة، فجذبه فأنزله عن سريره والخليفة

يقول: «إنا لله وإنا إليه راجعون» ، ويستغيث دون أن يلتفت إليه أحد،

وتم الاستيلاء على أمواله، وحُمِل الخليفة إلى دار «بهاء الدولة» ؛

حيث أُرغِم على خلع نفسه فى (التاسع عشر من شعبان سنة 381هـ=

أكتوبر سنة 991م) بعد أن استمر فى الخلافة ما يقرب من ثمانية

عشر عامًا، كان خلالها مسلوب الإرادة.

ثالثًا: خلافة القادر بالله (381 - 422هـ= 991 - 1031م).

هو «أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر» ، اختاره «بهاء الدولة»

بعد خلع «الطائع لله» لتولِّى الخلافة، وكان غائبًا عن «بغداد» ، فلما

وصله الخبر حضر إليها وبايعه «بهاء الدولة» والناس فى (رمضان سنة

381هـ= نوفمبر سنة 991م)، وعمره خمسة وأربعون عامًا.

وقد دامت خلافة «القادر بالله» إحدى وأربعين سنة وحفلت بالكثير

من الأحداث والتطورات، وأهمها:

أ - ازدياد التفكك فى البيت البويهى:

فقد نشب الصراع بين «بهاء الدولة» ، وأخيه «صمصام الدولة» ولم

يكن فى «بنى بويه» أظلم من «بهاء الدولة» ولا أقبح سيرة منه،

ففى سنة (383هـ= 993م) قام بمحاولة للاستيلاء على المنطقة

الخاضعة لإمارة أخيه «صمصام الدولة» فى بلاد «فارس» و «أرَّجان» ،

ص: 60

فانتهت هذه المحاولة بعكس ما كان يهدف إليه؛ حيث تمكن «صمصام

الدولة» من الاستيلاء على «خوزستان» الخاضعة لبهاء الدولة، وبدد

شمل الجيش الذى أرسله «بهاء الدولة» .

وفى سنة (384هـ = 994م) استطاع «بهاء الدولة» أن يهزم «صمصام

الدولة»، وأن يسترد منه بعض ما خسره قبل ذلك.

وقد تجدد الصراع بينهما مرات عديدة، ووصل فى إحدى مراحله إلى

استيلاء «صمصام الدولة» على «البصرة» فى «العراق» سنة (386هـ=

996م)، ولم يتوقف هذا الصراع بين «بهاء الدولة» و «صمصام الدولة»

إلا بمقتل «صمصام الدولة» على يد بعض أبناء «عز الدولة بختيار» ؛

انتقامًا لمقتل أبيهم «بختيار» على يد «عضد الدولة» ، والد «صمصام

الدولة»، وذلك فى (ذى الحجة سنة 388هـ= 998م).

وعقب مقتل «صمصام الدولة» أراد بعض أبناء «بختيار» الاستيلاء

على «فارس» ، فنشب الصراع بينهم وبين «بهاء الدولة» وانتهى

بهروبهم ومقتل أحدهم واسمه «أبو نصر» على يد أنصار «بهاء

الدولة» سنة (390هـ = 1000م).

وقد تُوفِّى «بهاء الدولة» (أبو نصر فيروز بن عضد الدولة) فى

(جمادى الآخرة سنة 403هـ = ديسمبر سنة 1012م)، فخلفه على

إمارة «العراق» ابنه «أبو شجاع فخر الملك» ، الذى لقبه الخليفة

«القادر بالله» «سلطان الدولة» ، فولى أخاه «جلال الدولة» «أبا

طاهر» إمارة «البصرة» وأخاه «قوام الدولة أبا الفوارس» «كرمان» .

ونشب صراع مرير بين أبناء «بهاء الدولة» : «سلطان الدولة» و «جلال

الدولة»، و «قوام الدولة» ، و «مشرف الدولة» الذى استطاع الاستيلاء

على «العراق» سنة (411هـ = 1020م) وبعد وفاة «سلطان الدولة»

فى (شوال سنة 415هـ = ديسمبر سنة 1024م) خلفه ابنه «أبو

كاليجار» على إمارة «فارس» و «كرمان» ، ودخل فى صراع مع عمه

«أبى الفوارس بن بهاء الدولة» الذى استطاع الاستيلاء على

«كرمان» ، وأرغم «أبا كاليجار» على دفع خراج له قيمته عشرون

ألف دينار، إلا أن «أبا كاليجار» استرد «كرمان» بدون قتال عقب

ص: 61

وفاة عمه «أبى الفوارس» سنة (419هـ = 1028م).

وعقب وفاة «مشرف الدولة» تولى أخوه «أبو طاهر جلال الدولة» -

أمير «البصرة» - إمارة «العراق» ، لكنه لم يتمكن من دخول «بغداد» ؛

حيث منعه أنصار ابن أخيه «أبى كاليجار» من دخولها، تمهيدًا لقدوم

«أبى كاليجار» وسيطرته على «العراق» ، ولكن ذلك لم يحدث

لانشغاله بصراعه مع عمه «أبى الفوارس» ، وبقيت «بغداد» بدون أمير

بويهى لمدة عامين وبضعة أشهر، مما دعا رؤساء الجند إلى أن

يطلبوا من الخليفة «القادر بالله» أن يرسل إلى «جلال الدولة» ليحضر

إلى «بغداد» ويتسلم الإمارة؛ جمعًا للكلمة وحسمًا للخلاف، فاستجاب

الخليفة لهم ودخل «جلال الدولة» «بغداد» فى (رمضان سنة 418هـ =

سبتمبر سنة 1027م)، إلا أنه ما لبث أن دخل فى صراع مع ابن أخيه

«أبى كاليجار» ، الذى أراد انتزاع «العراق» من عمه «جلال الدولة» ،

واستمر الصراع بينهما بين النصر والهزيمة لهذا الطرف أو ذاك حتى

وفاة «جلال الدولة» سنة (435هـ= 1044م).

وقد أدى الصراع المستمر بين أبناء البيت البويهى إلى تطلع قوى

أخرى من خارج البيت البويهى للاستيلاء على مقاليد الحكم فى دولة

الخلافة العباسية، كما شغل هذا الصراع البويهيين عن توجيه أذاهم

إلى الخليفة العباسى «القادر بالله» ، الذى ظل واحدًا وأربعين عامًا

على كرسى الخلافة حتى تُوفِّى سنة (422هـ = 1031م).

ب - اتساع قوة الدولة الغزنوية:

تُنسب «الدولة الغزنوية» إلى مدينة «غَزْنَة» بأفغانستان الحالية،

ويقال: إن اسمها الصحيح «غَزْنين» ثم تحول عند العامة إلى

«غَزْنَة» ، واشتهرت به.

وتمتد جذور الأسرة الغزنوية إلى مرحلة سابقة على خلافة «القادر

بالله»، فقد ارتبطت بداية ظهور الغزنويين بظهور «ألبَتكين» (ويكتب

أحيانًا: ألب تكين أو ألفتكين)، وهو غلام تركى التحق بخدمة

السامانيين، وتدرج فى المناصب حتى وصل إلى منصب «حاجب

الحجاب»، وهو منصب كان يتيح سلطة خطيرة لصاحبه، ثم تقلد

ص: 62

«ألبتكين» ولاية «خراسان» نيابة عن الأمير السامانى «عبدالملك بن

نوح» سنة (349هـ= 960م) حتى عزله عنها الأمير «منصور بن نوح»

الذى خلف أخاه «عبدالملك» فلجأ «ألبتكين» إلى «بلخ» ، واستطاع

هزيمة جيش «منصور» الذى أرسله إليه سنة (351هـ = 962م)، ثم

توجه إلى «غزنة» فى السنة نفسها، واستولى عليها واتخذها مقرا

له فى خلافة «المطيع لله» .

وبعد وفاة «ألبتكين» خلفه ابنه «أبو إسحاق إبراهيم» ، الذى تعاون

مع الأمير «منصور بن نوح» ضد أمير «غزنة» السابق «أبى على» ،

الذى أطاح به «ألبتكين» سنة (351هـ = 962م)، فسانده الأمير

«منصور» على شرط أن يعد نفسه تابعًا للدولة السامانية، فوافق

«أبو إسحاق» على ذلك.

وبعد وفاة «أبى إسحاق إبراهيم» سنة (355هـ = 966م) دون أن

يُعْقِب تولى إمارة «غزنة» «بلكاتكين» ، ثم «بيرى تكين» على

التوالى وهما من غلمان «ألبتكين» ، ثم أصبح «سُبُكْتكين» أميرًا

على «غزنة» فى (شعبان سنة 366هـ = مارس 977م) فكان ذلك نقطة

تحول فى تاريخ الغزنويين.

و «سبكتكين» غلام تركى من غلمان «ألبتكين» ، كان قد قربه إليه

وزوجه ابنته، وعينه قائدًا لحرسه، فلما تولى «غزنة» وسع حدودها

فى اتجاه بلاد «الهند» ، وحقق انتصارات كبيرة فى تلك البلاد،

وأصبح بذلك المؤسس الحقيقى للدولة الغزنوية.

وقد استعان الأمير «نوح بن منصور السامانى» (366 - 387هـ = 977 -

997م) بسبكتكين سنة (384هـ = 994م) للقضاء على حركة تمرد

وعصيان ضده فى «بخارى» ، وخلع عليه لقب «ناصر الدولة» ، وعين

ابنه «محمودًا» قائدًا لجيش «خراسان» ومنحه لقب «سيف الدولة» .

واختار «سبكتكين» مدينة «بلخ» مقرا له فى أواخر أيامه، وقد

تُوفِّى فى (شعبان سنة 387هـ = أغسطس سنة 997م)، وعقب وفاته

تنازع ابناه «محمود» و «إسماعيل» حول أحقيتهما فى وراثة

الحكم، وانتهى هذا النزاع بانتصار «محمود» الذى أصبح رئيسًا

للدولة الغزنوية سنة (387هـ= 997م)، وأحسن معاملة أخيه

«إسماعيل» وأعلى منزلته.

ص: 63

وقد حققت إمارة «محمود بن سبكتكين» قفزة هائلة فى مسار

«الدولة الغزنوية» ، فترامت أطرافها، واتسع نفوذها، وذاع صيتها،

وأصبحت بلا منافس من حيث هيبتها العسكرية ومكانتها الحضارية،

وقد اشتهر «محمود بن سبكتكين» بلقب «السلطان» ، كما خلع عليه

الخليفة «القادر بالله» لقب «يمين الدولة وأمين الملة» سنة (389هـ =

999م).

نجح «محمود بن سبكتكين» فى السنوات الأولى من إمارته فى

تعزيز وضعه الداخلى والقضاء على معارضيه، ثم صرف اهتمامه إلى

الفتوح فى بلاد «الهند» ، وحقق انتصارات هائلة جعلته واحدًا من

أعظم الفاتحين فى التاريخ الإسلامى؛ ففى سنة (389هـ = 999م)

استولى على «خراسان» وقضى على سلطة السامانيين بها، وفى

سنة (393هـ = 1003م) استولى على «سجستان» التى كان حاكمها

«خلف بن أحمد» وهو من أكبر أعدائه.

وتعد فتوحات السلطان «محمود بن سبكتكين» فى بلاد

«الهند» ،أعظم إنجاز له فى هذا المجال، ففى سنة (395 هـ =

1005م) استطاع فتح مدينة «بهاتية» الهندية بجوار إقليم «الملتان» ،

وأقام بها حتى أصلح أمرها واستخلف بها مَنْ يُعلِّم مَنْ أسلم مِن

أهلها قواعد الإسلام وفرائضه، وفى سنة (396هـ = 1006م) استولى

على «الملتان» التى كانت تخضع لحكومة إسماعيلية شيعية تعادى

السلطان «محمود الغزنوى» وتتحالف ضده مع أعدائه الهنود غير

المسلمين.

واستمرت غزوات السلطان «محمود» المظفرة فى بلاد «الهند» بصورة

شبه منتظمة حتى سنة (416هـ = 1025م) فنجح فى الاستيلاء على

قلعة «ناردين» الهندية المنيعة، بعد قتال عنيف سنة (404هـ =

1013م) ودان له كثير من حكام المناطق المجاورة، وأقبل الهنود فى

تلك المناطق على اعتناق الإسلام، وأرسل إليهم السلطان من يفقههم

فى الدين، وفتح سنة (409هـ = 1018م) مدينة «قنوج» الحصينة على

نهر «الجانج» ، الذى يقدسه الهنود، واعتنق أهلها الإسلام.

وفى سنة (416هـ = 1025م)، قام السلطان «محمود» بآخر غزواته

ص: 64

فى بلاد «الهند» ، وهى غزوة «سُومْنَات» وكان بقلعة «سومنات»

الحصينة معبد يضم نفائس الذهب والفضة والجواهر، مما لا يوجد له

نظير فى أى مكان آخر فى شبه القارة الهندية، بالإضافة إلى صنم

البراهمة الأعظم الذى يحج إليه الهنود من كل مكان، فاقتحم السلطان

«محمود» هذه القلعة، فى (ذى القعدة سنة 416هـ = ديسمبر سنة

1025م) بعد أن استبسل الهنود فى الدفاع عنها، واستولى على كل

ما فيها من نفائس قُدِّرت قيمتها بأكثر من عشرين مليون دينار، وحطم

السلطان «محمود» بنفسه صنم البراهمة الأعظم بسومنات وأرسل منه

قطعًا إلى «غزنة» ، و «مكة» و «بغداد» إعلانًا بهذا الفتح العظيم،

وكان السلطان «محمود» يتصل -عادة- بالخليفة «القادر بالله» فى

«بغداد» بعد كل فتح عظيم فى البلاد الهندية؛ ليخبره بما فتح الله

للمسلمين فى هذه البلاد، مجددًا ولاءه له.

وأثناء قيامه بغزواته فى شبه القارة الهندية استطاع السلطان

«محمود» أن يضم إلى نفوذه إقليم «خوارزم» ويقضى على الأسرة

المأمونية المعادية له بها سنة (407هـ = 1016م)، كما ضم إليه أيضًا

«الرى» و «قزوين» و «أصفهان» سنة (420هـ = 1029م) بمعاونة ابنه

«مسعود» ، فاتسعت مملكته فى «خراسان» و «ما وراء النهر» و «شبه

القارة الهندية».

وبعد غزوة «سومنات» لم يتمكن السلطان «محمود» من مواصلة

حملاته الموفقة فى «شبه القارة الهندية» ، بسبب اهتمامه بمواجهة

ثورات «العراق» و «خراسان» وخطر الأتراك السلاجقة.

وقد تُوفِّى السلطان «محمود» بغزنة فى شهر (ربيع الآخر سنة

421هـ = أبريل سنة 1030م) وعمره واحد وستون عامًا، وكان قد

أوصى بالسلطة لابنه «محمد» ، ولكنه لم يكن يتمتع بحب الجند

والرعية فتخلَّوا عنه وبايعوا أخاه الأكبر «مسعودًا» واستتب له الأمر

فى أواخر سنة (421هـ = 1030م)، ووصل إلى «غزنة» من

«أصبهان» فى (جمادى الآخرة سنة 422هـ = مايو سنة1031 م) وقد

ورث مملكة أبيه الشاسعة.

ص: 65

وقد كان السلطان «محمود بن سبكتكين» يتحلى بمواهب إدارية

متميزة، فقد استطاع بعد فتوحاته فى «الهند» أن يتألَّف الهندوس،

وأن يجعلهم جزءًا من نسيج دولته، وأن يستخدمهم فى جهازه

الإدارى وأن يجندهم فى جيشه، كما كان السلطان «محمود» يتحلى

بأخلاق رفيعة، ويكثر الإحسان إلى الرعية والرفق بهم، ويحب

العلماء ويكرمهم ويعظمهم وكان على مذهب «أبى حنيفة» فى

الفقه، وهو المذهب الذى مازال واسع الانتشار فى «شبه القارة

الهندية» و «أفغانستان» و «أواسط آسيا» ، وكان السلطان «محمود»

شغوفًا بعلم الحديث النبوى، فكان الشيوخ يقرءونه بين يديه وهو

يسمع.

وقد قصده العلماء والشعراء من كل مكان، وكان أبرزهم المؤرخ

العربى «العُتْبى» (أبو النصر محمد بن عبدالجبار) صاحب كتاب

«اليمينى» الذى جمع فيه سيرة «يمين الدولة السلطان محمود» ،

و «الريحان البيرونى» (محمد بن أحمد) صاحب المعرفة الموسوعية

فى الرياضيات والفلك والطب والتاريخ والجغرافيا، ومن أشهر كتبه

«الآثار الباقية عن القرون الخالية» ، والشاعر الفارسى المعروف

«الفردوسى» (أبو القاسم حسن) صاحب الشاهنامة أو «كتاب

الملوك» وهو ملحمة شعرية تتألف من ستين ألف بيت، وقد أهداها

«الفردوسى» إلى السلطان «محمود» الذى كافأه عليها بستين ألف

درهم، لكن «الفردوسى» رأى أن هذه المكافأة أقل مما كان

يتوقع، فترك بلاط السلطان معترضًا!.

وكان «يمين الدولة السلطان محمود» حريصًا على تقديم كل فروض

الولاء لخليفة المسلمين، باعتبار منصب الخلافة رمزًا يجب صيانته

والمحافظة على مكانته، فالخلافة قد ارتبطت منذ قيامها بعزة

الإسلام ومجده، والتطاول على هذا المنصب العظيم يُعد استخفافًا

بكل ما يرمز إليه من قيم ومعانٍ.

وفاة الخليفة القادر بالله، ونبذة عن شخصيته:

تُوفِّى «القادر بالله» فى شهر (ذى الحجة سنة 422هـ = نوفمبر سنة

1031م) وعمره سبع وثمانون سنة، ودامت خلافته واحدًا وأربعين

ص: 66

عامًا، فكانت أطول مدة يقضيها خليفة عباسى فى هذا المنصب حتى

عصره.

كان الخليفة «القادر بالله» يتحلى بصفات جعلته إحدى الشخصيات

المتميزة فى تاريخ «الخلافة العباسية» ، فقد كان راجح العقل وافر

الحلم، مؤثرًا للخير، ظاهر الكرم، جميل الأخلاق، آمرًا بالمعروف

وناهيًا عن المنكر، كما كان شغوفًا بالعلم محبا لأهله، مستقيم

الطريقة فى الدين بعيدًا عن البدعة، متواضعًا، عزوفًا عن مظاهر

الأبهة والتكلف، فكان يخرج من داره فى زىِّ العامة، ويزور قبور

الصالحين، وكان عادلاً وصولاً ظاهر البر باليتامى والمساكين، قوى

الشخصية، يحظى بالاحترام والتبجيل؛ فلم يتعرض لما تعرض له غيره

من السابقين له من مهانة خلال فترة اضمحلال الخلافة، ورغم ما

تعرضت له الخلافة من ظروف وأحداث وتغلغل نفوذ الترك والفرس فإن

«القادر بالله» استغل كل ما أتيح له من إمكانات، وقدَّم أفضل

نموذج يمكن أن نتوقعه لخليفة عباسى فى ضوء تلك الظروف.

شهد القرنان (4و5 هـ= 10و11م) قمة الازدهار الحضارى بمظاهره

المختلفة فى أرجاء العالم الإسلامى بصفة عامة وفى «دولة الخلافة

العباسية» بصفة خاصة؛ ويمثل عصر «القادر بالله» زبدة الحضارة

الإسلامية فى هذين القرنين، وهكذا كانت الأوضاع الحضارية أحسن

حالاً من الأوضاع السياسية خلال تلك الفترة.

رابعًا: خلافة القائم بأمر الله ونهاية عصر النفوذ البويهى (422 -

447هـ = 1031 - 1055م):

تولى «القائم بأمر الله» (أبو جعفر عبدالله بن القادر) الخلافة فى

اليوم الذى تُوفِّى فيه أبوه «القادر بالله» فى ذى الحجة سنة (422هـ

= 1031م)، وعمره ثلاثون عامًا، وقد لقبه أبوه - قبل وفاته - بالقائم

بأمر الله.

وقد زادت الأوضاع الداخلية فى «دولة البويهيين» فى عهده تدهورًا

وانحطاطًا، وأصبحت الدولة جسمًا بلا روح، فقد استمرت أمور

«العراق» فى فوضى واضطراب؛ بسبب الصراع بين «جلال الدولة»

و «أبى كاليجار» على السيطرة عليه، وضعفت مكانة «جلال الدولة» ،

ص: 67

ورغم الصلح الذى تم بين «جلال الدولة» و «أبى كاليجار» سنة

(428هـ = 1037م)، وتأكيده بزواج «أبى منصور بن أبى كاليجار»

من ابنة «جلال الدولة» فإن «أبا كاليجار» انتهز فرصة وفاة «جلال

الدولة» سنة (435هـ = 1044م) واستولى على زمام السلطة فى

«العراق» فى (صفر سنة 436هـ = أغسطس سنة 1044م)، بعد إحباطه

محاولة الابن الأكبر لجلال الدولة للاستيلاء على الحكم فى «بغداد» .

وأثناء إمارة «أبى كاليجار» فى «بغداد» استطاع الأتراك السلاجقة

أن يسيطروا على أجزاء كبيرة من البلاد الخاضعة للبويهيين، واضطر

«أبو كاليجار» إلى طلب الصلح مع السلطان السلجوقى «طغرل بك»

وزوَّجه ابنته، كما تزوج «أبو منصور بن أبى كاليجار» من ابنة الملك

«داود» أخى «طغرل بك» ، وأصبحت «الدولة البويهية» معرضة

للسقوط فى أية لحظة.

وعقب وفاة «أبى كاليجار» فى (جمادى الأولى سنة 440هـ =

أكتوبر سنة 1048م) خلفه على إمارة «العراق» ابنه «أبو نصر خسرو

فيروز» الملقب بالملك الرحيم، وكانت فترة إمارته تمثل قمة التردى

فى أوضاع «الدولة البويهية» ؛ حيث دخل فى صراع مع إخوته حول

السلطة، واستعان بعضهم بالسلاجقة ضد أخيهم «الملك الرحيم» ،

وأصبح البويهيون تحت سيطرة السلاجقة، وتحدد مصير دولتهم على

أيدى هذه القوة الناشئة.

ص: 68

الفصل السادس

*عصر نفوذ السلاجقة

[447 - 590هـ= 1055 - 1194م]

السلاجقة أسرة تركية كبيرة، كانت تقيم فى بلاد «ما وراء النهر» ،

وتنسب إلى زعيمها «سلجوق بن تُقاق» ، الذى اشتهر بكفاءته

الحربية، وكثرة أتباعه.

وقد أسلم «سلجوق» وأتباعه، وخلَّف من الأولاد «أرسلان»

و «ميكائيل» و «موسى» ، وكان أبرزهم «ميكائيل» ، الذى أنجب

«طغرل بك» (محمد) و «جغرى بك» (داود)، اللذين قام عليهما مجد

«السلاجقة» .

هاجر السلاجقة بزعامة «طغرل بك» وأخيه «جغرى» فى الربع الأول

من القرن الخامس الهجرى إلى «خراسان» الخاضعة لنفوذ الغزنويين،

وبعد سلسلة من الصراع بين الغزنويين و «السلاجقة» ، استطاع

«السلاجقة» السيطرة على «خراسان» بعد هزيمة الغزنويين بقيادة

السلطان «مسعود بن محمود بن سبكتكين» سنة (431هـ = 1040م)

أمام «طغرل بك» وأخيه «جغرى» .

وقد ساعد «السلاجقة» على توطيد سلطانهم انتماؤهم إلى المذهب

السنى، وإعلانهم الولاء والتبعية للخليفة العباسى «القائم بأمر الله» ،

الذى عين «طغرل بك» نائبًا عنه فى «خراسان» وبلاد «ما وراء

النهر» وفى كل ما يتم فتحه من البلاد.

وقد استطاع «السلاجقة» توسيع حدود مملكتهم بسرعة هائلة،

فاستولى زعيمهم «طغرل بك» على «جرجان» و «طبرستان» سنة

(433هـ)، وعلى «خوارزم» و «الرى» و «همدان» سنة (434هـ =

1043م) وعلى «أصبهان» سنة (443هـ = 1051م)، وعلى أذربيجان»

سنة (446هـ = 1054م)، وبدأ يتطلع للسيطرة على «بغداد» ، وقد

هيأت له الأوضاع السائدة فى «العراق» تحقيق هذا الهدف.

دخول طغرل بك بغداد سنة (447هـ = 1055م) وسقوط دولة البويهيين:

كان القائد التركى المشهور «أبو الحارث أرسلان المظفَّر بن عبدالله»

المعروف بالبساسيرى، من أكابر العسكريين الأتراك فى «بغداد»

فى أواخر العهد البويهى، وكان يقوم بدور الحاكم العسكرى لمدينة

«بغداد» ، ويعد صاحب النفوذ الأكبر فى دار الخلافة، وقد كانت هناك

خصومة شديدة بينه وبين «أبى القاسم بن المسلمة» (على بن الحسن

ص: 69

بن أحمد) وزير الخليفة «القائم بأمر الله» ، فاتهمه الوزير بالخيانة،

واتصاله بالفاطميين فى «مصر» لميوله الشيعية، ولما تبين ذلك

للخليفة «القائم بأمر الله» خشى أثر موقف «البساسيرى» على

مستقبل «الخلافة العباسية» ، فاتصل بالسلطان السلجوقى «طغرل

بك»، وطلب منه القدوم إلى «بغداد» للاستيلاء على السلطة فيها

ووضع حد لمحاولات «البساسيرى» الخطيرة ولعجز البويهيين عن

إدارة شئون الدولة فاستجاب السلطان السلجوقى وتقدم بجنوده نحو

«بغداد» ، وأمر الخليفة بأن يُخطَب له على منابرها، قبل دخولها فى

(25 من رمضان سنة 447هـ = نوفمبر سنة 1055م) بثلاثة أيام، وتم

القبض على «الملك الرحيم» آخر ملوك البويهيين.

أصبح «طغرل بك» (ركن الدين أبو طالب محمد بن ميكائيل بن

سلجوق) أولَ سلاطين «السلاجقة» فى «بغداد» ، ابتداءً من (رمضان

447هـ = نوفمبر 1055م)، وقد استقبله الخليفة «القائم بأمر الله» بكل

مظاهر الحفاوة والترحاب، ولقبه «ملك المشرق والمغرب» .

الخلافة فى ظل السلاجقة:

رأى «السلاجقة» فى الخلافة السُّنية رمزًا دينيًا يعبر عن وحدة الأمة

الإسلامية وعزتها، ونظروا إلى الخليفة على أنه تجسيد حى لهذا

الرمز، فأحاطوه بهالة من التقدير والإكبار، ونعمت «الخلافة

العباسية» فى ظل نفوذ «السلاجقة» بأمرين:

الأول: سيادة المذهب السنى فى أرض الخلافة.

والآخر: إحاطة الخلافة بما هى أهل له من إكرام وإجلال؛ فأصبح من

حق الخليفة اتخاذ وزير له، ورغم أن وزير السلطان السلجوقى كان

بصفة عامة أوسع نفوذًا وأقوى تأثيرًا من وزير الخليفة، فإن ذلك لا

يقلل من حقيقة التكريم الذى أسبغه «السلاجقة» على منصب الخلافة؛

حيث كانت السلطة الفعلية فى يد «السلاجقة» ، وكانت سلطة الخليفة

روحية أكثر منها سياسية.

فتنة البساسيرى ومحاولة إخضاع العراق للنفوذ الفاطمى:

عندما دخل «طغرل بك» «بغداد» اضطر «البساسيرى» إلى تركها،

ص: 70

وبدأ يجمع حوله عددًا من الأنصار الساخطين على الأوضاع فى دار

الخلافة، واستطاع الاستيلاء على «الموصل» سنة (448هـ = 1056م)،

وخطب فيها للخليفة «المستنصر الفاطمى» ، ثم مد نفوذه إلى

«الكوفة» و «واسط» ، وأغرى «إبراهيم ينَّال» - وهو أخو «طغرل»

لأمه - بالانشقاق على أخيه ليضمن انشغاله عنه بفتنة أخيه.

وقد أمد «المستنصر الفاطمى» «البساسيرى» بما يدعم موقفه

ويمكنه من مد نفوذه، فاستطاع فى (الثامن من ذى القعدة سنة

450هـ= السابع والعشرين من ديسمبر 1058م) أن يدخل «بغداد»

بجيوشه، ويخطب فيها للخليفة الفاطمى، وخضعت «بغداد» للخلافة

الفاطمية بمصر، واضطر الخليفة العباسى «القائم بأمر الله» ووزيره

«ابن المسلمة» أن يضعا نفسيهما تحت حماية أحد أعوان

«البساسيرى» ، واسمه «قريش بن بدران» ، فطلب «البساسيرى» من

«قريش» تسليمه «ابن المسلمة» ، فقتله شر قتلة فى (أواخر ذى الحجة

سنة 450هـ = يناير 1059م)، وقام «قريش» بتسليم الخليفة العباسى

إلى ابن عم له بنواحى «الأنبار» فآواه وقام بجميع ما يحتاج

إليه مدة سنة كاملة.

وحاول «البساسيرى» مد سلطانه على مدن «العراق» ما أمكنه ذلك،

فاستولى على «البصرة» ، وأوشك الأمر أن يستتب للفاطميين

بالعراق لولا أن «المستنصر» شك فى نيات «البساسيرى» وحقيقة

مخططاته، فمنع عنه عونه وتأييده؛ مما كان له أثره السيئ على

موقفه فى مواجهة «طغرل بك» ، الذى نجح فى القضاء على ثورة

أخيه «إبراهيم ينَّال» ، وقبض عليه وقتله فى (التاسع من جمادى

الآخرة سنة 451هـ = يوليو سنة 1059م).

وعندما اقتربت جيوش السلطان السلجوقى «طغرل بك» من «بغداد»

هرب «البساسيرى» فى اتجاه «الكوفة» فى (6 من ذى القعدة سنة

451هـ = 14 من ديسمبر 1059م)، وسيطر «طغرل بك» على «بغداد»

بسهولة، بعد عام كامل من سيطرة «البساسيرى» عليها، وأعاد

الخليفة «القائم بأمر الله» مكرَّمًا إلى دار الخلافة فى (25 من ذى

ص: 71

القعدة سنة 451هـ = 14من ديسمبر سنة 1059م) ونجح فرسان

«طغرل بك» فى قتل «البساسيرى» فى (8 من ذى الحجة سنة

451هـ = 15من ينايرسنة 1060م)، وبذلك بدأ السلطان السلجوقى

«طغرل بك» يعمل على توطيد ملك «السلاجقة» بالعراق.

بين طغرل بك والخليفة القائم بأمر الله:

كان «طغرل بك» حريصًا على إبداء كل مظاهر الإجلال والتوقير

للخليفة، وقد اقتدى به خلفاؤه؛ فعاملوا الخلفاء العباسيين بكل ما

يليق بمكانتهم من احترام وتعظيم.

يروى المؤرخون أن «طغرل بك» كان غائبًا عن «بغداد» ، فلما عاد

إليها سنة (449هـ = 1057م) توجه إلى دار الخلافة، فلما دخل على

الخليفة قَبَّل الأرض وجلس على سرير دون سرير الخليفة، فأمره

الخليفة أن يتقى الله فيما ولاه وأن يجتهد فى عمارة البلاد وإصلاح

العباد ونشر العدل ومنع الظلم، فقام «طغرل بك» وقبَّل الأرض وقال:

«أنا خادم أمير المؤمنين وعبده، ومتصرف على أمره ونهيه،

ومتشرف بما أهلنى له واستخدمنى فيه، ومن الله أستمد المعونة

والتوفيق».

وعندما توجه «طغرل بك» لاستخلاص «العراق» من «البساسيرى»

كان شديد الحرص على سلامة الخليفة.

وقد أراد «طغرل بك» أن يمنح نفسه وأسرته شرفًا فريدًا متميزًا،

وأن يضفى على سلطانه السياسى صبغة روحية، فخطب ابنة الخليفة

«القائم بأمر الله» سنة (453هـ = 1061م)، فانزعج الخليفة لذلك رغم

زواجه من «أرسلان خاتون» (واسمها خديجة) ابنة الأمير «داود» أخى

السلطان «طغرل بك» سنة (448هـ = 1056م)، فلم يحدث أن تزوج

أحد من خارج البيت العباسى منه، وحاول الخليفة «القائم» رفض هذا

الزواج، ودافع بكل ما يمكنه فى سبيل ذلك، ولكنه اضطر إلى

الخضوع لضغوط وزير «طغرل بك» «عميد الملك الكُنْدُرى» ؛ فتم العقد

لطغرل على ابنة الخليفة سنة (454هـ = 1062م) ودخل بها سنة

(455هـ= 1063م).

الوزير عميد الملك الكندرى ومكانته فى دولة طغرل بك:

أثناء حكم «طغرل بك» فى «نيسابور» طلب رجلاً متمكنًا من اللغة

ص: 72

العربية يكتب له، فدلوه على «عميد الملك الكندرى» (أبى نصر محمد

بن منصور بن محمد) فلما دخل «طغرل» «بغداد» سنة (447هـ =

1055م) عينه وزيرًا له، فكان ساعده الأيمن حتى وفاة «طغرل» سنة

(455هـ = 1063م).

ويعتبر «عميد الملك» أحد العوامل المهمة فى ازدهار دولة «طغرل

بك» بفضل ما كان يتمتع به من حنكة وكفاءة، كما كان سببًا مكَّن

«طغرل بك» من السيطرة على «العراق» ودار الخلافة، وإدخال

الخليفة «القائم» ووزرائه وحاشيته فى طاعة «السلاجقة» دون إراقة

دماء، لما تمتع به «عميد الملك» من نفاذ بصيرته فى الأمور، وبُعد

نظره، وحسن سياسته، إلى جانب رسوخ قدمه فى العلم والأدب.

واقترن اسم الوزير عميد الملك باسم «طغرل بك» وأصبح لا يذكر

أحدهما دون أن يذكر الآخر.

وفاة طغرل بك وتولى ألب أرسلان:

كان «طغرل بك» من كبار الشخصيات فى التاريخ، اتصف بالشجاعة

والإقدام، والعقل والحلم، وكان من أشد الناس احتمالاً وأكثرهم

كتمانًا لسره، كريمًا، محافظًا على الصلوات الخمس، ويصوم يومى

الإثنين والخميس.

ورغم أن بعض المؤرخين وصفه بالظلم والقسوة، فإن ذلك لا يتفق مع

صفاته السابقة التى سجلها له معظم المؤرخين.

وقد أوصى «طغرل بك» بأن يخلفه بعد موته ابن أخيه «سليمان بن

داود جغرى»؛ حيث إنه لم يخلف ولدًا، وفى (8 من رمضان سنة 455هـ

= سبتمبر سنة 1063م) توفى «طغرل بك» بمدينة «الرى» ببلاد

«الجبل» ، وعمره نحو سبعين عامًا، وقد نفذ «عميد الملك الكندرى»

وصية «طغرل بك» ، ولكن الناس كانوا أميل إلى «ألب أرسلان» ،

فأمر «عميد الملك» بالخطبة له وتم الأمر له بمساعدة وزيره «نظام

الملك»، وأصبح سلطانَ «السلاجقة» .

قتل عميد الملك الكندرى ووزارة نظام الملك:

عقب تولِّى «ألب أرسلان» سلطنة «السلاجقة» ، أقر «عميد الملك

الكندرى» وزير عمه «طغرل» فى منصبه، ولكنه سرعان ما تغير عليه

فعزله فى شهر (المحرم سنة 456هـ = ديسمبر سنة 1063م)، وسجنه،

ص: 73

ثم دبر قتله فى شهر (ذى الحجة سنة 456هـ = نوفمبر سنة 1064م)،

ويبدو أن «نظام الملك» لعب دورًا فى ذلك.

وبعد عزل «عميد الملك» ، عين «ألب أرسلان» «نظام الملك» وزيرًا له،

وكان وزيره أثناء إمارته على «خراسان» قبل توليه السلطنة، ويُعدُّ

«نظام الملك» أشهر وزراء «السلاجقة» كما يعد من أشهر الوزراء فى

التاريخ الإسلامى.

وكانت بداية معرفة «نظام الملك» بالسلاجقة حينما اتصل بداود بن

ميكائيل بن سلجوق، والد السلطان «ألب أرسلان» ، وأعجب بكفاءته

وإخلاصه فسلمه إلى ابنه «ألب أرسلان» وقال له: «اتخذه والدًا ولا

تخالفه فيما يشير به».

وقد ظل «نظام الملك» وزيرًا للسلطان «ألب أرسلان» ثم لخليفته

«ملكشاه» ما يقرب من ثلاثين عامًا.

ولم يكن «نظام الملك» مجرد وزير لامع، بل كان راعيًا للعلم والأدب

محبا لهما، وقد سمع الحديث وقرأه، وكان مجلسه عامرًا بالعلماء

والفقهاء والصوفية، مثل إمام الحرمين «أبى المعالى الجوينى»

و «أبى القاسم القشيرى» ، كما اهتم «نظام الملك» ببناء المدارس

ووضع أسس قيام نهضة تعليمية رائعة.

اتساع مملكة السلاجقة خلال حكم ألب أرسلان (455 - 465هـ = 1063

- 1073م):

استطاع «ألب أرسلان» أن يوسع حدود مملكة «السلاجقة» التى

ورثها عن عمه «طغرل» ، وأن يسجل انتصارات رائعة ضد أعدائه فى

الداخل والخارج، فنجح فى القضاء على حركات العصيان فى

«خراسان» و «ما وراء النهر» و «أذربيجان» ، وتمكن من تعزيز الوجود

الإسلامى فى «أرمينيا» ، واستولى على «حلب» وقضى على النفوذ

الفاطمى بها.

معركة ملاذكرد:

عزم الإمبراطور البيزنطى «رومانوس الرابع» على طرد «السلاجقة»

من «أرمينيا» وضمها إلى النفوذ البيزنطى، فأعد جيشًا كبيرًا سنة

(463هـ = 1071م) يتكون من مائتى ألف مقاتل، وتولَّى قيادته

بنفسه، وزحف به إلى «أرمينيا» ، وعندما علم السلطان «ألب

أرسلان» بذلك وهو بأذربيجان لم يستطع أن يجمع من المقاتلين إلا

ص: 74

خمسة عشر ألف فارس، فتقدم بهم إلى لقاء الإمبراطور البيزنطى

وجحافله، والتقت مقدمة جيش السلطان بمقدمة جيش «رومانوس» فى

«أرمينيا» فهزمتها.

وقد أراد السلطان «ألب أرسلان» استغلال هذا النصر المبدئى

فأرسل إلى الإمبراطور «رومانوس» يعرض عليه الصلح، إدراكًا منه

لحرج موقفه بسبب قلة جنده، فرفض «رومانوس» الصلح وهدد

السلطان بالهزيمة والاستيلاء على ملكه، وقد ألهب هذا التهديد حماس

السلطان وجيشه وعزموا على إحراز النصر أو الشهادة، ووقف فقيه

السلطان وإمامه «أبو نصر محمد بن عبدالملك البخارى» يقول

للسلطان: «إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر

الأديان، وأرجو أن يكون الله - تعالى - قد كتب باسمك هذا الفتح،

فالْقَهُم يوم الجمعة بعد الزوال، فى الساعة التى تكون الخطباء على

المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة».

فلما جاءت هذه الساعة صلى بهم، وبكى السطان فبكى الناس

لبكائه ودعا ودعوا معه، ولبس البياض وتحنَّط وقال: إن قُتِلْتُ فهذا

كفنى!.

والتقى جيش السلطان وجيش الإمبراطور فى مدينة «ملاذكرد»

بأرمينيا، وحمل المسلمون على الروم حملة رجل واحد، وأنزل الله

نصره عليهم فانهزم الروم وامتلأت الأرض بجثثهم، وتمكن المسلمون

من أسر إمبراطور الروم «رومانوس» ، فأحسن السلطان «ألب

أرسلان» معاملته، وأعفاه من القتل مقابل فدية مقدارها مليون

ونصف مليون دينار، وعقد معه صلحًا مدته خمسون عامًا، وأطلق

سراحه وأرسل معه جندًا أوصلوه إلى بلاده ومعهم راية مكتوب عليها

«لا إله إلا الله محمد رسول الله» .

وقد أنهت معركة «ملاذكرد» النفوذ البيزنطى فى «أرمينيا» بصورة

مطلقة، وفتحت المجال لامتداد النفوذ الإسلامى السلجوقى إلى «آسيا

الصغرى»، وتهديده العاصمة البيزنطية وما وراءها فى «أوربا» .

وقد حدثت هذه المعركة المظفرة - معركة «ملاذكرد» - فى شهر (ذى

القعدة سنة 463هـ = أغسطس 1071م).

ص: 75

ولا يستطيع الباحثون عن جذور الحروب الصليبية التى حدثت فيما بعد

أن يتجاهلوا دور هذه المعركة (ملاذكرد) فى تهيئة الظروف التى أدت

إلى هذه الحروب.

مقتل ألب أرسلان وانتقال السلطة إلى ابنه ملكشاه:

فى أوائل عام (465هـ = 1073م) توجه «ألب أرسلان» إلى بلاد «ما

وراء النهر» لتأديب أمير «بخارى» الثائر «شمس الملك نصر» ، وبينما

هو فى طريقه جاءوا إليه بأمير إحدى القلاع، واسمه «يوسف

الخوارزمى» مقيدًا بسبب عصيانه، وأغلظ «يوسف» القول للسلطان،

فطلب «ألب أرسلان» فك قيوده ليقتله بنفسه، ولكن «يوسف» كان

أسرع من السلطان فطعنه بخنجر كان معه، فمات السلطان «ألب

أرسلان» بعد أيام متأثرًا بجراحه فى (10 من ربيع الأول سنة 465هـ

= أواخر نوفمبر سنة 1072م)، وعمره أربعون أو خمس وأربعون

سنة.

وقد كان «ألب أرسلان» - بإجماع المؤرخين - من عظماء سلاطين

«السلاجقة» ، وكان قائدًا عسكريا من الطراز الأول، وسياسيا محنكًا

وحاكمًا عادلاً، فلم يتجاوز فى جمع الأموال من الرعية، وكان كثير

الصدقات خاصة فى رمضان، بارا بأهله وأصحابه ومماليكه، شهمًا ذا

مروءة، ولم يكن يسمح للدسائس أن تعرف طريقها إليه، فقد حاول

أحد الوشاة مرة أن يفسد ما بينه وبين وزيره «نظام الملك» ، فكتب

له كتابًا يبين له فيه ما يرتكبه الوزير من مخالفات، وتركه له على

مُصلاه فعندما أخذه «ألب أرسلان» وقرأ ما فيه، سلَّمه إلى «نظام

الملك» وقال له: خذ هذا الكتاب، فإن صدقوا فى الذى كتبوه، فهذب

أخلاقك، وأصلح أحوالك، وإن كذبوا فاغفر لهم زلتهم واشغلهم بمهم

يشتغلون به عن السعاية بالناس.

وعقب وفاة «ألب أرسلان» تولى السلطنة ابنه «ملكشاه» بعهد من

أبيه، وتولى «نظام الملك» أخذ البيعة له، وأقره الخليفة «القائم بأمر

الله» على السلطنة.

استمرار نظام الملك فى الوزارة واتساع نفوذه فى عهد ملكشاه:

لم يكتفِ «ملكشاه» بإقرار «نظام الملك» فى الوزارة كما كان فى

ص: 76

عهد أبيه، بل زاد على ذلك بأن فوض إليه تدبير المملكة، وقال له:

«قد رددت الأمور كلها كبيرها وصغيرها إليك، فأنت الوالد» ، ولقبه

ألقابًا كثيرة، أشهرها لقب «أتابك» ، ومعناه الأمير الوالد، وكان

«نظام الملك» أول مَن أُطلق عليه هذا اللقب.

وسبب هذه المكانة الرفيعة التى حظى بها «نظام الملك» عند

السلطان «ملكشاه» ، أنه هو الذى مهد له الأمور، وقمع المعارضين،

فرآه السلطان أهلاً لهذه المكانة.

وفاة الخليفة القائم بأمر الله، وبيعة المقتدى بأمر الله:

تُوفِّى الخليفة «القائم بأمر الله» فى (13 من شعبان سنة 467هـ = 3

من أبريل سنة 1075م) فى أوائل سلطنة «ملكشاه» ، وعمره يزيد

على ستةٍ وسبعين عامًا، وقد استمر فى الخلافة نحو خمسٍ وأربعين

سنة.

وقد شهدت خلافة «القائم بأمر الله» تدهور «دولة البويهيين»

واندثارها، وقيام «دولة السلاجقة» ثم ازدهارها.

وقد أجمع المؤرخون على أن «القائم بأمر الله» كان يتحلى بالأخلاق

الحميدة، فقد كان ورعًا ديِّنًا زاهدًا عالمًا، قوى اليقين بالله تعالى،

كثير الصبر، مؤثرًا للعدل والإنصاف، قاضيًا لحوائج الناس.

وقد كان للقائم بأمر الله ابن وحيد، تُوفِّى فى حياته، هو «أبو

العباس محمد» الملقب بالذخيرة وقد ولد للذخيرة بعد وفاته بستة

أشهر غلام، اشتد به فرح جده «القائم» وسماه «عبدالله» .

وعندما تُوفِّى «القائم» كان «عبدالله» هذا فى العشرين من عمره

فتولى الخلافة بعد جده فى (13 من شعبان سنة 467هـ = 3 من

أبريل 1075م)، ولقب بالمقتدى بأمر الله.

الخلفاء العباسيون فى العهد السلجوقى:

كان «المقتدى بأمر الله» ، أول خليفة يتقلد منصبه فى ظل «دولة

السلاجقة»، وبذلك يكون الخلفاء الذين تولوا الخلافة فى العهد

السلجوقى - بعد «القائم بأمر الله» - ثمانية هم:

1 -

المقتدى بأمر الله (عبدالله بن محمد بن القائم بأمر اللهـ) [467 -

487هـ = 1075 - 1094م].

ص: 77

2 -

المستظهر بالله (أبو العباس أحمد بن المقتدى بأمر اللهـ) [487 -

512هـ = 1094 - 1118م].

3 -

المسترشد بالله (أبو منصور الفضل بن المستظهر) [512 - 529هـ =

1118 -

1135م].

4 -

الراشد بالله (أبوجعفر المنصور بن المسترشد) [529 - 530هـ =

1135 -

1136م].

5 -

المقتفى لأمر الله (أبوعبدالله بن محمد بن المستظهر باللهـ) [532 -

555هـ = 1138 - 1160م].

6 -

المستنجد بالله (أبوالمظفر يوسف بن المقتفى) [555 - 566هـ =

1160 -

1170م].

7 -

المستضىء بأمر الله (أبو محمد الحسن بن المستنجد باللهـ) [566 -

575هـ = 1170 - 1179م].

8 -

الناصر لدين الله (أبو العباس أحمد بن المستضىء بأمر اللهـ) [575

- 622هـ = 1179 - 1225م].

وقد شهدت خلافة «الناصر لدين الله» زوال ملك «السلاجقة» فى سنة

(590هـ = 1194م) وبداية استقلال الخلفاء العباسيين بالسلطة فى

«بغداد» وما يحيط بها.

ذروة المجد السلجوقى:

بلغت «الدولة السلجوقية» ذروة مجدها وعظمتها على يد «ملكشاه»

الذى استمر فى السلطنة عشرين عامًا تقريبًا؛ حيث استطاع أن

يستثمر ما حققه «طغرل بك» و «ألب أرسلان» على أحسن وجه،

فحقق إنجازات عظيمة بمعاونة وزيره «نظام الملك» .

وقد تزامنت سلطنة «ملكشاه» -فى معظمها- مع خلافة «المقتدى بأمر

الله»، الذى تولى منصبه بعد ابتداء حكم «ملكشاه» بعامين، وتُوفِّى

بعد وفاته بعامين.

وقد اتسعت حدود «الدولة السلجوقية» فى عهد «ملكشاه» اتساعًا

غير مسبوق، من حدود الصين إلى آخر «الشام» ، ومن أقاصى بلاد

الإسلام فى الشمال إلى آخر بلاد «اليمن» ، وحمل إليه ملوك الروم

الجزية.

وترجع عظمة «الدولة السلجوقية» فى عهد «ملكشاه» إلى اتساع

حدودها وازدهار الحركة الثقافية فيها بصورة جديرة بالإعجاب.

وكان لنظام الملك أثر متميز وجهد خلاق فى ذلك، على المستوى

الإدارى والعسكرى، والثقافى.

فاهتم بإنشاء العديد من المدارس التى نسبت إليه فى أنحاء الدولة،

ص: 78

فسميت بالمدارس النظامية، وكان أشهرها:«نظامية بغداد» التى

تخيَّر «نظام الملك» مشاهير الفكر والثقافة فى العالم الإسلامى

للتدريس فيها مثل: «حجة الإسلام أبى حامد الغزالى» صاحب كتاب

«إحياء علوم الدين» ، الذى فوض إليه «نظام الملك» مهمة التدريس فى

«المدرسة النظامية» ببغداد، ثم فى «المدرسة النظامية» بنيسابور،

التى كان إمام الحرمين أبو المعالى الجوينى يقوم بالتدريس فيها.

وقد أسهمت هذه المدارس النظامية فى تثبيت قواعد المذهب السنى

والدفاع عنه ضد مختلف البدع والأهواء والمذاهب المنحرفة التى

انتشرت فى ذلك الوقت.

وقد كان «نظام الملك» مؤلفًا مرموقًا أيضًا، فهو مؤلف كتاب

«سياسة نامه» الذى تحدث فيه عن كيفية تدبير شئون الملك، وفضح

معتقدات الحشاشين وغيرهم من الخارجين عن الدين.

مقتل نظام الملك ووفاة ملكشاه:

قتل «نظام الملك» فى (10 من رمضان سنة 485هـ = 14من أكتوبر

سنة 1092م)، حين تقدم إليه أحد غلمان الباطنية (أو الحشاشين) وهو

فى ركب السلطان فى صورة سائل أو مستغيث، فلما اقترب منه

أخرج سكينًا كان يخفيها فى طيات ملابسه فطعنه بها طعنات قاتلة.

وقد اختلف المؤرخون فى بيان السبب الذى أدى إلى مقتل «نظام

الملك»، فقيل إن نفوذ «نظام الملك» وأولاده وشيعته تفاقم بصورة

مثلت خطرًا على السلطان «ملكشاه» فدبر قتله، وقيل إن السبب فى

ذلك حربه الدائمة ضد المذاهب الهدامة وعلى رأسها مذهب الباطنية أو

الحشاشين.

وعقب مقتل «نظام الملك» عين «ملكشاه» «تاج الملك أبا الغنائم

الشيرازى» وزيرًا، وكان صاحب خزانة السلطان ومعروفًا بحقده على

«نظام الملك» .

وقد تُوفِّى «ملكشاه» بعد وفاة «نظام الملك» بخمسة وثلاثين يومًا

فى (15 من شوال سنة 485هـ = 18 من نوفمبرسنة 1092م)، فانطوت

صفحة من أكثر صفحات التاريخ السلجوقى تألقًا وعظمة.

فقد كان السلطان «ملكشاه» أعظم سلاطين «السلاجقة» وأحسنهم

ص: 79

سيرة، وأعدلهم حكمًا، منصورًا فى حروبه، جوادًا يحب الإنفاق فى

وجوه الخير، لا يبخل بمال على ما ينفع العلم والدين، ومما يروى فى

ذلك أن أحد كبار حاشيته - وهو «تاج الملك» - أراد أن يفسد العلاقة

بينه وبين «نظام الملك» ، فذكر له أن الوزير ينفق فى كل سنة على

أصحاب المدارس والفقهاء والعلماء ثلاثمائة ألف دينار، ولو جهز بهذا

المبلغ جيشًا لبلغ باب «القسطنطينية» ! فطلب السلطان «ملكشاه»

حضور «نظام الملك» وسأله عن حقيقة الأمر فقال له: قد أعطاك الله -

تعالى - وأعطانى بك ما لم يعطه أحدًا من خلقه، أفلا نعوضه عن ذلك

فى حَمَلَةِ دينه وحَفَظَةِ كتابه ثلاثمائة ألف دينار؟! ثم إنك تنفق على

الجيوش المحاربة فى كل سنة أضعاف هذا المال مع أن أقواهم

وأرماهم لا تبلغ رميته ميلاً، ولا يضرب بسيفه إلا ما قرب منه، وأنا

أُجيش لك بهذا المال جيشًا تصل من الدعاء سهامه إلى العرش لا

يحجبها شىء عن الله تعالى!! فبكى السلطان وقال: «يا أبت

استكثر من الجيش، والأموالُ مبذولة لك، والدنيا بين يديك».

تدهور أوضاع السلاجقة بعد وفاة ملكشاه:

بدأت مظاهر الضعف تنتشر فى جسم «الدولة السلجوقية» عقب وفاة

«ملكشاه» ، فظهر الانقسام والتمزق والفتن، باستثناء فترة حكم

السلطان «معز الدين سنجر أحمد» ؛ حيث شهدت الدولة قوة وصحوة

مؤقتة.

ويوجد عدد من النقاط الأساسية التى لا يمكن إغفالها عند تناول

تاريخ الفترة التى شهدت تدهور أوضاع «السلاجقة» ، وهى:

أولاً: فروع السلاجقة:

يتفرع «السلاجقة» إلى خمسة فروع رئيسية هى:

(أ) السلاجقة العظام:

وهم ستة: «طغرل بك» ، و «ألب أرسلان» ، و «ملكشاه» ، و «ركن الدين

أبو المظفر بَرْكيَارُق» (485 - 498هـ = 1092 - 1105م) و «غياث الدين

أبو شجاع محمد» (498 - 511هـ = 1105 - 1117م)، و «معز الدين

سنجر أحمد» (511 - 552هـ = 1117 - 1157م).

ورغم أن مصطلح «السلاجقة العظام» يطلق على هؤلاء الستة، إلا أن

ص: 80

الجديرين حقا بهذا الوصف هم الثلاثة الأُوَل، أما الآخرون فقد خاضوا

كثيرًا من الحروب ضد أبناء بيتهم وعانت الدولة فى عهدهم من

عوامل الفرقة والتمزق.

(ب) سلاجقة العراق:

ويطلق هذا المصطلح على أمراء «السلاجقة» الذين سيطروا على

«العراق» و «الرى» و «همدان» و «كردستان» ، وكان امتداد نفوذهم

فى هذه المناطق على حساب «السلاجقة العظام» ، واستمر نفوذهم

من سنة (511هـ= 1117م) إلى سنة (590هـ= 1194م)، حين تمكن

الخوارزميون من القضاء على «طغرل الثالث» آخر سلاطينهم.

(ج) سلاجقة كرمان:

وقد بدأ نفوذهم فى الجنوب الشرقى لفارس وفى بعض مناطق

الوسط سنة (433هـ = 1042م)، قبل دخول «طغرل بك» «بغداد» ،

واستمر حتى سنة (583هـ = 1187م)، حين قضى التركمان الغز (41)

على سلطتهم هناك.

(د) سلاجقة الشام:

وكان نفوذهم فى المناطق التى استولى عليها «السلاجقة» من

الفاطميين أو الروم فى «الجزيرة» و «الشام» ، وقد بدأ نفوذهم فى

هذه المناطق سنة (487هـ = 1094م) وانتهى سنة (511هـ=1117م)

على يد أتابكة «الشام» و «الجزيرة» .

(هـ) سلاجقة الروم:

وكان نفوذهم فى الأراضى التى استطاع «السلاجقة» الاستيلاء

عليها من الروم فى «آسيا الصغرى» ، وكانت إمارتهم أطول إمارات

«السلاجقة» عمرًا؛ حيث بدأت سنة (470هـ = 1077م) واستمرت حتى

سنة (700هـ = 1301م) حين استطاع الأتراك العثمانيون القضاء عليها.

ثانيًا: الحروب الصليبية والسلاجقة:

كان اتساع نفوذ «السلاجقة» وتهديده للإمبراطورية البيزنطية

و «أوربا» ، خاصة بعد معركة «ملاذكرد» ، سببًا فى قيام الحروب

الصليبية.

فقد عقد البابا «إربان الثانى» مجمع «كليرمونت» فى (18 من

نوفمبر سنة 1095م = 28 ذى القعدة سنة 488هـ)، وألقى فيه خطابًا

طالب فيه المسيحيين فى «أوربا» بالقيام بحرب دينية (صليبية) تهدف

إلى مساعدة إخوانهم المسيحيين فى الشرق، وتخليص الأماكن

المسيحية من قبضة المسلمين، وطرد «السلاجقة» من «آسيا

الصغرى».

ص: 81

وكان من الطبيعى أن يقوم «السلاجقة» بالتصدى لتلك الحروب

وحماية العالم الإسلامى من أخطارها، ولكن ذلك لم يحدث بسبب تمزق

دولتهم بعد وفاة «ملكشاه» ، واشتعال الصراع فيما بينهم للسيطرة

على «الشام» ؛ مما أدى إلى اضطراب الأمور وإتاحة الفرصة لنجاح

الحملة الصليبية الأولى (1096 - 1099م = 489 - 491هـ).

فقد اكتسح الصليبيون قوات «سلاجقة» الروم فى «آسيا الصغرى»

بقيادة الحاكم السلجوقى «قلج أرسلان» ، ثم تقدموا فى اتجاه مدينة

«الرهابين» : «الموصل» و «الشام» ، فاستولوا عليها وتوجَّهوا إلى

«أنطاكية» فحاصروها حتى استسلمت وفر أميرها السلجوقى

«باغى سيان» ، وساروا بعد ذلك إلى «معرة النعمان» التى ينتسب

إليها الشاعر المشهور «أبو العلاء المعرى» ، فحاصروها حتى

استسلم أهلها فقتلوا منهم ما يزيد على مائة ألف، ثم جاء فتح

الصليبيين الأكبر بالاستيلاء على «بيت المقدس» فى (رمضان سنة

492هـ = يوليو سنة1099م) بعد محاصرته عدة أسابيع، وارتكب فيه

الصليبيون مذبحةً تقشعر لها الأبدان؛ حيث قتلوا ما يزيد على سبعين

ألفًا منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعُبَّادهم

وزهَّادهم، الذين كانوا يتعبدون بجوار «بيت المقدس» .

وقد وقف «السلاجقة» عاجزين أمام طوفان الصليبيين، فقد كانت

أوضاع دولتهم تنتقل من سيئ إلى أسوأ، وكانت الخلافة العباسية

جسمًا بلا روح، ولم يكن وضع الفاطميين فى «مصر» يتيح لهم

مواجهة الصليبيين.

وظل الأمر كذلك حتى ولى السلطان «محمود بن محمد بن ملكشاه»

«عماد الدين زنكى» إمارة «الموصل» والبلاد التابعة لها، فكان ذلك

فاتحة خير للمسلمين؛ حيث استطاع «عماد الدين زنكى» مد نفوذه

إلى «الجزيرة» و «الشام» ، فاستولى على «حلب» سنة (522هـ =

1128م)، وعلى «حماة» سنة (523هـ = 1129م)، ونذر نفسه للجهاد

المقدس ضد الصليبيين، وكان أعظم إنجاز حققه «زنكى» فى هذا

المجال استرداده مدينة «الرها» من الصليبيين فى (جمادى الآخرة

ص: 82

سنة 539هـ = ديسمبر سنة 1144م).

وقد أعد «عماد الدين زنكى» أبناءه الثلاثة «نور الدين محمود» ،

و «سيف الدين غازى» ، «وقطب الدين مودود» لمواصلة الجهاد المقدس

ضد الصليبيين.

فاستطاع «نور الدين محمود» الذى خلف أباه على حكم «سوريا»

سنة (541هـ = 1146م) أن يؤمن فتوحات والده فى «الرها» ، وأن

ينزل هزيمة ساحقة بحاكم «الرها» الصليبى «جوسلين» ، وتمكن من

أسره سنة (546هـ = 1151م) كما حقق فتوحات عظيمة فى إمارة

«أنطاكية» وقتل أميرها «ريموند» فى (ربيع الأول سنة544 هـ =

يوليو سنة 1149م).

ويرجع إلى «نور الدين محمود» الفضل فى استمرار حركة الجهاد

الإسلامى ضد الصليبيين ووصولها إلى ذروتها على يد السلطان

«صلاح الدين الأيوبى» الذى تربى فى خدمة «نور الدين محمود» ،

وتشرَّب على يديه حب الجهاد دفاعًا عن الإسلام، واستطاع أن يفتح

«مصر» فى حياة «نور الدين» لتنضم إلى «الشام» وتتم عملية تطويق

الصليبيين.

وعقب وفاة «نور الدين محمود» فى (شوال سنة 569هـ = إبريل

سنة1174م) أصبح «صلاح الدين الأيوبى» سلطان «مصر» و «الشام» ،

واستطاع أن يحقق أروع انتصار فى تاريخ الجهاد الإسلامى ضد

الصليبيين فى معركة «حِطِّين» سنة (583هـ = 1187م)؛ حيث استرد

المسلمون «بيت المقدس» .

ثالثًا: الباطنية والسلاجقة:

«الباطنية» فرقة تجعل الباطن أساسًا لفهم أمور الدين ولا تعتمد على

الظاهر، وتلجأ إلى تأويل النصوص وتضم هذه الفرقة «القرامطة» ،

و «الخُرَّمية» ، و «الإسماعيلية» ، و «الحشاشين» .

وقد ظهرت «حركة الباطنية» فى العصر السلجوقى بصورة أقلقت

سلاطين «السلاجقة» ، واستنفذت الكثير من جهودهم، فقد استطاع

زعيمهم «الحسن بن الصباح» الاستيلاء على عدة قلاع حصينة فى

«فارس» ، أشهرها قلعة «أَلَموت» بنواحى «قزوين» ، التى ظلت

معقل «الحركة الباطنية» لما يقرب من قرنين من الزمان.

وقد حاول «نظام الملك» أن يضع حدا لنفوذ «الباطنية» وأمر

ص: 83

بمطاردتهم فى كل مكان، وأرسل جيشًا للاستيلاء على «ألموت»

ولكنه قتل فى (رمضان سنة 485هـ = أكتوبر سنة 1092م)، ورجح

المؤرخون قيام «الباطنية» بقتله.

وقد قام «السلاجقة» بمحاولات متتالية لتصفية قواعد «الباطنية»

ومحاصرة نشاطهم، نجح بعضها، وواجه بعضها الفشل.

وكان السلطان «ملكشاه» أول سلاطين «السلاجقة» الذين حاولوا

مواجهة خطر «الباطنية» ، فأرسل إليهم جيشًا بقيادة «أرسلان

طاسن»، ولكنه هزم هزيمة منكرة.

وتعتبر الجهود التى قام بها السلطان «غياث الدين محمد بن ملكشاه»

ضد «الباطنية» أخطر ما واجهته هذه الحركة فى عهد «السلاجقة» ،

ففى سنة (500هـ= 1107م) توجه السلطان «محمود» بنفسه إلى

«أصبهان» لحرب «الباطنية» الذين كانوا يعتصمون بقلعة «شاهْدَز»

المنيعة بزعامة «أحمد بن عبدالملك بن عطاش» ، وقد نجح السلطان

«محمد» فى الاستيلاء على هذه القلعة وقتل زعيمها «ابن عطاش»

وكثيرًا من «الباطنية» فى (ذى القعدة سنة 500هـ = يونيوسنة 1107

م).

وفى عهد السلطان «معز الدين سنجر» (511 - 552هـ = 1117 -

1157م) قتل «الباطنية» وزيره «معين الملك أبا نصر أحمد بن الفضل»

سنة (521هـ = 1127م)، وأدرك السلطان مدى خطورتهم، فاتبع معهم

سياسة المهادنة.

ورغم وفاة زعيم «الباطنية» «الحسن بن الصباح» سنة (518هـ=

1124م) فإن «السلاجقة» لم يستطيعوا استرداد قلعة «ألموت» منهم،

فظلت تحت سيطرتهم حتى استولى عليها المغول سنة (654هـ=

1256م)، ولم ينحصر نشاط «الإسماعيلية الباطنية» فى عهد

«السلاجقة» فى بلاد «فارس» ، بل امتد إلى «الشام» ، وكانت له

آثاره المدمرة، واتسع نشاطهم فى «حلب» فى عهد أميرها

السلجوقى «رضوان بن تُتُش بن ألب أرسلان» (488 - 507 هـ = 1095

- 1113م)، وحينما تصدى لهم أمير دمشق» «تاج الملوك بورى بن

طغتكين» سنة (523هـ = 1129م)، وقتل منهم آلافًا تربصوا به

وهاجموه سنة (525هـ = 1131م) وجرحوه جراحات خطيرة، تُوفِّى

متأثرًا بها فى العام التالى.

ص: 84

وكان من أخطر محاولات «الباطنية» لاغتيال خصومهم محاولتهم

اغتيال السلطان «صلاح الدين الأيوبى» أكثر من مرة فاشلة.

وقد أثرت المتاعب التى أثارها «الباطنية» فى وجه «السلاجقة» فى

قدرتهم على القيام بدور أكثر إيجابية فى التعامل مع الصليبيين.

وقد ارتبط اسم «الحشاشين» بالباطنية الإسماعيلية فى الفترة التى

أعقبت استيلاءهم على قلعة «ألموت» سنة (483هـ = 1090م) فى

أواخر عهد السلطان «ملكشاه» ، وحتى سقوط معاقلهم فى «فارس»

و «الشام» على يد المغول، وسبب ذلك أنهم كانوا يطلبون من الذين

يتم تكليفهم بالقيام بعمليات الاغتيال تعاطى مادة الحشيش المخدرة

حتى يصبحوا أدوات طيعة فى أيدى من يستخدمونهم لتنفيذ هذه

العمليات.

رابعًا: سقوط الخلافة الفاطمية ودخول مصر تحت لواء الخلافة

العباسية (567هـ = 1171م):

ظلت «مصر» خاضعة للفاطميين أكثر من قرنين تعاقب خلالها على

كرسى الخلافة الفاطمية بمصر أحد عشر خليفة، ابتداءً بالمعز لدين

الله وانتهاءً بالعاضد لدين الله، الذى عادت «مصر» فى عهده إلى

الخلافة العباسية فى (المحرم سنة 567هـ = سبتمبر 1171م)، فبعد

وفاة الخليفة الفاطمى «الفائز بنصر الله» فى رجب سنة (555هـ)

تولى «العاضد بالله» ، آخر خلفاء الفاطميين، عرش «مصر» ، وكان

صبيا لم يبلغ الحلُم، فأشرف وزيره «طلائع بن رُزِّيك» الأرمنى على

تدبير شئون البلاد، حتى قتل فى (رجب سنة 556هـ = يونيو

سنة1161م) بتدبير من حاشية «العاضد» - فتولى الوزارة بعده ابنه

«رُزِّيك بن طلائع» ، الذى قتل أيضًا فى سنة (558هـ = 1163م)، على

يد أحد منافسيه وهو «شاور بن مجير السعدى» الذى تولى الوزارة

بعده.

كان «شاور» انتهازيا سيئ الطبع، خبيثًا سفاكًا للدماء، أساء

معاملة الرعية، فثار عليه أحد القادة المشهورين فى «مصر» وهو

«ضِرْغام بن عامر» ، واستطاع هزيمته هزيمة ساحقة وكان ذلك بداية

الطريق لانتهاء النفوذ الفاطمى فى «مصر» .

ص: 85

لجأ «شاور» بعد هزيمته إلى السلطان «نور الدين محمود» بالشام،

وأطمعه فى ملك «مصر» ، فأرسلَ معه حملة للاستيلاء على «مصر»

بقيادة «أسد الدين شيركوه بن شاوى الكردى» عم «صلاح الدين

الأيوبى»، فدخل «القاهرة» فى أواخر (جمادى الآخرة سنة 559هـ =

مايو سنة 1164م)، وقتل «ضرغام» ، وأعاد «شاور» للوزارة فى

(رجب سنة 559هـ = مايو سنة 1164م)، إلا أن «شاور» غدر بعهده مع

السلطان «نور الدين محمود» وقائده «أسد الدين» ، فطلب من «أسد

الدين» العودة إلى «الشام» فرفض واتجه إلى مدينة «بلبيس» ،

واستولى عليها وتحصن بها.

استعان «شاور» بملك «بيت المقدس» الصليبى «أملريك» الذى تسميه

المصادر العربية «مُرِّى» ، وشرح له ما قد يتعرض له الفرنج من مخاطر

إذا استولى السلطان «نور الدين محمود» على «مصر» ، فاستجاب له

«أملريك» وتقدم بجيشه نحو «مصر» ؛ حيث اتجه مع «شاور» إلى

«بلبيس» لمحاصرة «أسد الدين شيركوه» ، إلا أن الأخبار جاءت إلى

«أملريك» بأن «نور الدين محمود» انتهز فرصة غيابه عن «فلسطين»

فهاجمها واستولى على بعض قلاعها، فاضطر «أملريك» إلى رفع

الحصار عن «أسد الدين شيركوه» والتفاوض معه على العودة إلى

«الشام» ، فتوجه «أسد الدين» إلى «الشام» فى (ذى الحجة سنة

559هـ = أكتوبر 1164م).

وفى (ربيع الآخر سنة 562هـ= فبراير سنة 1167م) قاد «أسد الدين»

حملته الثانية على «مصر» ، بعد استئذان السلطان «نور الدين

محمود»، فاستنجد «شاور» بالصليبيين وملك «بيت المقدس»

«أملريك» ، والتقى الطرفان فى مكان يسمى «البابين» بنواحى

المنيا بصعيد «مصر» فى (25 جمادى الآخرة سنة 562هـ = إبريل سنة

1167م)، واستطاع «أسد الدين شيركوه» أن يهزم جيش «أملريك»

و «شاور» رغم قلة جنده، كما استولى على «الإسكندرية» وأناب

عليها ابن أخيه «صلاح الدين» ، واستولى على الصعيد.

وقد حاول الفرنج انتزاع «الإسكندرية» من «صلاح الدين» فحاصروها

ص: 86

عدة أشهر بلا فائدة، فتم الاتفاق بين الفرنج و «أسد الدين» على

تسليم «الإسكندرية» لشاور مقابل حصول «أسد الدين» على خمسين

ألف دينار وانسحاب الفرنج من «مصر» .

وتطورت الأحداث فى «مصر» بصورة خطيرة، فقد حاول ملك «بيت

المقدس» «أملريك» السيطرة على «مصر» بمعاونة «شاور» ،

فاستولى على «بلبيس» فى (صفر 564هـ = نوفمبر سنة 1168م)

وتوجه إلى «القاهرة» وحاصرها، مما دفع الخليفة الفاطمى

«العاضد» إلى أن يستغيث بالسلطان «نور الدين محمود» ، الذى

أرسل إليه حملة بقيادة «أسد الدين شيركوه» ومعه ابن أخيه «صلاح

الدين»، فرفع الفرنج الصليبيون حصارهم عن «القاهرة» وتركوا

«مصر» قبل وصول جيش «أسد الدين شيركوه» ، فأصبح الطريق

ممهدًا أمام «أسد الدين» ، ودخل «القاهرة» فى (7 من ربيع الآخر

سنة 564هـ = 8 من يناير 1169م)، وقتل «شاور» بإذن من الخليفة

«العاضد» فى (17 ربيع الآخر سنة 564هـ = 18 من يناير سنة 1169م)

وأصبح «أسد الدين شيركوه» وزيرًا للخليفة «العاضد» ، وبعد وفاته

فى (22 من جمادى الآخرة سنة 564هـ) تولى ابن أخيه «صلاح

الدين» الوزارة ولقبه «العاضد» بالملك الناصر، فانتهى نفوذ

الفاطميين الفعلى فى «مصر» وأصبحت خلافتهم شكلية فقط.

وعقب تولى «صلاح الدين» الوزارة، بدأ يمهد الأمور للقضاء التام

على النظام الفاطمى فى «مصر» ، فاستقل بالأمور، ومنع الخليفة

«العاضد» من التصرف فى شئون البلاد، ثم عزل قضاة «مصر»

الشيعة سنة (566هـ = 1171م)، وعين «عبدالملك بن درباس» من كبار

فقهاء الشافعية فى منصب «قاضى القضاة» ، وأوقف الأذان بحى

على خير العمل فى ديار «مصر» كلها، وهى العبارة التى تقحمها

الشيعة فى صيغة الأذان المعروفة.

وفى (الجمعة الثانية من شهر المحرم سنة 567هـ = سبتمبر سنة

1171م) أمر «صلاح الدين» خطباء «مصر» بقطع الخطبة للعاضد وأن

يخطبوا للخليفة العباسى المستضىء، وبذلك سقطت الخلافة الفاطمية

ص: 87

فى «مصر» ، وخضعت «مصر» مرة ثانية للخلافة العباسية، مما كان

له صدى هائل من الفرح والبهجة فى مجتمع أهل السنة فى جميع

بقاع العالم الإسلامى.

وقد تُوفِّى الخليفة «العاضد» فى (العاشر من المحرم سنة 567هـ =

13 من سبتمبر سنة 1171م) بعد قطع الخطبة له وانتهاء خلافته بأيام

قليلة.

جدير بالذكر أن «صلاح الدين» كان يحكم «مصر» فى ذلك الوقت

نائبًا عن السلطان «نور الدين محمود» ، الذى كان خاضعًا للخليفة

العباسى ببغداد من الناحية الشكلية، وقد تُوفِّى «نور الدين محمود»

فى (11 من شوال سنة 569 هـ = أبريل سنة 1174م)، مما مهد الطريق

أمام «صلاح الدين» للاستقلال بحكم «مصر» ، وضم ممتلكات «نور

الدين» فى «الشام» إلى «مصر» ؛ حيث قامت «الدولة الأيوبية» التى

كانت تدين بالولاء الرسمى للخلافة العباسية.

خامسًا: تطور علاقة السلاجقة بالخلفاء العباسيين:

رغم تعدد روابط المصاهرة بين «السلاجقة» والعباسيين واحترام

السلاطين «السلاجقة» لمنصب الخلافة وإذعانهم له فقد حدث نزاع بين

الطرفين فى بعض الأوقات، وصل أحيانًا إلى استخدام السيف، فبعد

أن بايع الخليفة «المقتدى» ولده «المستظهر بالله» بولاية العهد،

اعترض السلطان «ملكشاه» على ذلك وألزم الخليفة بخلعه وتعيين

ابنه الأصغر «جعفر» وليا للعهد؛ لأنه كان ابن بنت السلطان. كما أمر

السلطان الخليفة بأن يسلم له «بغداد» وأن يخرج إلى «البصرة» ،

فشق ذلك على الخليفة ولم ينقذه من ذلك إلا وفاة السلطان.

وفى عهد الخليفة «المسترشد بالله» (512 - 529هـ = 1118 - 1135م)

وابنه «الراشد بالله» (529 - 530 هـ = 1135 - 1136م) تعرضت العلاقة

بين «السلاجقة» والخلفاء إلى أزمة خطيرة انتهت بقتل الأول وخلع

الثانى.

سادسًا: ظهور الدولة الخوارزمية وقضاؤها على السلاجقة:

نشأت «الدولة الخوارزمية» فى ظلال «دولة السلاجقة» ، فقد ظهر فى

عهد «ملكشاه الأول» مملوك تركى اسمه «أنوشتكين» ، تمتع بتقدير

ص: 88

خاص فى بلاط «السلاجقة» ، وبسبب ما كان يتمتع به هذا المملوك من

حسن الخلق والشجاعة، فقد ولاه السلطان «ملكشاه» ولاية

«خوارزم» .

وعندما تُوفِّى «أنوشتكين» سنة (490هـ = 1097م)، تولى ابنه

«محمد» إمارة «خوارزم» ، وكان يلقب «قطب الدين» ، و «خوارزم

شاه» أى أمير «خوارزم» ، واستمر فى الإمارة ثلاثين عامًا، أسس

خلالها «الدولة الخوارزمية» .

وعقب وفاة مؤسس «الدولة الخوارزمية» سنة (522هـ = 1128م) خلفه

فى منصبه ابنه «أتسز» ، بموافقة السلطان «سنجر» ، وتلقب بأبى

المظفر علاء الدولة، ورغم أن علاقة «أتسز» بسنجر بدأت طيبة كما

كانت فى عهد أبيه «محمد» ، فإنها لم تلبث أن تدهورت بعد أن

أظهر «أتسز» رغبته فى الاستقلال عن «السلاجقة» ، مما دعا

السلطان «سنجر» إلى مهاجمته وإجباره على الاستسلام، وقد تُوفِّى

«أتسز» عام (551هـ = 1156م) قبل وفاة «سنجر» بعام.

وقد تميز عهد «أتسز» فى «خوارزم» بازدهار الحركة العلمية

والفكرية، وارتبط بهذا العهد اسم عالم من أشهر رجال الفكر

الإسلامى هو «جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشرى

الخوارزمى» صاحب الإنتاج الوافر فى علوم التفسير والكلام والنحو

واللغة، ومن أشهر مؤلفاته:«الكشاف» فى تفسير القرآن الكريم.

وتولى سلطنة «خوارزم» بعد «أتْسِز» ابنه «إيل أرسلان» (تاج الدين

أبو الفتح)، الذى استمر فى الحكم من سنة (551 هـ = 1156م) إلى

سنة (567هـ = 1172م)، ثم تولَّى بعده ابنه الأصغر «سلطان شاه»

الذى دخل فى صراع مع أخيه الأكبر «علاء الدين تَكَشْ» حول

السلطة، وانتهى باستيلاء «تَكَشْ» على «خوارزم» سنة (568هـ =

1173م).

وتعد فترة حكم «تكش» (568 - 596 هـ = 1173 - 1300م) العصر

الذهبى للدولة الخوارزمية، فقد استطاع أن يمد حدود إمارته الصغيرة

إلى «الهند» و «الخليج الفارسى» جنوبًا، وإلى «الفرات» و «شمال

الفولجا» غربًا.

ومما أضفى مزيدًا من الأهمية على حكم «تكش» انتصاره على

ص: 89

السلطان السلجوقى «طغرل الثالث» (51) (571 - 590 هـ = 1175 -

1194م)، فى المعركة التى وقعت قرب «الرى» والتى انتهت بقتل

السلطان السلجوقى وانهيار «دولة السلاجقة» فى شهر (ربيع الأول

سنة 590هـ = مارس 1194م).

وقد ترتب على ذلك سيطرة «تكش» على معظم البلاد التى كانت

خاضعة لنفوذ سلاجقة «العراق» ، وأهمها «همذان» و «أصفهان»

و «الرى» ، وصارت بلاد «الجبل» أو ما يسمى «العراق العجمى» من

أملاك «الدولة الخوارزمية» .

وقد حاول الخليفة العباسى «الناصر لدين الله» (أبو العباس أحمد بن

المستضىء) أن يضع حدا لأطماع «تكش» ونفوذه، وكان ذلك بداية

المرحلة الأخيرة فى العصر العباسى الثانى.

ص: 90

الفصل السابع

*عصر ما بعد السلاجقة

[590 - 656هـ =1194 - 1258 م]

تعاقب فى منصب الخلافة فى هذا العصر أربعة خلفاء هم:

1 -

الناصر لدين الله (590 - 622هـ = 1194 - 1225م).

2 -

الظاهر بأمر الله (أبو نصر محمد بن الناصر لدين الله) (622 - 623هـ

= 1225 - 1226م).

3 -

المستنصر بالله (أبو جعفر منصور بن الظاهر بأمر الله) (623 - 640

هـ = 1226 - 1242م).

4 -

المستعصم بالله (أبو أحمد عبدالله بن المستنصر بالله) (640 -

656هـ = 1242 - 1258م).

أما أول هؤلاء الخلفاء - وهو «الناصر لدين الله» - فقد حاول أن يضع

حدا لطموح «علاء الدين تكش» ، الذى أراد أن يتنازل له الخليفة عن

السلطة المدنية فى «بغداد» ، وأن يكتفى بالسلطة الاسمية على

العالم الإسلامى، فأشعل الخليفة فتيل الصراع بينه وبين سلطان

الغور «غياث الدين محمد بن بهاء الدين» ، ونشبت بينهما الحرب سنة

(594هـ = 1198م) وانتهت بهزيمة «تكش» .

ولم يكتفِ الخليفة «الناصر» بالاستعانة بالغوريين لإضعاف نفوذ

الخوارزميين، بل إنه استعان بالإسماعيلية الباطنية، وطلب من التتار

(المغول) مساعدته فى القضاء على نفوذ أمراء «خوارزم» ، فكان

«الناصر» كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ حيث قضى التتار على

«الدولة الخوارزمية» ، وقضوا على «الخلافة العباسية» أيضًا.

ظهور المغول والقضاء على الدولة الخوارزمية:

المغول اسم أطلقه «جنكيز» على أتباعه، وهم شعب وثيق الصلة

بالترك فى اللغة والشكل، يقيم فى المنطقة الواقعة ما بين «الصين»

و «سيبريا الجنوبية» والمنطقة المعروفة اليوم باسم «منغوليا» .

ويرى بعض الباحثين أن «المغول» كلمة أوسع دلالة من «التتار»

الذين يمثلون جزءًا من المغول، ولكن الاستعمال الشائع الآن يسوى

بين الكلمتين فى الدلالة.

وقد كان المغول قبائل صغيرة تعيش فى فقر وانحطاط، واستطاع

«جنكيز خان» فى أواخر القرن السادس الهجرى (الثانى عشر

الميلادى) أن يوحِّد هذه القبائل لتصبح «منغوليا» كلها تحت سلطانه

ص: 91

سنة (603هـ = 1206م)، وقد تلقب منذ ذلك الحين بلقب «إمبراطور» ،

وعرف باسم «جنكيز خان» بدلاً من اسمه الأصلى «تموُين» أو

«تيمورُى» .

وقد استطاع «جنكيز خان» تكوين إمبراطورية شاسعة، ففى سنة

(612هـ = 1215م) استولى على «بكين» وفى ذى الحجة سنة (616هـ

= 1219م) استولى على مدينة «بخارى» عاصمة «ما وراء النهر»

وأشعل فيها النار، فحولها إلى كومة رماد، وقتل من أهلها ثلاثين

ألفًا.

وفى (10 من المحرم سنة 617هـ = 17 من مارس سنة 1220م) استولى

على «سمرقند» ؛ فسوَّاها بالأرض بعد أن قتل أهلها بلا رحمة.

وفى (شوال سنة 617هـ = نوفمبر سنة 1220م) تُوفِّى السلطان «علاء

الدين محمد بن تكش» بعد أن استبد به الغم بسبب سقوط «ما وراء

النهر» فى يد المغول واقترابهم من «خوارزم» ، فتولى بعده ابنه

«جلال الدين منكوبردى» ، الذى يعرف عادة باسم «جلال الدين

منكبرتى»، وهو آخر سلاطين «خوارزم» .

وفى أوائل عهد «جلال الدين» سنة (618هـ = 1221م) استولى

المغول على «خوارزم» بعد حصار دام خمسة أشهر، وسقطت بذلك

«الدولة الخوارزمية» ببلاد «ما وراء النهر» ، وفر السلطان «جلال

الدين» متنقلاً فى عدة بلاد حتى قتله جماعة من الأكراد الناقمين

بإحدى قرى «ميافارفين» ، فى منتصف (شوال سنة 628هـ =

أغسطس سنة 1231م)، ففقد المسلمون بطلاً كانوا يطمعون فى

توحيد صفوفهم تحت لوائه لإيقاف طوفان المغول الجارف.

وقد تُوفِّى الخليفة «الناصر» فى أواخر (رمضان سنة 622هـ = سبتمبر

1225م) وعمره نحو سبعين عامًا، بعد أن استمر فى الحكم سبعةً

وأربعين عامًا. وقد شهدت خلافته سقوط «دولة السلاجقة» ، وظهور

قوة المغول، وإسقاطهم «الدولة الخوارزمية» ، وتهديدهم للعالم

الإسلامى كله، وكانت الخلافة العباسية قد فقدت معظم أرضها ولم

تعد كلمة الخليفة مسموعة إلا فى بعض «العراق» ؛ فأصبحت الخلافة

شكلاً بلا مضمون ووقفت عاجزة أمام هذه الأحداث التى زلزلت كيان

الأمة الإسلامية كلها.

ص: 92

وقد تولى الخلافة بعد «الناصر» ابنه «أبو نصر محمد» الملقب

بالظاهر بأمر الله، وكان حسن السيرة، عادلاً، لكن خلافته لم تطل،

فقد تُوفِّى فى (14 من رجب سنة 623هـ = 11 من يوليو سنة 1226م)،

فلم يدم فى الخلافة عامًا.

وتولى الخلافة بعد الظاهر بأمر الله ابنه «أبو جعفر المنصور» الملقب

بالمستنصر بالله، فسار على طريقة أبيه فى العدل والإحسان

وتقريب أهل العلم والدين، وقمع المتمردين، ولكن الظروف القاسية

التى أحاطت بالخلافة فى ذلك الوقت قيدت الخلفاء وشلت قدرتهم

على العطاء، فقد تصاعد خطر المغول فى خلافة «المستنصر بالله»

(623 - 640هـ = 1226 - 1242م)، وأصبح على أبواب «العراق» ، حيث

تعرضت «الجزيرة» فى شمال «العراق» لهجمات المغول المدمرة.

وقد اجتمع على المسلمين فى هذه الفترة الخطر المغولى القادم من

الشرق، والخطر الصليبى القادم من الشمال، وانشقاق البيت الأيوبى

على نفسه عقب وفاة «صلاح الدين الأيوبى» ، ولم يستطع الخليفة

«المستنصر» أن يفعل شيئًا لعدم قدرته على ذلك.

وبعد وفاة الخليفة «المستنصر» فى (جمادى الآخرة سنة 640هـ =

نوفمبر سنة 1242م) تمت البيعة لابنه «أبى أحمد عبدالله» الملقب

بالمستعصم بالله، وهو آخر الخلفاء العباسيين فى «العراق» ، وكان

عمره حينئذٍ ثلاثين عامًا.

ورغم أن «المستعصم بالله» كان موصوفًا بالصلاح والتمسك بالسنة

فإنه لم يكن كأبيه «المستنصر» أو جده «الناصر» فى التيقظ والحزم

وعلو الهمة.

ومما زاد الموقف سوءًا استعانته منذ سنة (642هـ = 1244م) بوزير

غير ثقة هو مؤيد الدين «أبو طالب محمد بن أحمد العلقمى» ، الذى

وصفه المؤرخون بأنه كان رافضيا خبيثًا حريصًا على زوال «الدولة

العباسية»، ونقل الخلافة إلى العلويين، ويقال إنه راسل المغول

وأطمعهم فى القدوم إلى «بغداد» ، حتى ينجو من القتل عندما

يدخلونها.

وقد شهدت خلافة «المستعصم» حدثًا خطيرًا كانت له آثاره البعيدة

ص: 93

فى التاريخ الإسلامى هو انتهاء حكم «الأسرة الأيوبية» فى «مصر»

وبداية حكم المماليك، سنة (648هـ = 1250م)، وكان الملك المعظم

«توران شاه» آخر حكام الأيوبيين فى «مصر» ، ولم يستمر حكمه

شهرًا، فقد تولى الحكم فى أول شهر (المحرم سنة 648هـ = منتصف

إبريل سنة 1250م)، وقتل فى السابع والعشرين من الشهر نفسه

بتدبير زوجة أبيه «الملك الصالح» المعروفة باسم «شجرة الدر» التى

تولت الحكم بعده وتزوجت «عزالدين أيبك التركمانى» ، أحد مماليك

زوجها الراحل «نجم الدين أيوب» ، ثم خلعت نفسها من الحكم بعد

ثلاثة أشهر هى صفر وربيع الأول وربيع الثانى من عام (648هـ =

1250م)، وتولى زوجها «المعز أيبك» حكم «مصر» ، وكان ذلك بداية

العصر المملوكى فى «مصر» .

وقد استمر الملك «عزالدين أيبك» فى حكم «مصر» سبع سنوات، ثم

قُتل فى الثالث والعشرين من شهر (ربيع الأول سنة 655هـ = 10 من

إبريل سنة 1257م) بتدبير زوجته «شجرة الدر» ، حين أراد الزواج

عليها، فتولى الحكم بعده ابنه «الملك المنصور نور الدين على ابن

أيبك»، وكان صبيا فى الخامسة عشرة من عمره، لا يحسن تدبير

الأمور، فتم خلعه بعد ولايته بنحو سنتين وثمانية أشهر فى (17 من

ذى القعدة سنة 657هـ = 5 من نوفمبر سنة 1259م)، وتولى زمام

السلطة بعده «الملك المظفر سيف الدين قطز» ، الذى كان له شأن

كبير فى الجهاد الإسلامى ضد المغول.

سقوط بغداد فى يد المغول وانهيار الخلافة العباسية فى العراق

[656هـ = 1258م]:

تصاعد خطر المغول فى خلافة «المستعصم بالله» ، وخرج قائدهم

«هولاكو» (61) - حفيد «جنكيزخان» - على رأس جيش يبلغ تعداده

مائتى ألف قاصدًا «العراق» ، وأرسل إلى الخليفة «المستعصم»

يطالبه بالاستسلام والدخول فى طاعته، لكن الخليفة أرسل بعض

الهدايا إلىهولاكو.

وقد وصل جيش «هولاكو» إلى «بغداد» فى شهر (المحرم سنة 656هـ

= يناير سنة 1258م) وأحاط بعاصمة الخلافة، وكان جيش «بغداد»

ص: 94

قليل العدد لايبلغ عشرة آلاف فارس، بعد أن كان مائة ألف فى عهد

الخليفة «المستنصر» ، ولم يصمد جيش «بغداد» طويلاً فى مواجهة

المغول، فاقتحمت قوات «هولاكو» «بغداد» فى (10 من المحرم سنة

656هـ = 17 من يناير سنة 1258م)، وقبض «هولاكو» على الخليفة

«المستعصم» وأهل بيته، بتدبير من وزيره الخائن «ابن العلقمى» ،

كما تم القبض على عدد كبير من علماء «بغداد» وأعيانها وأمرائها،

وتم قتلهم جميعًا، واستمر القتال فى «بغداد» أربعين يومًا، وبلغ

عدد القتلى أكثر من مليون شخص، وكانت بلية لم يُصب الإسلام

بمثلها.

وهكذا أسقط المغول «الخلافة العباسية» فى «بغداد» سنة (656هـ=

1258م)، بعد أكثر من خمسة قرون من قيامها سنة (132هـ = 749م)،

وقد ظن المغول أن سقوط الخلافة العباسية قد مهد الطريق أمامهم

لاكتساح العالم الإسلامى ولكن آمالهم تحطمت على صخرة الجهاد

الباسل فى معركة «عين جالوت» بفلسطين فى رمضان سنة (658هـ

= 1260م)، بقيادة سلطان «مصر» المملوكى «قطز» ، مما مهد الطريق

لإحياء الخلافة العباسية فى «مصر» على يد السلطان «الظاهر

بيبرس» سنة (659هـ = 1261م).

ص: 95

الفصل الثامن

*الأوضاع الحضارية فى العصر العباسى الثانى:

رغم المشاكل السياسية العديدة التى شهدتها دولة الخلافة العباسية

فى عصرها الثانى فإن اللافت للنظر أن هذه الحقبة تُعدّ أخصب

عصور التاريخ الإسلامى فى عطائها الحضارى المتعدد الجوانب.

وسنكتفى هنا بتقديم نبذة مختصرة عن أهم هذه الجوانب:

1 -

الجانب الثقافى:

نشطت حركة التأليف فى فروع العلم المختلفة نشاطًا ملحوظًا طوال

هذه الفترة وقدمت دولة الخلافة المترامية الأطراف علماء أفذاذًا

يعترف لهم العالم كله - حتى يومنا هذا - بالفضل والمكانة.

ففى مجال علوم الحديث: يتألق اسم عمدة المحدِّثين الإمام البخارى

المتوفى سنة (256هـ = 870م) هذا بالإضافة إلى مجموعة أخرى من

أعلام المحدثين لعل أبرزهم الإمام مسلم المتوفى سنة (261هـ =

875م)، وأبو داود المتوفى سنة (275هـ= 888م)، وابن ماجة المتوفى

سنة (273هـ = 886م)، والترمذى المتوفى سنة (279 هـ = 892م)،

والنَّسائى المتوفى سنة (303هـ = 915م)، وهؤلاء هم أصحاب

الصحاح المعروفون.

وقد برز من غير أصحاب الصحاح أيضًا عدد من أئمة المحدثين، من

أمثال داود الظاهرى المتوفى سنة (270هـ = 883م) وأبى الحسن

الدَّارَقُطْنى المتوفى سنة (385هـ = 995م)، الذى يصفه ابن كثير بأنه

كان «فريد عصره ونسيج وحده وإمام دهره فى أسماء الرجال

وصناعة التعليل والجرح والتعديل وحسن التصنيف والتأليف واتساع

الرواية والاطلاع التام فى الدراية». ومن هؤلاء أيضًا الحاكم

النيسابورى المتوفى سنة (405هـ = 1014م)، وقد عرف عنه أنه كان

من أهل الدين والأمانة والصيانة والضبط والتجرد والورع، سمع الكثير

وطاف الآفاق وصنف الكتب الكبار والصغار.

وفى مجال العلوم اللغوية وجدنا أعلامًا نابهين يضيق عنهم الحصر،

ومن هؤلاء محمد بن يزيد المبرِّد صاحب الكامل المتوفى سنة (285هـ

= 898م)، وقد كان إمام النحاة فى عصره، ومن النحاة المشهورين

ص: 96

أيضًا الزَّجَّاج المتوفى سنة (311هـ = 923م)، وقد احتل عالم اللغة

الشهير أبو على الفارسى (المتوفى ببغداد سنة 377هـ = 987م)

مكانة متميزة فى بلاط الملك البويهى «عضد الدولة» . وقد صنف

الفارسى لعضد الدولة كتاب «الإيضاح» و «التكملة» فى النحو، وكان

عضد الدولة يغدق عليه العطاء ويحيطه بمظاهر التكريم، وكان يقول:

«أنا غلام أبى على فى النحو» وممن عاصروا الفارسى من أعلام

اللغة أبو سعيد السيرافى المتوفى ببغداد سنة (368هـ = 979م)، وقد

ولى القضاء ببغداد. وكان السيرافى من أعلم الناس بنحو البصريين،

ومن بين مؤلفاته كتاب «أخبار النحويين البصريين» وكتاب «الوقف

والابتداء». يقول عنه ابن خلكان: «كان الناس يشتغلون عليه بعدة

فنون: القرآن الكريم والقراءات وعلوم القرآن والنحو واللغة والفقه

والفرائض والحساب والكلام والشعر والعروض والقوافى».

ويبرز أيضًا من بين علماء اللغة فى القرن (4هـ= 10م) ابن

فارس (أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا) المتوفى سنة (390هـ =

1000م) على أشهر الأقوال. ومن كتبه الذائعة الصيت كتاب «المجمل»

فى اللغة. وقد كان ابن فارس مقيمًا بهمذان، وله رسائل أدبية أنيقة

وأشعار رقيقة.

على أننا لا نستطيع فى هذا السياق أن نغفل اسم عالم يُعَدُّ من

أعظم علماء اللغة، لا فى العصر العباسى الثانى فحسب؛ بل على

امتداد العصور الإسلامية كلها، وهو «أبو الفتح عثمان بن جنى»

الذى ولد بالموصل وتوفى ببغداد سنة (392هـ = 1002م). ومن بين

كتبه الذائعة الشهرة الزاخرة بالقيمة فى مجال اللغة كتاب

«الخصائص» .

وله أيضًا «سر صناعة الإعراب» ، و «المذكر والمؤنث» ، و «المقصور

والممدود»، «واللمع» وغير ذلك. وقد شرح ابن جنى ديوان المتنبى

وكان من المعجبين بشعره. وكان ابن جنى صاحب حس أدبى مرهف،

وقد انعكس ذلك على كتاباته العلمية التى اتسم أسلوبها بالجمال

الأخَّاذ فضلاً عن الدقة البالغة.

ص: 97

وفى مجال الأدب - إبداعًا وتأليفًا - شهد هذا العصر نهضة تأخذ

بالألباب، فقد لمع فيه كوكبة من أعظم شعراء العربية، نذكر منهم -

على سبيل المثال لا الحصر- البحترى شاعر الخليفة المتوكل المتوفى

سنة (284هـ = 897م)، وقد اشتهر بلغته الموسيقية العذبة ووصفه

الرائع؛ وابن الرومى المتوفى سنة (283هـ = 896م)، وقد اشتهر

بقدرته على توليد المعانى وابتكار الصور المعبرة؛ والمتنبى

المتوفى سنة (354هـ = 965م) الذى مازال يحتل مكان السبق بين

شعراء العربية قديمًا وحديثًا، وقد خَصَّ سيف الدولة الحمدانى بعيون

مدائحه، كما مدح الملك البويهى عضد الدولة، وأمير مصر كافور

الإخشيدى وغير هؤلاء من أعيان عصره، ومن أبرز شعراء هذا العصر

أيضًا: الشريف الرضى الذى ينتهى نسبه إلى الحسين بن على بن

أبى طالب، كان وثيق الصلة بالخليفة القادر بالله (381 - 422 هـ =

991 -

1031م)، وتوفى ببغداد سنة (406هـ = 1015م)، وعَدَّه بعض

النقاد أشعر قريش. يقول عنه الثعالبى فى يتيمة الدهر: «هو أشعر

الطالبيين من مضى منهم ومن غبر، على كثرة شعرائهم المفلقين، ولو

قلت إنه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق، وسيشهد بما أخبر به شاهد

عدل، من شعره العالى القِدْح الممتنع عن القَدْح، الذى يجمع إلى

السلاسة متانة وإلى السهولة رصانة، ويشتمل على معانٍ يقرب

جناها ويبعد مداها».

ويحتل الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعرى مكانةً مرموقة بين

شعراء هذا العصر، وقد ولد فى عام (363هـ = 974م) فى معرة

النعمان، وهى بلدة صغيرة فى شمالى الشام بين حلب وحمص

وتوفى فى سنة (449 هـ = 1057م)، أى أنه عاش فى فترة النفوذ

البويهى وعاصر من خلفاء العباسيين الطائع لله والقادر بالله والقائم

بأمر الله، ولأبى العلاء ديوان «سقط الزند» و «لزوم ما لا يلزم»

المشهور باسم «اللزوميات» ، وسمى بذلك لأنه ألزم نفسه فيه بما لا

تفرضه عليه أصول القافية مما يدل على سعة باعه فى اللغة. ويُعَدُّ

ص: 98

أبو العلاء إمام الشعراء الذين صبغوا شعرهم بصبغة تأملية فلسفية.

وبجانب أصحاب الإبداع الشعرى ظهر مبدعون كثيرون فى ميدان

النثر الفنى فى العصر العباسى الثانى، ففى مطلع هذا العصر لمع

اسم الجاحظ (أبى عثمان عمرو بن بحر) المتوفى بالبصرة سنة

(255هـ = 869م). والجاحظ إمام المنشئين فى تاريخ الأدب العربى بلا

جدال.

كان على مذهب المعتزلة وكان موسوعى الثقافة متجدد الفكر، وقد

ترك أسلوبه بصمات واضحة على أساليب كثير ممن جاءوا بعده،

ومؤلفات الجاحظ عديدة وذائعة، تنمّ عن ذهن ناضج وفكر متدفق،

ومن أشهر كتبه: كتاب «الحيوان» و «البيان والتبيين» و «البخلاء» .

وله رسائل مختلفة طبعت تحت اسم «رسائل الجاحظ» ، وهى تتناول

موضوعات شتى.

ومن أبرز الذين تأثروا بالجاحظ وحاولوا أن ينهجوا نهجه أبو الفضل

محمد بن العميد المتوفى سنة (360هـ = 971م)، ولتمكنه فى فن

الإنشاء عرف باسم «الجاحظ الثانى» ، وهو الذى قيلت فيه العبارة

المشهورة: «بدئت الكتابة بعبدالحميد وختمت بابن العميد» ، وعبدالحميد

هنا هو: عبدالحميد بن يحيى كاتب مروان بن محمد آخر الخلفاء

الأمويين، عاش ابن العميد فى ظل البويهيين وعمل وزيرًا لركن الدولة

- الحسن بن بويه - وكان - كما يصفه ابن خلكان - «متوسعًا فى علوم

الفلسفة والنجوم، وأما الأدب والترسُّل فلم يقاربه فيه أحد فى

زمانه». ويصفه ابن الأثير بأنه كان من محاسن الدنيا، قد اجتمع فيه

ما لم يجتمع فى غيره من حسن التدبير وسياسة الملك، والكتابة التى

أتى فيها بكل بديع».

وقد صحب ابن العميد وتأثر به فى طرائقه «أبو القاسم إسماعيل بن

عباد» المعروف بالصاحب بن عباد. ولقب بالصاحب لصحبته لابن

العميد، وكان يقال له أحيانًا صاحب ابن العميد. وقد تولى الصاحب

بن عباد الوزارة لمؤيد الدولة بن ركن الدولة ثم لأخيه فخر الدولة،

وفضلاً عن براعة الصاحب فى فن الإنشاء - كأستاذه ابن العميد - فقد

ص: 99

كان محبًا للعلم ذواقة للأدب، كما كان شاعرًا جيد النظم. والجدير

بالذكر هنا أن كلا من ابن العميد والصاحب بن عباد كان له مجلس

يحفل بوجوه الشعراء والعلماء والمفكرين، وكان من بين المترددين

على مجلس ابن العميد أبو الطيب المتنبى شاعر العربية الأكبر، وقد

مدحه بقصيدة من عيون شعره، وتوفى الصاحب بن عباد بمدينة الرى

فى سنة (385هـ = 995م).

ومن الذين تميزوا فى مجال النثر الفنى بديع الزمان الهمذانى (وهو

أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى) الذى سكن هراة من بلاد

خراسان وتُوفِّى بها فى سنة (398هـ = 1008م) وكان ذلك فى خلافة

القادر بالله. وقد كتب بديع الزمان مقاماته الذائعة الصيت وأبدع

فيها، وهو أول من استوى على يده هذا الفن فى اللغة العربية. وقد

حذا حذوه ووصل بهذا الفن إلى مداه «أبو محمد القاسم بن على

الحريرى البصرى» الذى اعترف فى صدر مقاماته بأنه جعل مقامات

البديع مثالاً له. وقد توفى الحريرى فى حدود سنة (516هـ = 1122م)

بالبصرة إبان فترة نفوذ السلاجقة، وذلك فى خلافة المسترشد بالله.

والملاحظ أن شهرة مقامات الحريرى بلغت من الانتشار حدا تتضاءل

بجانبه شهرة مقامات الرائد الأول بديع الزمان. وتكشف مقامات

الحريرى عن البراعة الكبيرة لصاحبها فى التصرف فى اللغة

وتطويعها لما يريده من معان وأفكار، وهى إحدى الوسائل المهمة

لمن يبحثون عن إثراء ملكاتهم اللغوية.

وبجانب الإبداع الأدبى شعرًا ونثرًا تميز العصر العباسى الثانى

بظهور الكثير من الموسوعات الأدبية التى تُعَدّ مراجع أساسية لطلاب

المعرفة فى هذا المجال، ونكتفى هنا بذكر أمثلة لأبرز هذه

الموسوعات، وقد لمع فى هذا الجانب ابن قتيبة الدينورى (أبو محمد

عبدالله بن مسلم) الذى ولد بالكوفة وتثقف بها وسكن بغداد زمنًا

ولكنه نسب إلى الدينور لأنه تولى قضاءها، وقد توفى ابن قتيبة

فى سنة (276هـ = 889م) فى خلافة المعتمد على الله، وقد خلّف لنا

ص: 100

ابن قتيبة عددًا من الموسوعات الأدبية المهمة يأتى على رأسها كتاب

«عيون الأخبار» ، وكتاب «الشعر والشعراء» ، ومن كتبه الأدبية المهمة

أيضًا كتاب «أدب الكاتب» الذى يتحدث فيه عما يحتاج إليه الأديب من

فنون المعرفة ليمارس صنعة الكتابة على الوجه الأمثل.

ويُعَدُّ أبو الفرج الأصفهانى أبرز أصحاب الموسوعات الأدبية فى هذا

العصر. وقد كان ملازمًا للوزير المشهور أبى محمد حسن بن محمد

المُهَلَّبى وزير معز الدولة أحمد بن بويه، وكان المهلبى بصحبة معز

الدولة عند انتقاله إلى بغداد، كما ذكرنا ذلك فى موضعه، ومما

يحفظه التاريخ للمهلبى أنه كان محبا للأدب مقرِّبا لأهله، وكان يعرف

لذوى القرائح الجيدة أقدارهم ويغدق عليهم من كرمه ورعايته، ومن

هنا قرب أبا الفرج الأصفهانى ورعى مكانته. ولاشك أن موسوعة

«الأغانى» للأصفهانى تعد من أهم الموسوعات الأدبية وأكثرها

انتشارًا وشمولاً فيما يختص بتاريخ الأدب العربى والثقافة العربية

حتى نحو منتصف القرن الرابع الهجرى. وقد توفى أبو الفرج

الأصفهانى فى سنة (356هـ = 967م).

ويتميز أيضًا بين أصحاب الموسوعات الأدبية «أبو منصور الثعالبى»

(وهو عبدالملك بن محمد بن إسماعيل)، ولد بنيسابور فى سنة

(350هـ = 961م)، وتوفى فى سنة (429هـ = 1038م)، أى أنه عاش

حياته كلها فى فترة نفوذ البويهيين، وشهدت فترة تفتحه الأدبى

خلافة الطائع لله والقادر بالله، وتوفى فى خلافة القائم بأمر الله،

وكان الثعالبى غزير الإنتاج متنوع الاهتمامات العلمية، ولكن يقف

على رأس مؤلفاته جميعًا كتابه الموسوعى الضخم «يتيمة الدهر فى

محاسن أهل العصر»، وهو أكبر كتبه وأحسنها وأجمعها كما يقول

ابن خلكان، وهو من أربعة مجلدات صرف فيها جل اهتمامه لشعراء

القرن (4هـ = 10م) ورتبهم على أوطانهم، فقد تناول فى أبواب

خاصة شعراء الشام ومصر والمغرب والموصل والبصرة وبغداد

وأصفهان والجبل وفارس والأهواز وجرجان، وتحدث عن الدولة

ص: 101

السامانية وشعرائها وعن خوارزم، وتحدث أيضًا عن بنى بويه

وشعرائهم وكتابهم، وأسهب فى الحديث عن ابن العميد والصاحب بن

عباد، كما تحدث عن بلاط سيف الدولة وشعرائه وكتّابه، ولاشك أن

يتيمة الدهر تعد إحدى الموسوعات الأدبية الأساسية فى تاريخ الأدب

العربى، ولا تزال حتى يومنا هذا مصدرًا لا غنى عنه للباحثين فى

الحياة الأدبية فى القرن (4 هـ = 10م).

ولم تكن أنشطة البحث التاريخى بأقل حظا من الأنشطة الأدبية فى

دولة الخلافة العباسية فى عصرها الثانى، وهذا مجال يطول فيه

الكلام ويتشعب، ولا سبيل إلى استقصاء الحديث فيه، ولكننا نكتفى

بتقديم بعض النماذج لأبرز المؤرخين وأهم أعمالهم التاريخية، ويقف

شامخًا بين أعلام المؤرخين فى صدر العصر العباسى الثانى أبو

جعفر محمد بن جرير الطبرى المتوفى سنة (310هـ = 922م) فى

خلافة المقتدر بالله، وقد عاش الطبرى فى فترة التحول المهمة التى

انتقلت فيها الخلافة العباسية من عصرها الأول-عصر القوة السياسية

المركزية - إلى عصرها الثانى الذى بدأت فيه السلطة المركزية

تضعف ضعفًا ملحوظًا، وهكذا شهد الطبرى معظم عصر نفوذ الأتراك،

وقد ولد فى آمل بطبرستان فى سنة (224هـ = 839م) وأخذته الرحلة

فى طلب العلم إلى كثير من بقاع العالم الإسلامى كالعراق والشام

ومصر، ثم استقر به المقام أخيرًا فى بغداد وبها مات ودفن، وقد ترك

لنا الطبرى موسوعته التاريخية الذائعة الصيت وهى: «تاريخ الأمم

والملوك» المشهورة باسم «تاريخ الطبرى» ، فى عشرة مجلدات،

وتناول الطبرى فى هذه الموسوعة الضخمة تاريخ ما قبل الإسلام منذ

بدء الخليقة بقدر من الاختصار فى المجلد الأول وبعض الثانى، ثم جاء

علاجه المفصل للأحداث منذ بدأ يتناول سيرة الرسول- صلى الله عليه

وسلم - وسيرة الخلفاء الراشدين، وما تلا ذلك من تاريخ الدولة الأموية

والعباسية حتى عصره، وقد توقف الطبرى بتاريخه عند أحداث سنة

ص: 102

(302هـ= 914م) فى خلافة المقتدر، وتاريخ الطبرى منجم غنى

بالمعلومات حافل بالروايات المختلفة التى تقدم المادة الأساسية

للباحث، وهناك إجماع فى الشرق والغرب على أن هذا التاريخ يعدُّ

عمدة الباحثين فى التاريخ الإسلامى فى القرون الثلاثة الأولى

للهجرة.

ومن أعلام المؤرخين الذين ظهروا فى القرن (3هـ= 9م) أيضًا - بجانب

الطبرى - ابن قتيبة (عبدالله بن مسلم) المتوفى سنة (276هـ = 889م).

وقد أشرنا إليه قبل ذلك عند حديثنا عن الموسوعات الأدبية، ومن

أبرز الأعمال التاريخية التى تركها لنا ابن قتيبة كتاب «المعارف» ،

وينسب إليه أيضًا كتاب «الإمامة والسياسة» .

كما ظهر اليعقوبى أيضًا، وهو أحمد بن أبى يعقوب ابن واضح

المتوفى نحو سنة (278هـ = 891م)، وكتابه المعروف ب «تاريخ

اليعقوبى» من المصادر التاريخية الأساسية فى تلك الفترة، وهو يقع

فى مجلدين، يتناول المجلد الأول التاريخ القديم حتى ظهور الإسلام،

ويتناول الثانى تاريخ الإسلام حتى سنة (259هـ = 873م) فهو يغطى

ثلاث سنين من خلافة المعتمد على الله، وبجانب التأليف التاريخى

ألف اليعقوبى فى الجغرافيا كتابًا ذائعًا هو «البلدان» الذى يعد من

أقدم مصنفات التراث الجغرافى العربى.

وقد برز أيضًا من مؤرخى تلك الفترة - وهى فترة نفوذ الأتراك فى

العصر العباسى الثانى - أحمد بن يحيى البلاذرى وأبو حنيفة

الدينورى. أما البلاذرى فقد كان مقربًا للخليفتين المتوكل

والمستعين، وتوفى فى حدود سنة (279هـ = 892م)، ويعد كتابه

«فتوح البلدان» من أوثق الكتب التى تحدثت عن تاريخ الفتوح

الإسلامية منذ ظهور الإسلام حتى عصره، وهو يتميز بدقته فى

الأسلوب وموضوعيته فى العرض والبعد عن الحشو، وهو من بين

المصادر التى تحتل قيمة خاصة فى هذا الجانب، وللبلاذرى كتاب آخر

معروف هو «أنساب الأشراف» ، وهو يقدم مادة تاريخية غزيرة فى

صدر الإسلام والعصر الأموى والعباسى الأول من خلال أنساب الرجال

ص: 103

الذين يتناولهم بالبحث.

أما أبو حنيفة الدينورى المتوفى سنة (282هـ = 895م) فقد كان

موسوعى المعرفة، برع فى علوم كثيرة كالنحو واللغة والهندسة

والفلك وغير ذلك، ولكن الكتاب الذى اشتهر به الدينورى هو كتابه

التاريخى المعروف باسم «الأخبار الطوال» الذى يتناول فيه التاريخ

الإسلامى منذ ظهور الإسلام حتى وفاة الخليفة المعتصم سنة (227هـ=

842م)، مع مقدمة مختصرة عن التاريخ القديم.

وقد استمرت حركة التأليف التاريخى على نشاطها وازدهارها طوال

مراحل العصر العباسى الثانى، ومن أبرز المؤرخين الذين شهدوا

بداية مرحلة النفوذ البويهى على بن الحسين المسعودى المتوفى

سنة (346هـ = 957م)، ومع أن المسعودى نشأ فى بغداد فقد كان

دائم الترحل فى طلب العلم، وهو يقدِّم نموذجًا للعالم الذى جعل العلم

ضالَّته، فهو ينشده لكل ما أوتى من حول وما وسعه من صبر؛ فقد

ذهب إلى الهند والملتان وسرنديب (سيلان) والصين، فضلاً عن مراكز

العلم الشهيرة فى أرجاء العالم الإسلامى، ومن أشهر مؤلفاته

التاريخية كتاب «مروج الذهب ومعادن الجوهر» ، وقد تناول فيه

تاريخ الأمم القديمة، ثم تناول تاريخ الإسلام منذ ظهوره حتى خلافة

المطيع لله، وهو أول الخلفاء العباسيين فى العصر البويهى، ومن

بين الكتب التاريخية الذائعة للمسعودى أيضًا كتاب «التنبيه

والإشراف»، وهو محاولة منه لتقديم كتاب تاريخى مختصر يضم

خلاصة ما كتب، وهو يحتوى على معلومات مهمة من كتب أخرى

للمسعودى لم تصل إلينا.

ومن بين المؤرخين المتميزين فى فترة النفوذ البويهى أيضًا الخطيب

البغدادى المتوفى سنة (463هـ = 1071م)، وهو «أبو بكر أحمد بن

على بن ثابت»، وقد عاش فى بغداد التى يُنسَب إليها ومات بها،

ولكنه رحل طلبًا للعلم إلى عدة مراكز علمية بارزة كالبصرة والكوفة

ونيسابور وحلب وبيت المقدس وغيرها، وهو يتميز بغزارة إنتاجه

وتنوع اهتماماته العلمية؛ حيث ألَّف فى فروع مختلفة من العلم

ص: 104

كالتاريخ والفقه والحديث والنحو والأدب وغيرها، ومعظم مؤلفاته لم

تصل إلينا، ولكن موسوعته الضخمة المعروفة باسم «تاريخ بغداد»

وصلت إلينا وهى التى أكسبته شهرة واسعة، وهى تاريخ شامل

لبغداد من حيث نشأتها وأحيائها وقصورها ومختلف معالمها، فضلاً

عن تراجم أعلامها من رجال السياسة والعلم والأدب وغير ذلك، ومن

هنا تعد هذه الموسوعة مصدرًا لا غنى عنه للباحثين فى تاريخ

الخلافة العباسية منذ نشأتها حتى بداية العصر السلجوقى.

وقد لمع عدد آخر من المؤرخين فى المراحل المتأخرة من العصر

العباسى الثانى، لعل أبرزهم عز الدين بن الأثير المتوفى سنة

(630هـ = 1233م)، وهو صاحب الموسوعة التاريخية الضخمة المعروفة

باسم «الكامل فى التاريخ» ، وتقع فى اثنى عشر مجلدًا، وقد حذا

فيها حذو الطبرى فى تاريخه، وتوقف فى روايته التاريخية عند

أحداث سنة (628هـ = 1231م).

وقد شهد ابن الأثير نهاية فترة النفوذ السلجوقى وعاش شطرًا من

حياته فى فترة ما بعد السلاجقة، وعاصر مرحلة مهمة فى تطور

الحروب الصليبية إبّان سلطنة صلاح الدين الأيوبى، فكتابه إذن من

بين المصادر الأساسية فى تاريخ الحروب الصليبية، ويمكننا أن نقول

إن موسوعة الكامل فى التاريخ لابن الأثير تحتل بين مصادر التاريخ

الإسلامى مكانة لا يسبقها إلا موسوعة تاريخ الطبرى، ولابن الأثير

مؤلفات أخرى فى غاية الأهمية لعل أبرزها «أسد الغابة فى معرفة

الصحابة»، وهو موسوعة من سبعة مجلدات يتناول فيها تراجم صحابة

رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ونستطيع أن نمضى طويلاً فى تناولنا لمختلف جوانب النهضة

الثقافية فى دولة الخلافة العباسية فى عصرها الثانى، وهى جوانب

لايتسع المجال للحديث التفصيلى عنها هنا، ولكننا نكتفى بالقول

بأن هذه النهضة الثقافية غطت كل مظاهر المعرفة والفن التى عُرفت

فى ذلك الزمان، فقد شهدت دولة الخلافة العباسية وثبة رائعة فى

ص: 105

الثقافة الجغرافية، وعرف التراث الحضارى العباسى جغرافيين

أفذاذًا كاليعقوبى صاحب البلدان، وقد أشرنا إليه، والاصطخرى من

علماء القرن (4هـ= 10م)، وهو صاحب كتاب «مسالك الممالك» ، وابن

حوقل والمقدسى وهما من علماء القرن (4هـ = 10م) أيضًا، وللأول

كتاب «المسالك والممالك» ؛ وللثانى كتاب «أحسن التقاسيم فى

معرفة الأقاليم»، وهو من الكتب المتميزة فى هذا الفن.

ولعل من أشهر الجغرافيين فى دولة الخلافة العباسية ياقوت

الحموى المتوفى سنة (626هـ = 1229م) وقد ولد فى حماة كما يبدو

من نسبته، ولكنه عاش فى بغداد، ومعجمه الجغرافى المعروف باسم

«معجم البلدان» يُعدُّ من أغزر المصادر مادة فى التراث الجغرافى

الإسلامى على الإطلاق، وهو يقع فى خمسة مجلدات ضخمة.

كما شهد هذا العصر أيضًا نهضة لا تدانى فى الدراسات العقلية

والفلسفية والكلامية، ونبغ فى هذا المجال أعلام يحتلون مكانة

سامقة فى تاريخ الفكر الإنسانى كله، فمن بين هؤلاء الفيلسوف

الكبير الفارابى المتوفى سنة (339هـ= 950م) فى مطلع العصر

البويهى، وهو صاحب كتاب «إحصاء العلوم» وكتاب «السياسة

المدنية» وغير ذلك. على أن أبرز هؤلاء هو الشيخ الرئيس ابن سينا

المتوفى سنة (428هـ = 1037م)، وقد عاش شطرًا من حياته فى

بخارى فى ظل الدولة السامانية.

ومن كتبه الفلسفية المعروفة كتاب «الإشارات» وكتاب «الشفاء» ،

وكتاب «النجاة» وغيرها، هذا بالإضافة إلى مؤلفاته الطبية الفائقة،

وفى مجال الدفاع العقلى عن الإسلام والرد على مناوئيه برز اسم

حجة الإسلام «أبى حامد الغزالى» المتوفى سنة (505هـ = 1111م)،

وهو الذى ناضل الفلاسفة وكتب عن تهافتهم كتابه المعروف «تهافت

الفلاسفة»، وقد باشر «الغزالى» التدريس فى المدرسة النظامية

ببغداد والمدرسة النظامية بنيسابور، وكتابه «إحياء علوم الدين» من

أعظم الكتب التى عرضت الإسلام عرضًا بسيطًا مقنعًا مؤثرًا، ونظرًا

ص: 106

لقوة تأثير هذا الكتاب قال البعض: «من لم يقرأ الإحياء فليس من

الأحياء.

وقد حظيت العلوم الطبية والرياضية والفلكية والطبيعية بنصيب وافر

من العناية والدراسة فى هذا العصر الحافل بالعطاء الحضارى. بل إن

فن الموسيقى أيضًا وجد له مجالاً من الاهتمام. والملاحظ أن الفلاسفة

العظام، أمثال الفارابى وابن سينا، كانوا يحذقون الطب والرياضة

والفلك بل والموسيقى أيضًا.

ويعتبر «أبو بكر محمد بن زكريا الرازى» أعظم الأطباء المسلمين فى

هذا العصر على الإطلاق. وله كتاب «الحاوى» فى الطب، الذى يمكن

اعتباره عمدة هذا العلم فى العصور الوسطى فى الشرق والغرب.

وقد حظى الرازى برعاية ملوك الدولة السامانية، وتوفى فى حوالى

سنة (320هـ = 932م)، أما «ابن سينا» فقد كتب «القانون» فى

الطب، وهو الذى كان مع كتاب «الحاوى» للرازى من الأسس المهمة

التى اعتمدت عليها أوربا فى عصر النهضة.

وبعد هذه اللمحة الموجزة عن أهم جوانب النهضة الثقافية فى العصر

العباسى الثانى نستطيع أن نقول: إن هذه النهضة كانت متكاملة

الجوانب، وهذا هو شأن الحضارات العظيمة، فالحضارة روح تعود

بالصحة والعافية على جسد الأمة كله فتتوازن فيه ملامح الاكتمال،

وقد كان أبرز ما يميز تلك الفترة هو الرغبة العارمة فى العلم

والتعطش للمعرفة، ومن هنا وجدنا أصحاب الثقافات الموسوعية الذين

أشرنا إلى بعضهم، والملاحظ أن حب العلم والتنافس فى سبيله جعل

الحكام والأمراء يحتضنونه وينصبون من أنفسهم حماةً له.

وهكذا ظهرت مجالس العلم المعروفة على يد قادة أمراء وجدوا فى

هذا النشاط سُلَّمًا للمجد والسؤدد، والأمثلة على ذلك كثيرة، فهذا

سيف الدولة الحمدانى يجعل من مجلسه محفلاً للعلماء والأدباء

والشعراء، وهذا عضد الدولة البويهى يفعل الشىء نفسه، وفعل ذلك

أيضًا السلطان محمود الغزنوى، ونظام الملك أعظم وزراء السلاجقة،

وغيرهم، وكل هذا عاد بالخير العميم على الحركة الثقافية فى هذا

ص: 107

العصر، فإذا هى تفيض قوة ونشاطًا وتجددًا.

2 -

الجانب الاقتصادى والعمرانى:

من الطبيعى أن يرتبط الجانب العمرانى بالجانب الاقتصادى فى

الدولة، فلا عمران إلا باقتصاد قوى. وقد ازدهرت الحياة الاقتصادية

ازدهارًا ملحوظًا فى بعض ممالك الدولة العباسية فى العصر الثانى،

ولكننا نلاحظ أن السلطة المركزية نفسها لم يعد لها من القوة

الاقتصادية ما كان لخلفاء العصر العباسى الأول، وذلك بسبب تحكم

الأمراء الذين استأثروا بالنفوذ الحقيقى، ومن هنا نلاحظ أن اقتصاد

بعض الإمارات التى كانت تنتمى لدولة الخلافة العباسية من الناحية

الشكلية كان أقوى من اقتصاد الخلافة نفسها، بل إن الخليفة فى

بعض الأحيان كان مجرد موظف تابع لهؤلاء الأمراء الذين يحددون له

راتبه ونشاطه.

وقد توافرت مصادر القوة الاقتصادية فى دولة الخلافة العباسية فى

عصرها الثانى، وكان للتقدم العلمى الكبير الذى شهده هذا العصر

أثره الملحوظ فى تحقيق الازدهار الاقتصادى القائم على أسس علمية

صحيحة، وقد لعبت النهضة الزراعية دورها فى تحقيق هذا الازدهار

الاقتصادى، فقد كانت دولة الخلافة تضم أراضى شاسعة تتسم

بالخصوبة والصلاحية لإنتاج شتىالمحاصيل. وقامت المدارس الزراعية

التى انتشرت فى أرجاء دولة الخلافة العباسية فى ذلك الوقت بجهد

علمى كبير فى نشر الوعى الزراعى الصحيح، فتعددت المحاصيل

وأدخلت أنواع جديدة منها، وزاد إنتاجها نتيجة استعمال الأسمدة

المناسبة.

وارتبط بذلك إعادة تطوير نظام الرى الذى حول منطقة ما بين النهرين

إلى جنة وارفة الظلال، كما ازدهرت فلاحة البساتين القائمة على

أسس علمية ازدهارًا كبيرًا وانتشرت كل أنواع النباتات والزهور،

«وكانت الزهور تزرع حتى فى أصغر المنازل» ، وارتبط بنمو الثروة

الزراعية نمو الثروة الحيوانية، كما ظهرت الصناعات المعتمدة على

الإنتاج الزراعى كمصانع النسيج ومعامل تكرير السكر.

وقد اشتهرت صناعات أخرى فى العصر العباسى الثانى كصناعة

ص: 108

الورق التى انتشرت فى مصر والشام وسمرقند، ولكن شهرة سمرقند

فى هذا الجانب فاقت غيرها فى ذلك العصر، وازدهرت صناعة الحديد

أيضًا فى بلاد فارس.

وقد ترتب على الازدهار الزراعى والصناعى الازدهار التجارى،

فالمنتجات المختلفة تحتاج إلى تسويق، ومن هنا ظهر الاهتمام

بتوفير الطرق التجارية المناسبة والعناية بالموانى والأساطيل

التجارية، وقد ازدهرت تجارة المسلمين الخارجية فى ذلك العصر مع

الهند والصين والبلاد الأوربية.

والجدير بالملاحظة هنا أن الإسلام انتشر فى بقاع عديدة عن طريق

التجار المسلمين، وكانت بغداد ودمشق والإسكندرية وعدن والبصرة

من بين المراكز التجارية المهمة فى ذلك العصر.

وقد اشتهر عدد من دول العصر العباسى الثانى بالقوة الاقتصادية،

ومن بين هذه الدول - على سبيل المثال - الدولة الصفارية التى يقال:

إن مؤسسها «يعقوب بن الليث» ترك فى بيت المال عند وفاته ثمانين

مليون دينار وخمسين مليون درهم، كما ازدهر أيضًا اقتصاد الدولة

السامانية، وهى التى قامت فى منطقة تتمتع بإمكانات اقتصادية

هائلة، وهى بلاد ما وراء النهر، وكذلك ازدهر اقتصاد الدولة

البويهية، أما اقتصاد الدولة الغزنوية فقد وصل مدى رائعًا من القوة

نتيجة اتساع أطراف تلك الدولة، وما استطاعت أن تحققه من فتوحات

رائعة فى بلاد الهند والسند وأفغانستان وغيرها.

وكان النشاط العمرانى الواضح ثمرة مباشرة للاستقرار الاقتصادى،

فأنشئت الطرق والمدارس والمساجد والقصور والرُّبط فى أماكن

مختلفة من دولة الخلافة العباسية، ولايتسع المقام هنا للدخول فى

تفاصيل هذا الجانب، ولكننا نكتفى ببعض أمثلة قليلة توضح ذلك،

وتستحق الدولة البويهية وقفة خاصة هنا، فقد اهتمت هذه الدولة

اهتمامًا خاصًا بالجانب العمرانى، ولاشك أن عضد الدولة كان أبرز

ملوكها فى هذا الجانب، فقد صرف كثيرًا من جهده للعمارة والتشييد

فى الأماكن التى خضعت لسلطانه فى فارس والرى وأصفهان

ص: 109

والجبال وغيرها، أما بغداد - بعد انتقاله إليها - فقد حظيت منه

باهتمام بالغ، يذكر المؤرخ ابن الأثير فى تناوله لأحداث سنة (369هـ

= 979م) أن عضد الدولة شرع فى عمارة بغداد فى ذلك العام،

وكانت قد خربت بتوالى الفتن عليها، فعمَّر مساجدها وأسواقها ..

وألزم أصحاب الأملاك الخراب بعمارتها، وجدد ما دثر من الأنهار

وأعاد حفرها وتسويتها، وأصلح الطريق من العراق إلى مكة .. واهتم

اهتمامًا كبيرًا بمشهد الإمام على والإمام الحسين رضى الله عنهما ..

وأذن لوزيره «نصر بن هارون» -وكان نصرانيًا - فى عمارة البيَع

والأديرة.

ومن بين الإنجازات العمرانية المهمة التى قام بها عضد الدولة فى

بغداد بناؤه لمستشفاه الكبير الذى عرف باسم «البيمارستان

العضدى»، وقد كان فى هذا المستشفى عند إنشائه أربعةوعشرون

طبيبًا فى التخصصات المختلفة، وكان أشبه ما يكون بالمستشفيات

التعليمية الجامعية فى عصرنا هذا؛ فقد كانت المحاضرات تلقى فيه،

وتدرس فيه الكتب ذات المكانة العلمية، وكان لهذا المستشفى مورد

ماء مستمد من دجلة، وله جميع الملحقات التى تزود بها القصور

الملكية كما بنى عضد الدولة فى شيراز مستشفى آخر عرف أيضًا

باسم «البيمارستان العضدى» ، وأقام صهاريج الماء فى أماكن

مختلفة من مملكته. وبنى سورًا حول مدينة الرسول - صلى الله عليه

وسلم -.

وتتميز الدولة السلجوقية كذلك بنشاطها العمرانى الكبير فى مجالاته

المختلفة، ويبرز فى هذا الجانب بصفة أخص «ملكشاه» ووزيره

العظيم «نظام الملك» ، فقد أنشأ «نظام الملك» مدارسه النظامية

المعروفة، وزودها بكل احتياجات طلابها، ووجد فى ذلك كل تشجيع

من السلطان السلجوقى المتميز «ملكشاه» .

والملاحظ أن النشاط العمرانى فى دولة الخلافة العباسية فى العصر

الثانى كان يقوم به فى الأساس أمراء وسلاطين وملوك الدول التى

كانت تخضع للخلافة العباسية خضوعًا روحيا أو شكليا، أما الخلفاء -

ص: 110

بصفة عامة - فلم يكونوا بالمكان الذى يجعلهم قادرين فى الأمور

بصورة مستقلة طوال معظم هذه الفترة.

3 -

الجانب الإدارى:

كان لضعف الخلافة العباسية المركزية فى العصر الثانى تأثير واضح

فى النظام الإدارى فى دولة الخلافة، وأوضح مظاهر هذا التأثير يبدو

فى نظام «الوزارة» ، فقد كانت الوزارة فى العصر العباسى الأول -

بصفة عامة - تابعة للخليفة خاضعة لنفوذه، وعندما كان الوزراء

يحاولون التصرف بصورة مستقلة كانوا يجدون ما يردعهم من بطش

الخليفة، أما فى العصر العباسى الثانى فقد اختلف الأمر، وقد

استمرت الوزارة فى فترة نفوذ الأتراك، ولكن الوزراء كانوا أكثر

استقلالاً ونفوذًا وسطوة وتنامت ثرواتهم لأنهم لم يكونوا يجدون

الخليفة الحازم الذى يحاسبهم أشد الحساب، وهذا إذا استثنينا فترة

صحوة الخلافة.

فلما كانت السنوات الأخيرة فى فترة نفوذ الأتراك بطل منصب الوزارة

وحل محله منصب أمير الأمراء الذى جار تقريبًا على كل سلطات

الخليفة، فلما وقعت الخلافة تحت النفوذ البويهى زال أيضًا منصب

أمير الأمراء، فلم يعد هناك للخليفة وزير ولا أمير للأمراء، وتصرف

البويهيون فى كل شئون الخلافة تصرفًا مطلقًا وحرموا الخليفة حتى

من سلطاته الشكلية، مع أنهم اتخذوا لأنفسهم وزراء.

وفى فترة النفوذ السلجوقى عاد منصب الوزارة، وأصبح للخليفة

وزيره، وللسلطان السلجوقى وزيره، ولكن السلطة الحقيقية كانت

فى يد السلطان السلجوقى ووزيره، رغم أن السلاجقة عاملوا الخلفاء

بما يستحقون من توقير.

وبعد زوال نفوذ السلاجقة أصبح للخلفاء وزراؤهم المستقلون عن

نفوذ الخليفة، ولكن الخلافة فى هذه الفترة كانت فى طريقها إلى

الزوال الكامل، ولم تكد دولة الخلافة تتجاوز بغداد وبعض الأقاليم

الأخرى المحدودة.

وقد تطور منصب الكتابة فى العصر العباسى الثانى تطورًا ملحوظًا،

فاتسعت سلطة الكاتب وتنامى نفوذه، وكان الكاتب يرأس ديوان

ص: 111

الرسائل الذى كان يعد من أخطر دواوين الدولة العباسية، وكان

صاحب هذا المنصب يقوم بكتابة الرسائل السياسية وختمها بخاتم

الخلافة بعد عرضها على الخليفة، وكان ينوب عن الخليفة أحيانًا فى

مكاتبة الملوك والأمراء، على أن من أهم التطورات التى شهدها هذا

المنصب فى العصر العباسى الثانى أنه لم يعد مقصورًا على الخلفاء

بل بدأ الأمراء والسلاطين يتخذون لأنفسهم كتابًا أوسع نفوذًا من

كاتب الخليفة.

وقد كان ذلك نتيجة طبيعية لضعف منصب الخلافة فى هذا العصر.

ومع أن العصر العباسى الأول عرف نظام الحجابة فقد تطور هذا

النظام كثيرًا فى العصر العباسى الثانى، فقد كان الحاجب فى

العصر العباسى الأول يقوم بمهمة أساسية هى حجب العامة عن

السلطان، فلا يأذن بالدخول على السلطان إلا لمن يرى أنه يستحق

هذا الإذن، أما الحاجب فى العصر الثانى فقد تجاوز هذه المهمة

المحددة وادَّعى لنفسه سلطات واسعة أصبح ينافس بها سلطات

الوزير، وأصبح الحجاب يتدخلون فى أهم شئون الدولة، وقد فتح

ذلك مجالاً للصراع بين الحجاب والخلفاء والوزراء.

أما منصب الإمارة على البلدان - وهو من المناصب المهمة فى النظام

الإدارى - فقد طرأ عليه أيضًا كثير من التطور فى العصر العباسى

الثانى، فقد كان هذا المنصب منذ ظهور الإسلام وحتى نهاية العصر

العباسى الأول يخضع فى العادة لسلطة الخليفة؛ فهو الذى يملك حق

الولاية والعزل، أما فى العصر العباسى الثانى فقد اختلفت الأمور

تمامًا، ذلك أن الخليفة أصبح يخضع لسلطة عليا من القوى الدخيلة،

وهى التى تملك غالبًا حق توليته وعزله، وهكذا تدخلت هذه السلطات

أيضًا فى تعيين الأمراء (أو العمال) فى الأقاليم التى تخضع لنفوذهم

وكان هذا التطور متمشيًا تمامًا مع ما آل إليه منصب الخلافة من

تدهور فى ذلك العصر.

وقد اتسع نظام البريد فى العصر العباسى الثانى اتساعًا كبيرًا، فقد

كانت مهمة البريد فى بداية نشأته توصيل رسائل الخليفة إلى عماله

ص: 112

وولاته ونقل رسائلهم إليه وكذلك أخبارهم، ثم اتسعت مهمة البريد -

وبالذات فى العصر العباسى الثانى - لتشمل أيضًا مراقبة العمال

والتجسس عليهم، وأن يقدم صاحب البريد إلى الخليفة تقارير دورية

وافية بكل ما يحدث فى مكان عمله، هذا إذا كان تابعًا للخليفة،

ويفعل الشىء نفسه إذا كان خاضعًا لنفوذ الدول المختلفة التى

ظهرت فى هذا العصر، ولهذا أصبح نظام البريد فى ذلك العصر أشبه

ما يكون بقلم المخابرات فى عصرنا.

ص: 113

- المراجع:

* أدم منز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري - ترجمة محمد عبد الهادي أبو ريدة - القاهرة - 1948م

* بن الأثير (علي بن أبي الكرم): الكامل في التاريخ - دار الكتاب العربي - بيروت 1967م

* أحمد أمين: ضحي الإسلام - مكتبة النهضة المصرية - القاهرة الطبعة الخامسة - 1956م

* بن الجوزي (عبد الرحمن بن علي): المنتظم في تاريخ الملوك والأمم - حيدر آباد - الهند - 1357هـ

* حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي - مكتبة النهضة المصرية - القاهرة - 1973م

* حسن أحمد محمود وأحمد إبراهيم الشريف: العالم الإسلامي في العصر العباسي - دار الفكر العربي - القاهرة - 1966م

* الخطيب البغدادي (أحمد بن علي): تاريخ بغداد - القاهرة - 1349هـ = 1931م

* خليل السامرائي وآخرون: تاريخ الدولة العربية الإسلامية في العصر العباسي - الموصل - العراق - 1408هـ = 1988م

* سامي الكيالي: سيف الدولة وعصر الحمدانيين - دار المعارف - القاهرة - 1959م

* السيوطي (جلال الدين) تاريخ الخلفاء - تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد - القاهرة - 1389هـ = 1969م

* شاكر مصطفي: دولة بني العباس - الكويت - 1393هـ = 1973م

* الطبري (محمد بن جرير): تاريخ الرسل والملوك - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - دار المعارف القاهرة - 1966م

* عبد النعيم حسنين: دولة السلاجقة - مكتبة الأنجلو المصرية - القاهرة - 1975م

* فاروق عمر: الخلافة العباسية في عصورها المتأخرة - دار الخليج - 1403هـ = 1983م0

* كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية - ترجمة نبيه أمين فارس ومنير البعلبكي - دار العلم للملايين - بيروت - 1965م

* بن كثير (إسماعيل بن عمر): البداية والنهاية - دار الكتب العلمية بيروت - 1408هـ = 1988م

* محمد الخضري: محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية (الدولة العباسية) - القاهرة - 1970م

ص: 114

* محمد مسفر الزهراني: نظام الوزارة في الدولة العباسية - مؤسسة الرسالة - بيروت - 1406هـ = 1986م

* المسعودى (علي بن الحسين): مروج الذهب ومعادن الجوهر - دار الأندلس - بيروت - 1385هـ = 1965م

* مسكوية (أحمد بن محمد): تجارب الأمم وتعاقب الهمم - نشره آم دروز - مطبعة التمدن - القاهرة - 1914م

* ابن النديم (محمد بن إسحاق): الفهرست - المطبعة الرحمانية - القاهرة - 1384هـ

* ياقوت الحموي: معجم الأدباء - دار المأمون - القاهرة - 1355هـ = 1936م

ص: 115