المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المشرق الإسلامي بعد العباسيين - موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي - جـ ٤

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌المشرق الإسلامي بعد العباسيين

الجزء الرابع

‌المشرق الإسلامي بعد العباسيين

تأليف:

أ. د. عصام الدين عبد الرؤوف

أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة القاهرة

أ. د. محسن جمال الدين

أستاذ اللغات الشرقية بجامعة عين شمس

الفصل الأول

*العالم الإسلامى قبيل الغزو المغولى

كانت الدولة العباسية آنذاك تحت حكم الخليفة «الناصر لدين الله»

الذى حكم فترة طويلة امتدت من سنة (575هـ) حتى سنة (622هـ)،

وعلى الرغم من طول هذه المدة التى لم تتح لخليفة قبله، فإنه لم

يستغلها استغلالا حسنًا فى صالح دولته وما ينفع الناس، حتى وصفه

«ابن الأثير» بقوله: «كان قبيح السيرة فى رعيته، ظالمًا، فخرب

العراق فى أيامه، وتفرق أهله فى البلاد وأخذ أملاكهم وأموالهم»،

وإلى جانب ذلك لم يعمل على توحيد الصف بين الإمارات الإسلامية،

فأشعل الفتنة بينها وألَّب بعضها على بعض.

ولم يكن نفوذ الخليفة العباسى قويا إلا على «بغداد» والمنطقة

المجاورة؛ حيث كانت المنطقة الشمالية من العراق فى أيدى أتابكة

«الموصل» ، وباقى «العراق» الغربى خاضعًا للسلاجقة، على حين

سيطر الأيوبيون ومن بعدهم «المماليك» على «مصر» وأجزاء كبيرة

من «الشام» و «فلسطين» .

وفى المشرق كانت السيادة هناك لدول «الأتابكة» ، و «الغور» ،

والخوارزمية، والإسماعيلية، وأصبحت سلطة الخليفة رمزًا روحيا

محدودًا، لا يتدخل فى شىء إلا إذا طلب منه التدخل للتصديق على ما

يطلب منه فحسب.

وتُوفى الخليفة «الناصر لدين الله» فى أواخر رمضان سنة (622هـ)

بعد أن شهدت خلافته سقوط دولة السلاجقة، وظهور قوة المغول

بزعامة «جنكيزخان واكتساحهم بلاد «ما وراء النهر» و «خراسان»

وإسقاطهم للدولة الخوارزمية وزحفهم نحو «الجزيرة» و «العراق»

و «الشام» وتهديدهم للعالم الإسلامى.

وتولى الخلافة بعد «الناصر لدين الله» ابنه «الظاهر بأمر الله» ، لكن

خلافته لم تطل، إذ تُوفى فى (14 من رجب سنة 623هـ)، وتولى بعده

ابنه «المستنصر بالله» ، وفى عهده تصاعد الخطر المغولى وأصبح

على مشارف العراق، وبعد وفاته فى جمادى الآخرة سنة (640هـ)

بويع لابنه «المستعصم بالله» ، وهو آخر الخلفاء العباسيين فى

العراق.

الخوارزميون:

أولاً: محمد خوارزمشاه وأطماعه فى الدول المجاورة:

ص: 1

تولى السلطان «محمد خوارزمشاه» حكم الدولة الخوارزمية سنة

(596هـ)، وبدأ عهده بالدخول فى منازعات متصلة مع الدول

المجاورة له، فاشتبكت معه الدولة الغورية التى كانت تقع فى منطقة

«أفغانستان» الحالية، حين ظن الأخوان «غياث الدين» و «شهاب

الدين» ضعف السلطان «محمد خوارزمشاه» بحكم صغر سنه، وجرَّدا

جيشًا كبيرًا للاستيلاء على منطقة «خراسان» ، مكَّنهما من الاستيلاء

على عدد من مدن «خراسان» ، إلا أن «محمد خوارزمشاه» تمكن بعد

ذلك من إلحاق الهزيمة بهما، ثم مات «غياث الدين» فجأة، فتمكن

السلطان «محمد» من طرد «الغوريين» من «خراسان» فى سنة

(600هـ).

ثم خرج «شهاب الدين الغورى» بقواته وكان مقيمًا بالهند إلى لقاء

«محمد خوارزمشاه» وألحق بجيشه عدة هزائم متتالية، ووصلت

جيوشه إلى «جرجانية» عاصمة «الدولة الخوارزمية» ، وحاصرها،

ولكن أهلها قاوموه وصمدوا فى وجهه، واتصل السلطان «محمد»

بالقراخطائيين وبعثمان خان سلطان «سمرقند» ، طالبًا العون

والمساعدة، فلما وصل إليه المدد تمكن من إلحاق الهزيمة بشهاب

الدين الغورى فى منطقة «هزاراسب» ، وتتبع «القراخطائيون»

«الغوريين» وطاردوهم حتى أوشكوا على القضاء عليهم، إلا أن

«عثمان خان» تدخل فى اللحظة الأخيرة ومنع القراخطائيين من تحطيم

الجيش الغورى، وهرب «شهاب الدين» إلى «الهند» ، ثم تُوفى فى

سنة (603هـ)، فتولى ابنه السلطان «محمود» حكم «الدولة الغورية»

فى «هراة» و «فيروزكوه» ، وكان شابا مستهترًا، مولعًا بالخمر،

فانصرف عنه أتباعه، وقُتل فى سنة (609هـ.)

كان للسلطان «محمد خوارزمشاه» أخ يدعى «تاج الدين على شاه» ،

وقد هرب هذا الأخ من أخيه خوفًا من بطشه؛ بسبب خصومة حدثت

بينهما، ثم توجه إلى بلاط السلطان «محمود الغورى» الذى رحَّب به

وأحسن وفادته، وقد نجح «على شاه» فى توطيد علاقته برجال

البلاط والعلماء والفقهاء فى «الدولة الغورية» ، فلما قتل السلطان

ص: 2

«محمود الغورى» ، نصَّبه هؤلاء ملكًا على «الدولة الغورية» فى عام

(609هـ)، فأرسل إلى أخيه السلطان «محمد خوارزمشاه» يبشره بما

وصل إليه، فبعث إليه مَنْ تمكن من قتله بالحيلة، واستولى «محمد

خوارزمشاه» على أملاك «الدولة الغورية» دون حرب أو قتال، ثم ضم

«غزنة» إلى ممتلكاته فى سنة (611هـ)، وتوجه منها إلى «سمرقند»

حيث نجح فى ضمها إلى دولته، ثم تمكن فى العام نفسه (611هـ) من

الاستيلاء على الجانب الغربى من «الدولة القراخطائية» فدانت له بذلك

منطقة بلاد «ما وراء النهر» كلها، وعهد إلى ابنه «جلال الدين

منكبرتى» بحكم بلاد «فيروزكوه» و «هراة» و «غزنة «

ثانيًا: السلطان محمد والخلافة العباسية:

عمل السلطان «محمد خوارزمشاه» على إعداد جيش قوى؛ لكى

يهاجم به الخلافة العباسية، للأسباب الآتية:

1 -

رغبته فى أن تكون له الكلمة العليا على الخليفة العباسى، شأن

ما كان عليه سلاطين الدولتين «البويهية» و «السلجوقية» ، وكان

الخليفة العباسى يأبى ذلك الأمر.

2 -

أنه حين استولى على أملاك «الدولة الغورية» ، وجد فى خزائن

السلطان «شهاب الدين» مجموعة من الرسائل بعث بها إليه الخليفة

«الناصر لدين الله» يحرضه فيها على مهاجمة الخوارزميين

وسلطانهم، ويزين له ذلك.

3 -

وأنه وصل إلى علمه أن الخليفة يؤلب عليه حكام الدول الإسلامية

المجاورة مثل: «أتابكة أذربيجان» ، و «أتابكة أصفهان» ، بل إنه

حرض «الإسماعيلية» على قتل «أغلمش» نائبه على العراق العجمى.

4 -

وأنه رأى أن الخلافة العباسية لم تعد تمثل الإسلام فى شىء؛

حيث انشغل الخلفاء بمصالحهم الشخصية عن الجهاد فى سبيل الله

ونشر الدعوة الإسلامية فى المناطق الوثنية المجاورة، ومن ثم لا

تترتب للخليفة العباسى أية حقوق على حكام المسلمين.

وقد أعلن «السلطان محمد» أن الخليفة العباسى لا حق له فى خلافة

المسلمين، وأن هؤلاء العباسيين - فى الأصل - ما هم إلا مغتصبون

ص: 3

لهذه الخلافة من أبناء «على بن أبى طالب» رضى الله عنه، وأن

الشيعة هم أولى الناس بتولى هذه الخلافة، ومن ثم اختار رجلا من

أعقاب العلويين يدعى «علاء الملك الترمذى» ، ونصبه خليفة على

المسلمين فى «خوارزم» بعد أن استصدر فتوى من فقهاء بلاده

وعلمائها تنص على أن الخليفة العباسى لا يحق له أن يحكم

المسلمين.

أعد «السلطان محمد» جيشه فى عام (614هـ)، وتحرك به قاصدًا

«بغداد» ، فلما وصل منطقة العراق العجمى خرجت إليه جيوش «الأتابك

سعد بن زنكى» الذى حرضه الخليفة العباسى على اقتطاع هذه

المنطقة والاستيلاء عليها من «الخوارزميين» ، وتمكن «السلطان

محمد» من هزيمة هذه الجيوش، والاتفاق مع «سعد بن زنكى» على

حكم «بلاد فارس» مقابل دفع جزية سنوية إلى «الدولة الخوارزمية» ،

وواصل «محمد خوارزمشاه» طريقه إلى «بغداد» ، فاعترضه جيش -

بعث به الخليفة- بقيادة «أتابك أذربيجان» ، فانتصر عليه «السلطان

محمد» وأسر قائده، ثم أطلق سراحه فى مقابل تعهده بدفع جزية

سنوية، ثم مضى فى طريقه واقترب من «بغداد» فى خريف السنة

نفسها، وتأهب السلطان «محمد» لغزو «بغداد» ، ولكن أمطارًا غزيرة

انهمرت وعواصف ثلجية شديدة هبت على منطقة «أسد آباد» التى

كان يعسكر فيها بجنوده، فأهلكت معظم الدواب، وقتلت عددًا كبيرًا

من الجنود، واضطر السلطان الخوارزمى إلى العودة إلى «خوارزم»

دون أن يفعل شيئًا فى مواجهة الخليفة العباسى، وبدأ نجمه فى

الأفول بعد ذلك؛ حيث واجهه الخطر المغولى واعترضته نكبات كثيرة.

ثالثًا: نظرة عامة على الحالة السياسية والاجتماعية فى الدولة

الخوارزمية:

اجتمعت أسباب الرفاهية ورغد العيش فى الدولة الإسلامية، وبالغ

الناس فى جمع المال والثروات، وانتشرت الأمراض الاجتماعية

والمؤامرات السياسية فى هذه الفترة، لذا فإن من كان ينظر إلى

«الدولة الخوارزمية» يتصور أنها دولة قوية متماسكة، وأنها أقوى

ص: 4

الدول على الإطلاق فى تلك المنطقة، غير أن الواقع كان على خلاف

ذلك، فقد استنزفت الحروب الطويلة التى دخلها «الخوارزميون» مع

الدول المجاورة الواحدة تلو الأخرى كل ثرواتهم، واستهلكت عناصر

الفروسية فى جيوشهم، وقضت على خيرة الجنود والمقاتلين.

كان الجيش الخوارزمى يشتمل على أخلاط وأجناس مختلفة من قبائل

«الأتراك القنفلى» و «الغور» و «البلوج» ، وغيرها من العناصر التى

كانت -غالبًا- تتنافر، وتدب بينها الخلافات - أحيانًا - لأتفه الأسباب؛

ومن ثم كان الجيش الخوارزمى غير متجانس، ومتفرق الأهواء

والمقاصد.

أما من الناحية الداخلية: فقد كانت علاقة «السلطان محمد» بالعلماء

والفقهاء علاقة سيئة للغاية، وأدى ذلك إلى سوء علاقته بالشعب،

وكانت الفتوى التى انتزعها «السلطان محمد» من العلماء والفقهاء -

بعدم أحقية الخلفاء العباسيين بالخلافة، وأن العلويين أحق بها منهم

- من بين أسباب تفاقم الخلاف بين الجانبين، حيث جاءت هذه الفتوى

رغم أنوف العلماء، وبتهديد السلاح.

لم تكن البلاد التى استولى عليها الخوارزميون راضية عن دخولها

تحت حكم «محمد خوارزمشاه» ، ولم تمل بأى حال إلى الخوارزميين؛

ولهذا جاءت مواقفها متراخية حين طلب منها «السلطان محمد» المدد

بعد عبور المغول نهر سيحون، وتباطأت فى تقديم المدد والعون

للخوارزميين؛ مما اضطر السلطان الخوارزمى إلى الانسحاب.

ومهما يكن من أمر فإن المؤرخين العرب يقرون بتدين السلطان

«محمد خوارزمشاه» وحسن عقيدته وشجاعته، على الرغم من

أخطائه السياسية والأخلاقية الفاحشة التى أودت بدولته، وعرضت

العالم الإسلامى كله للخراب والدمار، وقد تمثلت هذه الأخطاء فيما

يلى:

1 -

محاربة «محمد خوارزمشاه» للغوريين فى الشرق والجنوب حتى

اضطرهم إلى الانحسار فى جزء محدود، واختتم علاقاته بهم بقتل

أخيه.

2 -

تحطيم الدولة القراخطائية التى كانت تمثل سدًّا منيعًا؛ يمنع غارات

القبائل المغولية البربرية على دولته.

ص: 5

3 -

سوء علاقته بالخليفة العباسى.

4 -

استنزاف خيرة القادة والفرسان والجنود فى حروبه التى خاضها

فى «إيران» و «تركستان» .

وقد تناول الأستاذ «أبو الحسن الندوى» فى كتابه «تاريخ دعوة

وعزيمة» أبرز عيوب «الدولة الخوارزمية» وسلطانها «محمد

خوارزمشاه» بقوله:

لقد صدر عن الملوك الخوارزميين الخطأ الكبير نفسه الذى وقع فيه

الحكام العرب فى الأندلس .. ولم يعفُ عنهم قانون الجزاء الإلهى .. ذلك

لأنهم بذلوا كل قواهم فى توسيع رقعة الملك ودعمه، وقمع الخصوم،

ولم يبذلوا أى اهتمام بتبليغ رسالة الإسلام إلى ذلك القسم البشرى

الذى كان يعيش بجوار حدودهم، وكان بنفسه عالمًا مستقلا، فبصرف

النظر عن الدافع الدينى والواجب الإسلامى، كان مقتضى الحزم

السياسى وبعد النظر أن يُعنوا بإيجاد التوافق العقائدى فى هذه

الدنيا الواسعة، وبذلك يكونون قد أقاموا حولهم سياجًا يحفظهم عن

ذلك الخطر الذى لم يواجههم وحدهم، بل اكتسح المسلمين كلهم.

الأوضاع السياسية فى وسط آسيا قبل ظهورجنكيزخان:

انقسمت منطقة «أواسط آسيا» فى أواخر القرن السادس الهجرى

(الثانى عشر الميلادى) إلى دول وحكومات متعددة ومختلفة، على

النحو الآتى:

أولا: الصين:

وانقسمت إلى قسمين، أحدهما شمالى (الصين الشمالية) وعاصمته

«بكين» ، وكان تحت حكم أسرة «كين» التى سيطرت عليه، والقسم

الآخر جنوبى، وكان يضم الأقاليم الجنوبية، التى سيطرت عليها

أسرة «سونج» ، وقد اتخذت من مدينة «هانج تشيو» عاصمة لها.

ثانيًا: الدولة الأويغورية:

وهى دولة مستقلة كونها جماعة من الأتراك الأويغور فى

«التركستان» شمالى غرب أواسط آسيا، وكانت هذه الدولة ذات

حضارة متميزة؛ أسهمت بنصيب وافر فى جذب القبائل البدوية فى

المناطق المجاورة إلى الأخذ بمظاهرها.

ثالثًا: الدولة القراخطائية:

وتقع فى الجنوب الغربى بين «مملكة الخوارزميين» من جهة الغرب،

ومساكن المغول فى الشرق، وكانت تمثل - بموقعها هذا- حائط الصد

ص: 6

الفاصل لهجمات القبائل المغولية على «الدولة الخوارزمية» ، التى

فصلها «نهر سيحون» عن ممتلكات القراخطائيين.

رابعًا: الدولة الخوارزمية:

وحكمت فيما وراء «نهر سيحون» ، وكانت الدولة الإسلامية الوحيدة

بين دول هذه المنطقة، وقد بسطت هذه الدولة حكمها على «إيران»

كلها تقريبًا، وشاركها فى حكم البلاد الفارسية دولة قوية أنشأها

«الإسماعيلية» فى المنطقة الواقعة جنوب بحر «قزوين» فى عام

(483هـ)، ثم بسطت حكمها على أجزاء أخرى من إيران.

وإلى جانب ذلك كان هناك مجموعة من قبائل البدو الرحَّل فى

أقصى الشمال على حدود «سيبيريا المغولية» ، وفى إقليم

«السهوب» شمالى صحراء «جوبى» ، وكانوا أشبه بخلية النحل من

حيث كثرة تحركاتهم وتنقلاتهم من مكان إلى مكان، وتمتعهم بصفات

بدنية تتناسب مع البيئة التى عاشوا فيها، حيث كانت تجتاحها الرياح

الثلجية فى الشتاء، والملتهبة الحرارة خلال الصيف القصير. وكانت

هذه القبائل تنقسم إلى مجموعات لاحصر لها؛ تتفاوت فيما بينها من

حيث عدد أفرادها، ومناطق نفوذها، وأشهر هذه القبائل:

1 -

قبائل التتار: وهى من أشد قبائل الجنس الأصفر وحشية وجبروتًا،

وتعيش فى صراع دائم فيما بينها، كما كانت خاضعة فى أغلب

الأوقات لحكام «الصين الشمالية» من أفراد أسرة «كين» ، وقد

عاشت هذه القبائل حياة متدنية للغاية، ولبس أفرادها جلود الكلاب

والفئران وغيرها من القوارض، كما أكلوا من لحومها. وكانوا من ألد

أعداء المغول، ويناصرون الثائرين عليهم، فلما أصبح «جنكيزخان»

قائدًا للمغول تمكن من القضاء على قبائل التتار، ولم ينجُ منهم إلا

عدد قليل، وعلى إثر ذلك أطلق اسم «التتار» على «جنكيزخان»

وأتباعه من المغول تيمنًا بما فعلوا، ولم يمضِ وقت طويل حتى أطلق

عليهم اسم «المغول» أيضًا، فعرفوا بالاسمين معًا.

2 -

قبائل كرايت: وكانت تسكن الواحات الشرقية الداخلية لصحراء

«جوبى» ، وامتدت مساكنهم حتى «سور الصين العظيم» ، وظلت

ص: 7

أقوى القبائل فى المنطقة المغولية فى القرنين الخامس والسادس

الهجريين، وبسطت نفوذها وسيطرتها على معظم القبائل المجاورة

لها والمحيطة بها، واعتنق ملكُ «الكرايت» المسيحية فى سنة

(398هـ)، فتبعه رعاياه، وعرفت هذه القبائل فى «أوربا» منذ ذلك

الحين.

3 -

قبيلة نايمان: إحدى القبائل التركية التى غلب عليها الطابع

المغولى، وقد اعتنقت هذه القبيلة المسيحية، شأنها شأن قبائل

«كرايت» ، ومع ذلك فإن أفرادها ناصبوا قبائل «كرايت» العداء،

وكثيرًا ما نشبت الحروب بينهم.

4 -

المغول: نشأ «المغول» الأصليون فى المنطقة المعروفة باسم

«هضبة منغوليا» شمالى صحراء «جوبى» ، وتنقسم منغوليا إلى

قسمين: قسم شمالى غربى، به جبال كثيرة؛ تتخللها وديان تغطيها

الحصباء، وقسم جنوبى شرقى، منخفض؛ يشمل بقية صحراء

«جوبى» ، وهو سهل متسع، تغطيه طبقة من الحصباء شديدة

الصلابة، وكانت القبائل المغولية فى هذه المنطقة تعيش مستقلة عن

بعضها، وتتقاتل فيما بينها، أو مع جيرانها، ولاسيما التتار. وقد

ظهرت طائفة «قيات» التى نشأ فيها «جنكيزخان» من بين هذه

القبائل.

امتاز مناخ هذه المنطقة بشتاء طويل تشتد فيه البرودة، وتهطل فيه

الأمطار، وتنخفض درجة الحرارة فى بعض جهاتها إلى (58) درجة

تحت الصفر، فتتجمد المياه، فإذا ما حل الصيف القصير -بضعة

أسابيع- تشتد الحرارة وترتفع درجاتها - أحيانًا - إلى (60) درجة

مئوية.

وقد انقسمت القبائل المغولية من حيث المعيشة والعمل إلى نوعين:

الأول: عمل بالرعى، ويعيش إلى جوار المراعى.

والنوع الآخر: عمل بصيد الأسماك من الأنهار، والحيوانات من الغابات،

لذا فقد كانت هذه القبائل تبدو أكثر بدائية وتوحشًا، ولا علاقة لها

بالعالم المتحضر - بسبب معيشتهم بالغابات - إلا عن طريق القبائل

الرحالة، التى استفادت من جوارها للأويغوريين المتحضرين،

ولامبراطورية «كين» فى «الصين الشمالية» ، ومع ذلك لم يكن لهم

ص: 8

نصيب من الحياة الحضرية، إذ لم تكن لهم مدن يعيشون فيها، وإنما

كانوا دائمى الترحال من مكان إلى آخر، وقد أقاموا خيامهم على

عربات ذات عجل؛ كى يسهل نقلها معهم فى ترحالهم.

والواقع أن بيئة هذه المناطق فرضت على المغول أن يعيشوا فى

نزاع وصراع من أجل البقاء، فضلا عن أنهم كانوا لا يؤمنون بدين ولا

شريعة، ولا يعرفون حلالا أو حرامًا، ولا منطق بينهم إلا للقوة،

ولاحكم إلا للسيف، ولذلك كانوا يشكلون ضغطًا متواصلا على الدول

المتحضرة التى تعيش إلى جوارهم، وينتهزون الفرصة للإغارة عليها.

فكان لابد لهذه الحالة من الفوضى السياسية والاجتماعية - التى

كانت تعيشها هذه القبائل المغولية - أن تتمخض - فى النهاية - عن

وجود شخصية قوية توحد شتاتها، وتكوِّن منها دولة فتية موحَّدة،

فظهر شاب مغولى اسمه «تموجين» هو نفسه «جنكيزخان» ، ونجح

بعد كفاح طويل فى تأسيس وبناء امبراطورية المغول الفسيحة،

فامتدت حدودها بين «الصين» شرقًا، و «بحر الإدرياتيك» غربًا.

ص: 9

الفصل الثاني

*نشأة الامبراطورية المغولية

أولا: جنكيزخان وتوحيد القبائل:

وُلد «جنكيزخان» فى سنة (549هـ = 1154م)، بإحدى المناطق

المغولية، وكان أبوه «يسوكاى بهادر» رئيسًا لقبيلة «قيات»

المغولية، وكان يحارب - أحيانًا- القبائل المجاورة له، كما كان

يصطدم ببعض قبائل التتار، وقد خرج مرة لمحاربة رئيس إحدى

القبائل التترية، وانتصر عليه، وتمكن من أسره وقتله، فلما عاد إلى

موطنه وجد امرأته قد ولدت مولودًا، فأسماه «تموجين» بنفس اسم

رئيس قبيلة التتار الذى تمكن من أسره وقتله، تيمنًا بانتصاره عليه.

عاش «تموجين» حياة عز ودلال فى مطلع حياته، إلا أنه لم ينعم بها

طويلا، حيث مات أبوه وهو فى الثالثة عشرة من عمره، فتغير

الحال، وانفض عنه أكثر الناس، واضطر إلى الاعتماد على نفسه فى

رعاية أسرته، فكونت هذه الفترة شخصيته، وطبعته بطابع الجد

والصرامة، لدرجة أنه كان يستطيع أن يبقى ثلاثة أيام دون طعام أو

شراب، فلما بلغ السابعة عشرة من عمره التف حوله جماعة من الناس،

وتمكن من خلالهم أن يكون قوة يُخشى بأسها فى المنطقة، فبدأ

يفرض نفوذه على القبائل المجاورة، واحدة تلو الأخرى.

كانت شخصية «تموجين» القوية من بين الأسباب التى دفعت الناس

إلى الالتفاف حوله، فبدأ بفرض نفوذه، ثم السيطرة على القبائل

الكبيرة، وتمكن فى سنة (599هـ) من إحراز نصر كبير على قبيلة

«كرايت» ، وأسرعت القبائل الأخرى إلى الدخول فى طاعته، وقضى

على ملك «النايمان» ، ودخلت قبائله تحت إمرته فى سنة (600هـ)؛

التى اجتمعت فيها القبائل وأجمعت على اختيار «تموجين» إمبراطورًا

لها تحت اسم جنكيزخان.

وتُعدُّ هذه السنة بداية للدولة المغولية، التى وضع لها «جنكيزخان»

مجموعة من القوانين الصارمة عرفت باسم «دستور الياسّا» فى عام

(603هـ)، وكان على كل من يخضع لهذه القوانين أن يدين لها

بالولاء، أما من يخرج عليها فليس له من جزاء إلا القتل فورًا، وهكذا

ص: 10

استطاع «جنكيزخان» أن يوحد شتات هذه القبائل فى دولة واحدة

تخضع لدستور واحد، واستغل قُوى هذه الأقوام والقبائل فى تكوين

جيش قوى استطاع به - بعد ذلك- أن يطيح بالدول المجاورة له،

الواحدة تلو الأخرى.

ثانيًا: سيطرة «جنكيزخان» على الدول المجاورة:

1 -

الدولة الأويغورية وانضمامها إلى امبراطورية جنكيزخان:

دخل «الأويغور» فى طاعة ملك «الخطا» ، الذى أرسل إليهم قوات من

عنده لكنها أساءت معاملة الأهالى الأويغوريين، فهاجمتها الأهالى

وقضت عليها، فأرسل إليهم «ملك الخطا» قوة كبيرة تمكنت من

إخضاع «الأويغور» لسطوتها، ونكلت بهم أشد أنواع التنكيل، فبعث

«الأويغور» إلى «جنكيزخان» يطلبون منه المساعدة، فى الوقت

الذى ثاروا فيه على جنود «الخطا» ، وتمكنوا منهم وقتلوا رئيسهم،

ثم دخلوا بعد ذلك تحت حماية «جنكيزخان» فى سنة (606هـ)، ونتيجة

لذلك فقد شاع «الخط الأويغورى» بين أتباع «جنكيزخان» ، وأصبحوا

يدَوِّنون به سجلاتهم وكتاباتهم.

2 -

سيطرة جنكيز على أقاليم الصين الشمالية:

لاحظ «جنكيزخان» أن ملوك «الصين» الشمالية يحاولون الوقيعة بين

القبائل المغولية الخاضعة لسيطرته، ويعملون على تأليب أفراد هذه

القبائل عليه وعلى قبيلته، فخرج إليهم على رأس جيش كبير، وأخذ

معه كل أبنائه فى قيادة هذا الجيش، ودخل فى حروب متواصلة،

بدأت فى عام (608هـ)، وانتهت فى عام (612هـ)، حين سيطر

«جنكيز» على العاصمة «بكين» ، واستولى على كنوز «الصين»

ونفائسها، فارتقت حياة المغول، وصاروا يصنعون خيامهم من

الحرير، ويرصعون سيوفهم بالجواهر.

وقد انتفع المغول من خبرات «الصين» العسكرية؛ إذ تمكن الصينيون

من اختراع البارود، وتطوير آلات الحرب القديمة وعدتها، مثل

«المجانيق» و «العَرَّاوات» وغيرها، مما مكنهم من فتح أحصن القلاع

وأمنعها، وأصعب المناطق العسكرية، كما استفادوا من استيلائهم

على «بكين» الأثر النفسى الذى تكوَّن لدى الناس من المفاجأة التى

ص: 11

سيطرت عليهم حين سمعوا بأن مجموعة من القبائل البربرية الهمجية

قد أطاحت بدولة كبرى مثل «الصين الشمالية» ، ولم يستطع بعض

الملوك تصديق هذا الحدث، مثلما فعل «محمد خوارزمشاه» الذى لم

يصدق هذا الأمر حتى سنة (615هـ)، وبعث ببعض خاصته تحت رئاسة

أحد العلماء فى بعثة استكشافية للتحقق من صحة هذا الخبر، فلما

تيقن من ذلك أبدى دهشته، ووقر فى نفسه أن هذه القوة الوليدة

لابد أنها تمتلك قوة خارقة، وعليه أن يحتاط لذلك، وسيطر عليه

هاجس امبراطورية المغولية الوليدة، وهكذا نُصر المغول بالرعب،

وخافهم الملوك، ورؤساء الدول المحيطة بهم.

ثم عاد «جنكيزخان» من «الصين» إلى بلاده فى سنة (618هـ)، لكى

يطارد رؤساء القبائل الفارِّين منه، والذين تسببوا فى إحداث بعض

الاضطرابات والمشاكل فى بلاده.

3 -

قضاء جنكيزخان على الدولة القراخطائية:

فر عدد من رؤساء القبائل وأبنائهم من وجه «جنكيزخان» إبان

المذابح التى قام بها أثناء محاولته توحيد شتات القبائل التركية

المغولية، وكان من بينهم «كوجلك خان» ابن ملك قبائل «النايمان»

الذى هام على وجهه متوجهًا نحو الغرب وبصحبته مجموعة من

جنوده، حتى عبر حدود «الدولة القراخطائية» ، فتم القبض عليه وعلى

من معه، وأمر «كورخان» ملك هذه الدولة بإيداعهم السجن.

وأثناء ذلك نشب نزاع بين القراخطائيين والخوارزميين، حيث

امتنع السلطان «علاء الدين محمد خوارزمشاه» عن دفع الجزية

السنوية التى كانت تدفع للدولة القراخطائية»، وكان مقدارها ثلاثين

ألف دينار، وكان السلاطين الخوارزميون يوصون أبناءهم بدفع هذه

الجزية لهم؛ لأنهم يمثلون السد الذى يمنع عن بلادهم غارات القبائل

الهمجية من جهة الشرق، فلما امتنع «محمد خوارزمشاه» عن دفع

هذه الجزية، كان لابد من قيام الحرب بين الطرفين.

استطاع «كوجلك خان» - من سجنه - أن يخدع «كورخان» ملك

«الخطا» ويقنعه بأنه خير معين له فى حربه ضد «خوارزمشاه» ، وأنه

ص: 12

يستطيع بسهولة أن يجمع جيشًا كبيرًا من الجنود الذين فروا أمام

«جنكيزخان» ، وأن بوسعه أن يلحق الهزيمة بخوارزمشاه. وكان

«كورخان» فى حاجة إلى من يساعده، فوافق على عرض

«كوجلك» ، وأطلق سراحه، وأمَّنه، وسمح له بالخروج لجمع الجنود

وتكوين الجيش، فما كان من «كوجلك» إلا أن اتصل بمحمد

خوارزمشاه واتفق معه على أن يجمع جيوشه ويهاجم القراخطائيين

جهة الشرق، فى الوقت الذى يهاجمهم فيه الخوارزميون من الجهة

الغربية، مقابل اقتسامها، فوافقه «محمد» ، وتم تنفيذ هذا المخطط،

وتمكن «كوجلك» من قتل «كورخان» ، ثم تزوج ابنته بعد أن ارتد عن

دينه إلى البوذية من أجل هذا الزواج.

اضطهد «كوجلك» المسلمين فى المناطق التى سيطر عليها، وأخذ

يُضيِّق عليهم، ويستولى على أرزاقهم، ويمنعهم من أداء شعائرهم،

ويهدم مساجدهم، ويمنعهم من رفع الأذان، ويحاول إرغامهم على

ترك الدين الإسلامى واعتناق البوذية، فضج المسلمون من ذلك وطلبوا

العون من «جنكيزخان» ، فأرسل إليهم جيشًا بقيادة أحد قادته الكبار

للتخلص من «كوجلك» ، وتمكن هذا الجيش ببراعة عسكرية فائقة من

القضاء على جيش «كوجلك» فى وقت قصير جدا، وفر «كوجلك» من

أمام القائد المغولى، ولكن المغول تتبعوا خطواته حتى أدركوه،

وقضوا عليه فى سنة (615هـ).

دهش «محمد خوارزمشاه» من الطريقة التى تمكن بها القائد المغولى

من السيطرة على «الدولة القراخطائية» ، فى حين أنه كان يخشى

بأس «كوجلك» ويهابه، لدرجة أنه أمر سكان القرى الحدودية بينه

وبين دولة «كوجلك» بهجرها حين دب خلاف بينهما، خشية أن

يهاجمه «كوجلك» ، فشعر بالقلق وسيطر عليه الخوف، خاصة أن

بلاده أصبحت مجاورة لأملاك «جنكيزخان» بعد أن ساعد هو نفسه

فى زوال «الدولة القراخطائية» التى كانت بمثابة حائط الصد المنيع

لبلاده ضد غارات المغول البربر.

الخوارزميون والمغول:

حدث صدام بين السلطان «محمد خوارزمشاه» وفيلق من المغول فى

ص: 13

سنة (612هـ) بعد أن تغلب المغول بقيادة «جنكيزخان» على جميع

البلاد المتحضرة المجاورة لهم فلم يقصدوا بلدًا إلا فتحوه، حتى بلاد

«الصين» التى ظلت فى نظر القبائل المغولية أرضًا لايمكن أن

تستباح حرمتها بأية قوة، تمكن «جنكيزخان» من دخولها، وفتح

«بكين» عاصمة «الصين الشمالية» فى سنة (612هـ)، التى وقع فيها

الصدام بين الخوارزميين والمغول حين قاد أحد زعماء القبائل الفارين

من وجه «جنكيزخان» مجموعة من أبناء قبيلته وانطلق شمالا،

واستقر فى منطقة قريبة من نفوذ الخوارزميين، فأرسل

«جنكيزخان» ابنه «جوجى» (توشى) على رأس فرقة صغيرة من

جنوده لتعقب هؤلاء الفارين، فقضى «جوجى» عليهم، ثم عاد أدراجه

قاصدًا «منغوليا» ، فالتقى فى طريق العودة بجيش كان يقوده

السلطان «محمد خوارزمشاه» بنفسه، فبعث «جوجى» إليه برسالة

مؤداها أن المغول ما قدموا إلا من أجل دفع الثوار الخارجين، ولم

يأتوا لمحاربة المسلمين، وليست عندهم أوامر بذلك، فلما قرأ

«السلطان محمد» الرسالة ركبه الغرور، وأعلن الحرب عليهم،

وهاجمهم، واستمرت الحرب سجالا بين الطرفين طيلة النهار حتى أتى

الليل، فأشعل المغول النار فى معسكرهم، ثم انسحبوا فى جنح

الليل، واكتشف السلطان أمرهم عند طلوع النهار، فأثر ذلك فى

نفسه وترك بداخله جرحًا عميقًا وخوفًا شديدًا، فقد رأى بنفسه ما

يتمتع به هؤلاء المغول من مقدرة على خوض غمار الحروب.

فلما هاجم المغول بلاده - بعد ذلك - أخذ يتقهقر أمامهم بغير انتظام،

وفقد القدرة على مواجهتهم ومنازلتهم، وقد استولت عليه الدهشة

عندما سمع بنبأ فتح المغول للعاصمة الصينية «بكين» ، ولم يصدق

ذلك حيث كانت «الصين» تتمتع بنظام إدارى وعسكرى فريد، وبعث

«بهاء الدين الرازى» أحد أركان دولته لاستطلاع هذا الخبر، فلما

تأكد «الرازى» من صحة الخبر، عاد إلى السلطان «محمد

خوارزمشاه» ووصف له ما رأى خلال رحلته بقوله: «عندما وصلنا إلى

ص: 14

حدود طمغاج واقتربنا من عاصمة التون خاتون (أى عاصمة أباطرة

الصين الشمالية وهى بكين) تراءى لنا من مسافة بعيدة أكمة بيضاء

عالية .. تلك الأكمة العالية تبعد عن المكان الذى كنا فيه نحو مسيرة

ثلاثة أيام أو أكثر، فخيل إلينا نحن مبعوثى خوارزمشاه أن تلك

الأكمة العالية ربما كانت جبلا تكسوه الثلوج، فسألنا المرشدين

وأهل المنطقة، فقالوا لنا: إنما هى مجموعة عظام الذين قُتلوا.

وعندما تقدمنا مرحلة أخرى فى الطريق، كانت الأرض قد صارت لزجة

سوداء (بسبب ما اختلط بها من دماء الآدميين) .. وعندما وصلنا إلى

أبواب طمغاج وجدنا فى موضع أسفل برج القلعة عظامًا آدمية كثيرة،

فاستفسرنا عنها، قيل:

إنه فى يوم فتح المدينة ألقى أهلها بعشرين ألف فتاة عذراء من

هذا البرج، فهلكن هناك حتى لا يقعن فى أيدى جيش المغول، فهذه

العظام كلها ما هى إلا رفات تلك الفتيات. وعندما شاهدنا

«جنكيزخان» أحضروا أمامنا ابن التون خان (إمبراطور الصين)

ووزيره مقيدين .. ولدى عودتنا أرسلوا معنا إلى خوارزمشاه الكثير

من التحف والهدايا، وقال لنا: قولوا لمحمد خوارزمشاه: إننى ملك

مشرق الشمس، وأنت ملك مغرب الشمس، وبيننا عهد ومودة ومحبة

وصلح مستحكم، فليستمر التجار، ولتستمر القوافل رائحة غادية بين

الطرفين، ولينقلوا إليك الطرائف والسلع التى فى ولايتى، وبلادك

أيضًا يكون لها نفس الحكم.

كان السلطان «محمد» -آنذاك- يشعر أنه فى أوج قوته، فقد استطاع

بسط سيطرته ونفوذه على «إيران» بأكملها عدا ولايتى «فارس»

و «خوزستان» ، وضم «العراق» وبلاد «ما وراء النهر» و «تركستان

الشرقية»، وفكر - فى وقت ما - فى غزو بلاد «الصين» وضمها إلى

حوزته، كما فكر فى أن تكون له الهيمنة على «بغداد» والخلافة

العباسية، كما كانت لسلاطين السلاجقة، ولكن أمله خاب فى هذا

الشأن حين هاجمت جيوشه العواصف والأمطار الغزيرة والثلوج، ومات

عدد كبير من جنوده وهلكت خيوله فى طريقه إلى غزو «بغداد» ،

ص: 15

فعاد إلى بلاده خائبًا منكسرًا فى سنة (614هـ)، فكانت هذه أول

صدمة صادفته منذ ولى أمور الحكم فى سنة (596هـ)، ولذلك قال

أحد المؤرخين: «إن هيبة السلطان قد قلت فى قلوب الناس بعد عودته

من العراق، وعد الناس قصده دار الخلافة شؤمًا عليه».

لم يعد «السلطان محمد» إلى بلاده مباشرة حين رجوعه من

«العراق» ، وإنما توجه إلى بلاد «ما وراء النهر» ، واستقبل هناك

وفدًا من تجار المغول المسلمين، برئاسة «محمود الخوارزمى» الذى

تنتمى أسرته إلى إقليم «خوارزم» ، حاملا رسالة من «جنكيزخان»

إلى «السلطان محمد» يقول له فيها: «إن الخان الكبير (يعنى جنكيز)

يسلم عليك، ويقول: ليس يخفى علىَّ عظيمُ شأنك، وما بلغت من

سلطانك، ولقد علمت بسطة ملكك، وإنفاذ حكمك فى أكثر أقاليم

الأرض، وأنا أرى مسالمتك من جملة الواجبات، وأنت عندى مثل أعز

أولادى، وغير خافٍ عليك - أيضًا- أننى ملكت الصين وما يليها من

بلاد الترك، وقد أذعنت لى قبائلهم، وأنت أخبر الناس بأن بلادى

مثارات العساكر، ومعادن الفضة، وإنها لغنية عن طلب غيرها، فإن

رأيت أن تفتح للتجار فى الجهتين سبيل التردد، عمت المنافع وشملت

الفوائد.

شعر «السلطان محمد» بغيظ شديد تجاه هذه الرسالة، إذ كانت تحمل

فى طياتها طابع التهديد والوعيد، فضلا عن الإهانة التى شعر بها

حين اعتبره «جنكيزخان» فى منزلة الابن، وهذا يعنى التبعية

للمغول، ومهما يكن من أمر فقد وافق «السلطان محمد» على إبرام

المعاهدة التجارية التى عرضها عليه «جنكيزخان» إلا أنه سرعان ما

قضى عليها بنفسه وهى مازالت فى مهدها، لشعوره بأنه مازال

قويا، ويجب عليه ألا يعبأ بهؤلاء الهمج من المغول، فضلا عما عرف

عنه من تكبر، وبغض للتواضع والتملق والمداهنة.

بعث «جنكيزخان» - ثانية- برسالة إلى «السلطان محمد» ، وكان

يحملها مجموعة من التجار وبصحبتهم عدد من أتباع «جنكيزخان» ،

وكانت القافلة كلها من المسلمين، ووصلت إلى مدينة «أترار» التى

ص: 16

تقع على حدود ممالك «السلطان محمد» ، فطمع «نيال خان» حاكم

هذه المدينة فى الهدايا التى تحملها هذه القافلة، وبعث إلى

«السلطان محمد» يخبره بأمرهم، وشكه فى أنهم ربما يكونون

جواسيس، فأمره السلطان بقتلهم على الفور، فقتلهم جميعًا إلا رجلا

واحدًا تمكن من الفرار، وذهب إلى بلاط «جنكيز» وأخبره بما حدث،

فاستشاط غضبًا، وهاله الأمر.

كان «جنكيزخان» يظن أن «الدولة الخوارزمية» دولة قوية متماسكة،

وليس بوسعه غزوها، إلا أنه أدرك أن الحرب مع الخوارزميين لا مفر

منها، وعليه أن يتريث قليلا حتى يعد لذلك العدة، فبعث برسالة

يحملها وفد رسمى من أتباعه المسلمين إلى «السلطان محمد» ، يقول

له فيها: «إنك قد أعطيت خطَّك ويدك بالأمان للتجار ألا تتعرض لأحد

منهم، فغدرت ونكثت، والغدر قبيح، ومن سلطان الإسلام أقبح، فإن

كنت تزعم أن الذى ارتكبه نيال خان كان من غير أمر صدر منك،

فسلِّم نيال خان إلىَّ، لأجازيه على ما فعل، حقنًا للدماء، وتسكينًا

للدهماء، وإلا فأذن بحرب ترخص فيها غوالى الأرواح».

رفض «السلطان محمد» احتجاج «جنكيزخان» كما رفض تسليم «نيال

خان»، وأمر بقتل الوفد المغولى الذى حمل إليه الرسالة، وكان ذلك

فى عام (615هـ)، الذى بدأ «جنكيزخان» فيه الاستعداد لحرب

الخوارزميين، ووضع خطة لذلك، وبدأها بتأمين ظهره من المناوئين

لسلطته، وقضى على دولة «النايمان» وحاكمها «كوجلك خان» ،

فبات الطريق أمامه مفتوحًا لغزو «الدولة الخوارزمية.

تسرب القلق والحيرة إلى نفس السلطان «محمد» ، وغلب عليه التوتر

والخوف، وجفاه النوم، كلما سمع باقتراب المغول من بلاده، وأشار

عليه بعض مستشاريه بجمع جيش كبير يقف به على ساحل «نهر

سيحون»؛ ليحول دون عبور المغول إلى بلاد «ما وراء النهر» ، ولكن

الأمراء الخوارزميين أشاروا عليه بأن يستدرج المغول ويدعهم

يعبرون إلى بلاد «ما وراء النهر» ، ثم يستدرجهم إلى الجبال والممرات

ص: 17

التى يصعب عبورها، ثم ينقض عليهم بجيوشه من كل جانب، فراقت

هذه الفكرة «السلطان محمد» ، وفرق جيشه وأمراءه على المدن

الرئيسية ببلاد ما وراء النهر.

ولبث محمد خوارزمشاه ينتظر المغول، ثم ترك جيوشه وقواده ببلاد

«ما وراء النهر» وعاد إلى «خراسان» بسبب بعض الأمور الداخلية

التى أقلقته، والتى كان من أبرزها سيطرة أمه وزيادة نفوذها على

البلاد والجيش، لدرجة أنها تفوقت عليه فى النفوذ.

فلما وصل «جنكيزخان» إلى بلاد «ما وراء النهر» ، قسم جيوشه

عليها، وتمكن من السيطرة على هذه المنطقة فى وقت قصير،

واستولت جيوشه على «أترار» و «بخارى» و «سمرقند» ، وأمهات

مدن بلاد «ما وراء النهر» ، ولم يجد المغول المقاومة الشرسة التى

انتظروها، فأدرك «جنكيزخان» حالة السلطان النفسية، وعمد إلى

المبالغة فى القتل والسلب والنهب ليزداد خوف الخوارزميين وغيرهم،

وقتل سكان مدينة «أترار» عن بكرة أبيهم، وأحرق «بخارى» عن

آخرها، وقتل كثيرًا من سكانها، وأخذ من بقى منهم على قيد الحياة

رقيقًا؛ ليستخدمهم فى حروبه التالية، فجمع الخوارزميون أمرهم

على بناء سور عظيم حول مدينة «سمرقند» آخر أمل لهم فى الصمود

والبقاء، ولكن المغول كانوا أسرع منهم ووصلوا إلى «سمرقند» قبل

أن يشرعوا فى بناء سورها، وتمكنوا من اقتحام هذه المدينة،

فانهار «السلطان محمد» وأخذ يولى الأدبار من مكان إلى مكان،

وأرسل بعض أتباعه لكى ينقلوا زوجاته وبنيه من «خوارزم» إلى

«مازندان» ، فانتقلت عدوى الخوف والاضطراب من السلطان الهارب

إلى ثقاته وأتباعه ومستشاريه، واختلفت بينهم الآراء فيما ينبغى أن

يقوموا به فى سبيل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، واستقر الأمر بالسلطان

إلى أن اختار التوجه إلى بلاد العراق العجمى غربى «إيران» ؛ ليبتعد

بنفسه وجيشه قدر الإمكان عن هؤلاء الغزاة، ثم يستجمع قواه

وجنوده، ويستعد للقاء المغول، وعاد من جديد وولى وجهه شطر

الشمال الغربى إلى «نيسابور» ، وأثناء ارتحاله سمع بسقوط

ص: 18

«بخارى» و «سمرقند» فى أيدى المغول فزادت حالته النفسية

سوءًا.

ومما لاشك فيه أن السرعة التى تمتعت بها جيوش المغول فى

الاقتحام والتوغل، كانت من العوامل التى تركت آثارًا نفسية بعيدة

الغور فى نفوس المسلمين، مثلها فى ذلك مثل المذابح الرهيبة التى

نصبوها بعد فتح المدن المحاصرة؛ وهى المدن التى تركوها

خرابًا يبابًا، ليس فيها نفس واحد يتردد، كمدينة «نيسابور»

التى قتلوا كل من فيها من الأحياء حتى القطط والكلاب،

وبقروا بطون الحوامل، وأخرجوا الأجنة منها وذبحوها.

ولاشك أنه كانت هناك أسباب أخرى أدت إلى حدوث هذه الحالة من

الشلل التى أصابت تفكير الناس وحركتهم تجاه المغول أثناء غزوهم

لبلادهم، فإلى جانب السرعة التى تمتع بها المغول فى التحرك

والقسوة المتعمدة، ساعد مظهرهم البغيض، وما كانوا عليه من

عادات قبيحة كريهة على زيادة الرعب والفزع والقلق والخوف فى

قلوب الناس.

وكان المغول إذا أرادوا الإغارة على مدينة، بعثوا برسالة إلى أهلها

ويختمونها بقولهم: «ولسنا نعلم ماذا تفعل بكم الأقدار إذا لم تسرعوا

إلى تقديم الخضوع والاستسلام لنا، والله وحده هو الذى يعلم ما هو

نازل بكم».

وهكذا نظر المسلمون إلى المغول وتصرفاتهم بالكثير من الاشمئزاز

والنفور والكراهية، باعتبارهم غير خاضعين للمقاييس والمعايير

الإنسانية الأساسية، ولذلك امتلأت نفوس الناس بالرعب منهم.

تعرض «السلطان محمد» لمحاولة قتله على أيدى بعض المتمردين من

قادته قبل أن يدخل «نيسابور» ، إلا أنه تمكن من النجاة، وسارع

بالتوجه إلى «نيسابور» ، فلما دخلها جاءته الأخبار بأن «جنكيزخان»

بعث جيشًا كبيرًا فى أثره للقضاء عليه، فانطلق بقواته المتبقية إلى

الشمال الغربى، فما لبثت هذه القوات التى كانت تصاحبه أن انفرط

عقدها، وتفرقت من حوله، واستطاع «السلطان محمد» أن يهرب

بنفسه ومعه بعض أولاده إلى جزيرة منعزلة فى «بحر قزوين» ، ثم

ص: 19

اعتلت صحته، واهتدى الجيش المغولى الذى كان يطارده ويتعقبه

إلى القلعة التى كانت تختبئ فيها زوجاته فى «مازندان» ،

فاقتحموها وأسروا زوجاته، وقتلوا مَنْ وجدوه بالقلعة من أبنائه

ورجاله، فلما علم «السلطان محمد» بذلك فقد وعيه، واستولى عليه

القلق والاضطراب، وأخذ يبكى بكاءً مرا حتى وافاه أجله فى سنة

(617هـ) بعد أن استولى المغول على معظم أقاليم «إيران»

وأحسنها.

وهكذا كان للعامل النفسى دوره واعتباره فى حروب «جنكيزخان»

على «الدولة الخوارزمية» ، وهو دور لا يقل أهمية عن الدور الذى

لعبته العوامل السياسية والعسكرية التى تسببت فى هزيمة

الخوارزميين واندحارهم أمام الغزاة.

السلطان جلال الدين المنكبرتى وجهاده ضد المغول:

المرحلة الأولى من جهاد جلال الدين:

كان السلطان «محمد خوارزمشاه» - قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة - قد

منح ولاية العهد لابنه الأكبر «جلال الدين» ، المعروف باسم

«منكبرتى» بدلا من ابنه «أوزلاغ» المعروف باسم «قطب الدين» ،

وتوجه «جلال الدين» -عقب وفاة أبيه- إلى «خوارزم» ، فقوبل

بمعارضة شديدة من أتراك «القنفلى» الذين يتكون منهم عصب

الجيش، حيث كانوا يرغبون فى أن يكون «غياث الدين» سلطانهم؛

لأن أمه من طائفتهم، ولم يكتفِ هؤلاء الجنود بالمعارضة، بل دبروا

لقتل «جلال الدين» ، إلا أنه تمكن من الفرار بأتباعه عبر الصحراء إلى

«غزنة» ، التى كان هو واليها فى عهد أبيه، ويعرفه الناس هناك

ويحترمونه ويقدرون كفاءته العسكرية وأعماله البطولية.

واستطاع هناك تكوين جيش كبير بلغ ثلاثين ألف مقاتل، وانضمت إليه

الفلول التى كانت هاربة من المغول، وبذلك ألحق هزيمة كبيرة

بمقدمة أرسلها المغول للبحث عنه فى هذه المنطقة فى سنة (618هـ.)

خشى «جنكيزخان» أن يتسع نفوذ «جلال الدين» فأرسل جيشًا

كبيرًا بقيادة أحد كبار القادة المغول لمحاربته، فالتقى الجيشان

بالسهول القريبة من «بروان» ، واستطاع «جلال الدين» أن يلحق

ص: 20

هزيمة ساحقة بالجيش المغولى، وسمع الناس بذلك ففرحوا فرحًا

شديدًا، وثار أهالى «هراة» فى وجه رئيس الحامية المغولى وقتلوه

هو وجنوده، فبعث «جنكيز» بابنه «تولوى» إلى هذه المدينة،

فدمرها وقتل جميع سكانها، وخرج «جنكيز» بنفسه على رأس جيش

كبير لملاقاة «جلال الدين» ، فى الوقت الذى حدث فيه خلاف بين

اثنين من قادة «جلال الدين» على توزيع الغنائم، وانسحب أحدهما

بجنوده تاركًا «جلال الدين» فى هذه الظروف الحرجة، فاضطر إلى

الانسحاب بجنوده صوب بلاد «الهند» - حين سمع بقدوم المغول- ولكن

«جنكيز» أدركه، ودارت بينهما معركة حامية؛ أبلى فيها «جلال

الدين» بلاءً حسنًا، ولكن جيش «جنكيز» كان أقوى عدة وأكثر عددًا

فأدرك «جلال الدين» أنه لا فائدة من القتال، وانطلق صوب «نهر

السند» وعبره بجنوده، فلم يصل منهم إلى الجانب الآخر من النهر إلا

أربعة آلاف فارس، وبقى «جلال الدين» فى بلاد «الهند» بضع سنوات

(618 - 622 هـ)، ثم عاد بعدها إلى إيران.

وفاة جنكيزخان وتقسيم الإمبراطورية المغولية:

بعد أن سيطر «جنكيزخان» على كل المنطقة الشرقية من العالم

الإسلامى، وعين عليها ولاة من قِبَله؛ عاد إلى بلاده، ثم تُوفى فى

سنة (624هـ)، فعقد المغول مجلسًا عاما للمشاورة فيمن يخلفه على

العرش، واتفقوا على أن يتولى العرش «تولوى» أصغر أبنائه، ثم

قسمت - بعد ذلك - الأراضى التى سيطر عليها المغول بين أبناء

«جنكيز» الأربعة:

جوجى: واختص بالجزء الواقع «جنوب روسيا» الحالية، ويبدأ من

جنوب «بحر قزوين» فى الغرب حتى سواحل «نهر آرتش» فى

الشرق، وكان اسم هذه البلاد «القبجاق» ، وعرف أبناء «جوجى»

باسم «القبيلة الذهبية» نسبة إلى المخيمات التى اتخذوها لأنفسهم

بلون الذهب.

جغتاى: واختص بالقسم الذى يضم بلاد «الأويغور» ومنطقة بلاد ما

وراء النهر.

أوكتاى: واختص بجزء صغير فى غربى منغوليا.

تولوى: واختص بالمنطقة الأصلية التى عاش فيها المغول.

ص: 21

ثم ما لبث المغول أن اختاروا «أوكتاى» إمبراطورًا أعظم للمغول فى

سنة (626هـ).

المرحلة الثانية من كفاح جلال الدين:

انتهز «جلال الدين» فرصة انشغال المغول عن البلاد الفارسية بعد

وفاة «جنكيز» وانطلق بجيشه نحو «إيران» ، وعبر «نهر السند» ،

ودخل فى حروب عديدة مع مَن رآهم سببًا فيما حلَّ بالدولة

الخوارزمية، فحارب «الأتابكة» فى «فارس» و «كرمان» و «يزد» ، ثم

حارب الخليفة العباسى، وانتصر عليهم جميعًا، ولكن مجموعة من

الولاة الذين يحكمون بلاد «ما وراء النهر» بقيادة «الملك الأشرف

الأيوبى» فى «الموصل» ، تمكنوا من إلحاق الهزيمة بجلال الدين،

فاستغل «الإسماعيلية» الفرصة وأرسلوا إلى «أوكتاى» إمبراطور

المغول يخبرونه بأن الحلف العربى هزم «جلال الدين» ، وقد أقدم

«الإسماعيلية» على ذلك لأن «جلال الدين» حاربهم من قبل وانتصر

عليهم، فجرد «أوكتاى» جيشًا كبيرًا قوامه (50) ألف جندى بقيادة

أشهر قواده «جرماغون» ، الذى تمكن من مطاردة «جلال الدين»

وتفريق جيشه، ففر «جلال الدين» فى سنة (628هـ) إلى «الجبال

الكردية» الواقعة فى منطقة «جبال بكر» ، فقتله هناك أحد الأكراد

حين عرف أنه السلطان، ثأرًا لمقتل أخيه على يد جيش «جلال الدين»

فى إحدى الحروب.

غزو هولاكو لغرب إيران وقضاؤه على الخلافة العباسية:

هولاكو والإسماعيلية:

بعد سلسلة من الصراعات على السلطة بين أمراء البيت الملكى، انتقل

الحكم إلى بيت «تولوى بن جنكيزخان، وتولى «منكوقا آن بن

تولوى» الحكم فى سنة (648هـ)، وعمل منذ تسلم أمور الحكم على

تنفيذ التوجهات التوسعية التى كانت تضطرم بها نفوس المغول،

فأرسل أخاه «قوبيلاى» على رأس جيش كبير للسيطرة على جنوب

«الصين» ومنطقة «جنوبى شرق آسيا» ، وأرسل أخاه الأصغر

«هولاكو» إلى «إيران» وبقية العالم الإسلامى للسيطرة عليها، وحدد

له هدفين هما:

1 -

القضاء علىالإسماعيلية.

2 -

القضاء على الخلافة العباسية.

ص: 22

تحرك «هولاكو» من «سمرقند» فى سنة (653هـ) وأرسل طليعة

جيشه لاستكشاف قلاع «الإسماعيلية» ومهاجمة بعضها؛ حيث كان

«الإسماعيلية» يقيمون قلاعهم على قمم الجبال، بحيث يصبح

مهاجموهم تحت سيطرتهم مباشرة، فإذا ما هاجمهم جيش أرسلوا

عليه وابلا من السهام والحجارة لإعاقة حركته، ومنعه من الصعود،

فلا يصل إليهم، وكانت أهم هذه القلاع التى يحتفظون فيها بالمؤن

الكثيرة، قلاع:«الموت» ، و «ميمون در» ، و «لنبهْ سر» وكَردكوه.

أرسل «هولاكو» قائده «كيتبوقا نوين» لفتح قلعة «كَردكوه»

فاستعصت عليه، فسار «هولاكو» بنفسه لفتحها فى أواخر سنة

(653هـ)، إلا أنه لم يتمكن منها، وفتح بعض القلاع الصغيرة، فحل به

وبجنوده اليأس، خاصة وقد حل شتاء سنة (654هـ)، وقلت الأغذية،

وتعرضت جيوشه للهجمات الفدائية التى قتلت الكثيرين من الجنود،

فعمد «هولاكو» إلى الحيلة وسياسة الترغيب والترهيب، فنجحت

حيلته، وبعث إليه «ركن الدين خورشاه» ملك «الإسماعيلية» برسالة

يعلن فيها استعداده للتسليم، فوافقه «هولاكو» وأمَّنه، وسلم

«خورشاه» نفسه فى سنة (654هـ) وقتله المغول بعد فترة قصيرة،

ثم سيطروا على قلاع «الإسماعيلية» وأطرافها، واتخذ «هولاكو» من

الفيلسوف والعالم الفلكى الرياضى «نصر الدين الطوسى» الذى كان

يعيش مع «الإسماعيلية» فى قلاعهم؛ مستشارًا له ووزيرًا.

هولاكو وسقوط الخلافة العباسية:

بعد أن قضى «هولاكو» على «الإسماعيلية» ؛ توجه بجيش كبير نحو

الغرب، وبعث برسالات التهديد إلى الخليفة العباسى؛ فرد عليه

بالأسلوب نفسه اعتقادًا منه أن حكام الدول الإسلامية سيقفون إلى

جواره فى صد الخطر المغولى عن رمز العالم الإسلامى، فاستشار

«هولاكو» «نصر الدين الطوسى» فزين له الهجوم على «بغداد» ،

فحاصرها فى شهر المحرم سنة (656هـ)، فخرج «الدواتدار» قائد

الجيش العباسى على رأس قوة كبيرة فى محاولة لفك الحصار

المغولى، فخدعه المغول وأوهموه أنه انتصر عليهم، وأخذوا

ص: 23

يتراجعون إلى الخلف، فتوغل بجنوده بعيدًا عن أسوار «بغداد» ،

فأطبق عليه المغول من كل جانب وحاصروه وفتكوا بجنوده، وتمكن

من الفرار بأعجوبة مع عدد قليل من جنوده، وعاد بهم إلى بغداد.

عمد «هولاكو» إلى إغراء الخليفة العباسى «المستعصم

بالله» بالوعود الكاذبة، فسلم الخليفة نفسه وأهله وأمواله إلى

«هولاكو» ، فأمر بقتله؛ ثم دخل المغول «بغداد» ، واستباحوها،

وهدَّموا أكثر مبانيها، وقتلوا نحو مليون شخص، وجمع المغول كل

الكتب والمخطوطات التى كانت موجودة بمكتبة «بغداد» ، وألقوها

فى «نهر دجلة» لتكون جسرًا يتمكن الجنود بواسطته من عبور النهر

إلى الجانب الآخر، وهكذا سقطت «بغداد» بعد أن ظلت أكثر من

خمسة قرون (132 - 656هـ) حاضرة المسلمين، ومنارة العلم

والحضارة للعالم الإسلامى، وترتب على ذلك انتقال مركز الخلافة من

«بغداد» إلى «مصر» فى سنة (659هـ)، وفقدت اللغة العربية سيادتها

فى «إيران» والمشرق الإسلامى، وعادت الفارسية ثانية واحتلت

الرقعة العلمية والثقافية فى هذه البلاد، كما كان لسقوط «بغداد»

رنة فرح شديدة عند النصارى، الذين أشادوا بهولاكو وهللوا له؛ لأنه

خلصهم من منافسهم الخطير المتمثل فى الخلافة الإسلامية، غير أنهم

ندموا على سقوط هذه الخلافة بعد ذلك، حين تبين لهم سماحة

المسلمين فى المعاملة ووفاؤهم بالعهد، وهذه الصفات لم يكن

المغول يتمتعون بها، ولايعرفون عنها شيئًا.

هزيمة المغول فى عين جالوت:

توقف «هولاكو» ببغداد فترة، ثم أرسل جيشًا بقيادة قائده

«كيتبوقا» (أو «كتبغا» كما يسميه المؤرخون العرب) للسيطرة على

«فلسطين» و «مصر» فى سنة (658هـ)، وكان يحكم «مصر» - آنذاك-

«سيف الدين قطز» ، وعلم بمقدم المغول، فتأهب بجيشه بقيادة «ركن

الدين بيبرس» (الظاهر بيبرس البندقدارى) للدفاع عن «فلسطين» ،

والتقى بجيش المغول فى منطقة «عين جالوت» فى رمضان سنة

(658هـ)، وأسفرت المعركة عن هزيمة منكرة لحقت بالمغول، لأول

ص: 24

مرة منذ عهد السلطان «جلال الدين الخوارزمى» ، وتم أسر قائد

الجيش المغولى «كتبغا» ثم قتله، فكان لهذه المعركة عدة نتائج من

أهمها: أنها حالت دون تقدم المغول إلى «مصر» ، وقضت على خرافة

الجيش المغولى الذى لا يُقهر، وتبدو أهمية هذه المعركة إذا ما

تصورنا أن الهزيمة هى التى حلَّت بالمسلمين، فلا شك أن المغول

كانوا سيقضون على آخر معقل للإسلام فى فلسطين ومصر.

وأدى نجاح المصريين فى هذه المعركة إلى إدراك الأهمية الكبرى

للوحدة بين «مصر» وبلاد الشام، وإلى توطيد العلاقات بين المماليك

فى «مصر» والشام وحكام منطقة «القبجاق» ، الذين كان يحكمهم

-آنذاك- «بركة خان بن جوجى بن جنكيزخان» ، الذى اعتنق هو

ورعيته الإسلام، وطلب العون من المماليك فى «مصر» ، لكى يقفوا

إلى جانب بلاده ضد «المغول الإيلخانيين» الذين كانوا يحكمون

«فارس» ، ولاشك أن هذه المعركة أكسبت «القاهرة» مكانة ممتازة

فى الجانب السياسى، إلى جانب ما كانت تتمتع به من مكانة

حضارية وثقافية وعلمية.

ولقد ارتد المغول على أعقابهم بعد ذلك وانحصر مدهم، وتقلص

نفوذهم حتى حدود منطقة «العراق» ، وانشغل «هولاكو» بالحروب

الكثيرة التى دخلها مع «بركة خان» ، ولم يستطع أن يتفرغ للثأر من

المصريين الذين هزموه فى «عين جالوت» ، حتى مات فى سنة

(663هـ)، بعد أن عين «شمس الدين محمد الجوينى» وزيرًا، وعهد إلى

أخيه «علاء الدين الجوينى» بحكم «بغداد» . وظل المغول فى حدود

منطقة «العراق» حتى أقاموا دولتهم الجديدة التى عُرفت باسم

«الدولة الإيلخانية» فى «إيران» و «العراق» وآسيا الصغرى.

ص: 25

الفصل الثالث

*الدولة الجغتائية

[624 - 760 هـ = 1227 - 1358 م].

النشأة والتكوين:

تنسب «الدولة الجغتائية» إلى مؤسسها «جغتاى» الابن الثانى

لجنكيزخان الذى أصبح ولى عهده بعد وفاة أخيه الأكبر «جوجى»

فى حياة والدهما، فلما مات «جنكيزخان» فى سنة (624هـ =

1227م)، آلت إلى «جغتاى» أملاك «الدولة الجغتائية» (خانات

جغتاى)، التى تُعرف باسم:«منطقة التركستان» ، وهى تعتبر حدا

فاصلا بين دولة «القبجاق» ودولة الخاقانات.

حكم «جغتاى» مؤسس هذه الدولة منذ وفاة والده فى عام (624هـ =

1227م) إلى عام (639هـ =1242م)، وكان رجلا حازمًا وصارمًا

وعنيدًا، ذلك لأنه كان المسئول عن تنفيذ الياسا، وقد اشتُهر بسوء

معاملة المسلمين، وتعطشه لسفك دمائهم.

ثورة تارابى:

تنتسب هذه الثورة إلى زعيمها «محمود الترابى» ، الذى كان يعمل

صانعًا للغرابيل، بقرية «تاراب» ؛ أقدم قرى مدينة «بخارى» ، وهدفت

هذه الثورة - التى أطلق عليها بعض المؤرخين الفرس: حركة شعبية -

إلى رفض الحكم المغولى، واعتمدت على الدين كأساس لها فى ذلك،

فالتف الناس حولها، على الرغم من أن دعاتها اعتمدوا على

الخرافات، وادعوا اتصالهم بالأرواح، إلا أن انضمام «شمس الدين

المحبوبى» أحد علماء «بخارى» إليها أكسبها قوة؛ إذ كان على

خلاف مع أئمة «بخارى» ، فساند «محمود تارابى» زعيم الثورة،

وذكر له أن أباه قرأ فى أحد الكتب نبوءة مفادها: أن رجلا سيظهر

ببخارى، سيكون فتح العالم على يديه، وأن مواصفات هذا الرجل

تنطبق على «محمود تارابى» ، وأكد المنجمون صدق ذلك، وأعلنوا

أن نجم «محمود تارابى» قد بزغ، وأن الحظ سيحالفه، ولأن هذه

المعتقدات كانت سائدة آنذاك، فقد اهتم الناس بأقوال المنجمين،

والتفوا حول زعيم هذه الثورة، وحققوا انتصارات كبيرة، ودخلوا

«بخارى» ، غير أن المغول تمكنوا من صد الثورة ومقاومتها، وسقط

«التارابى» و «محبوبى» صريعين، فأعلن الثوار «محمدًا» و «عليا» ،

ص: 26

أخوىْ «تارابى» ، زعيمين للثورة، فعزز المغول قواتهم، وتمكنوا من

القضاء على هذه الثورة، وقبضوا على الثائرين، وأرادوا معاقبتهم،

ولكن «محمود يلواج» استطاع الحصول على العفو لهم من قادة

المغول.

العلاقات الخارجية:

كانت دولة «خانات جغتاى» دولة تابعة للدولة الأم التى أسسها

«جنكيزخان» ، وكانت ذات علاقة حدودية بين هذه الدولة الأم (دولة

الخاقانات) من جانب، ودولة «القبجاق والإيلخانية» من جانب آخر؛

ولذلك فقد دخلت فى صراعات طويلة مع هذه الدول بسبب موقعها

المتوسط بينها، ولم تكن صراعاتها من أجل التوسعة أو الوصول إلى

حكم دولة مغولية أخرى، وإنما كان صراعًا على عرش «دولة

الخاقانات»؛ فعندما تُوفى «متكوقا آن» الحاكم الأعظم (الخاقان)(4)

لدولة «خاقانات المغول» ، كان ابنه «قوبيلاى» يقود الجيوش ببلاد

«الصين» لتوسعة أملاك «دولة الخاقانات» بها، وكان «أريق بوقا»

فى «قراقورم» عاصمة الدولة، وتم إعلانهما خاقانين على البلاد

خلفًا «لمتكوقا آن» ، وحيث إن «قراقورم» كانت منطقة فقيرة، فقد

أراد «أريق بوقا» أن يوفر لقواته ما يلزمهم، وأغار على «الدولة

الجغتائية»، وأخضع حاكمها «آلغو بن بايدار بن جغتاى» تحت

سلطانه ليأمن شره، ويضمن عدم تحالفه مع غيره، ولكن ذلك لم يتم؛

فقد انقلب عليه حاكم «الدولة الجغتائية» وانضم إلى «قوبيلاى قا

آن» حين عاد من «الصين» ، واعترف به خاقانًا للمغول، فاضطر

«أريق بوقا» إلى الاستسلام لخصمه «قوبيلاى» ، الذى انفرد بحكم

دولة الخاقانات وأسس بها حكمًا جعله لأسرته، التى عُرفت فى

التاريخ باسم (أسرة اليوان).

وهكذا دخلت «الدولة الجغتائية» فى صراع لم تكن سببًا فى حدوثه،

بل لم تسلم من الصراعات بعد ذلك، فقد دخلت فى صراع مع

«قايدوخان» (وهو من نسل أوكتاى قا آن)، بتحريض من «بركة

خان» حاكم «القبجاق» ، ودارت الحروب سجالا بين الطرفين إلى أن

مات «ألغو بن بايدار» حاكم «الجغتائيين» ، فاعتلى «مباركشاه»

ص: 27

عرش الدولة فى عام (662هـ =1264م)، ولكنه لم يلبث طويلا فى

الحكم، إذ استطاع «براق خان» الاستيلاء على العرش فى عام

(664هـ = 1266م)، بمساعدة «قوبيلاى قا آن» خاقان المغول، وذلك

يؤكد أن العلاقة الخارجية لهذه الدولة كانت ذات صلة وثيقة بالسياسة

الخارجية لدولة خاقانات المغول.

مظاهر الحضارة فى الدولة الجغتائية:

تُعد «بخارى» أعظم مدن «الدولة الجغتائية» ، وكانت حاضرتها التى

يشار إليها بالبنان ضمن بلاد «ما وراء النهر» ، إذ كانت تزخر بالأبنية

الفخمة، والحدائق الغناء، والبساتين والمتنزهات والثمار الكثيرة،

التى يعد البرقوق أشهرها حتى الآن، كما كانت سوقًا ومركزًا

تجاريا مهما، فبها مصانع للحرير والديباج، وأخرى للمنسوجات

القطنية، وكذلك كانت ذات مكانة خاصة فى العالم الإسلامى، ولم

يضارع «بخارى» فى كل ذلك سوى «سمرقند» بأضرحتها

وبفواكهها، ومصنوعاتها من الجلود، والمنسوجات القطنية.

ولعل القارئ يتساءل كيف انتعشت الحضارة فى «بخارى»

و «سمرقند» مع ما لحق بهما من دمار عمَّ بلاد «ما وراء النهر» أثناء

الغزو المغولى؟ خاصة وأن أحد البخاريين الذين فروا من الدمار الذى

لحق بمدينته أخبر عن حالها - بالفارسية- حين سئل عن ذلك بقوله:

«آمدند وكندند وسوخستند وكشتند وبردند ورفتنك.

وترجمة ذلك:

جاءوا، ودمروا، وأحرقوا، وقتلوا، ونهبوا، ثم رحلوا.

فكانت إجابته تصويرًا لما لحق بهذه المدينة التى خرَّجت العلماء

الأجلاء، ولم تكن «سمرقند» بأسعد حظا منها، ولكن لم تمضِ عدة

سنوات حتى استعادت هذه المناطق رونقها وبهاءها، لوفرة

المحاصيل الزراعية بها، ولرغبة المغول فى كسب ود هذه البلاد؛

لأنها مركز الثورات، وحركات التمرد والعصيان ضدهم، لذا تمكنت هذه

البلاد من استرداد قوتها وإعادة بنائها مرة ثانية.

ولقد شهدت بلاد «ما وراء النهر» فترة ازدهار حضارى على يد

حاكمها «مسعود يلواج» فى ظل «الدولة الجغتائية» ، وبنى ببخارى

ص: 28

مدرسة نسبها إليه هى «المدرسة المسعودية» ، فدمرها الإيلخانيون

فى عام (1273م)، فأعاد البخاريون بناءها ثانية، ودفن بها «مسعود

يلواج» فى عام (1289م).

ولم يقتصر مجهود «يلواج» على «بخارى» وحدها، بل تعداها ليشمل

منطقة حكمه كلها، وشيد «بكاشغر» «مدرسة مسعودية» أخرى،

وبذا تمكنت بلاد «ما وراء النهر» من الصمود أمام غزوات المغول

عليها، وأن تعيد بناءها بفضل موقعها ومناخها، وبفضل حكامها

الذين عملوا على تأسيس الحضارة فيها وبنائها.

ص: 29

الفصل الرابع

*الدولة الإيلخانية فى إيران والعراق

[654 - 744 هـ= 1256 - 1344م].

تعود تسمية الدولة الإيلخانية بهذا الاسم إلى هولاكو خان الذى لُقِّب

بإيلخان، وهى كلمة مكونة من مقطعين «إيل» بمعنى تابع، و «خان»

بمعنى ملك أو حاكم، والمقصود أن حاكم الدولة الإيلخانية تابع للخان

الحاكم فى قراقورم.

1 -

آباقا خان:

يعد «هولاكو» المؤسس الأول لسلسلة سلاطين المغول فى «إيران»

و «العراق» الذين ظلوا يحكمون هذه البلاد من سنة (654هـ) حتى سنة

(756هـ)، وقد تُوفى «هولاكو» سنة (663هـ)، وخلفه ابنه «آباقا

خان» فى حكم البلاد، التى امتدت من «نهر جيحون» حتى «العراق

العربى» غربًا، ومن جنوبى روسيا شمالا حتى «البحر العربى»

جنوبًا.

وقد جنحت الدولة الإيلخانية منذ إنشائها إلى الاستقلال عن العاصمة

المغولية، فى أمور السياسة والحكم - منذ عهد «آباقا خان» - وكأن

حكامها مستقلون تمامًا عن العاصمة قراقورم.

وساعد البعد الجغرافى الذى يفصل بين «منغوليا» والإيلخانيين فى

«إيران» و «العراق» ، على أن يتخذ الإيلخانيون أساليب وعادات

ونظمًا وغير ذلك من التقاليد الحضارية التى كانت موجودة فى

«إيران» ، والتى لم يعهدها المغول من قبل، فأصبح الإيلخانيون

وكأنهم من ملوك الفرس.

اتخذ «آباقا» من «تبريز» عاصمة له، فاحتلت فى عهده مكانة

ممتازة، وجعل «آباقا» قائده الأمير «سونجاق» واليًا على «العراق»

وإقليم «فارس» ، ففوض هذا الأمير بدوره المؤرخ «علاء الدين عطا

ملك الجوينى» فى حكم «العراق» ، وعهد «آباقا» بمنصب الوزارة

إلى «شمس الدين محمد الجوينى» أخى «علاء الدين» ، فكانا سببًا

من أسباب ازدهار دولة «آباقا» ، وعلى الرغم من الجهود الذى بذلها

الجوينيون فى خدمة هذه الدولة وتوطيد أسسها، ودعم أركانها،

فإنهم تعرضوا - فى نهاية الأمر - لنكبة تشبه نكبة البرامكة عندما

تكاثر عليهم الأعداء والخصوم، وقُتل الجوينيون جميعًا فى عهد

ص: 30

«أرغون» سنة (683هـ) الذى قضى على جميع أفراد هذه الأسرة.

تزوج «آباقا» ابنة امبراطور «القسطنطينية» ، فتوطدت علاقته

بالنصارى، وأكثر من القساوسة فى بلاطه، على الرغم من أنه كان

إلى ذلك الوقت وثنيا، وحرص المسيحيون على مداهنة المغول

واجتلابهم نحو المسيحية؛ أملا فى انضمام هؤلاء المحاربين الأشداء

إلى صفوف النصارى ومحاربة أشد أعدائهم، المسلمين.

وفى الوقت نفسه كان «آباقا» يريد من وراء توطيد علاقته

بالمسيحيين أن يحصل على معاونتهم فى حربه ضد المسلمين،

وخاصة المماليك، ليثأر لهزيمة المغول أمامهم فى «عين جالوت» ،

غير أن محاولاته ذهبت جميعها عبثًا، ولحقت به الهزائم فى كل مرة

التقت فيها جيوشه بجيوش المماليك بقيادة «الظاهر بيبرس» ، وكانت

معركة «أبلستين» التى قامت بين الطرفين فى عام (675هـ) من أهم

المعارك التى دارت بين الجانبين، وانتصر فيها المماليك فى «مصر»

و «الشام» انتصارًا حاسمًا، ثم تُوفى «آباقا» فى سنة (680هـ.)

2 -

أحمد تكودار [681 - 683هـ]:

كان «آباقا خان» يريد أن يخلفه عن العرش ابنه «أرغون» لكنه لم

يستطع لأن هذا الإجراء كان يعد مخالفة كبيرة لأحكام الدستور

المغولى الذى وضعه جنكيز الذى يسمى «الياسا» ، فقد كان يتعين

إذا مات الخان أن يخلفه على العرش أكبر الأمراء الأحياء، ولقد كان

أكبرهم هو «تكودار» وليس «أرغون» ، ولذلك أجمع الأمراء المغول

الذين اجتمعوا فى المجلس العام الذى يسمى «قوريلتاى» وقرروا

انتخاب «تكودار» إيلخانًا فى سنة (681هـ).

اعتنق تكودار المسيحية فى صغره، لكنه مال إلى الإسلام شيئًا

فشيئًا؛ لكثرة اتصاله بالمسلمين، وتوطيد علاقته بعظماء المسلمين

وكبار أئمتهم، فأعلن إسلامه، وسُمى بالسلطان «أحمد تكودار» ،

فكان أول مَن اعتنق الإسلام من الإيلخانيين.

كان إسلام السلطان «أحمد» عاملا قويا فى تهذيب طباعه وتقويم

خلقه، ولم يعد ذلك المغولى الذى كان كل همه سفك دماء المسلمين

ص: 31

وتخريب ديارهم، وإنما أصبح يرى المسلمين إخوته، ويجب أن يحل

بينهم الوئام؛ لذا تبادل الرسائل الودية مع السلطان «قلاوون» سلطان

المماليك فى «مصر» ، فقضى بذلك - مؤقتًا- على الأحقاد والضغائن،

ولم تحدث حروب بين الجانبين، وكذلك كان لإسلام «أحمد تكودار»

أثر كبير فى «إيران» ، فقويت شوكة المسلمين، وعادت المعابد

البوذية وكنائس النصارى إلى مساجد كما كانت من قبل؛ ووصل

المسلمون إلى المناصب الرئيسية فى الدولة، وتطلَّع أبناء البلاد

الأصليين من الفرس إلى شغل المناصب الإدارية بالدولة المغولية.

ونتيجة لذلك كله خاف أمراء المغول على مصالحهم الشخصية -خاصة

أن السلطان كان يحرص على خطب ودهم - وبخاصة الأمير «أرغون»

الذى كان يطمع فى العرش فثار على السلطان «تكودار» وتمكن من

قتله فى سنة (683هـ)، وضعفت بذلك شوكة المسلمين فى «إيران»

ثانية.

3 -

أرغون خان [683 - 690هـ]:

بعد مقتل السلطان «أحمد» اجتمع الأمراء المغول ونصبوا الأمير

«أرغون ابن آباقا» إيلخانًا عليهم فى جمادى الآخرة سنة (683هـ)،

فنصب ابنه «غازان» حاكمًا على «خراسان» وعين الأمير «نوروز»

نائبًا له عليها، وأنعم على الأمير «بوقا» بلقب «أمير الأمراء» ،

وأطلق يده فى تسيير شئون الدولة، وقتل الوزير «شمس الدين

الجوينى» وجميع أفراد أسرته تقريبًا فى شعبان سنة (683هـ)،

وذلك لموقفهم مع السلطان «أحمد تكودار» ومساندتهم له فى

المعركة التى دارت بينه وبين أفراد المغول بقيادة الأمير «أرغون» ؛

والتى انتهت بمقتل السلطان وتنصيب الأمير سلطانًا.

وزارة سعد الدولة اليهودى:

بعد مقتل الوزير الجوينى «شمس الدين» ازداد نفوذ الأمير «بوقا» إلى

حد كبير، وأصدر «الإيلخان» قرارًا يقضى بأنه ليس لأحد فى الدولة

الحق فى محاسبة الأمير «بوقا» - حتى إذا ارتكب أكبر الجرائم - إلا

السلطان نفسه، ولاشك أن هذه السلطة المطلقة التى حصل عليها

«بوقا» جعلته يميل إلى الاستبداد والبطش والهيمنة على شئون

ص: 32

الدولة، ولم يبقَ للسلطان (الإيلخان) إلا الاسم فقط.

لم يقتصر عداء «بوقا» على المسلمين وحدهم بل امتد بطشه إلى

أمراء المغول أنفسهم، كما أنه لم يكن على دراية كافية بشئون

البلاد الإدارية والمالية، فأدى ذلك إلى حالة من الفوضى والارتباك

فى البلاد، وقد أثار ذلك حنق الأمراء المغول وغضبهم وجعلهم

يفكرون فى التخلص منه، فحرضوا الإيلخان «أرغون» على التخلص

من الأمير بوقا.

وكان من أشد أعداء هذا الأمير طبيب يهودى يدعى سعد الدولة

وكان اجتماعيا؛ يكثر الاختلاط بالناس ويوسع دائرة معارفه بينهم،

كما كان ملما بأحوال الموظفين والصيارفة فى «بغداد» ، ويجيد عدة

لغات، ويعمل بالطب الذى كان وقفًا فى بلاد الإيلخان على اليهود

وحدهم، ولذا عملوا على التدخل فى شئون الدولة من خلال عملهم،

وحملوا الإيلخان «أرغون» على تعيين «سعد الدولة» طبيبًا لبلاطه،

وتصادف أن اعتلَّت صحة الإيلخان، ومرض مرضًا شديدًا، وتمكن «سعد

الدولة» من معرفة الدواء المناسب لمرضه، فشفى «الإيلخان» ، وكافأ

«سعد الدولة» وقرَّبه منه، وزاد قدره عنده، فاستغل الطبيب ذلك،

وأخذ يشى بالأمير «بوقا» ويزيِّن للسلطان التخلص منه، حتى أوغر

صدره ضده، فأمر السلطان بالقبض على «بوقا» وقتله بتهمة التآمر

على السلطان، وتعيين الطبيب «سعد الدولة» وزيرًا له على البلاد.

استطاع الوزير سعد الدولة أن يستميل إليه قلوب الناس برفع المظالم

عنهم، وإجراء الصدقات على فقرائهم ومحتاجيهم، فمدحه الشعراء،

وقصد بابه الأدباء والعلماء، ولكنه لم يكد يطمئن إلى ثبات مركزه

فى الدولة، وارتفاع منزلته عند السلطان حتى أخذ يكيد للمسلمين

ويعمل على التضييق عليهم، فضاقوا به وتحينوا الفرصة للخلاص منه،

كما ضاق به الأمراء المغول لاستبداده بالحكم، وقضائه على ما كانوا

يتمتعون به من نفوذ، وانتظروا كذلك الفرصة للقضاء عليه، فمرض

«أرغون» فجأة، واشتد عليه المرض، وحاول الأطباء برئاسة «سعد

ص: 33

الدولة» معالجته وإنقاذه بكل السبل، ولكنهم عجزوا عن ذلك، فقبض

الأمراء المغول على «سعد الدولة» وقتلوه فى شهر صفر سنة

(690هـ)، ولم يلبث الإيلخان بعده إلا فترة قصيرة ثم مات، فعمت

مشاعر البهجة والسرور أنحاء البلاد الإسلامية؛ لمقتل «سعد الدولة» ،

وثار الناس على اليهود فى كل مكان، وقتلوا منهم عددًا كبيرًا.

سياسة أرغون الخارجية:

حاول «أرغون» أن يحد من نفوذ «مصر» فى المشرق الإسلامى،

فأقام علاقات سياسية وطيدة مع قادة الدول المسيحية مثل: «البابا»

و «إدوارد الأول» ملك «إنجلترا» ، و «فيليب لوبل» ملك «فرنسا» ،

تمهيدًا لتكوين حلف للقضاء على النفوذ المصرى فى «آسيا

الصغرى»، و «العراق» و «الشام» ، و «فلسطين» . وشجعت هذه

العلاقات (المغولية - الأوربية) عددًا من الرحالة الأوربيين على زيارة

بلاد المغول، وسافر الرحالة الشهير «ماركو بولو» إلى العاصمة

المغولية، وأقام فى بلاط الامبراطور المغولى «قوبيلاى» نحو

عشرين عامًا، عمل فيها مستشارًا له ووزيرًا، ولم تقع حروب تذكر

بين الجانبين - المصرى والمغولى - فى عهد «أرغون» لانشغال كل

منهما بمشكلاته الداخلية.

4 -

كيخاتو خان [690 - 694هـ]:

بعث الأمراء المغول عقب وفاة «أرغون» إلى أخيه «كيخاتو خان»

يخبرونه بوفاته، فقدم على الفور من بلاد الروم التى كان يحكمها،

وتولى عرش الإيلخانية فى رجب سنة (690هـ)، ثم عين «صدر الدين

أحمد الزنجانى» وزيرًا له، ولقبه بلقب «صدر جهان» وأوكل إليه

التصرف فى شئون الدولة كافة دون تدخل من أحد، وعين أخاه

«قطب الدين الزنجانى» قاضيًا للقضاة، وأطلق عليه لقب «قطب

جهان»، ثم انصرف «كيخاتو» إلى ملذاته وشهواته وإنفاق الأموال

فى سبيلها دون حساب، فاضطربت مالية الدولة، وأصبحت خزانتها

شبه خاوية ومهددة بالإفلاس، ووقف الوزير حائرًا لا يدرى ماذا يفعل

حيال ذلك، فظهر له رجل اسمه «عز الدين محمد بن المظفر» - وكان

ص: 34

على دراية بالأحوال المالية فى «بلاد الصين» - واقترح عليه العدول

عن استخدام الذهب والفضة فى المعاملات المالية، واستخدام أوراق

مالية - تعرف عند الصينيين باسم «الجاو» - بدلا منها، لإنقاذ البلاد من

الإفلاس، كما فعل الصينيون، فاستحسن الوزير هذا الاقتراح،

واستصدر قانونًا من الإيلخان فى سنة (693هـ) ينص على التعامل

بهذه الأوراق، ويحرم التعامل بالذهب والفضة تحريمًا تاما.

رفض الناس التعامل بالأوراق المالية فى معاملاتهم، على الرغم من

أنهم أُجبِروا على ذلك بالقوة، فاضطربت أحوال البلاد والناس

اضطرابًا كبيرًا، وكسدت التجارة، وتعذرت الأقوات، وانقطعت الموارد

من كل نوع، وامتنع البائعون عن بيع سلعهم بهذه الأوراق، فكان

الرجل يضع الدرهم تحت إحدى الأوراق المالية (الجاو) ويعطيها الخباز

أو القصاب وغيرهما، ليحصل على ما يريد، خوفًا من أتباع السلطان

الذين يراقبون الناس والبائعين فى تعاملاتهم، فضاقت الحياة أمام

الناس واستحكمت الأزمة، وكاد الأمر ينذر بثورة عارمة، إلا أن

الإيلخان تدارك الموقف وأصدر قانونًا لإبطال التعامل بهذه الأوراق،

والعودة إلى النظام القديم.

ولما كان «كيخاتو» مغرمًا بشرب الخمر، سيئ الخلق فاسقًا، كرهه

الأمراء وثاروا عليه، وبخاصة بعد أن أغلظ القول - ذات ليلة - لابن عمه

«بايدو» أحد كبار الأمراء، فحقد عليه، وتآمر مع الأمراء الآخرين

على قتله، وعلم «كيخاتو» بالمؤامرة، فآثر الفرار، ولكن الأمراء

تتبعوه، وتمكنوا من قتله فى سنة (694هـ).

5 -

بايدوخان [694هـ]:

بعد مقتل «كيخاتو» وقع اختيار الأمراء على «بايدوخان بن طرغاى

بن تولوى بن جنكيزخان» ليكون إيلخانًا، فاعتلى العرش فى جمادى

الأولى سنة (694هـ)، ثم تخلص من أتباع «كيخاتو» ، وقرر إعادة

الحقوق والوظائف إلى أصحابها، وأعفى الأوقاف الإسلامية من

الضرائب، وعهد بأمور الجيش ورئاسة الوزراء إلى الأمير «طغاجار» ،

ص: 35

وسلك مسلك «آباقا خان» حيث جعل الإدارة لا مركزية، وجعل أميرًا

من الأمراء على كل ولاية من الولايات، ونصب «جمال الدين

الاستكردانى» وزيرًا له.

لم يكد «بايدو» يتولى أمور الحكم حتى بلغ «غازان خان» ما حدث

لعمه «كيخاتو» ، فأقبل بجنوده ومعه الأمير «نوروز» ، وأرسل رسله

إلى «بايدو» ينكر عليه قتل كيخاتو، ويطالبه بإجراء تحقيق ليلقى

القتلة جزاءهم، فلما لم يلقَ جوابًا دارت رحى الحرب بين الفريقين،

وفى هذه الأثناء عرض الأمير «نوروز» الإسلام على «غازان» ،

وحَسَّن له اعتناق هذا الدين بتشريعاته السمحة ونظمه الدقيقة، وما

ينادى به من عدل ورحمة ومساواة، فاعتنق «غازان» الدين

الإسلامى، ومال إليه أكثر الأمراء، وانتصر على «بايدو» فى الحرب،

فهرب «بايدو» ولحق به الأمير «نوروز» ، وألقى القبض عليه، وأرسله

إلى «غازان» ، فأمر بقتله فى شهر ذى الحجة عام (694هـ).

6 -

السلطان محمود غازان [694 - 703هـ]:

تولى «غازان» عرش المغول عقب مقتل «بايدو» فى ذى الحجة سنة

(694هـ)، وبعد أن اعتنق الإسلام تبعه جميع الأمراء والجنود المغول،

وأسلم بإسلامه أكثر من مائة ألف شخص منهم فى فترة وجيزة،

ولقب «غازان» نفسه باسم السلطان «محمود غازان» ، وأعلن الإسلام

دينًا رسميا للدولة، وأمر المغول بأن يغيروا ملابسهم التقليدية،

ويلبسوا العمامة للتدليل على خضوعهم للإسلام، وأمر بهدم الكنائس

والمعابد اليهودية والمزدكية والهياكل البوذية، وتحويلها إلى

مساجد، وبارتداء اليهود والنصارى ثيابًا تميزهم عن غيرهم من

المسلمين، كرد فعل لما لقيه المسلمون من ضروب المهانة والذلة فى

عهد كل من: «هولاكو» و «آباقا» و «أرغون» .

عرف «غازان» بشخصيته القوية، ونشاطه الموفور، وصبره الذى لا

ينفد، وبأنه رجل دولة من الطراز الأول يقف على كل صغيرة وكبيرة

فى شئون البلاد، فضلا عن إحاطته الكاملة بتقاليد قومه وعاداتهم،

وإلمامه التام بمختلف الحرف والصناعات السائدة فى عصره، واطِّلاعه

ص: 36

على العلوم المعروفة لدى المسلمين، وإجادته عدة لغات إلى جانب

لغته المغولية، لكنه كان قاسيًا على أعدائه، ولا يأبه بحياة الناس

حين تتعارض مع تحقيق أهدافه وطموحاته، وتجلى ذلك حين تخلص

من الأمير «نوروز» الذى ساعده ووقف إلى جانبه فى كثير من

المواقف بسبب وشاية، وكذلك حين أمر بقتل وزيره «صدر الدين»

فى رجب سنة (697هـ)، وعين بدلا منه المؤرخ «رشيد الدين فضل

الله» الذى توسم فيه النبوغ والعبقرية والإخلاص، وأشرك معه رجلا

يدعى «سعد الدولة» لمساعدته فى مهام الوزارة.

حملات غازان خان على بلاد الشام:

قام «غازان» بثلاث حملات على «بلاد الشام» ، كانت الأولى فى سنة

(699هـ)، وانتصر فيها على قواد «الناصر محمد بن قلاوون» بالقرب

من منطقة «مرج المروج» شرقى «حمص» ، وقد انتشر المغول بعد

انتصارهم فى الأماكن المجاورة، وخربوا البلاد جريًا على عادتهم

القديمة، وكأنهم لم يعتنقوا الدين الإسلامى، ثم عين «غازان» واليًا

من قبله على البلاد التى استولى عليها، وعاد بعد ذلك إلى «إيران» .

وفى سنة (700هـ) عاود المغول الكرَّة على بلاد الشام، واستولوا

على مناطق جديدة بها، إلا أنهم لم يتمكنوا من التقدم والاستمرار؛ إذ

هطلت عليهم الأمطار بغزارة، واشتدت البرودة، وكثر الوحل، وهلك

كثير منهم، ووجد «غازان» نفسه مضطرًا إلى العودة إلى «إيران» ،

ولكنه عاد بعد ذلك بعامين فى سنة (702هـ) بحملته الثالثة على

«سوريا» ، وتحرك إلى مدينة «عانة» على شاطئ «الفرات» ،

وبرفقته وزيره المؤرخ «رشيد الدين» ثم عاد أدراجه إلى عاصمته

«تبريز» تاركًا جيشه بالشام ليواصل مهمته، ولكن النتيجة جاءت على

غير ما كان يتوقع، إذ هُزم جيشه هزيمة منكرة على يد السلطان

«الناصر محمد بن قلاوون» فى موقعة «مرج الصفر» بالقرب من

«دمشق» فى (2 من رمضان عام 702هـ)، فاعتلَّت صحته، وغلبه

المرض، وتآمر عليه الأمراء، وكثرت من حوله الدسائس، ومات فى

ص: 37

شوال سنة (703هـ)، وهو لايزال فى ريعان شبابه.

إصلاحات غازان:

قام «غازان» بإصلاحات كثيرة ومهمة فى كثير من الميادين، وكانت

أبرزها إصلاحاته العمرانية، حيث أقام شمالى غرب «تبريز» محلة

عُرفت باسم «شام غازان» ، وتفصلها عن مدينة «تبريز» حدائق

ومتنزهات كثيرة، وأمر كبار مهندسيه بإقامة بناء عالٍ فى ذلك

المكان؛ تعلوه قبة كبيرة، ليكون مدفنًا له، وقد استمرت عمارة القبة

وتوابعها نحو خمس سنوات، واشتملت على مسجد وخانقاه

ومدرستين (إحداهما للشافعية والأخرى للحنفية)، ومستشفى،

ومكتبة، ومرصد، ومدرسة لتعليم العلوم الطبية، وبيت لحفظ كتب

القوانين التى أصدرها الإيلخان عرف باسم «بيت القانون» ، كما أنشأ

مسكنًا للأطفال وآخر للأشراف، وضمت هذه الأبنية بعض الحمامات

العامة، وملجأ واسعًا لليتامى؛ به مكتب لتعليم القرآن الكريم

وتحفيظه، وملجأ آخر يتسع لنحو خمسمائة أرملة من النساء اللائى

فقدن عائلهن، فضلا عن ذلك أنشأ «غازان» الأجران الواسعة

المملوءة بالحبوب، والمزودة بأحواض المياه لكى تتزود منها الطيور

المهاجرة من الشمال إلى الجنوب فى الفصول الباردة من السنة خلال

رحلتها عبر الهضبة الإيرانية التى تغطيها الثلوج فى هذا الوقت من

السنة، خاصة أن أعدادًا كثيرة من هذه الطيور كانت تلقى حتفها،

لتعذر حصولها على الغذاء، فأقام لها «غازان» هذه الأجران رحمة

بها، وأصبحت هذه المؤسسات والمنشآت التى أقامها «غازان»

مفخرة العالم الإسلامى والحضارة الإسلامية، حيث حول الإسلام

القبائل الهمجية البربرية إلى أناس مهذبى الطباع، منظمين محبين

للحضارة والعمران، وامتلأت قلوبهم رحمة وعطفًا حتى على الطيور

والحيوانات.

7 -

السلطان أولجايتو [703 - 716هـ]:

قدم السلطان «أولجايتو» من «خراسان» التى كان حاكمًا عليها،

وتولى العرش خلفًا لأخيه «غازان» فى سنة (703هـ)، وجعل الوزارة

مشاركة بين «رشيد الدين فضل الله الهمدانى» وسعد الدين

الساوجى.

ص: 38

إنشاء مدينة السلطانية:

بدأ إنشاء هذه المدينة فى عهد السلطان «غازان» ، وهى تقع على

بعد خمسة فراسخ من «زنجان» ، فعمد «أولجايتو» إلى استكمال

تشييدها وأمر بالتوسعة فى منشآتها العمرانية، فساهم الأمراء

والوزراء فى بناء بعض أحيائها، وأنشأ الوزير «رشيد الدين فضل

الله» محلة بها على نفقته الخاصة؛ اشتملت على ألف منزل، ومسجد

كبير. وأمر السلطان ببناء قبة كبيرة فوق مقبرته، ومازالت هذه القبة

قائمة حتى اليوم دليلا على عظمة العمارة فى هذا العصر.

تمكن «أولجايتو» فى سنة (706هـ) من بسط سيطرته على إقليم

«جيلان» ، وهو الإقليم الذى لم يتمكن المغول من السيطرة عليه حتى

هذه السنة لكثرة غاباته، ووعورة مسالكه، وأعاد بناء مرصد

«مراغة» الذى بناه «هولاكو» من قبل، وحين بلغ «أولجايتو» الثالثة

والثلاثين من عمره اشتد عليه المرض واعتلَّت صحته، وتوفِّى فى

رمضان سنة (716هـ).

سياسة أولجايتو الخارجية:

شق الأمير المملوكى «شمس الدين قرا سنقر» حاكم «دمشق» عصا

الطاعة على السلطان «الناصر محمد بن قلاوون» سلطان المماليك فى

«مصر» و «الشام» فى سنة (712هـ)، وفر إلى «إيران» لاجئًا،

فاستقبله «أولجايتو» أحسن استقبال، فشجعه «قرا سنقر» على

القيام بحملة على «الشام» ، فوافقه وخرج بحملته، وحاصر مدينة

«الرحبة» بالعراق، ولكن أهل المدينة استعطفوه، وتدخل الوزير

«رشيد الدين» فرفع «أولجايتو» الحصار فى رمضان سنة (712هـ)،

وعاد بجيشه إلى عاصمته دون الدخول فى معارك مع المماليك،

فكانت هذه الحملة آخر حملات الإيلخانيين على المماليك فى «مصر»

والشام.

8 -

السلطان أبو سعيد بهادر [716 - 736 هـ]:

تولى «أبو سعيد» حكم البلاد بعد وفاة السلطان «أولجايتو» ، وكان

لايزال فى الثالثة عشرة من عمره، فاضطربت أحوال البلاد وتعددت

ثورات الأمراء المغول فى مناطق متفرقة ضده، غير أن «أبا سعيد»

استعان عليهم بقائد جيشه الأمير «جوبان» ، فقضى عليهم، وأعاد

ص: 39

إلى البلاد استقرارها وهدوءها.

الوزارة:

شهد منصب الوزارة تغييرات كثيرة، حيث أبقى السلطان «أبو سعيد»

على «رشيد الدين الهمدانى» و «تاج الدين التبريزى» فى منصب

الوزارة، ولكن «تاج الدين» الذى كان يجيد المعاملات التجارية

والمالية مع كونه أميا لا يعرف القراءة والكتابة، أراد أن ينفرد بهذا

المنصب، وعمد إلى الدهاء والوقيعة لدى السلطان للتخلص من «رشيد

الدين» ونجح فى ذلك، وأمر السلطان بقتل «رشيد الدين» فى سنة

(718هـ)، فانفرد «تاج الدين عليشاه» بالوزارة حتى وفاته فى

أوائل سنة (724هـ)، فوليها من بعده «دمشق خواجه» ابن الأمير

«جوبان» ، وصارت أمور الجيش والشعب فى أيدى الأمير وابنه وعلا

شأنهما، وتجاهلا السلطان فى معظم الأمور، فغضب السلطان من ذلك

وأمر بقتلهما، ثم نصب «غياث الدين بن رشيد الدين فضل الله» فى

هذا المنصب، لشعوره بالندم على قتل أبيه فضلا عن أن «غياث

الدين» كان أصلح الناس لهذا المنصب فى ذلك الوقت؛ حيث إنه كان

واسع الأفق، ومطَّلعًا على العلوم العقلية والنقلية، فأحسن إدارة

شئون الدولة وتوخى العدل، وعمل على رعاية مصالح الناس، وظل

فى منصبه حتى وفاة «أبى سعيد» فى (13 من ربيع الأول سنة

736هـ).

كان «أبو سعيد» آخر سلاطين الإيلخانيين الأقوياء، كما كان كريمًا

جوادًا، شجاعًا، محبا للعلم، فراجت فى عهده العلوم والآداب، وعاش

فى بلاطه كثير من الشعراء والمؤرخين؛ حين كان هو نفسه شاعرًا

وله أشعار جيدة باللغة الفارسية، واشتهر بجودة الخط والغناء.

سياسة أبى سعيد الخارجية:

تعرضت العلاقة بين «مصر» والبلاد الفارسية فى عهد الإيلخانيين

لنوبات من الحرب والسلام، ولكن هذه العلاقة دخلت مرحلة جديدة من

الصداقة والوئام فى عهد السلطان «أبى سعيد» ، وتم توقيع اتفاقية

بين الطرفين فى عام (721هـ) فى عهد السلطان «أبى سعيد»

الإيلخانى، والسلطان المملوكى «الناصر محمد ابن قلاوون» .

انهيار دولة الإيلخانيين المغول:

ص: 40

تعرضت «الدولة الإيلخانية» -عقب وفاة السلطان «أبى سعيد بهادر» -

للضعف والزوال، حيث كان السلاطين الذين اعتلوا عرش هذه الدولة

بعد «أبى سعيد» ضعاف الشخصية، كما كانوا ألعوبة فى أيدى

الأمراء المغول وكبار رجال الدولة، وظل هذا حال هذه الدولة حتى

وفاة «أنوشيروان» آخر السلاطين الإيلخانيين فى سنة (756هـ)،

فتقاسم خمسة من كبار الأمراء المغول أملاك هذه الدولة، وكون كل

منهم دولة صغيرة مستقلة، وهذه الدول هى:

- دولة آل جلائر (الجلائريون).

- دولة الجوبانيين.

- دولة آل المظفر.

- دولة السربداريون.

- دولة آل كرت.

وأخذت هذه الدويلات الخمس تتنازع فيما بينها، ودخلت كل منها فى

حروب طاحنة مع غيرها، وظلت على ذلك حتى خرج عليها الأمير

«تيمورلنك» وتمكن من القضاء عليها نهائيا بحملاته المتعددة التى

بدأها فى سنة (788هـ) على إيران والعراق.

مظاهر الحضارة:

- الإدارة ونظم الحكم:

استعان المغول بالموظفين الفرس فى إدارة شئون الدولة، إذ لم يكن

بوسع هؤلاء المغول الأميين وحدهم إدارة شئون هذه البلاد المترامية

الأطراف، وجمع الضرائب والأموال، وإقرار الأمن.

وكانت هناك أسر فارسية تتوارث منصب الوزارة، مثل: أسرة

الجوينيين، وأسرة رشيد الدين فضل الله، ولقد كان لهذه الأسر فضل

كبير فى تحقيق الاستقرار الداخلى، لاطمئنان أفراد الشعب بأن

حكامهم المباشرين ليسوا غرباء عنهم ولا خصومًا لهم، كما كان لهذه

الأسر فضل آخر فى التأثير على ملوك المغول وأمرائهم وجذبهم

بالتدريج إلى الاندماج فى الحياة الاجتماعية على نمط فارسى

إسلامى، فبدا لمن يرقب أحوالهم ويتتبع تفصيلات حياتهم أنهم كانوا

وكأنهم أسرة من الأسر الإيرانية الحاكمة.

وعلى الرغم من ذلك ظل المغول ينظرون إلى الفرس على أنهم خصوم

وأعداء لهم حتى دخل المغول فى الإسلام أفواجًا فى عهد «السلطان

غازان»، فتغيرت عندئذٍ نظرتهم، ولم يعودوا يرون أهل البلاد

الأصليين غرباء عنهم وخصومًا لهم.

ص: 41

ولاشك أن القوانين والإصلاحات الجديدة التى وضعها غازان أدت إلى

تحسن الأوضاع الإدارية والاقتصادية والاجتماعية فى إيران والعراق،

وصاغتها صياغة جديدة، نالت قبول الناس جميعًا، وظل هذا التحسن

مستمرًا إلى نهاية عهد السلطان أبى سعيد بهادر، آخر سلاطين

الإيلخانيين العظام (736هـ)، فعادت الشئون الإدارية والاقتصادية

والاجتماعية إلى الاضطراب من جديد.

وأيا ما كان الأمر، فقد نهجت الدولة الإيلخانية فى إيران والعراق

نهج الإمبراطورية المغولية الكبرى التى اتخذت من قراقورم عاصمة

لها، فحذت فى تشكيلاتها الإدارية والسياسية حذوها وسارت على

نسقها.

لقد كان الأمراء الملكيون (شاهزادهـ) والقادة العسكريون (نوين)

والأمراء المغول تابعين تبعية مباشرة للإيلخان، أو السلطان فيما

بعد، وكان الإيلخان يخصص لهم أراضى واسعة ومدنًا بأكملها

كإقطاع لهم، ويتولون جمع خراج هذه الإقطاعات ويخصون به

أنفسهم.

كان الجهاز الحاكم فى الدولة الإيلخانية ينقسم إلى أربعة أقسام

تتفاوت فيما بينها بتفاوت الجنسية، واللغة، والدين، والمستوى

الاجتماعى، على النحو التالى:

1 -

قادة المغول.

2 -

الموظفون المدنيون، وكان معظمهم من الفرس.

3 -

رجال الدين المسلمون، ولقد كان رجال الدين من المسلمين

والمسيحيين فى بلاد القوقاز وآسيا الصغرى خاصة فى مرتبة

واحدة.

4 -

الأعيان المحليون فى أقاليم فارس والعراق.

وكان اهتمام الدولة منصبا أساسًا على جمع أكبر قدر من الأموال

والضرائب من أفراد الشعب.

ويرأس الإدارة المدنية فى الدولة «صاحب الديوان» أو رئيس الوزراء.

ويعهد إليه الإشراف على شئون الخزانة، والدخل والخرج، والشئون

المكتبية والإدارية وتعيين الموظفين وعزلهم. وبالإضافة إلى الديوان

العالى للإدارة المركزية، كانت هناك دواوين أخرى مثل «ديوان

إينجو» الذى كان يتولى إدارة الأملاك المنقولة - وغير المنقولة -

للإيلخان نفسه، ولأقاربه من الدرجة الأولى، وهذا الديوان يشبه إلى

ص: 42

حد بعيد «ديوان الخاص» الذى عرف فى مصر فى عهد المماليك.

وأبقى الإيلخانيون على منصب قاضى القضاة، وكان شاغله يقوم

بالفصل بين الخصوم، والحكم بين الناس، وتولية القضاة ومراقبتهم،

وكذلك مراقبة أحوال الناس ومعيشتهم وصنائعهم، وله الحق فى

الأخذ على يد الخارج منهم.

وكانت هناك مناصب: الصدر، والناظر، والشحنة، وهى وظائف إدارية

تشرف على الإدارة المحلية، وجمع الأموال وصرفها، والإشراف على

نظام الأمن، ومراقبة ولاة الأقاليم التابعة للدولة الإيلخانية.

الوضع الاقتصادى:

نهضت الزراعة فى الدولة الإيلخانية لخصوبة الأرض، ووفرة مياه

الأنهار والأمطار، وتميز الإيلخانيون بنظام الإقطاع وجعلوه نوعين:

أولهما الإقطاع المُملك، وهو أن يمنح الإيلخان الأمراء والأعيان وكبار

رجال الدولة، مساحات من الأرض الزراعية، ويجعلها ملكًا خاصا بهم،

وثانيهما: الإقطاع المستغل والمقصود به استغلال الأرض فى الزراعة

والاستفادة منها دون تملكها.

واعتمد اقتصاد الإيلخانيين على الثروة الزراعية الآتية من مناطق: ما

بين النهرين، والبصرة، والفرات (بين الأنبار وعانة)، ودجيل، ومنطقة

على نهر دجلة، وخراسان، كما اعتمد على نظام الإقطاع فى الإنفاق

على التجهيزات العسكرية والجيوش.

وتعددت الضرائب فى نظام دولة الإيلخانات فكانت هناك: ضريبة

الأرض، وضريبة الرؤوس، وضريبة البيوت والعقارات، وضريبة

الأسواق، وضريبة التمغات، وضريبة المراعى، وضريبة المساعدات

والقروض. وتعمد الجباة إرهاق الناس فى جمع الضرائب، وحصلوا

منهم على أموال كثيرة لم تكن مفروضة عليهم، وتآمر الحكام

والجباة على الشعب، وظهر الفساد بصورة جلية فى هذا الشأن.

ولعل مشكلة العملة الورقية (الجاو) التى فرضها السلطان

«كيخاتوخان» على الناس فى سنة (693هـ = 1294م)، كانت من أبرز

المشاكل الاقتصادية التى اعترضت سبيل الدولة الإيلخانية، إذ رفض

الناس التعامل بهذه العملة الورقية التى أجبرهم السلطان على

ص: 43

تداولها، واضطربت أحوال الشعب، وأغلق التجار محالهم، وامتنعوا

عن البيع والشراء، فانتهى الأمر بإلغاء هذه العملة.

وعمد الإيلخانيون إلى إصلاح ما أفسدته وخربته الحروب، وأعادوا

فتح الأسواق، وأكثروا منها، وازدهرت صناعة المنسوجات، وصناعة

اللؤلؤ.

ونشطت التجارة وأصبحت العراق وإيران من أشهر مراكز التجارة فى

ذلك الوقت، وقامت علاقات تجارية واسعة بين الإيلخانيين والصينيين

والتركستان، وصُدِّرت المصنوعات الحريرية، واللؤلؤ إلى أوربا عن

طريق الهند. وكانت «تبريز» مركز رواج وازدهار التجارة لوجود عدة

طرق برية بها، تمر منها القوافل.

وعلى الرغم من الطبيعة البدوية التى غلبت على المغول الأُول، وعدم

اكتراثهم بالمنشآت العمرانية وتفضيلهم للعيش فى الخيام، فإن

هولاكو - على سبيل المثال -شرع بعد استقراره فى إيران فى إنشاء

المبانى الكبيرة والقصور الفخمة فى أذربيجان و «تخت سليمان» ،

كما بنى مرصدًا فى مراغة سنة (658هـ)، وعهد إلى العالم الفيلسوف

«نصير الدين الطوسى» بالإشراف على بنائه وإدارته، وقد تم تأسيس

مكتبة كبرى إلى جوار هذا المرصد، ولم يكن يعمل فيه الفلكيون

العرب والإيرانيون فحسب بل عمل فيه أيضًا المنجمون الصينيون

والهنود.

الوضع الدينى:

تدهور الوضع الدينى منذ البداية فى الدولة الإيلخانية، حيث نشبت

الصراعات المذهبية والدينية بين أهل السنة بالعراق، وأصحاب

المذهب الشيعى بالدولة الإسماعيلية بإيران، ومما لاشك فيه أن فتنة

الكرخ التى حدثت بالعراق، وما ترتب عليها من فوضى أمنية كانت

سببًا رئيسًا فى الاجتياح المغولى لهذه البلاد.

وقد ظل الصراع محتدمًا بين السنة والشيعة فى ظل حكم دولة

الإيلخانيين، وتبوأ المسيحيون مكانًا بارزًا على الرغم من الاختلافات

المذهبية التى كانت قائمة بين أتباعها، واستغل البوذيون كل هذه

الخلافات والصراعات وتبوءوا مكانة عالية. ومع ذلك كان الإيلخانيون

ص: 44

ينظرون إلى الجميع نظرة واحدة مؤداها أنهم رعية، وعليهم السمع

والطاعة.

ولقد ظل هذا الوضع قائمًا حتى تولى السلطان «محمود غازان»

الحكم، فأعلن الدين الإسلامى دينًا رسميا للدولة الإيلخانية، ومن ثم

اقتصرت وظائف الدولة على المسلمين.

وبعد:

فقد تكونت «الدولة الإيلخانية» من قبائل وطوائف متعددة، لم يكن

بينها رابط ثقافى أو وطنى، ولم تكن تجمعها تحت راية واحدة إلا

قوة الإيلخانيين الأقوياء، فلما مات السلطان «أبوسعيد» آخر

السلاطين العظماء ولم يعقِّب ولدًا يخلفه على العرش؛ تبددت القوة

المركزية للدولة، وانتقلت المبادرة إلى أيدى الأمراء المغول الذين

غلب عليهم طابع البداوة، فاختل التماسك، وتمزقت البلاد، وضاع

الهدف الذى من أجله أقيمت هذه الدولة، وطغت المصلحة الشخصية

على المصالح العامة، ثم ما لبثت الدويلات التى أقامها الأمراء على

أنقاض الدولة الأم أن ضاعت هى الأخرى على يد «تيمورلنك» ،

فأسرع جانب من المغول الذين كانوا يقيمون فى «إيران» إلى

الاندماج فى العناصر التركية التى تعيش فى تلك البلاد، بينما اندمج

جانب آخر منهم فى الإيرانيين الفرس الذين يعيشون بينهم، وذابوا

فيهم، وهكذا سقطت «الدولة الإيلخانية» على أيدى أمرائها.

ص: 45

الفصل الخامس

*الدولة الجلائرية فى العراق وأذربيجان

[736 - 835 هـ = 1335 - 1431م].

النشأة والتكوين:

ضمت «الدولة الإيلخانية» التى أسسها «هولاكو» فى عام (654هـ=

1256م) شعوبًا متعددة، وأقاليم كثيرة، شملت «العراق» و «إيران» ،

واستمرت فى حكمها حتى عام (716 - 736هـ= 1316 - 1335م)، ثم

تصارع الأمراء على الانفراد والاستقلال بحكم ما تحت أيديهم من

أجزاء هذه الدولة، فتفككت وانقسمت إلى دويلات، وبات الحكم فيها

لأسر بعينها، مثل: أسرة «آل جلائر» التى استقلت بحكم «العراق»

بعد وفاة السلطان أبى سعيد بهادرخان.

كان «آل جلائر» من القبائل المغولية، ويعد «تاج الدين شيخ حسن

بزرَك بن حسين» أول حكام «آل جلائر» ومؤسس دولتهم «الجلائرية» ،

وثالث مَن تولى الحكم فى «الدولة الإيلخانية» ، وقد امتد سلطانه إلى

«العراق» ، واتخذ «بغداد» عاصمة له، وأعلن نفسه ملكًا عليها،

فظهرت بذلك الدولة «الجلائرية» إلى حيز الوجود.

الوضع الداخلى:

شهدت اللبنات الأولى لقيام «الدولة الجلائرية» عدة حروب بين الأمراء

المغول بهدف الوصول إلى الحكم، إلا أن «حسن الجلائرى» تمكن من

الاستقلال بالعراق واستطاع أن يوحد الصفوف لتأسيس دولته الوليدة،

ومع ذلك لم تتوقف الصراعات والحروب مع بقايا الإيلخانيين، إلى أن

تمكن «الشيخ حسن الجلائرى» من طردهم إلى خارج حدود دولته

- «العراق» - فى عام (748هـ= 1347م).

كان «الشيخ حسن الجلائرى» سياسيا حكيمًا، وأراد أن يضمن لدولته

قوتها ووحدتها، فلم يعلن نفسه خانًا أو سلطانًا؛ بل أعلن ولاءه

للسلطان المملوكى فى «مصر» ليكون سنده الذى يحتمى به إذا ما

فكر المغول فى غزوه، خاصة وأن دولته قريبة ومتاخمة للإمارات

والممالك المغولية فساعده هذا التصرف على استقرار بلاده، وشجعه

على الاستيلاء على «لورستان» ، و «الموصل» ، و «تستر» ، وبسط

نفوذه على غيرها، فاتسعت رقعة بلاده، وامتد نفوذ حكمه، ثم مات

فى عام (757هـ = 1356م)، وخلفه ابنه «الشيخ أويس بن حسن

ص: 46

الجلائرى»، فبلغت الدولة فى عهده أقصى اتساع لها، إذ ضم إليها

«أذربيجان» ، و «آران» ، و «موقان» ، واتخذ من «تبريز» عاصمة

لبلاده، وانتقل نشاط الدولة السياسى ومركزها من «العراق» إلى

«أذربيجان» ، فأدى ذلك إلى قيام حركات التمرد فى «بغداد» على

الجلائريين، وكانت حركة «مرجان» نائب «الشيخ أويس» على

«بغداد» من أشهر هذه الحركات، وكان «مرجان» طواشيا للشيخ

أويس.

لقد أخطأ «الشيخ أويس» فى حساباته عندما ابتعد عن «العراق»

واتخذ له عاصمة فى «إيران» ، فضلا عن تقريبه الفرس دون العرب،

فكانت النتيجة انضمام العرب بمختلف طوائفهم إلى «مرجان»

وحركته، وحُذف اسم «الشيخ أويس» من الخطبة؛ رمز السيادة فى

الدولة، وخُطب للسلطان المملوكى فى «مصر» .

خرج «الشيخ أويس» من «تبريز» إلى «بغداد» فى سنة (765هـ =

1363م)، واستطاع وزيره أن يستميل أعوان «الخواجة مرجان» إلى

صفه، فانفضوا من حول «مرجان» وفشلت حركته، ودخل «الشيخ

أويس» «بغداد» ثم جعل «شاه خازن» نائبًا له عليها، ولكن «مرجان»

لم ييأس من المحاولة، وعاد مرة ثانية إلى حكم «بغداد» عقب وفاة

«شاه خازن» ، مما يؤكد حب أهل «العراق» لمرجان ومكانته عندهم،

فاضطر «الشيخ أويس» إلى الصفح عنه، ثم أرسل ابنه «الشيخ

علىّ» ليحكم «العراق» .

تُوفى «الشيخ أويس» عام (776هـ = 1373م)، وخلفه فى الحكم ابنه

«جلال الدين حسين بن أويس» (776 - 784هـ = 1373 - 1382م)،

فضاعت هيبة الدولة فى عهده، وبدأت فى التدهور والانهيار؛ حيث

اهتم بملذاته ومصالحه الشخصية على حساب أمور الدولة والرعية،

وزادت الأمور اضطرابًا فى عهد أخيه «أحمد بن أويس» الذى خلفه

فى الحكم (784 - 813هـ = 1382 - 1410م)، إذ تمكن «تيمورلنك» من

إسقاطه عن عرشه عدة مرات، ثم دخل «بغداد» فى عام (795هـ =

1393م)، ففر «أحمد بن أويس» إلى «مصر» مستنجدًا بالسلطان

المملوكى «برقوق» ، وتمكن «الشيخ أحمد» -أخيرًا - من العودة إلى

ص: 47

«بغداد» فى عام (804 هـ = 1401م)، وتمكن من استعادتها فى عام

(807هـ= 1404م)، بعد أن خرجت عدة مرات من حكم «آل جلائر» إلى

حكم التيموريين، ثم استعاد «تبريز» فى عام (809هـ= 1406م)، ولم

يلبث أن فقدها ثانية فى العام نفسه على يد حفيد «تيمورلنك» .

وفى عام (813هـ = 1410م)، اختلف «أحمد بن أويس» مع زعيم قبيلة

«قراقيونلو» ، وحدث صدام بينهما، فقُتل «الشيخ أحمد» ، وتمكن

زعيم «قراقيونلو» من انتزاع «تبريز» وما والاها من الجلائريين، ثم

أسس دولة له فى «أذربيجان» .

تولى الحكم بعد «أحمد بن أويس» عدد من السلاطين، وصلت الدولة

فى عهدهم إلى أقصى مراحل الضعف حتى انتهت بموت «حسين بن

علاء الدولة» آخر السلاطين الجلائريين سنة (835هـ)، وسلاطين هذه

الفترة هم:

- شاه ولد (813 - 814هـ).

- محمود بن شاه ولد (814 - 818هـ).

- أويس بن شاه ولد (818 - 824هـ).

- محمد بن شاه ولد (824 - 827هـ).

- حسين بن علاء الدولة (827 - 835هـ).

العلاقات الخارجية:

اتسمت علاقة الجلائريين بالعالم الخارجى بالعداء والصراعات؛ لأن

دولتهم قامت على أنقاض «الدولة الإيلخانية» ، فنشب الصراع بينهم

وبين «الدولة الجوبانية» نتيجة استجابة السلطان المملوكى للشيخ

«حسن الجلائرى» حين طلب منه الحماية، غير أن مقتل «حسن

الجوبانى» على يد زوجته «عزت الملك» فى عام (744هـ = 1344م)،

قد أراح «حسن الجلائرى» من نزاعات وصراعات كثيرة كانت

ستحدث حول أملاك الجلائريين الشرقية، ثم جاءت نهاية

«الجوبانيين» على يد «القبجاق» ، فوضعت النهاية للصراع الجلائرى

الجوبانى.

ولم تكن علاقة الجلائريين بالدولة المظفرية بأفضل حال من سواها،

فقامت بينهما المنازعات، إذ قدم المظفريون المساعدات إلى

المناهضين للحكم الجلائرى، وإلى المتمردين عليه، ثم أطاح

التيموريون فى النهاية بالجلائريين والمظفريين معًا.

دخلت علاقة «الدولة الجلائرية» مع «الدولة المملوكية» بمصر فى دور

ص: 48

التبعية، بهدف الاستفادة من المماليك فى حماية دولتهم ومساعدتها

ضد أعدائها، خاصة الجوبانيين والتيموريين، وقد ساعد السلطان

المملوكى «برقوق» السلطان الجلائرى «أحمد بن أويس» فى

استعادة «بغداد» من أيدى التيموريين.

كانت علاقة الجلائريين الخارجية «بقراقيونلو» علاقة صداقة - فى

بداية الأمر- ثم ما لبثت أن تحولت إلى عداوة وشقاق، واستولت هذه

القبيلة على أملاك «الدولة الجلائرية» فى «أذربيجان» ثم أقامت بها

دولتها المستقلة.

مظاهر الحضارة فى الدولة الجلائرية:

تمتعت «الدولة الجلائرية» باستقلالها فى عهد «الشيخ حسن

الجلائرى» الذى أدت سياسة حكمه إلى انتعاش اقتصاد البلاد، وبناء

حضارة زاهرة، وتشييد المدارس والمكتبات وأماكن العلاج، فتردد

طلاب العلم على «بغداد» من كل مكان؛ طلبًا للعلم والمعرفة، فأعاد

لبغداد عهدها القديم المشرق، واعتمد على العرب والترك فى الجيش،

فقل تأثير الفرس على المجتمع العراقى، وبات «آل فضل» العرب

ذوى مكانة خاصة فى هذه الدولة، ولكن ذلك لم يدم طويلا؛ إذ تولى

«الشيخ أويس بن حسن» عرش «الدولة الجلائرية» واعتمد فيها على

العنصر الفارسى، وأساء إلى العرب، فتقلص نفوذ العرب ونشاطهم

فى الدولة، وازداد الأمر سوءًا حينما اتخذ «الشيخ أويس» «تبريز»

عاصمة لبلاده بدلا من «بغداد» ، وجعل اللغة الفارسية لغة بلاده

الرسمية؛ فازداد نفوذ الفرس، واشتعلت الثورات فى «العراق» ، وطمع

المظفريون فى فارس، فأحدقت الأخطار بالدولة الجلائرية من كل

جانب فغزاها التيموريون، فأفقدها ذلك القدرة على مواصلة الإصلاح

الاقتصادى، وأهملت المنشآت الخاصة بالزراعة والرى، وأصبح شغل

الحكام الجلائريين الشاغل هو الحفاظ على وجودهم فى الحكم،

ونشبت بينهم الصراعات الكثيرة التى أطاحت بهم جميعًا فى النهاية.

كما ساعدت الفيضانات والأوبئة التى تعرضت لها هذه الدولة على

انهيار اقتصادها، وتدهور الأحوال فيها، واضطر الحكام إلى فرض

ص: 49

الضرائب لملاحقة المجهود العسكرى، فضجر الناس من ذلك، وانتكست

تجارتهم بسبب الضرائب، وأصيبت الصناعة بالخمول والكساد أيضًا،

ولم تبقَ إلا بعض الصناعات القليلة مثل: صناعة الحرير، وصناعة

الأسلحة، وبات هَمُّ الحكام الحفاظ على العرش، وضحوا فى سبيل

تحقيق ذلك بكل غالٍ ونفيس.

ص: 50

الفصل السادس

*الدولة المظفرية فى فارس وكرمان وكردستان

[713 - 795 هـ = 1313 - 1393م]

النشأة والتكوين:

ينسب «آل مظفر» إلى الأمير «مبارز الدين محمد» ابن الأمير «شرف

الدين بن منصور بن غياث الدين حاجى الخراسانى»، وقد تولى الأمير

«شرف الدين» عدة مناصب فى عهد الإيلخانيين، فولاه السلطان

«أولجايتو» مدينة «ميبد» (6)، ثم توفى «شرف الدين» بعد أن قضى

على المتمردين فى منطقة «شبانكاره» ، فاتخذ السلطان «أبو سعيد

بهادرخان» ابنه «مبارز الدين محمد» ولم يكن قد تجاوز الثالثة عشرة

من عمره مكان أبيه، وولاه مناصبه فى عام (717هـ= 1317م)، ولذا

يعد الأمير «مبارز الدين» أول حكام المظفريين.

الوضع الداخلى:

استقل الأمير «مبارز الدين محمد بن مظفر» بإقليم «فارس» عقب

سقوط الحكم الإيلخانى، ثم استولى على «كرمان» فى سنة (741هـ

= 1340م)، وطمح فى تكوين إمبراطورية واسعة الأرجاء، فضم كثيرًا

من المدن الإيرانية إلى دولته، وأعلن ولاءه للخليفة العباسى

«المعتضد بالله» واتخذ لنفسه لقب «ناصر أمير المؤمنين» ؛ ليضفى

الشرعية على حكمه، وظل يسعى إلى تحقيق هدفه حتى بات الخليفة

ألعوبة فى يده.

اعترض «آل إينجو» بزعامة «الشيخ أبى إسحاق» طريق «آل مبارز»

فى تحقيق حلمهم، ونشبت الخلافات والصراعات بينهما، وظلت

العلاقة بين الطرفين سيئة حتى قتل المظفريون «الشيخ أبا إسحاق»

عقب إحدى المعارك التى دارت بينهما فى عام (758هـ = 1356م)،

واستولى «شاه شجاع» ابن الأمير «مبارز الدين» على «شيراز» ،

فانتقل إليها الأمير «مبارز» وأقام بها وأرسل ابنه «شاه شجاع»

إلى حكم «كرمان» .

وفى عام (758هـ) فتح الأمير «مبارز الدين» منطقة «تبريز» ، ثم لما

علم بقدوم الشيخ إدريس الجلائرى إليها، غادرها إلى «شيراز» ،

وهناك اصطدم بولديه «شاه شجاع» ، و «شاه محمود» ، اللذين تحالفا

مع «شاه سلطان» أحد الناقمين على أبيهما، فقبضوا عليه، وأمر

ابنه «شاه شجاع» بسمل عينيه، ثم حبسوه فى إحدى القلاع،

ص: 51

والتمس الأب عطف ولديه، وطلب منهما الصلح، فعفوا عنه، وحكما

البلاد نيابة عنه، وضربا السكة باسمه، وظل الوضع على ذلك فترة،

ثم أرسلاه للإقامة بقلعة «بم» بكرمان، ولكن الأمير «مبارز الدين»

كان قد اشتد به المرض ومات فى الطريق قبل أن يصل إلى هذه

القلعة قى عام (765هـ = 1364م).

وظل أبناء «مبارز الدين» يحكمون من بعده «كرمان» و «فارس»

و «كردستان» ، فحكم «جلال الدين شاه شجاع» فى حياة أبيه فى

سنة (759هـ = 1357م)، وظل فى الحكم حتى سنة (786هـ = 1384م)،

وقضى فترة حكمه فى مطاردة المارقين والعصاة والخارجين على

الدولة، ثم تولى بعده ابنه «مجاهد الدين زين الدين» (786 - 789هـ =

1384 -

1387م)، إلى أن عزله الأمير «تيمور كوركان» ، فخلفه «شاه

يحيى» فى «يزد» ، و «سلطان أحمد» فى «كرمان» .

وكان «شاه منصور» آخر حكام دولة «آل المظفر» فى «أصفهان» ،

وسقطت «الدولة المظفرية» فى عام (795هـ = 1393م).

وقد اشتهر المظفريون بحبهم للعلم والثقافة طيلة اثنتين وسبعين سنة

هى عمر دولتهم من النشأة حتى السقوط.

العلاقات الخارجية:

عانت «الدولة المظفرية» كثيرًا من الصعاب من أجل الاحتفاظ بالحكم،

فدار صراع بينها وبين «آل إينجو» بزعامة الشيخ «أبى إسحاق» ،

ودخلت حروب عدة مع «الدولة الجلائرية» ، وكذلك مع «الدولة

التيمورية» التى اجتاحت من اعترض سبيلها من الدول والحكام، ولم

تستطع دولة «آل المظفر» الصمود أمام تسلط «تيمور كوركان» الذى

قسم أملاكها بحجة الوصاية التى منحه إياها الأمير «مجاهد الدين

زين العابدين» لرعاية أولاده من بعده، فوضع «تيمور» النهاية لهذه

الدولة فى عام (795هـ = 1393م) بعد أن فرق وحدتها، وشتت

حكمها، وقسم أرضها، ثم عمد بعد ذلك إلى إسقاطها.

مظاهر الحضارة فى الدولة المظفرية:

تميز عهد الأمير «مبارز الدين محمد بن مظفر» بالنشاط الحضارى،

والازدهار الفكرى والثقافى، بفضل تشجيعه للعلماء والفقهاء

ص: 52

والنابغين، فتعهد علماء «شيراز» بالرعاية، وبنى فى «كرمان»

مسجدًا كبيرًا أوقف عليه الأملاك لرعايته، وضرب السكة فى عهده

ونقش عليها اسم الخليفة العباسى رمز المسلمين، وتذكر المصادر

الفارسية أن «مبارز الدين» كان ضيق الصدر، ويعاقب المخطئ

بنفسه؛ حتى أُطلِق عليه: «الملك المحتسب» ، وكان شاه شجاع محبا

للشعر والشعراء، فازدهر الشعر فى عصره، ونبغ عدد كبير من

الشعراء منهم: «الشاعر الحافظ الشيرازى» ، و «العماد الفقيه

الكرمانى».

وعلى الرغم من أن «آل المظفر» قد أحبوا العلم، وساعدوا العلماء،

ونشروا الثقافة، فإنهم كانوا يتصفون بالقسوة، ويغلب عليهم العنف

فى تعاملهم مع الرعية، وأيضًا فيما بينهم، وليس أدل على ذلك مما

حدث من ابنى الأمير «مبارز الدين» مع أبيهما، ليمنعوه من الحكم،

ولعل هذه الصفات كانت السبب الرئيسى فى زوال ملكهم.

ص: 53

الفصل السابع

*ملوك كرت

643 -

791 هـ = 1245 - 1389 م.

النشأة والتكوين:

استقل ملوك «كرت» ببلادهم استقلالا محدودًا تحت لواء الإيلخانات

فى «إيران» ، وإن استمروا فى الحكم فترة بعد سقوط «الدولة

الإيلخانية»، وقد استقر ملوك «آل كرت» فى «هراة» ، و «بلخ» ،

و «غزنة» ، و «سرخس» ، و «نيسابور» ، ولم يصلوا إلى ما وصلت إليه

الأسر المغولية الأخرى من أهمية فى تاريخ المشرق الإسلامى؛ إذ

حكموا الجزء الشرقى لإيران من منتصف القرن السابع الهجرى إلى

نهاية القرن الثامن الهجرى، وأزال ملكهم الأمير «تيمور كوركان»

مثلما أزال ملك الأسر المغولية الأخرى.

الوضع الداخلى:

كان «شمس الدين الأول محمد» ، أول ملوك «آل كرت» ، وهو ابن ابنة

«ركن الدين بن تاج» الذى تزوج ابنة السلطان «غياث الدين محمود

الغورى»، الذى عينه حاكمًا على قلعة «خنسيار» (تقع بين هراة

والغور) والتى آل أمرها -فيما بعد - إلى الملك «شمس الدين» .

عندما زحف المغول على العالم الإسلامى رأى الجد «ركن الدين بن

تاج» الدخول تحت لوائهم، ليضمن سلامة ملكه، فتركه المغول، وبعث

بحفيده «شمس الدين كرت» إليهم ليكون فى خدمتهم، تعبيرًا عن

الطاعة والولاء.

حكم «شمس الدين كرت» مناطق كثيرة، منها:«هراة» ، و «بلخ» ،

و «غزنة» ، و «سرخس» ، و «نيسابور» ،ووصل بملكه إلى ضفاف

«سيحون» ، و «سيستان» ، و «كابل» حتى «نهر السند» ، وتمكن من

الاستقلال بالحكم فى سنة (648هـ)، ومن المؤكد أن «شمس الدين»

لعب دورًا كبيرًا فى حملة «هولاكو خان» على بلاد طائفة

«الإسماعيلية» ، إذ كان أول المشاركين فيها إظهارًا لولائه وطاعته

للمغول، وكان له الفضل فى تسليم «ناصر الدين محتشم» «قلعة

قهستان» إلى المغول.

لم تسر سياسة «شمس الدين» على نهج واحد فى علاقته بالمغول،

إذ انحاز إلى «براق خان» الجغتائى فى هجومه على «آباقا خان بن

هولاكو» للاستيلاء على «خراسان» التابعة للدولة الإيلخانية، وذلك

ص: 54

بعد وفاة «هولاكو» ، وتولى ابنه «آباقا خان» الحكم خلفًا له، فغضب

«آباقا خان» على «شمس الدين» لموقفه، وخشى «شمس الدين»

على حياته من غضب «آباقا خان» وانتقامه.

شعر «براق خان» بقرب نهاية دولته (الدولة الجغتائية)، فعرض على

«شمس الدين كرت» أن يعرف له أسماء الأغنياء فى «خراسان»

-طمعًا فى مالهم- مقابل أن يحصل «شمس الدين» على تفويضه فى

أملاك «الدولة الإيلخانية» ، فأحس «شمس الدين» بذكائه قرب زوال

ملك الجغتائيين، خاصة أن جيشهم بدت عليه أمارات القسوة والتجبر،

فعاد إلى «هراة» ، واعتصم بقلعة «خنسيار» ، وانتظر ما ستسفر عنه

الأحداث، ولكنه لم يلبث طويلا وتمكن من النجاة بشفاعة «شمس الدين

الجوينى» صاحب الديوان (7) له عند «آباقا خان» الذى عفا عنه،

ومات «شمس الدين كرت» فى «تبريز» مسمومًا فى عام (676هـ =

1277م)، فولَّى «آباقا خان» «ركن الدين بن شمس الدين» حكم

«هراة» (677 - 682هـ = 1278 - 1283م).

واتخذ هذا الابن لقب أبيه وعرف باسم «ركن الدين بن شمس الدين

الأصغر».

فلما تُوفِّى الإيلخان «آباقا خان» خشى ركن الدين على حياته،

واعتصم بقلعة «خنسيار» الحصينة حتى وفاته سنة (705هـ =

1305م)، ثم تولى ابنه «فخر الدين» مكانه من قِبَل «غازان خان» سنة

(695هـ= 1295م)، وشغل عهده بالخلاف مع «غازان» ، حتى تُوفِّى

سنة (706هـ = 1306م)، فعين «أولجايتو» مكانه أخاه «غياث

الدين»، وظل فى الحكم حتى سنة (729هـ = 1328م)، فخلفه بالتتابع

ولداه «شمس الدين الثانى» الذى مات سنة (730هـ = 1329م)،

و «الملك حافظ» الذى قتل سنة (732هـ = 1331م)، ثم جاء من بعدهما

الأخ الثالث «معز الدين حسين» ، وكان من أبرز حكام «بنى كرت» ،

فقد قرئت الخطبة باسمه، وأهداه «سعد الدين التفتازانى» كتابه

المشهور فى البلاغة باسم «المطول» وقد توفى «معز الدين حسين»

سنة (771هـ = 1370م)، وحل مكانه ابنه «غياث الدين بير على» الذى

ص: 55

دعاه «تيمورلنك» للاجتماع به، فلما لم يلبِّ دعوته، قاد بنفسه جيشًا

تمكن من الاستيلاء على هراة سنة (783 هـ = 1381م)، وأسر «غياث

الدين» وابنه «بير محمد» وأخاه الملك «محمدا» والى «سرخس»

وأركان حكومته، وساقهم إلى «سمرقند» ، ثم أعدمهم فى أواخر

سنة (784هـ) وبذلك انقرضت أسرة ملوك كرت.

العلاقات الخارجية:

أتاح اتصال ملوك «كرت» بالغوريين فرصة الوصول إلى الحكم، فلما

غزا المغول البلاد الإسلامية انضوى «ركن الدين» تحت لوائهم، وعمل

على مسالمتهم ليأمن شرهم على نفسه وعلى مُلك «آل كرت» فى

«هراة» وغيرها. ثم جاء «شمس الدين كرت» ومضى على الدرب نفسه

فى موالاة المغول، وانضم إليهم فى حملة «هولاكو خان» على بلاد

«الإسماعيلية» ، وكان له دوره البارز فى استسلام «ناصر الدين

محتشم»، وتسليمه لقلعة «قهستان» للمغول، ومضى «آل كرت» فى

طاعتهم للإيلخانيين الذين أسسوا دولتهم فى «إيران» و «العراق» ،

باستثناء بعض الأوقات التى خرج فيها بعض ملوك «آل كرت» على

سيطرة الإيلخانيين المغول، ثم سرعان ما يعودون ثانية إلى الانضواء

تحت اللواء المغولى، كما فعل «شمس الدين كرت» نفسه حين انضم

إلى «الجغتائيين» فى صراعهم مع الإيلخانيين، ثم عاد ثانية إلى

طلب العفو والصفح عنه من الإيلخان «آباقا» المغولى.

وبذا يمكن القول: إن أمر تولية «آل كرت» الحكم كان يرجع إلى رغبة

«الإيلخان» المغولى، وأصبحت مناطق نفوذ «آل كرت» إمارات تابعة -

إلى حد بعيد- للمغول الإيلخانيين، وظلوا على ذلك حتى انتهى أمرهم

على يد التيموريين الغزاة فى عام (791هـ= 1389م).

مظاهر الحضارة فى إمارة آل كرت:

كانت إمارة «آل كرت» إمارة ثرية؛ إذ ضمت إلى حكمها مناطق عدة

اشتهرت بثرواتها وخيراتها ومزروعاتها، وسعة أرضها، وعذوبة

مائها، وخصوبة تربتها، فاشتهرت «هراة» ببساتينها الكثيرة،

و «غزنة» بسعة أرضها وخصوبة تربتها ووفرة مائها العذب، وكانت

ص: 56

تقع فى أطراف «خراسان» وتربطها بالهند، أما «سرخس» فتقع بين

«مرو» و «نيسابور» وبها خيرات كثيرة، واشتهرت «نيسابور» (إحدى

مدن خراسان) بالفواكه والثمار، والمعادن الكثيرة وبخاصة الفيروز،

كما كانت تزخر بالعلماء الفضلاء، وتعد هذه المدينة عتبة الشرق.

والواقع أن تلك البقاع التى شملتها أقاليم «آل كرت» كانت تفيض

بالخير والثراء، فلم يجد الحكام صعوبة فى توفير احتياجات البلاد،

وكذلك لم يكن لهم طموح فى توسيع حدودهم، أو إدخال دولة ما

تحت تبعيتهم؛ إذ كانوا أنفسهم تابعين للحكم الإيلخانى المغولى،

وحرص الإيلخانيون على ولائهم وكسب ودهم، وبقاء تبعية «آل

كرت» لهم.

وقد أدى استقرار الأوضاع الاقتصادية فى دولة «آل كرت» إلى

استقرار الأوضاع السياسية، فشجع «الحكام» العلماءَ والأدباء،

وعمدوا إلى مساعدتهم، فبرز منهم عدد كبير، ومنهم «ابن يمين»

(المتوفى عام 769هـ)، وقد مدح بأشعاره «آل كرت» والسربداريين،

وتضمن شعره الحكم والمواعظ، ومما يجدر ذكره أن العالم الجليل

والقطب الكبير «جلال الدين الرومى» ، قد وُلد وعاش فى «بلخ» فى

الفترة من (604هـ إلى 672هـ)، وهو من أكبر شعراء الصوفية الفرس،

وصاحب كتاب «مثنوى» .

ص: 57

الفصل الثامن

*أمراء قراقيونلو

[780 - 873 هـ = 1378 - 1468 م].

النشأة والتكوين:

ظهرت جماعة من التركمان أطلقوا على أنفسهم اسم «قراقيونلو»

فى أواخر عهد السلطان «أبى سعيد بهادرخان» آخر حكام «الدولة

الإيلخانية» - فى النصف الثانى من القرن الثامن الهجرى = النصف

الثانى من القرن الرابع عشر الميلادى - فى الشمال الغربى لآسيا

جنوبى بحيرة «وان» .

ومما لاشك فيه أن هذه الجماعة قد استفادت استفادة كبيرة من

الضعف الذى منيت به «الدولة الإيلخانية» فى عهد خلفاء السلطان

«أبى سعيد بهادرخان» ، ودخلوا فى صراع مع التيموريين، واعتنقوا

المذهب الشيعى، ويرجع نسب أمرائهم إلى الأمير «محمد تورمش ابن

بيرام خواجة».

الوضع الداخلى:

استطاع الأمير «أبو نصر قرا يوسف نويان بن محمد» أول أمراء

«قراقيونلو» أن يقود كتائبهم المنتشرة بالأقاليم المجاورة لأرمينيا

و «أذربيجان» ، ويستولى على «تبريز» ويجعلها عاصمة لإمارته، ثم

اصطدم بأحمد بن أويس الجلائرى فى عام (813هـ = 1410م)، وتمكن

منه وقتله، ومد سلطانه وسيطرته على «أذربيجان» (أذربايجان).

ولما غزا «تيمور» بلاد «قرا يوسف» فى عام (802هـ = 1400م)، سلبه

ملكه، ولكنه استعاد ما سلب منه فى عام (808هـ = 1405م)، ونادى

بابنه «بيربوداق» أميرًا على «أذربيجان» سنة (810هـ = 1407م)،

فاستطاع أن يتخلص من «قرا عثمان» رئيس «الآق قيونلو» فى «ديار

بكر»، ويحقق لقبيلته كثيرًا من الانتصارات والفتوح من ناحية الغرب،

ثم توجه إلى الشرق لصد القوات التيمورية بقيادة «شاه رخ» ، ولكنه

توفى فجأة فى الطريق بأذربيجان، وكذلك توفى والده «قرا

يوسف» فى الوقت نفسه، فتولى الأمير «إسكندر بن قرا يوسف»

الحكم فى عام (823هـ = 1420م)، واستمر حتى عام (841هـ =

1437م).

وفى أثناء هذه الفترة وقعت أحداث كثيرة، فهاجم «شاه رخ» الذى

كان يحكم القسم الشرقى لإيران الأمير إسكندر بن قرا يوسف،

وألحق به الهزيمة فى «تبريز» ، وطرده من «أرمينية» فى عام

ص: 58

(824هـ = 1421م)، ولكن الأوضاع الداخلية للدولة التيمورية أجبرت

الأمير «شاه رخ» على العودة إلى «خراسان» ، مما أتاح الفرصة

للأمير «إسكندر» للعودة إلى إمارته واسترداد ملكه، وتحقيق

انتصارات متتالية فى «أرمينية» و «أران» ، و «بلاد الأكراد» .

واستمر الصراع بينهما حتى قتل الأمير إسكندر سنة (841هـ) فتولى

أخوه الأمير «جهانشاه» زعامة أمراء «قراقيونلو» ، واصطدم

بالتيموريين وهزم «الميرزا علاء الدولة التيمورى» واستولى منه على

«خراسان» ، وفى الوقت نفسه تمرد ابن «جهانشاه» عليه فى

«أذربيجان» ، فاضطر إلى مصالحة التيموريين ثانية، وأعاد إليهم

«خراسان» ، ثم عاد إلى «تبريز» عاصمته ليتمكن من مواجهة ابنه

والقضاء على تمرده، فخرج عليه «حسن بيك» أحد أفراد قبيلة «آق

قيونلو»، وقتله فى سنة (872هـ = 1467م).

كان الأمير «حسن على» هو آخر أمراء هذه الدولة، وهو ابن الأمير

«جهانشاه» الذى اعتقله فى «باكو» نحو خمسة وعشرين عامًا؛

فلما ولى الأمير «حسن» الحكم، لقى هزيمة منكرة على أيدى قبيلة

«آق قيونلو» بزعامة «أوزون حسن» فى عام (873 هـ = 1495 م)،

وسقطت أسرة «قراقيونلو» ، فكانت النهاية.

العلاقات الخارجية:

كانت دولة أمراء «قراقيونلو» فى «أذربيجان» ذات علاقات عديدة

مع جيرانها، اتصفت -فى المقام الأول- بأنها علاقات ذات صفة حربية،

فقد بدأت هذه العلاقة بتبعية هذه القبيلة للدولة الإيلخانية، ثم أقاموا

علاقات صداقة مع الجلائريين والعثمانيين بهدف مواجهة الغزو

التيمورى، ومما لاشك فيه أنهم استفادوا من هذه العلاقة، خاصة أن

«بايزيد» قد وفر الحماية لأمراء «قراقيونلو» ، الذين فروا إلى

«الأناضول» هربًا من التيموريين، ولكن هذه العلاقة لم تسر على

وفاق مع الجلائريين، وقتل «قرا يوسف» «أحمد بن أويس الجلائرى»

فى عام (813هـ= 1410م).

أبعد التيموريون أمراء «قراقيونلو» عن مقار حكمهم أكثر من مرة،

ص: 59

وكانت العلاقة سيئة بينهما، وجاءت نهاية أمراء «قراقيونلو» على

أيدى قبيلة «آق قيونلو» (9)، إحدى القبائل التركمانية التى تنتمى

إلى عنصرهم ذاته.

مظاهر الحضارة فى دولة أمراء قراقيونلو:

لم تتح الحروب والمعارك العسكرية فرصة كافية أمام أمراء

«قراقيونلو» للاهتمام بمظاهر الحضارة، فقد عاشت دولتهم فى

صراعات متواصلة من أجل الحفاظ على حدودها من الجلائريين

والتيموريين، ولكن ذلك لم يمنع الأمير «جهانشاه» من الاهتمام بالأدب

والشعر، إذ كان هو نفسه ينظم الشعر، وكان محبا له.

وقد شيد «جهانشاه» مسجدًا يعد تحفة فنية فى عمارته، وهو

«المسجد الأزرق» الذى يمثل العمارة الإسلامية فى هذه المنطقة.

لم يمنح التيموريون أيا من أمراء «قراقيونلو» فرصة الاتجاه نحو

الاهتمام بمظاهر الحضارة، لأنهم كانوا يحطمون كل شىء ويقضون

على الأخضر واليابس فى غزوهم الشامل على مناطق نفوذ أمراء

«قراقيونلو» ، لذا لم يهتم هؤلاء الأمراء بمظاهر الحضارة، وصرفوا

جهودهم إلى النشاط الحربى.

ص: 60

الفصل التاسع

*الدولة الصفوية

[907 - 1148 هـ = 1502 - 1736م].

النشأة والتكوين:

ينتسب الصفويون إلى «صفى الدين الأردبيلى» الذى عاش فى الفترة

من (650هـ = 1252م) إلى (735هـ = 1334م)، وهو أحد شيوخ

الصوفية، وقد درس فى مطلع حياته العلوم الدينية والعقلية فى

موطنه، ثم ارتحل إلى «شيراز» ، واتصل بالشاعر المعروف «سعدى

الشيرازى»، ثم رحل إلى «أردبيل» ومنها إلى «كيلان» ، ودخل فى

زمرة الشيخ «زاهد الكيلانى» وتزوج ابنته، وخلفه فى الطريقة،

وعهد إلى أبنائه وأتباعه بالعمل على جذب الأتباع والدراويش،

والاجتهاد فى نشر طريقتهم والدعاية لها، وكان هؤلاء ينتسبون إلى

المذهب الشيعى.

الوضع الداخلى:

شهدت «إيران» فترة عصيبة ضاعت فيها حقوق المواطنين، وساءت

معاملتهم، فى الفترة التى سبقت قيام «الدولة الصفوية» ، فمهد ذلك

الطريق أمام شيوخ الصفويين، وتحولوا من أصحاب دعوة وشيوخ

طريقة إلى مؤسسى دولة لها أهدافها السياسية والمذهبية.

وكانت «إيران» - آنذاك - مقسمة إلى عدة أجزاء، يحكمها عدة

حكام، ويستقل كل منهم بما تحت يديه، فعاش الناس حياة قلقة

يشوبها الصراع على الحكم، وبحثوا عن مخرج لذلك ناشدين الراحة

والهدوء، فلم يجدوا أمامهم سوى أن يكونوا مريدين وأتباعًا لشيوخ

الصفويين وطريقتهم، وذلك فى الوقت الذى آلت فيه رئاسة الأسرة

الصفوية إلى «إسماعيل» ، الابن الثالث لحيدر حفيد الشيخ «صفى» ،

فأسس «إسماعيل» «الدولة الصفوية» فى عام (907هـ = 1502م)، ثم

دخل «تبريز» وأعلن نفسه فيها ملكًا على «إيران» ، وتلقب بأبى

المظفر شاه إسماعيل الهادى الوالى، وأصدر السكة باسمه، وفرض

المذهب الشيعى، وجعله المذهب الرسمى لإيران بعد أن كانت تتبع

المذهب السنى، وقال حين أعلن ذلك: «لا يهمنى هذا الأمر، فالله،

وحضرات الأئمة المعصومين معى، وأنا لا أخشى أحدًا، وبإذن الله -

تعالى - لو قال واحد من الرعية حرفًا، فسأسحب سيفى، ولن أترك

أحدًا يعيش».

ص: 61

وأمر المؤذنين أن يزيدوا فى الأذان عبارتَى:

«أشهد أن عليا ولى الله» ، و «حى على خير العمل» .

مضى الشاه «إسماعيل» فى إرساء قواعد دولته، وترسيخ دعائم

مذهبه، وتنظيم إدارة بلاده، فاتخذ من «حسين بك لله» نائبًا له،

وجعل «الشيخ شمس الدين اللاهيجى» حاملا للأختام، واستوزر «محمد

زكريا»، ثم قضى على قبيلة «آق قيونلو» ، ودخل «شيراز» ، وأقر

فيها مذهبه الشيعى، فأصبحت «إيران» دولة شيعية بين قوتين

سنيتين هما: «الهند» والأتراك من جهة الشرق، والعثمانيون والشام

فى الغرب.

قاست «بلاد الكرج» و «أرمينية» مرارة الصراع بين الصفويين

والعثمانيين؛ إذ إنها تارة تصير تابعة للصفويين، وأخرى تابعة

للعثمانيين.

ويعود لمراد الرابع الفضل فى تحديد حدود «إيران» الغربية، حيث ضم

«بغداد» و «الجزيرة» إلى الحكم العثمانى سنة (1048م)، كما نجح

«أحمد درانى» فى إقامة دولة مستقلة فى «أفغانستان» بعد أن

كانت تابعة مرة للهند، وأخرى لإيران، فلما ضُمت «هراة» إلى

«أفغانستان» رُسمت حدود «إيران» الشرقية، ثم حددت حدودها

الشمالية باستيلاء الروس على المناطق الشمالية، وبقيت هذه الحدود

قائمة حتى تمت «اتفاقية الجزائر» فى عام (1975م).

الشاه إسماعيل الأول [900هـ = 1494م]:

تميز الشاه «إسماعيل» بالصبر والذكاء وقوة الإرادة، والشجاعة

والإقدام وحسن الإدارة، فالتف الناس حوله بالترغيب تارة وبالترهيب

تارة أخرى، وأقام دولته على أساس مذهبى ذى أصول سياسية

واقتصادية وإدارية، ووضع الأساس الذى استمرت عليه هذه الدولة

نحو قرنين من الزمان، وباتت ذات دور مؤثر وحيوى فى المنطقة،

وقد أُعجب معاصرو الشاه «إسماعيل» به وبسياسته، وقد وصفه

«ميرخواند» فى كتابه «روضة الصفا» بقوله: «كان ذلك الملك نادرة

الزمان، وأعجوبة الليل والنهار».

ولعل من أبرز إنجازات «إسماعيل الصفوى» هى إقراره لوحدة

«إيران» الوطنية والسياسية، وتحديد معالم شخصية دولته فى الداخل

ص: 62

والخارج، غير أنه صعَّد -فى الوقت نفسه- حدة الصراع بين الصفويين

والعثمانيين، وعمَّق الخلاف المذهبى بين السنيين والشيعة.

خلف الشاه «طهماسب الأول» أباه «إسماعيل الأول» على العرش فى

(يوم الاثنين 19 من رجب عام 930هـ = 1524م)، وحكم أكثر من نصف

قرن دخل خلالها فى حروب كثيرة مع العثمانيين والأوزبك

و «كرجستان» ، ثم خلفه ابنه الشاه «إسماعيل ميرزا» الذى تلقب

بالشاه «إسماعيل الثانى» فى عام (984هـ = 1576م]، واعتمد

سياسة الاعتدال فى نشر المذهب الشيعى، فأبعد عددًا من علماء

الشيعة المتعصبين عن بلاطه، وأمر بمنع لعن الخلفاء الثلاثة والسيدة

«عائشة» فوق المنابر وفى الطرقات، وحاول إعادة المذهب السنى

إلى البلاد بالتدريج، مما أثار عليه حفيظة الطبقة الحاكمة وأغلبية

المجتمع، وقرروا عزله وتعيين ابن أخيه «حسن ميرزا» إذا لم يتراجع

عن ذلك، فعمل على تهدئة الثورة التى قامت ضده، وأبعد علماء

المذهب السنى عن بلاطه، ونقش على السكة بيتًا مضمونه: أن عليا

وآله أولى بالخلافة فى العالم الإسلامى كله.

لم يتمكن الشاه «إسماعيل الثانى» من البقاء فى الحكم فترة طويلة،

حيث قُتل، وقد اختلفت الروايات فى كيفية قتله، وتم اختيار «محمد

خدا بنده» ملكًا على «إيران» فى عام (985هـ = 1578م)، فكثرت فى

عهده الاضطرابات التى لم يستطع السيطرة عليها، إذ لم يكن جديرًا

بالحكم، فخلفه ابنه الشاه «عباس الأول» على العرش من عام (996هـ

= 1588م) إلى عام (1038هـ = 1629م)، ويعد عهده من أبرز عهود

الحكم الصفوى فى «إيران» وأهمها؛ إذ عمل على رفاهية شعبه

وتعمير بلاده، ونقل عاصمة دولته من «قزوين» إلى «أصفهان» ،

وأعاد الحكم المركزى إلى «الدولة الصفوية» ، على الرغم من

الصعوبات والحروب الكثيرة التى اعترضت سبيله، ونجح فى إقرار

أمن بلاده وتأمين رعيته؛ واتخذ مجلسًا لبلاطه ضم سبعة أشخاص

بسبع وظائف هى: «اعتماد الدولة» - «ركن السلطنة» - «ركن

ص: 63

الدولة» - «كبير الياوران» - «قائد حملة البنادق» - «رئيس الديوان» -

«كاتب مجلس الشاه» ، وبالرغم من وجود هذا المجلس كان هو صاحب

القرار الأول والأخير فى الدولة.

ثم توالى على حكم «الدولة الصفوية» - عقب وفاة الشاه «عباس

الصفوى» - شاهات ضعاف؛ أدى الصراع فيما بينهم على السلطة إلى

ضعف الدولة، فضلا عن أن ذلك أعطى الفرصة للأعداء الخارجيين

الذين كانوا متربصين بالدولة، وبخاصة الأتراك العثمانيون، لغزوها

ومحاولة السيطرة عليها.

وعلى الرغم من ذلك فإن كثيرًا من الرحالة الأوربيين الذين وفدوا

على بلاط الصفويين؛ وصفوا مدى الأبهة والعظمة التى وفرها

الصفويون فى بلاطهم، ولعل أبرز ما كان يميز هذا البلاط هو سيطرة

رجال الدين واتساع نفوذهم، حتى بات أمر الدولة كله فى أيديهم،

نظرًا إلى أنها دولة مذهبية، اتخذت من الدين أساسًا لقيامها،

والدعوة إلى مذهبها.

بدأ نجم «الدولة الصفوية» فى الأفول عقب وفاة الشاه «عباس

الصفوى»، وحكمها «صفى الأول» عام (1038هـ= 1629م)، ثم «عباس

الثانى» عام (1052هـ = 1642م)، ثم «سليمان الأول» عام (1077 هـ =

1667م)، ثم «حسين الأول» عام (1105هـ = 1694م)، ثم «طهما سب

الثانى» (1135هـ= 1722م) ثم «عباس الثالث» الذى حكم من عام

(1144هـ = 1731م) إلى عام (1148هـ = 1736م).

وجميع هؤلاء الشاهات الصفويين لم تكن لديهم الصفات التى تمتع بها

الشاه «عباس الأول» ، وبدت الأمور أمامهم مجرد مظاهر ملكية يجب

الحفاظ عليها، ونسوا أمور بلادهم، فضعفت الدولة، وضاعت هيبتها،

وسقطت أجزاؤها واحدا تلو الآخر، فضاعت الدولة، وسقط العرش،

وسقطت «الدولة الصفوية» فى عام (1148هـ = 1736م) فانقسمت

«إيران» إلى عدة مناطق منفصلة.

العلاقات الخارجية:

أقام الصفويون علاقات متميزة مع سائر الدول، وكان الاقتصاد -ممثلا

فى التجارة - هو المحرك الأساسى لعلاقاتهم الخارجية، ولعل حركة

البضائع الشرقية كانت سببًا فى نشاط الكشوف الجغرافية وظهور

ص: 64

قوتين عظميين لعبتا دورًا مهما فى هذا الميدان، هما:«البرتغال»

و «إسبانيا» ، ومما لاشك فيه أن هذا النشاط الكشفى كان الهدف منه

إيجاد طريق جديدة للتجارة الأسيوية، خاصة تجارة «الهند» التى

كانت التوابل أهم عناصرها. وفى سبيل هذا عمد البرتغاليون إلى

البحث عن طريق بعيدة عن «البحر المتوسط» الذى يهيمن عليه

المماليك فى «مصر» و «الشام» من ناحية، وتهيمن عليه بعض المدن

الإيطالية من الناحية الأخرى.

حاول «بارثليميودياز» البرتغالى فى عام (892هـ =1487م) الدخول

إلى «المحيط الهندى» عن طريق الالتفاف حول طريق «رأس الرجاء

الصالح»، ولكنه فشل، وبعده باثنى عشر عامًا استطاع البحَّار

البرتغالى «فاسكو داجاما» الوصول إلى «الهند» بواسطة طريق

«رأس الرجاء الصالح» ، وأقام البرتغاليون مستعمرات لهم فى

«الهند» و «آسيا» ، وأخضعوا أمير «هرمز» لهم، وأخذوا منه غرامة

حربية، وفرضوا عليه مبلغًا من المال يدفعه سنويا خراجًا لدولتهم،

فى الوقت نفسه طالب الشاه الصفوى «إسماعيل الأول» هذا الأمير

بتسديد الخراج السنوى المفروض عليه من قِبَل «الدولة الصفوية» ،

فاستعان «أمير هرمز» بالقائد البرتغالى «البوكيرك» لتخليصه من

ذلك، فأرسل «البوكيرك» إلى الشاه «إسماعيل الأول» برسالة جاء

فيها:

«إن استيلاء البرتغال على هرمز كان بالقوة، والقدرة لملك البرتغال،

وليس لأحد من حق فى الخراج إلا له»، ثم أرسل هذا القائد بعض

طلقات البنادق والمدافع والبارود إلى أمير «هرمز» وأمره أن يرسلها

إلى الشاه «إسماعيل الصفوى» بدلا من الخراج الذى طالب به،

ويخبره أن إجابة ملك البرتغال على الأعداء تكون بهذه الأشياء. ولم

تلبث الأوضاع طويلا بين الطرفين على هذه الحال، وتم توقيع

معاهدة بين الدولتين الصفوية والبرتغالية فى عهد الشاه «إسماعيل

الأول»، إذ كان للبرتغاليين نفوذ قوى فى الخليج، وكانوا يحتكرون

التجارة فى موانى جنوب «إيران» .

ص: 65

انفتح الإيرانيون على العالم الخارجى، وزادت علاقاتهم مع الدول

الأوربية فى عهد الشاه «عباس الأول» ، ووفد على «إيران» العديد

من السفراء الأوربيين، كما أوفد السفراء الإيرانيون إلى البلاد

الأوربية، لإبرام الاتفاقات، وعقد المعاهدات - سواء التجارية أو

السياسية - بين «أوربا» و «إيران» ، وتم الاتفاق على فتح طريق

تجارى بين «أوربا» و «آسيا» عبر «بحر الشمال» ، وفى سنة (960هـ

= 1553م) ذهب الإنجليزى «ريتشارد شانسلر» إلى «موسكو» ،

وتمكن من إقامة علاقات اقتصادية لبلاده مع ولايات «إيران»

الشمالية فى عهد الشاه «طهماسب الأول» ، والملكة «اليزابيث» . وقد

سجلت إحدى الوثائق السياسية الإنجليزية أحداث لقاء تم بين

الإنجليزى «آرثر ادوارد» ، والشاه «طهماسب الأول الصفوى» ،

وتمخض هذا اللقاء عن منح التجار الإنجليز حرية السفر إلى «جيلان» ،

أو إلى أى مكان فى أملاك «الدولة الصفوية» ، ووعد الشاه «طهما

سب» الإنجليز بحماية سفنهم فى بحر «الخزر» من أى عدوان،

ومنحهم عدة امتيازات أخرى غيرها.

وخلاصة القول: إن حكام «إيران» الصفويين لم تقتصر علاقاتهم

الخارجية على دولة بعينها، بل تعدت إلى العالم الأوربى عامة،

وكذلك كانت لهم علاقات جيدة مع «هولندا» و «ألمانيا» .

مظاهر الحضارة فى الدولة الصفوية:

تمكن الصفويون من إقامة دولة قومية لهم فى «إيران» على أسس

مذهبية، وأحيوا بها الروح القومية، ووحدوا عناصر الشعب تحت لواء

مذهبهم الذى قاموا بنشره بالترهيب والترغيب بين الطبقات كافة.

وانتفع الصفويون فى تكوين حضارتهم بالصراع العسكرى فى

حروبهم ضد العثمانيين؛ إذ كلفوا «روبرت» ، و «أنتونى شيرلى»

الإنجليزيين بإنشاء مصنع للمدافع لهم، فكان سببًا من أسباب تقدم

حضارتهم العسكرية، وانتقل «طهما سب» بعاصمة بلاده من «تبريز»

إلى «قزوين» نتيجة توغل السلطان العثمانى «سليمان القانونى»

فى «العراق» ، ثم فى «تبريز» و «أصفهان» ، وأخذ «طهما سب» فى

ص: 66

بلاطه الجديد بكل أسباب التحضر والتأنق والدقة، حيث كان خطاطًا

ماهرًا، وله دراية عالية بفنون النقش من خلال دراساته فى هذا

المجال.

وفى سنة (1007هـ = 1598م)، نقل الشاه «عباس الصفوى» عاصمة

بلاده إلى «أصفهان» ؛ فدبت بها حياة جديدة، وراجت بها التجارة،

وازدهرت الصنائع والفنون، وعمد «الشاه عباس» إلى تطوير الجيش

وتحديثه، فاستبدل جيشه القديم -المكون من قوات قبلية- بجيش

نظامى جديد، واستحدث فيه فرقة عسكرية جديدة أطلق عليها اسم

«أصدقاء الملك» ، وكانت هذه الفرقة تضم عشرة آلاف فارس، وكان

ضعف هذا العدد من المشاة، ثم مضى فى طريق التحديث العمرانى

فشيد الطرق، وشق القنوات، وأعد الأماكن اللازمة لنزول القوافل

التجارية فى طول البلاد وعرضها، وأقام مدينة ملكية جديدة فى

«أصفهان» ، وجعلها مجاورة للمدينة القديمة، وأنشأ بها الإنشاءات

اللازمة، ثم ضاعف هذه الإنشاءات فى عام (1020هـ = 1611م)، وبنى

لنفسه بها قصرًا عظيمًا، وأنشأ حول ميدانه مسجدًا كبيرًا أسماه

«مسجد شاه» ، وجعل بجواره مسجدًا آخر أصغر منه، وأحاط المدينة

بسور من الآجر والطين، وأقام بها الأسواق المسقوفة، ومائة واثنين

وستين مسجدًا، وثمانيًا وأربعين مدرسة دينية، وألفى رباط لإقامة

القوافل، وثلاثمائة حمام عام، وجعل لكل منزل بها حديقة خاصة، كما

جعل شوارع هذه المدينة متعرجة وضيقة، ربما لأسباب أمنية

ودفاعية، فبلغ تعداد السكان بالمدينة الجديدة نحو ستمائة ألف

نسمة فى ذلك الوقت، ولقد بقيت آثار هذه المدينة شاهد صدق على

عظمة الحضارة الصفوية إلى وقتنا الحاضر.

ص: 67

الفصل العاشر

*شاهات إيران

[1135 - 1344هـ = 1722 - 1925م].

أ - الأفاغنة:

تمرد الأفغانى «محمود بن ميرويس» ورفع راية العصيان على «الدولة

الصفوية» فى عهد الشاه الصفوى «حسين الأول» ، فلما لم يجد هذا

الرجل من يأخذ على يديه ويوقف عصيانه؛ تمكن من الاستيلاء على

مدينتى «هراة» و «مشهد» ، وهما من أهم مدن دولة الصفويين، ولم

يكتفِ بذلك: بل استولى على العاصمة «أصفهان» فى سنة (1135هـ

= 1722م)، فدخلت دولة الصفويين فى طور السقوط والانهيار

النهائى، وتحولت من دولة كانت تتمتع بالنفوذ والسطوة والهيبة فى

عهد «عباس الأول» ومَن سبقوه، إلى هيكل ضعيف لاحول له ولا

قوة، وظهرت إلى جانبها قوى أخرى جديدة وفتية سلبتها حق

التمتع بإمكاناتها وممتلكاتها، وسلبت حكامها حق الانفراد بحكم

البلاد.

أقام الأفغانيون دولتهم على ما سلبوه من أراضى الدولة الصفوية،

وكان أول حكامهم هو «محمود بن ميرويس» الذى حكم فى (11من

المحرم عام 1135هـ = 1722م)، وقُتل فى سنة (1137هـ = 1725م)،

فخلفه «أشرف بن عبدالله» فى الحكم، وظل به حتى عام (1142هـ =

1729م)، ثم ظهر الأمير الأفغانى «آزاد خان» مطالبًا بالحكم فى

«أصبهان» فى سنة (1166هـ = 1753م)، وتم له ما أراد، وظل فى

الحكم حتى سنة (1169هـ = 1756م).

ب - الأفشارية:

لم يستمر حكم الأفاغنة طويلا؛ إذ استعان الشاه «طهما سب الثانى»

- على دفع تهديد الأفغان- بالقوى المحيطة، فأسرعت «روسيا» إلى

مساعدته فيما طلب، نظير السماح لها بدخول «استراباد» ، وهكذا

تمكن الروس من وضع أقدامهم فى هذه المناطق.

ثم ظهرت قوة جديدة حكمت فى الفترة من سنة (1148هـ = 1736م)

إلى سنة (1210هـ - 1796م) عرفت باسم الأفشارية، واستطاع «نادر

شاه الأفشارى» أن يقضى على حكم الأفغان، ويخلع الشاه

«طهماسب الثانى» ويسجنه مع طفله الرضيع «الميرزا عباس الثالث» ،

ثم أعلن تتويجه ملكًا على «إيران» فى سنة (1148هـ = 1736م)،

ص: 68

وظلت أسرته تحكم أكثر من ستين عامًا، أى إلى سنة (1210هـ =

1796م)، وقد اتسم حكم «نادر شاه» بالسطوة والعنف ضد الرعية،

مما أسرع بقتله على يد أحد ضباطه، فأدى ذلك بدوره إلى ظهور

«الزنديين» ، وأصبح زعيمهم «محمد كريم خان» شاه «إيران» فى

سنة (1163هـ = 1750م)، ولكن هذه الأسرة لم تستطع مد نفوذها إلى

«خراسان» التى كانت فى قبضة «شاه رخ» الأفشارى، وبقيت هذه

الأسرة الزندية فى الحكم مدة خمسين عامًا، حتى قُتل آخر حكامهم

«لطف على» على يد «آقا محمد القاجارى» فى الرابع عشر من

المحرم عام (1211هـ = 1799م)، فظهرت الأسرة القاجارية.

ج - الأسرة القاجارية:

هى إحدى الأسر المغولية، وانتشر أفرادها فى البلاد الإسلامية،

وأقاموا بصفة خاصة بأرمينية، واقتصر دورهم فى عهد الشاه

«إسماعيل الأول الصفوى» على تقديم العون إلى الصفويين، حيث

اتخذ منهم جنودًا لمواجهة شر القبائل المهاجمة لحدوده، فازدادوا

بذلك قوة ونفوذًا، ثم استطاع «آقا محمد خان» توحيد فروع قبيلته

بالقوة والعنف حتى تمكن من الاستيلاء على «طهران» فى سنة

(1193هـ = 1779م)، ثم أقام «الدولة القاجارية» ، وأصبح أول

ملوكها، وأطلق على نفسه لقب ملك «إيران» فى عام (1211هـ =

1796م)، وقضى على «الزنديين» ، وحقق السيطرة الكاملة على

«إيران» و «جورجيا» ، ثم خلفه «فتحعلى شاه» فى الفترة من

(1212هـ = 1797م) إلى (1250هـ = 1834م)، وامتاز عصره بالهدوء

النسبى، وإن تخللته بعض الاضطرابات والمشاكل السياسية.

العلاقات الخارجية:

دفع الأفاغنة «الشاه طهما سب الثانى الصفوى» إلى الاستعانة

بروسيا، وإلى عقد معاهدة مع قيصرها «بطرس» ، وتخلت «إيران»

بموجبها رسميا عن «دربند» ، و «باكو» ، والسواحل الجنوبية لبحر

«مازندران» حتى «استراباد» ، فتحقق لروسيا حلم الوصول إلى هذه

المناطق، وأطمعها ذلك فى شمال البلاد حين نشب الصراع على

السلطة بين الصفويين والأفاغنة، ولعل ذلك هو الذى دفع العثمانيين

ص: 69

إلى الهجوم على بلاد «الكرج» . ثم أسس «نادر شاه الأفشارى»

دولته بإيران، وبذل جهودًا مضنية للقضاء على الانقسام القائم فى

الجزء الشرقى من العالم الإسلامى، وأعلن المذهب السنى مذهبًا

رسميا للبلاد؛ عوضًا عن المذهب الشيعى، واضطهد زعماء الشيعة،

ولكن محاولاته وجهوده هذه لم تسفر عن نتائج قاطعة، فقام

بتوسعات وفتوحات كثيرة، ودخل «دلهى» ونهب قصورها، وضم

«جزيرة البحرين» إلى «إيران» فى عام (1151هـ = 1738م)، ثم مضى

إلى فتح «العراق» فى سنة (1156هـ = 1743م).

لم تسفر حروب «نادر شاه» الخارجية عن فائدة فعلية لشعبه، بل

على العكس من ذلك، فقد قاد جيوشه من أقصى الشرق إلى الغرب،

وحمَّل الشعب أعباء الإنفاق على هذه الجيوش، فى حين كان من

الممكن أن يصرف هذا الإنفاق على تنمية البلاد ورفاهية هذا الشعب.

استطاع «أقا محمد القاجارى» أن يسيطر على كل «إيران»

و «جورجيا» ، ثم خلفه ابن أخيه «فتحعلى شاه» ، فأقامت «إيران»

فى عهده علاقات سياسية مع الدول الأوربية، وعقد فى سنة

(1222هـ = 1807م) معاهدة تحالف مع «فرنسا» ، ولذا كان من

المتوقع أن تسمح «إيران» لنابليون بونابرت بالمرور عبر طريقها

البرى للوصول إلى «الهند» فى مقابل أن تمد فرنسا «الدولة

القاجارية» بالأسلحة، ومدربى الجيش، لكى تتمكن «إيران» من

التصدى لروسيا القيصرية التى استولت على «جورجيا» فى عام

(1216هـ = 1801م)، ولكن الأمور لم تسر وفق ما كان متوقعًا، فقد

اتفق «بونابرت» مع «روسيا» ، ووقع الروس والإيرانيون معاهدة

«كلستان» فى عام (1229هـ = 1813م)، واعترفت «إيران» بموجب

هذه المعاهدة بحق ملكية «روسيا» لجورجيا، ومع ذلك لم تستقر

الأوضاع، ودخلت «إيران» فى سلسلة من الحروب مع «روسيا» ؛ التى

استولت على «تبريز» ، وفرضت على «إيران» غرامة مالية، بموجب

معاهدة «تركمان جاى» التى عُقدت فى سنة (1244هـ = 1828م)،

فضلا عن تنازل «إيران» عن إقليمى «إريوان» و «نخجوان» لروسيا،

ص: 70

ووضع «بحر قزوين» تحت الرقابة الحربية الروسية، فباتت «إيران»

بين شقى رحى فى علاقاتها الخارجية مع «روسيا» التى تعمل على

التوسع فى «آسيا» على حساب ولايات «إيران» الشمالية للوصول

إلى مياه الخليج الدافئة، و «بريطانيا» التى تعمل على تأمين الطريق

إلى مستعمراتها فى «الهند» من خلال السيطرة على «الخليج

الفارسى»، والأراضى المجاورة للهند.

وجدير بالذكر أن خمس عشرة دولة أجنبية حصلت على امتيازات

لرعاياها فى «إيران» فى النصف الأخير من القرن التاسع عشر

الميلادى، ثم امتلأت «إيران» بالأجانب فى عهد «ناصر الدين شاه

القاجارى»، فى الوقت الذى تزايد فيه نفوذ رجال الدين الشيعة،

لسيطرة مذهبهم الشيعى على كل «إيران» ، وكذلك على حكامها.

وقد شهد الربع الأول من القرن العشرين تطورًا فى سياسة «إيران»

الخارجية، حيث عقدت مع «روسيا» فى عام (1340هـ = 1921م)

معاهدة صداقة، أُلغيت بمقتضاها جميع المعاهدات السابقة التى

كانت تضر بالمصالح الإيرانية، وأسقطت «روسيا» بموجبها ديون

«إيران» التى لم تُسدد من قبل، وتنازلت عن امتيازاتها وممتلكاتها

فى «إيران» مثل: خط السكة الحديدية، وخطوط البرق، ولعل الذى

دفع «روسيا» إلى التنازل عن كل ذلك هو خوفها من محاولات

«بريطانيا» للتدخل فى شئون «إيران» ووضعها تحت سيطرتها.

مظاهر الحضارة فى إيران:

كان لموقع «إيران» الجغرافى أهميته البالغة - ومازالت - فى تحقيق

أسباب حضارتها ومدنيتها؛ حيث إنها المعبر البرى بين الشرق

والغرب، وقد حقق لها ذلك مزية الرواج التجارى، ونقل الثقافات،

والاستفادة من خبرات الآخرين، وفى الوقت نفسه جرَّ عليها الأطماع.

وقد تحملت «إيران» العناء والخراب والدمار الذى لحق بها

وبمواطنيها - منذ القدم - بسبب موقعها الجغرافى، ومع ذلك لا يمكن

لأى مؤرخ منصف أن ينكر دور «إيران» الحضارى فى الثقافة

والفنون والتقاء الحضارات المتعددة وتمازجها.

ص: 71

ومن الحقائق الثابتة أن الحكم الإيرانى قد تأسس على السلطة

المطلقة للملك، الذى كان يسانده مجموعة من الإقطاعيين أُُطلق عليهم

لقب «الولاة» ، نظرًا لمساحة الأراضى الشاسعة، فكان كل واحد من

هؤلاء «الولاة» ينوب عن الملك فى حكم إحدى مقاطعات البلاد، وله

حق توريث الولاية من بعده، فنشأ نظام «الأسر الإقطاعية» التى زادت

سطوتها، واتسع نفوذها، وقاد أمراؤها حركات التمرد على الشاه

الموجود فى العاصمة، كما قاموا بالحركات الانفصالية، التى كان لها

من السند والقوة ما يحول دون إمكانية القضاء عليها، ولعل هذه

الأوضاع هى التى أوجدت الثراء الفنى والثقافى، فى طول البلاد

وعرضها، وعملت على تنوعه وتعدد اتجاهاته.

ص: 72

الفصل الحادي عشر

*التيموريون

[771 - 906 هـ = 1329 - 1500م]

النشأة والتكوين:

ينتسب التيموريون إلى قبيلة «برلاس» المغولية، ويرجعون فى

أصلهم إلى «تيمور بن ترغاى بن أبغاى» ، الذى أحاط المؤرخون

نسبه بهالة من الرفعة وعلو الشأن، ليبرروا استيلاءه على «بلاد ما

وراء النهر»، فقد كان أبوه «أمير مائة» عند السلطان المغولى،

وكان المغول يستخدمون الأتراك فى دواوينهم، وأكثروا منهم، حتى

صارت اللغة التركية هى لغة البلاط والمجتمع فى «بلاد ما وراء

النهر»، فلما دخلت «الدولة المغولية» مرحلة الاضمحلال والضعف؛

قامت «الدولة الجغتائية» بمساعدة قبيلة «برلاس» ، فحفظ الجغتائيون

هذا الجميل، وولوا «تيمور لنك» ، ولاية «كش» ، حين التجأ إليهم أثناء

الاضطرابات التى عصفت ببلاد «ما وراء النهر» ثم لم يلبث أن أخرج

الجغتائيين من بلاد «ما وراء النهر» ، وطارد قبائل «الجتة» البدوية؛

التى اتسمت بالعنف والوحشية، وتمكن من طردهم من «بلاد ما وراء

النهر»، ثم أعلن نفسه سلطانًا فى بلخ» على هذه المنطقة، واتخذ

«سمرقند» عاصمة لملكه، وأعلن ذلك رسميا فى عام (800هـ =

1397م)، ثم مضى فى تنظيم حكومته الجديدة، واتبع قانون

«جنكيزخان» (الياسا المغولية)، بما لا يتعارض مع القرآن الكريم

والسنة النبوية.

كان «تيمور لنك» ميالا إلى الفتح والتوسع، وغزا «خوارزم» فى عام

(773هـ)، ثم دخلها وسيطر عليها فى عام (781هـ)، فأضحت «آسيا

الوسطى» كلها تحت سلطانه.

الوضع الداخلى:

بدأ حكم «تيمور كورخان» (تيمورلنك) منذ دخل «سمرقند» فى عام

(771هـ = 1329م)، فكوَّن مجلس شورى من كبار الأمراء والعلماء،

وعلى الرغم من أنه كان الحاكم الفعلى للبلاد، فإنه عمد إلى اختيار

الأمير الجغتائى «سيورغتمش بن دانشمندجة» ، وجعله رمزًا للحكم

ولقبه بلقب السلطان فى الفترة من سنة (771هـ = 1329م) إلى سنة

(790 هـ = 1387م)، ثم اتخذ من بعده «محمود بن سيورغتمش» من عام

(790هـ = 1387م) إلى عام (800هـ = 1397م).

ص: 73

وقد اتسمت سياسة «تيمور لنك» بالتوسع، فزحف إلى «إيران» فى

سنة (782هـ = 1380م)، وتمكن من الاستيلاء على «خراسان»

و «جرجان» ، و «مازندران» ، و «سيستان» ، و «أفغانستان» ،

و «فارس» ، و «أذربيجان» ، و «كردستان» ، ثم دخل «جورجيا» وغرب

«إيران» فى عام (786هـ = 1384م)، وتمكن من فتح «العراق»

و «سورية» (حلب ودمشق)، وهزم المماليك فى الشام، وحقق

انتصارات عظيمة فى «الهند» عقب وفاة «فيروزشاه» سلطان

«دلهى» فى عام (799هـ = 1397م)؛ حيث استولت جيوشه على حصن

«أوكا» ، وأسقطت «الملتان» ، وفتحت «آباد» ، ودخلت «هراة»

بالأمان، ولاقى «تيمورلنك» مقاومة شديدة وصعوبة فى دخول

«دهلى» على يد سلطانها «محمود تغلق» ، ولكن هذه المقاومة لم

تستمر طويلا، ودخل «تيمور» هذه المدينة، فقدم إليه أعيانها

وعلماؤها فروض الولاء والطاعة، وخُطب له فيها، وعلى الجانب الآخر

حقق «تيمورلنك» انتصارات كثيرة على الأتراك العثمانيين، وأسر

حاكمهم «بايزيد خان» .

وتُوفى «تيمورلنك» فى «أترار» عن عمر يناهز السبعين عامًا فى

سنة (807هـ = 1405م) بعد أن دانت له البلاد من «دهلى» إلى

«دمشق» ، ومن «بحيرة آرال» إلى «الخليج العربى» ، فلما علمت

بوفاته الأسر الحاكمة من «آل المظفر» ، و «آل جلائر» و «ملوك كرت» ،

وكذا الأسر التركية والتركمانية أخذت جميعها تطالب باستقلالها عن

خلفاء «تيمور» ، وعودتها إلى الحكم ثانية، فأثارت الفتن والقلاقل،

وكثرت الاضطرابات والمشاكل فى طول البلاد وعرضها، وتعرضت

«الدولة التيمورية» إلى نكسة حقيقية عقب وفاة عاهلها ومؤسسها

«تيمور» ، وتمكنت بعض الأسر الحاكمة - من قبل - من العودة إلى

الحكم، وإعادة ما سلب من أملاكها وممتلكاتها، فصارت هناك عدة

أسر حاكمة تنافس خلفاء «آل تيمور» ثم خلف «تيمورلنك» ابنه

«شاهرخ» على العرش سنة (807هـ = 1405م) واستمر فى الحكم إلى

سنة (850هـ = 1447م) فعاشت البلاد فى عهده أفضل فترات الحكم؛

ص: 74

إذ كان محبا للعلم والعلماء، وحفيا بالثقافة، كما كان عادلا وتقيا

وورعًا، فاشتهر بسلوكه الحسن وسيرته الطيبة بين الرعية.

ولى «شاهرخ» أملاك «الدولة التيمورية» فيما عدا «سوريا»

و «العراق العربى» ، فقام بإصلاحات كثيرة فى البلاد، وشيد

المبانى، وبنى المدارس الكثيرة فى «بخارى» و «سمرقند» ، وأنشأ

مرصده الشهير، ثم خلفه ابنه «أولوغ بك» على العرش، وقتله ابنه

«عبداللطيف بن أولوغ» فى سنة (853هـ = 1449م)، ثم قُتل هو الآخر

من بعده، ولم يستفد، من قتل أبيه، وتمكن «أبو سعيد ميرزا» من

الاستيلاء على الحكم بسمرقند فى سنة (854هـ = 1450م)، ثم تولى

من بعده «أحمد» فى سنة (872هـ = 1467م)، ثم من بعده «محمود»

فى سنة (899هـ = 1493م)، ولم يلبث بالحكم سوى عام واحد فقط،

ثم حدثت الاضطرابات فى سنة (906هـ = 1500م)، وقضى

«الشيبانيون» على «الأسرة التيمورية» فيما عدا «ظهير الدين بابر»

الذى فر إلى «الهند» ، وتمكن بعد ذلك من تأسيس دولة عظيمة بها.

العلاقات الخارجية:

اتسمت علاقة «الدولة التيمورية» بالعالم الخارجى بالعداء والتناحر،

بسبب رغبتها فى التوسع على حساب جيرانها، وقد طرد

«تيمورلنك» الجغتائيين من بلاد «ما وراء النهر» ، ثم أسس دولته

التيمورية بها، واستولى على «خوارزم» فى عام (781هـ)، ثم

استولى على «إيران» ، و «أفغانستان» ، و «أذربيجان» ، و «العراق» ،

و «سورية» ، ودخل حروبًا كثيرة من أجل تحقيق ذلك، وأحرز

انتصارات متعددة فى بلاد «الهند» ، ثم دخل «دهلى» ، فأصبح ذا ملك

عظيم، وسيادة على مساحة شاسعة من الأرض، ولكن خلفاءه لم

يحافظوا على ما سعى من أجل تحقيقه طيلة حياته، وكأن وفاته

جاءت إيذانًا بالعودة إلى أعداء الدولة ومنافسيها، لاستعادة

عروشهم، والاستقلال ببلادهم التى اغتصبها التيموريون جبرًا،

وقسرًا، وعدوانًا، وعلى الرغم من ذلك لا يجب إغفال دور «شاه رخ

بن تيمورلنك» (807 - 850هـ = 1405 - 1447م)؛ إذ كان رجلا عادلا

ص: 75

تقيا، غير محب للحرب، وغير ميالٍ إلى سفك الدماء، إلا إذا اضطرته

الضرورة إلى ذلك، وكان اهتمامه موجهًا إلى إصلاح شأن البلاد

والنهوض بها وبعمرانها، فعاشت البلاد فى عصره أزهى فترات

تاريخها.

مظاهر الحضارة فى الدولة التيمورية:

كان «تيمورلنك» رجلا واسع المعرفة، يتقن التحدث بلغات ثلاث هى:

«التركية» ،و «الفارسية» ، و «المغولية» ، محبا للأطباء والفلكيين،

وكذا الفقهاء، وقد جمع الفنيين وأصحاب الحرف من كل أطراف

الدنيا فى عاصمته «سمرقند» ، وكانت حياة المحاربين وأخبار

الحروب وتواريخها من أحب المعارف التى يسعى إلى معرفتها،

والقراءة فى الكتب التى تناولتها.

شيد «تيمورلنك» حضارة عظيمة فى بلاده، وأقام بها المنشآت

الشامخة، ولعل المدرسة الدينية الكبيرة التى بناها لزوجته الصينية

«بيبى خاتون» خير دليل على عظمة حضارة «الدولة التيمورية» فى

عهده، فهى تحفة فنية مكونة من أربعة إيوانات، وفى وسطها فناء

واسع، تحيط به عقود ذات قباب، على رأس كل منها منارة، وتعد

المقبرة التى بناها لنفسه آية من آيات البناء، ومثالا لسمات المعمار

فى العصر التيمورى.

ولم يشهد العهد التيمورى ازدهارًا فى مناحى الحياة كافة مثلما حدث

فى عصر «شاهرخ» ؛ الذى يعد من أكثر حكام «إيران» ثقافة وذكاءً

ومعرفة، فقد جعل من «هراة» مركزًا ثقافيا لأواسط آسيا، وتبوأ

المهندسون والمعماريون والرسامون والشعراء والعلماء مكانة بارزة

فى بلاده، وأغدق عليهم بالعطايا، وتولى رعايتهم بنفسه، فشهدت

البلاد فى عصره نهضة حضارية فى كل الفنون ومختلف التخصصات،

ويعد مسجد «جوهر شاد» (12) من أبرز إنجازات هذا العصر، وظل

العمل فى بنائه اثنى عشر عامًا فى الفترة (808 - 820هـ = 1405 -

1417م)، وقد أقيم تكريمًا لزوجته - التى حمل المسجد اسمها - بمدينة

«مشهد» .

وكذلك بنى المعمارى «قوام الدين الشيرازى» مدرسة كبيرة -

بتكليف من شاهرخ- بمنطقة «خركرد» التى تقع إلى الغرب من

ص: 76

«هراة» ، وتقع حاليا فى شرقى «إيران» ، ثم خلف «ألوغ بيك» أباه

على العرش، فكانت فترة حكمه قصيرة، ومع ذلك فقد حرص خلالها

على رعاية الفنون والآداب الفارسية.

يعد «شمس الدين محمد حافظ الشيرازى» ألمع شخصية أدبية عرفها

العصر التيمورى، ويمثل شعره ازدهارًا للحركة الثقافية فى هذا

العصر، وقد توفى فى سنة (792هـ = 1389م)، وكذلك يُعد

«الجامى» المتوفى فى سنة (898هـ= 1492م)، من أبرز العلماء

والشعراء فى هذا العصر؛ إذ ألف ستة وأربعين كتابًا فى مختلف

فروع العلم، ثم يأتى «نظام الدين الشامى» ، صاحب كتاب

«ظفرنامة» ، الذى يعد سجلا لفتوحات «تيمورلنك» .

ص: 77

الفصل الثاني عشر

*الدولة الغزنوية

[351 - 582 هـ = 962 - 1186 م].

النشأة والتكوين:

اعتمد السامانيون على الأتراك فى صفوف الجيش، وفى تولى

المناصب الكبيرة فى «الدولة السامانية» ، فعلا شأن الأتراك، وازداد

نفوذهم، ويعد «البتكين» الذى ولى منصب صاحب الحجاب للأمير

«عبدالله بن نوح» (343 - 350هـ = 954 - 961م) أبرز الشخصيات

التركية فى بلاط السامانيين، وبلغ من نفوذه أن خشى الأمير

«عبدالله بن نوح» منه على ملكه فأبعده عن العاصمة، وأسند إليه

ولاية «خراسان» فى عام (349هـ = 961م).

ولما تولى «منصور بن نوح» الإمارة خلفًا لأخيه «عبدالله» الذى

توفى سنة (350هـ = 961م)؛ تمرد عليه «البتكين» فى «خراسان» ،

وأرسل جيشًا لمحاربته والقضاء على تمرده، وأسند «خراسان» إلى

«أبى الحسين سيمجور» ، فتوجه «البتكين» إلى «غزنة» واستولى

عليها من حاكمها السامانى، وأسس بها إمارة مستقلة عن

السامانيين، ثم جعلها مركز حكمه وعاصمة دولته المناهضة للدولة

السامانية.

حاول الأمير «منصور» جاهدًا أن يقضى على تمرد «البتكين» فى

غزنة، ويوقف تأسيس دولته المناهضة، لكن جهوده جميعها باءت

بالفشل.

الوضع الداخلى:

لم يتمكن «البتكين» أول حكام «الدولة الغزنوية» ومؤسسها من

ترسيخ دعائم دولته الجديدة، فقد وافاه أجله فى سنة (352هـ)، بعد

عام واحد تقريبًا من توليه الحكم، ثم خلفه ابنه «إسحاق» ، ثم غلامه

«بلكانين» - من بعده - ولكنهما لم يتمكنا من تحقيق ذلك، فلما ولى

«سبكتكين» أمور الدولة سنة (366هـ)، تمكن بهمته العالية وحسن

سياسته أن يبسط نفوذه ويُوطد دعائم دولته، ويحقق لها ما لم يقدر

عليه سابقوه، فعُدَّ المؤسس الفعلى لها.

ويُعد «محمود الغزنوى» -الذى ولى الحكم فى الفترة من سنة

(388هـ) إلى سنة (421هـ) - من أكبر الشخصيات فى التاريخ

الإسلامى وأشهرها، إذ قاد الجيوش والحملات والفتوحات من أجل

نشر الدين الإسلامى بالهند، ونزل من أعالى «إيران الشرقية» إلى

ص: 78

«هندوستان» ، ثم واصل جهاده حتى بلغ حدود «كشمير»

و «البنجاب» ، وغزا «سومنات» ومنها إلى «كجرات» ، ثم استولى

على بلاد «الغور» فى عام (401هـ= 1010م)، وأخضع مناطق «ما

وراء النهر»، ومدينتى «بخارى» و «سمرقند» لحكمه، فلقبه

المؤرخون بلقب «مكسر الأصنام» ، كما كان أول من تلقب بلقب

السلطان من أمراء المسلمين.

وأضحت مدينة «غزنة» فى عهده منارة للعلم، ومقصدًا للعلماء، ووفد

عليها أشهر أدباء هذا العصر أمثال الشاعر «الفردوسى» ، وأصبحت

عامرة بالمساجد والسدود والأبنية الخيرية، التى لا تقل بهاءً وجمالا

عن المنشآت الهندية التى اشتهرت بدقة التصميم وجمال العمارة.

وتُوفى السلطان «محمود» فى عام (421هـ = 1030م)، بمدينة غزنة.

وفى سنة (556هـ = 1161م)، أسقط الغوريون «غزنة» وسيطروا

عليها، ولم يستطع أحفاد السلطان «محمود الغزنوى» الصمود أمام

هجمات الغوريين، ولم يتمكنوا من استعادة عاصمة بلادهم، فسقطت

«الدولة الغزنوية» فى سنة (582هـ = 1186م).

العلاقات الخارجية:

أقام الغزنويون علاقات عديدة مع كل الدول المحيطة والمجاورة،

وبصفة خاصة مع «هندوستان» ، وتجدر الإشارة إلى أن حكم

المسلمين لبلاد «الهند» بدأ مع خروج الحملات الغزنوية لفتحها؛ إذ

اتخذت هذه الحملات من «لاهور» مقرا لها، ومركزًا لنشر الدعوة

الإسلامية، فلما ورث الغوريون دولة الغزنويين، تولوا سلطنة

«دهلى» ، وواصلوا الطريق، ونشروا الدين، وبسطوا نفوذ المسلمين

على كل بلاد الهند الشمالية. ولعل فتوحات السلطان «محمود

الغزنوى» بالهند قد بلغت مدى لم تبلغه أية قوة إسلامية بعده،

فكان له فضل نشر الدعوة، ودخول أعداد كثيرة فى دين الله، فأعز

الله به الإسلام، وأعلى كلمة التوحيد فى هذه البلاد.

المظاهر الحضارية فى الدولة الغزنوية:

ضمَّت أراضى «الدولة الغزنوية» عناصر وأجناسًا سكانية متعددة،

شملت الأتراك والفرس واليهود والنصارى وغيرهم، واعتمد الغزنويون

ص: 79

على الأتراك فى بلاطهم، وأكثروا منهم فى الجيش، فزاد نفوذهم،

كما زاد نفوذ الفرس فى جوانب الثقافة والأدب والعلوم والاقتصاد،

ونهضت الدولة فى هذه المجالات بفضل جهودهم، ولذا فقد اهتم

الغزنويون بإحياء أعيادهم والاحتفال بها، إلى جانب الاحتفال

بأعياد المسلمين كعيدى الفطر والأضحى، على أن هذه الاحتفالات

كانت تتوقف فى المناسبات الحزينة التى تمر بالدولة، مثلما حدث فى

عيد الأضحى سنة (341 هـ = 1039م)، حين ألغى السلطان «مسعود

الغزنوى» الاحتفال به، بسبب الهزيمة التى منيت بها الدولة أمام

السلاجقة، وكانت المجاملة من الأمور التى حرص عليها الشعب

الغزنوى فى المناسبات مثل: استقبال وفود الخليفة إلى السلطان

وتوديعهم، أو تنصيب السلطان، أو تعيين وزير، أو صاحب منصب

كبير، وكان الشعب يتسابق فى تقديم الهدايا فى هذه المناسبات،

كما كان من عاداته ارتداء البياض رمزًا للحزن فى مناسبات الحداد.

ومن المؤكد أن السلاطين الغزنويين قد عاشوا حياة مترفة، أنبأتنا

بها قصورهم الفخمة، ومواكبهم المهيبة، وكذلك مظاهر الزينة والأبهة

التى تناقلتها ووصفتها مصادر المؤرخين ومراجعهم، ويتجلى هذا

الترف فى المواكب السلطانية وحفلات الزواج، ومراسم تولية السلطان

أو تنصيب الوزير.

ولم يغفل الغزنويون الترفه بأنواع التسلية، فكانت المصارعة وحمل

الأحجار الثقيلة، والمبارزة، والصيد، من أنواع الرياضة التى اهتم بها

أمراء البيت الحاكم، وكان السلطان «مسعود» - قبل أن يلى السلطة -

يهتم بهذه الرياضة ويقول: «ينبغى التعود على مثل ذلك؛ حتى لا

يعجز المرء إذا قابلته مهام صعاب، أو ساعات شداد»، ولذا كان

يبارز الأسود وهو جالس على ظهر فيل، ولا يسمح لأحد بمساعدته

فى ذلك، وكان الصيد يتم - أحيانًا - بواسطة الفهود والكلاب، وكانت

التسلية المفضلة عند الشعب الغزنوى هى ركوب السفن فى بعض

الأنهار.

النهضة الثقافية فى الدولة الغزنوية:

ص: 80

ولعل أبرز ما يميز «الدولة الغزنوية» عن مثيلاتها من الدول المستقلة

فى شرق العالم الإسلامى هى نهضتها الثقافية، التى ازدهرت على

أيدى أمرائها الذين قدَّروا رجال الأدب، وعملوا على تشجيعهم

والعناية بهم، فقد كان كل أمير يريد أن يحيط نفسه برجال العلوم

والفنون؛ ليتفوق على أقرانه، وبرزت «غزنة» فى أواخر القرن

الرابع الهجرى كمركز إشعاع كبير فى جنوبى غرب «آسيا» ، بفضل

تشجيع السلاطين الغزنويين الذين لم يألوا جهدًا فى سبيل رفع شأن

العلوم والفنون فى دولتهم، واستطاع السلطان «محمود الغزنوى» أن

يضم إليه رجال العلم والأدب الذين كانوا يحيطون بأمراء البلاد

المجاورة، وزيَّن «غزنة» بأجمل ما حصل عليه من مغانم «الهند» ،

وأعاد تشييد مسجدها الجامع، وأضاف إليه مدرسة كبيرة، ووضع

بها مؤلفات وتصانيف نقلها من خزائن الملوك السابقين فى العلوم

كافة، ليقوم علماء «غزنة» وفقهاؤها بدرسها وتدريسها.

وجدير بالذكر أن السلطان «محمود بن سبكتكين» كان مولعًا بعلم

الحديث، ويستمع إلى علمائه، ويستفسر عما يتلونه عليه من

أحاديث، وكان يستدعى إلى «غزنة» كل من له سعة فى العلم

والأدب والشعر، مثل «بديع الزمان الهمذانى» صاحب فن المقامات،

قال عنه «الثعالبى» : «إنه معجزة همذان، وغرة العصر، كان ينشد

القصيدة إذا سمعها مرة واحدة، ويترجم ما يستمع إليه من الأبيات

الفارسية المشتملة على المعانى الغريبة إلى الشعر العربى، فيجمع

فيها من الإبداع والإسراع». ومنهم أبو ريحان محمد بن أحمد

البيرونى (362 - 440هـ) الذى يعد من أعظم رجال الحضارة الإسلامية

وأبرزهم، وقد نال تقديرًا علميا كبيرًا، وترجمت كتبه إلى اللغات

الأوربية، وسمَّت روسيا جامعة حديثة باسمه وأقيم له تمثال فى

جامعة موسكو، وأصدر اليونسكو وبعض جامعات أمريكا وألمانيا

فهارس بأعماله.

وكذلك ظهر عشرات العلماء والفقهاء والشعراء فى «الدولة

ص: 81

الغزنوية»، وبلغ اهتمام الغزنويين بالنهضة الثقافية والعلمية مدى

كبيرًا تفوقت به على مثيلاتها؛ لدرجة أنها كادت تتفوق على

«بغداد» مركز الإشعاع الثقافى فى العالم الإسلامى.

ص: 82

الفصل الثالث عشر

*الدولة الغورية

[543 - 612 هـ = 1148 - 1215م].

النشأة والتكوين:

كان الغوريون أسرة صغيرة تحكم «ولاية الغور» التى تقع بين

«هراة» و «غزنة» ، وكانت «قلعة فيروزكوه» مقر حكمهم، ودأبوا

على شن الغارات على رعايا «الدولة الغزنوية» ، واتخذوا من وعورة

بلادهم وصعوبة مسالكها معصمًا يقيهم من بطش السلطان «محمود

الغزنوى»، حين أراد معاقبتهم بعد أن باتوا خطرًا جسيمًا يهدد دولته.

ولكن السلطان «محمود الغزنوى» تمكن من استمالة «محمد بن

سورى» - أحد رؤسائهم - فى عام (401هـ = 1010م)، ثم عين أولاده

فى حكم «فيروزكوه» و «باميان» ، ومن ثَمَّ تصاهر الغوريون مع

الغزنويين، واتحدوا مع ملوك «غزنة» ، فلما قتل «بهرامشاه

الغزنوى» «قطب الدين محمود» والد زوجته الغورية، نهض أخوه

«سيف الدين سورى» مطالبًا بثأره، واحتل «غزنة» فى عام (543هـ

= 1148م).

ولمَّا تمكن «بهرامشاه الغزنوى» من قتل «سيف الدين سورى» فى

عام (543هـ = 1148م)، قام «علاء الدين حسين» (جهانسوز) الأخ

الثانى لقطب الدين بالهجوم على «غزنة» ، ثم دخلها ونهبها، ولكنه

وقع أسيرًا - بعد فترة قصيرة- فى قبضة السلطان «سنجر

السلجوقى»، وتُوفى فى عام (556هـ = 1161م)، فخلفه «غياث

الدين محمد»، وأقيمت له الخطبة فى «غزنة» ، ولكن الغز طمعوا فى

«غزنة» بعد وفاة «علاء الدين» واستولوا عليها، وظلت فى أيديهم

مدة خمس عشرة سنة، ثم ألحق «غياث الدين محمد» أمير الغور

الهزيمة بالغز وطردهم من «غزنة» ، إلا أنه لم يكتفِ بذلك، وعمل على

استئصال شأفة «آل سبكتكين» ، وتمكن منهم، وضم أملاكهم إلى

دولته، ثم اتجهت فتوحات «الغور» إلى «الهند» لعدم قدرتهم على

الزحف إلى أواسط «آسيا» حيث توجد «الدولة الخوارزمية» ، ودولة

الخطا، اللتان وقفتا حصنًا منيعًا أمام راغبى التوسع فى هذه

المناطق، ثم جاءت نهاية «الدولة الغورية» على أيدى الخوارزميين

فى عام (612هـ = 1215م).

العلاقات الخارجية:

ص: 83

أقام «الغوريون» دولتهم على أنقاض «الدولة الغزنوية» بعد قضائهم

عليها، ثم دخلوا حروبًا كثيرة مع بلاد «الهند» حين فشلوا فى توسيع

سلطانهم على حساب جيرانهم «الخوارزميين» و «الخطا» ، ولكن

الخوارزميين لم يمهلوهم، وقضوا على دولتهم، وما من شك فى أن

الغوريين يرجع إليهم الفضل فى توطيد دعائم الحكم الإسلامى فى

البلاد الشمالية للهند، فإذا كان «آل سبكتكين» هم الذين فتحوا

«الهند» ، فإن الغوريين هم الذين ثبتوا الحكم الإسلامى بها.

مظاهر الحضارة فى الدولة الغورية:

كانت مدينة «فيروزكوه» أشهر مدن الغوريين، ومركز حضارتهم،

وقصبة ملكهم، وكان السلطان «غياث الدين محمد» الذى تُوفى فى

عام (599هـ = 1202م) من أعدل وأعظم حكام «الدولة الغورية» ،

وكان شافعى المذهب ومع ذلك لم يحمل الناس على اتباع مذهبه،

وقرَّب إليه الشعراء والعلماء، ونبغ منهم الكثيرون فى عهده.

ص: 84

الفصل الرابع عشر

*سلطنة دهلى الإسلامية

[602 - 689 هـ = 1206 - 1290 م].

النشأة والتكوين:

شهد العالم الإسلامى فترة من تاريخه، تبوَّأ فيها الأرقاء والعبيد

عرش البلاد، وتقاليد الحكم، ومناصب الدولة المهمة، وكان هؤلاء

العبيد من الأتراك الذين جلبهم السلاطين للخدمة فى صفوف الجيش،

فتدرجوا فى مناصبه حتى بلغوا المناصب القيادية المهمة، فزاد

نفوذهم، وعلا شأنهم، وباتوا قوة ضاربة تتحكم فى سير الأمور

وتطورها؛ حتى إن أحدهم انتزع الملك لنفسه حين توفى أحد

السلاطين، ولم يكن له وارث، وأقام المماليك دولتهم بالهند عقب زوال

دولة الغور، وظلَّت دولتهم قائمة مدة أربعة وثمانين عامًا فى الفترة

من سنة (602هـ= 1206م) إلى سنة (689هـ = 1290م).

الوضع الداخلى:

كان «قطب الدين أيبك» الذى حكم من سنة (602 هـ= 1206م) إلى

سنة (607هـ = 1210م)، أول سلاطين المماليك فى «الهند» ، واشتهر

بحبه للعدل، وإقراره السلام والأمن فى نواحى بلاده، وبنى مسجدين

كبيرين، أحدهما بدهلى والآخر بآجمبر. وتوفى هذا السلطان فى

عام (607هـ= 1210م)، ثم خلفه ابنه «آرام شاه» ، وعجز عن تسيير

أمور البلاد وإدارتها، فاستدعى رجال الدولة والبلاط «ألتُمش» وطلبوا

منه أن يلى أمور السلطنة، فوافق على مطلبهم وطرد «آرام شاه» من

السلطنة، وتربع على عرشها فى عام (607هـ = 1211م).

يُعدّ «شمس الدين ألتمش» المؤسس الحقيقى لدولة المماليك فى

«الهند» ، وهو مملوكى اشتراه «قطب الدين أيبك» من «غزنة» ،

وحمله معه إلى «الهند» ، ثم جعله رئيسًا لحرسه، ثم أسند إليه حكم

ولايات «الهند» ، فتعرض «شمس الدين» لمحاولات كثيرة للإطاحة به،

وما كاد يتخلص منها حتى ظهر له خطر المغول، وألحقوا بدياره

الخراب والدمار، ولكنهم لم يتحملوا حرارة جو بلاده، واتجهوا صوب

الغرب ثانية، فنجت البلاد من شرورهم.

لم ير «ألتُمش» فى أبنائه الذكور مَنْ يصلح للحكم من بعده، فأوصى

ص: 85

به لابنته «رضية» ، ولكن رجال البلاط عهدوا بالملك عقب وفاته إلى

الأمير «ركن الدين فيروز شاه» ، إلا أنه لم يهنأ بالملك بسبب الفتن

والاضطرابات التى عمت أنحاء البلاد، وكان نتيجة ذلك أن قُتل هو

وأمه، فآلت أمور الحكم إلى السلطانة «رضية» فى عام (643هـ =

1236م).

يعد السلطان «بِلْبان» (بِلْبِن) الذى حكم فى الفترة من عام (664هـ =

1265م) إلى عام (686هـ = 1287م)، من أقوى سلاطين «الهند»

وأعظمها فى تاريخها الوسيط، إذ واجه المغول الذين عادوا إلى

تهديد «الهند» ثانية، وأعاد الهدوء والاستقرار إلى بلاده، ثم قضى

على «الهندوس» الذين قطعوا الطريق بين «دهلى» و «البنغال» ،

وأقر الأمن والنظام فى ربوع دولته.

عهد «بلبان» - حين شعر بدنو أجله - بالحكم إلى ابنه «بغراخان» ، إلا

أن ابنه رفض ذلك، فعهد به إلى حفيده «كيخسرو بن بغراخان» ،

فتولى أمور البلاد، ولكنه كان ضعيفًا لا يقوى على تسيير أمور

الحكم بمفرده، فأسندها إلى «نظام الدين» الذى اعتمد على خواصه

والمقربين إليه فى إدارة شئون البلاد، فاستبدوا بها، وحاول

«بغراخان» أن يتخلص من «نظام الدين» ولكن الترك لم يمكنوه من

ذلك، وعزلوا ابنه «كيخسرو» وولوا «كيقباد» أحد أطفاله الصغار،

فتصدى لهم «الخلجيون» بقيادة زعيمهم «فيروز شاه» ، وقضوا

عليهم، فزال حكم المماليك بالهند على أيديهم.

العلاقات الخارجية:

اتسمت العلاقة الخارجية لسلطنة «دهلى» الإسلامية فى عهد الملوك

المماليك (القرن السابع الهجرى - الثالث عشر الميلادى) بأنها كانت

علاقة عسكرية فى المقام الأول؛ إذ عمد سلاطينها إلى توطيد ملكهم

بعد زوال دولة الغور على أيديهم. يضاف إلى ذلك الخطر الذى واجهه

هؤلاء السلاطين وبلادهم على أيدى المغول، الذين طمعوا فى ملك

بلا حدود، والهندوس الذين سعوا إلى إسقاط حكمهم والتوسع على

حسابهم، واستطاع «بلبان» - كما مر - أن يتصدى للغزاة والطامعين،

وحفظ لبلاده استقرارها وهدوءها.

ص: 86

ثم تمكن الخلجيون من إسقاط هذا الحكم، وإقامة آخر باسم جديد

لدولة جديدة تحمل اسمهم.

مظاهر الحضارة:

نعمت «دهلى» بالاهتمام ببعض مظاهر الحضارة فى عهد الملوك

المماليك، فبنى «قطب الدين أيبك» مدرسة كبيرة إلى جانب مسجده

الشهير الذى بدأ بناءه فى عام (1191م)، ثم أكمله له «ألتُمش» فى

عام (1230م)، ولاتزال منارة هذا المسجد - التى كانت مكونة من

سبعة طوابق - قائمة حتى الآن، ولم يتبقَّ من طوابقها سوى خمسة

فقط.

كما قام «ألتُمش» بتشجيع العلوم والآداب فى السلطنة، وأنفق أموالا

كثيرة فى نسخ أعداد كثيرة من القرآن الكريم لتكون فى متناول

أفراد شعبه، وأسس العديد من المدارس، وزيَّن بلاطه بالعلماء

والشعراء، وأولى الفن المعمارى عناية فائقة، فأتم مسجد «أيبك»

فى «دهلى» ، وشيَّد آخر فى «آجميز» ، وجعل عاصمته أحد مراكز

العلوم والآداب المهمة.

ص: 87

الفصل الخامس عشر

*الخلجيون (الأفغانيون)

[689 - 720 هـ = 1290 - 1320 م].

النشأة والتكوين:

يرجع الفضل فى ظهور «الخلجيين» فى «بلاد الهند» إلى الأمير

«قطب الدين أيبك» ، الذى ولى «الهند» نيابة عن سلطان «الغور» ،

فحرص على توسيع رقعة ولايته بها، وأسند أمرها إلى قائده

«محمد بن بختيار الخلجى» ، الذى قام بدوره على خير وجه،

واستولى على «بندنتيورى» عاصمة «إقليم بهار» من ملوك أسرة

«بالا» ، ثم استولى على الإقليم كله، وقضى على «البوذية» التى

كانت منتشرة هناك، وحطم معابدها وأصنامها، ونشر الدين

الإسلامى فى ربوع هذه المملكة، ثم استولى على عاصمة إقليم

«البنغال» ، وأقام الخطبة فيها للسلطان الغورى.

حرص خلفاء هذا القائد على توطيد نفوذهم بالأقاليم الهندية التى

استولوا عليها، فلما قامت «دولة المماليك» بالهند، وولى «شمس

الدين ألتُمش» أمور السلطنة بدهلى، قامت فى وجهه المشاكل

والاضطرابات الداخلية التى هدفت إلى الإطاحة بحكمه، ثم أعقبها

وفاة «قطب الدين أيبك» ، فانتهز «الخلجيون» هذه الفرصة،

وسيطروا على «بهار» والبنغال.

الوضع الداخلى:

عمد سلاطين «دولة المماليك» بالهند إلى القضاء على حركات

الاستقلال التى تزعمها «الخلجيون» للانفصال عنهم، والاستقلال بما

تحت أيديهم، فتصدى «الخلجيون» لهم، وعوَّلوا على تغيير نظام

الحكم فى «دهلى» ؛ حيث استبد الأتراك بالأمر فيها، ثم جمعوا

قواتهم تحت قيادة زعيمهم «فيروز» ، وأحدثوا انقلابًا فى «دهلى» ،

وأطاحوا بالسلطان الطفل، وأعلنوا «فيروز» سلطانًا عليهم، ولقبوه

بجلال الدين، وذلك فى سنة (689هـ = 1290م)، فكان أول السلاطين

الخلجيين الذين استمر حكمهم ثلاثين عامًا تقريبًا، حتى سنة (720هـ

=1320م).

يعد «علاء الدين الخلجى» ، الذى حكم فى الفترة من سنة (695هـ =

1295 م) إلى سنة (715هـ = 1315م)، من أعظم سلاطين عصره، حيث

كان محاربًا شجاعًا، وحاكمًا عادلا، وكان أول من قاد الجيوش فاتحًا

ص: 88

شبه القارة الهندية، رافعًا راية الجهاد تحت لواء الإسلام.

العلاقات الخارجية:

اتسمت العلاقات الخارجية للخلجيين بالعداء مع كل القوى والممالك

المحيطة بهم تقريبًا، فقد وقفوا فى وجه المغول وصدوهم حين

هاجموا بلادهم، وأرادوا اجتياحها، كما وقفوا بالمرصاد لمملكة

الكجرات و «الممالك الراجبوتينية» ، وممالك «شيتور» و «زانثميهور» ؛

حيث كانت تقف من «دهلى» ، موقفًا عدائيا، فضلا عن موقف بلدان

سلطنة «دهلى» ، مثل «يوجين» وغيرها؛ حيث كانت تنتظر الفرصة

المناسبة للاستقلال عن مركز الحكم فى دهلى.

جاءت نهاية «الخلجيين» على أيدى «الكجراتيين» البوذيين بقيادة

زعيمهم «خسرو شاه» الذى سعى إلى إسقاط هذه الأسرة الخلجية

انتقامًا منها، لأنها كانت السبب فى تدمير معابد البوذيين، وتحطيم

أصنامهم.

مظاهر الحضارة:

تأثر الخلجيون بالبيئة الأفغانية التى انتشر بها التصوف على يد رجل

فارسى يُدعى «سيدى مولى» ، الذى فر إلى «الهند» عقب الغزو

المغولى لبلاد فارس، فالتف حوله الناس من مختلف الطبقات، ووفدوا

عليه من كل مكان، فقويت شوكته، وتدخل فى شئون الحكم، ودبر

مؤامرة للإطاحة بجلال الدين الخلجى، ولكن «جلال الدين» أحبط هذه

المؤامرة، ثم خلفه السلطان «مبارك شاه» فى عام (716هـ = 1316م)،

فى الوقت الذى كانت البلاد تمر فيه بظروف صعبة، وتحتاج إلى

حكومة قوية؛ تنقذها من هاوية الأزمات التى تردت فيها، فعمل على

إعادة الهدوء والسكينة إلى البلاد، وأصلح شئونها، وأغدق على

المحتاجين من رعاياه، ومنح الجنود المكافآت، وخفف عن الناس

عبء الضرائب، وشجع التجارة، وألغى القوانين التى تحدد أرباحها،

فانتعشت وراجت، وكان لذلك أثره المباشر فى تنمية موارد البلاد

وازدهار حضارتها، رغم الفترة القصيرة التى قضاها «مبارك شاه»

فى الحكم، حيث قُتل فى عام (720هـ = 1320م).

ص: 89

الفصل السادس عشر

*التغلقيون

[720 - 815 هـ = 1320 - 1412م].

النشأة والتكوين:

استمال «تغلق شاه» جنود شمالى غرب «الهند» إلى صفه، ثم قادهم

إلى «دهلى» ، وتمرد على السلطان «خسرو شاه ناصر الدين» آخر

حكام «الدولة الخلجية» ، وفقد عدد كبير من جيش «خسرو شاه» ، ثم

التقى الفريقان فى «ديوبالبور» ، وخسر الخلجيون المعركة، وفروا

منها، تاركين خلفهم الأسلحة والخيول والفيلة والأموال والمعدات،

فدخل «تغلق» العاصمة «دهلى» دون معارضة، ولبَّى الناس نداءه

للدخول فى طاعته، بسبب كرههم لخسرو شاه الذى آذاهم وأهان

معتقداتهم، ثم دارت معركة فاصلة بين الطرفين فى عام (720هـ =

1320م)، وانتهت بهزيمة الخلجيين، ومقتل «خسرو شاه» ، وسقوط

«دولة الخلجيين» ببلاد الهند.

الوضع الداخلى:

قامت «دولة التغلقيين» على أنقاض «دولة الخلجيين» ببلاد «الهند» ،

وتولى «تغلق شاه الأول» الحكم فى عام (720هـ = 1320م)، واستمر

فيه حتى سنة (725هـ = 1324م)، وعرف باسم السلطان «غياث الدين

تغلق»، ويرجع أصله إلى الجغتائيين الأتراك، وقد قدم فى مطلع

شبابه إلى «بلاد السند» ؛ لخدمة بعض التجار فى عهد السلطان «علاء

الدين»، ثم دخل فى خدمة «أولوخان» أمير «السند» آنذاك، وتدرج

فى الفروسية حتى احتل وظيفة أمير الخيل، فلما ولى «قطب الدين»

عهد بهذه الإمارة إلى ابنه «محمد تغلق» ، فشغل هذا المنصب إلى

عهد «خسرو شاه» ، أعلن الثورة، ودخل «دهلى» ، ودارت بينه وبين

«خسرو شاه» عدة معارك، تمكن - فى نهايتها - من قتله، والانتصار

على جيشه، ثم دخل القصر الملكى وجلس على سرير الملك.

لم تستقر أمور هذه السلطنة فى عهد «بنى تغلق» ؛ حيث ظهرت بها

المؤامرات، واشتعلت الفتن لانتزاع كرسى الحكم، وثار «محمد بن

تغلق» على أبيه فى سنة (725هـ = 1325م)، حين أعلن هذا الأب

استياءه من تصرفات ابنه، ومن استكثاره شراء المماليك، ومبالغته

فى بذل العطايا، ومنح الهبات، فدبر الابن حيلة تمكن بواسطتها من

قتل أبيه.

ص: 90

كان «محمد بن تغلق» غريب الأطوار؛ حيث كان محبا للإنفاق والإغداق

وبذل الهبات والعطايا، وفى الوقت نفسه يعمل على إراقة الدماء،

ويسعد برؤيتها، فساءت الأحوال فى عهده، ونقل عاصمته إلى

مدينة «ديوكر» التى أطلق عليها اسم: «دولت آباد» لكى يأمن خطر

المغول، وأجبر سكان «دهلى» على الانتقال إلى العاصمة الجديدة،

فاشتدت الأمور سوءًا، وقامت الثورات فى وجهه، ونشطت الحركات

الاستقلالية فى عهده، فعدل عن الاستقرار فى هذه العاصمة

الجديدة، ولكن الخراب والدمار قد لحقا بدهلى نتيجة هجرها، ولم

يتمكن الناس من العودة إليها، فبنى لهم مدينة جديدة بالقرب منها.

لم يكن للسلطان «محمد بن تغلق» وريث للحكم حين وفاته، فورثه ابن

عمه «فيروز تغلق» فى عام (752هـ = 1351م)، وحكم فى الناس

بالعدل، وسار بينهم سيرة حسنة، ثم خلفه حفيده «غياث الدين تغلق

شاه الثانى» فى عام (790هـ = 1388م)، ونشطت فى عهده

الحركات الاستقلالية، وظلت البلاد فى هذا الوضع المضطرب حتى

وفاة آخر سلاطين «آل تغلق» فى عام (815هـ = 1412م)، فاجتمع

أعيان «دهلى» ، ونصبوا «دولت خان» حاكمة على البلاد، ثم تعرضت

«دهلى» للغزو التيمورى الذى قضى على مظاهر الحضارة فيها،

وأهلك الحرث والنسل، ولكن هذه الحضارة عادت مظاهرها ثانية إلى

هذه السلطنة فى عهد «ظهير الدين محمد بابر» فاتح «الهندوستان» ،

الذى ينتهى نسبه إلى «تيمورلنك» من ناحية أبيه، وإلى

«جنكيزخان» من ناحية أمه.

العلاقات الخارجية:

لاشك أن السياسة التعسفية التى انتهجها «خسرو شاه» فى عدائه

السافر للمسلمين، وتحيزه لبنى جنسه، هى التى دفعت المسلمين

إلى الفرار من صفوفه والانضمام إلى صفوف «تغلق شاه» مؤسس

«الدولة التغلقية» . وتعرضت أسرة «آل تغلق» للاضطرابات

والمشاكل، وقامت بدولتهم عدة حركات انفصالية، واقتحم زعيم

القبائل الجغتائية المغولى حدود بلادهم فى سنة (727هـ = 1327م)،

ص: 91

واستولى على «لمغان» و «الملتان» ، وسلك طريقًا إلى «دهلى»

العاصمة، فأسرع التغلقيون إلى كسب ود المغول ومهادنتهم،

فانسحبوا من بلادهم بعد أن ألحقوا بها الضرر.

حاول «محمد تغلق» غزو بلاد «الصين» من أجل الوصول إلى «ولايات

الهملايا» العليا؛ لكى ينشر الدين الإسلامى فى ربوع هذه المناطق،

أو - كما يدعى بعض المؤرخين - للاستيلاء على الكنوز التى كانت

تزخر بها «الصين» فى هذا الوقت. ولاشك أن «آل تغلق» قد عانوا

كثيرًا فى سبيل الحفاظ على ملكهم؛ حيث كانت الأخطار محدقة بهم

فى الداخل والخارج.

مظاهر الحضارة:

شجع «تغلق شاه» رعيته على تعمير الأرض والاهتمام بالزراعة،

فشق الترع والقنوات، وأصلح طرق الرى، وخفض الضريبة على

الأراضى الزراعية. وكان «محمد بن تغلق» من المشتغلين بالعلوم

والفنون والآداب، وله منثورات ومنظومات رفيعة المستوى باللغتين

العربية والفارسية، وكذلك كان يجيد الفلسفة والحكمة والمنطق، كما

برع فى الطب، وعالج الناس بنفسه، وأشرف على ملاجئ العجزة

التى أقامها لهم، وأنشأ مدينة «دولت آباد» لكى تكون عاصمة

لبلاده، إلا أنه عدل عن هذه الفكرة، ووفد عليه الكثيرون من

المشتغلين بالعلوم والفنون والآداب، وعمل على رعايتهم، ونهج

حكام أسرة «آل تغلق» سياسة فى استقطاب الأدباء والعلماء.

وجملة القول أن سلاطين دهلى عنوا بتشجيع الثقافة الإسلامية،

وأنفق السلطان المملوكى «ألتُمش» أموالا طائلة فى نسخ أعداد

كثيرة من القرآن الكريم؛ للاستفادة منها، وأسس العديد من المدارس،

وزيَّن بلاطه بالشعراء والأدباء، وحرص السلطان «بلبن» على عقد

المناظرات بين الشعراء والأدباء والعلماء فى بلاطه، وضم بلاط

السلطان «علاء الدين» الكثير من العلماء والأدباء، وشهد عهده

الكثير من الفلاسفة والحكماء والشعراء والمؤرخين والمترجمين

والأطباء والفلكيين، ولم يجتمع على باب أحد سلاطين «دهلى» من

ص: 92

رجال العلم والفقه والأدب ما اجتمع على باب «علاء الدين» ، فازدهرت

الحياة الثقافية فى عهده، وتميزت بإنتاج أدبى غزير ومتنوع. وكان

«أميرخسرو» - بلا جدال - أعظم شعراء عصره، وتعددت مواهبه،

وبلغت شهرته الآفاق، فحظى بتقدير الناس ممن عاصروه.

نبغ عدد من المؤرخين فى العهد «الخلجى» ، منهم «أمير أرسلان

كولاهى»، و «كبير الدين بن تاج الدين العراقى» ، كما كان «أمير

خسرو»، و «ضياء الدين بارانى» من مؤرخى ذلك العصر، وقد عاصرا

«السلطان علاء الدين» ، ولهما مصنفات أدبية وتاريخية يشار إليها

بالبنان، وقد وضع «بارانى» عدة مؤلفات مهمة منها: «تاريخ فيروز

شاهى»، وكتاب «السنة المحمدية» ، وكتاب «نعم الله وآياته» ،

وكتاب «مآثر السادة» ، و «تاريخ البرامكة» ، وله كتاب عن «الأحكام

السلطانية»؛ يشمل القيم والمبادئ والقوانين والسياسات والنظم التى

يجب على الحكومة الإسلامية اتباعها، ويرجعها كلها إلى الشريعة

الإسلامية.

ويُلاحظ أن الأدب الدينى قد ازدهر فى هذا العصر، وكتب علماء الدين

عن أساتذتهم، وترجموا لهم، وأبرزوا فضلهم، وتحدثوا عن تراثهم،

فعكست هذه الترجمات مظاهر الحياة الاجتماعية، والاتجاهات

الثقافية فى هذا العصر، فضلا عن أنها مصدر غنى للمعلومات عن

هذه الفترة التاريخية.

وفى القرن الرابع عشر الميلادى اشتملت مؤلفات الكُتَّاب الهنود على

أعمال نثرية وشعرية باللغة السنسكريتية؛ تضمنت الفولكلور وقصص

الأبطال، والروايات الأسطورية للممالك والولايات الهندية، ومما لاشك

فيه أن قيام الدولة الإسلامية فى «الهند» و «البنغال» قد أثر تأثيرًا

ملحوظًا فى تطور الأدب السنسكريتى والبنغالى، حيث فضل الحكام

والسلاطين اللغتين العربية والفارسية، ثم فقدت اللغة السنسكريتية

أهميتها، واستعاضت عنها «بلاد الهند» باللغات المحلية التى عبرت

بها شعوبها عن آدابها وثقافاتها.

ظلت الحياة الثقافية فى «الهند» مزدهرة فى عهد «بنى تغلق» ،

ص: 93

ووفد على السلطان «محمد بن تغلق» الكثير من العلماء والأدباء

والفلاسفة، فقد كان هذا السلطان أديبًا وشاعرًا، كما كان فيلسوفًا

وطبيبًا بارعًا. ولم يكن «فيروز شاه» أقل منه اهتمامًا بالعلم وأهله،

إذ أسس ثلاثين مدرسة لعلوم الدين واللغة والتاريخ والحكمة

والرياضيات والفلك والطب، وجلب العلماء المسلمين إلى السلطنة

للتدريس بهذه المدارس، وعنى بدراسات «الهند» وعلومها القديمة

للاستفادة منها.

وقد لاحظ «ابن بطوطة» فى رحلاته ببلاد «الهند» كثرة المدارس،

وذكر أنه كانت هناك مدارس للصبية وأخرى للفتيات، وأوضح أن

النساء بالهند كن يقبلن على التعليم باهتمام بالغ وخصوصًا العلوم

الدينية، وقد وفد «ابن بطوطة» على بلاد «الهند» فى عام (734هـ =

1333م)، واتصل بالسلطان «محمد بن تغلق» ، وتولى منصب القضاء

فى دولته، وأقام بها مدة ثمانى سنوات، ووصف بلاد «الهند»

ونظمها وسياسة حكامها، وطرق إدارتها، وأحوال المعيشة، ومعايش

الناس فيها.

وأنشأ «فيروز شاه» المدرسة «الفيروزشاهية» ، وعنى بعمارتها،

وأحاطها بالحدائق الغناء، وجعلها مقصد العلماء وطلاب العلم من كل

مكان، فكان من أساتذتها «جلال الدين الرومى» الذى قام بتدريس

علوم التفسير والحديث والفقه بها، ومارس الوعظ والتدريس، وبرع

فى نظم الشعر، فأقبل عليه التلاميذ من كل مكان، وكانت آخر

وصاياه لتلاميذه وصيته التى قال فيها: «أوصيكم بتقوى الله فى

السر والعلانية، وقلة النوم والطعام والكلام، وهجران المعاصى

والآثام، ومواظبة الصيام، ودوام القيام، وترك الشهوات على الدوام،

واحتمال الجفاء من جميع الأنام، وترك مجالسة السفهاء والعوام،

ومصاحبة الصالحين والكرام. فإن خير الناس مَن ينفع الناس، وخير

الكلام ما قل ودل».

شهدت «الهند» نهضة علمية كبيرة، فانتشرت بها المدارس، وتزايدت

أعداد طلاب العلم والمشتغلين به، وأصبح للكتاب أهمية كبرى فى

تلبية حاجات الأساتذة والطلاب، وضمت المدارس والجامعات مكتبات

ص: 94

ضخمة، تضم أعدادًا كبيرة من الكتب، فلما فتح العرب ثم الغزنويون

بلاد «الهند» ، وانتشر الإسلام بها؛ ازدادت الرغبة فى دراسة علوم

المسلمين والعرب وحضارتهم، وأقبل الهنود المسلمون على قراءة

الكتب الإسلامية، وأهملوا الكتب الهندوسية والبوذية، فحل الكتاب

الإسلامى محل الكتاب الهندى فى سلطنة دهلى.

كان الهنود يتناقلون آدابهم شفاهًا، وأدى ذلك إلى ضياع معظمها،

كما أدت الحروب الكثيرة التى شهدتها بلاد «الهند» إلى ضياع الكثير

من كتبها، فلما دخل المسلمون «الهند» طوروا الفكر والثقافة بها،

وجلبوا إليها الورق من «الصين» عن طريق «آسيا الوسطى» ، فلم تعد

هناك صعوبة أمام المؤلفين والكُتاب فى تصنيف كتبهم، وساهم ذلك

مساهمة فعالة فى نمو العلوم والثقافة بالهند.

امتزج التراث الفارسى بالثقافة العربية بعد أن فتح العرب بلاد

فارس، واتخذت الثقافة الفارسية ثوبًا إسلاميا، فتأثرت بذلك بلاد

«الهند» ، وامتزجت الثقافة الفارسية بالثقافة الهندية، فنتج عن ذلك

«اللغة الأوردية» التى ترمز إلى التوفيق بين أنواع الحضارات

الإسلامية والفارسية والهندية، ولعل أبرز ما يميز الثقافة الهندية أنها

درست وفهمت طبع الإنسان وعلاقاته مع غيره من موجودات الكون،

ومع الكون نفسه حق الفهم، وقامت هذه الثقافة على حب العطاء،

وقد قال حكماء «الهند» موعظة جاء فيها: «قم بواجبك ولا تنتظر

ثوابًا أو صلة، لأن القيام بالواجب هو خير ما تتقرب به إلى الله؛ لأن

الرجال الأخيار العظماء لا تهمهم حقوقهم، بل واجباتهم».

لقد تطلَّع العرب منذ اتصالهم بالهند عن طريق الفتح والتجارة إلى

الاستفادة من علوم «الهند» وآدابها، ولكن ذلك لم يتم إلا فى العصر

العباسى، حين تطلع كبار رجال الدولة العباسية إلى تقوية الصلة

بحضارات الأعاجم، وبدءوا بترجمة أهم الكتب الهندية إلى الفارسية

ومنها إلى العربية، ثم أخذ العرب علم الحساب وعلوم الرياضيات عامة

ص: 95

من الهنود، وأخذوا عنهم الترقيم المعروف لدينا اليوم [1 - 2 - 3

].

وازدهرت علوم الطب والرياضيات فى بلاد «الهند» ، فلما قويت الصلة

بين العباسيين والهنود، جلب العباسيون الأطباء الهنود لعلاجهم،

فكان الطبيب الهندى يعالج الخلفاء وكبار رجال الدولة، وكان الناس

يقبلون على هؤلاء الأطباء من كل مكان طلبًا للتداوى.

استفاد المسلمون من آداب «الهند» ، وترجموا كتاب «ألف ليلة وليلة»

وغيره من الكتب إلى الفارسية ومنها إلى العربية، فانتقلت بعض

العلوم الهندية إلى الدولة الإسلامية، وأثرت فى الفكر الإسلامى

والثقافة الإسلامية، ومنح الخليفة «هارون الرشيد» الشاعر «أبان

عبد الحميد اللاحقى» جائزة قدرها مائة ألف درهم على نظمه قصة

«كليلة ودمنة» . وقد نشأ «يحيى بن خالد البرمكى» وزير «الرشيد»

فى «كشمير» ، وتعلم بها، ودرس علوم النجوم والطب والحكمة، وهو

الذى جلب من «الهند» إلى «بغداد» كبار العلماء والأطباء أمثال:

«بهلة» ، و «سنكه» ، و «باذيكر» ، و «قلبرقل» ، و «سندباد» . واستعان

«يحيى بن خالد البرمكى» و «جعفر بن يحيى البرمكى» ، و «إسحاق

بن سليمان» بالهنود فى مجال الطب، وفى حركة الترجمة، فتُرجم

كتاب «سيرك» فى الطب إلى الفارسية، ثم نقله «عبدالله بن على»

إلى العربية، وترجم «منكه» كتاب «سرد» ، كما ترجم كتاب «أسماء

عقاقير الهند»، ونقل «ابن دهن» كتاب «مختصر الهند فى العقاقير»

إلى العربية، كما نقل كتاب «استنكر الجامع» .

الديانات والمعتقدات فى سلطنة دهلى:

تعددت ديانات «الهند» ، فضمت «الهندوسية» و «البرهمية»

و «البوذية» إلى جانب الإسلام. أما «الهندوسية» فقد وفدت على

«الهند» عن طريق الآريين فى سنة (1500 ق. م)، ثم دخلتها وطوَّرتها

عقائد إيرانية، فباتت ديانة توحيد وتعدد فى الوقت نفسه، وتظهر

فىها عبادة البقر والأجداد وقوى الطبيعة، وتقوم معتقداتها

الأساسية على تناسخ الأرواح والنظام الطبقى، ووحدة الوجود،

ص: 96

وتقديم القرابين .. الخ، وهى ديانة السواد الأعظم من الهنود الذين بقوا

على وثنيتهم.

وأما البراهمة فهم المنكرون للنبوَّات أصلا، وأكثرهم على مذهب

الصابئة، ومنهم قائل بالروحانيات، وقائل بالهياكل، وقائل

بالأصنام، إلا أنهم جميعًا مختلفون فى شكل الهياكل التى ابتدعوها،

وكيفية أشكالها، وقد ظهرت البرهمية فى القرن الثانى قبل الميلاد

على أيدى «البراهمة» الذين استمدوا شرائعها من «الهندوسية» .

وظهرت البوذية على يد «غوتامابوذا» الذى وُلد فى أواسط القرن

السادس قبل الميلاد، وتوفى فى سنة (487 ق. م) عن عمر يناهز

الثمانين عامًا، وقد نشأ فى بيت عز وثراء، فلما بلغ مبلغ الشباب

تأمل فى عجائب الكون ومتغيرات الطبيعة، ونظر إلى أحوال الناس

وطبائعهم، وأيقن أن الموت نهاية حتمية لكل الكائنات، فأعرض عن

مباهج الدنيا، وتحول إلى الزهد والتصوف، واعتزل الناس سبعة

أعوام كاملة فى غابة يعيش فيها مع تأملاته، ثم عاد إلى وديان

«نهر الكنج» وظل يتنقل بين الناس خمسًا وأربعين سنة، ينشر بينهم

رسالته، وآمن بدعوته الملايين فى «الهند» وخارجها، وخلاصة هذه

الدعوة التى عمل على نشرها، أن الشر والألم لا ينفصلان عن عالم

الوجود، والنجاة أن يحرر الإنسان نفسه بمراقبتها من الوقوع فى

الجهل الذى يولد الشهوات، وعليه الاعتصام من الذنوب، وبذل

الصدقة، وفعل أعمال الخير، إلى جانب التفكير والتأمل. ثم جاء

الإسلام فحرر «الهند» من هذه العقائد التى تكلف الإنسان ما لا يطيق

من الزهد والتقشف، وتمنع الناس من العمل والإنتاج، فالإسلام يدعو

إلى الوسطية، فهو دين عمل وعبادة، ولا تمنع العبادة المسلم من

العمل، فالمسلم يعمل وفى الوقت نفسه يؤدى ما عليه من فرائض

وتعاليم إسلامية.

ص: 97

الفصل السابع عشر

*إمبراطورية المغول فى الهند

[932 - 1275 هـ = 1526 - 1858 م].

النشأة والتكوين:

ترجع نشأة المغول إلى «عمر شيخ» الذى تولى إمارة «فرغانة» ، ثم

دخل فى حروب طويلة مع جيرانه وأصهاره المغول، وإخوته الأتراك،

لتوسيع أملاكه، ثم تُوفى فى عام (899هـ = 1493م)، نتيجة سقوطه

من فوق حصن له، وخلفه ابنه «ظهير الدين محمد بابر» ، وكان عمره

اثنتى عشرة سنة آنذاك، وحكم سلاطين الإمبراطورية المغولية

«الهند» نحو ثلاثة قرون.

الوضع الداخلى:

ولد «ظهير الدين بابر» فى عام (888هـ = 1482م) بإمارة «فرغانة»

التى كان يحكمها والده، ثم أخرجه منها «الأزبك» و «الشيبانيون» ،

فاتجه إلى «أفغانستان» ، واستولى على «كابل» فى عام (910هـ

= 1504م)، ثم استولى على «قندهار» فى عام (913هـ = 1507م)،

ومن ثم عقد العزم على غزو «هندوستان» ، والاستيلاء عليها، وأعد

العدة لذلك، ثم خرج بقواته وجيوشه، وبصحبته قادته الأتراك الذين

أطلق عليهم اسم «المغول» ، وقصد «هندوستان» ، فغزا «البنجاب»

واستولى على «لاهور» فى (السابع من شهر رجب سنة 932هـ = 20

من إبريل سنة 1526م)، وانتصر على «إبراهيم اللودى» وقضى على

اللوديين فى معركة «بانى بت» ، وتمكن من السيطرة على «دهلى»

و «آكره» ، ثم واصل زحفه إلى «هندوستان» ، وسيطر على شمالها

من «نهر السند» إلى سواحل «بنكاله» ، ولكن وافاه أجله فى عام

(937هـ = 1530م)، قبل أن يدخل «بنكاله» ، و «كجرات» ، و «مالوه» .

كان «ظهير الدين» قد بعث بابنه «همايون» على رأس الجيش

للاستيلاء على «آكره» ، فاستولى عليها، وعلى كنوزها الثمينة

التى كانت تضم جوهرة «كوه نور» أثمن جوهرة فى العالم، فأثار

ذلك ملوك الهندوس، فتحالفوا ضده، إلا أنه تمكن من الانتصار عليهم،

فى معركة «رانا سنك» ، وأسس «بابر» دولته، واهتم بالإصلاحات

الداخلية فيها.

خلف «ناصر الدين هُمايون» أباه «ظهير الدين بابر» فى التاسع من

جمادى الأولى عام (937هـ = 1530م)، وكان عمره آنذاك تسعة

ص: 98

عشرة عامًا، فواجه صعوبات شديدة، وتوفى فى عام (963هـ =

1556م)، وخلفه ابنه «أكبر شاه» الذى انتقل بالبابريين من مجرد

غزاة إلى أصحاب دولة قوية راسخة البنيان؛ إذ استولى على أهم

مناطق «الهند» ، وانتصر فى معركة «بانى بت» فى عام (964هـ=

1556م) - وهى المنطقة نفسها التى انتصر فيها «بابر» من قبل -

ونجح «أكبر شاه» فى تنظيم حكومة أجمع المؤرخون على دقتها

وقوتها، وذلك فضلا عن النهضة الثقافية التى حدثت فى عصره،

والتى بلغت مكانة سامية لم تصل إليها بلاد «أوربا» ، ثم تُوفى

«أكبر شاه» فى سنة (1014هـ = 1605م)، وخلفه ابنه «سليم» الذى

تلقَّب باسم «نور الدين بادشاه» «جهانكيز» ، وكان عمره -آنذاك- ستا

وثلاثين سنة، فنهج سياسة أبيه فى التسامح، وأشاع العدل بين

رعاياه، ثم خلفه ابنه «شاه جهان» فى عام (1037هـ = 1628م).

وإذا كانت «نورجهان» زوجة «جهانكيز» قد اشتهرت بمكائدها، فقد

اشتهرت «ممتاز محل» زوجة «شاهجهان» بالطيبة والصفات الحميدة،

والبر بالفقراء، ودفعت زوجها إلى العفو عن المذنبين، واستخدام

«التأريخ الهجرى» بدلا من «التأريخ الألفى» الذى وضع فى عهد

«جلال الدين أكبر» .

أحب «شاه جهان» زوجته حبا شديدًا، وبلغ وفاؤه لها مبلغًا عظيمًا،

وبنى لها مقبرة «تاج محل» ، التى تعد من روائع الفن المعمارى،

وإحدى عجائب الدنيا، ومازالت قائمة حتى الآن.

وفى عهد «شاه جهان» حدثت مجاعة شديدة بالهند، فاستغلها

البرتغاليون فى خطف الأهالى وأسرهم، ثم بيعهم فى سوق الرقيق،

وقد استطاع «قاسم خان» تخليص عشرة آلاف فرد منهم من

أيديهم، وعهد «شاه جهان» بالحكم إلى ابنه «أورنك زيب» ، بعد أن

عهد إلىه بالقضاء على ثورات «الدكن» .

تولى «أورنك زيب» العرش فى سنة (1069هـ)، فألغى الاحتفال

بأعياد «النيروز» ، وتمسك بتعاليم السنة، وأمر بتعمير المساجد،

وعين لها العلماء والوعاظ، وعمل على نهضة هذه البلاد، ثم أدت

ص: 99

الاضطرابات التى قامت وعمت مناطق واسعة من الإمبراطورية المغولية

إلى سقوط هذه الإمبراطورية فى قبضة الإنجليز فى عام (1275هـ =

1858م).

العلاقات الخارجية:

أقام المغول علاقات وطيدة مع بعض بلدان العالم الخارجى، لدرجة

أن الشاه الصفوى أمد «ظهير الدين بابر» بجنود من الفرس؛ لكى

يستعيد المناطق التى سلبت من دولته ببلاد «ما وراء النهر» ، وأرغم

هؤلاء الجنود الناس على اعتناق المذهب الشيعى بالقوة، وقاموا

بإقامة مذابح لسكان هذه المناطق، فاتحد هؤلاء السكان وطردوا

جنود الفرس، بل اتحدوا مع «الأزبك» وطردوا «بابر» نفسه؛ حيث

فشل فى منع الفرس من قتل الناس وتعذيبهم، فتوجه «بابر» ناحية

«الهندستان» واستولى عليها بعد أن انتصر على «الراجبوتيين» فى

«خانوه» .

كما أقام المغول علاقات مع البرتغاليين، الذين أمدوهم بالمدافع

للوقوف أمام حاكم «الكجرات» فى عهد «همايون» ، واستعان

«همايون» بالشاه «طهما سب بن إسماعيل الصفوى» فى استعادة

حكمه على «هندستان» ، بعد قضائه على أسرة «شيرشاه» ، خاصة

أن شاه «إيران» هو الذى آواه فى محنته.

وقد وفد على «الهند» فى عهد «جهانكيز» مبعوثان إنجليزيان هما:

«وليم هوكنز» و «توماس راو» ، ليعملا سفيرين لبلادهما من قبل الملك

«جيمس الأول» ، وكان الهدف من هذه السفارة منافسة البرتغاليين

فى هذه البقاع؛ حيث كانت لهم عدة مراكز على شواطئ «الهند» ،

وقد استعان «جهانكيز» بالإنجليز على طرد البرتغاليين من بلاطه،

ومحاربتهم ببحار «الهند» ، ومنح الإنجليز امتيازات تجارية كثيرة.

يرجع زوال إمبراطورية المغول بالهند - فى المقام الأول - إلى

انصراف رجال الدولة إلى شئونهم ومصالحهم الخاصة، وتركهم مصالح

البلاد والعباد، وإيثار أنفسهم بالكنوز التى استولوا عليها فى

فتوحاتهم. ومن الحقائق المهمة أن عظماء الإمبراطورية المغولية

حكموا قرنين من الزمان، وكان هدفهم الأول هو العمل من أجل

ص: 100

مصلحة الدولة واستقرار أوضاعها وأمنها، ثم تبدلت الأوضاع خلال

القرن الثالث والأخير لهذه الإمبراطورية، حيث غزا «نادر شاه» بلاد

«الهند» ، وخرب عمرانها، وقضى على مظاهر الحضارة فيها، ثم

تركها لأعداء الإمبراطورية المغولية من «السيخ» ،و «الهندوس»

و «الإنجليز» .

كان «بهادر شاه الثانى» آخر حكام المغول فى «الهند» ، وعزل فى

(13من شعبان سنة 1274هـ = 1858م)، ثم استولت «إنجلترا» على

الإمبراطورية المغولية، واستعمرت بلاد «الهند» ، فعانت هذه البلاد من

تعسف «الإنجليز» وظلمهم وطغيانهم، واستنزفت الشركة البريطانية

ثروات هذه البلاد واستعبدت أهلها، وأسفر ذلك فى النهاية عن ثورة

وطنية ضد هذا الظلم وذلك الإجحاف.

مظاهر الحضارة فى الإمبراطورية المغولية بالهند:

اتسم حكام الإمبراطورية المغولية بالهند بالتسامح والعدل بين

الرعية، وأدى ذلك إلى اقتراب الناس منهم، ومصاهرتهم، وإلى

انتشار الإسلام فى ربوع دولتهم، وقد تجلى هذا التسامح فى أبهى

صوره فى عهد السلطان «جلال الدين أكبر» ، الذى نادى بأن تكون

«الهند» لأهلها من المسلمين والهندوس.

ظلت السلطة الفعلية فى أيدى السلاطين، إذ كانوا يسيطرون على

نظم الحكم كلها، فقويت البلاد فى عهد الحكام الأقوياء، وسقطت

بالسلاطين الضعفاء، ولم تكن للوزير أو الوالى سلطات قوية.

انقسمت إدارة الأراضى الزراعية للدولة إلى نوعين، أولهما: إقطاع

القادة والأمراء مساحات من الأرض، ليقوموا على زراعتها ورعايتها،

ثم ينفقوا من غلتها على جنودهم وخدمهم وتابعيهم، والنوع الثانى:

شبيه بما يحدث اليوم؛ إذ كان الرجل يأخذ قطعة أرض مقابل الالتزام

بدفع بدل يؤديه إلى خزانة الدولة.

ولعل العمارة كانت من أبرز مظاهر الحضارة فى الإمبراطورية

المغولية فى «الهند» ، إذ اهتم بها البابريون اهتمامًا بالغًا، وعمدوا

إلى تعمير المدن، وأصبح لهم طرازهم المعمارى المميز، الذى كان

مزيجًا من فنون المسلمين والهندوس، وكانت أهم سماته القباب

ص: 101

البصلية الشكل؛ المرصعة بالأحجار الكريمة، و «الميناء» و «الخزف» ؛

فضلا عن الأقواس الحادة، والأبواب الفخمة التى فى أعلاها نصف

قبة، يُضاف إلى ذلك «تاج محل» إحدى عجائب الدنيا، ذلك البناء

الذى شيده «شاهجهان» ليكون مثوى لزوجته «ممتاز محل» تخليدًا

ووفاءً لذكراها.

عنى أباطرة «الدولة المغولية» عناية فائقة بالحركة الفكرية بالهند،

حيث ساهموا فى إخراج كتب قيمة للناس مثل كتاب: «بابرنامه» الذى

وضعه «بابر» عن نفسه وحكمه، وأظهر هذا الكتاب إلمام «بابر»

الواسع بالتاريخ وتقويم البلدان، والعلوم العقلية والنقلية، كما أظهر

إلمامه بالآداب العربية والتركية والفارسية. وكذلك كتبت «كلبدن

بيكيم» ابنة «بابر» كتاب «همايون نامه» الذى يعد مرجعًا وثيقًا فى

تاريخ «همايون» ثانى سلاطين الإمبراطورية المغولية.

أعفى «أكبر» الهنادكة من ضريبة الرءوس، واهتم بالعلوم والآداب

والفنون، وأصدر القوانين والتشريعات الاجتماعية التى تكفل للناس

حقوقهم، وتحافظ عليهم وعلى ممتلكاتهم، ونبغ فى عصره العديد

من المؤرخين والعلماء والأدباء من المسلمين والهنادكة.

ص: 102

- المراجع:

* أدم منز: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري - القاهرة - 1940م

* بن الأثير (عز الدين): الكامل في التاريخ - تحقيق أبي الفداء عبد الله القاضي - دار الكتب العلمية - بيروت -1407 هـ - 1987م

* أحمد أمين: ضحي الإسلام - دار الكتاب العربي -بيروت - الطبعة العاشرة - بدون تاريخ

* أحمد أمين: ظهر الإسلام - مكتبة النهضة المصرية - القاهرة - 1961م

* أحمد الساداتي: تاريخ المسلمين في شبه القارة الهندية وحضارتهم - مكتبة الآداب ومطبعتها - القاهرة - 1957م

* بن بطوطة: رحلة ابن بطوطة - بيروت - دار الكتب العلمية 1413هـ - 1992م

* البيروني (أبو الريحان محمد بن أحمد): الآثار الباقية عن القرون الخالية - لينبرج - 1932م

* بن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة - دار الكتب المصرية - القاهرة

* حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي - مكتبة النهضة المصرية - القاهرة - 1973م

* بن خلدون (عبد الرحمن بن محمد): تاريخ ابن خلدون - مؤسسة جمال للطباعة - بيروت - 1979م

* بن خلكان (احمد بن محمد): وفيات الأعيان - تحقيق إحسان عباس - دار صادر - بيروت - 1398هـ = 1987م

* زامبادور: معجم الأنساب والأسرات الحاكمة في التاريخ الإسلامي - ترجمة زكي حسن وحسن أحمد محمود - مطبعة جامعة فؤاد - القاهرة 1951 و 1952م

* السيوطي (عبد الرحمن بن أبي بكر): تاريخ الخلفاء أمراء المؤمنين القائمين بأمر الله - القاهرة - 1351هـ

* عبد المنعم النمر: تاريخ الإسلام في الهند - دار العهد الجديد للطباعة - القاهرة - 1959م

* العتبي (أبو نصر محمد): تاريخ اليميني - القاهرة - 1486هـ

* بن العماد الحنبلي (أبو الفلاح بن عبد الحي): شذرات الذهب في أخبار من ذهب - القاهرة - 1350هـ

* فؤاد الصياد: الشرق الإسلامي في عهد الإلخانيين - الدوحة - 1987م

ص: 103

* القلقشندي (أحمد بن علي): صبح الأعشى في صناعة الإنشا - دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الأولي - 1987م

* كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية - بيروت - 1948م

* ابن كثير (إسماعيل بن عمر): البداية والنهاية - دار الكتب العلمية - بيروت - 1408هـ = 1988م

مراجع فارسية:

* أحمد بادكر: تاريخ سلاطين أفغان - مجموعة اليوت (5)

* عباس خان سرواني: تاريخ شير شاه - مجموعة اليوت (4)

* عبد الحميد لاهوري: بادشاهنامه - مجموعة اليوت (7)

* عبد القادر بن ملوك شاه بدواني: منتخب التواريخ -كلكتا - 1868م

* علاء الدين عطا ملك الجويني: تاريخ جهانكشاي - ليدن - 1937م

* غلام حسين سليم: رياض السلاطين أو تاريخ بنغالة - كلكتا - 1890 ، 1898م

* غياث الدين بن همام الدين الحسيني: حبيب السير في أخبار أفراد البشر - طهران - 1373هـ

* محمد قاسم هندوشاه - تاريخ فرشته - لكنو - 1323هـ

ص: 104