المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مصر والشام والجزيرة العربية - موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي - جـ ٥

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌مصر والشام والجزيرة العربية

الجزء الخامس

‌مصر والشام والجزيرة العربية

تأليف:

أ. د. عبد المقصود عبد الحميد باشا

أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة الأزهر

الفصل الأول

*مصر فى عصر الولاة

[21 - 254 هـ = 642 - 868 م] ..

أصبحت «مصر» بعد الفتح الإسلامى سنة (21هـ = 642م) ولاية تابعة

للخلافة الإسلامية فى «المدينة المنورة» ، ثم فى «دمشق» ، ومن

بعدهما «بغداد» فترة قرنين وربع القرن تقريبًا، ثم حكمها

الطولونيون فأصبحت دولة مستقلة فى الفترة من سنة (254هـ =

868م] إلى سنة [292هـ = 905م].

أشهر ولاة مصر فى ذلك العصر:

-1عمرو بن العاص:

هو فاتح «مصر» ، وأول والٍ عليها من قِبل الخليفة «عمر بن

الخطاب»، وكان واليًا عادلا، عمل على نشر الأمن والأمان فى ربوع

«مصر» ، ومنح الأقباط الحرية الدينية التى افتقدوها قبل الفتح

الإسلامى، وأعاد البطريق «بنيامين» من منفاه فى «وادى النطرون»

إلى «كنيسة الإسكندرية» ، لذلك أحبه المصريون.

قام «عمرو بن العاص» بالإصلاحات المالية والإدارية فى «مصر» ،

واعتمد فيها على الأقباط من أهلها، فنعم المصريون -جميعًا- فى

ولايته بالحرية الدينية والحياة الكريمة.

تأسيس الفسطاط:

لم يقتصر دور «عمرو بن العاص» على الإصلاحات المالية والإدارية، بل

أسس مدينة «الفسطاط» (مصر القديمة حاليا)؛ لتكون عاصمة لمصر

الإسلامية بأمر من الخليفة «عمر بن الخطاب» ، ثم أسس مسجده - الذى

لايزال يحمل اسمه حتى الآن - فى وسط تلك المدينة. وهو أول مسجد

فى قارة إفريقيا.

ومن أهم أعمال «عمرو بن العاص» حفر قناة تصل «النيل» بالبحر

الأحمر، بأمر من الخليفة «عمر بن الخطاب» ، لتسهيل السفر والتجارة

بين «مصر» والجزيرة العربية، وكان اسم هذه القناة: «خليج أمير

المؤمنين».

وقد تولى «عمرو بن العاص» ولاية «مصر» مرتين، كانت الثانية من

سنة (38هـ = 658م) حتى سنة (43هـ = 663م).

2 -

مسلمة بن مخلد الأنصارى [47 - 62هـ = 667 - 681م]:

والى «مصر» من قِبل الخليفة «معاوية بن أبى سفيان» ، وكان من

خيرة الولاة فى حسن السياسة ونشر العدل، كما كان متسامحًا مع

ص: 1

الأقباط، وسمح لهم ببناء كنيسة فى مدينة «الفسطاط» ، وقام بتجديد

مسجد «عمرو» وتوسعته، وشيد له المنارات لأول مرة.

3 -

عبدالعزيز بن مروان [65 - 86هـ = 684 - 705م]:

والى «مصر» من قِبل أبيه الخليفة «مروان بن الحكم» ، واستمر فيها

حتى زمن خلافة أخيه «عبدالملك بن مروان» ؛ لذا كانت فترة ولايته

أطول فترة فى عصر الولاة.

أوصاه أبوه حين ولاه «مصر» بوصية حكيمة، نصحه فيها بأن يحسن

إلى الناس، ويعمهم برعايته حتى يحبوه، فعمل بوصية أبيه؛ فكانت

فترة ولايته من أحسن الفترات فى حكم «مصر» ، قام خلالها بالكثير

من الإصلاحات، أبرزها إنشاء مدينة «حلوان» سنة (73هـ).

-4 صالح بن على بن عبدالله بن عباس [133هـ = 750م]:

من أشهر ولاة «مصر» فى العصر العباسى. أسس لمصر عاصمة

جديدة شمالى مدينة «الفسطاط» أسماها «مدينة العسكر» (منطقة

«السيدة زينب» الحالية)، كما أنه زاد فى «مسجد الفسطاط» زيادة

كبيرة.

ولى «مصر» مرتين، استمرت الأولى سنة واحدة، ثم وليها ثانية من

سنة (136 هـ = 753م) حتى سنة (138هـ = 755م).

-5 الفضل بن صالح بن على [169هـ = 785م]:

أحد الولاة العباسيين، أسس مسجدًا إلى جانب «دار الإدارة» بمدينة

العسكر، أصبح من المساجد الجامعة، وسمح للناس بالبناء حول

«مدينة العسكر» ، فاتصل عمرانها بمدينة «الفسطاط» .

6 -

موسى بن عيسى [171هـ= 787م]:

ولاه العباسيون إمرة «مصر» ثلاث مرات، كانت الأولى من سنة

(171هـ) حتى سنة (173هـ)، والثانية من سنة (175هـ) حتى سنة

(176هـ)، والثالثة من سنة (179هـ) حتى سنة (180هـ)، وحظى خلالها

«موسى بن عيسى» بمحبة الناس واحترامهم، لحبه للخير والعدل،

وتسامحه مع الأقباط، فقد سمح لهم ببناء الكنائس.

-7 عنبسة بن إسحاق [238 - 242هـ = 852 - 856م]:

من أشهر ولاة العصر العباسى، ومن أهم أعماله: إقامة التحصينات

فى «دمياط» و «تنِّيس» ، بعد أن تعرضت لغارات الروم، وقد اشتهر

ص: 2

«عنبسة بن إسحاق» بالورع، وإقامة العدل بين الناس.

أهم الأحداث فى عهد الولاة:

أ - انتشار الإسلام فى مصر:

من الثابت أن كثيرًا من أقباط «مصر» دخلوا الإسلام قبل استكمال

الفتح الإسلامى لها، فى الوقت الذى كان «عمرو بن العاص» فى

طريقه إلى فتحها، وزاد إقبال المصريين على الدخول فى الدين

الإسلامى نتيجة السياسة الحسنة التى انتهجها الولاة المسلمون

معهم، فشعروا بالحرية، ونعموا بالتسامح الذى أشاعه المسلمون،

وأخذ الإسلام ينتشر تدريجيا بينهم، ولم يأتِ القرن الثالث الهجرى إلا

كان غالبيتهم يدينون بالدين الإسلامى بحرية تامة، ودون أى إكراه.

ب - انتشار اللغة العربية:

بدأ انتشار اللغة العربية فى «مصر» مع بداية الفتح الإسلامى لها،

وساعد على ذلك اختلاط المسلمين العرب بأهل «مصر» والتزوج

منهم، كما كان على مَنْ اعتنق الإسلام من المصريين أن يتعلم اللغة

العربية لمعرفة تعاليم دينه الجديد، ثم كان لتعريب الدواوين فى عهد

«عبدالملك بن مروان» الأثر الكبير والفعال فى انتشار اللغة العربية

فى «مصر» ، فمن المعروف أن المسلمين قد عهدوا إلى المصريين

بالكثير من الأعمال الإدارية، كما أشركوهم فى إدارة البلاد، الأمر

الذى افتقده المصريون لفترات طويلة، وظلوا محرومين منه فى العهد

البيزنطى، فكان عليهم - حين عُرِّبت الإدارة- أن يجتهدوا فى تعلم

اللغة العربية ليحافظوا على وظائفهم ويحتفظوا بها، فتهيأت كل

الظروف لتصبح اللغة العربية لغة المصريين عربًا وأقباطًا على

السواء.

النظام الإدارى فى عهد الولاة:

وجد المسلمون بمصر - حين فتحوها - نظمًا إدارية رأوها صالحة؛ فلم

يغيروها، وتولَّوا الوظائف الرئيسية، وتركوا الوظائف الأخرى

للمصريين، فسعدوا بها، وأخلصوا للولاة المسلمين، فدل ذلك على

الوعى السياسى والإدارى لهؤلاء الولاة.

وكان الخليفة هو الذى يقوم بتعيين الخليفة أو الأمير، ويأمره بإمامة

ص: 3

المسلمين فى الصلاة إلى جانب مسئوليته السياسية والإدارية الكاملة

عن كل شئون «مصر» ، وكذلك كان على الخليفة أن يحدد الوظائف

الكبرى واختصاصاتها، فجعل لقائد الجند مسئولية الجيش والدفاع

عن البلاد، ولصاحب الشرطة حفظ الأمن الداخلى وتنفيذ الأحكام،

وأوكل توصيل المكاتبات بين الولاية وعاصمة الخلافة لصاحب البريد،

ووضع الخليفة نظام رقابة إدارية لمتابعة الوالى وكبار الموظفين فى

أعمالهم، فإذا حدثت مخالفة ما من أحدهم وصل خبرها على الفور

إلى الخليفة، فلا يتردد فى معاقبة المخالف أيا كان منصبه. أما

صاحب الخراج فأوكلت إليه مسئولية الشئون المالية، ولصاحب

الحسبة مسئولية إزالة المنكرات، ومنع أى خروج على الآداب العامة،

وعليه مراقبة الأسواق، ومنع أى غش فى الكيل والميزان، أو فى

المصنوعات والمأكولات، وغيرها. وكان على القاضى أن يحكم بين

الناس بالعدل، وأن يقضى بين المتخاصمين طبقًا لشرع الله وشريعة

الإسلام.

بعض مظاهر الحضارة فى مصر فى عصر الولاة:

1 -

العلوم الإسلامية:

كان جيش الفتح الإسلامى لمصر يضم عددًا من كبار الصحابة، وقد

استقر بعضهم بها بعد الفتح، فكانوا النواة الرئيسية للحركة العلمية

الإسلامية فيها، بما علموه للناس من تفسير وحديث وفقه ولغة .. إلخ.

وكان «عبدالله بن عمرو بن العاص» من أشهر الصحابة الذين صحبوا

جيش الفتح، ثم تلا جيلَ الصحابة جيلُ التابعين، واشتُهر منهم:

«يزيد بن أبى حبيب» ، الذى عهد إليه الخليفة «عمر بن عبدالعزيز»

(99 - 101هـ) بالفُتيا فى «مصر» ، فأقام بها، وتُوفِّى فيها سنة

(128هـ). و «عبدالله بن لهيعة» ، الذى ولى القضاء من سنة (155هـ)

حتى وفاته سنة (162هـ)، ثم خرَّجت «مدرسة الدراسات الشرعية» فى

«مصر» إمامًا من كبار الأئمة فى الفقه هو «الليث بن سعد» المتوفى

سنة (175هـ). ثم يأتى الإمام «الشافعى» - من بعدهم - لزيارة «مصر»

فيقضى فيها الشطر الأخير من حياته حتى وفاته سنة (204هـ)، تاركًا

ص: 4

خلفه جمهرة من تلاميذه، الذين عملوا على نشر مذهبه، ومنهم: «أبو

يعقوب يوسف البويطى»، و «الربيع بن سليمان الجيزى»

ومن أبرز أعلام «مدرسة الدراسات الشرعية» فى «مصر» ، «عثمان

بن سعيد» (المعروف بورش)، وهو من أصل قبطى، برز ونبغ بصفة

خاصة فى علم القراءات، وتوفى سنة (197هـ).

2 -

علوم اللغة والتاريخ:

قامت إلى جانب «مدرسة الدراسات الشرعية» فى «مصر» مدارس للغة

العربية وآدابها، وأخرى لعلم التاريخ، وكان خير من مثَّل هاتين

المدرستين: «عبد الملك بن هشام» ، صاحب كتاب «السيرة النبوية»

الشهير والمتوفى سنة (218هـ)، كما أن «ابن عبد الحكم» ، صاحب

كتاب «فتوح مصر وأخبارها» ، كان من أشهر مؤرخى «مصر» فى

ذلك الوقت، وقد تُوفِّى سنة (257هـ).

-3 العلوم الطبيعية:

قامت فى «مصر» أيضًا - إلى جانب ما سبق من مدارس - مدرسة

للعلوم الطبيعية، كالطب والكيمياء وغيرهما، ومن أشهر من اشتغلوا

بهذه العلوم:

» ابن أبجر الطيب»، والصوفى الشهير والفيلسوف والكيميائى «ذو

النون المصرى».

الإسلام فى الشام:

تم فتح الشام سنة (15هـ = 636م) تقريبًا، فأصبحت - منذ ذلك الحين -

جزءًا رئيسيا من العالم الإسلامى، وكانت الصلة بينها وبين «مصر»

قوية ووثيقة بحكم الموقع، وقد تبعت هذه الولاية - فى البداية - مقر

الخلافة مباشرة، فتولى إمرتها فى عهد الخلفاء الراشدين: «يزيد بن

أبى سفيان»، ومن بعده أخوه «معاوية» ، الذى أصبح خليفة

للمسلمين فى سنة (41هـ)، فاتخذ من «دمشق» عاصمة للخلافة،

فأصبحت الشام مركز العالم الإسلامى كله طوال العصر الأموى حتى

عام (132هـ)، وكان الخليفة نفسه هو الذى يحكم هذا الإقليم مباشرة

خلال تلك الفترة.

انتشار الإسلام واللغة العربية:

كان معظم سكان الشام - قبل الفتح الإسلامى - عربًا، ومع ذلك

قاوموا هذا الفتح فى البداية؛ لظنهم أن العرب القادمين جاءوا

ليستولوا على بلادهم وديارهم وأموالهم، كما فعل البيزنطيون من

ص: 5

قبل، ولكنهم مالبثوا أن فهموا طبيعة الإسلام، وأنه جاء ليحررهم من

الحكم البيزنطى البغيض، وأن الفاتحين لم يأتوا لاستغلالهم؛ فهم

أهلهم، وهدفهم لم يكن الاستيلاء، وإنما جاءوا لنشر الإسلام الذى

حمل لهم الخير، فرأوا العدل والحرية والمساواة التى تحلى بها الولاة

المسلمون فى حكمهم، فهرعوا إلى اعتناق الدين الجديد بمحض

إرادتهم، ومن أراد منهم البقاء على دينه -يهوديا كان أو نصرانيا-

كانت له الحرية فى ذلك دون إكراه، والدليل على ذلك بقاء عدد كبير

من المسيحيين بالشام حتى الآن.

وكانت جيوش الفتح الإسلامى تضم عددًا كبيرًا من الصحابة؛ الذين

قاموا بتعليم المسلمين الجدد تعاليم دينهم، كما أرسل الخليفة «عمر

بن الخطاب» عددًا آخر من كبار الصحابة إلى الشام للإقامة فيها،

لتفقيه الناس بأمور دينهم، ومن أبرز هؤلاء الصحابة الذين أسسوا

مدرسة الدراسات الشرعية فى الشام: «معاذ بن جبل» ، و «أبو

الدرداء»، وقد ازدهرت ازدهارًا كبيرًا فى العصر الأموى، وكان من

أنجب رجالها: الإمام «الأوزاعى» المتوفَّى سنة (157هـ).

أما بالنسبة إلى اللغة العربية، فلم تكن هناك مشكلة؛ لأنها كانت لغة

السكان - أو معظمهم - قبل الفتح، ومع ذلك كانت اللغة اليونانية هى

اللغة الإدارية - فى البداية - ثم ما لبث أن تحولت إلى اللغة العربية.

ص: 6

الفصل الثاني

*الدولة الطولونية فى مصر والشام

[254 - 292 هـ = 868 - 905 م].

تنسب هذه الدولة إلى مؤسسها «طولون» ، الذى ينحدر من أسرة

كان موطنها «بخارى» ببلاد «التركستان» ، وفى سنة (200هـ) وصل

«طولون» إلى «بغداد» إبان خلافة «المأمون» (198 - 218هـ)،

فأهدى بعض الرجال إلى الخليفة «المأمون» ، الذى رأى فيه اتزانًا

فى الفكر وبسطة فى الجسم، فجعله رئيسًا لحرسه الخاص، فعلا نجم

طولون فى الدولة، ومهَّد لنفسه ولأسرته طريق السيادة والسلطة

فيها.

أمراء الدولة الطولونية:

أحمد بن طولون [254 - 272هـ = 868 - 885م].

وُلد «أحمد بن طولون» سنة (220هـ = 835م)، وعُنى أبوه بتربيته

عناية كبيرة، فعلَّمه الفنون العسكرية، وعلوم اللغة والدين، وتردد

على العلماء، وأخذ من معارفهم، وروى عنهم الأحاديث، فأصبح

موضع ثقة الخلفاء العباسيين لشجاعته وعلمه، وعمل تحت رعايتهم

فى خلافة «المتوكل» (242 - 247هـ)، و «المستعين» (248 - 252هـ)،

و «المعتز» (252 - 255هـ)، و «المعتمد» (256 - 279هـ).

فلما مات «طولون» سنة (240هـ) عهد «المتوكل» إلى «أحمد بن

طولون» بما كان يتولاه أبوه من الأعمال، فأظهر كفاءة عالية،

وهمة نادرة، كما احتل مكانة بارزة فى قلوب رجال البلاط العباسى

حين حاولت جماعة من اللصوص الاستيلاء على قافلة كانت متجهة من

«طرسوس» إلى «سامراء» تحت قيادته، فتصدى لهم «ابن طولون» ،

وأظهر كفاءة عسكرية فريدة، وتمكن من القضاء على هؤلاء

اللصوص، ونجا بقافلته، وعندما علم الخليفة بذلك ازداد إعجابًا به

وتقديرًا له.

أحمد بن طولون فى مصر 254 272 هـ:

كان من عادة الخلفاء أن يعينوا ولاة للأقاليم الخاضعة لسلطانهم،

وكان هؤلاء الولاة يعينون من ينوب عنهم فى حكم هذه الولايات؛

رغبة منهم فى البقاء بالعاصمة؛ أملا فى الحصول على منصب أعلى

وخوفًا من المؤامرات.

وكانت «مصر» - آنذاك - تحت ولاية القائد التركى «باكباك» الذى

ص: 7

أناب «أحمد بن طولون» عنه فى حكم «مصر» ، لما رآه من شجاعته

وإقدامه، وأمده بجيش كبير دخل به «أحمد بن طولون» «مصر» فى

(23 من رمضان سنة 254هـ). فلما تُوفى «باكباك» تولى مكانه القائد

التركى «بارجوخ» ، فعهد إلى «أحمد بن طولون» بولاية «مصر»

كلها، فلما آل الأمر إلى «ابن طولون» فى حكم «مصر» واجهته

المصاعب والعقبات، وأشعل أصحاب المصالح فى «مصر» الثورات

حتى لا يتمكن «ابن طولون» من تنفيذ إصلاحاته التى عزم عليها،

ولكن «ابن طولون» تمكن من القضاء على كل العقبات والصعوبات

واحدة تلو الأخرى بكياسة وحزم، كما أخمد الثورات فى كل مكان،

ولم يكد يفعل ذلك حتى أعلن «أحمد بن المدبر» عامل الخراج على

«مصر» عن حقده على ابن طولون، وعمل على الوقيعة بينه وبين

الخليفة، ولكن «أحمد بن طولون» تمكن من كشف ذلك التدبير، وكتب

إلى الخليفة يطلب منه عزل عامل الخراج «ابن المدبر» وتعيين «محمد

بن هلال» مكانه، فوافق الخليفة على ذلك لثقته بابن طولون، وأمر

بعزل «ابن المدبر» ، الذى رفض تسليم ما تحت يديه لمحمد بن هلال

عامل الخراج الجديد، فقبض عليه «أحمد بن طولون» وحبسه، وتخلص

بذلك من منافس قوى هدد كيان البلاد.

أحمد بن طولون والى الشام والجزيرة:

كان بالشام - بعد تولية «أحمد ابن طولون» «مصر» - ولاة يتبعون

الخلافة العباسية، ولكن اعتداءات البيزنطيين المتكررة على حدود

المسلمين بالشام جعلت الخليفة «المعتمد» يقوم بتكليف «أحمد بن

طولون» بالسير لمحاربة البيزنطيين سنة (264هـ) فنفذ «ابن طولون»

الأمر، وانتصر على البيزنطيين، ومد سلطانه حتى «طرسوس» و «نهر

الفرات» و «دمشق» ، فأقره الخليفة العباسى على حكم «مصر»

والشام والجزيرة العربية ومناطق الثغور، فظل مسيطرًا عليها

بشخصيته القوية ورجاحة عقله حتى وفاته سنة (272هـ).

خمارويه بن أحمد بن طولون [272 - 282هـ = 885 - 895م].

بعد وفاة «أحمد بن طولون» خلفه ابنه «خمارويه» ، فعمل على تذليل

ص: 8

العقبات التى واجهته كى تتوطد أركان دولته، وزوج ابنته «أسماء»

المعروفة بقطر الندى من الخليفة العباسى «المعتضد» ، وقام

«خمارويه» بتجهيز ابنته، وغالى فى ذلك، مما أدى إلى إفلاس مالية

البلاد. وظل واليًا على «مصر» والشام والجزيرة حتى وفاته سنة

(282هـ).

أولاد خمارويه وسقوط الدولة الطولونية:

بعد وفاة «خمارويه» سنة (282هـ)، بدأت الدولة الطولونية فى

الانحلال، فتولَّى زمامها طائفة من أفراد البيت الطولونى، وكانت

تنقصهم الحنكة السياسية، وهم:

«أبو العساكر جيش بن خمارويه» (282 - 284هـ)، الذى خلعه الجند،

فتولَّى من بعده أخوه «أبو موسى هارون بن خمارويه» (284 -

292هـ)، وهو فى الرابعة عشرة من عمره، فازدادت البلاد ضعفًا

حتى مات، فتولى بعده عمه «شيبان» ، إلا أن الجند رفضوا تعيينه،

وكان ذلك إيذانًا بزوال الدولة الطولونية، وعودة «مصر» والشام

والجزيرة إلى ولايات تابعة مباشرة للخلفاء العباسيين، بعد أن

استقلت منذ عهد «أحمد بن طلون» .

علاقة مصر والشام بالخلافة العباسية فى عهد أحمد بن طولون:

كان خليفة المسلمين - إبان حكم «أحمد بن طولون» - هو الخليفة

«المعتمد» ، ثم جاء من بعده أخوه «الموفق» الذى استطاع أن

يسيطر على الجيش، ويستبد بالسلطة فى خلافة أخيه «المعتمد» .

وكانت علاقة «أحمد بن طولون» بالخليفة «المعتمد» طيبة وقوية

لدرجة أن الخليفة فكر فى نقل مقر الخلافة إلى «مصر» ليتمتع فيها

بقوة «أحمد بن طولون» وحمايته له، إلا أن «الموفق» علم بنية أخيه

فأعاده إلى «سامراء» ، وكان لهذا الموقف أثره السيىء على علاقة

«الموفق» بأحمد بن طولون، وأضمر له العداوة، ثم ما لبث أن أعلن

عنها حين أرسل إلى «ابن طولون» يطلب منه أموالا كثيرة، فلم

يرسل إليه سوى مبلغ صغير، فأثار ذلك حفيظته وخرج لمحاربة «ابن

طولون»، ولكن هذه الحروب لم تدم طويلا، ولم تسفر عن شىء،

ولكن العلاقات بين «مصر» والشام والخلافة العباسية ظلت سيئة،

ص: 9

وظل الأمر على ذلك حتى تولَّى «خمارويه» ، وعمل على إزالة أسباب

الخلاف، وزوج ابنته من الخليفة «المعتمد» ، وعقد صلحًا مع

«الموفق» ، فكان هذا الزواج سببًا من أسباب زوال العداء بين

الطولونيين والعباسيين، كذلك يدلنا هذا الزواج على حرص الخلافة

العباسية على كسب ود مصر والشام، لما تمثلانه من قوة.

مظاهر الحضارة فى الدولة الطولونية:

كان «أحمد بن طولون» مثلا عاليًا للحاكم العادل والوالى المصلح،

وكان عهده عهد سلام شامل، ورخاء تام، وفنون وآداب عالية

المستوى، وخلَّف «ابن طولون» آثارًا رائعة بقى منها جامعه الذى

مازال معروفًا باسمه حتى الآن.

ومن مظاهر الحضارة فى عهد الدولة الطولونية:

أ - إنشاء القطائع:

أقام «أحمد بن طولون» عاصمة خاصة به شمالى مدينة «الفسطاط» ،

وبناها على نظام مدينة «سامراء» عاصمة الخلافة العباسية، وبنى

بها مستشفى عظيمًا، وقسم المدينة وجعل لكل من كبار رجاله

وقواده وغلمانه قطيعة خاصة به، وكذلك فعل مع أرباب الحرف

والصناعات والتجار، فسُميت المدينة «بالقطائع» ؛ وهى ثالث عواصم

«مصر» بعد «الفسطاط» و «العسكر» .

ب - جامع ابن طولون:

هو أحد مآثر الدولة الطولونية، فلايزال شاهد صدق على عظمة هذه

الدولة، ويقع بجهة «الصليبة» و «قلعة الكبش» ، ويُعد أقدم بناء

إسلامى بقى على أصله حتى اليوم، والناظر إليه يرى مدى ما وصلت

إليه الفنون والعمارة الإسلامية من ازدهار، وتُعدُّ مئذنته من أقدم

المآذن التى لاتزال قائمة حتى اليوم.

ج - الجانب الاقتصادى:

بلغت عناية الطولونيين بالناحية الاقتصادية مبلغًا عظيمًا، ليضمنوا

لبلادهم الرخاء والاستقلال، خاصة بعد اتساع رقعة دولتهم وانضمام

الشام إلى «مصر» تحت إمرتهم، فشجعوا الصناعات وعملوا على

ازدهارها، كصناعة النسيج التى كانت أهم الصناعات فى هذا

العهد، وأقاموا مصانع للأسلحة، وتقدمت صناعة ورق البردى

وصناعة الصابون والسكر والخزف فى عهدهم، وظلت التجارة رائجة،

ص: 10

ونشطت فى «مصر» و «الشام» وذلك لموقعهما الفريد المتحكم فى

طرق التجارة، فأصبحتا حلقة اتصال بين تجارة الشرق والغرب، إلى

جانب ما كانتا تحصِّلانه من ضرائب جمركية على البضائع التى تمر

بهما.

كما اهتم الطولونيون بالزراعة، واعتنوا بتطهير «نهر النيل» ،

وأقاموا الجسور، وشقوا الترع، وشجع «أحمد بن طولون» الفلاحين

على امتلاك الأراضى، وخصص لذلك ديوانًا أسماه:«ديوان الأملاك» ،

كما قلل من الضرائب، وأصلح «مقياس الروضة» ، وأنشأ القناطر،

وحفر الآبار فى الصحراء حين علم بما يعانيه الناس فى هذه المناطق

فى الحصول على الماء، فتقدمت الزراعة فى عهده ونشطت، كما

تقدمت الصناعة والتجارة، وبلغت مالية «مصر» و «الشام» فى عهده

مبلغًا عظيمًا، فكثرت الإنشاءات العظيمة، مثل «الحصن المنيع» الذى

بناه «أحمد بن طولون» ، ليكون مأوى له إذا ما حاق به خطر، وقد

تكلفت هذه المشروعات العظيمة أموالا طائلة، تدل على تحسن

الأحوال المالية والاقتصادية فى هذا العهد، وعاش الناس فى رخاء

وسعة.

د - الناحية الاجتماعية:

يبدو أن الأتراك قد حظوا بمكانة عظيمة فى عهد الطولونيين،

وشاركهم فى ذلك طبقة الأشراف؛ التى نالت احترام الشعب والأمراء،

وإلى جانبهم كانت تعيش طبقة الأغنياء من كبار التجار وكبار الملاك.

أما عامة الشعب فقد تحسنت أحوالهم نتيجة استقرار الأوضاع،

واهتمام الحاكم بشئونهم، وحرصه على إقامة العدل بينهم؛ لدرجة أن

«أحمد ابن طولون» تولَّى القضاء بنفسه فى فترة من الفترات،

وعامل أهل الذمة معاملة كريمة طيبة، جعلتهم يقبلون على أعمالهم

بشغف واطمئنان. واهتم الطولونيون بإحياء الأعياد الإسلامية كعيدى

«الفطر» و «الأضحى» ، كما اهتموا أيضًا بإحياء الأعياد المسيحية

كعيد الميلاد، وكانت ألعاب الفروسية التى أولاها الطولونيون

عنايتهم من أهم مظاهر الترفيه فى هذه الأعياد.

حكمت الدولة الطولونية زهاء ثمانٍ وثلاثين سنة، انتعشت فيها البلاد،

ص: 11

واستردت قوتها وعظمتها، وراجت التجارة ونشطت الزراعة

والصناعة، وقوى الجيش وأُنشئ له أسطول بحرى، فأصبحت الدولة

الطولونية إمبراطورية تمتد من «العراق» إلى بلاد «برقة» بما فى ذلك

«آسيا الصغرى» و «الشام» و «فلسطين» ، وكان عهد هذه الدولة عهد

نهوض بفنون العمارة والزخرفة والنقش، كما كان عهد سلام ورخاء

وعناية بالمرضى والضعفاء، وفيه نال العلم والعلماء تشجيعًا جعل

«المقريزى» يذكر فى خططه عن القاضى «أبى عمرو النابلسى» ،

أنه رأى كتابًا لا يقل فى حجمه عن اثنتى عشرة كراسة، يحوى

فهرست شعراء «أحمد بن طولون» ، فإذا كانت أسماء الشعراء فى

اثنتى عشرة كراسة، فكم يكون شعرهم؟. فلا عجب إذن إذا رثى

الشعراء - بعد ذلك - هذه الأسرة، وتذكروا أيامها بالحزن والألم

والحسرة، فيكفيها فخرًا أنها الواضعة لأساس مدنيات الأسر التى

تلتها فى حكم «مصر» ، خاصة المماليك والفاطميين.

النظام الإدارى فى عهد الطولونيين:

قُسِّمت «مصر» فى عهد الدولة الطولونية إلى كور، كان على رأس

كل منها حاكم يُسمَّى: «صاحب الكورة» - هو بمثابة المدير حاليا -

وتعهد إليه إمامة الناس فى الصلاة بالمساجد الرئيسية التى توجد فى

عاصمة مديريته.

وكانت «مصر» تنقسم إلى ثلاثة أقسام هى: «مصر العليا» ، و «مصر

الوسطى»، و «مصر السفلى» ، وكثيرًا ما قام «ابن طولون» ومن بعده

ابنه «خمارويه» بالتفتيش على تلك الأقسام الإدارية المختلفة

بنفسيهما؛ لاستطلاع أحوال الأمن فيها، والاطمئنان على أمور

الرعية، ولحث الحكام على العناية بأقاليمهم، وتنفيذ سياسة الدولة

التى تهدف إلى رعاية المصالح العامة للرعية.

الشرطة:

وكان نظام الشرطة فى الدولة الطولونية ينقسم إلى قسمين، أولهما:

«الشرطة الفوقانية» ، والثانى:«الشرطة السفلانية» ، أو «الشرطة

العليا»، و «الشرطة السفلى» ، ولم تقتصر سلطة صاحب الشرطة على

تنفيذ الأوامر، والمحافظة على النظام؛ بل كانت له اختصاصات

ص: 12

قضائية، وكان يُعيَّن من قِبل الوالى، ويكون مقره عاصمة الولاية:

وانحصرت اختصاصات «الشرطة العليا» فى النظر فى أحوال الطبقة

العليا من القادة والعلماء والعظماء، أما «الشرطة السفلى» فكانت

تختص بإقامة العدل، وتوطيد الأمن بين عامة الناس، ولذلك تحقق

العدل فى عهد الطولونيين.

البريد:

كان لابن طولون صاحب بريد يتخذ له مساعدين يمثلونه فى مختلف

كور «مصر» ، وكانت مهمة صاحب البريد الرئيسية أن يدرس من كثب

أحوال الأقاليم، ثم يقدم بها التقارير إلى الوالى؛ ليتعرف كل ما

يحدث فى البلاد.

واتخذ «ابن طولون» كاتبًا للإنشاء والمراسلات، فكانت مهمته تحرير

الكتب التى يرسلها الوالى إلى غيره من الملوك والأمراء، وما يترتب

على ذلك من رسائل يتبادلونها فيما بينهم. وإلى جانب وظيفة كاتب

الإنشاء كانت توجد وظيفة كاتب السر - بمثابة السكرتير الخاص -

ومهمته تدوين كل ما يجرى فى حضرة الأمير فى محضر الجلسة،

سواء كان الحضور من الوفود أو من كبار العلماء، أو من أصحاب

الظلامات الذين حظوا بعرضها على الأمير؛ فكانت هذه الوظيفة تتطلَّب

السرعة مع الدقة التامة، والهمة والنشاط واليقظة.

الحاجب:

أنشىء نظام الحجابة على عهد البلاط الطولونى - وهى وظيفة مهمة

تشبه وظيفة كبير الأمناء الآن- وكان الكثيرون يحملون هذا اللقب فى

بلاط «ابن طولون» ، ولم يتولَّ أحدهم منصب كبير الحجاب إلا فى عهد

«هارون ابن خمارويه» ؛ حيث تولى هذه المكانة «نسيم الخادم» فى

عهد «أحمد بن طولون» ، وإن لم يُلقَّب به رسميا، واعتمد عليه «ابن

طولون» فى مهامه مع البلاط العباسى، فكان «نسيم الخادم» يقوم

بها على خير وجه.

مصر والشام بعد الدولة الطولونية:

عادت «مصر» والشام ولايتين تابعتين للخلافة العباسية بعد انتهاء

الدولة الطولونية، وظلتا كذلك إحدى وثلاثين سنة، حتى قامت دولة

الإخشيديين، فاستقلت بهما من جديد، وتولَّى «مصر» خلال هذه

ص: 13

الفترة «محمد بن سليمان» ، وبقى عليها أربعة أشهر، ثم خلفه عليها

«عيسى النوشرى» ((292 - 297، ومن بعده «أبو منصور تكين»

(297 - 302هـ)، وظلت «مصر» دون تطور ملموس فى الفترة ما بين

حكم الطولونيين، وحكم الإخشيديين الذين ما إن تولوا حكم «مصر»

والشام حتى دخلت البلاد فى دور جديد من أدوار التقدم والعمران.

وفى عهد «أبى منصور تكين» والى «مصر» حدث أول احتكاك

حربى بين «مصر» و «المغرب» ، وتوالت بعد ذلك حملات الفاطميين

على «مصر» .

ص: 14

الفصل الثالث

*الدولة الإخشيدية

[323 - 358 هـ = 935 - 969 م].

الولاة الإخشيديون:

1 -

«أبو بكر محمد بن طغج الإخشيدى» [323 - 334هـ = 935 -

946م].

2 -

«أبو القاسم أنوجور بن الإخشيد» [334 - 349هـ = 946 - 960م].

3 -

«أبو الحسن على بن الإخشيد» [349 - 355 هـ = 960 - 966م].

4 -

«أبو المسك كافور الإخشيدى» [355 - 357هـ = 966 - 968م].

5 -

«أبو الفوارس أحمد بن على» [357 - 358 هـ = 968 - 969م].

وجميع هؤلاء الولاة من الأسرة الإخشيدية، ماعدا «كافوراً» الذى

انتسب إليهم.

1 -

«محمد بن طغج الإخشيد» [323 - 334هـ]:

هو «محمد بن أبى بكر بن طغج (معناها فى التركية: عبدالرحمن) بن

جق»، أحد أبناء ملوك «فرغانة» ببلاد «ما وراء النهر» ، وكان

الملوك فى هذه البلاد يتخذون من لفظة «الإخشيد» لقبًا لهم، فأطلق

هذا اللقب على «محمد بن طغج» ، وتسمت به دولته، وعُرفَت باسم

«الدولة الإخشيدية» .

اتصل «جق» جد «الإخشيد» بالخلفاء العباسيين، أما «طغج» والده؛

فقد كان على درجة عظيمة من الثراء وسعة العيش، واتصل بخدمة

الطولونيين فى عهد «خمارويه» ؛ الذى ولاه على «دمشق»

و «طبرية» ، فلما سقطت الدولة الطولونية، تولَّى «محمد ابن طغج»

ولاية «دمشق» ، ثم أُضيفت إليه ولاية «مصر» ، ولكنه أناب عنه من

يحكمها، ولم يغادر «دمشق» ، ولكن محاولات الفاطميين للسيطرة

على «مصر» جعلت الخليفة العباسى «الراضى» يطلب من «ابن طغج»

أن يقوم بنفسه على حكم «مصر» والشام، حتى يُوقِف الزحف

الفاطمى، ويعيد الاستقرار والأمان إلى الولايتين.

الإخشيد فى مصر:

جاء «محمد بن طغج» سنة (323هـ)، وبدأ يؤسس دعائم دولته الكبرى

بها، وضُمت إلىه «الحجاز» - التى ظلت مرتبطة بمصر عدة قرون بعد

ذلك - كما حصل من الخليفة سنة (323هـ) على حق توريث حكم البلاد

التى تحت يده لأسرته من بعده، فأصبحت هذه الولايات فى عداد

الدول المستقلة.

بذل «محمد بن طغج» جهودًا كبيرة فى إعادة الاستقرار والأمان إلى

ص: 15

بلاده، واستطاع بكفاءته وذكائه أن يتغلب على العواقب التى

صادفته كافة، وأخذت «مصر» والشام و «الحجاز» تستعيد مكانتها

ثانية، بعد أن استطاع «ابن طغج» رد الفاطميين وإيقاف زحفهم على

«مصر» ، فحاول الفاطميون استمالته إلى جانبهم، ولكنه رفض، وظل

وفيا للخلافة العباسية، واستطاع فى مدة قصيرة أن يبسط سلطانه

على «مصر» والشام، وأعاد إليهما النظام، وعرف كيف يسوس الناس

فيهما، فعاش حياته عزيزًا كريمًا. فلما شعر بدنو أجله عهد إلى ابنه

«أبى القاسم أنوجور» بالحكم من بعده، وجعل «كافورًا» وصيا عليه

لأن «أنوجور» كان فى ذلك الوقت صغيرًا، ومات الإخشيد بدمشق

سنة (334هـ = 946م).

كافور وأولاد الإخشيد:

[334 - 357هـ = 946 - 968م]:.

كافور:

وُلد «كافور» بين سنتى (291 و308هـ) فلم تُحدَّد سنة ولادته تحديدًا

دقيقًا - وكانت كنيته «أبا المسك» ، وبدأ حياته مملوكًا بسيطًا،

اشتراه «محمد بن طغج» من رجل يُدعَى «محمود بن وهب» ، وتوسَّم

فيه «الإخشيد» الذكاء، فاحتفظ به ورباه فى بيته تربية عالية، فلما

رآه يتقدم ازداد إعجابه به واختصه من بين عبيده وأولاه ثقته

وأعتقه، وأخذ يرقيه فى بلاطه حتى جعله من كبار قواده؛ لما يتمتع

به من ذكاء وصفات طيبة، وبعثه قائدًا أعلى على رأس جيوشه

لمحاربة أعداء الدولة، وعهد إليه بتربية ولديه «أبى القاسم أنوجور»

و «أبى الحسن على» ، كما عهد إليه بأن يكون وصيا عليهما فى

الحكم من بعده.

وصاية كافور على أنوجور وأبى الحسن:

عندما تولَّى «أنوجور» حكم «مصر» سنة (334هـ) كان لايزال طفلا

صغيرًا لا يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، فقام «كافور» بتدبير

أموره وأمور الدولة، وبقيت علاقتهما - كما كانت - علاقة الأستاذ

بتلميذه، وأصبح «كافور» صاحب السلطان المطلق فى إدارة الدولة

الإخشيدية، واستطاع التغلب على المشاكل التى قابلت الدولة فى

مستهل ولاية «أنوجور» ، وتمكن من القبض على زمام الأمور بيده،

ص: 16

وخاطبه الناس بالأستاذ، وذُكِرَ اسمه فى الخطبة، ودُعى له على

المنابر فى «مصر» والبلاد التابعة لها، كما عامل رؤساء الجند وكبار

الموظفين معاملة حسنة، فاكتسب محبتهم واحترامهم، فلما كبر

«أنوجور» شعر بحرمانه من سلطته، فظهرت الوحشة بينه وبين

أستاذه «كافور» ، وحاول البعض أن يوقع بينهما، وطلبوا من

«أنوجور» أن يقوم بمحاربة «كافور» ، فلما علمت أم «أنوجور» بذلك

خافت عليه، وعملت على الصلح بينه وبين «كافور» ، وما لبث

«أنوجور» أن مات سنة (349هـ).

ولاية كافور على مصر [355 - 357هـ].

كان ولى عهد «أنوجور» فى الحكم ولدًا صغيرًا هو «أحمد بن أبى

الحسن على»، فحال «كافور» دون توليته بحجة صغر سنه،

واستصدر كتابًا من الخليفة العباسى يقره فيه على توليته «مصر»

سنة (355هـ) بدلا من هذا الطفل الصغير، فتولى «كافور» «مصر» وما

يليها من البلاد ولم يغير لقبه «الأستاذ» ، ودُعِى له على المنابر بعد

الخليفة.

ويصفه المؤرخ «أبو المحاسن» بقوله: «كان كافور يُدنى الشعراء

ويجيزهم، وكانت تُقرأ عنده فى كل ليلة السير، وأخبار الدولة

الأموية والعباسية، وله ندماء، وكان عظيم الحرمة، وله حُجَّاب، وله

جوارٍ مغنيات، وله من الغلمان الروم ما يتجاوز الوصف، وقد زاد ملكه

على ملك مولاه «الإخشيد» ، وكان كثير الخلع والهبات، خبيرًا

بالسياسة، فطنًا ذكيا، جيد العقل».

مات كافور سنة (357هـ)، فاختار الجند - بعد وفاته - «أبا الفوارس

أحمد بن على بن الإخشيد» واليًا على «مصر» وما حولها، وكان طفلا

لم يبلغ الحادية عشرة من العمر، فلم تستقر البلاد فى عهده حتى

دخلها الفاطميون سنة (358هـ).

علاقة الدولة الإخشيدية بالخلافة العباسية:

كانت علاقة «الإخشيد» بمركز الخلافة العباسية علاقة طيبة فى

بادئ الأمر، إلا أن «ابن رائق» أمير الأمراء كانت له الغلبة فى مركز

الخلافة، وحنق على «الإخشيد» ، وحاول أن يستولى منه على

ص: 17

«مصر» والشام، ولكن صلحًا تم بينهما أمام الخليفة الذى أقر

«الإخشيد» على ما تحت يديه من ولايات، وكان الخليفة «المتقى»

على صلة طيبة بالإخشيد، وعزم على نقل مقر الخلافة إلى «مصر» ،

للتخلص من نفوذ الأتراك، ولكن ذلك لم يتحقق، فعمل الخليفة

العباسى على تقوية جانب «الإخشيد» ماديا وأدبيا، ليلجأ إليه عند

الحاجة، ومد سلطانه وولاه «مكة» و «المدينة» إلى جانب «مصر»

والشام، كما جعل هذه الولاية له ولأولاده من بعده مدة ثلاثين عامًا.

أما علاقة «كافور» بالخلافة العباسية فكانت علاقة وئام ووداد،

واتضحت هذه العلاقة حين سار «كافور» بابنى «الإخشيد» :

«أنوجور» و «على» إلى «بغداد» ؛ لتجديد ولاء الإخشيديين للخلافة

العباسية، غير أن «كافور» سمح -فى عهده - لدعاة الفاطميين

بدخول «مصر» والدعوة لمذهبهم فيها، فهيأ بذلك الظروف لدخول

الفاطميين «مصر» سنة (358هـ).

الجوانب الحضارية للعهد الإخشيدى:

كان الاتجاه الحضارى فى العهد الإخشيدى شديد الشبه بالاتجاه

الحضارى فى العصر الطولونى؛ لقرب الصلة الزمنية بين العهدين،

وتميزت حضارة الإخشيديين بزيادة العمران بالفسطاط ومدِّ ضواحيها،

وتشييد القصور وإقامة البساتين الجميلة، كما كان «ضرب السَّكَّة»

من مظاهر الاستقلال فى العهد الإخشيدى، فقد ضربوا السكة وجعلوا

عليها أسماء الإخشيديين إلى جانب الخليفة، وفى عهدهم ظهر

منصب «الوزارة» رسميا، لأول مرة فى «مصر» منذ الفتح الإسلامى

لها، وكان «أبو الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات» أول من تولى هذا

المنصب حتى وفاته سنة (327هـ)، ثم من بعده ابنه «جعفر» ، الذى

ظل يشغل هذا المنصب حتى نهاية الدولة الإخشيدية، وكذلك كان

منصب «الحاجب» من المناصب التى ظهرت أهميتها فى البلاط

الإخشيدى، وقد أولى الإخشيديون القضاء عنايتهم، وكان من أشهر

قضاتهم: «محمد ابن بدر الصيرفى» و «الحسين بن أبى زرعة

الدمشقى»، وكان «عمر ابن الحسن الهاشمى» من أشهر القضاة فى

ص: 18

عهد «كافور» ، وكذلك «أبو طاهر الزهلى» الذى ظل على قضاء

«مصر» حتى دخلها الفاطميون.

لعل من أبرز مآثر «الإخشيد» أنه كان يجلس للنظر فى المظالم يوم

الأربعاء من كل أسبوع، وحذا «كافور» حذوه فى ذلك، كما أن

«الإخشيد» كان ذا عزيمة، فقد أعد جيشًا قويا بلغ أربعمائة جندى

فيما عدا حرسه الخاص، فنعمت البلاد بالرخاء والثراء خلال هذا العهد

الذى لم يبخل فيه «الإخشيد» بأى مال أو معونة، وأنعم على الفقراء

وقدم لهم المساعدات، ومضى «كافور» على نفس الدرب، ويُروَى عنه

أنه كان يعمل على إسعاد الفقراء وخاصة فى الأعياد، وكان يخرج

من ماله يوم عيد الأضحى حمل بغل ذهبًا، وكشوفًا بأسماء

المحتاجين، وينيب عنه من يمر عليهم ويعطى كلا منهم نصيبه.

العلم:

كان للعلم والأدب دولة ذات شأن فى بلاط الإخشيديين، ونبغ فى

عهدهم عدد كبير من العلماء منهم: «أبو إسحاق المروزى» المتوفَّى

سنة (340هـ) أحد الأئمة المعروفين بسعة معارفهم وكثرة مؤلفاتهم،

و «على بن عبدالله المعافرى» قاضى «الإسكندرية» المتوفى سنة

(339هـ)، ومن المحدثين:«الحسن بن رشيق المصرى» المتوفَّى سنة

(370هـ) ومن النحاة: «أحمد بن محمد بن الوليد التميمى المصرى» ،

ومن المؤرخين: «أبو عمرو الكندى» ، ومن الشعراء:«المتنبى» ،

وغيره كثيرون، وكان لهؤلاء العلماء أثر كبير فى الحياة الحضارية

والعلمية فى «مصر» ، فقد عملوا على شرح علومهم وتبسيطها

للناس، فزاد عدد المتعلمين، وارتفع مستوى التفكير والفهم لدى

الناس خلال هذه الفترة من حكم الإخشيديين.

الإصلاحات:

اهتم الإخشيديون بالبناء والإصلاح، ولكن معظم ما أقاموه قد زال،

ولم يبق منه سوى الاسم فقط.

قام «الإخشيد» بالكثير من مشروعات الإصلاح، فتحسنت أحوال البلاد

الاقتصادية، ونهضت نهضة قوية أدهشت المؤرخ الشهير «أبا الحسن

على المسعودى»، الذى زار «مصر» فى عهد «الإخشيد» ، وأُعجب

بما أقامه «الإخشيد» ، ووصف نظام الرى، وجبر الخليج، وقطع

ص: 19

السدود، وليلة الغطاس فى ذلك العصر، الذى نعمت فيه البلاد بالأمن

والأمان فى ظل قيادة قوية، تخاف عليها وتحميها، يدعمها جيش

قوى وأسطول حديث، فتقدمت البلاد خطوات واسعة فى مجالات

الحضارة.

- الإدارة فى العهد الإخشيدى:

الوزير:

يُعدُّ الوزير هو الرئيس الأعلى للسلطة الإدارية فى نظام الخلافة، ولم

يظهر هذا المنصب فى «مصر» زمن الخلفاء الراشدين والأمويين، حيث

اكتفى هؤلاء بإرسال ولاة الأقاليم لإدارة شئونها.

عُرفت الوزارة فى «مصر» -لأول مرة - فى عهد الإخشيديين، وأبرز

من تقلد هذا المنصب - آنذاك - هو «أبو الفتح الفضل بن جعفر بن

الفرات»، ولم يكن تعيينه بهذا المنصب من قِبل «الإخشيد» ، وإنما جاء

من الخليفة العباسى «الراضى» الذى منحه سلطات واسعة، فكان

لهذا الوزير أثر كبير فى مجرى الحوادث فى «مصر» فى العصر

الإخشيدى، وارتبط بالإخشيد وصاهره، وكانت العلاقة بينهما قائمة

على أساس وطيد من المودة والمحبة، لدرجة أن «الإخشيد» كان

يخرج فى وداعه إذا ما غادر البلاد، واستقباله إذا ما عاد إليها،

ومات الفضل فى «الرملة» بالشام سنة (327هـ)، فحزن عليه

«الإخشيد» حزنًا بالغًا، وتأثر الخليفة «الراضى» تأثرًا عميقًا بوفاته.

ويُعدُّ ظهور منصب الوزير فى عهد الإخشيديين تطورًا يُحسَب لهم فى

نظام الإدارة، فكان الوزير يحضر مجلس «الإخشيد» الذى يعقَده يوم

الأربعاء من كل أسبوع للرد على المظالم والشكايات، وكذلك كان

يحضره القضاة والفقهاء والشهود وأعيان البلاد، وظل هذا المجلس

يُعقد فى عهد «كافور» الذى كان يمضى على درب «محمد بن طغج

الإخشيد».

ص: 20

الفصل الرابع

*الدولة الفاطمية

(358 هـ - 567 هـ).

الخلفاء الفاطميون:

1 -

عبيد الله المهدى.

2 -

القائم.

3 -

المنصور.

4 -

المعز.

5 -

العزيز.

6 -

الحاكم.

7 -

الظاهر.

8 -

المستنصر.

9 -

المستعلى.

10 -

الآمر.

11 -

الحافظ.

12 -

الظافر.

13 -

الفائز.

14 -

العاضد.

أصل الشيعة الفاطمية:

قامت الدولة الفاطمية على المذهب الإسماعيلى الشيعى القائل بالنص

والتعيين، ويقصرون خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم الروحية

والزمنية على ذرية الإمام «على» - رضى الله عنه - مستندين فى ذلك

إلى حديث «غديرخم» الشهير، وقد لجأت الإسماعيلية بعد وفاة

إمامهم «إسماعيل بن جعفر» إلى الاختفاء والعمل السرى، فقد

افترق أشياع «جعفر الصادق» بعد وفاته إلى فرقتين، ولت الأولى

ابنه «موسى الكاظم» إمامًا، وولت الثانية ابنه «إسماعيل» إمامًا،

فعُرِفَت الفرقة الأولى بالإمامية أو الاثنا عشرية؛ لأنها سلسلت الإمامة

حتى الإمام الثانى عشر «محمد» المُلقب بالمهدى المنتظر ابن الحسن

العسكرى ابن على الهادى ابن محمد الجواد بن على الرضا بن

موسى الكاظم، وعُرفت الفرقة الثانية بالإمامية الإسماعيلية؛ لأنهم

أبقوا الإمامة فى ذرية «إسماعيل بن جعفر» ، ثم من بعده ابنه

«محمد» ، فابنه «جعفر الصادق» ، فابنه «محمد الحبيب» ، فابنه

«عبيدالله المهدى» مؤسس الدولة الفاطمية.

دخول الفاطميين مصر:

جانب التوفيق الحملات الثلاث التى أُرسلت من قبل الفاطميين لفتح

«مصر» فى عهد أسلاف «المعز» ، ولكن الوضع العام فى المشرق

كان ينبئ بنجاح الحملة الرابعة، للضعف الذى حلّ بدار الخلافة فى

«بغداد» ، وكذلك ما وصلت إليه حال «مصر» من ضعف وبؤس وشقاء

فى أواخر عهد «كافور» ، كما كان لانخفاض النيل الذى استمر تسع

سنوات أثر كبير فى انتشار الوباء والقحط فيها، فلم تستطع «مصر»

مواجهة الغزاة، كما عجزت -بعد «كافور» - عن صد هجوم ملك

«النوبة» من الجنوب، وثار الجند لعدم دفع رواتبهم، ونشط جواسيس

ص: 21

«المعز» ، وتوغلوا فى البلاد لنشر المذهب الشيعى، فمال الكثيرون

إلى مذهبهم، وبعث «المعز» رسله إلى «كافور» مُرهِّبة مرة ومُرغِّبة

أخرى للتأثير عليه، وكان استقرار بلاد المغرب ورسوخ أقدام

الفاطميين فيه، وتنظيمهم الدقيق للأمن والإدارة، وحسن إعدادهم

للجيوش والقادة سبب نجاح حملتهم الرابعة على «مصر» .

سار «جوهر الصقلِّى» قائد جيوش «المعز» إلى «مصر» فى ربيع

الأول سنة (358هـ)، بعد أن خرج «المعز» لوداعه، وأمر أهله بالترجل

أمام قائده وهو راكب، كما أمر واليه على «طرابلس» أن يسير فى

ركاب «جوهر» ويقبِّل يده، فكبر ذلك على والى «طرابلس» ، وأراد

أن يعفى نفسه من ذلك مقابل مائة ألف دينار ذهبًا يعطيها لجوهر،

ولكن «جوهر» رفض هذه الأموال ومضى بجيشه الذى كان يضم مائة

ألف جندى حاملا معه أموالا طائلة قيل إنها بلغت ألفًا ومائتى

صندوق حملها على ظهور الجمال، وحين خرج «المعز» لوداع

«جوهر» والجيش بمنطقة «رقادة» قال لمن كانوا معه: «والله لو خرج

جوهر وحده لفتح مصر». فكان لهذه العبارة أثرها الكبير فى نفس

«جوهر» ، وكانت له حافزًا على تحقيق ما خرج من أجله.

وصل «جوهر» إلى «مصر» ، وحط رحاله بالإسكندرية التى فتحت

أبوابها من غير مقاومة، فعامل «جوهر» أهلها بالحسنى ووسَّع لهم

فى أرزاقهم، فكان لذلك أثره الطيب فى نفوس الأهالى، كما كان

للنظام الذى ظهر به الجيش، وطاعته لقائده أثره الكبير فى نفوسهم،

فرحبوا بالقائد الجديد.

بلغ أهل «الفسطاط» نبأ استيلاء الفاطميين على «الإسكندرية» ،

فندبوا الوزير «جعفر بن الفرات» للذهاب إلى «الإسكندرية» ومقابلة

«جوهر» ، فأناب الوزير عنه «أبا جعفر مسلم بن عبدالله الحسينى»

أحد الأشراف العلويين وبرفقته وفد كبير من العلماء والقضاة

والأعيان، وتقابل الوفد مع «جوهر» فى «تروجة» - مكان بالقرب من

«الإسكندرية» - وهنأه الشريف العلوى بالفتح، فقال «جوهر»:

«التهنئة للشريف بما هنأ» .

ص: 22

طلب الوفد من «جوهر» العهد بإطلاق الحرية المذهبية للمصريين على

اختلاف مذاهبهم وأديانهم، وأن يتعهد بنشر العدل والطمأنينة فى

النفوس، وأن يقوم بإصلاح مرافق البلاد.

حينما اقترب «جوهر» من «الفسطاط» أراد بعض الإخشيديين وأنصار

الوالى - الذين خافوا على نفوذهم من دخول الفاطميين - منعه من

دخول «الفسطاط» ، ودارت بينهما مناوشات توسط بعدها الشريف

العلوى «أبو جعفر مسلم» عند «جوهر» ، فقبل شفاعته، وعبر الجنود

«نهر النيل» ، وطاف صاحب الشرطة فى «الفسطاط» ليعطى الأمان

للناس من جديد، وكان يحمل علمًا عليه اسم «المعز لدين الله» .

وفى (17 من شعبان سنة 358هـ) خرج الأعيان والأهالى لتهنئة

«جوهر» ، فوجدوه قد حفر أساس قصر «المعز» ، ورسم الخطوط

الرئيسية لمدينة «القاهرة» ، فلما علم «المعز» بذلك سُرَّ سرورًا

عظيمًا، ولم يلبث الفاطميون فى «مصر» طويلا حتى امتدت دولتهم من

«مصر» شرقًا إلى المحيط الأطلنطى غربًا، وتحقق حلمهم فى

الاستيلاء على «مصر» واتخاذها حاضرة لخلافتهم الشيعية الفتية،

فأخذوا بذلك الخطوة الأولى لمد نفوذهم إلى الشام و «الحجاز» تمهيدًا

للاستيلاء على «بغداد» .

سياسة جوهر فى مصر:

عمل «جوهر» على نشر العدل بين أهل «مصر» ، وأمَّنهم على

ممتلكاتهم، وجلس للبت فى المظالم بنفسه رغم شواغله، فرد الحقوق

إلى أصحابها، وضرب بيد من حديد على أيدى العابثين بالنظام حتى

إذا كانوا من خاصته؛ لدرجة أنه عاقب بعض المغاربة بالقتل على إثم

كبير اقترفوه، كما برهن «جوهر» على حسن سياسته حين لجأ إلى

الوسائل السلمية لنشر المذهب الفاطمى، ولم يفرضه كرهًا، واتخذ من

المساجد مدارس يتلقى فيها الناس أصول مذهبه الشيعى، وذكر اسم

الخليفة الفاطمى فى خطبة الجمعة وأسقط اسم الخليفة العباسى،

فكان ذلك إيذانًا بزوال النفوذ العباسى، وزوال ملك الإخشيديين.

حكم «جوهر» «مصر» أربع سنوات هى من أصعب الفترات وأخطرها،

ص: 23

حيث تم فيها إقامة معالم دولة وتشييدها على أنقاض دولة أخرى؛

فإلى «جوهر» يرجع الفضل فى تأسيس وبناء «القاهرة» المعزِّية،

التى جعل لها أربعة أبواب منها: «باب النصر» ، و «باب الفتوح» ،

و «بابا زويلة» ، كما بنى بها «الجامع الأزهر» لينشر من داخله المذهب

الشيعى. و «الأزهر» هو أول مسجد شُيِّدَ فى «القاهرة» المعزية،

وأقيمت فيه الصلاة لأول مرة فى (17 من رمضان سنة 360هـ)، وقد

اختلف المؤرخون فى سبب تسميته بالأزهر، فقال فريق سُمِّى بهذا

الاسم نسبة وتكريمًا للسيدة فاطمة الزهراء. وقال فريق آخر: تفاؤلا

بما سيكون عليه أمر هذا المسجد من شأن عظيم. وقال فريق ثالث:

سُمى بذلك لأنه كان محاطًا بالقصور الزاهرة التى بنيت عند إنشاء

«القاهرة» . وأيا كانت نسبة هذه التسمية إلى الجامع الأزهر؛ فهو

يُعد -الآن- أعظم جامعة إسلامية تُدَّرَسُ فيها العلوم الدينية والعلوم

العقلية، ويقصده آلاف الطلاب من مختلف أرجاء العالم الإسلامى، وقد

أدى خدمات عظيمة للعلم فى مختلف العصور، ونشره فى شتى بقاع

العالم.

إبراز المظاهر الشيعية فى مصر:

لما رأى «جوهر» أن دعائم ملك الفاطميين قد توطدت فى «مصر» ،

عمل على تحقيق ما جاء من أجله، فزاد فى الأذان عبارة: «حى على

خير العمل»، وجهر بالبسملة فى قراءة القرآن فى الصلاة، وزاد فى

خطبة الجمعة ما يلى: «اللهم صلِّ على محمد المصطفى، وعلى علىّ

المرتضَى، وفاطمةَ البتول، وعلى الحسن والحسين سبطى الرسول؛

الذين أذهبت عنهم الرجس، وطهرتهم تطهيرًا. اللهم صلِّ على الأئمة

الراشدين آباء أمير المؤمنين الهادين المهتدين»، ونقش على جدران

«مسجد الفسطاط» شعار العلويين باللون الأخضر، كما أضاف فى

أول خطبة بالجامع الأزهر عبارة: «السلام على الأئمة آباء أمير

المؤمنين المعز لدين الله»، وضرب العملة باسم الخليفة «المعز» ،

وألغى السواد شعار العباسيين، وعمم الملابس الخضراء شعار

ص: 24

العلويين، ثم أرسل إلى «المعز» يستدعيه إلى «مصر» ، فوافقه

«المعز» ، وخرج من «المنصورية» بالمغرب فى شوَّال سنة (361هـ)،

ووصل إلى «القاهرة» فى رمضان سنة (362هـ)، واستقبله أهل

«مصر» بالفوانيس، فأصبحت عادة فى استقبال شهر رمضان حتى

الآن، وأعلن «المعز» «القاهرة» عاصمة للخلافة الفاطمية، فأصبحت

«مصر» دار خلافة بعد أن كانت دار إمارة.

النفوذ الفاطمى يمتد إلى بلاد الشام:

حينما استقرت الأمور لجوهر الصقلى فى «مصر» ، اتجه ببصره تجاه

بلاد الشام، وبذل جهودًا مضنية من أجل مد نفوذ سيده إلى هذه

البلاد، وجهز حملة كبيرة جعل قيادتها للقائد الكبير «جعفر ابن

فلاح»، الذى عُرِف بعقليته العسكرية الفريدة، فخرجت الحملة قاصدة

«دمشق» ، واستولت فى طريقها على «الرملة» و «طبرية» ، فلما علم

أهل «دمشق» بذلك خرجوا عن بكرة أبيهم حاملين السلاح مشاة

وفرسانًا لمواجهة هذه الحملة، والتقى الطرفان، وبذل أهالى

«دمشق» كل ما فى وسعهم، إلا أنهم هُزِموا فى النهاية، ودخل

«جعفر» وجنوده المدينة، فاعتبرها الجنود غنيمة ونهبوها، ولم

يكبح «جعفر» - بطبيعته الحربية - جماحهم، فقامت الثورة فى

«دمشق» ، وتمكن «جعفر» من السيطرة عليها، وقبض على زعمائها،

فهدأت الأحوال، وأُقيمت الخطبة للمعز الفاطمى فى المحرم سنة

(359هـ)، وزال سلطان العباسيين فى الشام.

كان «جعفر» على النقيض من «جوهر» فى الجانب السياسى، ففى

الوقت الذى تمكن فيه «جوهر الصقلى» من كبح جماح جنده، وتأليف

قلوب الناس فى «مصر» حوله ومعاملتهم بالحسنى؛ كان «جعفر»

يتعالى على أهالى «دمشق» ، ويغلظ فى معاملتهم، كما ترك جنوده

فعاثوا فى المدينة فسادًا، وتمنى الدمشقيون زوال هؤلاء الفاطميين،

واستنجدوا بالقرامطة والأتراك.

الخطر القرمطى التركى:

كان استنجاد أهل «دمشق» بالقرامطة فرصة للحسن القرمطى

زعيمهم، فاتصل بأمير الرحبة - على «نهر الفرات» - وببعض القبائل

ص: 25

العربية، واتحد معهم على الفاطميين، لأن «جعفر بن فلاح» منع عنه

ثلاثمائة ألف دينار كانت «دمشق» تدفعها له سنويا، وخرج «الحسن

القرمطى» بمن اتحد معه قاصدًا «دمشق» ، فلما وصل إليها دارت

رحى المعركة، وهُزم جيش الفاطميين، وقُتل «جعفر» ، واستولى

القرامطة على «دمشق» ، وأمر «الحسن القرمطى» بلعن «المعز

الفاطمى» من فوق المنابر، على الرغم من أن القرامطة شيعة

كالفاطميين.

وقد انتهز الروم فرصة الخلاف بين الفاطميين والشاميين، فأسرعوا

للاستيلاء على «دمشق» ، وكانوا يقتلون ويسرقون ويحرقون كل ما

يقابلهم فى طريقهم إليها، ولكن «أفتكين» القائد التركى بالبلاط

العباسى أدركهم، وتفاوض مع إمبراطورهم، وتمكن من شراء رحيله

مع جنوده مقابل ثلاثين ألف دينار، ودخل «أفتكين» «دمشق» دون

قتال، وأعاد الخطبة فيها للخليفة العباسى، ثم عاد القرامطة سنة

(365هـ)، وهاجموا «يافا» و «عكا» و «صيدا» ، فتصاعد الخطر، ووجد

الفاطميون أنفسهم بالشام بين شِقَّى الرحا.

العزيز بالله بن المعز:

تولَّى «العزيز بالله» الدولة الفاطمية فى قمة مجدها، ولكنه كان رجلا

لا يعرف المستحيل، وحاول استمالة «أفتكين» القائد التركى إلى

صفه؛ ليجد طريقه إلى الشام، ولكن «أفتكين» أعرض عن مكاتباته،

ورد على محاولاته بصلف وعناد، فبعث إليه «العزيزُ بالله» القائد

«جوهرَ الصقلى» على رأس حملة كبيرة، فلما وصلت الحملة إلى

«دمشق» بعث «جوهر» بالأمان إلى «أفتكين» على أن يترك

«دمشق» ، ولكن القائد التركى رفض واستنجد بالحسن القرمطى

الذى جاءه على عجل على رأس جيش كبير تصدى لحملة «جوهر» ،

وأجبرها على التراجع عن «دمشق» إلى «الرملة» سنة (366هـ)، ثم

إلى «عسقلان» بعد مناوشات بين الطرفين، فتحصن «جوهر»

بجنوده فى «عسقلان» ، وحاصره «الحسن القرمطى» و «أفتكين» ،

وطال الحصار حتى نفد ما مع جيش «جوهر» من زاد، فأكلوا دوابهم،

ثم بحثوا عن الميتة فأكلوها من شدة الجوع، فاضطر «جوهر» إلى

ص: 26

عرض الصلح على «الحسن القرمطى» و «أفتكين» ، وتمت له الموافقة

على هذا الصلح بشرط أن يخرج من باب عُلِّق عليه سيف «أفتكين» ،

ودرع «الحسن» ، فوافق وخرج ناجيًا برجال حملته بعد أن كانوا قاب

قوسين أو أدنى من الهلاك، وعاد إلى «القاهرة» .

لم ييأس الخليفة «العزيز» من تحقيق مراده، وخرج بنفسه على رأس

الجيش إلى «الشام» ، وأعطى الأمان للقائد التركى، فرفضه، ودارت

رحى الحرب بين الفريقين فى معركة شرسة، تطايرت فيها النبال

كالأمطار، ولمعت السيوف كالبرق، واشتد الغبار، وانجلت المعركة

عن عشرين ألف قتيل من جيشى القرامطة و «أفتكين» ، وأُسِر

«أفتكين» ؛ ففداه «العزيز» من أسره بمائة ألف دينار - بإيعاز من

«جوهر» - وحمله إلى «القاهرة» ، ثم عفا عنه وأنزله بدار فسيحة،

وأجرى عليه الرزق حتى مات سنة (372 هـ)، على عكس ما كان

متوقعًا، وما هو متبع فى مثل هذه الظروف.

صفا «الشام» للفاطميين، وامتد ملكهم من بلاد «الشام» شرقًا إلى

ساحل «المحيط الأطلسى» غربًا، ومن «آسيا الصغرى» شمالا إلى

بلاد «النوبة» جنوبًا، وخُطب للعزيز بالموصل وأعمالها سنة (382هـ)،

وضُرب اسمه على العملة، وكُتب على الأعلام، وخُطب له باليمن - كما

فُتحت له «حمص» و «حماة» و «شيزر» و «حلب» ، فانصرف إلى نشر

عقائد المذهب الشيعى، وأصبحت دواليب الإدارة كلها فى يد الشيعة.

الحاكم بأمر الله:

بويع «أبو على منصور الحاكم بأمر الله» بالخلافة وهو فى الحادية

عشرة من عمره، وعين أستاذه «برجوان» التركى وصيا عليه؛ لذا لم

يكن للحاكم من أمره شىء حتى تم القضاء على الوصى، وحل محله

«ابن عمار الكتامى» المغربى وصيا ووزيرًا، فاستبد بالأمر، ولم يسلم

من شره أحد، سواء كان من الشيعة أو من السنة أو من أهل الذمة،

وكذلك ساءت سيرته بين الجند، فنشب القتال فى شوارع «القاهرة»

و «الفسطاط» ، وطالب الجميع بحياة «ابن عمار» ، ولكنه اختفى،

وأصبح زمام الأمور فى يد «الحاكم» ، وهو بعد فى الخامسة عشرة

ص: 27

من عمره، وأنشأ المرصد الحاكمى على سفح المقطم، وقد روى

المؤرخون مواقف غريبة تدل على غرابة أطواره.

حاولت «ست الملك» أخت «الحاكم بأمر الله» ردعه عما يفعل، لكنه

أبى أن يرتدع، فدبرت مع «سيف الدولة بن دواس الكتامى» أمر

قتله، فلما تم ذلك، حمل جثمانه إليها، فدفنته فى مجلسها.

بعد مقتل «الحاكم بأمر الله» خرج اثنان من أتباعه هما: «حمزة

الدرزى»، و «حسن الأخرم» ، وبالغا فى وصفه، وأعلنا مذهب الدروز.

الظاهر:

ولى «أبو الحسن الظاهر» الخلافة فى شوال سنة (411هـ)، بعد مقتل

أبيه مباشرة، وكان لعمته «ست الملك» النفوذ والسيطرة فى تسيير

دفة الدولة، وقامت بذلك على أحسن وجه، وبذلت العطاء للجند،

وتمكنت من تهدئة الأمر حتى وافاها الأجل فى سنة (415هـ)، فانتهج

«الظاهر» نهجها وعمل بسياستها، وألغى ما سنَّه أبوه «الحاكم»

من قوانين مجحفة، واهتم بتحسين شئون البلاد وأحوال الرعية،

ومنح الناس الحرية الدينية، فنعموا بالكثير من إنجازاته، وعلى الرغم

من أن مجاعة حدثت فى عهده استمرت ثلاث سنوات، نتيجة انخفاض

النيل، فإنه عمل على تخفيف المعاناة عن الشعب، وعقد اتفاقًا مع

إمبراطور الروم ليمده بالقمح بمقتضاه، على أن يقوم «الظاهر»

بإعادة بناء «كنيسة القيامة» بالقدس.

مرض «الظاهر» بالاستسقاء، ولم يلبث أن تُوفِّى سنة (427هـ).

المستنصر:

ولى «المستنصر» عقب وفاة والده «الظاهر» فى جمادى الآخرة سنة

(427هـ)، ويُعدُّ أطول الخلفاء عهدًا، إذ قضى بالخلافة نحو ستين

سنة، لم تكن على وتيرة واحدة، حيث وصف «ناصر خسرو» «مصر»

فى أوائل عهد المستنصر بقوله: «كانت تتمتع بالرخاء، وأن الشعب

محب لخليفته». وفى الفترة الأولى من عهده بلغ النفوذ الفاطمى

أقصى مداه، إذ دُعى للخليفة على منابر بلاد الشام و «فلسطين»

و «الحجاز» و «اليمن» ، بل دُعِى له فى «بغداد» حاضرة العباسيين

نحوًا من سنة، ودُعى له - أيضًا - فى «صقلية» و «شمال إفريقية» .

ص: 28

وكما شهد «المستنصر» مجد دولته، شهد أيضًا تقلُّصَ نفوذه، فقد

زالت سلطة الفاطميين فى بلاد «المغرب الأقصى» سنة (475هـ)،

واستولى النورمانديون على «صقلية» ، وخلع أميرا «مكة»

و «المدينة» طاعتهما - من قبل - فى سنة (462هـ)، وانقطع ماء النيل،

وحدث ما عُرِف فى عهده بالشدة العظمى أو المستنصرية، وغلت

الأسعار، وانتشرت المجاعات والأوبئة حتى قيل إنه كان يموت بمصر

كل يوم عشرة آلاف نفس، ووصل الحال بالناس إلى أكل القطط

والكلاب، فلما لم يجدوها بعد ذلك كان بعضهم يحتال على خطف

بعضهم الآخر ليذبحه ويأكله، وبلغت الشدة منتهاها، وباع المستنصر

جميع ممتلكات قصوره، وقام صراع عنيف بين الأتراك والسودانيين،

وظل الجنود فترة طويلة لا يتقاضون فيها رواتبهم، فنهبوا قصور

الخلفاء، واستولوا على ما فى المكتبات ودور العلم من مؤلفات

باعوها بثمن بخس، واتخذوا من جلودها نعالا وأحذية، واستولى

«ناصر الدولة ابن حمدان» زعيم الجند الأتراك على مقاليد الأمور،

وهدد بإزالة الخلافة الفاطمية، بل حذف اسم الخليفة من الخطبة فى

بعض المناطق، ووصلت الحال بالخليفة إلى درجة أنه لم يتمكن من

حماية أمه من دخول السجن، ففرت مع بناتها إلى «بغداد» طلبًا

للحماية، واستمرت هذه الشدة تسع سنوات، حتى جاء «اليازودى» ،

فعالج الأمور، وضبط الأسواق وضرب بشدة على أيدى العابثين،

ولكن الوشاة دسُّوا له عند «المستنصر» بأنه على صلة بالسلاجقة

وأنه يراسلهم، فقتله «المستنصر» ، وعادت البلاد ثانية إلى ما كانت

عليه، وظلت تنتقل من سيئ إلى أسوأ مدة تسع سنوات تولَّى

الوزارة فيها أربعون وزيرًا، فاستنجد «المستنصر» ببدر الدين

الجمالى حاكم «عكا» ، فأتى على الفور، وألقى القبض على

العابثين والعناصر المتنافرة، وضرب بيد من حديد على أيدى

الخارجين على النظام والقانون، وعَمَّر الريف، واهتم بالزراعة،

وحصن مدينة «القاهرة» التى كانت قد خُربت أسوارها من جراء

ص: 29

الفتن، وبنى جامعه المعروف بجامع الجيوش بالمقطم، فتحسنت

الأحوال فى عهده باستثناء إذكائه روح العداء بين الشيعة والسنة،

لأنه كان شيعىا متعصبًا، وظل وزيرًا للمستنصر حتى وافاه أجله فى

عام (487هـ)، بعد أن عهد إلى ابنه بالوزارة من بعده، ليصبح هذا

الأمر تقليدًا جديدًا، لم يُعمَل به من قبل.

المستعلى:

ولى الخلافة بعد أبيه المستنصر سنة (487هـ) على الرغم من حداثة

سنه، وعدم شرعية خلافته لوجود أخيه «نزار» الأكبر منه فى السن،

ولكن الوزير «الأفضل بن بدر» أسهم إسهامًا كبيرًا فى هذا ليتمكن

من السيطرة على الخليفة الصغير، وخرج «نزار» إلى الإسكندرية

ليكون فى حماية واليها «أفتكين» فخرج إليهما «الأفضل» بجيش

كبير، ودارت الحرب بين الفريقين، فاضطر «نزار» و «أفتكين» إلى

طلب الأمان، فأجابهما «الأفضل» إلى مطلبهما، ثم قتلهما بعد أن

هدأت الأمور، فانقسم الشيعة على أنفسهم، وأعلنت الباطنية (فرقة

تفرعت عن الشيعة لها معتقداتها الخاصة) وعلى رأسهم «الحسن بن

الصباح» أن نزارًا كان الأحق بالخلافة، لأن «الحسن» زار «مصر»

وسأل «المستنصر» عمن يكون خليفته، فقال له: إنه «نزار» .

الآمر:

ظل «المستعلى» خليفة حتى وفاته سنة (495هـ)، وولى ابنه الملقب

بالآمر الخلافة عقب وفاته، ولم يكن حاله مع وزيره «الأفضل ابن بدر»

بأفضل من حال أبيه، وازداد تعصب «الأفضل» لمذهبه الشيعى على

حساب أهل السنة، وأغلق دار العلم؛ لأن بعض أهل السنة دخلوها

وأثروا على بعض مرتاديها من الشيعة، ويؤرخ «المقريزى» لهذا

بقوله: «إن الأفضل ألغى الاحتفالات الخاصة بمولد النبى - صلى الله

عليه وسلم -، ومولد فاطمة ومولد «على» رضى الله عنهما، ومولد

الخليفة القائم بالأمر، وخاف الآمر على سلطانه، فأوعز إليه مَنْ قتله،

ثم قتل مَنْ قتله، وذلك باتفاق مع المأمون البطائحى أحد خواص

الأفضل بعد أن وعده الآمر بالوزارة، فعاد إلى الآمر كثير من نفوذه،

ص: 30

وانتقلت إليه ثروة الأفضل التى كانت تُقدَّر بستة ملايين دينار، ولكن

هذا الوضع لم يستمر طويلا، فسرعان مازال نفوذ الخليفة بعد تولِّى

«أبى على ابن الأفضل» الوزارة.

كان الآمر محبا للأدب ومشجعًا للشعراء، وأنشأ «الجامع الأقمر» ،

وبنى «قصر الهودج» لزوجته البدوية حتى لا تشعر بغربة فى بيئة

تختلف عن تلك التى نشأت بها. تُوفِّى سنة (524هـ)، ولم يُعقِّب،

فخلفه ابن عمه «الحافظ» .

الحافظ:

تولَّى الخلافة عقب وفاة ابن عمه «الآمر» ، ولم تكن حاله مع وزيره

«على بن الأفضل» بأحسن من حال ابن عمه، فقد كان يتحكم فيه،

وجعله كالمحجور عليه، ولا يسمح لأحد بزيارته إلا بإذن منه،

وانعطفت سياسة الدولة -فى عهده- انعطافًا خطيرًا يهدد بزوالها،

فقد عين اثنين من القضاة الشيعة، ومثلهما من السنة، وجعل لكل

الحق فى إصدار حكمه وفق مذهبه، ولقب نفسه بالأكمل مالك

فضيلتى السيف والقلم، مولى النعم، رافع الجور عن الأمم، وأسقط

اسم الخليفة من الخطبة، فكانت نهايته القتل جزاءً لما صنع.

لم يكد الخليفة يستريح من سيطرة «ابن الأفضل» حتى وقع تحت

سيطرة ونفوذ «بهرام الأرمنى» والى «الغربية» ، الذى تقلد الوزارة،

واستقدم الكثيرين من بنى جلدته حتى تجاوزوا ثلاثين ألفًا، وكلهم

من الشيعة المتعصبين لمذهبهم، فأذاقوا أهل البلاد الهوان، وبنوا

الكنائس والأديرة، فأثار ذلك حفيظة الناس، وثار «رضوان بن

الولخشى» والى «الغربية» ، وقاد جيشه، وهاجم به الوزير «بهرام»

الذى انهزم، وفرَّ هاربًا إلى «أسوان» ، فتولى «رضوان» الوزارة بدلا

منه، ولكنه ارتكب أعمالا أثارت عليه حفيظة الخليفة، فاستدعى

الخليفة «بهرام» من أسوان ليتولى الوزارة من جديد، فهرب

«رضوان» إلى الشام، ثم عاد إلى «مصر» ثانية على رأس جيش

تصدى له جنود الخليفة، فهزموه وأسروا «رضوان» ، ثم قُتل.

تُوفِّى «الحافظ» فى سنة (544هـ)، وقد تميز عصره بالنزاع الدائم من

ص: 31

أجل الوصول إلى منصب الوزارة بالقوة والجيوش المسلحة.

الظافر:

ولى «الظافر» عقب وفاة أبيه «الحافظ» ، فسلكت الدولة فى عهده

مسلكًا خطيرًا؛ لم يكن معهودًا من قبل؛ إذ استعان الوزراء بالقوى

الخارجية للوصول إلى منصب الوزارة، وأبرز مثال على ذلك ما حدث

بين «ابن السلار» و «ابن مصال» ، فقد استعان الأول على منافسه

الثانى بنور الدين محمود صاحب «حلب» ، ودارت بين الطرفين حرب

شعواء قُتل فيها «ابن مصال» ، ثم تبعه «ابن السلار» ، فسعد الخليفة

سعادة بالغة لقتل «ابن السلار» لاستعانته «بنور الدين محمود» ،

ودلل الخليفة على مدى سعادته بمكافأته لنصر بن العباس قاتل «ابن

السلار» بمبلغ عشرين ألف دينار.

كان الصليبيون قد أسسوا عدة إمارات لهم - فى ذلك الوقت - بالشام،

وبدأت طموحاتهم تتجه إلى «مصر» ، ويتحينون الفرصة لتحقيقها فى

الوقت الذى كان «نور الدين محمود» يترقب فيه الأوضاع للاستيلاء

على «مصر» ، وظل كلاهما على ذلك حتى قام «نصر بن عباس» -

بالاتفاق مع والده - بقتل الخليفة «الظافر» وإخوته، فغلت «القاهرة»

كالمرجل، وهرب «عباس» إلى الشام، فقُتل فى طريقه إليها، وقُبض

على ابنه «نصر» ثم وُضِع فى قفص من حديد بعد أن جُدع أنفه،

وقطعت أذناه، وطِيف به فى أنحاء المحروسة، ثم صُلِبَ حيا على

باب زويلة حتى مات، فأُحرقت جثته. وتولى «الفائز» الخلافة.

الفائز:

ترك «الظافر» ابنه «الفائز» وعمره أربع سنوات فحسب، فولى

الخلافة فى هذه السن عام (549هـ)، وكانت البلاد فى حالة من

الفوضى والاضطراب الشديدين، حتى إن نساء القصر لم تأمن على

حياتهن فى ظل هذه الظروف، فاستنجدن بطلائع بن زريك والى

الأشمونيين، الذى حضر على الفور، وقضى على الفتنة والشغب،

وضرب على أيدى صانعى الفتنة، وظل الخليفة - بالطبع - مسلوب

الإرادة حتى وفاته سنة (555هـ).

العاضد:

خلف «الفائز» فى تولِّى الخلافة، فتخلص من الوزير «طلائع» بقتله،

ص: 32

وأسند منصبه إلى ابنه «أبى شجاع العادل بن طلائع» ، فرأى

«شاور» والى الصعيد أنه أحق بالوزارة من «أبى شجاع» ، وقدم

على رأس قواته، وتمكن من خلع «أبى شجاع» من الوزارة، وتنصيب

نفسه مكانه سنة (558هـ)، ولكنه لم يهنأ بمنصبه الجديد إذ استطاع

«ضرغام» أمير البرقية (فرقة من المغاربة» خلعه، فهرب «شاور»

إلى الشام مستنجدًا بنور الدين محمود ليعيده إلى منصبه، فأحس

«ضرغام» بالخطر وخشى من ضياع منصبه فاستنجد بعمورى

الصليبى ملك «بيت المقدس» ، ولبى كل طرف نداء مَنْ استنجد به،

وقدمت القوات الإسلامية كما قدمت القوات الصليبية فى ثلاث حملات،

ولكن «أسد الدين شيركوه» قائد حملات «نور الدين محمود» كانت له

عقلية سياسية حكيمة، كما كان يجيد التخطيط الجيد، فتولى الوزارة

بنفسه بعد أن قُضى على الخصمين المتنافرين، وظل على ذلك حتى

مات، فخلفه فى منصبه ابن أخيه «صلاح الدين الأيوبى» السنىُّ

المذهب، فكان بمثابة المسمار الأخير فى نعش الدولة الفاطمية

الشيعية.

انهيار الدولة الفاطمية:

حين علا «صلاح الدين الأيوبى» كرسى الوزارة فى الدولة الفاطمية،

حدث الصدام المتوقع بين المذهبين الشيعى والسنى، فسلب الوزير

السنى من الخليفة «العاضد» الشيعى كل سلطانه، وبات الخليفة

كالمحجور عليه، وصار حبيس قصره، فاستاء أتباع الخليفة وجنوده

من هذا الوضع وقاموا بثورة عارمة، نجح الوزير «صلاح الدين» فى

تشتيتها، فاضطر مشعلوها إلى الهرب نحو صعيد «مصر» ، فعمل

«صلاح الدين» على تثبيت قدميه، وتوطيد علاقته بالناس، وحارب

الصليبيين، وحقق انتصارات عظيمة عليهم، وعزل القضاة الشيعة،

وجعل السنيين بدلا منهم، ثم أرسل إلى «نور الدين» يطلب منه أن

يُلحق به أسرته فوافق، وألحقهم به، فقويت شوكته، وأحبه الناس

لسلوكه وسيرته بينهم، فلما اطمأن «نور الدين» إلى استقرار

الأوضاع أرسل إلى «صلاح الدين» يطلب منه إزالة الخلافة الفاطمية،

ص: 33

والدعاء للخليفة العباسى، فرفض «صلاح الدين» أول الأمر خوفًا من

عواقب هذا الصنيع، ثم عمد إلى التجربة -بعد أن شاور خلصاءه-

فقرر أن يصعد واحد من الناس المنبر قبل الخطيب، ويدعو للخليفة

العباسى «المستضىء» ليرى ماذا سيفعل الناس، فلما تم له ما أراد،

ولم يثر أحد أسقط الدعاء للعاضد وجعله للمستضىء، فكانت نهاية

الدولة الفاطمية التى حكم ملوكها الأوائل رقعة شاسعة من العالم

امتدت من «المحيط الأطلسى» غربًا إلى «الخليج العربى» شرقًا،

ودُعى لأحد خلفائها على منابر «بغداد» -عاصمة الخلافة العباسية -

عامًا بأكمله.

وكان «العاضد» مريضًا حين سقطت دولته فآثر أهله عدم إخباره

حتى لا يفجع ويزداد مرضه، ولكنه لم يلبث طويلا وتُوفِّى سنة

(567هـ).

علاقات الفاطميين الخارجية:

1 -

صقلية:

فتحها «أسد بن الفرات» قاضى الأغالبة، وأسلم أكثر سكانها،

وظلت تابعة للأغالبة إلى زوال ملكهم سنة (296هـ)، ثم أصبحت تابعة

للدولة الفاطمية الإسماعيلية، فحرص الفاطميون عليها لموقعها

الجغرافى، ووفرة مواردها، وخصوبة أرضها، وظلت كذلك حتى عهد

«المستنصر» ، فلما حلت الشدة بمصر، وتعرضت للمجاعة، انشغل

الخليفة عن متابعة أمر «صقلية» ، فعمتها الثورات، وزادت فيها

الاضطرابات، واستعان بعض أهلها بالفرنجة، فقدموا إليها،

وفتحوها، وفشل «المعز بن باديس» - والى الفاطميين على

«المغرب» - فى استعادتها، وظلت فى أيدى الفرنجة حتى استولى

النورمانديون عليها، فخرجت نهائيًّا من حكم الفاطميين.

2 -

البيزنطيون:

تجاورت ممتلكات الدولتين بعد دخول الشام فى حوزة الفاطميين،

وتذبذبت العلاقة بينهما بين السلم والحرب، ففى عصر «المعز» تحالف

البيزنطيون مع القرامطة، ثم مع «أفتكين» ، وحاول «العزيز» غزوهم

عن طريق البحر، وعقدت هدنة بينهما مدتها سبع سنوات، ولكن

«باسيل الثانى» الإمبراطور البيزنطى تحالف مع الحمدانيين وحقق

ص: 34

بعض الانتصارات على سواحل الشام، وفشل «العزيز» فى صدهم بعد

أن احترق أسطوله فى ميناء «المقس» ، فبنى أسطولا آخر، وخرج به

تحت قيادته، ولكنه مرض وتُوفِّى فى «بلبيس» ، فتسلم ابنه «الحاكم»

زمام الأمور. وحقق انتصارًا كبيرًا فى «أفامية» ، ثم عقدت الهدنة بين

الطرفين لمدة عشر سنوات، ولكن العلاقات عادت إلى التوتر ثانية،

ثم هدأت فى عهد «الظاهر» ، وفترة طويلة من عهد «المستنصر»

الذى عقد اتفاقًا مع الإمبراطور البيزنطى «قسطنطين التاسع» ، يمد

«البيزنطيون» بمقتضاه «مصر» بالغلال، إلا أن هذا الاتفاق لم يتم

لوفاة الإمبراطور، وتولّى «تيودور» العرش بدلا منه، فنقض العهد،

واشترط شروطًا أخرى لم يوافق عليها «المستنصر» فظلت العلاقات

متوترة وعدائية بين الطرفين حتى نهاية الدولة الفاطمية.

3 -

الشام وفلسطين:

جعل الفاطميون «الشام» و «فلسطين» هدفهم عقب استيلائهم على

«مصر» ، باعتبارهم ورثة الإخشيديين، فأعدوا الجيوش، وجعلوا عليها

القائد الشهير بالجرأة ذا الكفاءة العسكرية «جعفر بن فلاح

الكتامى»، فخرج بها، واستولى على «الرملة» و «طبرية» ، ثم اتجه

إلى «دمشق» واستولى عليها بعد صمود شديد من أهلها، وجعل

الخطبة فيها للفاطميين فى شهر المحرم سنة (359هـ)، وعاث

الكتاميون فى البلاد فسادًا، وعبثوا بكل ما فيها، فاستنجد أهل

«دمشق» بالقرامطة لتخليصهم، فأتوا وانضم إليهم الدمشقيون

وتصدوا لجيش الفاطميين، وتمكنوا من هزيمته وقتل قائده «جعفر» ،

ثم خرج عليهم «أفتكين» التركى سنة (364هـ)، وحاول «العزيز بن

المعز» استمالته فلم ينجح، فأخرج إليه «جوهر الصقلى» على رأس

الجيش، ثم خرج إليه بنفسه. وأعاد نفوذ الفاطميين ثانية إلى تلك

البلاد.

وفى سنة (462هـ) حاول السلاجقة الاستيلاء على «الشام» فكان

نجاحهم جزئىا، ثم استتب الأمر أثناء الشدة العظمى التى مرت بها

«مصر» ، وأصبح «الشام» و «فلسطين» يتقاسمهما السلاجقة من

ص: 35

ناحية، والصليبيون من ناحية أخرى، ولم يبق بحوزة الفاطميين فى

أوائل عهد الخليفة الظاهر إلا «مصر» وبعض البلاد الشامية.

4 -

العباسيون فى بغداد:

لاشك أن الخلافتين الفاطمية والعباسية كانتا على طرفى نقيض؛

لاعتقاد كل منهما أنها أحق بالخلافة، وأن الأخرى مغتصبة لها، فقد

قامت الخلافة الفاطمية - أساسًا - فى «إفريقية» ، وهى أرض تابعة

للخلافة العباسية، وامتد نفوذهم على مساحة كبيرة من الأرض هى

أيضًا تابعة لهم، مثل «برقة» و «مصر» ، ولم يحاول العباسيون صد

الحملة الأخيرة للفاطميين على «مصر» ، فتأسست مدينة «القاهرة»

لتنافس «بغداد» ، وامتد سلطانها ليشمل «الشام» و «فلسطين»

و «الحجاز» ، بل إن البويهيين الشيعة فكروا فى إلغاء الخلافة

العباسية فى «بغداد» ، إلا أن خوفهم على نفوذهم هو الذى منعهم

من إتمام هذا الأمر، ففضلوا خليفة سنيا ضعيفًا خاضعًا لهم على خليفة

فاطمى قوى يخضعون له، ومع ذلك فقد جاهر «بهاء الدولة بن بويه»

بمناصرته للفاطميين، فأصدر الخليفة العباسى «القادر» منشورًا فى

سنة (402هـ) يقدح فيه فى نسب الفاطميين، وحذا ابنه وخليفته

«القائم» حذوه، وطعن فى نسبهم، وشفع ذلك بوثيقة عليه توقيعات

علماء «بغداد» ، تمامًا كما فعل أبوه من قبل، ولكن هذا لم يؤتِ

ثماره المرجوة، وامتد النفوذ الفاطمى حولا كاملا، مما جرَّأ العامة

على نهب دار الخلافة العباسية، وأُرْسِلَت عمامة الخليفة القائم

وعرشه وخلعته إلى «القاهرة» ، ثم بيعت أثناء الشدة المستنصرية،

وظل أمر الشيعة غالبًا بالعراق حتى استنجد الخليفة بالسلاجقة،

فقدِم «طغرل بك» وقتل «البساسيرى» سنة (451هـ)، وحاول التوسع

فى الشام على حساب الفاطميين، وتمكن «ملكشاه» من فتح

«الرملة» و «بيت المقدس» و «دمشق» وتقدمت جيوشه صوب «مصر» ،

فأوقفها «بدر الجمالى» وتمكن من تحقيق النصر عليها، وبذلك

أصبحت مملكة الفاطميين نهبًا مباحًا لكل طامع، وتقلص نفوذها حتى

ص: 36

تمكن «نور الدين محمود» من الاستيلاء عليها بواسطة قائده «صلاح

الدين الأيوبى»، الذى أزالها وأقام على أنقاضها الدولة الأيوبية.

ص: 37

الفصل الخامس

*الحضارة والنظم فى العصر الفاطمى

نظام الحكم:

قام نظام الحكم على نظرية الإمامة التى اعتبرها الشيعة حقا لهم.

إرثًا عن النبى صلى الله عليه وسلم ويختلفون فى ذلك عن أهل

السنة القائلين بحق الأمة فى اختيار إمامها، كما يختلفون مع الإمامية

الإثنا عشرية الذين ساقوا الإمامة فى اثنى عشر رجلا من آل البيت،

كان آخرهم «محمد بن الحسن العسكرى» ، بينما وقف بها

الإسماعيلية بعد «جعفر الصادق» عند ابنه «إسماعيل» الذى نُسِبَت

الدولة إليه، وركزت كلتا الطائفتين على حق آل البيت فى الإمامة،

وأن مهمة الإمامة هى الحفاظ على تراث النبوة.

الوزارة:

هى أرفع المناصب بعد الخلافة، وكانت تنقسم إلى:

1 -

وزارة قلم.

2 -

وزارة سيف.

وكان يُطلَق عليها رتبة الوساطة أو السفارة فى أول عهد الدولة،

ولم تظهر كلمة وزير إلا فى عهد «العزيز» ثانى الخلفاء الفاطمىىن

فى «مصر» ، وكان يتم اختيار الوزير -غالبًا - من بين أرباب الأقلام،

وتحول هذا المنصب إلى سلطة استبدادية أثناء الشدة المستنصرية؛

فكان «بدر الجمالى» وزير سيف، وبه بدأ عهد استبداد الوزراء،

وتحولت الوزارة إلى وزارة تفويض، وأصبح الوزير متحكمًا فى جميع

أمور الدولة؛ بل أصبح الوزراء يتدخلون فى تولية الإمام وولى

عهده، فعظم أمرهم وقويت شوكتهم.

كان وزير التنفيذ يُلقَّب بالأجَلِّ، أما وزراء التفويض فكانت ألقابهم

تدل على السلطة الواسعة التى تمتعوا بها، مثل: أمير الجيوش،

وكافل قضاة المسلمين، وهادى دعاة المؤمنين، وتلقَّب الوزير

«طلائع بن رزيك» بالملك المنصور، وتلقَّب ابنه «رزيك بن طلائع»

بالملك العادل، وكذلك تلقب «صلاح الدين الأيوبى» آخر وزراء

الفاطميين وأول سلاطين الدولة الأيوبية بالملك الناصر، كما وُصِف

بعض هؤلاء الوزراء بالسلطان.

كانت للوزير فى العصر الفاطمى علامات تميزه عن غيره من موظفى

الدولة، وانفرد بلبس زى خاص، وبلغ راتبه خمسة آلاف دينار شهريا،

ص: 38

وكان له حق الجلوس بجوار الخليفة، وكان مجلسه بدار الوزارة

الكبرى - التى بُنى لها قصر كبير بجوار باب النصر - لا يقل فى الأبهة

والعظمة عن مجلس الخليفة نفسه.

واشتُرط فيمن يتولى منصب الوزارة أن يكون مخلصًا لعقيدة الدولة،

وأن تكون لديه المهارة فى تدبير الأموال، ولذلك تولى وزارات

التنفيذ وزراء من أهل الذمة ظلوا على عقيدتهم.

نظام الإدارة:

ورث الفاطميون نظام العباسيين فى الإدارة، فعملوا على تركيز

السلطة فى أيديهم، وأصبح نظامهم الإدارى شديد المركزية تُدار

شئونه من داخل القصر، باستثناء بعض الظروف النادرة التى نُقل

فيها ديوان الوزارة إلى دور الوزراء، وسرعان ما يعود إلى القصر

ثانية.

انقسمت الشئون الإدارية فى عهد الفاطميين إلى:

1 -

ديوان الإنشاء الذى يقوم بتنفيذ أوامر السلطة العليا.

2 -

ديوان المالية، ويقوم بجباية الأموال وإنفاقها.

3 -

ديوان الإدارة المحلية التى تحكم الولايات.

وتفرع عن كل ديوان من هذه الدواوين أقسام عديدة، كان لكل منها

عمل معين، وعلى الرغم من محاولة «جوهر الصقلى» إحلال المغاربة

محل المصريين فى الوظائف الإدارية، فإنه فشل فى ذلك، لجهل

البربر بدقائق الإدارة، فبقى المصريون من المسلمين وأهل الذمة فى

مناصبهم الإدارية، وتشير المصادر التاريخية إلى استخدام القبط

واليهود - بكثرة - فى مختلف دواوين الدولة.

النظام الدينى:

أطلِق لقب: «أصحاب الوظائف الدينية» على علماء الدين فى العصر

الفاطمى، وكانت هذه الوظائف تضم:

1 -

القضاء: ويعتمد على التشريع الإسماعيلى.

2 -

الدعوة: وتعتمد على العقيدة الشيعية للدولة.

ويتفق التشريع الشيعى مع التشريع السنى فى أن كلا منهما يعتمد

على القرآن الكريم والسنة النبوية كأساس للتشريع، مع اختلاف

جوهرى هو أن الفاطميين وضعوا تأويلا باطنيا لنصوص القرآن

والسنة؛ فالصلاة - مثلا - هى الفرائض الخمس المعروفة، ولكن معناها

ص: 39

الباطنى هو الإخلاص للإمام الباطنى، ولذلك لا يقبلون من الأحاديث إلا

ما رواه آل البيت ونُقل عنهم، حتى وإن كانت هناك أحاديث مشتركة

بين الطرفين اختلف رواتها.

لم يمنع المذهب الشيعى الاجتهاد، ولكنه اشترط أن يكون هذا

الاجتهاد قائمًا على الأصول التى وضعها الفاطميون، ولذا أصبح

اجتهاد الشيعة مقيدًا.

تولى أصحاب الوظائف الدينية الإشراف على القضاء فى أرجاء

الخلافة، فكان منهم: قاضى القضاة، وصاحب المظالم، والمحتسب،

وصاحب الشرطة.

وقامت الدعوة على أسس العقيدة الشيعية؛ لأن الدولة الفاطمية دولة

قامت على أسس مذهبية، وكانت دعوتها تُسمَّى رسميا: الدعوة

الهادية، أو الدعوة العلوية، وكان الهدف من هذه الدعوة تأييد حكم

الفاطميين ليترسخ فى النفوس حق الفاطميين فى حكم العالم

الإسلامى، فأيدت حق الإمام المطلق فى ولاية أمر المسلمين، ولجأت

إلى تأويل القرآن بما يتفق مع تأييد وجهة نظرها، بزعم أن أبناء

«فاطمة» بنت رسول الله وذريتها هم وحدهم القادرون على هذا

التأويل، ولديهم معنى واضح وآخر باطن لكل كلمة قرآنية.

بمجىء الفاطميين إلى «مصر» أصبحت «القاهرة» مقر داعى الدعاة؛

الذى له حق الإشراف على الدعوة فى «مصر» والعالم الإسلامى،

وعليه إرسال الدعاة فى أنحاء العالم أجمع للتبشير بمذهب

الفاطميين، ولهذا كان يجب عليه أن يكون عالمًا بالمذهب

الإسماعيلى، عارفًا بأسرار العقيدة، بليغًا، ذكيا، عالمًا بقواعد

الدين.

كانت مجالس الدعوة تُعقد بصفة منتظمة ودورية، فخصص يوم الأحد

للرجال، ويوم الثلاثاء للأشراف والشخصيات المرموقة، ويوم الأربعاء

للنساء، وكانت المحاضرات المقروءة فى هذه المجالس تُسمَّى:

مجالس الحكمة، أو مجالس الدعوة، فإذا فرغ الداعى من إلقاء

محاضرته تزاحم عليه الناس فى طقوس غريبة، فيمسح على رءوسهم

برقعة وضع عليها الخليفة توقيعه.

كان الداعى يلى قاضى القضاة فى الرتبة والمكانة، وكان راتبه

ص: 40

الشهرى مائة دينار مثل راتب القاضى، وتلقَّب بألقاب فخمة مثل:

«الشيخ الأجلّ» ، وكانت له سلطة روحية غير محدودة على جميع

الشئون السياسية والدينية فى الدولة.

النظام الحربى:

كان الجيش الفاطمى من أقوى الجيوش فى عصره، وكانت له دواوين

خاصة قامت على تنظيمه وإعداده، كديوان الجيش الذى أشرف على

إعداد الجنود وأعدادهم، وديوان الرواتب الذى اختص بتسجيل

العطاءات، وديوان الإقطاع الذى اختص بالنظر فى الإقطاعات التى

تمنحها الدولة لبعض العسكريين مقابل قيامهم بواجبات معينة، وقد

أتت مكانة قائد الجيش بعد صاحب الباب الذى كان يلى الوزير

مباشرة، وتميز قادة الجيش عن بعضهم بعلامات يحملونها، وسكن

الجنود فى معسكرات خاصة بهم حتى لا يضايقوا الأهالى فضلا عن

تواجدهم فى مراكز الحدود.

روى «المقريزى» : «أن خزائن المال وأمتعة الجيش حملها عشرون

ألف جمل، حين خرج جيش العزيز قاصدًا الشام، وعمل الفاطميون

على تزويد الجيش بأحدث أنواع الأسلحة. ولذا يمكن القول بأن الجيش

الفاطمى كان جيد الإعداد مثل غيره من جيوش الدول الكبرى آنذاك».

قام الأسطول الفاطمى بعدة حملات بحرية فى البحر المتوسط أثبت

خلالها شدة بأسه، وكانت له غزوات مظفرة على «بيزنطة»

و «إيطاليا» و «فرنسا» و «إسبانيا» ، ويروى «القلقشندى» أن وحدات

الأسطول الفاطمى كانت مرتبة ومتواجدة بجميع الشواطىء

الساحلية، ماعدا سواحل الشام التى فقدوا سيطرتهم عليها فى القرن

الأخير من حكمهم، فقد غلبهم عليها الصليبيون.

خصصت الدولة الفاطمية جزءًا كبيرًا من ميزانيتها للإنفاق على إعداد

الجيش وتجهيز رجاله بما يحتاجون إليه من أدوات الحرب وغيرها،

وكان للجيش ديوان خاص يُدعى «ديوان الجهاد» ، وأُنشئت الموانئ

لبناء السفن التى كان بعضها يتسع لحمل ألف وخمسمائة شخص،

وأصبح الأسطول الفاطمى من أكبر الأساطيل، وبقى نموذجًا احتذى

به الأيوبيون والمماليك.

مُنْشآت الفاطميين:

ص: 41

تميز العصر الفاطمى بمنشآته العديدة، وكان على رأسها تأسيس

«القاهرة» ، وإنشاء «الجامع الأزهر» ، وتشييد «القصر الشرقى» ،

و «القصر الغربى» ، و «قصر البحر» ، و «قصور عين شمس» ، و «جامع

الحاكم»، و «جامع الأولياء» .

تأسست مدينة «القاهرة» سنة (358هـ) لسبعة عشر يومًا خلت من

شهر شعبان، واختطت قبائل البربر مساكنها حول قصر «المعز» بها.

وأصبحت منذ ذلك اليوم مقرا للحكم، ومركزًا لنشر الدعوة الشيعية،

وحصنًا يصد هجمات الأعداء، وأطلق عليها اسم «المنصورية» نسبة

إلى «المنصور» والد «المعز» ، وقد اختلف المؤرخون فى سبب

تسميتها بالقاهرة؛ فذكر «ابن دقماق» : أن أساسها حُفِر أثناء طلوع

كوكب يُقال له «القاهر» فسميت به. وقيل إن «المعز» قال لجوهر

الصقلى: «لتدخلن فى خرابات ابن طولون، وتبنى مدينة تقهر الدنيا» ،

فلما حدث ذلك سماها «جوهر» «القاهرة» ، وهناك من ذكر أنها

سُميِّت بذلك لأنها تقهر من يشذ عنها.

أحاط «جوهر» «القاهرة» بسور كبير من الطوب اللَّبِن، وإلى الجنوب

الشرقى منها كانت مدينة «الفسطاط» ، وإلى الغرب منها وقع ميناء

«المقس» ، ثم وضع «جوهر» أساس القصر الذى شيده من أجل مولاه

«المعز» ، ذلك القصر الذى قيل عنه إنه احتوى على أربعة آلاف

حجرة، وتأثَّث بفاخر الرياش، وبأفخر ما يحتاج إليه خاصة الناس

لاسيما الملوك والخلفاء.

كانت «القاهرة» مدينة الخاصة، فلم يكن أحد يسكنها إلا الخليفة

ورجاله، وقد بنى «العزيز بن المعز» فيها قصرًا عُرِف بالقصر

الغربى، فعرفت المنطقة الواقعة بين قصرى «المعز» و «العزيز» -

الشرقى والغربى- باسم: «بين القصرين» ، وكان «الأزهر» أول مسجد

شُيد فى «القاهرة» المعزية، وقد شرع «جوهر» فى بنائه يوم السبت

الموافق (4 من رمضان سنة 359هـ)، وأقيمت الصلاة به لأول مرة فى

(7 من رمضان سنة 360هـ)، وصار منذ ذلك الوقت إلى الآن أشهر

جامع فى العالم الإسلامى، وكان «على ابن النعمان» أول مَنْ مارس

ص: 42

التدريس فيه، حيث أملى على الطلاب مختصر أبيه «القاضى النعمان»

فى الفقه على المذهب الشيعى، كما كان «العزيز بالله» أول مَنْ

حَوَّل «الأزهر» من مسجد تُقام فيه الصلاة إلى جامعة تُدرس فيها

العلوم، وهو أول مَن أجرى الأرزاق على طلاب العلم فيه، وتبعه فى

ذلك الخلفاء والأمراء والوزراء؛ فبنوا الأروقة لتكون منازل مُعَدَّة

لسكنى الطلاب، وجعلوا لكل بلد رواقًا خاصا بطلابه، فكان هناك

رواق الصعايدة، ورواق المغاربة، ورواق الأكراد .. الخ.

وبنى «العزيز بالله» قصورًا عديدة فى «عين شمس» ، وأسس «قاعة

الذهب»، وبدأ بناء مسجد أتمه ابنه «الحاكم» وفرشه بستة وثلاثين

ألف متر من الحصر، وأضاءه بالقناديل، وعلَّق على أبوابه الستور

الحريرية، وحبس عليه أملاكًا كثيرة لرعايته والإنفاق عليه، وفى سنة

(395هـ) أنشأ «الحاكم» «دار الحكمة» وألحق بها مكتبة كبرى أطلق

عليها اسم «دار العلم» ، وأنشأ «الظاهر» «قصر اللؤلؤ» ؛ الذى يُعدُّ

من أجمل قصور العصر الفاطمى، وظل مكانًا يلجأ إليه الخلفاء من

بعده وقت فيضان النيل.

ولنا أن نشير إلى اهتمام خلفاء الدولة الفاطمية ووزرائها بإقامة

المنشآت على النيل؛ لتوزيع المياه بطريقة تكفل زراعة أكبر مساحة

من الأراضى.

الحالة الاقتصادية:

وجَّه الفاطميون اهتمامهم إلى الزراعة والصناعة والتجارة، وفرضوا

الضرائب على بعض المنتجات، فقد قاست «مصر» الأمرَّين فى أواخر

الدولة الإخشيدية؛ حيث انخفض ماء النيل، وعم القحط وانتشر الوباء

لدرجة أن الناس عجزوا عن تكفين موتاهم، فلما فتح «جوهر»

«مصر» ، منع احتكار الحبوب، وعهد إلى المحتسب برقابتها فى

الأسواق، ثم عاد الخير إلى «مصر» ثانية بعودة مياه النيل إلى

الزيادة، فبلغت الأرض المنزرعة فى عهد «المعز» (285 ألف فدان)،

وارتقت البلاد زراعيا بفضل إنشاء القناطر وإقامة السدود، وتنظيف

الترع والمصارف، ثم حدثت المجاعة التى عُرفَت بالشدة العظمى فى

عهد «المستنصر» .

ص: 43

بزغ نجم «مصر» عاليًا فى مجال الصناعة فى عهد الفاطميين، وبرع

المصريون فى صناعة المنسوجات، وزادت ثروتهم من صادرات هذه

الصناعة لاسيما منتجات «دمياط» و «تنيس» و «الأشمونيين» ، التى

نالت منسوجاتها شهرة عالمية. كذلك ارتقت صناعات الفرش والسجاد

والسيرج والذهب والفضة، ورُصِّع عرش الخلافة الفاطمية بمائة وسبعةَ

عشر ألف مثقال من الذهب، ووُضع ستار قبالة هذا العرش رُصِّع بألف

وخمسمائة وستين قطعة من الجواهر المختلفة الألوان، وحُلى

بثلاثمائة ألف مثقال من الذهب الخالص، وكان لدى المستنصر طاووس

من الذهب مرصع بالأحجار الكريمة، وعيناه من الياقوت، وريشه من

الزجاج المموه بالذهب، كما وجد بدار الوزير «الأفضل» ثمانية تماثيل

لثمانى جوارٍ متقابلات، أربع منهن بيضاوات والأربع الأخر لونهن

أسود، مرتديات أفخر الثياب، متزينات بأثمن الجواهر، إذا دخل

«الأفضل» من باب المجلس نكسن رءوسهن إجلالا له.

كذلك برع المصريون فى صناعة الأطباق والصحاف والزجاج، لدرجة

أنهم استطاعوا إنتاج نوع شفاف من الزجاج يشبه «الزمرد» لنقائه

الشديد فكان يباع بالوزن.

وقد نشطت التجارة بين «مصر» والعالم نشاطًا ملحوظًا، وكانت حركة

السفن التجارية لا تتوقف غدوا ورواحًا بميناءى «عيذاب» ، و «القلزم»

(السويس)، وكانت نسبة الضرائب تزيد وتنقص تبعًا لزيادة المحصول

وقلته نتيجة الزيادة أو النقصان فى ماء النيل، وبلغت ضريبة الفدان

فى عهد «المعز» سبعة دنانير، وبلغت ضريبة الرءوس دينارًا وربع

الدينار عن كل فرد، ثم كانت الجزية التى تُحصَّل من قادرى اليهود

والنصارى دون ظلم أو إجحاف مقابل رعايتهم وإعفائهم من الخدمة

العسكرية، ولم تكن الجزية مبلغًا كبيرًا لقلة عدد اليهود والنصارى

بعد تحول معظم المصريين إلى الإسلام.

وفرضت الضرائب على الصناع والحرفيين، وروعى فيها العدل -غالبًا-

أثناء قوة الخلافة الفاطمية وخلفائها، فلما حَلَّ الضعف بها وتسلط

ص: 44

الوزراء على الخلفاء والبلاد؛ أُهملَت النواحى الاقتصادية، ولم يراعِ

هؤلاء الوزراء حالة المواطنين، فكان ذلك سببًا فى فتح أبواب البلاد

أمام الطامعين.

طوائف الشعب:

كان سواد الشعب المصرى من أهل السنة حين دخلها الفاطميون،

فحاولوا نشر مذهبهم الشيعى بالترغيب مرة وبالترهيب أخرى،

ومنحوا العطايا والهبات، فكان لذلك أثره الكبير فى اعتناق

الكثيرين للمذهب الشيعى، فضلا عن رغبة البعض فى الإبقاء على

وظائفهم؛ إذ تحتم على من يرغب فى الإبقاء على وظيفته اعتناق

المذهب الشيعى.

وكان المغاربة وعلى رأسهم الكتاميون الذين قدموا مع الجيش

الفاطمى، وقامت دولة الفاطميين بسواعدهم - ضمن طوائف الشعب

بعد أن استقر لهم الأمر، وطاب لهم العيش بمصر، وكذلك كان هناك

أهل الذمة من اليهود والنصارى؛ الذين تقلدوا مناصب رفيعة. وشغلوا

معظم الوظائف المالية، تُضاف إليهم طائفة الأتراك الذين كثر عددهم

منذ عهد الطولونيين، وظلوا بمصر، فدار بينهم وبين المغاربة تطاحن

وتنابذ فى عهد الحاكم، أما السودانيون فقد كثر عددهم منذ «كافور

الإخشيدى»، وقويت شوكتهم فى عهد «الحاكم» ، فاستعان عليهم

بالأتراك، ثم زاد خطرهم ثانية وقويت شوكتهم حين تزوج «الظاهر»

واحدة منهم.

مكانة المرأة:

كان للنساء شأن كبير فى الدولة الفاطمية، لدرجة أنهن كن يتدخلن

فى توجيه سياسة الدولة، وحققت الكثيرات منهن ثروات طائلة، مثل:

«رشيدة ابنة المعز لدين الله» ، التى بلغت ثروتها مليونًا وسبعمائة

ألف دينار، وكان لأختها «عبدة» خزائن عديدة ملأى بالحلى،

وصناديق كثيرة يحوى كل منها خمسة أكياس من «الزمرد» وثلاثمائة

قطعة فضية وثلاثين ألف ثوب صقلى وغير ذلك، وامتلكت الملكة

«تغريد» زوج «المعز» أموالا طائلة، وشيَّدت مسجدًا بالقرافة.

تزوج «العزيز» امرأة نصرانية من الروم، وعين أخويها بطريركين

بالإسكندرية و «بيت المقدس» ، وولدت «للعزيز» ابنه «الحاكم» وابنته

ص: 45

«ست الملك» ، فكان لها نفوذ كبير، ثم كان لابنتها «ست الملك» من

النفوذ والدهاء ما مكنها من تأجيل انهيار الدولة الفاطمية فترة طويلة

بعد أن أزاحت «الحاكم» عن العرش، كما سبق ذكره، وتركت «ست

الملك» ثروة ضخمة كان منها ثمانمائة جارية وعدد كبير من الأحجار

الكريمة، وبلغت مخصصاتها السنوية خمسين ألف دينار، وكانت زوجة

«الظاهر» وهى أم «المستنصر» من النساء اللاتى حظين بنفوذ كبير

فى الدولة الفاطمية، فأكثرت من بنى جلدتها السودانيين حتى وصل

عددهم إلى خمسين ألفًا.

لم يكن لنساء العامة أى أثر فى الحياة السياسية، ولم تذكر المصادر

أى نشاط لهن فى الدولة الفاطمية، فقد كان ذلك مقصورًا على نساء

الطبقة الحاكمة.

المواسم والأعياد:

كان للمصريين أعيادهم المختلفة ومواسمهم المعينة قبل الفتح

الإسلامى، علاوة على ما استجد من الأعياد الدينية بعد الفتح

الإسلامى، وبما أن الدولة الفاطمية دولة دينية مذهبية، فقد كانت

الحفلات بالنسبة إلى خلفائها مناسبة لتأكيد عقيدتهم، وعملوا على

صبغها بالصبغة المذهبية، فمن الأعياد التى كانت موجودة قبل الفتح

الإسلامى وظلت باقية بعده «عيد وفاء النيل» الذى ظل تقليدًا بعد

الفتح مع إدخال بعض التعديلات على الاحتفال به لتتناسب مع الدين

الإسلامى، وكان هناك «عيد الغطاس» الذى يحتفل فيه النصارى

بذكرى المسيح فى ليلة (11 من طوبة = 9من يناير)، وذكر

«المقريزى» أنها أحسن ليلة تكون بمصر وأشملها سرورًا ولا تغلق

فيها الدروب»، وعيد «النوروز» الذى يقول عنه «المقريزى»: «إنه

أول السنة القبطية بمصر، وهو أول يوم من توت، و «عيد الميلاد» فى

(29 من كيهك)، و «خميس العهد» .

أما الأعياد والمواسم الدينية التى عرفها المصريون بعد الفتح

الإسلامى؛ فلم تأخذ شكلها الفخم ومظهرها الرائع إلا بعد مجىء

الفاطميين، ومن أشهر هذه الأعياد:«عيد رأس السنة الهجرية» ، الذى

كانوا يعدون العدة للاحتفال به ابتداء من العشر الأواخر من شهر ذى

ص: 46

الحجة، فكان الاحتفال به مثالا للروعة والبهاء، كما كان لهم كبير

اعتناء بليلة أول المحرم من كل عام، وبأعياد ليالى الوقود الأربعة

وهى: الأول من رجب ونصفه، والأول من شعبان ونصفه، وكذلك

بعيدى «الفطر» و «الأضحى» ، وفيهما تُقَام الولائم وتُعدُّ الموائد

للشعب، وفى الثانى عشر من شهر ربيع الأول من كل عام يقام

الاحتفال بالمولد النبوى الشريف بمراسم خاصة فخمة تليق بالمكانة

العظيمة للنبى صلى الله عليه وسلم فى نفوس المسلمين. ذلك

بالإضافة إلى أعياد الشيعة المذهبية كعيد «غديرخم» نسبة إلى

الغدير الموجود بهذا الاسم بين «مكة» و «المدينة» ، ويذكر الشيعة أن

النبى صلى الله عليه وسلم نزل بموضع «الغدير» ، وآخى «علىَّ بن

أبى طالب» فى عودته من «مكة» إلى «المدينة» بعد حجة الوداع

سنة (10هـ)، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «علىٌّ منى كهارون من

موسى، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر مَنْ نصره،

واخذل مَنْ خذله»، فاعتبر الشيعة هذه المقولة بمثابة وصية من

الرسول لعلىّ، وأنه أحق بالخلافة من غيره. ومن احتفالات الفاطميين

احتفال بذكرى مقتل «الحسين بن علىّ» -رضى الله عنهما - وهو

عندهم يوم حزن يُمدُّ فيه سماط يُسمَّى «سماط الحزن» ، ذلك إضافة

إلى أعياد أخرى مثل الاحتفال بإرسال الكسوة بصحبة قافلة الحج،

والاحتفال بشهر رمضان، والاحتفال بذكرى مولد الكثير من الأئمة،

ومولد الخليفة القائم بالأمر.

ولا يعرف التاريخ دولة إسلامية استطاعت طبع «مصر» بطابع قوى

وجديد مثلما فعلت الدولة الفاطمية، التى مرت عبر صفحات التاريخ

شأنها شأن أىة دولة تباينت قوة وضعفًا، واعتورها الصواب

والخطأ، بيد أنها سطرت صفحة ناصعة من ألمع الصفحات فى التاريخ

الإسلامى تمثلت فى «الجامع الأزهر» ومدينة «القاهرة» .

ص: 47

الفصل السادس

*الدولة الأيوبية

[567 - 648 هـ = 1171 - 1250م].

أصل الأيوبيين:

يرجع أصل الأيوبيين إلى «نجم الدين أيوب» الكردى الأصل، وأبوهُ

يُدعَى «شادى» من قبيلة «الهذبانية» إحدى القبائل التى استقرت

ببلدة «روبن» بأطراف «أرمينية» . اتصل «شادى» والد «نجم الدين

أيوب» برجل اسمه «بهروز» كان مربيًا لأبناء السلطان السلجوقى

«مسعود» ، ثم أصبح حاكمًا لبغداد تحت سلطة السلاجقة سنة

(502هـ)، وكانت له مكانة سامية لدى السلطان السلجوقى، فأقطعه

السلطان «قلعة تكريت» ، فأسند «بهروز» حراستها إلى «نجم الدين

أيوب بن شادى»؛ الذى ظل فى حكمها وحراستها عدة سنوات

اكتسب خلالها الخبرة بشئون الإدارة، وتمتع فيها بحب الأهالى.

دب خلاف بين «بهروز» و «نجم الدين أيوب» ، فخرج «نجم الدين»

وأخوه «شيركوه» وأهلهما من «تكريت» عقب هذا الخلاف سنة

(532هـ)، فحزن الأهالى على ذلك حزنًا شديدًا؛ لما كان يحظى به

«نجم الدين» من محبة فى قلوبهم.

اتصال أيوب بعماد الدين زنكى:

خرج «أيوب» من القلعة، وعزم على المغامرة فى حوادث الشرق

الأدنى، وربط مستقبله بشخصية «عماد الدين زنكى» الذى عظمت

مكانته، واشتدت قوته، ورحب بمقدم أسرة «أيوب» إلى «الموصل» ،

واستقبلهم وأكرم وفادتهم، ثم أسند حكم «بعلبك» بعد فتحها إلى

«أيوب» سنة (534هـ)، وقلد «شيركوه» قيادة الجيش؛ فكانا عند

حسن ظنه، وأصبح «أيوب» محبوبًا من رعيته لعدله، واتصف

«شيركوه» بالشجاعة والإقدام والمغامرة وحب القتال.

صلاح الدين الأيوبى:

شاءت الأقدار أن يولد لأيوب ولد أسماه «يوسف» ليلة رحيله عن

«قلعة تكريت» سنة (526هـ)، فنشأ «يوسف» فى بلاط «زنكى»

بالموصل وعُرف باسم «صلاح الدين» ، وقضى طفولته فى ظل والده

«أيوب» ببعلبك، وأخذ عنه براعته فى السياسة، وشجاعته فى

الحروب، فشب خبيرًا بالسياسة وفنون الحرب، وتعلم علوم عصره

وتثقف بثقافة أهل زمانه، وحفظ القرآن، ودرس الفقه والحديث.

ص: 48

رحل «صلاح الدين يوسف» مع والده إلى «دمشق» بعد وفاة «عماد

الدين زنكى»، ثم دخل فى خدمة «نور الدين بن عماد الدين زنكى»

سلطان «حلب» ، فاستعان «نور الدين» بشيركوه وابن أخيه «صلاح

الدين» فى ضم «مصر» إليه.

قيام الدولة الأيوبية:

فى أواخر العصر الفاطمى قام صراع محموم بين «شاور» و «ضرغام»

على منصب الوزارة، فاستنجد «شاور» بنور الدين محمود، فلبى

نداءه وأرسل حملة كبيرة تحت قيادة «شيركوه» ومعه ابن أخيه

«صلاح الدين» ، فكان النصر حليف الحملة على «ضرغام» والصليبيين

الذين استنجد بهم، وقُتل «شاور» فى المعركة، فاعتلى «أسد الدين

شيركوه» كرسى الوزارة، ولكنه تُوفِّى بعد قليل، فخلفه فى

المنصب ابن أخيه «صلاح الدين» سنة (565هـ) وهو فى الثانية

والثلاثين من عمره.

عمل «صلاح الدين» على توطيد مركزه فى «مصر» ؛ لتأسيس دولة

قوية تحل محل الدولة الفاطمية التى ضعفت، وتحقق له ذلك بعد وفاة

«العاضد» آخر خلفاء الدولة الفاطمية سنة (567هـ).

العقبات التى اعترضت صلاح الدين:

لم تكن الأوضاع مهيأة أمام «صلاح الدين» لإقامة دولة إسلامية يكون

هو مؤسسها وسلطانها، خاصة أن العالم الإسلامى كان مفككًا

وضعيفًا ويحيط به الأعداء من كل جانب، بالإضافة إلى كونه نائبًا عن

«نور الدين محمود» فى «مصر» التى يطمع الصليبيون وبقايا

الفاطميين فى امتلاكها والسيطرة عليها، فعمل على مواجهة هذه

العقبات والقضاء عليها واحدة بعد الأخرى كالآتى:

أ - إلغاء المذهب الشيعى فى مصر:

كان «صلاح الدين» وزيرًا سنيا فى دولة شيعية، وتولَّى أكبر

المناصب بعد الخليفة، وأصبحت له الكلمة العليا فى إدارة شئون

البلاد، فتحولت مهمته المؤقتة التى جاء من أجلها مع عمه

«شيركوه» ، إلى إقامة دائمة بمصر مع ولائه لسيده «نور الدين

محمود»، وحذف اسم الخليفة الفاطمى «العاضد» من الخطبة، وجعلها

للخليفة العباسى ولسيده «نورالدين» من بعده، فزاد حاسدو «صلاح

ص: 49

الدين»، وأدرك أن تعدد المذاهب هو السبب الرئيسى فى ضعف

المسلمين، فعمل على إلغاء المذهب الشيعى فى «مصر» ، وتم له ما

أراد، وهوى نجم الدولة الفاطمية، وسقطت، وتولى «صلاح الدين»

رئاسة الدولة بعد صراع مرير مع بقايا الفاطميين وأنصارهم، وأصبح

المذهب السنى هو مذهب البلاد.

ب - الفتن الداخلية:

لاشك أن الإصلاح الحقيقى لأى بلد يحتاج إلى فترة كى يتفهمه

الناس ويشعروا به، لذا فقد صعب على دعاة الفتن مسعى «صلاح

الدين» لإصلاح أمر الأمة وتأسيس دولة قوية، خاصة أن الأعداء

يحيطون بمصر من كل جانب، فقامت حركات مناهضة لما يقوم به

«صلاح الدين» ، وكان من أشدها وأخطرها: الحركة التى قادها

الشاعر «عمارة اليمن» ، الذى طالما مدح الفاطميين وأيامهم، واعتبر

الأيوبيين مغتصبين للعرش الفاطمى، فعمل على إعادة الحكم

للفاطميين، ودعا عددًا كبيرًا من الجند، وانضم إليه المناصرون وبقايا

الفاطميين، وأصبحت حركته خطرًا يهدد دولة الأيوبيين الوليدة، إلا أن

«صلاح الدين» تمكن من إفشالها، وقبض على قادتها، وما كادت

الأوضاع تهدأ حتى قامت فتنة أخرى فى «أسوان» تدعو إلى عودة

البيت الفاطمى، فأرسل «صلاح الدين» أخاه «العادل» الذى تمكن من

دخول «أسوان» والقضاء على هذه الفتنة فى سنة (570هـ).

ج - تطور العلاقة بين صلاح الدين ونور الدين محمود:

لم تكن الفتن الداخلية هى العقبة الوحيدة التى واجهت «صلاح الدين»

فى بداية حكمه لمصر فحسب، ولكنه كان أحد قواد «نور الدين

محمود»، وحكم «مصر» نيابة عنه، وذكر اسمه فى الخطبة بعد

الخليفة العباسى، وضرب السكة باسمه.

وقد كانت تبعية «صلاح الدين» لنور الدين تبعية اسمية، ولم يتدخل

«نور الدين» فى شئونه، وكان هو الحاكم الفعلى لمصر، وله جيشه

وحاشيته، ويتمتع بحب رعيته، ولكن «نور الدين» كان يعتمد على

مساعداته لصد أعدائه من السلاجقة والصليبيين، إلا أن الفتن الداخلية

ص: 50

التى قامت فى وجه «صلاح الدين» لم تمكنه من مساعدة «نور الدين»

فى حربه، وظل على ذلك حتى وفاة «نورالدين» سنة (569هـ)،

فتولى من بعده ابنه الملك «إسماعيل بن نور الدين» وكان لايزال

طفلا صغيرًا، فضعفت الدولة فى عهده.

د - وحدة المسلمين:

كان لنجاح «صلاح الدين» فى التغلب على الفتن الداخلية التى

واجهته منذ أن أصبح وزيرًا بمصر، وارتداد الحملة الصليبية إلى

«دمياط» سنة (564هـ) أكبر الأثر فى ذيوع اسمه فى أرجاء العالم

الإسلامى، ونظر إليه الناس نظرة إجلال، واعتبروه أحد القادة

العظماء؛ لوقوفه فى وجه الصليبيين، ونجاحه فى فتح

«اليمن» ،ونجاحه فى القضاء على حركة «عمارة اليمن» .

وقد أثرت وفاة «نور الدين محمود» على دولته فى بلاد الشام، وقام

تنازع شديد بين الأمراء على مَن يعتلى العرش، وانتهى الأمر بتولية

«إسماعيل بن نور الدين» عرش أبيه وهو مايزال فى الحادية عشرة

منْ عمره، فوقع فريسة للصراع بين الأمراء، وضاعت بذلك هيبة

الدولة النورية وقوتها، وبدت عليها مظاهر التفكك والضعف لدرجة أن

أحد الأمراء لم يقو على مواجهة الفرنجة وقتالهم، فعمل على

مهادنتهم واسترضائهم بالمال؛ ليأمن شرهم ويتجنب مواجهتهم.

كان «صلاح الدين» متابعًا للأحداث التى تجرى فى العالم الإسلامى

من حوله، فقرر التدخل فى شئون «الشام» وضمه إلى «مصر» كى

يحول دون وقوعه غنيمة فى أيدى الصليبيين، وليحمى «مصر»

والإمارات الإسلامية من أى خطر يهددها، وجعل هدفه توحيد صفوف

المسلمين وقوتهم فى جبهة واحدة؛ ليتمكنوا من صد الصليبيين

وحصرهم بين شِقَّى الرحى فى الجزيرة والشام من جهة، وفى

«مصر» من جهة أخرى، وانتظر «صلاح الدين» الفرصة لتحقيق ذلك

حتى واتته الفرصة حين استنجد به بعض أمراء «دمشق» ، فسار إلى

الشام وتمكن دون قتال من السيطرة والاستيلاء على «دمشق» سنة

(570هـ)، ثم على «حمص» و «حماة» ، وحال الملك «الصالح

إسماعيل» دون دخوله إلى «حلب» ، فقرر «صلاح الدين» حصارها،

ص: 51

فاستنجد أهالى «حلب» بأعداء الدولة، واضطر «صلاح الدين» إلى

فك الحصار عن «حلب» ، واستولى على «بعلبك» ليحمى جيشه من

الخلف، ثم عاد ثانية لحصار «حلب» ، وأعلن استقلاله، وحذف اسم

«الصالح إسماعيل» من الخطبة، واتصل بالخليفة العباسى، فمنحه

لقب سلطان.

هـ - السلطان صلاح الدين وتوحيد باقى الولايات الإسلامية:

بعد حصول «صلاح الدين» على لقب السلطان استقل عن أسرة «نور

الدين»، وأصبح حاكم «مصر» الرسمى، وقوى مركزه باستيلائه

على «منبج» و «إعزاز» ، وشدد حصاره على «حلب» ، وعزلها عن

جيرانها حتى طلب «الصالح إسماعيل» الصلح، فوافق «صلاح

الدين»؛ لأن هدفه كان وحدة المسلمين وحماية بلادهم.

تُوفِّى صاحب «الموصل» سنة (578هـ)، ومن بعده تُوفى «الصالح

إسماعيل»، فعاد الانقسام ثانية من أجل الوصول إلى كرسى الحكم،

فزحف «صلاح الدين» إلى الشام فى سنة (578هـ)، وانضمت إليه

بعض المدن دون قتال، واستولى على «حلب» ، وبذا أصبح شمال

الشام كله تحت سيطرته، ولم يعد أمامه سوى مدينة «الموصل» التى

سعى حاكمها إلى التصالح مع «صلاح الدين» ، وتعهد بإرسال

المساعدات الحربية إذا طُلب منه ذلك، فخضعت بذلك جميع الإمارات

الإسلامية الشامية تحت سلطان «صلاح الدين» ، وتمكن من توحيد كلمة

المسلمين تمهيدًا للنضال ضد الصليبيين.

موقف صلاح الدين من الصليبيين:

ظل «صلاح الدين» يعمل على توحيد العالم الإسلامى مدة عشر

سنوات فى الفترة من سنة (572هـ) إلى سنة (582هـ)، حتى تحقق له

ما أراد، واستعد لمواجهة الصليبيين المتربصين بالعالم الإسلامى، ثم

تصدَّى لهم، فسجل التاريخ أبرز صور البطولة، وأسمى درجات الفداء

والجهاد ضد هؤلاء المغتصبين، وكان من أبرز هذه المعارك ما يأتى:

واقعة حِطِّين [583هـ = يولية 1187م]:

تعد «حِطِّين» من أشهر الحروب التى خاضها «صلاح الدين» ضد

الصليبيين، بعد سلسلة من الحروب التى خاضها مثل: موقعة «مرج

ص: 52

العيون» سنة (574هـ) التى انتصر فيها عليهم، ثم موقعة «مخاضة

الأحزان» سنة (575هـ)، ثم حدثت الهدنة بين الطرفين، ولكن الصليبيين

لم يكفُّوا عن محاولة السيطرة على «مصر» وبلاد الشام، وظل «صلاح

الدين» وفيا بعهده؛ لما عرف عنه من الشجاعة والمروءة والمحافظة

على العهد، إلى أن نقض «أرناط» حاكم «حصن الكرك» الهدنة معه

فى سنة (583هـ)، وهاجم إحدى قوافل الحج، فكانت هذه الجريمة

هى الشرارة التى أشعلت نار الحرب بين الفريقين، فقد غضب «صلاح

الدين» من هذا العمل الوحشى، خاصة وأن القافلة كانت فى طريقها

إلى حج بيت الله الحرام، فهدد «صلاح الدين» «أرناط» وأنذره بالقتل

إذا تمكن منه، وأعد عدته لقتال الصليبيين، ووافته الإمدادات من

المدن الشامية والمصرية، وسار إلى «طبرية» وحاصرها، فلما علم

الصليبيون باستعداداته الحربية اجتمعوا ببلدة تُدعى «صفورية» ،

وتناقشوا فى خطة الحرب الواجب اتباعها إزاء «صلاح الدين» ،

واستقر رأيهم على هجوم المسلمين، وتقدموا واحتلوا تلا على مقربة

من «حِطِّين» فى الوقت الذى تمكن فىه «صلاح الدين» من السيطرة

على مدينة «طبرية» باستثناء قلعتها التى استعصت عليه، فتركها

ومضى لملاقاة الصليبيين.

وفى سنة (583هـ = يولية 1187م) دارت الموقعة الحاسمة بين جيش

المسلمين بقيادة البطل الشجاع «صلاح الدين» وبين الصليبيين، فشن

جيش المسلمين حملة هزت جنبات «حطين» ، وكان نداء «الله أكبر»

و «لا إله إلا الله محمد رسول الله» حافزًا قويا ومؤثرًا فى دخول

الجنود المعركة ولا هم لهم إلا النصر أو الشهادة، فنصرهم الله نصرًا

مؤزرًا، ونال الصليبيون هزيمة ساحقة، وفر مَنْ بقى منهم هربًا،

فسجد «صلاح الدين» شكرًا لله على ما منحه من نصر، وكان هذا

الانتصار فاتحة خير على المسلمين، وبداية لسلسلة من الانتصارات

على الصليبيين، واستسلمت «قلعة طبرية» وسلمت لصلاح الدين عقب

هذا الانتصار، واتجه «صلاح الدين» صوب الساحل وحاصر «عكا»

ص: 53

حتى استسلمت بعهد وأمان، ثم تتابع -بعد ذلك - استسلام باقى

المدن الساحلية التى تقع جنوب «عكا» وهى: «نابلس» و «الرملة»

و «قيسارية» و «أرسوف» و «يافا» و «بيروت» ، وكذا المدن الواقعة

شمال «عكا» مثل: «الإسكندرونة» ، وكلها حصلت على العهد بالأمان

من «صلاح الدين» الذى لم يبق أمامه سوى أن يمضى فى طريقه إلى

«فلسطين» ، فاستسلمت «عسقلان» له أثناء مروره بها، وحانت

المواجهة الحاسمة لتحرير «بيت المقدس» .

الفتح المبارك:

شاءت إرادة الله أن يكون تحرير «المسجد الأقصى» - أولى القبلتين

وثالث الحرمين الشريفين ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم -

على يدى البطل الشجاع «صلاح الدين الأيوبى» ، الذى حاصر مدينة

«بيت المقدس» حتى اضطر مَنْ بداخلها إلى الاستسلام وطلب الصلح،

فأجابهم «صلاح الدين» إلى طلبهم وأمهلهم مدة أربعين يومًا للجلاء

عن المدينة ومعهم أمتعتهم، وترك بسماحته زوجة «أرناط» تخرج من

المدينة بسلام مع مَن خرج، ولم يتعرض «صلاح الدين» لأحد بسوء،

وسمح لبطريق المدينة بالخروج مثل باقى الأهالى الذين حملوا معهم

ثرواتهم وكنوزهم وتحفهم، ودخل «بيت المقدس» ، وبدأ على الفور

فى إصلاحها، ورمَّم «المسجد الأقصى» ، وأقام فيه فترة بعد أن

حرره من المغتصبين المستعمرين، ليعلو صوت الحق والعدل من جديد،

ويصبح «صلاح الدين» ثانى القادة الفاتحين - الذين دخلوا هذه

المدينة - بعد «عمر بن الخطاب» - رضى الله عنه-الذى فتحها الفتح

الأول.

صلح الرملة:

أوشكت الأمور على الاستقرار بعد الانتصارات العظيمة التى حققها

«صلاح الدين الأيوبى» ، ولكن أوربا أرادت أن تحول دون تحقيق

ذلك، وأرسلت حملة من أقوى الحملات الصليبية وأكثرها عددًا وعدة

وعتادًا؛ ضمت ملوك أوربا بعد أن دعا البابا إلى حرب المسلمين،

وأعلن قدسية هذه الحرب، فتشكلت حملة من «ألمانيا» وأخرى من

«فرنسا» وثالثة من «إنجلترا» ، وخرجت جميعها فى طريقها إلى

ص: 54

العالم الإسلامى لتخريبه، فوقف «صلاح الدين» صامدًا أمام هذه

الحملات الكبيرة التى أتت من البر والبحر، واستطاعت السيطرة على

المناطق الساحلية، ومع ذلك عمد «صلاح الدين» إلى تقوية جيشه

وتنظيم جبهته الداخلية على الرغم من مرضه، فطلب الصليبيون الصلح

الذى عُرف بصلح الرملة، وبدأت المفاوضات بين «الملك العادل» نائبًا

عن «صلاح الدين» ، و «ريتشارد» قائد حملة الصليبيين، واتفق

الطرفان على «صلح الرملة» الذى كان من أهم شروطه:

أ - تخريب «عسقلان» ؛ لأنها مفتاح «بيت المقدس» .

ب - يحكم الصليبيون الساحل من «صور» إلى «يافا» ، ويكون جنوبى

ذلك الساحل لصلاح الدين، على أن يقع «بيت المقدس» فى حدوده

وتحت سيطرته.

ج - يُسمَح للمسيحيين بالحج إلى «بيت المقدس» فى أمن وأمان.

وهكذا اتفق الطرفان على بنود هذا الصلح التاريخى، ليكون بداية

مرحلة جديدة لهذه البلاد، التى فقدت قائدها «صلاح الدين» عقب هذا

الصلح، ليأخذ الصراع مع الصليبيين وضعًا آخر.

وفاة صلاح الدين الأيوبى:

خرج «صلاح الدين» من «القاهرة» لآخر مرة فى طريقه إلى الشام

سنة (578هـ)، لتوحيد صفوف المسلمين وإعدادهم لقتال الصليبيين،

وعلى الرغم من طول فترة حكمه التى بلغت أربعة وعشرين عامًا

فإنه لم يمكث فى مصر سوى ثمانى سنوات فقط، فلما أراد مغادرة

«القاهرة» فى المرة الأخيرة، خرج رجال القصر لتوديعه عند بركة

الجيش وأنشده أحد الشعراء شعرًا استاء منه، وشعر أنه لن يرى

«مصر» ثانية، وقد صح حدسه؛ إذ مرض أثناء مفاوضاته مع

الصليبيين فى «صلح الرملة» ولزم فراشه؛ ثم لقى ربه فى سنة

(589هـ = 1193م)، وله من العمر خمسة وخمسون عامًا، بعد أن أسر

الناس بجليل أعماله، وقهر الصليبيين بشجاعته، وخلَّص العالم

الإسلامى بقوة إيمانه من كوارث داخلية وخارجية كادت تودى به

وتوقعه فى أيدى الأعداء.

يُعدُّ «صلاح الدين» من الشخصيات العظيمة النادرة فى التاريخ

ص: 55

الإسلامى، فقد كان سياسيا ماهرًا، وقائدًا محنكًا نبيلا، مخلصًا فى

تصرفاته، ميالا إلا التسامح والعفو، محبا للعلم والأدب، وفيا مع

أصدقائه وأعدائه على السواء.

خلفاء صلاح الدين [589 - 648هـ = 1193 - 1250م]:

بعد وفاة «صلاح الدين» انقسمت السلطنة الأيوبية بين أبنائه الثلاثة

وأخيه وبعض أقاربه، فاستقل ابنه «العزيز» بمصر، واستقل ابنه

«الأفضل» بدمشق و «وسط سوريا» ، وابنه «الظاهر» بحلب، أما أخوه

«العادل» فحكم «العراق» و «ديار بكر» و «الرها» ، وتولَّى أبناء

عمومته «حماة» و «حمص» و «بعلبك» و «اليمن» ، وهكذا قضى أبناء

«صلاح الدين» وأقاربه على وحدة الدولة، ولم يفهموا الهدف الذى

سعى طيلة حياته من أجل تحقيقه.

العزيز عماد الدين [589 - 595هـ = 1193 - 1199م]:

خلف «صلاح الدين» على عرش «مصر» أصغر أبنائه «الملك العزيز» ،

وكان شابا فى الحادية والعشرين من عمره، يتصف بالشجاعة

والرحمة والعفة والأخلاق الحميدة، وحكم «مصر» فى حياة أبيه

«صلاح الدين» نيابة عنه، ومكَّنه ذلك من اعتلاء عرشها عقب وفاته،

إلا أنه كان يفتقد إلى الدراية السياسية فى تسيير أمور البلاد

واستقرار أحوالها، فاستعان بعمه «العادل» واستوزره ليقوم بهذه

المهمة، ومات «العزيز» فى سنة (595هـ).

المنصور ناصر الدين [595 - 596هـ = 1199 - 1200م]:

خلف «العزيز» ابنه «الملكُ المنصور» وهو طفل فى التاسعة من

عمره، فحكم «مصر» مدة سنة وتسعة أشهر، فرأى «الملك العادل»

أن الدولة أوشكت على الانهيار تحت حكم الملك الطفل، فجمع العلماء

والفقهاء فى مجلس للتشاور فيما يجب فعله، فقرر الجميع وجوب

خضوع الصغير للكبير، وتولى «العادل» عرش «مصر» ، فأصبحت تحت

يده أهم أجزاء دولة «صلاح الدين» ، واعترفت الولايات بسيادته،

وساهمت فى حروبه، وضربت «السكة» باسمه، وخُطب له فوق كل

المنابر الإسلامية:

السلطان العادل سيف الدين [596 - 615هـ = 1200 - 1218م]:

ص: 56

يعد «العادل» أعظم سلاطين الأيوبيين بعد «صلاح الدين» ، فقد

اكتسب خبرة واسعة من اشتراكه مع أخيه «صلاح الدين» فى غزواته

ومفاوضاته وإدارة الأقاليم، إذ وكل إليه «صلاح الدين» معاونة

«العزيز» فى حكم «مصر» ، كما عهد إليه بحكم «حلب» ، ثم

«العراق» ، وذاع صيت «العادل» بين ملوك «أوربا» ، واشتهر

بالكفاءة والدهاء والدراية بشئون الحكم، ولم يتأخر فى حمل

المسئولية حين رأى تدهور الأوضاع بمصر وحاجتها إليه، فكان

الرجل المناسب لتلك المرحلة.

بعض الصعوبات التى واجهت العادل:

تأثر «العادل» تأثرًا بالغًا بشخصية أخيه «صلاح الدين» ، فسار على

نهجه فى إدارة البلاد، رغم الصعوبات التى واجهته، فقد ثارت ضده

طائفة الشيعة الإسماعيلية مثلما ثارت من قبل فى وجه أخيه «صلاح

الدين»، وحاولت هذه الطائفة زعزعة ملك «العادل» وتفريق البلاد

وتشتيت الصفوف، فعمل «العادل» على الحيلولة دون حدوث ذلك،

وتمكن من القبض على عناصرها وسجنهم سنة (605هـ)، فخرجت

جماعة أخرى تنادى بتولية أحد أبناء «صلاح الدين» أمور الدولة،

وكان هذا الابن لايزال طفلا صغيرًا، فاستطاع «العادل» التغلب عليهم

وإعادة الاستقرار إلى بلاده، إلا أن انخفاض مياه النيل كان إحدى

العقبات الطبيعية التى واجهته، فقد حدثت بسببه مجاعة وقحط

شديدان؛ نتيجة قلة الزراعة، كما أن الحملات الصليبية لم تهدأ فى

عهده؛ إذ لم ترضَ «أوربا» عن استقرار أحوال البلاد الإسلامية،

فعملت على زعزعتها، وأرسلت حملة صليبية هاجمت «مصر» ووصلت

إلى «دمياط» وحاصرت حصونها، ثم تمكنت منها، واستولت على

برجها الحصين «برج السلسلة» ، يضاف إلى ذلك كله العقبات الداخلية

التى واجهت «العادل» أثناء حكمه لمصر.

وفاة العادل:

على الرغم مما واجهه «العادل» من صعاب داخلية وخارجية فى

الحكم، فقد اتسع ملكه إلى حد كبير، وقلَّده الخليفة العباسى

بمرسوم رسمى حكم «مصر» والشام وأرض الجزيرة، وخلع عليه

ص: 57

الخلع الثمينة، فوزع «العادل» حكم مملكته الواسعة بين أبنائه

التسعة عشر نيابة عنه؛ ليضمن وحدتها وتماسكها، فأناب ابنه

«الكامل» عنه فى «مصر» ، وجعل «المعظَّم عيسى» على الشام،

و «نجم الدين أيوب» على «ميافارقين» ونواحيها، وأناب ابنه

«الأشرف مظفر» على «الولايات الشرقية» .

وقد ضمن «العادل» وحدة دولته فى حياته، إلا أنه تركها إرثًا موزعًا

بين أبنائه بعد وفاته، فكان لذلك أثره الخطير فى قوة الدولة

وتماسكها.

وحين سمع «العادل» بسقوط «برج السلسلة» بدمياط حزن حزنًا

شديدًا، فمرض ومات سنة (615هـ)، وكتم أصحابه خبر موته ونقلوه

إلى «دمشق» ، حيث تولى ابنه «الكامل» حكم «مصر» .

كان «العادل» حاكمًا عادلا، ذكيا، حليمًا، حسن التدبير، محبًا للعلماء

والأدباء ومشجعًا لهم، كما كان سياسيا محنكًا، قام برحلات عديدة

جاب بها أطراف مملكته الشاسعة، كى يضمن استتباب الأمن والنظام،

كما كان متفقدًا لأحوال أبنائه فى الأقاليم التى أنابهم عنه فى

حكمها.

الكامل ناصر الدين [615 - 635هـ = 1218 - 1237م]:

حكم «الكامل» «مصر» نيابة عن أبيه «العادل» فى حياته، فلما مات

استقل الكامل بحكم «مصر» فى ظروف حرجة، إذ كان الصليبيون

منتصرين فى «دمياط» ، وكان عليه دحر هذا الانتصار الذى أدى إلى

موت أبيه كمدًا، وخرج عليه عدد من الأمراء لعزله فى الوقت الذى

يتصدى فيه للصليبيين بدمياط، فتمكن من التغلب عليهم، ولكن

الصليبيين استغلوا حالة التمرد والتفكك الداخلى واستولوا على

«دمياط» ، إلا أن «الكامل» استطاع توحيد بلاد المسلمين، وتمكن من

دخول «نابلس» ، وتحرير «بيت المقدس» ، واتسع ملكه لدرجة جعلت

أئمة المساجد يدعون له من فوق المنابر بقولهم: «سلطان مكة

وعبيرها، واليمن وزبيرها، ومصر وصعيدها، والشام وصناديدها،

والجزيرة ووليدها، سلطان القبلتين، ورب العلامتين، وخادم الحرمين

الشريفين».

ورث عن أبيه صفاته الطيبة، فكان قائدًا قديرًا، وسياسيا بارعًا،

ص: 58

وإداريا نشيطًا، حازمًا يدير أمور دولته بنفسه، لدرجة أنه لم يعين

وزيرًا بعد وفاة وزير أبيه، وقام بالأمر بمفرده، وكان محبا للحديث،

مشجعًا للعلماء والأدباء، فقد كان عالمًا، ينظم الشعر ويجيده. ظل

فى حكم البلاد التى تحت يديه حتى وفاته سنة (635هـ)، فأخذت

الدولة فى الضعف والانحلال من بعده.

العادل الثانى [635 - 637هـ = 1237 - 1240م]:

يُطلَق اسم «العادل الصغير» أو «العادل الثانى» على هذا السلطان،

تمييزًا له عن الملك «العادل» أخى «صلاح الدين» ، وقد كان «العادل

الثانى» نائبًا عن أبيه «الكامل» فى حكم «مصر» ، فلما مات أبوه

أصبح سلطانًا على «مصر» ، ولكن اضطراب الأوضاع، وضعف الدولة

جعلاه لا يستمر طويلا فى حكم البلاد، فتولى أخوه «الصالح نجم

الدين أيوب» الحكم من بعده.

الصالح نجم الدين أيوب (637 - 647هـ = 1240 - 1249]:

ورث «الصالح نجم الدين أيوب» عرشًا مضطربًا، مزعزع الأركان جلب

عليه الكثير من المشاكل والمتاعب، فدبر أموره، وأعد عدته وتمكن

من القضاء على أكثر هذه المصاعب التى واجهته رغم شدتها، فلما

تم له ما أراد تحول بقوته إلى مواجهة الصليبيين، ولم يألُ جهدًا فى

جهاده ضدهم، واستطاع استعادة «بيت المقدس» ثانية من قبضتهم،

فاستقرت له الأحوال، وحل السلام بينه وبين أمراء مملكته، وتفرغ

لمواصلة جهاده ضد الصليبيين؛ أملا منه فى تحرير البلاد كافة من

أطماعهم.

بداية المماليك:

أكثر «الصالح نجم الدين أيوب» من استجلاب المماليك لمساعدته فى

حروبه ضد الصليبيين، فنبغ منهم عدة أشخاص كان لهم أكبر الأثر

فى تغيير مجرى السياسة المصرية، ومنهم «شجرة الدر» الأرمينية

الأصل، والتى كانت أم ولد للصالح نجم الدين أيوب، ولازمته فى

حياة أبيه «الكامل» ، وظلت معه بذكائها حتى أنجبت من «الصالح

أيوب» ابنه «خليل» فتوطدت مكانتها، فلما أصبح سلطانًا على

«مصر» اتخذها إلى جواره ملكة غير متوَّجة، فقد كانت تعمل على

راحته، ووجد فيها ما يحبه.

ص: 59

وفاة الصالح نجم الدين أيوب:

مات «الصالح أيوب» فى ليلة النصف من شعبان سنة (647هـ)، وكانت

الحرب لاتزال دائرة بين المسلمين والصليبيين أمام «المنصورة» ،

فأعملت «شجرة الدر» عقلها وتجلى ذكاؤها، وأخفت خبر وفاته عن

الناس فى تلك الفترة العصيبة من تاريخ «مصر» و «الشام» ، وأمرت

أحد أطبائه بغسل جثمانه ووضعه فى تابوت، ثم حمله فى الظلام

إلى «قلعة الروضة» ، ثم إلى «قبو» بجوار المدرسة الصالحية ودفنه

هناك، وأخبرت الأمراء أن «السلطان مريض لا يصل إليه أحد» ، ولم

تعلن خبر وفاته إلا بعد انتصار المسلمين على الصليبيين، ورد

حملتهم، فاستمر العزاء ثلاثة أيام بلياليها بمدرسته، وبعثت «شجرة

الدر» بالسناجقة السلطانية، وأمرت بأن تُعلَّق داخل القاعة على

ضريح «الملك الصالح» ، ليرى الزائر آلات الجهاد التى كان يحملها آخر

سلاطين «بنى أيوب» فى جهاده ضد الصليبيين فى معركة

«المنصورة» ، فقد كان «الصالح أيوب» من أعظم سلاطين «مصر»

وأشجعهم.

المعظم توران شاه [647 - 648 هـ = 1249 - 1250م]:

قبل أن تعلن «شجرة الدر» عن وفاة الملك «الصالح أيوب» أرسلت

فى استدعاء ابنه «توران شاه» الذى كان غائبًا عن «مصر» ، فقد

كان فى «حصن كيفا» ، وقبل وصوله أصدرت أوامرها للأمراء

وأكابر رجال الدولة بأن يحلفوا يمين السلطنة لتوران شاه، وأمرت

خطباء المساجد بالدعاء له، وأدارت «معركة المنصورة» حتى وصل

«توران شاه» ، فتسلم قيادة الحرب وزمام الملك، ولم يمكث على

عرش السلطنة أكثر من شهرين، ثم خرج لملاقاة الصليبيين الذين

دخلوا «المنصورة» ، وأخذوا يتقدَّمون نحو «القاهرة» ، فتصدَّى لهم،

وقاد المعركة بمهارة فائقة حتى تم النصر للمسلمين، فأحبه الناس

وقدروه، إلا أن سيرته لم تكن حسنة، فقتل سنة (648هـ).

نهاية الدولة الأيوبية:

تولت «شجرة الدر» زمام سلطنة «الأيوبيين» فى «مصر» لمدة ثمانين

يومًا عقب مقتل «توران شاه» ، ثم تزوجت «عز الدين أيبك»

ص: 60

التركمانى، وتنازلت له عن العرش بسبب المشاكل التى واجهتها،

وعدم رضى الخليفة العباسى عن توليها السلطنة، ولكن «عز الدين»

كان رجلا ضعيف الرأى، فأسدل الستار على الدولة الأيوبية، إحدى

أعظم الدول الإسلامية فى العصور الوسطى، بعد أن نالت مكانة

عظيمة فى تاريخ المسلمين، وبدا فى الأفق ظهور دولة جديدة فى

تاريخ المسلمين هى دولة المماليك.

النظم والحضارة فى العصر الأيوبى:

النظام السياسى:

كان السلطان الأيوبى يطلب من الخليفة العباسى - بصفته الرئيس

الأعلى لبلاد المسلمين - تفويضًا يجعل حكمه فى «مصر» شرعيا، رغم

أن سلطان الأيوبيين على البلاد التى تحت أيديهم كان سلطانًا مطلقًا،

ولم تكن للخلافة العباسية عليه أية نفوذ، ولكن سلاطين الدولة

الأيوبية حرصوا على الحصول على هذا التفويض دومًا، وكان «الناصر

صلاح الدين» أول مَنْ اتشح بخلعة الخليفة العباسى من سلاطين

«مصر» الأيوبيين.

ألقاب السلطان وأعماله:

يُعدُّ «صلاح الدين» أول مَنْ اتخذ لقب السلطنة من حكام «مصر» ، وقد

حصل على لقب «سلطان» ، ولقب:«محىى دولة أمير المؤمنين»

لأعماله الجليلة التى قام بها فى نشر المذهب السنى والقضاء على

المذهب الإسماعيلى الشيعى، ونجاحه فى مناهضة الصليبيين وصدهم

عن بلاد المسلمين، ومع ذلك فقد كان «صلاح الدين» رجلا متواضعًا،

واتخذ من لقب: «السلطان الملك الناصر» لقبًا للتعامل، رغم حصوله

على ألقاب عديدة تحمل فى طياتها معانى العظمة والأبهة والجاه

مثل: «السيد العالم العادل المظفر المنصور، ناصر الدنيا والدين،

سلطان الإسلام والمسلمين، وارث الملك، سلطان العرب والعجم

والترك، إسكندر الزمان، صاحب القبلتين، خادم الحرمين الشريفين،

سيد الملوك والسلاطين»، ومما لاشك فيه أن هذه الألقاب تبين عظمة

ما بلغه سلاطين الدولة الأيوبية، خاصة أن لكل لقب من هذه الألقاب

موقفًا عظيمًا وحادثًا جللا خاضه السلطان فمُنح اللقب على إثره.

ص: 61

دُوِّنت الألقاب فى الرسائل التى تُبودلت بين السلاطين وملوك «أوربا»

وفى الكتابات التاريخية، وعلى السكة والعمائر، والتحف الفنية،

وفهارس دار الآثار العربية.

كان السلطان يقيم مع أسرته وحاشيته ورجال بلاطه فى «قلعة

الجبل»، وهو رئيس الدولة الأعلى الذى له الحق فى الهيمنة على

شئون الأمراء الخاصة والعامة، وفى تدرجهم الوظيفى، وفى توزيع

الإقطاعات والجنود عليهم وتحديد أنصبتهم، وكان على السلطان

تعيين موظفى الدولة وعزلهم، وتأديبهم والنظر فى المظالم وقيادة

الجيوش فى الحروب.

وكان للدولة الأيوبية مجلس شورى تُقَرُّ من خلاله مشروعات الدولة

الحيوية كإعلان حرب أو إبرام صلح أو إصلاح لهيكل من هياكل

الدولة، وكان هذا المجلس يُسمَّى:«مجلس السلطنة» ، وكان أعضاؤه

من كبار موظفى الدولة للاستئناس بآرائهم ومشورتهم قبل الإقدام

على تنفيذ المشروعات والخطط، ويتولى «أمير مجلس» -الذى يشبه

منصبه منصب كبير الأمناء - الآن - الأمور الخاصة بمجلس السلطنة، وله

حق التصرف فى شئون البرتوكول، كما كان يتمتع بالجلوس فى

حضرة السلطان بحكم هذه الوظيفة.

نائب السلطان:

نيابة السلطنة وظيفة استحدثها السلاطين الأيوبيون، فأصبح النائب

كأنه سلطان ثانٍ، ويشترك مع السلطان فى منح لقب الإمارة،

وتوزيع الإقطاعات، وتعيين الموظفين، وتوقيع المراسيم

والمنشورات، وتنفيذ القوانين، والخروج على رأس فرق الجيش فى

المواكب الرسمية، يحف به الأمراء عند دخوله أو خروجه من قصر

السلطان، وكان يُلقَّب بكامل المملكة الشريفة الإسلامية، لأن من

اختصاصاته تصريف أمور الدولة عامة سواء أكان السلطان بالقاهرة

أم كان متغيبًا عنها.

وهناك نوع آخر من النيابة يقول عنه «المقريزى» : «يقوم النائب فيها

بمهام الدولة إذا خرج السلطان إلى الصيد، أو سار على رأس الجيش

فى حرب خارجية».

الوزير:

اتخذ سلاطين الدولة الأيوبية فى «مصر» وزراء لم يحددوا سلطتهم،

ص: 62

ولم يجعلوها مقصورة على التنفيذ، بل جعلوها سلطة مطلقة،

فأصبحت الوزارة أعلى الوظائف وأرفعها، وأصبح صاحبها باب

الملك المقصود، ولسانه الناطق، ويده المعطاءة.

النظام القضائى فى عهد الأيوبيين:

فى سنة (564هـ) افتتح الناصر «صلاح الدين» مدرستين لتدريس

الفقه، وجعل إحداهما لتدريس الفقه الشافعى، وجعل الأخرى للفقه

المالكى، وفصل جميع القضاة الشيعة، وعين بدلا منهم قضاة من

الشافعية السنيين، فاقتصر القضاء على مذهب الإمام «الشافعى» ،

كما أن قاضى الشافعية «صدر الدين درباس» لم يُنب عنه فى أقاليم

«مصر» إلا من كان شافعيا، ومن ثم انتشر المذهب الشافعى فى

«مصر» وما يتبعها من أقاليم.

وكان الذى يتولى منصب القضاء فى «القاهرة» وسائر أعمال الديار

المصرية، فى عهد الأيوبيين قاضٍ واحد هو بمثابة قاضى القضاة،

وله حق إنابة نواب عنه فى بعض الأقاليم.

أعوان القاضى:

كان للقاضى فى عهد الأيوبيين أعوان يساعدونه على العدل فى

الحكم وإعادة الحقوق إلى أصحابها، فكان منهم «الجلواز» الذى

يستعين به القاضى على تنظيم قاعة الجلسة، وحفظ النظام، وترتيب

الخصوم وفق ترتيب حضورهم، ومنعهم من التقدم إلى القاضى فى

غير دورهم، ومراعاة الآداب فى مجلس القضاء. ومنهم «الأعوان»

ومهمتهم إحضار الخصوم إلى المحكمة، والقيام بين يدى القاضى عند

نظره فى الخصومات إجلالا لمركزه .. ومنهم «الأمناء» ومهمتهم حفظ

أموال اليتامى والغائبين. ومنهم «العدول» ومهمتهم مراعاة دقة

عبارات السجلات والعقود ومطابقتها للشرع، وتزكية الشهود.

وقد استقرت النفوس وهدأت فى ظل هذا النظام القضائى المنضبط،

لأن القضاء العادل من شأنه أن يجعل الناس سواء، خاصة أن مصادر

القضاء الإسلامى المتمثلة فى القرآن والسنة وإجماع العلماء

والاجتهاد كانت هى الأسس التى سار عليها قضاة ذلك العصر، فقلَّت

المظالم، واستقرت أحوال البلاد.

التطور الاقتصادى فى العهد الأيوبى:

ص: 63

تأخذ الأمم القوية بأسباب قوتها، وتعمل على استثمار الإمكانات

المتاحة لها لتنمية ثرواتها، لذا فإن تقدم الأمم وقوتها مرتبط بنجاح

اقتصادها وقوته واستمرار روافده، وكانت الدولة الأيوبية إحدى

الدول القوية ذات الاقتصاد القوى، فقد امتلكت ما تركه الفاطميون

عقب سقوط دولتهم، ونظمت الخراج والجزية، بالإضافة إلى غنائم

حروبها وفدية الأسرى، واستخدمت هذه الموارد لصالح البلاد

الإسلامية كافة، وأنفقت على تسليح الجيش وإعداده جزءًا كبيرًا

منها، وبنت القلاع والحصون، وقامت بالإصلاحات الداخلية فى البلاد.

غَيَّر «الناصر صلاح الدين» النظام الاقتصادى الذى كان سائدًا قبله،

وقلل من النظام الإقطاعى، فقضى بذلك على استقلال أمراء

الإقطاعات، وقوَّى الحكومة المركزية، فكان لهذا أثره الكبير فى

ازدهار حالة البلاد الاقتصادية.

وقد أولى «الأيوبيون» الزراعة عنايتهم؛ فهى عماد حياة البلاد،

فطهَّروا الترع، وأقاموا الجسور، ونظموا وسائل الرى، لدرجة أن

السلطان «الكامل» كان يراقب المهندسين بنفسه أثناء إقامتهم

السدود والخزانات، وغير ذلك من أعمال الرى الخاصة، فنشطت

الزراعة دون أن تؤثر الحروب عليها، فقد كانت حروب الأيوبيين

تتوقف فى «سوريا» شتاءً، وهو موسم الزراعة فى «مصر» .

ونشطت التجارة كما ازدهرت الزراعة فى العصر الأيوبى، وأصبحت

«مصر» -آنذاك - همزة الوصل بين تجارة الشرق والغرب، وعقد

السلطان «العادل» معاهدة تجارية مع «البندقية» فى سنة (605هـ =

1208م)، حصل البنادقة بمقتضاها على تسهيلات تجارية فى الموانى

المصرية، خاصة «الإسكندرية» ، فى مقابل أن يمنعوا الصليبيين، من

التقدم نحو «مصر» ، فلما ولى السلطان «الكامل» حكم البلاد أقر ما

اتفق عليه السلطان «العادل» مع أهل «البندقية» ، وسمح لهم

بتأسيس سوق تجارية فى الإسكندرية، سُمِّيت «سوق الأيك» ، ومنح

الامتيازات نفسها لأهل «بيزة» الذين أرسلوا قنصلا لهم إلى

ص: 64

«الإسكندرية» ، فأدت هذه الخطوات إلى ازدهار التجارة وانتعاش

الاقتصاد، وزيادة دخل الدولة.

وجدير بالذكر أن «مصر» مرت بانتكاسة اقتصادية فى عهد «العادل»

نتيجة انخفاض مياه النيل الذى ترتب عليه قلة الزراعة، فحدثت

المجاعة واشتد القحط، وبذل «العادل» جهودًا كبيرة لمواجهة هذه

الأزمة، فكان يخرج بنفسه أثناء الليل ويوزع الأموال على الفقراء

والمساكين والغرباء، ولكن الموقف ازداد سوءًا وتفاقم خطره حين

وقع زلزال مروِّع وقت المجاعة هدم كثيرًا من المبانى، وأزهق

أرواحًا لا تُحصَى فى «مصر» والشام، ولكن الأوضاع سرعان ماعادت

إلى طبيعتها بعد زيادة مياه النيل سنة (601هـ = 1204م)، فزادت

الغلال وخفت المجاعة، وانتهى أمر النكبة بعد أن تكاتف الجميع

للقضاء عليها وإعادة الاقتصاد إلى سابق عهده؛ ليتتابع الكفاح ضد

الصليبيين من جديد. وهكذا كان اقتصاد الدولة الأيوبية اقتصادًا منظمًا

زادت فيه موارد الدولة وشعر الجميع بانتعاش اقتصادى عَمَّ أرجاء

البلاد.

النظام الحربى فى عهد الأيوبيين:

كانت حياة الأيوبيين سلسلة متتابعة من الجهاد والنضال والقتال،

ولذا كان اهتمامهم بالجيش وعنايتهم بأمره، لدرجة أن سلاطين «بنى

أيوب» أنفقوا معظم إيرادات الدولة على إصلاح الجيش، وبناء ما

يلزمه من الحصون والقلاع، فلعب الجيش دورًا خطيرًا خلال تلك الحقبة

من التاريخ الإسلامى.

تألف معظم الجيش الأيوبى من الترك والأكراد، وكان له «مجلس حرب»

اعتاد السلطان أن يستشيره فى الخطط التى يجب أن تُتبع، وكان

يخضع لرأى المجلس مهما يكن.

قسم الأيوبيون الجيش إلى عدة فرق، تُنسَب كل منها إلى أحد القواد

العظماء، فكانت هناك فرقة «الأسدية» نسبة إلى «أسد الدين

شيركوه»، و «الصلاحية» نسبة إلى «صلاح الدين» .. إلخ، وكان

لأمراء هذه الفرق نفوذ كبير، وكان الجيش مكونًا من الفرسان

والمشاة، وكانت أسلحته من السهام والرماح والنبال والنار اليونانية.

ص: 65

ألَّف «الصالح أيوب» جيشه من الأتراك والمماليك الذين استكثر من

شرائهم، وبنى لهم قلعة بجزيرة الروضة جهزها بالأسلحة والآلات

الحربية والأقوات، وأسكنهم فيها، وعُرفوا منذ ذلك الحين باسم

المماليك البحرية، وقد أسسوا دولة -فيما بعد- عُرِفَت باسمهم.

البحرية فى العهد الأيوبى:

لم يقتصر إعداد «صلاح الدين» على الجند فى البر وتحصين البلاد، بل

وجه اهتمامه إلى سلاح البحرية الذى بلغ درجة عظيمة من التقدم،

واهتم بتأسيس الأسطول اهتمامًا كبيرًا خاصة أن الصليبيين كانوا

يستخدمون البحر فى هجومهم على البلاد الإسلامية، ومن ثَمَّ أصبح

لزامًا على المسلمين الاستعداد لحملات الصليبيين البحرية، فأعد

«الناصر صلاح الدين» العدة لتأسيس وتكوين أسطول إسلامى

يستطيع مجابهة حملات الصليبيين المعتدين، وكانت أولى خطواته

فى ذلك: تخصيص ديوان كبير، عُرف باسم «ديوان الأسطول» . وأفرد

له «صلاح الدين» ميزانية خاصة، وعهد به إلى أخيه «العادل» .

واستطاع «صلاح الدين» تكوين أسطول قوى تمكن بواسطته من

مواجهة الصليبيين، وأصبح هذا الأسطول من أكبر الأساطيل فى ذلك

الوقت، ورابط فى البحر الأحمر، وفى شرق البحر الأبيض، وتمكن من

تحقيق انتصارات هائلة.

لم يألُ الأيوبيون جهدًا فى سبيل تنظيم الجيش والأسطول، وليس أدل

على اهتمام السلاطين بالأسطول البحرى من أنهم كانوا يشركون

معهم الأهالى عند عرض الجيوش والأساطيل، أو عند توديعهم للغزو،

فقد كان قدر هذه الدولة أن تقوم بمحاربة الصليبيين وردهم عن البلاد

الإسلامية، فأدت هذه الأسباب فى النهاية إلى وجود دولة قوية ذات

سيادة، فرضت احترامها على أصدقائها وأعدائها، وحررت بلاد

المسلمين من الأعداء، لأنها عرفت الأسباب التى تؤدى إلى القوة

والازدهار.

المنشآت الحضارية فى العهد الأيوبى:

رغم كثرة حروب العهد الأيوبى إلا أنه كان حافلا بالإنشاءات

العظيمة، فقد بُنيت فيه المدارس والمستشفيات، ونُسِّقت الحدائق،

ص: 66

وأُقيمت المنشآت الحربية للدفاع عن الدولة أو للهجوم على العدو

طبقًا لظروف الدولة الحربية، وكان من أهم هذه الإنشاءات الحربية

وأولها:

- قلعة الجبل:

وتُعدُّ من أبرز ما خلَّفه الأيوبيون من منشآت فى «القاهرة» ، فمازالت

شاهد صدق على عظمة هذه الدولة إلى اليوم، وإن الناظر إليها ليدرك

مدى عناية الأيوبيين بالمنشآت والقلاع الحربية التى كانت منتشرة

فى بلادهم، خاصة المدن الشامية التى هى خط الدفاع والهجوم الأول

للدولة، لم يكن بناء «قلعة الجبل» مجرد تقليد أو مظهر أراده «صلاح

الدين» ليظهر به، وإنما بناها لتكون مقرا لحكومته، ومعقلا لجيشه

الكبير، وحصنًا يمكِّنه من الإشراف على حاضرة دولته. ويحميه من

القلاقل الداخلية، وكذلك لتكون نقطة دفاعية يصد منها غارات

المغيرين على «مصر» سواء أكانوا من الصليبيين أم غيرهم.

وقد استخدم «صلاح الدين» الأسرى فى تشييد قلعته، ومع ذلك لم

يتمكن من إتمام تشييدها فى عهده، فلم يتم منها سوى الهيكل

والبئر الحلزونى.

وكانت بالقلعة - على الرغم من ارتفاعها - بئر عمقها تسعون مترًا،

مملوءة بالماء العذب، مثقوبة فى الحجر، بأسفلها سواقٍ تدور فيها

الأبقار، فتنقل الماء إلى وسطها الذى توجد فيه أبقار تنقل بدورها

الماء إلى أعلاها، ويُعدُّ هذا البئر من أعجب الآبار، ويعرف باسم «بئر

يوسف» نسبة إلى «صلاح الدين يوسف بن أيوب» .

أتم السلطان «الكامل محمد» بناء «القلعة» فى سنة (604هـ)، ثم

انتقل من دار الوزارة إليها. وكان للقلعة سور، وأبراج، وثلاثة

أبواب، أحدها من جهة «القرافة» و «جبل المقطم» ، والثانى من جهة

جدارها البحرى ويُعرَف باسم «باب السر» ، والثالث يقع مدخله فى

أول الجانب الشرقى من القلعة، ويصل الداخل منه إلى فناء مستطيل

به دواوين الحكومة، وبهذا الفناء باب يُسمَّى:«باب القبلة» ، وتمتد

منه دهاليز فسيحة، وعلى يسار الداخل منها باب يوصل إلى جامع

ص: 67

الخطبة وهو من أعظم الجوامع لاتساع أرجائه، وكثرة زخرفته، وفى

وسطه قبة تليها مقصورة ليصلى فيها السلطان صلاة الجمعة، وبصدر

الدهاليز مدخل يوصل إلى الإيوان الكبير الذى نُصب به سرير الملك؛

وهو منبر من الرخام، وتمتد من هذا الإيوان مساحة كبيرة بها القصر

الذى بناه «الظاهر بيبرس» فيما بعد.

صارت «قلعة الجبل» منذ تم بناؤها مقر الدواوين السلطانية ودور

الحكومة، فقد كانت حصينة جدا، وتشتمل على كثير من القصور،

والإيوانات، والطباق والأحواش، والميادين، والإصطبلات، والمساجد،

والمدارس، والأسواق، والحمامات، وكانت بها دار الوزارة، وديوان

الإنشاء، وديوان الجيش، ودار النيابة، وبيت المال، وخزانة السلطان

الخاصة، والدور السلطانية، وكذلك الأبراج التى كان الخارجون على

السلطان ونظام الدولة يُحبسون بها.

وكان نقش بابها: «بسم الله الرحمن الرحيم» . أمر بإنشاء هذه القلعة

الباهرة، المجاورة لمحروسة القاهرة بالعرصة، التى جمعت نفعًا

وتحصينًا وسعة على من التجأ إلى ظل ملكه مولانا الملك الناصر

صلاح الدنيا والدين أبو المظفر يوسف بن أيوب محىى الدولة أمير

المؤمنين فى نظر أخيه وولى عهده الملك العادل سيف الدين أبى

بكر محمد خليل أمير المؤمنين، على يد أمير مملكته ومعين دولته

قراقوش عبدالله المكى الناصرى فى سنة تسع وسبعين وخمسمائة».

إنشاء المدارس:

عُنى «صلاح الدين» ببناء المدارس، فبنى مدرسة بالقرب من قبر

الإمام «الشافعى» بالقرافة، وبنى مدارس الناصرية والقمحية، وكذلك

نهج نهجه سلاطين «بنى أيوب» ، فأسس الملك «الكامل» مدرسة دار

الحديث الكاملية؛ نسبة إليه، وكانت عبارة عن بناء متجه إلى القبلة،

وفى وسطه صحن كبير مربع، وفى كل جانب من جوانبه الأربعة

إيوان، وتعلوها قبة تحتها محراب، ومن ثَمََّ لم تختلف المدارس عن

المساجد من حيث الهيئة والشكل.

وكان الطلبة يذهبون إلى تلك المدارس بانتظام لتلقى العلم مجانًا،

ص: 68

وكان سلاطين الدولة الأيوبية يهتمون بالمدارس وإنشاء المزيد منها،

ويوقفون عليها الأوقاف الكثيرة، ويرتبون لها الفقهاء والعلماء

لتدريس المذاهب الفقهية الأربعة، فكثرت بها المباحثات والمناقشات

بتشجيع من السلاطين الذين شُغفوا بالبحث العلمى، كما كان منهم مَنْ

ينظم الشعر ويجيده كالملك الكامل.

تأسيس المنصورة:

يُعدُّ إنشاء مدينة «المنصورة» من الأعمال العظيمة التى خلدت ذكر

دولة الأيوبيين، فقد أنشأها السلطان «الكامل» سنة (616 هـ =

1218م)؛ إذ قام بإنشاء مدينة على الشاطىء الشرقى لفرع «دمياط»

عقب سقوط «دمياط» فى أيدى «لويس التاسع» ، واتخذ «الكامل»

المدينة الجديدة مركز دفاع له يقاوم به الصليبيين.

وبعد أن تمكن «الكامل» من استرجاع مدينة «دمياط» من أيدى

الصليبيين أطلق اسم «المنصورة» على مدينته الجديدة تيمنًا بالنصر،

ثم ما لبثت هذه المدينة الجديدة أن اتسعت، واشتهرت منذ إنشائها

بأنها مدينة حصينة، وكانت سجن «لويس التاسع» ومَنْ كانوا معه

حين تم أسرهم ووضعهم بدار الحكمة، التى مازالت معروفة لدى

العامة حتى اليوم باسم «دار ابن لقمان» نسبة إلى «القاضى فخر

الدين بن لقمان» الذى كان ينزل بها كلما جاء إلى «المنصورة» .

قلعة الروضة:

بناها السلطان «الصالح نجم الدين أيوب» فى جنوب «جزيرة

الروضة» سنة (638هـ)، وهى تشغل مساحة كبيرة من الأرض، وقد

عُمِّرت بالأبنية والقصور، وجُهزت بالأسلحة والمعدات والآلات الحربية.

وأنشأ فيها «نجم الدين» جامعًا، وشيد برجًا، وبنى لمماليكه البحرية

ثكنات لسكناهم، فلما تم بناؤها وتجهيزها انتقل إليها مع أفراد

أسرته ومماليكه البحرية، واتخذها مقرا لحكمه.

وظلت «قلعة الروضة» عامرة حتى زالت الدولة الأيوبية، وتولى

«أيبك» السلطنة، فأمر بهدمها، ونقل جميع ما بها إلى «قلعة الجبل»

التى أسسها «صلاح الدين» .

عاصمة مصر فى العصر الأيوبى:

ربما يتبادر إلى الذهن سؤال حول عاصمة الأيوبيين، ولماذا لم يعمد

ص: 69

«صلاح الدين» إلى إنشاء عاصمة جديدة لدولته جريا على سياسة مَنْ

سبقوه من ولاة «مصر» وخلفائها؟ والإجابة: أن «صلاح الدين» استن

فى ذلك سنة جديدة، وضم «الفسطاط» و «العسكر» و «أطلال

القطائع» و «القاهرة» بعضها إلى بعضها الآخر بقصد توسيع مدينة

«القاهرة» وجَعْلها فى ثوبها الجديد عاصمة لدولته، بعد أن أحاطها

بسور عظيم طوله خمسة عشر كيلو متر (15كم)، ومتوسط عرضه ثلاثة

أمتار، وبنى واجهة هذا السور من الحجر المنحوت وتتخلله الأبراج،

ولاتزال بقاياه قائمة حتى اليوم فى جهات متفرقة، وأظهر هذه

البقايا موجود بالفسطاط، وقد اقتضى ضم تلك العواصم إلى بعضها

وإحاطتها بالسور وبناء القلعة هدمَ المبانى الموجودة فى ضواحى

«القاهرة» من «مصر القديمة» إلى «السيدة زينب» ، وأقيمت حدائق

للفاكهة مكان هذه المبانى، كما أقيم سد من الحجارة على حافة

الصحراء بالجيزة؛ لحماية «القاهرة» من ناحية الغرب، وأصبحت هذه

العواصم مجتمعة - بعدما أُدخل عليها من تعديل - عاصمة الدولة

الأيوبية فى «مصر» آنذاك.

وبعد:

فقد كان العصر الأيوبى عصرًا حافلا بالإصلاحات والإنشاءات التى

خدمت فن العمارة خدمات بارزة فى «مصر» و «سوريا» ، وكما خدم

الأيوبيون العلم بإنشاء المدارس وتشجيع العلماء ومساعدة الطلبة؛

كذلك خدموا العالم الإسلامى بالمحافظة على المذهب السنى والقضاء

على المذهب الإسماعيلى الشيعى، ذلك بالإضافة إلى إسهاماتهم

الجليلة التى قدموها للمسلمين كافة فى المجالات السياسية

والاقتصادية والحضارية والحربية.

رحم الله سلاطين «بنى أيوب» الذين ضحوا بكل شىء فى سبيل

إعلاء كلمة «لا إله إلا الله محمد رسول الله» إرضاءً لله وخدمة

للمسلمين، وإعلاءً لمكانة الأمة الإسلامية.

ص: 70

الفصل السابع

*دولة المماليك البحرية

[648 - 784 هـ = 1250 - 1382 م].

أصل المماليك:

أكثر الأيوبيون من شراء المماليك الأتراك، وبنوا لهم الثكنات بجزيرة

الروضة، وأطلقوا عليهم اسم «المماليك البحرية» ، فقويت شوكتهم،

وزادت سطوتهم، وسنحت لهم الفرصة بعد ذلك، فتولوا حكم «مصر» .

كانت الغالبية العظمى من جماعات المماليك الذين جلبهم الأيوبيون

وسلاطين المماليك من بعدهم تأتى من «شبه جزيرة القرم» و «بلاد

القوقاز»، و «القفجاق» ، و «آسيا الصغرى» ، و «فارس» ،

و «تركستان» ، و «بلاد ما وراء النهر» ، فكانوا خليطًا من الأتراك،

والشراكسة، والروم، والروس، والأكراد، فضلا عن أقلية من مختلف

البلاد الأوربية. والمماليك طائفة من الأرقَّاء الذين اشتراهم سلاطين

«مصر» وأكثروا منهم، لاسيما فى العهد الفاطمى، ثم تهيأت لهم

الظروف ليحكموا «مصر» و «الشام» ، وبلاد أخرى، ومع ذلك احتفظوا

أثناء حكمهم لمصر بشخصيتهم، ولم يختلطوا بأى عنصر من عناصر

السكان فى «مصر» وفى غيرها من البلاد التى حكموها.

وكان المماليك ينقسمون فيما بينهم إلى أحزاب وطوائف متنافسة،

ولكن هذا الانقسام لم يكن يؤثر على وحدتهم أمام العالم الخارجى

حين يواجهونه، فقد كانوا يظهرون كعصبة واحدة متحدة، ويفسر

ذلك سر قوتهم وأسباب تفوقهم وانتصاراتهم الحربية.

وكان باب الترقى فى حكومة المماليك مفتوحًا على مصراعيه أمام

كل مملوك يثبت كفاءته فى العمل، فيترقى من مملوك إلى أمير

حتى يصل إلى عرش المملكة بكفاءته واجتهاده، فالسلطان لم يكن

إلا واحدًا من أمراء المماليك، قدموه على أنفسهم لقوة شخصيته،

ووفرة أنصاره، وكثرة جنوده، وقدرته على المنافسين الطامعين

فى العرش، ولقد سطرت دولة المماليك الأولى «المماليك البحرية»

صفحة مضيئة من تاريخ «مصر» خاصة، والتاريخ الإسلامى عامة،

على أيدى سلاطينها الأقوياء الذين عملوا على توحيد البلاد، ورفع

رايات الجهاد، وهم:

-1 العز أيبك:

ص: 71

بعد أن زالت دولة الأيوبيين، وانتقل الحكم إلى المماليك باختيار «عز

الدين أيبك التركمانى» لعرش السلطنة (648 - 655هـ) لم تستقر

الأوضاع تمامًا، شأن كل فترات الانتقال من نظام إلى نظام، أو بناء

دولة وليدة على أنقاض أخرى بائدة، ولم يخلُ عهد «أيبك» من

المنازعات التى نشبت بينه وبين المماليك على السلطنة، خاصة أن

«فارس الدين أقطاى» رئىس «المماليك البحرية» لم يكن مقتنعًا

بأيبك، فدارت بينهما مناوشات كثيرة، وتمكن «أيبك» من القضاء

على «أقطاى» ، ولكنه لم يلبث طويلا بعد ذلك وقُتل؛ ليتولى العرش

من بعده ابنه «على» .

2 -

على بن أيبك (المنصور نور الدين)[655 - 657هـ]:

تولى «المنصور» عرش السلطنة عقب مقتل أبيه، وتلقب بالمنصور نور

الدين، إلا أنه لم يكن أهلا لهذه المسئولية الجسيمة، خاصة أن البلاد

الإسلامية - آنذاك - كان يتهددها خطر المغول، الذين سيطروا على

مركز الخلافة الإسلامية، بالإضافة إلى أن «المنصور» كان لايزال

طفلا فى الحادية عشرة من عمره، ولذلك لم يجد الأتابك «سيف الدين

قطز» صعوبة فى عزله وتولى عرش السلطنة بدلا منه.

3 -

سيف الدين قُطُز:

كان «قطز» أتابكًا للمنصور نور الدين على بن أيبك، ورأى هولاكو

قائد المغول قد سيطر على «بغداد» ، وقتل خليفة المسلمين، وزحف

يهدد بغزو «مصر» ، فأحس أن ظروف البلاد تتطلب منه أن يقوم بدور

فعال فى إنقاذها من خطر الغزو فى هذه المرحلة الخطيرة، فعزل

«على بن أيبك» الذى كان صغيرًا لا يدرك عاقبة الأمور، وتولى

السلطنة، وقام بتنظيم الجيش وإعداده، وخرج لملاقاة التتار فى

أواخر شهر شعبان عام (658هـ)، وتمكن فى رمضان من العام نفسه

من إلحاق هزيمة نكراء بهم فى «عين جالوت» (تقع بين «بيسان»

و «نابلس» بفلسطين)، وقتل من جيش التتار ما يقرب من نصفه، وأجبر

الباقى على الفرار، ثم دخل بعد ذلك «دمشق» ، ثم عاد إلى «مصر» .

وفى «القصير» (بمحافظة الشرقية)، وفى طريق عودة «قطز» إلى

ص: 72

«مصر» أمر جنوده بالرحيل تجاه «الصالحية» ، وبقى مع بعض خواصه

وأمرائه للراحة، فاتفق عدد من المماليك بزعامة «بيبرس» على قتله،

وتم لهم ما أرادوا فى ذى القعدة سنة (658هـ)، بعد أن قام «قطز»

بدحر التتار وهزيمتهم، وتشتيت جيشهم، وحفظ العالم الإسلامى من

شرهم الذى لم يسلم منه أحد فى طريقهم.

4 -

الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدارى (658 - 679هـ):

انتقل عرش السلطنة بعد «قطز» إلى «ركن الدين بيبرس» ، الذى يُعدُّ

المؤسس الفعلى لدولة المماليك وأعظم سلاطينها؛ إذ اجتمعت فيه

صفات العدل والفروسية والإقدام.

عقد «بيبرس» العزم على أن تكون «مصر» والشام من أعظم البلاد

آنذاك، ووهب حياته للجهاد، وجعل هدفه رفع شأن الأمة الإسلامية،

وإليه يرجع الفضل فى انتقال الخلافة العباسية إلى «القاهرة» بعد

سقوطها فى «بغداد» ، وأصبحت مصر دار الخلافة الإسلامية؛ إذ

استقدم «بيبرس» «أحمد بن الخليفة الظاهر العباسى» ، وبايعه

بالخلافة فى حضرة الأمراء والعلماء ورجال الدولة.

وفى (4 من شعبان سنة 659هـ)، عقد الخليفة اجتماعًا منح فيه

«بيبرس» تفويضًا منه لتسيير أمور البلاد، فكان ذلك تقوية له ضد

خصومه ومنافسيه، كما كان إقرارًا بمشروعية النظام المملوكى،

وبحقه فى تولى شئون البلاد.

عادت إلى العالم الإسلامى هيبته بإحياء الخلافة الإسلامية، وأضحت

«القاهرة» مقر الخلافة، ومركز السلطة الإسلامية المركزية، ومقصد

المسلمين من كل حدب وصوب، وظلت على ذلك حتى انتقلت منها

الخلافة إلى «استانبول» بعد قرابة ثلاثة قرون.

ملامح من إصلاحات بيبرس:

سَنَّ «بيبرس» نظام ولاية العهد لأول مرة فى تاريخ دولة المماليك

البحرية، وحصر وراثة العرش فى أسرته بتعيين ابنه «محمد بركة

خان» وليا للعهد، ليحد من تدبير الدسائس والمؤامرات حول عرش

السلطنة، وما يجره ذلك من اضطراب وضعف للدولة.

قام «بيبرس» بإصلاحات جوهرية فى البلاد، وأعاد إلى الأسطول

ص: 73

البحرى قوته، وعين قضاة من المذاهب الأربعة للفصل فى

الخصومات، بعد أن كان القضاء مقصورًا على المذهب الشافعى،

فعادت إلى العالم الإسلامى قوته على أسس تنظيمية دقيقة، إذ كان

«بيبرس» إداريا حازمًا، وقائدًا شجاعًا، فدأب على رعاية شئون

البلاد، وتنمية مواردها، وحفر الترع، وأصلح الحصون، وأسس

المعاهد، وبنى المساجد التى من أشهرها مسجده المعروف باسمه

فى ميدان «الظاهر» بالقاهرة.

وكانت لبيبرس هيبة كبيرة فى قلوب أمراء البلاد، فخشوا بأسه

لدرجة أن أحدهم لم يجرؤ على الدخول عليه فى مجلسه إلا بطلب

وإذن منه.

وقام «بيبرس» بدوره على خير وجه فى محاربة المغول والصليبيين

تقليدًا للقائد البطل «صلاح الدين» ، وأصدر عدة قوانين لتطبيق

الشريعة الإسلامية، وإصلاح الأوضاع الاجتماعية فى «مصر» ، وأمر

فى سنة (664هـ) بمنع بيع الخمور، وإغلاق الحانات، ونفى

المفسدين.

وكان «بيبرس» قائدًا شجاعًا، ضُربَت ببطولته وشهامته الأمثال، فقد

خاض معارك ومواقع عديدة، سجل فيها بطولات رائعة، وأبلى بلاءً

حسنًا فى مطاردة الصليبيين وتشتيتهم وإجلائهم عن الشرق الأدنى،

واستعاد فى سنة (666هـ)«قيسارية» ، و «أرسوف» ، و «صفد» ،

و «شقيف» ، و «يافا» ، و «طرابلس» ، و «أنطاكية» ، فأضعف ذلك

الصليبيين، وأنهكهم، وزاد من قوة المسلمين، وحرص على أن يؤكد

صورة الحاكم العادل الذى يجلس بنفسه للمظالم، ويعطف على

الفقراء.

وفى (27 من المحرم سنة 676هـ = 1277م) تُوفِّى «الظاهر بيبرس»

إثر عودته من واقعة «قيسارية» بالقرب من «دمشق» ، وقد دُفن بها

بعد حياة حافلة بالبطولة والشجاعة، سطر خلالها صفحات مجيدة

مازال التاريخ يحفظها له وسيظل.

أولاد بيبرس فى السلطنة (بركة خان، وسلامش):

تولى «السعيد بركة خان» السلطنة عقب وفاة أبيه، وكان عمره

تسع عشرة سنة، وكانت تنقصه الحنكة السياسية التى كانت

متوافرة لأبيه، فنشبت الصراعات الحادة بين أمراء المماليك على

ص: 74

السلطنة، واضطربت الأوضاع وزادت القلاقل، ولم يتمكن «بركة خان»

من السيطرة على الموقف، أو النهوض بدوره؛ لقلة خبرته بمثل هذه

الأمور، ولذا لم يتمكن من الاستمرار طويلا على عرش السلطنة، وتولى

من بعده شقيقه «بدر الدين سلامش» فى سنة (678هـ)، ثم عين

«سيف الدين قلاوون» «أتابكًا» له، وكان أحد أمراء «المماليك

البحرية» الأقوياء، فتحكَّم فى أمور السلطنة، وجعلها جميعها فى

يده، وذلك لضعف «بدرالدين سلامش» وقلة مهاراته السياسية

والحربية، ولذا لم يستمر «سلامش» أكثر من ثلاثة أشهر فى حكم

السلطنة خُلع بعدها من منصبه، وتولى «سيف الدين قلاوون» بدلا

منه، لتدخل البلاد فى عهده مرحلة جديدة تنهض فيها سياسيا وحربيا

وحضاريا.

السلطان قلاوون [679 - 689هـ = 1280 - 1290م]:

انتقل الملك بعد «سلامش» (ابن «الظاهر بيبرس») إلى أتابكه

«المنصور سيف الدين قلاوون» ، الذى استمرت السلطنة فى بيته

وأسرته حتى انتهاء دولة المماليك البحرية فى سنة (784هـ)، ولعل

التجارب السياسية التى مر بها وتعرض لها فى خدمة «بيبرس» ومن

قبله «قطز» ، هى التى مهدت له السبيل لكى يكون أحد سلاطين

المماليك الأقوياء والبارزين، وسار على نهج «بيبرس» السياسى فى

إدارة شئون البلاد والتقرب من الشعب، واستقدم كثيرًا من المماليك

وأطلق عليهم اسم «البرجية» نسبة إلى أبراج القلعة التى أقاموا

فيها وجعلهم عونًا له، وأعدهم ليكونوا عونًا لأبنائه من بعده فى

تثبيت عروشهم.

ومضى على نهج «بيبرس» فى إخراج الصليبيين من بلاد الشام،

واستعاد «اللاذقية» و «طرابلس» من أيديهم فى سنة (688هـ)، وتابع

التتار وطارد فلولهم وهزمهم وأبعد أذاهم نهائيا عن «مصر»

و «الشام» .

ويُعدُّ «قلاوون» من أبرز سلاطين الدولة المملوكية العظماء، كما يُعد

أحد مؤسسى هذه الدولة، إذ أنفق أموالا طائلة على الإصلاحات

والإنشاءات، وأشرف على سير العمل فيها بنفسه فى حزم وعزم

ص: 75

شديدين، ولعل أبرز الإنشاءات التى ترجع إلى عصره تلك القبة التى

بناها، ودُفن تحتها، كما بنى «مدرسة» و «مارستانًا» -حملا اسمه -

عام (688هـ)، ومازال هذا المارستان قائمًا حتى الآن ويُعرف باسم:

مستشفى قلاوون»، وظل «قلاوون» يقوم بدوره الحربى والسياسى

والاجتماعى والحضارى فى البلاد على أكمل وجه حتى وفاته سنة

(689هـ).

السلطان الأشرف خليل بن قلاوون [689 - 693هـ = 1290 - 1294م]:

خلف الأمير «خليل» أباه على عرش السلطنة، فعاد فى عهده نفوذ

الأمراء، وتجددت الصراعات الداخلية، إلا أنه استطاع التغلب على هذه

المصاعب كلها على الرغم من قصر مدة حكمه للبلاد، وبرهن على أنه

حاكم كفء مهيب، شديد البأس، عارف بأحوال المملكة، لدرجة أن

«ابن إياس» قال عنه فى تأريخه: «كان الأشرف بطلا لا يكل عن

الحروب ليلا ونهارًا، ولا يُعرف من أبناء الملوك مَنْ كان يناظره فى

العزم والشجاعة والإقدام».

ويكفى «الأشرف خليل» مجدًا يخلد اسمه بين أعظم قادة التاريخ

الإسلامى أنه استطاع استعادة «عكَّا» من أيدى الصليبيين سنة

(692هـ)، بعد أن استعصت على مَنْ كان قبله من السلاطين

لحصانتها، كما تابع جهاده فى تتبع جيوش الصليبيين بالشام،

واستعاد «صور» و «حيفا» و «بيروت» ، وظل يضيف انتصارات عظيمة

إلى سجل هذه الدولة كان من شأنها أن يظل العالم الإسلامى قويا

مترابطًا، ويقوم بدوره فى البناء الحضارى.

السلطان الناصر محمد بن قلاوون [693 - 741هـ = 1294 - 1341م]:

بعد وفاة «الأشرف خليل» انتقل حكم السلطنة إلى «الناصر محمد ابن

قلاوون» الابن الثانى للسلطان «قلاوون» ، وكان قد نشأ فى بيت

الملك محاطًا بالأمراء والنواب والحراس، غير أنه لم يتمتع طويلا بعطف

ورعاية أبيه «قلاوون» ، الذى مات ولما يبلغ «الناصر محمد» الخامسة

من عمره، غير أنه لحسن حظه لم يحرم من عطف أخيه «الأشرف

خليل» ورعايته، فاهتم بتربيته وأحسن معاملته، فنشأ «محمد» ولديه

ص: 76

من صفات أبيه وأخيه الكثير، فأصبح كأسلافه مهتما بالمشروعات

الحيوية، ومحبا للغزو والجهاد.

اعتلى «الناصر محمد» عرش «مصر» ثلاث مرات، استمرت الأولى عامًا

واحدًا فى الفترة: (من سنة 693 إلى سنة 694هـ)، ثم اغتصبها منه

«زين الدين كتبغا» الذى لقب نفسه بالعادل، و «حسام الدين لاُين»

الذى تلقب بالمنصور، واستمرت فترة الاغتصاب هذه أربع سنوات

عاشت البلاد خلالها عهدًا من الفتن والاضطرابات، وانتابتها مظاهر

الضعف والانحلال، مما هيأ السبيل إلى عودة «الناصر محمد» إلى

السلطنة ثانية ليتدارك تفاقم هذه الأوضاع.

السلطنة الثانية للناصر محمد [698 - 708هـ]:

لعل أبرز ما يميز الفترة الثانية لتولى «الناصر محمد» عرش السلطنة،

الفتن والاضطرابات التى أحدثها وأشعلها أمراء المماليك سعيًا وراء

الوصول إلى العرش، الأمر الذى اضطر «الناصر محمد» إلى الرحيل

فى عام (708هـ) إلى «قلعة الكرك» للاحتماء بها بعيدًا عن مؤامرات

الأمراء ودسائسهم، فمكن ذلك «بيبرس الجاشنكير» -أحد القادة

العسكريين- من السيطرة على مقاليد الأمور، على الرغم من رسائل

أمراء المماليك التى بعثوا بها إلى «الناصر محمد» يرجونه فيها

العودة إلى «مصر» ، إلا أنه تمهل حتى يقف على حقيقة الأمور، فلما

رأى حاجة البلاد إليه قرر العودة إلى «مصر» ثانية، وتمكن من طرد

«الجاشنكير» ، وبدأ مرحلة ثالثة على عرش البلاد، كانت من أهم

فترات تاريخ «مصر» والشام.

السلطنة الثالثة للناصر محمد [709 - 741هـ]:

استمرت فترة حكم «الناصر محمد» الثالثة على «مصر» و «الشام» وما

يتبعهما اثنين وثلاثين عامًا متصلة، انفرد فيها بحكم البلاد، وتمكن

من القضاء على الفتن والدسائس، ونعمت البلاد فى عهده بأطول

فترة استقرار شهدتها فى العهد المملوكى، وتعلق الشعب به وأحبه

لما قدمه من أعمال جليلة وعظيمة رفعت من شأنه.

تُعد فترة حكم «الناصر محمد» الثالثة من أزهى عهود دولة المماليك

ص: 77

البحرية على الإطلاق، ففيها توطدت دعائم البلاد، واستقرت أساليب

الحكم والإدارة فيها، وازدهرت الفنون والعلوم، وباتت «القاهرة»

حاضرة لإمبراطورية شاسعة تشمل «مصر» والشام والجزيرة العربية،

وكذلك بلاد «اليمن» التى بسط «الناصر محمد» نفوذه عليها، فخطب

وده ملوك «أوربا» و «آسيا» ، وأبرموا معه المعاهدات وصاهروه،

وأرسلوا إليه بالهدايا الثمينة والتحف النادرة؛ أملا فى رضاه.

لم يقتصر نشاط «الناصر محمد» على الحروب والغزوات على الرغم من

أنه نجح فى طرد فلول الصليبيين، وصد ثلاث غزوات مغولية، بل اتجه

إلى الأخذ بكل مقومات الحضارة فى عصره، وصبغها - لتدينه الشديد-

بصبغة دينية ظهرت واضحة على العمائر التى شيدها، والتى مازال

بعضها قائمًا - حتى الآن - شاهد صدق على بره وتقواه، وذوقه

الراقى فى الفنون والعمارة، ولعل أشهرها:«المدرسة الناصرية»

التى شيدها بشارع «المعز لدين الله الفاطمى» ، وكذا المسجد الذى

بناه بالقلعة سنة (718هـ)، ثم هدمه وأعاد بناءه سنة (735هـ)

لتوسعته وزخرفة جوانبه، كما شرع فى سنة (703هـ) أثناء سلطنته

الثانية فى تجديد «المارستان» الكبير الذى أسسه والده السلطان

«قلاوون» سنة (688هـ)، وكذلك بنى سبيلا، وقبة، ومكتبة عظيمة،

وأنشأ «خانقاه» فى «سرياقوس» لإقامة فقراء الصوفية خاصة

القادمين منهم من البلاد الشرقية.

وقد أرخ «ابن إياس» لحكم «الناصر محمد» ، وعبر عنه بقوله: «ولا

يُعلَم لأحد من الملوك آثار مثله ولا مثل مماليكه، حتى قيل لقد تزايدت

فى أيامه الديار المصرية والبلاد الشامية من العمائر مقدار النصف من

جوامع وخوانق وقناطر، وغير ذلك من العمائر».

ولاشك أن هذه المنشآت كانت تعتمد على اقتصاد قوى، ورؤية

حضارية من «الناصر محمد» ، الذى وضع أسس السياسة العامة لدولة

المماليك، وعُدَّ المنفذ الأكبر لها، فكان شديد البأس، سديد الرأى،

يتولى أمور دولته بنفسه، مطَّلعًا على أحوال مملكته، محبوبًا من

ص: 78

رعيته، مهيبًا فى أمراء دولته، فكان المثل الأعلى لرجل السياسة

فى دولة المماليك، كما كان «بيبرس» المثل الأعلى للقائد الحربى،

وانطلقت بوفاته فى سنة (741هـ)، ألسنة الشعراء والأدباء لتأبينه

والثناء عليه، والإشادة بذكره، وقد أطراه المؤرخ «أبو المحاسن بن

تغرى بردى» بقوله: «إنه أطول الملوك فى الحكم زمانًا، وأعظمهم

مهابة، وأحسنهم سياسة، وأكثرهم دهاء، وأجودهم تدبيرًا،

وأقواهم بطشًا وشجاعة، مرت به التجارب، وقاسى الخطوب، وباشر

الحروب، وتقلب مع الدهر ألوانًا، ونشأ فى الملك والرياسة، وله فى

ذلك الفخر والسعادة، خليقًا بالملك والسلطنة؛ فهو سلطان ابن

سلطان، ووالد ثمانية سلاطين؛ فهو أجل ملوك المماليك وأعظمهم بلا

مدافع».

وكانت وفاة «الناصر محمد» فى (20 من ذى الحجة سنة 741هـ).

أولاد الناصر محمد وأحفاده [741 - 784هـ = 1341 - 1382م]:

جلس على عرش «مصر» بعد «الناصر محمد» أولاده وأحفاده فى

الفترة من سنة (741هـ) إلى سنة (784هـ)، يتعاقبون عليه واحداً بعد

الآخر حتى سقوط دولة المماليك البحرية عام (784هـ)، وفى مدة بلغت

ثلاثًا وأربعين سنة علا عرش «مصر» من البيت الناصرى ثمانية أولاد

وأربعة أحفاد، بلغ متوسط حكم الواحد منهم ثلاث سنوات ونصف

السنة، وتميز هذا العهد بصغر سن السلطان، وقصر مدة حكمه،

لسهولة خلعه على أيدى الأمراء، ولظهور نفوذ الأتابكة ظهورًا

واضحًا، وكذلك اشتداد تنافس الأمراء فى بسط نفوذهم للسيطرة على

الدولة، ولذا أصبح السلطان ألعوبة فى أيدى أمرائه، يعزلونه أو

يبقونه على العرش حسب هواهم، وما تقتضيه مصالحهم؛ فاضطربت

أحوال البلاد، وكثرت فيها الفتن.

بعد وفاة «الناصر محمد» تولى العرش ابنه «سيف الدين أبو بكر»

(741 - 742هـ)، وسرعان ما ساءت العلاقات بينه وبين أتابكه،

لامتناعه عن الاستجابة لمطالب هذا الأتابك، فحرض الأتابك عليه

الأمراء وعزلوه. وتولى من بعده أخوه «علاء الدين كجك» (742هـ=

ص: 79

1341م)، وعمره إذ ذاك يتراوح بين خمس وسبع سنوات، وتم عزله

بعد فترة وجيزة. ثم تولى أخوه «أحمد» عرش السلطنة ولقب نفسه

بالناصر فى سنة (742 - 743هـ)، إلا أنه لم يستمر طويلا فى الحكم

كسابقيه، ووقع الاختيار على أخيه «إسماعيل» سنة (743هـ)،

ولكنه مالبث أن مرض ومات سنة (746هـ)، فتولى ابنه «شعبان» من

بعده سنة (746 - 747هـ)، ولم يكن عهده خيرًا من سلفه، فخلفه أخوه

«حاجى» سنة (747هـ)، ولم يستكمل عامًا واحدًا حتى اعتلى العرش

«الناصر حسن» سنة (748هـ)، وهو لايزال فى الحادية عشرة من

عمره، ولم يلبث أن عُزل، ثم عاد وتولى السلطنة ثانية فى سنة

(755هـ)، وظل على العرش ست سنوات ونصف السنة، فعاد فى

عهده الاهتمام بالعمائر الإسلامية، وبنى مسجده الشهير المعروف

باسمه «مسجد السلطان حسن» بالقاهرة، ومع ذلك فقد ظلت حالة

عدم الاستقرار فى البلاد سائدة، فكانت فرصة سانحة لظهور دولة

المماليك الثانية المعروفة «بدولة المماليك البرجية» .

ص: 80

الفصل الثامن

*دولة المماليك البرجية

[784 - 923 هـ = 1341 - 1517 م]

كان «حاجى بن شعبان» آخر سلاطين المماليك من بيت الناصر، وآخر

سلاطين دولة المماليك البحرية فى الوقت نفسه، وكان «حاجى»

صغير السن حين اعتلى عرش السلطنة؛ إذ كانت سنُّه عشر سنوات،

فعُيِّن «برقوق» أتابكًا له، واستغل حداثة سِنِّه وضعفه، واستدعى

الخليفة، والقضاة الأربعة والأمراء، وخاطبهم «القاضى بدر الدين بن

فضل» بقوله: «يا أمير المؤمنين، وياسادتى القضاة: إن أحوال

المملكة قد فسدت، والوقت قد ضاق، ونحن محتاجون إلى إقامة

سلطان كبير تجتمع فيه الكلمة، ويسكن الاضطراب»، فاستقر الرأى

على خلع الملك الصالح «حاجى» ، وأن يتولى «برقوق» مسئولية

البلاد، فاعتلى عرش السلطنة رسميا، وانتهت بذلك دولة المماليك

البحرية بعد أن حكمت مائة وستا وثلاثين سنة.

عُرفت الدولة الجديدة باسم: «دولة المماليك البرجية» ، لأن سلاطينها

كانوا ينتمون إلى لواء من الجند كان مقيمًا فى أبراج القلعة وأطلق

على جنوده اسم «المماليك البرجية» لتمييزهم عن «المماليك البحرية»

الذين كانت إقامتهم بجزيرة الروضة، وقد عُرف «البرجية» كذلك

باسم: «المماليك الجراكسة» أو الشراكسة، نسبة إلى موطنهم

الأصلى الذى أتوا منه وهو: «ُورُيا» و «بلاد الشركس» (القوقاز)،

وفيما يلى سوف نعرض لأهم الملامح الشخصية لسلاطين هذه الدولة،

وظروف عصرهم.

السلطان برقوق [784 - 801هـ = 1382 - 1399م]:

يُعدُّ «برقوق» المؤسس الأول لدولة «المماليك البرجية» ، فعلى يديه تم

عزل آخر سلاطين دولة المماليك البحرية السلطان «الصالح حاجى» ،

فسقطت دولة البحرية، وقامت دولة البرجية، فكثرت الصراعات

الداخلية طمعًا فى السلطنة، وسادت الفوضى، وعَمَّت الفتن، وتميز

عهد «برقوق» بالمعارضة الشديدة له، فاهتم بالقضاء على هذه

الفتن، وإعادة الهدوء والاستقرار إلى أرجاء ملكه، ثم عمل على

إصلاح أحوال البلاد الداخلية، وظل على ذلك حتى استقرت له الأمور

ص: 81

فى أواخر عهده، ومات فى سنة (801هـ)، بعد أن عهد إلى ابنه

«فرج» بالسلطنة من بعده.

السلطان فرج بن برقوق [801 - 815هـ = 1399 - 1412م]:

تولى «فرج» العرش بعد أبيه وله من العمر ثلاث عشرة سنة، فكثرت

فى عهده الاضطرابات والفتن، وخرج عليه الأمراء، خاصة أمراء

«سوريا» الذين عارضوا حكمه، فحاول «فرج» أن يسيطر على

الموقف وظل يكافح كفاحًا مضنيًا طويلا من أجل تحقيق ذلك، وتمكن

من القضاء على فتنة الأمراء فى «سوريا» ، ومع ذلك تهدد عرشه

بالسقوط أكثر من مرة، إلا أنه ظل يقاوم حتى قُتل فى سنة (815هـ).

السلطان «شيخ المؤيد» [815 - 824 هـ = 1412 - 1421م]:

بعد القضاء على السلطان «فرج ابن برقوق» جلس الخليفة

«المستعين» على عرش «مصر» بهدف إعادة الاستقرار إليها وإلى

العالم الإسلامى، إلا أنه لم يلبث على ذلك طويلا، وتولى السلطان

«شيخ المؤيد» أمور السلطنة، واستطاع أن يقضى على الثورات،

وأعاد إلى البلاد وحدتها واستقرارها، فأتاح له ذلك أن يحكم البلاد

حكمًا هادئًا فى جو مستقر، وقام ببعض الإصلاحات الداخلية، وبنى

جامعه المعروف باسمه بجوار باب زويلة مكان سجن قديم.

مات «شيخ المؤيد» بعد مرض لم يمهله طويلا، فترك العرش لابنه

«أحمد» .

السلطان ططر [824هـ]:

كان «أحمد» الذى خلف والده «شيخ المؤيد» طفلا رضيعًا عمره سنة

ونصف. فتولى الوصاية عليه الأمير «طونبغا» ، فنافسه عليها الأمير

«ططر» ، وتمكن من عزله وعزل «أحمد» ، وتولى هو عرش السلطنة،

ولكنه لم يمكث طويلا، فقد توفى بعد شهرين من سلطنته، فتولى من

بعده ابنه «محمد بن ططر» الذى كان صغيرًا، ولم يستمر فى الحكم

أكثر من سنة واحدة، ثم تولى السلطان «برسباى» السلطنة.

السلطان برسباى [825 - 841 هـ]:

امتاز عهد «برسباى» بالهدوء والاستقرار، فقد نجح فى القضاء

على قراصنة البحار الذين هددوا التجارة، واستولى من القراصنة

على غنائم كثيرة، لدرجة أن ملك «قبرص» قبَّل الأرض بين يديه

ص: 82

عرفانًا له بما صنع، وكذلك هدأت الأوضاع فى «سوريا» ، وبسط

«برسباى» سلطته على «مكة» و «جدة» واحتكر لبلاده طرق التجارة،

وعزز اقتصادها، فانتعشت «مصر» اقتصاديا وحضاريا.

تُوفِّى «برسباى» سنة (841هـ) وترك العرش لابنه «يوسف» وكان

لايزال طفلا صغيرًا، فلم يحكم سوى ثلاثة أشهر، وخلفه «جمقمق»

على عرش السلطنة.

السلطان جمقمق [841 - 857هـ]:

واجه «جمقمق» صعابًا عديدة فى بداية عهده؛ إذ واجهته الثورات،

واشتعلت فى بلاده الفتن، وزادت القلاقل، وكان رجلا يمتاز بالقوة

والمثابرة، فتمكن من السيطرة على الموقف وقضى على الصعوبات

التى واجهته، واتجه إلى الإصلاح الداخلى وإعادة الهدوء إلى البلاد،

ثم عمل على توطيد علاقاته مع الإيرانيين وأمراء «آسيا الصغرى» ،

وتزوج من ابنة «دلجادير» حاكم مدينة «أبلستين» ، فمضى فى حكمه

بعد ذلك فى هدوء، ثم مات سنة (857 هـ)، وتولى من بعده ابنه

السلطان «عثمان بن جمقمق» الذى أساء إلى الرعية، فتم عزله،

وتولى عرش «مصر» من بعده السلطان «إينال» .

السلطان إينال [857 - 865 هـ = 1453 - 1461م]:

تولى قائد الأسطول الإسلامى «سيف الدين إينال» السلطنة، وسار

فى الناس سيرة حسنة أرضت عنه المماليك الذين أغدق عليهم

بالهبات والأموال والعطايا، وتمكن من القضاء على الفتن التى

واجهته، ولم تتعرض البلاد فى عهده لأى غزو خارجى، نظرًا إلى

العلاقات الحسنة التى أقامها مع زعماء الدول الخارجية، واستطاع

أن يستولى على «كرمان» ، فتميز عهده بالهدوء، وظل على ذلك

حتى وفاته سنة (865هـ)، فخلفه ابنه «أحمد بن إينال» على العرش،

إلا أنه سرعان ما تنازل عنه، وابتعد عن الدسائس والمؤامرات والفتن

التى كان يدبرها أمراء المماليك، فأخذ السلطان «خشقدم» مكانه

وتولى عرش السلطنة.

السلطان خشقدم [865 - 872هـ]:

كان عهد «خشقدم» أكثر العهود اضطرابًا، فوجد نفسه أمام عدة

قوى مناهضة كان عليه أن يواجهها، فعمل على تفتيتها والقضاء

ص: 83

عليها بالسلم أو بالحرب أو بالحيلة، حتى استطاع القضاء على

معظمها، ومات ولايزال بعضها منقسمًا على نفسه نتيجة محاولات

التشتيت التى قام بها حيالهم.

السلطان قايتباى [872 - 901هـ = 1467 - 1496م]:

لم يتولَّ «قايتباى» السلطة مباشرة بعد «خشقدم» ، وإنما سبقه على

العرش «بلباى» و «تيموربنا» اللذان حكما شهرًا واحدًا لكل منهما،

فقد كان ذلك العهد مليئًا بالاضطرابات والفتن، وظل على ذلك حتى

تولى «قايتباى» مقاليد الأمور، وكان رجلا شجاعًا جريئًا ذا مروءة

عالية، تجلت حين علم باضطهاد المسلمين فى «إسبانيا» ، فأرسل

إلى ملكها يتهدده ويتوعده إذا لم يقلع عن الإساءة إلى المسلمين

فى بلاده.

واجه «قايتباى» عدة صعاب استطاع التغلب على أكثرها، وتفرغ

للإصلاحات الداخلية، والمنشآت الحضارية التى خلدت اسمه، ولعل

أبرزها قلعته الحصينة الشهيرة بالإسكندرية.

مصر بعد قايتباى [901 - 906هـ]:

شهدت هذه السنوات القليلة التى تلت حكم «قايتباى» عددًا من

السلاطين تميز جميعهم بالضعف وسوء الإدارة، كما تميزت فترات

حكمهم بالدسائس والمؤامرات والفتن والاضطرابات، فقد تولى

«السلطان الناصر محمد بن قلاوون» الحكم عقب وفاة أبيه، وكان

صغير السن، فتولى القائد «قانصوه الخمسمائة» الوصاية عليه فى

بداية عهده، ولكن «الناصر محمد» ترك العرش وتنازل عن السلطنة

حين رأى الدسائس والفتن والاضطرابات من حوله، فتولى من بعده

عدد من السلاطين، كانت مدة حكم كل منهم قصيرة، فساعد ذلك

على زيادة الاضطرابات واشتعالها، وظل الوضع على ذلك حتى تمكن

«قانصوه الغورى» من الوصول إلى العرش، وهؤلاء السلاطين هم:

«قانصوه الأشرفى» ، و «جنبلاط» ، و «طومان باى الأول» .

السلطان قانصوه الغورى [906 - 922هـ=1501 - 1516م]:

بدأ السلطان «الغورى» عهده بتشتيت شمل مثيرى الفتن والقلاقل،

وقاوم بصلابة وحزم الثورات التى قامت، وأعد أسطولا لحماية

التجارة من غارات البرتغاليين، فقد دأب البرتغاليون بقيادة

ص: 84

«فاسكودى جاما» على إثارة القلاقل فى الدول الإسلامية المتاخمة

لطريقهم إلى المشرق محاولين بذلك السيطرة على طرق التجارة بين

الشرق والغرب، إلا أن سلاطين المماليك وقفوا لهم بالمرصاد،

واستطاعوا ردهم على أعقابهم أكثر من مرة، على الرغم مما كان

يعانيه هؤلاء السلاطين من الفتن والاضطرابات داخل البلاد.

حاول «الغورى» إعادة السيطرة البحرية إلى بلاده ودعم موقفه،

وبعث إلى البابا يهدده إذا لم يكف البرتغاليون عن غاراتهم، إلا أن

الضعف العام الذى حل بالدولة نتيجة الاضطرابات وزيادة نفقات

المماليك أدى إلى سيطرة البرتغاليين على طرق التجارة، وعمل

«الغورى» على رد غارات البرتغاليين، وأخذ يستعد لذلك، إلا أن

الدولة العثمانية أرسلت قوة حربية للسيطرة على بلاد الشام، ثم

أمدت هذه القوة بالجنود والمعدات وحولتها إلى جيش كبير حارب

المماليك فى منطقة «مرج دابق» بالشام، فتمكن العثمانيون من

هزيمة المماليك، وقتلوا السلطان «الغورى» الذى كان يقود الجيش

بنفسه فى سنة (922هـ).

السلطان طومان باى الثانى [922 - 923 هـ = 1516 - 1517م]:

بعد مقتل «الغورى» بالشام استقر الرأى على تعيين «طومان باى»

ابن أخيه سلطانًا على «مصر» ، وجلس «طومان باى» على العرش فى

فترة كانت شديدة الحرج فى تاريخ «مصر» ؛ إذ سيطر العثمانيون

على الشام، وساءت الأحوال بمصر بعد هزيمة «مرج دابق» ، ولم

يكتفِ العثمانيون بما حققوا، بل يمموا شطر «مصر» فى محاولة منهم

للسيطرة عليها.

حاول «طومان باى» السيطرة على الموقف، وقام بعدة أعمال فى

سبيل تحقيق ذلك، وفض الخصومة التى كانت قائمة بين المماليك

وصالح بينهم، وساعده فى ذلك حب الشعب له لإخلاصه ووفائه

وتفانيه فى خدمة المسلمين.

باءت كل محاولات «طومان باى» بالفشل فى إعادة المماليك إلى

قوتهم الأولى التى كانوا عليها فى عصور النهضة، فقد أنهكتهم

الاضطرابات، وقضت على وحدتهم الفتن، فانتهى الأمر بهزيمتهم على

ص: 85

أيدى العثمانيين فى موقعة «الريدانية» الشهيرة فى ظاهر

«القاهرة» ، ودخل العثمانيون «مصر» ، وحاول المصريون مساندة

«طومان باى» فى هذه الظروف لحبهم الشديد له، إلا أنهم لم

يستطيعوا إيقاف زحف العثمانيين على «مصر» ، فخرج «طومان باى»

إلى «مديرية البحيرة» فى محاولة منه لاستجماع قوته وجنوده،

ولكن العثمانيين تمكنوا منه وقبضوا عليه، ثم شنقوه على «باب

زويلة» سنة (923هـ)، بعدما بذل كل جهوده وأدى واجبه فى سبيل

الدفاع عن دولته، إلا أن ظروف عصره لم تمكنه من تحقيق ما أراد،

فسقطت بذلك دولة المماليك ونظامهم، ودخلت «مصر» مرحلة جديدة

باتت فيها تحت حكم العثمانيين.

المماليك حماة الإسلام:

إن المتتبع لأحداث العالم الإسلامى عبر صفحات التاريخ، سوف يجد

أمرًا فريدًا تميزت به بلاد المسلمين عن غيرها من بلاد العالم، وكان

الدين الإسلامى هو العامل الرئيسى والوحيد وراء هذا التميز والتفرد،

فنجد فى تاريخ المسلمين عبر فتراته المختلفة أن الدين الإسلامى هو

سر القوة الكامن فيهم وفى وحدتهم، ويجد المتتبع أن دولة الإسلام

إذا حل بها ضعف فى مكان ما منها؛ فسرعان ما تقوم قوة إسلامية

فى مكان آخر لتعوض هذا الضعف، وترفع راية الجهاد، لكى تستكمل

مسيرة البناء والحضارة، فنجد أن الخلافة حين ضعفت فى «بغداد»

ظهرت قوة الأيوبيين والمماليك فى «مصر» ، فلما حل الضعف

بالمماليك، قامت قوة العثمانيين، وهكذا فى تتابع عجيب؛ ليؤدى

كلٌّ دوره الحضارى والتاريخى فى هذا البناء العظيم الذى أقامه

المسلمون فى كل مكان حل به الإسلام.

ولأن المماليك إحدى هذه القوى التى قامت باستكمال ما عجزت عنه

بعض القوى الأخرى نتيجة قصور فى شىء أو ضعف ما، فقد قاموا

بخدمات جليلة لرفع شأن الإسلام، وتعظيم هيبة المسلمين، وجاهدوا

فى سبيل تحقيق ذلك بأموالهم وأوقاتهم وأرواحهم، وخاضوا غمار

المعارك للذود عن الإسلام والمسلمين، وفيما يلى سوف نعرض لأهم

المعارك التى خاضوها.

ص: 86

عين جالوت [658هـ]:

لم تكد الأمور تهدأ فى «مصر» فى بداية عهد المماليك حتى سقطت

الخلافة فى «بغداد» على أيدى التتار الذين اجتاحوا بلاد المسلمين

وسيطروا عليها، ولم يعد أمامهم سوى «مصر» ، فسعوا إلى الإيقاع

بها ليكون العالم الإسلامى كافة فى قبضتهم. فبعد سقوط «بغداد»

زحف التتار بقيادة «هولاكو» تجاه «سوريا» واحتلوا «حلب» ، وقتلوا

خمسين ألفًا من سكانها، ثم احتلوا «حماة» و «دمشق» وعقدوا

معاهدة مع «أنطاكية» (على حدود الروم) للتحالف ضد المسلمين، ولم

يكتفِ «هولاكو» بذلك، بل أرسل إلى ملك «مصر» يطلب منه التسليم،

ويهدده بالقضاء على جيوش المسلمين كلها إن لم يُسرع بذلك، فقد

رأى «هولاكو» أثر تهديداته بهذه الصورة على مقر الخلافة فى

«بغداد» ، وظن أن يجد الصدى نفسه لدى حكام «مصر» ، ويدخل

«مصر» بسهولة ودون مقاومة مثلما دخل «بغداد» ، إلا أن «سيف

الدين قطز» أجبره على أن يفيق من أحلامه بصاعقة لم تكن متوقعة،

فقد مزق رسالته وقتل رسله وعلق رءوسهم على مداخل «القاهرة» ،

وتوعده بالموت والهلاك إن لم يرحل عن هذه البلاد التى قتل من

مسلميها ما لايُحصَى عدده، وجعل الدماء أنهارًا فى «بغداد» والشام.

خرج «المظفر قطز» فى أواخر شهر شعبان سنة (658هـ) لملاقاة

التتار الذين وصلت طلائعهم إلى غزة بقيادة «كتبغا» ، ودارت رحى

المعركة بين الطرفين فى «عين جالوت» بفلسطين فى رمضان من

سنة (658هـ)، وأظهر فرسان المماليك، والجند المصريون شجاعة

بالغة بقيادة السلطان «المظفر قطز» وبجواره «بيبرس» أعظم فرسان

المماليك البحرية. وتجدر الإشارة إلى الارتباك الشديد الذى حدث بين

صفوف المسلمين فى بداية المعركة، فلما رأى «قطز» ذلك عمل على

رفع معنويات جنده وشد عزيمتهم، وألقى خوذته عن رأسه إلى

الأرض، وصاح بأعلى صوته: واإسلاماه .. واإسلاماه؛ فاستجاب له

الجند، ودوت الصيحة فى ميدان المعركة، ورفع المسلمون أصواتهم

ص: 87

بالتكبير .. الله أكبر .. الله أكبر، وعمدوا إلى قتال عدوهم، وجاهدوا

بإخلاص وثقة فى سبيل الله للحفاظ على الدين والأرض والمال

والولد، فكتب الله لهم النصر المؤزر على جحافل التتار، وقضوا عليهم

قضاء مبرمًا.

ويعد الانتصار العظيم الذى حققه المسلمون على التتار فى «عين

جالوت» من أعظم الانتصارات فى التاريخ الإسلامى على الإطلاق،

فلم يكن مجرد انتصار عسكرى فحسب، بل كان انتصارًا للحضارة،

وإنقاذًا للمدنية الإنسانية كلها من أمة همجية، لم تكتف بالقتل والذبح

والتشريد؛ بل عملت على الهدم والتخريب والدمار، فقتلت المسلمين

بوحشية، وهدمت مكتبات «بغداد» ، وألقت بأعظم المؤلفات العلمية

والحضارية فى نهرى «دجلة» و «الفرات» ، ولولا رحمة الله -تعالى-

بهذه الأمة بأن قيض لها قادة عظماء، ورجالا يخشون الله تعالى،

وفرسانًا يعملون على إعلاء كلمة «لا إله إلا الله» ، والحفاظ على

وحدة الأمة؛ لتغيرت أحداث التاريخ، واختلفت مجريات الأمور، وتباينت

صور الحضارة فى هذه البلاد. ولكن الله - تعالى - أراد السلامة لهذه

الأمة من خطر التتار وهمجيتهم، فردهم على أعقابهم مدحورين

خاسرين.

علاقة المماليك بالصليبيين:

تمتعت «مصر» فى عهد المماليك بمركز ممتاز بين دول العالم شرقًا

وغرباً؛ فهى التى هزمت الصليبيين فى معركة «حِطِّين» ، وهزمت

المغول فى «عين جالوت» وأخضعت «أرمينية» لسلطانها، وبسطت

نفوذها على بلاد «اليمن» و «الحجاز» ، ووسعت أملاكها فى

«إفريقية» ، وأصبحت - بحق - مقر الحكومة الإسلامية، خاصة بعد

انتقال الخلافة الإسلامية من «بغداد» إليها.

لم تستقر الأوضاع تمامًا فى عهد سلاطين المماليك، ومع ذلك لم

يكونوا أقل حماسة فى طرد الصليبيين من أسلافهم الأيوبيين، إذ لم

تكن الحملة الصليبية السابعة - التى فشلت وأسر قائدها بالمنصورة

فى العهد الأيوبى - آخر جولات الصليبيين مع «مصر» ، فقد رأى

«الظاهر بيبرس» - حين استتب الأمر للمماليك وقويت شوكتهم - متابعة

ص: 88

سياسة «صلاح الدين الأيوبى» وخلفائه فى مطاردة الصليبيين

وإجلائهم عن الشرق الأدنى، ولم يكن ذلك بالأمر الهين؛ إذ كان يتعين

عليه مواجهة الكيانات الصليبية فى «أنطاكية» و «طرابلس» ، وفى

الجزء الباقى من مملكة «بيت المقدس» ليقضى على إماراتهم فيها،

ولكى يصل إلى تحقيق ذلك رأى القضاء على كل إمارة منها على

حدة، فسارعت بعض المدن بعقد الصلح معه، وبدأ جهاده بحصار

«قيسارية» ، ثم استولى عليها، فرفع هذا النصر من معنويات جنوده،

فتابع انتصاراته واستولى على «صفد» ، و «شقيف» ، و «يافا» ، ثم

على «أنطاكية» التى تحالفت مع التتار ضد المسلمين، فكان

لسقوطها دوىّ هائل فى الإمارات الصليبية التى أسرعت بعقد الصلح

مع «الظاهر بيبرس» ، ذلك الرجل الذى وهب حياته للجهاد فى سبيل

الله.

وبعد أن هدأ القتال مع الصليبيين اتجه «بيبرس» إلى مواجهة المغول

وانتصر عليهم فى معركة «عين جالوت» ، ثم تعقبهم حتى أجلاهم عن

بلاد الشام.

لقد كانت حياة «الظاهر بيبرس» وجهاده محاولة منه لإعادة مسيرة

الناصر «صلاح الدين» والمظفر «قطز» معًا، ولم يبخل فى سبيل

تحقيق استقرار أمن المسلمين ودولتهم بكل ما يملك من وقت وجهد

ومال، فأصبح عصره من أزهى عصور المسلمين فى التاريخ، وأعاد

إلى البلاد هيبتها وأمنها واستقرارها بعد ما مر بها من فترات عصيبة

سبقته، وكذلك أعاد إلى الخلافة الإسلامية مكانتها ونقلها إلى

«القاهرة» ، وأسس جيشًا قويا، وأسطولا عظيمًا، ويكفيه فخرًا أن

«مصر» حققت انتصاراتها العظيمة على الصليبيين والمغول فى عهده

وتحت قيادته.

جهاد قلاوون وأسرته ضد الصليبيين:

استأنف السلطان «قلاوون» الجهاد ضد الصليبيين فى سنة

(685هـ)،وبدأ بمناوشتهم، وحاصر «اللاذقية» التى كانت تحت

سيطرتهم، ثم استولى عليها وعلى «طرابلس الشام» من بعدها، ولم

يبق فى أيدى الصليبيين فى الشرق الأدنى سوى «بيروت»

و «صور» ، و «عكا» التى كانت من أمنع الحصون الصليبية، فرغب فى

ص: 89

السيطرة عليها ثأرًا لبعض التجار المسلمين الذىن قتلهم الصليبيون،

وزحف بجيشه وحاصرها إلا أنه مات قبل أن يتمكن من دخولها،

وبقيت «عكا» فى أيدى الصليبيين حتى تولى «الأشرف خليل بن

قلاوون» مهام السلطنة، وتمكن من فتح «عكا» ودخولها فى سنة

(692هـ) بعد حصار ظل أربعة وأربعين يومًا، فعادت «عكا» إلى

أيدى المسلمين بعد أن بقيت مائة عام كاملة تحت سيطرة الصليبيين،

ثم توجه الأشرف بجيشه تجاه «صور» ، و «حيفا» وتمكن منهما بعد

جهاد عنيف أشاد به الشعراء ونظموا له القصائد، وهكذا تمكن

«الأشرف خليل» من تحقيق هدفه وأمل أبيه من قبله، وقضى على

بقايا الجيوب الصليبية فى الشام، وبذلك قضى على دولتهم فيها،

فاتخذوا من جزيرة «أرواد» مستقرا لهم، وأخذوا يغيرون منه على

سكان المدن الإسلامية فى الشام، وقطعوا الطريق على المارة،

فاستغاث نائب السلطان على الشام بالسلطان «الناصر محمد بن

قلاوون» الذى آلت إليه السلطنة.

جهاد الناصر محمد:

حين بلغت «الناصر محمد» استغاثة نائبه على الشام، جهز أسطوله

البحرى وانضم به إلى جيش «طرابلس الشام» فى عام (702هـ)،

وحاصر «جزيرة أرواد» بالجيش والأسطول معًا، وانتهى الأمر بهزيمة

ساحقة للصليبيين، وعودة هذه الجزيرة - ذات الموقع الاستراتيُجى

المهم، والتى افتتحها المسلمون الأوائل سنة (54هـ) - إلى ظل الحكم

الإسلامى مرة ثانية، فانتهت دولة الصليبيين فى الشرق الأدنى

والأراضى المقدسة.

لم يتوقف «الناصر محمد» عند هذا الحد من الجهاد، بل تقابل فى سنة

(702هـ) مع المغول بقيادة زعيمهم «غازان» فى «مرج الصقر» على

مقربة من «حمص» ، فقد حاول المغول الثأر لهزيمتهم فى «عين

جالوت»، فواجههم «الناصر محمد» بما تميز به من شدة وبأس وقوة

عزيمة، وهزمهم هزيمة ساحقة مات على إثرها «غازان» زعيم المغول

حزنًا، وقوبل «الناصر محمد» بأعظم مظاهر الترحيب حين عودته من

الشام إلى «مصر» ، وأقيمت له أقواس النصر، وخرج الشعب كله

ص: 90

لاستقباله وتهنئته والترحيب به.

لم يركن «الناصر محمد» إلى الراحة طيلة فترة حكمه للسلطنة، وعمد

إلى الحفاظ على وحدة بلاد المسلمين، ورفع شأنهم، وخرج إلى

«أرمينية» على رأس جيوشه حين نقضت العهد الذى كان بينها وبين

المسلمين، وصمم على غزوها والسيطرة عليها تأديبًا لحكامها على

نقضهم العهد، واجتاحت الجيوش الإسلامية بقيادته بلاد «أرمينية» ،

وتمكنت منها ودخلتها سنة (726هـ)، فعادت تبعيتها إلى الدولة

الإسلامية، وقامت بدفع نفقات جيش المسلمين.

لقد كتبت دولة المماليك بجهادها صفحة مجيدة من صفحات الجهاد فى

التاريخ الإسلامى، وقامت بدورها كاملا فى حماية أراضى البلاد

ومقدساتها من طمع أعدائها، سواء أكانوا من الصليبيين أم المغول،

وحافظت على استقرار الأمن ورفع شأن المسلمين، ولم يكن الجهاد

حكرًا فى هذه الحقبة من التاريخ على دولة «المماليك البحرية»

وحدها، بل كان لدولة «المماليك البرجية» دورهم البارز فى هذا

الشأن؛ إذ اشتبكت الجيوش الإسلامية فى عهد السلطان «برسباى»

مع الصليبيين فى «قبرص» ، وتمكن المسلمون من هزيمتهم فى

موقعة «شيروكيتوم» ، وأسروا ملك «قبرص» وجاءوا به إلى

«القاهرة» ، وظلت «قبرص» تحت سيطرة المماليك حتى دخل

العثمانيون «مصر» سنة (923هـ).

ص: 91

الفصل التاسع

*النظم والحضارة فى عهد المماليك

النظام الحربى والبحرى:

لاشك أن الانتصارات الرائعة التى أحرزها المماليك تعود إلى إعداد

جيد للجيش وتنظيم دقيق له وللقائمين عليه، ولعل الفضل فى ذلك

يعود إلى «الظاهر بيبرس» الذى أولى الجيش عنايته منذ ولى عرش

«مصر» ، فقد قام بنفسه بإعداده وتنظيمه وتسليحه، ليكون سنده

فى الحروب ووقت الشدة، فاستكثر من شراء المماليك وعنى

بتربيتهم تربية دينية وعسكرية، وعين لكل فئة منهم فقيهًا يعلمهم

القرآن، ومبادئ القراءة والكتابة، حتى إذا وصلوا إلى سن البلوغ

أوكلهم إلى من يدربهم ويمرنهم على الأعمال الحربية، فإذا أتموا

ذلك وأجادوه ألحقوا بجيش السلطان لتبدأ حياتهم الجهادية فى سبيل

الله.

فلما ولى السلطان «قلاوون» مقاليد الأمور فى سنة (679هـ)، زادت

عنايته بشئون تدريب الجند المماليك، وأشرف على طعامهم بنفسه

وكان يتذوقه قبل تقديمه إليهم، وكان لا يسمح لهم بمغادرة «قلعة

الجبل» ليلا أو نهارًا، وظلوا على ذلك حتى ولى السلطان «خليل بن

قلاوون» فى سنة (689هـ)، فسمح لهم بالخروج نهارًا فقط، ومنعهم

من المبيت خارجها، ثم بنى لهم «الناصر محمد بن قلاوون» - فيما بعد

- «الطباق» بساحة الإيوان بالقلعة وجعلها مقرا لهم.

تكوين الجيش:

كان جيش المماليك يتكون -عادة- من المماليك السلطانية وجنود

الحلقة، وكانت لكل فريق من هاتين الطائفتين مرتبة لا يتجاوزها إلى

غيرها، فالمماليك السلطانية هم مماليك السلطان، وتنفق عليهم

الخاصة السلطانية، لأنهم حرس السلطان الخاص، وكان لهم نظام دقيق

فى التدرج القيادى رتبة بعد رتبة، فمنهم من أطلق عليه أمير خمسة،

وأمير عشرة، وأمير أربعين، وكذلك أمير مائتين، وكانت لكل

صاحب لقب من هذه الألقاب واجبات والتزامات معينة، فأمير خمسة

يكون فى خدمته خمسة مماليك، وأمير عشرة تكون عدته عشرة

مماليك، أما «أمير الأربعين» فكان يطلق عليه «أمير طبلخانة» لحقه

ص: 92

فى دق الطبول على قصره كما يحدث للسلطان، ولم يكن لطبقة

الأمراء هذه ضابط فى عدد أتباعها من المماليك، فقد يتفاوت عدد مَنْ

يكون فى خدمة كل أمير منهم ما بين أربعين وثمانين مملوكًا، أما

«أمير مائة» فكان فى خدمته «مائة» مملوك، ومقدم فى الوقت نفسه

على ألف جندى فى الحروب، فيقال:«أمير مائة مقدم ألف» .

أما جنود الحلقة فكان لكل أربعين جنديا منهم رئيس لا حكم له عليهم

إلا إذا خرجوا إلى القتال، فيقوم بترتيبهم فى أماكنهم، وليس له

الحق فى أن يُبعد أحدهم من الخدمة إلا بإذن من السلطان.

كانت هناك طائفة أخرى من المماليك تضاف إلى الطائفتين

السابقتين، وهى طائفة مماليك الأمراء التى كان ينفق عليها

أمراؤها، فقد كان مماليك هذه الفئة يحرسون أمراءهم ويساعدونهم

على أعدائهم.

ولم تكن مرتبات الجند ثابتة، وقد استبدل نظام المرتبات بإقطاعات

كان السلطان يمنحها لهم ليتمتعوا بغلاتها وإيراداتها، فبات أمراؤهم

- خاصة أمراء المماليك السلطانية - ذوى ثروة كبيرة ونفوذ عظيم،

ذلك إذا وضعنا فى الاعتبار أن السلطان كان يمنحهم جزءًا من

الغنائم، ورواتب أخرى من اللحم والتوابل والعليق والزيت.

أساليب المماليك فى القتال:

كانت شجاعة المماليك وفروسيتهم التى عُرفوا بها، وولاؤهم للأمير

الذى يجلبهم، من أهم الأسباب لاستقدامهم من بلادهم، وكانت لهم

خطوات دقيقة قبل الدخول فى أية معركة، وأهمها: عقد «مجلس

الجيش» برياسة السلطان، وعضوية أتابك العساكر، والخليفة،

وقضاة المذاهب الأربعة، وأمراء المائتين الذين بلغ عددهم أربعة

وعشرين أميرًا؛ وكان الغرض من عقد هذا المجلس هو الاستنارة بآراء

كبار رجال الدولة قبل الإقدام على الحرب، وجعل إعلان الحرب أمرًا

مشروعًا، فإذا ما وافق المجلس على خوض الحرب؛ يأمر السلطان

باستدعاء الجنود من مختلف جهات «مصر» ، فيحلفون يمين الطاعة

والولاء فى حضرته، ويتسلمون ما يلزمهم من عتاد الحرب من خزانة

ص: 93

السلاح التى كان يُطلق عليها اسم «السلاح خانة» ، ثم يستعرضهم

السلطان بنفسه وهو بلباس الحرب، وهو ما يعرف باسم «النفير» ،

فإذا مااستعرض السلطان الجند وتفقد أحوالهم وسلاحهم، اختار من

كبار قواده قائدًا يسير على رأس الحملة الحربية، وقد جرت العادة

أن يتخذ القائد مركزه فى القلب؛ حتى يراه جميع جنوده، وينفذوا

أوامره، أو يتخذ مركزه فى المقدمة ليثير الحماسة فى نفوسهم،

ويلقى الرعب فى قلوب أعدائه.

كان المماليك يأخذون فى حروبهم بطريقة قتال الصفوف التى يقف

فيها الجندى بجانب زميله حتى يكاد يلتصق به كما يحدث فى صفوف

الصلاة، ويسير الجنود على هذا النحو حتى يصلوا إلى حيث استقر

العدو فينازلوه ويناجزوه، وكان الخليفة - أحيانًا - يصحب الجيوش

فى حملاتهم ليحث الجنود على الجهاد، ويبث الروح الدينية فى

نفوسهم.

اعتمد المماليك على الخيل فى حروبهم، لذا عنوا بها عناية فائقة،

حتى صارت الفروسية فى عهدهم فنا عظيم الشأن، أفردوا لدراسته

الكتب والرسائل العديدة التى مازالت موزعة بين خزائن المخطوطات

فى العالم حتى الآن، وكذلك تعددت أسلحتهم الحربية، فكان منها:

«السيف» ، و «الخنجر» ، و «الطبر» ، و «البلطة» ، و «الفأس» ،

و «القوس» ، و «السهم» ، و «المقلاع» ، و «المنجنيق» ، «والدبابات ذات

الخيول»، و «الصنبور» ، و «القلاع المتحركة» ، و «النار اليونانية» ،

وجعلوا لهذه الأسلحة على اختلاف أنواعها دارًا تحفظ وتخزن فيها

أطلقوا عليها اسم: «الزرد خانة» ، أو «السلاح خانة» ، أى بيت

السلاح، وجعلوا رئاسة هذه الدار لأحد أمراء المائتين، وأطلقوا عليه

لقب: «أمير السلاح» ، وجعلوا جماعة من الموظفين عُرفوا باسم

«السلاح دارية» لمعاونة الأمير فى مهام عمله، وكذلك كان يعمل

بالدار جماعة من الصناع عُرفوا باسم: «الزرد كاش» ، ومعناها: صانع

الزرد، لصناعة وصيانة الأسلحة، واختص كل منهم بنوع معين من

أنواع السلاح.

لقد ظل المماليك محافظين على صنعتهم الحربية حتى بعد أن ضعف

ص: 94

شأنهم باستيلاء العثمانيين على «مصر» سنة (1517م)، لأن هذه

النظم هى التى جعلت لهم السبق فى الاهتمام بالجانب الحربى،

وأهَّلتهم لخوض المعارك الطاحنة، ومكنتهم من بسط نفوذهم ومد

سلطانهم على «مصر» والشام و «الحجاز» ، و «اليمن» ، و «جزر

المتوسط»، ومع ذلك كانوا دائمًا يتطلعون إلى ترسيخ دعائم دولتهم،

وتحديث نظمهم ومعداتهم الحربية لأنهم يعلمون جيدًا أن عدوهم

متربص بهم من البر والبحر، فعمدوا إلى الاهتمام بالسلاح البحرى

إلى جانب اهتمامهم بتدريب الجند وتوفير ما يلزمهم.

البحرية فى عهد المماليك:

عندما آلت السلطة إلى سلاطين المماليك عمل «الظاهر بيبرس» منذ

سنة (658هـ) على إعداد قوة بحرية قوية يستعين بها على صد

الأعداء المتربصين بالبلاد من جهة البحر، فاهتم بأمر الأسطول، ومنع

الناس من التصرف فى الأخشاب التى تصلح لصناعة السفن، وأمر

بإنشاء الشوائى (وهى السفن الحربية ذات الأبراج والقلاع العالية

للدفاع والهجوم) لكى تحمى «الإسكندرية» و «دمياط» ، وكان

السلطان يذهب بنفسه إلى دار صناعة السفن بالجزيرة ويشرف على

تجهيز هذه الشوائى حتى تمكن فى النهاية من إعداد أسطول مكون

من أربعين قطعة حربية، سَيَّرها إلى «قبرص» فى سنة (669هـ)، إلا

أن هذا الأسطول هلك، فقام «بيبرس» بإنشاء أسطول آخر مما يدلل

على المركز المالى القوى الذى تمتعت به دولة المماليك.

نسج الأشرف «خليل بن قلاوون» على منوال «الظاهر بيبرس» فى

عنايته بالأسطول، فقد أنشأ أسطولا مكونًا من ستين مركبًا جُهِّزت

بالآلات الحربية والرجال، وأقام احتفالا كبيرًا حضره الناس من كل

مكان حين ذهب إلى استعراض هذا الأسطول فى دار صناعة السفن

بجزيرة الروضة.

عُنى السلطان «الناصر محمد» بالأسطول مثلما فعل «بيبرس»

و «خليل» من قبله، فأصبح لمصر أسطول من أقوى أساطيل هذا

العهد، فقد كان يجمع بين «الشوائى» ، و «الحراريق» (سفن حربية

أقل من الشوائى)، و «الطرادات» (سفن حربية سريعة الحركة صغيرة

ص: 95

الحجم)، و «الأغربة» (سفن حربية تشبه رءوسها رءوس الفرسان

والطيور)، و «البطش» (سفن تحمل المجانق)، و «القراقر» (سفن

تستخدم فى تموين السفن)، وليس أدل على مبلغ اهتمام المماليك

بالقوة البحرية مما ذكره «المقريزى» حين وصف الاحتفال بإنزال

الشوائى إلى البحر للسفر إلى «طرابلس» بقوله: «وفى المحرم من

سنة 705هـ تبحرت عمارة الشوائى، وجهزت بالمقاتلة والآلات مع

الأمير «جمال الدين أقوش الفاوى العلائى» والى «البهن» ، واجتمع

الناس لمشاهدة لعبهم فى البحر، فركب «أقوش» فى «الشيئى»

الكبير، وانحدر تجاه المقياس، وكان قد نزل السلطان والأمراء

لمشاهدة ذلك، واجتمع من العالم ما لم يحصهم إلا الله -تعالى- وبلغ

كراء المركب الذى يحمل عشرة آلاف نفس مائة درهم، وامتلأ البران

من «بولاق» إلى دار الصناعة حتى لم يوجد موضع قدم خالٍ، ووقف

العسكر على بربستان الخشب، وركب الأمراء الحراريق إلى

«الروضة» ، وبرزت الشوائى للعب كأنها فى الحرب؛ فلعب الأول

والثانى والثالث، وأعجب الناس بذلك إعجابًا زائدًا لكثرة ما كان فيها

من آلات الحرب، ثم تقدَّم الرابع وفيه «أقوش» فما هو إلا أن خرج من

منية الصناعة بمصر، وتوسط النيل. وإذا بالريح حركة، فانقلبت،

وأنقذ الناس الشيئى، وأصلحوه، وسافروا بالشوائى لطرابلس، وليس

أدل على اهتمام المماليك بأمر الأساطيل من اشتراك الأهالى مع

الحكومة فى عرض الجيوش الحربية والأساطيل، والعمل على تقويتها

وبناء سفن كثيرة، وقد أطلق الشعب على رجال الأسطول لقب:

«المجاهدون فى سبيل الله والغزاة فى أعداء الله» وكان الناس

يتبركون بدعائهم تعظيمًا لهم».

وهكذا كانت عناية المماليك بالجيش، وكذلك كان اهتمامهم

بالأسطول، وبذلك وصلت الأمة الإسلامية إلى ماوصلت إليه من مكانة

سامية وشأن عظيم على أيديهم.

النظم الإدارية فى عهد المماليك:

أهم الدواوين:

تكون الجهاز الإدارى فى «مصر» والشام من عدة دواوين حكومية،

ص: 96

يشرف كل منها على ناحية معينة من نواحى الإدارة العامة، وكانت

أهم هذه الدواوين فى هذا العهد ما يلى: «ديوان الأحباس» ، و «ديوان

النظر»، و «ديوان الخاص» ، و «ديوان الإنشاء» .

أما «ديوان الأحباس» فيشبه وزارة الأوقاف فى وقتنا الحالى،

ويتولى صاحب هذا الديوان الإشراف على المساجد والربط، والزوايا،

والمدارس، والأراضى، والعقارات المحبوسة عليها، والإحسان إلى

الفقراء والمعوزين.

و «ديوان النظر» يشبه وزارة المالية حاليًا، وترجع إليه سائر الدواوين

فى كل ما يتعلق بالمسائل الخاصة بالمتحصل والمنصرف من أموال

الدولة، وله فوق ذلك الإشراف على حساب الدولة، وأرزاق الموظفين

الدائمين والمؤقتين، وكان هذا الديوان يتخذ من القلعة مقرا له.

وفى سنة (727هـ) أنشأ السلطان «الناصر محمد» «الديوان الخاص»

لإدارة الشئون المالية التى تتعلق بالسلطان، ويتولى الإشراف عليه

«ناصر الخاص» الذى عُرف من قبل فى عهد الفاطميين والأيوبيين،

ولكنه لم يبلغ من الأهمية القدر الذى بلغه فى عصر المماليك خاصة

فى عهد «الناصر محمد» . أما ديوان الإنشاء فكانت أهم اختصاصاته

تنظيم العلاقات الخارجية للدولة، وهو أول ديوان وُضع فى الإسلام،

وقد نُظِّم فى عهد المماليك بأسلوب يتناسب مع مقتضيات العصر

ومتطلباته، وكان مقره «قاعة الصاحب» بقلعة الجبل، حيث ترد

المكاتبات إليه من جميع أنحاء الولايات والممالك التى بينها وبين بلاد

المسلمين علاقات سياسية، كما كانت تحرر فيه الكتب التى كان

يرسلها السلطان إلى الملوك والأمراء، وقد لُقب صاحب ديوان الإنشاء

بألقاب عديدة فى أوائل عهد المماليك، فلقبوه تارة باسم: «صاحب

الدست الشريف»، وأخرى باسم:«كاتب الدرج» وثالثة باسم: «كاتب

الدست» وبقيت هذه تسميته إلى أن تولى «القاضى فتح الدين بن

عبدالظاهر» هذا الديوان فى عهد السلطان «قلاوون» فتلقب بلقب

«كاتب السر» ؛ لأنه كان يكتم سر السلطان، وكانت وظيفته من أعظم

ص: 97

الوظائف الديوانية وأجلِّها قدرًا، وكان له معاونون يساعدونه فى

أداء ما عليه من التزامات وواجبات.

كان من أبرزهم: «نائب كاتب السر» ، ثم يليه فى المرتبة كُتَّاب الدست

المتصلون بديوان الإنشاء، وكانوا يجلسون مع كاتب السر بمجلس

السلطان بدار العدل.

كانت هناك دواوين أخرى - فى العهد المملوك - أقل شأنًا من تلك

الدواوين السابق ذكرها، مثل «ديوان الأهراء» (وهى شئون الغلال

السلطانية)، و «ديوان الطواحين» ، ويتولى صاحبه الإشراف على طحن

الغلال، و «ديوان المرتجعات» ، ويشرف صاحبه على الأمور الخاصة

بتركات الأمراء، وكذلك كانت هناك دواوين أخرى ذكرها

«القلقشندى» على أنها دواوين مستقلة، ولكنها لم تكن - فى حقيقة

الأمر - سوى إدارات تتصل اتصالا مباشرًا بالقصر السلطانى، أو بأحد

الدواوين الرئيسية السابقة، وذكر «القلقشندى» منها - مثلا - «ديوان

الإصطبلات»، و «ديوان المواريث» ، و «ديوان الخزانة» و «ديوان

العمائر»، و «ديوان المستأجرات» .

سارت دواوين الحكومة فى عصر المماليك على نسق واحد من حيث

التنظيم الإدارى، فكان على رأس كل ديوان موظف كبير هو «ناظر

الديوان»، وكانت مهام عمله تشبه إلى حد كبير ما يقوم به الوزير

حاليا، ويليه فى المرتبة «مستوفى الصحبة» ، و «مستوفى الدولة»

ومهمتهما الإشراف على موظفى الدواوين المختلفة، ويلى هؤلاء طبقة

الموظفين والكتاب وما يليهم.

البريد:

كان البريد أحد أهم إدارات «ديوان الإنشاء» ، إذ كان واسطة الاتصال

بين دولة المماليك فى «مصر» ونياباتها فى الشام وغيرها من

الأقاليم، ولم يقتصر المماليك على البريد العادى فى إرسال

رسائلهم، بل عمدوا إلى استخدام الحمام الزاجل فى نقلها، وجعلوا

القلعة مركزًا لأبراجه، كما أقاموا مراكز معينة فى جهات مختلفة

لتكون مراكز للبريد البرى، وخصصوا لكل محطة منها عددًا من الحمام

الزاجل، وجعلوا على رعاية شئونه عددًا من الموظفين المتخصصين

ص: 98

فى ذلك، وكان فى كل محطة من هذه المحطات برج أو أكثر ليعيش

فيه الحمام الذى سيقوم بنقل الرسائل إلى المحطة التالية، وقد عنى

سلاطين المماليك عناية شديدة بما كانت تحمله هذه الحمائم من

رسائل، لدرجة أن بعضهم أمر بإدخالها عليه حال وصولها، كما كان

بعضهم يترك طعامه أو يستيقظ من نومه فى الحال عند وصولها.

وهكذا كان تنظيم الدواوين فى عهد الدولة المملوكية غاية فى

الدقة، ومظهرًا من مظاهر الرقى الحضارى الذى وصلت إليه هذه

الدولة بما صنعته وحققته، ومثلا من أمثلة المتابعة الدقيقة التى آل

سلاطين هذه الدولة على أنفسهم أن يتخذوها فى مراقبة شئون

الدولة؛ لتحقيق الاستقرار الداخلى، الذى ينعكس - بطبيعة الحال -

على كل مناحى الحياة فى الدولة.

كبار الموظفين الإداريين:

- الأتابك:

«الأتابك» هو القائد العام للجيوش، وكلمة «أتابك» لفظة تركية مركبة

من «أطا» ، (وتعنى: أب) و «بك» (وتعنى: السيد أو الأمير) فيكون

«الأتابك» هو: السيد الأب، أو الأمير الأب، أى أنه أبو الأمراء أو

كبيرهم، وقد أُطلق هذا اللقب فى عهد المماليك على مقدم العساكر،

أو القائد؛ لأنه يعتبر أبًا للعساكر والأمراء جميعًا، وكثيرًا ما خلع

الأتابكة أبناء السلاطين من على العرش، واستولوا عليه وتولوه بدلا

منهم.

- الوزير:

تطور نظام الوزارة فى «مصر» فى عهد المماليك، ولم يتمتع وزراء

هذا العصر بنفوذ مطلق؛ لاستقرار منصب «نائب السلطان» الذى

استحدثه الأيوبيون وعمل به المماليك، وقد حرص «الظاهر بيبرس»

على اختيار وزرائه من أرباب الأقلام والسيوف، فإذا كان الوزير من

أرباب القلم أُطلق عليه اسم: «الصاحب» مضافًا إليه صفة الوزير

فيصبح لقبه: «الصاحب الوزير» أو «وزير الصحبة» ؛ وهو وزير متنقل

يرافق السلطان فى أسفاره وحروبه، وتكون مهام وظيفته مقصورة

على تسيير شئون الوزارة فى هذه الأثناء. أما إذا كان هذا الوزير

ص: 99

من أرباب السيف اكتفى بتلقيبه بالوزير دون الصاحب، ويُعدُّ - بهذا -

الوزير الأصلى الذى يحضر مجالس السلطان مع أمراء المائتين، وله

حق التصرف فى جميع أمور المملكة.

كان الوزير يتقاضى راتبًا شهريا قدره مائتان وخمسون دينارًا، عدا

ما خصص له كل يوم من مقادير وفيرة من الغلال واللحوم والخبز

وسائر ما يحتاج إليه، وقد ألغى السلطان «الناصر محمد» منصبى

«الوزير» و «نائب السلطان» فى آنٍ واحد فى سنة (727هـ).

- والى القاهرة:

استلزمت شئون الإدارة تعيين موظف كبير يُعدُّ فى الواقع من أهم

الموظفين الإداريين عرف باسم: «والى القاهرة» ، فهو الذى ينفذ

الأحكام ويقيم الحدود، ويتعقب المفسدين، ومثيرى الفتن، ومدمنى

الخمر، ويعاقب كلا منهم على حسب جريمته، كما كانت عليه مراقبة

أبواب «القاهرة» ، والطواف بأحياء التجارة والمال فيها، لذا أُطلِق

عليه أحيانًا: «صاحب العسس» أو «والى الطواف» ، واقتصر نفوذه

على العاصمة وضواحيها.

- ولاة الأقاليم:

كانت فئة من الموظفين هى التى تشرف على كل عمل من أعمال

الوجهين البحرى والقبلى بمصر، وكان على رأس هذه الفئة «والى

الإقليم»، الذى يمثل الإدارة المحلية، وكانت مهمته تتركز فى العمل

على استتباب الأمن والنظام، والمحافظة على أموال الناس وأرواحهم

فى الإقليم الذى أوكلت إليه إدارته.

- أمير جاندار:

هى وظيفة إدارية تطلبتها ظروف هذا العصر، وكان على

«أميرجاندار» أن يقوم بتنظيم إدخال الناس على السلطان وهو جالس

بإيوانه بقلعة الجبل.

- الحاجب:

كان على «الحاجب» أن يقوم بما يقوم به «أميرجاندار» على أن

يراعى مقامات الناس، وأهمية أعمالهم، وقد عظمت أهمية الحاجب

فى العصر المملوكى.

- الدوادار:

هو الرجل الذى يتولى أمر تبليغ الرسائل إلى السلطان، كما يقوم

بتقديم المنشورات إليه للتوقيع عليها.

لقد كان نظام الإدارة فى عهد المماليك نظامًا دقيقًا قويا، تطلَّب

ص: 100

اختيار موظفين من أصحاب المواهب الفريدة والخبرات المتميزة فى

تخصصاتهم، فنجحت سياسة الدولة المملوكية فى تسيير شئون

البلاد، وتيسير مصالح الناس وحاجاتهم إلى حد كبير.

النظام القضائى:

تعهد «الظاهر بيبرس» النظام القضائى بالإصلاح والتعديل، ورأى فى

تقسيم مناصب القضاء بين قضاة المذاهب الأربعة ما يضمن العدالة بين

الناس، والتيسير عليهم، فقد عين فى سنة (663هـ) أربعة قضاة

يمثلون المذاهب الأربعة، وكتب لكل منهم تقليدًا، وأجاز لهم أن يولوا

نوابًا عنهم فى أنحاء البلاد.

امتد اختصاص قاضى القضاة، وقضاة الأقاليم، وزاد نفوذهم، وامتد

فتناول النظر فى الدعاوى التى تتضمن إثبات الحقوق والحكم

بإيصالها إلى أصحابها، كما نظر فى الأموال التى ليس لها ولى

معين، وكذلك تناول تعيين أوصياء لليتامى، وتفقد أحوال المحجور

عليهم من المجانين والمفلسين وأهل السفه، ونظر -أيضًا - فى وصايا

المسلمين، وكان القضاة ينظرون فى مصالح الأوقاف، ويعملون على

حفظ أصولها وتثبيت فروعها، وقبض ريعها وإنفاقه فى مصاريفه،

وكذلك كانوا يقبضون المال الموصى به لتنفيذ الوصية، وعهد إليهم

بتسلم أموال المواريث المتنازع عليها، وأموال مَنْ يموتون غرباء

وحفظها حتى يحضر ورثتهم.

وانحصرت سلطة القضاة الأربعة ونوابهم على المدنيين، بينما كان

للجيش المملوكى ثلاثة قضاة عُرف كل منهم باسم: «قاضى العسكر» ،

واختصوا بشئون العسكر للفصل فى القضايا الخاصة بهم، أو التى

بينهم وبين المدنيين، وكانت جلسات القضاء فى دولة المماليك تعقد

علانية ويحضرها مَنْ شاء من الناس، وكانت المساجد مكان انعقاد

هذه الجلسات، كما كانت دور القضاء الخاصة مكانًا لها أحيانًا؛ إذا لم

يكن هناك دور معينة لانعقادها، فإذا جلس القاضى للفصل فى

الخصومات رتب القضايا بحسب حضور الخصوم؛ حتى لا يتقدم أحد

على الآخر لمكانته أو ثرائه، وكان يستعين على تنظيم قاعة الجلسة

ص: 101

بعدد من الموظفين منهم: «الجلواز» ، و «الأعوان» ، و «الأمناء» ،

و «العدول» ، فكان الرجال يجلسون فى جانب والنساء فى الجانب

الآخر. وقد بلغ راتب القاضى خمسين دينارًا شهريا، عدا ما كان

يحصل عليه من الأوقاف التى كان يتولى إدارتها، بالإضافة إلى ما

كان يجرى عليه من الغلال والشعير والخبز واللحم والكساء.

كان تنظيم القضاء فى دولة المماليك تنظيمًا دقيقًا، وبرز فى هذه

الدولة قضاة عرفوا بالنزاهة وطهارة الذمة وحسن السيرة، احترموا

مركزهم القضائى، ولم يقبلوا تدخل أحد - مهما يعلُ مركزه - فى

أعمالهم، وكثيرًا ما كانوا يطلبون إعفاءهم من مناصبهم - دون تردد -

إذا ما حاول أحد تهديد كرامتهم، أو الاعتداء من قريب أو بعيد على

استقلالهم، فقد كانوا لا يقبلون الرشوة ولا الهدية، لذا أصبحت لهم

مكانتهم الكريمة ومقامهم المرموق فى الدولة، وفى نظر السلاطين

والأمراء، وجميع طبقات الشعب، ولعل أبرز الأمثلة للتدليل عليهم:

«القاضى عبدالعزيز» ، المعروف بعز الدين بن عبدالسلام (سلطان

العلماء)، و «القاضى تقى الدين عبدالرحمن الشافعى» ابن بنت

«الأعز» ، و «القاضى تقى الدين محمد بن دقيق العيد» ، وغيرهم، فقد

كانوا أمثلة عظيمة وواضحة لما يجب أن يكون عليه القاضى العادل

والشريف.

الإفتاء:

يلى القضاة فى الأهمية «مفتو دار العدل» ، وقد كانوا أربعة يمثلون

المذاهب الإسلامية الأربعة، ولم تكن فى سلطتهم الفصل فى

الخصومات سواء أكانت بين المدنيين أم بين العسكريين أم بين

العسكريين والمدنيين، بل كانت مهمتهم شرح وتبيين حكم الشرع

فيما يُسألون عنه من المسائل الفقهية، كل حسب مذهبه.

المحتسب:

كانت مهمة المحتسب النظر فيما يتعلق بالجنايات والنظام العام،

وكان عليه الفصل فيها على وجه السرعة، وقد عهد إليه بالإشراف

على نظام الأسواق، وكان له نواب يطوفون فيها ويفتشون أماكنها،

ويشرفون على السَّقَّائين للتأكد من نظافتهم، وتغطيتهم القرب،

ص: 102

ولبسهم السراويل، كما كان على المحتسب ونوابه الحيلولة دون بروز

الحوانيت (الدكاكين) حتى لا تعوق نظام المرور بالشوارع، وكذلك

عليهم الإشراف على نظافة الشوارع والأزقة، والحكم بهدم المبانى

المتداعية للسقوط وإزالة أنقاضها، وكذلك الكشف على صحة

الموازين والمكاييل، التى كانت لها دار خاصة تُعرف باسم: «دار

العيار»، فكان المحتسب يطلب جميع الباعة إلى هذه الدار فى أوقات

معينة ومعهم موازينهم ومكاييلهم ليتأكد بنفسه من ضبط عيارها،

فإن وجد بها خللا صادرها وألزم صاحبها بإصلاحها أو شراء غيرها.

وقد ارتقى نظام الحسبة وشمل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

صاحب المظالم:

كان «الظاهر بيبرس» أول من جلس للمظالم من سلاطين المماليك، وهو

الذى أقام دار العدل فى سنة (661هـ)، وقد خصص يومى الاثنين

والخميس من كل أسبوع ليجلس فيهما للفصل فى القضايا المهمة،

ويحيط به قضاة المذاهب الأربعة، وكبار الموظفين الإداريين

والماليين، وكاتب السر.

وظلت دار العدل مقرا لمحكمة المظالم - التى كانت تعقد جلساتها

برئاسة السلطان - حتى جاء السلطان «قلاوون» وبنى الإيوان

الخاص، واتخذه مقرا لهذه المحكمة فى سنة (679هـ)، ولم تكن

محكمة المظالم تنظر فى قضايا الأفراد فحسب، بل كانت تنظر فى

شكاوى الناس كافة، ويذكر «المقريزى» أن السلطان «بيبرس»

عُرضَت عليه فى سنة (662هـ) قضية رجل من عِلْية القوم وذكر فيها

أن «المعز أيبك» قد اغتصب منه بستانًا، وقدم ما يثبت ملكيته لهذا

البستان، فأمر «بيبرس» برد البستان إليه. وقد قام «بيبرس» بخفض

ثمن الغلال فى سنة (663هـ) بعد أن ارتفع ثمنها، ولذا تميز النظام

القضائى فى عهد المماليك بالحيدة والنزاهة وتحقيق العدل بين

الرعية.

المنشآت الحضارية فى عهد المماليك:

حفلت كتب التاريخ التى تناولت عهد المماليك بذكر الآثار التى خلَّفها

هذا العصر، والتى مازال معظمها شاهد صدق على مدى عظمة هذه

ص: 103

الدولة حتى الآن، فقد تقدمت فنون البناء والعمارة والزخرفة،

وتوافرت الأموال اللازمة لها خلال هذا العهد المجيد من تاريخ العالم

الإسلامى، فقد قام «الظاهر بيبرس» ببناء مسجده، المعروف باسمه

بميدان الظاهر بالقاهرة فى عام (665هـ)، وجلب لبنائه الرخام

والأخشاب وأدوات البناء من سائر البلاد، وزيَّنه بزخارف الجص،

فأصبح مثالا للمساجد الكبيرة الضخمة التى شُيدت فى عهد دولة

المماليك البحرية. كما قام «بيبرس» ببناء برج لقلعة الجبل، وشيد

«قناطر السباع» على «الخليج المصرى» ، وقد عُرفت هذه القناطر

بهذا الاسم؛ لأن «بيبرس» نصب عليها سباعًا من الحجارة، كما أصلح

منارتى «رشيد» و «الإسكندرية» .

أما السلطان «قلاوون» فقد أنشأ القبة التى دُفِن تحتها، كما أنشأ

مسجده ومدرسته، ومارستانه الذى عُرف بمستشفى «قلاوون» ، ثم

يأتى ابنه «السلطان الناصر محمد ابن قلاوون» ، وكان شغوفًا

بسياسة أبيه فى الإنشاء والبناء، فشيد «المدرسة الناصرية» (بحى

النحاسين)، وعين بها مدرسين للمذاهب الأربعة، وألحق بها مكتبة

حافلة بنوادر الكتب وأمهاتها، ولاتزال هذه المدرسة باقية بحالة

جيدة حتى اليوم، وكذلك بنى «الناصر محمد» «القصر الأبلق» بقلعة

الجبل، وسُمى بذلك لأنه بنى من الحجر الأبيض والحجر الأسود، وفى

سنة (718هـ) شيد «الناصر» مسجده بالقلعة، ثم هدمه فى سنة

(735هـ) ليعيد توسيعه وبناءه من جديد، وقام بتجديد بناء المارستان

الكبير الذى أسسه والده «قلاوون» ، وأنشأ «خانقاه» (بيت لفقراء

الصوفية) فى «سرياقوس» من ضواحى «القاهرة» فى سنة (723هـ)،

(أصبحت «سرياقوس» اليوم تابعة لمركز «الخانكة» بمحافظة

«القليوبية» )، وقد شيد «الناصر» سبيلا ألحقه بجوار مدرسته وجامع

أبيه «قلاوون» ؛ لأنهما متجاوران.

ولعل أعظم إنشاءات دولة المماليك البحرية ما قام به السلطان «حسن

بن الناصر محمد بن قلاوون» حين أنشأ مسجده ومدرسته بالقرب من

القلعة.

منشآت دولة المماليك البرجية:

ص: 104

ازدادت المنشآت فى عصر دولة المماليك البرجية، ولعل أفضل مثال

على منشآت ذلك العهد ماقام به «الأشرف برسباى» للعمارة

الإسلامية، فقد قام بتأسيس عدة مبانٍ كان أهمها مدرسته الأشرفية

التى عند «سوق الوراقين» بالقاهرة، إذ رسم حدودها فى سنة

(826هـ) وعين «الشيخ علاء الدين ابن الرومى الحنفى» أستاذًا لها،

ثم أتم بناءها فى سنة (829هـ)، وكذلك قام «برسباى» بإنشاء

مدرسة بجوار «خانقاه سرياقوس» فى سنة (841هـ)، وكانت هذه

المدرسة مجمعًا دينيا يشمل: مدرسة، وكُتَّابًا، وسبيلا، وخانقاه

للصوفية، وكان القاضى «محب الدين بن رسول الكرادى» الحنفى،

المعروف بابن الأشقرت، أحد الذين تولوا أمر المدرسة والخانقاه فى

سنة (863هـ).

كذلك أقام «برسباى» مسجدًا وتربة وزاوية بالصحراء، ولم يكن

وحده هو الذى فعل ذلك، فقد كان أغلب سلاطين المماليك يحرصون

على بناء مسجد ومدفن لكل منهم فى الصحراء بشرق «القاهرة» ،

ذلك إضافة إلى ما يقومون به من منشآت فى أرجاء البلاد، مثلما

فعل «بيبرس» حين أقام «قنطرة المجذوب» بأسيوط، وجدد «الحرم

الشريف» بمكة، و «الجامع الأزهر» بمصر. ويُعدُّ «قايتباى» أشهر

سلاطين المماليك البرجية شغفًا بالبناء والعمران، إذ أنفق مائة ألف

دينار على إعادة تشييد «مسجد المدينة المنورة» بخلاف ما أنفقه

على تشييد وبناء مسجده، وبناء «قلعة الإسكندرية» المعروفة

باسمه، وكذلك أقام مبانى جديدة بقلعة الجبل، وقام «السلطان

الغورى» من بعده بتحصين «الإسكندرية» و «رشيد» .

ويعد عصر المماليك- بحق - أحد العصور الذهبية فى تاريخ العمارة

الإسلامية، فقد كان الإقبال غظيماً على تشييد المساجد والمدارس

والأضرحة، والاهتمام بالمهارات الفنية والزخرفية، والعمل على إتقان

بناء المنارات والقباب وواجهات المنشآت والإيوانات والأعمدة

وزخرفتها، وزخرفة المدارس والمساجد من الداخل والخارج، وقد

كانت العناية بزخرفة وتجميل كل ذلك إحدى سمات هذا العصر.

ص: 105

النهضة فى مجال العلوم والآداب:

لاشك أن المؤسسات العلمية التى أنشأها المماليك نهضت بمستوى

العلم وتقدمه فى عهدهم، وأبرزت نخبة من ألمع العلماء فى مختلف

مجالات الثقافة والعلوم، فكان منهم الفقهاء: شيخ الحنابلة «أحمد بن

تيمية»، ومن المؤرخين:«أبو الفدا» صاحب «التاريخ والسير» ،

و «المقريزى المصرى» صاحب «الخطط» و «السلوك» ، و «ابن خلكان»

صاحب «وفيات الأعيان» ، كما كان من كُتَّاب السير الطبيب الشهير

«ابن أبى أصيبعة» ، الذى درس بدمشق و «القاهرة» ، ثم وضع تراجم

للأطباء فى مؤلفه: «عيون الأنباء» ، وكذلك كان «ابن إياس» صاحب

«بدائع الزهور» ، و «القلقشندى» صاحب «صبح الأعشى» ، ومن

الشاميين نجد المؤرخ «شمس الدين الدمشقى» صاحب «نخبة الدهر

فى عجائب البر والبحر»، و «ابن فضل الله العمرى» ، الذى شغل

منصب «صاحب الخاتم» فى بلاط المماليك بالقاهرة، وهو صاحب

كتاب: «مسالك الأبصار فى ممالك الأمصار» ، ولقد عاش «عبدالرحمن

الجبرتى» أشهر علماء التاريخ فى بلاط المماليك، ويعد «ابن خلدون»

واضع علم الاجتماع ومؤسس فلسفة التاريخ، وهو صاحب كتاب:

«العبر وديوان المبتدأ والخبر» ، وقد وضع فى مقدمته لهذا الكتاب

أسس كتابة التاريخ التى اشتهرت شهرة واسعة النطاق فى أنحاء

العالم.

وهكذا برزت -خلال عهد المماليك - جماعة من أفضل علماء المسلمين

فى التاريخ الإسلامى، وشجعهم على ذلك اهتمام سلاطين المماليك

بالعلم والعلماء.

وإن نظرة واحدة فى حُجة أحد سلاطين هذه الدولة لتظهر لنا مدى ما

وصل إليه هؤلاء من حب وتقدير للعلم والعلماء والمتعلمين، وقد حرص

«الأشرف برسباى» فى حُجته على تعيين المشايخ لمدرسته، وقام

بوقف الأراضى لكى يُنفق من إيرادها على التعليم، وكذلك على

المتعلمين الذين أنفق عليهم بسخاء، فخرج منهم العلماء والفقهاء

والأئمة فى مختلف المجالات والتخصصات والمذاهب، وأصبح هذا

العمل مفخرة لهذا العصر، وسببًا من أهم أسباب تقدم المسلمين

ص: 106

وتفوقهم فى مجالات العلوم والحضارة.

وبعد:

فقد عاش المماليك فى بلاد المسلمين واتخذوا منها مواطن لا يعرفون

غيرها، فأنشئوا بها حضارتهم الخاصة التى تفوقت على حضارات

الأمم الكبيرة آنذاك، والتى مازالت آثارها باقية حتى اليوم، شاهد

صدق على حب هؤلاء المماليك لهذه البلاد، ودليلا قاطعًا على عظمة

سلاطينهم، فمازالت «القاهرة» مليئة بالآثار التى تركها المماليك،

والتى تدل على مدى التقدم الرائع لهذا العصر فى الفنون جميعها،

وبخاصة الزخرفة التى لا يخلو منها مسجد أو قبة أو مدرسة من

آثارهم، ولاشك أن ذلك يعود إلى اهتمام سلاطين هذه الدولة بهذه

الفنون، وبتوفير التمويل المالى اللازم لتنفيذها.

- الحالة الاقتصادية فى عهد سلاطين المماليك:

مما لاشك فيه أن الحالة الاقتصادية لأية أمة من الأمم تمثل العمود

الفقرى لها، فإذا كان الاقتصاد قويا وأحسن استغلاله فى تيسير

حاجات البلاد، وبناء نهضتها، وتشييد حضارتها؛ كان ذلك مدعاة

إلى التقدم والازدهار فى جميع المجالات، ووقوف البلاد فى صفوف

الأمم المتقدمة ذات السيادة العالمية. أما إذا كان اقتصاد أى بلد عكس

ذلك، فإنه يكون مدعاة للظلم والقهر والسلب، وخذلان البلاد ووقوفها

فى ذيل قائمة البلاد المتقدمة، منتظرة قراراتها فى تسيير أمورها

وشئونها الخاصة، ولا تتوافر لهذه الأمم الضعيفة القدرة على اتخاذ

القرار فيما يخصها، وتصبح فريسة للتدخل الأجنبى، وطمع

المستعمرين، ولقد كان المماليك من القوة الاقتصادية لدرجة أن

دولتهم بلغت حدا من الثراء لم تؤثر عليه الحروب العديدة التى

خاضوها، بالإضافة إلى الإنشاءات والإصلاحات التى قامت بها فى

طول البلاد وعرضها؛ إذ تعددت مصادر الثروة التى زخرت بها خزائن

المماليك، فبالإضافة إلى ضرائب الخراج، والتركات التى لا وارث لها

كانت هناك مصادر أساسية وثابتة لزيادة موارد الدولة؛ إذ اهتم

المماليك بالزراعة والصناعة والتجارة، وأقاموا مقاييس للنيل،

ص: 107

وطهروا الترع، وأنشئوا الجسور ونظموا الرى وحسَّنوا وسائله، كما

اعتنوا بصناعة المنسوجات، ونشطوا فى اكتشاف واستخراج

المعادن، التى كان من أهمها:«الزمرد» و «الشب» و «النطرون» ،

فكان «الشب» يُستخرج من الوجه القبلى والواحات، ويُحمل إلى

«قوص» أو إلى «أسيوط» و «أخميم» و «البهنسا» ، ثم ينقل منها عن

طريق النيل إلى «الإسكندرية» وفيها يباع للأوربيين، وخصصت

الحكومة ثلث ثمنه لدفع رواتب الأمراء، ولتوفير بعض احتياجات الجيش

الكثيرة؛ لكثرة حروبهم فى ذلك الوقت.

وكانت التجارة - بحق - أعظم مصادر الثروة فى العهد المملوكى؛ إذ

قاموا بتشجيعها، وعقدوا المحالفات والاتفاقات التجارية مع

إمبراطور «القسطنطينية» ، وملوك «إسبانيا» ، وأمراء «نابلس» ،

و «جنوة» ، و «البندقية» وسلاجقة «آسيا الصغرى» ، وكاد المماليك

أن يحتكروا تجارة «الهند» - خاصة التوابل - بالاتفاق مع أمراء

الموانئ الإيطالية، فكان لذلك أكبر الأثر فى نمو ثروات البلاد

وزيادتها، خاصة بعد أن بسط المماليك سلطانهم على «مكة»

و «جدة» ، وأصبحت «مكة» من أشهر الأسواق التجارية فى الشرق

فانتعشت حالة البلاد الاقتصادية وازدهرت، ويدل على ذلك كثرة

الإنشاءات المعمارية والتجهيزات الحربية فى ذلك الحين، إلا أن لحالة

الركود - التى كانت تصيب الاقتصاد أحيانًا نتيجة لظروف القلق وما

يصاحبها من السلب والنهب - أثراً على خزينة الدولة، ومع ذلك لم يكن

تأثيرها خطيرًا؛ لأن الدولة سرعان ما كانت تتدارك الأخطاء وتعالج

العيوب، وتعمل على سد النقص فى اقتصادها، ولعل أخطر الأحداث

الاقتصادية التى كان لها أكبر الأثر فى سقوط دولة المماليك هو

تحول طرق التجارة بين «أوربا» و «الشرق» عن طريق «مصر» إلى

طريق «رأس الرجاء الصالح» الذى اكتشفه «فاسكو دى جاما»

البرتغالى سنة (1498م)، فأحدث هذا الاكتشاف انقلابًا خطيرًا فى

عالم التجارة، وكارثة حقيقية على دولة المماليك التى كانت تعتمد

ص: 108

بصورة كبيرة على التجارة التى تحولت من حوض «البحر الأبيض

المتوسط» إلى «المحيط الأطلسى» ونضبت خزائن «مصر» من الأموال

التى كانت تأتيها من تجار «البندقية» و «جنوة» ، الذين كانوا ينقلون

تجارتهم من «الشرق» إلى «أوربا» عن طريق «مصر» ويدفعون لها

الضرائب عن دخول تجارتهم وخروجها منها، فكان لذلك أثره على

كساد التجارة والزراعة، ولم تعد «مصر» تنتج للأسواق الخارجية

كثيرًا، فقلت موارد البلاد، وتهددتها المجاعات، وانحط شأن

«الإسكندرية» ، وقل عدد الأجانب بها، وتأخرت الصناعات الحيوية،

وتدهورت الحالة الفنية؛ لقلة الأموال اللازمة، فهيأ هذا الوضع الفرصة

للسلب والنهب الذى قام به بعض أفراد المماليك، فدب الضعف فى

أوصال الدولة، وبدأت تأخذ طريقها إلى الضعف والتلاشى؛ لأن موارد

البلاد لم تعد كافية لسد احتياجاتها الضرورية، وزاد الأمر سوءًا فى

نهاية عصر المماليك إذ كثرت الدسائس والمؤامرات، وحوادث السلب

والنهب، وتعرضت «مصر» للمجاعة والاضطراب فى عهد «السلطان

برقوق» و «السلطان شيخ المؤيد» و «السلطان قايتباى» ، وزادت

الاضطرابات فى أنحاء البلاد، ولا تكاد تستقر حتى تعود إليها

الفوضى ثانية؛ بسبب الفتن التى زادت حدتها فى عهد المماليك

البرجية على وجه الخصوص، لدرجة أن «فايربك» أحد أمراء المماليك

البرجية هو الذى ساعد العثمانيين - بخيانته - على الدخول إلى

«مصر» والشام، وهذا دليل قاطع على مدى التدهور والضعف اللذين

وصلت إليهما الدولة فى آخر أيامها.

لقد انتهت دولة المماليك بعد أن ظلت مدافعة عن العالم الإسلامى حقبة

دامت أكثر من قرنين ونصف القرن، شهد العالم الإسلامى خلالها

حضارة زاهرة مازالت آثارها باقية حتى الآن، ونعم المسلمون فيها

بالرخاء والعزة والعدل والطمأنينة، إذ عُرف المماليك بالعدل وحب

العمران، كما عرفوا بمهاراتهم الفائقة فى الفروسية والقتال، فهم

الذين ردوا المغول ودحروا الصليبيين، وتاريخهم المجيد يشهد لهم

ص: 109

بذلك، وعلى الرغم مما حدث من هنات فى بعض فترات حكمهم، فإن

الحكم النهائى على أية دولة لا يكون إلا على ما خلَّفته، ومما لاشك

فيه أن المماليك قاموا بدور لا يمكن تجاهله أو نسيانه، وخدموا

المسلمين فى كل مكان على الأرض، وأنشئوا حضارة راسخة،

وشجعوا العلم والعلماء والمتعلمين، وكونوا جيشًا قويا، وبنوا

أسطولا عظيمًا، وساعدوا الفقراء والمحتاجين، وشيدوا المدارس

والجوامع والأسبلة والقلاع والمستشفيات والقصور، وعاشوا مع أهل

البلاد فى وئام وسلام، وذابوا فى وحدة العالم الإسلامى، وبنوا له

حضارته، ودافعوا عن أرضه، ورفعوا من شأنه، وأخذوا بيده إلى

القمة فى صدر صفوف دول العالم المتقدمة آنذاك.

ص: 110

الفصل العاشر

*الحجاز

علاقة الحجاز بمصر فى عهد الأيوبيين:

كان سقوط الدولة الفاطمية فى سنة (567هـ = 1771م)، وقيام الدولة

الأيوبية عاملا من عوامل تقوية العلاقات بين «مصر» و «الحجاز» ؛ إذ

قامت خطة «صلاح الدين الأيوبى» على تحقيق الوحدة الداخلية بين

الأقطار الإسلامية كمرحلة أولى، تتلوها المواجهة مع الصليبيين،

وحرص على أن ينال رضا الخليفة على خطته، ليكون رضاه عاملا من

عوامل توحيد صفوف المسلمين وجمع شملهم.

لم يتدخل «صلاح الدين» فى شئون «الحجاز» الداخلية؛ بل اكتفى

بإجراءات تحقق الأمن والعدل لسكانه وللحجاج القادمين إليه، ولم

يغير نظام الحكم الذى كانت تتولاه أسرة الهواشم فى الحرمين

الشريفين، وأسقط فى سنة (572هـ) المكوس عن الحجاج إلى «مكة»

فى البحر عن طريق «عيذاب» ، وعوض أمير «مكة» عن ذلك بثمانية

آلاف إردب قمحًا، تُحمل إليه سنويا إلى ساحل «جدة» ، وأوقف لذلك

أوقافًا بصعيد «مصر» ، وأرسل الأقوات إلى المجاورين والفقراء

بالحرمين الشريفين.

وحينما حج الملك المعظم «توران شاه بن نجم الدين أيوب» أخى

«صلاح الدين» ، قادمًا من «اليمن» فى سنة (570هـ)؛ منح أهل

الحرمين عطاءً كبيرًا وأغدق عليهم، وعمهم بالخير، وقام بعدة

إصلاحات فى الحرمين الشريفين.

حاول الصليبيون غزو «المدينة المنورة» فى سنة (578هـ) للتنكيل

بالمسلمين، وعبر الصليبى «أرناط» أمير «الكرك» «بحر القلزم»

(الأحمر) إلى «عيذاب» على الساحل الشرقى للبحر الأحمر، وقتل

وأسر الكثيرين من أهاليها، ومضى يريد «المدينة المنورة» ، وبلغ

ذلك «صلاح الدين» ، فأمر بتجهيز جيش عظيم بقيادة الحاجب «حسام

الدين لؤلؤ» لرد عدوان «أرناط» ؛ فخرج الجيش ونجح فى هزيمة

«أرناط» وإحراق أسطوله وإفشال حملته، وأُسِر عدد كبير من

جنوده، فأمر «صلاح الدين» بقتل الأسرى من جنود «أرناط» ؛

ليكونوا عبرة لكل من تسول له نفسه الاعتداء على حرم الله -تعالى-

وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم.

ص: 111

كانت وفاة «صلاح الدين» سنة (589هـ)، وكان تقسيم المملكة بين

أبنائه وأخيه «العادل» بداية لتطورات جديدة فى العلاقات الأيوبية

الحجازية، فقد ازداد تدخل الأيوبيين فى شئون «الحجاز» الداخلية؛

بسبب النزاع الذى نشب بين «مكثر» حاكم «مكة» ، وأخيه «داود» ،

ولم ينته الصراع بينهما حتى مات «مكثر» ، فخلفه «أبو عزيز قتادة

بن إدريس الحسنى» المعروف بالنابغة، والذى كان يستوطن مع أهله

«نهر العلقبة» من «وادى ينبع» وأصبحت له الرئاسة على قومه،

وباتت فى يديه أزمَّة أمورهم، وبلغه ما صارت إليه حال الهواشم من

خلافات، فزحف على «مكة» ، ثم تطلع إلى زعامة «المدينة» التى

كانت تتوارث بين أفراد الفرع الحسينى من الأسرة العلوية، فزحف

إلى «المدينة» ، إلا أنه لم يستطع دخولها؛ فعاد إلى «مكة» ثانية.

عظم فى هذا الوقت أمر «بنى رسول» فى «اليمن» بعد وفاة

السلطان «مسعود الأيوبى» سنة (626هـ)، وحاولوا بسط نفوذهم

على «مكة» و «المدينة» ، وتمكنوا من السيطرة على «مكة» وظلت

تحت أيديهم إلى سنة (630هـ)، حتى جاء «الشريف راجع» وتمكن من

استرجاعها منهم بشرط أن يظل تحت نفوذهم (نفوذ «آل رسول»).

شهد تاريخ «مكة» و «المدينة» بعد وفاة «الكامل» فى سنة (635هـ)،

نزاعًا متصلا بين «آل رسول» والأيوبيين وظل الأمر على ذلك حتى

وفاة «الشريف راجع» ، فرأى «ابن رسول» أن يصرف نظره عن

أبناء «راجع» الذين ولَّوْا «أبا نهى» بعد أبيه «الحسن بن قتادة»

بالاشتراك مع عمه «إدريس» ، فشغل «أبو نهى» وأولاده من بعده

الشرافة فى «مكة» و «المدينة» قرنًا من الزمان تقريبًا.

وهكذا كانت «الحجاز» مرتبطة بمصر ارتباطًا وثيقًا فى بداية عهد

الدولة الأيوبية، وزاد من هذا الارتباط أن سلاطين الأيوبيين الأوائل لم

يتدخلوا فى شئون «الحجاز» الداخلية، واكتفوا بتأمين حجاجها،

وتوفير العدل والأمان لأهلها، إلا أن وفاة «صلاح الدين» ، والصراع

ص: 112

الذى دار بين حكام «الحجاز» أنفسهم كانا من أسباب تدخل الأيوبيين

المباشر فى شئون «الحجاز» ، وظلوا على ذلك حتى دخلت المنطقة

فى مرحلة جديدة تحت حكم المماليك.

المماليك والحجاز:

خلفت دولة المماليك الأولى دولة الأيوبيين فى ملكها الواسع ونفوذها

العريض، وحملت لواء الجهاد من بعدها فى وجه الصليبيين والمغول،

فلما تعاظمت قوة المماليك، وصارت «القاهرة» مقرا للخلافة العباسية

تطلع المماليك إلى السيطرة على الحرمين الشريفين كمظهر مكمل

لسيطرتهم على العالم الإسلامى، فأدرك «أبو نهى» حاكم «مكة» أن

المماليك غدوا مركز الثقل فى المنطقة، فأعلن الولاء لهم، وبدأ عهد

جديد فى علاقة «مصر» بالحجاز سياسيا واقتصاديا، ودينيا،

واجتماعيا، وعلميا، إذ حرص «الظاهر بيبرس» عندما ذهب للحج فى

سنة (667هـ) على تثبيت سلطان المماليك فى «الحجاز» ، وتقوية

علاقتهم بها، فكان «أبو نهى» محور هذه العلاقات فترة طويلة، ثم

من بعده أولاده وأحفاده الذين دخلوا فى سلسلة طويلة من

المنازعات والخصومات، فكان سلاطين المماليك -دائمًا - يعملون على

إيجاد الحلول لخصوماتهم، وتسليم السلطة فى «الحجاز» لمَنْ يثقون

به منهم، ولكن هذا الوضع لم يستمر طويلا فى عهد المماليك

الشراكسة، حيث ظهرت بالحجاز شخصيات قوية مثل «الحسن بن

عجلان» الذى سيطر على الأمر فى «الحجاز» ، وحاول المماليك

التدخل، ولكنهم لم يستطيعوا - فى أواخر عهدهم - أن يغيروا من

أوضاع «الحجاز» السياسية، وظل الأشراف مسيطرين على «الحجاز»

طوال عهد المماليك، ومن بعدهم.

أمَّن المماليك طرق التجارة بين «مصر» و «الحجاز» ؛ فقد كانت تدر

عليهم أموالا طائلة، وأصدروا أوامرهم بإلغاء المكوس التجارية فى

الحرمين الشريفين، وأصدروا مراسيم تحدد مكوس التجارة الواردة

إلى «جدة» ، وكانوا يهبُّون إلى نجدة أهل الحرمين فى أزماتهم

الاقتصادية، ويرسلون إليهم المعونات من الحبوب والمؤن.

ص: 113

ولقد بذل المماليك جهودًا كبيرة فى تأمين طرق الحج، والمحافظة

على حجاج بيت الله الحرام من المعتدين وقطاع الطرق، وقام

السلاطين بإصلاح طرق الحج، وحفر آبار جديدة لكى يأمن الحجاج

من العطش أثناء رحلتهم لقضاء المناسك ذهابًا وإيابًا، وكان يصحب

قافلة الحجاج المصريين كثير من الأمراء والقادة وتابعيهم للدلالة على

قوة السلطنة المملوكية، وكانت هذه القافلة تحمل معها كسوة

الكعبة التى صنعت فى «مصر» ، والتى حرص السلاطين على إرسالها

كل عام فى موكب مهيب، وأوقفوا عليها الأوقاف كى لا تنقطع،

وكى تظل تأكيدًا على نفوذ المماليك فى «الحجاز» ، وحينما حاول

«شاه رخ» أن يكسو الكعبة فى عهد السلطان «برسباى» وطلب

السماح له بذلك، رفض «برسباى» بشدة ومن ورائه الشعب والقضاة

والعلماء، لأن كسوة الكعبة شرف يمثل أقوى الروابط الإسلامية فى

نظرهم، ولا يمكنهم التخلى عنه. وقد حرص سلاطين المماليك على

أداء فريضة الحج وزيارة الأراضى المقدسة بالحجاز؛ لكى يكونوا من

بين حجاج بيت الله الحرام دون أية أبهة أو عظمة كسائر الناس.

كانت الحياة الاجتماعية فى الحرمين فى عهد المماليك حياة هادئة

باستثناء سنوات قليلة تعرضت فيها «الحجاز» للقحط، ولم يكن

للمماليك يد فى ذلك، فقد أجروا السبل، وحفروا الآبار والعيون

حفاظًا على مدن «الحجاز» خاصة الحرمين الشريفين.

لم يقتصر دور المماليك فى «الحجاز» على الحرمين الشريفين؛ بل

كانت لهم اليد الطولى فى إثراء الناحية الثقافية بالحجاز، وأقاموا

المدارس، وبذلوا الأموال للمدرسين والدارسين معًا، وكثيرًا ما أرسلوا

الكتب من «مصر» لكى تدرس فى الحرمين، ويُستفاد منها فى تلك

المدارس التى ربطوا لها الأوقاف الكثيرة للإنفاق عليها؛ لذا كان

عهدهم عهد ازدهار واستقرار للحرمين الشريفين وسكانهما، فقد

كفاهم المماليك شرور الغزو، وتسلط الأعداء.

وإنصافًا لحق سلاطين الدولة المملوكية لا يجب أن نلقى عليهم

ص: 114

باللائمة فيما حدث بالحجاز من أحداث داخلية حرمته استقراره حينًا من

الوقت، لأن أمراء «الحجاز» أنفسهم هم المسئولون عن ذلك بما قام

بينهم من منازعات وصراعات كانت السبب الرئيسى فى إشعال نار

الفتن؛ التى كثيرًا ما كان يتدخل المماليك لإطفائها من أجل مصلحة

سكان الحرمين الشريفين وما حولهما، إلا أن الضعف الذى دب فى

أوصال الدولة المملوكية فى أواخر أيامها بعد اكتشاف طريق «رأس

الرجاء الصالح» وتحول مسار التجارة العالمية عن «مصر» ، كان سببًا

جوهريا لدخول العلاقات بين «مصر» و «الحجاز» فى دور جديد فى

عهد السلطان «الغورى» ، وحُرمت «الحجاز» من مصدر مالى شديد

الأهمية وتلا ذلك سقوط المماليك فى الشام فى معركة «مرج دابق»

سنة (922هـ)، ثم معركة «الريدانية» بمصر سنة (923هـ)، فسقطت

بذلك دولة المماليك وتوارت، وارتفع الستار عن الدولة العثمانية،

القوة الجديدة فى العالم الإسلامى؛ فكان على «الحجاز» أن ينضوى

تحت لوائها ويبدأ مرحلة جديدة فى تاريخ علاقاته.

ص: 115

الفصل الحادي عشر

*عُمَان

تقع «عُمَان» فى أقصى الجنوب الشرقى لشبه الجزيرة العربية،

ممتدة شمالى «بحر العرب» ، وعلى طول «خليج عمان» حتى إمارة

«الفجيرة» (إحدى إمارات دولة «الإمارات العربية» الآن)، وتقع

«اليمن» غرب «عمان» ، وهى تطل على البحر من جهة، وعلى

الصحراء من جهة أخرى، وبذلك يمكن تقسيم سكانها إلى طائفتين

متميزتين هما:

«الحضر» ، و «البدو» ، ويسكن «الحضر» على الساحل وبخاصة فى

مسقط، وهم أخلاط ممتزجة من السكان. أما «البدو» فيعيشون فى

المناطق الداخلية، وهم أكثر بساطة من «الحضر» ، ويميلون إلى

المحافظة على عاداتهم وتقاليدهم.

وتبلغ مساحة «عمان» حوالى مائة وعشرين ألف ميل مربع، وعدد

سكانها - الآن - نحو مليونى نسمة.

عمان الإسلامية:

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسائل إلى الملوك ورؤساء

القبائل فى الجزيرة العربية وخارجها، يدعوهم فيها إلى الإسلام،

وكانت «عمان» آنذاك تحت حكم أسرة «الجُلَنْدِى الأزدى» . وكان

ملكها «جيفر» رجلا حكيمًا تميز بعدله وسيرته الحسنة بين الرعية،

فبعث إلىه النبى صلى الله عليه وسلم بعمرو بن العاص ومعه

رسالة يدعوه فيها إلى الدخول فى دين الله، فأسلم «جيفر» وقومه

ووجوه العشائر وبقية الناس، ولم يكتف «جيفر» بذلك، بل عمل على

نشر الدين الإسلامى قدر استطاعته، وأرسل من قِبَله رسلا تحمل

دعوة الإسلام إلى «مهرة» وغيرها من المناطق المجاورة لعمان،

فكانت «عمان» بذلك من أولى البلاد التى دخلت فى الإسلام طواعية،

وكان ملكها أحد الذين عملوا على نشر الإسلام فى أهله وجيرانه.

عمان فى العهد الأموى:

بعد موقعة «النهروان» التى دارت رحاها بين أمير المؤمنين «على بن

أبى طالب» والخوارج، وبعد انقسام الخوارج على أنفسهم اتجهت

الفئة المعتدلة منهم - التى كانت تعتنق «المذهب الإباضى» - إلى

«عمان» ، وقاموا بترويج مذهبهم ونشره بين أهل «عمان» ؛ فلاقى

هذا المذهب القبول بين أهل «عمان» ، فلما آل أمر الخلافة إلى

ص: 116

الأمويين أصبحت «عمان» من مراكز المعارضة لهم، وأعلنت استقلالها

عن الخلافة الأموية وساعد العمانيين فى ذلك بُعد بلادهم عن مركز

الخلافة، وطبيعتهم الاجتماعية التى لا تقبل سيطرة خارجية، وطبيعة

البلاد الجغرافية التى تجعل التوغل فيها أمرًا عسيرًا، وكذلك انشغال

الخلفاء الأمويين عنهم، فلما تولى «عبدالملك بن مروان» الخلافة جعل

«العراق» تحت سلطة «الحجاج بن يوسف الثقفى» الذى تطلع إلى

السيطرة على أرض «عمان» و «الخليج» ، وتم له ما أراد بعد صراع

طويل بين جيشه وأهل هذه البلاد، ففرت أسرة «الجلندى» إلى

«زنجبار» التى كانت «عمان» على صلة وثيقة بها، امتدت لتشمل

ساحل إفريقيا الشرقى كله. وكان «الخيار بن حبر الجاشعى» أحد

ولاة «عمان» فى عهد الخليفة الأموى «عبدالملك بن مروان» .

المذهب الإباضى فى عمان:

عاش «الإباضية» من أتباع «عبدالله بن إباض» فى «عمان» ، فكانوا

يضمرون ثورتهم على نظام الخلافة حينًا، ويعلنونها أحيانًا، حتى

ولى العباسيون الخلافة فاستعاد العمانيون سلطانهم كاملا. والمذهب

الإباضى هو أقرب المذاهب إلى مذهب أهل السنة، وقد قام

الإباضيون فى «عمان» بدور واسع فى الصراع العسكرى ضد

الأمويين، فامتزجت حركة العمانيين الاستقلالية بالفكر الإباضى،

ونتج عن ذلك فكر جديد ساد «عمان» منذ ذلك الحين، يرفضون فيه

وصفهم بالخوارج، ويفضلون الارتباط بعبدالله بن إباض، وقد تناول

أحد مؤرخى «عمان» فى كتابه «سلطنة عمان» الامتزاج الذى تم بين

المذهب الإباضى والدم العمانى فقال: «كان المذهب الإباضى هو

اللواء الذى عاش فى ظله العمانيون، ووحَّد بينهم فى كفاحهم لنيل

استقلالهم، وكانوا يستبسلون فى الدفاع عن عقيدتهم وتقاليدهم».

عمان فى العصر العباسى:

لم تطل مدة ارتباط «عمان» بالخلافة العباسية؛ إذ سرعان ما استقل

أهل «عمان» بشئونهم عن الخلافة العباسية، وكان «أبو جعفر

المنصور» أول ولاة العباسيين على شئون «العراق» الجنوبى،

ص: 117

فاستعمل على «عمان» «جناح بن عباد بن قيس بن عمر الهنائى»

صاحب المسجد المعروف باسمه بصحار، ثم عزله «المنصور» وولى

ابنه «محمد بن جناح» الذى اتسم برزانة العقل وحكمة التفكير،

فأدرك رغبة العمانيين فى أن يكون واليهم منهم، وأن يكون لهم حق

انتخابه بأنفسهم، فسمح لهم بذلك ووافقهم عليه، فعقدوا الإمامة

للجلندى بن مسعود بن جيفر بن جلندى، الذى بدأ به نظام الإمامة

الإباضية فى «عمان» سنة (135هـ)، إلا أن العباسيين لم يوافقوا

على ذلك، وأرسلوا جيشًا حارب العمانيين، وقتل إمامهم، وظلت

«عمان» بدون إمامٍ حتى عادت إليها الإمامة ثانية فى سنة (145هـ).

الأئمة الإباضية فى عمان:

كان «جلندى بن مسعود» الذى تولى إمامة «عمان» فى سنة

(135هـ) أول إمام على «عمان» من «الإباضية» ، ولم يكن نظام الإمامة

متوارثًا، بل كان يتم انتخاب الأئمة بالاختيار المباشر، كما كان يتم

عزل بعض الأئمة أحيانًا.

وأول أئمة عمان من الإباضية هو: «جلندى بن مسعود بن جيفر بن

جلندى الأزدى» (135هـ).

قتل بعد ذلك بعامين فى حرب ضد العباسيين، وعادت الإمامة إلى

«عمان» مرة ثانية فى بداية سنة (145هـ)، فتولى الإمامة منذ ذلك

الحين الأئمة:

1 -

«محمد بن عفان الأزدى» . (145هـ).

2 -

«الوارث بن كعب اليحمدى» . (185هـ).

3 -

«غسان بن عبدالله» . (192هـ).

4 -

«عبدالملك بن حميد الغسانى» . (208هـ).

5 -

«مهنا بن جعفر اليحمدى» . (226هـ).

6 -

«الصلت بن مالك الأزدى» . (237هـ).

7 -

«راشد بن نصر (أو ابن النظر)» . (273هـ).

8 -

«عزان بن تميم» . (277هـ).

9 -

«محمد بن الحسن» . (284هـ).

10 -

«عزان بن خضر» . (285هـ).

11 -

«عبدالله بن محمد» . (286هـ).

21 -

«الصلت بن القاسم» . (287هـ).

13 -

محمد بن الحسن (للمرة الثانية). (287هـ).

14 -

«الحسن بن سعد» (287هـ).

لم يكن بعض هؤلاء الأئمة محمود السيرة، مثلما وُصِف «محمد بن

عفان»، الذى عزله المسلمون حين ساءت سيرته، كما ساءت سيرة

ص: 118

«عزان بن تميم» وكثر تنازع العمانيين فيما بينهم فى عهده، فانفض

الناس من حوله.

عُمان حتى نهاية القرن الرابع الهجرى:

عاشت «عمان» ابتداءً من القرن الثالث الهجرى فترة مضطربة؛ بسبب

الخلافات والمنازعات التى خلَّفت دمارًا كبيرًا أثَّر على الأوضاع

الاقتصادية فى «عمان» ، التى شهدت خلال تلك الفترة صراعًا مريرًا

بين «النزارية» و «اليمنية» وصل إلى قمته فى سنة (278هـ) بهزيمة

«النزارية» ، ففتح هذا الصراع الباب على مصراعيه لصراع دام طويلا

فى «عمان» .

ولقد شهدت «عمان» ومنطقة الخليج خلال هذه الفترة صراعًا فكريا

عنيفًا أدى إلى التصادم الحربى فى معارك حربية، استلزمت جهودًا

كبيرة، كانت أهمها تلك المعركة التى وقعت حين هبت ثورة

القرامطة التى استنفدت جهود العباسيين وأموالهم، وقامت الحرب

بين العباسيين والقرامطة، وامتد خط الصراع بينهما من «البحرين»

إلى «عمان» ، فاضطربت الأوضاع فى «عمان» نتيجة لسيطرة

القرامطة عليها، وللحرب التى نشبت بين العباسيين والقرامطة.

حاول الخليفة «المعتضد» (279 - 289هـ) بسط سلطانه على «عمان» ،

فولى عليها «محمد بن القاسم السلمى» الذى تمكن من تكوين دولة

له فى «عمان» توارثها أبناؤه من بعده، وفى الوقت نفسه كانت

توجد بعمان أسرة «بنى وجيه» وحكمت بعض مناطقها، ثم قويت

شوكتها لدرجة أن ملوكها تطلعوا إلى السيطرة على البصرة.

فى وسط هذه الصراعات عرفت «عمان» سلطتين متعارضتين؛ إذ

كان بها ملك «سلطان» فى منطقة، وإمام فى المنطقة الأخرى،

فأدى ذلك إلى حدوث الصراعات والاضطرابات.

ملوك آل نبهان:

ظهر ملوك «آل نبهان» ولاة للبويهيين على «عمان» فى القرن الرابع

الهجرى الذى ساءت خلاله أحوال «عمان» ؛ نتيجة الصراعات

والاضطرابات الداخلية التى زادت بتولى «آل نبهان» حكم «عمان» ؛ إذ

استبدوا بأمورها، وأساءوا معاملة أهلها، ومع ذلك لم يكونوا

وحدهم المسئولين عما ألمَّ بعمان من اضطرابات، فقد ساعدتهم فى

ص: 119

ذلك صراعات الأئمة التى شهدتها «عمان» خلال تلك الفترة، وظل «آل

نبهان» يحكمون «عمان» حتى القرن التاسع الهجرى، ثم عادت إلى

الأئمة قوتهم السياسية فى «عمان» من جديد.

وكان أهم ملوك «آل نبهان» خلال هذه الفترة: «أبو عبدالله محمد بن

عامر بن نبهان» وإخوته، ثم «الحسين أحمد» و «أبو محمد نبهان»

وغيرهم. فلما زالت دولة «آل نبهان» بدأ الأئمة يستعيدون مجدهم

وسلطتهم من جديد.

الأئمة بعد آل نبهان:

بعد زوال دولة «آل نبهان» ظهر الأئمة من جديد فى سلسلة متصلة

تولوا خلالها أمور «عمان» ، وأئمة «عمان» بعد النبهانيين هم:

1 -

«أبو الحسن عبدالله خامس ابن عامر الأزدى» . (839هـ).

2 -

«عمر بن الخطاب بن محمد بن أحمد بن شاذان بن الصلت

اليحمدى». (855هـ).

3 -

«عمر الشريف» . (896هـ).

4 -

«أحمد بن محمد» . (897هـ).

5 -

«أبو الحسن بن عبدالسلام» . (905 هـ).

6 -

«محمد بن إسماعيل» . (906هـ).

7 -

«بركات بن محمد بن إسماعيل» . (936هـ).

8 -

«عبدالله بن الهنائى» . (967هـ).

وكما أن الأئمة لم يسمحوا لآل نبهان بالتفرد بالسلطة فى «عمان» ،

فإن النبهانيين سعوا إلى سلب السلطة من الأئمة بعد أن استقرت فى

أيديهم، وخرج «سليمان بن سليمان النبهانى» على الإمام «عمر ابن

الخطاب اليحمدى» وحاربه فى سنة (885هـ)، وتمكن الإمام «عمر» من

السيطرة على الموقف وتم له النصر، فنشأ عن هذا الصراع المستمر

على السلطة تمزق «عمان» وتقطيع أوصالها، وبات فيها - قبل قيام

دولة اليعاربة - خمسة من صغار الملوك حكموا «الرستاق» ،

و «النخل» ، و «سمائل» ، و «سمد» ، و «أبدا» ، كما كانت بعض الحصون

والمدن فى قبضة بعض رؤساء القبائل.

ص: 120

الفصل الثاني عشر

*اليمن

الإسلام فى اليمن:

حين ظهر الإسلام فى شبه الجزيرة العربية كان الفرس مسيطرين على

بعض البلاد العربية، ومنها «اليمن» ، وكان عليها - آنذاك - «باذان»

الذى ولاه «كسرى» إمبراطور الفرس، فلما وصل أمر الدعوة

الإسلامية إلى «باذان» آمن بها وأعلن إسلامه، فأقره الرسول - صلى

الله عليه وسلم - على «اليمن» ، فوجد الإسلام طريقه للانتشار بنواحى

«اليمن» ، ووفد على الرسول فى العام التاسع للهجرة المعروف بعام

الوفود؛ وفود متعددة قدمت من «اليمن» و «حضرموت» كانت منها

وفود: «همدان» ، و «خولان» ، و «النخع» ، و «الصرف» ، و «عذرة» ،

و «جهينة» ، و «مراد» ، وغيرها، وكذلك وفد على الرسول من

«اليمن» : «وائل بن حجر بن ربيعة» وكان من أبناء ملوك «اليمن» ،

فأدناه الرسول منه، وأجلسه على ردائه، وأقطعه أرضًا، وأرسل

معه «معاوية بن أبى سفيان» ليسلمها له، وكان «أبو موسى

الأشعرى» وأخوه «أبو بردة» ، و «ياسر بن عمار العنسى» من أشهر

المسلمين الذين وفدوا على الرسول صلى الله عليه وسلم من

«اليمن» .

بنو نجاح فى زبيد [403 - 555هـ):

استتب الأمر للأمير «نجاح» فى «زبيد» و «تهامة» ، فكتب إلى الخليفة

العباسى فى «بغداد» معلنًا له ولاءه وطاعته للدولة العباسية،

فأقره الخليفة عليها، ونعته بالمؤيد نصر الدين، وكان «نجاح» سمحًا

يتبع المذهب الشافعى، فدانت له تهامة طيلة حياته، فلما وافته المنية

فى سنة (452هـ) دار صراع طويل بين أولاده وأحفاده من جانب

ودولة «صليح» التى نشأت فى «صنعاء» سنة (429هـ) من جانب

آخر، واستقر الأمر لبنى نجاح - بعد معارك طويلة - فى عام (472هـ)

وبقى فيهم حتى سنة (554هـ)، وأمراء «بنى نجاح» هم:

1 -

الأمير «نجاح» (403 - 452هـ).

2 -

«سعيد بن نجاح» (452 - 481هـ).

3 -

«جياش بن نجاح» (483 - 498هـ).

4 -

«فاتك بن جياش» (498 - 503هـ).

5 -

«منصور بن فاتك» (503 - 521هـ).

6 -

«فاتك بن منصور» (521 - 540هـ).

7 -

«فاتك بن محمد بن فاتك» (540 - 554هـ).

ص: 121

سقوط آل نجاح:

جاء سقوط «بنى نجاح» على أيدى «بنى المهدى» الذين يعودون

فى نسبهم إلى أسرة حميرية هالها تحكم «بنى نجاح» الأحباش فى

«اليمن» ، فجمع زعيمها «على بن مهدى» الجموع حوله وغزا مدينة

«الكدراء» فى سنة (538هـ)، وظل «بنو المهدى» من ذلك التاريخ

يعملون للسيطرة على «زبيد» ، وتحقق لهم ذلك فى سنة (553هـ)،

عندما عجز «آل نجاح» عن صدهم، ودخل المهديون «زبيد» واستقر

لهم الأمر فيها.

بنو المهدى الحميريون فى زبيد [553 - 569هـ]:

يرجع الفضل فى تولية المهديين على «زبيد» إلى «على بن مهدى

الحميرى» الذى ينحدر من أسرة «الأغلب بن أبى الفوارس بن ميمون

الحميرى»، وقد عاش «آل المهدى» فى قرية «العنبرة» من سواحل

«زبيد» .

نشأ «على بن المهدى» نشأة دينية، وحج البيت الحرام، ولقى

العلماء وأخذ عنهم العلم، ونهل من المعارف حتى أصبح واعظًا

بارعًا، وعالمًا فصيحًا، فاستمال القلوب حوله، وظهر أمره بساحل

«زبيد» ، فقربته «أم فاتك بن منصور» ؛ لصلاحه وتقاه، وأغدقت عليه

هو وأهله، حتى أصبحوا من الأثرياء، وباتوا قوة كبيرة التف حولها

الناس من كل مكان، فى الوقت الذى ضعف فيه «آل نجاح» ، ونظر

إليهم اليمنيون على أنهم أحباش تحكموا فى بلادهم، فسعى «على

بن المهدى» إلى طرد «آل نجاح» من السلطة، وعمل على تحقيق ذلك

جاهدًا حتى تم له ما أراد فى سنة (553هـ) بعد معارك طويلة، ثم

أسس دولته التى سعد بها اليمنيون، لأن المهديين كانوا وطنيين امتاز

مؤسس دولتهم بالعلم والخلق الطيب، فانضمت إليه جميع بلاد «اليمن»

وذخائرها، إلا أن أمراء هذه الأسرة الذين جاءوا بعد «على بن

المهدى» مؤسس دولتهم اتجهوا إلى معاملة الناس بالقسوة والشدة؛

وانحرفوا عن الطريق التى رسمها الأمير «على» ، فتهيأ الجو

لاستقبال أى فاتح يخلص «اليمن» منهم، فلم تدم دولتهم طويلا لدخول

الأيوبيين «اليمن» .

وولاة أسرة «المهدى» هم:

1 -

«على بن المهدى» (553هـ).

2 -

«مهدى بن على» (553 - 558هـ).

ص: 122

3 -

«عبدالنبى بن على» (558 - 569هـ).

صنعاء

هى عاصمة «اليمن» الرئيسية، وأهم مدنها وأجملها، وكان اسمها

«أوزال» ، فلما وقعت «اليمن» تحت حكم الأحباش تغير اسمها إلى

«صنعاء» ، ومعناها:«حصينة» .

ظلت «صنعاء» عاصمة «اليمن الأولى» فى العصر الإسلامى، وإن

قامت إلى جانبها عواصم أخرى للولايات المتعددة التى قامت باليمن،

وقد عرفت «صنعاء» الحركات الانفصالية ببنى يعفر، مثل غيرها من

المدن والولايات اليمنية فى ذلك العهد.

دولة بنى يعفر بصنعاء [225 - 387هـ]:

بدأ نفوذ «بنى يعفر» فى «شبام» بحضرموت سنة (225هـ)، وامتد

نفوذهم إلى «صنعاء» عن طريق «جعفر بن على الهاشمى» الذى

وَلَّى «عبدالرحيم بن إبراهيم الحوالى الحميرى» اليمن نيابة عنه، فلما

تُوفِّى «عبدالرحيم» قام ابنه «يعفر» مقامه، وصارع فى ميادين

عديدة، كان من أهمها: صراعه ضد «حمير بن الحارث» والى

«اليمن» ، وصراعه ضد «ابن زياد» حاكم «زبيد» ، فلما تُوفِّى «ابن

زياد» فى سنة (245هـ) استقر سلطان «يعفر» فى «صنعاء» ، فبدأ

بتأسيس دولته فيها، وتم له ذلك فى سنة (247هـ)، فاعتبر المؤرخون

هذه الدولة هى صاحبة الفضل فى تحقيق استقلال «اليمن» ، إلا أنها

اختلت اختلالا واسعًا فى عهد «محمد بن إبراهيم» نتيجة لاقتحام

الأئمة والقرامطة البلاد، فعمت فيها الفوضى، وانتهت فى سنة

(387هـ).

وأمراء «بنى يعفر» بصنعاء هم:

1 -

«يعفر بن عبدالرحيم» [247 - 259هـ].

2 -

«محمد بن يعفر» [259 - 279هـ].

3 -

«إبراهيم بن محمد بن يعفر» [279 - 285هـ].

4 -

«أسعد بن إبراهيم بن يعفر» [286 - 288هـ] وتولى مرة ثانية [303

- 332هـ].

5 -

«محمد بن إبراهيم» [332 - 352هـ].

بنو صليح فى صنعاء [429 - 532هـ]:

نجح «محمد بن على الصليحى» فى السيطرة على زمام الأمور فى

«صنعاء» ، وزاد موقفه رسوخًا عندما استطاع السيطرة على «زبيد» ،

ويكفيه أنه حقق وحدة «اليمن» فى عهده، ويقول عنه «تاج الدين

ص: 123

اليمانى» أحد مؤرخى «اليمن» : «إن الصليحى طوى اليمن طيا، سهله

وجبله، وفى سنة (455هـ) ملك الصليحى جميع اليمن إلى حضرموت،

وولاه المستنصر الفاطمى أمر مكة، واتخذ صنعاء عاصمة له، وبنى

فيها عدة قصور، وأحسن سيرته فى الرعية، وعلى الرغم من تشيعه

فإنه سمح لأهل السنة بإظهار مذهبهم، وأسكن معهم ملوك اليمن

الذين أزال ملكهم، وكان إذا حج اصطحبهم معه»، وأمراء الصليحيين

هم:

1 -

«على بن محمد» [429 - 459هـ].

2 -

«المكرم أحمد بن على» [459 - 484هـ].

3 -

«شمس المعالى سبأ الصليحى» [484 - 492هـ].

4 -

السيدة «أروى بنت أحمد الصليحية» [492 - 532هـ].

نهاية دولة بنى صليح:

بدأ انهيار دولة «بنى صليح» عقب وفاة «على بن محمد الصليحى»

الأمير الأول، وقد بذل ابنه «المكرم» وزوجه «أروى» جهودًا كبيرة

لاستعادة بناء الدولة إلا أن جهودهما لم تحقق الهدف المرجو منها،

ولم تستطع «أروى» استعادة زمام الأمور بعد وفاة زوجها حتى

ماتت سنة (532هـ)، فتفككت المملكة الصليحية بعد أن حققت فترة

استقرار وأمن لليمن كان فى حاجة إليها، وقد تميزت فترة

الصليحيين بروح الود وبخاصة مع الدولة الفاطمية التى كان يجمعها

مع الصليحيين المذهب الشيعى.

بنو همدان فى صنعاء [492 - 596هـ]:

عقب وفاة «سبأ الصليحى» سنة (492هـ) مرت «صنعاء» بفترة

اضطراب، وكان «حاتم الهمدانى» أول من تولاها بعد «سبأ» وكان

رجلا ذكيا محبا للنهضة، كما كان ابنه «محمد» شجاعًا وجوادًا،

فبقيت «صنعاء» فى أيدى «بنى حاتم» الهمدانيين حتى اضطربت

أحوالها فى نهاية عهدهم، وعمتها الفوضى، فمهد ذلك الطريق

للأيوبيين، فضموها إلى سلطانهم مع ما ضموه من «اليمن» .

وسلاطين الهمدانيين باليمن هم:

1 -

«حاتم بن الغشم الهمدانى» .

2 -

«هشام بن القبيب الهمدانى» .

3 -

«حاتم بن أحمد بن عمران» .

4 -

«عبدالله بن حاتم» .

5 -

«حماس بن القبيب» .

6 -

«على بن حاتم» .

7 -

«معن بن حاتم» .

بنو زريع فى عدن [476 - 569هـ]:

ص: 124

عندما استولى «الصليحى» على «اليمن» مد سلطانه إلى «عدن» ،

فوجد بها «بنى معن» الحميريين؛ فأبقاهم عليها بعد أن أظهروا

ولاءهم له، فلما استقر الأمر -بعد ذلك - للمكرم الصليحى فى «عدن»

وما حولها جعل ولايتها «للعباس» و «مسعود» ابنى «المكرم الجشمى

بن يام بن أصبى الزريعى» وجعل «العباس» على حصن «التعكر»

وما يليه من البر، وجعل «مسعود» على حصن «الخضراء» وما يليه من

البحر وله كذلك «عدن» ، فعظم سلطان «بنى زريع» وأصبحوا شبه

مستقلين فى هذه المناطق، وبخاصة بعد نهاية دولة الصليحيين.

وسلاطين آل زريع هم:

- فى حصن التعكر

1 -

«العباس بن المكرم» [470 - 477هـ].

2 -

«زريع بن العباس» [477 - 480هـ].

3 -

«أبو السعود بن زريع» [480 - 494هـ].

- فى حصن الخضراء وعدن:

1 -

«المسعود بن المكرم» [470 - 480هـ].

2 -

«أبو الغازات بن مسعود» [480 - 485هـ].

3 -

«محمد بن أبى الغازات» [485 - 488هـ].

4 -

«على بن محمد» [488 - 489هـ].

الداعى سبأ بن أبى السعود على المنطقتين [489 - 533هـ]:

كان «محمد بن سبأ بن أبى السعود بن زريع» رجلا شجاعًا عظيم

الشخصية، فتمكن من ضم حصن «التعكر» إلى حصن «الخضراء»

و «عدن» فى حياة أبيه، فلما ولى بعد أبيه دانت له المنطقة كلها،

وقلده الخليفة الفاطمى بمصر أمر الدعوة الفاطمية فى بلاده، وأطلق

عليه لقب «الداعى سبأ» ؛ لما كانت بينهما من علاقة طيبة، وظل فى

ملكه حتى مات سنة (533هـ). فجاء من بعده «عمران بن محمد بن

سبأ» [550 - 560هـ]، ثم «أبو الدُّر جوهر المعظَّمى» وصيا على أولاد

«عمران» (560 - 569هـ)، ثم دخل الأيوبيون «اليمن» فى سنة

(569هـ).

مصر واليمن فى العهد الفاطمى:

دأب الفاطميون قبل أن يفتحوا «مصر» وينتقلوا بخلافتهم إليها على

نشر دعوتهم الشيعية فى شمالى «إفريقيا» ، وفى الأماكن القريبة

من أضرحة أئمة آل البيت فى «النجف» و «كربلاء» ، وكانت «اليمن»

المكان الملائم لدعوتهم، فبعثوا إليها بدعاتهم الذين تمكنوا من

ص: 125

السيطرة عليها ونشر دعوتهم بها، فلما دخل الفاطميون «مصر»

واستقرت أمور دولتهم بها لم ينسوا «اليمن» ، وأقاموا معه علاقات

وثيقة الصلة، ووجدوا فى «بنى صليح» وسيلتهم للسيطرة على

«اليمن» ، فساعدوهم ماديا وأدبيا حتى قامت دولتهم بصنعاء

واتسعت فى أماكن أخرى، وزاد الترابط والصلة بين «مصر»

و «اليمن» ، وظلت هذه العلاقة قائمة حتى سقطت دولة الفاطميين.

الأيوبيون فى اليمن [569 - 626هـ]:

اتجه الأيوبيون عقب سيطرتهم على مقاليد الأمور فى «مصر» إلى

توحيد صفوف العالم الإسلامى، فقد كان ذلك هدف «صلاح الدين

الأيوبى» الذى سعى من أجل تحقيقه، فأرسل جيشًا بقيادة «توران

شاه» إلى «اليمن» فى شوال من سنة (569هـ)، فاتجه الجيش إلى

«زبيد» وقضى على مقاومة «عبدالنبى بن المهدى» ، ثم اتجه إلى

«عدن» وقضى على «آل زريع» فيها، ثم غادرها إلى «ذى جبلة»

حيث يحكم الصليحيون دعاة الفاطميين، فتمكن منهم وقضى على

دعوة الفاطميين فيها، وامتد حكم الأيوبيين إلى «صنعاء» ومناطق

كثيرة من «حضرموت» بسبب ضعف الزيديين فيها، وأحكم الأيوبيون

سيطرتهم على بلاد «اليمن» واتخذ «توران شاه» من «تعز» عاصمة

جديدة له.

نهاية دولة بنى رسول:

ظلت دولة «بنى رسول» فى بلاد «اليمن» أكثر من قرنين من الزمان،

ثم تعرضت لعوامل الضعف التى ساعدت على انهيارها حين نشب

الصراع بين الأمراء من «بنى رسول» ، وكانت نهاية الدولة حين ذهب

السلطان «مسعود» آخر سلاطين «بنى رسول» لزيارة «مصر» ،

فاستبد عبيده بالسلطة وأساءوا التصرف، وعاملوا الناس بغلظة،

فلجأ الناس إلى «بنى طاهر» أبرز عمال «بنى رسول» ؛ لينقذوهم من

تسلط العبيد، فتقدم «بنو طاهر» وأزالوا سلطان العبيد وسيطروا

لصالحهم على مقاليد السلطة، فسقطت بذلك دولة «بنى رسول» .

بنو طاهر فى اليمن [858 - 923هـ]:

تمكن «عامر بن طاهر» من السيطرة على مقاليد السلطة فى

«اليمن» ، بعد أن أزال دولة «بنى رسول» ، إلا أن الأمور لم تكن سهلة

ص: 126

- آنذاك - فقد كان نفوذ الأئمة قويا، ورأوا أنهم أحق بالسيطرة على

«اليمن» كله من الطاهريين، فى حين طمع «بنو طاهر» فى أن يكون

لهم ملك «بنى رسول» فى شمالى «اليمن» وجنوبيه، ونشب صراع

مذهبى عنيف بين الفريقين، واستمر لفترة طويلة حتى تمكن الظافر

الثانى «عامر بن عبدالوهاب بن طاهر» من هزيمة الأئمة، فدانت له

«اليمن» شمالا وجنوبًا، واستكمل الطاهريون ما بدأه «آل رسول»

فى بناء حضارة «اليمن» ، فانتشرت فى عهدهم المدارس والمساجد،

واختطوا مدينة «المقرانة» فى «رواع» ، وشيدوا بها القصور العظيمة،

وأقاموا الحدائق البديعة، وشهدت «اليمن» فى عهدهم نهضة علمية

عظيمة، وبرز فيها العلماء والمؤرخون، وبلغت العلوم الرياضية

والفلكية والبحرية والجغرافية فى عهدهم شأوًا كبيرًا، فكان «أحمد

بن ماجد العدنى»، و «سليمان المهرى» من علماء هذا العصر، وتتلمذ

على أيديهما البحارة والجغرافيون من البرتغاليين والأتراك، ولأحمد

بن ماجد مؤلفات بلغ الموجود منها أربعين مؤلفًا فى الجغرافيا

والملاحة وأحوال البحار وطرقها، وظل الطاهريون فى دأبهم من

أجل بناء حضارة «اليمن» حتى جاءت نهايتهم على أيدى المماليك

فى سنة (945هـ) بحجة حماية طرق التجارة.

وسلاطين بنى طاهر هم:

1 -

الظافر (الأول)«عامر بن طاهر» [857 - 870هـ].

2 -

«المجاهد على بن عمر» [870 - 883هـ].

3 -

«المنصور عبدالوهاب بن طاهر» [883 - 894هـ].

4 -

الظافر (الثانى)«عامر بن عبدالوهاب» [894 - 923هـ].

5 -

«عامر بن داود بن طاهر» [929 - 945هـ] (احتفظ «عامر» بعدن

حتى سنة 945هـ).

المماليك فى اليمن [923 - 945هـ]:

ترك المماليك «اليمن» تحت حكم أبنائه من «بنى رسول» و «بنى

طاهر»، وظل اسم سلطان المماليك واسم الخليفة العباسى يذكران

فى الخطبة وينقشان على السكة باليمن حتى عهد المماليك

الجراكسة، وذلك مظهر من مظاهر سيادة المماليك على بلاد «اليمن» ،

ثم استطاع البرتغاليون فى نهاية القرن الخامس عشر الميلادى أن

ص: 127

يجدوا طريقًا تجاريا إلى «الهند» و «الشرق الأقصى» بدون المرور

على «البحر الأبيض» و «البحر الأحمر» ، فكان هذا الاكتشاف الذى

عرف بطريق رأس الرجاء الصالح ضربة قاصمة لسلطان المماليك فى

«مصر» والشام، وحاول البرتغاليون تأمين طريقهم الجديد، فعمدوا

إلى احتلال بعض المناطق المهمة، واحتلوا «جزيرة كمران» اليمنية

وهاجموا «عدن» واحتلوها، ثم بسطوا نفوذهم على أجزاء كبيرة من

«اليمن» ، فاتجه المماليك بقيادة السلطان «الغورى» إلى محاولة

استعادة نفوذهم، وقطع طريق البرتغاليين الجديد، وكان الصراع

محتدمًا - وقتها - فى «اليمن» بين الأئمة والطاهريين، فدخل المماليك

«اليمن» وقضوا على الطاهريين بعد أن رفضوا مساندتهم فى حربهم

ضد البرتغاليين، فكان دخول المماليك «اليمن» لرد البرتغاليين عنه،

ولحماية طرق تجارتهم، واستعاد المماليك «جزيرة كمران» التى

احتلها البرتغاليون بيد أن الأمور لم تستقر لهم فى هذه البلاد؛ إذ

كثرت مناهضة الأئمة الزيديين لهم، ودخل العثمانيون الشام و «مصر»

بعد هزيمة المماليك فى موقعتى «مرج دابق» و «الريدانية» ، فسقطت

دولة المماليك، وبسط العثمانيون نفوذهم على «مصر» ، ومن ثَمَّ مدوه

على «اليمن» فدانت لهم فى سنة (945هـ)، ودخل «اليمن» مرحلة

جديدة من الحكم فى تاريخه تحت حكم العثمانيين.

ص: 128

الفصل الثالث عشر

*البحرين

كانت المناطق التى تقع على امتداد الساحل الغربى للخليج العربى

تُسمَّى: «البحرين» أو «الإحساء» أو «هجر» ، وذكر ذلك «ياقوت

الحموى» بقوله: «البحرين اسم جامع للبلاد على ساحل الخليج بين

البصرة وعمان، وتُسمَّى هذه المنطقة أيضًا هجر وقيل: إن هجر قصبة

البحرين، فيها عيون ومياه وبلاد واسعة».

الإسلام فى البحرين:

بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بعلاء بن الحضرمى إلى

«البحرين» ليدعو أهلها إلى الإسلام، وأرسل صلى الله عليه وسلم

كتابًا إلى «المنذر بن سلوى التميمى» حاكم «البحرين» يدعوه فيه

إلى الإسلام، فأسلم من ساعته، فثبته النبى فى مكانه، فظل به

حتى وفاته سنة (11هـ) فتولى «البحرين» من بعده «العلاء بن

الحضرمى» الذى تُوفِّى سنة (20هـ)، فتولى من بعده عدد من كبار

الصحابة والتابعين، ومنهم:

«قدامة بن مظعون» ، و «أبو هريرة» ، و «عثمان بن أبى العاص» ،

و «مروان بن الحكم» ، و «عبيدالله بن العباس» ، و «المهاجر ابن عبدالله

الكلابى»، وجدير بالذكر أن «عثمان بن أبى العاص» أحد ولاة

«البحرين» كان أحد القادة الكبار فى عهد «عمر بن الخطاب» ،

وأسهم فى فتح بلاد فارس، وقد ترك أخاه «المغيرة بن أبى

العاص» خليفة له على «البحرين» حين جهاده فى فتح فارس.

البحرين فى عهد الخلفاء الراشدين:

ظهرت الردة فى بعض قبائل «البحرين» ، ووحدوا صفوفهم لمحاربة

المسلمين، فأرسل إليهم «أبو بكر الصديق» جيشًا بقيادة «العلاء بن

الحضرمى» تمكن من إخماد ردتهم، وإعادتهم إلى الإسلام ثانية،

وتمكن «العلاء» من توجيه عدة ضربات إلى الفرس الذين يثيرون

القلاقل فى المنطقة حتى استدعاه «عمر بن الخطاب» وولاه على

«البصرة» ، وظلت «البحرين» موضع عناية الخلفاء الراشدين.

البحرين فى العهد الأموى:

اهتم الأمويون بالبحرين؛ لصلتها ببلاد فارس التى كانت تثير القلاقل

فى البلاد الإسلامية كلما سنحت لها الفرصة، وظلت «البحرين» موضع

ص: 129

عناية الأمويين حتى قامت ثورة «ابن الزبير» فانشغل بها «مروان بن

الحكم»، و «عبدالملك بن مروان» من بعده عن منطقة الخليج؛ فضعفت

الرقابة عليها، فانتهز الخوارج هذه الفرصة وأتخذوا من «البحرين»

مستقرا لهم، فاجتمع حولهم عدد كبير، وحاربوا من وقف فى

طريقهم، وزاد نشاطهم بصورة كبيرة، وأصبحت لهم شوكة قوية فى

عهد «بنى أمية» وساعدهم فى ذلك الاضطرابات التى كانت فى

المنطقة إضافة إلى انشغال الخلافة عن هذه البقعة، وظلت سيطرتهم

فى «البحرين» قائمة قوية حتى تمكن الأمويون من كسر شوكتهم

والقضاء عليهم فى سنة (105هـ)، وتعتبر فرقة «النجدات» من أشهر

فرق الخوارج التى دخلت «البحرين» فى هذه الفترة، وينسبون إلى

«نجدة بن عامر الحنفى» الذى جمعهم بالبحرين.

البحرين فى العصر العباسى:

شهدت منطقة الخليج استقرارًا ملحوظًا خلال العهد العباسى،

باستثناء بعض الثورات المتفرقة، التى لم تؤثر على سياسة الدولة

العباسية حتى نهاية العصر العباسى الأول فى سنة (232هـ)، ثم

انتقلت البلاد بعد ذلك إلى مرحلة تميزت بازدياد نفوذ الأتراك

وتسلطهم، فجذبت منطقة «البحرين» كثيرًا من الحركات القوية

المدمرة التى اتسمت بانحرافها الفكرى، مثل «حركة صاحب الزنج» ،

و «حركة القرامطة» التى استهدفت الإسلام، واستنزفت أموال

المسلمين والخلافة العباسية وجهودهم، فخلَّف ذلك أضرارًا هائلة فى

النواحى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للبلاد، حتى تمكن

المسلمون من القضاء على «حركة الزنج» سنة (270هـ)، ثم على

القرامطة من بعدهم.

العيونيون فى البحرين:

«العيونيون» فرع من «بنى عبدالقيس» ، وكانوا يسكنون على

مشارف «العيون» بالإحساء، وكان منهم «عبدالله بن على العيونى»

الذى ثار على القرامطة وقضى عليهم، ثم سيطر «العيونيون» على

«البحرين» وبدأ حكمهم فيها فى عام (467هـ)، وشمل «الإحساء» ،

و «البحرين» ، و «القطيف» ، فنعمت البلاد فى عهدهم بالاستقرار

ص: 130

والهدوء وانتعشت التجارة، واتسع ملكهم حتى شمل «نجد» ، وتميز

عهدهم بالحضارة العلمية الزاهرة، وظل الأمر مستقرا فى «البحرين»

حتى نشبت الصراعات والخلافات الداخلية من جديد، فهيأ ذلك الفرصة

أمام الفرس لدخولها.

وأهم أمراء «العيونيين» هم:

1 -

«الفضل بن عبدالله بن على» .

2 -

«محمد بن الفضل» .

3 -

«محمد بن أحمد بن عبدالله» .

الفرس فى البحرين:

انتهز ملك فارس الخلاف الذى وقع بين أمراء «العيونيين» ، وضعف

البلاد، فدخل «جزيرة قيس» وأخلاها من العرب، ثم اجتاز بجنوده

البحر إلى «البحرين» ، واستولى عليها وعلى «الإحساء» و «قطيف»

وغيرها من بلدان الخليج؛ فاضطر العرب إلى عقد الصلح معه، فكان

ملك الفرس يولى على «البحرين» ولاة من العرب يحكمون باسمه،

فأضعف ذلك حالة «البحرين» وبلاد الخليج عامة.

المغول فى البحرين:

بدأ الزحف المغولى على العالم الإسلامى فى القرن السابع الهجرى،

فدمروا كل ما قابلهم من حضارة أقامها المسلمون بجهودهم

وأموالهم فى فترات طويلة، وعاث المغول فى الأرض الفساد،

وأراقوا دماء الآلاف من المسلمين، وخضعت «البحرين» لسيطرتهم،

كما خضعت غيرها، وبقيت قوى الشر والفساد مسيطرة حتى كتب

الله النصر للمسلمين عليهم فى «عين جالوت» ، فخرجوا من العالم

الإسلامى.

المماليك فى البحرين:

كان لانتصار المماليك على المغول أكبر الأثر فى توحيد صفوف

المسلمين حولهم، فأقبلت الوفود على السلطان «بيبرس» من كل

مكان لتعلن ولاءها لحكمه، وتعترف بدولته، وكان «آل عامر» بزعامة

«محمد بن أحمد» فى طليعة الوفود التى وفدت إلى «مصر» ،

فأكرمهم السلطان «بيبرس» ، وأغدق عليهم المنح والعطايا، وأقرهم

على «البحرين» ، فظلت «البحرين» منذ ذلك التاريخ تابعة لحكم

المماليك حتى حل العثمانيون، فدخل العالم الإسلامى كله طورًا جديدًا

فى تاريخه فى ظل الخلافة العثمانية.

ص: 131

- المراجع:

* إبراهيم علي طرخان: مصر في عصر دولة المماليك الجراكسة - القاهرة - 1960م

* بن الأثير (عز الدين): الكامل في التاريخ - دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة الأولي - 1987م

* بن إياس (محمد بن أحمد): بدائع الزهور في وقائع الدهور - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة - الطبعة الثانية - 1402هـ = 1982م

* بن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة - المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة - القاهرة - 1963م

* حكيم أمين عبد السيد: قيام دولة المماليك الثانية - الدار القومية للطباعة والنشر-القاهرة - 1966م

* بن خلدون (عبد الرحمن بن محمد): تاريخ ابن خلدون - مؤسسة جمال للطباعة والنشر - بيروت - 1979م

* بن خلكان (أحمد بن محمد): وفيات الأعيان - تحقيق إحسان عباس - دار صادر - بيروت - 1398هـ = 1978م

* سعيد عبد الفتاح عاشور: العصر المماليكي في مصر والشام - دار النهضة العربية - القاهرة - الطبعة الأولي - 1965م

* السيد الباز العريني: مصرفي عصر الأيوبيين - القاهرة - 1960م

* أبو شامة (شهاب الدين عبد الرحمن): كتاب الروضتين في أخبار الدولتين - المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر -القاهرة - 1962م

* الطبري (محمد بن جرير): تاريخ الطبري - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - دار المعارف - القاهرة - بدون تاريخ

* بن القلانسي (حمزة بن أسد): ذيل تاريخ دمشق - مكتبة المتنبي -القاهرة - بدون تاريخ

* القلقشندي (أحمد بن علي): صبح الأعشى في صناعة الإنشا - دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الأولي - 1987م

* بن كثير (إسماعيل بن عمر): البداية والنهاية - دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الرابعة - 1987م

* الكندي (أبو عمر محمد بن يوسف): كتاب الولاة والقضاء - نشر رفن جست - مطبعة الآباء اليسوعيين - بيروت-1908م

ص: 132

* محمد جمال الدين سرور: النفوذ الفاطمي في بلاد الشام والعراق - دار الفكر العربي - القاهرة - 1957م

* محمد عبد الله عنان: الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية - لجنة التأليف والترجمة والنشر - القاهرة - الطبعة الثانية - 1379هـ = 1959م

* محمد كرد علي: خطط الشام - دمشق - 1925م

* المقريزي (أحمد بن علي): السلوك لمعرفة دول الملوك - تحقيق محمد مصطفي زيادة وسعيد عبد الفتاح عاشور - القاهرة - 1973: 1956م

* النويري (أحمد بن عبد الوهاب): نهاية الأرب في فنون الأدب - الهيئة المصرية العامة - القاهرة - تواريخ مختلفة

* بن واصل الحموي: مفرج الكروب في أخبار بني أيوب - تحقيق محمد جمال الدين الشيال - القاهرة - 1953م

* ياقوت الحموي: معجم البلدان - دار إحياء التراث العربي - بيروت - 1979م

ص: 133