المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الجزء السادس   ‌ ‌المغرب الإسلامي تأليف: أ. د. حسن علي حسن أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية - موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي - جـ ٦

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: الجزء السادس   ‌ ‌المغرب الإسلامي تأليف: أ. د. حسن علي حسن أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية

الجزء السادس

‌المغرب الإسلامي

تأليف:

أ. د. حسن علي حسن

أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة القاهرة

الفصل الأول

*المغرب الإسلامى

يمثل «المغرب الإسلامى» الجناح الغربى لأقاليم الدولة الإسلامية؛

وقد أسهم منذ اعتناق أبنائه الإسلام فى بناء صرح الحضارة

الإسلامية، ويمتد من «برقة» شرقًا حتى «المحيط الأطلسى» غربًا،

ويطل على «البحر المتوسط» شمالا.

وقد استخدم بعض المؤرخين لفظة «المغرب» بمعناها العام على

المنطقة الواقعة غرب «مصر» والممتدة من «برقة» حتى «المحيط

الأطلسى»، بينما أطلق آخرون لفظة «المغرب» على أقاليم بعينها،

ولذا قسموا المغرب إلى ثلاثة أقاليم متميزة هى:

1 -

المغرب الأدنى: (أى إفريقية) وكانت قاعدته فى صدر الإسلام

مدينة «القيروان» ، وقد اشتمل هذا الإقليم على عدة مدن منها:

«باجة» و «بونة» و «بنزرت» و «قسطيلة» و «صفاقس» و «قفصة»

و «تونس» و «سوسة» ، وغيرها من المدن.

2 -

المغرب الأوسط: ويمتد من «بجاية» إلى «وادى ملوية» ، وقاعدته

مدينة «تلمسان» ، ويشتمل على عدة مدن منها:«تنس» و «جيجل»

و «القلعة» و «المسيلة» و «طبنة» و «مليلة» ، وغيرها من المدن.

3 -

المغرب الأقصى: ويمتد من «وادى ملوية» و «جبال تازا» حتى

«المحيط الأطلسى» ، وقاعدته مدينة «فاس» ثم «مراكش» ، ويشتمل

على عدة مدن منها: «فاس» و «مكناسة» و «سلا» و «درعة» .

السطح:

كان لمظاهر السطح فى بلاد «المغرب» دورًا أثر فى التاريخ

السياسى للمنطقة، بما اشتمل عليه من سهول ساحلية، وأودية

وجبال وصحراء ممتدة، وقد ظهر تأثير هذا فى عملية الفتح الإسلامى

للمغرب؛ إذْ استغرق نحو سبعين سنة، وينقسم سطح المغرب إلى

ثلاث مناطق متميزة هى:

1 -

المنطقة الساحلية: وهى المنطقة المطلة على «البحر المتوسط»

و «المحيط الأطلسى» ، ويفصلها عن الداخل سلسلة «جبال أطلس» ،

التى تمتد من أقصى الغرب متجهة إلى الشرق. وتختلف المنطقة

الساحلية ضيقًا واتساعًا؛ تبعًا لاقتراب الجبال من البحر أو بعدها

عنه، فقامت تجمعات سكانية فى المناطق الساحلية الواسعة،

وساعدتها الظروف الطبيعة والأرض الخصبة والمناخ المعتدل على

ص: 1

إقامة زراعة ناجحة، نتج عنها نمو اقتصادى، فأصبحت هذه المناطق

مطمعًا للمستعمرين من «الرومان» و «الوندال» و «البيزنطيين» ؛ حيث

أقاموا فى هذه المناطق وأسسوا بها المدن والقواعد العسكرية.

إلى جانب السهل الساحلى تُوجد منطقة سهول داخلية، تكونت حول

مجارى الأنهار التى أسهمت إسهامًا بارزًا فى مدِّ السكان بما يلزمهم

من المياه، وربطت إقليم الساحل بالمناطق الداخلية؛ ولعل أبرز هذه

السهول: سهل «شادية» و «دكالة» بالمغرب الأقصى، وسهل «وادى

شليف» بالمغرب الأوسط، وسهل «وادى مجردة» بالمغرب الأدنى.

2 -

منطقة الجبال: مثلت منطقة الجبال حاجزًا طبيعيا بين منطقة

السهول ومنطقة الصحراء، وقد وصفها «ابن خلدون» بقوله: «بقاصية

المغرب من أعظم جبال المعمورة بما أعرق فى الثرى أصلها. وذهبت

فى السماء فروعها، ومدت فى الجو هياكلها. ومثلت سياجًا على

ريف المغرب سطورها. وتبتدئ من ساحل البحر المحيط عند آسفى

وما يليها، وتذهب فى المشرق إلى غير نهاية».

وتبرز أهمية هذه الجبال فى الدور الذى لعبته فى تاريخ هذه البلاد؛

حيث وقفت سدا منيعًا فى وجه الطامعين من «الفينيقيين»

و «الرومان» و «الوندال» وغيرهم.

وقد حصرت جبال «أطلس التل» و «الأطلس الصحراوى» هضبة امتلأت

بالمراعى، فاستغلها السكان فى تنمية ثرواتهم الحيوانية بالمغرب

الأوسط، ويُطلق عليها:«منطقة الشطوط» .

3 -

منطقة الصحراء: وتنقسم إلى عدة أجزاء، أولها: منطقة

«الواحات» ، وهى المنطقة التى تلى منطقة الجبال، وتمتد من «مصر»

شرقًا حتى «وادى درعة» فى جنوب «المغرب الأقصى» .

وتعود أهمية هذه المنطقة إلى كونها حلقة الاتصال بين الأقاليم

المختلفة بالمغرب، كما كانت طريق القوافل والحجاج، لتوفر آبار

المياه بها، وتمتعها بالأمن الذى وفرته القبائل المقيمة بهذه المنطقة

نظير بعض المال، وقِصَر المسافة التى تقطعها القوافل إذا قيست

بطريق الساحل المحفوف بالمخاطر.

ص: 2

وتلى منطقةُ «القبلات» منطقة «الواحات» من الناحية الجنوبية، وهى

آخر العمران فى الصحراء، وتضم:«فزان» فى «ليبيا» ، و «بسكرة»

فى «الجزائر» ، و «سجلماسة» فى «المغرب الأقصى» ، وتمتعت

«القبلات» بمركز تجارى بارز؛ حيث كانت ملتقى قوافل التجارة

الآتية من الشمال أو من جنوب الصحراء الكبرى.

ثم تلت منطقةُ رمال الصحراء المعروفة بالعرق منطقة «القبلات» ، وهى

بداية الصحراء الكبرى التى تنعدم فيها الحياة، وتتخللها الهضاب

المرتفعة المعروفة باسم: «الحمارات» ، وقد أُطلق على هذه المنطقة

اسم: «مناطق الموت» ؛ نظرًا إلى انعدام مظاهر الحياة بها.

سكان المغرب:

عاش بالمغرب قبل الفتح الإسلامى ثلاثة أنماط من السكان، لكل منها

سماته ومميزاته، هى:

1 -

الروم: وهم الطبقة الحاكمة للشريط الساحلى للمغرب؛ إذ لم تمكنهم

طبيعة البلاد وصعوبة الحياة بها من التوغل إلى داخلها، فضلا عن

بغض القبائل لسلطة المستعمرين، واستقر بعض هؤلاء الروم هناك

واشتغلوا بالتجارة وزرعوا الأرض، إلى جانب عملهم بالإدارة

الحكومية.

2 -

الأفارقة: وهم خليط من بقايا الأمم التى احتلت بلاد المغرب من

الرومان والوندال وغيرهم، وهم ليسوا من البربر، ولكنهم انصهروا

فى حياتهم الجديدة بمدن المغرب واستقروا بها، واختلطوا

بالمتحضرين من البربر، ولم تكن تجمعهم بأهالى البلاد إلا الحياة

المشتركة، المرتبطة بأسباب المعيشة.

3 -

البربر: وهم الغالبية العظمى من سكان بلاد المغرب؛ وأصحاب

البلاد الأصليون، وقد تصدوا للفتح الإسلامى - فى أول الأمر- ثم لم

يلبثوا أن ساندوه، بعد أن اختلطوا بالمسلمين وعرفوا الدعوة

الإسلامية ومبادئها السامية، فأقبلوا على الإسلام وآمنوا به، وحملوا

رايته إلى «الأندلس» ؛ مبشرين به ومدافعين عنه.

المغرب قبل الفتح الإسلامى:

تعرض إقليم المغرب قبل الفتح الإسلامى لموجات من الغزو الرومانى

والوندالى والبيزنطى، وعاشت المنطقة فى ظل سلطة أجنبية حاولت

ص: 3

صبغها بحضارتها وأسلوبها فى الحياة على النحو الآتى:

- الحكم الرومانى للمغرب: بدأ أول اتصال بين المغرب والرومان حين

استولى الرومان على «إفريقية» فى سنة (146 ق. م)، ثم على

«نوميديا» فى سنة (46 ق. م)، واتجه الرومان منذ وطئت أقدامهم هذه

البلاد إلى بناء المدن على السواحل وفى الداخل؛ لاتخاذها مراكز

وقواعد لإقامة الحاميات الرومانية وحكام الولايات، وقد تضمنت هذه

المدن بين جنباتها كثيرًا من المنشآت والمعابد والساحات والملاعب

وغيرها، ويتضح ذلك فى مدينة وليلى التى بناها الرومان على رأس

جبل، وجعلوا لها أبوابًا عالية واسعة، ويبلغ طول سورها نحو ستة

أميال، وقد حوت هذه المدينة آثارًا وأنقاضًا كثيرة، ترسم صورة

لمعالم الحضارة الرومانية التى كانت قائمة فى تلك المنطقة، وقد

حاول الرومان نشر حضارتهم ولغتهم وديانتهم بين أهل المدن من

البربر، وبخاصة الذين كانوا يعملون بمزارعهم وضياعهم، لكنهم لم

يجدوا استجابة لمحاولاتهم، ولم تتمكن الحضارة الرومانية من فرض

نفسها بصورة واضحة على البربر، خاصة فى الداخل، حيث تضعف

السيطرة الرومانية.

- الحكم الوندالى للمغرب: خلف الوندالُ الرومانَ فى احتلال بلاد

المغرب سنة (429هـ)، ولم يكونوا أهل حضارة بل كانوا شعبًا

همجيا، عُرف بوحشيته وقسوته، فاهتم حكامه بفرض الضرائب التى

أثقلت كاهل المغربيين وجمعها، فضلا عن ذلك فقد خرَّب القائد

الوندالى «جنعديك» القلاع والحصون فى المدن المغربية باستثناء

«قرطاجنة» العاصمة، حتى لا يتحصن بها البربر ويشقوا عصا الطاعة

على الوندال، ومن ثَم لم يُخلف الوندال آثارًا حضارية بالمغرب، وكان

حكمهم بمثابة سحابة سوداء جثمت قرنًا من الزمان على أرض

المغرب.

- الحكم البيزنطى للمغرب: قامت الإمبراطورية البيزنطية على أنقاض

الإمبراطورية الرومانية، فاستعاد البيزنطيون الحكم فى بلاد المغرب

فى سنة (533م)، واهتموا بالعمارة وأنشئوا القصور والكنائس

ص: 4

والحصون، ذات الطابع البيزنطى، التى تأثر بها المسلمون فى إنشاء

مساجدهم، واستخدموا ما تبقى من آثارهم فى تشييد أبنيتهم، ومع

ذلك لم تختلف سياسة البيزنطيين عن سابقيهم، ففرضوا الضرائب،

وتعسفوا فى جمعها، وانصرفت جهود حكامهم إلى جمع الأموال بكل

السبل، فأدى ذلك إلى تخلى المزارعين عن أراضيهم، واضطر التجار

إلى إغلاق متاجرهم، واتجه كثير من الناس إلى السلب والنهب، مما

أدى إلى قيام العديد من الثورات ضد هذا الظلم.

ولقد تركت هذه الأمم بصماتها على حياة البربر، وخاصة فى المدن

والمناطق الساحلية، كما تأثر الشعب المغربى بحضاراتهم على

مراحل متعاقبة من الزمن. ومما سبق نلمس تمركز الإدارة الأجنبية

بقواتها فى منطقة الساحل، وحرص هذه الإدارة على الاستفادة بقدر

ما تستطيع من خبرات البلاد، ولعل هذا يفسر مدى مقاومة المغاربة

للعرب، الذين مكثوا سبعين سنة فى محاولات دائبة ومستمرة لفتحها،

إذ عدُّوهم أجانب مثل غيرهم من الرومان والوندال فقاوموهم كل هذه

الفترة مقاومة شديدة.

الفتح الإسلامى للمغرب:

بعد أن فتحت مصر على يد القائد «عمرو بن العاص» سنة (21هـ =

642م)، كان من الطبيعى أن يمتد هذا الفتح تجاه المغرب فى «برقة»

و «طرابلس» باعتبارهما الامتداد الجغرافى الطبيعى للمنطقة، وإلى

رغبة المسلمين فى تخليص هذه الشعوب من قبضة المستعمرين،

وإتاحة الفرصة أمامها لتعرُّف الدين الإسلامى للدخول فيه والإيمان به.

وقد مرَّ الفتح الإسلامى لهذه البلاد بعدة مراحل هى:

المرحلة الأولى وهى مرحلة الاستطلاع:

وتبدأ من سنة (21هـ=642م) إلى سنة (49هـ= 669م) وتشمل هذه

المرحلة جهود ثلاثة من قادة الفتح الإسلامى وهم:

- عمرو بن العاص:

هو القائد العسكرى الخبير، والصحابى الجليل «عمرو بن العاص بن

وائل بن هاشم» الذى أعلن إسلامه فى العام الثامن الهجرى، وشارك

بدور بارز فى النشاط العسكرى للمسلمين فى عهد النبى - صلى الله

ص: 5

عليه وسلم-، وعهد «أبى بكر الصديق» ، فلما تولى «عمر بن

الخطاب» أمور الخلافة أسند إليه بعض المهام العسكرية، ومنها فتح

«مصر» ، فلما فرغ من ذلك توجه بقواته إلى مدينة «برقة» فاستسلمت

للقائد المسلم دون قتال، ووافقت على شروطه، ودخل بعض أبنائها

فى الإسلام، وارتضى بعضها الآخر دفع الجزية مقابل الاحتفاظ

بعقيدته.

وكان أغلب سكان هذه المدينة من قبيلة «لواته» البترية. فلما اطمأن

«عمرو» إلى استقرار الأوضاع ببرقة قسّم قواته إلى جزئين، وخرج

على رأس أحدهما نحو «طرابلس» ، وبعث بالجزء الثانى إلى «زويلة»

و «الواحات الداخلية» ، حتى لا يكون الفتح مقصورًا على الشريط

الساحلى فحسب، ولكى يأمن الهجوم عليه من الخلف وقد دل عمرو

بن العاص بذلك على براعة عسكرية وخبرة بفنون القيادة ومعرفة

بأحوال المنطقة وطبيعتها.

كانت «طرابلس» مدينة حصينة ذات أسوار عالية فحاصرها فترة ثم

تمكن من فتحها بعد صدام لم يطل مع القوة البيزنطية الموجودة

بالمدينة، ولم يمكث «عمرو» طويلا بعد أن تم له فتح «طرابلس» ،

وسارع بإرسال جزء من جيشه إلى مدينة «سبرت» لمفاجأتها قبل

أن تستعد لملاقاته، وفوجئ أهلها بالمسلمين على أبواب مدينتهم،

فسقطت دون عناء.

وكان يمكن لعمرو بن العاص أن يمضى فى مسيرته ليفتح إفريقية،

لكنه لم يكن ليفعل ذلك دون استئذان الخليفة «عمر بن الخطاب»

ومشاورته، فبعث إليه برسالة جاء فيها: «إن الله قد فتح علينا

طرابلس، وليس بينها وبين إفريقية إلا تسعة أيام، فإن رأى أمير

المؤمنين أن يغزوها، ويفتحها الله على يديه فعل». ولكن الخليفة

رفض رغبة «عمرو بن العاص» فى استمرار الفتح، لحرصه على حياة

الجنود، وعدم الزَّجِّ بهم فى ميادين بعيدة عن مقر الخلافة، خاصة

وأن الخليفة «عمر بن الخطاب» كان على علم ودراية بأحوال

إفريقية، ولديه انطباع بأنها تمثل خطورة شديدة على الجيش الفاتح

لكثرة ثوراتها واشتعال الفتن والقلاقل بها من حين إلى آخر، ولذا

ص: 6

توقف الفتح ورجع «عمرو بن العاص» إلى «مصر» قبل منتصف سنة

(23هـ = 644م)، بعد أن مهَّد الطريق لمن سيأتى بعده.

عبدالله بن سعد بن أبى السرح:

أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم قبل الفتح

الإسلامى بمكة، وتولى إمارة «مصر» فى سنة (25هـ = 646م)، خلفًا

لعمرو بن العاص، فأخذ يصرف أمورها ويدبر شئونها، ويبعث

بالسرايا للإغارة على أطراف إفريقية، ولكنه شعر أن هذه السرايا لم

تعد كافية لتأمين الحدود الغربية لمصر، فبعث إلى الخليفة «عثمان

بن عفان» يستأذنه فى الخروج على رأس حملة عسكرية تجاه

إفريقية لتأمين «مصر» والمسلمين من الخطر البيزنطى المسيطر على

إفريقية، فتشاور الخليفة مع مَن حوله، ووافق على مطلب «ابن أبى

السرح»، وأمده بجيش كبير، ضم نخبة من الصحابة والتابعين بقيادة

«الحرث بن الحكم» ، فلما وصل «مصر» انضم إلى قوات عبدالله بن

أبى السرح فصارت نحو عشرين ألفًا، وانطلق بها إلى إفريقية التى

كانت تحت حكم القائد البيزنطى «جريجوريوس» المعروف باسم

«جرجير» فى المصادر العربية.

استعد هذا القائد استعدادًا جيدًا لملاقاة المسلمين، وتحصن فى مدينة

«سبيطلة» ، وعسكر المسلمون فى بلدة «قمونية» التى تبعد بضعة

أميال عن مدينة «سبيطلة» ، ثم بدأت المفاوضات بين الطرفين،

وعرض المسلمون شروطهم كما أمر الإسلام، وهى: الإسلام، أو

الجزية، أو القتال، ولكن المفاوضات فشلت، وفشل معها الحل

السلمى، وبدأت المناوشات العسكرية بين الطرفين، وشعر المسلمون

بقوة البيزنطيين؛ لقوة تحصيناتهم وكثرة عدد جنودهم، وحين ظنوا

أن النصر لن يحالفهم أقبل عليهم «عبدالله بن الزبير» بمدد من

«المدينة» كان له أثر فى تحقيق النصر للمسلمين، ففتحوا مدينة

«سبيطلة» وقتلوا القائد البيزنطى «جُرجير» ، وتمكنوا من الاستيلاء

على المعاقل والحصون، وجمعوا مغانم كثيرة، حتى إن سهم الفارس

بلغ ثلاثة آلاف دينار (للفرس ألفا دينار، ولفارسه ألف) وللراجل ألف

ص: 7

وكان من المتوقع بعد هذا النصر العظيم أن يواصل المسلمون زحفهم

صوب «المغرب الأوسط» ، إلا أن «عبدالله بن أبى السرح» قرر فجأة

العودة بجنده إلى «مصر» ، ولعل الذى دعاه إلى ذلك ما علمه من

تأهب البيزنطيين واستعدادهم لخوض معركة شرسة ضد المسلمين

انتقامًا لمقتل «جرجير» وسقوط «سبيطلة» ، فآثر عدم المخاطرة

بجنوده، واكتفى بما حقق، خاصة أن المسلمين لم تكن لهم قاعدة

عسكرية قريبة يلجأون إليها عند الحاجة، ولذا عاد بجيشه إلى

«مصر» .

ثم توقف النشاط العسكرى فى إفريقية بعد ذلك لتوالى الأحداث

وتلاحقها فى المشرق، حيث ثار بعض الخارجين على الخليفة «عثمان

بن عفان»، وانتهى الأمر باستشهاده، فخلفه الإمام «على بن أبى

طالب»، ولم يلبث أن استشهد هو أيضًا، فتولى «معاوية بن أبى

سفيان» خلافة المسلمين.

معاوية بن حديج:

أدرك «معاوية بن أبى سفيان» أهمية إفريقية من الناحية

الاقتصادية، ودورها المؤثر فى البحر المتوسط، فضلا عن موقعها

المجاور لمصر الإسلامية، فأرسل «معاوية بن حديج» على رأس جيش

لمتابعة الجهاد فى إفريقية، فخرج إليها سنة (45هـ=665م)، والتقى

بالبيزنطيين عند «قمونية» ، ودار قتال مرير بينهما أسفر عن انتصار

كبير للمسلمين، وقتل كثير من البيزنطيين، ثم مضى المسلمون نحو

«جلولاء» واستولوا عليها بعد قتال شديد.

وإلى هنا تنتهى المرحلة الأولى من مراحل الفتح التى أُطلق عليها:

«مرحلة الاستطلاع» ، وترجع أهميتها إلى أنها مكنت المسلمين من

الاحتكاك بالبربر على أرض «المغرب» ، ومعرفة أحوال هذه البلاد،

مما كان له أثر فى إقبال بعض سكان المنطقة من البربر -وبخاصة

فى «برقة» - على الإسلام.

المرحلة الثانية:

وهى مرحلة الارتكاز والانتشار، وتمتد من سنة (50هـ=670م) إلى سنة

(64هـ= 684م)، وتتضمن ولايتى:«عقبة بن نافع» الأولى والثانية،

وولاية: «أبى المهاجر دينار» .

عقبة بن نافع:

تولى «عقبة بن نافع» إمرة الجيش فى سنة (50هـ=670م) وتوجه إلى

ص: 8

إفريقية، ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى يتوجه فيها إلى

إفريقية؛ إذ إنه اشترك من قبل فى حملة «عمرو بن العاص» على

«برقة» ، وتولى فتح المناطق الداخلية بها، وأقام فيها فترة، ونشر

الإسلام بين سكانها، فأكسبه ذلك خبرة ومعرفة بأوضاع البلاد

وحالة سكانها.

انطلق «عقبة» على رأس قواته التى بلغت عشرة آلاف مقاتل إلى

إفريقية، متخذًا الطريق الداخلى، ومبتعدًا عن الطريق الساحلى؛

لكثرة القلاع والحصون البيزنطية على الساحل، ولرغبته فى استخدام

عنصر المفاجأة مع سكان الواحات، لتحقيق نصر سريع فتحقق له ما

أراد، واستولى على كثير من المدن والقلاع والحصون مثل:«ودن» ،

و «جرمة» و «قصور فزان» ، و «خادار» ، و «غدامس» ، كما استولى

على مدينتى «قنصة» و «قصطيلية» .

رأى «عقبة» أن أفضل طريقة لتثبيت الفتح الإسلامى فى هذه

المنطقة هو بناء مدينة يسكنها الناس تصبح قاعدة عسكرية، وتكون

مركزًا لأعمال الفتح القادمة، فوقع اختياره على مكان مدينة

«القيروان» ، وكان واديًا كثير الشجر، تأوى إليه السباع والوحوش

والهوام، فأعده هو ومَن معه من المسلمين وبنى به مسجدًا ودارًا

للإمارة، ثم بنى الناس دورهم حول المسجد، وظلت عمليات البناء هذه

حتى سنة (55هـ=675م).

وتجلَّت عبقرية «عقبة» فى حسن اختياره لمكان المدينة؛ إذ توافر

فيه البعد الكافى عن شواطئ البحر المتوسط، ليأمن المسلمون

غارات الأسطول البيزنطى المتكررة، والقرب من قبائل البربر ووسط

معاقلهم، وهى خطوة عملية فى سبيل اجتذابهم إلى الدين

الإسلامى، واندماجهم مع العرب الفاتحين، يضاف إلى ذلك أن موقع

«القيروان» كان على الطرق الموصلة إلى «مصر» ، وبذلك ضمن

«عقبة» سلامة خطوط إمداده من «مصر» ، ولكنه لم يستمر ليجنى

ثمرة جهوده، إذ تم عزله، وتولى «أبو المهاجر دينار» إمارة الجيوش

وولاية المغرب بدلا منه.

أبو المهاجر دينار:

أقبل «أبو المهاجر» على «القيروان» ، وكره المقام فيها، فاختط

ص: 9

لجنوده معسكرًا يبعد عنها نحو ميلين، ثم أقام به، وأخذ يوجه

نشاطه الدينى والعسكرى منه، ويروى أنه خرج على رأس حملة

كبيرة وصلت إلى مدينة «تلمسان» ، كما فتح «جزيرة شريك» ،

وعامل البربر بمودة وعرفهم بحقيقة الدين الإسلامى وعمل على

نشره بينهم، ولم يستمر «أبو المهاجر» طويلا؛ إذ تم عزله، وعودة

«عقبة ابن نافع» مرة ثانية.

عقبة بن نافع:

عاد «عقبة» إلى المغرب ثانية فى سنة (62هـ=682م)، بقرار من

الخليفة «يزيد بن معاوية بن أبى سفيان» ، وقد اختلفت ولايته الثانية

عن سابقتها؛ إذ بينما تميزت ولايته الأولى ببعض الأعمال العسكرية

الداخلية فى «إقليم الواحات» ، وقضاء الشطر الأكبر منها فى تأسيس

مدينة «القيروان» وتعميرها، نراه فى ولايته الثانية يقوم بغزوة

كبرى، يصل فيها إلى شواطئ «المحيط الأطلسى» ، وقد انطلق عبر

الطريق الداخلى بعيدًا عن الساحل، ودخل فى معارك عنيفة مع الروم

حتى أجبرهم على الفرار، وتمكن من فتح أمنع حصونهم مثل:

«لميس» ، و «باغاية» ، ثم فتح «أذنة» قاعدة «الزاب» ، واستولى على

مغانم كثيرة منها، بعد معارك ضارية مع أهلها، ثم اتخذ طريق

الساحل ليطرق أبواب «المغرب الأقصى» ، وتم له ذلك، فكان أول

فاتح عربى تطأ قدماه هذا الإقليم، فبادر «بطنجة» أهم مدن الإقليم،

فأسرع حاكمها «يليان» ، وقدم فروض الطاعة لعقبة مع كثير من

الهدايا والتحف، فانطلق «عقبة» عقب ذلك إلى مدينة «وليلى» ومنها

إلى بلاد «درعة» و «السوس» والتقى هناك مع جموع البربر فى

معركة حامية، وتمكن من هزيمتهم، وواصل مسيرته حتى بلغ المحيط.

ولم ينس خلال كل هذه الأحداث الهدف الأسمى الذى خرج من أجل

تحقيقه، فبنى مسجدًا بالسوس وآخر بدرعة وجعل بهما بعض فقهاء

المسلمين ودعاتهم، لتعليم سكان هذه البلاد قواعد الدين الجديد، ثم

أذن «عقبة» لجزء كبير من قواته بالعودة إلى «القيروان» لطمأنة

أهاليهم، بعد غياب استمر ما يقرب من عام، وبقى «عقبة» مع الجزء

ص: 10

المتبقى من الجيش، وكان عدده نحو خمسة آلاف مقاتل.

استعان «كسيلة» زعيم البربر بالروم على العرب الفاتحين، وأعد كل

منهما عدته وجنوده لملاقاتهم، ثم قطعوا خط الرجعة على «عقبة»

ومَن معه عند «سهل تهودة» ، فاقتتل الفريقان قتالا شديدًا،

واستشهد «عقبة» وعدد كبير ممن كانوا معه، ودخل «كسيلة» زعيم

البربر مدينة «القيروان» ، فانتهت بذلك المرحلة الثانية من مراحل

الفتح.

المرحلة الثالثة:

وهى مرحلة إتمام الفتح، وتمتد من سنة (69هـ=688م) إلى سنة

(90هـ=709م)، وتشمل جهود ثلاثة من القادة الفاتحين، وهم: «زهير بن

قيس»، و «حسان بن النعمان» ، و «موسى بن نصير» .

- زهير بن قيس البلوى:

أحدث استشهاد القائد «عقبة بن نافع» ومن معه من أبطال المسلمين

أثرًا سيئًا فى نفوس المسلمين المقيمين بالقيروان، وضاعت جهودهم

فى الإقامة بالمنطقة؛ حيث زحف «كسيلة» وجنوده على «القيروان» ،

وبذل «زهير بن قيس» - الذى خلف «عقبة» فى إدارة شئون البلاد- كل

جهوده فى بث الحماسة والحمية فى نفوس المقيمين بها، وحثهم

على الثبات بقوله: «يا معشر المسلمين، إن أصحابكم قد دخلوا الجنة،

وقد منَّ الله عليهم بالشهادة، فاسلكوا سبيلهم، ويفتح الله لكم دون

ذلك». ولكن الخوف كان قد سيطر على نفوس الناس، فآثروا الرحيل

على الإقامة، وذهبت كل جهود «زهير» سدىً، واضطر إلى التخلى

عن «القيروان» ، وتوجه إلى «برقة» مع من استطاع الرحيل من

المسلمين، وظل بعض المسلمين - ذوى الظروف الخاصة- بالقيروان،

وطلبوا الأمان من «كسيلة» فمنحهم إياه، وأعلن نفسه أميرًا على

المدينة.

توقف النشاط العسكرى بالمغرب مدة خمس سنوات تقريبًا، بسبب

الأحداث التى واجهتها الخلافة الأموية فى دمشق، حيث توفى الخليفة

«يزيد بن معاوية» فاضطرب البيت الأموى نتيجة لذلك، ثم تولى

«مروان بن الحكم» الخلافة، وقامت ثورة «عبدالله بن الزبير» بمكة،

فاستنزفت هذه الثورة وقت وجهد «مروان بن الحكم» وابنه

«عبدالملك» من بعده.

ص: 11

ثم تولى «عبدالملك بن مروان» الخلافة بدمشق فى سنة (65هـ=

685م)، فواجهته المشاكل والثورات العديدة، ولكن ذلك لم يمنعه من

التفكير فى أوضاع إفريقية، وضرورة استعادة نفوذ المسلمين بها،

واستشار من حوله فى ذلك، واستقر الرأى على ضرورة تجهيز حملة

جديدة، يكون على رأسها «زهير بن قيس» ؛ لمعرفته بطبيعة المنطقة

وأحوال الناس هناك، فضلا عن شجاعته وحبه للجهاد، فأرسل

الخليفة بذلك إلى «زهير» ببرقة، وأمده بما تحتاج إليه هذه الحملة،

وحشد إليه وجوه العرب، ووفر له المال اللازم، فرتب «زهير» أموره،

وخرج للقاء «كسيلة» وجموع البربر والروم، فعلم «كسيلة» بتحركات

«زهير» وفضَّل الخروج لملاقاته خارج «القيروان» . خشية أن ينضم

المسلمون المقيمون بها إلى جيش «زهير» ، واختار منطقة «ممس»

التى تبعد مسافة يوم عن «القيروان» ، لتكون معسكرًا لجنوده،

لوفرة المياه بها وقربها من الجبال، التى يمكن الاحتماء بها، أو

الهروب إليها إذا ما حلَّت الهزيمة بجنوده.

وصل «زهير» على رأس قواته إلى «القيروان» ، واستراح خارجها

عدة أيام عبأ فيها قواته، وتجهز للمعركة، ثم انطلق للقاء «كسيلة»

وجموعه من البربر والروم عند «ممس» ، ودارت بين الفريقين معركة

حامية؛ حمى فيها الوطيس، وكثر عدد القتلى من الفريقين، ولكن

المسلمين صمدوا، وتمكنوا من قتل «كسيلة» ، فدبَّ الضعف والوهن

فى جموع البربر والروم، وتكاثر عليهم المسلمون من كل مكان،

وقتلوا منهم عددًا كبيرًا، وتتبعوهم حتى فروا من أرض المعركة؛

يجرون وراءهم أذيال الهزيمة المنكرة.

انتهز الروم فرصة رحيل الجيش الإسلامى من «برقة» إلى «القيروان» ،

وقرروا مباغتة مدينة «برقة» ، مستعينين ببعض قطع أسطولهم

الراسية على شواطئ «صقلية» ، وانطلقوا بها صوب «برقة» ، فلم

تستطع المدينة مقاومتهم وسقطت بين أيديهم، فألحقوا بها الدمار

واستولوا على ما فيها من أموال، فضلا عن السبايا والأسرى، ولما

ص: 12

بلغت هذه الأنباء المؤلمة مسامع «زهير» أسرع بمن معه من الجنود

-وكانوا قلة- لنجدة المدينة، ولكن الروم كانوا كثرة، فخرجوا عليه

وعلى جنوده من كل مكان، وأسفر ذلك عن هزيمة المسلمين

واستشهاد «زهير» .

- حسان بن النعمان:

لم يستطع الخليفة «عبدالملك بن مروان» اتخاذ موقف حاسم إزاء

الكارثة التى حلت بالمسلمين بإفريقية، نظرًا لانشغاله بثورة «عبدالله

بن الزبير»، فلما قضى عليها، عاوده التفكير ثانية فى إفريقية،

وكيفية معالجة أوضاعها، وبدأ فى البحث عن قائد جديد يتولى

مهمة قيادة حملة جديدة على إفريقية، ووقع اختياره على القائد

«حسان بن النعمان» . الذى كانت له مكانة مرموقة لدى بنى أمية،

وحرصت الخلافة على أن تهيىء له عوامل النصر، فحشدت له أعدادًا

غفيرة من الجنود، ووفرت له العدة والعتاد اللازمين فانطلق «حسان»

إلى إفريقية على رأس جيش تعداده أربعون ألف مقاتل، وعزم على

القضاء على قوة الروم، وخطورتهم على التواجد الإسلامى بهذه

البلاد، وما إن وصل بجيشه إلى «القيروان» - على أرجح الآراء - فى

سنة (74هـ= 693م) حتى أخذ يستفسر ويسأل عن أماكن تجمعات

الروم، وعدد جنودهم، وأنواع معداتهم، فعلم أن «قرطاجنة» هى

مركز تجمعات الروم وعاصمتهم بإفريقية، فانطلق بقواته نحوها، ثم

حاصرها. وقد كانت مدينة حصينة وتضم أعدادًا كبيرة من الروم،

وكتب الله له شرف اقتحامها وفتحها بعد مشقة وجهد كبيرين، ثم

مضى نحو «صطفورة» وقضى على من بها من جنود الروم والبربر،

ثم توجه إلى «بنزرت» وفتحها؛ وقضى على معاقل الروم بها، ثم

عاد إلى «القيروان» لكى يرتاح الجند، ويستعدوا للمواجهة القادمة.

وبعث «حسان» بالعيون لمعرفة إمكانات «البربر» وأماكن

تجمعاتهم، وأخذ يسأل من حوله عنهم وعن زعمائهم، فعرف أن

هناك كاهنة تدعى «داهيا» من قبيلة «جرادة» البربرية، تمكنت

بادعاءاتها وكهانتها من السيطرة على معظم قبائل البربر، وبسطت

ص: 13

نفوذها عليهم منذ ما يقرب من خمسة وثلاثين عامًا، وهى تقيم فوق

جبل «أوراس» ، وقد اتخذته هى وأعوانها معقلاً وحصنًا.

وانطلق «حسان» بجنوده صوب معقل الكاهنة وجموعها من البربر،

والتقى الفريقان فى وادى «مسكيانة» ، ودارت بينهما معركة

طاحنة، انتهت بهزيمة المسلمين، وانسحاب «حسان» بمن معه منها،

وعادوا إلى «برقة» ، ثم بعث «حسان» بما حدث إلى الخليفة

«عبدالملك» ، موضحًا له عوامل الهزيمة، ومدى قوة الكاهنة بمن معها

من حشود البربر، فبعث إليه الخليفة بأن يقيم بجنوده فى مكانه حتى

تعدّ الخلافة الإمدادات اللازمة لجولة أخرى، وامتثل «حسان» لقرار

الخليفة، وشيد هو ومَن معه مساكن للإقامة بها.

وكانت الكاهنة قد أسرت جماعة من المسلمين، وأبقت على حياتهم

لتعرف منهم أخبار المسلمين وإمكاناتهم، وقد استأثرت بخالد ابن

يزيد - أحد الأسرى -ومنحته عطفها، وجعلته فى منزلة ابنها،

فاستغل هذه الفرصة وأمدَّ قائده-سرًّا - بالمعلومات عن أوضاع

الكاهنة وأخبار معاونيها، ومن معها من البربر، فى الوقت نفسه

ظنت الكاهنة أن المسلمين مثلهم مثل بقية الغزاة الذين جاءوا إلى

هذه البلاد بغية الاستيلاء على أموالها وثرواتها وخيراتها، ولذا أمرت

أعوانها بتخريب البلاد وهدم حصونها ونهب أموالها، راجية من وراء

ذلك أن يرحل المسلمون عن هذه المنطقة لانعدام السبب الذى جاءوا

من أجله. ولاشك أن هذا تصور خاطئ، وظن ليس فى محله، لأن هدف

المسلمين الأوحد هو إتاحة الفرصة للشعوب لتعرُّف الإسلام، ونشر

العدل والمساواة بين الناس، وقد جاءت خطوة التخريب التى قام بها

أعوان الكاهنة بعكس ما كان متوقعًا، فضلا عن تدهور اقتصاد

البلاد، وسارع سكان هذه المدن باللجوء إلى المسلمين والاحتماء

بهم، مطالبين بإنقاذهم مما حل بهم على أيدى الكاهنة وأعوانها،

فكان لذلك أثره فى دعم قوة المسلمين. خاصة وأن أهل «قابس»

و «قفصة» وغيرهم، أمدوهم بالمال وأعلنوا لهم الطاعة.

ص: 14

انطلق «حسان» بقواته لملاقاة الكاهنة، ودارت بينهما معركة عنيفة؛

أسفرت عن مقتل أعداد كثيرة من أتباع الكاهنة، ثم مقتل الكاهنة

نفسها عند بئر، عرف فيما بعد باسم:«بئر الكاهنة» .

وهكذا استطاع «حسان» أن يقضى على مقاومة البربر مثلما قضى

من قبل على جحافل الروم، وعمد إلى تثبيت أقدام المسلمين فى

«إفريقية» و «المغرب الأوسط» ، وقام ببعض الأعمال المهمة، التى من

شأنها تثبيت عملية الفتح فى المنطقة، فعمَّر مدينة «ترشيش» ، وهى

تبعد نحو (12) ميلا عن شرقى «قرطاجنة» ، لتكون ميناء عربيا

إسلاميا، بدلا من «قرطاجنة» البيزنطية التى تم هدمها فى المعارك،

ثم أنشأ بها دارًا لصناعة السفن، ليكفل حماية شواطئ المغرب

الإسلامية من تطلعات البيزنطيين وغاراتهم، واتبع «حسان» سياسة

جديدة فى إدارة شئون هذه البلاد، ووضع الأسس التى تجعل من

«المغرب» ولاية عربية؛ تعتمد على مواردها، دون الاعتماد على

غيرها فى شىء، ومن هذه الأسس:

أولاً: أنشأ إدارة حكومية، واعتبر أرض المغرب مفتوحة صلحًا لا عنوة

مع الذين أسلموا من أهلها، ومعنى ذلك أن يؤدوا عنها ضريبة

العشر، أما الأراضى التى كانت ملكًا للبيزنطيين ومَن قاوم الفتح من

الأفارقة وغيرهم، فقد اعتبرها «حسان» مفتوحة عنوة، ولذا اعتبرها

من أملاك المسلمين، واعتبر مَن وجدهم عليها موالى لهم، فكان لهذه

الناحية الاقتصادية المهمة أثر بالغ فى نفوس البربر.

ثانيًا: عمد إلى إشراك البربر بجيشه، ورغبهم بالغنائم، وعاملهم

معاملة الجند العرب فى الحقوق والواجبات، وأدى ذلك إلى مزيد من

الاحتكاك بين المسلمين والبربر، مما دفع الكثيرين منهم إلى الدخول

فى الإسلام.

ثالثًا: وزع مسئولية الحكم على القبائل المختلفة، واختص كل قبيلة

بناحية معينة تمشيا مع طبيعة البلاد.

ولهذه السياسة التى رسمها «حسَّان بن النعمان» وأرسى قواعدها

أعظم الأثر فى نفسية البربر، وفى علاقتهم بالعرب الفاتحين،

ص: 15

وازدادت معرفتهم بالدين الجديد الوافد عليهم، ودخله الكثيرون منهم،

ودخل «المغرب» فى طور جديد من التنظيم السياسى، ثم عُزل

«حسان» ، وعُيِّن «موسى بن نصير» مكانه.

- موسى بن نصير:

وصل الوالى الجديد «موسى بن نصير» إلى «القيروان» ، سنة (86هـ=

705م)، فألقى على الناس فور وصوله خطبة، أعلن لهم فيها سياسته

التى سينتهجها لفتح بقية أقاليم المغرب، ثم انطلق موسى على رأس

قواته إلى قلعة «زغوان» التى على مسيرة يوم من «القيروان» ،

واستولى عليها، فى الوقت الذى أرسل فيه أبناءه على رأس

مجموعات من الجند لإخضاع المناطق المحيطة بالقيروان، وقد نجحوا

فى تحقيق ما خرجوا من أجله، وكان هدف «موسى» من ذلك تأمين

خطوطه الخلفية إذا ما خرج للجهاد بالمغربين الأوسط والأقصى، فلما

تحقق له ما أراد، انطلق إلى «المغرب الأوسط» وأخضع قبائله، وفتح

قلاعه وحصونه، ثم انطلق إلى «المغرب الأقصى» ، متَّبعًا سياسته

التى سار عليها فى جميع حملاته العسكرية، وتتمثل فى توزيع

نشاطه العسكرى فى شتى الاتجاهات فى آنٍ واحد، لبث الرعب فى

قلوب الأعداء، فأُجبر البربر على الفرار إلى المناطق البعيدة، ونجح

فى بسط نفوذ المسلمين على «المغرب الأقصى» حتى بلاد «درعة» ،

ثم استولى بعد ذلك على «طنجة» ، وكان أول مَن نزلها، واختط فيها

للمسلمين، وجعل عليها مولاه «طارق بن زياد» .

وقد اتبع «موسى بن نصير» سياسة من سبقه من الولاة فى نشر

الدين الإسلامى بين صفوف «البربر» ، وترك الدعاة يحفظون الناس

القرآن الكريم، ويعلمونهم تعاليم الدين، وكذلك بنى المساجد،

وأشرك البربر -مثلما فعل «حسان» من قبل- فى حكم البلاد. ويتضح

ذلك فى توليته «طارق بن زياد» -الذى يرجع نسبه إلى البربر- شئون

«طنجة» عاصمة «المغرب الأقصى» وأهم مدنه - آنذاك- وقد قاد طارق

-فيما بعد- جيشًا كبيرًا من البربر لفتح بلاد «الأندلس» .

ثم صدرت الأوامر من قِبَل الخلافة باستدعاء «موسى» ، فأسرع بتنفيذ

ص: 16

الأمر، وترك ابنه «عبدالله» بالقيروان، خلفًا له فى إدارة «المغرب» ،

وانطلق صوب المشرق فى سنة (96هـ= 715م)، فانتهت بعودته إلى

المشرق أعمال الفتح المختلفة؛ وبدأ بالمغرب عصر جديد؛ هو عصر

الولاة.

لقد استمرت أعمال فتح «بلاد المغرب» نحو سبعين سنة، وأخذ ذلك

جهدًا كبيرًا؛ بذلت فيه الخلافة الإسلامية كثيرًا من الرجال والأموال،

وهذا يغاير بصورة واضحة أعمال الفتح الأخرى التى قام بها

المسلمون فى الأقاليم الأخرى، مثل:«الشام» و «مصر» ، وكان لذلك

أسبابه، مما أخَّرَ عملية الفتح.

أولاً - طبيعة المكان:

لعل من أبرز أسباب تأخر فتح «بلاد المغرب» هو بُعْد هذه المنطقة

عن مقر الخلافة الإسلامية، فضلاً عن طبيعة منطقة القتال، وهى

ساحل ضيق، تركزت فيه مقاومة البيزنطيين، وتجاورها جبال

شاهقة، لجأت إليها جموع البربر واعتصمت بها، يضاف إلى ذلك

وجود صحراء واسعة يشق على المحارب اجتيازها.

ثانيًا - البيزنطيون:

وهم الذين استعمروا هذه المنطقة منذ زمن بعيد، ولذلك عرفوا

أهميتها، ومقدار خيراتها وثرواتها، فدافعوا عنها بكل ما يملكون

رغبة منهم فى إبقاء هذا المورد الثَّرِّ، الذى يدعمون بما يحصلون عليه

منه اقتصاد بلادهم وبقاء حضارتهم، وقد عمد البيزنطيون إلى محاربة

المسلمين، فضلا عن تأليب جموع البربر عليهم، كما حدث فى علاقة

«كسيلة» معهم.

ثالثًا - سكان البلاد (البربر):

بات «البربر» لا يرحبون بأى قادم نحوهم، دفاعًا عن حريتهم

وأرضهم، وذلك ناتج عن القهر والذل والهوان الذى سيطر عليهم

أعوامًا طويلة على يد الاستعمار الأجنبى لبلادهم، وكانت المقاومة

أشد وأعنف من قبل هؤلاء الذين نالوا حظا من الحضارة، حيث كانوا

ملاصقين للبيزنطيين، ومتأثرين بدعايتهم.

رابعًا - المسلمون الفاتحون:

لعل الأحداث السياسية التى كان يمر بها المشرق الإسلامى، فضلا عن

الفتن والثورات التى انشغلت بها الخلافة الإسلامية - آنذاك - من بين

أسباب تأخر فتح «بلاد المغرب» .

ص: 17

الفصل الثاني

*عصر الولاة

- الولاة فى العصر الأموى:

تعد فترة تبعية المغرب للخلافة (عصر الولاة) - والتى تمتد من سنة

(96هـ = 715م) إلى سنة (184هـ =800م) - من أهم الفترات وأخطرها

فى تاريخ المغرب الإسلامى، وقد اختلفت هذه الفترة عن سابقاتها،

لأن فترة الفتح كان يغلب عليها النشاط العسكرى، واتسمت بالامتداد

والانحسار، والخوف والاضطراب، ولم يعرف المسلمون شيئًا من

الاستقرار بالمغرب إلا بعد تأسيس مدينة «القيروان» على يد «عقبة بن

نافع»، ثم تمَّ لهم الاستقرار بفضل جهود:«زهير بن قيس» ، و «حسان

بن النعمان»، و «موسى بن نصير» .

وقد اتسم عصر الولاة بسمات وصفات معينة؛ فهو عصر الاستقرار

العربى على أرض «المغرب» ، ووضح فيه موقف الخلافة من المنطقة،

وما ترتب على ذلك من علاقة بين الخلافة والولاة، فضلا عن علاقة

الولاة بسكان هذه البلاد، يضاف إلى ذلك الأوضاع السياسية المختلفة

التى ترتبت على هذه العلاقات؛ حيث ثار «المغرب الأقصى» وانفصل

عن «الخلافة الأموية» ، ثم انتقلت عدوى الثورة إلى المغربين الأوسط

والأدنى، وبذلت «الخلافة العباسية» جهودًا كبيرة، وأموالا طائلة،

ورجالا كثيرين، فى سبيل الحفاظ على هذه الأقاليم، ولكن الأمور

أسفرت عن مجرد سلطة اسمية للخلافة العباسية على «المغرب

الأدنى» مُمثَّلة فى قيام «دولة الأغالبة» ، وقامت دويلات مستقلة

بالمغربين الأوسط والأقصى.

وسوف نعرض تاريخ هذا العصر، ونستعرض تاريخ ولاته، وهم:

- محمد بن يزيد:

استشار الخليفة «سليمان بن عبدالملك» فيمن يصلح لولاية إقليم

المغرب، فأشار عليه المحيطون به بمحمد بن يزيد مولى قريش، لما

يتمتع به من صفات الفضل والحزم، فوقع عليه اختيار الخليفة

«سليمان بن عبد الملك» ، ومنحه ولاية «المغرب» وأوصاه بقوله: «يا

محمد بن يزيد اتق الله وحده لاشريك له، وقم فيمن وليتك بالحق

والعدل. اللهم اشهد عليه»، فعمل «محمد» بهذه الوصية منذ تولى

ص: 18

مقاليد البلاد، واستقر بالقيروان، فأقام سياسة العدل بين سكان هذه

البلاد، وسار فيهم بأحسن سيرة، ثم عمد إلى تجديد النشاط

العسكرى، وأرسل السرايا والبعوث إلى أماكن متفرقة من أرض

المغرب، فحققت نجاحًا ملحوظًا فيما ذهبت من أجله، وعادت بالمغانم

الكثيرة والنصر المظفر. وظل «محمد بن يزيد» واليًا على «المغرب»

حتى وفاة «سليمان بن عبدالملك» ، فعزل من ولايته بعد أن قضى

بها سنتين وعدة أشهر.

- إسماعيل بن عبدالله (100 - 101هـ= 718 - 719م):

اختاره الخليفة «عمر بن عبدالعزيز» لصفاته الحسنة وسمعته الطيبة،

لتولى هذا المنصب فى سنة (100هـ=718م)، وبعث معه مجموعة من

التابعين، منهم:«سعد بن مسعود التجيبى» ، لمعاونته فى نشر

الإسلام، وتعليم الناس قواعده، وقد أثمرت سياسة «إسماعيل»

الطيبة بين الرعية، فى إقبال البربر على اعتناق الدين الإسلامى،

وأسلم جميع البربر فى أيامه كما ذكر «ابن خلدون» .

ولاشك أن سياسة الدولة الإسلامية عامة، التى انتهجها الخليفة

العادل «عمر بن عبدالعزيز» ، كان لها أثرها الواضح على كل أقاليم

الدولة، خاصة وأن الخليفة قد حرص على اختيار ولاة أكفاء؛

يتخلقون بأخلاق الإسلام، لذا أشار كثير من المؤرخين إلى الدور

الإيجابى الذى قام به «إسماعيل بن عبدالله» فى تعليم «البربر»

القرآن، وقواعد الحلال والحرام، وقد عُزل «إسماعيل» من منصبه

عقب وفاة الخليفة «عمر بن عبدالعزيز» فى سنة (101هـ= 720م)،

فتولى «يزيد بن أبى مسلم» ولاية «المغرب» خلفًا له.

- يزيد بن أبى مسلم:

لم يُقر الخليفة «يزيد بن عبدالملك» -الذى تولى الخلافة خلفًا لعمر بن

عبدالعزيز فى سنة (101هـ = 720م) - سياسة اللين والتسامح التى

انتهجها الخليفة السابق «عمر» ، واستوجب ذلك تغييرًا عاما فى

سياسة الدولة، فعزل جميع الولاة، وعين آخرون مكانهم. وكان «يزيد

بن أبى مسلم» من بين الولاة الجدد.

أقبل «يزيد» إلى «القيروان» فى سنة (101هـ=720م)، وتولى مقاليد

ص: 19

الأمور فيها، واتبع سياسة الشدة والحزم تجاه أهل «المغرب» مثلما

اتبعها مع أهل «العراق» من قبل، وفرض الجزية على مَن أسلم من

أهل الذمة ليزداد الدخل المالى فى خزينة الدولة، كما أنه خصَّ طائفة

من قبيلة «البتر» البربرية بحراسته دون غيرها، وأساء إلى آل

«موسى بن نصير» وبعض الشخصيات العربية المقيمة بالقيروان،

فأثار عليه ذلك حفيظة بعض حرسه من غير «البتر» وقتلوه.

- بشر بن صفوان:

تحرك «بشر» تجاه «المغرب» فى أواخر سنة (102هـ=721م)، وقد بدأ

أعماله بالتحقيق فى مقتل «ابن أبى مسلم» ، واكتشف أن هناك

بعض المحرضين للجند على فعل ذلك لإشعال الفتنة، فأمر بإعدامهم

كما أمر بعزل «الحسن بن عبدالرحمن» والى «الأندلس» من منصبه،

وولى مكانه «عبدالله بن سحيم الكلبى» ، ثم قام فى سنة (109هـ=

727م) بحملة بحرية على «جزيرة صقلية» ، وعاد منتصرًا ومحملا بكثير

من المغانم والأسلاب، ثم مرض عقب عودته من هذه الغزوة، ومات فى

العام نفسه.

- عبيدة بن عبدالرحمن السلمى:

وصل القيروان فى سنة (110هـ=728م)، فأرسل «المستنير بن

الحبحاب الحرشى» أحد القادة العسكريين على رأس حملة بحرية إلى

«صقلية» ، ولكن هذه الحملة لم تحقق نجاحًا، وغرقت معظم سفنها.

وقد عين «عبيدة» بعض الولاة من قِبله على «الأندلس» فى سنة

(114هـ=732م)، ثم توجه إلى مقر الخلافة بدمشق، وطلب إعفاءه من

منصبه، فأُجيب إلى مطلبه.

- عبيدالله بن الحبحاب:

وصل «عبيدالله» إلى «المغرب» فى سنة (116هـ=734م)، وبدأ ولايته

بتجهيز حملة بقيادة «حبيب بن أبى عبيدة بن عقبة بن نافع» ، وبعث

بها لفتح بعض المناطق؛ لتأمين الأقاليم الإسلامية بالمغرب، فتوغلت

هذه الحملة حتى وصلت إلى «السوس الأقصى» ، وأرض «السودان» ،

وحققت الأهداف التى خرجت من أجلها.

وقد انتهج «عبيدالله» سياسة مغايرة لسابقيه، فأسرف فى جمع

الأموال مستخدمًا القسوة والقوة وشرع فى تخميس البربر، أى اعتبر

ص: 20

من أسلم منهم ومن لم يسلم فيئًا للمسلمين، بخلاف ما اعتاد عليه

هؤلاء البربر حيث منح الولاة من أسلم منهم نفس الحقوق والواجبات

الخاصة بالمسلمين كما أنه أزكى نار العصبيات القبلية، حيث حابى

أبناء قبيلته من القيسية وأساء معاملة اليمنية وغيرهم، فكانت

النتيجة أن قامت الثورات المدمرة فى أقاليم «المغرب» ، ودخل البربر

فى صراع مسلح مع ولاتهم من العرب، وترتب على ذلك انفصال

«المغرب الأقصى» عن سلطة الخلافة بدمشق.

كلثوم بن عياض القشيرى:

وقع اختيار الخلافة عليه، لتولى مقاليد الأمور بالمغرب، ومواجهة

الأحداث الخطيرة التى نشبت على أرضه، وتوجه على رأس جيش كبير

تعداده سبعون ألف مقاتل إلى هذه البلاد، ودعمته الخلافة بكل ما

يحتاج إليه، ووصل على رأس جيشه إلى «بقدورة» بالمغرب

الأقصى، ودخل فى معركة شرسة مع جحافل البربر، وقد انتهت هذه

المعركة بهزيمة جيش العرب، فضلا عن مقتل «كلثوم» نفسه ومعه

كثير من زعماء الجيش، وفرَّ الباقى إلى «طنجة» ومنها إلى

«الأندلس» .

- حنظلة بن صفوان الكلبى:

كان «حنظلة» واليًا على «مصر» ، وكان ذا كفاءة عالية وخبرة

كبيرة، فضلا عن إلمامه بأخبار «المغرب» وأوضاعه بحكم الجوار بين

«مصر» و «المغرب» ، فوقع عليه اختيار الخليفة «هشام بن عبدالملك»

لتولى شئون «المغرب» ، وأمره بالتوجه إليها فى سنة (124هـ=

742م)، فخرج على رأس جيش بلغ تعداده ثلاثين ألف مقاتل، قاصدًا

«القيروان» ؛ لمواجهة أحداث المغرب.

ووصلت الأخبار إلى «حنظلة» بمسير البربر إليه فى جيشين كبيرين،

أحدهما بقيادة «عكاشة الصفرى الخارجى» ، والآخر بقيادة

«عبدالواحد بن يزيد الهوارى» ، وقد سار الجيشان فى طريقين

مختلفين، فاضطر «حنظلة» إلى لقاء كل جيش على حدة، وبدأ

بمحاربة جيش «عكاشة» وأنزل به هزيمة كبيرة؛ أعادت الثقة إلى

نفوس جيشه، ثم كان اللقاء الثانى بجيش «عبدالواحد» عند «باجة» ،

ودارت بين الفريقين معركة عنيفة، انتهت بهزيمة جيش الخلافة،

ص: 21

وعودة ما تبقى منه إلى «القيروان» استعدادًا لمحاولة ثانية. ثم حشد

«حنظلة» كل ما استطاع من قوة، وخرج للقاء البربر، ودارت بينهما

معركة، أثبت جيش «حنظلة» فيها كفاءة عالية وصبرًا على القتال،

فانتصر جيش الخلافة وقُتل «عبدالواحد» قائد البربر، فضلا عن مقتل

عدد كبير من جنوده، فمكن هذا النصر للأمويين فى البلاد، ودعم

وجودهم فيها، وعمد «حنظلة» إلى إقرار الأمن والطمأنينة فى

النفوس، ثم بعث بأخبار هذا النصر إلى مركز الخلافة «بدمشق» فى

شعبان سنة (125هـ= يونيو 743م)، فتوافق هذا الوقت مع وفاة

الخليفة «هشام بن عبدالملك» ، وتولى «الوليد الثانى بن يزيد» خلفًا

له.

واجه «حنظلة» مشكلة كبيرة، تمثلت فى نزول «عبدالرحمن بن

حبيب» أحد زعماء العرب على شواطئ «تونس» قادمًا من «الأندلس» ،

وقد استغل هذا الرجل اضطراب الأوضاع فى «دمشق» ، وضعف والى

«القيروان» بسبب الحروب الكثيرة التى خاضها مع البربر، وسعى

إلى جمع عناصر من العرب والأفارقة والبربر حوله، ثم نزل بهم منطقة

«سمنجة» فى سنة (127هـ=745م)، استعدادًا للاستيلاء على

«القيروان» وعلى مركز السلطة فيها.

وحاول «حنظلة» معالجة الأمور بطريقة ودية، فاختار خمسين من

فقهاء «القيروان» وزعمائها، وأرسلهم إلى «عبدالرحمن» للتفاوض

معه، فألقى القبض عليهم وهدَّد بقتلهم إن لم يتخلَّ «حنظلة» عن

الإمارة، ويترك «القيروان» خلال ثلاثة أيام، وألا يأخذ من بيت المال

إلا ما يكفيه مئونة السفر، فوافق «حنظلة» على مطالب «عبدالرحمن»

حفاظًا على أرواح مَن بعث بهم إليه، وترك «القيروان» فى جمادى

الآخرة سنة (127هـ= مارس745م) فدخلها «عبدالرحمن» .

ثم وافقت الخلافة على تعيينه واليًا على بلاد «المغرب» .

الولاة فى العصر العباسى:

استقر «عبدالرحمن بن حبيب» بالقيروان فى سنة (127هـ)، وعمل

على الاستقلال بالمغرب، فواجه العديد من ثورات البربر، ولكنه تمكن

ص: 22

من التغلب عليها، وهاجم معاقلهم، وقضى على تجمعاتهم، ثم أرسل

حملتين عسكريتين فى سنة (135هـ= 752م) إلى جزيرتى «صقلية»

و «سردانية» ، فحققت الحملتان أهدافهما، وعادتا منتصرتين.

فلما قامت الدولة العباسية، أسرع «عبدالرحمن بن حبيب» بالخطبة

للعباسيين على المنابر، وأرسل لهم مبايعته وطاعته، فرحب به

الخليفة العباسى «أبو العباس السفاح» وأقرَّه على ولايته، ولكن

الأمور تغيرت فى عهد «أبى جعفر المنصور» ، الذى تولى الخلافة

فى ذى الحجة سنة (136هـ= مايو 754م)، حيث أقر «عبدالرحمن»

على «المغرب» فى البداية، ثم توترت بينهما العلاقات، فخلع

«عبدالرحمن» طاعة العباسيين واستقل بحكم إقليم «المغرب الأدنى» .

ولقد حاول «عبدالرحمن بن حبيب» نقل ولاية العهد من أخيه «إلياس»

إلى ابنه «حبيب» ، فدبر له «إلياس» مؤامرة انتهت بقتله فى سنة

(137هـ=754م) بعد أن قضى نحو عشر سنوات بالحكم، أمضاها فى

معارك متصلة ضد الثائرين والخارجين، ومن ثَم ثارت جموع البربر،

وعادت الاضطرابات إلى المنطقة ثانية، وتمكن «إلياس» من إحكام

سيطرته على «القيروان» ، إلا أن «حبيب بن عبدالرحمن» دخل فى

صراع طويل معه، وانتهى الأمر بمقتل إلياس فى سنة (138هـ= 755م)،

وتولى «حبيب» مقاليد الحكم بالقيروان، ولجأ عدد من أفراد أسرته

إلى قبيلة «درفجومة» البربرية، وكان زعيمها «عاصم بن جميل

كاهنًا» يدعى النبوة، فدخل «حبيب» فى حروب مع هذه القبيلة،

ولكنهم هزموه، فاضطر إلى الفرار، ودخل «عاصم» «القيروان»

واستحل حرماتها وخرَّب مساجدها وقضى على مظاهر حضارتها.

وهكذا سقطت «القيروان» فى قبضة هذه القبيلة التى أساءت معاملة

الناس، فاضطر بعضهم إلى اللجوء والاستنجاد بالخلافة العباسية،

ولجأ آخرون إلى «أبى الخطاب عبدالأعلى بن السمح المعافرى»

وكان أحد وجوه العرب، ويعتنق المذهب الإباضى، فهبَّ لنجدتهم،

وجمع مَن حوله من البربر المعتنقين لآراء الخوارج، وأثار فيهم

ص: 23

الحمية، ثم خرج بهم لملاقاة قبيلة «درفجومة» ، فاستولى على

«طرابلس» ، ثم قصد «القيروان» فى سنة (141هـ= 758م)، وتمكن من

قتل «عاصم بن جميل» وعدد كبير من أتباعه، ودخل مدينة

«القيروان» .

وحين علم الخليفة العباسى «أبو جعفر المنصور» بما حدث ببلاد

المغرب، عين «محمد بن الأشعث بن عقبة الخزاعى» على ولاية

«مصر» ، وأمره بمعالجة الأمور بالمغرب، فاضطر «ابن الأشعث» بعد

فترة إلى الخروج بنفسه على رأس الجيش إلى «المغرب» للقضاء

على نفوذ الإباضية فيها، وقد تمكن من ذلك بعد عدة حروب، وقتل

«أبا الخطاب» وأتباعه، ثم دخل مدينة «القيروان» فى سنة (144هـ=

761م)، وتولى مقاليد الأمور بها، وبنى حولها سورًا كبيرًا لحمايتها،

ثم هاجم معاقل البربر، وقضى على تجمعاتهم، ولكنه أساء معاملة

جنده، فثاروا عليه، وأجبروه على التخلى عن الولاية، والعودة إلى

المشرق فى ربيع الأول سنة (148هـ= إبريل 765م).

- الأغلب بن سالم التميمى:

وقع اختيار الخلافة عليه لتولى إفريقية، لحزمه وشجاعته وسداد

رأيه، فدخل «القيروان» فى جمادى الآخرة سنة (148هـ= يوليو

765م)، وبلغه احتشاد البربر بقيادة «أبى قرة بن دوناس» الخارجى

فى «تلمسان» للتوجه إلى «القيروان» ، فخرج «الأغلب» بجنوده

لملاقاتهم، ولكنهم انسحبوا إلى «المغرب الأقصى» دون قتال،

فانتهز «الحسن بن حرب الكندى» فرصة خروج الجيش من «القيروان»

واحتلها، فلما علم «الأغلب» بذلك دخل مدينة «قابس» استعدادًا لطرد

هذا المحتل، ثم دخل معه فى معركة حامية، واستشهد «الأغلب» ،

وصمد جيشه، وتمكن من قتل «الحسن بن حرب» وهزيمة جيشه.

- عمر بن حفص:

وقع عليه اختيار الخلافة لتولى مهام إقليم «المغرب» عقب استشهاد

«الأغلب بن سالم التميمى» ، وكان «عمر» رجلاً شجاعًا، ذا شخصية

قوية، فدخل مدينة «القيروان» فى سنة (151هـ= 768م)، وانتهج

سياسة جديدة تجاه أهلها وعاملهم بالحسنى، وتودد إلى زعمائها

ص: 24

وأنزلهم منازلهم، فاستقرت له الأوضاع، وهدأت الأمور، ثم خرج إلى

مدينة «طبنة» لإصلاح أحوالها، وبناء سورها، ففاجأته جموع البربر،

وحاصرت مدينة «القيروان» ، كما حاصرته مع جنوده بمدينة «طبنة» ،

فلجأ إلى استعمال الحيلة، وأغدق بالأموال على الجيش المحاصر

لطبنة، فانصرف عدد كبير من جنود البربر عن المدينة، وتمكن «عمر»

من هزيمة الجزء المتبقى منهم، ثم دخل «القيروان» بالحيلة والتمويه،

وتولى مهمة الدفاع عنها، ولكن «إباضية» «طرابلس» بزعامة «أبى

حاتم» كانوا قد أحكموا حصارهم وسيطرتهم على «القيروان» ، وظلوا

كذلك ثمانية أشهر، فساءت الأوضاع داخل المدينة، واضطر الناس

إلى أكل دوابهم وخيولهم، وفشلت كل محاولات «ابن حفص» لفك

الحصار عن المدينة، فخرج على رأس قواته، ودخل فى معركة

شديدة مع المحاصرين، فاستشهد هو وكثير من رجاله فى سنة

(154هـ = 771م) ودخل «الإباضية» بقيادة «أبى حاتم» المدينة.

- يزيد بن حاتم:

تولى «يزيد بن حاتم» إمرة «مصر» فى عهد الخليفة «أبى جعفر

المنصور» فى سنة (144هـ=761م)، وأثبت فيها كفاءة عالية، فوقع

عليه اختيار الخلافة ليكون واليًا على «المغرب» ، وجهز له الخليفة

جيشًا كبيرًا، ضم تسعين ألف مقاتل، وتم تجهيزه بثلاثة ملايين درهم،

وخرج «يزيد» على رأس الجيش قاصدًا إفريقية، ووصلها فى سنة

(154هـ= 771م)، فانضمت إليه فلول الجند المنهزمة أمام «أبى حاتم» ،

وتم اللقاء بين الجيش العباسى وجيش الخوارج بقيادة «أبى حاتم»

فى شهر ربيع الأول سنة (155هـ= فبراير 772م)، فكانت المعركة

حاسمة، وهُزم جيش الخوارج، وقتل قائده «أبو حاتم» ، وبعث «يزيد»

بجنوده لاستئصال شأفة الخوارج ثم دخل «القيروان» رافعًا أعلام

العباسيين، وبث الطمأنينة فى نفوس أهلها، ومات «يزيد بن حاتم»

بالقيروان فى سنة (170هـ= 786م)، فخلفه ابنه «داود» فى الولاية.

- داود بن يزيد بن حاتم:

تولى «داود» مقاليد الأمور خلال فترة مرض والده كمعاون له، فلما

ص: 25

مات والده، تولى إدارة البلاد ريثما تتخذ الخلافة قرارها، وواجه ثورة

الإباضية بحزم، وحافظ على ما حققه والده من انتصارات ومكاسب،

ولم يستمر فى الحكم سوى تسعة أشهر، ثم سلم مقاليد الأمور إلى

عمه «روح ابن حاتم» ، وعاد إلى المشرق.

- روح بن حاتم:

اختاره الخليفة «هارون الرشيد» خلفًا لأخيه «يزيد» فقدم إلى إفريقية

فى سنة (170هـ=787م)، وتولى مقاليد أمورها، وأحدث تغييرات فى

إدارتها، وقضى على ثورات ما تبقى من البربر بها، فهدأت

أوضاعها، واستقر أمنها ثم مات «روح» فى رمضان سنة (174هـ=

يناير 791م).

- نصر بن حبيب:

اقتفى «نصر» سياسة الوالى السابق، وعدل بين الناس وحسنت

سيرته بينهم، ولكنه لم يستمر طويلا فى الولاية، حيث تم عزله بعد

سنتين وثلاثة أشهر قضاها فى الحكم.

- الفضل بن روح بن حاتم:

اختاره «الرشيد» بدلا من «نصر ابن حبيب» ، فوصل إلى مدينة

«القيروان» فى سنة (177هـ= 793م)، وجعل ابن أخيه «المغيرة ابن

بشير بن روح» على مدينة «تونس» ، وكان «المغيرة» غِرا تنقصه

التجارب والكياسة، فأساء معاملة الجند، وفرق بينهم فى المعاملة،

فثاروا عليه بقيادة «ابن الجارود» المعروف بابن عبدويه، وعزلوه

عن «تونس» ، وأجبروه على تركها، فأدرك «الفضل بن روح»

خطورة الموقف، وأرسل «عبدالله بن يزيد» واليًا جديدًا على «تونس»

لتهدئة الموقف، ولكن الثوار قتلوه على أبواب المدينة، وشرعوا فى

استمالة قادة الجيش بالقيروان وزعماء الجند إليهم للتخلص من

«الفضل» ، وقد نجحوا فى ذلك، وحاصروا مدينة «القيروان» ، ثم

دخلوها، وأرغموا «الفضل» على تركها مع بعض أفراد أسرته، ولكن

«ابن الجارود» أرسل خلفه مَن يأت به إلى «القيروان» ثانية، وأودعه

السجن فترة، ثم قتله فى شعبان سنة (178هـ= نوفمبر 794م)، فلما

بلغ «الرشيد» ذلك بعث بيحيى بن موسى إلى «تونس» برسالة

ليُهدِّىء النفوس، ويدعو «ابن الجارود» إلى «بغداد» ، فامتثل «ابن

ص: 26

الجارود» للأمر، وهدأت الثورة، وعين الخليفة «الرشيد» «هرثمة بن

أعين» على إفريقية.

- هرثمة بن أعين:

تسلم «هرثمة» مهام منصبه بالقيروان فى ربيع الآخر سنة (179هـ=

يونيو 795م)، فنهج سياسة حسنة فى رعاياه، وأعاد إليهم

استقرارهم وأمنهم، ثم شرع فى العمران والبناء، فأنشأ سورًا حول

«طرابلس» ، وبنى القصر الكبير بالمنستير، ولم تحدث فى عهده

ثورات ذات أهمية، سوى ثورة «عياض بن وهب الهوارى» ، إلا أن

«هرثمة» استطاع القضاء عليها فى مهدها.

ظل «هرثمة» بإفريقية نحو سنتين ونصف السنة، ثم ألح على الخلافة

فى أن تعفيه من منصبه، فأجابه الخليفة إلى طلبه، وعاد «هرثمة»

إلى المشرق.

- محمد بن مقاتل العكى:

اختاره «الرشيد» لتولى إمرة بلاد «المغرب الأدنى» ، فوصلها فى

رمضان سنة (181هـ= أكتوبر 797م)، ويبدو أنه لم يكن على دراية

بأوضاعها، وظروف الجند بها، فوقع فى عدة أخطاء، وقطع أرزاق

الجند، وأساء معاملة وجوه القوم وزعمائهم، فثاروا عليه بقيادة

«تمام بن تميم التميمى» ثم توجه بها إلى «القيروان» وحاصرها، ثم

دخل مع «العكى» فى معركة وهزمه فيها، ولكن «إبراهيم بن

الأغلب» والى «الزاب» من قبل «العكى» كانت له طموحات فى هذه

المنطقة، فأسرع إلى نجدته بقواته، وقضى على جموع الثائرين.

وعمد «إبراهيم بن الأغلب» إلى التقرب إلى أهالى «القيروان»

لتحقيق أهدافه ومطامعه بالمنطقة، وظهر بمظهر المدافع عن سلطة

الخلافة وممتلكاتها، وقد ساعدته كراهية الناس لابن مقاتل العكى

فى تحقيق مبتغاه، وطلب منه وجهاء القوم مراسلة «الرشيد» وإعلامه

بمسلك «العكى» العدائى تجاه السكان، ومطالبة الرعية بعزله،

فاستجاب لمطلبهم، وبعث إلى «الرشيد» برسالة وضح له فيها هذه

الأمور، فعينه «الرشيد» على هذه الولاية، ودخل «المغرب الأدنى»

فى مرحلة سياسية جديدة عقب تولية «إبراهيم بن الأغلب» عليه،

الذى سعى إلى تحقيق أهدافه، والاستقلال بحكم المنطقة عن

ص: 27

الخلافة، وباتت السلطة الحقيقية فى يده، وأورثها من بعده أبناءه،

ولم تعد المنطقة مرتبطة بالخلافة سوى بالدعاء للخليفة على المنابر.

وهكذا انتهى عصر الولاة بالمغرب الأدنى وبدأ عصر الاستقلال

الذاتى وظل الحكم إرثًا فى «بنى الأغلب» بالمنطقة طيلة قرن من

الزمان حتى سقطت هذه الأسرة على أيدى الفاطميين فى سنة

(296هـ=909م).

ص: 28

الفصل الثالث

*دولة الأغالبة

[184 - 296هـ=800 - 909م]:

قامت أربع دول إقليمية ببلاد المغرب فى الفترة من سنة (140هـ=

757م) إلى سنة (296هـ=909م)، وسوف نعرض لهذه الدول وفقًا

لأماكن تواجدها على خريطة «المغرب» دون التقيُّد بالزمن الذى قامت

خلاله هذه الدول، ونبدأ من ناحية الشرق بدولة الأغالبة، التى

تأسست بالمغرب الأدنى (ليبيا وتونس) فى سنة (184هـ= 800م) ثم

«الدولة الرستمية» بالمغرب الأوسط (الجزائر) فى سنة (161هـ=778م)،

ثم دولة «الأدارسة» بالمغرب الأقصى فى سنة (172هـ=788م)، وأيضًا

دولة «بنى مدرار» فى «سجلماسة» بجنوب «المغرب الأقصى» فى

سنة (140هـ=757م).

ينسب الأغالبة إلى «الأغلب بن سالم التميمى» ، وهو عربى من قبيلة

«تميم» ، التى شاركت فى القضاء على «الأمويين» ، وإقامة «الدولة

العباسية»، وقد تولى «الأغلب» إفريقية فى سنة (148هـ=765م)، ثم

استشهد بها فى حربه ضد الطامعين بقيادة «الحسن بن حرب

الكندى».

إبراهيم بن الأغلب [184هـ=800م]:

تلقى «إبراهيم بن الأغلب» - فى نشأته الأولى - دروسه الدينية

بمسجد الفسطاط على يد الإمام «الليث بن سعد» ، فلما بلغ مبلغ

الشباب التحق بالجندية، ثم جاء إلى «المغرب» وشارك فى أحداثها،

ثم ظهر على مسرح الأحداث فى إفريقية - كما سبقت الإشارة إليه -

فى عهد «محمد بن مقاتل العكى» .

استقل «إبراهيم» بحكم «المغرب الأدنى» عن الخلافة، وعمد إلى

إقرار الأمن والاستقرار بهذا الإقليم، فضلاً عن تعريبه، واستكمال

نظامه الإدارى، وتنمية اقتصاده، فباتت «القيروان» مركزًا من مراكز

العلم والحضارة بالدولة الإسلامية، وظهرت أهمية المدن التابعة لها.

مثل: «تونس» ، و «سوسة» ، و «قابس» ، و «قفصة» ، و «توزر» ،

و «نفطة» ، و «طبنة» ، و «المسيلة» ، و «بجاية» ، وغيرها. ولكن ذلك لم

يمنع من وقوع بعض الثورات بالمنطقة، مثل ثورة «عمران بن مجالد

الربيعى» الذى جمع حوله أهل «القيروان» فى محاولة للقضاء على

ص: 29

حكم «الأغالبة» ، ولكن محاولتهم باءت بالفشل، حيث تصدى لهم

«إبراهيم بن الأغلب» بحزم وشدة، واستمر فى منصبه حتى وافته

منيته فى شوال سنة (196هـ= يونيو 812م)، فذكره المؤرخون بأنه

كان أحسن الولاة سيرة، وأفضلهم سياسة، وأوفاهم بالعهد،

وأرعاهم للحرمة، وأرفقهم بالرعية، وأخلصهم لأداء واجبه.

أبو العباس عبدالله بن إبراهيم بن الأغلب [196هـ=812م]:

تولى «أبو العباس» «المغرب» خلفًا لوالده، فاستقامت له الأمور

واستقرت، ولكنه انتهج سياسة ضريبية سيئة، أسفرت عن سخط

الناس عليه، وظل «أبو العباس» بالحكم مدة خمس سنوات ثم مات من

جرَّاء قرحة أصابته تحت أذنه.

زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب [201هـ=816م]:

تولى «زيادة» مقاليد الحكم بالمغرب خلفًا لأخيه «أبى العباس»

واستمر فى هذه الإمارة حتى سنة (223هـ= 838م)، فتمتعت البلاد فى

عهده بالرخاء والازدهار، فضلا عن التشييد والعمران بالمدن

المغربية، مثل:«القيروان» ، و «العباسية» ، و «تونس» ، و «سوسة»

وقد وجه «زيادة» قدراته العسكرية للقضاء على الثورات التى قامت

بالمنطقة، ومنها: ثورة «زياد بن سهل» المعروف بابن الصقلبية فى

سنة (207هـ=822م)، وثورة «عمرو بن معاوية العيشى» فى سنة

(208هـ=823م)، وثورة «منصور الطنبذى» فى سنة (209هـ=824م)،

وكذلك وجه «زيادة» كفاءته الحربية فى العناية بالأسطول

الإسلامى، ثم توجيهه لغزو بعض الجزر القريبة من «تونس» ، وإليه

يرجع الفضل فى إعداد حملة بحرية كبيرة بقيادة «أسد بن الفرات»

لغزو الجزر القريبة من «تونس» ، ثم تُوفى فى سنة (223هـ=838م).

أبو عقال الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب [223هـ=838م):

تولى الإمارة خلفًا لأخيه «زيادة» فى سنة (223هـ=838م)، ومكث بها

ما يقرب من ثلاث سنوات؛ نعمت البلاد خلالها بالهدوء والاستقرار،

وحرَّم «أبو عقال» صنع الخمور بالقيروان، وعاقب على بيعها

وشربها، فكان لذلك صداه الطيب فى نفوس الناس عامة، فضلا عن

ص: 30

الفقهاء والعلماء، ومات «أبو عقال» بالقيروان فى سنة

(226هـ=841م).

أبو العباس محمد بن الأغلب [226هـ=841م]:

تولى الإمارة خلفًا لأبيه «الأغلب» ، وظل بها أكثر من خمسة عشر

عامًا، اتسمت بالخلافات بين أبناء «الأسرة الأغلبية» ، فضلا عن

محاولة أخيه «أحمد» الفاشلة للإطاحة به والوصول إلى الحكم، يضاف

إلى ذلك انتفاضات الجند التى لم يكتب لها النجاح بمنطقتى «الزاب» ،

و «تونس» ، وقد تُوفى «أبو العباس» فى سنة (242هـ) بالقيروان.

أبو إبراهيم أحمد بن محمد [242هـ=856م]:

تولى خلفًا لأبيه عقب وفاته فى سنة (242هـ)، وتميزت فترة حكمه

بالهدوء والاستقرار، وقد غلب الطابع الدينى على سلوكه، فكان

يخرج فى شهرى شعبان ورمضان من مقر إقامته ليوزع الأموال على

الفقراء والمساكين بالقيروان، واهتم «أبو إبراهيم» بالبناء والتعمير،

وزاد فى «مسجد القيروان» ، وجدد «المسجد الجامع» بتونس، وحصَّن

مدينة «سوسة» وبنى سورها، كما اهتم بإمداد سكان المدن بمياه

الشرب، وقد تُوفى فى سنة (249هـ=863م).

أبو محمد زيادة الله الثانى [249هـ=863م]:

تولى «أبو محمد» خلفًا لأخيه «أبى إبراهيم أحمد» ، ولم يستمر فى

منصبه سوى عام واحد، ثم تُوفى فى سنة (250هـ=864م).

أبو عبد الله محمد بن أحمد [250هـ=864م]:

خلف عمه «أبا محمد زيادة» فى الإمارة فى سنة (250هـ=864م). وقد

اشتهر «أبو عبدالله» بأبى الغرانيق؛ لولعه بصيد «الغرانيق» ، وبنى

لذلك قصرًا كبيرًا، أنفق عليه أموالا كثيرةً، كما شاد الحصون

والمحارس الكثيرة على سواحل البحر المتوسط وتوفى «أبو

الغرانيق» فى سنة (261هـ).

إبراهيم بن أحمد [261هـ=875م]:

ولى أمور الحكم عقب وفاة أخيه «أبى الغرانيق» فى سنة

(261هـ=875م)، وامتد عهده أكثر من ثمانية وعشرين عامًا؛ ظهر

خلالها «أبو عبدالله الشيعى» ، الذى استقطب إلى دعوته الشيعية

عددًا من القبائل، وقد اختلف المؤرخون فى تقييم شخصية «إبراهيم

ص: 31

بن أحمد»، فذكر بعضهم أن عهده كان عهد استقرار وهدوء، وإقرار

للعدل، وتأمين للسبل، فضلا عن قيامه بإتمام بناء المسجد بتونس،

وبناء الحصون والمحارس على سواحل البحر، يضاف إلى ذلك

تأسيسه مدينة «رقادة» ، وبناؤه جامعًا بها، فى حين يصفه «ابن

خلدون» بقوله: «وذكر أنه كان جائرًا، ظلومًا ويُؤخذ أنه أسرف فى

معاقبة المعارضين له بالقتل والتدمير، لكنه حاول فى أخريات أيامه

إصلاح ما أفسده، وبخاصة بعد ظهور داعية الشيعة «أبى عبدالله»

وانضمام كثير من الناس إلى دعوته، فأسقط المغارم، ورفع المظالم

عن طبقات الشعب الكادحة، كما تجاوز عن ضريبة سنة بالنسبة إلى

أهل الضياع، ووزع الأموال على الفقراء والمحتاجين، وختم حياته

بالجهاد فى «صقلية» ، حيث مرض أثناء حصاره لإحدى المدن، ومات

ليُحمل ويدفن فى مدينة «بلرم» فى سنة (289هـ=902م)، وذكر «ابن

الأثير» أنه حُمل فى تابوت ودفن بالقيروان.

أبو العباس عبدالله بن إبراهيم [289هـ=902م]:

تولى الإمارة فى سنة (289هـ=902م)، ولم يستمر بها سوى عام

ونصف العام، حيثُ قُتل على يد ابنه «زيادة الله» ، وكانت فترة حكمه

امتدادًا لسياسة والده «إبراهيم بن أحمد» فى الحكم، فبدأت عوامل

الضعف والوهن تدب فى أوصال دولة الأغالبة.

زيادة الله بن أبى العباس عبدالله [290هـ=903م]:

تولى «زيادة» الحكم عقب مقتل أبيه، وانتهج سياسة أبيه وجده،

وتتبع أفراد أسرته بالقتل، فى الوقت الذى نشط فيه «أبو عبدالله

الشيعى» وأحرز الانتصارات تلو الأخرى، واستولى على كثير من

المدن الأغلبية، ولم تفلح جيوش «زيادة» فى صده أو إيقاف زحفه،

فوجد «زيادة» نفسه عاجزًا عن الحفاظ على ملك آبائه وأجداده،

فآثر الهرب إلى «مصر» ، وحمل معه كل ما استطاع حمله من مال

وعتاد، ورحل من «رقادة» فى (26من جمادى الآخرة عام 296هـ=

مارس 909م)، فباتت المدينة سهلة المنال «لأبى عبدالله الشيعى» ،

فبعث «عروبة بن يوسف» أحد قادته للاستيلاء عليها، فدخلها دون

ص: 32

قتال، وطويت بذلك صفحة «الأغالبة» .

ص: 33

الفصل الرابع

*الدولة الرستمية

[161 - 296هـ = 778 - 909م]:

عبدالرحمن بن رستم [162هـ=779م]:

بويع «عبدالرحمن» ليكون أول إمام للدولة الإباضية الناشئة فى ربوع

«المغرب الأوسط» ، وقد كان أحد طلاب العلم، ودرس على يد «أبى

عبيدة مسلم ابن أبى كريمة»، فلما أتم تعليمه عمل على نشر

«المذهب الإباضى» ودعمه، ثم عينه «أبو الخطاب» نائبًا له على

«مدينة القيروان» ، فاكتسب الخبرة الإدارية، وعرف طبائع الناس

وظروفهم، ولم يدخر جهدًا فى محاربة الولاة العباسيين، وجَمْع شمل

«الإباضية» ، خاصة بعد مقتل «أبى الخطاب» .

كان «عبدالرحمن» رجلاً زاهدًا، وذا صبر على الشدائد، وملتزمًا بكتاب

الله وسنة نبيه، واشترط على الناس حين وقع اختيارهم عليه للإمامة

أن يسمعوا له ويطيعوا ما لم يحد عن الحق، ثم اختط مدينة «تهيرت» ،

ودخل فى طاعته العديد من القبائل مثل: «لماية» ، و «سدرانة» ،

و «مزاتة» ، و «لواتة» ، و «مكناسة» ، و «غمارة» ، و «أزداجة» ،

و «هوارة» ، و «نفوسة» ، وقد افترشت هذه القبائل مساحات واسعة،

امتدت من «تلمسان» غربًا حتى «طرابلس» شرقًا.

ومضى «عبدالرحمن» فى حكم البلاد بالعدل، منتهجًا سياسة شرعية

فى إدارتها، مما أشاع الاستقرار والأمن بين الناس، فلما شعر بدنو

أجله اختار مجلسًا للشورى، ليُختار من بين أفراده مَن يصلح للإمامة

من بعده، واختار ابنه «عبدالوهاب» ضمن أفراد هذا المجلس، ثم مات

فى سنة (168هـ= 784م).

عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم [168هـ=784م]:

اختاره مجلس الشورى ليكون خلفًا لأبيه فى الإمامة، واتسم عهده

ببعض الاضطرابات والقلاقل، وواجه العديد من الثورات التى اتخذ

بعضها طابعًا مذهبيا، وبعضها الآخر طابعًا قبليا، فأثَّرت إلى حد

بعيد على «الدولة الرستمية» ، وعلى رمزها الدينى المتمثل فى

الإمام. ومات «عبد الوهاب» فى سنة (198هـ=814م).

أفلح بن عبدالوهاب [198هـ= 814م]:

بويع الإمام «أفلح» خلفًا لأبيه، وكان ذا صفات طيبة، وجاءت مبايعته

ص: 34

على عكس ما نهجه الخوارج فى تعيين الإمام، إذ اختاره أبوه للإمامة

قبل وفاته، وربما يرجع ذلك إلى طبيعة الظروف التى ألمت بالبلاد،

حيث أحاط الأعداء بمدينة «تهيرت» ، وكان لابد من اختيار رجل شجاع

يتمكن من مواجهة الأعداء.

وقد اتسم عهد «أفلح» بالهدوء والاستقرار، وبلغت الدولة فى عهده

أوج ازدهارها، ونشطت التجارة، وأقبل الناس من كل مكان قاصدين

العاصمة «تهيرت» ، وتُوفِّى الإمام «أفلح» فى سنة (240هـ)، إثر

حزنه الشديد على وقوع ابنه «أبى اليقظان» فى أيدى العباسيين.

أبو بكر بن أفلح بن عبدالوهاب [240هـ=854م]:

كان «أبو اليقظان» مرشحًا لمنصب الإمامة، ولكن وقوعه فى أيدى

العباسيين حال دون ذلك، وتولاها أخوه «أبو بكر» الذى لم يكن فى

شدة آبائه وأجداده وحزمهم، فضلا عن انغماسه فى الترف والنعيم

وميله إلى الراحة، وقد تفرغ لراحته وملذاته حين خرج أخوه «أبو

اليقظان» من سجن العباسيين وشاركه الحكم، ولكن «أبا بكر» دبر

مقتل «محمد بن عرفة» وهو من الشخصيات البارزة بالعاصمة،

ليتخلص من نفوذه، فكان ذلك سببًا فى نشوب الصراع بين طوائف

الدولة الرستمية، وحاولت كل طائفة تحقيق أهدافها من خلال المعارك

الطاحنة، التى أسفرت عن هزيمة حكام البيت الرستمى، واعتزال

«أبى بكر» منصب الإمامة.

أبو اليقظان محمد بن أفلح بن عبدالوهاب [268هـ= 881م]:

شهدت العاصمة «تهيرت» فترة من القلاقل والاضطرابات، ثم نجح

«أبو اليقظان» فى تهدئة الأوضاع ودخول العاصمة «تهيرت» فى

سنة (268هـ=881م)، فتولى منصب الإمامة، وتجنب سياسة التعصب

وتفضيل قبيلة بعينها على غيرها، وجلس لبحث شكاوى رعاياه

والبت فيها بنفسه، واستعان بمجلس الشورى الذى ضم إليه شيوخ

القبائل ووجهاءها، فاستقرت الأوضاع، وهدأت النفوس، وظل «أبو

اليقظان» يدير دفة الأمور فى دولته حتى وفاته فى سنة

(281هـ=894م).

أبو حاتم يوسف بن محمد [281هـ=894م]:

ص: 35

تولى «أبو حاتم» الإمامة عقب وفاة والده «أبى اليقظان» ، لأن أخاه

الأكبر «يقظان» كان غائبًا فى موسم الحج، وقد لعب العامة -بزعامة

«محمد بن رباح» و «محمد بن حماد» المعروفين بالشجاعة والنجدة-

دورًا بارزًا فى المطالبة ببيعة «أبى حاتم» بالإمامة لسخائه وكرمه،

ولكن هذا الدور الذى لعبه العامة أطمعهم فى التدخل فى شئون

الحكم وتحقيق المكاسب، فرفض «أبو حاتم» ذلك وضرب على أيديهم

وطردهم من المدينة، فعمدوا إلى تأليب القبائل ضده، ونجحوا فى

طرده من العاصمة «تهيرت» ، وبايعوا عمه «يعقوب بن أفلح»

بالإمامة، فصار هناك إمامان من بيت واحد، يقفان وجهًا لوجه فى

صراعٍ دامٍ على السلطة، ولكن أحدهما لم يحقق نجاحًا ملموسًا على

الآخر، فاحتكما وعقدا هدنة، وعاد «أبو حاتم» إلى العاصمة إمامًا

على البلاد، وانسحب عمه «يعقوب» بعد أن حكم العاصمة «أربع

سنوات».

وقد حاول «أبو حاتم» إصلاح ما أفسدته الحروب داخل العاصمة

«تهيرت» ، وكوَّن مجلسًا استشاريًا من زعماء القبائل ومشايخها

للاستعانة بهم فى إدارة البلاد، ولكن محاولاته الإصلاحية كانت

بمثابة صحوة الموت للبيت الرستمى، خاصة بعد أن ضعفت قوتهم

العسكرية فى محاولة لإنهاء الصراع الذى وقع حول مدينة

«طرابلس» . وقد تآمر أفراد البيت الرستمى أنفسهم على حياة إمامهم

«أبى حاتم» ، وقتلوه فى سنة (294هـ=907م).

اليقظان بن أبى اليقظان [294هـ=907م]:

بويع بالإمامة عقب مقتل أخيه فى سنة (294هـ=907م)، واتسم عهده

بالفتن والقلاقل، وتطلع مختلف القبائل والطوائف إلى الاستئثار

بالحكم، كما دبرت المؤامرات من داخل البيت الرستمى على يد

«دوسر» ابنة «أبى حاتم» ، وتكاتفت فرق الخوارج مثل:«المالكية»

و «الواصلية» و «الشيعة» لإحباك الفتن والمؤامرات للإطاحة بالإمام،

وقد نجح «اليقظان» إلى حد بعيد فى كبح جماح هذه الطوائف والحد

من نشاطها، فهربت «دوسر» ، ولجأت إلى «أبى عبدالله الشيعى»

ص: 36

الذى نجح فى بسط نفوذه على مساحات كبيرة من أرض «المغرب» ،

واستنجدت به للثأر لأبيها، فاستجاب لها، واتجه إلى «تهيرت» ،

فخرجت لمقابلته وجوه أهل «تهيرت» ورحبوا بمقدمه، واستسلم

«اليقظان» لمصيره، وخرج مع بنيه إلى «أبى عبدالله» ، فأمر بقتلهم

ودخل العاصمة فى سنة (297هـ= 910م)، واستولى على ما بها من

أموال ومغانم، فطويت صفحة «الدولة الرستمية» .

ص: 37

الفصل الخامس

*دولة الأدارسة

[172 - 300هـ = 788 - 913م]:

إدريس بن عبدالله (172هـ= 788م):

اضطهد العباسيون منذ اللحظة الأولى لقيام دولتهم أبناء عمومتهم من

العلويين، وأسرف بعض الخلفاء العباسيين فى ذلك، فأسفر الأمر عن

قيام عدة ثورات، كانت آخرها ثورة «الحسين بن على بن الحسن بن

الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب» على والى «المدينة» فى

سنة (169هـ=785م)، ولكن العباسيين استطاعوا قمعها، وقتلوا

زعيمها ومجموعة من أهل بيته.

وكان «إدريس بن عبدالله» ومولاه «راشد» ممن فرَّ من أرض المعركة،

واتجها إلى «مصر» ، ومنها إلى «المغرب الأقصى» ، ونزلا مدينة

«وليلى» عاصمة هذا الإقليم، ثم توجها إلى أميرها وزعيمها

«إسحاق بن محمد بن عبدالحميد الأوربى» ، زعيم قبيلة «أوربة» التى

فرضت نفوذها وسيطرتها على مدينة «وليلى» وما حولها، وعرفه

«إدريس» بنفسه، وأعلمه بسبب فراره من موطنه «الحجاز» ، ولجوئه

إلى بلاده، فرحب به «إسحاق» وآمن بدعوته، وبايعه بالإمامة،

وكذلك بايعته قبيلته «أوربة» ، ومعها بقية القبائل فى رمضان سنة

(172هـ=788م)، ومن ثَم نجح «إدريس» فى تأسيس دولة حملت اسمه

بالمغرب الأقصى.

لكن ذلك أقلق الخلافة العباسية، خاصة بعد أن مدَّ «إدريس» نفوذه

إلى مدينة «تلمسان» بالمغرب الأوسط.

عمد الخليفة العباسى «الرشيد» إلى الحيلة للقضاء على نفوذ

«الأدارسة» ، فقيل إنه بعث برجل يدعى «الشماخ» إلى «إدريس» ،

فتظاهر بحبه لآل البيت، وفراره من بطش العباسيين، ولازم «إدريس»

فترة ثم اغتاله حين سنحت له الفرصة، وهكذا نجحت الخلافة العباسية

فى التخلص من «إدريس» أبرز المناوئين لها، وفقدت «دولة الأدارسة»

مؤسسها فى سنة (175هـ=791م) بعد ثلاث سنوات ونصف فقط من

قيامها.

إدريس بن إدريس بن عبد الله: [175 - 213هـ = 791 - 828م]:

بات مقعد الإمامة شاغرًا عقب اغتيال «إدريس» ، والتف البربر حول

مولاه «راشد» ، وانتظروا مولود «كنزة» جارية «إدريس بن عبدالله» ،

ص: 38

فلما وضعت حملها أسموه «إدريس» تبركًا باسم والده، وتعهده

«راشد» بالتربية والرعاية، ونشَّأه تنشأة دينية، حتى إذا بلغ الحادية

عشرة من عمره أقبلت القبائل على مبايعته بالإمامة، فدعا ذلك

الخلافة العباسية إلى التحرك ثانية للقضاء على هذه الدولة، وأوكلت

هذه المهمة إلى والى «المغرب الأدنى» «إبراهيم بن الأغلب» الذى

نجح فى استمالة مجموعة من البربر بأمواله وهداياه، ثم أوكل إليهم

مهمة قتل «راشد» ، فقاموا بتنفيذها فى سنة (186هـ= 802م)، لكن

«الدولة الإدريسية» واصلت مسيرتها، وانتقلت كفالة «إدريس»

والوصاية عليه إلى «أبى خالد بن يزيد بن إلياس العبدى» ، وجُدِّدت له

البيعة فى سنة (188هـ= 804م)، حين بلغ الثالثة عشرة من عمره،

وأصبح فى سن تؤهله لخلع الوصاية، وإدارة البلاد، وعزز مركزه

إقبال الوفود العربية من «القيروان» و «الأندلس» للعيش فى كنف

دولته فرارًا من بطش الحكام، فدعم بهم نفوذه، واتخذ منهم الوزراء

والكتاب والقضاة، وجعلهم بطانته وحاشيته، وقد شجعه هؤلاء على

بناء عاصمة جديدة لدولته، فبنى مدينة «فاس» ، ثم استقر بها.

وفى سنة (197هـ= 813م) خرج «إدريس الثانى» على رأس قواته

لإخضاع «قبائل المصامدة» التى هددت أمن بلاده، ونجح فى ذلك

نجاحًا كبيرًا، وامتد نشاطه حتى منطقة «السوس الأقصى» ، ودخل

مدينة «نفيس» ثم عاد إلى عاصمته «فاس» ، وخرج فى العام التالى

صوب الشرق لتأمين حدود دولته، ودخل مدينة «تلمسان» ، وأقام بها

ثلاث سنوات، يرتب أمورها، ويرمم مسجدها، ثم عاد إلى «فاس» فى

سنة (201هـ)، وظل فى الحكم حتى وافته المنية فى سنة

(213هـ=828م).

محمد بن إدريس بن إدريس (213 - 234هـ= 828 - 848م):

تولى «محمد» أكبر أبناء «إدريس الثانى» الإمامة فى سنة

(213هـ=828م)، فنفذ وصية جدته «كنزة» بتقسيم أقاليم الدولة بين

إخوته، فكان لذلك أثره السيئ على وحدة دولة «الأدارسة» ، ولما

يمضِ على قيامها أربعون سنة بعد، وطمع كل أخٍ فى الاستقلال

ص: 39

بإقليمه، وشقََّ عصا الطاعة على السلطة المركزية. ولكن «محمد بن

إدريس» تصدى لإخوته وضم ممتلكات أخويه «عيسى» و «القاسم»

بعد هزيمتهما إلى أخيه «عمر» .

ولم تشهد البلاد بعد هذا التقسيم استقرارًا إلا فى بعض الفترات مثل:

عهد «يحيى بن محمد» الذى تولى الإمامة فى سنة (234هـ=848م)،

فازدهرت فى عهده مدينة «فاس» وشهدت تطورًا ملحوظًا فى

أنشطتها، ثم عهد «يحيى بن إدريس بن عمر بن إدريس» عام (292هـ=

905م)، الذى وصفه المؤرخون بأنه كان أعظم ملوك «الأدارسة» قوة

وسلطانًا وصلاحًا وورعًا وفقهًا ودينًا، وقد ظل بالحكم حتى سنة

(305هـ = 917م) حتى طرق «مصالة بن حيوس» أبواب مدن «المغرب

الأقصى»، فأطاعه «يحيى بن إدريس» ، وبايع «أبا عبيد الله

المهدى»، فدخلت دولة «الأدارسة» منذ ذلك الحين فى طور التبعية

للفاطميين تارة، وللحكم الأموى بالأندلس تارة أخرى.

ص: 40

الفصل السادس

*دولة بنى مدرار فى سجلماسة

[122 - 354 هـ = 740 - 965م]:

ساهمت الظروف السياسية التى مر بها إقليم «المغرب» عقب نجاح

الثورة التى قادها «ميسرة المضفرى الصفرى» ضد الدولة الأموية

فى سنة (122هـ=740م) فى استقلال «المغرب الأقصى» وانفصاله عن

الحكم الأموى، فأسهم ذلك -إلى جانب اضطراب الأوضاع فى إقليمى

«المغرب الأوسط» و «الأدنى» - فى قيام تجمع مذهبى فى جنوب

«المغرب الأقصى» ؛ هو تجمع «الصفريين» الذين وجدوا بمنطقة

«سجلماسة» المجال المناسب لإقامتهم، ثم أسسوا مدينة تحمل اسم

المنطقة، لتكون نواة لدولة صفرية، وبايعوا «عيسى بن يزيد بن

الأسود» إمامًا لهم، وسانده «أبو القاسم سمكو» زعيم قبيلة

«مكناسة» بمبايعة قبيلته له، ولكن جماعة «الصفرية» - بعد خمس

عشرة سنة- أخذوا عليه بعض المآخذ، وأنكروا عليه بعض الأمور،

وقتلوه فى سنة (155هـ= 772م)، وقد تولى «أبو القاسم بن سمنون

بن واسول المكناسى بن مدرار» الحكم خلفًا لعيسى، وجعل الحكم

متوارثا فى أفراد «الأسرة المدرارية» حتى سقوط المدينة فى أيدى

الفاطميين، وقد توالى الأئمة بعد وفاة «مدرار» ، حتى جاءت سنة

(174هـ= 790م) فتولى «اليسع بن أبى القاسم» الملقب بأبى منصور

شئون الحكم، وظل فى مقعد الإمامة حتى سنة (208هـ=823م)،

وشهدت المدينة فى عهده ازدهارًا اقتصاديا، ونفوذًا سياسيا كبيرًا،

لذا يعد «اليسع» المؤسس الحقيقى لدولة «بنى واسول» المعروفة

بدولة «بنى مدرار» ، وامتد نجاح «اليسع» إلى تعمير العاصمة

«سجلماسة» ، فشهدت فى عهده تطورًا واتساعًا، ومات «اليسع»

فى سنة (208هـ= 823م).

وتولى «مدرار» خلفًا لوالده فى سنة (208هـ= 823م)، ولقب نفسه

بالمنتصر، وظل بالحكم حتى سنة (223هـ=838م)، ونشب النزاع- خلال

هذه الفترة - بين أبناء «مدرار» ، مما أضعف نفوذهم، وفكَّكَ وحدة

بيتهم.

وخلفه «محمد بن ميمون بن مدرار» ، ووافاه أجله فى سنة (270هـ=

883م)، فتولى من بعده عمه «اليسع بن مدرار» ، ودخل «عبيدالله

ص: 41

المهدى» وابنه «القاسم» إلى «سجلماسة» فى عهده، فلما اكتشف

حقيقة أمرهما، قبض عليهما، وأودعهما السجن، فظلا به حتى أقبل

«أبو عبدالله الشيعى» على رأس قواته وخلصهما، ثم استولى على

المدينة فى سنة (296هـ=909م)، وحاول بعض أفراد البيت المدرارى

استرداد مدينتهم واستعادة حكمهم من قبضة الفاطميين، وقد حققوا

نجاحًا نسبيا فى ذلك، ولكن «جوهر الصقلى» تمكن من القضاء على

مُلكهم فى سنة (347هـ=958م)، وقبض على «الشاكر بالله» آخر

أمرائهم، وأودعه سجن مدينة «رقادة» ، فمات به فى سنة (354هـ=

965م). وطويت صفحة التاريخ السياسى لمدينة «سجلماسة» فى

القرن الثالث الهجرى.

ص: 42

الفصل السابع

*العلاقات الخارجية والأوضاع الحضارية للدول الأربعة

شهد المسرح الجغرافى لمنطقة «المغرب» فى الفترة من سنة (140هـ

=757م) إلى سنة (296هـ= 909م) قيام أربع دول على أرضه هى:

«دولة الأغالبة» بالمغرب الأدنى [184 - 296هـ= 800 - 909م)، و «الدولة

الرستمية» بالمغرب الأوسط (160 - 296هـ= 777 - 909م)، و «دولة

الأدارسة» بالمغرب الأقصى (172 - 300هـ = 788 - 912م)، و «دولة

بنى مدرار» بجنوب «المغرب الأقصى» (140 - 296هـ = 757 - 909م).

وقد سبقت الإشارة إلى أن تولية «إبراهيم بن الأغلب» إدارة «المغرب

الأدنى»، واستقلاله بها عن سلطة الخلافة، وتوريثه حكمها لأبنائه من

بعده؛ قد غيرت فى الوضع السياسى للمنطقة، إلا أن ذلك لم يمنع

الأمراء الأغالبة من استمداد سلطانهم مباشرة من الخليفة، والخطبة له

على المنابر، وكان كل خليفة جديد يجدد البيعة للأمير الأغلبى، كما

كان الأمير يجدد البيعة بدوره للخليفة، ويحلف له يمين الولاء

والإخلاص، ومعنى ذلك أنهم كانوا يستمدون شرعية حكمهم من

بيعتهم للخلافة، ومبايعتها لهم.

ولم يمنع استقلال الأغالبة بالمغرب الأدنى من تدخل الخلافة أحيانًا

فى بعض شئونهم، مثلما فعل الخليفة المعتضد مع «إبراهيم الثانى

بن أحمد» حين استبد بالرعية، وأنزل عقوبات غاشمة بثوار «تونس»

فى سنة (283هـ= 896م)، حيث عنفه الخليفة، وهدده بالخلع.

وهكذا حرص «الأغالبة» على إظهار ولائهم وارتباطهم بالخلافة

العباسية فى بغداد، وكانت انتصاراتهم تصل إلى بغداد أولا بأول،

وكان للخليفة نصيبه من المغانم والسبى فى بعض الأحيان، فضلا عن

الهدايا التى حرص الأمراء الأغالبة على إرسالها إلى الخلافة ببغداد.

أما «الدولة الرستمية» بالمغرب الأوسط، فكانت على خلاف مع

الخلافة العباسية؛ حيث عد العباسيون «إقليم المغرب» تابعًا لدولتهم

بعد سقوط «الدولة الأموية» ، وعدوا الرستميين مقتطعين لجزء من

ص: 43

الدولة العباسية؛ فنظروا إليهم نظرة عداء؛ كان لها أثر فى العلاقة

بينهما، فضلا عما بينهم من اختلافات مذهبية؛ حيث كان مذهب

العباسيين الرسمى هو مذهب أهل السنة، على حين اتخذ الرستميون

المذهب الإباضى مذهبًا رسميا لدولتهم.

وقد سبق قيام الدولة الرستمية عدة معارك بين جموع الإباضية وجنود

الخلافة؛ أسفرت عن مقتل «أبى الخطاب» زعيم الإباضية، وانتقال

«عبدالرحمن ابن رستم» نائب أبى الخطاب على القيروان إلى قبيلة

«لماية» التى ناصرته وساندته حتى بويع بالإمامة.

وتنوعت العلاقات بين الرستميين والعباسيين، فتارة تكون هادئة

مستقرة، كما حدث فى عهد «عبدالرحمن بن رستم» وابنه

«عبدالوهاب» ، وتارة يشوبها التوتر والعداء كما حدث فى عهد

«أفلح بن عبدالوهاب» ؛ حيث احتوت الخلافة الخارجين عليه، ورحبت

بهم فى «بغداد» ، ثم بلغت العلاقة بينهما قمة العداء حين قبض

الخليفة «الواثق» على «أبى اليقظان محمد ابن أفلح» ، وأودعه

السجن، وهو فى طريقه لأداء فريضة الحج، ولكن الأوضاع تحسنت

بينهما ثانية بعد أن أطلق الخليفة «المتوكل» سراح «أبى اليقظان»

وأكرمه، وسمح له بالعودة إلى بلاده.

وأما «دولة الأدارسة» فقد اتسمت علاقتها بالدولة العباسية بالعداء؛

حيث شكل قيام الأدارسة بالمغرب الأقصى خطرًا على ممتلكات الدولة

العباسية بالمغرب الأدنى (إفريقية)، وزادت خطورة «الأدارسة» بعد

أن أخضع «إدريس ابن عبدالله» «تلمسان» إلى سلطانه، وبنى بها

مسجدًا، ومعنى ذلك أنه تطلع إلى فصل «المغرب» عن بقية العالم

الإسلامى، وتوحيده تحت قيادته.

وقد استعانت الدولة العباسية بإبراهيم بن الأغلب والى إفريقية

للقضاء على «دولة الأدارسة» بالمغرب الأقصى لكنها لم تنجح فى

ذلك.

وقد وقفت «دولة بنى مدرار» موقفًا وسطًا بين القوى المتصارعة

بالمغرب، ولم تتخذ موقفًا عدائيا من الخلافة العباسية، بل اعترف

«المدراريون» بسلطان الخلافة وعملوا على مداراة «الأغالبة» ،

ص: 44

وتوثيق صلتهم بالرستميين، على الرغم من الاختلافات المذهبية بينهم.

ولم تنجح «سجلماسة» رغم اعتصامها بصحراء المغرب

الجنوبية، وموازنة سياستها مع «تهيرت» و «القيروان» ، فى النجاة

مما آلت إليه على أيدى الفاطميين.

الأوضاع الحضارية:

شهدت منطقة «المغرب» خلال القرنين الثانى والثالث الهجريين قيام

عدة عواصم رئيسية هى: «القيروان» ، و «تهيرت» ، و «فاس» ،

و «سجلماسة» ، وقد لعبت هذه العواصم دورًا بارزًا ورئيسيا فى

مضمار الحضارة بالمنطقة على النحو الآتى:

أ - القيروان:

بناها «عقبة بن نافع» وأطلق عليها «القيروان» ومعناها فى

العربية: موضع اجتماع الناس والجيش، وقد شهدت هذه المدينة تطورًا

كبيرًا فى ظل «الأغالبة» ، واستمرت عمليات البناء والتعمير على

أيديهم بها، وباتت مقر الولاة ومركز الحكم، وظلت محتفظة بمنزلتها

ومكانتها لدى «الأغالبة» ، على الرغم من اتخاذهم عواصم جديدة

كالعباسة و «رقادة» .

وقد تميزت هذه المدينة بالهدوء والاستقرار فى عهد «الأغالبة» ،

على الرغم من الثورات المتعددة التى اندلعت هنا وهناك بالمنطقة،

وقد ساعد هذا الاستقرار على إيجاد نوع من التعاون بين فئات

الشعب على اختلاف أصولهم؛ حيث كان هناك العرب الذين مثلوا

الطبقة الحاكمة، وعاشوا بالقيروان منذ تأسيسها، فاكتسبوا مكانة

خاصة، واشتغلوا بالتجارة وغيرها، وعاش إلى جوارهم سكان البلاد

الأصليون من «البربر» ، واختلطوا بهم، وعملوا بالزراعة والتجارة،

فضلا عن الأفارقة؛ وهم بقايا المسيحيين البيزنطيين واليهود، وقد

عاشوا يمارسون حياتهم فى ظل الحكم الأغلبى.

وقد شهدت «القيروان» ازدهارًا اقتصادياًّ كبيرًا، تمثل فى علاقاتها

المتعددة مع مَن حولها من المدن المغربية، وقصدتها القوافل التجارية

من كل أنحاء «المغرب» ، كما خرجت منها القوافل قاصدة المدن

الأخرى، فانعكس هذا الرواج على أمراء البلاد وعامة الشعب.

ب - تهيرت:

جاء تخطيط هذه المدينة وبناؤها فى سنة (161هـ= 778م)، تلبية

ص: 45

لاحتياجات جموع «الإباضية» التى استقرت بالمغرب الأوسط، وقد

توافرت لهذه المدينة أسباب الأمن والحماية؛ فهى منطقة داخلية

يتخللها نهران هما: «نهر مينة» الذى يجرى فى جنوبها مارا

بالبطحاء، ونهر آخر بشرقها يجرى من «عيون تاتش» ، ومنه شرب

أهلها، ورووا بساتينهم وزراعاتهم، فتمتعت بالمراعى الواسعة،

والأراضى الزراعية المتنوعة، التى أسهمت فى ازدهار اقتصادها،

ورخاء أهلها الذين قامت على أكتافهم «الدولة الرستمية» ؛ لأنهم من

القبائل التى كانت تدين بالمذهب الإباضى فى هذه المنطقة.

ولاشك أن وقوع العاصمة الرستمية «تهيرت» وسط معاقل «الإباضية»

المؤيدين لها ولمذهبها، كان له أكبر الأثر فى حمايتها واستقرارها،

ومنحها الفرصة كاملة لأداء دورها السياسى والحضارى بالمنطقة،

وانفرادها بحكم نفسها فى ظل زعامة إباضية، بعد أن تخلصت من

سيطرة الأمويين، ثم العباسيين من بعدهم.

وقد أحيطت المدينة بسور عظيم تتخلله مجموعة من الأبواب، لحمايتها

من هجمات أعدائها، وأنشئت بالقرب منها عدة حصون دفاعية، فضلا

عما أنشىء بداخلها من مساجد ودور وقصور، وأسواق عامرة،

حفلت بها، حيث إنها كانت ملتقى القوافل التجارية القادمة من جنوب

الصحراء، والمتجهة إليها، كما كانت ملتقى تجار الشرق والغرب،

وقد وفرت لها مراعيها الشاسعة ثروة حيوانية كبيرة؛ فضلا عن

الصناعة التى قامت بها على بعض المعادن التى استُخرجت من

باطنها، فأحدث ذلك كله رواجًا اقتصاديا، وانتعاشًا انعكست آثاره

على رفاهية السكان.

ج - فاس:

هى عاصمة «دولة الأدارسة» ، وقد بدأ «الإمام إدريس» بناءها على

الجانب الشرقى لنهر «فاس» فى سنة (192هـ= 808م)، لازدحام

العاصمة القديمة «وليلى» بالوفود العربية التى قدمت من «القيروان»

و «الأندلس» ، فضلا عن خوف «إدريس» من نوايا بعض جموع البربر

المحيطين به، وكان اختيار هذا المكان عاصمة لدولتهم صائبًا؛ فهو

فسيح تحيط به الأشجار والحشائش، وتنفجر المياه فيه من عيون

ص: 46

«نهر سبو» وروافده، وقد دعا الإمام «إدريس» - حين وضع أساس

هذه المدينة - بقوله: اللهم اجعلها دار علم وفقه، يتلى فيها كتاب الله،

وتقام بها حدوده، وأن يُجعل أهلها متمسكين دائمًا بكتاب الله.

وقد قُسِّمت المدينة إلى قسمين هما: عدوة الأندلسيين، وعدوة

القرويين، واتخذت قبائل البربر مواضعها كما أقام الوافدون، فى

أماكن حددت لهم، وهكذا استطاع الأدارسة تدعيم سلطتهم بالمغرب

الأقصى، وباتت لمدينة «فاس» آثارها الدينية والاقتصادية بالمنطقة،

بعد أن حُرمت منها منذ انقضاء عهد «الرومان» ، ومازالت هذه المدينة

تحتفظ بآثارها الحضارية - حتى الآن - على عكس «تهيرت»

و «سجلماسة» اللتين فقدتا ازدهارهما منذ أمد بعيد.

د - سجلماسة:

رأى «الصفريون» أن تكون لهم مدينة، بعد أن ازداد عددهم بالمغرب

الأقصى، تصبح نواة لدولة صفرية مستقلة بجنوب «المغرب الأقصى» ،

فوقع اختيار «أبى القاسم سمكو بن واسول المكناسى» على منطقة

«سجلماسة» ، التى كانت نقطة التقاء البربر المقيمين بها وحولها،

لتبادل السلع والبضائع.

وقد نجح المؤسسون لهذه المدينة فى اختيار البقعة المناسبة لها؛ إذ

تقع فى منطقة «تافللت» على طرف الصحراء، وبينها وبين جنوب

مدينة «فاس» مسيرة عشرة أيام، ومعنى ذلك أنها تقع فى منطقة

نائية، فأعطاها هذا البعد سياج أمن وأمان لها ولساكنيها.

وبدأ تخطيط «سجلماسة» فى سنة (140هـ=757م)، بصورة بسيطة،

حيث أسس «الصفريون» بها حصنًا فى وسط الساحة، سموه

«العسكر» ، ثم أسسوا المسجد الجامع، ودار الإمارة، وشرع الناس

بعد ذلك فى إقامة دورهم، وقد ساهمت طوائف البربر من قبائل

«مكناسة» و «صنهاجة» و «زناتة» فى تأسيس هذه المدينة

وتعميرها، ثم تطورت بعد ذلك واتسعت، وأحيطت فى عهد «اليسع

بن مدرار» (208هـ= 823م) بسور كبير لحمايتها. وقد وصفها «ابن

حوقل» بقوله: «كانت القوافل تجتاز المغرب إلى سجلماسة، وسكنها

ص: 47

أهل العراق، وتجار البصرة والكوفة والبغداديون الذين كانوا

يقطعون الطريق؛ فهم وأولادهم وتجاراتهم دائرة، ومفرداتهم دائمة،

وقوافلهم غير منقطعة إلى أرباح عظيمة وفوائد جسيمة ونعم

سابغة، قلَّ ما يدانيها فى بلاد الإسلام سعة حال».

ولقد تضافرت جهود القادة والولاة والدعاة فى القرن الأول الهجرى

على نشر الإسلام بين سكان «المغرب» ، فأقبل البربر على اعتناقه،

وتعلمه وتفهمه دون الانخراط فى فرقة بعينها، أو الانضمام إلى

مذهب محدد، وكان الكتاب والسنة هما مصدر التشريع الأوحد فى

هذه المنطقة، فلما أقبل القرن الثانى الهجرى، تطورت مسيرة

الإسلام، نظرًا للتغيرات السياسية والمذهبية التى عاشتها «بلاد

المغرب»؛ حيث وضحت تيارات المذاهب، وتحددت ملامح الفرق، ومثل

المذهب المالكى والمذهب الحنفى القاعدة الشعبية العريضة لسكان

«المغرب» ، وباتت «القيروان» مركز أهل السنة من المالكية، وظهرت

بها مجموعة من العلماء أمثال: «البهلول بن راشد» و «رباح بن يزيد» ،

و «عبدالله بن فروخ» ، و «ابن غانم الرعيثى» ، و «أسد بن الفرات» ،

وغيرهم، ومن ثم انتشر هذا المذهب عن طريقهم إلى بقية المدن

المغربية، بعد أن أرسوا قواعده بها.

وشاركت مدينة «فاس» التى أسسها «الأدارسة» أختها «القيروان»

فى الأخذ بهذا المذهب عن طريق الهجرات العربية الوافدة إليها عبر

المضيق من «الأندلس» ، ثم انتشر هذا المذهب فى كل من:«تلمسان»

و «تونس» و «سوسة» و «صفاقس» ، وغيرها من المدن المغربية.

ولقد شهد «المغرب» التيار الخارجى بشقيه «الصفرى» و «الإباضى»

فى العقد الثالث من القرن الثانى الهجرى، ونجح «الصفرية» فى

تأسيس «سجلماسة» فى سنة (140هـ)، كما نجح «الإباضية» فى

تأسيس «تهيرت» فى سنة (161هـ= 778م)، واعتنقت القبائل البربرية

مذهبيهما، وقامت على أكتافهم دولتاهما.

ثم وجد الشيعة والمعتزلة والمرجئة طريقهم إلى هذه البلاد، إلا أن

ص: 48

صَوْتَى «المعتزلة» و «المرجئة» كانا خافتين، ولم يجدا صدىً يُذكر

لأفكارهما ودعوتيهما.

وتجدر الإشارة إلى أن المذهب المالكى قد لعب دورًا كبيرًا فى حياة

سكان «بلاد المغرب» السياسية والحضارية منذ القرن الثانى الهجرى

حتى وقتنا الحاضر، وصار الإمام مالك هو القدوة والمثل الأعلى

لأفعال وتصرفات المالكيين بالمغرب، وقلدوه فى معاشه وملبسه

وكيفية جلوسه للتدريس، وطريقته فى الحديث، كما تبوأ تلامذته

مكانة مرموقة بالمغرب.

ولم تقف الاختلافات المذهبية بالمغرب فى سبيل علاقاتها واتصالاتها

الفكرية بالعواصم والمدن الإسلامية بالمشرق، بل كانت اتصالاتها

مستمرة، وعلاقاتها وثيقة، وظهرت آثار احتكاك طلابها بعلماء

المشرق واضحة فى الحياة الدينية التى عاشتها المنطقة خلال القرن

الثالث الهجرى، وتوجَّه أبناء «تهيرت» و «فاس» و «سجلماسة» إلى

مدينة «القيروان» ؛ لتحصيل العلم على أيدى علمائها، كما أَمَّ أبناء

«القيروان» مدن «تونس» و «سوسة» وغيرهما، لطلب العلم هناك،

ونهل جميعهم من معين الإسلام الذى لا ينضب، ودرسوا الفقه والأصول

والحديث والتفسير، وغيرها من العلوم.

وكان لكل من «القيروان» و «تهيرت» أثر سياسى وثقافى بارز فى

بلاد المغرب، وشهدتا ازدهارًا فكريا، ونهضة حضارية، واقتصادًا

قويا، وزخرًا بالفقهاء والعلماء، وأصبحتا مقصد طلاب العلم من كل

مكان، حتى نافستا العواصم الشرقية الكبيرة بالسماحة، وسعة

الأفق، ومناظرات العلماء. وقد شاركت مدينة «فاس» فى هذا الدور

بنهضتها الفكرية وازدهارها الحضارى، وأسهمت كذلك فى نشر

الإسلام والثقافة العربية.

ص: 49

الفصل الثامن

*الدولة الفاطمية بالمغرب

[296 - 362هـ = 908 - 973م]

قامت «الدولة الفاطمية» ببلاد «المغرب» - وفق خطة مرسومة من قِبل

دعاة الشيعة - على أكتاف قبيلة «كتامة» ، التى تنتمى إلى بربر

«البرانس» ، وتميزت عن غيرها من القبائل بكثرة عددها، ومنعة

منطقة سكناها بجبال «الأوراس» بين مدينتى «بجاية»

و «قسنطينة» ، فضلا عن عدم خضوعها لسلطة الولاة اعتزازًا بمنعتها

وقوة بأسها.

وقد وقف زعماء الشيعة على ما اتصفت به هذه القبيلة، واختار «ابن

حوشب» رئيس مركز الدعوة الشيعية باليمن «أبا عبدالله الحسين بن

أحمد الشيعى» للاتصال بوفد «كتامة» بموسم الحج، لنشر الدعوة

الشيعية بالمغرب، وإقامة الدولة المرتقبة هناك.

وقد تم لقاء «أبى عبدالله» بوفد «كتامة» بمكة، وجعله هذا الشيعى

يبدو كأنه جاء مصادفة، وبدأ يتعرَّف أحوالهم وميولهم المذهبية، ولم

يفصح عما أضمره وما جاء من أجله، ونجح فى استمالتهم والسيطرة

على قلوبهم بمكره ودهائه وعلمه وجدله، ثم تظاهر بعد انقضاء

موسم الحج برغبته فى السفر معهم إلى «مصر» ، للتدريس لأبنائها،

فاصطحبوه معهم، فلما وصلوها، ألحوا عليه بمصاحبتهم إلى بلادهم،

فوافقهم، وذهب معهم إلى المغرب فى سنة (289هـ= 902م)، واتخذ

من «إيكجان» مستقرا له، لأنها نقطة التقاء حجاج «الأندلس»

و «المغرب الأقصى» ، والمتوجهين لأداء فريضة الحج.

وبدأ «أبو عبدالله» فى تنفيذ خطته، وتظاهر بتعليم الصبية، وإلقاء

دروسه عليهم، فزاده ذلك مكانة ومنزلة بين أبناء «كتامة» ، وذاع

صيته بين القبائل، وقصده البربر من أماكن متفرقة، لينهلوا من علمه،

ويستفيدوا من نصائحه، ثم عمد «أبو عبدالله» إلى مصارحة بعضهم -

بعد أن اطمأن إليهم- بحقيقة أمره، ورغبته فى إقامة دولة لآل البيت

تقوم على أكتاف قبيلة «كتامة» ، لأن الروايات - كما ادَّعى لهم -

جاءت بذلك، وأخبرت عما ينتظرهم من عز الدنيا وثواب الآخرة.

وأخذ «أبو عبدالله» على عاتقه تنظيم صفوف أبناء «كتامة» وبعض

ص: 50

أبناء القبائل الأخرى، وقسَّمهم إلى سبعة أقسام، وجعل على رأس

كل قسم منها داعية يطمئن إليه، فاستطاع بهذا الأسلوب العملى

إقامة مجتمع يدين بفكرة واحدة؛ هى إقامة الدولة المثالية التى

يحكمها إمام من آل البيت.

وقد اتخذ «أبو عبدالله الشيعى» من أبناء «كتامة» جندًا يدافعون

عن الدعوة، ويهاجمون القوى السياسية الموجودة بالمنطقة، وهى:

«الأغالبة» بالمغرب الأدنى، و «الرستميون» بالمغرب الأوسط، و «بنو

مدرار» بسجلماسة بجنوب «المغرب الأقصى» وبقايا «الأدارسة» بمدن

«المغرب الأقصى» ، وترتَّب على ذلك دخول «أبى عبدالله الشيعى»

فى عدة معارك مع هذه القوى، كانت أشهرها معركة «كنيونة» ،

التى انتصر فيها على «الأغالبة» فى سنة (293هـ= 906م)، ثم توالت

انتصاراته بعد ذلك، ودخل مدينة «رقادة» وقضى على نفوذ

«الأغالبة» ، ثم دعا «المهدى الفاطمى» إلى «المغرب» لتسلم مقاليد

الأمور؛ فلبى الدعوة، وتخفَّى فى زى التجار حتى لا يقع فى قبضة

العباسيين، ودخل مدينة «رقادة» فى سنة (297هـ= 909م)، ثم بويع

بالإمامة.

الخلفاء الفاطميون بالمغرب:

حكم أربعة خلفاء فاطميين بلاد «المغرب» فى الفترة من سنة

(297هـ=909م) إلى سنة (365هـ= 975م)، وكان «المعز لدين الله

الفاطمى» هو آخر هؤلاء الخلفاء، حيث انتقل بالخلافة إلى

«القاهرة» التى اتخذها عاصمة جديدة للفاطميين، بعد أن تم له فتح

«مصر» على يد قائده «جوهر الصقلى» فى سنة (358هـ= 969م)،

والخلفاء الأربعة هم:

1 -

المهدى: عبيد الله أبو محمد [297 - 322هـ= 909 - 934م].

2 -

القائم: محمد أبو القاسم [322 - 334 هـ = 934 - 945م].

3 -

المنصور: إسماعيل أبو طاهر [334 - 341هـ= 945 - 952م].

4 -

المعز: معدّ أبو تميم [341 - 365 هـ = 952 - 975م].

وقد وُلد «المهدى» أول الخلفاء بالعراق فى سنة (266هـ = 880م)،

وتوفى بالمهدية فى سنة (322هـ = 934م)، ثم تلاه ابنه «محمد»

الذى ولد «بسَلَمْيه» فى المحرم سنة (278هـ = أبريل 891م)، ورحل

ص: 51

مع أبيه إلى «المغرب» ، وتولى الإمامة من بعده، ومات فى سنة

(334هـ= 945م)، فجاء من بعده ابنه «إسماعيل» الذى وُلد «بالمهدية»

فى الليلة الأولى من جمادى الآخرة فى سنة (303هـ= ديسمبر 915م)،

وبويع له فى شوال سنة (334هـ= 945م) وتوفى يوم الأحد فى الثالث

والعشرين من شوال سنة (341هـ= فبراير953م)، وكان فصيحًا بليغًا،

خطيبًا حاد الذهن، حاضر الجواب، ثم جاء «المعز» آخر الخلفاء

الفاطميين، فتولى الأمر بعد أبيه فى شوال من العام نفسه، وكان

عمره أربعًا وعشرين عامًا، وقد وُلد بالمحمدية فى يوم الاثنين 10 من

رمضان سنة (319هـ)، وكان أول الخلفاء الفاطميين الذين دخلوا

«مصر» وانتقلوا بالخلافة إليها، ومكث بها عامين وتسعة أشهر.

بعض المشكلات الداخلية:

حين قدم «المهدى» إلى بلاد «المغرب» ، وجد أن داعيته «أبا عبدالله

الشيعى» قد استحوذ على قلوب الناس فيها، وأصبح ذا نفوذ وسلطة

كبيرين بالمنطقة، فأراد «المهدى» أن يحد من سلطاته ونفوذه،

فأنقلب عليه «أبو عبدالله» وتآمر ضده، وجمع زعماء «كتامة»

وأخبرهم بتشككه فى شخص «المهدى» وأنه ربما يكون شخصًا آخر

غير الذى دعا إليه، فبلغ هذا الأمر «المهدى» ، فتخلص منه بالقتل،

فسخط الكتاميون وثاروا، وأتوا بطفل صغير وقالوا: إنه «المهدى» ،

فحاربهم «المهدى الفاطمى» وقتل هذا الطفل.

ثم تعرضت «المغرب» فى عهد «القائم بالله» وابنه «أبى العباس» من

بعده لثورة «أبى يزيد مخلد بن كيداد اليغرنى» ، الذى ينتمى إلى

قبيلة «يغرن» الزناتية، وقد ولد بالسودان، ونشأ بتوروز وتعلم بها،

ثم اتصل بالإباضية، ومن ثَم هاجم ما استحدثه المذهب الشيعى على

المجتمع المغربى، واجتمع الناس حوله، ورحل إلى «جبل أوراس»

عقب وفاة المهدى فانضمت إليه جموع القبائل، فقام بثورته

واستولى على العديد من المدن، واستغرقت ثورته نحو أربعة عشر

عامًا، فشملت عهد «القائم بالله» كله، وعامين من عهد «أبى

ص: 52

العباس»، الذى تصدى لها وتمكن من القضاء عليها وعلى زعيمها

«أبى يزيد» ، وسجل انتصاره هذا بإنشاء مدينة «المنصورية» فى

سنة (337هـ).

العلاقات الخارجية:

قام الفاطميون بحملات متكررة على «مصر» للاستيلاء عليها، ففشلت

جميعها، إلا حملة «جوهر الصقلى» الذى نجح فى دخول «مصر» فى

سنة (358هـ=969م) ثم أسس بها مدينة «القاهرة» ؛ لتصبح عاصمة

الفاطميين، فانتقلت إليها الأسرة الفاطمية، وباتت «القاهرة»

عاصمتهم حتى سقوط دولتهم.

وقد سعى الفاطميون إلى بسط نفوذهم على بلاد الأندلس، بالدعوة

تارة، وبالحروب أخرى، ولكن جهودهم ضاعت هباءً، ولم تجد

دعوتهم صدى فى نفوس الأندلسيين من أهل السنة، فضلا عن أن

حكام الأندلس وقفوا لهم بالمرصاد وحصنوا بلادهم، وعززوا

أسطولهم، فتراجع الفاطميون عن ذلك، واتجهوا إلى «مصر» .

واستهدف الفاطميون من اتخاذ «مصر» قاعدة لحكمهم تحقيق الأمن

والاستقرار لوجودهم، خاصة بعد أن اشتعلت فى وجوههم الثورات

الخطيرة التى كادت تودى بكيانهم على أرض «المغرب» ، فضلا عن

أملهم فى تحقيق أهداف سياسية واقتصادية فى «مصر» ؛ إذ إنها

بموقعها وثرواتها وإمكاناتها تحقق لهم ما يريدون من مال وثروات

وازدهار اقتصادى، كما أن الاستيلاء عليها يعد ضربة قاصمة

للعباسيين الذين قتلوا كثيرًا من أبناء البيت العلوى ولذا أرادوا

الانتقام منهم والثأر لأنفسهم.

النظم الفاطمية:

- الخلافة:

قامت الخلافة الفاطمية على أساس فكرة عصمة الإمام، وأسس

خلفاؤها لهذا الغرض مدارس خاصة لتعليم عقائد مذهبهم الذى يقوم

على تقديس الأئمة، وحاولوا نشرها فى «مصر» و «اليمن» و «بلاد

فارس» و «الهند» وفى غيرها من أنحاء العالم الإسلامى.

وقد تلقَّب الخلفاء بألقاب كثيرة منها: «الخليفة الفاطمى» ، و «الخليفة

العلوى»، و «أمير المؤمنين» ، و «الإمام» ، و «صاحب الزمان» ،

و «الشريف القاضى» ، وساروا على نهج الأمويين والعباسيين فى

ص: 53

تولية أبنائهم ولاية العهد؛ فكان الخليفة إذا شعر بدنو أجله، يعهد

بالخلافة إلى أحد أبنائه، ثم تتجدد هذه البيعة بعد وفاته، فلما

تسرب الضعف إلى الخلافة الفاطمية فى عهد «المستنصر» ، أصبح

اختيار الخليفة بيد القادة وكبار رجال الدولة.

- الوزارة:

كانت الوزارة فى العصر الفاطمى الأول (308 - 465هـ= 920 - 1073م)

وزارة تنفيذ، لأن الخلفاء كانوا أقوياء، ويديرون أمور الدولة

بأنفسهم، ثم تحولت بمصر فى سنة (466هـ=1074م) إلى وزارة

تفويض، وبات الخلفاء منذ ذلك العهد - نظرًا لضعفهم- تحت نفوذ

الوزراء وسيطرتهم.

- الكتابة:

كانت الكتابة تلى الوزارة فى الرتبة فى عهد الفاطميين، وكان

الخلفاء يسندونها إلى مَن أنسوا فيهم الكفاءة والقدرة على معالجة

الأمور، وعُنى الفاطميون عناية فائقة بالشعراء والكتاب وغيرهم من

رجال الأدب، لنشر مذهبهم وإذاعة أبهتهم، وكان اختيار الكاتب يتم -

عادة - من بين مَن اشتهروا بسعة الاطلاع وجودة الأدب، وامتازوا

بدقتهم ومقدرتهم فى فن الإنشاء.

- الدواوين:

كانت هناك عدة دواوين، على رأس كل منها موظف كبير، ومنها:

«ديوان الجيش» : وكانت تعرض على صاحبه شئون الأجناد وخيولهم،

وما إلى ذلك.

و «ديوان الكسوة والطراز» : ويتولاه أحد كبار الموظفين من أرباب

الأقلام.

و «ديوان الأحباس» : وهو يشبه وزارة الأوقاف حاليا.

و «ديوان الرواتب» : ويشبه وزارة المالية الآن.

بناء المهدية:

حين بويع «المهدى» بالخلافة بالمغرب اتخذ من مدينة «رقّادة»

عاصمة له، إلا أن الظروف التى أحاطت به فى بداية عهده، جعلته

يفكر جديا فى اتخاذ عاصمة جديدة لدولته الوليدة، ليتحصن بها من

مؤامرات أعدائه، فنجح فى اختيار منطقة تبعد عن «القيروان» ستين

ميلا تقريبًا، يحيط بها البحر من جهات ثلاث، وهى على شكل يد

متصلة بزند، فأطلق عليها اسم:«المهدية» ، وشرع فى تخطيطها

وتشييد مبانيها، وجعل لها بابين من الحديد، وأقام بها ثلاثة وستين

ص: 54

صهريجًا، لتزويد المدينة بالمياه اللازمة، وبنى بها دارًا لصناعة

السفن، فصارت مرفأ مهما وسوقًا رائجة للسلع التى كانت تحملها

السفن إليها من «الإسكندرية» ، وقد فرغ من بنائها فى سنة (305هـ=

917م)، ثم انتقل «المهدى» للإقامة بها فى سنة (308هـ= 920م)،

فاتسعت جنباتها، وزادت أسواقها، وازدهرت التجارة بها، وظلت

عامرة، وآهلة بالسكان، حتى استولى عليها خليفة الموحدين

«عبدالمؤمن بن على» فى سنة (555هـ=1160م).

النشاط المذهبى للفاطميين ببلاد المغرب:

شهدت المنطقة طوال عهود الخلفاء الفاطميين فى المغرب صراعًا

مذهبيا بين المالكية - غالبية أهل السنة - وبين الشيعة، الذين

استخدموا كل الوسائل الممكنة، لنشر مذهبهم وطمس معالم المذاهب

الأخرى، وجعلوا الوظائف قاصرة على الشيعة، واستبدلوا قواعد

مذهبهم بأحكام المذهب السنى، وعقدوا المجالس والمناظرات لإقناع

أهل البلاد بصحة مبادئهم، ثم لجئوا إلى العنف والرعب والاضطهاد

حين فشلت وسائلهم فى إدخال سكان البلاد فى مذهبهم، ففشلت

هذه الوسائل أيضًا، حتى عاد المذهب السنى مذهبًا رسمياً للبلاد فى

عهد «المعز ابن باديس» .

ص: 55

الفصل التاسع

*بنو زيرى بالمغرب

يرجع نسب «بنى زيرى» إلى قبيلة «صنهاجة» البربرية؛ التى تنتمى

إلى فرع من «البرانس» ، ولم تكن «صنهاجة» مجرد قبيلة؛ بل كانت

شعبًا عظيمًا، لا يكاد يخلو قطر من أقطار «المغرب» من بطونه

وأفراده، مما دفع «ابن خلدون» إلى القول بأنهم يمثلون ثلث البربر.

وقد سكنت «صنهاجة» فى مساحات شاسعة؛ امتدت من «نول لمطة»

فى جنوب «المغرب الأقصى» إلى «القيروان» بإفريقية، وهى منطقة

صحراوية، آثروا السكنة فيها على غيرها من المدن الآهلة، لأنها- كما

علل «ابن خلدون» - تتوافق مع طباعهم، ورغبتهم فى الابتعاد عن

الاختلاط بالناس، والفرار من الغلبة والقهر.

وظهرت أسرة «بنى زيرى» -فى أول أمرها- فى طاعة الفاطميين،

وتعاونت معهم فى صد الأخطار التى تعرضت لها دولتهم بالمغرب،

وكان أول اتصال بينهما فى عهد «المنصور الفاطمى» ، حين قدم

«زيرى بن مناد» وأهل بيته وقبيلته لمحاربة «أبى يزيد الخارجى»

فى سنة (335هـ=946م)، فخلع عليه «المنصور» ، ووصله، وعقد له

على أهل بيته وأتباعه وقبيلته، فعظم شأنه، وصار «بنو زيرى»

أعوانًا وأتباعًا للفاطميين، ومن ثَم نشب الصراع بين الصنهاجيين،

وقبائل «زناتة» ، لأن «زناتة» كانت دائمة الإغارة على ممتلكات

«الدولة الفاطمية» .

وحين عزم «المعز» على الرحيل إلى «مصر» فى سنة (361هـ= 972م)

للانتقال إليها بخلافته، وقع اختياره على «يوسف بُلكِّين ابن زيرى

بن مناد الصنهاجى» ليتولى الإمارة بالمغرب خلفًا للفاطميين.

1 -

يوسف بُلكِّين بن زيرى بن مناد الصنهاجى [362 - 373هـ= 973 -

983م]:

عينه «المعز» على ولاية «المغرب» ، واستثنى من ذلك «طرابلس

المغرب»، و «أجدابية» و «سرت» ، وعين معه «زيادة الله ابن القديم»

على جباية الأموال، وجعل «عبدالجبار الخراسانى» و «حسين بن

خلف» على الخراج، وأمرهما بالانقياد ليوسف بن زيرى.

واجه «يوسف» عدة ثورات واضطرابات بالمغرب، كان منها عصيان

ص: 56

أهل «تهيرت» ، ثم سيطرة قبيلة «زناتة» على مدينة «تلمسان» ، وقد

توجه إلى «تهيرت» بجنوده وأعادها إلى طاعته، كما توجه إلى

«تلمسان» وأعادها إلى حكمه فى سنة (365هـ= 976م).

وفى سنة (373هـ=984م) خرج الأمير «يوسف» على رأس جيوشه

لاستعادة «سجلماسة» من أيدى بعض الثوار الذين استولوا عليها،

ولكنه أصيب بمرض أودى بحياته فى شهر ذى الحجة سنة (373هـ=

مايو 984م).

2 -

المنصور بن يوسف بُلكِّين بن زيرى [373 - 386هـ= 984 - 996م]:

أوصى الأمير «يوسف بلكين» قبل وفاته بالإمارة من بعده لابنه

«المنصور» الذى كان بمدينة «أشير» حين بلغه خبر وفاة والده،

وأقبل عليه أهل «القيروان» وغيرها من المدن، لتعزيته، وتهنئته

بالولاية، فأحسن إليهم وقال لهم: «إن أبى يوسف وجدى زيرى،

كانا يأخذان الناس بالسيف، وأنا لا آخذهم إلا بالإحسان، ولست ممن

يُولَّى بكتاب، ويُعزل بكتاب»، وقصد «المنصور» من ذلك أن الخليفة

الفاطمى بمصر لا يقدر على عزله بكتاب.

وقد واجهت «المنصور» عدة مشاكل، كانت منها غارات قبائل

«زناتة» المستمرة على المدن المغربية فى سنة (374هـ = 985م)،

واستيلاء «زيرى بن عطية الزناتى» على مدينتى «فاس»

و «سجلماسة» ، مما دفع «المنصور» إلى إرسال أخيه «يطوفت» على

رأس جيش كبير لمواجهة هذه القبائل، ودارت معركة كبيرة بين جموع

الفريقين، أسفرت عن هزيمة الصنهاجيين، وعودتهم إلى «أشير» .

ثم تصدى الأمير «المنصور» فى سنة (376هـ= 986م) لعمه «أبى

البهار» الذى نهب مدينة «تهيرت» ، ففر «أبو البهار» أمامه، ودخل

«المنصور» المدينة، وأعاد إلى أهلها الأمن والهدوء.

ثم تُوفى فى يوم الخميس (3 من ربيع الأول سنة 386هـ= مارس 996م)،

ودُفن بقصره.

3 -

باديس بن المنصور [386 - 406هـ= 996 - 1015م]:

وُلد «باديس» فى سنة (374هـ=985م)، وتكنى بأبى مناد، وخلف أباه

على «المغرب» فى سنة (386هـ=996م)، وأتته الخلع والعهد بالولاية

ص: 57

من «الحاكم بأمر الله الفاطمى» من «مصر» ، وبايع للحاكم، وأعلن

تبعية بلاده لخلافته، ثم أقطع عمه «حماد بن يوسف» مدينة «أشير» ،

وولاه عليها، وأعطاه خيلا وسلاحًا، وجندًا كثيرًا، فكانت هذه هى

نقطة البداية لانقسام «بنى زيرى» إلى أسرتين:

تحكم إحداهما بالمغرب الأدنى فى «ليبيا» و «تونس» ، وتحكم الأخرى

- أسرة «بنى حماد» - فى «الجزائر» ، متخذة من قلعة «بنى حماد»

مقرا للحكم. وانفرد «بنو حماد» بإقليم «الجزائر» ، نظرًا لضعف قبضة

الأمير «باديس» على البلاد.

وقد واصل «باديس» مطاردة «زناتة، وأُخبر فى سنة (387هـ= 997م)

بأن «زيرى بن عطية الزناتى» قد اعتدى على مدينة «أشير» ، فبعث

إليه بجيشه لمواجهته، ولكن الجيش هُزم على أيدى الزناتيين،

فاضطر الأمير «باديس» إلى الخروج بنفسه لمواجهتهم فى «أشير» ،

فلما علم الزناتيون بذلك انطلقوا إلى الصحراء، وتركوا المدينة،

فدخلها «باديس» ، وأقر الأمور بها، ثم مات فى سنة (406هـ= 1015م).

4 -

المعز بن باديس [406 - 453هـ= 1015 - 1061م]:

أُخذت البيعة للمعز بمدينة «المحمدية» ، وتولى الأمر يوم وفاة أبيه

وفرح الناس بتوليته لما رأوا فيه من كرم ورجاحة عقل، فضلا عن

تواضعه، ورقة قلبه، وكثير عطائه، على الرغم من حداثة سِنه.

وقد حدثت فى عهده بعض التطورات، حيث ألغى المذهب الشيعى،

وخلع طاعة الفاطميين، ودعا على منابره للعباسيين، وتصالح مع

أبناء عمومته الحماديين سنة (408هـ= 1017م)، وواصل مطاردة

«قبائل زناتة» جهة «طرابلس» ، فى أبناء «حماد» .

ثم أُصيب «المعز بن باديس» بمرض فى كبده أودى بحياته فى سنة

(453هـ= 1061م)، بعد حكم دام سبعًا وأربعين سنة.

5 -

تميم بن المعز بن باديس [453 - 501 هـ = 1061 - 1108م]:

وُلد بالمنصورية فى منتصف رجب سنة (422هـ= يونيو 1031م)، ثم

تولى إمرة «المهدية» فى عهد والده «المعز» فى سنة

(445هـ=1053م)، ثم خلف والده فى الإمارة فى سنة (453هـ= 1061م)،

ص: 58

فواجه عددًا من الاضطرابات والقلاقل، حيث سيطر العرب الهلاليون

على كثير من مناطق «إفريقية» ، وثار عليه أهل «تونس» وخرجوا

عن طاعته، فأرسل إلى «تونس» جيشًا، حاصرها سنة وشهرين،

فلما اشتد الحصار على الناس، طلبوا الصلح، وعاد جيش «تميم» إلى

«المهدية» ،ثم ثارت عليه مدينة «سوسة» فحاصرها وفتحها عنوة،

وأمن أهلها على حياتهم.

وقد تعرضت «المهدية» فى عهده لهجمات الهلالية، لكنه تمكن من

صدهم، ثم حاصر «قابس» و «صفاقس» ، واستولى عليهما من أيدى

الهلالية الذين كانوا يحتلونهما. وعمد إلى مهادنة أبناء عمومته فى

«الجزائر» ، وزوج ابنته للناصر بن علناس أمير «الجزائر» ، وأرسلها

إليه فى موكب عظيم، محملة بالأموال والهدايا. ثم تُوفى فى سنة

(501هـ= 1107م).

6 -

يحيى بن تميم بن المعز بن باديس [501 - 509هـ= 1107 - 1115م]:

ولد بالمهدية فى (26 من ذى الحجة سنة 457هـ)، وولى الإمارة

وعمره ثلاث وأربعون سنة وستة أشهر وعشرون يومًا، فوزَّع أموالا

كثيرة، وأحسن السيرة فى الرعية، ثم فتح قلعة «أقليبية» التى

استعصى على أبيه من قبل فتحها، كما جهز أسطولاً كبيرًا، كان

دائم الإغارة على الجزر التابعة لدولة الروم فى البحر المتوسط، ومات

فجأة فى يوم عيد الأضحى سنة (509هـ - 1115م).

7 -

على بن يحيى بن تميم [509 - 515 هـ = 1115 - 1121م]:

لم يكن الأمير «على» حاضرًا بالمهدية - التى وُلد بها - حين وفاة

والده، فلما وصل إليه الخبر، حضر مسرعًا، ودفن والده، وتولى

الإمارة خلفًا له، ثم جهز أسطولاً كبيرًا لمهاجمة جزيرة «جَرْبَة» ، لأن

أهلها قطعوا الطريق على التجار، وتمكن الأسطول من إخضاع

الجزيرة، وأمَّن الأمير أهلها وعفا عنهم، ثم قضى على عصيان

«رافع» عامله على «قابس» ، الذى سعى إلى شق عصا الطاعة

وحشد الجموع لمهاجمة «المهدية» . وقد تُوفى الأمير «على» فى

العشر الأواخر من شهر ربيع الآخر سنة (515هـ= يونيو 1121م).

ص: 59

8 -

الحسن بن على بن يحيى [515 - 543هـ= 1121 - 1148م]:

ولى الإمارة عقب وفاة والده الأمير «على» ، وكان عمره آنذاك اثنتى

عشرة سنة، فقام «صندل الخصىّ» بإدارة شئون الحكم، إلا أنه

تُوفى بعد فترة قصيرة، فتولى القائد «أبو عزيز موفق» الإشراف

على أمور البلاد، وتمكن من صد الأسطول الرومى الذى هاجم بعض

حصون الزيريين فى سنة (517هـ= 1123م)، وكذلك ألحق الأمير

«الحسن» الهزيمة بجيش «يحيى بن عبدالعزيز بن حماد» أمير

«بجاية» الذى جاء لمهاجمة «المهدية» والاستيلاء عليها فى سنة

(529هـ= 1135م).

وفى سنة (537 - 543هـ= 1142 - 1148م) حل القحط بإفريقية واستغل

ملك «صقلية» ذلك وجهز أسطولاً كبيرًا، وتوجه به قاصدًا «المهدية» ،

ولم يستطع «الحسن» الدفاع عنها، وهرب بأهله ومتاعه إلى أبناء

عمومته من «بنى حماد» ، فوضعوه وأهله تحت الحراسة، ومنعوه من

التصرف فى شىء من أمواله، ودخل الروم مدينة «المهدية» دون

قتال أو ممانعة، فسقط حكم «بنى زيرى» ، وسقطت إمارتهم، وكان

«الحسن بن على» آخر أمراء «الدولة الزيرية» .

العلاقات الزيرية الفاطمية:

شكلت العلاقات الزيرية الفاطمية حجر الزاوية فى وضع «بنى زيرى»

بالمغرب؛ إذ أسفرت هذه العلاقات عن هجوم القبائل الهلالية على

أقاليم «الدولة الزيرية» ، بمساعدة الفاطميين فى «مصر» وتوجيههم،

وكان ذلك سببًا رئيسيا فى سقوط «بنى زيرى» وانتهاء دولتهم،

كما اتخذ «المعز بن باديس» خطوات جريئة فى سبيل الاستقلال

بإمارته عن الخلافة الفاطمية، حين قاطع أهل «إفريقية» صلاة

الجمعة بالمساجد لأنها تمثل المذهب الشيعى، فضلا عن نبذ الرعية

للمذهب الشيعى وتمسكهم بالمذهب المالكى، وبدأ «المعز» فى

السعى إلى الاستقلال عن الفاطميين وراسل الخلافة العباسية فى

سنة (435هـ= 1044م)، وبعث رسولاً من قِبله إلى «بغداد» ليأتيه

بالعهد واللواء، ورحب «العباسيون» بذلك، للانتقام من الفاطميين،

ص: 60

واسترجاع بعض مظاهر سيادتهم على هذه المناطق التى انفصلت

عنهم منذ زمن بعيد، وبعثوا بالعهد واللواء مع «غالب الشيرازى» أحد

رجالهم، ولكن «غالب» وقع فى قبضة الروم، وأرسلوه إلى

أصدقائهم الفاطميين بمصر، فأحرق الفاطميون العهد واللواء،

وطافوا بالرجل فى شوارع «القاهرة» ، فقطع «بنو زيرى» علاقتهم

بالفاطميين، وعادوهم ولعنوهم على المنابر، ودعوا للعباسيين، ثم

دعموا استقلالهم وارتباطهم بالعباسيين، وهدموا دار «الإسماعيلية» ؛

مركز نشر الدعوة الفاطمية بالبلاد، وغَيَّروا العملة، واتخذوا اللون

الأسود شعار العباسيين رمزًا لهم.

وقد حاولت الخلافة الفاطمية إرجاع العلاقات إلى ما كانت عليه

بالترغيب والترهيب حتى وصل «اليازورى» إلى منصب الوزارة وقبض

على مقاليد الأمور بالخلافة، فعمد إلى تشجيع القبائل الهلالية على

التوجه إلى «القيروان» وأطلق لها العنان فى التدمير والتخريب،

وامتلاك كل ما يقع تحت سيطرتها.

ويرجع تشجيع الوزير الفاطمى لهذه القبائل لعدة أمور، منها: رغبته

فى الانتقام من «المعز بن باديس» ، وتوفير الأموال الطائلة التى

ستنفقها الجيوش إذا ما خرجت إلى المغرب لمحاربة «بنى زيرى» ،

فضلاً عن أمله فى التخلص من القبائل الهلالية ذاتها؛ لأنها تشكل

مصدر إزعاج وقلق للسلطة الحاكمة بالقاهرة.

وقد فرض الوزير الفاطمى «اليازورى» دينارًا وبعيرًا لكل رجل من

«الهلالية» ، فخرجت هذه القبائل قاصدة «القيروان» واستولت على

مدينة «برقة» دون مقاومة، وتقاسمت فيما بينها المناطق الشرقية،

واستأثرت بعض قبائل «بنى هلال» بالمناطق الغربية، واتجهت جموع

«دياب» و «عُرف» و «زغب» . وبقية البطون الهلالية إلى «إفريقية» ،

واستولوا على «سرت» و «أجدابية» ودمروها، كما دمَّروا بقية المدن

والقرى فى طريقهم إلى «القيروان» .

وخرج «المعز بن باديس» بجيشه وجموع «زناتة» و «صنهاجة»

و «عبيدة» لملاقاة الهلاليين، ولكنهم تغلبوا عليه وهزموه على الرغم

ص: 61

من أن عددهم كان لا يتجاوز ثلاثة آلاف فارس، فى حين بلغ تعداد

جيش «المعز» ثلاثين ألف مقاتل، وأسرع المعز إلى «القيروان» وأقام

حولها سورًا لحمايتها فى سنة (446هـ= 1054م)، ثم أمر السكان من

النساء والأطفال والشيوخ بالانتقال إلى مدينة «المهدية» الحصينة

للاحتماء بها، فلما يئس من حماية «القيروان» ، انتقل برجال دولته

وحاشيته إلى «المهدية» ، فدخلها الهلاليون فى سنة (449هـ=

1057م).

ولم يمكث «المعز» طويلا بعد سقوط «القيروان» والكثير من مدن

دولته، وتوفى بالمهدية فى سنة (453هـ= 1061م)، ومن ثَم انهار

الحكم الزيرى بالمنطقة، وتحكمت فيها القبائل الهلالية، وامتد

تأثيرهم السياسى حتى وصل إلى «المغرب الأوسط» ، وهادنهم «بنو

حماد»، وأعطوهم نصف غلات بلادهم اتقاء لشرهم، ودفعًا لأذاهم

وخطرهم.

بعض المظاهر الحضارية لدولة بنى زيرى بالمغرب:

كانت الزراعة هى دعامة الحياة الاقتصادية فى المنطقة، التى تمتعت

بالهدوء والاستقرار فى ظل الحكم الزيرى فيما عدا الفترة التى

شهدت هجوم العرب الهلالية على البلاد، وقد ساعد تطور نظام الرى

على تطور الزراعة، فعرفت المنطقة زراعة «القطن» و «قصب السكر»

و «الشعير» وازدهرت زراعة «التمر» و «العنب» و «الموز» ، ولعبت

تربية الأغنام دورًا مهما فى حياة الفلاح المغربى.

وقامت الأسواق المنتشرة بالمدن المغربية بدور مهم فى تنشيط

الحركة التجارية؛ حيث كانت هناك أسواق: البزازين، والجزارين،

والزجاجين، وسوق الدجاج، وسوق الغزل، وغيرها من الأسواق التى

ساعدت على ازدهار التجارة، وبخاصة فى مدينة «القيروان» ،

فأصبحت «المغرب» بلدًا غنيا، وباتت قبلة تجار الشرق والغرب.

ونشطت حركة التصدير والاستيراد بها، واشتهرت مدينة «باجة»

بتصدير كميات كبيرة من «القمح» ، كما صُدِّر «زيت الزيتون» عن

طريق ميناءى «سوسة» و «صفاقس» إلى بلدان المشرق، وبلاد

«أوربا» ، فأدى هذا الازدهار إلى تطور الصناعات، وعرفت المدن

ص: 62

المغربية صناعات «النسيج» و «الجلود» ، و «الأوانى الفخارية» ،

وغيرها من الصناعات المتنوعة.

أما الناحية الفكرية: فقد شهدت ازدهارًا كبيرًا وتطورًا ملحوظًا،

وبخاصة فى مدينة «القيروان» التى أصبحت فى طليعة العواصم

الإسلامية ذات الأثر فى تاريخ الفكر الإسلامى، وشهدت مساجد

المغرب المناظرات الفقهية والكلامية بين الشيعة، والمالكيين من أهل

السنة، وصمد علماء المذهب المالكى وفقهاؤه رغم ما لاقوه من سجن

وتعذيب على أيدى الشيعة الفاطميين، وتعلق السكان بهذا المذهب،

وأصبح مذهبهم الرسمى منذ ذلك الوقت حتى الآن.

وتطورت الحركة الأدبية فى عهد «المعز بن باديس» الذى اشتهر

بتشجيع أهل الأدب والعلم، وأحسن معاملتهم، مثلما أخبرعنه

«ياقوت» بقوله: وكانت «القيروان» فى عهده وجهة العلماء

والأدباء، يشدون إليها الرحال من كل فجّ، لما يرونه من إقبال

«المعز» على أهل العلم والأدب وعنايته بهم.

ثم كان لاختلاط الهلاليين بسكان «المغرب» أثره الكبير فى تعريب

جزء من هؤلاء السكان، حيث امتزج المغاربة بالعرب الهلاليين على مر

الأيام، وتزاوجا، فاختلطت الدماء، وتعلم سكان البلاد الأصليون لغة

الوافدين العرب، فانتشرت اللغة العربية فى مناطق كثيرة من

المغرب، ومن ثم انتشرت الثقافة العربية بهذه البلاد.

ص: 63

الفصل العاشر

*دولة المرابطين

تمهيد:

شهد «المغرب الأقصى» خلال القرنين الخامس والسادس الهجريين

فترة مزدهرة؛ عُدَّت من أخصب فترات حياته؛ حيث قامت على أرضه

أكبر دولتين عرفتهما المنطقة فى هذا الوقت، هما: «دولة

المرابطين»، و «دولة الموحدين» ، اللتان أبرزتا شخصية «المغرب

الأقصى» باعتبارها دولاً مستقلة؛ قامت على أكتاف أبنائها،

وبسطت نفوذها على مناطق شاسعة بالشمال الإفريقى، فضلا عن

«الأندلس» ، وشاركت مع غيرها فى إرساء قواعد الحضارة الإسلامية

فى غربى العالم الإسلامى، بنظمها، وحضارتها واقتصادها المزدهر،

ومبانيها، فضلا عن ثقافتها، وعلمائها ومفكريها.

- الأوضاع السياسية فى بلاد المغرب الأقصى قبل قيام دولة

المرابطين:

أصيبت «دولة الأدارسة» التى أسسها «إدريس بن عبدالله» بالمغرب

الأقصى فى سنة (172هـ = 788م) بالضعف والاضمحلال بعد دخول

جيوش «أبى عبدالله الشيعى» بقيادة «مصالة بن حيُّوس المكناسى»

إلى هذه المنطقة فى سنة (305هـ= 917م)، ومن ثَم مرت المنطقة بفترة

حالكة فى تاريخها، وباتت تدعو على منابرها للفاطميين تارة،

ولحكام «الأندلس» تارة أخرى، وخيَّمت عليها المنازعات القبلية

والحروب الطاحنة وتوزعت المنطقة بين القبائل المختلفة والأسر

المتناحرة، وانقسمت الخريطة السياسية للمغرب الأقصى إلى أربعة

تجمعات، هى:

1 -

منطقة «فاس» وما حولها، وهى خاضعة لأمراء «مغرادة» .

2 -

منطقة «سلاوتادلا» ، وكانت خاضعة لبنى يغرن.

3 -

منطقة «سجلماسة» و «درعة» ، وكانت خاضعة لبنى خزردن.

4 -

إمارة «برغواطة» فى سهول «تامسنا» .

أما «فاس» ؛ فكانت خاضعة لأمراء «مغرادة» ، وقد دخلها «زيرى بن

عطية» أول هؤلاء الأمراء فى سنة (377هـ= 987م)، واستوطن بها، ثم

جعلها قاعدة إمارته، ودخل فى عدة حروب مع «بنى يغرن» ، ومع

جيوش «الدولة الأموية» التى كان خاضعًا لها، وقد انتهت هذه

الحروب بوفاة «زيرى» متأثرًا بجراحه فى سنة (391هـ= 1001م)،

ص: 64

فلما ولى ابنه «المعز» الإمارة أصلح علاقته بالدولة الأموية فى

«الأندلس» ، ثم توالى الأمراء على «فاس» ، واتسمت فترة حكمهم

بكثرة الحروب، وكان «تميم بن معتصر بن حماد» الذى تولى فى

سنة (460هـ= 1068م) هو آخر الأمراء، وقد دخل فى صراع طويل مع

«المرابطين» ، ولكنهم نجحوا فى دخول فاس فى سنة (462هـ=

1070م)، وقتل «تميم» ، وطويت صفحة أمراء «مغرادة» ، وتولى

المرابطون السلطة.

أما منطقة «سلاوتادلا» ، فكانت خاضعة لأمراء «بنى يغرن» ، الذين

دخلوا فى صراع مع أبناء عمومتهم من أمراء «مغرادة» ، وكان آخر

أمرائهم هو «محمد بن تميم بن زيرى» الذى تولى الإمارة فى سنة

(448هـ= 1056م)، وقتل على أيدى المرابطين فى سنة (462هـ=

1070م).

أما «سجلماسة» و «درعة» فقد تولى حكمها «بنو خزردن» فى سنة

(366هـ= 976م)، واستمروا فى الحكم حتى أسقطهم المرابطون فى

سنة (477هـ= 1084م).

أما إمارة «برغواطة» - التى احتلت المناطق الساحلية جنوبى

«طنجة» إلى «آصيلا» واشتملت على مناطق «تامسنا» - التى أقامت

بها عدة قبائل من «زناتة» ، فقد دخلت هذه الإمارة فى صراع مع

«بنى يغرن» ، و «الأدارسة» ، ثم مع المرابطين الذين قضوا على الحكم

فيها، وغيروا سياستها ونظمها.

قيام دولة المرابطين:

قامت «دولة المرابطين» على أساس دعوة دينية، نمت وازدهرت فى

«ديار الملثمين» بجنوب «المغرب الأقصى» بفضل جهود الفقيه

المالكى «عبدالله ابن ياسين» ، الذى تمتع إلى جانب علمه وفقهه

ببعد النظر ونفاذ البصيرة، وتوجه إلى قبيلة «جدالة» بصحبة زعيمها

«يحيى بن إبراهيم» ، ففرحت بمقدمه، ثم ما لبث هذا الفرح طويلا

حتى تحول إلى جفوة وإعراض حين بدأ «ابن ياسين» فى تغيير ما

ألفوه من عادات وملذات تخالف أحكام الدين، وحسبه الزعماء

والنبلاء ينتقص من حقوقهم، ويُسوِّى بينهم وبين مواليهم، وساءت

العلاقة بينهم وبين «ابن ياسين» ونهبوا داره وهدموها، واضطر هذا

الفقيه إلى الرحيل بمن تبعه إلى جزيرة منعزلة بالسنغال.

ص: 65

وبدأ «ابن ياسين» فى هذه الجزيرة بإعداد التلاميذ ونشر الدعوة،

فذاع صيته، وكثر عدد أتباعه، فأطلق عليهم لقب:«المرابطين» ،

ومضوا فى تنفيذ ما أمر به.

وقد بدأ المرابطون نشر دعوتهم بين قبيلة «جدالة» التى تمردت على

«ابن ياسين» من قبل، فقصدوا قبيلتى «لمتونة» و «سوقة» ونجحوا

فى نشر دعوتهم بينهما، فكان ذلك مدعاة لانضواء بقية القبائل تحت

لوائهم.

انتقال السلطة إلى قبيلة لمتونة:

تُوفِّى الأمير «يحيى بن إبراهيم الجدالى» فى سنة (447هـ= 1055م)،

فاختار «ابن ياسين» «يحيى بن محلاكاكين اللمتونى» قائدًا لجند

المرابطين، فنقل بذلك السلطة العسكرية من «جدالة» إلى «لمتونة»

التى كانت تتمتع بمكانة مرموقة بين بقية «قبائل الملثمين» ، فضلا

عن سيطرتها على طرق التجارة الساحلية، وهكذا ظهرت قبيلة

«لمتونة» على مسرح الأحداث، وتتابع أبناؤها فى السلطة حتى

نهاية حكم المرابطين.

وفى سنة (447هـ= 1055م) استغاث فقهاء «درعة» و «سجلماسة»

بعبدالله بن ياسين لإنقاذ بلادهم من الفساد والظلم، فاستجاب لهذه

الدعوة، وخرج بجيشه متوجهًا إلى «درعة» و «سجلماسة» ، وتمكن

من القضاء على أمراء «مغرادة» ، وولى المرابطون عمالا تابعين لهم

على هذه البلاد.

ولم يستمر الهدوء طويلاً بمدينة «سجلماسة» وقامت بها ثورة؛

اضطرت المرابطين بقيادة «يحيى بن محلاكاكين» إلى العودة إليها،

ونجحوا فى إخماد ثورتها، إلا أن قائدهم «يحيى اللمتونى» استشهد

فى المعركة، فوقع اختيار «ابن ياسين» على الأمير «أبى بكر بن

عمر» فى سنة (448هـ= 1056م) لقيادة الجيوش، فانتقل «أبو بكر»

بالدعوة من مرحلة تلبية نداء المعونة لسجلماسة و «درعة» إلى مرحلة

الغزو المسلح للمغرب الأقصى، ودخل مع قبائل «برغواطة» التى

اعتنقت المجوسية فى عدة معارك، فأصيب الداعية «ابن ياسين» فى

إحداها بإصابات قاتلة أودت بحياته فى سنة (451هـ= 1059م).

وواصل «أبو بكر» جهاده، وفرَّق جموع «برغواطة» ، واستأصل

ص: 66

شأفتهم، ثم رجع إلى مدينة «أغمات» التى اتخذها عاصمة له. وقد

شاركه فى نشاطه المسلح ابن عمه «يوسف بن تاشفين الصنهاجى

اللمتونى»، الذى أثبت كفاءة عالية، ومقدرة فائقة، وحقق نجاحًا

بارزًا؛ غير أن أحداثًا ما وقعت بالصحراء، جعلت «أبا بكر» يتوجه

إلى الجنوب تاركًا قيادة بقية المرابطين لابن عمه «يوسف» .

يوسف بن تاشفين:

يعد «ابن تاشفين» المؤسس الحقيقى لدولة المرابطين بالمغرب

الأقصى، وقد تجمعت فيه صفات الزعامة والشجاعة والقيادة والحزم،

والتفت حوله قلوب المرابطين، وشرع فى بناء مدينة «مراكش»

عاصمته الجديدة فى سنة (454هـ= 1062م) ونجح فى بسط نفوذه

على «المغرب الأقصى» فى سنة (467هـ= 1074م).

وقد نجح ابن «تاشفين» إلى جانب توحيد «المغرب الأقصى» فى

وقف الزحف النصرانى على «الأندلس» ، وضمَّها إلى «دولة المرابطين»

التى اتسعت أطرافها وزادت خيراتها، وتمتعت بالازدهار والرقى فى

مختلف المجالات، ثم مرض «يوسف» فى سنة (498هـ= 1104م)، ثم

أسلم روحه فى سنة (500هـ= 1106م) ودفن بمدينة «مراكش» .

على بن يوسف بن تاشفين:

ولى الأمير «على» الحكم واقتفى سياسة والده، وسار بين الناس

بالحكمة والعدل، واستعان بالفقهاء والعلماء فى حكم البلاد، فتبوأ

مكانة طيبة فى نفوس رعيته.

ومضى «على بن يوسف» فى استكمال الجهود الحربية التى بدأها

والده بالأندلس، وعبر إليها بنفسه أربع مرات؛ لتثبيت سلطان

المرابطين، ومواجهة الهجمات المتكررة للمسيحيين، فأحرز انتصارات

كبيرة، ونال رضا الخلافة العباسية.

تاشفين بن على:

تُوفِّى الأمير «على» فى سنة (537هـ= 1142م)، فتولى ابنُه

«تاشفين» الحكم من بعده، فدخل فى صراع مع دولة «الموحدين» ،

ولم تفلح جهوده فى صد موجاتهم المتتابعة، وانتهى به الأمر إلى

«وهران» ؛ حيث قُتل فى سنة (539هـ= 1144م)، فَفَتَّ ذلك فى عضد

الدولة، وسقطت أجزاء كثيرة منها فى أيدى الموحدين.

إسحاق بن على:

ص: 67

حاول المرابطون الاحتفاظ بكيانهم المتداعى، وأمَّروا عليهم «إبراهيم

بن تاشفين» إلا أنه لم ينعم بالسلطة طويلا، حيث نازعه عليها عمه

«إسحاق بن على ابن تاشفين» ، وتولى مكانه، ولكنه لم يستطع أن

يدفع حصار الموحدين بقيادة «عبدالمؤمن» خليفة «ابن تومرت» حول

العاصمة «مراكش» فى سنة (541هـ= 1146م)، فسقطت «مراكش» فى

يد «عبدالمؤمن» الذى أعمل فيها السيف وقضى على كثير من

أهلها، وترتب على ذلك سقوط «دولة المرابطين» .

عوامل سقوط دولة المرابطين:

ضعفت القيادة العليا للمرابطين منذ تولى «على بن يوسف» حكم

البلاد، واستبد كثير من الأمراء بالأمر، ثم جاء الخلاف الخطير بين

«إبراهيم بن تاشفين» وعمه «إسحاق بن على» على السلطة، فى

الوقت الذى كان يزحف فيه الموحدون نحو العاصمة «مراكش» .

يضاف إلى ذلك تخاذل الجند، فضلا عن الحروب المستمرة التى

خاضوها بالأندلس، فاستنزفت قواهم واقتصاد بلادهم، وظهور

شخصية «ابن تومرت» الذى نجح فى جذب أعداد كبيرة إليه.

فكان ذلك كله من أسباب سقوط «دولة المرابطين» وقيام «دولة

الموحدين».

العلاقات الخارجية لدولة المرابطين:

تركزت علاقات المرابطين فى جبهتى «الأندلس» و «الدولة العباسية» ؛

حيث هبوا لنجدة «الأندلس» من النصارى الإفرنج، ثم قرروا -بعد عدة

معارك- ضمها إلى دولتهم، وظلت المعارك هى الطابع المميز لعلاقة

المرابطين بالممالك الإفرنجية فى الشمال الأندلسى.

أما علاقتهم بالعباسيين فقد بدأت بعد أن قاموا بنشر دعوتهم

بأرجاء «المغرب الأقصى» ، ومن ثم اتصلوا بالخلافة واعترفوا بسلطة

الخليفة الروحية فى العالم الإسلامى، وطلبًا لتأييد «الخلافة

العباسية» لهم، وفى ذلك دعم لدعوتهم التى تأسست عليها دولتهم،

وكان الترحيب والاستجابة سمة العلاقة بين الجانبين.

الأوضاع الحضارية فى دولة المرابطين:

- الوزارة:

بعد أن وطَّد «يوسف بن تاشفين» دعائم دولته، وأخضع «الأندلس»

ص: 68

لسلطته، اتخذ صهره «سير بن أبى بكر» وزيرًا له؛ حيث كان من أبرز

زعماء «لمتونة» وقادتها، وقد أسند «ابن تاشفين» إليه مهمة

الاستيلاء على مدن «الأندلس» .

وإلى جانب الوزارة العسكرية، كانت هناك وزارة مدنية؛ اُختير معظم

مَن تقلدوها من الفقهاء الذين نالوا حظًّا كبيرًا من الثقافة العربية،

أمثال «مالك بن وهب» وزير «على بن يوسف» .

وقد انقسم الوزراء من حيث إقامتهم إلى وزراء مركزيين، يقيمون

بمراكش بوصفها عاصمة البلاد، ووزراء إقليميين، تابعين للأمراء

المحليين. وتنوعت اختصاصات الوزراء وسلطانهم بالإشراف على

الشئون المالية، أو الاختصاص بالكتابة، أو بشئون العمال

والمتصرفين فى أموال الدولة، ذلك فضلا عن الوزير المختص بشئون

الحرب والفنون العسكرية.

- أمراء الأقاليم:

شمل إقليم «المغرب الأقصى» ست ولايات عدا العاصمة «مراكش»

وهذه الولايات هى: «فاس» و «سجلماسة» و «السوس» و «تلمسان» ،

أما الصحراء و «سبتة» و «طنجة» فكانت إقليمًا واحدًا، ويتم اختيار

الولاة من الأسرة الحاكمة بمراكش أو من ذوى قرباهم، أو من القبائل

المؤسسة للدولة.

وقد تمتع ولاة «المغرب الأقصى» فى ظل «دولة المرابطين» بسلطات

واسعة، وكان من حقهم عزل وتعيين من دونهم من الولاة المحليين،

والقيام بتحركات عسكرية داخل مناطق نفوذهم، ولذا أشرف أمراء

المرابطين عليهم، ورسموا لهم السياسات وتابعوا تطبيقها، وحاسبوا

وعاقبوا على التقصير فيها.

- الدواوين:

عمل «يوسف بن تاشفين» بنظام الدواوين فى سنة (464هـ= 1072م)،

فأنشأ «ديوان الرسائل» (الإنشاء) وجعل عليه موظفًا كبيرًا عُرف

باسم: «الكاتب» ، وأقام أربعة دواوين على مالية الدولة، وهى:

1 -

«ديوان الغنائم ونفقات الجند» .

2 -

«ديوان الضرائب» .

3 -

«ديوان الجباية» .

4 -

«ديوان مراقبة الدخل والخرج» .

- الشرطة:

اتخذ أمراء المرابطين الشرطة للمحافظة على أرواح الناس، وحماية

ممتلكاتهم، وصيانة حقوقهم، وقد أُطلق على صاحب الشرطة بالمغرب

ص: 69

الأقصى لقب: «العريف» أو «صاحب الليل» لما يقوم به من الحراسة

ليلاً.

وكان على صاحب الشرطة معاونة الحكام وأصحاب المظالم وإقامة

الحدود والتعازير، وإشخاص الناس لذلك، فضلاً عن مراقبة أبواب

المدينة وتحصيناتها.

النظام القضائى:

أقام المرابطون نظامهم القضائى على الأسس القضائية التى أحكمها

الأمويون بالأندلس؛ إذ فصلوا بين السلطتين الإدارية والقضائية،

واستعان المرابطون بكثير من القضاة من مختلف المناطق مثل:

«موسى بن حماد الصنهاجى» الذى تولى القضاء بمراكش فى عهد

«على بن يوسف بن تاشفين» ، وتُوفى فى سنة (535هـ=1140م)،

والقاضى «ابن ملجوم» ، من «فاس» ، وتولى القضاء بفاس ومات فى

سنة (543هـ= 1148م)، والقاضى «عياض بن موسى بن عياض

اليحصبى» من «سبتة» ، وقد تولى القضاء بسبتة، وتُوفى بمراكش

فى سنة (544هـ= 1149م).

واشتُرِط فى القاضى أن يكون رجلا عاقلا حرا مسلمًا عادلاً، مع

السلامة فى السمع والبصر، وأن يكون عالمًا بالأحكام الشرعية، وأن

تكون مصادره فى القضاء الكتاب والسنة وما وقع عليه إجماع الأمة

والاجتهاد، والمتكلَّم به عند الفقهاء.

الحياة الاقتصادية فى دولة المرابطين:

شهد «المغرب الأقصى» فى عهد «دولة المرابطين» ازدهارًا اقتصادياً

ورخاءً فى مناحى الحياة كافة؛ حيث حرص المرابطون على النهوض

بالزراعة والصناعة والتجارة، واهتموا بالنظام المالى وإدارته وكيفية

جمعه وإنفاقه، واتخذ «يوسف بن تاشفين» حصنًا صغيرًا لحفظ

الأموال والسلاح، ثم دَوَّن لذلك الدواوين حين اتسعت أعمال دولته

واستقرت أوضاعها فجعل للمالية دواوين: «الغنائم» ، و «نفقات

الجند»، و «الضرائب» ، و «الجباية» ، و «مراقبة الدخل والخرج» ، وكان

الكتَّاب يقومون بتدوين النواحى المالية المختلفة، والعمال الذين

يقومون بجبايتها، وكان جمع أموال الزكاة والجزية المفروضة على

أهل الذمة يتم كل عام، أما غير ذلك من مصادر المال كالغنيمة

والعشور، فإنها كانت مرتبطة بظروفها.

ص: 70

وكان المشتغلون بمالية الدولة -دائمًا- تحت المراقبة الشديدة،

والحساب المستمر، والعقاب السريع فى حالة التقصير.

وتأتى الزكاة فى مقدمة مصادر الدخل المالى لهذه الدولة، ثم تليها

الجزية المفروضة على أهل الكتاب نظير ما يتمتعون به من أمن

وحماية، وقد فُرضت الجزية على الرجال الأحرار العقلاء، ولم تُؤخذ من

النساء، ولا من الصبية والمجانين والعبيد، وكان مقدارها موكولاً إلى

ولاة الأمر واجتهادهم. أما فيما يتعلق بالضرائب، فإن المرابطين فى

بداية عهدهم التزموا بأحكام الشرع، ولم يفرضوا إلا ما جاء بالكتاب

والسنة، وألغوا ما عدا ذلك من الضرائب بالمغرب والأندلس، وشكلت

الغنيمة مصدرًا مهما من مصادر الدخل للدولة، نظرًا للمعارك الكثيرة

التى خاضها المرابطون ضد الإفرنج.

وقد ساهمت المصادر المالية المتنوعة فى الإنفاق على تجهيز

الحملات العسكرية المتكررة، وإقامة المنشآت، والإنفاق على أوجه

الإصلاح والتعمير، فضلا عن المرتبات والأرزاق، وأصدر المرابطون

العملات النقدية لتأكيد سلطانهم الاقتصادى.

واهتموا بالزراعة وما يتعلق بها، فشيد «على بن يوسف» قنطرة

على نهر «تانسيفت» لتوزيع المياه اللازمة للزراعة، فشهدت البلاد -

لخصوبة أرضها- وفرة فى المزروعات، وكذلك فى الغابات التى

نبتت فى أجزاء متفرقة من البلاد. فأمدت البلاد بكميات وفيرة من

الأخشاب التى استخدمت فى كثير من الصناعات مثل صناعة السفن.

وكان للصناعة دور بارز فى ازدهار اقتصاد «دولة المرابطين» ؛ حيث

ازدهرت صناعات كثيرة ومتنوعة نتيجة استقرار الأوضاع، وتوافر

المواد الخام، ووجود الخبرة الصناعية المتمثلة فى الأيدى العاملة

التى حركت عجلة التصنيع، ودفعتها إلى الأمام.

وقد ظهرت عدة صناعات منها: صناعة السفن والزجاج، وأدوات

النحاس والحديد، واستخراج الزيوت من الزيتون، والسكر من القصب،

وكذلك صناعة الملابس من القطن والصوف، وصناعة دبغ الجلود.

ص: 71

وشاركت التجارة فى دفع عجلة الاقتصاد بدولة المرابطين منذ

تأسيسها؛ حيث وجه أمراء هذه الدولة اهتمامهم إلى التجارة،

وعملوا على تنشيطها؛ بتشجيع التجار على ارتياد البلاد، ووفروا لهم

سبل الإقامة، وأنشأوا لهم الفنادق، مثلما فعل «يوسف بن تاشفين»

حين دخل مدينة «فاس» فى سنة (462هـ= 1069م).

وقد وُجدت المراكز التجارية فى أنحاء دولة المرابطين، وبخاصة فى

العاصمة «مراكش» التى حظيت باهتمام التجار، وصارت مركزًا للتجارة

الداخلية بين مدن الشمال والجنوب، كما كانت مدينة «فاس» مركزًا

تجارياًّ مهماًّ، لموقعها الممتاز فى قلب البلاد، وتوافر المحاصيل

الزراعية والصناعات المختلفة بها.

وارتبطت مراكز التجارة الخارجية بالمغرب الأقصى فى عهد

المرابطين، بعدة طرق برية يضاف إليها الطريق الملاحى الذى تنقل

التجارة بواسطته من هذه البلاد وإليها، وكانت أهم الطرق البرية

هى: الطريق الذى كان يربط البلاد بمنطقة «السنغال» و «النيجر» ؛ إذ

كان يمر بسجلماسة «ودرعة» ومدن «المغرب الأقصى» ، متجهًا إلى

«أودغشت» ، ثم إلى منحنى «النيجر» ، وهناك طريق الساحل الذى

يربط «دولة المرابطين» بالشرق حتى «مصر» ، إلى جانب طريق آخر

من «أودغشت» و «سجلماسة» ، تسير فيه القوافل بالصحراء حتى

«الواحات الداخلة» بمصر.

وكان للموانى المنتشرة على ساحل «البحر المتوسط» و «المحيط

الأطلسى» أثر كبير فى تنشيط حركة التجارة، فتنوعت صادرات

البلاد، وشملت: القطن، والقمح، والسكر، والزيتون، والزيت

المستخرج من الأسماك، والنحاس المسبوك، وغيرها من الصادرات.

أما أهم وارداتها، فكانت: الذهب، والزئبق، وبعض أنواع النسيج

البلنسى، والعطر الهندى، وبعض الواردات الأخرى.

الحياة الاجتماعية فى دولة المرابطين:

شكل البربر الغالبية العظمى من سكان «بلاد المغرب» الذين تأسست

على أيديهم دولة المرابطين، وقد شاركهم العرب فى الإقامة بالمنطقة

ص: 72

منذ بدأت فتوح المسلمين لهذه البلاد، ثم جاءت القبائل العربية

الهلالية بعد ذلك إليها، وشاركهم السودانيون الذين انضموا إلى

جيوش المرابطين، فضلاً عن تواجد عنصر الروم والصقالبة الذين

عاشوا فى ظل المرابطين، واتخذ منهم بعض الأمراء حرسه الخاص،

كما استخدمهم بعض الأمراء فى جباية الأموال.

وقد تبوأت المرأة مكانة مرموقة فى المجتمع المرابطى، وتمتعت

بوضع كريم فى القبيلة الصنهاجية؛ إذ كانت تشترك فى مجلس

القبيلة، وتشارك فى الأمور المهمة. وبلغ احترام المرابطين للمرأة حدا

جعل القادة والأمراء يُلقبون أنفسهم بأسماء أمهاتهم، تقديرًا لدور

المرأة فى المجتمع، فنجد «ابن عائشة» ، و «عبدالله بن فاطمة» ،

وهما من أبرز قادة المرابطين.

وعاش أهل الذمة فى بلاد المرابطين إلى جانب غيرهم من طبقات

المجتمع وفئاته فى ظل حماية القيادة العليا للبلاد، وأصبحت طائفة

اليهود على قدر كبير من الثراء، ولكن بعض أهل الذمة عمدوا إلى

مساعدة أعداء البلاد، وتحريضهم على غزوها، فكان رد فعل أمراء

المرابطين هو نفى عدد كبير من هؤلاء، ومنْع اليهود من المبيت

بالعاصمة «مراكش» ، والسماح لهم بالعمل نهارًا، والانصراف منها

ليلاً؛ وهو إجراء وقائى للحفاظ على العاصمة من المؤامرات

والدسائس والفتن، وبها ما بها من تجمعات الجند وقادة الجيوش،

وإدارة البلاد، فضلا عن كونها مقر أمير البلاد وأسرته وأعوانه

وحاشيته.

البناء والتعمير:

انتعشت حركة البناء والتعمير فى «دولة المرابطين» ، وقد بدأها

الأمير «يوسف بن تاشفين» بتأسيس مدينة «مراكش» وبنائها،

وغيرها من المنشآت، وتبعه فى ذلك ابنه «على» والأمراء من بعده،

وامتازت مبانى المرابطين بالضخامة والقوة والاتساع، والاقتصاد فى

الزخرفة تمشيًا مع بساطتهم.

وتعد «مراكش» من أبرز أعمال المرابطين، وكان سبب بنائها، ازدحام

مدينة «أغمات» بقبائل المرابطين القادمين من الجنوب، يضاف إلى

ص: 73

ذلك موقعها الاستراتيجى فى مفترق طرق الأطلس والصحراء، وقربها

من مواطن المصامدة الذين يشكلون غالبية السكان، وكذلك قربها من

صحراء المرابطين ومواطن «لمتونة» ؛ حيث توجد الإمدادات العسكرية،

وتأسست «مراكش» على أرجح الآراء فى سنة (454هـ= 1062م)،

وشارك الأمير «يوسف» فى البناء لتشجيع من حوله فى المساهمة،

ثم بنى فيها ابنه الأمير «على» قصره المعروف بدار الحجر، وأحاطه

بالأسوار.

الحياة الفكرية:

عاشت «دولة المرابطين» نهضة فكرية مزدهرة، ازدهرت فيها علوم

الأدب واللغة والعلوم والفلسفة والطب، ووفد طلاب العلم على المدن

المغربية من كل مكان، وقد ساعد على ذلك تشجيع الأمراء المرابطين

للعلماء وطالبى العلم، فقصد العلماء العاصمة «مراكش» ، وانتظم

الطلاب فى دراساتهم، واجتهد كل ذى موهبة فى إبراز ما لديه،

ورغب كثير من أبناء «المغرب» فى طلب العلم، لأن مناصب الدولة

ووظائفها كانت مقصورة على المتعلمين والمثقفين.

وأصبحت «مراكش» تضاهى «بغداد» فى ازدهار العلوم وكثرة

العلماء وشاركتها مدينة «فاس» التى أسسها «إدريس بن عبدالله»

فى المكانة، وظل مسجدها الكبير (جامع القرويين) مركز إشعاع

علمى يقصده طلاب العلم من كل مكان.

العلوم الدينية:

أسهمت الروح الدينية التى سادت «بلاد المغرب» منذ قيام «دولة

المرابطين» فى ازدهار العلوم الشرعية؛ مثل: علوم التفسير والحديث

والفقه والكلام، ووفود كثير من علماء الأندلس على مراكش وغيرها

فأسهموا فى دفع حركة التأليف، وشاركهم أبناء المغرب الذين

أقبلوا على الدراسة والبحث فى دفع هذه الحركة، فنبغ عدد كبير

من العلماء.

وعنى المغاربة بكتاب «الوجيز» فى التفسير لعبدالحق بن غالب بن

عطية المحاربى، المتوفى فى سنة (541هـ= 1146م)؛ حيث جمع فيه

«ابن غالب» خلاصة التفاسير كلها، وتحرَّى منها ما هو أقرب إلى

الصحة.

ونال علم الحديث عناية فائقة من ولاة الأمر، وكان «موطأ» الإمام

ص: 74

«مالك» مدار الدراسات فى الدولة، وكذلك نشط علم الفقه، ولم ينل

علم الكلام الرعاية والعناية خلال حكم المرابطين، لأنهم نهجوا طريق

السلف، ولم يميلوا إلى الخوض فى هذا العلم.

الحياة الأدبية والعلمية:

ازدهر الأدب بنوعيه الشعر والنثر فى هذه الفترة باعتباره مظهرًا من

مظاهر الحركة الفكرية بالبلاد، وحظى الأدباء برعاية الولاة، وكان

بالبلاط المرابطى بعض كبار الكتاب والأدباء الأندلسيين، أمثال:

«أبى القاسم بن الجد» ، و «ابن القبطرنة» ، و «أبى عبدالله بن أبى

الخصال»، و «ابن خلدون» وغيرهم.

وقد أثر المذهب المالكى وعلماؤه وفقهاؤه فى توجيه الأدب

المغربى وجهة تميزت بالبساطة والوضوح، وبعدت عن الزخرف

والصنعة وبعدته عن تناول بعض الأغراض التى تناولها أدباء المشرق

مثل: «الخمريات» ، التى تتنافى مع الجو الدينى الذى ساد البلاد.

المكتبات:

كثر عدد المكتبات التى ازدحمت بالمؤلفات فى عهد المرابطين، نظرًا

لكثرة العلماء والمؤلفين والكتاب، واهتمام ولاة الأمر بهم وتكريمهم

لهم، وقد ساعد ذلك على ازدهار الحركة الفكرية للبلاد.

ولم تكن الرغبة فى جمع الكتب مقصورة على ولاة الأمر، بل تعدتها

إلى أبناء الشعب، ودفع الكثير منهم مبالغ كبيرة لشراء مرجع أو

اقتناء كتاب. مثلما فعل القاضى: «عيسى بن أبى حجاج بن

الملجوم» الذى اشترى من «أبى على الغسانى» نسخة من «سنن

أبى داود» بخمسة آلاف دينار.

وكان منصب «أمين مكتبة الخزانة العلية» من المناصب الرفيعة فى

الدولة، ولا يتولاه إلا أحد أكابر العلماء المشهورين بالثقافة

والكفاءة ودقة التصنيف.

وقد تحددت أماكن كثيرة لبيع الكتب بدولة المرابطين، ففى

«مراكش» كانت متاجر بيع الكتب المخطوطة إلى جوار جامع

الكتبيين، وكانت فى «تلمسان» سوق لبيع الكتب. وهكذا ساهمت

المكتبات فى دفع تيار الثقافة بالبلاد، وتزويدها بما تحتاجه من

مختلف فروع العلم والمعرفة.

ص: 75

الفصل الحادي عشر

*دولة الموحدين

ظهور المهدى بن تومرت:

لم تنعم «دولة المرابطين» بالهدوء والاستقرار منذ ظهور الداعية

«محمد ابن تومرت» على مسرح الأحداث، وقد نشأ «ابن تومرت»

نشأة دينية بقبيلة «هرنمة» إحدى قبائل المصامدة، ولكن ما تلقاه

من علوم فى وطنه لم يَرْوِ ظمأه، فسافر إلى المراكز الثقافية

المشهورة بالعالم الإسلامى، وبدأ رحلاته إلى «الأندلس» فى مطلع

القرن السادس الهجرى، ثم إلى المشرق مارَّا بالإسكندرية، ومنها إلى

«مكة» ثم إلى «بغداد» حيث التقى هناك بأكابر العلماء أمثال «أبى

بكر الطرطوشى»، واستغرقت رحلته فى طلب العلم نحو خمسة عشر

عامًا مكنته من التزود بقدر كبير من الثقافة والمعرفة، وتعرُّف أحوال

العالم الإسلامى، ومدى انقسام المسلمين وفرقتهم بالمشرق.

وبعد أن عاد إلى «المغرب» بدأ دعوته بمدن المغرب محاولاً إصلاح

الأوضاع الفاسدة وتغييرها. فوجدت دعوته قبولاً وترحيبًا من

الجماهير، ورفضًا شديدًا من الحكام؛ إذ رأوها خطرًا يهدد مصالحهم

ومراكزهم.

والتقى «ابن تومرت» خلال هذه الرحلة بعبد المؤمن بن على الذى

أصبح من أخلص تلاميذه، وصاحبه فى كل مكان يذهب إليه، ثم دخل

«ابن تومرت» العاصمة «مراكش» فى منتصف ربيع الأول سنة (515هـ=

1121م)، وقام بدوره فى الوعظ والإرشاد، واعترض على سياسة

الدولة فى بعض الأمور، فوصل خبره إلى الأمير «على بن يوسف»

الذى استدعاه، وجمع كبار العلماء والفقهاء لمناظرته.

وانتهى الأمر بطرده من العاصمة خشية التأثير على العامة وإضعاف

مراكز الفقهاء. وكانت الحصافة السياسية تقتضى سجن هذا الداعية

أو التحفظ عليه لخطورته على الدولة، وهو ما تحقق عقب مغادرة

«ابن تومرت» «مراكش» ، إذ أعلن عن نياته فى مواجهة السلطة

الحاكمة، وخلعه الأمير «على بن يوسف» ، وبايعه مَن حوله إمامًا

للدعوة الجديدة فى سنة (515هـ= 1121م)، واتخذ من مدينة «تينملل»

مقرا له، ومركزًا لدعوته، وشرع فى تحقيق أهدافه السياسية

ص: 76

والدينية لإقامة خلافة إسلامية بالمغرب، ولم يدخر فى ذلك وُسعًا ولا

وسيلة إلا استغلها، وعمد إلى نشر دعوته بين السذج، وألَّف لهم فى

التوحيد والعقيدة بلغتهم البربرية حتى يسهل عليهم التعلم، ويسهل

عليه السيطرة عليهم، ومن ثم باتت له الكلمة العليا فى كل شئونهم.

وفاة ابن تومرت [524هـ= 1130م]:

شارك «ابن تومرت» فى الكفاح المسلح ضد «دولة المرابطين» ،

وتذكر المراجع أنه اشترك فى تسع غزوات، وكانت معركة

«البحيرة» التى أصيب فيها الموحدون بالهزيمة هى السبب الرئيسى

فى خيبة أمل «ابن تومرت» ومرضه؛ حيث قتل فيها عدد كبير من

أتباعه، ولكن بقاء تلميذه ومساعده «عبد المؤمن بن على» على قيد

الحياة كان سببًا فى تخفيف هذه الصدمة، ومع ذلك لزم «ابن تومرت»

داره، واشتد عليه مرضه، وفارق الحياة فى سنة (524هـ= 1130م)،

وخلَّف وراءه حربًا مشتعلة على أرض «المغرب الأقصى» .

عبدالمؤمن بن على:

حمل «عبدالمؤمن» أعباء الدعوة عقب وفاة أستاذه، وشُغل بتنظيم

شئون الموحدين، مدة عام ونصف العام، ثم شرع فى الكفاح ضد

المرابطين فى منطقة «الأطلس» جنوبى «مراكش» فى «وادى درعة»

و «بلاد السوس» و «بلاد جاحة» القريبة من «تينملل» ، ثم استولى

الموحدون على «مراكش» عاصمة المرابطين فى سنة (541هـ=

1146م)، بعد كفاح دام أكثر من عشر سنوات كان النصر فيها حليفًا

للموحدين.

وقد نجح «عبدالمؤمن» فى إحكام قبضته وسيطرته على «المغرب

الأقصى» بعد سقوط دولة المرابطين بسقوط عاصمتهم «مراكش» ، ثم

وجه اهتمامه إلى الشرق، وبعث بحملاته المتتابعة التى وصلت حتى

«طرابلس» بإفريقية، فساعد هذا النصر على تحقيق الوحدة

السياسية للمغرب الإسلامى، وتلقب «عبدالمؤمن» بلقب خليفة، واتخذ

من «مراكش» عاصمة للخلافة، ثم شرع فى تجهيز حملة كبيرة لدفع

النصارى عن مدن «الأندلس» فى سنة (556هـ= 1161م)، إلا أن مرضه

حال دون إتمام هذه الحملة، ومات فى سنة (558هـ= 1163م).

يوسف بن عبدالمؤمن:

ص: 77

بويع «يوسف» فى سنة (558هـ= 1163م)، ليكون خلفًا لوالده.

وما إن استقر فى العاصمة حتى واجهته ثورة «مرزدغ الصنهاجى»

بجبال «غمارة» ، فنجح فى القضاء عليها وتفريق أعوانها، ثم أمر

بقتل «مرزدغ» ، وحمل رأسه إلى العاصمة «مراكش» .

ووجه «ابن عبدالمؤمن» جُلَّ جهوده إلى دعم سلطة الموحدين

بالأندلس، وبعث بالحملات المتتابعة إليها، وخرج على رأس إحداها

فى سنة (566هـ= 1170م)، لتأمين ثغور «الأندلس» وضبطها

وإصلاحها، ثم خرج فى سنة (579هـ= 1183م) على رأس حملة كبيرة

إلى «الأندلس» لغزوها، إلا أنه أصيب بسهم عند أسوار «شنترين» ،

فأسرع الجند بحمله والعودة به مصابًا إلى «مراكش» ، فقضى نحبه

فى سنة (580هـ= 1184م).

المنصور الموحدى:

ولى «يعقوب بن يوسف بن عبدالمؤمن» خلفًا لوالده فى سنة (580هـ=

1184م)، ولقب نفسه بالمنصور، وتوزعت جهوده العسكرية فى أكثر

من ميدان؛ حيث قامت ثورة بزعامة «الجزيرى» الذى أخذ يدعو لنفسه

بين القبائل فى سنة (585هـ= 1189م)، فقضى عليها «المنصور»

وقتل زعيمها، ثم قامت ثورة أخرى ببلاد «الزاب» بزعامة رجل يدعى

«الأشلّ» فى سنة (589هـ = 1193م)، فكان مصيرها الفشل مثل

سابقتها.

أما ثورة «بنى غانية» ، التى استهدفت إحياء «دولة المرابطين»

والدعاء للخلافة العباسية على المنابر بإفريقية، فكانت الخطر

الحقيقى الذى هدد «دولة الموحدين» ، فوجّه «المنصور» إليها كل

جهوده للقضاء عليها، وعلى الرغم من تكرار المحاولة فإنه لم ينجح

فى القضاء عليها نهائياًّ.

وقد أولى «المنصور» «الأندلس» اهتمامه وعنايته، ودخل فى عدة

معارك مع الإفرنج؛ كانت أبرزها معركة «الأرك» فى سنة (591هـ=

1195م)، تلك التى أوقفت زحف النصارى، وزادت من هيبة الموحدين

ومكانتهم بالشمال الإفريقى، ثم أصيب المنصور بوعكة صحية أدت

إلى وفاته فى سنة (595هـ = 1199م).

الناصر الموحدى:

تولى «الناصر أبو عبدالله محمد بن يعقوب» خلفًا لوالده «المنصور» ،

ص: 78

فحدثت فى عهده بعض التطورات السياسية والعسكرية التى انتقلت

بدولة الموحدين من مرحلة القوة والسيادة إلى مرحلة الانهيار

والسقوط؛ حيث تمكن فى بداية حكمه من القضاء على ثورة «بنى

غانية» بإفريقية التى دخلها فى سنة (598هـ= 1202م)، وعاد منها

فى سنة (604هـ= 1207م)، بعد أن ولى على «إفريقية» «أبا محمد

عبد الواحد بن أبى حفص» أحد أشياخ الموحدين، فعكف «ابن أبى

حفص» على معالجة شئون «إفريقية» ، ودعم سلطان الموحدين بها،

إلا أن ولاية «أبى حفص» كانت البداية لقيام «دولة الحفصيين»

بتونس؛ حيث استقل أبناؤه - بعد ذلك - بها وأسسوا ملكًا مستقلاً.

وقد فُجع الموحدون بهزيمة قاسية بالأندلس فى معركة «العقاب»

التى راح ضحيتها عدد كبير من الجند، مما أضعف «دولة الموحدين»

وأفقدهم هيبتهم، وأُصيب «الناصر» بالمرض، وتوفى فى سنة

(610هـ= 1213م).

وقد عرف الانهيار والضعف طريقهما إلى «دولة الموحدين» عقب وفاة

«الناصر» ، ودخلت الدولة مرحلة من الفوضى، والصراع بين أفراد

البيت الموحدى، فضلاً عن اندلاع الثورات والقلاقل فى أماكن

متعددة، وظل هذا حالها حتى سنة (668هـ= 1269م)، التى قتل فيها

«أبو دبوس» آخر خلفاء الموحدين أمام أسوار العاصمة «مراكش»

التى دخلها «المرينييون» وقضوا على «دولة الموحدين» . وقد تولى

عقب وفاة «الناصر» عدد من الخلفاء الضعاف، هم:

1 -

أبو يعقوب يوسف الثانى المستنصر بالله [611 - 620هـ].

2 -

أبو محمد عبدالواحد المخلوع [620 - 621هـ= 1223 - 1224م].

3 -

أبو محمد عبدالله العادل [621 - 624هـ = 1224 - 1227م].

4 -

المأمون أبو العلاء إدريس ابن يعقوب المنصور [624 - 630هـ= 1227

- 1233م].

5 -

أبو محمد عبدالواحد الرشيد [630 - 640هـ= 1233 - 1242م].

6 -

أبو الحسن على السعيد المقتدر بالله [640 - 646هـ= 1242 -

1248م].

7 -

أبو حفص عمر المرتضى [646 - 665هـ = 1248 - 1267م].

8 -

أبو العلاء إدريس الثانى (المعروف بأبى دبوس) [665 - 668هـ=

ص: 79

1267 -

1269م].

العلاقات الخارجية:

انحصرت علاقات الموحدين الخارجية فى جبهتين هما: «الأندلس» ،

و «الخلافة العباسية» .

أما «الأندلس» ، فقد استولى عليها الموحدون مع غيرها من المدن من

المرابطين، وساروا على نهج من سبقهم فى التصدى لعدوان

النصارى، وأعدوا الحملات، وخاضوا المعارك من أجل تحقيق هذا

الهدف، ولكن هزيمتهم فى معركة «العقاب» فى عام (609هـ=

1212م)، كانت بداية انحسار نفوذهم على أرض «الأندلس» ، ومن ثَم

بدأت القوى النصرانية تحقق انتصاراتها حتى زالت «دولة الموحدين» .

وقد اختلف موقف الموحدين من الخلافة العباسية عن موقف

المرابطين؛ حيث لم يعترف الموحدون بالعباسيين، واعتبروا أنفسهم

خلفاء، وأن مركز الخلافة مدينة «مراكش» ، وليس «بغداد» ، ودعموا

خلافتهم بالادعاء بأن «ابن تومرت» و «عبدالمؤمن» من نسل الرسول

عن طريق «الأدارسة» ، واتخذوا اللون الأخضر شعارًا لهم كى يظهروا

ميلهم إلى الدعوة العلوية، وتشبهوا بالرسول فى تصرفاته وأفعاله.

الأوضاع الحضارية فى دولة الموحدين:

أولا: السلطة العليا فى البلاد:

عمد ابن تومرت تنظيم أصحابه فى نظام إدارى معين، وعلى قمة هذا

التنظيم الإدارى هيئة العشرة التى تختص بالعظيم من الأمور، ولم

يتركهم «ابن تومرت» إلا وقد عهد إلى «عبدالمؤمن بن على» أن

يتولى خلفًا له قيادة الموحدين.

وقد بويع «عبدالمؤمن» بيعتين: بيعة خاصة، وبيعة عامة، أما الخاصة

فكانت عقب وفاة «ابن تومرت» (524هـ= 1129م)، واقتصرت هذه

البيعة على أهل الجماعة.

وأما العامة فكانت فى سنة (527هـ= 1132م) على أرجح الأقوال.

وقد اتخذ خلفاء الموحدين الوزراء لمعاونتهم فى إدارة شئون البلاد،

وأصبح للخليفة وزير أو أكثر، وكان اختيار الوزير يتم عادة من

الأسرة الحاكمة أو من أسر وقبائل معينة، ثم أصبح الوصول إلى هذا

المنصب يتم وفقًا لصفات وشروط يجب أن تتوافر فيمن سيقع عليه

الاختيار لهذه المكانة.

ص: 80

وقد تولى عدد من أفراد أسرة الخلافة منصب الوزارة، منهم:«عمرو»

ابن الخليفة «عبدالمؤمن» ، وهو أول وزير من أسرة الخلافة، و «أبو

حفص بن عبدالمؤمن» أخو الخليفة «يوسف» .

واختير عدد من الوزراء من أسرة «بنى جامع» ، وقبيلة «هنتاتة» ،

وقبيلة «كومية» ، وأشهر وزرائهم على التوالى هم: «أبو العلاء

إدريس بن إبراهيم بن جامع»، و «أبو عمر بن أبى زيد الهنتانى» ،

و «عبدالسلام بن محمد الكومى» .

وهناك وزراء أهَّلتهم صفاتهم ومواهبهم لتولى هذا المنصب، مثل:

«أبى جعفر أحمد بن عطية» .

ثانيًا: النظام الإدارى:

استعان الموحدون فى بداية عهدهم بأشياخهم فى تولى أقاليم

الدولة، ثم أنشأ الخليفة «عبدالمؤمن» بمراكش مدرسة جمع فيها

أولاده وثلاثة آلاف طالب من قبائل المصامدة، وزوَّدهم بمختلف

العلوم، وأشرف على تعليمهم إدارة شئون البلاد، وتدريبهم على

شئون الحرب والقتال، فلما أتموا تعليمهم استبدلهم بأشياخ

الموحدين فى تولى السلطة بأقاليم الدولة، ثم عين أبناءه بعد ذلك

على الأقاليم.

الدواوين:

اهتم الموحدون بإنشاء الدواوين المختلفة ويأتى فى مقدمتها ديوان

الإنشاء الذى يختص بالمراسيم السلطانية والرسائل الموجهة إلى

الولاة والقضاة، ولذا حشد له الخلفاء نخبة ممتازة من أدباء المغرب

والأندلس، ثم يأتى بعده «ديوان الجيش» الذى يتفرع إلى ديوانين

لكل منهما اختصاصه. كما كان هناك «ديوان الأعمال المخزنية» الذى

يشرف على تحصيل الأموال العامة، وعلى إنفاقها، ويراقب العمال

والمشرفين ويحاسبهم.

الشرطة:

كانت الشرطة من المناصب الإدارية المهمة التى اهتم بها الموحدون،

وظهر ذلك فى عهد «يوسف بن عبدالمؤمن» الذى زود المدن المغربية

بنخبة ممتازة من الرجال للسهر على أمنها وحمايتها، كما خُصص

للأسواق رجال من الشرطة لحمايتها من اللصوص والمتسللين.

النظام القضائى:

اتخذ الموحدون نظامًا قضائيًّا مشابهًا لنظام المرابطين، وحرص خلفاء

ص: 81

الموحدين على تعيين كبار القضاة بأنفسهم، وأحاطوهم بالهيبة

والجلال، وجعلوهم نوعين، هما: قضاة المدن المغربية، وقاضى

الجماعة بالعاصمة، وكان قاضى الجماعة أعظم رتبة ومنزلة من بقية

القضاة، وهو يوازى قاضى القضاة بالمشرق، وكان مقصورًا على

قاضى «مراكش» وقاضى «قرطبة» ويتم تعيينه من الخليفة مباشرة.

ومُنح القضاة الحق فى مراقبة جميع العمال والولاة، وجمع بعضهم

بين وظائف القضاء والكتابة والمظالم، كما جمع بعضهم بين وظيفتى

القضاء بالمغرب و «الأندلس» .

الحياة الاقتصادية فى دولة الموحدين:

نعمت البلاد بالرخاء الاقتصادى فى عهد الموحدين؛ إذ وضعوا نظامًا

مالياًّ دقيقًا، تمثل فى الإدارة المشرفة على الجوانب المالية فى

الجباية والإنفاق، فضلا عن وجود دواوين للمال بالعاصمة، وديوان

للمال بكل إقليم يختص بماليته، وأفرد الموحدون دارًا للإشراف على

النواحى المالية، كما استحدثوا منصب الوزير المسئول عن الشئون

المالية أطلقوا عليه اسم «صاحب الأشغال» ، ومهمته استخراج الأموال

وجمعها وضبطها، وتعقب نظر الولاة والعمال فيها، ثم تنفيذها على

قدرها وفى مواقيتها، وكان يعاون صاحب الأشغال رؤساء الدواوين

المالية بالدولة.

فوفرت هذه المصادر إلى جانب الزكاة وخمس الغنائم أموالا كثيرة

لخزينة الدولة، أُنفق معظمها على إعداد الجيش فى البر والبحر،

ودفع مرتبات الوزراء ورجال البلاط والحشم والقضاة والفقهاء،

وكذلك فى الإنفاق على الطلبة المنتظمين بالمدرسة التى أنشأها

الخليفة «عبدالمؤمن» ، كما أنفق منها على إنشاء المدن والقصور

والحصون وغيرها من المنشآت.

وأصدر الموحدون عملة نقدية من الدنانير والدراهم.

وقد اهتم الموحدون بالزراعة وشجعوا المزارعين على استغلال

الأرض، ووفروا لهم المياه اللازمة للزراعة، فتوافرت محاصيل القمح

والشعير، والقطن، وقصب السكر، وغير ذلك من المحاصيل، كما

نعمت البلاد بأصناف الفواكه المتنوعة مثل: العنب والتفاح والكمثرى،

ص: 82

وغيرها، وانتشرت الغابات بالبلاد، وتوافر بها شجر الأَرْز والزان

والبلوط.

ونشطت الحركة الصناعية، وتوافرت المراكز الصناعية بالبلاد، مثل

مدينة «فاس» و «مراكش» ،وغيرها من المدن التى تنوعت بها

الصناعات وضمت: صناعة الصابون، والتطريز، والدباغة، وسبك

الحديد والنحاس، وصناعة الزجاج، والفخار، وغير ذلك من الصناعات.

وازدهرت التجارة فى الداخل والخارج، وكثرت المراكز التجارية التى

أولاها الموحدون عنايتهم، وشيدوا بها عدة أسواق، كما شيدوا بها

الفنادق، كما ساهمت «مكناسة» فى دعم ازدهار التجارة حيث كانت

محطة للمسافرين يبيعون ويشترون بها، فضلاً عن وجود عدد من

الأسواق العامرة والتجارات المختلفة بها.

وتمتعت البلاد بنهضة تجارية خارجية، لوجود شبكة من الطرق التى

ربطت المدن المغربية بغيرها من المراكز التجارية، فضلاً عن وجود

عدد من الموانئ المطلة على «البحر المتوسط» و «المحيط الأطلسى» ،

وكانت محطات للسفن المحملة بالبضائع القادمة أو الخارجة منها،

فتنوعت الصادرات مثل: القطن والقمح والسكر، وكذلك الواردات مثل:

الذهب وبعض أنواع النسيج البلنسى، والعطر الهندى.

ولعب ميناء «سبتة» على «البحر المتوسط» ، وميناء «سلا» على

«المحيط الأطلسى» ، دورًا بارزًا فى تنشيط الحركة التجارية فى ظل

حماية الأسطول الموحدى.

الحياة الاجتماعية فى دولة الموحدين:

شكلت قبائل المصامدة العنصر الرئيسى لسكان دولة الموحدين، وقد

استقرت بالمنطقة منذ زمن، واتخذت المعاقل والحصون والقلاع،

وشيدت المبانى والقصور، وامتهن أفرادها الزراعة وفلاحة الأرض،

ولم يحاولوا الهجرة من أرضهم، بل تمسكوا بها، ودافعوا عنها ضد

أى محاولة للاعتداء أو الاستيلاء عليها.

أما العنصر الثانى من سكان «دولة الموحدين» فهم العرب الهلالية

الذين ظهروا على مسرح الأحداث، وعمد الموحدون إلى تهجيرهم من

«إفريقية» إلى «المغرب الأقصى» ، ليتخلصوا من ثوراتهم، كما

ص: 83

استخدموهم فى عمليات الجهاد بالأندلس، فأقبلت أعداد كبيرة منهم

إلى «المغرب الأقصى» ، وانتقلت أعداد أخرى إلى الإقامة بالأندلس

من خلال الحملات التى قام بها الموحدون هناك، ثم حدد الموحدون

إقامة بعض القبائل.

وقد تمتع العرب الهلالية بما يتمتع به جند الموحدين، وأقطعهم ولاة

الأمر بعض الأراضى، وأنفقوا عليهم النفقات الكبيرة، وأغدقوا عليهم

بالعطايا حتى يوفروا لهم الاستقرار ويبعدوهم عن الفتن وإثارة

القلاقل والاضطرابات.

ونالت المرأة حظها من التكريم والإنصاف والاحترام فى «دولة

الموحدين»، وأتاحت لها الظروف أن تنال حظا من العلوم المختلفة،

وقسطًا من ثقافة العصر وأدبه، وبرزت الكثيرات من النساء مثل:

«زينب» بنت الخليفة «يوسف بن عبدالمؤمن» ، والشاعرة العالمة

«حفصة بنت الحاج الركونية» ، و «فاطمة بنت عبدالرحمن» .

وعاش أهل الذمة فى أنحاء متفرقة من البلاد، وكانت لهم أحياؤهم

بالعاصمة «مراكش» وبمدينة «سجلماسة» ، وكانوا يشتغلون بالبناء.

البناء والتعمير:

اهتم الموحدون بالبناء والتعمير بالمغرب و «الأندلس» ، وحظيت

«مراكش» و «الرباط» وغيرهما من المدن المغربية بكثير من المنشآت

الموحدية، وأنشأ الخليفة «عبدالمؤمن» «مدينة الفتح» ، كما شيد

المساجد والقصور فى أنحاء متفرقة من البلاد، وكان «المنصور»

مولعًا بالعمارة، فشهدت البلاد نهضة معمارية استمرت طيلة عهده.

الحياة الفكرية:

شهدت «بلاد المغرب» حركة فكرية نشيطة فى عهد المرابطين،

واستمرت كذلك فى عهد الموحدين، وساعدها على ذلك استقرار

الأوضاع بالبلاد، والصلة الوثيقة بين «المغرب» و «الأندلس» ، إلى

جانب رغبة الكثيرين من أبناء «المغرب» فى طلب العلم، فضلاً عن

تكريم الموحدين للعلماء، والمتعلمين ووصلهم بالعطايا، والهبات،

والإنفاق عليهم، كما كانت الأسس الدينية التى قامت عليها «دولة

الموحدين» سببًا فى انتعاش دراسة علوم الدين، وانتعاش الحركة

الفكرية.

المذهب المالكى:

ص: 84

شن «ابن تومرت» حربًا شعواء على العلماء والفقهاء واتهمهم

بالجمود، ولكنه لم يستطع مهاجمة المذهب المالكى الذى رسخ فى

أذهان عامة الشعب وقلوبهم، وتحايل على ذلك بإعداد مُؤَلَّف جمع

فيه الأحاديث النبوية التى وردت بموطأ الإمام «مالك» ، وحذف منها

معظم الإسناد للاختصار، فى محاولة لصرف أذهان الناس عن المؤلفات

المالكية، ثم جاء «عبدالمؤمن» من بعده وأمر بحرق كتب الفروع،

والاقتصار على الأحاديث النبوية. فلما تولى «المنصور الموحدى»

عمد إلى محو المذهب المالكى من البلاد، وجمع كتب المذهب المالكى

وحرقها، وأمر بجمع الأحاديث المتعلقة بالعبادات من كتب الأحاديث

مثل: «البخارى» و «مسلم» وغيرهما، وألزم الناس بدراستها وحفظها،

وعاقب علماء المذهب المالكى المتمسكين بتدريسه، وعلل ذلك بميله

إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة والأخذ بظاهرهما، وكراهيته

للخلافات التى امتلأت بها كتب الفروع، ولكن علماء المالكية لم يؤثر

فيهم التهديد والعقاب، وظلوا يكافحون فى سبيل بقاء مذهبهم

وتدريسه، فسُجن بعضهم مثل «ابن سعيد الأنصارى» ، وتُوفى

بعضهم نتيجة التعذيب مثل: «أبى بكر الجيانى المالكى» ، ومع ذلك

نجح هؤلاء العلماء فى إبقاء هذا المذهب وظل مذهب المالكية راسخًا

ببلاد المغرب.

العلوم الدينية:

ازدهرت العلوم الدينية بدولة الموحدين، وزاد الإقبال على تفسير

القرآن ودراسته باعتباره مصدر التشريع الأول للبلاد، وبرز عدد من

المفسرين منهم: «عبدالجليل بن موسى الأنصارى الأوسى» المتوفى

عام (608هـ= 1211م)، و «أبو بكر بن الجوزى السبتى» ، كما لاقى

علم القراءات رعاية ولاة الأمر، واشتهر فيه: «أبو بكر بن يحيى بن

محمد بن خلف الإشبيلى» المتوفى عام (602هـ= 1205م)، و «على بن

محمد بن يوسف اليابرى الضرير» المتوفى عام (617هـ= 1220م).

أما علم الحديث فقد صار له شأن كبير واهتم به الخلفاء، وأمر الخليفة

«عبدالمؤمن» بحرق كتب الفروع، وردّ الناس إلى قراءة الحديث،

ص: 85

وأملى ابنه «يوسف» وحفيده «المنصور» الأحاديث بنفسيهما على

الكُتاب لتوزيعها على الناس، واشتهر «أبو الخطاب بن دحية السبتى»

و «ابن حبيش» المتوفى عام (584هـ= 1188م)، و «القاضى عياض

السبتى» بتمكنهم من علم الحديث، ووضع بعضهم المصنفات فى هذا

العلم، أما فى مجال الفقه فقد وضع «ابن تومرت» كتابه «الموطأ»

على غرار «موطأ الإمام مالك» بعد حذف أسانيده.

ومن أعلام الفقه فى هذا العصر: «عبدالملك المصمودى» قاضى

الجماعة بمراكش، و «إبراهيم بن جعفر اللواتى» الفقيه المعروف

بالفاسى. ويعد كتاب: «الإعلام بحدود قواعد الإسلام» للقاضى عياض

من أبرز مؤلفات هذا العصر الفقهية.

وقد نال علم الكلام عناية الموحدين منذ قيام دولتهم؛ حيث دعا «ابن

تومرت» إلى دراسته، واتهم علماء المرابطين بالجمود لتحريمهم

دراسة هذا العلم، وقد اشتهر فى هذا العلم: «أبو عمرو عثمان بن

عبدالله السلالجى» المتوفى سنة (564هـ= 1168م)، و «محمد بن

عبدالكريم الغندلاوى الفاسى» المعروف بابن الكتانى المتوفى عام

(596هـ= 1200م).

الحياة الأدبية والعلمية:

تابعت اللغة العربية انتشارها بدولة الموحدين، لأنها لغة البلاد

الرسمية فى مكاتباتها ومعاملاتها وشئونها، وقد ساعد مجىء

العلماء إلى المدن المغربية على انتشار اللغة العربية وازدهارها، كما

كان لقدوم القبائل الهلالية إلى «المغرب الأقصى» واستيطانهم بعض

مناطق البلاد أكبرالأثر فى دعم اللغة العربية وانتشارها؛ لتمسك هذه

القبائل البدوية باللسان العربى وما فيه من مفردات وتراكيب وبلاغة

فى الأساليب. وازدهر الأدب بفرعيه الشعر والنثر، وبلغ درجة عالية

من الرقى، وكثرت محافله ببلاد المغرب، وأقبل ولاة الأمر على

تشجيعه ودعمه، وسعى المغاربة إلى المساواة بالأندلسيين الذين

يفتخرون بمنزلتهم الأدبية، فضلا عن رغبة المغاربة فى الوصول إلى

المناصب العليا التى لا يرقى إليها إلا ذوو العلم والأدب.

ص: 86

وقد تدفق أدباء «الأندلس» وغيرهم على البلاط الموحدى؛ حيث

العطايا والمنح، وبرزت مجموعة من الشعراء منهم: «أحمد بن

عبدالسلام الجراوى»، و «أبو عبدالله محمد بن حبوس» من أهل

«فاس» ، و «أبو بكر بن مجبر» من «شقورة» ، وغيرهم كثير. وكانت

أبرز أغراض الشعر آنذاك هى الوصف والغزل والمدح.

حرص خلفاء الموحدين على تزويد أنفسهم من مختلف الثقافات، لدعم

موقف دولتهم، التى قامت على أساس دينى، ولذا تنوعت ثقافة

الخليفة «عبدالمؤمن» ، وأجاد فى علوم الفقه والجدل والأصول، كما

حفظ الأحاديث النبوية، وأحاط بالنحو واللغة، والأدب، والتاريخ، وعلم

القراءات، والأنساب، وتنوعت ثقافة ابنه «يوسف» ، حيث حظى بقسط

وافر من العلوم المختلفة حين كان واليًا من قِبل أبيه على «الأندلس» ،

وكذلك كان «المنصور» عالمًا بالحديث والفقه واللغة.

أما طبقات الشعب فقد قامت المؤسسات التعليمية بتثقيفهم، سواء

بالمكتب أو الرباط أو المسجد أو المدرسة، وقد قامت المدرسة التى

أسسها الخليفة «عبدالمؤمن» بدور فعّال فى إثراء ثقافة طبقات

الشعب؛ إذ جمعت هذه المدرسة بين الدراستين النظرية والعملية.

وكان أبرز علومها النظرية هى: حفظ القرآن وتدريسه، ودراسة

«موطأ تومرت» ، وحفظ «صحيح مسلم» ، أما العلوم العملية، فكانت:

ركوب الخيل والرمى بالسهم والقوس، وتعليم السباحة فى بحيرة

صنعت من أجل ذلك بالمدرسة.

المكتبات:

سبقت الإشارة إلى ازدهار التأليف وكثرة عدد المكتبات العامة

والخاصة التى ازدحمت بمئات الكتب فى شتى فنون المعرفة بدولة

المرابطين، فلما قامت «دولة الموحدين» ، أولى خلفاؤها هذا المجال

عنايتهم، وجمعوا الكتب من كل مكان، وحرصوا على اقتنائها.

وكانت هناك المكتبات العامة والخاصة إلى جانب مكتبات المساجد

والمدارس والزوايا، فضلا عن مكتبة الخزانة العلية التى أنشأها خلفاء

الموحدين، وزودوها بالكتب والمراجع من مختلف العلوم والفنون

ص: 87

للاطلاع والدراسة كما كانت هناك «المكتبة الشارية» بسبتة، تلك

المكتبة التى أسسها «أبو الحسن على بن محمد الغافقى» المعروف

بالشارى، وقد جعلها وقفًا على علماء المغرب. وكذلك كانت هناك

أعداد كثيرة من المكتبات الخاصة، ومنها: مكتبة «ابن صقر»

المتوفى (569هـ= 1173م) بمراكش، ومكتبة «عبدالرحمن بن الملجوم»

بفاس، ومكتبة «عبدالرحمن بن موسى الأزدى الفاسى» المتوفى

(605هـ= 1208م)، وقد باعتها ابنته بأربعة آلاف دينار.

ص: 88

الفصل الثاني عشر

*الدول المغربية بعد سقوط الموحدين

دولة بنى مرين بالغرب الأقصى:

[668 - 869 هـ= 1269 - 1465م]:

تمهيد:

كانت هزيمة الموحدين فى معركة «العقاب» بالأندلس فى سنة

(609هـ = 1212م) إيذانًا باضمحلال دولتهم؛ حيث تسببت هذه المعركة

فى سريان الضعف فى كيانات الدولة، بالإضافة إلى اعتلاء عرشها

مجموعة من الخلفاء الضعاف، وقيام عدد من الثورات وحركات

الانفصال التى حدثت بالدولة.

وقد استغلت القبائل المغربية ضعف الموحدين، وعدم قدرتهم على

التصدى لمحاولات الانفصال، فتأسست مجموعة من الدول على أرض

«المغرب» ، وبسطت نفوذها وسلطانها على المنطقة، وهذه الدول

هى:

- دولة «بنى مرين» بالمغرب الأقصى [668 - 869هـ= 1269 - 1465م].

- ثم دولة «بنى وطاس» التى قامت على أنقاض دولة «بنى مرين»

بالمغرب الأقصى [869 - 962هـ= 1465 - 1555م].

- دولة «بنى زيان» بالمغرب الأوسط (الجزائر وتلمسان) [637 - 962هـ=

1239 -

1555م].

- «الدولة الحفصية» بإفريقية (تونس)[625 - 981هـ= 1519 - 1573م].

وهكذا فقد المغرب وحدته، وصارت تحكمه تجمعات قبلية فى أنحاء

متفرقة.

ينتمى المرينيون إلى قبائل «زناتة» ، وهم - على أرجح الآراء- من

فرع بربر البتر، الذين كانوا ينتقلون من مكان إلى آخر سعيًا وراء

الماء والكلأ، وبدأ ظهورهم على مسرح الأحداث خلال عهد المرابطين

حيث شاركوا فى مجريات الأحداث بزعامة «المخضب بن عسكر» أحد

أبناء «بنى مرين» ، وكان زعيمًا قويا مرهوب الجانب، ونجح فى

السيطرة على جميع «بلاد زناتة» و «بلاد الزاب» ، فحاول المرابطون

مصانعته، وأرسلوا إليه الهدايا والأموال.

ثم انتقل ولاء المرينيين إلى الموحدين وساعدوهم فى إقامة دولتهم،

وتثبيت أقدامهم، وشاركوهم فى معاركهم بالميدان الأندلسى.

ولقد كان ضعف الموحدين سببًا رئيسيا فى انتقال «بنى مرين» من

المغربين الأدنى والأوسط إلى «المغرب الأقصى» حيث الخصب

والرخاء.

مراحل قيام دولة بنى مرين:

ص: 89

أولا: مرحلة تثبيت أقدامهم فى مناطق التلول والأرياف: (592 - 614هـ

= 1191 - 1217م).

اتصف الأمير عبدالحق زعيم قبائل بنى مرين بالتقوى والصلاح

والشجاعة والعدل والعطف على الفقراء مما كان له أثره على جموع

المرينيين الذين التفوا حوله، وجذبوا إليهم عددًا من القبائل المغربية

التى انضمت إليهم، وعمدوا إلى التوسع وفرض النفوذ على حساب

الموحدين، ودخلوا فى عدة معارك كانت أشهرها معركة «وادى

نكور» التى خسرها الموحدون.

وقد حمل «عثمان بن عبدالحق» (614 - 637هـ=1217 - 1239م) راية

المرينيين عقب مقتل والده الأمير «عبدالحق» ، فواصل حملاته

العسكرية، وفرض نفوذه على مساحات واسعة من أرض «المغرب» ،

ثم دعا شيوخ القبائل واتفق معهم على خلع طاعة الموحدين، والقيام

بأمر الدنيا والدين، والنظر فى صلاح المسلمين، فعملوا على تحقيق

ذلك حتى عام (625هـ= 1228م)، فقوى شأنهم، وخضعت لهم جميع

قبائل «المغرب» ، وسيطروا على جميع موانى «المغرب» التى امتدت

من «وادى ملوية» إلى «رباط الفتح» .

ثانيًا: مرحلة الاستيلاء على المدن الكبرى:

وحمل أعباء هذه المرحلة فارس «زناتة» الأمير «أبو يحيى أبو بكر

ابن عبدالحق»، الذى كان بطلا شجاعًا، قوى الإرادة، حازم الرأى،

فقام بتأمين الجبهة الداخلية للمرينيين، وأخضعها لإشراف مالى

وإدارى دقيق، ثم واصل مهاجمة المدن المغربية الكبرى، واستولى

على «مكناسة» ، و «فاس» ، و «سلا» ، و «رباط الفتح» ،

و «سجلماسة» ، و «درعة» .

ثالثًا: المرحلة الأخيرة للاستيلاء على العاصمة مراكش:

هيأ الله لبنى مرين فى هذه المرحلة أن يقوم بقيادتهم الأمير «أبو

يوسف يعقوب بن عبدالحق» (656 - 685هـ = 1258 - 1286م)، الذى

اعتبرته المصادر سيد «بنى مرين» على الإطلاق، وبدأ عهده بمواجهة

بعض المشاكل التى واجهت المرينيين فى هذه الفترة، ودخل فى

عدة معارك مع الموحدين تمهيدًا لدخول العاصمة «مراكش» .

وقد أعد «أبو يوسف» حملة كبيرة، ثم خرج بها من «فاس» فى

ص: 90

شعبان سنة (666هـ=إبريل 1268م)، وعبر بها النهر المجاور لمدينة

«فاس» ، ثم هاجم كل القوى والقبائل المعاونة للموحدين. ونجح فى

إخضاعها والسيطرة عليها، ثم كانت المعركة الأخيرة بين الموحدين

والمرينيين فى شهر المحرم سنة (688هـ= يناير 1289م) عند «وادى

غفو»، ودارت بين الفريقين معركة قوية، أسفرت عن هزيمة

الموحدين، ومقتل «أبى دبوس» خليفتهم، ثم دخل الأمير «أبو يوسف

يعقوب» العاصمة «مراكش» معلنًا سقوط «دولة الموحدين» ، وقيام

«دولة بنى مرين» .

استقرار دولة بنى مرين واتساعها:

ظلت «دولة بنى مرين» فى اتساعها ودعم استقرارها مدة خمس

وسبعين سنة، فى الفترة من سنة (685هـ= 1286م) إلى سنة (759هـ=

1359م)، وحكمها خلال هذه الفترة مجموعة من السلاطين الأقوياء،

هم:

1 -

أبو يعقوب يوسف بن يعقوب [685 - 706هـ= 1286 - 1306م].

2 -

أبو ثابت عامر بن أبى عامر [706 - 708هـ= 1306 - 1308م].

3 -

أبو الربيع سليمان بن أبى عامر [708 - 710هـ= 1308 - 1310م].

4 -

أبو سعيد عثمان (الثانى) بن يعقوب [710 - 732هـ= 1310 -

1332م].

5 -

أبو الحسن على بن عثمان [732 - 749هـ = 1332 - 1348م].

6 -

أبو عنان فارس المتوكل بن على [749 - 759هـ= 1348 - 1358م].

وقد اتسمت هذه الفترة بتوسع نفوذ «بنى مرين» بالمغرب

و «الأندلس» ، على الرغم من الثورات الكثيرة والقلاقل المتتابعة التى

واجهتهم.

مرحلة ضعف بنى مرين وسقوط دولتهم [759 - 869هـ= 1358 - 1465م]:

كان مقتل السلطان «أبى عنان فارس المتوكل بن على» فى سنة

(759هـ= 1358م) إيذانًا بدخول «دولة بنى مرين» فى مرحلة الضعف

والانهيار؛ حيث انتقلت السلطة من أيدى «بنى مرين» إلى أيدى

الوزراء، فضلا عن فقدان الدولة لنفوذها، وانكماشها داخل حدودها

بالمغرب الأقصى، وتعرضها للأزمات الاقتصادية، والأوبئة والكوارث

الطبيعة، التى حلَّت بالمغرب الأقصى، مما عجَّل بسقوط الدولة، فى

عهد السلطان «عبدالحق بن أبى سعيد» ، الذى تمكن الثوار من القبض

ص: 91

عليه وقتله فى صبيحة يوم الجمعة (27من رمضان سنة 869هـ= 23

مايو 1465م).

العلاقات الخارجية:

تعددت العلاقات الخارجية لدولة «بنى مرين» ، وشملت «الأندلس» ،

و «دول المغرب» المختلفة، وتراوحت علاقتهم ببنى الأحمر بالأندلس

بين الود والعداء، وشابها الحذر والترقب، على الرغم من أنهما

تحالفا ضد الفرنج وهزموهما فى سنة (676هـ= 1277م) بالأندلس،

وانحصرت العلاقات بينهما فى أحايين كثيرة على التمثيل

الدبلوماسى وتبادل الرسائل.

وكانت علاقة المرنييين بجيرانهم من «بنى عبد الواد» بالمغرب

الأوسط علاقة عدائية لتضارب المصالح بينهما، وكانت فترات السلام

بينهما قليلة وقصيرة، لأن «بنى عبدالواد درجوا على نقض ما بينهما

من معاهدات، على الرغم من أن المرينيين سعوا إلى كسب ودهم؛

ليتفرغوا للجهاد بالأندلس، واضطر السلطان «أبو يوسف يعقوب بن

عبدالحق» إلى مهاجمة «المغرب الأوسط» وإلحاق هزيمة نكراء

بجيوش «بنى عبد الواد» ، ثم عقد الصلح معهم.

وحاول «بنو عبدالواد» الإغارة على الحدود الشرقية لدولة «بنى

مرين» فى سنة (679هـ= 1280م)، فخرج إليهم المرينيون للدفاع عن

بلادهم وألحقوا بهم الهزيمة بالقرب من «تلمسان» .

وفى سنة (698هـ= 1299م) حاصر السلطان «أبو يعقوب يوسف»

مدينة «تلمسان» ودام الحصار مدة سبع سنوات؛ ذاق فيها «بنو

عبدالواد» مرارة الحصار، ولم ينقذهم من الهلاك سوى مقتل السلطان

«أبى يعقوب» وعودة المرينيين بعدها إلى بلادهم.

ثم دخلت «دولة بنى عبدالواد» فى تبعية «بنى مرين» بعد أن غزاهم

السلطان «أبو الحسن على» ، واستولى على عاصمتهم «تلمسان»

فى سنة (732هـ= 1332م)، ثم استغلت بقايا «بنى عبد الواد»

الخلافات التى دبت بالبيت المرينى وعادوا إلى عرش بلادهم فى

«تلمسان» سنة (749هـ= 1348م)، ولكنهم عادوا إلى تبعية «بنى

مرين» ثانية فى سنة (759هـ= 1358م)، وظلوا على عدائهم لبنى

مرين، وحاولوا العودة إلى «المغرب الأوسط» مرتين خلال فترة نفوذ

ص: 92

الوزراء بدولة المرينيين، كانت الأولى فى سنة (772هـ= 1370م)،

والثانية فى سنة (791هـ= 1389م).

بعض مظاهر الحضارة:

- نظام الحكم والإدارة:

اتخذ «بنو مرين» وزراء تنفيذ حتى سنة (759هـ= 1358م)، وكانت

مهمة الوزير - آنذاك- تجهيز الجيوش والكتابة، أو الولاية على إقليم ما

لأهميته أو لخطورة أوضاعه، أو القيام بالحجابة على باب السلطان.

ثم تحول الوزراء من منفذين لأوامر السلاطين إلى مسيطرين على

مقاليد الحكم والبلاد، وبدأ ذلك من سنة (759هـ= 1358م) واستمر حتى

سقوط دولة «بنى مرين» .

وكانت هناك طبقة الكُتاب التى أفرد لها السلاطين ديوانًا مستقلا

أُطلق عليه «ديوان الإنشاء والعلامة» ، وضم هذا الديوان عددًا كبيرًا

من أئمة الفصاحة والبيان، منهم:«عبدالرحمن بن خلدون» ،

و «عبدالمهيمن بن محمد الحضرمى» ، و «أبو القاسم بن أبى مدين» ،

وقد أسند السلاطين إلى كُتابهم بعض المهام الكبيرة - أحيانًا-

ليرفعوا من شأن هذه الوظيفة وشأن أصحابها.

وقد عرف البلاط المرينى «الحاجب» باسم «المزوار» ، وكان يترأس

مجموعة الحرس السلطانى الذين عرفوا باسم «الجنادرة» ، وكان

يشرف على السجون، وينفذ أوامر السلطان وعقوباته، ويتولى تنظيم

الناس لعرض مظالمهم على السلطان.

وقسم المرينيون دولتهم إلى تسعة أقاليم، تُدار بواسطة ولاة يعينهم

السلطان بنفسه، ويساعدهم بعض الموظفين الرئيسيين، وهم:

«صاحب القضية» ، و «صاحب الشرطة» و «القاضى» ،و «المحتسب» .

وتضمن الجهاز الإدارى لدولة المرينيين عددًا من الدواوين، منها:

«ديوان الإنشاء والعلامة» ، و «ديوان العسكر» ، و «ديوان الخراج» .

واحتفظ «بنو مرين» بأهمية القضاء وجلاله، واختص السلاطين بتعيين

«قاضى الجماعة» الذى كان له حق مراقبة صاحب الشرطة

والمحتسب، وشارك السلاطين معهم ولاة الأقاليم فى تعيين القضاة

العاديين، وجعلوا قاضيًا للعسكر، للفصل فى القضايا الخاصة بالجيش

والجنود.

الحياة الاقتصادية:

ص: 93

شهدت «الدولة المرينية» رخاءً وازدهارًا فى نواحى الحياة كافة.

وجعل المرينيون كل إقليم من أقاليم دولتهم وحدة اقتصادية مستقلة،

وجعلوها جميعًا تحت إشراف الوزير المختص أو صاحب الأشغال، وقد

تعددت مصادر الدخل المالى وشملت الزكاة، والخراج، والجزية،

والضرائب، والغنائم، والمصادرات، وكذلك تنوعت أوجه الإنفاق

وشملت: الرواتب، والعطايا، ونفقات الجيش، والبناء والتعمير.

وقد ازدهرت الزراعة ببلاد «المغرب الأقصى» نظرًا لتوافر أسبابها؛

حيث تمتعت البلاد بعدد من الأنهار، إلى جانب الأمطار التى تسقط

على جهات متفرقة، مع تنوع المناخ، فضلا عن خصوبة التربة،

واهتمام السلاطين بالزراعة، فأسفر ذلك عن وفرة وتنوع فى

المحاصيل مثل: القمح، والفول، والشعير، والزيتون، وقصب السكر،

والبقول، وكذلك توافرت الفواكه والخضراوات، ونمت الغابات فى

مساحات واسعة، فأمدت البلاد بأنواع الأخشاب المختلفة لصناعة

السفن والمنازل وغير ذلك من الأغراض.

وشهدت الصناعة ازدهارًا ورواجًا كبيرًا، وتعددت أغراضها ونشطت

مراكزها، خاصة وأن الموحدين تركوا وراءهم صناعة مزدهرة بهذه

البلاد، وجاء المرينيون فازدهرت فى عهدهم صناعة عصر الزيتون

وصناعة السكر، واهتموا بالصناعات الحربية نظرًا لكثرة حروبهم،

ويُروى أنهم كانوا روَّادًا فى استعمال البارود، بل لعلهم - كما يقول

«ابن خلدون» - أول من استعمله فى صناعة المدافع التى استخدمت

فى قذف الأسوار وتحطيمها.

ولم يهمل «بنو مرين» التجارة، بل حرصوا على توفير الأمن للقوافل

واهتموا بالتجارة، وأكثروا من الأسواق المتخصصة، وزادوا من عدد

الحوانيت ووفروا الراحة للتجار، وأنشأوا لهم الفنادق مثل: «فندق

الشماعين»، الذى كان من أهم مراكز التجميع لكبار التجار.

وقد تعددت طرق التجارة، وأقام المرينيون علاقات تجارية مع كثير

من الأقطار، فنشطت التجارة الخارجية، وكان التجار المغاربة يحملون

ص: 94

الذهب والصمغ من «السودان» إلى «الأندلس» ، وقاموا بتصدير

المنسوجات الصوفية والجلدية إلى «أوربا» ، واستوردوا الآلات

الحديدية والأحواض الرخامية، وكان لميناء «سبتة» وغيره من

الموانى دور بارز فى تسهيل عمليتى استيراد هذه البضائع

وتصديرها.

الحياة الاجتماعية:

تشكل المجتمع المرينى من عدة عناصر جاء البربر فى مقدمتها،

وجاءت «قبيلة هنتانة» التى تنتمى إليها الأسرة الحاكمة فى مقدمة

القبائل البربرية. ولاشك أن هذه القبيلة التى أسست «الدولة

المرينية» قد احتلت مركز الصدارة بالدولة، وتلتها فى المرتبة القبائل

الهلالية، ثم القبائل التركية، ثم بقايا الروم والفرنج الذين انضموا إلى

الجيش المرينى.

وقد اتسم بلاط المرينيين فى بداية عهدهم بالبداوة، ثم أخذوا بمظاهر

الرقى والترف بعد أن استقرت لهم أوضاع البلاد، وثبتت أركانها

وتنوعت احتفالات المرينيين، وتعددت بها مظاهر الأبهة والعظمة وكان

لاستقبال الوفود وتوديعها احتفال خاص يليق بالدولة، كما كان

الاحتفال بعيدى الفطر والأضحى، والمولد النبوى، من أهم ما حرص

عليه سلاطين هذه الدولة.

وحظى البناء والتعمير بمرتبة رفيعة لدى المرينيين، واهتموا به

اهتمامًا بالغًا، وشيدوا عدة مدن تأتى فى مقدمتها مدينة «فاس

الجديدة» أو «الدار البيضاء» التى أنشأها السلطان «يعقوب بن

عبدالحق»، فى سنة (674هـ= 1275م)، لتكون عاصمة لبلاده بدلا من

العاصمة القديمة «فاس» التى ازدحمت بالناس. كما بنى «يوسف بن

يعقوب» مدينة «المنصورة» أثناء حصاره لمدينة «تلمسان» سنة

(698هـ= 1299م) واختط بها قصره ومسجدًا، ومساكن للجند والدور

والفنادق والبساتين، ثم أُحيطت المدينة بسور كبير.

هكذا بنى المرينيون المساجد الكبيرة بشتى مدن «المغرب الأقصى» ،

وعنوا بفرشها وتزويدها بالماء اللازم للوضوء، وكان المسجد الجامع

الذى بنى بفاس الجديدة سنة (677هـ= 1278م) من أهم هذه المساجد.

ص: 95

وكانت المدارس من أهم المنشآت التى حرص المرينيون على إقامتها،

فأقاموا «مدرسة الصفارين» فى عهد السلطان «يعقوب» الذى عين

لها المدرسين، وأجرى على طلبتها النفقات اللازمة، وزودها بخزانة

للكتب، وبنى السلطان «أبو سعيد» عدة مدارس منها: مدرسة

العطارين، ومدرسة المدينة البيضاء، ومدرسة الصهريج.

ولم يغفل المرينيون إنشاء المستشفيات، فأقام السلطان «يعقوب بن

عبد الحق» عدة مستشفيات للمرضى والمجانين، ووفر لها الأطباء،

وأجرى عليهم المرتبات، كما خصص جزءًا كبيرًا من أموال الجزية

لرعاية الجذامى والعميان.

الحياة الفكرية:

ورث «بنو مرين» عن المرابطين والموحدين ثروة ثقافية كبيرة،

فأسهموا بدورهم فى زيادة هذه الثروة، وأنشئوا المؤسسات العلمية

كالمساجد والمدارس، ورحبوا بالعلماء القادمين من «الأندلس»

وغيرها؛ وشجعوهم على بذل ما لديهم دفعًا للحركة العلمية بالبلاد.

فاهتم العلماء بتفسير القرآن، وبرع عدد كبير منهم فى هذا العلم

أمثال: «محمد بن يوسف بن عمران المزداغى» المتوفى عام (655هـ=

1257م)، و «محمد بن محمد بن على» المعروف بابن البقال المتوفى

عام (725هـ= 1325م)، و «محمد بن على العابد الأنصارى» الذى اختصر

تفسير الزمخشرى المتوفى عام (762هـ= 1361م).

أما علم الحديث فقد ازدهر باعتباره المصدر الثانى للتشريع، ومن

أبرز علمائه: «عبدالمهيمن الحضرمى» ، و «محمد بن عبدالرازق

الجزولى»، و «ابن رشيد» الذى تُوفى فى سنة (721هـ= 1321م).

وقد تقدم علم الفقه تقدمًا كبيرًا بسبب تشجيع سلاطين «بنى مرين»

للفقهاء؛ فكثرت المؤلفات، وظهر كثير من الفقهاء مثل: «محمد بن

محمد بن أحمد المقرى» المعروف بالمقرى الكبير المتوفى عام

(758هـ= 1357م)، و «أحمد بن قاسم بن عبدالرحمن الجذامى» الذى

عُرف بالقباب المتوفى عام (778هـ= 1376م).

وإلى جانب هذه العلوم الدينية ازدهرت علوم اللغة، والنحو والتاريخ،

والسير، والرحلات، والجغرافيا، والفلك، والرياضيات، والفلسفة

ص: 96

والمنطق والطب، كما ازدهرت الحركة الأدبية، واشتهر عدد كبير من

الشعراء، مثل:«أبى القاسم رضوان البرجى» الذى تولى وظيفة

الإنشاء فى عهد «أبى عنان المرينى» ، و «لسان الدين بن الخطيب»

أشهر الشعراء الأندلسيين الذين عاشوا مدة طويلة بالدولة المرينية،

وكذا اشتهر عدد كبير فى فن النثر، منهم:«ابن خلدون» و «ابن

مرزوق الخطيب».

وأسهمت المكتبات إسهامًا بارزًا فى تنشيط الحركة الفكرية، وكان

السلطان «أبو عنان المرينى» قد أفرد دارًا للكتب وزوَّدها بالكتب

فى شتى مجالات العلوم والمعرفة، واستخدم بها الأمناء لحفظ الكتب

وترتيبها وتصنيفها، وكذا لاستقبال الزائرين.

بنو وطاس بالمغرب الأقصى:

[869 - 962هـ= 1465 - 1555م]:

تمهيد:

«بنو وطاس» فخذ من قبيلة «بنى مرين» ، ولكنهم ليسوا من فرع

الأسرة المرينية الحاكمة، وقد قامت علاقة حذرة بين أسرتى «بنى

وطاس» و «بنى مرين» ، ثم تعدى «بنو وطاس» هذا الحذر، واتخذوا

موقفًا عدائيا من دولة «بنى مرين» منذ قيامها، وساندوا الموحدين

فى صراعهم معهم، ومن ثم عمد المرينيون- بعد قيام دولتهم واستقرار

الأوضاع لهم - إلى إحكام قبضتهم على حصن «تازوطا» الذى كان

مقر «بنى وطاس» فى ذلك العهد، ولكن الوطاسيين قاموا بثورة فى

سنة (691هـ= 1292م) للاحتفاظ بنفوذهم فى هذا الحصن، وامتدت

ثورتهم فشملت منطقة الريف، ثم طردوا الوالى المرينى وحاشيته،

وسيطروا على الحصن، مما دفع السلطان «يوسف بن يعقوب

المرينى» إلى تجهيز جيش كبير، وجعل عليه «عمر بن المسعود بن

خرباش» أحد قادته المخلصين، وأمره بالتوجه إلى حصن «تازوطا» ،

ثم خرج السلطان بنفسه على رأس جيش آخر، وحاصر الجيشان الحصن

مدة عشرة أشهر، وتمكن «عمر» و «عامر» ابنا «يحيى بن الوزير

الوطاسى» زعيما الوطاسيين من الفرار بأموالهما إلى «تلمسان» ،

ودخل السلطان الحصن، وأنزل العقاب بالوطاسيين ثم عاد إلى

عاصمته «فاس» فى آخر جمادى الأولى سنة (692هـ= أبريل1693م).

ص: 97

وقد تآمر «زيان بن عمر الوطاسى» مع الأمير «أبى عبدالرحمن

المرينى» ضد والده السلطان «أبى الحسن» ، فى محاولة للاستيلاء

على السلطة، ولكن محاولتهما باءت بالفشل، وسُجن الأمير، وفر

«الوطاسى» إلى «تونس» .

وعلى الرغم من كل ما سبق فإن الوطاسيين نالوا حظا وافرًا من

المراكز العامة بالدولة المرينية، وتغلغل نفوذهم داخل مراكز الحكم

المدنى، وكذا العسكرى، ووصل بعضهم إلى منصب الوزارة، مثل:

«رحو بن يعقوب الوطاسى» الذى ولى الوزارة فى عهد السلطان

«عامر بن عبدالله المرينى» ، واستمر إلى عهد «سليمان بن عبدالله» ،

وتولى «عمر بن على الوطاسى» الإمارة فى مدينة «بجاية» فى عهد

«أبى عنان المرينى» فى سنة (759هـ= 1358م).

الأوضاع الداخلية بدولة بنى وطاس ثم سقوطها:

دخل «محمد الشيخ الوطاسى» سلطان الوطاسيين فى مواجهة

مستمرة - منذ أسس دولته- مع الفتن والقلاقل والثورات التى قامت

بالدولة على أيدى العرب الذين أغاروا على «فاس» و «مكناسة»

ودمروهما، ثم واجه ثورة «على بن راشد» فى «شفادن» وهى مدينة

قريبة من «البحر المتوسط» و «المحيط الأطلسى» ، و «مضيق جبل

طارق»، ثم حاول «محمد بن أحمد المرينى» الاستقلال بمدينة «دبرو»

التى تقع شمال شرق «المغرب» ، ونجح فى ذلك، وبسط نفوذه على

المناطق الغربية منها، فأدرك «محمد الشيخ» خطورته، وخرج

لمواجهته مرتين، كانت الأولى فى سنة (895هـ= 1490م)، وهُزم فيها

الوطاسيون، وكانت الثانية فى سنة (904هـ= 1498م)، وانتصر فيها

«بنو وطاس» ، وعقد سلطانهم الصلح مع «محمد بن أحمد المرينى» ،

وزوج السلطان ابنتيه لولدىّ الأمير «محمد» ، فحل بينهما السلام.

وقد واجهت هذه الدولة ثورة بالمنطقة الجنوبية، قادها «عمرو بن

سليمان الشيظمى»، الشهير بالسياف، فى سنة (870هـ= 1465م)، ولم

تهدأ هذه الثورة إلا بعد أن اُغتيل «الشيظمى» على يد زوجته فى

سنة (890هـ= 1485م).

والواقع أن «بنى وطاس» لم يتمكنوا من فرض سلطانهم ونفوذهم

ص: 98

على كل «المغرب الأقصى» ، بل يمكن القول بأن نفوذهم لم يتجاوز

العاصمة «فاس» ، واقتسمت القبائل والأشراف والزعامات المحلية

ومشايخ الصوفية باقى البلاد.

فأدى هذا إلى نشوب الاضطرابات والقلاقل بالبلاد، وتزايد

الانقسامات بها، واستغلال البرتغال والإسبان لهذه الأوضاع للتوسع

وفرض النفوذ ونشر المسيحية.

ثم بدأت مرحلة أخرى من الصراع بين الوطاسيين والسعديين الذين

حشدوا الناس إلى جانبهم بحجة الدفاع عن البلاد من خطر الإسبان

والبرتغال، وكانوا فى حقيقة الأمر يسعون لإسقاط «دولة

الوطاسيين»، ونجحوا فى السيطرة على بعض المدن المغربية، ثم

دخلوا «مراكش» ، وفشل «بنو وطاس» فى صدهم، وتدخل العلماء

للصلح بينهما، ونجحت محاولتهم، واتفق الفريقان على اقتسام «بلاد

المغرب الأقصى»، ولكنهما دخلا فى صراع ثانية، وتوسع السعديون

على حساب أملاك الوطاسيين، ثم دخلوا مدينة «فاس» ، وقتلوا

السلطان الوطاسى «أبا حسون على بن محمد بن أبى ذكرى» فى

يوم السبت (24 من شوال سنة 961هـ=22 من سبتمبر 1554م)، وبدأ

السعديون بقيادة «محمد الشيخ السعدى» فى فرض نفوذهم على

بقية المناطق التابعة للوطاسيين، وهكذا سقطت دولة «بنى وطاس» .

العلاقات الخارجية:

تعددت العلاقات الخارجية بين «بنى وطاس» و «دول المغرب» ، فضلا

عن الإسبان والبرتغال، وحاولوا كسب ود الحفصيين بتونس،

وبايعوهم، ولكن هذا الود لم يدم، لأن الحفصيين ساندوا ثورة

«الشيظمى» التى استمرت نحو عشرين عامًا، وكذلك حاول «بنو

وطاس» مسالمة الإسبان والبرتغال، وعقد «محمد الشيخ الوطاسى»

مؤسس الدولة معاهدة سلام مع البرتغال فى سنة (876هـ= 1471م)،

ولكن البرتغاليين نقضوا هذه المعاهدة، ثم توالت الاتفاقات بين

الطرفين.

وقد تطورت العلاقات بين «بنى وطاس» و «الإسبان» ، أثناء الصراع

الذى دار بين «ابن حسون الوطاسى» والسعديين؛ حيث التمس «ابن

حسون» العون من الإسبان، وأعلن ولاءه لامبراطورهم، واستعداده

ص: 99

لتسليمهم «بادس» فى مقابل مساعدته فى استرداد عرش «فاس» ،

وساعده الاسبان بالسفن والأموال، ولكنه فشل فى استعادة عرشه،

فلجأ إلى البرتغال، وساندوه بالجنود والأموال وعدة الحرب، ولكن

هذه المساعدات لم تحقق أغراضها؛ إذ حاصرتها قوات الدولة

العثمانية واستولت عليها، مما جعل «ابن حسون» يلجأ إليهم طلبًا

للعون فى مقابل الاعتراف بسلطة الخليفة العثمانى، فمكَّنه

العثمانيون من العودة إلى عاصمته «فاس» ثانية فى سنة (961هـ=

1554م)، ثم مالبث الأتراك أن سيطروا على مقاليد الأمور بفاس،

وضاق الناس بذلك، فاضطر «ابن حسون» إلى تعويض الأتراك بمبالغ

مالية كبيرة للرحيل عن العاصمة، ففعلوا، وواصل «ابن حسون»

نشاطه ضد السعديين، حتى سقط قتيلا، ومن ثم سقطت «دولة بنى

وطاس».

بعض المظاهر الحضارية:

- النظام السياسى والإدارى:

كان الحكم وراثيا فى «بنى وطاس» ، وكان السلطان يعين كبار

مستشاريه من كبار الشخصيات، وكان للسلطان أمين سر مهمته

الإشراف على أموال السلطان، كما كان السلطان يُعيِّن حكامًا على

كل مدينة، وجعل لهم الحق فى التصرف فى مواردها، وتزويد جيش

السلطان بالجنود من مدنهم، وتعيين وكلاء من طرفهم على القبائل

التى تسكن الجبال، وجباية الأموال، وأخضع السلطان كل ذلك

لسلطته، وأحكم قبضته على مقاليد الأمور، كما أخضع كل موارد

الدولة لخدمة الأغراض العسكرية.

واتخذوا الوزراء من أقاربهم، واستوزر «محمد الشيخ الوطاسى»

أخويه «محمد الحلو» و «الناصر أبا زكريا» ، وعين مسعود بن الناصر

خلفًا لأبيه على الوزارة، وقد تنوعت اختصاصات الوزراء بين المهام

السياسية والحربية إلى جانب أعمالهم الإدارية.

وتنوعت الوظائف الإدارية وشملت: الباشا، والقائد، والقاضى،

والمحتسب، ويساعدهم مجموعة من الموظفين، منهم: الأمين والناظر،

وأمين المواريث. وقد نشطت حركات الاستقلال أثناء ضعف الحكومة

المركزية بفاس، وغياب سلطتها عن مناطق الأطراف، والمناطق

النائية.

ص: 100

النواحى الاقتصادية:

نجحت الزراعة نجاحًا عظيمًا، كعادتها ببلاد «المغرب» ، وكثرت

المحاصيل وزادت أنواع الفواكه، وساعدت هجرة الأندلسيين إلى

«بلاد المغرب» على إدخال النظم الزراعية الحديثة، واستحداث أنواع

كثيرة من المحاصيل بالبلاد.

وقد ترتب على ازدهار الزراعة قيام صناعات كثيرة، إلى جانب

الصناعات التى كانت موجودة من قبل، واشتهرت «فاس» بصناعات

الأحذية والأوانى النحاسية والخيوط والمنسوجات. وكذلك صناعة

الحلى.

ونشطت التجارة - خاصة فى أوقات السلم- وتوافرت الطرق الداخلية

التى تربط بين المدن، كما توافرت الطرق الرئيسية التى تسير فيها

القوافل من المدن المغربية وإليها، مثل:«سوسة» و «درعة» اللتين

حظيتا بنشاط تجارى كبير.

وتنوعت صادرات «المغرب» من الأوانى النحاسية، والمصنوعات

الجلدية والزجاجية، والقطنية والحريرية، وكذلك التمور بأنواعها

والتين والحلى، أما وارداتهم فكانت الذهب وبعض التوابل.

الحياة الاجتماعية:

لم تختلف طبقات المجتمع كثيرًا فى العهد الوطاسى عما سبقه من

عهود، واحتل الجيش مكانًا بارزًا، نظرًا لكثرة الحروب التى خاضها

الوطاسيون، وقد انقسم هذا الجيش إلى قسمين هما: الجيش النظامى،

وأفراده من البربر، ويضم: الفرسان والرماة وراشقى السهام،

والمشاة، والقسم الثانى: من المتطوعة من العرب وغيرهم، وقد عرف

جيش الوطاسيين نظام الحصون والحاميات.

وتوقف نشاط الوطاسيين العمرانى على مدينة «فاس» ، ويرجع ذلك

إلى الأوضاع السياسية المضطربة التى سادت تلك الفترة، وانصراف

«بنى وطاس» إلى المعارك والحروب، وصرف إمكاناتهم المادية فى

التسليح والإنفاق على الجيش. وقد أدى كل ذلك إلى توقف النشاط

العمرانى، وتناقص عدد الفنادق والمستشفيات، وقلة الاهتمام

بالمرضى.

الحياة الفكرية:

شهدت العلوم الدينية نشاطًا ملحوظًا، وبرز عدد كبير من العلماء فى

المجالات كافة، منهم:«أبو عبدالله بن أبى جمعة الهبطى» ، صاحب

ص: 101

كتاب: «الوقف فى القرآن الكريم» ، والمتوفى عام (930هـ= 1524م)،

والفقيه «محمد بن عبدالله بن عبدالواحد الفاسى» المتوفى عام

(894هـ= 1489م)، وألف «الوتشريشى» عدة كتب منها: «المعيار

المعزب، والجامع المعرب عن علماء إفريقية والأندلس والمغرب»، وهو

فى اثنى عشر جزءًا.

وفى علم التاريخ برز القاضى «أبو عبدالله محمد الكراسى

الأندلسى»، الذى ألف منظومة عن «بنى وطاس» ، أسماها: «عروسة

المسائل فيما لبنى وطاس من فضائل». وتقع هذه المنظومة فى نحو

ثلاثمائة بيت، وهى المصدر الوحيد الذى يعتمد عليه المؤرخون فى

التأريخ لهذه الفترة، حيث لم يصل إليهم غيره.

ويعد كتاب «وصف إفريقيا» للجغرافى «حسن الوزان» من أهم الكتب

وأشهرها فى هذا المجال، وقد تناول فيه جغرافية «إفريقية»

عمومًا، و «المغرب الأقصى» ، و «مملكة فاس» ، و «مملكة مراكش» ،

كما تناول العادات والتقاليد والحياة الاقتصادية والفكرية والدينية،

والنظم الإدارية.

وتنافس الشعراء والوعاظ - فى هذه الفترة- فى تأليف الخطب

والقصائد الحماسية؛ لحث الناس على جهاد الأسبان والبرتغال، ومن

أبرز هؤلاء المؤلفين «أبو عبدالله محمد بن عبد الرحيم التازى»

المتوفى عام (920هـ= 1514م)، وله مؤلف عنوانه: «تنبيه الهمم

العالية، والانتصار للملكة الذاكية، وقمع الشرذمة الطاغية، عجل الله

دمارها، ومحا ببواتر المسلمين آثارها».

ووجدت علوم اللغة اهتمامًا بالغًا، وألف «عبدالعزيز بن عبدالواحد

اللمطى الميمونى» ألفية فى النحو تضاهى ألفية «ابن مالك» ، و «ابن

عبدالواحد»، وهو من أهل «فاس» وقد توفى عام (880هـ= 1475م)،

وكذلك قام العالم «أبو العباس أحمد بن محمد» المتوفى عام (995هـ=

1587م) بتدريس الفلك والحساب بجامع القرويين بفاس.

دولة بنى زيان:

[633 - 962هـ= 1235 - 1555م]

تمهيد:

ترجع تسمية هذه الدولة بهذا الاسم إلى «زيان بن ثابت» ، والد

«يغمراس» مؤسسها، كما أنها تسمى بدولة بنى عبدالواد (العبد

ص: 102

الوادية) نسبة إلى قبيلة «عبد الواد» التى ينتمى إليها «بنو زيان» .

وقد قامت هذه الدولة بالمغرب الأوسط (الجزائر حاليا) وكان يحدها

غربًا «نهر ملوية» ، ومدينة «قسنطينة» من الجانب الشرقى، وكانت

هذه المنطقة تضم عدة مدن منها: «بجاية» ، و «الجزائر» ، و «وهران» ،

و «قسنطينة» ، و «مليانة» ، و «تلمسان» .

قيام دولة بنى زيان:

شجع ضعف «دولة الموحدين» عقب هزيمتهم فى معركة «العقاب»

فى سنة (609هـ= 1212م)، بعض القوى على الاستقلال، فشجع ذلك

بدوره «بنى عبدالواد» على الاستقلال بالمغرب الأوسط، فاستولوا

على «تلمسان» فى سنة (627هـ= 1230م).

ويعد «يغمراس بن زيان» الذى تولى الإمارة بعد أخيه فى سنة

(633هـ= 1235م) هو المؤسس الحقيقى لهذه الدولة، حيث سالم جيرانه

من الموحدين كى لا يعرض دولته الناشئة لمعارك جانبية، تصرفه عن

تأسيس الدولة، وبنى سياسته فى هذه المرحلة على عاملين مهمين

هما:

العامل العسكرى:

جاور «الحفصيون» «بنى زيان» من جهة الشرق، وجاورهم «بنو

مرين» من الغرب، وهاجم «بنو حفص» مدينة «تلمسان» فى سنة

(640هـ= 1242م)، فهادنهم «بنو زيان» وبايعوهم، ودعوا على

منابرهم للحفصيين، وفى الوقت نفسه بعثوا بجنودهم إلى الجبال

واتخذوا من الإغارة على القوات الحفصية وسيلة لطردهم من

«تلمسان» و «المغرب الأوسط» ، فاضطر الحفصيون إلى عقد الصلح

معهم وأعادوا «يغمراس» إلى مقر حكمه بتلمسان ثانية، وكذلك فعل

«بنو زيان» مع الموحدين فى سنة (646هـ= 1248م) ثم قاموا بغارات

كثيرة على القبائل الموجودة داخل «المغرب الأوسط» ، مثل قبائل

«توُين» و «مغرادة» .

العامل السلمى:

لم يكتف «يغمراس» بالمعارك والغارات، وعمد إلى تحصين بلاده

شرقًا وغربًا، وجاء بقبيلة «بنى عامر» وأقطعها نواحى «وهران»

و «تلمسان» لتكون حائط الصد لأعدائه، ثم دعم كيان دولته بمصاهرة

الحفصيين، حيث زوج إحدى بناته لعثمان ابن الأمير الحفصى «أبى

ص: 103

إسحاق»، فأمن بذلك شرهم، وهجماتهم على الحدود الشرقية لدولته.

تطور دولة بنى زيان:

كانت القبيلة من أهم العوامل التى أثرت فى سياسة دولة «بنى

زيان» وكيانها؛ حيث دخلت هذه الدولة فى صراع طويل مع قبائل:

«بنى توُين» و «مغرادة» من البربر، و «بنى عامر سويد» من العرب،

لرفض هذه القبائل الخضوع لغيرها، ولتعصبها لبنى جلدتها

وقبيلتها، وشقت عصا الطاعة، ثم زادت حدة موقفها بعد وفاة

«يغمراس» فى سنة (681هـ= 1282م)، واضطر الأمير «عثمان» الذى

خلف والده «يغمراس» إلى مواجهتهم، فاستولى على «مازونة» من

«مغرادة» فى سنة (686هـ= 1287م)، ثم احتل مدينة «تنس» ، ودخل

«إنشريش» ولكن هذا الاتساع عاد إلى الانكماش ثانية نتيجة احتلال

«بنى مرين» للمغرب الأوسط، وحصارهم «تلمسان» فى سنة (698هـ=

1299م)، وعادت القبائل مرة أخرى إلى التمرد والعصيان عقب وفاة

الأمير «عثمان» ، فخرج إليهم الأمير «أبو زيان محمد الأول» (703 -

707هـ= 1303 - 1307م)، ثم خضعت هذه الدولة أكثر من مرة لدولة

بنى مرين مثلما حدث فى سنة (670 - 680هـ= 1271 - 1281م) وسنة

(689هـ= 1290م) وسنة (737 - 749هـ= 1336 - 1348م) ولكن بنى زيان

كانوا يرفضون هذا الخضوع، وينتهزون الفرصة للعودة إلى حكم

بلادهم.

وقد عاشت هذه الدولة فى حروب واضطرابات دائمة، ونشبت

الخلافات بين أفراد البيت الزيانى، وأدى التهافت على السلطة بينهم

إلى أن يشهر الولد السيف فى وجه أبيه، بل يتعدى ذلك، ويقتل

أباه، مثلما حدث مع «أبى تاشفين (الثانى) عبد الرحمن» (791 -

795هـ=1389 - 1393م) ووالده السلطان «أبى حمو موسى (الثانى) بن

يوسف»، حين خلع «تاشفين» أباه من السلطة، واستولى على

الحكم، ثم اعتقل أباه وإخوته فى سنة (788هـ= 1386م) فقامت حروب

بين أفراد هذه الأسرة، وعاد «أبو حمو» إلى عرشه، واستعان «ابنه

تاشفين» ببنى مرين عليه، وحاربه، ثم قتله وعاد «تاشفين» إلى

الحكم فى ظل التبعية لبنى مرين.

سقوط دولة بنى زيان:

ص: 104

تفشت ظاهرة قتل السلاطين بدولة بنى زيان، وزاد التناحر بين أفراد

البيت الزيانى، وتكررت هجمات الاسبان على الشواطئ المغربية،

واستولوا على «مرسى وهران» فى سنة (911هـ= 1505م)، ثم

استولوا سنة (912هـ= 1506م) على «وهران» و «بجاية» و «تدلس»

وهى موانى تابعة «لبنى زيان» ، وارتضى «أبو حمو الثالث» (909 -

923هـ= 1503 - 1517م) دفع ضريبة سنوية للإسبان لكى يبقى فى

مقعد الحكم، فاستنجد الناس بالأتراك العثمانيين لتخليصهم من هذا

الاحتلال، فأسرع لنجدتهم الأخوان «عروج» و «خير الدين» ابنا

«يعقوب التركى» ، اللذان كانا يحملان المتطوعين فى السفن لإنقاذ

مهاجرى الأندلس، ونقلهم إلى أرض «المغرب» ، ودارت معركة بين

الطرفين، وأرسلت إسبانيا بالإمدادات لتعزيز قواتها وحليفها «أبى

حمو» الذى فر إلى «وهران» للاحتماء بالقوة الإسبانية هناك،

وحاصر الإسبان مدينة «تلمسان» واستشهد «عروج» فى سنة

(924هـ= 1518م)، ومات «أبو حمو الثالث» فى السنة نفسها.

وتوالت الاضطرابات، وزاد التنافس على العرش، وأقبل السعديون من

«المغرب الأقصى» واستولوا على «تلمسان» فى سنة (957هـ=

1550م).

وانقسم البيت الزيانى إلى طوائف ثلاث: إحداها تضامنت مع الأتراك،

والأخرى استعانت بالأسبان، والأخيرة تحالفت مع السعديين، وتحرك

الأتراك، ودخلوا فى معركة مع السعديين وهزموهم، فعادوا إلى

«المغرب الأقصى» ، ودخل الأتراك العاصمة «تلمسان» . وكان آخر

حكام «بنى زيان» هو «الحسن بن عبدالله» (957 - 962هـ= 1550 -

1555م) الذى ثار عليه الناس لميله إلى الإسبان فخلعه الأتراك، وضموا

«تلمسان» إلى حكومة «الجزائر» التركية فى سنة (962هـ= 1555م).

العلاقات الخارجية:

كان موقع «الدولة الزيانية» بالمغرب الأوسط حافزًا للقوى الأخرى

بالمغرب على التطلع إليها، بغرض السيطرة وفرض النفوذ، ولعل هذا

هو ما فعله الموحدون، و «بنو مرين» ، و «الحفصيون» . وظلت العلاقات

ص: 105

بين هذه الدولة وهذه القوى بين شَد وجذب، فتارة يخضع «بنو

زيان» للنفوذ الموحدى والمرينى والحفصى، وتارة ينعمون

باستقلالهم، وأخرى يمتد فيها نفوذهم إلى بعض مناطق المغربين

الأدنى والأقصى.

ولقد وقف «بنو زيان» فى بداية الأمر فى وجه الزحف الموحدى، إلا

أن الموحدين تمكنوا من إخضاعهم والسيطرة على «المغرب

الأوسط»، ودخل «بنو زيان» فى تبعية الموحدين، فلما قويت شوكة

«بنى زيان» كانت «دولة الموحدين» فى مرحلة الضعف والانهيار،

فبدأ الموحدون يتوددون إليهم ويهادنونهم، فخشى الحفصيون من

هذا التحالف، وتوجهوا إلى «تلمسان» واستولوا عليها فى سنة

(640هـ= 1242م) بمساعدة بعض قبائل «المغرب الأوسط» ، واشترطوا

لعودة «بنى زيان» إلى الحكم أن يخلعوا طاعة الموحدين ويعلنوا

تبعيتهم للحفصيين، فقبل «بنو زيان» ذلك، وعادوا إلى حكم

«تلمسان» . ولكن الموحدين لم يعجبهم هذا الوضع وحشدوا جيوشهم

وحاصروا «تلمسان» ، فأعلن «بنو زيان» طاعتهم لهم، وساعدوهم

فى صراعهم مع المرينيين على الرغم من العلاقات المتوترة بينهما،

وظل هذا شأنهما حتى سقوط «دولة الموحدين» فى سنة (668هـ=

1269م). أما علاقة «بنى زيان» بالحفصيين، فكانت علاقة عداء؛

نظرًا لتضارب مصالح الدولتين، حيث رغبت كل منهما فى التوسع

على حساب الأخرى. وقد بدأت هذه العلاقات باستيلاء الحفصيين

على «تلمسان» فى سنة (640هـ= 1242م)، ثم بدأت بينهما

المفاوضات، وعاد «يغمراس» إلى عاصمته «تلمسان» وأعلن تبعيته

للحفصيين، ولكن «بنى زيان» لم يرضوا بهذه التبعية وأعلنوا

استقلالهم عن هذه التبعية فى عهد «المتوكل الزيانى» فى سنة

(868هـ= 1464م)، ومن ثم حاصرتهم جيوش الحفصيين فى «تلمسان»

فى سنة (871هـ= 1466م)، وهدموا أسوارها، وأجبروهم على إعلان

الطاعة والتبعية للحفصيين ثانية.

وقد عمد الحفصيون إلى إحداث الفُرقة، وإشعال الفتنة بين أفراد

البيت الزيانى، حتى يتسنى لهم إحكام قبضتهم عليهم، ويضمنوا

ص: 106

تبعيتهم، وتم لهم ذلك واستمر حتى دبَّ الضعف والتفكك بين سلاطين

«بنى حفص» وأفراد أسرتهم، فوجه إليهم بنو زيان عدة ضربات

متوالية، وتمكنوا من هزيمتهم والاستيلاء على «تونس» فى سنة

(730هـ= 1330م).

وعلى الرغم مما سبق فقد شهدت العلاقات الزيانية الحفصية - أحيانًا-

بعض حالات الهدوء، وحسن الجوار، وتجلى ذلك حين صاهرهم

«يغمراس» وزوَّج ابنه «عثمان» إحدى بنات «أبى إسحاق الحفصى»

فى سنة (681هـ= 1282م).

بعض المظاهر الحضارية:

- النظام السياسى والإدارى:

كان الحكم فى «دولة بنى زيان» وراثيا، وكانت ألقاب حكامهم

تتراوح بين «أمير المسلمين» ولقب «السلطان» ، وقد تفشت ظاهرة

قتل سلاطينهم على أيدى أفراد أسرتهم الحاكمة للوصول إلى

الحكم، كما فعل «تاشفين» مع والده «أبى حمو» .

وتعددت المناصب الإدارية فى هذه الدولة، وجاء منصب «الوزارة»

فى مقدمتها، كما كان قاضى القضاة يتقدم مجموعة القضاة بالدولة،

وكذلك كان قائد الجيش من رجال هذه الدولة البارزين، ولذا كان

السلطان يختاره من أفراد أسرته، أو يتولى هو مكانه، ويخرج

بنفسه على رأس الجيوش. وكان ديوان الإنشاء والتوقيع من أبرز

الدواوين، لأنه يختص بالمراسيم السلطانية، ومراسلات الدولة مع

غيرها من الدول.

الحياة الاقتصادية:

تمتع «المغرب الأوسط» بسطح متنوع، جمع بين السهل الساحلى

والوديان الداخلية، وسلسلة جبال الأطلس، فضلاً عن تمتعه بمناخ

يختلف من منطقة إلى أخرى، وبتربة خصبة صالحة للزراعة، وبأنهار

منتشرة فى كل مكان مثل نهرى «شلف» و «سيرات» ، وبعيون مائية

منبثة، وبأمطار تسقط على منطقة الساحل، فهيأت كل هذه العناصر

لقيام زراعة ناجحة، أولاها ولاة الأمر عنايتهم ورعايتهم، فتنوعت

المحاصيل الزراعية، كما ازدهرت صناعة الأقمشة الحريرية والصوفية،

وصناعة السجاد والبسط، وكذلك صناعة السفن الحربية والتجارية،

والأسلحة، والمصنوعات الجلدية، والمشغولات الذهبية والفضية

والنحاسية.

ص: 107

وكان لموقع «المغرب الأوسط» دور كبير فى تنشيط التجارة،

باعتباره همزة الوصل بين المغربين الأدنى والأقصى، حيث تمتد

شواطئه، وتكثر موانيه المطلة على «البحر المتوسط» ، فضلا عن طرق

التجارة المتعددة بجنوبه، والتى كانت تمر منها القوافل التجارية

القادمة من جنوب الصحراء قاصدة الموانى المطلة على «البحر

المتوسط»، لتكمل رحلتها إلى «أوربا» وغيرها من المناطق.

وقد تعددت صادرات «المغرب الأوسط» ، وكان الصوف والأسلحة

والمنتجات الزراعية من أهم صادرات «بنى زيان» وأسهمت موانى:

«وهران» و «تنس» و «الجزائر» و «بجاية» إسهامًا بارزًا فى تنشيط

التجارة، وازدهار الاقتصاد، وكان ذلك سببًا رئيسيا فى اهتمام

سلاطين «بنى زيان» بالبناء والتعمير، فتنوعت فى عهدهم

المؤسسات وعُنوا بإنشاء المساجد والمدارس والقصور، والمنشآت

العسكرية، وكانت أبرز مساجدهم هى:«مسجد أبى الحسن» الذى

أمر «عثمان بن يغمراس» ببنائه سنة (696هـ= 1296م)، و «مسجد

الولى إبراهيم» الذى تم بناؤه فى عهد أبى حمو الثانى، كما شهد

عهد «أبى تاشفين الأول» نهضة عمرانية كبيرة.

وتعددت المدارس بتلمسان ووهران، وكانت أبرز هذه المدارس هى

«المدرسة التاشفينية» (أو المدرسة القديمة) التى أنشأها «أبو

تاشفين بن عبد الرحمن» (718 - 736هـ = 1318 - 1336م)، و «المدرسة

اليعقوبية» التى بناها «أبو حمو موسى الثانى» ، وكان افتتاحها

فى الخامس من صفر سنة (765هـ= نوفمبر 1363م).

وبنى «بنو زيان» الحصون والأبراج والأسوار والقلاع العسكرية

لتحصين بلادهم، ومن أبرز قلاعهم: قلعة «تامز يزدكت» التى كانت

مركز مقاومتهم على الحدود الشرقية مع «بنى حفص» .

الحياة الفكرية:

اهتم «بنو زيان» بتنشيط الحركة الفكرية فى بلادهم، ودعموها

بإنشاء المدارس والمساجد والكتاتيب والزوايا لتعليم الطلاب، ولم

يختلف أسلوب التعليم فى دولتهم عن مثيله فى «دولة بنى مرين»

و «دولة الحفصيين» ، وامتلأت المؤسسات التعليمية بالعلماء

ص: 108

المتخصصين فى كل علم وفن، وقد لقى هؤلاء من الدولة معاملة

حسنة وأغدقت عليهم المنح والعطايا، وولتهم المناصب الرفيعة حتى

ينهضوا بالمستوى التعليمى والفكرى فى البلاد.

واستعاد المذهب المالكى مكانته بدولة «بنى زيان» كما استعاده

فى بقية الدول الأخرى عقب سقوط «دولة الموحدين» ، وازدهرت علوم

التفسير والفقه والحديث والمنطق والجدل والكلام، وغيرها من العلوم،

وتبوأت مجموعة من العلماء مكانة ممتازة لدى «بنى زيان» ، منهم:

«أبو إسحاق إبراهيم بن يخلف التنسى» المتوفى عام (680هـ=

1281م)، و «أبو عبدالله محمد بن محمد المقرى» المتوفى عام (759هـ=

1358م) والذى تتلمذ على يديه مجموعة من العلماء النابغين، أمثال:

ابن الخطيب، وابن خلدون، والشاطبى وغيرهم.

وبرزت كذلك جماعة من العلماء فى علوم اللغة والأدب منهم: «أبو

عبدالله بن عمر بن خميس التلمسانى» المتوفى عام (708هـ= 1308م)،

وقد أشرف على «ديوان الإنشاء» بتلمسان فى عهد «عثمان بن

يغمراس»، و «أبو عبدالله محمد بن منصور القرشى التلمسانى» الذى

أنشأ «ديوان الرسائل» فى عهد أبى حمو الأول.

الدولة الحفصية:

[625 - 893 هـ= 1228 - 1488م]:

ينتسب الحفصيون إلى «أبى حفص عمر بن يحيى» الذى ينتمى إلى

«قبيلة هنتانة» ، وهى من قبائل المصامدة التى عاشت بالمغرب

الأقصى، واتخذت المعاقل والحصون، وشيدت المبانى والقصور،

وامتهنوا الفلاحة وزراعة الأرض. وقد طمع الحفصيون فى الاستقلال

بإفريقية بعد هزيمة الموحدين فى معركة «العقاب» بالأندلس فى

سنة (609هـ= 1212م)، وعملوا على تحقيق ذلك حتى سنة (625هـ=

1228م)، فوصل «أبو زكريا بن عبدالواحد الحفصى» إلى مقعد

الإمارة بتونس، ومهد لقيام «دولة الحفصيين» حتى سنة (627هـ=

1230م) فبايعه الحفصيون واستقل عن طاعة الموحدين وضم إليه

«الجزائر» و «تلمسان» .

وقد واجهت الدولة الحفصية عدة ثورات، إلا أنها تمكنت من القضاء

عليها فى عهد قوتها، فلما حل الضعف بخلفاء الأمير «أبى زكريا

ص: 109

الحفصى»، زادت الخلافات بين أفراد الأسرة الحاكمة، وقامت الثورات

فى أماكن كثيرة، ولم يتمكن أمراء الحفصيين من مواجهة هذه

الاضطرابات، فحل الضعف بدولتهم حتى سقطت على أيدى العثمانيين

سنة (893هـ=1488م).

العلاقات الخارجية:

تنوعت علاقات «الدولة الحفصية» ، وشملت «الأندلس» ، و «أوربا» ،

ودول: «بنى مرين» والوطاسيين والزيانيين.

واتسمت علاقتهم بالأندلسيين بالهدوء تارة وبالتوتر والمنافسة تارة

أخرى، وكذلك تمثلت علاقتهم بالأوربيين فى عدة حملات عسكرية،

عُرفت باسم الحروب الصليبية، وسعى الصليبيون إلى تحويل مسلمى

«المغرب الأدنى» إلى المسيحية، غير أن وباءً تفشى بالمعسكر

الصليبى، وتوفى لويس متأثرًا بهذا الوباء، فلجأ الصليبيون إلى

التفاوض والصلح مع الحفصيين، ثم الانسحاب فى سنة (669هـ=

1270م) ولكن الصليبيين عاودوا الهجوم على مدينة «طرابلس» فى

سنة (755هـ= 1354م)، واستولوا عليها واستباحوها، ولم يخرجوا

منها إلا بعد الحصول على قدر كبير من المال، ثم توالت حملاتهم

الصليبية بعد ذلك على بلاد «المغرب الأوسط» ومدنه.

وقد مرت العلاقات الحفصية المرينية بعدة مراحل ارتبطت بالأحوال

والظروف السياسية التى كانت تمر بها كل من الدولتين، واتسمت

هذه العلاقات بالصراع بين الطرفين، ودخول بنى حفص فى تبعية

«بنى مرين» فى أحايين كثيرة، ولكن ذلك لم يمنع من قيام بعض

العلاقات الطيبة فى فترة حكم «عثمان ابن أحمد المرينى» (801 -

823هـ = 1398 - 1420م)، و «عبدالحق بن سعيد المرينى» (863 -

869هـ = 1459 - 1465م).

- بعض المظاهر الحضارية:

الجانب السياسى والإدارى:

عرفت «دولة بنى حفص» نظام الخلافة، وكان الحكم بها وراثياًّ،

ويعاون الخليفة هيئة استشارية، يُطلق عليها اسم أشياخ البساط،

وجميعهم من قبيلة «هنتانة» التى تنتمى إليها الأسرة الحاكمة،

وكذلك عرفت هذه الدولة نظام الحجابة، وتطور هذا النظام لدرجة أن

ص: 110

الحاجب كان يفصل فى الأمور دون الرجوع إلى الخليفة، وجاء منصب

الوزارة فى مرتبة تلى منصب الحجابة، ويأتى إلى جانبهما منصب

القضاء الذى أولاه الحفصيون عنايتهم لأهميته.

الحياة الاقتصادية:

تنوعت مصادر الدخل فى «دولة بنى حفص» ، وشملت: الضرائب

والزكاة، والجزية، والمصادرات، والخراج، وانتعشت الزراعة وكثرت

المحاصيل، ونشطت الصناعات مثل: المنسوجات بأنواعها،

والصناعات الجلدية والزجاجية، وصناعة الأسلحة والسفن، واستخدم

«بنو حفص» عملة خاصة بهم ليؤكدوا استقلالهم.

الحياة الاجتماعية:

تشكل المجتمع الحفصى من عدة عناصر، وكانت قبيلة هنتاتة

البربرية فى مقدمة هذه العناصر، كما كان العرب المقيمون، والعرب

الهلالية ممن شكلوا هذا المجتمع، تضاف إليهم مجموعات الروم

والأتراك.

وشهدت «الدولة الحفصية» حركة واسعة فى البناء والتعمير، وأقام

الحفصيون المؤسسات التعليمية مثل: الكتاتيب، والزوايا والمساجد،

فقامت بدورها فى دعم العلوم المختلفة وتدريسها، ثم أنشأ

الحفصيون المدارس بالعاصمة «تونس» ، وكانت أول مدرسة هى

«المدرسة الشماعية» التى أنشأها «أبو زكريا يحيى الأول» فى

سنة (633هـ= 1235م)، وتلتها «التوفيقية» فى سنة (650هـ= 1252م).

وأخذت «الدولة الحفصية» بالمذهب المالكى، واهتمت بالعلوم الدينية

مثل تفسير القرآن، وعلم الحديث، والفقه، وكذلك اهتم الحفصيون

بالعلوم العقلية مثل: المنطق والكيمياء والفلك وغيرها. وساهمت

المكتبات - التى زُوِّدت بالكتب فى شتى فروع المعرفة- فى تنشيط

الحركة الثقافية بالبلاد، وكذا ساهمت المجالس العلمية، التى شجعها

بعض الحكام الحفصيين فى إثراء النشاط العلمى ودعمه.

وقد أثمرت هذه الحركة الثقافية المزدهرة مجموعة من العلماء

البارزين فى شتى فروع العلم والمعرفة، فكان من الفقهاء «أبو

عبدالله محمد بن عرفة» المتوفى عام (802هـ= 1399م)، ومن

المحدثين: «أبو بكر بن سيد الناس» المتوفى عام (659هـ= 1261م)،

ص: 111

ومن النحويين: «أبو الحسن على بن موسى» المعروف «بابن

عصفور» المتوفى عام (969هـ= 1561م)، ومن الشعراء: «حازم

القرطاجنى» المتوفى عام (684هـ= 1285م)، و «ابن الأبار» المتوفى

عام (662هـ= 1264م).

وقد أسهم هؤلاء وغيرهم فى دعم المعرفة، وتنشيط الثقافة،

ومؤازرة الحركة الفكرية فى دولة «بنى حفص» .

ص: 112

- المراجع:

* إبراهيم العدوي: الأمويون والبيزنطيون - مكتبة الأنجلو المصرية -القاهرة - 1953م.

* بن الأثير (عز الدين): الكامل ففي التاريخ - دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الأولي - 1987م.

* أحمد بن أبي الضياف: إتحاف أهل الزمان - الدار التونسية للنشر - تونس - 1989م.

* بن حجرالعسقلاني (أحمد بن علي): الدرر الكامنة - دار الجيل - بيروت - 1414هـ = 1993م.

* الحسن الوزان: وصف إفريقية - ترجمه عن الفرنسية محمد حجي ومحمد الأخضر - دار الغرب الإسلامي - بيروت - الطبعة الثانية - 1983م.

* حسين مؤنس: تاريخ المغرب وحضارته - العصر الحديث للنشر والتوزيع - بيروت - الطبعة الأولى - 1413هـ = 1992م.

* بن الخطيب (لسان الدين محمد): الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية - رباط الفتح - 1936م.

* بن خلدون (عبد الرحمن بن محمد): تاريخ ابن خلدون - مؤسسة جمال للطباعة والنشر - بيروت - 1979م.

* بن أبي دينار (محمد بن أبي القاسم): المؤنس في أخبار إفريقية وتونس - تونس - 1303هـ.

* روبار برنشفيك: تاريخ أفريقية في العهد الحفصي - ترجمة: حمادي الساحلي - دار الغرب الإسلامي - بيروت - الطبعة الأولى - 1988م.

* بن أبي زرع (أبو الحسن علي بن عبد الله): الأنيس المطرب بروضة القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس - باريس - 1860م.

* السراج (محمد بن محمد): الحلل السندسية في الأخبار التونسية - تحقيق محمد الحبيب الهيلة - دار الغرب الإسلامي - الطبعة الأولي - 1985م.

* سعد زغلول عبد الحميد: تاريخ المغرب العربي - منشأة المعارف - الإسكندرية - 1979م.

* السلاوي (أحمد بن خالد): الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى - الدار البيضاء - 1954م.

* السيد عبد العزيز سالم: المغرب الكبير - العصر الإسلامي - القاهرة - 1964م.

ص: 113

* بن عبد البر (يوسف بن عمر): الاستيعاب في معرفة الأصحاب - تحقيق: علي محمد البجاوي - دار نهضة مصر - القاهرة - بدون تاريخ.

* عبد الله علي علام: الدولة الموحدية بالمغرب - دار المعارف - القاهرة - 1964م.

* علي الجزنائي: زهرة الآس في بناء مدينة فاس - الجزائر - 1923م.

* بن القاضي (أحمد بن محمد بن العافية): جذوة الاقتباس فيمن حل من الأعلام بمدينة فاس - طبعة حجرية بمدينة فاس - 1309هـ.

* القلقشندي (أحمد بن علي): صبح الأعشى في صناعة الإنشا - دار الكتب المصرية - القاهرة - 1923م.

* المراكشي (عبد الواحد بن علي): المعجب في تلخيص أخبار المغرب - تحقيق: محمد العربي ومحمد سعيد العريان - القاهرة - 1962م.

* النويري (أحمد بن علي): نهاية الأرب في فنون الأدب - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة 1403هـ = 1983م.

* الهادي روجي: الدولة الصنهاجية - ترجمة: حمادي الساحلي - دار الغرب الإسلامي - بيروت - الطبعة الأولي - 1922م.

ص: 114