الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجزء السابع
المسلمون في الأندلس
تأليف:
أ. د. عبد الله جمال الدين
أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة القاهرة
الفصل الأول
*بلاد الأندلس
لمحة جغرافية:
تطلق كلمة الأندلس على الأجزاء التى سيطر عليها المسلمون من شبه
الجزيرة الأيبيرية (إسبانيا والبرتغال)، وظلت تطلق على ما فى
أيديهم حتى عندما انحصر وجودهم فى مدينة «غرناطة» وحدها.
وتعود كلمة «الأندلس» فى أصولها إلى كلمة «الوندال» ، وهى تعنى
مجموعة القبائل الجرمانية التى غزت أيبيريا فى القرن الخامس
الميلادى، وأقامت فى طرفها الجنوبى الذى كان آنذاك باسم
«أندلوسيا» ، فلما فتح المسلمون هذه المناطق قيل لهم: إن هذه
أرض «وندلس» فحولها العرب إلى «أندلس» ، وبقيت الكلمة مستخدمة
حتى نهاية الحكم الإسلامى.
ولاتزال كلمة «أندلوسيا» مستخدمة حتى اليوم فى «الإسبانية» ،
وتطلق على ثمانى محافظات فى جنوب إسبانيا، هى: المرية،
وغرناطة، وجيان، وقرطبة، ومالقة، وقادش، وولبة، وإشبيلية.
وشبه الجزيرة الأيبيرية مخمسة الشكل، تصل مساحتها إلى (600)
ألف كيلو مترمربع، تحتل إسبانيا (6/ 5) من هذه المساحة، وهى
هضبة متوسطة الارتفاع، بها سلاسل جبلية كثيرة تشقها بالعرض،
ويفصل بين كل سلسلة جبلية وأخرى وادٍ يجرى فيه نهر بالعرض
أيضًا، وتنبع معظم هذه الأنهار من وسط شبه الجزيرة، وتصب فى
المحيط الأطلسى.
ويفصل أوربا عن شبه الجزيرة سلسلة جبال تغلق الطريق إلى
جنوبى فرنسا إلا من خلال ممرات، ومن هنا جاءت تسمية جبال
البرت، أى جبال الأبواب.
الثغور الإسلامية:
وجدت فى الأندلس ثلاثة ثغور عبارة عن مناطق حدودية بينها وبين
إسبانيا النصرانية، وهذه الثغور هى:
أ - الثغر الأعلى، وعاصمته سرقسطة ويواجه مملكة نبرَّة.
ب - الثغر الأوسط وعاصمته مدينة «سالم» ثم «طليطلة» ، ويواجه
مملكتى قشتالة وليون.
ج - الثغر الأدنى، بين نهرى «دويرة» و «تاجة» وعاصمته طليطلة ثم
قورية.
وقد تمكن النصارى فى نحو القرن الرابع الهجرى من إقامة ثلاث
دويلات نصرانية، هى:
أ - ليون فى الشمال والشمال الغربى، وعاصمتها مدينة «ليون» ،
وتضم مملكتى «جليقية» و «أشتوريس» .
ب - نبرّة، فى الشمال والشمال الشرقى؛ حيث تعيش قبائل
البشكنس، وعاصمتها «بنيلونة» .
ج - قشتالة، وتقع بين مملكتى ليون ونبرة، وعاصمتها «برغش» .
ومن هذه الدويلات الثلاث ستبدأ حركة المقاومة ضد الوجود الإسلامى
فى الأندلس.
عهود الحكم الإسلامى بالأندلس:
ظل المسلمون يحكمون الأندلس نحو ثمانية قرون منذ تم فتحها سنة
(92هـ)، إلى أن سقطت «غرناطة» آخر معاقلها بيد النصارى سنة
(897هـ)، وقد مرت البلاد بعهود يمكن إجمالها على النحو الآتى:
أولا: عهد الفتح (92 - 95هـ = 711 - 714م).
ثانيًا: عهد الولاة (95 - 138هـ = 714 - 755م).
ثالثًا: عهد الإمارة (138 - 316هـ = 755 - 928م).
رابعًا: عهد الخلافة (316 - 400هـ = 928 - 1009م).
خامسًا: عهد ملوك الطوائف (400 - 484 هـ = 1009 - 1091م).
سادسًا: عهد المرابطين والموحدين (484 - 620هـ = 1091 - 1223م).
سابعًا: مملكة غرناطة (620 - 897 هـ = 1223 - 1492م).
أولا: الفتح الإسلامى للأندلس:
كانت شبه الجزيرة الأيبيرية خاضعة لحكم القوط قبل الفتح الإسلامى،
ويتولى أمرها ملك ظالم يدعى رودريك (لذريق) فأبغضه الناس
وفكروا فى الثورة عليه وإبعاده عن الحكم بالاستعانة بالمسلمين
الذين دانت لهم بلاد الشمال لإفريقى، فقام بهذه الوساطة حاكم
«سبتة» الكونت يوليان، واتصل بطارق بن زياد قائد القوات الإسلامية
المعسكرة عند مدينة «طنجة» بالمغرب الأقصى والقريبة من مدينة
«سبتة» .
وأقبلت الوفود على «طارق» تدعوه لعبور المضيق والوصول إلى
شبه الجزيرة، وتصور هؤلاء أن المسلمين سينزلون ضربة قاصمة
بالقوط ثم يعودون إلى بلاد المغرب محملين بالغنائم، وغاب عنهم أن
المسلمين حملة رسالة سامية، وأنهم مكلفون بتبليغها لكل الناس،
وأن ما يشغلهم قبل كل شىء هو نشر مبادئ دينهم السمحة وتعريف
الشعوب به.
وقد رحّب «طارق» بهذا الطلب ووجد فيه فرصة طيبة لمواصلة الفتح
والجهاد، وأرسل إلى «موسى بن نصير» والى الأمويين على المغرب
يستأذنه فى فتح الأندلس، فنصحه باختبار مدى مقاومة القوط
بإرسال بعض السرايا إليهم، وبالتأكد من ولاء «يوليان» وصدق
كلامه، ثم أرسل «موسى بن نصير» إلى الخليفة الأموى «الوليد بن
عبدالملك» يستأذنه فى فتح «الأندلس» ، ويشرح له حقيقة الأوضاع
هناك، فتردد الخليفة فى أول الأمر، خوفًا على المسلمين من
المخاطرة بهم فى بلاد لا عهد لهم بها من قبل، لكن «موسى» نجح
فى إقناعه بأهمية الفتح، وتم الاتفاق على أن يسبق الفتح حملات
استطلاعية.
وفى سنة (91هـ = 710م) أرسل «طارق بن زياد» بعثة استطلاعية
بقيادة «طريف بن زرعة» فنزلت فى الطرف الجنوبى لشبه الجزيرة،
ولم تلق مقاومة، وعادت بغنائم وفيرة، ومنذ ذلك الحين أُطلق اسم
«طريف» على إحدى تلك المناطق.
وقد شجعت نتيجة حملة «طريف» «طارق بن زياد» فعبر المضيق فى
(شعبان 92هـ = أبريل- مايو 711م)، وتجمع المسلمون عند الجبل
الذى يعرف من ذلك التاريخ بجبل طارق، وأقام «طارق» بتلك المنطقة
عدة أيام، بنى خلالها سورًا أحاط بجيوشه سمَّاه «سور العرب» ، كما
أقام قاعدة عسكرية بجوار الجبل على الساحل؛ لحماية ظهره فى
حالة اضطراره إلى الانسحاب، هى مدينة الجزيرة الخضراء، أو جزيرة
«أم حكيم» ، نسبة إلى جارية كان طارق قد حملها معه، ثم تركها
فى هذا المكان، وهذا الميناء يسهل اتصاله بميناء «سبتة» المغربى،
على حين يصعب اتصاله بإسبانيا لوجود مرتفعات بينهما، ولم يكتفِ
طارق بذلك، بل أقام قاعدة أمامية أخرى وبنى حصنًا، وطلب من
«يوليان» ومن معه من الجند حراسة هذا الموضع وحمايته من كل
هجوم منتظر.
ثم واصل «طارق» السير جنوبًا حتى بلغ الساحل الجنوبى لشبه
الجزيرة، ومشى فى محاذاته، وعبر نهرًا صغيرًا يسمى «وادى
لكه»، وأقام معسكره فى منطقة واسعة يحدها من الشرق «وادى
لكه»، ومن الغرب «وادى البرباط» ، وهى منطقة سهلية واسعة تكثر
فيها المدن، مثل:«قادش» على البحر، وإلى جوارها من الداخل مدينة
«شريش» ، وفى الشمال على الطريق إلى «قرطبة» مدينة شذونة
(سيدونيا)، وفى ذلك السهل الواسع أخذ «طارق» ينظم قواته ويرتب
لمعركته انتظارًا للقاء القوط.
علم «لذريق» بمجىء القوات الإسلامية، وهو مشغول بمحاربة أعدائه
فى شمالى شبه الجزيرة، فأصيب بهلع ورعب عظيمين، وجمع
جنوده وانحدر بهم لمواجهة المسلمين، ووصلت أنباء تلك الحشود
الضخمة إلى «طارق بن زياد» ، فكتب إلى «موسى بن نصير» يخبره
بذلك، فأمده بخمسة آلاف جندى صار بهم مجموع جنود المسلمين
بالأندلس (21) ألف جندى.
وصل «لذريق» إلى بلدة «شذونة» وأتم بها استعداداته، ثم اتجه
للقاء المسلمين ودارت بين الفريقين معركة فاصلة فى كورة
«شذونة» جنوب غربى إسبانيا، استمرت ثمانية أيام من (الأحد 82 من
رمضان إلى الأحد 5 من شوال سنة 29هـ = 91 - 62 يوليو 117م)،
وكانت معركة هائلة، اقتتل فيها الطرفان اقتتالا شديدًا حتى ظنوا
أنه الفناء، وكان النصر فى النهاية حليف المسلمين، وفر «لذريق»
من أرض المعركة، وتبعه المسلمون حتى أدركوه وقتلوه بالقرب من
بلدة «لورقة» .
وبعد هذا النصر العظيم الذى حققه «طارق بن زياد» ، وامتلاء أيدى
أصحابه بالغنائم - اتجه إلى الشمال فاستولى على بعض القلاع، ثم
عبر نهر الوادى الكبير قاصدًا مدينة «طليطلة» عاصمة القوط، وكانت
تبعد عن أرض المعركة بنحو ستمائة كيلومتر، وكلها جبال ووديان
ومضايق عسيرة، وقد تمكن المسلمون بعزيمتهم وإصرارهم وإيمانهم
الجياش من دخول العاصمة بعد مقاومة عنيفة من القوط.
وفى أثناء سير «طارق» إلى «طليطلة» أرسل جزءًا من قواته لفتح
«البيرة» كما أرسل «مغيث الرومى» إلى «قرطبة» ففتحها بعد
حصار دام ثلاثة أشهر، وكانت آنئذ معسكرًا رومانيا قديمًا يقع على
ضفة نهر الوادى الكبير وعندها بُنيت قنطرة حجرية على النهر.
وأثبت «طارق» بهذا التصرف أنه على خبرة واسعة بشئون الحرب
وفنون القتال، لأن السيطرة على هذه القنطرة تيسّر له طريق العود.
استقر «طارق بن زياد» فى «طليطلة» ، فهرب منها كبار القوط وكبار
رجال الدين الذين حملوا معهم ذخائر كنيستهم، فأدرك المسلمون
هؤلاء الفارين عند بلدة صغيرة تسمى قلعة «عبدالسلام» ، وغنموا ما
كان معهم من ذخائر بالغة القيمة، وتجل عن الحصر، من بينها مذبح
الكنيسة الذى سموه «مائدة سليمان» - ولاصلة لنبى الله سليمان
بهذه المائدة - التى كانت من الزبرجد الخالص، ومزدانة بالجواهر،
وتوضع فى صدر الكنيسة وعليها الصلبان والكؤوس والكتب
المقدسة، وبعد أن حل الشتاء آثر «طارق» العودة إلى «طليطلة» ،
وكتب إلى «موسى» يحيطه بأنباء الفتح وما أحرزه من نجاح،
ويطلب منه المدد.
موسى بن نصير والمشاركة فى فتح الأندلس:
قرر «موسى بن نصير» التوجه إلى الأندلس على رأس قوات مقدارها
ثمانية عشر ألفا معظمهم من العرب - على حين كان معظم جند طارق
من البربر - فغادر القيروان، ووصل إلى «طنجة» سنة (93هـ = 712م)،
ثم عبر المضيق ونزل الجزيرة الخضراء.
سار «موسى بن نصير» بجنوده فى غير الطريق الذى سلكه «طارق
بن زياد»، بناءً على نصيحة رجاله وحلفاء المسلمين؛ ليكون له شرف
فتح بلاد أخرى غير التى فتحها طارق، فنزل «شذونة» ، واستولى
على حصنين كبيرين بجوارها، هما «قرمونة» وقلعة «وادى إبرة» ،
ثم تقدم نحو «إشبيلية» فحاصرها حتى استسلمت وانسحبت حاميتها
إلى مدينة «لبلة» فى الغرب، وهى الآن مدينة برتغالية.
ثم اتجه «موسى» ناحية بلد كبير يحيط به سور حصين، تسمَّى
«ماردة» كان يعتصم به قسم كبير من جيش «لذريق» ، فحاصرها
واشتد فى حصارها على الرغم مما كابده المسلمون من خسائر،
حتى استسلمت صلحًا فى (أول شوال سنة 94هـ = 30 من يونيو
713م)، وغنم المسلمون ما كان بها من ذخائر نفيسة.
وبعد شهر تقدم «موسى» نحو «طليطلة» حيث التقى بطارق عند نهر
«التاجو» ، ثم سارا معًا لمواصلة الفتح، وفى أثناء ذلك حدثت ثورة
معادية للمسلمين فى «إشبيلية» ، فأرسل «موسى» ابنه «عبدالعزيز»
فقضى على تلك الثورة وفتح مدن: «لبلة» و «باجة» و «أكشونبة»
وهى تكوِّن النصف الجنوبى من البرتغال الآن، ثم وصل المسلمون
إلى ساحل المحيط الأطلسى من تلك الناحية.
استقر «موسى بن نصير» فى «طليطلة» فى شتاء سنة (95هـ =
714م)، وبدأ فى ممارسة عمله، باعتباره أول مسلم يحكم قطرًا
أوربيا، فأمر بضرب عملة إسلامية، مكتوب على أحد وجهيها
باللاتينية «شهادة أن لا إله إلا الله» ، وعلى الوجه الآخر «ضربت فى
إسبانيا سنة (714م)»، ثم أرسل رسولين هما «على بن رباح
اللخمى»، و «مغيث الرومى» إلى الخليفة «الوليد بن عبدالملك»
يحملان إليه نبأ الفتح العظيم، وطرفًا من الذخائر والتحف التى غنمها
المسلمون.
وفى سنة (95هـ = 714م) اتجه «موسى» ناحية الشمال الشرقى
قاصدًا مدينة «سرقسطة» مفتاح منطقة «وادى أبرة» كلها ونجح فى
الاستيلاء عليها، ثم قام «حنش بن عبدالله الصنعانى» وهو من
التابعين الذى قدموا فى جيش «موسى ابن نصير» باختطاط جامع
سرقسطة، الذى أصبح واحدًِا من أكبر مساجد الأندلس، ثم فتح
«موسى» مدينة «وشقة» ، وأتبعها فتح مدينة «لاردة» سالكًا بجيشه
الطريق الرومانى الكبير «المبلط» المسمى بالطريق القيصرى، وبدأ
فى الاستعداد للسير فى اتجاه «برشلونة» .
وفى تلك الأثناء عاد «مغيث الرومى» من «دمشق» وطلب من
«موسى» أن يذهب إلى عاصمة الخلافة ومعه «طارق بن زياد» ليقدما
بيانًا شافيًا عن فتوحاتهما، فاستجاب «موسى» للطلب، ولكنه عزم
على إرجائه حتى يتم فتح الشمال الغربى والشرقى لشبه الجزيرة
الأيبيرية، وأمر طارقاً فواصل السير مع الطريق القيصرى، على حين
سار هو فى اتجاه الشمال الغربى، حتى وصل إلى خليج بسكاى
عند «خيخون» .
وقد نجح «طارق» فى إخضاع منطقة «أراجون» ، ثم اتجه غربًا ليلحق
بموسى، فاستولى على بعض الحصون، وعلى مدينتى «اشترقة»
و «ليون» ، وبهذه الإنجازات التى حققها القائدان شعرا أنهما أتما
فتح شبه الجزيرة، وأن بإمكانهما الآن تلبية دعوة الخليفة «الوليد»
وبخاصة أنه قد بعث برسول يتعجَّل عودتهما.
أخذ الفاتحان العظيمان طريق العودة إلى المشرق فى (ذى القعدة
95هـ = يوليو 714م) بعدما نظما شئون البلاد، ورسما سياسة
الحكومة، واتخذا «إشبيلية» عاصمة؛ لموقعها وقربها من البحر، ثم
أسرعا السير نحو العاصمة «دمشق» فوصلاها بعد تولية «سليمان بن
عبدالملك» الخلافة، خلفًا لأخيه «الوليد» ، وظلا هناك ولم يعودا
لمواصلة الفتح.
وكان «موسى بن نصير» قد ترك ابنه «عبدالعزيز» واليًا على
الأندلس، فقضى أيام ولايته فى استكمال فتح شبه الجزيرة الأيبيرية،
فى شرقها وغربها، ففتح كورة تدمير (مرسية) صلحًا بعد أن
استسلم ملكها، وقضى على جيوب المقاومة ولذا عده بعض المؤرخين
ثالث فاتحى الأندلس، وكان معروفًا بالصلاح والتقوى والشجاعة
والإقدام، بارعًا فى تنظيم الحكومة وترتيب إدارتها، متبعًا سياسة
الرفق والاعتدال والوفاء بالعهد.
وبنجاح الفتح الإسلامى تنفس أهالى «الأندلس» نسيم الحرية، فقد
رفعت عنهم المغارم والأعباء، وعرف الناس سياسة التسامح
والإنصاف، وأمنوا على حياتهم وأموالهم وحرياتهم، وعاشوا حياة
العدل والمساواة، وترك لهم حق اتباع قوانينهم والخضوع لقضاتهم،
ولم يظلم أحد بسبب دينه أو عقيدته، ولم يفرض الإسلام عليهم فرضًا،
ومن أسلم عن طواعية ودون إكراه فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم،
ومن بقى على دينه لم يكلف بأكثر من الجزية. مقابل حمايته والدفاع
عنه وتأمين حقوقه.
حريق السفن وخطبة طارق:
يرتبط بفتح المسلمين للأندلس مسألة حرقهم لمراكبهم بعد عبورهم
المضيق، والخطبة التى ألقاها «طارق» بعد هذا العبور.
أما مسألة إحراق السفن فإن الدراسة التاريخية ترفض التصديق بقيام
مثل هذا العمل من «طارق» ، فلم يكن المسلمون فى حاجة إليه
ليخلصوا فى القتال ويتحمسوا له، لأن عملهم جهاد فى سبيل الله
ينتظر المسلم من ورائه النصر أو الشهادة، وقتال من أجل عقيدة
يفدونها بدمائهم وأرواحهم، كما أن إحراق السفن ليس عملا عسكريا
مناسبًا، لأنهم فى حاجة إليها بصفة دائمة للاتصال ببلاد المغرب.
وأما الخطبة المنسوبة إلى «طارق» والتى حث فيها المسلمين على
الجهاد، وقال فيها: أين المفر .. البحر من ورائكم والعدو أمامكم .. ،
فلا توجد كاملة فى المصادر الأندلسية الأولى، مما يشير إلى عدم
شيوعها ويقلل من الثقة بواقعيتها. وأنها مليئة بالسجع المتكلف
الذى لم يكن شائعًا فى ذلك العصر، كما أن طارقًا وأكثر جنوده
كانوا من البربر، ولايتوقع أن تكون لغتهم العربية إلى هذا المستوى
العالى من البيان، وهذا لايمنع أن يكون القائد قد ألقى كلمته فى
جنده البربر بلغتهم التى يفهمونها، ثم جاء من كتاب العرب من نقل
معانى تلك الخطبة إلى اللغة العربية، فأصابها شىء من التعديل
والتغيير.
الفصل الثاني
*عهد الولاة بالأندلس
[97 - 138 هـ = 715 - 755 م].
يقصد بالولاة حكام الأندلس الذين عينتهم الحكومة الأموية فى دمشق،
أو والى الشمال الإفريقى الذى كانت الأندلس تابعة له أحيانًا، وقد
تولى على الأندلس خلال هذه الفترة (22) واليًا، حكم اثنان منهم
مرتين، وهذا يعنى أن متوسط فترة حكم الوالى تقل عن سنتين،
وهذا يعنى أن عدم الاستقرار هو السمة الغالبة على هذه الفترة،
ويعود ذلك إلى اضطراب السياسة العامة بعد وفاة «الوليد بن
عبدالملك» وانتشار العصبيات القبلية والشخصية، ونزاع العرب مع
البربر.
أيوب بن حبيب البلخى:
قتل «عبدالعزيز بن موسى بن نصير» والى الأندلس عندما وثب عليه
جماعة من الجند على رأسهم وزيره «زياد بن عذرة البلوى» أثناء
صلاته بأحد مساجد «إشبيلية» ، وذلك فى (رجب 97هـ = فبراير
716م)، لتبدأ فترة عهد الولاة.
وقد آل أمر الأندلس إلى «أيوب بن حبيب البلخى» ابن أخت «موسى
بن نصير»، وهو من العرب الذين اشتركوا فى فتح هذه البلاد، ثم
استقروا بها، ورأوا أنهم أولى من غيرهم بحكم الأندلس، ولم تزد
ولاية «أيوب» على ستة أشهر لم يفعل فيها شيئًا يذكر سوى نقله
العاصمة من «إشبيلية» إلى «قرطبة» لأن موقعها أوسط وأقرب إلى
منازل جماعات العرب فى الشرق، والجنوب، والجنوب الشرقى.
الحر بن عبدالرحمن الثقفى:
لم تجر الأمور على النحو الذى أراده «أيوب» ؛ إذ قام والى إفريقية
الذى تتبعه الأندلس بتعيين «الحر بن عبدالرحمن» واليًا عليها، ودام
حكمه سنتين وثمانية أشهر، بدأت فى (ذى الحجة 98هـ = يوليو
717م)، واستطاع خلالها أن يقمع المنازعات التى كانت بين العرب
والبربر، ويصلح الجيش، وينظم الإدارة، ويوطد الأمن.
وينسب إلى «الحر» إقامته دار الإمارة فى «قرطبة» فى مواجهة
«قنطرة الوادى» ، وكانت من قبل مقرا للحاكم القوطى، فاعتنى بها
«الحر» وسمى القصر والأرض الواسعة أمامه على ضفة النهر «بلاط
الحر».
وبعد أن تولى «عمر بن عبدالعزيز» الخلافة عزل «الحر» عن ولاية
الأندلس، لاضطراب النظام فى آخر عهده.
السمح بن مالك الخولانى:
كانت الأندلس تابعة لإفريقية من الناحية الإدارية، فلما ولى «عمر بن
عبدالعزيز» جعلها تابعة للخلافة مباشرة لأهميتها واتساعها، وأقام
عليها «السمح ابن مالك الخولانى» سنة (100هـ = 719م)، غير أن
تبعية «الأندلس» لإفريقية عادت مرة أخرى فى عهد «يزيد بن
عبدالملك».
ويعد «السمح» من خيرة ولاة «الأندلس» ، فضلا وصلاحًا وكفاءة
وقدرة؛ حيث نظم شئون البلاد، وأعاد بناء القنطرة التى كانت مقامة
على الوادى الكبير، وكانت قد تهدَّمت ولم يعد الناس يستطيعون
العبور إلا فى السفن، وكان العرب فى أمسِّ الحاجة إلى قنطرة متينة
يستطيعون العبور إليها من الجنوب إلى عاصمتهم الجديدة، كما أعاد
الأمن والاستقرار إلى البلاد لحسن سياسته، وحمله الناس على طريق
الحق، ورفقه بهم.
ولم يكن «السمح بن مالك» كفءا من الناحية الإدارية فحسب، بل كان
أيضًا قائدًا عسكريا ممتازًا قام بحملة شاملة، اخترقت «جبال البرت»
من الشرق، وسيطر على عدد من القواعد هناك، واستولى على
«سبتمانيا» وأقام حكومة إسلامية بها فى هذا الوقت المبكر، واتخذ
من «أربونة» قاعدة للجهاد وراء «البرت» ، وقد استشهد فى معركة
مع النصارى عند «تولوز» فى يوم عرفة من سنة (102هـ = 721م)،
فتولى القيادة «عبدالرحمن بن عبدالله الغافقى» ، وأقر واليًا للأندلس
حتى يأتى الحاكم الجديد.
عنبسة بن سحيم الكلبى:
قدم إلى الأندلس فى (صفر سنة 103هـ = 722م)، وكان كالسمح بن
مالك صالحًا قويا، فأنفق وقته فى تنظيم الإدارة، وضبط النواحى،
وإصلاح الجيش، وإعداده لغزوات جديدة، وقد عبر «عنبسة» بجيوشه
«جبال البرت» ، وتمكن من بسط سلطان المسلمين فى شرقى جنوب
فرنسا، وفى أثناء عودته داهمته جموع من الفرنجة، فأصيب فى
المعركة، ثم توفى سنة (107هـ = 725م).
وبعد «عنبسة» توالى على «الأندلس» سبعة من الولاة بين سنتى
(107 - 112هـ = 725 - 730م) تفاقمت خلالها المشكلات، وازدادت
الاضطرابات، وانتشر الخلل والخلاف بين الزعماء ورجال القبائل فى
الأندلس، وتجددت المنازعات بين العرب البلدانيين (وهم العرب الذين
طال بهم المقام والعمل فى إفريقية حتى سمو بالبلدانيين)،
والشاميين، وهاجم الأعداء القواعد الإسلامية.
عبدالرحمن الغافقى:
ظلت الأمور تجرى على هذا النحو المضطرب حتى عُيِّن «الغافقى»
واليًا على الأندلس من قبل والى «إفريقية» ، فى (صفر 112هـ = مارس
/ إبريل 730م) لتبدأ فترة ولايته الثانية، وقد أيد الخليفة هشام بن
عبدالملك ذلك الاختيار.
وكان «الغافقى» من كبار رجالات الأندلس عدلاً وصلاحًا، وقدرة
وكفاءة، نظَّم شئون البلاد، وأصلح نظم الحكم والإدارة، وعين
أصحاب الكفاءات فى المناصب المختلفة، وقمع الظلم، ورد إلى
النصارى كنائسهم وأملاكهم، وفرض ضرائب عادلة وعنى بتنظيم
الجيش وإصلاحه، وأنشأ فرقًا من العرب والبربر، وحصن القواعد
والثغور الإسلامية، وجمع أعظم جيش سيره المسلمون إلى فرنسا.
موقعة بلاط الشهداء:
فى أوائل سنة (114هـ = 732م) سار «الغافقى» بجيوشه نحو
الشمال وعبر جبال «البرت» من طريق «بنبلونة» ودخل فرنسا؛ حيث
قام بمعارك ناجحة ضد أعدائه، وفتح نصف فرنسا الجنوبى كله من
الشرق إلى الغرب فى بضعة أشهر، وواصل زحفه المظفر حتى
أشرف بجيشه على نهر اللوار، وهناك احتشد له «شارل مارتل»
بجيش ضخم من الفرنج والمرتزقة نصف العراة، ويتشحون بجلود
الذئاب، وتنسدل شعورهم الجعدة فوق أكتافهم العارية.
استولى المسلمون على مدينتى «بواتيه» و «تور» ، ثم فاجأهم العدو
دون أن تشعر به طلائع المسلمين أو تحسن تقدير عدده، وأراد
عبدالرحمن أن يقتحم «اللوار» ففاجأه «شارل مارتل» بجموعه
الجرارة فارتد إلى السهل الواقع بين مدينتى «بواتيه» و «تور» ،
وعبر جيش الفرنج «اللوار» وعسكر غربى الجيش الإسلامى.
عزم «الغافقى» على لقاء العدو على الرغم من أن بعض قبائل البربر
فى جيشه كانت تتوق إلى الانسحاب بما تحمله من غنائم كثيرة، وأن
عدد جنوده قد قل بسبب تخلف حاميات كثيرة فى المدن والقرى
المفتوحة.
ودامت المعركة تسعة أيام دون أن يحقق الفريقان نصرًا حاسمًا،
وفى اليوم العاشر أبدى كلا الطرفين غاية الجلد والشجاعة، وظهر
الإعياء على الفرنج، وبدت علامات انتصار المسلمين، لكن حدث أن
افتتح الفرنج ثغرة فى معسكر غنائم المسلمين وارتفعت فيه صيحة
مجهول تقول إن معسكر الغنائم سيقع فى يد العدو، فارتدت قوات
كبيرة إلى ماوراء الغنائم لحمايتها، واختلت صفوف المسلمين، وبينما
يحاول «الغافقى» إعادة النظام إلى جيشه أصابه سهم أرداه من
فوق جواده قتيلا، فعم الاضطراب بين المسلمين، وكثر القتل فيهم،
واشتد الفرنج عليهم، لكنهم صبروا حتى جن الليل وافترق الجيشان
دون فصل فى (أوائل رمضان 114هـ = 21 أكتوبر 732م)، ثم انسحب
المسلمون نحو مراكزهم فى «سبتمانيا» تاركين غنائمهم.
وفى فجر اليوم التالى تقدم «شارل» بحذر فوجد المعسكرات
الإسلامية خالية إلا من الجرحى ومن لم يتمكنوا من مرافقة الجيش
المنسحب فذبحوهم، وخشى «شارل مارتل» الخديعة فاكتفى
بانسحاب المسلمين ولم يتعقبهم، وآثر العودة بجيشه إلى الشمال.
وكان مقتل «الغافقى» خسارة فادحة للمسلمين، وضربة شديدة
لمشاريع الخلافة فى الغرب؛ إذ أخفقت آخر محاولة بذلتها لفتح العالم
الغربى.
عبدالملك بن قطن الفهرى:
تولى «عبدالملك بن قطن الفهرى» بعد استشهاد «الغافقى» ، فعبر
إلى الأندلس فى جيش من جند إفريقية فى أواخر سنة (114هـ =
732م) وسار إلى «أراجون» وهزم الثائرين فى عدة مواقع، ثم عبر
جبال البرت إلى بلاد «البشكنس» سنة (115هـ = 733م)، وكانت أشد
المقاطعات الجبلية مراسًا وأكثرها انتفاضًا وثورة، فشتت جندها
وألجأهم إلى طلب الصلح، ثم اضطر بعد ذلك إلى أن يرتد إلى الجنوب
دون أن يتوغل كثيرًا فى أرض العدو، لقلة ما معه من الجند، ثم سخط
عليه الزعماء، ودب خلاف بين القبائل، وأدى ذلك إلى عزله.
عقبة بن الحجاج السلولى:
تولى سنة (116هـ = 734م) بعد «عبدالملك بن قطن» وكان رجلاً
عظيمًا مثل «الغافقى» ، فنشر العدل ورد المظالم، وأنشأ المساجد
ودور العلم ونظم الجيش، وتوغل فى أراضى «جليقية» شمالى
الأندلس، واهتم بتحصين جميع المواقع الإسلامية، ومنح عناية خاصة
لثغر «أربونة» واتخذه قاعدة للجهاد، وأمد رجاله بالجند والذخيرة.
وكان يخرج للغزو كل عام على مدار خمس سنوات فى الجنوب
والشمال الشرقى من فرنسا، حتى أصبح نهر «الرون» رباط
المسلمين ومعقل فتوحاتهم بعد أن كان الفرنج قد استردوا مافى
أيدى المسلمين، وقد استشهد «عقبة» فى معركة مع الأعداء سنة
(121هـ = 739م)، فكان خاتمة الولاة المجاهدين وراء البرت.
عبدالملك بن قطن:
أقام عرب الأندلس «عبد الملك بن قطن» واليًا عليهم للمرة الثانية،
فكان عهده بداية عهد من الفتن والاضطرابات والحروب الأهلية؛ إذ
اشتعلت ثورة البربر بسبب تعصب العرب لبنى جنسهم وتعاليهم على
غيرهم، وكان معظم هؤلاء من «القيسية» الذين يرون أن الدولة
الأموية دولتهم، على حين كان العرب البلدانيون ومعظمهم من
«اليمنية» بعيدين عن هذه النزعة.
وقام البربر فى الأندلس أثناء ثورتهم بإخراج العرب من المناطق التى
شكلت أغلبية بربرية، وبخاصة «جليقية» ومناطق نهر تاجة وغيرها،
وظن «عبدالملك بن قطن» وهو كبير البلدانيين أن الثورة موجهة ضد
الشاميين، ثم مالبث أن تبين أنها موجهة إلى العرب جميعًا، وأن
البربر يسيرون فى جيوش ثلاثة: واحد منها متجه إلى «طليطلة» ،
والثانى نحو «قرطبة» ، والثالث نحو «الجزيرة الخضراء» .
وفى تلك الأثناء كان «بلج بن بشر القشيرى» أحد قادة والى
المغرب محاصرًا فى «سبتة» مع عشرة آلاف من جنده من قبل البربر
الذى ثاروا فى إفريقية ضد العرب، تلك الثورة التى انتقلت أصداؤها
إلى الأندلس، فثار البربر هناك ضد العرب.
وقد استغاث هؤلاء المحاصرون بوالى الأندلس «عبدالملك بن قطن»
وطلبوا منه أن يسمح لهم بالعبور إليه لمعاونته فى القضاء على
ثورة البربر، فاستجاب على مضض، وطلب من «بلج» أن يعود بمن
معه إلى شمال إفريقيا متى صلحت الأحوال.
وقد حقق هؤلاء مع «عبدالملك» انتصارات على البربر فى شذونة،
وقرطبة، ثم فى معركة حاسمة قرب طليطلة عند وادى سليط قرب
الجزيرة الخضراء فى أوائل سنة (124هـ = 742م)، وأخذ العرب
الشاميون يطاردون البربر، فتركوا أراضيهم فى الوسط والشمال
الغربى، وعادوا إلى إفريقيا فى هجرات جماعية تركت آثارًا سيئة
على مستقبل المسلمين فى الأندلس.
وكان من نتيجة تلك الهجرات أن تركت الأراضى شمالى نهر تاجة
خالية من المسلمين تقريبًا، فامتد إليها نفوذ نصارى الشمال،
فساحوا فيها، ولم يمر وقت طويل حتى أصبحت تلك الأراضى
نصرانية، وخسر المسلمون بذلك ربع شبه الجزيرة، نتيجة انقسامهم
وتفرقهم.
رفض «بلج» العودة إلى المغرب حسب الاتفاق، وقام بعزل
«عبدالملك» وزعم أنه الوالى الرسمى بتأييد من اليمانية، وانقسمت
الأندلس إلى معسكر للشاميين يضم مائتى ألف، وآخرللعرب البلدانيين
ضم مائة ألف، ونشبت معارك قتل فيها «بلج» ومع ذلك انتصر
الشاميون، وولوا على الأندلس «ثعلبة بن سلامة العاملى» فى (شوال
سنة 124هـ = أغسطس742م)، فحاول أن يعيد الأمن والاستقرار، لكن
الحكومة كانت قد ضعف سلطانها، وانقسمت البلاد إلى عدة مناطق
نفوذ، واشتعلت الحرب من جديد، ولم ينقذ الموقف إلا قدوم الوالى
الجديد.
أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبى:
أرسله والى إفريقية فقدم إلى «الأندلس» فى (رجب سنة 125هـ =
مايو 743م)، وبدأ ولايته بتأمين العرب البلدانيين والبربر على
ممتلكاتهم ومصالحهم، وحال بين الشاميين وبين إيذائهم، وعمل على
القضاء على المنازعات القبلية بين السكان، ورأى بعد نصيحة ذوى
الرأى أن يفرق الشاميين فى مناطق لايوجد فيها بلدانيون أو
يمنيون، ويستقر كل فريق منهم بناحية ويأخذ ثلث خراج الأرض مقابل
أن يقدموا عددًا معينًا من الجند، كلما طلبت السلطات منهم ذلك، كما
تتبع الزعماء الخارجين وسلك معهم سبيل الحزم، وكان عادلا؛
فَرضى عنه الجميع.
غير أن «أبا الخطار» مالبث أن تخلى عن تلك السياسة الحكيمة،
ومال إلى قومه من اليمنية وتنكر للمُضَرية، فعادت المعارك بينه وبين
خصومه من جديد، وقتل بعضهم بعضًا، وانفضت عنه جنده، وعمت
الفوضى البلاد إلى أن تولى الفهرى.
يوسف بن عبدالرحمن الفهرى:
تولى الأندلس سنة (129هـ = 747م) دون مصادقة من إفريقية أو من
دمشق التى كانت قد بدأت فترة من الضعف فلم تتمكن الخلافة من
الإشراف على الولايات، واستقلت الأندلس بشئونها.
استقل «يوسف» بولاية الأندلس نحو عشرة أعوام، واتفق مع
«الصميل ابن حاتم» زعيم المضرية على أن يتداولا السلطة فيما
بينهما، لكن الأمور لم تستقر، وتجدد النزاع بين المضرية واليمنية، ولم
تستقر الأوضاع ليوسف إلا بعد مقتل زعيم اليمنية سنة (130هـ =
748م).
وقد حاول «يوسف» إصلاح الدولة، فنظم شئونها المالية، وقسم
البلاد إلى خمس ولايات إدارية على نحو ماكانت عليه زمن القوط، كما
عنى بتنظيم الجيش وإصلاحه، والقضاء على خصومه، وشغلت الخلافة
بمشاكلها عن الأندلس.
ثم ظهر فى شمال البلاد رجل يدعى «عامر بن عمرو بن وهب
العبدرى»، وبدأ يراسل الخليفة العباسى «أبا جعفر المنصور» ،
وعين نفسه واليًا على الأندلس، وأصبح الشمال فى قبضته، وخرج
عن سلطان «يوسف» الذى توجه إلى «سرقسطة» ، وحاصرها بشدة
سنة (137هـ = 754م) حتى استسلم «عامر» ، ثم اتجه «يوسف» بعد
ذلك إلى «طليطلة» .
وفى طليطلة جاء رسول من قرطبة بخبر مؤداه أن فتىً من بنى أمية
يدعى «عبدالرحمن بن معاوية» قد نزل فى ثغر المنكب بالأندلس،
واجتمع حوله أشياع بنى أمية فى كورة غرناطة، وأن دعوته
انتشرت بسرعة فى الجنوب، وقد ذاع هذا الخبر فى جند يوسف
فأحدث فزعًا واضطرابًا، وتفرق عنه جنده، فاضطر هو و «الصميل»
بالعودة بمن معهما متوجهين إلى قرطبة؛ لمواجهة هذا الخطر الداهم،
وكان ذلك سنة (138هـ= 755م).
وأثناء هذه الفتن استولى الفرنج على جميع القواعد الإسلامية فى
الشمال ماعدا «أربونة» أمنع قلاع المسلمين فيما وراء جبال البرت،
وقد قاوم المسلمون بها، وصبروا على مدار أربعة أعوام، ولم تستسلم
إلا بعد خيانة القوط بها، وقد دخلها الفرنج، وخربوا مساجدها
ومعاهدها ودورها سنة (142هـ = 759م)، وبذلك انتهى الوجود
الإسلامى فيما وراء جبال البرت بعد أن استمر هناك ما يقرب من
نصف قرن، وقد حدث هذا فى الوقت الذى كانت فيه قوى الإسلام
فى شبه الجزيرة مشغولة بتمزيق بعضها بعضًا.
وقد استفادت المجموعة التى اعتصمت فى جبال «استوريا»
و «جليقية» فى شمالى غرب إسبانيا، والتى عرفت بمجموعة «بلاى»
من هذا التمزق، وأخذت تنمو مع الزمن، ويشتد ساعدها ابتداءً من
القرن الثامن الميلادى حتى صارت شوكة فى جنب المسلمين هناك.
وأدت الحروب المتوالية بين العرب بعضهم بعضًا، وبينهم وبين البربر
إلى مجاعة شديدة بلغت أقصاها سنة (136هـ = 753م)، وترتب عليها
تزايد حركة الهجرة إلى إفريقية وقلة عدد المسلمين فى شبه الجزيرة
الأيبيرية، ولايستثنى من ذلك سوى إقليم «سرقسطة» الذى كان
معظم سكانه من اليمنيين، فاستقروا به واشتغلوا بالزراعة.
الفصل الثالث
*الدولة الأموية بالأندلس
عهد الإمارة الأموية الأندلسية
[138 - 316هـ = 755 - 928م].
عبدالرحمن الداخل يحكم الأندلس (138 - 172هـ = 755 - 788م):
سقطت الدولة الأموية بالمشرق سنة (132هـ = 749م)، واضطهد
العباسيون الأمويين، وطاردوهم فى كل مكان، لكن واحدًا منهم هو
«عبدالرحمن ابن معاوية بن هشام بن عبدالملك» تمكن من الوصول
إلى الأندلس، بعد أن عبر فلسطين ومصر، ثم لحق به مولاه «بدر»
وهو رومى الأصل، ومولاه «سالم» ومعهما شىء من المال
والجواهر، ثم وصل «عبدالرحمن» إلى «برقة» والتجأ إلى أخواله من
«بنى نفزة» - من برابرة طرابلس - وأقام عندهم مدة، ثم غادر إلى
المغرب الأقصى، وتجول هناك، متغلبًا على ما قابله من صعاب،
وأقام حينًا عند شيوخ البدو، وحينًا عند بعض رجال قبيلة زناتة،
وكان أثناء ذلك يدرس أحوال الأندلس، ويرقب الفرصة المناسبة للعبور
إليها.
وقد اتصل بمعونة مولاه «بدر» ، الذى كان قد نزل بساحل «لبيرة»
فى كورة «غرناطة» موطن أهل «الشام» بموالى خلفاء البيت الأموى
والقرشيين عامة، وبالكلبية اليمنية، خصوم الوالى يوسف الفهرى، ثم
عبر عبدالرحمن إلى الأندلس فى ربيع سنة (137هـ = 754م)، ونزل
بثغر «المنكبّ» لموقعه الممتاز، وقد التف الناس حوله بما فى ذلك
جماعات البربر، على أمل أن ينقذهم من الأوضاع المتردية.
تقدم عبدالرحمن نحو العاصمة «قرطبة» ، وجمع «يوسف الفهرى»
و «الصميل» ما أمكنهما من قوات، والتقى الفريقان عند «المصارة»
أو «المسارة» بالطرف الغربى، وتمكن عبد الرحمن من تحقيق انتصار
حاسم، دخل على إثره قرطبة وصلى بالناس الجمعة، وخطب الجند،
وعُد ذلك اليوم ميلادًا للدولة الأموية فى الأندلس، ولقب «عبدالرحمن بن
معاوية» بعبدالرحمن الداخل، لأنه أول من دخل الأندلس من بنى أمية
حاكمًا.
ولم يكن عمر «عبدالرحمن الداخل» حين حقق هذا الإنجاز يتجاوز
السادسة والعشرين من عمره، لكنه كان رجل الموقف، شحذت همته
الخطوب والمحن، وأعدته لحياة النضال والمغامرة، فقضى بقية عمره
اثنين وثلاثين عامًا فى كفاح مستمر، لاينتهى من معركة إلا ليخوض
أخرى، ولايقمع ثورة إلا تلتها ثورة، ولم تبق بالأندلس ناحية أو مدينة
إلا ثارت عليه، ولاقبيلة إلا نازعته فى الرياسة، فكانت الأندلس طوال
عهده بركانًا يشتعل بنيران الحرب والثورة والمؤامرة، لكنه صمد لتلك
الخطوب جميعًا، واستطاع بما أوتى من حزم وحسن سياسة وبعد
الهمة والجلد والإقدام أن يغالب تلك الأخطار والقوى وأن يقبض على
زمام الأمور بالأندلس بيده القوية.
وقد تصور اليمنيون أن من حقهم ماداموا قد ناصروا «عبدالرحمن» أن
يفعلوا ما يشاءون، فينشروا الفوضى ويستولوا على أموال الناس،
ويغرقوا البلاد فى مستنقع العصبيات القبلية كما كان الحال من قبل،
لكن عبدالرحمن أثبت أنه لايفرق بين شامى أو بلدى، أو بين بربرى
ويمنى، فجميعهم يضمهم وطن واحد، وعليهم أن يخضعوا لسلطان
العاصمة المركزية.
غير أن تلك السياسة لم تعجب اليمنيين، وعدُّوها لونًا من الجحود
والنكران فثاروا عليه، لكنه تمكن من القضاء عليهم فى الجزيرة
الخضراء، وإشبيلية، وطليطلة، وباجة، معتمدًا على حشود البربر
وأهل البلاد وأعوان بنى أمية.
ولعل من أخطر الثورات التى واجهت عبدالرحمن ثورة «العلاء بن
مغيث الحضرمى»، من وجوه باجة ومن ذوى الرئاسة بها، وكان قد
كاتب «أبا جعفر المنصور» الخليفة العباسى، واستصدر منه سجلا
بولاية الأندلس، وجمع حوله جندًا عظيمًا، ورفع العلم الأسود شعار
العباسيين سنة (146هـ = 763م)، فاشتعلت باجة بنيران الثورة،
وتحالفت «شذونة» مع الثائر، فخرج عبدالرحمن من قرطبة ولجأ إلى
الدفاع أولا، فلما ضعف خصمه تحوَّل إلى الهجوم، ونشبت معارك
هزم فيها العلاء وتشتت جنده، وقتل الآلاف بما فيهم العلاء نفسه،
وحمل عبدالرحمن رءوس الزعماء والقادة وبعث بها إلى القيروان،
ووضع رأس العلاء فى سفط ومعه اللواء الأسود، وسجل المنصور
بتوليته، وحمله بعض ثقاة التجار إلى مكة، وكان المنصور يحج،
وألقى هذا أمام سرادقه، فلما حمل إليه قال: «مافى هذا الشيطان
مطمح، فالحمد لله الذى جعل بيننا وبينه البحر».
ولم يكن على عبدالرحمن أن يواجه مشاكل الجنوب فقط بل شمالى
الأندلس أيضًا، فقد ثار عليه «سليمان بن يقظان» والى «برشلونة»
و «الحسين بن يحيى» والى «سرقسطة» ؛ مستغلين طبيعة بلادهم
الجبلية وانشغال عبدالرحمن بحركات الثائرين فى الجنوب، ثم
استفحل خطرهم بعد انتصارهما على جيش أرسله عبدالرحمن.
ولم يكتفِ الثائران بذلك بل قدما على رأس وفد إلى «شارلمان
الأكبر» إمبراطور الدولة الفرنجية، وكان فى ولاية «سكونيا» شمالى
ألمانيا حاليا، واقترحا عليه غزو الولايات الأندلسية الشمالية، وتعهدا
بمعاونته ضد عبدالرحمن، وأن يعمل جميعهم على خلعه، وتسليم
البلاد إلى شارلمان والخضوع له.
وقد رحب شارلمان بهذا العرض واجتاز جبال البرت، والتقى بحلفائه
على نهر الإيرو عند سرقسطة، لكن حاكم سرقسطة عدل عن موقفه
فى آخر لحظة، ورفض تسليم مدينته لشارلمان، وحصّنها فتمكنت من
رد هجماته عليها، وكذلك فعل والى برشلونة، واضطر «شارلمان»
أن يرتد إلى بلاده بسبب ثورات قامت عليه سنة (161هـ = 778م)،
وهكذا شاءت العناية الإلهية أن يبوء عاهل الفرنج بالفشل بعد أن
اختلف معه هؤلاء الخارجون على عبدالرحمن، وانقلبوا إلى مقاومته.
وفى الوقت الذى كانت تجرى فيه هذه الحوادث فى الشمال، كان
عبدالرحمن فى الجنوب يحارب الثائرين عليه، فقضى على ثورة
مؤيدة للعباسيين فى «مرسية» ، وقمع ثورات أخرى فى غرناطة
وطليطلة والجزيرة الخضراء، ثم توجه إلى سرقسطة فى جيش ضخم
وعقد صلحًا مع الثائرين بها، ثم عاد إليها مرة أخرى فحاصرها
وضربها بالمنجنيق، ثم اتجه إلى الشمال الشرقى واخترق بلاد
البشكنس، ففرض عليها الجزية، ثم عاد مظفرًا إلى قرطبة سنة
(167هـ = 783م) وبعدها عقد صداقة مع شارلمان استمرت بقية
حياته، ثم قاد حملة سنة (168هـ = 784م) إلى طليطلة؛ حيث هزم زعيم
الفهرية هناك بعد معارك شديدة وقتال فى أكثر من موقع.
ولما شعر عبدالرحمن بهدوء نسبى، استدعى بنى أمية من المشرق،
فأقبل إليه كثيرون، استعان بهم فى تحمل بعض المسئوليات، لكنه
فوجئ بأن من بينهم من ينقم عليه، ويقيم ضده المؤامرات، فاضطر
إلى أن يعتمد على المخلصين من موالى بنى أمية ومن انضم إليه من
أهل البلاد، بالإضافة إلى قوة من الصقالبة اشتراهم صغارًا من بلاد
النصارى ورباهم تربية إسلامية، ونشأهم تنشأة عسكرية، وأصبح
هؤلاء عنصرًا أساسيا من عناصر القوة السياسية فى الأندلس.
وتُوفِّى عبدالرحمن فى (10من جمادى الآخرة 172هـ = 16 من أكتوبر
788م) بعد حياة طويلة قضاها فى كفاح متواصل، ومواجهة للصعاب
والأهوال، وأقام ملكًا ودولة فوق بركان يضطرم بالثورات والمؤامرة،
وأثبت أنه بطل فريد من أبطال التاريخ، لا يجود الزمان بمثله كثيرًا،
فتى شريدًا بلا أنصار وأعوان يفر من الموت الذى تعرضت له أسرته،
لكنه يستغل ظروف الأندلس فيقودها بكثير من الدهاء والحزم
والعزيمة والذكاء، ويقيم دولة على أسس إدارية وسياسية ومالية
ثابتة.
ويزيد من قيمة ما قام به أن من حكمهم تعودوا على الفوضى
والأنانية، وتقديم المصالح الشخصية على المصالح القومية، ولم يكن
باستطاعة عبدالرحمن إلا أن يعامل هؤلاء بما يستحقون من شدة
وقسوة، لكنه أصبح فى أخريات أيامه شديد الاستبداد، لايقبل
المناقشة من أحد حتى مولاه «بدر» غضب عليه، وأقصاه بعد طول
خدمة.
وأفضل ماتميز به؛ عقله المرتب وأسلوبه المنظم، فقد كان يدرس
مشاكله، ويتلقى أخبار الثورات بجنان ثابت، ثم يرسم خطته للقضاء
عليها، ويصفه ابن حيان أمير مؤرخى الأندلس بقوله: «كان راجح
العقل، واسع العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم .. متصل الحركة لايخلد
إلى راحة، ولايسكن إلى دعة، ولا يكل الأمور إلى غيره، ثم لاينفرد
فى إبرامها برأيه، شجاعًا، مقدامًا .. ».
نظام حكومة عبدالرحمن:
لم يكن هناك نظام لولاية العهد، وكان اختيار ولى العهد يترك للأمير،
وأنشأ عبدالرحمن منصب الحجابة، وأحاط نفسه بمجموعة من الأعوان
يساعدونه فى القيام بمهام الحكم بدلا من الوزراء، وقد اختارهم فى
أول الأمر من بين أعوانه الذين استقبلوه وقاتلوا معه، فكانت
حكومته عربية شكلا وروحًا، ثم مال إلى البربر والموالى بعد أن
استراب فى العرب وشك فى ولائهم له، لثوراتهم المتعددة عليه.
وقد منح الجيش عناية خاصة، فجنَّد مائة ألف عدا حرسه البالغ
أربعين ألفًا من العرب والموالى والرقيق، كما عنى بالبحرية فى
أخريات حياته، وأنشأ عدة قواعد لبناء السفن.
عناية الداخل بالإنشاء والتعمير:
عنى «عبدالرحمن الداخل» عناية فائقة بالإنشاء والتعمير فى قرطبة
على الرغم من كثرة مشاغله، فحصَّن العاصمة وزينها بالحدائق،
وأنشأ منية الرصافة وقصرها العظيم فى الشمال الغربى على بعد
(4)
كم من قرطبة، وقد أحاطها بالحدائق الزاهرة، وأطلق عليها
الرصافة، تخليدًا لذكرى الرصافة التى أنشأها جده «هشام بن
عبدالملك» بالشام، وكان هذا القصر يطل من ناحية الجنوب على
الحقول التى تفصله عن قرطبة، ويطل من الشمال على أرض واسعة
تسمى «فحص السرادق» ، وقد اتخذ عبدالرحمن من ميدانها الفسيح
منازل لجنده وقواده، ومكانًا يتدرب فيه الجنود بصورة مستمرة
ومنتظمة.
كما بدأ عبدالرحمن سنة (150هـ= 767م) فى إنشاء سور قرطبة الكبير
الذى استمر العمل فيه أعوامًا، كما أنشأ مساجد محلية كثيرة فى
قرطبة وغيرها، وعلى رأسها المسجد الأموى الجامع الذى بدأ فى
إنشائه سنة (170هـ = 786م)، وجلب إليه الأعمدة الفخمة، والرخام
المنقوش بالذهب واللازورد؛ وبلغ ما أنفقه عليه 100 ألف دينار، ثم
زاد خلفاؤه من بعده فى هذا العمل، حتى أصبح أعظم مساجد
الأندلس.
ويقع هذا المسجد فى الجهة المقابلة لقصر الإمارة، وبينهما مساحة
واسعة استغلها عبدالرحمن فى إنشاء قصر خاص لنفسه، وعدد من
القصور الصغيرة لآل بيته، أحاطها بالحدائق الغناء، وبسور يدور
حولها، وقد امتدت هذه القصور حتى وصلت إلى ضفة نهر الوادى
الكبير، فبنى عبدالرحمن قصور الإدارة ناحية النهر، وفتح بابًا فى
الشارع بين النهر والسور سمى «باب السدة» ، فتح للجمهور،
ويفضى إلى المكاتب الحكومية، وإلى جانب باب السدة خُصِّصت
مواقع الكتَّاب الذين يعاونون الناس فى كتابة شكاواهم وطلباتهم،
والذين يشبهون من نسميهم اليوم بالكتاب العمومين.
ومن منشآت عبدالرحمن التى بناها فى قرطبة، «دار السكة» لضرب
النقود على النحو الذى كانت تضرب عليه نقود بنى أمية فى المشرق
من حيث الوزن والنقش.
هشام الأول بن عبدالرحمن المعروف بالرضى [172 - 180هـ = 788 -
796م]
خلف «هشام» أباه «عبدالرحمن» على حكم الأندلس، الذى اختاره لا
لأنه أكبر أبنائه، بل لما توسَّمه فيه من المزايا الخاصة، وقد أبدى
«هشام» لينًا وورعًا، وحسن سياسة، وبصرًا بالأمور، فجذب الناس
إليه بإقامته للحق وتحريه للعدل، ومعاقبته للولاة المقصرين.
ولم يعكر صفو أيام «هشام» إلا اشتعال بعض الثورات، منها: الثورة
التى قام بها أخواه «سليمان» و «عبدالملك» ، وانتهت بالصلح سنة
(174هـ = 790م) على أن يقيما بعدوة المغرب، كما قاد حملة على
نصارى الشمال الذين أغاروا على البلاد، فنجح فى القضاء عليهم
سنة (175هـ = 791م) ثم تكررت حملاته عليهم، حتى قضى على
محاولاتهم التي استهدفت التوسع جنوبًا.
وأهم ما يتميز به عهد «هشام» ذيوع مذهب الإمام «مالك بن أنس» ،
وحلوله محل مذهب الأوزاعى إمام أهل الشام الذى اتبعه الأندلسيون،
وكان الإمام مالك معاصرًا لهشام بن عبدالرحمن، كثير الثناء عليه،
وقد وفد بعض الأندلسيين إلى المشرق وتتلمذوا على الإمام مالك،
أمثال: الغازى بن قيس، وزياد بن عبدالرحمن المعروف بشيطون،
وغيرهما، فلما عادوا إلى الأندلس رحَّب بهم هشام، وسمح لهم
بتدريس مذهب «مالك» ، وأخذ القضاة يصدرون أحكامهم بناءً عليه،
واتخذ منهم هشام كبار قضاته ومستشاريه، وشيئًا فشيئًا أصبح
المذهب المالكى هو المذهب الرسمى للدولة.
وحرصت الإمارة الأندلسية على جعل اللغة العربية لغة الدواوين
الرسمية، ولغة الدرس والتعليم، ولم تكن تقبل إلا ما هو عربى، وكان
ذلك اتجاهًا عاما سار عليه الأمويون فى حياتهم وتبعهم الناس فى
ذلك، وبلغ من اهتمام هشام بالعربية أن جعلها لغة نصارى الأندلس
ويهودها، وترجم إليها الكتاب المقدس ونصوص الصلوات، وساعد ذلك
كله على التحول إلى الإسلام، وانتشار اللغة العربية وأصبحت الأندلس
مركزًا من أهم مراكز الحضارة العربية.
ويكاد يجمع المؤرخون على أن «هشاماً» كان رقيقًا تقيا، صارمًا
فى الحق، محبا للجهاد، أنفق كثيرًا من الأموال فى فداء الأسرى،
كما كان شغوفًا بالإصلاح والتعمير، فأتم بناء مسجد قرطبة الجامع،
وأنشأ مساجد أخرى، وزين «قرطبة» بكثير من الحدائق والمبانى،
وجدَّد قنطرة قرطبة التى بناها «السمح بن مالك» ، ونظَّم وسائل
الرى، وجلب إلى الأندلس الأشجار والبذور.
وكان هشام يحب مجالس العلم والأدب، وبخاصة مجالس الفقه
والحديث، فقرَّب إليه الفقهاء والعلماء، وبوَّأهم أهم المناصب، خلافًا
لما كان عليه زمن والده، وقد ترتب على ذلك نتائج سياسية
واجتماعية ظهرت فيما بعد.
الحكم الأول بن هشام المعروف بالربضى [180 - 206هـ = 796 - 822م]
بدأ «الحكم» عهده بالجهاد ضد البشكنس (ثافارا)، لكنه اضطر إلى
تركه لمواجهة الثورات التى اشتعلت ضده فى الثغر الأعلى سنة
(181هـ = 797م)، وكان عمَّاه «سليمان» و «عبدالله» قد أتيا إليها
سرا واتصلا بملك الفرنج وطلبا مساعدتهما، ولما علم «الحكم» سار
بجيوشه إلى الشمال، فاضطر الفرنج إلى الانسحاب، فأحكم سيطرته
على هذه المناطق، وفى هذه الآونة حاول عمَّاه الإغارة على
قرطبة، فعاد الحكم وهزمهما، وقتل «سليمان» ، على حين فرَّ «عبد
الله» إلى «بلنسية» والتزم الهدوء طوال فترة الحكم.
وفى سنة (185هـ = 801م) سير «شارلمان» ، جيشًا لغزو «برشلونة» ،
وكان الحكم مشغولا بمطاردة الخارجين عليه، فلم يتمكن من نجدة
المدينة، فسقطت بعد كفاح مشرف، وقد استقل حكام القوط بهذه
المنطقة عن الفرنج بعد فترة وأنشئوا إمارة «قطلونية» النصرانية،
التى اتحدت مع مملكة أراجون، وتمكنوا من غزو الجانب الشرقى من
مملكة الإسلام فى الأندلس، وخسر المسلمون بذلك حصنًا منيعًا،
وارتدت حدود الأندلس إلى الثغر الأعلى بعد أن كانت قد تجاوزت
جبال البرت.
ولم تهدأ العواصف والثورات ضد الحكم، فاكتشف فى سنة (189هـ =
805م) مؤامرة للإطاحة به، لكنه أحيط علمًا بما يدبره خصومه فقضى
عليهم، وأعدم (72) منهم فى صورة بالغة القسوة، مما أثار غضب
أهل قرطبة وحنقهم عليه، كما قضى على الثورات المتكررة التى قام
بها أهالى طليطلة، مستخدمًا أسلوب القتل والاغتيال، حتى إن واليه
على طليطلة أعد وليمة دعا إليها كبار زعماء طليطلة، ثم أعدمهم،
وألقى جثثهم فى حفرة خلف القصر سنة (191هـ = 807م)، وفى تلك
الأثناء غزا الفرنج الثغر الأعلى وحاصروا مدينة «طرطوشة» لكن
المسلمين تمكنوا من هزيمتهم، وإنقاذ المدينة المحاصرة سنة (193هـ
=809م)، كما توالت حملات النصارى على أطراف الثغر الأدنى
والمنطقة التى بين نهرى دويرة والتاجة لبعدها عن قرطبة، وضعف
وسائل الدفاع عنها، وعانى المسلمون كثيرًا فى تلك المناطق من
جراء تلك الغزوات، ولما بلغت الأنباء مسامع «الحكم بن هشام» خرج
بنفسه سنة (194هـ = 810م) على رأس جيشه، وهزم النصارى فى
عدة مواقع وأسر وغنم غنائم كثيرة، كما أرسل فى العام التالى
جيشًا إلى الثغر الأعلى، غزا قطالونية، وهاجم برشلونة، وانتهى
الأمر بصلح دام حتى وفاة «شارلمان» سنة (198هـ= 814م)، ثم كانت
آخر غزوات الحكم سنة (200هـ = 815م) إلى «جليقية» حيث توغل
المسلمون فيها، ونشبت بينهم وبين النصارى مواقع حربية، انتهت
بهزيمة النصارى وارتدادهم إلى الداخل.
وفى أواخر عهد الحكم اشتعلت فى «قرطبة» ثورة عنيفة سميت
ثورة الربض، بسبب كراهية «المولِّدين» للحاكم، وبغضهم له لصرامته
وقسوته، واتهامهم له بممارسة اللهو والشراب، والمبالغة فى فرض
الضرائب، وقد تأجج لهيب الثورة فى الربض الجنوبى المسمى
«شقندة» بصفة خاصة يوم (13 من رمضان 202هـ = 25 من مارس
818م) وتوجه الثوار إلى القصر، وتأهب الحكم ورجاله لردِّهم، وقد
نجحوا فى ذلك، ثم مالبث أن شقت قوات الحكم طريقها إلى النهر،
وعبرته إلى الضاحية الأخرى موطن الثائرين وأضرمت النيران فى
جوانبها، فأسرع الثوار إلى دورهم، لإطفاء النيران وإنقاذ الأهل
والعشيرة.
وفى هذه اللحظة أحاط الجنود بالثوار، وأوسعوهم قتلا ومطاردة
ونهبوا دورهم، واستمرت هذه المأساة ثلاثة أيام، فرَّ خلالها إلى
طليطلة من استطاع، ثم نودى بالأمان بعد أن هدأت الفتنة، ثم أصدر
الحكم قرارًا بهدم دور الثوار ولاسيما فى الضاحية التى شهدت ميلاد
الثورة، فتم محوها تمامًا، ثم أمر بإخراج الثائرين من قرطبة،
فتفرقوا فى الثغور، وعبر بعضهم إلى العدوة الأخرى بالمغرب،
وهاجر بعضهم إلى طليطلة وشمالى غربى الأندلس.
كما ركب نحو (15) ألفًا منهم سفنًا رست بهم فى ميناء الإسكندرية،
حيث أقاموا فيها، غير أن والى مصر «عبدالله بن طاهر» أجبرهم
على الرحيل، فتوجهوا إلى جزيرة «كريت» وفتحوها سنة (212هـ =
827م)، وأسسوا بها دولة زاهرة، بقيت هناك إلى أن استولى عليها
البيزنطيون سنة (350هـ = 961م).
وعلى الرغم من نجاح «الحكم» فى القضاء على هذه الحركة الثائرة،
فإن أهل «قرطبة» تضاعفت كراهيتهم له، وزاد من نفورهم منه ما
فرض عليهم من ضرائب.
مرض الحكم بعد ذلك، وأخذ البيعة لولى عهده فى حياته، وأبدى
أسفه لما وقع منه لأهل الربض، ثم مات فى (26 من ذى الحجة 206هـ
= 22 من مايو 822م) بعد أن لُقِّب بالربضى، نسبة إلى ماقام به من
أعمال شنيعة فى منطقة الربض الجنوبى.
ولم يكن الحكم الربضى كأبيه محبا للعلماء والفقهاء، فتراجعت
مكانتهم فى زمنه وآثر عليهم حضور مجالس الإماء والشعراء،
وانصرف إلى حياة اللهو والصيد.
ويُعدُّ الحكم أول من أظهر هيبة الملك بالأندلس وفخامته، ورتَّب للبلاط
نظمه ورسومه، واستكثر من الموالى، فظهر «الصقالبة» بكثرة فى
بلاطه، وأسند إليهم معظم شئون الحكم والحرس الخاص، ووصل بهم
إلى مراتب القيادة والرياسة، كما كانت له شرطة قوية وعيون على
الناس.
وضمَّت حكومته شخصيات بارزة فى تاريخ الأندلس، منهم: «ابن
مغيث» الذى تولَّى حجابته، واستحدث منصبًا يهتم بشئون أهل الذمة،
سمَّى شاغله بالقومس أو «القمط» .
وعلى الرغم من اشتعال الفتن والثورات فى عهد الحكم، فقد ازدهرت
العلوم والآداب ونبغ عدد كبير من الكتاب والشعراء والعلماء، منهم
«عباس بن ناصح الثقفى» ، وابنه «عبدالوهاب» ، و «أبو القاسم عباس
بن فرناس»، و «يحيى الغزال» .
عبدالرحمن الثانى (الأوسط) بن الحكم [206 - 238هـ = 822 - 852م]
تولى «عبدالرحمن» الحكم فى (27 من ذى الحجة 206هـ = 822م)
بعهد من أبيه؛ وكان «عبدالرحمن» منذ صغره شغوفًا بدراسة الأدب
والحديث والفقه، ذا عقل مستنير، خبيرًا بشئون الحرب والسياسة،
هادئ الطباع، حسن العشرة، متقربًا إلى الناس، حازمًا فى أمره،
ولهذا كان مؤهلاً لإزالة ما خلفته إمارة أبيه الحكم من آثار سيئة.
وقد واجه «عبدالرحمن» فى أول ولايته سنة (207هـ = 823م) ثورة
فى «بلنسية» دامت عدة سنوات، ولم تنته إلا فى سنة (213هـ =
828م) حيث نجح فى القضاء عليها وإخماد فتنتها، كما واجه ثورة
فى قرطبة نجح فى القضاء عليها أيضًا.
استأنف «عبدالرحمن الثانى» برنامجه فى الجهاد مبكرًا، فأرسل فى
سنة (208هـ = 823م) حملة عسكرية بقيادة «عبدالكريم بن عبدالواحد
بن مغيث» إلى «ألبة والقلاع» بعد أن أغار ملك جليقية (ليون) على
مدينة سالم فى الثغر الأعلى، وقد نجحت الحملة فى إلحاق الهزيمة
بالنصارى فى عدة مواقع، وخربت مدينة «ليون» وأحرقت حصونها،
وأطلقت سراح المسلمين، وألزمت القوات المعتدية بدفع جزية كبيرة
وعادت الحملة بقيادة «عبدالكريم» إلى قرطبة مثقلة بالغنائم، وكانت
تلك آخر غزوات هذا القائد المظفر الذى استمر يدافع عن الأندلس فى
ميادين القتال أكثر من ثلاثين سنة؛ حيث توفى فى سنة (209هـ =
824م)
ثم تعرَّضت البلاد لعدد من الثورات والفتن والقلاقل فى «طليطلة»
و «ماردة» دامت سنوات طوال، واستنفدت كثيرًا من الجهد والمال
وإراقة الدماء حتى تمكن «عبدالرحمن» من القضاء عليها.
عاود «عبدالرحمن» نشاط الجهاد، فبدأ يرسل الصوائف كل عام إلى
الشمال تارة إلى أطراف الثغر الأعلى لتشتبك مع الفرنجة، وتارة إلى
«ألبة والقلاع» حيث تغير على بلاد البشكنس وأطراف مملكة جليقية
(ليون)، وكان أحيانا يقود تلك الصوائف، مثلما فعل سنة (228هـ =
843م) حيث سار بجيشه إلى الشمال، وزحف على بلاد البشكنس،
وألحق بملكها الهزيمة، واضطر إلى طلب الأمان، وعاد عبدالرحمن
إلى قرطبة بعد أن وطد نفوذه هناك، وفرض هيبته وقوته على
البشكنس، حتى لايتجرءوا على مهاجمة أراضى المسلمين مرة أخرى.
غزوات النورمان:
المقصود بالنورمان: هم أهل الشمال سكان اسكنديناوه ودانيماركه،
الذين اشتهروا بجوب البحار ومحاولة التغلب على قسوة الجليد
وأهوال الطبيعة، وبدأت جموعهم تغزو فرنسا وشواطئ أوربا
الغربية فى أوائل القرن التاسع الميلادى، تحملهم سفن صغيرة ذات
أشرعة سوداء، تدخل مصبات الأنهار، وتنشئ لها مراكز داخل البلاد،
وتغير على المدن وتنهب خيراتها، ثم توقد النيران للتعمية، ثم تهرب
مسرعة.
وكان ظهور هؤلاء فى مياه الأندلس لأول مرة سنة (230هـ= 845م)؛
حيث جاء أسطول لهم فى ثمانين سفينة، ورسا فى مياه «إشبونة»
فكتب حاكمها إلى «عبدالرحمن» يخبره بذلك، وحدث احتكاك بين
هؤلاء والمسلمين مدة ثلاثة عشر يومًا، ثم سار الأسطول النورمانى
إلى «قادش» ، ومنها إلى «شذونة» ونهب كل ما وجده فى طريقه،
ثم اخترق نهر الوادى الكبير إلى «إشبيلية» ، وظهر هناك بصورة
مفاجئة، ولما لم تكن هناك بحرية تدافع عن تلك المنطقة أو استعداد
لمواجهة هذا النوع من العمليات، فقد عاث النورمان فيها فسادًا لمدة
سبعة أيام، وأحرقوا الدور والمسجد الجامع، ثم غادروا مدينة
«إشبيلية» ، وعسكروا فى الناحية الغربية منها.
وإزاء هذه التحركات هرع المسلمون لرد العدوان، ونشبت معارك
تفوق فيها النورمان فى أول الأمر، ثم هزمهم المسلمون بعد قتال
عنيف عند «طليطلة» شمالى «إشبيلية» فى (25 صفر سنة 230هـ =
845م) ولقى قائدهم مصرعه، وأحرقت ثلاثون سفينة من سفنهم،
فأقلعت السفن الباقية نحو الجنوب حيث غادروا مياه الأندلس بعد
أسابيع من الفزع والرعب.
نشأة الأسطول:
كان لمفاجأة النورمان أثرها، فبدأت الحكومة الأندلسية تعطى
الاهتمام الكافى للأسطول والتحصينات البحرية، فبنى «عبدالرحمن»
سورًا ضخمًا حول «إشبيلية» ، واتخذ قواعد بحرية، ودورًا لصناعة
السفن فى «إشبونة» و «إشبيلية» ، و «المرية» و «بلنسية» و «مالقة» ،
وعنى بصناعة السفن الكبيرة، وأعد لها المقاتلة، وأصبح للأندلس
أسطولان، أحدهما فى المحيط الأطلسى ومركزه إشبونة، والآخر
فى البحر المتوسط وقاعدته مالقة.
وبدأت تظهر أهمية البحرية الأندلسية منذ منتصف القرن التاسع
الميلادى وأثمرت جهوده فى فتح الجزائر الشرقية (جزر البليار)،
وهى ميورقة ومنورقة ويابسة، وتم ضمهما إلى الإمارة الأندلسية
سنة (234هـ = 848م).
وقد أدرك النورمان أن الأندلس لن تكون فريسة سهلة لغزواتهم،
فسعوا إلى الصلح مع الأمير عبدالرحمن، وبعثوا رسلهم يطلبون
السلام، فأرسل الأمير إليهم الشاعر «يحيى الغزال» ردًا على
سفارتهم.
وبعد الانتهاء من مشكلة النورمان استأنف «عبدالرحمن» عمليات
الجهاد فى الشمال، فأرسل صائفة اخترقت قشتالة القديمة، وسارت
فى اتجاه نابارَّا (نافار)، وغزت بنبلونة سنة (230هـ = 845م)، ثم
توجهت فى العام التالى صائفة إلى «جليقية» ، وحاصرت «ليون»
عاصمتها، وحملت النصارى على اللجوء إلى الجبال، كما أرسل قوة
بحرية إلى جزيرتى ميورقة ومنورقة سنة (234هـ = 848م) تمكنت من
السيطرة عليهما.
وفى سنة (237هـ = 851م) قامت حرب بين المسلمين وبعض قوات
البشكنس الذين هاجموا أراضى المسلمين فى أطراف بلاد الثغر
الأعلى، انتهت بانتصار المسلمين.
وقد حرص «عبدالرحمن» على موالاة إرسال الصوائف فى كل عام
إلى الحدود الشمالية مما يلى «طليطلة» شمالا، لأن الصراع هناك كان
شديدًا، ولأن أهل طليطلة كانوا يستنجدون بالإمارات النصرانية فى
منازعاتهم مع الإمارة الأندلسية، ويستنجدون أيضًا بنصارى الشمال
وبخاصة ملوك ليون.
المتعصبون النصارى يثيرون فتنة فى الأندلس:
تعرضت البلاد فى أواخر عهد «عبد الرحمن» الأوسط لفتنة شديدة،
أملتها روح التعصب، فقد كره بعض القساوسة والرهبان سيطرة
الثقافة واللغة العربية على المجتمع، وانتشار الإسلام، فلجئوا إلى
الشكوى لموت الثقافة المسيحية وإلى مواجهة المسلمين وتحديهم فلم
يفلحوا، فراحوا يجهرون بسب النبى صلى الله عليه وسلم والإساءة
إليه، وإهانة المقدسات الإسلامية علنًا وعلى مرأى الناس وفى
الطرقات العامة.
وقد حمل رجال الشرطة هؤلاء القساوسة والرهبان إلى القضاة،
فكرروا الشىء نفسه أمامهم وأصروا على رأيهم، وحاول القضاة
استعمال الرفق معهم فى ثنيهم عن أفعالهم فلم ينجحوا، وتكررت
الجرائم، فاضطر القضاة إلى الحكم بإعدام هؤلاء المتعصبين، وقتل
كثير منهم فى صيف سنة (237هـ = 851م)، فعدهم أحبار النصارى
شهداء، وكان هذا هو هدف هؤلاء المتعصبين، وتأزم الموقف،
والتهبت نيران الفتنة.
واجه «عبدالرحمن» هذه المشكلة بما تستحقه من صبر، فطلب من
قادة النصارى عقد مجمع دينى فى قرطبة لمعالجتها بحكمة واتزان،
فأوضح المجمع عواقب هذا العمل الوخيمة، وأن المعتدلين من
النصارى يبرءون منه ويستنكرونه، وكان من نتيجة ذلك استقرار
الأوضاع وعودة الوئام بين المسلمين والنصارى بفضل معالجة
عبدالرحمن وحسن تأنيه فى الأمور.
وفاة عبدالرحمن الأوسط:
توفى «عبدالرحمن» فى (3 من ربيع الآخر 238هـ = 23 من سبتمبر
852م) عن عمر يناهز (62) سنة، بعد أن حكم البلاد أكثر من إحدى
وثلاثين سنة، عدت من أزهى سنوات الحكم الإسلامى فى الأندلس،
فقد عاش الناس فى رخاء وعم الهدوء والاستقرار البلاد، وقام الحكم
على أسس من العدالة والنظام.
وقد اعتمد «عبدالرحمن الأوسط» على عدد من الزعماء والوزراء
والقادة المخلصين، وكان الوزراء يعقدون اجتماعاتهم فى قصر
«السدة» فى بيت يسمى بيت الوزارة، ويحمل «الحاجب» رئيس
الوزراء نتيجة مناقشاتهم للأمير، لاتخاذ ما يراه مناسبًا. وكان الوزير
يتقاضى مرتبًا شهريًا قدره (350) دينارًا وجرى عبدالرحمن على سنة
أبيه فى اصطفاء الموالى والصقالبة، وكان له خمسة آلاف، منهم
ثلاثة آلاف يرابطون إزاء أبواب القصر على الرصيف، وألفان على
أبواب القصر، وهم الذين كانوا يسمون الخرس بسبب عجمتهم.
ولم يكن عبدالرحمن الأوسط أميرًا فحسب، وإنما كان أديبًا شاعرًا
وعالمًا حكيمًا، أحاط نفسه بجماعة كبيرة من الشعراء والعلماء
والأدباء، كما كان أول من عُنى بجمع الكتب من أمراء الأندلس، وقد
أوفد شاعره «عباس بن ناصح» إلى المشرق يبحث له عن كتب،
فجمع منها طائفة كبيرة كانت نواة مكتبة قرطبة العظيمة، ومن
الشخصيات التى أحاطت به:
- على بن نافع:
الموسيقى المعروف بلقب زرياب (الطائر الأسود)، وكان قد غادر
بغداد إلى قرطبة، فاستقبله «عبدالرحمن الأوسط» بكل حفاوة،
وعاونه على إظهار فنه، فأنشأ معهدًا لتعليم الموسيقى وابتكر
طريقة لكتابتها، وأنشأ فرقة موسيقية تجمع بين العازفين
والمنشدين، واخترع وترًا خامسًا أدخل به تعديلا على العود، كما
أدخل كثيرًا من مظاهر الحياة المتحضرة فى المجتمع الأندلسى،
وتوفى فى (ربيع الأول 238هـ= أغسطس 852م).
- عباس بن فرناس:
كان من رجال الحكم الربضى وابنه عبدالرحمن، وهو فيلسوف
ورياضى وشاعر وموسيقى وكيميائى، من أصل بربرى، توصل إلى
صناعة الزجاج من طحن الأحجار، واخترع آلة تسمى «الميقانة» تعتمد
على الظل فى معرفة الوقت، واشتهر بأول محاولة يقوم بها الإنسان
للطيران فى الجو، كما اخترع شيئًا شبيهًا بقلم الحبر، وقد أدركته
الوفاة فى عهد الأمير محمد بعد ذلك.
- يحيى بن الحكم الجيانى «الغزال» :
هو فيلسوف شاعر، من أصل عربى، ولد فى جيان بالأندلس، ولقب
بالغزال لأناقته وجمال هيئته، كان من الندماء المقربين من
عبدالرحمن الأوسط، فأعجب به وكلفه بالسفارة عنه إلى إمبراطور
الدول البيزنطية، فقام بمهمته خير قيام، فشجع ذلك النجاح الأمير
عبدالرحمن فبعث به إلى ملك النورمان فى الدنيمارك ليتباحث معه
فى أمر الصلح بين الدولتين. وتوفى يحيى الغزال سنة (250هـ=
864م).
المظاهر الحضارية فى عهد عبدالرحمن الأوسط:
ظهرت آثار الرخاء وترف الحضارة فى عهد عبدالرحمن فيما بناه
الناس من قصور جميلة، تم تزيينها بالأثاث الفاخر والفرش الوثيرة،
والجوارى الحسان اللاتى جلبن من المشرق، وانتشرت فى قرطبة
البيوت المحاطة بالحدائق المزدانة بالأشجار وأطلقوا عليها اسم
«المنى» ، وتوسَّع بعض الأغنياء فى الحدائق المحيطة بهذه المنازل
حتى أصبحت رياضًا، أطلق عليها اسم «الجور» ، وفى كل منها مكان
معد لغناء المغنيات.
وامتاز عهد عبدالرحمن بالأمن والسكينة. وازدهار الصناعة والزراعة
والتجارة، وازدياد موارد الدولة التى بلغت نحو مليون دينار سنويا
مكنت الأمير من الإنفاق على الحملات العسكرية وإقامة المنشآت
العامة، كما أشرفت الحكومة المركزية على أعمال الحكام من خلال
ديوان المظالم المختص بالنظر فى شكاوى الناس من تصرفات بعض
رجال الحكومة.
ونالت إقامة المبانى والمنشآت قسطًا عظيمًا من عناية «عبدالرحمن
الأوسط»، فبنى مسجد إشبيلية الجامع، وزاد فى المسجد الجامع
بقرطبة قدر بهوين كبيرين من ناحية القبلة، ونقل المحراب إلى الجزء
الجديد، وأقام أعمدة أخرى، وأقواسًا فوق الأعمدة الأصلية، فكانت
الأقواس المزدوجة التى يعدها المعماريون من روائع العمارة
الإسلامية، وكان صحن المسجد مكشوفًا يدور حوله سور، وتزرع فيه
أشجار النارنج، ولهذا سُمِّى بهو النارنج، وهو الآن صحن الكنيسة.
ولايزال مسجد قرطبة الجامع باقيًا حتى اليوم بكل عقوده الإسلامية
وأروقته ومحاريبه، وقد تحوَّل إلى كاتدرائية فى القرن السادس
عشر الميلادى، وأقام المسيحيون هياكلهم فى عقوده الجانبية،
وبنوا مصلى على شكل صليب فى وسطه، وأزالوا كثيرًا من قباب
المسجد وزخارفه الإسلامية، وجعلوا مكانها زخارف نصرانية، وعلى
الرغم من ذلك فإن آيات القرآن الكريم، والنقوش الإسلامية لاتزال تزين
محاريبه الفخمة وأبوابه.
تجديد الشعر الأندلسى:
بدأت طلائع الشعر الشعبى الأندلسى فى الظهور فى عهد
عبدالرحمن الأوسط، وهو شعر يصاغ بعامية الأندلس التى هى خليط
من العربية والبربرية وغيرهما مع الالتزام بأوزان بحور الشعر العربى
وبخاصة بحرا الرمل والرجز، وهو ما عرف باسم «الزجل» وقد وصل
هذا الفن إلى أوج رقيه بعد ذلك فى زمن ملوك الطوائف على يد ابن
قزمان وغيره.
وقد برز من الشعراء فى هذا العصر «ابن عبدربه» ، صاحب العقد
الفريد، ومؤمن بن سعيد، والشاعر الضرير أبو بكر بن هذيل.
الأمير محمد بن عبدالرحمن الأوسط [238 - 273هـ = 852 - 886م]
رشَّحه أبوه لولاية العهد، لأنه رأى أنه أصلح من يتولى الملك، وإن
لم يكن أكبر أبنائه، وقد وصفه المؤرخون بالاتزان والذكاء والعقل
وهدوء الأعصاب.
تولى الأمير «محمد» الحكم فى (4من ربيع الآخر 238هـ = 24 من
سبتمبر 852م)، وقدر له أن يقضى فترة حكمه فى إخماد الثورات
ومواجهة أعداء دولته من النصارى، فخرج فى (المحرم سنة 240هـ =
يونيو 854م) على رأس جيشه إلى «طليطلة» لمواجهة الثائرين فيها
من المولدين والنصارى الذين استعانوا بملكى «ليون» ونبرة
«نافارة» ، وقد سار الأمير ببعض قواته، وترك بقية جيشه متخفية
وراء تلال «وادى سليط» ، فاغترت قوات طليطلة بقلة قوات الأمير
فخرجت لقتاله، وتظاهر الأمير بالهزيمة، وارتد إلى الخلف، وعندئذ
برزت بقية قوات المسلمين، وأطبقت على الثوار وحلفائهم من
النصارى ومزقتهم تمزيقًا، وقتل منهم ما بين أحد عشر إلى عشرين
ألفًا، بينهم كثير من القساوسة.
وعلى الرغم من ذلك فقد استمرت الفتنة فى طليطلة، وواصل
النصارى تحريضهم زاعمين أنهم يتعرضون لاضطهاد دينى
واجتماعى، فاضطر الأمير «محمد» إلى أن يخرج إلى «طليطلة» سنة
(244هـ = 858م) بعد أن أرسل حملتين قبل ذلك لم تنجحا فى إخماد
الفتنة، فحاصر المدينة، ولجأ إلى الحيلة فى تحقيق النصر، فهدم
قواعد القنطرة الكبيرة مع تركها قائمة، فلما احتشد الثائرون لقتاله
سقطت بهم القنطرة فى نهر تاجة وغرق منهم عدد كبير، ثم استخدم
كل إمكاناته فى سحق المدينة حتى استسلم أهلها وطلبوا الأمان
والصلح سنة (245هـ = 859م)، ثم حاكم الأمير كثيرًا من القساوسة
مشعلى الفتنة ونالوا جزاءهم، وخبت جذوة التعصب.
ويجدر بالذكر أن «طليطلة» تعد من أمنع مدن العصور الوسطى بسبب
موقعها على المنحدر الصخرى من نهر تاجة، وإحاطة النهر بهذا
المنحدر، ثم لما فيها من حصون قوية وأسوار عالية ضخمة.
ولم تكن «طليطلة» هى المدينة الثائرة وحدها، فقد قامت ثورات
أخرى فى شمال غربى الأندلس فى المناطق الجبلية هناك، وكانت
«ماردة» الواقعة فى النواحى الغربية المعروفة الآن باسم البرتغال
الموطن الرئيسى للمتمردين المولدين بزعامة «عبدالرحمن بن مروان
الجليقى» فخرج إليها الأمير محمد سنة (254 هـ = 868م)، وداهم
«ماردة» وهدم أسوارها وحصونها، فاضطر الثوار إلى طلب الأمان.
ثم تجددت الثورة بعد ذلك بأعوام فى «ماردة» و «بطليوس» ،
واستولى الثوار على بعض القلاع وتحصنوا بها وكثرت جموعهم، ولم
تفلح حملات الأمير محمد فى إخماد الفتنة والقضاء على الثورة،
وانتهى الأمر بقبول شروط زعيم الثائرين عبدالرحمن الجليقى، بأن
يستقل بحكم بطليوس، ويعفى من الفروض والمغارم، وأن يكون من
حلفاء الإمارة.
ولم تشغل تلك الثورات المتتابعة الأمير محمد عن أمر الجهاد، فتتابعت
حملاته العسكرية إلى «ألبة» و «القلاع» وهزمت النصارى فى عدة
مواقع، كما اتجهت إلى «نبرة» سنة (246هـ = 860م)، وقامت
بتخريب بنبلونة وحصونها وقراها لمدة أسابيع أسر خلالها ابن ملك
«نبرة» ، وكان ملك «نبرة» قد تحالف مع ملك «ليون» وقاما بمهاجمة
الأراضى الإسلامية.
وكان يمكن للأمير «محمد» أن يحقق نتائج أفضل فى جهاده مع
النصارى لولا كثرة الثائرين عليه، واتساع أراضى البلاد ووعورتها،
مع قلة العرب بالمقارنة إلى المستعربين والمولدين الذين كثرت
ثوراتهم وقوى ميلهم إلى الاستقلال.
وكان على الأمير «محمد» أن يواجه خطر النورمان الذين عادوا
للهجوم على الأندلس من جديد، فجاءوا بسفنهم إلى «جليقية» فى
(62)
سفينة عاثت فسادًا فى الشاطئ الغربى، لكن السفن الأندلسية
كانت متأهبة لها هذه المرة فطاردتها، فاتجهت نحو مدينة صغيرة
تسمى «باجة» تقع فى البرتغال اليوم، لكن المسلمين هزموهم هناك
واستولوا على بعض سفنهم، فاتجهت باقى السفن نحو الشواطئ
الجنوبية عند مصب الوادى الكبير، ثم انحدرت جنوبًا نحو مياه
الجزيرة الخضراء، وقد اتجهت وحدات الأسطول الإسلامى ناحية الغرب
وتمت تعبئة القوات وتجهيز السفن بالنفط والرماة، وحدثت معارك
برية وبحرية عند «شذونة» انتصر فيها المسلمون أولا، لكن السفن
النورمانية عادت وتغلبت ثم توجهت جهة الجزيرة الخضراء وأحرقوا
مسجدها الجامع وأفسدوا ونهبوا، ثم قصدت بعض سفنهم نحو عدوة
المغرب ونزلوا شاطئ الأندلس الجنوبى، وجرت هناك معارك برية
وبحرية استمرت أشهرًا، فقد النورمان فيها كثيرًا من سفنهم،
فاتجهوا نحو شواطئ أسبانيا الشرقية، وعبرت وحدات منهم نهر
«ابرو» إلى «نافار» ، فى حين أغارت وحدات أخرى على الجزائر
الشرقية وشواطئ «بروفانس» ومن هناك عبروا مصب نهر «الرون»
عائدين إلى بلادهم.
وهكذا لم يسلم من تخريب هؤلاء؛ لا الأندلس الإسلامية ولا إسبانيا
النصرانية، ولكن غزوتهم هذه المرة لم تكن مفاجئة ولم يتمكنوا من
القيام بعمل كبير، ولم يكن تأثير عملياتهم واسعًا كما حدث فى المرة
الأولى، وعلى كل حال فتلك آخر محاولة قام بها النورمان ضد
الأندلس، وانتهى خطرهم نهائيا، فلم نعد نسمع بهم بعد سنة (245هـ
= 859م).
ثورة عمر بن حفصون:
وهو من أصل إسبانى قوطى، ظهر فى جبل «ببشتر» ضمن سلسلة
الجبال بين «رندة» و «مالقة» التى تعد مأوى العصاة والخارجين
على القانون.
وقد قامت ثورة ابن حفصون فى ولاية «رية» بمحافظة «مالقة» الآن،
وقد التف حوله جماعة من المفسدين ونزلوا جميعًا بجبل «ببشتر»
شمال شرقى «رندة» .
ويرجع السبب المباشر للثورة إلى إصرار الحكومة المركزية على بسط
سلطانها الكامل على النواحى كافة. وعنف الوالى مع المواطنين
وإرهاقهم وتشدده فى جباية الأموال ومطالبتهم بالعشور المتأخرة،
كل ذلك دون أن ينال سكان هذه المناطق الجبلية شيئًا من عناية
الحكومة المركزية، مما شحنهم بالغضب وجعلهم مهيئين للثورة.
وقد بدأ هؤلاء تمردهم وعدم استجابتهم لواليهم عام (265هـ= 878م)،
واعتصموا فى جبالهم، وحاول الأمير «محمد» إخماد حركتهم بالقوة
فلم يصل إلى ما يريد، وفى العام التالى أرسلت صائفة إلى كورة
«رية» اشتدت فى التعامل مع الثائرين وبقيت مع ذلك حركة العصيان
وعمت الإقليم كله وانتشرت الفوضى هنا وهناك.
فى وسط هذه الظروف ظهر «عمر بن حفصون» ، وناب عن الناس فى
تقديم مطالبهم للحكومة المركزية، لكنه لم يصل إلى شىء. وبدأ يُغِير
على أطراف الإقليم وينهب ويخرب؛ ثم يعود إلى الاعتصام بجبل «
ببشتر»، وقد سارع عامل «رية» إلى التوجه إليه لكنه تعرض للهزيمة
على يدى «ابن حفصون» ، فساعد هذا على تقوية مركزه والتفاف
العصاة والمفسدين والأشرار حوله، وتولى على الإقليم عامل جديد،
اتجه إلى محاربة ابن حفصون الذى اعتصم بحصونه وانتهى الأمر
بهدنة بين الفريقين.
وقد رأى الأمير محمد ضرورة حسم ثورة ابن حفصون هذه فأرسل
إليه جيشًا كبيرًا على رأسه الوزير «هاشم بن عبدالعزيز» ، الذى شدد
حصاره على «ابن حفصون» ، حتى حمله ومن معه على التسليم
وحملهم جميعًا إلى قرطبة؛ حيث عفا الأمير «محمد» عن ذلك الثائر
وضمه إلى ضباطه لما لمسه فيه من شجاعة وفروسية.
اشترك «ابن حفصون» فى الحملات العسكرية التى قادها «المنذر بن
محمد» إلى الشمال، لكن الرجل كان بطبعه ميالا إلى التمرد والعمل
لحسابه الخاص؛ لذلك فرَّ هاربًا من جيش الإمارة، وعاد مرة أخرى
إلى الاعتصام بجبال «رية» وضم إليه كثيرًا من العصاة واستأنف
ثورته مرة أخرى سنة (271هـ = 884م)، ونشر الرعب فى المنطقة.
وفى صيف (273هـ = 886م) قاد «المنذر بن محمد» جيشًا توجه إلى
«ابن حفصون» لمقاتلته، وبدأ بالزحف على مدينة «الحامة» شمالى
شرقى «مالقة» حيث يوجد واحد من حلفاء «ابن حفصون» وقد سار
الأخير لنجدة حليفه، وحاصرهما «المنذر» مدة شهرين ثم خرجا لمقاتلة
جند الإمارة عندما أوشكت أقواتهما على النفاد، وبعد معركة عنيفة
هزم الثوار، وارتد «ابن حفصون» إلى «الحامة» واعتصم بها، وبينما
«المنذر» يحاصره ويشتد عليه تلقى نبأ وفاة والده فترك «الحامة» ،
وعاد إلى قرطبة فى (29 صفر 273هـ =26 أغسطس 886م)، وبذلك
تنفس «ابن حفصون» الصعداء، واستأنف غاراته وفساده ونشر
سلطانه على «رية» و «رندة» و «أستجة» وغيرها.
سياسة الأمير محمد:
عُنى الأمير محمد بالجيش بسبب الظروف التى عاشتها الإمارة فى
زمنه، وكان حريصًا على فرض أعداد من الفرسان على كل ناحية
أندلسية تحشد دائمًا للصوائف، وهؤلاء كانوا يسمون «الفرسان
المستقرين» يضاف إليهم حشود المستنفرة والمتطوعة، مما يدل على
ضخامة الجيش الذى كانت الإمارة تستطيع تعبئته.
كما عنى بالأسطول لحماية الشواطئ الغربية من ناحية، وغزو مملكة
«جليقية» من ناحية أخرى، واهتم بتحصين أطراف الثغور، وأقام
قلاعًا منيعة؛ لحماية مدينة «سالم» و «طليطلة» ، وبنى حصونًا فى
«طلمنكة» و «مجريط» بمنطقة وادى الحجارة.
أما من ناحية سياسته الخارجية فقد جمعته مع أمراء المغرب
المعاصرين علاقة صداقة متينة خاصة «بنى رستم» فى «تيهرت»
و «بنى مدرار» فى «سجلماسة» ، وكان يشاورهم فى أموره ويهتم
بأخبارهم ويستنصحهم، وتتردد الكتب والرسل بينه وبين هذه الدول
بهدف متابعة أخبار «بنى العباس» وأعمالهم فى إفريقية وبلاد
الشام. كذلك قامت علاقة صداقة بين الأمير «محمد» وملك «فرنسا»
وتبادلا الرسائل والهدايا.
أما من الناحية المالية فقد خفَّف الضرائب على المواطنين رغم حاجته
إلى المال للإنفاق على الجهاد والقضاء على الثورات المستمرة،
وكان يكتفى من أهل «قرطبة» بجهادهم ولايكلفهم أعباء مالية،
وكان الأمير «محمد» بارعًا فى مراجعة الحسابات وموازنة الدخل
والخرج، وقد ساعده هذا الضبط للأمور المالية على مواجهة بعض
المحن الطبيعية التى تعرضت لها الإمارة فى زمنه.
النظام الإدارى ومظاهر الحضارة:
فقد الصقالبة والجوارى كثيرًا من نفوذهم فى القصر أيام الأمير
«محمد» واستمر النظام الإدارى سائدًا كما كان أيام أبيه وتولى
مناصب الوزارة الرجال أنفسهم، ونظمت أعمال الوزراء وتحددت
اختصاصاتهم حتى أصبحت قريبة من اختصاص الوزراء فى أيامنا
هذه؛ حيث اختص كل واحد منهم بفرع من فروع الإدارة، وقدم وزراء
أهل الشام على غيرهم، وقد تولى الحجابة للأمير «محمد» «عيسى
بن شهيد» وهو الذى تولى الحجابة لوالده ورشحه عنده لولاية العهد،
واجتمعت السلطات فى أيدى أسرتى بنى «شهيد» وبنى «أبى
عبدة» - من أعظم الأسر القرطبية آنئذ - ثم آل منصب الحجابة إلى
«هاشم بن عبدالعزيز» من أسرة مولَّدة، وكان وزيرًا أيام
«عبدالرحمن الأوسط» وأصبح من أكثر الوزراء حظوة عند الأمير
«محمد» ، وهو من أشهر رجالات الحرب والسياسة. وكان مع ذلك من
الأدباء والشعراء المطبوعين.
ومن وزراء الأمير «محمد» «تمام بن عامر الثقفى» الشاعر المؤرخ
صاحب «أرجوزة» فى فتح «الأندلس» وأشهر لاعب شطرنج فى
زمنه، و «سليمان بن وانسوس» من أصل بربرى، وكان أديبًا تولى
خطة السوق والحسبة، ومنهم الكاتب البليغ «عبدالملك بن عبدالله ابن
أميتة».
وقوى نفوذ الفقهاء فى بلاط الأمير «محمد» ، وكان لهم دور فى
توجيه سياسته مع النصارى، وكان متسامحًا معهم كما كان يفعل
أبوه، وقد أبقى عددًا منهم فى مناصبهم.
وقد عُرف الأمير «محمد» بالحلم والأناة ومودة آل بيته، كما كان
أديبًا ذواقة، يجتمع حوله أكابر الناس والعلماء والشعراء من أمثال:
«عباس بن فرناس» و «ابن عبدربه» و «ابن حبيب» ، ومن أمثال: «بقى
بن مخلد» أعظم فقهاء الأندلس فى زمنه.
وعلى الرغم من أن أحداث فترة حكم الأمير «محمد» لم تتح له فرصة
كبيرة للقيام بأعمال إنشائية، فإنه أولى للمسجد الجامع فى قرطبة
اهتمامًا كبيرًا، فأتم الزيادة التى بدأها أبوه فى وسط الجامع وأقام
فيه المقصورة، وكان أول من اتخذها، وأصلح القسم القديم الذى
بناه جده «الداخل» وجدده، كما أصلح جوامع «استجة» و «شذونة»
وغيرها .. وأضاف زيادات لقصر الإمارة، وجدد «منية الرصافة»
واستجلب لها الأشجار النادرة واتخذها متنزهًا، وأنشأ منية خاصة
جنوب غربى قرطبة أسماها «منية كنتش» جعلها متنزهًا له كذلك.
الأمير المنذر بن محمد [273 - 275هـ = 886 - 888م].
كان «المنذر» ولى عهد أبيه ومحل ثقته، وفارسًا شجاعًا، وقائدًا
متميزًا اعتمد عليه أبوه كثيرًا فى مواجهة المشاكل ومحاربة العصاة
وقيادة الحملات.
وفى أول ولاية «المنذر» عادت «طليطلة» إلى الثورة كعادتها،
وانضم إلى أهلها كثير من البربر، فأرسل الأمير حملة قضت على
الثورة وقتلت الألوف، وفى العام نفسه قام حاكم الثغر الأعلى بغزو
«ألبة والقلاع» ودخل فى حرب ضد النصارى وهزمهم، لكن أعظم
ماكان يشغل «المنذر» هو القضاء على «ابن حفصون» ، بعد أن
استفحل خطره وانتشر سلطانه فى نواحٍ كثيرة وانضم إليه
المغامرون والثائرون والعصاة فى كل الأندلس.
وكان «ابن حفصون» صاحب دعوة سياسية تبغض العرب والبربر معًا،
وعنده نزعة إلى الاستقلال والتحرر؛ لأن العرب حملوا الناس فوق
طاقتهم وزادوهم رهقًا وهو إنما قام ليثأر لهم، وقد لقيت دعوته
استجابة لدى سكان المناطق الجبلية خاصة، وكان الرجل متواضعًا
يكرم الشجعان، فساعد ذلك على التفافهم حوله.
وقد أرسل «المنذر» بعض قواته، فاستردت قسمًا من الحصون التى
كان «ابن حفصون» قد سيطر عليها، وفى ربيع (274هـ = 887م)
خرج «المنذر» بنفسه مصممًا على القضاء على «ابن حفصون»
واجتثاث ثورته من جذورها، وقد نجح فى فتح بعض الحصون، وأسر
بعض أعوان ذلك الثائر، وبعث بهم إلى قرطبة حيث صلبوا، بينما بقى
«ابن حفصون» ممتنعًا بجبال «ببشتر» .
ولما شدد «المنذر» حصاره وقطع كل علاقات «ابن حفصون»
بالخارج، لجأ «ابن حفصون» إلى الحيلة والخديعة وطلب الصلح على
أن يسير ومعه أهله وولده إلى «قرطبة» فوافق الأمير وبعث إليه فى
قلاعه بكل ما طلبه من الأدوات ووسائل النقل، وتم رفع الحصار،
وعاد الأمير بجيشه إلى قرطبة.
ولما لم يكن «ابن حفصون» وفيا؛ فقد هرب فى جنح الظلام وامتنع
مرة أخرى بجبال «ببشتر» مستفيدًا بما حصل عليه من زادٍ وأقوات
وإمدادات، فاشتد غضب الأمير ورجع لمحاصرته، وأصر على عدم
العودة إلى «قرطبة» إلا بعد القبض على «ابن حفصون» حيا أو ميتًا،
ودام الحصار ثلاثة وأربعين يومًا بعدها مرض «المنذر» ، وطلب من
أخيه «عبدالله» أن يحضر؛ لينوب عنه فى متابعة الحصار، ثم مات
تحت أسوار «ببشتر» بعد حكم لم يستمر أكثر من عامين وكان موته
فى (صفر 275هـ = يونيو 888م)، وتم رفع الحصار، وعاد الجيش إلى
«قرطبة» ، ومرة أخرى يتنفس «ابن حفصون» الصعداء.
الأمير عبدالله بن محمد [275 - 300هـ = 888 - 912م].
ما كاد الأمير «عبدالله» يتولَّى الحكم حتى قامت الثورات ضده فى
المناطق الجبلية، بل تجاوزت ذلك إلى المدن والقواعد الكبرى، ولم
تعد تقتصر على القادة من المولدين بل تجاوزتهم إلى العرب أنفسهم،
وبرز العنصر البربرى واعتصم كثير من زعمائه فى الحصون النائية،
وتنوعت المعارك وتعددت بين العرب والمولدين وبين العرب والبربر،
وبين العرب أنفسهم بعضهم ضد بعض، وأعلن بعض زعماء العرب
استقلالهم فى «جيان» «البيرة» و «لورقة» و «مدينة سالم» ، وغيرها.
واستقل زعماء البربر فى «الثغر الأعلى» و «بطليوس» و «مرسية»
وبعض مناطق «جيان» وغيرها، وأضحت «إشبيلية» مسرحًا لقتال
مرير بين العرب والبربر، ونشر «ابن حفصون» سلطانه فى أغلب
النواحى الجنوبية القريبة، ولم يبق لحكومة «قرطبة» إلا العاصمة
وضواحيها تمارس فيها سلطاتها وتخضع لسيطرتها.
وكان على الأمير «عبدالله» أن يواجه ذلك كله، ورأى أن أخطر ما
يواجهه هو ثورة «ابن حفصون» ، وفى الوقت نفسه رأى «ابن
حفصون» أنه فى حاجة إلى فترة هدنة وسلام يستغلها فى
الاستعداد وتنظيم أموره، لذلك بعث يطلب الصلح مع الأمير، على أن
يستقر فى «ببشتر» ، ويكون تابعًا للإمارة الأموية، فوافقه عبدالله
وأكرم رسله، وبعث أميرًا من عنده يشاركه فى حكم الإقليم، ولكن
لم تمض شهور حتى نكث بعهده، وطرد الأمير المشارك، وعاد يفسد
ويخرِّب ويغير على البلاد المجاورة.
سار الأمير بنفسه عام (276هـ= 889م) ووصل إلى منطقة «ببشتر» ،
واجتاحها إفسادًا وتدميرًا، لكنه لم يصل إلى نتيجة وبقى اضطرام
الثورة فى الجنوب.
وواصل «ابن حفصون» غاراته فى اتجاه الشمال حتى وصل إلى
ضواحى «قرطبة» بل حاول إحراق مخيم الأمير نفسه فى ضاحية
«شقندة» القريبة من العاصمة، وأصر الأمير على الخروج إليه وحشد
كل مااستطاع حشده من قوات، وذهب فى اتجاه حصن فى الجنوب
الشرقى من قرطبة يُسمى «حصن بلاى» كان «ابن حفصون» قد حشد
فيه قواته، والتقى الفريقان على فرع من فروع نهر الوادى الكبير
قريب من الحصن الذى يعتصم به «ابن حفصون» ، ونجح فرسان
الأندلس فى إلحاق هزيمة بالجناح الأيمن لابن حفصون ومزقوا قواته؛
فركب الرعب قلوب بقية الثائرين، وفروا هاربين والخيل تتبعهم،
وقُتِل كثير منهم وفرَّ «ابن حفصون» إلى الجبال الجنوبية بمن معه
واستولى الأمير «عبدالله» على حصنه، ورغم أن ابن حفصون قد
أُصيب فى المعركة فإن الأمير آثر ألا يطارده، واتجه غربًا نحو
«أستجة» التى كانت تناصره، وحاصرها حتى استسلمت ثم سار إلى
«ببشتر» فلم يخرج زعيم الثوار لمواجهته وجبن عن لقائه، وأثناء
ارتداد جيش الأندلس راجعًا اشتبك ابن حفصون مع مؤخرته لكنه هزم
فى ربيع عام (278هـ = 891م).
وعلى الرغم من أن ثورة «ابن حفصون» لم تنته تمامًا فإنها قد وهنت
وأصبح الطريق ممهدًا للقضاء عليها.
وقد شهدت المناطق الجنوبية شرقى الأندلس ثورة القبائل العربية،
فقد رأت أن حكومة قرطبة تؤثر الموالى، وأن فى ذلك مهانة لها؛
فاستغلت اشتعال فتنة المولدين فى الجنوب والثغر الأعلى فقامت
بثورتها فى الجنوب متخذة من كورة البيرة «غرناطة» مركزًا لها،
وتزعم الثورة «يحيى بن صقالة القيسى» عام (275هـ = 888م)،
والتف العرب حوله وقام بمطاردة المولدين والنصارى، ولكنه قتل فى
موقعة معهم فخلفه «سوار بن حمدون القيسى» ، وكان شجاعًا
ناصره قومه، ولذلك نجح فى انتزاع معظم حصون النصارى
والمولدين، ووصل نفوذه إلى قلعة رباح، ومنها زحف إلى البيرة،
حيث دارت معركة تسمى «معركة المدينة» بينه وبين جند الإمارة،
انهزم فيها والى البيرة ووقع فى الأسر، وقتل كثير من رجاله، ثم
أطلق سراحه؛ فانضم إلى «ابن حفصون» وتحالف معه.
أما «سوار» فقد قوى أمره وتضاعف مؤيدوه، وتوجه نحو غرناطة
حيث دارت معارك بينه وبين المولدين، وتمكن من هزيمة «ابن
حفصون»، ولكن خصوم «سوار» دبروا له من قتله فى كمين فلم تدم
رئاسته للعرب إلا نحو عام، وخلفه سعيد بن سليمان بن جودى
السعدى زعيم هوازن، وكان معروفًا أيضًا بالفروسية والخطابة
والشعر، ونجح بفضل التفاف القبائل حوله من إلحاق الهزيمة بابن
حفصون مرارًا، ورأى الأمير «عبدالله» أن العرب يسيطرون على
البيرة فعين سعيداً واليًا عليها وبقى بها عدة أعوام ثم انتهى أمره
مقتولاً.
وآلت رئاسة العرب لمحمد بن أضحى الهمذانى صاحب حصن الحامة
(الحمة)، وأقر الأمير اختياره، وتجددت المعارك بينه وبين «ابن
حفصون» ولم تسفر عن نتيجة حاسمة، واستمر «محمد» رئيسًا على
المنطقة حتى تمكن «عبدالرحمن الناصر» فيما بعد من الاستيلاء على
حصن الحامة وغيره من المناطق الثائرة.
وقد اتسع نطاق الثورة بين المولدين والعرب فثار فى «بطليوس»
وغربى الأندلس عدد من زعماء المولدين، وقامت ثورات أخرى فى
عدد من المواقع شرقى الأندلس، واستمر بعض الزعماء على تمردهم
واستقلالهم حتى عهد الناصر.
أما إشبيلية فكانت مسرحًا لفتنة طال أمدها، ويرجع ذلك إلى طبيعة
سكانها الذين كانوا مزيجًا من العرب والمولدين والنصارى، وكان
سكانها العرب من أصحاب الثروات والنفوذ وقد جرى لها ما جرى
لغيرها، فظهر فيها ثائرون متطلعون للزعامة من أمثال بنى عبدة،
وبنى حجاج، وبنى خلدون، وإلى جانب هؤلاء وجد بعض المولدين
الأغنياء وكان التنافس بينهم وبين العرب شديدًا أدى ذلك إلى
فوضى واضطراب فى المجتمع.
ولم تشغل الثورات فى «إشبيلية» و «باجة» و «البيرة» و «تدمير»
وغيرها حكومة قرطبة عن العمل للقضاء على المولدين وزعيمهم
«عمر بن حفصون» فى الجنوب، ولم يمض عامان على هزيمته فى
«بلاى» حتى أعاد تنظيم قواته، فأخذت الإمارة توالى إرسال
الحملات عليه فسار إليه «المطرف ابن الأمير عبدالله» فى سنة
(281هـ= 894م) وحاصره فى «ببشتر» وخرج الثائر للقتال، فانهزمت
قواته، وقتل أشجع قواده.
وما إن عاد جيش الأمير إلى قرطبة حتى جمع ابن حفصون مجموعة
وتوجه نحو «أستجه» فى الجنوب الغربى من العاصمة، واستولى
عليها ثانية عام (284هـ= 897م) فتوجه المطرف لقتاله فى العام التالى
واخترق الجزيرة الخضراء، وقام بالهجوم على بعض الحصون ووصل
إلى «ببشتر» ، وقامت بعض المعارك التى لم تسفر عن شىء.
وفى عام (286هـ = 899م) أعلن «ابن حفصون» اعتناقه النصرانية
وتسمى باسم «صمويل» ، وكان هذا بداية نهايته، فقد تخلى عنه
بعض جنده وقواده وظلوا معتصمين فى حصونهم، وأرسلوا يعلنون
ولاءهم للأمير عبدالله واستعدادهم للجهاد معه ضد «ابن حفصون» ،
وحاول «ابن حفصون» من جانبه تقوية مركزه فعقد تحالفًا مع ملك
ليون، وبعض أمراء غربى الأندلس.
وعادت الحرب من جديد بين «ابن حفصون» يعاونه أمير «إشبيلية»
وبين جند الإمارة، وكان اللقاء الأول عند «استجة» وانتهى بهزيمة
«ابن حفصون» هزيمة منكرة عام (289هـ = 902م)، وتخلى عنه حليفه
«إبراهيم بن حجاج» وعاد إلى طاعة الأمير، وتوالت حملات الأمير بعد
ذلك ووصل إلى حصون «ابن حفصون» ومعقله فى «ببشتر»
وطاردته، وقد حطمت قوى هذا الثائر وأنهكته وأضعفت قواه إلا
أنها لم تصل إلى القضاء عليه تمامًا.
ويجدر بالذكر أن سلطة الأمير الأندلسى لم تنكمش كما انكمشت فى
عهد الأمير «عبدالله» ، فلم تتجاوز سيطرته أحيانًا قرطبة وضواحيها
وقضى خمسة وعشرين عامًا هى مدة حكمه فى كفاح وصراع
دائمين بهدف حماية الدولة والحكم الأموى من الانهيار، وقد نجحت
جهوده فى تفرقة الثوار والسيطرة على بعض القواعد والحصون
المهمة، وفى استمالة بعض الزعماء من ذوى النفوذ، وكان ذلك
معاونًا للأمير عبدالرحمن الناصر فيما تحقق من نتائج فيما بعض.
ولاينبغى هنا نسيان الجهد الذى قام به بعض القادة العسكريين
الموهوبين فى تحقيق النجاح للأمير «عبدالله» ويأتى على رأس
هؤلاء «بنو عبدة» موالى «بنى أمية» ومنهم: «أبو العباس أحمد بن
أبى عبدة» الذى قضى من عمره ثلاثين سنة يجاهد فى سبيل وحدة
الأندلس، وكذلك ابن أخيه «عبيدالله محمد بن أبى عبدة» الذى حقق
انتصارًا رائعًا على «ابن حفصون» فى حصن «بلاى» ، والقائد «جعد
بن عبدالغافر» الذى أسهم كثيرًا فى إضعاف قوى «ابن حفصون» ،
وكذلك الزعيم البربرى «سليمان بن دانوس» .
ومن الطبيعى فى ظل هذه الفتن الدائمة ألا يتمكن الأمير «عبدالله»
من القيام بغارات ضد النصارى بسبب انشغاله بمحاربة الثائرين
والمتمردين، ولم يقم النصارى من جانبهم بأية محاولة ضد الأراضى
الإسلامية غير أن ملك ليون (جليقية) حاول إشعال الفتنة بين المسلمين
وتشجيع الثوار وعلى رأسهم «ابن حفصون» على العمل ضد حكومة
قرطبة.
ومن الحوادث البارزة فى زمن الأمير «عبدالله» فتح جزر «البليار» أو
الجزائر الشرقية، ومن المعروف أن «عبدالرحمن الأوسط» كان قد
أرسل حملة إلى «ميورقة» فلما كانت سنة (290هـ = 903م) سارت
إليها قوة بحرية من المجاهدين يقودها «عصام الخولانى» ، وقامت
بمحاصرتها حتى تم فتحها، وتولى القائد إمارتها، ومنذ ذلك الحين
وهى جزء من الدولة الإسلامية.
وكان من الطبيعى أيضًا ألا يتسع عهد الأمير «عبدالله» للأمور
الإنشائية ولايذكر له فى هذا المجال إلا «الساباط» الموصل بين القصر
والمسجد الجامع وهو ممر مسقوف مبنى فوق عقد كبير يفضى من
القصر إلى الجامع ويتصل به قريبًا من المحراب.
كان الأمير «عبدالله» عالمًا أديبًا شاعرًا فصيحًا يتصف بالتواضع
والجود والبر بالفقراء، حريصًا على رفع الظلم والتخفيف من معاناة
الشعب، وقد خصص يومًا من كل أسبوع للفقراء، كما أقام بابًا
حديديا أسماه «باب العدل» تقدم عنده الشكاوى والتظلمات، وكان
صارمًا عنيفًا مع الطغاة، فشاع العدل فى زمنه، وقد آثر الاحتشام
والتقشف فى حياته الخاصة.
وقد تولى الحجابة له «عبد الرحمن بن أمية بن شهيد» ، ثم «سعيد بن
محمد بن السليم» ثم عزله ولم يولِّ أحدًا، واكتفى بالوزراء والكتاب،
وبرز من بينهم بدر الخصى الصقلبى. وقد اعتمد - بالإضافة إلى العرب
والبربر - على الموالى والفتيان، وقدَّم الموالى الشاميين على
البلدانيين كما فعل أبوه.
وقد جرى حادث مؤسف داخل الأسرة الأموية يتمثل فى قتل الأمير
«عبد الله» لولده «محمد» لاتهامه بالتواطؤ مع الثوار لكنه ندم على
ذلك، وتحول ندمه، إلى عطفٍ وبر بطفل للقتيل لم يكن قد تجاوز
عمره أسابيع ثلاثة عند مقتل أبيه فعنى بتربيته وتعليمه وجعله
موضع سره، وشاء الله أن يتولى هذا الطفل أمر الأندلس بعد جده
ويصبح أعظم حكامها على الإطلاق.
وللأمير أشعار جيدة خاصة فى الغزل والزهد، وكان يقرب الشعراء
ويؤثر مجالسهم ومجالس العلماء، ويأتى على رأس شعرائه «ابن
عبدربه» وغيره، و «بقى ابن مخلد» على رأس الفقهاء وأصحاب
الرأى الذين كان الأمير عبد الله يستشيرهم ويستأنس برأيهم.
وقد توفى الأمير «عبد الله» فى (أول ربيع الأول سنة 300هـ =
912م).
عبد الرحمن الناصر (العصر الذهبى لبنى أمية فى الأندلس
[300 - 350 هـ = 912 - 961 م].
بدأ «عبد الرحمن» حكمه فى (ربيع الأول سنة 300هـ = أكتوبر 912م)
بعد أن بايعه الجميع بنفس راضية فى المجلس الكامل بقصر قرطبة مع
وجود كثير من أعمامه، لكن «عبد الرحمن» اكتسب محبة الناس بحسن
أخلاقه وتوسطه بين الأمراء وأهل الدولة وبين جده فنال محبتهم
وولاءهم، وكان عليه أن ينهض بمهمة ثقيلة، فقد تعرضت الإمارة
للثورات من كل ناحية حتى أصبحت لايحسد عليها صاحبها، ولعل هذا
أحد الأسباب التى جعلت أعمام «عبد الرحمن» ينصرفون عن
منافسته، لشعورهم بعظم المسئولية التى تنتظر من يتولى الإمارة.
وقد أثبت هذا الشاب أنه يمكن إعادة بناء دولة ضعف بنيانها بالخلق
المتين وحسن التدبير غير أنه لا ينبغى نسيان فضل الأمير «عبدالله» ،
فلولا إصراره على تحطيم قوى الثائرين - خاصة «ابن حفصون» -
ولولا تدبيره شئون الدولة بالقليل من المال، ما استطاع «عبدالرحمن»
أن يوحد البلاد وينهض بها، وكذلك لا ينبغى نسيان فضل البيوت
العربية التى وقفت إلى جانب الإمارة تعاونها وتشترك معها فى
مواجهة المشاكل بأنواعها كافة.
عبدالرحمن والأوضاع الداخلية:
أدرك عبدالرحمن أنه لابد من مواجهة الكفاح ضده وعدم تمكينه من
تحقيق هدفه، فبدأ بإرسال جيش بعد أسابيع قليلة من ولايته إلى
قلعة «رباح» شمالى قرطبة لمواجهة ثائر من زعماء البربر يدعى
«الفتح بن موسى بن ذى النون» وتمكن من هزيمته، كما هزمت
الحملة نفسها بعض المتحالفين معه، وكان لهذا الانتصار فى مطلع
ولاية «عبدالرحمن» أثره فى إرهاب الثائرين.
ثم أرسل «عبدالرحمن» جيشًا فى (جمادى الأولى سنة 300هـ =
ديسمبر 912م) أعاد مدينة «أستجة» التى كان «ابن حفصون» قد
ضمها إليه، وقام القائد بهدم أسوارها وهدم قنطرتها، وانقطع رجاء
أهلها فى القيام بثورة، بعد ذلك جهز «عبدالرحمن» جيشًا ضخمًا
أنفق زمانًا طويلا فى إعداده واختار فرسانه بنفسه وزوده بكل ما
يحتاج إليه، وخرج على رأسه فى (شعبان سنة 300هـ = مارس
913م)، واتجه أولا إلى الجنوب الشرقى حيث انضم إليه أحد
المخلصين للإمارة، ثم مضى فى طريق «جيان» ، وأرسل بعض قواته
إلى مالقة، وأمَّنها، وهناك عسكر فى قلب المنطقة التى ظن «ابن
حفصون» أنها معقله، وهنا رغب عدد من الثائرين فى الاستسلام
فمنحهم «عبدالرحمن» الأمان، ثم استولى على وادى أسن، وحصن
المنتلون، وأسر عددًا من حلفاء «ابن حفصون» فى ولاية «غرناطة»
واستولى على كل ما كان بيده فى ولاية «جيان» ، ثم واصل سيره
حتى وصل إلى ساحل البحر، ومازال عبدالرحمن يجول فى تلك
الأنحاء ويستولى على حصونها المهمة واحدًا تلو الآخر حتى قضى
على عناصر الثورة بها وبلغ عدد هذه الحصون نحو سبعين حصنًا، ثم
عاد إلى قرطبة أيام عيد الأضحى بعد غياب دام نحو ثلاثة أشهر.
ثم أرسل الأمير حملة حاصرت «إشبيلية» وهدمت أسوارها سنة
(301هـ = 913م) وانتهت بذلك ثورة العرب والمولدين فى هذه القاعدة
المهمة التى كان «ابن حفصون» يتعاون مع الثائرين بها، ورأى
الأمير أنه إذا حرمه من هؤلاء الحلفاء، فإنه سيستسلم من تلقاء
نفسه.
وفى (شوال من عام 301هـ = مايو 914م)، سار «عبدالرحمن» إلى
جبال «رنده» التى بها المعقل الرئيسى لابن حفصون - وكان قد بسط
نفوذه عليها ثانية - واستولى الأمير على عدد من الحصون فى
الطريق؛ حيث بدأ بمحاصرة قلعة «طرش» - شرقى مالقة - ثم سار إلى
حصون «رية» يفتحها الواحد وراء الآخر، والتقت قواته مع «ابن
حفصون» وتعرض الثائر وحلفاؤه لهزيمة مريرة اضطر إلى الارتداد
ناحية الغرب، واستولى «عبدالرحمن» على سفن كانت تحمل له زادًا
قادمًا من بلاد المغرب ثم توجه إلى الجزيرة الخضراء واقتحم
حصونها، ثم سار منها إلى «شذونة» ثم «قرمونة» ورجع بعد ذلك
إلى «قرطبة» بعد أن ضيق الخناق على «ابن حفصون» .
وقد ظن «ابن حفصون» أنه إذا ارتد إلى النصرانية، فإن ذلك يكسبه
ولاء طائفة المستعربين فى الأندلس، لكن هذا الارتداد أضره فانصرف
عنه كثير من المسلمين والنصارى، بل إن أبناءه أنفسهم - باستثناء
ولد له وبنت - لم يوافقوا على التنصر، واضطر ابن حفصون إلى أن
يبعث برسالة إلى «عبدالرحمن الناصر» يطلب الصلح والأمان وقد
وافق الناصر على الفكرة مع الحذر من مكر الثائر وغدره، واتصل
بأكابر أعوانه ومنحهم الأمان، وتمت كتابة شروط الصلح، وبمقتضاها
دخل مائة واثنان وستون حصنًا فى طاعة الناصر، وقد سُرَّ كلا
الطرفين بهذا الصلح، وتلقى الناصر هدية قيمة من ابن حفصون بهذه
المناسبة وكافأه عنها بأضعافها.
وفى شهر (ربيع الأول سنة 306هـ = أغسطس 918م) مات «عمر بن
حفصون» عن عمر يناهز اثنين وسبعين عامًا بعد أن قاد أكبر ثورة
قام بها المولدون ضد الإدارة الأموية فى غرب الأندلس كله، وتنفست
الحكومة الأموية بوفاته الصعداء بعد أن كان شاغلها الشاغل طوال
ثلاثين عامًا.
وقد سار «عبدالرحمن» بنفسه إلى مواطن ثورة «ابن حفصون»
وقضى على جيوب المقاومة بها وطهرها من آثاره، وصلى فى
مسجدها الجامع واستولى على كل معاقلها وحصونها، وأعدم ابنة
لابن حفصون لإصرارها على الارتداد إلى النصرانية، وانتهى بذلك أمر
تلك الثورة العنيدة تمامًا.
وقد بالغت المصادر الأوربية فى تصوير «عمر بن حفصون» ، وقدمته
على أنه بطل قومى رمى إلى غاية نبيلة، وهى تحرير وطنه من نير
المتغلبين عليه ورده إلى ديانته النصرانية.
والحقيقة أن الرجل لم يكن أكثر من قاطع طريق وثائر عنيف ولم تكن
تدفعه أغراض قومية أو نبيلة، ولم تحمسه الشهامة أو العزة القومية،
بل إن كل ما قام به يتعارض مع الشرف والمروءة والشهامة.
أنفق عبدالرحمن الناصر بعد ذلك أربع سنوات فى القضاء على
حركات الثوار فى غربى الأندلس وجنوبها ولم يغفل لحظة عن مطاردة
العصاة، فحاصر «طليطلة» التى كانت معقلا للثوار مدة عامين حين
قام بالخروج فيها أحد زعماء المولدين حتى يئست واستسلمت وخرج
بنفسه فى أواخر (317هـ = 929م) متوجهًا ناحية الغرب وأنذر العصاة
وحاصر «بطليوس» وغيرها ومنع عنها كل مورد وضربها بشدة حتى
اضطرت إلى التسليم، وفعل الشىء نفسه فى «باجة» وفى
«أكشونة» قرب ساحل المحيط التى أتى الثائر بها معتذرًا فقبل
«الناصر» عذره.
وكما طارد الناصر العصاة فى الغرب طاردهم أيضًا فى شرق البلاد،
فبعث وزيره «ابن بسيل» لمقاتلة بنى ذى النون، فقصد معقلهم
«شنت بريه» واقتحمه وقتل رجاله ولم يتركه إلا بعد أن خضع له،
وفى سنة (317هـ = 929م) افتتحت مدينة «شاطبة» بعد أن ترددت
عليها الحملات العسكرية لمدة خمسة أعوام، وبذلك أخمدت كل
الثورات فى أنحاء الأندلس كافة بعد أن بقيت نحو نصف قرن تستنفد
موارد البلاد وتمنعها من الجهاد ضد عدوها المتربص بها فى إسبانيا
النصرانية.
علاقة الناصر مع ملوك قشتالة وبنبلونة:
تعرضت الحدود الشمالية لقرطبة لأخطار جسيمة قبل أن يتولى
«عبدالرحمن الناصر» ، وفى الأيام الأولى للناصر تمكن «ألفونسو
الثالث» ملك «اشتورياس» من الاستيلاء على حصون «قلمرية» - فى
البرتغال حاليا - كما سيطر على حصون ليون واشترقة وأماية
وسمورة منتهزًا فرصة انشغال الأمير فى المشاكل والثورات الداخلية،
وقام بتسكين أعداد كبيرة من نصارى الأندلس المستعربين الذين
هاجروا إلى الشمال واستقروا فى الممالك النصرانية، وعقب موت
«ألفونسو» الكبير هذا استولى خليفته على حصن «أرماج» -الذى
سيكون له شأن فى الصراع بين الإسلام والنصرانية زمن الناصر-
ومعنى ذلك أن مملكة «اشتورياس» توسعت وتضاعفت مساحتها
وأصبحت تسمى مملكة ليون فى الأيام الأولى لحكم الناصر، بل تجرأ
بعض قواد النصارى ووصلوا إلى ضفاف نهر «الدويرو» .
وقد انتهز أمراء بنبلونة - عاصمة نبرة - وغيرها من الإمارات
النصرانية الصغيرة الواقعة جنوبى جبال «البرت» الفرصة، وتمكنوا
بمعاونة أصحاب الثغر الأعلى الأندلسى من تهديد المعاقل الإسلامية
فى «تطيلة» وغيرها، ونجح ملك قشتالة الجديد فى مد حدود دولته
لتشمل أراضى قشتالة الجديدة، التى كانت أراضى إسلامية بها عدد
قليل من المسلمين فى ذلك الوقت، كذلك أمكن لإمارة «قطالونية»
التى تمكن ملوك الإفرنجة من إنشائها فى عهد «عبدالرحمن
الداخل»، أن تتوسع أيضًا على حساب أراضى المسلمين.
وهكذا كان على عبدالرحمن الناصر عند توليه أن يواجه موقفًا بالغ
الخطورة على حدوده الشمالية من ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى
ساحل المحيط الأطلسى.
راميرو الثانى ملك ليون:
تولى «راميرو الثانى» الحكم فى «ليون» فى السنة نفسها التى
تولى فيها «الناصر» ، وكان «راميرو الثانى» ملكًا طموحًا دائب
الحركة، ولهذا بدأ فى العام الثانى لحكمه يهاجم أراضى المسلمين،
ووصل إلى «يابرة» - فى البرتغال الحالية - على رأس جيش بلغ
تعداده ثلاثين ألفًا وتصدى له عامل البلدة المسلم، ولكنه هُزِم وتمكن
النصارى من دخول البلد وارتكبوا مذبحة ضد أهلها وأسروا أربعة
آلاف، فيهم عدد من النساء والأطفال، وقد خشى عمال البلاد من
مهاجمة هذا الملك لبلادهم، فحصنوها وأحاطوها بالأسوار الحجرية
المتينة، ومع ذلك استطاع ملك ليون مهاجمة مدينة «ماردة» ونهب
أراضيها ودخل بعض حصونها وقتل فيها ألوف المسلمين، وأنشأ
هناك كنيسة تسمى كنيسة القديسة «ماريا الليونية» .
وكان «عبدالرحمن» يؤثر فى أول الأمر غض الطرف عن محاربة
النصارى إلى أن يتمكن من تطهير الأندلس من الثائرين، لكن هذا
التخريب والفساد والعبث من جانبهم جعل الناصر يتخلى عن خطته،
فبعث بجيش قوى سنة (304هـ = 916م) التقى بجموع النصارى
وهزمهم فى عدة مواقع وعاد محملا بالغنائم وفى العام التالى ضج
المسلمون وطلبوا من الأمير إنقاذهم، فأرسل إليهم قوات يتزعمها
«أبو العباس أحمد بن محمد بن أبى عبدة» قائده الكبير، وقد استعد
له ملك النصارى وجهز أحسن مالديه من عدة وسلاح.
والتقى الفريقان بالقرب من بلدة «أرماج» وانهزم المسلمون وقتل
قائدهم وتتبع النصارى فلولهم لمسافات بعيدة، وكانت تلك نهاية
«أبى العباس أحمد بن محمد بن أبى عبدة» القائد المغوار صاحب
الفضل فى المحافظة على بقاء الإمارة الأموية طوال فترة حكم الأمير
«عبدالله» ، وقد قام ملك النصارى بتعليق رأس هذا القائد العظيم على
سور البلدة المذكورة وبجواره خنزير برى نكاية به.
هنا أدرك «عبدالرحمن» أن الأمر جد خطير وبخاصة بعد تحالف ملك
ليون مع ملك نبرة، وسارت قواتهما معًا تريد الاستيلاء على مدينة
«طلبيرة» غربى «طليطلة» وفى الوقت نفسه توجهت قوات تابعة
لملك «نبرة» لمهاجمة أراضى «بنى قسى» أصحاب «طليطلة» ،
وأحرقت الزروع وعاثت فسادًا، وأحرقت بعض المساجد، ولهذا أعد
عبدالرحمن جيشًا ولَّى قيادته حاجبه «بدر بن أحمد» الذى احتشد له
النصارى من كل ناحية، وتقدم المسلمون كالسيل إلى حدود ليون
وهزموا النصارى هزيمة ساحقة فى موقعتين، ومع ذلك استمر
النصارى يغيرون على الأراضى الإسلامية، وجرت حروب كانت سجالا.
صمم عبدالرحمن على أن يخرج بنفسه لمقاتلة النصارى، فخرج من
قرطبة فى (13 من المحرم سنة 308هـ = أوائل يونيو سنة 920م) فى
جيش ضخم، وانضم إليه كثير من أهل الثغور، وقد اخترق أراضى
الثغر الأوسط من طليطلة شمالا واتجه إلى طريق ألبة والقلاع
«قشتالة» ، ووصل إلى «قلونية» ونسف وخرب دون أن يعترضه
النصارى لأن ملكى ليون ونبرة كانا ينتظران بجموعهما فى الشمال.
وقد عرج «عبدالرحمن» على «تطيلة» واستولى على حصون مهمة
بها، ثم عبر نهر «إبرة» حيث وجد الملكين فى كامل قواتهما، وقد
أرادا استدراج الناصر إلى شُعَب الجبال، لكنه نجح فى سحبهما إلى
السهل المنبسط وعسكر غربى «بنبلونة» عند بلدة تسمى
«خونكيرا» ، وعندما انحدر النصارى من الجبل إلى السهل، أوسعهم
المسلمون قتلا وأسرًا وفتكوا بالعديد من أساقفتهم وزعمائهم
ومزقوهم، ثم هدم عبدالرحمن حصونهم، وأصلح حصون المسلمين
بهذه النواحى، وجرت هذه الموقعة فى (6من ربيع الأول سنة 308هـ
= 26 من يوليو سنة 920م)، وقد استغرقت غزوة الناصر هذه ثلاثة
أشهر، وكانت أول غزوة له ضد ملوك النصارى.
لم ترتدع قوى النصرانية رغم ما تعرضوا له من هزائم وأخذوا
يهاجمون الأراضى الإسلامية، واستولوا على بعضها، لذلك خرج
«عبدالرحمن» إليهم مرة أخرى فى (المحرم سنة 312هـ = 17 من
أبريل 924م) وسلك اتجاه الشرق مخترقًا كورة تدمير فبلنسية، ثم
دخل إلى طرطوشة فسرقسطة ثم تطيلة، ثم دخل أراضى «نبرة» حيث
استولى على كثير من الحصون وهدمها، ثم قصد بعد ذلك بنبلونة -
عاصمة مملكة نبرة - ودمرها وهزم ملكها، وأنهى مقاومته تمامًا
وفى طريق عودته إلى «قرطبة» عرج على «موسى بن ذى النون»
وقبل طاعته وقد استغرقت هذه الغزوة أربعة أشهر وعرفت بغزوة
«بنبلونة» .
مات ملك ليون وحدثت مشاكل داخلية انتهت بتولية ملك جديد عمل
على توسيع الفتنة بين المسلمين، وكانت «طليطلة» آنئذٍ تقوم بثورة
معارضة، فقام الملك النصرانى بتشجيع الثوار، وبدأ «عبدالرحمن»
من ناحيه يرسل العلماء لحث الثوار على الطاعة، فلم يستجب أحد
مطمئنين إلى محالفة ملك النصارى لهم، لذلك اضطر الناصر إلى أن
يخرج إلى الثائرين فى قوات ضخمة فى (ربيع الثانى سنة 318هـ =
مايو 930م)، وبعد حصار شديد غادر عبدالرحمن المدينة وترك على
حصارها بعض قواته، ثم عاد إليها بعد عامين فسار ملك ليون لإنقاذ
«طليطلة» واستولى فى طريقه على حصن مجريط (مدريد) لكن
المسلمين استردوه، ففر ملك ليون واضطر أهل «طليطلة» إلى
التسليم، وانتهت بذلك ثورة من أخطر الثورات التى واجهها الناصر.
وواصل «عبدالرحمن» ضرباته فى بلاد الشمال، ولم يجد ملوك
النصارى مفرا من طلب الصلح، وأصبحوا من أتباع الناصر، يخطبون
وده ويطلبون العلاج فى عاصمته.
ولكن ملك ليون آلمه أن يخضع ملوك النصارى لأمير قرطبة، فحرضهم
على حربه وجمع جيشًا كبيرًا يواجه به المسلمين فاستعد له
عبدالرحمن استعدادًا كبيرًا؛ خاصة وقد تمكن الملك النصرانى من
الاستيلاء على حصن مجريط وهدد طليطلة سنة (320هـ = 932م) وقصد
الجيش النصارى عن طريق وادى الحجارة، ثم سار إلى سرقسطة
وبعث بقوات إلى «تطيلة» و «طرطوشة» ، وتحول إلى أراضى «نبرة»
ليتلقى من ملكتها رسالة تعبر عن رغبتها فى السلم
والمصالحة، فوافق الأمير وأقر ابنها ملكًا على بلاد «البشكنس» ، ثم
سار إلى أراضى «ألبة والقلاع» وخرب ونسف وعاث فى أراضى
ليون، فاجتمع له النصارى ودارت معركة عنيفة انتصر فيها المسلمون
ووصل إلى مقربة من ليون، ثم ارتدت قواتهم شرقًا وأخذت تعيث فى
أراضى قشتالة وخربت عاصمتها «برغش» ثم عادت القوات الإسلامية
إلى قرطبة بعد أربعة أشهر.
وفى سنة (323هـ = 935م) خرج أسطول الناصر فى أربعين سفينة
من ثغر ألمرية إلى جزيرة ميورقة، ومنها إلى شواطئ الثغور
الفرنجية حيث حقق انتصارات كبيرة، وتوجه بعدها إلى برشلونة.
فاجتمع الفرنج لمقاتلته، ودارت بينه وبينهم مجتمعين معركة انتصر
فيها الأسطول الإسلامى، ثم رجع إلى طرطوشة حيث صدرت الأوامر
للقائد بالتوجه إلى سبتة وطنجة للتعامل مع الثائرين هناك، فظل
يتردد بين مراسى العدوة المغربية حتى شتاء العام التالى، ثم رجع
إلى مرسية فى (صفر سنة 324هـ = ديسمبر935م).
كان «عبدالرحمن» قد عقد صلحًا مع ملك ليون بناءً على رغبته، لكن
النصارى من البشكنس تحركوا واحتلوا بعض الحصون، وفى الوقت
نفسه ظهرت بوادر فتنة خطيرة فى سرقسطة، لأن أصحابها
التجيبيين لم يكونوا على وفاق مع حكومة قرطبة، وما كانت تعجبهم
سياسة «عبدالرحمن» التى تعمل على إخضاع الزعماء المحليين
بالإضافة إلى أن وجودهم بين الممالك النصرانية أعطاهم فرصة
التآمر والخروج على سلطان الحكومة المركزية، وقد رفض زعيمهم
بالفعل أن يشترك مع الناصر فى حملته الأخيرة ضد النصارى، بل
وتحالف مع ملك ليون ضد المسلمين، وانضم إليهما البشكنس، وبذلك
وقف الشمال كله متحالفًا ضد عبدالرحمن.
بعث الناصر بعض القوات التى تعاملت مع هؤلاء فى بعض المواقع،
وتمكنت حامية مجريط - أهم قلاع الثغر الأدنى - من رد هجوم ملك
«ليون» عليها، ثم خرج عبدالرحمن بنفسه على رأس جيش ضخم فى
(رجب سنة 325هـ = مايو 937م) فسار أولا إلى «طليطلة» لتأمين
أهلها وإرهاب النصارى، وسلمت له «وشقة» و «طلبيرة» غربى
«طليطلة» .
بعد ذلك توجه الناصر إلى الثغر الأعلى عن طريق وادى الحجارة،
وقصد قلعة أيوب التى يعتصم بها زعيم التجيبيين، وعرض عبدالرحمن
عليه الطاعة فرفض، واضطر إلى أن يدخل معه معركة عنيفة انهزم
فيها الثائر وطلب الأمان فوافق الناصر على تأمينه، وكان سقوط
قلعة أيوب هذه أول صدع خطير فى ثورة بنى تجيب.
ثم اتجه الناصر إلى ألبة والقلاع ففتح من حصونها سبعة وثلاثين
حصنًا، ثم ذهب إلى بنبلونة - عاصمة نبرة - لتأديب الناكثين.
وأخيرًا قبل اعتذار ملكتها وتوجه إلى تطيلة ومنها إلى سرقسطة
وقام ببعض العمليات الناجحة برا وبحرًا ضد ملك ليون وحلفائه،
واستمر يحاصر سرقسطة حتى طلب زعيم بنى تجيب الصلح فوافق
الناصر، وبذلك سقطت سرقسطة وحصونها المهمة فى يد الناصر،
وانهارت أخطر ثورة واجهها الناصر، وهى ثورة التجيبيين الذين
كانت بلادهم مركزًا يجمع القوى المعادية لخلافة قرطبة سواء أكانوا
من الثوار أم من زعماء النصارى.
ويلاحظ أن الناصر كان حريصًا على أن يعفو عن الثوار وأن يحسن
إليهم ويضمهم إلى جيشه، وبهذه السياسة الرشيدة استطاع أن
يستفيد من كل القوى المناوئة له عندما أحسن إليهم، وقد دخل الأمير
الأندلسى سرقسطة وأرسل منها ثلاثة جيوش توغلت فى أراضى ألبة
والقلاع وهزمت النصارى فى عدة مواقع، ثم عادت جميعًا إلى قرطبة
فى (18 من ربيع الأول 326هـ= أواخر يناير 938م) بعد ثمانية أشهر
قضوها فى العمليات الناجحة، وأراد الناصر أن يكرم زعيم «بنى
تجيب» فرده إلى «سرقسطة» وأعاده إلى مكانه وولاه كل مناصبه
السابقة.
مزق «عبدالرحمن الناصر» التحالف النصرانى الخطر وأخضع الشمال
الشرقى كله لسيطرته ولم يبق إلا ملك ليون بؤرة الفساد الحقيقى
فى هذه المناطق، وقد تم تجهيز جيش ضخم بلغت قواته نحو مائة ألف
جندى، وولى الناصر قيادته «نجدة بن حسين الصقلبى» ، وكان
الصقالبة قد سيطروا فى هذه الآونة على كل مناصب القصر
والقيادة، وقد أثر ذلك على نفوس العرب وكان سببًا فى تدهور
قوى الجيش المعنوية.
وفى صيف عام (327هـ = 939م) سار الناصر وعبر نهر التاجة عند
طليطلة ثم عبر نهر «دويرة» متجهًا نحو قلعة «شنت مانكش» حيث
كان ملك ليون قد عسكر مستعدا وحالفه «أمية بن إسحاق» وملكة
نبرة التى نقضت عهدها، وبذلك اتحدت قوى النصرانية من جديد
ووقفت صفا واحدًا فى مواجهة المسلمين.
وجرت بين الطرفين موقعة تعد من كوارث التاريخ الأندلسى، عرفت
بموقعة الخندق، وتفيض المصادر الإسبانية فى وصف ما حدث، بينما
تقدمها الرواية الإسلامية فى صورة مقتضبة، وقد جرت وقائعها على
باب قلعة «شنت منكش» (سيمانقة) وكانت الحرب سجالا، ثم انكشف
المسلمون انكشافًا لم يسمع بمثله وردهم العدو إلى خندق عميق
نسبت الموقعة إليه، وقد تساقط فيه المسلمون حتى امتلأ بهم عن
آخره وانكشف الناصر واستولى العدو على محلاته وما فيها من عدة
ومتاع وفقد مصحفه الشريف ودرعه.
وكان للخونة وعلى رأسهم «فرتون بن محمد الطويل» أثره فى
الهزيمة، وقد أعدمه الناصر جزاءً وفاقًا لخيانته، كما كان لتولية
قائد صقلبى أثره فى امتعاض العرب وتأثيره على روحهم المعنوية
أثناء القتال، وقد قتل ذلك القائد فى المعركة، وأسر من كبار
المسلمين «محمد بن هاشم التجيبى» وبقى فى أسر ملك ليون مدة
عامين حتى افتداه الناصر بمبلغ كبير.
وهذه خاتمة معارك الناصر الحربية، فلم يغز بعدها بنفسه واقتصر
تقليد شئون الثغر الأعلى على أكابر رجاله ممن ورثوا الصلابة والبأس
عن الأجداد، من أمثال آل تجيب وآل ذى النون وآل زروال وآل
الطويل وآل رزين وغيرهم، وكان الناصر يزورهم كل عام ويزودهم
بالعُدَد والسلاح، وقد استأمن «أمية بن إسحاق» الذى تحالف مع
النصارى فوافق الناصر على تأمينه عملا بسياسته فى اصطناع
الخصوم الأقوياء.
أرسل ملك ليون يطلب الصلح مع الناصر فاستجاب له الأخير، لكنه
كان صلحًا قصير الأمد كالعادة، كما عقد الناصر صلحًا مع ملك
برشلونة وغيره، لكن ملك ليون لم يحترم الصلح وهاجم الأراضى
الإسلامية، فاضطر المسلمون إلى غزو مملكة ليون سنة (329هـ =
941م)، وتوجيه بعض الحملات إليها وإلى جليقة.
وفى سنة (335هـ = 946م) جدد الناصر مدينة سالم، أقصى مدن
الأندلس الشمالية الغربية إلى حدود ليون، ونقل قاعدة الثغر الأعلى
من طليطلة إليه، وولَّى عليها قائده «غالب الناصرى» الذى كان له
شأن فى تاريخ الأندلس زمن الناصر وابنه الحكم المستنصر بعده،
وقامت قوات عبد الرحمن بمعارك وغزوات ناجحة حتى وصلت إلى
شاطئ المحيط الأطلسى، الشىء الذى جعل ملك ليون يطلب الصلح
مع الناصر إيمانًا بأنه لاقبل له به.
عبد الرحمن الثالث والبلاد المغربية:
عندما تولى عبد الرحمن الناصر، كانت الدولة الفاطمية قد قامت فى
بلاد المغرب منذ أربع سنوات فى (296هـ = 909م)، وامتد نفوذها
بسرعة حتى وصل إلى سبتة، وأصبحت تهدد الشواطئ الأندلسية
وتمثل خطرًا دينيا وسياسيا عليها، ومن الطبيعى أن يزعج هذا الأمر
الأمويين فى الأندلس؛ لأن المغرب قاعدة من يريد الوصول إلى
الأندلس. كما أنه يمد الثوار بها بحاجاتهم ويشجعهم على التآمر ضد
الإدارة الأموية.
كان على الناصر أن يواجه هذه المشكلة قبل أن يستفحل خطرها.
ولهذا بعث سنة (319هـ = 931م) أسطولا مكونًا من (120) سفينة
وسبعة آلاف رجل إلى سبتة انضم إليه بعض المتطوعة فى الطريق،
وقد تمكن هذا الأسطول من السيطرة على سبتة وانتزعها من البربر
حلفاء الفاطميين، ثم حاصر الأسطول بعد ذلك طنجة وضيق عليها
حتى استسلمت وخضعت للناصر وغادرها بقية الأدارسة، وبادر زعماء
البربر إلى إعلان الطاعة للناصر وامتدت دعوته حتى فاس، وأطاعه
«موسى بن أبى العافية» زعيم مكناسة، وأمده الناصر بالجنود
والسفن حتى هزم الفاطميين ووقف سدا منيعًا أمام محاولاتهم فى
المغرب واستمرت جيوش عبد الرحمن تعبر من الأندلس لمحاربة
الفاطميين وحلفائهم من البربر والأدارسة حتى استقر له الأمر ودعى
له على منابر المغرب سنة (332هـ = 944م).
وقد قويت الأساطيل الفاطمية فى عهد الخليفة «المعز لدين الله» ،
وبدأت تجوب شواطئ البحر الأبيض المتوسط، ووصلت إلى ألمرية
وأحرقت سفنها وعاثت فيها سنة (344هـ = 955م)، فرد الخليفة
الناصر بإرسال قوة بحرية عاثت فى تونس، وأمر بلعن الفاطميين
والشيعة على منابر الأندلس، وفى سنة (347هـ = 958م) أرسل
الناصر أسطوله ثانية إلى إفريقية ردا على الحملة الفاطمية التى
قادها «جوهر الصقلى» إلى عدوة المغرب، التى تمكنت من الوصول
إلى فاس، وأرسل فى الوقت نفسه حملة أندلسية عن طريق سبتة
إلى المغرب بقيت هناك حتى رجع الفاطميون.
وكانت سياسة الناصر مع الفاطميين تتجنب الدخول فى صراع صريح
معهم؛ لأن هذا يضعف جبهته الشمالية أمام النصارى، ولهذا وجدناه
يكتفى بإرسال السلاح والعتاد والمعونات المالية الكبيرة إلى
«موسى بن أبى العافية» و «مصالة بن حبوس» وأمثالهما لإلحاق
الهزيمة بأعوان الفاطميين، ثم اكتفى باحتلال سبتة وطنجة ومنهما
زود أعوانه فى المغرب بحاجتهم ليثبتوا أمام الشيعة، وربما لجأ إلى
معاونة الخارجين على الفاطميين من غير الأدارسة وهو على كل حال
لم يلق بخيرة جنده وقواده فى الصراع المغربى، وهذا هو الخطأ
الذى وقع فيه ابنه الحكم المستنصر بعد ذلك فأثر على جبهته
الشمالية وأضعفها ولم يتمكن من الخروج بنتيجة حاسمة.
عهد الخلافة الأموية فى الأندلس:
عندما تولى «عبدالرحمن الداخل» أمر بعدم الدعاء لبنى العباس ولم
يتخذ لقب الخلافة مكتفيًا بالإمارة، وسار بنوه على نهجه، فلما تولى
الناصر، وجد أن هناك دولة فاطمية قامت فى بلاد الشمال الإفريقى،
ووصل نفوذها إلى شواطئ المغرب الأقصى، وقد اتخذ حكامها
لأنفسهم لقب الخلافة وسماتها، وإذا كان هو قد نهض بالدولة ووطد
سلطان بنى أمية فى كل الأندلس فلماذا لايكون من حقه لقب خليفة؟
لذلك أصدر أمرًا بذلك فى يوم الجمعة مستهل (ذى الحجة سنة 316هـ
= أوائل 929م) وأصبح عبدالرحمن الثالث يلقب بالخليفة أمير المؤمنين
الناصر لدين الله، وقد أرسلت نسخ من هذا الإعلان إلى إفريقية
والمغرب، وبذلك أصبحت الخلافة الأموية مساوية للخلافة العباسية،
ويناط بها رعاية شئون المسلمين، وتولية أمر الإسلام فى الجناح
الغربى من العالم الإسلامى.
وقد استتبع ذلك تغييرًا كبيرًا فى شكل الإمارة القرطبية ونظامها؛
حيث وضعت لها هياكل إدارية تعكس هيبة الدولة وتمنح البلاط
القرطبى وجاهة أكثر. وكثر القواد فى جيش الخلافة وتنوعت مراتبهم
وكثر الوزراء أيضًا وتضاعفت هيبتهم.
وكانت سياسة الناصر تقوم على النقل المستمر لوزرائه وولاته
وقواده حتى لا يطول أمد الواحد منهم فى وظيفته، وقد يدفعه ذلك
إلى الاستبداد بالسلطة ..
لقد كان عبدالرحمن يؤمن بالسلطان المطلق للخليفة، ولايسمح لكبار
رجال الدولة بإملاء رأى عليه، كما لايمنح ولاة الأقاليم شيئًا من
الاستقلال، ويرى أن الرعية ينبغى أن تكون رعية مطيعة تأتمر بأمر
الخليفة خاصة بعد الانتصارات التى حققها على المستويين الداخلى
والخارجى، وكان يلقى وزراءه فى مجلس فخم يعد كل شىء فيه
بنظام مرتب.
ورغم ميل الناصر إلى الاستبداد فإنه لم يعرف عنه أنه كان ظالمًا،
ولم تذكر المصادر أنه قتل وزيرًا أو صادر مالا أو اعتدى على حق
لأحد أو بالغ فى عقوبة، وربما كان الوحيد بين خلفاء المسلمين
بالأندلس فيما يتعلق بتصرفاته فى الخلافة وسلوكه بما يتفق مع
مكارم الأخلاق ومبادئ الإسلام، وبهذه الأخلاق والوفاء استطاع
الناصر بعد عشر سنوات من حكمه أن يعيد النظام والهدوء والوحدة
والأمان إلى دولته الواسعة، كما منح أمانات لبيوتات الثغر الأعلى من
أمثال: بنى هاشم وبنى قسى وبنى الطويل واستفاد بهم وبما
تميزوا به من شجاعة فى حروبه، ونجح فى تحويل ملوك إسبانيا
النصرانية إلى أتباع له أو حلفاء.
إنشاء مدينة الزهراء وزيادة المسجد الجامع:
كثر سكان قرطبة فى عهد الناصر ووصلت مبانيها إلى تل الرصافة
الذى يقوم عليه قصر الرصافة، ولم تعد قصور العاصمة تليق بالمكانة
العظيمة التى ارتفعت إليها الخلافة، كذلك ضاقت أسواق البلد
وطرقاتها، وأصبح من العسير على جيوش الدولة ومواكب السفراء
المستمرة أن تسير فى شوارع المدينة دون أن تضايق الناس.
وكان الناصر قد بنى إلى جانب «القصر الزاهر» قصرًا جديدًا سماه
«دار الروضة» استدعى له المهندسين والبنائين من كل ناحية، وأنشأ
فى ظاهر قرطبة متنزهات عظيمة جلب لها الماء من أعلى الجبل فوق
قناطر بديعة، ومع ذلك فقد كانت العاصمة تضيق بسكانها ولاتفى
بحاجة ملك عظيم بلغه الناصر، ووطده عن طريق سحق أعدائه فى
الداخل والخارج؛ لهذا كله فكر فى إقامة مدينة جديدة تضم قصوره
وأماكن حاشيته، وأخذ المهندسون فى دراساتهم ووصلوا إلى
إقامتها على سفح جبل العروس على بعد ستة كيلو مترات من
العاصمة وتطل عليها من الناحية الجنوبية الغربية.
سميت تلك المدينة بالزهراء، نسبة إلى إحدى نساء عبدالرحمن التى
ماتت عن مال كثير وأوصت أن ينفق فى افتكاك أسرى المسلمين،
لكن الناصر لم يجد أسرى فقرر إنشاء المدينة بهذا المال وأطلق
عليها اسم صاحبة ذلك المال.
بدأ العمل فى المدينة الجديدة (أول المحرم 325هـ = نوفمبر 936م)،
وتولى الإشراف على بنائها «الحكم» ولى العهد، وحشد لها أشهر
المهندسين والصناع والفنانين من سائر الأنحاء ولاسيما القسطنطينية
وبغداد، وجلب لها الرخام بألوانه من «المرية» و «رية» ، ومن قرطاجنة
إفريقية وتونس والشام، وجلب لها (4324) سارية من الرخام واشتغل
فى بنائها يوميا عشرة آلاف رجل، و (1500) دابة، واستخدمت من
الصخر المنحوت ستة آلاف صخرة فى اليوم، وقدرت النفقة على
بنائها ب 300 ألف دينار سنويا بخلاف ما أنفق فى عهد الحكم،
وأقام الناصر لنفسه قصرًا جديدًا، بنى فيه مجلسًا ملوكيا أسماه
قصر الخلافة، جدرانه من رخام مزخرف بالذهب، وفى كل جانب من
جوانبه ثمانية أبواب، وأقام الخليفة فى الجناح الشرقى المسمى
بالمؤنس، وزوده بأنفس التحف ووضع فيه الحوض المنقوش بماء
الذهب المهدى إليه من قصر القسطنطينية.
وجدير بالذكر أنه تم التخطيط لمدينة «الزهراء» بحيث تكون مستقلة
بذاتها، وقد بنيت على مدرجات بحيث يرقى من يدخل المدينة من
درجة إلى درجة، وفى كل درجة يجد قسمًا من أقسام المدينة،
ويدخل الإنسان إليها من أسفل الجبل عن طريق باب كبير يسمى باب
الأقباء - جمع قبة - لأن هذا المدخل كانت تحيط به وتقوم فوقه قباب،
بعد ذلك يسير الإنسان مسافة طويلة فى طريق مبلط تقوم على
جوانبه الأعمدة وغرف الحرس حتى يصل إلى باب السدة (باب القصر)
ويصعد درجات، وإلى جانب هذا المصعد ذى الدرجات يوجد مصعد آخر
بلا درج مخصص للخيل، وعندما يصل الإنسان إلى المستوى الثانى
يجد مساكن الجنود وأصحاب الحرف الذين تحتاج إليهم المدينة، كما
وجدت هناك آثار المسجد الجامع لمدينة الزهراء، وكل هذه البيوتات
محاطة بالأشجار والخضرة، وعندما ينتهى الإنسان من هذا المستوى
يصعد مرة أخرى حتى يصل إلى سهل منبسط بنيت عليه قصور كبار
رجال القصر وموظفيه بما فى ذلك أماكن إقامة الحرس الخاص
بالخليفة، وما يلزم لهؤلاء من حمامات ومساجد، بعد ذلك يصعد
الإنسان مرة ثالثة فيواجه لأول صعوده البهو الكبير الذى أنشأه
الناصر لاستقبال السفراء والملوك الأجانب، وهو بهو فخم يتكون من
ثلاثة أقواس تفضى إلى قاعة فسيحة بها ثلاثة أبهاء ينتهى الأوسط
بمجلس الناصر فى صدره، وهناك يجلس الخليفة فوق عرشه تحيط به
مقاعد الأسرة المالكة كل حسب مرتبته، وعلى الجانبين مقاعد
للوزراء وكبار رجال الدولة والضيوف موضوعة بصورة محكمة بحيث
يختص كل مسئول بمقعده الذى لايتغير، فإذا مانظر الناصر ووجد
مقعدًا خاليًا عرف من تغيب، أما البهوان الداخليان فيستعملان
لموظفى القصر وكتاب الخليفة، وهذا المجلس يبدو للرائى من بعيد
عندما يهل الإنسان على مدينة الزهراء، وقد أراده «عبدالرحمن»
على هذه الصورة؛ ليتمكن من رؤية السفراء والملوك وهم مقبلون من
بُعد، ثم وَهُم صاعدون إلى القصر، وقد سميت الرحبة التى أقيم فيها
البهو الرئيسى باسم «السطح الممرد» ، وجعل أمام بهو الاستقبال
حوض للسباحة، مصنوع من الرخام حفر له فى الأرض، وزين بالتماثيل
وقد تم جلبه من القسطنطينية وقد ضاعت معالم هذا القصر أثناء محنة
الفتنة والصراع على الخلافة ويحاول علماء الآثار منذ سنة (1328هـ =
1910م) العثور على شىء من معالم هذا القصر، وإعادة إقامة بعض
منشآته وخاصة بهو الاستقبال.
وبناء هذه المدينة والقصر يعكس رخاء الأندلس ونهضة الفن المعمارى
بها آنئذ، ووصل ازدهار قرطبة إلى أعلى درجاته فوصل عدد دورها
إلى 113 ألف دار بلغ مجموع قاطنيها مليونًا ومائة وثلاثين ألفًا،
ومما يدل على كثرة سكان العاصمة أن عدد الحمامات بها بلغ
ثلاثمائة حمام، وعدد مساجدها ثلاثة آلاف.
وقد بلغت إيرادات الأندلس نحو 5.5 مليون دينار من الكور والقرى ومن
الأسواق ونحوها 765 ألف دينار قسمت ثلاثًا: ثلث للجند، وثلث للبناء،
وثلث يدخر للطوارئ.
الزيادة فى المسجد الجامع:
أمر الناصر بإضافة زيادة ثالثة إلى المسجد الجامع فى قرطبة سنة
(346 هـ = 957م)، وقد ضاعفت هذه الزيادة حجم المسجد فى الاتجاه
الجنوبى، وقد تم بناء الزيادة على طراز بقية المسجد نفسه من حيث
الأقواس ومواد البناء.
وعُد محراب هذه الزيادة فى المسجد آية من آيات الفن الأندلسى ذلك
أنه ليس محرابًا بل غرفة من الرخام سقفها قطعة واحدة منه فى هيئة
محراب، ووسط هذا المحراب كرسى يوضع عليه المصحف الشريف
يستخدمه القارئ فى تلاوة القرآن الكريم قبل الصلوات.
وكان «عبدالرحمن الناصر» قد هدم منارة المسجد القديمة سنة
(340هـ = 951م)، وجعل له منارة تميزت بفخامتها وارتفاعها
الشاهق، وكانت مربعة الواجهات، ولها 14 شباكًا، وسلمان للصعود
والهبوط وفى قمتها ثلاث تفاحات كبيرات اثنتان من الذهب وواحدة
من الفضة، وقد أزال النصارى هذه المنارة وأقاموا مكانها برج
الأجراس الحالى، ولاتزال اللوحة التى تشيد بجهود عبدالرحمن الناصر
قائمة فى مكانها عند الباب الرئيسى المسمى باب النخيل.
كذلك أقام عبدالرحمن ما يعرف بالمظلة فى صحن المسجد، وهى
سقف متحرك يتكون من أعمدة من الخشب والحصر، يستظل بها الناس
أثناء الصلاة فى زمن الصيف، ثم ترفع بعد الصلاة لأن صحن الجامع
الفسيح كان مزدانًا بأشجار النارنج، وتلك ظاهرة تنفرد بها صحون
مساجد الأندلس عن غيرها.
ولاتقف جهود الناصر عند هذا الحد، وإنما يرجع إليه الفضل فى
إنشاء عدد كبير من المساجد فى شمالى الأندلس وجنوبيه، كما أن
إليه يرجع فضل تجديد قنطرة الوادى وقنطرة سرقسطة وقنطرة
ماردة.
وقد اهتم الناصر بالجيش وجمع له الجند من أنحاء المغرب والأندلس،
واستكثر من الأسلحة، وأمده بمجموعة من أمهر القادة، وتولى
القيادة بنفسه أحيانًا.
كما عنى بالأسطول واهتم بإصلاح وحداته، وأنشأ به وحدات
جديدة، وكانت «المرية» هى مركز الأسطول الرئيسى وبها دار
الصناعة، وقد ضم أسطول الناصر (200) سفينة بخلاف أسطول
المغرب، وكان لأسطول الناصر السيطرة على مياه إسبانيا الجنوبية
الشرقية، كما كان ينازع الفاطميين السيادة على غربى البحر الأبيض
المتوسط، وعلى الرغم من الحروب فإن عصرالناصر كان عصر رخاء
زاد فيه الدخل وازدهرت الزراعة والصناعة والتجارة وكثرت أخماس
الغنائم، ويقال إن الناصر لما مات وجد فى بيت ماله خمسة آلاف
مليون درهم، وترك فى قصره عشرين مليونًا من الذهب.
وفى سنة (316هـ = 928م) أمر الناصر باتخاذ دار للسكة فى قرطبة
لضرب الدنانير والدراهم، وبذل جهده فى الاحتراس من الغش والتدليس
فأصبحت دنانيره ودراهمه عيارًا محضًا، وكان ضرب النقد معطلا قبله.
وبلغ الأمن ذروته فى سائر البلاد أيام الناصر، وترك ذلك آثارًا طيبة
على مصادر الدخل وازدهرت العلوم والآداب ورخصت المعايش.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن الدولة الأموية فى الأندلس كانت تعتمد
الفصل الرابع
*الدولة العامرية
[368 - 399 هـ = 978 - 1009 م].
بعد أن أصبحت السيطرة كاملة لابن أبى عامر فكر فى إنشاء مدينة
جديدة يتوافر فيها الأمان ومظاهر السلطان فكانت مدينته الزاهرة أو
العامرية شرقى قرطبة والتى استغرق بناؤها عامين، وضمت قصرًا
ومسجدًا ودواوين للإدارة ومساكن للحرس، ونقل خزائن المال
والسلاح إليها، وأقيم حولها سور ضخم كما بنى خندقًا وتم إقطاع
ضواحيها للوزراء والقادة، فابتنوا الدور وأنشئت الشوارع والأسواق
حتى اتصلت مبانيها بضواحى قرطبة، وقد انتقل إليها ابن أبى عامر
سنة (370هـ = 980م)، واتخذ له حرسًا خاصا من الصقالبة والبربر
أحاطوا بقصره، ومنعوا الدخول والخروج إليه، وبذلك أقفرت قرطبة
وأقفر قصرها ونقلت كل مظاهر السلطان إلى المدينة الجديدة، ومنع
الخليفة من أى حركة إلا بإذن ابن أبى عامر حماية له من المتآمرين
وحتى يتفرغ للعبادة كما زعم.
حاولت «صبح» بعد هذا التطور أن تستبعد «ابن أبى عامر» مستعينة
بمنافسيه، ولجأت إلى القائد «غالب» - صاحب الثغر - فى سرية تامة،
فرد ابن أبى عامر بتقريب «جعفر بن على بن حمدون الأندلسى»
-وهو بربرى من زناتة - عبر البحر وتقلد الوزارة، واستعان به ابن
أبى عامر على كسب مودة البربر الذين توافدوا من عدوة المغرب
إلى الأندلس، وغمرهم بأمواله.
أراد غالب مصانعة ابن أبى عامر فدعاه إلى غزوة مشتركة فى
أراضى قشتالة، وأقام له وليمة دخل معه خلالها فى نقاش عنيف
ورفع السيف فأصيب ابن أبى عامر، لكنه استطاع الفرار وذهب إلى
دار غالب بمدينة سالم واستولى على كل ما كان فيها، ثم دخل
الفريقان فى قتال عند حصن «شنت بجنت» يعاون غالب ملك ليون،
وانتهى الأمر بموت غالب وهزيمة أعوانه من المسلمين والنصارى فى
(4 المحرم سنة 371هـ = 10يوليو 981م).
غزوات ابن أبى عامر:
بدأت سلسلة هذه الغزوات الشهيرة بعد أن استقرت الأمور لابن أبى
عامر، ووصل عددها إلى نحو أربع وخمسين غزوة استقصى المؤرخ
القرطبى ابن حيان أخبارها فى كتاب له مفقود عنوانه «الدولة
العامرية» ويتحدث عنها ابن خلدون فيقول:
«غزا ابن أبى عامر اثنتين وخمسين غزوة فى سائر أيام ملكه، لم
ينكسر له فيها راية ولا فل له جيش ولاأصيب له بعث ولا هلكت له
سرية».
وقد بدأ «ابن أبى عامر» غزواته بمملكة «ليون» ؛ ليعاقب ملكها على
معاونته لغالب، وقد تحالف ضده ملوك النصارى الثلاثة: ملك ليون،
وملك قشتالة، وملك نبرة، وجرت بينه وبينهم موقعة عند «شنت
منكش» انتصر فيها «ابن أبى عامر» ، ووصل إلى عاصمة مملكة
«ليون» ، ثم عاد إلى «قرطبة» سنة (371هـ = 981م) بسبب حلول
الشتاء، وبعد عدة أشهر من عودته اتخذ لنفسه لقب «الحاجب
المنصور» ودعى له على المنابر وصدرت الكتب باسمه ونقش على
السكَّة، وقبَّل المسئولون وكبار الموظفين والوزراء يده وأصبح هو
كل شىء.
وفى سنة (274هـ = 984م) خرج «المنصور» إلى شمال شرقى
«الأندلس» على رأس جيش ضخم مر بغرناطة ثم «بسطة» فلورقة
فمرسية، ثم اتجه شمالا إلى «برشلونة» ، حيث دخل منطقة
«قطلونية» ، ثم اقتحم مدينة «برشلونة» ودمَّرها وأحرقها فى (صفر
375هـ = يوليو 985م)، ولم يحاول المنصور الاحتفاظ ببرشلونة، وإنما
قصد إلى تدمير قوى النصارى فى هذه المنطقة النائية.
ثم قام المنصور عام (378هـ = 988م) بغزو مملكة ليون بعد أن انقض
ملكهم على المسلمين، وطاردهم إلى آخر حدود بلاده، فسار المنصور
شمالا إلى ليون، ثم غربًا إلى مدينة قلمرية شمالى البرتغال بالقرب
من المحيط واستولى عليها وبقيت خرابًا مدة سبعة أعوام، ثم سار
المنصور نحو مملكة «نبرة» وقصد عاصمتها «بنبلونة» ردا على
إغارة ملكهم على أراضى المسلمين، وغزوة المنصور هذه تسمى
غزوة البياض، وقد عاد بجيشه إلى «سرقسطة» والتقى هناك بابنة
عبدالملك بعد عودته ظافرًا من حروبه فى بلاد المغرب كما سنشير
فيما بعد.
وفى ربيع سنة (378هـ = 988م) خرج المنصور فى جيش ضخم،
واخترق مملكة ليون واستولى على عاصمتها بعد معارك عنيفة، ثم
سار إلى «سمورة» وحاصرها حتى سلمت، واعترف النبلاء له
بالطاعة، ولم يبق تحت سيطرة ملك ليون إلا المنطقة الجبلية الواقعة
شمالى غربى إقليم جليقية.
وأثناء قيام المنصور بغزوته هذه رقم (45) انضم ابنه «عبدالله» إلى
ملك قشتالة بتحريض من صاحب الثغر الأعلى «عبدالرحمن بن مطرف
التجيبى» وكانت عاصمته «سرقسطة» ، ولكن المنصور ضغط على
الملك النصرانى عن طريق العمليات العسكرية المتتالية فسلمه ابنه،
ولم يتردد المنصور فى قتل ولده فى الحال.
ثم قام «المنصور» سنة (387هـ = 997 م) بأعظم غزوة قام بها متجهًا
نحو منطقة جليقية، وهى منطقة وعرة من الصعب غزوها؛ لأنها ملاذ
ملوك ليون يلجئون إليها كلما ضيق المسلمون الخناق عليهم، فخرج
المنصور إليها من قرطبة فى (شهر جمادى الآخرة سنة 387هـ= 997م)،
وفى الوقت نفسه تحرك الأسطول الأندلسى فى مياه البرتغال يحمل
المشاة والأقوات والذخيرة، وعبر المنصور الجبال والأنهار حتى وصل
إلى مدينة قورية، ثم زحف نحو الشمال الغربى واستولى على
مدينتى: «بازو» و «قلمرية» ؛ حيث وفد إليه العديد من أمراء النصارى
وانضموا إلى جيشه وأطاعوه، بعد ذلك توجهت القوات الإسلامية
شمالا نحو نهر «دويرة» ، حيث وافاه الأسطول، فجعله جسرًا عبر به
صوب جليقية، وسار فى شعب الجبال، ثم التزم المشى بحذاء
الشاطئ يهدم ويخرب، ففرت أمامه جموع النصارى، وظل المنصور
يواصل عملياته حتى انتهى إلى مدينة «شنت ياقب» المقدسة عند
النصارى فدخلها ثم سار المنصور حتى وصل إلى شاطئ المحيط
وتابع سيره إلى أن أصبح فى شمال البرتغال الحديثة، وهناك وزع
الهدايا على الموالين له من زعماء النصارى وطلب منهم أن يعودوا
إلى بلادهم ورجع هو إلى مدينته الزاهرة.
وقد هزت هذه الغزوة إسبانيا النصرانية، وبقى تأثيرها بضع سنين
وكانت الثامنة والأربعين من بين مجموع غزواته. ثم قام المنصور بعد
ذلك بغزوات فى سنوات (389، 390هـ= 999، 1000م) فى أراضى
نبرة وقشتالة؛ حيث واجه جموع النصارى متحدين مصممين على النيل
منه، وتعرض المسلمون للهزيمة أول الأمر، لكن المنصور صعد على
ربوة عالية، وأخذ يضاعف جهوده ويحرض الناس، حتى تمكن من
تحويل الهزيمة إلى نصر ومزق العدو شر ممزق، وتوالى زحفه حتى
اقتحم مدينة «برغش» ، ومنها توجه إلى «سرقسطة» ، ثم إلى
«بنبلونة» عاصمة «نبرة» دون أن يجرؤ أحد على اعتراضه وأخيرًا
رجع إلى العاصمة بعد تسعة ومائة يوم.
وفى ربيع (392هـ =1002م) خرج المنصور لآخر مرة، وتوجَّه إلى
قشتالة ومنها اتجه غربًا نحو «برغش» وعاث فى تلك المنطقة،
وتقول المصادر النصرانية إنه تعرض لهزيمة على أيدى ملوك
النصارى متحدين، وإنه اضطر إلى الفرار فى جنح الظلام بعد موقعة
معهم جرت أحداثها بمكان يسمى «قلعة النسور» ، وقد جرح المنصور
ثم مات بعد ذلك متأثرًا بجراحه، لكن الباحثين المحدثين - ومنهم
المستشرق الهولندى دوزى - يرفضون هذه الرواية لأنها تخالف
الحقائق التاريخية الثابتة، فهى تتحدث عن تحالف بين ملوك من
النصارى ماتوا قبل هذه الموقعة، أضف إلى ذلك أن المصادر
الإسلامية لاتذكرشيئًا عن تلك الموقعة، مع أنها لاتخفى هزائم
المسلمين، فالصمت قرينة على أنه لم تكن هناك هزيمة ولاحتى
موقعة أصلا.
ومهما يكن من أمر فقد سار المنصور فى حملته هذه محمولا حتى
وصل إلى «مدينة سالم» ، وهناك وافاه الأجل فى (27 رمضان 392هـ
= 11 أغسطس 1002م) بعد حكم دام 27 عامًا.
المنصور وولاية العهد:
اتخذ المنصور فى سنة (381هـ= 991م) خطة غير مسبوقة بهدف دعم
سلطانه فرشح ابنه عبدالملك ليتولى الأمر من بعده، وتنازل له عن
الحجابة والقيادة وجميع ما كان يتولى من خطط مكتفيًا بلقب
«المنصور» ثم تلقب بالملك الكريم فى سنة (386هـ = 996م) وبولغ
فى تعظيمه وإجلاله، ولم يكن المنصور يقصد أن تجتمع السلطات فى
يده، فكل السلطات السياسية والعسكرية فى قبضة يديه بالفعل،
لكنه أراد أن يصبغ حكمه بالصبغة الشرعية، وأن تكون له رسوم
الملك والخلافة، ويقوم بتأسيس دولة تحل محل دولة بنى أمية، لكن
الظروف لم تكن مهيأة فالناس لاتميل كثيرًا إلى المنصور؛ بسبب
الوسائل الدموية التى لجأ إليها لتصفية خصومه.
الجيش فى عهد المنصور:
أعطى المنصور اهتمامًا كبيرًا للجيش، فعنى بتنظيمه، واستقدم قوات
تعد بالألوف من المرتزقة من قبائل زناتة وصنهاجة وغيرهما من البربر
ومن الجند النصارى، وكون من هؤلاء جميعًا جيشًا ضخمًا ضمن ولاءه
له بجوده ووفرة عطاياه، كما غير من نظام الجيش، فقدَّم رجالات
البربر وأخَّر زعماء العرب وفرق جند القبيلة الواحدة، وكان الخليفة
الناصر من قبله قد مهد له الطريق عندما سحق القبائل العربية
وأضعف هيبتها حسبما أشرنا من قبل، أى أن ابن أبى عامر وجد
الطريق ممهدًا، فلم تلق سياسته كبير معارضة.
وقد نفر المحاربون القدماء والأندلسيون بشدة من ذلك الجيش وسعِدَ
«ابن أبى عامر» بهذا النفور لأنه يقف حائلا بين عناصر الجيش القديم
وبين اتحادها ضده، كما أنه يشعر البربر بضرورة الاعتماد عليه.
ومن أهم ما فعله فصل جيش الحضرة (قرطبة) عن الجيش العام،
وتعيين نفسه قائدًا له، فأصبح قوة عسكرية، وفتحت له والدة
الخليفة بيت المال ظنا منها أنه يعمل لحسابها وحساب ابنها، فأكثر
من الجند، وأصبح مستبدا عسكريا، وتحوَّل من فقيه إلى رجل
سياسة، وملك من القوة العسكرية ما لم يملكه من سبقوه، فالناصر
رغم ميله إلى الاستبداد كان يقف عند حد معين، ويعلم أنه من
المستحيل القضاء على النصارى فيكتفى بإضعافهم وحملهم على
أداء الجزية، أما المنصور فتتوالى ضرباته دون أن يحاول ضم جزء
إلى أراضى الخلافة، أو إسكان بعض المسلمين فى الأراضى التى
يفتحها وإنما يضرب ويحوز الغنائم ويعود النصارى إلى ما كانوا
عليه، وكأنه لم يكن يهدف إلا إلى ذلك.
وجدير بالذكر أن المنصور فى سنة (388هـ = 998م) أعفى الناس من
إلزامهم بالغزو؛ بسبب ما وصلت إليه أعداد الجيش وما توافر له من
قوة، واكتفى بالقوات المرابطة، وقد بلغ الجيش المرابط أى الثابت
فى زمن المنصور (12100) من الفرسان يصرف لهم جميعًا المرتبات
والسلاح والنفقة بخلاف (600) فارس للحراسة الخاصة، أما الجيش
المرابط من الرجَّالة فقد بلغ ستة وعشرين ألفًا، وكان هذا العدد
يتضاعف بمن ينضم إليه من المتطوعة أثناء الصوائف ولا يدخل فى
هذا الخيل ومطايا الركوب ودواب الحمل وغيرها من العدد، وكان
المنصور يتولى قيادة قواته بنفسه غالبًا.
وقد حققت غزواته أهدافها من ردع النصارى ومنعهم من الهجوم على
أراضى المسلمين، وكان يعرف أبرز جنده جميعًا بأسمائهم ويدعوهم
إلى المآدب التى يقيمها عقب كل انتصار، ومع ذلك فإن المحصلة
النهائية لغزواته كانت ضعيفة فهو لم يقضِ على كل قوى النصرانية
أو يسحقها، وغزواته وإن أضعفت النصارى، فإنها لم تغير
أحوالهم، وبقيت حدود دولة الإسلام على ما هى عليه، فهى غزوات
دويها عظيم تجذب الناس إليها، لكن نتائجها قليلة فقد أنهكت قوى
الجيوش الإسلامية دون أن تحقق هدفًا ثابتًا أو تقضى على خصم،
إنها مثل الطبل الأجوف صوت كبير وعمل قليل.
إدارة المنصور:
أظهر المنصور مقدرة كافية ممتازة فى جميع المناصب التى تولاها
وشهدت البلاد فى زمنه أمنًا واستقرارًا وطمأنينة لم تعرفها قبله،
وفى زمنه لم تعرف البلاد الثورات مقارنًا بغيره، وازدهرت الصناعة
والتجارة والزراعة، وارتقت العلوم والآداب، وامتلأت خزائن قرطبة
بالمال حتى وصلت الإيرادات إلى نحو أربعة ملايين دينار، بخلاف
الموارد من المواريث ومال السبى والغنائم، وقد عاون المنصور
مجموعة من الكتاب والوزراء فى هذا العصر من أبرزهم: «أبو مروان
عبدالملك بن شهيد» و «محمد بن جهور» و «أحمد بن سعيد بن حزم»
والد الفيلسوف المشهور، و «خلف بن حسين بن حيان» والد أمير
المؤرخين الأندلسيين «ابن حيان» ، ومن الكتاب «سعيد بن القطاع»
وغيره من أبناء الأسر العريقة التى تعاقب أبناؤها على الوزارة.
العمارة فى عهد المنصور:
لم يخل عهد المنصور من الإنشاءات العظيمة على الرغم من الغزوات
المستمرة وقد أشرنا إلى بنائه مدينته الزاهرة بقصورها وحدائقها،
وجعلها قصرًا للحكم والإدارة، وقد بنى المنصور بجانبها مدينة جميلة
ازدانت بالحدائق والقصور أسماها «العامرية» ، وكان يقصدها عندما
يريد الاستجمام.
كذلك قام بزيادة المسجد الجامع فى «قرطبة» بعد أن اتسعت
المدينة، وضمت واحدًا وعشرين حيا، الواحد فيها أكبر من أية مدينة
أندلسية، وقد حفر حولها خندقًا بلغ 16 ميلاً وزاد سكانها كثيرًا لا
سيما البربر، وضاق المسجد الجامع بهؤلاء السكان فأدخل المنصور
فى سنة (387هـ = 997م) زيادة عليه من الناحية الشرقية، بلغت
المساحة الأصلية نفسها تقريبًا، وحرص المنصور على الاشتراك فى
هذا المشروع بنفسه، واشتغل فيه أسرى النصارى، وتم تعويض
أصحاب الدور والأماكن التى صودرت لهذا الغرض، ولا يزال هذا
الجناح قائمًا حتى اليوم، ويعرف بمسجد المنصور، وإن تحولت
عقوده الجانبيه إلى هياكل وكنائس.
وبهذه الزيادة بلغت مساحة المسجد الجامع ما يزيد على ستة أفدنة،
كما انفرد بطرازه الرائع، وليس فى العالم مسجد ولا كنيسة فى مثل
حجمه اللهم إلا قصر «فرساى» بفرنسا.
كما جدد المنصور قنطرة قرطبة على نهر الوادى الكبير، وكان
«السمح بن مالك» قد جددها من قبل وأنفق المنصور على تجديدها
فى سنة (378هـ = 988م) مائة وأربعين ألف دينار وبنى قنطرة
«أستجة» على نهر «شنيل» أحد فروع نهر الوادى الكبير.
المنصور فى نظر المؤرخين:
يشهد المؤرخون القدماء للمنصور بالكرم، وبأنه كان يبذل الأموال
للمتصلين به والفقراء خاصة، ورغم سفكه للدماء فقد كان يتظاهر
بالتقوى، حريصًا فى كل غزواته على حمل مصحف خطه بيده، ويقال
إنه كان منصفًا عادلا يزجر الظالم حتى لو كان من كبار حاشيته،
وكان صبورًا حليمًا، ولكنهم ينعون عليه شغفه بمعاقرة الخمر، ولم
يتخل عن ذلك إلا قبل وفاته بعامين.
وتميز المنصور بأنه كان شغوفًا بالعلم والأدب، محبا للعلماء والأدباء
والشعراء ويناظرهم ويشترك معهم فى نظم الشعر ويغدق عليهم،
ساعده على ذلك نشأته فى بيت علم وأدب، وبراعته فى علوم
الشريعة وفنون الأدب خلال فترة صباه.
وحرص المنصور على نشر العلم والمعرفة بين طبقات الشعب، فأنشأ
كثيرًا من دور العلم فى قرطبة وأنفق عليها، وكان يزور المساجد
والمدارس، ويمنح المكافآت للمتفوقين من الطلاب، كما حرص على
جمع الكتب ومكافأة أصحابها، وقد منح «صاعد البغدادى» (500)
دينار مكافأة له على كتابه «الفصوص» ، وكان يكره الفلسفة، ويرى
أنها مخالفة للدين كما كان يبغض التنجيم ويطارد المنجمين، وقد
استخرج من المكتبة الأموية جميع كتب الفلاسفة والدهريين وأحرقها
بحضرة كبار العلماء، وما فعله «المنصور» أمر خطير، تسبب فى
ضياع ثروة علمية عظيمة.
ونظرًا للشهرة الواسعة التى حققها المنصور، جاء إليه بعض ملوك
النصارى واستعطفوه وتقربوا إليه وزوجوه من بناتهم.
ويرى بعض المؤرخين المعاصرين أن «ابن أبى عامر» من أعظم
الرجال وأنه قام بما لم يقم به أحد فى تاريخ الإسلام، فقد استطاع
الاستيلاء على الحكم فى دولة كبرى، وهى فى أوج سلطانها ووجه
أمورها بصورة مستبدة.
ومع ذلك فإن هنا أمورًا ثلاثة هى أكثر ما أضر به المنصور:
1 -
إقامته ملكه على جند مرتزقة تعالوا على الناس، واصطناعه
لبيوت جديدة من زعانف الأسر، وصغار الفقهاء والطامعين، وتوليتهم
وظائف القضاء والولايات، وقد أثقل هؤلاء على الناس، وأرهقوهم
بالمطالب، واستولوا على أموالهم، ومن هؤلاء بنو عباد فى إشبيلية،
ومن البربر الذين استعان بهم فى النواحى، بنو الأفطس فى بطليوس،
وبنو ذى النون جنوب غربى طليطلة - بالإضافة إلى الصقالبة الجدد
الذين اشتراهم المنصور لحسابه ومن هؤلاء جميعًا يتكون الحزب
العامرى - وهم الذين قضوا على وحدة الأندلس فيما بعد، ويتكون
منهم ما يعرف بملوك الطوائف.
2 -
انعدام المفهوم الأخلاقى عنده، وهذا جعل الناس يخافونه ولا
يحبونه، بل إن أنصاره ما كانوا يأمنونه؛ لأنه كان كثير التجسس
فكان يطلب من العبيد والجوارى أن يكونوا عيونًا فى بيوتهم وأفسد
أخلاق الناس بالرشوة ونحوها.
3 -
حجر المنصور على الخليفة «هشام» ، وتعيين ابنه «عبدالملك بن
المنصور» وليا لعهده، والتخلص من معارضيه بالتآمر والقتل.
ولقى المنصور ربه فى «مدينة سالم» فى (27 من رمضان سنة 392هـ
= أغسطس سنة 1002م) كما أسلفنا وتولى الأمر من بعده ابنه
عبدالملك المظفر.
عبدالملك المظفر بالله ابن المنصور:
[رمضان 392 - صفر 399هـ = أغسطس 1002 - أكتوبر 1008م].
صدر أمر الخليفة «هشام» بتولية «عبدالملك» الحجابة بعد وفاة
والده، وقضى عبدالملك بسرعة على من أراد انتهاز الفرصة للعودة
إلى حكم الخليفة، وقد بدأ عهده بإسقاط سدس الجباية (الضرائب) عن
السكان بكل نواحى الأندلس فاستبشر الناس به خيرًا.
سياسة عبدالملك مع النصارى:
ظن ملوك النصارى أن خطر الغزوات الإسلامية عليهم سيقل بعد وفاة
المنصور، لكنهم كانوا واهمين لأن عبدالملك بدأ بعد أشهر قليلة من
ولايته يستعد لغزوته الأولى، ووفد إليه الزعماء والمتطوعة من
المغرب وغيرها للاشتراك معه، فرحَّب بهم وبذل لهم الأموال ووزع
عليهم السلاح، وخرج بالجيش من مدينة الزاهرة فى (شعبان 393هـ =
يونيو 1003م)، وتوجه إلى مدينة «طليطلة» ، ومنها إلى مدينة
«سالم» ، حيث انضم إليه «الفتى واضح» فى قواته وقوات من
النصارى حسب اتفاقهم مع المنصور، ثم اتجه الجنود نحو الثغر
الأعلى، ثم من سرقسطة إلى «برشلونة» ، حيث استولت القوات
الإسلامية على بعض الحصون المنيعة، واستولت على سبى ومغانم،
ثم عاد المسلمون إلى قرطبة عن طريق مدينة «لاردة» فى شهر ذى
القعدة، وقد تلقى عبدالملك رسالة من أمير برشلونة تطلب الصفح
والمهادنة فاستقبل الرسل استقبالا يليق بمقام الخلافة.
ولما اعتدى أمير قشتالة على أراضى المسلمين سنة (394هـ =
1004م) قصد إليه عبدالملك وأدبه، واضطره إلى التسليم وطلب الصلح
ثانية، وتعهد على التعاون مع عبدالملك فى حملاته ضد مملكة ليون
وضد خصومه جميعًا.
وفى العام التالى خرج «عبدالملك» وسار نحو طليطلة ولحق به
«الفتى واضح» وملك قشتالة، واتجهوا شمالا نحو أراضى ليون
ومدينة سمورة وعاث فى هذه النواحى ووصل إلى جليقية واستولى
على كثير من المغانم والسبى، ولكنه لم يحقق نتائج حربية ذات
قيمة.
خرج عبدالملك فى أواخر سنة (396هـ = 1006م) إلى «بنبلونة»
عاصمة «نبرة» فقصد «سرقسطة» و «شقة» و «بريشتر» ومنها اخترق
المسلمون أراضى العدو وأخذوا يقتلون وينهبون، ثم تعرض الجيش
لبعض العواصف ورعد وبرق قاسٍ، واضطر إلى العودة إلى العاصمة.
حين وصل إلى مسامع عبدالملك أن أمير قشتالة يفكر فى الاعتداء
على أراضى المسلمين، خرج لغزوته الخامسة المسماة «غزوة
قلونية» فى (صيف 397هـ = 1007م)، واخترق أراضى قشتالة
ليحارب ملكها الذى تحالف معه ملك ليون وملك نبرة، وعدد من زعماء
النصارى الذين وحدوا صفوفهم، ومع ذلك فقد تمكن عبدالملك من
إلحاق هزيمة بهم جميعًا عند مدينة «قلونية» ، وحملهم على طلب
الصلح ثم عاد إلى قرطبة أواخر العام المذكور، فسر الناس بما حقق،
واتخذ هو لقب «المظفر بالله» إشادة بما أحرز من نصر عظيم.
لكن ملك قشتالة جدد عدوانه وغدر بالمسلمين فخرج إليه عبدالملك
فى (صفر سنة 398هـ = أكتوبر 1007م)، واخترق أراضى قشتالة
الوسطى، وقصد إلى بعض الحصون المنيعة، وجرت معركة، اضطر
النصارى بعدها إلى دخول الحصن، وهجم عليهم المسلمون وضربوا
الحصن بالمجانيق والنيران حتى حملوا العدو على طلب التسليم، وهنا
أمر عبدالملك بقتل المقاتلة وسبى النساء والذرية، ثم رجع إلى
العاصمة فى شهر ربيع الثانى.
وفى شوال من العام نفسه خرج عبدالملك بغزوته السابعة والأخيرة
وتعرف «بغزوة العلة» ؛ إذ إنه ما كاد يصل إلى مدينة سالم حتى
اشتد به المرض وتفرق عنه المتطوعة، واضطر إلى الرجوع إلى قرطبة
فى (المحرم 399هـ = سبتمبر 1008م) لكنه شعر بتحسن فى صحته
فعمل على استئناف الغزو بعد فترة وجيزة لكن حالته ساءت،
وتعرض لنكسة سببها التهاب رئوى، وعاد إلى العاصمة فى محفة
حيث مات فى (16 من صفر سنة 399هـ = 21 من أكتوبر 1008م) بعد
حكم دام نحو سبع سنوات.
أسلوب عبدالملك فى الإدارة والحكم:
التزم عبدالملك الأسلوب الذى كان يحكم به والده الأندلس فجعل
الخليفة محجورًا عليه لاحول له ولاقوة.
وجمع السلطات كلها فى يديه، وحدَّ من نفوذ الوزراء والكتاب
وراقبهم وحاسبهم، وجلس للناس وهجر اللهو، وعمل على تنمية
الموارد وترتب على هذا تحسن فى الأحوال المالية التى كانت قد
ساءت بسبب كثرة النفقات.
ولم يكن لعبدالملك نصيب كبير فى مجالات العلم والأدب وكان مجلسه
لايقوم إلا على الأعاجم من البربر وغيرهم، ومع ذلك فقد استمر يجرى
الرواتب التى كان أبوه يجريها على العلماء والأدباء والندماء، كما
استمع إلى الشعر ووصل الشعراء.
عبدالرحمن بن شنجول:
قلد الخليفة هشام الحجابة لعبدالرحمن بن منصور، وأنعم عليه بالخلع
السلطانية، وكانت أمه ابنة لملك «نبرة» تزوجها «المنصور» وأنجب
منها، وقد أسلمت وتسمت باسم «عبدة» ولأنه أشبه جده لأمه
المسمى «شانجة» لقب بشنجول أو شانجة الصغير.
ولم يكن الشعب يميل إلى «عبدالرحمن» لما فيه من دماء نصرانية
ولانحراف سلوكه، ولأنه جرى على منهج أبيه وأخيه فى الحجر على
الخليفة هشام مع الاستبداد بالرأى وإن مال هو إلى التودد إلى
الخليفة ومخالطته، وقد منحه الخليفة لقب المأمون ناصر الدولة بعد
عشرة أيام من ولايته، ليس هذا فحسب، بل إن عبدالرحمن جرؤ على
ما لم يجرؤ عليه أحد لا المنصور ولا عبدالملك، حين نجح بعد محاولات
فى استصدار مرسوم من الخليفة بتعيينه وليا للعهد من بعده، لتنتقل
رسوم الخلافة من أسرة بنى أمية إلى أسرة بنى عامر، وأقر فقهاء
قرطبة وعلماؤها هذا التحول وزكاه الوزراء والقضاة والقادة، وكان
ذلك فى ربيع الأول سنة (399هـ= 1008م)، ومضى «عبدالرحمن» أبعد
من ذلك حين عين ابنه الطفل فى خطة الحجابة ولقبه سيف الدولة، ثم
اتخذ قرارًا جلب عليه كثيرًا من السخط حين طلب من أكابر الموظفين
ورجال الدولة خلع القلانس الطويلة التى يتميزون بها لأنها لبس
الأندلسيين، وتغطية الرأس بالعمائم التى هى لباس البربر فأذعن
هؤلاء كارهين.
فكر عبدالرحمن أن يشغل الناس بالغزو، فقرر أن يتوجه إلى جليقية
رغم تحذيره من سوء الأحوال الجوية، ومن انقلاب قد يقوم به
المروانية ضده، لكنه صمم وسار بالجيش نحو طليطلة، ومنها إلى
جليقية وسط أمطار وبرد شديدين وكان يمارس هوايته فى اللهو
والشراب، وقد اخترق مملكة ليون قبل أن يصل إلى جليقية، فتحصن
الأعداء برءوس الجبال، ولم يجد عبدالرحمن سبيلا إلى مقاتلتهم بسبب
كثرة الثلوج وفيضان الأنهار، فاضطر إلى أن يعود دون أن يفعل
شيئًا.
وعند وصوله إلى طليطلة جاءته الأنباء تفيد أن انقلابًا قد حدث فى
قرطبة وأن الثوار استولوا على مدينة الزاهرة فاضطربت صفوفهم،
واضطر عبدالرحمن إلى أن يعود عن طريق قلعة رباح، ولم يلتفت إلى
نصح من طلب منه البقاء فى طليطلة، لاعتقاده أن الناس سترحب به
إذا رأوه يقترب من قرطبة.
وكان السبب الرئيسى للثورة هو استبداد بنى عامر وقهرهم للناس
استنادًا إلى قوة قوامها البربر والصقالبة، ثم كانت ولاية عبدالرحمن
للعهد واستئثاره برسوم الخلافة والحكم هى الشرارة التى انتقلت
منها نيران الثورة إلى كل العناصر الناقمة، وعلى رأسهم بنو أمية،
وكان المخطط للثورة والمتابع لمراحل تنفيذها «الزلفاء» والدة
عبدالملك -التى اعتقدت أن «شنجول» سم ابنها - ثم فتى أموى اسمه
«محمد بن هشام بن عبدالجبار بن عبدالرحمن الناصر» كان عبدالملك
قد أعدم أباه.
لم يكن المروانية وحدهم يرغبون فى القضاء على العامريين، وإنما
كان معهم كل العناصر الناقمة من البيوت العربية مضرية أو يمنية،
يؤازرهم كل طبقات الشعب، وأحكم هؤلاء جميعًا خطتهم وانتهزوا
فرصة خروج عبدالرحمن للغزو ومعه معظم الجيش ليقوموا بالتنفيذ،
وفى يوم (16 من جمادى الأولى 299هـ = 15 من يناير 1009م) جاءت
الأنباء بأن عبدالرحمن عبر بجيشه إلى أرض النصارى، فقام محمد بن
هشام بإنزال ضربته، وهجم على قصر قرطبة وقتل صاحب المدينة،
والتف حوله الساخطون، ثم اقتحم سجن العامرية وأخرج من فيه،
واجتمع حوله المروانية وانضم إليه الناس من كل حدب وصوب، وبعد
أن سيطر ابن عبدالجبار على القصر واستولى على كل ما فيه من
سلاح وغيره، طلب من الخليفة هشام أن يخلع نفسه فوافق، وانتهت
بذلك خلافته الصورية التى دامت (33) سنة وتولى الأمر «محمد بن
هشام بن عبدالجبار» وتلقب بالمهدى فى (17 من جمادى الآخرة
399هـ = 16 من فبراير 1009م) وجاءه الناس مهنئين، وما شعروا أن
تلك هى بداية الفتنة التى ستطيح ليس بالدولة العامرية وحدها بل
وبالخلافة بكل ما تمثله.
وفى اليوم التالى قام الثائرون بهدم مدينة الزاهرة وقصورها،
وأحست الحامية المنوط بها الدفاع عنها أن المقاومة غير مجدية
ففتحوا أبواب المدينة شريطة أن يؤمنهم المهدى، وتم نهب القصور
والاستيلاء على كل ما كان فيها من متاع وجواهر، ولم يكتف
المهدى بذلك وإنما قام بهدم كل مبانى مدينة الزاهرة وأسوارها بعد
أن استولى على كل ما فيها من خزائن وأموال وتحف حرصًا منه
على إزالة كل آثار بنى عامر، وأصبحت المدينة أطلالا، وتحولت إلى
أثر بعد عين.
وقد حاول «عبدالرحمن» وهو فى «طليطلة» بعد أن بلغته أخبار
الثورة أن يتنازل عن ولاية العهد مكتفيًا بالحجابة، فلم يلتفت إليه
أحد ثم سار إلى قرطبة، ولما اقترب منها تركه جند البربر وفروا فى
جنح الظلام، ثم تمكن الخليفة الجديد من مطاردته وإلقاء القبض عليه
وهو مختبئ فى أحد الأديرة، وقتله فى (3 من رجب 399هـ = 3 من
مارس 1009م).
وهكذا انتظر الشعب أول فرصة وأطاح بالطغيان المستبد الذى فرضه
العامريون، ولم يشفع لذلك النظام ما تحقق على يدى المنصور من
أمن واستقرار عم ربوع الأندلس وكانت تلك الثورة بداية مرحلة من
الفتن والفوضى الشاملة التى أنهت وجود الحكومة المركزية، وقضت
على الخلافة الإسلامية، ومزَّقت الأمة وجعلتها أشلاء متناثرة.
ولم يكن محمد بن هشام بن عبدالجبار شخصًا مناسبًا لهذه الفترة، إذ
كان قليل التفكير لا يعرف شيئًا عن الدولة وشئونها أحاط نفسه
بطائفة على شاكلته لا تحسن غير النهب والسرقة ولم يكن يحركهم
إلا شىء واحد هو الانتقام من العامريين، وإهانة البربر، عقابًا لهم
على تأييدهم بنى عامر.
الفصل الخامس
*سقوط الخلافة الأندلسية وقيام دولة بنى حمود
[399 - 422 هـ = 1009 - 1031 م].
استولى المهدى على الخلافة وقد ترتب على ذلك انطلاق ذوى
الأغراض، كل يحاول نيل نصيبه من البناء المتداعى. فهناك بنو أمية
يرون أنفسهم أصحاب الحق الشرعى، وهناك الفتيان العامريون
والصقالبة والجند المرتزقة وهم قوة لايستهان بها، وهناك البربر
الذين تضاعفت أعدادهم منذ عهد المنصور بعد أن استقدمهم من عدوة
المغرب، فكسبوا المال الكثير، واتخذوا الأندلس وطنًا لهم، وأبلوا بلاء
حسنًا فى الجهاد وحماية هذا الوطن، وهناك أيضًا العامة من الناس
الذين التفوا حول الخليفة الجديد، دون أن تكون لهم أغراض ثابتة،
وإنما نزعاتهم متباينة وأهواؤهم متقلبة.
بدأ المهدى عهده بالشدة فى التعامل مع البربر واحتقارهم ونزع
سلاحهم وسبهم، وانتقلت هذه الروح منه إلى العامة، فهاجموا البربر
ونهبوا دورهم وآذوهم، فشحنت نفوس هؤلاء بالغضب، كما لجأ
المهدى إلى نفى بعض الفتيان الصقالبة، فلجئوا إلى أطراف الأندلس
وعادوه ولم يسالمه منهم إلا «واضح» الذى تولى مدينة سالم والثغر
الأوسط.
أما الخليفة هشام المؤيد، فقد حبسه المهدى فى القصر، ثم أخرجه
وأخفاه فى بعض منازل قرطبة، وزاد فاستغل وفاة رجل ذمى يشبه
هشام المؤيد إلى حد كبير، وأعلن أن الخليفة المؤيد قد مات، وأشهد
على ذلك الوزراء والفقهاء، وسخر الناس من هذه الخطوة لأنهم
يعلمون أن هشام الذى دفنوه لم يمت.
ولما شعر «المهدى» أن الأمور قد استقرت له بالغ فى استهتاره
وارتكابه الموبقات، وبلغ الأمر مداه حين قتل من كان قد اختاره وليًا
للعهد ضمن آخرين، وحين أخرج من الجيش سبعة آلاف جندى وقطع
رواتبهم فأصبحوا من أهم عناصر الشغب، وحين بالغ فى اضطهاده
للبربر حتى أصبح ذلك حديث الناس فى كل مكان، بل وصل به الأمر
إلى أن منع زعيمهم «زاوى بن زيرى الصنهاجى» من دخول القصر
وأذله فخافه البربر وكسب عداوتهم، فى (رجب 399هـ = أواخر مارس
1009م)، ثم أراد إخراج البربر الذين كانوا فى خدمة المنصور من
قرطبة، فرفضوا، وجرى صراع بين البربر والأندلسيين وضاع جيش
الدولة فى هذا الصراع، وحرمت الدولة من أن تكون لها قوة عسكرية
تخصص للدفاع عنها.
كان هشام بن سليمان بن الناصر على رأس الناقمين على المهدى،
فقد كان يخشى مغبة تهوره على كل بنى أمية وانضم إليه جماعة
يتقدمهم الفتيان العامريون والبربر وحاصروا محمد بن هشام بن
عبدالجبار فى قصره، وجرى قتال بينه وبينهم انتهى بهزيمة البربر،
ودمرت بيوتهم ونهبت واضطروا للانسحاب إلى بعض ضواحى قرطبة،
ثم خشى المهدى سوء العاقبة فعفا عنهم وأمنهم، لكنهم اتجهوا
شمالا نحو قلعة رباح وبدءوا ينظمون صفوفهم والتفوا حول أموى
اسمه «سليمان بن الحكم بن عبدالرحمن الناصر» ورشحوه لتولى
الخلافة بدلا من المهدى، ولقبوه بالمستعين بالله، واستعانوا على
أمرهم بأمير قشتالة النصرانى، وهزموا قوات تابعة للمهدى بالتعاون
مع هذا الأمير، وأصبح هناك خليفتان، واحد فى قرطبة والآخر على
رأس البربر.
عرف المهدى ما تعرض له جنده من هزيمة فأخذ فى تحصين قرطبة
ونظم قواته وانضمت إليه قوات «واضح الفتى» وتوجه إليه سليمان
ابن الحكم على رأس قوات البربر وقوات أمير قشتالة والتقى
الفريقان فى (11 من ربيع الأول 400هـ = 5 من نوفمبر 1009م)، عند
مكان يسمى «قنتيش» إلى الشمال من بلدة القليعة عند ملتقى نهر
أرملاط بالوادى الكبير، وانتهت المعركة بهزيمة المهدى وقتل الآلاف
من أعوانه وفرار نفر من الأندلسيين الصقالبة إلى شرقى الأندلس
واستقرارهم فى «دانية» ، وقتل البربر الكثير من أهل قرطبة، ومن
بين هؤلاء العالم الجليل «أبو الوليد الفرضى» وأصبح «زاوى بن
زيرى» سيد الموقف.
أما المهدى فقد حاول من جانبه تدارك الأمر، فلجأ إلى حيلة سخيفة
حين أظهر الخليفة هشام المؤيد الذى كان قد زعم أنه مات وأجرى
مراسم دفنه، ثم بعث إلى البربر يخبرهم أن هشام هو الخليفة
الشرعى وأنه هو - يعنى المهدى - نائبه، لكن البربر رفضوا ذلك
وأعلنوا تمسكهم بسليمان وأدخلوه القصر وبايعوه بالخلافة ولقبوه
بالمستعين بالله.
فر المهدى إلى طليطلة؛ ليدبر للعودة إلى الحكم من جديد وكان معه
«واضح الفتى العامرى» الذى توجه إلى «طرطوشة» من مدن الثغر
الأعلى، وطلب عون أمير برشلونة وغيره من زعماء النصارى، وحصل
على موافقتهم بشروط باهظة منها أن يستولوا على ما يغنمونه من
سلاح وأن تسلم لهم مدينة سالم ..
سار النصارى ومعهم واضح إلى قرطبة وانضم إليهم المهدى والتقوا
بقوات البربر والمستعين بالله، وحدثت موقعة هائلة فى مكان يسمى
«عقبة البقر» على بعد (20كم) شمالى قرطبة فى (شوال 400هـ =
مايو 1010م)، وانتهى الأمر بهزيمة البربر وفرار سليمان المستعين،
وعاد زاوى بن زيرى إلى قرطبة حيث أخذه أهله وانسحب إلى
الجنوب وفعل البربر مثلما فعل.
رجع المهدى إلى قرطبة وبدأ يحصنها ويعدها للدفاع، بينما استعد
سليمان والبربر لاستئناف الصراع على قرطبة، فى هذه الآونة ضاق
الفتيان العامريون - وفيهم واضح- من تصرفات المهدى وسلوكه،
فتآمروا عليه وأخرجوا هشام المؤيد من محبسه وولوه الخلافة للمرة
الثالثة وأتوا بالمهدى وضربوا عنقه بين يدى هشام المؤيد فى (ذى
الحجة سنة 400هـ = 23 يوليو 1010م) وبذلك استرد هشام الخلافة
ليكون ألعوبة فى يد الفتيان العامريين، وتولى واضح حجابته
وأرسل إلى سليمان المستعين وإلى البربر يدعوهم إلى طاعة
الخليفة الجديد، فلم يقبل البربر دعوته وأعلنوا تمسكهم بسليمان.
حاول البربر وسليمان الاستعانة بنصارى قشتالة مرة أخرى وعرضوا
على ملكها تسليمه الحصون الأمامية التى اقتحمها الخليفة الحكم
والمنصور بن أبى عامر، إذا وقف معهم فى خلعهم للخليفة هشام
المؤيد لكن الملك النصرانى رفض ذلك.
زحف البربر إلى قرطبة وأخذوا يقتلون الجند ويعيثون فيها فسادًا
وامتد تخريبهم إلى الجنوب حتى وصلوا إلى ضواحى غرناطة ومالقة،
ولم يبق فى طاعة هشام إلا قرطبة وما حولها وتمسك البربر بعودة
سليمان.
فى هذه الأثناء وصلت إلى العاصمة سفارة من ملك قشتالة تطلب
تسليم الحصون التى فتحها المسلمون أيام الحكم المستنصر والمنصور
بن أبى عامر وغيره، فعقد مجلس من الفقهاء والقضاة، وتمت كتابة
محضر بتسليم ما لا يقل عن مائتى حصن بينها قواعد أمامية إسلامية
وخسر المسلمون بذلك خط الدفاع الأول، وأصبحت حدودهم الشمالية
مفتوحة أمام النصارى، والذى دفع «هشام» وحاجبه «واضح» إلى
اتخاذ هذا الموقف المتخاذل هو الخوف من ملك قشتالة واحتمال أن
يهاجمهم وأن يتحالف مع البربر ضدهم إذا رفض طلبه.
واصل البربر عبثهم بقرطبة وتخريبهم لها، وفى كل يوم يزداد الحال
سوءًا وتتضاعف ضدهم مشاعر الكراهية، وأدرك «واضح» أنه يواجه
أمرًا يستحيل إصلاحه فقرر الهرب، لكن بعض كبار الجند عرفوا نيته،
فعاتبوه على تبديد الأموال وسوء التصرف ثم قتلوه واستولوا على
أموال كان ينوى الهروب بها، وتولى قاتله الحجابة، وهكذا أصبح
القتل وسيلة يلجأ إليها كل من يبغى التخلص من صاحبه.
بعد ذلك جرت محاولات فاشلة للصلح بين الأطراف، ثم حدث أمر جدد
إشعال النار هو قيام أهل قرطبة بقتل بعض زعماء البربر، وترتب
على ذلك قيام معركة هائلة فى (26 من شوال 403هـ =مايو 1013م)
دخل البربر على إثرها قرطبة وقتلوا الكثيرين ولم يرحموا حتى
النساء والأطفال، بل ارتكبوا أشنع ضروب الإثم حين اغتصبوا النساء
والبنات وأحرقوا الدور، وتعرضت قرطبة لمحنة لاتعادلها محنة، وفى
اليوم التالى دخل سليمان المستعين قصر قرطبة، واستدعى «هشام
المؤيد» وعنفه على موقفه، ثم أمر بحبسه.
استقر الأمر لسليمان، فأضاف إلى ألقابه «الظافر بالله» بعد
«المستعين» ، وأنزل كلا من «على» و «القاسم» ابنى حمود بشقندة
من ضواحى قرطبة وهما قائدا الجماعة العلوية وينتميان إلى
الأدارسة وهما عربيان من حيث النسب، بربريان من حيث النشأة
والعصبية واللغة، وأخذ ينظم شئون الدولة واحتل البربر المناصب
الرئيسية، ثم أراد سليمان إرضاءهم من ناحية وإبعادهم عن قرطبة
من ناحية أخرى، فأقطعهم كور الأندلس -وكانت ست قبائل رئيسية-
كما ولى «على ابن حمود» ثغر سبتة، وأخاه القاسم على ثغور
الجزيرة الخضراء وطنجة وأصيلا، ومعنى ذلك أن البربر أصبحت لهم
السيطرة على ولايات الأندلس الجنوبية والوسطى.
من ناحية أخرى رأى الفتيان العامريون سيطرة البربر ففر معظمهم
إلى شرق الأندلس وأنشئوا هناك حكومات محلية، حيث حاول بعضهم
بزعامة الفتى «خيران» الاستقرار فى ألمرية ومرسية، وحاول بعضهم
الآخر الاستقرار فى دانية والجزائر الشرقية خاصة بنى برزال وبنى
يغرن، أما «زاوى بن زيرى» و «حبوس بن ماكس» الصنهاجيان فقد
استقرا فى غرناطة، وهكذا تمزقت البلاد وانتشرت الفوضى، وعمت
الفتن طوال فترة سليمان الأخيرة التى لم تزد على ثلاث سنوات.
دولة بنى حمود:
كان تمزق الأندلس بهذه الصورة فرصة يقتنصها من يريد، ولهذا كتب
«على بن حمود» صاحب سبتة إلى «خيران» يزعم أنه تلقى رسالة من
«هشام المؤيد» يوليه فيها عهده، ويطلب منه إنقاذه من البربر ومن
سليمان المستعين والتف حول «ابن حمود» بعض الأعوان، وعبر بهم
إلى الجزيرة الخضراء بناء على طلب خيران، واستوليا معًا على بعض
البلاد، وقرَّرا الزحف على قرطبة يعاونهما بربر غرناطة، واستعد
سليمان لقتالهم، ونشبت بينهما معركة فى مكان قريب من قرطبة
وانتهى الأمر بهزيمة سليمان ووقوعه فى الأسر.
بعد ذلك دخل على بن حمود قرطبة وبويع بالخلافة فى (محرم 407هـ=
أول يوليو 1016م)، وأعلن وفاة هشام المؤيد، وقتل سليمان وأباه
وأخاه، وتلقب بالناصر لدين الله، وبموت سليمان انتهت الخلافة
الأموية بالأندلس بعد حكم دام (268) سنة منذ وصل إليها عبدالرحمن
الداخل، وبدأت خلافة الحموديين الأدارسة.
قبض على بن حمود على الحكم واشتد فى معاملة البربر وواجه أية
محاولة للثورة بمنتهى الشدة سواء قام بها العرب أو البربر، وفى
الوقت نفسه أحسن معاملة القرطبيين، يعاونه فى ذلك مجموعة من
أعوان الخلافة السابقة من أمثال أبى الحزم بن جهور وابن برد.
لكن الأمور ما لبثت أن اتخذت خطا جديدًا، ذلك أن خيران العامرى
دخل قرطبة فلم يجد هشام المؤيد حيا، وخشى سطوة على بن حمود
فغادر قرطبة، وأعلن العصيان واتجه ناحية شرق الأندلس، حيث
يجتمع الزعماء العامريون، وأعاد دعوة بنى أمية فى شخص رجل
منهم اسمه عبدالرحمن بن محمد بن عبدالله من أحفاد عبدالرحمن
الناصر، وبايعه خيران بالخلافة ولقب بالمرتضى، وانضمت إليه ولايات
سرقسطة والثغر الأعلى وشاطبة وبلنسية وطرطوشة وغيرها،
وسارت قوات هؤلاء نحو غرناطة لمواجهة قوات صنهاجة، وجرت
معركة انتهت بهزيمة الأندلسيين ومقتل المرتضى، وكان «على بن
حمود» قد غيَّر سلوكه، مع أهل قرطبة بسبب علمه بميلهم إلى
المرتضى فنزع سلاحهم وصادر أموالهم واعتقل زعماءهم وعلى
رأسهم «أبو الحزم بن جهور» ، ثم تربص جماعة من الصقالبة بعلى
هذا، وقتلوه فى الحمام فى (الثانى من ذى القعدة سنة 408هـ =
23من مارس 1018م) بعد خلافة دامت عامًا وتسعة أشهر.
بعث زعماء زناتة بخبر مقتل «على» لأخيه القاسم الذى كان واليًا
على إشبيلية، فخف مسرعًا، وبويع بالخلافة فى الثامن من الشهر
نفسه وتلقب بالمأمون، وقد مال فى سياسته إلى اللين والإحسان
إلى الناس وحاول التقرب إلى الفتيان العامريين، فولَّى زهير
العامرى على جيان وقلعة رباح لكنه لم يستطع التخلص من سيطرة
البربر عليه، فتآمر عليه أبناء أخيه، وزحف يحيى بن على بن حمود
على قرطبة، وبويع بالخلافة فى جمادى الأولى سنة (412هـ =
1021م) وتلقب بالمعتلى بالله، أما القاسم فقد استقر به المقام فى
إشبيلية وتلقب بالخلافة أيضًا.
والعجيب أن كلا الرجلين اعترف لصاحبه بالخلافة، ولم يسمع قبل ذلك
بخليفتين تصالحا واعترف كل منهما بصاحبه من قبل.
ثم لم يلبث أن دعا البربر القاسم إلى قرطبة، وولوه الخلافة فى (18
من ذى القعدة من العام نفسهـ)، ولقب بأمير المؤمنين، ولكن الرجل لم
يكن موفقًا فى سياسته، فقد أعان البربر على أهل قرطبة
فعاملوهم معاملة قاسية وطاردوهم وأهانوهم، وجرت معارك متفرقة
بين الطائفتين، ثم جرت موقعة كبيرة فاصلة انتهت بانتصار القرطبيين
وتمزيق البرابرة، واضطر القاسم إلى الرجوع إلى إشبيلية، وجرت
تطورات عاد البربر بعدها وبايعوا يحيى بن على بن حمود ولقبوه
بالمعتلى بالله، أما القاسم فقد سجن وبقى فى محبسه حتى قتل
خنقًا بعد ذلك بفترة سنة (431هـ = 1040م).
كان أهل قرطبة قد سئموا سلوك البربر وقتالهم، وقرروا رد الأمر
لبنى أمية، وعقدت جلسة لهذا الغرض فى المسجد الجامع تمت فيها
مبايعة عبدالرحمن بن هشام فى (16 من رمضان سنة 414هـ= ديسمبر
سنة 1023م)، ولقب بالمستظهر بالله، وتولى وزارته بعض القدامى من
وزراء بنى أمية، بيد أن الخليفة الجديد استفتح عهده بإلقاء القبض
على عدد من الزعماء والأكابر، واستقبل فرسان البربر وأحسن
وفادتهم، فهاجت العامة وامتلئوا غيظًا، وهجموا على القصر وقتلوا
كل من صادفهم، أما عبدالرحمن فقد اختفى وظهر ابن عمه «محمد بن
عبدالرحمن بن عبيدالله بن الناصر» وبويع بالخلافة وتلقب
بالمستكفى بالله، وأتى بعبدالرحمن المستظهر وقتله فى (3من ذى
القعدة سنة 414هـ = 17 من يناير سنة 1024م).
كان المستكفى سيئ التدبير ميالا إلى البطالة والمجون، وفى عهده
تهدمت القصور الناصرية، وأتى على مدينة الزاهرة من أساسها،
واضطهد معظم البارزين من الساسة والمفكرين، فنادى جميعهم
بخلعه واضطر إلى مغادرة قرطبة فى زى امرأة، وتمكن بعض
مرافقيه من قتله فى ضاحية قرطبية.
وجدير بالذكر أن محمد المستكفى هذا هو والد «ولادة» الشاعرة
المعروفة.
رجعت الفوضى التى لا ضابط لها إلى قرطبة وجاء إليها «يحيى ابن
على ابن حمود»، و «خيران» و «زهير» العامريان، وتم الاتفاق بين
الجميع يقودهم أبو الحزم بن جهور على تولية أموى، ووقع
اختيارهم على «هشام بن محمد» الذى بويع ولقب بالمعتد بالله، بيد
أنه ألقى بمقاليد الأمور كلها إلى رجل من المستبدين تولى وزارته
اسمه «سعيد القزاز» بالغ فى اضطهاد زعماء البيوت وإهانتهم
وشغل الخليفة نفسه عن أمور الحكم بشرابه ومجونه، وضاعت هيبة
الخلافة تمامًا.
ثم اضطر القرطبيون الناقمون إلى الفتك بالوزير «سعيد» فى (ذى
القعدة 422هـ = نوفمبر 1031م)، ثم ساروا إلى القصر يتزعمهم «أمية
بن عبدالرحمن العراقى» من أحفاد «الناصر» ونهبوا أجنحة القصر.
وانتهى الأمر باتفاق رأى الناس جميعًا بزعامة أبى الحزم بن جهور
على التخلص من بنى أمية، وإبطال رسوم الخلافة كلها، وإجلاء كل
الأمويين عن مدينة قرطبة، فليس هناك من يستحق الخلافة، وينبغى
أن يتحول الحكم إلى شورى بأيدى الوزراء وصفوة الزعماء أو من
اسماهم «ابن حزم» «الجماعة» .
تولى ابن جهور تنفيذ الأمر بمنتهى الحزم حتى أجلى الأمويين عن
المدينة ومحا رسومهم تمامًا، وبهذا انتهت معالم الخلافة الأموية،
وانقطع ذكرها فى كل من الأندلس والمغرب.
عناصر المجتمع الأندلسى:
تكون المجتمع الأندلسى من مجموعة من العناصر المتباينة انصهرت
جميعها فى بوتقة واحدة وكونت المجتمع الأندلسى وهذه العناصر
هى:
(1)
العرب، وهم مجموعتان:
المضرية، واليمنية، وقد استمر الصراع بينهما فى الأندلس مثلما كان
فى المشرق، وتتفرع المجموعة المضرية إلى أربعة وعشرين فرعًا
انتشرت فى بلاد الأندلس المختلفة.
أما المجموعة اليمنية فقد وصل فروعها إلى واحد وعشرين فرعًا
تركز وجودها فى الجنوب الشرقى من الأندلس، وكان هؤلاء العرب
أقلية بين عناصر السكان الأخرى لأسباب عديدة، ويرى بعض
الباحثين أن عدد العرب الذين أتوا إلى الأندلس من شمال إفريقية
والشام وصل إلى ما يقرب من (30) ألفًا ارتفع هذا الرقم ليصبح نحو
(300)
ألف بعد سنوات.
(2)
البربر: وهؤلاء كونوا السواد الأعظم من الجيش الفاتح وفاقت
أعدادهم أعداد العرب، وينتمى هؤلاء إلى زناتة ومكناسة وصنهاجة
ومصمودة وهوازة ومديونة وكتابة وسفيلة ونقرة وهؤلاء تركز
وجودهم فى المناطق الجبلية خاصة فى الشمال الغربى ووسط
الأندلس وأراضى السهلة ووادى الحجارة وإشبيلية وما حولها لتشابه
ظروفها مع ظروف الحياة والبيئة فى مواطنهم الأصلية، واشتغلوا
بالزراعة وتربية الماشية ويسَّرت لهم مواطنهم فى مناطق الحدود
وغيرها من المناطق الجبلية القيام بالثورات بعد ذلك.
(3)
المسالمة والمولدون: أما المسالمة أو الأسالمة أو أسالمة أهل
الذمة فهم الذين دخلوا فى عقيدة الإسلام من النصارى، أما المولدون
فهم فى أرجح الأقوال أبناء المسالمة أو هم نتاج الزواج المشترك
بين العرب والبربر من ناحية وبين الإسبان من ناحية أخرى، ومن
الطبيعى أن يكون عدد هؤلاء قليلا فى أول الأمر، ثم يتنامى نتيجة
كثرة اعتناق أهل البلاد للإسلام وانتشار ظاهرة الزواج المشترك بين
العرب أو البربر وبين من أسلموا حديثًا، وقد تركز وجود هذا العنصر
فى الحواضر والمدن الكبرى من شبه الجزيرة.
وكانوا مع العرب هم العنصر الغالب فيها، وكان هذا سببًا فى حدوث
نزاع بين هاتين الطائفتين فى المستقبل.
(4)
الموالى: مجموعة من عناصر مختلفة تجمع بينها رابطة الولاء بين
المولى وسيده أو التابع ومتبوعه، ويرجع هؤلاء إلى أصول مختلفة
بعضهم رافق الشاميين الذين دخلوا الأندلس وعرفوا لذلك باسم موالى
الشاميين، وبعضهم كان من البربر الذى أسلموا ووافقوا سادتهم فى
دخول الأندلس فسموا باسم الموالى البلدانيين، وبعضهم يرجع لأصول
محلية إسبانية، وموالى الاصطناع أو النعمة الذين أنعم عليهم
الأمويون بالولاء اعتزازًا وتقديرًا، بالإضافة إلى الرقيق المشترى ممن
أنعم عليه أسياده بالعتق، وتركز وجود هؤلاء فى قرطبة خاصة
وفى كورة البيرة (غرناطة) وفى جهات متفرقة من أنحاء الأندلس،
وقد شدوا من أزر العرب أولا ثم انقلبوا عليهم وظهر من بينهم قادة
من أمثال بنى عبدة وبنى شهيد وبنى مغيث وبنى جهور.
(5)
الصقالبة: كان يقصد بهذه الكلمة أولا الشعوب السلافية، ثم أصبح
العرب يطلقونها على الأرقاء الذين يجلبون من الأمم المسيحية
ويستخدمون فى القصر أو الجيش، عن طريق الشراء بواسطة تجار
اليهود أو عن طريق الحملات العسكرية، وأول من استجلب الصقالبة
«عبدالرحمن بن معاوية» ثم استكثر الأمراء منهم بعد ذلك حتى كونوا
جماعة كان لها دور عظيم فى أحداث الأندلس، ووصلت أعدادهم إلى
ثمانية عشر ألفًا فى قرطبة وحدها، وبلغوا أقصى نفوذ لهم فى
عهد «عبدالرحمن الناصر» .
هذه هى العناصر الإسلامية، وإلى جانبها وجد فى المجتمع
الأندلسى عنصران من غير المسلمين أو من أهل الذمة هما:
(1)
النصارى: وشكل هؤلاء عددًا كبيرًا، استوطن أعداد كبيرة منهم
مدنًا وقرى كثيرة فى الأندلس واستقر فى «طليطلة» و «برشلونة»
و «غرناطة» و «ماردة» وتمتعوا جميعًا بالرعاية ومنحتهم الدولة الحرية
الكاملة دينية واجتماعية حتى أنشئ لهم منصب لإدارة شئونهم عرف
صاحبه بالقومس.
ووصل بعضهم إلى المناصب العليا فى الدولة، وتأثر هؤلاء بدورهم
بثقافة العرب ولغتهم وأسلوب حياتهم وأصبحوا لهذا يسمون
بالمستعربين.
(2)
اليهود: وقد استوطن عدد كبير منهم فى قرطبة ولهم فيها باب
يعرف باسمهم، وسكن عدد كبير آخر فى «إشبيلية» ولهم مشاركة
ملحوظة فى فتح الأندلس وفى أحداثها السياسية وفى إدارة المدن
المفتوحة، كما استوطنت جماعة كبيرة منهم فى «طليطلة» وفى
«برشلونة» وفى «طركونة» ، وقد مارس جميعهم شعائرهم الدينية
فى بيعهم بكل حرية، وكانت علاقاتهم بالمسلمين طيبة فاندمجوا
فى المجتمع الإسلامى وتعلموا العربية وتبنوا تقاليد المسلمين، وعمل
بعضهم فى بلاط الأمويين وتولوا مناصب مهمة فى الدولة الإسلامية،
واحتل بعضهم الطبقات العليا فى المجتمع الأندلسى.
المظاهر الحضارية:
نظم الحكم خلال عصرى الإمارة والخلافة:
- رئاسة الإقليم:
كانت الأندلس تتبع إفريقية عقب الفتح مباشرة، وكان والى إفريقية
يقوم باختيار حاكم الأندلس، ثم رأى الخليفة «عمر بن عبدالعزيز» أن
تكون الأندلس ولاية مستقلة تتبع الخلافة مباشرة إدراكًا منه لأهمية
الأندلس، وللدور الذى تقوم به فى الفتوحات ولصراعها مع ملوك
الفرنجة. ولما توفى «عمر بن عبدالعزيز» عاد تعيين والى «الأندلس»
إلى والى إفريقية لكن بمصادقة الخليفة، وبعد وقعة بلاط الشهداء
عادت الخلافة إلى تعيين والى «الأندلس» من جديد، ولما اضطربت
الأمور أصبح والى إفريقية هو الذى يعينه حينًا وأحيانًا جماعة
الزعماء والقادة فى شبه الجزيرة، فقد استقر رأيهم مثلا على تعيين
يوسف بن عبدالرحمن الفهرى سنة (129هـ= 747م) خشية تفاقم الفتن
دون مصادقة لا من والى إفريقية ولا من الخلافة.
ثم جاء بنو أمية لحكم الأندلس واكتفوا بلقب الإمارة، برغم أن بلاطهم
كان ينافس بلاط العباسيين فى قوته وبهائه إلى أن جاء عهد
«عبدالرحمن الناصر» ورأى أن الأوضاع قد تغيرت وأن الفاطميين قد
أقاموا لهم خلافة فى المغرب فأصدر مرسومًا بتحويل الإمارة الأموية
إلى خلافة، وتلقب هو نفسه بلقب أميرالمؤمنين، وبلغت الخلافة
الأندلسية أوج نفوذها السياسى والأدبى فى عهد الناصر وابنه
الحكم المستنصر، ثم جاء «محمد بن أبى عامر» فجعل نفسه حاكمًا
مطلقًا على الأندلس واتخذ سمات الملك وتلقب بالحاجب المنصور،
وأضحت الخلافة فى زمنه وزمن أبنائه اسمًا بلا مسمى.
ثم تبوأ «محمد بن هشام» الملقب بالمهدى الخلافة لتنتهى ثنائية
السلطة بين الأمويين والعامريين، لكن ذلك كان بداية فترة مشحونة
بالفتن والفوضى، وقامت خلافة فى أكثر من مدينة فى مالقة
وقرطبة وإشبيلية وغيرها، وانتهى الأمر بتمزق الأندلس إلى ولايات
ومدن مستقلة وظهور ما يعرف بدول الطوائف.
الوزارة فى الأندلس:
لم يلجأ الأمويون فى الأندلس إلى نظام الوزارة باختصاصاته التى
يعرفها المشارقة، واعتمدوا فى تسيير أمور دولتهم على رجال من
البيوت الشهيرة دون أن يمنحوهم ألقابًا بعينها، حتى قادة الجيوش
حملوا لقب القائد فى زمن الحملة العسكرية فقط، ولكن ظهور
شخصيات بارزة جعل من الضرورى أن تختص تلك الشخصيات بمهام
وألقاب محددة، لهذا أصبح «عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث» قائد
الجيوش، وحمل مع ذلك لقب الحاجب، وتولى كل اختصاصات رئيس
الوزراء فى المشرق، وأضحت الحجابة هناك مثل رئاسة الوزارة
وأصبح الحاجب الشخصية الثانية بعد الأمير، كذلك تم توزيع المهام
الإدارية بين رجال البيوتات المشهورة، فهذا خازن (وزير المالية) وهذا
للأمن (الشرطة الداخلية) وهذا للمنشآت (الأشغال العامة).
وحمل هؤلاء لقب الوزير على أنه تشريف، ومنذ أيام «عبد الرحمن
الأوسط» أصبح وزير الأندلس له نفس مهام واختصاصات الوزير فى
المشرق، كما كان هناك وزراء دولة يكلفهم الأمير بما يشاء فى أى
وقت.
أما أهل البيوتات الذين شغلوا هذه المناصب فهم موالى بنى أمية
وفروعهم، ثم انضمت إلى هؤلاء أسر قربها الأمراء، بعضها عربى
وبعضها مولد أو مستعرب وكثير من هؤلاء من أصول بربرية من ذوى
الكفاءات.
وللأمويين أسلوبهم فى إقالة الوزراء، ذلك أن من ترفع وسادته من
بيت الوزارة يعتبر مقالا، وأحيانًا كان يمنح بعض الموظفين الكبار
مثل حاجب المدينة أى المحافظ لقب الوزير، وعندئذٍ كان يدعى الوزير
صاحب المدينة.
وكانت الوظيفة الكبيرة فى الأندلس يطلق عليها لقب «خطة» فيقال
«خطة الوزير» أو «خطة الكتابة» (الإنشاء) أو خطة المظالم
(الشكاوى) أو «خطة القيادة» ، وكانت خطة القيادة من الخطط
الكبرى، ويقصد بها قضاء قرطبة أو الجماعة، ولايتولى صاحبها
قضاء قرطبة وحدها بل له حق تعيين القضاة أو عزلهم فى المدن
والأقاليم الأخرى، وهؤلاء يعتبرون نوابًا عنه ويعتبر هو مرجعهم،
وقاضى الجماعة هو الشخصية الثالثة بعد الأمير والحاجب، ولذا تطلب
الأمر التدقيق عند اختياره، ورغم مكانة القاضى، فإن الكثيرين لم
يرغبوا فى شغل هذا المنصب؛ لأنهم قد يجدون حرجًا فى أداء مهام
وظيفتهم ضد كبار الموظفين أو مع أمير لا ترضيه أعمالهم الحريصة
على العدالة وحدها.
وفى أواخر عهد الدولة العامرية تولى الصقالبة الخطط الكبرى، ثم
تولى الفتيان العامريون الحجابة لآخر الخلفاء الأمويين، واستبدوا بعد
ذلك برئاسة المدن والولايات، وظهر فى عهد الدولة العامرية بدعة
جديدة هى إسناد الحجابة إلى الأطفال، فقد استصدر عبدالملك - مثلا
- أمرًا من الخليفة «هشام» المغلوب على أمره بتعيين ولده الطفل
«محمد» فى منصب الحجابة ولقبه بذى الوزارتين، كذلك استحدث
بالوزارة عدة خطط جديدة مثل خطة خدمة الأسلحة وخدمة الوثائق
وخطة خزانة الطب والحكمة .. الخ.
الجيش والأسطول:
عبر إلى شبه الجزيرة جيش الفتح مكونًا من العرب والبربر، وقام
البربر بدور مهم فى تكوين قوى الأندلس دفاعًا وهجومًا، ولما كون
عبدالرحمن الغافقى جيشه بهدف غزو بلاد الفرنج، كان البربر من
عناصره المهمة، وبقيت القيادة بيد الضباط العرب، ثم ظهر خلاف بين
العرب والبربر، بسبب إحساس البربر باستيلاء العرب على القيادة
لأنفسهم فقط، ثم كانت ثورة البربر فى المغرب وانتقال بلج بن بشر
القشيرى إلى الأندلس الشىء الذى رجح كفة العرب، غيرأن الجيش
الأندلسى ما لبث أن انقسم إلى العرب الشاميين وأنصار «بلج»
والعرب والبربر المحليين، وقامت الحرب الأهلية، إلى أن جاء يوسف
بن عبدالرحمن الفهرى فأعاد تنظيم الجيش وأصلحه، وجعله جيشًا
أندلسيا، يغزو ويرد هجمات نصارى الشمال.
ثم جاء «عبدالرحمن الداخل» فاهتم بالجيش غاية الاهتمام، وبلغت
جنوده المتطوعة والمرتزقة (100) ألف مقاتل، بخلاف الحرس الخاص
الذى تكون من (40) ألفًا من الموالى والرقيق والبربر.
وكذلك وضع «عبدالرحمن الداخل» نواة الأسطول الأندلسى؛ لأنه أقام
قواعد لبناء السفن فى بعض الثغور النهرية والبحرية، أما قيام
الأسطول الأندلسى فيعود إلى ما بعد ذلك عندما قام النورمانيون
بغزو ثغور الأندلس فعنيت الحكومة بأمر الأسطول وإنشاء السفن
وبالتحصينات البحرية، كما أقامت أكبر دار لصناعة السفن فى مياه
الوادى الكبير تجاه إشبيلية.
وقد اكتسب الجيش كثيرًا من الدربة والمران فى تعامله المستمر مع
الثورات والغزوات، وقد بذل الناصر جهدًا كبيرًا لتقويته، ومنحه غاية
الاهتمام، ووفر له الأسلحة والعتاد، وفى الوقت نفسه اهتم بالأسطول
وأنشأ له وحدات جديدة، وجعل مدينة ألمرية مركزه الرئيسى، وبنى
بها أكبر دار صناعة، ووصل عدد الوحدات فى زمنه إلى (200) سفينة
مختلفة الأحجام والأنواع، بخلاف أسطول آخر خصص لشئون المغرب
البحرية، وكان أسطول الناصر من أقوى الأساطيل، سيطر به على
مياه إسبانيا الشرقية والجنوبية.
وفى عهد المنصور بن أبى عامر وصل الجيش الأندلسى إلى أقصى
قوته وضخامته، وقد اعتمد على البربر الذين استقدمهم من بلاد
المغرب وغمرهم بعطاياه، وكان فى جيشه كثير من المرتزقة
والنصارى من المستعربين، وقد بنى المنصور للأندلس قوة لم تعرفها
لا من قبل ولا من بعد، وبلغ عدد الفرسان فى زمنه (12100)، وعدد
الرجالة (26000) وهذا هو الجيش المرابط الذى كان يتضاعف وقت
الصوائف، وقد وصل فى إحداها إلى (46000)، وزاد عدد المشاة
حتى تجاوز المائة ألف.
وقد نجحت القوات الإسلامية فى السيطرة على مناطق الحدود؛ بفضل
ما تمتعت به من قوة واستعداد، وكانت الخلافة حريصة على أن توفر
لها الأسلحة والمؤن وكل ما تحتاج إليه، وكان بعض الحصون فى
هذه الأماكن أشبه ما يكون بمدينة كاملة.
وإلى جانب جيش الحدود كان هناك جيش آخر يقيم فى الزهراء يسمى
جيش الحضرة يقوده الخليفة بنفسه أو من ينيبه، وإذا خرج الخليفة
بنفسه جمع بين قيادة الجيشين.
وإذا جاء وقت النفير يأمر الخليفة بالاستعداد، فتبدأ عملية واسعة
النطاق تسمى «البروز» ، وتتوافد الجنود من كل ناحية وتنزل فى
سهل فسيح يسمى «فحص السرادق» إلى الشمال من قرطبة، ثم
يؤتى بسرادق الخليفة ويوضع وسط الفحص، وتنصب فرق الجنود
خيامها ثم تقبل قوات المتطوعين حسبة لوجه الله تعالى، ويستمر
البروز شهرًا، ثم يخرج الخليفة بجيشه، وينتقل من حصن إلى حصن
حتى يصل إلى الحدود فينضم إليه جيش الثغور، وهنا تبدأ الصائفة-
أى العملية العسكرية الصيفية التى تستمر شهرين أو نحوها- فى
غزوها لأراضى العدو.
الموارد الاقتصادية:
لما فتح المسلمون شبه الجزيرة، فرضت الضرائب على أساس
المساواة بين الناس دون تمييز بين طبقة وأخرى، وكان خراج
الأراضى الزراعية والجزية على أهل الذمة وأخماس الغنائم هى
الموارد الرئيسية للدخل، وقد قام «يوسف الفهرى» بتقسيم الأندلس
إلى خمس ولايات وفرض على كل ولاية أن تقدم ثلث دخلها ورفع
الجزية عمن توفوا من النصارى، ومنحت الحكومة اهتمامًا كبيراً
للزراعة، وقد نجحت زراعة المسلمين بفضل التغيرات التى أدخلوها
على نظام ملكية الأراضى، وتنظيم عملية الرى فى الأندلس، والعناية
بالحدائق والمتنزهات وجلب المياه لها من الجبال.
وقد تنوعت الأراضى فى الأندلس بين أراضى خراجية للدولة،
وأراضى أحباس تتبع ولاية الأحباس (الأوقاف) ويشرف عليها قاضٍ،
وأراضى إقطاع بمعنى أن جيوش الأندلس كانت تتكون من قبائل
العرب والبربر التى كانت تقيم فى المدن والقرى على أساس
إقطاعها أراضيها، واستمر هذا النظام معمولا به حتى آخرعهد
«المنصور بن أبى عامر» وإن ظل الإقطاع سائدًا فى مناطق الثغر
الأعلى خاصة. بالإضافة إلى هذا وجدت الملكيات الخاصة التى كانت
تأتى عن طريق الوراثة أو الهبة أو الشراء.
أما المحاصيل الزراعية فأبرزها: التمور والحبوب بأنواعها والفواكه
والزيتون وقصب السكر والموز والعنب والتفاح والرمان والبرتقال،
ومحاصيل أخرى مثل: القطن والكتان والتوت ونبات الحلفاء، وقد
جلبت بعض هذه المحاصيل من المشرق وأدخلت تحسينات على ما كان
قائمًا منها زمن الرومان.
كذلك اهتمت الإدارة الأندلسية بالرعى وتربية الماشية، وعنيت بتربية
البغال باعتبارها الوسيلة المثلى للنقل، والخيول والإبل والغنم
والثيران والأبقار، ومما يعكس الاهتمام بالخيل وتربيتها أنه كانت
هناك خطة تسمى خطة الخيل يشرف عليها صاحب الخيل، وعرفت
الأندلس أيضًا مهنة صيد السمك فى السواحل الغربية والشرقية
والجنوبية وفى الأنهار الداخلية، ولهذا ازدهرت تجارة السمك فى
الأندلس.
وعرف المجتمع الأندلسى الصناعة، وراجت فيه صناعة الحدادة
والصياغة وحياكة المنسوجات والصباغة، والصناعات الجلدية
والخشبية، وصناعة الورق والسفن والأسلحة والسكة والأثاث والفخار
والآلات الموسيقية وصناعة ألوان معينة من الطعام كالجبن واستخراج
الزيت من الزيتون، وصناعة السلال والشمع والزجاج، كما وجد
أصحاب الحرف مثل: الفرانين والخياطين والنجارين والبنائين
والعطارين والجزارين والحبالين .. الخ، وكان على رأس كل فرقة
زعيم يسمى العريف أو الأمين يرتب أمورها وينظم العاملين فيها
درجات حسب مستوى إجادتهم.
ومن الطبيعى أن يكون فى الأندلس نشاط تجارى، وعناية بالأسواق
التجارية، فقد كان فى كل مدينة سوق رئيسى يتألف من عدد من
الأسواق، وكل طائفة من التجار تتخذ لها مكانًا يجلسون فيه
متجاورين، وكانت هناك أسواق للحيوانات وأخرى للنخاسة .. الخ،
وقد اهتمت الدولة بإقامة شبكة من الطرق البرية والنهرية الداخلية
تربط المدن بعضها ببعض لخدمة التجارة.
وتعامل التجار مع بعضهم عن طريق تبادل السلع، وأحيانًا عن طريق
استخدام العملة، كما كانت الصكوك والسفاتج أو الحوالات من
الوسائل الشائعة الاستخدام فى الأندلس، وكانت السمسرة من
أساليب التعامل الرائجة فى الأسواق، وقام بها اليهود فى الغالب،
كما كانت وحدات الكيل والميزان من أهم وسائل التعامل التجارى،
وكان يشرف عليها صاحب السوق، يتفقد العمل فى الأسواق يعاونه
مجموعة من الموظفين يمتحنون الباعة بأساليب مختلفة لمعرفة مدى
التزامهم بالطرق المشروعة بيعًا وشراءً.
وعرفت الأندلس التجارة الخارجية التى تقوم على الصادرات
والواردات، فقامت بتصدير التين إلى بعض بلاد المشرق وإلى الهند
والصين، والقطن إلى بلاد الشمال الإفريقى، وصدَّرت الزيت إليها
وإلى الدويلات النصرانية فى الشمال ومن الصادرات الأندلسية: الحرير
ومواد الصباغة وأنواع معينة من المنسوجات والعنبر والطيب وبعض
المعادن وبعض الحيوانات.
أما واردات الأندلس فقد تركزت على الأشياء الثمينة والتحف النادرة
وبعض المنسوجات الشرقية والصمغ والمواد الغذائية وأهمها القمح.
كما استوردت التمور والفستق والذهب، وكان التعامل مع المغرب
خاصة يتم بحرية تامة بصرف النظر عن الاختلافات المذهبية أو
السياسية أحيانًا، كما كانت العلاقات وثيقة بين الأندلس وبين بلاد
المشرق الإسلامى، وتمت إقامة طرق برية وأخرى بحرية لربط الأندلس
بالعالم الخارجى والاتصال به اقتصاديًا وفكريًا، وكانت الضرائب
تجبى من التجارة الداخلية والخارجية.
الحركة الفكرية:
لا يوجد فى عصر الولاة إلا بعض الآثار الشعرية القليلة التى وردت
على ألسنة الزعماء أو الولاة.
وجاء «عبدالرحمن الداخل» وخلف آثارًا من النثر والنظم تعكس تفوقه
فى هذا الميدان، وكان الداخل فوق براعته الأدبية عالمًا بالشريعة،
وجاء بعده ابنه «هشام» فكان مبرزًا فى الحديث والفقه، وغلب
الطابع الدينى على النهضة العلمية فى هذه المرحلة، ثم رحل تلاميذ
الأندلس إلى المشرق وتتلمذوا على الإمام مالك ونقلوا عنه كتابه
«الموطأ» ، وعادوا إلى الأندلس فنشروا مذهب إمامهم بتلك البلاد،
وكان الأمير هشام يجل الإمام مالك فساعد ذلك على التمكين لمذهبه
فى الأندلس.
وفى عهد الحكم بدأت تظهر بوادر النزعة الأدبية إلى جانب العلوم
الدينية، وظهر الأدباء والشعراء إلى جانب المحدثين والفقهاء، كما
وجد من نبغ فى النحو والعروض والأخبار والأنساب وغيرها. وكان
الأمير الحكم نفسه أديبًا شاعرًا، وعرف الأندلس فى زمنه شعراء
مبرزين من أمثال العالم عباس بن فرناس ويحيى الغزال الجيانى.
أما فى عهد «عبدالرحمن بن الحكم» فقد بلغت هذه الحركة الفكرية
الأولى ذروتها وظهر كتاب مُبرزون ومفسرون ومحدثون وفقهاء
وشعراء، وكان الأمير نفسه يتمتع بمواهب أدبية وشعرية، وانتشرت
اللغة العربية بين طائفة النصارى المعاهدين، وبرز بعضهم فى
الكتابة.
وشهد عهد الأمير «محمد بن عبدالرحمن» نهضة أدبية وشعرية، ومن
أشهر من ظهروا خلال هذه الفترة الشاعر «عباس بن فرناس» والأديب
الفقيه «أبو عمر أحمد بن عبد ربه» صاحب الكتاب المشهور «العقد
الفريد»، الذى يعتبر من أمتع كتب الأدب العربى، وكان الأمير عبدالله
أيضًا شاعرًا بارعًا فى العربية حافظًا للغريب من الأخبار.
أما عصر «عبدالرحمن الناصر» فقد زهت فيه العلوم والآداب، وراجت
فيه سوق العلم، وظهر أكابر العلماء والشعراء من أمثال «ابن عبد
ربه» المشار إليه آنفًا، و «محمد بن عمر بن لبانة» الذى انفرد بالفتيا
وحفظ أخبار الأندلس وولى الصلاة فى المسجد الجامع، وكان له حظ
موفور فى الفقه والنحو والشعر، ومن محاسن هذا العصر «أبو
الحسن جعفر بن عثمان» المعروف بالمصحفى، البليغ المتميز فى
النظم والنثر، ومن أعلام هذه الفترة القاضى «منذر بن سعيد
البلوطى»، البارع فى علوم القرآن والسنة، والمعروف بجودة خطابته
وفصاحته وجزالة شعره، وغير هؤلاء كثيرون، وقد اتخذ الناصر عددًا
كبيرًا من هؤلاء العلماء والأدباء حجابًا له ووزراء، مثل موسى بن
محمد بن حدير وعبدالملك بن جهور.
ومن أعظم شعراء عصر «الناصر» أبو القاسم محمد بن هانئ الأزدى
الإشبيلى الذى غادر الأندلس ولحق ببلاط الخليفة المعز الفاطمى فى
المهدية بسبب اتهامه بالكفر والزندقة.
وكان الخليفة نفسه أديبًا يهوى الشعر وينظمه ويدنى إليه العلماء
والأدباء.
وظهر فى عهد الناصر أعلام المؤرخين الذين وضعوا أسس الرواية
التاريخية الأندلسية، وفى مقدمتهم أحمد بن محمد بن موسى الرازى،
ومعاصره أبو بكر محمد بن عمر المعروف بابن القوطية وأحمد بن
موسى العروى ..
واستمرت النهضة الفكرية وازدادت قوة فى عهد الخليفة الحكم
المستنصر، وكان نفسه أديبًا عالمًا، ولذلك أقام جامعة قرطبة،
وحشد لها الأساتذة، وأنشأ المكتبة الأموية الكبرى، وبذل جهودًا
خارقة وأموالاً عظيمة حتى يجمع لها آلاف الكتب فى مختلف العلوم
والفنون، وظهرت أيضًا المكتبات العامة والخاصة، واحتشد حول بلاط
الحكم مجموعة من أكابر العلماء منهم «أبو على القالى» ، والأديب
المؤرخ «محمد بن يوسف الحجارى» ، والفيلسوف «ربيع بن زيد» ..
الخ.
ومن شعراء بلاط الحكم المعدودين: طاهر بن محمد البغدادى، ويحيى
بن هذيل، ويوسف بن هارون الرمادى القرطبى، الهجَّاء المعروف
بأبى جنيش.
وممن نبغ فى هذه الفترة: أعظم علماء اللغة فى الأندلس «أبو بكر
محمد بن الحسن الزبيدى» النحوى الإشبيلى.
أما المستنصر نفسه فلم يكن متمكنًا فى علم الأنساب وفى العلوم
الشرعية فحسب وإنما كان أديبًا شاعرًا ينظم الشعر الجيد.
أما المنصور بن أبى عامر فقد كان بحكم نشأته عالمًا متمكنًا فى
علوم الشريعة والأدب، وكان محبا لمجالس العلماء والأدباء، وبلغ به
الأمر أن يصطحب معه طائفة من الشعراء والأدباء فى غزواته، وكان
أبو العلاء صاعد بن حسن البغدادى شاعره الأثير، وكان ذلك الرجل
فوق شاعريته متمكنًا فى اللغة والأدب والتاريخ، وهو الذى أجازه
المنصور بخمسة آلاف دينار على كتاب ألفه فى التاريخ والأدب وأمر
بقراءة كتابه فى مسجد الزاهرة.
ومن أعظم شعراء الأندلس فى عهد المنصور «أبو عمر أحمد بن محمد
بن دراج القسطلى» الذى قال عنه «ابن حزم» : «لم يكن فى الأندلس
أشعر من ابن دراج».
ومن أكابر الفقهاء والحفاظ عبدالرحمن بن قطيس قاضى الجماعة فى
قرطبة، وكان إمامًا فى الحديث والسير والأخبار، شغوفًا بجمع
الكتب، مشهورًا بالصلابة فى الحق.
ومن الطبيعى أن تنكمش الحركة الفكرية بعد سقوط الخلافة، لانشغال
الأمة بما دهاها من الفتن، ومع ذلك فقد كان بين الخلفاء والولاة خلال
هذه الفترة من يتذوق الشعر وينظمه من أمثال الخليفة المستعين،
والخليفة المستظهر وغيرهما.
الفصل السادس
*عصر ملوك الطوائف
(400 - 484هـ = 1009 - 1091م).
ترتب على سقوط الخلافة والدولة الأموية انقسام الأندلس إلى دويلات
متنازعة، واستقلال كل أمير بناحيته، وإعلان نفسه ملكًا، ودخلت
البلاد بذلك فى عصر جديد عرف باسم عصر ملوك «الطوائف» أو عصر
الفرق.
وقد انضوت هذه الدويلات تحت مظلة أحزاب ثلاثة كبيرة عمل كل منها
على بسط سلطانه على كل الأندلس.
1 -
حزب أهل الأندلس:
ويقصد بهم من استقروا فى البلاد من قديم الزمان وصاروا أندلسيين
بمرور الزمن بصرف النظر عن أصلهم العربى أو المغربى أو الصقلى
أو الإسبانى، وقد أطلق على هؤلاء مصطلح أهل الجماعة، ومن
هؤلاء:
بنو عباد اللخميون فى إشبيلية، وبنو جهور فى قرطبة، وبنو هود
الجذاميون فى سرقسطة، وبنو صمادح أو بنو تجيب فى ألمرية،
وبنو برزال فى قرمونة، وعبد العزيز بن أبى عامر فى بلنسية .. الخ.
2 -
حزب البربر أو المغاربة: حديثوا العهد بالأندلس وهم الذين استقروا
بها منذ زمن المنصور بن أبى عامر، ومن هؤلاء بنو زيرى
الصنهاجيون فى غرناطة، وبنو حمود الأدارسة العلويون فى مالقة.
3 -
حزب كبار الصقالبة:
الذين استقلوا بشرقى الأندلس، ومنهم مجاهد العامرى الذى استقل
بداتية والجزر الشرقية وغيرها، وخيران العامرى زعيم حزب الصقالبة
فى قرطبة أثناء الفتنة، وكل واحد من هذه الأحزاب حرص على أن
يبحث لنفسه عن غطاء روحى فأقام خليفة بجواره يستمد منه
سلطانه، فبنو عبَّاد جاءوا بشخص اسمه خلف الحصرى، كان شديد
الشبه بهشام المؤيد المشكوك فى موته، فجعلوه خليفة صاحب
الجماعة، ثم أظهر المعتضد بن عباد موته عام (455هـ= 1053م)،
وأعلن أنه منحه ولاية العهد وأنه الأمير بعده على كل الأندلس
بمقتضى هذا العهد.
أما الحزب المغربى فقد تولى خلافته بنو حمود بالنظر إلى أصلهم
العربى الشريف، ولكن هؤلاء انقسموا على أنفسهم وصار كل واحد
منهم يزعم الخلافة لنفسه، ويتخذ ألقابها مثل المهدى والعالى
والمستعلى .. الخ، وانتهى الأمر باستيلاء بنى زيرى ملوك غرناطة
على مالقة، وبنى عباد على الجزيرة الخضراء وانتهى بذلك ملك
الحموديين.
أما حزب الصقالبة فقد أقام مجاهد العامرى فى مملكته بداتية والجزر
الشرقية خليفة أمويا هو الفقيه أبو عبدالله بن الوليد المعيطى الذى
لقبه بالمنتصر بالله.
لكن مجاهد مالبث أن طرده ونفاه إلى بلاد المغرب عندما علم أنه
تآمر عليه أثناء غزوه لجزيرة «سردينيا «.
وقد اصطدمت مصالح هؤلاء جميعًا لقرب المسافات بينهم، وهذا وضع
جعل المراكشى يسخر منه فيقول:
» وصار الأمر فى غاية الأخلوقة (الأضحوكة) والفضيحة، أربعة كلهم
يتسمى بأمير المؤمنين فى رقعة من الأرض مقدارها ثلاثون فرسخًا
فى مثلها «.
كما كان جديرًا بتندر ابن حزم الذى علق عليه بقوله:
» واجتمع عندنا بالأندلس فى صقع واحد خلفاء أربعة، كل واحد منهم
يخطب له بالخلافة بموضعه، وتلك فضيحة لم ير مثلها، أربعة رجال
فى مسافة ثلاثة أيام كلهم تسمى بالخلافة، وإمارة المؤمنين «.
تجرى الأمور على هذا النحو المرير بالأندلس فى الوقت الذى كانت
تعمل فيه دول إسبانيا المسيحية فى شمال البلاد على توحيد
صفوفها تساندها فرنسا والبابوية فى روما.
وما إن زالت الدولة الأموية من الأندلس حتى تغلغل النفوذ الفرنسى
بكل صوره، سياسية وثقافية ودينية فى الشمال الإسبانى باعثًا
روحًا صليبية جديدة ضد المسلمين.
وكان يحكم إسبانيا المسيحية فى هذه الآونة رجل طموح هو الملك
«ألفونسو السادس» ملك قشتالة، نجح فى توحيد مملكتى قشتالة،
وليون، وسيطر على الممالك المسيحية الشمالية، وتوَّج جهوده
العسكرية باحتلال «طليطلة» عاصمة الثغر الأدنى للمسلمين سنة
(478هـ = 1085م)، رغم تميزها بموقع منيع.
وكان سقوط مدينة «طليطلة» فى أيدى الإسبان كارثة كبرى
للمسلمين؛ لأن العدو احتل الأراضى الواسعة التى تمتد جنوبًا حتى
جبال قرطبة، وأطلق على هذه المنطقة الجديدة اسم «قشتالة
الجديدة» وبذلك تمزقت بلاد المسلمين وانشطرت إلى قسمين.
ولم يكتف «ألفونسو السادس» بما حققه، وإنما اتجه بتحريض من
الفرنسيين إلى مدينة «سرقسطة» عاصمة الثغر الأعلى وحاصرها
بهدف الاستيلاء عليها، وأخذ يضرب ملوك الطوائف بعضهم ببعض،
ويهاجم أراضيهم ويطالبهم بالأموال كى يضعفهم عسكريا
واقتصاديا.
وعلى الرغم من هذه الصورة القاتمة سياسيا واجتماعيا فإنه مما
يلفت النظر أن تزدهر العلوم وترتقى الآداب والفنون فى عصر ملوك
الطوائف؛ لأن معظم هؤلاء الملوك والرؤساء كانوا من العلماء والأدباء
والشعراء، وكانت قصورهم مجامع للعلوم والآداب، وكلها تزهو لا
بفخامتها وروعتها بل بأمرائها ووزرائها وكتابها، وقد بلغ الشعر
الأندلسى فى زمن ملوك الطوائف شأوًا لم يصل إليه فى أى عصر
آخر.
وقد تميزت قصور ثلاثة بصفة خاصة بمشاركتها فى النهضة الأدبية
والشعرية، وهى قصور بنى عباد بإشبيلية، وبنى الأفطس فى
بطليوس، وبنى صمادح فى ألمرية، وقد برز من بنى عباد: المعتضد
بن عباد وولده المعتمد، ولمع فى بلاطهم كثير من الشعراء والوزراء
والكتاب، وظهر فى بلاط بنى الأفطس «أبو محمد عبدالمجيد بن
عبدون»، و «أبو بكر» و «أبو محمد» و «أبو الحسن» أبناء عبدالعزيز
البطليوسى، كما اجتمع حول بنى صمادح عدد من أقطاب الأدب
والشعر منهم ابن القزاز وابن الحداد والوازى آشى وغيرهم، أما بنو
هود فى سرقسطة فقد نعم بحمايتهم واشتهر فى ظلهم الشاعر أحمد
بن محمد ابن دراج القسطلى.
وعرف هذا العصر مجموعة من العلماء الكبار الذين وصلوا إلى القمة
من حيث النضج الفكرى والمستوى العلمى، من هؤلاء ابن حزم وأبو
الوليد الباجى، واللغوى ابن سيده، واللغوى الجغرافى أبو عبيد
البكرى، والعلامة ابن عبدالبر، ومجاهد العامرى صاحب داتية، ومحمد
بن أحمد بن طاهر صاحب مرسية، ومن أكابر الفلكيين والرياضيين
الذين أفادوا الغرب ببحوثهم أبو إسحاق إبراهيم يحيى الزرقالى،
وأبو القاسم إصبغ بن السمح الغرناطى، وقد اشتهر الأول بجداوله
الفلكية التى صحَّحت كثيرًا مما جاء فى الجداول القديمة، أما الآخر
فكان بارعًا فى الهندسة والفلك، والرياضيات، ومن كبار العلماء
الذين عنوا بالتاريخ وتدوين الحوادث والترجمة للأعلام ابن حزم،
والمؤرخ الكبير أبو مروان حيان بن خلف بن حيان، وأبو عبدالله
الحميدى، وأبو الحسن على بسام الشنترينى صاحب كتاب «الذخيرة
فى محاسن أهل الجزيرة»، والكاتب القدير والمؤرخ الأديب الفتح بن
خاقان، وكما ارتقت العلوم والآداب ازدهرت الفنون والصناعات فى
عهد ملوك الطوائف، خاصة ما يتعلق بالموسيقى والغناء وآلات
الطرب.
وإذا كان يعرف عن أهل الأندلس اهتمامهم بكل ما يتعلق بتربية
الماشية، وفلاحة الأرض، وتنظيم الرى وأحوال الجو، وخواص النباتات
وإنشاء الحدائق فإنه ينبغى الإشارة إلى ظهور عدد من علماء النبات
والزراعة فى عهد ملوك الطوائف، لاسيما فى طليطلة وإشبيلية منهم
ابن وافد وابن بصال، وأحمد بن محمد حجاج، وابن لونكو فى قرطبة
وغير هؤلاء.
وكانت الصناعات رائجة خلال عصر الطوائف وأشهرها بصفة خاصة،
وكان فى ألمرية وحدها خمسة آلاف مصنع تنتج أجمل أنواع الأقمشة
وأفخمها، وكانت السفن تأتى من بلاد المشرق ومن الثغور الإيطالية
إلى الموانئ الأندلسية فى إشبيلية وألمرية وبلنسية وداتية
وسرقسطة تحمل بضائع المشرق، وتعود محملة بما تستورده من
السلع الأندلسية، وكانت التجارة الخارجية مصدرًا مهما من مصادر
دخل دول الطوائف ذات الثغور.
الفصل السابع
*الأندلس فى ظل المرابطين
[484 - 539 هـ = 1091 - 1144 م].
وصلت دولة المرابطين فى المغرب إلى أقصى قوتها وبلغت أكبر
اتساع لها على يد مؤسسها الحقيقى «يوسف بن تاشفين» ، وكان
أصحابها من البواسل الشجعان ذوى الطباع السليمة والعزائم القوية
التى لم يفسدها الضعف والهوان، فهم ممن يؤمل نجدتهم ويرجى
غوثهم.
وكانت حال الأندلس فى العدوة الأخرى تعانى سيطرة ملوك النصارى
وسطوتهم واستغاثة ملوك المسلمين بهم وإرهاق هؤلاء لهم بالجزية
وبما يفرضون عليهم، وتعسفهم فى مطالبة الولاة المسلمين بما
لاطاقة لهم به، وتكليفهم فوق طاقتهم، وعاد هؤلاء الملوك على
شعوبهم فأثقلوا كواهلهم وبالغوا فى تحميلهم ما لا قدرة لهم عليه،
واحتقر «ألفونسو» وغيره زعماء وقادة المسلمين حتى جثوا جميعًا
أمامه يستعطفونه ويرجونه قبول أحوالهم وهداياهم وهو يشتط
ويبالغ ويقول:
» أنا لا أرى فيكم إلا أنكم جماعة لصوص، فاللص الأول قد سرق
وجاء الثانى فسرق من الأول ما سرق، وجاء الثالث فسلب من الثانى
ما سرقه من الأول «.
وهم من ناحيتهم يبادرون بتهنئته وحمل الطرف والهدايا إليه
ويصرحون له بأنهم داخل حدود سلطانه ليسوا إلا جباة أموال لتحصيل
الضرائب ودفع الجزية.
وقد أخذ «ألفونسو السادس» يجتاح ويخرب مدنهم ومروجهم ويفتح
معاقلهم ويحطم حصونهم، ويضرب عليهم جميعًا ما يشاء من أموال
ويضاعفها فيؤدونها - بلا استثناء - وهم صاغرون، ثم أخذت المدن
تتساقط فى أيدى النصارى مدينة إثر مدينة.
إزاء هذا الوضع المتردى فكر الأندلسيون فى مخرج، ووجد رجال
الدين أن خير وسيلة هى دعوة المرابطين للعبور إلى بلادهم
وتخليصهم من الوضع المرير الذى بلغ القمة ولم يعد يحتمل المزيد، أما
الملوك والأمراء فقد ترددوا أول الأمر ورأوا فى ابن تاشفين مناوئًا
خطيرًا أكثر منه عونًا ونصيرًا، وربما جاء إلى بلدهم فاستقر فيها
وطردهم منها، لكن «ابن عباد» صاحب «إشبيلية» قطع الشك باليقين
قائلا إنه لا يريد أن تتهمه الأجيال المقبلة بأنه ترك الأندلس غنيمة فى
أيدى الكفار قائلا: «ولا أحب أن يعلن اسمى على منابر المسلمين
وعندى أن رعى الجمال خير من رعى الخنازير».
وقد أقنع المعتمد بن عبّاد بوجهة نظره كلا من المتوكل بن الأفطس
صاحب بطليوس و «عبدالله بن بلقين» صاحب غرناطة، وأرسلوا جميعًا
ومعهم العلماء والفقهاء وفدًا إلى «يوسف بن تاشفين» يستصرخونه
ويطلبون إنقاذهم.
كان من عادة زعيم المرابطين ألا يبرم أمرًا إلا بعد مشاورة الفقهاء،
وقد أشاروا عليه أن يبدأ بقتال القشتاليين، وأن تخلى له الجزيرة
الخضراء، فأمر يوسف بن تاشفين بعض فرسانه فعبروا من مدينة
سبتة على متن بعض السفن إلى الجزيرة الخضراء يقودهم «داود بن
عائشة»، وكان معهم جيش كثيف من الجنود، وأرسل المعتمد إلى
ابنه حاكم الجزيرة يطلب منه تركها وتيسير مهمة قوات المرابطين، ثم
تلاحقت الجنود بالجزيرة، وعبر «يوسف» نفسه، وعنى بتحصين
المدينة حتى اطمأن إلى أنها قد أصبحت فى حالة حسنة وبها من
المؤن والذخائر ما يكفيها، ثم سار فى معظم جيشه إلى «إشبيلية» ؛
حيث خرج المعتمد للقائه وأحسن استقباله وقدم له من الهدايا ما يليق
بمقامه وما أكد ليوسف أن الأندلس تتمتع بغنى موفور وثراء متزايد،
وقد طلب ابن تاشفين من أمراء الطوائف المشاركة فى الجهاد، فلبى
الدعوة صاحب غرناطة وأخوه صاحب مالقة، وقصد الجميع نحو
بطليوس حيث لقيهم ملكها وأخذت وفود الرؤساء تتوافد من سائر
أقطار الأندلس وانتظمت القوات الأندلسية وحدة قائمة بذاتها، القيادة
فيها لابن عباد واحتلت المقدمة، بينما احتلت الجيوش المرابطية
المؤخرة.
موقعة الزلاقة:
واصلت القوات الإسلامية سيرها حتى نزلت على سهل فسيح يقع إلى
الشمال من مدينة بطليوس قرب حدود البرتغال الحالية تسميه المصادر
العربية بالزلاقة، فلما علم «ألفونسو السادس» بأخبار المرابطين ترك
حصار «سرقسطة» وأرسل إلى «سانشوا» ملك «أراجون» يطلب
معونته، وكان بدوره يحاصر «طرشوشة» واستدعى قواته التى
كانت فى «بلنسية» ، وحشد كل ما استطاع وجاءه المتطوعون من
جنوبى فرنسا وإيطاليا وحرص على أن يكون لقاؤه بالمسلمين فى
الأراضى الإسلامية، حتى لا تتعرض بلاده للتخريب ثم اتجه نحو الجنوب
للقاء المرابطين، وهو يمتلئ زهوًا ويتيه فخرًا بما معه ومن معه،
ونزل فى مكان يبعد نحو ثلاثة أميال عن معسكر المسلمين، وقدر
جيشه بما بين أربعين إلى ثمانين ألفًا على حين قدر الجيش الإسلامى
بما بين عشرين إلى نحو خمسين ألفًا، وكان يقود المقدمة المعتمد بن
عباد، وعلى الميمنة «المتوكل بن الأفطس» وتكونت الميسرة من أهل
شرقى الأندلس، أما المؤخرة فكانت من البربر بقيادة «داود بن
عائشة»، وكان أنجاد المرابطين من لمتونة وصنهاجة وغيرها بقيادة
يوسف بن تاشفين.
لبث الجيشان ثلاثة أيام لايفصلهما سوى نهر، والرسل تتردد بينهما،
وقد أرسل «ابن تاشفين» إلى خصمه يدعوه إلى الإسلام أو الجزية
أو الحرب، فاستاء الملك النصرانى ورد بقوله: «إنى ما كنت أتوقع
أن يصل الحد بالمسلمين الذين كانوا يعطوننى الجزية منذ سنين أن
يعرضوا على مثل هذه الاقتراحات الجارحة ومع هذا فإن لدى جيشًا
فى استطاعته أن ينزل العقوبة على هذه الوقاحة البالغة من
الأعداء» ولم يكن جواب «يوسف» أكثر من هذه العبارة» الذى
يكون ستراه «.
جرت اتصالات تهدف إلى تحديد موعد المعركة، وحاول «ألفونسو»
خديعة المسلمين، لكن المعتمد بن عباد أدرك خديعته، وقد أخبرته
طلائعه بما فى معسكر العدو من حركة وجلبة سلاح، رغم أن الوقت
المتفق عليه لبدء القتال لم يكن قد حان بعد.
وفى أوائل (رمضان 480هـ = ديسمبر 1087م) بدأ القتال فى الصباح
الباكر واشتد لهيب المعركة وهاجم النصارى بعنف مقدمة «المعتمد بن
عباد» ونجح فى ردها عن مواقعها واختل نظامها وارتد معظمها إلى
بطليوس ولم يثبت إلا الإشبيليون وابن عباد الذى كان مثالا للشجاعة
والإقدام حيث صمد للعدو، وقاوم هجماته العنيفة رغم جرحه الذى فى
وجهه ويده، وهجم «ألفونسو» على مقدمة المرابطين التى يقودها
«داود بن عائشة» وردها عن مواقعها، وفى اللحظة المناسبة دفع
ابن تاشفين بقوات البربر إلى نجدة الأندلسيين والمرابطين، ونفذت
قواته إلى قلب النصارى بكل قوة، وسرعان ما تغير وجه المعركة،
لأن يوسف هاجم عدوه من الخلف مباغتة وهذا شجع الفارين فعادوا
ونظموا صفوفهم، وشدوا من أزر المعتمد، ورغم أن «ألفونسو» كان
قد وصل إلى خيام المرابطين، فإن ابن تاشفين تقدم على رأس من
معه من قوات وتجاوز جموع النصارى وقصد إلى معسكرهم نفسه
وهاجمه بشده وفتك بحراسته، ثم وثب إلى مؤخرة القشتاليين
النصارى، وأثخن فيهم قتلاً وطبوله تضرب فتشق أجواز الفضاء، ثم
أضرم النار فى معسكر الأعداء.
اضطر «ألفونسو» أن يستدير لينقذ معسكره؛ لكنه اصطدم بالمرابطين
ولم يصل إلى محلته إلا بعد خسائر فادحة، وكان «يوسف» أثناء
القتال يجول على صهوة جواده بين المحاربين يهيب بهم «أن
تشجعوا أيها المسلمون، أعداء الله أمامكم والجنة تننتظركم،
وطوبى لمن أحرز الشهادة».
وكان سماع النصارى لدوى الطبول ووقوف المسلمين يقاتلون فى
صفوف متراصة ثابتة من العوامل المساعدة على انتصار المسلمين
وإلحاقهم الهزيمة بصفوف عدوهم، وقد دفع «ابن تاشفين» بحرسه
الأسود البالغ عدده نحو أربعة آلاف إلى قلب المعركة فى الوقت
المناسب، وتمكن واحد منهم من الوصول إلى «ألفونسو» وطعنه فى
فخذه، الأمر الذى اضطره إلى الاعتصام بتل قريب حتى جن الليل ثم
هرب فى نحو خمسمائة فارس معظمهم من الجرحى ووصل إلى
طليطلة منهم مائة فقط.
أمضى المسلمون الليل يرقبون حركات النصارى وفى اليوم التالى
طارد الفرسان الفارين، وجمعت الأسلاب الهائلة.
وقد استبشر المسلمون فى شبه الجزيرة بهذا النصر العظيم غير أن
وصول نبأ وفاة الأمير أبى بكر بن يوسف بن تاشفين كدر صفو
النصر، وجعل «ابن تاشفين» يقرر العودة إلى بلاد المغرب ومعه عامة
الجند، وترك تحت إمرة المعتمد جيشًا من المرابطين مؤلفًا من ثلاثة
آلاف جندى. بعد أن نجح «يوسف» بما حققه من نصر مؤزر فى إعادة
روح الثقة والأمل إلى نفوس المسلمين بالأندلس.
عودة ابن تاشفين إلى الأندلس:
عبر ابن تاشفين مرة أخرى إلى الأندلس فى رجب (483هـ = سبتمبر
1090م)، واتجه نحو حصن يسمى حصن «لاييط» وهناك تبين له تخاذل
أمراء الطوائف فعزلهم جميعًا ووحد الأندلس، ولم يستثن من ذلك إلا
إمارة سرقسطة، فقد كان أصحابها محاطين بالنصارى من كل
ناحية، وخشى ابن تاشفين أن يسلموها للنصارى إذا تعرض لهم
فتركهم بدون تدخل، وبهذا العبور الثانى ليوسف بدأ عصر المرابطين
فى الأندلس.
وعلى الرغم من قيام المرابطين بمسئولياتهم فى المغربين الأوسط
والأقصى فإنه كان من مهامهم الرئيسية الدفاع عن الإسلام فى
الأندلس، ففى هذا الميدان جاهدوا وأنفقوا، واستشهد فيه خيرة
رجالهم، وعرفوا كيف يثبتون لعدوهم ويوقفون تقدم النصارى، رغم
تكتل الأعداء واستعانتهم بملوك غربى أوربا وبالبابوية، ومن مواقع
المرابطين التى أبلوا فيها بلاء حسنًا موقعة «أقليسن» شرقى
طليطلة، وكان من نتائجها استيلاؤهم على هذه المدينة، وعلى مدينة
طلبيرة للمرة الثانية سنة (503هـ = 1109م)، كما تمكنت البحرية
المرابطية فى سنة (509هـ = 1115م) من استعادة جزر البليار، ولو
بقيت هذه الجزر بيد النصارى لأصبحت خطرًا يهدد شرق الأندلس كله.
وهذا لا يعنى أن المرابطين خلت أيامهم من الهزائم، فقد تعرضوا
لنكبة عند بلدة «كتندة» القريبة من سرقسطة فى (ربيع الأول 514هـ=
يونيو 1120م)، واستشهد منهم ألوف من بينهم بعض العلماء بسبب
تسرعهم فى الهجوم على العدو قبل أن تنتظم صفوفهم، فاختل
نظامهم وكانت الهزيمة، لكنهم حققوا نصرًا فى موقعة «أفراغة»
جنوبى غربى «لاردة» بالثغر الأعلى فى سنة (528هـ = 1134م)،
يقودهم واحد من كبار رجالهم هو أبو زكريا يحيى بن غانية والى
بلنسية ومرسية.
وفى الوقت الذى يقوم فيه المرابطون بهذه المجهودات ويحققون
أعظم الانتصارات إذ بهم يفاجئون بثورة يقوم بها المصامدة بقيادة
«محمد بن تومرت» ضدهم فى بلاد المغرب. فكان سببًا فى توقف
الجهاد فى الأندلس وبدأت المدن تتساقط واحدة وراء الأخرى فى
أيدى النصارى، بسبب سحب القوات من الأندلس وهى فى أوج
انتصاراتها، وشغل المرابطون بالدفاع عن أنفسهم بالمغرب خاصة
بعد وفاة على بن يوسف بن تاشفين ثالث أمرائهم سنة (537هـ=
1142م)، وزاد الموقف سوءًا قيام بعض الأندلسيين بالثورات ضد
المرابطين وزعمهم أنهم أكثر رقيا وأعظم حضارة من هؤلاء الأفارقة.
النواحى الحضارية:
أما عن النواحى الفكرية والأدبية، فلم يكن المرابطون يرحبون
بمظاهر الحضارة الأندلسية، فخبا ضوء الفكر والأدب فى أيامهم،
وانتهت الحلقات الأدبية التى كانت تزدان بها قصور ملوك الطوائف،
وهذا لا يمنع من ظهور شخصيات عُدَّت امتدادًا لعصر الطوائف، يأتى
على رأس هؤلاء «ابن باجة» الطبيب الفيلسوف، وأبو بكر
الطرطوشى، والفتح بن خاقان، وابن بسام الشنترينى وأبو بكر بن
قزمان أمير الزجل الأندلسى وغيرهم.
وجدير بالذكر أن المرابطين حرصوا على تحرى الحق وتحقيق العدل
وإقامة شعائر الدين، وأقاموا مجتمعًا مسلمًا عمل على الجهاد فى
سبيل الله ونصرة دينه.
وكان بالأندلس قائد أعلى هو الحاكم العام غالبًا، وللمدن قادة
يخضعون لهذا القائد الأعلى ويتولون المهام العسكرية والإدارية
وغيرها، وكان اختيار الوالى يتم على أساس تقواه وعدالته وإجادته
لمهمته، وسرعان ما كان يعزل إذا فرط أو قصَّر، وقد قسمت الأندلس
زمن المرابطين إلى ست ولايات هى: إشبيلية وغرناطة وقرطبة
وبلنسية ومرسية وسرقسطة.
أما القضاء فقد بقى مستقلا، وكان القضاة يستشارون، ولهم
مكانتهم عند الناس وعند الدولة.
وقد استمرت الصناعة أيام المرابطين على نحو ما كانت عليه من
قبل، واهتموا بالجيش والأسطول، وتحصين الثغور والمدن.
الفصل الثامن
*الأندلس فى ظل الموحدين
[539 - 620 هـ = 1144 - 1223 م].
تمكن الموحدون من قتل أبى إسحاق إبراهيم بن تاشفين بن على بن
يوسف، وتم لهم بذلك القضاء على المرابطين، وفى سنة (555هـ =
1160م) عبر «عبدالمؤمن بن على» أول خلفاء الموحدين إلى الأندلس؛
لضم ما بقى بها إلى دولته، واستقر فى إشبيلية، ونظم الدفاع عن
البلاد، وأقام على قواعد الأندلس رجالا من آل بيته، وتمكن من توحيد
معظم ما بقى من الأندلس تحت رايته، ولم يخرج عن طاعته إلا بنو
غانية أمراء دانية، ومحمد بن سعد بن مراديشن رئيس مرسية الذى
انضمت بلاده إلى الموحدين بعد ذلك، وبدأ جهاد المسلمين ضد
النصارى واتخذ ميدانًا له غربى الأندلس بعد أن كان مجاله شرقى
الأندلس زمن المرابطين.
كان الخليفة الموحدى أبو يوسف يعقوب الملقب بالمنصور هو أكبر
شخصية فى تاريخ الموحدين بعد محمد بن تومرت وعبدالمؤمن بن
على قد عقد صلحًا مع النصارى، وعندما انتهت مدة هذا الصلح سنة
(590هـ = 1194م) بدأ هؤلاء فى مهاجمة أراضى المسلمين، فعبر أبو
يوسف يعقوب إلى الأندلس ومعه خيرة المقاتلين الموحدين وضم إليه
أحسن مقاتلى الأندلس، وحشد حشدًا عظيمًا من جنده وحمسهم فى
هذه الحملة، بينما استعان عدوه «ألفونسو الثامن» ملك قشتالة
وليون بملوك النصارى وبالبابوية، وكون جيشًا ضخمًا، وعسكر عند
حصن يسمى «الأرك» عند نهاية الطريق المؤدى من طليطلة إلى
قرطبة على بعد (20كم) بالقرب من قلعة «رباح» وغرب المدينة
الملكية الآن، وبدأت موقعة حاسمة فى (شعبان 591هـ = يوليو
1195م) أسفرت عن نصر مؤزر للمسلمين، وانكسرت حدة الموجة
النصرانية، وكان لهذا النصر أثره فى تثبيت جبهة الإسلام فى الأندلس
لمدة طويلة من الزمان.
وبعد هذه الهزيمة عقدت هدنة بين المسلمين والنصارى سنة (594هـ =
1198م)، ولكن ملك النصارى ما كان ليستريح بعد هزيمته القاسية
فى «الأرك» ، ولذلك أخذ فى الاستعداد لمعركة جديدة مع المسلمين
قبل انتهاء أمد الهدنة وأعد جيشًا ضخمًا واحتشد بكل ما يستطيع
بمعاونة كاملة من ملوك النصارى فى غرب أوربا ومن البابوية ومن
نصارى إسبانيا وشجعه موت أبى يوسف يعقوب خليفة الموحدين،
وتولية خلفه أبى عبدالله محمد الناصر الذى كان أقل كفاءة من أبيه
وقد عبر الخليفة الجديد إلى الأندلس فى ذى الحجة (607هـ = 1211م)
على رأس جيش ضخم ونزل إشبيلية ومن هناك صعد شمالى الوادى
الكبير وعسكر فى سهل تكثر فيه التلال الصغيرة ويقع غربى
الحصن المسمى بالعقاب (جمع عقبة)، وأقبل النصارى كذلك،
وعسكروا فوق هضبة الملك المشرفة على معسكر المسلمين، وقبل
اللقاء استولى النصارى على قلعة «رباح» من قائدها الأندلسى،
وعندما وصل هذا القائد إلى معسكر الناصر قتله دون تحقيق، الأمر
الذى أغضب الأندلسيين وأثَّر فى معنوياتهم.
بدأ اللقاء فى (15 من صفر 609هـ = 16 من يوليو 1212م)، وانخذل
الأندلسيون والخارجون على المسلمين من العرب بعد قليل، وتركوا
الجناح الشرقى للمسلمين مكشوفًا فانقض عليهم النصارى وحصدوا
الألوف من متطوعة المسلمين المجاهدين من الأندلس كما حصدوا زهرة
مقاتلى الأندلس، وعددًا كبيرًا من خيرة العلماء والفقهاء والقضاة،
وكان الخطب عظيمًا حتى قيل إن الإنسان كان يتجول فى المغرب
بعد المعركة فلا يصادف شابًا قادرًا على القتال.
وبعدها ضعفت جبهة الوادى الكبير، وسقطت مدن كبرى، وأشرف
النصارى مباشرة على قرطبة وإشبيلية ومرسية وغيرها من عواصم
هذا الخط، ثم توفى خليفة الموحدين الناصر فى شعبان (610هـ =
1213م)،ودب الخلاف فى صفوف البيت الموحدى وانعكس ذلك على
الأندلس فبدأت تصفية ما بقى للمسلمين من أرضها خلال عصر
الموحدين ولم تبق إلا مملكة غرناطة.
لمحة عن الجوانب الحضارية والإدارية:
كانت الأندلس فى عهد الموحدين ولاية من ولايات الدولة، يأتى
الخليفة إليها ويرعى شئونها العسكرية والعلمية والإدارية كلما دعت
الظروف إلى ذلك، وقد أكد الخلفاء والولاة وجوب إقامة العدل
والتمسك بالشريعة فى كل الأمور، وقد بلغت الدولة الموحدية مكانة
عالية فى النواحى الحربية والسياسية والحضارية حتى جاءت الوفود
إلى البلاط الموحدى لعقد المعاهدات وإظهار الصداقة، وفى آخر
العهد الموحدى أنشئ منصب وزارى لاستقبال الشعراء والعناية
بأمورهم.
وكانت هناك عناية بالإنشاءات العسكرية والتحصينات وكان
الأسطول موضع اهتمام الخلفاء، كما كان للجيش أسلوبه فى التحرك
والقتال وله تنظيماته، وكان هناك مجلس عسكرى أول يستشار فى
الخطط والأمور العسكرية وكانت الخلافة وراثية. كما كان الاهتمام
عاليًا بالجوانب الإدارية والمالية والموارد والمصارف، وكان القضاء
مستقلا يتولاه أهل الأندلس ويحكمون بين الناس بما أنزل الله، ونعمت
البلاد بالأمن والرخاء فى ظل صناعة وزراعة وتجارة مزدهرة.
أما عن الناحية العمرانية فقد أنشأ الخليفة أبو يعقوب يوسف بعض
المشروعات فى «إشبيلية» ، منها بناء القنطرة على نهر الوادى
الكبير، كما حصن هذه المدينة وأقام بها منشآت لتوفير المياه
الجارية لسقاية الناس، وأسس الخليفة أبو يعقوب سنة (567هـ =
1172م) جامع إشبيلية الأعظم وأتم ابنه المنصور صومعته أو مئذنته
الكبيرة عام (584هـ = 1188م) وهذه المئذنة قائمة حتى اليوم،
وتعرف بالمئذنة الدوارة (لاخيرالدا) ويبلغ ارتفاعها (96) مترًا، كذلك
أقام الموحدون بعض القصور الخاصة المحاطة ببساتين تزينها أشجار
الفواكه والثمار وتسقى بواسطة النواعير (السواقى).
وقد برز بالأندلس على عهد الموحدين عدد من البارعين فى فروع
العلم والمعرفة منهم أبو محمد بن خير، وأبو الحسين محمد بن أحمد
بن جبير الرحالة المشهور، وأبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم
الكلاعى، الحافظ المحدث الأديب، وأبو الحسن على بن محمد
الرعينى الكاتب الأديب، وأبو مروان عبدالملك بن محمد بن صاحب
الصلاة المؤرخ، وعبدالواحد المراكشى، وعلى بن موسى بن سعيد،
وابن عذارى من المؤرخين، وأبو جعفر أحمد الغافقى وأسرة بنى
زهر علماء الطب والنبات، وأبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد
الحفيد، الذى اشتهر بالطب والفلسفة، وغير هؤلاء من العلماء
المجاهدين كثير.
الفصل التاسع
*دولة بنو نصر
[629 - 897 هـ = 1232 - 1492 م].
انفرط عقد الأندلس بعنف بعد هزيمة الموحدين فى معركة «العقاب»
أمام الجيوش الإسبانية والأوربية المتحالفة، وسارت الأمور من سيئ
إلى أسوأ، والقواعد تخرج من قبضة الموحدين واحدة بعد الأخرى،
ينتزع بعضها ابن هود الثائر وبعضها النصارى وأتاحت هذه الظروف
فرصة الظهور والمغامرة للطامحين من القادة والزعماء.
فى تلك الأثناء ظهر محمد بن يوسف بن نصر أو ابن الأحمر الملقب
بالغالب بالله فى وقت اشتدت فيه المحن، وانعقدت عليه الآمال؛
لتميزه بالشجاعة ومجاهدة العدو، والتف حوله الناس وبايعوه فى
«أرجونة» وما حولها على بعد ثلاثين كيلو مترًا من «جيان» فى
(رمضان 629هـ = يوليو 1232م) وتوافد عليه جنود الأندلس؛ فأعلن
نفسه أميرًا وانتقل إلى «جيان» ، ودخلت فى طاعته بلاد الجنوب
كلها، لكنه أحس أنه فى حاجة إلى معقل يعتصم به؛ لأن «جيان»
مدينة مكشوفة، فوقع اختياره على غرناطة الواقعة عند سفح جبل
الثلج، وكان يوجد فى أعلى الجبل حصن منيع سبق تعميره أول
عصر ملوك الطوائف، فتوجه إليه وسكنه واستقر به، وشيئًا فشيئًا
أخذ يوسع نطاق سلطانه، حتى أصبحت دولته تضم بين جنباتها ثلاث
ولايات كبيرة هى: غرناطة وألمرية، ومالقة، ووصلت حدودها إلى
شاطئ البحر الأبيض المتوسط ومضيق جبل طارق، واتخذ مدينة
غرناطة عاصمة لدولته، وساعد على دعم دولته استيلاؤه على ألمرية
ومالقة لما لهما من أهمية عظيمة فى المجالين التجارى والبحرى.
وقد واجهت «ابن نصر» بعض المشكلات الداخلية والخارجية، منها:
علاقته بأصهاره «بنى أشقيولة» الذين عاونوه ثم انقلبوا عليه،
ونقص المال الذى كان فى أشد الحاجة إليه لتثبيت قواعد سلطانه،
ومشكلته مع ملوك النصارى الذين أدركوا خطر دولته الناشئة وأرادوا
القضاء عليها، فاضطر إلى أن يعقد معهم معاهدة صلح سنة (643هـ
= 1245م) لمدة عشرين عامًا، وبمقتضاها حكم ابن الأحمر مملكته
باسم ملك قشتالة «فرناندو الثالث» ودفع له جزية، ووافق على
حضور البلاط القشتالى باعتباره واحدًا من أمراء الملك، وعلى مده
بالجنود كلما طلب منه ذلك، وبالفعل أمده ابن الأحمر بقوات ساعدت
على سقوط «إشبيلية» فى يد النصارى فى (3 شعبان 646هـ =
نوفمبر 1248م).
وفى (جمادى الثانية 671هـ = ديسمبر 1272م) توفى محمد بن يوسف
بن نصر الملقب بالشيخ، وكان قد أخذ البيعة لولده محمد، فأقر بذلك
مبدأ الملكية الوراثية، وقد اعتلى محمد الثانى العرش ولقب بالفقيه؛
لاشتغاله بالعلم أيام أبيه، وقال عنه ابن الخطيب:
«وهو الذى رتب رسوم الملك للدولة ووضع ألقاب خدمتها، ونظم
دواوينها وجبايتها، هذا إلى جانب اعتنائه بالجيش وخاصة فرق
الفرسان .. وكان سياسيا بارزًا .. ، أديبًا عالمًا، يقرض الشعر ويجالس
العلماء والأدباء والأطباء والمنجمين والحكماء، والكتاب والشعراء».
وقد واجه الأمير الجديد ثلاث مشكلات هى، مشكلته مع الإسبان، وقد
نجح فى تحقيق انتصارات عليهم منتهزًا فرصة موت مليكهم، ومع
المرينيين الذين استنصر بهم ليعاونوه فى الجهاد ضد المسيحيين
فإذا بهم يطمعون فى الاستيلاء على الأندلس، الشىء الذى دفعه
إلى التحالف مع ملك أراجون تارة ومع ملك قشتالة تارة أخرى لدرء
خطر المرينيين، وعلى الرغم من تحسن العلاقات بين غرناطة وفاس،
فإن الفقيه لم يكن يطمئن إلى نياتهم، وقد دفعهم ذلك إلى التحالف
مع النصارى مرات، وأخيرًا كانت هناك مشكلة مع أصهار أبيه «بنى
أشقيلولة» التى اشتدت فى زمنه، وانتهت بصدور أمر يقضى
بتهجيرهم إلى مدينة القصر الكبير بشمالى المغرب جنوب مدينة سبتة
سنة (687هـ = 1288 م).
وعلى كل حال فقد توفى محمد الفقيه فى (شعبان 701هـ = أبريل
1302م) بعد أن نجح فى دعم دولته داخليا وخارجيا.
تولى الأمر بعد محمد الفقيه ابنه أبو عبدالله محمد، وفى عهده تحالف
ملكا قشتالة وأراجون على غزو مملكة غرناطة برا وبحرًا، ولكن
«ألمرية» تمكنت من الصمود فى مواجهة أقصى هجوم عرفته فى
تاريخها وتمكن جيشها بقيادة شيخ الغزاة «عثمان بن أبى العلاء»
من هزيمة جيش أراجون، لكن العلاقة ساءت بين غرناطة وفاس، وقام
صاحب مالقة بثورة عارمة ضد الحكومة المركزية، وكانت فتنة وقتال
وحرب وهدنة استمرت أعوامًا ولم تنته إلا بموت الأمير.
ثم تولى أبو الوليد إسماعيل بن فرح (713هـ = 1313م) الذى اشتهر
بإقامة الحدود وتطبيق الشرع، وفى عهده قام القشتاليون بهجوم
ضخم على غرناطة، انتهى بمقتل أميرى الجيش النصرانى فى مروج
غرناطة، وانتهز الأمير فرصة منازعات بين أمراء قشتالة واستولى
على بعض المدن القشتالية ومنها مدينة «أشكر» ، وقد استخدم
الغرناطيون المدفع لأول مرة عند منازلتهم لها.
ثم تولى أبو عبدالله محمد الرابع بن إسماعيل (725هـ = 1325م) الذى
اشتهر بالشجاعة كما كان مغرمًا بالصيد محبا للأدب والشعر، وفى
عهده قامت بعض الفتن الداخلية التى انتهزها النصارى واستولوا
على عدد من الحصون، كما أحرز أسطولهم نصرًا على الأسطول
الإسلامى فى ألمرية ومالقة.
وقد دفع هذا السلطان أن يعبر بنفسه إلى المغرب ليستنجد ببنى
مرين الذين أجابوه إلى ما طلب، ونزلت قوات المرينيين على جبل
الفتح وأمكنها الاستيلاء عليه عام (733هـ = 1333م)، ولكن السلطان
قُتل فى طريق عودته إلى غرناطة وتولى من بعده أخوه أبو الحجاج
يوسف الأول.
وشهدت مملكة غرناطة فى عهده عصرها الذهبى، فأنشئت المدرسة
اليوسفية والنصرية، وجرى الاهتمام بتحصين البلاد، وإنشاء
المصانع، وإقامة الحصون، وبناء السور العظيم حول ربض البيازين
فى غرناطة، وأضيفت منشآت كثيرة إلى قصر الحمراء منها باب
الشريعة وغيره، وكان السلطان حريصًا على تفقد أحوال شعبه
بنفسه.
ومن الأحداث العظام فى عهده: الوباء الأسود الذى تفشى فى حوض
البحر الأبيض المتوسط عامى (749 - 750هـ = 1348 - 1349م)، وشمل
المشرق والمغرب، وراح ضحيته عدد عظيم من علماء الأندلس ورجال
الدين والأدب والسياسة فيها.
وعلى الرغم من قيام أبى الحجاج بعقد سلام مع ملك قشتالة عام
(734هـ = 1334م) فإنه سرعان ما تحطم وبدأ صراع بين غرناطة
والمغرب من ناحية، وقشتالة تساندها أراجون والبرتغال من ناحية
أخرى حول السيطرة على جبل طارق، وبعد معارك انتهى الأمر بين
كل الأطراف بعقد معاهدة مدتها عشر سنوات، وتوفى يوسف الأول
قتيلاً فى (أول شوال 755هـ = سبتمبر 1357م)، وتولى ابنه محمد
الخامس الغنى بالله، وحدث صراع وتحالف بين هذا الطرف أو ذاك
وبين ملوك النصارى، وانتهت هذه المرحلة بعقد صلح دائم بين قشتالة
وأراجون وغرناطة والمغرب عام (772هـ = 1370م)، ثم توفى
السلطان محمد الخامس الذى كان ملك البرتغال وسلطان بنى مرين قد
ساعداه على استرداد ملكه، وبعده تعاقب على عرش غرناطة عدد
من السلاطين الضعاف وتعرضت المملكة لكثير من الفتن والدسائس
والمؤامرات وجرت اتصالات وتحالفات مع ملوك النصارى، وبلغ
الاضطراب حدا تعاقب فيه على مملكة غرناطة اثنا عشر سلطانًا خلال
القرن (9هـ = 15م)، تولى بعضهم أكثر من مرة، فشهدت غرناطة
اعتلاء عشرين سلطانًا على عرشها.
حدث هذا فى الوقت الذى شهدت إسبانيا المسيحية نهضة حربية
وسياسية توجت بزواج «فرناندو الثالث» ملك أراجون من «إيزابيلا»
ملكة قشتالة، واتحدت الدولتان فى مملكة واحدة عام (874هـ =
1469م) بعد طول نزاع وحروب، وكان ذلك بداية النهاية لمملكة
غرناطة الإسلامية التى استمر بقاؤها معتمدًا - على حد كبير - على
استغلال النزاع بين هاتين المملكتين، وبدأ الملكان الكاثوليكيان
يعملان على إنهاء الوجود الإسلامى فى شبه الجزيرة، وعرف ذلك
سلطان غرناطة فامتنع عن دفع الجزية لقشتالة وبدأ النزاع بين
الجانبين، وتمكن النصارى من الاستيلاء على حصن «الحمة» عام
(887هـ = 1482م).
وزاد من سوء الموقف اشتعال الحروب الأهلية بين أفراد البيت
الحاكم؛ فقد هجر السلطان أبا الحسن على ولداه «أبو عبدالله محمد»
و «يوسف» وأعلنا الثورة على والدهما بسبب خضوعه لسيطرة زوجته
الرومية الأصل وإهماله أمهما، وقد قامت حروب بين الفريقين،
أسفرت عن طرد السلطان أبى الحسن الذى لجأ إلى مدينة بسطة،
كما قتل ابنه يوسف وتولى ابنه أبو عبدالله على مملكة غرناطة، وقد
تعرض السلطان الجديد لهزيمة على يد النصارى وأسروه ثم أطلقوا
سراحه بعد أن أملوا عليه شروطهم، وواصل السلطان الجديد الحرب
ضد والده الذى سرعان ما توفى وخلفه أخوه أبو عبدالله محمد
الملقب بالزغل.
انتهز النصارى فرصة هذه الفتن واستولوا على بعض المدن، وبعثوا
إلى الزغل يعرضون تسليم ما معه من أراضٍ مقابل مال كثير فوافق
ورحل إلى فاس، وهناك وضعه سلطان المغرب فى السجن وصادر
أمواله وسمل عينيه.
وقد لجأت مملكة غرناطة فى السنوات الأخيرة من عمرها إلى
السلطات الحاكمة فى مصر تطلب نجدتها، ولكن مصر المملوكية آنئذٍ
لم يكن فى مقدورها أن تفعل شيئًا بسبب ظروفها الداخلية، وكل ما
استطاعته هو التهديد. بمعاملة المسيحيين فى المشرق معاملة سيئة
إذا ما تعرض المسلمون فى الأندلس للإهانة، وقد أرسل الملكان
المسيحيان سفارة إلى السلطان «قانصوه الغورى» عام (907هـ =
1501م) طمأنته على وضع المسلمين وأزالت التوتر بين الجانبين.
وقد التقت قوات غرناطة والمرينيين من قبل وحاربوا قوات قشتالة
وليون عند «أسنجة» جنوبى قرطبة سنة (647 هـ = 1249م)، وتحمس
المسلمون حماسًا عظيمًا ومزقوا قوات قشتالة شر ممزق، واضطر
«ألفونسو العاشر» إلى طلب الصلح، وحدث لقاء مماثل قرب غرناطة
عام (718هـ = 1318م) اتحد فيه المسلمون فحققوا نصرًا مؤزرًا، وهذا
يعنى أن قوة المسلمين فى الأندلس كانت لاتزال تستطيع الدفاع عن
نفسها ودحر عدوها إذا وحدت صفوفها وأدركت أهمية معاركها،
ووعت جيدًا دورها فى مواجهة الأعداء وتثبيت أقدام المسلمين فى
أرض الأندلس، لكن النفور بين المرينيين وبين بنى نصر كان أكثر
أذىً وأشد وطأة من خلافهم مع النصارى.
وبقى عبدالله فى الميدان وحده وقد رفض تسليم غرناطة وصمم على
القتال، وفى عام (896هـ = 1491م) قام الملك «فرناندو» بحصار
غرناطة وأفسد زراعتها وأقام حولها القواعد، ثم توصل الطرفان
إلى معاهدة التسليم، ودخل الملكان الكاثوليكيان مدينة غرناطة فى
(الثانى من ربيع الأول 897هـ = الثانى من يناير 1492م).
بعض مظاهر الحضارة بغرناطة فى عصر بنى نصر:
ازداد عدد السكان فى مملكة غرناطة بسبب تدفق المهاجرين إليها من
المدن الأخرى وبسبب هجرة المدجنين الذين أفتاهم فقهاؤهم بضرورة
مغادرة البلاد التى سقطت فى يد النصارى، فلجأ إليها العلماء
والأدباء وعامة الناس، كذلك عاش البربر الذين جاءوا لمعاونة غرناطة
فى حروبها ضد المسيحيين، كما تحدثت بعض المصادر عن عناصر
سودانية خارج مالقة، وعن صوفية وفدوا من الهند وخراسان وبلاد
فارس للمرابطة فى سبيل الله، هذا بالإضافة إلى الأفارقة السود
الذين عبروا إلى الأندلس منذ حركة الفتوح الأولى، وقد تغلغل حب
الانتماء إلى القبائل العربية بين الأندلسيين، ويذكر فى هذا أن بنى
نصر ملوك غرناطة ينسبون أنفسهم إلى الصحابى الجليل «سعد بن
عبادة» سيد الخزرج وأحد زعماء الأنصار.
العمارة فى مملكة غرناطة:
كان لغرناطة مسجد جامع من أبدع الجوامع وأحسنها منظرًا. لا
يلاصقه بناء، قد قام سقفه على أعمدة حسان، والماء يجرى داخله.
وإلى جانب المسجد الجامع وجدت مساجد أخرى مهمة مثل: مسجد
الحمراء وعدد من المساجد فى الأحياء المختلفة.
واشتهرت مساجد غرناطة باستخدام الرخام، كما عرفت المساجد
الأندلسية بتجميل صحونها بحدائق الفاكهة وأقيمت المآذن منفصلة
عن المساجد يفصل بينها صحن المسجد، وكانت المئذنة عبارة عن
أربعة أبراج مربعة وتتكون من طابقين، ويحيط بها سور يزين أعلاه
بكرات معدنية مختلفة، وحتى الآن توجد مئذنتان ترجعان إلى عصر
دولة بنى نصر، الأولى مئذنة مسجد تحول إلى كنيسة هى كنيسة
«سان خوان دى لوس ريس» ، والثانى ببلدة «رندة» التى تحول
مسجدها إلى كنيسة باسم «سان سباستيان» .
قصر الحمراء:
يعد قصر الحمراء من أعظم الآثار الأندلسية بما حواه من بدائع الصنع
والفن، وقد كانت الحمراء قلعة متواضعة فى القرن الرابع الهجرى،
وعندما تولى «باديس بن حبوس» زعيم البربر غرناطة اتخذها قاعدة
لملكه، وأنشأ سورًا ضخمًا حول التل الذى تقع عليه، وبنى فى داخله
قصبة جعلها مركزًا لحكمه، وقد تطورت مع الزمن وأصبحت حصن
غرناطة المنيع.
ولما دخل «محمد بن الأحمر» غرناطة عام (635هـ = 1238م)، أخذ
يبحث عن مكان مناسب تتوافر له القوة والمناعة، فاستقر به المطاف
عند موقع الحمراء فى الشمال الشرقى من غرناطة، وفى هذا
المكان المرتفع وضع أساس حصنه الجديد «قصبة الحمراء» ، ولكى
يوفر له الماء أمر بعمل سد على نهر «حدرة» شمالى التل، شيدت
عليه القلعة، ومنه تؤخذ المياه وترفع إلى الحصن بواسطة السواقى،
وقد باشر السلطان العمل بنفسه واشترك فيه وكافأ المجتهدين،
واتخذ ابن الأحمر من هذا القصر مركزًا لملكه وأنشأ فيه عددًا من
الأبراج المنيعة، وأقام سورًا ضخمًا يمتد حتى مستوى الهضبة، وفى
عهد «محمد الفقيه» استكمل الحصن والقصر الملكى، ولما تولى
«محمد الثالث» قام ببناء المسجد الجامع بالقصر.
وكان عهد السلطان «يوسف الأول» وولده «محمد الخامس» هو العصر
الذهبى لعمليات الإنشاء والتشييد فى قصر الحمراء ففى عهد الأول
أقيم السور الذى يحيط بالحمراء بأبراجه وبوابته العظمى المعروفة
بباب الشريعة أو العدل وغير ذلك من الأبراج والقصور والحمامات،
وقام الثانى بإصلاح ما بدأه أبوه وإتمامه، ثم قام بتشييد مجموعة
قصر السباع، وقاعة الملوك أو العدل وغيرها.
وقد يسأل سائل، من أين جاء اسم الحمراء؟ قيل إن هذا اسم قلعة
الحمراء القديمة التى فوقها بنى ابن الأحمر قصره، وقيل: إن هذا
الاسم مرجعه احمرار أبراج قصر غرناطة الشاهقة، أو إن ذلك يرجع
إلى لون الآجر الذى بنيت به الأسوار الخارجية، أو إلى لون التربة
التى بنيت عليها والتى اكتسبت لونها الأحمر من كثرة أكسيد الحديد
بها ولهذا سميت بتل السبيكة.
وأيا ما كان الأمر فليست هناك صلة بين اسم الحمراء وبنى الأحمر
الذين لقبوا بهذا بسبب احمرار شعر جدهم، ولم يلبث أن ارتبط كلاهما
بالآخر.
قصر جنة العريف:
شيد فى أواخر القرن الثالث عشر الميلادى، ثم جدده السلطان أبو
الوليد، ويقع بالقرب من قصر الحمراء ويطل عليه، وهو فى شمال
شرقى الهضبة وتظهر من ورائه جبال الثلج، ويدخل الإنسان إلى هذا
القصر من مدخل متواضع يؤدى إلى ساحة فسيحة على جانبها
رواقان طويلان ضيقان، وفى وسط الساحة بركة ماء غرست حولها
الرياحين والزهور الفائقة الجمال حتى أصبح هذا القصر المثل
المضروب فى الظل الممدود والماء المسكوب والنسيم العليل وقد
اتخذه ملوك غرناطة متنزهًا للراحة والاستجمام.
قصر شنيل أو قصر السيد:
يرجع تاريخه إلى زمن الأمير الموحدى أبى إسحاق ابن الخليفة أبى
يعقوب يوسف، وقد اتُخذ قصرًا للضيافة فى عهد بنى نصر، ويقع
على الضفة اليسرى لنهر «شنيل» وقد أقام سلاطين بنى نصر قصورًا
أخرى فى العاصمة وغيرها من المدن لا يزال بعضها باقيًا إلى اليوم
منها: القصر الذى بناه محمد الفقيه فى ربض البيازين، وكان يضم
نافورة رخامية وصالة مربعة جميلة مملوء بالمناظر البديعة، وبالقرب
من هذا القصر منزل يعود إلى القرن الثالث عشر الميلادى، وفى حى
القصبة القديمة بالبيازين قصر «دار الحرة» وهو عبارة عن صحن
محاط بالأروقة تفتح عليها صالات ولا يزال يحتفظ بزخارفه الحائطية
لليوم، كما توجد أطلال بعض المنازل التى ترجع إلى زمن بنى نصر
فى غرناطة وما حولها.
الناحية العلمية:
أما فى الناحية العلمية، فقد حافظت تلك الفترة على ما خطه
السابقون وأضافت إليه، ونجد ثبتًا طويلا بأسماء اللامعين فى كتاب
الإحاطة لابن الخطيب، وفى نفح الطيب للمقرى، كما أنشئت المدارس
وتوافرت الاختراعات مثل: المدافع والبنادق التى استعملها المسلمون
فى دفاعهم عن غرناطة، ويحتفظ متحف مدريد الحربى بنماذج منها
حتى الآن.
كذلك ازدهرت صناعات عديدة منها: صناعة السفن، والمنسوجات،
وقد أنتجت المصانع القماش الموشى بالذهب فى ألمرية ومالقة
وأقمشة أخرى فى غرناطة وبسطة، وتم اتخاذ الفراء من بعض
الحيوانات البحرية.
كما عرفت المملكة صناعة الأصباغ والجلود والحلى وغيرها؛ كذلك
اهتم بنو نصر بالزراعة وما يتصل بها من وسائل الرى وأنواع
المزروعات، وكانت مدينة غرناطة أجمل مدن العالم بشوارعها
وميادينها وحدائقها ومرافقها وكانت تصدر صناعاتها إلى عدد من
البلدان بعضها أوربى، وهناك أسماء كثيرة من أعلام الفكر ظهرت
فى هذه الفترة منها: ابن البيطار وابن خاتمة وابن الخطيب، وهناك
عدد من سلاطين بنى نصر ألفوا كتبًا فى الأدب، ورعوا العلم ورجاله
ومعاهده.
5 -
المورسكيون:
جمع مفرده: «المورسكى» وهى تصغير لكلمة «الموروه» والمقصود
بها أفراد الشعب المسلم الذى ظل موجودًا بإسبانيا يخضع لحكم
الملكين الكاثوليكيين بعد سقوط غرناطة فى أيديهما.
وقد نظمت معاهدة التسليم حقوق وواجبات هؤلاء، لكن بنود هذه
المعاهدة سقطت واحدًا وراء الآخر، وأريد لهم أن يكونوا نصارى
شاءوا أم أبوا، وتم فى سبيل ذلك اللجوء إلى كل ألوان الأساليب
وأشدها قسوة وعنفًا مع استخدام الأمانى أحيانًا.
وقد أبت غالبية المسلمين أن تفرض عليهم عقيدة لم يؤمنوا بها
فاصطدموا بالسلطات المسئولة دينية ومدنية، واستخدمت محاكم
التفتيش معهم كل حيلها من اعتقال وتشريد ومصادرة وتحريق، كما
جوبهت ثوراتهم على الظلم بكل قسوة وعنف، ولم يفت المسئولون
استخدام وسائل التبشير والإغراء، وظل المسلمون على موقفهم
وواصلوا ممارسة شعائرهم الإسلامية فى العلن حينًا وفى السر
أحيانًا، وبلغ الضيق برجال الكنيسة ورجال الحكم مداه، وبعد
مناقشات مستفيضة تقرر طرد المورسكيين من كل إسبانيا، وتم ذلك
بالفعل فى الفترة من (1609 - 1614م)، حدث ذلك دون مراعاة لمشاعر
هذه الشريحة من المجتمع الإسبانى، على الرغم مما كان لها من دور
متميز فى خدمة الزراعة والاقتصاد بمختلف بلدان شبه الجزيرة.
وتم بهذا الطرد إنهاء فصل من فصول العلاقات بالغة الأهمية بين
الإسلام والنصرانية فى بلاد الأندلس. ولله الأمر من قبل ومن بعد وإليه
المرجع والمآب.
- المراجع:
* آنخل جنثالث بالنثيا: تاريخ الفكرالأندلسي - ترجمة: حسين مؤنس - القاهرة - 1955م.
* بن البار (أبوعبدالله محمد): الحلةالسيراء - تحقيق حسين مؤنس - الشركة العربية للطباعة والنشر - القاهرة - 1963م
* بن الأثير (عزالدين): الكامل في التاريخ - دارالكتب العلمية - بيروت - الطبعة الثانية - 1408هـ = 1988م.
* أحمد مختارالعبادي: في تاريخ المغرب والأندلس - بيروت - 1972م.
* بن بسام: الذخيرةفي محاسن أهل الجزيرة - تحقيق احسان عباس - بيروت - 1978م.
* بن بطوطة: رحلةابن بطوطة - بيروت - دارالكتب العلمية - بدون تاريخ.
* بن حيان (أبومروان): المقتبس في أخبار بلد الأندلس - تحقيق عبدالرحمن علي الحجي - دارالكتاب العربي - بيروت - 1393هـ = 1973م.
* حسين مؤنس: فجرالأندلس - الدار السعودية للنشر والتوزيع - جدة - الطبعةالثانية - 1405هـ = 1985م.
* الحميدي: جذوةالمقتبس - مجموعة تراثنا - القاهرة - 1966م.
* بن الخطيب (لسان الدين محمد): الإحاطة في أخبار غرناطة - تحقيق: محمد عبد الله عنان - مكتبةالخانجي - القاهرة - الطبعةالثانية - 1393هـ = 1973م.
* بن الخطيب (لسان الدين محمد): أعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام - تحقيق: ليفي بروفنسال - معهد العلوم العليا المغربية - الدارالبيضاء - 1934م.
* بن خلدون (عبدالرحمن بن محمد): تاريخ ابن خلدون - مؤسسة جمال للطباعةوالنشر - بيروت - 1399هـ = 1979م.
* دوزي: تاريخ مسلمي أسبانيا - ترجمة: حسن حبشي - دارالمعارف - القاهرة - 1963م.
* السلاوي (أحمدبن خالد): الاستقصا لأخبار المغرب الأقصي - دارالكتاب - الدار البيضاء - 1954م.
* السيد عبدالعزيزسالم: قرطبة حاضرة الخلافة في الأندلس - بيروت - 1971م.
* الصفدي (صلاح الدين خليل): الوافي بالوفيات - دار فرانز شتاينر - شتوتجارت - 1992م.
* عبدالرحمن علي حجي: التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي حتي سقوط غرناطة - دار الإعتصام - القاهرة - 1403هـ = 1983م.
* عبدالعزيز الأهواني: سفارة سياسية من غرناطة الي القاهرة في القرن التاسع الهجري - بحث في مجلة آداب القاهرة.
* بن عذاري المراكشي (أبو عبدالله محمد): البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب - تحقيق كولانو بروفنسال - دارالثقافة - بيروت - الطبعة الثانية - 1400هـ = 1980م.
* القلقشندي (أحمد بن علي): صبح الأعشي في صناعة الأنشا - دارالكتب العلمية - بيروت - الطبعة الأولي - 1987م.
* ليفي بروفنسال: الإسلام في المغرب والأندلس - ترجمة السيد عبد العزيز ومحمد صلاح الدين - القاهرة - 1956م.
* محمد عبدالله عنان: دولة الإسلام في الأندلس - مكتبة الخانجي - القاهرة - الطبعة الثالثة - 1408هـ = 1988م0
* المراكشي: المعجب في تلخيص أخبار المغرب - مصر - 1324هـ.
* المقري: نفح الطيب - تحقيق الدكتور احسان عباس - بيروت - 1388هـ = 1968م.