المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الجزء الثامن   ‌ ‌الدولة العثمانية تأليف: أ. د. محمد حرب رئيس المركز المصري للدراسات العثمانية - موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي - جـ ٨

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: الجزء الثامن   ‌ ‌الدولة العثمانية تأليف: أ. د. محمد حرب رئيس المركز المصري للدراسات العثمانية

الجزء الثامن

‌الدولة العثمانية

تأليف:

أ. د. محمد حرب

رئيس المركز المصري للدراسات العثمانية وبحوث العالم التركي

الفصل الأول

*إمارة آل عثمان

استولى «جنكيزخان» فى الربع الأول من القرن الثالث عشر الميلادى

على شمالى «الصين» ، وبدأ زحفه نحو «تركستان» التى نجحت

قواته المغولية فى اجتيازها، واقتربت من «إيران» ، وكانت تلك

القوات تثير الفزع والرعب فى نفوس الناس، لقيامها بالأعمال

الوحشية التى لم تعهدها البشرية من قبل.

وفى أثناء هذه الفترة المضطربة، المشوبة بالخوف والهلع، كان فى

جنوب «صحراء قراقورم» بشمالى «الصين» ما يقرب من (70) ألف

خيمة بدوية، يسكنها نحو نصف مليون إنسان من الأتراك المسلمين،

من بينهم عشيرة صغيرة، تُسمى «قايى» ، وقد اضطر هذا الجمع

الكبير إلى هجرة أوطانهم عندما أحسُّوا بقرب خطر المغول، فعبروا

«إيران» واقتربوا من «الأناضول» غير أنهم لم يستقرُّوا جميعًا فيها،

بل استقر بعضهم فى «العراق الشمالى» ، وبعضهم فى غربى

«إيران» ، وبعضهم الآخر فى «القوقاز» ، فى حين واصلت عشيرة

«قايى» الصغيرة هجرتها نحو «الأناضول» وكان عددها نحو (4000)

فرد.

كان يرأس هذه العشيرة رجل تركى يدعى «كوندوز ألب» ، ثم خلفه

فى رئاستها بعد وفاته ابنه «أرطغرل» والد الأمير «عثمان» مؤسس

الدولة العثمانية التى عرفت باسمه.

وفى أثناء ذلك دارت فى منطقة «أرزنجان» (الواقعة الآن فى

الشمال الشرقى لتركيا) معركة سميت باسم «ياسى جمن» بين

سلطان «قونية» السلجوقى، و «جلال الدين خوارزم شاه» خاقان

«تركستان» وكاد سلطان قونية أن ينهزم، لولا تدخل عشيرة

«قايى» بقيادة «كوندوز ألب» فأقاله من عثرته، وكان سببًا فى

نصره، ولم تكن هذه العشيرة تعلم من أمر القتال شيئًا، لكنها تدخلت

نجدة للملهوف ونصرة للضعيف.

عرف سلطان «قونية» أن هذه العشيرة تبحث عن وطن، فأقطعها

ثغرًا على الحدود بين سلطنته (الدولة السلجوقية) فى «الأناضول»

وبين الإمبراطورية البيزنطية، تقديرًا لقوتهم وشجاعتهم وبراعتهم

الحربية.

وفى سنة (651هـ = 1253م) تُوفِّى «كوندوز ألب» وخلفه ابنه

ص: 1

«أرطغرل» وبعد فترة تُوفِّى هو الآخر، فأصدر سلطان قونية

مرسومًا بتعيين الأمير القبلى «عثمان» محل أبيه، فتولى الأمر وهو

فى الثالثة والعشرين من عمره.

ثم زالت دولة سلاجقة الروم فى «الأناضول» وحل محلها عدة إمارات

صغيرة نجح العثمانيون فى ضمها إلى دولتهم التى بدأت تنمو

وتتوسع حتى توحد «الأناضول» تحت قيادتهم.

الأمير عثمان:

تولى بعد أبيه مسئولية الإمارة، وبدأ فى توطيد سلطانه على أساس

من العدل والنظام، وأخذ فى توسيع رقعة دولته حتى وصلت إلى

مدينة «ينى شهر» التى اتخذها عاصمة لبلاده، وبذلك أصبح على

مرمى البصر من «بروصة» و «نيقية» وكانتا من أهم المدن فى غربى

«الأناضول» .

ولما وجد «عثمان» أن إمارة «آل قرمان» هى أقوى الإمارات التى

قامت على أنقاض دولة سلاجقة الروم، أرسى سياسته على عدم

الاصطدام بها والتوسع غربًا تجاه البيزنطيين، وبدأ فى إرسال

حملاته من موقعه الحصين فى «ينى شهر» إلى المدن اليونانية

المجاورة، ونجح فى الاستيلاء على كثير من الحصون، قبل أن

تتحرك جيوش الدولة البيزنطية لمواجهته.

عرف الأمير «عثمان» بشخصيته القوية، وتحليه بالصبر والمثابرة

وضبط النفس، وحماسته للإسلام، لكن فى غير تعصب، بل فى سماحة

ورفق، فلم يضطهد أهل الذمة، وإنما اجتذبهم إلى خدمته، فأسلم

منهم جماعات كثيرة صارت ركيزة من ركائز دولته الناشئة.

وتُوفى «عثمان» فى الوقت الذى كان ابنه «أورخان» يحاصر مدينة

«بورصة» بعد أن ترك له وصية وهو على فراش الموت، سجَّلها

المؤرخ العثمانى «عاشق ُلبى» ، جاء فيها:

«يا بنى أحط من أطاعك بالإعزار، وأنعم على الجنود، ولايغرنك

الشيطان بجهدك وبمالك، وإياك أن تبتعد عن أهل الشريعة، يا بنى!

لسنا من هؤلاء الذين يقيمون الحروب لشهوة حكم أو سيطرة أفراد،

فنحن بالإسلام نحيا، وللإسلام نموت، وهذا يا ولدى ما أنت أهل له.

يا بنى إنك تعلم أن غايتنا هى إرضاء رب العالمين، وأن بالجهاد يعم

ص: 2

نور ديننا كل الآفاق، فتحدث مرضاة الله جل جلاله».

ويُعَدُّ «عثمان» أول من استقل بالإمارة، وراوده حلم إرساء قواعد

دولة مترامية الأطراف، وكان أهل إمارته يطلقون عليه لقب «قرة

عثمان» رمزًا لقوة الشخصية والحيوية الجسمانية.

الأمير أورخان:

تولى «أورخان» الحكم بعد وفاة أبيه سنة (726هـ = 1326م)، ولم

يكد يمضى على توليته وقت طويل حتى تقدم نحو بحر «مرمرة»

وهزم حملة بيزنطية، كان يقودها الإمبراطور «أندرنيكوس الثالث»

وبعدها تخلت بيزنطة عن بذل الجهود الخاصة بتنظيم المقاومة

العسكرية فى «الأناضول» أو تعزيز حاميات ما تبقى لها من المدن

هناك، وقد أدى ذلك إلى نجاح «أورخان» فى الاستيلاء على معظم

شبه جزيرة «نيقيا» ، وسواحل خليج «نيقوميديا» وسقوط «نيقيا»

دون مقاومة، ثم استيلائه على ما تبقى من الأراضى البيزنطية فى

غربى «الأناضول» دون صعوبة، مما جعل دولته أقوى إمارات

التركمان فى المنطقة، لاسيما وقد تعزز مركزها باعتبارها زعيمة

الجهاد ضد البيزنطيين، كما عزز «أورخان» مركزه بالتوسّع على

حساب إمارات الطوائف التى تطل على شواطئ «بحر مرمرة» وسيطر

على ساحله الجنوبى مما سهل له مهمة العبور إلى أوربا حين سنحت

له الفرصة.

وقد أمضى «أورخان» بعد استيلائه على إمارة «قرة سى» عشرين

سنة دون أن يخوض معارك، وإنما شغل نفسه فى وضع النظم المدنية

والعسكرية التى تقوى من شأن الدولة، وفى تعزيز الأمن الداخلى،

وبناء المساجد والمدارس ورصد الأوقاف عليها، وإقامة المنشآت

العامة.

وتميزت الإدارة العثمانية فى عهد «أورخان» بالكفاءة، وإتاحة

الفرص أمام رعايا الدولة، ومعاملة أهل الذمة بتسامح

كامل، والاهتمام بالتعليم وأهله.

الأمير مراد بن أورخان:

تولى حكم الدولة بعد وفاة أبيه سنة (761 هـ = 1360 م)، وواصل

جهود أبيه فى الفتح، ونجح فى العام التالى من توليه الحكم فى

فتح مدينة «أدرنة» ونقل إليها العاصمة بعد أن كانت فى «بورصة» ،

ص: 3

ثم فتح أراضى الدولة البيزنطية فى «البلقان» ، حتى أصبحت

«القسطنطينية» عاصمة البيزنطيين محاصرة تمامًا بالأراضى

العثمانية، ونتيجة لتلك الفتوحات صارت الدولة العثمانية متاخمة لكل

من «الصرب» و «البلغار» و «ألبانيا» .

وأدى هذا النشاط العثمانى إلى انزعاج أوربا وازدياد قلقها، فكتب

أمراء تلك المناطق إلى ملوك أوربا الغربية وإلى البابا يستنجدون

بهم ضد المسلمين، فقام البابا بالدعوة إلى قيام حرب صليبية جديدة،

غير أن ملك الصرب هاجم «أدرنة» عاصمة العثمانيين وكان «مراد»

غائبًا عنها، فلما علم بأخبار هذا الهجوم عاد بجيشه ليحارب الصرب،

ونجح فى إلحاق الهزيمة بهم.

ثم قام ملك الصرب - الجديد وقتها - بعقد حلف عسكرى مع أمير

«بلغاريا» لمحاربة العثمانيين، فلما قامت الحرب بينهما هرب أمير

البلغار من المعركة، ثم اصطلح الطرفان الصربى والبلغارى مع الدولة

العثمانية، نظير جزية سنوية يقدمانها لها، لكن الصرب نقضوا عهدهم

فأقام ملكهم تحالفًا صليبيا مع «ألبانيا» ضد العثمانيين، والتقى

الفريقان فى مكان يُسمَّى «قوصوة» سنة (197هـ= 9831م) حيث دارت

معركة من أعظم معارك الإسلام، انتصر فيها العثمانيون، وهُزِم

الصرب هزيمة منكرة، وقتل ملكهم.

وعقب انتهاء المعركة قام الأمير «مراد» بتفقد ساحة المعركة، وكان

الليل حالك السواد، والهلال والنجوم فى السماء، وساحة المعركة

مدرجة بالدماء، فأوحى ذلك بفكرة العلم العثمانى كما يقال، فجاء

علمًا أحمر الأرضية يذكِّر بالدماء التى ملأت أرض «قوصوة» ويزين

العلم الهلال والنجوم، ولايزال علم تركيا على هذه الصورة حتى الآن.

وأثناء تفقد الأمير المنتصر «مراد» ساحة القتال؛ إذا بصربى جريح

يقوم من بين القتلى ليطعنه بخنجر فيقتله على الفور، ويستشهد فى

ساحة الجهاد، وهو يبلغ من العمر (65) عامًا.

عُرف الأمير «مراد الأول» بالعدل، وبمعاملة رعيته من أهل الذمة

ص: 4

معاملة حسنة، وبكثرة المعارك التى حالفه فيها النصر، حتى إنه

دخل (73) معركة فى «الأناضول» وفى «البلقان» خرج منها جميعًا

مظفرًا، كما أنه تسلم الدولة من أبيه ومساحتها نحو (59000كم2)،

وتركها عند استشهاده وهى تبلغ (500000 كم2)، أى أنها زادت

فى مدى (29) سنة أكثر من خمسة أمثالها حين تسلمها من أبيه.

نظام الحكم العثمانى:

بدأت التنظيمات الإدارية فى عهد الأمير «أورخان» مستوعبة النظم

المتبعة فى الدول الإسلامية، فالأمير هو قمة الجهاز الحكومى،

وسلطته مقيدة بالكتاب والسنة، وكان يتمتع بالسلطتين؛ التشريعية

التى كان يعهد بها إلى علماء الشرع، والتنفيذية التى كان يعهد بها

إلى وزيره.

وكانت المراتب الأساسية للقانون فى الإمارة العثمانية هى على

التوالى: القرآن، والسنة، والمذاهب الأربعة، والمراسيم (الخطوط

الشريفة).

وظهرت فرقة «الإنكشارية» فى عهد «عثمان» وكانت أهم فرق جيش

الإمارة، ولم يسمح للإنكشاريين بالزواج، وكان عليهم أن يقيموا فى

ثكناتهم العسكرية ليواصلوا التدريب، وضم الجيش أيضًا فرق الفرسان

ولم تكن لهم ثكنات خاصة بهم، وإنما عاش معظمهم فى القرى القريبة

من العاصمة.

الملامح العامة للحضارة العثمانية:

عنى العثمانيون فى هذه المرحلة بالأدب الذى تأثر بالأدب الفارسى،

وكان الإلمام بالأدب فى هذه الفترة من الأدوات اللازمة للمثقف

والباحث والمتأدِّب، كما اهتم العلماء والأدباء باللغة العربية اهتمامًا

واضحًا.

ونشطت الحركة المعمارية، وتأثرت تأثرًا واضحًا بالطرز السلجوقية،

ويبدو ذلك واضحًا فى المساجد الأولى التى شيدت فى مدينة

«بورصة» مثل: «أولوجامع» ، الذى بدأ تشييده فى عهد «مراد

الأول»، كما شيَّد حكام الإمارة فى ذلك الوقت قصورًا فى «بورصة»

و «أدرنة» لم يبقَ لها أثر الآن.

واشتهرت «الأناضول» فى تلك الفترة بصناعة السجاد الذى كان من

ابتكار القبائل الرحل التركمانية.

ص: 5

الفصل الثاني

*تحول الإمارة إلى سلطنة

بايزيد الأول:

لم ينتقل «آل عثمان» من طور الإمارة إلى طور السلطنة إلا فى عهد

«بايزيد الأول» المشهور بالصاعقة، لسرعة تنقله بجيوشه بين

«أوربا» و «الأناضول» ..

وقد بذل «بايزيد» جهودًا عظيمة فى توحيد منطقة «الأناضول» تحت

قيادته، وفى استمرار الفتوحات فى منطقة «البلقان» فدخل

«رومانيا» وضم جنوبها - «الأفلاق» - إلى الدولة العثمانية، وفتح

«سلانيك» ، واستولى على «ينى شهر» وألحق «تساليا»

بدولته، وفتح «اسكوب» ودخلت جيوشه «طورنوفا» وواصل فتوحاته

فى «مقدونيا الشمالية» و «ألبانيا» ،ونجح فى ضم «بلاد البلغار» ،

وجعلها ولاية عثمانية، ووصلت جيوشه إلى «اليونان» ودخل

«أثينا» ، وانتقل إلى «شبه جزيرة المورة» ودفع له الصرب جزية

سنوية، كما حاصر «القسطنطينية» أربع مرات.

ونتيجة لهذا توحدت «أوربا» كلها ضده لطرده من «البلقان» فتكونت

حملة صليبية ضده فى (جمادى الأولى 798هـ= فبراير 1396م) بقيادة

«سيجموند» ملك «المجر» الذى استنجد بالبابا وبملوك «أوربا» لإنقاذ

«المجر» و «بيزنطة» من الخطر العثمانى، فحملت الحملة شعار: «سحق

الأتراك أولا ثم احتلال القدس».

وتكونت هذه الحملة من جيوش مجرية وفرنسية وألمانية وهولندية

وإنجليزية وإيطالية وإسبانية بلغت نحو (130) ألف محارب، واجتازت

نهر «الدانوب» وبلغت مدينة «نيكوبولى» وعندها دارت معركة طاحنة

بينهم وبين الجيش العثمانى الذى بلغ عدده نحو (90) ألف جندى

بقيادة «بايزيد الصاعقة» .

وانتهت معركة «نيكوبولى» بانتصار العثمانيين، وبوقوع كثير من

أشراف «فرنسا» فى الأسر، منهم:«الكونت دى نيفر» قائد قوات

«بورغوينا» وولى عهدها، وقد أقسم هذا الكونت على عدم العودة

إلى محاربة العثمانيين، ولكن بعد قرار «بايزيد» بإطلاق سراح

الأمراء الأسرى، أراد أن يحل «الكونت دى نيفر» من قسمه، فقال له:

«أيها الكونت! لك أن تعود مرة أخرى لمحاربتى، لكى تمسح العار

ص: 6

الذى لحق بك، واعلم أنى لا أخاف من عودتك وإلا ما كنت أطلقت

سراحك، تعالَ وقتما تشاء فستجدنى وجنودى أمامك».

ثم أرسل الأمير «بايزيد الأول» أنباء هذا الانتصار إلى الخليفة

«المتوكل العباسى» بالقاهرة، فأجابه الخليفة بأن أرسل إليه

تشريفًا وخلعًا وسيفًا، وكان هذا يعنى الاعتراف ببايزيد الأول

سلطانًا على إقليم «الروم» (الأناضول والبلقان)، وبذا أصبح الأمير

«بايزيد» أول من حمل لقب «سلطان» فى «آل عثمان» .

محاصرة القسطنطينية:

حاصر العثمانيون العاصمة البيزنطية فى عهد «بايزيد الأول» أربع

مرات:

- الأولى فى سنة (793هـ= 1391م) حيث اصطف ستة آلاف جندى

عثمانى على امتداد سور «القسطنطينية» وحاصروا المدينة حصارًا

شديدًا، ولم يستطع أحد الدخول إلى المدينة أو الخروج منها دون

موافقة العثمانيين، ودام هذا الحصار سبعة أشهر دون أن يخضع

إمبراطور «بيزنطة» لبايزيد دون قتال.

- والثانية فى سنة (797هـ= 1395م)، واستمر هذا الحصار طوال صيف

ذلك العام.

- والثالثة فى سنة (800هـ = 1397م).

- والرابعة كانت بين سنتى (802 - 804 هـ = 1399 - 1401م)، على إثر

ذهاب الإمبراطور البيزنطى «مانويل الثانى» إلى «إنجلترا» وزيارته

لأوربا لمدة (13) شهرًا، طلبًا للمساعدة ضد العثمانيين، ولم يفك هذا

الحصار إلا بعد قدوم «تيمورلنك» بجيوشه الجرارة التى عصفت

بالسلطنة العثمانية وتسببت فى انهيارها فترة من الزمن.

ويجدر بالذكر أن «بايزيد» لم يفك حصاره الرابع عن «القسطنطينية»

إلا بشروط، منها: أن يبنى المسلمون الذين يعيشون داخل المدينة

جامعًا لإقامة شعائر الدين، وأن تقام لهم محكمة شرعية للنظر فى

قضاياهم.

ويذكر لبايزيد تشييده القلعة المسماة «جوزلجه حصار» (أناضولى

حصار) على الضفة الأسيوية من بوغاز «القسطنطينية» .

الأزمة بين تيمورلنك وبايزيد:

أسس «تيمورلنك» خاقان أتراك الشرق (التركستان) إمبراطورية

ص: 7

عظمى، امتلكت جيشًا قويا ومنظمًا اجتاح به الشرق، ثم حدث نزاع

بين «تيمورلنك» و «بايزيد» بسبب لجوء «أحمد بن أويس» الذى فر

من «بغداد» أمام «تيمورلنك» إلى «بايزيد» ، واحتمائه به.

اتخذ «تيمورلنك» من هذا الحادث ذريعة للتحرك ضد العثمانيين،

وبخاصة بعد رفض «بايزيد» طلب «تيمورلنك» تسليمه «أحمد بن

أويس» فقام بحملته الأولى على «الأناضول» سنة (803هـ=1400م)،

ووصل إلى «سيواس» فدخلها وخربها وسفك دماء أهلها بعد أن

صمد العثمانيون على قلتهم أمام جيوش «تيمورلنك» الجرارة، وأبلوا

بلاءً حسنًا، ثم انسحب «تيمورلنك» من «الأناضول» إلى «القوقاز»

بعد أن استولى على «ملاطية» من العثمانيين.

كان «تيمورلنك» يأمل أن يعترف «بايزيد» بتبعيته له مثل سلاطين

المماليك و «الهند» غير أن هذا الأمل لم يتحقق؛ إذ رد عليه «بايزيد»

ردا فيه تحقير، وحاول «تيمورلنك» إقناع أمرائه بشن حرب حاسمة

ضد العثمانيين، وكان رأى أمراء «تيمور» وأولاده أنه لايليق بهم

محاربة الدولة العثمانية، وهى دولة سنية حنفية المذهب مثلهم،

وتجمعهم اللغة التركية، كما أنها تعد حاملة لراية الجهاد الإسلامى،

لكن «تيمورلنك» نجح فى إقناع المخالفين له فى الرأى باحتمال أن

يقوم «بايزيد» بضرب الجيش التيمورى من الخلف أثناء حملته على

«الصين» .

دخل «تيمورلنك» إلى «الأناضول» مرة أخرى سنة (805هـ = 1402م)

على رأس جيش ضخم بلغ عدده نحو (300) ألف جندى، وفى مقدمته

(32)

فيلا مدرعًا، وسار به حتى وصل إلى «أنقرة» وهناك التقى

بالجيش العثمانى فى (27 من ذى الحجة 804هـ = 28 من يوليو

1402م) واستمر اللقاء حتى غروب الشمس، وكان النصر فيه حليف

«تيمورلنك» وأسر فى المعركة السلطان «بايزيد» بعد أن أبلى

جنوده بلاءً حسنًا، وكبَّدوا «تيمورلنك» خسائر فادحة لم يسبق له أن

تكبَّدها، حيث قتل له فى المعركة نحو (40000) جندى.

لقد كانت معركة «أنقرة» من أكبر المعارك الميدانية التى حدثت خلال

ص: 8

العصور الوسطى، وتعد من أكبر الكوارث فى التاريخ التركى، حيث

أخرت نمو العثمانيين وفتوحاتهم نصف قرن، وأطالت عمر الدولة

البيزنطية المدة نفسها، وعطَّلت وحدة «الأناضول» سبعين سنة.

عاش السلطان «بايزيد» فى أسر «تيمورلنك» سبعة أشهر واثنى

عشر يومًا، ومات فى «آق شهر» قرب «قونية» سنة (806هـ =

1403م) وأرسل جثمانه إلى «بورصة» ثم أطلق «تيمور» عقب وفاة

«بايزيد» سراح ابنيه اللذين أسرا معه.

العثمانيون يعيدون تكوين دولتهم:

عاش العثمانيون عقب معركة «أنقرة» فترة أطلق عليها المؤرخون

عهد الفتنة أو دور الفوضى، وكانت مدتها عشر سنوات، وأحد عشر

شهرًا وثمانية أيام، وهى فترة الصراع بين أبناء «بايزيد» على

العرش العثمانى، حتى نجح أحدهم وهو «محمد بن بايزيد» الملقب

بمحمد ُلبى فى تولى السلطنة والقضاء على الفوضى والفتن، والبدء

فى إعادة البناء وتعمير الدولة وتنظيم أمورها، حتى عده المؤرخون

المؤسس الثانى للدولة العثمانية.

وتوفى «محمد الأول» سنة (824هـ=1412م) عن (39) عامًا فى مدينة

«أدرنة» .

السلطان مراد الثانى:

تولى «مراد بن محمد» عرش السلطنة وعمره (17) سنة، وبدأ عهده

بعقد هدنة مع ملك «المجر» لمدة خمس سنوات حتى يتفرغ للأناضول،

وبعقد صلح مع أمير «قرمان» ، ثم اتجه «مراد» إلى محاصرة مدينة

«القسطنطينية» سنة (825هـ = 1422م)، ودام الحصار (64) يومًا،

وكان بحريا وبريا، بجيش قوامه ثلاثون ألف جندى، وكان احتمال

سقوط العاصمة البيزنطية كبيرًا، بعد أن أحدثت القوات العثمانية

أضرارًا بالغة بسور المدينة، غير أن السلطان «مراد» اضطر إلى رفع

الحصار بعد أن جاءته أنباء حدوث فتنة فى «الأناضول» وعقد الصلح

مع «بيزنطة» مقابل أن تدفع جزية كبيرة سنوية.

ثم اتجه «مراد الثانى» إلى تأديب إمارات «الأناضول» التى تمردت

عليه أثناء انشغاله بمحاربة «بيزنطة» فقضى بصورة نهائية على

إمارات «منتشة» و «أيدين» ، و «تسكا» وقلَّص حدود إمارة «جاندار» .

ص: 9

وفى سنة (829 هـ = 1426م) اجتاز السلطان «مراد الثانى» على رأس

جيشه «نهر الدانوب» والتقى مع الجيش المجرى، وانتصر عليه، وعقد

مع ملك «المجر» معاهدة تنازل بمقتضاها عن أملاكه فى الضفة

اليمنى لنهر الدانوب، الذى أصبح فاصلا بين أملاك الدولة العثمانية

و «المجر» ، ثم فتح «مراد» «سلانيك» ، و «يانيا» ونجح فى إلغاء

إمارة «الصرب» تمامًا وأطلق عليها لواء «سمندرة» كما خضعت

«ألبانيا» للدولة العثمانية بعد حروب يسيرة، وعقدت «البندقية»

صلحًا معها.

وفى عهد «مراد الثانى» توترت العلاقات بين المماليك والعثمانيين

بسبب إمارتى «قرامان» و «دلقادر» غير أنه لم يهتم بهذا الأمر بسبب

إعلان البابا «أوجينيوس الرابع» سنة (843هـ=1439م) عن حملة صليبية

ضد الدولة العثمانية بقيادة القائد المجرى «هونيادى» الذى اتخذ من

إخراج العثمانيين من «البلقان» هدفًا لحياته.

وقد تمكن هذا القائد المجرى من هزيمة عدة جيوش عثمانية، مما

اضطر السلطان إلى محاربته بنفسه، ثم عقد صلحًا مع «المجر» سنة

(848هـ = 1444م)، أعيد بمقتضاه تأسيس إمارة «الصرب» على أن

تكون تابعة للدولة العثمانية، ومنطقة عازلة بينها وبين «المجر» .

ولما شعر السلطان «مراد الثانى» بالتعب تخلى عن عرشه لابنه

«محمد الثانى» الذى عرف فيما بعد بمحمد الفاتح، وكان عمره آنذاك

(21)

عامًا، فشكل الأوربيون على الفور حملة عسكرية على الدولة

العثمانية، وشاركت فيها قوات من «المجر» و «قولونية» و «ألمانيا» ،

و «فرنسا» و «البندقية» و «بيزنطة» و «بيرجوذريا» وكانت تلك الحملة

بقيادة «هونيادى» ، واختير الملك المجرى «لاديسلاس» قائدًا شرفيا

للحملة، وقد نهبت هذه الحملة وهى فى طريقها كل شىء، حتى

الكنائس الأرثوذكسية لم تسلم من أيديهم.

وإزاء هذه التطورات اجتمع مجلس شورى السلطنة العثمانية، وطلب

عودة «مراد الثانى» إلى الحكم مرة أخرى، فعاد وبدأ فى إعداد

جيشه للقاء تلك الحملة الصليبية، فتحرك على رأس جيشه الضخم الذى

ص: 10

بلغ أربعين ألف جندى، والتقى مع تلك الحملة فى «فارنا» وهى

مدينة بلغارية تقع على شاطئ «البحر الأسود» ، ودارت بينهما معركة

هائلة عرفت باسم «معركة فارنا» فى (28 من رجب 848 هـ = 10 من

نوفمبر 1444م)، وفيها حقق العثمانيون نصرًا غاليًا، وقتل الملك

«لاديسلاس» ، وهرب «هونيادى» من المعركة، وبهذا النصر أيقن

الأوربيون صعوبة طرد العثمانيين من منطقة «البلقان» .

وقد فرح العالم الإسلامى بهذا النصر فرحًا شديدًا حتى إن السلطان

«جقمق» المملوكى أمر أن يذكر اسم السلطان «مراد الثانى» مجاملة

بعد اسم الخليفة العباسى فى «القاهرة» .

لم تستسلم «أوربا» لهذه الهزيمة فجهزت حملة صليبية أخرى ضمت

نحو مائة ألف جندى بقيادة «هونيادى» والتقت بالعثمانيين بقيادة

السلطان «مراد الثانى» فى صحراء «قوصوه» فى (18 من شعبان

852هـ=17 من أكتوبر 1448م)، وانتصر العثمانيون فى هذا اليوم

انتصارًا عظيمًا.

السلطان محمد الفاتح:

ولد السلطان «محمد» فى (27 من رجب 835هـ = 30 من مارس 1432م)

وتولى عرش السلطنة بعد وفاة أبيه فى (5 من المحرم 855هـ = 7 من

فبراير 1451م) بعد أن بايعه أهل الحل والعقد فى الدولة العثمانية.

إعداد محمد الفاتح:

خضع السلطان «محمد» - شأنه فى ذلك شأن كل أمير عثمانى -

لنظام تربوى صارم تحت إشراف مجموعة من علماء عصره المعروفين.

وهو ما يزال غضا، فتعلم القرآن الكريم والحديث والفقه والعلوم

العصرية - آنذاك - من رياضيات وفلك وتاريخ ودراسات عسكرية

نظرية وتطبيقية، كما كان السلطان «محمد» يشترك فى الحروب التى

كان يشنها والده السلطان «مراد الثانى» ضد «أوربا» أو التى كان

يصد فيها اعتداءاتهم.

وكعادة «آل عثمان» فى إسناد إدارة ولاية لكل أمير وهو صغير

حتى يؤهل لقيادة الدولة بعد ذلك، قضى «محمد» فترة إمارته فى

«مغنيسيا» تحت إشراف مجموعة من أساطين علماء العصر، وفى

مقدمتهم: الشيخ «آق شمس الدين» والملا «الكورانى» .

ص: 11

وقد أثرت هذه المجموعة من العلماء فى تكوين الأمير الصغير

وتشكيل اتجاهاته الثقافية والسياسية والعسكرية، وكان الشيخ «آق

شمس الدين» صارمًا مع الأمير حتى إن السلطان «محمد» وهو سلطان

قال لأحد وزرائه عن شيخه هذا: «إن احترامى لهذا الشيخ احترام يأخذ

بمجامع نفسى وأنا ماثل فى حضرته مضطربًا ويداى ترتعشان».

ثقافة محمد الفاتح:

درس السلطان «محمد» إلى جانب دراسته الأكاديمية المنظمة اللغات

الإسلامية الثلاثة التى لم يكن يستغنى عنها مثقف عصرى آنذاك

وهى: العربية والفارسية والتركية، وعنى بالأدب والشعر خاصة،

فكان شاعرًا له ديوان بالتركية، وله بيت مشهور يقول فيه:

نيتى هى الامتثال للأمر الإلهى «جاهدوا فى سبيل الله» .

وحماسى إنما هو حماس فى سبيل دين الله.

وتعلم السلطان «محمد» أيضًا اللغات: اللاتينية واليونانية والصربية،

ولاتخفى أهمية هذه اللغات لأمير فى طريقه إلى تولى الدولة

العثمانية.

وقد أثرت فترة إمارة «محمد» فى شخصيته فجعلته - بفضل توعية

أساتذته - أكثر الأمراء العثمانيين وعيًا فى دراسة علوم التاريخ

والجغرافيا والعلوم العسكرية، وبخاصة أن أساتذته وجهوا اهتمامه

إلى دراسة الشخصيات الكبيرة، التى أثرت فى مجرى التاريخ،

وأبانوا له عن جوانب العظمة فى تلك الشخصيات، كما وضحوا له

نقاط الضعف فيها، أملا أن يكون أميرهم ذات يومٍ من أكثر الحكام

خبرة وحكمة وعبقرية.

ولا شك أن الشيخ «آق شمس الدين» استطاع أن يلعب دورًا كبيرًا فى

تكوين شخصية «محمد» وأن يبث فيه منذ صغره أمرين، جعلا منه

فاتحًا، وهما:

- مضاعفة حركة الجهاد العثمانية.

- الإيحاء دومًا لمحمد منذ صغره بأنه هو الأمير المقصود بالحديث

النبوى، «لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك

الجيش».

وقد استغرق تحقيق النقطة الأولى فترة تاريخية من حياة السلطان

«محمد» - بعد أن أصبح سلطانًا للدولة - لنرى فيه حملاته العسكرية،

ص: 12

ونكتفى هنا بذكر حروبه البرية على الجبهة الأوربية. ففى عام

(857هـ=1453م) فتح «القسطنطينية» ، وفى عام (863هـ= 1459م) فتح

«بلاد الصرب» ، وفى عام (568هـ = 0641م) فتح «بلاد المورة» ، وفى

عام (866هـ = 1462م) ضم «بلاد الأفلاق» ، وبين عامى (867 - 884هـ =

1462 -

1479م) فتح بلاد «ألبانيا» ، وبين عامى (867 - 870هـ =

1462 -

1465م) فتح بلاد «البوسنة والهرسك» ، وفى عام (881هـ =

1476م) وقعت حرب «المجر» .

ومنذ حرب بلاد «المجر» وحتى وفاة الفاتح عام (886هـ = 1481م)

دخلت الدولة العثمانية فى حروب بحرية كثيرة منها: ضم الجزر

اليونانية عام (884هـ = 1479م) وضم «أوترانتو» عام (885هـ=1480م)

ومعلوم أنه كان قد أعد بالفعل جيوشه وتحرك على رأسها لمحاربة

المماليك إلا أن الموت عاجله.

فتح القسطنطينية:

رأى السلطان «محمدالفاتح» أن فتح «القسطنطينية» كما أنه يحقق

أملا عقائديا عنده فإنه أيضًا يسهل للدولة العثمانية فتوحاتها فى

منطقة «البلقان» ويجعل بلاده متصلة لايتخللها عدو، وكانت

«القسطنطينية» تمثل الأرض التى تعترض طريق الفتوحات فى

«أوربا» ، فبدأ فى عاصمته «أدرنة» الاستعداد لعملية فتح

«القسطنطينية» ، ومن ذلك: صب المدافع خاصة الضخم منها،

والاستعداد لنقل هذه المدافع إلى أسوار مدينة «القسطنطينية» .

ثم رأى السلطان «محمد» أن جده «بايزيد الصاعقة» كان قد بنى -

أثناء محاولته فتح «القسطنطينية» - قلعة على الضفة الآسيوية من

«البوسفور» سماها «أناضولو حصارى» أى «قلعة الأناضول» .كانت

تقوم على أضيق نقطة من «مضيق البوسفور» ، فقرر «محمد» أن

يبنى فى مواجهة هذه القلعة على الجانب الأوربى من «البوسفور»

قلعة سماها «روملى حصارى» أى «قلعة منطقة الروم» (يطلق

الأتراك على الجانب الأوربى من تركيا والمنطقة الملاصقة له

والمعروفة الآن باسم «البلقان» اسم «روم إيلى» أى منطقة الروم)،

وكان القصد من هذا هو التحكم فى «البوسفور» تمامًا، وكان

ص: 13

السلطان «محمد» هو الذى وضع بنفسه تخطيط هذه القلعة، ونفذها

المعمارى «مصلح الدين آغا» ومعه (7000) عامل أنهوا مهمتهم فى

أربعة أشهر كاملة.

وبعد أن تم البناء خرج بعض الجنود العثمانيين لرؤية «القسطنطينية»

فما لبث أن وقع بينهم وبين البيزنطيين المجاورين لأسوار المدينة

بعض حوادث شغب، كان لها رد فعل عند السلطان «محمد» فأصدر

أوامره بإبعاد البيزنطيين المجاورين للأسوار والقرويين المجاورين

للمدينة، فقام إمبراطور «بيزنطة» «قسطنطين دركازيز» بإخلاء

القرى المجاورة، وسحب سكانها إلى داخل المدينة، ثم أمر

الإمبراطور بإغلاق أبواب «القسطنطينية» وإحكام رتاجها.

وبينما الاستعدادات العثمانية تجرى على قدم وساق فى «أدرنة»

لفتح «القسطنطينية» كان الوضع فى المدينة غاية فى الاضطراب،

فقد طلب الإمبراطور «قسطنطين» معونة عاجلة من البابا «نيقولا

الخامس» فاستجاب البابا وأرسل الكاردينال «ايزودور»

إلى «القسطنطينية» فتوجه هذا الكاردينال وهو كاثوليكى - إلى

«كنيسة آياصوفيا» وأقام فيها المراسم الكنسية على الأصول

الكاثوليكية مخالفًا بذلك بل ومتحديًا مشاعر شعب «القسطنطينية»

الأرثوذكسى.

وقف الشعب ينظر إلى الكاردينال المنقذ باشمئزاز بالغ، وكان

إمبراطور «القسطنطينية» يميل إلى فكرة اتحاد الكنيستين

الأرثوذكسية والكاثوليكية، أما رئيس الحكومة «لوكاس نوتاراس»

و «جناديوس» (الذى صار بطريقًا بعد الفتح) فقد عارضا بشدة هذا

الاتحاد خوفًا على الأرثوذكسية من الفناء، وقال «نوتاراس» قولته

الشهيرة: «إنى أفضل رؤية العمامة التركية فى القسطنطينية على

رؤية القبعة اللاتينية» ولم يكن البيزنطيون قد نسوا الأعمال الوحشية

التى قام بها «اللاتين» عندما احتلوا «القسطنطينية» عام (601هـ =

1204م) ومع ذلك فإن الكنيسة اللاتينية لم تتوانَ عن إرسال موجات

المتطوعين إلى «القسطنطينية» بناء على طلب إمبراطورها، لكن

ص: 14

مجىء «ايزودور» لم يحقق أدنى نتيجة فى مسألة اتحاد الكنيستين.

الحصار والفتح:

حاصر العثمانيون «القسطنطينية» برا وبحرًا فى سنة (857هـ =

1453م) واشترك فى الحصار من الجنود البحرية (20000) جندى على

(400)

سفينة، أما القوات البرية فكانت (80000) جندى، والمدفعية

(200)

مدفع.

وقفت القوات البحرية العثمانية بقيادة «بلطة أوغلو سليمان بك» على

مدخل «الخليج الذهبى» وكان عليه تدمير الأسطول البيزنطى المكلف

بحماية مدخل الخليج وكان البيزنطيون قد أغلقوا - قبل الحصار -

الخليج بسلسلة حديدية طويلة يصعب من جرائها دخول أى سفينة إلى

الخليج، مما شكل أكبر معضلة أمام العثمانيين، لأن سفنهم كان

عليها أن تحمل الجنود وتدخل الخليج لإنزالهم لكى يضربوا

«القسطنطينية» .

ثم جاءت ثلاث سفن جنوية، وسفينة بيزنطية بقيادة القائد الشهير

«جوستنيانى» أرسلها البابا للدفاع عن «القسطنطينية» ولنقل

الإمدادات إليها، جاءت هذه السفن ولم تستطع البحرية العثمانية

منعها، فبعد معركة عنيفة مع البحرية العثمانية تغلب «جوستنيانى»

ومضى بسفنه إلى الخليج، ففتح لها أهل «القسطنطينية» السلسلة

الحديدية وأدخلوها، وكانت هذه الحادثة دافعًا لكى يفكر السلطان

«محمد» فى خطة عسكرية شهد لها القواد العسكريون بالبراعة.

كانت هذه الخطة تقضى بنقل (67) سفينة من السفن الخفيفة عبر البر

من منطقة «غلطة» إلى داخل الخليج لتفادى السلسلة، وتمت هذه

العملية بوضع أخشاب مطلية بالزيوت على طول المنطقة المذكورة، ثم

دفعت السفن لتنزلق على هذه الأخشاب فى جنح الظلام، بعد أن

استطاعت المدفعية العثمانية بإطلاقها مدافع الهاون أن تشد انتباه

البيزنطيين إليها، ومن ثم لم يلتفت أحد لعملية نقل السفن إلى الخليج.

نقلت السفن وأنزلت إلى الخليج ووضعت الواحدة تلو الأخرى على

شكل جسر على عرض الخليج، حتى استطاع الجنود الانتقال عليها

وصولا إلى بر «القسطنطينية» وما إن جاء الصباح إلا وتملكت الدهشة

ص: 15

أهل «القسطنطينية» ، ويصف المؤرخ «دوكاس» وهو بيزنطى عاصر

الحادثة دهشته من هذه العملية قائلا: «إنها لمعجزة لم يسمع أحد

بمثلها من قبل ولم ير أحد مثلها من قبل».

وبعد أن فشلت البحرية العثمانية فى إحباط محاولة «جوستنيانى»

دخول الخليج، لم يملك السلطان «محمد» إلا الأمر بالهجوم العام الذى

اشتركت فيه كل القوات العثمانية مرة واحدة، وقبل هذا مباشرة

أرسل السلطان «محمد» إلى الإمبراطور للمرة الثانية - يطلب منه

تسليم المدينة سلمًا حقنًا للدماء، وللإمبراطور أن ينسحب إلى أى

مكان يريده بكل أمواله وخزائنه، وتعهد السلطان «محمد» بتأمين

أهل «القسطنطينية» - فى هذه الحالة - على أموالهم وأرواحهم

وممتلكاتهم، لكن الإمبراطور - بتحريض من الجنويين - رفض هذا

العرض.

وفى (16من ربيع الأول 857 هـ= 26 من مايو 1453م) أراد ملك

«المجر» أن يضغط على السلطان «محمد» فى هذا الوقت الحرج،

فأرسل يقول له: «إنه فى حالة عدم توصل العثمانيين إلى اتفاق مع

إمبراطور «القسطنطينية» فإنه (أى ملك المجر) سيقود حملة أوربية

لسحق العثمانيين، ولم تغير هذه الرسالة شيئًا.

مضى نهار يوم (28 من مايو) هادئًا، وعند الفجر وبعد الصلاة

مباشرة، اتجه السلطان «محمد» إلى مكان الهجوم ومع دوىّ المدافع

الضخمة الذى بدأ، صدر الأمر السلطانى بإخراج العلم العثمانى من

محفظته، وهذا يعنى عند الأتراك الأمر ببداية الهجوم العام.

واستطاعت المدافع أثناء ذلك إحداث فتحة فى الأسوار، ثم اجتاز

الجنود العثمانيون الخنادق المحفورة حول «القسطنطينية» واعتلوا

سلالم الأسوار، وبدأ الجنود يتدفقون على ثلاث موجات، اشتركت

«الإنكشارية» فى الثالثة منها، فاضطر «قسطنطين» أن يدفع بقواته

الاحتياطية التى كانت مرابطة بجوار كنيسة الحواريين «سانت

أبوترس» (مكان جامع الفاتح بعد ذلك) لتدخل المعركة، وما لبث أن

أطلق جندى عثمانى سهمه فأصاب القائد «جوستنيانى» إصابة

ص: 16

بالغة فانسحب «جوستنيانى» من ميدان المعركة رغم توسلات

الإمبراطور له، لأن «جوستنيانى» كان له دور كبير فى الدفاع عن

المدينة.

وكان أول شهداء العثمانيين هو الأمير «ولى الدين سليمان» الذى

أقام العلم العثمانى على أسوار المدينة البيزنطية العريقة، وعند

استشهاده أسرع (18) جنديا عثمانيا إليه لحماية العلم من السقوط

واستطاعوا حمايته حتى واصل بقية الجنود تدافعهم على الأسوار،

وثبت العلم تمامًا على الأسوار بعد أن استشهد أيضًا هؤلاء الثمانية

عشر جنديا، أثناء ذلك كان العثمانيون يواصلون تدفقهم إلى

المدينة، عن طريق الفتحات التى أحدثتها المدفعية فى الأسوار، ثم

عن طريق تسلق السلالم التى أقاموها على أسوار المدينة، وتمكن

جنود من فرق الهجوم العثمانية من فتح بعض أبواب «القسطنطينية»

ونجح آخرون فى رفع السلاسل الحديدية التى وضعت فى مدخل

الخليج لمنع السفن العثمانية من الوصول إليها، فتدفق الأسطول

العثمانى إلى الخليج وبعد ذلك إلى المدينة نفسها، وساد الذعر

البيزنطيين وكان قد قتل منهم من قتل، وهرب من استطاع إلى ذلك

سبيلا.

الفاتح يعطى الأمان:

عندما دخل «محمد الفاتح» المدينة أمر بإحراق جثث القتلى تفاديًا

للأمراض، وسار على ظهر جواده إلى كنيسة «آيا صوفيا» حيث تجمع

الشعب البيزنطى ورهبانه، وما إن علموا بوصول السلطان الفاتح

حتى خروا سجدًا راكعين بين أنين وبكاء وعويل، ولما وصل الفاتح،

نزل من على ظهر حصانه وصلى ركعتين شكرًا لله على توفيقه له

بالفتح، ثم سار يقصد شعب بيزنطة ورهبانه، ولما وجدهم على هذه

الحالة من السجود انزعج وتوجه إلى رهبانهم قائلا: «قفوا استقيموا

فأنا السلطان محمد، أقول لكم ولجميع إخوانكم ولكل الموجودين

هنا، إنكم منذ اليوم فى أمان فى حياتكم وحرياتكم»، وهذا ما سجله

مؤرخ بولونى كان معاصرًا.

وكان لهذا التصرف من الفاتح أثر كبير فى عودة المهاجرين النصارى

ص: 17

الذين كانوا قد فروا من المدينة، وأمر الفاتح قواده وجنوده بعدم

التعرض للشعب البيزنطى بأذى، ثم طلب من الناس العودة إلى ديارهم

بسلام، وحول «آيا صوفيا» إلى جامع، على أن تصلى فيه أول

جمعة بعد الفتح (كان الفتح يوم ثلاثاء) وكانت «آيا صوفيا» أكبر

كنيسة فى العالم وأقدم مبنى فى أوربا كلها، وسميت المدينة

«إسلامبول» أى مدينة الإسلام.

كان سلوك الفاتح عندما دخل «القسطنطينية» ظافرًا؛ سلوكًا مختلفًا

تمامًا عما تقول به شريعة الحرب فى العصور الوسطى، وهو نفى

شعب المدينة المفتوحة إلى مكان آخر أو بيعه فى أسواق النخاسة،

لكن الفاتح قام بما عجز عن فهمه الفكر الغربى المعاصر له من

تسامح ورحمة، فقد قام بالآتى:

- أطلق سراح الأسرى فورًا نظير مقابل مادى قليل يسدد على

أقساط طويلة المدى.

- وأسكن الأسرى الذين كانوا من نصيبه فى المغانم فى المنازل

الواقعة على ساحل الخليج.

- وعندما أبيحت «القسطنطينية» للجنود ثلاثة أيام عقب الفتح، كان

هذا الإذن مقتصرًا على الأشياء غير المعنوية، فلم تُغتصب امرأة ولم

يُمسَّ شيخ ولا عجوز ولا طفل ولا راهب بأذى، ولم تهدم كنيسة ولا

صومعة ولا دير ولا بيعة، مع أن المدينة أُخذت بالحرب ورَفضت

التسليم.

- وكان من حق الفاتح قانونًا - ما دامت المدينة قد أخذت عنوة- أن

يكون هو نيابة عن الجيش الفاتح مالكًا لكل ما فى المدينة، وأن

يحول نصف الكنائس والبيع على مدى زمنى طويل إلى جوامع

ومساجد، وأن يترك النصف الآخر لشعب المدينة على ما هو عليه،

وفى وقفيات السلطان «محمد الفاتح» بنود كثيرة على بقاء أديرة

«جوكاليجا» و «آيا» و «ليبس» و «كيرا ماتو» و «الكس» فى يد

البيزنطيين.

- واعترف لليهود بملكيتهم لبيعهم كاملة، وأنعم بالعطايا على

الحاخام «موسى كابسالى» .

- وعين فى سنة (865هـ= 1461م) للجماعات الأرمنية بطريقًا يدعى

«يواكيم» ليشرف على مصالح الأرمن ويوحد صفوفهم.

ص: 18

- وبدأ فى أعمال تعمير المدينة ابتداء من (23 من ربيع الأول 857هـ =

12 من يونية 1453م) (كان الفتح يوم 29 من مايو من العام نفسهـ)

وأمر بنقل جماعات كثيرة من مختلف أنحاء الدولة إلى

«القسطنطينية» للإسهام فى إعادة إنعاشها.

- وأعاد للأرثوذكس كرامتهم التى أهدرها اللاتين الكاثوليك بأن

أعطاهم حق انتخاب رئيس لهم، يمثلهم ويشرف على شئونهم، وأصبح

«سكولا ريوس» (جناديوس) أول بطريق لهم بعد الفتح العثمانى

للقسطنطينية، وبذلك أنقذ الفاتح إيمان الأمة التى فتح ديارها،

وأحيا الأرثوذكية بعد أن أخذت تخفت.

- وجعل الفاتح مسائل الأحوال الشخصية مثل: الزواج والطلاق

والميراث وأمور الوفاة الخاصة بأهل المدينة المفتوحة من حق

الجماعات الدينية المختصة، وكان هذا امتيازًا منعدم النظير فى

«أوربا» فى ذلك الوقت.

الفاتح وحكام عصره:

كان تصرف «الفاتح» تصرفًا حضاريا فى الوقت الذى كان الحكام من

الشرق والغرب يتلذذون بسفك الدماء وبقتل الناس بالآلاف، ويتلذذون

وهم على موائد الطعام بمنظر الأسرى وقد اخترقت بطونهم أسنة

رماح الجنود، وبرفع الأسرى على الخوازيق وبخلط دمائهم بأنواع

الشراب، كما فعل «جنكيزخان» و «تيمورلنك» فى الشرق، و «فلال»

و «هونيادى» فى الغرب.

إن دولة «بيزنطة» هدمت حى المسلمين فى «القسطنطينية» وأبادت

سكانه بعد أن علم الإمبراطور بانتصار «تيمورلنك» على السلطان

العثمانى «بايزيد الصاعقة» فى واقعة أنقرة عام (805هـ = 1402م).

وأزهقت الجيوش الصليبية فى عملية احتلال القدس أرواح (70000)

برىء، يقول «هـ. ج. ويلز» فى ذلك: «كانت المذبحة التى دارت فى

بيت المقدس رهيبة وكان الراكب على جواده يصيبه رشاش الدم الذى

سال فى الشوارع .. » ويقول المؤرخ نفسه عن «هولاكو» : «كان

هولاكو يفتح فارس وسوريا وأظهر المغول فى ذلك الزمان عداوة

مريرة للإسلام، ولم يكتفوا بتذبيح سكان بغداد .. بل وقد صارت أرض

ص: 19

الجزيرة منذ تلك اللحظة التعسة يبابًا من الخرائب والأطلال لا تتسع إلا

للعدد القليل من السكان».

وتقول «سامحة آى ويردى» : «إن الجيوش الصليبية التى تدفقت على

القسطنطينية عام (603هـ = 1206م) قامت بتحويل المدينة إلى خرابة

بائسة فقيرة معدمة بعد أن كانت غنية معمورة يسودها الرخاء».

وعندما دخل «شارل الخامس» «تونس» عام (947هـ = 1540م) لم يترك

حيا أمامه إلا قتله ولم تسلم من وحشيته حتى الجمال والقطط، وهذا

ما ذكره «شهاب الدين تكين داغ» فى مذكراته عن الدولة العثمانية.

إن هذه الأمثلة إذا ما قارناها بموقف «الفاتح» الحضارى من

«القسطنطينية» وأهلها، نرى «الفاتح» قائدًا منعدم النظير بين

أقرانه من أباطرة الشرق وحكام الغرب، ولو كان «الفاتح» قد اتبع

ما كان يجرى على الجانب الغربى من البحر المتوسط من فظائع

الإسبان فى «الأندلس» وما فعلوه بالمسلمين وبالعرب ما أصبح هناك

مسيحى واحد فى «القسطنطينية» .

دور المدفعية العثمانية:

كان المدفع اختراعًا حديثًا مروعًا غيّر مجرى التاريخ، وكان «مدفع

الهاون» اختراعًا عثمانيا عرفه العالم لأول مرة أثناء حصار

العثمانيين للقسطنطينية كما كان المدفع الضخم خاصة مدفع الهاون

أكبر عامل فى فتح المدينة.

كان المدفع الضخم من اختراع اثنين هما: «مصلح الدين» و «أوربان» -

و «أوربان» هذا مختلف فى أصله هل هو مجرى أو رومانى - وكان

المدفع ضخمًا جدا، وكانت تُسمع طلقاته من مسافة (25ميلا) وقذيفته

من الحجر والبارود تبلغ زنة القذيفة الواحدة (1500) كيلو جرام، يصل

مداها إلى مسافة ميل. يقول «أدارى مونتالدو» : «إن عدد المدافع

التى صبها كل من مصلح الدين وأوربان قد بلغ 200 مدفع».

وعندما كان المدفع ينقل من «أدرنة» العاصمة إلى «القسطنطينية»

ليستقر أمام أسوارها كان لزامًا على العثمانيين توسعة طريق

«أدرنة - القسطنطينية» وقام بهذه العملية (50) مهندسًا ومائتا عامل،

ص: 20

وكان يجر المدفع (60) جاموسة، ويسند المدفع من على جانبيه (400)

رجل قوى، (200) على كل جانب، وذلك حتى لا ينزلق المدفع يمنة أو

يسرة أثناء مروره.

ولقد لعبت مدافع الهاون دورًا ملحوظًا فى الحصار سواء فى الضرب

أو فى عمليات التمويه، وبسبب هذه المدافع حدث التحول الكبير فى

«أوربا» .

السلطان بايزيد الثانى:

انفرد «بايزيد الثانى بن محمد الفاتح» بالسلطة بعد نزاع بينه وبين

أخيه «جم» ، وكان الأخوان قد اختلفا بعد وفاة والدهما فى (4 من

ربيع الأول سنة 886هـ= 3 من مايو سنة 1481م)، وانتهى الصراع

بينهما لصالح «بايزيد» ،وفر «جم» إلى «القاهرة» ، ثم إلى

«فرنسا» ، ثم إلى «إيطاليا» ، وقد تكفل أخوه «بايزيد» بالإنفاق

عليه فى كل مكان ذهب إليه، وقد حاول بابا روما استخدام الأمير

«جم» أداة ضغط على الدولة العثمانية، لكنه لم يعش طويلاً.

عُرف «بايزيد» بلقب الولى أو الصوفى، لأن حروبه ضد «أوربا» لم

تكن فى مستوى من سبقوه فى حكم الدولة العثمانية، لكن كانت له

حملات على «المجر» و «البغدان» و «بلجراد» ، كما كانت له معارك فى

«الأناضول» ، وصدام مع المماليك، لكن «يحيى الثالث» سلطان

«تونس» قام بالوساطة بين الدولتين.

وقامت فى عهده أول حملة عثمانية فى غربى «البحر المتوسط» ،

بهدف مساعدة المسلمين فى «الأندلس» ، ودخلت هذه الحملة المياه

الإسبانية، واستولت على ميناء «مالقة» الذى كان الإسبان قد

استولوا عليه من مسلمى «الأندلس» قبل أشهر.

وبعد سقوط «غرناطة» فى أيدى الإسبان سنة (897هـ= 1492م)

انتشر نحو (300) ألف مسلم على سواحل «إسبانيا» ، وقد قامت

السفن العثمانية بنقل هؤلاء إلى «فاس» و «الجزائر» ، وأنقذتهم من

المصير المؤلم الذى تعرَّض له المسلمون بالداخل، وظلَّت هذه الحملات

تتتابع، وقاد أغلبها «كمال رئيس» نحو (23) سنة حتى استشهد

أثناء عودته من حملة على «إسبانيا» سنة (917هـ= 1511م).

عقد «بايزيد الثانى» صلحًا مع «أوربا» لمدة عشرين سنة تقريبًا،

ص: 21

وكان السبب فى ذلك انشغال الدولة العثمانية بتحركات الشاه

«إسماعيل الصفوى» ، الذى جعل «إيران» دولة شيعية، وكوَّن جيشًا

قويا، ووسع حدوده، وتفوق على المماليك عسكريا واقتصاديا،

وعمل على التوسع على حساب الدولة العثمانية، والتحالف مع

«أوربا» ضد العثمانيين، وحاول التحالف مع «مصر» ضد الدولة

العثمانية، لكن المماليك فى «مصر» رفضوا ذلك.

حدثت مناوشات بين الشاه «إسماعيل الصفوى» وبين «سليم ابن

السلطان بايزيد» والى «طرابزون» ، كان النصر فيها حليف «سليم بن

بايزيد»، فأثار ذلك حفيظة الشاه، فاشتكى إلى السلطان «بايزيد»

من ابنه، فأمر بإعادة الأراضى التى استولى عليها إلى الصفويين.

وقد أدَّى هذا التصرف إلى استياء «سليم بن بايزيد» من والده،

وشكه فى مقدرة والده على التصدى للدولة الصفوية، فقام بانقلاب

على والده، بمساعدة الجنود الإنكشارية، التى سارت بالأمير «سليم»

إلى «إستانبول» ، وطلبوا من السلطان «بايزيد» التنازل عن عرش

السلطنة لابنه «سليم» ، فقبل واستقال فى يوم (8 من صفر سنة 918

هـ= 25 من أبريل سنة 1512م).

نظام الحكم:

كانت سلطة اتخاذ القرار فى الفترة الأولى من تاريخ الدولة العثمانية

تتمثل فى الديوان الهمايونى فى العاصمة، وفى الديوان فى

الولايات.

والديوان الهمايونى ( Divan imeperiel) اسم أطلق على الديوان

الذى يجتمع برئاسة السلطان، لينظر فى أمور الدولة ذات الأهمية الأولى،

وهو امتداد حضارى لهذه المؤسسة منذ عهد السلاجقة ثم الإيلخانيين

والدول التركية الأخرى، ومثله فى ذلك مثل الديوان العالى عند السلاجقة

والديوان الكبير عند الإيلخانيين والديوان السلطانى عند المماليك.

كانت مهمة الديوان الهمايونى دراسة أمور الدولة السياسية والإدارية

والعسكرية والعرفية والشرعية والعدلية والمالية، كما كانت مهمته

النظر فى الشكاوى والقضايا، واتخاذ القرار بشأنها، وكان الديوان

ص: 22

مفتوحًا لكل من يتمتع بحماية الدولة العثمانية مهما يكن دينه أو ملته،

ومهما يكن عرقه أو مكان موطنه فى الدولة، ومهما تكن مهنته أو

الطبقة الاجتماعية التى ينتمى إليها، كما كان الديوان مفتوحًا لكل

رجل أو امرأة يتعرض للظلم، أو لمن صدر حكم من القضاة المحليين

ضده ويرى خطأ هذا الحكم، أو لمن يشكو الولاة أو الجنود أو

الضباط، أو لمن وقع عليه ظلم القائمين على الأوقاف.

وكانت الشئون الإدارية والعرفية فى الديوان من اختصاص «الوزير

الأعظم»، أما الشئون الخاصة بالأراضى فكانت من اختصاص

«النشانجى» (التوقيعى)، أما الشئون الشرعية والقانونية فكانت من

اختصاص «قاضيى عسكر» ، أما الشئون المالية فكانت من نصيب

«الدفتردار» ، وكانت القرارات التى يتخذها والأمور التى ينظرها

تسجل بدفاتر تسمى «مهمة دفترى» و «رءوس دفترى» و «نامه»

و «عهد نامه» ثم تُمهر بخاتم السلطان الذى يكون عادة فى عهدة

الوزير الأعظم، ثم تودع فى «الدفترخانة» .

ويتشكل الديوان الهمايونى من أعضاء دائمين (الأعضاء الطبيعيين)،

وأعضاء مؤقتين.

الأعضاء الدائمون:

هم السلطان والصدر الأعظم أو الوزير الأعظم وقاضيا العسكر

والنشانجى (وهو التوقيعى أو الطغرائى) والدفتردار.

الأعضاء المؤقتون:

هم أمير أمراء الروملى (إذا كان موجودًا فى العاصمة)، وأغا

الإنكشارية، وقائد الأسطول (إذا كان حائزًا على رتبة الوزير فيكون

عضوًا دائمًا)، وشيخ الإسلام (إذا دعى للحضور).

هذا بالإضافة إلى المساعد (الكادر) وأهمهم رئيس الكُتاب والتذكرجى

وجاووش باشى والكُتاب.

ويستطيع السلطان استخدام سلطاته أو إحالتها إلى الوزير الأعظم.

سلطات الديوان الهمايونى:

1 -

السياسية:

يتمتع «الديوان الهمايونى» بأعلى سلطة فى الدولة بعد السلطان،

ومهمته المحافظة على نظام الحكم وضمان ملائمة جميع أجهزة الدولة

لهذه السلطة، ومنع القيام ضدها، وهوصاحب المسئولية فى اتخاذ ما

ص: 23

يراه كفيلا للقيام بمهمته، خاصة أن هذا الديوان يمثل قوى رأس

الدولة كلها.

وتنقسم سلطة الديوان الهمايونى السياسية إلى قسمين: داخلية

وخارجية:

أ - السياسة الداخلية:

السلطة السياسية الداخلية التى يمارسها الديوان الهمايونى هى

حماية الشريعة الإسلامية، وإعلاء الإسلام، وسحق كل حركة تقوم

ضده، واستقبال من أسلم حديثًا، وإقرار رواتب لهم من الدولة، كل

حسب وضعه الاجتماعى، وتقديم هدايا مناسبة لهم وحمايتهم من

تدخل سفراء الدول التابعين لها، وعدم تسليمهم لهم عند مطالبة

هؤلاء السفراء بتسليم المهتدين حديثًا إلى الإسلام لهم، فى حالة ما

إذا كان هذا المسلم حديثًا من مواطنى دولة أخرى، أما إذا كان من

مواطنى الدولة العثمانية فالديوان يستقبلهم ويوزع عليهم هدايا

ويربطهم برواتب منتظمة من الدولة، كما كان يتخذ تدابير شديدة ضد

من يرتد عن دينه من المسلمين.

ب - السياسة الخارجية:

كانت السياسة الخارجية العثمانية التى ينفذها الديوان الهمايونى

تتلخص فى الآتي: نشر الإسلام بكل ما تستطيعه الدولة من إمكانات

وبتعبير آخر: «تحويل دار الحرب إلى دار إسلام» ، وكان هذا أحد أهم

الأهداف السياسية الخارجية العثمانية التى يتولى تنفيذها الديوان

الهمايونى. وقد نجحت هذه السياسة الخارجية نتيجة توسيع حدود

الدولة العثمانية، وهذا يعنى نشرها للإسلام، ولم تتوقف حروب الفتح

إلا منذ أواخر القرن السادس عشر الميلادى، ومنذ ذلك الحين جعل

الديوان الهمايونى هدفه فى السياسة الخارجية حماية الأراضى

المفتوحة والدفاع عنها.

ومع تداخلات الدول الأوربية فى السياسة الخارجية العثمانية وإرسال

هذه الدول سفراء مؤقتين ثم سفراء دائمين لها فى إستانبول أصبح

السفراء يقدمون رسائلهم إلى الديوان الهمايونى، ويحصلون على

أجوبتها فى مراسم رسمية يوضحها «قوجى بك» فى رسالته

المشهورة، وكان للسفراء الأجانب أن يقدموا شكاوى للديوان

ص: 24

الهمايونى إذا حدث إخلال بالاتفاقات المعقودة بين بلادهم وبين

الدولة العثمانية التى تسمى فى «عهد نامه» ، وكان الديوان يحقق

فيها ويعدل. وكان لهذا الديوان حق تعيين العثمانيين فى المناصب

الدبلوماسية، وكانوا غالبًا من البيروقراطيين العاملين فيه.

أما أهم سلطات الديوان الهمايونى فكان إعلان الحرب، وكان المعتاد

أن يحيل السلطان قرار الحرب إلى الديوان الهمايونى لدراسته واتخاذ

اللازم لتنفيذه، وكان هذا القرار أحيانًا يُتخذ فى الديوان الهمايونى.

2 -

الإدارية:

كان التفتيش على جميع الأعمال الإدارية فى البلاد من سلطات الديوان

الهمايونى وهو فى ذلك - بعد السلطان - السلطة الأولى فى البلاد

وعليه محاكمة الموظفين إذا لزم الأمر.

وإن كان توجيه المناصب إلى حدّ معين من اختصاص الجهات الإدارية

الأخرى، مثل: تعيين القضاة الذى هو من اختصاص قاضى العسكر؛

فإن التعيين فى بعض المناصب مثل منصب «صوبا شى» المدن

الكبرى من اختصاص الديوان الهمايونى. وإذا صدر قرار بتعيين

شخص فى منصب وتظلَّم من هذا التعيين أو النقل فمن حقه مراجعة

الديوان الهمايونى، وللديوان فى هذه الحالة الأمر بإجراء التحقيقات

وعمل اللازم.

ومن السلطات الإدارية لهذا الديوان أيضًا حماية أهل الذمة فى البلاد

من تعديات الإداريين وإعادة الحق إليهم ومعاقبة المسئولين عن ذلك.

وكانت خيوط المركزية الإدارية فى الدولة تتجمع فى هذا الديوان،

مثال ذلك: أن الديوان طلب من أجهزة الدولة المسئولة عمل قوائم بكل

الموجودين داخل حدود الدولة العثمانية وتسليمها إلى الديوان

الهمايونى وتجديدها كل ثلاثين عامًا، وأن على المسئولين عن هذا

تسجيل الوفيات والمواليد خلال هذه الأعوام الثلاثين، وهو ما يعرف

اليوم بالإحصاء العام.

3 -

المالية والاقتصادية:

والديوان الهمايونى هو سلطة الفصل العليا فى الأمور الاقتصادية

والمالية على أعلى مستوياتها فى الدولة، فالوزير الأعظم

ص: 25

والدفتردار عضوا الديوان الطبيعيان، وهما صاحبا السلطة الأولى فى

الدولة - بعد السلطان - فى التصرف فى الأمور المالية، ومن مهام

الديوان الطبيعية الضرائب والاقتصاد والمال.

أما عن الضرائب: فمهمة الديوان تحرير موارد البلاد المفتوحة بدقة

وعناية فائقتين، والإشراف المباشر سنويا على الضرائب التى من حق

الخزينة العامة، وتسلم دفاتر الضرائب التى تُحصَّل سنويا من جميع

أرجاء البلاد، ويكتب منها نسختان: نسخة فى مركز الولاية، ونسخة

أخرى ترسل إلى «إستانبول» لتسلَّم إلى الديوان الهمايونى.

والقوانين التى تسن لجمع الضرائب تعد فى الديوان الهمايونى ويقوم

بإعدادها التوقيعى (النشانجى) ومجموعة مساعديه، وينظر الديوان

فى مدى مطابقة هذه الضرائب للعدالة الضريبية بناءً على مدى

مطابقتها للشرع الإسلامى.

ويتساوى فى هذا جميع أنواع الضرائب، ومن أهمها ضرائب الجمارك

التى يتابعها الديوان بدقته المعهودة، حتى إنه يتدخل فورًا إذا قدمت

له شكوى تخص تحصيل هذه الضرائب بغير وجه حق إلى أبسط أنواع

الضرائب وأخفها.

وعلى الديوان الهمايونى ضمان عدم تحصيل الضرائب من الذين لا

تحصل منهم مثل: رجال الدين الذميين، ومجازاة المرتشين - إذا وجدوا

- فى عمليات جمع الضرائب، والعمل على عدم إهدار المال العام

واتخاذ التدابير الصارمة فى هذا السبيل، واتخاذ الإجراءات الضرورية

لحماية البائع والمستهلك على حد سواء، ومراقبة أعمال قطع

الأشجار وأعمال المحافظة على الخضرة.

ومن مهام الديوان الهمايونى أيضًا اتخاذ التدابير الضرورية لتطور

اقتصاد البلاد، والعمل على عدم سيطرة تجار معينين على تجارة

البلاد واحتكارهم لها، وعدم تخزين البضائع والمواد الضرورية فى

الوقت المناسب ثم بيعها بعد ذلك بأسعار باهظة، والقضاء على

التهريب وحصر ثروة السلطان إذا توفى وغير ذلك.

أعضاء الديوان الهمايونى الطبيعيون (غير السلطان) هم:

- الوزير الأعظم:

ص: 26

وتتلخص سلطاته فى أنه وكيل السلطان وحامل خاتمه، وكان يعين

فى أوائل الحكم العثمانى من طبقة العلماء، ومنذ عهد «مراد الأول»

(791 - 794 هـ = 1389 - 1392م) كثر عدد الوزراء، ولذلك سمى أولهم

الوزير الأعظم، وكانت له رئاسة الديوان الهمايونى نيابة عن السلطان

فى حالة عدم وجوده، وسلطة تعيين العلماء ومن على شاكلتهم

وعزلهم وترقيتهم، وله فى أوقات الحرب سلطة السلطان فى كثير

من الأمور.

ولابد أن يشترك مع السلطان فى الحرب، فإذا ترك السلطان الحرب

لسبب أو لآخر يتولى الوزير الأعظم قيادة الجيش نيابة عن السلطان،

وفى أثناء ذلك يحمل لقب «السردار الأكرم» ، ويترك فى حالة الحرب

فى مكانه موظفًا فى البلاد يسمى «قائمقام الصدارة» أو «قائمقام

الركاب الهمايونى» يرأس الديوان الهمايونى فى العاصمة بدلا من

الوزير الأعظم بمقتضى بنود القانون.

- قاضيا العسكر:

وموقعهما فى البروتوكول خلف الوزير الأعظم مباشرة، وهما اثنان:

قاضى عسكر الأناضول وقاضى عسكر الروملى (البلقان)، وكانا

يستمعان إلى الشكاوى، ويجلسان على يسار الوزير الأعظم فى

الوقت الذى يكون فيه بقية الوزراء على يمينه، وكان عليهما حل

المسائل الشرعية، ويمثلان العلماء؛ إذ إن شيخ الإسلام لم يكن عضوًا

بالديوان الهمايونى. وأهم عمل لهما فى الديوان الاستماع إلى

القضايا المعروضة.

- النشانجى:

ويسمى بالتوقيعى وأحيانًا بالطغرائى والمعنى الحرفى لعمله: «هو

الشخص الذى يختم الفرمانات السلطانية بالطغراء»، لكن سلطاته

كانت أوسع من ذلك، فهو الذى يعد الفرمانات من حيث صياغتها،

ويكتب بنفسه أهم الفرمانات، وعليه تثبيت قواعد الحقوق العرفية

الواجب وضعها أو تغييرها، والمراجعة الأخيرة لما يعده الدفتردار من

وثائق.

ونظرًا لأهميته فى الديوان فقد كان اختياره من العلماء ثم من بعد

ذلك من الكتّاب البارزين، ولم يكن لشيخ الإسلام ولا لقاضى العسكر

دخل فى اختيار النشانجى أو تعيينه.

- الدفتردار:

ص: 27

وله سلطة خاصة وهو وكيل السلطان فى مال الدولة، وميدان عمله

الأمور المالية فى الدولة، ومن واجباته فتح الدفترخانة والخزانة،

ويعرض على السلطان مسائله عقب اجتماع الديوان فى أيام الثلاثاء.

القوة العسكرية ومدى تفوقها:

منذ بداية نشأة الدولة العثمانية بدأ الاهتمام بالجيش، وقد كون

السلطان «أورخان» ثانى السلاطين العثمانيين «العسكر الجديد» ، أو

ما عرف فيما بعد بالإنكشارية، وتعد أشجع فرق الجيش العثمانى، إذ

كان جنودها يربون تربية خاصة منذ صباهم، وقد اهتم السلاطين

العثمانيون بتطوير الجيش وأخذه بأحدث أساليب القتال، وكونت فرق

الطوبجية (المدفعية) وفرق الفرسان المهاجمة، وغيرها.

ولتفوق العثمانيين فى المدفعية كان لهم النصر فى كثير من المعارك

التى خاضوها ضد أعدائهم. وكان أكثر السلاطين العثمانيين اهتمامًا

بالجيش وأكثرهم تطويرًا له السلطان «محمد الفاتح» - طيب الله ثراه -

فقد أنشأ مصانع الذخيرة، وأدخل إصلاحات جديدة فى الجيش،

ويمتاز السلطان «محمد الفاتح» عمن سبقه من السلاطين أنه إلى

جانب اهتمامه وعنايته بتنظيم وتنمية قوات الجيش البرى أولى

اهتمامًا كبيرًا وعناية عظيمة للقوة البحرية، وقد حثه على تنمية

الأسطول العثمانى ما رأى عليه دولة «البندقية» (فينسيا)، من قوة

وثراء، بفضل أسطولها البحرى، ولذلك لم يدخر السلطان «محمد

الفاتح» وسعًا فى سبيل تنمية القوة البحرية وإدخال أسباب

التحسين عليها؛ فأمر باتخاذ سفن «البندقية» و «جنوة» - أكبر الدول

البحرية فى ذلك العهد - نماذج تبنى على مثالها السفن العثمانية،

وقد رأينا -فيما سبق - أن هذا الأسطول ساعد «محمداً الفاتح» فى

فتح «القسطنطينية» وفى فتوحاته البحرية فى بحر «إيجة» ،وكذلك

فى إنزاله جيشه فى جنوب «إيطاليا» .

وقد بلغ الجيش العثمانى بقسميه البرى والبحرى أقصى قوة له فى

القرن العاشر الهجرى، وذلك فى عهد الخليفة السلطان «سليمان

ص: 28

القانونى» حتى غدا الجيش البرى أقوى جيش على الساحة الأوربية،

كما أن الأسطول العثمانى كان يتكون فى عهده مما يزيد على ألفى

مركب حربى وكان الأسطول العثمانى مهيمنًا على معظم «البحر

المتوسط»؛ إذ كان يستطيع النزول فى أى شاطئ من شواطئه،

ولذلك فتح العثمانيون «نيس» على شاطئ «فرنسا» ونزلوا عدة

مرات فى شواطئ «إيطاليا» ، وأغاروا على شواطئ «الأندلس»

(إسبانية) منقذين كثيرًا من مسلميها الفارين بدينهم من محاكم التفتيش

النصرانية، وقد حاول الأوربيون تدمير هذا الأسطول، فاجتمعت سفن

البابا و «البندقية» و «إسبانيا» عليه لكنهم فشلوا، أما الجيش البرى

فقد بلغ سور «فيينا» واستولى على كثير من مدن وقلاع «البلقان»

كتيمسوالا (غرب رومانيا حاليا) و «بودا» عاصمة «المجر» ،و «أنجرا»

فى شمال «المجر» وغيرها.

ص: 29

الفصل الثالث

*تحول السلطنة إلى خلافة

أسباب تحول العثمانيين من التوسع فى أوربا إلى الأراضى

الإسلامية:

يتساءل المؤرخون العرب عن السبب الذى جعل العثمانيين يتركون

جهادهم فى الميدان الأوربى، ويتجهون إلى ميدان الشرق الإسلامى

ليحاربوا فيه ويفرضوا عليه سلطانهم، وكان الأولى بهم الحرب فى

«أوربا» حيث التكتل الصليبى ضد العثمانيين المسلمين، ويمكن

إجمال السبب فى ذلك فى شقين:

أ - ازدياد النمو الشيعى فى «إيران» و «العراق» ، وتهديد الدولة

الصفوية للعثمانيين، وضربها لدولتهم من الخلف أثناء انطلاقاتها فى

«أوربا» .

ب - تنامى الخطر البرتغالى فى الخليج العربى وتهديدهم للأراضى

المقدسة فى الجزيرة العربية، وعجز المماليك عن مواجهتهم.

علاقة السلطان سليم بالدولة الصفوية:

أرسل الشاه «إسماعيل الصفوى» دعاته لنشر المذهب الشيعى فى

«الأناضول» ، وما لبثوا أن وجدوا بعض المؤيدين، ثم قامت جماعة

«القيزيل باش» أى العلويين فى منطقة «إنطاكية» العثمانية بالتمرد

على سلطة الدولة العثمانية، استجابة لأوامر من الشاه «إسماعيل»

نفسه، وقاد هذا التمرد شخص عرف باسم «شاه قولو» أى «عبد

الشاه»، وكان هذا التمرد رهيبًا، استخدم العثمانيون فيه كل قوتهم

حتى نجحوا فى إخماده بقيادة «سليم بن السلطان بايزيد» والى

إمارة «طرابزون» القريبة من «إيران» .

وحدث الصدام الأول بين «سليم بن بايزيد» والصفويين، عندما احتل

«سليم» أربع مدن من مخلفات إمبراطورية «الآق قوينلو» ، وأرسل

الشاه «إسماعيل» الذى يدعى أنه وريث تلك الإمبراطورية المنهارة

أخاه «إبراهيم ميرزا» على رأس جيش لاستعادة تلك المدن، لكنه هزم

أمام «سليم» الذى دمَّر جيشه وأوقعه فى الأسر.

وأدَّت انتصارات «سليم» إلى إكسابه مكانة كبيرة وتقديرًا وإعجابًا

فى نفوس الناس، حتى نظمت فيه قصائد شعبية، غير أن السلطان

«بايزيد» أمر ابنه «سليمًا» أن يطلق سراح أخى الشاه، ويترك المدن

ص: 30

الكبرى التى استولى عليها، بناءً على شكوى من الشاه

«إسماعيل» ، ولم يلقَ هذا التصرف قبولاً لدى الجيش أو الشعب، ثم

تطورت الأمور، وأجبر الجيش السلطان «بايزيد الثانى» على التخلى

عن العرش لابنه «سليم الأول» .

ولما تولَّى «سليم الأول» الحكم سنة (918هـ= 1512م)، جاءته الرسل

من كل الأنحاء لتهنئته، ولم يحضر أحد من «إيران» الصفوية، فزاد

ذلك من شقة الخلاف بين الدولتين، وتطور الأمر بينهما إلى الاحتكام

إلى السيف، فالتقى العثمانيون مع الصفويين فى (2 من رجب 920هـ=

23 من أغسطس سنة 1514م) فى معركة «جالديران» ، فانتصر

«سليم» ، وهزم الشاه «إسماعيل» ، الذى هرب ناجيًا بحياته، وترك

زوجته فى الميدان، ودخل «سليم» العاصمة الإيرانية «تبريز» .

وفى طريق العودة ضم «سليم» إلى دولته أراضى «ذى القادر» ؛ لأن

حاكمها «علاء الدين» ، التابع لدولة المماليك رفض مساعدة «سليم»

عندما كان فى طريقه لمحاربة الصفويين، مما وتّر العلاقة بين

العثمانيين ودولة المماليك، وقام بينهما عداء سافر، ساعد فيه

الاتفاق بين دولة المماليك فى «مصر» و «الشام» وبين الصفويين ضد

العثمانيين، وزاد الأمر تعقيدًا عثور العثمانيين على خطاب يؤكد

العلاقة الخفية بين المماليك والصفويين، وهذا الخطاب محفوظ الآن

فى أرشيف متحف «طوب قابو» فى «إستانبول» .

علاقة السلطان سليم بالمماليك:

برزت أمام السلطان «سليم الأول» عدة أسباب استراتيجية، جعلت

الصدام مع المماليك أمرًا ضروريا، فأى اتفاق بين المماليك و «أوربا»

سيفتح الباب أمام حملة صليبية جديدة، ويضع الدولة العثمانية فى

مأزق، كما أن البرتغاليين بعد معركة «ديو» سنة (915هـ= 1509م)

أصبحوا هم أصحاب السيادة على المياه الإسلامية الجنوبية، حتى

إنهم أعلنوا عن عزمهم على قصف «مكة» و «المدينة» ، وفى الوقت

نفسه كانت حالة دولة المماليك الاقتصادية والسياسية والعسكرية

سيئة، لا تسمح لهم بحماية المقدسات الإسلامية.

ص: 31

ولم يغب عن ذهن السلطان «سليم الأول» أن انتقال الخلافة إلى

«بنى عثمان» يجعل منهم قوة معنوية كبيرة عند المسلمين، ويحد من

أطماع «أوربا» المسيحية فى الدولة العثمانية، ويقضى على الخطر

البرتغالى فى جنوب «البحر الأحمر» .

وقد أدَّى وقوع الرسائل بين «قانصوه الغورى» سلطان المماليك،

والشاه «إسماعيل الصفوى» إلى زيادة هوة الخلاف بين «الغورى»

و «سليم» وقطع أى محاولة للحل السلمى بين المماليك والعثمانيين.

موقعة مرج دابق وآثارها:

أدرك «الغورى» أن الحرب بينه وبين العثمانيين واقعة لا محالة،

فلجأ إلى تحريض أهل «دمشق» ليشتركوا معه فى حربه ضد

العثمانيين، الذين اتهمهم بخيانة فكرة الجهاد الإسلامى فى

«أوربا» ، وأشاع أن السلطان العثمانى قد استعان بجنود من

النصارى والأرمن؛ ليحارب بهم جند الله المجاهدين ضد البرتغاليين،

ولكن يبدو أن هذا الأسلوب لم يلق نجاحًا كبيرًا بين أهل «دمشق» ،

لاقتناعهم بأن العثمانيين منذ قرون وهم يجاهدون فى الميدان

الأوربى، ولم يتخلفوا عن إمداد المماليك أنفسهم بما يلزمهم لقتال

البرتغاليين، مثلما حدث فى عهد السلطان «بايزيد الثانى» .

والتقى الجمعان على مشارف «حلب» فى «مرج دابق» سنة (923هـ=

1517م)، وحقق العثمانيون النصر، وقُتل السلطان «الغورى» ،ودخل

«سليم الأول» «حلب» ثم «دمشق» ودُعى له فى المساجد، وفتحت

كثير من المدن الشامية أبوابها للعثمانيين دون مقاومة تذكر.

وأرسل السلطان «سليم الأول» رسالة إلى «طومان باى» الذى خلف

السلطان «الغورى» فى «مصر» ، يعرض عليه فيها حقن الدماء،

شريطة أن تكون «غزة» و «مصر» تابعتين للدولة العثمانية، ويحكمهما

هو باسمها، ويدفع نظير ذلك خراجًا سنويا، لكن المماليك قتلوا

رسول «سليم» ، فلم يكن هناك بدٌّ من الحرب، وعزم «سليم» على

اللقاء، فالتقى مع المماليك فى «غزة» و «الريدانية» وكان النصر

فيهما حليفه، وأدى انتصار العثمانيين فى معركتى «مرج دابق»

ص: 32

و «الريدانية» إلى وقوع «مصر» و «الشام» و «الحجاز» و «اليمن» تحت

حكم الدولة العثمانية.

ويعود انتصار العثمانيين على المماليك إلى مجموعة من الأسباب،

منها:

- تفوق العثمانيين التكنولوجى، فسلاح المدفعية المملوكى كان

يعتمد على مدافع ضخمة ثابتة لا تتحرك، على حين اعتمد سلاح

المدفعية العثمانى على مدافع خفيفة يمكن تحريكها فى كل

الاتجاهات.

- سلامة الخطط العسكرية العثمانية ومرونتها، من ذلك استدارة القوات

العثمانية من خلف مدافع المماليك الثقيلة الحركة، ودخولها «القاهرة»

عن طريق المقطم، مما شل دور المدفعية المملوكية، وأحدث اضطرابًا

فى صفوف الجيش المملوكى؛ لتدافعهم بلا انتظام خلف العثمانيين.

- ارتفاع معنويات الجيش العثمانى.

ودخل «سليم الأول» «القاهرة» ، ونودى به سلطانًا وخليفة للمسلمين،

وخادمًا للحرمين الشريفين، بعد أن تسلّم مفاتيح «مكة» و «المدينة» ،

وكان «سليم» كريمًا مع ابن أمير «مكة» «الشريف بركات» ، الذى

جاء يعلن خضوع «الحجاز» للدولة العثمانية، وفى «مصر» أعاد

«سليم» تنظيم البلاد، وأصدر قانون «نامه مصر» لهذا الغرض.

مسألة انتقال الخلافة إلى العثمانيين:

عندما انتصر السلطان «سليم» فى موقعة «مرج دابق» أسر الخليفة

العباسى «المتوكل على الله محمد بن المستمسك بالله» وكان فى

صفوف جيش السلطان «الغورى» ، وفى أول صلاة جمعة صلاها

السلطان «سليم» فى الجامع الكبير بحلب، عُدَّ خليفة، وخطب له فى

«سوريا» باعتباره خليفة للمسلمين، وسكت العملة باسمه.

وتقول إحدى الروايات التاريخية: إن الخليفة المتوكل تنازل عن

الخلافة لبنى عثمان فى مراسم جرت فى «آيا صوفيا» بعد عودته مع

السلطان «سليم» إلى «إستانبول» ، ويقول بعضها الآخر: إن الخليفة

«المتوكل» قلد السلطان «سليماً» السيف وألبسه الخلعة فى «جامع

أبى أيوب الأنصارى» بعد مراسم «آيا صوفيا» ، وأنه اشترك فى

هذه المراسم علماء الأزهر الذين سافروا إلى «إستانبول» ، وعلماء

ص: 33

الدولة العثمانية، وأن الخلافة انتقلت إلى «بنى عثمان» بقرار هذا

المجلس.

اتسعت رقعة الدولة العثمانية فى عهد «سليم الأول» بعد أن ضمَّ إليها

«مصر» و «الشام» و «الجزيرة العربية» ، وبعد عودته إلى العاصمة

«إستانبول» وجد فتنة شيعية قد اشتعلت فى منطقة «طوقاد»

الأناضولية سنة (925هـ= 1519م)، فأرسل إليها أحد قواده فنجح فى

إخمادها والقضاء عليها، وأعاد السكون إلى تلك المنطقة.

وفى سنة (926هـ= 1520م) تُوفِّى «سليم الأول» من جرّاء خراج صغير

فى ظهره.

السلطان سليمان القانونى:

تولى السلطان «سليمان القانونى» عرش الدولة العثمانية بعد موت

والده السلطان «سليم الأول» عام (926هـ= 1520م) وحكم الدولة

العثمانية مدة ست وأربعين سنة وهى أطول مدة حكم فيها سلطان

عثمانى.

كان عهد «القانونى» قمة العهود العثمانية سواء فى الحركة

الجهادية أم فى الناحية المعمارية أو العلمية أو الأدبية أو العسكرية،

وكان هذا السلطان يؤثر فى السياسة الأوربية تأثيرًا عظيمًا؛ حيث

كانت الدولة العثمانية هى القوة العظمى دوليا فى زمنه، ونعمت

بالرخاء والطمأنينة.

بداية عهد القانونى:

ابتلى «سليمان» فى السنوات الأولى من عهده بأربعة تمردات شغلته

عن حركة الجهاد؛ إذ إن موت «سليم الأول» ثم جلوس ابنه على العرش

وهو صغير السن أتاحا الفرصة لكى يظن الولاة الطموحون إلى

الاستقلال أنهم قادرون على ذلك. فلما وصل خبر تولية «سليمان»

العرش، إلى «الشام» وكان «جان بردى الغزالى» واليًا عليها من قبل

الدولة العثمانية، تمرد وأشهر العصيان على الدولة.

و «جان بردى الغزالى» هذا، قائد مملوكى، تعاون مع «سليم الأول»

فى حربه ضد المماليك وكان أميرًا طموحًا وأودى به طموحه إلى أن

ينقلب على المماليك ويتعاون مع «سليم» ، فلما تولى «سليمان»

أرسل «الغزالى» من «الشام» رسالة إلى «خاير بك» النائب العثمانى

على مصر أوضح فيها الأول للثانى أن الوقت قد حان لإعادة الدولة

ص: 34

المملوكية وبعثها من جديد، إلا أن والى «مصر» العثمانى أرسل

الرسالة هذه إلى العاصمة العثمانية ليطلع عليها السلطان «سليمان» ،

وهذه الرسالة موجودة الآن فى قسم الأرشيف بمتحف «طوب قابو

سرابى».

فأمر السلطان «سليمان» بقمع الفتنة فقمعت وأرسل رأس الثائر إلى

«إستانبول» دلالة على انتهاء التمرد.

أما التمرد الثانى: فقام به «أحمد باشا» الخائن فى «مصر» فى عام

(930هـ= 1524م)، وكان يطمح إلى أن يشغل منصب الصدر الأعظم ولم

يفلح فى هذا، لذلك طلب إلى السلطان أن يعينه واليًا على «مصر»

فقبل السلطان. وما إن وصل «مصر» حتى حاول استمالة الناس،

وأعلن نفسه سلطانًا مستقلا، لكن أهل الشرع فى «مصر» وكذلك

جنود الإنكشارية لا يعرفون إلا سلطانًا واحدًا خليفة لكل المسلمين هو

السلطان «سليمان القانونى» ، لذلك ثاروا ضد هذا الوالى المتمرد

وقتلوه وظل اسمه فى كتب التاريخ مقرونًا باسم الخائن.

والتمرد الثالث ضد خليفة المسلمين تمرد شيعى علوى قام به «بابا ذو

النون» عام (932هـ= 1526م) فى منطقة الأناضول؛ حيث جمع ما بين

ثلاثة آلاف وأربعة آلاف ثائر، وفرض الخراج على المنطقة، وقويت

حركته حتى إنه استطاع هزيمة بعض القواد العثمانيين الذين توجهوا

لقمع حركته، وانتهت فتنة الشيعة هذه بهزيمة «بابا ذو النون»

وأرسلت رأسه إلى «إستانبول» .

والتمرد الرابع ضد الدولة العثمانية فى عهد «سليمان القانونى» كان

تمردًا شيعيا علويا أيضًا وكان على رأسه «قلندر جلبى» فى

منطقتى «قونية» و «مرعش» ، وكان عدد أتباعه (30.000) شيعى

قاموا بقتل المسلمين السنيين فى هاتين المنطقتين.

توجه «بهرام باشا» لقمع هذا العصيان فقتله العصاة، ثم نجحت الحيلة

معهم؛ إذ إن الصدر الأعظم «إبراهيم باشا» قد استمال بعض رجال

«قلندر جلبى» ، فقلت قواته وهزم وقتل.

الجهاد فى أوربا:

بعد هذا هدأت الأحوال فى الدولة العثمانية وبدأ السلطان «سليمان»

فى التخطيط لسياسة الجهاد فى «أوربا» .

ص: 35

بدأ العثمانيون فى عصر «سليمان» فتوحاتهم فى «أوربا» بفتح

أهم مدن «البلقان» وهى: «بلجراد» ، التى كان المجريون يتولون

حمايتها، وكانت علاقة العثمانيين بالمجريين فى هذا الوقت متوترة؛

إذ كان «سليمان» قد أرسل إلى ملك «المجر» رسولا يعلنه بتولى

«سليمان» عرش العثمانيين، فقتل الملك المجرى رسول «سليمان»

ويدعى «بهرام جاووش» ، فأعلن السلطان العثمانى الحرب على

«المجر» ، وحاصرت القوات العثمانية «بلجراد» من البر ومن النهر

وسلّمت «بلجراد» بعد شهر واحد من الحصار عام (927هـ= 1521م)،

واتخذها العثمانيون قاعدة حربية تنطلق منها قواتهم فى فتوحاتهم

الأوربية. وأثناء حرب «بلجراد» هذه استولى العثمانيون أيضًا على

قلاع مهمة فى منطقة «بلجراد» مثل: «صاباج» و «سلانكامن»

و «زملين» .

وبعد خمس سنوات من استيلاء العثمانيين على «بلجراد» ، أخذ ملك

«المجر» «لايوش» يجمع القوى الأوربية لمحاربة العثمانيين، وكتب

إلى كل من «شرلكان» الإمبراطور الألمانى، و «فرديناند» الأرشيدوق

النمساوى يطلب منهما التحالف معه ضد العثمانيين.

وفى الوقت نفسه كان السلطان «سليمان القانونى» يستعد لمحاربة

«المجر» ، فتحرك بجيشه فى سنة (932هـ= 1526م) فى أكثر من (60)

ألف جندى حتى وصل إلى «صحراء موهاج» المجرية، وهناك دارت

معركة ضخمة من معارك الإسلام فى يوم (21 من ذى القعدة 932هـ=

29 من أغسطس 1526م)، هزم فيها العثمانيون الجيش المجرى، وكان

من أرقى الجيوش الأوربية، ومعروف بفرسانه المدرعين، ولعبت

المدفعية العثمانية دورها فى هذا النصر السريع الذى أحرزه الجيش

العثمانى فى ساعتين، على الرغم من قطعه مسافات طويلة، حتى

وصل إلى أرض المعركة.

وقد تكبَّد الجيش المجرى خسائر هائلة فلم تقم له قائمة، فقد أسر

العثمانيون حوالى (25) ألف جندى، وتعرض نحو (75) ألفًا للقتل أو

للغرق فى مستنقعات «موهاج» ، وكان الملك المجرى «لايوش» ممن

مات غرقًا فى هذه المستنقعات.

ص: 36

وقد رفعت الرايات العثمانية فوق العاصمة المجرية «بشت» ، ولم تكن

قد عرفت باسمها الآن «بودابست» ، وأعلن منها السلطان «سليمان

القانونى» خضوع «مملكة المجر» للحماية العثمانية، وأصدر أمرًا

بتعيين «جون زابوليا» أمير منطقة «أردل» المجرية ملكًا على

«المجر» ، وهو الذى تعرفه المصادر الشرقية باسم الملك «يانوش» ،

وعاد «سليمان» إلى «إستانبول» بجيوشه.

بعد ثلاث سنوات من الحملة العثمانية لفرض الحماية الإسلامية على

«مملكة المجر» ، جاءت رسالة إلى «سليمان» من «يانوش» ملك

«المجر» يقول فيها بأن أرشيدوق «النمسا» «فرديناند» يستعد لأخذ

«المجر» منه، بعد أن قام الكثير من أمراء «المجر» بتأييده ملكًا على

«المجر» بدلا من «يانوش» ، واستولى «فرديناند» بالفعل على مدينة

«بودين» من الملك المجرى التابع للعثمانيين.

وفى (رمضان 935هـ= مايو 1529م) تحركت الجيوش العثمانية من

«إستانبول» إلى «المجر» واستعاد «سليمان القانونى» مدينة

«بودين» مرة أخرى، وفى احتفال مهيب توّج «القانونى» «جون

زابوليا» ملكًا على «المجر» .

ثم أصر السلطان «سليمان القانونى» على محاربة «فرديناند» ،

فحاصرت القوات العثمانية فى (المحرم 936هـ= سبتمبر 1529م) مدينة

«فيينا» عاصمة «النمسا» ، واشترك فى الحصار مائة وعشرون ألف

جندى وثلاثمائة مدفع، وقبل الحصار خرج ملك «النمسا» من عاصمته

وانسحب بعيدًا عنها، وقامت معارك كبيرة أمام أسوار «فيينا» لكن

الجيش العثمانى لم يتمكن من فتحها، إذ جاء الشتاء وبدأت المواد

الغذائية تنقص، وعادت القوات العثمانية جميعًا دون التمكن من فتح

«فيينا» .

وبعد ثلاث سنوات من بداية الحملة على «المجر» وحصار «فيينا» ، قام

السلطان «سليمان القانونى» بمحاربة «ألمانيا» (939هـ= 1532م)

بسبب قيام أرشيدوق «النمسا» «فرديناند» بإرسال سفير إلى

السلطان العثمانى يطلب منه الاعتراف به ملكًا على «المجر» ، ولم

يكتف «فرديناند» بذلك بل جرّد حملة وحاصر بها مدينة «بودين» .

ص: 37

وقامت الحامية العثمانية فى هذه المدينة مع القوات المجرية المحلية

بالدفاع عن المدينة.

وصل السلطان العثمانى إلى «النمسا» مارا بيوغوسلافيا و «المجر» ،

وكانت القوات العثمانية المشتركة فى هذه الحملة تقدر بمائتى ألف،

ولم يحاصر العثمانيون «فيينا» هذه المرة بل توجهوا لتأديب أسرة

«هابسبرج» العريقة، لكن «آل هابسبرج» وقوادهم خافوا مواجهة

السلطان «سليمان» العثمانى عندما علموا بوصوله، ولما لم يتحركوا

للحرب أرسل «سليمان» إلى «فرديناند» رسالة كلها احتقار دفعًا

لحماسه إلى الحرب، لكن «آل هابسبرج» لم يتحركوا وصدرت

للمغيرين أوامر بالقيام بعمليات عسكرية سريعة فى داخل «ألمانيا»

غنموا فيها وأسروا وانتصروا، وعندما حل الشتاء عادت الحملة

العثمانية بأكملها إلى «إستانبول» .

أسفرت الحملة العثمانية على «ألمانيا» عن خوف «فرديناند» وإيمانه

بأن لا قوة فى «أوربا» تستطيع التصدى لسليمان العثمانى، فاضطر

«فرديناند» إلى طلب الصلح، فوافق السلطان بشرط أن يعترف بأن

«بيانوش» ملك على «المجر» تحت الحماية العثمانية، وأن يدفع

(30.000) دوقة ذهبية؛ جزية للدولة العثمانية.

وفى الجبهة الأوربية، مات «يانوش» عام (947هـ= 1540م)، ولم يكن

له إلا طفل صغير، فقامت الملكة «إيزابيلا» بالكتابة إلى السلطان

العثمانى، تقول له: إنها تريد أن يكون ابنها هو الملك، وكانت تدرك

أن «فرديناند» أرشيدوق «النمسا» يطمع فى ملك «المجر» ، بل

وتحرك وحاصر «بودين» فعلاً، وسريعًا ما تحرك جيش العثمانيين

بقيادة السلطان «سليمان القانونى» نحو «بودين» ، وما إن سمع

النمساويون بقرب القوات العثمانية حتى تركوا حصار المدينة وهربوا،

وعند انسحابهم كانت بعض وحدات العثمانيين بقيادة الوزير «محمد

باشا» تلحق بهم الخسائر الفادحة أثناء انسحابهم.

وفى عام (948هـ= 1541م) دخل السلطان «بودين» وأمر بتحويل

أضخم كنائسها إلى جامع للمسلمين، كما أمر بإلحاق هذه المنطقة

ص: 38

المهمة من «المجر» بالدولة العثمانية تحت اسم «ولاية بودين» ، وأمر

بتعيين «سيجموند» الابن الطفل لملك «المجر» «يانوش» ، أميرًا على

إمارة «أردل» التى كان يحكمها أبوه قبل أن يصبح ملكًا على

«المجر» ، ثم عاد السلطان إلى العاصمة.

لكن «فرديناند» لم يسكت، فقد أقنع البابا «بول الثالث» بضرورة

تكوين حملة صليبية قوية لكى تستريح «أوربا» من العثمانيين

بالتخلص منهم والقضاء عليهم، فتحركت هذه الحملة إلى «بودين»

عام (949 هـ = 1542م)، وحاصرتها حصارًا محكمًا، لكنها فشلت فى

الاستيلاء عليها، ولما وصلت أخبار هذه الحملة إلى السلطان

«سليمان» ، تحرك مرة أخرى عام (950هـ= 1543م) إلى

«أوربا» ،واستولى على أهم القلاع المجرية التى كانت فى يد

النمساويين، وهما «استركون» ، و «استولنى بلجراد» .

سليمان القانونى والدولة الصفوية:

أما فى جبهة الدولة العثمانية مع عدوها الدولة الصفوية فنذكر ما

يلى:

فى عام (930هـ= 1524م) تولى الحكم فى الدولة الصفوية الشاه

«طهماسب» ابن الشاه «إسماعيل» ، وكان «طهماسب» عدوا

للعثمانيين؛ فرغب فى التحالف مع القوى الأوربية لحصر العثمانيين

بين القوتين والقضاء على دولتهم، فأرسل «طهماسب» إلى

«شرلكان» سفيرًا يطلب منه التحالف معه، وكانت البداية الحقيقية

للنزاع - هذه المرة - بين العثمانيين والصفويين، حين طلب «ذو الفقار

خان» حاكم «بغداد» الدخول تحت الحماية العثمانية فأرسل له الشاه

من يقتله عام (935هـ= 1529م)، ودخلت القوات الصفوية «بغداد» .

وعلى الجانب الآخر قام «شرف خان» حاكم «بتليس» بخيانة

العثمانيين، وتحالف مع الصفويين، عندئذٍ أعلنت الدولة العثمانية

الحرب على الصفويين، وتحرك الصدر الأعظم «إبراهيم باشا» فدخل

«تبريز» دون مقاومة تذكر، ومن خلفه كان السلطان «سليمان

القانونى» يقود الجيوش العثمانية إلى الهدف نفسه، ودخل «تبريز»

عام (941هـ= 1534م)، ثم اتجه إلى «بغداد» فسلّمت القوات الصفوية

ص: 39

عام (941هـ= 1534م)، وكان «سليمان» قد استولى على

«أذربيجان» ، وعبر جبال «زاغروس» الإيرانية، ومنها إلى «بغداد» ،

وسميت هذه الحملة حملة العراقَيْن، أى «العراق العجمى» وهو

«أذربيجان» و «العراق العربى» . وبهذه الحملة دخلت «العراق» فى

كنف الدولة العثمانية.

وعندما انسحب العثمانيون استرجع الصفويون المنطقة؛ مما جعل

السلطان يعزم على تأديب الصفويين مرة أخرى، وهذا ما سمى باسم

الحملة الثانية على «إيران» ، وكانت عام (955هـ= 1548م)، واسترجع

فيها «تبريز» ، وأضاف إليها قلعتى «وان» و «أريوان» ، لكن انسحاب

العثمانيين وعودتهم جعل الإيرانيين ينتهزون فرصة انشغال الدولة

فى «أوربا» ، ويعودون مرة أخرى، فقام «سليمان» بحملته الثالثة،

ولم يحصل على نتيجة مباشرة؛ إذ إن «طهماسب» خاف من مجابهة

الجيوش العثمانية، فلما عاد «سليمان» إلى بلاده وعند وصوله إلى

«أماسيا» وصلت إليه رسل «طهماسب» للصلح، فقبل السلطان توقيع

معاهدة «أماسيا» عام (963هـ - 1555م) وبموجبها تقررت أحقية

الدولة العثمانية فى كل من «أريوان» و «تبريز» و «شرق الأناضول» .

سليمان القانونى وفرنسا:

أما ما كان من أمر السلطان مع «فرنسا» فقد بدأ أول ما بدأ أثناء

حروب «القانونى» فى «المجر» ، فقد لبى السلطان طلب الدعم الذى

تقدم به «فرانسوا الأول» ملك «فرنسا» وأمه، وأنقذه من ضغوط

«شرلكان» عليه.

أما لماذا قبل السلطان «سليمان القانونى» أن يساعد «فرنسا» ؛

فذلك لأن الأوربيين كانوا ينظمون حملات صليبية على الدولة

العثمانية، وعلى العالم الإسلامى، ولا يكلّون من هذا رغم هزائمهم

المتكررة، فانتهز «القانونى» فرصة النزاع بين «شرلكان»

و «فرانسوا» ملك «المجر» وفكر فى تحييد «فرنسا» وإبعادها عن

المعسكر المسيحى واتخاذها مانعًا أوربيا ضد أى تجمع صليبى

يستهدف العثمانيين.

وبعد عودة السلطان «سليمان» من حملته البغدادية منتصرًا وقع مع

«فرنسا» معاهدة عام (942هـ= 1535م)، منح بموجبها السلطان

ص: 40

لفرنسا بعض الامتيازات التجارية، مثل: إعطاء تخفيض جمركى خاص

للسفن الفرنسية التى تصل إلى الموانئ العثمانية، وتم الاتفاق على

أن هذه المعاهدة تسرى ما دام الحاكمون على قيد الحياة، لكن

الفرنسيين نجحوا فى تجديدها كلما جدّ سلطان جديد حتى وصل الأمر

إلى تثبيت هذه الامتيازات رسميا عام (1153هـ= 1740م).

كان «القانونى» معوانًا لفرنسا، فقد أمدها بمعونات عسكرية،

وأرسل قباطنته العظام مثل: «خير الدين بارباروس» ، و «طورغود

رئيس»، وتحت إمرتهما الأساطيل العثمانية إلى «فرنسا» لمؤازرتها.

وفى عهد «القانونى» تم فتح «جزيرة رودوس» عام (928هـ=

1522م)، و «رودوس» ذات موقع استراتيجى مهم بالنسبة إلى

الأناضول والدولة العثمانية، وكانت تضرب السفن التى تسير فى

شرق «البحر المتوسط» بين «الأناضول» و «مصر» و «سوريا» ، وسبق

أن حاصرها السلطان «محمد الفاتح» ثلاث مرات فلم ينجح فى

فتحها، وكان انتصار العثمانيين على فرسان القديس «يوحنا» الذين

يحكمون الجزيرة انتصارًا هائلاً، حيث كانت «رودوس» أقوى قلعة

بحرية فى ذلك الوقت.

وبعدها سمح السلطان للفرسان المقاتلين بالخروج من «رودوس» بكل

ما يستطيعون حمله فى سماحة وكرم.

خير الدين بارباروس والدولة العثمانية:

«خير الدين بارباروس» أحد أربعة أخوة اشتهروا فى التاريخ

الإسلامى، وكانوا يعملون فى «البحر المتوسط» ، وفى إحدى

أسفارهم قتل فرسان «رودوس» أخاهم «إلياس» ، وأسروا «أوروج»

الذى استطاع الهرب، وراح يتنقل بين الموانئ، حتى استقر بجزيرة

«جربة» الواقعة بين «تونس» و «ليبيا» سنة (919هـ= 1513م).

وبمجيئه هو وأخيه «خير الدين» تغير سير تاريخ الشمال الإفريقى

كله، حيث استطاعا أن يشتريا قسمًا من الساحل التونسى، ويؤسسا

قاعدة للحملات ضد الصليبيين، وأقاما علاقات حسنة مع «قانصوه

الغورى» سلطان «مصر» ، و «أبى عبد الله الخامس» سلطان «تونس» ،

الذى وافق على إعطائهما قلعة «حلق الوادى» ، وكانت ميناء

ص: 41

متحكمًا فى «خليج تونس» ، مقابل إعطاء السلطان خمس الغنائم.

ولما بدأت القوة البحرية للأخوين فى الاتساع أخذت تضرب السفن

الصليبية على نطاق واسع، ونجحت فى الاستيلاء على مدينة

«بجاية» سنة (922هـ= 1516م)، واتخذتها قاعدة بحرية للصراع مع

قوة «إسبانيا» البحرية.

وبعد استشهاد «أوروج» ، المعروف فى المصادر التاريخية العربية

باسم «عروج» فى إحدى معاركه، طلب أخوه «خير الدين» المعروف

فى المصادر الأوربية باسم «بارباروس» أى «ذى اللحية الحمراء»

مساعدة العثمانيين بعد استيلاء السلطان «سليم» على «مصر» ، وقد

أذن له السلطان بالحصول على ما يحتاج إليه من سواحل

«الأناضول» ، فى مقابل سيطرة الدولة العثمانية على «الجزائر» ،

وقيام «خير الدين» بحكمها نيابة عن السلطان.

ولم تتمكن الدولة العثمانية من تنفيذ هذا الاتفاق بسبب انشغالها بغزو

«جزيرة رودوس» وكان قراصنتها يأسرون أعدادًا كبيرة من السفن

التى كانت تجلب الغلال والذهب من الولايات العربية وتنقل الحجاج

إلى الأماكن المقدسة، وبغزو «المجر» ، ومواجهة الصفويين، وبناء

أسطول جديد يمكنه مواجهة البرتغاليين؛ لهذا آثر البحارة المسلمون

فى الشمال الإفريقى الاعتماد على أنفسهم، إلى أن تتمكن الدولة

العثمانية من مدّ يد المساعدة لهم.

وقد قام «خير الدين» بسلسلة من الغارات على الأسطول الإسبانى،

كما قام فى الوقت نفسه بسبع رحلات من «الجزائر» إلى ساحل

«الأندلس» ، تمكن خلالها من نقل (70) ألف مسلم أندلسى، فأنقذهم

بذلك من الموت حرقًا باسم «محاكم التفتيش» .

اهتم السلطان «سليمان القانونى» ، برفع نظام «الجزائر» من نظام

اللواء العثمانى إلى نظام الإيالة (أى إقليم شبه مستقل)، وولَّى

عليها «خير الدين بارباروس» سنة (925هـ= 1519م)، ووكّل إليه قيادة

حملات غرب «البحر المتوسط» .

وقد حاول الملك الإسبانى القضاء على أسطول «خير الدين» ، لكنه

كان يتكبَّد فى كل مرة خسائر فادحة، ولعل أعظم انتصاراته البحرية

ص: 42

فى «البحر المتوسط» يتمثل فى موقعة «بروزة» سنة (945هـ=

1538م)، التى تعد من المعارك البحرية الخالدة فى التاريخ الإسلامى

الحديث، فقد دعا البابا «بول الثالث» الجيوش الأوربية إلى الاتحاد ضد

العثمانيين، وتكوَّن منهم تحالف بحرى ضمَّ أكثر من (600) سفينة

و (60) ألف جندى، يقودها «أندريا دوريا» ، وهو من أمهر القادة

البحرية فى ذلك الوقت.

وتكوَّن الأسطول الإسلامى من (122) قطعة بحرية، و (22) ألف

جندى، والتقى الأسطولان فى (4 من جمادى الأولى945هـ= 28 من

سبتمبر 1538م) أمام «بروزة» ، ولم تستمر المعركة أكثر من خمس

ساعات تمكَّن فى نهايتها «خير الدين» من حسم المعركة

لصالحه، وفر القائد «أندريا دوريا» هربًا بحياته.

ونظرًا لجهود «خير الدين» وانتصاراته التى حققها قام السلطان

«سليمان القانونى» بتعيينه فى القيادة العامة للقوة البحرية

العثمانية وناظرًا للحربية، واستقدمه إلى «إستانبول» مع طاقمه

المكون من تسعة عشر أميرلاى.

وتُوفى «خير الدين» فى «إستانبول» سنة (953هـ= 1546م)، تاركًا

أسطوله الذى بناه بأمواله للدولة، وترك أموالا وفيرة أوقفها لأعمال

الخير، واستطاع خلفاء «خير الدين» من بعده أن ينتزعوا من الإسبان

ما احتلوه من «الجزائر» باستثناء «وهران» التى بقيت فى أيديهم

حتى القرن الثامن عشر.

فتح ليبيا:

كانت «طرابلس الغرب» فى تلك الفترة تحت حكم فرسان «مالطة»

المسيحيين، فأصدر السلطان «سليمان القانونى» أوامره إلى قبطان

«البحر العثمانى» «طورغود رئيس» بتخليص «طرابلس الغرب» من

النفوذ المسيحى، فقام بمحاصرة «طرابلس الغرب» بأسطوله حصارًا

شديدًا فاضطرت حاميتها المسيحية إلى التسليم فى سنة (959هـ=

1552م)، وعين السلطان القبطان «طورغود رئيس» واليًا على

«طرابلس الغرب» .

الحملات البحرية العثمانية فى الخليج العربى والمحيط الهندى:

واجه العثمانيون نفوذ البرتغاليين فى «المحيط الهندى» و «الخليج

ص: 43

العربى»، وكانت تلك المواجهة أحد الأسس الثابتة فى السياسة

الحربية للعثمانيين، فاستولى «أويس باشا» والى «اليمن» على

«قلعة تعز» سنة (953هـ= 1546م)، ثم نجح فى ضم صنعاء، وفى

الوقت نفسه حاصر «بيرى رئيس» «قلعة هرمز» التى كان يسيطر

عليها البرتغاليون، لكنه لم ينجح فى الاستيلاء عليها، فدخل ميناء

«بندر عباس» الإيرانى، واعترفت إمارات «عمان» و «قطر»

و «البحرين» بتبعيتهم للدولة العثمانية، على حين ظلَّت مسقط تنتقل

من السيطرة العثمانية إلى الاحتلال البرتغالى، حتى نجح العثمانيون

فى إخراج البرتغاليين منها نهائيا فى سنة (1060هـ= 1650م).

وقد أدت هذه السياسة فى مواجهة البرتغاليين إلى الحد من عربدتهم

فى المياه الإسلامية، ولم يعد ممكنًا أن يجتاز البرتغاليون «باب

المندب» وسط السيطرة العثمانية.

وفاة السلطان سليمان القانونى:

وفى (صفر 974هـ= سبتمبر 1566م) اشتد المرض بالسلطان «سليمان»

وهو يحاصر مدينة «سيكتوار» المجرية، ثم تُوفى فى (20 من صفر

سنة 974هـ= 5 من سبتمبر سنة 1566م) بعد أن قضى فى الحكم 46

عامًا قضاها فى توسيع دولته وإعلاء شأنها، حتى بلغت فى أيامه

أعلى درجات القوة والكمال، وفى وضع النظم الداخلية للدولة حتى

اشتهر بلقب «القانونى» .

نظام الإقطاع:

لم يكن نظام الإقطاع الحربى أسلوبًا جديدًا ابتكرته العقلية

العثمانية، ولم تكن أول من يستخدمه، بل إن المتصفح لصفحات

التاريخ يجد أن هذا النظام عُرف على عهد الدولة السلجوقية التى

كانت تحكم قبل الدولة العثمانية، كما أنه عُرف فى «مصر» على

عهد الناصر «صلاح الدين الأيوبى» الذى نقله من «الدولة الزنكية»

فى «الموصل» و «حلب» ، ولكن الفرق بين النظام الإقطاعى فى

«مصر» وفى الدولة العثمانية هو: أن «صلاح الدين الأيوبى» نجح

إلى حد بعيد فى حماية الفلاحين الذين يخضعون لهذا النظام، فحدد

الإيجارات والجبايات التى يدفعها من يعطى له الإقطاع، وكان يراقب

ص: 44

هذا مراقبة شديدة؛ منعًا لاستغلال العسكريين للفلاحين ولذلك أطلقت

العبارة المشهورة:

«إن السادة الإقطاعيين العسكريين فى العصر الأيوبى كانوا فى

نعمة محدودة».

كما أن هذا النظام ظل معمولا به على عهد دولة المماليك فى

«مصر» ، حتى إنه أطلق على ديوان الجيش اسم «ديوان الإقطاع» .

الإقطاع الحربى فى الدولة العثمانية:

كان السلطان يمنح أرضًا زراعية لأفراد من سلاح الخيالة (الفرسان)

يستقرون فيها، ويشرفون على زراعتها بمساعدة الفلاحين، الذين

كانوا يتولون زراعتها بصفتهم مستأجرين، وذلك مقابل أن ينضموا

إلى الجيش بخيولهم وأسلحتهم عند نشوب أى حرب، وكان على كل

فارس من هؤلاء الفرسان أن يقدم إلى الجيش وقت الحرب عددًا من

الفرسان، يتراوح بين اثنين وأربعة، بخيولهم وأسلحتهم، وكان عدد

هؤلاء الفرسان الإقطاعيين يتناسب تناسبًا طرديا مع مساحة الإقطاع

الحربى، ومع الإيراد الذى تغله هذه الأرض الإقطاعية، وكانت هذه

الأراضى تسمى إقطاعات، وكان يطلق على من يحصل عليها عن

طريق الإقطاع الحربى اسم «السباهية الإقطاعية» ، وكان هؤلاء لا

يتقاضون مرتبات نقدية من الحكومة، بل كانوا يعتمدون فى معيشتهم

على المحاصيل الزراعية التى تغلها لهم الإقطاعات الممنوحة؛ ولذلك

كانوا يمدون الفلاحين عادة بالماشية والبذور فى مقابل حصولهم

على نصف المحصول، كما كانوا يعتمدون على حصيلة العشور

وغيرها من الضرائب المقررة على الفلاحين - الأرض أو المحاصيل -

ويقومون بجبايتها منهم لحسابهم، وكانت الإيرادات التى يستولون

عليها يطلق عليها بالمصطلح التركى (ماله مقاتلهـ) بمعنى مال

المقاتلة.

وكانت الأراضى الإقطاعية تنقسم إلى:

1 -

إقطاعات صغيرة نسبيا، وتسمى (تيمار)، وتحقق لصاحبها إيرادًا

يبلغ ثلاثة آلاف أقجة، وهى عملة عثمانية من الفضة.

2 -

إقطاعات أكبر مساحة من الأولى وتسمى (زعامت)، يمنحها

السلطان للفارس إذا أظهر كفاية قتالية، وكان يطلق على صاحبها

ص: 45

(زعيم)، وكان هذا الإقطاع يدر ربحًا على صاحبه يصل إلى مائة ألف

أقجة، وذلك مقابل أن يقدم للجيش وقت الحرب عددًا من الفرسان

بخيولهم وأسلحتهم، وكان هذا العدد يتحدد بنسبة فارس عن كل

خمسة آلاف أقجة.

وكان هذان النوعان من الإقطاع الحربى يخضعان لنظام التفتيش الذى

يقوم به موظفو الحكومة المختصون، ويسمون (الدفترداريين)، وكانت

تربية الخيول والعناية بها وتدريبها تدريبًا متواصلاً أمورًا تعد فى

مقدمة واجبات صاحب الإقطاع الحربى، فإذا تبين لموظفى الحكومة

فى أثناء دوراتهم التفتيشية على الإقطاعات الحربية إهمال أو تراخٍ

من صاحب الإقطاع فى تربية الخيول، كان هذا الإهمال أو التراخى

سببًا كافيًا لانتزاع الإقطاع منه.

وكانت الإقطاعات التى من نوع (تيمارات) و (زعامات) توجد فى

ولايات الدولة المحكومة من «إستانبول» رأسًا، سواء فى «أوربا»

أو فى «آسيا» ، ومع ذلك فلم تطبق الدولة هذا النظام على جميع تلك

الولايات، ومن الأقاليم التى طبق فيها نظام الإقطاع الحربى:

«الروملى» ، «بودا» (بودابست)، «البوسنة» ، «طمسفار» ، «ديار

بكر»، «أرضروم» ، «دمشق» ، «حلب» ، «بغداد» ، «شهر زور» ،

«إيالات الأناضول» ، «جزر الأرخبيل» ، «فرمان» ، «مرعش» ،

«سيواس» .

3 -

إقطاع أكبر مساحة من النوعين الأولين ويسمى (خاصا) وكان هذا

الإقطاع يُمنح للولاة الذين فى الخدمة الحكومية، فإذا ما تركوا

مناصبهم نتيجة الوفاة أو العزل أو الترقية إلى منصب آخر، نزع منهم

الإقطاع (الخاص). وجدير بالذكر أن بعض (التيمارات) و (الزعامات)

كانت تُمنح لبعض شاغلى المناصب الكبرى فى الدولة، فكانت تشبه

الإقطاع (الخاص) الذى كان يرتبط بالمناصب.

4 -

الإقطاعات السلطانية الخاصة: وكان يطلق على هذه الإقطاعات

اسم (خواص همايون)،وكانت أكبر وأهم الإقطاعات جميعًا من حيث

المساحة وجودة الأرض، وكان السلطان يمنح أجزاء منها لبعض

أعضاء الأسرة الحاكمة من أميرات وسيدات من حريمه.

ص: 46

5 -

إقطاعات اقتصادية: وكانت تخصص للإنفاق العسكرى على أفراد

حرس الحصون، والسلاح البحرى، والحاميات المحلية وغيرها، وكان

يطلق على هذا الإقطاع اسم (أوجاقلقات).

كيفية توزيع الإقطاعات الحربية:

- خمس مساحة الإقطاع على القسم الأول (التيمارات).

- عشر مساحة الإقطاع على القسم الثانى (الزعامات).

- خمس مساحة الإقطاع على القسم الثالث (الخواص).

- عشر مساحة الإقطاع على القسم الرابع (الأجاقلقات).

- خمس أوقاف.

أهمية النظام الإقطاعى:

ساعد هذا النظام على التوسع فى زراعة مساحات شاسعة من

الأراضى داخل الأقاليم العثمانية فى «أوربا» وفى «آسيا» ، وأدى

إلى اطمئنان الدولة العثمانية؛ بسبب حرص أصحاب هذه الإقطاعات

على بذل أقصى ما لديهم من جهد فى سبيل زراعة هذه المساحات،

وحصول الدولة العثمانية على عدد كبير من الفرسان دون أى تكلفة

تذكر، فقد كان كل صاحب إقطاع يجهز عددًا من الفرسان بتجهيزاتهم

وأسلحتهم.

النظام المالى:

انقسم النظام المالى فى عهد الدولة العثمانية إلى قسمين، هما:

1 -

ميرى، أى الدخل والمنصرف العام، ويتكون من: دخل الأرض

الزراعية، والجزية، ورسوم التجارة، ويديره «دفتردار» .

2 -

خزنة، أى مخصصات السلطان، ويديرها «خزنة وكيلى» ، ويتجمع

دخلها فى «آل خزنة» ، ويديرها موظفو السلطان الخصوصيون.

ويضاف إلى النوع الأول ما كان يتبقى من مال الوقف و «الجزية»

وكان يدفعها أميرا الأفلاق والبغدان.

وكانت الأقاليم المشهورة بالخصب والحبوب مثل «مصر» ترسل هبة

من القمح تمثل (12/ 1) من المحصول، وفى أغلب الأحيان لم يكن فى

وسع الزراع تصدير القمح أو نقله إلى خارج حدود الإقليم، بل كانوا

يجبرون على بيع الفائض عنهم للحكومة نظير ثمن محدد.

وكانت تقع مصروفات القضاء على المتقاضين؛ إذ كان القضاة

يأخذون رسمًا لأنفسهم بدلا من أخذهم رواتب من الدولة.

ص: 47

الفصل الرابع

*العثمانيون فى عهدهم الثانى

-الإصلاح عن طريق إحياء الإسلام:

كانت الدولة العثمانية ملء السمع والبصر، وكانت القوة الدولية

العظمى التى تؤثر فى مجرى الأحداث العالمية، وضمَّت بين جوانحها

أقوامًا من مختلف الأجناس والأعراق واللغات، وامتد عمرها فى

التاريخ قرونًا طويلة، وأثمرت حضارة مزدهرة، كانت خلاصة المدنية

الإسلامية على مدى القرون التى سبقتها، ثم أتى على الدولة حين

من الدهر وجدت نفسها لا تستطيع التقدم والفتح ومواصلة المد

الإسلامى، بعد أن توغلت فى «أوربا» ، فقد توقف السيل العثمانى

أمام أسوار «فيينا» عاصمة «النمسا» ، وعندئذٍ نظر العثمانيون إلى

أنفسهم، وأيقنوا أن هناك خطأ يستوجب الإصلاح.

وقد لاحظ علماء الدولة العثمانية ومصلحوها، ابتداءً من عهد السلطان

«مراد الثالث» أن الفساد قد استشرى فى أجهزة الدولة، وكثر التمرد

فى الأقاليم التابعة لها، وما صاحب ذلك من ثورة وفوضى وفتنة، بل

وظهر التمرد والثورة فى عاصمة الخلافة نفسها، مما أحدث الخوف

على سلامة الدولة ووحدتها السياسية، ولذا أصبحت هناك حاجة

ماسة إلى الإصلاح، وضرورة ملحة لعلاج الخلل الذى بدأ يطل برأسه،

ويكاد يعصف بالدولة ويعرض مكانتها وهيبتها للاهتزاز، وأصبحت

هذه الحاجة هى الشغل الشاغل لجهاز الحكم فى عهد الخليفتين

«عثمان الثانى» ، و «مراد الرابع» .

واستند الفكر الإصلاحى فى بادئ الأمر إلى استلهام الإسلام ومبادئه

ونظمه فى عملية إصلاح الخلل، وأيقن المصلحون العثمانيون أن

تطبيق الشريعة الإسلامية فى مختلف مؤسسات الدولة سوف يعيد لها

قدرتها، ويجدد شبابها ويبعث القوة والحيوية فى عروقها، فتنهض

بعد تعثر، وتقوى بعد ضعف.

وقدم هؤلاء المصلحون النصح والتوجيه إلى السلاطين العثمانيين فى

صورة رسائل وتقارير تحمل أفكارهم، وكان فى مقدمة الناصحين

الضابط العثمانى فى البلاط السلطانى «فوُى بك» ، الذى قدم تقريرًا

ص: 48

إلى السلطان يقول فيه: «إن تطبيق الشريعة الإسلامية وأحكامها

بقوة وحزم هو العامل الأساسى فى وقف تدهور الدولة وحفظ الأمن،

ووقف التمرد والفوضى فى البلاد، ومن ثم تستطيع الدولة التقاط

أنفاسها؛ لتتفرغ لإصلاح نفسها، وأن المسلمين إذا استجابوا

لدواعى الشرع بقوة سيرجعون إلى عهد الفتوحات».

الإصلاح عن طريق الأخذ بالنموذج الغربى:

وفى منتصف القرن الثانى عشر الهجرى بلغت الدولة العثمانية أشد

حالات فسادها وضعفها، فى الوقت الذى كانت فيه «أوربا» تسير

بخطى واثقة نحو التقدم والمدنية؛ لذا قام بعض المفكرين العثمانيين

بالدعوة إلى ضرورة الاستفادة من التقدم الأوربى، والأخذ بأسباب

حضارتهم؛ لضمان المحافظة على وحدة الدولة، وصون حياتها،

والاطمئنان على دوامها واستمرارها.

وأول حركة إصلاحية تبنت هذا المفهوم كانت فى عهد السلطان

«أحمد الثالث» الذى يذكر فى المصادر العثمانية باسم «عصر زهور

شقائق النعمان» دلالة على الأخذ بالمظهر دون الجوهر، وإشارة إلى

الاهتمام الزائد والعناية الفائقة بهذه الزهور فى كل أنحاء العاصمة

العثمانية.

ويمثل هذا العهد بحركته الإصلاحية التى أخذت بالوجهة الغربية؛

بداية نفوذ الثقافة والحضارة الغربيتين فى الدولة العثمانية، وتجمع

حول السلطان وصدره الأعظم بطانة من المثقفين المؤمنين بهذه

الوجهة، وأن الحل يكمن فى الأخذ بالحضارة الأوربية، ولذا أرسلت

الدولة سفراء إلى «باريس» و «فيينا» لتعرف حضارتيهما، ودراسة

أسباب التقدم وعوامل النهضة هناك، ومن أشهر سفراء هذا العهد

«محمد ُلبى» الذى سافر إلى «فرنسا» سنة (1132هـ= 1720م).

وقد شجع هذا العهد العثمانيين على تقليد الغرب ومحاكاة الحياة

الأوربية، فأخذ السلاطين يشيدون القصور الفخمة، وظهر فى البلاد

نمط جديد من الحياة، يميل إلى الإسراف والعيش المترف، والشغف

بارتداء الملابس الفخمة المحلاة بالجواهر والأحجار الكريمة.

ص: 49

وأدت هذه السياسة، بالإضافة إلى فرض الضرائب الباهظة، إلى

ظهور حالة من الاستياء والشعور بعدم الرضا تجاه السلطان

وإدارته، وساد البلاد نوع من العصيان الشعبى، ونفور المحافظين من

فكرة الإصلاح الذى يستلهم النموذج الغربى، وفتح باب التحالف مع

«الإنكشارية» للوقوف ضد كل إصلاح يتخذ «أوربا» مثالا يُحتذى، أيا

كانت فائدته.

وكان من أسباب الضيق بحركة الإصلاح هذه: احتلال أهل الذمة

مواقع خاصة فى مؤسسات الدولة العثمانية، بحيث أصبحوا يتميزون

عن الموظفين المسلمين.

إصلاح الجيش:

تنبه الساسة العثمانيون إلى أن ضعف الدولة يعود إلى عدم

مسايرتها لنواحى التقدم التى شهدتها «أوربا» ،وأثبتت لهم هزيمة

الدولة المخزية فى حربها مع «روسيا» سنة (1188هـ= 1774م) هذه

الحقيقة، فلم يعد هناك مفر من الاقتباس من الحضارة الغربية، وبخاصة

فى المجالات العسكرية، فاستعان العثمانيون بمستشار عسكرى

فرنسى هو «البارون دى توت» ، لتدريب فرقتى المدفعية

والمهندسين.

وقد نجح هذا المستشار فى إنشاء فرقة جديدة للمدفعية سريعة

الطلقات سنة (1188هـ= 1774م) ضمت (250) جنديا وضابطًا، وفى بناء

مصنع لهذه المدافع، وإنشاء مدارس عسكرية حديثة، ومدرسة لتعليم

الرياضيات الحديثة، وأعيدت المطبعة، وجرى ترجمة المزيد من الكتب

الفرنسية العسكرية.

وشهد عصر «سليم الثالث» بدايات التعليم العسكرى على النمط

الغربى، وما ارتبط به من اقتباس المعرفة الأوربية؛ حيث طلب السلطان

نفسه من «لويس السادس عشر» أن تساعده «فرنسا» فى إعادة

بناء الجيش العثمانى، كما أنه أوجد حوله هيئة جديدة من الإداريين

العسكريين المؤمنين بالإصلاح، وقد رفع هؤلاء مجموعة من التقارير

المتصلة بأوضاع الإمبراطورية، وما يجب عمله لإنقاذها، وقد ركزت

معظم هذه التقارير على الإصلاح العسكرى، وأشارت إلى ضرورة

إعادة «وجاق الإنكشارية» وغيره من الفرق إلى تنظيمها الأول، وأن

ص: 50

تتوافر للجيش أسلحة حديثة، وأساليب تمكنه من الوقوف أمام

الجيوش الأوربية، بالإضافة إلى تخفيض أعداد الجنود الإنكشارية إلى

(30000)

جندى، لتحسين كفاءتهم ونظامهم، وبذل الجهود لإنتاج

بنادق وذخائر على النمط الأوربى.

وقام السلطان «سليم الثالث» بإنشاء فرقة عسكرية جديدة، أطلق

عليها «النظام الجديد» ،توخَّى لها أن تتلقَّى تدريباتها على النمط

الأوربى الحديث، وجعل لها خزانة خاصة تنفق عليها، وتستمد

مواردها من الإقطاعات المجاورة، ومن الضرائب الجديدة التى فُرضت

على المشروبات الروحية وتجارة التبغ والبن، وفرض على هذه

الفرقة ارتداء الملابس الأوربية، وتلقت تدريباتها على أيدى خبراء من

«فرنسا» و «إنجلترا» ، استقدمهم السلطان لهذا الغرض.

وأدخلت على أسطول الدولة العثمانية إصلاحات تشبه التى أدخلت

على القوات البرية، فجرى توسيع الترسانة الرئيسية بتوجيه من

المهندسين الفرنسيين، وأنشئت ترسانات فى الأقاليم، وأصلحت

السفن القديمة، وبنيت أعداد كبيرة من السفن الحديثة وفق أحدث

الطرز فى المعمار البحرى، وطورت الدراسات البحرية.

عهد السلطان محمود الثانى:

وُلد السلطان «محمود» سنة (1199هـ= 1784م)، وتقلد مقاليد الخلافة

العثمانية وهو فى الرابعة والعشرين من عمره، فقلّد «مصطفى

البيرقدار» منصب الصدارة العظمى، وطلب منه إصلاح نظام

«الإنكشارية» فاعترضوا عليه، ووقع الخلاف بينهم وبين السلطان،

وأرادوا إعادة الخليفة «مصطفى الرابع» المعزول، لكنه قتل وهم

يحاصرون الصدر الأعظم فى قصره الذى أحرقوه وهو بداخله.

وقد رأى السلطان «محمود» أن نجاح الإصلاح فى دولته يجب أن

يكون شاملاً لكل النظم العثمانية ومؤثرًا فى المجتمع، ولا يقتصر على

المجال العسكرى، ولذا يجب إزالة النظم القديمة، حتى لا تعترض

طريق الإصلاح، والتخطيط الدقيق للإصلاح، وإيجاد الضمانات اللازمة

التى تكفل نجاحه قبل القيام به.

وقد نجح السلطان «محمود» فى القضاء على فرقة «الإنكشارية» ،

ص: 51

التى قامت بالتمرد وإثارة الجماهير ضد الإجراءات المتصلة بإصلاح

الجيش، وبخاصة فيما يتعلق بارتداء القوات الجديدة للملابس الأوربية،

لكن الشعب العثمانى وقف ضدهم، فى الوقت الذى استعد فيه

السلطان «محمود» لمواجهتهم، مما مكنه من القضاء عليهم تمامًا،

وأنشأ جيشًا قويا يتولى إمرته قائد عام، كان قوامه (12000) جندى

فى العاصمة، وقوات أخرى فى الولايات.

وكما ارتبط التعليم لدى «محمد على» بالجيش ارتبط بالجيش أيضًا عند

«محمود الثانى» ، الذى حاول الاقتداء بواليه الناجح، فأرسل البعثات

إلى «أوربا» لتلقى العلوم العسكرية خاصة، وأنشأ المدارس الحديثة،

وعنى بتعليم اللغتين العربية والفرنسية والجغرافيا، والتاريخ

والرياضيات والعلوم.

وحاول السلطان إصلاح أجهزة الدولة المركزية، فوضع الأوقاف تحت

إشرافه، وألغى «التيمارات» ، وضمها إلى أملاك السلطان، وأجرى

أول إحصاء للأراضى العثمانية فى العصر الحديث، وأجرى تحسينات

على شبكة المواصلات، فأنشأ كثيرًا من الطرق الجديدة، وأدخل

البرق، وخطوط السكك الحديدية، كما أنشأ جريدة رسمية للدولة.

وبعد وفاة السلطان «محمود» تولى ابنه «عبد المجيد» الخلافة

وعمره دون الثامنة عشرة.

التنظيمات (محاولة إحياء الدولة):

التنظيمات» كلمة عربية دخلت اللغة التركية، وتعنى فى الاصطلاح

السياسى: حركة التنظيم والإصلاح على المنهج الأوربى الغربى،

وفى الاصطلاح التاريخى: حركة الإصلاح التى حدثت فى الدولة

العثمانية فى القرن (13هـ= 19م) مهتدية بالمؤسسات والتنظيمات

الأوربية، وعرفت بهذا الاسم لأنها تميزت بتنظيم شئون الدولة وفق

أسس جديدة فى جميع المجالات.

ويمكن تعريف حركة التنظيمات العثمانية بأنها حركة ثقافية

وإصلاحية حدثت فى الدولة العثمانية فى النصف الأول من القرن

(19م)، ومهدت لإقامة حكم دستورى على النمط الغربى فى البلاد،

وللتقارب بين العالمين الإسلامى والمسيحى، وشملت مناحى الحياة

ص: 52

كافة فى الديار العثمانية على حساب الحضارة الإسلامية، وانتقلت

سلطة السلاطين إلى الصدر الأعظم والوزراء، وتراجعت مشيخة الإسلام

إلى درجة أقل من حيث الاعتبار والنفوذ، ثم شل عملها.

وكان الحكم العثمانى قبل صدور التنظيمات يستند إلى ثلاث دعامات

رئيسية هى:

1 -

السلطنة.

2 -

الخلافة.

3 -

مشيخة الإسلام.

فكان الوزراء يأتمرون بأوامر السلطان، ويساعد «ديوان الوزراء»

السلطان فى إدارة أمور الدولة، وتقوم مشيخة الإسلام بتقديم

الشورى للسلطان.

بدأ عهد التنظيمات بصدور فرمان من السلطان «محمود الثانى» باسم

«فرمان التنظيمات الخيرية» فى (26 من شعبان سنة 1255هـ= 4 من

نوفمبر سنة 1839م)، وانتهى عندما تولَّى السلطان «عبد الحميد

الثانى» الخلافة سنة (1293هـ= 1876م)، وهى السنة التى أعلنت

فيها الدولة العثمانية ما عُرف باسم «المشروطية الأولى» ، أى إعلان

دستور فى البلاد لأول مرة على النمط الغربى.

وقد أكدت التنظيمات ضرورة إيجاد ضمانات لأمن جميع رعايا الدولة

على حياتهم وشرفهم وأملاكهم، ووجوب علانية المحاكمات

ومطابقتها للوائح، وإلغاء إجراءات مصادرة الأملاك، وضرورة إيجاد

نظام ثابت للضرائب يحل محل «الالتزام» ، وتوفير نظام ثابت للجندية

بحيث لا تستمر مدى الحياة، وإنما تحدد مدتها بفترة تتراوح بين أربع

وخمس سنوات.

وأدى صدور هذه التنظيمات إلى حدوث تغيرات كثيرة شملت معظم

مجالات الحياة، فأنشئت المحاكم المختلطة التى تقبل الشهادة من

المسلمين والمسيحيين على حد سواء، وتَبُتُّ فى القضايا المختلفة

التى يكون الأجانب أطرافًا فيها، وكان يعمل بتلك المحاكم قضاة

أتراك وأوربيون، كما صدر قانون تجارى على نمط القانون التجارى

الفرنسى، وأنشئت مجالس لمعاونة مجالس الولايات، يُمثَّل فيها

الأهالى.

وظلت القوانين الشرعية تطبق فى المحاكم التقليدية، وكذلك فى

المحاكم الحديثة التى تطبق القوانين الجديدة المتصلة بالمسائل

ص: 53

التجارية والجنائية، المأخوذة عن القوانين الغربية، وبخاصة القانون

الفرنسى، وبقيت القوانين الشرعية المتصلة بالأحوال الشخصية

كالطلاق والزواج بدون تعديل.

وقامت لجان يرأسها من يميلون إلى الأخذ والاقتباس عن الغرب بوضع

الخطط الشاملة التى تستهدف إقامة نظام تعليمى يشمل جميع مراحل

التعليم المختلفة، فصدر فى سنة (1386هـ= 1869م) قانون التعليم،

الذى قسَّم المدارس إلى مدارس عمومية وخصوصية، وجعل التعليم

العام فى المدارس الأولية إجباريا ومجانيا لمدة أربع سنوات، ودون

تفرقة بين الذكور والإناث، وتمييز بين المسلمين وغيرهم.

أما التعليم الخاص فقد تناولته المادة (129) من قانون سنة (1286هـ=

1869م)، واشترطت حصول مدرسى المدارس الخاصة على مؤهلات

تقرها وزارة المعارف العثمانية، وأن تقر تعيينهم السلطات التعليمية

سواء أكانت محلية أم مركزية.

وأنشئت مدارس خاصة للبنات والفقراء، كما أنشئت فى سنة

(1276هـ= 1859م) مدرسة جديدة لتعريب الإداريين، وتدريب المعلمين

الذين كانوا يدرسون الشئون العامة والأولية.

وقد انفصلت مدارس الحكومة رسميا عن إشراف العلماء، ووضعت تحت

إشراف وزارة المعارف ذات الصبغة العلمانية منذ سنة (1283هـ=

1866م)، مما أدَّى إلى ازدياد الهوة بين التعليم الدينى والتعليم

العلمانى، وتعميق الازدواج الثقافى.

وكان للمطبعة أثر كبير فى هذا التحول منذ سنة (1251هـ= 1835م)،

فقد ازداد عدد الكتب المطبوعة، وازداد عدد الصحف والدوريات، ولعب

المسرح دوره فى نشر الأفكار الجديدة، وبخاصة بعد أن كثرت دور

المسارح، ونشطت حركة ترجمة الكتب الغربية بما فى ذلك

المسرحيات، وقد أدَّى ذلك كله إلى ظهور مسرحيات عثمانية،

ساعدت على انتشار الأفكار الجديدة، بما تهيأ لها من لغة سهلة

وجذابة، لقيت تجاوبًا من العامة، وأوجدت اتجاهًا مطلقًا إلى مقاومة

السلطة المطلقة عن طريق إعلان الدستور وإيجاد حكومة مسئولة أمام

ص: 54

برلمان منتخب وفق النمط الديمقراطى الذى عرفه الغرب وبخاصة فى

«بريطانيا» .

نظام الحكم فى عهد محمود الثانى:

اتجه الإداريون العثمانيون فى عهد السلطان «محمود الثانى» (1223 -

1255هـ= 1808 - 1839م) إلى التغريب، وما يهمنا هنا أنه غيّر اسم

الصدارة العظمى إلى «باش وكالت» أى رئاسة الوزراء - كما فى

«أوربا» - وأوجد نظارتين (وزارتين) جديدتين هما المالية والأوقاف.

وقد وصف أ. «سلاد» - الذى كان يخدم الدولة العثمانية برتبة «مشاور

باشا» - مع أنه أوربى - السلطان «محمود الثانى» بأنه «قلد نقائص

الغرب كما هى وبدأ إصلاحاته للدولة من حيث ما كان يتوجب عليه

تركه» ويقصد أنه أخذ من الدول الأوربية المظهر والمداراة.

وفى عهد ابنه السلطان «عبد المجيد» أصدرت الدولة بيانًا يؤكد أن

الدولة العثمانية قد اتجهت إلى الغرب فى تغيير مظهرها وجزء كبير

من تقنينها وآليات اتخاذ القرار فيها.

مما سبق نتبين أن الدولة العثمانية كانت تدار، وكانت قراراتها تُتخذ

فى الديوان الهمايونى، وكان الديوان ينعقد برئاسة السلطان أو

الصدر الأعظم نيابة عنه، كما كان هذا الديوان يعقد فى القصر فى

المكان المسمى تحت القبة ( Kubbe Alti) واستمر هذا حتى عهد

السلطان «محمد الفاتح» الذى ثبت هذا التقليد بقانون. وقد أُلغى فى

هذه الفترة الديوان الهمايونى بوصفه نظامًا يشكل آليات اتخاذ القرار

فى الدولة العثمانية، واستبدل به النظام الأوربى، ومن ثم فقد تكوّن

رسميا بديل عن الديوان ما سمى فى عهد «محمود الثانى» باسم

«مجلس وكلا» والوكيل بالتركية بمعنى الوزير فى العربية)، ومن ثم

فقد أصبح النظام الجديد يعرف باسم مجلس الوزراء أو ما عرف باسم

«الباب العالى» .

الباب العالى (مجلس الوزراء).

وهو اصطلاحًا: المجلس الذى يتشكل من شيخ الإسلام والنظار

(الوزراء)، والذى يتخذ القرار فى الأمور المتعلقة بسياسة الدولة

(العثمانية) الداخلية والخارجية والأمور المهمة ويسمى أيضًا «المجلس

ص: 55

الخاص» أو «مجلس الوزراء الخاص» .

وكان يتكون من شيخ الإسلام وناظر العدلية وقائد الجيش ورئيس

شورى الدولة، وناظر الخارجية، وناظر الداخلية، وناظر البحرية،

ومشير المدفعية، وناظر المالية، وناظر الأوقاف، وناظر التجارة

والأمور النافعة (الأشغال)، وناظر المعارف، ومستشار الصدر الأعظم

العالى.

وبذلك بعد شيخ الإسلام عن استقلاله، وتوزعت الشئون الدينية بينه

وبين ناظر الأوقاف وأصبح شيخ الإسلام موظفًا كبيرًا فى الدولة.

وعلى النظام الغربى فى تكوين الدولة العثمانية أيضًا أصبح هذا

المجلس الوزارى - بعد انقلاب (يوليو/ تموز 1908م) الذى عزل السلطان

«عبد الحميد» عن العرش- مقيدًا بقوانين ولوائح وأنظمة محددة

ومعينة ومسئولا أمام السلطان ومجلس المبعوثان (مجلس الأمة) عن

الشئون المتعلقة بسياسة الدولة الداخلية والخارجية والوظائف العامة.

السلطان عبد العزيز:

ولد فى (14 من شعبان 1245هـ= 9 من فبراير 1830م)، وتولى الخلافة

بعد وفاة أخيه «عبد المجيد بن السلطان محمود» فى (17 من ذى

الحجة 1277هـ= 6 من يونيو 1861م)، وبعد وفاة «غالى باشا»

و «فؤاد باشا» اللذين توليا منصب الصدر الأعظم وضيقا على

السلطان، مارس السلطان «عبد العزيز» حكمه الشخصى، فاشتد سخط

العثمانيين على ممارسات السلطان الاستبدادية، وتدخُّل السلطانة

«الوالدة باشا» فى شئون الحكم، وازداد القلق بسبب سوء الأوضاع

الاقتصادية، وإعلان إفلاس الحكومة العثمانية فى أواخر سنة

(1292هـ= 1875م)، وهو الإفلاس الذى عُزى إلى إسراف «عبد العزيز»

وخراب ذمته هو وحاشيته.

وأما المحافظون فقد أرجعوا متاعب الدولة إلى «التنظيمات»

العلمانية، ونفوذ الأجانب، وتدخلهم فى شئون البلاد، مما أدَّى إلى

انتعاش إسلامى، كان من نتيجته التضييق على المدارس الأجنبية

وأعمال المبشرين، وطرد المعلمين والخبراء الأجانب، كما اشتدت

المطالبة بإلغاء الامتيازات الأجنبية، والوضع الذى كان يتمتع به

الأجانب.

ص: 56

وساءت أحوال الدولة الاقتصادية فى أواخر عهد السلطان «عبد

العزيز»، بحيث توقف صرف مرتبات الموظفين - بما فى ذلك

العسكريون - لعدة شهور، ولم يؤدِّ فرض ضرائب جديدة إلى معالجة

الأوضاع المتردية، لهذا سعى «مدحت باشا» إلى تحسين أوضاع

الحكومة بخلع «عبد العزيز» خاصة، ولأنه كان مؤمنًا بأن ولى العهد

الأمير «مراد الخامس» أميل إلى إعلان الدستور.

وفى (6 من جمادى الأولى سنة1293هـ= 30 من مايو سنة 1876م)

قامت مجموعة صغيرة من كبار موظفى الحكومة يرأسهم «مدحت

باشا» بانقلاب ضد الخليفة، عززته فتوى شيخ الإسلام، وولى

الثائرون السلطان «مراد الخامس» الذى كان قد اتصل بشباب

العثمانيين عدة سنوات.

وكان السلطان «مراد الخامس» على جانب كبير من الذكاء والثقافة

التركية، كما أبدى اهتمامًا بالأدب والعلوم والشئون الأوربية، وكان

يهوى الموسيقى الغربية، وزار «أوربا» سنة (1284هـ= 1867م)،

وانخرط فى سلك الماسونية، وكان أميل إلى الليبرالية والدستور

وإصلاح التعليم، وطبعه بالعلمانية.

على أن مراقبة «مراد» فى أواخر عهد عمه، وإسرافه فى الشراب

أديا إلى اختلاط عقله بالصورة التى ظهرت عليه بعد توليه الحكم،

وازداد هذا الاضطراب، حين نمى إلى علمه نبأ انتحار السلطان «عبد

العزيز»، ومقتل عدد من الوزراء على يد أتباع الأمير «يوسف عز

الدين بن عبد العزيز»، وحينئذٍ رأى الوزراء ضرورة خلع

«مراد» ،وتولية أخيه «عبد الحميد» الذى كان «مدحت باشا» قد انتزع

منه وعدًا بإعلان الدستور.

ص: 57

الفصل الخامس

*السلطان عبد الحميد الثانى وانهيار الدولة

(1843 - 1918م)

وُلد «عبد الحميد الثانى» (13 من شعبان عام 1258هـ= 21 من سبتمبر

عام 1842م)، وهو ابن السلطان «عبد المجيد محمود الثانى» صاحب

فرمان التنظيمات الذى ينظم الدولة العثمانية على الطراز الأوربى

وتولى العرش خلفًا لأخيه «مراد» فى (10 من شعبان عام 1293هـ= 31

من أغسطس عام 1876م)، وماتت أمه وهو فى الحادية عشرة من

عمره، فربته زوجة أبيه وعاملته معاملة الأم شفقة ورحمة وعناية.

درس «عبد الحميد» العلوم الأساسية فى عهده وبجانبها تعلَّم اللغة

العربية وأجادها، والفارسية وأجادها، وكان ينظم الشعر، وكان

شخصية قوية منذ صغره، كان متدينًا وسط جو أوربى يعيشه أمراء

القصر السلطانى، وحريصًا على أداء الصلاة فى أوقاتها، عفيفًا، لا

يشرب الخمر، ويمنع تدخل نساء القصر فى السياسة أو شئون الدولة

منعًا باتا، وتروى ابنته الأميرة «عائشة»:

فى اليوم التالى لتنصيب والدى السلطان عبد الحميد سلطانًا على

الدولة العثمانية قابل زوجة والده التى أحبها حبا ملأ عليه فؤاده،

وقبّل يدها، وقال لها:

بحنانك لم أشعر بفقد أمى، وأنت فى نظرى أمى لا تفترقين عنها،

ولقد جعلتك السلطانة الوالدة (وهو لقب خاص بأم السلطان) .. لكنى

أرجوكِ بإصرار ألا تتدخلى بأى شكل من الأشكال فى أى عمل من

أعمال الدولة.

وانصاعت هى لهذا الأمر تمامًا».

بدأ «عبد الحميد» حكمه الفردى بافتتاح مجلس «المبعوثان» ، لكنه

سرعان ما عطله إلى أجل غير مسمى، وكان هذا التعطيل فى (10

من صفر عام 1295هـ= 13 من فبراير عام 1878م)، واستمر الحكم

الفردى لعبد الحميد مدة ثلاثين عامًا ونصف عام تقريبًا يعنى حتى

(17 من جمادى الآخرة عام 1326هـ= 13 من يوليو عام 1908م) عندما

ثار عليه الجيش، فاضطر إلى إعلان الحكم النيابى، وافتتح البرلمان

للمرة الثانية.

لكنه كان رحيمًا بالمعارضين له، يستميلهم بقدر إمكانه، وإذا نفى

ص: 58

أحدًا منهم ينفيه إلى مكان بعيد، بعد أن يمنحه منصبًا عاليًا وراتبًا

كبيرًا، فعل هذا على سبيل المثال مع «نامق كمال» الشاعر

العثمانى المعروف ومع «ضيا باشا» الأديب العثمانى الذائع الصيت.

ونسوق هنا ترجمة لقصيدة نظمها الفيلسوف التركى «رضا توفيق»

وهو من كبار رجال «الاتحاد والترقى» ومن أكبر المعارضين لحكم

«عبد الحميد» ، وهذه القصيدة لم يكتبها الشاعر إلا بعد وفاة

السلطان «عبد الحميد» ، يقول فيها:

عندما يذكر التاريخ اسمك.

يكون الحق فى جانبك ومعك يا أيها السلطان العظيم.

كنا نحن الذين افترينا - دون حياء.

على أعظم سياسيى العصر.

قلنا إن السلطان ظالم وإن السلطان مجنون.

قلنا لابد من الثورة على السلطان.

وصدقنا كل ما قاله لنا الشيطان.

وعملنا على إيقاظ الفتنة.

لم تكن أنت المجنون، بل نحن، ولم نكن ندرى.

علقنا القلادة على فتيل واهٍ.

لم نكن مجانين فحسب، بل كنا قد عدمنا الأخلاق.

فلقد بصقنا - أيها السلطان العظيم.

على قبلة الأجداد.

عبد الحميد ومشاكل دولته:

وقد بدأ عهد «عبد الحميد» بالمشاكل العديدة، فتمرد «الصرب»

و «الجبل الأسود» ، وهو تمرد بدأ فى آخر عهد «عبد العزيز» ،

واضطرب الوضع فى «جزيرة كريت» ولم يكن فى صالح الدولة.

وانتصر العثمانيون على قوات الصرب فى معركة «الكسيناج» ، ولكن

عندما اقترب العثمانيون من دخول «بلجراد» إذا بروسيا توجه إنذارًا

للدولة العثمانية، فخافت الدول الغربية وعلى رأسها «إنجلترا» من

مغبّة تدخل «روسيا» وعقدت هذه الدول مؤتمر الترسانة المشهور فى

«إستانبول» فى (ذى الحجة عام 1293هـ= ديسمبر عام 1876م)

برياسة «صفوت باشا» وزير الخارجية العثمانية. فى هذا اليوم أعلن

«عبد الحميد الثانى» الحكم المشروطى (الديمقراطى) فى الدولة.

والواقع أن هذا المؤتمر قد أجبر الدولة العثمانية على القيام

بإصلاحات فى «البوسنة والهرسك» و «بلغاريا» . وفى (3 من المحرم

ص: 59

عام 1294هـ= 18 من يناير عام 1877م) اجتمع فى «الباب العالى»

(مجلس مكوّن من (240) شخصًا) لدراسة مقترحات مؤتمر الترسانة، لكن

«مدحت باشا» دفع المجلس إلى رفض مقترحات الدولة، وحرَّض طلبة

العلوم الدينية العالية على القيام بمظاهرات لإجبار السلطان «عبد

الحميد» على الحرب، فقام المجلس بإجبار السلطان على التصديق

على قرار برفض مقترحات المؤتمر، فانفض السفراء وتركوا الدولة

العثمانية بمفردها تواجه «روسيا» .

ولما كان «نابليون الثالث» قد أرسى دعائم الفكر القومى العرقى

فى «أوربا» ، فقد استغل الروس فرصة انتشار هذا الفكر، وقاموا

بدعايات ضخمة لإنقاذ إخوانهم السلاف الواقعين تحت الحكم التركى،

وأعلنوا الحرب فى (10 من ربيع الآخر عام 1294هـ= 24 من أبريل عام

1877م) على العثمانيين، وبذلك بدأت الحرب العثمانية - الروسية،

المشهورة التى استمرت من عام (1294هـ= 1877م) إلى عام (1295هـ=

1878م)، وتعد هذه الحرب نكبة من نكبات التاريخ العثمانى، فقد

رافق خسارة العثمانيين فى الأرض، مشكلة هجرة مليون مسلم

عثمانى من «بلغاريا» إلى «إستانبول» ، وهذه الهجرة هى أصل

مشكلة الأقليات الإسلامية اليوم فى «بلغاريا» وغيرها من دول

«البلقان» ، وعندما هاجر المليون عثمانى رافقتهم مشاكل اجتماعية

كبيرة فى الإسكان وفى المعيشة.

وأخيرًا عقدت فى (27 من المحرم عام 1295هـ= 31 من يناير عام

1878م) معاهدة لإنهاء الحرب التى استمرت تسعة أشهر وسبعة أيام.

تعطيل البرلمان:

وأمام ما تصوّره «عبد الحميد» من قصور فى الرأى العام ممثلاً فى

هذا المجلس، الذى دفع بالأمة إلى الدخول فى حرب هى غير مستعدة

لها، وليست فى حاجة إليها، قام السلطان فى (13 من فبراير 1878م)

بتعطيل الحياة النيابية إلى أجل غير مسمى، واضطر وزير الخارجية

العثمانية أن يوقع معاهدة «أياسطفانوس» التى فرضتها «روسيا»

على الدولة عقب هزيمتها أمامها، وقد بكى الوزير وهو يوقع

ص: 60

المعاهدة؛ لأنها كانت مجحفة بالدولة، إلا أن السلطان يذكر فى

مذكراته أنه عمل كثيرًا على تخفيف وقع هذه المعاهدة على الدولة،

بتوقيع معاهدة أخرى هى «معاهدة برلين» فى (10 من صفر عام

1295هـ= 3 من يوليو عام 1878م) أى بعد أربعة أشهر وأحد عشر

يومًا من المعاهدة الأولى.

وفى (18 من جمادى الأولى عام 1295هـ= 20 من مايو عام 1878م)

أثناء ما كان جيش الاحتلال الروسى يجثم على أراضى الدولة،

وانشغال هذه به، قام شاب يدعى «على سعاوى» مع أنصاره من

الشباب الثائر بمحاولة لخلع «عبد الحميد» وإحلال «مراد» - وكان

مريضًا مرضًا عقليا - محله إلا أن هذه المحاولة باءت بالفشل.

ديون الدولة العثمانية:

أما عن الديون العثمانية وخطورتها، فقد وصلت الديون المتبقية من

عهدى «عبد المجيد» والد «عبد الحميد» ، و «عبد العزيز» عمه إلى

(252)

مليون ليرة ذهبية عام (1298هـ= 1881م)، وكان هذا الرقم

وقتها رقمًا هائلا، وكانت كل من «إنجلترا» و «فرنسا» فى مقدمة

الدائنين. وقد نجح السلطان «عبد الحميد» فى حل مسألة الديون هذه

بتقليلها إلى النصف تقريبًا؛ لذلك كان الموظفون العثمانيون وخاصة

الضباط يتضجرون عندما يقبضون رواتبهم متأخرةً، وهذا الأمر كان من

أسباب ضيق الموظفين فى عهد «عبد الحميد» .

وبعد وفاة السلطان «عبد العزيز» - عم «عبد الحميد» - بخمس سنوات،

أثار «عبد الحميد» قضية هذه الوفاة؛ ولذلك قدّم «مدحت باشا»

وأعوانه إلى المحاكمة فى «محكمة يلدير» فى (29 من رجب عام

1298هـ= 27 من يونيو عام 1881م) بتهمة قتل سلطان الدولة، وأصدرت

المحكمة قرارها بالإدانة.

ثم نُقل «مدحت باشا» وصاحبه محمود جلال الدين باشا فى (1 من

رمضان عام 1298هـ= 28 من يوليو عام 1881م) بالسفينة «عز الدين»

إلى «قلعة الطائف» حيث حبسا فى السجن العسكرى هناك، واستمر

هذا الحبس سنتين وتسعة أشهر، ثم وجد «مدحت باشا» وزميله فى

السجن مقتولين خنقًا، ولم يُعرف من المحرّض على القتل، والمعروف

ص: 61

أن «إنجلترا» حاولت إنقاذ «مدحت باشا» من هذا السجن بتهريبه منه

حتى إنها خصصت سفينة عسكرية بريطانية فى «البحر الأحمر» لهذا

الغرض.

وفى (18 من جمادى الأولى 1323هـ= 21 يوليو 1905م) دبر الأرمن

مؤامرة لقتل السلطان «عبد الحميد» عُرفت فى التاريخ العثمانى

باسم «حادث القنبلة» ، دبّرها ونفذها الأرمن وأيدها المعارضون لعبد

الحميد وبخاصة العاملون فى النشر والإعلام.

ومع هذا فقد كان حكم عبد الحميد بالنسبة إلى الدولة العثمانية عهد

استقرار. وكان الشعب يشعر بالأمان، لكن نتيجة أن السلطان كان

يربط مؤسسات الدولة بشخصه مباشرة ودائمًا، ويحدّ من الصحافة

والحريات السياسية فقد عاداه الضباط وطلبة العلوم العليا خاصة طلبة

الطبية العسكرية.

المسائل العربية فى عهد عبد الحميد:

بجيش مكوّن من (23.000) جندى فرنسى استُقدموا من «الجزائر» مع

أسطول بحرى و (8.000) جندى فرضت «فرنسا» حمايتها على

«تونس» ووقعت «معاهدة باردو» (قصر سعيد) فى (12 من جمادى

الآخرة 1298هـ= 12 من مايو 1881م)، بذلك احتج الباب العالى وأخذ

الوزير «محمود صادق باشا» أمير «تونس» يطلب النجدة، فذهب إليه

أسطول عثمانى مدرّع، إلا أن هذا الأسطول اضطر إلى الانسحاب إلى

مياه «كريت» ؛ لعدم التوازن فى القوى بين الأسطولين العثمانى

والفرنسى.

ولم تكن الدولة العثمانية فى الواقع قادرة على أن تدافع عن

«تونس» ، وكل ما استطاعت عمله أنها لم تعترف رسميا بالاحتلال

الفرنسى، وظل «عبد الحميد» يعتبر «تونس» قطعة من الدولة

العثمانية فى السالنامة الرسمية.

وكان احتلال «بريطانيا» لمصر فى (2 من ذى القعدة 1299هـ= 15 من

سبتمبر عام 1882م) هو الحدث الكبير الثانى فى السياسة العثمانية

الخارجية فيما يختص بالأمور العربية.

عبد الحميد والخديو إسماعيل:

إن العلاقات العثمانية المصرية كانت قد اتخذت طورًا متشددًا تجاه

إسراف الخديو «إسماعيل» ، بعد أن استطاع الحصول من

ص: 62

«عبدالعزيز» على امتياز بالاقتراض الخارجى، ووصل الأمر بالخديو

إلى أنه اقترض من «إنجلترا» و «فرنسا» مبلغ مائة مليون جنيه ذهبًا

فى عشر سنوات؛ ولتقريب هذه المسألة نقول إن ديون الدولة

العثمانية كلها - بعد جهود «عبد الحميد» فى تخفيضها إلى النصف

تقريبًا - تعادل جملة اقتراضات الخديو «إسماعيل» بمفرده وهو خديو

على إيالة «مصر» العثمانية؛ مما أعطى انطباعًا لدى السلطان «عبد

الحميد» بعظم إسراف الخديو، وهذا الإسراف دفع «إسماعيل» فى

(ذى القعدة 1292هـ= نوفمبر 1875م) إلى طرح أسهمه الشخصية فى

«قناة السويس» للبيع، وحاولت «فرنسا» أن تشتريها، إلا أن سرعة

حركة «دزرائيلى» رئيس وزراء «بريطانيا» فى شراء هذه الأسهم

عطلت حركة «فرنسا» فى العمل، وهذا أدى إلى توقع وقوع

«مصر» فريسة للاحتلال البريطانى. ولم تكن «فرنسا» من القوة بحيث

تستطيع وقتها عمل شىء لتعطيل تحرك الإنجليز فى «مصر» ، ومع

ذلك لم يجد بيع «إسماعيل» لأسهمه فى «قناة السويس» نفعًا.

كان جيش «مصر» قد بلغ أيام «إسماعيل» إلى (30.000) عسكرى ما

بين ضابط وجندى، ثم أدى تدخل الوزراء الأوربيين فى الوزارة

المصرية إلى تخفيض هذه القوة إلى (11.000) وتسريح (2500)

ضابط، وكان هذا العدد يقرب من نصف عدد ضباط الجيش، وكان عدد

الضباط المصريين قليلاً بالنسبة إلى الضباط الآخرين من رعايا الدولة

العثمانية كالألبان والأباظة والشركس وغيرهم، إلا أن أغلب الضباط

المحالين إلى التقاعد كانوا من المصريين، فاستاء هؤلاء، وبدأ فى

«مصر» - لأول مرة - الشعور بالقومية، وظهر الأميرالاى «أحمد عرابى

بك».

نتيجة لهذا الجو الجديد قام السلطان «عبد الحميد الثانى» بإصدار

إرادة سنية فى (5 من شعبان 1296هـ= 25 من يوليو 1879م) بعزل

الخديو «إسماعيل» باشا، وتعيين ابنه الأكبر وولى العهد «محمد

توفيق باشا» مكانه، وطلب «إسماعيل» من السلطان «عبد الحميد»

ص: 63

الإذن بالإقامة فى «إستانبول» والإفادة من أملاكه هناك، فأذن له

وأقام «إسماعيل» فى قصره فى حى «بايزيد» فى «إستانبول» ،

وكذلك فى قصره الصيفى على «البسفور» فى حى «أميركان» .

ومات «إسماعيل» فى «إستانبول» فى (27 من رمضان 1312هـ= 2

من مارس 1895م) عن (65) عامًا، والمعروف أن «إسماعيل» درس فى

الأكاديمية الحربية فى «باريس» .

وفى علاقة «عبد الحميد» بإسماعيل أيضًا مسألة إهداء السلطان

«عبد العزيز» عم «عبد الحميد» جزيرة «ياسى آدا» - وهى جزيرة

صغيرة جميلة، بالقرب من إستانبول - إلى «إسماعيل» ، وعندما

تولى «عبد الحميد» أعاد هذه الجزيرة إلى أملاك الدولة.

عبد الحميد والثورة العرابية:

أما «أحمد عرابى بك» فقد أيده «عبد الحميد» ومنحه رتبة أمير لواء

مع الباشوية، كما منحه الوسام الحميدى من الطبقة الأولى،

والمعروف أن الرتب العسكرية فى «مصر» فيما فوق أميرالاى لا

تمنح إلا من السلطان نفسه.

قام «عرابى باشا» بإنهاء عمل الموظفين الأوربيين، فاحتجَّت عليه

كل من «إنجلترا» و «فرنسا» ، وقامتا بمراجعة «الباب العالى» فى

شأن إرسال قوة عسكرية إلى «مصر» ، ولم يقع «عبد الحميد» فى

هذا الفخ، ورفض إرسال قوة عسكرية، لأن قمع الحركة الوطنية

المصرية بجنود أتراك لصالح الدول الأوربية وهى دول استعمارية،

كان من شأنه الإساءة إلى مقام الخلافة فى كل أرجاء العالم

الإسلامى، ويتنافى مع مبدأ الجامعة الإسلامية التى كان «عبد

الحميد» قد اتخذها سياسة له.

فى هذه الأثناء تولّى «عرابى باشا» وزارة الحربية، وفى (23 من

شعبان 1299هـ= 11 من يوليو 1882م) حدثت قلاقل «الإسكندرية» ،

ومات عدد من الأوربيين هناك، كما جرح أربعة قناصل؛ لذلك قام

الأميرالاى «سيمور» قائد الأسطول البريطانى فى «البحر المتوسط» -

وكانت «إنجلترا» قد أعلنت أنها ستحمى الأجانب فى مصر - بضرب

«الإسكندرية» بالمدفعية البحرية ضربًا متواصلاً. وفى اليوم التالى

ص: 64

(24 من شعبان= 12 من يوليو 1882م) احتل «الإنجليز» المدينة، وفى

(12 من سبتمبر 1882م) قام السير «جرانت ويلزلى» بالتغلب على

قوات «عرابى باشا» فى معركة «التل الكبير» فى عشرين دقيقة،

ودخل الجيش الإنجليزى القاهرة فى (15 من سبتمبر 1882م)،ونفت

«بريطانيا» «أحمد عرابى» إلى «سيلان» .

وكانت «بريطانيا» تردد دائمًا أنها تحتل «مصر» و «السودان» احتلالا

مؤقتًا، ولم يكن للاحتلال صفة رسمية، أو وضع قانونى، وإن كان

أمرًا واقعًا إلا أن «مصر» رسميا كانت تابعة للدولة العثمانية،

واستمرت «مصر» حتى عام (1331هـ= 1914م) - تاريخ إعلان الحماية

البريطانية عليها - ترسل متعلقات تبعيتها للعثمانيين إلى

«إستانبول» سنويا، وكذلك كان تعيين الرتب الكبيرة فوق الأميرالاى

لا يتم إلا عن طريق السلطان.

عبد الحميد ومسألة العقبة:

والمسألة الثالثة المهمة فى العلاقات العثمانية المصرية فى عهد

«عبد الحميد» تتجلى فى مسألة العقبة عام (1324هـ= 1906م)، فبعد

أن ضيق العثمانيون على الإنجليز حلقة العمل الاستراتيجى للاحتفاظ

بطريقهم إلى «الهند» سليمًا، وخوف «بريطانيا» من خط سكة حديد

الحجاز، خاصة بعد دخول «ألمانيا» منافسًا للقوى الأوربية فى خط

سكة حديد «بغداد» ، فى تلك الفترة كان السلطان «عبد الحميد»

مشغولاً بإنشاء خط سكة حديد «مكة» الطويل، برأس مال إسلامى

وأيدٍ عاملة مسلمة، وكان خط سكة حديد الحجاز قد وصل إلى

«المدينة المنورة» ، وقد ربط هذا الخط بين «إستانبول» و «دمشق»

و «المدينة» .

فى هذه الفترة نفسها أنشأ السلطان مدينة «بير السبع» بين «غزة»

و «بحيرة لوط» فى جنوب «فلسطين» ، وفى عام (1319هـ= 1901م)

حلت قوة تركية هناك وتكون حولها قصبة، والواقع أنها كانت

قاعدة استراتيجية عثمانية، تشرف على «شبه جزيرة سيناء»

و «الجزيرة العربية» وطريق «الحجاز» و «مصر» ، وكان من شأنها

أيضًا مراقبة الإنجليز الذين كانوا يحتلون «مصر» . وتشكل هذه

ص: 65

القاعدة العثمانية الاستراتيجية التى أقيمت على أطلال مهجورة

متراكمة حول بئر واحدة من بدايات مسألة العقبة.

وفى عام (1323هـ= 1905م) قام الإنجليز بتحريض بعض القبائل اليمنية

بالتمرد على الدولة، لكن العثمانيين استطاعوا القضاء على هذا

التمرد، عندئذٍ أدركت «بريطانيا» أنها عاجزة عن الإضرار بالعثمانيين

فى «اليمن» ، وهى ولاية ذات أهمية استراتيجية على «البحر الأحمر»

و «خليج عدن» ؛ لذلك قام الإنجليز باختلاق حادثة على حدود «مصر»

وكانت هذه الحادثة هى حادثة قرية تسمى «العقبة» .

طلبت «إنجلترا» إرسال جنود إلى هذه القرية التى يسمح الباب

العالى بوجود جنود مصريين فيها خاصة بمناسبة أعمال الحج.

بذلك كانت «إنجلترا» تريد السيطرة على المدخل الشمالى الشرقى

للبحر الأحمر وتدخل منه إلى داخل «الجزيرة العربية» .

أرسل السلطان «عبد الحميد» أحد ياورانه المخلصين وهو الأميرالاى

«رشدى بك» - باشا فيما بعد - إلى المنطقة، فسار مع طابورين من

الجنود ومدفع واحد واتجه إلى العقبة وأخلاها من الجنود المصريين

الذين كانوا فيها بعد أن أبلغهم أن هذا قرار من السلطان. وبموجب

أمر من «عبد الحميد» احتل «رشدى بك» قصبة «طابا» بعد أن

أخلاها من الجنود المصريين ليفاجئ الإنجليز بالأمر الواقع.

أدركت «إنجلترا» أنها على أبواب صدام قريب مع الدولة العثمانية

بشأن الحدود، خاصة بعد قيام الشعب المصرى فى «القاهرة» وسائر

المدن المصرية بمظاهرات تهتف بحياة «عبد الحميد» وبسقوط الاحتلال

الإنجليزى، وقدمت «إنجلترا» للباب العالى إنذارًا باحتلال «العقبة»

و «طابا» فى مدة عشرة أيام إذا لم يرسل الباب العالى إلى «رشدى

بك» تلغرافًا بإخلاء القلعتين، وقالت «إنجلترا» فى إنذارها إن من

حقها الدخول فى حرب مع الدولة إذا لم يحدث صدى إيجابى للإنذار،

ولكى تضخم «إنجلترا» المسألة أمرت أسطولها فى «المحيط

الأطلسى» بدخول «البحر المتوسط» عن طريق «جبل طارق» ؛ ليكون

ص: 66

بجوار الأسطول البريطانى فى «البحر المتوسط» .

أبلغ «عبد الحميد» «إنجلترا» برفضه لهذا الضغط البريطانى، وقال:

إن «مصر» جزء من الدولة العثمانية رسميا وليس لإنجلترا حق فيما

تريده، وقال: إن الحدود المصرية العثمانية لا يحلها إلا ضباط من

«مصر» ومن الدولة العثمانية.

وفى (شعبان 1324هـ= أول أكتوبر 1906م) قام الضباط العثمانيون

والضباط المصريون بتنظيم الحدود واستقر الأمر على أن «طابا»

مصرية.

عبد الحميد واليهود:

عندما مات «البارون هيرش» كان يأمل فى إقامة وطن ليهود

«روسيا» فى «الأرجنتين» ، وعندما تدخل «تيودور هرتزل» فى

المسألة اليهودية، أصبح الأمر لا يتعلق بيهود «روسيا» فقط بل بكل

اليهود، ولم يصبح الوطن الذى يطلبونه «الأرجُنتين» ، بل أصبح فى

«فلسطين» ، وكانت «فلسطين» جزءًا من الدولة العثمانية.

يقول «تحسين باشا» رئيس أمناء القصر السلطانى فى عهد «عبد

الحميد»، فى مذكراته ما يلى:

«جاءت شخصية كبيرة صهيونية يهودية نمساوية إلى إستانبول،

وطلبت إقامة وطن يهودى فى سنجق القدس، وقالت هذه الشخصية:

إنها تتحدث فى هذا باسم الصهاينة، وأن روتشيلد المصرفى

المشهور، وراء هذا الأمر».

وكان أساس مطلب هذا اليهودى إقامة قرى يهودية فى «فلسطين»

فى مكان تحدده الحكومة العثمانية، ولا مانع من وجود منازل

إسلامية فى هذه القرى إذا رغبت الحكومة فى هذا، وسيتبع اليهود

القادمون من الخارج قوانين ونظم الدولة العلية (العثمانية)، وسيتم

مقابل هذا تقديم الخدمات والتسهيلات اللازمة فى مسألة الديون

العمومية، وتقديم الضمان الكافى بهذا الكتاب.

ولأن هذا اليهودى كان له وزنه واعتباره، والمسألة تتعلق بالديون

العمومية للدولة عرض الموضوع على السلطان الذى أذن بمقابلته،

وبعد هذه المقابلة التى عاد منها الصهيونى النمساوى إلى بلاده

صفر اليدين أمر السلطان «عبد الحميد» سفراء الدولة العثمانية فى

ص: 67

كل من «واشنطن» و «برلين» و «فيينا» و «لندن» و «باريس» ، بتعقب

الحركة الصهيونية، وإرسال تقاريرهم أولا بأول إلى السلطان، كما

قاموا بناءً على هذا الأمر بمقابلة زعماء اليهود فى البلدان التى

يعملون بها أيضًا، بإرسال مخبرين عثمانيين متنكرين إلى

الاجتماعات الصهيونية فى «أوربا» ، وإرسال قصاصات الصحف

والمجلات الأوربية المتعلقة بنشاط اليهود فى «أوربا» .

وبذلك خط «عبد الحميد» بنفسه الخطوط الأساسية للسياسة

العثمانية تجاه اليهود وفهم تفكيرهم تجاه القضية الفلسطينية.

وفى (10 من ذى القعدة 1307هـ= 28 من يونيو 1890م) وفى (7 من

يوليو) من العام نفسه أصدر السلطان «عبد الحميد» إرادتين

سلطانيتين بـ: «عدم قبول الصهاينة فى الممالك الشاهانية (الأراضى

العثمانية) وإعادتهم إلى الأماكن التى جاءوا منها، وأعطى أوامره

إلى نظارة الشئون العقارية بعدم بيع أراضى للمهاجرين إلى

فلسطين».

يقول «محرم فوزى طوغاى» فى مقالة له فى (10 من جمادى الآخرة

عام 1366هـ= 2 من مايو عام 1947م)، نشرها فى «مجلة بيوك

طوغو» التركية بعنوان «فلسطين والمسألة اليهودية» ما يلى:

«إن تصرّف عبد الحميد تجاه الحركة اليهودية بهذا الشكل المعادى

كان معناه أنه يتسبب فى هدم تاجه وهدم عرشه، ليس هذا فقط، بل

ومن ثم فى هدم الدولة العثمانية كلها».

ويقول العقيد التركى «حسام الدين أرتورك» فى كتابه «خفايا

عهدين»، نشر فى «إستانبول» عام (1377هـ= 1957م) ما يلى:

«قدم كل من تيودور هرتزل والحاخام الأكبر طلبًا شخصيا إلى

السلطان عبد الحميد يطلبان فيه إقامة وطن إسرائيلى مستقل فى

سنجق القدس، فما كان من عبد الحميد إلا أن طردهما».

ويعقب «نظام الدين تبه دنلى أوغلى» بالتعليق على هذه المسألة

قائلاً:

«إن تصرف السلطان عبد الحميد تجاه هرتزل بهذا الشكل كان - كما

فطن السلطان لذلك - من شأنه أن يعمل هرتزل واليهود على دعم

أعداء السلطان».

وأعداء السلطان يتمثلون فى الآتى:

ص: 68

1 -

تأييد الأرمن وتدعيم حركتهم ضد السلطان «عبد الحميد» .

2 -

تأييد الحركة القومية فى «البلقان» لانفصال هذه المنطقة عن

الدولة.

3 -

تأييد الحركة القومية الكردية التى ظهرت عام (1297هـ = 1880م)

وبدأت بمحاولات اتحاد (30) عشيرة كردية متنافرة.

4 -

تأييد كل حركة استقلال عن الدولة العثمانية.

5 -

دعم قوى حركة الاتحاد والترقى ودفعها إلى قلب الأوضاع

السياسية فى الدولة.

عبد الحميد الثانى وحركة الجامعة الإسلامية:

ظهرت فكرة الجامعة الإسلامية فى النصف الثانى من القرن التاسع

عشر، واتسع ذلك المصطلح ليشمل عدة مفاهيم، فبعض المصلحين

رأى فيها دعوة للرجوع بالدين إلى ما كان عليه السلف الصالح.

والبعض فسَّرها بأنها دعوة لتحديث المفاهيم الإسلامية وتطويرها

بشكل يساير تطور الحياة الحديثة، ويتمشى مع المفاهيم الواردة من

مدنية الغرب وثقافته، ورأى ثالث رَأَى فيها دعوة إلى إحياء الخلافة

العربية القرشية من جديد، لكن من غير أن يكون لهذا الخليفة سلطة

دنيوية بل مجرد رمز دينى لوحدة المسلمين. أما الرأى الأخير والأقرب

إلى الدقة فرأى فيها تلك الدعوة التى انطلقت من عاصمة الدولة

العثمانية والتى استهدفت تشديد قبضة الدولة على ما تبقى من

ولاياتها أمام الخطر الأوربى الزاحف عليها من الغرب، وامتداد النفوذ

الأدبى للسلطان العثمانى من منطلق كونه خليفة للمسلمين وخاصة من

هم خارج حدود العالم الإسلامى، لتتبادل معهم الدولة الدعم المادى

والأدبى لمواجهة الغزو الأوربى وما أحدثته هذه الحركة من ردود

فعل متباينة بين مؤيد لها ومساند وبين معارض لها ومناهض.

تولى السلطان عبد الحميد الحكم سنة (1293هـ= 1876م)، وقد بلغت

أطماع الدول الغربية فى الدولة العثمانية أوجها، وأوشكت المشاكل

والفتن الداخلية أن تقوض أركان الدولة من الداخل، وأهمها «جماعة

تركيا الفتاة» التى كانت تنادى بالأخذ بالمبادئ الأوربية الغربية فى

ص: 69

كل شىء، وحاولوا إخضاع السلطان لنفوذهم كما فعلوا مع سابقيه،

إلا أنه رفض وسعى لإضعاف نفوذهم فى الدولة.

وكان انتشار تلك الأفكار فى الدولة العثمانية التى يدين سكانها

بالإسلام يشكل خطرًا على وحدتها السياسية، وكان للسلطان «عبد

الحميد» مفهوم خاص فى إدخال عناصر المدنية إلى بلاده، فهو لا

يريد حضارة الغرب بمعنى الثقافة والتراث؛ لأنه كان يرى أن للشرق

حضارته الإسلامية المتكاملة المتفوقة على الحضارة الغربية، إنما

كان يريد اقتباس ما لديهم من علوم حديثة وليس مرة واحدة، ولكن

بالتدريج.

وأدرك السلطان أنه أمام أخطاء داخلية وخارجية ورأى أن الإسلام

هو القوة الوحيدة التى تمكنه من ذلك، وفى هذا يقول: إن الإسلام

هو القوة الوحيدة التى تجعلنا أقوياء ونحن أمة حية قوية ولكن

شرط أن نصدق فى ديننا العظيم.

وكان يرى أن الحروب الصليبية ضد الدولة العثمانية دائمة ومستمرة

فلابد إذن من العمل بالإسلام على توحيد عناصر الدولة المتعددة من

عرب وترك وأكراد وغيرهم فى جبهة واحدة حتى يمكن الصمود أمام

الغرب، ويرى أن جبهة المسلمين فى الدولة العثمانية لا تكفى، ولكن

لابد من امتداد تأثير الوحدة الإسلامية إلى كل مسلمى العالم فى

«إفريقيا» و «آسيا» وغيرها.

وأيد فكرة الجامعة الإسلامية كثير من علماء الدولة العثمانية آنذاك،

منهم:

الشيخ «عاطف الإسكليبى» (1876 - 1926م)، والشاعر «محمد عاكف

أرصوى» (1873 - 1936م)، والشيخ «بديع الزمان سعيد النورسى»

(1876 - 1960م).

وفى بلاد الشام نادى بها:

1 -

الشيخ «أبو الهدى الصيادى» (1849 - 1909م).

2 -

الشيخ «عبد الرحمن الكواكبى» (1854 - 1902م).

3 -

«السيد «محمد رشيد رضا» (1865 - 1935م).

4 -

«عبد القادر المغربى» (1867 - 1956م).

5 -

«رفيق العظم» (1867 - 1925م).

6 -

الأمير «شكيب أرسلان» (1869 - 1946م).

وفى مصر:

1 -

جمال الدين الأفغانى (1839 - 1897م).

2 -

محمد عبده (1849 - 1905م).

ص: 70

3 -

مصطفى كامل (1874 - 1908م).

4 -

محمد فريد (1868 - 1919م).

السلطان عبد الحميد والاتحاد والترقى:

«الاتحاد والترقى» هو أول حزب سياسى فى الدولة العثمانية ظهر

فى عام (1308هـ= 1890م)، وكان سريا مكونًا من خلايا طلبة الحربية،

والطبية العسكرية، ويهدف إلى معارضة حكم «عبد الحميد» والتخلص

منه، وتم اكتشاف هذا الجهاز فى سنة (1315هـ= 1897م)، فنفى عديد

من أعضائه، وفرّ بعضهم إلى «باريس» ، وأرسل السلطان «عبد

الحميد» مدير الأمن العام الفريق أول «أحمد جلال الدين باشا» ، إلى

«باريس» لاستمالة أعضاء المعارضة من الاتحاديين، فنجح فى

استمالة أكثرهم ومنحهم «عبد الحميد» مناصب كبيرة فى الدولة، إلا

أن المعارضين وعلى رأسهم «أحمد رضا بك» ظلوا على معارضتهم.

وفى المدة من (27 من شوال - 1 من ذى القعدة 1319هـ= 4 - 9 فبراير

1902م) عقد فى «باريس» مؤتمر للأحرار العثمانيين، حضرته كل

العناصر المعارضة لحكم «عبد الحميد» ، وعلى رأسهم أعضاء

«الاتحاد والترقى» ، وكان من ضمن قرارات هذا المؤتمر تقسيم الدولة

العثمانية إلى حكومات مستقلة استقلالا ذاتيا على أساس عرقى

قومى، وظهر المعارضون لهذا الرأى ومنهم «أحمد رضا بك» نفسه،

إلا أن الأغلبية كانت لها قوتها فى تأييد هذا القرار.

وطالب المؤتمرون من الدول الأوربية التدخل لإنهاء حكم السلطان

«عبد الحميد» وإقصائه عن العرش. وفى داخل البلاد العثمانية

وخصوصًا فى «سلانيك» و «مناستر» ، افتتح الاتحاد والترقى فروعًا

له، التحق بها الضباط الشبَّان من رتبتى «ملازم» و «يوزباشى» ، ثم

بدأ دخول الضباط من الرتب الكبيرة، حتى إنه يتردد أن كل ضباط

الجيش العثمانى الثالث (فى «البلقان») كانوا فى عام (1326هـ=

1908م) منضمين إلى «الاتحاد والترقى» ، وكان منهم أركان حرب

«قول أغاسى مصطفى كمال أفندى» (أتاتورك فيما بعد)، إلا أنه

انسحب فيما بعد من «الاتحاد والترقى» .

ص: 71

وفى مذكرة لجمعية «الاتحاد والترقى» إلى قناصل الدول الأجنبية

فى الدولة العثمانية، طالبت الجمعية بتدخل دول هؤلاء القناصل

لإنهاء حكم «عبد الحميد» ، وتحالفت الجمعية مع الثوار البلقانيين ضد

السلطان.

اعتقد الاتحاديون أنهم بإزالة «عبد الحميد» يستطيعون تقريب

العناصر المختلفة فى الدولة، وأن دول «أوربا» ستكف عن

مضايقاتها للدولة العثمانية، وتصور الاتحاديون أن هذه الدول

الأوربية ستتعهد بحماية الدولة العثمانية إذا انتهى حكم «عبد الحميد»

الفردى غير المشروط (غير الديمقراطى)، والذى حدث أنه عقب

المشروطية فقدت الدولة العثمانية «البوسنة والهرسك» مما أصاب

الاتحاديين بالهلع.

وفى (23 من جمادى الأولى 1326هـ= 23 يوليو 1908م) اضطر «عبد

الحميد» اضطرارًا إلى إعلان المشروطية (الثانية)، وتولت جمعية

«الاتحاد والترقى» الحكم، وأعلنت تمثلها لمبادئ الثورة الفرنسية

«الحرية - العدالة - المساواة - الأخوة» .

وفى (23 من رمضان 1326هـ= 15 من أكتوبر 1908م) استقلت عن

الدولة العثمانية كل من «بلغاريا» و «كريت» التى أعلنت انضمامها

لليونان فى (6أكتوبر)، واستقلت - كما ذكرنا - «البوسنة والهرسك» .

وفى (21 من ربيع الأول 1327هـ= 13 من أبريل 1909م) دبر الجيش

العثمانى حادثة عرفت باسم «حادث 31 مارس» ، ثم نسبوها إلى

«عبد الحميد» وقالوا إنه أراد ثورة العناصر الرجعية ضد جمعية

«الاتحاد والترقى» . واتخذ الجيش هذا ذريعة للتحرك لعزل السلطان

«عبد الحميد الثانى» ، وندبوا لإبلاغه بقرار العزل وفدًا مكونًا من

أربعة أشخاص لم يكن منهم تركى ولا عربى واحد، وإنما كان على

رأس الوفد يهودى والثلاثة الآخرون: أرمنى وألبانى وجرجى.

واليهودى هو «إيمانويل قراصو» الذى لعب فيما بعد دوره المشئوم

فى الاحتلال الإيطالى لليبيا.

وتنازل السلطان «عبد الحميد» عن العرش لأخيه السلطان «محمد

رشاد» فى (6 من ربيع الآخر 1327هـ= 27 من أبريل 1909م) وكان

ص: 72

على السلطان «عبد الحميد» أن يركب هو وأسرته القطار إلى منفاه

فى «سلانيك» (وهى مدينة يغلب عليها الطابع اليهودى)، وكان مقر

منفى السلطان «عبد الحميد» فى هذه المدينة ذات الطابع اليهودى

فى قصر يمتلكه يهودى يسمى «ألاتينى» ، إمعانًا فى إذلال «عبد

الحميد».

وفى (27 من ربيع الآخر 1336هـ= 10 فبراير 1918م) مات السلطان

«عبد الحميد الثانى» ابن السلطان «عبد المجيد» ، عن ستة وسبعين

عامًا، واشترك فى تشييع جنازته كل شعب «إستانبول» تقريبًا.

لقد خدم السلطان «عبد الحميد» أمته ثلاثًا وثلاثين سنة، قدم خلالها

خدمات جليلة، فحفظ الدولة بعد الحرب الروسية التركية من أن تفقد

المزيد من أراضيها فى «أوربا» ، وقام بإنشاء دار العلوم السياسية

والجامعة بكل فروعها، ودور المعلمين والمعلمات، ومدارس اللغات

ومدرسة الفنون النسوية، وافتتح متحف الآثار الشرقية، والمتحف

العسكرى، ومكتبة بايزيد، ومدرسة الطب، وغيرها.

وفى مجال الإصلاحات العسكرية استقدم الخبراء الألمان لتدريب

الجيش وفق الأساليب الحديثة، وأرسل البعثات العسكرية للخارج،

وجهَّز الجيش بالأسلحة الحديثة.

ويذكر له فى مجال الإنشاءات والمواصلات، إنشاؤه الخط الحديدى

الحجازى، وعددًا من الطرق فى «سوريا» ، وتوسعه فى إنشاء

خطوط البرق، وجرى فى عهده بناء دار الحكومة فى «دمشق» ،

والثكنة الحميدية (جامعة دمشق اليوم)، وإصلاح «الكعبة المشرفة» ،

وغيرها.

الدولة العثمانية نحو الانهيار:

رأت السلطات العثمانية وعلى رأسها السلطان «وحيد الدين» أن

مصلحتها بعد هزيمتها فى الحرب العالمية الأولى أن تتعاون مع

الحلفاء وبخاصة «إنجلترا» ، على اعتبار أن ذلك من شأنه أن ينقذ ما

يمكن إنقاذه، فتم حل جمعية «الاتحاد والترقى» ومصادرة أملاكها،

وحل البرلمان والحكم بمراسيم.

وكانت الدولة العثمانية قد استسلمت فى الحرب العالمية الأولى فى

عهد السلطان «وحيد الدين» بعد أن تولى الخلافة بعدة شهور فقط،

ص: 73

ونتج عن هزيمتها أن سيطر الحلفاء على «إستانبول» والمضائق،

واحتلت «اليونان» الأقسام الغربية، وضاعت البلدان العربية من يديها،

وأراد السلطان «وحيد الدين» أن ينقذ الدولة مما هى فيه، فوضع

ثقته فى «مصطفى كمال» الذى لمع نجمه أثناء الحرب، لكنه بدأ

يعمل لصالح نفسه.

وفى أثناء الحرب العالمية الأولى كان «مصطفى كمال» أنجح قادة

الميدان العثمانيين، فقد تولى فى أواخر سنة (1332هـ= 1914م)

قيادة القوات التركية التى وكل إليها حماية «الدردنيل» ، وكانت

قاعدتها الرئيسية «شبه جزيرة غاليبولى» ، وبفضل شجاعته فشل

الإنزال البريطانى بها لاحتلالها، وقد جعلته هذه المعركة التى أنقذت

«الآستانة» من السقوط بطلا قوميا، فأنعم عليه بلقب «باشا» .

ثم عقدت «هدنة مودانيا» فى (9 من صفر 1340هـ= 12 من أكتوبر

1921م)، اعترفت بمقتضاها حكومات الحلفاء بعودة السيادة التركية

إلى «إستانبول» و «البوغازين» ، و «تراقيا الشرقية» ، وأجَّلت عودة

الأتراك إلى هذه المناطق حتى توقع معاهدة الصلح.

وفى (ربيع أول 1341هـ= أول من نوفمبر سنة 1922م) أعلن المجلس

الوطنى الكبير أن السلطنة قد زالت منذ أن احتل الإنجليز «إستانبول»

قبل ذلك بسنتين، كما أن المجلس قرر أنه هو وحده الذى يختار

الخليفة من بين أفراد أسرة «آل عثمان» .

وفى (26 من ربيع الأول 1341هـ= 17 من نوفمبر 1922م) أجبر

السلطان «وحيد الدين» على ترك منصب السلطنة، وترك عاصمة

الخلافة إلى «مالطة» حيث أقلته بارجة حربية إنجليزية كانت راسية

بالميناء تنتظر ذلك، ونودى بالأمير «عبد المجيد بن عبد العزيز» ابن

عم «وحيد الدين» خليفة للمسلمين بعد موافقة المجلس الوطنى الكبير.

وفى (10 من ذى الحجة 1341هـ= 24 من يوليو سنة 1923م) جرى

التوقيع على «معاهدة لوزان» ، التى نصت على عودة السيادة

التركية على ما يقرب من كل الأراضى التى تشتمل عليها تركيا الآن،

وألغيت الامتيازات الأجنبية، ونتيجة لما توصل إليه فى «معاهدة

ص: 74

لوزان» أحرز «مصطفى كمال» هيبة وسلطة كانتا لازمتين لإتمام

تشكيل الدولة الجديدة، فلما انسحبت قوات الحلفاء دخلتها القوات

التركية فى (23 من صفر 1342هـ= 6 من أكتوبر 1923م)،وبعد ذلك

بأسبوع أصدر المجلس الوطنى الكبير قانونًا جديدًا نص على جعل

«أنقرة» العاصمة الرسمية للدولة التركية بدلا من «إستانبول» التى

تحمل ذكريات الخلافة والسلطنة، ثم أقر المجلس قانونًا جديدًا فى

(18 من ربيع أول 1342هـ= 29 من أكتوبر 1923م) نص على كون

«تركيا» جمهورية تستمد كيانها من الشعب، وانتخب «مصطفى

كمال» أول رئيس للجمهورية.

وفى (23 من رجب 1342هـ= 1 من مارس 1924م) دعا «مصطفى كمال»

المجلس الوطنى إلى عقد جلسة وقدّم مرسومًا بطرد الخليفة، وإلغاء

الخلافة، وفصل الدين عن الدولة، واستمر الجدل والنقاش حول هذه

الخطوة فى المجلس عدة أيام، وفى صباح اليوم الثالث من شهر

مارس أذيع نبأ إلغاء الخلافة وفصل الدين عن الدولة، وأمر فى

الوقت نفسه السلطان «عبد المجيد» بمغادرة البلاد إلى «سويسرا» .

وما إن تم القضاء على الخلافة حتى جرت سلسلة من التغييرات التى

استهدفت فصل الدين عن الدولة، فألغيت وزارة الأوقاف وصودرت

ممتلكاتها، وألغيت وظيفة شيخ الإسلام، ونقل الإشراف على المدارس

الدينية إلى إدارة التعليم المدنى التى أصبحت مسئولة عن التعليم

العام، ثم ألغيت المحاكم الشرعية التى انتقلت اختصاصاتها إلى

المحاكم المدنية، كما ألغيت الكتابة بالحروف العربية، واستبدلت بها

الحروف اللاتينية.

وفى سنة (1353هـ= 1934م) أعطيت المرأة التركية حق الانتخاب

والترشيح للمجالس النيابية، وألغيت الألقاب العربية، وفرض على

الأتراك استعمال ألقاب أسرية على النمط الغربى، وقد استهل

«مصطفى كمال» هذا الإجراء بأن أطلق على نفسه لقب «أتاتورك»

بمعنى «أبو الترك» ، وجعلت العطلة الرسمية الأسبوعية يوم الأحد بدلا

من يوم الجمعة، وفرض على الأتراك ارتداء القبعة والملابس الأوربية.

ص: 75

الفصل السادس

*العرب تحت الحكم العثمانى

حكم العثمانيون العرب نحو أربعة قرون، وذلك من أوائل القرن

السادس عشر إلى أوائل القرن العشرين، وقد تقلبت أحوال العرب

فى هذه القرون وتطورت علاقاتهم بالعثمانيين؛ تبعًا لتطور الحكم

العثمانى نفسه، واتجاه الأطماع الأوربية إلى بلادهم.

فعندما فتح العثمانيون العالم العربى كان قد حل به قدر كبير من

الإعياء؛ نتيجة حروبه المتصلة مع المغول والصليبيين والبرتغال

والإسبان، واضمحلال موارده الاقتصادية؛ ونتيجة لذلك نزل عن مكان

الصدارة؛ وضعفت قوته.

وقد اعتمد العثمانيون فى فتح العالم العربى على عامل الدين؛ إذ

رأى العرب أن الوازع الدينى يدفعهم إلى الولاء للخليفة العثمانى،

أما الخروج عن واجب الولاء فإضعاف للدين والدولة؛ مما يفتح الباب

للدول الأوربية الطامعة فى بلاد العرب والمسلمين.

وقد بلغت الدولة العثمانية أقصى اتساعها وقوتها؛ عندما استولت

على معظم أجزاء العالم العربى، واستلزم ذلك تقسيم الدولة إلى

ولايات كثيرة العدد، وتقسيم كل ولاية إلى عدد من الألوية، وضم كل

لواء عددًا من المقاطعات، وعين السلطان فى كل ولاية نائبًا له يُلقب

«باشا» .

وكان هؤلاء الولاة لا يعينون إلا لمدة عام، فإذا انتهى العام إما أن

ينقلوا إلى مناصب أخرى، أو يجدد لهم عامًا آخر، وقد أوجد هذا

التعيين فى نفوس هؤلاء الولاة شيئًا من القلق؛ فلم يكونوا على ثقة

ببقائهم فى مناصبهم، ولذلك لم يهتموا بوضع الخطط لإصلاح الولايات

التى يحكمونها.

وكان لكل نائب (باشا) ديوان يشير عليه فى الأمور المهمة ويتألف من

كبار الضباط والأعيان والعلماء.

وجرى العثمانيون على ترك شئون الحكم الداخلى فى الولايات

لأصحاب العصبيات الإقليمية أو العنصرية أو الدينية، كأمراء المماليك

فى «مصر» ، وزعماء العشائر البدوية فى «العراق» ، والأمراء

المعنيين والشهابيين فى «لبنان» .

محاولات العرب للانفصال عن الدولة العثمانية:

ص: 76

احتفظ العرب بقوميتهم إلا أن عاطفة الولاء للخليفة العثمانى كانت

أقوى أثرًا من العاطفة القومية، وكانت هذه العاطفة الدينية تدعو

العرب إلى التمسك بالولاء للسلطان والدولة، فكانوا يرون أن الخروج

على الدولة خروج على الدين الإسلامى، وتفتيت لوحدته.

وكان من الطبيعى أن تحدث بعض الفتن والاضطرابات فى أنحاء

مختلفة من العالم العربى، نتيجة انتهاز بعض الحكام أو أصحاب

العصبيات الإقليمية أو العنصرية فرصة اضطراب الأحوال الداخلية فى

الدولة العثمانية؛ فقاموا ببعض المحاولات للاستقلال ببعض أقاليم

الدولة، لكن هذه المحاولات فشلت؛ لأن معظمها حركات لم تنبع من

صميم الشعب العربى؛ الذى كان يحرص على الرابطة الدينية؛ إذ قام

بها زعماء إقطاعيون؛ كان هدفهم الأول الاستحواذ على السلطة

والنفوذ، ومن أمثلة هذه الحركات:

فى «مصر» : حاول «على بك الكبير» أن يستقل عن الدولة العثمانية

فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر، فقام بطرد الباشا العثمانى،

وتعقب القوات العثمانية، كما عمل على الاستحواذ على «سوريا» من

الحكم العثمانى وضمها إلى «مصر» ، وحاول الاتصال بروسيا التى

كانت فى حرب مع الدولة العثمانية؛ ولكن هذه المحاولة فشلت.

وفى «الشام» : كانت هناك ثورات حاولت الانفصال عن الدولة

العثمانية؛ ومن أهمها ثورة الأمير «فخر الدين المعنى الثانى» فى

جبل «لبنان» ، وكان زعيمًا واسع الأطماع؛ تغلَّب على منافسيه من

الزعماء الإقطاعيين، وتطلَّع إلى الاستعانة ببعض الدول الأوربية فى

الانفصال عن الدولة العثمانية، فعزمت الدولة العثمانية على القضاء

عليه، ففر هاربًا إلى أمير «توسكانا» .

وعاش الأمير «فخر الدين» هو وحاشيته فى «إيطاليا» نحو خمس

سنوات، ثم رجع بعدها إلى «الشام» ، وحاول السيطرة عليها مرة

أخرى، ولكن الدولة العثمانية تمكنت من القضاء على فتنته، وقبض

على «فخر الدين» ، وأُرسل هو وأولاده إلى «إستانبول» .

ص: 77

وقد دخل فى هذه الفترة فن الطباعة، وتعد أول مطبعة دخلت

العالم العربى هى التى أنشئت فى «لبنان» ، وترتب على دخول

المطبعة وإنشاء المدارس الدينية قيام حركة ترجمة واسعة، اقترنت

بحركة إحياء الآداب وجمع مخطوطاتها وتأليف المعاجم العربية.

وظهر أيضًا فى «لبنان» فى أوائل القرن التاسع عشر شخصية بارزة

لعبت دورًا كبيرًا فى «الشام» وهى شخصية الأمير «بشير الشهابى

الكبير»، الذى حالف «محمد على» والى «مصر» ضد الدولة العثمانية،

وأعانه على فتح «الشام» ، وحكمها حتى انسحبت القوات المصرية

على إثر تدخل الدول الأوربية الكبرى فى سنة (1255 - 1256هـ=

1839 -

1840م)، ونفى الأمير «بشير» إلى «مالطة» ، ثم انتقل إلى

«إستانبول» حيث مات فيها.

وفى «فلسطين» : ظهر الشيخ «ضاهر العمر» وهو من شيوخ البدو

فى «فلسطين» ، وكان واسع الأطماع، فمد بصره إلى خارج

«الشام» ؛ حيث اتصل بعلى بك الكبير فى «مصر» ، وحاول الاستعانة

بروسيا؛ لكن الدولة العثمانية تمكنت فى النهاية من القضاء على

حركته.

وفى «العراق» : نجد الباشوات المماليك قد فرضوا شخصيتهم فى

القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وبرزت فى «العراق»

شخصيتان مهمتان أولهما: «سليمان باشا» الذى تحدى رجال الدولة

وامتنع عن إرسال الأموال إلى «إستانبول» ، وعنى بتدريب المماليك

حتى استطاعوا الاحتفاظ بالحكم من بعده.

أما الآخر فهو «داود باشا» آخر حكام المماليك فى «العراق» ، فقد

تولى الحكم فى ظروف قاسية؛ حيث سادت الفتن والاضطرابات

«العراق» من الداخل، وتحفزت «إيران» لغزوه من الخارج، فاتجه

«داود باشا» إلى تنظيم إدارته، وإشاعة الرخاء وإنشاء المدارس،

كما أدخل أول مطبعة فى «العراق» ، وكان «داود باشا» يضيق

بالنفوذ الإنجليزى، وبالامتيازات التى يتمتع بها الإنجليز.

وفى «اليمن» : رفض الناس حكم «الأتراك» ؛ لاختلاف المذهب الدينى،

فأهل «اليمن» من الشيعة، والعثمانيون من أهل السنة؛ لهذا توالت

ص: 78

الثورات على العثمانيين، وتزعم إمام «صنعاء» حركة المقاومة ضد

العثمانيين حتى أجلاهم عن «صنعاء» ، ثم عن بقية أنحاء «اليمن»

سنة (1045هـ= 1635م).

وبهذا كان «اليمن» أول بلد عربى استقل عن الحكم العثمانى، إلا أن

العثمانيين ظلوا يتشبثون بالسيادة على «اليمن» ؛ حتى سنحت لهم

الفرصة فى سنة (1289هـ= 1872م) فأعادوه إلى نفوذهم.

وفى «ليبيا» : كانت هناك أسرة عثمانية اتخذت «ليبيا» موطنًا لها

هى الأسرة القرمانية، وكان مؤسسها هو «أحمد القرمانى» الذى

قضى على الثورات الداخلية التى قام بها أصحاب العصبيات داخل

البلاد، وعمل على المحافظة على وحدة «ليبيا» ، وتأمين التجارة عبر

الصحراء، فدَان له حكم «ليبيا» ،فحكمها حتى سنة (1158هـ= 1745م).

وقد اهتم خلفاء «أحمد باشا» بالبحرية الليبية التى أكسبت «ليبيا»

فى عهدهم قوة ومهابة، وكانت من أهم الموارد الاقتصادية لليبيا،

وذلك لأن الدول الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية كانوا يدفعون

لليبيا إتاوة حتى يضمنوا سلامة سفنهم التجارية فى «البحر

المتوسط»، ثم ضعف النشاط البحرى الليبى بسبب موقف الدول

الأوربية منها وعملها على القضاء عليها، فاضطربت مالية البلاد، ومد

الولاة أيديهم إلى الأجانب طلبًا للقرض.

وزاد الأمر سوءًا باحتلال «فرنسا» للجزائر سنة (1246هـ= 1830م)،

فأوجد بذلك خطرًا جديدًا ببلاد المغرب، هذا بالإضافة إلى اضطراب

الولاة القرمانيين فى حكم البلاد.

وانتهز السلطان «محمود الثانى» الفرصة فأرسل أسطولا فى مايو

سنة (1251هـ= 1835م) إلى «ليبيا» ، ولم يلق مقاومة كبيرة، فأعلن

تعيين والٍ جديد من قبل الدولة وعادت «ليبيا» ولاية عثمانية.

أما «الجزائر» و «تونس» : فقد استبد بالسلطة فيهما رؤساء الجند

واختاروا من بينهم حاكمًا يدعى «الداى» فى «الجزائر» ، و «الباى»

فى «تونس» ، وأصبحت «الجزائر» و «تونس» مستقلتين فى إدارة

شئونهما، وليس للدولة العثمانية عليهما سوى حق السيادة، وقامت

ص: 79

فى «تونس» أسرة حاكمة هى «الأسرة الحسينية» ومؤسسها

«حسين بن على» وفى عهدها استكملت «تونس» شخصيتها، فنظمت

علاقاتها بالدول الأوربية، وعقدت معها المعاهدات لتأمين تجارتها

فى «البحر المتوسط» .

وفى النصف الثانى من القرن الثامن عشر تعرضت الدولة العثمانية

لأخطر حركتين كادتا تعصفان بكيانها فى البلاد العربية:

الأولى: الحركة الوهابية:

تنتمى هذه الحركة إلى الشيخ «محمد بن عبد الوهاب» المولود فى

«نجد» سنة (1108هـ= 1696م) فى قرية «العينية» ؛ حيث كان جده ثم

أبوه يتوليان منصب القضاء فيها فنشأ فى بيت علم نشأة دينية،

كان لها أثرها فى شخصيته، فقام يدعو إلى التوحيد بعد أن أكثر

من التأمل فيما آلت إليه أحوال المسلمين فى عصره، وهاله ما رآه

من البدع والخرافات التى ألصقها البعض بالدين، كالاستعانة بالموتى

والتبرك بالأشجار والأضرحة، ووجد أن التوحيد الذى يتميز به الإسلام

على سائر الأديان أصبحت تحيط به مظاهر الوثنية والشرك، فأخذ

يدعو إلى نبذ هذه البدع، فثار عليه الناس واضطهدوه فبدأ يكتب

رسالته المشهورة: «التوحيد الذى هو حق الله على العبيد» .

ابن عبد الوهاب فى الدرعية:

وقد اتبعه فى البداية عدد قليل من الناس وعارضه كثير منهم، كما

تنقل أكثر من مرة خوفًا من القتل، وفرارًا من عدوان الناس؛ حتى

انتهى به المطاف فى «الدرعية» ؛ حيث أيَّد أميرها «محمد بن سعود»

دعوة الشيخ، وتحالف الاثنان على العمل لنشر الدعوة الجديدة بين

المسلمين.

اتساع الحركة والتوسع السعودى:

وإلى جانب النشاط الدعوى للحركة الوهابية بدأ نشاط عسكرى ضد

المخالفين للرأى، فأخذت الدولة السعودية الجديدة تتسع، حتى

شملت معظم أنحاء «نجد» قبل وفاة «محمد بن سعود» سنة (1179هـ=

1765م)، وبعد وفاته تولى الحكم بعده ابنه «عبد العزيز» ، وفى

عهده ازدادت الحركة الوهابية قوة وانتشارًا، فتخطت حدود «نجد» ،

وفى عهد «سعود بن عبد العزيز» (1218 - 1229هـ= 1803 - 1814م)

ص: 80

بلغ النفوذ السعودى أقصى اتساعه؛ حيث تم فتح «الحجاز»

فأصبحت الأماكن المقدسة تحت سيطرة آل سعود، ووصلت غاراتهم

إلى «الشام» و «العراق» .

موقف دولة الخلافة العثمانية:

كان فى استيلاء السعوديين على الجزيرة وتهديدهم للشام

و «العراق» دوى كبير فى العالم الإسلامى، وتهديد لسمعة الدولة

العثمانية التى حاولت القضاء على هذه الحركة عن طريق ولاتها فى

«العراق» ثم «الشام» ولكن هذه الغارات باءت بالفشل.

وفى النهاية اضطر السلطان العثمانى إلى الاستعانة بوالى «مصر»

«محمد على باشا» ، فتمكن عن طريق ثلاث حملات قاد إحداها بنفسه

أن يستولى على «الحجاز» ، ثم «نجد» ، ودخل «الدرعية» وقضى

بذلك على الدولة السعودية الأولى.

وعلى الرغم من هزيمة السعوديين وتشتيت ملكهم بقيت الدعوة

الوهابية كامنة فى النفوس، بل لقيت قبولا لتعاليمها خارج «الجزيرة

العربية»، ولقد أثبتت الدعوة الوهابية قدرتها على أن تكون دعوة

يقوم حولها ملك عربى، فقد قامت الدولة السعودية الأولى وانتشرت

بفضل أمير الدعوة الوهابية، ثم قامت الدولة السعودية الثانية بعد

انتهاء الحكم المصرى معتمدة على الدعوة الوهابية، كما اعتمد

عليها «عبد العزيز آل سعود» فى تأسيس الدولة السعودية الثالثة.

الثانية: الحملة الفرنسية على مصر:

كانت الحملة الفرنسية على «مصر» حلقة من حلقات الصراع الذى عم

القارة الأوربية فى أعقاب الثورة الفرنسية، فقد حاولت الملكيات

والإمبراطوريات فى «أوربا» القضاء على الثورة فى مهدها؛ لمنع

انتشار أفكارها فى بقية القارة، ولكن «فرنسا» بفضل جيشها

القوى وقائدها «نابليون بونابرت» تمكنت من هزيمة أكثر جيوش

«أوربا» عدا «إنجلترا» التى أفلتت من يد «نابليون» ؛ بسبب موقعها

البحرى وقوة أسطولها سيد البحار فى ذلك الوقت.

هذا فى الوقت الذى كان فيه العالم العربى يعيش حالة من الجمود

والعزلة التى فرضت عليه.

وبعد صلح «كاميو فورميو» الذى قضى على نفوذ «النمسا» فى

ص: 81

«البحر المتوسط» وحصلت «فرنسا» بموجبه على بعض جزر «البحر

المتوسط»، أخذت «فرنسا» تعد العدة لغزو «إنجلترا» ، لكن صعوبة

هذه الفكرة وخطورة تنفيذها جعلت «فرنسا» تفكر فى ضرب

«إنجلترا» فى تجارتها فى الشرق، فاختارت «مصر» لتكون حجر

الزاوية فى تكوين مستعمرة فرنسية، وتضرب من خلالها «إنجلترا»

فى تجارتها فى الشرق.

فقد أبحر «نابليون» من «ميناء طولون» فى (3 من ذى الحجة سنة

1212هـ= 19 من مايو سنة 1798م) على رأس أسطول «فرنسا» وجيش

تعداده نحو (36) ألف جندى، واستولى فى طريقه على «جزيرة

مالطة»، ثم وصل إلى «الإسكندرية» ، فاستولى عليها بعد مقاومة

عنيفة كاد «نابليون» نفسه أن يقتل فيها.

ثم توجه إلى «القاهرة» ، فاستولى عليها بعد أن هزم فلول المماليك

عند منطقة «إمبابة» ، وفرت بقية فلول المماليك إلى «الصعيد»

و «الشام» .

قضت الحملة الفرنسية فى «مصر» نحو ثلاثة أعوام لم ينعم

الفرنسيون خلالها بالراحة والطمأنينة، فقد قامت ثورات كثيرة كان

أخطرها وأهمها ثورتا «القاهرة الأولى» و «الثانية» .

كما كان السلطان العثمانى يرسل الحملة تلو الأخرى فى محاولة

لإخراج الفرنسيين من «مصر» ، كما قامت «إنجلترا» بإرسال

أسطولها إلى الشواطئ المصرية؛ حيث قام بتحطيم الأسطول

الفرنسى فى معركة «أبى قير البحرية» ، ونتيجة لهذه الثورات

وانقطاع الاتصالات بين فرنسا الأم وحملتها فى «مصر» ، وتحطيم

الأسطول الفرنسى؛ عاد «نابليون» إلى «فرنسا» تاركًا قيادة الحملة

لخليفته «كليبر» ، الذى لم يلبث أن قُتل على يد «سليمان الحلبى»

أحد طلاب الأزهر الشريف، الذى جاء إلى «مصر» ليتعلم فى

«الأزهر» ، فرأى مدافع «فرنسا» تدك «الجامع الأزهر» وخيولهم

ترتع فيه، فقرر الانتقام منهم بقتل قائدهم «كليبر» .

ولما تولى «مينو» قيادة الحملة كانت أحوالها قد ساءت إلى حد

كبير، ورَأََى «الإنجليز» والعثمانيين يُحكمون قبضتهم على مصر

ففاوضهم على الجلاء وغادر «الإسكندرية» بعد توقيع الصلح مع من

ص: 82

تبقى من قوات الحملة الفرنسية فى (جمادى الآخرة 1216هـ= أكتوبر

سنة 1801م) عائدًا إلى «فرنسا» ،وعادت «مصر» ولاية عثمانية مرة

أخرى.

وعلى الرغم من فشل حملة «نابليون» على «مصر» فإنها كانت ذات

نتائج أدت إلى تغيير فى بنية وعقلية المنطقة، منها أنها كانت بداية

للاستعمار فى الشرق، وظهرت معها فكرة القومية العربية والشعور

القومى وفكرة الاستقلال.

ص: 83

الفصل السابع

*بناء مصر الحديثة فى عهد محمد على

خرجت الحملة الفرنسية من «مصر» بعد أن قضت على النظام

المملوكى والعثمانى الذى كان قائمًا منذ أوائل القرن (10هـ= 16م)،

فكانت الفرصة مواتية أمام «محمد على باشا» لكى يستفيد من تنازع

النفوذين المملوكى والعثمانى فى السيطرة على مقدرات الأمور فى

«مصر» .

رأى «محمد على» أن الوقت لم يحن ليتقدم لانتزاع السلطة فى

«مصر» ، فآثر التريث والعمل على التقرب إلى الشعب المصرى، الذى

ظهرت فاعليته فى مقاومة الفرنسيين، فاتحد مع «إبراهيم بك»

و «البرديسى بك» زعيمى المماليك، وقاموا باحتلال «القاهرة» وطرد

الوالى التركى والحامية العثمانية، وظل «محمد على» يعمل فى

الخفاء ويوطد صلاته بزعماء الشعب، ولكن الأمر لم يستقر للمماليك؛

حيث إنهم عادوا إلى ظلم الشعب وإرهاقه بالضرائب، فثار عليهم

الشعب وتحالف معه «محمد على» وقواته التى قامت بمهاجمة

المماليك فى كل مكان حتى أرغمهم على الفرار وترك «القاهرة» ،

وتسلم «خورشيد باشا» التركى الحكم، وأراد أن يبعد «محمد على»

عن «القاهرة» ؛ فثار الشعب ضده بقيادة الزعماء والعلماء، الذين

اتفقوا على عزله وتولية «محمد باشا» .

وقام السيد «عمر مكرم» نقيب الأشراف، والشيخ «الشرقاوى» شيخ

«الجامع الأزهر» بإلباسه خلعة الولاية فى (14 من صفر 1220هـ= 13

من مايو 1805م)، بعد أن اشترطوا عليه أن يحكم بالعدل وإقامة

الأحكام والشرائع الإسلامية، وألا يفرض على الشعب ضرائب جديدة

دون أن يرجع إلى زعمائه وعلمائه.

حرص «محمد على» فى أول حكمه على استمالة زعماء الشعب

اعترافًا بفضلهم وانتظارًا للفرصة المواتية للتخلص منهم حتى ينفرد

بالحكم، واستطاع فى النهاية القضاء على هذه الزعامات الشعبية

والاستبداد بالحكم.

إمبراطورية «محمد على» :

كان «محمد على» يحلم بإقامة إمبراطورية عربية كبرى مستغلا

مواهبه الشخصية وضعف الدولة العثمانية، ومؤيدا من بعض الدول

الأوربية مثل «النمسا» و «فرنسا» .

ص: 84

وقد مر تكوين إمبراطورية «محمد على» بالأدوار الآتية:

أولاً: الاستيلاء على شبه الجزيرة العربية:

بعد ظهور دعوة الشيخ «محمد بن عبد الوهاب» الإصلاحية، التى

أخذت خطا سياسيا بعد أن كانت دعوة دينية، وفشلت جهود الدولة

العثمانية فى القضاء عليها؛ لجأ السلطان العثمانى إلى «محمد

على» ليعاونه فى إخماد هذه الحركة.

وقد استمرت الحملة المصرية على «شبه الجزيرة» سبع سنوات تمكن

خلالها «محمد على» من القضاء على الحركة الوهابية ودولتها

ودخول عاصمتها الدرعية، وقد أكسبت هذه الحملة «محمد على» صلة

وثيقة بالعالم العربى نظرًا لسيطرته على الحرمين الشريفين.

ثانيًا: السودان:

اتجه «محمد على» إلى «السودان» فى سنة (1235هـ= 1820م) ليفتحه

ويستثمر مناجم الذهب، ويسيطر على منابع النيل، فأرسل جيشه إلى

«السودان» فسقطت المدن السودانية تباعًا، وقد حققت حملة «محمد

على» فى «السودان» امتداد العنصر العربى فى «وسط إفريقيا»

وزادت من رقعة البلاد التى يسيطر عليها.

ثالثًا: حرب المورة:

فى الوقت الذى كان فيه «محمد على» يوطد دعائم دولته، دعاه

السلطان العثمانى ليخوض معركة ضد «بلاد المورة» التى ثارت على

حكم العثمانيين، ولم تتمكن الدولة من القضاء عليها سنة (1236هـ=

1821م)، ووافق «محمد على» ، وأرسل جيوشه أملاً فى الحصول

على «الشام» هدية من السلطان العثمانى، وبفضل قوة «مصر»

الحربية بدأ إخماد الثورة، غير أن تدخل «روسيا» و «بريطانيا» فى

الحرب وتحطيمهما للأسطول المصرى فى معركة «نوارين» جعل

«محمد على» يقبل الهدنة ويسحب جيشه من «المورة» .

ضم بلاد الشام:

تعتبر حملات جيش «محمد على» على بلاد «الشام» بقيادة ابنه

«إبراهيم» أوسع الحروب التى خاضها وأكثرها شأنًا، وإذا كانت

حروبه السابقة بأمر السلطان العثمانى ودفاعًا عن دولة الخلافة، فقد

كانت حروب «الشام» ضد السلطان، وأوجدت الفرصة للتدخل الأوربى

المباشر بينهما.

ص: 85

كان «محمد على» ينظر إلى بلاد «الشام» على أنها خط الدفاع الأول

عن «مصر» من ناحية الشمال، وكان يطمع فى ضمها إلى دولته،

لحماية «مصر» من الشمال، بالإضافة إلى ما تتمتع به «سوريا» من

مزايا اقتصادية أهمها وجود الأخشاب وبعض المعادن التى تفتقر

إليها «مصر» .

انتهز «محمد على» انشغال السلطان بحربه فى «أوربا» ، فهاجم

«سوريا» مفتعلا خلافًا مع والى «عكا» «عبد الله الجزار» ، فأرسل

جيوشه بقيادة ابنه «إبراهيم» إلى «الشام» فى (جمادى 1247هـ=

أكتوبر 1831م).

وتطورت الحرب فدخل «إبراهيم باشا «دمشق» وهزم الأتراك فى

«حمص» فى موقعة «مضيق ميلان» ؛ وبذلك وصل إلى «جبال

طوروس»، ثم تقابل الجيشان المصرى والتركى فى «قونية» ، وكان

النصر حليف جيش المصريين، وتدخلت دول غرب «أوربا» ، فطلبت من

«محمد على» وقف القتال وعزمت على التدخل بعد أن رأت أن

«روسيا» تريد أن تتدخل فى الأمر، ثم فرضت الدول الأوربية على

«محمد على» قبول اتفاق «كوتاهية» وبمقتضاه أعطى «محمد

على» حكم بلاد الشام وابنه «إبراهيم» حكم «أطنة» ، بشرط ألا يكون

لهما الحق فى توريثهما، وبذلك قامت دولة عربية تمتد من «أطنة»

شمالا إلى «بحر الجبل» بالسودان جنوبًا، ومن «الخليج» شرقًا إلى

حدود «برقة» غربًا.

ولم تعمر هذه الدولة العربية طويلا؛ إذ اجتمعت عليها عوامل أدت إلى

انهيارها سنة (1256هـ= 1840م)، فلم يحظَ الحكم المصرى فى هذه

البلاد بالقبول، ففى «الحجاز» و «السودان» اعتبر الأهالى جنود

«محمد على» محتلين لبلادهم، وفى «الشام» استاء الأهالى من

سياسة الحكم المصرى فى جمع الضرائب واحتكار تجارة الحرير،

ومن ثم قاموا ببعض الثورات.

كما أن السلطان العثمانى كان ساخطًا على «محمد على» وكان

يعمل جاهدًا على عزله، وكانت الدول الأوربية تعارض قيام دولة

عربية قوية تقف فى وجه أطماعها فى أملاك الدول العثمانية.

اجتمعت كل هذه العوامل للقضاء على «محمد على» ، وتمثلت فى

ص: 86

اتفاقية لندن سنة (1256هـ= 1840م)، والتى أجبرت فيها الدول

الأوربية «محمد على» على قبول الصلح مع الدولة العثمانية والتنازل

لها عن «بلاد الشام» وأعطى هو حكم «مصر» وابنه «إبراهيم» ولاية

«عكا» .

وبذلك عادت البلاد العربية فى «الشام» و «الجزيرة العربية» إلى ما

كانت عليه قبل «اتفاق كوتاهية سنة (1249هـ= 1833م).

ص: 87

الفصل الثامن

*الاستعمار الأوربى فى الوطن العربى حتى الحرب العالمية الأولى

الاستعمار: هو السيطرة التى تفرضها دولة قوية على أخرى ضعيفة،

وهذه السيطرة قد تأخذ أشكالا مختلفة، مثل السيطرة العسكرية

على البلاد أو السيطرة الفكرية والاقتصادية على الأمم المقهورة.

وقد ادعت الدول الأوربية كذبًا أنها قامت بحركة التوسع الاستعمارى

بهدف تحضير وتطوير العالم الثالث، وأن ذلك رسالة الرجل الأبيض

تجاه شعوب العالم الثالث، وليس أبلغ فى الدلالة على كذب هذه

الدعوى من رفض الكتاب والمفكرين الغربيين لها.

كانت الدولة العثمانية فى القرنين الخامس عشر والسادس عشر قوة

عظمى تسيطر على غرب ووسط «آسيا» وشمال «إفريقيا» ، وجنوب

شرق «أوربا» ، ثم أخذت الدولة العثمانية فى الضعف وطمعت دول

«أوربا» فى ممتلكاتها.

الاستعمار البريطاني:

أولا: الجنوب العربى:

تعرض الجنوب العربى وبخاصة «عدن» لسيطرة الاستعمار المبكرة،

ففى سنة (1214هـ= 1799م) احتلت «بريطانيا» «بريم» ، وعين أول

مندوب بريطانى فى اليمن سنة (1216هـ= 1801م)، ثم أنشأ الإنجليز

مستودعًا للفحم سنة (1245هـ= 1829م)، وأرادت «إنجلترا» أن تشترى

مرفأ «عدن» من السلطان العثمانى ولكنه رفض واستولت عليه بالقوة

فى (1255هـ= 1839م).

وبعد افتتاح «قناة السويس» سنة (1286هـ= 1869م) امتد نفوذ

«بريطانيا» إلى «حضرموت» ، واخترعت نوعًا جديدًا للسيطرة

الاستعمارية وهو فرض الحماية على كل زعماء ومشايخ المنطقة كل

على حدة.

ثانيًا: وادى النيل:

أراد «إسماعيل باشا» والى «مصر» أن يتشبه بالمدنية الأوربية، وأن

يجعل «مصر» قطعة من «أوربا» ، وعمل على أن تكون له إمبراطورية

إفريقية امتدت جنوبًا إلى خط الاستواء؛ حيث ضمت «دارفور» ومنابع

«نهر النيل» ، كما ضمت «إريتريا» و «هرر» و «الصومال» فى شرق

«إفريقيا» ، ولكنه مع ذلك أغرق نفسه فى الديون التى شجعته عليها

دول «أوربا» حتى وقع فى أزمة مالية، فانتهزت «إنجلترا» الفرصة

ص: 88

للتدخل فى شئون «مصر» ماليا، فجاءت البعثات الغربية للمحافظة

على أموال الدائنين، ثم أنشئ صندوق الدَّين للحد من حرية تصرف

الدولة المصرية فى الإدارة والحكم، وكان هذا التدخل السياسى

تمهيدًا للتدخل العسكرى من جانب «إنجلترا» فى عهد الخديو

«توفيق» ، الذى تولى بعد عزل الخديو «إسماعيل» .

ولما قامت الثورة العرابية بقيادة «أحمد عرابى» مطالبة بحق

المصريين فى قيادة الجيش ومناصب الدولة العليا، أذعن الخديو لبعض

مطالبها ثم تشكلت وزارة برئاسة «محمود سامى البارودى» تولى

«عرابى» فيها نظارة الحربية، ولكن «إنجلترا» و «فرنسا» أخذتا فى

تصعيد الأزمة بين الخديو ووزارة «البارودى» ، ثم تطور الأمر فأرسلت

«إنجلترا» و «فرنسا» أساطيلها إلى مياه «الإسكندرية» وطالبتا -

فى مذكرة مشتركة - الحكومةَ المصرية بإبعاد زعماء الحركة العرابية

عن «مصر» وإقالة حكومة «البارودى» ، فرفض الوزراء والشعب هذه

المذكرة، ولكن الخديو قبلها، وكان من الصعب تشكيل وزارة بدون

«عرابى» ، الذى أصبح ينال تأييد كلٍّ من الجيش والشعب، ولكن

«إنجلترا» التى كانت مصممة على احتلال «مصر» بدأت أساطيلها

فى ضرب «الإسكندرية» يوم (11 من يوليو 1882م) واضطر الجيش

المصرى إلى إخلاء المدينة، ثم تقدمت القوات الإنجليزية حتى احتلت

«القاهرة» ، بعد أن هزمت العرابيين فى معركة «التل الكبير» فى

(ذى القعدة 1300هـ= سبتمبر 1882م).

الحركة المهدية:

نشأت الحركة المهدية فى «السودان» على يد السيد «محمد أحمد

المهدى»، الذى نشأ بالقرب من «دنقلة» ،وحفظ القرآن الكريم وتعلم

الفقه والحديث والتوحيد.

نادى «المهدى» بالتمسك بكتاب الله وسنة نبيه، وهاجم الاختلاف فى

الشروح والمسائل الفقهية الفرعية.

وكان من أسباب قيام الحركة المهدية إرهاق حكومة «السودان»

المواطنين بالضرائب، واحتكارها للمحاصيل والسلع التجارية المهمة،

وإهمال السودان وعدم إرسال الإمدادات إليه أثناء انشغال «مصر»

ص: 89

بالحركة الوهابية، فاستغل أنصار «المهدى» انشغال العرابيين

بالاحتلال الإنجليزى فاستولوا على «كردفان» ، فقاد «هكس باشا»

حملة مصرية للقضاء على المهديين، ولكن الحملة فشلت وقضى

المهديون عليها، فطلب الإنجليز من الحكومة المصرية سحب قواتها من

«السودان» ، ولكن «شريف باشا» رئيس الوزارة رفض وقدم استقالته

احتجاجًا على السياسة البريطانية، وخلفه «نوبار باشا» الذى

استجاب وسحب الجيش المصرى من «السودان» .

ثم عهد الإنجليز إلى «غوردون باشا» بأمر الانسحاب فاستهان بأمر

«المهدى» وحركته، فزحف «المهدى» إليه وحاصره فى «الخرطوم»

وقتلوا «غوردون باشا» ، مما كان له أثر كبير فى انتشار المهدية

فى ربوع «السودان» .

ثم تُوفى «المهدى» فى سنة (1303هـ= 1885م) وخلفه «عبد الله

التعايشى» الذى لم يكن على مستوى «المهدى» ونفوذه، فحاول

غزو «مصر» ولكنه فشل ثم أرسل الإنجليز حملة كبيرة بقيادة

«كتشنر» تمكنت من هزيمة المهدية والقضاء على حركتهم واحتلال

«السودان» .

الاحتلال الفرنسى للمغرب العربى:

أولاً: الجزائر:

أرادت الحكومة الفرنسية فى عهد الملك «شارل العاشر» أن تصرف

شعب «فرنسا» عن الثورة، وأن تشغله عن المشاكل الداخلية

بالدخول فى مغامرات خارجية تحقق بها أمجادًا وانتصارات ترضيه

بها، وكانت الجزائر فى ذلك الوقت دولة لها ديون على «فرنسا» ،

والتى اتخذت من قصة المذبَّة المشهورة ذريعة لاحتلال «الجزائر» فى

يوليو سنة (1246هـ= 1830م).

ولكن «الجزائر» لم تهدأ فقامت المقاومة بقيادة الأمير «عبد القادر

الجزائرى» الذى أعلن قيام إمارة مستقلة فى جنوب «الجزائر» ،

ولكن «فرنسا» بعد عقدها معاهدة مع الأمير نقضت بنودها، وتشددت

فى قتاله حتى استولت على أغلب مدن «الجزائر» فالتجأ الأمير

«عبدالقادر» إلى «مراكش» ، ولكن «فرنسا» أنذرت سلطان «مراكش»

بعدم قبول الالتجاء، فسلم «عبد القادر» نفسه إليهم، حيث نفى إلى

«دمشق» ليقضى بقية حياته بالشام.

احتلال تونس:

ص: 90

أراد حكام «تونس» إدخال المدنية الغربية إلى بلادهم، ومن أجل ذلك

قبلوا الاستدانة من دول «أوربا» ، مما أوجد فى النهاية الفرصة

للتدخل الأجنبى فى شئون «تونس» .

وكانت «فرنسا» هى المعنية بالدرجة الأولى بأمر «تونس» ، ولكى

تبرر تدخلها السافر فى أمر «تونس» ، ادعت قيام إحدى القبائل

التونسية بالاعتداء على عمال فرنسيين، فدخلت قوات «فرنسا»

«تونس» وحاصرت العاصمة وأجبرت الباى على توقيع «اتفاقية

تاردو» سنة (1299هـ= 1881م)، والتى يعترف فيها بالحماية الفرنسية

على «تونس» ، وبحق «فرنسا» فى إبقاء قواتها فى الأراضى

التونسية بالإضافة إلى رعاية «فرنسا» لمصالح «تونس» فى

الخارج، أى قبوله احتلال «فرنسا» لتونس.

ولكن الشعب التونسى رفض قبول هذه الاتفاقية وثار عليها، ولكن

القوات الفرنسية المجهزة بأحدث الأسلحة أخمدت هذه الثورة بكل

عنف سنة (1301هـ= 1883م) وقيدت الباى بمعاهدة جديدة استكملت

بها احتلال «تونس» .

احتلال مراكش:

أرادت «فرنسا» أن تكون «مراكش» مكملة لمستعمراتها فى «المغرب

العربى»، فدخلت فى صراع مع عدد من دول أوربا، فإسبانيا ترى

فيها مجالاً حيويا لتمد سلطانها إلى الجنوب، و «إنجلترا» تريد

السيطرة على «مضيق جبل طارق» ، و «ألمانيا» التى دخلت حلبة

الصراع الاستعمارى متأخرة تريد أن تكون «مراكش» مستعمرة لها،

ولكن «إنجلترا» التى خشت من تزايد قوة البحرية الألمانية عقدت مع

«فرنسا» ما عرف بالاتفاق الودى (1322هـ= 1904م) والذى أنهى

النزاع حول «مراكش» ، فقد أيدت «بريطانيا» احتلال «فرنسا»

لمراكش فى مقابل عدم مطالبة «فرنسا» «إنجلترا» بالانسحاب من

«مصر» ، كما عقدت «فرنسا» معاهدة مع «إسبانيا» اعترفت فيها

«إسبانيا» بمركز «فرنسا» فى «مراكش» فى مقابل اعتراف

«فرنسا» بمركز «إسبانيا» فى منطقة الريف الساحلية المواجهة

لإسبانيا.

ولكن «ألمانيا» رفضت ذلك وساندت السلطان المغربى فى مطالبته

باستقلال مدينة «طنجة» .

ص: 91

وعقد مؤتمر الجزيرة الذى وقفت فيه «إنجلترا» و «إسبانيا»

و «إيطاليا» إلى جانب «فرنسا» ، وتقرر فى هذا المؤتمر الاعتراف

بالنفوذ الفرنسى والإسبانى فى «مراكش» .

وانتظرت «فرنسا» الفرصة لاحتلال «المغرب» وواتتها الفرصة سنة

(1330هـ= 1911م) عندما ثارت القبائل على السلطان «عبد الحفيظ»

الذى استنجد بفرنسا التى سارعت إلى نجدته ودخلت قواتها مدينة

«فاس» فى (ربيع 1330هـ= مارس 1911م)، ثم عقدت معاهدة الحماية

مع السلطان «عبد الحفيظ» سنة (1331هـ= 1912م)، كما تمت التسوية

بين «فرنسا» و «إسبانيا» فى (نوفمبر 1912م) وحددت مناطق نفوذ

كل منهما، واتفق على أن يعين السلطان خليفة له فى منطقة الريف

التى تخضع للنفوذ الإسبانى، وبذلك دخل «المغرب» تحت الاحتلال

الفرنسى من ناحية، والإسبانى من ناحية أخرى.

الاحتلال الإيطالى لليبيا:

بعد أن أتمت «إيطاليا» وحدتها أخذت تهيئ نفسها لدخول حلبة

الاستعمار الأوربى، ولكنها وجدت معظم الأقطار الإفريقية والأسيوية

وقعت فريسة فى يد «إنجلترا» أو «فرنسا» ، ولكنها رأت أن «ليبيا»

التى تقع فى شمال «إفريقيا» ، والتابعة للدولة العثمانية من الممكن

أن تكون مستعمرة إيطالية، فأخذت الحكومة الإيطالية ترسل

الإرساليات المختلفة من مدارس ومستشفيات وبنوك لتقرض الأهالى ثم

تستولى على أراضيهم.

ثم لعبت السياسة الاستعمارية دورها فأعلنت «إيطاليا» الحرب على

الدولة العثمانية، وقامت باحتلال «ليبيا» سنة (1330هـ= 1911م)،

لتكون مستعمرة لها، ومن أجل صرف نظر السلطان العثمانى عن

«ليبيا» قامت «إيطاليا» بمهاجمة ميناء «الدردنيل» وميناء «بيروت»

وساحل «اليمن» ، وافتعلت ثورة فى منطقة «البلقان» لتجبر السلطان

العثمانى على توقيع معاهدة سنة (1331هـ= 1912م) والتى اعترف

فيها باستعمار «إيطاليا» لليبيا، مقابل اعتراف «إيطاليا» بالسيادة

الروحية لتركيا، ولكن الشعب الليبى أخذ يقاوم الاحتلال عن طريق

ص: 92

الزوايا السنوسية التى نظمت حركة الجهاد أثناء الحرب العالمية

الأولى، وعقدت عدة اتفاقيات حتى الحرب العالمية الثانية، حيث نالت

«ليبيا» استقلالها.

الحركة السنوسية:

تنتسب هذه الحركة إلى مؤسسها السيد «محمد بن على السنوسى»

الذى اتصل بالحركة الوهابية وتأثر بها أثناء قيامه بأداء فريضة

الحج، ثم قام بإنشاء أول زاوية له بالحجاز سنة (1253هـ= 1837م)،

ثم اتجه إلى موطنه الأصلى فى «الجزائر» سنة (1256هـ=

1840م)،ولكنه آثر تركها لوجود الاحتلال الفرنسى بها واتجه إلى

«ليبيا» ، وهناك التف حوله الأنصار والأتباع واتسعت حركته وانتشرت

الزوايا السنوسية فى أنحاء «ليبيا» ، وكانت تخضع للزاوية الرئيسية

فى واحة «جغبوب» ثم فى «واحة الكفرة» .

وقد نادى «السنوسى» بالعقيدة الإسلامية الصحيحة، وتحكيم شرع

الله، والعمل على محاربة البدع والمنكرات التى انتشرت فى بعض

أنحاء العالم الإسلامى.

كما دعا وتمسك بضرورة الانضواء تحت لواء الخلافة العثمانية على

أنها الأمل الباقى لجمع المسلمين وتوحيد كلمتهم، وقد تصدى

السنوسيون بكل قوة للاحتلال الإيطالى، وقادت الزوايا السنوسية

حركة الجهاد ضده، وقد أحرز السنوسيون العديد من الانتصارات على

القوات الإيطالية.

ص: 93

الفصل التاسع

*بعض الجوانب الحضارية فى الدولة العثمانية

العناية باللغة العربية:

منذ أن تولى الأمير «عثمان» مؤسس الدولة العثمانية الحكم سنة

(680هـ= 1281م) وحكم (37) سنة أحاط نفسه بعلماء قبيلته ومشايخها

الذين كانوا يعنون بحفظ القرآن الكريم وتحفيظه، ومع تولى

«أورخان» الحكم خرج التعليم من المسجد إلى المدرسة، حيث فتح

أول مدرسة فى مدينة «إزميد» التى فتحها سنة (728هـ= 1327م)،

وكان أول مدرس بها هو «داود القيصرى» ، ودرست بها كثير من

الكتب، فدرّس فى مادة التفسير كتابى «تفسير الكشاف»

للزمخشرى، و «تفسير البيضاوى» لناصر الدين «عبد الله بن عمر

البيضاوى»، وفى الحديث كتب الصحاح الستة، وهى: «صحيح

البخارى»، و «صحيح مسلم» ، و «سنن الترمذى» ، و «سنن أبى

داود»، و «سنن النسائى» ، و «سنن ابن ماجه» ، وكتاب «مصابيح

السنة» للبغوى.

ودرس فى مادة الفقه كتاب «الهداية» لشيخ الإسلام «برهان الدين

على بن أبى بكر المرغنانى»، وكتاب «العناية فى شرح الوقاية»

لعلاء الدين «على بن عمر الأسود» ، وفى أصول الفقه كتاب

«التلويح» للتفتازانى، و «منار الأنوار» للنسفى، و «المغنى» لجلال

الدين عمر، و «مختصر ابن الحاجب» .

وتقرر فى العقائد كتاب «القاضى الإيجى» ، وكتاب «النسفى»

و «الطحاوى» ، وفى علم الكلام كتاب «تجريد الكلام» للطوسى،

و «طوالع الأنوار» للبيضاوى، و «المواقف» للإيجى، وفى علم البلاغة

كتاب «مفتاح العلوم» للسكاكى، و «تلخيص المفتاح فى المعانى

والبيان» للقزوينى، وفى المنطق كتاب «الإيساغوجى» ، و «مطالع

الأنوار» لسراج الدين الأرموى، وفى الفلك كتاب «الملخص» لمحمود

بن محسن الجغمينى.

ومن الكتب المقررة فى النحو: «ألفية ابن مالك» و «العوامل» للشيخ

«عبد القادر الجرجانى» ، و «الكافية فى النحو» لابن الحاجب، وكتب

«ابن هشام» : «شذور الذهب» ، و «قطر الندى» ، و «مغنى اللبيب» ،

ودرس فى الصرف كتاب «أساس التصريف» لشمس الدين الغنارى،

و «الشافية» لابن الحاجب وغيرهما.

ص: 94

وبرز كثير من علماء الدولة العثمانية فى مجال الثقافة الإسلامية

المكتوبة باللغة العربية، مثل:«حاجى خليفة» صاحب كتاب «كشف

الظنون عن أسامى الكتب والفنون»، وهو كتاب ببليوجرافى مهم،

وله مكانته فى الدراسات العربية الإسلامية، جمع فيه أسماء (14500)

كتابًا لتسعة آلاف وخمسمائة مؤلف، وتناول فيه نحو (300) فن أو

علم، وقد حوى هذا الكتاب أمهات المصادر فى الفكر الإسلامى مما

صنف باللغة العربية أو الفارسية أو التركية.

ومن هؤلاء العلماء - أيضًا - «طاشكو برى زاده» وهو «عصام الدين

أبو الخير أحمد بن مصطفى» صاحب كتاب «الشقائق النعمانية فى

علماء الدولة العثمانية»، تناول فيه تراجم أكثر من (500) عالم وشيخ

من علماء الدولة العثمانية من عهد الأمير «عثمان» حتى السلطان

سليمان القانونى، منهم: ابن كمال باشا «شمس الدين أحمد بن

سليمان» الذى اشتهر بكثرة تآليفه ورسائله، وهو يشبه فى ذلك

«السيوطى» و «ابن الجوزى» و «ابن حزم» ممن اشتهروا بكثرة

مؤلفاتهم. يقول «اللكنوى» بأن لابن كمال باشا رسائل كثيرة فى

فنون عديدة، لعلها تزيد على ثلاثمائة غير تصانيف له فى لغات

إسلامية أخرى كالفارسية والتركية، وكان ذلك فى عهد السلطان

«سليم الأول» .

وزخر عهد السلطان «محمد الفاتح» بالمصنفات العربية، وبخاصة

أساتذته الذين قاموا بتعليمه وتثقيفه، مثل الشيخ «الكورانى» ،

والشيخ «خسرو» ، كما ظهر فى عهد «سليمان القانونى» شيخ

الإسلام «أبو السعود أفندى» صاحب التفسير المعروف «إرشاد العقل

السليم إلى مزايا الكتاب الكريم».

وكانت اللغة العربية هى السائدة فى جميع المدارس والجامعات

العثمانية، على حين استخدمت اللغة التركية فى الأعمال الحكومية

فقط.

وعنى السلاطين العثمانيون بالأدب والشعر، فكان السلطان «مراد

الثانى» (805 - 855هـ= 1402 - 1451م) يعقد مجلسًا فى قصره، يدعو

إليه الشعراء ليتسامروا ويقرضوا الشعر بين يديه، وكان يشجع حركة

ص: 95

الترجمة من العربية إلى التركية، وجعل من قصره مكانًا

للمترجمين، فأصبح كأنه أكاديمية علمية.

ثم خلفه ابنه «محمد الفاتح» الذى وصفه المؤرخون بأنه راعٍ لنهضة

أدبية، وشاعر مجيد، وكان يجيد عدة لغات، ويداوم على المطالعة

وبخاصة الكتب العربية التى ملأت مكتبته، ويعنى بالأدب عامة

والشعر خاصة، ويصاحب العلماء والشعراء ويصطفيهم، وقد استوزر

منهم الكثير، مثل:«أحمد باشا» و «قاسم الجزرى باشا» ، وعهد إلى

الشاعر الأناضولى «شهدى» أن ينظم قصيدة تصور التاريخ العثمانى

باللغة الفارسية على غرار «الشاهنامة» التى نظمها «الفردوسى» .

وكان «محمد الفاتح» إذا سمع بعالم متبحر فى فن من الفنون فى

الهند أو فى السند استماله بالإكرام، وأمده بالمال، وأغراه

بالمناصب، ومثال ذلك: أنه استقدم العالم الكبير «على قوشجى

السمرقندى» وكانت له شهرته فى الفلك، كما كان يرسل كل عام

مالاً كثيرًا إلى الشاعر الهندى «خواجه جهان» والشاعر الفارسى

«جامى» .

وبرع «الفاتح» نفسه فى نظم الشعر، حتى اتخذ لنفسه اسمًا شعريا

يستخدمه فى أشعاره التى تعكس رقة إحساسه، ورهافة مشاعره،

وتبرز تكوينه الدينى.

وخلفه ابنه «بايزيد الثانى» وكان عالمًا فى العلوم العربية، وفى

الفلك، ومهتما بالأدب ومكرمًا للشعراء والعلماء.

وكان السلطان «سليم الأول» شغوفًا بالشعر والشعراء والعلم

والعلماء، حتى إنه صحب معه فى حملته على «فارس» الشاعر

«جعفر ُلبى» ، واصطحب فى حملته على «مصر» و «الشام» الشاعر

«ابن كمال باشا» .

وقد ازدهر الأدب التركى منذ القرن الثامن الهجرى، وبلغ أوجه فى

القرن الحادى عشر، وتأثر بالأدب الفارسى، كما ازدهر نوع من

الشعر الشعبى الموزون فى أوساط سكان «الأناضول»

و «الروملى» ، وساهمت الترنيمات الصوفية لشاعرهم «يونس إمره»

المتوفى سنة (721هـ= 1321م) فى تجسيد هذا الأدب الذى حافظ على

وجوده واستمراريته فى المراكز الصوفية، ومن هذا الشكل الشعبى

ص: 96

من الأدب التركى انطلق الأدب التركى الحديث متأثرًا به وبالأدب

الغربى.

التاريخ والجغرافيا:

قام العثمانيون بدور جيد فى مجال التاريخ، وبدأت المحاولات الأولى

لتدوين التاريخ العثمانى تدوينًا منظمًا فى عهد السلطان «بايزيد

الأول» على يد المتصوف «أحمد عاشق باشا» ، ثم اهتم الباب العالى

منذ القرن العاشر الهجرى بكتابة التاريخ، فعين المؤرخين الرسميين

أمثال «سعد الدين» المتوفى سنة (1007هـ= 1598م).

وتعد الجغرافيا أحد العلوم التى أجاد فيها العثمانيون نسبيا،

وأشهر الأعمال الجغرافية ما كتبه الرحالة البحرى أو أمير البحر

«بيرى رئيس» من كتب تتضمن رحلاته فى «البحر المتوسط» ،

واكتشافات الإسبان والبرتغال فى «إفريقيا» ، كما ألف كتابًا عن

الملاحة أطلق عليه اسم «بحريت» ، وفى سنة (919هـ= 1513م) رسم

خريطة للمحيط الأطلسى والشواطئ الغربية من «أوربا» وأهداها

للسلطان «سليم الأول» بالقاهرة، ورسم خريطة أخرى تمثل

اكتشافات البرتغاليين فى «أمريكا الجنوبية» و «الوسطى»

و «نيوزيلاندا» ، كما أسهمت كتب «حاجى خليفة» و «أوليا ُلبى»

الجغرافية إسهامًا كبيرًا فى هذا المجال.

الطب:

وفى مجال الطب كانت تلقى المحاضرات العلمية الطبية نظريا،

ويجرى تطبيقها عمليا فى مدرسة الطب، وزاول الطلبة تدريباتهم فى

المستشفيات، وكانت الكتب المقررة تشمل كتاب «ابن سينا»

المشهور «القانون» وكتب «ابن عباس المقوس» .

وقام بالتدريس فى المدارس الطبية العثمانية عدد من العلماء والأطباء

الذين تلقوا تعليمهم فى البلاد العربية و «إيران» و «تركستان» ، ومن

أهم الأطباء فى ذلك العصر: «قطب الدين العجمى» ، والطبيب «شكر

الله الشروانى»، و «يعقوب الحكيم» ، و «إلياس القرامانى» .

نظام القضاء:

كان «القاضى عسكر» هو رئيس الهيئة القضائية، وهذا المنصب

استحدثه السلطان «مراد الأول» ، ثم أضاف إليه السلطان «محمد

الفاتح»، والسلطان «سليم الأول» قاضيين آخرين، واحدًا لأوربا،

ص: 97

والآخر لإفريقيا، ولم تكن سلطتهم تقتصر على الشئون العسكرية بل

تعدتها إلى الشئون المدنية، فهم الذين يعينون القضاة ونوابهم، وكل

الموظفين القضائيين الآخرين، ويشكلون محكمة الاستئناف العليا.

ويأتى العلماء الكبار بعد قضاة الجيش من حيث الترتيب، وهم يؤلفون

قضاة العاصمة وعواصم الولايات، ثم يليهم العلماء الصغار الذين

يزاولون القضاء فى المدن الثانوية، ويليهم قضاة الدرجة الثانية وما

دونها.

العلماء والفقهاء:

كان مفتى «إستانبول» (شيخ الإسلام) هو الشخصية الثانية التى

تخضع لها الهيئات القضائية الدينية.

وخضع الموظفون الدينيون فى العاصمة لسلطة المفتى مباشرة،

وكان ينوب عنه فى الولايات الكبرى قضاة العسكر.

وكان ترتيب الموظفين الدينيين فى الجوامع الكبرى كما يلى:

الخطيب - الإمام المقيم - المؤذن، ويقوم المرشحون لهذه المناصب

بالتعلم فى المدارس الدينية الكثيرة التى شيدها السلاطين، وكان

الطلاب فيها ينقسمون إلى ثلاث فئات:

1 -

الصوفتا.

2 -

المعيدون، حيث يحمل الطالب عند التخرج منها لقب «دانشمند» أو

«عالم» .

3 -

فئة «المدرس» .

أما مشايخ الطرق الصوفية فقد تعلقت بهم قلوب كثير من الناس، وقد

سادت هذه الطرق معظم أرجاء «آسيا الصغرى» كالنقشبندية

والمولوية والبكتاشية، وكان لهم دور فى تهذيب العامة، وحضهم

على التمسك بالفضيلة والأخلاق الإسلامية الحميدة.

ومن أشهر الفقهاء العثمانيين: «أحمد بن إسماعيل الكورانى»

المتوفى سنة (893هـ= 1487م)، والمولى «خسرو» الذى دعى بأبى

حنيفة زمانه من قبل السلطان «محمد الثانى» ، وتوفى سنة (885هـ).

ومن العارفين والمتصوفة الشيخ «محمد بن حمزة» الشهير بلقب «آق

شمس الدين» و «عبد الرحمن جامى» الذى توفى سنة (898هـ=

1492م).

ومن العلوم العقلية والنقلية، ظهر اسم:«شمس الدين الفتارى» الذى

خلف مكتبة بها (10) آلاف مجلد.

العمارة عند العثمانيين:

بلغ فن العمارة عند العثمانيين درجة عالية وخلَّف العثمانيون العديد

ص: 98

من الآثار العمرانية العظيمة أهمها:

1 -

جامع آيا صوفيا: وهى الكنيسة السابقة التى حولها السلطان

«محمد الثانى» إلى مسجد، يمثل الجامع الرئيسى فى العاصمة عقب

فتح «القسطنطينية» مباشرة، وعُدِّلت لتلائم التقاليد الإسلامية، حيث

غطيت الرسوم التى تمثل الفن البيزنطى، وشكل محراب وسط الجناح

الجنوبى من الكنيسة، كما نصب المنبر على عمود الكنيسة الجنوبى

الشرقى الكبير، وفى عهد السلطان «مراد الرابع» كتبت بعض

الكلمات ذات الأحرف الكبيرة التى تحمل اسم الجلالة، واسم الرسول،

والخلفاء الراشدين، وذلك على لوحات مستديرة شيدت على جدران

المسجد، وهى بخط الخطاط «بيشكجى زاده مصطفى شلبى» الذى

كتب حرف الألف وحده على سبيل المثال طوله عشرة أذرع، وكلها

بخط متشابك بديع، وواصل باقى السلاطين إدخال تعديلاتهم

وإصلاحاتهم بها.

2 -

جامع السلطان محمد: الذى شيده المهندس اليونانى «خريستو

دولوس» بأمر من السلطان «محمد الثانى» ، ويقع وسط العاصمة

«إستانبول» .

3 -

جامع السلطان أيوب: وكان السلاطين العثمانيون يتقلدون فيه

مقاليد الحكم فى احتفال رسمى، وقد شيده السلطان «محمد الثانى»

قرب ضريح الصحابى «أبى أيوب الأنصارى» رضى الله عنه.

4 -

مسجد بايزيد: وشيده السلطان «بايزيد» ، ويعد من أبرز الآثار

العمرانية التى تمتاز بنفاسة المواد البنائية الزخرفية التى جرت على

الطريقة الفارسية.

5 -

جامع السليمانية، ويعد من أجمل آثار الفن المعمارى العثمانى،

وشيده السلطان «سليمان» ، وصممه المهندس المعمارى «سنان

باشا»، على أعلى قمة جبلية فى «الأستانة» .

إلى جانب العديد من الجوامع العظيمة التى تزيد على الخمسمائة

جامع، بخلاف المدافن والتكايا (الزوايا).

أما القصور فأهمها قصر «سراى طوب قابو» التى تمتاز بفخامتها

وامتدادها الواسع، ومبانيها، وحدائقها، وساحاتها الواسعة،

و «سراى دولمة بهجة» على «البسفور» وتمتاز ببهوها الكبير،

ص: 99

وكانت مسكنًا للسلطان «محمد رشاد» . وسراى «جراغان» وسراى

«يلدز» وسراى «بكر بك» التى توفى بها السلطان «عبد الحميد

الثانى» بعد خلعه.

وأشهر المهندسين المعماريين فى الدولة العثمانية هو «سنان

باشا»، الذى كان نصرانيا ثم أسلم وعمره (23) عامًا، واشترك فى

الحملات العثمانية والفتوحات فى المشرق والمغرب، واطَّلع على كثير

من الطرز والأعمال المعمارية التى جذبت انتباهه فى «تبريز»

و «حلب» و «بغداد» ودول «أوربا» .

وعندما عاد إلى «إستانبول» تولى منصب كبير معمارى الخاصة

السلطانية، وأصبح المسئول عن إقامة الأعمال المعمارية من قصور

وجوامع ومدارس ومطاعم وحمامات وأضرحة، وبلغت أعماله المعمارية

نحو (441) عملا موزعة فى مختلف أرجاء الدولة العثمانية، منها

«جامع صقوللو محمد باشا» ، و «جامع رستم باشا» ، و «جامع شهر

زاده»، و «جامع السليمانية» ، و «جامع محمد باشا البوسنوى» ، إلى

جانب العديد من الأعمال فى البلدان العربية، وتشهد أعماله بالأصالة

ويسودها المعرفة العميقة والتكنيك الهندسى، وفهمه الكبير للفن،

ورقة ذوقه، وقد مكنه كل ذلك من إضافة أشكال جديدة للفن

المعمارى.

وتوفى «سنان باشا» سنة (966هـ= 1558م) وعمره يقارب المائة عام،

بعدما عاصر خمسة من سلاطين العثمانيين.

فن الرسم العثمانى:

لم يظهر هذا الفن إلا فى عهد السلطان «محمد الفاتح» الذى دعا

فنانين إيطاليين مشهورين إلى القصر السلطانى، وأوكل إليهم إنجاز

بعض اللوحات للسلطان، وليقوموا بتدريب بعض العثمانيين على هذا

الفن، وكان من أشهرهم «ماستورى بافلى» و «كونستانزى

دافيرارى»،وظهرت كثير من المواهب الوطنية مثل «سنان» تلميذ

«ماستورى بافلى» و «حسام زاده» .

ومن فنانى ذلك العهد «أحمد شبلى زاده» و «بابا مصطفى» و «تاج

الدين بن «حسين بالى» و «حسن شلبى» .

ويبدو فى هذه الأعمال أثر المدارس الإيرانية، ويبرز اسم «المطرقى»

الذى رسم لوحات تمثل حملات الجيش العثمانى ومناظر القلاع

ص: 100

والموانئ والمدن؛ مما كان له أثر فى تطور فن الرسم الزيتى

العثمانى.

وفى عهد «سليمان الأول» وصل فن المنمنمات العثمانى إلى أوجه،

وقدم «كاتب الشيرازى» - الذى اتخذ اسمًا مستعارًا هو «عارفى» -

وثائق الحوادث السياسية والاجتماعية التى جرت خلال حياة «سليمان

الأول»، وكتب ورسم «عارفى» عملا من مآثر السلاطين العثمانيين

حتى عهده هو «شاهنامة آل عثمان» فى خمسة مجلدات.

ومن فنانى المنمنمات فى ذلك العصر: «على شلبى» ، و «مولى

قاسم»، و «محمد البورحى» و «أوستان عثمان» ، و «لطفى عبدالله»

و «رئيس حيدر» .

وفى عهد السلطان «مراد الثالث» وصل فن المنمنمات إلى أوجه،

ومن أبرز الأعمال فى عصره «خورنامه» و «شاهنشاه نامه» المؤلفة

من أشعار مكتوبة بالتركية والفارسية معًا، وتحكى توضيحاتها قصة

فتوحات الجيش العثمانى الظاهر، والنشاطات الاجتماعية المتعددة

لذلك العصر.

ووجدت فى ذلك العصر مدرسة الفن الزيتى فى «بغداد» فى نهاية

القرن (16م)، ولكن هذا الفن سرعان ما ضعف وتدهور فى القرنين

السابع عشر والثامن عشر.

ص: 101

- المراجع:

* برنارد لويس: استانبول وحضارة الخلافة العثمانية - تعريب: سيد رضوان علي - الدارالسعودية للنشر والتوزيع - جدة - الطبعة الثانية - 1982م

* بول كولز: العثمانيون في أوربا - ترجمة: عبد الرحمن عبدالله الشيخ - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة - 1993م

* حسان عالاق: موقف الدولة العثمانية من حركة الصهيونية (1897 - 1909م) - دار الأحد - بيروت - 1938هـ = 1978م

* حسين خوجة: ذيل بشائر أهل الإيمان بفتوحات آل عثمان - تحقيق: الطاهر المعموري - الدار العربية للكتاب - ليبيا - بدون تاريخ

* زياد أبو غنيمة: جوانب مضيئة في تاريخ العثمانيين الأتراك - دار الفرقان للنشر والتوزيع - عمان - الأردن - الطبعة الثانية - 1406هـ = 1986م

* عبدالعزيز محمد الشناوي: الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها - مكتبة الأنجلو المصرية - القاهرة - 1984م

* عزيز سامح التر: الأتراك العثمانيون في إفريقيا الشمالية - ترجمة: محمود علي عامر - دار النهضة العربية - بيروت - الطبعة الأولي - 1409هـ = 1989م

* علي حسون: تاريخ الدولة العثمانية - المكتب الإسلامي - بيروت - الطبعة الثالثة - 1415هـ = 1994م

* القرماني (احمد تشيلي بن سنان الرومي): تاريخ سلاطين آل عثمان - تحقيق: بسام عبد الوهاب - دار البصائر - دمشق - الطبعة الأولي - 1405هـ = 1985م

* محمد أنيس: الدولة العثمانية والشرق الأدنى (1514هـ = 1914م) - مكتبة الأنجلو المصرية - القاهرة - 1984م

* محمد حرب: العثمانيون في التاريخ والحضارة - المركز المصري للدراسات العثمانية وبحوث العالم التركي - القاهرة - 1414هـ = 1994م

* محمد الخير عبد القادر: نكبة الأمة العربية بسقوط الخلافة العثمانية (1875 - 1925م) - مكتبة وهبة - القاهرة - الطبعة الأولي - 1405هـ = 1985م

* محمد صادق العبسي: فتح القسطنطينية - دار الحوار للنشر والتوزيع - اللاذقية - سوريا - الطبعة الأولى - 1986م

ص: 102

* محمد عبد اللطيف البحراوي: حركة الإصلاح العثماني في عصر السلطان محمود الثاني (1808 - 1839م) - دار التراث - القاهرة - الطبعة الأولى - 1398هـ = 1978م

* محمد فؤاد كوبرلي: قيام الدولة العثمانية - ترجمة: أحمد السعيد سليمان - الطبعة الثانية - الهيئة المصرية العامة للكتاب - 1993م

* محمد فريد بك: تاريخ الدولة العثمانية - تحقيق: احسان حقي - دار النفائس - بيروت - الطبعة الثانية - 1403هـ = 1983م

* محمود ثابت الشاذلي: المسألة الشرقية - دراسة وثائقية عن الخلافة العثمانية (1299 - 1923م) - مكتبة وهبة - القاهرة - الطبعة الأولى - 1409هـ = 1989م

* مصطفي حلمي: الأسرار الخفية وراء إلغاء الخلافة العثمانية - دار الدعوة - القاهرة - 1984م

* موفق بني المرجة: صحوة الرجل المريض أو السلطان عبد الحميد الثاني والخلافة الإسلامية - مؤسسة صقر الخليج للطباعة والنشر - الكويت - 1984م

* يلماز أوزتونا: تاريخ الدولة العثمانية - منشورات مؤسسة فيصل للتمويل - إستانبول - الطبعة الأولى - 1408هـ = 1988م

* يوسف آصاف: تاريخ سلاطين آل عثمان - تحقيق بسام عبدالوهاب - دار البصائر - دمشق - الطبعة الثالثة - 1405هـ = 1985م

ص: 103