الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجزء التاسع
المسلمون في أفريقيا جنوبي الصحراء
تأليف:
أ. د. رجب محمد عبد الحليم
أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة القاهرة
الفصل الأول
*الطرق التى سلكها الإسلام إلى قارة إفريقيا
- الطرق التى سلكها الإسلام إلى قارة إفريقيا (جنوب الصحراء)
كثيرة ومتعددة، منها:
طرق القوافل التجارية التى تربط بين شمالى القارة وبلاد السودان
الغربى والأوسط (غرب إفريقيا)، ومنها الطريق الذى يبدأ من جنوبى
«تونس» ويتجه إلى «بلاد الكانم والبرنو» فى حوض بحيرة «تشاد» ،
والطريق الذى يبدأ من جنوبى «الجزائر» ويتجه إلى «بلاد الهوسا»
فى شمال «نيجيريا» ، والطريق الذى يبدأ من جنوبى «مراكش»
ويصل إلى مصب «نهر السنغال» ومنحنى «نهر النيجر» و «نيجيريا»
و «تشاد» .
وطريق بحرى يسير عبر مياه «البحر الأحمر» و «خليج عدن»
و «المحيط الهندى» ، ويربط هذا الطريق بين «شبه الجزيرة العربية»
وشرق إفريقيا، ومنه دخل الإسلام إلى شرق القارة وخاصة إلى
«إريتريا» و «الصومال» و «الحبشة» و «زنجبار» وساحل شرقى
إفريقيا حتى مدينة «سوفالة» جنوب «نهر الزمبيزى» فى
«موزمبيق» .
وطريق وادى النيل وطريق درب الأربعين اللذان تدفق منهما الإسلام
إلى «بلاد البجة» و «بلاد النوبة» وإلى «دار فور» وبقية «بلاد
السودان الشرقى»، وهو «سودان وادى النيل» الذى يعرف الآن
بجمهورية السودان.
ويلاحظ أن معظم هذه الطرق طرق تجارية، ولم تستخدم كمعابر
للجيوش إلا فى القليل النادر، مما يؤكد سمة الطابع السلمى لانتشار
الإسلام فى قارة إفريقيا. ومما يؤكد ذلك أيضًا أن أهل القارة
أنفسهم سواء أكانوا من البربر أم من الزنج والسودان هم الذين
قاموا بنشر الإسلام؛ بعد أن وصلت الدعوة إلى بلدانهم وإلى ما
وراءها من بلدان، ولم تكن حركات الفتح والجهاد التى حفل بها
تاريخ الإسلام فى القارة خلال بعض الفترات لاسيما فى عصر الخلفاء
الراشدين والأمويين من بعدهم ذات أثر كبير فى نشر الإسلام؛ إذ لم
يكن هدفها نشر هذا الدين بقوة السلاح كما يدعى كثير من
المستشرقين وأعداء الإسلام، وإنما كان هدفها هو إزاحة العقبة
التى كانت تحول دون وصول الإسلام بالحكمة والموعظة إلى أهل
إفريقيا، وكانت هذه العقبة تتمثل فى جيوش الاحتلال البيزنطى،
التى كانت تحتل «مصر» والساحل الشمالى لإفريقيا كله قبل فتح
الإسلام لهذه البلاد.
وبعد أن أنقذ المسلمون أهالى القارة من هذا الاحتلال البغيض،
أصبح الطريق مفتوحًا أمام الدعوة، ومن ثم تلقفها الأفارقة بشغف
وحب شديدين، واتخذت الدعوة إلى هؤلاء الأفارقة أشكالا متعددة
وعلى يد أناس مختلفى الصفات والاتجاهات، منهم الدعاة الذين
وهبوا حياتهم لهذا العمل العظيم، ومنهم التجار الذين جمعوا بين
الدعوة والتجارة، ومنهم الحجاج الذين تأثروا بمظاهر الأخوة
الإسلامية فى موسم الحج وأثَّروا فى إخوانهم وأهاليهم بعد أن
عادوا من الحج مشحونين بشحنة دينية عميقة. ومنهم المهاجرون
الذين أتوا فى هجرات عديدة شملت العرب وغيرهم، وحملوا معهم
الإسلام والثقافة الإسلامية، ومنهم الصوفية الذين اخترقوا أعماق
القارة ووصلوا إلى النجوع والكفور والقرى والغابات، وسوف نفصل
الحديث عن هذه الوسائل التى انتشر الإسلام بها فى القارة الإفريقية
(جنوب الصحراء):
1 -
الدعاة:
ويقصد بالدعاة الأفراد المسلمون الذين تلقوا قدرًا من العلوم الدينية،
وعلى رأسهم الفقهاء والعلماء والمشايخ والقراء والقضاة، وكان
هؤلاء يسمون فى مختلف أنحاء القارة بأسماء مختلفة، مثل المرابط،
وألفا، والمعلم، والفقيه، والشيخ، وسيدنا، ومولانا. وكانوا يحظون
بنصيب كبير من الاحترام والتقدير، وكانت كل قرية فى إفريقيا تقيم
دارًا لاستقبالهم واستضافتهم، وكان الحكام والملوك الأفارقة سواء
أكانوا مسلمين أم وثنيين يعاملونهم باحترام كبير، وكانوا يتخذون
منهم مستشارين ووزراء يصرِّفون لهم أمور الدولة، مثلما كان الحال
فى دولة «غانة» الوثنية، كما يقول «البكرى» الذى عاش فى القرن
العاشر الميلادى. وكان هؤلاء الدعاة ينشئون الكتاتيب لتعليم الأطفال
الوثنيين القراءة والكتابة وبعض العلوم الأخرى، ومن ثم يصبح هؤلاء
الأطفال بذرة إسلامية داخل الأسر الوثنية، وكذلك كان الدعاة
ينشئون المدارس التى كانت تعد مركزًا مهما لنشر الإسلام وثقافته،
وكذلك المساجد والزوايا والأربطة والخلاوى التى كان يلتقى فيها
الأفارقة بالدعاة ويتلقون عنهم العلوم الدينية؛ حيث يخرجون دعاة
للإسلام بين أهليهم وأقاربهم من الوثنيين.
ولذلك انتشر الإسلام بين الأفارقة، خاصة بعد أن اعتنقه بعض ملوكهم
الذين كانوا يتحولون تلقائيا إلى دعاة للإسلام فى بلادهم. ومن
هؤلاء ملك «مالى» وملك «التكرور» وملك «سلى» ، فقد نشر هؤلاء
الإسلام بين شعوبهم من التكرور والسونتك والماندنجو وغيرهم من
شعوب غرب القارة. وخرج من هذه الشعوب دعاة تخصصوا فى
الدعوة إلى الإسلام حتى أصبحت كلمة تكرورى أوسوننكى تعنى
داعية للإسلام عند شعوب هذه المنطقة.
ومن أهم الدعاة الذين نشروا الإسلام بين البربر فى «الصحراء
الكبرى» والتكرور فى «السنغال» والسوننك فى «غانة» ، الشيخ
«عبدالله بن ياسين الجزولى» المتوفَّى عام (451هـ = 1059م)، والذى
قامت على يديه «دولة المرابطين» الكبرى قبل ذلك ببضع سنين.
وهناك داعية آخر قام بنشاط كبير فى حوض «نهر النيجر الأعلى»
هو «أبو القاسم على بن يخلف» ، الذى أسلم على يديه ملك مالى
الذى اتخذ لقب المسلمانى (أى الذى أسلم)، بعد إسلامه فى القرن
الحادى عشر للميلاد، وفى بلاد «الهوسا» نجد داعية إسلاميا كبيرًا
هو الشيخ «محمد عبدالكريم المغيلى» المتوفَّى عام (909هـ =
1503م) الذى نشر الإسلام فى بلاد «الهوسا» ، ثم أتى بعده بعدة
قرون داعية كبير من شعب الفولانى هو الشيخ «عثمان بن فودى»
الذى أتم حركة نشر الإسلام فى هذه البلاد، وخاصة «نيجيريا»
و «الكاميرون» .
وإذا اتجهنا شرقًا ووصلنا إلى بلاد حوض «بحيرة تشاد» حيث «دولة
الكانم والبرنو» نجد داعية إسلاميا عظيمًا هو الشيخ «محمد بن
مانى» الذى أسلم على يديه ملوك هذه البلاد فى القرن الحادى عشر
للميلاد.
وكذلك دخل الإسلام كثير من النوبيين وأهالى «السودان النيلى»
و «دارفور» على يد دعاة وفدوا من «مصر» و «اليمن» و «الحجاز» من
أمثال «غلام الله بن عائذ اليمنى» ، و «حمد أبى دنانة» من «الحجاز» ،
والشيخ «محمد القناوى الأزهرى» من «مصر» ، وتلقف الدعوة
وأذاعها سودانيون من أمثال الشيخ «محمود العركى» والشيخ
«صغيرون محمد بن سرحان العدوى» وغيرهم.
ووفد على منطقة القرن الإفريقى وساحل شرقى إفريقيا عدد كبير
من الدعاة، من أمثال «ود بن هشام المخزومى» الذى أقبل إلى بلاد
«الحبشة» فى عهد «عمر بن الخطاب» - رضى الله عنه - وأنشأ
أحفاده دولة إسلامية فى «إقليم شوا» وسط هضبة الحبشة، كذلك
وفد دعاة من «بنى عبدالدار» أو من «بنى عقيل بن أبى طالب» إلى
بلاد «الزيلع» و «الصومال» و «إريتريا» وأنشأ أحفادهم سلطنة
إسلامية أخرى فى هذه البلاد تسمى «سلطنة أوفات الإسلامية» .
وهكذا كان للدعاة فضل كبير فى نشر الإسلام وثقافته، وفى إقامة
سلطنات إسلامية فى كثير من نواحى القارة، كما سنرى ذلك فى
حينه بالتفصيل فى هذا الجزء من السلسلة.
2 -
التجار:
كان للتجار الدور الأول فى نشر الإسلام فى القارة بعد الدعاة،
ويظهر ذلك من قول السير «توماس أرنولد» فى كتابه «الدعوة إلى
الإسلام» إن التجارة والدعوة إلى الإسلام مرتبطان كل الارتباط.
وقد تدفق الإسلام عبر الطرق التجارية الموصلة بين مختلف أنحاء
القارة، والتى أشرنا إليها من قبل، إلى حوض نهرى «السنغال»
و «النيجر» ومنطقة حوض «بحيرة تشاد» ، وكذلك إلى «الصومال»
و «بلاد النوبة» و «السودان» و «الحبشة» ، و «ساحل شرق إفريقيا» .
وقد قام العرب والبربر بدور كبير فى هذا النشاط التجارى، وأصبحت
مدن الشمال الإفريقى مراكز للتجارة بجانب كونها مراكز للعلم
والثقافة، ووصلت إليها السلع الإفريقية، واتجه تجار العرب والبربر
واخترقوا الصحراء الكبرى ووصلوا إلى بلدان إفريقيا جنوب
الصحراء، وكان لذلك أثره الكبير فى نشر الإسلام الذى أقبل مع
قوافل التجار، وازداد انتشاره بعد أن انتقل معظم النشاط التجارى
إلى أيدى السودان والزنوج أنفسهم من تجار «الفولانى»
و «التكرور» و «الهوسا» و «الكانمية» والصوماليين وغيرهم من
الأفارقة الذين اتخذوا التجارة حرفة رئيسية، وصار هؤلاء التجار
الأفارقة دعاة للإسلام، وقلدوا المغاربة فى إقامة بعض الأسواق فى
مدن معينة فى أيام معلومة.
وكان هؤلاء التجار سواء كانوا من العرب أو البربر أو السودان
ينزلون فى هذه الأسواق أو فى المراكز التجارية ويحتكون بالزنوج
ويؤثرون فيهم بنظافتهم وأمانتهم وسلوكهم الشخصى القائم على
قيم الإسلام وتقاليده السامية، وغالبًا ما ينتهى هذا الاحتكاك بدخول
كثير من هؤلاء الزنوج فى الإسلام الذى كان يتركز أولا فى المدن
التى ينشط فيها التجار بوجه خاص، وكانوا إذا ما استقر بهم المقام
فى إحدى هذه المدن ينشئون كتاتيب أو مدارس لتعليم الإسلام
وتحفيظ القرآن الكريم ويبنون المساجد التى كانت مقرا للدعوة إلى
الإسلام، وقاموا فى الوقت نفسه بمزاولة نشاطهم التجارى، وكانوا
أثناء الليل يحولون دكاكينهم إلى مكان يتلقى فيه الأطفال الوثنيون
مبادئ القراءة والكتابة على ضوء النيران، مما حببهم إلى الأهالى
الذين وثقوا بهم، مما فتح الباب أمام الإسلام كى ينتشر بينهم.
وكذلك وثق بهم رجال الطبقة الأرستقراطية من الملوك والأمراء
ومشايخ القبائل؛ حيث كان التجار المسلمون يُستقبلون فى بلاط
هؤلاء الملوك الوثنيين بترحاب شديد؛ لسمو أخلاقهم وكريم خصالهم
وخبرتهم بالسياسة وشئون الإدارة والمال، ونظرًا لأنهم كانوا يجلبون
لهذه الطبقة ما كانت تحتاج إليه من سلع فاخرة، ومن ثم أضفى
هؤلاء الملوك حمايتهم على هؤلاء التجار، فنعموا بالأمان والاستقرار
وازداد نشاطهم بين أفراد هذه الطبقة، التى سرعان ما تحولت إلى
الإسلام فى عدد كبير من البلدان.
ومن أهم المراكز التجارية التى أنشأها العرب أو أهالى البلاد
المحليون واتخذوا منها مراكز للتجارة والدعوة: مدينة «أودغشت»
فى «موريتانيا» الحالية، ومدينة «تمبكت» التى بناها المرابطون من
المغاربة على ضفة نهر «النيجر» أواخر القرن الخامس الهجرى، كذلك
كانت مدن: «كانو» ، و «مالى» ، و «جاد» ، و «نجيمى» فى غرب القارة
مراكز للدعوة والتجارة. وكانت مدينة «عيذاب» التى تقع على ساحل
«البحر الأحمر» ، ومدينة «قوص» التى تقع على «نهر النيل» فى
صعيد «مصر» مراكز انطلق منها تجار الكارم إلى «الحبشة» وشرق
إفريقيا، كما انطلقوا من موانى:«سواكن» و «باضع» (مصوع)
و «زيلع» و «بربرة» و «مقديشيو» و «ممبسة» و «مالندى» و «كلوة»
و «سوفالة» ، وكلها موانئ تقع على الساحل الغربى للبحر الأحمر
وعلى الساحل الشرقى لإفريقيا، ونشط التجار فى هذه المراكز
التجارية كلها ووصل نشاطهم إلى أعماق القارة فى بلاد «أوغندا»
و «الكونغو» ، وأسلم على أيديهم أعداد كبيرة من الأفارقة.
وكانت قوافل الجمال التى تحمل تجارة القارة لاتستطيع العودة من
هذه المناطق الداخلية إلى المناطق الساحلية فى موسم الأمطار،
فكان التجار ينتظرون الشهر أو الشهور يتاجرون ويحتكون
بالأهالى؛ مما كان يؤدى إلى إسلام الكثير منهم، ثم يعودون من
حيث أتوا حينما تتحسن الأحوال الجوية، هذا فى الوقت الذى أصبح
التجار المحليون المقيمون دائمًا فى بلدان القارة عُمُدًا للدعوة
الإسلامية.
3 -
الحجاج:
نتيجة للنشاط التجارى الواسع الذى أشرنا إليه والذى ساد شمال
القارة، ووسطها وغربها وشرقها وما نتج عنه من انتشار الإسلام
والثقافة الإسلامية؛ نشطت قوافل الحج التى كانت فى الوقت نفسه
قوافل للتجارة التى كان يمارسها الحجاج على طول طريقهم إلى
الأراضى المقدسة، وقوافل لتحصيل العلم عن طريق الالتقاء بعلماء
البلدان التى يمرون بها، فكانت تخرج من غرب القارة قوافل عديدة
على رأسها ملوك هذه البلدان، الذين كانوا يحرصون على أداء هذه
الفريضة رغم ما كانوا يتكبدونه من مشاق ومتاعب، نظرًا لطول
الطريق ومخاطره ووعورته، لكنهم كانوا يخرجون فى رحلة قد
تستغرق عامًا أو عامين ويلتقون فى موسم الحج بإخوانهم المسلمين
على اختلاف بلادهم وألسنتهم وألوانهم، فيشعرون جميعًا بالأخوة
الإسلامية، ويشعر الإفريقى بانتمائه إلى عالم إسلامى واسع،
وبأخوته لمسلمى ذلك العالم، فتتحطم الحواجز العرقية والقبلية
واللغوية والاجتماعية، ويصبح الجميع شعبًا واحدًا يتكلمون بعبارات
واحدة، ويتجهون إلى قبلة واحدة، ومن ثم أصبح خروج المسلمين من
غرب إفريقيا ووسطها وشرقها جماعات وفرادى إلى الحج،
واتصالهم بالشعوب الإسلامية المختلفة فى بلاد الحجاز أو أثناء رحلة
الذهاب والعودة تأكيدًا لروح الأخوة الإسلامية التى فرضها الإسلام،
فيعود هؤلاء الأفارقة ممتلئين بالحماسة لنشر هذا الدين، وَوَقْف
جهودهم على إعلاء شأنه فى بلادهم وما جاورهم من البلاد الوثنية،
خاصة أن هؤلاء الحجاج كانوا يعودون محملين بالكتب الدينية التى
تزيد من علم الأفارقة وثقافتهم كما كانوا يعودون أحيانًا مصحوبين
ببعض الدعاة والفقهاء والتجار من غير الأفارقة، مما كان له أثره
فى نشر الإسلام، لاسيما وأنهم كانوا يقومون بإنشاء المدارس لتعليم
اللغة العربية وتحفيظ القرآن الكريم ونشر الإسلام بين الوثنيين، ونشر
عقائده الصحيحة بين المسلمين الأفارقة.
وكان المسلمون الجدد من هؤلاء الأفارقة يرون ارتفاع المكانة
الاجتماعية لإخوانهم وأقربائهم من الذين أدوا هذه الفريضة، فيقدمون
هم الآخرون عليها، ولذلك تعددت قوافل الحج التى كانت تخرج من
هذه البلدان، والتى كانت تضم آلافًا مؤلفة وعلى رأسها الملوك
والحكام فى أحيان كثيرة.
ومن أشهر الملوك الذين أدوا هذه الفريضة من حكام إفريقيا «منسا
موسى» سلطان «مالى الإسلامية» ، الذى خرج إلى الحج من هذا
المكان النائى فى غرب القارة على رأس موكب كبير تحدث عنه
المؤرخون، وذلك فى عام (723هـ = 1323م) إذ كان موكبه يضم أكثر
من عشرة آلاف حاج، وكان يحمل معه كميات كبيرة من الذهب الخام،
أهدى منه إلى سلطان «مصر» وأمرائها وموظفيها، كما أفاض منه
على فقراء «مكة» و «المدينة» ، ومَنَحَ عن سعة حتى قيل إن قيمة
الذهب انخفضت فى «مصر» انخفاضًا ملحوظًا لكثرة ما أنفقه فيها.
كذلك تحدثنا المصادر بأن ملوك «سلطنة صنغى الإسلامية» التى
خلفت سلطنة «مالى» فى غرب إفريقيا قاموا بأداء هذه الفريضة،
ومن أشهرهم السلطان «أسكيا محمد الأول» فى عام (495هـ =
1101م)، وقد أدى بعض سلاطين «الكانم» و «البرنو» الذين كانت
دولتهم تقوم حول «بحيرة تشاد» الحج ثلاث مرات، وبعضهم تُوفِّى
أثناء الذهاب أو العودة ودفن فى «مصر» . وكان حكام بلاد
«السودان النيلى» ، و «الصومال» و «الحبشة» وشرق إفريقيا بصفة
عامة يؤدون هذه الفريضة فى سهولة ويسر، نظرًا لقربهم من بلاد
«الحجاز» ، وكانوا يحرصون على ذكر لقب الحاج قبل أسمائهم مثلما
كان يفعل إخوانهم فى شمال إفريقيا وغربها، حتى السلاطين
أنفسهم؛ مما يدل على أهمية هذه الشعيرة لديهم، وعلى أن تأثيرها
فى نفوسهم كان قويا، ولذلك كانوا يعودون من هذه الرحلة ممتلئين
حماسة للإسلام ولنشره بين من لم يعتنقه من الوثنيين فى بلادهم
وقراهم.
4 -
الهجرات:
كان لتحركات القبائل وهجراتها سواء أكانت عربية أم بربرية أم
سودانية وزنجية دور كبير فى نشر الإسلام وثقافته، واللغة العربية
وثقافتها فى القارة الإفريقية.
ومن أهم هذه الهجرات هجرات العرب إلى بلدان القارة المختلفة،
وكانت «مصر» هى القاعدة والمنطلق الذى انطلقت منه هذه الهجرات
العربية غربًا إلى شمال إفريقيا، وبلاد «النوبة» و «السودان» ، فقد
هاجرت جماعات عربية من «ربيعة» و «جهينة» و «بلى» إلى «أرض
البجة» منذ منتصف القرن السابع للميلاد، ونجحوا فى نشر الإسلام
بين الأهالى، ودفعت شهرة «وادى العلاقى» الذى يقع فى الصحراء
الشرقية بين «أسوان» و «البحر الأحمر» بالذهب والزمرد إلى جذب
جماعات كبيرة من «ربيعة» و «جهينة» منذ عام (238هـ = 852م) إلى
هذه المنطقة، حيث استقر العرب هناك وتزاوجوا مع «البجة» وأقاموا
إمارة عربية مدت نفوذها إلى «أسوان» وشمال «بلاد النوبة» ؛ حيث
صاهروا حكام مملكة «مَقُرة» النوبية المسيحية، ونتج عن ذلك انتقال
الحكم إلى هؤلاء العرب من الذين عرفوا باسم «بنى كنز» نسبة إلى
لقب كان قد أطلقه أحد الخلفاء الفاطميين فى «مصر» على أحد
أمرائهم نظير مساعدته لهذا الخليفة فى القضاء على أحد الثائرين
والخارجين على دولته فى صعيد «مصر» . وتطورت أحوال «بنى
كنز» هؤلاء حتى استطاعوا أن يقيموا دولة «بنى كنز» العربية فى
«بلاد النوبة» واتخذوا «دنقلة» عاصمة لهم منذ عام (723هـ = 1323م).
وبقيام هذه الدولة انفتح باب الهجرة العربية على مصراعيه، فهاجرت
قبائل عربية كثيرة إلى وسط «السودان» ، وأقاموا بين نهرى «النيل
الأبيض» و «الأزرق» ، وتحالفوا مع قبائل سودانية تسمى «الفونج» ،
واستطاعوا أن ينشئوا معًا دولة إسلامية أخرى هى دولة «الفونج»
التى كانت عاصمتها «سنار» ، وذلك عام (911هـ = 1505م).
كذلك هاجرت قبائل عربية كثيرة من «مصر» إلى مملكة «دارفور»
الوثنية منذ القرن الحادى عشر للميلاد، ووفدت إلى هذه المملكة
هجرات عربية أخرى من «تونس» و «شمال إفريقيا» ، واختلط هؤلاء
المهاجرون بالأهالى وصاهروا ملوك «دارفور» ، ونتج عن هذه
المصاهرة انتقال الحكم إليهم، فأصبحت «دارفور» سلطنة عربية
إسلامية منذ عام (849هـ = 1445م).
كذلك تواصلت الهجرات العربية إلى بلاد «الزيلع» و «الحبشة» ، وهى
المنطقة التى تعرف الآن باسم منطقة القرن الإفريقى. ومنها هجرة
«ود بن هشام المخزومى» فى عصر «عمر بن الخطاب» - رضى الله
عنه - وقد تبع ذلك هجرات عربية استقرت على طول ساحل هذه
المنطقة، وأقامت فى المدن الساحلية التجارية، مثل «سواكن»
و «باضع» (مصوع) و «زيلع» و «بربرة» ، وانطلقت إلى الداخل وسكنت
مع الأهالى واشتغلت بالتجارة والزراعة والرعى، وازداد عددها حينًا
بعد حين حتى تمكنت من إقامة سلطنات إسلامية، مثل «سلطنة شوا»
و «سلطنة أوفات» و «سلطنة عدل» الإسلامية.
وقد ازدادت هجرات العرب على ساحل شرق إفريقيا وأنشئوا مراكز
تجارية بطول هذا الساحل، حتى قال بعض المؤرخين إنهم أنشئوا
ستا وثلاثين مدينة، بدءًا من «مقديشيو» فى «الصومال» وحتى
«سوفالة» جنوب نهر «الزمبيزى» فى «موزمبيق» .
ومن أشهر هذه الهجرات هجرة «سليمان» و «سعيد» ابنى «عباد بن
عبد بن الجلندى»، وكانا ملكين فى «عُمان» ، واضطرتهما ظروف
القتال مع «الحجاج بن يوسف الثقفى» ، الذى أراد أن يفرض نفوذه
على «عمان» بالقوة المسلحة، إلى ترك وطنهما والاتجاه فى سفن
إلى ساحل شرق إفريقيا؛ حيث وصلا ومن معهما من رجال وجند
وأهالى إلى جزر «أرخبيل لامو» التى تقع فى دولة «كينيا» الآن،
وذلك فى الفترة (75 - 85هـ = 694 - 704م)، واستقروا هناك وأنشئوا
إمارة صغيرة كان لها أثرها فى نشر الإسلام بين الأهالى الموجودين
فى تلك المنطقة.
كذلك هاجر بعض الشيعة الزيدية إثر مقتل إمامهم «زيد بن على زين
العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب» - رضى الله عنهم
أجمعين - فى عام (122هـ= 741م) على يد الخليفة الأموى «هشام بن
عبدالملك»، فاضطر أتباعه بعد مقتله إلى الهجرة خوفًا من اضطهاد
الحكام لهم، فوصلوا إلى ساحل «بنادر» بالصومال، وأقاموا هناك
نحو مائتى عام أرسوا فيها قواعد الإسلام والثقافة الإسلامية بين
الصوماليين.
ولم تلبث أن وفدت هجرة أخرى إلى هذا المكان نفسه تعرف باسم
هجرة الإخوة السبعة، جاءت من «الأحساء» فى عام (292هـ = 904م)
ووصلت إلى ساحل «بنادر» بالصومال، بعد أن ضاق بهم المقام فى
منطقة الخليج؛ نتيجة لصراعات سياسية ومذهبية، وكان هؤلاء الإخوة
من قبيلة «الحارث» العربية، ولما وصلوا إلى هذا الساحل استطاعوا
أن يطردوا الزيدية إلى الداخل. وأن ينشئوا مدينة «مقديشيو» فى
عام (295هـ= 907م) ويتخذوها عاصمة لدولتهم التى أقاموها هناك،
والتى كانت تعرف باسم «سلطنة مقديشيو الإسلامية» . وبذلك ظهر
إلى الوجود مركز إسلامى كبير كان له أثره القوى فى نشر الإسلام
لا بين الصوماليين فحسب، بل بين كثير من سكان شرق إفريقيا كله.
وقد أعقب تلك الهجرة هجرة شيرازية فارسية أتت من «شيراز»
بإيران، كان على رأسها أمير يدعى «على بن حسن بن على
الشيرازى»، وذلك فى عام (365هـ = 975م) نتيجة خلافات وقعت بينه
وبين إخوته فى «شيراز» ، اضطرته إلى الهجرة هو وأتباعه ورجاله
فى سبع سفن ضخمة إلى شرق إفريقيا؛ حيث استقر بهم المقام فى
جزيرة «كلوة» التى تتبع دولة «تنزانيا» الآن، واستطاع أن يؤسس
سلطنة إسلامية تسمى «كلوة» ، ظل يحكمها هو وأحفاده نحو قرنين
من الزمان حتى أتت هجرة عربية أخرى من «اليمن» من «بنى الحسن
بن طالوت المهدلى»، وحكمت هذه السلطنة، ومن ثم تغلبت الصبغة
العربية فيها على الصبغة الشيرازية الفارسية واستمرت هذه السلطنة
قائمة حتى جاء البرتغاليون وتغلبوا عليها فى عام (911هـ =
1505م).
ونتيجة لهذه الهجرات العربية المتتابعة انتشر الإسلام واللغة العربية
بين السكان المحليين فى منطقة «القرن الإفريقى» ، وفى منطقة
الساحل الشرقى لإفريقيا، وكذلك فى الجزر المواجهة لهذا الساحل،
مثل «جزيرة زنجبار» ، و «جزر القمر» ، و «جزيرة مدغشقر» (مالاجاش
الآن) وغيرها من الجزر، وتكوَّن عالم إسلامى واضح المعالم
والقسمات، نشأت فيه دول وسلطنات إسلامية ظلت موجودة حتى
اصطدمت بالبرتغاليين والأحباش، ثم بالاستعمار الأوروبى فى العصر
الحديث.
كذلك خرجت هجرات عربية من «مصر» فى اتجاه الغرب إلى بلاد
المغرب العربى منذ عصر الفتوحات الإسلامية فى القرن الأول للهجرة،
وظلت هذه الهجرات تتتابع حتى القرن الخامس للهجرة؛ حيث نزح من
«مصر» إلى هناك «بنو هلال» و «بنو سليم» ، ولاشك أن الحكم
العربى الإسلامى لهذه البلاد بالإضافة إلى هذه الهجرات قد أديا فى
النهاية إلى تعريب أهل البلاد الأصليين، فانتشرت بينهم اللغة العربية
وأصبحت لسانهم، وغدت هذه البلاد بلدانًا عربية إسلامية، وقد
انطلقت من هذه البلاد هجرات عربية لكنها كانت قليلة العدد قليلة
الأفراد، اتجهت جنوبًا إلى الصحراء الكبرى ومنها إلى حوض «نهر
السنغال» و «النيجر» ، وحوض «بحيرة تشاد» مثل «بنى جذام»
و «بنى حسان» و «بنى معقل» و «أولاد سليمان» و «جهينة» وغيرهم،
واستقرت هذه القبائل هناك ولاتزال توجد إلى الآن بعض هذه القبائل
التى تحتفظ بأصولها العربية، ولكن نظرًا لقلة هذه الهجرات وقلة عدد
أفرادها فإنها لم تؤدِّ إلى انتشار اللغة العربية بين الأهالى هناك،
وكانت لغة العلم والتعليم والتجارة والوثائق الرسمية للدولة فقط،
ولما جاء الاستعمار الأوربى إلى هذه البلاد حارب هذه اللغة وحارب
الإسلام بكل ما يستطيع من قوة، ولايزال يحاربه رغم الاستقلال.
وإذا كان العرب قد هاجروا إلى البلدان الإفريقية فى مختلف أنحاء
القارة، وكان لهم أثرهم الكبير فى نشر الإسلام ولغته وثقافته،
وكذلك فى إقامة سلطنات إسلامية، فقد كان لهجرات البربر أثر كبير
أيضًا فى هذه الميادين، وخاصة «بربر صنهاجة» ، الذين كانوا
يسكنون الصحراء الكبرى، واستطاعوا نتيجة لجهود داعية عظيم
أشرنا إليه وهو الشيخ «عبدالله بن ياسين الجزولى» أن يقيموا
«دولة المرابطين» منذ عام (448هـ = 1056م)، وأن يضموا إليها «بلاد
المغرب الأقصى» و «بلاد الأندلس» ، ثم «مملكة غانة» الوثنية، وانطلق
دعاتهم بين أهالى «غانة» و «السودان الغربى» ينشرون الإسلام،
كذلك وفد كثير من قبائل البربر الأخرى إلى هذه البلاد مهاجرين
إليها، واستقروا فيها وأنشئوا المدن والمراكز التجارية مثل مدينة
«أودغشت» ومدينة «تمبكت» وغيرهما.
كما هاجرت قبائل من البربر منذ ما قبل الإسلام إلى حوض «بحيرة
تشاد» وأقامت دولة تسمى «دولة الكانم والبرنو» ، ولم يلبث ملوك
هذه الدولة أن اعتنقوا الإسلام فى أواخر القرن الحادى عشر للميلاد،
وظلوا يحكمون هذه البلاد وينشرون الإسلام فيها حتى القرن التاسع
عشر.
كذلك كان لهجرات النوبيين والصوماليين والجلا والأعفار والزنوج أثر
كبير فى نشر الإسلام فى منطقة «القرن الإفريقى» ، وفى «ساحل
شرق إفريقيا»، وكانت هذه الهجرات وراء توسع السلطنات الإسلامية
التى قامت فى هذه المنطقة، وساعدتها فى رد عدوان الأحباش على
المسلمين فى منطقة «القرن الإفريقى» وخاصة فى القرن السادس
عشرالميلادى.
5 -
الطرق الصوفية:
ارتبط نشاط الدعوة إلى الإسلام لاسيما فى غرب إفريقيا وشرقها
بانتشار الطرق الصوفية، وخاصة بين المشتغلين بالتجارة، وكانت
هذه الطرق قد بزغ نجمها فى الأفق منذ أن تعرض العالم الإسلامى
لخطر الإستعمار الأوروبى الحديث بدءًا من القرن السادس عشر
الميلادى، واستطاعت الطرق الصوفية أن تُسهم إسهامًا كبيرًا فى
الدعوة إلى مقاومة الاستعمار، وكذلك فى الدعوة إلى الوحدة
الدينية، وفى نشر الإسلام بين من لم يعتنقه، ونتيجة لذلك جذبت هذه
الطرق إليها كثيرًا من الشباب الأفارقة.
ففى شرق إفريقيا وبلاد «سودان وادى النيل» ظهرت «الطريقة
الميرغنية» فى القرن التاسع عشر للميلاد والتى كان لها تأثيرها
الكبير على الناس هناك، وكانت قد ظهرت قبلها بعدة قرون «الطريقة
القادرية والشاذلية والرفاعية»، وانتشر أتباع هذه الطرق على طول
الساحل الشرقى لإفريقيا، وفى الجزر المواجهة له وكذلك فى
المناطق الداخلية.
وفى سنة (1253هـ = 1837م) ظهرت فى شمال إفريقيا الطريقة
السنوسية على يد الفقيه الجزائرى «محمد بن على السنوسى» ، الذى
استطاع أن يقيم دولة دينية فى الأراضى الليبية، دون أن يريق قطرة
دم واحدة، وتمكنت هذه الطريقة من خلال أتباعها وزواياها التى
انتشرت فى إفريقيا جنوب الصحراء أن تنشر الإسلام بين العديد من
القبائل الإفريقية الوثنية، مثل قبيلة «بيلى» التى كانت تسكن منطقة
«إنيدى» شرق «بوركو» فى شمال «نيجيريا» ، وعمّقت الإسلام بين
جماعات «التِّدَا» فى شمال «بحيرة تشاد» .
وكان للسنوسيين فضل كبير فى نشر الإسلام فى «واداى» ، التى
تقع شرق «بحيرة تشاد» ، وبين قبائل «الجلا» فى «الحبشة» ؛ حيث
كانوا يشترون العبيد أو الأطفال ثم يحررونهم ويرسلونهم إلى مركز
الطريقة الرئيسى فى «واحة جغبوب» فى الصحراء الكبرى بين
«مصر» و «ليبيا» ، فيتعلمون ثم يعودون إلى بلادهم دعاة للإسلام.
كذلك كان لأتباع «الطريقة القادرية» التى انتشرت فى شمال إفريقيا
وغربها أثر كبير فى نشر الإسلام فى هذه البلاد، فقد اتخذ أتباعها
من مدينة «ولاتة» بموريتانيا أول مركز لهم فى تلك البلاد منذ القرن
الخامس عشر الميلادى ثم لجئوا إلى «تمبكت» ، وانتشر أتباعهم
ودعاتهم فى أنحاء «السودان الغربى» ، وكذلك فى منطقة «القرن
الإفريقى» وساحل «شرق إفريقيا» ، ووصل أتباعها فى الداخل
حتى «الكونغو» ، وكان أتباع هذه الطريقة يقومون بتأسيس المدارس
لتعليم الدين ونشر الإسلام، ويرسلون نوابغ الطلاب إلى مدارس
«القيروان» و «تونس» و «فاس» و «الأزهر» ، وغيرها، فإذا ما أتموا
دراستهم عادوا إلى أوطانهم دعاة للإسلام.
ومن الطرق الأخرى التى انتشرت فى القارة «الطريقة التيجانية» التى
أنشأها «أبو العباس أحمد بن محمد المختار بن سالم التيجانى»
المتوفى عام (1231هـ = 1815م)، وقد قام أتباعه بنشر هذه الطريقة
بين رجال القوافل والتجار، فانتشرت تعاليمها فى حوض «السنغال»
وفى «تمبكت» وفى سائر أنحاء غرب إفريقيا، وظهرت هذه الطريقة
أيضًا فى «السودان النيلى» وشرق إفريقيا على يد بعض التيجانية
القادمين من غرب إفريقيا. وقد انخرط فى سلك هذه الطريقة علية
القوم فى «الحبشة» ، مثل سلطان «جمة» «أبى جفار» ، و «الرأس
على» نائب الإمبراطور الحبشى، وعمل هذان الرجلان على نشر
الإسلام بين الوثنيين من الأحباش، ونجحا فى ذلك نجاحًا عظيمًا
فتحول معظم سكان الولايات الوسطى والشمالية فى «الحبشة» إلى
الإسلام.
6 -
طبيعة الإسلام:
ذلك أن الإسلام لم يُفرض كما رأينا على الشعوب الوثنية الإفريقية
فرضًا، إنما حمله قوم من أهل إفريقيا نفسها، اتخذوا صفة التجار أو
المعلمين أو الدعاة أو الصوفية، فليس غريبًا أن يلقى قبولا منهم،
فهو فى نظرهم دين إفريقى غير دخيل، والدعوة إليه تتم بالطرق
السلمية وليس بالغزو المسلح كما فعل الاستعمار الأوربى فى العصر
الحديث.
كما أن الإسلام لم يستعبد هذه الشعوب، إنما أشعرها بالعزة
والكرامة، فخلق منها دولا كبرى وقوى فيها النزعة إلى الحرية
والاستقلال، ولم يقضِ على نظمها المحلية بل تواءم معها وخلق منها
ومن تقاليده تقاليد إسلامية الطابع إفريقية الروح.
ومن ثم تقَبَّله الأفارقة، خاصة أن الإسلام لم يكن دينًا أخرويا فحسب،
وإنما كان دينًا وحضارة تقوم على أساس تعمير الدنيا والفوز
بالآخرة، ومن ثم لزم أن يَنشر الإسلام نور العلم والثقافة بين أتباعه
ومعتنقيه، فارتبط الإسلام بالعلم والتعليم منذ البداية، وكان الإفريقى
لا يكاد يسلم حتى يتعلم القراءة والكتابة ويرتفع قدره اجتماعيا كلما
زادت ثقافته، ولذلك سمعنا عن عدد كبير من العلماء الأفارقة الذين
ظهروا فى مختلف ميادين العلم والثقافة، ولم يكونوا فى ذلك أقل
من إخوانهم علماء المغاربة أو المشارقة، زد على ذلك أن الإسلام لم
يعترف بالتفرقة العنصرية، فهو لايعرف حواجز الطبقات أو العرق أو
اللون، ولا يميز بين إنسان وآخر على أساس اللون أو الثروة، لأن
معيار التفاضل فى الإسلام هو التقوى والعمل الصالح، ولذلك أقبل
الأفارقة على اعتناقه، فوحَّد بينهم وقضى على عناصر الفرقة
والتشرذم، كما وحد بينهم لغويا؛ إذ انتشرت اللغة العربية بين كثير
من شعوب القارة، وصارت هى أداة الفكر والعلم والمخاطبة، أما
الشعوب التى احتفظت بلغاتها، فقد كانت العربية هى وسيلة العلم
والتعامل كما كانت اللغة الرسمية، لأن اللغات الإفريقية لم تكن لغات
مكتوبة.
وكما وحَّد الإسلام بينهم دينيا وحد بينهم سياسيا وقضى على
التشرذم القبلى والنزاعات القبلية، وأنشأ دولا كبرى، بل
إمبراطوريات عظمى مثل «إمبراطورية مالى» ، التى ضمت معظم
منطقة غرب إفريقيا بالكامل، وكانت مساحتها تفوق مساحة دول
غرب أوربا مجتمعة، ليس هذا فحسب بل إن الإسلام جعل الإفريقى
يشعر بانتمائه ليس إلى بلاده فقط بل إلى عالم إسلامى واسع،
يستطيع أن ينتقل بين أرجائه سواء كان تاجرًا أو حاجا أو طالب
علم، وفى كل مكان يجد هذا الإفريقى القوت والمأوى والمساعدة
والاستقبال الودود، على أساس من أخوة الإسلام التى جمعت بين
أفراد هذا العالم الإسلامى الواسع، الذى يمتد من الصين شرقًا حتى
المحيط الأطلسى غربًا، ومن هنا اعتبر الأفارقة الإسلام دينًا إفريقيا
قام بنشره بينهم قوم منهم، اتخذوا الدعوة أو التجارة أو التصوف
وسيلة إلى ذلك، وطبقوا مبادئ الإسلام السمحة وأخلاقه الحميدة
وقيمه السامية من إخاء ومساواة وتكافل وتعاون، ومن ثم انتشر
الإسلام فى هذه البقاع الواسعة فى القارة، حتى إنه يمكن القول
بأن قارة إفريقيا هى القارة المسلمة الوحيدة فى عالم اليوم، على
اعتبار أن غالبية سكانها يعتنقون الإسلام. ويتبين ذلك بوضوح من
خلال حديثنا عن السلطنات والممالك الإسلامية التى قامت بالقارة
(جنوب الصحراء) فى العصور الوسطى.
الفصل الثاني
*الإسلام والدول الإسلامية فى غرب إفريقيا:
يقتضى الحديث عن الإسلام والدول الإسلامية التى قامت فى بلدان
غربى إفريقيا، التى كانت تعرف ببلاد «السودان الغربى» ؛ أن نبدأ
بإعطاء نبذة عاجلة عن انتشاره أولا بين بربر الصحراء الكبرى،
الذين كانوا يعرفون باسم «الطوارق» أو «الملثمين» أو
«الصنهاجيين» ، فهذه القبائل هى التى قامت بجهد كبير فى نشر
الإسلام فى بلاد «السودان الغربى» .
وقد انتشر الإسلام فى البداية فى شمال إفريقيا؛ بحيث لم يأتِ القرن
الثانى الهجرى حتى كانت «بلاد المغرب» قطرًا إسلاميا خالصًا
وكانت الصحراء الكبرى تحد «بلاد المغرب» من ناحية الجنوب،
ويسكنها قبائل «الطوارق» أو «الملثمين» ، ويلى هذه الصحراء «بلاد
السودان الغربى»، التى كانت بها دولة وثنية تعرف بدولة «غانة» ،
وهى من أقدم الدول التى ظهرت فى هذه البقعة النائية من إفريقيا،
ولكى يصل الإسلام إلى غربى إفريقيا كان لابد أن ينتشر أولا بين
قبائل «الطوارق» ، ثم يتسرب من خلالهم إلى دولة «غانة» الوثنية،
وقد بدأت المحاولات الأولى لنشر الإسلام بين ديار «الملثمين» فى
ولاية «عقبة بن نافع الفهرى» الثانية (60 - 63هـ) فى عهد «بنى
أمية»؛ إذ استطاع هذا القائد أن يتدفق بقواته إلى «المغرب
الأقصى»، ثم هبط جنوبًا إلى «إقليم السوس الأدنى» ، ثم واصل تقدمه
حتى وصل إلى مدينة «ماسه» بالسوس الأقصى، وأشرف على مدينة
«أغمات» ، وتوغّل فى بلاد «الملثمين» (مسوفة ولمتونة وجدالة) حتى
وصل إلى مدينة «تارودنت» ، وتذكر بعض الروايات أنه وصل إلى بلاد
«غانة» و «التكرور» .
كان «عقبة» أول من دعا «الملثمين» إلى الإسلام كأول عربى مسلم
يرتاد هذه الأقاصى، ولما جاء «موسى بن نصير» فاتح «الأندلس»
أتمَّ ما بدأه «عقبة» ، فقد وصل إلى مواطن «الملثمين» ، ودعاهم إلى
الإسلام وأنشأ مسجدًا فى مدينة «أغمات» التى غدت من أهم مراكز
الإسلام وثقافته فى «المغرب الأقصى» .
وعندما قامت «دولة الأدارسة» فى «المغرب الأقصى» (172 - 373هـ
= 788 - 983م) وحدوا بين السهول الساحلية وإقليم المراعى، كما
وحدوا بين قبائل «صنهاجة» ووجهوا أنظارهم إلى نشر الإسلام
فكانوا أشبه بالدعاة منهم بالولاة، فانتشر الإسلام فى إقليم
«الواحات» بعد أن أصبحت مضارب «الملثمين» القريبة من جبال
«أطلس» (تعرف بجبال درن) خاضعة للأدارسة وجزءًا من أملاكهم،
وقد أدَّى إسلام قبائل «الملثمين» فى القرن الثالث الهجرى، إلى
قيام حلف قوى جمع بين قبائل «صنهاجة» (لمتونة وجدالة ومسوفة)
بزعامة «لمتونة» ، وكان هذا الحلف يشير إلى موجة من التوسع صوب
الجنوب؛ لنشر الإسلام بين القبائل الزنجية بالسودان الغربى.
فقد استطاع «تيولوتان» زعيم هذا الحلف أن يحمل راية الجهاد، ودان
له معظم ملوك «السودان الغربى» ، واستولى على مدينة
«أودغشت» ، التى كانت محطة رئيسية لقوافل الصحراء، واتخذها
عاصمة له بعد أن خلصها من يد ملك «غانة» الوثنى.
تُوفِّى «تيولوتان» عام (222هـ= 836م) وتفرق الحلف الصنهاجى أثناء
حكم أحفاده عام (306هـ= 918م) واستطاعت مملكة «غانة» أن
تستعيد مدينة «أودغشت» ، واحتفظت تلك المملكة بقوتها كأعظم ما
تكون فى «السودان الغربى» ، حتى قام الحلف الصنهاجى الثانى
عام (426هـ = 1035م) بزعامة الأمير «أبى عبدالله بن يتفاوت
اللمتونى»، الذى استأنف الجهاد وحارب «غانة» وقبائل من
«السودان» ، لكنه استشهد فى موقعة «غارة» بالقرب من مدينة
«تاتكلاتين» عام (429هـ= 1038م) بعد ثلاث سنوات من حكمه، وبذلك
أخفق «الملثمون» فى استعادة «أودغشت» والسيطرة عليها مرة
أخرى.
وكان من نتيجة هذه الهزيمة أن تخلَّتْ «لمتونة» عن زعامة «الملثمين»
وخلفتها فى الزعامة قبيلة «جدالة» فى شخص «يحيى بن إبراهيم
الجدالى» الذى اتبع طريقة أسلافه فى الجهاد داخل بلاد «السودان
الغربى» لنشر الإسلام، وأسس دولته على دعوة دينية إصلاحية
رائدها فقيه مغربى مالكى يدعى «عبدالله بن ياسين» فامتد بذلك
نفوذ المذهب المالكى من «القيروان» إلى «المغرب الأقصى» ثم
تخطى حدود هذا الإقليم نحو الجنوب وانتشر فى بلاد «السودان
الغربى».
وبعد موت الأمير «يحيى بن إبراهيم» أصبح «عبدالله بن ياسين» بلا
معين، وفقد الحماية التى كان يبسطها عليه زعيم «جدالة» ورئيس
الحلف الصنهاجى، وأصبح وجوده غير مرغوب فيه، لتشدده فى
تنفيذ التعاليم الإسلامية، ولاختياره «يحيى بن عمر اللمتونى» خلفًا
ليحيى بن إبراهيم الجدالى، فنقل الزعامة بذلك من «جدالة» إلى
«لمتونة» .
لهذا كله رحل «ابن ياسين» إلى بلاد «السودان الغربى» وأقام رباطًا
أو رابطة هناك فى أحد الأودية على حافة الصحراء الجنوبية قرب
مضارب «لمتونة» ، ناحية مصب «نهر السنغال» وتبعه كثير من الذين
آمنوا بدعوته، ولما ازدادت قوته قام يجاهد قبائل البربر ويدعوهم
إلى تنفيذ تعاليم الإسلام الحقَّة ومعه «يحيى بن عمر» وأخوه «أبو
بكر بن عمر اللمتونى»، لكن «يحيى» استشهد عام (448هـ =
1056م)، فأخذ «ابن ياسين» البيعة لأخيه «أبى بكر» وأقامه مكانه،
وتوجَّه لقتال «برغواطة» عام (451هـ = 1059م) حيث استشهد «ابن
ياسين» من جراح أصابته.
وبعد أن فرغ «أبو بكر» من السيطرة على قبائل «الملثمين» وأعاد
الأمن إلى الصحراء رأى أن يوجه جهوده لمحاربة الوثنيين فى بلاد
السودان الغربى».
وكان «ابن ياسين» قد انتزع مدينة «أودغشت» من ملك «غانة» بل
وجاوزها إلى ناحية الجنوب فاتخذها الأمير «أبو بكر» مرتكزًا له فى
جهاده ضد ملك «غانة» ، وبعد جهاد دام أكثر من خمس عشرة سنة
استولى «أبو بكر» على القسم الأكبر من مملكة «غانة» وضمه إلى
دولته.
ثم رحل هذا الأمير بعد ذلك إلى الشمال فى عام (464هـ = 1072م)
قاصدًا «مرَّاكش» التى كان قد بناها عام (454هـ = 1062م)، وتم
الصلح بينه وبين ابن عمه «يوسف بن تاشفين» على أساس أن يترك
«أبو بكر» لابن تاشفين بلاد «المغرب الأقصى» ، وأن يعود هو إلى
الصحراء مؤثرًا وحدة الصف، متجنبًا سفك الدماء، وكرس كل جهوده
للتوسع فى بلاد «السودان» ونشر الإسلام بين قبائله، وكان هدفه
هذه المرة هو إسقاط إمبراطورية «غانة» الوثنية التى أصبحت دولة
«غانة» الإسلامية فيما بعد.
دولة غانة الإسلامية [469 - 600 هـ = 1076 - 1203م]:
«غانة» التى نقصدها بهذا الحديث ليست هى «غانا» التى تقع اليوم
فى أقصى الجنوب من غرب إفريقيا وعاصمتها «أكرا» وإنما هى
التى تقع بين منحنى «النيجر» و «نهر السنغال» ، وتضرب حدودها
فى جنوبى «موريتانيا» الحالية، وكانت عاصمتها مدينة تُسمَّى
«كومبى» وتقع على بعد (200) ميل شمال «باماكو» عاصمة دولة
«مالى» الحالية.
وكانت غانة القديمة متسعة النفوذ والسلطان حتى قيل عنها: إنها
كانت إمبراطورية خضع لها معظم بلاد «السودان الغربى» فى النصف
الأول من العصور الوسطى. وتعد هذه الدولة أو الإمبراطورية من أقدم
ممالك غربى إفريقيا شمال نطاق الغابات، ويرجع تاريخ نشأتها إلى
الفترة مابين القرن الثالث والرابع الميلاديين، ويبدو أن كلمة «غانة»
كانت لقبًا يطلق على ملوكهم، ثم اتَّسع مدلول هذا الاسم حتى أصبح
يطلق على العاصمة والإمبراطورية. وقد قامت هذه الدولة على يد
جماعة من البيض وفدوا من الشمال، وكان أول ملوكهم المدعو
«كازا» قد اتَّخذ مدينة «أوكار» قرب «تمبكت» الحالية عاصمة له،
وكان الشعب يتكون من قبائل «السوننك» ، وهى أحد فروع شعب
«الماندى» الذى يسكن معظم نواحى غرب إفريقيا.
واستطاعت هذه الدولة منذ أواخر القرن الثامن الميلادى، وبعد أن
انتقل الحكم إلى فرع «السوننكى» - أن تُخضِع بلاد «فوتا» حيث
التكرور والولوف والسرير، ووصل هذا التوسع إلى نهايته القصوى
فى مستهل القرن الحادى عشر للميلاد، فأصبحت «غانة» تسيطر
على المسافات الممتدة من أعالى «نهر السنغال» وأعالى «نهر
النيجر»، وامتد نفوذها إلى موقع «تمبكت» شرقًا وبلاد «التكرور»
أو «السنغال» غربًا، وينابيع نهر «النيجر» جنوبًا، وأغلب الصحراء
الغربية (موريتانيا حاليا) شمالا، وانتقلت عاصمتها إلى مدينة
«كومبى» أو «كومبى صالح» وهى نفسها مدينة «غانة» .
وقد اعتمدت إمبراطورية «غانة» على التجارة كمصدر رئيسى فى
اقتصادها خاصة تجارة الذهب، حتى صارت تعرف ببلاد الذهب،
وأصبح ملوك «غانة» من أغنى ملوك الأرض؛ بفضل سيطرتهم على
الطرق المؤدية إلى مناجم الذهب والتى كانت تقع فى منطقة
«وانقارة» أو «وانجارة» جنوبى مملكة «غانة» .
وقد أدَّى رواج التجارة إلى أن أصبحت «غانة» (العاصمة «كومبى
صالح») أكبر أسواق بلاد «السودان» ، ودخل الإسلام إليها سلميا عن
طريق التجار والدعاة المسلمين، ويتبين هذا من رواية «البكرى» الذى
زار هذه البلاد فى عام (460هـ = 1068م)، وذكر أن مدينة «غانة»
مدينتان يحيطهما سور، إحداهما للمسلمين وبها اثنا عشر مسجدًا،
يُعيَّن لها الأئمة والمؤذِّنون، والقضاة، أما المدينة الأخرى، فهى مدينة
الملك وتسمى بالغابة، وبها قصر الملك ومسجد يصلى فيه من يَفدُ
عليه من المسلمين. ويضيف «البكرى» أن مترجمى الملك وصاحب بيت
ماله وأكثر وزرائه كانوا من المسلمين، وهذا يدل على أن الإسلام قد
انتشر بين زنوج غربى إفريقيا لدرجة أن شعب «التكرور» بأكمله
أسلم على يد الملك «وارجابى بن رابيس» الذى توفى عام (432هـ =
1040م)، كذلك امتد الإسلام إلى مدينة «سلى» التى تقع بين
«التكرور» و «غانة» ، وإلى مدينة «غيارو» التى تبعد عن مدينة
«غانة» مسيرة (18) يومًا.
ويتحدث «البكرى» عن مملكة أخرى هى مملكة «ملل» ويقصد بها
مملكة «مالى» التى تقع جنوبى مملكة «غانة» ، ويقول: إن ملكها
يعرف بالمسلمانى لأنه أعلن إسلامه على يد أحد الفقهاء المسلمين
الذى خرج معه للاستسقاء بعد أن أجدبت البلاد وكاد الناس يهلكون،
ولما استجاب الله وهطل المطر أمر الملك بتحطيم الدكاكير (أى
الأصنام)، وأخرج السحرة من بلاده، وأسلم هو وأهله وخاصته
وحَسُنَ إسلامهم، على الرغم من أن أغلب أهل مملكته كانوا وثنيين.
ويتحدث «البكرى» أيضًا عن مدن أخرى أهلها مسلمون مثل مدينة
«كونمة» ومدينة «الوكن» ومدينة «كوكو» عند انحناءة «نهر
النيجر» تجاه بلاد «الهوسا» ، والمدينة الأخيرة مدينتان، مدينة الملك
ومدينة المسلمين، ويبدو أن ملكهم كان مسلمًا، بدليل ما يذكره
«البكرى» من أن ملكهم كان يتسلَّم عند تنصيبه خاتمًا وسيفًا
ومصحفًا، يزعمون أن أمير المؤمنين بعثها إليه. ويصرح «البكرى»
فى نهاية حديثه بأن ملكهم مسلم ولا يتولى العرش أحد من غير
المسلمين.
وحتى يسير الإسلام فى مجراه الطبيعى ويستقر بين هذه الشعوب
التى آمنت به، وحتى ينتهى دور «غانة» فى مناهضة الإسلام
والاعتداء على القبائل المسلمة كان الهدف الأساسى الذى كرَّس له
الأمير «أبو بكر بن عمر اللمتونى» زعيم «الملثمين» جهوده هو
الاستيلاء على «غانة» وإخضاعها لدولة المرابطين التى أقامها
هؤلاء «الملثمون» من قبائل صنهاجة.
وعلى الرغم من أن أغلب المصادر تغفل تفاصيل جهاد هذا الأمير فى
بلاد «السودان الغربى» فإننا نعرف أنه استطاع أن يفتح مملكة
«غانة» ، وأن يستولى على العاصمة عام (469هـ = 1076م) ويسقط
الحكومة الغانية الوثنية. ومنذ ذلك الوقت يمكن أن يؤرخ لإمبراطورية
«غانة» الإسلامية حتى اختفائها من التاريخ فى مطلع القرن الثالث
عشر الميلادى. فقد أضحت حكومتها إسلامية، ويقال إن ملكها اعتنق
الإسلام بدليل أن المرابطين تركوه فى الحكم بعد أن أعلن الخضوع
ودفع الخراج لهم. وبإسلام هذا الملك دخل عدد كبير من سكان
المملكة فى الإسلام.
ولم تستمر سيطرة المرابطين على «غانة» ؛ إذ سرعان ما تخلَّصت من
هذه السيادة على أثر اغتيال الأمير «أبى بكر» أمير المرابطين عام
(480هـ = 1087م) على يد أتباع أحد زعماء قبائل «الموسى» بجنوب
«داهومى» وانتهزت بلاد «السودان الغربى» هذه الفرصة وما تبعها
من اضطراب الجيوش المرابطية هناك بعد موت قائدها فأعلنت «غانة»
استقلالها وانفصالها عن الدولة المرابطية، ونقضت تبعيتها لها، وفى
الوقت نفسه استطاعت بعض الولايات التى كانت تابعة لإمبراطورية
«غانة» أن تنفصل هى الأخرى وتستقل فى حكمها، مثل مملكة
«أنبارة» وولاية «ديارا» و «كانياجا» ، وأصبحت ممالك مستقلة، بينما
أصبحت سلطة ملوك «غانة» لا تتعدَّى «أوكار» و «باسيكورو» مما
أضعف الدولة ومهد للقضاء عليها.
ومعنى ذلك أن فتح المرابطين لغانة لم يقض عليها تاريخيا، ولكنه
حولها إلى الإسلام، وجاءت الصدمة القاضية على الوجود التاريخى
لإمبراطورية «غانة» على يد قبائل «الصوصو» الوثنية التى استقلت
بولاية «كانياجا» كما سبق القول، وكانوا من قبل يدفعون الجزية
لحكومة «غانة» لفترة طويلة. وفى مطلع القرن الثالث عشر الميلادى
استولى أعظم أباطرة «الصوصو» وهو «سومانجورو» على العاصمة
«كومبى صالح» فى عام (600هـ= 1203م) بعد معركة طاحنة مع ملك
«غانة» الإسلامية.
وبذلك أنهى «الصوصو» سيادة الملوك الغانيين المسلمين فتفرقوا
فى البلاد، وقام زعيم «الصوصو» بالاتجاه نحو الجنوب؛ حيث توجد
دولة «الماندنجو» النامية فى «كانجابا» واستولى عليها ولكن أحد
أبناء ملك «كانجابا» ويسمى «سندياتا» أو (مارى جاطهـ) نجح فى
استرداد الأراضى التى ضاعت من أبيه، بل واستطاع أن يقضى على
«سومانجورو» نفسه وأن يضم جميع أملاك «الصوصو» إليه. وذلك
بعد موقعة حربية فاصلة (632هـ = 1235م)، وفى عام (638هـ =
1240م) نجح «مارى جاطة» فى تدمير ما بقى من «كومبى صالح»
عاصمة «غانة» ، وكان ذلك هو الفصل الختامى فى اختفاء
إمبراطورية «غانة» من مسرح التاريخ.
وعلى الرغم من أن «غانة» الإسلامية لم تعمَّر طويلا فإن أهلها
وأغلبهم من «السوننك» اشتهروا بحماسهم للإسلام وبالدعوة إليه،
حتى إن بعض العشائر السوننكية تكاد تختص بالعمل فى الدعوة
إلى الإسلام، بل إن كلمة «سوننك» فى أعالى نهر «غمبيا»
استخدمها «الماندنجو» الوثنيون مرادفة لكلمة «داعية» ، مما يدل
على الدور الكبير الذى نهض به «السوننك» فى نشر الإسلام.
ويبدو أن هذه الدفعة التى دفعها المرابطون للإسلام كانت من القوة
بحيث تركت فى تاريخ الإسلام فى غربى إفريقيا آثارًا عميقة، ذلك
أن دعاة المرابطين نشروا الإسلام فى المنطقة الواقعة بين
«السنغال» و «النيجر» وعلى ضفاف «السنغال» ، وتمخض ذلك عن
إسلام شعب «التكرور» الذى عمل بدوره على متابعة الدعوة إلى هذا
الدين الحنيف بين قبائل «الولوف» و «الفولبة» (الفولانى)
و «المندنجو» .
وفى ركاب المرابطين دخلت الثقافة الإسلامية متدفقة من مدارس
«المغرب» و «الأندلس» ، فقد وحَّد المرابطون بين «السودان الغربى»
و «المغرب» و «الأندلس» فى دولة واحدة. وفى عهدهم تم تأسيس
مدينة «تمبكت» التى أصبحت حاضرة الثقافة العربية فى غربى
«السودان» وقد أسَّسها قوم من طوارق «مقشرن» فى آخر القرن
الخامس الهجرى، وأصبحت سوقًا مهمة يؤمُّها الرحالة ويَفِدُ إليها
التجار من «مَرَّاكُش» و «السودان» .
وسرعان ما اقتفى العلماء أثر التجار فوفدوا إليها من «المغرب
الأقصى» و «الأندلس» ، بل ومن «مصر» و «توات» و «تافللت» و «فاس»
وغيرها، وأصبح مسجدها الجامع الذى يسمى مسجد «سنكرى»
جامعة إسلامية زاهرة فى هذه البقعة النائية، وامتدَّ الإسلام إلى
مدينة أخرى كان لها ما لتمبكت من أثر فى تاريخ الإسلام والثقافة
العربية، وهى مدينة «جنى» التى أسلم أهلها آخر القرن الخامس
الهجرى، وأمَّها الفقهاءُ والعلماءُ، كما انتشرت اللغة العربية بين
كثير من أهالى دولة «غانة» الإسلامية، وأصبحت لغة العبادة
والثقافة الوحيدة بالبلاد بجانب كونها لغة التجارة والمعاملات.
انتهى هذا الدور بانتشار الإسلام فى بلاد «السودان الغربى» على
نطاق واسع، وبتوطُّن الثقافة العربية فى مركزين مشهورين فى
«تمبكت» و «جنى» ، وبسقوط مملكة «غانة» الإسلامية على يد
«الصوصو» ، وورثتها مملكة «مالى» الناشئة، وبدأ دور جديد يمكن
أن نسميه دور الازدهار فى تاريخ الدول والممالك الإسلامية التى
قامت فى غرب إفريقيا فى العصور الوسطى.
وفى هذا الدور انتقلت السلطة إلى أهل البلاد الأصليين الذين دخلوا
الإسلام وتشربوا من ثقافته واقتبسوا من نظمه، وهو التطور نفسه
الذى حدث فى «المغرب» حينما انتقل السلطان إلى أهل البلاد
أنفسهم، بل شهده كل قطر دخله الإسلام وتغلغل فيه.
ومن الدول الإسلامية التى قامت من أهل البلاد الأصليين فى غربى
إفريقيا دولة «مالى» ودولة «صنغى» ودولة «الكانم والبرنو» . وهذه
الدول بعد قيامها كانت تشتغل بالحياة الإسلامية وتتخذ مظهرًا
إسلاميا واضح المعالم.
الفصل الثالث
* سلطنة مالى الإسلامية
[569 - 874هـ = 1200 - 1469 م]:
أسس هذه السلطنة شعب زنجى أصيل هو شعب «الماندنجوه» ، أو
«الماندنجو» ومعناها «المتكلمون بلغة الماندى» ، ويطلق «الفولانى»
على هذا الشعب اسم «مالى» ، ويلقبه المؤرخون العرب بلقب «مليل»
أو «ملل» ، وتقع سلطنة «مالى» بين بلاد «برنو» شرقًا والمحيط
الأطلسى غربًا وجبال البربر شمالا و «فوتاجالون» جنوبًا.
وقد اشتهرت باسم بلاد «التكرور» وهى أحد أقاليمها الخمسة التى
اشتملت عليها المملكة زمن قوتها وازدهارها، وكان كل إقليم منها
عبارة عن مملكة مستقلة استقلالا ذاتيا، لكنها تخضع لسلطان
«مالى» ، وهذه الأقاليم الخمسة حسبما ذكرها «القلقشندى»:
1 -
«مالى» ، ويتوسط أقاليم المملكة.
2 -
«صوصو» ، ويقع إلى الجنوب من «مالى» .
3 -
«غانة» ، ويقع شمال «مالى» ويمتد إلى «المحيط الأطلسى» .
4 -
«كوكو» ، ويقع شرق إقليم «مالى» .
5 -
«تكرور» ، ويقع غرب «مالى» حول «نهر السنغال» .
ولايعرف إلا القليل عن نشأة مملكة «مالى» ويتلخص فى أنه فى نحو
منتصف القرن الحادى عشر الميلادى تقريبًا اعتنق ملوك «الماندنجو»
فى «كانجابا» (مالى) الإسلام، وأنشئوا دُوَيلة صغيرة انفصلت عن
مملكة «غانة» ، وظفرت بنوع من الاستقلال الذاتى، مستغلة الصراع
الذى نشب بين المرابطين ومملكة «غانة» واستطاع ملوك «كانجابا»
أن يوسعوا مملكتهم فى أوائل القرن الثالث عشر فى اتجاه الجنوب
والجنوب الشرقى، مما أثار حفيظة ملك «الصوصو» ، الذى أخذ يعمل
للسيطرة على مملكة «كانجابا» الناشئة وكادت جهوده تكلل
بالنجاح، بعد أن استطاع القضاء على دولة «غانة» الإسلامية عام
(600هـ = 1203م)، لكن «سندياتا» ملك «كانجابا» الذى اشتهر باسم
«مارى جاطة» (627 - 653هـ = 1230 - 1255م) استطاع أن يقهر ملك
«الصوصو» ، وأن يقتله فى إحدى المعارك عام (632هـ = 1235م)
وأن يضم بلاده إليه، ثم وسَّع نفوذه شمالا واستولى على البقية
الباقية من مملكة «غانة» عام (638هـ= 1240م)، وبذلك يعتبر هذا
الملك المؤسس الحقيقى لسلطنة «مالى» الإسلامية.
وقد برزت سلطنة «مالى» فى سماء الحياة السياسية فى غربى
إفريقيا كأعظم ماتكون، واتخذت حاضرة جديدة لها، ترمز إلى الدولة
وإلى نفوذها وقوتها النامية وهى عاصمتها الجديدة «نيانى» أو
«مالى» ، بدلا من عاصمتها القديمة «جارب» ، وتقع العاصمة الجديدة
على أحد روافد «نهر النيجر» .
استمرت حركة التوسُّع بعد ذلك، ففى عهد «منسى ولى» (653 -
669هـ = 1255 - 1270م) خليفة «مارى جاطة» استولى قواده على
منطقة «وانجارة» الغنية بمناجم الذهب، كما استولوا على مدينتى
«بامبوك» و «بندو» ، ولم تتوقَّف الفتوح بعد «منسى ولى» ، إنما
استمرت فى عهد خلفائه - أيضًا - حتى وصلت الغاية فى عهد ملك
«مالى» الشهير «منسا موسى» (712 - 738هـ = 1312 - 1337م) الذى
استولت قواته على مدن «ولاته» و «تمبكت» و «جاو» فى «النيجر
الأوسط»، وبلغت دولة «مالى» الإسلامية فى عهده ذروة مجدها
وقوتها واتساعها، فقد امتدت من بلاد «التكرور» غربًا عند شاطئ
«المحيط الأطلسى» إلى منطقة «دندى» ومناجم النحاس فى «تكدة»
شرقى «النيجر» ، ومن مناجم الملح فى «تغازة» فى الصحراء شمالا
إلى «فوتاجالون» ومناجم الذهب فى «نقارة» جنوبًا، كما شملت
الحدود الجنوبية منطقة الغابات الاستوائية.
وتقدر مساحة «مالى» زمن السلطان «منسا موسى» بمساحة كل دول
غربى أوربا مجتمعة، وتعتبر «مالى» من أعظم الإمبراطوريات فى
القرن الرابع عشر الميلادى، وفاقت شهرتها دولة «غانة» ؛ من حيث
العظمة والقوة والثروة والاتساع والشهرة، فقد ضمَّت داخل حدودها
مناجم الذهب والملح والنحاس، وتحكَّمت فى طرق القوافل بين هذه
المناجم شمالا وجنوبًا، ونتج عن ذلك ثراء جم، يظهر ذلك من وصف
«ابن بطوطة» و «الحسن الوزَّان» لهذه المملكة.
لكن ما كادت الدولة تبلغ الغاية فى القوة حتى بدت عليها مظاهر
الضعف؛ فأَغرق الملوك فى الترف، وفقدوا الروح العسكرية، وبدأت
أقاليمها تستقل عنها واحدًا بعد الآخر؛ فاستقلَّت «جاو» واستولى
«الطوارق» على «أروان» و «ولاته» و «تمبكت» ، وبدأ «الولوف»
و «التكرور» يُغيرون عليها من الغرب، ودولة «الكانم» من الشرق
واستقلّت إمارة «صنغى» التى ورثت مملكة «مالى» وتبوأت مكانتها
فى غرب القارة فيما بعد.
وقد بلغ ضعف مملكة «مالى» الغاية فى القرنين الخامس عشر
والسادس عشر الميلاديين حين استنجدوا فى عام (886هـ = 1481م)
بالعثمانيين، الذين كانوا قد استقروا بالمغرب، ثم بالبرتغاليين الذين
كانوا قد أنشئوا لهم مستعمرة على ساحل إفريقيا الغربى، فلم
يستجب لهم أحد، وكان «سُنِّى على» سلطان دولة «صنغى»
الإسلامية والمؤسس الحقيقى لها قد أوغل فى سلطنة «مالى» فلم
يترك بلدًا ولا مدينة فى النصف الشمالى منها إلا حاربه بما فى ذلك
مدينة «مالى» نفسها، واحتل «تمبكت» عام (873هـ = 1469م)، ونرى
عهد قوة إمبراطورية «مالى» ينتهى فى العام الذى سقطت فيه
«تمبكت» فقد أخذت الإمبراطورية تفقد أقاليمها واحدًا إثر الآخر حتى
أصبحت فى منتصف القرن السابع عشر الميلادى مجرد دُوَيلة صغيرة
فى «كانجابا» كما كانت من قبل. وظلَّت هذه الدولة قائمة حتى
ابتلعها الفرنسيون فى عام (1316هـ = 1898م)، بعد أن هزموا آخر
زعيم أراد أن يعيد مجد دولة «مالى» الإسلامية، ويوحد شعب
«الماندنجو» وهو «سامورى التورى» ، ورغم جهاده المستمر فإن
الفرنسيين قضوا عليه فى العام نفسه، ونفوه إلى «جابون» ؛ حيث
مات هناك فى عام (1318هـ = 1900م).
وقد استطاعت دولة مالى تحقيق كثير من المظاهر الإسلامية.
وأول هذه المظاهر، اتصالها بالقوى الإسلامية المختلفة، وإظهارها
لروح الأخوة الإسلامية، وقد ظهر هذا فى سفر سلاطين هذه المملكة
إلى مكة لأداء فريضة الحج وزيارة «مصر» فى طريقهم إلى «مكة» ،
وقد بدت هذه الظاهرة منذ فجر الدولة؛ إذ أشار «القلقشندى» إلى
خروج «منساولى بن مارى جاطة» إلى الحج فى عهد السلطان
«بيبرس» ، وتطورت الصلات بين «مالى» و «مصر» فى عهد السلطان
«منسا موسى» الذى يعد موكبه من أروع مواكب الحج التى وفدت
على «مصر» فى القرن الثامن الهجرى.
وقد قدَّر بعض المؤرخين عدد من جاء فى ذلك الموكب بعدة آلاف،
وقالوا إن السلطان حمل خمسين ألف أوقية من الذهب وزَّع أكثرها
على الناس فى صورة هدايا أو صدقات فى «مصر» و «الحجاز» ، وقد
بعث إلى الخزانة السلطانية فى «القاهرة» بحمْل كبير من الذهب،
وقد أكرمه سلطان «مصر» وبعث إليه بالخِلع وزوَّده بما يحتاج إليه
فى سفره إلى «مكة» من الجمال والمتاع والمئونة.
وكان السلطان «منسا موسى» قد بعث قبل مجيئه إلى «مصر» كتابًا
إلى السلطان المملوكى «الناصر محمد» خاطبه فيه بما يدل على
التقدير والإخاء، وبعث إليه بخمسة آلاف مثقال من الذهب، مما يدل
على عمق الصلات الطيبة وروح الأخوة الإسلامية بين القاهرة وغربى
إفريقيا، تلك الصلات التى نشأت عنها علاقات ثقافية وتجارية
واسعة وقد انتهز السلطان «منسا موسى» فرصة وجوده فى
«مصر» ، فابتاع جملة من الكتب الدينية ليوفر لأهل بلاده طرفًا من
الثقافة الإسلامية المتفوقة فى «مصر» وقتئذٍ وتبع ذلك رحيل كثير
من علماء «مصر» إلى «مالى» ، ورحيل علماء «مالى» إلى «مصر» ؛
حيث كان لهم رواق فى الأزهر يقيمون فيه يسمى «رواق التكرور» .
ولم تقتصر العلاقات على «مصر» وحدها، بل كان لسلاطين «مالى»
علاقات طيبة أيضًا بملوك «المغرب» وترجع العلاقات بين الطرفين
إلى زمن بعيد، فيذكر «ابن عذارى» مؤرخ «المغرب» و «الأندلس»
الشهير فى كتابه «البيان المغرب فى أخبار الأندلس والمغرب» بعض
الهدايا التى كان يرسلها ملوك «السودان الغربى» فى القرنين الرابع
والخامس الهجريين إلى ملوك «بنى زيرى» فى «تونس» ، أما سلطان
مملكة «مالى» «منسا موسى» فقد أرسل إلى السلطان «أبى الحسن
المرينى» يهنئه باستيلائه على «تلمسان» ، كما بعث بالسفراء
الدائمين إلى مدينة «فاس» ، وكانت العلاقات الثقافية مع «المغرب»
فى غاية القوة والازدهار، بسبب انتشار مذهب «مالك» فى البلدين.
وقد امتدت علاقات مملكة «مالى» إلى «الأندلس» ، بدليل ما يروى من
أن «منسا موسى» استعان بأحد علمائها وهو «أبو إسحاق
السهلى» من أهل «غرناطة» فى بناء القصور والمساجد، وإليه يرجع
الفضل فى إدخال فن البناء بالآجر فى غربى «السودان» ، وبنى
مسجدًا عظيمًا فى «جاو» وآخر فى «تمبكت» ، كما بنى قصر «منسا
موسى» نفسه.
وكان أهل «مالى» يحتفلون بشهر رمضان وبالأعياد الإسلامية احتفالا
كبيرًا، وكان السلطان يوزع الأموال والذهب على القضاة والخطباء
والفقهاء وفقراء الناس، ويصف «ابن بطوطة» خروج السلطان لصلاة
العيد وصفًا رائعًا لا يقل فخامة وأبهة عن خروج خلفاء «بغداد»
و «القاهرة» . ويقول إن الأهالى كانوا يواظبون على الصلاة فى
الجماعات، وإنهم كانوا يضربون أولادهم إذا ما قصروا فى أدائها،
وإنه إذا لم يبكر الإنسان فى الذهاب إلى المسجد يوم الجمعة لم يجد
مكانًا لكثرة الزحام.
وبلغ من عمق العقيدة فى نفوسهم أنهم كانوا يلزمون أبناءهم بحفظ
القرآن الكريم، وكانوا يضعون قيودًا من الحديد فى أرجلهم إذا
ماقصروا فى حفظه، ولا تفك عنهم حتى يحفظوه، ولذلك أتقن كثير
من الماليين اللغة العربية، وكان السلطان «منسا موسى» نفسه
يجيدها، وكان التعليم لايتم إلا بها كما كانت لغة الحكومة فكانت
الوثائق المهمة والمراسلات الدولية لاتكتب إلا بها، كما كانت لغة
التجارة والمعاملات، أى أنها كانت اللغة السائدة بجانب اللغات
المحلية، مثل لغة «الهوسا» و «صنغى» و «الفولانيين» التى تأثرت
باللغة العربية، وتوجد آلاف الكلمات العربية مستخدمة فى شتى
مظاهر الحياة فى غرب إفريقيا حتى اليوم، وقد زار الرحالة
الإنجليزى «فرانسيس مور» مالى عام (1144هـ = 1731م) ووجد معظم
أهل «جمبيا» البريطانية يتكلمون العربية.
وقد ساعد على ذلك أن سلاطين «مالى» كانوا يكثرون من بناء
المساجد التى كانت تتخذ بجانب العبادة مكانًا للعلم والتدريس، ويذكر
أن السلطان «منسا موسى» كان يقيم مسجدًا فى كل مكان تدركه
فيه صلاة الجمعة إذا كان مسافرًا أو خارج عاصمته، ومن أهم هذه
المساجد مسجد أو جامع سنكرى الذى أصبح جامعة علمية فى مدينة
«تمبكت» ؛ حيث وفد إليه العلماء وطلاب العلم من داخل «مالى»
وخارجها، وبلغ من أهمية هذه المساجد أنها أصبحت حرمًا آمنًا،
فكان السلطان إذا غضب على أحد من الرعية استجار المغضوب عليه
بالمسجد، وإن لم يتمكن من ذلك يستجير بدار خطيب المسجد، فلا يجد
السلطان سبيلا إلا أن يعفو عنه، وهذا يدل على مدى تقدير سلاطين
«مالى» للأماكن الدينية وللعلماء، وكان مجلس السلاطين لا ينعقد إلا
بحضور العلماء ولا يبت فى رأى إلا بعد مشورتهم، فإذا أضفنا إلى
ذلك ما قام به سلاطين «مالى» من جهاد لنشر الإسلام وثقافته بين
القبائل الوثنية سواء داخل دولتهم أو خارجها، وما قاموا به من
أصول عربية مشرقية لأسرتهم الحاكمة وهى أسرة «كيتا» ؛ لأدركنا
مدى حرص تلك السلطنة وهؤلاء السلاطين على التقاليد الإسلامية
ومظاهر الحياة الإسلامية.
الفصل الرابع
*سلطنة صنغى الإسلامية
[777 - 1000هـ = 1375 - 1591 م]:
بدأت سلطنة «صنغى» (صنغاى- سنغاى) دويلة صغيرة لا تختلف من
حيث قيامها عن سلطنة «مالى» أو «غانة» فقد تدفقت بعض قبائل
مغربية - وخاصة قبائل «لمطة» - فى نحو منتصف القرن السابع
الميلادى إلى الضفة اليسرى لنهر «النيجر» عند مدينة «دندى» ،
وسيطروا على الزراع من أهل «صنغى» .
ورحب هؤلاء بهم ليحموهم من الصيادين الذين كانوا يعتدون عليهم
ونجح هؤلاء الوافدون فى تكوين أسرة حاكمة استفادت إلى حد
كبير من العلاقات التجارية مع «غانة» و «تونس» ، و «برقة» و «مصر» ،
وكانت هذه العلاقات التجارية ذات أثر بعيد فى تحويل ملوك
«صنغى» إلى الإسلام فى بداية القرن الحادى عشر الميلادى إبان
النهضة الإسلامية التى اضطلع بها المرابطون فى ذلك الوقت لنشر
الإسلام فى غربى القارة.
رأى ملوك «صنغى» أن ينقلوا حاضرة ملكهم من «كوكيا» إلى
«جاو» لتكون على مقربة من طرق القوافل الرئيسية.
ومدينة «جاو» زارها البكرى عام (460هـ = 1068م) وقال: «إن مدينة
كوكوا (جاو) مدينتان، مدينة الملك ومدينة المسلمين، وإذا وُلِّى منهم
ملك دُفع إليه خاتم وسيف ومصحف يزعمون أن أمير المؤمنين بعث
بذلك إليهم، وملكهم مسلم لا يملِّكون غير المسلمين»، كما زارها «ابن
بطوطة» فى منتصف القرن الرابع عشر للميلاد، وقال عنها: إنها
مدينة كبيرة تقع على نهر «النيجر» ، وهى من أحسن مدن
«السودان» وأكبرها وأخصبها، وقد قابل فيها فقهاء ينتسبون إلى
بعض قبائل البربر.
وكانت «جاو» والبلاد التابعة لها تشكل جزءًا من سلطنة «مالى»
(777هـ = 1375م)، عندما تحرك ملوك «صنغى» ، واستردوا استقلالهم
منتهزين فرصة الضعف الذى أخذ يظهر فى دولة «مالى» منذ ذلك
الوقت واتخذوا لقب «سُنِّى» أو «السُّنِّى» .
وأخذت بلادهم تتسع فى عهد «سنى على» (868 - 897هـ = 1464 -
1492م) الذى كون جيشًا كبيرًا منظمًا سار على رأسه إلى الغرب،
واستولى على مدينة «تمبكت» (873هـ = 1468م)، ثم على مدينة
«جنِّى» (878هـ = 1473م)، وفتح مملكة «الموسى» وضمها إلى
دولته، وتقدم شرقًا فهاجم بعض إمارات «الهوسا» فخضعت له
«كاتسينا» و «جوبير» و «كانو» و «زمفرة» و «زاريا» ، ثم اتجه غربًا
فاستولى على بلاد «الماندنجو» و «الفولانى» ، ومعظم ممتلكات دولة
«مالى» الإسلامية، واتجه شمالا حتى مواطن الطوارق. وبذلك أسس
«سنى على» إمبراطورية «صنغى» الإسلامية، وكان أول إمبراطور
لها، حتى مات فى ظروف غامضة، وبموته انتقل الحكم إلى أسرة
جديدة أسسها أحد قواد «السوننكى» ، وهو «أسكيا محمد الأول»
بعد إعلانه الثورة على ابن «سنى على» واستيلائه على السلطة.
و «أسكيا» لقب يعنى «القاهر» وقام بتنظيم شئون البلاد من الناحية
الإدارية، واستخدم طائفة من الموظفين الأكفاء، كما نظم الجيش وأفاد
من الخبرات السابقة، واتخذت حركته مظهرًا إسلاميا واضحًا نتيجة
عاملين قام بهما:
الأول:
هو اهتمامه بالشئون الدينية واستغلاله ثروة سلفه فى النهوض بها
وقيامه بالحج إلى البيت الحرام فى مكة (900هـ = 1495م)، وكان
موكبه فى موسم الحج يفوق ما عرف عن موكب ملوك «مالى» ، من
حيث الأبهة والفخامة، واستردت «تمبكت» فى عهده مكانتها كمركز
للثقافة الإسلامية فى غربى إفريقيا، وبلغ من شهرتها أن ملك
«صنغى» كان ينسب إليها.
والعامل الثانى:
هو الجهاد الذى قام به بغرض توسيع رقعة بلاده، ونشر الإسلام بين
الوثنيين من جيرانه «الماندنجو» و «الفولانى» فى الغرب «والطوارق»
فى الشمال، وقبائل «الموسى» الزنجية فى الجنوب، «والهوسا»
فى الشرق فى مدن «كتسينا» و «غوبير» و «كانو» و «زنفروزاريا»
وقد خضعت هذه المدن كلها لهذا الملك عام (919هـ = 1513م)، وكان
هذا بداية لظهور الثقافة الإسلامية فى هذا الجزء من شمال
«نيجيريا» .
وقد أشار كثير من المؤرخين السودانيين إلى أن علماء من «تمبكت»
رحلوا إلى هذه الجهات الخاضعة لنفوذ «صنغى» ، وأقاموا هناك
يفقِّهون الناس فى الدين وينشرون الثقافة الإسلامية، حتى امتد
النفوذ الإسلامى إلى منطقة «بحيرة تشاد» ، وبلغت إمبراطورية
«صنغى» أقصى اتساع لها، فقد شمل نفوذها منطقة «السافانا»
كلها من الشرق إلى الغرب، واستطاع «أسكيا محمد الأول» أن ينشر
الأمن والسلام فى جميع ربوع هذه المملكة الشاسعة الأرجاء،
بتنظيماته الإدارية والعسكرية الرائعة التى قام بها بين صفوف الجيش
والإدارة.
لكن حكمه آذن بالزوال حينما أصيب بالعمى وانتابه المرض وتآمر
عليه أولاده، وعزله أحدهم عن الحكم فى عام (935هـ = 1529م).
وظل القواد والمغامرون يتنافسون من أجل السيطرة على الجيش
والحكومة، إلا أن «أسكيا إسحاق الأول» (946 - 956هـ = 1539 -
1549م) استطاع أن يلى العرش بمساندة الجيش، وأن يعيد الأمن إلى
نصابه، وأن يقضى على منافسيه، وأن يبعد كبار ضباط الجيش
وكبار المسئولين، الذين أساءوا استخدام مناصبهم خلال فترة
الاضطراب.
وعلى الرغم من ذلك لم يستطع الاحتفاظ بالعرش مدة طويلة، فقد خلفه
«أسكيا داود» (1549 - 1582م) الذى عين أنصاره فى الوظائف
المهمة واشتهر بحنكته السياسية فأبعد خطر ملوك «مراكش» عن
بلاده بالمهادنة والتودد إليهم.
وبعد وفاة «داود» (990هـ = 1582م) أثرت المنازعات التى قامت
بسبب العرش تأثيرًا سيئًا على مملكة «صنغى» ، فقد كان سلاطين
«المغرب» منذ عهد بعيد يتطلعون إلى مناجم الملح فى «تغازة»
وإلى السيطرة على تجارة الذهب، وظل ملوك «صنغى» يصدون
سلاطين «المغرب» حتى سنة (993هـ = 1585م)، حينما انقسمت البلاد
على نفسها، فاستغل «أحمد المنصور الذهبى» سلطان «المغرب»
الذى انتصر على البرتغاليين فى موقعة «القصر الكبير» ضعف
«صنغى» وسيَّر جيشًا كبيرًا عام (998هـ = 1590م) استولى على
العاصمة «جاو» بعد أن هزم قوات «إسحاق الثانى» فى موقعة
«تونديبى» وبذلك دخلت البلاد فى طور جديد من أطوار تاريخها وهو
طور التبعية والفناء.
لكن واقعة «تونديبى» لم تكن نصرًا للمغرب إلا من الناحية العسكرية؛
إذ إنهم لم يحققوا الأغراض التى قاتلوا من أجلها، وهى السيطرة
على مناجم الذهب فى غرب إفريقيا، لأن ثروة «صنغى» لم تكن
نتيجة امتلاكها الذهب بقدر ما كانت نتيجة لسيطرتها على تجارته مع
مواطن إنتاجه، فى «وانجارة» و «يندوكو» و «أشنتى» ، وكلها فى
جنوب مملكة «صنغى» ، وهى تجارة لا تزدهر إلا فى ظل الأمن
والسلام الذى قضى عليه سلاطين «مراكش» ، الذين لم يستطيعوا أن
يمدوا نفوذهم إلى ما وراء المدن الرئيسية «جنى» و «تمبكت»
و «جاو» ، ولما أدركوا قلة الفوائد التى عادت عليهم من وراء هذا
الفتح الذى كلفهم كثيرًا، كفُّوا عن إرسال الجند والمئونة اللازمة إلى
قواتهم، وتركوا هذه القوات تقرر مصيرها بنفسها، فنشأت أسرة
محلية من باشوات «تمبكت» تدين بالتبعية الاسمية لسلطان «مراكش» ،
وتعتمد على عنصر خليط من البربر وأهل البلاد، أو المولدين الذين
سموا باسم «أرما» .
وكان همُّ هؤلاء الباشوات منصرفًا إلى جمع المال وحمل الزعماء
المحليين على دفع الإتاوة على أن سلطانهم ضعف تدريجيًا
لاعتمادهم على الجيش الذى كان يعزلهم متى شاء، حتى بلغ عدد من
تولى منهم بين سنتى (1070هـ=1660م) و (1163هـ= 1750م) نحو
(128)
باشا، ولما ضعفت قوة الجيش نفسه اضطر الباشوات منذ عام
(1081هـ = 1670م) إلى دفع الإتاوة إلى الحكام الوثنيين من ملوك
«البمبارا» ، وهم ملوك مملكة «سيجو» الوثنية، التى كانت تقع على
وادى نهر «بانى» جنوبى «كانجابا» فى حوض «النيجر» .
وظل الأمر على هذا النحو حتى جاء الفرنسيون والتهموا المنطقة
بأسرها، وسموها «إفريقية الاستوائية الفرنسية» . وبعد نجاح حركة
الكفاح الوطنى ضد الاستعمار الفرنسى والإنجليزى؛ ظهرت عدة دول
إسلامية حديثة على أنقاض إمبراطورية «صنغى» الإسلامية، وهذه
الدول هى: «جمهورية موريتانيا، و «جمهورية غينيا» ، و «جمهورية
مالى»، و «جمهورية السنغال» ، و «جمهورية النيجر» ، و «جمهورية
نيجيريا»، و «جمهورية جامبيا» .
وإذا كانت دولة «صنغى» قد شابهت دولة «مالى» من حيث تطورها
العام، فإنها قد شابهتها أيضًا فى اتخاذها مظهرًا إسلاميا واضحًا،
بل فاقتها فى هذه الناحية فى بعض الأحيان، وهذا التطور طبيعى،
فقد امتد سلطان «صنغى» إلى القرن السادس عشر الميلادى، وكان
الإسلام قد قطع خطوات واسعة فى سبيل النمو والانتشار.
وقد سعى ملوك «صنغى» كما سعى ملوك «مالى» من قبل إلى
الاتصال بالقوى الإسلامية المعاصرة، تحقيقًا لروح الأخوة الإسلامية،
وفى هذا المجال كان لملوك «صنغى» اتصالات عديدة بملوك
المسلمين فى الشرق والغرب.
فقد خرج «أسكيا محمد الأول» إلى الحج ومر بمصر سنة (899هـ=
1494م) فى موكب حافل، وأغدق على الناس والفقراء أكثر مما
أغدق أسلافه، فقد روى «السعدى» صاحب كتاب «تاريخ السودان»
أنه تصدق مثلا فى الحرمين الشريفين بمائة ألف مثقال من الذهب،
واشترى بساتين فى «المدينة المنورة» حبسها على أهل التكرور
(أهل دولة صنغى)، واجتمع فى موسم الحج بزعماء المسلمين، وتأثر
بما رآه فى «مصر» من نظم الحكم، ومن ثقافة عربية مزدهرة،
فاتصل بالإمام «السيوطى» وغيره من علماء العصر، وتلقى تقليدًا من
الخليفة العباسى بالقاهرة، وعاد إلى بلده متأثرًا بما رآه من روح
إسلامية، وعمل على تطبيق ما تعلمه من آراء وتجارب شاهدها
بنفسه.
ويقال إن هذا السلطان قلد فى تنظيماته الإدارية النظم التى رآها فى
«مصر» ، وأمعن فى إحاطة نفسه ببطانة من العلماء الذين كان يحمل
لهم كل احترام وتقدير، فقد روى مؤرخو «السودان» أنهم كانوا إذا
دخلوا عليه أجلسهم على سريره وقربهم وأمر بألا يقف أحد إلا
للعلماء أو الحجاج، وألا يأكل معه إلا العلماء والشرفاء.
كما أبطل البدع والمنكر وسفك الدماء، وأقام الدين والعقائد،
وأعطى «جامعة تمبكت» المزيد من عنايته، فتفوقت فى عهده
ووصلت إلى ما لم تصل إليه من قبل، وكانت فى غربى «السودان»
كجامعة «الأزهر» فى «القاهرة» ، أو «القرويين» فى «فاس» أو
«الزيتونة» فى «تونس» أو «النظامية» فى «بغداد» .
وأصبحت هذه السياسة الإسلامية سياسة مقررة لخلفائه من بعده،
فأسكيا إسحاق يسير فى الطريق نفسه، من تشجيع العلماء
وإكرامهم والأخذ بيدهم، و «أسكيا داود» يتخذ خزائن الكتب وله
نساخ ينسخون الكتب وربما يهادى بها العلماء، وقيل إنه كان
حافظًا للقرآن الكريم.
وهذا يدل على أن دولة «صنغى» قد شهدت تمكن الإسلام من أهل
غرب إفريقيا، كما شهدت ازدهار الثقافة الإسلامية إلى أبعد الحدود.
وبذلك نكون قد انتهينا من الحديث عن الدول الإسلامية التى قامت
فى بلاد «السودان الغربى» ، أما «السودان الأوسط» فقد قامت فيه
دول أهمها وأعظمها على الإطلاق هى سلطنة «الكانم والبرنو»
الإسلامية.
الفصل الخامس
*سلطنة الكانم والبرنو الإسلامية
[479 - 1262هـ = 1086 - 1846م]:
قامت هذه السلطنة فى «بلاد السودان الأوسط» الذى يتكون من
حوض «بحيرة تشاد» وما تقع حواليها من بلدان تمتد من «نهر النيجر»
غربًا إلى «دارفور» شرقًا، وكانت منطقة «بحيرة تشاد» مهد سلطنة
«الكانم والبرنو» .
وقد ضمَّت هذه الدولة عددًا كبيرًا من القبائل والعناصر، فهناك قبائل
«الصو» ، وقبائل «الكانمبو» ، وقبائل «الكانورى» وهى خليط من
العرب والبربر والزنوج، وهؤلاء يكوِّنون أغلب سكان هذه السلطنة،
يضاف إلى ذلك قبائل «التبو» (التدا) من البربر، وكذلك «بربر
الطوارق» من سكان المناطق الشمالية الصحراوية، وكذلك قبائل
العرب الذين كانوا يُعرَفون هناك باسم (الشوا)، وقد قدموا إلى
«تشاد» من «وادى النيل» ، ومن القارة عبر الصحراء، وكانوا يتمثَّلون
فى قبائل «جذام» و «جهينة» و «أولاد سليمان» ، وقد أدَّى اختلاط
هؤلاء العرب بالوطنيين إلى ظهور عناصر جديدة، منها:«التنجور»
و «البولالا» و «السالمات» وغيرهم.
وينقسم تاريخ هذه السلطنة إلى عصرين: عصر سيادة «كانم» ، ثم
عصر سيادة «برنو» ، ويقع إقليم «كانم» - الذى كان مهدًا لقيام هذه
الدولة - فى الشمال الشرقى لبحيرة تشاد وبه العاصمة «جيمى» ، أما
إقليم «برنو» فإنه يقع غرب هذه البحيرة، وبه العاصمة «بيرنى
نجازرجامو» التى انتقل الحكم إليها بعد انقضاء عصر سيادة «كانم» .
وقد قامت هذه الدولة فى القرن التاسع للميلاد على يد أسرة من
البربر البيض هى الأسرة «الماغومية السيفية» ، التى تزعم أنها من
أصل عربى من نسل «سَيْفِ بن ذِى يَزن الحِمْيَرِى» ، واستطاعت هذه
الأسرة أن تسيطر على حوض «بحيرة تشاد» ، وأن تتخذ من مدينة
«جيمى» عاصمة لها، وبدأ الإسلام يطرق أبواب هذه الدولة منذ
قيامها، وخاصة من الشمال والشرق على يد التجار والمهاجرين الذين
توافدوا عليها فى القرنين التاسع والعاشر الميلاديين. وتتحدث
المصادر عن قيام داعية إسلامى كبير هو الفقيه «محمد بن مانى» ،
الذى عاش فى القرن الحادى عشر الميلادى، وعاصر خمسة من ملوك
«الكانم» الذين كانوا يعرفون باسم «المايات» (جمع ماى، وهو لقب
بمعنى: ملك)، أولهم «الماى بولو» الذى كان يحكم نحو (411هـ =
1020م) وآخرهم هو «الماى أوم بن عبدالجليل» الذى بدأ حكمه فى
عام (479هـ = 1086م) وهو الذى جعل الدين الإسلامى دينًا رسميا
للدولة، وذلك نتيجة لجهود هذا الداعية العظيم الذى أسلم على يديه
هؤلاء المايات الخمسة، وقد قام آخرهم وهو «الماى أوم بن
عبدالجليل» (479 - 490هـ = 1086 - 1097م) بجهد كبير فى نشر
الإسلام فى بلاده، ثم اتَّجه إلى الشرق، وذهب إلى بلاد «الحجاز»
لأداء فريضة الحج، ولكن المنية وافته بمصر أثناء عودته من أداء
هذه الفريضة، فدُفِنَ بها، ومنذ عهد هذا الماى لم يتول حكم دولة
«الكانم» أى ملك وثنى، وأصبحت منذ ذلك التاريخ دولة إسلامية.
خلف «الماى دونمة بن أوم» والده فى حكم البلاد لفترة طويلة (491 -
546هـ = 1097 - 1151م) وبلغت فى عهده دولة «الكانم» درجة كبيرة
من القوة والاتساع وطبقت شهرته الآفاق، وحج ثلاث مرات. وفى
عهده بُنيت مدرسة «ابن رشيق» فى «فسطاط مصر» بأموال كانمية؛
كى تكون موئلا للحجاج القادمين من «كانم» وبلاد «التكرور» . وتابع
خلفاؤه العمل على توسيع حدود هذه الدولة حتى صارت إمبراطورية
كبيرة، وخاصة فى عهد «الماى دونمه بن سالم بن بكر» (618 -
657هـ = 1221 - 1259م) الذى اشتهر بقوة فرسانه، وكثرتهم حتى
قيل إنها بلغت نحوًا من (41) ألف فارس، ويُعرف هذا الماى باسم
«دونمه دباليمى» ، نسبة إلى والدته «دابال» ؛ حيث كانت النسبة إلى
الأم شيئًا مألوفًا ومشهورًا فى هذه السلطنة بالذات.
وقد حارب هذا الماى القبائل المتمردة، مثل قبائل «البولالا» الذين
كانوا يعيشون فى حوض بحيرة «فترى الصغيرة» الواقعة إلى
الشرق من «بحيرة تشاد» ، وأخضعها وأقام علاقات طيبة مع «الدولة
الحفصية» فى «تونس» .
واتسعت الإمبراطورية فى عهده حتى وصلت شرقًا إلى مشارف
«وادى النيل» ، وغربًا قرب نهر «النيجر» ، مما يعنى أن بلاد
«الهوسا» التى تشكِّل الآن «نيجيريا الشمالية» كانت تحت سيادته
وسلطانه، كما امتدت حدود بلاده شمالا حتى وصلت قرب «فزان»
الليبية واقتربت مساحتها من مساحة إمبراطورية «صنغى» الإسلامية
التى سبق الحديث عنها، ولكن هذه الإمبراطورية الكبيرة لم تلبث أن
دبَّ إليها الوهن نتيجة لعوامل كثيرة، منها الانقسامات التى ظهرت
بين أبناء الأسرة الحاكمة، وظهور خطر قبائل «الصو» ، التى كانت
تسكن فى إقليم «بورنو» وقيامها بمهاجمة عاصمة الدولة؛ وتمكنها
من قتل أربعة من المايات. كذلك اشتد خطر البولالا الذين ازدادوا
ضراوة بعد أن تمكَّنوا من إقامة سلطنة صغيرة لهم فى حوض «بحيرة
فترى» واتخذوها مركزًا لمناوأة أبناء عمومتهم من مايات «الكانم
والبرنو». وقد استطاعت سلطنة «البولالا» التى ظهرت قوتها فى
عهد سلطانها «عبدالجليل بن سيكوما» أن تشن حربًا شرسة ضد
الأسرة «السيفية الماغومية» الحاكمة فى «كانم» ، وتمكن
«عبدالجليل» هذا من أن يقتل أربعة من المايات من هذه الأسرة.
وقد انتهى أمر الصراع بين الفريقين إلى طرد الأسرة «السيفية»
الحاكمة فى «كانم» إلى إقليم «بورنو» الذى يقع غرب «بحيرة
تشاد»، وذلك فى عهد «الماى عمر بن إدريس» (788 - 793هـ = 1386
- 1391م) الذى استأنف حكمه من إقليم «برنو» فيما يعرف بعصر
سيادة «برنو» ، هذا العصر الذى امتد حتى نهاية الدولة فى عام
(1262هـ = 1846م)، وقد ترك طرد الماغوميين السيفيين إلى «برنو»
فراغًا سياسيا فى «كانم» ، ملأه «البولالا» الذين أقاموا سلطنة
كبيرة ضمت هذا الإقليم بالإضافة إلى إقليم «بحيرة فترى» والمناطق
المحيطة بها فى حوض «بحيرة تشاد» . ورغم ذلك فقد استمر الصراع
بين «البولالا» وبين الماغوميين فى مقرِّهم الجديد الذى جعلوه مركزًا
لدولتهم، وبنوا فيه مدينة تسمى «بيرنى نجازرجامو» واتخذوها
عاصمة لهم. ولما تطلعوا إلى إعادة نفوذهم فى «كانم» ؛ وقعت
حروب كثيرة بينهم وبين سلاطين «البولالا» ، وتبادل الفريقان النصر
والهزيمة، وخاصة فى عهد «الماى إدريس بن عائشة» (908 - 932هـ =
1502 -
1526م) الذى أنزل بالبولالا هزيمة ساحقة، واستولى على
العاصمة «جيمى» وأقام فيها فترة ثم عاد إلى عاصمته «بيرنى» .
وتابع ابنه «الماى على بن إدريس» (952 - 953هـ = 1545 - 1546م)
محاربة «البولالا» حتى لُقِّب بحارق «البولالا» ، ولم يلبث أن لَقِىَ حتفه
فى إحدى المعارك معهم. ولم يقضِ على خطرهم إلا «الماى إدريس
ألوما» (978 - 1011هـ = 1570 - 1602م) الذى أقام معهم علاقة طيبة
نتيجة ارتباط البيت البولالى بالأسرة السيفية برباط المصاهرة، مما
سهل على هذا الماى أن يقضى على خطر «البولالا» وأن يعيد نفوذ
أسرته إلى إقليم «كانم» ، ووصلت الإمبراطورية فى عهده إلى
أقصى اتساعها وقوتها وازدهارها.
وكما تكالبت عوامل الضعف الداخلية والخارجية على إمبراطوريتى
«مالى» و «صنغى» حتى سقطتا، فقد تعرَّضت إمبراطورية «البرنو»
للظروف نفسها وشهدت النتيجة نفسها ذلك أن الماى «إدريس ألوما»
الذى بلغت الإمبراطورية فى عهده قمتها وازدهارها خلفه حكام
ضعاف لم يكونوا فى مثل قوته وحزمه، بلغوا خمسة عشر سلطانًا
على مدى قرنين ونصف قرن من الزمان، حدث فى أثنائها كثير من
الوقائع التى أدَّت إلى القضاء على الإمبراطورية، فبالإضافة إلى
ضعف هؤلاء المايات أو السلاطين أصيبت البلاد بموجة من المجاعات
المتلاحقة وصلت إلى خمس مجاعات، استمرت إحداها أربع سنوات،
وأخرى سبع سنوات، ويدل تكرار حدوث هذه المجاعات على التدهور
السريع والضعف العام الذى أصاب البلاد نتيجة إهمال الزراعة وكثرة
الفتن والاضطرابات، فضلا عن ظهور أخطار جديدة تمثلت فى ظهور
قبائل وثنية فى منطقة «جومبى» تُسمى قبائل «كوارارافا»
اشتهرت بالقوة والشجاعة، وتمكنت من اجتياح الأقاليم الغربية فى
«برنو» ، كما حدثت حروب بين «برنو» وجيرانها من إمارات «الهوسا»
وخاصة إمارة «كانو» فى النصف الأول من القرن الثامن عشر
الميلادى، غير أن أخطر ما تعرضت له إمبراطورية «البرنو» هو خطر
«الفولانيين» وهم قبائل بيضاء انحدرت من الشمال وأقامت فى
غربى القارة، ثم انحدرت إلى الشرق واستقرَّت فى إمارات «الهوسا»
التى تتكون منها «نيجيريا» الشمالية الآن، وقامت على يد زعيمها
الشيخ «عثمان بن فودى» بحركة ضخمة لنشر الإسلام بين من كان
على الوثنية فى هذه الإمارات، وتمكنت من ضم هذه الإمارات فى
دولة واحدة تحت زعامة هذا الداعية الكبير، الذى أعلن قيام دولة
«الفولانى» فى بداية القرن التاسع عشر الميلادى هذا فى الوقت
الذى كانت إمبراطورية «البرنو» تزداد ضعفًا على ضعف وتلقى
سلطانها «الماى أحمد بن على» (1206 - 1223هـ = 1791 - 1808م)
أكثر من هزيمة على يد الفولانيين فى عهد الشيخ «عثمان بن
فودى» حتى اضطر هذا الماى إلى استدعاء أحد الكانميين والعلماء
البارزين ويدعى الشيخ «محمد الأمين الكانمى» لمساعدته فى محنته
ضد هذا الغزو الفولانى، واستجاب هذا الزعيم لهذا الطلب وتبادل عدة
رسائل مع الشيخ «عثمان بن فودى» ، كل منهما يحاجج الآخر
عبرمناقشات فقهية يبرر كل منهما سياسته، ولكن هذه الرسائل لم
تؤدِّ إلى إزالة حالة الحرب القائمة بين الفريقين، وأخيرًا نجح
الفولانيون فى الاستيلاء على عاصمة «برنو» فاضطر الماى إلى
الهرب منها ولجأ إلى الشيخ محمد الأمين الذى أصبحت له السيطرة
الكاملة على المايات الذين صاروا حكامًا بالاسم فقط.
استمر الشيخ «محمد الأمين» يحكم ما بقى من إمبراطورية «البرنو»
و «الكانم» وأجرى مفاوضات مع سلطان الفولانيين «محمد بلو» الذى
خلف أباه الشيخ «عثمان بن فودى» فى زعامة الفولانيين، واتخذ
مدينة «سوكوتو» عاصمة له، وأرسل له الشيخ الكانمى رسائل
أوضح له فيها أنهم أهل دين واحد هو الإسلام، وأنه لا ينبغى أن
يحارب بعضهم بعضًا وأن كلا منهما يجب أن يحترم حدود الآخر،
فهدأت الأحوال بين الدولتين حتى تُوفِّى الشيخ «محمد الأمين
الكانمى» فى عام (1251هـ = 1835م) وخلفه ابنه الشيخ «عمر» .
وفى عهد هذا الشيخ حاول «الماى إبراهيم بن أحمد» (1232 -
1262هـ = 1817 - 1846م) أن يسترد سلطاته التى سلبها منه الشيخ
«محمد الأمين» ثم ابنه «عمر» ، واستعان فى ذلك بأمير دويلة صغيرة
تقع بين «كانم» و «دارفور» تُسمَّى «واداى» وتآمر معه لغزو
«برنو» .
ونفذ أمير «واداى» الخطة المتفق عليها وأباد جيش «برنو» فى
(1262هـ = 1846م) منتهزًا فرصة غياب الشيخ «عمر» عن العاصمة؛
لحرب كانت واقعة بينه وبين أحد جيرانه الآخرين، ولما علم هذا
الشيخ بنبأ هذا الغزو وهذه المؤامرة عاد إلى «برنو» ، وأخرج الغزاة
منها نظير مبلغ كبير من المال دفعه لهم، وقبض على الماى
«إبراهيم» ومستشاريه وأعدمهم جميعًا، ثم تخلَّص من الماى «على
بن دالاتو» عام (1262هـ = 1846م) الذى لم يحكم سوى أربعين يومًا
وكان مفروضًا عليه كشرط لرحيل جيش أمير «واداى» عن «برنو» .
وبمقتل «على بن دالاتو» انتهى حكم الأسرة «السيفية الماغومية»
التى ظلت تحكم هذه البلاد أكثر من ألف عام، وأصبحت «برنو» تحت
حكم الأسرة الكانمية فِعليا ورسميا منذ ذلك التاريخ وحتى وقوعها
فى قبضة الاستعمار الفرنسى فى عام (1318هـ = 1900م)، وقد
أعيد تقسيم أملاك إمبراطورية «برنو» بين «إنجلترا» و «فرنسا»
و «ألمانيا» بعد القضاء على مقاومة أحد المجاهدين ضد الاستعمار
الأوربى وهو «رابح الزبير» . فأخذت «فرنسا» إقليم «كانم» ، وأخذت
«إنجلترا» إقليم «برنو» ، وظفرت «ألمانيا» بالمناطق الجنوبية لبرنو،
وهكذا تلاشت إمبراطورية «برنو» التاريخية على يد الغزاة الأوربيين
فى بداية القرن العشرين الميلادى، وظل الأمر على هذا النحو حتى
قامت حركة الكفاح الوطنى فى هذه المنطقة ضد المستعمر الأوربى،
وتكللت جهودها بالنجاح وظفرت بالاستقلال، وقامت على أنقاض
إمبراطورية «الكانم والبرنو» عدة دول حديثة، هى جمهورية «تشاد»
التى استقلَّت عن «فرنسا» فى عام (1380 هـ = 1960م)، وهى دولة
إسلامية يدين (85%) من سكانها بالإسلام، ويتكلمون اللغة العربية
بجانب اللغات المحلية واللغة الفرنسية هى اللغة الرسمية، وجمهورية
«إفريقيا الوسطى» التى استقلَّت عن «فرنسا» فى العام نفسه
أيضًا، وتضم هذه الدولة الأطراف الجنوبية من إمبراطورية «البرنو»
التاريخية، ولذلك فإن نسبة المسلمين فيها قليلة. وجمهورية «النيجر»
التى استقلَّت عن الفرنسيين فى العام نفسه، وضمت أغلب الأجزاء
الشمالية الغربية من إمبراطورية «البرنو» ولذلك فإن (95%) من
سكانها مسلمون يتكلمون اللغة العربية بجانب اللغات المحلية، واللغة
الفرنسية هى اللغة الرسمية، و «نيجيريا» التى استقلَّت عن «إنجلترا»
فى عام (1381هـ = 1961م) وضمت إقليم «برنو» الذى يقع غرب
«بحيرة تشاد» ، كما ضمت جميع بلاد «الهوسا» ، وأكثر من (70%) من
سكانها مسلمون يتكلم الكثير منهم اللغة العربية ولغة الهوسا بجانب
اللغة الإنجليزية، وهى اللغة الرسمية، كذلك ضمت «جمهورية
الكمرون» التى استقلَّت عن «فرنسا» فى عام (1380هـ = 1960م)
وتضم بعض الأجزاء الجنوبية والجنوبية الشرقية من «برنو» ، وكذلك
فإن هذه الدولة دولة إسلامية؛ إذ إن أكثر من (55%) من سكانها
مسلمون، واللغة الفرنسية هى السائدة بجانب اللغة العربية واللهجات
المحلية.
وإذا كنا قد تحدثنا عن التاريخ السياسى لسلطنة «الكانم والبرنو»
منذ أن أصبحت دولة إسلامية فى عام (479هـ= 6801م) وحتى نهايتها
على يد الاستعمار الفرنسى، فإن الواجب يحتم علينا أن نتحدث
باختصار عن الطابع الإسلامى ومظاهر الحياة الإسلامية فى هذه
السلطنة الكبيرة.
وفى هذا الصدد نستطيع القول بأن سلطنة «الكانم والبرنو» قد قامت
بالدور نفسه الذى قامت به سلطنتا «مالى» و «صنغى» ؛ فقد اتصلت
بالقوى المعاصرة لتأكيد روح الأخوة الإسلامية وللإفادة من خبراتها
الثقافية والعلمية والإدارية والحضارية فقد اتَّصلت بمصر أثناء ذهاب
أهلها وسلاطينها لتأدية فريضة الحج، وقد سبقت الإشارة إلى قيام
أول سلطان فى «كانم» وهو «أوم بن عبدالجليل» بأداء هذه
الفريضة، وإلى وفاته فى «مصر» عام (490هـ = 1097م) عند عودته
إلى بلاده، وقام ابنه «دونمة» بأداء هذه الفريضة ثلاث مرات مرَّ
خلالها بمصر وفى حجته الثالثة غرق فى مياه «البحر الأحمر» عند
مدينة «عيذاب» فى عام (546هـ = 1151م) وواصل مايات «الكانم
والبرنو» أداء هذه الفريضة.
ومن مظاهر الاتصال بالدول الإسلامية الرسائل المتبادلة بين سلاطين
«مصر» و «البرنو» ، من ذلك رسالة أوردها «ابن فضل الله العُمَرِى»
و «القَلْقَشَنْدِى» وأشارت إلى استغاثة سلطان «البرنو» بسلطان
«مصر» «الظاهر برقوق» فى عام (795هـ = 1393م) لمساعدته فى
القضاء على تمرد القبائل العربية التى ساعدت خصومه السياسيين
من «البولالا» .
كذلك كانت هناك علاقات ثقافية وتجارية بين «مصر» وسلطنة
«الكانم والبرنو» من ذلك ما ترويه لنا المصادر من أن «الأزهر» كان
به رواقٌ خُصِّص للطلاب القادمين من هذه السلطنة يُسمَّى «رواق
البرنوية» كما سمحت «مصر» للكانميين بإنشاء مدرسة تُسمَّى
مدرسة «ابن رشيق» فى مدينة «الفسطاط» بمصر لتدريس الفقه
المالكى؛ ولكى تكون مقرا ينزل به حجاج «البرنو» .
أما العلاقات التجارية فقد ازدادت بين «مصر» وبلاد «الكانم
والبرنو»، ومما يدل على ذلك أن طائفة من أهل «كانم» اشتهرت
باسم «التجار الكارمية» رحلوا إلى «مصر» وأقاموا فيها واشتركوا
بنصيب موفور فى تجارتها الخارجية وخاصة فى تصريف المحاصيل
السودانية، وتجارة البهار القادمة من «اليمن» و «الهند» و «الصين» ،
واتخذت من مدينة «قوص» بصعيد «مصر» مركزًا لها.
وكان لهؤلاء التجار الذين عُرِفوا بالتقوى والورع فضل كبير فى نشر
الإسلام وخاصة فى بلاد الحبشة.
كذلك كان لسلطنة «الكانم والبرنو» علاقات تجارية وثقافية مع
شمال إفريقيا وخاصة «تونس» فقد اتصل سلاطين «الكانم» بحكامها
من «بنى حفص» وتبادلوا الرسائل والهدايا، من ذلك سفارة أرسلها
الماى «عبدالله بن كادى» إلى السلطان الحفصى «أبى يحيى
المتوكل» فى عام (727هـ = 1307م)، كذلك تبودلت الرسائل
والسفارات مع «طرابلس» فى عام (908هـ = 1502م) وسفارة بعث بها
أيضًا فى عام (941هـ = 1534م) وأخرى فى زمن الماى «إدريس
ألوما» المتوفَّى عام (1011هـ = 1602م) كذلك نشطت العلاقات
التجارية بين «برنو» وهذه البلدان.
ويمثل الجهاد قمة إيمان السلطنة بالإسلام، فقد اتخذه سلاطينها
طريقًا لرد العدوان والتعريف بالإسلام بين الوثنيين الذين كانوا
يقومون بالاعتداء على هذه الدولة الإسلامية، وخاصة الوثنيين
المقيمين فى الجنوب، فقد حاربهم السلاطين ودخل كثير منهم فى
الإسلام، بالإضافة إلى اتِّباع أسلوب الإقناع الذى اتبعه بعض
السلاطين وخاصة السلطان «إدريس ألوما» ، الذى اشتهر ببناء
المساجد الضخمة من الحجارة، وطبق الشريعة الإسلامية خاصة فى
معاملة الأسرى، ونظم الجهاد بما يتمشى مع تعاليم الإسلام، فازداد
الدخول فى هذا الدين وانتشر فى منطقة «بحيرة تشاد» كلها.
كذلك فقد شجع سلاطين «الكانم والبرنو» انتشار الثقافة العربية
الإسلامية، فأكثروا من بناء المساجد والكتاتيب، وكانت اللغة العربية
هى لغة التعليم ولغة الحكومة الرسمية، فضلا عن كونها لغة
المعاملات التجارية ولغة المراسلات الدولية، كما كان الحال فى جميع
الدول الإسلامية التى قامت فى بلاد «السودان الغربى» ، وظلت الحال
على هذا النحو حتى عصر الاستعمار الأوربى الذى قضى على اللغة
العربية ولم يعد لها إلا وجود محدود بين قليل من الأهالى، ووجود
كبير فى المدارس الدينية الإسلامية.
وفى ظل تشجيع سلاطين «الكانم والبرنو» للثقافة الإسلامية ارتقى
العلماء والفقهاء منزلة رفيعة، وحرص السلاطين على رعايتهم
والإغداق عليهم، وإصدار المحارم (أى الفرمانات) التى كانوا
يمنحونهم بمقتضاها كثيرًا من الامتيازات المادية والإقطاعات،
ويحرِّمون على أى شخص مهما بلغت منزلته وقدره أن يسلبهم شيئًا
منها. ولذلك ظهر فى هذه السلطنة كثير من العلماء والفقهاء، منهم
الفقيه «محمد بن مانى» الذى سبق الحديث عنه، والإمام «أحمد بن
فرتو» الذى كان معاصرًا للماى «إدريس ألوما» ، والذى تعد كتاباته
المرجع الرئيسى لتاريخ «برنو» ، والعالم الكبير «عمر بن عثمان بن
إبراهيم»، والعالم «عبداللاه ديلى بن بكر» ، وغيرهم من العلماء الذين
صدرت لهم محارم (فرمانات) تشجيعًا لهم على التفرُّغ للعلم والبحث
والتدريس؛ مما أدَّى إلى انتشار العلوم الإسلامية بين أهالى هذه
البلاد.
الفصل السادس
*إمارات الهوسا الإسلامية فى شمالى نيجيريا
تشمل بلاد «الهوسا» ما يعرف الآن بنيجيريا الشمالية، وجزءًا من
جمهورية «النيجر» ، وكانت تقع فى العصور الوسطى فى المنطقة
المحصورة بين سلطنتى «مالى» و «صنغى» غربًا، وسلطنة «البرنو»
شرقًا، تحدُّها من الشمال بلاد «أهير» والصحراء الكبرى، ومن
الجنوب ما يعرف الآن بنيجيريا الجنوبية.
و «الهوسا» (أو الحوصا) مصطلح يطلق على الذين يتكلمون بلغة
«الهوسا» ، ولذلك فليس هناك جنس يمكن أن يتسمى بهذا الاسم؛ إذ
إن الهوسويين لاينحدرون من دم واحد، بل جاء أغلبهم نتيجة امتزاج
حدث بين جماعات قَبَلِيَّة وعِرْقِية كثيرة، أهمها: السودانيون. أهل
البلاد الأصليون، والطوارق من البربر، والفولانيون وغيرهم.
ونتج عن هذا الامتزاج هذا الشعب الذى أصبح يتكلم لغة واحدة، هى
لغة «الهوسا» التى انتشرت انتشارًا كبيرًا فى إفريقيا الغربية، حتى
أصبحت لغة الناس والمعاملات المالية والتجارية.
وعلى الرغم من أن المتكلمين بلغة «الهوسا» فى هذا الجزء من
القارة الذى يعرف الآن بنيجيريا كانوا يعيشون متجاورين، ويتكلمون
لغة واحدة، ويدين معظمهم بالإسلام، فإنهم لم يعيشوا تحت حكم
دولة واحدة، بل كَوَّنُوا سبع إمارات صغيرة، تُعرف باسم إمارات أو
ممالك «الهوسا» ، وهى:«كانو» ، و «كاتسينا» ، و «زاريا» ،
و «جوبير» ، و «دورا» ، و «رانو» ، و «زمفرة» .
ويرى بعض الباحثين أن «دورا» هى أقدم هذه الإمارات، وأن دماء
أهلها وافدة من «مصر العليا» و «الحبشة» وبلاد العرب، و «كاتسينا»
التى كانت تتوسط هذه الإمارات، و «زاريا» أوسعها أرضًا، و «كانو»
أغناها، و «جوبير» أجدبها، وتقع فى شماليِّها.
وعلى ذلك فقد كانت كل إمارة من هذه الإمارات مستقلة عن الأخرى،
وكانت الحروب تندلع فيما بينها فى فترات كثيرة؛ نتيجة لأطماع
حكامها فى فرض سيطرتهم، كل على الآخر؛ أو نتيجة لتحالف
أحدهم مع القوى الكبيرة المجاورة لبلاد «الهوسا» وهى:
دولة «البرنو» الإسلامية من الشرق، ودولة «مالى» ثم دولة «صنغى»
الإسلامية من الغرب.
وقد اشتهر الهوسويون بالمهارة فى الزراعة والصناعة والتجارة،
وقد استغلوا موقع بلادهم المتوسط بين «السودان الغربى»
و «السودان الشرقى» فى الاشتغال بالتجارة، ولذلك مهروا فى هذه
الحرفة، وكانوا من أكثر التجار مغامرة، وكانت قوافلهم تخترق
الصحراء الكبرى ثلاثة أشهر من كل عام؛ لتزوِّد «طرابلس» ، و «تونس»
وغيرهما من بلدان شمال إفريقيا بمنتجات بلاد «السودان» من ذهب
وعاج ورقيق.
كما اخترقت قوافلهم مناطق الغابات فى الجنوب؛ حيث وصل نشاطهم
التجارى إلى «نوب» ، واتجهوا شرقًا إلى «برنو» ؛ حيث فتحوا طريقًا
للتجارة عام (856هـ= 1452م)، وتوغَّلوا فى الجنوب حتى حوض
«فولتا» الأوسط.
وقد أصبحت طرق التجارة الخارجية، وخاصة التى تخرج من بلاد
«الهوسا» ، متجهة شمالا إلى «أهير» وتتصل عندها بالطرق
الرئيسية المتجهة إلى «غات» و «غدامس» و «فزَّان» و «تكدا» و «برنو»
مفتوحة ومستعملة بطريقة كافية ومنظمة، وأصبحت مألوفة جدا
للمسافرين والتجار؛ مما شجَّع العلماء والباحثين على زيارة بلاد
«الهوسا» بكل سهولة وارتياح، كما شجَّع التجار المغامرين على
ارتيادها.
وقد أدَّى هذا كله إلى انتشار الإسلام، ونموِّ الحركة الفكرية، وازدياد
تأثير الثقافة العربية الإسلامية، وسيطرة تجار «الهوسا» على
النشاط التجارى فى جميع أنحاء «السودان الأوسط» ، وتضخمت
جالياتهم فى كل المراكز التجارية المهمة، وأصبحت لغتهم لغة
التخاطب العامة فى الأسواق والمعاملات المالية والتجارية، وازدادت
سيطرتهم على التجارة فى بلاد «السودان» بعد انهيار سلطنة
«صنغى» الإسلامية أمام الغزو «المرَّاكُشى» سنة (1000هـ =
1591م)، مما أدَّى إلى تحول المجرَى الرئيسى للحركة التجارية إلى
بلاد «الهوسا» ، وقفزت «كانو» و «كاتسينا» بصفة خاصة إلى مكان
الصدارة والشهرة باعتبارهما مركزين مهمين من مراكز التجارة
والحضارة فى ذلك الحين، وبخاصة بعد أن أصبحتا من أهم مراكز
الإسلام فى تلك المنطقة من بلاد «الهوسا» .
وقد انتشر الإسلام فى إمارات «الهوسا» السبع فى فترة مبكرة إذ
دخل الإسلام فى إمارة «كانو» فى أواخر القرن الثانى عشر
الميلادى، وفى باقى الإمارات فى أوائل القرن الرابع عشر
الميلادى، وكان لاعتناق حكام إمارات «الهوسا» الإسلام، بالإضافة
إلى ما اتَّسمُوا به من العدالة وحب الرعية أثر كبير فى انتشار الإسلام
بين الناس، فازداد تمسكهم به وازداد تفانيهم وإخلاصهم له.
وبعد انتشار الإسلام فى هذه الإمارات، كثر وفود العلماء إليها
للدعوة ونشر الإسلام وتصحيح العقيدة بين أهلها، فقاموا بإنشاء
عدد كبير من المساجد كمراكز لنشر الدعوة الإسلامية فى هذه
الإمارات وما حولها من المناطق الأخرى، ونجحوا فى القضاء على
الوثنية التى كانت منتشرة بين السكان قبل دخولهم فى الإسلام.
وقد وجد هؤلاء العلماء فى هذه الإمارات الأمن والطمأنينة، مما
دفعهم إلى إحضار مؤلفاتهم، وبخاصة فى علوم اللغة والأدب
والتوحيد، ورحَّب بهم حكام هذه الإمارات، فازدهرت الثقافة واتسعت
مجالاتها بجهود هؤلاء العلماء، كما ازداد عدد الرجال المتعلمين؛ حيث
كان العلماء يعلِّمون الناس الآداب والثقافة الإسلامية باللغة والحروف
العربية.
ومن العلماء الذين يرجع إليهم الفضل فى نشر الإسلام والثقافة
الإسلامية فى هذه الإمارات الشيخ «عبدالرحمن زيد» الذى مارس
نشاطه فى الدعوة فى إمارة «كانو» ، والشيخ «محمد بن عبدالكريم
المغيلى» فقيه «توات» الشهير الذى رحل إلى «كانو» و «كاتسينا» ،
ونشر فيهما عقيدة الإسلام الصحيحة، والشيخ «عبده سلام» الذى
أحضر معه كتب «المدوَّنة» و «الجامع الصغير» والشيخ القاضى
«محمد بن أحمد بن أبى محمد التاذختى» المعروف باسم «أيد أحمد»
بمعنى «ابن أحمد» الذى وَلِىَ قضاء «كاتسينا» وتُوفِّى نحو سنة
(936هـ = 1529م)، وغيرهم.
وقد كان للتجار - أيضًا - دور كبير فى نشر الإسلام فى هذه
الإمارات، بل كان لهم الدور الأول فى معرفة هذه الإمارات بالإسلام،
كما أدَّى انتشار الإسلام إلى ازدهار التجارة ازدهارًا كبيرًا، بسبب
كثرة احتكاك هذه الإمارات بالمدن المجاورة لها.
وعلى أية حال فقد كان لجهود العلماء والتجار القادمين إلى بلاد
«الهوسا» والمحليين أثرها الكبير فى نشر الإسلام فى هذه البلاد
منذ القرن الثانى عشر الميلادى، وأصبحت «كانو» ، و «كاتسينا» ،
و «زاريا» وغيرها من بلاد «الهوسا» مراكز إسلامية فى هذه البقاع
من القارة، وتألَّقت فيها الثقافة الإسلامية، وكان لها فضل كبير فى
نشر الثقافة الإسلامية بين سكانها وغيرهم من البلاد المجاورة،
فإمارة «كانو» يرجع إليها الفضل فى نشر الإسلام شرقًا حتى حدود
«برنو» ، وإمارة «زاريا» يرجع إليها الفضل فى نشر الإسلام فى
أواسط بلاد «الهوسا» ، وجنوبيها فى حوض «نهر فولتا» ، وكان
علماء «تمبكت» - التى تقع على نهر «النيجر» - يرحلون إلى هذه
الإمارات، كذلك رحل إليها علماء من «مصر» ، من أبرزهم الإمام «جلال
الدين السيوطى» المتوفى سنة (911هـ = 1505م) والذى نشأت بينه
وبين أمير «كاتسينا» علاقة طيبة، وهناك ما يدل على أن الإمام
«السيوطى» رحل إلى هذه الإمارة وعاش فيها زمنًا، يعلِّم الناس
ويفتيهم، وعاد إلى «مصر» سنة (876هـ = 1471م)، واتصلت
المراسلات بينه وبين علماء هذه البلاد، كما اتصلت بينهم وبين علماء
«مصر» وبلاد «الحجاز» وغيرهما، مما يدل على التواصل الإسلامى،
وعلى صلة بلاد «الهوسا» بالعالم الإسلامى سواء فى إفريقيا، أو
فى غيرها من القارات.
الفصل السابع
* سلطنة البلالة الإسلامية فى حوض بحيرة تشاد
[766 - 1318 هـ =1365 - 1900م]:
قامت هذه السلطنة فى حوض بحيرة «تشاد» (أى: فى بلاد السودان
الأوسط)، وبالتحديد فى حوض بحيرة «فترى» ، وإلى الشمال منها
حتى بحيرة «تشاد» ، وظهرت كدولة يمكن التحقق من تاريخها منذ
عام (766هـ = 1365م)، واستمرت حتى بداية القرن العشرين، عندما
سقطت المنطقة كلها فى يد الاستعمار الفرنسى.
وعلى الرغم من طول مدة بقاء هذه السلطنة، فإن المؤرخين لم
يذكروها كثيرًا ولم يهتموا بها؛ لأنها كانت تابعة لسلطنة «الكانم
والبرنو» فى كثير من فترات حياتها.
ويعود اسم «البلالة» إلى أول زعيم لهم ويدعى «بولال» أو «بلال»
أو «جيل» أو «جليل» ، ومنه جاء اسم أول زعمائهم وهو
«عبدالجليل» ، وربما جاء اسم «بلالة» أو «بولالة» من «بولو» الذى
كان ابنًا لقبائل «البيوما» التى كانت تسكن منطقة «بيو» ( Biyo)، ثم
أُضيف إليه المقطع التماشكى ( ilalla) فجاء اسم «بولالا» أو «بلالة» ،
وهى كلمة تعنى الأحرار النبلاء، وربما جاء الاسم أيضًا من اسم ميناء
كان ولايزال يقع على الساحل الشرقى لبحيرة «تشاد» ، ويسمى
«بول» ( Bol)، ثم أُضيف إليه المقطع التماشكى، فصار «بولالا» أو
«بلالة» كما ينطقه البلاليون أنفسهم فى هذه الأيام.
أما أصل قبائل «البلالة» فقد جاء نتيجة اختلاط عناصر متعددة
سكنت هذه المنطقة، وهى: البربر والعرب والسودان والزنج، وقد
تصاهرت هذه العناصر فيما بينها، فأدَّى ذلك إلى امتزاجهم وتغير
فى صفاتهم.
وقد كان «البلالة» وثنيين حتى القرن الثانى عشر الميلادى؛ حيث
أسلموا عقب إسلام بنى عمومتهم الذين يتمثلون فى «الأسرة السيفية
الماغومية» الحاكمة فى سلطنة «كانم» فى القرن الحادى عشر
الميلادى.
أما من الناحية السياسية فقد ظهر خطر «البلالة» على سلاطين دولة
«كانم» منذ وقت مبكر، رغم صلة القرابة التى تربط بينهما، ويعود
ذلك إلى أن «البلالة» كانوا يحاولون التخلُّص من تبعيتهم لأقربائهم
من حكام «كانم» ، وقد ظهر هذا الخطر منذ عهد أول سلاطين «كانم»
الإسلامية وهو الماى (السلطان)«أوم بن عبدالجليل» (1086 - 1097م)
الذى حاربهم وانتصر عليهم، فأعلنوا الطاعة والخضوع، وظلوا
يتقلبون بين التبعية والتحرر من سلطان «كانم» حتى ظهر زعيمهم
الموصوف بالقوة والشجاعة والدهاء وهو «عبدالجليل سيكومامى»
الذى حقق لهم الاستقلال التام والتوسع فى حدود سلطنته فى عام
(1365م)، بفضل معاونة العرب الموجودين فى هذه المنطقة، واتخذ
من مدينة «ماسيو» التى تقع بين «بحيرة فترى» و «كانم» عاصمة له.
ثم حارب مايات كانم وانتصر عليهم، وبذلك وقع إقليم «كانم» بأسره
فى قبضة «البلالة» ، مما جعلهم يحكمون دولة واسعة تمتد من حدود
«دارفور» الغربية وبلاد «النوبة» حتى شواطئ «بحيرة تشاد»
الشرقية، واضطرت «الأسرة السيفية الماغومية» الحاكمة فى «كانم»
إلى الهرب إلى إقليم «برنو» الذى يقع فى غرب «بحيرة تشاد» .
ولكن لم يلبث حكام «برنو» أن استعادوا قوتهم على يد الماى «على
جاجى بن دونمه» الملقب بالغازى؛ نظرًا لغزوه إقليم «كانم» ، ونشب
بينه وبين «البلالة» صراع منذ عام (1472م) فى محاولة لاسترداد
«كانم» مرة أخرى، واستمر الصراع فترة طويلة انتهى بعقد اتفاقية
سلام، اتفقا فيها على رسم الحدود بين «كانم» و «برنو» .
وعلى الرغم من ذلك وبمرور الوقت بدأ الضعف يدب فى جسد سلطنة
«البلالة» ؛ بسبب الفتن والاضطرابات والحروب الأهلية، وظهور إمارات
جديدة بدأت تُغِير على سلطنة «البلالة» ، مثل سلطنة «واداى» التى
تقع فى الشمال الشرقى لدولة «البلالة» ، وسلطنة «باجرمى» التى
تقع فى جنوبيِّها الغربى.
وعلى الرغم من هذا الضعف فقد ظلت هذه السلطنة قائمة حتى بداية
القرن العشرين؛ حيث سقطت فى قبضة الاستعمار الفرنسى فى عام
(1900م)، ومع ذلك حكم بعض سلاطين «البلالة» تحت راية هذا
الاستعمار، وظلوا كذلك حتى نالت البلاد استقلالها فى عام (1960م)
ودخلت بلاد «البلالة» ضمن حدود جمهورية «تشاد» الحديثة منذ ذلك
التاريخ.
وقد أدَّت «سلطنة البلالة» دورًا اقتصاديا وعلميا ودينيا مهما فى
تاريخ المنطقة؛ إذ كانت نظرًا لموقعها بين «دارفور» و «النوبة» فى
الشرق، و «كانم» و «بحيرة تشاد» وماوراءها من بلاد «الهوسا»
و «مالى» فى الغرب، و «ليبيا» فى الشمال - مركزًا مهما من مراكز
التجارة التى تأتى من هذه البلدان مما انعكس أثره على مسيرتها
التاريخية، ودَعْم اقتصادها، ورَبَط بينها وبين دول تقع خارج منطقة
«بحيرة تشاد» ، واتسعت تجارتها حتى وصلت إلى «مصر» وغيرها
من البلدان، كما زادت محصولاتها الزراعية.
أما الحياة العلمية: فقد تجلت فى المدارس والعلماء والفقهاء
والأشراف الذين كانوا يُعامَلُون بكلِّ تبجيلٍ واحترامٍ، كما ظهرت الطرق
الصوفية وبخاصة «التيجانية» و «القادرية» ، وكان لهذه الطرق أثر
كبير فى نشر الإسلام فى هذه البلدان.
أما اللغات التى كانت منتشرة بين «البلالة» ، فهى عديدة، فقد كانوا
يتكلمون لغة «كوكا» وهى قبيلة كانت تسكن مملكة «جاوجا» - أحد
أقاليم سلطنة البلالة - وكانوا يتكلمون أيضًا اللغة العربية التى كانت
لغة العلم والتعليم ولغة الحكومة الرسمية والتجارة والمراسلات، حتى
قضى الاستعمار الفرنسى عليها وعلى استخدام الحروف العربية فى
الكتابة وحَوَّلَها إلى الكتابة بالحروف اللاتينية، وإن كان كثير من
الأهالى - حتى الآن - يحافظون على التحدث والكتابة باللغة العربية،
ومعظمهم - أى نحو (85%) - يدينون بالإسلام.
الفصل الثامن
*الطابع الإسلامى والثقافة العربية فى غرب إفريقيا (السودان الغربى والأوسط):
يهمنا الآن أن نتحدث عن الطابع الإسلامى ومظاهر الحضارة فى
غربى إفريقيا، وعن المراكز التى نهضت بهذا العمل وحفظت للإسلام
نقاءه وقوته حتى بداية تعرض المنطقة للكشوف الجغرافية الأوربية
والاستعمار الأوربى فى العصر الحديث.
ونلاحظ أن الامتزاج الكامل بين التقاليد الإسلامية والتقاليد السودانية
الزنجية فى بداية هذا الدور قد تم، كما تمت المواءمة بين هذين
العنصرين، وظهرت تقاليد إسلامية الشكل والطابع، إفريقية الروح،
وروايات الرحالة والجغرافيين والمؤرخين العرب مثل: «ابن بطوطة»
و «الحسن الوزان» و «القلقشندى» وغيرهم، ومن مؤرخى «السودان»
مثل «السعدى» صاحب كتاب «تاريخ السودان» ، و «محمود كعت»
صاحب كتاب «الفتاش» وغيرهما؛ تشعرنا بأننا نتعامل مع مجتمع
إفريقى صميم، اكتسب الثوب والصبغة الإسلامية الواضحة.
فالقلقشندى يتحدث عن تقاليد البلاط فى سلطنة «مالى» ، فيشير
إلى جلوس السلطان على مصطبة كبيرة عليها دكة أو كرسى من
خشب الأبنوس، تحيط بها أسنان الفيلة من كل صوب، ويتحدث عن
رجل مهمته أن يكون سفيرًا بين السلطان والناس اسمه أو لقبه
الشاعر، وعن المحيطين بالسلطان وهيئة الداخلين عليه، وغير ذلك.
ورواية «ابن بطوطة» لا تبعد كثيرًا عن هذا الوصف، وهو يشير إلى
دار السلطان التى تطل على المشور (دار الشورى)، ويصف السلطان
وترتيب الجالسين فيشير إلى نائبه، ثم الفرارية، وهم الأمراء، ثم
الخطيب، والفقهاء.
ولم ينفرد سلاطين «مالى» بهذا اللون الفريد من الحياة، فقد شاركهم
فيه أهل «صنغى» وغيرهم من شعوب «السودان الغربى» والأوسط،
فى إمارات «الهوسا» السبع فى شمالى «نيجيريا» وفى بلاد
«الكانم والبرنو» .
وكانت العلاقة بين السلاطين والرعية تقوم على الخضوع الشديد
لهؤلاء السلاطين، يدل على ذلك العادات التى كانت منتشرة فى بلاد
«السودان الغربى» ، والأوسط.
ومع ذلك فثمة مظاهر إسلامية أو عربية خالصة، تتجلى فى التشدد
والتمسك بمذهب «مالك» ، وحرص الفقهاء على التقاليد وعزوفهم عن
مصاحبة السلطان وتولى الوظائف، مثلما كان الحال فى بلاد شمال
إفريقيا و «الأندلس» . وقد تغلغل العلماء فى الحياة وتمتعوا بالزعامة
الدينية والشعبية؛ إذ صاروا لسان حال الشعب والمدافعين عنه أمام
ظلم الحكام وعنتهم، وهى الصورة نفسها التى نلحظها فى المغرب
الإسلامى وبلاد «الأندلس» ؛ مما يدل على وحدة تلك المنطقة من
الناحية الدينية والثقافية، كذلك نشعر بتقدير سلاطين السودان لهؤلاء
الفقهاء واحترامهم لهم، حتى إن من يلجأ إلى ديارهم يأمن عقاب
السلطان ولايجرؤ أحد على التعرض له بسوء.
وقد سبقت الإشارة إلى مواظبة أهل «السودان الغربى» على
الصلوات والتزامهم بها فى الجماعات، وضربهم أولادهم إذا ما قصروا
فى أدائها أو فى حفظ القرآن، وازدحام المساجد بالمصلين حتى إنه
إذا لم يبكر المرء بالذهاب إلى المسجد لم يجد موضعًا، كما سبقت
الإشارة إلى كثرة عدد المساجد واعتناء السلاطين ببنائها وتعيين
الأئمة والخدم لها، وقد التزم الجميع بمذهب الإمام «مالك» .
كما نلاحظ أن جميع الأسر الحاكمة فى «السودان الغربى» والأوسط
اصطنعت لنفسها نسبًا عربيا؛ فسلاطين «مالى» يدعون الانتساب
إلى «عبدالله بن صالح بن الحسن بن على» ، وانتسب سلاطين «كانم
وبرنو» إلى «حِمْيَر» ، واتخذ سلاطين «صنغى» مثل هذا النسب
العربى، بل وحرصوا على الحج والحصول على تقليد من الخليفة
العباسى بالحكم، كل ذلك ليكتسبوا صبغة إسلامية كاملة وليفوزوا
برضا الرعية، وليفسحوا لأنفسهم مجالا فى الحياة الإسلامية الدولية.
وقد حرص سلاطين «السودان الغربى» والأوسط وملوكهم ورعيتهم
على أن يقتبسوا من التقاليد الشائعة فى الحياة الإسلامية المعاصرة
لهم، فهم فى لباسهم يتشبهون بأهل «المغرب» ، وتأثر كل من
«منسا موسى» و «أسكيا محمد الأول» اللذين زارا «مصر» بأساليب
الحياة فى «مصر المملوكية» ، فسلطان «مالى» مثلا يتخذ حاشية من
ثلاثين مملوكًا من الترك، اشتراهم من «مصر» ، وطريقة جلوسهم
وخروجهم إلى المسجد يوم العيد لاتختلف كثيرًا عما كان مألوفًا عند
سلاطين المماليك وغيرهم من ملوك الإسلام.
كما حرصوا على أن تكون وثائقهم ومكاتباتهم الرسمية باللغة
العربية، حتى التنظيمات الإدارية والحربية تأثروا فيها بما شاهدوه
فى «مصر» ، فملوك «صنغى» يقسمون الإمبراطورية إلى ولايات أو
أقاليم وكل ولاية إلى مدن ثم إلى قرى، ثم ينظمون الجيش إلى فرق
للمشاة والخيالة والأبالة، بل استخدموا الأسلحة النارية وخاصة ملوك
«الكانم والبرنو» ؛ مما ساعدهم فى مشروعاتهم السياسية والحربية
إلى حد كبير.
أما عن الثقافة الإسلامية فإنه يمكننا القول: إن هذه الثقافة كانت
عربية خالصة، لم تدخلها تأثيرات أخرى؛ لعدم وجود تقاليد ثقافية
زنجية فى ذلك الوقت، وكانت هذه الثقافة الإسلامية ذات صبغة
مغربية أندلسية؛ حيث إن الإسلام دخل إلى تلك البلاد من «المغرب» ،
وبالتالى انتقلت ثقافة «المغرب» إلى «أودغشت» و «تمبكت وجاو»
وبقية مدن «السودان الغربى» والأوسط، حتى طريقة الكتابة نفسها
تأثرت بالطابع المغربى، فالقلم المستخدم هو القلم المغربى،
والمناهج والكتب المتداولة هى المناهج والكتب المالكية المغربية
نفسها مثل كتب «عياض» و «سحنون» و «موطأ مالك» و «المدونة»
وغيرها، وكلها كانت تدرس فى مدارس غربى إفريقيا فى «جنى»
و «تمبكت» و «كانو» و «كاتسينا» و «برنو» .
حتى التأثيرات الأندلسية دخلت إلى مدارس «المغرب» وغربى إفريقيا
وخاصة بعد سقوط دولة الإسلام فى «الأندلس» ، فقد رحل علماؤها
إلى غربى إفريقيا وأقام كثير منهم فى «تمبكت» ، وشواهد بعض
القبور التى كشف عنها فى منطقة «النيجر» ظهر أنها صنعت فى
مدينة «ألمرية» بالأندلس عام (494هـ = 1100م)، وتحمل نقوشًا عربية
أندلسية، كما تأثرت قصور ملوك «السودان الغربى» والأوسط
بالعمارة المغربية الأندلسية.
وقد تأثرت مدارس «السودان الغربى» والأوسط بالمدارس الإسلامية
الأخرى، خاصة مدارس «مصر» المملوكية، ورحل أهل «السودان» إلى
«مصر» وتعلموا فيها، ورحل بعضهم إلى «الشام» و «الحجاز» ،
ووصلت مؤلفات المصريين إلى هذه البلاد، وقد عرفنا كيف ابتاع
«منسا موسى» الكتب وحملها معه إلى بلاده، كما أن مؤلفات
«السيوطى» وغيره من علماء «مصر» شاعت فى هذه البلاد، وكان
تأثر الطلاب السودانيين بمدارس «مصر» لايقل عن تأثرهم بمدارس
«المغرب العربى» .
وليس معنى ذلك أن الثقافة الإسلامية فى غربى إفريقيا كانت تقل
عن نظيرتها فى بلاد «المغرب» ، من حيث الغزارة والعمق، فعلماء
«السودان» وفقهاؤه لم يختلفوا عن نظائرهم فى «المغرب العربى» ،
فقد روى «السعدى» أن فقيهًا اسمه «عبدالرحمن التميمى» جاء من
الحجاز بصحبة السلطان «منسا موسى» حين عاد من الحج فأقام
بتمبكت زمنًا، ولما رأى فقهاءها يتفوقون عليه غادرها إلى «فاس»
حتى يتزود من العلم ثم يعود إليهم.
وهناك من اشتهر من مؤرخى السودان الغربى والأوسط وكُتَّابه
أمثال: «أحمد بابا التمبكتى» ، الذى وُلد بوهران عام (963 - 1037هـ
= 1556 - 1627م) فهو من أصل صنهاجى، ثم رحل إلى «تمبكت»
وفيها ظهرت مواهبه وارتفعت مكانته العلمية وكان رجلا واسع
الثقافة، ألَّف فى كل العلوم المألوفة فى عصره، وذيَّل كتاب الديباج
المذهب لابن فرحون وسماه «نيل الابتهاج بتطريز الديباج» ، وأرَّخ
فيه حتى سنة (1006 هـ = 1597م) وهو يعطينا صورة طريفة لتاريخ
الحركة الفكرية فى «السودان الغربى» كله.
وهناك المؤرخ «السعدى» وهو من رجال القرن السابع عشر
الميلادى، وقد أقام بتمبكت و «جنى» ورحل إلى «المغرب» ، وهو
صاحب الكتاب المشهور المسمى «تاريخ السودان» ، والذى يعطينا
معلومات وافية عن تاريخ «دولة صنغى» وعن أحوالها الاجتماعية
والثقافية، كذلك كان شأن «محمود كعت التمبكتى» صاحب كتاب
«الفتاش فى أخبار السودان» ، فقد كان فقيهًا من فقهاء «تمبكت»
صَحِبَ «أسكيا محمد الكبير» ، وألف كتابه بالأسلوب المغربى المألوف
نفسه.
وهناك أيضًا الإمام المؤرخ «أحمد بن فرتو» ، الذى عاش فى سلطنة
«برنو» وكان يعاصر الماى «إدريس ألوما» (978 - 1012هـ= 1570 -
1603م)، وهذا الإمام سليل أسرة دينية كان لها أثرها الكبير فى
نشر الإسلام فى «برنو» ، وجده البعيد هو الإمام «محمد بن مانى»
الذى أسلم على يديه سلاطين «كانم وبرنو» الأوائل فى القرن
الحادى عشر الميلادى.
وقد كتب «أحمد بن فرتو» تاريخًا لبلاده يعتبر المرجع الرئيسى،
وخاصة تاريخ الفترة التى عاصرها زمن «إدريس ألوما» ، ومؤلفاته
مدونة باللغة العربية ونشرت فى عام (1349هـ = 1930م) على يد
أمير «كانو» فى «نيجيريا» .
ورغم أن هؤلاء الكتَّاب وغيرهم كتبوا باللغة العربية فإننا لا ندرى
بالضبط مدى انتشار اللغة العربية بين عامة الناس فى تلك الفترة،
ويبدو أنهم كانوا يستخدمون لغتهم الأصلية فى حياتهم الخاصة،
ويقتصر استعمال العربية عندهم على المكاتبات والعقود التجارية،
ومما يدُّل على ذلك أن «ابن بطوطة» حضر صلاة الجمعة فى أحد
مساجد «مالى» ؛ فرأى رجلا يقف ويبين للناس بلسانهم كلام الخطيب،
أى أنه كان يترجم كلام الخطيب إلى اللغة المحلية، ويشير هو وغيره
إلى وجود وظيفة الترجمان فى بلاط السلطان، ويتضح ذلك أيضًا من
اختلاط «ابن بطوطة» و «الحسن الوزان» ببعض أهالى «السودان» ،
وكانا لايعرفان لغة هؤلاء الناس إلا عن طريق ترجمان.
هذا عن انتشار الثقافة العربية الإسلامية فى غربى إفريقيا، أما
المراكز التى استقرَّت فيها هذه الثقافة وانطلقت منها إلى نواحى
«السودان» المختلفة فعديدة؛ من أهمها: مدينة «تمبكت» ، و «جنى» ،
و «أودغشت» ، و «كانو» ، و «كتسينا» ، و «جاو» .
1 -
مدينة تمبكت:
تعتبر مدينة «تمبكت» أهم مركز تجارى وثقافى فى غربى إفريقيا،
وقد أُنشئت فى أواخر القرن الخامس الهجرى سنة (490هـ = 1097م)
فى عهد الأمير «يوسف ابن تاشُفين» على نهر «النيجر» الأعلى،
وبلغت مكانةً لا تقل عن مكانة «القيروان» أو «فاس» أو «القاهرة»
أو «قرطبة» فى مجال الثقافة العربية الإسلامية، التقى فيها العلماء
والفقهاء من جميع الأجناس والألوان من بلاد «المغرب» و «الأندلس»
و «مصر» و «الحجاز» وبلاد «السودان» .
وكانت «تمبكت» مركزًا مهما من مراكز الثقافة العربية فى إفريقيا،
تخرَّج فى جامعتها - التى يمثلها «جامع سنكرى» الشهير - علماء
ومؤرخون كان لهم فضلٌ كبيرٌ فى نشر الإسلام والثقافة العربية،
وكان الطلاب يَفِدون إلى هذه المدينة بعد حفظ أجزاء من القرآن فى
مدارسهم المحلية، ثم يُكْمِلون تعليمهم معتمدين على الأوقاف التى
كانت محبوسة عليهم وعلى «جامع سنكرى» .
وكان علماء «تمبكت» يُقبِلون فى شغف على إنشاء مكتباتهم
الخاصة، وبعضهم زادت مكتبتهُ على ألفى كتاب، كما اقتنى بعض
السلاطين مثل هذه المكتبات، واتصل علماء «تمبكت» بإخوانهم فى
الأمصار الإسلامية الأخرى، فى «القاهرة» و «فاس» و «القيروان» ؛ مما
أعطى الحركة الفكرية فى «تمبكت» صفة العالمية.
وخلاصة القول أن هذه المدينة كانت مدينة إسلامية منذ نشأتها،
فهى كما قال «السعدى» : ما دنَّستها عبادةُ الأوثان، ولا سُجِدَ على
أديمها لغير الرحمن، مأوى العلماء والعابدين، ومألف الأولياء
والزاهدين، ولذلك ارتبط تاريخ الثقافة العربية الإسلامية فى غربى
إفريقيا بتاريخ هذه المدينة نفسها.
2 -
مدينة جنِّى:
أُسِّسَت هذه المدينة على «نهر النيجر» الأعلى فى منتصف القرن
الثانى من الهجرة (حوالى سنة 800م) وأسلم أميرُها «كنبرو» فى
نهاية القرن الحادى عشر الميلادى فى عهد المرابطين، وحذت حذوه
الرعية، وبنى أميرها مسجدها العتيق على نظام المسجد الحرام فى
«مكة المكرمة» ، وكان الإسلام والثقافة الإسلامية قد تدفقا إلى هذه
المدينة المهمة التى تلى «تمبكت» فى الأهمية قبل اعتناق «كنبرو»
الإسلام، بدليل أنه أسلم على يد علمائها وفقهائها الذين جمعهم،
وبلغ عددهم حسب رواية «السعدى» ما ينيف على أربعة آلاف، وإن
كان هذا العدد مبالغًا فيه إلا أنه ليس غريبًا؛ بسبب علاقات مدينة
«جنى» التجارية مع بلاد «المغرب» وحوض «السنغال» ، وقد نهضت
الثقافة الإسلامية بمدينة «جنِّى» نهضة كبرى، يستفاد ذلك مما رواه
«السعدى» عمَّن أقام بها ووفد إليها من العلماء والقضاة ورجال
الدين.
3 -
أودغشت:
مدينة قديمة لم يَعُدْ لها وجود الآن، وتعد من المراكز الثقافية
الإسلامية المهمة التى كان لها دور كبير فى نشر الإسلام وثقافته
فى غربى إفريقيا.
كانت «أودغشت» أول الأمر محطة تجارية لقبيلة «صنهاجة» ، على
الحدود الشمالية لمملكة «غانة» الوثنية، ولما فتح الصنهاجيون جزءًا
كبيرًا من «غانة» فى نهاية القرن الرابع الهجرى العاشر الميلادى
أصبحت «أودغشت» حاضرة لتلك القبيلة القوية، ثم استولت عليها
مملكة «غانة» الوثنية، ولكن الصنهاجيين الذين اعتمد عليهم
المرابطون أو الملثَّمون استطاعوا استعادتها عام (447هـ= 1055م)،
ومنها انطلقت موجات من دعاة المرابطين إلى بلاد «السودان» ،
وتأكَّد دورها فى نشر الإسلام وازدهر بعد سقوط دولة «غانة»
الوثنية نفسها عام (469هـ= 1076م).
وقد وصفها «البكرى» المتوفى عام (487هـ = 1094م) بأنها مدينة
زاهرة، يتألف سكانها من العرب والبربر والسودانيين.
وكان يوجد بمساجدها معلمون لتعليم القرآن الكريم والسنة النبوية
وسائر العلوم الإسلامية، كما كثُرت بها المدارس لتعليم الأطفال،
واشتُهِرَت بمبانيها الجميلة وأسواقها العامرة، وكان يوجد بها بعض
الصناعات المعدنية التى بلغت درجة كبيرة من الرقى والإتقان، كما
كانت تتجر فى الأقمشة الحريرية الموشَّاه بالذهب، مما جعلها مركزًا
تجاريا وصناعيا وثقافيا كبيرًا؛ يربض على طرف الصحراء من ناحية
الجنوب.
4 -
كانو:
تعتبر هذه المدينة من مراكز الثقافة الإسلامية بغربى القارة، ومن
أهم مدن شعب «الهوسا» شمالى «نيجيريا» الحالية، ويمكن أن يقال
إنه كانت هناك سبع إمارات تابعة للهوسا، هى إمارات:«كانو»
و «رانو» و «زاريا» و «دورا» و «جوبير» و «كتسينا» و «زمفارا» ، وتقع
هذه الإمارات فى شمالى «نيجيريا» الحالية، شرقى ثنية نهر
«النيجر» أو بينها وبين بلاد «برنو» .
ويذكر «الحسن الوزان» أن «أسكيا الحاج محمد» ملك «جاو»
(صنغى) قتل ملك «الهوسا» وضم البلاد إلى مملكته فى عام (918هـ=
1512م)، ورغم ذلك فقد كان لبعض إمارات الهوسا فضل ثقافى
كبير، فإمارة «كانو» يرجع الفضل إليها فى نشر الإسلام شرقًا
حتى «بورنو» ، وإمارة «زاريا» يرجع الفضل إليها فى نشر الإسلام
فى أواسط «نيجيريا» ، وقد ظهرت «كانو» و «كاتسينا» كمراكز
للثقافة الإسلامية منذ القرن الخامس عشر الميلادى.
وقد تضاعفت الشهرة العلمية لمدينة «كانو» و «كاتسينا» بعد الأحداث
التى أصابت مدينة «تمبكت» منذ القرن السادس عشر الميلادى،
وخاصة بعد الغزو المرَّاكُشى لها ولمملكة «صنغى» ، وما نتج عن ذلك
من هجرة العلماء والطلاب والفقهاء إلى «كانو» وغيرها من مدن
«السودان الغربى» العديدة، ولاتزال تلك المدينة إلى اليوم من أهم
مراكز الثقافة الإسلامية فى غربى إفريقيا، وبها مدرسة للعلوم
العربية ومدرسة للقضاء الشرعى والفقه الإسلامى.
الفصل التاسع
*الإسلام والعروبة فى سودان وادى النيل
لم تكن بلاد «السودان الشرقى» (النيلى) أو «سودان وادى النيل»
مجهولة للعرب قبل الإسلام، فقد مخرت سفنهم عباب البحر الأحمر
حتى وصلوا إلى الشاطئ الإفريقى ومنه إلى «السودان»
و «الحبشة» ، فضلا عن الطريق البرى عبر «سيناء» إلى «مصر» ،
ومنها جنوبًا إلى «السودان» ، والطريق البحرى عبر «باب المندب»
إلى «الحبشة» ومنها إلى «السودان» ؛ كل ذلك بهدف التجارة بين
هذه البلدان وبين عرب «اليمن» و «الحجاز» ، وبظهور الإسلام
وانتشاره فى «مصر» أصبح وادى النيل معبرًا جديدًا للعرب والإسلام
إلى بلاد «السودان النيلى» سلكته الجيوش والقبائل العربية، إما
بقصد الغزو والفتح وإما بقصد التسرب السلمى بغرض الإقامة ونشر
الإسلام بين أهالى هذه البلاد.
وكانت هناك مملكتان مسيحيتان فى «السودان النيلى» ، هما مملكة
«مقرة» أو «دنقلة» أو «النوبة» فى شمالى هذا السودان، ومملكة
«علوة» فى وسطه، وكانت هذه الممالك تقف فى وجه انتشار
الإسلام، وأمام جهود المسلمين للدخول إلى «السودان النيلى» من
ناحية «مصر، ولهذا كان انتشار الإسلام يتوقف على إضعاف هذه
الدول أو القضاء عليها.
وبدأ اللقاء الأول بين هذه الدول المسيحية وبين المسلمين منذ وقت
مبكر، فقد أرسل «عمرو بن العاص» - رضى الله عنه - والى «مصر»
بعض جنده إلى «بلاد النوبة» عام (21هـ = 642م)، لكنه لم يتمكَّن من
فتحها، ثم غزاهم «عبدالله بن سعد بن أبى السرح» والى مصر عام
(31هـ = 651م)، ووصل فى زحفه حتى «دنقلة» عاصمة مملكة
«مقرة» المسيحية، وعقد معهم صلحًا عُرِفَ باسم «البقط» ، وتدل
نصوص هذا الصلح على أنه يهدف إلى التسامح الدينى وحسن
الجوار، ولايعكس تبعية «دنقلة» لمصر الإسلامية، أى لم يكن فى
حقيقته إلا تأمينًا للنواحى الاقتصادية والتجارية والدينية، وتشجيعًا
للتبادل التجارى، وإقرارًا للسلام على الحدود المشتركة؛ ولذلك ظلت
هذه المعاهدة سارية المفعول أكثر من ستمائة سنة.
…
ويلفت النظر فى هذه المعاهدة اشتراط «عبدالله بن سعد» على
النوبيين أن يحافظوا على المسجد الذى بناه المسلمون فى «دنقلة» ،
ويحموا التجار المسلمين، وغيرهم ممن يطرقون بلادهم، وهذا يؤكد
حرص «عبدالله بن سعد» على أن يظل الطريق مفتوحًا خلال مملكة
«مقرة» إلى الجنوب؛ حيث توجد مملكة «علوة» التى يمكن نشر
الإسلام بها عبر التجار والمسافرين من المسلمين.
وأثناء انصراف «عبدالله بن سعد» من «النوبة» تعرض له «البجة» أو
«البجاة» ، ويبدو أنه لم يصطدم بهم لهوان شأنهم فى نظره، لأنه لم
يكن لهم ملك يمكن الرجوع إليه، وكانت أوطان هذا الشعب تمتد فى
الصحراء الشرقية بين «النيل» و «البحر الأحمر» من حدود جنوب
«مصر» فى الشمال إلى حدود «الحبشة» فى الجنوب، وقد أغاروا
على صعيد «مصر» سنة (107هـ = 725م) فصالحهم «عبيد الله بن
الحبحاب» والى «مصر» ، وكتب لهم عقدًا بذلك.
وعندما أغاروا على «أسوان» بعد ذلك جرَّد لهم الخليفة «المأمون»
عام (216هـ = 831 م) جيشًا بقيادة «عبدالله بن الجهم» ، وانتهى الأمر
بعقد صلح جديد بينه وبين ملكهم «كنون بن عبدالعزيز» ، ومن أهم
شروطه أن تكون بلاد «البجة» من حدود «أسوان» إلى ما بين
«دهلك» و «مصوع» ملكًا للخليفة، وأن يكون «البجة» وملكهم أتباعًا
له، مع بقاء هذا الملك فى منصبه ويتعهدون بعدم منع أى مسلم من
دخول بلادهم بقصد التجارة أو الإقامة أو الحج، وأن يؤدى ملك
«البجة» ما عليه من الخراج.
وهكذا فتحت هذه المعاهدة البابَ أمام الهجرات العربية لاجتياز مملكة
«مقرة» دون الإقامة بها، فى طريقها إلى وسط «السودان النيلى»
أو ما عرف باسم «مملكة علوة» بينما سمحت المعاهدة مع «البجة»
للهجرات العربية بالاستقرار والإقامة فيما بين حدود «مصر» الجنوبية
وحتى «مصوع» ، وبهذا أصبح الباب مفتوحًا للإسلام والثقافة العربية
للتوغُّل فى وسط «السودان النيلى» وحتى حدود «الحبشة» الشمالية.
وقد أثَّرت أحداث العالم الإسلامى؛ وخاصة الصراع بين الأمويين
والعباسيين، وظهور العناصر الأخرى من الفرس وغيرهم على المسرح
السياسى واستبدادهم بالسلطة والنفوذ، فى هجرة الكثير من القبائل
العربية إلى الجنوب، وقد انتهزت تلك القبائل فرصة الحملة التى
أعدَّها «أحمد بن طولون» والى «مصر» إلى أرض «النوبة» و «البجة»
فاشترك فيها كثير من العرب وخاصة من «ربيعة» و «جهينة» ؛ حيث
استقروا فى هذه المناطق ونشروا الإسلام واختلطوا بالنوبة
و «البجة» .
وقد حرص رؤساء العرب على التزوُّج من بنات «البجة» و «النوبة» ؛
مما أدَّى إلى انتقال الرئاسة إليهم وفقًا لنظام الوراثة عن طريق الأم،
وقد استطاعوا إقامة أول إمارة إسلامية عربية كان مقرُّها فى
«أسوان» فى عهد الفاطميين، وخلع الخليفة «الحاكم بأمر الله
الفاطمى» على أمير «ربيعة» لقب «كنز الدولة» فعرف «بنو ربيعة»
فى «أسوان» و «النوبة» ببنى كنز، واستطاع هؤلاء أن يصاهروا
البيت المالك النوبى فى «دنقلة» ، وتبعًا لذلك انتقل الحكم هناك إلى
«بنى كنزة» وأعلنوا استقلالهم عن الدولة المملوكية فى «مصر»
سنة (723هـ = 1323م).
وبذلك ظهرت أول إمارة إسلامية فى بلاد «السودان الشرقى» ،
وتدفقت موجات من العرب ولاسيما من عرب «جُهَينة» إلى داخل
«السودان» حتى بلاد «الحبشة» و «دارفور» ، واستقر كثير منهم فى
أرض «مملكة علوة» المسيحية وأسَّسوا مدينة «أربجى» على
الشاطئ الغربى من النيل الأزرق عام (879هـ = 1474م) ومع توالى
الهجرات العربية إلى مملكة «علوة» وازدياد نفوذها، عمل ملوك
«علوة» على استمالتهم بالمصاهرة، فانتقل الحكم إلى «جهينة» عن
هذا الطريق، كما حدث فى مملكة «النوبة» من قبل، وخاصة بعد أن
تحالف هؤلاء العرب مع «الفونج» القادمين من الجنوب، وقضوا على
مملكة «علوة» نهائيا فى مستهل القرن السادس عشر الميلادى وبذلك
انتهت ممالك «النوبة» أو ممالك «السودان الشرقى» (النيلى)
المسيحية، وبدأ عهد جديد فى تاريخ تلك البلاد ظهرت فيه عدة ممالك
أو سلطنات إسلامية من أهمها:
الفصل العاشر
*سلطنة الفونج الإسلامية فى سنار
[910 - 1236هـ = 1505 - 1820م]:
اختلف الباحثون فى أصل «الفونج» ، فقيل إنهم من سلالة عربية
أموية هربت من وجه العباسيين، وأنهم جاءوا إلى «الحبشة» أولا
ومنها إلى «السودان الشرقى» (النيلى)؛ حيث تصاهروا مع ملوك
«السودان» ، وظهرت نواة إمارة «الفونج» عقب القضاء على مملكة
«دنقلة» المسيحية، وتسرَّب العرب على نطاق واسع إلى مملكة
«علوة» المسيحية، واتَّسع نطاق هذه الإمارة غربًا، ووصل إلى
أطراف منطقة الجزيرة من الشرق، ثم تمَّ التحالف بين هذه الإمارة
النامية فى عهد أميرها «عمارة دونقس» (911 - 941هـ= 1505 -
1534م) وبين عرب «القواسمة» الذين ينتمون إلى مجموعة
«الكواهلة» فى عهد زعيمهم وشيخهم «عبدالله جَمَّاع» .
وقد كان لهذا التحالف نتائج مهمة فى تاريخ «سودان وادى النيل» :
أولها: قضاء الحليفين على مملكة «علوة» المسيحية عام (911هـ=
1505م).
وثانيها: قيام مملكة «العبد لاب» التى اتَّخذت مدينة «قِرِّى» حاضرة
لها، ثم انتقلت منها إلى «حلفاية» ، وشاركت «الفونج» فى السيطرة
على القسم الشمالى من البلاد وامتدَّ ملكهم من مصب «دندر» إلى بلاد
«دنقلة» .
وثالثها: قيام مملكة «الفونج» الإسلامية التى كان «عمارة دونقس»
أول سلطان لها وامتدت من «النيل الأزرق» إلى «النيل الأبيض» .
وقد بلغت هذه السلطنة أوج مجدها فى عهد السلطان «بادى الثانى
أبو دقن» (1052 - 1088هـ = 1642 - 1677م)؛ إذ امتدت رقعتها من
«الشلال الثالث» إلى «النيل الأزرق» ، ومن «البحر الأحمر» إلى
«كردفان» ، واستمر توسُّع هذه الدولة طيلة القرن الثامن عشر
الميلادى فى عهد الملك «بادى الرابع» .
غير أنه قبيل نهاية ذلك القرن ظهرت عوامل الضعف فى هذه
السلطنة، عندما تصدَّعت عُرَى التحالف بين سلاطين «الفونج» و «عرب
القواسمة»، كما كان لاستبداد الوزراء والقواد أثره فى القضاء على
هذه الدولة، فقد استطاع «محمد بن أبى لكيلك كتمور» المتوفى سنة
(1190هـ = 1776م) أن يعزل السلطان «بادى الرابع» ويولِّى غيره،
وبدأت الانقسامات الداخلية والحروب الأهلية؛ فأدَّت إلى انحلال
الأسرة المالكة، حتى جاء الفتح المصرى فى النصف الأول من القرن
التاسع عشر الميلادى فى عهد «محمد على باشا» .
وقد اتخذت سلطنة «الفونج» مظهرًا إسلاميا منذ البداية، فقد استهلت
حياتها بالإسهام فى حركة الجهاد الإسلامى، وساعدت العرب فى
القضاء على مملكة «علوة» المسيحية، وبذلك تدفَّق الإسلام فى وسط
«السودان» ، ومنه إلى الجنوب والغرب.
كما أسهموا فى محاربة الوثنيين داخل «السودان» نفسه، فقد
حاربوا أهل جبال «النوبا» بسبب غاراتهم على «كردفان» ،
واستمروا فى حربهم زمنًا طويلا حتى انتشر الإسلام فى كثير من
مناطق هذه الجبال فى غربى «السودان» .
كما حارب «الفونج» «الشلك» (أو الشلوك) للغرض نفسه، بل شاركوا
فى حركة الجهاد الإسلامى ضد الأحباش فى القرن الثامن عشر
الميلادى فقد قضوا على بعثة فرنسية كانت قد قدمت إلى
«الحبشة» ، بهدف مساندتها فى حربها ضد المسلمين عام (1117هـ=
1705م)، كما اشتبكوا مع الأحباش فى عهد الملك «بادى الرابع أبى
شلوخ» سنة (1157هـ = 1744م)، وكانت جيوش «الفونج» بقيادة
شيخ «قرى» التى كان يتولى إمارتها الشيخ «محمد أبو اللكيلك»
كبير الهمج (الهمق)، الذى قضى على دولة «الفونج» فيما بعد، وقد
انتصر هؤلاء القواد على جيش «الحبشة» ، وكان لانتصارهم هذا دوى
هائل فى العالم الإسلامى المعاصر فى «مصر» و «الشام» و «الحجاز»
و «تونس» و «إستانبول» و «الهند» .
ولم يسهم «الفونج» فى نشر الإسلام عن طريق الجهاد فحسب، إنما
استعانوا بالوسائل السِّلمية التى كانت الأصل فى غالب الأحوال
وكان لرواد الدعوة الذين وفدوا من «الحجاز» و «المغرب» و «مصر»
و «العراق» إلى جانب الدعاة الوطنيين فضل كبير فى هذا السبيل
فالحج والتجارة بين «الحجاز» و «السودان» كانا من أكبر ماهيَّأ
للسودان نشر الدعوة. وكان حجاج «السودان» يشجعون علماء
«الحجاز» على الرحلة إلى بلاد «الفونج» ، كما أن كثيرًا من
السودانيين كانوا يتلقون العلم فى «مكة» و «المدينة» . أما «المغرب»
فكان منبعًا آخر للثقافة الإسلامية. أما «مصر» فكانت علاقة
«السودان» بها فى ذلك الحين أقل من تلك التى كانت بينه وبين
«الحجاز» و «المغرب» ، ومع ذلك تطلَّع ملوك «الفونج» إلى «الأزهر»
وعلمائه ورحبوا بهم، وكان بعض السودانيين يذهبون إلى «الأزهر»
ثم يعودون إلى بلادهم ناشرين الإسلام وثقافته.
وقد رحل أحدهم وهو الفقيه «محمد الجعلى» إلى منطقة جبال
«النوبا» التى تقع جنوب «كردفان» مع مجموعة من الفقهاء؛ للدعوة
إلى الإسلام فى أوائل القرن السادس عشر الميلادى واستطاع أن
يتزوَّج أميرة من البيت الحاكم هناك، فانتقل الحكم إلى ابنه المسمَّى
«قيلى أبو جريدة» . وقد أسَّس هذا الابن أول أسرة إسلامية حاكمة
فى جبال «النوبا» ، سنة (926هـ = 1520م) عرفت باسم مملكة
«تقلى» ، وكان هو أول سلاطينها.
كذلك كان لسلطنة الفونج وعاصمتها اتصال بدارفور التى كانت
تستعين بفقهاء «سنار» فى نشر الدعوة، وكان للفونج اتصال أيضًا
بالباشا التركى فى موانئ «البحر الأحمر» فى «سواكن»
و «مصوع» ؛ حيث كان له وكلاء فى «سنار» و «أريجى» ، وكذلك
اتصلوا باليمن وغيره من الأمصار الإسلامية؛ مما يدل على عمق الروح
الإسلامية التى تغلغلت فى مملكة «الفونج» .
وتظهر هذه الروح الإسلامية فى معاملتهم الحسنة لرجال العلم، وفى
احترامهم وإحاطتهم بالرعاية والتكريم، فرحل إليهم كثير من علماء
المناطق النائية، وعاشوا فى جوارهم، مما كان له أثر كبير على
مسيرة الإسلام فى هذه السلطنة.
الفصل الحادي عشر
*سلطنة دارفور الإسلامية
[849=1292هـ = 1445 - 1875م]:
بلاد «دارفور» عبارة عن هضبة تنتشر فيها المراعى وتتخللها بعض
المرتفعات، ويتألف سكانها من العنصر الزنجى والعنصر الحامى،
وكانت هذه البلاد مستقرا لشعب يُسمَّى شعب «الداجو» ، وفد عليها
من الشرق أو من «جبال النوبا» الواقعة غرب «النيل الأبيض» قبل
القرن الثانى عشر الميلادى وأسس فيها مُلكًا.
وفى القرن الثانى عشر الميلادى دخل هذه البلاد عنصر مغربى من
«تونس» يتمثل فى «شعب التنجور» أو «عرب التنجور» ، وهم عنصر
من البربر أو العرب، وقد خالط هؤلاء شعب «الداجو» وصاهروهم،
ونتج عن ذلك وجود جنس مختلط يُسمَّى شعب الفور استطاع أن يصل
إلى الحكم.
كان أول السلاطين المولدين من «الداجو» «والتنجور» هو «أحمد
المعقور» الذى تزوج من ابنة ملك «دارفور» الوثنى، بعد أن أثبت
جدارته فى الإشراف على شئون بيت الملك، وقد اتخذه الملك
مستشارًا، ولما لم يكن للملك أبناء ذكور، فقد زوج ابنته لأحمد
المعقور، وعينه خليفة له، فتأسست بذلك أول سلطنة إسلامية فى
«دارفور» .
ولقد اقترنت إصلاحات السلطان «أحمد» وأولاده من بعده بنشاط
ملحوظ فى نشر الدعوة الإسلامية، على أن «دارفور» لم تدخل فى
الإسلام حقا إلا نتيجة جهود أحد ملوكها وهو «سليمان سولون» الذى
وصل إلى الحكم نتيجة لإحدى الهجرات العربية التى وفدت على
«دارفور» منحدرة من «وادى النيل» فى القرن الخامس عشر الميلادى
وأصهر هؤلاء العرب إلى سلاطين «الفور» ، كما أصهروا إلى ملوك
«النوبة» من قبل.
وكان «سليمان سولون» وليد هذه المصاهرة، وتمكن من اعتلاء عرش
«دارفور» (849 - 881هـ = 1445 - 1476م)، وفتح البلاد للهجرات
العربية، فوفدت قبائل «الحبانية» و «الرزيقات» و «المسيرية»
و «التعايشة» و «بنى هلبة» و «الزيادية» و «الماهرية» و «المحاميد»
و «بنى حسين» وغيرهم، وبفضل هؤلاء العرب المهاجرين إلى
«دارفور» ، اصطبغت السلطنة بالصبغة الإسلامية الواضحة، وعمد
السلطان «سليمان سولون» إلى تنشيط الحركة الإسلامية، عن طريق
استدعاء الفقهاء من الشرق ليعلِّموا الناس أصول دينهم، كما شجع
التجارة وأسس المساجد والمدارس.
وبدأت الدولة تتسع، فامتد سلطانها على «كردفان» فى عهد
السلطان «تيراب» (1768 - 1787م)، وبلغت أقصى اتساعها، فكان
حدها من الشمال «بئر النترون» فى الصحراء الكبرى، ومن الجنوب
«بحر الغزال» ، ومن الشرق «نهر النيل» ، ومن الغرب منطقة «
واداى».
وقد وصل نفوذ الدولة أقصاه فى عهد السلطان «عبدالرحمن الرشيد»
(1192 - 1214هـ = 1778 - 1799م)، الذى نقل العاصمة إلى مدينة
«الفاشر» ، واتصل بالسلطان العثمانى واعترف بسيادته، فمنحه لقب
«الرشيد» .
وفى عهد خلفاء «عبدالرحمن الرشيد» كان من الممكن أن تتسع
السلطنة إلى آفاق أوسع لولا التوسع المصرى فى القرن التاسع
عشر الميلادى، ذلك التوسع الذى قضى على هذه السلطنة عام
(1292هـ = 1875م) فى عهد الخديوى «إسماعيل» .
واصطبغت هذه السلطنة بالصبغة الإسلامية الواضحة؛ حيث عمل
سلاطينها على ربط بلادهم بالعالم الإسلامى المعاصر، وتوثقت به
صلاتهم الثقافية والدينية، فوصل طلاب «دارفور» إلى «مصر»
والتحقوا بالأزهر، حيث أنشئ لهم رواق خاص بهم.
وكان سلاطين «دارفور» رغم ندرة أخبارهم ينهجون نهجًا إسلاميا،
فيلتزمون بأحكام الكتاب والسنة، ويحرصون على تحرى العدل فى
أحكامهم، كما حرصوا على تشجيع العلماء ومنحهم الهدايا، وعملوا
على نشر العلم فى بلادهم، ويذكر «التونسى» أخبارًا كثيرة عن
العلماء والفقهاء الذين وفدوا على «دارفور» لما وجدوه فيها من
تشجيع وعدالة وكرم واحترام.
ومن مظاهر ارتفاع مكانة العلماء فى سلطنة «دارفور» الإسلامية أن
مجلس السلطان كان لايتم إلا بحضورهم، وكانوا يجلسون عن يمينه،
ويجلس الأشراف وعظماء الناس عن يساره، وعند موت السلطان
واختيار سلطان جديد كان هؤلاء العلماء يدخلون ضمن مجلس الشورى
الذى ينعقد لهذا الغرض، وإذا حدث تنازع فإنه لايتم حسمه إلا على
أيديهم، وكان السلاطين يكثرون من الإنعام عليهم ويقطعونهم
الإقطاعات الواسعة حتى يتفرغوا للعلم والدرس، ولم يكن هذا
التشجيع وقفًا على السلاطين وحدهم، فقد شارك فيه الأهالى؛ حيث
كان سكان القرية يسارعون لمقابلة العلماء الوافدين
ويستضيفونهم، كما كانوا يستضيفون الطلبة الغرباء فى بيوتهم
ويعاملونهم كأبنائهم أو ذوى قرباهم.
ومن المظاهر الإسلامية التى وضحت فى سلطنة «دارفور» أن
سلاطينها كانوا يتلقبون بألقاب إسلامية مثل «أمير المؤمنين» ،
و «خادم الشريعة» ، و «المهدى» و «المنصور بالله» ، كما كانوا
يحرصون على النسب العربى كعادة الحكام فى كل ممالك
«السودان» ، كما أن أختامهم التى يختمون بها كتبهم ورسائلهم
كانت تحمل آية من القرآن، وكانوا يحرصون على إرسال محمل
الحرمين الشريفين كل عام إلى «مكة» و «المدينة» ، فكانت قافلة
المحمل ترسل إلى «مصر» محملة بالبضائع، مثل ريش النعام وسن
الفيل والصمغ وغير ذلك من منتجات البلاد، فتباع ويتكون من ثمنها
نقود الصرة التى تحملها القافلة المصاحبة لقوافل الحجاج المصريين
إلى الأراضى المقدسة، وهكذا نرى أن الحياة الإسلامية كانت زاهرة
فى سلطنة «دارفور» الإسلامية.
الطابع الإسلامى والثقافة العربية فى سودان وادى النيل:
يمثل عصر «سلطنة الفونج» فى «سنار» أو فى «وسط السودان»
و «سلطنة دارفور» فى «غربى السودان» عصر الازدهار الإسلامى
فى ذلك الوقت. فقد امتزجت التقاليد الإسلامية الوافدة بالتقاليد
المحلية سواء فى نظم الحكم أو فى الحياة الاجتماعية أو الثقافية،
ونشأ لون جديد من الحضارة إسلامى الصورة سودانى الطابع مثلما
حدث فى «بلاد السودان الغربى» والأوسط (غرب إفريقيا).
فالفونج عملوا على إقامة الشريعة الإسلامية لكنهم انتهجوا فى
الحكم نهجًا محليا صرفًا، يتميز باللامركزية الصرفة؛ حيث سمحوا
للأمراء المحليين بالاستقلال الذاتى، ولم يكن سلطان سنار يحتفظ
بأكثر من تعيين الأمراء أو فرض الإتاوة، وتظهر التقاليد المحلية فى
طريقة التتويج أو التعيين حين يحضر الأمير إلى «سنار» ويحتفل به
السلطان على «الككر» (أى كرسى العرش) ويلبسه طاقية لها
ذُؤابتان عن اليمين والشمال محشوتان بالقطن كأنهما قرنان، ويمنحه
سيفًا، وهى تقاليد نوبية قديمة، ثم يذهب الأمير بعد انتهاء مراسم
التتويج إلى مكان معين فى انتظار دابة تخرج من الأرض يتفاءل
بخروجها، إلى غير ذلك من التقاليد السودانية.
والحياة الإسلامية فى «دارفور» خضعت لهذا التطور نفسه، فقد
تمسك السلاطين بالكتاب والسنة وطبقوا الشريعة الإسلامية تطبيقًا
تاما، ولكنهم لم يهملوا التقاليد المحلية التى تمثلت فى قانون
«دالى» ، وهو مجموعة من الأحكام العرفية كان يقوم بتنفيذها حكام
الأقاليم والقاضى الأعظم، وهو كبير الخصيان الملقب بأبى شيخ.
وهذا القانون ينص على وراثة الملك وعلى إقامة الحدود ودفع
الغرامات من الأبقار التى يملكونها بكثرة، وكان لهم تقاليد خاصة
فى جلوس السلطان على كرسى العرش، ففى يده اليمنى صولجان،
وفى اليسرى سيف مستقيم، وعلى جنبه الأيسر سيف محدب، وفى
الدخول عليه يخلع الداخل الطاقية والسلاح ويلقى بنفسه على الأرض
ويحبو على ركبتيه ويديه كالسلحفاة.
أما فى ميدان الثقافة فلم يكن للسودان ثقافة قديمة، كما كان فى
«مصر» وبلاد «الشام» و «العراق» ، ولذلك كانت ثقافة «السودان»
عربية إسلامية خالصة، لكنها تأثرت بعاملين:
الأول: ضعف النهضة الإسلامية فى هذا العصر عمومًا، وغرق الأمة فى
الدراسات الصوفية التى انتشرت طرقها فى شتى بلدان العالم
الإسلامى؛ ولقيت فى «السودان» جوا ساعدها على النمو والازدهار.
فقد شهد «السودان» فى هذا العصر كثيرًا من الحروب الداخلية، التى
كانت تسيطر على البلاد وتعمل على تمزيقها، بالإضافة إلى أن
العرب الذين هاجروا إلى «السودان» كان معظمهم من الفارين من
الدول الإسلامية بسبب التقلبات السياسية، وكان هؤلاء قد كرهوا
الحياة السياسية، مما ولَّد فى نفوسهم ونفوس السودانيين رغبة
شديدة فى الحياة، بعيدًا عن مزالق السياسة فلبوا دعوة شيوخ
الصوفية فى ترحاب وحماس شديدين، وانتظموا فى الخلايا والزوايا،
وكان لذلك أثر كبير فى التقريب والربط بين القبائل والأجناس فى
بلاد «السودان» .
أما الطرق الصوفية التى انتشرت فى «السودان» فى عصر «الفونج»
فهما طريقتان: الأولى هى «القادرية» ، وكان أتباعها أكثر عددًا من
أى جماعة أخرى، وقد دخلت هذه الطريقة «السودان» على يد «تاج
الدين البهارى»، الذى وصل إلى «السودان» عام (952هـ = 1545م)،
ووفد عليه بعض الأمراء والمشايخ واتبعوا هذه الطريقة وظلت ذريتهم
تباشرها حتى اليوم.
والطريقة الثانية هى الطريقة «الشاذلية» ، المنسوبة إلى «أبى
الحسن الشاذلى» (592 - 656هـ= 1196 - 1258م) الذى وُلد فى
«شاذلة» بتونس، ويقال إن إحدى حفيداته تزوجت من الشريف «حمد
أبو دنانة» الذى نزح إلى «السودان» عام (849هـ = 1445م) قبل
عصر «الفونج» ونشر تلك الطريقة بين الناس.
أما العامل الثانى الذى أثر فى الثقافة العربية فى «السودان» فى
عصر «الفونج» ، فهو موقع «السودان» واتصاله الطبيعى بأمم
إسلامية مجاورة، ومانتج عن ذلك من تبادل تجارى وثقافى؛ إذ
اتصل أهل «السودان» بمصر، ووفد عليها علماؤه وطلابه؛ مما يؤكد
أن «مصر» هى التى غرست البذور الأولى للثقافة العربية الإسلامية
فى بلاد «السودان» ، وهناك عامل لايقل شأنًا عما مضى إن لم يفقها
جميعًا، وهو أثر القبائل العربية المهاجرة إلى «السودان النيلى» ،
وهى قبائل كثيرة يمكن أن نحصرها فى ثلاث مجموعات قبلية
كبرى: أولها «مجموعة الجعليين» وهى عدنانية الأصل ومن أكثر
المجموعات العربية نفوذًا وعددًا، وتركزت هذه المجموعة على
«النيل» بين بلاد «النوبة» وموقع «الخرطوم» الحالية، ثم أخذت
تنتشر نحو «النيل الأزرق» و «الأبيض» و «كردفان» و «دارفور» .
وثانيها «مجموعة جهينة» وهى قبائل قحطانية تلى «مجموعة
الجعليين» فى العدد، وفدت إلى «مصر» بعد الفتح، ثم مضت فى
طريقها إلى «السودان النيلى» منذ القرن الرابع عشر الميلادى،
واتخذت شرقى «السودان» مركزًا لها، ومنه انتشرت بعض بطونها
غربًا حتى وصلت إلى بلاد «البرنو» .
وثالثها «مجموعة الكواهلة» التى نزلت فى «عطبرة» و «النيل
الأزرق» وحول «النيل الأبيض» و «كردفان» .
وقد أقامت هذه المجموعات مشيخات عربية كبيرة وممالك متعددة،
مثل مملكة «العبدلاب» ومملكة «تقلى» التى أسسها العرب من
الجعليين فى منطقة جبال النوبا بكردفان فى أواسط القرن السادس
عشر الميلادى واتخذت هذه المملكة لنفسها منهجًا فى نشر الإسلام
والعروبة فى هذه المناطق الوعرة، فكانت تشجع القبائل العربية
على الهجرة والاستيطان، فهاجر إليها كثير من «الجعليين»
و «البديرية» و «الجوامعة» .
وكانت هذه القبائل ذاتها أداة لنشر الإسلام وثقافته فى أرجاء
«السودان» ، من ذلك ما قام به «الجعليون» خصوصًا «عشيرة
المجذوبين»، التى تنتسب إلى الفقيه «حامد بن محمد المجذوب» ،
وكان كثيرٌ من أبناء هذه العشيرة يرحلون إلى «القاهرة» أو «مكة»
طلبًا للعلم، ثم يعودون إلى «السودان» لمتابعة رسالتهم، فيبنون
المساجد وينشئون الزوايا لتصبح مدارس ومعاهد للتعليم، يفد إليها
الطلاب من مختلف الآفاق.
وقد أنشأت هذه العشيرة مدينة «الدامر» التى أصبحت حاضرة روحية
للجعليين، بل للسودان النيلى كله، وبانتشار العرب فى «السودان
النيلى» على هذا النحو اكتسبت هذه المنطقة النسب والدم العربيين،
بجانب اللغة العربية وثقافتها، وبذلك انضم إلى العالم العربى
والإسلامى قطر فسيح الرقعة يسهم فى الحياة الإسلامية مساهمة
الأقطار الأخرى، ومن أقدم المراكز الإسلامية فى «السودان النيلى»
مدينة «دنقلة» التى دخلها الإسلام قرب منتصف القرن الرابع عشر
الميلادى وارتفعت مكانتها بعد سقوط «مملكة علوة» المسيحية،
وقيام «سلطنة الفونج» الإسلامية محلها، وانتشرت فيها المدارس
والمساجد، ووفد إليها كثير من العلماء والفقهاء من أمثال «غلام الله
اليمنى»، الذى وفد إليها فى النصف الثانى من القرن الرابع عشر
الميلادى وأنشأ فيها مدارس لتعليم القرآن والفقه والحديث.
على أن أعظم هذه المراكز فى المنطقة الشمالية وأوسعها نفوذًا
وأبعدها أثرًا مدينة «الدامر» مركز «الجعليين» وكعبتهم الثقافية،
وقد زارها الرحالة «بركهارت» وتحدث عنها طويلا مشيرًا إلى
مكانتها العلمية وإلى توقير الناس لفقهائها وانتشار نفوذهم فى
جميع أرجاء «السودان النيلى» ؛ وقد وصف مسجدها وتحدث عن
أهميته وعن الحركة العلمية المزدهرة، وعن المدارس الكبيرة وعن
الطلاب الوافدين من «دارفور» و «سنار» و «كردفان» ، وعن الكتب
الكثيرة التى اشتريت من «القاهرة» ، وعن معاهد العلم التى تعلم
تجويد القرآن والتفسير والتوحيد والمنطق وغيرها من العلوم
الإسلامية.
وهناك مدينة «سنار» وهى أعظم المراكز الثقافية فى ديار
«الفونج» ، وكانت مركزًا تجاريا قبل كل شىء فقد عرفت بغناها
الوافر وتجارتها الرابحة، وكان التجار يجلبون إليها البضائع من
«مصر» و «الحجاز» ، وكان يجلب إليها من «كردفان» التبر والحديد
والرقيق، كما جلبت إليها تجارة «الحبشة» وأصبحت مركزًا علميا
تتطلع إليه جميع المناطق السودانية شرقًا وغربًا.
ومن المراكز الإسلامية أيضًا مدينة «الفاشر» التى أصبحت بعد
إنشائها من المراكز الثقافية المهمة فى غربى «السودان النيلى» ،
وإن كانت أقل شأنًا من «سنار» ، وقد لاحظ الرحالة «محمد بن عمر
التونسى» انخفاض المستوى العلمى فى هذه المدينة، ويعود هذا
الأمر إلى أن الإسلام تأخر فى انتشاره فى «دارفور» عن بقية
أقاليم «السودان النيلى» الأخرى، كما يعود إلى الترحال والتنقل
الذى دأبت عليه القبائل العربية التى سكنت «دارفور» ، وهو أمر
لايؤدى إلى ازدهار العلم الذى يحتاج إلى الاستقرار، ويعود أيضًا
إلى قلة عدد العلماء الذين رحلوا إلى هذا الإقليم، ربما بسبب بعده
عن مراكز الثقافة الإسلامية الزاهرة فى «بغداد» و «دمشق»
و «القاهرة» .
أما معاهد التعليم فى «السودان» فى ذلك العصر فهى: المسجد،
والزاوية، والخلوة. والخلوة أو الكُتاب أو المكتب من أقدم هذه
الأماكن وهى منتشرة فى جميع القرى، وعرفها أهل «السودان»
على بداية عهد «الفونج» على يد الشيخ «محمود العركى» ، الذى
قدم من «مصر» عام (926هـ = 1520م)، وأسس خمس عشرة خلوة فى
«سنار» وعلى «النيل الأبيض» وكان يُدرَّس فيها القرآن ويتعلم فيها
الأطفال القراءة والكتابة ومبادئ الحساب فيما يمكن أن نطلق عليه
المرحلة الأولية أو الابتدائية.
وفى المساجد كان الطلاب يدرسون فيما يشبه المرحلة الثانوية أو
العليا، وفيها كانوا يدرسون العلوم الدينية وعلوم العربية والتاريخ؛
حيث يلتف الطلاب حول شيوخهم فى حلقات دراسية.
أما الزاوية فهى تتميز عن الخلوة والمسجد بأنها تجمع بين السكنى
والعبادة والدرس، ففيها ينقطع الطلاب للدرس والعبادة، وهى غالبًا
للصوفية، وكانت فى زمن «الفونج» منتشرة فى جميع البلاد.
وكانت الطريقة التعليمية فى ذلك العهد تعتمد فى جملتها على
الاستظهار والحفظ كما فى سائر البلدان الإسلامية، وعرف
«السودان» معظم العلوم التى عرفها العالم الإسلامى من نحو وصرف
وبيان وبديع وعروض ومنطق وتوحيد وتفسير وحديث وفقه وتصوف
وجبر ومقابلة وتاريخ، ولكن كان أعظمها شأنًا هو علم الفقه
والتوحيد.
وقد ظلت الثقافة الإسلامية مزدهرة طوال ثلاثة قرون فى أرجاء
«السودان النيلى» ، ولكن التعصب القبلى والتنازع على الحكم
وسياسة العزلة التى فرضها حكام «الفونج» فى القرن الثامن عشر
الميلادى أدى إلى انحلال هذه السلطنة، واستطاع «محمد على»
حاكم «مصر» أن يقضى عليها فى عام (1235هـ = 1820م). أما
سلطنة «دارفور» فقد تم القضاء عليها بعد ذلك بنحو نصف قرن على
يد «إسماعيل بن محمد على» ، ثم تمكن الإنجليز من احتلال «مصر»
نفسها عام (1299هـ = 1882م) ووضعوا «السودان» تحت سيطرتهم
ونفوذهم، وبعد استقلال «مصر» فى عام (1371هـ = 1952م) أبرمت
«اتفاقية السودان» بين «مصر» و «بريطانيا» التى نصت على إعطاء
حق تقرير المصير لأهل «السودان» ، فاختاروا الاستقلال وقامت
«جمهورية السودان» فى عام (1376هـ = 1956م).
الفصل الثاني عشر
* الإسلام فى شرق إفريقيا
يقصد بتاريخ الإسلام فى شرق إفريقيا السلطنات الإسلامية التى
ظهرت فى بلاد «الحبشة» و «الزيلع» فى العصور الوسطى، مثل
«سلطنة شوا» و «أوفات» و «عدل» ، وتلك التى ظهرت على طول
الساحل الشرقى من القارة جنوب «الحبشة» حتى «نهر الزمبيزى»
فى «موزمبيق» ، مثل سلطنة «مقديشيو» و «بات» و «كلوا» .
أ - الإسلام والسلطنات الإسلامية فى بلاد الحبشة والزيلع (منطقة
القرن الإفريقى):
كان للحبشة صلات قديمة مع بلاد العرب قبل الإسلام، وهى صلات
تجارية وسياسية وحربية، تتمثل فى التجارة وفى غزو الأحباش لبلاد
«اليمن» ، ولم يقطع الإسلام هذه العلاقات وإنما زادها قوة، فاتصال
الإسلام بالحبشة يرجع إلى السنة الخامسة من البعثة حين هاجر بعض
المسلمين إلى «النجاشى» اعتصامًا بعدله ونجاة من أذى «قريش»
وعدوانها.
ثم بدأت الدولة الإسلامية تحتك بالحبشة فى عهد «عمر بن الخطاب»
الذى أرسل إليها فى عام (20هـ = 641م) سرية بقيادة «علقمة بن
مجزر المدلجى»، كان نصيبها الفشل، ويرى بعض الباحثين أن أخبار
هذه الحملة لا تتفق مع علاقات الود التى سادت بين الأحباش
والمسلمين منذ أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكن «عمر»
بالرجل الذى يخرج على أمر قرره الرسول، والتعليل الصحيح لإرسال
هذه السرية أنها أُرسِلت لرد إغارات قراصنة البحر من الأحباش الذين
كانوا قد أغاروا على ساحل بلاد «الحجاز» مرة فى عهد الرسول
صلى الله عليه وسلم، ومرة أخرى فى عهد «عمر بن الخطاب»
نفسه، وذلك بعد أن مات «النجاشى» الذى استقبل المهاجرين
واعتنق الإسلام سرا، وأعقبه «نجاشى» آخر لم يَرْع هذه العلاقات
الطيبة بين المسلمين و «الحبشة» ، وقد عاد الأحباش إلى الإغارة على
«جدة» عام (83هـ = 702م) فى عهد «بنى أمية» ، فلم يجد العرب بُدا
من الحصول على قاعدة بحرية قريبة من الشاطئ الإفريقى تمكنهم
من رد غارة هؤلاء الأحباش، فاستولوا على جزر «دهلك» وأقاموا
فيها، وقد وجدت فيها نقوش عربية يرجع تاريخها إلى منتصف القرن
التاسع الميلادى. ويبدو أن المسلمين انسحبوا من هذه الجزر بعد
ذلك، لكنهم تركوا بها جالية من المسلمين من أهل البلاد، فكانت جزر
«دهلك» أول رأس جسر يقيمه المسلمون على الساحل الشرقى
لإفريقيا، ويبدو أن هذه كانت آخر محاولة للتدخل الرسمى فى
شرقى إفريقيا، فقد ترك الإسلام يتسرب إلى البلاد تسربًا سلميا
بطيئًا فى ركاب المهاجرين إلى إفريقيا من التجار والدعاة عبر
المسالك البحرية المعهودة.
كانت عودة العلاقات التجارية بين «الحبشة» وبلاد العرب، واتساع
دائرتها وخاصة فى تجارة الرقيق، بسبب إقبال الإمارات المستقلة
فى الأمصار الإسلامية المختلفة على الاستعانة بالجنود السودانيين
عوضًا عن جنود العرب الذين تفرقوا فى الأمصار، وكان لذلك أثر
كبير فى نمو المدن الساحلية الزيلعية التى ازدحمت بهؤلاء الوافدين
من تجار المسلمين.
وظهرت فى هذا العصر جاليات إسلامية قوية فى «دهلك»
و «سواكن» و «باضع» و «زيلع» و «بربرة» .
وقد أجمع كتاب القرن العاشر الميلادى مثل «المسعودى» و «ابن
حوقل» وغيرهما على ازدهار الحياة الإسلامية فى تلك المدن وتوطد
النفوذ الإسلامى على طول السهل الساحلى، وقد ظهرت مدن إسلامية
على ذلك الساحل كأنها العقد أو الطراز فى الفترة بين القرن العاشر
والثالث عشر الميلادى.
وقد أصبحت هذه المدن الإسلامية الساحلية مراكز وَثَبَ منها التجار
والدعاة إلى المناطق الداخلية فى بلاد الزيلع والحبشة؛ إذ كان هؤلاء
يرحلون إلى المناطق الداخلية التماسًا للتجارة ويقيمون بعض الوقت
ثم ينحدرون إلى الساحل من جديد، وفى أثناء إقامتهم يخاطبون
الناس وينشرون الإسلام ويوطدون صلتهم بالطبقة الحاكمة.
ويبدو أن الإسلام نفذ إلى الداخل فى وقت مبكر، ربما فى القرن
الثالث الهجرى حين تطرق إلى منطقة «شوا» حيث قامت سلطنة
إسلامية عملت على نشر الإسلام فى جنوب وشرق الحبشة، وقد
ألقى ضوء جديد على تاريخ هذه السلطنة حينما عثر المستشرق
الإيطالى «تشيروللى» على مختصر لتاريخها يؤرخ لخمسين عاماً من
عمرها (13م).
الفصل الثالث عشر
*سلطنة شوا الإسلامية
(283 - 684هـ = 896 - 1285م)
أسست هذه السلطنة على يد أسرة عربية تسمى «بنى مخزوم» سنة
(283هـ = 896م)، وليس ثمة شك فى أن هؤلاء كانوا عربًا هاجروا
إلى هذه الجهات فى ذلك الوقت المبكر، وليس بعيدًا أن يكونوا قد
نزلوا أول الأمر فى ضيافة إمارة محلية، ثم اختلطوا بالأمراء عن
طريق المصاهرة حتى آل إليهم الملك آخر الأمر.
وأيا كان الأسلوب الذى انتقل به الحكم فى «شوا» إلى هذه الأسرة
العربية المخزومية، فقد أدى ذلك إلى قيام «سلطنة شوا الإسلامية» ،
التى استمرت أربعة قرون من الزمان فى الفترة (283 - 684هـ = 896 -
1285م) تمتعت فى معظمها بالأمن والاستقرار وازدهار العمران،
وكثرة المدن والقرى والنواحى، حتى إن وثيقة «تشيروللى» ذكرت
أكثر من خمسين اسمًا لمواقع كانت موجودة، ووقعت على أرضها
أحداث مهمة.
ومن أمثلة هذه المدن أو النواحى مدينة «ولِلَّه» العاصمة، ومدن هكلة
(هجلة) وجداية، ودجن، وأبتا، ومورة، وحدية (لعلها مملكة هدية
الإسلامية) والزناتير، والمحررة، وعَدَل التى أصبحت عاصمة لمملكة
إسلامية فى القرن الخامس عشر الميلادى، مما يدل على أن هذه
السلطنة اتسمت بسعة المكان وازدهار العمران وكثرة المدن والبلدان.
وهذا الازدهار العمرانى الحضارى الذى تمتعت به سلطنة شوا
الإسلامية كان نتيجة لما تملكه من أرض غاية فى الخصوبة استغلها
السكان وزرعوا فيها ما يكفى حاجتهم ويسد مطالبهم، خاصة أنه قد
استمر توافد الجماعات الإسلامية المهاجرة فى أعداد يسيرة،
واستطاعت أن تتجمع وتدعم كيان هذه السلطنة الإسلامية بزعامة
هذه الأسرة العربية التى اتخذت من «وللِّه» عاصمة لها، والتى يصعب
تحديد موضعها الآن نتيجة لكثرة التغيرات التى تعرضت لها المنطقة.
ونتيجة لهذا الإزدهار لم تكن الدولة المخزومية فى «شوا» إمارة أو
مملكة صغيرة، بل كانت سلطنة كبيرة، توالى على حكمها كثير من
الحكام الذين اتخذوا لقب سلطان كما أشارت إلى ذلك وثيقة
«تشيروللى» .
هذا وقد ظهر فى هذه السلطنة الوظائف السياسية والدينية المعروفة
وقتذاك فى بقية الدول الإسلامية مثل الوزراء والقضاة، يتضح ذلك
من الوثيقة المذكورة التى عنى المؤرخ فيها بتسجيل وفاة الفقيه
«إبراهيم بن الحسن» قاضى قضاة شوا فى رمضان (653هـ =
أكتوبر 1255م)، مما يدل على وجود حياة علمية ودينية زاخرة،
شأنها فى ذلك شأن السلطنات الإسلامية الأخرى؛ مما يجعلنا نقول
إن هذه السلطنة عاشت عصرًا زاهرًا كبيرًا، وأنها عاشت مستقلة عن
جيرانها سواء كانوا مسلمين أم مسيحيين.
والسبب الذى أتاح لهذه السلطنة ذلك الاستقلال وهذا الهدوء مع دولة
الحبشة هو ظروف الحبشة نفسها، فقد كانت تعيش حياة مليئة
بالاضطراب السياسى وعدم الاستقرار، فقد كانت مملكة «أكسوم»
الحبشية القديمة فى أواخر أيامها عندما نشأت سلطنة شوا
الإسلامية، ولذلك لم تتمكن «أكسوم» من التصدى لتلك الدولة أو تمنع
قيامها فى جزء من الهضبة الحبشية ذاتها لبعد «أكسوم» التى كانت
تقع فى أقصى الشمال، بينما كانت دولة «شوا» فى أقصى
الجنوب، ولذلك لم يحدث بينهما أى نوع من أنواع العلاقات، سواء
أكانت ودية أم عدائية.
ومن الأسباب التى أتاحت الهدوء لهذه السلطنة ما حظيت به من موقع
حصين فقد كان يحيط بها جبال وعرة تحف بمجرى نهر تكازى
الأعلى من ناحية اليمين، والنيل الأعلى من جهة اليسار، وهذه الجبال
جعلت من «شوا» حصنًا آمنًا يوفر الحماية لمن يسكنه.
وقد استغل بنو مخزوم هذا الهدوء وهذا السلام اللذين تمتعوا بهما
حوالى ثلاثة قرون ونصف قرن من الزمان فى تنمية قدرات السلطنة
الاقتصادية والسياسية والدينية، فصار لها نفوذها فى المناطق
المجاورة وخاصة المناطق الإسلامية التى تقع إلى الشرق منها وهى
سبع ممالك صغيرة قامت فى القرن الثالث عشر الميلادى.
كما كان لها دورها الدينى أيضًا، من ذلك أن أحد سلاطينها ويسمى
(حربعر) بذل جهودًا كبيرة لنشر الإسلام صوب الداخل وخاصة فى
«جبلة» فى سنة (502هـ = 1108م)، وفى بلاد «أرجبة» ، وأن هذه
البلاد بعد إسلام أهلها أضيفت إلى أملاك سلطنة «شوا» المخزومية،
أى أن هذه السلطنة كانت من المراكز التى ساعدت على نشر الإسلام
وثقافته فى هذه المنطقة.
وقد حافظ الأهالى من الأحباش على إسلامهم، سواء أكانوا من
أحباش شوا أم من أحباش المناطق المجاورة لها، وذلك رغم الاضطهاد
الشديد والمستمر الذى تعرض له المسلمون فى القرن الإفريقى على
يد ملوك الحبشة (إثيوبيا) منذ عام (669هـ= 1270م).
ولكن سيطرة «شوا» على جيرانها المسلمين لم تستمر طويلا أمام
اضطراب أحوالها وكثرة الفتن الداخلية التى جعلتها تسير فى طريق
الضعف وخاصة فى الخمسين عامًا الأخيرة من عمرها، ولذلك انتهز
حكام «أوفات» الإسلامية الفرصة وأغاروا عليها وأسقطوها
وضموها إلى دولتهم.
وطبيعى أن لسقوط سلطنة «شوا» الإسلامية أسبابًا، وعوامل أدت
إليه، أهمها:
العوامل الاقتصادية: وتتمثل فى ظروف طبيعية جغرافية حدثت فى
الثلاثين عامًا الأخيرة من عمر الدولة، وأدت إلى نقص مياه الأمطار
بدرجة نتج عنها حدوث مجاعات، وطواعين فتكت بالناس فتكًا ذريعًا،
وأضعفت الدولة وسكانها أمام أى هزات داخلية أو خارجية.
سوء الأحوال السياسية: ويتمثل فى الصراع الداخلى بين أمراء
الأسرة المخزومية على الحكم، وكثرة المتمردين والمغتصبين لعرش
السلطنة، وكثرة الحروب الأهلية، وما كان ينتج عنها من إحراق المدن
وتدميرها ونهبها وقتل كثير من سكانها.
ولم يظهر الصراع الداخلى بين أمراء هذه السلطنة إلا فى المائة عام
الأخيرة من عمرها وخاصة منذ عهد السلطان «حسين» (575هـ =
1179م)، ثم تولى بعده السلطان «عبدالله» سنة (590هـ = 1194م)،
وكان مغتصبًا للعرش، استطاع أن يزيحه ابن السلطان «حسين» فى
(632هـ = 1232م) واستمر فى الحكم 14 عامًا، ثم أعقبه عدد من
المغتصبين، ثم عاد العرش إلى صاحبه الشرعى وهو السلطان
«دلمارة بن والزرة» سنة (668هـ = 1269م) الذى صاهر «عمر
ولشمع» سلطان «أوفات» الإسلامية كى يشد أزره بهذه المصاهرة،
لكن الطامعين فى العرش ازدادوا شراسة حتى انتهى الأمر بمقتل
السلطان «دلمارة» فى سنة (682هـ = 1283م) وقد أدت هذه الظروف
السيئة إلى تدخل سلطان «أوفات» (عمر ولشمع) فدخل «شوا»
وانتقم من قتلة صهره السلطان «دلمارة» واستطاع أن يعيد الأمن
والوحدة إلى «شوا» من جديد، وبهذا حافظ (عمر ولشمع) على
سلطنة «شوا» من أن تقع فى يد الأحباش وذلك بعد أن ضمها لدولته.
الفصل الرابع عشر
*سلطنة أوفات الإسلامية
[حوالى 648 - 805هـ = 1250 - 1402م]:
كانت الحركة الإسلامية قد ازدادت قوة فى بلاد الزيلع منذ القرن
العاشر الميلادى. وبلاد الزيلع هى البلاد التى تحيط بهضبة الحبشة من
الشرق والجنوب الشرقى، وتتمثل الآن فيما يعرف بإريتريا وجيبوتى
والصومال الكبير بأقسامه الثلاثة: الشمالى والجنوبى والغربى،
المعروف باسم إقليم «أوجادين» ، يضاف إلى ذلك كل المناطق
الإسلامية التى ضمتها الحبشة بالغلبة والقوة قرب نهاية القرن التاسع
عشر الميلادى.
فى هذه البقعة الواسعة التى تنحصر بين ساحل البحر الأحمر وخليج
عدن وبين هضبة الحبشة قامت مراكز تجارية عديدة على الساحل
وانتشرت أيضًا فى الداخل، وتحولت فى النهاية إلى إمارات وممالك
إسلامية نامية تحدث عنها المؤرخون القدامى، وقالوا إنها كانت سبع
ممالك هى: «أوفات» و «هدية» و «فطجار» و «دارة» و «بالى»
و «أرابينى» و «شرخا» ، وامتدت هذه الممالك إلى «هرر» وبلاد
«أروسى» جنوبًا حتى منطقة البحيرات، مطوقة الحبشة من الجنوب
والشرق.
غير أن هذه الممالك والسلطنات التى قامت فى شرق الحبشة
وجنوبها تختلف عما رأيناه فى أقطار إفريقية أخرى فى هذه
المرحلة من التطور؛ إذ لم تكن هذه السلطنات إفريقية خالصة،
أسستها أسرات من أهل البلاد الأصليين الذين أسلموا، كما حدث فى
«مالى» و «صنغى» و «كانم وبرنو» ، إنما أسستها أسرات عربية
الأصل، فسلاطين «أوفات» وسلاطين «شوا» وغيرها يمثلون
أرستقراطية عربية مهاجرة، استقرت فى هذه الجهات ونمت ثروتها
وازداد نفوذها واستولت على حكم البلاد وكانت الرعية مسلمة ومن
أهل البلاد الأصليين.
وكانت العلاقات بين هذه الإمارات متوترة تسودها المنافسات
القبلية، ولم يكن بينها من رابط سوى الصلة الروحية فقط، وكانت من
الضعف بحيث إن أمراءها لايتولون العرش - فى كثير من الأحيان - إلا
بموافقة ملك الحبشة المسيحى، وليس معنى ذلك أن مسلمى تلك
الإمارات قنعوا بالخنوع والخضوع للأحباش، بل إنهم كانوا فى أحيان
كثيرة مناوئين لملك الأحباش وغازين له فى عقر داره كما سنرى.
وكان من أسباب ضعف هذه الإمارات أو السلطنات الإسلامية أنها ما
كاد يكتمل نموها وتزداد قوتها حتى واجهت حربًا صليبية ضروسًا
استنزفت مواردها وشغلتها عن التفرغ للدعوة الإسلامية، ولذلك فإن
الإنتاج الثقافى لتلك الإمارات كان محدودًا جدا، إذ إن الصراع مع
الأحباش أخذ كل وقتها ولم يترك لها فرصة للإبداع والابتكار، ولم تنج
سلطنة واحدة من الاشتباك مع هؤلاء الأحباش.
وقد قامت سلطنة «أوفات» حوالى (648 - 805 هـ = 1250 - 1402م)
بعبء المقاومة والدفاع ضد هذا الخطر الصليبى الحبشى الذى كان
يهدف إلى القضاء على الإسلام فى منطقة القرن الإفريقى كلها،
ولذلك كان من الواجب أن نخص هذه السلطنة بحديث.
كانت سلطنة «أوفات» أقوى سلطنة إسلامية قامت فى بلاد
«الزيلع» ، أسسها قوم من قريش من «بنى عبدالدار» أو من «بنى
هاشم» من ولد «عقيل بن أبى طالب» .
ومدينة «أوفات» هى نفسها مدينة «جبرة» أو «جبرت» وكانت من
أكبر مدن بلاد «الزيلع» ، وكانت تتحكم فى الطريق التجارى الذى
يربط المناطق الداخلية بميناء «زيلع» على البحر الأحمر. ولم يتضح
تاريخ «أوفات» إلا حوالى منتصف القرن الثالث عشر الميلادى حينما
ظهر أحد أمراء المسلمين وكان يسمى «عمر» ويعرف بلقب
«ولشمع» ، وأقام هذه السلطنة التى نمت وازدادت قوتها حتى
استطاع صاحبها «عمر ولشمع» أن ينتهز فرصة ضعف سلطنة «شوا»
المخزومية وأن يهاجمها عام (684هـ = 1285م) ويقضى عليها
ويستولى على أملاكها كما رأينا عند الحديث عن هذه السلطنة.
وقد أدى هذا إلى اتساع سلطان «بنى ولشمع» السياسى،
واستطاعت «أوفات» فى عهدهم أن تبسط نفوذها على بقية هذه
الإمارات الصغرى التى أشرنا إليها وأن يصل هذا النفوذ حتى ساحل
البحر الأحمر وحتى منطقة «زيلع» وسهل «أوسا» .
وكانت مساحة الأراضى التى سيطر عليها المسلمون بزعامة
«أوفات» تفوق مساحة أرض مملكة الحبشة المسيحية نفسها، بل
كانت تحيط بالحبشة من الجنوب والشرق، فضلا عن إحاطة الإسلام
بها من ناحية السودان من الشمال والغرب، مما أدى إلى عزل مملكة
الحبشة عزلا تاما عن العالم الخارجى، ولاسيما بعد استيلاء المسلمين
على ميناء «عدل» قرب «مصوع» ، ولذلك لاندهش من أنه عندما تولت
الأسرة «السليمانية» عرش الحبشة عام (669هـ = 1270م)، رسمت
لنفسها خطة لتوسيع سلطان «الحبشة» على حساب جيرانها من
المسلمين الذين كانوا يسيطرون على الموانى ومن ثم على التجارة
الخارجية.
وبذلك بدأت أولى مراحل الجهاد والصراع بين «أوفات» وتوابعها من
الإمارات الإسلامية وبين ملوك الحبشة من ذلك الحين، وكانت البداية
المبكرة على أيام الملك «ياجبياصيون» (684 - 693هـ = 1285 -
1294م) الذى شن حملة صليبية عنيفة ضد إمارة «عَدَل» التابعة
لأوفات، وكان قد استشعر خطر الاتحاد الإسلامى الذى كانت تدعو
إليه سلطنة «أوفات» ، فضلا عن أن تلك السلطنة أعلنت زعامتها على
الممالك الإسلامية المجاورة لها فى بلاد «الزيلع» ، وكان هذا أمرًا
يتعارض مع مشاريع ملوك الحبشة الجدد، فقاموا بحملتهم تلك التى
أشرنا إليها، وانتهت بانتصارهم.
وترجع هذه الهزيمة إلى أن حركة المقاومة التى تزعمتها «أوفات»
لم تكن منبعثة عن وحدة وتعاون فعال بينها وبين الممالك الإسلامية،
ولذلك هزمهم الأحباش من أول لقاء، بل يقال إن إمارتين إسلاميتين
عاونتا ملك الحبشة فى هجومه الذى انتهى بنهب «عَدَل» وعَقْد هدنة
بين الطرفين، وكان من الممكن أن تكون هذه الحرب هى القاضية لولا
تدخل سلطان «مصر» المملوكى الذى هدد بقطع العلاقات وعدم
الموافقة على تعيين «المطران» الذى طلبه الأحباش، وكان يعين من
قبل بطرك مصر، وأثمر هذا التدخل، فقَبِل الأحباش الهدنة مع
«أوفات» .
استطاع المسلمون تقوية مراكزهم ودعم سلطانهم على طول منطقة
الساحل، وكانوا يرتقبون فرصة ضعف أو تخاذل فى صفوف
أعدائهم، وعندما علموا بوفاة ملك «الحبشة» عام (698هـ = 1299م)،
قام شيخ مجاهد يدعى «محمد أبو عبدالله» بحشد طائفة كبرى من
قبائل «الجَلا» و «الصومال» وأعدهم للجهاد، وقام بغزو الحبشة، ولم
تعمد الحبشة إلى المقاومة بسبب بعض المتاعب الداخلية، واضطر
ملكها إلى التنازل للمسلمين عن بضع ولايات على الحدود نظير
الهدنة، ولم يكن سلاطين «أوفات» ليقنعوا بالهدنة، وخاصة أن
قوتهم قد ازدادت، فلم يستطع الملك الحبشى «ودم أرعد» (698 -
714هـ = 1299 - 1314م) أن يرد هجماتهم.
ورأت «أوفات» أن تظهر قوتها للحبشة بل وتتوسع فى أملاكها
وتقضى على عدوانها، فتقدم السلطان «حق الدين» وتوغل فى
أملاك الحبشة وغزا بعض الولايات المسيحية؛ مما جعل ملك الحبشة
يقوم بغزو «أوفات» فى عام (728هـ = 1328م) وهاجمها من جميع
الجهات وأسر «حق الدين» ووضع يده على مملكته وعلى «مملكة
فطجار» الإسلامية وجعلهما ولاية واحدة وعين عليها «صبر الدين»
وهو شقيق «حق الدين» بشرط الاعتراف بسيادة الحبشة.
غير أن «صبر الدين» لم يطق صبرًا على هذه التبعية وكوَّن حلفًا
إسلاميا من إمارتى «هدية» و «دوارو» ، ثم تقدم لغزو الحبشة
واستولى على كثير من الغنائم، وهدد ملك الحبشة الذى خرج على
رأس جيشه وهاجم الحلفاء منفردين بادئًا بإمارة «هدية» ، فحطمها
قتلا ونهبًا وأسرًا، وأرغمها على الخروج من الحلف، وحمل ملكها
أسيرًا إلى عاصمته، ثم تقدم إلى «أوفات» ودخلها ودمرها ونهب
معسكر المسلمين فيها، ثم تقدم إلى «فطجار» واستولى عليها
وعلى مملكة «دوارو» .
وعلى ذلك يمكن القول بأنه فى هذه الفترة انتهى استقلال الممالك
الإسلامية فى «أوفات» و «هدية» و «فطجار» و «دوارو» . وعين عليها
ملك الحبشة «جلال الدين» أخا «صبر الدين» حاكمًا، فقبل على أن
يكون تابعًا للحبشة، وهكذا اتسعت مملكة الحبشة وضعف أمر
المسلمين.
وفى غمرة هذا الصراع الدموى اتفقت كلمة المسلمين بين عامى
(1332 و 1338م) على الاستنجاد بدولة المماليك فى «مصر» ، وذلك
بإرسال سفارة إلى سلطان «مصر» «الناصر محمد بن قلاوون» برئاسة
«عبدالله الزيلعى» ليتدخل السلطان فى الأمر لحماية المسلمين فى
بلاد «الزيلع» . فطلب «الناصر محمد» من بطرك الإسكندرية أن يكتب
رسالة إلى ملك الحبشة فى هذا الصدد. غير أن ملك الحبشة لم يكفَّ
عن مهاجمة المسلمين الذين لم يتوانوا في انتهاز الفرص للثأر منه.
وتحالفت إمارتا «مورا» و «عدل» مع بعض القبائل البدوية وأخذوا
يشنون حربًا أشبه بحرب العصابات، وأخذ ملك الحبشة فى مطاردتهم
وتقدم فى أراضى «مورا» الإسلامية، حتى وصل إلى مدينة «عَدَل»
وقبض على سلطانها وذبحه، فتقدم أولاد السلطان الثلاثة إلى ملك
الحبشة مظهرين الخضوع.
وفى تلك الأثناء انتاب إمارة «أوفات» بعض الفتن الداخلية بسبب
النزاع على العرش بين أفراد الأسرة الحاكمة، وانتهى النزاع بانفراد
«حق الدين الثانى» وإعلان استقلاله عن الحبشة، واستطاع أن
يهزمها ويردها عن إمارته فترة طويلة حتى هُزم ومات عام (788هـ =
1386م)، والتف المسلمون للمرة الأخيرة حول خليفته وأخيه «سعد
الدين»، واستأنفوا حركة الجهاد ودحروا الأحباش، وتوغلوا فى أرض
«أمهرة» (مملكة النجاشى) لكن «سعد الدين» هُزم فى معارك تالية،
واضطر إلى الفرار إلى جزيرة «زيلع» حيث حوصر وقتل عام (805هـ
= 1402م) نتيجة لخيانة رجل دلَّهم على مكمنه.
ويعتبر احتلال الأحباش لزيلع بمثابة إسدال الستار على سلطنة أوفات
التى احتلها الأحباش نهائيا، ولم يعد يسمع بها أحد، وانتهى دورها
فى الجهاد، وتفرق أولاد «سعد الدين» العشرة مع أكبرهم «صبر
الدين الثانى»، وهاجروا إلى شبه الجزيرة العربية حيث نزلوا فى
جوار ملك اليمن «الناصر أحمد بن الأشرف» الذى أجارهم وجهزهم
لاستئناف الجهاد ضد الحبشة، فعادوا إلى إفريقيا حيث انضم إليهم
من بقى من جنود والدهم، فقوى أمرهم واستأنفوا النضال واتخذوا
لقبًا جديدًا هو لقب «سلاطين عَدَل» .
الفصل الخامس عشر
*سلطنة عَدَل الإسلامية
[817 - 985هـ = 1414 - 1577م]:
كانت «عَدَل» إقليمًا من الأقاليم التى خضعت لسلاطين «أوفات» .
وليس ببعيد أن تكون قد تأسست فيها إمارة محلية تدين بالولاء لبنى
ولشمع، ويبدو أن موقعها المتطرف قد ساعد على نجاتها من
التوسع الحبشى الذى أطاح بالإمارات السابقة. وكان طبيعيا أن
يأوى «بنو سعد الدين» إلى إقليم قريب من البحر يتيح لهم الاتصال
ببلاد اليمن بعيدًا عن مناطق النفوذ الحبشى. وكانت تلك السلطنة تضم
البلاد الواقعة بين ميناء «زيلع» و «هرر» وتشمل ما يعرف بالصومال
الشمالى والغربى وإقليم «أوجادين» ، وسميت هذه البلاد «بر سعد
الدين» تخليدًا لسعد الدين الذى مات بزيلع ودفن بها.
استأنف سلاطين «عَدَل» الجهاد مرة أخرى فى عهد «صبر الدين
الثانى» الذى اتخذ مدينة «دَكَّر» عاصمة له، واستطاع الاستيلاء على
عدة بلاد حبشية فيما يعرف بحرب العصابات، وبعد وفاته عام (825هـ
= 1422م) خلفه أخوه «منصور» المتوفى سنة (828هـ = 1425م) الذى
بدأ عهده بحشد عدد كبير من مسلمى «الزيلع» وهاجم بهم ملك
الحبشة وقتل صهره وكثيرًا من جنده، وحاصر منهم نحوًا من ثلاثين
ألفًا مدة تزيد على شهرين، ولما طلبوا الأمان خيَّرهم بين الدخول فى
الإسلام أو العودة إلى قومهم سالمين، فأسلم منهم نحو عشرة آلاف
وعاد الباقون إلى بلادهم، ولم يقتلهم «منصور» ولم يستعبدهم كما
كان يفعل ملوك الحبشة بجنود المسلمين الذين كانوا يقعون فى
أسرهم.
لكن ملك «الحبشة» «إسحاق بن داود» أعد جيشًا كبيرًا وهجم به
على «منصور» وقواته وهزمها هزيمة شنيعة لدرجة أن السلطان
«منصور» وقع هو وأخوه الأمير «محمد» فى أسر «إسحاق» عام
(828هـ = 1425م).
ولكن راية الجهاد ضد عدوان الأحباش لم تسقط بهذه الهزيمة، فقد قام
أخ للسلطان الأسير وهو السلطان «جمال الدين» برفع راية الجهاد من
جديد.
وانتصر على ملك الحبشة فى مواقع كثيرة، ولكن أبناء عمه حقدوا
عليه ربما رغبة فى النفوذ والسلطان الذى حرموا منه فاغتالوه فى
عام (836هـ = 1432م)، فتولى الحكم بعده أخوه السلطان «شهاب
الدين أحمد بدلاى» الذى عاقب القتلة وحارب الأحباش واسترد إمارة
«بالى» الإسلامية من أيديهم، ولكنه وقع صريعًا أمام الأحباش فى
(848هـ = 1444م) نتيجة لخيانة أحد الأمراء الذين أظهروا التحالف
معه. ومن ثم تمكن الأحباش من اجتياح سلطنة «عَدَل» وبقية الممالك
الزيلعية الأخرى، وأصبحت الحبشة إمبراطورية كبيرة امتدت شمالا
حتى مصوع وسهول السودان وضمت «أوفات» و «فطجار» و «دوارو»
و «بالى» و «هدية» ، ومنحت هذه الإمارات استقلالها الذاتى، وولت
عليها عاملاًيسمى «الجراد» ينحدر من البيت المالك القديم.
ويبدو أن الرغبة الصادقة فى الجهاد التى عرف بها الجيل الأول من
سلاطين «أوفات» قد فترت عند أحفادهم سلاطين «عدل» ، فقد
سئموا القتال وجنحوا إلى المسالمة ولكن الشعب المسلم لم يتخل عن
سياسته التقليدية فى جهاد الأحباش ومقاومتهم. وكان تخاذل
سلاطين «عدل» ، وتحمس الشعب للجهاد مؤذنًا ببداية الدور الأخير من
أدوار الجهاد وهو دور «هرر» .
وتميز هذا الدور بظهور طائفة من الأمراء الأئمة أشربت قلوبهم حب
الجهاد وصارت لهم السلطة الفعلية فى البلاد، وبذلك أصبح فى
المجتمع العَدَلى حزبان: هذا الحزب الشعبى الذى يتزعمه الأمراء
الأئمة، وذلك الحزب الذى يريد أن يسالم الأحباش ويتكون من الطبقة
الأرستقراطية والتجار، وعلى رأسه سلاطين عدل التقليديون.
وكان أول هؤلاء الأئمة ظهورًا هو الداعى «عثمان» حاكم زيلع الذى
أعلن الجهاد بعد وفاة السلطان «محمد بن بدلاى» مباشرة عام
(876هـ = 1471م)، ثم ظهر فى «هرر» الإمام «محفوظ» الذى تحدى
السلطان «محمد بن أزهر الدين» ، واشتبك مع الأحباش، غير أن
البرتغاليين ظهروا على مسرح الأحداث وفاجئوا «زيلع» وأغاروا
عليها وانتهى الأمر بفشل حركة «محفوظ» ، وباغتيال السلطان
«محمد» سنة (924هـ = 1518م).
وفى بداية القرن (16م) ظهرت تطورات كان لها تأثيرها فى مسرح
الأحداث بين المسلمين والأحباش، تمثلت فى ظهور الأتراك العثمانيين
وقيام حركة الكشوف الجغرافية بزعامة الملاحين البرتغاليين، كذلك
أدخلت الأسلحة النارية إلى منطقة الأحداث فى بلاد «الزيلع»
و «الحبشة» ، وأهم من هذا كله إسلام قبائل البدو من الأعفار
والصومالى، ودخولها ميدان الجهاد، ووقوفها وراء الإمام الذى
رشحته الأحداث لتزعم حركة الجهاد الإسلامى فى ذلك الدور، وهو
الإمام «أحمد بن إبراهيم الغازى» الملقب بالقرين أى الأشول.
اتبع الإمام «أحمد القرين» بعد أن سيطر على مقاليد الأمور فى
سلطنة «عَدَل» وبعد أن اتخذ «هرر» مقرا له سياسة موفقة جمعت
الناس حوله، فقد طبق الشريعة الإسلامية فى حكمه وخاصة فى
توزيع أموال الزكاة والغنائم على مستحقيها وفى مصارفها
الشرعية، وبذلك كسب حب الجند وحب الفقهاء والعلماء، كما كسب
أيضًا محبة الشعب، فقد كان يلطف بالمساكين ويرحم الصغير، ويوقر
الكبير، ويعطف على الأرملة واليتيم، وينصف المظلوم من الظالم، ولا
تأخذه فى الله لومة لائم، كما قضى على قُطَّاع الطرق فأمنت البلاد
وانصلح حال الناس وانقادوا له وأحبوه.
بهذه السياسة الداخلية السليمة استطاع الإمام «أحمد القرين» أن
يوحد كلمة المسلمين ويتولى زعامتهم وعزم على رد عادية الأحباش،
وذلك بفتح بلاد الحبشة ذاتها، وتمكن من التوغل فيها حتى وصل
إلى أقاليمها الشمالية، ودارت بينه وبين الأحباش عدة معارك، كان
أولها فى عام (933هـ = 1527م) حيث هزم الأحباش لأول مرة منذ
بداية الجهاد. وفى عام (934هـ = 1528م) أحرز الإمام «أحمد» نصرًا
حاسمًا على الأحباش فى موقعة «شنبر كورى» ، ثم بدأ فى غزو بلاد
الحبشة نهائيا.
ففى سنة (938هـ = 1531م) دخل «دوارو» و «شوا» و «أمهرة»
و «لاستا» . وفى سنة (940هـ = 1535م) سيطر المسلمون على جنوب
الحبشة ووسطها، وغزوا «تجراى» للمرة الأولى وأصبح مصير
الأحباش فى كفة الميزان.
وفى هذا الوقت كان الزحف البرتغالى قد وصل إلى البحر الأحمر
فاستنجد بهم الأحباش عام (942هـ = 1535م) فأرسل إليهم ملك
البرتغال نجدة عسكرية وصلت البلاد عام (948هـ = 1541م)، وتقابل
المجاهدون بقيادة «أحمد القرين» مع الأحباش والبرتغاليين فى عدة
مواقع عام (949هـ = 1542م)، لكنه هُزم وتكررت هزيمته فى العام
التالى حيث استشهد وتفرقت جموعه، ونجت الحبشة من السقوط، ولم
يعد المسلمون مصدر خطر جدى يهدد الأحباش، ومع ذلك فإن حركة
الجهاد لم تمت بموت «أحمد القرين» ، بل استأنفها خلفاؤه من بعده
وخاصة فى عام (966هـ = 1559م) بقيادة الأمير «نور» الذى اتخذ لقب
أمير المؤمنين، والسلطان الأسمى المسمى «عليَّا» سليل أمراء
«عَدَل» السابقين، لكن هذه الجهود باءت بالفشل.
وكانت انتفاضة «هرر» الأخيرة عام (985هـ = 1577م) حينما تحالفت
مع أحد ثوار الأحباش للنيل من ملك الحبشة، وحدثت موقعة انتهت
بمقتل «محمد الرابع» آخر أمراء «هرر» عند نهر «ويبى» ، وانتهت
هرر كقوة سياسية ذات شأن، فى الوقت الذى استطاع فيه الأحباش
أن يقضوا على خطر الأتراك العثمانيين أيضًا بهزيمتهم وعقد هدنة
معهم عام (997هـ - 1589م) واكتفى العثمانيون بالسيطرة على
«مصوع» و «سواكن» ، وبذلك انتهى الصراع فى الحبشة لصالح
الأحباش.
وإذا كانت هذه الحركة لم تحقق أهدافها بالقضاء على مملكة الحبشة
نهائيا، إلا أنها أثبتت عمق الشعور الإسلامى فى نفوس أهل شرق
إفريقيا وعمق تمسكهم بالإسلام، فقد دأبوا على الجهاد وأصروا
عليه طيلة أربعة قرون، وظهر أثر العلماء والفقهاء وأصبحت لهم
الزعامة فى المجتمع فى ذلك الوقت.
وعلى الرغم من هذه الهزيمة التى منى بها المسلمون فى منطقة
القرن الإفريقى وانصراف اهتمام العثمانيين إلى أوربا والعالم
العربى، فإن المسلمين الزيالعة بقيت لهم بعض سلطناتهم وبلادهم.
ذلك أن الصراع الذى اندلع بينهم وبين الأحباش أنهك الطرفين معًا؛
مما هيأ الفرصة لدخول قبائل الجلا الوثنية القادمة من الجنوب،
فاحتلت «هرر» واستقرت فى النصف الجنوبى من دولة الحبشة، ثم
أسلمت هذه القبائل أخيرًا، ولكن أوربا الغربية أعانت الأحباش على
المسلمين فى القرن التاسع عشر الميلادى، وخاصة فى عهد «منليك
الثانى» الذى استولى على سلطنة «هرر» فى عام (1302هـ =
1885م) وعلى غيرها من البلدان الإسلامية، ثم استولى الأحباش على
سلطنة «أوسا» ، ثم على «إريتريا» و «إقليم الأوجادين الصومالى»
فى القرن العشرين. وظل الأمرعلى هذا النحو حتى نالت هذه البلاد
استقلالها وتحررت من نير الأحباش، وإن كان بعضها لايزال تحت
سيطرتهم حتى الآن.
الفصل السادس عشر
*الإسلام والسلطنات الإسلامية فى منطقة الساحل الشرقى لإفريقيا:
كما واجه المسلمون والسلطنات الإسلامية السابقة الخطر الصليبى
الحبشى فى منطقة «القرن الإفريقى» ؛ واجه المسلمون والسلطنات
الإسلامية فى «مقديشيو» ، وعلى طول الساحل الجنوبى الشرقى من
القارة خطرًا صليبيا آخر لا يقل خطرًا، وهو الخطر البرتغالى، ولذلك
تميزت الحركات الإسلامية سواء هنا أو هناك، بأسلوب الجهاد الذى
اتبعته حتى تحافظ على كيانها. ولاشك أن هذا الأسلوب كان من
العوامل التى أذكت الحماسة الدينية فى نفوس المسلمين، وساعدت
على نشر الإسلام فى تلك المناطق، وخير دليل على ذلك هو إسلام
قبائل «الأعفار» و «الصومال» و «الجلا» ، وغيرها من القبائل الزنجية
فى بداية العصر الحديث، ثم قيام هذه القبائل بتولى عبء الدفاع عن
الإسلام سواء ضد الخطر الحبشى فى الشمال أو الخطر البرتغالى
القادم من الجنوب.
وسوف نتحدث عن السلطنات الإسلامية التى قامت على طول الساحل
الشرقى لإفريقيا، بدءًا من «مقديشيو» وحتى نهر «الزمبيرى» فى
«موزمبيق» ، وتتمثل هذه السلطنات فى ثلاث هى: «سلطنة
مقديشيو» و «سلطنة بات» ، و «سلطنة كلوة» .
سلطنة «مقديشيو» الإسلامية (الصومال):
كانت بلاد «الصومال» تعرف فى العصور الوسطى باسم «سلطنة
مقديشيو». وينتمى الصوماليون إلى العنصر الكوشى الحامى، ومنهم
قبائل «الجَلا» و «الدناكل» ، وهؤلاء اختلطوا بالعناصر السامية التى
هاجرت من جنوب بلاد العرب قبل الميلاد، وبالزنوج البانتو، وتكون
منهم «شعب الصومال» . وبعد ظهور الإسلام تدفقت القبائل العربية
على تلك المنطقة، إما بهدف التجارة أو نشر الإسلام أو الإقامة فرارًا
من الانقسامات السياسية، وأقام هؤلاء المهاجرون العرب مراكز
تجارية على طول الساحل الشرقى الإفريقى؛ فى «مقديشيو»
و «براوة» و «سوفالة» ، و «بات» و «ممبسة» و «مالندى» و «كلوة»
وغيرها، وعلى أيديهم نشأت معظم هذه المدن.
وقد سبقت الإشارة - عند الحديث عن الهجرات العربية إلى ساحل
شرق إفريقيا - إلى هجرتين وصلتا إلى ساحل «الصومال» ، وهى
«هجرة الزيدية» التى أقبلت إلى «الصومال» بعد مقتل زعيمهم «زيد
بن على زين العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب» رضى الله
عنهم، ثم هجرة الإخوة السبعة من «بنى الحارث» ومن معهم من
العرب إلى بلاد «الصومال» فى عام (292هـ = 903م). والهجرة
الأخيرة كانت أبقى أثرًا فى تاريخ «الصومال» ، إذ إنها أقامت
«سلطنة مقديشيو» الإسلامية.
وقد كانت «مقديشيو» أول مدينة عربية بناها «بنو الحارث» على
«ساحل بنادر» عام (295هـ = 907م)، وتلتها مدينة «براوة» حوالى
عام (365هـ = 975م).
وتشير بعض المصادر إلى مواضع مدن أخرى مثل «قرفاوة» ،
و «النجا» ، و «بذونة» ، و «ماندا» فى جزيرة «ماندا» ، و «أعوزى» ،
و «شاكة» قرب دلتا نهر «تانا» ، وقد بنى «بنو الحارث» هذه المدن
فى سنوات متفاوتة وأسسوا فيها سلطنة استمروا فى حكمها معظم
فترات العصور الوسطى، فكان حكام «سلطنة مقديشيو» عند قدوم
البرتغاليين من سلالة الإخوة السبعة، بل إن فيها حتى اليوم سبع
عشائر تعود بأصولها إليهم.
وفى عهد هذه الأسرة الحاكمة صارت «مقديشيو» سلطنة قوية ذات
شوكة ونفوذ على عربان الساحل وعلى المدن التى تحيط بها، وكان
تجارها أول من وصلوا إلى بلاد «سفالة» ، واستخرجوا منها الذهب،
مما درَّ عليهم أموالا كثيرة، استفادوا منها فى تطوير «مقديشيو»
فحلت المنازل المشيدة بالأحجار على الطراز العربى محل المبانى
الخشبية ومحل المساكن المتخذة من القش المغطى بجلود الحيوانات.
وكانت «مقديشيو» فى عهدهم بمثابة العاصمة لجميع البلاد المجاورة
ومركزًا للمدن العربية الأخرى التى امتدت على طول الشاطئ، فكانت
جموع الناس ترد على «مقديشيو» من هذه المدن، فيجتمعون فى
مسجدها الجامع حيث يؤدون صلاة الجمعة، مما يدل على أهمية مركز
«مقديشيو» الدينى والثقافى عند سكان الساحل جميعًا، حتى
اعتبرت العاصمة الثقافية لساحل الزنج كله، وزعيمة عرب هذا
الساحل؛ نتيجة لما وصلت إليه من قوة ونفوذ، ولما قامت به من دور
مهم فى نشر العروبة والإسلام.
وعندما وصل الشيرازيون المهاجرون بقيادة «على بن حسن بن
على» إلى «مقديشيو» بعد حوالى سبعين عامًا من بنائها، لم
يستطيعوا دخولها لحصانتها ومنعتها فتركوها واتجهوا جنوبًا إلى
«كلوة» ؛ حيث أقاموا هناك سلطنة إسلامية، فكانت هى
و «مقديشيو» أهم مدينتين على الساحل من القرن العاشر إلى الخامس
عشر الميلادى، ولم تستطع إحداهما أن تسيطر على الساحل سيطرة
كاملة.
وعند قدوم «ابن بطوطة» إلى «مقديشيو» كانت تسيطر عليها قبيلة
الأجران الصومالية، وكان سلطانها يسمى «أبا بكر بن الشيخ عمر» ،
ويبدو أن سيطرة هذه الأسرة كان أمرًا عارضًا؛ بدليل أن البرتغاليين
عندما قَدِموا إليها كان حكامها من أسرة «المظفر» من «بنى
الحارث» الذين أسسوها من قبل.
ونظرًا لطول مدة حكم هذه الأسرة فقد كانت لها جهود كبيرة فى
تعريب كثير من القبائل الصومالية خاصة الساحلية، التى دخلت فى
الإسلام على أيديهم، ذلك أن هذه القبائل وخاصة قبيلة «الأجران»
كانت تربطها بأسرة «المظفر» الحارثية صلات تجارية كبيرة.
ولاشك أن هذه العلاقات التجارية لابد أن تؤتى ثمارها فى نشر
الإسلام بين هذه القبيلة وغيرها من القبائل الصومالية، التى اتصلت
بسلطنة «مقديشيو» الإسلامية، التى أكثرت من إنشاء المساجد
والجوامع التى لايزال بعضها باقيًا حتى الآن، منها مسجد عليه كتابة
تبين تاريخ تأسيسه وهو سنة (637هـ = 1239م)، أى قبل مرور «ابن
بطوطة» بها بنحو قرن من الزمان، ولعله «مسجد عبدالعزيز» الذى
بُنى فى «مقديشيو» منذ سبعمائة عام تقريبًا، ولازال موجودًا حتى
الآن.
وقد وصل إلينا كثير من المعلومات عن بلاد الصومال بفضل ما كتبه
عنها الرحالة والجغرافيون العرب، مثل:«المسعودى» و «الإدريسى»
و «ابن بطوطة» الذى أمدنا بوصف دقيق لعدد من المدن الإفريقية
وأحوال سكانها المسلمين، ولاسيما «مقديشيو» ، التى زارها عام
(1332م) و «زيلع» التى قال عنها: «إنه يسكنها طائفة من السودان
شافعية المذهب وهى مدينة كبيرة، لها سوق عظيمة لها رائحة غير
مستحبة بسبب كثرة السمك ودماء الإبل التى ينحرونها فى الأزقة
والطرقات».
ثم أقلع «ابن بطوطة» إلى «مقديشيو» واستقر بها أسبوعًا، وأتيح
له أن يتصل بقاضيها وعلمائها وسلطانها الشيخ «أبى بكر ابن
الشيخ عمر» الذى استضافه مدة إقامته، وقد أمدنا بمعلومات كثيرة
عن طعام أهلها وفاكهتها وملابس شعبها وتقاليد سلطانها فى
مواكبه ومجالسه، وعن مجالس الفقهاء والعلماء وذوى الرأى، وعن
كيفية نظرهم فى شكوى الناس، وتطبيقهم للشريعة الإسلامية.
بعد ذلك يصف «ابن بطوطة» الازدهار الاقتصادى الذى كانت تنعم به
سلطنة «مقديشيو» الإسلامية فيقول: «إن هذه المدينة مدينة واسعة
كبيرة يمتلك أهلها عددًا وافرًا من الجِمال والماعز، ينحرون منها
مئات كل يوم، وإنهم تجار أغنياء أقوياء، بعضهم يقوم بصناعة ثياب
جميلة لا نظير لها تُصدَّر إلى مصر وغيرها من البلاد». وكى يشجعوا
التجار على القدوم إلى بلادهم كان من عادتهم أنه متى وصل مركب
أو سفينة محملة بالتجار والبضائع إلى ميناء «مقديشيو» يركب
شباب هذه المدينة فى قوارب صغيرة ويحمل كل منهم طبقًا مُغطى
فيه طعام، فيقدمه لتاجر من التجار القادمين على هذه السفن ويقول
«هذا نزيلى» فينزل معه هذا التاجر إلى داره، ويساعده هذا الشاب
فى عمليات البيع والشراء، مما أدى إلى رواج تجارتهم مع الأقطار
الخارجية.
وقد استمرت سيادة «مقديشيو» على ساحل «بنادر» حتى القرن
السادس عشر الميلادى حينما فقدت أهميتها وانحطت منزلتها كمركز
تجارى، خاصة بعد انتشار التجارة بين عدة مدن ساحلية أخرى
منافسة لمقديشيو، وتعرضها والمنطقة للخطر البرتغالى، فقد ضرب
«فاسكودى جاما» «مقديشيو» بالمدافع فى أثناء عودته من
«الهند» عام (1498م)، ثم استولى أحد قواد البرتغال على مدينة
«براوة» عام (1507م)، وحاول الاثنان الاستيلاء على «مقديشيو»
لكنهما فشلا، وغزا «لوبى سواريز» «زيلع» عام (1515م) وأضرم
فيها النار، كما حاصر البرتغاليون «بربرة» عام (1516م).
وهكذا نرى أن البرتغاليين قادوا حربًا صليبية ضد المسلمين فى
شرق إفريقيا و «الصومال» ، ومن المدهش حقا أنه كان من نتائج تلك
الحملة الوحشية انتشار الإسلام، ذلك لأن السكان المسلمين الذين
تركوا الساحل أمام نيران المعتدين البرتغاليين لجئوا إلى الداخل،
حيث اختلطوا بالقبائل الصومالية ونشروا الإسلام بينها، فنتج عن ذلك
«شعب الصومال» المسلم، وبسبب كثرة الهجرات العربية من بلاد
«اليمن» و «الحجاز» وامتزاجها بأهل تلك البلاد؛ انتشرت اللغة العربية
والدم العربى بدرجة كبيرة، وأصبحت العربية هى لغة التخاطب
بجانب اللغة المحلية، وكانت قبائل «الصومال» بعد اعتناقها الإسلام
هى السند والحصن الذى لجأ إليه «أحمد القرين» فى صراعه ضد
ملوك «الحبشة» ، مما يدل على تمسك شعب الصومال بالإسلام
ودفاعهم عنه دفاعًا قويا، ولا غرو فالصومال الآن كما هو معروف
إحدى دول الجامعة العربية.
الفصل السابع عشر
*سلطنة كلوة الإسلامية
[365 - 911هـ = 975 - 1505م]:
قامت هذه السلطنة نتيجة هجرة قدمت من «شيراز» بفارس، كان على
رأسها «على بن حسن بن على» وأبناؤه الستة، حيث كانوا على
متن سفنهم بما فيها من بضائع بقصد التجارة، ولما وصلوا إلى
«جزيرة كلوة» التى تقع أمام الساحل الشرقى لإفريقيا، وهى ضمن
دولة «تنزانيا» الآن، استقروا فيها منذ عام (365هـ = 975م)، ووفد
عليهم كثير من العرب، وكان هؤلاء الوافدون يفضلون المعيشة فى
الجزر لسهولة الدفاع عنها والاعتصام بها إذا ما حاول الأهالى
الساكنون فى البر الإفريقى الاعتداء عليهم، وعند وفاة «على بن
حسن بن على الشيرازى» كان نفوذه يمتد إلى مدينة «سوفالة» فى
الجنوب، وإلى «ممبسة» فى الشمال، وبعد وفاته اعتدى الأهالى
على ابنه، واضطروه إلى الفرار إلى «زنجبار» عام (1020م) وبعد
قليل جمع السلطان المطرود جنوده وعاد بهم إلى «كلوة» ودخلها
مرة ثانية، وازدهرت المدينة خلال القرن التالى بسبب تجارة العاج
والذهب الذى كان يُصدَّر من «سوفالة» التى تقع جنوب نهر
«الزمبيرى» ، أى جنوب «كلوة» وحرمت «مقديشيو» من تلك التجارة
التى كانت تحصل عليها من «سوفالة» ، وخاصة فى عهد السلطان
«داود بن سليمان» سلطان «كلوة» (1130 - 1170م)، وبذلك صارت
الزعامة السياسية والاقتصادية لكلوة، ويعتبر القرنان الثانى عشر
والثالث عشر الميلاديان هما العصر الذهبى لتلك السلطنة الزنجية
الإسلامية، فقد أصبحت «كلوة» عروس الشاطئ الإفريقى، وقام
سلطانها بسك النقود، وقد عثر فى «كلوة» و «مافيا» و «زنجبار»
على نحو (10000) قطعة نحاسية من هذه النقود.
ولما كان مؤسسو «كلوة» الأوائل من الشيرازيين الفرس، فلا غرو أن
يكون لهم تأثير كبير على أسلوب الحضارة الذى ازدهر هناك خلال
القرون من العاشر إلى الثالث عشر الميلادى، فظهر الأسلوب
الفارسى فى البناء بالحجارة، وفى صناعة الجير والأسمنت
واستخدامهما فى البناء، وفن النقش على الخشب، ونسج القطن،
وشيدوا عدة مساجد ومبانٍ جميلة الطراز، مازال بعض مخلفاتها باقيًا
حتى الآن، ولكن الأثر العربى تغلب بعد ذلك بسبب كثرة الهجرات
العربية واستقرارها.
وقد وصل إلينا كثير من المعلومات عن هذه السلطنة من الوثائق
التاريخية المهمة وبفضل ما كتبه عنها الرحالة والجغرافيون العرب
كالمسعودى، و «الإدريسى» ، و «ابن بطوطة» الذى زار مدينة «كلوة»
و «ممبسة» . وقال عن الأخيرة: «إنها جزيرة كبيرة بينها وبين أرض
الساحل مسيرة يومين فى البحر، وأشجارها: الموز والليمون
والأترج، وأكثر طعام أهلها السمك والموز، والقمح يأتى لهم من
الخارج لأنهم لايزرعون. وهم شافعيون يعنون بأمور دينهم ويشيدون
المساجد من الأخشاب المتينة». وبعد أن قضى «ابن بطوطة» ليلة فى
«ممبسة» ركب البحر إلى مدينة «كلوة» ، وقال عنها: «إنها مدينة
كبيرة، بيوتها من الخشب، وأكثر أهلها زنوج مستحكمو السواد،
وهم شافعيون، ويحكمها السلطان «أبو المظفر حسن» ، وقد كان
فى قتال دائم مع السكان المجاورين، وعرف بتقواه وصلاحه، كما
كان محسنًا كريمًا».
ولم يكن السلطان «أبو المظفر حسن» الذى زار «ابن بطوطة» «كلوة»
فى عهده فارسى الأصل، بل كان من أصل عربى صميم، فهو من
بيت «أبى المواهب الحسن بن سليمان المطعون بن الحسن بن طالوت
المهدلى» اليمنى الأصل. وقد انتقل الحكم من البيت الفارسى إلى هذا
البيت العربى منذ عام (676هـ = 1277م)، وظل هذا البيت يحكم هذه
السلطنة حتى جاء البرتغاليون وقاموا بغزوها فى عام (1505م). وقد
ازدادت الهجرات العربية فى عهد هذا البيت العربى الحاكم فى
«كلوة» ، مما جعل الطابع العربى يتغلب على الطابع الفارسى فى
مظاهر الحياة المختلفة، فاللغة الغالبة هى اللغة العربية التى كانت
تُكتَب بها سجلات «كلوة» بجانب اللغة السواحلية، كما كان المذهب
الدينى السائد هو المذهب الشافعى السُّنى وليس المذهب الشيعى،
الذى أتى به البيت الحاكم الأول على يد «على بن حسن بن على
الشيرازى»، وما زالت أغلبية المسلمين فى هذه المنطقة من السُّنة
الشافعية حتى الآن.
على أية حال فقد انفعل سلاطين هذه السلطنة سواء أكانوا من
الفرس أم من العرب بالحياة والتقاليد الإسلامية كل الانفعال، فأكثروا
من بناء المساجد والمدارس، واهتموا بالعلوم الإسلامية، واستقدموا
العلماء ورحبوا بالأشراف والصالحين، كما شاركوا فى الجهاد ضد
الوثنيين الذين كانوا يقيمون فى الداخل، وقد أشار إلى ذلك «ابن
بطوطة» وقال: «إن سلطانها كان كثير الغزو إلى أرض الزنوج، يغير
عليهم ويأخذ الغنائم فيُخرج خمسها ويصرفه فى مصارفه المعينة
فى كتاب الله تعالى، ويجعل نصيب ذوى القربى فى خزانة على
حدة، فإذا جاءه الشرفاء دفعه إليهم، وكان الشرفاء يقصدونه من
العراق والحجاز وسواها .. وكان هذا السلطان له تواضع شديد ويجلس
مع الفقراء ويأكل معهم ويعظم أهل الدين والشرف».
غير أن ازدهار «كلوة» لم يتجاوز منتصف القرن الرابع عشر؛ إذ أخذ
نجمها فى الأفول بسبب تعرضها لبعض الاضطرابات الداخلية، وبدأت
مدينة «بات» فى شمالها تقوى وتثرى لانتقال تجارة الذهب إليها،
وأخذت فى التوسع صوب «كلوة» فى عهد أسرة «بنى نبهان»
العربية التى أسست سلطنة قوية فى مدينة «بات» فرضت سلطانها
على كثير من بلاد الساحل الشرقى لإفريقيا، كذلك قام حاكم
«سوفالة» بالتخلص من سيادة «كلوة» وأعلن استقلاله عنها،
وانتهى الأمر إلى نزوح بعض العرب من «مالندة» (مالندى) إلى
«كلوة» وتولوا مناصب الوزراء والأمراء وأبقوا على السلطان الذى لم
يكن له من الحكم إلا الاسم فقط، وقام الصراع بين أفراد البيت الحاكم
على منصب السلطان فى القرن الخامس عشر الميلادى، وتعاقبوا
على العرش الواحد بعد الآخر، وقل المال حتى إن الحكومة لم تجد ما
تنفقه على إصلاح المسجد الكبير بعد أن أصابه الخراب.
وقد أعطى كل هذا الفرصة للبرتغاليين للسيطرة على مقاليد الأمور
فى البلاد، ففى عهد «فضيل بن سليمان» آخر سلاطين «كلوة» الذى
بلغ عددهم (29) سلطانًا احتل البرتغاليون مدينة «كلوة» عام
(1505م)، وفى أخريات القرن السابع عشر وقعت «كلوة» تحت
سيادة سلاطين عُمان الذين قضوا على النفوذ البرتغالى فى بلادهم
ثم فى شرق إفريقيا. ولما فصل هؤلاء السلاطين ممتلكاتهم الأسيوية
عن ممتلكاتهم فى إفريقيا فى عام (1856م) آلت «كلوة» إلى سلطان
«زنجبار» العُمانى، ثم استولى عليها الألمان عام (1885م)، وفى عام
(1919م) أصبحت جزءًا من «تنجانيقا» (تنزانيا الحالية).
الفصل الثامن عشر
*سلطنة بات النبهانية فى شرق إفريقيا
[600 - 1278هـ = 1203 - 1861م]
ظهرت هذه السلطنة على مسرح التاريخ نتيجة لهجرة عربية وفدت من
«عُمان» إلى ساحل شرقى إفريقيا فى أوائل القرن السابع للهجرة
الثالث عشر الميلادى؛ حيث كونت سلطنة إسلامية نبهانية فى «بات»
تولت حكم شطر كبير من هذا الساحل، وظلت موجودة حتى عام
(1278هـ = 1861م).
والنباهنة قوم من العتيك من الأزد فى «عُمان» كانوا قد استولوا
على مقاليد السلطة هناك بعد أن دبت الفوضى فى البلاد وانقسم
العمانيون إلى طائفتين متخاصمتين، وحكم النباهنة عمان نحوًا من
خمسمائة عام، حيث قامت دولتهم هناك عام (500هـ= 1106م) أو عام
(506 هـ= 1112م) واستمرت حتى نهاية القرن العاشر الهجرى عندما
قامت دولة اليعاربة فى عُمان عام (1024هـ = 1615م).
ويبدو أن الدولة النبهانية فى عمان قد مرت بأطوار من القوة
والضعف بسبب الصراع الداخلى على الحكم، وكان الطور الأول يشمل
مدة قرن من الزمان والذى انتهى بهجرة أحد ملوك النباهنة، وهو
على أرجح الأقوال «سليمان ابن سليمان بن مظفر النبهانى» إلى
ساحل شرقى إفريقيا فى عام (600 - 611هـ) واستقر هو وأتباعه
فى مدينة «بات» التى تقع فى «أرخبيل» لامو (فى كينيا الآن).
وأقاموا سلطنة هناك وحكموا جزءًا كبيرًا من الساحل متخذين من
«بات» مقرا لسلطنتهم، وذلك بعد أن استطاع أول سلطان لهم هناك،
وهو «سليمان بن سليمان بن مظفر النبهانى» ، أن يتزوج أميرة
سواحيلية، ليست فارسية، هى ابنة «إسحاق» حاكم «بات» فى ذلك
الحين، وعن طريق زوجته ورث الملك، كما يقال: إن والدها تنازل له
عن الحكم فأصبح الحاكم الشرعى لبات، ومن ثم نقل بلاطه من عُمان
إلى شرق إفريقيا.
وقد نمت هذه السلطنة واتسعت فى عهد أبنائه وأحفاده، ففى عهد
السلطان «محمد الثانى بن أحمد» (690 - 732هـ = 1291 - 1331م)
توسعت السلطنة شمالا بعد حملات ناجحة قام بها هذا السلطان أخضع
فيها كل المدن الساحلية التى تقع شمالى «بات» حتى «مقديشيو»
وعين حاكمًا لكل منها.
وفى عهد ابنه السلطان «عمر الأول» (732 - 760هـ = 1331 -
1358م)،توسعت السلطنة جنوبًا؛ حيث أخضع المدن الساحلية بما فيها
«كلوة» ، ووصل إلى جزر «كيرمبا» جنوب رأس «دلجادو» ، وخضعت
له كل هذه المنطقة ماعدا جزيرة «زنجبار» التى لم تكن فى ذلك
الوقت قطرًا مهما بدرجة تجذب انتباهه إليها. كذلك فإن حكام
«مالندى» أتوا إلى «بات» ليعطوا ولاءهم لسلطانها، ودخلت أيضًا
مدينة «ممبسة» والمستوطنات القريبة منها ضمن منطقة نفوذه،
وهكذا أصبح السلطان «عمر بن أحمد» فى غاية القوة والنفوذ بعد
أن أصبحت جميع المدن الساحلية تحت سيطرته.
وقد استمرت سيطرة النباهنة على هذه المناطق وكان لهم فى كل
مدينة خضعت لهم عامل أو قاضٍ يعرف باسم «ماجومب» بمعنى
الخاضع لليمب أى للقصر الملكى فى «بات» ، وكانت دار الشورى
فى «بات» مقرا للحكومة المركزية التى كانت تحكم كل البلاد التى
خضعت لهؤلاء السلاطين الذين اتخذوا اللقب السواحيلى «بوانا
فومادى»، أو «فومولوتى» ويعنى الملك أو السلطان.
وقد تميزت سلطنة «بات» بنظم إدارية وتقاليد سياسية واضحة،
وانفردت بتقاليد جديدة فى الملاءمة بين الضرائب وبين النشاط
الاقتصادى للأهالى، إذ فرضت ضريبة إنتاج لا يتعدى مقدارها 10%،
ذلك أن الدولة كانت تتقاضى وسقين أو حملين من كل عشرين وسقًا
تنتجها كل جماعة مشتغلة بالزراعة، وهى الضريبة المعروفة
بالعشور فى الفقه الإسلامى، كما دخلت الزراعة فى بقاع كثيرة من
الساحل الإفريقى فى فترة الحكم النبهانى، وظهر كثير من النباتات
التى زرعها العرب هناك مثل القرنفل وقصب السكر، كما اهتموا
بالرعى وتربية الماشية والأغنام وأدخلوا تربية الإبل إلى هذه
المناطق.
وقد نشطت الحركة التجارية فى عهد ازدهار هذه السلطنة إلى حد
كبير، وتوافد على الساحل التجار العرب من عُمان وغيرها، وكذلك
تجار الهند المسلمون، وقد عمل هؤلاء التجار بنقل الحاصلات
المتوافرة فى شرق إفريقيا إلى البلدان المطلة على المحيط الهندى،
وإلى الأسواق العربية فى مصر والشام والعراق، فأصبحت الدولة
على جانب كبير من الثراء.
وقد نتج عن هذا الثراء تطور حضارى كبير، فقد أنشأ أهل «بات»
منازل كبيرة واسعة، وضعوا فيها لمبات نحاسية جميلة، كما صنعوا
سلالم أو درجات مزينة بالفضة يتسلقونها أو يصعدون عليها إلى
فرشهم أو سُررهم، كما صنعوا سلاسل فضية تزين بها الرقاب،
وزينوا أعمدة المنازل بمسامير كبيرة من الفضة الخالصة، وبمسامير
من الذهب على قمتها. وقد تجلت مظاهر هذه الحضارة العربية أيضًا
فى المبانى المعمارية وتخطيط المدن وزخارف الأبواب والنوافذ، كما
أدخل العرب فن النقش والحفر والنحت وعقود البناء العالية
والفسيفساء المتناسقة مع الرخام الملون.
وفى مجال الثقافة واللغة والعلوم والفنون ظهر فى تلك الفترة ما
يعرف باللغة السواحيلية، وهى الفترة التى كانت فيها سلطنة «بات»
النبهانية صاحبة السيطرة والنفوذ على معظم أجزاء الساحل الشرقى
لإفريقيا كما سبق القول، مما أدى إلى وجود تأثير عربى قوى فى
اللغة السواحيلية حتى فى المناطق الجنوبية التى تقع فى
«تنجانيقا» و «زنجبار» ، حيث ظهرت أفصح أنواع اللغة السواحيلية.
ونتيجة لذلك ظهرت نظرية تقول بأن الشعب السواحيلى ولغته نشأ
كل منهما حول «لامو» حيث توجد «بات» ، وأن المهاجرين العرب
الذين أقاموا فى «لامو» وأنشئوا هذه الإمارة تزوجوا من نساء
«البانتو» واضطروا إلى استخدام عدد من الكلمات البانتوية بحكم
معيشتهم اليومية مع زوجاتهم، ونشأ أولاد «مولَّدون» أى نصف عرب
ونصف بانتو، مزجوا بين اللغة العربية لغة آبائهم، وبين لغة البانتو
لغة أمهاتهم، ومع استمرار التزاوج والاختلاط والمصاهرة تكوَّن
الشعب السواحيلى وظهرت اللغة السواحيلية التى أصبحت لغة التجارة
ولغة الحياة اليومية، وسرعان ما انتشرت هذه اللغة فى شرق ووسط
إفريقيا نظرًا لغناها ومرونتها.
ولاشك أن انتشار اللغة السواحيلية بين السكان الأصليين، بجانب
اللغة العربية التى كانت لغة الطبقة العربية الحاكمة، كان له أثره
الكبير فى نشر الإسلام وثقافته بين القبائل الإفريقية التى تقيم على
الساحل، وتلك التى تقيم حول طرق القوافل الرئيسية مما جعل اللغة
السواحيلية عاملا قويا فى توحيد السكان فى هذه المنطقة من القارة
على اختلاف ألوانهم وتباين لغاتهم وتعدد قبائلهم وشعوبهم
وأجناسهم، مما أدى إلى ظهور ثقافة مشتركة هى الثقافة
السواحيلية التى غلبت عليها السمة العربية.
ومن ثم فقد ساعد ذلك كثيرًا على انتشار الإسلام بين السكان
المحليين وتطعيم ثقافتهم بعناصر عربية كثيرة، خاصة أن هذه اللغة
كتبت بحروف عربية، واستمرت كذلك حتى جاء الاستعمار الأوربى
الحديث وحوَّلها إلى الكتابة بالحروف اللاتينية بهدف إيجاد فاصل بين
الثقافة الإسلامية والثقافة السواحيلية الحديثة. وعندما كانت
السواحيلية تكتب بحروف عربية دخلها كثير من الألفاظ العربية، وقد
قدر عدد هذه الألفاظ بحوالى عشرين بالمائة من لغة التخاطب،
وثلاثين بالمائة من السواحيلية المكتوبة، وخمسين بالمائة من لغة
الشعر السواحيلى القديم، كما أن العرب غرسوا فى السواحيليين حب
الأدب وفنون الشعر وخرج منهم شعراء وخطباء مطبوعون، وأصبح
لهم أدب يعتزون به، وتكوَّن تراث كبير من الشعر والنثر السواحيلى
مكتوب بالحروف العربية يشتمل على أعمال دينية ودنيوية، حتى
إنهم عرفوا الشعر الغنائى (المشارى) منذ زمن بعيد يعود إلى ما قبل
عام (545هـ = 1150م) ومازالوا ينظمونه، كما كتبوا شعر الملاحم
المعروف باسم «التندى» .
كذلك مهدت اللغة السواحيلية السبيل أمام ظهور شعب جديد هو
الشعب السواحيلى، وقد ساعد فى تكوين هذا الشعب ميل
المستوطنين العرب إلى السلم وحبهم للسكون والاستقرار، فإن
مستوطناتهم وإماراتهم وسلطناتهم لم تقم على الفتح بل على
التجارة، والتجارة كما هو معروف لا تنشط إلا فى جو من السلام
والأمن والعلاقات الطيبة، كما أن أخلاق الإفريقيين، وطباعهم كانت
قريبة من طباع العرب الذين اعتاد الأفارقة رؤيتهم ورؤية أحفادهم
يوغلون فى البلاد ويعملون بالتجارة وينشرون الإسلام والوئام بين
الناس، فظهر التآلف واتحدت الأهواء والميول، وظهر ما يعرف
بالشعب السواحيلى.
وقد دعم «النباهنة» هذه الثقافة السواحيلية ذات الطابع الإسلامى
وذلك بالعمل على نشر التعليم الدينى فى المساجد والمدارس
والكتاتيب التى وفد إليها كثير من الوطنيين الأفارقة ليحفظوا القرآن
الكريم ويتعلموا الكتابة بالحروف العربية، بل ويتعلموا اللغة العربية
ذاتها، حتى يتمكنوا من التعمق فى فهم عقيدة الإسلام وتراثه الدينى
واللغوى، وهكذا نرى أن سلطنة «بات» النبهانية قد فرضت نفوذها
على معظم أنحاء الساحل الشرقى لإفريقيا، وأنشأت حضارة
إسلامية تغلغلت جنوبًا وحملها المهاجرون والتجار العرب معهم لا إلى
الساحل فقط، بل إلى الجزر المواجهة له مثل جزر «كلوة» و «زنجبار»
و «بمبا» و «مافيا» ، مكونة بذلك دولة كبيرة تعدد سلاطينها حتى بلغ
عددهم اثنين وثلاثين سلطانًا، وقد ظلت هذه السلطنة قائمة رغم
مهاجمة البرتغاليين لها، وبعد طردهم برز العُمانيون فى الميدان
ووضعوا أيديهم على هذا الساحل بما فيه سلطنة «بات» ، وظل الأمر
على هذا النحو حتى جاء الإنجليز واحتلوا هذه البلاد قرب نهاية القرن
التاسع عشر للميلاد، حتى تحررت وصارت تعرف اليوم باسم
«جمهورية كينيا» .
الفصل التاسع عشر
*الإسلام فى الجزر الإفريقية
أما الجزر الإفريقية المواجهة للساحل الشرقى الإفريقى فقد كانت
مراكز تجارية وإسلامية مهمة، زخرت بالحياة الإسلامية وانتشر فيها
الإسلام بصورة قوية، فمعظم سكان «زنجبار» من المسلمين ويتبعون
المذهب «الشافعى» ، واللغة التى تسود البلاد هى السواحيلية وهى
لغة إفريقية فى مبناها، عربية فى كثير من مفرداتها، وقد عرف
العرب «زنجبار» قبل الإسلام بأعوام طويلة واستمر ترددهم عليها
ولاسيما منذ القرن الثامن الميلادى، فقد هاجر إليها كثير من العرب،
وكانت تحت سيطرة حكام «كلوة» الإسلامية، ثم وقعت تحت حكم
البرتغاليين منذ عام (1503م) فشيدوا كنيسة كبيرة فى مدينة
«زنجبار» ، وقضوا على حكم دولة الزنج.
ولما ازدهرت سلطنة «عُمان» فى جنوب شبه الجزيرة العربية وقضت
على حكم البرتغاليين هناك وفى شرق إفريقيا، انتقل حكم
«زنجبار» إلى العُمانيين وأصبحت جزءًا من أملاكهم ثم نقل السلطان
«سعيد بن سلطان» مقر حكمه إليها عام (1832م)، ثم أصبحت محمية
بريطانية عام (1890م)، وظل سلاطين «آل بوسعيد» يتولون حكمها
تحت السيطرة البريطانية حتى نالت زنجبار استقلالها عام (1963م)،
ثم انضمت إلى تنجانيقا فى اتحاد عرف باسم «تنزانيا» .
والإسلام هو الدين السائد فى «زنجبار» ، وتقدر نسبة المسلمين بنحو
(90%) من مجموع السكان، منهم الشافعية ومنهم الشيعة الإسماعيلية
والإباضية. وفى كل من «زنجبار» و «بمبا» محكمة شرعية لكل منها
قاضيان أحدهما سُنِّى والآخر إباضى، والمساجد كثيرة ولكل طائفة
من الطوائف جمعياتها التى ترعى شئونها ومدارسها ومكاتبها
لتحفيظ القرآن. ويوجد فى «زنجبار» بعض الآثار العربية والشيرازية،
وأهمها بعض المساجد الكبيرة وخاصة مسجد فى قرية «كيز
مكازى» والذى شيد عام (500هـ = 1107م) على الطراز الفارسى.
أما جزيرة «ملجاش» التى كانت تعرف باسم «مدغشقر» ، وهى أكبر
الجزر الإفريقية، فقد عرفها العرب منذ القرن التاسع الميلادى على
الأقل، واختلط سكانها الأصليون بالمهاجرين العرب الذين جاءوا إليها
من «زنجبار» و «جزر القمر» وغيرها، واعتنق الإسلام عدة قبائل
ملجاشية، وتقدر نسبة المسلمين الآن بحوالى (20%) من السكان
تقريبًا، وقد كانت من قبل مقرا لسلطنة عربية إسلامية تسمى سلطنة
«مسلج» أشار إليها (جيان) وقال إن أهلها كانوا يتكونون من جالية
عربية وفدت من شرق إفريقيا، وقد أشار المسعودى والإدريسى
إلى هذه الجزيرة، وقالا إن فيها خلائق من المسلمين ويتوارثها ملوك
من المسلمين وأن الإسلام غلب عليها.
والحقيقة أن مظاهر الإسلام فى هذه الجزيرة، كانت واضحة وبارزة
قبل الغزو الأوربى لها، فالمساجد كانت منتشرة بكثرة، والأهالى
يحافظون على أداء الشعائر والعبادات الإسلامية، فقبيلة
«الساكلافا» على سبيل المثال يصوم كل أفرادها حتى الآن مسلمون
ومسيحيون شهر رمضان، على اعتبار أن الصوم من التقاليد الموروثة
عندهم، وهم لايأكلون لحم الخنزير، ولاتزال أسماء زعمائهم أسماء
إسلامية. وجميع المدغشقريين حتى الذين دخلوا المسيحية على أيدى
الأوربيين اعتادوا أن يختنوا أولادهم، ولايزالون يتلون عند الزواج
آيات من القرآن الكريم على اعتبار أن ذلك من التقاليد الموروثة
أيضًا، ولايزال أهالى ثغر «ماجنقا» وجميعهم مسلمون يكتبون لغتهم
بالأحرف العربية، ويتكلم بها بعضهم.
أما «جزر القمر» التى تقع شمال غربى «مدغشقر» فيقدر عدد
المسلمين فيها بأكثر من (95%) من مجموع السكان، والبقية مسيحيون
من أصل فرنسى أو ملجاشى، وقد نزل العرب فى هذه الجزر فى
القرن العاشر الميلادى، والمسلمون فيها يتبعون المذهب الشافعى
ويتكلمون اللغة السواحيلية. وقد اعتنقوا الإسلام منذ القرن العاشر
الميلادى، وقد غزاهم أمراء «كلوة» فى القرن الحادى عشر
الميلادى واستولوا على بلادهم، ثم جاء الاستعمار البرتغالى فى
أوائل القرن السادس عشر، ولم يلبث الأهالى أن ثاروا عليه وأخرجوه
من بلادهم.
والمؤرخون لايزالون يتحدثون عن حسن تمسك أهل هذه الجزر
بالإسلام وعن كثرة المساجد التى وصل عددها إلى (670) مسجدًا فى
المدن والقرى، ويشيرون إلى انتشار الكتاتيب والمدارس التى تعلم
الدين واللغة العربية بجانب اللغة السواحيلية. والعربية هى اللغة
الرسمية، فبها تصدر الأوامر السلطانية وأحكام القضاة، أما
السواحيلية فهى لغة التجارة. وكذلك فإن عادات الأهالى فى الزواج
والختان والولادة وفى الاحتفال بالأعياد الإسلامية وبصوم شهر
رمضان وبليلة القدر وبليلة الإسراء والمعراج وغيرها من المناسبات
الإسلامية لا تبعد عن العادات والتقاليد التى يتبعها المسلمون فى
بلدان العالم الإسلامى الأخرى، مما يدل على مدى عمق العقيدة
الإسلامية فى نفوسهم، وعلى مدى الجهد الكبير الذى بذله الدعاة
والتجار من العرب وغيرهم فى نشر الإسلام فى هذه الجزر، حتى
أصبح كل أهلها يدينون بهذا الدين، ولذلك لا عجب أن انضمت هذه
الجزر إلى الجامعة العربية منذ بضع سنين.
الفصل العشرون
*طابع الإسلام والثقافة الإسلامية فى شرق إفريقيا
بعد الحديث عن السلطنات الإسلامية وحركات الجهاد فى بلاد الحبشة
والصومال وعلى طول الساحل الشرقى الجنوبى حتى نهر
«زمبيزى» فى «موزمبيق» نلقى نظرة على طابع الإسلام فى تلك
الجهات وعن مدى انفعال تلك الشعوب بالإسلام، ومدى انتشار
الثقافة الإسلامية فى هذه المناطق.
تميزت الإمارات الإسلامية فى هذه المنطقة بطابع أثر فى كيانها
السياسى وفى موقفها ضد الأحباش والبرتغاليين وفى عطائها
الحضارى والثقافى. هذا الطابع تمثل فى أن هذه السلطنات والممالك
لم يكن بينها أى نوع من أنواع الوحدة السياسية، وكان من أثر ذلك
خضوع معظم هذه الإمارات للأحباش فى النهاية رغم حركات الجهاد
التى استمرت نحو أربعة قرون من الزمان.
وترجع هذه الفرقة السياسية إلى أن هذه السلطنات تكونت من بطون
عربية مختلفة فضلا عن اختلاف المذاهب الدينية فيما بينها.
فكانت هذه المدن والسلطنات تستقل كل واحدة منها عن الأخرى
بنشاطها التجارى، وكانت العداوات لاتفتأ تشتعل فيما بينها، مثل
النزاع بين «مالندة» و «ممبسة» والذى استمر حتى قدوم البرتغاليين
الذين استغلوه فى السيطرة على هذه المنطقة، وقد بلغت البغضاء
بين هذه المراكز الإسلامية حدا جعل بعضها يتعاون مع البرتغاليين
نكاية فى الآخرين.
إذن كان طابع هذه الإمارات اقتصاديا صرفًا، فتنوعت مشروعاتها
الاقتصادية، واشتغلت بالزراعة فى المناطق الخصبة، وجلبت
مزروعات جديدة لم تألفها البلاد من قبل مثل البرتقال والذرة والفلفل
والأرز والقرنفل. وكان لها أيضًا نشاط صناعى، فقد عرفت
«مقديشيو» بصناعة المنسوجات الرفيعة التى كانت تصدر إلى العالم
الإسلامى كما عرفت «سوفالة» باستخراج الذهب إلى جانب التجارة
فى العاج وجوز الهند والرقيق. وقد أدى ذلك إلى ثراء هذه المدن
والسلطنات ثراءً كبيرًا ظهر فى وصف الرحالة العرب وغيرهم لها.
وقد ترك هذا النشاط الاقتصادى أثره فى الحياة الاجتماعية وأدى
إلى تنوع الطبقات، فهناك الطبقة الأرستقراطية من العرب، وطبقة
الهنود الذين تركزت فى أيديهم الشئون المالية والمصرفية، وطبقة
خليط من العرب وأهل البلاد الأصليين، ثم طبقة العبيد الذين كانوا
يقومون بالأعمال اليدوية فى المزارع والمصانع والمتاجر.
وقد تأثرت الثقافة الإسلامية بهذا النوع من الحياة التجارية وبحركات
الجهاد المستمر الذى فُرض عليها، سواء فى الشمال من مقديشيو ضد
الأحباش أم فى جنوبها ضد البرتغاليين. فالمدن التجارية والسلطنات
التى قامت على طول الساحل كانت ذات صلات وثيقة بالعالم
الإسلامى، وشئون التجارة تفرض تلك الصلات وتنميها وتعمقها،
وكان للتجارة جانبها المضىء فى نشر الإسلام وثقافته فقد أتت
معها الفرق والمذاهب التى عرفتها الحياة الإسلامية وقد انتشر فقهاء
اليمن والحجاز ومصر فى تلك المناطق، وكان هؤلاء غالبًا ما يعملون
بالتجارة، وكان تأثيرهم كبيرًا فى إذكاء حركات الجهاد هناك، وقد
وفد إلى الأزهر كثير من الطلاب والعلماء وأنشئ به رواق لأهل
«زيلع» ورواق للجبرتية.
وبرز من هؤلاء العلماء الوافدين إلى مصر طائفة كبيرة من أمثال
الشيخ الإمام الزيلعى «فخر الدين عثمان بن على» المتوفى سنة
(742هـ = 1342م) والمحدث الزيلعى «جمال الدين عبدالله بن يوسف»
المتوفى سنة (762هـ = 1362م) والعارف بالله «الشيخ على
الجبرتى» المتوفى سنة (899هـ= 1493م)، وكان هؤلاء العلماء
يعودون إلى بلادهم لمتابعة نشاطهم العلمى. وقد وفد إلى تلك البلاد
بعض العلماء المصريين، فابن بطوطة يشير إلى وجود أحد علماء
مصر وهو «ابن برهان المصرى» فى «مقديشيو» .
وقد ترك الجهاد فى هذه السلطنات أثره فى الحياة الثقافية فقد
صبغت الثقافة الإسلامية هناك بطابع دينى عميق، فقد كان الفقهاء
والعلماء من وراء حركات الجهاد التى قام بها سلاطين «عَدَل» ،
وظهر الأمراء الأئمة منذ القرن الخامس عشر الميلادى، وكان هؤلاء
السلاطين يأتمرون بأمر الفقهاء ويتلقون منهم التوجيه والإرشاد.
وكان انتشار الإسلام يسير فى ركاب حركات الجهاد التى قام بها
السلاطين فى «أوفات» و «عدل» و «هرر» . وليس ثمة شك فى أن
انتشار الإسلام كان مصحوبًا بنشاط تعليمى واضح؛ إذ كلما انتشر
الإسلام فى مكان خف إليه الفقهاء والمعلمون وأقاموا المدارس
والكتاتيب، وقد لاحظ المستشرق «توماس أرنولد» أثناء تنقله فى
بلاد الحبشة أن الوظائف التى تتطلب خبرة خاصة ومستوى ثقافيا
معينًا كان لا يشغلها إلا المسلمون، ويعلل ذلك بأن المسلمين كانوا
يعلمون أبناءهم القراءة والكتابة فى الوقت الذى كان فيه أبناء
المسيحيين لايتعلمون إلا إذا أرادوا الانتظام فى سلك الكهنوت.
وربما كانت الحياة الثقافية فى السلطنات الإسلامية التى انتشرت من
«مقديشيو» صوب الجنوب أكثر ازدهارًا منها فى مدن الشمال، فقد
عاشت هذه المدن عيشة رخاء وطمأنينة منذ نشأتها الأولى حتى
بداية الاحتلال البرتغالى فى أواخر القرن الخامس عشر الميلادى، ولم
تشهد ما شهدته مدن الشمال من جهاد لأجل البقاء، ولذلك كان أمامها
من الوقت ما تعطيه لرعاية الفنون والآداب وأنواع الثقافة الإسلامية
المختلفة.
وقد حمل إليها العرب والفرس حبهم للأدب والشعر، ويبدو أن فترة
الاحتلال البرتغالى وما أعقبها من تحرر وانطلاق أنتجت نهضة أدبية
وصلت غايتها فى القرن الثامن عشر الميلادى، وامتدت إلى الأدب
الشعبى السواحيلى، فظهر فى هذا الميدان شاعر من أهل الجنوب
اسمه «موياس بن الحاج الغسانى» بلغ إنتاجه درجة عالية من التفوق.
كما أنتجت ثقافة دينية عميقة تمثلت فى مؤلفات السيد «عبدالله بن
على» فى كتابه المسمى «الانكشاف» وكان يدرس فى المدن
الجنوبية كلها فى الأربطة والزوايا وغيرها.
وأيضًا فى الهمزية التى ألفها السيد «عيد اروس بن الشيخ على» من
أهل «لامو» والتى اشتملت على نزعة دينية عميقة.
وكان تأثر تلك البلاد بالتقاليد والحياة الإسلامية واضحًا فى انتشار
الطرق الصوفية، وقد تم تبسيط هذه الطرق لتلائم عقلية البدائيين من
أهل تلك البلاد.
ويبدو أن الطرق الصوفية لم يكن لها وجود كبير فى القرن الثامن
الهجرى الرابع عشر الميلادى فى الوقت الذى زار فيه «ابن فضل الله
العمرى» هذه البلاد، فهو يتحدث عن المدارس والخوانق والروابط
والزوايا ولايشير إلى الصوفية إلا كأفراد.
والقادرية هى أولى الطرق الصوفية التى دخلت بلاد الحبشة على
أيدى المهاجرين من اليمنيين والحضارمة، وقد انتشرت الفرق
الصوفية فى «مصوع» و «زيلع» و «مقديشيو» وفى المراكز الإسلامية
على الساحل الشرقى جنوب «مقديشيو» ، وفى الجزر الإفريقية
المواجهة له.
وقد ذاعت بين مسلمى الحبشة والصومال عادة تقديس الأولياء
وانتشرت أضرحتهم فى طول البلاد وعرضها، وأغلبهم من الغرباء
الذين وفدوا على البلاد وادعوا انتسابهم إلى بنى هاشم، وقد ظهر
فضلهم وتقواهم وتقشفهم وعلمهم، فتأثر بذلك المسلمون الذين نالوا
حظًا محدودًا من التعليم ولاسيما فى المدن والقرى. وكان هؤلاء
الشيوخ يؤمون الناس فى الصلاة ويعلمونهم القرآن والحديث، فإذا
ماتوا أصبحت أضرحتهم مركزًا للتعليم يفد إليها الناس، ومن أشهر
هؤلاء الأولياء «الشيخ سعد الدين» فى «زيلع» ، والشيخ «عمر
السكرى»، و «الأمير نور بن المجاهد» فى «هرر» .
وعلى ذلك فقد قامت سلطنات وإمارات إسلامية فى بلاد الحبشة
والصومال وجنوبًا على طول الساحل الشرقى حتى نهر «زمبيزى»
فى «موزمبيق» ، وفى الجزر الإفريقية المواجهة له. وكان نصيب هذه
الإمارات هو الدخول فى صراع الحياة والموت أمام خطر الأحباش
بالنسبة إلى السلطنات الشمالية وطوال أربعة قرون من الثانى عشر
إلى السادس عشر، ذلك الصراع الذى انتهى بإخضاع معظم هذه
الإمارات سياسيا للأحباش حتى تم تحرير معظمها فى النصف الثانى
من القرن العشرين، ثم مواجهة خطر البرتغاليين بالنسبة إلى سلطنات
الجنوب بدءًا من القرن السادس عشر وطوال القرن السابع عشر،
حتى تم تحرير تلك المناطق من البرتغاليين على يد العرب العُمانيين.
وإذا كان الإسلام قد انتشر فى إفريقيا جنوب الصحراء على هذا
النحو الذى تحدثنا عنه، فقد أصبحت القارة الإفريقية هى القارة
المسلمة الوحيدة فى العالم كله؛ حيث إن أغلبية سكانها بما لا يقل
عن (65%) مسلمون، وأصبح الإسلام هو مستقبلها، فما هو الأثر الذى
تركه منذ انتشاره فى هذه القارة؟
أثر الإسلام فى إفريقيا جنوب الصحراء:
قبل أن نتحدث عن أثر الإسلام فى حياة الأفارقة جنوب الصحراء نود
أن نقدم لهذا الحديث بشهادة وردت على لسان أحد الأوربيين
المنصفين ويسمى «ميك» فى كتابه فقال: «إن الإسلام لم يترك أثرًا
عميقًا فى التركيب الجنسى لهذه الشعوب فحسب، بل إنه جاء
بحضارة أتاحت للشعوب الزنجية طابعًا حضاريا لايزال واضحًا حتى
اليوم مؤثِّرًا فى نظمهم السياسية والاجتماعية، ذلك أن الإسلام حمل
الحضارة إلى القبائل المتبربرة، وجعل من المجموعات الوثنية
المنعزلة المتفرقة شعوبًا، وجعل تجارتها مع العالم الخارجى
ميسورة. فقد وسع من الأفق ورفع من مستوى الحياة بخَلْق مستوى
اجتماعى أرقى، وخلع على أتباعه الكرامة والعزة واحترام الذات
واحترام الآخرين .. لقد أدخل الإسلام فن القراءة والكتابة، وحرم
الخمر، وأكل لحوم البشر، والأخذ بالثأر، وغير ذلك من العادات
الوحشية، وأتاح للزنجى السودانى الفرصة لأن يصبح مواطنًا حرا فى
عالم حر».
وشهادة ثانية يتحدث فيها صاحبها «جرانفيل» (الكونغولى) فى
العصر الحديث عن شىء من أثر العروبة والإسلام فى عمق القارة
فيقول: «لقد زوَّر البلجيك فى الكونغو، فليست مدينة ستانلى فيل
سوى مدينة تيبوتيب وهو الزعيم حميد بن محمد المرجبى العُمانى
العربى الذى أقام هذه المدينة قبل قدوم الرحالة ستانلى، وليس
العرب كما قالوا لنا تجار رقيق، وإنما هم تلك الموجة الإنسانية التى
اختلطت بنا وصاهرتنا وتركوا لنا لغة متولدة من لغتهم - يقصد اللغة
السواحيلية - ودينًا، وحضارة، وسماحة تسرى بين كل الناس، كما
تركوا على أرضنا دماءهم والبلجيك يحصدونهم بالأسلحة الحديثة،
وليس أعز علينا شىء من هذا الدم العربى الذى سال فى الماضى
كما سال ويسيل دمنا الآن فى بلادنا على أيدى أعداء العرب
أنفسهم فى القرن الماضى».
ونشير الآن فى إيجاز شديد إلى أثر الإسلام وحضارته فى شتى
ميادين الحياة فى إفريقيا جنوب الصحراء:
الدين والعقيدة:
وفى هذا المجال نستطيع القول إن الإسلام قضى على العقائد
الوثنية وحلت الوحدانية محل عبادة الأرواح والأسلاف ومظاهر
الطبيعة، فاستبدل الناس الإسلام بهذا الشتات والفرقة الدينية الوثنية
ذات الطبيعة الخرافية والوهمية، وتم القضاء على تحكم أرواح
الأسلاف والأجداد - كما كانوا يعتقدون - فى حياة الأحياء؛ إذ كانت
أرواح هؤلاء الأسلاف من الموتى هم الرؤساء الفعليون للأسرة
وللقبيلة كلها، وهم القوامون والمراقبون لسلوك الأحياء، ولهم عليهم
حق الثواب والعقاب، ولابد من استشارتهم فى كل أمر من أمور
الحياة ومشاكلها. كما قضى الإسلام على الاحتفالات الدينية المهيبة
التى كانت تقام لآلهتهم ولأسلافهم، والتى كانوا يشربون فيها
الخمور ويقدمون فى أحيان كثيرة القرابين البشرية كى ترضى عنهم
الآلهة وأرواح الأسلاف، حررهم الإسلام من كل ذلك ومن أعمال
السحر والكهانة المرتبطة بهذه العقائد الوثنية، وحل الفقيه أو الداعية
المسلم محل الكاهن أو الساحر، وحل المسجد فى القرية الإفريقية
محل دار عبادة الأوثان ذات المنظر البشع، وحلت حلقات الذكر التى
كان الصوفية يعقدونها محل حفلات الرقص الماجنة، وبذلك تحرر
الأفارقة سودانًا كانوا أم زنوجًا من هذا التخلف العقيدى والفكرى
وتم جمعهم على عبادة واحدة وإله واحد وشريعة واحدة ذات نظم
واضحة تنظم حياة الفرد والمجتمع.
الحياة الاجتماعية:
وفى هذا الصدد نستطيع القول إن الإسلام خلَّصهم من عادات سيئة
كثيرة مثل العُرْى وأكْل لحوم البشر ودفن الجوارى والخدم والزوجات
مع الملك المتوفى، ووأد الأطفال أحياءً، وكان هؤلاء الأطفال
يوءدون لا لشىء إلا لأنهم وُلدوا مشوهين، أو وُلدوا وبهم مس من
الشيطان كما كان يعتقد آباؤهم، أو لأن أسنانهم العليا ظهرت أولا،
وهو فأل سيئ عندهم، فكانت بعض القبائل تترك هؤلاء الأطفال فى
الغابة تخلصًا منهم، ولكن الإسلام عدَّل هذه العادة بين المسلمين
الأفارقة.
زد على ذلك أن الإسلام علمهم النظافة فأخذ الأهالى الذين لم يتعودوا
من قبل على النظافة يغتسلون ويتنظفون، لأن إقامة الشعائر الدينية
الإسلامية لا تصح إلا بطهارة البدن والملبس والمكان. يضاف إلى ذلك
أن الإسلام نظمهم فى الزواج ونظام الأسرة، إذ جعل الرجل هو
المسئول الأول عن الأسرة لا المرأة كما كان الشأن عند كثير من
القبائل الإفريقية، فصار الأبناء ينسبون لآبائهم وليس لأمهاتهم، كما
حدد عدد الزوجات فى أربع فقط وليس كما كان الحال عندما كان
الرجال يختلطون بالنساء اختلاطًا جماعيا، أو كان للرجل ما يشاء من
نساء حسب قدرته ومقدرته. وبذلك رفع الإسلام مكانة المرأة
وأحاطها بسياج من الاحترام والطهر والعفاف، بعد أن كان الابن يرث
زوجات أبيه بل ويتزوج بهن، وكان نظامهم أن ابن الزوجة الأولى هو
الذى يختص بميراث أبيه كله عند وفاته ويحرم منه باقى الأبناء
فوضع الإسلام نظامًا عادلا لتوزيع التركة بين أفراد الأسرة جميعًا إذا
مات عائلها، حسب نظام دقيق يعطى لكل ذى حق حقه دون زيادة أو
نقصان، ودون ظلم أو بهتان، مما أورث الحب والمودة فى قلوب
الأبناء وزرعها محل الكراهية والبغضاء.
ولا يقل عن ذلك أهمية أن الإسلام أزال تقسيم الناس إلى طبقات
حسب اللون أو العنصر أو الثروة أو المنزلة الاجتماعية، وجعل الإخاء
والمساواة والتعاون والتكافل أساس الحياة الاجتماعية، وأصبح
الأسود باعتناقه الإسلام على قدم المساواة مع غيره داخل وطنه،
ومع إخوته فى الإسلام فى أى مكان آخر، مما أشعره بالعزة
والكرامة والاعتداد بالنفس بعد أن كان عبدًا مهانًا يتحكم الملك
الإفريقى الوثنى أو شيخ القبيلة فى أموره كلها بل فى حياته
نفسها، وأصبح سلوك الناس ملوكًا وعامة مضبوطًا بضوابط الإسلام
وشريعته وأحكامه، ولم يصبح مرتهنًا بأوامر الملك المقدس ونزواته
أو نزوات شيخ القبيلة. وبذلك حرر الإسلام الإنسان الإفريقى وكل
إنسان يعتنقه من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
الحياة الاقتصادية:
كان النظام الاقتصادى يقوم على احتكار شيخ القبيلة أو الملوك أو
الزعماء للأرض والثروة الحيوانية والمحاصيل الزراعية وحق المتاجرة
فى سلع معينة، فلا يحق للناس العاديين تملك شىء فقد كانوا هم
والأرض وما ينتجونه منها ملكًا للملك. فلما جاء الإسلام قضى على
ذلك، فأطلق حق التملك حسب الجهد والطاقة وبَذْل المجهود والعمل،
وجعل كسب المال أمرًا متاحًا للجميع كل حسب جده وكده، فقضى
بذلك على الإقطاع والاستغلال والاحتكار، كما قضى على العبودية
ونظام السخرة فصار العامل يأخذ أجره عما يقوم به من عمل بعد أن
كان يعمل فى مزرعة الشيخ أو الملك دون أجر.
كما حرَّم الإسلام الربا وفرض الزكاة التى كان الأغنياء يدفعونها
للفقراء، وكان السلاطين يأخذونها ويوزعونها فى مصارفها
الشرعية، مما جعل حياة الناس محاطة بسياج من العدالة والأمن
والرخاء.
وقد جلب الإسلام للأفارقة منافع مادية ضخمة؛ إذ ربط الساحل
بالداخل من خلال قوافل التجارة التى توغلت حتى الكونغو ومنطقة
البحيرات، وحتى أعماق الغابة فى غرب القارة مما أدى إلى القضاء
على عزلة المناطق الداخلية، بل وعلى عزلة الأفارقة عامة وربطهم
بالعالم الإسلامى الواسع وبتجارته الزاهرة، وقد أتاح لهم إسلامهم
أن يخرجوا من أوطانهم المحلية ويتعرفوا هذا العالم الواسع، سواء
أكان من خلال رحلات الحج التى كانوا يقومون بها إلى بلاد الحجاز،
أم من خلال قوافل التجارة التى كانوا يرحلون معها إلى شتى
الأقطار حتى وصل بعضهم إلى الهند والصين.
الحياة الثقافية:
وفى هذا المجال كان أثر الإسلام أمرًا غير مسبوق، ذلك لأن الأفارقة
لم تكن لهم ثقافة ناهضة راقية قبل اعتناقهم الإسلام، ولم يكونوا
يعرفون مجرد القراءة والكتابة، بل لم يكونوا يعرفون من الثقافة إلا
العادات والتقاليد المرتبطة بالكهانة والسحر والشعوذة، وبالطبيعة
من مطر وجدب وإنبات وحصاد ونبوءات وأساطير، فلما جاء الإسلام
أمدهم بالعلم والفن الرفيع، وعلَّمهم القراءة والكتابة، واستقدم لهم
العلماء من مصر والمغرب وتونس وشتى أنحاء العالم الإسلامى، بل
وأرسل طلابهم إلى هذه البلدان استزادة من العلم والفقه، وبنى لهم
المدارس والكتاتيب، وزوَّدهم بلغة القرآن وهى اللغة العربية التى
وحدت مشاربهم ونسقت أفكارهم وربطتهم بالدين والعقيدة
الإسلامية، فمهدت السبيل أمام ظهور ثقافة إفريقية إسلامية مشتركة
بعد أن صارت هذه اللغة هى لغة العلم والدراسة والإدارة والتجارة
والعبادة بل والتخاطب بين قبائل كثيرة فى القارة. وأصبح العلماء
الأفارقة هم حلقة الربط والوصل بين هذا المجتمع السودانى الزنجى
وبقية المجتمعات الإسلامية، بذهابهم إلى هذه المجتمعات كما قلنا
لمزيد من الدراسة والعلم أو تأدية لفريضة الحج، وبذلك تم القضاء
على التخلف الثقافى والحضارى والفكرى الذى كان يسود
المجتمعات الإفريقية، وأصبح الإفريقى يزهو بأنه يجيد القراءة
والكتابة، بل يفخر بأنه أصبح من العلماء والفقهاء مثله فى ذلك مثل
غيره من علماء المسلمين فى كافة ديار الإسلام.
ولقد أدى هذا الرقى العلمى والثقافى الذى وصلوا إليه أن الدول
الإفريقية التى لايحكمها مسلمون كانت الوظائف التى تتطلب خبرة
خاصة ومستوى ثقافى معين كان لايشغلها إلا المسلمون من أهلها،
لأن هؤلاء المسلمين كما يقول «توماس أرنولد» كانوا أعلى همة
وأوفر نشاطًا وأرفع مستوى من غيرهم من أصحاب الديانات
الأخرى، لأن كل مسلم كان ملتزمًا بتعليم أبنائه القراءة والكتابة بينما
كان غيرهم لايعلمون أبناءهم إلا عندما يريدون لهم الانتظام فى سلك
الكهنوت. ولم يفعل المسلمون ذلك إلا لأن الإسلام جعل من التعليم
فريضة على كل مسلم ومسلمة، وبذلك تغير حال الأفارقة وأنتجوا
علمًا وفقهًا وأدبًا وحضارة لم يطمس معالمها إلا الاستعمار الأوربى
الذى أصيبوا به فى مطلع العصر الحديث.
الوحدة السياسية:
لم تعرف إفريقيا جنوب الصحراء قبل الإسلام دولا كبيرة أو صغيرة إلا
القليل، وكان النظام القبلى هو السائد، وعندما ظهر الإسلام ودخل
القارة (جنوب الصحراء) لم يكن فيها من الدول المعروفة وقتذاك إلا
مملكة «غانة» الوثنية فى غرب القارة، أما فى وسط القارة فلم يكن
هناك إلا دولة «الكانم» الوثنية فى حوض بحيرة تشاد، وهذه الدولة
لم تنشأ إلا فى القرن التاسع للميلاد، أى بعد ظهور الإسلام بحوالى
قرنين من الزمان، أما فى شرق القارة فكانت هناك دولة واحدة هى
مملكة الحبشة المسيحية، وفى أقصى الجنوب كانت هناك مملكة
«مونوموتابا» الوثنية، وباقى إفريقيا جنوب الصحراء لم يكن فيها
إلا المشيخات القبلية لا غير، وكانت حياة الناس لا ينظمها قانون أو
شريعة، إلا ما يقوله الملك أو الشيخ، فكلمته هى القانون، لأنه هو
الذى يهب الحياة ويقضى بالموت، ويبارك الزرع والحصاد، وينزل
المطر، ويتحكم فى كل ما على وجه الأرض، لأنه ببساطة هو الإله
والرب المعبود.
وعندما جاء الإسلام لم ينشئ دولا صغيرة شبيهة بالتى أشرنا إليها
من قبل فقد أقام إمبراطوريات إسلامية كبرى سبق الحديث عنها،
وجمع القبائل المتفرقة المتنازعة والعناصر المتباينة داخل هذه
الإمبراطوريات الكبيرة، وقضى على عادات هذه القبائل فى النهب
والسلب والإغارة، وقضى أيضًا على استبداد الحكام وتألههم
وظلمهم للرعية، بل وجعلهم يخضعون لرجال من رعيتهم نالوا قسطًا
وافرًا من العلم والثقافة هم العلماء والفقهاء، فكانوا لا يبرمون أمرًا
إلا بعد استشارتهم، فعل ذلك - أيضًا - الملوك الوثنيون الذين لم
يكونوا قد دخلوا الإسلام بعد و «البكرى» يقص علينا نبأ ملك «غانة»
الوثنى الذى اتخذ من العلماء المسلمين الذين كانوا يقيمون فى
عاصمته وزراءه ومستشاريه.
وقد أقام الحكام والسلاطين دُورًا للشورى كان واحدها يسمى
«المشور» وكان هذا «المشور» هو المكان الذى يلتقى فيه الحاكم
بالمحكومين، فإذا أصيب أحد من الرعية بظلم أو أصابه مكروه على
يد غيره من الرعية أو الحكام كان يلجأ على الفور إلى «المشور»
ويرفع مظلمته، فكان يقضى فيها على الفور على يد العلماء
والفقهاء أو على يد الوزراء والسلطان نفسه حسب نوع المظلمة.
ولذلك ساد الأمن والأمان والطمأنينة حياة الناس فيما عدا أوقات
الفتن والاضطرابات والحروب.
ونتيجة لذلك كله ارتقت الحياة المادية والعمرانية وازدهرت الحضارة
فى إفريقيا جنوب الصحراء، ويكفى فى ذلك ما سقناه فى صدر هذا
الحديث من شهادات قالها بعض الغربيين المنصفين، وما قاله آخرون
منهم من أن الدول الإسلامية فى إفريقيا جنوب الصحراء شهدت ظهور
مئات المدن ذات المنازل الجميلة المبنية بالحجارة، وكانت هذه المنازل
ذات حدائق جميلة وبعضها - وكما تُبيِّن الحفريات والآثار - كان مصممًا
لأكثر أنواع المعيشة رفاهية وفخامة وكان الناس الذين يعيشون فى
هذه المنازل وتلك المدن ذات الشوارع الفسيحة يرتدون الملابس
الحريرية والقطنية ويتزينون بمقادير كبيرة من الذهب والنحاس
والعاج، كما سكَّوا العملة الذهبية ووجدت عندهم صناعات راقية حتى
إن المنسوجات المقدشية كانت تباع فى مصر وفى شتى أنحاء
العالم الإسلامى.
هذا هو الإسلام وذاك هو تأثيره، وتلك حضارته التى أدهشت الرحالة
المسلمين والبرتغاليين ومن أتى بعدهم من الأوربيين، ولكن هذه
الحضارة تلقت ضربة عنيفة على يد الغزاة البرتغاليين وإخوانهم من
الأوربيين الآخرين فى العصر الحديث حيث أخضعوا هذه القارة
بكاملها لنفوذهم وسيطرتهم ونهبهم واستغلالهم، وحاربوا الإسلام
وثقافته وحضارته ولغته بقدر ما وسعهم الجهد وبكل وسيلة ممكنة
ولكن إفريقيا جنوب الصحراء بعد أن نالت استقلالها بدأت تفيق من
هذا الكابوس الرهيب وتلتمس فى الإسلام طوق النجاة من جديد
- المراجع:
* إبراهيم طرخان: إمبراطورية غانة الإسلامية - القاهرة - 1970م
* إبراهيم طرخان: دولة مالي الإسلامية - القاهرة - 1973م
* إبراهيم طرخان: إمبراطورية البرنو الإسلامية - القاهرة - 1975م
* أحمد بابا التمبكتي: نيل الابتهاج بتطريز الديباج - طرابلس - ليبيا - 1989م
* أحمد شلبي: موسوعة التاريخ الإسلامي - جـ 6 - الطبعة الرابعة - القاهرة - 1983م
* أحمد علي أحمد: كلوة؛ تاريخهاا وحضارتها؛ رسالة ماجستير غير منشورة - جامعة القاهرة - 1983م
* الإدريسي: نزهة المشتاق في اختراق الآفاق - بيروت - 1989م
* بازل دافدسون: إفريقيا تحت أضواء جديدة - بيروت - بدون تاريخ
* بن بطوطة (أبو عبدالله محمد): تحفة النظار في غرائب الأمصار - بيروت - 1987م
* البكري: المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب - القاهرة - بدون تاريخ
* بوركهات: رحلات بوركهات في بلاد النوبة والسودان - القاهرة - 1979م
* ترمنجهام: الإسلام في شرق إفريقيا - القاهرة - 1973م
* توماس أرنولد: الدعوة إلي الإسلام - القاهرة - الطبعة الثالثة - 1971م
* التونسي: تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان - القاهرة - 1965م
* جيان: وثائق تاريخية وجغرافية وتجاريةعن إفريقيا الشرقية - القاهرة - 1927م
* حسن إبراهيم حسن: انتشار الإسلام في القارة الإفريقية - القاهرة - الطبعة الثانية - 1984م
* حسن عيسى عبدالظاهر: الدعوة الإسلامية في غرب إفريقيا - القاهرة - الطبعة الأولى - 1991م
* حسن محمود: الإسلام والثقافة العربية في إفريقيا - القاهرة - الطبعة الثالثة - 1986م
* الحسن الوزان: وصف إفريقيا - بيروت - الطبعة الثانية - 1983م
* الحيمي: سيرة الحبشة - القاهرة - الطبعة الثانية - 1972م
* رجب محمد عبدالحليم: العروبة والإسلام في دارفور في العصور الوسطى - القاهرة - 1991م
* زاهر رياض: الإسلام في إثيوبيا - القاهرة - 1964م
* زين العابدين عبدالحميد السراج: دولة كانم الإسلامية - رسالة ماجستير - آداب القاهرة - 1975م
* السعدي: تاريخ السودان - باريس - 1889م
* سعيد المغيرى: جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار - القاهرة - 1989م
* الشاطر بعييلي عبد الجليل: تاريخ وحضارات السودان الشرقي والأوسط - القاهرة - 1972م
* عبد الرحمن زكي: الإسلام والمسلمون في غرب إفريقيا؛ الإسلام والمسلمون في شرق إفريقيا- القاهرة - بدون تاريخ
* عبد الفتاح مقلد: سلطنة البرنو حتي عام 1808م؛ رسالة ماجستير غير منشورة - جامعة القاهرة - 1978م
* عرب فقيه: فتوح الحبشة (تحفة الزمان) - القاهرة 1972م
* عطية القوصي:دولة الكنوز الإسلامية - القاهرة - الطبعة الثانية- 1986م
* فتحي غيث: الإسلام والحبشة عبر التاريخ - القاهرة - بدون تاريخ
* القلقشندي (أحمد بن علي): صبح الأعشي في صناعة الأنشا - جـ 5،8 - القاهرة - بدون تاريخ
* محمد بلو: اتفاق الميسور في تاريخ بلاد التكرور - القاهرة - 1964م
* محمد ضيف الله: كتاب الطبقات - بيروت - بدون تاريخ
* محمد النقيرة: التأثير الإسلامي في غرب إفريقيا - الرياض - 1980م
* محمود التمبكتي: تاريخ الفتاش - باريس - 1916م
* محمود الحويري: أسوان في العصور الوسطى - القاهرة - 1980م
* مصطفى أبو شعيشع: برنو في عصر الأسرة الكانمية - رسالة ماجستير غير منشورة - جامعة القاهرة - 1976م
* مصطفى مسعد: الإسلام والنوبة في العصور الوسطى - القاهرة - 1960م
* مكي شبيكة: السودان عبر القرون - بيروت - 1964م
* نعوم شقير: تاريخ السودان القديم والحديث وجغرافيته - القاهرة - 1903م
* ياقوت الحموي: معجم البلدان - جـ 5 - بيروت - 1979م