المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وتارة يقع عَلَى وجه التقرب إِلَى الله عز وجل: باستجلاب - نزهة الأسماع في مسألة السماع «أحكام الغناء والمعازف» - جـ ٢

[ابن رجب الحنبلي]

الفصل: وتارة يقع عَلَى وجه التقرب إِلَى الله عز وجل: باستجلاب

وتارة يقع عَلَى وجه التقرب إِلَى الله عز وجل: باستجلاب صلاح القلوب، وإزالة قسوتها وتحصيل رقتها.

‌القسم الأول:

أن يقع عَلَى وجه اللعب واللهو: فأكثر العُلَمَاء عَلَى تحريم ذلك -أعني سماع الغناء وسماع آلات الملاهي كلها- وكل منها محرم بانفراده، وقد حكى أبو بكر الآجري وغيره إجماع العُلَمَاء عَلَى ذلك.

والمراد بالغناء المحرم: ما كان من الشعر الرقيق الَّذِي فيه تشبيب بالنساء ونحوه، مما توصف فيه محاسن من تهيج الطباع بسماع وصف محاسنه، فهذا هو الغناء المنهي عنه، وبذلك فسره الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، وغيرهما من الأئمة.

فهذا الشعر إذا لُحن، وأخرج تلحينه عَلَى وجه يُزعج القلوب، ويخرجها عن الاعتدال، ويُحرك الهوى الكلامن المجبول في طباع البشر، فهو الغناء المنهي عنه.

فإن أنشد هذا الشعر عَلَى غير وجه التلحين؛ فإن كان محركًا للهوى بنفسه فهو محرم أيضاً؛ لتحريكه الهوى، لهان لم يُسمَّ غناء.

فأما ما لم يكن فيه شيء من ذلك، فإنه ليس بمحرم وإن سُمي غناء.

وعلى هذا حمل الإمام أحمد حديث عائشة رضي الله عنها في الرخصة في غناء نساء الأنصار وقال: هو غناء الركبان أتيناكم أتيناكم. يشير إِلَى أنه ليس فيه ما يُهيجُ الطباع إِلَى الهوى ويشهد لذلك حديث عائشة: أن الجاريتين اللتين كانتا عندها كانتا تغنيان بما (تقاولت)(*) به الأنصارُ رضي الله عنهم يوم بُعاث (1) وعلى مثله يُحمل كل حديث ورد في الرخصة في الغناء، كحديث الحبشية التي نذرت أن تضرب الدّف، في مقدم النبي صلى الله عليه وسلم (2)، وما أشبهه من الأحاديث.

(*) في "نسخة": تقاومت.

(1)

أخرجه البخاري (952)، ومسلم (892).

(2)

أخرجه الترمذي (3690)، وأحمد (5/ 353). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث بريدة، وفي الباب عن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وعائشة.

ص: 444

ويدل عليه أيضاً ما في "صحيح البخاري"(1) عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: "جَاءَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، غَدَاةَ بُنِيَ بِي فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي. وَجُوَيْرِيَاتٌ لَنَا يَضْرِبْنَ الدُّفّ وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِي يَوْمَ بَدْرٍ، إِلَى أَنْ قَالَتْ جَارِيةً مِنْهُنَّ: وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، فَقَالَ لَهَا: أمْسِكِي عَنْ هَذِهِ، وَقُولِي الَّتِي كُنْتِ تَقُولِينَ قَبْلَهَا". وفي "مسند الإمام أحمد"(2) و"سنن ابن ماجه"(3) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: "أَهَدَيْتُمُ الْجَارِيَةَ إِلَى بَيْتِهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلَّا بَعَثْتُمْ مَعَهَا مَنْ يُغَنِّيهِمْ يَقُولُ:

أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ

فَحَيُّونَا نُحَيِّيكُمْ

فَإِنَّ الْأَنْصَارَ قَوْمٌ فِيهِمْ غَزَلٌ". وعلى مثل ذلك أيضاً حمل طوائف من العُلَمَاء قول من رخص في الغناء من الفقهاء، من أصحابنا وغيرهم وقالوا: إِنَّمَا أردوا الأشعار التي لا تتضمن ما يُهيج الطباع إِلَى الهوى، وقريبٌ من ذلك الحداء (4)، وليس في شيء من ذلك ما يحرك النفوس إِلَى شهواتها المحرمة.

ونذكر بعض ما ورد في الكتاب والسنة والآثار من تحريم الغناء وآلات اللهو:

فأمَّا تحريم الغناء، فقد استُنبط من القرآن من آيات متعددة، فمن ذلك: قول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} (5). (6)

وقال ابن عباس: هو الغناء وأشباهه (7).

(1) أخرجه البخاري (5147).

(2)

في "المسند"(3/ 391).

(3)

في "السنن"(1900).

(4)

قال الجوهري: الحدو: سوق الإبل والغناء لها. "اللسان" مادة: (حدو).

(5)

لقمان: 6.

(6)

أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 309)، والطبري في "تفسيره"(21/ 61)، والحاكم (2/ 411)، والبيهقي في "السنن الكبير"(10/ 223) وغيرهم.

(7)

أخرجه ابن أبى شيبة (6/ 310)، والبخاري في "الأدب المفرد" برقم (678، 1265)، وابن جرير في "تفسيره"(21/ 61) وغيرهم.

ص: 445

وفسّره بالغناء أيضًا خلق من التابعين، منهم: مجاهد وعكرمة، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، والنخعي، وغيرهم.

وقال مجاهد في قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} (1)

قال: الغناء والمزامير.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} (2)

قال: هو الغناء بالحميرية (3).

وقال بعض التابعين في قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (4)

قال: إِنَّ اللغو هو الغناء.

وعن أبي أمامة عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَبِيعُوا القَيْنَاتِ وَلَا تَشْتَرُوهُنَّ وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ، وَلَا خَيْرَ فِي تِجَارَةٍ فِيهِنَّ، وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ، فِي مِثْلِ هَذَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيرِ عِلْمٍ} (5).

خرّجه الإمام أحمد (6) والترمذي (7) من رواية عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة وقال: قد تكلم بعض أهل العِلْم في علي بن يزيد وضعفه، وهو شامي.

وذكر في كتاب "العلل" أنه سأل البخاري عن هذا الحديث فَقَالَ: علي ابن يزيد ذاهب الحديث. ووثق عبيد الله بن زحر والقاسم بن عبد الرحمن، وخرجه محمد بن يحيى الهمداني الحافظ الفقيه الشافعي في "صحيحه".

وقال: عبيد الله بن زحر. قال أبو زرعة: لا بأس به صدوق. قلت: علي بن يزيد لم يتفقوا عَلَى ضعفه، بل قال فيه أبو مُسهر -وهو من بلده: وهو أعلم

(1) الإسراء: 64.

(2)

النجم: 61.

(3)

أخرجه ابن جرير (27/ 82)، والبيهقي (10/ 223).

(4)

الفرقان: 72.

(5)

لقمان: 6.

(6)

في "المسند"(5/ 264).

(7)

برقم (1282).

ص: 446

بأهل بلده من غيرهم- قال فيه: ما أعلم فيه إلا خيرًا. وقال ابن عدي: هو في نفسه صالح، إلا أن يروي عنه ضعيف فيؤتى من قبل ذلك الضعيف. هذا الحديث، قد رواه عنه غير واحد من الثقات.

وقد خرَّج الإمام أحمد (1) من رواية فرج بن فضالة، عن علي بن يزيد عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْحَقَ الْمَزَامِيرَ وَالْبَرَابِطَ (2)، وَالْمَعَازِفَ وَالْأَوْثَانَ". ذكر بقية الحديث وفي آخره: "وَلا يَحِلُّ بَيْعُهُنَّ وَلا شِرَاؤُهُنَّ، وَلا تَعْلِيمُهُنَّ تِجَارَةٌ فِيهِنَّ وَأَثْمَانُهُنَّ حَرَامٌ. يَعْنِي الضَّارِبَاتِ" وفرج بن فضالة مختلفٌ فيه أيضاً، ووثقه الإمام أحمد وغيره.

وخرَّج الإسماعيلي وغيره من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ثمن المغنية حرام وغناؤها حرام" وإسناده كلهم ثقات متفق عليهم، سوى يزيد بن عبد الملك النوفلي، فإنه مختلف في أمره.

وخرج حديثه هذا محمد بن يحيى الهمداني في "صحيحه" وقال: في النفس من يزيد بن عبد الملك. مع أن ابن معين قال: ما كان به بأس. وبوّب الهمداني هذا في "صحيحه" عَلَى تحريم بيع المغنيات وشرائهن، وهو من أصحاب ابن خزيمة وكان عالمًا بأنواع العلوم، وهو أول من أظهر مذهب الشافعي بهمدان، واجتهد في ذلك بماله ونفسه، وكان وفاته سنة سبع وأربعين وثلاثمائة رحمه الله تعالى.

وخرَّج في باب تحريم ثمن المغنية من رواية أبي نعيم الحلبي، ثنا ابن المبارك، عن مالك، عن ابن المنكدر، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من قعد إِلَى قينة (3) يستمع منها صُبّ في أذنيه الآنُكُ (4) يوم القيامة".

(1) في "المسند"(5/ 257، 268).

(2)

البرابط: جمع بربط، وهي آلة طرب، تشبه العود. "النهاية"(1/ 112).

(3)

القينة: الأمة، غنت أو لم تغن والماشطة، وكثيرًا ما تطلق عَلَى المغنية من الإماء.

"النهاية"(4/ 135).

(4)

هو الرصاص الأبيض، وقيل الأسود. "النهاية"(1/ 77).

ص: 447

وقال: أبو نعيم الحلبي اسمه عبيد بن هشام. قلتُ: قد وثقه أبو داود وقال: إنه تغير بأخرة. وقد أنكر عليه أحاديث تفرد بها، منها هذا الحديث.

وفي النهي عن بيع المغنيات أحاديث تفرد بها آخر عن علي وعائشة رضي الله عنهما وغيرهما، وفي أسانيدها مقال.

وروى عامر بن سعد البجلي قال: دخلت عَلَى قرظة بن كعب وأبي مسعود الأنصاري في عرس، فَإِذَا جواري يتغنين. فقلت: أنتم أصحاب محمد، وأهل بدر ويُفعل هذا عندكم! قال: اجلس إِنَّ شئت واسمع، وإن شئت فاذهب فإنه قد رُخص لنا في اللهو عند العرس. خرَّجه النسائي (1) والحاكم (2) وقال: صحيح عَلَى شرطهما. والرخصة في اللهو عند العرس تدل عَلَى النهى عنه في غير العرس، ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم حديث عائشة المتفق عليه في "الصحيحين"(3)"لما دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان وتدففان، فانتهرهما أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقال: مزمور الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم! فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: دَعْهُمَا فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ". فلم ينكر قول أبي بكر رضي الله عنه، وإنما علّل الرخصة بكونه في يوم عيد، فدل عَلَى أنه يباح في أيام السرور، كأيام العيد وأيام الأفراح، كالأعراس وقدوم الغُياب ما لا يباح في غيرها من اللهو.

وإنما كانت دفوفهم نحو الغرابيل، وغناؤهم بإنشاد أشعار الجاهلية في أيام حروبهم وما أشبه ذلك.

فمن قاس عَلَى ذلك سماع أشعار الغزل مع الدفوف المصلصلة فقد أخطأ غاية الخطأ، وقاس مع ظهور الفرق بين الفرع والأصل.

(1) في "السنن"(3383).

(2)

في "المستدرك"(2/ 184).

(3)

أخرجه البخاري (952)، ومسلم (892).

ص: 448

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: الغناء يُنبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل (1). وقد روي عنه مرفوعًا، خرّجه ابو داود (2) في بعض نسخ "السنن" وخرّجه ابن أبي الدُّنْيَا والبيهقي وغيرهما، وفي إسناد المرفوع من لا يُعرف والموقوف أشبه. وأما تحريم آلات الملاهي، فقد تقدم عن مجاهد أنه أدلخها في صوت الشيطان المذكور في قول الله تعالى:{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} (3) وتقدم أيضاً حديث أبي أمامة في ذلك.

وقال البخاري في "صحيحه"(4): وقال هشام بن عمار ثنا صدقة بن خالد، ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، ثنا عطية بن قيس، حدثني عبد الرحمن بن غنم الأشعري، حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري -والله ما كذبني- سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ تَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيهِمْ الفَقِيرَ لِحَاجَةٍ فَيَقُولُوا: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ وَيَضَعُ العَلَمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ".

هكذا ذكره البخاري في كتابه بصيغة التعليق المجزوم به، والأقرب أنه مُسند؛ فإن هشام بن عمار أحد شيوخ البخاري. وقد قيل: إِنَّ البخاري إذا قال في "صحيحه": قال فلان ولم يصرح بروايته عنه، وكان قد سمع منه، فإنه يكون قد أخذه عنه عرضًا أو مناولة أو مذاكرة. وهذا كله لا يخرجه عن أن يكون مُسندًا، والله أعلم.

وخرجه البيهقي (5) من طريق الحسن بن سفيان، ثنا هشام بن عمار، فذكره فالحديث صحيح محفوظ عن هشام بن عمار.

(1) أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "ذم الملاهي"(156)، والبيهقي في "السنن الكبير"(10/ 223) وضعفه الشيخ الجديع في أحاديث "ذم الغناء والمعازف في الميزان"(ص 57).

(2)

في "السنن" برقم (4927).

(3)

الإسراء: 64.

(4)

برقم (5590).

(5)

في "السنن الكبير"(10/ 221).

ص: 449

وخرج أبو داود (1) هذا الحديث مختصرًا بإسناد متصل إِلَى عبد الرحمن ابن جابر الإسناد فَقَالَ: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة، ثنا بشر بن بكر، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، ثنا عطية بن قيس فذكره. وقال:"يستحلون الخز".

كذا عنده، "الخز": بالخاء والزاي المعجمتين، وفى باب لباس الخز خرجه.

والمعروف فى راوية البخاري "الحر"، بالحاء والراء المهملتين ومعناه: الفرج.

وقد رواه معاوية بن صالح عن حاتم بن حريث، عن مالك بن أبي مريم، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي مالك الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا، يُعْزَفُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْمُغَنِّيَاتِ، يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ، وَيَجْعَلُ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ» .

خرجه ابن ماجه (2) وابن حبان في "صحيحه"(3) وعنده: والقينات.

وخرج أبو داود (4): أول الحديث ولم يتمه. وروى فرقد السبخي: حدثني عاصم بن عمرو البجلي، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"تَبِيتُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى أَكْلٍ وَلَهْوٍ وَشُرْبٍ، ثُمَّ يُصْبِحُونَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَتُبْعَثُ عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَائِهِمْ رِيحٌ، فَتَنْسِفُهُمْ، كَمَا نَسَفَتْ (*) مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ بِاسْتِحْلَالِهِمُ الْخُمُورَ، وَضَرْبِهِمْ بِالدُّفُوفِ، وَاتِّخَاذِهِمُ الْقَيْنَاتِ". خرجه الإمام أحمد (5) والحاكم (6) وقال: صحيح عَلَى شرط مسلم. كذا قال، وفرقد لم يخرج له مسلم، وقد وثقه ابن معين وغيره، وكان رجلاً صالحًا لكن كان مشتغلاً عن الحديث بالعبادة، ففي حفظه شيء، فحديثه يصلح للاستشهاد والاعتضاد.

(1) برقم (4039).

(2)

برقم (4020).

(3)

كما في "الإحسان"(6758)، وفي إسناده مالك بن أبي مريم: مجهول، ولكن للحديث شواهد يتقوى بها.

(4)

برقم (3688)، (3689).

(*) في "نسخة": تنسف.

(5)

برقم (5/ 259، 329).

(6)

في "المستدرك"(4/ 515).

ص: 450

وخرج الترمذي (1) معنى هذا الحديث: من حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم. وخرج الترمذي (2) في المعنى أيضاً من حديث علي بن أبي طالب وأبي هريرة (3) عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال في كل واحد من الثلاثة: غريب.

وقد روي في هذا المعنى: أحاديث متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم، من رواية ابن مسعود وسلمان، وعبادة بن الصامت وأنس، وأبي سعيد وابن عمر، وسهل بن سعد وعبد الله بن بسر، وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم، ولا تخلوا أسانيدها من مقال، لكن تقوى بانضمام بعضها إِلَى بعض، ويعضُد بعضها بعضًا. وقد ذكر البيهقي (4) أنها شواهد لحديث أبي مالك الأشعري المبدوء بذكره. وخرج الإمام أحمد (5) وأبو داود (6) أيضاً من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لوفد عبد القيس:"إِنَّ الله حرَّم عليّ أو حرم -الخمر والميسر والكوبة"(7) - قال: والكوبة: الطبل -كذا فسره بعض رواة الحديث.

وخرَّج أحمد (8) وأبو داود (9) أيضاً من حديث عبد الله بن عمرو "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخمر والميسر والكوبة".

قال الإمام أحمد: أكره الطبل وهو الكوبة، نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وروى ليث بن أبي سليم الكوفي، عن مجاهد قال: كنت مع ابن عمر رضي الله عنهما، فسمع صوت طبل، فأدخل إصبعيه في أذنيه، ثم تنحى حتى فعل ذلك ثلاث مرات ثُم قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. خرجه

(1) برقم (2213).

(2)

برقم (2211).

(3)

أخرجه الترمذي (2212).

(4)

في "السنن الكبير"(10/ 279).

(5)

(1/ 278 - 279).

(6)

برقم (3696).

(7)

قال ابن الأثير: هي النرد. وقيل: الطبل، "النهاية"(4/ 207).

(8)

(2/ 158، 165).

(9)

برقم (3685).

ص: 451

ابن ماجه (1). وروى ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"نَهَيْتُ عَنْ صَوْتَيْنِ فَاجِرَيْنِ: صَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ: خَمْشُ وُجُوهٍ، وَشَقِّ جُيُوبٍ، وَصَوْتُ عِنْدَ (نِعْمَةٍ) (*)، وَلَهْوٌ وَلَعِبٍ وَمَزَامِيرُ شَيْطَانٍ". خرجه وكيع ابن الجراح في كتابه عن ابن أبي ليلى به.

وخرج الترمذي (2) أوله ولم يتمه، وقال في الحديث كلام، يشير إِلَى أن باقي الحديث لم يذكره، وعنده: صوتين أحمقين فاجرين. وقال: حديث حسن. وابن أبي ليلى إمام صدوق جليل القدر، لكن في حفظه شيء، وربما اختلف عنه في الأسانيد. وقد روي هذا الحديث عنه، عن عطاء، عن جابر، عن عبد الرحمن بن عوف، عن النبي صلى الله عليه وسلم. كذلك خرَّجه البزار في "مسنده"(3) وغيره وروي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية شبيب بن بشر، عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم. وشبيب وثقه ابن معين وغيره.

وخرَّج الإمام أحمد (4) وأبو داود (5) من حديث نافع عن ابن عمر: «أَنَّهُ سَمِعَ صَوْتَ زَمَّارَةِ فَوَضَعَ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَعَدَلَ رَاحِلَتَهُ عَنِ الطَّرِيقِ وَهُوَ يَقُولُ: أَتَسْمَعُ يَا نَافِعُ فَأَقُولُ: نَعَمْ، حَتَّى قُلْتُ: لَا، فَوَضَعَ يَدَيْهِ وَأَعَادَ رَاحِلَتَهُ إِلَى الطَّرِيقِ وَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ صَوْتَ زَمَّارَةِ رَاعٍ فَصَنَعَ مِثْلَ هَذَا» .

وهذا الحديث: يرويه سليمان بن مُوسى الفقيه الدمشقي، عن نافع.

وقد اختلفوا في سليمان، فوثقه قوم، وتكلم فيه آخرون.

وتابعه عليه المطعم بن المقدام، فرواه عن نافع أيضاً، خرَّج حديثه أبو داود (6). والمطعم هذا ثقة جليل القدر. وتابعهما أيضاً: ميمون بن مهران

(1) برقم (1901).

(*) نعمة: "نسخة".

(2)

برقم (1005).

(3)

كما في "كشف الأستار"(805).

(4)

(2/ 38).

(5)

برقم (4924). وقال: هذا حديث منكر.

(6)

برقم (4925). وقال: أدخل بين مطعم ونافعٍ سليمانَ بن موسى.

ص: 452

عن نافع، خرَّج حديثه أبو داود (1) أيضاً. وروي أيضاً عن مالك وعبد الله العمري عن نافع، إلا أنه لا يثبت عنهما. فإن قيل: قد قال أبو داود: هذا حديث منكر. قيل: هذا يوجد في بعض نسخ السنن مع الاقتصار عَلَى رواية سليمان بن موسى، ولا يوجد في بعضها. وكأنه قاله قبل أن يتبين له أن سليمان بن موسى تُوبع عليه، فلما تبين له أنه تُوبع عليه رجع عنه.

وقد قيل للإمام أحمد: هذا الحديث منكر؟ فلم يصرح بذلك ولم يوافق عليه، واستدل الإمام أحمد بهذا الحديث.

وإنما لم يأمر ابن عمر بسد أذنيه؛ لأنّه لم يكن مستمعًا بل سامعًا، والسامع من غير استماع لا يُوصف فعله بالتحريم؛ لأنّه عن غير قصد منه، وإن كان الأولى له سد أذنيه حتى لا يسمع. ومعلوم أن زمارة الراعي لا تهيج الطباع للهوى، فكيف حال ما يُهيج الطباع ويغيرها ويدعوها إِلَى المعاصي؟! كما قال طائفة من السَّلف: الغناء رُقية الزنا.

ومن سمع شيئًا من الملاهي وهو مار في الطريق أو جالس فقام عند سماعه فالأولى له أن يدخل أصبعيه في أذنيه كما في هذا الحديث.

وكذلك روي عن طائفة من التابعين أنهم فعلوه، وليس ذلك بلازم، وإن استمر جالسًا وقصد الاستماع كان محرمًا، وإن لم يقصد الاستماع بل قصد غيره، كالأكل من الوليمة أو غير ذلك، فهو محرم أيضاً عن أصحابنا وغيرهم من العُلَمَاء، وخالف فيه طائفة من الفقهاء.

فإن قيل: فلو كان سماع الزمارة محرمًا لأنكرهُ النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى من فعله، ولم يكتف بسد أذنيه، فيحمل ذلك عَلَى كراهة التنزيه وقد نقل ابن عبد الحكم هذا المعنى بعينه عن الشافعي رحمه الله، كما ذكره الآبرِّي في كتاب "مناقب الشافعي رضي الله عنه"؟ قيل: الشافعيّ رحمه الله لا يبيح استماع آلات الملاهي، وابن عبد الحكم ينفرد عن الشافعي بما لا

(1) برقم (4926). قال أبو داود: وهذا أنكرُهَا.

ص: 453

يوافقه عليه غيرهُ، كما نقل عنه في الوطء في المحل المكروه، وأنكره عليه العُلَمَاء. فإن كان هذا محفوظًا عن الشافعي فإنما أراد به أن زمارة الراعي بخصوصها، لا يبلغ سماعُها إِلَى درجة التحريم، فإنه لا طرب فيها، بخلاف المزامير المطربة، كالشبابات المؤصلة، وقد أشار إِلَى ذلك الخطابي وغيره من العُلَمَاء.

وقد سبق حديث عائشة رضي الله عنها وقول أبي بكر رضي الله عنه: مزمور الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ» . فدل عَلَى أن الدف من مزامير الشيطان لكنه يُرخص فيه للنساء في أيام الأفراح والسرور، كما يُرخص لهن في التحلي بالذهب والحرير دون الرجال، ويباح للرجال من الحرير اليسير دون الكثير، وكذلك من حلي الفضة. فكذلك يباح للنساء في أيام الأفراح الغناء بالدف، وإن سمع ذلك الرجال تبعًا، وهذا مذهب فقهاء الحديث، كالشافعي وأحمد وغيرهما وهو قول الأوزاعي وغيره، وروي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى.

وقد كان طائفة من الكوفيين من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه ومن بعدهم لا يُرخصون في شيء من ذلك بحالٍ.

فأما الغناء المرخص فيه، فليس هو الغزل المهيج للطباع، بل هو غناء الركبان ونحوه كما قاله الإمام أحمد وغيره. وقد كان خالد بن معدان -وهو من أعيان التابعين- يأمر بناته ونساءه إذا ضربن بالدفوف أن يتغنين بذكر الله عز وجل.

وإنما يُباح الدف إذا لم يكن فيه جُلجُل (1) ونحوه مما يُصوت عند أكثر العُلَمَاء، نص عليه الإمام أحمد وغيره من العُلَمَاء، كما كانت دفوف العرب عَلَى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رخص في هذا الدف طائفة من متأخري أصحابنا مطلقًا في العرس وغيره، للنساء دون الرجال.

وأما الآثار الموقوفة عن السَّلف في تحريم الغناء وآلات اللهو فكثيرة جدًا.

(1) الجلجل: هو الجرس الصغير. " النهاية"(1/ 284).

ص: 454

روى ابن أبي حاتم وغيره، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: في التوراة: إِنَّ الله عز وجل أنزل الحق ليذهب به الباطل، ويُبطل به اللعب والرقص والمزمار والمزاهر والكنارات (1). وخرجه أبو عبيد في كتاب "غريب الحديث". وقال: المزاهر واحدها مزهر، وهو العود الَّذِي يُضرب به. وأما الكنارات فيقال: إنها العيدان أيضاً، ويقال: بل الدفوف.

وروى زيد بن الحباب، عن أبي مودود المدني، عن عطاء بن يسار، عن كعب قال: إِنَّ مما أنزل الله عَلَى موسى عليه السلام

فذكره بنحو ما ذكره عبد الله بن عمرو. قال زيد: سألت أبا مودود، ما المزاهر؟ قال: الدفوف المربعة. قلت: ما الكنارات؟ قال: الطنابير.

وروى ابن أبي الدُّنْيَا (2)، من طريق يحيى بن سعيد، عن عبيد الله بن عمر قال: حدثني نافع أن ابن عمر مر عليه قومٌ محرمون، وفيهم رجل يتغنى. فَقَالَ: ألا لا سمع الله لكم، ألا لا سمع الله لكم.

ومن طريق عبد الله بن دينار قال: مر ابن عمر رضي الله عنهما بجارية صغيرة تغني. فَقَالَ: لو ترك الشيطان أحدًا ترك هذه (3).

وقد تقدم عن ابن مسعود أنه قال: الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل. وعنه أيضاً أنه قال: إذا ركب الإنسانه الدابة ولم يسم، ردفه الشيطان، فَقَالَ له: تغنه، فإن لم يحسن قال له: تمنه.

(1) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره"(3/ 27/ ب)، والبيهقي (10/ 222)، وأبو عبيد في "غريب الحديث" (2/ 388) قال الجديع في أحاديث "ذم الغناء والمعازف في الميزان" (153): إسناده صحيح.

(2)

في "ذم الملاهي"(ق156/ أ).

وصحح إسناده الجديع حفظه الله في "أحاديث ذم الغناء والمعازف في الميزان"(ص 153).

(3)

أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(784)، وابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي"(ق156/ أ-ب)، والبيهقي في "الكبير"(10/ 223).

وصحح إسناده الجديع في الموضع السابق ذكره.

ص: 455

وصح عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: ما تغنيت ولا تمنيت (1).

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الدف حرام، والمعازف حرام، والكوبة حرام، والمزمار حرام. خرجه البيهقي (2). وخرج أيضاً (3)، بإسناد صحيح، عن عائشة "أن بنات أخيها، خفضن (4) فأَلِمْنَ ذلك. فقِيلَ لَهُا: يا أم المؤمنين، ألا ندعو لهن من يلهيهن؟ قالت: بلى. فأرسلوا إِلَى فلان المغني، فأتاهم، فمرت به عائشة رضي الله عنها في البيت، فرأته يتغنى ويحرك رأسه طربًا -وكان ذا شعر كثير- فقالت عائشة: أُف شيطان، أخرجوه أخرجوه. فأخرجوه، فهذا هو الثابت عن الصحابة رضي الله عنهم. أعني ذم الغناء، وآلات اللهو.

وقد روي ما يُوهم الرخصة عن بعضهم، وليس بمخالف لهذا. فإن الرخصة إِنَّمَا وردت عنهم في إنشاد أشعار الأعراب عَلَى طريق الحداء ونحوه، مما لا محذور فيه، كما خرج البيهقي (5) من طريق الزهري. قال: قال السائب ابن يزيد: بينا نحن مع عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في طريق الحج، ونحو نؤم مكة اعتزل عبد الرحمن بن عوف الطريق، ثم قال لرباح بن المعترف: غننا يا أبا حسان. وكان يحسن النصب، فبينا رباح يغنيهم أدركهم عمر بن الخطاب في خلافته، فَقَالَ: ما هذا؟! فَقَالَ عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين، ما بأس بهذا؛ نلهو ويُقصر عنا. فَقَالَ عمر رضي الله عنه: فإن كنت آخذًا، فعليك بشعر ضرار بن الخطاب -وضرار رجل من بني محارب بن فهر.

قال البيهقي: والنصب ضرب من أغاني الأعراب، وهو يشبه الحداء. قاله أبو عبيد الهروي.

(1) أخرجه يعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ"(2/ 488)، والطبراني في "الكبير" رقم (124)، وحسن إسناده الجديع حفظه الله.

(2)

أخرجه البيهقي في "الكبير"(10/ 222).

(3)

في "السنن الكبير"(10/ 222)، وأخرجه أيضًا البخاري في "الأدب المفرد"(1247).

(4)

الخفض للنساء كالختان للرجال "النهاية"(2/ 54).

(5)

في "السنن الكبير"(10/ 224).

ص: 456

قال وروينا فيه قصة أخرى عن خوات بن جبير، عن عمر (1) وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة بن الجراح في كتاب الحج، قال فيها خوات. فما زلت أغنيهم، حتى إذا كان السحر. وروي أيضاً (2) بإسناد صحيح، عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه كان في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم مضطجعًا، رافعًا إحدى رجليه عَلَى الأخرى يتغنى بالنصب. وعن أبي مسعود الأنصاري وغيره من المهاجرين والأنصار أنهم كانوا يتغنون بالنصب.

فتبين بهذه الروايات، أن ترخص الصحابة رضي الله عنهم إِنَّمَا كان في إنشاد شعر الجاهلية. وفيه من الحكم، وغيرها -عَلَى طريق الحداء ونحوه- مما لا يهيج الطباع إِلَى الهوى. ولهذا كانوا يفعلونه في مسجد المدينة، ولم يكن في شيء من ذلك غزل ولا تشبيب بالنساء ولا وصف محاسنهن، ولا وصف خمر ونحوه مما حرمه الله تعالى.

وقال ابن جريج، سألت عطاء عن الغناء بالشعر. فَقَالَ: لا أرى به بأسًا ما لم يكن فحشًا وهذا يشير إِلَى ما ذكرناه، وعلى مثل ذلك يُحمل ما روي فيه عن عروة بن الزبير، وغيره من التابعين من الرخصة.

وقال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد بن حنبل: ما تكره من الشعر؟ قال: الهجاء، والشعر الرقيق الَّذِي يشبب بالنساء، وأما الكلام الجاهلي فما أنفعه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ من الشعر لحكمة"(3).

قال إسحاق بن راهويه كما قال. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع شعر حسان وغيره (4). واستنشد من شعر أمية بن أبي الصلت (5). فمن استدل بشيء من ذلك عَلَى إباحة الغناء المذموم فقد غلط.

وقد رُوي المنع من الغناء عن خلق من التابعين فمن بعدهم، حتى قال الشعبي: لُعن المغني والمغنى له.

(1) في "السنن الكبير" للبيهقي (5/ 68 - 69).

(2)

في "السنن الكبير"(10/ 224 - 225).

(3)

أخرجه البخاري (6145).

(4)

أخرجه البخاري (6153) من حديث أبي هريرة، ومسلم (2255) من حديث الشريد الثقفي.

(5)

أخرجه البخاري (6147).

ص: 457

وكان أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله وهو من أعلام عُلماء التابعين، وأحد الخلفاء الراشدين المهديين -يبالغ في إنكار الغناء والملاهي، ويذكر أنها بدعة في الإسلام. وكفى بأمير المؤمنين قدوة، وقد كان من هو أسن منه من التابعين يقتدون به في الدين، حتى سُئل ابن سيرين عن بعض الأشربة، فَقَالَ: نهى عنه عمر بن عبد العزيز، وهو إمام هدى.

وروى ابن أبي الدُّنْيَا بإسناد له، أن عمر بن عبد العزيز كتب إِلَى مؤدب ولده: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي، التي بدؤهَا من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن جل جلاله، فإنه بلغني عن الثقات من حملة العِلْم أن حضور المعازف، واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما يُنبت النبتَ الماءُ. وقد حكى زكريا بن يحيى الساجي -في كتابه اختلاف العُلَمَاء- اتفاق العُلَمَاء عَلَى النهي عن الغناء، إلا إبراهيم بن سعد المدني وعبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة. وهذا في الغناء دون سماع آلات الملاهي، فإنه لا يعرف عن أحد ممن سلف الرخصة فيها. إِنَّمَا يعرف ذلك عن بعض المتأخرين من الظاهرية والصوفية، ممن لا يعتد به.

ومن حكى شيئًا من ذلك عن مالك فقد أبطل، إلا أن مالكًا يرى أن الدف والكَبَر (1) أخف من غيرهما من الملاهي، فلا يرجع لأجلهما من دُعي إِلَى وليمة فرأى فيها شيئًا من ذلك، وقد قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى الطباع قال: سألت مالك بن أنس عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء، فَقَالَ: إِنَّمَا يفعله عندنا الفساق، وكذا قال إبراهيم بن المنذر الحزامي، وهو من علماء أهل المدينة.

فتبين بهذا موافقة علماء أهل المدينة المعتبرين لعلماء سائر الأمصار في النهي عن الغناء وذمه، ومنهم القاسم بن محمد وغيره، كما هو قول علماء أهل مكة كمجاهد وعطاء، وعلماء أهل الشام كمكحول والأوزاعي، وعلماء أهل مصر كالليث بن سعد، وعلماء أهل الكوفة كالثوري وأبي حنيفة، ومن قبلهما كالشعبي والنخعي وحماد، ومن قبلهم من التابعين أصحاب ابن

(1) الكَبَر: الطبل ذو الرأسين وقيل: الطبل الَّذِي له وجه واحد، "النهاية"(4/ 143).

ص: 458

مسعود، وقول الحسن وعلماء أهل البصرة، وهو قول فقهاء أهل الحديث كالشافعي وأحمد إسحاق وأبي عبيد وغيرهم.

وكان الأوزاعي يعد قول من رخص في الغناء من أهل المدينة من زلات العُلَمَاء التي يُؤمر باجتنابها، ويُنهى عن الاقتداء بها. وقد صنف القاضي أبو الطيب الطبري الشافعي رحمه الله مصنفًا في ذم السماع، وافتتحه بأقوال العُلَمَاء في ذمه، وبدأ بقول الشافعي رحمه الله: هو لهوٌ مكروه، يشبه الباطل. وقوله: من استكثر منه فهو سفيه تُرد شهادته. قال أبو الطيب: وأما سماعه من المرأة التي ليست بمحرم له، فإن أصحاب الشافعي قالوا: لا يجوزُ بحالٍ سواء كانت مكشوفة، أو من وراء حجاب، وسواء كانت حُرة أو مملوكة.

قال الشافعي: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها، فهو سفه تُرد شهادته، ثم غلظ القول فيه وقال: هو دياثة.

ثم ذكر بعد ذلك قول فقهاء الأمصار، ثم قال: فقد أجمع علماء الأمصار عَلَى كراهته والمنع منه. قال: وإنما فارق الجماعة هذان الرجلان: إبراهيم بن سعد وعبيد الله العنبري. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالسواد الأعظم"(1). وقال: "من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية"(2)، فالمصير إِلَى قول الجماعة أولى. وهذا الخلاف الَّذِي ذكرهُ في سماع الغناء المجرد.

فأما سماع آلات اللهو فلم يحك في تحريمه خلافًا وقال: إِنَّ استباحتها فسق. قال: وإنما يكون الشعر غناء إذا لُحن وصيغ صيغة تورث الطرب، وتزعج القلب، وتثير الشهوة الطبيعية، فأما الشعر من غير تلحين فهو كلام، كما قال الشافعي: الشعر كلام حسنه كحسنه، وقبيحه كقبيحه. انتهى. وقد أفتى قاضي القضاة أبو بكر محمد بن المظفر الشامي الشافعي -وكان أحد العُلَمَاء الصالحين الزهاد، الحاكمين بالعدل وكان يقال عنه: لو رفع مذهب

(1) أخرجه أحمد (4/ 383) من حديث عبد الله بن أبي أوفى، وابن ماجه (3950) من حديث أنس، قال في "الزوائد": في إسناده أبو خلف الأعمى، واسمه حازم بن عطاء، وهو ضعيف، وقد جاء الحديث بطرق في كلها نظر. قاله شيخا العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي.

(2)

أخرجه البخاري (7054)، ومسلم (1847 - 1851).

ص: 459

الشافعي من الأرض لأملاه من صدره- بتحريم الغناء، وهذه صورة فتياه بحروفها. قال: لا يجوز الضرب بالقضيب ولا الغناء ولا سماعه، ومن أضاف هذا إِلَى الشافعي فقد كذب عليه. وقد نص الشافعي في كتاب "أدب القضاء": أن الرجل إذا داوم عَلَى سماع الغناء ردت شهادته، وبطلت عدالته. وقال الله تعالى:{أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} (1) قال ابن عباس: معناه تُغنون بلغة حمير. وقال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (2) جاء في التفسير: أنه الغناء والاستماع إِلَيْهِ. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِنَّ الله كره صوتين أحمقين فاجرين: صوتٌ عند نعمة، وصوتٌ عند مصيبة". يريد بذلك الغناء والنوح. وقال ابن مسعود: الغناء خطبة الزنا. وقال مكحول: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت السيل البقل، والله أعلم.

هذا جواب محمد بن المظفر الشامي الشافعي، ثم كتب بعده موافقة له عَلَى فتياه جماعة من أعيان فقهاء بغداد، من الشافعية والحنفية والحنبلية في ذلك الزمان، وهو عصر الأربعمائة، وهذا يخالف قول كثير من الشافعية في حمل كلام الشافعي عَلَى كراهة التنزيه.

والمعنى المقتضى لتحريم الغناء: أن النفوس مجبولة عَلَى حُب الشهوات، كما قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ

} (3) الآية، فجعل النساء أول الشهوات المزينة.

والغناء المشتمل عَلَى وصف ما جبلت النفوس عَلَى حُبه، والشغف به من الصُّور الجميلة يُثير ما كمن في النفوس من تلك المحبة، ويُشوق إليها، ويُحرك الطبع ويزعجه، ويخرجه عن الاعتدال، ويؤزه إِلَى المعاصي أزًّا.

(1) النجم: 59 - 61.

(2)

لقمان: 6.

(3)

آل عمران: 14.

ص: 460