الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولكن مما ينبغي التنبيه عليه هنا، هو أن
للحفظ طريقتين
، لا يعجز عن إحداهما جميع الناس. ولكل طريقة منهما مميزاتها وعيوبها؛ فيحسن أن نذكرهما، بما لهما من محاسن وعيوب.
الطريقة الأولى
(وهي أشهر الطريقتين) :
وهي أنفع للصغار والشباب ومن أوتي موهبة الحفظ: وهي بأن يقرر الطالب على نفسه لكل يوم جزءاً يسيراً من العلم، كأن يكون حديثاً أو حديثين أو أكثر، ويستحسن أن يكون قدراً يسيراً، فإن القليل يثبت والكثير لا يحصل (2) ؛ فيتحفظ هذا المقرر يومياً، حتى يغيبه في صدره؛ ويستمر على ذلك فترة طويلة، هي سنوات طلبه للعلم؛ مع تعهد المحفوظ دائماً، على المنهج الذي ذكرناه سابقاً في التعهد.
ولهذه الطريقة مميزات وعيوب:
فمن مميزاتها: أنها طريقة منهجية منضبطة، يمكن للطالب مع التزامها والمداومة عليها حفظ كتب برمتها، وتغيب مصنفات كاملة.
ومن مميزاتها أيضاً: أنها أسرع حفظاً من الطريقة التالية، إذ قد لا يجلس الطالب للتحفظ إلا ربع ساعة أو نصفها.
ومن عيوبها: أنها أسرع في التفلت من الطريقة التالية، وأنها أحوج ما تكون للتعهد للمحفوظ والمراجعة له دائماً، وعدم الانقطاع عنه من فترة لأخرى.
ومن عيوبها: أن الذي يلتزم بها الغالب أضيق في الاطلاع من صاحب الطريقة التالية، لأن الطالب معها مقيد بمقرر معين.
وأما
الطريقة الثانية
للحفظ:
وهي أنفع لكبار السن، ولمن لم يؤت موهبة الحفظ: وتتلخص في إدمان مجالسة كتب السنة، وإدامة القراءة فيها، والجلد في ذلك والصبر عليه، مع الإكثار من النسخ والكتابة، وتعويد اليد على ذلك.
(2) انظر: الحث على حفظ العلم لابن الجوزي (50) .
ولذلك لما قيل للإمام البخاري: ما البلاذر؟ وهو دواء كانوا يظنون قديماً أنه يقوي الذاكرة وينشط الذهن على الحفظ، فأجاب الإمام البخاري، صارفاً لهم إلى البلاذر حقاً، حيث قال:"هو إدامة النظر في الكتب"(1) .
وقال عبد الله بن المبارك: "من أحب أن يستفيد، فلينظر في كتبه"(2) .
وقال الحافظ أبو مسعود أحمد بن الفرات (ت 258هـ) : "لم نزل نسمع شيوخنا يذكرون أشياء في الحفظ، فأجمعوا أنه ليس شيء أبلغ فيه من كثرة النظر"(3) .
وأما الكتابة وأثرها في الحفظ، فقد سبق أن ذكرنا أن المحفوظ كلما اشترك فيه أكثر من حاسة، كلما كان ذلك أقوى له وراسخ. فإذا نظر القارىء، وجهر بالقراءة، ثم كتب؛ فإنه - على حد تعبير والد الزبير ابن بكار - يكون له ما أدى بصره إلى قلبه، وما أدى سمعة إلى قلبه، وما أدت يده إلى قلبه؛ فلا ينسى بإذن الله تعالى، لأنه اشترك في تحفظه ثلاث حواس.
وقد قال الحسن بن علي رضي الله عنهما لبنيه وبني أخيه:
"تعلموا العلم، فإنكم صغار قوم، يوشك أن تكونوا كبارهم غداً، فمن لم يحفظ منكم فليكتب"(4) .
وقال الخليل بن أحمد الفراهيدي: " ما سمعت شيئاً إلا كتبته، ولا كتبته إلا حفظته، ولا حفظته إلا نفعني "(5) .
ولهذه الطريقة في الحفظ مميزات وعيوب:
فمن مميزاتها: أن صاحبها بطيىء النسيان لمحفوظه، لأن طريقة حفظه تتضمن التعهد معها، بل هو إنما حفظ بالتعهد الكبير!!
ومن مميزاتها: أن صاحبها أوسع استحضاراً من صاحب الطريقة السابقة، لأنه أوسع اطلاعاً.
(1) جامع بيان العلم لابن عبد البر (رقم2414) .
(2)
الجامع للخطيب (رقم1813) .
(3)
الجامع للخطيب (رقم1873) .
(4)
جامع بيان العلم لابن عبد البر (رقم484) ، والمدخل إلى السنن للبيهقي (رقم 632،772) .
(5)
جامع بيان العلم لابن عبد البر (رقم 447) .
ومن عيوبها: أن صاحبها لا يستطيع الجزم بأنه يحفظ كتاباً ما، خاصة المطولات. وأيضاً لا يستطيع في كثير من الأحيان أن يؤدي ما حفظ باللفظ، وإنما يؤديه بالمعنى؛ وللرواية بالمعنى شروط، وتحوم حولها أخطار.
ومن عيوبها: أنها تستلزم وقتاً طويلاً للحفظ، وجلداً وصبراً، وانقطاعاً كاملاً؛ إذا أراد صاحبها أن ينافس صاحب الطريقة الأولى.
وأما من جمع بين طريقتي الحفظ هاتين فهو الحافظ الكامل، الذي جمع بين محاسن الحفظ، ونجا من عيوبه كلها.
الميزة الثالثة:
أن علم الحديث علم لا تضبط جميع جزئياته قواعد مطردة دائماً، ولا توزن مسائله بمقاييس رياضية؛ وإنما قواعده وأصوله أغلبية. بل في كثير من مسائل علم الحديث يصرح المحققون من أهل العلم أنه ليس لها قاعدة معينة، وإنما يرجع في كل جزئية منها إلى ملابساتها وقرائنها، ثم يكون الحكم عليها بناء على حالتها الخاصة تلك. وذلك في مثل مسألة (ريادة الثقة) ، و (التفرد بأصل) ، و (الاعتضاد والتقوي بالمتابعات والشواهد) ، وما إلى ذلك من أعظم مسائل علم الحديث.
وليس عدم شمول قواعد علم الحديث لجميع جزئياته، ولا عدم وجود قواعد أصلاً لبعض مسائله، بسبب تقصير في تقنين هذا العلم وفي تأصيله من علماء الأمة؛ بل سببه هو بلوغهم به أقصى غايات التقعيد السليم والتأصيل الصحيح!! وذلك أن علم الحديث مادته الخام هي البشر ونقولهم وأخبارهم، وللبشر باختلاف مواهبهم الخلقية، وبتباين دوافعهم وعقائدهم وسلوكياتهم، وباضطراب أحوالهم من وقت لآخر، وبما يطرأ عليهم من عوامل تغيير نفسية وخارجية؛ بذلك كله لا يمكن أن يكون لنقول هؤلاء وأخبارهم ضوابط حسابية وموازين رياضية، بل لابد من التعامل مع تلك المادة المتباينة الأجزاء، الكثيرة التغيرات في كل جزء منها، بما يتناسب وذلك؛ وهذا هو ما فعله أئمة الحديث في عصور تكوين علمهم .... رضي الله عنهم وأرضاهم!!
المهم أن تعلم أن هذه إحدى أعظم مميزات علم الحديث.
وهذه الميزة تعني: أن تعلم قواعد علم الحديث ودراسة مصطلحه ليس سوى الخطوة الأولى في طلب علم الحديث، مهما تعمق الدارس في تحصيل تلك القواعد والأصول. وما جنى على علم الحديث شيء في العصر الحديث مثل الغفلة عن هذه الحقيقة، وذلك بالتعامل مع الروايات الحديثية بتلك القواعد معاملة من معه قوالب يصب فيها مادته الخام ومعاملة من معه ختوم جاهزة يطبع بها كل مسألة جزئية، دون أن يتنبه إلى أن لكل قاعدة شذوذات، بل يختلق القواعد لما ليس له قاعدة، لعدم استطاعته إلا التعامل مع القوالب الجاهزة!!
وهذه الميزة تعني أيضاً: أن علم الحديث علم حي لا يعيش وينمو في صدر رجل إلا بالممارسة له والتطبيق العملي لقواعده. لأن شذوذات القواعد (وهي كثيرة وإنما سميت شذوذات لأنها بخلاف القاعدة المنصوص عليها) ، والمسائل التي لا قواعد لها، لا يحسن الوقوف عليها، ولا يعرف المآخذ والأسس التي تبنى عليها أحكامها، ولا يلحظ الملابسات والقرائن الخاصة بكل مسألة جزئية منها؛ إلا من عاش علم الحديث تطبيقاً عملياً وممارسة عميقة فترة طويلة من عمره.
وعلى هذا فعلم الحديث يحتاج كل الاحتياج لممارسة طويلة، وتطبيق عملي عميق، ليمكن طالب الحديث بعد مرور زمن طويل من ذلك أن يتنبه لشذوذات القواعد وملابساتها، وأن يقف بنفسه على مآخذ الأحكام في المسائل التي لا قواعد لها وإنما يرجع فيها للقرائن الخاصة بكل مسألة.
يقول الخطيب البغدادي، منبها على أهمية الممارسة العملية في علم الحديث: "قل ما يتمهر في علم الحديث، ويقف على غوامضه، ويستنير الخفي من فوائده، إلا من جمع بين متفرقه، وألف متشتته، وضم بعضه إلى بعض، وانشغل بتصنيف أبوابه، وترتيب أصنافه. فإن ذلك الفعل مما يقوي النفس، ويثبت الحفظ، ويذكي القلب، ويشحذ الطبع، ويبسط اللسان، ويجيد البيان، ويكشف المشتبه، ويوضح الملتبس، ويكسب أيضاً جميل
الذكر، وتخليده إلى آخر الدهر ". ثم أسند الخطيب إلى عبد الله بن المبارك، أنه قال: "صنفت من ألف جزء جزءاً، ومن نظر في الدفاتر فلم يفلح، فلا أفلح هو أبداً" (1) .
وهيئة هذه الممارسة التي نطالب بها طالب علم الحديث، هي: أن يقوم الطالب بما يشبه التصنيف والتأليف، إما بتخريج أحاديث كتاب ما أو أحاديث باب فقهي معين، أو بالترجمة لرواة كتاب لم يخدم رواته بالترجمة، أو بالعناية بالرواة المختلف فيهم، أو بجمع أقوال الأئمة وتطبيقاتهم حول قاعدة من علم الحديث أو حول أحد مصطلحاته.. ونحو ذلك من الموضوعات الكثيرة جداً. والأفضل أن ينوع في طبيعة بحوثه، حتى يستفيد فائدة أعم وأشمل.
وبالطبع لا يكون غرضه من هذه البحوث هو تأليف كتاب يخرجه للناس، خاصة في مرحلة تكوينه العلمي، وإنما يكون غرضه من ذلك التعلم والتمرن، للفوائد التي ذكرها الخطيب في كلامه السابق عن الممارسة العملية في علم الحديث.
ولا يمنع ذلك من أن يبتدىء طالب الحديث مشروعاً علمياً كبيراً، من صغر سنه وبدايات طلبه، يجمع له ويرتب ويناقش ويستنبط ويستدل، ويقضي في ذلك عمراً من عمره، وبشرط أن لا يخرج مشروعه هذا إلا بعد بلوغه من العلم ما يكون قد وصل به إلى درجة الإفادة، كأن يشهد له شيوخه وأقرانه باستحقاقه أن يدلي بجهده في تأليف كتاب.
بل إني لأشدد في النصح لطلبة العلم بابتداء مشاريع من هذا القبيل، ولا يستخفوا بأنفسهم؛ فقد كان الإمام الزهري يقول للفتيان والشباب:"لا تحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم، فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان، فاستشارهم، يبتغي حدة عقولهم"(2) .
ولك في سيرة العلماء قدوة:
فقد بدأ الإمام البخاري تصنيفه للتاريخ الكبير وله من العمر ثمانية عشر عاماً، وبقي في تصنيفه وتحسينه غالب حياته. أما (صحيحه) فمكث في تصنيفه ستة عشر عاماً.
(1) الجامع للخطيب (رقم 1913، 1914) .
(2)
جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (رقم 505، 506) .
وابتدأ ابن عساكر تصنيف (تاريخ دمشق) بمجلداته الثمانين من صباه، واستمر في جمعه إلى أن شاخ.
وأفنى الطبراني عمره المديد (فقد عمر مائة سنة) في معجمه الأوسط.
فعليك يا طالب العلم أن تختار مشروعاً علمياً حديثياً نافعاً، واستشر العلماء والمأمونين في اختيارك، وابدأ في الجمع له والتأليف من فترة مبكرة، ولا تفوت العمر. ثم أنت خلال هذا الجمع تمارس علم الحديث عملياً، وتطبقه واقعياً؛ فتستفيد فائدتين، بل فوائد، وتعلي همتك، وتقوي عزمك، وتبذل جهدك في طلبك العلم، وتطرد الملل والسأم وقلة الصبر، بما يتجدد لك في بحثك من فوائد، تنظر قطف ثمرتها في مستقبل حياتك العلمية إن شاء الله تعالى.
الميزة الرابعة:
أنه علم مترامي الأطراف، لا ساحل لبحوره، ولا قاع لأعماقة. هذا وصف حقيقي مطابق لواقع حال علم الحديث، وليس كلاماً أدبياً مجازياً. وتحقيق ذلك عندك وتأكيده لديك يظهر: بتذكرك لعظيم تشعب أسانيد الأحاديث وكثرتها، ولتناثر تراجم رواة وتعديلهم التي في غير مظنتها، ولتباعد ما بين تعليلات الأئمة للحديث الواحد في مصادر هذا العلم؛ مما لا يجمع ذلك كتاب.. بل مكتبة، ولا يحويه مكان واحد.
ولهذه الميزة فإن طالب الحديث في حاجة ماسة إلى مكتبة عامرة بالكتب، مكتبة ضخمة بمعنى الكلمة، تكون بين يديه وقتما يشاء، مكتبة تنمو وتزيد كل يوم بالجديد من المطبوعات والمقدور عليه من المخطوطات، ولا تقف عن النمو ما دام صاحبها حي العلم والروح. حيث إن تلك الميز لا يحل إشكالها، ولا يمكن مواجهتها، إلا بالمكتبة الجامعة لكتب السنة، والمقربة لأطراف هذا العلم المترامية، المعينة على استيعاب جل أو كثير من جزئياته المتفرقة المتشعبة.
ولذلك فعلى طالب العلم أن يتحلى بالبذل والسخاء في اقتناء الكتب، وأن يقدم شراء الكتاب على طعامه وملبسه وملذاته، وأن يحرص كل الحرص على أن لا يفوت كتاباً صغر أو كبر في علم الحديث، في أي فن من فنونه.
ومن نصائح ذي النون المصري (ت 245هـ) في ذلك: "ثلاثة من أعلام الخير في المتعلم: تعظيم العلماء بحسن التواضع لهم، والعمى عن عيوب الناس بالنظر في عيب نفسه، وبذل المال في طلب العلم إيثاراً له على متاع الدنيا"(1) .
ولذلك قال غير واحد من أهل العلم، منهم شعبة بن الحجاج:"من طلب الحديث أفلس"(2)، وقال الفضل بن موسى السيناني:"طلب الحديث حرفة المفاليس"(3) ، ولما سأل سفيان بن عيينة رجلاً عن حرفته فأجابه الرجل بأنها طلب الحديث، فقال سفيان:"بشر أهلك بالإفلاس"(4)، وقال شعبة:"إذا رأيت المحبرة في بيت إنسان فارحمه، وإن كان في كمك شيء فأطعمه"(5) ، ولما أثنت امرأة على رجل بخير، وقالت في ثنائها:"لا يتخذ ضرة، ولا يشتري جارية"، أجابتها زوج ذلك الرجل بقولها:"والله لهذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر"(6) .
أما طالب العلم (بزعمه) الذي يقول يغنيني كتاب في السنة وعلومها عن كتاب في ذلك، فليس بطالب علم! ولا يريد أن يكون طالب علم. فإني لا أقول إنه لا يغني كتاب عن كتاب فقط، بل أكاد أقول: لا تغني طبعة عن طبعة أخرى له!!!
وأما طالب العلم الذي بقول: لا أشتري كتاباً حتى أقرأ وأدرس الكتاب الذي عندي، فلا يفلح في العلم أبداً! فإن شراء الكتب وحده عبادة يؤجر عليها فاعلها، لوجوه، منها أنها مما لا ينقطع العمل به بعد الموت، تبقى ينتفع بها من بعده.
ثم إن تكوين المكتبة العامرة يشبه طلب العلم من جهتين:
الأولى: كما أن طلب العلم لا يكون جملة، في أيام وليالي، كذلك تكوين المكتبة، لا يمكن أن يتم إلا من خلال متابعة للجديد من الكتب في عالم المطبوعات؛ حيث إن الكتب في السنة وعلومها كثيرة جداً، قلة من الأغنياء - ممن يعرف قيمة الكتب - من يستطيع شراء الموجود منها دفعة واحدة. وهناك كتب نادرة، وكتب سرعان ما تنفد من
(1) المدخل إلى السنن للبيهقي (رقم 685) .
(2)
جامع بيان العلم لابن عبد البر (رقم 597) ، والجامع للخطيب (رقم 54، 55، 56) .
(3)
الجامع للخطيب (رقم 58) .
(4)
الجامع للخطيب (رقم 57) .
(5)
الجامع للخطيب (رقم 60) .
(6)
الجامع للخطيب (رقم 61) .
الأسواق، فمن لم يبادر بشرائها فاتته، وسيندم حين لا ينفع الندم، وسيندم إن كان فيه بقية من طالب علم.
الثانية: أن طلب العلم الصادق يلجيء طالب العلم إلى دراسة مسائل ما كان يظن قبل ذلك أنه سيحتاج دراستها، وكذلك تكوين المكتبة؛ فإن شراءك الكتاب ومعرفتك لما فيه يدلك على كتاب آخر، ربما لم تسمع به، وربما سمعت به ولم تظن أنك محتاج إليه؛ فالحاجة للكتب تنمو مع نمو طلبك للعلم. وكم من كتاب ما كنت أظن أني سأنظر إليه، أصبح بعد في حجري لا أستغني عنه ما دمت أبحث في العلم. فمن كان يجمع الكتب من بدايات طلبه للعلم، سيحمد ذلك عندما يعرف قيمة ما جمع. وأما من كان لا يشتري حتى يقرأ ما جمع فإن انصلح شأنه، فسيندم على سوء سياسته تلك بعد حين، ولات حين مندم.
ولو تصفحت تراجم كبار الأئمة، والعلماء المبرزين، لوجدت أن القاسم المشترك بينهم هو حب الكتب والشغف بها، وأنهم من أصحاب المكتبات العظيمة. وأما رحلتهم مع الكتاب وقصتهم معه، فهي قصص تملؤها العاطفة والتفاني والبذل واحتقار الدنيا وملذاتها: فكم من عالم رضي بالجوع دهراً ليقتني الكتب، وكم من عالم آخر باع ثوبه الذي على جسده أو داره التي يسكنها ليمتلك كتاباً، وكم من عالم رضي ببكاء أهله وأولاده عرياً وحرماناً ولم يرض بيع كتاب له، وكم من إمام بكى وغلب حزنه صبره لما فاته كتاب.. وكم وكم!! (1)
ومن عجائب ذلك قصة الحافظ أبي العلاء الحسن بن احمد بن سهل الهمذاني العطار (ت 569هـ) ، وكان قد جمع كتباً كثيرة، ورحل إلى البلدان من أجل ذلك، وعمل داراً للكتب وخزانة، ووقف جميع كتبه فيها لطلبة العلم!
ومن غرائب ما حصل له في جمعه للكتب: أنه كان مرة ببغداد، ونودي بالمزاد على كتب لابن الجواليقي بمبلغ كبير، فاشتراها أبو العلاء العطار، على أن يوفي الثمن بعد أسبوع، ولم يكن لديه ثمنها. فخرج إلى طريق همذان، فرحل، إلى أن وصلها - فأمر بأن ينادى على داره بالبيع!!! فلما بلغت السعر الذي اشترى به الكتب، قال للمنادي: بيعوا،
(1) وفي كتاب (صفحات من صبر العلماء) لعبد الفتاح أبو غدة أمثلة وافرة من ذلك.
فقال له المنادي: تبلغ أكثر من ذلك، فلم ينتظر خشية أن ينتهي أمد وفاء ثمن الكتب، فباع داره، ثم ركب إلى بغداد، فوفى الثمن، ولم يشعر أحد بحاله إلا بعد مدة!!!
ولما توفي هذا الإمام رؤي في المنام وهو في مدينة جميع جدرانها مبنية بالكتب، وحوله كتب لا تحصى، وهو مشتغل بمطالعتها!! فقيل له: ما هذه الكتب؟! قال: سألت ربي أن يشغلني بما كنت أشتغل به في الدنيا، فأعطاني!!
فعلى طلبة الحديث أن يبدؤوا في تكوين مكتبة من بداية طلبهم، شيئاً فشيئاً؛ فإنهم إن استمروا في الطلب فسيجدون غب ما جمعوا خيراً وفائدة واستغناء وسعادة!