المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

من يرى الملك وكذا تبارك لأن من كان كذلك كان - نظم الدرر في تناسب الآيات والسور - جـ ٢٠

[برهان الدين البقاعي]

الفصل: من يرى الملك وكذا تبارك لأن من كان كذلك كان

من يرى الملك وكذا تبارك لأن من كان كذلك كان له تمام الثبات والبقاء، وكان له من كل شيء كمال الخضوع ولالاتقاء، وكذا اسمها المانعة والواقية والمنجية لأن الخضوع حامل على لزوم طريق السعادة، ومن لزمها نجا مما يخاف ومنع من كل هول ووقي كل مخلوق، وترد السؤال عمن لازم عليها وهذا من أهم الأمور) بسم الله (الذي خضعت لكمال عظمته الملوك) الرحمن (الذي عم بنعمة الإيجاد وتبيان محل السلوك) الرحيم (الذي خص أولياءه الهعداية وزوال الشكوك.

ص: 216

لما ختمت تلك بأن من أعرض عنه سبحانه أهلكته ولم يغن عنه أحد، ومن أقبل عليه رفعه واستخلصه ولم يضره أحد، وختم بأنه قوى مريم عليها السلام حتى كانت في درجة الكملة ورزقها الرسوخ في الإخلاص، وكان مثل هذا لا يقدر على فعله إلا من لا كفوء له، وكان من لا كفوء له أهلاً لأن يخلص له الأعمال ولا يلتفت إلى سواه بحال، لأنه‌

‌ الملك

الذي يملك الملك قال مثيراً للهمم إلى

ص: 216

الاستبصار المثير للإرادة إلى رياضة تثمر جميع أبواب السعادة: {تبارك} أي تكبر وتقدس وتعالى وتعاظم وثبت ثباتاً لا مثل له مع اليمن والبركة وتواتر الإحسان والعلى.

ولما كان من له الملك قد لا يكون متمكناً من إبقائه في يده أو إعطاء ما يريد منه لغيره ونزعه منه متى أراد قال: {الذي بيده} أي بقدرته وتصرفه لا بقدرة غيره {الملك} أي أمر ظاهر العالم فإليه كل تدبير له وتدبير فيه وبقدرته إظهار ما يريد، لا مانع له من شيء ولا كفوء له بوجه، وهو كناية عن الإحاطة والقهر، وذكر اليد إنما هو تصوير للإحاطة ولتمام القدرة لأنها محلها مع التنزه عن الجارحة وعن كل ما يفهم حاجة أو شبهاً بالخلق.

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: ورود ما افتتحت به هذه السورة من التنزيه وصفات التعالي إنما يكون عقيب تفصيل وإيراد عجائب من صنعه سبحانه كورود قوله تعالى «فتبارك الله أحسن الخالقين» عقيب تفصيل التقلب الإنساني من لدن خلقه من سلالة من طين إلى إنشائه خلقاً آخر وكذا كل ما ورد من هذا ما لم يرد أثناء أي قد جردت للتنزيه والإعلام بصفات التعالي والجلال.

ص: 217

ولما كان قد أوقع في آخر سورة التحريم ما فيه أعظم عبرة لمن تذكر، وأعلى آية لمن استبصر، من ذكر امرأتين كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين قد بعثهما الله تعالى رحمة لعباده واجتهدا في دعاء الخلق، فحرم الاستنارة بنورهما والعياذ بهداهما من لم يكن أحد من جنسهما أقرب إليهما منه ولا أكثر مشاهدة لما مدا به من الآيات وعظيم المعجزات، ومع ذلك فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً، ثم أعقبت هذه العظة بما جعل في طرف منها ونقيض من حالها، وهو ذكر امرأة فرعون التي لم يغرها مرتكب صاحبها وعظيم جرأته مع شدة الوصلة واستمرار الألفة لما سبق لها في العلم القديم من السعادة وعظيم الرحمة فقالت:{رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة} [التحريم: 11] وحصل في هاتين القصتين تقديم سبب رحمة حرم التمسك به أولى الناس في ظاهر الأمر وتقديم سبب امتحان عصم منه أقرب الناس إلى التورط فيه، ثم أعقب ذلك بقصة عريت عن مثل هذين السببين وانفصلت في مقدماتها عن تينك القصتين، وهو ذكر مريم ابنة عمران ليعلم العاقل حيث يضع الأسباب، وأن القلوب بيد العزيز الوهاب، أعقب تعالى ذلك.

بقوله الحق {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء

ص: 218

قدير} [الملك: 1] وإذا كان الملك سبحانه وتعالى بيده الملك فهو الذي يؤتي الملك والفضل من يشاء وينزعه ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء كما صرحت به الآية الأخرى في آل عمران، فقد اتضح اتصال سورة الملك بما قبلها ثم بنيت سورة الملك على التنبيه والاعتبار ببسط الدلائل ونصب البراهين حسبما يبسطه التفسير - انتهى.

ولما كان المتصرف في الملك قد لا يكون قدرته تامة ولا عامة قال تعالى: {وهو} أي وحده له عظمة تستولي على القلوب وسياسة تعم كل جلب نفع ودفع ضرر لأنه {على كل شيء} أي يمكن يشاؤه من الملك وغيره من باطنه وهو الملكوت وغيره مما وجد وما لم يوجد {قدير *} أي تام القدرة، ودل على ذلك بقوله:{الذي خلق} أي قدر وأوجد.

ولما كان الخوف من إيقاع المؤلم ادعى إلى الخضوع لأنه أدل على الملك مع أن الأصل في الأشياء العدم، قدم قوله:{الموت} أي هذا الجنس وهو زوال الحياة عن الحي الذي هو في غاية الاقتدار على التقلب بجعله جماداً كأن لم يكن به حركة أصلاً. أول ما يفعل في تلك الدار بعد استقرار كل فريق في داره وأن يعدم هذا الجنس فيذبح بعد أن يصور في صورة كبش {والحياة} أي هذا

ص: 219

الجنس وهو المعنى الذي يقدر الجماد به على التقلب بنفسه وبالإرادة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الموت خلقه الله على صورة كبش أملح لا يمر بشيء ولا يجد ريحه إلا مات، والحياة على صورة فرس بلقاء وهي التي كان جبريل والأنبياء يركبونها فلا يجد ريحها شيء إلا حيي، وهي التي أخذ السامري قبضة من أثرها وألقاه على الحلي الذي ألقاه بنو إسرائيل ونوى أن يكون عجلاً فصار عجلاً.

ولما ذكر الدال على القدرة أتبعه غايته، وهو الحكم الذي هو خاصة الملوك فقال تعالى:{ليبلوكم} أي يعاملكم وهو أعلم بكم من أنفسكم معاملة المختبر لإظهار ما عندكم من العمل بالاختيار {أيكم أحسن عملاً} أي من جهة العمل أي عمله أحسن من عمل غيره، وعبارة القرآن في إسناد الحسن إلى الإنسان تدل على أن من كان عمله أحسن كان هو أحسن ولو أنه أبشع الناس منظراً، ومن كان عمله أسوأ كان بخلاف ذلك، والحسن إنما يدرك بالشرع، فما حسنه الشرع فهو الحسن وما قبحه فهو القبيح، وكان ذلك مفيداً للقيام بالطاعة لأن من تفكر في حاله علم أنه مباين لبقية الحيوانات بعقلة وللنباتات بحياته، وللجمادات بنموه، وأن ذلك ليس له من ذاته بدليل موته، فما كان له ذلك إلا بفاعل مختار، له الحياة من ذاته، فيجتهد في رضاه باتباع رسله إن كان عاقلاً،

ص: 220

فيشكره إذا أنعم، ويصبر إن امتحن وانتقم، ويخدمه بما أمر وينزجر عما عنه زجره، فهذه الآية مشتملة على وجود المقتضي للسعادة وانتفاء المانع منها ووجود المقتضي إعداد وإرشاد، فالإعداد إعانته سبحانه للعبد بإعداده لقبول السعادة كالحداد يلين الحديد بالنار ليقبل أن يكون سكيناً، والإرشاد أخذه بالناصية إلى ما أعد له كالضرب بالسكين وإصلاحها للقطع بها، وانتفاء المانع هو الموقف عن ذلك وهو دفع المشوشات والمفسدات كتثلم السكين وهو يجري السبب وسبب السبب، وهو ما اشتمل عليه قوله صلى الله عليه وسلم

«اللهم أعني ولا تعن عليّ» الحديث، فذكره لتمام القدرة والعزة مع ذكر الأحسن دال على توفيقه بما ذكر، ومن تأمل الآية عرف أنه ما خلق لا ليتميز جوهره من صدق غيره أو صدقه من جوهر غيره، وأن الدنيا مزروعة، وأن الآخرة محصدة، فيصير من نفسه على بصيرة، وثارت إرادته لما خلق له تارة بالنظر إلى جمال ربه من حسن وإحسان، وأخرى إلى جلاله من قدرة وإمكان، وتارة بالنظر لنفسه بالشفقة عليها من خزي الحرمان، فيجتهد في رضا ربه وصلاح نفسه خوفاً من عاقبة هذه البلوى.

ص: 221

ولما كان لا يغفل الابتلاء منا إلا جاهل بالعواقب وعاجز عن رد المسيء عن إساءته وجعله محسناً من أول نشأته، قال نافياً لذلك عن منيع جنابه بعد أن نفاه بلطيف تدبيره وعظيم أمره في خلق الموت والحياة، ومزيلاً بوصف العزة لما قد يقوله من يكون قوي الهمة: أنا لا أحتاج إلى تعب كبير في الوصول إليه سبحانه بل أصل إليه أي وقت شئت بأيسر سعي {وهو} أي والحال أنه وحده {العزيز} أي الذي يصعب الوصول إليه جداً، من العزاز وهو المكان الوعر والذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء، فلو أراد جعل الكل محسنين، ولا يكون كذلك إلا وهو تام القدرة فيلزم تمام العلم والوحدانية ووجوب الوجود أزلاً وأبداً.

ولما كان العزيز منا يهلك كل من خالفه إذا علم مخالفته، قال مبيناً إمهاله للعصاة مرغباً للمسيء في التوبة، بعد ترهيبه من الإصرار على الحوبة، لأنه قد يكون مزدرئاً لنفسه قائلاً: إن مثلي لا يصلح للخدمة لما لي من الذنوب القاطعة وأين التراب من رب الأرباب {الغفور *} أي أنه مع ذلك يفعل في محو الذنوب عيناً وأثراً فعل المبالغ في ذلك ويتلقى من أقبل إليه أحسن تلق كما

ص: 222

قال تعالى في الحديث القدسي «ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» .

ولما أثبت له سبحانه صفتي العز والغفر على أبلغ ما يكون، دل على ذلك بقوله دالاً على كمال تفرده بعد آيات الأنفس بآيات الآفاق إرشاداً إلى معالي الأخلاق:{الذي خلق} أي أبدع على هذا التقدير من غير مثال سبق {سبع سماوات} حال كونها {طباقاً} جمع طبق كل واحدة منها كأنها لشدة مطابقتها للأخرى طالبة مطابقتها بحيث يكون كل جزء منها مطابقاً لجزء من الأخرى، ولا يكون جزء منها خارجاً عن ذلك وهي لا تكون كذلك إلا بأن تكون الأرض كرة والسماء الدنيا محيطة بها إحاطة قشر البيضة بالبيضة من جميع الجوانب والثانية محيطة بالدنيا وهكذا إلى أن يكون العرش محيطاً بالكل، والكرسي الذي هو أقربها إليه بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في فلاة، فما ظنك بما تحته، وكل سماه في التي فوقها بهذه النسبة، وقد قرر أهل الهيئة أنها كذلك، وليس في الشرع ما يخالفه بل ظواهره توافقه ولا سيما التشبيه بالحلقة الملقاة في فلاة كما مضى بسط ذلك في ذلك سورة السجدة، وأحاط سبحانه بالأرض منافعها من جميع الجوانب، وجعل المركز بحيث يجذب إليه الأسفل فكيفما مشى الحيوان في جوانبها اقتضى المركز أن تكون رجلاه إلى الأرض ورأسه إلى السماء لتكون السماء في رأيه دائماً أعلى، والأرض أسفل في أي جانب كان

ص: 223

هو عليها، فسبحان اللطيف الخبير، ولا شك أن من تفكر في هذه العظمة مع ما لطف بنا فيما هيأه فيها لنا من المنافع، آثره سبحانه بالحب وأفرده عن كل ضد، فانقطع باللجاء إليه ولم يعول إلا عليه في كل دفع ونفع، وسارع في مراضيه ومحابه في كل خفض ورفع.

ولما كان ذلك في حد ذاته خارجاً عن طوق المخلوق، وكان سمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام، ولما بين كل سماءين كذلك مع عدم الفروج والعمد والأطناب، فكان ذلك النهاية في الخروج عن العادة في حد ذاته ولأنه قيل: إن القبة إذا بنيت بلا فروج ولا شيء يدخل الهواء منه تفسد وتسقط، دل على عزته بعظيم صنعه في ذلك بقوله واصفاً لها:{ما ترى في} وكان الأصل: خلقها، ولكنه دل على عزته وعموم عظمته بقوله:{خلق الرحمن} أي لها ولغيرها ولولا رحمته وعموم عظمته التي اقتضت إكرامه لخلقه بعد غفرانه لما لهم من النقائص ما أحسن إليهم بها في اتساعها وزينتها وما فيها من المنافع، وأعرق في النفي بقوله:

ص: 224

{من تفاوت} بين صغير ذلك الخلق وكبيره بالنسبة إلى الخالق في إيجاده له على حد سواء، إنما قوله إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، فلا فرق في ذلك بين الذرة مثلاً والغرس ولا بالنسبة إلى الخالق من عجز صغيرهم وكبيرهم عن إيجاد شيء من العدم صغيراً كان أو كبيراً جليلاً كان أو حقيراً، ولا ترى تفاوتاً في الخلق بأن يكون شيء منه فائتاً للآخر بالمخالفة والاضطراب والتناقض في الخلقة غير مناسب له بأن يكون خارجاً عنه أو منافراً له في مقتضى الحكمة، وآثار الإحسان في الصنعة، والنزول عن الإتقان والاتساق، والخروج عن الإحكام والاتفاق، والدلالة للخالق على كمال القدرة وللمخلوق على الحدوث بنوع من ضعف البنية بحيث يكون كل واحد كالطالب لأن يخالف الآخر، أو تعمد لأن يفوت الآخر ويخالفه - على قراءة حذف الألف والتشديد بحيث يكون التفاضل في المزدوجات وعدم المساواة كأنه مقصود بالذات وبالقصد الأول، بل لا توجد المخالفة إلا نارداً بحيث يعلم أن المشاكلة هي المقصود بالذات وبالقصد الأول، فإذا وقع في شيء منه مخالفة كان على وجه الندور ليعلم أنه ليس مقصوداً بالذات، وإنما أريد به الدلالة على الاختيار وأن الفاعل هو القادر المختار لا الطبيعة، قال الرازي: كأن التفاوت الشيء

ص: 225

المختلف لأعلى النظام، وقال البغوي: من اعوجاج واختلاف وتناقض، وقال غيره: عدم التناسب كأن بعض الشيء يفوت بعضاً ولا يلائمه، وهو من الفوت وهو أن يفوت بعضها بعضاً لقلة استوائها، وقال أبو حيان: والتفاوت تجاوز الحد الذي يجب له زيادة أو نقصان - انتهى.

يظهر ذلك بأن أغلب الخلق أجوف، والأجوف يعمل مبسوطاً ثم يضم ويوصل أحد جانبيه بالآخر فيكون ثم نوع فطر يعرفه أهل الحذق وإن اجتهد صانعه في إخفائه وإن كان فيه أشياء متقابلة كان فيها تفاوت ولو قل وإن اجتهد الصانع في المساواة، وخلق الله لا تفاوت فيه بوجه، فالسماوات كرية ولا ترى في جانب منها شقاً ولا فطراً ظاهراً ولا خفياً، والحيوان أجوف ولا ترى في شيء من جسده فصماً يكون الضم والتجويف وقع به وكل من متقابليه مساو للأخر كالعينين والأذنين والمنخرين والساقين ونحوها مما يقصد فيه التساوي لا تفاوت فيه أصلاً - إلى غير ذلك مما يطول شرحه، ولا يمكن ضبطه، فسبحان من لا تتناهى قدرته فلا تتناهى مقدوراته، ولا تحصى بوجه معلوماته، وكل ذلك عليه هين، والأمر في ذلك واضح بين، هذا مع الاتساع الذي لا يدرك مقداره بأكثر

ص: 226

من أن كل سماء بالنسبة إلى التي فوقها كحلقة ملقاة في فلاة إلى أن يوصل إلى الكرسي ثم العرش العظيم، ومن سر كونها كذلك حصول النفع بكل ما فيها من كواكب مرطبة أو ميبسة أو منورة واتصالات ممطرة ومثبتة يجري كل ذلك منها على ترتيب مطرد، ونظام غير منخرم مقدر جريه بالقسط مرتب على منافع الوجود ومصالح الكائنات كلها مكفوفة على هواء لطيف بتدبير شريف: لا يتعدى شيء منها طوره ولا يتخطى حده، ولا يرسب فيها تحته من الهواء فيهوي، ولا يرتفع عن محله بمقدار ذرة فيطفو، قد أحاط بكلها الأمر، وضبطها صاغرة القهر.

ولما كان العلم الناشىء عن الحسن أجل العلوم، دل على بديع ما ذكره بمشاهدة الحس له كذلك، فسبب عنه قوله منبهاً بالرجع الذي هو تكرير الرجوع على أن كل أحد يشاهد ذلك كذلك من حين يعقل إلى أن يبلغ حد التكليف المقتضي للمخاطبة بهذا الكلام:{فارجع البصر} أي بعد ترديدك له قبل ذلك، ودل بتوجيه الخطاب نحو أكمل الخلق صلى الله عليه وسلم في السمع والبصر والبصيره وكل معنى إلى أن ذلك لا شبهة فيه.

ص: 227

ولما كان السؤال عن الشيء يدل على شدة الاهتمام بالبحث عنه، نبه على أن هذا مما اشتدت عناية الأولين به فقال:{هل ترى} أي في شيء منها.

ولما كان هذا الاستفهام مفيداً للنفي، أعرق في النفي بقوله:{من فطور *} أي خلل بشقوق وصدوع أو غيرها لتغاير ما هي عليه وأخبرت به من تناسبها واستجماعها واستقامتها ما يحق لها مما يدل على عزة ما فيها وبليغ غفرانه، وهذا أيضاً يدل على إحاطة كل منها بما دونه فإنه لو كان لها فروج لفاتت المنافع التي رتبت لها النجوم المفرقة في طبقاتها أو بعضها أو كمالها، فالهواء وجميع المنافع منحبسة فيها محوطة بها مضطربة متصرفة فيها على حسب التدبير والحيوان في الهواء كالسمك في الماء، أو انحبس الهواء عنه لمات كما أنه لو انكشف الماء عن السمك لمات.

ص: 228

ولما كان في سياق المجازاة بالأعمال الصالحة والطالحة التي دل عدم الانتصاف من الظالمين في هذه الدار على أنها تكون بعد البعث

ص: 228

وكانت العزة مقتضية لذلك، وكان خلقه سبحانه وتعالى لهذا الوجود على هذا النظام مثبتاً لها، وكانت أعمالهم أعمال المنكر لها، ولا سيما تصريحهم بأنه لا بعث، دل على عظمة عزته بما أبدعه من هذا السقف الرفيع البديع، ثم بجعله محفوظاً هذا الحفظ المنيع، على تعاقب الأحقاب وتكرر السنين، فقال معبراً بأداة التراخي دالاً على جلاله بإدامة التكرير طول الزمان:{ثم ارجع البصر} وأكد ما أفهمته الآية من طلب التكرير بقوله تعالى: {كرتين} أي مرتين أخريين - هذا مدلولها لغة، وبالنظر إلى السياق علم أن المرد مرة بعد مرة لا تزال تكرر ذلك لارتياد الخلل لا إلى نهاية، كما أن «لبيك» مراد به إجابة إلى غير غاية، وعلى ذلك دل قوله سبحانه وتعالى:{ينقلب إليك} أي من غير اختيار بل غلبة وإعياء وانكسار {البصر خاسئاً} أي صاغراً مطروداً ذليلاً بعيداً عن إصابة المطلوب {وهو} أي والحال أنه {حسير *} أي كليل تعب معيى من طول المعاودة وتدقيق النظر وبعد المسرح، وإذا كان هذا الحال في بعض المصنوع فكيف يطلب العلم بالصانع في كماله من جلاله وجماله، فكيف بمن يتفوه بالحلول أو الاتحاد حسبه جهنم وبئس المهاد.

ولما أخبر سبحانه وتعالى عن بديع هذا الخلق، ونبه على بعض

ص: 229

دقائقه وأمر بالإبصار وتكريره، وكان السامع أول ما يصوب نظره إلى السماء لشرفها وغريب صنعها وبديع وضعها ومنيع رفعها، فكان بحيث يتوقع الإخبار عن هذه الزينة التي رصعت بها، قال في جواب من توقعه مؤكداً بالقسم إعلاماً بأنه ينبغي أن يبعد العاقل عن إنكار شيء مما ينسب إلى صاحب هذا الخلق من الكمال، عاطفاً على ما تقديره: لقد كفى هذا القدر في الدلالة على عظمة مبدع هذا الصنع وتمام قدرته: {ولقد} واستجلب الشكر بجلب المسار فقال ناظراً إلى مقام العظمة صرفاً للعقول عما اقتضاه «الرحمن» من عموم الرحمة تذكيراً بما في الآية الماضية، وتنبيهاً على ما في الزينة بالنجوم من مزجها بالرجوم الذي هو عذاب «الجن المتمردين الطاغين» :{زينا} دلالة أخرى تدل على العظمة بعد تلك الدلالة الأولى {السماء الدنيا} أي أدنى السماوات إلى الأرض وهي التي تشهد وأنتم دائماً تشاهدونها وهي سقف الدار التي اجتمعتم فيها في هذه الحياة الدنيا {بمصابيح} أي نجوم متقدة عظيمة جداً، كثرتها تفوت الحصر، ظاهرة سائرة مضيئة زاهرة. وهي الكواكب التي تنور الأرض بالليل إنارة السرج التي تزينون بها سقوف دوركم، فتفيد شعبة من ضوء الصباح، والتزيين بها لا يمنع أن تكون مركوزة فيها فوقها من السماوات وهي تتراءى لنا بحسب الشفوف

ص: 230

بما للاجرام السماوية من الصفاء، ولتلك المصابيح من شدة الإضاءة.

ولما أخبر - جلت قدرته - بعظيم قدرته فيها منبهاً على ما فيها من جلب المسار بتلك الأنوار والهداية في الدين والدنيا التي لولا هي لما انتفع أحد في ليل انتفاعاً تاماً، أخبر بما فيها مع الزينة من دفع المضار بعبارة عامة وإن كان المراد البعض الأغلب فإن ما للرجوم منها غير ما للاهتداء والرسوم فقال:{وجعلناها} أي النجوم من حيث هي بعظمتنا مع كونها زينة وأعلاماً للهداية {رجوماً} جمع رجم وهو مصدر واسم لما يرجم به {للشياطين} الذين يستحقون الطرد والبعد والحرق من الجن لما لهم من الاحتراق، وذلك بياناً لعظمتنا وحراسة للسماء الدنيا التي هي محل تنزل أمرنا بالقضاء والقدر، وإنزال هذا الذكر الحكيم لئلا يفسدوا باستراق السمع منها على الناس دينهم الحق، ويلبسوا عليهم أمرهم بخلط الحق الذي ختمنا به الأديان بالباطل، فيخرجوهم - لأنهم أعداؤهم - من النور إلى الظلمات كما كانوا في الجاهلية مع ما فيها بما خلق سبحانه في أمزجتها من ترطيب وتجفيف وحر وبرد واعتدال ينشأ عنه الفصول الأربعة وقهرها به من شروق وغروب وحركة وسكون يعرف بها ما إليه المآل، مما أخبرت به الرسل من الزوال، مع ما يدل من الليل والنهار والعشي

ص: 231

والإبكار وأشياء يكل عنها الوصف في ذواتها وعن إحصاء منافعها حتى لو عدم شيء مما في السماوات مما دبره الحكيم لصلاح هذا العالم يهلك كل حيوان ونبات على وجه الأرض، والشهاب المرجوم به منفصل من نار الكواكب وهو قار في فلكه على حالة كقبس النار يؤخذ منها وهي باقية على حالها لا نقص، وذلك مسوغ لتسميتها بالرجوم، فمن لحقه الشهاب منهم قتله أو ضعضع أمره وخبله، ويحتمل مع ذلك أن يكون المراد: ظنوناً لشياطين الإنس وهم المنجمون يتكلمون بها رجماً بالغيب في أشياء هي من عظيم الابتلاء ليتبين الموقن من المزلزل والعالم من الجاهل؛ وفي البخاري: قال قتادة: «خلقت النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف بما لا علم له به» ولما كان التقدير: ورجمناهم بها بالفعل عند استراقهم للسمع إبعاداً لهم عن مسكن المكرمين ومحل النزاهة والأنس ومهبط القضاء والتقدير، ونكالاً لغيرهم من أمثالهم عذاباً لهم في الدنيا، عطف عليه قوله ترهيباً من جلاله بعد ما رغب في عظيم جماله:{وأعتدنا} أي هيأنا في الآخرة مع هذا

ص: 232

الذي في الدنيا بما لنا من العظمة {لهم} أي الشياطين الذين يسترقون السمع {عذاب السعير -} أي النار التي هي في غاية الاتقاد، ففي الآية بشارة أهل السمع والبصر والعقل وفيها من التنبيه ما لا يخفى.

ولما أخبر سبحانه عن تهيئته العذاب لهم بالخصوص، أخبر أيضاً عن تهيئته لكل عامل بأعمالهم على وجه اندرجوا هم فيه فقال حاثاً على التكفر في عظيم انتقامه الخارج عن العادة في عدم الانطفاء، لكونه ليس بسيف ولا عصا. ولا بسوط ونحوه بل النار الخارجة عن العادة في عدم الانطفاء، ولا للمعذب من الخلاص منها مسلك ولا رجاء بل كلما طال الزمان تلقته بالشدة والامتداد، بئس الجامعة للمذام في كل انتقام مع الإهانة والاحتقار {وللذين كفروا} أي أوقعوا التغطية لما من حقه أن يظهر ويشهر من الإذعان للإله، فقال صارفاً القول عن مقام العظمة إلى صفة الإحسان الخاصة بالتربية تنبيهاً على ما في إنكاره من عظيم الكفران:{بربهم} أي الذي تفرد بإيجادهم والإحسان إليهم فأنكروا إيجاده لهم بعد الموت وذلك كفراً منهم بما شاهدوا من اختراعه لهم من العدم {عذاب جهنم} أي الدركة النارية التي تلقاهم بالتجهم

ص: 233

والعبوسة والغضب.

ولما كان التقدير: هي مصيرهم، قال دالاً على عدم خلاصهم منها أصلاً أزلاً وأبداً:{وبئس المصير *} أي هي.

ولما عبر عن ذمها بمجمع المذام، أتبعه الوصف لبعض تجهمها على وجه التعليل، فقال دالاً بالإلقاء على خساستهم وحقارتهم معبراً بأداة التحقيق دالالة على أنه أمر لا بد منه، وبالبناء للمفعول على أن إلقاءهم في غاية السهولة على كل من يؤمر به:{إذا ألقوا} أي طرح الذين كفروا والأخساء من أي طارح أمرناه بطرحهم {فيها} حين تعتلهم الملائكة فتطرحهم كما تطرح الحطب في النار {سمعوا لها} أي جهنم نفسها {شهيقاً} أي صوتاً هائلاً أشد نكارة من أول صوت الحمار لشدة توقدها وغليانها، أو لأهلها - على حذف مضاف {وهي تفور *} أي تغلي بهم كغلي المرجل بما فيه من شدة التلهب والتسعر، فهم لا يزالون فيها صاعدين هابطين كالحب إذا كان الماء - يغلي به، لا قرار لهم أصلاً.

ص: 234

ولما وصفها بالفوران، بين سببه تمثيلاً لشدة اشتعالها عليهم فقال:{تكاد تميز} أي تقرب من أن ينفصل بعضها من

ص: 234

بعض كما يقال: يكاد فلان ينشق من غيظه وفلان غضب فطارت شقة منه في الأرض وشقة في السماء - كناية عن شدة الغضب {من الغيظ} أي عليهم، كأنه حذف إحدى التاءين إشارة إلى أنه يحصل منها افتراق واتصال على وجه من السرعة لا يكاد يدرك حق الإدراك، وذلك كله لغضب سيدها، وتأتي يوم القيامة تقاد إلى المحشر بألف زمام لكل زمام سبعون ألف ملك يقودونها به، وهي شدة الغيظ تقوى على الملائكة وتحمل على الناس فتقطع الأزمة جميعاً وتحطم أهل المحشر فلا يردها عنهم إلا النبي صلى الله عليه وسلم يقابلها بنوره فترجع مع أن لكل ملك من القوة ما لو أمر به أن يقتلع الأرض وما عليها من الجبال ويصعد بها في الجو فعل من غير كلفة، وهذا كما أطفأها في الدنيا بنفخة كما رواه الجماعة إلا الترمذي وهذا لفظ أبي داود عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال:«انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر صلاته إلى أن قال: ثم نفخ في آخر سجوده. فقال: أف أف ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم وهم يستغفرون» وفي رواية النسائي أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «لقد أدنيت مني النار حتى جعلت ألفتها خشية أن تغشاكم» .

ولما ذكر سبحانه حالها، أتبعه حالهم في تعذيب القلب باعتقادهم

ص: 235

أنهم ظلمة على وجه، بين السبب في عذابهم زجراً عنه فقال:{كلما} ولما كان المنكىء مجرد الإلقاء بني للمفعول دلالة على ذلك وعلى حقارتهم بسهولة إلقائهم قوله: {ألقي فيها} أي جهنم بدفع الزبانية بهم الذين هم أغيظ عليهم من النار {فوج} أي جماعة هم في غاية الإسراع موجفين مضطربي الأجواف من شدة السوق {سألهم} أي ذلك الفوج {خزنتها} أي النار سؤال توبيخ وتقريع وإرجاف.

ولما كان كأنه قيل: ما كان سؤالهم؟ قال: قالوا موبخين لهم مبكتين محتجين عليهم في استحقاقهم العذاب زيادة في عذابهم بتعذيب أرواحهم بعد تعذيب أشباحهم: {ألم يأتكم} أي في الدنيا {نذير *} أي يخوفكم هذا العقار ويذكركم بما حل بكم وبما حل ممن قبلكم من المثلاث، لتكذيبهم بالآيات، ويقرأ عليكم الكتب المنزلات {قالوا بلى} ولما طابق هذا الجواب فتوقع السامع إيضاحه. افصحوا بما أفهمه وشرحوه تأسفاً على أنفسهم مما حل بهم وتحسراً فقالوا:{قد جاءنا} وأظهروا موضع الإضمار تأكيداً وتنصيصاً فقالوا: {نذير *} أي مخوف بليغ التحذير {فكذبنا} أي فتسبب عن مجيئه أننا أوقعنا التكذيب بكل

ص: 236

ما قاله النذير {وقلنا} أي زيادة في التكذيب والنكاية له والعناد الذي حل شؤمه بنا: {ما نزل الله} أي الذي له الكمال كله عليكم ولا على غيركم، ولعل التعبير بالتفعيل إشارة إلى إنكارهم الفعل بالاختيار الملازم للتدريج - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وأعرقنا في النفي فقلنا:{من شيء} لا وحياً ولا غيره، وما كفانا هذا الفجور حتى قلنا مؤكدين:{إن} أي ما.

ولما كان تكذيبهم برسول واحد تكذيباً لجميع الرسل قالوا عناداً: {أنتم} أي أيها النذر المذكورون في «نذير» المراد به الجنس، وفي خطاب الجمع إشارة إيضاً إلى أن جواب الكل للكل كان متحداً مع افتراقهم في الزمان حتى كأنهم كانوا على ميعاد {إلا في ضلال} أي بعد عن الطريق وخطأ وعمى محيط بكم {كبير *} فبالغنا في التكذيب والسفه بالاستجهال والاستخفاف.

ولما حكى سبحانه ما قالوه للخزنة تحسراً على أنفسهم حكى ما قالوه بعد ذلك فيما بينهم زيادة في التحزن ومقتاً لأنفسهم بأنفسهم فقال تعالى: {وقالوا} أي الكفرة في توبيخ أنفسهم: {لو كنا} أي بما هو لنا كالغريزة.

ولما كان السمع أعظم مدارك العقل الذي هو مدار التكليف قالوا: {نسمع} أي سماعاً ينفع بالقبول للحق والرد للباطل {أو نعقل} أي بما أدته إلينا حاسة السمع وغيرها عقلاً ينجي وإن

ص: 237

لم يكن سمع، وإنما قصروا الفعلين إشارة إلى أن ما كان لهم من السمع والعقل عدم لكونه لم يدفع عنهم هذا البلاء بالقبول من الرسل لما ذكروهم به من نصائح ربهم وشهادة الشواهد من الآيات البينات {ما كنا} أي كونا دائماً {في أصحاب السعير *} أي في عداد من أعدت له النار التي هي في غاية الاتقاد والحر والتلهب والتوقد حتى كأن بها جنوناً، وحكم بخلودهم في صحبتها، وأعظم ما في هذا من العذاب بكونهم ألجئوا إلى أن يباشروا توبيخ أنفسهم ومقتها بأنفسهم أنه لا يقبل منهم خروجاً عن العادة في الدنيا من أن الإنسان إذا أظهر الخضوع باعترافه ولومه نفسه وإنصافه رحم وقبل، وفي الآية أعظم فضيلة للعقل، روى ابن المحبر في كتاب العقل والحارث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لكل شيء دعامة ودعامة المؤمن عقله فبقدر عقله تكون عبادته، أما سمعتم قول الفجار لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير» .

ولما كان هذا الإقرار زائداً في ضررهم، وإنما كان يكون نافعاً لهم لو قالوه في دار العمل وندموا عليه وأقلعوا عنه، سبب عنه قوله ضاماً - إلى ما تقدم من تعذيب أرواحهم بمقت الملائكة لهم ثم مقتهم

ص: 238

لأنفسهم - مقت الله لهم: {فاعترفوا} أي بالغوا جامعين إلى مقت الله وملائكته لهم مقتهم لأنفسهم في الاعتراف وهو الإقرار عن معرفة.

ولما كان الذي أوردهم المهالك هو الكفر الذي تفرعت عنه جميع المعاصي، أفرد فقال تعالى:{بذنبهم} أي في دار الجزاء كما كانوا يبالغون في التكذيب في دار العمل فلم يكن ينفعهم لفوات محله، أو أنه لم يجمع الذنب إشارة إلى أنهم كانوا كلهم في المبالغة في التكذيب على حد واحد، كما قال تعالى {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون} [الذاريات: 53] أو أن الإفراد أشد في التحذير من كثير الذنوب وقليلها حقيرها وجليلها.

ولما كانوا قد أبلغوا في كلتي الدارين في إبعاد أنفسهم عن مواطن الرحمة وتسفيلها إلى حال النقمة أنتج ذلك وسبب قوله: {فسحقاً} أي بعداً في جهة السفل وهو دعاء عليهم مستجاب {لأصحاب} وأظهر تنبيهاً على عظيم توقدها وتغيظها وتهددها فقال: {السعير *} أي الذي قضت عليهم أعمالهم بملازمتها.

ص: 239

ولما ذكر سبحانه أهل المعاملة بصفة العزة لما حصل لهم من العزة، أتبعهم أضدادهم المطوعين أنفسهم لإشارة العقل المتأهلين لنعت المعرفة، فقال مؤكداً لما للأضداد من التكذيب:{إن الذين يخشون} أي يخافون خوفاً أرق قلوبهم وأرق غيرهم بحيث كانوا كالحب على المقلي لا يقر لهم قرار من توقعهم العقوبة، كلما ازدادوا طاعة ازدادوا خشية، يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة فوقوا أنفسهم فوران النار بهم، وعدل عن سياق الجلالة الجامع إلى صفة الإحسان تنبيهاً على أنهم غلب عليهم النظر إلى الإحسان فقادهم إلى الشكر مع ما نبهت عليه الخشية من اتصافهم بالفرق الذي أداهم إلى الذعر فقال:{ربهم} الذي أحسن إليهم بتطويرهم بما جعل لهم من الأسباب في أطوار الخير وإذا كانوا يخشونه مع نظرهم إلى صفة إحسانه فما ظنك بهم عند النظر إلى صفات انتقامه {بالغيب} أي حال كونهم غائبين عنه سبحانه ووعيده غائباً عنهم وهو غائبون عن أعين الناس وقد ملأ الخوف ما غاب عنهم عن الناس وهي قلوبهم فهم مع الناس يتكلمون وقلوبهم تتلظى بنيران الخوف وتكلم بسيوف الهيبة، فيتركون المعصية حيث لا يراهم أحد من الناس! ولا يكون لهم هذا إلا برياضة عظيمة لما عند

ص: 240

الناس من القوى الموجبة للطغيان، قال بعض العارفين: في الإنسان خواص تستدعي العلم بما يشوبها من الحظوظ فتنشأ منها - والعياذ بالله - المنازعة في الكبرياء والعظمة والجلال والجمال، فالقلب يستدعي التفرد بالوجود والأمر والنهي، فما من أحد إلا وهو مستبطن ما قال فرعون، ولكن لا يجد له مجالاً كما وجد فرعون، والعقل يستدعي في تدبيره وتأثيره اعتقاد أنه لو مكن من الوجود لدبره، ويرى أن تدبيره هو التدبير وإن كان أفسد الفاسد، وكذلك لا يزال يقول: لو كان كذا لكان كذا، والنفس لا تتخيل أنها من القوة والاقتدار بحيث لو أرادت أن تخرب مدناً وتبنيها فعلت، فليحذر الإنسان فإن أعدى عدوه نفسه التي هي بين جنبيه، فمهما تركها انتشرت، قال تعالى {كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} [العلق: 6 و7] وينسى ما بعدها {إن إلى ربك الرجعى} [العلق: 8] ولهذا كان بعض الأكاسرة - وكانوا أعقل الملوك - يرتب واحداً يكون وراءه بالقرب منه، يقول له إذا اجتمعت جنوده بعد كل قليل: أنت عبد، لا يزال يكرر ذلك، والملك يقول له كلما قاله: نعم: فعلى العاقل أن يطوع نفسه لأن ترجع مطمئنة بأن

ص: 241

يرضى بالله رباً ليدخل في رق العبودية، وبالإسلام ديناً ليصير عريقاً فيها، فلا ينازع الملك في ردائه الكبرياء وإزاره العظمة وتاجه الجلال وحلته الجمال، ولا ينازعه فيما يدبره من الشرائع، ويظهره من المعارف، ويحكم به على عبيده من قضائه وقدره.

ولما كانت الخشية مشيرة إلى الذنوب، فكان أهم ما إليهم الإراحة منها قال تعالى:{لهم مغفرة} أي سترة عظيمة تأتي على جميع ذنوبهم.

ولما كان السرور إنما يتم بالإعطاء قال: {وأجر} أي من فضل الله {كبير *} يكون لهم به من الإكرام ما ينسيهم ما قاسوه في الدنيا من شدائد الآلام، وتصغر في جنبه لذائذ الدنيا العظام.

ولما كانت الخشية من الأفعال الباطنة، وكان كل أحد يدعي أنه يخشى الله، قال مخوفاً لهم بعلمه نادباً إلى مراقبته لئلا يغتروا بحلمه، عاطفاً على ما تقديره لإيجاب المراقبة: فأبطنوا أفعالهم وأظهروها: {وأسروا} أي أيها الخلائق.

ولما كان إفراد الجنس دالاً على قليله وكثيره قال: {قولكم}

ص: 242

أي خيراً كان أو شراً {أو اجهروا به} فإنه يعلمه ويجازيكم به لأن علمه لا يحتاج إلى سبب، وذلك أن المشركين كانوا يقولون: أسروا وإلا يسمع إله محمد: ثم علل ذلك مؤكداً لأجل ما للناس من استبعاد ذلك بقوله: {إنه} أي ربكم {عليم} أي بالغ العلم {بذات الصدور *} أي بحقيقتها وكنهها وحالها وجبلتها وما يحدث عنها سواء كانت قد تخيلته ولم تعبر عنه، أو كان مما لم تتخيله بعد بدليل ما يخبر به سبحانه وتعالى عنهم مما وقع وهم يخفونه، أو لم يقع بعد ثم يقع كما أخبر به سبحانه؛ ثم دل على ذلك بقوله معجباً ممن يتوقف فيه أدنى توقف ومنكراً عليهم بإثبات العلم ونفى ضده على أبلغ وجه:{ألا يعلم} أي وكل ما يمكن أن يعلم، وحذف المفعول للتعميم، ثم ذكر الفاعل واصفاً له بما يقرب المخبر به للإفهام فقال:{من خلق} أي الذي أوجد الخلق من القلوب الحاوية للأسرار والأبدان وغير ذلك، وطبع في كل شيء من ذلك ما طبع مما قدره بعلمه وأتقنه بحكمته، فإن كل صانع أدرى بما صنعه، ويجوز - وهو أحسن - أن يكون «من» مفعولاً والفاعل مستتراً، أي ألا يعلم الله مخلوقه على الإطلاق وله صفتا اللطف والخبر اللتان شأنهما إدراك البواطن إدراكاً لا يكون مثله لأن الغرض إثبات العلم لما أخفوه لظنهم أنهم إذا أسروا يخفى، لا إثبات مطلق العلم فإنهم

ص: 243

لم ينكروه {وهو} أي والحال أنه هو {اللطيف} أي الذي يعلم ما بثه في القلوب لأنه يصل إلى الأشياء بأضدادها فكيف بغير ذلك {الخبير *} أي بالغ العلم بالظواهر والبواطن فكيف يخفى عليه شيء من الأشياء، وهو أعظم تهديد يكون؛ فإن من علم أن من يعصيه عالماً به وهو قادر عليه لا يعصيه أبداً.

ولما كان ذلك أمراً غامضاً، دل عليه بأمر مشاهد أبدعه بلطفه وأتقنه بخبرته لاستدعاء الشكر من عباده على ما أبدع لهم ومن عليهم به من النعم الباهرة التي بها قوامهم، ولولاه لما كان لهم بقاء فقال مستأنفاً:{هو} أي وحده {الذي جعل لكم} لتتوصلوا إلى ما ينفعكم {الأرض} على سعتها وعظمها وجزونة كثير منها {ذلولاً} أي مسخرة لا تمتنع، قابلة للانقياد لما تريدون منها من مشي وإنباط مياه وزرع حبوب وغرس أشجار وغير ذلك غاية الانقياد، بما تفهمه صيغة المبالغة مع أن فيها أماكن خوارة تسوخ فيها الأرجل ويغوص فيها ما خالطها، ومواضع مشتبكة بالأشجار يتعذر أو يتعسر سلوكها، وأماكن

ص: 244

ملأى سباعاً وحيات وغير ذلك من الموانع، وأماكن هي جبال شاهقة إما يتعذر سلوكها كجبل السد بيننا وبين ياجوج وماجوج، ورد في الحديث أنه تزلق عليه الأرجل ولا تثبت، أو يشق سلوكها، ومواطن هي بحور عذبة أو ملحة فلو شاء لجعلها كلها كذلك ليكون بحيث لا يمكن الانتفاع بها، فما قسمها إلى سهول وجبال وبرور وبحور وأنهار وعيون وملح وعذب وزرع وشجر وتراب وحجر ورمال ومدر وغير ذلك إلا لحكمة بالغة وقدرة باهرة، لتكون قابلة لجميع ما تريدون منها، صالحة لسائر ما ينفعكم فيها.

ولما كان معنى التذليل ما تقدم، سبب عنه قوله تمثيلاً لغرض التذليل لأن منكبي البعير وملتقاهما من الغاربين أرق شيء وأنباه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه:{فامشوا} أي الهوينا مكتسبين وغير مكتسبين إن شئتم من غير صعوبة توجب لكم وثباً أو حبواً {في مناكبها} أي أماكنها التي هي لولا تسهيلنا لمناكب الحيوانات لكانوا ينتكبون عن الوقوف عليها، فكيف بالمشي، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنها الجبال - لأن تذليلها أدل دليل

ص: 245

على تذليل غيرها، وليكن مشيتكم فيها وتصرفكم بذل وإخبات وسكون استصغاراً لأنفسكم وشكراً لمن سخر لكم ذلك - والله الهادي.

ولما ذكر سبحانه أنه يسرها للمشي، ذكرهم بأنه سهلها لإخراج الخيرات والبركات فقال:{وكلوا} ودل على أن الرزق فوق الكفاية بقوله: {من رزقه} أي الذي أودعه لكم فيها وأمكنكم من إخراجه بضد ما تعرفون من أحوالكم فإن الدفن في الأرض مما يفسد المدفون ويحيله إلى جوهرها كما يكون لمن قبرتموه فيها، ومع ذلك فأنتم تدفنون الحب وغيره مما ينفعكم فيخرجه لكم سبحانه على أحسن ما تريدون ويخرج لكم من الأقوات والفواكه والأدهان والملابس ما تعلمون، وكذلك النفوس هي صعبة كالجبال وإن قدتها للخير انقادت لك كما قيل «هي النفس ما عودتها تتعود» .

ولما كان التقدير للبعث على الشكر والتحذير من الكفر: واعبدوه جزاء على إحسانه إليكم وتربيته لكم. فمنه مبدأ جميع ذلك، عطف عليه ما يدعو إلى الحياء من السيد والخجل من توبيخه عند لقائه فقال:{وإليه} أي وحده {النشور *} وهو إخراج جميع الحيوانات التي أكلتها الأرض وأفسدتها، يخرجها في الوقت الذي يريده

ص: 246

على ما كان كل منها عليه عند الموت كما أخرج تلك الأرزاق، لا فرق بين هذا وذاك، غير أنكم لا تتأملون فيسألكم عما كنتم تعملون، فيا فوز من شكر ويا هلاك من كفر، فإن هذا أبعث شيء على الشكر، وأشد شيء إبعاداً عن العصيان لا سيما الكفر، لما قرر من حاجة الإنسان، والإحسان إليه بأنواع الإحسان.

ص: 247

ولما لم يكن بعد الاستعطاف إلا الإنذار على الخلاف، قال مهدداً للمكذبين بعذاب دون عذاب جهنم، منكراً عليهم الأمان بعد إقامة الدليل على أن بيده الملك، وأنه قادر على ما يريد منه بأسباب جنوده وبغير سبب، مقرراً بعد تقرير حاجة الإنسان وعجزه أنه لا حصن له ولا مانع له بوجه من عذاب الله، فهو دائم الافتقار ملازم للصغار:{أأمنتم} أي أيها المكذبون، وخاطبهم بما كانوا يعتقدون مع أنه إذا حمل على الرتبة وأول السماء بالعلو أو جعل كناية عن التصرف لأن العادة جرت غالباً أن من كان في شيء كان متصرفاً فيه صح من غير تأويل فقال:{من في السماء} أي على زعمكم العالية قاهرة لكم، أو المعنى: من الملائكة الغلاظ الشداد الذي صرفهم في مصالح العباد، أو المعنى: في غاية العلو رتبة، أو أن ذلك إشارة إلى أن في السماء أعظم أمره لأنها ترفع إليها أعمال عباده وهي مهبط الوحي

ص: 247

ومنزل القطر ومحل القدس والسلطان والكبرياء وجهة العرش ومعدن المطهرين والمقربين من الملائكة الذين أقامهم الله في تصريف أوامره ونواهيه، والذي دعا إلى مثل هذا التأويل السائغ الماشي على لسان العرب قيام الدليل القطعي على أنه سبحانه ليس بمتحيز في جهة لأنه محيط فلا يحاط به، لأن ذلك لا يكون إلا لمحتاج؛ ثم أبدل من «من» بدل اشتمال فقال:{أن} .

ولما كانت قدرته على ما يريد بلا واسطة كقدرته بالواسطة، وقدرته إذا كان الواسطة جمعاً كقدرته إذا كان واحداً، لأن الفاعل على كل تقدير حقيقة هو لا غيره، وحد بما يقتضيه لفظ «من» إشارة إلى هذا المعنى سواء أريد ب «من» هو سبحانه أو ملائكته أو واحد منهم فقال:{يخسف} أي أأمنتم خسفه، ويجوز أن يراد ب «من» الله سبحانه وتعالى كما مضى خطاباً على زعمهم وظنهم أنه في السماء وإلزاماً لهم بأنه كما قدر على الإمطار والإنبات وغيرهما من التصرفات في الأرض فهو يقدر على غيره {بكم الأرض} كما خسف بقارون وغيره.

ولما كان الذي يخسف به من الأرض يصير كالساقط في الهواء وكان الساقط في الهواء يصير يضطرب، سبب عن ذلك قوله:{فإذا هي} أي الأرض التي أنتم بها {تمور *} أي تضرب وهي تهوي بكم وتجري هابطة في الهواء وتتكفأ إلى حيث شاء سبحانه،

ص: 248

قال في القاموس: المور الاضطراب والجريان على وجه الأرض والتحرك.

ولما كانوا ربما استبعدوا الخسفة، وكانوا يعهدون ما ينزل من السماء من الندى والأمطار والصواعق، عادل بذلك قوله:{أم أمنتم} أي أيها المكذبون، وكرر لهم ذكر ما يخشونه زيادة في الترهيب فقال:{من في السماء} على التقديرين {أن يرسل عليكم} أي من السماء {حاصباً *} أي حجارة يحصبكم - أي يرميكم - بها مع ريح عاصف بقوتها كما وقع لقوم لوط وأصحاب الفيل.

ولما كان هذا الكلام إنذاراً عظيماً ووعظاً بليغاً شديداً، وكان حالهم عنده متردداً بين إقبال وإدبار، سبب عنه على تقدير إدبارهم بتماديهم بما للإنسان من النقصان قوله متوعداً بما يقطع القلوب، ولفت القول إلى مقام التكلم إيذاناً بتشديد الغضب:{فستعلمون} أي عن قريب بوعد لا خلف فيه في الدنيا ثم في الآخرة.

ولما كان العلم بكيفية الشيء أعظم من العلم بمطلق ذلك الشيء لأنه يلزم من العلم بها العلم بمطلق ذلك الشيء، وكان ما هو

ص: 249

بحيث يسأل عنه لا يكون إلا عظيماً قال: {كيف نذير *} أي إنذاري البليغ إذا شاهدتم العذاب وهو بحيث لا يستطاع، ولا تتعلق الأطماع بكشف له ولا دفاع، وحذف الياء منه ومن «نكير» إشارة إلى أنه وإن كان خارجاً عن الطرق ليس منتهى مقدوره بل لديه مزيد، لا غاية له بوجه ولا تحديد.

ولما كان من المعلوم أن المأمور بإبلاغهم وإنذارهم هذا الإنذار صلى الله عليه وسلم في غاية الرحمة لهم والشفقة عليهم فهو بحيث يشق عليه غاية المشقة ما أفهمه هذا الكلام من إهلاكهم أن يصدقوا، ويحب التأني بهم، لفت سبحانه الخطاب إليه عاطفاً على ما تقديره: فلقد طال إمهالنا لهم وحلمنا عنهم وتعريفنا لهم بعظيم قدرتنا وهم لا يرجعون وكثر وعظنا لهم وتصريفنا القول بينهم على ألسنة رسلنا عليهم الصلاة والسلام وهم يتمادون ولا ينتهون، قوله مصوراً لهم ما توعدهم به في أمر محسوس لأن الأمور المشاهدات أروع للإنسان لما له من التقيد بالوهم مؤكداً للإشارة إلى أن التكذيب مع إقامة البراهين أمر يجب إنكاره فلا يكاد يصدق:{ولقد كذب} وطغى وبغى وأعرض وتجبر وتمرد وولى بوجهه

ص: 250

وقلبه {الذين} .

ولما كان هذا التكذيب لم يعم الماضين بعض فقال: {من قبلهم} يعني كفار الأمم الماضية.

ولما كان سبحانه قد أملى لهم ثم أخذهم بعد طول الحلم أخذاً بقيت أخباره، ولم تندرس إلى الآن على تمادي الزمان آثاره، فكان بحيث يسأل عنه لعظم أحواله، وشدة زلازله وفظاعة أهواله، سبب عن ذلك قوله منبهاً على استحضار ذلك العذاب ولو بالسؤال عنه:{فكيف كان نكير *} أي إنكاري عليهم بما أصبتهم به من العذاب في تمكن كونه وهول أمره، فقد جمع إلى التسلية غاية التهديد.

ولما ذكر بمصارع الأولين، وكان التذكير بالحاصب تذكيراً لقريش بما حصب به على قرب الزمان عدوهم أصحاب الفيل بما أرسل عليهم من الطير الأبابيل تحذيراً لهم من ذلك إن تمادوا على كفره، ولم ينقادوا إلى شكره، فكان التقدير تقريراً لزيادة قدرته وحسن تدبيره ولطف تربيته حيث جبر الطير لضعفها بالطيران ليكمل بعموم رحمانيته أمر معاشها تقريراً لأن بيده الملك وترهيباً من أن ينازعه

ص: 251

أحد في تدبيره مع تبقية القول مصروفاً عن خطابهم، إيذاناً بشدة حسابهم وسوء منقلبهم ومآبهم؛ ألم يروا إلى قدرتنا على مصارع الأولين وإهلاك المكذبين وإنجاء المؤمنين، عطف عليه قوله معرضاً عنهم زيادة في الإنذار بالحصب من الطير وغيرها:{أو لم يروا} وأجمع القراء على القراءة هنا بالغيب لأن السياق للرد على المكذبين بخلاف ما في النحل.

وأشار إلى بعد الغاية بحرف النهاية فقال: {إلى الطير} وهو جمع طائر.

ولما كان الجو كله مباحاً للطيران نزع الجار فقال: {فوقهم} وبين حال الطير في الفوقية بقوله واصفاً لها بالتأنيث إشارة إلى ضعفها في أنفسها لولا تقويته لها {صافات} أي باسطات أجنحتها تمدها غاية المد بحيث تصير مستوية لا اعوجاج فيها مع أنه إذا كان جماعة منها كانت صفوفاً أو صفاً واحداً في غاية الانتظام تابعة لإمام منها.

ولما عبر عن الصف بالاسم لأنه الأصل الثابت، عبر عن التحريك بالفعل لأن الطيران في ساحة الهواء كالسباحة في باحة الماء، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها، والبقض طارىء على البسط فقال:{ويقبضن} أي يوقعن قبض الأجنحة وبسطها وقتاً بعد وقت للاستراحة والاستظهار به على السبح في الهواء. ولما تم هذا التقدير على هذا الوجه الرائع للقلوب ترجمه بقوله: {ما يمسكهن} أي في

ص: 252

الجو في حال القبض والبسط عن السقوط على خلاف ما يقتضيه الطبع.

ولما كان هذا من التدبير المحكم الناظر إلى عموم الرحمة قال: {إلا الرحمن} أي الملك الذي رحمته عامة لكل شيء بأن هيأهن - بعد أن أفاض عليهن رحمة الإيجاد - على أشكال مختلفة وخصائص مفترقة للجري في الهواء بما أوجد لها من القوادم والحوافي وغير ذلك من الهيئات المقابلة لذلك، وكذا جميع العالم لو أمسك عنه حفظه طرفة عين لفسد بتهافت الأفلاك وتداعي الجبال وغيرها، وعبر في النحل بالاسم الأعظم لأن سياقها للرد على أهل الطبائع وهم الفلاسفة الذين لا يقوم بالرد عليهم إلا المتبحر في معرفة جميع أصول الدين بمعرفة جميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى التي جمعها اسم الذات.

ولما كان هذا أمراً رائعاً للعقل، ولكنه لشدة الإلف صار لا يتنبه له إلا بالتنبيه، وكان الجاهل ربما ظن أن التقدير على الطيران خاص بالطير، نبه سبحانه على عظمة ما هيأ الطير له وعلى أنه يقدر أن يجعل ذلك لغيره بقوله مؤكداً لأجل قصور بعض العقول عن التصديق بذلك وتضمن الإشراك للطعن في تمام الاقتدار المتضمن للطعن في تمام العلم:{إنه} أي الرحمن سبحانه {بكل شيء} قل أو كثر جليل وحقير ظاهر وباطن {بصير *} بالغ البصر والعلم بظواهر الأشياء

ص: 253

وبواطنها، فمهما أراد كان وهو يخلق العجائب ويوجد الغرائب، فيهيىء من أراد من الآدميين وغيرهم لمثل ذلك.

ص: 254

ولما كان التقدير تقريراً لذلك: فمن يدبر مصالحكم ظاهراً وباطناً، وفعل هذه الأنواع من العذاب بالمكذبين من قبلكم، عطف عليه قوله عائداً إلى الخطاب لأنه أقعد في التكبيث والتوبيخ، وأدل على أن المخاطب ليس بأهل لأن يهاب مقرراً لأنه مختص بالملك:{أمن} ونبه على أن المدبر للأشياء لا بد أن يكون في غاية القرب والشهادة لها ليكون بصيراً برعيها، ويكون مع مزيد قربه عالي الرتبة بحيث يشار إليه، فقال مقرراً لعجز العباد:{هذا} بإشارة الحاضر {الذي} وأبرز العائد لأنه لا بد من إبرازه مع الاسم بعدم صلاحه لتحمل الضمير فقال: {هو جند} أي عسكر وعون، وصرف القول عن الغيبة إلى الخطاب لأنه أبلغ في التقريع فقال:{لكم ينصركم} أي على من يقصدكم بالخسف والحصب وغيرهما، ويجوز أن يكون التقدير: ألكم إله يدبر مصالحكم غيرنا أم كان الذي عذب من كذب الرسل سوانا أم لكم جند يصار إليه ينصركم دوننا كما قال تعالى {أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا} [الأنبياء: 43] ولكنه أخرجه مخرج الاستفهام عن تعيين الجند تعريفاً بأنهم لغاية جهلهم اعتقدوا أن لهم من أجناد الأرض أو السماء من ينصرهم وإلا لما كانوا آمنين.

ص: 254

ولما كانت المراتب متضائلة عن جنابه متكثرة جداً، قال تعالى مشيراً بالحرف والظرف إلى ذلك منبهاً على ظهوره سبحانه فوق كل شيء، لم يقدر أحد ولا يقدر أن ينازعه في ذلك ولا في أنه مستغرق لكل ما دونه من المراتب:{من دون الرحمن} إن أرسل عليكم عذابه، وأظهر ولم يضمر بعثاً على استحضار ما له من شمول الرحمة، وتلويحاً إلى التهديد بأنه لو قطعها عن أحد ممن أوجده عمه الغضب كله، ولذلك قال مستنتجاً عنه تنبيهاً على أن رفع المضار وجمع المسار ليس إلا بيده لأنه المختص بالملك:{إن} أي ما، وأبرز الضمير تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف ومواجهة بذلك لأنه أقعد في التوبيخ فقال:{الكافرون} أي العريقون في الكفر وهم من يموت عليه {إلا في غرور *} أي قد أحاط بهم فلا خلاص لهم منه وهو أنهم يعتمدون على غير معتمد.

ولما قدم أعظم الرحمة بالحياطة والنصرة الموجبة للبقاء، أتبعه ما يتم به البقاء فقال:{أمّن} وأشار إلى القرب بالعلم والبعد بالعلو والعظمة بقوله: {هذا} وأشار إلى معرفة كل أحد له بصفاته العلية التي

ص: 255

تنشأ عنها أفعاله المحكمة السنية، فقال:{الذي} وأسقط العائد لتحمل الفعل له فقال: {يرزقكم} أي على سبيل التجدد والاستمرار، لا ينقطع معروفه أبداً مع أنه قد وسع كل شيء ولا غفلة له عن شيء {إن أمسك رزقه} بإمساك الأسباب التي تنشأ عنها ويكون وصوله إليكم منها كالمطر، ولو كان الرزق موجوداً أو كثيراً وسهل التناول فوضع الأكلة في فمه فأمسك الله عنه قوة الازدراء عجز أهل السموات والأرض عن أن يسوغوه تلك اللقمة.

ولما قامت بهذا دلائل قدرته وشمول علمه على سبيل العموم فالخصوص، فكان ذلك مظنة أن يرجع الجاحد ويخجل المعاند، ويعلم الجاهل ويتنبه الغافل، فكان موضع أن يقال: هل رجعوا عن تكذيبهم، عطف عليه قوله لافتاً الكلام إلى الغيبة إعراضاً عنهم تنبيهاً على سقوط منزلتهم وسوء أفهامهم وقوة غفلتهم:{بل لجوا} أي تمادوا سفاهة لا احتياطاً وشجاعة، قال الرازي في اللوامع: واللجاج تقحم الأمر مع كثرة الصوارف عنه {في عتو} أي مظروفين لعناد وتكبر عن الحق وخروج إلى فاحش الفساد {ونفور *} أي

ص: 256

شراد عن حسن النظر والاستماع، دعا إليه الطباع، واستولى ذلك عليهم حتى أحاط بهم مع أنه لا قوة لأحد منهم في جلب سار ولا دفع ضار، والداعي إلى ذلك الشهوة والغضب.

ولما كان هذا فعل من لا بصر له ولا بصيرة، سبب عنه قوله ممثلاً للموحد والمشرك بسالكين ولدينيهما بمسلكين:{أفمن يمشي} أي على وجه الاستمرار {مكباً} أي داخلاً بنفسه في الكب وصارا إليه، وهو السقوط {على وجهه} وهو كناية عن السير على رسم مجهول وأثر معوج معلول، على غير عادة العقلاء لخلل في أعضائه، واضطراب في عقله ورأيه، فهو كل حين يعثر فيخر على وجهه، لأنه لعدم نظره يمشي في أصعب الأماكن لإمالة الهوى له عن المنهج المسلوك، وغلبة الجهل عليه فهو بحيث لا يكون تكرار المشاق عليه زاجراً له عن السبب الموقع له فيه، ولم يسم سبحانه وتعالى ممشاه طريقاً لأنه لا يستحق ذلك.

ولما كان ربما صادف السهل لا عن بصيرة بل اتفاقاً قال: {أهدى} أي أشد هداية {أمّن يمشي} دائماً مستمراً {سوياً} قائماً رافعاً رأسه ناصباً وجهه سالماً من العثار لأنه لانتصابه يبصر ما أمامه وما عن يمينه وما عن شماله {على صراط} أي طريق موطأ واسع

ص: 257

مسلوك سهل قويم {مستقيم *} أي هو في غاية القوم، هذا مثل من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً فإنه يتبع الفطرة الأولى السليمة عن شهوة أو غضب أو شائبة حظ، والأول مثل الكافر، حاله في سيره إلى الله حال المكب أي الذي كب نفسه بغاية الشهوة على وجهه، لا يرى ما حوله ولا يشعر بما أحاط به، ولا ينظر في الآيات ولا يعتبر بالمسموعات، فهو اليوم شيء باطن لظهر يوم القيامة فيحشر على وجهه إلى النار جزاء لرضاه بحالته هذه في هذه الدار فيظهر له سبحانه ما أبطن له اليوم، والمؤمن بخلاف ذلك فيهما، والآية من الاحتباك: ذكر الكب أولاً دليلاً على ضده ثانياً، والمستقيم ثانياً دليلاً على المعوج أولاً، وسره أنه ذكر أنكأ ما للمجرم وأسر ما للمسلم.

ولما كان العرب الموعوظون بهذا الذكر يتغالون في التفاخر بالهداية في الطرق المحسوسة وعدم الإخلال بشكر المعروف لمسديه ولو قل، فنفى عنهم الأول بقيام الأدلة على خطئهم الفاحش في كل ما خالفوا فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من طريقهم المعنوي الذي اتخذوه ديناً، فهو أشرف من الطريق المحسوس، أتبعه بيان انسلاخهم من الثاني مع التأكيد لانسلاخهم من الأول، قال آمراً للرسول صلى الله عليه وسلم بتنبيههم لأن الإنسان على نوعه أقبل لأنه إليه أميل،

ص: 258

إسقاطاً لهم من رتبة الفهم عن الله سبحانه وتعالى لسفول هممهم ولقصور نظرهم مع أنه جعل لهم حظاً ما من الحضور بتأهيلهم لخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم لإقامتهم بالمذكور في الآية فيما يرجى معه العلم ويورث الفطنة والفهم: {قل} أي يا أشرف الخلق وأشفقهم عليهم مذكراً لهم بما دفع عنهم الملك من المفسدات وجمع لهم من المصلحات والقوى والعقل ليرجعوا إليه، ولا يعولوا في حال من أحوالهم إلا عليه، وينظروا في لطيف صنعه وحسن تربيته فيمشي كل منهم سوياً:{هو} أي الله سبحانه وتعالى {الذي} شرفكم بهذا الذكر وبين لكم هذا البيان وحده الذي {أنشأكم} أي أوجدكم ودرجكم في مدارج التربية حيث طوركم في أطوار الخلقة في الرحم ويسر لكم بعد خروجكم الخروج اللين حيث كانت المعدة ضعيفة عن أكثف منه.

ولما كان من أعظم النعم الجليلة بعد الإيجاد العقل، أتبعه به، وبدأ بطريق تنبيهه فقال:{وجعل لكم} أي خاصة مسبباً عن الجسم الذي أنشأه {السمع} أي الكامل لتسمعوا

ص: 259

ما تعقله قلوبكم فيهديكم، ووحده لقلة التفاوت فيه ليظهر سر تصرفه سبحانه في القلوب بغاية المفاوتة مع أنه أعظم الطرق الموصلة للمعاني إليها {والأبصار} لتنظروا صنائعه فتعتبروا وتزدجروا عما يرديكم {والأفئدة} أي القلوب التي جعلها سبحانه في غاية التوقد بالإدراك لما لا يدركه بقية الحيوان لتتفكروا فتقبلوا على ما يعليكم، وجمعاً لكثرة التفاوت في نور الأبصار وإدراك الأفكار، وهذا تنبيه على إكمال هذه القوى في درك الحقائق بتلطيف السر لتدقيق الفكر، قال الشيخ ولي الدين الملوي: انظر إلى الأفئدة كيف تحكم بأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين في آن واحد، وأن الضدين لا يجتمعان - وغير ذلك مما لا يخفى.

ولما كان التقدير: فمشيتم مشي المكب على وجهه فلم تستعملوا شيئاً من هذه الأسرار الشريفة فيما خلق له، كانت ترجمة ذلك:{قليلاً} وأكد المعنى بما صورته صورة النافي فقال: {ما} ولما زاد تشوف النفس إلى العامل في وصف المصدر دل عليه سبحانه وتعالى بقوله:

ص: 260

{تشكرون *} أي توقعون الشكر لمن أعطاكم ما لا تقدرون قدره باستعماله فيما خلق لأجله تدعون أنكم أشكر الناس للإحسان وأعلاهم في العرفان.

ص: 261

ولما دل سبحانه على بعدهم عن الهداية وعن الشكر اللذين يفخرون على الناس كافة بكل منهما، واستعطفهم بما أودع فيهم من اللطائف الربانية الروحانية المقتضية بنورانيتها للعروج إلى مواطن القدس ومعادن الأنس، دل على قدرته على حشرهم تحذيراً لهم من التمادي في الإعراض بمعنى يجده كل منهم في نفسه على وجه دال على كمال قدرته بما أودع فيهم مع تلك اللطائف مع كثائف طباع الأرض الموجبة للسفول ليكون - إذا أعلته تلك اللطائف بالتوبة - مجتهداً في تنقية آثار تلك الكثائف المسفلة كما يكون للزرع إذا حصد من بقايا تلك الجذر التي إن لم تقلع من أصلها عادت بالنبات إلى ما كان عليه الزرع أولاً، فقال مستأنفاً بياناً لأنه دليل برأسه كاف فيما سبق له:{قل هو} أي وحده {الذي ذرأكم} أي خلقكم وبثكم ونشركم وكثركم وأنشأكم بعد ما كنتم كالذر أطفالاً ضعفاء، ثم قواكم ثم جعلكم شيباً ضعفاء وأسكنكم الغضب والذعر واللجاج الحامل لكم على الولوع بما يلجىء إليه الطباع المثيرة {في الأرض} التي تقدم أنه ذللها لكم ورزقكم منها النبات الذي تقدم أن إبداءه منها

ص: 261

ثم رده إليها وإفنائه فيها ثم إعادته كما كان بعد أن صار رفاتاً وشيئا فانياً مماتاً دليل على القدرة على البعث، لا فرق في ذلك بينه وبينكم أصلاً، فكان منه البدأ {وإليه} وحده {تحشرون *} شيئاً فشيئاً إلى البرزخ ودفعة واحدة يوم البعث على أيسر وجه بمن أراد من عباده كرهاً منكم كما كان أمركم في الدنيا، فإنه لم يكن إلى الإنسان منكم أحب من الدعة والسكون، فكأنه سبحانه يضطره بما أودعه من الطبائع المتضادة وأثار له من الأسباب في طلب رزقه وغير ذلك من أمره إلى السعي إلى حيث يكره، فكما أنه قدر على ذلك منكم في الابتداء فهو يقدر على مثله في الانتهاء، ليحكم بينكم ويجازي كلاًّ على عمله كما يفعل كل ملك برعيته، وكل إنسان منكم بجماعته.

ولما كان التقدير: فلقد أبلغ سبحانه في وعظهم بنفسه وعلى لسانك يا أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم وذلك بما هدى إليه السياق قطعاً، ذكر حالهم عند ذلك فقال إعلاماً بكثافة طباعهم حيث لم تلطف أسرارهم لقبول محبة الله تعالى وإثارة الأحوال الحسنة

ص: 262

من الصبر المثبت واليقين وحسن الانطباع لقبول النصائح والخوف وعدم الاعتزاز بأحد غير الله تعالى من جهة نفع أو ضر، وكذلك لفت القول إلى الإعراض إيذاناً بشديد الغضب منهم:{ويقولون} أي يجددون هذا القول تجديداً مستمراً استهزاء وتكذيباً، ويجوز أن يكون حالاً من الواو في «بل لجوا» :{متى هذا} وزادوا في الاستهزاء بقولهم {الوعد} وألهبوا وهيجوا إيضاحاً للتكذيب على زعمهم بقولهم: {إن كنتم} جبلة وطبعاً {صادقين *} في أنه لا بد لنا منه، وأنكم مقربون عند الله، فلو كان لهم ثبات الصبر واليقين لما طاشوا هذا الطيش بإبراز هذا القول القبيح الذي ظاهره طلب الإخبار بوقت الأمر المتوعد به، وباطنه الاستعجال به استهزاء وتكذيباً.

ولما كان قولهم هذا مع أنه استعجال بأمر الساعة استهانة بها حتى أنه عندهم كأنها من قبل الوعد الحسن وهو متضمن لإيهام أنها مما يطلع الخلق على تعيين وقته، نفى ذلك بياناً لعظمتها بعظمة من أمرها بيده فقال آمراً له بجوابهم مؤذناً بدون ذلك الإعراض لأنهم لا ينكرون علمه تعالى ذلك الإنكار:{قل} يا أكرم الخلق منبهاً لهم على تحصيل اليقين بأن ما علموه وحكموا بعلمهم فيه وما لا

ص: 263

ردوا علمه إلى الله: {إنما العلم} أي المحيط من جميع الوجوه بما سألتم عنه من تعيين زمان هذا الوعد وغيره، ولأجل إظهار فضل العلم اللازم من كماله تمام القدرة صرف القول عن عموم الرحمة إلى إفهام العموم المطلق بالاسم الأعظم فقيل:{عند الله} أي الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال، فهو الذي يكون عنده وبيده جميع ما يراد منه، لا يطلع عليه غيره، وهيبته تمنع العالم بما له من العظمة أن يجترىء على سؤاله عما لم يأذن فيه، وعظمته تقتضي الاستئثار بالأمور العظام، وإلى ذلك يلوح قوله تعالى:{وإنما أنا} ولما كان السياق للتهويل والتخويف، وكانت النذارة يكفي فيها تجويز وقوع المنذور به فكيف إذا كان مظنوناً فكيف إذ كان معلوم الوقوع في الجملة ليكون العاقل متوقعاً له في كل وقت قال:{نذير} أي كامل في أمر النذارة التي يلزم منها البشارة لمن أطاع النذر لا وظيفة لي عند هذا الملك الأعظم غير ذلك، فلا وصول لي إلى سؤاله عما لا يأذن لي في السؤال عنه.

ولما كان النذير قد لا يقدر على إقامة الدليل على ما ينذر به لأنه يكفي العاقل في قبوله غلبة الظن بصدقه بل إمكان صدقه في التحرز

ص: 264

عما ينذر به، بين أنه ليس كذلك فقال:{مبين *} أي كاشف للنذري غاية الكشف بإقامة الأدلة عليها حتى تصير كأنها مشاهدة لمن له قبول للعلم.

ولما كان ما ينذر به لا بد من وقوعه، وكان كل آت قريباً، عبر عن ذلك بالفاء والماضي فقال صارفاً العقول إلى الإعراض لأن وقت الرؤية للعذاب في غاية المناسبة للإهانة:{فلما رأوه} أي الوعد بانكشاف الموعود به عند كونه، وحقق معنى الماضي والفاء بقوله:{زلفة} أي ذا قرب عظيم منهم، وذلك بالتعبير عن اسم الفاعل بالمصدر إبلاغاً في المعنى المراد وأكد المبالغة بالتاء لأنها ترد للمبالغة إذا لم يرد منها التأنيث، ولا سيما إن دلت قرينة أخرى على ذلك.

ولما كان المخوف في النذري الوقوع في السوء لا بقيد كونه من معين قال: {سيئت} ولما كان السوء يظهر في الوجه قال: {وجوه} وأظهر في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال: {الذين كفروا} أي ظهر السوء وغاية الكراهة في وجوه من أوقع هذا الوصف ولو على أدنى وجوه الإيقاع وعلتها الكآبة.

ولما كان لا أوجع من التبكيت عند إحاطة المكروه من غير حاجة إلى تعيين فاعله، بنى للمفعول قوله:{وقيل} أي لهم تقريعاً وتوبيخاً: {هذا الذي} أي تقدم من عنادكم ومكركم واستكباركم

ص: 265

{كنتم} أي جبلة وطبعاً {به} أي بسببه ومن أجله، وصرف القول إلى الخطاب لأن التقريع به أنكأ في العذاب:{تدعون *} أي تطلبون وتوقعون الطلب له طلباً شديداً تبلغون فيه غاية الجهد على وجه الاستعجال أن يستنزل بكم مكروهه فعل من لا يبالي به بوجه، وتكررون ذلك الطلب وتعودون إليه في كل وقت معرضين عن السعي في الخلاص فيه من عدوان العذاب ونيل الوعد الحسن بجزيل الثواب لبيان قوة طلبهم له وتداعيهم إليه استهزاء به حتى كأنهم لا مطلوب لهم غيره، قدم الجار المفيد غالباً للاختصاص فهو افتعال من دعا الشيء وبالشيء إذا طلبه، ودعاه الله بمكروه: أنزله به.

ص: 266

ولما كان من المعلوم أن من نهى آخر عن هواه وبالغ في ذلك أبغضه ذلك الناهي وتمنى هلاكه، فكيف إذا والى عليه الإنذار والتخويف بما لا يصل إلى دركه عقله ولا يرى له مقدمة بتحققها، وكان الكفار يسعون في هلاك النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه كل سعي، وكان هلاك النذير إنما ينفع المنذر على تقدير نجاته من

ص: 266

هول ما كان يحذره منه النذير، أمره سبحانه أن يذكرهم بهذا لينظروا في ذلك المتوعد به، فإن كان ممكناً سعوا في الخلاص مما قد يكون منه من العذاب، وسلكوا في الهرب منه مسلكاً سهلاً بعيداً من سوء الانقلاب، ودخلوا إلى فسيح المانع منه من أوسع باب، أو كفوا عن السعي في هلاك النذير وطووا ما مدوا له من الأسباب، ليدلهم إذا كان صادقاً على شيء يحميهم أو يخفف عنهم ذلك المصاب، فقال منبهاً على شدة الحذر من مكر الله وعدم الاغترار به للمؤمن الطائع لعلمه، أنه لا يقدر أن يقدر الله حق قدره فكيف بالعاصي فضلاً عن الكافر مكرراً للأمر بالقول تنبيهاً على أن كل جملة صدرت به كافية في الدلالة على مقصود السورة وعائدة إليه لما اشتملت عليه من باهر القدرة ووافر العظمة:{قل} أي يا أفضل الخلق كلهم وأشرفهم وأعظمهم وأتقاهم لهؤلاء الذين طال تضجرهم منك وهم يتمنون هلاكك حسداً منهم وعمى في قلوبهم وبعداً وطرداً، قد استحكم واستدار بهم ذلك تقدير العزيز العليم {أرءيتم} أي أخبروني خبراً أنتم في الوثوق به على ما هو كالرؤية.

ولما كانوا غير عالمين بعاقبة الأمر في هلاكه ومن معه بما يقصدونهم به، حذرهم عاقبة ذلك بالتعبير بأداة الشك، وإسناد الإهلاك

ص: 267

إلى الله معبراً عن الاسم الدال على تناهي العظمة إلى حد لا يدع لغيره منها شيئاً إعلاماً بأنه على القطع بأنه لا شيء في أيديهم فهو لا يخافهم بوجه فقال: {إن أهلكني} أي أماتني بعذاب أو غيره {الله} أي الذي له من صفات الجلال والإكرام ما يعصم به وليه ويقصم به عدوه {ومن معي} أي من المؤمنين والمناصرين رضي الله عنهم أجمعين بغضبه علينا مع ما لنا من الأسباب بالطاعة بالأعمال الصالحة التي رتب سبحانه عليها الفوز والنجاة حتى لا يبقى أحد ممن يكدر عليكم بالمنع من الهوى القائد إلى القوى والحث على العقل الضامن للنجاة {أو رحمنا} بالنصرة وإظهار الإسلام كما نرجو فأنجانا بذلك من كل سوء ووقانا كل محذور وأنالنا كل سرور، فالآية من الاحتباك: ذكر الإهلاك أولاً دليلاً على النجاة ثانياً، والرحمة ثانياً دليلاً على الغضب أولاً {فمن} وكان ظاهر الحال يقتضي: يجيركم مع طلبكم المسببات من الفوز والنجاة بغير أسباب بل بأسباب منافية للنجاة جالبة للعذاب، فوضع الظاهر موضع الضمير تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف واستعطافاً لهم إلى إيقاع الإيمان والرجوع عن الكفران فقال:{يجير الكافرين} أي العريقين في الكفر بأن

ص: 268

يدفع عنهم ما يدفع الجار عن جاره {من عذاب أليم *} يصيبهم به الذي هم عالمون بأنه لا شيء إلا بيده، وإلا لنجى أحد من الموت الذي خلقه وقدره بين عباده جزاء على ما كانوا يؤلمون من يدعوهم إليه وينصحهم فيه، فإذا كان لا ينجيهم من عذابه شيء سواء متنا أو بقينا فالذي ينبغي لهم إن كانوا عقلاء السعي فيما ينجى من عذابه، لا السعي في إهلاك من هو ساع في خلاصهم من العذاب، ولا يقدرون على إهلاكه أصلاً إلا بتقدير الذي أمره بإنذارهم.

ولما كان لا يقدر على التعميم بالنعمة إلا من كان عام القدرة والنعمة والرحمة، وكان التذكير بالنعم أشد استعطافاً، صرف القول إلى التعبير بما هو صريح في ذلك، فقال مذكراً بذلك لعلمهم بأنه لا نعمة عليهم إلا منه واعترافهم بذلك ليحذروه ويتذكروا عموم قدرته فيعلموا قدرته على البعث فينفصل النزاع:{قل} يا خير الخلق: {هو} أي الله وحده {الرحمن} أي الشامل الرحمة لكل ما تناولته الربوبية، فلا يليق بعقل عاقل أن يدع أحداً من خلقه في ظلم ظالمه فلا يأخذ له بحقه، لأن ذلك لا يرضاه أقل الناس لنفسه مع عجزه فكيف بمن هو كامل القدرة وإلا لما قدر على عموم الرحمة {آمنا به}

ص: 269

أي أنا ومن آمن بي لهذا البرهان القاطع بأنه لا يكافئه شيء فهو كاف في الإيمان به {وعليه} أي وحده {توكلنا} لأنه لا شيء في يد غيره وإلا لرحم من يريد عذابه أو عذاب من يريد رحمته، فكل ما جرى على أيدي خلقه من رحمة أو نقمة فهو الذي أجراه لأنه الفاعل بالذات، المستجمع لما يليق به من الصفات، فنحن نرجو خيره ولا نخاف غيره، وقد أقررنا له بهذه العبارة على وجه الحصر بالألوهية والربوبية فلا نحتج في السلوك إليه إلى معوق عن ذكره والتفكر في آلائه ولو كان المعوق نفيساً في ظاهر الحياة الدنيا ولو كان مخوفاً فإنه لا خوف معه سبحانه، فالتوكل عليه منجاة من كل هلكة مجلبة لكل ملكة، ولم يفعل كما تفعلون أنتم في توكلكم على رجالكم وجاهكم وأموالكم.

ولما أبان هذا طريق الصواب، وجلى كل ارتياب، وكان لا بد من الرجوع إليه والانقلاب، لإتمام الرحمة بالثواب والعقاب، سبب عنه قوله:{فستعلمون} أي عند التجلي عليكم بصفة القهر عما قليل بوعد لا خلف فيه {من هو} أي منا ومنكم متداع بذاته ظاهراً وباطناً

ص: 270

{في ضلال} أي أخذ في غير مسلك موصل إلى مقصد محيط به الضلال بحيث إنه لا قدرة له على الانفكاك منه إلا إن أطاع من يجره بيده فيخرجه منه، ولما كان الشيء إذا كان فيه نوع لبس كان ربما اقتضى قبول العذر قال:{مبين *} أي بين في نفسه موضح لكل أحد أنه لا خفاء به.

ولما افتتح سبحانه السورة بعظيم بركته وتمام قدرته وتفرده في مملكته، ودل على ذلك بتفرده بالإماتة والإحياء، ختم بمثل ذلك بالماء الذي وجوده هو سبب للحياة وعدمه سبب للموت، فقال قارعاً بالتنبيه مشيراً بتكرير الأمر إلى مزيد التوبيخ والزجر والتبكيت دالاً على تعيين ما أبهم من أهل الضلال، ومصرحاً بما لوح إليه من ذلك الإجمال. {قل} أي يا أعظم خلقنا وأعلمهم بنا:{أرءيتم} أي أخبروني إخباراً لا لبس فيه ولا خفاء، ولما كان شديد العناية بهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، سكن قلبه في وعيدهم بالإشارة إلى الرفق بهم لأجله، فابتدأ الوعيد بحرف الشك فقال:{إن} ولما كانت النعمة أشد ما يكون إذا كانت في الصباح الذي هو موضع ارتقاب الفلاح قال: {أصبح مآؤكم} أي الذي تعدونه في أيديكم - بما نبهت عليه الإضافة.

ولما كان المقصود المبالغة، جعله نفس المصدر فقال:{غوراً}

ص: 271

أي نازلاً في الأرض بحيث لا يمكن لكم نيله بنوع حيلة - بما دل على ذلك الوصف بالمصدر {فمن يأتيكم} على ضعفكم حينئذ وافتقاركم وانخلاع قلوبكم واضطراب أفكاركم {بماء معين *} أي جار دائماً لا ينقطع أو ظاهراً للأعين سهل المأخذ إلا الله رب العالمين فإنه هو القادر على ذلك، فقد رجع ذلك الآخر كما ترى على ذلك الأول، وعانقه على أحسن وجه وأكمل - والله أعلم.

سورة القلم

مقصودها إظهار ما استتر، وبيان ما أبهم في آية) فستعلمون من هو في ضلال مبين (بتعيين النهتدي الذي برهن على هدايته حيازته العلم الذي هو النور الأعظم الذي لا يضل بمصاحبته بتقبل القرآن والتخلق بالفرقان الذي هو صفة الرحمن بقدر الإمكان الذي تصل إليه قوة الإنسان، وأدل ما فيها على هذا الغرض " ن " وكذا " القم " فلذا سميت بكل منهما، وبالكلام على كل منهما يعرف ذلك، وحاصله أن النون مبين محيط يفيبيانه كما يحيط ضوء الشمس بما يظهره

ص: 272

وكما تحيط الدواة بمدادها بآية ما دل عليه بمخرجه وصفاته، واستقر الكلام الواقع فيها وفي المعهاني التي اشتركت في لفظه، وأمات القلم فإبانته للمعارف أمر لا ينكر) بسم الله (الذي له الإحاطة الكاملة فهو على كل شيء قدير لأنه بكل شيء عليم) الرحمن (الذي عمت نعمة إيجاده لأهل معاده البرئ منهم والسقيم) الرحيم (الذي أتم تلك النعمة على من وفقه لطاعته فألزمه الصراط المستقيم.

ص: 273

لما أبهم الضال والمهتدي في آخر «الملك» والمسيء والمحسن في العمل أولها، وختم بآية الماء المعين الذي دلت حروفه بمجموعها على تمام معناه، ودل كل واحد منها على شيء منه، فدلت ميمه على تمام شيء ظاهر، وعينه على آية هادية، وياؤه على قائم ملطف متنزل مع كل مقام، ونونه على مظهر مبين محيط بما أظهره، وردهم سبحانه إليه بعد شرادهم عنه بالاستفهام في هذه الآية بما نبههم عليه من عجزهم وعجز كل من يدعونه من دونه وأنه لا يقدر على الإتيان بذلك الماء الذي هو حياة الأشباح بعد ذهابه إلا من تمت قدرته، فكان قادراً على كل ما يريد، وكان لا يقدر على كل ما يريده إلا من كمل علمه الذي يحيي به ميت الأرواح، دل على شمول قدرته بكمال علمه بما أفاده على النبي الكريم الأمي من العلوم التي زخرت بحارها، فأحيا مدرارها،

ص: 273

وأغرق تيارها، فافتتح هذه السورة بكلمة البيان وهو اسم الحرف الذي هو آخر حروف تلك، ومن لوازم بعض ما دل عليه الماء الذي هو الحياة المصححة، ونبه على نصبه له سبحانه دليلاً على العلم بما دل عليه من مخرج مسماه وصفاته ومواقعه في الكلم في جميع تقلباته فقال:{ن} هذه الكلمة حرف من حروف المعجم وهي اسم لمسمى به ظهور الأشياء وعلمها وإدراكها كما دل عليه موقعه في اسم النور والنار والنيل والنمو والنباهة والنقاء والنصح والنبأ والنجابة والنجاة والنحت والندم، وقد تقدم في البقرة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: لكل كتاب سر وسر القرآن هذه الحروف، ولا يعلم ما هي إلا واضعها سبحانه.

ولما كان هذا الحرف مشتركاً في اللغة بين حرف المعجم والدواة والحوت وشفرة السيف، سكن للدلالة بادىء بدء على أنه حرف، ولا يمنع إسكانه المتأصل في البناء من إرادة بقية المعاني لأن العرب ربما سكنت الكلمة بنية الوقف تنبيهاً على عظمة معناها، فلا يلزم من الإسكان عن غير عامل البناء، وقيل: النون اللوح، والنونة الكلمة من الصواب، والسمكة، فهو صالح لحرف المعجم الكلي الصالح لكل فرد، وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أخر حروف الرحمن والدواة لما يتأثر عنها من العلوم، والحوت الذي على ظهره الكون

ص: 274

واسمه اليهموت لما في ذلك من عجائب القدر والأسرار، ويكون الإقسام وقع بالنون والقلم علواً للإحاطة، والسيف لما يتأثر عنه من جليل الآثار، وكيفما كان المراد فهو الإحاطة، وهو سر باطن لا يظهر، وإنما تظهر نتائجه، فهو الحكم ونتائجه القضاء والقدر بالإشقاء أو الإسعاد.

ولما كان هذا الحرف آية الكشف للأشياء كان مخرجه أمكن المخارج وأيسرها وأخفها وأوسعها وهو رأس المقول، فإنه يخرج مما بين طرف اللسان وفويق الثنايا من اللثة، وهو أخرج من مخرج اللام ومن مخرج الراء أيضاً، وتسمى هذه الحروف الثلاثة الزلقية مع بقية حروف «فر من لب» لأن طرف كل شيء زلقة، والنون أمكنها في هذا المخرج وأشدها انطباقاً فيما بين اللسان واللثة، وهو مما كرر مسماه في اسمه فانتهى إلى حيث ابتدأ، واختص بكون عماده وقوامه الحرف الأقوى الأظهر ذا الرفعة والعلو وهو الواو والزلقية التي هو أحدها ضد المصمتة وهي أخف الحروف على اللسان وأكثرها امتزاجاً بغيرها، وأما المصمتة فمنعت أن تنفرد بنفسها

ص: 275

في لغة العرب في كلمة هي أكثر من ثلاثة أحرف، بل لا بد أن يكون معها بعض الزلقية، والألف خارجة عن الصنفين لأنها مجرد إهواء لا مستقر لها، فقد ناسبت بمخرجها لسعته وخفته ووصفها بالزلاقة التي تقع لما اتصف بها من الحروف الكمال غنية عن سواها ولا يقع لما لم يخالطها كمال فيما ذكر ما ذكر من أن معناها البيان والإظهار ومن صفاتها الجهر وبين الشدة والرخاوة والانفتاح والاستفال، والغنة الخارجة من الخيشوم إذا سكن، وكل هذا واضح في العلم الذي له الاتساع والانتشار والتغلغل في الأشياء الباطنة، ويشاركه الميم في الغنة كما أنه يشاركه في أن له حظاً من الظهور والنون وهو الأصل في الغنة كما أنه الأصل في الظهور لما له من العلو بالعماد، وهو أيضاً من حروف الذبذبة والزيادة التي لا تستقر على حال فتقع مرة زوائد وأخرى أصولاً كما أن العلم أيضاً كذلك لا استقرار له بل مهما وسعته اتسع، ومهما تركته اضمحل وانجمع، وهو من حروف الأبدال التي تبدل من غيرها ولا يكون غيرها بدلاً منها فلازب ولازم الميم بدل من الباء بخلاف العكس كما أن العلم أصل يتبعه غيره ولا يكون هو تابعاً لغيره، وهو من الحروف الصحيحة وليست معتلة، والعلم جدير بهذا الوصف وهو إذا كان مخفي من الحروف المشربة ويقال

ص: 276

لها المخالطة - بكسر اللام وفتحها، وهي التي اتسعت فيها العرب فزادتها على التسعة والعشرين المستعملة وهي من الحروف الصم وهي ما عدا الحلقية، سميت بذلك لتمكنها في خروجها من الفم واستحكامها فيه، يقال للمحكم المصتم والعلم أشد ما يكون مناسبة لهذا الوصف، فقد انطبقت بمخرجها وجميع صفاتها على العلم الذي هو مقصود السورة فتبين حقاً أنه مقصودها، وأما رتبة القلم في بيان العلم وإظهاره وكشف خفاياه وأسراره وبثه وإشهاره فهي بحيث لا يجهلها أحد اتصف بالعقل، ومما يختص به هذا الحرف أنه يصحب كل حرف لأن حده هو ما يعبر عنه التنوين الذي انتظامه بالحركات هو ما آيته العلم المكمل به الحياة التي هي آية ما يعبر عنه هذه الحركات، فلما كانت هذه الحركات آية على ما هو الحياة كان التنوين عقبها آية على ما به كمال الحياة من العلم، وهو سبب لما به القيام من الظهور، ومن معناه اسمه تعالى النور، ثم هو اسم لكل ما يظهر ما خفي باطناً كالعلم في الإدراك الذي تظهر حقائق الأشياء به، وظاهراً كالنيرين للعيون، وسائر الأنوار الظاهرة والباطنة، وما هو وسيلة الظهور كالعيون مما

ص: 277

به تشاهد الأشياء ويظهر به صورها، والدواة التي منها مداد ما كتب بالقلم في العوالم أعلاها وأدناها وكل آلة يتوصل بها إلى إظهار صورة تكون تماماً كماء المزن الذي هو مداد كل شيء كوّن الله به الكائنات والبادئات «وجعلنا من الماء كل شيء حي» ومنه معنى النجم النباتي الذي هو للشجر بمنزلة الفول للبشر متلبساً بالنور - بالفتح - الذي فيه حظ من النور - بالضم - والذرء الذي هو ظاهر في نفسه مظهر لطرق الاهتداء، وكذلك الأمر في النار المخلصة من رتبة ظلمتها التي هي غايتها بالرماد، وابتداؤها بما يخرج منه من شجر وحديد وحجر.

ولما كان هذا الحرف اسماً لما به ظهور أمر لم يختص بشيء من المظهرات دون آخر بل شمل النور والحاسة والمراد والمادة، ولذلك كان مع الكاف الذي هو علم التكوين سبب ظهور كل شيء {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل: 40] ولصدقه على كل مظهر فسره ابن عباس رضي الله عنهما بالدواة ففسر بما يستمد منه القلم، وليلحظ موقعه في نجد فإنه اسم لما ارتفع من الأرض وظهر في نفسه وأظهر غيره، وفي نهود الجارية وهو ظهور نهدها، وفي النهب وهو ما أخذ أخذاً ظاهراً كما قال صلى الله عليه وسلم «ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم» وفي النفخ والنفع والنصر والنقر والنقب وما أشبهها فإنها كلها ظهور

ص: 278

وإظهار كالنم والمن والنمؤ ولأجل علوه واستبطانه وأنه استغراق المظهر المبين كانت إقامته يتعالى الألف وهو الواو وانتهاؤه إلى مثل ما بدأ به، ولكون الميم تماماً كان قوامه بمتنزل كالألف التي هي الياء في قولك ميم، ولرجوع الواو إلى علو الألف كان عمادها الألف في قولك «واو» وهذه الحروف الثلاثة ظاهرة في عالمين ظاهرهما المبدوء به وباطنهما المختوم به، فالنون الأولى يعبر بها عن نور الأبصار، والخاتمة يعبر بها عن نور القلب، ولما كان الهاء وتر الدال، وكان محيطاً باطناً غيباً وجب أن يكون محل تضعيفه بالياء محل محيط باطن نازل الرتبة في الغيب عن الهاء لوقوعه في رتب العشرات وهو النون، فكان ظاهراً بالإضافة إلى خفاء الهاء باطناً بالإضافة إلى ظهور الميم، فيكون بالنون ظهور الميم المعبر عن «الملك» الذي سبق في السورة الماضية كما كان شهادة الدال وثبوته بالهاء.

ولذلك انبنى تمام كل عمل على نور علم كما كان قوام ظاهر كل دال غير هاء، وكان النون مداداً لمثل العلم الذي يظهر صورها بسطر القلم حتى أن آية ما بطن منه فأظهره القلم هو ما بطن دون الأرض من النون الذي عليه الأرض

ص: 279

الذي أول ما يطعمه أهل الجنة زيادة كبده مع الثور الذي عليه الأرض أيضاً الذي يذبح لهم - على ما ورد في الخبر، وقابل استبطان النون في الأرض ظهور القاف على ظاهرها الذي هو جبل الزبرجد المحيط بالدنيا، وعن ذلك الاستيلاء على القلوب في الدنيا إنما يكون بالعلم الذي هو حقيقة نون كما أن الاستيلاء على الأجسام في ظاهر الدنيا إنما يكون بالقدرة التي هي حقيقة قاف على ما يظهر من إجالتي العلماء في النون الأبطن والملوك في القاف الأظهر، وهذان الصنفان من الخلق هما المستوليان على الناس بالأيالة ونفوذ الأمر، ولذلك أقيم المفصل من القرآن بحرفي قاف ونون، واقترن أيضاً هذان الحرفان في كلمة القرآن ولفظ الفرقان اللذين هما في ظواهر أسمائه، وإنما كان أول ما يطعمه أهل الجنة من الثور الذي عليه الدنيا الذي كان يرعى في أطراف الجنة - على ما ورد عنه عليه أفضل الصلاة والسلام، لأن صورة الثور هي معنى ما هو الكد والكدح وجهد العمل في الأرض الذي قام عليه أمر الدنيا، ولما كان أهل الدنيا أول ما يراحون منه من أمر الدنيا تقديم أمر الكد بين يدي معاشهم في الجنة، كان الذي يذبح لهم الثور الذي هو صورة كدهم فيأكلونه فهو جزاء ما عملوا به في دنياهم من حيث كانوا ذوي دين،

ص: 280

فاستحقوا بذلك جزاء كدهم بما هو صورته، وأضيف لذلك زيادة كبد النون التي هي صورة حظهم من أصل العلم فأطعموها وجوزوا بها، وروعي في أعمالهم حسن نيتهم في أصل دينهم، فلما أتوا عليهما استقبلوا الراحة والخروج عن الكلفة في معاشهم في الجنة، والذي جرهم به سبحانه إلى سني هذه الرتبة ما أتقنه بحكمته من ثناء المفصل القرآني على حرفي القاف الذي به القوة والقهر والقدرة، والنون الذي به إظهار ذلك للعقل بنور العلم، وذلك أن القرآن نزله سبحانه مثاني، ضمّن ما عدا المفصل منه الذي هو من قاف إلى خاتمة الكتاب العزيز، وفاتحته ما يختص بأولي العلم والفقه من مبسوطات الحكم ومحكمات الأحكام ومطولات الأقاصيص ومتشابه الآيات، والسور المفتتحة بالحروف العلية الإحاطة الغيبية المنحى المستندة إلى آحاد الأعداد مما يختص بعلم ظاهرها خاصة الأمة، ويختص بأمر باطنها آل محمد صلى الله عليه وسلم، فلعلو رتبة إيراد ما عدا المفصل ثنى الحق تعالى الخطاب وانتظمه في سور كثيرة العدد يسيرة عد الآي هي المفصل، ذكر فيها من أطراف القصص والمواعظ والأحكام والأنباء وأمر الجزاء ما يليق بسماع العامة ليسهل عليهم سماعه وليأخذوا

ص: 281

بحظ مما أخذ الخاصة، ويتكرر على أسماعهم في قراءة الأئمة له في الصلوات المفروضة التي لا مندوحة لهم عنها ما يكون لهم خلقاً مما يفوتهم من مضمون سائر السور المطولات، فكان أحق ما افتتح به مفصلهم حرف القاف الذي هو وتر الآحاد حتى صارت عشرة، ثم إذا ضربت في نفسها صارت مائة، فافتتح به المفصل، ليكون مضمون ما يحتوي عليه أظهر مما يحتوي عليه ما افتتح بآلم، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقرأ في خطبة الجمعة سورة «ق» فيفتتح للعامة المتوجه بخطبة يوم الجمعة إليهم لأنها صلاة جامعة الظاهر بفاتحة المفصل الخاص، وفي مضمونها من معنى القدرة والقهر المحتاج إليه في إقامة أمر العامة ما فيه كفاية، وشفعت بسورة «ن» المظهرة ظاهر «ق» فخصوا بما فيه القهر والإبانة، واختصت سورة «ن» من مقتضى العلم بما هو محيط بأمر العامة المنتهي إلى غاية الذكر الشامل للعالمين، لأن القوة المعربة عن العلم ربما كان ضررها أكثر من نفعها، كما قال بعض السلف: كل عز لم يوطده علم فإلى ذل يؤول، وكما كان جميع السور التسع والعشرين المفتتحة بالحروف المتضمنة للمراتب التسع في التسعة وللعاشر الجامع للمراتب التسع بإيتار آحادها والعاشر الجامع يضرب

ص: 282

العشر الموتر في نفسه قواماً وإحاطة في جميع القرآن كذلك كان سورة «ق» وسورة «ن» قواماً خاصاً وإحاطة خاصة بما يخص العامة من القرآن الذي يجمعهم الأرض بما أحاط من ظاهرها من صورة جبل «ق» وما أحاط بباطنها من صورة حيوان «ن» الذين تمام أمرهم بما بين مددي إقامتهما، وبهذه السورة المفتتحة بالحروف ظهر اختصاص القرآن وتميز عن سائر الكتب لتضمنه الإحاطة التي لا تكون إلا للخاتم الجامع، واقترن من التفصيل في سورها ما يليق بإحاطتها، ولإحاطة معانيها وإبهامها كان كل ما فسرت به من معنى يرجع إلى مقتضاها صحيحاً في إحاطتها بمتنزلها من أسماء الله وترتبها في جميع العوالم فلا يخطىء فيها مفسر لذلك لأنه كلما قصد وجهاً من التفسير لم يخرج عن إحاطة ما يقتضيه، ومهما فسرت به من أسماء الله أو من أسماء الملائكة أو من أسماء الأنبياء أو من مثل الأشياء أو صور الموجودات أو من أنها أقسام أقسم بها أو فواتح عرفت بها السور أو أعداد تدل على حوادث وحظوظ من ظاهر الأمر أو باطنه على اختلاف رتب وأحوال مما أعطيه المنزل عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 283

من مقدار أمد الخلافة والملك والسلطنة وما ينتهي إليه أمره من ظهور الهداية ونحو ذلك مما يحيط بأمد يومه إلى غير ذلك وكل داخل في إحاطتها، ولذلك أيضاً لا يختص بمحل مخصوص يلزمه علامة إعراب مخصوصة، فمهما قدر في مواقعها من هذه السورة جراً أو رفعاً أو نصباً فداخل في إحاطة رتبتها ولم يلزمها معنى خاص لما لم يكن لها انتظام، لأنها مستقلات محيطات، وإنما ينتظم ما يتم معنى كل واحد من المنتظمين بحصول الانتظام، وذلك يختص من الكلم بما يقصر عن إحاطة مضمون الحروف حتى أنه متى وقع استقلال وإحاطة في كلمة لم يقع فيها انتظام.

ولما كان قوام هذا الوجود بالسيف والقلم، وكان «نون» مشتركاً بين معان منها السيف والدواة التي هي آلة القلم، واللوح الذي هو محل ما يثبت من العلم، وكان السيف قد تقدم في حيز القاف الذي افتتحت به سورة «ق» كما هو أنسب لتضمنه القوة والقدرة والقهر في سورة الحديد بعد الوعظ والتهديد والتذكير بالنعم في

ص: 284

السورة الواقعة بينهما، ذكر هنا ما هو لحيز النون من آية العلم فقال مقسماً بعد حرف «ن» :{والقلم} أي قلم القدرة الذي هو أول ما أبدعه الله، ثم قال له: اكتب، فخط جميع الكائنات إلى يوم القيامة في اللوح المحفوظ حقيقة، وفي ألواح صفحات الكائنات حالاً ومجازاً، فأظهر جميع العلوم، ثم ختم على فيه فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة، والذي يكتب فيه الخلق ما نولهم الله من تلك المعارف والفهوم، وذلك هو قوام أمور الدنيا، والإشارة به إلى القضاء الذي هو من نتائج «ن» لأنه من مصنوعات الله الظاهرة التي اقتضت حكمته سبحانه إيجادها ووجهه إلى تفصيل ما جرى به الحكم.

ولما كان الحاصل بالقلم من بث الأخبار ونشر العلوم على تشعبها والأسرار ما يفوق الحصر، فصار كأنه العالم المطيق واللسن المنطيق، وكان المراد به الجنس أسند إليه كما يسند إلى العقلاء فقال:{وما يسطرون *} أي قلم القدرة، وجمعه وأجراه مجرى أولي العلم للتعظيم لأنه فعل أفعالهم، أو الأقلام على إرادة الجنس، ويجوز أن يكون الإسناد إلى الكاتبين به لما دل عليهم من ذكره، إما الملائكة إن كان المراد ما كتب في الكتاب المبين واللوح المحفوظ وغيره مما

ص: 285

يكتبونه، وإما كل من يكتب منهم ومن غيرهم حتى أصحاب الصحيفة الظالمة التي تقاسموا فيها على أن يقاطعوا بني هاشم ومن لافهم حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعون به ما شاؤوا، وكيف ما كان فهو إشارة إلى المقدر لأنه إنما يسطر ما قضى به وحكم.

ولما كان المخاطب بهذا صلى الله عليه وسلم قد عاشر المرسل إليهم دهراً طويلاً وزمناً مديداً أربعين سنة وهو أعلاهم قدراً وأطهرهم خلائق وأمتنهم عقلاً وأحكمهم رأياً وأرأفهم وأرفعهم عن شوائب الأدناس همة وأزكاهم نفساً بحيث إنه لا يدعى بينهم إلا بالأمين ولم يتجدد له شيء يستحق به أن يصفوه بسببه بالجنون الذي ينشأ عنه الضلال عن المقاصد المذكور آخر الملك في قوله

{فستعلمون من هو في ضلال مبين} [الملك: 29] إلا النعمة التي ما نال أحد قط مثلها في دهر من الدهور ولا عصر من الأعصار، قال مجيباً هذا القسم العظيم راداً عليهم بأجلى ما يكون وأدله على المراد تأنيساً له صلى الله عليه وسلم مما أوجب افتراؤهم عليه له من الوحشة وشرحاً

ص: 286

لصدره وتهدئة لسره: {ما أنت} أي يا أعلى المتأهلين لخطابنا {بنعمة} أي بسبب إنعام {ربك} المربي لك بمثل تلك الهمم العالية والسجايا الكاملة بأن خصك بالقرآن الذي هو جامع لكل علم وحكمة، وأكد النفي زيادة في شرفه صل الله عليه وسلم فقال:{بمجنون *} أي بل الذي وصفك بهذا هو الحقيق باسم الجنون ومعناه فضلاً عن الضلال الذي ردد في آخر تلك بينك وبينهم فيه سلوكاً لسبيل الإنصاف لينظروا في تلك بالأدلة فيعلموا ضلالهم وهدايتك بالدليل القطعي بالنظر في الآثار المظهرة لذلك غاية الإظهار، فنفى عنه صلى الله عليه وسلم الشقاوة التي سببها فساد العقل فثبتت السعادة التي سببها صلاح العقل ونعمة الرب له.

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تضمنت سورة الملك من عظيم البراهين ما يعجز العقول عن استيفاء الاعتبار ببعضه كالاعتبار بخلق السماوات في قوله تعالى {الذي خلق سبع سماوات طباقاً} [الملك 3] أي يطابق بعضها بعضاً من طابق النعل - إذا خصفها طبقاً على طبق، ويشعر هذا بتساويها في مساحة أقطارها ومقادير أجرامها - والله أعلم، ووقع الوصف

ص: 287

بالمصدر يشعر باستحكام مطابقة بعضها لبعض إنباء منه سبحانه وتعالى أنها من عظم أجرامها وتباعد أقطارها يطابق بعضها بعضاً من غير زيادة ولا نقص {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} [الملك: 3] أي من اختلاف واضطراب في الخلقة أو تناقض، إنما هي مستوية مستقيمة، وجيء بالظاهر في قوله تعالى {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} [الملك: 3] ولم يقل: ما ترى فيه من تفاوت - ليشعر أن جميع المخلوقات جار على هذا، كل شكل يناسب شكله، لا تفاوت في شيء من ذلك ولا اضطراب، فأعطى الظاهر من التعميم ما لم يكن يعطيه الإضمار كما أشعر خصوص اسم الرحمن بما في هذ الأدلة المبسوطة من الرحمة للخلائق لمن رزق الاعتبار، ثم نبه تعالى على ما يرفع الريب ويزيح الإشكال في ذلك فقال:{فارجع البصر} [الملك: 3] أي عاود الاعتبار وتأمل ما تشاهده من هذه المخلوقات حتى يصح عندك ما أخبرت به بالمعاينة ولا يبقى معك في ذلك شبهة

{هل ترى من فطور} [الملك: 3] أي من صدوع وشقوق، ثم أمر تعالى بتكرير البصر فيهن متصفحاً ومتمتعاً هل تجد عيباً أو خللاً {ينقلب إليك البصر خاسئاً} [الملك: 4] أي إنك إذا فعلت هذا رجع بصرك بعيداً عن إصابة الملتمس كأنه يطرد عن ذلك طرداً

ص: 288

بالصغار وبالإعياء وبالكلال لطول الإجابة والترديد، وأمر برجوع البصر ليكون في ذلك استجمامه واستعداده حتى لا يقع بالرجعة الأولى التي يمكن فيها الغفلة والذهول إلى أن يحسر بصره من طول المعاودة إذ معنى التثنية في قوله «كرتين» التكرير كقولهم: لبيك وسعديك فيحسر البصر من طول التكرار ولا يعثر على شيء من فطور، فلو لم تنطو السورة على غير ما وقع من أوله إلى هنا لكان في ذلك أعظم معتبر، وأوضح دليل لمن استبصر، إذ هذا الاعتبار بما ذكر من عمومه جار في كل المخلوقات ولا يستقل بفهم مجاريه إلا آحاد من العقلاء بعد التحريك والتنبيه، فشهادته بنبوة الآتي به قائمة واضحة، ثم قد تكررت في السورة دلالات كقوله {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح} [الملك: 5] وقوله {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} [الملك: 14] الآيات إلى آخر السورة، وأدناها كاف في الاعتبار فأنى يصدر بعض عن متصف ببعض ما هزئوا به في قولهم: مجنون وساحر وشاعر وكذاب، {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين: 14] فلعظيم ما انطوت عليه سورة الملك من البراهين اتبعت بتنزيه الآتي

ص: 289

بها محمد صلى الله عليه وسلم عما تقوله المبطلون مقسماً على ذلك زيادة في التعظيم، تأكياً في التعزير والتكرير فقال تعالى {ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون} [القلم: 1، 2] وأنى يصح من مجنون تصور بعض تلك البراهين قد انقطعت دونها أنظار العقلاء فكيف ببسطها وإيضاحها في نسق موجز، ونظم معجز، وتلاؤم يبهر العقول، وعبارة تفوق كل مقول، تعرف ولا تدرك، وتستوضح سبلها فلا تسلك {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله} [الإسراء: 88] فقوله سبحانه وتعالى {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} [القلم: 2] جواباً لقوله تعالى في آخر السورة إنه لمجنون، وتقدم الجواب بنفي قولهم والتنزيه عنه على حكاية قولهم ليكون أبلغ في إجلاله صلى الله عليه وسلم وأخف وقعاً عليه وأبسط لحاله في تلقي ذلك منهم، ولهذا قدم مدحه صلى الله عليه وسلم بما خص به من الخلق العظيم، فكان هذا أوقع في الإجلال من تقديم قولهم ثم رده إذ كسر سورة تلك المقالة الشنعاء بتقديم التنزيه عنها أتم في الغرض وأكمل، ولا موضع أليق بذكر تنزيهه عليه الصلاة والسلام، ووصفه من الخلق والمنح الكريمة بما وصف مما أعقب به ذلك إذ بعض ما تضمنته

ص: 290

سورة الملك بما تقدم الإيماء إليه شاهد قاطع لكل عاقل متصف بصحة نبوته صلى الله عليه وسلم وجليل صدقه

{ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء: 82] فقد تبين موقع هذه السورة هنا، وتلاؤم ما بعده من آيها يذكر في التفسير - انتهى.

ولما نفى سبحانه عنه صلى الله عليه وسلم ما قالوه مما تواقحوا به، فثبت له صلى الله عليه وسلم كمال العقل، وكان المجنون من لا يكون له عمل ينتظم ولا قول يرتبط، فلا يستعمله أحد في شيء ليكون له عليه أجر، أثبت له الأجر المستلزم للعقل فيتحقق إثباته من أحكم الحكماء على وجه أبلغ مما لو صرح به، فقال على وجه التأكيد لإنكارهم له بما ادعوا فيه من البهت:{وإن لك} أي على ما تحملت من أثقال النبوة وعلى صبرك عليهم بما يرمونك به وهو تسلية له صلى الله عليه وسلم {لأجراً} ولما أثبت له ما يلازم العقل ويصلح لأن يكون في الدنيا وأن يكون في الآخرة دالاً بتنوينه وما أفهمه السياق من مدحه صلى الله عليه وسلم على عظمته، وكان الأجر لا يستلزم الدوام، وقد يكون منغصاً بنوع منة قال:{غير ممنون *} أي مقطوع ولا منقوص في دنياك ولا في آخرتك ولا لأحد

ص: 291

من الناس عليك به صنيع يمتن به بأن يذكره على سبيل اللوم والتقريع، فهذا بيان السعادة، والأجر لا يكون إلا على العمل الصالح، والعمل رشح الأخلاق، فصالحه نتيجة الأخلاق الحسنة والعقل الراجح.

ولما ثبت بهذا العقل مع ما أفاده من الفضل، وكان الذي يؤجر قد يكون في أدنى رتب العقل، بين أنه صلى الله عليه وسلم في أعلاها بقوله مؤكداً لما مضى:{وإنك} وزاد في التأكيد لزيادتهم في المكابرة فقال: {لعلى خلق} ولما أفهم السياق التعظيم، صرح به فقال:{عظيم *} وهو الإسلام الذي دعا إليه القرآن لا بالبلاء ينحرف، ولا بالعطاء ينصرف، لأن خلقه - بشهادة أعرف الناس به زوجه أم المؤمنين الصديقة عائشة بنت الصديق أبي بكر رضي الله عنهما القرآن، فلا يتحرك ولا يسكن إلا بأمره ونهيه، فهذا الخلق نتيجة الهدى والهدى نتيجة العقل، وهو سبب السعادة، فأفهم ذلك عدم سعادتهم لعدم عقولهم، وقال الواسطي: أظهر الله قدرته في عيسى عليه السلام ونفاذه في آصف، وسخطه وقهره في

ص: 292

عصى موسى عليه الصلاة والسلام وأطهر أخلاقه ونعوته في محمد صلى الله عليه وسلم فكان متخلقاً بأخلاق الله تعالى والتخلق بأخلاقه أن ينزه علمه عن الجهل وجوده عن البخل وعدله عن الظلم وحلمه عن السفه، واعلم أن الخلق والخلق صورتان: الخلق صورة الظاهر، والخلق صورة الباطن؛ فتناسب الأعضاء الظاهرة يعبر به عن الخلق الحسن، وتناسب المعاني الباطنة يعبر به عن الخلق الحسن، ثم الخلق الحسن تارة مع الله، وتارة مع حكم الله، وتارة مع الخلق، فمع الله بالتعظيم والإجلال ومع حكمه بالصبر في الضراء والبأساء والشكر في الرخاء والامتثال للأوامر والانزجار عن النواهي عن طيب قلب مسارعة وسماحة، وحسن الخلق مع الخلق بث النصفة في المعاملة وحسن المجاملة في العشرة، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:

«الخلق وعاء الدين، لأن من الخلق يخرج الدين، وهو الخضوع والخشوع وبذل النفس لله واحتمال المكروه» .

ولما كان الإسلام أشرف الأديان، أعطاه الله تعالى أقوى الأخلاق وأشرفها وهو الحياء كما روي أن لكل دين خلقاً وخلق الإسلام الحياء، ومن الحياء حياة القلب، فكان صلى الله عليه وسلم يأخذ العفو

ص: 293

ويأمر بالعرف ويعرض عن الجاهلين ولا يجزي بالسيئة السيئة لكن يعفو ويصفح ويحسن مع ذلك ويجذب بردته حتى يؤثر في عنقه فيلتفت وهو يضحك ويقضي حاجة الجاذب ويحسن إليه، فقد اشتمل الكلام التدبيري المشار إليه بالنون والقضاء الكلي التأثيري المشار إليه بالقلم والقدر المبرم التفصيلي الواقع على وقف القضاء المشار إليه بالسطر، ومثال ذلك أن من أراد بناء دولاب احتاج أولاً إلى مهندس يدبر له بعلمه موضع البئر والمدار وموضع المحلة وموضع السهم وموضع الجداول، ونحو ذلك وهو الحكم التدبيري، ثانياً إلى صانع يحفر البئر ويبني ونجار يركب الأخشاب على وفق حكمة المهندس، وهو القضاء التأثيري، وثالثاً إلى إقامة الثور في موضعه ودوران المحلة بما عليها من القواديس وجري الماء في الجداول على وفق القضاء وهو القدر، ويحتاج رابعاً وخامساً إلى بيان انقسام المقدر له إلى شقي وسعيد، فالحكم باطن وهو سر من أسراره سبحانه وتعالى سبحان من لا يعلم قدره غيره.

ص: 294

ولما أقسم سبحانه على نفي ما بهتوه به ودل على ما وهبه من كمال العقل وتمام الشرف والنبل تصريحاً وتلويحاً فثبت غاية الثبات بأخبار العالم الحكيم، دل عليه بالمشاهدة على وجه هو من أعلام النبوة للحكم على المستقبل فقال مسبباً عن صادق هذا الإخبار:{فستبصر} أي ستعلم يا أعلى الخلق وأشرفهم وأكملهم عن قريب بوعد لا خلف فيه علماً أنت في تحققه كالمبصر بالحسن الباصر {ويبصرون *} أي يعلم الذين رموك بالبهتان علماً هو كذلك.

ص: 295

ولما كان صلى الله عليه وسلم هو ومن معه فريقاً والأعداء فريقاً، وقد أبهم آخر الملك الضال في الفريقين قال:{بأييكم} أي في أي فريقيكم {المفتون *} أي بالضلال والجنون حتى صد عن الهدى ودين الحق، أو بأيكم الفتنة بالجنون وغيره على أن يكون مصدر فتن، قال الرازي: مصدر مثل المفتون وهو الجنون بلغة قريش كما يقال: ما له معقول وليس له مجلود، أي عقل وجلادة.

ولما كان هذا إخباراً بجنونهم المستلزم لضلالهم على هذا الوجه المتصف، وكان مثل هذا قد يقع في محاورات الناس بضرب من الظن، استأنف تعالى ما هو كالتعليل لما أفاده السياق من هذا الحكم

ص: 295

عليهم إعلاماً بأنه ناشىء عن علم قطعي لا مرية فيه بوجه، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم لأن يكون الأمر على ما أفاده ما تقدم: إن ربك أي الذي رباك أحسن تربية وجبلك على أعظم الخلائق {هو} أي وحده {أعلم} أي من كل أحد لا سيما من يتحرض {بمن ضل} أي حار وجار وذهب وزل وضاع وغاب غيبة عظيمة لا يهتدي منها، وسلك غير سبيل القصد، وأخطأ موضع الرشد، معرضاً {عن سبيله} فكان أجن المجانين لأنه سبحانه وتعالى خالقهم، وشارعه «ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير» ولا سيما وهو الحي القيوم الذي لا يغفل {وهو} أي خاصة {أعلم بالمهتدين *} أي الثابتين على الهدى وهم أولو الأحلام والنهى، وهذا سر القدر الذي يقال: إنه إنما يظهر يوم الحاقة.

ولما كان من طبع البشر أن الحليم منهم الرزين إذا اشتد عليه الأذى ممن لم تجر العادة بأن مثله يطيق مثلهم قاربهم ولا يتهم فيما الخلاف بسببه بعض المقاربة، وكان سبب تلك المقاربة إنما هو عدم علمه بالعواقب، سبب سبحانه ما مضى من إعلامه

ص: 296

بحقائق الأمور وكشفه لمستورها قوله إلهاباً وتهييجاً على الثبات على معاصاتهم إعلاماً للضال بأماراته ليعلم المهتدي لأن الأمور تعلم بأضدادها. وهو خطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد أمته ليكون ذلك أبلغ في سماعهم: {فلا تطع} أي أيها المأمور بإنقاذهم من غوائل أهوائهم وأشراك أهلاكهم {المكذبين *} أي العريقين في التكذيب، قال الملوي: ولا يخفى أن كل كفر ظهر وكل ضلالة ظهرت، وكل بدعة وكل شر إنما كان سببه إفساد القوة العلمية والنطقية، وهو يكون بالتكذيب، ثم علل ذلك بما يكون مجموعه على وقوعه منهم من مدة طويلة وهم مستمرون عليه بقوله:{ودوا} أي أحبوا محبة عظيمة واسعة متجاوزة للحد قديماً مع الاستمرار على ذلك وأكد تهالكهم على هذه الودادة بما يفهم التمني وإن ذلك مستمر منهم لا أنه وقع ومضى، فقال مشيراً إلى إفسادهم القوة النطقية وخلق الشجاعة الغريزية:{لو تدهن} أي تلاين فتوافق على بعض

ص: 297

ما يريدون فتهادنهم على ترك نهيهم عن الشرك وترك التعرض لسب آلهتهم وتسفيه أحلامهم وتضليل آبائهم؛ قال ابن برجان: والأدهان ملاينة وانجرار بالباطل وإغماض عن الحق مع المعرفة بذلك - انتهى.

وهو من الدهن لأنه يلين ما يدهن به.

ولما كان من طبعهم أنهم كانوا يلينون له صلى الله عليه وسلم بعض الأوقات خداعاً كما قيل في سبب نزول «الكافرون» من أنهم قالوا له صلى الله عليه وسلم: تعالى فلنصطلح على أن نعبد إلهك سنه وتعبد آلهتنا سنة، ونحو هذا من الأباطيل حتى أنهم سجدوا وراءه صلى الله عليه وسلم لما تلا عليهم سورة النجم فسجد فيها فسجد وراءه الكفار والمؤمنون والجن والإنس حتى سمع المهاجرون إلى الحبشة وهم بالحبشة فرجع بعضهم ظناً منهم أنهم قد أسلموا فوجدوهم على أخبث ما كانوا عليه أولاً، قال سبحانه معرفاً بأن ذلك منهم خداع:{فيدهنون *} أي فبسبب ودادتهم أنك تدهن هم يدهنون، فهو عطف على «ودوا» لا جواب «لو» لأجل تنبيهه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ص: 298

على أن لينهم إنما هو خداع لم يرد به غير الفساد، وقد أخروا الإدهان وإن كانوا قديماً في وداده طمعاً في أن تبدأ به فيظهروه حينئذ، قال القشيري: من أصبح عليلاً تمنى أن يكون الناس كلهم مرضى.

ولما نهاه عن طاعة المكذب وعلله، وكان من الناس من يخفي تكذيبه، قال ناصباً علامات المكذب:{ولا تطع} أي في وقت من الأوقات منهم ولا من غيرهم {كل حلاف} أي مبالغ في الاجتراء على الأيمان وإن لم يظهر لك تكذيبه، وليس المراد النهي عن العموم بل عموم النهي، أي انته عن كل حلاف فالنهي أصل والكل وارد عليه، كما تقدم تخريج مثله في آخر البقرة في قوله تعالى {والله لا يحب كل كفار أثيم} [البقرة: 276] وهذه الأوصاف متفرخة من الكذب وخبث السجية، فهي كالتفصيل، فكثرة الحلف دالة على فساد القوة العلمية فنشأ عنها سقوط تعظيم الحق، فصار صاحبها لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، فلذلك يحلف صادقاً وكاذباً كيفما اتفق {مهين *} أي حقير ضعيف سافل الهمة والمروءة سافل الرأي، لأن الإنسان لا يكثر الحلف إلا وهو يتصور في نفسه أنه لا يصدق إلا بذلك، لأنه ليس له من المهابة عند من يحدثه والجلالة ما يصدقه

ص: 299

بسببه، وهو مؤثر للبطالة لما فيها من موافقة طبعه، وذلك هو الحقارة الكبرى.

ولما كان كل من اتصف بصفة، أحب أن يشاركه الناس فيها أو يقاربوه لا سيما إن كانت تلك الصفة دنية ليسلم من العيب أو الانفراد به ولأن الشيء لما داناه ألف قال:{هماز} أي كثير العيب للناس في غيبتهم، وقال الحسن: هو الذي يغمز بأخيه في المجلس، أي لأن الهمز العض والعصر والدفع - من المهماز الذي يطعن به في بطون الدواب، وهو مخصوص بالغيبة كما أن اللمز مخصوص بالمواجهة.

ولما كانت النميمة - وهي نقل الحديث على وجه السعاية - أشد الهمز أفاد أنه يفعله ولا يقتصر على مجرد النقل بل يسعى به إلى غيره وإن بعد فقال تعالى: {مشاء} أي كثير المشي {بنميم} أي ينقل ما قاله الإنسان في آخر وأذاعه سراً، لا يريد صاحبه إظهاره على وجه الإفساد للبين مبالغ في ذلك بغاية جهده.

ولما كان من كان هكذا يريد إعلاء نفسه بهضم الناس، وكان المنع لإرادة الاستئثار بالممنوع ليكون الغير محتاجاً إليه وعاكفاً عليه

ص: 300

لأن من طبعه أنه لا يرتبط إلا طمعاً لا شكراً بضد الجواد، فإنه يرفع نفسه عن المطامع، ولا يرتبط إلا شكراً على الصنائع فيجود ظناً منه أن الناس كذلك، قال:{مناع} أي كثير المنع شديده {للخير} أي كل خير من المال والإيمان وغيرهما من نفسه ومن غيره من الدين والدنيا - إلى غير ذلك.

ولما كان من يفعل هذه المخازي من الناس ويقتصر في الهمز والنم على الواقع، وفي المنع على ما له منعه - لئيماً، بين أنه لا يقنع بذلك، بل زاد عليه ببذل الجهد فيما يصير به ألأم فقال:{معتد} أي ثابت التجاوز للحدود في كل ذلك {أثيم *} أي مبالغ في ارتكاب ما يوجب الإثم فيترك الطيبات ويأخذ الخبائث ويرغب في المعاصي ويتطلبها، ويدع الطاعات ويزهد فيها.

ص: 301

ولما كان كل من يتصف بهذه الدنايا التي من شأنها إبعاد الناس عنه ونفرتهم منه يسعى في سترها إن كان عاقلاً بلين وتواضع

ص: 301

وخداع وسهولة انقياد، بين أن هذا على غير ذلك فقال منبهاً على هذا بالبعدية:{عتل} أي أكول شديد الخصومة جاف غليظ في خلقه وخلقه ثقيل مر، كأنه قطعة جبل قد انقطع عن سائره لا ينجر إلى خير إلا بعسر وصعوبة وعنف، من عتله - إذا قاده بغلظة، فهو في غاية ما يكون من يبس الطباع وعدم الطواعية في الخير والانطباع، قال الرازي: وسئل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عن العتل - فقال: «هو الشديد الخلق الرحيب الجوف الأكول الشروب الظلوم» ونبه سبحانه على ثباته في تلك المخازي الموجب لاستغراق أوقاته وأحواله بها بنزع الخافض فقال: {بعد ذلك} الخلق الجدير بتكلف الإبعاد عنه الذي تجمع من هذه الأوصاف التي بلغت نهاية القباحة حتى صارت كأنها خلق واحد ثابت راسخ لا حيلة له في مداواته، وعلى ذلك نبه قوله:{زنيم *} أي صارت له علامة سوء وشر وثناء قبيح ولأمة بينة ومعرفة يعرف بها كما تعرف الشاة بزنمتها. وهي الجلدة التي تكون تحت حلقها مدلاة تنوس، والعبد بمعايبه وسفساف أخلاقه، وقيل: هو الذي يتشبه بقوم وليس منهم في شيء، ولا يخلو التعبير به من إشارة إلى أنه دعي ليس ثابت النسب

ص: 302

إلى من ينتسب إليه، ليكون منقطعاً عن كل خير وإن كان ينسب إلى آباء كرام، أخذاً من زنمة البعير، وهي جلدة تقطع من أذنه فتترك معلقة، ولا يفعل ذلك إلا بكرام الإبل، وهذه الأفعال كلها تنافي الشجاعة المقتضية لإحسان صاحبها إلى كل أحد وأن لا يحسب له حساباً ولا يوصل إليه أذى إلا بعد ظهور شره فيعامله حينئذ بحسب العدل بما لا يرزىء بالمروءة والمشار إليه بهذا مع إرادة العموم قيل: الوليد بن المغيرة، وقيل: الأخنس بن شريق، وقيل: الأسود بن عبد يغوث، وقال ابن قتيبة: لا نعلم أن الله تعالى وصف أحداً ولا ذكر من عيوبه ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة.

ولما كان حطام هذه الدنيا كله عرضاً فانياً وظلاً متقلصاً زائلاً، لا يفتخر به بل ولا يلتفت إليه إلا من كان بهذه الأوصاف، فإذا كان أكبر همه ومبلغ علمه أثمر له الترفع على الحقوق والتكبر على العباد قال:{أن} أي لأجل أن {كان} هذا الموصوف {ذا مال} أي مذكور بالكثرة {وبنين *} أنعمنا عليه بهما فصار يطاع لأجلهما،

ص: 303

فكان بحيث يجب عليه شكرنا بسببهما {إذا تتلى} أي تذكر على سبيل المتابعة {عليه} ولو كان ذلك على سبيل الخصوص له {آياتنا} أي العلامات الدالة دلالة في غاية الظهور على الملك الأعلى وعلى ما له من صفات العظمة {قال} أي فاجأ هذا القول من غير تأمل ولا توقف عوضاً عن الشكر، ف «إن» مع جاره متعلق بما دل عليه الكلام نحو كذب لأجل كونه متمكناً، ولا يتعلق بقال لأنه جزاء الشرط، ويجوز أن يتعلق بلا تطع أي لا توجد طاعته لأجل إن كان كذا، وقرىء بالكسر على أنها شرطية، فيكون النهي عن طاعته لعلة الغنى مفهماً للنهي عن طاعته عند الوصف بغيره من باب الأولى كالتعليل بإملاق في الوأد:{أساطير} جمع سطور جمع سطر {الأولين *} أي أشياء سطروها ودونوها، وفرغوا منها فحمله دنيء طبعه على تكبره بالمال فورطه في التكذيب بأعظم ما يمكن سماعه فجعل الكفر موضع الشكر ولم يستح من كونه يعرف كذبه كل من يسمعه، فأعرض عن الشكر ووضع موضعه الكفر، فكان هذا دليلاً على جميع تلك الصفات السابقة مع التعليل بالإسناد إلى ما هو عند العاقل أوهم وأوهى من بيت

ص: 304

العنكبوت، والاستناد إليه وحده كاف في الاتصاف بالرسوخ في الدناءة، ولا يعمل في «أن قال» بل ما دل عليه لأن ما في حيز الشرط لا يعمل فيما قبله.

ولما كان هذا المكذور قد أغرق في الشر فتوقع السامع جزاءه، قال معلماً أنه يجعل له من الخزي والفضائح ما يصير به شهرة بين الخلائق في الدنيا والآخرة:{سنسمه} أي نجعل ما يلحق به من العار في الدارين كالوسم الذي لا ينمحي أثره، تقول العرب: وسمه ميسم سوء.

ولما كان الوسم منكئاً، وكان جعله في موضع لا يستر أنكأ، وكان الوجه أشرف ما في الإنسان، وكان أظهر ما فيه وأكرمه الأنف، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية واشتقوا منه الأنفة قال:{على الخرطوم *} أي الأنف الطويل جميعه وما قاربه من الحنكين وسماً مستعلياً عليه بوضوح جداً ليكون هتكة بين الناس وفضيحة لقومه وذلاً وعاراً، وكذا كان لعمري له بهذا الذكر الشنيع والذنب القبيح من الكفر وما معه، وسيكون له يوم الجمع الأعظم ما هو أشنع من هذا على أنه قد حقق في الدنيا هذا الخطم حساً بأنه ضرب يوم بدر ضربة

ص: 305

خطمت أنفه - قاله ابن عباس رضي الله عنهما، والتعبير عن الأنف بهذا للاستهانة والاستخفاف.

ولما ذكر في أول الملك أنه خلق الموت والحياة للابتلاء في الأعمال، وختم هنا بعيب من يغتر بالمال والبنين وهو يعلم أن الموت وراءه، أعاد ذكر الابتلاء وأكده لأن أعمالهم مع العلم بأنه عرض زائل أعمال من ظن الملك الثابت والتصرف التام، فقال:{إن بلوناهم} أي عاملنا - على ما لنا من العظمة - الذين نسمهم على الخراطيم من قريش وسائر عبادنا بما وسعنا عليهم به معاملة المختبر مع علمنا بالظاهر والباطن، فغرهم ذلك وظنوا أنهم أحباب، ومن قترنا عليه من أوليائنا أعداء، فاستهانوا بهم، ونسبوهم لأجل تقللهم في الدنيا إلى السفه والجنون والضلال والفتون، فيوشك أن نأخذهم بغتة كما فعلنا بأصحاب الجنة، فكل من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ابتلى به، فإن آمن كان ممن أحسن عملاً، وإلا كان ممن أساء.

ص: 306

ولما لم تعرف عامة أهل مكة نعمة الله عليهم به صلى الله عليه وسلم، أخرجه الله عنهم وأكرمه بأنصار جعله أكرم الكرامات لهم، وكل من سمع به ولم يؤمن فهو كذلك، تكون أعماله كهذه الجنة يظنها شيئاً فتخونه أحوج ما يكون إليها، أو كان ابتلاؤنا لهم بالقحط الذي دعا عليهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكلوا الجيف فما تابوا كما تاب {كما بلونا} أي اختبرنا بأن عاملنا معاملة المختبر مع علمنا بالظاهر والباطن، وحاصله أنه استخرج ما في البواطن ليعلمه العباد في عالم الشهادة كما يعلمه الخالق في عالم الغيب، أو أنه كناية عن الجزاء {أصحاب الجنة} عرفها لأنها كانت شهيرة عندهم وهي بستان عظيم كان دون صنعاء بفرسخين، يقال له الضروان، يطؤه أهل الطريق، كان صاحبه ينادي الفقراء وقت الصرام، ويترك لهم ما أخطأ المنجل أو ألقته الريح أو بعد عن البساط الذي يبسط تحت النخلة، فلما مات شح بنوه بذلك فحلفوا على أن يجذوها قبل الشمس حتى لا يأتي الفقراء إلا بعد فراغهم، وذلك معنى قوله تعالى:{إذ} أي حين {أقسموا} ودل على تأكيد القسم فقال: {ليصرمنها} عبر به عن الجذاذ بدلالته على القطع البائن المعزوم عليه المستأصل المانع للفقراء

ص: 307

ليكون قطعاً من كل وجه، من الصريم - لعود يعرض على فم الجدي لئلا يرضع، ومن الصرماء: المفازة لا ماء بها، والناقة القليلة اللبن {مصبحين *} أي داخلين في أول وقت الصباح {ولا} أي والحال أنهم لا {يستثنون *} أي لا يطلبون ولا يوجدون ثنياً - أي عوداً - إلى ما قبل اليمين بقولهم «إن شاء الله» أو غير ذلك من الألفاظ الموجبة لأن يكون شيء من جنتهم مطلقاً غير ممنوع، وسمي ذلك استثناء لأنه إخراج لشيء يكون حكمه غير المذكور أولاً، وكان الأصل فيه: إلا أن يشاء الله، وألحق به إن شاء الله لرجوعه إليه في اتحاد الحكم {فطاف} أي فتسبب عن عملهم هذا الطامح أن طاف {عليها} أي جنتهم {طائف} أي عذاب مهلك محيط مع أنه أمر يسير جداً عند الله وإن كان عظيماً بالنسبة إليها لأنه لم يدع منها شيئاً، ولا يكون الطائف بهذا المعنى إلا بالليل، كذا قيل، ويرده

{إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا} [الأعراف: 201] .

ولما كان هذا مقتاً في الصورة أخبر بأنه لطف وتربية في المعنى بقوله: {من ربك} أي المعروف بالعظمة التي لا تحد وبالإحسان إليك فهو جدير بأن يؤدب قومك ليقبلوا منك كما أدب أصحاب الجنة بما أوجب توبتهم وهو الحقيق بتربية العباد يعقلوا عنك ويكونوا

ص: 308

خليقين بالتجنب للدنيا والإقبال على المعالي {وهم} أي والحال أن أصحاب الجنة المقسمين {نائمون *} وقت إرسال الطائف {فأصبحت} أي فتسبب عن هذا الطائف الذي أرسله القادر الذي لا يغفل ولا ينام على مآل من لا يزال أسير العجز والنوم فعلاً أو قوة أن صارت جنتهم وقت اجتنائهم لها بالغد وسرورهم بها {كالصريم *} أي كالأشجار التي صرم عنها ثمرها أو كالشيء الذي انقطع ما بينه وبين قاصده فلا وصول إليه بوجه، وقيل: كالليل المظلم الأسود، وقيل: كالرماد الأسود، ليس بها ثمرة، لأن ذلك الطائف أتلفها لم يدع فيها شيئاً، لأنهم طلبوا الكل فلم يزكوه بما يمنع عنه الطوارق بضد ما كان لأبيهم من ثمرة عمله الصالح من الدفع عن ماله والبركة في جميع أحواله.

ص: 309

ولما كانوا لقوة عزمهم على ما أقسموا عليه كأنهم كانوا على ميعاد، سبب عنه قوله:{فتنادوا} أي كانوا كأنهم نادى كل منهم الآخر {مصبحين *} أي في حال أول دخولهم في الإصباح، وفسر التنادي بقوله:{أن اغدوا} أي بكروا جداً مقبلين ومستولين وقادرين {على حرثكم} أي محل فائدتكم الذي أصلحتموه وتعبتم فيه فلا يستحقه غيركم، فكأنهم استبطؤوا قيامهم وغدوهم فكفوا عنه بقوله:

ص: 309

{إن كنتم} أي اليوم كوناً هو لكم بغاية الرغبة {صارمين *} أي جاذين جذاذاً ليسلم لكم من غير مشاركة أحد لكم كما تواثقتم عليه، أو جازمين بما عزمتم عليه، وعبر عن إسراعهم إلى الذهاب بقوله:{فانطلقوا} أي بسبب هذا الحث وعقبه كأنهم كانوا متهيئين {وهم} أي والحال أنهم {يتخافتون *} أي يقولون في حال انطلاقهم قولاً هو في غاية السر كأنهم ذاهبون إلى سرقة من دار هي في غاية الحراسة، من الخفوت وهو الخمود، ثم فسر ما يتخافتون به بقوله:{أن لا يدخلنها} وأكدوه لأنه لا يصدق أن أحداً يصل إلى هذه الوقاحة وصلابة الوجه وأن جذاذاً يخلو من سائل.

ولما كانت العادة قاضية بأنه لا بد أن ينسى الإنسان شيئاً أو يقفل باباً أو ثغرة يدخل منه وبسببه فقير قالوا: {اليوم} أي في جميع النهار - بما دل عليه نزع الخافض - لتكروا عليه مراراً وتفتشوا فلا تدعوا فيه ثمرة واحدة ولا موضعاً يطمع بسببه أحد في قصدكم {عليكم} أي وأنتم بها {مسكين *} وهو نهي للمسكين في اللفظ للمبالغة في نهي أنفسهم أن لا يدعوه يدخل عليهم، فقال لهم أوسطهم سناً وخيرهم نفساً وأعدلهم طبعاً بما دل عليه ما يأتي: لا تقولوا هكذا واصنعوا من الإحسان ما كان يصنع أبوكم، وكأنه طواه سبحانه لأنه مع الدلالة

ص: 310

عليه بما يأتي لم يؤثر شيئاً، وأكد كون انطلاقهم حال الإصباح بقوله:{وغدوا} أي ساروا إليها غدوة {على حرد} لا غيره وهو القصد وشدة الغضب مع الجزم بالأمر واللجاج فيه والسرعة والنكد بالمنع وقلة الخير، من حاردت السنة أي لم يكن فيها مطر، والإبل: منعت درها، وحرد - إذا أسرع {قادرين *} عند أنفسهم وفي زعمهم بدليل عدم استثنائهم فإن الجزم على الفعل في المستقبل فضلاً عن أن يكون مع الخلف فعل من لا كفؤ له، ودل على قربها من منزلهم بالفاء فقال:{فلما رأوها} أي بعد سير يسير وليس للزرع ولا للثمر بها أثر {قالوا} لأنها صارت لسوء حالها من ذلك الطائف بعيدة من حال ما كانت عليه عند تباعدهم وتغيير نياتهم فأدهشهم منظرها وحيرهم خبرها، وأكدوا لأن ضلالهم لا يصدق مع قرب عهدهم بها وكثرة ملابستهم لها وقوة معرفتهم بها فقالوا:{إنا لضالون *} أي عن طريق جنتنا لأن هذه لا تشبهها بوجه فيما كان فيه بالأمس من النضارة وشدة الحمل وحسن الهيئة.

ولما انجلى ما أدهشهم في الحال قالوا مضربين عن الضلال: {بل نحن محرومون *} أي ثابت حرماننا مما كان فيها من الخير الذي لا نغيب عنها إلا سواد الليل فحرمنا الله إياها بما عزمنا عليه من حرمان

ص: 311

المساكين لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

وما كان القرع بالمصائب مظنة الرقة والتوبة لمن أريد به الخير، وزيادة الكفر لغيره، استأنف قوله:{قال أوسطهم} أي رأياً وعقلاً وسناً ورئاسة وفضلاً، منكراً عليهم:{ألم أقل لكم} أن ما فعلتموه لا ينبغي، وأن الله سبحانه وتعالى بالمرصاد لمن غير ما في نفسه وحاد.

ولما كان منع الخير ولا سيما في مثل هذا مستلزماً لظن النقص في الله تعالى إما بأنه سبحانه لا يخلف ما حصل التصدق به وإما أنه لا يقدر على إهلاك ما شح الإنسان به، قال مستأنفاً:{لولا} أي هلا ولم لا {تسبحون *} أي توقعون التنزيه لله سبحانه وتعالى عما أوهمه فعلكم، وأقل التسبيح الاستثناء عند الإقسام شكاً في قدرة الإنسان وإثباتاً لقدرة الملك الديان استحضاراً لعظمته سبحانه وتعالى، ودل سياق الكلام على أنهم كانوا متهيئين للتوبة بقوله:{قالوا} من غير تلعثم بما عاد عليهم من بركة أبيهم فقال سبحانه

ص: 312

حاكياً عن قولهم: {سبحان ربنا} أي تنزه المحسن إلينا التنزيه الأعظم عن أن يكون وقع منه فيما فعل بنا ظلم، وأكدوا قباحة فعلهم هضماً لأنفسهم وخضوعاً لربهم وتحقيقاً لتوبتهم لأن ما كانوا عليه من الحال يقتضي أن لا يصدق رجوعهم عنه بقولهم:{إنا كنا} أي بما في جبلاتنا من الفساد {ظالمين *} أي راسخين في إيقاعنا الأشياء في غير مواقعها حيث لم نعزم عزماً جازماً على ما كان يفعل أبونا من البر، ثم حيت حلفنا على ترك ذلك ثم حيث لم نرد الأمر إلى الله بالاستثناء حيث حلفنا فإن الاستثناء تنزيه الله عن أن يجري في ملكه ما لا يريد، وأكد توبتهم بقوله مسبباً عن اعترافهم بالظلم:{فأقبل بعضهم} أي في حال مبادرتهم إلى الخضوع {على بعض} ودلت التسوية بين فريقيهم في اللفظ على الاستواء في التوبة {يتلاومون *} أي يفعل كل منهم مع الآخر في اللوم على ما قصده من المنع وترك ما تركوه من الإعطاء والدفع ما يفعله الآخر معه، وينسب النقصان إليه كما هو دأب المغلوبين العجزة.

ص: 313

ولما تشوف السامع إلى معرفة بعض ذلك قال: {قالوا} منادين لما شغلهم قربه منهم وملازمته عن كل شيء: {يا ويلنا}

ص: 313

أي هذا وقت حضورك أيها الويل إيانا ومنادتك لنا فإنه لا نديم لنا إلا أنت، والويل هو الهلاك والإشراف عليه.

ولما كان أهل الرذالة ينكرون أن يكون من يمنع الفقراء طاغياً، أكدوا قولهم:{إنا كنا} أي جبلة وطبعاً {طاغين *} أي مجاوزين الحدود فيما فعلنا من التقاسم على منع الفقراء وعلى جذها في الصباح من غير استثناء فعل القادر، وكان ذلك إن كان لا بد لنا منه ممكناً بغير قسم ولا إخفاء من الغير ولا مخافتة حال السير بأن يقال للفقراء: يفتح الله، ونحو ذلك من الكلام.

ولما قدموا ما هو أنفع لهم من اللوم المتقضي لإجماعهم على التوبة فعلم بذلك الندم الذي هو أمارة التوبة، استأنفوا جواباً لمن سأل: هل اقتصروا على التلاوم؟ قولهم: {عسى} أي يمكن أن يكون وهو جدير وخليق بأن يكون {ربنا} أي الذي أحسن إلينا بتربية هذه الجنة وبإهلاك ثمرها الآن تأديباً لنا {أن يبدلنا} أي من جنتنا شيئاً {خيراً منها} يقيم لنا أمر معاشنا فتنقلب أحوالنا هذه التي نحن فيها من الهموم والبذاذة بسرور ولذاذة بما أفاده إيقاع الفعل على ضميرهم، وقراءة أبي عمرو ونافع بالتشديد وقراءة الباقين بالتخفيف وهما

ص: 314

متقاربتان غير أن التشديد يدل على التدريج، فالتخفيف أبلغ معنى: وإنما تعلق رجاؤنا بسبب توبتنا وعلمنا بأن ربنا قادر على ما يريد، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.

ولما دل هذا الدعاء على إقبالهم على الله وحده صرحوا وأكدوا لأن حالهم الأول كان حال من ينكر منه مثل ذلك فقالوا معللين: {إنا} ولما كان المقام للتوبة والرجوع عن الحوبة، عبروا بأداة الانتهاء إشارة إلى بعدهم عن الحضرات الربانية تأدباً منهم فقالوا:{إلى ربنا} أي المحسن إلينا والمربي لنا بالإيجاد ثم الإبقاء خاصة لا إلى غيره سبحانه {راغبون *} أي ثابتة رغبتنا ورجاؤنا الخير والإكرام بعد العفو، وقد قيل إن الله تعالى جلت قدرته قبل رجوعهم وأخلف عليهم فأبدلهم جنة يقال لها الحيوان بحيث كان القطف الواحد منها يحمله وحده من كبره البغل - رواه البغوي عن ابن مسعود، ولكن لما كان المقام لترهيب من ركن إلى ماله واحتقر الضعفاء من عباد الله ولم يجلهم بجلاله طواه، وذكر ما صور هذا الكلام وأنتجه من مساواة حال قريش وحال هؤلاء في الإحسان وطول الحلم مع احتقار أوليائه والتقوى عليهم بأفضاله ونعمائه، فقال مرهباً:{كذلك} أي مثل هذا الذي بلونا به أصحاب الجنة من إهلاك ما كانوا

ص: 315

عند أنفسهم في غاية القدرة عليه والثقة به مع الاستحسان منهم لفعلهم والاستصواب وهددنا به أهل مكة فلم يبادروا إلى المتاب: {العذاب} الذي تحذرهم منه وتخوفهم به في الدنيا، فإذا تم الأجل الذي قدرناه له أخذناهم به غير مستعجلين ولا مفرطين لأنه لا يعجل إلا ناقص يخاف الفوت.

ولما كانوا منكرين لأمور الآخرة أشد من إنكارهم لأمور الدنيا أكد قوله: {ولعذاب الآخرة} أي الذي يكون فيها للعصاة والجبارين {أكبر} أي في كل ما يتوهمونه.

ولما كان هذا موجباً لمن له أدنى شعور للهروب منه قال: {لو كانوا} أي الكفار {يعلمون *} أي لو كان لهم علم بشيء من غرائزهم في وقت من الأوقات لرجعوا عما هم فيه مما عرفوا أنه يغضب الله فيكون سبب العذاب في الدارين، وهم مع ذلك مما يرزىء بهم عند الله وعند الناس من تلك الآثار الخبيثة التي منها الأيمان الكاذبة، ويدل على عدم شجاعتهم وقلة عقولهم، لكنهم ليس لهم نوع علم الآن، والمختوم بموته على الكفر لا يتجدد له نوع علم، وغيره سيرجع في الوقت الذي قدره الله له.

ص: 316

ولما ذكر ما لأهل الجمود الذين لا يجوزون الممكنات، ذكر أضدادهم فقال مؤكداً لأجل إنكارهم:{إن للمتقين} أي العريقين في صفة التقوى خاصة دون غيرهم ممن لا يتقي، والتقوى: الاحتراز بالوقاء الحامل عليه الخوف من المؤذي، الحامل عليه تجويز الممكنات، قال الملوي: وأصلها أن الفرس الواقي - وهو الموجوع الحافي - لا يضع حافره حتى يرى هل الموضع لين يناسب، وكذا المتقي لا يتحرك ولا يسكن إلا على بصيرة من رضا الله بذلك، فلا يفعل أحد منهم شيئاً من تلك الآثار الخبيثة التي تقدمت للمكذبين، فحازوا الكمال بصلاح القوة العملية الناشىء عن صلاح القوة العلمية، وزاد في الترغيب إشارة إلى جنة القلب وبسط الروح بقوله:{عند ربهم} أي المحسن إليهم في موضع ندم أولئك وخيبة آمالهم، فإن تقريبهم دل على رضاه سبحانه، ورضا صاحب الدار مطلوب قبل نظر الدار، ولما أشار إلى جنة القلب أتبعها جنة القالب فقال تعالى:{جنات} جمع جنة وهي لغة البستان الجامع، وفي عرف الشرع مكان اجتمع فيه جميع السرور وانتفى منه جميع الشرور {النعيم *} وهو الخالص من المكدر والمشوش والمنغص، لا شيء فيها غيره أصلاً - بما أفادته الإضافة.

ولما كان عدم إيراث كل من الفريقين الدار التي تقدم وصفها

ص: 317

تسوية بين المحسن والمسيء، وكان ذلك لا يليق بحكيم أن يفعله، وجب إنكاره لتحقق أن ما أخبر به سبحانه لا يكون إلا كذلك لا سيما وقد كان الكفار يقولون: إنهم كالمسلمين أو أحسن حالاً منهم، وذلك أنه إن كان لا بعث، كما كانوا يظنون، فقد استووا فيما بعده مع ما فضلوهم به في الدنيا من اتباع الأهواء والظفر باللذائذ، وإن كان ثم بعث فقد كانوا يقولون لشبهة دعتهم إليها شهوتهم: أما نكون على تقديره أحسن حالاً منكم وآثر عند الله في حسن العيش كما نحن في هذه الدار لأنه ما بسط لنا في هذه الدار إلا ونحن عنده أفضل منكم، فقال تعالى منكراً ومكذباً لذلك غاية إنكار والتكذيب عائباً التحكم بالجهل غاية العيب نافياً للمساواة ليكون انتقاماً هو أعلى من باب الأولى مسبباً عما تقديره: ولا يكون لغير المتقين ذلك: {أفنجعل المسلمين} أي الذين هم عريقون في الانقياد لأوامرنا والصلة لما أمرنا بوصله طلباً لمرضاتنا فلا اختيار لهم معنا في نفس ولا غيرها لحسن جبلاتهم {كالمجرمين *} أي الراسخين في قطع ما أمرنا به أن يوصل وأنتم لا تقرون مثل ذلك، بل من عاندكم نوع معاندة قاطعتموه ولو وصل الأمر إلى القتل.

ص: 318

ولما كشف هذا الدليل الشبه ورفع الستار، فأوصل إلى أعظم من ضوء النهار، لفت القول إليهم بالخطاب لفت المغضب عند العتاب، فقال معجباً منهم منبهاً على ما هم فيه من اعوجاج الفطر وفساد الفكر منكراً عليهم غاية الإنكار:{ما لكم} أي أيّ شيء يحصل لكم من هذه الأحكام الجائرة البعيدة عن الصواب.

ولما نبههم على أنه ليس لهم في مثل هذه الأحكام شيء يمكن أن يكون نافعاً، وكان العاقل إذا علم أن شيئاً من الأشياء لا نفع فيه بعد منه، أنكر عليهم ثالثاً حال أحكامهم هذه لأن نفي أحوالها أشد لنفيها كما تقدم في {كيف تكفرون} في [البقرة: 28] فقال: {كيف تحكمون *} أي أيّ عقل دعاكم إلى هذا الحكم الذي يتضمن التسوية من السيد بين المحسن من عبيده والمسيء.

ولما كان الحكم لا يمكن وجوده إلا مكيفاً بكيفية، وكان سبحانه وتعالى قد نفى حكمهم هذا بإنكار جميع كيفياته التي يمكن أن يصح معها، وكان الحكم الصحيح لا بد وأن يكون مستنداً إلى عقل أو نقل، زاد بطلان حكمهم وضوحاً بنفي الأمرين معاً، فقال عاطفاً

ص: 319

على ما تقديره: ألكم دليل من العقل إليه تلجؤون: {أم لكم كتاب} أي سماوي معروف أنه من عند الله خاص بكم {فيه} أي لا في غيره من أساطير الأولين وزبر الممحوقين {تدرسون *} أي تقرؤون قراءة أتقنتم مخالطتها أو أنعمتم فهمه بسببها.

ولما ذكر الدرس ذكر المدروس فقال تعالى: {إن لكم} أي خاصة على وجه التأكيد الذي لا رخصة في تركه {فيه} أي الكتاب لتكونوا في غاية الوثوق به، لا في غيره مما لا وثوق لكم به {لما تخيرون *} أي تبالغون في انتقائه وأخذ خياره، وكسر الهمزة وكان حقها الفتح لولا اللام لأن ما بعدها هو المدروس، ويجوز أن تكون الجملة حكاية للمدروس وأن تكون استئنافية.

ص: 320

ولما نفى دليل العقل والنقل مع التعجب منهم والتهكم بهم، وكان قد بقي أن الإنسان ربما عاهد غيره على شيء فيلزمه الوفاء به وإن كان خارجاً عما يدعو إليه العقل والنقل، نفى ذلك بقوله:{أم لكم أيمان} أي غليظة جداً {علينا} قد حملتمونا إياها {بالغة} أي

ص: 320

لأجل عظمها إلى نهاية رتب التأكيد بحيث يكون بلوغ غيرها ما يقصد بالنسبة إلى بلوغها ذلك عدماً أي أن بلوغها هو البلوغ لا غيره، أو ثباتها منته {إلى يوم القيامة} لا يمكن الخروج عن عهدتها إلا في ذلك اليوم ليحتاج لأجلها إلى إكرامكم في الدارين.

ولما ذكر ذلك القسم بالأيمان ذكر المقسم عليه فقال: {إن لكم} أي خاصة دون المسلمين {لما تحكمون *} أي تفعلونه فعل الحاكم الذي يلزم قوله لعلو أمره على وجه التأكيد الذي لا مندوحة عنه فتحكمون لأنفسكم بما تريدون من الخير.

ولما عجب منهم وتهكم بهم، ذيل ذلك بتهكم أعلى منه يكشف عوارهم غاية الكشف وينزل بهم أشد الحتف، فقال مخوفاً لهم بالإعراض:{سلهم} أي يا أيها الرسول الذي محت دلائله بقوة أنوارها الأنوار.

ولما كان السؤال سبباً لحصول العلم علقت، «سل» على مطلوبها الثاني وكان حقه أن يعدى بعن فقال:{أيهم بذلك} أي الأمر العظيم من المعاهدة والدليل النقلي والعقلي {زعيم *} أي كفيل وضامن أو سيد أو رئيس أو متكلم بحق أو باطل لتلزمه في ادعائه صحة ذلك

ص: 321

ما تدعه به ضحكة للعباد، وأعجوبة للحاضر منهم والباد، فلم يجسر لما تعلمون من حقية هذا القرآن وما لأقوالهم كلها من العراقة في البطلان أحد منهم على شدة عداوتهم ومحبتهم للمغالبة وشماختهم أن يبرز لادعاء ذلك، ولما نفى أن يكون لهم منه سبحانه في تسويتهم بالمسلمين دليل عقلي أو نقلي أو عهد وثيق على هذا الترتيب المحكم والمنهاج الأقوم، أتبعه ما يكون من عند غيره إن كان ثم غير على ما ادعوا فقال:{أم لهم شركاء} أي شرعوا لهم من الدين أمراً ووعدوهم بشيء أقاموا عليه من الأدلة ما أقمنا لنبينا صلى الله عليه وسلم {فليأتوا بشركائهم} أي بأقوالهم وأفعالهم كما أتينا نحن في نصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الأمرين معاً بما لا شبهة فيه، وسجل عليهم بالكتاب ملهباً مهيجاً بما يحرق به أكبادهم ولا يقدرون على دفعه بوجه، فيكون ذلك أعظم دليل على إبطالهم: فقال: {إن كانوا} أي جبلة وطبعاً {صادقين *} أي عريقين في هذا الوصف كما يدعونه، ولما نفى جميع شبههم التي يمكن أن يتشبثوا بها مع البيان لقدرته على ما يريد من تفتيق الأدلة وتشقيق البراهين الدال على تمام العلم اللازم منه كمال القدرة فأوصلهم من وضوح الأمر إلى حد لم يبق معه إلا العناد، أتبع ذلك تهديدهم بما يثبت ذلك قدرته عليه من يوم الفصل ومعاملتهم

ص: 322

فيه بالعدل فقال: {يوم} يجوز أن يكون بياناً ليوم القيامة، وبنى لإضافته إلى الجملة وأن يكون ظرفاً ليأتوا، أو منصوباً بما أخذ من معنى الكلام من نحو: سيعلمون ما يلقون من غب هذه المعاملات وإن نالوا في هذه الدار جميع اللذات في جميع اليوم الذي {يكشف} أي يحصل الكشف فيه، وبني للمفعول لأن المخيف وقوع الكشف الذي هو كناية عن تفاقم الأمور وخروجها عن حد الطوق، لا كونه من معين، مع أن من المعلوم أنه لا فاعل هناك غيره سبحانه {عن ساق} أي يشتد فيه الأمر غاية الاشتداد لأن من اشتد عليه الأمر وجد في فصله شمر عن ساقه لأجله وشمرت حرمه عن سوقهن غير محتشمات هرباً، فهو كناية عن هذا ولذلك نكره تهويلاً له وتعظيماً، نقل هذا التأويل عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير رضي الله عنه وغيرهما، وعن انكشاف جميع الحقائق وظهور الجلائل فيه والدقائق من الأهوال وغيرها كما كشفت هذه الآيات جميع الشبه وتركت السامع لها في مثل ضوء النهار، وفي الجزء الخامس والثلاثين من مسند أبي يعلى الموصلي عن أبي بردة عن أبيه رضي الله عنه تعالى عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا قال:

«عن نور عظيم يخرون له سجداً» وهو لا ينافي ما ذكر من التأويلين: الشدة والكشف. ولما كان هذا الكشف الذي كشف لهم المعاني في هذا القرآن إنما هو لأجل العبادة التي هي الخضوع الذي يعبر عنه بالسجود وهو

ص: 323

آيتها وأمارة ما اشتمل عليه الباطن منها وعلامتها فيأتونها وهم قادرون عليها ذكرهم يوماً يريدونها فيه فلا يتأتى لهم تنديماً لهم وزيادة تحسير وإظهار تظليل وتخسير لأن ظهورهم وأعضاءهم تكون طبقاً واحداً لا تنثني، فكلما أرادوا أن يسجدوا انقلبوا على أقفائهم، فقال بانياً للمفعول دلالة على إرادتهم للانقياد ورغبتهم فيه من أي داع كان، وهو دال على أن التكليف لا ينقطع إلا بدخول كل من الفريقين داره و {يدعون} أي من داعي الملك الديان {إلى السجود} توبيخاً على تركه الآن وتنديماً وتعنيفاً لا تعبداً وتكليفاً فيريدونه ليضروا أنفسهم مما يرون من المخاوف {فلا} أي فيتسبب عن ذلك أنهم لا {يستطيعون *} أي لأنهم غير سالمين لا أعضاء لهم تنقاد به مع شدة معالجتهم لأنفسهم على أن تطوع لهم أعضاؤهم بما تفهمه هذه الصيغة من أن الإنسان منهم إذا أراد الفعل وعالجة بقوة فلم يطقه فإن ظهورهم تكون على حالة لا تنثني معها بل كان فيها السفافيد فيكون لهم في ذلك أشد ندم لتركهم إياه في الدنيا وهم يقدرون عليه وهو إذ ذاك نافع لهم ومعالجتهم فعله أشد معالجة وهم غير قادرين عليه وهو غير نافع لهم وإذا عجزوا مع المعالجة كانوا بدونها أعجز، وذلك أنه يبعث المرء على ما مات عليه ويحشر على ما بعث عليه إن خيراً فخيراً وإن شراً فشر، ولما كان ربما ظن ظان أن المانع لهم الكبر كما في هذه الدنيا، قال مبيناً لنفي الكبر في

ص: 324

مثل هذا اليوم العظيم {خاشعة} أي مخبتة متواضعة {أبصارهم} لأن ما في القلب يعرف في العين، وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم ووجوههم أضوأ من الشمس، ووجوه الكافرين والمنافقين سود مظلمة.

ولما كان الخاشع لذلك قد يكون خشوعه لخير عنده حمله على ذلك مع العز قال: {ترهقهم} أي تغشاهم وتقهرهم {ذلة} أي عظيمة لأنهم استعملوا الأعضاء التي أعطاهموها سبحانه وتعالى ليتقربوا بها إليه في دار العمل في التمتع بما يبعد منه.

ولما دلت هذه العبارة مطابقة لما ورد في الحديث الصحيح على أن من كان في قلبه مرض في الدنيا يصير ظهره طبقاً واحداً فقارة واحدة فيعالج السجود فيصير كلما أراده انقلب لقفاه، عجب منهم في ملازمة الظلم الذي هو إيقاع الشيء في غير موقعه فقال:{وقد} أي والحال أنهم {كانوا} أي دائماً بالخطاب الثابت {يدعون} في الدنيا من كل داع يدعو إلينا {إلى السجود وهم} أي فيأبونه والحال أنهم {سالمون *} أي فهم مستطيعون، ليس في أعضائهم ما يمنع من ذلك، وإنما يمنعهم منه الشماخة والكبر، فالآية من الاحتباك: ذكر عدم الاستطاعة أولاً دال على حذف الاستطاعة ثانياً، وذكر السلامة ثانياً دال على حذف عدم السلامة أولاً.

ص: 325

ولما علم بهذا أنه سبحانه المتصرف وحده بما يشاء كيف يشاء من المنع والتمكين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجد من تكذيبهم له - مع إتيانه بما لا يحتمل التكذيب بوجه - من المشقة ما لا يعلم مقداره إلا الله سبحانه وتعالى، وكان علم المغموم بأن له منقذاً يخفف عنه، وكان علمه باقتداره على ما يراد منه أقر لعينه سبب عن كمال اقتداره قوله مخففاً عنه عليه أفضل الصلاة والسلام، لافتاً القول إلى التكلم بالإفراد تنصيصاً على المراد زيادة في تسكين القلب وشرح الصدر:{فذرني} أي اتركني على أي حالة اتفقت {ومن يكذب} أي يوقع التكذيب لمن يتلو ما جددت إنزاله من كلامي القديم على أي حالة كان إيقاعه، وأفرد الضمير نصاً على تهديد كل واحد من المكذبين:{بهذا الحديث} أي بسببه أي خل بيني وبينهم وكل أمرهم إليَّ ولا تكترث بشيء منه أصلاً فإني أكفيكهم لأنه لا مانع منهم فلا تهتم بهم أصلاً.

ولما كان كأنه قيل: وماذا تعمل فيه إذا خليت بينك وبينه؟

ص: 326

أجابه بقوله جامعاً الضمير ليكون الواحد مهدداً من باب الأولى: {سنستدرجهم} أي فنأخذهم بعظمتنا عما قليل على غرة بوعد لا خلف فيه وندنيهم إلى الهلاك درجة درجة بواسطة من شئنا من جنودنا وبغير واسطة بما نواتر عليهم من النعم التي توجب عليهم الشكر فيجعلونها سبباً لزيادة الكفر فنوجب لهم النقم. ولما كان أخذ الإنسان من مأمنه على حالة غفلة بتوريطه في أسباب الهلاك لا يحس بالهلاك إلا وهو لا يقدر على التفصي فيها بوجه قال تعالى: {من حيث} أي من جهات {لا يعلمون *} أي لا يتجدد لهم علم ما في وقت من الأوقات بغوائلها، وذلك أنه سبحانه يغرهم بالإمهال ولا يعاجلهم بالعقاب في وقت المخالفة كما يتفق لمن يراد به الخير فيستيقظ بل يمهلهم ويمدهم بالنعم حتى يزول عنهم خاطر التذكر فيكونوا منعمين في الظاهر مستدرجين في الحقيقة فيقولون: قد قلتم: إن القدر فائض عن القضاء وأن الأعمال قضاء وجزاءها قدر، ويقولون: إن أفعالنا في الدنيا قبيبحة ونحن لا نرى جزاءها إلا ما يسرنا لولا يعذبنا الله بما نقول فأنتم كاذبون في توعدنا فإنا كلما أحدثنا ما تسمونه معصية تجددت لنا نعمة، وذلك كما قادهم إلى تدريجهم

ص: 327

وهم في غاية الرغبة، قال القشيري: والاستدراج أن يريد السيىء ويطوي عن صاحبه وجه القصد حتى يأخذه بغتة فيدرج إليه شيئاً بعد شيء.

ولما كان الاستدراج يكون بأسباب كثيرة من بسط النعم وغيرها، فأبرزه بالنون المشتركة بين الاستتباع والعظمة، وكان تأخير الأجل لا يكون إلا لله وحده بغير واسطة شيء قال سبحانه:{وأملي} أي أوخر أنا وحدي في آجالهم وأوسع لهم في جميع تمتعهم ليزدادوا إثماً {لهم} لأنه لا يقدر على مد الأجل وترفيه العيش غيري.

ولما سلاه صلى الله عليه وسلم بهذا غاية التسلية، علل أو استأنف في جواب من لعله يقول: لم يكون أحدهم على هذا الوجه؟ مسمياً إنعامه كيداً: {إن كيدي} أي ستري لأسباب الهلاك عمن أريد إهلاكه وإبدائي ذلك له في ملابس الإحسان وخلع البر والامتنان {متين *} أي في غاية القوة حيث كان حاملاً للإنسان على إهلاك نفسه باختياره وسيعلم عند الأخذ أني لما أمهلته ما أهملته وأن

ص: 328

إمهالي إنما كان استدراجاً.

ولما كان هذا القرآن أعظم إحسان، ساقه سبحانه وتعالى إليهم فكان موجباً للشكر عليهم للذي أنزله ولإكرام الآتي به، فكان سبباً لمباشرتهم من التكذيب به والأذى للآتي به إليهم ما يوجب أخذهم، قال دالاً على متانة كيده سبحانه ودقة استدراجه عاطفاً على ما تقديره لبيان أنهم يباشرون ما يهلكهم باختيارهم من غير موجب: أكان تكذيبهم هذا الذكر لشيء فيه يرتابون؟ قوله منكراً عليهم، مبيناً أن تكذيبهم إنما هو لأنه طبع وخبث سجية لا شهوة لهم فيه ولا شبهة:{أم تسئلهم} أنت يا أعف الخلق وأعلاهم همماً {أجراً} على إبلاغك إياهم {فهم} أي فتسبب عن ذلك وتعقب أنهم {من مغرم} كلفتهم به فهم لشدته {مثقلون *} أي واقع إثقالهم به حتى أوجب لهم ذلك الغرم الناقص لأموالهم التقاعد عن التصديق بما جئت به إليهم من عندنا فصاروا يشتهون إقلاعك عنه.

ولما نفى أن يكون تكذيبهم بشهوة دعتهم إلى ذلك نفى أن يكون لهم في ذلك شبهة من شك في الذكر أو حيف في المذكر

ص: 329

وأن يكونوا على ثقة أو ظن من سلامة العاقبة فقال: {أم عندهم} أي خاصة {الغيب} أي علموه من اللوح المحفوظ أو غيره {فهم} بسبب ذلك {يكتبون *} أي ما يريدون منه ليكونوا قد اطلعوا على أن هذا الذكر ليس من عند الله أو على أنهم لا درك عليهم في التكذيب به، فقد علم بهذا أنه لا شهوة لهم في ذلك عادية ولا شبهة، وإنما تكذيبهم مجرد خبث طباع، وظلمة نفوس وأمالي فارغة وأطماع.

ولما انتفى جميع ذلك فثبت أنهم على خطر عظيم، وأنه سبحانه المختص بعلم الغيب، وقد أخبر بإهلاكهم من أجله صلى الله عليه وسلم، وأن كفر من كفر وإيمان من آمن بقضائه وتقديره، فكان لا بد منهما، كان ذلك سبباً حاملاً له على الصبر إلى الوقت الذي ضربه سبحانه للفرج، فقال مسبباً عما تقديره: لم يكن له شيء مما ذكر، وإنما هو القضاء والقدر:{فاصبر} أي أوفر الصبر وأوجده على كل ما يقولون فيك وعلى غير ذلك من كل ما يقع منهم ومن غيره من مر القضاء والقدر {لحكم ربك} أي للقضاء الذي قضاه وقدره

ص: 330

المحسن إليك الذي أكرمك بما أكرمك به من الرسالة وألزمك بما ألزمك من البلاغ وخذلهم بالتكذيب ومد لهم على ذلك في الآجال وأوسع عليهم النعم وأخر ما وعدك به من النصر.

ولما كان حاصل قصة يونس - على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام - أنه استثقل الكرامة بالرسالة لما فيها من الأمور الشديدة من معالجة الخلق فامتحن، كان سبباً لقبوله ذلك، ثم كان سبب إسلام قومه إدناء العذاب منهم وتقريب غشيانه لهم، أشار له بقصته إلى أنه يراد إعلاؤه صلى الله عليه وسلم وعلى سائر الأنبياء - وإعلاء أمته على سائر الأمم بما يحتاج إلى صبر على ما يستثقل من ضر أو أمر شديد مر فقال:{ولا تكن} أي ولا يكن حالك في الضجر والعجلة إلى غير ذلك. ولما كان قد افتتح السورة بالنون الذي من مدلولاته الحوت، عبر به هنا تحقيقاً لإرادته فقال:{كصاحب} أي كحال صاحب {الحوت} وهو يونس بن متى عليه الصلاة والسلام {إذ} أي حين، والعامل في هذا الظرف المضاف المحذوف من الحال ونحوها، أو يكون التقدير: لا يكن حالك كحاله يحصل لك مثل ما حصل له حين {نادى} أي ربه

ص: 331

المربي له بإحاسنه في الظلمات من بطن الحوت وظلمة ما يحيط به من الجثة وظلمة لحج البحار {وهو} أي والحال أنه عند ندائه {مكظوم *} أي مملوء كرباً وهماً وشدة وغماً محمول على السكوت ببطنه فهو لا ينطق من شدة حزنه، ومحبوس عن جميع ما يريد من التصرف إلى أن ألجأه سبحانه بذلك إلى الدعاء والتضرع، من الكظم، وهو السكوت عن امتلاء وتجرع للمرارات، ومن هذا كظمت السقاء أي شددته وملأته فكان مكظوماً، والمكظوم: المكروب - كأنه قد أخذ بكظمه وهو مخرج نفسه.

ص: 332

ولما تشوف السامع إلى ما كان من أمره بعد هذا الأمر العجيب قال: {لولا أن} وعظم الإحسان بالتذكير وصيغة التفاعل فقال: {تداركه} أي أدركه إدراكاً عظيماً كان كلاًّ من النعمة والمنة يريد أن تدرك الآخر {نعمة} أي عظيمة جداً {من ربه} أي الذي أرسله وأحسن إليه بإرساله وتهذيبه للرسالة والتوبة عليه والرحمة له {لنبذ} أي لولا هذه الحالة السنية التي أنعم الله عليه بها لطرح طرحاً هيناً جداً {بالعراء} أي الأرض القفر التي لا بناء فيها ولا نبات، البعيدة من الإنس حين طرح فيها كما حكم بذلك من

ص: 332

الأزل {وهو} أي والحال أنه {مذموم *} أي ملوم على الذنب، ولما كان التقدير: ولكنه تداركه بالنعمة فلم يكن في نبذه ملوماً، سبب عنه قوله:{فاجتباه} أي اختاره لرسالته {ربه} ثم سبب عن اجتبائه قوله: {فجعله من الصالحين *} أي الذين رسخوا في رتبة الصلاح فصلحوا في أنفسهم للنبوة والرسالة وصلح بهم غيرهم، فنبذ بالعراء وهو محمود، ومن صبر أعظم من صبره كان أعظم أجراً من أجره، وأنت كذلك فأنت أشرف العاملين والعالمين.

ولما نهاه صلى الله عليه وسلم عن طاعة المكذبين وحذره إدهانهم وضرب لهم الأمثال، وتوعدهم إلى أن قال:{ذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم} وختم بقصة يونس عليه السلام للتدريب على الصبر وعدم الضعف ولو بالصغو إلى المدهن، فكان التقدير تسبيباً عما فيها من النهي: فإنهم إنما يبالغون في أذاك لتضجر فتترك ما أنت فيه، قال عاطفاً على هذا المقدر مخبراً له بما في صدورهم من الإحن عليه وفي قلوبهم من الضغائن له ليشتد حذره من إدهانهم، مؤكداً لأن من يرى إدهانهم يظن إذعانهم وينكر لمبالغتهم فيه طغيانهم:

ص: 333

{وإن} أي وإنه {يكاد} وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال: {الذين كفروا} أي ستروا ما قدروا عليه مما جئت به من الدلائل.

ولما كانت «ن» مخففة، أتى باللام التي هي علمها فقال:{ليزلقونك} أي من شدة عداوتهم وحسدهم وغيظ قلوبهم {بأبصارهم} أي يوجدون لك التنحية عما أنت فيه والزلل العظيم الذي صاحبه في موضع دحض لا مستمسك فيه بالهلاك فما دونه من الأذى حتى يرموك من قامتك إلى الأرض كما يزلق الإنسان فينطرح لما يتراءى في عيونهم حين تصويب النظر للفطن من الحنق والسخط الدال على أن صدورهم تغلي، وهو من قولهم: نظر إليّ نظراً كاد يصرعني، يعني لو أمكنه أن يصرعني به لصرعني كما قال تعالى {يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا} [الحج: 72] وقيل: يهلكونك بإصابة العين، قال القشيري: كانوا إذا أرادوا أن يصيبوا شيئاً بأعينهم جاعوا ثلاثة أيام ثم نظروا إلى ذلك الشيء وقال: ما أحسنه من شيء، فيسقط المنظور إليه في الوقت، ففعلوا ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: ما أنصحه من رجل، فحفظه الله منهم، وللشيخين عن أبي هريرة

ص: 334

رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«العين حق» وفي رواية عند أحمد وابن ماجة: «يحضر بها الشيطان وحسد ابن آدم» ولأحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما رفعه: «العين حق ولو أن شيئاً سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا» ولأبي نعيم في الحلية من حديث جابر رضي الله عنه رفعه: «العين حق تدخل الجمل القدر والرجل القبر» ولأبي داود من حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها: «وإنها لتدرك الفارس فتدعثره» .

ولما ذكر هذا الإزلاق العظيم، ذكر ظرفه معبراً بالماضي تذكيراً بالحال الماضية فقال:{لما سمعوا الذكر} أي القرآن الذي غلب عليه التذكير بأمور يعليها كل أحد من نفسه، ومن الآفاق كان هواياه أول ما سمعوه حسداً على ما أوتيت من الشرف فكان سماعهم له باعثاً لما عندهم من البغض والحسد على أنه لم يزدهم تمادي الزمان إلا حنقاً بدلالة {ويقولون} أي قولاً لا يزالون يجددونه.

ولما كان صلى الله عليه وسلم في غاية البعد عما يشين، أكدوا قولهم:{إنه لمجنون *} حيرة في أمرك وتنفيراً عنك لما يعلمون من أنه لا يسمعه أحد لا غرض له إلا كذبهم ومال بكليته إليك وكان

ص: 335

معك وارتبط بك واغتبط بما جئت به، وعن الحسن أن قراءة هذه الآية دواء للإصابة بالعين.

ولما كان معنى قولهم هذا أن ما يقوله تخاليط من يصرع بالجن، أكد بقصر القلب قوله معجباً منهم {وما} أي والحال أن هذا القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم ما {هو إلا ذكر} أي موعظة وشرف {للعالمين *} أي كلهم عاليهم ودانيهم ليس منهم أحد إلا وهو يعلم أنه لا شيء يشبهه في جلالة معانيه وحلاوة ألفاظه وعظمة سبكه ودقة فهمه ورقة حواشيه وجزالة نظومه، ويفهم منه على حسب ما هيأه الله له ليناسب عموم ذكريته عموم الرسالة للمرسل به، وكل ما فيه من وعد ووعيد وأحكام ومواعظ شامل لهم كلهم، فوجبت التفرقة بين مسلمهم ومجرمهم لتصدق أقواله فيكمل جلاله وجماله فقد رجعت خاتمتها - كما ترى - على فاتحتها بالنون والقلم وما يسطرون من هذا الذكر، وسلب ما قالوا فيه من الجنون والإقسام على الخلق العظيم الذي هو هذا الذكر الحكيم، ونبه كونه ذكراً لجميع الخلق بما فيه من الوعد والوعيد على أنه لا بد من الحاقة وهي القيامة ليظهر فيها تأويله وإجماله وتفصيله، ويتضح غاية الاتضاح سبيله،

ص: 336

وتحق فيها حقائقه وتظهر جلائله ودقائقه بما يقع من الحساب، ويتبين غاية البيان ويظهر الخطأ من الصواب - والله الهادي.

سورة الحاقة

مقصودها تنزيه الخالق ببعث الخلائق لإحقاق الحق وإزهاق الباطل بالكشف التام لشمول العلم للكليات والجزئيات وكمال القدرة على العلويات والسلفيات، وإظهار العدل بين سائر المخلوقات، ليميز المسلم من المجرم بالملذذ والمؤلم، وتسميتها بالحاقة في غاية الوضوح في ذلك وهو أدل ما فيها عليه) بسم الله (الذي له الكمال كله، نزاهة وحمدا) الرحمن (الذي عم جوده بالعدل كبرا ومجدا) الرحيم (الذي خص أهل وده بالوقوف عند حدوده لينالوا بطيب جواره علوا وجدا وفوزا بالأماني وسعدا.

ص: 337

لما قدم سبحانه في «نون» الإنكار الشديد لأن يسوي المسيء بالمحسن، وذكر القيامة وبينها بيوم كشف الساق وزيادة المشاق، وهدد التهديد العظيم بآية الاستدراج الذي لا يدفع بعلاج، وختم بأن القرآن ذكر - أي شرف - وتذكير، ومواعظ للعالمين في شمولهم كلهم

ص: 337

برحمته، أما من بعد إنزاله فبوعيده ووعده ووعظه وقصه وأمره ونهيه، وأما من قبل إنزاله فبالشهادة لهم وعليهم، وكان تأويل ذلك وجميع آثاره إنما يظهر ظهوراً تاماً يوم الجمع الأكبر، وكان ذلك اليوم أعظم مذكر للعالمين وواعظ لهم وزاجر، تنبني جميع الخيرات على تذكره وتذكر العرض على الملك الديان، والسر في إنزال القرآن هو التذكير بذلك اليوم الذي هو نظام الوجود، قال واصفاً للقيامة واليوم الذي يكشف فيه عن ساق، واعظاً بذكرها ومحذراً من أمرها:{الحاقة *} أي الساعة التي يكذب بها هؤلاء وهي أثبت الأشياء وأجلاها فلا كاذبة لها ولا لشيء عنها، فلا بد من حقوقها فهي ثابتة في نفسها، ومن إحضار الأمور فيها بحقائقها، والمجازاة عليها بالحق الذي لا مرية فيه لأحد من الخلق، فهي فاعلة بمعنى مفعول فيها، وهي فاعلة أيضاً لأنها غالبة لكل خصم، من حاققته فحققته أحقه أي غالبته في الحق فغلبته فيه، فهي تحق الحق ولا بد فتعلو الباطل فتدمغه وتزهقه فتحق العذاب للمجرمين والثواب للمسلمين، وكل ما فيها داثر على الثبات والبيان، لأن ذلك مقتضى الحكمة ولا

ص: 338

يرضى لأحد من الحكام ترك رعيته بغير إنصاف بينهم على زعمه فكيف بالحكيم العليم، وقصة صاحب الحوت عليه السلام أدل دليل على القدرة عليها.

ولما كان ذلك كله أمراً رائعاً للعقول، هازاً للقلوب، مزعجاً للنفوس، وكان ربما توقف فيه الجلف الجافي، أكد أمره وزاد في تهويله، وأطنب في تفخيمه وتبجيله، إشارة إلى أن هوله يفوت الوصف بقوله، معلماً أنه مما يحق له أن يستفهم عنه سائقاً له بأداة الاستفهام مراداً بها التعظيم للشأن، وأن الخبر ليس كالعيان:{ما الحاقة *} فأداة الاستفهام مبتدأ أخبر عنه بالحاقة وهما خبر عن الأولى، والرابط تكرير المبتدأ بلفظه نحو زيد أي ما هو، وأكثر ما يكون ذلك إذا أريد معنى التعظيم والتهويل.

ولما كان السياق لترجمة المراد بكشف الساق، عظم التهويل بقوله:{وما أدراك} أي في الزمن الماضي، وقصره لتذهب النفس فيه كل مذهب، أي وأي شيء أعلمك بشيء من الأشياء مع تعاطيك للبحث والمداورة، ثم زاد التحذير منها بقوله على النهج الأول مستفهماً والمراد به التفخيم ومزيد التعظيم:{ما الحاقة *} أي إنها بحيث

ص: 339

لا يعلم كنهها أحد ولا يدركها ولا يبلغها درايته وكيف ما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك، فلا تعلم حق العلم إلا بالعيان.

وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير: لما بنيت سورة {ن والقلم} على تقريع مشركي قريش وسائر العرب وتوبيخهم وتنزيه نبي الله صلى الله عليه وسلم عن شنيع قولهم وقبيح بهتهم، وبين حسدهم وعداوتهم {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم} [القلم: 51] أتبعت بسورة الحاقة وعداً لهم وبياناً أن حالهم في سوء ذلك المرتكب قد سبق إليه غيرهم {كذبت ثمود وعاد بالقارعة} [الحاقة: 4]{فهل ترى لهم من باقية} [الحاقة: 8]{ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من قرن} [الأنعام: 6]{فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم} [يونس: 102]، و {كم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً} [مريم: 98] فسورة الحاقة جارية مجرى هذه الآي المعقب بها ذكر عناد مشركي العرب ليتعظ بها من رزق التوفيق لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية.

ولما ذكر حال من هلك من الأمم السالفة بسوء تكذيبهم وقبيح عنادهم، أتبع ذلك بذكر الوعيد الأخراوي {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} [الحاقة: 18] ثم عاد الكلام إلى ما بنيت عليه سورة {ن والقلم}

ص: 340

من تنزيهه صلى الله عليه وسلم وتكريمه مقسماً على ذلك {إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر - ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون} [الحاقة: 41، 42] وانتهى نفي ما تقوله منصوصاً على نزاهته عن كل خلة منها في السورتين {ما أنت بنعمة ربك بمجنون} [القلم: 2] وما الذي جئت به بقول شاعر ولا بقول كاهن بل هو تنزيل من رب العالمين، وأنه لتذكرة للمتقين وإنه لحق اليقين، فنزه ربك وقدسه من عظيم ما ارتكبوه - انتهى. فلما بلغ التهويل حده، وكان سبب الإنكار للساعة ظن عدم القدرة عليها مطلقاً أو لعدم العلم بالجزئيات، قال دالاً على تمام القدرة والعلم بالكليات والجزئيات، محذراً من أنكرها بأنه قادر على تعجيل الانتقام ولكنه لإكرامه لهذه الأمة أخر عذابها إلى الآخرة إلى لمن كان منهم من الخواص فإنه يظهرهم في الدنيا ليتم نعيمهم بعد الموت بادئاً بأشد القبائل تكذيباً بالبعث لكون ناقتهم أول دليل على القدرة عليه، وقالوا مع ذلك {أبشر منا واحداً نتبعه} [القمر: 24] إلى أن قالوا: {بل هو كذاب أشر} [القمر: 25] وقالوا في التكذيب بها {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون إن

ص: 341

هي إلا حياتنا الدنيا نموت} [المؤمنون: 35، 36، 37]- الآية، فإن الامر فيهم دائر بين عاد وثمود:{كذبت ثمود} وتقديمهم أيضاً من حيث أن بلادهم أقرب إلى قريش، وواعظ القرب أكبر وإهلاكهم بالصيحة وهي أشبه بصيحة النفخ في الصور المبعثر لما في القبور {وعاد} وكان الأصل أن يقال: بها، ولكنه أظهرها بوصف زادها عظماً وهولاً فقال:{بالقارعة *} أي التي تقرع، أي تضرب ضرباً قوياً وتدق دقاً عنيفاً شديداً للأسماع وجميع العالم بانفطار السماوات وتناثر النيرات ونسف الجبال الراسيات، فلا يثبت لذلك الهول شيء.

ولما جمعهم في التكذيب، فصلهم في التعذيب لأجل ذلك التكذيب فقال:{فأما ثمود} وهم قوم صالح عليه السلام.

ولما كان الهائل لهم لتقيدهم بالمحسوسات إنما هو العذاب، لا كونه من معين، بنى للمجهول قوله:{فأهلكوا} أي بأيسر أمر من أوامرنا {بالطاغية *} أي الصيحة التي جاوزت الحد في الشدة فرجفت منها الأرض والقلوب.

ولما ذكر المهلكين بالصيحة لأجل التكذيب بالقارعة تحذيراً لمن يكذب بها، أتبعه المهلكين بما هو سبب لإنفاذ الصيحة وتقويتها دلالة على تمام القدرة على كل نوع من العذاب بالاختيار

ص: 342

فقال تعالى: {وأما عاد} وهم قوم هود عليه السلام {فأهلكوا} أي بأشق ما يكون عليهم وأيسر ما يكون في قدرتنا {بريح صرصر} أي هي في غاية ما يكون من شدة البرد والصوت كأنه كرر فيها البرد حتى صار يحرق بشدته والصوت حتى صار يصم بقوته، وقال الملوي: أصله صر وهو البرد الشديد أو الحر الشديد {عاتية *} أي مجاوزة للحد من شدة عصفها وعظمة قصفها تفعل أفعال المستكبر الذي لا يبالي بشيء فلم يستطع خزانها ضبطها، ولم يملك المعذب بها ردها ولا ربطها، بل كانت تنزعهم من مكامنهم التي احتفروها ومصانعهم التي أتقنوها واختاروها فتهلكهم، قال الملوي: قال علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما: «لم ينزل قط ماء ولا ريح إلا بمكيال على يد ملك إلا يوم الطوفان فإن الله تعالى أذن للماء فطغى على الخزان ويوم عاد أذن للريح فعتت على خزانها» انتهى.

ولما وصفها بالعتو على الخلق والغلبة لهم بحيث كانت خارقة للعادة لم يأت مثلها قبل ولا بعد، دل على صغارها بالنسبة إلى عظمته، وأنه هو الذي أوجدها لا الطبيعة ولا غيرها، بل إنما كانت بقدرته واختياره قهراً لمن طعن في ملكه وكذب رسله فيما أخبروا به من أمر الساعة

ص: 343

التي هي موضع الحكمة وإظهار جميع العظمة، فقال مستأنفاً دلالة على ذلك:{سخرها} أي قهرها على أن سلطها، والتسخير: استعمال الشيء بالاقتدار، ودل على أنه تسخير تعذيب لا رحمة وتأديب بأداة الاستعلاء، فقال:{عليهم} وكلفها ذلك وذللها له فلم يمكنها مع عتوها إلا أن كانت طوع أمره وصنيعة عظمته وقهره.

ولما كانت هذه السورة لتحقيق الأمور، وكشف المشكل وإيضاح الخفي، حقق فيها زمن عذابهم تحقيقاً لم يتقدم مثله، فذكر الأيام والليالي، وقدم الليالي لأن المصايب فيها أفظع وأقبح وأشنع لقلة المغيث والجهل بالمأخذ والخفاء في المقاصد والمنافذ، ولأن عددها مذكر في اللفظ، وتذكير اللفظ أدل على قوة المعنى ولذلك جعل المميز جمع كثرة، ولأنها سبع، والسبع مبالغ فيه وهو أجمع العدد كما يأتي تحقيقه قريباً في حملة العرش ولا يمكن أن يظن بتقديمها أن ابتداء العذاب كان فيها لأنه يلزم حينئذ أن يكون بعدد الأيام فلذلك قال:{سبع ليال} أي لا تفتر فيها الريح لحظة لأنه بولغ في شدتها مبالغة لم يكن مثلها قط ولا يكون بعدها أبداً {وثمانية أيام} كذلك حال كونها {حسوماً} جمع حاسم أي بحس مانع من التصرف دائم متتابع لا فترة له، من حسم الكي - إذا تابع فيه بالمكواة،

ص: 344

قاطع لكل خير، مستأصل له، فأتت عليهم من غير فترة أصلاً في جميع الوقت فاستأصلتهم لم تبق منهم أحد حتى أن عجوزاً منهم توارت في سرب فانتزعتها وأهلكتها، وبها سميت أيام العجوز، أو لأنها عجز الشتاء وهي ذات برد ورياح شديدة وهي من صبيحة الأربعاء لثمان بقين من شوال إلى غروب الأربعاء الآخر وهو آخر الشهر، وقد لزم من زيادة عدد الأيام أن الابتداء كان بها قطعاً وإلا لم تكن الليالي سبعاً - فتأمل ذلك.

ولما كان الحاسم المهلك، سبب عنه قوله مصوراً لحالهم الماضية:{فترى القوم} أي الذين هم في غاية القدرة على ما يحاولونه: {فيها} أي في تلك المدة من الأيام والليالي لم يتأخر أحد منهم عنها {صرعى} أي مجدلين على الأرض موتى معصورين مجهزة على كل منهم من شدة ضغطها باد عليهم الذل والصغار، جمع صريع {كأنهم أعجاز} أي أصول {نخل} قد شاخت وهرمت فهي في غاية العجز والهرم {خاوية *} أي متآكلة الأجواف ساقطة، من

ص: 345

خوي النجم - إذا سقط للغروب، ومن خوي المنزل - إذا خلا من قطانه، قالوا: كانت تدخل من أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم، فالوصف بذلك لعظم أجسامهم وتقطيع الريح لهم وقطعها لرؤوسهم وخلوهم من الحياة وتسويدها لهم.

ص: 346

ولما كان هذا أمراً رائعاً لمن له أدنى معقول، وكان الاستفهام مما يزيد الروعة، قال مسبباً عن استئصالهم ليكون الإخبار به المستلزم لغاية العلم بالجزئيات كالدعوى بدليلها:{فهل ترى} أي أيها المخاطب الخبير الناس في جميع الأقطار {لهم} أي خصوصاً، وأعرق في النفي وعبر بالمصدر الملحق بالهاء مبالغة فقال:{من باقية *} أي بقاء أو نفس موصوفة بالبقاء، وأنجى الله سبحانه وتعالى صالحاً عليه السلام ومن آمن به من بين ثمود ولم تضرهم الطاغية وهوداً عليه السلام ومن آمن به من بين عاد لم يهلك منهم أحد، فدل ذلك دلالة واضحة على أن له تعالى تمام العلم بالجزئيات كما أن له كمال الإحاطة بالكليات وعلى قدرته واختياره وحكمته، فلا يجعل المسلم أصلاً كالمجرم ولا المسيء كالمحسن.

ولما أخبر تعالى عمن أهلك بالريح ومن أهلك بما سببه الريح تسبيباً قريباً بغير واسطة، وكان ذلك كله - لخروجه عن العادة - راداً على أهل الطبائع، أخبر بمن أهلك مما سببته الريح من الماء

ص: 346

بواسطة السحاب، وكانت سبب تطابقه عليهم مع أن كفرهم بالتعطيل الذي هو أنحس أنواع الكفر للقول بالطبيعة التي تتضمن الإنكار للبعث، وكان إغراقهم بما يكذب معتقدهم لخروجه عن العادة، فقال منبهاً على قوة كفرهم بالمجيء:{وجاء} أي أتى إتياناً عالياً شديداً {فرعون} أي الذي ملكناه على طائفة من الأرض فعتى وتجبر وادعى الإلهية ناسياً هيبتنا وقدرتنا بنقمتنا وأنكر الصانع وقال بالطبائع {ومن قبله} أي في جهته وفي حيزه وما يليه وفي السير بسيرته من العلو في الأرض بغير الحق والعتو في الكفر، وهو ظرف مكان، هكذا على قراءة البصريين والكسائي بكسر الكاف وفتح الموحدة، فعم ذلك كل من كان كافراً عاتياً من قبله ومن بعده، وهو معنى قراءة الباقين بفتح القاف وإسكان الباء الموحدة على أنه ظرف يقابل «بعد» بزيادة.

ولما كان قوم لوط عليه السلام قد جمعوا أنواعاً من الفسوق لم يشاركهم فيها أحد، فاشتمل عذابهم على ما لم يكن مثله عذاب، فكان كل من فعلهم الذي لم يسبقهم به أحد من العالمين وعذابهم الذي ما كان مثله قبل ولا بعد، راداً على أهل الطبائع، نص عليهم من بين من دخل فيمن قبله على القراءتين فقال:{والمؤتفكات} أي

ص: 347

أهل المدائن المنقلبات بأهلها حتى صار عاليها سافلاً لما حصل لأهلها من الانقلاب حتى صاروا إياه واتبعت حجارة الكبريت وخسف بها وغمرت بما ليس في الأرض مثله وهي قرى قوم لوط عليه السلام {بالخاطئة *} أي الخطأ أو الأفعال ذات الخطأ التي تتخطى منها إلى نفس الفعل القبيح من اللواط والصفع والضراط مع الشرك وغير ذلك من أنواع الفسق والعناد والطغيان.

ولما كان الرسل كلهم جميعاً كالفرد الواحد لاتفاق مقاصدهم في الدعاء إلى الله والحمل على طاعته، قال مستأنفاً مسبباً عن مجيئهم بذلك موحداً في اللفظ ما هو صالح للكثير بإرادة الجنس:{فعصوا} أي خالفوا ونابذوا {رسول ربهم} أي خالفت كل أمة من أرسله المحسن إليها بإبداعها من العدم وإيداعها القوى وترزيقها وبعث رسولها لإرشادهها اغتراراً بإحسانه ولم يجوزوا أن المحسن يقدر على الضر كما قدر على النفع، لأنه الضار كما أنه النافع فللتنبيه على مثل ذلك لا يجوز نقل أحد الاسمين عن الآخر، وسبب عن العصيان قوله:{فأخذهم} أي ربهم أخذ قهر وغضب {أخذة} لم يبق من أمة منهم أحداً ممن كذب الرسول فلم يكن كمن ينصر على عدو من الآدميين لا بد من أن يفوته كثير منهم وإن اجتهد في الطلب، وما ذاك إلا لتمام علمه

ص: 348

سبحانه وتعالى بالجزئيات والكليات، وشمول قدرته، وتلك الأخذة - مع كونها بهذه العظمة من أنها أخذتهم كنفس واحدة - جعلها سبحانه {رابية *} أي عالية عليهم علية القدر في قوة البطش وشدة الفتك زائدة على الحد نامية بقدر زيادة أعمالهم في القبح، والربا: النمو، وأصله الزيادة، فأغرق فرعون وجنوده، وأغرق كل من كذب نوحاً عليه السلام، وهم كل أهل الأرض غير من ركب معه في السفينة، وحمل مدائن لوط عليه السلام بعد أن نتقها من الأرض على متن الريح بواسطة من أمره بذلك من الملائكة ثم قلبها وأتبعها الحجارة وخسف بها وغمرها بالماء المنتن الذي ليس في الأرض ما يشبهه.

ولما كان ربما وقع في وهم التعجب من وجود فرعون ومن بعده من الإخبار بأخذ من قبله على قراءة الجماعة مع أن «من» من صيغ العموم، أشار إلى أنه أهلك جميع المخالفين وأنجى جميع الموافقين، قال جواباً لذلك السؤال مؤكداً لأجل من يتعنت ولأن ذلك كان مما يتعجب منه ويتلذذ بذكره:{إنا} أي

ص: 349

على قدرتنا وعظمتنا وإحاطتنا {لما طغا الماء} أي فزاد عن الحد حتى علا على أعلى جبل في الأرض بقدر ما يغرق من كان عليه حين أغرقنا قوم نوح عليه السلام به فلم يطيقوا ضبطه ولا قاووه بوجه من الوجوه، ولا وفقوا لركوب السفينة، فكان خروجه عن العادة راداً على أهل الطبائع.

ولما كان الإيجاد نعمة فكان إنجاء آبائهم من الغرق حتى كان ذلك سبباً لوجودهم نقمة عليهم قال تعالى: {حملناكم} أي في ظهور آبائكم بعظمتنا ومشيئتنا وقدرتنا {في الجارية *} أي السفينة التي جعلناها بحكمتنا عريقة في الجريان حتى كأنه لا جارية غيرها على وجه الماء الذي جعلنا من شأنه الإغراق، وهو تعبير بالصفة عن الموصوف، ونوح عليه السلام أول من صنع السفينة، وإنما صنعها بوحي الله تعالى وبحفظه له من أن يزل في صنعتها، قال: اجعلها كهيئة صدر الطائر ليكون ما يجري في الماء مقارباً لما يجري في الهواء، وأغرقنا سوى من في السفينة من جميع أهل الأرض من أدمي وغيره.

ولما بدأ سبحانه وتعالى بثمود الذين هم أقرب المهلكين إلى مكة المشرفة لأن التخويف بالأقرب أقعد، وختم بقوم نوح عليه السلام لأنهم كانوا جميع أهل الأرض ولم يخف أمرهم على أحد ممن

ص: 350

بعدهم، علل اختيار إنجائهم بالسفينة دون غيرها فقال:{لنجعلها} أي هذه الفعلات العظيمة من إنجاء المؤمنين بحيث لا يهلك منهم بذلك العذاب أحد وإهلاك الكافرين بحيث لا يشذ منهم أحد، وكذا السفينة التي حملنا فيها نوحاً عليه السلام ومن معه بإبقائها آية من آياته وأعجوبة من بدائع بيناته وغريبة في الدهر من أعجوباته {لكم} أي أيها الأناسي {تذكرة} أي سبباً عظيماً لذكر أول إنشائه والموعظة به لتستدلوا بذلك على كمال قدرته تعلى وتمام علمه وعظمة رحمته وقهره، فيقودكم ذلك إليه وتقبلوا بقلوبكم عليه {وتعيها} أي ولتحفظ قصة السفينة وغيرها مما تقدم، حفظاً ثابتاً مستقراً كأنه محوى في وعاء.

ولما كان المنتفع بما يسمع الحافظ له قليلاً جداً، دل على ذلك يتوحيد الأذن فقال موحداً منكراً مع الدلالة على تعظيمها:{أذن} أي عظيمة النفع {واعية *} أي من شأنها أن تحفظ ما ينبغي حفظه من الأقوال والأفعال الإلهية والأسرار الربانية لنفع عباد الله كما كان نوح عليه السلام ومن معه وهم قليل سبباً لإدامة النسل والبركة فيه

ص: 351

حتى امتلأت منه الأرض. والوعي: الحفظ في النفس، والإيعاء: الحفظ في الوعاء، وفي ذلك توبيخ للناس بقلة الواعي منهم، ودلالة على أن الأذن الواحدة إذا غفلت عن الله تعالى فهي السواد الأعظم، وما سواها لا يبالي بهم الله بالة - قاله الأصبهاني والزمخشري وغيرهما.

ولما ذكر القيامة وهول أمرها بالتعبير بالحاقة وغيرها، ودل على قدرته عليها وعلى حكمته بقصص من ذكر على الوجه الذي مر إلى أن ختم بالذين كانت قصتهم أشبه تلك القصص بالقيامة من حيث أن أمر الله فيها عم أهل الأرض وفي زمن يسير، وكان الناجون منها بالنسبة إلى المهلكين كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، سبب عن جميع ما مضى قوله شرحاً لأمرها:{فإذا نفخ} وبنى الفعل للمجهول دلالة على هوان ذلك عليه وأنه ما تأثر عنه لا يتوقف على نافخ معين بل من أقامه من جنده لذلك تأثر عنه ما يريده وذكره وإن كان المسند إليه مؤنثاً للفصل ولكونه غير حقيقي التأنيث وللدلالة على قوة النفخ {في الصور} أي القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام كأنه عبر عنه به دون القرن مثلاً لأنه يتأثر عنه تارة إعدام الصورة وتارة إيجادها وردها إلى أشكالها سعة فمه كما بين السماء والأرض،

ص: 352

وأسند الفعل إلى المصدر ليفيده بادىء بدء لا ليؤكده وإن كان التأكيد يفهم منه وهو غير مقصود بالذات فقال: {نفخة} ولما دل بالفعلة على الواحدة، أكده دلالة على عظيم قدرته وحقارة الأشياء عنده بقوله:{واحدة *} أي فهلك الخلائق كلهم، هكذا قالوا إن هذه النفخة هي الأولى، قالوا: وعندها خراب العالم، وظاهر السياق أنها الثانية التي بها البعث، وخراب ما ذكر بعد قيامهم أنسب لأنه لهم أهيب، وكونها الثانية إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 353

ولما ذكر التأثير في الإحياء، أتبعه التأثير في الجمادات، وبدأ بالسفليات لملابستها للإنسان فتكون عبرته بها أكثر فقال:{وحملت} أي بمجرد القدرة {الأرض} أي المنبسطة ورجت رجاً {والجبال} أي التي بها ثباتها فرفعت من أماكنها، وبستا بساً فكانت هباء منبثاً، لم يبق فيهما حجر ولا كدية.

ولما أريد قوة الدك والإبلاغ في تأثيره، جعل الجبال شيئاً واحداً فقال:{فدكتا} أي مسحت الجملتان الأرض وأوتادها وبسطتا ودق بعضها ببعض {دكة واحدة *} أي فصارتا كثيباً مهيلاً وسويتا بأيسر أمر فلم يميز شيء منهما من الآخر، بل صارا في غاية الاستواء، من قولهم: ناقة دكاء، أي لا سنام لها. وأرض دكاء، أي متسعة مستوية،

ص: 353

قالوا: والدك والدق - أخوان، والدك أبلغ، قال أبو حيان: والدك فيه تفرق الأجزاء، والدق فيه اختلاط الأجزاء.

ولما ذكر نفخ الصور سبب عنه قوله: {فيومئذ} أي إذا دكتا وهي بدل من «إذ» كرر لطول الفصل وأفاد تهويلاً لها وتعظيماً، ونصب الظرف بقوله:{وقعت الواقعة *} أي التي وقع الوعد والوعيد بها، فكانت كأنها شيء ثقيل جداً ليس له ممسك. فما له من ذاته غير السقوط، وهي القيامة والحاقة والقارعة، نوع أسماءها تهويلاً لها أي قامت القيامة، وكان المراد بها النفخة الثانية.

ولما ذكر تأثير العالم السفلي ذكر العلوي فقال: {وانشقت السماء} أي هذا الجنس لشدة ذلك اليوم، ولما كان الشيء لا ينشق إلا لخلل فيه، سبب عنه قوله تحقيقاً لذلك. {فهي يومئذ} أي إذا وقعت الواقعة {واهية *} أي ضعيفة متساقطة خفيفة لا تتماسك.

ولما كانت العادة جارية فيما يعرف أن الملك يظهر أنواعاً من عظمته يوم عرض الجند، قال معرفاً لنا بنحو ما ألفناه:{والملك}

ص: 354

أي هذا النوع الذي يصدق على الواحد فما فوقه، والجمع لا يصدق على ما دون الجمع فهذا أشمل {على أرجائها} أي نواحي السماء وأطرافها وحواشي ما لم يتشقق منها، قال الضحاك: يكونون بها حتى يأمرهم الله فينزلون فيحيطون بالأرض ومن عليها - انتهى. وقيل: أرجاء الأرض واحدها رجا، مقصور، والاثنان رجوان، فيحيطون بالجن والإنس فيحشرونهم حشر الصيد لإرادة أخذه.

ولما كان الملك يظهر يوم العرض سرير ملكه ومحل عزه قال: {ويحمل عرش} ولما كان هذا أمراً هائلاً مقطعاً للقلوب، قال مؤنساً للمنزل عليه هذا الذكر مؤمناً له من كل ما يحذر:{ربك} أي المحسن إليك بكل ما يريده لا سيما في ذلك اليوم بما يظهر من رفعتك.

ولما كان العرش عاماً لجهة الفوق كلها، أسقط الجار فقال:{فوقهم} أي فوق رؤوسهم {يومئذ} أي يوم إذ وقعت الواقعة بعدد ما كان تحته من السماوات السبع والكرسي {ثمانية *} أي من الملائكة أشخاص أو صفوف يؤيد حملته الأربعة في الدنيا بأربعة أخرى لشدة ذلك اليوم وثقله، وهو في حديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأبو يعلى والبغوي عن العباس

ص: 355

بن عبد المطلب رضي الله عنه، فظاهره أنهم أشخاص ولفظه:«ثمانية أوعال بين ركبهن وأظلافهن كما بين السماء والأرض» وظاهر ذلك أنهم في الدنيا، وكونهم في الدنيا أربعة فقط ذكره المفسرون ورواه الطبراني من طريق ابن إسحاق، قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«هم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم بأربعة آخرين» وهو مذكور في حديث الصور الطويل الذي يرويه أبو يعلى وغيره من طريق إسماعيل بن رافع عن يزيد بن زياد عن القرطبي عن رجل عن أبي هريرة رضي الله عنه وهذا العدد يحتمل أن يراد به أهل السماوات السبع والكرسي فتلك ثمانية، وهم خلق لا يحصيهم إلا الله سبحانه وتعالى، وهو أوفق لإظهار العظمة، ويمكن أن يراد بهم ثمانية أفراد ويكون حملهم له أظهر في العظمة ليعلم كل من يرى ذلك أن مثلهم لا يقدر على حمل مثله في عظمته وإحاطته، وهذا هو أظهر المعاني من الأحاديث الواردة فيه، واختيار هذا العدد أوفق للوجه الذي قبله لأنه يزيد على العدد الموضوع للمبالغة - وهو السبع - بواحدة إشارة إلى أنه أبلغ من عدة المبالغة لأنه إشارة إلى أنك كلما بالغت زاد الأمر على مبالغتك بما هو أول العدد، وذلك إشارة إلى عدم الانتهاء والوقوف عند حد، وإلى ذلك يشير أيضاً

ص: 356

أن للثمانية من الكسور النصف والربع والثمن، وذلك سبعة، والسبعة عدد جامع لجميع أنواع العدد الفرد والزوج وزوج الزوج وزوج الفرد، وكل ذلك إشارة إلى المبالغة في إظهار العظمة والكبرياء والعزة وتمثيل لنا بما نعرف من أحوال الملوك وإلا:

فالأمر أعظم من مقالة قائل

إن رقق البلغاء أو إن فخموا

إعلاماً بعظمة ذلك اليوم ليخشى العباد فيلزموا أسباب الإسعاد، وهذا الذي قلته من سر السبعة قد ذكره الإمام بدر الدين بن الدماميني قرين شيوخنا في الكلام على الواو من حاشيته على مغني ابن هشام عن تفسير العماد الكندي قاضي الإسكندرية المسمى الكفيل بمعاني التنزيل فقال: ونقل الأستاذ عبد الله الكفيف المالقي أنها لغة فصيحة لبعض العرب أن يقول: واحد اثنين ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة ثمانية تسعة عشرة - هكذا لغتهم، ومتى جاء في كلامهم لفظ الثمانية أدخلوا الواو وقد نظم بعض أصحابنا في كون السبعة منتهى العدد أبياتاً وهي:

يا سائلي عن سر كون العدد

غايته في سبعة لم تزد

ما سره إلا انحصار قسيمه

في واحد فرد وشيء مسند

ص: 357

وذلك الشيء الذي تسنده

منحصر في واحد وأزيد

فالفرد والفرد إذا ما اجتمعا

زوج مع الفرد الذي لم يسند

واثنان واثنان إذا ما اجتمعت

أربعة تضم مع فيء اليد

فتلك سبعة إذا تكاملت

أربعة واثنان مع منفرد

وما أتى من بعد هذا فهو تك

رار له لا زائد في العدد

ثلاثة مع مثلها فرد وفر

د قد مضى وما مضى لا يعدد

وهكذا أربعة مع مثلها

زوج وزوج قد مضى لا تزد

وقال الإمام محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في مقدمة كتابه الملل والنحل: أكثر أصحاب العدد على أن الواحد لا يدخل في العدد، فالعدد مصدره الأول الاثنان، وهو ينقسم إلى زوج وفرد، فالفرد الأول ثلاثة، والزوج الأول أربعة، وما وراء الأربعة مكرر كالخمسة فإنها مركبة من فرد وزوج، ويسمى العدد الدائر، والستة مركبة من فردين، ويسمى العدد التام، والسبعة مركبة من فرد وزوج، وتسمى العدد الكامل، والثمانية مركبة من زوجين وهي بداية الأخرى فصدر الحساب في مقابلة الواحد الذي هو علة العدد وليس يدخل فيه، ولذلك هو فرد لا أخ له.

ولما كان العدد مصدره من اثنين صار منهما المحقق محصوراً في قسمين،

ص: 358

ولما كان العدد منقسماً إلى فرد وزوج، صار من ذلك الأصل محصوراً في سبعة، فإن الفرد الأول ثلاثة، والزوج الأول أربعة، وهي النهاية، وما عداها مركب منها، وكان البسائط عامة الكلية في العدد واحد واثنان وثلاثة وأربعة وهي الكمال، وما زاد عليها من المركب الكلي فمركبات كلها ولا حصر لها، وقال أبو الحكم ابن برجان في تفسير سورة القدر: انتهاء العدد ستة والسابع وترها.

ولما بلغ النهاية في تحذير العباد من يوم التناد، وكان لهم حالتان: خاصة وعامة، فالعامة العرض، والخاصة التقسيم إلى محسن ومسيء، زاده عظماً بقوله:{يومئذ} أي إذا كان ما تقدم.

ولما كان المهول نفس العرض، بنى فعله للمفعول ولأنه كلام القادرين فقال:{تعرضون} أي على الله سبحانه وتعالى للحساب كما يعرض السلطان الجند لينظر في أمرهم ليختار منهم المصلح للإكرام والتقريب والإثابة، والمفسد للإبعاد والتعذيب والإصابة، عبر عن الحساب بالعرض الذي هو جزؤه، فالمحسن لا يكون له غير ذلك والمسيء يناقش {لا تخفى منكم} أي في ذلك اليوم على أحد بوجه من الوجوه {لا تخفى منكم} أي في ذلك اليوم على أحد بوجه من الوجوه {خافية *} أي لا يقع أصلاً على حال من الأحوال شيء من خفاء لشيء كان من حقه الخفاء في الدنيا لا من الأعمال ولا من

ص: 359

الأنفس وإن كان في غاية الدقة والغموض لأن ذلك يوم الظهور التام من القبور ومن الصدور، وغير ذلك من الأمور، ليكون ذلك أجل لسعادة من سعد، وأقبح لشقاوة من شقي فأبعد، قال أبو موسى رضي الله عنه: هي ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعندها تتطاير الصحف فأخذ بيمينه وأخذ بشماله.

ص: 360

ولما كان من المعلوم أنهم قسمان: محسن ومسيء، وكان التقدير: فنعطي كلاًّ منكم صحيفة أعماله من أفعاله وأقواله وجميع خلائقه وأحواله، فمنكم من تدفع إليه في يمينه فتظهر له حسناته وتستر عنه سيئاته، ومنكم من يعطاها في شمالها فتبدو له سيئاته ويمحي ما كان من حسناته، لأنه أوتي ثوابه في الدنيا بما عجل له من طيباته، عطف عليه مفصلاً له قوله:{فأما من أوتي} بناه للمفعول لأن دلالة السعادة الوقوع في اليمين لا من معط معين {كتابه} أي الذي أثبت فيه أعماله {بيمينه فيقول} لما رأى من سعادته تبجحاً بحاله وإظهاراً لنعمة ربه لأن الإنسان مطبوع على أن يظهر ما آتاه من خير تكميلاً للذته بكبت أعدائه وتفريح أوليائه، قيل: إنه تكتب سيئاته في باطن صحيفته وحسناته في ظاهرها، فيقرأ الباطن ويقرأ الناس الظاهر، فإذا أنهاه قيل له: قد غفرها الله، اقلب الصحيفة، فحينئذ يكون قوله:{هاؤم} أي خذوا أيها الحاضرون من الخلائق الملائكة وغيرهم، فيها صوت يفهم منه معنى:

ص: 360

خذوا، ويوصل تارة بالكاف وتارة بالهمزة، اسم فعل، وإنما اختارها هنا ليعلم أن خطابها لجميع أهل الموقف من كان منهم باطناً من الملائكة والجن وغيرهم، ومن كان منهم ظاهراً لأن الألف عند الربانيين غيب وإحاطة كما دل عليها مخرجها، فهي عبارة عندهم عن القائم الأعلى المحيط، وروي معنى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، والهمزة بدء غيبه ولذا كان مخرجها أقصى الحروف الحلقية دلالة على ذلك، وبدء غيب الله سبحانه وتعالى أفعاله وهي تشمل الظاهر والخفي أصلها الكاف فهي عندهم ظهور متكامل ذو استقلال، وهو من يكون من شأنه الظهور، وأبناء الجنس أحق بهذا، وقد دل على ذلك مخرج الكاف الذي بعد القاف من أصل اللسان الأقرب إلى وسطه، ومفعول «ما» محذوف عند البصريين دل عليه «كتابيه» من قوله:{اقرءوا كتابيه *} وهاؤه للسكت، كأنها إشارة إلى شدة الكرب في ذلك اليوم للدلالة على أنه إذا كان هذا السعيد بسكت في كل جملة للاستراحة لا يقدر في الكلام على المضي فما الظن بغيره، وتشير أيضاً مع ذلك إلى فراغ الأمر ونجازة الجزم به والوثوق بأنه لا يغير.

ولما كانت حقيقة الحساب ذكر الأعمال والمجازاة عليها، وكان

ص: 361

الآدمي - لأنه مجبول على النقص - لا يقدر أن يقدر الله حق قدره، وكلما كان الإنسان أعلى كان الاستشعار والنقص من نفسه أكثر، وكان من نوقش الحساب - كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عذب، قال مؤكداً لأن من يرى حاله وكتابه ينكر أن يكون له ذنب أو منه تقصير:{إني ظننت} أي في هذا اليوم خوفاً من من سوء أعمالي التي أعرفها من نفسي {أني ملاق} أي ثابت لي ثباتاً لا ينفك أني ألقى بين يدي الديان {حسابيه *} لأني كنت جامعاً كما أمرت بين الخوف والرجاء، فأخاف أن يقابل بين حسناتي وبين النعم فلا تقوم لي أصغر نعمة فأعذب على سيئاتي وأرجو غفرانه، فحقق سبحانه رجائي وأمن خوفي، فعلمت الآن أني لا أناقش الحساب، وإنما حسابي العرض وهو الحساب اليسير بأن تعرض أعمالي فلا أجازى على سيئها وأثاب على حسنها مناً ورحمة وفضلاً ونعمة، ويجوز أن يكون الظن في الدنيا، عبر به عن اليقين إشارة إلى أنه يكفي العاقل في الخوف الحامل له على العمل ظن الخطر، وفيه إشعار بهضم النفس لأن الإنسان لا ينفك عن خطرات من الشبه تعرض له وتهجم عليه وإيذان بأن مثل ذلك لا يقدح في الجزم بالاعتقاد وتنبيه على أنه يكفي في

ص: 362

إيجاب العمل الظن فيكون حينئذ تعليلاً لإعطاء الكتاب باليمين، وفيه تبكيت للكفار ونداء عليهم بأنهم لم يصلوا في هذا الأمر المحقق إلى مرتبة الظن، فكيف بالمحقق من العلم فأهملوا العمل له فخالفوا.

ولما كان تقدير هذا واضحاً، سبب عند ما تأثر عن الحساب اليسير من إعطاء الثواب فقال:{فهو في عيشة} أي حالة من العيش.

ولما كان الرضى بالشيء لا يكون إلا إذا بلغ نهاية السؤل وغاية المأمول، قال مسنداً الرضا إلى العيشة كناية عن رضا صاحبها على الوجه الأبلغ:{راضية *} أي ثابت له الرضا ودائم لها لأنها في غاية الحسن والكمال، والعرب لا تعبر عن أكثر السعادات بأكثر من العيشة الراضية بمعنى أن أهلها راضون بها، والمعتبر في كمال اللذة الرضى أو أنه لو كان للعيشة عقل لرضيت لنفسها بحالتها.

ولما شوق سبحانه إلى حال صاحب هذه العيشة، وكانت أمراً إجمالياً، فصلها وبينها بالإبدال منها زيادة في التشويق فقال:{في جنة} أي بساتين جامعه لجميع ما يراد منها.

ولما كان شرف المسكن العلو قال: {عالية *} أي في المكان والمكانة والأبنية والدرجات والأشجار وكل اعتبار.

ص: 363

ولما كان من شأن المعالي عسر الوصول إليه قال: {قطوفها} أي جمع كثرة لقطف - بالكسر وهو ما يجنى من الثمرات المجتمعة في عرق من عروقه {دانية *} أي قريبة المأخذ سهلة التناول جداً، لراكب والقائم والقاعد والمضطجع، كل ذلك على حد سواء دائماً من غير انقطاع ولا كلفة على أحد من أهلها في تناول شيء من ذلك.

ولما كان كون الثمار بهذه الصفة دالاً على كثرة الري، وكثرة الري دالة على المشرب، وكانت من مفردات اللفظ عامة المعنى، فكان قد أفرد الضمائر باعتبار لفظها تنصيصاً على كل فرد فرد جمع باعتبار المعنى إعلاماً باشتراك جميع أهلها في النعم حال الانفراد والاجتماع فقال:{كلوا واشربوا} أي مولى لهم ذلك إشارة إلى أن ذلك لا مانع منه وإلى أنهم يؤمرون به صريحاً دلالة على رضا صاحب الجنة لئلا يتنغص عليهم عيشهم بنوع من الأنواع الموهمة للخطر، وحذف المفعول إيذاناً بالتعميم لئلا يظن أنه يستثني منها شيء فيكون سبب الفتنة كما وقع لآدم صلوات الله وسلامه عليه.

ولما كان المآكل والمشارب في هذه الدار تورث التخم والأمراض وفيها ما لا يلذ، وكان ما وقع لأبينا آدم وأمنا حواء عليهما

ص: 364

الصلاة والسلام على أكلة واحدة من وخامة العاقبة معروفاً، قال مؤمناً من ذلك:{هنيئاً} أي أكلاً طيباً لذيذاً شهياً مع البعد عن كل أذى وسلامة العاقبة بكل اعتبار ولا فضلة هناك من بول ولا غائط ولا بصاق ولا مخاط ولا قرف ولا قذر ولا وهن ولا صداع ولا ثقل ولا شيء مؤذ.

ولما شوق إلى المسببات حملهم على أسبابهم وحضهم على المسابقة في تحصيلها والمثابرة والمداومة على الاستكثار منها؛ فقال زيادة في لذتهم بأن ذلك على وجه العوض لا امتنان عليهم في شيء منه لأحد من الخلق، فإن أحب ما إلى الإنسان أن يأكل مما أفادته يمينه وحصله بعمله مع ما في ذلك من الشرف:{بما أسلفتم} أي أعطيتم من أنفسكم لآخرتكم طوعاً من الأعمال الصالحة وبما تركتم من الدنيا مما هو سافل بالنسبة إلى ما عوضتم عنه من أعمال القلب والبدن والمال {في الأيام} ولما كان سبحانه قد ضمن كل ما يشتغل به الإنسان من مصالح دنياه فهو واصل إليه لا محالة وإن فرغ أوقاته كلها لعبادة ربه قال: {الخالية *} أي الماضية في الدنيا التي انقضت وذهبت واسترحتم من تعبها والتي لا شاغل فيها عن العبادة. إما بترك الاشتغال بالمعاش للواصل إلى درجة التوكل، وإما بالسعي على وجه الاقتصاد بقصد المساعدة للعباد

ص: 365

في أمور هذه الدار والإفضال عليهم وإن لا يكون كلاًّ عليهم من غير اعتماد على السعي بل امتثالاً للأمر مع القناعة بالكفاف.

ص: 366

ولما كانت العادة جارية بأن أهل العرض ينقسمون إلى قسمين: مقبول ومردود، وذكر سبحانه وتعالى المقبول بادئاً به تشويقاً إلى حاله وتغبيطاً بعاقبته وحسن مآله، أتبعه المردود تنفيراً عن أعماله بما ذكر من قبائح أحواله فقال:{وأما من} ولما كان الدال على المساءة الإيتاء على وجه قبيح، لا تعيين المؤتي، قال بانياً للمفعول لذلك وللدلالة على ذل الأخذ وعدم قدرته على الامتناع عن شيء يسوءه:{أوتي كتابه} أي صحيفة أعماله - أعاذنا الله من ذلك {بشماله فيقول} أي لما يرى من سوء عاقبته التي كشف له عنها الغطاء حتى لم يشك فيها لما يرى من قبائحه التي قدمها، وكل ما يأتي مما يوهم سكتة في ذلك اليوم فمن باب المكابرة والمدافعة بالباطل على ما كان عليه في الدنيا {يا ليتني} تمنياً للمحال، وجرى عن نسق ما مضى في البناء للمفعول الدال على ذله وعدم جبلته فقال:{لم أوت} أي من مؤت ما {كتابيه *} أي هذا الذي ذكرني بخبائث أعمالي وعرفني جزاءها {ولم} أي ويا ليتني لم {أدر} ولو حاولت الدراية {ما} أي حقيقة {حسابيه *}

ص: 366

من ذكر العمل وذكر جزائه، بل استمريت جاهلاً لذلك كما كنت في الدنيا. ولما تمنى هذين الشيئين، استأنف مراده بهما فقال لأنه رأى أن ما يستقبله شر مما كان فيه من البرزخ:{يا ليتها} أي الموتة التي منها {كانت القاضية *} أي الباتة الجازمة الملزمة لدوام الموت الخاتمة عليها حتى لا يكون بعدها بعث ولا شيء غير الموت كما كنت أعتقد في الدنيا؛ قال الإمام الرازي: وفي الحديث «تمنوا الموت» أي إذ ذاك ولم يكن في الدنيا شيء أكره منه عندهم.

ولما كان التمني مفهماً لأنه كان له ضد ما تمناه من البعث على ما كانت تخبره به الرسل ومن الحساب الذي هو سر البعث وخالصه، وقد كان يقول: إنه يتخلص منه، على تقدير كونه، بماله وجاهه قال معللاً لتمنيه:{ما أغنى} نافياً تأسفاً على فوات ما كان يرجو من نفعه، والمفعول على هذا التقدير محذوف للتعميم، أو مستفهماً استفهام إنكار على نفسه وتوبيخ حيث سولت له ما أثمر له كل سوء وكل محال منازعة للفطرة الأولى المؤيدة بما أخبرت به الرسل حتى أوقعه ذلك التسويل في الهلكة {عني ماليه *} أي الذي منعت منه حق الله وتعظمت به على عباده. وهذا النفي للإغناء سائغ مفهوم على كل من تقريري النفي والاستفهام.

ص: 367

ولما كان المال سبب الوصول إلى السلطان، قال نافياً لما أوصله إليه ماله شارحاً لعدم إغنائه، {هلك عني} أي مجاوزاً لي حتى كأني لم أكن فيه ساعة قط {سلطانيه *} أي تسلطي على الدعاة إلى الله بالشبه الباطلة التي كان يطلق اللسان بها فأساعده عليها مع ظهور بطلانها الملك الذي أوصل إليه المال فعاد لأن ذلك الملك الأعظم هلك والمساعد أبعد مباعد.

ولما كان كأنه قيل: هذا ما قال، فما يقال؟ أجيب بأنه يقال للزبانية تعذيباً لروحه بالتوبيخ والأمر بالتعذيب على رؤس الأشهاد:{خذوه} أي أيها الزبانية الذين كان يستهين بهم عند سماع ذكرهم.

ولما كان الأخذ دالاً على الإهانة الناشئة عن الغضب، سبب عنه قوله:{فغلوه *} أي اجمعوا يديه إلى عنقه ورجليه من وراء قفاه إلى ناصيته.

ولما كان الغل لما بعده من العقاب، قال معظماً رتبة عقابه في الشدة والهول بالتعبير بأداة التراخي:{ثم الجحيم} أي النار العظمى التي تجمح على من يريد دفاعاً وتحجم عنها من رآها لأنها في غاية الحمو والتوقد والتغيظ والتشدد {صلوه *} أي بالغوا في تصليته إياها

ص: 368

وكرروها لغمسه في النار كالشاة المصلية مرة بعد أخرى ولا تصلوه في أول أمره غيرها لأنه كان لا يألو جهداً أن يحرق قلوب النصحاء بأشد ما يقدر عليه من الكلام وغيره، وكان يتعظم على الضعفاء، فناسب أن يصلي أعظم النيران، وعبر أيضاً بأداة التراخي لعلو رتبة مدخولها، فقال مؤذناً بعدم الخلاص:{ثم في سلسلة} أي عظيمة جداً لا ما هو دونها.

ولما قدمها دلالة على الاهتمام بها وعلى تخصيصها لشدة مخافتها، عرف بعظيم هولها وشدة فظاعتها ليجتمع المفهوم والمنطوق على تهويلها فقال:{ذرعها} أي في أيّ شيء فرضت من طول أو عرض {سبعون ذراعاً} يحتمل أن يكون هذا العدد حقيقة، وأن يكون مبالغة، والذي يدل على أنها للمبالغة ما رواه الترمذي - وقال: إسناده حسن - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن رصاصة مثل هذه - وأشار إلى مثل الجمجمة - وأرسلت من السماء إلى الأرض - وهي مسيرة خمسمائة سنة - لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها وقعرها» وأشار سبحانه

ص: 369

إلى ضيقها على ما تحيط به من بدنه بتعبيره بالسلك فقال: {فاسلكوه *} أي أدخلوه بحث يكون كأنه السلك - أي الحبل - الذي يدخل في ثقب الخرزة بعسر لضيق ذلك الثقب إما بإحاطتها بعنقه أو بجميع بدنه بأن تلف عليه فيصير في غاية الضنك والهوان لا يقدر على حركة أصلاً، وهذا تعذيب القالب لأنه أفسد القلب بعدم الإيمان والقالب بعدم الأعمال.

ولما ذكر على الإجمال عقابه أتبعه أسبابه، فقال بادئاً بأعظمها مؤكداً لأن كل كافر حتى المعطل يقر بالله تعالى نوع إقرار ويدعي الإيمان به نوع ادعاء، لأنه لا يقدر على غير ذلك لما له سبحانه من غلبة الظهور وانتشار الضياء والنور:{إنه كان} أي جبلة وطبعاً وإن أظهر شيئاً يلبس به على الضعفاء ويدلس على الأغنياء {لا يؤمن} أي الآن ولا في مستقبل الزمان {بالله} أي الملك الأعلى الذي يعلم السر وأخفى.

ولما كانت عظمة الملك موجبة لزيادة النكال لمن يعانده على قدر علوها، وكان الذي أورث هذا الشقي هذا الخزي هو تعظمه على أمر الله وعباده، أشار إلى أنه لا يستحق العظمة غيره سبحانه فقال:{العظيم *} أي الكامل العظم.

ص: 370

ولما بين عناده للملك الأعظم بإفساده القوة العلمية بين ما يوجبه الكفر من احتقاره للضعفاء إفساداً للقوة العملية إعلاماً بأنه مكلف بفروع الشريعة كما أنه مكلف بأصولها، وبياناً لأن عناده لمن فوقه لرداءة طبعه لا لعلو همته، فقال معظماً لهذا الذنب لجعله في سياق الكفر وبالتعبير بالحض مشيراً به إلى أن فاعل ذلك شديد الاستغراق في حب الدنيا لأنه لا يمنعه من حث غيره على الخير إلا ادخاره لنفسه:{ولا يحض} أي يحمل ويحث {على} بذل {طعام} أو إطعام {المسكين *} أي تسهيله بإعانته عليه إن كان موجوداً، والسؤال في بذله وما يقوم مقامه إن كان مفقوداً، فكيف بالبذل من عنده، فإن ذلك لا يحمل عليه إلا الإيمان لخلوه عن حظ، والتقييد يفهم أنه يحث على خدمة الأكابر الجبابرة ويحب العكوف على أبوابهم والإضافة مع التعبير بالطعام دون الإطعام تشعر بأن الفقراء يملكون كفايتهم من أموال الأغنياء، فدل ذلك على أنه مع كفره هو أشنع صفات الباطن في غاية الشح والقساوة وعدم المروءة للإعراض عن أسباب التمدح وعن التنزه عن سوء القالة وقبيح الذكر، وذلك أشنع الرذائل، فلذلك خصص هذين الأمرين، وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يحض على طعامهم ويقول: خلعنا نصف السلسة بالإيمان أفلا نخلع الآخر -

ص: 371

يعني بالحث على الإطعام، وذمه على الاستهان بالمساكين يفهم الذم على الاستهانة بمن هم دونهم ممن هو أسوأ حالاً منهم بطريق الأولى.

ولما وصفه سبحانه وتعالى بأقبح العقائد وأشنع الرذائل، سبب عنهما في مقابلة إفساد القوتين العلمية قوله:{فليس له اليوم} ولما ذكر الزمان المتعقب للبعث، ذكر المكان الكائن فيه وهو الدار الآخرة فقال:{ههنا} أي في مجمع القيامة كله {حميم *} أي صديق خالص يحترق له ويحميه من العذاب لأنهم كلهم له أعداء كما أنه هو كان لا يرق على الضعفاء فيما هم فيه من الإقلال من حطام الأموال.

ولما نفى عنه الجاه لانسلاخه من حزب الملك الولي الودود، وتحيزه إلى حزب الشيطان العدو الجحود، أتبعه المقصود بالمال الذي تنشأ عنه جميع الاستمتاعات ويقصد عنده الاجتماع والأنس بالأصحاب لإخلاده إلى ماله وإعراضه عن عيال الملك لأجل ضعفهم الذي وهبه المال وأمره بمواساتهم فيه فقال:{ولا طعام} ولما كان الاستثناء معياراً للعموم قال: {إلا من غسلين *} أي غسالة أهل النار من فيحهم وصديدهم، فعلين من الغسل، ويلزم من هذا الطعام أن

ص: 372

يكون تحت غيره ليسيل ماء غسالته إليه.

ولما حصر طعامهم فيما لا يقربه أحد باختياره، حصر من يتناوله معبراً عنهم بالوصف الذي أوجب لهم أكله فقال:{لا يأكله} وفرغ الاستثناء تنبيهاً على أن المستثنى هو المقصود حتى كأنه لا مستنثى منه فقال: {إلا الخاطئون *} أي يأكله المتعمدون للخطايا لا غيرهم، وهو من خطأ الرجل بوزن فرح مهموزاً - إذا تعمد الذنب، وأما المخطىء فهو من قصد الخير فلم يصبه بغير تعمد {فليس عليكم جناح فيما أخطأتم به} أي أردتم الصواب فلم تصيبوه، وهذا الطعام يغسل ما في بطونهم من الأعيان والمعاني التي بها قوام صاحبها، وهو بمنزلة ما كانوا يشحون به من أموالهم التي أبطنوها وادخروها في خزائنهم واستأثروا بها على الضعفاء.

ولما ذكر سبحانه وتعالى الحاقة التي جعلها دار الحساب للمحسن والمسيء اللذين قسمتهما القدرة واقتضتهما الحكمة، وصوب إليهما القرآن الذي هو ذكر للعالمين بالوعد والوعيد والبشارة والتهديد، ومن المعلوم ببديهة العقل أنه لا يصح أصلاً في حكمة أحد أن يترك من تحت يده هملاً لا سيما إن كان تقدم إليهم بالأمر والنهي، وأقام الدليل على قدرته عليها بتعذيب من استأصلهم لأجل تكذيب رسله ليكون

ص: 373

عذابهم وتنجية المحسنين منهم مثلاً محسوساً تشهد فيه الحاقة، لأن من قدر على ذلك كانت له القدرة التامة على كل ممكن، وذكر ما دلت الحكمة عليه من تنعيم الطائع وتعذيب العاصي بما هو أنسب الأشياء لعمل كل منهما في هذه الأساليب المعجزة مفردات وتراكيب ومعاني، فدل ذلك على آخر سورة «ن» عاد إلى تقريره بوجه آخر، وهو أنه لتمام علمه وكمال قدرته لا يقرر من كذب عليه على كذبه فضلاً عن أن يؤيده، فقال مسبباً عن ذلك حين بلغ الأمر في الوضوح إلى النهاية، ذاكراً ما هو أبلغ من القسم لأن بعض أهل الجدل إذا حجه خصمه يقول: إنما غلبتني بأنك أتقن مني في الجدل بالحق، فإن الحق معي، فيحلف له صاحبه أنه ما غالطه ولا تعمد في جدله إلا الحق، {فلا أقسم} أي لا يقع مني إقسام {بما} أي بمجموع ما {تبصرون *} أي لكم أهلية إبصاره من كل ما دخل في عالم الشهادة {وما لا تبصرون *} أي ما ليس لكم في هذا الدار أهلية إبصاره، وذلك جميع الموجودات واجبها وجائزها معقولها ومحسوسها، لأن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى إقسام وإن كنت أقسم في غير هذا الموضع بما شئت من أفراد هذا المجموع.

ص: 374

ولما أكد غاية التأكيد بما قال من أن الأمر وصل في الوضوح إلى حد لا يحتمل التأكيد، فكان ذلك تأكيداً بعدم التأكيد، استأنف الخبر عما أخبر أنه لا يحتاج إلى إقسام بإثبات أداة التأكيد لأجل إنكارهم ليكون الكلام جامعاً بين التأكيد بالنفي وبين التأكيد بالإثبات فقال:{إنه} أي هذا الذي ختمت به سورة «ن» ودل على الساعة بما أتى به من هذه الأساليب التي هي مع كونها حكيمة معجزة {لقول} أي تلاوة {رسول} أي أنا أرسلته وعني أخذه، وليس فيه شيء من تلقاء نفسه إنما هو كله رسالة واضحة جداً، أنا شاهد بها بما له من الإعجاز الذي يشهد أنه كلامي.

ولما كان من شأن الرسول أن لا يبلغ إلا ما أرسله به مرسله، وكان بعض الرسل ربما زاد أو نقص تعمداً أو سهواً، أخبر أن له صلى الله عليه وسلم من الوصف ما يحفظه فقال:{كريم *} أي هو في غاية الكرم الذي هو البعد عن مساوىء الأخلاق بإظهار معاليها لشرف النفس وشرف الآباء فهو لا يزيد ولا ينقص، وكرم الشيء اجتماع الكمالات اللائقة به فيه.

ص: 375

ولما أثبت أنه قوله سبحانه وتعالى لأنه قول رسوله صلى الله عليه وسلم لنا وهولا ينطق عن الهوى، نفى عنه ما يتقولونه عليه، فبدأ بالشعر وهو ما يقوله الإنسان من تلقاء نفسه على وزن مقصود صدقاً كان أو كذباً، ولا بد فيه للتقيد بالوزن والقافية من التكلف الذي القرآن بعيد عنه، وهو مع مشاركته للسجع في التكلف الناقص للمعنى أعلى منه بالوزن الذي يكسبه الرونق والحلاوة فقال:{وما هو} أي هذا الذكر في باطن أمره ولا ظاهره، وأكد النفي فقال:{بقول شاعر} أي يأتي بكلام مقفى موزون بقصد الوزن، وإنما قيل أنه ليس بقول من هو كذلك لأنه، لا يوافق الوزن فيه إلا أماكن نادرة بالنسبة إلى مجموع القرآن، ومن المقطوع به أن ذلك لا يرضى به شاعر وهو أنه ينصب نفسه منصب النظم والارتهان بعهدة الوزن، ثم يأتي بكلام أكثره غير موزون، فعلم قطعاً أن الذي وافق الوزن فيه غير مقصود فليس بشعر.

ولما كانت مخالفة القرآن للشعر خفية من حيث أنه لا يعرف ذلك إلا الشعراء وهم قليل في الناس، والأغلب لا يعرفون ذلك، ختم الآية بالإيمان الذي هو التصديق بالغيب فقال تعالى:{قليلاً ما تؤمنون *} أي ما توجدون التصديق الذي هو الإيمان إلا إيجاداً أو زماناً قليلاً، وذلك لأني قد أخبرتكم بذلك في غير موضع فلم تصدقوا وفيكم شعراء كثير يعرفون

ص: 376

معرفة تامة أنه مخالف للشعر، وقد أخبركم بعضهم بذلك كالوليد بن المغير وعتبة ابن ربيعة وغيرهما ثم لا تتبعون ذلك ثمرته، وهو الإيمان بالله ورسوله، وإيمانهم القليل إقرار من أقر من شعرائهم أنه ليس بشعر، وإخلاصهم بالوحدانية عند الاضطرار وإفرادهم الخالق بالخلق والربوبية، وهو إيمان لغوي لا شرعي، ولما كان من يعرف الشعر يعرف النثر فهو أعلى فقدمه، أتبعه النثر فقال:{ولا بقول كاهن} وهو المنجم الذي يخبر عن أشياء يوهمها لرئي يخبره بذلك، وأغلبها ليس لها صحة، وعبارته عن ذلك بالسجع المتكلف المقصود كونه سجعاً الذي يكون المعنى فيه تابعاً للفظ للتحلية بمشاكلة المقاطع.

ولما كانت مباينة القرآن للسجع خفية جداً لما فيه من الفواصل في الأغلب وتركها في البعث فارق لأن الساجعين لا يرضون أن يأتوا بقرينة لا أخت لها ويعدون ذلك وعياً عيباً رديئاً، وكذا تطويل السجعة عن قرينتها وتضعيفها على عديلتها لا يرضى به ساجع ولو أنه هاجع، ومباينة النبي صلى الله عليه وسلم للكهنة ظاهرة جداً، فإن الكاهن من ينصب نفسه للدلال على الضوائع والإخبار بالمغيبات يصدق فيها تارة ويكذب كثيراً، ويأخذ الجعل على ذلك، ويقتصر على من يسأله، فعبر لذلك ب «كاهن» دون «ساجع» أدار أمره على التفكر

ص: 377

فقال: {قليلاً ما} وأكد أمر القلة والخفاء بإدغام تاء التفعل فقال تعالى: {تذكرون *} فلذلك يلتبس عليكم الأمر أو على من تلبسون عليه بذلك، فعلم أن الذي يفرق بينهما موجود فيهم لأنه يرى أن الكتاب تابع للمعنى الصحيح الثابت، فإن صح غاية الصحة مع وجود القرائن المتوافقة في الروي كان وإلا انتقل عن ذلك إلى قرائن غير متوافقة في روي ولا ما يقاربه، أو قريبة مفردة مع إمكان جعلها كما قبلها لكن مع نقصان المقصور وطول الكلام ونحو ذلك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدّع يوماً من الأيام علم الغيب ولا نصيب نفسه الشريفة لشيء مما الكهان فيه ولا نقل في ساعة من الدهر عن الجن خبراً ذكر أنه استفاده منهم ولا مدحهم لذلك كما تفعل الكهان، بل ذم الفاسقين منهم غاية الذم وقال: إن أكثر ما يأتون به الكذب، ولا سأل جعلاً عما يدعو إليه ولا اقتصر على من يأتيه للسؤال، بل هو صلى الله عليه وسلم يتبع الناس في مجامعهم يدعوهم إلى الله بإنقاذهم نم الضلال فمباينته للكهان لا يحتاج إلى غير تذكر قليل - كما أشار إليه إدغام تاء التفعل - فثبت أن القول ليس بكهانة، وقائله والمؤدي له ليس بكاهن، ونسبة القول إلى المبلغ لكونه مبلغاً واضحة الصحة.

ص: 378

ولما أثبت أنه قول الرسول الذي لا ينطق عن الهوى، ونفى عنه ما قد يلبس من الشعر والكهانة، ولم يذكر ما كانوا يرمونه به من السحر والأضغاث لأنه عتاد محض لا يرتاب أحد فيه، وكانت السورة مقصوداً فيه إثبات الحقائق التي قد تخفى، وصفه بما يحقق ما أريد من نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:{تنزيل} أي على وجه التنجيم وأشار إلى إرساله إلى جميع الخلق من أهل السماوات والأرض بقوله: {من رب العالمين *} أي موجدهم ومدبرهم بالإحسان إليهم بما يفهم كل منهم من هذا الذكر الذي رباهم به، ورتب سبحانه نظمه على وجه سهله على كل منهم شيئاً يكفي في هدايته البيانية بخلاف الشعر والكهانة فإنه لا يفهمهما إلا قليل من الناس لا جميع العالمين، بل كثير من أكابر العلماء وحذاقهم ربما قرىء على أحد منهم الآن القصيدة من قصائد العرب فلا يفهم المراد منها ولا يتضح له بوجه.

ولما كان قد بقي من الأقسام التي كانوا يتقولونها عليه الافتراء في الرسالة بمعنى أنه عثر على بعض كتب الله تعالى التي نزلت على من قبله من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فانتحلها من غير أن يوحى إليه، وكان الدليل على أن ذلك ليس كذلك أن العادة تحيل أن يطلع شخص من الناس على شيء لم يطلع أحد منهم ولا سيما إن كان ذلك الشخص قليل المخالطة للعلماء فكيف إذا كان أمياً لا يكتب ولا يقرأ كما كان صلى الله عليه وسلم،

ص: 379

قال عاطفاً على ما تقديره: فلو لم يكن تنزيل رب العالمين عليه لم يعجزوا عنه: {ولو تقوّل} أي كلف نفسه أن يقول مرة من الدهر كذباً {علينا} على ما لنا من صفات العظمة والجلال والبهاء والكمال والكبرياء {بعض الأقاويل *} التي لم نقلها أو قلناها ولم نأذن له فيها، وهو جمع أفعولة من القول كالأضاحيك جمع أضحوكة، لا جمع أقوال، ليكون جمع الجمع، لأنه يلزم عليه أن لا يعاقب بما دون ثلاثة أقوال {لأخذنا} أي بعظمتنا أخذ قوة وغضب وقهر وإهلاك، وأكده للإعلام بشدة الغضب من الكذب وشدة قبحه.

ولما كان أخذه أخذاً يتلاشى عنده كل أخذ لأن من افترى على الملوك لا يفعل به إلا ذلك قال: {منه} أي خاصة {باليمين *} أي التي هي العضو الأقوى منه فيها يكون بطشه فنذهبه بشدة بطشنا، أو اليمين منا، فيكون كناية عن أخذنا له بغاية القوة، فإن قوة كل شيء في ميامنه، وقيل: إذا أراد الملك إهانة شخص قال: خذه يا فلان، فيأخذه بيمينه، فهو كناية عن الإذلال، وقيل: هذا تصوير قتل الصبر بأشنع صورة، فإن الملك إذا أراد التخفيف على من يقتله أمر السياف فأخذ يساره بيساره، وضرب بالسيف من ورائه لأن العنق

ص: 380

من خلف أوسع فيكون أسرع قطعاً ولا يرى المقتول لمع السيف، وإن أراد التعذيب والمبالغة في الإهانة أخذ يده اليمنى بيده اليسرى وضربه وهو مستقبل له يرى لمع السيف، وربما وقعت الضربة لضيق المجال من قدام في حنكه فيحتاج إلى ثانية وثالثة فهو أفحش.

ولما صور مبدأ الإهلاك بأفظع صورة، أتمه مشيراً إلى شدة بشاعته بحرف التراخي فقال:{ثم لقطعنا} حتماً بلا مثنوية بما لنا من العظمة قطعاً يتلاشى عنده كل قطع {منه الوتين} أي العرق الأعظم في العنق الثابت الدائم المتين الذي يسمى الوريد، وهو بين العلباء والحلقوم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه نياط القلب، وفي القاموس: عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه - انتهى. واختير التعبير به لأن مادته بهذا الترتيب تدور على المتانة والدوام، فلذا كان يفوت صاحبه بفواته، وقال ابن برجان: عرق متصل بنياط القلب مستبطن للصلب يملأ الجسد كله تسقيه الكبد وهي بيت الدم وهو يجري منها الدم في البدن يأخذ منه ستون عرقاً هي أنهار الدم في الجسد كله، من هذه الأنهار تأخذ الجسد ثمانية عشر تسقي الصدر، وسبعة تسقي العين، وأربعة تسقي الدماغ، والوتين من مجمع الوركين إلى مجمع

ص: 381

الصدر بين الترقوتين، ثم ينقسم عنه سائر العروق إلى سائر الجسد، ولا يمكن في العادة الحياة بعد قطعه، وفي المائدة عند قوله {والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67] ما ينفع هنا.

ص: 382

ولما أتم تصوير ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه من أن يأخذ السيئات أو أعوانه بيمينه ويكبحه كالسيف فيضربه عنقه، سبب عنه قوله إتماماً لعظمته بقوله:{فما منكم} أي أيها الناس، وأعرق في النفي فقال:{من أحد عنه} أي القتل أو المقتول المنقول، ولما كان «أحد» عاماً حقق عمومه واصفاً له، وأخبر عن «ما» على لغة الحجاز بقوله:{حاجزين *} أي يكون حاجزاً جزماً كثيفاً مانعاً من الوصول إليه فلا غرض يتعلق من عاقل أن ينصح لأحد بنصيحة تعود إلى المنصوح وحده بالنفع ولاحظ للقائل فيها بكذب يكلف نفسه تقوله على ملك لا يقدر ذلك المنضوح أن يحميه من عقوبته على ذلك الكذب، واختار الإخبار بالجمع لأنه يدل على عدم حجز الفرد من باب الأولى و «منكم» حال لتقدمه، وهذا كله كناية على أبلغ الوجوه عن أن هذا الذكر كلام الله لا شبهة فيه بوجه، مضموماً ذلك إلى وجوه إعجازه، فإن «لو» لامتناع الثاني لأجل امتناع الأول، فالتقدير كما يقال في القياس الاستثنائي: لكنا لم نأخذه هذا الأخذ فثبت أنه ما تقول علينا شيئاً، فثبت أن ما قال كلامنا ثبوتاً تاماً بالبرهان على وجه لا يرام نقضه.

ص: 382

ولما كان هذا كناية عن هذا من غير نظر إلى حقائق مفرداته ولا معنى شيء منها على انفراده، فكان كأنه قيل: تنزيل من رب العالمين غير متخيل فيه الكذب بوجه، عطف على ذلك قوله:{وإنه} أي القرآن بعد أن كان ذكراً لجميع العالمين {لتذكرة} أي مذكر عظيم جداً {للمتقين *} أي من العالمين لأنهم المنتفعون به لإقبالهم عليه إقبال مستفيد.

ولما علم من هذا أنه سبحانه عالم بقسمي المسيء والحسن ظواهرهم وبواطنهم، صرح بالقسم الآخر، فقال مؤكداً لأجل إنكار الضلال:{وإنا} أي بما لنا من العظمة {لنعلم} أي علماً عظيماً محيطاً {أن منكم} أيها الأرضيون السفليون الذين ليس لهم أهلية العلو إلى تجريد الأرواح عن علائق الجسد الكثيفة {مكذبين *} أي عريقين في التكذيب فأنزلنا الكتب وأرسلنا الرسل ليظهر منكم إلى عالم الشهادة منها ما كنا نعمله في الأزل غيباً من تكذيب وإيمان فتستحقون بذلك العقاب أو الثواب، فلذلك وجب في الحكمة التي لا يكذب بها أحد ولا يشك في أنها خاصة الملك المظهرة للكمال أن يعيد الخلق إلى ما كانوا عليه من أجسامهم قبل الموت لنحكم بينهم فنجازي كلاًّ

ص: 383

بما يليق به إظهاراً للعدل.

ولما كان سبب التكذيب ستر ما تجليه مرائي العقول من الدلائل، وكان التقدير: فإنه بشرى للمؤمنين، ولكنه طواه لأن السيق للتهديد بالحاقة، عطف عليه قوله مؤكداً لما لهم من التكذيب به، {وإنه} أي القرآن العظيم {لحسرة} أي بما يرى من تأويله في الدنيا والآخرة {على الكافرين *} أي العريقين في الكفر لكونهم كذبوا به لما يظهر لهم من جزائهم وجزاء المؤمنين.

ولما كان كل من الفريقين يذوق جزاءه في الآخرة، هـ وكان كل أحد سمع القرآن ذاق أنه لا يقدر على الإتيان بشيء يماثله ولا يدانيه، قال مؤكداً تنزيلاً لهم في عداد الجاهلين:{وإنه} أي القرآن أو الجزاء في يوم الجزاء {لحق اليقين *} أي الأمر الثابت الذي يذاق فيصير لا يقبل الشك فهو يقين مؤكد بالحق. من إضافة الصفة إلى الموصوف، وهو فوق علم اليقين، وفي ذلك إشارة إلى أن العبد ينبغي له أن يتحقق لذلك معرفة الحق فيكون مشاهداً للغيوب كمشاهدة المرئيات لما يشاهد من أمثالها، فأمر البعث يشاهد كل يوم في الليل والنهار وفي العام في النبات وغير ذلك.

ولما كان البعث لهذا المقصد من أعظم الكمال، وكان عدمه موجباً للنقص، سبب عن كلا الأمرين إشارة وعبارة قوله آمراً بعد

ص: 384

الإخبار في أول المسبحات: {فسبح} أي أوقع التنزيه الكامل عن كل شائبة نقص {باسم} أي بسبب علمك بصفات {ربك} أي الموجد والمربي لك والمحسن إليك بأنواع الإحسان {العظيم *} الذي ملأت الأقطار كلها عظمته، وزادت على ذلك بما شاءه سبحانه مما لا تسعه العقول لا سيما عن قولهم: لن يعيدنا، فإنه سبحانه وتعالى قادر على ذلك لا يعجزه شيء، وقد وعد بذلك وهو صادق الوعد، وعدم البعث مخل بالحكمة لظلم أكثر الناس، وفيه إشارة إلى المتاركة، وتعجيب من حالهم في تصميمهم على الكذب والعناد، والجلد على الجدل والفساد، فقد رجع آخر السورة على أولها بإحقاق الحاقة لنفي ما وقع الخبط فيه في دار الاحتجاب بالأسباب من مواقع النقص ومظنات اللبس، فيثبت الحق وينفي الباطل فيفرق بين المحسن والمسيء والسعيد والشقي، فيحق السلام لحزب الرحمن، ويثبت الهلاك لأصحاب الشيطان، ويظهر اسمه الظاهر لكل مؤمن وكافر، إن في ذلك لعبرة لأولي الألباب والله الهادي.

(سورة المعارج)

وتسمى سأل.

مقصودها إثبات القيامة وأنذار من كفر بها وتصوير عظمتها بعظمة

ص: 385

ملكها وطول يومهت وتسلية المنذر بها بما لمن كذبه بما له من الصغار والذل والتبار، ودل على وجوب وقوعها سابقا بما ختمه بتسميتها في السورة الماضية بالحاقة تنبيها على أنه لا بد منها ولا محيد عنها، ودل على ذلك بالقدرة في أ، لها والعلم في اثنائها والتنزه عما في إهمالها من النقص في آخرها ولا خفاء بما أخبر من أنه أرسل جميع رسله بالتحذير منها فأرسل نوحا عليه السلام يفي الزمان الأقدم كما ذكر في سورته عند ما اختلف الناس بعدما كانوا عليه يفي زمان أبيهم آدم عليه الصلاة والسلام من الاتفاق على الدين الحق فافترقوا إلى مصدق ومكذب، فعلم منه أ، من بعده أولى بذلك لقربهم منها وأتبع ذلك الإعلام أنه دعاإلى ذلك الجن الذين كان سبيلهم فيها سبيل الآدميين، وأتبع ذلك بعد إرسال أول الرسل بها زمانا - آخرهم زمانات وأولهم نبوة حين كان نبيا وآدم بين الروح والجسد، فبدا بسورة المزمل بنبوته ومزيد ترزكيته وتقديسه ورفعته والإخبار عن رسالته والتحذي من مخالفته، وأتبع ذلك الإنذار بها بالصدع بالرسالة بمحو كل ضلالة، فلما تقررت نبوته وثبتت رسالته على أجمل الوجوه وأجلاها

ص: 386

وأبينها وأعلاها، اشرفها وأولاها، جعل سبحانه سورة القيامة كلها لها إعلاما بأن الأمر عظيم جدا يجب الاعتناء به والتأهب له والاجتهاد بغاية القوة وإفراغ الجهد، ثم اتبع ذلك الإنسان دلالة على أنه المقصود بالذات من الأكوان، فاليسوغ في الحكمة أن يجعله سبحانه سدى وبين كثيرا من أحوالها ثم أقسم في المرسلات أن أملاها حق لا بد منه ولا مندوحة عنه، ثم عجب في " عم " منهم في تساؤلهم عنها وتعجيبهم منها ثم أقسم على زقزعها في النازعات وصور من أمرها وهزاهزها ما أراد، ثم أولى ذلك الدلالة في سورة عبس على أن من الناس من طبع على قلبه فلا حيله في تصديقه بها مع ما تبين بالسورة الماضية وغيرها من أمرها، ثم صورها في " كورت " تصوير صارت من رأي عين لو

كشف الغطاء ما ازداد الموقنون بها يقينا، ثم بين في الانفطار أن الأمور فيها ليست على منهاج الأمور هنأ، بل الأسباب كلها منقطعة والأنساب مرتفعة، والكل خاضعون مخبتون خاشعون، أعظمهم في الدنيا تجبرا أشدهم هنالك صغارا وتحسرا، ثم أتبع ذلك من يستحق هنالك النكال والسلاسل والأغلال، ثم أولاه رفعة أهل الإيمان الذين طبعهم على الإقرار بها والعرفان، واستمر على هذا إلى آخر القرآن قل أن تأتي سورة إلا وهي معرفة بها غاية المعرفة إلى أن ختمك بالدين إشارة بذلك إلى أن معرفتها هي الدين

ص: 387

وأشار في " تبت " إليها وأتبعها الإخلاص إشارة إلى أنه لا يسلم فيها إلا الموحدون المعاذون من الفتن الظاهرة والباطنة، المتصفون بالمحامد المتعاظمة المتكاثرة، فآذن ذلك أن أكثر غاية القرآن في أمرها العظيم الشأن لأنه لا كتاب بعد هذا الكتاب ينتظر ولا أمة أشرف من هذه تخص ببيان أعظم من بيانها وهو أحد الأوجه التي فاق بها القرآن على الكتب الماضية والصحف الكائنة في القرون الخالية، وآذن ذلك بأن الأمر قد قرب والهول قد دهم والخوف قد قدح، ليشمر أهل الاختصاص في النجاة من عذابها والخلاص حين لا مفر ولا ملجأ ولات حين مناص، نسأل الله العافية في يومها والعيشة الراضية، وعلى هذا المقصد دل اسمها " سأل " وكذا المعارج وهما أنسب ما فيها للدلالة على ذلك، وقانا الله سبحانه وتعالى من آفاتها والمهالك آمين) بسم الله (الملك الأعظم الذي تنقطع الأعناق والآمال دون عليائه) الرحيم (الذي أوضح نعمة البيان وعم بها وشهرها حتى صارت في الوضوح إلى حد لا مطمع لأحد في ادعاء خفائه) الرحيم (الذي اصطفى من عباده من وفقهم للفهم عنه والطاعة له، فكان من أوليائه.

ص: 388

لما ختم أمر الطامة الكبرى في الحاقة حتى ثبت أمره، وتساوى سره وجهره، ودل عليها حتى لم يبق هناك نوع لبس في وجوب التفرقة في الحكمة بين المحسن والمسيء، وختم بأن ترك ذلك مناف للكمال فيما نتعارقه من أمور العمال بعد أن أخبر أنه يعلم أن منهم مكذبين، وكان السائل عن شيء يدل على أن السائل ما فهمه حق فهمه، ولا اتصف بحقيقة علمه، عجب في أول هذه ممن سأل عنها فقال:{سأل} ودل على أنه لو لم يسأل عنها إلا واحد من العباد لكان جديراً بالتعجب منه والإنكار عليه بالإفراد في قوله: {سائل} وهو من السؤال في قراءتي من خفف بإبدال الهمزة ألفاً ومن همز.

ولما كان سؤالهم من وقت مجيء الساعة والعذاب وطلبهم تعجيل ذلك إنما هو استهزاء، ضمن «سأل» استهزاء ثم حذفه ودل عليه بحال انتزعها منه وحذفها ودل عليها بما تعدى به فقال، أو أنه حذف مفعول السؤال المتعدي «بعن» ليعم كل مسؤول عنه إشارة إلى أن من تأمل الفطرة الأولى وما تدعو إليه من الكمال فأطاعها فكان مسلماً فاضت عليه العلوم، وبرقت له متجليه أشعة الفهوم، فبين المراد من دلالة النص بقوله:{بعذاب} أي عن يوم القيامة بسبب

ص: 389

عذاب أو مستهزئاً بعذاب عظيم جداً {واقع *} وعبر باللام تهكماً منهم مثل {فبشرهم بعذاب} فقال: {للكافرين} أي الراسخين في هذا الوصف بمعنى: إن كان لهم في الآخرة شيء فهو العذاب، وقراءة نافع وابن عامر بتخفيف الهمزة أكثر تعجيباً أي اندفع فمه بالكلام وتحركت به شفتاه لأنه مع كونه يقال: سال يسأل مثل خاف يخاف لغة في المهموز يحتمل أن يكون من سأل يسأل، قال البغوي: وذلك أن أهل مكة لما خوفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب قالوا: من أهل هذا العذاب ولمن هو؟ سلوا عنه، فأنزلت.

ولما أخبر بتحتم وقوعه علله بقوله: {ليس له} أي بوجه من الوجوه ولا حيلة من الحيل {دافع *} مبتدىء {من الله} أي الملك الأعلى الذي لا كفؤ له فلا أمر لأحد معه، وإذا لم يكن له دافع منه لم يكن دافع من غيره وقد تقدم الوعد به، ودلت الحكمة عليه فتحتم وقوعه وامتنع رجوعه.

ولما كان القادر يوصف بالعلو، والعاجز يوصف بالسفول والدنو، وكان ما يصعد فيه إلى العالي يسمى درجاً، وما يهبط فيه إلى السافل يسمى دركاً، وكانت الأماكن كلها بالنسبة إليه سبحانه على حد سواء، اختير التعبير بما يدل على العلو الذي يكنى به عن القدرة والعظمة، فقال واصفاً بما يصلح كونه مشيراً إلى التعليل:{ذي المعارج *}

ص: 390

أي الدرج التي لا انتهاء لها أصلاً - بما دلت عليه صيغة منتهى الجموع وهي كناية عن العلو، وسميت بذلك لأن الصاعد في الدرج يشبه مشية الأعرج، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها السماوات، ودل على ما دلت عليه الكثرة مع الدلالة على عجيب القدرة في تخفيفها على الملائكة بقوله:{تعرج الملائكة} أي وهم أشد الخلق وأقدره على اختراق الطباق، والإسراع في النفوذ حتى يكونوا أعظم من لمح البرق الخفاق {والروح} أي جبريل عليه السلام، خصه تعظيماً له، أو هو خلق هو أعظم من الملائكة، وقيل: روح العبد المؤمن إذا قبض {إليه} أي محل مناجاته ومنتهى ما يمكن من العلو لمخلوقاته، وعلق بالعروج أو بواقع قوله:{في يوم} أي من أيامكم، فيه آدمياً {خمسين ألف} وبين المشقة في صعوده أو الكون فيه إن أريد القيامة بأن قال:{سنة *} ولم يقل: عاماً - مثلاً، ويجوز أن يكون هذا اليوم ظرفاً للعذاب فيكون المراد به يوم القيامة، وأن يكون طوله على الكافر باعتبار ما يلحقه من الغم لشدة المخاوف عليه لأنه ورد أنه يخفف على المؤمن

ص: 391

حتى يكون بمقدار صلاة واحدة - انتهى.

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المعنى أنه لو ولي الحساب غير الله لم يفرغ منه إلا في هذا المقدار، ويفرغ منه هو سبحانه في نصف يوم من أيام الدنيا، وقال مجاهد والحكم وعكرمة: هو عمر الدنيا من أولها إلى آخرها خمسون ألف سنة لا يدري أحدكم مضى وكم بقي إلا الله، وقد مضى في سورة {ألم السجدة} ما ينفع ههنا.

ولما كان هذا كله تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن استعجالهم إياه بالعذاب استهزاء وتكذيباً سواء أريد تصوير العظمة أو العذاب، سبب عنه قوله:{فاصبر} أي على أذاهم ولا ينفك ذلك عن تبليغهم فإنك شارفت وقت الانتقام منهم أيها الفاتح الخاتم الذي لم أبين لأحد ما بينت على لسانه، والصبر: حبس النفس على المكروه من الإقدام أو الإحجام، وجماله بسكون الظاهر بالتثبت والباطن بالعرفان {صبراً جميلاً *} أي لا يشوبه شيء من اضطراب ولا استثقال، ولا شكوى ولا استعجال، فإن عذابهم ونصرك عليهم لعظمة من أرسلك، فلا بد من وقوعه لأن القدح فيه والتكذيب به قدح فيها، وهذا قبل الأمر بالقتال.

ص: 392