المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بل علمنا شامل لجميع الكليات والجزئيات لأن ذلك مقتضى العظمة - نظم الدرر في تناسب الآيات والسور - جـ ٧

[برهان الدين البقاعي]

فهرس الكتاب

الفصل: بل علمنا شامل لجميع الكليات والجزئيات لأن ذلك مقتضى العظمة

بل علمنا شامل لجميع الكليات والجزئيات لأن ذلك مقتضى العظمة ما لنا من صفات الكمال، ومن لم يكن محيط العلم بأن يميز المطيع من العاصي لا يصح أن يكون إلهاً.

ص: 359

ولما تقدمت الإشارة بقوله تعالى {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط} [الأنعام: 152] الآية إلى المساواة الحقيقية في الميزان معجوز عنها وأنه أبعد المقادير عن التساوي، والنص في قوله تعالى {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها} [الأنعام: 160] على قدرة القدير على ذلك، وختم الآية السالفة بإحاطة العلم على الوجه الأبلغ المقتضي لذلك على أعلى الوجوه، أكد الأمر أيضاً وقصره على علمه هنا فقال:{والوزن} بميزان حقيقي لصحف الأعمال أو للاعمال أنفسها بعد تصويرها بما تستحقه من الصور أو بغير ذلك بعد أن يقذف الله في القلوب العلم به، ولعله حال من نون العظمة في الاية التي قبلها، أي إنا لا نكتفي بما نقص بل نزنه فيصير بحيث يظهر لكل أحد أنه على غاية ما يكون من التساوي؛ قال أبو حيان وعلي بن الحسين النحوي الأصفهاني في إعرابه:«الوزن» مبتدأ {يومئذ} ظرف منصوب به {الحق} خبر المبتدأ، زاد الأصفهاني فقال: واستضعف إعمال المصدر وفيه لام التعريف وقد ذكرنا أنه جاء في التنزيل {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} [النساء: 14‌

‌8]

- انتهى. أي والوزن في ذلك اليوم مقصور على الحق، يطابقه الواقع

ص: 359

مطابقة حقيقية لا فضل فيها أصلاً ولا يتجاوز الوزن في ذلك اليوم الحق إلى شيء من الباطل بزيادة ذرة ولا نقصها ولا ما دون ذلك، فتحرر أن مقصود السورة الحث على اتباع الكتاب، وهو يتضمن الحث على اتباع الرسول والدلالة على التوحيد والقدرة على البعث ببيان الأفعال الهائلة في ابتداء الخلق وإهلاك الماضين إشارة إلى أن من لم يتبعه ويوحد - من إنزله على هذا الأسلوب الذي لا يستطاع، والمنهاج الذي وقفت دونه العقول والطباع، لما قام من الأدلة على توحيده بعجز من سواه عن أقواله وأفعاله - أوشك أن يعاجله قبل يوم البعث بعقاب مثل عقاب الأمم السالفة والقرون الخالية مع ما ادخر له في ذلك اليوم من سوء المنقلب وإظهار اثر الغضب.

ولما أخبر أن العبرة بالميزان على وجه يظهر أنه لا حيف فيه بوجه، تسبب عنه قوله:{فمن ثقلت} أي دست ورسبت على ما يعهد في الدنيا {موازينه} أي موزونات أعماله، أي أعماله الموزونة، ولعله عبر بها عنها إشارة إلى ان كل عمل يوزن على حدة ليسعى في إصلاحه {فأولئك} أي العالو الهمم {هم} أي خاصة {المفلحون*} أي الظاهرون بجميع مآربهم {ومن خفت} أي طاشت {موازينه} أي التي توزن فيها الأعمال الصالحة {فأولئك} المبعدون {الذين خسروا أنفسهم} أي التي هي رأس مالهم فكيف بما دونها {بما كانوا بآياتنا} أي على ما لها من العظمة {يظلمون*}

ص: 360

أي باستمرار ما يجددونه من وضعها في غير المحل الذي يليق بها فعل من هو في ظلام؛ قال الحسن، وحق الميزان توضع فيه الحسنات أن يثقل، وحق لميزان توضع فيه السيئات أن يخف.

ولما أمر الخلق بمتابعة الرسل وحذرهم من مخالفتهم، فأبلغ في تحذيرهم بعذاب الدنيا ثم بعذاب الآخرة، التفت إلى تذكيرهم ترغيباً في ذلك بإسباغ نعمه وتحذيراً من سلبها، لأن المواجهة أردع للمخاطب، فقال في موضع الحال من {خسروا انفسهم} :{ولقد مكناهم} أي خسروها والحال أنا مكناكم من إنجائها بخلق القوى والقدر وإدرار النعم، وجعلنا مكاناً يحصل التمكن فيه {في الأرض} أي كلها، ما منها من بقعة إلا وهي صالحة لا نتفاعهم بها ولو بالاعتبار {وجعلنا لكم} أي بما لنا من العظمة {فيها معايش} أي جميع معيشة، وهي أشياء يحصل بها العيش، وهو تصرف أيام الحياة بما ينفع، والياء أصلية فلذا لا تهمز، وكذا ما ولي ألف جمعه حرف علة أصلي وليس قبل ألفه واو كأوائل ولا ياء كخيائر جمع أول وخير فإنه لا يهمز إلا شاذًا كمنائر ومصائب جمع منارة ومصيبة.

ولما كان حاصل ما مضى أنه سبحانه أوجدهم وقوّاهم وخلق لهم ما يديم قواهم، فأكلوا خيره وعبدوا غيره، أنتج قوله على وجه التاكيد:{قليلاً ما تشكرون*} أي لمن أسبغ عليكم نعمه ظاهرة

ص: 361

وباطنة بما تنجون به أنفسكم؛ وقال أبو حيان: إنه راجع للذين خوطبوا ب {اتبعوا ما أنزل إليكم} [الأعراف: 3] وما بينهما أورد مورد الاعتبار والاتعاظ بذكر ما آل إليه أمرهم في الدنيا وما يؤول إليه في الآخرة - انتهى.

ولما ذكر سبحانه ما منحهم به من التمكين، ذكّرهم ما كانو عليه قبل هذه المكنة من العدم تذكيراً بالنعم في سياق دال على البعث الذي فرغ من تقريره، وعلى ما خص به أباهم آدم عليه السلام من التمكين في الجنة بالخلق والتصوير وإفاضة روح الحياة وروح العلم وأمر أهل سماواته بالسجود له والغضب على من عاداه وطرده عن محل كرامته ومعدن سعادته وإسكانه هو بذلك المحل الأعلى والموطن الأسنى مأذوناً له في كل ما فيه إلا شجرة واحدة، فلما خالف الأمر أزاله عنه وأخرجه منه؛ وفي ذلك تحذير لأهل المكنة من إزالة المنة في استدرار النعمة وإحلال النقمة فقال:{ولقد خلقناكم} أي بما لنا من صفات العظمة {ثم صورناكم} أي قدرنا خلقكم ثم تصويركم بأن جعلنا فيكم قابلية قريبة من ذلك بتخصيص كل جزء من المادة بمقداره المعين بتخمير طينة آدم عليه السلام على حالة تقبل ذلك كما يهيأ التراب بتخميره بإنزال المطر لأن يكون منه شجرة، وقد تكون تلك الشجرة مهيأة لقبول صورة الثمرة وقد لا تكون كما قال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة

ص: 362

علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظماً فكسونا العظم لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر}

[المؤمنون: 12-14] وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح» وعنه أيضاً رضي الله عنه عند مسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب! أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك» الحديث. فظاهر هذا الحديث مخالف للفظ الذي قبله وللآية، فيحمل على أن معنى صورها: هيأها في مدة الأربعين الثانية لقبول الصورة تهيئة قريبة من الفعل، وسهل أولها بالتخمير على هيئة مخصوصة بخلاف ما قبل ذلك، فإنها كانت نطفة فكانت بعيدة عن قبول الصورة، ولذلك اختلفوا في احترامها وهل يباح إفسادها والتسبب في إخراجها، ومعنى «خلق» : قدر أي جعل لكل شيء من ذلك حداً لا يتجاوزه في الجملة، والدليل على هذا المجاز شكه في كونها ذكراً أو أنثى، ولو كان ذلك على ظاهره لما حصل شك في كونها ذكراً أو أنثى إذ آلة الذكر والأنثى

ص: 363

من جملة الصورة، وبهذا تلتئم هذه الاية مع قوله تعالى {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} [ص: 71] فهذا خلق بالفعل، والذي في هذه السورة بإيداعه القوة المقربة منه، والمراد من الآية التذكير بالنعم استعطافاً إلى المؤالفة وتفظيعاً بحال المخالفة، أي خسروا أنفسهم والحال أنا أنعمنا عليهم بنعمة التمكين بعد أن أنشأناهم على الصورة المذكورة بعد أن كانوا عدماً وأسجدنا ملائكتنا لأبيهم وطردنا من تكبر عليه طرداً لا طرد مثله، وأبعدناه عن محل قدسنا بعداً لا قرب معه، وأسكنا أباهم الجنة دار رحمتنا وقربنا، فقال تعال مترجماً عن ذلك:{ثم قلنا} أي على ما لنا من الاختصاص بالعظمة {للملائكة} أي الموجودين في ذلك الوقت من أهل السماوات والأرض كلهم، بما دلت عليه «ال» سواء قلنا: إنها للاستغراق أو الجنس {اسجدوا لآدم} أي بعد كونه رجلاً قائماً سوياً ذا روح كما هو معروف من التسمية؛ ثم سبب عن هذا الأمر قوله: {فسجدوا} أي كلهم بما دل عليه الاستثناء في قوله: {إلا إبليس} ولما كان معنى ذلك لإخراجه ممن سجد أنه لم يسجد، صرح به فقال:{لم يكن من الساجدين*} أي لآدم.

ص: 364

ولما كان مخالف الملك في محل العقاب، تشوف السامع إلى خبره فأجيب بقوله:{قال} أي لإبليس إنكاراً عليه توبيخاً له استخراجاً لكفره الذي كان يخفيه بما يبدي من جوابه ليعلم الخلق سبب طرده

ص: 364

{ما منعك} ولما كانت هذه العبارة قد صرحت بعدم سجوده، فكان المعنى لا يلبس بإدخال «لا» في قوله:{ألا تسجد} أتى بها لتفيد التأكيد بالدلالة على اللوم على الامتناع من الفعل والإقدام على الترك، فيكون كأنه قيل: ما منعك من السجود وحملك على تركه {إذ} أي حين {أمرتك} أي حين حضر الوقت الذي يكون فيه أداء المأمور به {قال} أي إبليس ناسباً ربه سبحانه إلى الجور أو عدم العلم بالحق {أنا خير منه} أي فلا يليق لي السجود لمن هو دوني ولا أمري بذلك لأنه مناف للحكمة؛ ثم بين وجه الخيرية التي تصورها بسوء فهمه أو بما قاده إليه سوء طبعه بقوله: {خلقتني من نار} أي فهي أغلب أجزائي وهي مشرفة مضيئة عالية غالبة {وخلقته من طين*} أي هو أغلب أجزائه وهو كدر مظلم سافل مغلوب، وقد غلط غلطاً فاحشاً فإن الإيجاد خير من الإعدام بلا نزاع، والنار سبب الإعدام والمحق لما خالطته، والطين سبب النماء والتربية لما خالطه، هذا لو كان الأمر في الفضل باعتبار العناصر والمبادىء وليس كذلك، بل هو باعتبار الغايات.

ولما كان هذا أمراً ظاهراً، وكان مجرد التكبر على الله كفراً على أيّ وجه كان، أعرض عن جوابه بغير الطرد الذي معناه نزوله المنزلة الذي موضع ما طلب من علوها فاستأنف قوله {قال} مسبباً عن إبائه قوله:{فاهبط منها} مضمراً للدار التي كان فيها وهي

ص: 365

الجنة. فإنها لا تقبل عاصياً، وعبر بالهبوط الذي يلزم منه سقوط المنزلة دون الخروج، لأن مقصود هذه السورة الإنذار وهو أدل عليه، وسبب عن أمره بالهبوط الذي معناه النزول والحدور والانحطاط والنقصان والوقوع في شيء منه قوله:{فما يكون} أي يصح ويتوجه بوجه من الوجوه {لك أن تتكبر} أي تتعمد الكبر وهو الرفعة في الشرف والعظمة والتجبر، ولا مفهوم لقوله {لك} ولا لقوله {فيها} لوجود الصرائح بالمنع من الكبر مطلقاً {إنه لا يحب المستكبرين} [النحل: 23] ، {كذلك يطبع الله على قلب كل متكبر} [غافر: 35] {قال الذين استكبروا إنا كل فيها} [غافر: 48] ، وإنما قيد بذلك تهويلاً للأمر، فكأنه قيل: لا ينبغي التكبر إلا لنا، وكلما قرب الشخص من محل القدس الذب هو مكان المطيعين المتواضعين جل تحريم الكبر عليه «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل كبر» رواه مسلم وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه، وسبب عن كونها لا تقبل الكبر قوله:{فاخرج} أي من الجنة دار الرضوان، فانتقى أن يكون الهبوط من موضع عال من الجنة إلى موضع منها أحط منه، ثم علل أمره بالهبوط والخروج بقوله مشيراً إلى كل من أظهر الاستكبار ألبس الصغار:{إنك من الصاغرين*} أي الذين هم أهل للطرد والبعد والحقارة والهوان.

ص: 366

ولما علم أن الحسد قد أبعده ونزل به عن ساحة الرضى وأقعده، تمادى فيه فسأل ما يتسبب به إلى إنزال المحسودين عن درجاتهم العاليه إلى دركته السافلة، ولم يسأل بشقاوته فيما يعليه من دركته السافلة إلى درجاتهم العالية، وذلك بأن {قال} أي إبليس، وهو استئناف؛ ولما كان السياق - ولاسيما الحكم بالصغار العاري عن تقييد - يأبى لأن يكون سبباً لسؤاله الانتظار، ذكره بصيغة الإحسان فقال {أنظرني} أي بالإمهال، أي اجعلني موجوداً بحيث أنظر وأتصرف في زمن ممتد {إلى يوم يبعثون*} أي من القبور، وهو يوم القيامة، وكان اللعين طلب بهذا أنه لا يموت، فإن ذلك الوقت ليس وقتاً للموت، إنما هو وقت إفاضة الحياة الأبدية في شقاوة أو سعادة، فأعلم سبحانه أنه حكم له بالانتظار، لكن لا على ما أراده ولا على أنه إجابة له، ولكن هكذا سبق في الأزل في حكمه في قديم علمه، وإليه يرشد التعبير بقوله:{قال إنك من المنظرين*} أي في الجملة، ومنعه من الحماية عن الموت بقوله كما ذكره في سورتين الحجر وص {إلى يوم الوقت المعلوم} [الحجر: 38، ص: 81] ، وهووقت النفخة الأولى التي يموت فيها الأحياء فيموت هو معهم، وكان ترك هذه الجملة في هذه السورة لأن هذه السورة للإنذار، وإبهام الأمر اشد في ذلك، وأجابة إلى الإنظار وهو يريد به الفساد، لأنه لا يعدو أمره فيه وتقديره به، ولأنه سبحانه لا يسأل عما يفعل، ولتظهر حكمته تعالى في الثواب والعقاب.

ص: 367

ولما كان قد حكم عليه بالشقاء، قابل نعمة الإمهال وإطالة العمر بالتمادي في الكفر وأخبره عن نفسه بذلك بأن {قال} مسبباً عن إيقاعه في المعصية بسبب نوع الآدميين {فبما أغويتني} أي فبسبب إغوائك لي، وهو إيجاد الغي واعتقاد الباطل في قلبي من أجلهم والله {لأقعدن لهم} أي أفعل في قطعهم عن الخير فعل المتمكن المقبل بكليته المتأني الذي لا شغل له غير ما أقبل عليه في مدة إمهالك لي بقطعهم عنك بمنعهم من فعل ما أمرتهم به، وحملهم على فعل ما نهيتهم عنه، كما يقعد قاطع الطريق على السابلة للخطف {صراطك} أي في جميع صراطك، بما دل عليه نزع الخافض {المستقيم*} وهو الإسلام بجميع شعبه، ومن أسند الإغواء إلى غير الله بسبب اعتقاده أن ذلك مما ينزه الله عنه، فقد وقع في شر مما فر منه، وهو أنه جعل في الوجود فاعلين يخالف اختيار أحدهما اختيار الآخر.

ص: 368

ولما كان قد أقام نفسه في ذلك بغاية الجد، فهو يفعل فيه بالوسوسة بنفسه ومن أطاعه من شياطين الجن والإنس ما يفوت الحد ويعجز القوى، أشار إليه بحرف التراخي فقال مؤكداً:{ثم لآتينهم} أي إتياناً لا بد لي منه كائناً ابتداؤه {من بين أيديهم} أي مواجهة، فأحملهم على أن يفعلوا ما يعلمون أنه خطأ {و} كائناً {من خلفهم} أي مغافلة، فيعملون ما هو فاسد في غاية الفساد ولا شعور لهم بشيء

ص: 368

من فساده حين تعاطيه فأدلهم بذلك على تعاطي مثله وهم لا يشعرون {وعن} أي ومجاوزاً للجهة التي عن {أيمانهم} إليهم {وعن} أي ومجاوزاً لما عن {شمائلهم} أي مخايلة، فيفعلونه وهو مشتبه عليهم، وهذه هي الجهات التي يمكن الإتيان منها، ولعل فائدة «عن» المفهمة للمجاوزة وصل خطى القدام والخلف ليكون إتيانه مستوعباً لجميع الجهة المحيطة، وأفهمت الجهات الأربع قدحه وتلبيسه فيما يعلمونه حق علمه وما يعلمون شيئاً منه وما هو مشتبه عليهم اشتباهاً قليلاً أو كثيراً، وهم من ترك ذكره الأعلى أنه لا قدرة له على الإتيان منه لئلا يلتبس أمره بالملائكة، وقد ذكر ذلك في بعض الآثار كما ذكره في ترجمة ورقة بن نوفل رضي الله عنه.

ولما عزم اللعين على هذا عزماً صادقاً ورأى أسبابه ميسرة من الإنظار ونحوه، ظن أنه بما راى لهم من الشهوات والحظوظ يظفر بأكثر حاجته، فقال عاطفاً على تقديره: فلأغوينهم وليتبعنني: {ولا تجد أكثرهم} كما هي عادة الأكثر في الخبث {شاكرين*} فأريد به الشقاء فأغرق في الحسد، ولو أريد بالشقي الخير لاستبدل بالحسد الغبطة

ص: 369

فطلب أن يرتقي هو إلى درجاتهم العالية بالبكاء والندم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل النصيحة خضوعاً لمقام الربويية وذلاً لعظيم شأنه.

ولما كان كأنه قيل: ماذا قال له؟ قيل: {قال} في جواب ما ذكر لنفسه في هذا السياق من القوة والاقتدار وأبان عنه من الكبر والافتخار ما دل على أنه من أهل الصغار، لا يقدر على شيء إلا بإقرار العزيز الجبار، مصرحاً بما أريد من الهبوط الذي ربما حمل على النزول من موضع من الجنة عال إلى مكان منها أحط منه {اخرج منها} أي الجنة {مذءوماً} أي محقوراً مخزياً بما تفعل، قال القطاع: ذأمت الرجل: خزيته، وقال ابن فارس: ذأمته، أي حقرته {مدحوراً} أي مبعداً مطروداً عن كل ما لا أريده.

ولما علم بعض حاله، تشوفت النفس إلى حال من تبعه، فقال مقسماً مؤكداً بما يحق له من القدرة التامة والعظمة الكاملة:{لمن تبعك منهم} أي بني آدم، وأجاب القسم بما أغنى عن جواب الشرط فقال:{لأملأن جهنم منكم} أي منك ومن قبيلك ومنهم {أجمعين*} أي لا يفوتني منكم أحد، فلم يزل من فعل ذلك منكم على أذى نفسه ولا أبالي أنا بشيء.

ولما أوجب له ما ذكر من الشقاوة تماديه في الحسد وكثرة كلامه

ص: 370

في محسوده، التفت إلى محسوده الذي لم يتكلم فيه كلمة واحدة، بل اشتغل بنفسه في البكاء على ذنبه، واكتفى بفعل ربه بما ينجيه من حبائل مكره التي نصبها بما ذكر، ليكون ذلك سبب سعادته، فقال عطفاً على {اخرج منها} :{ويا آدم اسكن} ولما كان المراد بهذا الأمر هو نفسه لا التجوز به عن بعض من يلابسه، أكد ضميره لتصحيح العطف ورفع التجوز فقيل:{أنت وزوجك الجنة} .

ولما كان السياق هنا للتعرف بأنه مكن لأبينا في الجنة أعظم من تمكينه لنا في الأرض بأن حباه فيها رغد العيش مقارناً لوجوده؛ ثم حسن في قوله: {فكلا} العطف بالفاء الدال على أن المأكول كان مع الإسكان، لم يتاخر عنه، ولا منافاة بينه وبين التعبير بالواو في البقرة، لأن مفهوم الفاء نوع داخل تحت مفهوم الواو، ولا منافاة بين النوع والجنس، وقوله:{من حيث شئتما} بمعنى رغداً أي واسعاً، فإنه يدل على إباحة الأكل من كل شيء فيها غير المنهي عنه، وأما آية البقرة فتدل على إباحة الأكل منها في أيّ مكان كان، وهذا السياق إلى آخره مشير إلى أن من خالف أمره تعالى ثل عرشه وهدم عزه وإن كان في غاية المكنة ونهاية القوة كما أخرج من أعظم له المكنة بإسجاد ملائكته وإسكان جنته وإباحة كل ما فيها غير شجرة واحده؛ أكد تحريمها بالنهي عن قربانها دون الاكتفاء بالنهي عن غشيانها فقال:

ص: 371

{ولا تقربا} أي فضلاً عن أن تتناولا {هذه الشجرة} مشيراً إلى شجرة بعينها أو نوعها؛ ثم سبب عن القربان العصيان، فإن من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه فقال:{فتكونا} أي بسبب قربها {من الظالمين*} أي بالأكل منها الذي هو مقصود النهي فتكونا بذلك فاعلين فعل من يمشي في الظلام؛ ثم سبب عن ذلك بيان حال الحاسد مع المحسودين فيما سأل الإنظار بسببه، وأنه وقع على كثير من مراده واستغوى منه أمماً تجاوزوا الحد وقصر عنهم مدى العد؛ ثم بين أنه أقل من أن يكون له فعل، وأن الكل بيده سبحانه، هو الذي جعله آلة لمراده منه ومنهم، وأن من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون، فقال:{فوسوس} أي القى في خفاء وتزيين وتكرير واشتهاء {لهما الشيطان} أي بما مكنه الله منه من أنه يجري من الإنسان مجرى الدم ويلقى له في خفاء ما يميل به قلبه إلى ما يريد؛ ثم بين علة الوسوسة بقوله: {ليبدي} أي يظهر {لهما ما روي} أي ستر وغطي بأن جعل كأنه وراءهما لا يلتفتان إليه {عنهما} والبناء للمفعول إشارة إلى أن الستر بشيء لا كلفة عليهما فيه كما يأتي في قوله

{ينزع عنهما لباسهما} [الأعراف: 27] و {من سوءاتهما} أي المواضع التي يسوءهما انكشافها، وفي ذلك أن إظهار السوءة موجب للعبد من الجنة وأن بينهما منفية الجمع وكمال التباين.

ولما أخبر بالوسوسة وطوى مضمونها مفهماً أنه أمر كبير وخداع

ص: 372

طويل، عطف عليه قوله:{وقال} اي في وسوسته أيضاً، أي زين لهما ما حدث بسببه في خواطرهما هذا القول:{ما نهاكما} وذكرهما بوصف الإحسان تذكيراً بإكرامه لهما تجزئة لهما على ما يريد منهما فقال: {ربكما} أي المحسن إليكما بما تعرفانه من أنواع إحسانه {عن} أي ما جعل نهايتكما في الإباحة للجنة متجاوزة عن {هذه الشجرة} جمع بين الإشارة والاسم زيادة في الاعتناء بالتنصيص {إلا أن} أي كراهية أن {تكونا ملكين} أي في عدم الشهوة وفي القدرة على الطيران والتشكل وغير ذلك من خواصهم {أو تكونا} أي بما يصير لكما من الجبلة {من الخالدين*} أي الذين لا يموتون ولا يخرجون من الجنة أصلاً.

ص: 373

ولما أوصل إليهما هذا المعنى، أخبر أنه أكده تأكيداً عظيماً كما يؤكد الحالف ما يحلف عليه فقال:{وقاسمهما} أي أقسم لهما، لكن ذكر المفاعلة ليدل على أنه حصلت بينهما في ذلك مراوغات ومحاولات بذل فيها الجهد، وأكد لمعرفته أنهما طبعا على النفرة من المعصية - ما أقسم عليه أنواعاً من التأكيد في قوله:{إني لكما} فأفاد تقديم الجار المفهم للاختصاص أنه يقول: إني خصصتكما بجميع نصيحتي {لمن الناصحين*} وفيه تنبيه على الاحتراز من الحالف، وأن الأغلب أن كل حلاف كذاب، فإنه لا يحلف إلا عند ظنه أن سامعه لا يصدقه، ولا يظن ذلك إلا هو معتاد للكذب.

ص: 373

ولما أخبر ببعض وسوسته لهما، سبب عنها ترجمتها بأنها إهباط من أوج شرف إلى حضيض أذى وسرف فقال:{فدلَاّهما} أي أنزلهما عما كانا فيه من علو الطاعة مثل ما فعل بنفسه بالمعصية التي أوجبت له الهبوط من دار الكرامة {بغرور} أي بخداع وحيلة حتى نسى آدم عهد ربه، وقوله {فلما ذاقا} مشير إلى الإسراع في الجزاء بالفاء والذوق الذي هو مبدأ الأكل {الشجرة} أي وجدا طعمها {بدت} أي ظهرت {لهما سوءاتهما} أي عوراتهما اللاتي يسوءهما ظهورها، وتهافت عنهما لباسهما فأبصر كل واحد ما كان مستوراً عنه من عورة آلاخر، وذلك قصد الحسود فاستحييا عند ذلك {وطفقا} أي شرعا وأقبلا {يخصفان عليهما} أي يصلان بالخياطة {من ورق الجنة} ورقة الى أخرى {وناداهما ربهما} أي المحسن إليهما بأمرهما ونهيهما، ولم يفعلا شيئاً من ذلك إلا بمرأى منه، فقال منكراً عليهما ما فعلا ومعاتباً: يا عبديَّ {ألم أنهكما} أي أجعل لكما نهاية فيما أذن لكما فيه متجاوزة {عن تلكما الشجرة} أي التي كان حقها البعد منها، الموجبة للقربة من هذا الموضع الشريف إحساناً إليكما {وأقل لكما إن الشيطان} أي الذي تكبر عن السجود حسداً لك يا آدم ونفاسه عليك، فاحترق

ص: 374

بغضبي فطرد وأبعد عن رحمتي {لكما} أي لك ولزوجك ولكل من تفرغ منكما ونسب إليكما {عدو مبين*} ظاهر العداوة يأتيكم من كل موضع يمكنه الإتيان منه مجاهرة ومساترة ومماكرة فهو مع ظهور عداوته دقيق المكر بما أقدرته عليه من إقامة الأسباب، فإني أعطيته قوة على الكيد، وأعطيتكم قوة على الكيد وأعطيتكم قوة على الخلاص وقلت لكم: تغالبوا فإن غلبتموه فأنتم من حزبي، وإن غلبكم فأنتم من حزبه مع ما له إليكم من العداوة، فالآيه منبهة على أن من غوى فإنما هو تابع لأعدى أعدائه تارك لأولى أوليائه.

ولما كان هذا، تشوف السامع إلى جوابهما، فأجيب بقوله:{قالا} أي آدم وحواء عليهما السلام وأزكى التحية والإكرام - قول الخواص بإسراعهما في التوبة {ربنا} أي أيها المحسن إلينا والمنعم علينا {ظلمنا أنفسنا} أي ضررناها بأن أخرجناها من نور الطاعة إلى ظلام المعصية، فإن لم ترجع بنا وتتب علينا لنستمر عاصيين {وإن لم تغفر لنا} أي تمحو ما عملناه عيناً واثراً {وترحمنا} فتعلي درجاتنا {لنكونن من الخاسرين*} فأعربت الآية عن أنهما فزعا إلى الانتصاب بالاعتراف، وسيما ذنبهما - وإن كان إنما هو خلاف

ص: 375

الأولى لأنه بطريق النسيان كما في طه - ظلماً كما هي عادة الأكابر في استعظام الصغير منهم، ولم يجادلا كما فعل إبليس، وفي ذلك إشارة إلى أن المبادرة إلى الإقرار بالذنب من فعال الأشراف لكونه من معالي الأخلاق، وأنه لا مثيل له في اقتضاء العفو وإزالة الكدر وأن الجدال من فعال الأرذال ومن مساوي الأخلاق وموجبات الغضب المقتضى للطرد.

ولما تشوفت النفس إلى جواب العلي الكبير سبحانه، أجيبت بقوله {قال اهبطوا} أي إلى دار المجاهدة والمقارعة والمناكدة حال كونكم {بعضكم لبعض عدو} أي أنتما ومن ولدتماه أعداء إبليس ومن ولد، وبعض أولادكم أعداء لبعض، ولا خلاص إلا باتباع ما منحتكم من هدى العقل وما أنزلت إليكم من تأييده بالنقل، وفي ذلك تهديد صادع لمن له أدنى مسكة بالأشارة إلى قبح مغبة المخالفة ولو مع التوبة، وحث على دوام المراقبة خوفاً من سوء المعاقبة {ولكم في الأرض} أي جنسها {مستقر} أي موضع استقرار كالسهول وما شابهها {ومتاع إلى حين*} أي انقضاء آجالكم ثم انقضاء اجل الدنيا.

ص: 376

ولما علم بهذا أن للكون في الأرض آخراً، وكان من الفلاسفة

ص: 376

التناسخية وغيرهم ممن يقر بالوحدانية من يقول: إن النفوس مجردة عن الجسمية وعلائقها وإنه إذا هلك الجسد اتصلت بالعلويات إما بكوكب أو غيره أو انحطت في سلك الملائكة وبطل تعلقها بالبدن من كل وجه فلا تتصل به لا بتدبير ولا غيره ولا بالبعث - عند من قال منهم بالبعث، كان كأنه قيل: فماذا يكون بعد ذلك؟ فأجيب بقوله {قال} أي الله راداً عليهم ما يعتقدون من بطلان التعلق بالبدن معبراً بالخطاب بالضمير الذي يعبر عن هذا الهيكل المخصوص روحاً وجسداً {فيها} أي الأرض لا في غيرها {تحيون} أي أولاً وثانياً على ما أنتم عليه بظواهركم وبواطنكم أبداناً وأرواحاً {وفيها} أي كذلك، لا في غيرها كما أنتم لذلك مشاهدون {تموتون} أي من الحياة الأولى بجملتكم، فيكون للأرواح تعلق بالأبدان بوجه ما حتى يقعد الميت في القبر ويجيب سؤال الملكين عليهما السلام، وتلتذ الأجساد بلذتها وتتألم بتألمها، فأشير إلى الحشر مع تفصيل حال الكون في الأرض، وختمت القصة بما ابتدئت به من الإعلام بالبعث بقوله:{ومنها} أي لا من غيرها بإخبار الصادق {تخرجون*} أي روحاً وبدناً بعد موتكم فيها وعودكم إلى ما كنتم عليه أولاً تراباً، للجزاء وإظهار ثمرة الملك بإنصاف بعضكم من بعض والتحلي بصفة العدل فما كان بعضكم يفعل مع بعض من العسف والجور الذي لا يرضي أقل رؤسائكم أن يقر عليه عبيده، وعلم بهذا أن الدلالة على الحشر فذلكة

ص: 377

القصة، وهذا أبين من ذكره فيما مضى في قوله {فلنسئلن الذين أرسل إليهم} [الأعراف: 6] .

ولما بين فيما مضى أن موجب الإخراج من الجنة هو ما أوجب كشف السوءة من المخالفة وفرغ مما استتبعه حتى أخبره بأنه حكم بإسكاننا هذه الدار بعد تلك الدار، شرع يحذرنا من عدونا كما حذر أبانا عليه السلام، وبدأ بقوله بياناً لأنه أنعم علينا فيها بكل ما يحتاج إليه في الدين والدنيا وإيذاناً بما في كشف العورة من الفضيحة والإبعاد عن كل خير وإشعاراً بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى {يا بني آدم} .

ولما كان الكلام في كشف العورة، وأن آدم عليه السلام أعوزه الساتر حتى فزع إلى الورق، كان موضع أن يتوقع ما يكون في ذلك فقال مفتتحاً بحرف التوقع:{قد أنزلنا} أي بعظمتنا {عليكم} من آثار بركات السماء، إما ابتداء بخلقه وإما بإنزال أسبابه لمطر ونحوه {لباساً} أي لم يقدر عليه أبوكم في الجنة {يواري سوءاتكم} إرشاداً إلى دواء ذلك الداء وإعلاماً بأن نفس الكشف نقص لا يصلح لحضرات الكمال، وقال:{وريشاً} إشارة إلى أنه سبحانه زادنا على الساتر ما به

ص: 378

الزينة والجمال استعارة من ريش الطائر، محبباً فيما يبعد من الذنب ويقرب إلى حضرة الرب.

ولما ذكر اللباس الحسي، وقسمه على ساتر ومزين، أتبعه المعنوي فقال مشيراً - بقطعه في قراءة الجمهور عما قبله - إلى كمال تعظيمه حثاً عليه وندباً إليه:{ولباس التقوى} فعلم أن ساتر العورات حسي ومعنوي، فالحسي لباس الثياب، والمعنوي التحلي بما يبعث على المناب؛ ثم زاد في تعظيم المنوي بقوله:{ذلك خير} أي ولباس التقوى هو خير من لباس الثياب، ولكنه فصل باسم الإشارة المقترن بإداة البعد إيماء إلى علو رتبته وحسن عاقبته لكونه أهم اللباسين لأن نزعه يكون بكشف العورة الحسية والمعنوية، فلو تجمل الإنسان بأحسن الملابس وهو غير متق كان كله سوءات، ولوكان متقياً وليس عليه إلا خريقة تواري عورته كان في غاية الجمال والستر والكمال، بل ولو كان مكشوف العورة في بعض الأحوال كما قال صلى الله عليه وسلم «ستر ما بين عوراتكم وأعين الجن أن يقول أحدكم إذا دخل الخلاء: بسم الله اللهم! إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» رواه الترمذي وابن ماجه عن علي رضى الله عنه، والذي يكاد يقطع به أن المعاصي سبب إحلال السوءة الذي منه ضعف البدن وقصر العمر حساً أو معنى بمحق البركة منه لما يفهمه ما تقدم في البقرة في بدء الخلق عن التوراة أن الله تعالى قال لآدم عليه السلام: كل من جميع أشجار

ص: 379

الفردوس، فأما شجرة علم الخير والشر فلا تأكل منها لأنك في اليوم الذي تأكل منها تموت موتاً تتهيأ للموت حساً، ويقضى عليك بالاشتغال بأسباب المعيشة فيقصر عمرك معنى بذهاب بركته - والله أعلم.

ولما كان في شرع اللباس تمييز الإنسان عن بقية الحيوان وتهيئة أسبابه التي لم يجدها آدم عليه السلام في الجنة من الفضل والنعمة والدلالة على عظمة المنعم ورحمته وقدرته واختياره ما هو معلوم، قال:{ذلك} أي إنزال اللباس {من آيات الله} أي الذي حاز صفات الكمال الدالة على فضله ورحمته لعباده، ولعل الالتفات من الخطاب إلى الغيبة {لعلهم يذكرون*} - لو على أدنى وجوه التذكر بما يشير إليه الإدغام - لئلا يقول المتعنت: إن الحث على التذكر خاص بالمخاطب ويدعي أنه المسلمون فقط، أي أنزلنا ذلك ليكون حالهم حال من يتذكر فيعرف أنه يستقبح منه ما يستقبح من غيره.

ولما كان المقصود من ذكر القصص لا سيما قصص الأنبياء الاعتبار بها، فكان بيان ما وقع بين آدم عليه السلام وبين الشيطان من شديد العدواة مقتضياً للتحذير من الشيطان، وكان المقام خطراً والتخلص عسراً، أشار إلى ذلك بالتأكيد وبيان ما سلط الشيطان به من المكايد الخفية والأسباب الدقيقة ليعلم الناجي أنه إنما نجا بمحض التوفيق ومجرد اللطف فيقبل على الشكر متبرئاً من الحول والقوة، فقال منادياً لهم بما يفهم الاستعطاف والتراؤف والتحنن والترفق والاستضعاف:{يا بني آدم}

ص: 380

أي الذي خلقته بيدي وأسكنته جنتي ثم أنزلته إلى دار محبتي إرادة الإعلاء لكم إلى الذروة من عبادتي والإسفال إلى الحضيض من معصيتي {لا يفتننكم} أي لا يخالطنكم بما يميلكم عن الاعتدال {الشيطان} أي البعيد المحترق بالذنوب، يصدكم عما يكون سبباً لردكم إلى وطنكم بتزيين ما ينزع عنكم من لباس التقوى المفضي إلى هتك العورات الموجب لخزي الدنيا، فيمنعكم بذلك من دخول الجنة ويدخلكم النار {كما أخرج أبويكم من الجنة} بما فتنهما به بعد أن كانا سكناها وتمكنا فيها وتوطناها، وقد علمتم أن الدفع أسهل من الرفع فإياكم ثم إياكم! فالآية من الاحتباك: ذكر الفتنة أولاً دليلاً على حذفها ثانياً، والإخراج ثانياً دليلاً على حذف ضده أو نظيره أولاً.

ولما كان قد بذل الجهد في إخراجهما، فسر الإخراج - مشيراً إلى ذلك - بإطالة الوسواس وإدامة المكر والخديعة بالتعبير بالفعل المضارع فقال في موضع الحال من ضمير «الشيطان» :{ينزع عنهما} أي بالتسبيب بإدامة التزيين والأخذ من المأمن {لباسهما} أي الذي كان الله سبحانه قد سترهما به ما داما حافظين لأنفسهما من مواقعة ما نهيا عنه، ودل على منافاة الكشف للجنة بالتعليل بقوله:{ليريهما سوءاتهما} فإن ذلك مبدأ ترك الحياة و «الحياء والإيمان في قرن» - كما أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر رضي الله عنهما، و «الحياء لا يأتي

ص: 381

إلا بخير» - كما رواه الشيخان عن عمران بن حصين رضي الله عنهما.

ولما كان نهي الشيطان عن فتنتنا إنما هو في الحقيقة نهي لنا عن الافتتان به، فهو في قوة ليشتد حذركم من فتنته فإنه دقيق الكيد بعيد الغور بديع المخاتله؛ علل ذلك بقوله:{إنه يراكم} أي الشيطان {هو وقبيله} أي جنوده {من حيث لا ترونهم} عن مالك بن دينار أن عدواً يراك ولا تراه لشديد المؤنة إلا من عصمه الله.

ولما كان كأنه قيل: لم سلطوا علينا هذا التسليط العظيم الذي لا يكاد يسلم معه أحد، قال مخففاً لأمرهم موهياً في الحقيقة لكيدهم:{إنا} أي فعلنا ذلك لأنا بما لنا من العظمة {جعلنا الشياطين} أي المحترقين بالغضب البعيدين من الرحمة {أولياء} أي قرباء وقرناء {للذين لا يؤمنون*} أي يجددون الإيمان، لأن بينهم تناسباً في الطباع يوجب الاتباع، وأما أولياؤنا الذين منعناهم بقوتنا منه أو فتناهم يسيراً بهم، ثم خلصناهم بلطفنا منهم فليسوا لهم بأولياء، بل هم لهم أعداء وآيتهم أنهم يؤمنون، والمعنى أنا مكناهم من مخاتلتكم بسترهم عنكم وإظهاركم لهم، فسلطناهم بذلك على من حكمنا بأنه لا يؤمن بتزيينهم لهم وتسويلهم واستخفافهم بأن ينصروهم في بعض المواطن ويوصلوهم إلى شيء من المطالب، فعلنا ذلك ليتبين الرجل الكامل - الذي يستحق الدرجات العلى ويتردد إليه الملائكة بالسلام والجنى - من غير فخذوا حذركم فإن الأمر

ص: 382

خطر والخلاص عسر، وبعبارة أخرى: إنا سلكناكم طريقاً وجعلنا بجنبتيها أعداء يرونكم ولا ترونهم، وأقدرناهم على بعضكم، فمن سلك سواء السبيل نجا ومن شذ أسره العدو، ومن دنا من الحافات بمرافقة الشبهات قارب العدو ومن قاربه استغواه، فكلما دنا منه تمكن من أسره، وكل من تمكن من أسره بعد الخلاص فاحذروا، وعدم رؤيتنا لهم في الجملة لا يقتضي امتناع رؤيتهم على أنه قد صح تصورهم في الأجسام الكثيفة ورؤية بني آدم لهم في تلك الأجسام كالشيطان الذي رآه أبو هريره رضى الله عنه حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ الصدقة، وكذا أبي بن كعب رضي الله عنه، وحديث خالد بن الوليد رضي الله عنه في شيطان العزي معروف في السير، وكذا حديث سواد بن قارب رضى الله عنه في إرشاد رئيه من الجن له، وكذا خطر ابن مالك رضي الله عنه في مثل ذلك وغيرهما، وفي شرحي لنظمي للسيرة كثير من ذلك، وكذا حديث العفريت الذي تفلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعلة من نار ليقطع عليه صلاته فأخزاه الله وأمكن منه رسول الله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم

«لولا دعوة أخي سليمان عليه السلام لأصبح مربوطاً بسارية المسجد يتلعب به ولدان أهل

ص: 383

المدينة» قال أبو حيان: إلا أن رؤيتهم في الصور نادرة كما أن الملائكة عليهم السلام تبدو في صور كحديث جبريل عليه السلام.

ص: 384

ولما جعل أمارتهم في ولاية الشيطان عدم الإيمان، عطف على ذلك أمارة أخرى فقال:{وإذا فعلوا فاحشة} أي أمراً بالغاً في القبح كالشرك وكشف العورة في الطواف {قالوا} معللين لارتكابهم إياها {وجدنا عليها} أي فاحشة {آباءنا} ولما كانت هذه العلة ظاهراً عارها بيناً عوارها، ضموا إليها افتراء ما يصلح للعلية، فقالوا معبرين بالاسم الأعظم غير محتشمين من جلاله وعظمته وكماله:{والله أمرنا بها} .

ولما كانت العلة الأولى ملغاة، وكان العلم ببطلانها بديهياً، لأن من المعلوم أنهم لو وجدوهم على سفه في تحصيل المال ما تابعوهم؛ أعرض عنها إشارة إلى ذلك، وأمر بالجواب عن الثانية التي هي افتراء على الملك الأعلى مع ادعائهم أنهم أبعد الناس عن مطلق الكذب وأشدهم تحرياً بقوله:{قل إن الله} أي الذي له الكمال كله {لا يأمر بالفحشاء} أي بشيء من هذا الجنس.

ولما كان الكذب قبيحاً في نفسه وهو عندهم أقبح القبيح مطلقاً، فكيف به على كبير منهم فكيف إذا كان على أعظم العظماء! قال منكراً عليهم موبخاً لهم مهدداً:{أتقولون على الله} أي الذي له جميع العظمة {ما لا تعلمون*} لأنكم لم تسمعوا ذلك عن الله بلا واسطة ولا نقل إليكم بطريق صحيح عن نبي من الأنبياء عليهم السلام، وفيه

ص: 384

تهديد شديد على الجهل والقول على الله بالظن.

لما كان تعليلهم بأمر الله مقتضياً لأنه إذا أمر بشيء أتبع، أمره أن يبلغهم أمره الذي جاء به دليل العقل مؤيداً بجازم النقل فقال:{قل} أي لهؤلاء الذين نابذوا الشرع والعرف {أمر ربي} المحسن إليّ بالتكليف بمحاسن الأعمال، التي تدعو إليها الهمم العوال {بالقسط} وهو الأمر الوسط بين ما فحش في الإفراط صاعداً عن الحد، وفي التفريط هابطاً منه؛ ولما كان التقدير: فأقسطوا اتباعاً لما أمر به، أو كان القسط مصدراً ينحل إلى: أن أقسطوا، عطف عليه {وأقيموا وجوهكم} مخلصين غير مرتكبين لشيء من الجور {عند كل مسجد} أي مكان ووقت وحال يصلح السجود فيه، ولا يتقيدن أحد بمكان ولا زمان بأن يقول وقد أدركته الصلاة: أذهب فأصلي في مسجدي {وادعوه} عند ذلك كله دعاء عبادة {مخلصين له الدين*} أي لا تشركوا به شيئاً.

ولما كان المعنى: فإن من لم يفعل ذلك عذبه بعد إعادته له بعد الموت، ترجمه مستدلاً عليه بقوله معللاً:{كما بدأكم} أي في النشأة الأولى فأنتم تبتدئون نعيدكم بعد الموت فأنتم {تعودون*} حال كونكم فريقين: {فريقاً هدى} أي خلق الهداية في قلوبهم فحق لهم ثواب الهداية {وفريقاً} أضل، ثم فسر أضل - لأنه واجب التقدير بالنصب - بقوله:{حق} أي ثبت ووجب {عليهم الضلالة} أي لأنه أضلهم فيحشرون على ما كانو عليه في الدنيا من الأديان، والأبدان، وقد تبين أن ههنا

ص: 385

احتباكين: أثبت في أولهما بدا دليلاً على حذف يعيد وذكر تعودون دليلاً على حذف تبتدئون، وأثبت في الثاني هدى دليلاً على حذف أضل وذكر حقوق الضلالة دليلاً على حذف حقوق الهدى.

ولما كرر سبحانه ذكر البعث كما تدعو إليه الحكمة في تقرير ما ينكره المخاطب تأنيساً له به وكسراً لشوكته وإيهاناً لقوته وقمعاً لسورته إلى أن ختم بما هو أدل عليه مما قبل من قوله ومنها تخرجون {فلنسئلن الذين أرسل إليهم} [الأعراف: 6] علل ما ختم به هذا الدليل من حقوق الضلالة أي وجوبها أي وجوب وبالها عليهم بقوله: {إنهم اتخذوا} أي كلفوا أنفسهم ضد ما دعتهم إليه الفطرة الأولى بأن أخذوا {الشياطين أولياء} أي أقرباء وأنصاراً {من دون الله} أي الملك الأعلى الذي لا مثل له {ويحسبون} أي والحال أنهم يظنون بقلة عقولهم {أنهم مهتدون*} فأشار بذلك إلى أنهم استحقوا النكال لأنهم قنعوا في الأصول - التي يجب فيها الابتهال ألى القطع - بالظنون.

ولما أمر سبحانه بالقسط وبإقامة الوجه عند كل مسجد، أمرهم بما ينبغي عند تلك الإقامة من ستر العورة الذي تقدم الحث عليه وبيان فحش الهتك وسوء أثره معبراً عنه بلفظ الزينة ترغيباً فيه وإذناً في الزينة وبياناً لأنها ليس مما يتورع عنه لقوله صلى الله عليه وسلم «إن الله يحب إذا بسط على عبد رزقه أن يرى أثر نعمته عليه» رواه أحمد والترمذي

ص: 386

وابن منيع عن أبي هريرة رضى الله عنه، وأتبع ذلك أعظم ما ينبغي لابن آدم أن يعتبر فيه القسط من المأكل والمشرب فقال مكرراً النداء استعطافاً وإظهاراً لعظيم الإشفاق وتذكيراً بقصة أبيهم آدم عليه السلام التي أخرجته من الجنة مع كونه صفي الله ليشتد الحذر:{يا بني آدم} أي الذي زيناه فغره الشيطان ثم وقيناه شره بما أنعمنا عليه به من حسن التوبة وعظيم الرغبة {خذوا زينتكم} أي التي تقدم التعبير عنها بالريش لستر العورة والتجمل عند الاجتماع للعبادة {عند كل مسجد} وأكد ذلك كونُهم كانوا قد شرعوا أن غير الحمس يطوفون عراة.

ولما امر بكسوة الظاهر بالثياب لن صحة الصلاة متوقفة عليها، أمر بكسوة الباطن بالطعام والشراب لتوقف القدرة عادة عليها فقال:{وكلوا واشربوا} وحسَّن ذلك أن بعضهم كان يتدين في الحج بالتضييق في ذلك.

ولما أمر بالملبس والمطعم، نهى عن الاعتداء فيهما فقال:{ولا تسرفوا} بوضع شيء من ذلك فيما لا يكون أحق مواضعه ولو بالزيادة على المعاء، ومن ذلك أن يتبع السنة في الشرب فيسير لأن العكر يرسب في الإناء فربما أذى من شربه، ولذلك نهى عن النفس في الإناء لأنه ربما أنتن فعافته النفس، وأما الطعام فليحسن إناءه والأصابع لنيل البركة وهو أنظف، ثم علل ذلك بقوله:{إنه لا يحب المسرفين*}

ص: 387

أي لا يكرمهم، ولا شك أن من لا يحبه لا يحصل له شيء من الخير فيحيط به كل شر، ومن جملة السرف الأكل في جميع البطن، والاقتصاد الاقتصار على الثلث كما قال النبي صلى الله عليه وسلم

«حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبة فإن كان لا بد فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس» و «وما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطن» و «الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معى واحد» أخرجه البخاري عن ابن عمر رضى الله عنهما، قال الأطباء، الأمعاء سبعة، فالمعنى حينئذ أن الكافر يأكل شعباً فيملأ الأمعاء السبعة، والمؤمن يأكل تقوتاً فيأكل في معى واحد، وذلك سبع بطنه، وإليه الإشارة بلقيمات، فإن لم يكن ففي معاءين وشيء وهوالثلث - والله أعلم - وسبب الاية أنهم كانوا يطرحون ثيابهم إذا أرادوا الطواف، يقولون: لا نطوف في ثياب إذ بتنا فيها، ونتعرى منها لنتعرى من الذنوب إلا الحمس وهم قريش ومن ولده، وكانوا لا يأكلون من الطعام إلا قوتاً ولا يأكلون دسماً، فقال المسلمون: يارسول الله! فنحن أحق أن نفعل ذلك - فأنزلت.

ص: 388

ولما كان من المعلوم أن ما كانوا ألفوه واتخذوه ديناً يستعظمون تركه، لأن الشيطان يوسوس لهم بأنه توسع الدنيا، والتوسع

ص: 388

فيها مما ينبغي الزهد فيه كما دعا إليه كثير من الآيات، أكد سبحانه الإذن في ذلك بالإنكار على من حرمه، فقال منكراً عليهم إعلاماً بأن الزهد الممدوح ما كان مع صحة الاعتقاد في الحلال والحرام، وأما ما كان مع تبديل شيء من الدين بتحليل حرام أو عكسه فهو مذموم:{قل} منكراً موبخاً {من حرم زينة الله} أي الملك الذي لا أمر لأحد معه {التي أخرج لعباده} أي ليتمتعوا بها من الثياب والمعادن وغيرها.

ولما ذكر الملابس التي هي شرط في صحة العبادة على وجه عم غيرها من المراكب وغيرها، أتبعها المآكل والمشارب فقال:{والطيبات} أي من الحلال المستلذ {من الرزق} كالبحائر والسوائب ونحوها؛ ولما كان معنى الإنكار: لم يحرمها من يعتبر تحريمه بل أحلها، وكان ربما غلا في الدين غال تمسكاً بالآيات المنفرة عن الدينا المهونة لشأنها مطلقاً فضلاً عن زينة وطيبات الرزق، قال مستأنفاً لجواب من يقول: لمن؟ : {قل هي} أي الزينة والطيبات {للذين آمنوا} وعبر بهذه العبارة ولم يقل: ولغيرهم، تنبيهاً على أنها لهم بالاصالة {في الحياة الدنيا} وأما الكفار فهم تابعون لهم في التمتع بها وإن كانت لهم أكثر، فهي غير خالصة لهم وهي للذين آمنوا {خالصة} أي لا يشاركهم فيها أحد، هذا على قراءة نافع بالرفع، والتقدير على قراءة غيره: حال كونها خالصة {يوم القيامة} وفي هذا تأكيد لما مضى من إحلالها بعد تأكيد ومحو الشكوك، وداعية للتأمل في الفصل بين المقامين لبيان أن الزهد المأمور به

ص: 389

إنما هو بالقلب بمعنى أنه لا يكون للدنيا عنده قدر ولا له إليها التفات ولا هي أكبر همه، وأما كونها ينتفع بها فيما أذن الله فيه وهي محقورة غير مهتم بها فذلك من المحاسن.

ولما كان هذا المعنى من دقائق المعاني ونفائس المباني، أتبعه تعالى قوله جواباً لمن يقول: إن هذا التفصيل فائق فهل يفصل غيره هكذا؟ {كذلك} أي مثل هذا التفصيل البديع {نفصل الآيات} أي نبين أحكامها ونميز بعض المشبهات من بعض {لقوم يعلمون*} أي لهم ملكة وقابلية للعلم ليتوصلوا به إلى الاعتقاد الحق والعمل الصالح.

ولما بين أن ما حرموه ليس بحرام فتقرر ذلك تقرراً نزع من النفوس ما كانت ألفته من خلافه، ومحا من القلوب ما كانت أشربته من ضده؛ كان كأنه قيل: فماذا حرم الله الذي ليس التحريم إلا إليه؟ فأمره تعالى بأن يجيبهم عن ذلك ويزيدهم بأنه لم يحرم غيره فقال: {قل إنما حرم ربي} أي المحسن إليّ بجعل ديني أحسن الأديان {الفواحش} أي كل فرد منها وهي ما زاد قبحه؛ ولما كانت الفاحشة ما يتزايد قبحه فكان ربما ظن أن الإسرار بها غير مراد بالنهي قال: {ما ظهر منها} بين الناس {وما بطن} .

ولما كان هذا خاصاً بما عظمت شناعته قال: {والإثم} أي

ص: 390

مطلق الذنب الذي يوجب الجزاء، فإن الإثم الذنب والجزاء؛ ولما كان البغي زائد القبح مخصوصاً بأنه من أسرع الذنوب عقوبة، خصة بالذكر فقال:{والبغي} وهو الاستعلاء على الغير ظلماً، ولكنه لما كان قد يطلق على مطلق الطلب، حقق معناه العرفي الشرعي فقال:{بغير الحق} أي الكامل الذي ليس فيه شائبة باطل، فمتى كان فيه شائة باطل كان بغياً، ولعله يخرج العلو بالحق بالانتصار من الباغي فإنه حق كامل الحقية، وتكون تسميته بغياً على طريق المشاكلة تنفيراً - بإدخاله تحت اسم البغي - من تعاطيه وندباً إلى العفو كما تقدم مثله في {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} [النساء: 148] ويمكن أن يكون تقييده تأكيداً لمنعه بأنه لا يتصور إلا موصوفاً بأنه بغير الحق كما قال تخصيصاً وتنصيصاً تنبيهاً على شدة الشناعة: {وأن تشركوا بالله} أي الذي اختص بصفات الكمال {ما لم ينزل به سلطاناً} فإنه لا يوجد ما يسميه أحد شريكاً إلا وهو مما لم ينزل به الله سلطاناً بل ولا حجة به في الواقع ولا برهان، ولعله إنما قيده بذلك إرشاداً إلى أن أصول الدين لا يجوز اعتمادها إلا بقاطع فكيف بأعظمها وهو التوحيد! ولذلك عقبه بقوله:{وأن} أي وحرم أن {تقولوا على الله} أي الذي لا أعظم منه ولا كفوء له و {ما لا تعلمون*} أي ما ليس لكم به علم بخصوصه ولا هو مستند إلى علم أعم من أن يكون من الأصول أو لا.

ص: 391

ولما تقدم أن الناس فريقان: مهتد وضال، وتكرر ذم الضال باجترائه على الله بفعل ما منعه منه وترك ما أمره به، وكانت العادة المستمرة للملوك أنهم لا يمهلون من تتكرر مخالفته لهم؛ كان كأنه قيل: فلم يهلك من يخالفه؟ فقيل وعظاً وتحذيراً: إنهم لا يضرون بذلك إلا أنفسهم، ولا يفعلون شيئاً منه إلا بإرادته، فسواء عندهم بقاؤهم وهلاكهم، إنما يستعجل من يخاف الفوت أو يخشى الضرر، ولهم أجل لا بد من استيفائه، وليس ذلك خاصاً بهم بل {ولكل أمة أجل} وهو عطف على {فيها تحيون وفيها تموتون} [الأعراف: 25] {فإذا جاء أجلهم} .

ولما كان نظرهم إلى الفسحة في الأجل، وكان قطع رجائهم من من جملة عذابهم، قدمه فقال:{لا يستأخرون} أي عن الأجل {ساعة} عبر بها والمراد أقل ما يمكن لأنها أقل الأوقات في الاستعمال في العرف، ثم عطف على الجملة الشرطية بكمالها لا على جزائها قوله:{ولا يستقدمون*} أي على الأجل المحتوم، لأن الذي ضربه لهم ما ضربه إلا وهو عالم بكل ما يكون من أمرهم، لم يتجدد له علم، لم يكن يتجدد شيء من أحوالهم، ويجوز أن يكون معطوفاً على قوله:{ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} [الأعراف: 24] وتكون الآية معلمة بأنهم سيتناسلون فيكثرون حتى يكونوا أمماً، ولا يتعرضون جملة بل يكون لكل أمة وقت.

ص: 392

ولما كان استشراف النفس إلى السؤال عما يكون بعد حين المستقر والمتاع أشد من استشرافها إلى هذا لكونه أخفى منه، فهو أبعد من خطوره في البال؛ قدم قوله:{قال فيها تحيون} [الأعراف: 25] ولما كان ذكر الدواء لداء هتك السوءة أهم قدم {أنزلنا عليكم لباساً} [الأعراف: 26] ثم ما بعده حتى كان الأنسب بهذه الاية هذا الموضع فنظمت فيه.

ولما تقدمت الإشارة إلى الحث على اتباع الرسل بآيات المقصد الأول من مقاصد هذه السورة كقوله تعالى {كتاب أنزل إليك} [الأعراف: 2] و {لتنذر} [الأعراف: 2] و {اتبعوا ما أنزل إليكم} [الأعراف: 3] وقوله {فلنسئلن الذين أرسل إليهم} [الأعراف: 6] وقوله {قل أمر ربي بالقسط} [الأعراف: 29]، {إنما حرم ربي الفواحش} [الأعراف: 33] والتحذير من الشياطين بقوله {ولا تتبعوا من دونه أولياء} [الأعراف: 3] وبقوله {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} [الأعراف: 16]، {لا يفتننكم الشيطان} [الأعراف: 27] وغيره، فتحرر أنه لا سبيل إلى النجاة إلا بالرسل، وختم ذلك بالأحل حثاً على العمل في أيام المهلة؛ أتبع ذلك قوله حاثاً على التعلق بأسباب النجاة باتباع الدعاة الهداة قبل الفوت بحادث الموت ببيان الجزاء لمن احسن الاتباع في الدارين {يا بني آدم} .

ولما كان له سبحانه أن يعذب من خالف داعي العقل من غير إرسال رسول، وكان إرسال الرسل جائزاً له وفضلاً منه سبحانه إذ

ص: 393

لا يوجب عليه، أشار إلى ذلك بحرف الشك فقال:{إما} هي إن، الشرطية وصلت بها ما تأكيداً {يأتينكم رسل} ولما كانت زيادة الخبرة بالرسول أقطع للعذر وأقوى في الحجة قال:{منكم} أي من نوعكم من عند ربكم.

ولما كان الأغلب على مقصد هذه السورة العلم كما تقدم في {فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين} [الأعراف: 7] ويأتي في {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم} [الأعراف: 52] وغيرها، كان التعبير بالقص - الذي هو تتبع الأثر كما تقدم في الأنعام - أليق فقال:{يقصون عليكم آياتي} أي يتابعون ذكرها لكم على وجه مقطوع به، ويتبع بعضهم بها أثر بعض لا يتخالفون في أصل واحد من الأصول.

ولما كان لقاء الرسل حتماً والهجرة إليهم واجبة لأن العمل لا يقبل إلا بالاستناد إليهم مهما وجد إلى ذلك سبيل، ربط الجزاء بالفاء فقال:{فمن اتقى} أي خاف مقامي وخاف وعيدي بسبب التصدق بالرسل والتلقي عنهم {وأصلح} أي عمل صالحاً باقتفاء آثارهم {فلا خوف} أي غالب {عليهم} أي بسبب ذلك من شيء يتوقعونه {ولا هم} أي بضمائرهم {يحزنون*} أي يتجدد لهم في وقت ما حزن على شيء فاتهم، لأن الله يعطيهم ما يقر به أعينهم، وكأنه غاية في التعبير لأن إجلالهم لله تعالى وهيبتهم له يمكن أن يطلق عليهما خوف.

ص: 394

ولما ذكر المصدق، أتبعه المكذب فقال {والذين كذبوا بآياتنا} أي على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا؛ ولما كان التكذيب قد يكون عن شبهة أو نوع من العذر، نفى ذلك بقوله:{واستكبروا عنها} أي أوجدوا الكبر إيجاد من هو طالب له عظيم الرغبة فيه، متجاوزين عنها إلى أضداد ما دعت إليه.

ولما ذلك ليس سبباً حقيقياً للتعذيب، وإنما هو كاشف عمن ذرأه الله لجهنم لإقامة الحجة عليه، أعري عن الفاء قوله:{أولئك} أي البعداء البغضاء {أصحاب النار} ولما كان صاحب الشيء هو الملازم له المعروف به، قال مصرحاً بذلك:{هم} أي خاصة ليخرج العاصي من غير تكذيب ولا استكبار {فيها} أي النار خاصة، وهي تصدق بكل طبقة من طبقاتها {خالدون*} فقد تبين أن إثبات الفاء أولاً للترغيب في الاتباع، وتركها ثانياً للترهيب من شكاسة الطباع، فالمقام في الموضعين خطر، ولعل من فوائده الإشارة إلى أنه إذا بعث رسول وجب على كل من سمع به أن يقصده لتحرير أمره، فإذا بان له صدقه تبعه، وإن تخلف عن ذلك كان مكذباً - الله الموفق.

ولما كان تكذيب الرسل تارة يكون بشرع شيء لم يشرعوه،

ص: 395

وتارة برد ما شرعوه قولاً وفعلاً، وأخبر أن المكذبين أهل النار، علل ذلك بقوله:{فمن أظلم} أي أشنع ظلماً {ممن افترى} أي تعمد {على الله} أي الملك الأعلى {كذباً} أي كمن شرع في المطاعم والملابس غير ما شرع، أو ادعى أنه يوحي إليه فحكم بوجود ما لم يوجد {أو كذب بآياته} أي برد ما أخبر به الرسل فحكم بإنكار ما وجد.

ولما كان الجواب: لا أحد أظلم من هذا، بل هو أظلم الناس، وكان مما علم أن الظالم مستحق للعقوبة فكيف بالأظلم قال:{أولئك} أي البعداء من الحضرات الربانية {ينالهم نصيبهم من الكتاب} أي الذي كتب حين نفخ الروح أو من الآجال التي ضربها سبحانه لهم والأرزاق التي قسمها، تأكيداً لرد اعتراض من قال: إن كنا خالفنا فما له لا يهلكنا؟ ثم غَيَّي نيل النصيب بقوله: {حتى إذا جاءتهم رسلنا} أي الذين قسمنا لهم من عظمتنا ما شئنا حال كونهم {يتوفونهم} أي يقبضون أرواحهم كاملة من جميع أبدانهم {قالوا أين ما كنتم} عناداً كمن هو في جبلته {تدعون} أي دعاء عبادة {من دون الله} أي تزعمون أنهم واسطة لكم عند الملك الأعظم وتدعونهم حال كونكم معرضين عن الله، ادعوهم الآن ليمنعوكم من عذاب الهوان الذي نذيقكم {قالوا ضلوا} أي غابوا {عنا} فلا ناصر لنا.

ص: 396

ولما كان الإله لا يغيب فعلموا ضلالهم بغيبتهم عنهم، قال مترجماً عن ذلك:{وشهدوا على أنفسهم} أي بالغوا في الاعتراف {أنهم كانوا كافرين*} أي ساترين عناداً لما كشف لهم عنه نور العقل فلا مانع منه إلا حظوظ النفوس ولزوم البؤس.

ص: 397

ولما كان كأنه قيل: لقد اعترفوا، والاعتراف - كما قيل - إنصاف، فهل ينفعهم؟ قيل: هيهات! فات محله بفوات دار العمل لا جرم! {قال} أي الذي جعل الله إليه أمرهم {ادخلوا} كائنين {في أمم} أي في جملة جماعات وفرق أم بعضها بعضاً؛ ثم وصفهم دالاً بتاء التأنيث على ضعف عقولهم فقال: {قد خلت} ولما كان في الزمن الماضي من آمن، أدخل الجار فقال {من قبلكم} ولما كان الجن الأصل في الإغواء قدمهم فقال:{من الجن والإنس} ثم ذكر محل الدخول فقال: {في النار} .

ولما جرت عادة الرفاق بأنهم يتكالمون وحين الاجتماع يتسالمون تشوف السامع إلى حالهم في ذلك فقال مجيباً له: {كلما دخلت أمة} أي منهم في النار {لعنت أختها} أي القريبة منها في الدين والملة التي قضيت آثارها واتبعت منارها، يلعن اليهود اليهود والنصارى النصارى - وهكذا، واستمر ذلك منهم {حتى إذا اداركوا} اي تداركوا وتلاحقوا، يركب بعضهم بعضاً - بما يشير إليه الإدغام {فيها جميعاً} لم يبق منهم أمة ولا واحد من أمة {قالت أخراهم} أي في الزمن

ص: 397

والمنزلة، وهم الأتباع والسفل {لأولاهم} أي لأجلهم مخاطبين لله خطاب المخلصين {ربنا} أي الذي ما قطع إحسانه في الدنيا عنا على ما كان منا من مقابلة إحسانه بالإساءة {هؤلاء} أي الأولون {أضلونا} أي لكونهم أول من سن الضلال {فآتهم} أي أذقهم بسبب ذلك {عذاباً ضعفاً} أي يكون بقدر عذاب غيرهم مرتين لأنهم ضلوا وأضلوا لأنهم سنوا الضلال، «ومن سنَّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» ومنه «لا تقتل نفس ظلماً إلا على ابن آدم الأول كفل من دمها» لأنه أول من سن القتل، ثم أكدوا شدة العذاب بقولهم:{من النار*} .

ولما كان كأنه قيل: لقد قالوا ما له وجه، فبم أجيبوا؟ قيل:{قال} أي جواباً لهم {لكل} أي من السابق واللاحق والمتبوع والتابع {ضعف} وإن لم يكن الضعفاء متساويين لأن المتبوع وإن كان سبباً لضلال التابع فالتابع أيضاً كان سبباً لتمادي المتبوع في ضلاله وشدة شكيمته فيه بتقويته بالاتباع وتأييده بالمناضله عنه والدفاع؛ ولما كانوا جاهلين باستحقاقهم الضعف لسبب هذه الدقيقة قال: {ولكن لا تعلمون*} أي بذلك.

ولما ذكر ملام الآخرين على الأولين، عطف عليه جواب الأولين فقال:{وقالت أولاهم} أي أولى الفرق والأمم {لأخراهم} مسببين

ص: 398

عن تأسيسهم لهم الضلال ودعائهم إليه {فما كان لكم علينا} أي بسبب انقيادكم لنا واتباعكم في الضلال {من فضل} أي لنحمل عنكم بسببه شيئاً من العذاب لأنه لم يعد علينا من ضلالكم نفع وقد شاركتمونا في الكفر {فذوقوا} أي بسبب ذلك {العذاب} في سجين {بما} اي بسبب ما {كنتم تكسبون*} لا بسبب اتباعكم لنا في الكفر.

ص: 399

ولما جرت العادة بأن أهل الشدائد يتوقعون الخلاص، أخبر أن هؤلاء ليسوا كذلك، لأنهم أنجاس فليسوا أهلاً لمواطن الأقداس، فقال مستأنفاً لجواب من كأنه قال: أما لهؤلاء خلاص؟ وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف: {إن الذين كذبوا بآياتنا} أي وهي المعروفة بالعظمة بالنسبة إلينا {واستكبروا عنها} أي وأوجدوا الكبر متجاوزين عن اتباعها {لا تفتح لهم} أي لصعود أعمالهم ولا دعائهم ولا أرواحهم ولا لنزول البركات عليهم {أبواب السماء} لأنها طاهرة عن الأرجاس الحسية والمعنوية فإذا صعدت أرواحهم الخبيثة بعد الموت مع ملائكة العذاب أغلقت الأبواب دونها ثم ألقيت من هناك إلى سجين {ولا يدخلون الجنة} أي التي هي أطهر المنازل وأشرفها {حتى} يكون ما لا يكون بأن {يلج} أي يدخل ويجوز {الجمل} على كبره {في سم} أي في خرق {الخياط} أي

ص: 399

الإبرة اي حتى يكون ما لا يكون، إذاً فهو تعليق على محال، فإن الجمل مثل في عظم الجرم عند العرب، وسم الإبرة مثل في ضيق المسلك، يقال: أضيق من خرق الإبرة، ومنه الماهر الخريت للدليل الذي يهتدي في المضايق المشبهة بأخراق الإبر؛ وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن الجمل فقال: زوج الناقة - استجهالاً للسائل وإشارة إلى طلب معنى آخر غير هذا الظاهر تكلف.

ولما كان هذا للمكذبين المستكبرين أخبر أنه لمطلق القاطعين أيضاً فقال: {وكذلك} أي ومثل ذلك الجزاء بهذا العذاب وهو أن دخولهم الجنة محال عادة {نجزي المجرمين*} أي القاطعين لما أمر الله به أن يوصل وإن كانوا أذناباً مقلدين للمستكبرين المكذبين؛ ثم فسر جزاء الكل فقال: {لهم من جهنم مهاد} أي فرش من تحتهم، جمع مهد، ولعله لم يذكره لأن المهاد كالصريخ فيه {ومن فوقهم غواش} أي أغطية - جمع غاشية - تغشيهم من جهنم؛ وصرح في هذا بالفوقية لأن الغاشية ربما كانت عن يمين أو شمال، أو كانت بمعنى مجرد الوصول والإدراك، ولعله إنما حذف الأول لأن الآية من الاحتباك، فذكر جهنم أولاً دليلاً على إرادتها ثانياً، وذكر الفوق ثانياً دليلاً على إرادة التحت أولاً.

ص: 400

ولما كان بعضهم ربما لا تكون له أهلية قطع ولا وصل، قال عاماً لجميع أنواع الضلال:{وكذلك} أي ومثل ذلك الجزاء {نجزي الظالمين*} ليعرف أن المدار على الوصف، والمجرم: المذنب ومادته ترجع إلى القطع، والظالم: الواضع للشيء في غير موضعه كفعل من يمشي في الظلام، يجوز أن يكون نبه سبحانه بتغاير الأوصاف على تلازمها، فمن كان ظالماً لزمه الإجرام والتكذيب والاستكبار وبالعكس.

ولما أخبر عن أحوالهم ترهيباً، أتبعه الإخبار عن أحوال المؤمنين ترغيباً فقال {والذين آمنوا} في مقابلة {الذين كذبوا} .

ولما قال: {وعملوا} أي تصديقاً لإيمانهم في مقابلة {الذين استكبروا} {الصالحات} وكان ذلك مظنة لتوهم أن عمل جميع الصالحات - لأنه جمع محلى بالألف واللام - شرط في دخول الجنة؛ خلل ذلك بجملة اعتراضية تدل على التخفيف فقال: {لا نكلف نفساً إلا وسعها} وترغيباً في اكتساب مالا يوصف من النعيم بما هو في الوسع {أولئك} أي العالو الرتبة {أصحاب الجنة} ولما كانت الصحبة تدل على الدوام، صرح به فقال:{هم فيها خالدون} .

ص: 401

ولما كانت الدار لا تطيب إلا بحسن الجوار قال: {ونزعنا} أي بما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء {ما} كان في الدنيا {في صدورهم من غل} أي ضغينة وحقد وغش من بعضهم على بعض يغل، أي يدخل بلطف إلى صميم القلب، ومن الغلول، وهو الوصول بالحيلة إلى الذنوب الدقيقة، ويقال: غل في الشيء وتغلغل فيه - إذا دخل فيه بلطافة كالحب يدخل في صميم الفؤاد، حتى أن صاحب الدرجة السافلة لا يحسد صاحب العالية.

ولما كان حسن الجوار لا يلذ إلاّ بطيب القرار باحكام الدار، وكان الماء سبب العمارة وطيب المنازل، وكان الجاري منه أعم نفعاً وأشد استجلاباً للسرور قال تعالى {تجري من} وأشار إلى علوهم بقوله:{تحتهم الأنهار} فلما تمت لهم النعمة بالماء الذي به حياة كل حياة كل شيء فعرف أنه يكون عنه الرياض والأشجار وكل ما به حسن الدار، أخبر عن تعاطيهم الشكر لله ولرسوله المستجلب للزيادة بقوله:{وقالوا الحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال {لله} أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة لذاته لا لشيء آخر؛ ثم وصفوه بما يقتضي ذلك له لأوصافه أيضاً، فقالوا معلمين أنه لا سبب لهم في الوصول إلى النعيم غير النعيم غير فضله في الأولى

ص: 402

والأخرى: {الذي هدانا} أي بالبيان والتوفيق، وأوقعوا الهداية على ما وصلوا إليه إطلاقاً للمسبب على السبب {لهذا} أي للعمل الذي أوصلنا إليه {وما} أي والحال أنا ما {كنا لنهتدي} أصلاً لبناء جبلاتنا على خلاف ذلك {لولا أن هدانا الله} أي الذي له الأمر كله، وقراءة ابن عامر بغير واو على أن الجملة موضحة لما قلبها، والقراءتان دامغتان للقدرية.

ولما كان تصديقهم للرسل في الدنيا إيماناً بالغيب من باب علم اليقين، أخبروا في الآخرة بما وصلوا إليه من عين اليقين سروراً وتبججاً لا تعبداً، وثناء على الرسل ومن أرسلهم بقولهم مفتتحين بحرف التوقع لأنه محله:{لقد جاءت رسل ربنا} أي المحسن إلينا {بالحق} أي الثابت الذي يطابقه الواقع الذي لا زوال له.

ولما غبطوا أنفسهم وحقروها وأثبتوا الفضل لأهله، عطف على قولهم قوله مانّاً عليهم بقبول أعمالهم، ولما كان السار الإخبار عن الإيراث لا كونه من معين، بني للمفعول قوله:{ونودوا} أي إتماماً لنعيمهم {أن} هي المخففة من الثقيلة أو هي المفسرة {تلكم الجنة} العالية {أورثتموها} أي صارت إليكم من غير تعب ولا منازع {بما} أي بسبب ما {كنتم تعملون*} لأنه سبحانه جعله سبباً

ص: 403

ظاهرياً بكرمه، والسبب الحقيقي هو ما ذكروه هم من توفيقه.

ولما استقرت بهم الدار، ونودوا بدوام الاستقرار، أخبر سبحانه أنهم أقبلوا متبججين على أهل النار شامتين بهم في إحلالهم دار البوار تلذيذاً لأنفسهم بالنعيم وتكديراً على الأشقياء في قوله:{ونادى أصحاب الجنة} أي بعد دخول كل من الفريقين إلى داره {أصحاب النار} يخبرونهم بما أسبغ عليهم من النعم، ويقررونهم بما كانوا يتوعدونهم به من حلول النقم؛ ثم فسر ما وقع له النداء بقوله:{أن} أو هي مخففة من الثقيلة، وذكر حرف التوقع لأنه محله فقال:{قد وجدنا} أي بالعيان كما كنا واجدين له بالإيمان {ما وعدنا ربنا} أي المحسن إلينا في الدارين من الثواب {حقاً} أي وجدنا جميع ما وعدنا ربنا لنا ولغيرنا حقاً كما كنا نعتقد {فهل وجدتم} أي كذلك {ما وعد} وأثبت المفعول الأول تلذيذاً، وحذفه هنا احتقاراً للمخاطبين، وليشمل ما للفريقين فيكون وجد بمعنى العلم وبمعنى اللقى، وفي التعبير بالوعد دون الوعيد مع ذلك تهكم بهم {ربكم} أي الذي أحسن إليكم فقابلتم إحسانه بالكفران من العقاب {حقاً} لكونكم وجدتم ما توعدكم به ربكم حقاً {قالوا نعم} أي قد وجدنا ذلك

ص: 404

كله حقاً؛ قال سيبويه: نعم عِدَة، أي في جواب: أتعطيني كذا، وتصديق في مثل قد كان كذا، والآية من الاحتباك: أثبت المفعول الثاني أولاً دليلاً على حذف مثله ثانياً، وحذفه ثانياً دليلاً على إثبات مثله أولاً - والله أعلم.

ولما حبوا من النعم بما تقدم، وكان منه الجار الحسن، وكان العيش مع ذلك لا يهنأ إلا بإبعاد جار السوء، أخبروا ببعده وزيدوا سروراً بإهانته في قوله:{فأذن} أي بسبب ما أقر به أهل النار على انفسهم {مؤذن بينهم} أي بين الفريقين {أن} مخففه أو مفسرة في قراءة نافع وأبي عمرو وعاصم، وشددها الباقون ونصبوا {لعنة الله} أي طرد الملك الأعظم وإبعاده على وجه الغضب {على الظالمين*} أي الذين كانوا مع البيان الواضح يضعون الأشياء في غير مواضعها كحال من لم ير نوراً أصلاً {الذين يصدون} أي لهم فعل الصد لمن أراد الإيمان ولمن آمن ولغيرهما بالإضلال بالإرغاب والإرهاب والمكر والخداع {عن سبيل الله} أي طريق دين الملك الذي لا كفوء له الواضح الواسع {ويبغونها} أي يطلبون لها {عوجاً} بإلقاء الشكوك والشيهات، وقد تقدم ما فيه في آل عمران {وهم بالآخرة كافرون*} أي ساترون ما ظهر لعقولهم من دلائلها؛ فمتى وجدت هذه الصفات الأربع حقت اللعنة {وبينهما} أي وحال الفريقين عند هذه المناداة أنه بينهما أو بين الدارين {حجاب} أي سور لئلا يجد أهل

ص: 405

النعيم في دارهم ما يكدر نعيمها {وعلى الأعراف} جمع عرف وهو كل عال مرتفع لأنه يكون أعرف مما انخفض، وهي المشرفات من ذلك الحجاب {رجال} استوت حسناتهم وسيئاتهم فوفقوا هنالك حتى يقضي الله فيهم ثم يدخلهم الجنة بفضل رحمته كما جاء مفسراً في مسند ابن أبي خثيمة من حديث جابر رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم {يعرفون كلاًّ} أي من أصحاب الجنة وأصحاب النار قبل دخول كل منهم داره {بسيماهم} أي علامتهم {ونادوا} أي أصحاب الأعراف {أصحاب الجنة} أي بعد دخولهم إليها واستقرارهم فيها {أن سلام عليكم} أي سلامة وأمن من كل ضار.

ولما كان هذا السلام ربما أشعر أنه بعد دخول أهل الأعراف الجنة، فكأنه قيل أكان نداؤهم بعد مفارقتهم الأعراف ودخولها؟ فقيل لا، {لم يدخلوها} أي الجنة بعد {وهم} أي والحال أنهم {يطمعون*} في دخولها، وعبر بالطمع لأنه لا سبب للعباد إلى الله من أنفسهم وإن كانت لهم أعمال فضلاً عن هؤلاء الذين لا أعمال لهم.

ص: 406

ولما دل ما تقدم على أنهم مقبلون على الجنة وأهلها، قال مرغباً مرهباً:{وإذا صرفت} بناه للمفعول لأن المخيف لهم الصرف لا كونه من معين {أبصارهم} أي صرفها صارف من قبل الله بغير اختيار منهم {تلقاء} أي وجاه {أصحاب النار} أي بعد استقرارهم فيها فرأوا ما فيها من العذاب {قالوا} أي أصحاب الأعراف حال كونهم لم يدخلوها

ص: 406

وهم يخافون مستعيذين منها {ربنا} أي أيها المحسن إلينا في الدنيا بكل إحسان وفي الآخرة بكونك لم تدخلنا إلى هذا الوقت إلى النار {لا تجعلنا مع القوم الظالمين*} بأن تدخلنا مدخلهم.

ولما تقدم كلامهم لأهل الجنة بالسلام، أخبر أنهم يكلمون أهل النار بالتوبيخ والملام فقال:{ونادى} وأظهر الفاعل لئلا يلبس بأهل الجنة فقال {أصحاب الأعراف} أي الحال صرف وجوهم إلى جهة أهل النار {رجالاً} أي من أهل النار {يعرفونهم} أي بأعيانهم، وأما معرفتهم إجمالاً فتقدم، وإنما قال هنا:{بسيماهم} لأن النار قد أكلتهم وغيرت معالمهم مع تغيرهم بالسمن وسواد الوجوه وعظم الجثث ونحوه {قالوا} نفياً أو استفهاماً توبيخاً وتقريعاً {ما أغنى عنكم جمعكم} أي للمال والرجال {وما كنتم تستكبرون*} أي تجددون بهما هذه الصفة وتوجدونها دائماً في الدنيا زاعمين أنه لا غالب لكم؛ ثم زادوا في توبيخهم وتقريعهم وتحزينهم وتأسيفهم والإنكار عليهم بقولهم مشيرين إلى ناس كانوا يستضعفونهم من أهل الجنة ويحقرونهم: {أهؤلاء} وكأنه يكشف لهم عنهم حتى يروهم زيادة في عذابهم {الذين أقسمتم} أي في الدنيا {لا ينالهم الله} أي الذي له صفات الكمال {برحمة} فكيف بكمال الرحمة.

ولما كان التصريح بأمرهم بدخول الجنة إنكاء لأهل النار لأنه أنفى

ص: 407

لما أقسموا عليه، قالوا:{ادخلوا} أي قال الله لهم أو قائل من قبله ادخلوا {الجنة لا خوف عليكم} أي من شيء يمكن توقع أذاه {ولا أنتم تحزنون*} أي يتجدد لكم حزن في وقت من الأوقات على شيء فات لما عندكم من الخيرات التي لا تدخل تحت الوصف.

ولما تقدم نداء أصحاب الجنة عندما حصل لهم السرور بدخولها لأصحاب النار بما يؤلم وينكي، وختم بهذه الرحمة التي تطمع المحروم فيما يسر ويزكي، أخبر أن أصحاب النار ينادون أصحاب الجنة عندما حصل لهم من الغم بدخولها، لكن بما شأنه أن يرقق ويبكي، فقال ما يدل على أن عندهم كل ما نفي عن أهل الجنة في ختام الأية السالفة من الخوف والحزن:{ونادى أصحاب النار} أي بعد الاستقرار {أصحاب الجنة} بعد أن عرفهم إياهم وأمر الجنة فتزخزفت فكان ذلك زيادة في عذابهم؛ ثم فسر المنادى به فقال {أن أفيضوا علينا من الماء} أي لأنكم أعلى منا، فإذا أفضتموه وصل إلينا، وهذا من فرط ما هم فيه من البلاء، فإن بين النار والجنة أهوية لا قرار لها ولا يمكن وصول شيء من الدارين إلى الأخرى معها.

ولما كانت الإفاضة تتضمن الإنزال قالوا: {أو} أي أو أنزلوا علينا {مما رزقكم الله} أي الذي له الغنى المطلق، من أيّ شيء هان عليكم إنزاله {قالوا} أي أصحاب الجنة {إن الله} أي الذي حاز

ص: 408

جميع العظمة {حرمهما} أي منعهما بتلك الأهوية وغيرها من الموانع {على الكافرين*} أي الساترين لما دلهم عليه قويم العقل وصريح النقل {الذين اتخذوا} أي تكلفوا غير ما دلهم عليه العقل الفطري حين نبه بالعقل الشرعي بأن أخذوا {دينهم} بعد ما محقوا صورته وحقيقته كما يمحق الطين إذا اتخذته خزفاً فصار الدين {لهواً} أي اشتغالاً بما من شأنه أن يغفل وينسى عن كل ما ينفع من الأمور المعجبة للنفس من غير نظر في عاقبة، فجوزوا من جنس عملهم بأن لم ينظر لهم في إصلاح العاقبة.

ولما قدم ما هو أدعى إلى الاجتماع على الباطل الذي هو ضد مقصود السورة من الاجتماع على الجد وأدعى إلى الغفلة، وكان من شأن الغفلة عن الخير أن تجر إلى استجلاب الأفراح والانهماك في الهوى، حقق ذلك بقوله:{ولعباً} أي إقبالاً على ما يجلب السرور ويقطع الوقت الحاضربالغرور، ولذلك أتبعه قوله:{وغرتهم} أي في فعل ذلك {الحياة الدنيا} أي بما فيها من الأعراض الزائلة من تأميل طول العمر والبسط في الرزق ورغد العيش حتى صاروا بذلك محجوبين عن نظر معانيها وعما دعا إليه تعالى من الإعراض عنها فلم يحسبوا حساب ما وراءها. ولما كان تركهم من رحمته سبحانه مؤبداً، أسقط الجار {فاليوم} أي فتسبب عن ذلك أن في هذا اليوم {ننساهم}

ص: 409

أي نتركهم ترك المنسي {كما} فعلوا هم بأنفسهم بأن {نسوا} أي تركوا {لقاء يومهم هذا} فلم يعدوا له عدته {وما} أي وكما {كانوا} أي جبلة وطبعاً {بآياتنا} على ما لها من العظمة بنسبها إلينا {يجحدون*} أي ينكرون وهم يعرفون حقيقتها لأنها في غاية الظهور.

ص: 410

ولما ذكر نسيانهم وجحودهم، ذكر حالهم عند ذلك فقال:{ولقد} أي فعلوا ذلك والحال أنا وعزتنا قد {جئناهم} أي على عظمتنا بإتيان رسولنا إليهم عنا {بكتاب} ليس هو موضعاً للجحد أصلاً؛ ثم بين ذلك في سياق مرغب للمؤالف مرهب للمخالف فقال: {فصلناه} أي بينا معاينة لم ندع فيها لبساً، وجعلنا لآياته فواصل حال كون ذلك التفصيل {على علم} أي عظيم، فجاء معجزاً في نظمه ومعناه وسائر علمه ومغزاه، وحال كونه {هدى} أي بياناً {ورحمة} أي إكراماً، ثم خص المنتفعين به لأن من لا ينتفع بالشيء فهو كالمعدوم في حقه فقال:{لقوم يؤمنون*} أي فيهم قابلية ذلك، وفيه رجوع إلى وصف الكتاب الذي هو أحد مقاصد السورة على أبداع وجه في أحسن أسلوب.

ولما وصف الكتاب وذكر المنتفع به، تشوفت النفس إلى السؤال عن حال من لا يؤمن به وهم الجاحدون، فقال مشيراً إلى أن حالهم في وقوفهم عن المتابعه بعد العلم بصدقه بعجزهم عنه كحال من

ص: 410

ينتظر أن يأتي مضمون وعيده: {هل ينظرون} أي ينتظرون، ولكنه لما لم يكن لهم قصد في ذلك بغير ما يفهمه الحال، جرد الفعل ولإفادة أنه بتحقيق إتيانه في غاية القرب حتى كأنه مشاهد لهم {إلا تأويله} أي تصيير ما فيه من وعد ووعيد إلى مقاره وعواقب أمره التي أخبر أنه يصير إليها.

ولما كان كأنه قيل: ما يكون حالهم حينئذ؟ قال: التحسر والإذغان حيث لا ينفع، والتصديق والإيمان حين لا يقبل، وعبر عن ذلك بقوله:{يوم يأتي تأويله} أي بلوغ وعيده إلى مبلغه في الدنيا أو في الآخرة؛ ولما قدم اليوم اهتماماً به، أتبعه العامل فيه فقال:{يقول الذين نسوه} أي تركوه ترك المنسي، ويجوز أن يكون عد ذلك نسياناً لأنه ركز في الطباع أن كل ملك لا بد له من عرض جنده ومحاسبتهم، فلما أعرضوا عن ذلك فيما هو من جانب الله عده نسياناً منهم لما ركز في طباعهم.

ولما كان نسيانهم في بعض الزمان السابق، أدخل الجار فقال {من قبل} أي قبل كشف الغطاء محققين للتصديق {قد جاءت} أي فيما سبق من الدنيا {رسل ربنا} أي المحسن إلينا {بالحق} أي المطايق لهذا الواقع الذي نراه مما كانوا يتوعدوننا به، فما صدقوا حتى رأوا

ص: 411

فلم يؤمنوا بالغيب ولا أوقعوا الإيمان في دار العمل فلذا لم ينفعهم.

ولما وصفوه سبحانه بالإحسان لما كشف الحال عنه من حلمه وطول أناته، سببوا عن ذلك قولهم:{فهل لنا من شفعاء} أي في هذا اليوم، وكأنهم جمعوا الشفعاء لدخولهم في جملة الناس في الشفاعة العظمى لفصل القضاء؛ ثم سببوا عن ذلك تحقيق كونهم لهم أي بالخصوص فقالوا {فيشفعوا لنا} أي سواء كانوا من شركائنا الذين كنا نتوهم فيهم النفع أو من غيرهم ليغفر لنا ما قدمنا من الجرائم {أو نرد} أي إن لم يغفر لنا إلى الدنيا التي هي دار العمل، والمعنى أنه لا سبيل لنا إلى الخلاص إلا أحد هذين السببين؛ ثم سببوا عن جواب هذا الاستفهام الثاني قولهم:{فنعمل} أي في الدنيا {غير الذي كنا} أي بجبلاتنا من غير نظر عقلي {نعمل} .

ولما كان من المعلوم عند من صدق القرآن وعلم مواقع ما فيه من الأخبار أنه لا يكون لهم شيء من ذلك، كانت نتيجته قوله:{قد خسروا أنفسهم} أي فلا احد أخسر منهم {وضل} أي غاب وبطل {عنهم ما كانوا} أي جبلة وطبعاً، لا يمكنهم الرجوع عنه إلا عند عند رؤية البأس {يفترون*} أي يتعمدون في الدنيا من الكذب

ص: 412

في أمره لقصد العناد للرسل من ادعاء أن الأصنام تشفع لهم ومن غير ذلك من أكاذيبهم.

ولما كان مدار القرآن على تقرير الأصول الأربع: التوحيد والنبوة والمعاد والعلم، وطال الكلام في إخباره سبحانه عن أوامره ونواهيه وأفعاله بأوليائه وأعدائه الدالة على تمام القدرة والعلم، وختم بأن شركاءهم تغني عنهم، علل ذلك بأنه الرب لا غيره، في سياق دال على الوحدانية التي هي أعظم مقاصد السورة، كفيل بإظهار الحجج عليها، وعلى المقصد الثاني - وهو الإعادة التي فرغ من تقرير أحوالها بالإبداء الذي تقرر في العقول أنه أشد من الإعادة - بأدلة متكلفة بتمام القدرة والعلم فقال:{إن ربكم} أي المحسن إليكم بالإيجاد من العدم وتدبير المصالح هو {الله} أي الملك الذي لا كفوء له وحده لا صنم ولا غيره؛ ثم وصفه بما حقق ذلك فقال: {الذي خلق السماوات والأرض} أي على اتساعهما وعظمتهما.

ولما كان ربما قال الكفار: ما له إذا كان قادراً وأنت محق في رسالتك لا يعجل لنا الإتيان بتأويله، بين أن عادته الأناه وإن كان أمره وأخذه كلمح بالبصر إذا أراده، فقال:{في ستة أيام} أي في مقدارها؛ ولما كان تدبير هذا الخلق أمراً باهراً لا تسعه العقول، ولهذا كانت قريش تقول: كيف يسع الخلق إله واحد! أشار إلى

ص: 413

عظمته وعلو رتبته بأداة البعد فقال: {ثم استوى على العرش} أي أخذ في التدبير لما أوجده وأحدث خلقه أخذاً مستوفى مستقصى مستقلاً به لأن هذا شأن من يملك ملكاً ويأخذ في تدبيره وإظهار أنه لا منازع له في شيء منه وليكون خطاب الناس على ما ألفوه من ملوكهم لتستقر في عقولهم عظمته سبحانه، وركز في فطرهم الأولى من نفي التشبيه منه، ويقال: فلان جلس على سرير الملك، وإن لم يكن هناك سرير ولا جلوس، وكما يقال في ضد ذلك: فلان ثل عرشه، أي ذهب عزه وانتقض ملكه وفسد أمره، فيكون هذا كناية لا يلتفت فيه إلى أجراء التركيب، والألفاظ على ظواهرها كقولهم للطويل: طويل النجاد، وللكريم: عظيم الرماد.

ولما كان سبحانه لا يشغله شان عن شأن، ابتدأ من التدبير هو آية ذلك بمشاهدته في تغطية الأرض بظلامه في آن واحد، فقال دالاً على كمال قدرته المراد بالاستواء بأمر يشاهد كل يوم على كثرة منافعة التي جعل سبحانه بها انتظام هذا الوجود:{يغشي} أي استوى حال كونه يغشي {الليل النهار} وقال أبو حيان: وقرأ حميد بن قيس: يغشى الليل - بفتح الياء وسكون الغين وفتح الشين وضم اللام، كذا قال عنه أبو عمرو الداني، وقال أبو الفتح بن جني عن حميد بنصب الليل ورفع

ص: 414

النهار، وقال ابن عطية: وأبو الفتح أثبت، وهذا الذي قاله - من أن أبا الفتح أثبت - كلام لا يصح، إذ رتبة أبي عمرو الداني في القراءة ومعرفتها وضبط رواياتها واختصاصه بذلك بالمكان الذي لا يدانيه أحد من أئمة القراءة فضلاً عن النجاة الذين ليسوا مقرئين ولا رووا القراءة عن أحد ولا روى عنهم القراءة أحد، هذا مع الديانة الزائدة والتثبت في النقل وعدم التجاسر ووفور الحظ من العربية، فقد رأيت له كتاباً في كلا وكتاباً في إدغام أبي عمرو الكبير دلاً على اطلاعه على ما لا يكاد يطلع عليه أئمة النجاة ولا المقرئين إلى سائر تصانيفه، والذي نقله أبو عمرو الداني عن حميد أمكن من حيث المعنى، لأن ذلك موافق لقراءة الجماعة إذ {اليّل} في قراءتهم - وإن كان منصوباً- هو الفاعل من حيث المعنى إذ همزة النقل أو التضعيف صيرة مفعولاً، ولا يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً من حيث المعنى، لأن المنصوبين تعدى إليهما الفعل وأحدهما فاعل من حيث المعنى، فيلزم أن يكون الأول منهما كما لزم ذلك في: ملكت زيداً عمراً، إذ رتبة التقديم هي الموضحة أنه الفاعل من حيث المعنى كما لزم ذلك في ضرب موسى عيسى - انتهى.

ص: 415

ولما أخبر سبحانه أن الليل يغطي النهار، دل على أن النهار كذلك بقوله مبيناً لحال الليل {يطلبه} أي الليل يجر ويطلب النهار دائماً طلباً {حثيثاً} أي سريعاً جداً لتغطية الليل، وذلك لأن الشيء لا يكون مطلوباً إلا بعد وجوده، وإذا وجد النهار كان مغطياً لليل، لأنهما ضدان، وجود أحدهما ماح لوجود الآخر، وابتدأ سبحانه بذكر الليل لأن إغشاءه أول كائن بعد تكمل الخلق، وحركتهما بواسطة حركة العرش، ولذا ربطهما به، وهي أشد الحركات سرعة وأكملها شدة، وللشمس نوعان من الحركة: أحدهما بحسب ذاتها تتم بقطع الدرج كلها في جميع الفلك، وبسببه تحصل السنة، والثاني بحسب حركة الفلك الأعظم تتم في اليوم بليلته، والليل والهنار إنما يحصلان بسبب حركة السماء الأقصى الذي يقال له العرش لا بسبب حركة النيرين، وأجاز ابن جني أن يكون {يطلبه} حالاً من النهار في قراءة الجماعة وإن كان مفعولاً، أي حال كون النهار يطلب الليل حثيثاً ليغطيه، وأن يكون حالاً منهما معاً لأن كلاًّ منهما طالب للآخر، وبهذا ينتظم ما قاله في قراءة حميد، فإن كلاً منهما يكون غاشياً للآخر، قال في كتابه المحتسب في القراءات الشواذ: ووجه صحة القراءتين

ص: 416

والتقاء معنييهما أن الليل والنهار يتعاقبان، وكل واحد منهما وإن أزال صاحبه فإن صاحبه أيضاً مزيل له، وكل واحد منهما على هذا فاعل وإن كان مفعولاً ومفعول وإن كان فاعلاً، على أن الظاهر في الاستحثاث هنا إنما هو النهار لأنه بسفورة وشروقه أظهر أثراً في الاستحثاث من الليل.

ولما ذكر الملوين، أتبعهما آية كل فقال:{والشمس والقمر والنجوم} أي خلقها، أو يغشى كل قبيل منهما ما الآخر آيته خال كون الكل {مسخرات} أي للسير وغيره {بأمره} وهو إرداته وكلامه، تقودها الملائكة كما روي أن لله ملائكة يجرون الشمس والقمر.

ولما صح أن جميع ما نراه من الذوات خلقه، وما نعلمه من المعاني أمره، أنتج قطعاً قوله {ألا له} أي وحده، وقدم المسبب على السبب ترقية - كما هو مقتضى الحكم - من المحسوس إلى المعقول فقال:{الخلق} وهو ما كان من الإيجاد بتسبيب وتنمية وتطوير قال الرازي: فكل ما كان جسماً او جسمانياً كان مخصوصاً بمقدار معين فكان من عالم الخلق، فعالم الخلق بتسخيره، وعالم الأمر بتدبيره، واستيلاء الروحانيات على الجسمانيات بتقديره {والأمر} وهو ما كان من ذلك إخراجاً من العدم من غير تسبب كالروح، وما كان حفظاً وتدبيراً بالكلام

ص: 417

كالأديان وكل ما يلاحظ القيومية؛ وقال الرازي: كل ما كان بريئاً من الحجم والمقدار كان من عالم الأمر، وعد الملائكة من عالم الأمر، فأتنج ذلك قطعاً قوله على سبيل المدح الذي ينقطع دونه الأعناق ويتقاصر دون عليائه ذري الآفاق:{تبارك} أي ثبت ثبوتاً لا ثبوت في الحقيقة غيره اليمن والبركة وكثرة الآثار الفاضلة والنتائج الشريفة {الله} أي ذو الجلال والإكرام.

ولما دل على أنه يستحق هذا الثناء لذاته، دل على أنه يستحقه لصفاته فقال:{رب العالمين*} أي مبدع ذلك كله ومربيه خلقاً وتصريفاً بأمره، وفي الجزء السادس من فوائد المخلص عن سفيان بن عيينة أنه قال: ما يقول هذه الدوبية - يعني بشراً المريسي؟ قالوا: يا أبا محمد! يزعم أن القرآن مخلوق، فقال: كذب، قال الله عز وجل {ألا له الخلق والأمر} فالخلق خلق الله، والأمر القرآن - انتهى. وهذا الذي فسر به مما تحتمله الآية بأن يكون الأمر هو المراد بقوله {بأمره} وهو الإرادة والكلام مع احتمال ما قدمته.

ص: 418

ولما ذكر تعالى تفرده بالخلق والأمر المقتضي لتفرده بالعبادة للتوجيه إلى تحصيل المعارف النفسانية والعلوم الحقيقية، أمر بهذا المقتضى اللائق بتلك المعارف، وهو الدعاء الذي هو مخ العبادة فقال:{ادعوا ربكم} أي الدائم الإحسان إليكم دعاء عبادة وخضوع {تضرعاً} أي تذللاً

ص: 418

ظاهراً {وخفية} أي وتذللاً باطناً، وقد أثنى على عبده زكريا عليه السلام فقال:{إذ نادى ربه نداء خفياً} [مريم: 3] أي اجمعوا إلى خضوع الظاهر خضوع الباطن، أي أخلصوا له العبادة، إنه يحب المخلصين لأن تفرده بأن يدعى هو اللائق بمقام عز الربوبية، والتذلل على هذه الصفة هو اللائق بمقام ذل العبودية، وهذا هو المقصود من الدعاء لا تحويل العلم الأزلي، وهو المقصود من جميع العبادات، فإن العبد لا يدعو إلا وقد استحضر من نفسه الذل والصعب والحاجة، ومن ربه العلم والقدرة والكفاية، وهذا هو المقصود من جميع العبادات، فلهذا كان الدعاء مخ العبادة، وقد جمع هذا الكلام على وجازته كل ما يراد تحقيقه وتحصيله من شرائط الدعاء بحيث إنه لا مزيد عليه، ومن فعل خلاف ذلك فقد تجاوز الحد، وإلى ذلك أوماً بتعليله بقوله:{إنه لا يحب المعتدين*} أي المجاوزين لما أمروا به في الدعاء وغيره، قالوا فالمعنى أن من ترك هذا لا يحبه الله، أي لا يثيبه البتة ولا يحسن إليه، فالآية من الاحتباك آخرها يدل على حذف ضده من صدرها، وصدرها يدل على أنه حذف قبل الآخر: ولا تتركوا الإخلاص تكونوا معتدين.

ولما كان ذلك من الوفاء بحق الربوبية والقيام بحق العبودية مقتضياًَ للصلاح أمر بإدامته بالنهي عن ضده في قوله: {ولا تفسدوا} أي لا تدفعوا فساداً {في الأرض} أي بالشرك والظلم، فهو منع من

ص: 419

إيقاع ماهية الإفساد في الوجود، وذلك يقتضي المنع من جميع أنواعه فيتناول الكليات الخمس التي اتفقت عليها الملل، وهي الأديان والأبدان والعقول والأنساب والأموال {بعد إصلاحها} والظاهر أن الإضافة بمعنى اللام وهي إضافة في المفعول، أي لا تدنسوها بفساد بعد أن أصلحها لكم خلقاً بما سوى فيها من المنافع المشار إليها بقوله {يغشي الليل النهار} [الأعراف: 54] ، الدال على الوحدانية الداعي إلى الحق إقامة للأبدان، وأمر بما أنزل من كتبه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام إقامة للأديان فجمع إلى الإيجاد الأول الإبقاء الأول.

ولما كان ذلك ربما اقتضى الاقتصار بكمال التذلل على مقام الخوف، نفى ذلك بقوله {وادعوه خوفاً} أي من عدله؛ ولما كان لا سبب للعباد من أنفسهم في الوصول إليه سبحانه، عبر بالطمع فقال:{وطمعاً} أي في فضله، فإن من جمع بين الخوف والرجاء كان في مقام الإحسان وكأنه مشاهد للرحمن، ما زجره زاجر الجلال بسياط سطوته إلا دعاه داعي الجمال إلى بساط رأفته، ومن حاز مقام الإحسان كان أهلاً للرحمة {إن رحمت الله} أي إكرام ذي الجلال والإكرام لمن يدعوه على هذه الصفة، وفخمها بالتذكير لإضافتها إلى غير مؤنث فيما قال سيبوية، فقال:{قريب} وكان الأصل منكم، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال:{من المحسنين*} .

ص: 420

ولما كان دوام الصلاح لا يكون إلا يكون بالغيث، وهو من أجلّ أنواع الرحمة، وهو لا يكون إلا بالسحاب، وهو لا يكون إلا بالريح، قال تعالى عاطفاً على {إن ربكم الله} تنبيهاً بعد تحقيق المبدإ على تحقيق المعاد:{وهو} أي لا غيره {الذي يرسل} أي بالتحريك {الرياح} هذا في قراءة الجماعة، وأنواعها خمس: جنوب وشمال وصبا ودبور ونكباء، وهي كل ريح انحرفت فوقعت بين ريحين، ووحد ابن كثير وحمزة والكسائي على إرادة الجنس {بشرا} بضمتين في قراءة أهل الحجاز والبصرة، أي منتشرة جمع نشور من النشر، وهو بسط ما كان مطوياً وتفريقه في كل وجه لا لذات الريح وإلا لدام ذلك منها ولا بقوة فلك أو نجم لأن نسبتهما إلى الهواء واحدة {بين يدي} أي قبل {رحمته} أي المطر، ولعله عبر فيه باليدين: اليمنى واليسرى، لدلالته - مع ما فيه من الفخامة - على انه تارة يكون رحمة وتارة يكون عذاباً كما كان على قوم نوح عليه السلام وإن كانت الرحمة فيه أغلب وهي ذات اليمين، وتارة تكون الرياح جامعة لها لحفظ الماء، وتارة مفرقة مبطلة لها، وتارة تكون مقومة للزروع والأشجار مكملة لها وهي اللواقح، وتارة تكون منمية لها أو مهلكة كما يكون في الخريف، وتارة تكون طبية وتارة مهلكة إما بشدة الحرارة والبرودة؛ ثم غيّ الإرسال بقوله {حتى إذا أقلت سحاباً} أي حملتها

ص: 421

لقلتها عندها لخفتها عليها {ثقالاً} أي بالماء؛ ولما دل على العظمة بالجمع وحقق الأمر بالوصف، أفرد اللفظ دلالة على غاية العظمة بسوقه مجتمعاً كأنه قطعة واحدة، لا يفترق جزء منه عن سائره إذ لو تفرق لاختل أمره، فقال:{سقناه لبلد} أي لأجله وإليه {ميت} أي بعدم النبات {فأنزلنا} أي بما لنا من العظمة {به} أي البلد، أو بسبب ذلك السحاب {الماء} أي هذا الجنس، وأشار إلى عظمة الإنبات بالنون فقال {فأخرجنا به} أي بالماء {من كل الثمرات} أي الحقيقية على الأشجار، والمجازية من النبات وحبوبه، ولما كان هذا - مع ما فيه من التذكير بالنعمة المقتضية لتوحيده بالدعوة - دليلاً ثانياً في غاية الدلالة على القدرة على البعث، قال تعالى:{كذلك} أي مثل ما أخرجنا هذا النبات من الأرض بعد أن لم يكن {نخرج الموتى} أي من الأرض بعد أن صاروا تراباً {لعلكم تذكرون*} أي قلنا هذا لتكون حالكم حال من يرجي تذكر هذه الآية المشاهدة القريبة المأخذ ولو على أدنى وجوه التذكر بما أشار إليه الإدغام، لأنه سبحانه كما قدر على إعادة النبات بجمع الماء له من جوف الأرض بعد أن كان تغيب في الأرض وصار تراباً، وأحيى الشجرة بعد أن كانت لا روح لها بإيداع الثمرة التي هي روحها، فهو

ص: 422

قادر على إعادة الأشباح وإيداعها الأرواح كما كانت أول مرة، لأنه لا فرق بين الإخراجين.

ص: 423

ولما كانت الموت موتين: حسياً ومعنوياً - كما أشير في الأنعام في آية {إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله} [الأنعام: 36]{أو من كان ميتاً فأحييناه} [الأنعام: 122] كان كأنه قيل: لا فرق في ذلك عندما بين أموات الإيمان وأموات الأبدان، فكما أنا فاوتنا بين جواهر الأراضي بخلق بعضها جيداً وبعضها رديئاً كذلك فاوتنا بين عناصر الأناسي بجعل بعضها طيباً وبعضها خبيثاً، فالجيد العنصر يسهل إيمانه، والخبيث الأصل يعسر إذعانه وتبعد استقامته وإيقانه {والبلد الطيب} أي الذي طابت أرضه فكانت كريمة منبتة {يخرج نباته} أي إذا نزل عليه الماء خروجاً كثيراً حسناً سهلاً غزيراً {بإذن} أي بتمكين {ربه} أي المربي له بما هيأه له، والذي طاب في الجملة ولم يصل إلى الغاية يخرج له نبات دون ذلك، والخبيث لا يخرج له نبات أصلاً بمنع ربه له {والذي خبث} أي حصلت له خباثة في جبلته بكون أرضه سبخة أو نحوها مما لا يهيئه الله تعالى للإنبات {لا يخرج} أي نباته {إلا} أي حال كونه {نكداً} أي قليلاً ضعيف المنفعة، وهو -

ص: 423

مع كونه دالاً على أن ذلك ما كان على ما وصف مع استواء الأراضي في الأصل واستواء المياه ونسبتها إلى الأفلاك والنجوم إلا بالفاعل المختار - مثل ضربه سبحانه للمؤمن والكافر عند سماعهما للذكر من الكتاب والسنة، والآية من الاحتباك.

ولما استوت هذه الآيات على الذروة من بدائع الدلالات، كان السامع جديراً بأن يقول: هل تبين جميع هذه الآيات هذه البيان؟ فقيل: {كذلك} أي نعم، مثل هذا التصريف، وهو الترديد مع اختلاف الأنحاء لاختلاف الدلالات وإبرازها في قوالب الألفاظ الفائقة والمعاني الرائقة في النظوم المعجزة على وجوه لا تكاد تدخل تحت الحصر:{نصرف الآيات} أي كلها؛ ولما تم ذلك على هذا المنهاج الغريب والمنوال العجيب المذكر بالنعم في أسلوب دال على التفرد وتمام القدرة، كان أنسب الأشياء ختمه بقوله مخصصاً بها المنتفع لأنها بالنسبة إلى غيرهم كأنها لم توجد:{لقوم يشكرون*} أي يوجد منهم الشكر للنعم وجوداً مستمراً فلا يشركون بل ينتفعون بما أنعم عليهم به وحده في عبادته وحده، وينظرون بعقولهم أنه أقدرهم بنعمه على ما هم عاجزون عنه، فلا يسلبون عنه شيئاً من قدرته على بعث ولا غيره فإنهم يزعمون أنهم أهل معالي الأخلاق التي منها أنه ما جزاء الإحسان إلاّ الإحسان.

ص: 424

ولما طال تهديده سبحانه لمن أصر على إفساده، ولم يرجع عن غيّه وعناده بمثل مصارع الأولين ومهالك الماضين، ونوَّع في هذه الآيات محاسن الدلالات على التوحيد والمعاد بوجوه ظاهرة وبينات قاهرة وبراهين قاطعة وحجج ساطعة، ساق سبحانه تلك القصص دليلاً حسياً على أن في الناس الخبيث والطيب مع الكفالة في الدلالة على تمام القدرة والغيرة من الشرك على تلك الحضرة - بتفصيل أحوال من سلفت الإشارة إلى إهلاكهم وبيأن مصارعهم وأنه لم تغن عنهم قوتهم شيئاً ولا كثرتهم بقوله تعالى

{وكم من قرية أهلكناها} [الأعراف: 4] وقوله {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة} [الأعراف: 34] الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتقوية لصالحي أتباعه بالتنبيه على أن الإعراض عن الآيات ليس من خواص هذه الأمة بلف هي عادة الأمم السالفة، وعلى أن النعم خاصة بالشاكرين، ولذا كانت النقم مقصورة على الكافرين، فقال تعالى {لقد أرسلنا} أي بعظمتنا، وافتتحه بحرف التوقع لما للسامع الفطن من التشوف إلى ذكر ما تكرر من الإشارة إليه، ولأن اللام المجاب بها القسم المحذوف لا ينطقون بها غالباً إلا مقترنة بقد، لأن الجملة القسمية لا تساق إلا تاكيداً للجملة المقسم عليها التي هي جوابها فكانت مظنة بمعنى التوقع الذي هو معنى «قد» عند استماع المخاطب كلمة القسم {نوحاً} يعني ابن لمك بم

ص: 425

متوشلخ بن خنوخ، وهو إدريس عليه السلام، وكان عند الإرسال ابن خمسين سنة.

ولما كان إرساله صلى الله عليه وسلم قبل القبائل باختلاف اللغات قال: {إلى قومه} أي الذين كانوا ملء الأرض كما في حديث الشفاعة في الصحيحين وغيرهما عن أنس رضي الله عنه، ائتوا نوحاً أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض. وفيهم من القوة على القيام بما يريدون ما لا يخفي على من تأمل آثارهم وعرف أخبارهم، فإن كانت آثارهم فقد حصل المراد، وإن كانت لمن بعدهم علم - بحكم قياس الاستقرار - أنهم أقوى على مثلها وأعلى منها، ولسوق ذلك دليلاً على ما ذكر جاء مجرداً عن أدوات العطف، وهو مع ذلك كله منبه على أن جميع الرسل متطابقون على الدعوة إلى ما دل عليه برهان {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض} [الأعراف: 54] من التوحيد والصلاح إلى غير ذلك من بحور الدلائل والحجاج المتلاطمة الأمواج - والله الهادي إلى سبيل الرشاد، وكون نوح عليه السلام رسولاً إلى جميع أهل الأرض - لأنهم قومه لوحده لسانهم - لا يقدح في تخصيص نبينا صلى الله عليه وسلم بعموم الرسالة، لأن معنى العموم إرساله إلى جميع الأقوام المختلفة باختلاف الألسن وإلى جميع من ينوس من الإنس والجن والملائكة، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة الصافات لهذا مزيد بيان.

ولما كان من المقاصد العظيمة الإعلام بأن الذي دعا إليه هذا

ص: 426

الرسول لم تزل الرسل - على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام - تدعو إليه، وكان نوح أول رسول ذكرت رسالته عقب ذكر إرساله بذكر ما أرسل به بالفاء بقوله {فقال يا قوم} أي فتحبب إليهم بهذه الإضافة {اعبدوا الله} أي الذي له جميع العظمة من الخلق والأمر، فإنه مستحق لذلك وقد كلف عباده به.

ولما كان المقصود إفراده بذلك، علله بقوله مؤكداً له بإثبات الجار {ما لكم} وأغرق في النفي فقال:{من إله غيره} ثم قال معللاً أو مستأنفاً مخوفاً مؤكداً لأجل تكذيبهم: {إني أخاف عليكم} في الدنيا والآخرة، ولعلة قال هنا:{عذاب يوم عظيم*} وفي هود {أليم} [هود: 26] وقال في المؤمنون {أفلا تتقون} [المؤمنون: 23] لأن ترتيب السور الثلاث - وإن كان الصحيح أنه باجتهاد الصحابة رضي الله عنهم فلعله جاء على ترتيبها في النزول، لأنها مكيات، وعلى ترتيب مقال نوح عليه السلام لهم فألان لهم أولاً المقال من حيث إنه أوهم أن العظم الموصوف به {اليوم} لا بسبب العذاب بل الأمر آخر، فيصير العذاب مطلقاً يتناول أي عذاب كان ولو قل، فلما تمادى تكذيبهم بين لهم أن عظمه إنما هو من جهة إيلام العذاب الواقع فيه، فلما لجوا في عتوهم قال لهم قول القادر إذا هدد عند مخالفة غيره له:

ص: 427

ألا تفعل ما أقول لك؟ أي متى خالفت بعد هذا عاجلتك بالعقاب وأنت تعرف قدرتي.

ولما تم ذلك، وكان الحال مقتضياً - مع ما نصب من الأدلة الواضحة على الوحدانية - لأن يجيبوا بالتصديق، كان كأنه قيل: فبماذا كان جوابهم؟ فقال {قال الملأ} أي الأشراف الذين يملأ العيون مرآهم عظمة، وتتوجه العيون في المحافل إليهم، ولم يصفهم في هذه السورة بالكفر لأن ذلك أدخل في التسلية، لأنها أول سورة قص فيها مثل هذا في ترييب الكتاب، ولأن من آمن به مطلقاً كانوا في جنب من لم يؤمن في غاية القلة، فكيف عند تقييدهم بالشرف! وأكد ذمهم تسلية لهذا النبي الكريم بالتعريف بقربهم منه في النسب بقوله:{من قومه} وقابلوا رقته وأدبه بغلطة مؤكداً ما تضمنته من البهتان لأن حالهم مكذب لهم فقالوا: {إنا لنراك} أي كل واحد منا يعتقد اعتقاداً هو في الثقة به كالرؤية أنك {في ضلال} أي خطأ وذهاب عن الصواب، هو ظرف لك محيط بك {مبين*} أي ظاهر في نفسه حتى كأنه يظهر ذلك لغيره.

ص: 428

ولما قذفوه بضلال مقيد بالوضوح، نفى الضلال المطلق الذي هو الأعم، وبنفيه ينتفي كل أخصيّاته بل نفي أقل شيء من الضلال، فقال

ص: 428

تعالى مخبراً عنه {قال ياقوم} مجدداً لا ستعطافهم {ليس بي ضلالة} فنفى وحدة غير معينة، ولا يصدق ذلك إلا بنفي لكل فرد، فهو أنص من نفي المصدر، ولم يصف الملأ من قومه هنا بالذين كفروا ووصفهم بذلك في سورة هود، إما لأنها صفة ذم لم يقصد بها التقييد فلا يختل المعنى بإثباتها ولا نفيها، أو لأنهم أجابوه بذلك مرتين: إحداهما قبل أن يسلم أحد من أشرافهم، والثانية بعد أن أسلم بعضهم.

ولما نفى ما رموه به على هذا الوجه البليغ، أثبت له ضده بأشرف ما يكون من صفات الخلق، فقال مستدركاً - بعد نفي الضلال - إثبات ملزوم ضده:{ولكني رسول} أي إليكم بما أمرتكم به فأنا على أقوم طريق {من رب العالمين*} أي المحسن إليهم بإرسال الرسل لهدايتهم بإنقاذهم من الضلال، فرد الأمر عليهم بألطف إشارة؛ ثم استأنف الإخبار عن وظيفته بياناً لرسالته فقال:{أبلغكم} وكأن أبواب كفرهم كانت كثيرة فجمع باعتبارها أو باعتبار تعدد معجزاته أو تعدد نوبات الوحي في الأزمان المتطاولة والمعاني المختلفة، أو أنه جمع له ما أرسل به من قبله كإدريس جده وهو ثلاثون صحيفة وشيث وهو خمسون صحيفة عليهما السلام فقال:{رسالات ربي} أي المحسن إليّ من الأوامر والنواهي وجميع أنواع التكاليف من أحوال الآخرة وغيرها، لا أزيد فيها أنقص منها كما هو شأن كل رسول مطيع.

ص: 429

ولما كان الضلال من صفات الفعل، واكتفى بالجملة الفعلية الدالة على حدوث في قوله:{وأنصح} وقصر الفعل ودل على تخصيص النصح بهم ومحضه لهم فقال: {لكم} والنصيحة: الإرشاد إلى المصلحة مح خلوص النية من شوائب المكروه، ولما كان الضلال من الجهل قال:{وأعلم من الله} أي من صفات الذي له صفات الكمال وسائر شؤونه {ما لا تعلمون*} أي من عظيم أخذه لمن يعصيه وغير ذلك مما ليس لكم قابلية لعلمه بغير سفارتي فخذوه عني تصيروا علماء، ولا تتركوه بنسبتي إلى الضلال تزدادوا ضلالاً.

ولما كان الحامل لهم على هذا مجرد استبعاد أن يختص عنهم بفضيلة وهو منهم كما سيأتي في غير هذه السورة، أنكر ذلك عليهم بقولة:{أو عجبتم} أي أكذبتم وعجبتم {أن جاءكم} وضمن جاء معنى أنزل، فلذلك جعلت صلته «على» فقال:{ذكر} رسالة {من ربكم} أي المحسن إليكم بالإيجاد والتربية منزلاً {على الرجل} أي كامل في الرجولية وهو مع ذلك بحيث لا تتهمونه فإنه {منكم} لقولكم: {ما سمعنا بهذا} أي إرسال البشر {في آبائنا الأولين}

[المؤمنون: 24]{لينذركم} لتحذروا ما ينذركموه {ولتتقوا} أي تجعلوا بينكم وبين ما تحذرونه وقاية لعلكم تنجون {ولعلكم ترحمون*} أي وليكون حالكم إذا لقيتم الله حال من ترجى

ص: 430

رحمته بأن يرفعه الله في الدارين.

ولما نسبوه أولاً إلى الضلال وهو قد يكون خطأ عن ذهول ونحوه، فأقام لهم الدليل على أنه على الصواب، أخبر أنه لم يتسبب عن ذلك إلا تصريحهم بما لوحوا إليه أولاً بالضلال من التكذيب فقال:{فكذبوه} أي الملأ وتبعهم من دونهم؛ ولما تسبب عن تكذيبهم له تصديق الله لهم بإهلاكهم وإنجائه ومن آمن به، قال مقدماً لإنجائه اهتماماً به:{فأنجيناه} بما لنا من العظمة من أهل الأرض كلهم ومن عذابنا الذي أخذناهم به: {والذين معه} أي بصحبة الأعمال الدينية {في الفلك} وهو السفينة التي منّ الله على الناس بتعليمه عملها لتقيه من الطوفان فكانت آية ومنفعة عظيمة لمن أتى بعدهم {وأغرقنا} أي بالطوفان، وهو الماء الذي طبق ظهر الأرض فلم يبق منها موضعاً حتى أحاط به، وأظهر موضع الإضمار تعليقاً للفعل بالوصف إشارة إلى أن من فعل مع الرسول شيئاً فإنما فعله مع مرسله فهو يجازيه بما يستحقه فقال:{الذين كذبوا بآياتنا} أي وهي من الظهور في حد لا خفاء به لما لها من العظمة بالنسبة إلينا، وعدي هنا فعل النجاة بالهمزة وهي الأصل في التعدية، وقرنت ب {الذين} لأنه أخلص الموصولات واصرحها.

ص: 431

ولما أعيدت القصة في سورة يونس عليه السلام، كان الأليق بكلام البلغاء والأشبه بطرائق الفصحاء التفنن في العبارة، فعدي التضعيف مع ما فيه من الأبلغية بإفهام مزيد الاعتناء مناسبة لما تقدم من مزيد التفويض في قوله {فأجمعوا أمركم وشركاءكم} [يونس: 71] ، وتلا ب {من} ضماً للفرع إلى الفرع فإن {من} مشترك بين الوصل والشرط، وهي أيضاً قد تطلق على ما لا يعقل، فناسب ذلك الحال، وزيد هناك في وصف الناجين {وجعلناهم خلائف} [يونس: 73] نظراً إلى قوله تعالى في في أول السورة {ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا} [يونس: 13]، ثم قال:{ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون} [يونس: 14] فلوح لهم بالإهلاك إن ظلموا، ثم أشار لهم - في قصة نوح عليه السلام بكونه أعلمهم أن الخلائف هم الناجون الباقي ذكرهم وذريتهم - إلى أنه تفضل عليهم بالتوفيق إلى الإجابة ورحمهم بهذا النبي الكريم - عليه أفضل الصلاة والتسليم - فقضى أنهم غير مهلكين.

ولما افتتحت القصة بنسبتهم له إلى الضلال باطلاً، وهو ناشىء عن عمى البصيرة أو البصر، ناسب أن يقلب الأمر عليهم على وجه الحق فقال مؤكداً لإنكارهم ذلك {إنهم كانوا} أي لما جبلتهم من العوج

ص: 432

{قوماً عمين*} أي مطبوعين في عمى القلب مع قوتهم يحاولون، ثابت لهم ذلك، بما أشار إليه فعل دون أن يقال فاعل، وختمت القصة في يونس بقوله

{فانظر كيف كان عاقبة المنذرين} [يونس: 73] لقوله أولها {إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري} [يونس: 71] أي إنذاري لأنه أعلم أنه كبر عليهم ولو كان تبشيراً لما عز عليهم.

ولما كان عاد بعدهم، ولم يكن هنا ما يقتضي تشويش الترتيب، اتبعهم بهم مقدماً المرسل إليه ليفيد تخصيص رسالته بهم وهم بعض أهل الأرض فقال:{وإلى عاد} خاصة أرسلنا {أخاهم} أي في النسب لأنهم عنه أفهم وبحاله في الثقة والأمانة أعرف؛ ولما عطفه على نوح عليهما السلام بعد تقديم المرسل إليهم، بينه بقوله:{هوداً} بخلاف قوم نوح فإنهم كانوا جميع أهل الأرض، لأن القبائل لم تكن فرقت الناس ولا الألسنة إذ كان لسان الكل واحداً، ولم تفرق الألسنة إلا بعد الصرح، ولهذا عم الغرق جميع أهل الأرض، فكان المعنى حينئذ لا يختلف في قصته بتقديم ولا تأخير، فناسب تقديم الرسالة أو المرسل لأنه أهم.

ولما وكانت قصة نوح عليه السلام أول قصص الأنبياء مع قومهم، ولم يكن للعرب عهد بمجاورات الأنبياء ومن يرسلون إليه، فأتى فيها

ص: 433

بالأصل «أرسلناه» فقال سياقاً واحداً إخباراً لمن هو فارغ الذهن من كل جزء من أجزائها؛ أتت قصة هود عليه السلام بعد علم السامعين بقصة نوح عليه السلام مما وقع من تبليغه لهم وردهم عليه، فلما ذكر إرساله تشوف السامع إلى انه هل قال لهم كما قال نوح وهل ردوا عليه كرد قومه أو كان الأمر بخلاف ذلك؟ فأجيب سؤال المتشوف بقوله:{قال} كقوله نوح عليه السلام سواء {يا قوم} مذكراً لهم بأنه أحدهم يهمه ما يهمهم {اعبدوا الله} أي لا ستحقاقه ذلك لذاته؛ ثم علل أو استأنف بقوله: {ما لكم} وأغرق في النفي فقال: {من إله غيره} ولما كانوا عارفين بما أصاب قوم نوح قال: {أفلا تتقون*} أي أفلا تجعلون بينكم وبين عذاب هذا الواحد الجبار وقاية.

ولما تشوف السامع إلى جوابهم بعد هذا الترغيب الممزوج بالترهيب، أجيب بقوله {قال الملأ} أي الأشراف الذين يملؤون العيون بهجة والصدور هيبة، ولما كانت عاد قليلاً بالنسبة إلى قوم نوح عليه السلام، وكان قد أسلم من أشرافهم من له غنى في الجملة، قيد بقوله:{الذين كفروا} أي ستروا ما من حقه الظهور من أدلة الوحدانية، ووصفوا تسلية لهذا النبي الكريم فيما يرى من جفاء قومه بأن مثل ذلك كان لإخوانه من الأنبياء بقوله {من قومه} وأكدوا ما واجهوه به من الجفاء لأنهم عالمون بأن حاله في علمه وحكمه يكذبهم بقولهم:{إنا لنراك} أي لنعلمك علماً متيقناً

ص: 434

حتى كأنه محسوس {في سفاهة} أي مظروفاً لخفة العقل، فهي محيطة بك من جميع الجوانب، لا خلاص لك منها، فلذا أدتك إلى قول لا حقيقة له، فالتنوين للتعظيم، فإن قيل: بل للتحقير، كأنهم توقفوا في وصفه بذلك كما توقفوا في الجزم بالكذب فقالوا:{وإنا لنظنك من الكاذبين*} أي المتعمدين للكذب، وذلك لأنه كان عندهم علم من الرسل وما يأتي مخالفهم من العذاب من قصة نوح عليه السلام ولم يكن العهد بعيداً، وأما قوم نوح فجزموا بالضلال وأكدوه بكونه مبيناً، لأنه لم يكن عندهم شعور بأحوال الرسل وعذاب الأمم قبل ذلك، ولهذا قالوا

{ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} [المؤمنون: 24]، قيل: ليس كذلك، فقد ورد في جواب قوم نوح في سورة هود مثل هذا، وهو قوله {بل نظنكم كاذبين} [هود: 27] ؛ فإن قيل: إنما كان هذا في ثاني الحال بعد أن نصب لهم الأدلة وأقام البراهين على صحة مدعاه وثارت حظوظ الأنفس بالجدال، فإنه يبعد أن يكون قومه أجابوه بذلك أول ما دعاهم، قيل: والأمر كذلك في قصة هود عليه السلام سواء فإنه لم يقل له ذلك إلا الكفار من قومه، فتقييدهم بالوصف يدل على أنه كان فيهم من اتبعه، بل وإن متبعه كان من أشرافهم هم بالظن، وتعبير في الكذب لإرادتهم أنه يكفي في

ص: 435

وصفه بالسفاهة التي زعموها إقدامه على ما يحتمل معه ظنهم لكذبه، أو يكون قوله غير الحق في زعمهم مردداً بين أن يكون قاله عن تعمد أو حمله عليه ما رموه به من السفه من غير تأمل. ولما قابلوا لينته لهم وشفقته عليهم بهذه الغلطة، أعرض عن ذلك وعاملهم من الحلم بضده ما سموه به بأن {قال} معلماً الأدب في مخاطبة السفهاء {يا قوم} مذكراً بما بينهم من النسب الداعي إلى الود والمناصحة والعطف والملاطفة {ليس بي سفاهة} فنفى أن يكون به شيء من خفة حلم، فانتقى أن يكون كاذباً لأن الداعي إلى الكذب الخفة والطيش فلم يحتج إلى تخصيصه بنفي.

ولما نفى السفاهة، أثبت ما يلزم منه ضدها بقوله:{ولكني رسول} وبين المرسل تعظيماً للأمر بقوله {من رب العالمين*} أي المحسن إليهم بعد نعمة الإيجاد والأرزاق بإرسال الرسل إليهم ليكسبوهم معالي الأخلاق التي بها انتظام نعمة الإبقاء {أبلغكم} وجمع الرسالة لما تقدم في قصة نوح عليه السلام فقال: {رسالات ربي} أي المحسن إليّ بتعليمي ما لم أكن أعلم وتأهيلي لما لم يكن في حسابي.

ولما كانوا قد رموه بالسفه الذي هو من غرائز النفس لأنه ضد الحلم والرزانة، عبر عن مضمون الجملة النافية له بما يقتضي الثبات فقال:{وأنا لكم ناصح} أي لم يزل النصح من صفتي، وليس هو تكسبته بل غريزة فيّ، وقد بلوتموني فيه قبل الرسالة وإظهار هذه المقالة

ص: 436

دهراً دهيراً وزماناً طويلاً؛ ولما قالوا إنهم يظنون كذبه، زادهم صفة الأمانة فقال:{أمين*} .

ص: 437

ولما كان يعرف ما يعتقدونه من أمانته وعقله، وظن أنه ما حملهم على هذا إلا العجب من أن يطلع على ما لم يطلعوا عليه، أنكر عليهم ذلك ذاكراً لما ظنه حاملاً لهم ملوحاً بالعطف إلى التكذيب فقال:{أو عجبتم} أي أكذبتم وعجبتم {أن جاءكم ذكر} أي شرف وتذكير {من ربكم} أي الذي لم يقطع إحسانه عنكم قط، منزلاً {على رجل منكم} أي عزه عزكم وشرفه شرفكم فما فاتكم شيء {لينذركم} أي يحذركم ما لمن كان على ما أنتم عليه من وخامة العاقبة.

ولما كان التقدير: فاحذروا، عطف عليه تذكيرهم بالنعمة مشيراً به إلى التحذير من عظيم النقمة في قوله:{واذكروا إذ} أي حين {جعلكم خلفاء} أي فيما أنتم فيه من الأرض، ولما كان زمنهم متراخياً بعدهم، أتى بالجار فقال:{من بعد قوم نوح} أو يكون المحذوف ما اقتضاه الاستفهام في قوله {أو عجبتم} من طلب الجواب، أي أجيبوا واذكروا، أي ولا تبادروا بالجواب حتى تذكروا ما أنعم به عليكم، وفيه الإشارة إلى التحذير مما وقع لقوم نوح، أو يكون العطف على معنى الاستفهام الإنكاري في {أفلا تتقون} ، {أو عجبتم} أي اتقوا ولا تعجبوا واذكروا، أو يكون العطف - وهو أحسن على {اعبدوا الله} وقوله {خلفاء}

ص: 437

قيل: إنه يقتضي أن يكونوا قاموا مقامهم، ومن المعلوم أن قوم نوح كانوا ملء الأرض، وأن عاداً إنما كانوا في قطعة منها يسيرة وهي الشجرة من ناحية اليمن، فقيل: إن ذلك لكون شداد بن عاد ملك جميع الأرض، فكأنه قيل: جعل جدكم خليفة في جميع الأرض، فلو حصل الشكر لتمت النعمة، فأطيعوا يزدكم من فضله، وقيل: إن قصة ثمود مثل ذلك، ولم يكن فيهم من ملك الأرض ولا أرض عاد، فأجيب بما طرد، وهو أن عاداً لما كانوا أقوى أهل الأرض أبداناً وأعظمهم أجساداً وأشدهم خلقاً أشهرهم قبيلة وذكراً، كان سائر الناس لهم تبعاً، وكذا ثمود فيما فيما أعطوه من القدرة على نحت الجبال ونحوها بيوتاً، وعندي أن السؤال من أصله لا يريد فإن بين قولنا: فلان خليفة فلان، وفلان خليفة من بعد فلان - من الفرق ما لا يخفي، فالمخلوف في الثاني لم يذكر، فكأنه قيل: جعلكم خلفاء لمن كان قبلكم في هذه الأرض التي أنتم بها، وخص قوم نوح وعاد بالذكر تذكيراً بما حل بهم من العذاب، ولهذا بعينه خص الله هذه الأمم التي وردت في القرآن بالذكر، وإلا فقد كانت الأمم كثيرة العد زائدة على الحد عظيمة الانتشار في جميع الأقطار، ومعلوم

ص: 438

أن الله تعالى لم يترك واحدة منها بغير رسول {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً}

[الإسراء: 15] وفي قصة هود في سورة الأحقاف {وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه} [الأحقاف: 21] ؛ وله سر آخر وهو أن هذه الأمم كان عند العرب كثير من أخبارهم ففصلت لهم أحوالهم، وطوي عنهم من لم يكن عندهم شعور بهم فلم يذكروا إلا إجمالاً لئلا يسارعوا إلى التكذيب بما ينزل فيهم من غير دليل شهودي يقام عليهم.

ولما ذكرهم بمطلق الإبقاء بعد ذلك الإغراق العام، أتبعه التذكير بالزيادة فقال:{وزادكم} أي على من قبلكم أو على من هو موجود في الأرض في زمانكم {في الخلق} أي الخاص بكم {بسطة} أي في الحس بطول الأبدان والمعنى بقوة الأركان، قيل: كان طول كل واحد منهم اثني عشر ذراعاً، وقيل: أكثر.

ولما عظمت النعمة، كرر عليهم التذكير فقال مسبباً عن ذلك {فاذكروا آلاء الله} أي نعم الذي استجمع صفات العظمة التي أنعم عليكم بها من الاستخلاف والقوة وغيرهما، واذكروا أنه لا نعمة عندكم لغيره أصلاً، فصار مستحقاً لأن تخصوه بالعبادة {لعلكم تفلحون*} أي ليكون حالكم حال من يرجي فلاحه وهو ظفره بجميع مراده، لأن الذكر موجب للشكر الموجب للزيادة.

ص: 439

ولما كان هذا منه موجباً ولا بد لكل سامع منصف من المبادرة إلى الإذعان لهذه الحجة القطعية، وهي استحقاقه للافراد بالعبادة للتفرد بالإنعام، ازداد تشوف المخاطب إلى جوابهم، فأجيب بقوله:{قالوا} منكرين عليه معتمدين على محض التقليد {أجئتنا} أي من عند من ادعيت أنك رسوله {لنعبد الله} أي الملك الأعظم {وحده} ولما كان هذا منهم في غاية العجب المستحق للإنكار، أتبعوه ماهو كالعلة لإنكارهم عليه ما دعاهم إليه فقالوا:{ونذر} أي نترك على غير صفة حسنة {ما كان يعبد آباؤنا} أي مواظبين على عبادته بما دلوا عليه ب «كان» وصيغة المضارع - مع الإشارة بها إلى تصوير آبائهم في حالهم ذلك - ليحسن في زعمهم إنكار مخالفتهم لهم.

ولما كان معنى هذا الإنكار أنا لا نعطيك، وكان قد لوح لهم بالتذكر بقوم نوح وقوله {أفلا تتقون} إلى الأخذ إن أصروا، سببوا عن ذلك قولهم:{فأتنا} أي عاجلاً {بما تعدنا} أي من العذاب بما لوح إليه إيماؤهم إلى التكذيب بقولهم: {إن كنت من الصادقين*} وتسميتهم للانذار بالعذاب وعداً من باب الاستهزاء.

ولما كانوا قد بالغوا في السفه في هذا القول، وكان قد علم من محاورته صلى الله عليه وسلم لهم الحلم عنهم، اشتد التطلع إلى ما يكون من جوابه لهذا والتوقع له، فشفى غليل هذا التشوف بقوله:

ص: 440

{قال قد وقع} أي حق ووجب وقرب أن يقع {عليكم من ربكم} أي الذي غربكم به تواتر إحسانه عليكم وطول إملائه لكم {رجس} أي عذاب شديد الاضطراب في تتبع أقصاكم وأدناكم موجب لشدة اضطرابكم {وغضب} أي شدة في ذلك العذاب لا تفلتون منها.

ولما أخبرهم بذلك، بين لهم أن سببه كلامهم هذا في سياق الإنكار فقال:{أتجادلونني} ولما كانت آلهتهم تلك التي يجادلون فيها لا تزيد على السماء لكونها خالية من كل معنى، قال:{في أسماء} ثم بين أنه لم يسمها آلهة من يعبد به فقال: {سميتموها انتم وآباؤكم} ولما كان لله تعالى أن يفعل ما يشاء وأن يأمر بالخضوع لمن يشاء، قال نافياً التنزيل فإنه يلزم من نفي الإنزال:{ما نزل الله} أي الذي ليس الأمر إلا له {بها} أي بتعبدكم لها أو بتسميتكم إياها، وأغرق في النفي فقال:{من سلطان} ولعله أتى بصيغة التنزيل لأن التفعيل يأتي بمعنى الفعل المجدد وبمعنى الفعل بالتدريج فقصد - لأنه في سياق المجادلة وفي سورة مقصودها إنذار من أعرض عما دعا إليه هذا الكتاب النازل بالتدريج - النفي بكل اعتبار، سواء كان تجديداً أو تدريجاً وإشارة إلى أنه لو نزل عليهم في الأمر بعبادتها شيء واحد لتوقفوا فيه لعدم فهمهم لمعناه حتى يكرر عليهم الأمر فيه مرة بعد أخرى، فيعلموا أن ذلك أمر حتم لا بد منه كما فعله بنو إسرائيل في الأمر بذبح البقرة لأجل القتيل لأجل أنهم لم يعقلوا

ص: 441

معناه، دل ذلك قطعاً على أن الأمر لهم بعبادتها إنما هو ظلام الهوى لأنه عمى محض من شأن الإنسان ركوبه بلا دليل أصلاً.

ولما أخبرهم بوقوع العذاب وسببه، بين لهم أن الوقوع ليس على ظاهرة في الإنجاز، وإنما معناه الوجوب الذي لا بد من فقال:{فانتظروا} ثم استأنف الإخبار عن حاله بقوله: {إني} وأشار بقوله: {معكم} إلى أنه لا يفارقهم لخشيته منهم ولا غيرها {من المنتظرين*} .

ص: 442

ولما كان هذا ينبغي أن يكون سبباً للتصديق الذي هو سبب الرحمة، بين أنه إنما سبب لهم العذاب، وله ولمن تبعه النجاة، فبدأ بالمؤمنين اهتماماً بشأنهم بقوله:{فأنجيناه} أي بما لنا من العظمة إنجاء وحيّاً سريعاً سللناهم به من ذلك العذاب كسل الشعرة من العجين {والذين معه} أي في الطاعة، وأشار إلى أنه لا يجب على الله شيء بقوله:{برحمة} أي بإكرام وحياطة {منا} أي لا بعمل ولا غيره.

ولما قدم الإنجاء اهتماماً به، أتبعه حالهم فقال معلماً بأن أخذه على غير أخذ الملوك الذين يعجزون عن الاستقصاء في الطلب، فتفوتهم أواخر العساكر وشذاب الجنود والأتباع {وقطعنا} دابرهم أي آخرهم، هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر تصريحاً بالمقصود وبياناً لعلة أخذهم فقال:{دابر} أي آخر، أي استأصلنا وجعلنا ذلك الاستئصال معجزة لهود عليه السلام {الذين كذبوا بآياتنا} أي ولم يراقبوا عظمتها بالنسبة

ص: 442

إلينا وقوله: {وما كانوا} أي خلقاً وجبلة {مؤمنين*} عطف على صلة {الذين} وهي {كذبوا بآياتنا} وهي جارية مجرى التعليل لأخذهم مؤذنة بأنه لا يحصل منهم صلاح كما ختم قصة نوح بقول {إنهم كانوا قوماً عمين} [الأعراف: 64] تعليلاً لإغراقهم، أي أنا قطعنا دابرهم وهم مستحقون لذلك، لأنهم غير قابلين للايمان لما فيهم من شدة العناد ولزوم الإلحاد، فالمعنى: وما كان الإيمان من صفتهم، أي ما آمنوا في الماضي ولا يؤمنون في الآتي، فيخرج منه من آمن وكان قد كذب قبل إيمانه ومن لم يؤمن في حال دعائه لهم وفي علم الله أنه سيؤمن، ويزيده حسناً أنهم لما افتتحوا كلامهم بأن نسبوه إلى السفاهة كاذبين؛ ناسب ختم القصة بأن يقلب الأمر عليهم فيوصفوا بمثل ذلك صدقاً بكلام يبين أن اتصافهم به هو الموجب لما فعل بهم، لأن الإيمان لا يصدر إلا عن كمال الثبات والرزانة وترك الهوى وقمع رعونات النفس والانقياد لواضح الأدلة وظاهر البراهين، فمن تركه مع ذلك فهو في غاية الطيش والخفة وعدم العقل، وأيضاً فوصفهم بالتكذيب بالفعل الماضي لا يفهم دوامهم على تكذيبهم، فقال سبحانه ذلك لنفي احتمال أنهم آمنوا بعد التكذيب وأن أخذهم إنما كان لمطلق صدور التكذيب منهم، وأنهم لم يبادروا إلى الإيمان قبل التكذيب، ويحتمل أن تكون الجملة حالاً، والمعنى على كل تقدير: قطعنا دابرهم في حال تكذيبهم وعدم إيمانهم.

ولما أتم سبحانه ما أراد من قصة عاد، أتبعهم ثمود فقال

ص: 443

{وإلى ثمود} أي خاصة، منع من الصرف لأن المراد به القبيلة، وهو مشتق من الثمد وهو الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى، أرسلنا {أخاهم صالحاً} ثم استأنف الإخبار عن قوله - كما مضى في هود عليه السلام فقال:{قال يا قوم} مستعطفاً لهم بالتذكير بالقرابة وعاطف النسابة {اعبدوا الله} أي الذي لا كمال إلا له {ما لكم} وأكد النفي بقوله: {من إله غيره} .

ولما دل على صدقه في ذلك أنهم دعوا أوثانهم فلم تجبهم، ودعا هو صلى الله عليه وسلم ربه سبحانه فأخرج لهم الناقة، علل صحة ما دعا إليه بقوله:{قد جاءتكم بينة} أي آية ظاهرة جداً على صدقي في ادعاء رسالتي وصحة ما أمرتكم به، وزادهم رغبة بقوله:{من ربكم} أي الذي لم يزل محسناً إليكم؛ ثم استأنف بيانها بقوله: {هذه} مشيراً إليها بعد تكوينها تحقيقاً لها وتعظيماً لشأنها وشأنه في عظيم خلقها وسرعة تكوينها لأجله.

ولما أشار إليها، سماها فقال:{ناقة الله} شرفها بالإضافة إلى الاسم الأعظم، ودل على تخصيصها بهم بقوله:{لكم} حال كونها {آية} أي لمن شاهدها ولمن سمع بها وصح عنده أمرها؛ ثم سبب عن ذلك قوله: {فذروها} أي اتركوها ولو على أدنى وجوه الترك {تأكل} أي من النبات و {في أرض الله} أي مما أنبت الله الذي له كل شيء

ص: 444

وهي ناقته كما أن الأرض كلها مطلقاً أرضه والنبات رزقه، ولذلك أظهر لئلا يختص أكلها بأرض دون أخرى.

ولما أمرهم بتركها لذلك، أكد المر بنهيهم عن أذاها فقال:{ولا تمسوها بسوء} فضلاً عما بعد المس {فيأخذكم} أي أخذ قهر بسبب ذلك المس وعقبه {عذاب أليم*} أي مؤلم.

ولما أمرهم ونهاهم، ذكر لهم ترغيباً مشيراً إلى ترهيب فقال:{واذكروا} أي نعمة الله عليكم {إذ جعلكم خلفاء} أي فيما أنتم فيه {من بعد عاد} أي إهلاكهم {وبوأكم في الأرض} أي جعل لكم في جنسها مساكن تبوءون أي ترجعون إليها وقت راحتكم، سهل عليكم من عملها في أي أرض أردتم ما لم يسهله على غيركم، ولهذا فسر المراد بقوله:{تتخذون} أي بما لكم من الصنائع {من سهولها قصوراً} أي أبنية بالطين واللبن والآجر واسعة عالية حسنة يقصر أمل الآمل ونظر الناظر عليها مما فيها من المرافق والمحاسن {وتنحتون الجبال} أي أيّ جبل أرتم تقدرونها {بيوتاً} .

ولما ذكرهم بهذه النعم مرغباً مرهباً، كرر ذلك إشارة وعبارة فقال مسبباً عما ذكرهم به:{فاذكروا} أي ذكر إذعان ورغبة ورهبة {آلاء} أي نعم {الله} أي الذي له صفات الكمال فلا حاجة

ص: 445

به إلى أحد، فإحسانه هو الإحسان في الحقيقة {ولا تعثوا في الأرض} من العثي وهو الفساد، وهو مقلوب عن العيث - قاله ابن القطاع، وحينئذ يكون قوله:{مفسدين*} بمعنى معتمدين للفساد.

ص: 446

ولما حصل الالتفات إلى جوابهم، قيل:{قال الملأ} أي الأشراف، وبينه بقول:{الذين استكبروا} أي أوقعوا الكبر واتصفوا به فصار لهم خلقاً فلم يؤمنوا؛ ونبه على التأسية بقوله: {من قومه} ولما قال: {للذين استضعفوا} كان ربما فهم أنهم آمنوا كلهم، فنفى ذلك بقوله مبدلاً منه:{لمن آمن منهم} أي المستضعفين، فهو أوقع في النفس وأروع للجنان من البيان في أول وهلة مع الإشارة إلى أن أتباع الحق هم الضعفاء، وأنه لم يؤمن إلا بعضهم، ففيه إيماء إلى أن الضعف أجلّ النعم لملازمته لطرح النفس المؤدي إلى الإذعان للحق، وبناؤه للمفعول دليل على أنهم في غاية الضعف بحيث يستضعفهم كل أحد {أتعلمون} أي بدؤوهم بالإنكار صداً لهم عن الإيمان {أن صالحاً} سموه باسمه جفاء وغلطة وإرهاباً للمسؤولين ليجيبوهم بما يرضيهم {مرسل من ربه} وكأنهم قالوه ليعلموا حالهم فيبنوا عليه ما يفعلونه، لأن المستكبيرين لا يتم لهم كبرهم إلا بطاعة المستضعفين.

ولما عملوا ذلك منهم، أعملوهم بالمنابذة اعتماداً على الكبير المتعال

ص: 446

الذي يضمحل كل كبر عنده ولا يعد لأحد أمر مع أمره بأن {قالوا} منبهين لهم على غلظتهم وغلطهم في توسمهم في حالهم معبرين بما دل على العلم بذلك والإذعان له {إنا بما أرسل به} وبني للمفعول إشارة إلى تعميم التصديق وإلى أن كونه من عند الله أمر مقطوع به لا يحتاج إلى تعيين {مؤمنون*} أي غريقون في الإيمان به، ولذلك {قال الذين استكبروا} أي في جوابهم معبرين بما يدل على المخالفة لهم والمعاندة {إنا بالذي} ووضعوا موضع «أرسل به» - رداً لما جعلوه معلوماً وأخذوه مسلماً {آمنتم به} أي كائناً ما كان {كافرون*} ثم سبب عن قولهم قوله {فعقروا الناقة} أي التي جعلها الله لهم آية، وعبر بالعقر دون النحر لشموله كل سبب لقتلها لأن ابن إسحاق ذكر أنه اجتمع لها ناس منهم فرماها أحدهم بسهم وضرب آخر قوائمها بالسيف ونحرها آخر فأطلق اسم السبب على المسبب، ولكن قوله تعالى:{فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر} [القمر: 29] وقوله {إذا انبعث أشقاها} [الشمس: 91] وقوله صلى الله عليه وسلم «انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في قومه» قالوا: هو قدار بن سالف، جعلت له امرأة من قومه ابنتها إن عقرها، ففعل فكان أشقى الأولين، وأشقى الآخرين عبد الرحمن بن ملجم المرادي قاتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه،

ص: 447

جعلت له قطام امرأة من بني عجل جميلة نفسها إن قتله، فالمناسبة بينهما أن كلاًّ منهما ألقى نفسه في المعصية العظمى لأجل شهوة فرجه في زواج امرأة، وقوله صلى الله عليه وسلم «أشقى الأولين عاقر الناقة»

يدل على أن عاقرها رجل واحد، وحينئذ يكون المراد به قطع القوائم، فحيث جمع أراد الحقيقة والمجاز معاً، وحيث أفراد أراد الحقيقة فقط، فالتعبير به لأنه الأصل والسبب الأعظم في ذبح الإبل؛ قال البغوي: قال الأزهري: العقر هو قطع عرقوب البعير، ثم جعل النحر عقراً لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره - انتهى. وكأن هذا إشارة إلى أن المراد بالعقر في كلامه النحر، ولا ريب في أن أصل العقر في اللغة القطع، ومادته تدور على ذلك، عقر النخلة. إذا قطع رأسها فيبست، والفرس: ضرب قوائمها بالسيف وأكثر ما يستعمل العقر في الفساد، وأما النحر فيستعمل غالباً في الانتفاع بالمنحور لحماً وجلداً وغيرهما، فلعل التعبير به دون النحر إشارة إلى أنهم لم يقصدوا بنحرها إلا إهلاكها عتواً على الله وعناداً وفعلاً للسوء مخالفة لنهي صالح عليه السلام، ولا يشكل ذلك بما ورد من أنهم اقتسموا لحمها، لأنه لم يدع أن العقر يلزمه عدم الانتفاع بالمنحور، وعلى التنزل فهم لم يريدوا بذلك الانتفاع باللحم، وإنما قصدوا- حيث لم يمكنهم المشاركة جميعاً في العقر - ان يشتركوا

ص: 448

فيما نشأ عنه تعريضاً برضاهم به ومشاركتهم فيه بما يمكنهم {وعتوا} أي تجاوزوا الحد في الغلطة والتكبر {عن أمر} أي امتثال أمر {ربهم} أي المحسن إليهم الذي أتاهم على لسان رسوله من تركها {وقالوا} زيادة في العتو {يا صالح ائتنا} .

ولما نزلوا وعيدهم له - حيث لم يؤمنوا به - منزلة الوعد والبشارة، قالوا:{بما تعدنا} استخفافاً منهم ومبالغة في التكذيب، كأنهم يقولون: نحن على القطع بأنك لا تقدر أن تأتينا بشيء من ذلك، وإن كنت صادقاً فافعل ولا تؤخره رفقاً بنا وشفقة علينا، فإنا لا نتأذى بذلك، بل نتلذذ من يلقى الوعد الحسن، وحاصله التهكم منهم به والإشارة إلى عدم قدرته؛ وأكدوا ذلك بقولهم بأداة الشك:{إن كنت من المرسلين*} أي الذين سمعنا أخبارهم فيما مضى؛ ثم سبب عن عتوهم قوله: {فأخذتهم الرجفة} أي التي كانت عنها أو منها الصيحة، أخذ من هو في القبضة على غاية من الصغار والحقارة، ولعل توحيد الدار هنا مع الرجفة في قصة صالح وشعيب عليهما السلام في قوله تعالى:{فأصبحوا في دارهم} أي مساكنهم، وجمعها في القصتين مع الصيحة، في سورة هود عليه السلام للإشارة إلى عظم الزلزلة والصيحة في الموضعين، وذلك لأن الزلزلة إذا كانت في شيء واحد كانت أمكن، فتكون في المقصود من النكال أعظم، والصيحة من شأنها الانتشار، فإذا عمت الأماكن المتنائية والديار المتباعدة فأهلكت أهلها ومزقت

ص: 449

جماعتها وفرقت شملها، كانت من القوة المفرطة والشدة البالغة بحيث تنزعج من تأمل وصفها النفوس وتجب له القلوب، وحاصله أنه حيث عبر بالرجفة وحد الدار إشارة إلى شدة العذاب بعظم الاضطراب، وحيث عبر بالصيحة جمع إيماء إلى عموم الموت بشدة الصوت، ولا مخالفة لأن عذابهم كان بكل منها، ولعل إحداهما كانت سبباً للأخرى، ولعل المراد بالرجفة اضطراب القلوب اضطراباً قطعهاً، أو أن الدار رجفت فرجفت القلوب وهو أقرب، وخصت الأعراف بما ذكر فيها، لأن مقصودها إنذار المعرضين، والرجفة أعظم قرعاً لعدم الإلف لها - والله اعلم {جاثمين*} أي باركين على ركبهم لازمين أماكنهم لا حراك بأحد منهم، ولم يبق منهم في تلك الساعة أحد إلا رجل واحد كان في الحرم، فلما خرج منه أصابه ما أصاب قومه وهو أبو رغال، ومسافة الحرم عن أرضهم تزيد على مسيرة عشرة أيام، ومن الآيات العظيمة أن ذلك الذي خلع قلوبهم وأزال أرواحهم لم يؤثر في صالح عليه السلام والمستضعفين معه شيئاً، وذلك مثل الريح التي زلزلت الأحزاب، وأنالتهم أشد العذاب، ورمتهم بالحجارة والتراب حتى هزمتهم وما نال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها كبير أذى، وكفها الله عن

ص: 450

حذيفة، وكذا البرد الذي كان ذلك زمانه لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم ليتعرف له أخبارهم.

ولما أصابهم ذلك، سبب لهم الهجرة عن ديارهم ديار السوء والغضب واللعنة فقال تعالى إعلاماً لنا بذلك:{فتولى} أي كلف نفسه الإعراض {عنهم وقال} أي لما أدركه من أحوال البشر من الرقة على فوات إيمانهم وهم أصله وعشيرته {يا قوم} أي الذين يعز عليّ ما يؤذيهم {لقد أبلغتكم} ولعله وحد قوله: {رسالة ربي} لكون آيته واحدة {ونصحت} وقصر الفعل وعداه باللام فقال: {لكم} دلالة على أنه خاص بهم، روي أنه خرج عنهم في مائة وعشرة من المسلمين وهويبكي، وكان قومه ألفاً وخمسمائه دار، وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم.

ولما كان التقدير: ففعلت معكم ما هو مقتض لأن تحبوني لأجله، عطف عليه قوله:{ولكن} لم تحبوني، هكذا كان الأصل ولكنه عبر بما يفهم أن هذا كان دأبهم وخلقاً لهم مع كل ناصح فقال:{لا تحبون} أي حاكياً لحالهم الماضية {الناصحين} أي كل من فعل فعلي من النصح التام.

ص: 451

ولما أتم سبحانه ما وفى بمقصد هذه السورة في هذا السياق من قصتهم، أتبعه من بعده ممن تعرفه العرب كما فعل فيما قبل فقال:

ص: 451

{ولوطاً إذ قال} ولما كانت رسالته إلى مدن شتى، وكأنهم كانوا قبائل شتى، قيل: كانوا خمسة وهي المؤتفكات، وقيل: كانوا أربعة آلاف بين الشام والمدينة الشريفة، قال:{لقومه} وقد جوزوا أن يكون العامل فيه {أرسلنا} و {اذكر} ولا يلزم من تقدير {أرسلنا} أن يكون إرساله في وقت تفوهه لهم بهذا القول غير سابق عليه، لأنه كما أن ذلك الزمن - المنطبق على أول قوله وآخره - وقت له فكذلك اليوم - الذي وقع فيه هذا القول - وقت له، بل وذلك الشهر وتلك السنة وذلك القرن، فإن من شأن العرب تسمية الأيام المشتركة في الفعل الواحد يوماً، قالوا: يوم القادسية، وهو أربعة أيام إن اعتبرنا مدة القتال فقط، وعدة شهور إن اعتبرنا بالاجتماع له، وكذا يوم صفين، وقال تعالى في قصة بدر {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم} إلى أن قال:{إذ تستغيثون ربكم} إلى أن قال: {إذ يغشيكم النعاس أمنة منه} {إذ يوحي ربك إلى الملائكة} [الأنفال: 7] وكلها إبدال من قوله: {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين} ولا ريب في أن زمان الكل يكن متحداً إلا بتأويل جميع الأيام المتعلقة بالوقعة من سير وقتال وغير ذلك - والله أعلم، وعبر في قصة نوح عليه السلام ب {أرسلنا نوحاً إلى قومه} [الأعراف: 59] ثم نسق من بعده عليه فقيل: {وإلى عاد أخاهم هوداً} [الأعراف: 65]{وإلى ثمود أخاهم صالحاً} [الأعراف: 73]{وإلى مدين أخاهم شعيباً} [الأعراف: 85] وعدل عن هذا الأسلوب في قصة لوط فلم يقل:

ص: 452

وإلى أهل أدوماً أخاهم لوطاً، أو إلى أهل سدوم لوطاً أو وأرسلنا لوطاً إلى قومه ونحو ذلك كما سيأتي في قصة موسىعليه السلام، لأن من أعظم المقاصد بسياق هذه القصص تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، في مخالفة قومه لهوعدم استجابتهم وشدة أذاهم وإنذار قومه أن يحل بهم ما حل بهذه الأمم من العذاب، وقصص من عدا قوم لوط مشابهة لقصة قريش في الشرك بالله والأذى لعباده المؤمنين، وأما قصة قوم لوط فزائدة عن ذلك بأمر فظيع عظيم الشناعة شديد العار والفحش فعدل عن ذلك النسق تنبيهاً عليه تهويلاً للامر وتبشيعاً له، ليكون في التسلية أشد، وفي استدعاء الحمد والشكر أتم، وحينئذ يترجح أن يكون العامل {اذكر} لا {أرسلنا} أي واذكر لوطاً وما حصل عليه من قومه زيادة على شركهم من رؤيته فيهم هذا الأمر الذي لم يبق للشناعة موضعاً، فالقصة في الحقيقة تسلية وتذكير بنعمة معافاة العرب من مثل هذا الحال وإنذار لهم سوء المآل مع ما شاركت فيه أخواتها من الدلالة على سوء جبلة هؤلاء القوم وشرارة جوهرهم المقتضي لتفردهم عن أهل الأرض بذلك الأمر الفاحش، والدليل على أنه أشنع الشنع بعد الشرك - مع ما جعل الله تعالى في كل طبع سليم من النفرة عنه - اختصاصه بمشاركته للشرك في أنه لم يحل في ملة من الملل في وقت من الأوقات ولا مع

ص: 453

وصف من الأوصاف، وبقية المحرمات ليست كذلك، فأما قتل النفوس فقد حل في القصاص والجهاد وغير ذلك، والوطء في القبل لم يحرم إلا بقيد كونه زنى، ولولا الوصف لحل، وأكل المال الأصل فيه الحل، وما حرم إلا بقيد كونه بالباطل - وكذا غير ذلك؛ قال أبو حيان: ولما كان هذا الفعل معهوداً قبحه ومركوزاً في العقول فحشه، أتى معرفاً - أي في قوله بعد إنكاره عليهم وتقريعه وتوبيخه لهم:{أتأتون الفاحشة} أي أتفعلون السيئة المتمادية في القبح وإن كان بينكم وبينها مسافة بعيدة - أو تكون «أل» فيه للجنس على سبيل المبالغة، كأنه لشدة قبحه جعل جميع الفواحش ولبعد العرب عن ذلك البعد التام، وذلك بخلاف الزنى فإنه قال فيه

{ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة} [الإسراء: 32] .

ولما كان غير مستبعد على صفاقة وجوههم ووقاحتهم أن يقولوا: لم تكون فعلتنا منكراً موبخاً عليها؟ قال: {ما سبقكم بها} وأغرق في النفي بقوله: {من أحد} وعظم ذلك بتعميمه في قوله: {من العالمين*} فقد اخترعتم شيئاً لا يكون مثل فحشه لتذكروا به أسوأ ذكر، كما

ص: 454

أن ذوي الهمم العوال والفضل والكمال يستنبطون من المحاسن والمنافع ما يبقى لهم ذكره وينفعهم أجره، وفي ذلك أعظم إشارة إلى تقبيح البدع والتشنيع على فاعليها، لأن العقول لا تستقل بمعرفة المحاسن.

ولما أبهم الفاحشة ليحصل التشوف إلى معرفتها، عينها في استفهام آخر كالأول في إنكاره وتوبيخه ليكون أدل على تناهي الزجر عنها فقال:{إنكم لتأتون الرجال} أي تغشونهم غشيان النساء؛ ولما أبقى للتشوف مجالاً، عين بقوله:{شهوة} أي مشتهين، أو لأجل الشهوة، لا حامل لكم على ذلك إلا الشهوة كالبهائم التي لا داعي لها من جهة العقل وصرح بقوله:{من دون النساء} فلما لم يدع لبساً، وكان هذا ربما أوهم إقامة عذر لهم في عدم وجدان النساء أو عدم كفايتهن لهم، أضرب عنه بقوله:{بل أنتم قوم} .

ولما كان مقصود هذه السورة الإنذار كان الأليق به الإسراف الذي هو غاية الجهل المذكور في سورة النمل فقال {مسرفون*} أي لم يحملكم على ذلك ضرورة لشهوة تدعونها، بل اعتياد المجاوزة للحدود، ولم يسم قوم لوط في سورة من السور كما سميت عاد وثمود وغيرهم صوناً للكلام عن تسميتهم، وأما قوم نوح فإنما لم يسموا لعدم تفرق القبائل إذ ذاك، فكانوا لذلك جميع أهل الأرض ولذا عمهم الغرق - والله أعلم.

ولما كان كأنه قيل: هذا التقريع يوجب غاية الاستحياء، بل إنه

ص: 455

يذهب كل من سمعه منهم إلى مكان لا يعرف فيه ستراً لحاله، فيا ليت شعري ما كان حالهم عنده! فقيل: كان كأنهم أجابوه بوقاحة عظيمة وفجور زائد على الحد، فما كان جوابهم إلا أذى لوط عليه السلام وآله بما استحقوا منهم به شديد الإنذار الذي هو مقصود السورة، عطف عليه قوله:{وما كان جواب قومه} أي الذين هم أهل قوة شديدة وعزم عظيم وقدرة على القيام بما يحاولونه {إلا أن قالوا} .

ولما كان المقصود بيان أنهم أسرعوا إجابته بما ينكيه أضمر ما لا يشكل بالإضمار، أو أنه لما كان السياق لبيان الخبيث بين أنه لا أخبث من هؤلاء الذين بلغ من رذالتهم أنهم عدوا الطاهرين المتطهرين مما يصان اللسان عن ذكره فقال تعالى مشيراً إلى ذلك في حكاية قولهم:{أخرجوهم} أي المحدث عنهم، وهم لوط ومن انضم إليه {من قريتكم} والمراد ببيان الإسراع في هذا تسلية النبي صلى الله عليه وسلم من رد قومه لكلامه لئلا يكون في صدره حرج من إنذارهم، ثم عللوا إخراجهم بقولهم:{إنهم أناس} أي ضعفاء {يتطهرون*} وكأنهم قصدوا بالتفعل نسبتهم إلى محبة هذا الفعل القبيح، وأن تركهم له إنما هو تصنع وتكليف لنفوسهم بردها عما هي مائلة إليه، وإقبال على الطهر من غير وجهة وإظهار له رياء بما أشار إليه إظهار تاء

ص: 456

التفعيل، وفيه مع ذلك حرف من السخرية، وحصر جوابهم في هذا المعنى المؤدي بهذا اللفظ لا ينافي آية العنكبوت القائلة {فما كان جواب قومه إلا قالوا ائتنا بعذاب الله} [العنكبوت: 29] ، لأن إطلاق الجواب على هذا يجوز، والمعنى: فما كان قولهم في جوابه إلا إتيانهم بما لا يصلح جواباً، وذلك مضمون هذا القول وغيره مما لا يتعلق بالجواب، أو أن هذا الجواب لما كان - لما فيه من التكذيب والإيذان بالإصرار والإغلاظ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مستلزماً للعذب، كانوا كأنهم نطقوا به فقالوا {ائتنا بعذاب الله} ، جعل نطقهم بالسبب نطقاً بالمسبب، أو أنهم استعملوا لكل مقام مقالاً، ويؤيده أن المعنى لما اتحد هنا وفي النمل حصر الجواب في هذا، أي فما كان جوابهم لهذا القول إلا هذا؛ ولما زادهم في العنكبوت في التقريع فقال:{أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر} [العنكبوت: 29] أتوه بأبلغ من هذا تكذيباً واستهزاء فقالوا {ائتنا بعذاب الله} - الآية.

ولما تسبب عن عنادهم إهلاكهم وإنجاؤه، وكان الإعلام بإنجائه - مع كونه يفهم إهلاكهم - أهم، قال:{فأنجيناه وأهله} أي من أطاعه {إلا امرأته} ولما كان كأنه قيل: ما لها؟ قال: {كانت من الغابرين*} أي الباقين الذين لحقتهم بالعذاب العبرة والتذكير إشارة إلى أنها أصابها مثل عذاب الرجال سواء، لم تنقص عنهم لأنها كانت كافرة مثلهم.

ص: 457

ولما أفهم هذا إهلاكهم، بينه دالاً على نوعه بقوله:{وأمطرنا} أي حجارة الكبريت بعد أن قلعت مدائنهم ورفعت وقلبت حتى رجم بها مسافروهم وشذابهم لأنه عذاب الاستئصال عمن لا يعجزه شيء؛ وأوضحه بقصره الفعل وتعديته بحرف الاستعلاء فقال: {عليهم} وأكد كونه من السماء لا من سطح أو جبل ونحوه بقوله: {مطراً} وأشار إلى عظمه مزيلاً للبس أصلاً بما سبب عنه من قوله: {فانظر كيف كان عاقبة} أي آخر أمر {المجرمين -*} وأظهر موضع الإضمار تعليقاً للحكم بوصف القطع لما حقه الوصل بوصل ما حقه القطع من فاحش المعصية دليلاً على أن الرجم جزاء من فعل هذا الفعل بشرطه، لأن الحكم يدور مع العلة، وسياتي في سورة هود عليه السلام سياق قصتهم من التوراة بعد أن مضى في البقرة عند {إذ قال له ربه أسلم} [البقرة: 131] أوائل أمرهم، وهذا كما سومت الحجارة لقريش - لما أجمعوا أن يرجعوا بعد توجههم عن غزوة أحد من الطريق - ليفزعوا من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على زعمهم، كما قال صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده! لقد سومت لهم الحجارة، ولو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب» ولكنه صلى الله عليه وسلم لما كان رسول رحمة لم يقض الله برجوعهم فمضوا حتى أسلم بعد ذلك كثير منهم، وكما أمطر الله الحجارة على أصحاب الفيل سنة مولده صلى الله عليه وسلم حماية لبلده ببركته.

ص: 458

ولما انقضت هذه القصة العجيبة في القصص، أعاد النسق الأول فقال {وإلى مدين} أي أرسلنا، وهي بلد، وقيل قبيلة من أولاد مدين بن إبراهيم الخليل عليه السلام {أخاهم} أي من النسب، وبينه بقوله:{شعيباً} وهوموصوف بأنه خطيب الأنبياء عليهم السلام لحسن مراجعة قومه؛ ثم استأنف قوله على ذلك النسق: {قال يا قوم} دالاً على النصيحة والشفقة بالتذكير بالقرابة، وبدأ بالأصل المعتبر في جميع الشرائع المأثورة عن الأنبياء عليهم السلام فقال:{اعبدوا الله} أي الذي يستحق العبادة لذاته بما له من السماء الحسنى والصفات العلى.

ولما كان المراد إفراد بالعبادة لأنه لا يقبل الشرك لأنه غني، علل ذلك بقوله:{ما لكم} وأغرق في النفي بقوله: {من إله غيره} ثم استأنف التذكير بما دل على صحة دعواه في نفسها وصدقه في دعوى الرسالة بقوله: {قد جاءتكم} أي على يدي {بينة} ولما كنا عالمين من قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضى الله عنه «ما من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر» أن هذه البينة معجزة، مثلها كاف في صحة الدعوى ولم تدع ضرورة إلى ذكرها لنا، لم تعن؛ ثم زادهم ترغيباً بقوله:{من ربكم} أي الذي لم تروا إحساناً إلا منه.

ولما كان إتيانه بالبينات سبباً لوجوب امتثال أمره، قال مسبباً عنه:{فأوفوا الكيل} أي والمكيال والوزن {والميزان} أي ابذلوا ما

ص: 459

تعطون بهما وافياً، فالآية من الاحتباك، وكان المحكي عنه هنا من أوائل قوله لهم فترك التأكيد الرافع لمجاز المقاربة بذكر القسط.

ولما كان الأمر بالوفاء يتضمن النهي عن البخس، صريح به على وجه يعم غيره فقال:{ولا تبخسوا} أي تنقصوا وتفسدوا كما أفسد البخسة {الناس أشياءهم} أي شيئاً من البخس في كيل ولا وزن ولا غيرهما، والناس - قال في القاموس - يكون من الإنس ومن الجن جمع إنس أصله أناس جمع عزيز أدخل عليه «أل» ، وقال أبو عبد الله القزاز: الناس أصله عند البصريين أناس، ثم أدخلوا الألف واللام على ذلك وحذفوا الهمزة وبقي الناس، وكان أصله فعال من: أنست به، فكأنه قيل: أناس - يعني على القلب، قال: لأنه يؤنس إليهم - انتهى. إذا علم هذا علم أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن بخس الجمع الذين فيهم قوة المدافعة نهى عن بخس الواحد من باب الأخرى لأن الشرائع إنما جاءت بتقوية الضعيف على حقه.

ولما نهى عن الفساد بالبخس، عم كل فساد فقال:{ولا تفسدوا} أي توقعوا الفساد {في الأرض} بوضع شيء من حق الحق أو الخلق في غير موضعه؛ ولما نهاهم عن هذه الرذائل، ذكر بنعمة الله تاكيداً للنهي بما في ذلك من التخويف وحثاً على التخلق بوصف السيد فقال:{بعد إصلاحها} أي إصلاح الله لها بنعمة الإيجاد الأول بخلقها وخلق منافعها وما فيها على هذا النظام البديع المحكم ثم بنعمة الإبقاء الأول

ص: 460

بإنزال الكتب وإرسال الرسل ونصب الشرائع التي بها يحصل النفع وتتم النعمة بإصلاح أمر المعاش والمعاد بتعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله، ويجمع ذلك كله التنزه عن الإساءة.

ولما تقدم إليهم بالأمر والنهي، أشار إلى عظمة ما تضمنه ذلك حثاً لهم على امتثاله فقال:{ذلكم} أي الأمر العظيم العالي الرتبه مما ذكر في هذه القصة {خير لكم} ولما كان الكافر ناقص المدارك كامل المهالك، أشارإلى ذلك بقوله:{إن كنتم مؤمنين*} أي فلا تفسدوا أو فأنتم تعرفون صحة ما قلته، وإذ عرفتم صحته عملتم به، وإذا عملتم به أفلحتم كل الفلاح، ويجوز- وهو أحسن - أن يكون التقدير: فهو خير لكم، لأن المؤمن يثاب على فعله لبنائه له على أساس الإيمان، والكافر أعماله فاسده فلا يكون فعله لهذه الأشياء خيراً له من جهة إسعادة في الآخرة لأنه لا ثواب له.

ص: 461

ولما كان للتعميم بعد التخصيص والتفصيل بعد الإجمال من الموقع في النفوس ما لا يخفى، وكان النهي عن الإفساد بالصد عن سبيل الله هو المقصود بالذات لأنه ينهى عن كل فساد، خصه بالذكر إشارة إلى أنه زبدة المراد بعد التعميم فقال:{ولا تقعدوا} أي تفعلوا فعل المترصد المقبل بكليته {بكل صراط} أي طريق من طرق الدنيا والدين من الحلال والحرام والأوامر والنواهي والمحكم والمتشابه والأمثال

ص: 461

{توعدون} أي تتهددون من يسلكه بكل شر إن لم يوافقكم على ما تريدون.

ولما كان طريق الدين أهم، خصه بالذكر فقال:{وتصدون} أي توقعون الصد على سبيل الاستمرار {عن سبيل الله} أي طريق من له الأمر كله؛ ولما ذكر الصدود عنه، ذكر المصدود فقال:{من آمن به} آي بالله فسلك سبيله التي لا أقوم منها؛ ولما كانوا لا يقنعون بمطلق الصد بالتهديد ونحوه، بل يبدون للمصدود شبهاً توهمه أنه على ضلال، قال عاطفاً:{وتبغونها عوجاً} أي وتطلبون السبيل حال كونها ذات عوج، أي تطلبون اعوجاجها بإلقاء الشبهات والشكوك كما تقول: أريد فلاناً ملكاً، أي أريد ملكه، وقد تقدم في آل عمران أن نصبه على الحال أرجح، وأن قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح «ابغني أحجاراً أستنفض بها» يرجح نصبه على المفعولية - والله اعلم.

ولما كانت أفعالهم نقص الناس إما في الأموال بالبخس وإما في الإيمان والنصرة بالصد، ذكرهم أن الله تعالى فعل معهم ضد ذلك من التكثير بعد القلة في سياق منذر باجتثاثهم عن وجه الأرض وخصهم فضلاً عن تقليلهم ونقصهم، فقال عطفاً على قوله {اعبدوا الله} وما بعده من الأوامر والنواهي:{واذكروا إذ} أي حين {كنتم قليلاً} أي في العدد والمدد {فكثركم} أي كثر عددكم وأموالكم وكل شيء ينسب إليكم، فلا تقابلوا النعمة بضدها، فإن ذكر النعمة مرغب في الشكر.

ص: 462

ولما رغبهم بالتذكير بالنعمة، حذرهم بالتذكير بأهل النقمة فقال:{وانظروا كيف كان عاقبة} أي آخر أمر {المفسدين*} أي في عموم الإهلاك بأنواع العذاب لتحذروا من أن يصيبكم مثل ما أصابهم كما صرح به في سورة هود لكون الحال هناك مقتضياً للبسط كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ولما حذرهم وخامة الفساد الذي نهاهم عنه، وعلق انتهاءهم عنه بوصف الإيمان، رجع إلى قسم ما شرط به الانتهاء عن الإفساد فقال:{وإن كان طائفة منكم} أي جماعة فيهم كثرة بحيث يتحلقون بمن يريدون {آمنوا بالذي أرسلت به} وبناه للمفعول إشارة إلى أن الفاعل معروف بما تقدم من السياق، وأنه صار بحيث لا يتطرق إليه شك لما نصب من الدلالات {وطائفة} أي منكم {لم يؤمنوا} أي بالذي أرسلني به من أيدني بما عملتم من البينات، وحذرهم سطوته بقوله:{فاصبروا} أي أيها الفريقان {حتى يحكم الله} أي الذي له جميع العظمة {بيننا} أي بين فريقنا بإعزاز المصلح وإهلاك المفسد كما أجرى بذلك عادته {وهو} أي الحال أنه {خير الحاكمين*} لأنه يفصل النزاع على أتم وجه وأحكمه.

ص: 463