الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الباب السابع
(تتمة)
476 -
وقال ابن ظافر (1) : أخبرني من أثق به قال: اجتمع الوزير أبو بكر ابن القبطرنة والأستاذ أبو العباس ابن صارة في يوم جلا ذهب برقه، وأذاب ورق ودقه، والأرض قد ضحكت لتعبيس السماء، واهتزت وربت عند نزول الماء، فترافدا في صفتها، فقال ابن صارة:
هذي البسيطة كاعب أبرادها
…
حلل الربيع وحليها النوار فقال ابن القبطرنة:
وكأن هذا الجو فيها عاشقٌ
…
قد شفّه التعذيب والإضرار فقال ابن صارة:
فإذا شكا فالبرق قلبٌ خافقٌ
…
وإذا بكى فدموعه الأمطار فقال ابن القبطرنة:
فمن أجل عزّة ذا وذلّة هذه
…
تبكي الغمام وتضحك الأزهار
(1) البدايع 1: 186 وهذا مكرر، انظر ج 3:355.
477 -
وقال أبو بكر محمد بن [الحسن] الزبيدي النحوي (1) صاحب الشرطة يخاطب الوزير أبا الحسن جعفر بن عثمان المصحفي لما كتب كتاباً له فيه " فاضت نفسه " بالضاد مبيناً له الخطأ دون تصريح:
قل للوزير السنيّ محتده
…
لي ذمّةٌ منك أنت حافظها
عناية بالعلوم معجزةٌ
…
قد بهظ الأولين باهظها
يقرّ لي عمرها ومعمرها
…
فيها ونظّامها وجاحظها
قد كان حقاً قبول حرمتها
…
لكنّ صرف الزمان لافظها
وفي خطوب الزمان لي عظةٌ
…
لو كان يثني النفوس واعظها
إن لم تحافظ عصابةٌ نسبت
…
إليك قدماً فمن يحافظها
لا تدعن حاجتي بمطرحةٍ
…
فإنّ نفسي قد فاظ فائظها فأجابه المصحفيّ:
خفّض فواقاً فأنت أوحدها
…
علماً ونقّابها وحافظها
كيف تضيع العلوم في بلدٍ
…
أبناؤها كلّهم يحافظها
ألفاظهم كلّها معطّلةٌ
…
مالم يعوّل عليك لافظها
من ذا يساويك إن نطقت وقد
…
أقرّ بالعجز عنك جاحظها
علمٌ ثنى العالمين عنك كما
…
ثنى عن الشمس من يلاحظها
وقد أتتني فديت شاغلةٌ
…
للنفس أن قلت فاظ فائظها
فأوضحنها تفز بنادرةٍ
…
قد بهظ الأوّلين باهظها فأجابه الزبيدي، وضمن شعره الشاهد على ذلك:
أتاني كتابٌ من كريمٍ مكرّمٍ
…
فنفّس عن نفسٍ تكاد تفيظ
(1) الجذوة: 43 - 45.
فسرّ جميع الأولياء وروده
…
وسيء رجالٌ آخرون وغيظوا
لقد حفظ العهد الذي قد أضاعه
…
لديّ سواه والكريم حفيظ
وباحثت عن فاظت وقبلي قالها
…
رجالٌ لديهم في العلوم حظوظ
روى ذاك عن كيسان سهلٌ وأنشدوا
…
مقال أبي الغياظ وهو مغيظ
" وسميت غياظاً ولست بغائظٍ
…
عدواً ولكن للصديق تغيظ "
" فلا رحم الرحمن روحك حيّةً
…
ولا هي في الأرواح حين تفيظ " قلت: وفي خطاب الوزير بهذا البيت وإن حكي عن قائله ما لا يخفى أن اجتنابه المطلوب، على أنه قد يقال " فاضت نفسه " بالضاد، كما ذكره ابن السكيت في خلل " الألفاظ " له، والله أعلم.
وكتب الزبيدي المذكور إلى أبي مسلم ابن فهد (1) :
أبا مسلمٍ إنّ الفتى بجنانه
…
ومقوله، لا بالمراكب واللبس
وليست ثياب المرء تغني قلامةً
…
إذا كان مقصوراً على قصر النفس
وليس يفيد العلم والحلم والحجى
…
أبا مسلمٍ طول القعود على الكرسي وقال، وقد استأذن الحكم المستنصر في الرجوع إلى أهله بإشبيلية ولم يأذن له، فكتب إلى جاريته سلمى (2) :
ويحك يا سلم لا تراعي
…
لا بدّ للبين من زماع
لا تحسبيني صبرت إلا
…
كصبر ميتٍ على النزاع
ما خلق الله من عذابٍ
…
أشدّ من وقفة الوداع
ما بنيها والحمام فرقٌ
…
لولا المناحات والنواعي
(1) الجذوة: 43.
(2)
المصدر نفسه.
إن يفترق شملنا وشيكاً
…
من بعد ما كان ذا اجتماع
فكلّ شملٍ إلى افتراقٍ
…
وكلّ شعبٍ إلى انصداع
وكلّ قربٍ إلى بعادٍ
…
وكلّ وصلٍ إلى انقطاع 478 - واجتمع جماعة من الأدباء فيهم أبو الحسن سهل بن مالك والمهر ابن الفرس وغيرهما بمدينة سبتة سنة 581، فتذاكروا محبوباً لهم يسكن الجزيرة الخضراء أمامهم، فقالوا: ليقل كلّ واحد منكم شيئاً فيه، فقال سهل بن مالك (1) :
لما حططت (2) بسبتة قتب النّوى
…
والقلب يرجو أن يحوّل حاله
والجوّ مصقول الأديم كأنّما
…
يبدي الخفي من الأمور صقاله
عاينت من بلد الجزيرة مكنساً
…
والبحر يمنع أن يصاد غزاله
كالشكل في المرآة تبصره وقد
…
قربت مسافته وعزّ مناله فقال الجماعة: والله لا يقول أحد منا بعد هذا شيئاً.
479 -
ولما قرأ أبو محمد عبد الله بن مطروح البلنسي صداق إملاك، وغيّر فيه حال القراءة لفظة " غير " برفع ما كان منصوباً أو بالعكس، أنشد بديهاً بعد الفراغ معتذراً عن لحنه:
غيرت غيراً فصرت عيرا
…
وهكذا من يجدّ سيرا فأجابه الحافظ أبو الربيع ابن سالم الكلاعي، وكان إلى جانبه، بديهة:
ما أنت ممن يظنّ فيه
…
بذاك جهلٌ فظنّ خيرا
(1) اختصار القدح: 62.
(2)
القدح: أنخت.
480 -
ووقف أبو أمية ابن حمدون بباب الأستاذ الشلوبين، فكتب في ورقة " أبو أمية بالباب " ودفع الورقة لخادم الأستاذ، فلما نظر إليها الأستاذ نوّن تاء أمية، ولم يزد على ذلك، وأمر الخادم بدفع الورقة إليه، فلما نظر فيها أبو أمية انصرف، علماً منه أن الأستاذ صرفه، فانظر إلى فطنة الشيخ والتلميذ، مع أن الشيخ منسوب إلى التغفل في غير العلم.
481 -
ومن حكايات أهل الأندلس في العفو أن المعتصم بن صمادح كان قد أحسن للنّحلي البطليوسي، ثم إن النّحلي سار إلى إشبيلية، فمدح المعتضد ابن عباد بشعر قال فيه:
أباد ابن عبّاد البربرا
…
وأفنى ابن معنٍ دجاج القرى ونسي ما قاله، حتى حلّ بالمريّة، فأحضره ابن صمادح لمنادمته، وأحضر للعشاء موائد ليس فيها غير الدجاج فقال: النحلي: يامولاي، ماعندكم في المدية لحم غيرالدجاج إنما أردت أن أكذبك في قولك:
وأفنى ابن معنٍ دجاج القرى
…
فطار سكر النحلي وجعل يعتذر فقال له خفض عليك إنما ينفق مثلك بمثل هذا وإنما العتب على ما سمعه فاحتمله منك في حق من هو في نقابه ثم أحسن إليه وخاف النحلي فغير من المرية، ثم ندم فكتب إلى المعتصم:
رضى ابن صمادح فارقته
…
فلم يرضي بعده العالم
وكانت مرتيه جنة
…
فجئت بما جاءه آدم فما زال يتفقده بالإحسان على بعد دياره، وخروجه عن اختياره، انتهى.
482 -
وقال في بلنسية أبو عبد الله الرصافي، وقد خرج منها صغيراً (1) :
(1) ديوان الرصافي: 69.
بلادي التي ريشت قويدمتي بها
…
فريخاً وآورتني قرارتها وكرا
مهادي ولين العيش في ريق الصّبا
…
أبى الله أن أنسى اعتيادي بها خيرا 483 - وقال أبو بكر محمد بن يحيى الشلطيشي (1) :
وفاة المرء سرٌّ لم يكاشف
…
ولم تثبت حقيقته درايه
سيفنى كلّ ذي شبحٍ ونفسٍ
…
وتلتحق النهاية بالبدايه
وينصدع الجميع إلى صدوعٍ
…
تعود به البريّة كالبرايه
كأن مصائب الدنيا سهامٌ
…
لها الأيام أغراض الرمايه
فنل ما شئت إن الفقر حدٌّ
…
وعش ما شئت إن الموت غايه 484 - وقال أبو بكر محمد بن العطار اليابسي، وهو من رجال الذخيرة:
أمطيت عزمك منه متن سابحة
…
خلت الحباب على لبّاتها لببا
تبدو على الموج أحياناً ويضمرها
…
كالعيس تعتسف الأهضام والكثبا 485 - وقال محمد بن الحسن الجبلي النحوي (2) :
وما الأنس بالناس الذين عهدتهم
…
بأنسٍ ولكن فقد رؤيتهم أنس
إذا سلمت نفسي وديني منهم
…
فحسبي أنّ العرض مني لهم ترس 486 - وقال محمد بن حرب (3) :
طوبى لروضة جنّةٍ
…
لك قد نويت ورودها
نظمت على لبّاتها
…
أيدي الغمام عقودها
(1) يعرف بابن القابلة، انظر المغرب 1: 352 والمسالك 11: 227.
(2)
الجذوة: 47.
(3)
هو محمد بن مروان بن حرب (الجذوة: 85 ومقطوعته وردت فيها) .
وسقت بماء الورد وال
…
مسك الفتيت صعيدها
والطير تشدو في الغصو
…
ن المائدات قصيدها
وتعير سمع المستعي
…
ر نظيمها ونشيدها 487 - وكان في دار محمد بن اليسع شاعر الدولة العامرية وردة (1) ، وكان يهدي وردها كل عام إلى عارض الجيش أحمد بن سعيد (2)، فغاب العارض سنة فقال:
قال لي الورد وقد لا
…
حظته في روضتيه
وهو قد أينع طيباً
…
جمع الحسن لديه
أين مولاي الذي قد
…
كنت تهديني إليه
قلت غاب العام فايأس
…
أن ترى بين يديه
فبدا يذبل حتّى
…
ظهر الحزن عليه 488 - وقال أحمد بن أفلح (3) :
ما أستريح إلى حالٍ فأحمدها
…
بالبين قلبي وقبل البين قد ذهبا
إن كان لي أربٌ في العيش بعدكم
…
فلا قضيت إذن من حبّكم أربا 489 - وقال أحمد بن تليد الكاتب (4) :
لم أرض بالذل وإن قلا
…
والحر لا يحتمل الذلاّ
يا ربّ خلٍّ كان لي خاملٍ
…
صار إلى العزّة فاحولاّ
حرّمت إلمامي على بابه
…
ووصله لم أره حلاّ
(1) ترجمته ومقطوعته في الجذوة: 90 - 91.
(2)
الجذوة: سعد.
(3)
ترجمته وشعره في الجذوة: 110؛ زاد في م: وهو من الشعراء المجيدين.
(4)
الجذوة: 111.
تأبى عليّ النفس من أن أرى
…
يوماً على مستثقلٍ كلاّ 490 - وقال إسحاق بن المنادى، وقد أهدى له من يهواه تفاحة (1) :
مجال العين في ورد الخدود
…
يذكّر طيب جنّات الخلود
وآرجةٌ من التفّاح تزهو
…
بطيب النشر والحسن الفريد
أقول لها فضحت المسك طيباً
…
فقالت لي بطيب أبي الوليد 491 - وقال غالب بن عبد الله الثغري (2) :
يا راحلاً عن سواد المقلتين إلى
…
سواد قلبٍ عن الأضلاع قد رحلا
غدا كجسمٍ وأنت الروح فيه فما
…
ينفكّ مرتحلاً ما دمت (3) مرتحلا
وللفراق جوىً لو مرّ أبرده
…
من بعد فرقتكم بالماء (4) لاشتعلا (5) 492 - وقال الزوير أبو الحسن ابن الإمام الغرناطي يهجو مراكش المحروسة (6) :
ياحضرة الملك ما أشهاك لي وطناً
…
لولا ضروب بلاءٍ فيك مصبوب
ماءٌ زقاقٌ وجوٌّ كلّه كدرٌ
…
وأكلةٌ من بذنجان ابن معيوب وابن معيوب هذا كان من خدام أبي العلاء ابن زهر، يزعم الناس أنه سمّ
(1) الجذوة: 158 - 159.
(2)
الجذوة: 306.
(3)
الجذوة: إذ ظلت؛ م ب: ما دام.
(4)
الجذوة: بجامد الماء مر البرق.
(5)
زاد في م بعد هذه الأبيات: وقال المذكور من قصيدة وهو بديع:
ومما شجاني أنني كنت نائماً
…
أعلل من فرط الكرى بالتنسم (في أربعة أبيات....) .
(6)
هو ابو الحسن علي بن الإمام الفرناطي كاتب تميم بن يوسف بن تاشفين (المغرب 2: 116) .
ابن باجة لعداوته لابن زهر في باذنجان.
493 -
ولما بنى الفقيه أبو العباس ابن القاسم (1) قصره بسلا وشيده وصفته الشعراء، وهنته به، ودعت له، وكان بالحضرة حينئذٍ الوزير أبو عامر ابن الحمارة، ولم يكن أعد شيئاً فأفكر قليلاً ثم قال:
يا واحد الناس قد شيّدت واحدةً
…
فحلّ فيها محلّ الشمس في الحمل
فما كدارك في الدّنيا لذي أملٍ
…
ولا كدارك في الأخرى لذي عمل وفيهم (2) يقول ابن بقي في موشحته الشهيرة التي آخرها (3) :
إن جئت أرض سلا
…
تلقاك بالمكارم فتيان (4)
هم سطور العلا
…
ويوسف بن القاسم عنوان 494 - وكان محمد بن عبادة بالمرية، ومعه ابن القابلة السبتي، فنظر إلى غلام وسيم يسبح، وقد تعلق بمركب فقال ابن عبادة (5) :
انظر إلى البدر الذي لاح لك
…
فقال ابن القابلة:
…
في وسط اللجة تحت الحلك
قد جعل الماء مكان السما
…
واتخذ الفلك مكان الفلك
(1) أبو العباس ابن القاسم من بني عشرة أعيان سلا وقد مدحهم كثيرون من شعراء الأندلس والمغرب ومن مداحهم الأعمى التطيلي وابن بقي.
(2)
يريد بني عشرة.
(3)
انظر هذه الموشحة في ديوان التطيلي: 272.
(4)
م: فيدان.
(5)
انظر ما تقدم ج 3: 610.
495 -
وقال ابن خروف، ويروى لغيره (1) :
أيتها النفس اذهبي إليه اذهبي
…
فحبّه المشهور من مذهبي
مفضّض الثغر له شامةٌ
…
مسكيةٌ في خده المذهب
أيأسني التوبة من حبّه
…
طلوعه شمساً من المغرب 496 - واجتمع في بستان واحد ثلاثة من شعراء الأندلس، وهم: ابن خفاجة، وابن عائشة، وابن الزقاق، فقال ابن خفاجة يصف الحال هنالك (2) :
لله نوريّة المحيا
…
تحمل نارية الحميّا
درنا بها تحت ظلّ دوحٍ
…
قد راق مرأى وطاب ريّا
تجسّم النور فيه نوراً
…
فكلّ غصنٍ به ثريّا وقال ابن عائشة (3) :
ودوحةٍ قد علت سماءً
…
تطلع أزهارها نجوما
هفا نسيم الصّبا علينا
…
فخلتها أرسلت رجوما
كأنما الأفق غار لما
…
بدت فأغرى بها النّسيما وقال ابن الزقاق (4) :
ورياضٍ من الشقائق أضحت
…
يتهادى بها نسيم الرياح
زرتها والغمام يجلد منها
…
زهراتٍ تفوق لون الراح
(1) نسبها ابن سعيد (في القسم الخاص بصقلية) لأبي القاسم ابن طلحة الصقلي (كان في دولة منصور بني عبد المؤمن) .
(2)
ديوان ابن خفاجة: 72.
(3)
المغرب 2: 314.
(4)
ديوانه: 125 وقد مرت الأبيات ج 3: 200، 256.
قلت ما ذنبها فقال مجيباً
…
سرقت حمرة الخدود الملاح 497 - وقال الأديب أبو الحسن ابن زنون: وقع بيدي وأنا أسير بقيجاطة (1) - أعادها الله تعالى دار إسلام - كتابٌ ترجمته " كتاب التحف والطرف " لابن عفيون فوجدت فيه: قال الحسين بن الضحاك (2) :
ما كان أحوجني يوماً إلى رجلٍ
…
في وسطه ألف دينارٍ على فرس
في كفّه حربةٌ يفري الدروع بها
…
وصارمٌ مرهف الحدين كالقبس
فلو رجعت ولم أظفر بمهجته
…
وقد خضبت ذباب الصارم الشكس
فلا اغتبطت بعيشٍ وابتليت بما
…
يحول بيني وبين الشادن الأنس ووقف على هذه القطعة أبو نواس فقال:
ما كان أحوجني يوماً إلى خنثٍ
…
حلو الشمائل في باقٍ من الغلس
في كفّه قهوةٌ يسبي (3) النفوس بها
…
محكّم الطّرف للألباب مختلس
فلو رجعت ولم أظفر بتكتّه
…
وقد رويت من الصهباء كالقبس
فلا هنيت بعيشٍ وابتليت بما
…
يكون منه صدود الشادن الأنس
هذا ألذّ وأشهى من منى رجلٍ
…
في وسطه ألف دينارٍ على فرس ووقف على ذلك الوزير أبو عامر ابن ينق فقال:
ما كان أحوجني يوماً إلى رجلٍ
…
يردّد الذكر في باقٍ من الغلس
في حلقه غنّةٌ يشفي النفوس بها
…
وفي الحشا زفرةٌ مشبوبة القبس
فلو رجعت ولم أوثر تلاوته
…
على سماع غناء الشادن الأنس
(1) تعد قيطاجة من أعمال جيان، وكانت مدينة نزهة في نهاية من الخصب.
(2)
لم ترد في ديوانه، جمع الأستاذ عبد الستار فراج.
(3)
ق: يثني.
فلا حمدت إذن نفسي ولا اعتمدت
…
بي النجائب قصد البيت والقدس (1)
وأسلت بقبر المصطفى مقلاً
…
تبكي عليه بهامي الدمع منبجس فوقفت على ذلك - يقول ابن زنون - فقلت: وكلٌ ينفق مما عنده، ومن عجائب الله أنه عند فراغي من كتب هذه القطعة وصل الفكاك إلي، وحل قيودي وأخرجني إلى بلاد المسلمين، وهي:
ما كان أحوجني يوماً إلى رجلٍ
…
يأتي فينبهني في فحمة الغلس
يفك قيدي وغلّي غير مرتقبٍ
…
ولا مبالٍ (2) من الحجاب والحرس
وقوله لي تأنيساً وتسليةً
…
هذا سلاحي فالبسه وذا فرسي
فلو جبنت ولم أقبل مقالته
…
وأمتطي الطّرف وثباً فعل مفترس
إذن خلعت لباس المجد من عنقي
…
وصار حظي منه حظّ مختلس
وأخلفتني أمانيّ التي طمحت
…
نفسي إليها وإحساني لكلّ مسي 498 - وقال أبو بكر ابن حبيش، وقد زاره بعض أودائه في يوم عيد الفطر:
أكلّ ذا الإجمال في ذا الجمال
…
الله أستحفظ ذاك الكمال
يا مالكاً بالبّر رقّي أما
…
يكفيك أن تملكني بالوصال
سرت إلى ربعي زوراً كما
…
سرى إلى المهجور طيف الخيال
العيد لي وحدي بين الورى
…
حقّاً لأني قد رأيت الهلال
صومي مقبولٌ وبرهانه
…
أني أدخلت جنان الوصال 499 - وقال أبو بكر ابن يوسف اللخمي، وقد عاده في شكاية فتى وسيم من الأعيان كان والده خطيب البلد:
(1) ق ب: في القدس؛ وأثبتنا رواية م.
(2)
ب: ولا يبالي؛ والبيت متأخر عن تاليه في م.
يا عائدي وهو أصل مابي
…
أفديك من ممرضٍ طبيب
أصميت لما رميت قلبي
…
بسهم ألحاظك المصيب
وجئتني منكراً لسقمي
…
وتلك من عادة الحبيب
يا ساعةً قد غفرت فيها
…
ما كان للدهر من ذنوب
ما كان في فضلها مقالٌ
…
لو لم تكن جلسة الخطيب 500 - وخاطب أبو زيد ابن أبي العافية أبا عبد الله ابن العطار القرطبي بقصيدة منها هذا البيت:
وكيف يفيق ذو صبرٍ قصيرٍ
…
حليف وساوسٍ حولٍ طوال يعرض له بطوله وحوله، ولصاحبه أبي محمد ابن بلال بقصره، فراجعه أبو عبد الله المذكور بهذه الأبيات يعرض له فيها بجربه، وكان أبو زيد أصابه جربٌ كثير:
أجل يا نافث السحر الحلال
…
أتاني منك نظمٌ كاللآلي
يروقك أولاً لفظاً ومعنىً
…
ويلدغ آخراً لدغ الصّلال
تعرّض فيه أنك ذو مطالٍ
…
حليف وساوسٍ حولٍ طوال
كأنك لم تجرّب قطّ خلقاً
…
ولم تعرف بتجربة الليالي
أأنسيت التجارب إذ تجاري
…
بهنّ الجربياء مع الشمال
فلا تغفل عن التجريب يوماً
…
ولو أعطيت فيه جراب مال
وجرّب جار بيتك واختبره
…
وجرّ برجله إن كان قالي
وجار بينك لا تستحي منه
…
ومن نجّار بابك لا تبال
وأجر ببالك الجرباء تبصر
…
نجوم الأفق تجري بانتقال
وجرّب أهل جربة تلف قوماً
…
أبوا لبس الجوارب والنّعال
تجاراً باعةً تجروا بزيتٍ
…
تسمّوا بالتّجار بغير مال
إذا سمعوا بتمرٍ في جريبٍ
…
جروا ببطاء ذي التمر (1) البوالي
إذا جرّبت هذا الخلق أبدى
…
لك التجريب أجربةً خوالي
جرى بالنّجح دهراً جرّ بؤساً
…
عليك وجار بالنّوب الثقال ثلاثة أدباء صلوا خلف إمام فأخطأ في قراءته
501 -
وخرج ثلاثة أدباء لنزهة خارج مرسية، وصلوا خلف إمام بمسجد قرية، فأخطأ في قراءته، وسها في صلاته، فلما خرج أحدهم كتب على حائط المسجد:
يا خجلتي لصلاةٍ
…
صلّيتها خلف خلف (2) فلما خرج الثاني كتب تحته:
أغضّ عنها حياءً
…
من المهيمن طرفي فلما خرج الثالث كتب تحته:
فليس تقبل منا
…
لو انها ألف ألف 502 - وقال أبو إسحاق ابن خفيف الأندلسي (3) في أحدب أخذ مع صبي في خلوة فضربا، وطيف بهما، والأحدب على عنق الصبي:
رأيت اليوم محمولاً
…
وأعجب منه من حمله
جمال الناس تحملهم
…
وهذا حاملٌ جمله 503 - وقال أبو الصلت الأندلسي (4) :
(1) ب: إبطاء للتمر؛ م: ببطانة التمر.
(2)
الخلف: المتخلف الذي لا خير فيه.
(3)
الأندلسي: زيادة من م.
(4)
مر البيتان ج 3: 356 وزاد بعدهما في م: وقوله أيضاً فيما قرب من هذه:
وقائلة ما لي أراك مجانباً
…
أموراً وفيها للتجارة مربح
فقلت لها ما لي بربحك حاجة
…
ونحن أناس بالسلامة تفرح
وقائلةٍ ما بال مثلك خاملاً
…
أأنت ضعيف الرأي أم أنت عاجز
فقلت لها ذنبي إلى القوم أنّني
…
لمل لم يحوزوه من المجد حائز 504 - وكتب بعض المغاربة لأبي العباس ابن مضاء يذكره بحاله:
يا غارسًا لي ثمار مجدٍ
…
سقيتها العذب من زلالك
أخاف من زهرها سقوطاً
…
إن لم يكن سقيها ببالك 505 - وكتب الكاتب أبو عبد الله القرطبي مستنجزاً وعداً:
أبا عبد الإله وعدت وعداً
…
فأنجز تربح الشكر الجزيلا
ولا تمطل فإن المطل يمحو
…
من الإحسان رونقه الصقيلا
إذا كان الجميل يحب طبعاً
…
فإني أكره الصبر الجميلا 506 - وكتب ابن هذيل الفزاري للغني بالله سلطان لسان الدين بن الخطيب:
ليس يا مولاي لي من جابرٍ
…
إذ غدا قلبي من البلوى جذاذا
غير صكٍّ أحمرٍ تكتب لي
…
فيه يمناك اعتناءً: صحَّ هذا 507 - وقال أبو الحسن ابن الزقاق في غلام يهودي كان يجلس معه وينادمه يوم سبت (1) :
وحبّب يوم السبت عندي أنني
…
ينادمني فيه الذي أنا أحببت
ومن أعجب الأشياء أني مسلمٌ
…
حنيفٌ، ولكن خير أيامي السبت 508 - وقال أبو حيان (2) :
ويعجبني رشف تلك الشفاه
…
وعضُّ الخدود وهصر القوام
(1) ديوان ابن الزقاق: 113.
(2)
زاد في م: النحوي في الأوصاف.
محاسن فاتت قضيب الأراك
…
وورد الرياض وكأس المدام 509 - وكتب أحد الأدباء بمرسية إلى فتى وسيم من أعيان كان يلازم حانوت بعض القضاة بها للتفقه، عليه بأبيات في غرض، فراجعه عنه أبو العباس ابن سعيد بقوله:
ما للمحبّ لديّ غير صبابةٍ
…
تقضي عليه ولوعةٍ وغرام
فدع الطماعة واسترح باليأس من
…
وصلٍ عليك إلى الممات حرام 510 - وقال السميسر (1) :
قرابة السوء شرّ داءٍ
…
فاحمل أذاهم تعش حميدا
ومن تكن قرحةٌ بفيه
…
يصبر على مصّه الصديدا 511 - وقال ابن الخفاجة (2) :
إنّ للجنّة بالأندلس
…
مجتلى عين وريّا نفس
فسنا صبحتها من شنب
…
ودجى ليلتها من لعس
فإذا ما هبّت الريح صباً
…
صحت واشوقي إلى الأندلس 512 - وقال بعض الأندلسيين ممن لم يحضرني اسمه الآن:
إذا صال ذو ودٍّ بمدّ صديقه
…
فيا أيها الخل المصاحب لي صل بي
فأني مثل الماء ليناً لصاحبي
…
وناهيك للأعداء من رجل صلب 513 - وقال أبو يحيى ابن هشام القرطبي:
وخائط رائع جمالاً
…
وصاله غاية اقتراحي
(1) زاد في م: الشاعر، في قرباء السوء.
(2)
ديوان ابن خفاجة: 136 وزاد في م: السابق ذكره أولاً.
تنعم منه الخيوط فتلاً
…
بين اقاح وبين راح
تداه في السلم ذا طعان
…
بنا فذات بلا جراح
حلقته اشبهت فؤادي أيدي
…
لكثرة الوخز (1) في النواحي
تقطّع الثوب راحتاه
…
كصنع ألحاظه الملاح
فقبله ما رأيت بدراً
…
ممزّقاً بردة الصباح 514 - وقال أبو جعفر أحمد بن عبد الولي البلنسي (2) :
غصبت الثريّا في البعاد مكانها
…
وأودعت في عينيّ صادق نوئها
وفي كلّ حالٍ لم تزالي بخيلةً
…
فكيف أعرت الشمس حلّة ضوئها قال ابن الأبار: أنشد مؤلف " قلائد العقيان " هذين البيتين لأبي جعفر البني اليعمري، وأحدهما غالط من قبل اشتباه نسبهما، والتفرقة بينهما مستوفاة في تأليفي المسمى ب " هداية المعتسف في المؤتلف والمختلف " انتهى.
وأبو حعفر ابن عبد الولي المذكور أحرقه القنبيطور - لعنه الله تعالى - حين تغلبه بالروم على بلنسية. قال ابن الأبار: وذلك في سنة ثمانٍ وثمانين وأربعمائة، وقيل: إن إحراقه كان سنة تسعين وأربعمائة، انتهى.
515 -
وقال أبو العباس القيجاطي فيما انشده له ابن الطيلسان (3) :
ليس الخمول بعارٍ
…
على امرىءٍ ذي جلال
فليلة القدر تخفى
…
وتلك خير الليالي
(1) ب: الوجد.
(2)
التكملة: 24؛ وفي م: وكتب أبو جعفر ابن عبد المولى إلى أحمد البلنسي؛ وانظر ج 3: 487.
(3)
التكملة: 46.
516 -
وقال أبو محمد ابن جحاف المعافري البلنسي (1) :
أقول وقد خوّفوني القران
…
وما هو من شرّه كائن
ذنوبي أخاف وأمّا القران
…
فإنّي من شرّه آمن وأبوه أبو أحمد وهو المحرّق ببلنسية كما ذكرناه في غير هذا الموضع.
517 -
وقال أبو العباس المالقي (2) :
وبين ضلوعي للصبابة لوعةٌ
…
بحكم الهوى تقضي عليّ ولا أقضي
جنى ناظري منها على القلب ما جنى
…
فيا من رأى بعضاً يعين على بعض 518 - ودخل أبو القاسم ابن عبد المنعم، وكان أزرق وسيماً، ومعه أبو عبد الله الشاطبي وأبو عثمان سعيد بن قوشترة، على صاحب كتاب " مشاحذ الأفكار في مآخذ النظار " فقال ابن قوشترة:
عابوه بالزّرق الذي بجفونه
…
والماء أزرق والسّنان كذلكا فقال الشاطبي:
والماء يهدي للنّفوس حياتها
…
والرمح يشرع للمنون مسالكا فقال أبو بكر ابن طاهر صاحب كتاب " المشاحذ ":
وكذاك في أجفانه سبب الرّدى
…
لكن أرى طيب الحياة هنالكا وهذا من بارع الإجازة، وكم لأهل الأندلس من مثل هذا الديباج الخسرواني، رحمهم الله تعالى وسامحهم.
(1) التكلمة: 56.
(2)
التكلمة: 69.
519 -
وكتب الشيخ الإمام العالم العلامة أبو عبد الله محمد بن الصائغ الأندلسي النحوي عند قول الحريري (1)" أمنا أن يعززا بثالث " مانصه: قد جيء لهما بثالث ورابع في قافيتهما، وهو قول بعض الفضلاء:
ما الأمة اللّكعاء بين الورى
…
كمسلمٍ حرٍّ أتى ملأمه
فمه إذا استجديت من قول لا
…
فالحرّ لا يملأ منها فمه ثم قال: وبخامس وسادس:
انقد مهوى أزره فاثنى
…
مهيا عذولي في الذي انقد مه
مندمةٌ قتل المعنى فلا
…
ترسل سهام اللحظ تأمن دمه قلت: رأيت في المغرب (2) في هذا المعنى ما ينيف على سبعين بيتاً كلها مساجلة لبيتي الحريري، رحمه الله تعالى (3) .
520 -
وقال أبو بكر عبادة الشاعر في أبي بكر والد الوزير أبي الوليد ابن زيدون:
أيّ ركنٍ من الرياسة هيضا
…
وجمومٍ من المكارم غيضا
حملوه من بلدةٍ نحو أخرى
…
كي يوافوا به ثراه الأريضا
مثل حمل السحاب ماءً طبيباً
…
لتداوي به مكاناً مريضا وكان المذكور توفي في ضيعة له، ونقل تابوته إلى قرطبة فدفن في الربض سنة 405، وولد سنة 304.
521 -
وقال أبو بكر ابن قزمان صاحب الموشحات (4) :
(1) ق: قول بيتي الحريري.
(2)
أكبر الظن أنه يعني هنا بلاد المغرب لا كتاب المغرب.
(3)
انظر الذيل والتكملة 4: 49 - 35 حيث أورد تماذج من هذه المساجلة لبيتي الحريري.
(4)
الأصح أن يقول: صاحب الأزجال.
وعهدي بالشباب وحسن قدّي
…
حكى ألف ابن مقلة في الكتاب
فصرت اليوم منحنياً كأنّي
…
أفتّش في التراب على شبابي وقال (1) :
يا رب يومٍ زارني فيه من
…
أطلع من غرّته كوكبا
ذو شفة لمياء معسولةٍ
…
ينشع من خدّيه ماء الصبا
قلت له هب لي بها قبلةً
…
فقال لي مبتسماً مرحبا
فذقت شيئاً لم أذق مثله
…
لله ما أحلى وما أعذبا
أسعدني الله بإسعاده
…
يا شقوتي يا شقوتي لو أبى قال لسان الدين: كان ابن قزمان نسيج وحده أدباً وظرفاً ولوذعية وشهرة، قال ابن عبد الملك: كان أديباً بارعاً، حلو الكلام، مليح التندير، مبرزاً في نظم الزجل (2)، قال لسان الدين: وهذه الطريقة الزجلية بديعة تتحكم فيها ألقاب البديع، وتنفسح لكثير مما يضيق على الشاعر سلوكه، وبلغ فيهاأبو بكر، رحمه الله تعالى، مبلغاً حجره الله عن من سواه، فهو آيتها المعجزة، وحجتها البالغة، وفارسها المعلم، والمبتدىء فيها والمتمم.
وقال الفتح في حقه (3) : مبرز في البيان، ومحرز للسبق (4) عند تسابق الأعيان، اشتمل عليه المتوكل على الله فرقاه (5) إلى مجالس، وكساه ملابس، فامتطى أسمى الرتب وتبوئها، ونال أثنى الخطط (6) وما تملأها، وقد أثبت
(1) م: وقال المذكور أيضاً في زيارة الحبيب.
(2)
قال لسان
…
الزجل: سقطت هذه العبارة من ق.
(3)
القلائد: 187.
(4)
القلائد: الخصل.
(5)
القلائد: اشتمالا أرقاه إلى....
(6)
القلائد: الحظوظ.
له ما يعلم به رفيع قدره (1) ، ويعرف كيف أساء له الزمان بغدره، كقوله:
ركبوا السيول من الخيول وركّبوا
…
فوق العوالي السّمر زرق نطاف
وّتجللوا الغدران من ماذيّهم
…
مرتجة إلا على الأكتاف (2) والماذي: العسل، والنطاف: جمع النطفة، وهي الماء الصافي قل أو كثر.
522 -
[نقول من المطمح]
1 -
وقال الفقيه أبو بكر ابن القوطية صاحب الأفعال في اللغة والغريب، في زمن الربيع (3) :
ضحك الثرى وبدا لك استبشاره
…
فاخضرّ شاربه وطرّ عذاره
ورنت حدائقه وزرّر نبته
…
وتعطرت (4) أنواره وثماره
واهتزّ ذابل كلّ ماء (5) قرارةٍ
…
لمّا أتى متطلّعاً آذاره
وتعمّمت صلع الرّبى بنباته
…
وترنمت من عجمةٍ أطياره وقال في المطمح في حق ابن القوطية المذكور (6) : إنه ممن له سلف، وثنية كلها شرف، وهو أحد المجتهدين في الطلب، والمشتهرين بالعلم والأدب، والمنتدبين للعلم والتصنيف، والمرتبين له بحسن الترتيب والتأليف، وكان له شعر نبيه، وأكثره أوصاف وتشبيه، انتهى.
2 -
وقال القاضي الأجل يونس بن عبد الله بن مغيث (7) :
(1) القلائد: ما تعلم به حقيقة قدره.
(2)
ب: الأعطاف.
(3)
المطمح: 59 والبديع: 20.
(4)
المطمح: ودنت
…
وآزر
…
؛ البديع: وربت.... وآزر.... وتفطرت.
(5)
البديع: كل نبت.
(6)
المطمح: 58.
(7)
المطمح: 59.
أتوا حسبةً إذ قيل جدّ نحو له
…
فلم يبق من لحمٍ عليه ولا عظم
فعادوا قميصاً في فراشٍ فلم يروا (1)
…
ولا لمسوا شيئاً يدلدعلى جسم
طواه الهوى في ثوب سقمٍ من الضنى
…
وليس بمحسوسٍ بعينٍ ولا وهم وقال في المطمح فيه: إنه قاضي الجماعة بقرطبة، فاضل ورع مبرز في النساك والزهاد، دائم الأرق في التخشع والسهاد، مع التحقق بالعلم والتمييز بحمله (2) ، والتحيز إلى فئة الورع وأهله، وله تآليف في التصوف والزهد (3) ، منها كتاب " المنقطعين إلى الله " وكتاب " المجتهدين " وأشعار في هذا المعنى، منها قوله:
فررت إليك من ظلمي لنفسي
…
وأوحشني العباد وأنت أنسي
قصدت إليك منقطعاً غريباً
…
لتؤنس وحدتي في قعر رمسي
وللعظمى من الحاجات عندي
…
قصدت وأنت تعلم سرّ نفسي ولما أراد المستنصر بالله غزو الروم تقدم إلى أبي محمد والده بالكون في صحبته، ومسايرته في غزوته، فاعتذر بعذر يجده، وألم لا ينجده، فقال له الحكم: إن ضمن لي أن يؤلف في أشعار خلفائنا بالمشرق والأندلس مثل كتاب الصولي في أشعار خلفاء بني العباس أعفيته من الغزاة، وجازيته أفضل المجازاة، فأجابه إليه على أن يؤلفه بالقصر، فزعم أنه رجل مزور، وأن ذلك الموضع ممتنع على من يلم به ويزور، فألفه بدار الملك المطلة على النهر، وأكمله فيما دون شهر، وتوفي والمستنصر بعد في غزاته (4) .
(1) م ق ب: فلم يجد.
(2)
المطمح: والتمييز بفضله.
(3)
المطمح: وله تصانيف في الزهد والتصوف.
(4)
في الأصول: وتوفي المستنصر إذ ذاك؛ وهو خطأ لأن المستنصر توفي سنة 366؛ وفي المطمح: وتوفي بعد المستنصر في غزاته.
3 -
وقال ابن سيده صاحب المحكم يخاطب إقبال الدولة:
ألا هل إلى تقبيل راحتك اليمنى
…
سبيلٌ فإنّ الأمن في ذاك واليمنا قال في المطمح (1) : الفقيه أبو الحسن علي بن أحمد المعروف بابن سيده إمام في اللغة والعربية، وهمام في الفئة الأدبية، وله في ذلك أوضاع، لأفهام أخلافها استدرار واسترضاع، حررها تحريراً، وأعاد طرف الذكاء بها قريراً، وكان منقطعاً إلى الموفق صاحب دانية، وبها أدرك أمانيه، ووجد تجرده للعلم وفراغه، وتفرد بتلك الإراغة، ولا سيما كتابه المسمى بالمحكم، فإنه أبدع كتاب (2) وأحكم، ولما مات الموفق رائش جناحه، ومثبت غرره وأوضاحه، خاف من ابنه إقبال الدولة، وأطاف به مكروهاً (3) بعض من كان حوله، إذ أهل الطلب كحيات مساورة، ففر إلى بعض الأعمال المجاورة، وكتب إليه منها مستعطفاً:
ألا هل إلى تقبيل راحتك اليمنى
…
سبيل فإنّ الأمن في ذلك واليمنا
فتنضى همومٌ طلّحته خطوبها
…
ولا غارباً يبقين منه ولا متنا
غريبٌ نأى أهلوه عنه وشفّه
…
هواهم فأمسى لا يقرّ ولا يهنا
فيا ملك الأملاك إني محلأ
…
عن الورد لا عنه أذاد ولا أدنى
تحققت مكروهاً فأقبلت شاكياً
…
لعمري أمأذونٌ لعبدك أن يعنى
وإن تتأكد في دمي لك نيةٌ
…
فإني سيف لا أحبّ له جفنا
إذا ما غدا من حرّ سيفك بارداً
…
فقدماً غدا من برد نعماكم سخنا
وهل هي إلاّ ساعةٌ ثمّ بعدها
…
ستقرع ما عمّرت من ندمٍ سنّا
(1) المطمح: 60.
(2)
المطمح: كتاب في اللغة؛ م: في فنه.
(3)
المطمح: مكروه.
ومالي من دهري حياةٌ ألذّها
…
فتجعلها نعمى عليّ وتمتنّا
إذا ميتةٌ أرضتك عنّا فهاتها
…
حبيبٌ إلينا ما رضيت به عنّا وقال الفقيه أبو محمد غانم بن الوليد الأندلسي المخزومي المالقي (1) :
صيّر فؤادك للمحبوب منزلةً
…
سمّ الخياط مجالٌ للمحبيّن
ولا تسامح بغيضاً في معاشرةٍ
…
فقلّما تسع الدنيا بغيضين وله:
الصبر أولى بوقار الفتى
…
من قلق يهتك ستر الوقار
من لزم الصبر على حالةٍ
…
كان على أيّامه بالخيار وقال في المطمح فيه: إنّه عالم متفرس، وفقيه مدرس، وأستاذ متجرد (2) ، وإمام لأهل الأندلس مجود، وأما الأدب فكان جل شرعته، ورأس بغيته، مع فضل وحسن طريقة، وجدٍ في جميع الأمور وحقيقة، انتهى.
5 -
وقال المحدث الحافظ أبو عمر ابن عبد البر يوصي ابنه بمقصورة (3) :
تجاف عن الدنيا وهوّن لقدرها
…
ووفّ سبيل الدين بالعروة الوثقى
(1) المطمح: 60 - 61؛ وفي م لم يرو هذين البيتين له وأورد بدلهما قوله:
أهل الحرابة والفساد من الورى
…
يعزون في التشبيه للذكار
مرآهم ذكراً إذا ما أبصروا
…
فوق الجذوع وفي ذرى الأسوار
لو عم فضل الله جملة خلقه
…
ما كان أكثرهم من أهل النار وقوله: الصبر أولى بوقار الفتى
…
واأولان وردا في ج 3: 265، 398، 447 والتاليان وردا في ج 3:398.
(2)
المطمح: مجود.
(3)
المطمح: 62، وترجمة ابن عبد البر:61.
وسارع بتقوى الله سرّاً وجهرةً
…
فلا ذمة أقوى هديت من التقوى
ولا تنس شكر الله في كلّ نعمةٍ
…
يمنّ بها فالشكر مستجلب النّعمى
فدع عنك ما لا حظّ فيه لعاقلٍ
…
فإن طريق الحقّ أبلج لا يخفى
وشح بأيّامٍ بقين قلائلٍ
…
وعمرٍ قصيرٍ لا يدوم ولا يبقى
ألم تر أنّ العمر يمضي مولّياً
…
فجدّته يبلى ومدّته تفنى
نخوض ونلهو غفلةً وجهالةً
…
وننشر أعمالاً وأعمارنا تطوى
تواصلنا فيه الحوادث بالردى
…
وتنتابنا فيه النوائب بالبلوى
عجبت لنفسٍ تبصر الحقّ بيّناً
…
لديها وتأبى أن تفارق ما تهوى
وتسعى لما فيه عليها مضرّةٌ
…
وقد علمت أن سوف تجزى بما تسعى
ذنوبي أخشاها ولست بآيس
…
وربّي أهلٌ أن يخاف وأن يرجى
وإن كان ربي غافراً ذنب من يشا
…
فإنّي لا أدري أأكرم أم أخزى وقال في المطمح (1) : الفقيه الإمام العالم الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر، إمام الأندلس وعالمها، الذي التاحت به معالمها، صحح المتن والسند، وميز المرسل من المسند، وفرق بين الموصول والقاطع، وكسا الملة منه نورٌ ساطع، حصر الرواة، وأحصى الضعفاء منهم والثقات، وجد في تصحيح السقيم، وجدد منه ما كان كالكهف والرقيم، مع معلنات العلل، وإرهاف ذلك العلل، والتنبيه والتوقيف، والإتقان والتثقيف، وشرح المقفل، واستدراك المغفل، وله فنون هي للشريعة رتاج، وفي مفرق الملة تاج، أشهرت للحديث ظبى، وفرعت لمعرفته ربى، وهبت لتفهمه شمال (2) وصبا، وشفت منه وصبا، وكان ثقة، والأنفس على تفضيله متفقة، وأما أدبه فلا تعبر
(1) م: وقال في حقه.
(2)
المطمح: شمالاً.
لجته، ولا تدحض حجته، وله شعر لم نجد منه إلا ما نفث به أنفة، وأقصى (1) فيه عن معرفة، فمن ذلك قوله - وقد دخل إشبيلية فلم يلق فيها مبرة، ولم يلق من أهلها تهلل أسرة، فأقام بها حتى أخلقه مقامه، وأطبقه اغتمامه، فارتحل وقال:
تنكّر من كنّا نسرّ بقربه
…
وعاد زعافاً بعدما كان سلسلا
وحقّ لجارٍ لم يوافقه جاره
…
ولا لاءمته الدار أن يتحوّلا
بليت بحمصٍ والمقام ببلدةٍ
…
طويلاً لعمري مخلقٌ يورث البلى
إذا هان حرٌّ عند قومٍ أتاهم
…
ولم ينأ عنهم كان أعمى وأجهلا
ولم تضرب الأمثال إلا لعالم
…
وما عوتب الإنسان إلا ليعقلا 6 - وقال الفقيه أبو بكر ابن أبي الدوس (2) :
إليك أبا يحيى مددت يد المنى
…
وقدماً غدت عن جود غيرك تقبض
وكانت كنور العين يلمع بالدجى
…
فلمّا دعاه الصبح لبّاه ينهض وقال في المطمح: إنه من أبدع الناس خطاً، وأصحهم نقلاً وضبطاً، اشتهر بالإقراء، واقتصر بذلك على الأمراء، ولم ينحط لسواهم، ومطل الناس بذلك ولواهم، وكان كثير التحول، عظيم التجول، لا يستقر في بلد، ولا يستظهر على حرمانه بجاد، فقذفته النوى، وطردته عن كل ثوا، ثم استقر آخر عمره بأغمات، وبها مات، وكان له شعر بديع يصونه أبداً، ولا يمد به يداً. أخبرني من (3) دخل عليه بالمرية فرآه في غاية الإملاق، وهو في ثياب أخلاق، وقد توارى في منزله تواري المذنب، وقعد عن الناس قعود
(1) المطمح: وأوصى.
(2)
المطمح: 64؛ وفي ق: ابن الدودس، وانظر ارجمته في المطمح:63.
(3)
م: أخبرني في من أثق به أنه.
مجتنب، فلما علم ما هو فيه، وترفعه عمن يجتديه، عاتبه في ذلك الاعتزال، وآخذه حتى استنزله بفيض الاستنزال، وقال له: هلا كتبت إلى المعتصم، فما في ذلك ما يصم، فكتب إليه: إليك أبا يحيى مددت يد المنى - البيتين، انتهى.
7 -
وقال الفقيه القاضي الفاضل أبو الفضل ابن الأعلم (1) ، حين اقلع وأناب، وودع ذلك الجناب، وتزهد وتنسك، وتمسك من طاعة الله بما تمسك، وتذكر يوماً يتجرد من أمله، وينفرد فيه بعمله:
الموت يشغل ذكره
…
عن كل معلومٍ سواه
فاعمر له ربع ادّكا
…
رك في العشيّة والغداه
واكحل به طرف اعتبا
…
رك طول أيام الحياه
قبل ارتكاض النفس ما
…
بين الترائب واللهاه
فيقال هذا جعفرٌ
…
رهنٌ بما كسبت يداه
عصفت به ريح المنو
…
ن فصيرته كما تراه
فضعوه في أكفانه
…
ودعوه يجني ما جناه
وتمتّعوا بمتا
…
هـ المخزون واحووا ما حواه
يا منظراً مستبشعاً
…
بلغ الكتاب به مداه
لقّيت فيه بشارةً
…
تشفي فؤادي من جواه
ولقيت بعدك خير من
…
نبّاه ربي واجتباه
في دار خفضٍ ما اشتهت
…
نفس المقيم بها أتاه وقال في المطمح: إنه كهل الطريقة، وفتى الحقيقة، تدرع الصيانة،
(1) المطمح: 66، وتبدأ ترجمته ص:64.
وبرع في الورع والديانة، وتماسك عن الدنيا عفافاً، وما تماسك (1) التماساً بأهلها والتفافاً، فاعتقل النهى، وتنقل في مراتبها حتى استقر فيها في السها، وعطل أيام الشباب، ومطل فيها سعاد وزينب والرباب، إلا ساعات وقفها على المدام، وعطفها إلى الندام، حتى تخلى عن ذلك واترك، وأدرك من المعلومات ما أدرك، وتعرى من الشبهات، وسرى إلى الرشد مستيقظاُ من تلك السنات، وله تصرف في شتى الفنون، وتقدم في معرفة المفروض والمسنون، وأما الأدب فلم يجاره في ميدانه أحد، ولا استولى على إحسانه فيه حصر ولا حد، وجده أبو الحجاج الأعلم هو خلّد منه ما خلّد، ومنه تقلد ما تقلد، وقد أثبت لأبي الفضل هذا ما يسقيك ماء الإحسان زلالاً، ويريك سحر البيان حلالاً، فمن ذلك ما كتب به إلي، وقد مررت على شنت مرية بعدما رحل عنها وانتقل، واعتقل من نوانا (2) وبيننا ما اعتقل، وشنت مرية هذه داره، وبها كمل هلاله وإبداره، وفيها استقضي، وشيم مضاؤه وانتضي، فالتقينا بها على ظهر، وتعاطينا ذكر ذلك الدهر، فجددت من شوقه، ما كان قد شب عن طوقه، فرامني على الإقامة، وسامني على ذلك بكل كرامة، فأبيت إلا النوى وانثنيت عن الثوا، فودعني، ودفع إلي تلك القطعة حين شيعني:
بشراي أطلعت السعود على
…
آفاق أنسي بدرها كملا
وكسا أديم الأرض منه سناً
…
فكست بسائطها به حللاً
إيه أبا نصرٍ، وكم زمنٍ
…
قصر ادكارك عندي الأملا
هل تذكرن والعهد يخجلني
…
هل تذكرن أيامنا الأولا
أيام نعثر في أعنّتنا
…
ونجرّ من أبرادنا خيلا
ونحل روض الأنس مؤتنفاً
…
وتحلّ شمس مرادنا الحملا
(1) المطمح: وما تمالك.
(2)
ب: ثواناً.
ونرى ليالينا مساعفة
…
تدعو إلينا رفقنا الجفلى
زمنٌ نقول على تذكره
…
ما تم حتى قيل قد رحلا
عرضت لزورتكم وما عرضت
…
إلاّ لتمحق كلّ ما فعلا ووافيته عشية من العشايا أيام ائتلافنا، وعودنا إلى مجلس الطلب واختلافنا، فرأيته مستشرفاً متطلعاُ، يرتاد موضعاً يقيم به لثغور الأنس مرتشفاً ولثديه مرتضعاً، فحين مقلني (1) ، تقلدني إليه واعتقلني، وملنا إلى روضة قد سندس الربيع في بساطها ودمج الدهر وأنك أوساطها أشعرت النفوس فيها سرورها وانبساطها، فأقمنا بها نتعاطى كؤوس أخبار، ونتهادى أحاديث جهابذة وأخبار، إلى أن نثر زعفران العشي، وأذهب الأنس خوف العالم الوحشي، فقمت وقام، وعوج الرعب من ألسنتنا ما كان استقام، وقال:
وعشيّة كالسيف إلاّ حده
…
بسط الربيع بها لنعلي خدّه
عاطيت كأس الأنس فيها واحداً
…
ما ضرّه أن كان جمعاً وحده وتنزه يوماً بحديقة من حدائق الحضرة قد اطرد نهرها، وتوقد زهرها، والريح يسقطه فينظم بلبّة الماء، ويبتسم به فتخاله كصفحة خضرة السماء، فقال:
انظر إلى الأزهار كيف تطلعت
…
بسماوة الروض المجود نجومها
وتساقطت فكأنّ مسترقاً دنا
…
للسمع فانقضّت عليه رجوما
وإلى مسيل الماء قد رقمت به
…
صنع الرياح من الحباب رقوما
ترمي الرياح لها نثيراً زهره
…
فتمده في شاطئيه رقيما وله يصف قلم يراعة، وبرع في صفته أعظم براعة:
(1) ب: رمقني.
ومهفهفٍ ذلق صليب المكسر
…
سببٌ لنيل المطلب المتعذّر
متألّقٌ تنبيك صفرة لونه
…
بقديم صحبته لآل الأصفر
ما ضره أن كان كعب يراعةٍ
…
وبحكمه اطّردت كعوب السّمهري له عندما شارف الكهولة، واستأنف قطع صرة كانت موصولة:
أمّا أنا فقد ارعويت عن الصّبا
…
وعضضت من ندم عليه بناني
فأطعت نصّاحي وربّ نصيحةٍ
…
جاءوا بها فلججت في العصيان
أيام أسحب من ذيول شبيبتي
…
مرحاً وأعثر في فضول عناني
وأجلّ كأسي أن ترى موضوعةً
…
فعلى يدي أو في يدي ندماني
أيام أحيا بالغواني والغنا
…
وأموت بين الراح والريحان
في فتيةٍ فرضوا اتصال هواهم
…
فمناهم دنٌّ من الأدنان
هزّت علاهم أريحيّات الصّبا
…
فهي النسيم وهم غصون البان
من كلّ مخلوع الأعنّة لم يبل
…
في غيّه بمصارف الأزمان إلى أن قال: ومن نثره يصف فرساً: انظر إليه سليم الأديم، كريم القديم، كأنما نشأ بين الغبراء واليحموم (1) ، نجمٌ إذا بدا، ووهمٌ إذا عدا، يستقبل بغزال، ويستدبر برال، ويتحلى بشيات (2) تقسيمات الجمال.
وله يصف سرجاً: بزة جياد، ومركب أجواد، جميل الظاهر، رحيب ما بين القادمة والآخر، كأنما قد من الخدود أديمه، واختص بإتقان الحبك تقويمه.
وله في وصف لجام: متناسب الأشلاء، صريح الانتماء، إلى ثريا السماء، فكله نكال، وسائره جمال.
(1) م ب: والنجوم.
(2)
ب: شبيهات؛ والمطمح: بشتات.
وله في وصف رمح: مطرد الكعوب، صحيح اتصال الغالب والمغلوب، أخ ينوب كلما استنيب ويصيب.
وله في وصف قميص: كافوري الأديم، بابلي الرسوم، تباشر منه الجسوم، ما يباشر الروض من النسيم.
وله في وصف بغل: مقرف (1) النسب، مستخبر الشرف آمن الكبب، إن ركب امتنع اعتماله، أو ركب استقل به أخواله.
وله في وصف حمار: وثيق المفاصل، عتيق النهضة إذا ونت المراسل، انتهى ببعض اختصار.
8 -
وقال الأديب الشاعر ابو عمر (2) يوسف بن هرون الكندي، المعروف بالرمادي (3) :
أومى لتقبيل البساط خنوعا
…
فوضعت خدّي في التراب خضوعا
ما كان مذهبه الخنوع لعبده
…
إلاّ زيادة قلبه تقطيعا
قولوا لمن أخذ الفؤاد مسلّماً
…
يمنن عليّ بردّه مصدوعا
العبد قد يعصي، وأحلف أنني
…
ما كنت إلاّ سامعاً ومطيعا
مولاي يحيى في حياةٍ كاسمه
…
وأنا أموت صبابةً وولوعا
لا تنكروا غيث الدموع فكلّ ما
…
ينحلّ من جسمي يكون دموعا والرمادي المذكور عرف به غير واحد، منهم الحافظ أبو عبد الله الحميدي في كتابه " جذوة المقتبس " وقال (4) : أظن أن أحد آبائه كان من أهل الرمادة، وهي موضع بالمغرب، وهو قرطبي، كثير الشعر، سريع القول، مشهور عند
(1) م ق ب: مترف.
(2)
ق: ابو عمرو.
(3)
المطمح: 71.
(4)
جذوة المقتبس: 346.
الخاصة والعامة هنالك، لسلوكه في فنون من المنظور والمنثور مسالك، حتى كان كثير من شيوخ الأدب في وقته يقولون: فتح الشعر بكندة وفتح في كنده، يعنون امرأ القيس والمتنبي ويوسف بن هرون، على أن في كون المتنبي من كندة القبيلة كلاماً مشهوراً.
وأخذ أبو عمر ابن عبد البر عن الرمادي هذا قطعة من شعره، وضمنها بعض تأليفه.
قال ابن حيان: توفي الرمادي سنة 403، وذكر ابن سعيد في " المغرب " ان الرمادي اكتسب صناعة الأدب من شيخه أبي بكر يحيى بن هذيل الكفيف عالم أدباء الأندلس، وهو القائل رحمه الله تعالى:
لا تلمني على الوقوف بدارٍ
…
أهلها صيّروا السّقام ضجيعي
جعلوا لي إلى هواهم سبيلاً
…
ثمّ سدّوا عليّ باب الرجوع وروى الرمادي عن أبي علي كتاب " النوادر " ومدح أبا علي بقصيدة كما أشرنا إليه في غير هذا الموضع.
وقال في المطمح (1) : إنه شاعر مفلق، انفرج له من الصناعة المغلق، وومض له برقها المؤتلق، وسال بها طبعه كالماء المندفق، فأجمع على تفضيله المختلف والمتفق، فتارة يحزن وأخرى يسهل، وفي كلتيهما بالبديع يعل وينهل، فاشتهر عند الخاصة والعامة بانطباعه في الفريقين، وإبداعه في الطريقين، وكان هو وأبو الطيب متعاصرين، وعلى الصناعة متغايرين، وكلاهما من كندة، وما منهما إلا من اقتدح في الإحسان زنده وتمادى بأبي عمر (2) ، طلق العمرحتى أفرده صاحبه ونديمه، وهريق شبابه واستشن أديمه،
(1) المطمح: 69.
(2)
ق ب والمطمح: عمرو.
ففارق تلك الأيام وبهجتها، وأدرك الفتنة فخاض لجتها، وأقام فرقاً من هيجانها، شرقاًبأشجانها، ولحقته فيها فاقة نهكته، وبعدت عنه الإفاقة حتى أهلكته، وقد أثبت من محاسنه ما يعجبك سرده، ولا يمكنك نقده، فمن ذلك قوله:
شطّت نواهم بشمسٍ في هوادجهم
…
لولا تلألؤها في ليلهنّ عشوا
شكت محاسنها عيني وقد غدرت
…
لأنّها بضمير القلب تنجمش
شعرٌ ووجهٌ تبارى في اختلافهما
…
بحسن هذا وذاك الروم والحبش
شككت في سقمي منها أفي فرشي
…
منها نكست وإلاّ الطيف والفرش إلى أن قال: وكان كلفاً بفتىً نصراني استسهل (1) لباس زناره، والخلود معه في ناره، وخلع بروده لمسوحه، وتسوغ الأخذ عن مسيحه (2) ، وراح في بيعته، وغدا من شيعته، ولم يشرب نصيبه، حتى حط عليه صليبه، فقال:
أدرها مثل ريقك ثم صلّب
…
كعادتهم (3) على وهمي وكاسي
فيقضى ماأمرت به اجتلاباً
…
لمسروري وزاد خضوع (4) راسي وله في مثله:
ورأيت فوق النّحر در
…
عاً فاقعاً من زعفران
فزجرته لوناً سقا
…
مي بالنوى، والزّجر شاني
يامن نأى عنّي كما
…
تنأى العيون (5) الفرقدان
فأرى بعيني الفرقدي
…
ن ولا أراه ولا يراني
(1) المطمح: استحسن.
(2)
خطأ في الأصلين؛ وأثبتنا عبارة المطمح.
(3)
المطمح: كعادتكم.
(4)
المطمح: فقضى
…
خنوع؛ م: خنوع.
(5)
المطمح: ينأى لعيني.
لا قدرت لك أوبة
…
حتى يؤوب القارظان
هل ثم إلا الموت فر
…
داً لاتكون منيتان وله أيضاً:
اشرب الكاس يا نصير وهات
…
إن هذا النهار من حسناتي
بأبي غرة ترى الشخص فيها
…
في صفاء أصفى من المرآة
تنزع (1) الناس نحوها بازدحام
…
كازدحام الحجيج في عرفات
هاتها يا نصير إنا اجتمعنا
…
بقلوب في الدين مختلفات
إنما نحن في مجالس لهو
…
نشرب الراح ثم أنت مواتي
فإذا ما انقضت دنانة ذا الله
…
و (2) اعتمدنا مواضع الصلوات
لو مضى الدهر دون راح وقصف
…
لعددنا هذا من السيئات وشاعت عنه أشعار في دولة الخلافة (3) وأهلها، سدد إليهم صائبات نبلها، وسقاهم كؤوس نهلها، أوغرت عليه الصدور، ونفرت (4) عليه المنايا ولكن لم يساعدها المقدور، فسجنه الخليفة دهراً، وأسكنه (5) من النكبة وعراً، فاستعطفه أثناء ذلك واستلطفه، وأجناه كل زهر من الاحسان وأقطفه،
فما أصغى إليه، ولا ألغى موجدته عليه، وله في السجن أشعار صرح فيها ببثه، وأفصح فيها عن جل الخطب لفقد صبره ونكثه، فمن ذلك قوله:
لك الأمن من شجو يزيد تشوقي
…
(1) ق: تنزح؛ والمطمح: تسرع؛ م: تترع.
(2)
المطمح: دنان على اللهو؛ م: ذنانات ذا اللهو.
(3)
المطمح: الخليفة.
(4)
المطمح: وفغرت.
(5)
المطمح: وأسلكه.
ومنها:
فوافوا بنا الزهراء في حال خالع ال
…
أئمة (1) لاستيفائهم في التوثق
وحولي من أهل التأدب مأتم
…
ولا جؤذر إلا بثوب مشقق
فلو أن في عيني الحمام كروضها
…
وإن كان في ألوانه غير مشفق
ونادى حمامي مهجتي لتقلقلت (2)
…
فهلا أجابت وهو عندي لمحنق
أعيني إن كانت لدمعي فضلة
…
تثبت صبري ساعة فتدفقي
فلو ساعدت ثالث أمن عدة الأمس
…
تنقت دمومي أم من البحر تستقي ومنها:
وقالت تظن الدهر يجمع بيننا
…
فقلت لها من لي بظن محقق
ولكنني فيما زجرت بمقلتي
…
زجرت اجتماع الشمل بعد التفرق
فقد كانت الأشفار في مثل بعدنا
…
فلما التقت بالطيف قالت سنلتقي
أباكية يوما ولم يأتي وقته
…
سينفد قبل اليوم دمعك فارفقي إلى أن قال: وله أيضاً:
على كبري تهمي السحاب وتذرف
…
ومن جزعي تبكي الحمام وتهتف
كأن السحاب الواكفات غواسلي
…
وتلك على فقدي نوائح هتف
ألا ظعنت ليلى وبان قطينها
…
ولكنني باق فلوموا وعنفوا
وآنست في وجه الصباح لبينها
…
نحولاً كأن الصبح مثلي مدنف
وأقرب عهد رشفة بلت الحشا
…
فعاد شتاء بارداً وهو صيف
وكانت على خوف فولت كأنها
…
من الردف في قيد الخلاخل ترسف
(1) المطمح: حلة ثلائم.
(2)
المطمح: فتغافلت.
وله:
قبلته قدام قسيسه
…
شربت كاسات بتقديسه
يقرع قلبي عند ذكري له
…
من فرط شوقي قرع ناقوسه وسجن معه غلام من أولاد العبيد فيه مجال، وفي نفس متأمله من لوعته أوجال، فكتب يخاطب الموكل بالسجن بقطعة منها:
جليسك ممن أتلف الحب قلبه
…
ويلذع قلبي حرقة دونها الجمر
هلال وفي غير السماء طلوعه
…
وريم ولكن ليس مسكنه القفر
تأملت عينيه فخامرني السكر
…
ولا شك في أن العيون هي الخمر
أناطقه كيما يقول، وإنما
…
أناطقه عمداً لينتثر الدر
أنا عبده وهو المليك كما اسمه
…
فلي منه شطر كامل وله شطر انتهى باختصار.
9 -
وقال محمد بن هانئ (1) :
قد مررنا على مغانيك تلك
…
فرأينا بها مشابه منك
عارضتنا المها الخواذل سرباً
…
عند أجراعها فلم نسل عنك
لا يرع للمها بذكرك سرب
…
أشبهتك في الوصف إن لم تكنك
كن عذيري لقد رأيت معاجي
…
يوم تبكي بالجزع ولهى (2) وأبكي
بحنين مرجع وتشك
…
وأنين موجع كتشكي وقال صاحب المطمح في حقه: الأديب أبو القاسم محمد بن هانئ، ذخر (3)
(1) المطمح: 77، وترجمته ص:74.
(2)
المطمح: وجداً.
(3)
المطمح: علق.
خطير، وروض أدب مطير، غاص في طلب الغريب حتى أخرج دره المكنون، وبهرج بافتنانه فيه كل الفنون، وله نظم تتمنى الثريا أن تتوج به وتتقلد، ويود البدر أن يكتب ما اخترع فيه وولد، زهت به الأندلس وتاهت، وحاسنت ببدائعه الأشمس وباهت، فحسد المغرب فيه المشرق، وغص به من بالعراق وشرق، غير أنه نبت به أكنافها، وشمخت عليه آنافها، وبرئت منه، وزويت الخيرات فيها عنه، لأنه سلك مسلك المعري، وتجرد من التدين وعري، وأبدى الغلو، وتعدى الحق المجلو، فمجته الأنفس، وأزعجته الأندلس، فخرج على غير اختيار، وما عرج على هذه الديار، إلى أن وصل الزاب واتصل بجعفر ابن الأندلسية، مأوى تلك الجنسية، فناهيك من سعد ورد عليه فكرع، ومن باب ولج فيه وما قرع، فاسترجع عنده شبابه، وانتجع وبله وربابه، وتلقاه بتأهيل ورحب، وسقاه صوب تلك السحب، فأفرط في مدحه فيه في الغلو وزاد، وفرغ عنده تلك المزاد، ولم يتورع، ولا ثناه ذو ورع، وله بدائع يتحير فيها ويحار، ويخال لرقتها أنها أسحار، فغنه اعتمد التهذيب والتحرير، واتبع في أغراضه الفرزدق مع جرير، وأما تشبيهاته فخرق فيها المعتاد، وما شاء منها اقتاد، وقد أثبت له ما تحن له الأسماع، ولا تتمكن منه الأطماع، فمن ذلك قوله:
أليلتنا إذ أرسلت وارداً وحفا
…
وبتنا نرى الجوزاء في أذنها شنفا
وبات لنا ساق يقوم على الدجى
…
بشمعة صبح لاتقط ولاتطفا
أغن غضيض خفف اللين قده
…
وثقلت الصهباء أجفانه الوطفا
ولم يبق إرعاش المدام له يداً
…
ولم يبق إعنات التثني له عطفا
نزيف نضاه السكر إلا ارتجاجة
…
إذا كل عنها الخصر حملها الردفا
يقولون حقف فوقه خيزرانة
…
أما يعرفون الخيزرانة والحقفا
جعلنا حشايانا ثياب مدامنا
…
وقدت لنا الأزهار من جلدها لحفا
فمن كبد توحي إلى كبد هوى
…
ومن شفة تومي إلى شفة رشفا ومنها:
كأن السماكين اللذين تراهما
…
على لبنتيه ضامنان له حتفا
فذا رامح يهوي إليه سنانه
…
وذا أعزل قد عض أنمله لهفا
كأن سهيلاً في مطالع أفقه
…
مفارق إلف لم يجد بعده إلفا
كأن بني نعش ونعشاً مطافل
…
بوجزة قد أضللن في مهمه خشفا
كأن سهاها عاشق بين عود
…
فآونة يبدو وآونة يخفى
كأن قدامى النسر والنسر واقع
…
قصصن فلم تسم الخوافي له ضعفا
كان أخاه حين حوم طائر
…
أتى دون نصف البدر فاختطف النصفا
كان ظلام الليل إذ مال ميلة
…
صريع مدام بات يشربها صرفا
كأن عمود الصبح خاقان معشر
…
من الترك نادى بالنجاشي فاستخفى
كأن لواء الشمس غرة جعفر
…
رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا (1) وله أيضاً:
فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر
…
وأمدكم فلق الصباح المسفر
وجنيتم ثمر الوقائع يانعاً
…
بالنصر من علق (2) الحديد الأحمر
أبني العوالي السمهرية والسيو
…
ف المشرفية والعديد الأكثر
من منكم الملك المطاع كأنه
…
تحت السوابغ تبع في حمير
جيش تعد له الليوث وفوقها
…
كالغيل من قصب الوشيج الأخضر
وكأنما سلب القشاعم ريشها
…
مما يشق من العجاج الأكدر
لحق القبول مع الدبور وسار في
…
جمع الهرقل وعزمة الإسكندر
(1) المطمح: لطفاً.
(2)
المطمح: ورق.
في فتية صدأ الحديد لباسهم
…
في عبقري البيض جنة عبقر
وكفاه من حب السماحة أنه
…
منها بموضع مقلة من محجر ومنها:
نعماؤه من رحمة، ولباسه
…
من جنة، وعطاؤه من كوثر وله أيضاً من قصيدة في جعفر بن علي:
ألا أيها الوادي المقدس بالندى (1)
…
وأهل الندى قلبي إليك مشوق
ويا أيها القصر المنيف قبابه
…
على الزاب لايسدد إليك طريق
ويا ملك الزاب الرفيع عماده
…
بقيت لجمع المجد وهو فريق
فما أنس لاأنس الأمير إذا غدا
…
تروع بحوراً فلكه وتروق (2)
ولا الجود يجري من صفيحة وجهه
…
إذا كان من ذاك الجبين شروق
وهزته للمجد حتى كأنما
…
جرت في سجاياه العذاب رحيق
أما وأبي تلك الشمائل إنها
…
دليل على أن النجار عتيق
فكيف بصبر النفس عنه ودونه
…
من الأرض مغبر الفجاج عميق
فكن كيف شاء الناس أو شئت دائماً
…
فليس لهذا الملك غيرك فوق
ولا تشكر الدنيا على نيل رتبة
…
فما نلتها إلا وأنت حقيق وله من أخرى:
خليلي أين الزاب مني وجعفر
…
وجنات عدن بنت عنها وكوثر
فقبلي نأى عن جنة الخلد آدم
…
فما راقه من جانب الأرض منظر
لقد سرني أني أمر بباله
…
فيخبرني عنه (3) بذلك مخبر
(1) المطمح: بالطوى.
(2)
هذا الشطر مضطرب في الأصل، ولا يزال - على التصويب - قلقاً.
(3)
ب: فيخبره عني.
وقد ساءني أني أراه ببلدة
…
بها منسك منه عظيم ومشعر
وقد كان لي منه شفيع مشفع
…
به يمحص به الله الذنوب ويغفر
أتى الناس أفواجاً إليك كأنما
…
من الزاب بيت أو من الزاب محشر
فأنت لمن مزق الله شمله
…
ومعشره والأهل أهل ومعشر وله أيضاً:
ألا طرقتنا والنجوم ركود
…
وفي الحي أيقاظ وهن هجود
وقد أعجل الفجر الملمع خطوها
…
وفي أخريات الليل منه عمود
سرت عاطلاً غضبي على الدر وحده
…
ولم يدر نحر ما دهاه وجيد
فما برحت إلا ومن سلك أدمعي
…
قلائد في لباتها وعقود
ويا حسنها في يوم نضت سوالفاً
…
تريع إلى أترابها وتحيد
ألم يأتها أنا كبرنا عن الصبا
…
وأنا بلينا والزمان جديد
ولا كالليالي ما لهن مواثق
…
ولا كالغواني ما لهن عهود
ولا كالمعز ابن النبي خليفة
…
له الله بالفخر المبين شهيد وله من قصيدة يمدح بها يحيى بن علي بن رمان:
قفا بي فلا مسرى سرينا ولانسري
…
وإلا نرى مشي القطا الوارد الكدر
قفا نتبين أين ذا البرق منهم
…
ومن أين تأتي الريح طيبة النشر
لعل ثري الوادي الذي كنت مرة
…
أزورهم فيه تضوع للسفر
وإلافما واد يسيل بعنبر
…
وإلا فما تدري الركاب ولا ندري
أكل الناس بالصبر لم تظنه
…
كناس الظباء الدعج والشدن العفر
وهل عجبوا ألي أسئل عنهم
…
وهم بين أحناء الجوانح والصدر
وهل علموا أني أيمم أرضهم
…
وما لي بها غير التعسف من خبر
ولي سكن تأتي الحوادث دونه
…
فيبعد عن عيني ويقرب من فكري
إذا ذكرته النفس جاشت بذكره
…
كما عثر الساقي بجام من الخمر
فلا تسألاني عن زماني الذي خلا
…
فوالعصر إني قبل يحيى لفي خسر
وآليت لا أعطي الزمان مقادتي
…
على مثل يحيى ثم أغضي على الوتر
حنيني إليه ظاعناً ومخيماً
…
وليس حنين الطير إلا إلى الوكر وله من قصيدة:
فتكات طرفك أم سيوف أبيك
…
وكؤوس خمرك أم مراشف فيك
أجلاد مرهفة وفتك محاجر
…
لا أنت راحمة ولا أهلوك
يا بنت ذي السيف الطويل نجاده
…
أكذا يجوز الحكم في ناديك
عيناك أم مغناك موعدنا، على
…
وادي الكرى ألقاك أم واديك وله أيضاً:
أحبب بهاتيك القباب قبابا
…
لا بالحداة ولا الركاب ركابا
فيها قلوب العاشقين تخالها
…
عنماً بأيدي البيض أو عنابا
والله لولا أن يعنفني الهوى
…
ويقول بعض العاذلين تصابى
لكسرت دملجها بضيق عناقها
…
ورشفت من فيها البرود رضابا
بنتم فلولا أن أغير لمتي
…
عبثاً وألقاكم علي غضابا
لخضبت شيباً في مفارق لمتي
…
ومحوت محو النفس عنه شبابا
وخضبت مبيض الحداد عليكم
…
لو أنني أجد البياض خضابا
وإذا أردت على المشيب وفادةً
…
فاحثث مطيك دونه الأحقابا
فلتأخذن من الزمان حمامةً
…
ولتبعثن إلى الزمان غرابا ومنها:
قد طيب الأقطار طيب ثنائه
…
من أجل ذا نجد الثغور عذابا
ام تدنني أرض إليك وإنما
…
جئت السماء ففتحت أبوابا
ورأيت حولي وفد كل قبيلة
…
حتى توهمت العراق الزابا
أرض وطئت الدر من رضراضها
…
والمسك ترباً والرياض جنابا
ورأيت أجبل أرضها منقادةً
…
فحسبتها مدت إليك رقابا
سد الإمام بها الثغور وقبلها
…
هزم النبي بقومك الأحزابا وقال ابن هانئ يصف الأسطول:
معطفة الأعناق نحو متونها
…
كما نبهت أيدي الحواة الأفاعيا
إذا ما وردن الماء شوقاً لبرده
…
صدرن ولم يشربن غرفاً صواديا
إذا أعملوا فيها المجاذيف سرعةً
…
ترى عقرباً منها على الماء ماشيا 10 - وقال الأديب أبو عمر أحمد بن فرج الجياني رحمه الله تعالى (1) :
وطائعة الوصال عدوت عنها
…
وما الشيطان فيها بالمطاع
بدت في الليل سائرة ظلام ال
…
دياجي منه (2) سافرة القناع
وما من لحظة إلا وفيها
…
إلى فتن القلوب لها دواعي
فملكت النهى جمحات (3) شوقي
…
لأجرى بالعفاف على طباعي
وبت بها مبيت الطفل يظما
…
فيمنعه الفطام عن الرضاع
كذاك الروض ليس به لمثلي
…
سوى نظر وشم من متاع
ولست من السوائم مهملات
…
فأتخذ الرياض من المراعي وقال:
للروض حسن فقف عليه
…
واصرف عنان الهوى إليه
(1) المطمح: 80، وقد سقطت القطعة من ب م، وألحقت التالية باشعار ابن هانئ؛ وانظرها في ج 3:196.
(2)
ق: ظلام الليالي وهي؛ المطمح: ساترة دياجي ظلام الليل.
(3)
ق: حجاج.
أما ترى نرجساً نضيراً
…
يرنو إليه بمقلتيه
نشر حبيبي على رباه
…
وصفرتي فوق وجنتيه وقال:
بمهلكة يستهلك الحمد عفوها
…
ويترك شمل العزم وهو مبدد
ترى عاصف الأرواح فيها كأنها
…
من الأين تمشي ظالع أو مقيد وقال فيه في المطمح: محرز الخصل، مبرز في كل معنى وفصل (1) ، متميز بالإحسان، منتم إلى فئة البيان، ذكي الخلد مع قوة العارضة، والمنة الناهضة، حضر مجلس بعض القضاة وكان مشتهراً لضبط منتهراً (2) لمن انبسط فيه بعض البسط، حتى إن أهله لايتكلمون فيه إلارمزاً، ولا يخاطبون إلا إيماء فلا تسمع لهم ركزاً، فكلم فيه خصماً له كلاماً استطال به عليه لفضل بيانه، وطلاقة لسانه، ففارق عادة المجلس في رفض الأنفة، وخفض الحجة المؤتنفة، وهز عطفه وحسر عن ساعده، وأشار بيده، ماداً بها لوجه خصمه، خارجاً عن حد المجلس ورسمه، فهم الأعوان بتقويمه وتثقيفه، ووزعهم رهبة منه وخشية، حتى تناوله القاضي بنفسه، وقال له: مهلاً عافاك الله اخفض صوتك، واقبض يدك، ولاتفارق مركزك، ولا تعد حقك، وأقصر عن إدلالك (3)، فقال له: مهلاً يا قاضي، أمن المخدرات أنا فأخفض صوتي وأستر يدي، وأغطي معاصمي لديك أم من الأنبياء أنت فلا يجهر بالقول عندك وذلك لم يجعله الله تعالى إلا لرسوله عليه الصلاة والسلام، لقول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لاترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي -
(1) المطمح: وفضل.
(2)
في الأصول والمطمح: مشهراً.
(3)
المطمح: انتمائك وإدلالك.
إلى قوله: لاتشعرن. ولست به ولاكرامة، وقد ذكر الله تعالى أن النفوس تجادل في القيامة في موقف الهول الذي لايعد له مقام، ولايشبه انتقامه انتقام، فقال تعالى: يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، إلى قوله: وهم لايظلمون. لقد تعديت طورك، وعلوت في منزلك (1) ، وإنما البيان، بعبارة اللسان، وبالنطق يستبين الحق من الباطل، ولابد في الخصام، من إفصاح الكلام. وقام وانصرف. فبهت القاضي، ولم يحر جواباً. وكان في الدولة صدراً من أعيانها، وناسق درر تبيانها، ونفق في سوقها وصنف، وقرط محاسنها وشنف، وله الكتاب الرائق، المسمى بالحدائق، وأدركه في الدولة سعي، ورفض له فيها الرعي، واعتقله الخليفة وأوثقه في مكان أخيه فلم يومض له عفو، ولم يشب كدر حاله صفو، حتى قضى معتقلاً، ونعي للنائبات نعياً مثكلاً، وله في السجن أشعار كثيرة، وأقوال مبدعات منيرة، فمن ذلك ما أنشده ابن حزم يصف خيالاً طرقه، بعدما أسهره الوجد وأرقه:
بأيهما أنا في الشكر بادي
…
بشكر الطيف أم شكر الرقاد
سرى وازداد في أملي ولكن
…
عففت فلم أجد منه مرادي
وما في النوم من حرج ولكن
…
جريت من العفاف على اعتيادي 11 - وقال الشاعر المشهور أبو عبد الله محمد بن الحداد (2) :
يا غائباً خطرات القلب محضره
…
الصبر بعدك شيء لست أقدره
تركت قلبي وأشواقي تفطره
…
ودمع عيني وأحداقي تحدره
لو كنت تبصر في تدمير حالتنا
…
إذن لأشفقت مما كنت تبصره
(1) المطمح: منزلتك.
(2)
المطمح: 81؛ وترجمته ص: 80 - 83.
فالعين دونك لاتحلى بلذتها
…
والدهر بعدك لايصفو تكدره
أخفي أشتياقي وما أطويه من أسف
…
عن البرية والأنفاس تظهره قال في المطمح: هو شاعر مادح وعلىأيك الندى صارح ولم ينطفه إلا معن (1) أوصمادح.فلم يرم ينتجع سواهما واقتصر على المرية. واختصر قطع المهامة وخوض البرية فعكف فيها ينثر دره في ذللك المنتدى شف أبداً ثغور ذلك الندى، مع تميزه بالعلم، وتحيزه إلى فئة الوقار والحلم، وانتمائه إلى آية سلف، ومذهبه مذاهب أهل الشرف، وكان له لسن ورواء يشهدان له بالنباهة، ويقلدان كاهله ما شاء من الوجاهة، وقد أثبت له بعض ما قذفه من درره، وفاه به من محاسن غرره؛ فمن ذلك قوله:
إلى الموت رجعى بعد حين فإن أمت
…
فقد خلدت خلد الزمان مناقبي
وذكري في الآفاق طار كأنه
…
بكل لسان طيب عذراء كاعب
ففي أي علم لم تبرز سوابقي
…
وفي أي فن لم تبرز كتائبي وحضر مجلس المعتصم بحضور ابن اللبانة فأنشد فيه قصيداً أبرز به من عرى الإحسان ما لم ينفصم واستمر فيها يستكمل بدائعها وقوافيها، فإذا هو قد أغار على قصيد ابن الحداد الذي أوله:
عج بالحمى حيث الظباء (2) العين
…
فقال ابن الحداد مرتجلاً:
حاشا لعدلك يا ابن معن أن يرى
…
في سلك غيري دري المكنون
(1) المطمح: جود معن.
(2)
المطمح: الخماص.
وإليكها تشكو استلاب مطيها
…
عج بالحمى حيث الظباء العين
فاحكم لها واقطع لساناً لا يداً
…
فلسان من سرق القريض يمين وله:
إن المدامع والزفير
…
قد أعلنا ما في الضمير
فعلام أخفي ظاهراً
…
سقمي علي به ظهير
هب لي الرضى من ساخط
…
قلبي بساحته الأسير وله أيضاً:
أيها الواصل هجري
…
أنا في هجران صبري
ليت شعري أي نفع
…
لك في إدمان ضري وله أيضاً:
يا مشبه الملك الجعدي تسميةً
…
ومخجل القمر البدري أنواراً وله (1) :
تطالبني نفسي بما فيه صونها
…
فأعصي ويسطو شوقها فأطيعها
ووالله ما يخفى علي ضلالها
…
ولكنها تهوي فلا أستطيعها وقال:
بخافقة القرطين قلبك خافق
…
وعن خرس القلبين دمعك ناطق
وفي مشرق الصدغين للبدر مغرب
…
وللفكر حالات وللعين شارق
وبين حصى الياقوت ماء وسامة
…
محلأة عنه الظباء السوابق
(1) سقط البيتان من ق.
وحشو قباب الرقم أحوى مقرطق
…
كما آس روض عطفه والقراطق انتهى باختصار.
12 -
وقال الأسعد بن بليطة (1) :
برامة ريم زارني بعدما شطا
…
تقنصته بالحلم في الشط فاشتطا
رعى من أفانين الهوى ثمر الحشا
…
جنياً ولم يرع العهود ولا الشرطا
خيال لمرقوم غرير برامة
…
تأوبني بالرقمتين لدى الأرطى
فأكسبني من خدها روضة الجنى
…
وألدغني من صدغها حية رقطا
وباتت ذراعاها نجاداً لعاتقي
…
إذا ما التقاها الحلي غنى لها لغطا
وسل اهتصاري غصنها من مخصر
…
طواه الضنى طي الطوامير فامتطا
وقد غاب كحل الليل (2) في دمع فجره
…
إلى أن تبدى الصبح في اللمة الشمطا ومنها في وصف الديك:
وقام لها ينعى الدجى ذو شقيقة
…
يدير لنا من عين أجفانه سقطا
إذا صاح أصغى سمعه لأذانه
…
وبادر ضرباً من قوادمه الإبطا
كأن انوشروان أعلاه تاجه
…
وناطت عليه كف مارية القرطا
سبى حلة الطاووس حسن لباسها
…
ولم يكفه حتى سبى المشية البطا ومن غزلها:
غلامية جاءت وقد جعل الدجى
…
لخاتم فيها فص غالية خطا
فقلت أحاجيها بما في جفونها
…
وما في الشفاه اللعس من حسنها المعطى
محيرة العينين من غير سكرة
…
متى شربت ألحاظ عينيك إسفنطا
(1) المطمح: 83 - 84.
(2)
ب: العين.
أرى نكهة المسواك في حمرة اللمى
…
وشاربك المخضر بالمسك قد خطا
عسى قزح قبلته فإخاله
…
على الشفة اللمياء قد جاء مختطا وقال في المطمح في تحلية الأسعد: إنه سرد البدائع أحسن السرد، وافترس المعاني كالأسد الورد، وأبرز درر المحاسن من صدفها، وحاز من بحر الإجادة وشرفها، ومدح ملوكاً طوقهم من مدائحه قلائد، وزف إليهم منها خرائد، وجلاها عليهم كواعب، بالألباب لواعب، فأسالت العوارف، وما تقلص له من الحظوة ظل وارف، وقد أثبت له ما يعترف بحقه، ويعرف به مقدار سبقه، فمن ذلك قوله:
لو كنت شاهدنا عشية أمسنا
…
والمزن يبكينا بعيني مذنب
والشمس قد مدت أديم شعاعها
…
في الأرض تجنح غير أن لم تغرب وقوله:
وتلذ تعذيبي كأنك خلتني
…
عوداً فليس يطيب ما لم يحرق وهو مأخوذ من قول ابن زيدون:
تظنونني كالعود حقاً وإنما
…
تطيب لكم أنفاسه حين يحرق انتهى ببعض اختصار (1) .
13 -
وقال الأديب أبو بكر عبادة بن ماء السماء، وهو كما في المطمح (2) : من فحول الشعراء، وأئمتهم الكبراء، وكان منتجعاً بشعره، مسترجعاً من صروف دهره، وكانت له همة أطالت همه، وأكثرت كمده وغمه:
(1) هو كما في المطمح المطبوع دون اختصار.
(2)
المطمح: 84.
يؤرقني الليل الذي أنا نائمه
…
فتجهل ما ألقى وطرفك عالمه
وفي الهودج المرقوم وجه طوى الحشا
…
على الحزن فيه الحسن قد حار راقمه
إذا شاء وقفاً أرسل الحسن فرعه
…
يضلهم عن منهج القصد فاحمه
أظلماً رأوا تقليده الدر أم زروا
…
بتلك اللآلي أنهن تمائمه 14 - وقال الأديب أبو عبد الله ابن عائشة في فتى طرزت غلالة خده، وركب من عارضه سنان على صعده قده (1) :
إذا كنت تهوى خده وهو روضة
…
به الورد غض والأقاح مفلج
فزد كلفاً فيه وفرط صبابة
…
فقد زيد فيه من عذار بنفسج وحلاه في المطمح بأن قال: اشتهر صوناً وعفافاً، ولم يخطب بعقيلة حضرة زفافاً، فآثر انقباضاً وسكوناً، واعتمد إليها ركوناً، إلى أن أنهضه أمير المسلمين إلى بساطه فهب من مرقد خموله، وشب لبلوغ مأموله، فبدا منه في الحال انزواء، في تسنم تلك الرسوم والتواء، وقعود عن مراتب الأعلام، وجمود لايحمد فيه ولايلام، إلا أن أمير المسلمين ألقى منه عليه محبة، جلبت إليه مسرى الظهور ومهبه، وكان له أدب واسع المدى، يانع كالزهر بلله الندى، ونظم مشرق الصفحة، عبق النفحة، إلا أنه قليلاً ما كان يحل ربعه، ويذيل له طبعه، وقد أثبت له منه ما يدع الألباب حائرة، والقلوب إليه طائرة، فمن ذلك قوله في ليلة سمحت له بفتى كان يهواه، ونفحت له هبة وصل بردت جواه:
لله ليل بات عندي به
…
طوع يدي من مهجتي في يديه
وبت أسقيه كؤوس الطلا
…
ولم أزل أسهر شوقاً إليه
عاطيته حمراء ممزوجة
…
كأنها تعصر من وجنتيه
(1) المطمح: 84 - 86.
وخرج من بيته يوماً إلى منية الوزير الأجل أبي بكر ابن عبد العزيز وهي من أبدع منازل الدنيا وقدمت عليها أرواحها الأفيا وأهدت إليها أزهارها العرف والرياء والنهر قد غص بمائه والروض قد خص مثل أنجم سمائه، وكانت لبني عبد العزيز فيها أطراب، تهيأ لهم فيها من الأيام آراب، فلبسوا فيها الأشر حتى أبلوه، ونشروا فيها الأنس وطووه، أيام كانوا بذلك الأفق طلوعاً، لم تضم عليهم النوب ضلوعاً، فقعد أبو عبد الله مع لمة من الأدباء تحت دوحة من أدواحها، فهبت ريح أنس من أرواحها، سطت بإعصارها، وأسقطت لؤلؤها على باسم أزهارها، فقال:
ودوحة قد علت سماءً
…
تطلع أزهارها نجوماً
هفا نسيم الصبا عليها
…
فأرسلت فوقنا رجوما
كأنما الجو غار لما
…
بدت فأغرى بها النسيما وكان في زمان عطلته، ووقت اصفراره وعلته، ومقاساته من العيش أنكده، ومن التخوف أجهده، كثيراً ما ينشرح بجزيرة شقر ويستريح، ويستطيب تلك الريح، ويجول في أجارع واديها، وينتقل من نواديها إلى بواديها، فإنها صحيحة الهواء، قليلة الأدواء، خضلة العشب والأزاهر (1) ، قد أحاط بها نهرها كما تحيط بالمعاصم الأساور، والأيك قد نشرت ذوائبها على صفيحه، والروض قد عطر جوانبه (2) بريحه، وأبو اسحاق ابن خفاجة هو كان منزع نفسه، ومصرع أنسه، نفح له بالمنى عبق وشذا، ومسح عن عيون مسراته القذى، وغدا على ما كان وراح، وجرى متهافتاً في ميدان ذلك المراح، قريب عهد بالفطام، ودهره ينقاد في خطام، فلما اشتعل رأسه شيباً، وزرت عليه الكهولة جيباً، أقصر عن تلك الهنات، واستيقظ من تلك السنات، وشب
(1) المطمح: زاهية الأزاهر.
(2)
المطمح: جوانبها.
عن ذلك الطوق، وأقصر عن الهوى والشوق، وقنع بأدنى تحية، وما يستشعره في وصف تلك العهاد من أريحية، فقال:
ألا خلياني والأسى والقوافيا
…
أرددها شجوي (1) وأجهش باكيا
أآمن شخصاً للمسرة بادياً
…
وأندب رسماً للشبيبة باليا
تولى الصبا إلا توالي فكرة
…
قدحت بها زنداً وما زلت واريا
وقد بان حلو العيش إلا تعلةً
…
تحدثني عنها الأماني خاليا (2)
ويا برد هذا الماء هل منك قطرةً
…
تهل فيستسقى غمامك صاديا
وهيهات حالت دون حزوى وأهلها
…
ليال وأيام تخال اللياليا
فقل في كبير عاده صائد الظبا
…
إليهن مهتاجاً وقد كان ساليا
فيا راكباً يستعمل الخطو قاصداً
…
ألا عج بشقر رائحاً أو مغاديا
وقف حيث سال النهر ينساب أرقماً
…
وهب نسيم الأيك بنفث راقيا
وقل لأثيلات هناك وأجزع
…
سقيت أثيلات وحييت واديا انتهى ببعض اختصار (3) .
وابن عائشة أشهر من أن يطال في أمره، وليس الخبر كالعيان.
523 -
وقال أبو عمرو يزيد بن عبد الله بن أبي خالد اللخمي الإشبيلي الكاتب في فتح المهدية سنة 602:
كم غادر الشعراء من متردم
…
ذخرت عظائمه لخير معظم
تبعاً لمذخور الفتوح فإنه
…
جاءت له بخوارق لم تعلم
من كل سامية المنال إذا انتمت
…
رفعت إلى اليرموك صوت المنتمي
(1) ب: شكوى؛ م: شجوا.
(2)
المطمح: خواليا.
(3)
لم يختصر شيئاً من المطمح المطبوع.
وتوسطت في النهروان بنسبة
…
كرمت ففازت بالمحل الأكرم قال ابن الأبار في " تحفة القادم "(1) : هو صدر في نبهائها وأدبائها، يعني إشبيلية، وممن له قدر في منجبيها ونجبائها، وإلى سلفه ينسب المعقل المعروف بحجر أبي خالد (2) ، وتوفي بها سنة 612، وأورد له قوله:
ويا للجواري المنشآت وحسنها
…
طوائر بين الماء والجو عوما
إذا نشرت في الجو أجنحة لها
…
رأيت بها روضاً ونوراً مكمما
وإن لم تهجه الريح جاء مصافحاً
…
فمدت له كفاً خضيباً ومعصما
مجاذف كالحيات مدت رؤوسها
…
على وجل في الماء كي تروي الظما
كما أسرعت عداً أنامل حاسب
…
بقبض وبسط يسبق العين والفما
هي الهدب في أجفان أكحل أوطف
…
فهل صنعت من عندم أو بكت دما قال ابن الأبار: أجاد ما أراد في هذا الوصف، وإن نظر إلى قول أبي عبد الله ابن الحداد بصف أسطول المعتصم ابن صمادح:
هام صرف الردى بهام الأعادي
…
أن سمت نحوهم لها أجياد
وتراءت بشرعها كعيون
…
دأبها مثل خائفيها سهاد
ذات هدب من المجاذيف حاك
…
هدب باك لدمعه إسعاد
حمم فوقها من البيض نار
…
كل من أرسلت عليه رماد
ومن الخط في يدي كل در
…
ألف خطها على البحر صاد قال: وما أحسن قول شيخنا أبي الحسن ابن حريق في هذا المعنى من قصيدة أنشدنيها:
(1) تحفة القادم: 120 وفيه الأشعار حتى قوله: انتهى؛ والنص هنا أوفي مما هو في المقتضب.
(2)
كذا في الأصول؛ وفي التحفة: ابن أبي خالد.
وكأنما سكن الأراقم جوفها
…
من عهد نوح خشية الطوفان
فإذا رأين الماء يطفح نضنضت
…
من كل خرق حية بلسان قال: ولم يسبقهم إلى الإحسان، وإنما (1) سبقهم بالزمان، علي بن محمد الإيادي التونسي في قوله:
شرعوا جوانبها مجاذف أتعبت
…
شادي الرياح لها ولما تتعب
تنصاع من كثب كما نفر القطا
…
طوراً وتجتمع اجتماع الربرب
والبحر يجمع بينها فكأنه
…
ليل يقرب عقرباً من عقرب
وعلى جوانبها أسود خلافة
…
تختال في عدد السلاح المذهب
وكأنما البحر استعار بزيهم
…
ثوب الجمال من الربيع المعجب ومن هذه القصيدة الفريدة في ذكر الشراع:
ولها جناح يستعر يطيرها
…
طوع الرياح وراحة المتطرب
يعلو بها حدب العباب مطاره
…
في كل لج زاخر معلولب
يسمو بآخر في الهواء منصب
…
عريان منسرح الذؤابة شوذب
يتنزل الملاح منه ذؤابة
…
لو رام يركبها القطا لم يركب
وكأنما رام استراقة مقعد
…
للسمع إلا أنه لم يشهب
وكأنما جن ابن داود هم
…
ركبوا جوانبها بأعنف مركب
سجروا جواهم بينهم فتقاذفوا
…
منها بألسن مارج متلهب
من كل مسجون حريق إذا انبرى
…
من سجنه انصلت انصلات الكوكب
عريان يقدمه الدخان كأنه
…
صبح يكر على ظلام غيهب ومن أولها:
(1) م: وإن؛ التحفة: وإن كان.
أعجب بأسطول الإمام محمد
…
وبحسنه وزمانه المستغرب
لبست به الأمواج أحسن منظر
…
يبدو لعين الناظر المتعجب
من كل مشرفة على ما قابلت
…
إشراف صدر الأجدل المتنصب ومنها:
جوفاء تحمل موكباً في جوفها
…
يوم الرهان وتستقل بموكب وهي طويلة من غرر القصائد، وقد سرد جملة منها صاحب المناهج وغيره.
وقال أبو عمر القسطلي (1) :
وحال الموج بين بني سبيل
…
يطير بهم إلى الغول ابن ماء
أعز له جناح من صباح
…
يرفرف جنح من سماء وأخذه أبوإسحاق ابن خفاجة فقال (2) :
وجاية ركبت بها ظلاماً
…
يطير من الصباح بها جناح
إن الماء اظمأن ورق خصراً
…
علا من موجة ردف رداح
وقد نقر الحمام هناك فاه
…
وأتلع جيده الأجل المتاح ولا يخفاك حسن هذه العبارة الصقيلة المرآة، فالله تعالى يرحم قائلها.
وقال ابن الأبار: وقد قلت أنا في ذلك:
يا حبذا من بنات الماء سابحةً
…
تطفو لما شب أهل النار تطفئه
تطيرها الريح غرباناً بأجنحة ال
…
حمائم البيض للأشراك ترزؤه
(1) ديوانه: 323 ورفع الحجب 1: 142.
(2)
ديوان ابن خفاجة: 138.
من كل أدهم لا يلفى به جرب
…
فما لراكبه بالقار يهنؤه
يدعى غراباً وللفتخاء سرعته
…
وهو ابن ماء وللشاهين جؤجؤه واجتمع ابن أبي خالد وأبو الحسن ابن الفضل الأديب عند أبي الحجاج ابن مرطير الطبيب بحضرة مراكش، وجرى ذكر قاضيها حينئذ أبي عمران موسى ابن عمران بينهم، وما كان عليه من القصور والبعد عما أتيح له، وأوثر به، فقال أبو الحجاج:
ليس فيه من أبي موسى شبه
…
فقال أبو الحسن:
فأبوه فضة وهو شبه
…
فقال ابن أبي خالد:
كم دعاه إذ رآه عرةً
…
وأباه إذ دعاه يا أبه 524 - وقال أبو العباس الأعمى (1) :
بهيمة لو جرى في الخيل أكبرها
…
لفاتت الريح في الأحجال والغرر (2)
تجري فللماء ساقا عائم درب
…
وللرياح جناحا طائر حذري (3)
قد قسمتها يد التقدير (4) بينهما
…
على السواء فلم تسبح ولم تطر 525 - وقال عبد الجليل بن وهبون يصف الأسطول (5) :
(1) هو الأعمى التطيلي، انظر ديوانه:51.
(2)
رواية الديوان:
بهية لو توفي كنه شرتها
…
لفاتت الخيل في الأحجال والغرر (3) الديوان: ذكر.
(4)
الديوان: التدبير.
(5)
الذخيرة (2: 207) .
يا حسنها يوماً شهدت زفافها
…
بنت الفضاء إلى الخليج الأزرق
ورقاء كانت أيكة فتصورت
…
لك كيف شئت من الحمام
حيث الغراب يجر شملة عجبه
…
وكأنه من عزة (1) لم ينعق
من كل لابسة الشباب ملاءة
…
حسب اقتدار الصانع المتأنق
شهدت لها الأعيان أن شواهنا
…
أسماؤها فتصحفت في المنطق
من كل ناشرة قوادم أجنح
…
وعلى معاطفها وهادة سوذق
زأرت زئير الأسد وهي صوامت
…
وزحفن زحف مواكب في مأزق
ومجاذف تحكي أراقم ربوة
…
نزلت لتكرع من غدير متأق 526 - وفال ابن خفاجة (2) :
سقياً لها من بطاح خز
…
ودوح نهر بها مطل
فما ترى غير وجه شمس
…
أطل فيه عذار ظل وهو من بديع الشعر، وكم لابن خفاجة من مثله.
527 -
[قطعة منقولة عن المغرب]
1 -
وقال عبيد الله بن جعفر الإشبيلي، وقد زار صاحباً له مرات ولم يزره هو، فكتب على بابه (3) :
يا من يزار على بعد المحل ولا
…
يزورنا مرةً من بين مرات
زر من يزورك واحذر قول عاذلة
…
تقول عنك: فتىً يؤتى ولا يأتي
(1) ب: عسرة؛ ق: عرة؛ وأثبتنا رواية م.
(2)
ديوانه: 140 وقد مر البيتان ج 1: 19.
(3)
ترجمته والبيتان الأولان في المغرب 1: 262.
ومن مجونياته، سامحه الله تعالى:
وأغيد ليس تعدوه الأماني
…
ولو حكمت عليه باشتطاط
سقيت الراح حتى مال سكراً
…
ونلم على النمارق والبساط
وأسلم لي على طول التجني
…
وأمكنني فرط التعاطي
فأولجت المقادر جيد بكر
…
ولا كفران في سم الخياط
وغناني بصوت من حشاه
…
فأطربني وبالغ في نشاطي
فما نقر المثالث والمثاني
…
بأطرب من تلاحين الضراط
ولولا الريق لم اظفر بشيء
…
على عدم اهتبالي واحتياطي
فلا تسخر بريق بعد هذا
…
فإن الريق مفتاح اللواط 2 - وقال أبو الحسن علي بن جحدر الزجال (1) :
كيف أصبحت أيهذا الحبيب
…
نحن مرضى الهوى وأنت الطبيب
كل قلب إليك يهفو غراماً
…
ويحها يا علي (2) منك القلوب
إن تلح حومت عليك هياماً
…
أو تغب حنها عليك الوجيب
غير أني من بينهم مستريب
…
حين تبدو وليس لي ما يريب
كل ما قد ألقاه منك ومني
…
دون هذا له تشق الجيوب 3 - وقال أحمد المعروف بالكساد، في موسى الذي كان يتغزل فيه شعراء إشبيلية (3) :
ما لموسى قد خر لله لما
…
فاض نوراً غشاه ضوء سناه
وأنا قد صعقت من نور موسى
…
لا أطيق الوقوف حين أراه
(1) المغرب 1: 262 والقدح: 172.
(2)
هذه رواية القدح؛ وفي الأصول: وتجانى عليّ.
(3)
ترجمة الكساد ومقطعاته في المغرب 1: 288.
ولله دره في رثاء موسى المذكور إذ قال:
فر (1) إلى الجنة حوريها
…
وارتفع الحسن من الأرض
وأصبح العشاق في مأتم
…
بعضهم يبكي إلى بعض وقوله فيه:
هتف الناعي بشجو الأبد
…
إذ نعى موسى بن عبد الصمد
ما عليهم ويحهم لو دفنوا
…
في فؤادي قطعةً من كبدي ولقب بالكساد لقوله:
وبيع الشعر في سوق الكساد
…
4 - وقال أبو القاسم ابن أبي طالب الحضرمي المنيشي (2) :
صاغت يمين الرياح محكمةً
…
في نهر واضح الأسارير
فكلما ضاعفت به حلقاً
…
قام لها القطر بالمسامير 5 - وقال أبو زيد عبد الرحمن العثماني، وهو من بيت إمارة (3) :
لا تسلني عن حالتي فهي هذي
…
مثل حالي لا كنت يا من يراني
ملني الأهل والأخلاء لما
…
أن جفاني بعد الوصال زماني
فاعتبر بي ولا يغرك دهر
…
ليس منه ذو غبطة في أمان 6 - وقال أبو زكريا يحيى بن محمد الأركشي (4) :
(1) المغرب: رد.
(2)
هو الملقب بعصا الأعمى لأنه كان في صحبة الأعمى التطيلي، انظر المغرب 1:289.
(3)
ترجم ابن سعيد في القدح: 196 لعبد الرحمن العثماني وقال فيه: " كان من الخواص في جميع ما به تلبس " إلا أنه كناه القاسم. ويبدو أن ترجمته سقطت من المغرب.
(4)
ترجمة الأركشي في المغرب 1: 316 والتكملة رقم: 2053. وصلة الصلة: 184.
لا حبذا المال والإفضال يتلفه
…
والبخل يحميه والأقدار تعطيه وقال:
لا تبكين لإخوان تفارقهم
…
فإنني قبلك استخبرت إخواني
فما حمدتهم في حال قربهم
…
فكيف في حال إبعاد وهجران 7 - وقال أبو عمران موسى الطرياني لما دخل يوم نيروز إلى بعض الأكابر، وعادتهم أن يصنعوا في مثل هذا اليوم مدائن من العجين لها صور مستحسنة، فنظر إلى صورة مدينة، فأعجبته، فقال له صاحب المجلس: صفها وخذها (1) :
مدينة مسوره
…
تحار فيها السحره
لم تبنها إلا يدا
…
عذراء أو مخدره
بدت عروساً تجتلي
…
من درمك مزعفره
وما لها مفاتح
…
إلا البنان العشره 8 - وقال أبو عمرو ابن حكم (2) :
حاشا لمن أملكم أن يخيب
…
وينثني نحو العدا مستريب
هذا وكم أقرأني بشركم
…
{نصر من الله وفتح قريب} 9 - وقال أبو الحسن علي بن الجعد القرموني (3) :
إياك من زلل اللسان فإنه
…
قدر الفتى في لفظه المسموع
(1) ترجمته وشعره في المغرب 1: 294 والقدح: 202.
(2)
ترجمة ابن حكم وشعره في المغرب 1: 292 والقدح: 200؛ وفي م: ابن حاكم.
(3)
ترجمته في المغرب 1: 300، وقد جاءت هذه الفقرة في م بعد مقطعات ابن لبال.
المرء يختبر الإناء بنقره
…
ليرى الصحيح به من المصدوع 10 - وقال الفقيه أبو الحسن علي بن لبال في محبرة عناب محلاة بفضة (1) :
منعلة بالهلال، ملجمة
…
بالنسر، مجدولة من الشفق
كأنما حبرها تميع في
…
فرضتها سائلاً من الغسق
فأنت مهما ترد تشبهها
…
في كل حال فانظر إلى الأفق وقال في محبرة آبنوس:
وخديمة للعلم في أحشائها
…
كلف بجمع حرامه وحلاله
لبست رداء الليل ثم توشحت
…
بنجومه وتتوجت بهلاله 11 - وقال أبو جعفر أحمد الشريشي (2) :
تفاحة بت بها ليلتي
…
أبثها سري والشكوى
أضمها معتنقاً لاثماً
…
إذا ذكرت خد من أهوى وقال أبو العابس أحمد بن شكيل الشريشي (3) :
تفاحة بت بها ليلتي
…
أبثها سري والشكوى
أضمها معتنقاً لائماً
…
إذا ذكرت خد من أهوى وقال:
تفاحة حامضة عضها
…
في ثمل من قطب الوجها
(1) المغرب 1: 303؛ والحاشية في مصادر ترجمته؛ والذيل والتكملة 5: 169.
(2)
ترجمة أحمد الشريشي في المغرب 1: 304.
(3)
انظر المغرب 1: 304.
ولم أخل من قبلها محسناً
…
يجزى عليه العض والنجها 13 - وقال أبو عمر ابن غياث (1) :
وقالوا مشيب واعجبا لكم
…
أينكر صبح قد تخلل غيهبا
وليس مشيباً ما ترون وإنما
…
كميت الصبا لما جرى عاد أشهبا 14 - وقال الوزير أبو بكر بن ذي الوزارتين أبي مروان عبد الملك ابن عبد العزيز يخاطب ابن عبدون (2) :
في ذمة الفضل والعلياء مرتحل
…
فارقت صبري إذ فارقت موضعه
ضاءت به برهةً أرجاء قرطبة
…
ثم استقل فسد البين مطلعه
عذراً إلى المجد عني حين فارقني
…
ذاك الجلال فأعيا أن أشيعه
قد كنت أصحبته قلبي وأقعدني
…
ما كان أودعني عن أن أودعه وفيهم يقول ابن عبدون:
بحور بلاغة ونجوم عز
…
وأطواد رواس من جلال 15 - وقال الوزير الكاتب أبو القاسم ابن أبي بكر ابن عبد العزيز:
نديمي لا عدمتك من نديم
…
أدرها في دجى الليل البهيم
فخير الأنس أنس تحت ستر
…
يصان عن السفيه أو الحليم 16 - وقال الثائر أبو عبد الله الجزيري (3) :
في أم رأسي سر
…
يبدو لكم بعد حين
(1) انظر المغرب 1: 305 وترجمته في التكملة: 610 والتحفة: 129 والوافي 4: 10.
(2)
المغرب 1: 307.
(3)
المغرب 1: 323.
لأبلغن مرادي
…
إن كان سعدي معيني
أو لا فأكتب ممن
…
سعى لإظهار دين وسبب قوله هذا أن بني عبد المؤمن لما غيروا رسم مهديهم، وصيروا الخلافة ملكاً، وتوسعوا في الرفاهية، وأهملوا حق الرعية، جعل يتستر، وقال هذه الأبيات، وشاع سره في مدة ناصر بني عبد المؤمن، فطلبه، ففر، ولم يزل يتنقل مستخفياً مع أصحابه إلى أن حصل في حصن قولية من عمل مدينة بسطة، فبينما هو ذات يوم في جامعها مع أصحابه وهم يأكلون بطيخاً ويرمون قشره في صحن الجامع، إذ أنكر ذلك رجل من العامة، وقال لهم: ما تتقون الله تعالى! تتهاونون ببيت من بيوته فضحكوا منه، واستهزأوا به، وأهل تلك الجهة لاتحتمل شيئاً من ذلك، فصاح بفتية من العامة، فاجتمع جمع وحملوا إلى الوالي مكان عند الوالي من عرفه، فقتلوا جميعاً، وأمر الناصر أن يرفع عن جميع أرض قولية جميع تكاليف السلطان.
17 -
ولما عتب المنصور بن أبي عامر على الكاتب عبد الملك الجزيري، وسجنه في الزاهرة، ثم صفح عنه، قال وكتب به إليه (1) :
عجبت من عفو أبي عامر
…
لا بد أن تتبعه منه
كذلك الله إذا ما عفا
…
عن عبده أدخله الجنه فاستحسن ذلك، وأعاده إلى حاله.
وقال على لسان بهار العامرية، وهو النرجس (2) :
حدق الحسان تقر لي وتغار
…
وتضل في وصفي النهى وتحار
(1) المغرب 1: 321 وقد مر البيتان (ج 1: 419) منسوبين لغيره.
(2)
تقدمت هذه الأبيات والقطعتان بعدها، ج 1: 531، 588.
طلعت على قضبي عيون تمائمي
…
مثل العيون تحفها الأشفار
وأخص شيء بي إذا شبهته
…
در تمنطق سلكه دينار
أنا نرجس، حقاً بهرت عقولهم
…
ببديع تركيبي فقيل بهار وقال في بنفسجها:
شهدت لنوار البنفسج ألسن
…
من لونه الأحوى ومن إيناعه
بمشابه الشعر الأحم أعاره
…
قمر المنير الطلق نور شعاعه
ولربما جمد النجيع من الطلى
…
في صارم المنصور يوم قراعه
فحكاه غير مخالف في لونه
…
لا في روائحه وطيب طباعه وقال في القمر حين جعل يختفي بالسحاب ويبدو أمام المنصور:
أرى بدر السماء يلوح حيناً
…
فيظهر ثم يلتحف السحابا
وذلك أنه لما تبدى
…
وأبصر وجهك استحيا وغابا 18 - وقال الحجاري في " المسهب "(1) : سألت أبا الحسن علي بن حفص الجزيري أن ينشدني شيئاً من شعره، فقال يا أبا محمد، إذا لم ينظم الإنسان مثل قول ابن شرف:
لم يبق للجور في أيامكم أثر
…
إلا الذي في عيون الغيد من جور فالأولى له أن يترك نظم الشعر.
إلى أن خرجت معه يوماً إلى سيف الجزيرة الخضراء، فلقي غلاماً قد كدر رونق حسنه السفر، وأثر في وجهه كآثار الكلف في القمر، فصافحه، ثم قال:
بأبي الذي صافحته فتوردت
…
وجناته وأناء نحوي قده
(1) المغرب 1: 325.
قمر بدا كلف السرى في خده
…
لما توالى في الترحل جهده
لكن معالم حسنه تمت كما
…
قد تم عن صدإ الحسام فرنده فحفظتها من سمعه، ثم قلت له: قد أخذت عنك من نظمك، بغير شكرك، فضحك وقال: فاحفظ هذا، وأنشد:
لا تقولن فلان
…
صاحب قبل اختبار
وانتظر ويحك نقد ال
…
ليل فيه والنهار
أنا جربت فلم أل
…
ف صديقاً باختياري وأنشد:
كم قد بكرت إلى الرياض وقضبها
…
قد ذكرتني موقف العشاق
يا حسنها والريح يلحف بعضها
…
بعضاً كأعناق إلى أعناق
والورد خد والأقاحي مبسم
…
وغدا البهار ينوب عن أحداق
لم أنفصل عنها بكأس مدامة
…
حتى حملت محاسن الأخلاق 19 - ولما كتب أبو الحسن ابن سعيد إلى الأديب القائد أبي العباس أحمد ابن بلال يستدعيه ليوم أنس بقوله (1) :
أبا العباس لو أبصرت حولي
…
ندامى بادروا العيش الهنيا
يبيحون المدام ولا انتقاد
…
وقارهم ويزدادون غيا
وهم مع ما بدا لك من عفاف
…
يحبون الصبية والصبيا
ويهوون المثالث والمثاني
…
وشرب الراح صبحاً أو عشيا
على الروض الذي يهدي لطرف
…
وأنف منظراً بهجاً وريا
فلا تلم السري على ارتياح
…
حكى طرباً بجانبه سريا
(1) المغرب 1: 326 والقدح: 86.
وبادر نحو ناد ما خلا من
…
نداك فقد عهدتك لوذعيا أجابه بقوله:
أبيت سوى المعالي يا عليا
…
فمل تنفك دهرك أريحيا
تميل إذا النسيم سرى كغصن
…
وتسري للمكارم مشرفيا
وترتاح ارتياحاً للمثاني (1)
…
وتقتنص الصبية والصبيا
وتهوى الروض قلده نداه
…
وألبسه مع الحلل الحليا
وإن غنى الحمام فلا اصطبار
…
وإن خفق الخليج فنيت حيا
تذكرني الشباب فلست أدري
…
أصبحاً حين تذكر أم عشيا
فلة أدركتني والغصن غض
…
لأدركت الذي تهوى لديا
ولم أترك وحقك قدر لحظ
…
وقد ناديتني ذاك النديا 528 (2) - وقال بعض أهل الأندلس:
وفرع كان يوعدني بأسر
…
وكان القلب ليس له قرار
فنادى وجهه لاخوف فاسكن
…
كلام الليل يمحوه النهار ولست على يقين أن قائلهما أندلسي، غير أني رأيت في كلام بعض الأفاضل نسبتهما لأهل الأندلس، والله تعالى أعلم.
20 -
وقال أبو الوليد القسطلي (3) :
وفوق الدوحة الغنى غدير
…
تلألأ صفحةً وسجا قرارا
إذا ما انصب أزرق مستقيماً
…
تدور في البحيرة فاستدارا
يجرده فم الأنبوب صلتاً
…
حساماً ثم يفلته سوارا
(1) م: بالمثاني.
(2)
ميزنا هذه القطعة برقم لأنها ليست من المغرب ثم يعود الترقيم إلى ما نقله المقري عن المغرب نفسه.
(3)
المغرب 1: 328 والتكلمة رقم: 2101 وزاد المسافر: 15 - 19 وانظر الخريدة 1/4: 443.
21 -
ولأبي كثير الطريفي يمدح الناصر بن المنصور (1) :
فتوح لها يهتز شرق ومغرب
…
كما اطردت في السمهرية أكعب
تجلت على الدنيا شموس منيرة
…
فلم يبق في ليل الكآبة غيهب
أقام بها الإسلام شدو مغرد
…
وظلت بأرض الشرك بالخطب تخطب
فلا سمع إلا وهو قد مال نحوها
…
ولا قلب إلا في مناها يقلب 22 - وقال أبو عامر ابن الجد (2) :
لله ليلة مشتاق ظفرت بها
…
قطعتها بوصال اللثم والقبل
نعمت فيها بأوتار تعللني
…
أحلى من المن أو أمنية الغزل
أحبب إلي بها إذ كلها سحر
…
أراحت الصب من عذر ومن عذل 23 - وقال الكاتب أبو عبد الله محمد الشلبي (3) كاتب ملك افريقية عبد الواحد بن أبي حفص:
مد إلي الكاس من لحظه
…
لا يحوج الشرب إلى الكاس
ومنذ حياني بآس فلم
…
أيأس ولكن كان لي آسي
وقال لولا الناس قبلته
…
ما أشأم الناس على الناس 24 - وقال أبو بكر محمد بن الملح (4) ، وهو من رجال الذخيرة، على لسان حال سوار مذهب:
أنا من الفضة البيضاء خالصةً
…
لكن دهتني خطوب غيرت جسدي
(1) المغرب 1: 319 واسمه عنده " كثير "، والطريفي نسبة إلى جزيرة طريف.
(2)
المغرب 1: 342 وبغية الوعاة: 275.
(3)
لم يرد ذكره في المغرب في القسم الخاص يشلب.
(4)
المغرب 1: 383 والقلائد: 187 والذخيرة (2: 182) ومسالك الأبصار 8: 257.
علقت غصناً على أحوى فأحسدني
…
جري الوشاح وهذي صفرة الحسد وما أحسن قوله من قصيدة في المعتضد والد المعتمد:
غرته الشمس والحيا يده
…
بينهما للنجيع قوس قزح 25 - وأما ابنه أبو القاسم (1) فهو من رجال المسهب وكان اشتغل أول أمره بالزهد وكتب التصوف، فقال له أبوه: يا بني، هذا الأمر ينبغي أن يكون آخر العمر، وأما الآن فينبغي أن تعاشر الأدباء والظرفاء، وتأخذ نفسك بقول الشعر، ومطالعة كتب الأدب، فلما عاشرهم زينوا له الراح، فتهتك في الخلاعة، وفر إلى إشبيلية، وتزوج بامرأة لاتليق بحاله، وصار يضرب معها بالدف، فكتب إليه أبوه:
يا سخنة العين يا بنيا
…
ليتك ما كنت لي بنيا
أبكيت عيني، أطلت حزني
…
أمت ذكري وكان حيا
حططت قدري وكان أعلى
…
في كل حال من الثريا
أما كفاك الزنا ارتكاباً
…
وشرب مشمولة الحميا
حتى ضربت الدفوف جهراً
…
وقلت للشر جيء إليا
فاليوم أبكيك ملء عيني
…
إن كان يغني البكاء شيا فأجاب أباه بقوله:
يا لائم الصب في التصابي
…
ما عنك يغني البكاء شيا
أوجفت خيل العتاب نحوي
…
وقبل أوثبتها إليا
وقلت هذا قصير عمر
…
فاربح من الدهر ما تهيا
قد كنت أرجو المتاب مما
…
فتنت جهلاً به وغيا
(1) انظر المغرب 1: 384.
لولا ثلاث شيوخ سوء
…
أنت وإبليس والحميا 26 - وقال أبو بكر محمد بن عبد القادر الشلبي (1) يستدعي:
فديتك باكر نحو قبة روضة
…
تسيح بها الأمواه والطير تهتف
وقد طلعت شمس الدنان بأفقها
…
ونحن لديها في انتظارك وقف
فلا تتخلف ساعةً عن محلة
…
صدودك عمن حل فيها تخلف 27 - وقال أخو إمام نحاة الأندلس أبي محمد عبد الله بن السيد البطليوسي، وهو أبو الحسن علي بن السيد (2) :
يا رب ليل قد هتكت حجابه
…
بزجاجة وقادة كالكوكب
يسعى بها ساق أغن كأنها
…
من خده ورضاب فيه الأشنب
بدران بدر قد أمنت غروبه
…
يسعى ببدر جانح للمغرب
فإذا نعمت برشف بدر طالع
…
فانعم ببدر آخر لم يغرب
حتى ترى زهر النجوم كأنها
…
حول المجرة ربرب في مشرب
والليل منحفز يطير غرابه
…
والصبح يطرده بباز أشهب 28 - ولما مدح أبو بكر محمد بن الروح الشلبي (3) الأمير إبراهيم الذي خطب به الفتح في القلائد، وهو ابن أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، وكان يدل عليه وينادمه، بقصيدته التي أولها:
أنا شاعر الدنيا وأنت أميرها
…
فما لي لا يسري إلي سرورها أشار الأمير إلى مضحك له كان حاضراً أن يحبق له لقوله " أنا شاعر الدنيا "
(1) لم ترد ترجمته في المغرب المطبوع بين رجال شلب.
(2)
يعد ابن السيد من شلب في الأصل (انظر المغرب 1: 385) ، وكل هذا يدل على أن المقري ينقل نقلاً متتابعاً عن نسخة من المغرب غير التي وصلتنا.
(3)
المغرب 1: 386.
فقال له ابن الروح: على من حبقت يعني أنه يحتمل أن يكون ذلك الفعل لقوله أنا شاعر الدنيا أو لقوله وأنت أميرها، ففطن الأمير لما قصده وضحك وتغافل.
29 -
وقال أبو بكر ابن المنخل الشلبي (1) :
كم ليلة دارت علي كواكب
…
للخمر تطلع ثم تغرب في فمي
قبلتها في كف من يسعى بها
…
وخلطت قبلتها بقبلة معصم
وكأن حسن بنانه مع كأسه
…
غيم يشير لنا ببعض الأنجم 30 - وقال ذو الوزارتين أبو بكر ابن عمار (2) :
قرأت كتابك مستشفعاً
…
بوجه أبي الحسن من رده
ومن قبل فض ختام الكتاب
…
قرأت الشفاعة في خده وقال:
غزا القلوب غزال
…
حجت إليه العيون
قد خط في الخد نوناً
…
وآخر الحسن نون قال الحجاري: وإكثار ابن عمار في المعذرين وإحسانه فيهم يدلك على أنه، كما قيل عنه، كان مشغوفاً بالكاس، والاستلقاء من غير نعاس.
31 -
وكان أبو الفضل ابن الأعلم (3) أجمل الناس وأذكرهم (4) في علم الأدب والنحو، وأقرأ علم النحو قبل أن يلتحي، فقال ابن صارة فيه:
(1) المغرب 1: 387 والوافي 2: 7 وزاد المسافر: 87 والتكلمة: 496.
(2)
المغرب 1: 388.
(3)
المغرب 1: 396.
(4)
م: وأذكاهم.
أكرم بجعفر اللبيب فإنه
…
ما زال يوضح مشكل الإيضاح
ماء الجمال بخده مترقرق
…
فالعين منه تجول في ضحضاح
ما خده جرحته عيني، وإنما
…
صبغت غلالته دماء جراحي
لله زاي زبرجد في عسجد
…
في جوهر في كوثر في راح
ذي طرة سبجية، ذي غرة
…
عاجية، كالليل والإصباح
رشأ له خد البريء ولحظه
…
أبداً شريك الموت في الأرواح 32 - وقال الرمادي (1) :
نوء وغيث مسبل
…
وقهوة تسلسل
تدور بين فتية
…
بخلقهم تمثل
والأفق من سحابه
…
طل ضعيف ينزل
كأنه من فضة
…
برادة تغربل وقال (2) :
بدر بدا يحمل شمساً بدت
…
وحدها في الحسن من حده
تغرب في فيه ولكنها
…
من بعد ذا تطلع في خده 33 - ومن نظم أبي الفضل ابن الأعلم السابق الذكر:
وعشية كالسيف إلا حده
…
بسط الربيع بها لنعلي خده
عاطيت كأس الأنس فيها واحداً
…
ما ضره أن كان جمعاً وحده وهو جعفر ابن الوزير أبي بكر محمد ابن الستاذ الأعلم، من رجال " القلائد "
(1) المغرب 1: 392 والأبيات في كتاب التشبيهات: 36.
(2)
المغرب: 393، والبيتان للصنوبري في الفوات 1: 112 وتهذيب ابن عساكر 1: 458 والوافي 7: 185.
و " المسهب " و " سمط الجمان "، وكان قاضي شنتمرية، والأستاذ الأعلم هو إمام نحاة زمانه أبو الحجاج يوسف بن عيسى من رجال الصلة والمسهب والسمط، وهو شارح الأشعار الست، ومن نظمه يخاطب المعتمد بن عباد:
يا من تملكني بالقول والعمل
…
ومبلغي في الذي أملته أملي
كيف الثناء وقد أعجزتني نعماً
…
ما لي بشكري عليها الدهر من قبل
رفعت للجود أعلاماً مشهرةً
…
فبابك الدهر منها عامر السبل 34 - وقال أبو علي إدريس بن اليماني العبدري (1) :
قبلة كانت على دهش
…
أذهبت ما بي من العطش
ولها في القلب منزلة
…
لو عدتها النفس لم تعش
طرقتني والدجى لبست
…
خلعاً من جلدة الحبش
وكأن النجم حين بدا
…
درهم في كف مرتعش وسأله المعتضد أن يمدحه بقصيدة يعارض بها قصيدته السينية التي مدح بها ابن حمود فقال له: أشعاري مشهورة، وبنات صدري كريمة، فمن أراد أن ينكح بكرها، فقد عرف مهرها، وكانت جائزته مائة دينار.
ومن مشهور شعره بالمغرب والمشرق قوله:
ثقلت زجاجات أتتنا فرغاً
…
حتى إذا ملئت بصرف الراح
خفت فكادت أن تطير بما حوت
…
وكذا الجسوم تخف بالأرواح 35 - وكانت بين الأديب الحسيب أبي عمرو ابن طيفور والحافظ الهيثم
(1) المغرب 1: 400 وانظر الجذوة: 160 والذخيرة 3: 115 والمسالك 11: 204.
مهاجاة، فقال فيه الحافظ (1) :
لابن طيفور قريض
…
فيه شوك وغموض
عدمت فيه القوافي
…
والمعاني والعروض وقال فيه ابن طيفور:
إنما الهيثم سفر
…
من كلام الناس ضخم
لا تطالبه بفهم
…
ليس للديوان فهم 36 - وقال أبو عمران ابن سعيد: أخبرني والدي أنه زار ابن حمدين بقرطبة في مدة يحيى بن غانية، [قال] : فوجدته في هالة من العلماء والأدباء، فقام وتلقاني، ثم قال: يا أبا عبد الله، ما هذا الجفاء فاعتذرت بأني أخشى التثقيل، وأعلم أن سيدي مشغول بما هو مكب عليه، فأطرق قليلاً ثم قال:
لو كنت تهوانا طلبت لقاءنا
…
ليس المحب عن الحبيب بصابر
فدع المعاذر إنما هي جنة
…
لمخادع فيها، ولست بعاذر فقلت: تصديق سيدي عندي أحب إلي وإن ترتبت علي فيه الملامة من منازعته منتصراً لحقي، فاستحسن جوابي، وقال لي: كرره فإنه والله ماح لكل ذنب، ثم سألته كتب البيتين عنه، فقال لي: وما تكتب فيهما فقلت: أليس في الإنعام ذلك لأجد ما أخبر به والدي إذا أبت إليه فأملاهما علي، فقلت: من قائلهما قال: قائلهما، فعلمت أنهما له، وقنعت بذلك.
529 -
وقال الحجاري صاحب " المسهب في أخبار المغرب ":
كم بت من أسر السهاد بليلة
…
ناديت فيها هل لجنحك آخر
(1) المغرب 1:
إذ قام هذا الصبح يظهر ملةً
…
حكمت بأن ذبح الظلام الكافر وعلى ذكر المسهب فقد كنت كثيراً ما أستشكل هذه التسمية، لما قال غير واحد: إن المسهب إنما هو بفتح الهاء، كقولهم سيل مفعم - بفتح العين - والفقرة الثانية وهي المغرب تقتضي أن يكون بكسر الهاء، ولم يزل ذلك يتردد في خاطري إلى أن وقفت على سؤال في ذلك رفعه المعتمد بن عباد سلطان الأندلس إلى الفقيه الأستاذ أبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى النحوي الشنتمري المشهور بالأعلم، ونص السؤال:
سألك - أبقاك الله - الوزير الكاتب أبو عمرو ابن غطمش، سلمه الله، عن المسهب وزعم أنك تقول بالفتح والكسر، والذي ذكر ابن قتيبة في أدب الكاتب والزبيدي في مختصر العين أسهب الرجل فهو مسهب إذا أكثر الكلام، بالفتح خاصةً، فبين لي - أبقاك الله تعالى - ما تعتقد فيه، وإلى أي كتاب تسند القولين، لأقف على صحة من ذلك.
فأجابه: وصل إلي - أدام الله تعالى توفيك - هذا السؤال العزيز، ووقفت على ما تضمنه، والذي ذكرته من قول ابن قتيبة والزبيدي في الكتابين موضوع كما ذكرته، والذي أحفظه وأعتقده أن المسهب بالفتح المكثر في غير صواب، وأن المسهب بالكسر البليغ المكثر من الصواب، إلا أني لا أسند ذلك إلى كتاب بعينه، ولكني أذكره عن أبي علي البغدادي من كتاب البارع أو غيره، معلقاً في عدة نسخ من كتاب البيان والتبيين على بيت في صدره لمكي بن سوادة وهو:
حصر مسهب جريء جبان
…
خير عي الرجال عي السكوت والمعلقة: تقول العرب: أسهب الرجل فهو مسهب وأحصن فهو محصن وألفج فهو ملفج، إذا افتقر، قال الخليل: يقال رجل مسهب ومسهب، قال أبو علي: أسهب الرجل فهو مسهب بالفتح إذا أكثر في
غير الصواب، وأسهب فهو مسهب بالكسر إذا أكثر وأصاب، قال أبو عبيدة: أسهب الرجل فهو مسهب إذا أكثر من خرف وتلف ذهن، وقال أبو عبيدة عن الأصمعي: أسهب الرجل فهو مسهب بالفتح إذا أخرف وأهتر، فإن أكثر من الخطإ قيل: أفند فهو مفند، انتهت المعلقة.
فرأي مملوكك - أيدك الله تعالى - واعتقاده أن المسهب بالفتح هو المكثر من الكلام بموجب أن المكثر هو البليغ المصيب، ألا ترى إلى قول الشاعر حصر مسهب أنه قرن فيه المسهب بالحصر وذمه بالصفتين، وجعل المسهب أحق بالعي من الساكت والحصر فقال:
خير عي الرجال عي السكوت
…
والدليل على أن المسهب بالكسر يقال للبليغ المكثر من الصواب أنهم يقولون للجواد من الخيل مسهب بالكسر خاصة لأنها بمعنى الإجادة والإحسان، وليس قول ابن قتيبة والزبيدي في المسهب بالفتح هو المكثر من الكلام بموجب أن المكثر هو البليغ المصيب، لأن الإكثار من الكلام داخل في معنى الذم، لأنه من الثرثرة والهذر، ألا تراهم قالوا: رجل مكثار، كما قالوا: ثرثار، ومهذار، وقال الشاعر:
فلا تمارون إن ماروا بإكثار
…
فهذا ما عندي، والله تعالى الموفق للصواب.
قال الأعلم: ثم نظمت السؤال العزيز والجواب المذكور، فقلت:
سلام الإله وريحانه
…
على الملك المجتبى المنتخل
سلام امرئ ظل من سيبه
…
خصيب الجناب رحيب المحل
أتاني سؤالك أعزز به
…
سؤال مبر على من سأل
يسأل عن حالتي مسهب
…
ومسهب المبتلى بالعلل
لم اختلفا في بناءيهما
…
وحكمهما واحد في فعل
أتى ذا على مفعل لم يعل
…
وذاك على مفعل قد أعل
فقلت مقالاًعلى صدقه
…
شهيد من العقل لا يستزل
بناء البليغ أتى سالماً
…
سلامته من فضول الخطل
وأسهب ذاك مسيئاً فزل
…
زليلاً ثنى متنه فانخذل
وأحسن ذا فجرى وصفه
…
على سنن المحسن المستقل
فهذا مقالي مستبصراً
…
ولست كمن قال حدساً فضل
تقلدت في رأيه مذهباً
…
يخصك بين الظبى والأسل
سموك في الروع مستشرفاً
…
إلى مهجة المستميت البطل
كأنك فيها هلال السما
…
يزيد بهاءً إذا ما أهل
بل أنت مطل كبدر السما
…
يمضي الظلام إذا ما أطل قلت: رأيت في بعض الحواشي الأندلسية: أن ابن السكيت ذكر في بعض كتبه ما جعله بعض العرب فاعلاً وبعضهم مفعولاً: رجل مسهب ومسهب، لكثير الكلام، وهذا يدل على أنهما بمعنى واحد، انتهى.
530 -
وسأل بعض الأدباء الأستاذ الأعلم المذكور عن المسألة الزنبورية، المقترنة بالشهادة الزورية، الجارية بين سيبويه والكسائي أو الفراء، والقضاء بينهم فيها، وهي ظننت أن العقرب أشد لسعةً من الزنبور، فإذا هو هي، أو إياها، وعن نسب سيبويه: هل هو صريح أم مولى وعن سبب لزومه الخليل بعد أن كان يطلب الحديث والتفسير، وعن علة تعرضه لمناظرة الكسائي والفراء، وعن كتابه الجاري بين الناس: هل هو أول كتاب أو أنشأه بعد كتاب أول ضاع كما زعم بعض الناس
فأجاب: أما المسألة الزنبورية المأثورة بين سيبويه والكسائي. أو بينه وبين
الفراء على حسب الاختلاف في ذلك، بحضرة الرشيد، أو بحضرة يحيى بن خالد البرمكي فيما يروى، فقد اختلفت الرواة فيها: فمنهم من زعم أن الكسائي أو الفراء قال لسيبويه: كيف تقول ظننت أن العقرب أشد لسعةً من الزنبور، فإذا هو هي، ففيها من الاختلاف عنهم ما ترى، فإن كان أجاب بإذا هو هي، فقد أصاب لفظاً ومعنى، ولم تدخل عليه في جوابه شبهة، ولا علقة لمعترض، لأن إذا في المسألة من حروف الابتداء المتضمنة للتعليق بالخبر، فإذا اعتبرت المضمرين بعدها بالاسمين المظهرين لزمك أن تقول فإذا الزنبور العقرب أو اللسعة اللسعة أي مثلها سواء، فلو قلت فإذا هو إياها بنصب الضمير الأخير للزمك أن تقول: فإذا الزنبور العقرب، بالنصب، وهذا لا وجه له، فإذا لم يجز نصب الخبر المضمر الواقع موقعه ويروى في المسألة أن الكسائي أو الفراء قال لسيبويه بعد أن أجاب برفع الضميرين على ما يوجبه القياس: كيف تقول يا بصري خرجت فإذا زيد قائم، أو قائماً فقال سيبويه: أقول قائم ولا يجوز النصب، فقال الكسائي: أقول قائم وقائماً، والقائم والقائم، بالرفع والنصب في الخبر مع النكرة والمعرفة، فتأول الكسائي والفراء في اختيارهما فإذا هو إياها حمل الخبر المضمر في النصب على الخبر المظهر المعرفة مع الإعراب بوجه النصب، فكأنه قال: فإذا الزنبور العقرب، كما: فإذا زيد القائم، فيجري المعرفة في النصب مجرى النكرة، وقولهما في هذا خطأ من جهتين: إحداهما: أن نصب الخبر بعد إذا لا يكون إلا بعد تمام الكلام الأول في الاسم مع حرف المفاجأة، ومع كون الخبر نكرة، كقولك: خرجت فإذا زيد قائماً، لأنك لو قلت خرجت فإذا زيد تم الكلام، لتعلق المفاجأة بزيد على معنى حضوره، ثم تبين حاله في المفاجأة المتعلقة به فتقول قائماً أي: خرجت ففاجأني زيد في هذا الحال
وقوله في المسألة إياها لا يتم الكلام في الاسم الأول دونها، ألا ترى أنك لو قلت: ظننت أن العقرب أشد لسعةً من الزنبور فإذا هو وسكت، لم يتم الكلام أولاً، ولا أفدت بذكر المفاجأة وتعليقها بالزنبور فائدة، وإنما المفاجأة للضمير الآخر، فلا بد من ذكره والاعتماد عليه، وهذا يوجب الرفع في الخبر؛ لأن الظرف له، لا للمخبر عنه، فهذا بين واضح، والجهة الأخرى في غلطهما أن إياها معرفة، والحال لا تكون إلا نكرة، فقد اجتمع في قولهما أن أتيا بحالٍ لم يتم الكلام دونها، معرفة، والحال لا تكون إلا بعد تمام الكلام ومع التنكير، فقد تبين خطؤهما وإصابة سيبويه في لزوم الرفع في الخبر فقط.
وأما من زعم عن سيبويه أنه قال خرجت فإذا زيد قائم بالرفع لا غير باطل، وكيف ينسب إليه وهو علمنا أن الظرف إذا كان مستقراً للاسم المخبر عنه نصب الخبر، وإذا كان مستقراً للخبر رفع الخبر، ونحن نقول: خرجت فإذا زيد فيتم الكلام، ونظرت فإذا الهلال طالع فيتبعه الخبر رفعاً، كما تقول في الدار زيد قائم، وقائماً واليوم سيرك سريع، وسريعاً، ولكن الخبر إذا كان الظرف له ولم يتعلق إلا به لم يكن إلا رفعاً، كقولك اليوم زيد منطلق، وغداً عمرو خارج لأن الظرف لا يكون مستقراً للاسم المخبر عنه إذا كان زماناً، والمخبر عنه جثة، وكذلك المفاجأة إذا كانت للخبر لم يكن إلا مرفوعاً، معرفة كان أو نكرة، فإذا كانت للمخبر عنه والخبر نكرة انتصب على الحال، فجرى قولك ظننت أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي، وظننت زيداً عالماً فإذا هو جاهل في لزوم الرفع في الخبر مجرى اليوم زيد منطلق، وغداً عمرو خارج كما جرى خرجت فإذا زيد قائم، وقائماً في جواز الرفع والنصب مجرى في الدار زيد جالس وجالساً، فتأمل الفرق بينهما وحصله، فإن النحويين المتقدمين والمتأخرين قد أغفلوا الفرق بين المفاجأتين.
وأما نصب الخبر المعرفة بعد إذ، تم الكلام أو لم يتم، فباطل لا تقوله
العرب، ولا يجيزه إلا الكوفيون.
وإن كان سيبويه رحمه الله تعالى أجاب بقوله: فإذا هو إياها كما روى بعضهم فظاهر جوابه مدخول، لما قدمت، والخطأ فيه بين من جهة القياس كما ذكرنا، فإن كان قاله والتزمه دون الرفع فقد أخطأ خطأً لا مخرج له منه، وإن كان قد قاله وهو أن الرفع أولى وأحق، إلا أنه آثر النصب للإعراب حملاً على المعنى الخفي، دون ما يوجبه القياس واللفظ الجلي، فلجوابه عندي وجهان حسنان:
أحدهما: أن يكون الضمير المنصوب وهو إياها كنايةً عن اللسعة، لا عن العقرب، والضمير المرفوع كناية عن الزنبور، فكأنه قال ظننت أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا الزنبور لسعة العقرب، أي فإذا الزنبور يلسع لسعة العقرب، فاختزل الفعل لما تقدم من الدليل عليه، بعد أن أضمر اللسعة متصلة بالفعل، فكأنه قال فإذا الزنبور يلسعها فاتصل الضمير بالفعل لوجوده، فلما اختزل الفعل انفصل الضمير، لعدم الفعل.
ونظير هذا من كلام العرب قولهم إنما أنت شرب الإبل أي: إنما أنت تشرب شرب الإبل، فاختزل الفعل، وبقي عمله في المصدر، ولم يرفع لأنه غير الاسم الأول، فلو أضمرت شرب الإبل بعدما جرى ذكره فقلت ما يشرب زيد شرب الإبل، إنما أنت تشربه لاتصل الضمير بالفعل، فلو حذفته لانفصل الضمير فقلت إنما أنت إياه فتدبره تجده منقاداً صحيحاً.
والوجه الآخر: أن يكون قوله فإذا هو إياها محمولاً على المعنى الذي اشتمل عليه أصل الكلام من ذكر الظن أولاً وآخراً، لأن الأصل في تأليف المسألة ظننت أن العقرب أشد لسعةً من الزنبور فلما لسعني الزنبور ظننته هو إياها فاختصر الكلام لعلم المخاطب، وحذف الظن آخراً لما جرى من ذكره أولاً، ودلت إذا لما فيها من المفاجأة على الفعل الواقع بعد لما الدالة على وقوع الشيء لوقوع غيره، فإذا جاز حذف الكلام إيثاراً للاختصار مع وجود الدليل على
المحذوف كان قولنا فإذا هو إياها بمنزلة قولنا فلما لسعني الزنبور ظننته هو إياها فحذف الظن مع مفعوله الأول، وبقي الضمير الذي هو العماد والفصل مؤكداً للضمير المحذوف مع الفعل ودالاً على ما يأتي بعده من الخبر المحتاج إليه، فيكون في حذف المخبر عنه لما تقدم من الدليل عليه مع الإتيان بالعماد والفصل المؤكد له المثبت لما بعده من الخبر المحتاج إليه مثل قوله " ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم " فحذف البخل الذي هو المفعول الأول لقوله يحسبن وبقي الضمير مؤكداً له مثبتاً لما بعده من الخبر، وجاز حذفه لدلالة يبخلون عليه، والمعنى: لا يحسبن الذين يبخلون البخل هو خيراً لهم، فهو في المسألة عماد مؤكد لضمير الزنبور المحمول على الظن المضمر ومثبت لما يجيء بعده من الخبر الذي هو إياها فتفهمه فإنه متمكن من جهة المعنى، وجارٍ من الاختصار لعلم المخاطب على قياس وأصل، وشاهده القرآن في الحذف واستعمال العرب النظائر، وهي أكثر من أن تحصى، فمنها قولهم ما أغفله عنك شيئاً أي تثبت شيئاً ودع الشك، وقولهم لمن أنكر عليه ذكر إنسان ذكره من أنت زيداً أي: من أنت تذكر زيداً، وربما قالوا من أنت زيد بالرفع على تقدير: من أنت ذكرك زيد، فحذفوا الفعل مرة وأبقوا عمله، وحذفوا المبتدأ أخرى وأبقوا خبره، وكل ذلك اختصار، لعلم المخاطب بالمعنى، وكذلك قولهم هذا ولا زعماتك أي هذا القول والزعم الحق ولا أتوهم زعماتك، فحذف هذا لعلم السامع مع تحصل المعنى وقيامه عند المخاطب، والحمل في كلامهم على المعنى أكثر من أن يحصى.
فإن كان الضمير الأول في المسألة للزنبور والضمير الآخر للعقرب لم يجز البتة إلا رفع الضميرين بالابتداء والخبر، على حد قولك ظننت زيداً عاقلاً فإذا هو أحمق، وحسبت عبد الله قاعداً فإذا هو قائم ولو تقدم ذكر الخبر والمخبر عنه لقلت فإذا هو هو ولم يجز فإذا هو إياه البتة. ويجوز في المسألة
إذا قلت: فإذا هو، لأبى أن يكون الضمير للزنبور والعقرب على حد قولك الزنبور العقرب ويجوز أن تقول فإذا هي هو على التقديم والتأخير على حد قولك فإذا العقرب الزنبور أي سواء في شدة اللسعة كما تقول خرجت فإذا قائم زيد على تقدير فإذا زيد قائم، ويجوز أن يكون هو كناية عن اللسع بدلالة اللسعة عليه، وتكون هي كناية على اللسعة على تقدير: فإذا لسع الزنبور لسعة العقرب، ويجوز فإذا هي هو على إضمار اللسعة واللسع، والتقدير: فإذا لسعة الزنبور لسع العقرب، وهذا كله لا يجوز فيه إلا الرفع عند البصريين، لن الآخر هو الأول، والخبر معرفة متعلق بالمفاجأة فلا يجوز فيه الحال، والكوفيون يجيزون النصب كما تقدم، وهو غلط بين، وخطأ فاحش، لا تقوله العرب، ولا تعلق له بقياس، فاعلمه.
ويجوز في المسألة فإذا هو هو على تقدير: فإذا اللسع اللسع، ويجوز فإذا هي هي على تقدير: فإذا اللسعة اللسعة، وفي هذا كفاية إن شاء الله تعالى.
وأما نسب سيبويه ففارسي مولى لبني حارث بن كعب بن علة بن خلدة ابن مالك، وهو مذحج، واسمه عمرو بن عثمان بن قنبر، وكنيته أبو بشر، ولقبه الذي شهر به سيبويه، ومعناها بالفارسية رائحة التفاح، وكان من أطيب الناس رائحة، وأجملهم وجهاً، وقيل: معنى سي ثلاثون، ومعنى بويه رائحة، فكأن معناها: الذي ضوعف طيب رائحته ثلاثين مرة.
وأما سبب تعويله على الخليل في طلب النحو - مع ما كان عليه من الميل إلى التفسير والحديث - فإنه سأل يوماً حماد بن سلمة فقال له: أحدثك هشام ابن عروة عن أبيه في رجل رعف في الصلاة، بضم العين، فقال له حماد: أخطأت، إنما هو رعف بفتح العين، فانصرف الخليل، فشكا إليه ما لقيه من حماد، فقال له الخليل: صدق حماد، ومثل حماد يقول هذا، ورعف بضم العين لغة ضعيفة، وقيل: إنه قدم البصرة من البيداء من قرى شيراز من عمل فارس، وكان مولده ومنشؤه بها، ليكتب الحديث ويرويه، فلزم حلقة حماد
ابن سلمة، فبينما هو يستملي على حماد قول النبي صلى الله عليه وسلم:" ليس من أصحابي إلا من لو شئت لأقدت عليه، ليس أبا الدرداء " فقال سيبويه: ليس أبو الدرداء بالرفع، وخمنه اسم ليس، فقال له حماد: لحنت يا سيبويه، ليس هذا حيث ذهبت، إنما ليس ههنا استثناء، فقال سيبويه: سأطلب علماً لا تلحنني فيه، فلزم الخليل، وبرع في العلم.
وأما سبب وفوده على الرشيد ببغداد وتعرضه لمناظرة الكسائي والفراء، فلما كانا عليه من تمكن الحال، والقرب من السلطان، وعلو همته، وطلبه للظهور مع ثقته بعلمه؛ لأنه كان أعلم أهل زمانه، وكان بينه وبين البرامكة أقوى سبب، فوفد على يحيى بن خالد بن برمك وابنيه جعفر والفضل، فعرض عليهم ما ذهب إليه من مناظرة الكسائي وأصحابه، فسعوا له في ذلك، وأوصلوه إلى الرشيد، فجرى بينه وبين الكسائي والفراء ما ذكر واشتهر، وكان آخر أمره أن الكسائي وأصحابه لما ظهروا عليه بشهادة الأعراب على حسب ما لقنوا أن قال يحيى بن خالد أو الكسائي للرشيد، ياأمير المؤمنين، إن رأيت أن لا يرجع خائباً فعلت، فأمر له بعشرة آلاف درهم، وانصرف إلى الأهواز، ولم يعرج على البصرة، وأقام هنالك مدةً إلى أن مات كمداً، ويروى أنه ذربت معدته فمات، فيرون أنه مات غماً، ويروى أن الكسائي لما بلغه موته قال للرشيد: ده يا أمير المؤمنين فإني أخاف أن أكون شاركت في دمه، ولما احتضر وضع رأسه في حجر أخيه فقطرت دمعة من دموعه على خده، فرفع عينيه وقال:
أخيين كنا فرق الدهر بيننا
…
إلى الأمد الأقصى، ومن يأمن الدهرا ومات على السنة والجماعة، رحمه الله تعالى.
وأما كتابه الجاري بين الناس فلم يصح أنه أنشأه بعد كتاب آخر قبله، على أن ذلك قد ذكر.
فهذا ما حضر فيما سألت عنه؛ فمن قرأه وأشرف فيه على تقصير فليبسط
العذر فإنه لساعتين من نهار، إملاء يوم الثلاثاء عشي النهار لثمان خلون لصفر سنة 476، انتهى.
531 -
وقال الإلبيري، رحمه الله تعالى (1) :
لا شيء أخسر صفقةً من عالم
…
لعبت به الدنيا مع الجهال
فغدا يفرق دينه أيدي سبا
…
ويذيله حرصاً بجمع المال
لا خير في كسب الحرام، وقلما
…
يرجى الخلاص لكاسبٍ الحلال
فخذ الكفاف ولا تكن ذا فضلةٍ
…
فافضل تسأل عنه أي سؤال 532 - وكان أبو الفضل ابن الأعلم من أحسن الناس وجهاً، وأذكرهم في علم النحو والأدب، وأقرأ النحو في صباه، وفيه يقول ابن صارة الأندلسي، رحمه الله تعالى (2) :
أكرم بجعفرٍ اللبيب فإنه
…
ما زال يوضح مشكل الإيضاح
ماء الجمال بوجهه مترقرقٌ
…
فالعين منه تجول في ضحضاح
ما خده جرحته عيني، إنما
…
صبغت غلالته دماء جراحي
لله زاي زبرجدٍ في عسجدٍ
…
في جوهرٍ في كوثرٍ في راح
ذي طرة سبجية، ذي غرةٍ
…
عاجية، كالليل والإصباح
رشأ له خد البريء، ولحظه
…
أبداً شريك الموت في الأرواح (3) 533 - وقال محمد بن هانئ الأندلسي من قصيدة (4) :
السافرات كأنهن كواكبٌ
…
والناعمات كأنهن غصون
(1) ديوان الإلبيري: 81.
(2)
قد مر هذا ص: 73 - 74 من هذا الجزء.
(3)
زاد في م بعده: وقد سبقت هذه الأبيات قبل هذا.
(4)
ديوان ابن هانئ: 171.
ماذا على حلل الشقيق لو أنها
…
عن لابسيها في الخدود تبين
لأعطشن الروض بعدهم ولا
…
يرويه لي دمعٌ عليه هتون
أأعير لحظ العين بهجة منظرٍ
…
وأخونهم أني إذاً لخؤون
لا الجو جو مشرقٌ وإن اكتسى
…
زهواً، ولا الماء المعين معين
لا يبعدن إذ العبير له ثرى
…
والبان روح، والشموس قطين
الظل لا متنقلٌ، والحوض لا
…
متكدرٌ، والأمن لا ممنون 534 - وقال القسطلي في أسطول أنشأه المنصور بن أبي عامر من قصيدة (1) :
تحمل منه البحر بحراً من القنا
…
يروع بها أمواجه ويهول
بكل ممالات الشراع كأنها
…
وقد حملت أسد الحقائق غيل
إذا سابقت شأو الرياح تخيلت
…
خيولاً مدى فرسانهن خيول
سحائب تجزيها الرياح فإن وفت
…
أطافت بأجياد النعام فيول
ظباء سمام مالهن مفاحصٌ
…
وزرقٍ حمام ما لهن هديل
سواكن في أوطانهن كأن سما
…
بها الموج حيث الراسيات نزول
كما رفع الآل الهوادج بالضحى
…
غداة استقلت بالخليط حمول
أراقم تحوي ناقع السم ما لها
…
بما حملت دون العداة مقيل وقد أطنب الناس في وصف السفن وأطابوا، وقرطسوا القريض وأصابوا، ووقد ذكرنا نبذة في ذلك من هذا الكتاب.
535 -
وقال أبو بحر صفوان بن إدريس التجيبي: حدثني بعض الطلبة بمراكش أن أبا العباس الجراوي كان في حانوت وراق بتونس، وهناك فتى يميل إليه، فتناول الفتى سوسنة صفراء، وأومأ بها إلى خديه مشيراً، وقال: أين الشعراء تحريكاً للجراوي، فقال ارتجالاً:
(1) ديوان ابن دراج: 5.
وعلوي الجمال إذا تبدى
…
أراك جبينه بدراً أنارا
أشار بسوسنٍ يحكيه عرفاً
…
ويحكي لون عاشقه اصفرارا قال أبو بحر: ثم سألني أن أقول في هذا المعنى، فقلت بديهاً:
أومى إلى خده بسوسنةٍ
…
صفراء صيغت من وجنتي عبده
لم تر عيني من قبله غصناً
…
سوسنه نابتٌ إذا ورده
أعملت زجري فقلت ربتما
…
قرب خد المشوق من خده فحدثني المذكور أنه اجتمع مع أبي بكر ابن يحيى بن مجبر، رحمه الله تعالى، قبل اجتماعه بي في ذلك الموضع الذي اجتمع فيه بي بعينه، فحدثه بالحكاية كما حدثني، وسأله أن يقول في تلك الحال، فقال بديهاً:
بي رشأ وسنان مهما انثنى
…
حار قضيب البان في قده
مذ ولي الحسن وسلطانه
…
صارت قلوب الناس من جنده
أودع في وجنته زهرةً
…
كأنها تجزع من صده
وقد تفاءلت على فعله
…
أني أرى خدي على خده فتعجبت من توارد خاطرينا على معنى هذا البيت الأخير.
قال أبو بحر: ثم قلت في تلك الحال:
أبرز من وجنته وردةً
…
أودعها سوسنةً صفرا
وإنما صورته آيةٌ
…
ضمنها من سوسنٍ عشرا 536 - وقال بعضهم (1) في الباذنجان:
ومستحسن عند الطعام مدحرج
…
غذاه نمير الماء في كل بستان
(1) بعض شعراء الأندلس.
تطلع في أقماعه فكأنه
…
قلوب نعاجٍ في مخاليب عقبان 537 - وقال ابن خروف، ويقال أنها في وصف دمشق:
إذا رحلت عروبة عن حماها
…
تأوه كل أواه حليم
إلى سبتٍ حكى فرعون موسى
…
يجمع كل سحار عليم
فتبصر كل أملود قويمٍ
…
يميس بكل ثعبانٍ عظيم
إذا انسابت أراقمها عليها
…
تذكرنا بها ليل السليم
وشاهدنا بها في كل حينٍ
…
حبالاً ألقيت نحو الكليم 538 - وقال أبو القاسم ابن هشام (1) ارتجالاً في وسيم عض وردة ثم رمى بها، وسئل ذلك منه امتحاناً:
ومعجز الأوصاف والوصاف في
…
بردي جمالٍ طرزا بالتيه
سوسان أنمله تناول وردةً
…
فغدا يمزقها أقاحي فيه
فكأنني شبهت وجنته بها
…
فرما بها غضباً على التشبيه وقال أيضاً (2) فيمن عض كلبٌ وجنته:
وأغيد وضاح المحاسن باسمٍ
…
إذا قامر الأسياف ناظره قمر
تعمد كلب عض وجنته التي
…
هي الورد إيناعاً وأبقى بها أثراً
فقلت لشهب الأفق كيف صماتكم
…
وقد أثر العواء في صفحة القمر 539 - وقال آخر يصف شجة في خد وسيم:
عذيري من ذي صفحةٍ يوسفية
…
بها شجةٌ جلت عن اللثم واللمس
(1) ترجمة أبي القاسم ابن هشام في زاد المسافر: 62.
(2)
م: وقال آخر.
يقولون من عجب: أتحسن وصفها
…
فقلت: هلال لاح في شفق الشمس 540 - وقال القاضي أبو الوليد الوقشي فيمن طر شاربه (1) :
قد بينت فيه الطبيعة أنها
…
لبديع أفعال المهندس باهره
عنيت بمبسمه فخطت فوقه
…
بالمسك خطاً من محيط الدائرة 541 - وقال أبو الحسن ابن عيسى:
عابوه أسمر ناحلاً ذا ذرقةٍ
…
رمداً وظنوا أن ذاك يشينه
جهلوا بأن السمهري شبيهه
…
وخطابه بدم القلوب يزينه 542 - وقال الأستاذ أبو ذر الخشني:
أنكر صحبي إذ رأوا طرفه
…
ذا حمرة يشفى بها المغرم
لا تنكروا ما احمر من طرفه
…
فالسيف لا ينكر فيه الدم 543 - وقال أبو عبد الله محمد (2) بن أبي خالص الرندي:
يا شادناً برز العذار بخده
…
وازداد حسناً، ليته لم يبرز
الآن أعلم حين جد بي الهوى
…
كم بين مختصرٍ وبين مطرز 544 - وقال أبو الحسين عبد الملك بن مفوز المعافري:
ومعذرٍ من خده ورقيبه
…
شغلان حلا عقد كل عزيمة
خد وخب عيل صبري منهما
…
هذا بنمنمةٍ وذا بنميمة 545 - وقال أبو الوليد ابن زيدون فيمن أصابه جدري (3) :
(1) مر البيتان، انظر ج 3:376.
(2)
محمد: سقطت من م.
(3)
ديوان ابن زيدون: 124.
قال لي اعتل من هويت حسود
…
قلت: أنت العليل ويحك لا هو
ما الذي قد نكرت من بثرات
…
ضاعفت حسنه وزانت حلاه
جسمه في الصفاء والرقة الما
…
ء فلا غرو أن حبابٌ علاه 546 - وقال الهيثم (1) :
قالوا: به جربٌ فقلت لهم قفوا
…
تلك الندوب مواقع الأبصار
هو روضةٌ والقد غصنٌ ناعمٌ
…
أرأيتم غصناٌ بلا نوار 547 - وقال أبو بكر محمد بن عياض القرطبي (2) في مخضوبة الأنامل:
وعلقتها فتانةً أعطافها
…
تزري بغصن البانة المياد
من للغزالة والغزال بحسنها
…
فى الخد أو في العين أو في الهادي
خضبت أناملها السواد وقلما
…
أبصرت أقلاماً بغير مداد 548 - وقال أبو الحسين النفزي (3) :
بدا يوسفاً وشدا معبداً
…
فللعين ما تشتهي والأذن
كأن بأعلاه قمريةً
…
تغرد من قده في غصن 549 - وقال ابن صارة:
مقام حر بأرض هونٍ
…
عجزٌ لعمري من المقيم
سافر فإن لم تجد كريماً
…
فمن لئيمٍ إلى لئيم
(1) زاد في م: في من اعتل بجرب.
(2)
ترجمته في التكملة: 515.
(3)
م: وقال أبو الحسن النفزي في مهفهف أهيف.
550 -
[أشعار المعتمد]
وقال المعتمد بن عباد، رحمه الله تعالى (1) :
مولاي اشكو إليك داءً
…
أصبح قلبي به قريحا
سخطك قد زادني سقاماً
…
فابعث إلي الرضى مسيحا قال بعضهم: وقوله مسيحا من القوافي التي يتحدى بها.
وكتب إلى أبيه جواباً عن تحفة (2) :
يا مالكاً قد أصبحت كفه
…
ساحرةً بالعارض الهاطل
قد أفحمتني منةٌ مثلها
…
يضيق القول على القائل
وإن أكن قصرت في وصفها
…
فحسنها عن وصفها شاغلي وكتب إلى وزيره ابن عمار:
لما نأيت نأى الكرى عن ناظري
…
وودته لما انصرفت عليه
طلب البشير بشارةً يجزى بها
…
فوهبت قلبي واعتذرت إليه وقال في جارية له كان يحبها، وبينما هي تسقيه إذ لمع البرق فارتاعت:
يروعها البرق وفي كفها
…
برقٌ من القهوة لماع
يا ليت شعري وهي شمس الضحى
…
كيف من الأنوار ترتاع ومن توارد الخواطر أن ابن عباد أنشد عبد الجليل بن وهبون البيت الأول، وأمره أن يذيله، فقال:
ولن ترى أعجب من آنسٍ
…
من مثل ما يمسك يرتاع
(1) ديوان المعتمد: 33.
(2)
وردت هذه القطع في ديوان المعتمد 42، 63، 31، 12، 14، 19، 3، 10، 25، 7.
وقال المعتمد، رحمه الله تعالى:
داوى ثلاثته بلطف ثلاثة
…
فثنى بذاك رقيبه لم يشعر
أسراره بتستر، وأوراه
…
بتصبر، وخباله بتوقر وكانت له جارية اسمها " جوهرة " وكان يحبها، فجرى بينهما عتاب، ورأى أن يكتب إليها يسترضيها، فأجابته برقعة لم تعنونها باسمها، فقال:
لم تصف لي بعد وإلا فلم
…
لم أرى في عنوانها جوهرة
درت بأني عاشقٌ لاسمها
…
فلم ترد للغيظ أن تذكره
قالت: إذا أبصره ثابتاً
…
قبله، والله لا أبصره وقال في هذه الجارية:
سرورنا بعدكم ناقصٌ
…
والعيش لا صافٍ ولا خالص
والسعد إن طالعنا نجمه
…
وغبت (1) فهو الآفل الناكص
سموك بالجوهر مظلومةُ
…
مثلك لا يدركه غائص وقال فيها أيضاً:
جوهرةٌ عذبني
…
منك تمادي الغضب
فزفرتي في صعدٍ
…
وعبرتي في صبب
يا كوكب الحسن الذي
…
أزرى بزهر له الشهب
مسكنك القلب، فلا
…
ترضى له بالوصب وقال في جاريت اسمها وداد:
اشرب الكأس في وداد ودادك
…
وتأنس بذكرها في انفرادك
(1) ق: وغيث.
قمرٌ غاب عن جفونك مرآ
…
هـ وسكناه في سواد فؤادك وقال (1) :
لك الله كم أودعت قلبي من أسى
…
وكم لك ما بين الجوانح من كلم
لحظاك طول الدهر حربٌ لمهجي
…
ألا رحمةٌ تثنيك يوماً إلى سلمي وقال:
قلت متى ترحمني
…
قال: ولا طول الأبد
قلت: فقد أيأسني
…
من الحياة، قال: قد 551 - وأهدى أبو الوليد ابن زيدون باكورة تفاحٍ إلى المعتضد والد المعتمد، وكتب له معها (2) :
يا من تزينت الريا
…
سة حين ألبس ثوبها
جاءتك جامدة المدا
…
م فخذ عليها ذوبها 552 - وقال المعتمد وقد أمره أبوه المعتضد أن يصف مجناً فيه كواكب فضة (3) :
مجنٌّ حكى صانعوه السما
…
لتقصر عنه طوال الرماح
وقد صوروا فيه شبه الثريا
…
كواكب تقضي له بالنجاح 553 - وقال ابن اللبانة: كنت بين يدي الرشيد ابن المعتمد في مجلس أنسه، فورد الخبر بأخذ يوسف بن تاشفين غرناطة سنة 483، فتفجع وتلهف،
(1) سقط البيتان من م.
(2)
ديوان ابن زيدون: 221.
(3)
ديوان المعتمد: 29.
واسترجع وتأسف، وذكر قصر غرناطة فدعونا لقصره بالدوام، ولملكه بتراخي الأيام، وأمر عند ذلك أبا بكر الإشبيلي بالغناء، فغنى:
يا دار مية بالعلياء فالسند
…
أقوت وطال عليها سالف الأمد فاستحالت مسرته، وتجهمت أسرته، وأمر بالغناء من ستارته، فغنى:
إن شئت أن لا ترى صبراً لمصبرٍ
…
فانظر على المقليَّن من أهل المروءات
أنَّ اعتذاري إلى من جاء يسألني
…
ما لست أملك من إحدى المصيبات قال: فتلافيت الحال بأن قلت:
محلٌّ مكرمة لا هدّ مبناه
…
وشمل مأثرةٍ لا شتت (1) الله
البيت كالبيت لكن زاد ذا شرفاً
…
أن الرشيد مع المعتمد ركناه
ثاوٍ على أنجم الجوزاء مقعده
…
وراحلٌ في سبيل السعد مسراه
حتم على الملك أن يقوى وقد وصلت
…
بالشرق والغرب يمناه ويسراه
بأسٌ توقد، فاحمرت لواحظه
…
ونائلٌ شبَّ، فاخضرت عذراه فلعمري لقد بسطت من نفسه، وأعادت عليه بعض أنسه، على أني وقعت فيما وقع فيه الكل لقولي " البيت كالبيت ". وأمر إثر ذلك أبا بكر بالغناء، فغنى:
ولما قضينا من منىً كل حاجةٍ
…
ولم يبق إلا أن تزم الركائب
(1) ب: لا شته.
فأيقنا أن هذا التطير، يعقبه التغير.
554 -
وقد كان المعتضد بن عباد - حين تصرمت أيامه، وتدانى حمامه - استحضر مغنياً يغنيه ليجعل ما يبدأ به فألاً، وكان المغني السوسي، فأول شعر قاله:
نطوي المنازل علماً أن ستطوينا
…
فشعشعيها بماء المزن واسقينا فمات بعد خمسة أيام، وكان الغناء من هذا الشعر في خمسة أبيات:
555 -
وقال المعتمد بعدما خلع وسجن (1) :
قبح الدهر فماذا صنعا
…
كلما أعطى نفيساً نزعا
قد هوى ظلماً بمن عاداته
…
أن ينادي كل من يهوي: لعا
من إذا قيل الخنى صم، وإن
…
نطق العافون همساً سمعا
قل لمن يطمع في نائله
…
قد أزال اليأس ذاك الطمعا
راح لايملك إلا دعوةً
…
جبر الله العفاة الضيعا 556 - وقال ابن اللبانة: كنت مع المعتمد بأغمات، فلما قاربت الصدر، وأزمعت السفر، صرف حيله، واستنفد ما قبله، وبعث إلي مع شرف الدولة ولده - وهذا من بنيه أحسن الناس سمتاً، وأكثرهم صمتاً، تخجله اللفظة، وتجرحه اللحظة، حريص على طلب الأدب، مسارع في إقتناء الكتب، مثابر على نسخ الدواوين، مفتح فيها من خطه زهر الرياحين - بعشرين مثقالاً مرابطية، وثوبين غير مخيطين، وكتب معها أبياتاً منها (2) :
إليك النزر من كف الأسير
…
وإن تقنع تكن عين الشكور
(1) ديوان المعتمد: 108.
(2)
ديوانه: 102.
تقبل ما يذوب له حياءً
…
وإن عذرته حالات الفقير فامتنعت من ذلك عليه، وأجبته بأبيات منها:
تركت هواك وهو شقيق ديني
…
لئن شقت برودي عن غدور
ولا كنت الطليق من الرزايا
…
إذا أصبحت أجحف بالأسير
جذيمة أنت، والزباء خانت
…
وما أنا من يقصر عن قصير
تصرف في الندى حيل المعالي
…
فتسمح من القليل بالكثير
وأعجب منك أنك في ظلامٍ
…
وترفع للعفاة منار نور
رويدك سوف توسعني سروراً
…
إذا عاد ارتقاؤك للسرير
وسف تحلني رتب المعالي
…
غداة تحل في تلك القصور
تزيد على ابن مروانٍ عطاءً
…
بها وأزيد ثم على جرير
تأهب أن تعود إلى طلوعٍ
…
فليس الخسف ملتزم البدور وأتبعتها أبياتاً منها:
حاشا لله أن أجيح كريماً
…
يتشكى فقراً وقد سد فقرا
وكفاني كلامك الرطب نيلاً
…
كيف ألغي دراً وأطلب تبرا
لم تمت إنما المكارم ماتت
…
لا سقى الله بعدك الأرض قطرا ورأى ابن اللبانة أحد أبناء المعتمد، وهو غلام وسيم، وقد اتخذ الصياغة صناعة، وكان يلقب أيام سلطانهم من الألقاب السلطانية بفخر الدولة، فنظر إليه وهو ينفخ الفحم بقصبة الصائغ، وقد جلس في السوق يتعلم الصياغة، فقال:
شكاتنا لك يا فخر العلا عظمت
…
والرزء يعظم ممن قدره عظما
طوقت من نائبات الدهر مخنقةً
…
ضاقت عليك وكم طوقتنا نعما
وعاد طوقك في دكان قارعةٍ
…
من بعد ما كنت في قصر حكى إرما
صرفت في آلة الصواغ أنملةٌ
…
لم تدر إلا الندى والسيف والقلما
يدٌ عهدتك للتقبيل تبسطها
…
فتستقل الثريا أن تكون فما
يا صائغاً كانت العليا تصاغ له
…
حلياً وكان عليه الحلي منتظما
للنفخ في الصور هولٌ ما حكاه سوى
…
هولٍ رأيتك فيه تنفخ الفحما
وددت إذ نظرت عيني إليك به
…
لو أن عيني تشكو قبل ذاك عمى
ما حطك الدهر لما حط عن شرفٍ
…
ولا تحيف من أخلاقك الكرما
لح في العلا كوكباً، إن لم تلح قمراً
…
وقم بها ربوة، إن لم تقم علما
واصبر فربما أحمدت عاقبةً
…
من يلزم الصبر يحمد غب ما لزما
والله لو أنصفتك الشهب لانكسفت
…
ولو وفى لك دمع الغيث لانسجما
أبكى حديثك حتى الدر حين غدا
…
يحكيك رهطاً وألفاظاً ومبتسما 557 - وقال لسان الدين بن الخطيب رحمه الله تعالى (1) : وقفت على قبر المعتمد بن عباد بمدينة أغمات في حركة راحة أعملتها إلى الجهات المراكشية، باعثها لقاء الصالحين ومشاهدة الآثار سنة761، وهو بمقبرة أغمات في نشز من الأرض، وقد حفت به سدرة، وإلى جانبه قبر اعتماد حظيته مولاة رميك، وعليهما هيئة التغرب ومعاناة الخمول من بعد الملك، فلا تملك العين دمعها عند رؤيتها، فأنشدت في الحال:
قد زرت قبرك عن طوعٍ بأغمات
…
رأيت ذلك من أولى المهمات
لم لا أزورك يا أندى الملوك يداً
…
ويا سراج الليالي المدلهمات
وأنت من لو تخطى الدهر مصرعه
…
إلى حياتي لجادت فيه أبياتي
أناف قبرك في هضبٍ يميزه
…
فتنتحيه حفيات التحيات
كرمت حياً وميتاً واشتهرت علاً
…
فأنت سلطان أحياءٍ وأموات
(1) انظر مشاهدات لسان الدين: 133 نقلاً عن نفاضة الجراب، وأزهار الرياض 1: 297 وستأتي القصيدة في الباب الخاص بشعر لسان الدين.
ما ريء مثلك في ماضٍ، ومعتقدي
…
أن لا يرى الدهر في حال وفي آت وقد زرت أنا قبر المعتمد بن عباد بمدينة أغماد سنة 1010، ورأيت فيه مثل ما ذكره لسان الدين رحمه الله تعالى، فسبحان من لايبيد ملكه، لا إله إلا هو.
558 -
وقال وزيره أبو الوليد ابن زيدون (1) :
متى أخف الغرام يصفه جسمي
…
بألسنة الضنى الخرس الفصاح
فلو أن الثياب نزعن عني
…
خفيت خفاء خصرك في الوشاح وقال يخاطب المعتمد:
وطاعة أمرك فرضٌ أراه
…
من كل مفترضٍ أو كدا
هي الشرع أصبح دين الضمير
…
فلو قد عصاك لقد ألحدا وقال فيه:
يا ندى يمنى أبي القاسم عم
…
يا سنا بشر المحيا أشمس
وارتشف معسول ثغر أشنبٍ
…
لحبيبٍ من عجاجٍ ألعس وقال:
مهما امتدحت سواك قبل فإنما
…
مدحي إلى مدحي لك استطراد
تغشى الميادين الفوارس حقبةً
…
كيما يعلمها النزال طراد وقال:
(1) وردت هذه المقطعات في ديوان ابن زيدون: 429، 216، 212، 465، 436، 229.
يحييني بريحان التجني
…
ويصحبني معتقة السماح
فها أنا قد ثملت من الأيادي
…
إذا اتصل اغتباقي باصطباحي وكتب إلى أبي عامر يستدعيه:
أبا المعالي نحن في روضةٍ
…
فانقل علينا القدم العاليه
أنت الذي لو نشتري ساعةً
…
ولو أنها لم تكن غاليه وتذكرت هنا قول بعض المشارقة فيما أظن:
لله أيامٌ مضت مأنوسةً
…
ما كان أحسنها وأنضرها معا
لو ساعةٌ منها تباع شريتها
…
ولو أنها بيعت بعمري أجمعا رجع:
559 -
وقال أبو القاسم أسعد من قصيدة في المعتصم بن صمادح (1) :
وقد ذاب كحل الليل في دمع فجره
…
إلى أن تبدى الليل كاللمة الشمطا
كأن الدجى جيشٌ من الزنج نافذٌ
…
وقد أرسل الإصباح في إثره القبطا ومنها:
إذا سار سار الجود تحت لوائه
…
فليس يحط المجد إلا إذا حطا 560 - وقال ابن خلصة المكفوف (2) النحوي من قصيدة:
ملكٌ تملك حر المجد، لا يده
…
نالت بظلم ولا مالت إلى البخل
مهذب الجد ماضي الحد مضطلع
…
لما تحمله العلياء من ثقل
(1) المطمح: 83 وقد مرت بعض أبيات هذه القصيدة ص: 51.
(2)
ترجمة ابن خلصة في التحفة (ص: 1) والوافي 3: 42، 232.
أغر، لا وعده يخشى له أبداً
…
خلفٌ، ولا رأيه يؤتى من الزلل
قد جاوزت نطق الجوزاء همته
…
به، وما زحلت عن مرتقى زحل
يأبى له أن يحل الذم ساحته
…
ما صد من جللٍ أو سد من خلل ومنها:
إن لم تكن بكم حالي مبدلةً
…
فما انتفاعي بعلم الحال والبدل 561 - وقال ابن الحداد يمدح المعتصم بن صمادح:
عج بالحمى حيث الغياض العين
…
فعسى تعن لنا مهاه الغين
واستقبلن أرج النسيم فدارهم
…
ندية الأرجاء لا دارين
أفقٌ إذا ما رمت لحظ شموسه
…
صدتك للنقع المثار دجون
أنى أراع لهم وبن جوانحي
…
شوقٌ يهون خطبهم فيهون
أنى يهاب ضرابهم وطعانهم
…
صبٌ بألحاظ العيون طعين
فكأنما بيض الصفاح جداولٌ
…
وكأنما سمر الرماح غصون
ذرني أسر بين الأسنة والظبى
…
فالقلب في تلك القباب رهين
يا ربة القرط المعير خفوقه
…
قلبي، أما لحراكه تسكين
توريد خدك للصبابة موردٌ
…
وفتور طرفك للنفوس فتون
فإذا رمقت فوحي حبك منزلٌ
…
وإذا نطقت فإنه تلقين ومنها في وصف قصر:
رأسٌ بظهر النون إلا أنه
…
سامٍ، فقبته بحيث النون
هو جنة الدنيا تبوأ نزلها
…
ملكٌ تملكه التقى والدين
فكأنما الرحمن عجلها له
…
ليرى بما قد كان ما سيكون
وكأن بانيه سنمارٌ فما
…
يعدوه تحسينٌ ولا تحصين
وجزاؤه فيه نقيض جزائه
…
شنان ما الإحياء والتحيين ومنها في المديح:
لا تلقح الأحكام حيفاً عنده
…
فكأنما الأفعال والتنوين ومنها:
وبدا هلال الأفق أحنى ناسخاً
…
عهد الصيام كأنه العرجون
فكأن بين الصوم خطط نحوه
…
خطاً خفياً بان منه النون 562 - وقال عبد الجليل بن وهبون:
زعموا الغزال حكاه قلت لهم: نعم
…
في صده عن عاشقيه وهجره
وكذا يقولون المدام كريقه
…
يا رب ما علموا مذاقة ثغره 563 - وقال أبو الحسن علي بن أحمد بن أبي وهب الأندلسي:
قالوا: تدانيت من وداعهم
…
ولم نر الصبر عنك مغلوبا
فقلت: للعلم أنني بغدٍ
…
أسمع لفظ الوداع مقلوبا وهذا كقول بعض شعراء اليتيمية (1) :
إذا دهاك الوداع فاصبر
…
ولا يروعنك البعاد
وانتظر العود عن قريبٍ
…
فإن قلب الوداع عادوا 564 - وقال ابن اللبانة (2) :
إن تكن تبتغي القتال فدعني
…
عنك في حومة القتال أحامي
(1) مر البيتان في ج 1: 92.
(2)
زاد في م: في التورية.
خذ جناني عن جنةٍ، ولسلني
…
عن سنانٍ، وخاطري عن حسام 565 - وقال القزاز يمدح ابن صمادح، وخلط النسيب بالمديح:
نفى الحب عن مقلتي الكرى
…
كما قد نفى عن يدي العدم
فقد قر حبك في خاطري
…
كما قر في راحتيك الكرم
وفر سلوك عن فكرتي
…
كما فر عن عرضه كل ذم
فحبي ومفخره باقيان
…
لا يذهبان بطول القدم
فأبقى لي الحب خالٌ وجدٌ
…
وأبقى له الفخر خالٌ وعم 566 - وقال أبو الحسن ابن الحاج:
أذوب اشتياقاً يوم يحجب شخصه
…
وإني على ريب الزمان لقاسي
وأذعر منه هيبةً وهو المنى
…
كما يذعر المخمور أول كاس وقال (1) :
أبا جعفرٍ، مات فيك الجمال
…
فأظهر خدك لبس الحداد
وقد كان ينبت نور الربيع
…
فقد صار ينبت شوك القتاد
فهل كنت من عبد شمسٍ فأخشى
…
عليك ظهور شعار السواد وقال، وما أحكمه:
ما عجبي من بائعٍ دينه
…
بلذةٍ يبلغ فيها هواه
(1) انظر المغرب 2: 281 والقلائد: 144.
وإنما أعجب من خاسرٍ
…
يبيع أخراه بدنيا سواه وقال في مخمسة يرثي فيها ابن صمادح، ويندب الأندلس زمن الفتنة:
من لي بمجبول على ظلم البشر
…
صحف في أحكامه حاء الحور
مر بنا يسحب أذيال الخفر
…
ما احسد الظبي له إذا نفر وأشبه الغصن به إذا خطر
…
كافورةٌ قد طرزت بمسك
…
جوهرةٌ لم تمتهن بسلك
بذت فيها ورعي ونسكي
…
بعد لجاجي في التقى ومحكي فاليوم قد صح رجوعي واشتهر
…
نهيت قدماً ناظري عن نظر
…
علماً بما يجري ركوب الغرر
وقلت: عرج عن سبيل الخطر
…
فاليوم قد عاين صدق الخبر إذ بات وقفاً بين دمعٍ وسهر
…
سقى الحيا عهداً لنا بالطاق
…
معترك الألباب والأحداق
وملتقى الأنفس والأشواق
…
أيأس فيه الدهر عن تلاقي وربما ساءك دهرٌ ثم سر
…
أحسن به مطلعاً ما أغربا
…
قابل من دجلة مرأى معجبا
إن طلعت شمسٌ وقد هبت صبا
…
حسبته ينشر برداً مذهبا بمنظرٍ فيه جلاءٌ للبصر
…
يا رب أرضٍ قد خلت قصورها
…
وأصبحت آهلةً قبورها
يشغل عن زائرها مزورها
…
لا يأمل العودة من يزورها هيهات: ذاك الورد ممنوع الصدر
…
567 -
[أشعار لابن خفاجة]
وقال ابن خفاجة في صفة قوس (1) :
عوجاء تعطف ثم ترسل تارةً
…
فكأنما هي حيةٌ تنساب
وإذا انحنت، والسهم منها خارجٌ
…
فهي الهلال انقض منه شهاب وقال:
وعسى الليالي أن تمن بنظمنا
…
عقداً كما كنا عليه وأكملا
فلربما نثر الجمان تعمداً
…
ليعاد أحسن في النظام وأجملا وهو من قول مهيار:
عسى الله يجعلها فرقةً
…
تعود بأكمل مستجمع وقول المتنبي:
سألت الله يجعله رحيلاً
…
يعين على الإقامة في ذراكا وقال:
اقض على خلك أو ساعد
…
عشت بجد في العلا صاعد
فقد بكى جفني دماً سائلاً
…
حتى لقد ساعده ساعداي وقال:
وأسودٍ يسبح في بركةٍ
…
لا تكتم الحصباء غدرانها
كأنها في صفوها مقلةٌ
…
زرقاء، والأسود إنسانها
(1) راجع ديوان ابن خفاجة: 361، 369، 363، 370 والثانية مرت في ج 1:31.
وقال:
حيا بها ونسيمها كنسيمه
…
فشربتها من كفه في وده
منساغةً فكأنها من ريقه
…
محمرةً فكأنها من خده وقال:
لعمري لو أوضعت في منهج التقى
…
لكان لنا في كل صالحة نهج
فما يستقيم الأمر، والملك جائر
…
وهل يستقيم الظل، والعود معوج وقال يرثي صديقاً من أبيات:
تيقن أن الله اكرم جيرةٍ
…
فأزمع عن دار الحياة رحيلا
فان أقفرت منه العيون فإنه
…
تعوض منها بالقلوب بديلا
ولم ار أنساً قبله عاد وحشةً
…
وبرداً علا الأكباد عاد غليلا
ومن تك أيام السرور قصيرة
…
به كان ليل الحزن فيه طويلاً وقال:
تفاوت نجلا أبي جعفرٍ
…
فمن متعالٍ ومن منسفلٍ
فهذا يمين بها أكله
…
وهذا شمالٌ بها يغتسل 568 - وقال ابن الرفاء:
ولما رأيت الغرب قد غص بالدجى
…
وفي الشرق من ضوء الصباح دلائل
توهمت أن الغرب بحرٌ أخوضه
…
وأن الذي يبدو من الشرق ساحل 569 - وقال أبو محمد ابن عبد البر الكاتب:
لا تكثرن تأملاً
…
وامسك عليك عنان طرفك
فلربما أرسلته
…
فرماك في ميدان حتفك 570 - وقال أبو القاسم السميسر (1) :
يا آكلاً كل ما اشتهاه
…
وشاتم الطب والطبيب
ثمار ما قد غرست تجني
…
فانتظر السقم عن قريب
يجتمع الداء كل يومٍ
…
أغذية السوء كالذنوب وكان كثير الهجاء، وله كتاب سماه بشفاء الأمراض في أخذ الأعراض والعياذ بالله.
ومن قوله:
خنتم فهنتم وكم أهنتم
…
زمان كنتم بلا عيون
فأنتم تحت كل تحتٍ
…
وأنتم دون كل دون
سكنتم يا رياح عادٍ
…
وكل ريحٍ إلى سكون وقال (2) :
يا مشفقاً من خمول قومٍ
…
ليس لهم عندنا خلاق
ذلوا ويا طالما أذلوا
…
دعهم يذوقوا الذي أذاقوا وقال:
وليتم فما أحسنتم مذ وليتم
…
ولا صنتم عما يصونكم عرضا
وكنتم سماء لا ينال منالها
…
فصرتم لدى من لا يسائلكم أرضا
ستسترجع الأيام ما أفرضتكم
…
ألا إنها تسترجع الدين والقرضا
(1) الذخيرة 2/1: 380.
(2)
الذخيرة: 2/1: 375.
571 -
وقال ابن شاطر السرقسطي:
قد كنت لاأدري لأية علةٍ
…
صار البياض لباس كل مصاب
حتى كساني الدهر سحق ملاءةٍ
…
بيضاء من شيبي لفقد شبابي
فبذا تبين لي إصابة من رأى
…
لبس الباض على نوى الأحباب 572 - وهذه عادة أهل الأندلس، ولهذا قال الحصري:
إذا كان البياض لباس حزنٍ
…
بأندلسٍ فذاك من الصواب
ألم ترني لبست ببياض شيبي
…
لأني قدت حزنت على الشباب وما أحسن قوله رحمه الله تعالى:
لو كنت زائرتي لراعك منظري
…
ورأيت بي ما يصنع التفريق
ولحال من دمعي وحر تنفسي
…
بيني وبينك لجةٌ وحريق 573 - وقال ابن عبد الصمد يصف فرساً:
إلى سابحٍ فردٍ يفوت بأربعٍ
…
له أربعاً منها الصبا والشمائل
من الفتخ خوار العنان كأنه
…
مع البرق سارٍ أو مع السيل سائل 574 - وقال ابن عبد الحميد البرجي:
أرح متن المهند والجواد
…
فقد تعبا بجدك في الجهاد
قضيت بعزمةٍ حق العوالي
…
فقض براحةٍ حق الهوادي 575 - وقال عبادة:
إنما الفتح هلالٌ طالعٌ
…
لاح من أزراره في فلك
خده شمسٌ، وليلٌ شعره
…
من رأى الشمس بدت في حلك
576 -
وقال ابن المطرف المنجم:
يرى العواقب في أثناء فكرته
…
كأن أفكاره بالغيب كهان
لا طرفةٌ منه إلا تحتها عمل
…
كالدهر لا دورةٌ إلا لها شان 577 - وقال أبو الحسن ابن اليسع:
راموا ملامي، وكان إغرا
…
وذم حبي، وكان إطرا
لو علم العاذلون ما بي
…
لانقلبت فيه لامهم را وقال:
لما قدمت وعندي
…
شطرٌ من الشوق وافي
قدمت قلبي قبلي
…
فصنه حتى أوافي 578 - ولما خاطب المستنصر ملك إفريقية ابن سيد الناس بقوله:
ما حال عينيك يا عين الزمان فقد
…
أورثتني حزناً من أجل عينيكا
وليس لي حيلةٌ غير الدعاء فيا
…
رب براوي الصحيحين حنانيكا أجابه الحافظ أبو المطرف ابن عميرة المخزومي خدمة عن الحافظ أبي بكر ابن سيد الناس:
مولاي حالهما والله صالحةٌ
…
لما سألت فأعلى الله حاليكا
ما كان من سفرٍ أو كان من حضرٍ
…
حتى تكون الثريا دون نعليكا 579 - وقال الأديب أبو العباس الرصافي، وهو من أصحاب أبي حيان:
هذا هلال الحسن أطلع بيننا
…
وجميعنا بحلى محاسنه شغف
لما رأى صل العذار بخده
…
ماء النعيم أتى إليه ليرتشف
فكأن ذاك الخد أنكر أمره
…
فاحمر من حنقٍ عليه وقال قف وقال:
وعشيةٍ نعمت بها أرواحنا
…
والخمر قد أخذت هنالك حقها
وكأنما ابريقنا لما جثا
…
ألقى حديثاً للكؤوس وقهقها 580 - وقال الإمام الحافظ أبو الربيع ابن سالم:
كأنما إبريقنا عاشقٌ
…
كل عن الخطو فما أعمله
غازل من كأسي حبيباً له
…
فكلما قبله أخجله 581 - وقال أبو القاسم ابن الأبرش:
رأيت ثلاثةً تحكي ثلاثاً
…
إذا ما كنت في التشبيه تنصف
فتنجو (1) النيل منفعةً وحسناً
…
وشنترين مصر، وأنت يوسف وقال في غريق، وقيل: إنه مما تمثل به (1) :
الحمد لله إلى كل حال
…
قد أطفأ الماء سراج الجمال
أطفأه من كان محياً له
…
قد يطفئ الزيت ضياء الذبال وهو القائل أيضاً:
لو لم يكن لي آباء أسود بهم
…
ولم يؤسس رجال الغرب لي شرفا
ولم أنل ملك العصر منزلةً
…
لكان في سيبويه الفخر لي وكفى
فكيف علمٌ ومجدٌ قد جمعتهما
…
وكل مختلقٍ في مثل ذا وقفا
(1) كذا ولعله فتجو أي " تاجه " اسم النهر (Tagus) .
(1)
كذا ولعله فتجو أي " تاجه " اسم النهر (Tagus) .
582 -
وقال أبو الحسن أبن حريق:
أصبحت تدمير مصراً كاسمها
…
وأبو يوسف فيها يوسفا 583 - وقال أبو القاسم ابن العطار الإشبيلي في بعض الهوزنيين وقد غرق في نهر طلبيرة عند فتحها (1) :
ولما أن رأوا أن لا مقر لسيفه
…
سوى هامهم لاذوا بأجرأ منهم
فكان من النهر المعين معينهم
…
ومن ثلم السد الحسام المثلم
فيا عجباً للبحر غالته نطفةٌ
…
وللأسد الضرغام أرداه أرقم 584 -[نقول من التكملة]
1 -
وقال أبو العباس اللص (2) :
وقائلة والضنى شاملي
…
علام سهرت ولم ترقد
وقد ذاب حسمك فوق الفرا
…
ش حتى خفيت على العود
فقلت: وكيف أرى نائماً
…
ورائي المنية بالمرصد ولما قرئ عليه ديوان أبي تمام، ومر فيه وصف سيف، قال: أنا أشعر منه حيث أقول:
تراه في غداة الغيم شمساً
…
وفي الظلماء نجماً أو ذبالا
يروعهم معينةً ووهماً
…
ولو ناموا لروعهم خيالا 2 - وقال أبو إسحاق الإلبيري (3) :
(1) الشعر في القلائد: 288 والبيت الثالث في المغرب 1: 254.
(2)
القطعتان في التكملة: 80.
(3)
التكملة: 137 وديوانه: 159.
تمر لداتي واحداً بعد واحدٍ
…
وأعلم أني بعدهم غير خالد
وأحمل موتاهم وأشهد دفنهم
…
كأني بعيد عنهم غير شاهد
فها أنا في علمي لهم وجهالتي
…
كمستيقظٍ يرنو بمقلة راقد قيل: ولو قال في البيت الثاني:
كأني عنهم غائبٌ غير شاهد
…
لكان أحسن وأبدع وأبرع في الصناعة الشعرية، قاله ابن الأبار رحمه الله تعالى.
3 -
وقال الوزير الوليد ابن مسلمة (1) :
إذا خانك ارزق في بلدةٍ
…
ووافاك من همها ما كثر
فمفتاح رزقك في بلدةٍ
…
سواها فردها تنل ما يسر
كذا المبهمات بوسط الكتا
…
ب مفتاحها أبداً في الطرر 4 - وقال أبو الطاهر إسماعيل الخشني الجياني المعروف بابن أبي ركب، وقيل: إن أخاه الأستاذ أبا بكر هو المعروف بذلك (2) :
يقول الناس في مثلٍ
…
تذكر غائباً تره
فما لي لا أرى سكني
…
ولا أنسى تذكره 5 - وأنشد أبو المعالي الإشبيلي الواعظ بمسجد رحبة القاضي من بلنسية أبياتاً منها (3) :
(1) التكملة: 184.
(2)
التكملة: 185.
(3)
التكملة: 196.
10 -
وحكي عن الفقيه الأديب النحوي أبي عبد الله محمد بن ميمون الحسيني، قال (1) : كانت لي في صبوتي جاريةً، وكنت مغرىً بها، وكان أبي رحمه الله يعذلني ويعرض لي بيعها، لأنها كانت تشغلني عن الطلب والبحث عليه، فكان عذله يزيدني إغراء بها، فرأيت ليلةً في المنام كأن رجلاً يأتيني في زي أهل المشرق كل ثيابه بيض، وكان يلقى في نفسي أنه الحسين بن علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، وكان ينشدني:
تصبو إلى مي، ومي لا تني
…
تزهو ببلواك التي لا تنقضي
وفخارك القوم الألى ما منهم
…
إلا إمام أو وصي أو نبي
فاثن عنانك للهدى عن ذي الهوى
…
وخف الإله عليك ويحك وارعوي قال: فانتبهت فزعاً فيما رأيته، فسألت الجارية، هل كان لها اسم قبل أن تتسمى بالاسم الذي أعرفه فقالت: لا، ثم عاودتها حتى ذكرت أنها كانت تسمى مية، فبعتها حينئذٍ، وعلمت أنه وعظٌ وعظني الله به، عز وجل، وبشرى.
11 -
وقال ابن الحداد أول قصيدته " حديقة الحقيقة "(2) :
ذهب الناس فانفرادي أنيسي
…
كتابي محدثي وجليسي
صاحبٌ قد أملت منه ملالاً
…
واختلالاً وكل خلقٍ بئيس
ليس في نوعه بحيٍ ولكن
…
يلتقي الحي منه بالمرموس 12 - وقال بعض أهل الجزيرة الخضراء (3) :
(1) التكملة: 396.
(2)
التكملة: 399.
(3)
التكملة: 415.
ألحاظكم تجرحنا في الحشا ولحظنا يجرحكم في الخدود
جرحٌ بجرحٍ فاجعلوا ذا بذا فما الذي أوجب جرح الصدود
وقال ابن النعمة: إنهما لابن شرف، وقد ذكرناهما مع جوابهما في غير هذا الموضع.
13 -
وقال المعتمد بن عباد (1) :
اقنع بحظك في دنياك ما كانا وعز نفسك إن فارقت أوطانا
في الله من كل مفقودٍ مضى عوضٌ فأشعر القلب سلواناً وإيمانا
أكلما سنحت ذكرى طربت لها مجت دموعك في خديك طوفانا
أما سمعت بسلطانٍ شبيهك قد بزته سود خطوب الدهر سلطانا
وطن على الكره وارقب إثره فرجاً واستغفر الله تغنم منه غفرانا
14 -
وقال أبو عامر البرياني في الصنم الذي بشاطبة (2) :
بقيةٌ من بقايا الروم معجبةٌ أبدى البناة بها من علمهم حكما
لم أدر ما أضمروا فيه سوى أمم تتابعت بعد سموه لنا صنما
كالمبرد الفرد ما أخطأ مشبهه حقاً لقد برد الأيام والأمما
كأنه واعظٌ طال الوقوف به مما يحدث عن عاد وعن إرما
فانظر إلى حجرٍ صلد يكلمنا أسمى وأوعظ من قس لمن فهما
قيل: لو قال مكان حكما علما لأحسن.
15 -
وقال السميسر (3) :
(1) التكملة: 427 وديوانه: 114.
(2)
التكملة: 436.
(3)
التكملة: 470 وفيه القطعة التالية أيضاً.
إذا شئت إبقاء أحوالكا فلا تجر جاهاً على بالكا
وكن كالطريق لمجتازها يمر وأنت على حالكا
وقال:
هن إذا مانلت حظاً فأخو العقل يهون
فمتى حطك دهرٌ فكما كنت تكون
16 -
وقال أبو الربيع ابن سالم الكلاعي: انشدني ابو محمد الشلبي، أنشدني أبو بكر ابن منخل، لنفسه (1) :
مضت لي ست بعد سبعين حجةً ولي حركات بعدها وسكون
فيا ليت شعري أين أو كيف أو متى يكون الذي لا بد أن سيكون
17 -
وقال أبو محمد عبد الحق الإ (2) شبيلي:
لايخدعنك عن دين الهوى نفر لم يرزقوا عن دين الحق تاييدا
عمي القلوب عروا عن كل فائدة لأنهم كفروا بالله تقليدا
18 -
وقال ابو محمد ابن صارة (3) :
والدنيا بجهل عظموها فعزت عندهم وهي الحقيره
يهارش بعضهم بعضاً عليها مهارشة الكلاب على العقيره
وقال:
اسعد بما لك في الحياة ولاتكن تبقي عليه حذار فقرٍ حادث
(1) التكملة: 496.
(2)
التكملة: 699.
(3)
التكملة: 817 وفيه القطعة التالية أيضاً.
فالبخل بين الحادثين، وإنما مال البخيل لحادث او وارث
19 -
ودخل ابو محمد الطائي القرطبي على القاضي أبي الوليد ابن رشد فأنشده ارتجالا (1) :
قام لي السيد الهمام قاضي قضاةالورى الإمام
فقلت قم بي ولاتقم لي فقلما يؤكل القيام
20 -
وقال الحافظ ابو محمد ابن حزم (2) :
لاتلمني لأن سبقت لحظ فات إدراكه ذوي الألباب
يسبق الكلب وثبة الليث في العد ويعلو النخال فوق اللباب
21 -
وقال أبو عبد الله الجبلي الطبيب القرطبي (3) :
اشدد يديك على كلبٍ ظفرت به ولا تدعه فإن الناس قد ماتو
قلت: تذكرت بهذا قول الآخر:
اشدد يديك بكلبٍ إن ظفرت به فأكثر الناس قد صاروا خنازيرا
22 -
وقال محمد ابن عبد الله الحضرمي مولى بني أمية:
عاشر الناس بالجمي ل وسدد وقارب
واحترس من أذى الكرا م وجد بالمواهب
لايسود الجميع من لم يقم بالنوائب
ويحوط الاذىوير عى ذمام الاقارب
(1) التكملة: 824.
(2)
التكملة: 875 ومر البيتان ج 2: 84.
(3)
التكملة: 909.
لاتواصل إلا الشري ف البكريم المناصب
من له خير شاهد وله خير غائب
واجتنب وصل كل وغ دٍ دنيء المكاسب
ابن الأبار
585 -
وقال الكاتب الحافظ أبو عبد الله ابن الأبار (1) :
لله نهرٌ كالحباب ترقيشه سامي الحباب
يصف السماء صفاؤه فحصاه ليس بذي احتجاب
وكانما هو رقةً من خالص الذهب المذاب
غارت على شطيه أب كار المنى عصر الشباب
والظل يبدو فوقه كالخال في خد الكعاب
لا بل أدار عليه خو ف الشمس منه كالنقاب
مثل المجرة جر في ها ذيله جون السحاب
وقال:
شتى محاسنه، فمن زهرٍ على نهرٍ تسلسل كالحباب تسلسلا
غربت به شمس الظهيرة لاتني إحراق صفحته لهيباً مشعلا
حتى كساه الدوح من أفنانه برداً بمزنٍ في الأصيل مسلسلا
وكأنما لمع الظلال بمتنه قطع الدماء جمدن حين تحللا
وقال يمدح المستنصر صاحب إفريقية:
إن البشائر كلها جمعت للدين والدنيا وللأمم
(1) أزهار الرياض 3: 223 وفيه القطعة التالية أيضاً.
في نعمتين جسيمتين هما برء الإمام وبيعة الحرم
قال ابن الأبار: وأخبرني بعض أصحابنا - يعني أبا عمرو ابن عبد الغني - أنه أنشدهما الخليفة فسبقه إلى عجز البيت الثاني، فقلت له على البديهة:
فخر لشعري على الأشعار يحفظه خليفة الله كان الله حافظه
وأشار بقوله وبيعة الحرم إلى ما ذكره ابن خلدون وغير واحد من المؤرخين أن أهل مكة خطبوا للمستنصر صاحب تونس بعرفة، وكتبوا له بيعة من إنشاء ابن سبعين المتصوف، وقد ذكر ابن خلدون نص البيعة في ترجمة المستنصر، فليراجعها من أرادها.
وقال ابن الأبار:
ألا اسمع في الأمير مقال صدق وخذه عن امرئ خدم الأميرا
متى يكتب ترد وشلاً أجاجاً وإن يركب ترد عذباً نميرا
وقال مجيباً للتجاني:
أيها الصاحب الصفي، مباح لك عني فيما نصصت الروايه
إن عناني إسعاف قصدك فيها فلكم لم تزل بها ذا عنايه
ولها شرطها فحافظ عليه ثم كافئ وصيتي بالكفايه
وتحام الإخلال جهدك، لاقي ت من الله عصمة وحمايه
ونص استدعاء التجاني:
إن رأى سيدي الذي حاز في العل م مع الحلم والعلا كل غايه
وحوى المجد عن جدود كرام كلهم في السماح والفضل آيه
أن أرى عنه بالإجازة أروي كل ما فيه لي تصح الروايه
من حديث وكل نظم ونثر وفنون له بهن درايه
فله في ذاك الثواب من الل هـ ومنا الثناء دون نهايه
دام في رفعة وعز وسعد وأمان ومكنة وحمايه
ما تولى جيش الظلام هزيماً وعلت للصباح في الأفق رايه
ولابن الأبار ترجمة واسعة ذكرتها في أزهار الرياض في أخبار عياض وما يناسبها مما يحصل به للنفس ارتياح وللعقل ارتياض فلتراجع فيه.
586 -
وأما التجاني أبو عبد الله هذا المذكور فقد وصفه قريبه أبو الفضل محمد حفيد عمه في كتابه الحلى التيجانية والحلل التيجانية، قال ابن رشيد: وجمعه باسمنا حفظه الله تعالى وشكره، وقال في موضع آخر: إنه باسمه واسم صاحبه الوزير ابن الحكيم، رحمهما الله تعالى، انتهى.
587 -
وقال ابن مفوز أبو الحسين:
إذا عرتك عيلة يعجز عنها ما تجد
فلتقتصد فإنه ما عال قط مقتصد
وقال:
حاز دنياه كلها محرزاً أكبر المنن
من حوى قوت يومه آمناً سالم البدن
وقال:
أعن أخاك في الذي يأمله ويرتجيه
فالله في عون الفتى ما كان في عون أخيه
وقال:
أنفس ما أودعته قلبك ذكرى موقظه
وخير ما أتلفته مال أفاد موعظه
588 -
وقال أبو البركات القميحي: أنشدنا ابن العباس ابن مكنون، وقد رأى اهتزاز الثمار وتمايلها، مرتجلاً:
حارت عقول الناس في إبداعها ألسكرها أم لشكرها تتأود
فيقول أرباب البطالة: تنثني ويقول أرباب الحقيقة: تسجد
قال الشيخ أبو البركات القميحي: قلت لابن مكنون: ما الذي يدل على أنهما في وصف الثمار فقال: وطئ أنت لهما، فقلت:
يا من أتى متنزهاً في روضة أزهارها من حسنها تتوقد
انظر إلى الأشجار في دوحاتها والريح تنسف والريح تغرد
فترى الغصون تمايلت أطرافها وترى الطيور على الغصون تعربد
قال ابن رشيد: غلط المذكور في نسبته البيتين لابن مكنون، وإنما هما لأبي زيد الفازازي من قصيدة أولها:
نعم الإله بشكره تتقيد فالله يشكر في النوال ويحمد
مدت إليه أكفاننا محتاجة فأنالها من جوده ما تعهد
والبيتان في أثنائها، غير أن أولهما في ديوانه هكذا:
تاهت غقول الناس في حركاتها
انتهى.
ورأيت في روضة التعريف للسلن الدين بعدهما بيتاً ثالثاً، وهو:
وإذا أردت الجمع بينهما فقل في شكر خالقها تقوم وتقعد
589 -
وحكي أن حافظ الأندلس إمام الأدباء (1) ، رئيس المؤلفين، حسنة الزمان، نادرة الإحسان، أبا محمد عبد الله بن إبراهيم الصنهاجي الحجاري صاحب كتاب المسهب كان سبب اتصاله بعبد الملك بن سعيد جد علي بن موسى صاحب المغرب أنه وفد عليه في قلعته، فلما وقف على بابه وهو بزي بداوة ازدراه البوابون، فقال لهم: استأذنوا لي على القائد، فضحكوا به، وقالوا له: ما كان وجد القائد من يدخل عليه في هذه الساعة إلا أنت فمد يده إلى دواة في حزامه وسحاءة، وكتب بها: بباب القائد الأعلى - لازال آهلاً بأهل الفضيلة - رجل وفد عليه من شلب بقصيدة مطلعها:
عليك أحالني الذكر الجميل
فإن رأى سيدي أن يحجب من بلده شلب ومن قصيده هذا فهو أعلم بما يأتي ويذر، ولا عتب على القدر، ورغب إلى أحد غلمانه، فأوصل الورقة، فلما وقف عليها القائد، قال: من شلب، وهذا مطلع قصيدته، ما لهذا إلا شأن، ولعله الوزير ابن عمار، وقد نشر إلى الدنيا، عجلوا بالإذن له، فأذنوا له ودخل وبقي واقفاً لم يسلم ولا كلم أحداً، فاستثقله الحاضرون، واستبردوا مقصده، ونسبوه للجهل وسوء الأدب، فقال له أحدهم: ما لك لا تسلم على القائد، وتدخل مداخل الأدباء والشعراء فقال: حتى أخجل جميعكم قدر ما أخجلتموني على الباب مع أقوام أنذال، وأعلم أيضاً من هو الكثير الفضول من أصحاب القائد أعزه الله تعالى، فأكون أتقيه إن قدر لي خدمته، فقال له عبد الملك: أتأخذ بما فعل السفهاء منا قال: لا والله، بل أغفر لك ذنوبك الدهر أجمع، وإنما هي أسباب نقصدها لنحاور بها مثلك أعزك الله تعالى. ويتمكن التأنيس، وينحل قيد الهيبة، ثم أنشد من رأسه ولا ورقة في يده:
(1) ب: الأدب.
عليك أحالني الذكر الجميل فصح العزم واقتضي الرحيل
وودعت الحبيب بغير صبر ولم أسمع لما قال العذول
وأسلبت الظلام علي ستراً ونجم الأفق ناظره كليل
ولم أشك الهجير وقد دعاني إلى أرجائك الظل الظليل
وهي طويلة، فأكرمه وقربه، رحم الله تعالى الجميع.
590 -
وأهديت للمعتمد بن عباد شمعة، فقال في وصفها أبو القاسم ابن مرزقان الإشبيلي وهو ممن قتل في فتنة المعتمد (1) :
مدينة في شمعة صورت قامت حماة فوق أسوارها
وما رأينا قبلها روضة تتقد النار بنوارها
تصير الليل نهاراً إذا ما أقبلت ترفل في نارها
كأنها بعض الأيادي التي تحت الدجى تسري بأنوارها
من ملك معتمد ماجد بلاده أوطان زوارها
591 -
وقال أبو الأصبغ ابن رشيد الإشبيلي لما هطلت بإشبيلية سحابة بقطر أحمر يوم السبت الثالث عشر من صفر عام أربعة وستين وخمسمائة:
لقد آن للناس أن يقلعوا ويمشوا على السنين الأقوام
متى عهد الغيث يا غافلاً كلون العقيق أو العندم
أظن الغمائم في جوهرها بكت رحمة للورى بالدم
وفيها أيضاً:
لا تكن دائم الكآبة مما قد غدا في الثرى نميراً نجيعا
(1) المغرب 1: 261.
لطم البرق صفحة المزن حتى سال منه على الرياض نجيعا
وله في دولاب:
ومنجنون إذا دارت سمعت لها صوتاً أجش وظل الماء ينهمل
كأن أقداسها ركب إذا سمعوا منها حداء بكوا للبين وارتحلوا
وله فيمن اسمه مالك:
غزالي الجفون شقيق بدر تبسم عن عقيق فوق در
له نفحات مسك أي مسك له نفثات سحر أي سحر
شكوت له الهوى والهجر منه فقال: عليك باسمي سوف تدري
تعلمت القساوة من سميي وأحرقت القلوب بنار هجري
592 -
وقال أبو بكر ابن حجاج الغافقي في موسى وسيم إشبيلية الذي كان شعراؤه يتغزلون فيه (1) :
ممن مبلغ موسى المليح رسالة بعثت له من كافري عشاقه
ما كان خلق راغباً عن دينه لو لم تكن توراته من ساقه
وقال:
إن الزويلي فتى شاعر قد أعجب العالم من نظمه
وأنت يا موسى قد اخترته واختار موسى قبل من قومه
وقال:
على معاذ قرون لو يعاينها فرعون ما قال أوقد لي على الطين
(1) المغرب 1: 261.
قالت له عرسه إذ جاء ينكحها ماذا دهيت به من كل عنين
هلا استعنت بميمون، فقال لها إني استعنت على نفسي بميمون
593 -
وقال أبو وهب ابن عبد الرؤوف النحوي، وكان له حظ في قرض الشعر، وكان سناطاً (1) :
ليس لمن ليست له لحية باس إذا حصلته، لبسا
وصاحب اللحية مستقبح يشبه في طلعته التيسا
إن هبت الريح تلاهت به وماست به الريح به ميسا
594 -
وقال أبو عبد الله محمد بن يحيى القلفاظ:
يا غزالاً عن لي فاب تز قلبي ثم ولى
أنت مني بفؤادي يا منى نفسي أولى
595 -
وقال أحمد بن المبارك الحبيبي في الناصر قبل أن يلي عهد جده (2) :
يا عابد الرحمن فقت الورى بهذه العليا وهذا الكرم
ما جعل الله الندى في امرئ إلا وقد جنبه كل ذم
596 -
واستدعى الوزير عبيد الله بن إدريس أبا بكر أحمد بن عثمان المرواني، ونادمه ليلة، فلما قرب الصباح قال له: أين ما يحدث عنك من حسن الشعر فهذا موضعه، فقال: الدواة والقرطاس، فأمر له بإحضارهما، فجعل يفكر ويكتب إلى أن أنشده هذه الأبيات:
بتنا ندامى صفاء يستحث لنا في جامد الفضة التبر الذي سبكا
(1) السناط: الذي ليس في عارضيه شعر.
(2)
إلى هنا انتهت النسخة ب، وسقطت سائر الأوراق منها.
كل مصيخ إلى ما قال صاحبه ولا يبالي أصدقاً قال أم أفكا
موقرون خفاف عند شربهم ولا يخافون فيما أحدثوا دركا
لا تعدمن إذا أبصرتهم فرحاً أما ترى الصبح من بشر بهم ضحكا
597 -
وقال أبو محمد عبد الله المرواني في الخيري:
عجبت من الخير يكتم عرفه نهاراً ويسري بالظلام فيعرب
فتجني عروس الطيب منه يد الدجى ويبدو له وجه الصباح فيحجب
598 -
وقال إبراهيم بن إدريس العلوي:
للبين في تعذيب نفسي مذهب ولنائبات الدهر عندي مطلب
أما ديون الحادثات فإنها تأتي لوقت صادق لا يكذب
599 -
وخرج الأديب النحوي هذيل الإشبيلي يوماً من مجلسه، فنظر إلى سائل عاري الجسم، وهو يرعد ويصيح، الجوع والبرد، فأخذ بيده، ونقله إلى موضع بلغته الشمس، وقال له: صح الجوع، فقد كفاك الله مؤونة البرد.
600 -
ومر المعتمد بن عباد (1) ليلة مع وزيره ابن عمار بباب شيخ كثير التهكم والتنذير، يمزج ذلك بانحراف يضحك الثكلى، فقلا لابن عمار: تعال نضرب على هذا الشيخ الساقط بابه حتى نضحك معه، فضربا عليه الباب، فقال: من هذا فقال ابن عباد: إنسان يرغب أن تقد له هذه الفتيلة، فقال: والله لو ضرب ابن عباد بابي في هذا الوقت ما فتحت له، فقال: فإني ابن عباد، فقال: مصفوع ألف صفعة، فضحك ابن عباد حتى سقط إلى الأرض، وقال لوزيره: امض بنا قبل أن يتعدى الصفع من القول إلى الفعل، فهذا شيخ ركيك؛ ولما كان من غد تلك الليلة وجه له ألف درهم، وقال
(1) راجع هذه الحكاية في المغرب 1: 286 - 287.
لموصلها: قل له هذه حق الألف صفعة التي كانت البارحة.
601 -
وكان في زمان المعتمد السارق المشهور بالبازي الأشهب، وكان له في السرقة كل (1) غريبة، وكان مسلطاً على أهل البادية، وبلغ من سرقته أنه سرق وهو مصلوب؛ لأن ابن عباد أمر بصلبه على ممر أهل البادية لينظروا إليه، فبينما هو على خشبته على تلك الحال إذ جاءت إليه زوجته وبناته، وجعلن يبكين حوله ويقلن: لمن تتركنا نضيع بعدك وإذ ببدوي على بغل وتحته حمل ثياب وأسباب، فصاح عليه: يا سيدي، انظر إلى تلك البئر، لما أرهقني الشرط رميت فيها مائة دينار، فعسى تحتال في إخراجها، وهذه زوجتي وبناتي يمسكن بغلك خلال ما تخرجها، فعمد البدوي إلى حبل ودلى نفسه في البئر بعدما اتفق معه على أن يأخذ النصف منها، فلما حصل أسفل البئر قطعت زوجة السارق الحبل، وبقي حائراً يصيح، وأخذت ما كان على البغل مع بناتها، وفرت به، وكان ذلك في شدة حر، وما سبب الله شخصاً يغيثه إلا وقد غبن عن العين وخلصن، فتحيل ذلك الشخص مع غيره على إخراجه، وسألوه عن حاله، فقال: هذا الفاعل الصانع احتال علي حتى مضت زوجته وبناته بثيابي وأسبابي، ورفعت هذه القصة إلى ابن عباد، فتعجب منها، وأمر بإحضار البازي الأشهب، وقال له: كيف فعلت هذا مع أنك في قبضة الهلكة فقال له: يا سيدي لو علمت قدر لذتي في السرقة خليت ملكك واشتغلت بها، فلعنه وضحك منه، ثم قال له: إن سرحتك وأحسنت إليك وأجريت عليك رزقاً يقلك أتتوب من هذه الصنعة الذميمة فقال: يا مولاي كيف لا أقبل التوبة وهي تخلصني من القتل فعاهده وقدمه على رجال أنجاد،
(1) م: ألف.
وصار من جملة حراس أحواز (1) المدينة.
602 -
ويحكى أن منصور بني عبد المؤمن لما أراد بناء صومعة إشبيلية العظيمة القدر أحضر لها العرفاء والصناع من مظانهم، فعرف بشيخ مغفل صحيح المذهب عارف بالبناء الذي يجهله كثير من الصناع، فاحضر، فقال له المنصور: كم تقدر أن ينفق على هذه الصومعة فضحك وقال: يا سيدي، البنيان إنما هو مثل ذكر ليس يقدر حتى يقوم، فكاد المنصور يفتضح من الضحك، وصرف وجهه عنه، وبقيت حكايته يضحك عليها زماناً.
603 -
وكان احمد المقريني المعروف بالكساد شاعراً وشاحاً زجالاً إشبيلياً، وقال في موسى الذي تغزل (2) فيه ابن سهل (3) :
ما لموسى قد خر لله لما فاض نور غشاه ضوء سناه
وأنا قد صعقت من نور موسى لا أطيق الوقوف حين أراه
وقال في رثائه (4) :
فر إلى الجنة حوريها وارتفع الحسن من الأرض
وأصبح العشاق في مأتم بعضهم يبكي على بعض
وقال فيه:
هتف الناعي بشجو الأبد إذ نعى موسى بن عبد الصمد
ما عليهم ويحهم لو دفنوا في فؤادي قطعة من كبدي
(1) أحواز: سقطت من م.
(2)
م: يتغزل.
(3)
مر البيتان ص: 61.
(4)
هذه القطعة والتي تليها لم تردا في م، وتعليل ذلك أنهما وردتا قبلاً ص: 61 - 62 ونسخة " م " قد جرى فيها بعض الحذف للمكرر، كما أن فيها زيادات انفردت بها سنثبتها في مواضعها.
ولابن سهل الإسرائيلي في موسى هذا ما هو مثبت في ديوانه.
604 -
وكان محمد بن أحمد بن أبي بكر القرموطي المرسي من أعرف أهل الأندلس بالعلوم القديمة: المنطق والهندسة والعدد والموسيقى والطب، فيلسوفاً طبيباً ماهراً، آية الله في المعرفة في الأندلس، يقرئ الأمم بألسنتهم فنونهم التي يرغبون فيها وفي تعلمها، ولما تغلب طاغية الروم على مرسية عرف له حقه، فبنى له مدرسة يقرئ فيها المسلمين والنصارى واليهود، وقال له يوماً وقد أدنى منزلته: لو تنصرت وحصلت الكمال كان لك عندي كذا، وكنت كذا، فأجابه بما أقنعه؛ ولما خرج من عنده قال لأصحابه: أنا عمري كله أعبد إلهاً واحداً، وقد عجزت عما يجب له، فكيف حالي لو كنت أعبد ثلاثة كما طلب الملك مني انتهى.
605 -
وقال أبو عبد الله محمد بن سالم القيسي الغرناطي يخاطب السلطان على ألسنة أصحابه الأطباء الذين ببابه مورياً بأسمائهم:
قد جمعنا ببابكم (1) سطر علم
…
لبلوغ المنى ونيل الإراده
ومن أسمائنا لكم (2) حسن فال
…
سالم ثم غالب وسعاده 606 - وقال أبو عبد الله ابن عمر (3) الإشبيلي الخطيب:
وكل إلى طبعه عائد وإن صده المنع عن قصده
كذا الماء من بعد إسخائه يعود سريعاً إلى برده
607 -
وقال الكاتب أبو زيد عبد الرحمن العثماني لما تغير حاله بإشبيلية (4) :
(1) ك: ببابهم.
(2)
م: لهم.
(3)
م: عمرو.
(4)
قد مرت الأبيات في ما تقدم ص: 62 من هذا المجلد؛ وقد سقطت من م.
لا تسلني عن حالتي فهي هذي مثل حالي لا كنت يا من يراني
ملني الأهل والأخلاء لما أن جفاني بعد الوصال زماني
فاعتبر بي ولا يغرك دهر ليس منه ذو غبطة في أمان
608 -
ودخل الأديب النحوي أبو عمران موسى الطرياني (1) إلى بعض الأكابر يوم نيروز، وعادتهم أن يصنعوا في مثل هذا اليوم مدائن من العجين لها صور مستحسنة، فنظر إلى مدينة أعجبته، فقال له صاحب المجلس: صفها وخذها، فقال:
مدينة مسوره تحار فيها السحره
لم تبنها إلا يدا عذراء أو مخدره
بدت عروساً تجتلى من درمك مزعفره
وما لها مفاتح إلا البنان العشره
ورفع إلى القائد أبي السرور صاحب ديوان سبتة قصيدة يعرض له فيها بزاد وقد عزم على سفر، فأنعم عليه بذلك، ثم أتبعه بتحف مما يكون في الديوان مما يجلبه الإفرنج إلى سبتة، ولم يكن التمس منه ذلك ولا خطر بخاطره، فكتب إليه:
أيا سابقاً بالذي لم يجل بفكري ولم يبدو لي في خطاب
ويا غائصاً في بحار الندى ويا فاتحاً للعلا كل باب
كذا فلتكن نعم الأكرمين تفاجي بنيل المنى والطلاب
ولم أر أعظم من نعمة أتتني ولم تكن لي في حساب
سأشكرها شكر عهد الرضى وأذكرها ذكر غض الشباب
(1) قد مر خذا الخبر والأبيات ص: 63 وقد سقطا من م.
609 -
وكتب مجاهد صاحب دانية إلى المنصور بن أبي عامر الأصغر ملك بلنسية رقعة، ولم يضمنها غير بيت الحطيئة (1) :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فأخرجت (2) المنصور، وأقامته وأقعدته، فأحضر وزيره أبا عامر ابن التاكرني فكتب عنه:
شتمت مواليها عبيد نزار شيم العبيد شتيمة الحرار
فسلا المنصور عما كان فيه.
ومن شعر المذكور في المنصور:
انهض على اسمك إنه منصور وارم العدو فإنه مقهور
ولو اغتنيت عن النهوض كفيتهم فبذكر بأسك كلهم مذعور
ولتبلغن مدى مرادك فيهم ويكون يوم في العدى مشهور
وقال له المنصور يوماً: والله لقد سئمت من هؤلاء الجند، وودت الراحة منهم، فقال له: يصبر مولاي فلا بد من السآمة، فهي على حالتين: إما ممن يكون أمرك إليه، أو يكون أمره إليك، والحمد لله الذي رفعه عن الحالة الأولى.
610 -
وقال بعض الهجائين في رندة (3) :
قبحاً لرندة مثلما قبحت مطالعة الذنوب
(1) المغرب 1: 332.
(2)
كذا في ق م والتقدير " فأخرجته عن طوره ".
(3)
هو أبو الفتح ابن فاخر التونسي (المغرب 1: 344) .
بلد عليه وحشة ما إن يفارقه القطوب
ما حلها أحد فين وي بعد بين أن يؤوب
لم آتها عند الضحى إلا وخيل لي غروب
أفق أغم وساحة تملا القلوب من الكروب
611 -
وقال حبلاص الشاعر الرندي (1) :
لا تفرحن بولاية سوغتها فالثور يعلف أشهراً كي يذبحا
وله في بعض رؤساء (2) الملثمين من قصيدة:
ولو لم تكن كالبدر نوراً ورفعة لما كنت غراً بالسحاب ملثما
وما ذاك إلا للنوال علامة كذا القطر مهما لثم الفق انهمى
فاهتز الملثم وأعجبه، وأمر له بكسوة وذهب.
612 -
ولما ذكر أبو بكر ابن عمر الأندي في مجلس بعض الرؤساء بحضرة أبي الحسن علي بن سعيد، وأطنب في الثناء عليه، وعمر المجلس بشكره، وأخبر بذلك، أطرق ساعة ثم قال (3) :
لا تذكرن ما غاب عني من ثنا أطنبت فيه فليس ذلك يجهل
فمتى حضرت بمجلس وجرى به خبري فإن الذكر فيه يجمل
613 -
ولما نفى بنو ذي النون أرقم من نسبهم لأنه كان ابن أمة مهينة، واقعها أبو الظافر في حال سكره، ولم يكن فيهم من ينظم ويتولع بالأدب غيره،
(1) المغرب 1: 336.
(2)
م: شعراء.
(3)
المغرب 1: 338 وترجمته في القدح: 168.
وولي ابنه يحيى، وكان أحسد من طلعت عليه الشمس، فمال على أرقم بالأذية ففر عن مملكته، وقال مرتجلاً (1) :
لئن طبتم نفساً بتركي دياركم فنفسي عنكم بالتفرق أطيب
إذا لم يكن لي جانب في دياركم فما العذر لي أن لا يكون تجنب
زعمتم بأني لست فرعاً لأصلكم فهلا علمتم أنني عنه أرغب
وحسبي إذا ما البيض لم ترع نسبة بأنني إلى سيفي ورمحي أنسب
وإن مدت الأيام عمري للعلا يشرق ذطري في الورى ويغرب
614 -
وكتب الوزير الكاتب أبو محمد ابن سفيان إلى أبي أمية ابن عصام (2) قاضي قضاة شرق الأندلس عين زمانه، فوقعت نقطة إلى العين، فتوهمها، وظن أنه أبهمها واعتقدها، وعددها وانتقدها، فقال:
لا تلزمني ما جنته يراعة طمست بريقتها عيون ثناء
حقدت علي لزامها فتحولت أفعى تمج سمامها بسحاء
غدر الزمان وأهله عرف ولم أسمع بغدر يراعة وإباء
615 -
وشرب المأمون بن ذي النون مع أبي بكر محمد بن أرفع رأسه الطليطلي وحفل من رؤساء ندمائه كابن لبون وابن سفيان وابن الفرج وابن مثنى، فجرت مذاكرة في ملوك الطوائف في ذلك العصر، فقال كل واحد ما عنده بحسب غرضه، فقال ابن أرفع رأسه ارتجالاً (3) :
دعوا الملوك وأبناء الملوك فمن أضحى على البحر لم يشتق إلى نهر
ما في البسيطة كالمأمون ذو كرم فانظر لتصديق ما أسمعت من خبر
(1) المغرب 2: 14.
(2)
القلائد: 139.
(3)
المغرب 2: 18 والصلة رقم: 874.
يا واحداً ما على علياه مختلف مذ جاد كفك لم نحتج إلى المطر
وقد طلعت لنا شمساً فما نظرت عين إلى كوكب يهدي ولا قمر
وقد بدوت لنا وسطى ملوكهم فلم نعرج على شذر ولا درر
616 -
فداخل ابن ذي النون من الارتياح ما ليس عليه مزيد، وأمر له بإحسان جزيل عتيد.
وقال أبو أحمد عبد المؤمن الطليطلي:
رأيت حيائي قادحاً في معيشتي ويصعب تركي للحياء ويقبح
وقد فسد الناس الذين عهدتهم وقد طال تأنيبي لمن ليس يصلح
وله:
ولما غدو بالغيد فوق جمالهم طفقت أنادي لا أطيق بهم همسا
عسى عيس من أهوى تجود بوقفة ولو كوقوف العين لاحظت الشمسا
617 -
وقال الزاهد أبو محمد عبد الله بن العسال (1) :
أعندكم علم بأني متيم وإلا فما بال المدامع تسجم
وما بال عيني لا تغمض ساعة كأني في رعي الدراري منجم
618 -
وكان الوزير أبو جعفر الوقشي تياهاً معجباً بنفسه، ومن شعره في غرضه الفاسد:
إذا لم أعظم قدر نفسي وإنني عليم بما حازته من عظم القدر
فغيري معذور إذا لم يبرني ولا يكبر الإنسان شيء سوى الكبر
(1) في م ق: الغسال؛ وانظر ترجمته في المغرب 2: 21.
وله:
يرومون بي غير المكان الذي له خلقت، وبغضي منكر ذاك من بعضي
فقولوا لبدر الأفق يترك سماءه ويحتل من أجل التواضع في الأرض
وقال:
تكبر وإن كنت الصغير تظاهراً وباعد أخا صدق متى ما اشتهى القربا
وكن تابعاً للهر (1) في حفظ أمره
…
ألست تراه عندما يبصر الكلبا وقال له بعض ندماء ملكه يوماً صاحب جيان، ابن همشك: يا أبا جعفر، أنت جملة محاسن، وفيك الأدوات العلية التي هي أهل لكل فضيلة، غير أنك قد قدحت في ذلك كله بكثرة عجبك، وإذا مشيت على الأرض تشمئز منها، فقال له: كيف لا أشمئز من شيء أشترك معك في الوطء عليه فضحك جميع من حضر من جوابه.
وله جواب لمن اعتذر عن غيبته عنه:
لك الفضل في أن لا تلوح لناظري وتبعد عني ما بقيت مدى الدهر
فوجهك في لحظي كما صور الردى ولفظك في سمعي حديث عن الفقر
ومن حاز من قد حزته من ركاكة وغاب فلا يحتج إلى كلفة العذر
وله أيضاً (2) :
لك يومان لم تلح لعياني ولك الفضل في زيادة شهر
ولك الفضل في زيادة عام ولك الفضل في زيادة دهر
ولك الفضل أن تغيب عني ذلك الوجه ما تطاول عمري
(1) ق: للمهر.
(2)
أيضاً: سقطت من م.
وله، وقد شرب على صهريج فاختنق الأسد الذي يرمي بالماء، فنفخ فيه رجل أبخر، فجرى:
ليث بديع الشكل لا مثل له صيغ من الماء له سلسله
يقذف بالماء على حينه كأنه عاف الذي قبله
619 -
وقال أبو الوليد هشام الوقشي:
برح بي أن علوم الورى اثنان ما إن فيهما من مزيد
حقيقة يعجز تحصيلها وباطل تحصيله لا يفيد
وله (1) :
وفاره يركبه فاره مر بنا في يده صعده
سنانها مشتمل لحظه وقدها منتحل قده
يزحف للنساك في جحفل من حسنه وهو يرى وحده
قلت لنفسي حين مدت لها ال آمال والآمال ممتده
لا تطمعي فيه كما الشعر لا
…
يطمع في تسويده خده (2) وقال:
عجباً للمدام ماذا استعارت من سجايا معذبي وصفاته
طيب أنفاسه وطعم ثنايا هـ وسكر العقول من لحظاته
وسنا وجهه وتوريد خدي هـ ولطف الديباج من بشراته
والتداوي منها بها كالتداوي
…
برضى من هويت من سطواته (3)
(1) ق: وله أيضاً.
(2)
ق م:
.... الشمس لا
…
يطمع في تدنيسه حده (3) البيت والذي يليه سقطا من م.
وهي من بعد ذا علي حرام مثل تحريمه جنى رشفاته
ومن تآليفه نكت الكامل للمبرد وقد مر ذكر هذا الرجل الفرد قبل هذا.
وحضر يوماً مجلس ابن ذي النون، فقدم نوع من الحلوى يعرف بآذان القاضي، فتهافت جماعة من خواصه عليها يقصدون التندير فيه، وجعلوا يكثرون من أكلها، وكان فيما قدم من الفاكهة طبق فيه نوع يسمى عيون البقر، فقال له المأمون: يا قاضي أرى هؤلاء يأكلون أذنيك، فقال: وأنا أيضاً آكل عيونهم، وكشف عن الطبق، وجعل يأكل منه، وكان هذا من الاتفاق الغريب.
620 -
وكان الفاضل ابو الحسين ابن الوزير أبي جعفر الوقشي آية الله في الظرف، وكيف لا ووالداه الوزير أبو جعفر، وصهره أبو الحسين ابن جبير، وشيخه في علم الموسيقى والتهذيب والظرف والتدريب أبو الحسن ابن الحسن ابن الحاسب شيخ هذه الطريقة، وقد رزق أبو الحسين المذكور فيها ذوقاً مع صوت بديع، أشهى من الكأس للخليع، قال أبو عمران ابن سعيد: ما سمعته إلا تذكرت قول الرصافي (1) :
ومطارح مما تجس بنانه لحناً أفاض عليه ماء وقاره
يثني الحمام فلا يروح لوكره طرباً، ورزق بنيه في منقاره
وكنت أرتاح إلى لقائه، ارتياح العليل إلى شفائه، ولم أزل أقرع باباً فباباً، وأخرق للاتصال حجاباً فحجاباً، حتى هجمت مع شفيع لا يرد عليه، وجلست بين يديه، فحينئذ حرضه حسبه على الإكرام، وتلقى بما أوسع من البشر والسلام، وقال: ليعلم سيدي أني كنت أود الناس في لقائه، وأحبهم في
(1) ديوان الرصافي: 101 (نقلا عن النفح) .
إخائه، والحمد لله الذي جعلني أنشد:
وليس الذي يتبع الوبل رائداً كمن جاءه في داره رائد الوبل
ثم قام إلى خزانة، فأخرج منها عود غناء يطرب دون أن تجس أوتاره، وتلحن أشعاره، واندفع يغني دون أن أسأله ذلك، ولا أتجشم تكليفه الدخول في تلك المسالك:
ومل زلت أرجو في الزمان لقائكم فقد يسر الرحمن ما كنت أرتجي
فذكركم ما زلت أتلوه دائباً إذا ذكروا ما بين سلمى ومنعج
فلما فرغ من استهلاله وعمله قبلت رأسه، وقلت له: لا أدري علام أشكرك قبل، هل على تعجيلك بما لم تدعني أسألك في شأنه أم على ما تفردت في إحسانه فما هذا الصوت قال: هذا نشيد خسرواني من تلحيني، قال: وأنشدني لنفسه:
حننت إلى صوت النواعير سحرة فأضحى فؤادي لا يقر ولا يهدا
وفاضت دموعي مثل فيض دموعها أطارحها تلك الصبابة والوجدا
وزاد غرامي حين أكثر عاذلي فقلت له أقصر ولا تقدح الزندا
اهيم بهم في كل واد صبابة وأزداد مع طول البعاد لهم ودا
وأنشدني لنفسه:
ولقد مررت على المنازل بعدهم أبكي وأسأل عنهم وأنوح
وقال: وكتب إلي:
يا حسرة ما قضت من لذة وطرا أين الزمان الذي يرجى به الخلف
أبكيك ملء جفوني ثم يرجعني إلى التصبر ثم أنصرف
قال أبو عمران: وكنت في أيام الفتنة إذا ركنت إلى الآمال، هونت على نفسي ما ألقى من أهوالها بقولي مع خاطري قوله:
أين الزمان الذي يرجى به الخلف
انتهى.
621 -
وكان أبو الحسين علي بن الحمارة (1) ممن برع في الألحان وعلمها، وهو من أهل غرناطة، واشتهر عنه أنه كان يعمد إلى الشعراء (2) ، فيقطع العود بيده، ثم يصنع منه عوداً للغناء، وينظم الشعر ويلحنه، ويغني به، فيطرب سامعيه، ومن شعره قوله:
إذا ظن وكري مقلتي طائر الكرى رأى هدبها فارتاع خوف الحبائل
وقال بعض العلماء في حقه: إنه آخر فلاسفة الأندلس، وقال: وأعجب ما وقع له في الشعر أنه دخل سلا وقد فرغ ابن عشرة من بناء قصره، والشعراء تنشده في ذلك، فارتجل ابن الحمارة هذين البيتين، وأنشدهما بعدهم:
يا واحد الناس قد شيدت واحدة فحل فيها محل الشمس في الحمل
فما كدارك في الدنيا لذي أمل ولا كدارك في الأخرى لذي عمل
وسيأتي ذكر هذين البيتين.
622 -
وكان أهل الأندلس في غاية الاستحضار للمسائل العلمية على البديهة،
(1) ترجمته في المغرب 2: 120 وفيه أبو عامر محمد بن الحمارة، وانظر الوافي 2: 242 وبغية الملتمس ص: 517.
(2)
م: الشجر.
قال ابن مسدي: أملى علينا ابن المناصف النحوي بدانية على قول سيبويه هذا باب ما الكلم من العربية عشرين كراساً، بسط القول فيها في مائة وثلاثين وجهاً، انتهى.
وهذا وأشباهه يكفيك في تبحر أهل الأندلس في العلم، وربما سئل العالم منهم عن مسألة التي يحتاج في جوابها إلى مطالعة ونظر، فلم يحتج إلى ذلك، ويذكر من فكره ما لا يحتاج معه إلى زيادة.
623 -
ومن الحكايات في مثل ذلك أن الأديب البليغ الحافظ أبا بكر ابن حبيش لما قال في تخميسه المشهور:
بماذا على كل من الحق أوجبت
اعترض عليه أبو زكريا اليفرني بما نصه: استعمل المخمس ماذا في البيت تكثيراً وخبراً، والمعروف من كلام العرب استعمالها استفهاماً، فجاوبه بقوله: أما استعمالها استفهاماً كما قال فكثير، لا يحتاج إلى شاهد، وأما استعمالها في ألسن فصحاء العرب للكثرة فكثير لا يحتاج إلى شاهد لو وصل بحث، واستعمل مكث، فلم يعترض علي ولي، ولا تشكك في جلي:
ولا يصح في الأفهام شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
قال الله تعالى في سورة يونس " قل انظروا ماذا في السموات والأرض، وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون " ووقع في صحيح البخاري في رثاء المقتولين من المشركين يوم بدر (1) :
وماذا بالقليب قليب بدر
…
ومن الفتيان والشرب الكرام (2)
(1) الشعر لشداد بن الأسود؛ انظر أنساب الأشراف 1: 307 وابن هشام: 530 وفي مناقب الأنصار من البخاري 43/63 (حديث: 21) .
(2)
روايته في البلاذري:
ونقب عن أخيك أبي يزيد
…
أخي القينات والشرب الكرام
وماذا بالقليب قليب بدر
…
من الشيزى تكلل بالسنام (1) وفي السير في رثاء المذكورين أيضاً (2) :
وماذا ببدر فالعقنقل من مرازبة جحاجح
وهذا الشعر لأميةبن أبي الصلت الثقفي، ووقع في الأغاني للوليد بن يزيد يرثي نديماً له يعرف بابن الطويل (3) :
لله قبر ضمنت فيه عظام ابن الطويل
ماذا تضمن إذ ثوى فيه من الرأي الصيل
والخبر طويل، وأجلى من هذا وأعلى، وأحق بكل تقديم وأولى، ولكن الواو لا تفيد رتبة، ولا تتضمن نسبة، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ماذا أنزل الليلة من الفتن " وهو في الصحاح (4) ، ووقع في الحماسة، وقد أجمعوا على الاستشهاد بكل ما فيها:
ماذا أجال وثيرة (5) بن سماك
…
من دمع باكية عليه وباك (6) وفي الحماسة أيضاً وأظنها لأبي دهبل (7) :
ماذا رزئنا غداة الحل من زمع عند التفرق من خيم ومن كرم
ووقع في نوادر القالي لكعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه أبا المغوار (8) :
(1) القليب: البئر؛ والشيزي: جفان تصنع من خشب بهذا الاسم.
(2)
الأبيات في أنساب الأشراف 1: 306 وابن هشام: 531 - 532.
(3)
انظر ديوانه: 58 (نقلاً عن الأغاني 6: 133) .
(4)
م: الصحيح.
(5)
م ق: أحال؛ ق: وتيرة؛ وهو رواية ثانية.
(6)
الحماسية رقم: 320 من شرح المرزوقي.
(7)
هي الحماسية رقم: 706 لأبي دهبل.
(8)
أمالي القالي 2: 146.
هوت أمه ما يبعث الصبح غادياً وماذا يرد الليل حين يؤوب
ووقع في شعر الخنساء ترثي أخاها صخراً:
ألا ثكلت أم الذين غدوا به إلى القبر ماذا يحملون إلى القبر
وماذا يواري القبر تحت ترابه من الحود في بؤسى الحوادث والدهر
ولجرير وهو في الحماسة (1) :
إن الذين غدوا بلبك غادروا وشلاً بعينك لا يزال معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي ماذا لقيت من الهوى ولقينا
وفي الحماسة أيضاً (2) :
ماذا من البعد بين البخل والجود
ووقع في الحماسة أيضاً، وهو لامرأة (3) :
هوت أمهم ماذا بهم يوم صرعوا بجيشان من أسباب مجد تصرما
أرادت ماذا تصرم لهم يوم صرعوا بجيشان من أسباب مجد تصرما.
ومما يستظهر به قول أبي الطيب المتنبي:
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبها أني بما أنا باك منه محسود
وقوله أيضاً:
وماذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا
(1) ديوان جرير: 476.
(2)
الحماسية رقم: 685 وصدره: ألا ترين وقد قطعتني عذلا.
(3)
هو لأم الصريح، الحماسية:318.
ومن ملح المتأخرين: كان بمرسية أبو جعفر المذكور في المطمح، وكان يلقب بالبقيرة، فقال فيه بعض أهل عصره:
قالوا: البقيرة يهجونا فقلت لهم: ماذا دهيت به حتى من البقر
هذا وليس بثور بل هو ابنته وأين منزلة الأنثى من الذكر
وأنشد صاحب الزهر، ولا أذكر قائله (1) :
ماذا لقيت من المستعربين ومن قياس قولهم هذا الذي ابتدعوا
إن قلت قافية بكراً يكون لها معنى يخالف ما قالوا وما وضعوا
قالوا لحنت وهذا الحرف منتصب وذاك خفض، وهذا ليس يرتفع
وضربوا بين عبد الله واجتهدوا وبين زيد فطال الضرب والوجع
وقال صاحب الزهر (2) : أنشد أبو حاتم ولم يسم قائله:
ألا في سبيل الله ماذا تضمنت بطون الثرى واستودع البلد القفر
هذا ما حضر بفضل الله من الاستشهاد على أن ماذا تستعمل بمعنى الخبر والتكثير، ووالله الذي لا إله غيره ما طالعت عليه كتاباً، ولا فتحت فيه باباً، وإنما هو ثمالة من حوض التدكار، وصبابة مما علق به شرك الأفكار، وأثر مما سدك به السمع، أيام خلو الذرع، وعقدت علي الحبى، في عصر الصبا، ورحم الله من تصفح، وتلمح فتسمح، وصحح ما وقع إليه (3) من الاعتلال، وأصلح ما وضع لديه من اختلال، فخير الناس، من أخذ بالبر والإيناس، فبصر من جهلة، وادكر عن وهلة، وإنما المؤمنون إخوة،
(1) لم أجده في زهر الآداب.
(2)
م: الروض؛ وانظر زهر الآداب: 796.
(3)
م: له.
وتحابهم في الله رفعة وحظوة، ولهم في السلف الكريم، ومحافظتهم على الود القديم، أسوة كريمة وقدوة.
قال ابن الطراح: انظر تحصيل هذا الإمام الرئيس، والأسمى النفيس، واستحضاره كلام الدباء، وسير النقاد البلغاء، ومساجلته مع فرسان المعاني، ووصفه تلك المغاني، وقد كان حالم لواء الأدب
وفائق أبناء جنسه فب مرقب الطلب، وهذه الكلمة - أعني ماذا - جرت بسببها مناظرة بين الأستاذ ابي الحسين (1) ابن أبي الربيع النحوي المشهور وبين مالك بن المرحل بسبتة، حتى ألف مالك كتاب الرمي بالحصى والضرب بالعصى وفيه هنات لا ينبغي لعاقل أن يذكرها، ولا لذي طي في البيان ان ينشرها، وفي ذلك قال الأستاذ أبو الحسين رحمه الله تعالى:
كان ماذا ليتها عدم جنبوها قربها ندم
ليتنب يا مال لم ارها إنها كالنار تضطرم
وقوله يا مال ترخيم مالك.
وحكى الستاذ ابن غازي أنهم اختلفوا: هل يقال: كان ماذا أم لا وقال: إن الأستاذ ابن أبي الربيع تطفل على مالك بن المرحل في الشعر، كما أن ابن المرحل تطفل عليه في النحو، قال: ومن نظم مالك بن المرحل في هذه القضية:
عاب قوم كان ماذا ليت شعري كان ماذا
إن يكن ذلك جهلاً منهم فكان ماذا
ومن نظم ابن حبيش المذكور قوله:
(1) م: الحسن، في الموضعين.
إذا ما شئت أن تحيا هنياً رفيع القدر ذا نفس كريمه
فلا تشفع إلى رجل كبير ولا تشهد ولا تحضر وليمه
وله أيضاً:
لأعملن إلى لقياكم قدمي ولو تجشمت بين الطين والماء
لأن يبل ثيابي الغيث أهون بي من أن تحرق نار الشوق أحشائي
ترجمة اليفرني النحوي
وأبو زكريا المعترض على ابن حبيش هو الفقيه النحوي الديب أبو زكريا يحيى بن علي بن سلطان اليفرني (1) ، ولد سنة 641، وبرع في العربية، وكان يلقب في المشرق جبل النحو، وكان عند نفسه مجتهداً، وكان لا يجيز نكاح الكتابيات، خلافاً للإمام مالك، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، ويتمسك بقوله تعالى " وجعل بينكم مودة ورحمة " وكان يرى أن الطلاق لا يكون إلا مرتين: مرة للاستبراء، ومرة للانفصال، ولا يقول بالثلاث، وهو خلف الإجماع، وكان يقول في نهيه عليه الصلاة والسلام عن أكل ذي ناب من السباع: أي مأكول كل ذي ناب، وتبقى هي على الإباحة، ويدل عليه قوله تعالى " وما أكل السبع " وكان يقول في قوله تعالى " إن هذان لساحران " الهاء اسم إن، وذان لساحران جملة خبر لإن، ولا تحتاج لرابط لأنها تفسيرية، والمعنى عنده وأسروا النجوى قالوا إنها أي نجوانا هذان لساحران، أي قولنا هذان لساحران، تثبيطاً للناس عن اتباعهما، وخط المصحف يرده، لكن في المصحف أشياء كتبت على غير المصطلح، مثل مال هذا، ولا أوضعوا
(1) انظر ترجمته في بغية الوعاة: 412 وفيه نقل عن رحلة ابن رشيد.
ولا أذبحه. قال ابن الطراح: ورأيت هذا المعنى لغيره، وأظنه ابن النحاس، وتوفي اليفرني المذكور سنة 700، ومن شعره:
ماذا على الغصن المياس لو عطفا على صبابة صب حالف الدنفا
يا رحمة لفؤادي من معذبه كم ذا يحمله أن يحمل الكلفا
ويا رعى الله داراً ظل يجمعنا
…
في ظل عيش صفا من طيبه وضفا (1) مودة بيننا في الحب كاملة ونحن لا نعرف الإعراض والصلفا
رجع إلى كلام الأندلسيين
624 -
قال صالح بن شريف الرندي رحمه الله تعالى في سكين الكتابة:
أنا صمصامة الكتابة، ما لي من شبيه في المرهفات الرقاق
فكاني في الحسن يوم وصال وكأني في القطع يوم فراق
وقال في المقص:
ومصطحبين ما اتهما بعشق وإن وصفا بضم واعتناق
لعمر أبيك ما اجتمعا لشيء سوى معنى القطيعة والفراق
625 -
ولبعض الأندلسيين:
هلا اقتدى ذو خلة بفعالنا فيكون واصل خله كوصالنا
مهما يجئ أحد ليقطع بيننا نقطعه ثم نعد لأحسن حالنا
626 -
وجرح بعض الكتاب يده بالمقص، فأنشد أحد جلسائه، وغالب ظني أنه أندلسي:
(1) م: ضفا من طيبه وصفا.
عداوة لا لكفك من قديم فلا تعجب لمقراض لئيم
لئن أدماك فهو للا شبيه وقد يعدو اللئيم على الكريم
627 -
ولما ألف ابن عصفور كتابه المقرب في النحو انتقده جماعة من أهل قطره الأندلسيين وغيرهم، منهم ابن الصائغ وابن هشام الجزيري، وله عليه المنهج المعرب في الرد على المقرب وفيه تخليط كثير وتعسف:
وفي تعب من يحسد الشمس نورها ويأمل أن ياتي لها بضريب
ومنهم ابن الحاج وأبو الحسن حازم القرطجاني الخزرجي، وسماه شد الزيار على جحفلة الحمار، وابن مؤمن القابسي، وبهاء الدين ابن النحاس.
628 -
ومن شعر حازم الأندلسي المذكور قوله:
لم تدر إذ سألتك ما أسلاكها أبكت أسى أم قطعت أسلاكها
وعارضه التجاني بقوله:
يا ساحر الألحاظ يا فتاكها فتيا جواز الصد من أفتاكها
629 -
ومن حكاياتهم في المجون (1) وما يجري مجراه أن الوزير ابا بكر ابن الملح كان له ابن شاب، فاسترسل مع الأدب إلى أن خرج من القول إلى الفعل، واتى بأشياء لا تليق بمثله، فكتب إليه أبوه:
يا سخنة العين يا بنيا ليتك ما كنت لي بنيا
أبكيت عيني، أطلت حزني أمت صيتي وكان حيا
حططت قدري وكان أعلى في كل حال من الثريا
(1) قد وردت هذه القصة والشعر فيما مر ص: 71 وسقطت من م.
أما كفاك الزنا ارتكاباً وشرب مسشمولة الحميا
حتى ضربت الدفوف جهراً وقلت للشر: جئ إليا
فاليوم أبكيك ملء عيني لو كان يغني البكاء شيا
فأجابه ابنه بقوله:
يا لائم الصب في التصابي ما عنك يغني البكاء شيا
أوجفت خيل العتاب نحوي وقبل وثبتها إليا
وقلت عمر الهنا قصير فاربح من العيش ما تهيا
قد كنت أرجو المتاب مما فتنت جهلاً به وغيا
لولا ثلاث شيوخ سوء أنت وإبليس والحميا
630 -
وقال أبو جعفر ابن صفوان المالقي رحمه الله تعالى:
سألته الإتيان نحوي مقبلاً فقال سل نحوي كي تحصلا
قرأت باب الجمع من شوقي له وهو بالاشتغال عني قد سلا
للاستغاثة ابتدأت تالياً وهو لأفعال التعدي قد تلا
وكلما طلبت منه في الهوى عطفاً غدا يطلب مني بدلا
وإن أرم محض إضافة له أعمل في قطعي عنه الحيلا
في ألف الوصل ظللت باحثاً وهو باب الفصل قد تكفلا
فلست موصولاُ وليس عائداً وليس حالي عن أسى منتقلا
فيا منى نفسي ومن لفهمه دانت فهوم الأذكياء النبلا
وجدي موقوف عليك لا أرى عنك مدى الدهر له تنقلا
فما الذي يمنع من تسكينه والوقف بالتسكين حكم أعملا
والحب مرفوع إليك مفرد فلم ترى لضمتي مستثقلا
فالضم للرفع غدا علامة في مفرد مثلي فأوضح مشكلا
لا زلت للهيام عني رافعاً للوصل ناصباً، لقولي معملا
للشوق مسكناً، لهجري صارفاً بالقرب من حال البعاد مبدلا
تجزم أمراً في الأماني ماضياً وتبتدي بما تشا مستقبلا
631 -
وقال محمد بن إدريس القضاعي الأصطبوني:
علاه رياض أورقت بمحامد تنور بالجدوى وتثمر بالأمل
تسح عليها من نداه غمامة تروي ثرى المعروف بالعل والنهل
وهل هو إلا الشمس نفساً ورفعة فيقرب بالجدوى ويبعد بالأمل
تعم أياديه البرية كلها فدان وقاص جود كفيه قد شمل
632 -
وقال محمد التطيلي الهذلي، من أعيان غرناطة (1) :
جارت علي لواحظ الآرام لما رمت أجفانها بسهام
حكمت علي بحكمها فتبسمت فغدا الضنى منها لدى أحكام
يا قاتلي عمداً بسيف لحاظه اغمد ظباه قبل وقع حمامي
كم رمت وصلك والصدود يصدني ويفل عزمي أمره ومرامي
إني عدمت النفس يوم فراقكم والبين أسلمها إلى الإعدام
كيف المقام وأصل جسمي ناحل إن النفوس مقيمة الأجسام
صعب العلاج فكيف يمكن برؤها حتى يعود الشهر مثل العام
قد كنت أفرح بالسلو فها أنا قد زم قلبي في الهوى بزمام
مالت به نحو الفتون بدائع من شادن يحكيه بدر تمام
فقوام أنفسنا بلذة وصله وجميع أعيننا عليه سوام
قد أبرزت خداه روض محاسن عظمت على الأفكار والأوهام
(1) ترجمة الهذلي التطيلي في المغرب 2: 450 وبرنامج الرعيني: 202؛ والمقري ينقل عن الإحاطة.
تندى بماء شبيبة وتنعم فيروق منها الزهر في الأكمام
فكأنما وجناتها في لونها ورد الرياض ربا بصوب غمام
وكأنما درع الدجى من شعره قد حاكه منها يد الإظلام
وكأنما ريق حواه ثغره مسك أديف بعنبر ومدام
وكأنما سيف نضت ألحاظه سيف الأمير ممهد الإسلام
ذاك الأمير محمد بن محمد ناهيك من ملك أغر الإعظام
لو كان يعتقل السها لأتاه في شكل الفتاة ملثماً بلثام
أو كان يرضى بالمجرة أجرداً لجرت إلى الإسراج والإلجام
فالسعد يفعل للأماني قولها والنصر يخدمه مع الأيام
واليوم يعشقه ويحسد ليله فيه كعشق سيوفه للهام
نامت عيون الشرك خوف سنانه لولاه ما اكتحلت بطيف منام
بهر الأنام بسيفه وببأسه فسبى وأنعم أيما إنعام
فالمعتفي يجني جزيل هباته والمعتدي يصلى الردى بحسام
مهما استعنت به فضيغم معرك وإذا استجرت به فطود شمام
أجرى مياه العدل بعد جفوفها وأزال نار الظلم بعد ضرام
كم من كتيبة جحفل قد هدها في معرك بمهند صمصام
المقتني الجرد المذاكي عدة للكر في الأعداء والإقدام
من كل أبيض كان اديمه لون الصباح أتى عقيب ظلام
ومنها:
يا خير من ركب الجياد وقادها تحت اللواء، وعمدة الأقوام
لا زلتم والسعد يخدم أمركم فب غبطة موصولة بدوام
حتى يصير الأمن في أرجائنا عبداً يقوم لنا على الإقدام
والله ينصركم ويعلي مجدكم ماسح إثر الصحو ماء غمام
633 -
وكان يحيى السرقسطي أديباً، فرجع إلى الجزارين، فأمر الحاجب ابن هود أبا الفضل ابن حسداي أن يوبخه على ذلك، فكتب إليه (1) :
تركت الشعر من عدم الإصابه وملت إلى التجارة والقصابه
فأجابه يحيى:
تعيب علي مألوف القصابه ومن لم يدر قد الشيء عابه
ولو أحكمت منها بعض فن لما استبدلت منها بالحجابه
ولو تدري بها كلفي ووجدي علمت علام أحتمل الصبابه
وإنك لو طلعت علي يوماً وحولي من بني كلب عصابه
لهالك ما رأيت وقلت هذا هزبر صير الأوضام غابه
وكم شهدت لنا كلب وهر بأن المجد قد حزنا لبابه
فتكنا في بني العنزي فتكاً أقر الذعر فيهم والمهابه
ولم نقلع عن الثوري حتى مزجنا بالدم القاني لعابه
ومن يغتر منهم بامتناع فإن إلى صوارمنا إبابه
ويبرز واحد منا لألف فيغلبهم وذاك من الغرابه
ومنها:
أبا الفضل الوزير أجب ندائي وفضلك ضامن عنك الإجابه
وإصغاء إلى شكوى شكور أطلت على صناعته عتابه
وحقك ما تركت الشعر حتى
…
رأيت البخل (2) قد أوصى صحابه (3)
(1) المغرب 2: 44 والذخيرة (3: 286) وزاد المسافر: 98.
(2)
م: المحل.
(3)
المغرب: أذكى شهابه.
وحتى زرت مشتاقاُ خليلي (1)
…
فأبدى لي التحيل (2) والكآبه وظن زيارتي لطلاب شيء فنافرني وغلظ لي حجابه
634 -
وقال الأديب أبو الحسن ابن الحداد:
قالت وأبدت صفحة كالشمس من تحت القناع
بعت الدفاتر وهي آخر ما يباع من المتاع
فأجبتها ويدي على كبدي وهمت بانصداع
لا تعجبي مما رأي ت فنحن في زمن الضياع
635 -
وقال الأديب أبو زكريا ابن مطروح من أهل مدينة باغه، وقد عزل وال فنزل المطر على إثره، وهو من أحسن شعر قاله، وكان الوالي غير مرضي:
ورب وال سرنا عزله فبعضنا هنأه البعض
قد واصلتنا السحب من بعده ولذ في أجفاننا الغمض
لو لم يكن من نجس شخصه ما طهرت من بعده الأرض
636 -
وقال القاضي أبو البركات ابن الحاج البلفيقي، رحمه الله تعالى:
وعشية حكمت على من تاب من أهل الخلاعة أن يعود لما مضى
جمعت لنا شمل السرور بفتية إلا الرياء مع الخطابة والقضا
637 -
وقال أبو الحجاج يوسف الفهري من أهل دانية:
(1) المغرب: حبيباً.
(2)
ق: التخيل؛ المغرب: التجهم.
أبى الله إلا أن أفارق منزلاً يطالعني وجه المنى فيه سافرا
كأن على الأيام أن لا أحله رويداً فما أغشاه إلا مسافرا
638 -
وقال بعضهم في الرثاء:
عبرات تفيض حزناً وثكلا وشجون تعم بعضاً وكلا
ليس إلا صبابة أضرمتها حسرة تبعث الأسى ليس إلا
639 -
ولأبي جعفر البغيل أحد شعراء المرية وكتابها:
عزاء على هذا المصاب الذي دهى وشتت شمل الأنس من بعد ما انتهى
بفرع علاء في منابت سؤدد تسامى رقياً في المعالي إلى السها
أصبت به من بعد ما تم مجده وقد شمخت منه الشماريخ وازدهى
فأية شمس فيه للمجد كورت وأي بناء للمكارم قد وهى
فصبراً عليه لا رزئت بمثله فمثلك من يعزى إلى الحلم والنهى
640 -
وقال الكاتب الماهر أبو جعفر أحمد بن أيوب اللمائي المالقي (1) :
طلعت طلائع للربيع فأطلعت فب الروض ورداً قبل حين أوانه
حيا أمير المؤمنين مبشراً ومؤملاً للنيل من إحسانه
ضنت سحائبه عليه بمائه فأتاه يستسقيه ماء بنانه
دامت لنا أيامه موصولة بالعز والتمكين في سلطانه
641 -
وقال أبو جعفر أحمد بن طلحة من جزيرة شقر (2) :
يا هل ترى أظرف من يومنا قلد جيد الأفق طوق العقيق
وأنطق الورق بعيدانها مطربة كل قضيب وريق
(1) الإحاطة 1: 110.
(2)
اختصار القدح: 114 والإحاطة 1: 112.
والشمس لا تشرب خمر الندى في الروض إلا بكؤوس الشقيق
642 -
وقال أبو جعفر الغساني من أهل وادي آش، واستوطن غرناطة، ثم مات بالمرية، فكتب على حمالة قراب لموطإ الإمام مالك، بعدما استنجد قرائح أدباء عصره، واستصرخ الختراعاتهم لنصره، فكلهم قصر عن غرضه، وأداء مفترضه، فقال هو:
يا طالباً لكمال حفظي أتم كمالك
فما تقلدت مثلي إذ لم تقلد كمالك
643 -
وقال أبو بكر يحيى بن بقي:
خذها على وجه الربيع المخصب لم يقض حق الروض من لم يشرب
هممي سماء علاً وهمي مارد فارجمه من تلك الكؤوس بكوكب
وهو رحمه الله تعالى صاحب الأبيات المشهورة:
زحزحته عن أضلع تشتاقه كيلا ينام على فراش خافق
وانتقد عليه بعض اللطفاء فقال: إنه كالن جافي الطبع حيث قال زحزحته ولو قال باعدت عنه أضلعاً تشتاقه لكان أحسن.
644 -
وقال السلطان المتوكل بن الأفطس صاحب بطليوس يستدعي (1) :
انهض أبا طالب إلينا واسقط سقوط الندى علينا
فنحن عقد بغير وسطى ما لم تكن حاضراً لدينا
وتذكرت هنا بعض المشارقة فيما أظن والله تعالى أعلم:
(1) القلائد: 46 وانظر ج 1: 666.
نحن في مجلس أنس ما به غير محبك
فتصدق بحضور واجمع الوقت بقربك
وخف الآن عتابي مثل خوفي عند عتبك
645 -
وقال أبو عبد الله ابن خلصة الضرير (1) :
ولو جاد بالدنيا وثنى بمثلها لظن من استصغارها أنه ضنا
ولا عيب في إنعامه غير أنه إذا من لم يتبع مواهبه منا
وله أيضاً (2) :
يا مالكاً حسدت عليه زمانه أمم خلت من قبله وقرون
ما لي أرى الآمال بيضاً وضحاً ووجوه آمالي حوالك جون
أنا آمن فرق، وراج آيس ورو صد، ومسرح مسجون
646 -
وقال ابن اللبانة:
كرمت فلا بحر حكاك ولا حياً وفت فلا عجم
وأوليتني منك الجميل فواله عسى السح من نعماك يتبعه السكب
647 -
وقال أبو علي ابن اليمان (3) :
أبنات الهديل أسعدن أو عد ن قليل العزاء بالإسعاد
بيد أني لا أرتضي ما فعلت ن فأطواقكن في الأجياد
(1) هو أبو عبد الله محمد بن خلصة الذوني ويقال له الضرير تمييزاً عن من ينسب سواه إلى خلصة، انظر الجذوة: 51 ونكت الهميان: 248 والمسالك 11: 45 والذخيرة (3: 109) .
(2)
الذخيرة: 111.
(3)
هو إدريس بن اليمان؛ ووهم المقري أو من ينقل عنه في نسبة البيتين له فهما لأبي العلاء المعري من داليته " غير مجد في ملتي واعتقادي "، ولعل سبب الوهم أبيات ابن اليمان في الحمامة (الذخيرة 3: 119) .
648 -
وقال أبو أحمد بن الدودين من كلمة (1) :
فغدت غواني الحي عنك غوانياً وأسلن ألحاظ الرباب ربابا
649 -
وقال ابن أبي الخصال في مليحة لها أربع جوار قبيحات:
وليلة طولها على سنة بات بها الجفن نادباً وسنه
بأربع بينهن واحدة كسيئات وبينها حسنه
650 -
وقال غالب بن تمام الملقب بالحجام:
صغار الناس أكثرهم قبيحاً وليس لهم بصالحة نهوض
ألم تر في سباع الطير نسراً يسالمنا ويؤذينا البعوض
651 -
وقال ابن عائشة (2) :
وروضة قد علت سماء تطلع أزهارها نجوما
هفا نسيم الصبا عليها
…
فخلتها أرسلت رجوما (3) كأنما الجو غار لما بدت فأغرى بها النسيما
وله يصف فرساً، وهو من بدائعه:
قصرت له تسع وطالت أربع وزكت ثلاث منه للمتأمل
وكأنما سال الظلام بمتنه وبدا الصباح بوجهه المتهلل
وكأن راكبه على ظهر الصبا من سرعة أو فوق ظهر الشمأل
(1) هو من رجال الذخيرة (3: 219) والمغرب 2: 322؛ والبيت فيه.
(2)
مرت هذه الأبيات ص: 54 وانظر الذخيرة (3: 279) .
(3)
سقط هذا البيت من م.
وقال:
تربة مسك، وجو عنبرة وغيم ند، وطش ما ورد
كأنما جائل الحباب به يلعب في جانبيه بالنرد
وتروى هذه الأبيات لغيره (1) .
وقال (2) :
هم سلبوني حسن صبري إذ بانوا بأقمار أطواق مطالعها بان
لئن غادروني باللوى إن مهجتي مسايرة أظغانهم حيثما كانوا
652 -
وقال أبو محمد ابن سفيان، وهو من أبدع التخلص:
فقلت وجفني وقد تداعت شؤونه وحر ضلوعي مقعد ومقيم
لئن دهمت دهم الخطوب وآلمت فإن أبا عيسى أغر كريم
653 -
وقال ابن الزقاق (3) :
بأبي وغير أبي أغن مهفهف مهضوم ما تحت الوشاح خميصه
لبس الفؤاد ومزقته جفونه فأتى كيوسف حين قد قميصه
وقال:
سلام على أيامكم ما بكى الحيا وسقياً لذاك العهد ما ابتسم الزهر
كأن لم نبت في ظل أمن تضمنا من الليلة الظلماء أردية خضر
ولم نغتبق تلك الأحاديث قهوة وكم نجلس طيب الحديث به خمر
ألا في ضمان الله في كل ساعة يجدد لي فيها بشوقي له ذكر
(1) وتروى
…
لغيره: سقطت من م.
(2)
وردت القصيدة بتمامها في أزهار الرياض 3: 121 منسوبة لابن السيد البطليوسي.
(3)
وردت قطعتا ابن الزقاق في ديوانه: 196، 171.
يذكرنيه البرق جذلان باسماً ويذكرني إسفار غرته الفجر
وما رق زهر الروض إلا تمثلت لناظر عيني منه آدابه الزهر
654 -
وقال يحيى السرقسطي:
هاتها عسجدية كوثريه بنت كرم رحيقة عطريه
كلما شفها النحول تقوت فاعجبوا من ضعيفة وقويه
رب خمارة سريت إليها والدجى في ثيابه الزنجيه
ومنها:
كم عقار بدلته بعقار وثياب صبغتها خمريه
إن خير البيوع ما كان نقداً ليس ما كان آجلاً بنسيه
وله (1) :
نسبتم الظلم لعمالكم ونمتم عن قبح أعمالكم
والله لو حكمتم ساعة ما خطر العدل على بالكم
655 -
وقال الرصافي في الدولاب (2) :
وذي حنين يكاد شجواً يختلس الأنفس اختلاسا
إذا غدا للرياض جاراً وقال لها المحل لا مساسا
يبتسم الروض حين يبكي بأدمع ما رأين باسا
من كل جفن يسل سيفاً صار له عقده رئاسا
656 -
وخرج أبو بكر الصابوني لنزهة بوادي إشبيلية، وكان يهوى
(1) زاد المسافر: 99.
(2)
ديوان الرصافي: 102 والمغرب 2: 351 والمعجب: 143 ورفع الحجب: 135.
فتى اسمه علي، فقال:
أبا حسن أبا حسن بعادك قد نفى وسني
وما أنسى تذكره فهل أنسى فيذكرني
ويشبه هذا القول الطاهر بن أبي ركب (1) :
يقول الناس في مثل تذكر غائباً تره
فما لي لاأرى سكني وما أنسى تذكره
657 -
وكتب بعض الأدباء إلى ابن حزم الأندلسي بقوله:
سألت الوزير الفقيه الأجل سؤال مدل على من سأل
فقلت أيا خير مسترشداً ويا خير من عن إمام نقل
أيحرم أن نالني قبلة غزال ترشف فيه الغزل
وعانقني والدجى خاضب فبتنا ضجيعين حتى نصل
وجئتك أسأل مسترشداً فبين فديت لمن قد سأل
فأجابه ابن حزم بقوله:
إذا كان ما قلته صادقاً وكنت تحريت جهد المقل
وكان ضجيعك طاوي الحشا أعار المهاة احمرارالمقل
ففي أخذ أشهب عن مالك عن ابن شهاب عن الغير قل
بترك الخلاف على جمعهم على أن ذلك حل وبل
658 -
ونظر الرصافي يوماً إلى صبي يبكي، ويأخذ من ريقه ويبل
(1) انظر ما تقدم ص: 113.
عينيه، كي يخفي أثر البكاء، فارتجل الرصافي (1) :
عذيري من جذلان يبدي كآبة وأضلعه مما يحاوله صفر
أميلد مياس إذا قاده الصبا إلى ملح الإدلال أيده السحر
يبل مآقي مقلتيه بريقه ليحكي البكا عمداً كما ابتسم الزهر
أيوهم أن الدمع بل جفونه وهل عصرت يوماً من النرجس الخمر
وكان المذكور - أعني الرصافي - يميل في شبيبته لبعض فتيان الطلبة، وأجمع الطلبة على أن يصنعوا نزهة بالوادي الكبير بمالقة، فركبوا زورقاً للمسير إلى الوادي، فوافق أن اجتمع في الزورق شمل الرصافي بمحبوبه، ثم إن الريح الغربية عصفت وهاج البحر، ونزل المطر، فنزلوا من الزورق، وافترق شمل الرصافي من محبوبه، فارتجل في ذلك، ويقال إنها من أول شعره:
غار بي الغرب إذ رآني مجتمع الشمل بالحبيب
فأرسل الماء عن فراق وأرسل الريح عن رقيب
فلما سمع ذلك أستاذه استنبله، وقال له: إنك ستكون شاعر زمانك.
659 -
وحكي أن أبا بكر ابن مجبر قال في ابن لأبي الحسن ابن القطان بمحضره والده:
جاء وفي يساره قوس وفي اليمنى قدح
كأنه شمس بدت وحولها قوس قزح
يا لائمي في حبه ما كل من لام نصح
فقال ابن عياش الكاتب: هذه أبيات لأندلسي استوطن المشرق في تركي،
(1) ديوان الرصافي: 67.
فأقسم أبو بكر أنه لم يسمع شيئاً من ذلك، وإنما ارتجلها، وقيل: إنها لأبي الفتح محمد بن عبيد الله من أهل بغداد، وأولها:
جد بقلبي ومزح
فالله أعلم بحقيقة الأمر.
660 -
وخرج أبو بكر ابن طاهر وأبو ذر الحشني والقاضي أبو حفص ابن عمر، وهو إذ ذاك وسيم، فأثرت الشمس في وجهه، فقال أبو ذر:
وسمتك الشمس يا عمر سمة في القلب تنتثر
فقال الآخر:
علمت قدر الذي صنعت فأتت صفراء تعتذر
661 -
وقال أبو الحسين البلنسي الصوفي: كان لي صديق أمي لا يقرأ ولا يكتب، فعلق فتى، وكان خرج لنزهة فأثرت الشمس في وجهه، فأعجبه ذلك وأنشد:
رأيت أحمد لما جاء من سفر والشمس قد أثرت في وجهه أثرا
فانظر لما أثرته الشمس في قمر والشمس لا ينبغي أن تدرك القمرا
662 -
واجتمع أبو الوليد الوقشي وأبو مروان عبد الملك بن سراج القرطبي، وكانا فريدي عصرهما حفظاً وتقدماً، فتعارفا، وتساءلا، ثم بادر أبو الوليد بالسؤال، وقال: كيف يكون قول القائل:
ولو أن ما بي بالحصى فعل (1) الحصى
…
وبالريح لم يسمع لهن هبوبُ
(1) م: فلق.
ما ينبغي أن يكون مكان فعل الحصى فقال أبو مروان فلق الحصى، فقال: وهمت، إنما يكون قلق الحصى ليكون مطابقاً لقوله لم يسمع لهن هبوب يريد أن ما به يحرك ما شأنه السكون ويسكن ما شانه الحركة، فقال أبو مروان: ما يريد الشاعر بقوله:
وراكعة في ظل غصن منوطة بلؤلؤة نيطت بمنقار طائر
وكان اجتماعهما في مسجد، فأقيمت الصلاة إثر فراغ ابن سراج من إنشاد البيت، فلما انقضت الصلاة قال له الوقشي: ألغز الشاعر باسم أحمد، فالراكعة الحاء، والغصن كناية عن الألف، واللؤلؤة الميم، ومنقار الطائر الدال، فقال له ابن سراج: ينبغي أن تعيد الصلاة لشغل خاطرك بهذا اللغز، فقال له الوقشي: بين الإقامة وتكبيرة الإحرام فككته.
والبيت الأول لعبد الله بن الدمينة، وبعده:
ولو أنني أستغفر الله كلما ذكرتك لم تكتب علي ذنوب
663 -
وقال الوزير أبو الحسن ابن أضحى:
ومشتشفع عندي بخير الورى عندي وأولاهم بالشكر مني وبالحمد
وصلت فلما لم أقم بجزائه
…
" لففت له رأسي حياء من المجد "(1) وكان سبب قوله هذين البيتين أنه كتب إليه بعض الوزراء شافعاً لأحد الأعيان، فلما وصل إليه بره وأنزله وأعطاه عطاء استعظمه واستجزله، وخلع عليه خلعاً، وأطلعه من الأحمال بدراً لم يكن مطلعاً، ثم اعتقد أنه قد جاء مقصراً، فكتب إليه معتزراً بالبيتين، هكذا حكاه الفتح (2)، وقال بعد ذلك ما صورته: ومن باهر جلاله، وطاهر خلاله، أنه أعف الناس بواطن،
(1) عجز بيت لأبي تمام وصدره: " أتاني مع الركبان ظن ظننته ".
(2)
القلائد: 217 ومر بعضه.
أشرفهم في التقى مواطن، ما علمت له صبوة، ولا حلت له إلى مستنكر حبوة، مع عدل لا شيء يعدله، وتحجب عما يتقى مما يرسل عليه حجابه ويسدله، وكان لصاحب البلد الذي كان يتولى القضاء به ابن من أحسن الناس صورة، وكانت محاسن الأقوال والأفعال عليه مقصورة، مع ما شئت من لسن، وصوت حسن، وعفاف، واختلاط بالبهاء والتفاف، قال الفتح: وحملنا لإحدى ضياعه بقرب من حضرة غرناطة فحللنا قرية على ضفة نهر، أحسن من شاذ مهر، تشقها جداول كالصلال، ولا ترمقها الشمس من تكاثف الظلال، ومعنا جملة من أعيانها، فأحضرنا من أنواع الطعام، وأرانا من فرط الإكرام والإنعام، ما لا يطاق ولا يحد، ويقصر عن بعضه العد، وفي أثناء مقامنا بدا لي من ذلك الفتى المذكور ما أنكرته، فقابلته بكلام أعتقده، وملام أحقده، فلما كان من الغد لقيت منه اجتناب، ولم أر منه ما عهدته من الإنابة، فكتبت إليه مداعباً له، فراجعني بهذه القطعة:
أتتني أبا نصر نتيجة خاطر سريع كرجع الطرف في الخطرات
فأعربت عن وجد كمين طويته بأهيف طاو فاتر اللحظات
غزال أحم المقلتين عرفته بخيف منى للحسن أو عرفات
رماك فأصمي والقلوب رمية لكل كحيل الطرف ذي فتكات
وظن بأن القلب منك محصب فلباك من عينيه بالجمرات
تقرب بالنساك في كل منسك وضحى غداة النحر بالمهجات
وكانت له جيان مثوى فأصبحت ضلوعك مثواه بكل فلاة
يعز علينا أن تهيم فتنطوي كئيباً على الأشجان والزفرات
فلو قبلت للناس في الحب فدية فديناك بالأموال والبشرات
ومن إيثار ديانته، وعلامة حفظه للشرع وصيانته، وقصده مقصد المتورعين، وجريه جري المتشرعين، أن أحد أعيان بلده كان متصلاً به اتصال الناظر
بسواده، محتلاً في عينه وفؤاده (1) ، لا يسلمه إلى مكروه، ولا يفرده في حادث يعروه، وكان من الأدب في منزلة تقتضي إسعافه، ولا تورده من تشفيعه في مورد قد عافه، فكتب إليه ضارعاً في رجل من خواصه اختلط بامراة طلقها ثم تعلها، وخاطبه في ذلك بشعر، فلم يسعفه، وكتب إليه مراجعاً:
ألا أيها السيد المجتبى ويا أيها الألمعي العلم
أتتني أبياتك المحكمات بما قد حوت من ببيع الحكم
ولم أر من قببلها مثلها وقد نفثت سحرها في الكلم
ولكنه الدين لا يشترى بنثر ولا بنظام نظم
وكيف أبيح حمى مانعاً وكيف أحلل ما قد حرم
ألست أخاف عقاب الإله وناراً مؤججه تضطرم
أأصرفها طالقاً بتة على أنوك قد طغى واجترم
ولو أن ذاك الغوي (2) الزري
…
تثبت في أمره ما ندم ولكنه طاش مستعجلاً فكان أحق الورى بالندم
انتهى كلام الفتح الذي أردت جلبه هنا.
ولا خفاء أن هذه الحكاية مما يدخل في حكايات عدل قاة الأندلس.
ومن نظم ابن الضحى المذكور ما كتب به إلى بعض من يعز عليه (3) :
يا ساكن القلق رفقاً كم تقطعه الله في منزل قد ظل مثواكا
يشيد الناس للتحصين منزلهم وأنت تهدمه بالعنف عيناكا
والله والله ما حبي لفاحشة أعاذني الله من هذا وعافاكا
(1) م: محتفلا في عينيه وفؤاده.
(2)
م: الغبي.
(3)
القلائد: 218.
وله في مثل ذلك (1) :
روحي غليك فرديه إلى جسدي من لي على فقده بالصبر والجلد
بالله زوري كئيباً لا عزاء له وشرفيه ومثواه غداة غد
لو تعلمين بما ألقاه يا أملي بايعتني الود تصفيه يداً بيد
عليك مني سلام الله ما بقيت آثار عينيك في قلبي وفي كبدي
ذكر جملة من نساء أهل الأندلس
664 -
وإذا وصلت إلى هذا الموضع من كلام أهل الأندلس، فقد رأيت أن أذكر جملة من نساء أهل الأندلس اللاتي لهن اليد الطولى في البلاغة، كي يعلم أن البراعة في أهل الأندلس كالغريزة لهم، حتى في نسائهم وصبيانهم.
1 -
فمن النساء المشهورات بالأندلس، أم السعد بنت عصام الحميري (2) ، من أهل قرطبة، تعرف بسعدونة، ولها رواية عن أبيها وجدها وغيرهما، كما حكاه ابن الأبار في ترجمتها من التكملة.
وأنشدت لنفسها في تمثال نعل النبي صلى الله عليه وسلم تكملة لقول غيرها ما صورته (3) :
سألتم التمثال إذ لم أجد للثم نعل المصطفى من سبيل
لعلني أحظى بتقبيله في جنة الفردوس أسنى مقيل
في ظل طوبى ساكناً آمناً أسقى بأكواس من السلسبيل
وأمسح القلب به عله يسكن ما جاش به من غليل
فطالما استشفى بأطلال من يهواه أهل الحب في كل جيل
وأنشدني ابن جابرالوادي آشي عن شيخه المحدث أبي محمد ابن هرون
(1) في مثل ذلك: سقطت من م.
(2)
ترجمة أم السعد في التكملة (رقم: 2128) والذيل والتكملة (آخر قسم الغرباء) والسيوطي: 26؛ وساق ابن عبد الملك نسبها وقال: توفيت بمالقة سنة أربعين وستمائة أو نحوها.
(3)
يريد أن البيت الأول من نظمها.
القرطبي لجدته سعدونة، وأظنها هذه:
آخ الرجال من الأبا عد والأقارب لا تقارب
إن الأقارب كالعقا رب أو أشد من العقارب
هكذا نقله الخطيب ابن مرزوق، ورأيت نسبة البيتين لابن العميد (1) ، فالله أعلم.
2 -
ومنهن حسانة التميمية بنت أبي المخشى الشاعر (2) .
تأدبت وتعلمت الشعر، فلما مات أبوها كتبت إلى الحكم، وهي إذ ذاك بكر لم تتزوج:
إني إليك أبا العاصي موجعة أبا المخشى سقته الواكف الديم
قد كنت أرتع في نعماه عاكفة فاليوم آوي إلى نعماك يا حكم
أنت الإمام الذي انقاد الأنام له وملكته مقاليد النهى الأمم
لا شيء أخشى إذا ما كنت لي كنفاً آوي إليه ولا يعروني العدم
لا زلت بالعزة القعساء مرتدياً حتى تذل إليك العرب والعجم
فلما وقف الحكم على شعرها استحسنه، وأمر لها بإحراء مرتب، وكتب إلى عامله على إلبيرة فجهزها بجهاز حسن.
ويحكى أنها وفدت على ابنه عبد الرححمن بشكية من عامله جابر بن لبيد
(1) انظر يتيمة الدهر 3: 183 - 184 حيث نسبهما لابن العميد.
(2)
ترجمة حسانة التيمية في الذيل والتكملة (آخر قسم الغرباء) وكتاب ذكر بلاد الأندلس (109، 117) وذكر أنها كانت بإلبيرة وأورد الأبيات التي كتبتها للحكم بن هشام ثم وفادتها على عبد الرحمن وما أنشدته من شعر؛ وأبو المخشي والدها هو عاصم بن زيد أحد قدامى الشعراء بالأندلس وهو تميمي عبادي وقد قطع لسانه هشام بن عبد الرحمن الداخل (انظر المغرب 2: 123 والجذوة: 377 والبغية رقم: 1543 وقد كتب في أصول النفح خطأ - أبو الحسين) .
والي إلبيرة، وكان الحكم قد وقع لها بخط يده تحرير أملاكها، وحملها في ذلك على البر والإكرام، فتوسلت إلى جابر بخط الحكم، فلم يفدها، فدخلت إلى الإمام عبد الرحمن، فأقامت بفنائه، وتلطفت مع بعض نسائه، حتى أوصلتها إليه، وهو في حالة طرب وسرور، فانتسبت إليه، فعرفها وعرف أباها، ثم أنشدته:
إلى ذي الندى والمجد سارت ركائبي على شحط تصلى بنار الهواجر
ليجبر صدعي إنه خير جابر ويمنعني من ذي الظلامة جابر
فإني وأيتامي بقبضة كفه كذي ريش أضحى في مخالب كاسر
جدير لمثلي أن يقال مروعة لموت أبي العاصي الذي كان ناصري
سقاه الحيا لو كان حياً لما اعتدى علي زمان باطش بطش قادر
أيمحو الذي خطته يمناه جابر لقد سام بالأملاك إحدى الكبائر
ولما فرغت رفعت إليه خط والده، وحكت جميع أمرها، فرق لها، وأخذ خط أبيه فقبله ووضعه على عينيه، وقال: تعدى ابن لبيد طوره، حين رام نقض رأي الحكم، وحسبنا أن نسلك سبيله بعده، ونحفظ بعد موته عهده، انصرفي يا حسانة فقد عزلته لك، ووقع لها بمثل توقيع أبيه الحكم، فقبلت يده، وأمر لها بجائزة، فانصرفت وبعثت إليه بقصيدة منها:
ابن الهشامين خير الناس مأثرة وخير منتجع يوماً لرواد
إن هز يوم الوغى أثناء صعدته روى أنابيبها من صرف فرصاد
قل للإمام أيا خير الورى نسباً مقابلاً بين أباء وأجداد
جودت طبعي ولم ترض الظلامة لي فهاك فضل ثناء رائح غاد
فإن أقمت ففي نعماك عاطفة وإن رحلت فقد زودتني زادي
3 -
ومنهن أم العلاء بنت يوسف الحجارية (1) .
ذكرها صاحب المغرب وقال: إنها من أهل المائة الخامسة، ومن شعرها:
كل ما يصدر منكم حسن وبعلياكم تحلى الزمن
تعطف العين على منظركم وبذكراكم تلذ الأذن
من يعش دونكم في عمره فهو في نيل الأماني يغبن
وعشقها رجل أشيب، فكتبت إليه:
الشيب لا يخدع فيه الصبا بحيلة فاسمع إلى نصحي
فلا تكن أجهل من في الورى يبيت في الجهل كما يضحي
ولها أيضاً:
افهم مطارح أحوالي وما حكمت به الشواهد واعذرني ولا تلم
ولا تكلني إلى عذر أبينه سر المعاذير ما يحتاج للكلم
وكل ما جئته من زلة فيما أصبحت في ثقة من ذلك الكرم
والحجارية - بالراء المهملة - نسبة إلى وادي الحجارة.
4 -
ومنهن أمة العزيز (2) .
قال الحافظ أبو الخطاب ابن دحية في كتاب المطرب من أشعار المغرب: أنشدتني أخت جدي الشريفة الفاضلة أمة العزيز الشريفة الحسينية لنفسها:
(1) ترجمة أم العلاء الحجارية في المغرب 2: 38 والسيوطي: 22 واشعارها في المصدر الثاني.
(2)
انظر المطرب: 6، والبيتان ينسبان لغيرها، ولم يقل ابن دحية إن البيتين لها وإنما قال " وأنشدتني ".
لحاظكم تجرحنا في الحشا ولحظنا يجرحكم في الخدود
جرح بجرح فاجعلوا ذا بذا فما الذي أوجب جرح الصدود
قلت: هذا السؤال يحتاج إلى جواب، وقد رأيت لبلدينا القاضي الإمام الفاضل أبي الفضل قاسم العقباني التلمساني رحمه الله تعالى جوابه؛ والغالب أنه من نظمه، وهو قوله:
أوجبه مني يا سيدي جرح بخد ليس فيه الجحود
وأنت فيما قلته مدع فأين ما قلت وأين الشهود
انتهى.
5 -
ومنهن أم الكرام بنت المعتصم بن صمادح ملك المرية (1) .
قال ابن سعيد في المغرب: كانت تنظم الشعر، وعشقت الفتى المشهور بالجمال من دانية المعروف بالسمار، وعملت فيه الموشحات، ومن شعرها فيه:
يا معشر الناسش ألا فاعجبوا مما جنته لوعة الحب
لولاه لم ينزل ببدر الدجى من أفقه العلوي للترب
ححسبي بمن أهواه، لو أنه فارقني تابعه قلبي
6 -
ومنهن الشاعرة الغسانية البجانية (2) - بالنون - نسبة إلى بجانة، وهي كورة عظيمة، وتشتهر بإقليم المرية، وهي من أهل المائة الرابعة، فمن نظمها من أبيات:
(1) أم الكرام، وتكتب أحياناً " أم الكرم " الصمادحية: ترجم لها في المغرب 2: 202 والسيوطي: 20.
(2)
ترجمة الغسانية في الجذوة: 379 (وبغية الملتمس رقم: 1585) والصلة: 657 والسيوطي: 107 وقد مدحت خيران العامري، اي أدركت آخر الدولة الأموية وعهد الفتنة وأوائل حكم الطوائف.
عهدتهم والعيش في ظل وصلهم أنيق وروض الوصل أخضر فينان
ليالي سعد لا يخاف على الهوى عتاب ولا يخشى على الوصل هجران
7 -
ومنهن العروضية مولاة أبي المطرف عبد الرحمن بن غلبون الكاتب.
سكنت بلنسية، وكانت قد أخذت عن مولاها النحو واللغة، لكنها فاقته في ذلك، وبرعت في العروض، وكانت تحفظ الكامل للمبرد والنوادر للقالي وتشرحهما، قال أبو داود سليمان بن نجاح: قرأت عليها الكتابين، وأخذت عنها العروض، وتوفيت بدانية بعد سيدها في حدود الخمسين والأربعمائة، رحمها الله تعالى.
8 -
ومنهن حفصة بنت الحاج الركونية (1) الشاعرة الأديبة المشهورة بالجمال، والحسب والمال.
ذكرها الملاحي في تاريخه، وأنشد لها مما قالته في أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي ارتجالاً بين يديه:
يا سيد الناس يا من يؤمل الناس رفده
امنن علي بطرس يكون للدهر عده
تخط يمناك فيه: الحمد لله وحده
وأشارت بذلك إلى العلامة السلطانية عند الموحدين، فإنها كانت أن يكتب السلطان بخط غليظ في رأس المنشور الحمد لله وحده.
665 -
استطراد بقصتين
وتذكرت بذلك، والشيء بالشيء يذكر، أنه لما قفل السلطان الناصر أمير
(1) ترجمة حفصة الركونية في الإحاطة 1: 499 والمغرب 2: 138 والمطرب: 10 والسيوطي: 40 والتحفة: 167 ومعجم الأدباء 10: 219.
المؤمنين ابن أمير المؤمنين يعقوب المنصور ابن أمير المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن بن علي سلطان المغرب والأندلس من إفيريقية سنة ثلاث وستمائة بعد الفتح المهدية هنأته الشعراء بذلك، ثم اجتمع أبو عبد الله ابن مرج الكحل بالشعراء والكتاب، فتذكروا الفتح وعظمه، فأنشدهم ابن مرج الكحل في الوقت لنفسه:
ولما توالى الفتح من كل وجهة ولم تبلغ الأوهام في الوصف حده
تركنا أمير المؤمنين لشكره بماأودع السر الإلهي عنده
فلا نعمة إلا تؤدي حقوقها علامته بالحمد لله وحده
فاستحسن الكتاب له ذلك، ووقع أحسن موقع.
وحكى صاحب كتاب روح الشعر وروح الشحر وهو الكاتب أبو عبد الله محمد بن الجلاب الفهري أن أمير المؤمنين يعقوب المنصور لما قفل من غزوة الأراكة المشهورة، وكانت يوم الأربعاء تاسع شعبان سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، ورد عليه الشعراء من كل قطر يهنؤنه، فلم يكن لكثرتهم أن ينشد كل إنسان قصيدته، بل كان يختص منها بالإنشاد البيتين أو الثلاثة المختارة، فدخل أحد الشعراء فأنشده:
ما أنت في أمراء الناس كلهم إلا كصاحب هذا الدين في الرسل
أحييت بالسيف دين الهاشمي كما أحياه جدك عبد المؤمن بن علي
فأمر له بالفي دينار، ولم يصل أحداً غيره لكثرة الشعراء، وأخذ بالمثل منع الجميع، أرضى للجميع، وقال: وانتهت رقاع القصائد وغيرها إلى أن حالت بينه وبين من كان أمامه لكثرتها، انتهى.
رجع إلى أخبار حفصة:
وأنشد لها ابو الخطاب في المطرب قولها:
ثنائي على تلك الثنايا لأنني أقول على علم وانطق عن خبر
وأنصفها لا أكذب الله إنني رشفت بها ريقاً أرق من الخمر
وتولع بها السيد أبو سعيد ابن عبد المؤمن ملك غرناطة، وتغير بسببها على ابي جعفر ابن سعيد، حتى أدى تغيره عليه أن قتله، وطلب أبو جعفر منها الاجتماع، فمطلته قدر شهرين، فكتب لها:
يا من أجانب ذكر اس مه وحسبي علامه
ما إن أرى الوعد يقضى والعمر أخشى انصرامه
اليوم أرجوك لا أن تكون لي في القيامه
لو قد بصرت بحالي والليل أرخى ظلامه
أنوح وجداً وشوقاً إذ تستريح الحمامه
صب أطال هواه على الحبيب غرامه
لمن يتيه عليه ولا يرد سلامه
إن لم تنيلي أريحي فاليأس يثني زمامه
فأجابته:
يا مدعي في هوى الحس ن والغرام الإمامه
أتى قريضك، لكن لم أرض منه نظامه
أمدعي الحب يثني ياس الحبيب زمامه
ضللت كل ضلال ولم تفدك الزعامه
ما زلت تصحب مذ كن ت في السباق السلامه
حتى عثرت وأخجل ت بافتضاح السآمه
بالله في كل وقت يبدي السحاب انسجامه
والزهر في كل حين يشق عنه كمامه
لو كنت تعرف عذري كففت غرب الملامه
ووجهت هذه البيات مع موصل أبياته، بعدما لعنته وسبته، وقالت له: لعن الله المرسل والمرسل، فما في جميعكما خير، ولا لي برؤيتكما حاجة، وانصرف بغاية من الخزي، ولما أطل على أبي جعفر وهو في قلق لانتظاره قال له: ما وراءك يا عصام قال: ما يكون وراء من وجهه خلف إلى فاعلة تاركة، إقرأ الأبيات تعلم، فلما قرأ الأبيات قال للرسول: ما أسخف عقلك وأجهلك! إنها وعدتني للقبة في جنتي المعروفة بالكمامة، سر بنا، فبادروا للكمامة، فما كان إلا قليلاً، وإذا بها قد وصلت، وأراد عتبها، فأنشدت:
دعي عد الذنوب إذا التقينا تعالي لا نعد ولا تعدي
وجلسا على أحسن حالة، وإذا برقعة الكتندي الشاعر لأبي جعفر، وفيها:
أبا جعفر يا ابن الكرام الأماجد خلوت بمن تهواه رغماً لحاسد
فهل في خل قنوع مهذب كتوم عليم باختفاء المراصد
يبيت إذا يخلو المحب بحبه ممتع لذات بخمس ولائد
فقرأها على حفصة، فقالت: لعنه الله، قد سمعنا بالوارش على الطعام والواغل على الشراب، ولم نسمع اسماً لمن يعلم باجتماع محبين فيروم الدخول عليهما، فقال لها: بالله سميه لنكتب له بذلك، فقالت: أسميه الحائل، لأنه يحول بيني وبينك إن وقعت عيني عليه، فكتب له في ظهر رقعته:
يا من إذا ما أتاني جعلته نصب عيني
تراك ترضى جلوساً بين الحبيب وبيني
إن كان ذاك فماذا تبغي سوى قرب حيني
والآن قد حصلت لي بعد المطال بديني
فإن أتيت فدفعاً منها بكلتا اليدين
أو ليس تبغي وحاشا ك أن ترى طير بين
وفي مبيتك بالخم س كل قبح وشين
فليس حقك إلا ال خلو بالقمرين
وكتب له تحت ذلك ما كان منها من الكلام، وذيل ذلك بقوله:
سماك من أهواه حائل إن كنت بعد العتب واصل
مع أن لونك مزعج لو كنت تحبس بالسلاسل
فلما رجع إليه الرسول وجده قد وقع بمطمورة نجاسة، وصار هتكة، فلما قرأ البيات قال للرسول: أعلمها بحالي، فرجع الرسول، وأخبرهما بذلك، فكاد أن يغشى عليهما من الضحك، وكتب إليه كل واحد بيتاً، وابتدأ أبو جعفر فقال:
قل للذي خلصنا منه الوقوع في الخرا
ارجع كما شاء الخرا يا ابن الخرا إلى ورا
وإن تعد يوماً إلى وصالنا سوف ترى
يا أسقط الناس ويا أنذلهم بلا مرا
هذا مدى الدهر تلا قي لوأتيت في الكرى
يا لحية تشغف في ال خرء وتشنا العنبرا
لا قرب الله اجتما
…
عاً بك حتى تقبرا (1) ومن شعرها:
سلام يفتح في زهره ال كمام وينطق ورق الغصون
(1) سقط البيت من م.
على نازح قد ثوى الحشا وإن كان تحرم منه الجفون
فلا تحسبوا البعد ينسيكم (1)
…
فذلك والله ما لا يكون وقولها من أبيات:
ولو لم يكن نجماً لكان ناظري وقد غبت عنه مظلماً بعد نوره
سلام على تلك المحاسن من شج تناءت بنعماه وطيب سروره
وقولها:
سلوا البارق الخفاق والليل ساكن أظل بأحبابي يذكرني وهنا
لعمري لقد أهدى لقلبي خفقة وأمطرني منهل عارضه الجفنا
ونسب بعض إليها البيتين الشهيرين (2) :
أغار عليك من عيني رقيبي ومنك ومن زمانك والمكان
ولو أني خبأتك في عيوني إلى يوم القيامة ما كفاني
والله تعالى أعلم.
وكتبت إلى أبي جعفر:
رأست فما زال العداة بظلمهم
…
وعلمهم النامي يقولون ما (3) رأس وهل منكر أن ساد أهل زمانه جموح إلى العليا حرون عن الدنس
وقال ابن دحية: حفصة من أشراف غرناطة، رخيمة الشعر، رقيقة النظم والنثر، انتهى.
(1) ق: العبد ينساكم.
(2)
م: ومما ينسب إليها.
(3)
م: لم؛ ق: لي.
ومن قولها في السيد أبي سعيد ملك غرناطة تهنئه بيوم عيد، وكتبت بذلك إليه:
يا ذا العلا وابن الخلي فة والإمام المرتضى
يهنيك عيد قد جرى فيه بما تهوى القضا
وأتاك من تهواه في قيد الإنابة والرضى
ليعيد من لذاته ما قد تصرم وانقضى
وذكر الملاحي في تاريخه أنها سألتها امرأة من أعيان أهل غرناطة أن تكتب لها شيئاً بخطها، فكتبت إليها:
يا ربة الحسن، بل يا ربة الكرم غضي جفونك عما خطه قلمي
تصفحيه بلحظ الود منعمة لا تحفلي برديء الخط والكلم
واتفق أن بات أبو جعفر ابن سعيد معها في بستان بحور مؤمل، على ما يبيت به الروض والنسيم، من طيب النفحة ونضارة النعيم، فلما حان الانفصال، قال أبو جعفر وكان يهواها كما سبق:
رعى الله ليلاً لم يرح بمذمم عشية وارانا بحور مؤمل
وقد خفقت من نحو نجد أريجة إذا نفحت هبت بريا القرنفل
وغرد قمري على الدوح وانثنى قضيب من الريحان من فوق جدول
يرى الروض مسروراً بما قد بدا له: عناق وضم وارتشاف مقبل
وكتب بها إليها بعد الافتراق، لتجيبه على عادتها في مثل ذلك، فكتبت إليه بقولها:
لعمرك ما سر الرياض بوصلنا ولكنه أبدا لنا الغل والحسد
ولا صفق النهر ارتياحاً لقربنا ولا غرد القمري إلا لما وجد
فلا تحسن الظن الذي أنت أهله فما هو في كل المواطن بالرشد
فما خلت هذا الأفق أبدى نجومه لأمر سوى كيما تكون لنا رصد
وقال ابن سعيد في الطالع السعيد: كتبت حفصة الركونية إلى بعض أصحابها:
أزورك أم تزور فإن قلبي إلى ما تشتهي أبداً يميل
فثغري مورد عذب زلال وفرع ذؤابتي ظل ظليل
وقد أملت أن تظمى وتضحى إذا وافى إليك بي المقيل
فعجل بالجواب فما جميل إباؤك عن بثينة يا جميل
666 -
سلمى بنت القراطيسي
قال التجاني: تشبه أبيات حفصة هذه أبيات أنشدها ابن أبي الحصين في تاريخه لسلمى بنت القراطيسي من أهل بغداد، وكانت مشهورة بالجمال، وهي:
عيون مها الصريم فداء عيني وأجياد الظباء فداء جيدي
أزين بالعقود وإن نحري لأزين للعقود من العقود
ولا أشكو من الأوصاب ثقلاً وتشكو قامتي ثقل النهود
وبلغت هذه الأبيات المقتفي أمير المؤمنين فقال: اسألوا هل تصدق صفتها قولها فقالوا: ما يكون أجمل منها، فقال: اسألوا عن عفافها، فقالوا: هي أعف الناس، فأرسل إليها مالاً جزيلاً، وقال: تستعين به على صيانة جمالها، ورونق بهجتها، انتهى.
رجع إلى حفصة:
وقال أبو جعفر ابن سعيد: أقسم ما رأيت ولا سمعت بمثل ححفصة، ومن
بعض ما أجعله دليلاً على تصديق عزمي، وبر قسمي، أني كنت يوماً في منزلي مع من يحب أن يخلى معه من الأجواد الكرام على راحة سمحت بها غفلات الأيام، فلم نشعر إلا بالباب يضرب، فخرجت جارية تنطر من الضارب، فوجدت إمرأة، فقالت لها: ما تريدين فقالت: ادفعي لسيدك هذه الرقعة، فجاءت برقعة فيها:
زائر قد أتى بجيد الغزال مطلع تحت جنحه للهلال
بلحاظ من سحر بابل صيغت ورضاب يفوق بنت الدوالي
يفضح الورد ما حوى منه خد وكذا الثغر فاضح للآلي
ما ترى في دخوله بعد إذن أو تراه لعارض في انفصال
قال: فعلمت أنها حفصة، وقمت مبادراً للباب، وقابلتها بما يقابل به من يشفع له حسنه وآدابه والغرام به، وتفضله بالزيارة دون طلب في وقت الرغبة في الأنس به، انتهى.
667 -
أبو جعفر ابن سعيد
قلت: وإذ قد جرى ذكر أبي جعفر ابن سعيد سابق الحلبة فلنلم ببعض أحواله فنقول (1) : هو أبو جعفر أحمد بن عبد الملك بن سعيد العنسي، قال قريبه أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد في المغرب: سمعت أبي يقول: لا أعلم في بني سعيد أشعر منه، بل لا أعلم في بلده، وعشق حفصة شاعرة الأندلس، وكانا يتجاوبان تجاوب الحمام، ولما استبد والده بأمر القلعة حين ثار أهل الأندلس بسبب صولة بني عبد المؤمن على الملثمين اتخذه وزيراً، واستنابه في
(1) ترجمة أبي جعفر ابن سعيد في الإحاطة 1: 94 والمغرب 2: 164 والمسالك 11: 279 وما أورده المقري يعد أكثر شيء إسهاباً في أخباره.
أموره، فلم يصبر على ذلك، واستعفى فلم يعفه، وقال: أفي مثل هذا الوقت الشديد تركن إلى الراحة فكتب إليه:
مولاي في أي وقت أنال في العيش راحه
إن لم أنلها وعمري ما إن أنار صباحه
وللملاح عيون تميل نحو الملاحه
وكأس راحي ما إن تمل مني راحه
والخطب عني أعمى لم يقترب لي ساحه
وأنت دوني سور من العلا والرجاحه
فأعفني وأقلني مما رأيت صلاحه
ما في الوزارة حظ لمن يريد ارتياحه
كل وقال وقيل ممن يطيل نباحه
أنسي أتى مستغيثاُ فاترك فديت سراحه
فلما قرأ الأبيات قال: لا ينفع الله بما لا يكون مركباً في الطبع مائلة له النفس، ثم وقع على ظهر ورقته: قد تركنا سراح أنسك، وألحقنا يومك بأمسك.
ولما رجع ثوار الأندلس إلى عبد المؤمن وبايعه عبد الملك بن سعيد فغمره إحساناً وبراً، وولي السيد أبو سعيد ابن عبد المؤمن غرناطة طلب كاتباً من أهلها، فوصف له فضل أبي جعفر وحسبه وأدبه، فاستكتبه، فطلب أن يعفيه، فأبى إلى أن شرب أبو جعفر يوماً مع خواصه، وخرج ثاني يوم إلى الصيد وكان اليوم ذا غيم وبرد، ولما اشتد البرد مالوا يوماً مع خواصه، وخرج ثاني يوم إلى الصيد وكان اليوم ذا غيم وبرد، ولما اشتد البرد مالوا إلى خيمة ناطور، وجعلوا يصطلون ويشربون على ما اصطادوا، فحمل أبا جعفر بقية السكر على أن قال يصف يومه، ويستطرد بما في نفسه:
ويوم تجلى فيه الأفق بعنبر من الغيم لذنا فيه باللهو والقنص
وقد بقيت فينا من الأمس فضلة من السكر تغرينا بمنتهب الفرص
ركبنا له صبحاً وليلاً وبعضنا أصيلاً وكل إن شدا جلجل رقص
وشهب بزاة قد رجمنا بشهبها طيوراً يساغ اللهو إن شكت الغصص
وعن شفق تغري الصباح أو الدجى إذا أوثقت ما قد تحرك أو قمص
وملنا وقد نلنا من الصيد سؤلنا على قنص اللذات والبرد قد قرص
بخيمة ناطور توسط عذبها جحيم به من كان عذب قد خلص
أدرنا عليه مثله ذهبية دعته إلى الكبرى فلم يجب الرخص
فقل لحريص أن يراني مقيداً بخدمته لا يجعل الباز في القفص
وما كنت إلا طوع نفسي فهل أرى مطيعاً لمن عن شأو فخري قد نقص
فكان في أصحابه من حفظ هذين البيتين، ووشى بهما للسيد، فعزله أسوأ عزل، ثم بلغه بعد ذلك أنه قال لحفصة الشاعرة: ما تحبين في ذلك الأسود وأنا أقدر أن أشتري لك من سوق العبيد عشرة خيراً منه (1) وكان لونه مائلاً إلى السواد، فأسرها في نفسه إلى أن فر عبد الرحمن بن عبد الملك بن سعيد إلى ملك شرق الأندلس محمد بن مردنيش، فوجد له بذلك سبباً، فقتله صبراً بمالقة.
وكان عبد الملك بن سعيد يذكر ابنه ابا جعفر لعبد المؤمن، وينشده من شعره رغبة في تشريفه بالحضور بين يديه وإنشاده في مجلسه، فأمره بحضوره، فعندما دخل عليه قبل يده وأنشد قصيدة منها قوله:
عليك أحالني داعي النجاح
…
ونحوك حثني حادي (2) الفلاح وكنت كساهر ليلا طويلا ترنح حين بشر بالصباح
وذي جهل تغلغل في قفار شكا ظمأ فدل على القراح
دعانا نحو وجهك طيب ذكر ويذكر للرياض شذا الرياح
(1) دوزي: أحسن منه.
(2)
ق م والمغرب: هادي.
وله في غلام أسود ساق ارتجالا
أدار علينا الكاس ظبي مهفهف غدا نشره واللون للعنبر الشحري
وزاد لنا حسناً بزهر كؤوسه وحسن ظلام الليل بالانجم الزهر
وقوله فيه وقد لبس ابيض:
وغصنٍ من ألابنوس ارتدى بعاج كليل علاه فلق
يحاكي لنا الكأس في كفه صباح بجنح علاه شف
وقوله مما كتب به إلى أخيه محمد وقد ورد منه كتاب بإنعام:
وافى كتابك ينبي عن سابغ الانعام
فقلت در ودر من زاخر وغمام
وقوله يذم حماماً:
يا رب حمام لعنا بما أبدى إلينا كل حمام
أفق له قطر حميم كما أصمت سهام من يدي رامي
يخرق سحباً للدخان الذي لاح لغيم العارض الهامي
وقيم يجذبني جذبة وتارة يكسر إبهامي
وجمع الأوساخ من لؤمه في عضدي قصداً لإعلامي
وازدحم الأنذال فيه وقد ضجوا ضجيجاً دون إفهام
وجملة الأمر دخلنا بني سام وعدنا كبني حام
وله في ضد ذلك، والنصف الأخير لابن بقي:
لا أنس ما عشت حماماً ظفرت به وكان عندي أحلى من جني الظفر
نعمت جسمي في ضدين مغتنماً تنعم الغصن بين الشمس والمطر
وقال له السيد أبو سعيد ابن عبد المؤمن صاحب غرناطة: ما أنت إلا حسن الفراسة وافر العقل، فقال:
نسبتم لمن هذبتموه فراسةً وعقلاً ولولاكم للازمه الجهل
وما هو أهل للثناء وإنما علاكم لتقليد الأيادي له أهل
وما أنا إلا منكم وإليكم وما في من خير فأنتم له أصل
وقال:
ولما رأيت السعد في صفح وجهه منيراً دعاني ما رأيت إلى الشكر
وأقبل يبدي لي غرائب نطقه وما كنت أدري قبله منزع السحر
فأصغيت إصغاء الجديب إلى الحيا وكان ثنائي كالرياض على القطر
وله:
لا تكثرن عتابي إن طال عنك فراقي
فما يضر بعاد يطول والود باقي
وله:
ما خدمناكم لأن تشفعوا في نا بدار الجزاء يوم الحساب
ذاك يوم أنا وأنت سواء فيه، كل يخاف سوء العقاب
إنما الشأن الذب في هذه الدن يا بسلطانكم عن الأصحاب
وإذا ما خذلتموهم بشكوى وبخلتم عنهم برد الجواب
فاعذروهم أن يطلبوا من سواكم نصرة وارفعوا حجال العتاب
وإذا أرض مجدب لفظته فله العذر في اتباع السحاب
وله وقد تقدم أمامه في ليلة مظلمة أحد أصحابه، فطفئ السراج في يده، فقال لوقته:
لي من جبينك هادي في الليل نحو مرادي
فما أريد سراجاً يدلني لرشاد
أنى وكفك سحب يبدو بها ذا اتقاد
وله في قوادة:
قوادة تفخر بالعار أقود من ليل على سار
ولاجة في كل دار وما يدري بها من حذقها داري
ظريفة مقبولة الملتقى خفيفة الوطء على الجار
لحافها لا ينطوي دائماً أقلق من راية بيطار
قد ربيت مذ عرفت نفعها ما بين فتاك وشطار
جاهلة حيث ثوى مسجد عارفة حانة خمار
بسامة مكثرة برها ذات فكاهات وأخبار
علم الرياضيات حوته وسا سته بتقويم وأسحار
مناعة للنعل من كيسها موسرة في حال إعسار
تكاد من لطف أحاديثها تجمع بين الماء والنار
وما سمعنا في هذا الباب أحسن من هذا، والبيت السائر:
تقود، من السياسة، ألف بغل إذا حرنت، بخيط العنكبوت
وشرب ليلة مع أصحاب له وفيهم وسيم، فأعرض بجانبه وقطب، فتكدر المجلس، فقال أبو جعفر:
يا من نأى عنا إلى جانب صد كميل الشمس عند الغروب
لا تزو عنا وجهك المجتلى فالشمس لا يعهد منها قطوب
إن دام هذا الحال ما بيننا فإننا عما قريب نتوب
ما تشتكي الدهر ولا خطبه لولاك ما دارت علينا خطوب
وله أيضاً:
أيا لائمي في حمل صحبة جاهل قطوب المحيا سيء اللحظ والسمع
لمنفعة ترجى لديه صحبته وإن كان ذا طبع يخالفه طبعي
كما احتمل الإنسان شرب مرارة ال دواء لما يرجو لديه من النفع
وله، وقد أحسن ما شاء:
تركتكم لا كارهاً في جنابكم ولكن أبى ردي إلى بابكم دهري
وطاحت بي الأطماع غي كل وجهة تنقلني من كل سهل إلى وعر
وما باختيار فارق الخلد آدم وما عن مراد لاذ أيوب بالصبر
ولكنها الأيام ليست مقيمة على ما اشتهاه مشته أمد الدهر
وإنك إن فكرت فيما أتيته تيقنت أن الترك لم يك عن غدر
ولكن لجاج في النفوس إذا انقضى رجعت كما قد عاد طير إلى وكر
وإني لمنسوب إليكم وإن نأت بي الدار عنكم والغدير إلى القطر
وإني لمثن بالذي نلت منكم مقيم على ما تعلمون من البر
وإن خنتكم يوماًفخانني المنى وساء لديكم بعد إحماده ذكري
على أنني أقررت أني مذنب وذو المجد من يغني المقر عن العذر
وله يصف ناراً:
نظرت إلى نار تصول على الدجى إذا ما حسبناها تدانت يبعد
ترفعها أيدي الرياح، وتارة تخفضها مثل المكبر يسجد
وإلا فمن لا يملك الصبر قلبه يقوم به غيظ هناك ويقعد
لها ألسن تشكو بها ما أصابها وقد جعلت من شدة القر ترعد
وله على لسان إنسان أخلقت بردته:
مولاي هذي بردتي أخلقت وليس شيء دونها أملك
وصرت من بأس ومن فاقة أبكي إذا أبصرتها تضحك
وله يستدعي أحد أبناء الرؤساء إلى يوم اجتماع:
تداركنا فإنا في سرور وما بسواك يكتمل السرور
أهلة أنسنا بك في تمام أليس تتم بالشمس البدور
وله، وقد خطر على منزله من إليه له ميل، وقال: لولا أخاف التثقيل لدخلت، وانصرف، فلما أعلم أبو جعفر كتب إليه:
مولاي لم تقصد تعذيب من يهوى وما قصدك مجهول
طلبت تخفيفاً ببعد وفي تخفيف من تهواه تثقيل
غيرك إن زار جنى ضجرة ولج منه القال والقيل
وأنت إن زرت حياة وما ال
…
عيش إذا ما طال مملول (1) وله، وقد جلس إلى جانبه رجل تكلم فأنبأ عن علو قدر، فسأله عن بلده، فقال: إشبيلية، ففكر ثم قال:
يا سيداً لم أكن من قبل أعرفه حتى تكلم مثل الروض بالعبق
وزادني أن غدا في حمص منشؤه لقد تشاكل بين البدر والأفق
وله وقد حضر مجلساً مع إخوان له في انبساط ومزاح، فدخل عليهم أحد ظرفاء (2) الغرباء بوجه طلق وبشاشة، فاهتز لما سمع بينهم، وجعل يصل ما
(1) دوزي: ممطول.
(2)
م: أحد الغرباء.
يحتاج من مزاحهم إلى صلة بأحسن منزع وأنبل مقصد، فأنشده أبو جعفر ارتجالاً:
يا سيداً قد ضمه مجلس حل به للمزح إخوان
لم نلق من فجأته خجلة ولا ثنانا عنه كتمان
كأنه من جمعنا واحد لم ينب منا عنه إنسان
ولم نكن ندريه لكن بدا في وجهه للظرف عنوان
وله وقد لقي أحد إخوانه وكان قد أطال الغيبة عنه، فدار بينهما ما أوجب أن قال:
إن لحت لم تلمح سواك الأعين أو غبت لم تذكر سواك الألسن
أنت الذي ما إن يمل حضوره ومغيبه السلوان عنه يؤمن
وله وهو من آياته:
إني لأحمد طيفها وألومها والفرق بينهما لدي كبير
هي إن بدت لي شيبة في جفوة والطيف في حين المشيب يزور
وإذا توالى صدها أو بينها وافى على أن المزار عسير
وله وقد سافر بعض الأرذال بماله، فنكب في سفره، وعاد فقيراً بأسوإ أحواله:
اغد (1) ولا يغن عنك القيل والقال
…
فالجود مبتسم والفضل يختال قالوا فلان رماه الله في سفر رآه رأياً بما حالت به الحال
فآب منه سليباً مثل مولده عليه ذل وتفجيع وإقلال
فقلت لا خفف الرحمن عنه، فلم يكن لديه على القصاد إقبال
فقل له: دام في ذل ومسغبة ولا أعيدت له في المال آمال
(1) ق م: أعد.
قد كان حمقك حسن المال يستره فاليوم أصبحت لا عقل ولا مال
وله وقد سافر أحد الرؤساء من أصحابه:
أيا غائباً لم يغب ذكره ولا حال عن وده حائل
لئن مال دهري بي عنكم فقلبي نحوكم مائل
فإني شاهدت منكم علاً من العجز قس بها باقل
لئن طال بي البعد عن لحظكم فما في حياتي إذاً طائل
وله وهو من حسناته:
شقت جيوب فرحاً عندما آبت، وفي البعد تشق القلوب
فقلت هذا موقف ما يشق ال جيب فيه غير صب طروب
فابتسمت زهواً وقالت كذا ال أفق لعود الشمس شق الجيوب
وله وقد أجمع (1) رأيه على أن يفد على أمير المؤمنين عبد المؤمن، فأخذ في ذلك مع أصحاب له، فجعلوا يثنونه عن ذلك، وظهر عليهم الحسد له، فقال:
سر نحو ما تختار لا تسمعن ما قاله زيد ولا عمرو
كلهم يحمد ما رمته مهما يساعد رأيك الدهر
عجبت ممن رام صدر العلا يروم أن يصفو له دهر
فقالوا له: اتهمتنا في الود، فقال: لو لم أتهمكم كنت أتهم عقلي، والعياذ بالله تعالى من ذلك، وكيف لا أتهمكم وقد غدوتم تثنونني عن زيارة خليفة لوالدي عنده مكان، وله علينا إحسان، ولي شافع عنده مقرب لمجلسه عقلي ولساني، ولكنني أنا المخطئ الذي عدلت عن العمل بقول القائل (2) :
(1) دوزي: اجتمع.
(2)
هو سعد بن نائب (الحماسية: 10 من المرزوقي) .
ولم يستشر في أمره غير نفسه ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا
وله في شعاع القمر والشمس على النهر:
ألا حبذا نهر إذا ما لحظته أبى أن يرد اللحظ عن حسنه الأنس
ترى القمرين الدهر قد عنيا به يفضضه بدر وتذهبه شمس
وله في والده وقد سن عليه درعاً:
أيا قائد الأبطال في كل وجهة تطير قلوب الأسد فيها من الذعر
لقد قلت لما أن رأيتك دارعاً أيا حسن ما لاح الحباب على البحر
وأنشدت والأبطال حولك هالة أيا حسن ما دار النجوم على البدر
وفوله وقد بلغه أن حاسداً شكره:
متى سمعت ثناء عمن غدا لك حاسد
فكان منك انخداع به فرأيك فاسد
بصدره منك نار لهيبها غير خامد
وعله لك ما زد ت في السعادة زائد
وإنما ذاك منه كالحب في فخ صائد
وله:
أبصره من يلوم فيه فقال ذا في الجمال فائق
أما ترى ما دهيت منه كان عذولاً فصار عاشق
وله في أبيه وقد سجنه عبد المؤمن:
مولاي إن يحبسك خير خليفة فبذاك فخرك واعتلاء الشأن
فالجفن يحبس نوره من غبطة والمرهفات تصان في الأجفان
فابشر فنزع الدر من أصدافه يعليه للأسلاك والتيجان
ولئن غدا من ظل دونك مطلقاً إن القذى ملقىً عن الأجفان
والعين تحبس دائماً أجفانها وهداية الإنسان بالإنسان
والطرس يختم ما حواه نفاسة ويهان ما يبدو من العنوان
فاهنأ به لكن ملياً مكثه سجناً لغير مذاة وهوان
فلتعلون رغم الأعادي بعده بذرى الخليفة في ذرى كيوان
مولاي غيرك يعزى بما لم يزل يجري على الكرام، ويذكر تأنيساَ له في الوحشة بما يطرأ من الكسوف والخسوف على الشمس المنيرة والبدر التمام:
وأنت تعلم الناس التعزي
…
وخوض الموت في الحرب السجال (1) وقد كان مولاي أنشدني لعلي بن الجهم قائلاً: إن أحداً لم يسل نفسه عما ناله من السجن بمثله (2) :
قالوا سجنت فقلت ليس بضائر سجني وأي مهند لا يغمد
الأبيات، ماذا تفيدك من العلم وصدرك ينبوعه، وبحاطرك لا يزال غروبه وطلوعه، وإنما هي عادة تبعناها أدباً، وقضينا بها في النفس من الإعلام بالتوجع والتفجيع أرباً، ولعل الله تعالى يتبع هذه التسلية بتهنئة، ويعقب بالنعمة هذه المرزئة. فقال: فأمر الملك بتسريحه إثر ذلك، فلما اجتمع وجهه بوجهه جعل يحمد الله جهراً ويغرد بهذه الأبيات، وكان سراحه بكرة:
طلعت علينا كالغزالة بالضحى وعزك طماح ووجهك مشرق
(1) البيت للمتنبي من قصيدته في رثاء أم سيف الدولة.
(2)
انظر ديوان ابن الجهم: 41.
فغفراً لذنب الدهر أجمع إنه أتى اليوم من حسناه ما هو أليق
فلح في سماء العز بالسعد طالعاً وقدرك سام أفقه ليس يلحق
فقد سرحت لما غدوت مسرحاً قلوب وأفكار وسمع ومنطق
فاهتز أبوه من شدة الطرب، وقال له: والله إنك لتملا الدلو إلى عقد الكرب.
وله يعتذر، وقد دعي إلى مجلس أنس: سيدي ساعدك سولك، لما وصل إلى أخيك المعتد بك رسولك، قابله بما يجب من القبول، وأبدى له من الشغل ما منع من الوصول:
ومن ذا الذي يدعى لعدن فلا يرى على الرأس إجلالاً إليها يبادر
ولكن الاضطرار، لا يكون معه اختيار، وإني لأشوق الناس إلى مشاهدة تلك المكارم، وأحبهم في محاضرة تلك الآداب المترادفة ترادف الغمائم، ولكن شغلني عارض قاطع، وبرغمي أني لدعوتك عاص وله طائع، وإني بعد ذلك لحامل على تلك السجية الكريمة في الغفران، مستجير بالخلاص الذي أعهد من خرق فلان ومكر فلان، فإني متى غبت لا أعدم مترصداً قرحة يقع عليها ذبابه، ومستجمعاً إذا أبصر فرصة سل عليها ذبابه:
ولكنني أدري بأني نازح ودان سواء عند من يحفظ العهدا
وإني لأقول وقد غبت عن تلك الحضرة العلية، وجانبت ذلك الجناب السامي والمثابة السنية:
لئن غبت عمن نوره نور ناظري فحسبي لديه أن أغيب عقابا
وسوف أوافيه مقراً بزلتي وفي حلمه أن لا يطيل حسابا
وله في قصر النهار، ولو لم يكن له غيره لكفاه:
لله يوم مسرة أضوا وأقصر من ذباله
لما نصبنا للمنى فيه بأوتار حباله
طار النهار به كمر تاع وأجفلت الغزاله
وهذا المعنى لم يسبق إليه، ولم يقدر أحد أن ينتزعه من يديه.
ولما وصل صحبة والده إلى إشبيلية افتتن بواديها، واعتكف على الخلاعة فيها، مصعداً ومنحدراً بين بساتينه ومنازهه، فمر ليلة بطريانة فمال نحو منزه فيه طرب سمعه، فاستوقفه هنالك، وهو في الزورق متكئ وأصحابه وأصحاب أبيه مظهرون انحطاطهم عنه في المرتبة، فأخرج رأسه أحد الأنذال المعتادين بالنادر من شرجب، - والشرجب: هو الدرابزين من خشب فيه طاقات، وطريانة مقابلة إشبيلية، وبها المنازه والأبنية الحسنة - فضرط له ذلك النذل بغاية ما قدر، فرفع رأسه وقد أخذ منه السكر، ولم يعتد مثل ذلك في بلده، وقال: يا سفلة (1) ، أتقدم علي بهذا قبل معرفتي! فثنى عليه والحدة أخرى، ثم رفع ثوبه عن ذكره وهو منعظ، وقال: يا وزير اجعل هذا عندك وديعة حتى أعرف من تكون، ثم رفع ما على استه من ثيابه وقال: واعمل من هذا غلافاً للحيتك فإذا عرفناك ذهبناه لك؛ فغلبه الضحك على الحرج، وجعل أصحابه يقولون له: ما سمعت أن من دخل هذا الوادي يعول على هذا وأمثاله فمال عن ذلك المنزه قليلاً، وأطرق ساعة وقال:
نهر حمص لا عدمنا ك فما مثلك نهر
فيك يلتذ ارتياح أبد الدهر وسكر
كل عمر قد خلا من ك فما ذلك عمر
خصه الله بمعنى فيه للألباب سر
(1) م: يا سفيه.
يلعن الإنسان فيه وهو يصغي ويسر
ثم سأل بعد ذلك عن رب المنزه، فسمي له؛ وأعلم أن ابن سيد الشاعر المشهور باللص كان حاضراً وأنه أملى على السفلة (1) ما قال وصنع. فكتب له أبو جعفر:
ياسميي وإن أفاد اشتراك غير ما يرتضيه فضل وود
أكذا يزدرى الخليل بأفق أنت فيه ولم يكن منك رد
لا أدري من سلطت وغداً ولكن ليس يخفى عليك من هو وغد
فلما وقف على هذه الأبيات كتب له: مولاي وسيدي، وأجل ذخري للزمان وعضدي، الذي أفخر بمشاركة اسمه، وتتيه هذه الصناعة بذكره ورسمه (2) :
وخير الشعر أشرفه رجالاً وشر الشعر ما قال العبيد
سلام كتسنيم، على ذلك المقام الكريم، ورحمة الله تعالى وبركاته، وإن كان مولاي لم يفاتحني بالسلام، ولا رآني أهلاً لمقاومة الكرام، لكن حط قدري عنده ما نسب لي من الذنب المختلق، ولا والله ما نطقت بلسان ولا كنت ممن رمق، بل الذي زور لسيدي في هذه الوشاية كان المعين (3) عليها، والملم إليها، فبادر إليكم قبل أن أسبقه فاتسم بأسقط خطتين: النذالة الأولى والوشاية الأخرى، ولولا أن المجالس بالأمانات، وأن الخلاعة بساط يطوى على ما كان فيه، لكنت أسبق منه، لكني يأبى ذلك خلقي، وما تأدبت به، ومع ذلك فإني أقول:
(1) م: السفيه.
(2)
م: ووسمه.
(3)
ق: العين.
فإن كنت ذا ذنب فقد جئت تائباً ومثلك غفار ومثلك قابل
ولولا ما أخشى من التثقيل، وما أتوقع من الخجل إذا التقى الوجهان، لأتيت ختى أبلغت في الاعتذار بالمشافهة ما لا يسع القرطاس، لكنني متكل على حلم سيدي وإغضائه، متوسل إليه في الغفران بعلائه، وكتب ذلك شعراً طويلاً منه:
ولا غرو أن تعفو وأنت ابن من غدا تعود عفواً عن كبار الجرائم
لكم آل عمار بيوت رفيعة تشيد من كسب الثنا بدعائم
إذا نحن أذنبنا رجونا ثوابكم ولم نقتنع بالعفو دون المكارم
وإنك فرع من أصول كريمة ولا تلد الأزهار غير الكمائم
وإني مظلوم لزور سمعته مقد جئت أرجو العفو في زي مظلوم
فأجابه أبو جعفر بما نصه: سيدي الذي أكبر قدره، وأجل (1) ذكره، وأجزل شكره، وصل جوابك الذي لو كان لك من الذنب ما تحمله ابن ملجم، لأضربت لك عنه صفحاً ونسيت بما تأخر ما تقدم، ومعاذ الله أت أنسب لفضلك عيباً، فأذم لك حضوراً أو غيباً، وإنما قصدت بالمعاتبة، ما تحتها من المطارحة والمداعبة، على أن سيدي لو تيقنت أنه ظالم لأنشدت:
منذ غدا طرفك لي ظالماً آليت لا أدعو على ظالم
لكنني أتيقن خلاف ذلك، وأعلم حتى كأني حاضر ما كان هنالك، وقد أطلت عليك، وبعد هذا فلتعتمد على أن تصل إلي أو أصل إليك، فهذا يوم كما قال البستي (2) :
يوم له فضل على الأيام مزج السحاب ضياءه بظلام
(1) م: وأجمل.
(2)
اليتيمة 4: 304.
فالبرق يخفق مثل قلب هائم والغيم يبكي مثل جفن هام
فالختر لنفسك أربعاً هن المنى وبهن تصفو لذة الأيام
وجه الحبيب ومنظراً مستشرفاً ومغنياً غرداً وكأس مدام
وقد حضرت عند محبك الثلاثة فكن رابعها، ونادت بك همم الأماني فكن بفضلك سامعها، ومركز أفلاك هذه المسرة حين كتب هذه الرقعة إلى مجدك منزه مطل على جزيرة شنتبوس لا زال أترنم فيه بقول ابن وكيع:
قم فاسقني والخليج مضطرب والرح تثني ذوائب القضب
كأنها والرياح تعطفها صف قناً سندسية العذب
والجو في حلة ممسكة قد طرزتها البروق بالذهب
فإن كان سيدي في مثل هذا المكان، جرينا إليه جري الحلبة لخصل الرهان، وإن كان في كسر بيته فليبادر إلى محل تقصر عنه همة قيصر وكسرى، وإن أبطأ فإن الرقاع بالاستدعاء لا تزال عليه تترى، وإن كان لا يجدي هذا الكلام، فما نقنع من العقوبة المؤلمة بالملام، وعلى المودة المرعية الداعية أكمل ما يكون من السلام.
فعندما قرأ الرقعة ركب إليه زورقاً وصنع هذه الأبيات في طريقه، فعند وصوله أنشده إياها:
ركبت إليك النهر يا بحر فالقنا بما يتلقى جوده كل قادم
بفيض ولكن من مدام وهزة ولكن إلى بذل الندى والمكارم
وكنا نسمي قبل كونك حاتماً ومذ لحت فينا لم نعد ذكر حاتم
بآل سعيد يفخر السعد والعلا فأيديهم تلغي أيادي الغمائم
فامتلأ أبو جعفر سروراً، وخلع عليه ما كان عنده هناك، ووعده بغير ذلك، فأطرق لينظم شيئاً في شكره، فأقسم عليه ألا يشغل خاطره في ذلك
الوقت عن الارتياح، وحث أكؤس الراح، فأقبلوا على شأنهم، وكان ابن سيد في ذلك الحين متستراً بشرب الراح، وكان عند أبي جعفر خديم كثير النادر والالتفات، يخاف أهل التستر من مثله، فقال ابن سيد: هات دواة وقرطاساً، فأعطاه ذلك، فكتب:
يا سيدي قد علمت أني بهذه الحال لا أظاهر
أخشى أناساً لهم عيون نواظر مني المعاير
أحذرهم طاقتي وإني وثقت بالله فهو غافر
ولا تقس حالتي بحال
…
منك (1) اعتذار فالفرق ظاهر فأنت إن كنت ذا جهار غيرمبال فالجاه ساتر
لا تخش من قول ذي اعتراض ولا حسود عليك قادر
وإنني قد رأيت ممن يكثر القول وهو ساخر
ما قد أراب العفيف منه ضحك وظن به يجاهر
أخشى إذا قيل كيف كنتم قال بحال تسر ناظر
واللص ما بيننا صريعاً بكل كأس عليه دائر
مطرحاً للصلاة يصغي لصولة الدف والمزامر
فأغتدي سيدي مشاراً إلي مهما مررت خاطر
وإن أتيت الملوك أبغي نوالهم قيل أي شاعر
يذكر في شعره خلافاً (2)
…
وهو لزور المحال ذاكر بالأمس قد كان ذا انتهاك فما له بعد ذاك عاذر
إن كان هذا فإن حظي وافى لربح فآب خاسر
فقال أبو جعفر: يا أبا العباس، اشرب هنيئاً غير مقدر ما قدرت، فلو كان
(1) م: هذا.
(2)
م: غلافاً.
هذا المضحك على الصفة التي ذكرت كان الذنب منسوباً إلي في كوني إحضر في مجلسي من يهتك ستر المستةرين، ومهما تره هنا بهذه الخفة والطيش والتسرع للكلام فإنه إذا فارقنا أثقل من جبل، وأصمت من سمكة، متزي بزي خطيبفي نهاية من السكون والوقار:
وتحت الثياب العار لو كان باديا
فكن في أمن ما شربت معي، فإني والله لا أسمع أحداً من أصحابنا تكلم في شأنك بأمر إلا عاقبته أشد العقاب، والذنب في ذلك راجع إلي. فسكن ابن سيد وجعل يحث الأقداح، ويمرح أشد المراح، على ما كان يظهره من الانقباض، تقية لما يخشاه من الاعتراض، إلى أن قاربت الشمس الغروب، ومد لها في النهر معصم مخضوب، فقال أبو جعفر:
انظر إلى الشمس قد أل صقت على الأرض خدا
فقال ابن سيد:
هي المرآة ولكن من بعدها الأفق يصدا
فقال أبو جعفر:
مدت طرازاً على النه ر عندما لاح بردا
فقال ابن سيد:
أهدت لطرفك منه ما للأكارم يهدى
فقال أبو جعفر:
درع اللجين عليه سيف من التبر مدا
فقال ابن سيد:
فاشرب عليه هنيئاً وزد سروراً وسعدا
ثم لما أظلم الليل نظروا إلى منارة شنتبوس قد عكست مصابيحها في النهر، وإلى النجوم قد طلعت فيه، فقال ابن سيد:
اخلع على النهر ثوب ال كرى فذلك واجب
فقال أبو جعفر:
وانظر إلى السرج فيه كالزهر ذات الذوائب
وحين صفق للأف ق نقطته الكواكب
فقبل ابن سيد رأسه، وقال: ما تركت بعد هذا مقالاًلقائل، ثم جعلوا يشربون.
فقال أبو جعفر:
سقني والأفق برد بنجوم الليل معلم
فقال ابن سيد:
وبساط النهر منها وهو فضي مدرهم
فقال أبو جعفر:
ورواق الليل مرخى والشذا بالروض قد نم
فقال ابن سيد:
والندى في الزهر منثو ر على عقد منظم
فقال أبو جعفر:
والصبا جرت على مي ت الطلى كف ابن مريم
فقال ابن سيد:
كان مبهوتاً فلما نفخت فيه تكلم
فقال أبو جعفر:
وكأن الكأس والقه وة دينار ودرهم
فقال ابن سيد:
وبدا الدف يناغي ال عود والمزمار هيم
فقال أبو جعفر:
فأذاع الأنس منا كل ما قد كان مكتم
فقال ابن سيد:
أي عيش يهتك المس تور لو كان ابن أدهم
فقال أبو جعفر:
هكذا العيش ودعني من زمان قد تقدم
فقال ابن سيد:
حين لا خمر سوى ما بكؤوس البيض من دم
فقال أبو جعفر: والله ما تعديت ما جال الساعة في خاطري، فإني ذكرت أيام الفتنة وما كابدنا فيها من المحن، وأنا لم نزل في مصادمة ومقارعة، ثم رأيت ما نحن الآن فيه بهذه الدولة السعيدة التي أمنت وسكنت، فشكرت الله تعالى، ودعوت بدوامها.
ثم لما طلع الفجر قال أبو جعفر:
نثر الطل عقوده ونضا الليل بروده
فقال ابن سيد:
وبدا الصبح بوجه مطلع فينا سعوده
فقال أبو جعفر:
وغدا ينشر لما فتر الليل بنوده
فقال ابن سيد:
فهلم اشرب وقبل من غدا ينطق عوده
فقال أبو جعفر:
ثم صافحه على رغ م النوى وافرك نهوده
فقال ابن سيد:
واجعل الشكر على ما نلته منه جحوده
فقال أبو جعفر: يا أبا العباس، إنك أغرت على التهامي في هذا البيت في قوله:
وشكر أيادي الغانيات جحودها
قال: فلم لقبت باللص لولا هذا وأمثاله ما كان ذلك.
واللص المذكور اسمه أحمد بن سيد، يكنى أبا العباس، وهو من مشهوري شعراء الأندلس. ولما أنشد أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي بجبل الفتح قوله:
غمض عن الشمس واستقصر مدى زحل وانظر إلى الجبل الراسي على جبل
قال له: أنت شاعر هذه الجزيرة، لولا أنك بدأتنا بغمض وزحل والجبل.
ومن بديع نظم اللص قوله:
سلبت قلبي بلحظ أبا الحسين خلوب
فلم أسمي بلص وأنت لص القلوب
ولما اجتمع أبو جعفر ابن سعيد المترجم به باللص أبي العباس المذكور في جبل الفتح عندما وفد فضلاء الأندلس على عبد المؤمن، واستنشده، فجعل ينشده ما استجفاه به لخروجه عن حلاوة منزع أبي جعفر، إلى أن أنشده قوله:
وما أفنى السؤال لكم نوالا ولكن جودكم أفنى السؤالا
فقال له أبو جعفر: لا جعلك الله في حل من نفسك، يكون في شعرك مثل هذا وتنشدني ما كان يحملني على أن أسأت معك الأدب والله لو لم يكن لك غير هذا البيت لكنت به أشعر أهل الأندلس.
وكتب إلى أبي جعفر أبو الحكم بن هرودس (1) في يوم بارد بغرناطة:
يا سميي، في علم مجدك ما يح تاج فيه هذا النهار المطير
نديف الثلج فيه قطناً علينا ففرنا بعدلكم نستجير
والذي أبتغيه في اللحظ منه
…
ورضاب الذي هويت نظير (2) يوم قر يود من حل فيه لو تبدي لمقلتيه سعير
فوجه بما طلب، وجاوبه بما كتب:
أيها السيد الأجل الوزير الذي قدره معلى خطير
قد بعثنا بما أشرت إليه دمت للأنس والسرور تشير
كان لغزاً فككتهدون فكر إن فهمي بما تريد خبير
(1) هو أبو الحكم أحمد بن هردوس كاتب عثمان بن عبد المؤمن ملك غرناطة (توفي سنة 573 أو في التي قبلها) انظر المغرب 2: 210 والحاشية، وسيأتي ذكره عند الحديث عن الموشحات والأزجال.
(2)
المغرب: ورضاه في كل أمر يسير.
ومن نظم أبي الحكم:
إذا ضاقت عليك فول عنها وسر في الأرض واختبر العبادا
ولا تمسك رحالك في بلاد غدوت بأهلها خبراً معادا
668 -
أخيل الرندي
ولما مدح أبو القاسم أخيل بن إدريس الرندي عبد المؤمن في جبل الفتح بقصيدة أولها:
ما الفخر إلا فخر عبد المؤمن أثنى عليه كل عبد مؤمن
قال أبو جعفر ابن سعيد: دعاه التجنيس إلى الضعف والخروج عن المقصود، والأولى أن لو قال " شاد الخلافة وهو أول مبتني ".
ومن هذه القصيدة:
أما ابن سعد فهو أول مارق يا ليته بأبيه سعد يكتني
ما قدر مرسية وحكمك نافذ إن شئت من عدن لأرض المعدن
فلما أكملها قال له عبد المؤمن: أجدت، فقال ارتجالاً:
من لي أمير المؤمنين بموقفي هذا وقولك لي أجدت ولم تن
فلقد مدحتك خائفاً أن لا يفي لسني بما يعيي جميع الألسن
ولابن إدريس المذكور:
أيها البدر هل علمت بأني لم أبت راعياً محياك ودا
أنا لو بات من حكيت بجنبي لم يكن عنه ناظري يتعدى
وله:
شتان ما بيني وبينك في الهوى أنا أبتغيك وأنت عني تصدف
وإذا عتبتك وارعويت يبين لي في الحين منك بأن ذاك تكلف
ياليت شعري كيف يقضى وصلنا والعمر يفنى والمواعد تخلف
وقيل له لما هجره عبد المؤمن: اكتب له واعتذر وبرهن عن نفسك، فقال: ما يكون أمير المؤمنين هجرني إلا وقد صح عنده، ولا أنسبه في أمري لقلة التثبت والجور، وإنما أرغب في عفوه ورحمته، فكأن هذا الكلام ألان عليه قلب عبد المؤمن لما بلغه، وكان قد نقل عنه حساده أنه قال: كيف تصح له الخلافة، وليس بقرشي
669 -
ترجمة النص
ولا بأس أن نزيد من أخبار اللص الذي جرى ذكرنا له مع أبي جعفر ابن سعيد فنقول (1) :
وهو النحوي المبرز في الشعر أبو العباس أحمد بن سيد، الإشبيلي، ذكره ابن دحية في المطرب وأخبر أنه شيخه، وختم كتاب سيبويه مرتين على النحوي أبي القاسم ابن الرماك، واجتمع به أبو جعفر ابن سعيد بجبل الفتح كما سبق، ولقب اللص لإغارته على أشعار الناس.
وله:
شاموا الردى فأشموا الترب آنفهم ولم يبالوا بما فيها من الشمم
ثم جعل يقول: قطع الله لساني إن كان اليوم على وجه الأرض من يعرف
(1) ترجمة اللص في المغرب 1: 252 والمطرب: 200 وبغية الوعاة: 149 والتكملة: 80.
أن يسمعه، فضلاً عن أن يقوله.
وله القصيدة الشهيرة:
نداك الغيث إن محل توالى وأنت الليث إن شاءوا القتالا
سلبت الليث شدة ساعديه نعم، وسلبت عينيه الغزالا
وما أفنى السؤال لكم نوالا ولكن جودكم أفنى السؤالا
وقد تقدم في حلقة خياط، وهو من محاسنه:
كأنها بيضة وخز الرماح بها بادوقونسها بالسيف قد قطعا
وقال:
فالليل إن واصلت كالليل إن هجرت أشكو من الطول ما أشكو من القصر
رجع إلى أخبار أبي جعفر ابن سعيد
قال في الأزهار المنثورة في الأخبار المأثورة ما نصه: لما قبض على الوزير أبي جعفر ابن عبد الملك بن سعيد العنسي، وثقف بمالقة، دخل إليه (1) ابن عمه، ووصل إلى الاجتماع به ريثما استؤذن السيد أبو سعيد ابن الخليفة عبد المؤمن في أمره، قال: فدمعت عيناي حين رأيته مكبولاً، فقال لي: أعلي تبكي بعدما بلغت من الدنيا أطايب لذاتها، فأكلت صدور الدجاج، وشربت في الزجاج، ولبست الديباج، وتمتعت بالسراري والأزواج، واستعملت من الشمع السراج الوهاج، وركبت كل هملاج، وها أنا في يد الحجاج، منتظر محنة الحلاج، قادم على غافر لا يحتاج إلى اعتذار ولا احتجاج، قال فقلت: أفلا يؤسف
(1) م: عليه.
على من ينطق بهذا الكلام، ثم يفقد وقمت عنه فكان آخر العهد به، انتهى.
رجع إلى أخبار النساء
9 -
ومن أشهرهن بالأندلس ولادة بنت المستكفي بالله محمد بن عبد الرحمن ابن عبيد الله بن الناصر لدين الله (1) ، وكانت واحدة زمانها، المشار إليها في أوانها، حسنة المحاضرة، مشكورة المذاكرة، كتبت بالذهب على طرازها الأيمن:
أنا والله أصلح للمعالي وأمشي مشيتي وأتيه تيها
وكتبت على الطراز الأيسر:
وأمكن عاشقي من صحن خدي وأعطي قبلتي من يشتهيها
وكانت مع ذلك نشهورة بالصيانة والعفاف، وفيها خلع ابن زيدون عذاره، وقال فيها القصائد الطنانة والمقطعات، وكانت لها جارية سوداء بديعة المعنى، فظهر لولادة أن ابن زيدون مال إليها، فكتبت إليه:
لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا لم تهو جاريتي ولم تتخير
وتركت غصناً مثمراً بجماله وجنحت للغصن الذي لم يثمر
ولقد علمت بأنني بدر السما لكن ولعت، لشقوتي، بالمشتري
ولقبت ابن زيدون بالمسدس، وفيه تقول:
ولقبت المسدس وهو نعت تفارقك الحياة ولا يفارق
فلوطي ومأبون وزان وديوث وقرنان وسارق
وقالت فيه:
(1) ترجمة ولادة في الذخيرة 1/1: 376 والمطرب: 7 والصلة: 657 والسيوطي: 101.
إن ابن زيدون على فضله يغتابني ظلماً ولا ذنب لي
يلحظني شزراً إذا جئته كأنني جئت لأخصي علي
وقالت فيه أيضاً:
إن ابن زيدون على فضله يعشق قضبان السراويل
لو أبصر الأير على نخلة صار من الطير الأبابيل
وقالت ولادة تهجو الأصبحي:
يا أصبحي اهنأ فكم نعمة جاءتك من ذي العرش رب المنن
قد نلت باست ابنك ما لم ينل براج بوران أبوها الحسن
وكتبت إليه لما أولع بها بعد طول تمنع:
ترقب إذا جن الظلام زيارتي فإني رأيت الليل أكتم للسر
وبي منك ما لو كان بالشمس لم تلح وبالبدر لم يطلع وبالنجم لم يسر
ووفت بما وعدت، ولما أرادت الانصراف ودعته بهذه الأبيات:
ودع الصبر محب ودعك ذائع من سره ما استودعك
يقرع السن على أن لم يكن زاد في تلك الخطى إذ شيعك
يا أخا البدر سناءً وسناً حفظ الله زماناً أطلعك
إن يطل بعدك ليلي فلكم بت أشكو قصر الليل معك
وكتبت إليه:
ألا هل لنا من بعد هذا التفرق سبيل فيشكو كل صب بما لقي
وقد كنت أوقات التزوار في الشتا أبيت على جمر من الشوق محرق
فكيف وقد أمسيت في حال قطعة لقد عجل المقدور ما كنت أتقي
تمر الليالي لا أرى البين ينقضي ولا الصبر من رق التشوق معتقي
سقى الله أرضاً قد غدت لك منزلاً بكل سكوب هاطل الوبل مغدق
فأجابها بقوله:
لحى الله يوماً لست فيه بملتق محياك من أجل النوى والتفرق
وكيف يطيب العيش دون مسرة وأي سرور للكئيب المؤرق
وكتب في أثناء الكلام بعد الشعر: وكنت ربما حثثتني على أن أنبهك على ما أجد فيه عليك نقداً، وإني انتقدت عليك قولك:
سقى الله أرضاً قد غدت لك منزلاً
فإن ذا الرمة قد انتقد عليه قوله مع تقديم الدعاء بالسلامة:
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ولا زال منهلاً بجرعائك القطر
إذ هو أشبه بالدعاء على المحبوب من الدعاء له، وأما المستحسن فقول الآخر:
فسقى ديارك غير مفسدها صوب الربيع وديمة تهمي
وبسببها خاطب ابن عبدوس بالرسالة المشهورة التي شرحها غير واحد من أدباء المشارقة كالجمال ابن نباتة والصفدي وغيرهما، وفيها من التلميحات والتنديرات ما لا مزيد عليه.
وقد ذكر ولادة ابن بشكوال في الصلة فقال: كانت أديبة، شاعرة، جزلة القول، حسنة الشعر، وكانت تناضل الشعراء، وتساجل الأدباء، وتفوق البرعاء، وعمرت عمراً طويلاً، ولم تتزوج قط، وماتت لليلتين خلتا من صفر سنة ثمانين، وقيل: أربع وثمانين وأربعمائة، رحمها الله تعالى.
وكان أبوها المستكفي بايعه أهل قرطبة لما خلعوا المستظهر، كما ألمعنا به في غير هذا الموضع، وكان جاهلاً ساقطاً، وخرجت هي في نهاية من الأدب والظرف: حضور شاهد، وحرارة أوابد، وحسن منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر، وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعباً لجياد النظم والنثر، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، وعلى سهولة حجابها، وكثرة منتابها، تخلط ذلك بعلو نصاب، وكرم أنساب، وطهارة أثواب، على أنها أوجدت للقول فيها السبيل بقلة مبالاتها، ومجاهرتها بلذاتها. ولما مرت بالوزير أبي عامر ابن عبدوس وأمام داره بركة تتولد عن كثرة الأمطار، وربما استمدت بشيء مما هنالك من الأقذار، وقد نشر أبو عامر كميه، ونظر في عطفيه، وحشر أعوانه إليه، فقالت:
أنت الخصيب وهذه مصر فتدفقا فكلاكما بحر
فتركته لا يحير حرفاً، ولا يرد طرفاً.
وقال في المغرب بعد ذكره أنها بالغرب كعلية بالشرق: إلا أن هذه تزيد بمزية الحسن الفائق، وأما الأدب والشعر والنادر وخفة الروح فلم تكن تقصر عنها، وكان لها صنعة في الغناء، وكان لها مجلس يغشاه أدباء قرطبة وظرفاؤها فيمر فيه من النادر وإنشاد الشعر كثير لما اقتضاه عصرها من مثل ذلك، وفيها يقول ابن زيدون:
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
وقال أيضاً يخاطب ابن عبدوس لاشتراكه معه في هواها:
أثرت هزبر الشرى إذ ربض ونبهته إذ هدا فاغتمض
وما زلت تبسط مسترسلاً إليه يد البغي لما انقبض
حذار حذار فإن الكريم إذا سيم خسفاً أبى فامتعض
وإن سكون الشجاع النهو س ليس بمانعه أن يعض
عمدت لشعري ولم تتئد تعارض جوهره بالعرض
أضاقت أساليب هذا القري ض أم قد عفا رسمه فانقرض
لعمري فوقت سهم النضال وأرسلته لو أصبت الغرض
ومنها:
وغرك من عهد ولادة سراب تراءى وبرق ومض
هي الما يعز على قابض ويمنع زبدته من محض
ومن أخبار ولادة مع ابن زيدون ما قاله الفتح في القلائد (1) : إن ابن زيدون كان يكلف بولادة ويهيم، ويستضيء بنور محياها في الليل البهيم، وكانت من الأدب والظرف، وتتميم السمع والطرف، بحيث تختلس القلوب والالباب، وتعيد الشيب الى أخلاق الشباب، فلما حل بذلك الغرب، وانحل عقد صبره بيد الكرب، فر إلى الزهراء ليتوارى في نواحيها، ويتسلى برؤية موافيها، فوافاها والربيع قد خلع عليها برده، ونشر سوسنه وورده، وأترع جداولها، وانطق بلابلها، فارتاح ارتياح جميل بوادي القرى، وخاف تلك النوائب والمحن، فكتب إليها يصف فرط قلقه، وضيق أمده إليها وطلقه، ويعلمها أنه ما سلا عنها بخمر، ولا خبا ما في ضلوعه من ملتهب جمر (2) ، ويعاتبها على إغفال تعهده، ويصف حسن محضره بها ومشهده:
إني ذكرتك بالزهراء مشتاقأ والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا
(1) القلائد: 73.
(2)
ويعلمها
…
جمر: سقط هذا من القلائد المطبوع.
وللنسيم اعتلال في أصائله كأنما رق لي فاعتل إشفاقا
والروض عن مائه الفضي مبتسم كما حللت عن اللبات أطواقا
يوم كأيام لذات لنا انصرمت بتنا لها حين نام الدهر سراقا
نلهو بما يستميل العين من زهر جال الندى فيه حتى مال أعناقا
كأن أعينه إذ عاينت أرقي بكت لما بي فجال الدمع رقراقا
ورد تألق في ضاحي منابته فازداد منه الضحى في العين إشراقا
سرى ينافحه نيلوفرعبق وسنان نبه منه الصبح أحداقا
كل يهيج لنا ذكرى تشوقنا إليك، لم يعد عنها الصدر أن ضاقا
لو كان وفى المنى في جمعنا بكم لكان من أكرم الأيام أخلاقا
لا سكن الله قلباً عن ذكركم فلم يطر بجناح الشوق خفاقا
لو شاء حملي نسيم الريح حين هفا وافاكم بفتىً أضناه ما لاقا
يا علقي الأخطر الأسنى الحبيب إلى نفسي إذا ما اقتنى الأحباب أعلاقا
كان التجاري بمحض الود مذ زمن ميدان أنس جرينا فيه أطلاقا
فالآن أحمد ما كنا لعهدكم سلوتم وبقينا نحن عشاقا
وقال أيضاً (1) : أن ابن زيدون لم يزل يروم دنو ولادة فيعتذر، ويباح دمه دونها ويهدر، لسوء أثره في ملك قرطبة وواليها، وقبائح كان ينسبها إليه ويواليها، أحقدت بني جهور عليه، وسددت أسهمهم إليه، فلما يئس من لقياها، وحجب عنه محياها، كتب إليها يستديم عهدها، ويؤكد ودها، ويعتذر من فراقها بالخطب الذي غشيه، ويعلمها أنه ما سلا عنها بخمر، ولا خبى ما في ضلوعه من ملتهب الجمر، وهي قصيدة ضربت في الإبداع بسهم، وطلعت في كل خاطر ووهم، ونزعت منزعاً قصر عنه حبيب وابن الجهم، وأولها:
(1) القلائد: 81.
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
تكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
وأخبار ولادة كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية.
10 -
ومن المشهورات بالأندلس " اعتماد "(1) جارية المعتمد بن عباد، وأمك أولاده، وتشتهر بالرمكية، وفي المسهب والمغرب أنه ركب المعتمد في النهر ومعه ابن عمار وزيره، وقد زردت الريح النهر، فقال ابن عباد لابن عمار: أجز:
صنع الريح من الماء زرد
فأطال ابن عمار الفكرة، فقالت امرأة من الغسالات:
أي درع لقتال لو جمد
فتعجب ابن عباد من حسن ما أتت به، مع عجز ابن عمار، ونظر إليها فإذا هي صورة حسنة، فأعجبته فسألها: أذات زوج هي فقالت: لا، فتزوجها، وولدت له أولاده الملوك النجباء، رحمهم الله تعالى.
وحكى البعض منهم صاحب البدائه بسنده إلى بعض أدباء الأندلس، وسماه ولم يحضرني الآن، أنه هو الذي قال للمعتمد:
أي درع لقتال لو جمد
قال: فاستحسنه المعتمد، وكنت رابعاً فجعلني ثانياً، وأجازني بجائزة سنية.
قال ابن ظافر: وقد أخذت هذا المعنى، فقلت أصف روضاً:
(1) القلائد: 22؛ وانظر المجلد 3: 606.
فلو دام ذاك النبت كان زبرجداً ولو جمدت أنهاره كانت بلورا
ولما قال ابن ظافر:
وقد أذكت الشمس على الما لهبا
قال القاضي الأعز:
فكست الفضة منه ذهبا
رجع:
ولما خلع المعتمد وسجن بأغمات قالت له: يا سيدي لقد هنا هنا، فقال:
قالت لقد هنا هنا مولاي أين جاهنا
قلت لها إلهنا صيرنا إلى هنا
وحكي أنها قالت له وقد مرض: يا سيدي، ما لنا قدرة على مرضاتك في مرضاتك.
ولما قال الوزير ابن عمار قصيدته اللامية الشهيرة في المعتمد والرمكية أغرت المعتمد به حتى قتله، وضربه بالطبرزين ففلق رأسه، وترك الطبرزين في رأسه، فقالت الرمكية: قد بقي ابن عمار هدهداً، والقصيدة أولها:
ألا حي بالغرب حياً حلالا أناخوا جمالاً وحازوا جمالا
وعرج بيومين أم القرى ونم فعسى أن تراها خيالا
ويومين: قرية بإشبيلية كانت منها أولية بني عباد، وفي هذه القصيدة يقول معرضاً بالرمكية:
تخيرتها من بنات الهجان رمكية ما تسلاوي عقالا
فجاءت بكل قصير العذار لئيم النجارين عماً وخالا
قصار القدود ولكنهم أقاموا عليها قروناً طوالا
أتذكر أيامنا بالصبا وأنت إذا لحت كنت الهلالا
أعانق منك القضيب الرطيب وأرشف من فيك ماءً زلالا
وأقنع منك بدون الحرام فتقسم جهدك أن لا حلالا
سأهتك عرضك شيئاً فشيئاً وأكشف سترك حالاً فحالا
ومنها:
فيا عامر الخيل يا زيدها منعت القرى وأبحت العيالا
وسبب قول ابن عمار هذه القصيدة أن المعتمد ندر به وذيل على قصيدته الرائية المذكورة في القلائد بعد قوله:
كيف التفلت بالخديعة من يدي رجل الحقيقة من بني عمار
وسخر به في أبيات مشهورة.
670 -
أخبار المعتمد
قال الفتح في حق المعتمد بعد كلام: وما زالت تلك الداخلة تدب، وريحها العاصفة تهب، ونارها تقد، وضلوعها تحنق وتحقد، وتضمر الغدر وتعتقد، حتى دخل البلد من واديه، وبدت من المكروه بواديه، وكر عليه الدهر بعوائده وعواديه، وهو مستمسك بعرى لذاته، منغمس فيها بذاته، ملقى بين جواريه، مغتر بودائع ملكه وعواريه، التي استرجعت منه في يومه، ونبهه فواتها من نومه، ولما انتشر الداخلون في البلد، وأوهنوا القوى والجلد
خرج والموت يتسعر في الحاظه، ويتصور من الفاظه، وحسامه يعد بمضائه، ويتوقد عند انتضائه، فلقيهم برحبة القصر، وقد ضاق بهم فضاؤها، وتضعضعت من رجتهم أعضاؤها، فحمل فيهم حملة صيرتهم فرقاً، وملأتهم فرقاً، ومازال يواري عليهم الكر المعاد، حتى أوردهم النهر وما بهم جواد، وأودعهم حشاه كأنهم له فؤاد، ثم انصرف وقد أيقن بانتهاء حاله، وذهاب ملكه وارتحاله، وعاد إلى قصره واستمسك فيه يومه وليلته مانعاً لحوزته، دافعاً للذل عن عزته، وقد عزم على أفظع أمر، وقال: بيدي لا بيد عمرو، ثم صرفه تقاه، عما كان نواه، فنزل من القصر بالقسر، إلى قبضة الأسر، فقيد للحين، وحان له يوم شر ما ظن أنه يحين، ولما قيدت قدماه، وذهبت عنه رقة الكبل ورحماه، قال يخاطبه:
إليك فلو كانت قيودك أسعرت تضرم منها كل كف ومعصم
مخافة من كان الرجال بسيبه ومن سيفه في جنة أو جهنم
ولما آلمه عضه، ولازمه كسره ورضه، وأوهاه ثقله، وأعياه نقله، قال:
تبدلت من عز ظل البنود بذل الحديد وثقل القيود
وكان حديد سناناً ذليقاً وعضباً رقيقاً صقيل الحديد
فقد صار ذاك وذا أدهماً يعض بساقي عض الأسود
ثم جمع هو وأهله وحملتهم الجواري المنشآت، وضمتهم جوانحها كأنهم أموات، بعدما ضاق عنهم القصر، وراق منهم العصر، والناس قد حشروا بضفتي الوادي، وبكوا بدموع كالغوادي، فساروا والنوح يحدوهم، والبوح باللوعة لا يعدوهم، وفي ذلك يقول ابن اللبانة:
تبكي السماء بمزن رائح غاد على البهاليل من أبناء عباد
على الجبال التي هدت قواعدها وكانت الأرض منها ذات أوتاد
عريسة دخلتها النائبات على أساود لهم فيها وآساد
وكعبة كانت الآمال تخدمها فاليوم لا عاكف فيها ولا باد
يا ضيف أقفر بيت المكرمات فخذ في ضم رحلك واجمع فضلة الزاد
ويا مؤمل واديهم ليسكنه خف القطين وجف الزرع بالوادي
وأنت يا فارس الخيل التي جعلت تختال في عدد منهم وأعداد
ألق السلاح وخل المشرفي فقد أصبحت في لهوات الضيغم العادي
لما دنا الوقت لم تخلف له عدة وكل شيء لميقات وميعاد
إن يخلعوا فبنو العباس قد خلعوا وقد خلت قبل حمص أرض بغداد
حموا حريمهم حتى إذا غلبوا سيقوا على نسق في حبل مقتاد
وأنزلوا عن متون الشهب واحتملوا فويق دهم لتلك الخيل أنداد
وعيسى في كل طوق من دروعهم فصيغ منهن أغلال لأجياد
نسيت إلا غدات النهر كونهم في المنشآت كأموات بألحاد
والناس قد ملأوا العبرين واعتبروا من لؤلؤ طافيات فوق أزياد
حط القناع فلم تستر مخدرة ومزقت أوجه تمزيق أبراد
حان الوداع فضجت كل صارخة وصارخ من مفداة ومن فاد
سارت سفائنهم والنوح يصحبها كأنها إبل يحدوا بها الحادي
كم سال في الماء من دمع وكم حملت تلك القطائع من قطعات أكباد
انتهى ما قصد جلبه من كلام الفتح رحمه الله تعالى وسامحه.
وقال ابن اللبانة في كتاب نظم السلوك في مواعظ الملوك في أخبار الدولة العباسية: إن طائفة من أصحاب المعتمد خامرت عليه، فأعلم باعتقادها، وكشف له عن مرادها، وحض على هتك حرمها، وأغري بسفك دمها، فأبى ذلك مجده الأثيل، ومذهبه الجميل، وما خصه الله تعالى به من حسن اليقين، وصحة الدين، إلى أن أمكنتهم الغرة فانتصروا ببغاث مستنسر، وقاموا بجمع
غير مستبصر، فبرز من قصره، متلافياً لأمره، عليه غلالة ترف على جسده، وسيفه في يده:
وذاك السيف راق وراع حتى كأن عليه شيمة منتضيه
كأن الموت أودع فيه سراً ليرفعه إلى يوم كريه
فلقي على باب من أبواب المدينة فارساً مشهوراً بنجدة، فرماه الفارس برمح التوى على غلالته، وعصمه الله تعالى منه، وصب هو سيفه على عاتق الفارس، فشقه إلى أضلاعه فخر صريعاًسريعاً، فرأيت القائمين عندما تسنموا الأسوار تساقطوا منها، وبعدما أمسكوا الأبواب تخلوا عنها، وأخذوا على غير طريق، وهوت بهم ريح الهيبة في مكان سحيق، فظننا أن البلد من أقذائه قد صفا، وثوب العصمة علينا قد ضفا، إلى أن كان يوم الأحد الحادي والعشرون من رجب فعظم الأمر في الخطب الواقع، واتسع الخرق فيه على الراقع، ودخل البلد من جهة واديه، وأصيب حاضره بعادية باديه، بعد أن ظهر من دفاع المعتمد وبأسه، وتراميه على الموت بنفسه، ما لا مزيد عليه، ولا انتهى خلق إليه، فشنت الغارة في البلد، ولم يبق فيه على سبد لأحد ولا لبد، وخرج الناس من منازلهم، يسترون عوراتهم بأناملهم، وكشفت وجوه المخدرات العذارى، ورأيت الناس سكارى، وما هم بسكارى، ورحل بالمعتمد وآله، بعد استئصال جميع ماله، لم يصحب معه بلغة زاد، ولا بغية مراد، فأمضيت عزيمتي في اتباعه، فوصلت إليه بأغمات عقب ثقاف استنقذه الله منه، فذكرت به شعراً كان لي في صديق اتفق له مثل ذلك الشهر بعينه من العام الماضي، وهو الأمير أبو عبد الله ابن الصفار، وهو:
لم نقل في الثقاف كان ثقافا كنت قلباً به وكان شغافا
يمكث الزهر في الكمام ولكن بعد مكث الكمام يدنو القطافا
وإذا ما الهلال غاب بغيم لم يكن ذلك المغيب انكسافا
إنما أنت درة للمعالي ركب الدهر فوقها أصدافا
حجب البيت منك شخصاً كريماً مثلما تحجب الدنان السلافا
أنت للفضل كعبة ولو اني كنت أسطيع لاستطعت الطوافا
قال أبو بكر: وجرت بيني وبينه مخاطبات ألذ من غفلات الرقيب، وأشهى من رشفات الحبيب، وأدل على السماح، من فجر على صباح، انتهى (1) .
ثم قال: ولما خلع المعتمد وذهب إلى أغمات طلب من حواء بنت تاشفين خباء عارية، فاعتذرت بأنها ليس عندها خباء، فقال:
هم أوقدوا بين جنبيك نارا أطالوا بها في حشاك استعارا
أما يخجل المجد أن يرحلوك ولم يصحبوك خباء معارا
فقد قنعوا المجد إن كان ذاك وحاشاهم منك خزياً وعارا
يقل لعينيك أن يجعلوا سواد العيون عليكم شعارا
ثم إنه بقي مأسوراً بأغمات إلى سنة 486، فأخذ بمالفة رجل كبير يعرف بابن خلف، فسجن مع أصحاب له، فنقبوا السجن وذهبوا إلى حصن منت ميور ليلاً فأخرجوا قائدها، ولم يضروه، وبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رجل، فسألوه فإذا هو عبد الجبار بن المعتمد، فولوه على أنفسهم، وظن الناس أنه الراضي، فبقي في الحصن، ثم أقبل مركب من الغرب يعرف بمركب ابن الزرقاء، فانكسر بمرسى الشجرة قريباً من الحصن، فأخذوا بنوده وطبوله وما فيه من طعام وعدة فاتسعت بذلك حالهم، ثم وصلت أم عبد الجبار إليه، ثم خاطبه أهل الجزيرة وأهل أركش فدخلها سنة 448، ولما بلغ خبر عبد الجبار إلى ابن تاشفين أمر بثقاف المعتمد في الحديد، وفي ذلك يقول:
قيدي أما تعلمني مسلماً أبيت أن تشفق أو ترحما
(1) زاد في م ورقة ونصف ورقة، ولكنا آثرنا عدم إثباتها هنا لأنها سترد في سياق الأخبار من بعد.
يبصرني فيك أبو هاشم فينثني القلب وقد هشما
وبقي إلى أن توفي رحمه الله سنة 488.
وقد ساق الفتح قضية ثورة عبد الجباربن المعتمد بعبارته البارعة فقال (1) : وأقام بالعدوة برهة لا يروع له سرب وإن لم يكن آمناً، ولا يثور له كرب وإن كان في ضلوعه كامناً، إلى أن ثار أحد بنيه بأركش - معقل كان مجاوراً لإشبيلية مجاورة الأنامل للراح، ظاهر على بسائط وبطاح، لا يمكن معه عيش، ولا يتمكن من منازالته جيش، فغدا على أهلها بالمكاره وراح، وضيق عليهم المتسع من جهاتها والبراح، فسار نحوع الأمير سير بن أبي بكر (2) رحمه الله تعالى، قبل أن يرتد طرف استقامته إليه، فوجده وشره قد تشمر، وضره قد تنمر، وجمره مستعر، وأمره متوعر، فنزل عدوته، وحل للحزم حبوته، وتدارك داءه قبل إعضاله، ونازله وما أعد آلات نضاله، وانحشدت الجيوش إليه من كل قطر، وأفرغ من مسالكه كل قطر، فبقي محصوراً لا يشد إليه إلا سهم، ولا ينفذ عنه إلا نفس أو وهم، وامتسك شهوراً حتى حتى عرضه أحد الرماة بسهم فرماه، فأصماه، فهوى في مطلعه، وخر قتيلاً في موضعه، فدفن إلى جانب سريره، وأمن عاقبة تغريره، وبقي أهله ممتنعين مع طائفة من وزرائه حتى اشتد عليهم الحصر، وارتد عنهم النصر، وعمهم الجوع، وأغب أجفانهم الهجوع، فنزلت منهم طائفة متهافتة، وولت بأنفاس خافتة، فتبعهم من بقي، ورغب في التنعم من شقي، فوصلوا إلى قبضة الملمات، وحصلوا في قبضة الممات، فوسمهم الحيف، وتقسمهم السيف، ولما زأر الشبل خيفت سورة الأسد، ولم يرج صلاح الكل والبعض قد فسد، فاعتقل المعتمد خلال تلك الحال وأثناءها، وأحل ساحة الخطوب
(1) القلائد: 25.
(2)
زاد في م: أمير ابن تاشفين.
وفناؤها، وحين أركبوه أساودا، وأورثوه حزناً بات له معاودا، فقال:
غمتك أغماتية الألحان ثقلت على الأرواح والأبدان
قد كان كالثعبان رمحك (1) في الورى
…
فغدا عليك القيد كالثعبان متمرداً يحميك كل تمرد متعطفاً لا رحمة للعاني
قلبي إلى الرحمن يشكو بثه ماخاب من يشكو إلى الرحمن
يا سائلاً عن شأنه ومكانه ما كان أغنى شأنه عن شان
هاتيك قينته وذلك قصره من بعد أي مقاصر وقيان
ولما فقد من يجالسه، وبعد عنه من كان يؤانسه، وتمادى كربه، ولم تسالمه حربه، قال:
تؤمل للنفس الشجية فرجة وتأبى الخطوب السود إلا تماديا
لياليك في زاهيك أصفى صحبتها كذا صحبت قبلي الملوك اللياليا
نعيم وبؤس ذا لذلك ناسخ وبعدهما نسخ المنايا الأمانيا
ولما امتدت في الثقاف مدته، واشتدت عليه قسوة الكبل وشدته، وأقلقته همومه، وأطبقته غمومه، وتوالت عليه الشجون، وطالت لياليه الجون، قال:
أنباء أسرك قد طبقن آفاقا بل قد عممن جهات الأرض إقلاقا
سرت من الغرب لا تطوى لها قدم حتى أتت شرقها تنعاك إشراقا
فأحرق الفجع أكباداً وأفئدة وأغرق الدمع آماقاً وأحداقا
قد ضاق صدر المعالي إذ نعيت لها وقيل: إن عليك القيد قد ضاقا
أنى غلبت وكنت الدهر ذا غلب للغالبين وللسباق سباقا
قلت الخطوب أذلتني طوارقها وكان غربي إلى الأعداء طراقا
(1) م ق: قيدك.
متى رأيت صروف الدهر تاركة إذا انبرت لذوي الأخطار أرماقا
وقال لي من أثقه: لما ثار ابنه حيث ثار، وأثار من حقد أمير المؤمنين عليه ما أثار، جزع جزعاً مفرطاً، وعلم أنه قد صار في أنشوطة الشر متورطاً، وجعل يتشكى من فعله ويتظلم، ويتوجع منه ويتألم، ويقول: عرض بي للمحن، ورضي لي أن أمتحن، ووالله ما أبكي إلا انكشاف من أتخلفه بعدي، ويتحيفه بعدي، ثم أطرق ورفه رأسه وقد تهللت أسرته، وظللته مسرته، ورأيته قد استجمع، وتشوف إلى السماء وتطلع، فعلمت أنه قد رحا عودة إلى لطانه وأوبة إلى أوطانه، فما كان إلا بمقدار ما تنداح دائرة، أو تلتفت مقلة حائرة، حتى قال:
كذا يهلك السيف في جفنه على هز كفي طويل الحنين
كذا يعطش الرمح لم أعتقله ولم تروه من نجيع يميني
كذا يمنع الطرف علك الشكي م مرتقباً غرة في كمين
كأن الفوارس فيه ليوث تراعي فرائسها في عرين
ألا شرف يرحم المشرفي مما به من شمات الوتين
ألا كرم ينعش السمهري ويشفيه من كل داء دفين
ألا حنة لابن محنية شديد الحنين ضعيف الأنين
يؤمل من صدرها ضمة تبوئه صدر كفؤ معين
وكانت طائفة من أهل فاس قد عاثوا فيها وفسقوا، وانتظموا في سلك الطغيان واتسقوا، ومنعوا جفون أهلا السنات، وأخذوا البنين من حجور آبائهم والبنات، وتلقبوا بالإمارة، وأركبوا السوء نفوسهم الأمارة، حتى كادت أن تقفز على أيديهم، وتدثر رسومها بإفراط تعديهم، إلى أن تدارك أمير المسلمين رحمه الله تعالى أمرهم، وأطفأ جمرهم، وأوجعهم ضرباً، وأقطعهم ما شاء حزناً وكرباً، وسجنهم بأغمات، وضمتهم جوانح الملمات
والمعتمد إذ ذاك معتقل هناك، وكانت فيهم طائفة شعرية، مذنبة أو بيرة، فرغبوا إلى سجانهم، أن يستريحوا مع المعتمد من أشجانهم، فخلى ما بينهم وبينه، وغمض لهم في ذلك عينه، فكان المعتمد رحمه الله تعالى يتسلى بمجالستهم، ويجد أثر مؤانستهم، ويستريح إليهم بجواه، ويبوح لهم بسره ونجواه، إلى أن شفع فيهم وانطلقوامن وثاقهم، وانفرج لهم مبهم أغلاقهم، وبقي المعتمد في محبسه (1) يشتكي من ضيق الكبل، ويبكي بدمع كالوبل، فدخلوا عليه مودعين، ومن بثه متوجعين، فقال:
أما لانسكاب الدمع في الخد راحة لقد آن أن يفنى، ويفنى به الخد
هبوا دعوة يا آل فاس لمبتلىً بما منه قد عافاكم الصمد الفرد
تخلصتم من سجن أغمات والتوت علي قيود لم يحن فكها بعد
من الدهم أما خلقها فأساود تلوى وأما الأيد والبطش فالأسد
فهنيتم النعما، ودامت لكلكم سعادته إن كان قد خانني سعد
خرجتم جماعات وخلفت واحداً ولله في أمري وأمركم الحمد
ومر عليه في موضع اعتقاله سرب قطاً لم يعلق لها جناح، ولا تعلق بها من الأيام جناح، ولا عاقها عن أفراخها الأشراك، ولا أعوزها البشام ولا الأراك، وهي تمرح في الجو، وتسرح في مواقع النو، فتنكد بما هو فيه من الوثاق، وما دون أحبته من الرقباء والأغلاق، وما يقاسيه من كبله، ويعانيه من وجده وخبله، وفكر في بناته وافتقارهن إلى نعيم عهدنه، وحبور حضرنه وشهدنه، فقال:
بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي سوارح لا سجن ولا كبل
ولم تك، والله المعيذ، حسادة ولكن حنيناً أن شكلي لها شكل
(1) القلائد: في مجلسه.
فأسرح لا شملي صديع، ولا الحشا وجيع، ولا عيناي يبكيهما ثكل
هنيئاً لها أن لم يفرق جميعها ولا ذاق منها البعد عن أهلها أهل
وإذ لم تبت مثلي تطير قلوبها إذا اهتز باب السجن أو صلصل القفل
وما ذاك مما يعتريه، وإنما وصفت التي في جبلة الخلق من قبل
لنفسي إلى لقيا (1) الحمام تشوف
…
سواي يحب العيش في ساقه كبل ألا عصم الله القطا في فراخها فإن فراخي خانها الماء والظل
وفي هذه الحالة زاره الأديب أبو بكر ابن اللبانة، وهو أجد شعراء دولته المرتضعين دررها، المنتجعين دررها، وكان المعتمد رحمه الله تعالى يميزه بالشفوف والإحسان، ويجوزه في فرسان هذا الشان، فلما رآه وحلقات الكبل قد عضت بساقيه عض الأسود، والتوت عليه التواء الأساود السود، وهو لا يطيق إعمال قدم، ولا يريق دمعاً إلا ممزوجاً بدم، بعدما عهده فوق منبر وسرير، ووسط جنة وحرير، تخفق عليه الألوية، وتشرق منه الأندية، وتكف الأمطار من راحته، وتشرف (2) الأقدار بحلول ساحته، ويرتاع الدهر من أوامره ونواهيه، ويقصر النسر أن يقارنه أو يضاهيه، ندبه بكل مقال يلهب الأكباد، ويثير فيها لوعة الحرث بن عباد، أبدع من أناشيد معبد، وأصدع للكبد من مراثي أربد، أو بكاء ذي الرمة بالمربد، سلك فيها للاحتفاء طريقاً لاحباً، وغدا فيها لذيول الوفاء ساحباً، فمن ذلك قوله:
انفض يديك من الدنياوساكنها فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا
وقل لعالمها السفلي قد كتمت سريرة العالم العلوي أغمات
طوت مظلتها لا بل مذلتها من لم تزل فوقه للعز رايات
من كان بين الندى ولبأس أنصله هندية وعطاياه هندية
(1) م: أن ألقى.
(2)
ق ودوزي: وتشرق.
رماه من حيث لم تستره سابغة دهر مصيباته نبل مصيبات
أنكرت إلا التواءات القيود به وكيف تنكر في الروضات حيات
غلطت بين همامين عقدن له وبينها فإذا الأنواع أشتات
وقلت هن ذؤابات فلم عكسن من رأسه نحو رجليه الذؤابات
حسبتها من قناه أو أعنته إذا بها لثقاف المجد آلات
دروه ليثاً فخافوا منه عادية عذرتهم فلعدو الليث عادات
لم كان يفرج عنه بعض آونة قامت بدعوته حتى الجمادات
بحر محيط عهدناه تجيء له كنقطة الدارة السبع المحيطات
لهفي على آل عباد فإنهم أهلة ما لها في الأفق هالات
راح الحيا وغدا منهم بمنزلة كانت لنا بكر فيها وروحات
أرض كأن على أقطارها سرجاً قد أوقدتهن بالأدهان أنبات
وفوق شاطئ واديها رياض ربىً قد ظللتها من الأنشام دوحات
نهر شربت بعبريه على صور كانت لها في قبل الراح سورات
وربما كنت أسمو للخليج به وفي الخليج لأهل الراح راحات
وبالعروسات لا جفت منابتها من النعيم غروسات جنيات
ولم تزل كبده تتوقد بالزفرات، وخلده يتردد بين النكبات والعثرات، ونفسه تتقسم بين الأشجان والحسرات، إلى أن شفته منيته، وجاءته بها أمنيته، فدفن بأغمات، وأريح من تلك الأزمات:
وعطلت المآثر من حلالها وأفردت المفاخر من علاها
ورفعت مكارم الأخلاق، وكسدت نفائس الأعلاق، وصار أمره عبرة في عصره، وصاب أندى عبرة في مصره. وبعد أيام وافى أبو بحر ابن عبد الصمد شاعره المتصل به، المتوصل إلى المنى بسببه، فلما كان يوم العيد وانتشر
الناس ضحىً، وظهر كل متوار واضحاً، قام على قبره عند انفصالهم من مصلاهم، واختيالهم بزينتهم وحلاهم، وقال بعد أن طاف بقبره والتزمه، وخر على تربه ولثمه:
ملك الملوك، أسامع فأنادي أم قد عدتك عن السماع عوادي
لما خلت منك القصور فلم تكن فيها كما قد كنت في الأعياد
قبلت في هذا الثرى لك خاضعاً وتخذت قبرك موضع الإنشاد
وهي قصيدة أطال إنشادها، وبنى بها اللواعج وشادها، فانحشر الناس إليه وانحفلوا، وبكوا ببكائه وأعولوا، وأقاموا أكثر نهارهم مطيفين به طواف الحجيج، مديمين للبكاء والعجيج، ثم انصرفوا وقد نزفوا ماء عيونهم، وأقرحوا مآقيهم بفيض شؤونهم، وهذه نهاية كل عيش، وغاية كل ملك وجيش، والأيام لا تدع حياً، ولا تألو كل نشر طياً، تطرق رزاياها كل سمع، وتفرق مناياها كل جمع، وتصمي كل ذي أمر ونهي، وترمي كل مشيدبوهي، ومن قبله طوت (1) النعمان ابن الشقيقة، ولوت مجازه في تلك الحقيقة، انتهى ما قصدنا جلبه من كلام الفتح مما يدخل في أخبار المعتمد بن عباد المناسبة لما مر.
وكلام الفتح كله الغاية، وليس الخبر كالعيان، ولذا قال بعض من عرف به: إنه أراد أن يفضح الشعراء الذين ذكرهم في كتبه بنثره، ساكحه الله تعالى.
وأخبار المعتمد رحمه الله تعالى تحتمل مجلدات، وآثاره إلى الآن بالغرب مخلدات، وكان من النادر الغريب قولهم في الدعاء في الصلاة على جنازته الصلاة على الغريب بعد اتساع ملكه، وانتظام سلكه، وحكمه على إشبيلية وأنحائها، وقرطبة وزهرائها، وهكذا شأن الدنيا في تدريسها نحو ندبتها وإغرائها.
وقد توجه لسان الدين الوزير ابن الخطيب إلى أغمات لزيارة قبر المعتمد رحمه
(1) ق: ما طوت.
الله تعالى، ورأى ذلك من المهمات، وأنشد على قبره أبياته الشهيرة التي ذكرتها في جملة نظمه الذي هو أرق من النسيم، وأبهج من المحيا الوسيم.
قلت: وقد زرت أنا قبر المعتمد والرميكية أم أولاده، حين كنت بمراكش المحروسة عام عشرة وألف، وعمي علي أمر القبر المذكور، وسألت عنه من تظن معرفته له، حتى هداني إليه شيخ طعن في السن، وقال لي: هذا قبر ملك (1) ملوك الأندلس، وقبر حظيته التي كان قلبه بحبها خفاقاً غير مطمئن، فرأيته في ربوة حسبما وصفه ابن الخطيب رحمه الله تعالى في الأبيات، وحصلت لي في ذلك المحل خشية وادكار، وذهبت بي الأفكار، في ضروب الآيات، فسبحان من يؤتي ملكه من يشاء لا إله غيره وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
وما أحسن قول الوزير ابن عبدون في مطلع رائيته الشهيرة:
الدهر يفجع بعد العين بالأثر فما البكاء على الأشباح والصور
وهو القائل:
يا نائم الليل في فكر الشباب أفق فصبح شيبك في أفق النهى بادي
غضت عنانك أيدي الدهر ناسخة علماً بجهل وإصلاحاً بإفساد
وأسلمت للمنايا آل مسلمة وعبدت للرزايا آل عباد
لقد هوت منك، خانتها قوادمها، بكوكب في سماء المجد وقاد
ومنها:
ومالك كان يحمي (2) شول قرطبة
…
أستغفر الله، لا بل شول بغداد
(1) ق: ملك من.
(2)
في الأصول: يحيي وهو خطأ؛ والقول ناظر إلى المثل " الفحل يحمي شوله مغلولاً ".
شق العلوم نطافاً والعلا زهراً ثبين، ما بين رواد ووراد
وأين هذه القصيدة في مدحهم من قصيدة الغض منهم، وهي قول أبي الحسن جعفر بن إبراهيم ابن الحاج اللورقي:
تعز عن الدنيا ومعروف أهلها إذا عدم المعروف في آل عباد
حللت بهم ضيفاً ثلاثة أشهر بغير قرىً ثم ارتحلت بلا زاد
وهذا يدلك على أن الشعراء، لم يسلم من لسانهم من أحسن فضلاً عمن أساء، من العظماء والرؤساء، وما أمدح قول أبي محمد غانم فيهم:
ومن الغريب غروب شمس في الثرى وضياؤها باق على الآفاق
وقال في المطمح في حق بني عباد وأوليتهم ما صورته (1) : الوزير أبو القاسم محمد بن عباد، هذه بقية منتماها في لخم، ومرتماها إلى مفخر ضخم، وجدهم المنذر بن ماء السماء، ومطلعهم من جو تلك السماء، وبنو عباد ملوك أنس بهم الدهر، وتنفس منهم عن أعبق الزهر، وعمروا ربع الملك، وأمروا بالحياة والهلك، ومعتضدهم أحد من أقام وأقعد، وتبوأ كاهل الإرهاب واقتعد، وافترش من عريسته، وافترس من مكايد فريسته، وزاحم بعود، وهد كل طود، وأخمل كل ذي زي وشاة، وختل بوحي وإشارة، ومعتمدهم كان أجود الأملاك، وأحد نيرات تلك الأفلاك، وهو القائل، وقد شغل عن منادمة خواص دولته بمنادمة العقائل:
لقد حننت إلى ما اعتدت من كرم حنين أرض إلى مستأخر المطر
فهاتها خلعاً أرضي السماح بها محفوفة في أكف الشرب بالبدر
(1) المطمح: 10.
وهو القائل وقد حن في طريقه، إلى فريقه:
أدار النوى كم طال فيك تلذذي وكم غقتني عن دار أهيف أغيد
حلفت به لو قد تعرض دونه كماة الأعادي في النسيج المسرد
لجردت للضرب المهند، فانقضى مرادي، وعزماً مثل حد المهند
والقاضي أبو القاسم هذا جدهم، وبه سفر مجدهم، وهو الذي اقتنص لهم الملك النافر، واختصهم منه بالحظ الوافر، فإنه أخذ الرياسة من أيدي جبابر، وأضحى من ظلالها أعيان أكابر، عندما أناخت بها أطماعهم، وأصاخت إليها أسماعهم، وامتدت إليها من مستحقيها اليد، وأتلعوا أجياد زانها الجيد، وفغر عليها فمه حتى هجا بيت العبدى، وتصدى إليها من تحضر وتبدى، فاقتعد سنامها وغاربها، وأبعد عنها عجمها وأعاربها، وفاز من الملك بأوفر حصة، وغدت سمته به صفة مختصة، فلم يمح رسم القضاء، ولم يتسم بسمة الملك مع ذلك النفوذ والمضاء، وما زال يحمي حوزته، ويجلو غرته، حتى حوته الرجام، وخلت منه تلك الآجام، وانتقل الملك إلى ابنه المعتضد، وحل منه في روض نمق له ونضد، ولم يعمر فيه ولم يدم ولاه، وتسمى بالمعتضد بالله، وارتمى إلى أبعد غايات الجود بما أناله وأولاده، لولا بطش في اقتضاء النفوس كدر ذلك المنهل، وعكر أثناء ذلك صفو العل والنهل (1) ، وما زال للأرواح قابضاً، وللوثوب عليها رابضاً، يخطف أعداءه اختطاف الطائر من الوكر، وينتصف منهم بالدهاء والمكر، إلى أن أفضى الملك إلى ابنه المعتمد، فاكتحل منه طرفه الرمد، وأحمد مجده، وتقلد منه أي بأس ونجدة، ونال به الحق مناه، وجر رسنه، وأقام في الملك ثلاثاً وعشرين سنة، لم تعدم له فيها حسنة ولا سيرة مستحسنة، إلى أن غلب على سلطانه، وذهب به من أوطانه، فنقل،
(1) م: وتصدر أثناء العل والنهل؛ المطمح: وتصور.... إلخ.
إلى حيث اعتقل، وأقام كذلك إلى أن مات، ووارته برية أغمات، وكان للقاضي جده أدب غض، ومذهب مبيض، ونظم يرتجله كل حين، ويبعثه أعطر من الرياحين، فمن ذلك قوله يصف النيلوفر:
يا ناظرين لذا النيلوفر البهج وطيب مخبره في الفوح والأرج
كأنه جام در في تألقه قد أحكموا وسطه فصاً من السبج
انتهى المقصود منه.
671 -
تراجم منقولة عن الفتح
1 -
ترجمة ابن البني من المطمح
وهو - أعني الفتح - يشيد قصور الشرف إذا مدح، ويهدم معاقلها إذا هجا وقدح.
ومن أغراضه قوله في المطمح في حق الأديب أبي جعفر ابن البني (1) : رافع رايات القريض، وصاحب آيات التصريح والتعريض، أقام شرائعه، وأظهر بدائعه، إذا نظم أزرى بالعقود، وأتى بأحسن من رقم البرود، وكان أليف غلمان، وحليف كفر لا إيمان، ما نطق متشرعاً، ولا رمق متورعاً، ولا اعتقد حشراً، ولا صدق بعثاً ولا نشراً، وربما تنسك مجوناً وفتكاً، وتمسك باسم التقى وقد هتكه هتكاً، لا يبالي كيف ذهب، ولا بما تمذهب، وكانت له أهاجي جرع بها صاباً، ودرع منها أوصاباً، وقد أثبت له ما يرتشف ريقاً، ويشرب تحقيقاً، فمن ذلك قوله يتغزل:
من لي بغرة فاتن يختال في حلل الجمال إذا بدا وحليه
لو شمت في وضح النهار شعاعها ما عاد جنح الليل بعد مضيه
(1) المطمح: 91 وله ترجمة في القلائد: 298؛ وانظر النفح 3: 487.
شرقت لآلي الحسن حتى خلصت ذهبيه في الخد من فضيه
في صفحتيه من الجمال أزاهر غذيت بوسمي الحيا ووليه
سلت محاسنه، لقتل محبه من سحر عينيه، حسام سميه
وله فيه:
كيف لا يزداد قلبي من جوى الشوق خبالا
وإذا قلت علي بهر الناس جمالا
هو كالغصن وكالبد ر قواماً واعتدالا
أشرق البدر كمالا وانثنى الغصن اختيالا
إن من رام سلوي عنه قد رام محالا
لست أسلو عن هواه كان رشداً أو ضلالا
قل لمن قصر فيه عذل نفسي أو أطالا
دون أن تدرك هذا تسلب الأفق الهلالا
وكنت بميورقة وقد حلها متسماً بالعبادة، وهو أسرى إلى الفجور من خيال أبي عبادة (1) ، وقد لبس أسمالاً، ولبس منه أقوالاً وأفعالاً، سجوده هجود، ولإقراره بالله جحود، وكانت له رابطة لم يكن للوازمها مرتبطاً، ولا بسكناها (2) مغتبطاً، سماها بالعقيق وسمى فتى كان يتعشقه بالحمى، وكان لا يتصرف إلا في صفاته، ولا يقف إلا بعرفاته، ولا يؤرقه إلا جواه، ولا يشوقه (3) إلا هواه، فإذا بأحد دعاة حبيبه، ورواة تشبيبه، قال له: كنت البارحة بحماه، وذكر لي خبراً ورى به عني وعماه، فقال:
(1) أبو عبادة البحتري ذكره لإكثاره من وصف طيف الخيال وطروقه.
(2)
م: بسكانها.
(3)
دوزي: يشرقه.
تنفس بالحمى مطلول أرض (1)
…
فأودع نشره نشراً شمالا فصبحت العيون إلي كسلى تجرر فيه أرداناً خضالا
أقول وقد شممت الترب مسكاً بنفحتها يميناً أوشمالا
نسيم جاء يبعث منك طيباً ويشكو من محبتك اعتلالا
ولما تقرر عند ناصر الدولة من أمره ما تقرر، وتردد على سمعه انتهاكه وتكرر، أخرجه من بلده ونفاه، وطمس رسم فسقه وعفاه، فأقلع إلى المشرق وهو جار، فلما صار من ميورقة على ثلاثة مجار (2) ، نشأت له ريح صرفته عن وجهته، إلى فقد مهجته، فلما لحق بميورقة أراد ناصر الدولة إماحته، وأخذ ثأر الدين منه وإراحته، ثم آثر صفحه، وأخمد ذلك الجمر ولفحه، وأقام أياماً ريحاً علها تزجيه، ويستهديها لتخلصه وتنجيه، وفي أثناء بلوته، لم يتجاسر أحد على إتيانه من إخوته، فقال يخاطبهم:
أحبتنا الألى عتبوا علينا فأقصرنا وقد أزف الوداع
لقد كنتم لنا جذلاً وأنساً فهل في العيش بعدكم انتفاع
أقول وقد صدرنا بعد يوم أشوق بالسفينة أم نزاع
إذا طارت بنا حامت عليكم كأن قلوبنا فيها شراع
وله يتغزل:
بني العرب الصميم ألا رعيتم مآثركم بآثار السماح
رفعتم ناركم فعشا إليها بوهن فارس الحي الوقاح
فهل في القعب فضل تنضحوه به من محض ألبان اللقاح
لعل الرسل شابته الثنايا بشهد من ندى نور الأقاح
(1) م: روض.
(2)
المطمح: جوار.
وله أيضاً:
وكأنما رشأ الحمى لما بدا لك في مضلعة الحديد المعلم
غصب الغمام قسيه فأراكها من حسن معطفه قويم الأسهم
وله أيضاً:
نظرت إليه فاتقاني بمقلة ترد إلى نحري صدور رماح
حميت الجفون النوم يا رشأ الحمى وأظلمت أيامي وأنت صباحي
وقال:
قالوا تصيب طيور الجو أسهمه إذا رماها فقلنا عندنا الخبر
تعلمت قوسها من قوس حاجبه وأيد السهم من ألحاظه الحور
يروح في بردة كالنفس حالكة كما أضاء بجنح الليل القمر
وربما راق في خضراء مورقة كما تفتح في أوراقه الزهر
2 -
ترجمة ابن لبال من المطمح
وقال في ترجمة أبي الحسن ابن لبال (1) : شاعر سمح، متقلد بالإحسان متشح، أم الملوك والرؤساء، ويمم تلك العزة القعساء، فانتجع مواقع خيرهم، واقتع ما شاء من ميرهم، وتمادت أيامه إلى هذا الأوان، فجالت به في ميدان الهوان، فكسد نفاقه، وارتدت آفاقه، وتوالى عليه حرمانه وإخفاقه، وأدركته وقد خبنته سنونه، وانتظرت منونه، ومحاسنه كعهدها في الاتقاد، وبعدها من الانتقاد، وقد أثبت منها ما يعذب جنىً وقطافاً، ويستعذب استنزالاً واستلطافاً، فمن ذلك قوله يستنجد الأمير الأجل أبا إسحاق ابن أمير المسلمين:
(1) المطمح: 93 وكتب فيه خطأ " ابن لسان ". وفي ق م أحياناً: ابن لبان.
قل للأمير ابن الأمير بل الذي أبدا به في المكرمات وفي الندى
والمجتنى بالرزق وهي بنفسج ورد الجراح مضعفاً ومنضدا
جاءتك آمال العفاة ظوامئاً فاجعل لها من ماء جودك موردا
وانثر على المداح سيبك، إنهم نثروا المدائح لؤلؤاً وزبرجدا
فالناس إن ظلموا فأنت هو الحمى والناس إن ضلوا فأنت هو الهدى
أخبرني وزير السلطان أن هذه القطعة لما ارتفعت، اعتنت بجملة الشعراء وشفعت، فأنجز لهم الموعود، وأورق لهم ذلك العود، وكثر اللغط في تعظيمها، واستجادة نظيمها، وحصل له بها ذكر، وانصقل له بسببها فكر.
وله من قطعة يصف بها سيفاً:
كل نهر توقدت شفرتاه كاتقاد الشهاب في الظلماء
فهو ماء قد ركبت فوق نار أو كنار قد ركبت فوق ماء
وكتب إلي معزياً عن والدتي:
على مثله من مصاب وجب
…
على من أصيب (1) به المنتجب وقلب فروق ولب خفوق ونفس تشب، وهم نصب
فقد خشعت للتقى هضبة ذؤابتها في صميم العرب
من الجاعلات محاريبها هوادجها أبداً والقتب
من القائمات بظل الدجى ولا من تسامر إلا الشهب
فكم ركعت إثرها في الدجى تناجي بها ربها من كثب
وكم سكبت في أوان السجود مدامع كالغيث لما انسكب
وقد خلفت ولداً باسلاً فصيحاً إذا ما قرا أو خطب
(1) م: أصاب.
يفل السيوف بأقلامه ويكسر صم القنا بالقصب
وكان القائد أبو عمرو عثمان بن يحيى بن إبراهيم أجل من جال في خلد، واستطال على جلد، رشأ يحيى باحتشامه، ويسترد البدر بلثامه، ويزري بالغصن تثنيه، ويثمر الحسن لو دنت قطوفه لمجتنيه، مع لوذعية تخالها جريالا، وسجية يختال فيها الفضل اختيالا، وكان قد بعد عن أنسنا بحمص، وانتضى من تلك القمص، وكان بثغر الأشبونة فسده، ولم ينفرج لنا من الأنس بعده ما يسد مسده، إلى أن صدر، فأسرع إلينا وابتدر، فالتقينا وبتنا ليلة نام عنها الدهر وغفل، وقام لنا بما شئنا فيها وتكفل، فبينا نحن نفض ختامها، وننفض عنا غبار الوحشة وقتامها، إذا أنا بابن لبال هذا وقد دخل إذنه علينا فأمرناه بالنزول والتقيناع بترحيب، وأنزلناه بمكان من المسرة رحيب، وسقيناه صغاراً وكباراً، وأريناه إعظاماً وإكباراً، فلما شرب، طرب، وكلما كرعها، التحف السلوة وتدرعها، ومازال يشرب أقداحاً، وينشد فينا أمداحاً، ويفدي بنفسه، ويستهدي الاستزادة من أنسه، فهتكنا الظلام بما أهداه من البديع، واجتلينا محاسنه كالصديع (1) ، وانفصلت ليلته عن أتم مسرة، وأعم مبرة، وارتحل عثمان أعزه الله إلى ثغره، وأقام به برهة من دهره، فمشيتبها إليه مجدداً عهداً، ومتضلعاً من مؤانسته شهداً، فكتب ابن لبال هذه القطعة من القصيدة يذهب إلى شكره، ويجتهد في تجديد ذكره:
ما شام إنسان إنسان كعثمان ولا كبغيته من حسن إحسان
بدر السيادة يبدو في مطالعه من المحلسن محفوفاً بشهبان
له التمام وما بالأفق من قمر متمم دون أن يرمى بنقصان
به الشبيه تزهى من نضارتها كما تساقط طل فوق بستان
(1) الصديع: الصبح.
معصفر الحسن للأبصار ناصعه كأنه فضة شيبت بعقيان
نبئت عنه بأنباء إذا نفحت تعطلت نفحات المسك والبان
قامت عليه براهين تصدقها كالشكل قام عليه كل برهان
قد زادها ابن عبيد الله من وضح ما زادت الشمس نور الفجر للراني
بالله بلغه تسليمي إذا بلغت تلك الركاب وعجل غير ليان
وليت أني لو شاهدت أنسكما على كؤوس وطاسات وكيزان
فألفظ الكلم المنثور بينكما كأنما هو من در ومرجان
لله درك يا ذا الخطتين لقد خططت بالمدح فيه كل ديوان
كلاكما البحر في جود وفي كرم أو الغاماة تقي كل ظمآن
إن كان فارس هيجاء ومعترك فأنت فارس إفصاح وتبيان
فاذكر أبا نصر المعمور منزله بالرفد ما شئت من مثنى ووحدان
قصائداً لأخي ود وإن نزحت بك الركاب إلى أقصى خراسان
3 -
ترجمة عبد المعطي من المطمح
وقال في ترجمة الأديب أبي بكر عبد المعطي (1) : بيت شعر ونباهة، وأبو بكر ممن انتبه خاطره للبدائع أي انتباهه، وله أدب باهر، ونظم كما سفرت أزاهر، وقد أثبت له جمالاً، يبلغ آمالاً، فمن ذلك قوله، وقد اجتمنا في ليلة لم يضرب لها وعد، ولم يعزب عنها سعد، وهو قعدي، وقد شب عن طوق الأنس في الندي، وما قال خالي عمرو ولا عدي (2) ، والكهولة قد قبضته، وأقعدته عن ذلك وما أنهضته:
(1) المطمح: 96.
(2)
في الأصول والمطمح: وما قال خلا عمرو ولا عدا؛ والإشارة هنا إلى المثل " شب عمرو عن الطوق " وهو عمرو بن عدي، الذي ثأر لجذيمة.
إمام النثر والمنظوم فتح جميع الناس ليل وهو صبح
له قلم جليل لا يجارى يقر بفضله سيف ورمح
يباري المزن ما سحت سماحاً وإن شحت فليس لديه شح
وكان مرتسماً في عسكر قرطبة، وكان ابن سراج يقوم له بكل ما يبغي تطلبه، خبفة من لسانه، ومحافظة على إحسانه، ولما خرج إلى إقليش خرج معه، وجعل يساير من شيعه، فلما حصلوا بفحص سرادق، وهو موضع توديع المفارق للمفارق، قرب منه أبو الحسين ابن سراج لوداعه، وأنشده في تفرق الشمل وانصداعه:
هم رحلوا عنا لأمر لهم عنا فما أحد منهم على أحد حنا
وما رحلوا حتى استقادوا نفوسنا كأنهم كانوا أحق بها منا
فيا ساكني نجد لتبعد داركم ظننا بكم ظناً فأخلفتم الظنا
غدرتم ولم أغدر، وخنتم ولم أخن وقلتم ولم أعتب، وجرتم وما جرنا
وأقسمتم أن لاتخونون في الهوى فقد، وذمام الحب، خنتم وما خنا
ترى تجمع الأيام بيني وبينكم ويجمعنا دهر نعود كما كنا
فلما استتم إنشاده لحق بالسلطان واعتذر إليه بمريض خلفه، وهو يخاف تلفه، فأذن له بالانصراف، وكتب إلى أبي الحسين ابن سراج:
أما والهدايا ما رحلنا ولا حلنا وإن عن من دون الترحل ما عنا
تركنا ثواب الفضل والعز للعزى (1)
…
على مضض منا وعدنا كما كنا وليس لنا عنكم على البين سلوة وإن كان أنتم عندكم سلوة عنا
وجمعتنا عشية بربض الزجالي (2) بقرطبة، ومعنا لمة من الإخوان وهو في
(1) كذا في م ق وفي المطمح: للعرى؛ وفي التجارية: تركنا ثواب الغزو والقصد للعدا.
(2)
م: الرحال.
جملتهم، وناهض لأعيانهم وجلتهم، بفضل أدبه، وكثرة سحبه، فجعل يرتجل ويروي، وينشر محاسن الآداب ويطوي، ويمتعنا بتلك الأخبار، ويقطعنا منها جانب اعتبار، ويطلعنا على إقبال الأيام والإدبار، ثم قال:
أيا ابن عبيد الله يا ابن الأكارم لقد بخلت يمناك صوب الغمائم
لك القلم الأعلى الذي عطل القنا وفل ظبات المرهفات الصوارم
وأخلاقك الزهر الأزاهر (1) بالربى
…
ترف بشؤبوب الغيوث السواجم بقيت لتشييد المكارم والعلى تظاهرها بالسالف المتقادم
واجتمع عند أبيه لمة من أهل الأدب، وذوي المنازل والرتب، في عشية غيم أعقب مطراً، وخط فيها البرق أسطراً، والبرد يتساقط كدر من نظام، ويتراءى كثنايا غادة ذات ابتسام، وهو غلام ما نضا برد شبابه، ولا انتضى مرهف آدابه، فقال معرضاً بهم، ومتعرضاً لتحقق أدبهم:
كأن الهواء غدير جمد بحيث البروق تذيب البرد
خيوط وقد عقدت في الهواء وراحة ريح تحل العقد
وشرب في دار ابن الأعلم في يوم لم ير الدهر فيه إساءة، وليل نسخ نور أنسه مساءه، ومعهم جملة من الشعراء، وجماعة من الوزراء، منهم أبناء القبطرنة فوقع بينهم عتاب وتعذال، وامتهان في ميدان المشاجرة وابتذال، آل به إلى تجريد السيف، وتكدير ما صفا بذلك الخيف، فسكنوه بالاستنزال، وثنوه عن ذلك النزال.
4 -
ترجمة ابن بقي من المطمح والقلائد
وقال في المطمح في حق أبي بكر يحيى بن بقي القرطبي صاحب الموشحات البديعة: كان نبيل السيرة والنظام، كثير الارتباط في سلكه والانتظام، أحرز خصالاً، وطرز بمحاسنه بكراً وآصالاً، وجرى في ميدان الإحسان إلى أبعد
(1) م: الزواهر.
أمد، وبنى من المعارف أثبت عمد، إلا أن الأيام حرمته، وقطعت حبل رعايته وصرمته، فلم تتم له وطراً، ولم تسجم عليه الحظوة مطراً، ولا سوغت من الحرمة نصيباً، ولا انزلته مرعى خصيباً، فصار راكب صهوات، وقاطع فلوات، لا يستقر يوماً، ولا يستحسن نوماً، مع توهم لا يظفره بأمان، وتقلب ذهن كالزمان، إلا أن يحيى بن علي بن القاسم نزعه من ذلك الطيش، وأقطعه جانباً من العيش، وأرقاه إلى سمائه، وسقاه صيب نعمائه، وفيأه ظلاله، وبوأه أثر النعمة يجوس خلاله، فصرف به أقواله، وشرف بعواقبه فعاله، وأفرده منها بأنفس در، وقصده منها بقصائد غر، انتهى المقصود جلبه من ترجمته في المطمح.
وقال في حقه في القلائد: رافع راية القريض، وصاحب آية التصريح فيه والتعريض، أقام شرائعه، وأظهر روائعه، وصار عصيه طائعه، إذا نظم زرى بنظم العقود، وأتى بأحسن من رقم البرود، وطفا عليه حرمانه، فما صفا له زمكانه، انتهى.
وابن بقي المذكور هو القائل:
بأبي غزال غازلته مقلتي بين العذيب وبين شطي بارق
الأبيات المذكورة في غير هذا الموضع.
ومن موشحاته قوله:
غلب الشوق بقلبي فاشتكى ألم الوجد فلبت أدمعي
أيها الناس فؤادي شغف
وهو من بغي الهوى لا ينصف
كم أداريه ودمعي يكف
أيها الشادن من علمكما بسهام اللحظ قتل السبع
بدر تم تحت ليل أغطش
طالع في غصن بان منتشي
أهيف القد بخد أرقش
ساحر الطرف وكم ذا فتكا بقلوب الأسد بين الأضلع
أي ريم رمته فاجتنبا
وانثنى يهتز من سكر الصبا
كقضيب هزه ريح الصبا
قلت هب لي يا حبيبي وصلكا واطرح أسباب هجري ودع
قال خدي زهره مذ فوفا
جردت عيناي سيفاً مرهفا
حذراً منه بأن لا يقطفا
إن من رام جناه هلكا فأزل عنك علال الطمع
ذاب قلبي في هوا ظبي غرير
وجهه في الدجن صبح مستنير
وفؤادي بين كفيه أسير
لم أجد للصبر عنه مسلكا فانتصاري بانسكاب الأدمع
وقال رحمه الله تعالى:
خذ حديث الشوق عن نفسي وعن الدمع الذي همعا
ما ترى شوقي وقد وقدا
وهما دمعي واطردا
واغتدى قلبي عليك سدى
آه من ماء ومن قبس بين طرفي والحشا جمعا
بأبي ريم إذا سفرا
أطلعت أزراره قمرا
فاحذروه كلما نظرا
فبألحاظ الجفون قسي أنا منها بعض من صرعا
أرتضيه جار أو عدلا
قد خلعت العذر والعذلا
إنما شوقي إليه جلا
كم وكم أشكو إلى اللعث ظمئي لو أنه نفعا
صال عبد الله بالحور
وبطرف فاتر النظر
حكمه في أنفس البشر
مثل حكم الصبح في الغلس إن تجلى نوره صدعا
شبهته بالرشا الأمم
فلعمري أنهم ظلموا
فتغنى من به السقم
أين ظبي القفر والكنس من غزال في الحشا رتعا
انتهى.
وله أيضاً:
ما ردني لابسثوب الضنى الدارسإلا قمر
في غصن مائسشعاعه عاكسضوء البصر
أسير كالسيلإليه لا باعإلا ودادي
والطيف في خيللهن إسراعمع الرقاد
يا كوكب الليلإن كنت تراعفلم فؤادي
كالأسد العابسلكنه خانسمن الحور
ومن نظمه قصيدة مدح يحيى بن علي بن القاسم المذكور بها، منها في المديح قوله:
نوران ليسا يحجبان عن الورى كرم الطباع ولا جمال المنظر
وكلاهما جمعا ليحيى فليدع كتمان نور علائه المتشهر
في كل أفق من جمال ثنائه عرف يزيد على دخان المجمر
رد في شمائله ورد في جوده بين الحديقة والغمام الممطر
بدر عليه من الوقار سكينة فيها لقيطة كل ليث مخدر
مثل الحسام إذا انطوى في غمده ألقى المهابة في نفوس الحضر
أربى على المزن الملث لأنه أعطى كما أعطى ولم يستعبر
ومنها:
أقبلت مرتاداً لجودك إنه صوب الغمامة بل زلال الكوثر
ولاأيت وجه النجح عندك أبيضاً فركبت نحوك كل لج أخضر
وهي طويلة.
استطراد
وقوله " أربى على المزن الملث - البيت " هو معنى تلاعب الشعراء بكرته
وأورده كل منهم على حسب مقدرته، فقال بعض:
من قاس جدواك بالغمام فما أنصف في الحكم بين شيئين
أنت إذا جدت ضاحك أبداً وهو إذا جاد دامع العين
وقال آخر:
ما نوال الغمام يوم ربيع كنوال الأمير يوم سخاء
فنوال الأمير بدرة عين ونوال الغمام قطرة ماء
وهما من شواهد البديع.
وقال أبو عبد الله الحوضي التلمساني في قصيدة مدح بها سلطان تلمسان أبا عبد الله الزياني:
أصبح المزن من عطائك يحكي يوم الاثنين للأنام عطاء
كيف يدعى لك الغمام شبيهاً ولقد فقته سناً وسناء
أنت تعطي إذا تقصر مالاً وهو يعطي إذا تطول ماء
رجع - وذكر العماد في الخريدة ابن بقي المذكور، وأورد له جملة من المقطعات، ومحاسنه كثيرة رحمه الله تعالى؛ وبقي على وزن علي.
رجع إلى بني عباد
وقال ابن اللبانة في بني عباد ما نصه: بماذا أصفهم وأحليهم، وأي منقبة من الجلالة أوليهم، فهم القوم الذين تجل مناقبهم عن العدل والاحصاء، ولا يتعرض لها بالاستيفاء والاستقصاء، ملوك زينت بهم الدنيا وتحلت، وترقت حيث شاءت وحلت، إن ذكرت الحروب فعليهم يوقف منها الخبر اليقين، أو عدت المآثر فهم في ذلك في درجة السابقين، أصبح الملك بهم مشرق القسام، والأبام
ذات بهجة وابتسام، حتى أناخ بهم الحمام، وعطل من محاسنهم الوراء والأمام، فنقل إلى العدم وجودهم، ولم يرع بأسهم جودهم، وكل ملك آدمي فمفقود، " وما نؤخره إلا لأجل معدود "، فأول ناشئة ملكهم، ومحصل الأمر تحت ملكهم، عظيمهم الأكبر، وسابقة شرفهم الأجل الأشهر، وزينهم الذي يعد في الفضائل بالوسطى والخنصر، محمد بن عباد، ويكنى أبا القاسم، واسم والده اسماعيل، ومن شعره قوله:
يا حبذا الياسمين إذ يزهر فوق غصون رطيبة نضر
قد امتطى للجبال ذروتها فوق بساط من سندس أخضر
كأن والعيون ترمقه زمرد في حلاله جوهر
ولنذكر كلام ابن اللبانة وغيره في حقهم فنقول: وصف المعتضد رحمه الله تعالى بما صورته (1) : المعتضد أبو عمرو عباد رحمه الله تعالى، لم تخل أيامه في أعدائه من تقييد قدم، ولا عطل سيفه من قبض روح وسفك دم، حتى لقد كانت في باب داره حديقة لا تثمر إلا رؤوساً، ولا تنبت إلا رئيساً ومرؤوساً، فكان نظره إليها أشهى مقترحاته، وفي التلفت إليها استعمل جل بكره وروحاته، فبكى وأرق، وشتت وفرق، ولقد حكي عنه من أوصاف التجبر ما ينبغي أن تصان عنه الأسماع، ولا يتعرض له بتصريح ولا إلماع، ومن نظمه عفا الله عنه:
أتتك أم الحسن تشدو بصوت حسن
تمد في ألحانها من الغناء المدني
تقود مني ساكناً كأنني في رسن
أوراقها أستارها إذا شدت في فنن
وقوله:
شربنا وجفن الليل يغسل كحله بماء صباح، والنسيم رقيق
(1) الذخيرة (2: 9 - 10) .
معتقة كالتبر أما نجارها فضخم وأما جسمها فرقيق
وقوله:
لقد وجدنا الحبيب يصي وداده وحمدنا ضميره واعتقاده
قرب الحب من فؤاد محب لا يرى هجره ولا إبعاده
وقال عند حصول رندة في ملكه:
لقد حصلت يا رنده فصرت لملكنا عده
أفادتناك أرماح وأسياف لها حده
وقال رحمه الله تعالى:
اشرب على وجه الصباح وانظر إلى نور الأقاح
واعلم بأنك جاهل ما لم تقل بالصطباح
فالدهر شيء بارد ما لم تسخنه براح
672 -
ابن خفاجة والمعتضد
ومن حكايات المعتضد عباد ما ذكره غير واحد أن ابن جاخ الشاعر ورد على حضرته، فدخل الدار المخصوصة بالشعراء، فسألوه، فقال: إني شاعر، فقالوا: أنشدنا من شعرك، فقال:
إني قصدت إليك يا عبادي قصد القليق بالجري للوادي
فضحكوا منه وازدروه، فقال بعض العقلاء: دعوه فإن هذا شاعر، وما يبعد أن يدخل مع الشعراء ويندرح في سلكهم، فلم يبالوا بكلام الرجل، وتنادروا على المذكور، فبقي معهم، وكان لهم في تلك الدولة يوم مخصوص
لا يدخل فيه على الملك غيرهم، وربما كان يوم الاثنين، فقال بعض لبعض: هذه شنعة بنا أن يكون مثل هذا البادي يقدم علينا، ويجترئ على الدخول معنا، فاتفقوا على أن يكون هو أول متكلم في اليوم المخصوص بهم عند جلوس السلطان، وقد رأوا أن يقول مثل ذلك الشعر المضحك فيطرده عنهم، ويكون ذلك حسماً لعلة إقدام مثله عليهم. فلما كان اليوم المذكور، وقعد السلطان في مجلسه، ونصب الكرسي لهم، رغبوا منه أن يكون هذا القادم أول متكلم في ذلك اليوم، فأمر بذلك، فصعد الكرسي، وانتظروا أن ينشد مثل الشعر المضحك المتقدم، فقال:
قطعت يا يوم النوى أكبادي وحرمت عن عيني لذيذ رقادي
وتركتني أرعى النجوم مسهداً والنار تضرم في صميم فؤادي
فكأنما آلى الظلام ألية لا ينجلي إلا إلى ميعاد
يا بين بين أين تقتاد النوى إبل الذين تحملوا بسعاد
ولرب خرق قد قطعت نياطه والليل يرفل في ثياب حداد
بشملة حرف كأن ذميلها سرح الرياح وكل برق غادي
والنجم يحدوها وقد ناديتها يا ناقتي عوجي على عباد
ملك إذا ما أضرمت نار الوغى وتلاقت الأجناد بالأجناد
فترى الجسوم بلا رؤوس تنثني وترى الرؤوس لقى بلا أجساد
يا أيها الملك المؤمل والذي قدماً سما شرفاً على الأنداد
إن القريض لكاسد في أرضنا وله هنا سوق بغير كساد
فجلبت من شعري إليك قوافياً يفنى الزمان وذكرها متمادي
من شاعر لم يضطلع أدباً ولا خطت يداه صحيفة بمداد
فقال له الملك: أنت ابن جاخ فقال: نعم، فقال: اجلس فقد وليتك رئاسة الشعراء، وأحسن إليه، ولم يأذن في الكلام في ذلك اليوم لأحد بعده، انتهى.
رحع إلى أخبار بقية بني عباد
المعتمد على الله أبو القاسم محمد بن المعتضد أبي عمرو عباد ابن القاضي أبي القاسم ابن عباد رحمه الله تعالى، ملك مجيد، وأديب على الحقيقة مجيد، وهمام تحلى به للملك وللنظم جيد، أفنى الطغاة بسيفه وأباد، وأنسى بسيبه ذكر الحارث بن عباد، فأطلع أيامه في الزمان حجولاً وغروراً، ونظم معاليه في أجيادها جواهر ودرراً، وشيد في كل معلوة فناءه، وعمر بكل نادرة مستغربة وبادرة مستظرفة أوقاته وآناءه، فنفقت به للمحامد سوق، وبسقت ثمرات إحسانه أي بسوق، منع وقرى، وراش وبرى، ووصل وفرى، وكان له من أبنائه عدة أقمار نظمهم نظم السلك، وزين بهم سماء ذلك الملك، فكانوا معاقل بلاده، وحماة طارفه وتلاده، إلى أن استدار الزمان كهيئته، وأخذ البؤس في فيئته، واعتز الخلاف وظهر، وسل الشتات سيفه وشهر، والمعتمد رحمه الله تعالى يطلب نفسه أثناء ذلك بالثبات، بين تلك الثبات، والمقام، في ذلك المقام، إلى أن بدل القطب بالواقع، واتسع الخرق على الراقع، فاستعضد بابن تاشفين فورد عليه خطابه يشعر بالوفاء، فثاب إليه فكر خاطره وفاء، وثبت خلال تلك المدة للنزال، ودعا من رام حربه نزال، إلى أن أصبح والحروب قد نهبته، والأيام تسترجع منه ما وهبته، فثل ذلك العرش، واعتدت الليالي حين أمنت من الأرش، فنقل من صهوات الخيول إلى بطون الأجفان، وهذه الدنيا جميع ما لديها زائل وكل من عليها فان، فما أغنت تلك المملكة وما دفعت، وليتها ما ضرت إذ لم تكن نفعت، وكل يلقى معجله ومؤجله، ويبلغ الكتاب أجله.
وقال الفقيه القاضي أبو بكر ابن خميس رحمه الله تعالى حين ذكر تاريخ بني عباد: وقد ذكر الناس للمعتمد من أوصافه، ما لا يبلغ مع كثرته إلى إنصافه، وأنا الآن أذكر نبذاً من أخباره، وأردفها بما وقفت عليه من منظومات
أشعاره، فإنه رحمه الله تعالى جم الأدب رائقه، عالي النظم فائقه، كان يسمى بمحمد، ويكنى بأبي القاسم، على كنية جده القاضي، استبد بالأمر عند موت أبيه المعتضد، وفي ذلك يقول الحصري رحمه الله تعالى:
مات عباد ولكن بقي الفرع الكريم
قكأن الميت حي غير أن الضاد ميم
قال ابن اللبانة رحمه الله تعالى: ولم يزل المعتمد بخير إلى أن كانت سنة خمس وسبعين وأرعمائة، ووصل اليهودي ابن شاليب لقبض الجزية المعلومة مع قوم من رؤساء النصارى، وحلوا بباب من أبواب إشبيلية، فوجه لهم المعتمد المال، مع جماعة من وجوه دولته، فقال اليهودي: والله لا أخذت هذا العيار، ولا آخذه منه إلا مشجراً، وبعد هذا العام لا آخذ منه إلا أجفان البلاد، ردوه إليه، فرد المال إلى المعتمد، وأعلم بالقصة، فدعا بالجند، وقال: ائتوني باليهودي وأصحابه، واقطعوا حبال الخباء، ففعلوا وجاؤوا بهم، فقال: اسجنوا النصارى، واصلبوا اليهودي الملعون، فقال اليهودي: لا تفعل، وأنا أفتدي منك بزنتي مالاً، فقال: والله لو أعطيتني العدوة والأندلس ما قبلتهما منك، فصلب، فبلغ الخبر النصراني، فكتب فيهم، فوجه إليه بهم، فأقسم النصراني أن يأتي من الجنود بعدد سعر رأسه حتى يصل إلى بحر الزقاق، وأمير المسلمين يوسف بن تاشفين إذ ذاك محاصر سبتة، فجاز المعتمد إليه، ووعده بنصرته، فرجع وحث ملوك الأندلس على الجهاد، ثم وصل ابن تاشفين، فكانت غزوة الزلاقة المشهورة، ورجع ابن تاشفين إلى المغرب، ثم جاز بعد ذلك إلى الأندلس، وتوهم ابن عباد أنه إذا أخذ البلاد يأخذ أموالها ويترك الأجفان، فعزم ابن تاشفين على أن يخلع ملوك الأندلس، ودارت إذ ذاك مكايد جمة، ثم وجه ابن تاشفين من سبتة إلى المعتمد يطلب منه الجزيرة الخضراء وفيها ابنه يزيد، فكتب إليه معتذراً عنها، فلم يكن إلا كلمح بالبصر وإذا بمائة شراع قد أطلت على الجزيرة
فطير ابنه الحمام إليها، فأمره بإخلائها، فظهر عند ذلك ابن تاشفين، وقيل: إنه لم يجز المرة الأولى حتى طلب من المعتمد الجزيرة لتكون عدة له، وكان ذلك بدسيسة بعض أهل الأندلس نصحاً لابن تاشفين، ثم شرع ابن تاشفين في خلع ملوك الأندلس وقتالهم، وأرسل إلى كل مملكة حماعة من أخل دولته وأجناده يحاصرونها، وأرسل إلى حضرة المعتمد إشبيلية، وشرع في قتالها، والناس قد ملوا الدولة العبادية وسئموها، على ما جرت به العادة من حب الجديد، لا سيما وقد ظهر من ابن عباد من التهتك في الشرب والملاهي ما لا يخفى أمره، فتمنى أكثر الناس الراحة من دولتهم، ولما اشتد مخنق المعتمد وجه عن النصارى، فأعد لهم ابن تاشفين من لقيهم في الطريق، فهزمهم، وجهز ابن تاشفين القطائع لإشبيلية، وجد في حصارها، والمعتمد مع ذلك منغمس في لذاته، وقد ألقى الأمور بيد ابنه الرشيد، فلم يشعر ابن عباد إلا والعسكر معه في البلد، فأفاق من نومه، وصحا من سكره، وركب فرسه وحسامه في يده، وليس عليه إلا ثوب واحد، فوافق العسكر قد دخل من باب الفرج، ووافق هنالك طبالاً فضربه بسيفه ضربة قسمه بها نصفين، ففر الناس أمامه، وتراموا من السور، ووقف حتى بان الباب، وفي ذلك يقول الأبيات المذكورة فيما يأتي:
إن يسلب القوم العدا.... إلخ.
فلما وصل إلى باب الصباغين وجد ابنه مالكاً مقتولاً، فاسترحم له، ودخل القصر، وزاد الأمر بعد ذلك، ودخل البلد من كل جهاته فطلب الأمان له ولمن معه، فأمن وجميع من له، وأعدت له مراكب، واجتاز إلى طنجة، فلقيه الحصري الشاعر، وكان قد ألف له كتاب " المستحسن من الأشعار " فلم يقض بوصوله إليه إلا وهو على تلك الحالة، فلما أخذ المعتمد الكتاب قال للحصري: ارفع ذلك البساط فخذ ما تحته، فوالله ما أملك غيره، فوجد تحته جملة مال، فأخذه، ثم انتقل حتى وصل أغمات، ولم يزل بها إلى أن مات، رحمه الله تعالى.
وقال الفتح في ترجمة ما نصه (1) : ملك قمع العدا، وجمع البأس والندى، وطلع على الدنيا بدر هدى، لم يتعطل يوماً كفه ولا بنانه، آونة يراعه وآونة سنانه، وكانت أيامه مواسم، وثغوره بواسم (2) ، ولياليه كلها دررا، وللزمان حجولاً وغرراً، لم يغفلها من سمات عوارف، ولم يضحها من ظل إيناس وارف، ولا عطلها من مأثرة بقي أثرها بادياً، ولقي معتفيه منها إلى الفضل هادياً، وكانت حضرته مطمحاً للهمم، ومسرحاً لآمال الأمم، ومقذفاً لكل كمي، وموقفاً لكل ذي أنف حمي، لم تخل من وفد، ولم يصح جوها من انسجام رفد، فاجتمع تحت لوائه من جماهير الكاة، ومشاهير الحماة، أعداد يغص بهم الفضاء، وأنجاد يزهى بهم النفوذ والمضاء، وطلع في سمائه كل نجم متقد، وكل ذي فهم منتقد، فأصبحت حضرته ميداناً لرهان الأذهان، ومضماراً لإحراز الخصل، في كل معنى وفصل، فلم يلتحق بزمامه إلا كل بطل نجد، ولم يتسق في نظامه إلا ذكاء ومجد، فأصبح عصره أجمل عصر، وغدا مصره أكمل مصر، تسفح فيه ديم الكرم، ويفصح فيه لساناً سيف وقلم، ويفضح الضى في وصفه أيام ذي سلم، وكان قومه وبنوه لتلك الحلبة زيناً، ولتلك الجملة عيناً، إن ركبوا خلت الأرض فلكاً يحمل نجوماً، وإن وهبوا رأيت الغمائم سجوماً، وإن أقدموا أحجم عنترة العبسي، وإن فخروا أفحم عرابة الأوسي، ثم انحرفت الأيام فألوت بإشراقه، وأذوت يانع إيراقه، فلم يدفع الرمح ولا الحسام، ولم تنفع تلك المنن الجسام، فتملك بعد الملك، وحط من فلكه إلى الفلك، فأصبح خائضاً تحدوه الرياح، وناهضاً يجزيه البكاء والصياح، قد ضجت عليه أياديه، وارتجت جوانب ناديه، وأضحت منازله قد بان عنها الأنس والحبور، وألوت ببهجتها الصبا والدبور، فبكت العيون عليه دماً، وعاد
(1) القلائد: وما بعدها.
(2)
م: والمطمح: وثغور بره بواسم.
موجود الحياة عدماً، وصار أحرار الدهر فيه خدماً، فسحقاً لدنيا ما رعت حقوقه، ولا أبقت شروقه، فكم أحياها لبنيها، وأبداها رائقة لمجتنيها، وهي الأيام لا يتقى من تجنيها (1) ، ولا تبقي على مواليها ومدانيها، أدثرت آثار جلق، وأخمدت نار المحلق، وذلت عزة ابن شداد، وهدت القصر ذا الشرفات من سنداد، ونعمت ببؤس النعمان، وأكمنت غدرها له في طلب الأمان، انتهى.
ثم ذكر الفتح من أخباره وأشعاره ومجالس أنسه وغير ذلك من أمره نبذاً ذكرنا بعضها في هذا الكتاب.
673 -
الراضي ابن المعتمد
وقال في ترجمة ابنه الراضي بالله أبي خالد يزيد بن المعتمد ما نصه (2) : ملك تفرع من دوحة سناء، أصلها ثابت وفرعها في السماء، وتحدر من سلالة أكابر، ورقاة أسرة ومنابر، وتصرف أثناء شبيبته بين دراسة معارف وإفاضة عوارف، وكلف بالعلم حتى صار ملهج لسانه، وروضة أجفانه، لا يستريح بغرته منه إلا إلى متن سائل الغرة، ميمون الأسرة، يسابق به الرياح، ويحاسن بغرته البدر اللياح، عريق في السناء، عتيق الاقتناء، سريع الوخد والإرقال، من آل أعوج أو لذي العقال (3) ، إلى أن ولاه أبوه الجزيرة الخضراء، وضم إليها رندة الغراء، فانتقل من متن الجواد، إلى ذروة الأعواد، وأقلع عن الدراسة، إلى تدبير الرياسة، وما زال يدبرها بجوده ونهاه، ويورد الآمل فيها مناه، حتى غدت عراقاً، وامتلأت إشراقاً، إلى أن اتفق في أمر الجزيرة ما اتفق، وخاب
(1) وهي
…
تجنيها: سقطت من م.
(2)
القلائد: 31.
(3)
القلائد: أو ولد العقال؛ والإشارة إلى قول الشاعر:
وترى الجياد يبتن حول خبائنا
…
من آل أعوج أو لذي العقال وأعوج والعقال: فحلان من فحول الجياد.
فيها الرجاء وأخفق، واستحالت بهجتها، وأحالت عليها من الحال لجتها (1) ، فانتقل إلى رندة معقل أشب، ومنزل للسماك منتسب، وأقام فيها رهين حصار، ومهين حماة وأنصار، ولقيت ريحه كل إعصار، حتى رمته سهام الخطوب عن قسيها، وأمكنت منه يدي مسيها، فحواه رمسه، وطواه عن غده أمسه، حسبما بسطنا القول فيه فيما مر من أخبار أبيه، انتهى.
والذي أشار إليه هنا وأحال عليه فيما تقدم له من أخبار المعتمد هو قوله بعد حكايته قتل المأمون بن المعتمد بقرطبة وسياقه أخبار ذلك ما نصه (2) : ثم انتقلوا إلى رندة أحد معاقل الأندلس الممتنعة، وقواعدها السامية المرتفعة، تطرد منها على بعد مرتقاها، ودنو النجوم من ذراها، عيون لانصبابها دوي كالرعد القاصف، والرياح العواصف، ثم تتكون وادياً يلتوي بجوانبها التواء الشجاع، ويزيدها في التوعر والامتناع، وقد تجونت نواحيها وأقطارها، وتكونت فيها لباناتها وأوطارها، لا يتعذر لها مطلب، ولا يتصور فيها عدو إلا علقه ناب أو مخلب، فلما أناخوا منها على بعد، وأقاموا من الرجاء فيها على غير وعد، وفيها ابنه الراضي لم يحفل بإناختهم بإزائه، ولا عدها من أرزائه، لامتناعه من منازلتهم، وارتفاعه عن مطاولتهم، إلى أن انقضى في أمر إشبيلية ما انقضى، وأفضى أمر أبيه إلى ما أفضى، فحمل على مخاطبته لينزل عن صياصيه، ويمكنهم من نواصيه، فنزل براً بأبيه، وإبقاء على أرماق ذويه، بعد أن عاقدهم مستوثقاً، وأخذ عليهم عهداً من الله وموثقاً، فلما وصل إليهم، وحصل في يديهم، مالوا به عن الحصن وجرعوه الردى، وأقطعوا الثرى حين أودى، وفي ذلك يقول المعتمد يرثيهما، وقد رأى قمربة بائحة بشجنها، نائحة بفننها على سكنها، وأمامها وكر فيه طائران يرددان نغماً، ويغردان ترحة وترنماً:
(1) القلائد: وسالت عليها من الحوادث لجتها.
(2)
القلائد: 20.
بكت أن رأت إلفين ضمهما وكر مساء وقد أخنى على إلفها الدهر
وناحت فباحت واستراحت بسرها وما نطقت حرفاً يبوح به سر
فما لي لا أبكي أم القلب صخرة وكم صخرة في الأرض يجري بها نهر
بكت واحداً لم يشجها غير فقده وأبكي لألاف عديدهم كثر
بني صغير أو خليل موافق يمزق ذا قفر وغرق ذا بحر
ونجمان زين للزمان احتواهما
…
بقرطبة النكداء (1) أو رندة القبر غدرت إذاً إن ضن جفني بقطرة وإن لومت نفسي فصاحبها الصبر
فقل للنجوم الزهر تبكيهما معي لمثلهما فلتحزن الأنجم الزهر
وقال في ترجمة الراضي ما صورته (2) : وكان المعتمد رحمه الله تعالى كثيراً ما يرميه بملامه، ويصميه بسهامه، فلربما استلطفه بمقال أفصح من دمع المحزون، وأملح من روض الحزون، فإنه كان ينظم من بديع القول لآلئ وعقوداً، تسل من النفوس سخائم وحقوداً، وقد أثبت من كلامه في بث آلامه، واستجارة عذله وملامه، ما تستبدعه، وتحله النفوس (3) وتودعه، فمن ذلك ما قاله وقد أنهض جماعة من إخوته وأقعده، وأدناهم وأبعده:
أعيذك أم يكون بنا خمول ويطلع غيرنا ولنا أفول
حنانك إن يكن جرمي قبيحاً فإن الصفح عن جرمي جميل
ألست بفرعك الزاكي وماذا يرجي الفرع خانته الأصول
ثم قال الفتح بعد كلام (4) : ومرت عليه - يعني الراضي - هوادج وقباب، فيها حبائب كن له وأحباب، ألفهن أيام خلائه من دولة، وجال معهن في
(1) م: النكراء.
(2)
القلائد: 32.
(3)
م: النفس.
(4)
القلائد: 33.
ميدان المنى أعظم جولة، ثم انتزعوا منه ببعده، وأودعوا الهوادج من بعده، ووجهوا هدايا إلى العدوة، وألموا بها إلمام قريش بدار الندوة، فقال:
مروا بنا أصلاً بغير ميعاد فأوقدوا نار شوقي أي إيقاد
وأذكروني أياماً لهوت بهن فيها ففازوا بإيثاري وإحمادي
لا غرو أن زاد في وجدي مرورهم فرؤية الماء تذكي غلة الصادي
ولما وصل المعتمد (1) لورقة أعلم أن العدو قد جيش لها واحتشد، ونهد نحوها وقصد، ليتركها خاوية على عروشها، طاوية الجوانح على وحوشها، فتعرض له المعتمد دون بغيته، وطلع عليه من ثنيته، وأمر الراضي بالخروج إليه في عسكر جرده لمحاربته، وأعده لمصادمته ومضاربته، فأظهر التمارض والتشكي، وأضمر التقاعص والتلكي، فراراً من المصادمة، وإحجاماً عن المساومة، وجزعاً من منازلة الأقران، ومقابلة ذوابل المران، ومقاساة الطعان، وملاقاة أبطال كالرعان، ورأى أن المطالعة، أرجح من المقارعة، ومعانة العلوم، أربح من مداواة الكلوم، فقد كان عاكفاً على تلاوة ديوان، عارفاً بإجادة سطر وعنوان، فعلم المعتمد ما نواه، وتحقق ما لواه، فأعرض عنه، ونفض يده منه، ووجه المعتد (2) مع ذلك الجيش الذي لم تنشر بنوده، ولا نصرت جنوده، فعندما لاقوا العدو لاذوا بالفرار، وعاذوا بإعطاء الغرة بدلاً من الغرار، وتفرقوا في تلك الأماريت (3) ، وفرقوا من تخطف أولئك العفاريت، فتحيف العدو من بقي مع المعتمد واهتضمه، وخضم ما في العسكر وقضمه، وغدت مضاربه مجر عواليه، ومجرى مذاكيه، وآب أخسر من بائع السدانة (4) ، ومضيع الأمانة، فانطبقت سماء المعتمد على أرضه، وشغلته عن إقامة نوافله وفرضه، فكتب إليه الراضي:
(1) ق م: العدو.
(2)
ق م: وتوجه المعتد.
(3)
الأماريت: الأراضي المنبسطة؛ وفي ق م: الأفاريت.
(4)
يعني أبا عبشان الذي باع سدانة الكعبة لقصي، قيل: برق خمر.
لايكرثنك خطب الحادث الجاري فما عليك بذاك الخطب من عار
ماذا على ضيغم أمضى عزيمته إن خانه حد أنياب وأظفار
لئن أتوك فمن جبن ومن خور قد ينهض العير نحو الضيغم الضاري
عليك للناس أن تبقى لنصرتهم
…
وما عليك لهم إسعاد أقدار (1) لو يعلم الناس فيما أن تدوم لهم بكوا لأنك من ثوب الصبا عاري
ولو أطاقوا انتقاصاً من حياتهم لم يتحفوك بشيءً غير أعمار
فحجب عنه وجه رضاه، ولم يستنزله (2) بذلك ولا استرضاه، وتمادى على إعراضه، وقعد عن إضهاره وإنهاضه، حتى بسطته سوانح السلو، وعطفته عليه جوانح (3) الحنو، فكتب إليه بهزل، غلب فيه كل منزع جزل، وهو:
الملك في طي الدفاتر فتخل عن قود العسكر
طف بالسريرمسلماً وارجع لتوديع المنابر
وازحف الى جيش المعا رف تقهر الحبر المقامر
واطعن بأطراف اليرا ع نصرت في ثغر المحابر
واضرب بسكين الدوا ة مكان ماضي الحد باتر
أولست رسطاليس إن ذكر الفلاسفة الأكابر
وأبو حنيفة ساقط في الرأي حين تكون حاضر
وكذاك إن ذكر الخلي ل فأنت نحوي وشاعر
من هرمس من سيبوي هـ من ابن فورك إذ تناظر
هذي المكارم قد حوي ت فكن لمن حاباك شاكر
واقعد فإنك طاعم كاس وقل: هل من مفاخر
(1) هذا البيت سقط من ق م.
(2)
القلائد: ولم يستمله.
(3)
ق م: جوانب، وأثبتنا رواية القلائد.
لحجبت وجه رضاي عن ك وكنت قد تلقاه سافر
أولست تذكر وقت لو رقة وقلبك ثم طائر
لا يستقر مكانه وأبوك كالضرغام خادر
هلا اقتديت بفعله وأطعته إذ ذاك آمر
قد كان أبصر بالعوا قب والموارد والمصادر
فكتب إليه الراضي مراجعاً بقطعة منها:
مولاي قد أصبحت كافر بجميع ما تحوي الدفاتر
وفللت سكين الدوا ة وظلت للأقلام كاسر
وعلمت أن الملك ما بين الأسنة والبواتر
والمجد والعلياء في ضرب العساكر بالعساكر
لا ضرب أقوال بأق وال ضعيفات مناكر
قد كنت أحسب من سفا هـ أنها أصل المفاخر
فإذا بها فرع لها والجهل للإنسان عاذر
لا يدرك الشرف الفتى إلابعسال وباتر
وهاجرت من سميتهم وجحدت أنهم أكابر
لو كنت تهوى ميتتي لوجدتني للعيش هاجر
ضحك الموالي بالعبي د إذا تؤمل غير ضائر
إن كان لي فضل فمن ك وهل لذاك النور ساتر
أو كان بي نقص فم ني غير أن الفضل غامر
ذكرت عبدك ساعة يبقى لها ما عاش ذاكر
يا ليته قد غيبت هـ عندها إحدى المقابر
أتريد مني أن أكو ن كمن غدا في الدهر نادر
هيهات ذلك مطمع يعيي الأوائل والأواخر
لاتنس يا مولاي قو لة ضارع لا قول فاخر
ضبط الجزيرة عندما نزلت بعقوبتها العساكر
أيام ظلت بها فري داً ليس غير الله ناصر
إذ كان يعشي ناظري لمع الأسنة والبواتر
ويصم أسماعي بها قرع الحجارة بالحوافر
وهي الحضيض سهولة لكن ثبت بها مخاطر
هبني أسأت كما أسأ ت أما لهذا العتب آخر
هب زلتي لبنوتي واغفر فإن الله غافر
فقربه وأدناه، وصفح عما كان جناه، ولم تزل الحال آخذة في البوار، والأمور معتلة اعتلال حب الفرزدق للنوار، حتى مضوا لغير طية، وقضوا بين الصوارم والرماح الخطية، حسبما سردناه، وإذا أراد الله سبحانه إنفاذ أمر سبق في علمه، فلا مرد له ولا معقب لحكمه، ولا إله إلا هو رب العالمين؛ انتهى كلام الفتح.
وعلى الجملة فكانت دولة بني عباد بالأندلس من أبهج الدول في الكرم والفضل والأدب، حتى قال ابن لبانة رحمه الله تعالى: إن الدولة العبادية بالأندلس أشبه شيء بالدولة العباسية ببغداد، سعة مكارم، وجمع فضائل، ولذلك ألف فيها كتاباً مستقلاً سماه " الاعتماد في أخبار بني عباد " ولا يلتفت لكلب عقور نبح بقوله:
مما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد
لأن هذه مقالة متعسف كافر للنعم، ومثل ذلك في حقهم لا يقدح، وما زالت الأشراف تهجى وتمدح.
وللمعتمد أولاد ملوك منهم المأمون والرشيد والراضي والمعتد وغيرهم، وقد سردنا خبر بعضهم.
674 -
مدائح ابن اللبانة في بني عباد
وكان الداني المذكور مائلاً إلى بني عباد بطبعه، إذ كان المعتمد هو الذي جذب بضبعه، وله فيه المدائح الأنيقة، التي هي أذكى من زهر الحديقة، فمن ذلك قوله من قصيدة يمدحه بها ويذكر أولاده الأربعة، الذين عمروا من المجد أربعة، وهم الرشيد عبيد الله والراضي يزيد والمأمون والمؤتمن، وكانوا نجوم ذلك الأفق وغيوث ذلك الزمن، ولقد أجاد في ذلك كل الإجادة، وأطال لمجدهم نجاده:
يغيثك في محل، يعينك في ردى يروعك في درع، يروقك في برد
جمال وإجمال وسبق وصولة كشمس الضحى كالمزن كالبرق كالرعد
بمهجته شاد العلا ثم زادها بناء بأبناء جحاجحة لد
بأربعة مثل الطباع تركبوا لتعديل ذكر المجد والشرف العد
والمأمون بن المعتمد قتله لمتونة بقرطبة، والراضي يزيد قتلوه برندة كما سقنا خبره آنفاً، وفي حالتهم هذه يقول الشاعر المشهور عبد الجبار بن حميدس الصقلي:
ولما رحلتم بالندى في أكفكم وقلقل رضوى منكم وثبير
رفعت لساني بالقيامة قد دنت فهذي الجبال الراسيات تسير
وفي قصة المعتمد يقول الداني المذكور:
لكل شيء من الأشاء ميقات وللمنى في مناياهن غايات
والدهر في صفة الحرباء منغمس ألوان حالاته فيها استحالات
ونحن من لعب الشطرنج في يده وطالما قمرت بالبيدق الشاة
انفض يديك من الدنيا وزينتها فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا
وقل لعالمها الأرضي قد كتمت سريرة العالم العلوي أغمات
وهي طويلة ذكرها الفتح وغيره.
وللداني أيضاً قصيدة عملها في المعتمد وهو بأغمات سنة 486 (1) :
تنشق بريحان السلام فإنما أفض به مسكاً عليك مختما
وقل لي مجازاً إن عدمت حقيقة لعلك في نعمي فقد كنت منعما
أفكر في عصر مضى بك مشرقاً فيرجع ضوء الصبح عندي مظلما
وأعجب من أفق المجرة إذ رأى كسوفك شمساً كيف أطلع أنجما
لئن عظمت فيك الرزية إننا وجدناك منها في الرزية أعظما
قناة سعت للطعن حتى تقسمت وسيف أطال الضرب حتى تثلما
ومنها:
بكى آل عباد (2) ولا كمحمد
…
وأولاده صوب الغمامة إذ همى حبيب إلى قلبي حبيب لقوله عسى طلل يدنو بهم ولعلما
صباحهم كنا به نحمد السرى فلما عدمناهم سرينا على عمى
وكنا رعينا العز حول حمامهم فقد أجدب المرعى وقد أقفر الحمى
وقد ألبست أيدي الليالي قلوبهم مناسج سدى الغيث فيها وألحما
قصور خلت من ساكنيها فما بها سوى الأدم تمشي حول واقفة الدمى
(1) سمو 486: سقطت من م.
(2)
ق م: محمود.
تجيب بها الهام الصدى ولطالما أجاب القيان الطائر المترنما
كأن لم يكن فيها أنيس، ولا التقى بها الوفد جمعاً والخميس عرمرما
ومنها:
حكيت وقد فارقت ملكك مالكاً ومن لهي أحكي عليك متمما
مصاب هوى بالنيرات من العلا ولم يبق في أرض المكارم معلما
تضيق علي الأرض حتى كأنما خلقت وإياها سواراً ومعصما
ندبتك حتى لم يخل لي الأسى دموعاً بها أبكي عليك ولا دما
وإني على رسمي مقيم فإن أمت سأجعل للباكين رسمي موسما
بكاك الحيا والريح شقت جيوبها عليك وناح الرعد باسمك معلما
ومزق ثوب البرق واكتست الضحى حداداً وقامت أنجم الجو أفحما
وحار ابنك الإصباح وجداً فما اهتدى وغار أخوك البحر غيضاً فما طمى
وما حل بدر التم بعدك دارة ولا أظهرت شمس الظهيرة مبسما
قضى الله أن حطوك عن ظهر أشقر بشم وأن أمطوك أشأم أدهما
وكان قد انفكت عنه القيود، فأشار إلى ذلك بقوله فيها:
قيودك ذابت فنطلقت لقد لقدغدت قيودك منهم بالمكارم أرحما
عجبت لأن لان الحديد وأن قسوا لقد كان منهم بالسريرة أعلما
سينجيك من نجى من السجن يوسفاً ويؤويك من آوى المسيح بن مريما
ولأبي بكر الداني المذكور في البكاء على أيامهم وانتثار نظامهم عدة مقطوعات وقصائد، هي قرة عين الطالب ونجعة الرائد، وقد اشتمل عليها جزء لطيف، صدر عنه في هيئة تصنيف، سماه " السلوك في وعظ الملوك "، ووفد على المعتمد وهو بأغمات، عدة وفادات، لم يخل في جميعها من إفادات، وقال في إحداها، هذه وفادة وفاء لا وفادة اجتداء.
675 -
مقتطفات من أخبار المعتمد
قال غير واحد: من النادر الغريب أنه نودي في جنازته " الصلاة على الغريب " بعد عظم سلطانه، وسعة أوطانه، وكثرة صقلبته وحبشانه، وعظم أمره وشانه، فتبارك من له العزة والبقاء والدوام، واجتمع عند قبره جماعة من الأقوام، الذين لهم في الأدب حصة، ولقضية المعتمد في صدورهم غصة، منهم البالغ في البلاغة الأمد، شاعره أبو بحر عبد الصمد، وكان به خصيصاً، وكم ألبسه من بره حلة وقميصاً، فقال من قصيدة طويلة أجاد فيها ما شا، وجلب بها إلى أنفس الحاضرين بعد الأنس إيحاشا، مطلعها:
ملك الملوك أسامع فأنادي أم قد عدتك عن السماع عوادي
ومنها:
لما خلت منك القصور ولم تكن فيها كما قد كنت في الأعياد
قبلت من هذا الثرى لك خاضعاً وجعلت قبرك موضع إنشاد
فلما بلغ من إنشاده، إلى مراده، قبل الثرى ومرغ جسمه وعفر خده، فبكى كل من حضر وصرفه ذلك عن سرور العيد وصده، إذ كانت هذه القصة يوم عيد، فسبحان المبدئ المعيد.
ويحكى أن رجلاً رأى في منامه إثر الكائنة على المعتمد بن عباد كأن رجلاً صعد منبر جامع قرطبة فاستقبل الناس وأنشد هذه الأبيات متمثلاً:
رب ركب قد أناخوا عيسهم في ذرى مجدهم حين بسق
سكت الدهر زماناً عنهم ثم أبكاهم دماً حين نطق
وعاش أبو بكر ابن اللبانة المعروف بالداني المذكور آنفاً بعد المعتمد، وقدم ميورقة آخر شعبان سنة 489، ومدح ملكها مبشر بن سليمان بقصيدة مطلعها:
ملك يروعك في حلى ريعانه راقت برونقه صفات زمانه
وأين هذا من أمداحه في المعتمد
وتذكرت هنا من أحوال الداني أنه دخل على ابن عمار في مجلس، فأراد أن يندر به وقال له: اجلس ياداني، بغير ألف، فقال له: نعم يا ابن عمار، بغير ميم، وهذا هو الغاية في سرعة الجواب والأخذ بالثأرفي المزاح.
ونظيره - وإن كان من باب آخر - أن المعتمد مر مع وزيره ابن عمار ببعض أرجاء إشبيلية، فلقيتهما امرأة ذات حسن مفرط، فكشفت وجهها، وتكلمت بكلام لايقتضيه الحياء، وكان ذلك بموضع الجباسين الذين يصنعون به الجبس والجيارين الصانعين للجير، بإشبيلية، فالتفت المعتمد إلى موضع الجيارين، وقال: يا ابن عمار الجيارين، ففهم مراده، وقال في الحال: يا مولاي والجباسين، فلم يفهم الحاضرون المراد، وتحيروا، فسألوا ابن عمار، فقال له المعتمد: لاتبعها منهم إلا غالية، وتفسيرها أن ابن عباد صحف " الحيا زين " بقوله
الجيارين إشارة إلى أن تلك المرأة لو كان لها حياء لازدانت، فقال له والجباسين وتصحيفه " والخناشين " أي: هي وإن كانت جميلة بديعة الحسن لكن الخنا شانها، وهذا شأو لا يلحق.
ومن أخبار المعتمد أنه جلس يوماً والبزاة تعرض عليه، فاستحث الشعراء في وصفها، فصنع ابن وهبون بديهاً:
للصيد قبلك سنة مأثورة لكنها بك أبدع الأشياء
تمضي البزاة وكلما أمضيتها عاطيتها بخواطر الشعراء
فاستحسنهما، وأسنى جائزته.
وذكر ابن بسام أن أبا العرب الصقلي حضر مجلس المعتمد يوماً وقد حمل إليه حمولة وافرة من قراريط الفضة، فأمر له بسكين منها، وكان بين يديه تماثيل
عنبر من جملتها جمل مرصع بالذهب واللآلئ، فقال أبو العرب معرضاً: ما يحمل هذين الكيسين إلا جمل، فابتسم المعتمد وأمر له به، فقال أبو العرب بديهاً:
أهديتني (1) جملاً جوناً شفعت به
…
حملاً من الفضة البيضاء لو حملاً نتاج جودك في أعطان مكرمة لا قد تصرف من منع ولا عقلا
فاعجب لشأني فشأني كله عجب رفهتني فحملت الحمل والجملا
وذكر الحجاري هذه القصة فقال: قعد المعتمد في مجلس احتفل في تنضيده وإحضار الطرائف الملوكية، وكان في الجملة تمثال جمل من بلور، وله عينان من ياقوتتين، وقد حلي بنفائس الدر، فأنشده أبو العرب قصيدة، فأمر له بذهب كثير مما كان بيده من السكة الجديدة، فقال معرضاً بذلك الجمل: ما يحمل هذه الصلة إلا جمل! فقال: خذ هذا الجمل، فإنه حمال أثقال، فارتجل شعراً منه:
رفهتني فحملت الحمل والجملا
وذكر أن ذلك الجمل بيع بخمسمائة مثقال، فسارت بهذا الخبر الركائب، وتهادته المشارق والمغارب.
وتباحث المعتمد مرة مع الجلساء في بيت المتنبي الذي زعم أنه أمير شعره:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي وأنثني وبياض الصبح يغري بي
فقال: ما قصر في مقابلة كل لفظة بضدها إلا أن فيه نقداً خفياً، ففكروا فيه، فلما فكروا وقالوا له: ما وقفنا على شيء، فقال: الليل لا يطابق إلا بالنهار لأن الليل كلي والصبح جزئي، فتعجب الحاضرون، وأثنوا على تدقيق انتقاده.
(1) أهديت لي؛ وقد مرت الأبيات في ج 3: 569.
قال الصفدي: قلت: ليس هذا بنقد صحيح، والصواب مع أبي الطيب، لأنه قال " أزورهم وسواد الليل يشفع لي " فهذا محب يزور أحبابه في سواد الليل خوفاً ممن يشي به، فإذا لاح الصبح أغرى به الوشاة، ودل عليه أهل النميمة، والصبح أول ما يغري به قبل النهار، وعادة الزائر المريب أن يزور ليلاً، وينصرف عند انفجار الصبح خوفاً من الرقباء، ولم تجر العادة أن الخائف يتلبث إلى أن يتوضح النهار، ويمتلئ الأفق نوراً، فذكر الصبح هنا أول من ذكر النهار، والله أعلم، انتهى.
قلت: كان يختلج في صدري ضعف ما قال الصفدي، حتى وقفت على ما كتبه البدر البشتكي، ومن خطه نقلت ما صورته: هو ما انتقد عليه المعنى، إنما انتقد عليه مطابقة الليل بالصبح، فإن ذلك فاسد، انتهى، فحمدت الله على الموافقة، انتهلى.
وقال في بدائع البدائه (1) : جلس المعتمد للشرب وذلك في وقت مطر أجرى كل وهدة نهراً، وحلى جيد كل غصن من الزهر جوهراً، وبين يديه جارية تسقيه وهي تقابل وجهها بنجم الكأس في راحة كالثريا، وتخجل الزهر بطيب العرف والريا، فاتفق أن لعب البرق بحسامه، وأجال سوطه المذهب يسوق به ركامه، فارتاعت لخطفته، وذعرت من خيفته، فقال المعتمد بديهاً:
روعها البرق وفي كفها برق من القهوة لماع
عجبت منها وهي شمس الضحى كيف من الأنوار ترتاع
فاستدعى عبد الجليل بن وهبون المرسي، وأنشده البيت الأول مستجزياً، فقال عبد الجليل:
ولن ترى أعجب من آنس من مثل ما يمسك يرتاع
(1) بدايع البدائه 1: 100 - 101؛ وانظر ص: 92 من هذا الجزء.
فاستحسنه، وأمر له بجائزة.
قال ابن ظافر: وبيته عندي أحسن من بيت المعتمد، انتهى.
وقال ابن بسام (1) : كان في قصر المعتمد فيل من الفضة على شاطئ بركة يقذف الماء، وهو الذي يقول فيه عبد الجليل بن وهبون من بعض قصيدة:
ويفرغ فيه مثل النصل بدع من الأفيال لا يشكو ملالا
رعى رطب اللجين فجاء صلباً تراه قلما يخشى هزالا
فجلس المعتمد يوماً على تلك البركة والماء يجري من ذلك الفيل، وقد أوقدت شمعتان من جانبيه، والوزير أبو بكر ابن الملح عنده، فصنع الوزير فيهما عدة مقاطيع بديهاً منها:
ومشعلين من الأضواء قد قرنا بالماء والماء بالدولاب منزوف
لاحا لعيني كالنجمين، بينهما خط المجرة ممدود ومعطوف
وقال أيضاً:
كأنما النار فوق الشمعتين سناً والماء من نفذ الأنبوب منسكب
غمامة تحت جنح الليل هامعة في جنبيها حفاف البرق يضطرب
وقال أيضاً:
وأنبوب ماء بين نارين ضمنا هوىً لكؤوس الراح تحت الغياهب
كأن اندفاع الماء بالماء حية يحركها في الماء لمع الحباحب
وقال أيضاً:
كأن سراجي شربهم في التظائها وأنبوب ماء الفيل في سيلانه
كريم تولى كبره من كليهما لئيمان في إنفاقه يعذلانه
(1) بدايع البدائه 2: 137.
676 -
ابن زيدون عند بني عباد
ولما مات والد المعتمد واستقل بالملك قال ذو الوزارتين ابن زيدون يرثي المعتضد ويمدح المعتمد بقصيدة طويلة أولها (1) :
هو الدهر فاصبر للذي أحدث الدهر
…
فمن شيم الأحرار (2) في مثلها الصبر
ستصبر صبر اليأس أو صبر حسبة (3)
…
فلا تؤثرالوجه الذي معه الوزر حذارك من أن يعقب الرزء فتنة يضيق بها عن مثل إيمانك العذر
إذا آسف الذكل اللبيب فشفه
…
رأى أفدح الثكلين أن يذهب (4) الأجر مصاب الذي يأسى بموت ثوابه هو البرح لا الميت الذي أحرز القبر
حياة الورى نهج إلى الموت مهيع لهم فيه إيضاع كما يوضع السفر
ومنها:
إذا الموت أضحى قصد كل معمر فإن سواء طال أو قصر العمر
ألم تر أن الدين ضيم ذماره فلم يغن أنصاره عديدهم دثر
بحيث استقل الملك ثاني عطفه وجرر من أذياله العسكر المجر
هو الضيم لو غير القضاء يرومه ثناه المرام الصعب والمسلك الوعر
إذا عثرت جرد العناجيج في القنا بليل عجاج ليس يصدعه فجر
ومنها:
أعباد يا أوفى الملوك لقد عدا عليك زمان من سجيته الغدر
إلى أن قال بعد أبيات كثيرة:
(1) ديوان ابن زيدون: 562.
(2)
الديوان: الأبرار.
(3)
في الأصول: وحشة.
(4)
الديوان: أن يهلك.
ألا أيها المولى الوصول عبيده لقد رابنا أن يتلو الصلة الهجر
يغاديك داعينا السلام كعهده فما يسمع الداعي ولا يرفع الستر
أعتب علينا ذاد عن ذلك الرضى
…
فتسمع (1) أم بالسمع المعتلي وقر ومنها:
وكيف بنسيان وقد ملأت يدي جسام أياد منك أيسرها الوفر
وإن كنت لم أشكر لك المنن التي
…
تمليتها تترى فأوبقني (2) الكفر فهل علم الشلو المقدس أنني مسوغ حال حار في كنهها الفكر
وأن متاتي لم يضعه محمد خليفتك العدل الرضى وابنك البر
هو الظافر الأعلى المؤيد بالذي له في الذي وافاه من صنعه سر
له (3) في اختصاصي ما رأيت وزادني
…
مزية زلفى من نتائجها الفخر وأرغم في بري أنوف عصابة لقاؤهم جهم ولحظهم شزر
إذا ما استوى في الدست عاقد حبوة وقام سماطا حفله فلي الصدر
وفي نفسه العلياء لي متبوأ
…
يساجلني (4) فيه السماكان والنسر ومنها:
لك الخير إن الرزء كان غيابة (5)
…
طلعت لنا فيها كما طلع البدر فقرت عيون كان أسخنها البكا وقرت قلوب كان زلزلها الذعر
ومنها:
ولما قدمت الجيش بالأمر أشرقت إليك من الآمال آفاقها الغبر
(1) الديوان: فنعتب.
(2)
الأصول: فلا بقي؛ وهو خطأ.
(3)
الديوان: رأي.
(4)
الديوان: ينافسي.
(5)
في الأصول والديوان: غيابة - بالباء الموحدة -؛ والغاية: السحابة، وهو أنسب لذكر البدر.
فقضيت من فرض الصلاة لبانة
…
فشيعها نسك وقارنها (1) طهر
ومن قبل ما قدمت مثنى نوافل
…
يلاقي بها من صام من عوز (2) فطر
ورحت إلى القصر الذي غض طرفه
…
بعيد التسامي أن غدا غيره قصر وأجمل عن الثاوي العزاء فإن ثوى فإنك لا الواني ولا الضرع الغمر
وما أعطت السبعون قبل أولي الحجى من اللب ما أعطاك عشروك والعمر
ألست الذي إن ضاق ذرع بحادث تبلج منه الوجه واتسع الصدر
فلا تهض الدنيا جناحك بعده فمنك لمن هاضت نوائبها جبر
ولا زلت موفور العديد بقرة لعينك مشدوداً بها ذلك الأزر
فإنك شمس في سماء رياسة تطلع منهم حولنا أنجم زهر
شككنا فلم نثبت: أأيام دهرنا بها وسن أم هز أعطافها سكر
وما إن تغشتها مغازلة الكرى
…
وما إن تمشت في معاطفها الخمر (3) سوى نشوات من سجايا مملك يصدق في عليائها الخبر الخبر
أرى الدهر إن يبطش فأنت ينينه وإن تضحك الدنيا فأنت لها ثغر
وكم سائل بالغيب عنك أجبته هناك الأيادي الشفع والسودد الوتر
هناك التقى والعلم والحلم والنهى وبذل اللها والبأس والنظم والنثر
همام إذا لاقى المناجز رده وإقباله خطر وإدباره حصر
محاسن ما للروض سامره الندى رواء إذا نصت حلاها ولا نشر
متى انتشقت لم تدر (4) دارين مسكها
…
حياء ولم تفخر بعنبرها الشحر عطاء ولا من، وحكم ولا هوى وحلم ولا عجز، وعز ولا كبر
قد استوفت النعماء فيك تمامها علينا فمنا الحمد لله والشكر
(1) الديوان: مشيعها
…
وفارطها.
(2)
في الصول: غيره.
(3)
الديوان: في مفاصلها خمر.
(4)
الديوان: لم تطر.
وكتب ابن زيدون المذكور إلى المعتمد رحمهما الله تعالى يشوقه إلى تعاطي الحميا، في قصوره البديعة التي منها المبارك والثريا (1) :
فز بالنجاح وأحرز الإقبالا وخذ المنى وتنجز الآمالا
وليهنك التأييد والظفر اللذا صدقاك في السمة العلية فالا
يا أيها الملك الذي لولاه لم تجد العقول الناشدات كمالا
أما الثريا فالثريا نسبة وإفادة وإنافة وجمالا
قد شاقها الإغباب حتى إنها لو تستطيع سرت إليك خيالا
رفه ورودكها لتغنم راحة وأطل مزاركها لتنعم بالا
وتأمل (2) القصر المبارك وجنة
…
قد وسطت فيها الثريا خالا
وأدر هناك من المدام كؤوسها
…
وأتمها (3) وأشفها جريالا قصر يقر العين منه مصنع بهج الجوانب لو مشى لاختالا
لا زلت تفترش السرور حدائقاً فيه وتلتحف النعيم ظلالا
وأهدى إليه تفاحاً، واعتقد أن يكتب معه قطعة، فبدأ بها، ثم عرض له غيرها فتركها ثم ابتدأ (4) :
دونك الراح جامده وفدت خير وافده
وجدت سوق ذوبها عندك اليوم كاسده
فاستحالت إلى الجمو د وجاءت مكايده
وكتب إلى المعتمد (5) :
(1) ديوان ابن زيدون: 520.
(2)
الديوان: وتمثل.
(3)
الديوان: أنمها أرجاً زكا.
(4)
الديوان: 224.
(5)
الديوان: 616.
يا أيها الظافر نلت المنى ولا أتانا فيك محذور
إن الخلال الزهر قد ضمها ثوب عليك الدهر مزرور
لا زال للمجد الذي شدته ربع بتعميرك معمور
وافاك نظم لي في طيه معنى معمى اللفظ مستور
مرامه يصعب ما لم يبح بالسر قمري وشحرور
وذكر أبياتاً فيها أسماء طيور عمى بها عن بيت طيره فيها، والبيت المطير فيه:
أنت إن تغز ظافر فليطع من ينافر
ففكه المعتمد وجاوبه (1) :
يا خير من يلحظه ناظري
…
شهادة ما شأنها (2) زور ومن إذا خطب دجا ليله لاح به من رأيه نور
جاءتني الطير التي سرها نظم به قلبي مسرور
شعر هو السحر فلا تنكروا أنني به ما عشت مسحور
اللفظ والقرطاس إن شبها قيل هما مسك وكافور
هوى لحسن الطير من فكرتي صقر فولى وهو مقهور
ولاح لي بيت فؤادي له دأباً على ودك مقصور
حظك من شكري يا سيدي
…
حظ تمالا منك (3) موفور فصرت في نظمي فاعذر فمن ضاهاك في التقصير معذور
فأنت إن تنظم وتنثر فقد أعوز منظوم ومنثور
(1) انظر ديوان ابن زيدون: 618.
(2)
الديوان: شابها.
(3)
الديوان: بما بدا لي منك.
لا يعدكم روض من الحظ في ال إكرام والترفيع ممطور
فكتب إليه ابن زيدون (1) :
حظي من نعماك موفور وذنب دهري بك مغفور
وجانبي إن رامه أزمة (2)
…
حجر لدى ظلك محجور يا ابن الذي سرب الهدى آمن منذ انبرى يحميه مخفور
وآمر الدهر الذي لم يزل
…
يصغي إليه منه مأمور
ألبس منك الدهر (3) أسنى الحلى
…
بظافر منحاه منصور
يا مروري (4) المأثور يا من له
…
مجد مع الأيام مأثور عبدك إن أكثر من شكره فهو بما توليه مكثور
إن تعف عن تقصيره منعماً فاليسر أن يقبل معسور
إن حلال السحر إن صغته في صحف الأنفس مسطور
نظم زهاني منه إذ جاءني علق عظيم القدر مذخور
لا غرو أن أفتن إذ لاحظت فكري منه أعين حور
تنم عن معناه ألفاظه كما وشى بالراح بلور
جهلت إذ عارضته غير أن لا بد أن ينفث مصدور
يا آل عباد موالاتكم زاك من الأعمال مبرور
إن الذي يرجو موازاتكم من المناوين لمغرور
مكانه منكم كما انحط عن منزلة المرفوع مجرور
لا زلتم في غبطة ما انجلى عن فلق الإصباح ديجور
(1) ديوانه: 620.
(2)
الديوان: إن زمني رامه.
(3)
الديوان: الملك.
(4)
في الصول: قام وفي؛ والمأثور: السيف.
ولا يزال يجري بما شئتم أعماركم لله مقدور
وكتب المعتمد إلى ابن زيدون بعد أن فك معمى كتب به إليه ابن زيدون ما صورته (1) :
العين بعدك تقذى بكل شيء تراه
فليجل شخصك عنها ما بالمغيب جناه
وقد قدمنا من كلام أبي الوليد ابن زيدون رحمه الله تعالى ما فيه كفاية.
رجع إلى بني عباد
قال ابن حمديس (2) : لما قدمت وافداً على المعتمد بن عباد استدعاني وقال: افتح الطاق، فإذا بكير زجاج والنار تلوح من بابيه، وواقده يفتحهما تارة ويسدهما أخرى، ثم أدام سد أجدهما، وفتح آخر، فحين تأملتهما قال لي: أجز:
انظرهما في الظلام قد نجما فقلت:
كما رنا في الدجنة الأسد
فقال:
يفتح عينيه ثم يطبقها
فقلت:
فعل امرىء في جفونه رمد
(1) ديوان ابن زيدون: 214.
(2)
انظر هذا الخبر ومقطعات ابن حمديس في ديوانه: 8، 533، 543، والخبر في النفح 3: 616 - 617.
فقال:
فابتزه الدهر نور واحدة
فقلت:
وهل نجا من صروفه أحد
فاستحسن ذلك وأطربه، وأمر لي بجائزة، وألزمني الخدمة.
677 -
مقطعات لابن حمديس
وعلى ذكر ابن حمديس فما أحسن قوله:
أراك ركبت في الأهوال بحراً عظيماً ليس يؤمن من خطوبه
تسير فلكه شرقاً وغرباً وتدفع من صباه إلى جنوبه
وأصعب من ركوب البحر عندي أمور ألجأتك إلى ركوبه
ولغيره:
إن ابن آدم طين والبحر ماء يذيبه
لولا الذي فيه يتلى ما جاز عندي ركوبه
وقال ابن حمديس في هذا المعنى:
لا أركب البحر، أخشى علي منه المعاطب
طين أنا وهو ماء والطين في الماء ذائب
رجع إلى بني عباد رحمهم الله تعالى
قال ابن بسام (1) : أخبرني الحكيم النديم المطرب أبو بكر ابن الإشبيلي، قال: حضرت مجلس الرشيد بن المعتمد بن عباد وعنده الوزير أبو بكر ابن عمار،
(1) بدائع البدائه: 129.
فلما دارت الكأس، وتمكن الأنس، وغنيت أصواتاً ذهب الطرب بابن عمار كل مذهب، فارتجل يخاطب الرشيد:
ما ضر أن قيل إسحاق وموصله ها أنت أنت وذي حمص وإسحاق
أنت الرشيد فدع من قد سمعت به وإن تشابه أخلاق وأعراق
لله درك داركها مشعشعة واحضر بساقيك ما قامت بنا ساق
وكان الرشيد هذا أحد أولاد المعتمد النجبا، وله أخبار في الكرم يقضي الناظر فيها من أمرها عجبا، وكذلك إخوته، وقد ألمعنا في هذا الكتاب بجملة من محاسنهم، وأمهم اعتماد الملقبة بالرميكية هي التي ترجمناها في هذا الموضع، واقتضت المناسبة ذكر أمر بني عباد، فلنعد إلى ما كنا بصدده من أخبارها رحمها الله تعالى، فنقول:
رجع إلى ذكر الرميكية
قال ابن سعيد في بعض مصنفاته: كان المعتمد كثيراً ما يأنس بها، ويستظرف نوادرها، ولم تكن لها معرفة بالغناء، وإنما كانت مليحة الوجه، حسنة الحديث، حلوة النادر، كثيرة الفكاهة، لها في كل ذلك نوادر محكية، وكانت في عصرها ولادة بنت محمد بن عبد الرحمن، وهي أبدع منها ملحاً، وأحسن افتناناً، وأجل منصباً، وكان أبوها أمير قرطبة، ويلقب بالمستكفي بالله، وأخبار أبي الوليد ابن زيدون معها وأشعاره فيها مشهورة، انتهى ملخصاً.
ومن أخبار الرميكية القصة المشهورة في قولها " ولا يوم الطين " وذلك أنها رأت الناس يمشون في الطين، فاشتهت المشي في الطين، فأمر المعتمد، فسحقت أشياء من الطيب، وذرت في ساحة القصر حتى عمته، ثم نصبت الغرابيل، وصب فيها ماء الورد على أخلاط الطيب، وعجنت بالأيدي حتى عادت كالطين
وخاضتها مع جواريها. وغاضبها في بعض الأيام، فأقسمت أنها لم تر منه خيراً قط، فقال: ولا يوم الطين فاستحيت واعتذرت، وهذا مصداق نبينا صلى الله عليه وسلم في حق النساء " لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط ".
قلت: ولعل المعتمد أشار في أبياته الرائية إلى هذه القضية حيث قال في بناته:
يطأن في الطين والأقدام حافية كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
وحتمل أن يكون أشار بذلك إلى ما جرت به عادة الملوك من ذر الطيب في قصورهم حتى يطؤوه بأقدامهم، زيادة في التنعم.
وسبب قول المعتمد ذلك ما حكاه الفتح فقال (1) : وأول عيد أخذه - يعني المعتمد - بأغمات وهو سارح، وما غير الشجون له مبارح (2) ، ولا زي إلا حالة الخمول، واستحالة المأمول، فدخل عليه من بنيه، من يسلم عليه ويهنيه (3) ، وفيهم بناته وعليهن أطمار، كأنها كسوف وهن أقمار، يبكين عند التساؤل، ويبدين الخشوع بعد التخايل، والضياع قد غير صورهن، وحير نظرهن، وأقدامهن حافية، وآثار نعيمهن عافية، فقال (4) :
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة أبصارهن حسيرات مكاسيرا
(1) القلائد: 25.
(2)
كذا في ق م؛ وفي القلائد: مسارح.
(3)
في الصول اضطراب، واثبتنا ما في القلائد.
(4)
لم تورد نسخة م هذه القصيدة، لأنها من قبل (الورقة: 232) وأثبتت في موضعها: " وقد سبقت هذه الأبيات ".
يطأن في الطين والأقدام حافية كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
لا خد إلا تشكى الجدب ظاهره وليس مع الأنفاس ممطورا
أفطرت في العيد لا عادت مساءته فكان فطرك للأكباد تفطيرا
قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً فردك الدهر منهياً ومأمورا
من بات بعدك في ملك يسر به فإنما بات بالأحلام مغرورا
678 -
عود إلى أخبار المعتمد
وقال الفتح أيضاً (1) : ولما نقل المعتمد من بلاده، وأعري من طارفه وتلاده، وحمل في السفين، وأحل في العدوة محل الدفين، تندبه منابره وأعواده، ولا يدنو منه زواره ولا عواده، بقي أسفاً تتصعد زفراته، وتطرد اطراد المذانب عبراته، لا يخلو بمؤانس، ولا يرى إلا عريناً بدلاً من تلك المكانس، ولما لم يجد سلواً، ولم يؤمل دنواً، ولم ير وجه مسرة مجلواً، تذكر منازله فشاقته، وتصور بهجتها فراقته، وتخيل استيحاش أوطانه، وإجهاش قصره إلى قطانه، وإظلام جوه من أقماره، وخلوه من حراسه وسماره، فقال:
بكى المبارك في إثر ابن عباد بكى على إثر غزلان وآساد
بكت ثرياه لا غمت كواكبها بمثل نوء الثريا الرائح الغادي
بكى الوحيد، بكى الزاهي وقبته والنهر والتاج، كل ذله بادي
ماء السماء على أفيائه درر يا لجة البحر دومي ذات إزباد
وفي ذلك يقول ابن اللبانة (2) :
أستودع الله أرضاً عندما وضحت بشائر الصبح فيها بدلت حلكا
(1) القلائد: 3.
(2)
أوجزت " م " هنا، لورود الأبيات قبلاً.
كان المؤيد بستاناً بساحتها يجني النعيم وفي عليائها فلكا
في أمره لملوك الدهر معتبر فليس يغتر ذو ملك بما ملكا
نبكيه من جبل خرت قواعده فكل من كان في بطحائه هلكا
وكان القصر الزاهي (1) من أجمل المواضع لديه وأبهاها، وأحبها إليه وأشهاها، لإطلاله على النهر، وإشرافه على القصر، وجماله في العيون، واشتماله بالزهر (2) والزيتون، وكان له به من الطرب، والعيش المزري بحلاوة الضرب، ما لم يكن بحلب لبني حمدان، ولا لسيف بن ذي يزن في رأس غمدان، وكان كثيراً ما يدير به راحه، ويجعل فيه انشراحه، فلما امتد الزمان إليه بعدوانه، وسد عليه أبواب سلوانه، لم يحن إلا إليه، ولم يتمن غير الحلول لديه، فقال (3) :
غريب بأرض المغربين أسير سيبكي عليه منبر وسرير
وتندبه البيض الصوارم والقنا وينهل دمع بينهن غزير
مضى زمن والملك مستأنس به وأصبح منه اليوم وهو نفور
برأي من الدهر المضلل فاسد متى صلحت للصالحين دهور
أذل بني ماء السماء زمانهم وذل بني ماء السماء كبير
فيا ليت شعري هل أبيتن ليلة أمامي وخلفي روضة وغدير
بمنبتة الزيتون مورثة العلا تغني حمام أو ترن طيور
بزاهرها السامي الذي جاده الحيا تشير الثريا نحونا ونشير
ويلحظنا الزاهي وسعد سعوده غيورين والصب المحب غيور
تراه عسيراً لا يسيراً مناله ألا كل ما شاء الإله يسير
وقال الحجاري في " المسهب ": إن أمير المسلمين يوسف بن تاشفين أهدى
(1) القلائد: الحصن الزاهر.
(2)
القلائد: بالشجر.
(3)
اختصرت " م " إيراد هذه القصيدة لأن هذه الأبيات تقدمت.
إلى المعتمد جارية مغنية قد نشأت بالعدوة، وأهل العدوة بالطبع يكرهون أهل الأندلس، وجاء بها إلى إشبيلية وقد كثر الإرجاف بأن سلطان الملثمين ينتزع بلاد ملوك الطوائف منهم، واشتغل خاطر ابن عباد بالفكر في ذلك، فخرج بها إلى قصر الزاهر على نهر إشبيلية، وقعد على الراح، فخطر بفكرها أن غنت عندما انتشى هذه الأبيات:
حملوا قلوب الأسد بين ضلوعهم ولووا عمائمهم على الأقمار
وتقلدوا يوم الوغى هندية أمضى إذا انتضيت من الأقدار
إن خوفوك لقيت كل كريهة أو أمنوك حللت دار قرار
فوقعفي قلبه أنها عرضت بساداتها، فلم يملك غضبه، ورمى بها في النهر، فهلكت، انتهى، فقدر الله تعالى أن كان تمزيق ملكه على يدهم تصديقاً للجارية في قولها:
إن خوفوك لقيت كل كريهة
وحصره جيوش لمتونة الملثمين حتى أخذوه قهراً، وسيق إلى أمير المسلمين، والقصة مشهورة.
وقال الفتح في شأن حصار المعتمد ما صورته (1) : ولما تم في الملك أمده، وأراد الله أن تخر عمده، وتنقرض أيامه، وتتقوض عن عراص الملك خيامه، نازلته جيوش أمير المسلمين ومحلاته، وظاهرته فساطيطه ومظلاته، بعدما نثرت حصونه وقلاعه، وسعرت بالنكاية جوانحه وأضلاعه، وأخذت عليه الفروج والمضايق، وثنت إليه الموانع والعوايق، وطرقته بطوارقها بالإضرار، وأمطرته من النكاية كل ديمة مدرار، وهو ساه بروض ونسيم، لاه براح
(1) القلائد: 21.
ومحيا وسيم، زاه بفتاة تنادمه، ناه عن هدم أنس هو هادمه، لا يصيخ إلى نبأة سمعه، ولا ينيخ إلا على لهو يفرق جموعه جمعه، وقد ولى المدامة ملامه، وثنى إلى ركنها طوافه واستلامه، وتلك الجيوش تجوس خلاله، وتقلص ظلاله، وحين اشتد حصاره، وعجز عن المدافعة أنصاره، ودلس عليه ولاته، وكثرت أدواؤه وعلاته، فتح باب الفرج، وقد لفح شواظ الهرج، فدخلت عليه من المرابطين زمرة، واشتعلت من التغلب جمرة، تأجج اضطرامها، وسهل بها إيقاد الفتنة (1) وإضرامها، وعندما سقط الخبر عليه خرج حاسراًمن مفاضته، جامحاً كالمهر قبل رياضته، فلحق أوائلهم عند الباب المذكور وقد انتشروا في جنباته، وظهروا على البلد من أكثر جهاته، وسيفه في يده يتملظ للطلى والهام، ويعد بانفراج ذلك الاستبهام، فرماه أحد الداخلين برمح تخطاه، وجاوز مطاه، فبادره بضربة أذهبت نفسه، وأغربت شمسه، ولقي ثانياً فضربه وقسمه، وخاض حشا ذلك الداء وحسمه، فأجلوا عنه، وولوا فراراً منه، فأمر بالبا فسد، وبني منه ما هد، ثم انصرف وقد أراح نفسه وشفاها، وأبعد الله تعالى عنه الملامة ونفاها، وفي ذلك يقول عندما خلع، وأودع من المكروه ما أودع:
إن يسلب القوم العدى ملكي وتسلمني الجموع
فالقلب بين ضلوعه لم تسلم القلب الضلوع
قد رمت يوم نزالهم أن لا تحصنني الدروع
وبرزت ليس سوى القمي ص على الحشا شيء دفوع
أجلي تأخر لم يكن بهوادي ذلي والخضوع
ما سرت قط إلى القتا ل وكان من أملي الرجوع
شيم الألى أنا منهم والأصل تتبعه الفروع
(1) القلائد: البقية.
وما زالت عقارب تلك الداخلة تدب، ثو ذكر الفتح تمام هذا الكلام فراجعه فيما مر بنحو ثلاث ورقات.
ومن حكايات مجالس أنسه أيام ملكه، قبل أن ينظمه صرف الدهر في سلكه، ما حكاه الفتح (1) عن ذخر الدولة أنه دخل عليه في دار المزينية (2) والزهر يحسد إشراق مجلسه، والدر يحكي اتساق تأنسه، وقد رددت الطير شدوها، وجودت (3) طربها ولهوها، وجددت كلفها وشجوها، والغصون قد التحفت بسندسها، والأزهار تحيي بطيب تنفسها، والنسيم يلم بها فتضعه بين أجفانها، وتودعه أحاديث آذارها ونيسانها، وبين يديه فتى من فتيانه يتثنى تثني القضيب، ويحمل الكأس في راحة أبهى من الكف الخضيب، وقد توشح وكأن الثريا وشاحه، وأنار فكأن الصبح من محياه كان اتضاحه، فكلما ناوله الكأس خامرته سوره، وتخيل أن الشمس تهديه نوره، فقال المعتمد:
لله ساف مهفهف غنج قد قام يسقي فجاء بالعجب
أهدى لنا من لطيف حكمته في جامد الماء ذائب الذهب
ولما وصل لورقة استدعى ذا الوزارتين القائد أبا الحسن ابن اليسع ليلته تلك في وقت لم يخف فيه زائر من مراقب، ولم يبد فيه غير نجم ثاقب، فوصل وما للأمن إلى فؤاده وصول، وهو يتخيل أن الجو صوارم ونصول، بعد أن وصى بما خلف، وودع من تخلف، فلما مثل بين يديه آنسه، وأزال توجسه، وقال له: خرجت من إشبيلية وفي النفس غرام طويته بين ضلوعي، وكففت فيه غرب دموعي، بفتاة هي الشمس أو كالشمس إخالها، لا يجول قلبها ولا خلخالها، وقد قلت في يوم وداعها، عند تفطر كبدي وانصداعها:
(1) القلائد: 9.
(2)
ق م: المرينية؛ القلائد: المزنية.
(3)
ق: وجردت؛ وفي القلائد: وقد رددت الطير شجوها، وجددت طربها وشجوها.
ولما التقينا للوداع غدية وقد خفقت في ساحة القصر رايات
بكينا دماً حتى كأن عيوننا لجري الدموع الحمر منها جراحات
وقد زارتني هذه الليلة في مضجعي، وأبرأتني من توجعي، ومكنتني من رضابها، وفتنتني بلالها وخضابها، فقلت:
أباح لطيفي طيفها الخد والنهدا فعض بها تفاحة واجتنى وردا
ولو قدرت زارت على حال يقظة ولكن حجاب البين ما بيننا مدا
أما وجدت عنا الشجون معرجاً ولا وجدت منا خطوب النوى بدا
سقى الله صوب القطر أم عبيدة كما قد سقت قلبي على حره بردا
هي الظبي جيداً، والغزالة مقلة، وروض الربى عرفاً، وغصن النقا قدا
فكرر استجادته، وأكثر استعادته، فأمر له بخمسمائة دينار وولاه لورقة من حينه.
قال الفتح (1) : وأخبرني ابن اللبانة أنه استدعاه ليلة إلى مجلس قد كساه الروض وشيه، وامتثل الدهر فيه أمره ونهيه، فسقاه الساقي وحياه، وسف له الأنس عن مونق محياه، فقام للمعتمد مادحاً، وعلى دوحة تلك النعماء صادحاً، فاستجاد قوله، ةأفاض عليه طوله، فصدر وقد امتلأت يداه، وغمره جوده ونداه، فلما حل بمنزلة وافاه رسوله بقطيع وكأس من بلار، قد أترعا بصرف العقار، ومعهما:
جاءتك ليلاً في ثياب نهار من نورها وغلالة البلار
كالمشتري قد لف من مريخه إذ لفه في الماء جذوة نار
لطف الجمود لذا وذا فتألفا لم يلق ضد ضده بنفار
(1) القلائد: 6.
يتحير الراءون في نعتيهما أصفاه ماء أم صفاء دراري
وقال الفتح أيضاً (1) : وأخبرني ذخر الدولة أنه استدعاه في ليلة قد ألبسها البدر رواءه، وأوقد فيها أضواءه، وهو على البحيرة الكبرى، والنجوم قد انعكست فيها تخالها زهرا، وقابلتها المجرة فسالت فيها نهرا، وقد أرجت نوافج الند، وماست معاطف الرند، وحسد النسيم الروض فوشى بأسراره، وأفشى حديث آسه وعراره، ومشى مختالاً بين لبات النور وأزراره، وهو وجم، ودمعه منسجم، وزفراته تترجم عن غرامه، وتجمجم عن تعذر مرامه، فلما نظر إليه استدناه وقربه، وشكا إليه من الهجران ما استغربه، وأنشده:
أيا نفس لا تجزعي واصبري وإلا فإن الهوى متلف
حبيب جفاك، وقلب عصاك ولاح لحاك، ولا منصف
شجون منعن الجفون الكرى وعوضنها أدمعاً تنزف
فانصرف ولم يعلمه بقصته، ولا كشف له عن غصته، انتهى.
وقال الفتح أيضاً (2) : أخبرني ذخر الدولة بن المعتضد أنه دخل عليه في ليلة فد ثنى السرور منامها، وامتطى الحبور غاربها وسنامها، وراع الأنس فؤادها، وستر بياض الأماني سوادها، وغازل نسيم الروض زوارها وعوادها، ونور السرج قد قلص أذيالها، ومحا من لجين الأرض نيالها، والمجلس مكتس بالمعالي، وصوت المثاني والمثالث عالي، والبدر قد كمل، والتحف بضوئه القصر واشتمل، وتزين بسناه وتجمل، فقال المعتمد:
ولقد شربت الراح يسطع نورها والليل قد مد الظلام رداء
(1) القلائد: 8.
(2)
القلائد: 6.
حتى تبدى البدر في جوزائه ملكاً تناهى بهجة وبهاء
وتناهضت زهر النجوم يحفه لألاؤها فاستكمل اللألاء
لما أراد تنزهاً في غربه جعل المظلة فوقه الجوزاء
وترى الكواكب كالمواكب حوله رفعت ثرياها عليه لواء
وحكيته في الأرض بين كواكب وكواعب جمعت سنا وسناء
إن نشرت تلك الدروع حنادساً ملأت لنا هذي الكؤوس ضياء
وإذا تغنت هذه في مزهر لم تأل تلك على التريك غناء
وأخبرني ابن إقبال الدولة [بن مجاهد](1) أنه كان عنده في يوم نشر من غيمة رداء ند، وأسكب من قطره ماء ورد، وأبدى من برقه لسان نار، وأظهر من قوس قزحه حنايا آس (2) حفت بنرجس وجلنار، والروض قد بعث رياه، وبث الشكر لسقياه، فكتب إلى الطبيب الأديب أبي محمد المصري:
يا أيها الصاحب الذي فارقت عي ني ونفسي منه السنا والسناء
نحن في المجلس الذي يهب الرا حة والمسمع الغنى والغناء
نتعاطى التي تنسي من الرق ة واللذة الهوى والهواء
فأته تلف راحة ومحيا قد أعدا لك الحيا والحياء
فوافاه وألفى مجلسه وقد أتلعت فيه أباريقه أجيادها، وأقامت فيه خيل السرور طرادها، وأعطته الأماني انطباعها وانقيادها، وأهدت الدنيا ليومه مواسمها وأعيادها، وخلعت عليه الشمس شعاعها، ونشرت فيه الحدائق إيناعها، فأديرت الراح، وتعوطيت الأقداح، وخامر النفوس الابتهاج والارتياح، وأظهر المعتمد من إيناسه، ما استرق به نفوس جلاسه، ثم دعا
(1) زيادة من القلائد.
(2)
الأصول: خبايا آس.
بكبير، فشربه كالشمس غربت في ثبير، وعندما تناولها، قام المصري أبياتاً تمثلها (1) :
اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقاً بشاذمهر ودع غمدان لليمن
فأنت أولى بتاج الملك تلبسه من هوذة بن علي وابن ذي يزن
فطرب حتى زحف عن مجلسه، وأسرف في تأنسه، وأمر فخلعت عليه خلع لا تصلح إلا للخلفاء، وأدناه حتى أجلسه مجلس الأكفاء، وأمر له بدنانير عدداً، وملأ بالمواهب يداً.
وله في غلام (2) رآه يوم العروبة من ثنيات الوغى طالعاً، ولطلى الأبطال قارعاً، وفي الدماء والغاً، ولمستبشع كؤوس المنايا سائغاً، وهو ظبي قد فارق كناسه، وعاد أسداً صارت القنا أخياسه، ومتكاثف العجاج قد مزقه إشراقه، وقلوب الدارعين قد شكتها أحداقه، فقال:
أبصرت طرفك بين مشتجر القنا فبدا لطرفي أنه فلك
أوليس وجهك فوقه قمراً يجلى بنير نوره الحلك
وقال فيه:
ولما اقتحمت الوغى دارعاً وقنعت وجهك بالمغفر
حسبنا محياك شمس الضحى عليها سحاب من العنبر
وقد جمع بنا القلم في ترجمة المعتمد بن عباد بعض جموح، وما ذلك إلا لما علمنا أن نفوس الأدباء إلى أخباره رحمه الله تعالى شديدة الطموح، وقد جعل الله تعالى له كما ابن الأبار في " الحلة السيراء " رقة في القلوب وخصوصاً
(1) نسب المبرد البيتين لشاعر من أهل الري يكنى ابا يزيد أنشدهما عبد الله بن طاهر الكامل (2: 24) .
(2)
القلائد: 8.
بالمغرب فإن أخباره وأخبار الرميكية إلى الآن متداولة بينهم، وإن فيها لأعظم عبرة، رحم الله تعالى الجميع.
رجع إلى أخبار النساء
11 -
ومنهن العبادية جارية المعتضد عباد (1) ، والد المعتمد، أهداها إليه مجاهد العامري من دانية، وكانت أديبة، ظريفة، كاتبة، شاعرة، ذاكرة لكثير من اللغة، قال ابن عليم في شرحه لأدب الكتاب لابن قتيبية، وذكر الموسعة وهي خشبة بين حمالين يجعل كل واحد منهما طرفها على عنقه، ما صورته: وبذكر الموسوعة أغربت جارية لمجاهد أهداها إلى عباد كاتبة شاعرة على علماء إشبيلية وبالهزمة (2) التي تظهر في أذقان بعض الأحداث، وتعتري بعضهم في الخدين عند الضحك، فأما التي في القن فهي النونة، ومنه قول عثمان رضي الله تعالى عنه: دسموا (3) نونته لتدفع العين، وأما التي في الخدين عند الضحك فهي الفحصة، فما كان في ذلك الوقت في إشبيلية من عرف منها واحدة0
وسهر عباد ليلة لأمر حزبه وهي نائمة، فقال:
تنام ومدنفها يسهر وتصبر عنه ولا يصبر
فأجابته بديهة بقولها:
لئن دام هذا وهذا له
…
سيهلك وجداً ولا يشعر (4) ويكفيك هذا شاهداً على فضلها يرحمها الله تعالى وسامحها (5) .
(1) ترجمتها في الذيل والتكملة (آخر جزء الغرباء) ، وما أثبته المقري منقول بنصه عنه.
(2)
هكذا في الذيل، وفي ق: وبالفرجة.
(3)
م: وسموا؛ وهي بالدال في الذيل وفوقها علامة " صح ".
(4)
الذيل: ولا يصبر.
(5)
وسامحها: زيادة من ق.
12 -
ومنهن: بثينة بنت المعتمد بن عباد، وأمها الرميكية السابقة الذكر، وكانت بثينة هذه نحواً من أمها في الجمال والنادرة ونظم الشعر، ولما أحيط بأبيها ووقع النهب في قصره كانت من جملة من سبي، ولم يزل المعتمد والرميكية عليها في وله دائم لايعلمان ما آل إليه أمرها إلى أن كتبت إليهما بالشعر المشهور المتداول بين الناس بالمغرب، وكان أحد تجار إشبيلية اشتراها على أنها جارية سرية ووهبها لابنه، فنظر من شأنها وهيئت له، فلما أراد الدخول عليها امتنعت، وأظهرت نسبها، وقالت: لا أحل لك إلا بعقد نكاح إن رضي أبي بذلك الذي، وأشارت عليهم بتوجيه كتاب من قبلها لأبيها، وانتظار جوابه، فكان الذي كتبته بخطها من نظمها ما صورته:
اسمع كلامي واستمع لمقالتي فهي السلوك بدت من الأجياد
لا تنكروا أني سبيت وأنني بنت لملك من بني عباد
ملك عظيم قد تولى عصره وكذا الزمان يؤول للإفساد
لما أراد الله فرقة شملنا وأذاقنا طعم الأسى عن زاد
قام النفاق على أبي في ملكه فدنا الفراق ولم يكن بمراد
فخرجت هاربة فحازني امرؤ
…
لم يأت في إعجاله (1) بسداد إذ باعني بيع العبيد فضمني من صانني إلا من الانكاد
وأرادني لنكاح نجل طاهر حسن الخلائق من بني الأنجاد
ومضى إليك يسوم رأيك في الرضى ولأنت تنظر في طريق رشادي
فعساك يا أبتي تعرفني به إن كان ممن يرتجى لداد
وعسى رميكية الملوك بفضلها تدعو لنا باليمن والإسعاد
فلما وصل شعرها لأبيها وهو بأغمات، واقع في شراك الكروب
(1) دوزي: أفعاله.
والأزمات، سر هو وأمها بحياتها، ورأيا أن ذلك للنفس من أحسن أمنياتها، إذ علما مآل أمرها، وجبرها كسرها، إذ ذلك أخف الضررين، وإن كان الكرب قد ستر القلب منه حجاب رين، وأشهد على نفسه بعقد نكاحها من الصبي المذكور، وكتب إليها أثناء كتابه مما يدل على حسن صبره المشكور:
بنيتي كوني به برة فقد قضى الوقت بأسعافه
وأخبار المعتمد بن عباد، تذيب الأ كباد، فلنرجع إلى ذكر نساء الأندلس فنقول:
13 -
ومنهن حفصة بنت حمدون (1) ، من وادي الحجارة، ذكرها في " المغرب " وقال: إنها من أهل المائة الرابعة، ومن شعرها:
رأى ابن جميل أن يرى الدهر مجمل فكل الورى قد عمهم سيب نعمته
له خلق كالخمر بعد امتزاجها وحسن فما أحلاه من حين خلقته
بوجه كمثل الشمس يدعو ببشره
…
عيوناً ويعشيها بإفراط (2) هيبته ولها:
لي حبيب لا ينثني لعتاب وإذا ما تركته زاد تيها
قال لي هل رأيت لي من شبيه قلت أيضاً وهل ترى لي شبيها
ولها تذم عبيدها:
يا رب إني من عبيد على جمر الغضا، ما فيهم من نجيب
إما جهول أبله متعب أو فطن من كيده لا يجيب
(1) ترجمة حفصة بنت حمدون في الذيل والتكملة والسيوطي: 46 والمغرب 2: 37.
(2)
م: بإطراق.
وقال ابن الأبار: إنها كانت أديبة عالمة شاعرة، وذكرها ابن فرج صاحب " الحدائق " وأنشد لها أشعاراًمنها قولها:
يا وحشتي لأحبتي يا وحشة متماديه
يا ليلة ودعتهم يا ليلة هي ما هيه
14 -
ومنهن زينب المرية (1) ، كانت أديبة شاعرة، وهي القائلة:
يا أيها الراكب الغادي لطيته عرج أنبئك عن بعض الذي أجد
ما عالج الناس من وجد تضمنهم ووده آخر الأيام أجتهد
15 -
ومنهن غاية المنى (2) ، وهي جارية أندلسية متأدبة، قدمت إلى المعتصم بن صمادح، فأراد أختبارها فقال لها: مااسمك فقالت: غاية المنى، فقال لها: أجيزي:
اسألوا غاية المنى
فقالت:
من كسا جسمي الضنى
وأراني مولهاً سيقول الهوى أنا
هكذا أورد السالمي هذه الحكاية في تاريخه.
قال ابن الأبار: وقرأت بخط الثقة حاكياً عن القاضي أبي القاسم ابن حبيش قال: سيقت لابن صمادح جارية نبيلة تقول الشعر وتحسن المحاضرة، فقال:
(1) سقطت هذه الترجمة من نسخة " م "؛ وترجمة زينب المرية في الذيل والتكملة.
(2)
ترجمة غاية المنى في الذيل والتكملة وفيه ما أورده المقري.
تحمل إلى الأستاذ ابن الفراء الخطيب ليختبرها، وكان كفيفاً، فلما وصلته قال: ما اسمك فقالت: غاية المنى، فقال: أجيزي:
سل هوى غاية المنى من كسا جسمي الضنى
فقالت تجيزه:
وأراني متيماً سيقول الهوى أنا
حكى ذلك لابن صمادح، فاشتراها، انتهى.
6 -
ومنهن حمدة، ويقال حمدونة بنت زيادة المؤدب (1) من وادي آش، وهي خنساء المغرب، وشاعرة الأندلس، ذكرها الملاحي وغيره، وممن روى عنها أبو القاسم ابن البراق.
ومن عجيب شعرها قولها:
ولما أبى الواشون إلا فراقنا وما لهم عندي وعندك من ثار
وشنوا على أسماعنا كل غارة وقل حماتي عند ذاك وأنصاري
غزوتهم من مقلتيك وأدمعي ومن نفسي بالسيف والسيل والنار
وبعض يزعم أن هذه الأبيات لمهجة بنت عبد الرزاق الغرناطية، وكونهت لحمدة أشهر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وخرجت حمدة مرة للوادي مع صبية، فلما نضت عنها ثيابها وعامت قالت:
(1) ترجمة أحمد (أو حمدونة) بنت زياد في التكملة (رقم: 2120) والإحاطة 2: 498 وتحفة القادم: 162، المطرب: 11 والسيوطي: 48 والذيل والتكملة، وابوها هو زياد بن بقي العوفي، وهي أخت زينب.
أباح الدمع أسراري بوادي له للحسن آثار بوادي
فمن نهر يطوف بكل روض ومن روض يرف بكل وادي
ومن بين الظباء مهاة إنس لها لبي وقد ملكت فؤادي
لها لحظ ترقده لأمر وذاك الأمر يمنعني رقادي
إذا سدلت ذوائبها عليها
…
رأيت البدر في جنح الدآدي (1) كأن الصبح مات له شقيق فمن حزن تسربل بالحداد
وقال ابن البراق في سوق هذه الحكاية: أنشدتنا حمدة العوفية لنفسها، وقد خرجت متنزهة بالرملة من نواحي وادي آش فرأت ذات وجه وسيم أعجبها، فقالت - وبين الروايتين خلاف - أباح الدمع، إلى آخره، ونسب بعضهم إلى حمدة هذه الأبيات الشهيرة بهذه البلاد المشرقة، وهي:
وقانا لفحة الرمضاء واد سقاه مضاعف الغيث العميم
حللنا دوحه فحنا علينا حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمإ زلالاً ألذ من المدامة للنديم
يصد الشمس أنى واجهتنا فيحجبها ويأذن للنسيم
يروع حصاه حالية العذارى فتلمس جانب العقد النظيم
وممن جزم بذلك الرعيني، وقال: إن مؤرخي بلادنا نسبوها لحمدة من قبل أن يوجد المنازي الذي ينسبها له أهل المشرق، وقد رأيت أن أذكر كلامه برمته ونصه: كانت من ذوي الألباب، وفحول أهل الآداب، حتى إن بعض المنتحلين تعلق بهذه الأهداب، وادعى نظم هذين البيتين - يعني: ولما أبى الواشون، إلى آخره - لما فيهما من المعاني والألفاظ العذاب، وما غره في ذلك
(1) في الأصول: أفق السودا؛ واخترنا رواية ابن عبد الملك؛ والدآدي: ثلاث ليال من آخر الشهر؛ وفي المطرب: رأيت الصبح أشرق في الدآدي.
إلا بعد دارها، وخلو هذه البلاد المشرقية من أخبارها، وقد تلبس بعضهم أيضاً بشعارها، وادعى غير هذا من أشعارها، وهو قولها: وقانا لفحة الرمضاء واد، إلى آخره، وإن هذه الأبيات نسبها أهل البلاد للمنازي من شعرائهم، وركبوا التعصب في جادة ادعائهم، وهي أبيات لم يخلبها غير لسانها، ولا رقم برديها غير إحسانها، ولقد رأيت المؤرخين من أهل بلادنا وهي الأندلس أثبتوها لها قبل أن يخرج المنازي من العدم إلى الوجود، ويتصف بلفظة الموجود، انتهى.
وهو أبو جعفر الأندلسي الغرناطي، نزيل حلب.
وحكى ابن العديم في تاريخ حلب ما نصه: وبلغني أن المنازي عمل هذه الأبيات ليعرضها على أبي العلاء المعري، فلما وصل إليه أنشده الأبيات، فجعل المنازي كلما أنشد المصراع الأول من كل بيت سبقه أبو العلاء إلى المصراع الثاني الذي هو تمام البيت كما نظمه، ولما أنشده قوله:
نزلنا دوحة فحنا علينا
قال أبو العلاء:
حنو الوالدات على الفطيم
فقال المنازي: إنما قلت " على اليتيم " فقال أبو العلاء: الفطيم أحسن، انتهى.
وهذا يدل على أن الرواية عنده " حنو الوالدات " وقد تقدم المرضعات، والله تعالى أعلم.
وقال ابن سعيد: يقال لنساء غرناطة المشهورات بالحسب والجلالة " العربيات " لمحافظتهن على المعاني العربية، ومن أشهرهن زينب بنت زياد الوادي آشي، وأختها حمدة، وحمدة هي القائلة وقد خرجت إلى نهر منقسم الجداول بين الرياض مع نسائها فسبحن في الماء وتلاعبن:
أباح الدمع أسراري بوادي
الأبيات، انتهى.
17 -
ومنهن عائشة بنت أحمد القرطبية (1) .
قال ابن حيان في " المقتبس " لم يكن في زمانها من حرائر الأندلس من يعدلها علماً وفهماً وأدباً وشعراً وفصاحة، تمدح ملوك الأندلس وتخاطبهم بما يعرض لها من حاجة، وكانت حسنة الخط، تكتب المصاحف، وماتت عذراء لم تنكح سنة أربعمائة.
وقال في " المغرب ": إنها من عجائب زمانها، وغرائب أوانها، وأبو عبد الله الطبيب عمها، ولو قيل " إنها أشعر منه " لجاز، ودخلت على المظفر ابن المنصور بن أبي عامر وبين يديه ولد، فارتجلت:
أراك الله فيه ما تريد ولا برحت معاليه تزيد
فقد دلت مخايله على ما تؤمله وطالعه السعيد
تشوقت الجياد له وهز ال حسام هوى وأشرقت البنود
فسوف تراه بدراً في سماء من العليا كواكبه الجنود
وكيف يخيب سبل قد نمته إلى العليا ضراغمة الأسود
فأنتم آل عامر خير آل زكا الأبناء منكم والجدود
وليدك لدى رأي كشيخ وشيخكم لدى الحرب وليد
وخطبها بعض الشعراء ممن لم ترضه فكتبت إليه:
أنا لبوة لكنني لا أرتضي نفسي مناخاً طول دهري من أحد
ولو أنني أختار ذلك لم أجب كلباً وكم غلقت سمعي عن أسد
(1) ترجمة عائشة القطربية في الصلة: 654 والسيوطي: 71 واسم أبيها أحمد بن حمد بن قادم.
18 -
ومنهن مريم بنت أبي يعقوب الأنصاري (1) .
سكنت إشبيلية، وأصلها والله أعلم من شلب.
وذكرها ابن دحية في " المطرب "(2) وقال: إنها أديبة شاعرة " جزلة " مشهورة، وكانت تعلم النساء الأدب، وتحتشم لدينها وفضلها، وعمرت عمراً طويلاً، سكنت إشبيلية، واشتهرت بها بعد الأربعمائة، وذكرها الحميدي، وأنشد لها جوابها لما بعث المهدي إليها بدنانير، وكتب إليها:
ما لي بشكر الذي أوليت من قبل لم أنني حزت نطق اللسن في الحلل
يا فذة الظرف في هذا الزمان ويا وحيدة العصر في الإخلاص في العمل
أشبهت مريماً العذراء في ورع وفقت خنساء في الأشعار والمثل
ونص الجواب منها:
من ذا يجاريك في قول وفي عمل وقد بدرت إلى فضل ولم تسل
ما لي بشكر الذي نظمت في عنقي من اللآلي وما أوليت من قبل
حليتني بحلى أصبحت زاهية بها على كل أنثى من حلى عطل
لله أخلاقك الغر التي سقيت ماء الفرات فرقت رقة الغزل
أشبهت مروان من غارت بدائعه وأنجدت وغدت من أحسن المثل
من كان والده العضب المهند لم يلد من النسل غير البيض والأسل
ومن شعرها وقد كبرت:
وما يرتجى من بنت سبعين حجة وسبع كنسيج العنكبوت المهلهل
تدب دبيب الطفل تسعى إلى العصا وتمشي بها مشي الأسير المكبل
(1) ترجمة مريم في الصلة: 656 والجذوة: 389 (وبغية الملتمس رقم: 1584) والسيوطي: 90.
(2)
يبدو أن المقري وهم هنا، فأثبت الصلة ونسبه للمطرب، وليس في المطرب ترجمة لمريم هذه.
19 -
ومنهن أسماء العامرية (1) ، من أهل إشبيلية، كتبت إلى عبد المؤمن ابن علي رسالة نمت فيها إليه بنسبها العامري، وتسأله في رفع الانزالعن دارها، والاعتقال عن مالها، وفي آخرها قصيدة أولها:
عرفنا النصر والفتح المبين لسيدنا أمير المؤمنينا
إذا كان الحديث عن المعالي رأيت حديثكم فينا شجونا
ومنها:
رويتم علمه فعلمتموه وصنتم عهده فغدا مصونا
20 -
ومنهن أم الهناء بنت القاضي أبي محمد عبد الحق بن عطية، سمعت أباها، وكانت حاضرة النادرة، سريعة التمثل، من أهل العلم والفهم والعقل، ولها تأليف في القبور، ولما ولي أبوها قضاء المرية دخل داره وعيناه تذرفان وجداً لمفارقة وطنه، فأنشدته متمثلة:
يا عين صار الدمع عندك عادة تبكين في فرح وفي أحزان
وهذا البيت من جملة أبيات هي:
جاء الكتاب من الحبيب بأنه سيزورني فاستعبرت أجفاني
غلب السرور علي حتى إنه
…
من عظم فرط (2) مسرتي أبكاني وبعده البيت، وبعده:
فاستقبلي بالبشر يوم لقائه ودعي الدموع لليلة الهجران
(1) ترجمتها في الذيل والتكملة؛ وما ورد هنا منقول عنه.
(2)
م: من فرط عظم.
21 -
ومنهن مهجة القرطبية (1) صاحبة ولادة رحمهما الله تعالى، وكانت من أجل نساء زمانها، وعلقت بها ولادة، ولازمت تأديبها، وكانت من أخف الناس روحاً، ووقع بينها وبين ولادة ما اقتضى أن قالت:
ولادة قد صرت ولادة من غير بعل، فضح الكاتم
حكت لنا مريم لكنه نخلة هذي ذكر قائم
قال بعض الأكابر: لو سمع ابن الرومي هذا لأقر لها بالتقديم.
ومن شعرها:
لئن قد حمى عن ثغرها كل حائم فما يزال يحمى
فذلك تحميه القواضب والقنا وهذا حماه من لواحظها السحر
وأهدى إليها من كان يهيم بها خوخاً، فكتبت إليه:
يا متحفاً بالخوخ أحبابه أهلاً به من مثلج للصدور
حكى ثدي الغيد تفليكه لكنه أخزى رؤوس الأيور
22 -
ومنهن هند جارية أبي محمد عبد الله بن مسلمة الشاطبي، وكانت أديبة شاعرة، كتب إليها أبو عامر ابن ينق يدعوها للحضور عنده بعودها:
يا هند هل لك في زيارة فتية نبذوا المحارم غير شرب السلسل
سمعوا البلابل قد شدوا فتذكروا نغمات عودك في الثقيل الأول
فكتبت إليه في ظهر رقعته:
يا سيداً حاز العلا عن سادة شم الأنوف من الطراز الأول
(1) ترجمة مهجة في المغرب 1: 143 والسيوطي: 93 ونسبتها القرطبية تميزها عن مهجة الفرناطية وقد ترجم للثانية ابن عبد الملك.
حسبي من الإسراع نحوك أنني كنت الجواب مع الرسول المقبل
23 -
ومنهن الشلبية، قال ابن الأبار، ولم أقف على اسمها، وكتبت إلى السلطان يعقوب المنصور تتظلم من ولاة بلدها وصاحب خراجه:
قد آن أن تبكي العيون الآبية ولقد أرى أن الحجارة باكية
يا قاصد المصر الذي يرجى به إن قدر الرحمن رفع كراهية
ناد الأمير إذا وقفت ببابه يا راعياً إن الرعية فانية
أرسلتها هملاً ولا مرعى لها وتركتها نهب السباع العادية
شلب كلا شلب، وكانت جنة فأعادها الطاغون ناراً حامية
حافوا وما خافوا عقوبة ربهم والله لا تخفى عليه خافية
فيقال: إنها ألقيت يوم الجمعة على مصلى المنصور، فلما قضى الصلاة وتصفحها بحث عن القصة فوقف على حقيقتها، وأمر للمرأة بصلة.
وحكي أن بعض قضاة لوشة كانت له زوجة فاقت العلماء في معرفة الأحكام والنوازل، وكان قبل أن يتزوجها ذكر له وصفها فتزوجها، وكان في مجلس قضائه تنزل به النوازل، فيقوم إليها فتشير عليه بما يحكم به، فكتب إليه بعض أصحابه مداعباً بقوله:
بلوشة قاض له زوجة وأحكامها في الورى ماضية
فيا ليته لم يكن قاضياً ويا ليتها كانت القاضية
فأطلع زوجته عليه حين قرأه فقالت: ناولني القلم، فناولها، فكتبت بديهة:
هو شيخ سوء مزدرى له شيوب عاصية
كلا لأن لم ينته لنسفعاً بالناصية
وسمعت بعض أشياخنا يحكي القضية عن لسان الدين بن الخطيب، وأنه هو الذي كتب يداعب زوج المرأة فكتبت إليه:
إن الإمام ابن الخطيب له شيوب عاصية
إلى آخره، فالله أعلم.
ومنهن نزهون الغرناطية (1) .
قال في المغرب: من أهل الماء الخامسة ذكرها الحجاري في المسهب ووصفها بخفة الروح، والانطباع الزائد، والحلاوة، وحفظ الشعر، والمعرفة بضرب الأمثال، مع جمال فائق، وحسن رائق، وكان الوزير أبو بكر ابن سعيد أولع الناس بمحاضرتها ومذاكرتها ومراسلتها، فكتب لها مرة:
يا من له ألف خل من عاشق وصديق
أراك خليت للنا س منزلاً في الطريق
فأجابته:
حللت أبا بكر محلاً منعته سواك، وهل غير الحبيب له صدري
وإن كان لي كم من حبيب فإنما يقدم أهل الحق حب أبي بكر
قيل: لو قالت " وإن كان خلاني كثيراً...... إلخ " لكان أجود.
ولما قال فيها المخزومي:
(1) ترجمة نزهون في التحفة: 164 والمغرب 2: 121 والذيل والتكملة والسيوطي: 97 والإحاطة 1: 434 وقال ابن الأبار: إنها عاصرت حمدة أو قاربت عصرها، ونقل ابن عبد الملك عنه قوله: هو (اي القليعي) فيما أحسب أبو بكر محمد بن أحمد بن خلف بن عبد الملك بن غالب الغساني.
على وجه نزهون من الحسن مسحة وتحت الثياب العار لو كان باديا
قواصد نزهون توارك غيرها ومن قصد البحر استقل السواقيا
قالت:
إن كان ما قلت حقاً من بعض عهد كريم
فصار ذكري ذميماً يعزى إلى كل لوم
وصرت أقبح شيء في صورة المخزومي
وقد تقدمت حكايتها في الباب الأول من هذا، فلتراجع.
وقال لها بعض الثقلاء: معلى من أكل معك خمسمائة صوت فقالت:
وذي شقوة لما رآني رأى له تمنيه أن يصلى معي جاحم الضرب
فقلت له كلها هنيئاً فإنما خلقت إلى لبس المطارف والشرب
679 -
ابن قزمان
وقال ابن سعيد في طالعه لما وصف وصول ابن قزمان إلى غرناطة واجتماعه بجنته بقرية الزاوية من خارجها بنزهون القلاعية الأديبة، وما جرى بينهما، وأنها قالت له بعقب ارتجال بديع - وكان يلبس غفارة صفراء على زي الفقهاء حينئذ - أحسنت يا بقرة بني إسرائيل، إلا أنك لا تسر الناظرين، فقال لها: إن لم أسر الناظرين (1) فأنا أسر السامعين، وإنما يطلب سرور الناظرين يا فاعلة يا صانعة، وتمكن السكر من ابن قزمان، وآل الأمر إلى أن تدافعوا معه حتى رموه في البركة، فما خرج إلا وهو قد شرب كثيراً من الماء، وثيابه تهطل، فقال: اسمع يا وزير، ثم أنشد:
(1) إن
…
الناظرين: زيادة من م.
إيه أبا بكر ولا حول لي بدفع أعيان وأنذال
وذات فرج واسع دافق بالماء يحكي حال أذيالي
غرقتني في الماء يا سيدي كفره بالتغريق في المال
فأمر بتجريد ثيابه، وخلع عليه ما يليق به، ومر لهم يوم بعد عهدهم بمثله. ولم ينتقل ابن قزمان من غرناطة إلا من بعد ما أجزل له الإحسان، ومدحه بما هو ثابت له في ديوان أجزاله. وحكي عنه فيما أظن - أعني ابن قزمان - ويحتمل أنه غيره أنه تبع إحدى الماجنات، وكان أحول، فأطعمته في نفسها، وأشارت إليه أن يتبعها، فاتبعها حتى أتت سوق الصاغة بإشبيلية، فوقفت على صائغ من صياغها، فقالت له: يا معلم مثل هذا يكون فص الخاتم الذي قلت لك عنه، تشير إلى عين ذلك الأحول الذي تبعها، وكانت قد كلفت ذلك الصائغ أن يعمل لها خاتماً يكون فصه عين إبليس، فقال لها الصائغ: جيئيني بالمثال، فإني لم أر هذا ولا سمعته قط، فجاءته به عن مثال، وحكاها بعضهم على وجه آخر وأنها ذهبت إلى الصائغ وقالت له: صور لي صورة الشيطان، فقال لها: ائتيني بمثال، فلما تبعها ابن قزمان جاءت به، وقالت له: مثل هذا، فسأل ابن قزمان فأعلمه فخجل ولعنها، وكتب أبو بكر ابن قزمان على باب جنته:
وقائل يا حسنها جنة لا يدخل الحزن على بابها
فقلت والحق له صولة أحسن منها مجد أربابها
وله:
كثير المال تمسكه فيفنى وقد يبقى مع الجود القليل
ومن غرست يداه ثمار جود ففي ظل الثناء له مقيل
رجع إلى أخبار نزهون بنت القليعي
حكي أنها مكانت تقرأ على أبي بكر المخزومي الأعمى، فدخل عليهما أبو
بكر الكتندي، فقال يخاطب المخزومي:
لو كنت تبصر من تجالسه
فأفحم، وأطال الفكر فما وجد شيئاً، فقالت نزهون:
لغدوت أخرس من خلاله
البدر يطاع من أزرته والغصن يمرح في غلائله
وكانت ماجنة، ومن شعرها قولها:
لله در الليالي ما أحيسنها وما أحيسن منها ليلة الأحد
لو كنت حاضرنا فيها وقد غفلت عين الرقيب فلم تنظر إلى أحد
أبصرت شمس الضحى في ساعدي قمر بل ريم خازمة في ساعدي أسد
مقطعات لابن الزقاق
وهذا المعنى متفق مع قول ابن الزقاق (1) :
ومرتجة الأرداف أما قوامها فلدن وأما ردفها فرادح
ألمت فبات الليل من قصر بها يطير، ولا غير السرور جناح
فبت وقد زارت بأنعم ليلة يعانقني حتى الصباح صباح
على عاتقي من ساعديها حمائل وفي خصرها من ساعدي وشاح
وابن الزقاق هذا له في النظم والغوص على المعاني الباع المديد، ومن نظمه قوله:
(1) انظر مقطعات ابن الزقاق هذه في ديوانه: 129، 295، 177، 291، 292، 202، 208، 206، 298، 294، 113 (وبعضها عن النفح نفسه) .
رئيس الشرق محمود السجايا يقصر عن مدائحه البليغ
نسميه بيحيى وهو ميت كما أن السليم هو اللديغ
يعاف الورد إن ظمئت حشاه وفي مال اليتيم له ولوغ
زقزله:
كتبت ولو أنني أستطيع لإجلال قدرك بين البشر
قددت اليراعة من أنملي وكان المداد سواد البصر
وقوله:
غرير يباري الصبح إشراق خده وفي مفرق الظلماء منه نصيب
ترف بفيه ضاحكاً أقحوانة ويهتز في برديه منه قضيب
وقوله:
ومهفهف نبت الشقيق بخده واهتز أملود النقا في برده
ماء الشبيبة والغرام أرق من صقل الحسان المنتقى وفرنده
يحيي الورى بتحية من وصله من بعد ما وردوا الحمام بصده
إن كنت أهديت الفؤاد له فقل أي الجوى بجوانح لم يهده
وقوله:
أرق نسيم الصبا عرفه وراق قضيب النقا عطفه
ومر بنا يتهادى وقد نظر سيف أجفانه طرفه
ومد لمبسمه راحة فخلت الأقاح دنا قطفه
أشارت بتقبيلها للسلام فقال فمي ليتني كفه
وقوله:
بأبي من لم يدع لي لحظه في الهوى من رمق حين رمق
جمعت نكهته في ثغره عبقاً في نسق يسبي الحدق
وبدت خجلته في خده شفقاً في فلق تحت غسق
وقال:
وعشية لبست ملاء شقيق تزهى بلون للخدود أنيق
أبقت بها الشمس المنيرة مثل ما أبقى الحياء بوجني معشوق
لو أستطيع شربتها كلفاً بها وعدلت فيها عن كؤوس رحيق
وقال في مسامرة كتاب زعماء:
لله ليلتنا التي استخذى بها فلق الصباح لسدفة الإظلام
طرأت علي مع النجوم بأنجم من فتية بيض الوجوه كرام
إن حوربوا فزعوا إلى بيض الظبى أو خوطبوا فزعوا إلى الأقلام
فترى البلاغة إن نظرت إليهم والبأس بين يراعة وحسام
وقال:
ومجدين في السرى قد تعاطوا غفوات الهوى بغير كؤوس
جنحوا وانحنوا على العيس حتى خلتهم يعتبون أيدي العيس
نبذوا الغمض وهو حلو إلى أن وجدوه سلافة في الرؤوس
وقال:
وحبب يوم السبت عندي أنني ينادمني فيه الذي أنا أحببت
ومن أعجب الأشياء أني مسلم حنيف ولكن خير أيامي السبت
ولنقتصر من نساء الأندلس على هذا المقدار، ونعد غلى ما كنا فيه من جلب كلام بلغاء الأندلس ذوي الأقدار، فنقول:
681 -
قال الخفاجي رحمه الله تعالى (1) :
وهاتفة في البان تملي غرامها علينا وتتلو من صبابتها صحفا
عجبت لها تشكو الفراق جهالة وقد جاوبت من كل ناحية إلفا
ويشجي قلوب العاشقين أنينها وما فهموا مما تغنت به حرفا
ولو صدقت فيما تقول فيه من الأسى لما لبست طوقاً ولا خضبت كفا
682 -
وقال الأستاذ أبو محمد ابن صارة:
متى تلتقي عيناي بدر مكارم تود الثريا أنها من مواطئه
ولما أهل المدلجون بذكره وفاح تراب البيد مسكاً لواطئه
عرفنا بحسن الذكر حسن صنيعه كما عرف الوادي بخضرة شاطئه
وقال يتغزل:
يا من تعرض دونه شحط النوى فاستشرفت لحديثه أسماعي
إني لمن يحظى بقربك حاسد ونواظري يحسدن فيك رقاعي
لم تطوك الأيام عني إنما نقلتك من عيني إلى أضلاعي
683 -
مقطعات لابن العطار
وقال الأديب أبو القاسم ابن العطار (2) :
عبرنا سماء الجو والنهر مشرق وليس لنا إلا الحباب النجوم
وقد ألبسته الأيك برد ظلالها وللشمس في تلك البرود رقوم
(1) ديوان ابن خفاجة: 370 (عن النفح) .
(2)
القلائد: 285.
وله أيضاً (1) :
لله بهجة نزهة ضربت به
…
فوق الغدير رواقها الأنشام (2) فمع الأصيل النهر درع سابغ ومع الضحى يلتاح فيه حسام
وقال أيضاً (3) :
هبت الريح بالعشي فحاكت زرداً للغدير ناهيك جنه
وانجلى البدر بعد هدء (4) فحاكت
…
كفه للقتال منه أسنه وقال أيضاً (5) :
لله حسن حديقة بسطت لنا منها النفوس سوالف ومعاطف
تختال في حلل الربيع وحليه ومن الربيع قلائد ومطارف
وله (6) :
وسنان ما إن يزال عارضه يعطف قلبي بعطفة اللام
أسلمني للهوى فوا حزني أن بزني عفتي وإسلامي
لحاظه أسهم، وحاجبه قوس، وإنسان عينه رامي
684 -
وارتجل أبو جعفر ابن خاتمة رحمه الله تعالى لما بات في قرية بيش:
(1) القلائد، والمغرب 1:254.
(2)
الأنشام - بالشين - نوع من الشجر.
(3)
القلائد: 285.
(4)
م: هذا.
(5)
القلائد: 286.
(6)
القلائد: 288 والثالث في المغرب.
لله منزلنا بقرية بيش كاد الهوى فيها ادكاراً بي يشي
رحنا إليها والبطاح كأنها صحف مذهبة بإبريز العشي
فأجازه الوزير ابن جزي بقوله:
في فتية هزت حميا الأنس من أعطافهم فالكل منها منتشي
يأتي علاهم بالصحيح، ولفظهم بالمنتقى، وجمالهم بالمدهش
685 -
وقال السلطان أبو الحجاج النصري مرتجلاً أيام مقامه بظاهر جبل الفتح سنة 815:
ولم يتركوا أوطانهم بمرادهم ولكن لأحوال أشابت مفارقي
أقام بها ليل التهاني تقلباً وقد سكنت جهلاً نفوس الخلائق
فعوضتها ليل الصبابة بالسرى وأنس التلاقي بالحبيب المفارق
ولم يثنني طرف من النور ناعس ولا معطف للبان وسط الحدائق
ولا منهض الأشبال في عقر غيرهم ولا ملعب الغزلان فوق النمارق
وعاطيتها صبح الدياجي مدامة تميل بها الركبان فوق الأيانق
إذا ما قطعنا بالمطي تنوفة دلجنا لأخرى بالجياد السوابق
بحيث التقى موسى مع الخضر آية عسى ترجع العقبى كموسى وطارق
وله:
من عاذري من غزال زانه حور قد هام لما بدا في حسنه البشر
ألحاظه كسيوف الهند ماضية لها بقلبي وإن سالمتها أثر
686 -
وقال القاضي أبو القاسم ابن حاتم:
شكوت بما دهاك وكان سراً لمن ليست مودته صحيحه
فتلك مصيبة عادت ثلاثاً لصحبتها الشماتة والفضيحه
687 -
وقال الفقيه محمد بن سعيد الأندلسي مخاطباً للفقيه الفخار:
خفف علينا قليلاً أيها المعلم فربما كان فينا من به ألم
لا يستطيع نهوضاًمن ألمه وإن تمادى قليلاً خانت القدم
كفى وصية مولانا وسيدنا محمد فاسمعوا ما قال والتزموا
688 -
وقال ابن جبير اليحصبي فيمن أهدى إليه تفاحاً:
خليل لم يزل قلبي قديماً يميل بفرط صاغية إليه
أتاني مقبلاً والبشر يبدي وسائل برة كرمت لديه
وجاء بعرف تفاح ذكي فقلت أتى الخليل بسيبويه
فأهدى من جناه بكل شكل يلوح جمال مهديها عليه
689 -
وقال قاضي مالقة سيدي إبراهيم البدوي:
قطعت يأسي فصنت نفسي عن الوقوف لذي وجاهه
قصدت ربي فكان حسبي ألبسني فضله وجاهه
فال يرى ينثني عناني مدى حياتي إلا تجاهه
690 -
وقال ابن خليل السكوني في فهرسته: شاهدت بجامع العدبس بإشبيلية ربعة مصحف في أسفار ينحى به لنحو خطوط الكوفة إلا أنه أحسن خطاً وأبينه وأبرعه وأتقنه، فقال لي الشيخ الأستاذ أبو الحسن ابن الطفيل بن عظيمة: هذا خط ابن مقلة، وأنشد:
خط ابن مقلة من أرعاه مقلته ودت جوارحه لو أنها مقل
ثم قسنا حروفه بالضابط فوجدنا أنواعها تتماثل في القدر والوضع، فالألفات على قدر واحد، واللامات كذلك، والكافات والواوات وغيرها بهذه النسبة، انتهى.
قلت: رأيت بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام مصحفاً بخط ياقوت المستعصمي بهذه المثابة، وهو من الأوقاف الرستمية، ورأيت بالحجرة الشريفة على صاحبها الصلاة والسلام مصحفاً مكتوباً في آخره ما صورته: كتبته بقلم واحد فقط ما قط قط إلا مرة فقط، انتهى.
رجع:
691 -
وقال ابن عبدون رحمه الله تعالى:
أذهبن من فرق الفراق نفوسا ونثرن من در الدموع تفيسا
فتبعتها نظر الشجي فحدقت رقباؤها نحوي عيوناً شوسا
وحللن عقد الصبر إذ ودعنني فحللن أفلاك الخدور شموسا
حلته إذ حلته حتى خلته عرشاً لها وحسبتها بلقيسا
فازور جانبها وكان جوابها: لو كنت تهوانا صحبت العيسا
وهي طويلة.
قلت: ما أظن لسان الدين نسج قصيدته من هذا البحر والروي إلا على منوال هذه، وإن كان الحافظ التنسي قال: إنه نسجها على قصيدة أبي تمام حسبما ذكرنا ذلك في محله، فليراجع.
692 -
وقال أبو عبد الله ابن المناصف قاضي بلنسية ومرسية رحمه الله تعالى:
ألزمت نفسي خمولا عن رتبة الأعلام
لا يخسف البدر إلا ظهوره في تمام
وتذكرت به قول غيره:
ليس الخمول بعار على امرئ ذي جلال
فليلة القدر تخفى وتلك خير الليالي
693 -
وقال الوزير ابن عمار، وقد كتب له أبو المطرف ابن الدباغ شافعاً لغلام طر له عذار:
أتاني كتابك مستشفعاً بوجه أبي الحسن من رده
ومن قبل فضي ختم الكتاب قرأت الشفاعة في خده
694 -
وقال القاضي الأديب، والفيلسوف الأريب، أبو الوليد الوقشي قاضي طليطلة (1) :
برح بي أن علوم الورى قسمان ما إن فيهما من مزيد
حقيقة يعجز تحصيلها وباطل تحصيله لا يفيد
695 -
وقال أبو عبد الله ابن الصفار وهو من بيت القضاء والعلم بقرطبة:
لا تحسب الناس سواء متى ما اشتبهوا فالناس أطوار
زانظر إلى الأحجار، في بعضها ماء، وبعض ضمنه نار
وهذا مثل قول غيره (2) :
الناس كالأرض ومنها هم من خشن الطبع ومن لين
مرو تشكى الرجل منه الوجى وإثمد يجعل في الأعين
ومن نظم ابن الصفار المذكور:
إذا نويت انقطاعاً فاعمل حساب الرجوع
696 -
وقال أبو مروان الجزيري:
ومن العجائب والعجائب جمة أن يلهج الأعمى بعيب الأعور
(1) انظر ما تقدم ص: 137.
(2)
الحصري (التكملة: 434) .
697 -
وقال حسان بن المصيصي كاتب بن عباد ملك قلطبة:
لا تأمنن من العدو لبعده إن امرأ القيس اشتكى الطماحا
698 -
وقال الشيخ الأكبر سيدي محيي الدين بن عربي في كتابه الإسفار عن نتائج الأسفار: أنشدني الكاتب أبو عمرو ابن مهيب بإشبيلية أبياتاً عملها في حمود بن إبراهيم بن أبي بكر الهرغي، وكان أجمل أهل زمانه، رآه عندنا زائراً وقد خط عذاره، فقلت: يا أبا عمرو، ما تنظر إلى حسن هذا الوجه فعمل الأبيات في ذلك، وهي:
وقالوا العذار جناح الهوى إذا ما استوى طار عن وكره
وليس كذاك فخبرهم قياماً بعذري أو عذره
إذا كمل الحسن في وجنة فخاتمه ويك من شعره
قال بعضهم: رأيت آخر الكتاب المذكور بعد فراغه شعراً نسبه إليه، وهو:
يا جاضراً بجماله في خاطري ومحجباً بجلاله عن ناظري
إن غبت عن عيني فإنك نورها وضمير سرك سائر في سائري
ومن العجائب أنني أبداً إلى رؤياك ذو شوق مديد وافر
وع أنني ما كنت قط بمجلس إلا وكنت كنادمي ومسامري
699 -
وأنشد في الإحاطة لعبد الله الجذامي:
أيا سيدي أشكو لمجدك أنني صددت مراراً عن مثولي بساحتك
شكاة اشتياق أنت حقاً طبيبها وما راحتي إلا بتقبيل راحتك
قال: وهو عبد الله بن عبد الله بن أحمد بن محمد الجذامي، فاضل ملازم
للقراءة، عاكف على الخير، مشارك في العربية، خاطب للرياسة الأدبية، اختص بالأمير أبي علي المنصور ابن السلطان أيام مقامه بالأندلس، ومما خاطبه به معتذراً:
أيا سيدي...... البيتين
انتهى.
700 -
وقال في ترجمة عبد الله بن أحمد المالقي قاضي غرناطة، وكان فقيهاً بارع الأدب: إنه كتب إلى أبي نصر صاحب القلائد والمطمح أثناء رسالة بقوله:
تفتحت الكتابة عن نسيم نسيم المسك في خلق كريم
أبا نصر رسمت لها رسوماً تخال رسومها وضح النجوم
وقد كانت عفت فأنرت منها سراجاً لاح في الليل البهيم
فتحت من الصناعة كل باب فصارت في طريق مستقيم
فكتاب الزمان ولست منهم إذا راموا مرامك في هموم
فما قس بأبدع منك لفظاً ولا سحبان مثلك في العلوم
701 -
وقال الذهبي، وقد جرى ذكر محمد بن الحسن المذحجي الأندلسي ابن الكتاني: إنه أديب شاعر متفنن ذو تصانيف، حمل عنه ابن حزم، ومن شعره:
ألا قد هجرنا الهجر واتصل الوصل وبانت ليالي البين واجتمع الشمل
فسعدي نديمي، والمدامة ريقها، ووجنتها روضي، وتقبيلها النقل
702 -
وقال العلامة محمد بن عبد الرحمن الغرناطي:
الشعب ثم قبيلة وعمارة بطن وفخذ والفصيلة تابعه
فالشعب مجتمع القبيلة كلها ثم القبيلة للعمارة جامعه
والبطن تجمعه العمائر فاعلمن والفخذ تجمعه البطون الواسعه
والفخذ يجمع للفصائل هاكها جاءت على نسق لها متتابعه
فخزيمة شعب، وإن كنانة لقبيلة منها الفصائل شائعه
وقريشها تسمى العمارة يا فتى وقصي بطن للأعادي قامعه
ذا هاشم فخذ وذا عباسها أثر الفصيلة لا تناط بسابعه
وكتبت هذه الأبيات وإن لم تشتمل على البلاغة لما فيها من الفائدة، ولأن بعض الناس سألني فيها لغرابتها، والأعمال بالنيات.
703 -
ولما دخل أبو محمد الكلاعي الجياني على القاضي ابن رشد قام له فأنشده أبو محمد بديهة:
قام لي السيد الهمام قاضي قضاةالورى الإمام
فقلت قم بي، ولا تقم لي فقلما يؤكل القيام
704 -
وقال أبو عبد الرحمن ابن جحاف البلنسي:
لئن كان الزمان أراد حطي وحاربني بأنياب وظفر
كفاني أن تصافيني المعالي وإن عاديتني يا أم دفر
فما اعتز اللئيم وإن تسامى ولا هان الكريم بغير وفر
705 -
وقال أبو محمد ابن برطله (1) :
ألا إنما سيف الفتى صنو نفسه فنافس بأوفى ذمة وإخاء
يزينك مرأى أو يعينك حاجة فيحسن حالي شدة ورخاء
(1) زاد في م: وقد سبق ذكره.
وقال أيضاً (1) :
أنفسي صبراً لا يروعك حادث بإرتاجه واستشعري عاجل الفتح
فرب اشتداد في الخطوب لفرجة
…
كما انشق ليل طال عن فلق الصبح (2) وقال أيضاً:
متى يدنو لوعدكم انتجاز ويبعد من حقيقته المجاز
أيجمل أن يؤمكم رجائي فيوقف لا يرد ولا يجاز
وجدكم كفيل بالأماني ومطلوبي قريب مستجاز
إذا ما أمكنت فرص المساعي فعجز أن يطاولها انتهاز
وها أنا قد هززتكم حساماً ويحسن للمهندة اهتزاز
فما الإنصاف أن ينضى كهام ويودع غمده العضب الجراز
كما نعم العراق بعذب بحر ويشقى بالظما البرح الحجاز
فأعيى الناس في المقدار (3) حكم
…
تجاذبه خمول واعتزاز 706 - وأنشد الشيخ أبو بكر ابن حبيش لابن وضاح البيت المشهور، وهو:
أسرى وأسير في الآفاق من قمر ومن نسيم ومن طيف ومن مثل
(1) م: وقوله وقد أجاد وأبلغ في الموعظة.
(2)
زاد في م بعد هذه المقطوعة مقطوعتين لابن برطله وهما قوله:
وأمر كأن المصطلين بحره
…
وإن لم تكن نار وقوف على الجمر
صبرت له حتى تناءى وإنما
…
تفرج أيام الكريهة بالصبر وقوله:
نفسي تنازعني فقلت لها اصبري
…
موت يريحك أو صعود المنبر
ما قد قضي سيكون فاصطبري له
…
ولك الأمان من الذي لم يقدر (3) م: المقدور.
وابن حبيش المذكور هو أبو بكر محمد بن الحسن بن يوسف (1) بن حبيش - بفتح الحاء - وقد عرف به تلميذه ابن الفهري في رحلته، فقال بعد كلام: أما النظم فبيده عنانه، وأما النثر فإن مال إليه توكف له بنانه (2) ، مع تواضع زائد، على صلة مخبره عائد، لقيته بمنزله ليوم أو يومين من مقدمي على تونس، فتلقى بكل فن يونس، وصادفته بحالة مرض، من وثء (3) في رجله عرض، وعنده جملة من العواد، من الصدور الأمجاد، فأدنى وقرب، وسهل ورحب، وتفاوض أولئك الصدور، في فنون من الأدب كأنها الشذور، إلى أن خاضوا في الأحاجي، واستضاءوا بأنوار أفكارهم في تلك الدياجي، فخضت معهم في الحديث، وأنشدتهم بيتين كنت صنعتهما وأنا حديث، لقصة بلغتني عن أبي الحسن سهل بن مالك، وهي أنه كان يسائل أصحابه وهو في المكتب ويقول لهم: أخرجوا اسمي، فكل ينطق على تقديره، فيقول لهم: إنكم لم تصيبوه مع أنه سهل، فنظمت هذا المعنى فقلت:
وما اسم فكه سهل يسير يكون مصغراً نجماً يسير
مصحفه له في العين حسن وقلبي عند صاحبه أسير
وكان الشيخ أبو بكر على فراشه، فزحف مع ما به من ألم، إلى محبرة وطرس وقلم، وكتب البيتين بخطه، وقال للحاضرين: ارووا هذين البيتين عن قائلهما.
ومن شيوخ ابن حبيش المذكور أبو عبد الله ابن عسكر المالقي، كتب له ولأخيه أبي الحسين بخطه إجازة جميع ما يجوز له، وعنه، وضمن آخرها هذه الأبيات:
(1) م: يونس؛ قلت وصوابه محمد بن الحسن بن يوسف بن الحسن بن يونس كما أورده ابن رشيد في ملء العيبة (1736 من نسخة الاسكوريال) .
(2)
ابن رشيد: عنانه.
(3)
ابن رشيد: من ألم، وفي هامش الرحلة: وثء.
أجبتكما لكن مقراً بأنني أقصر فيما رمتما عن مداكما
فإنكما بدران في العلم أشرقا فسلم إذعاناً وقسراً عداكما
فسيروا على حكم الوداد فإنني أجود بنفسي أن تكون فداكما
قال ابن رشيد: وقد جمع صاحبنا أبو العباس الأشعري لابن حبيش فهرسة جامعة، ولما وقف عليها ابن حبيش كتب في أولها ما نصه: الحمد لله حق حمده، أحسن هذا الفاضل فيما صنع أحسن الله إليه، وبالغ فيما جمع بلغ الله تعالى به أشرف المراتب لديه، غير أني أقول واحدة، ما سريرتي لها بجاحدة (1) ، وأصرح بمقال، لا يسعني كتمه بحال: والله ما أنا للإجازة بأهل، ولا مرامها لدي بسهل، إذ من شرط المجيز أن يعد فيمن كمل، ويعد العلم والعمل، اللهم غفراً، كيف ينيل من عدم وفراً، أو يجيز من أصبح صدره من المعارف قفراً، وصحيفته من الصالحات صفراً، وكيف يرتسم في ديوان الجلة، من يتسم بالأفعال المخلة، ومتى يقترن الشبه بالإبريز، أو يوصف السكيت بالتبريز، ومن ضعف النهى، مجانسة الأقمار بالسها، ومن أعظم التوبيخ، تشييخ من لا يصلح للتشييخ، وإن هذا المجموع ليروق ويعجب، ولكنه جمع لمن لا يستوجب، وإن القراءة قد تحصلت، ولكن القواعد ما تأصلت، وإن القارئ علم، ولكن المقروء عليه عدم، ولقد شكرت لهذا السري ما جلب، وكتبت مسعفاً له بما طلب، وقرنت إلى دره هذا المخشلب، قلت وحليي عطل، ونطقي خطل، مكره أخاك (2) لا بطل، والله سبحانه وتعالى ينفع بما أخلص له عند الاعتقاد، ويسمح للبهرج عند النتقاد، كتبه العبد المذنب [المستغفر](3) محمد بن الحسن بن يوسف بن حبيش اللخمي حامداً الله تعالى
(1) ابن رشيد: جاحدة.
(2)
ابن رشيد: أخوك.
(3)
زيادة من رحلة ابن رشيد.
ومصلياً على نبيه الكريم المصطفى وعلى آله أعلام الطهارة والهدى ومسلماً تسليماً.
وكتب أيضاً رحمه الله تعالى في جواب استجازة: المسؤول مبذول، إن شاء الله تعالى على التنجيز، ولكن شروط الإجازة موجودة في المجاز معدومة في المجيز، والله تعالى يصفح بكرمه ومنه، ويشكر كل فاضل على تحصيل ظنه، وهو المسؤول سبحانه أن يحفظ بعنايته مهجاتهم، ويرفع بالعلم والعمل درجاتهم، ويمتعهم بالكمال الرائق المعجب، ويقر بالنجيبين عين المنجب، وكتبه ابن حبيش، انتهى.
707 -
وقال الوزير الكاتب أبو بكر ابن القبطرنة يستجدي بازياً من المنصور بن الأفطس صاحب بطليوس:
يا أيها الملك الذي آباؤه شم الأنوف من الطراز الأول
حليت بالنعم الجسام جسيمة عنقي فحل يدي كذاك بأجدل
وامنن به ضافي الجناح كأنما حذيت قوائمه بريح شمأل
متلفتاً والطل ينثر برده منه على مثل اليماني المحمل
أغدو به عجباً أصرف في يدي ريحاً وآخذ مطلقاً بمكبل
708 -
وأدخلت على المعتمد يوماً باكورة نرجس، فكتب إلى ابن عمار يستدعيه:
قد زارنا النرجس الذكي وآن من يومنا العشي
ونحن في مجلس أنيق وقد ظمئنا وفي ري
ولي خليل غدا سميي يا ليته ساعد السمي
فأجابه ابن عمار:
لبيك لبيك من مناد له الندى الرحب والندي
ها أنا بالباب عبد قن قبلته وجهك السني
شرفه والداه باسم شرفته أنت والنبي
واصطبح المعتمد يوم غيم مع أم الربيع، واحتجب عن الندماء، فكتب إليه ابن عمار:
تجهم وجه الأفق واعتلت النفس لأن لم تلح للعين أنت ولا الشمس
فإن كان هذا منكما من توافق وضمكما أنس فيهنيكما الأنس
فأجابه المعتمد بقوله:
خليلي قولا هل علي ملامة إذا لم أغب إلا لتحضرني الشمس
وأهدي بأكواس المدام كواكباً إذا أبصرتها العين هشت لها النفس
سلام سلام أنتما الأنس كله وإن غبتما أم الربيع هي الأنس
واستدعى جماعة من إخوان ابن عمار منه شراباً في موضع هو فيه مفقود، فبعث لهم به وبرمانتين وتفاحتين، وكتب لهم مع ذلك:
خذاهما مثلما استدعيتماهما عروساً لا تزف إلى اللئام
ودونكما بها ثديي فتاة أضفت إليهما خدي غلام
709 -
وشرب ذو الوزارتين القائد أبو عيسى ابن لبون مع الوزراء والكتاب ببطحاء لورقة عند أخيه، وابن اليسع غائب، فكتب إليه:
لو كنت تشهد يا هذا عشيتنا والمزن يسكن أحياناً وينحدر
والأرض مصفرة بالمزن طافية أبصرت دراً عليه التبر ينتثر
710 -
وقال الحجاري من القصيدة المشهورة:
عليك أحالني الذكر الجميل
في وصف زيه البدوي المستثقل وما في طيه:
ومثلني بدن فيه خمر يخف به ومنظره ثقيل
ولما انصرف (1) عن ابن سعيد إلى ابن هود عذله ابن سعيد على تحوله عنه، فقال: النفس تواقة، وما لي بغير التغرب طاقة، ثم قال:
يقولون لي ماذا الملال تقيم في محل فعند الأنس تذهب راحلا
فقلت لهم مثل الحمام إذا شدا على غصن أمسى بآخر نازلا
711 -
وقد رأيت أن أكفر ما تقدم ذكره من الهزل الذي أتينا به على سبيل الإحماض بما لا بد منه من الحكم والمواعظ وما يناسبها، فنقول:
1 -
قال أبو العباس ابن خليل:
فهموا إشارات الحبيب فهاموا وأقام أمرهم الرشاد فقاموا
وتوسموا بمدامع منهلة تحت الدياجي والأنام نيام
وتلوا من الذكر الحكيم جوامعاً جمعت لها الألباب والأفهام
يا صاح لو أبصرت ليلهم وقد صفت القلوب وصفت الأقدام
لرأيت نور هداية قد حفهم فسرى السرور وأشرق الإظلام
فهم العبيد الخادمون مليكهم نعم العبيد وأفلح الخدام
سلموا من الآفات لما استسلموا فعليهم حتى الممات سلام
2 -
وقال العالم الكبير الشهير صاحب التآليف أبو محمد عبد الحق الإشبيلي رحمه الله تعالى:
قالوا صف الموت يا هذا وشدته فقلت وامتد مني عندها الصوت
(1) م: انصرف المذكور.
يكفيكم (1) منه أن الناس إن وصفوا
…
أمراً يروعهم قالوا هو الموت 3 - وقال الخطيب الأستاذ أبو عبد الله محمد بن صالح الكناني الشاطبي نزيل بجاية:
جعلت كتاب ربي لي بضاعه فكيف أخاف فقراً أو إضاعه
وأعددت القناعة رأس مال وهل شيء أعز من القناعه
4 -
وقال القاضي الكبير الأستاذ الشهير أبو العباس أحمد بن الغماز البلنسي نزيل إفريقية:
هو الموت فاحذر أن يجيئك بغتة وأنت على سوء من الفعل عاكف
وإياك أن تمضي من الدهر ساعة ولا لحظة إلا وقلبك واجف
وبادر بأعمال تسرك أن ترى إذا نشرت يوم الحساب الصحائف
ولا تيأسن من رحمة الله إنه لرب العباد بالعباد لطائف
وقال رحمه الله تعالى:
أما آن للنفس أن تخشعا أما آن للقلب أن يقلعا
أليس الثمانون قد أقبلت فلم تبق في لذة مطمعا
تقضى الزمان ولا مطمع لما قد مضى منه أن يرجعا
تقضى الزمان فواحسرتي لما فات منه وما ضيعا
ويا ويلتاه لذي شيبة يطيع هوى النفس فيما دعا
وبعداً وسحقاً له إذ غدا
…
يسمع وعظاً ولن يسمعا (2)
(1) م ق: يكفيهم.
(2)
زاد في م بعد هذا المقطوعتين التاليتين لابن الغماز، وله أيضاً وهو غريب في معناه:
أيا صاحب الهم إن الهم منفرج
…
كم من أمور شداد فرج الله
اليأس يقطع أحياناً بصاحبه
…
لا تيأسن فإن الفاتح الله
الله حسبك فيما عذت منه به
…
وأين يأمنهم من حسبه الله
إذا قضى الله فاستسلم لقدرته
…
ما لأمرئ حيلة فيما قضى الله
سلم إلى الله فيما شاء وأرض به
…
فالخير أجمع فيما يصنع الله وقال عفا الله عنه وأجاد في قوله ونصحه:
صن النفس وأحملها على ما يزينها
…
تعش سالماً والقول منك جميل
وإن قل رزق اليوم فأصبر إلى غد
…
عسى نائبات الدهر عنك تزول
يعز غني النفس إن قل ماله
…
ويفنى فقير النفس وهو ذليل
وما أكثر الأحباب حين تعدهم
…
ولكنهم في النائبات قليل
5 -
وقال الأستاذ الزاهد أبو إسحاق الإلبيري الغرناطي رحمه الله تعالى (1) :
كل امرئ فيما يدين يدان سبحان من لم يخل منه مكان
يا عامر الدنيا ليسكنها وما هي بالتي يبقى بها سكان
تفنى وتبقى الأرض بعدك مثلما يبقى المناخ وترحل الركبان
أأسر في الدنيا بكل زيادة
…
وزيادتي فيها هي النقصان (2) وقال أيضاً رحمه الله تعالى (3) :
وذي غنى أوهمته همته أن الغنى عنه غير منفصل
(1) ديوان الإلبيري (القطعة: 35 في الملحق - نقلاً عن النفح) .
(2)
زاد هنا في م للإبيري قوله: وقال عفا الله عنه مبتهلاً إلى مولاه:
أتيتك راجياً يا ذا الجلال
…
ففرج ما ترى من سوء حالي
عصيتك سيدي ويلي بجهلي
…
وعيب الذنب لم يخطر ببالي
إلى من يشتكي المملوك إلا
…
إلى مولاه يا مولي الموالي
لعمري ليت أمي لم تلدني
…
ولم أغضبك في ظلم الليالي
فها أنا عبدك العاصي فقير
…
إلى رحماك فاقبل لي سؤالي
فإن عاقبت يا ربي تعاقب
…
محقاً بالعذاب وبالنكال
وإن تعف فعفوك قد أراني
…
لأفعالي وأوزاري الثقال (3) زاد في م: في تيه الغنى بغناه وهو كلا شيء في عقباه؛ والقطعة رقم 34 في ديوانه نقلاً عن النفح.
يجر أذيال عجبه بطراً واختال للكبرياء في الحلل
بزته أيدي الخطوب بزته فاعتاض بعد الجديد بالسمل
فلا تثق بالغنى فآفته ال فقر وصرف الزمان ذو دول
كفى بنيل الكفاف عنه غنى فكن به فيه غير محتفل
وقال رحمه الله تعالى (1) :
لا شيء أخسر صفقة من عالم لعبت به الدنيا مع الجهال
فغدا يفرق دينه أيدي سبا ويديله حرصاً لجمع المال
لا خير في كسب الحرام وقلما يرجى الخلاص لكاسب الحلال
فخذ الكفاف ولا تكن ذا فضلة فالفضل تسأل عنه أي سؤال
وقال رحمه الله تعالى (2) :
الشيب نبه ذا النهى فتنبها ونهى الجهول فما استفاق ولا انتهى
فإلى متى أهو وأخدع بالمنى والشيخ أقبح ما يكون إذا لها
ما حسنه إلا التقى لا أن يرى صباً بألحاظ الجآذر والمها
أنى يقاتل وهو مفلول الشبا كابي الجواد إذا استقل تأوها
محق الزمان هلاله فكأنما أبقى له منه على قدر السها
فغدا حسيراً يشتهي أن يشتهى ولكم جرى طلق الجموح كما اشتهى
إن أن أواه وأجهش بالبكا لذنوبه ضحك الجهول وقهقها
ليست تنبهه العظات ومثله في سنه قد آن أن يتنهنها
فقد اللدات وزال غياً بعدهم هلا تيقظ بعدهم وتنبها
يا ويحه ما باله لا ينتهي عن غيه والعمر منه قد انتهى
(1) في م: عفا الله عنه في علماء السوء؛ والقطعة رقم: 5 في ديوانه.
(2)
زاد في م: في المشيب إن حل أوانه؛ والقطعة رقم: 8 في ديوانه.
6 -
وقال الأستاذ ولي الله سيدي أبو العباس ابن العريف:
من لم يشافه عالماً بأصوله فيقينه في المشكلات ظنون
من أنكر الأشياء دون تيقن وتثبت فمعاند مفتون
الكتب تذكرة لمن هو عالم وصوابها بمحالها معجون
والفكر غواص عليها مخرج والق فيها لؤلؤ مكنون
7 -
وقال أبو القاسم ابن الأبرش:
أيأسوني لما تعاظم ذنبي أتراهم هم الغفور الرحيم
فذروني وما تعاظم منه
…
إنما يغفر العظيم العظيم (1) 8 - وقال أبو العباس ابن صقر الغرناطي أو المري، وأصله من سرقسطة (2) :
أرض العدو بظاهر متصنع إن كنت مضطراً إلى استرضائه
كم من فتى ألقى بوجه باسم وجوانحي تنقد من بغضائه
9 -
وقال الكاتب الشهير الشهيد أبو عبد الله محمد بن الأبار القضاعي البلنسي رحمه الله تعالى من أبيات:
(1) زاد في م: وقال وقد أحسن ظنه بالمولى تعالى سبحانه:
إذا ما بت من ترب فراشي
…
وبت مجاور الرب العظيم
فهنوني صحابي ثم قولوا
…
لك البشرى قدمت على كريم وقال غيره وأظنه من المشارقة:
قدمت على الكريم بغير زاد
…
من الحسنات بالقلب السليم
وحمل الزاد أقبح كل شيء
…
إذا كان القدوم على كريم (2) هو أحمد بن عبد الرحمن بن صقر الأنصاري أصله من سرقسطة، وخرج منها أبوه فسكن بلنسية ثم انتقل غلى المرية وبها ولد ابنه سنة 492 وتوفي بمراكش سنة 569؛ انظر التحفة: 49 والوافي 7 الورقة: 22.
يا شقيق النفس أوصيك وإن شق في الإخلاص ما تنتهجه
لا تبت في كمد من كبد رب ضيق عاد رحباً مخرجه
وبلطف الله أصبح واثقاً كل كرب فعليه فرجه
ولابن الأبار المذكور ترجمة طويلة استوفيت منها ما أمكنني في أزهار الرياض في أخبار عياض وما يناسبها مما يحصل به للنفس ارتياح وللعقل ارتياض.
قال الغبريني في " عنوان الدراية "(1) : لو لم يكن له من الشعر إلا قصيدته السينية التي رفعها للأمير أبي زكريا رحمه الله تعالى يستنجده ويستصرخه لنصرة الأندلس لكان فيها كفاية، وإن كان قد نقدها ناقد، وطعن عليه فيها طاعن، ولكن كما قال أبو العلاء المعري:
تكلم بالقول المضلل حاسد وكل كلام الحاسدين هراء
ولو لم يكن له من التآليف إلا كتابه المسمى ب " معادن (2) اللجين في مراثي الحسين " لكفاه في ارتفاع درجته، وعلو منصبه وسمو رتبته.
ثم قال: توفي بتونس ضحوة يوم الثلاثاء الموفي عشرين لمحرم سنة658 ومولده لآخر شهر ربيع سنة595 ببلنسية، رحمه الله تعالى وسامحه، انتهى.
وقال ابن علوان: إنه يتصل سنده به من طرق، منها من طريق الرواية أبي عبد الله محمد بن جابر القيسي الوادي آشي عن الشيخ المقرئ المحدث المتبحر أبي عبد الله محمد بن حيان الأوسي الأندلسي نزيل تونس عنه، ومن طريق والدي صاحب عنواو الدراية عن الخطيب أبي عبد الله ابن صالح عنه، انتهى.
قلت: وسندي إليه عن العم عن التنسي عن أبيه عن ابن مرزوق عن جده
(1) عنوان الدراية: 185.
(2)
الغبريني: بكتاب.
الخطيب عن ابن جابر الوادي آشي به كما مر.
10 -
وقال ابن عبد ربه:
بادر إلى التوبة الخلصاء مجتهداً والموت ويحك لم يمدد إليك يدا
وارقب من الله وعداً ليس يخلفه لا بد لله من إنجاز ما وعدا
11 -
وقال الصدر أبو العلاء ابن قاسم القيسي:
يا واقف الباب في رزق يؤمله لا تقطنن فإن الله فاتحه
إن قدر الله رزقاً أنت طالبه لا تيأسن فإن الله مانحه
12 -
وقال الأعمى التطيلي (1) :
تنافس الناس في الدنيا وقد علموا أن سوف تقتلهم لذاتها بددا
قل للمحدث عن لقمان أو لبد لم يترك الدهر لقماناً ولا لبدا
وللذي همه البنيان يرفعه
…
إن الردى لم يغادر في الثرى أحدا (2)
ما لابن آدم لا تفنى مطامعه (3)
…
يرجو غداً وعسى أن لا يعيش غدا وقال أبو العباس التطيلي (4) :
والناس كالناس إلا أن تجربهم وللبصيرة حكم ليس للبصر
كالأيك مشتبهات في منابتها وإنما يقع التفضيل في الثمر
13 -
وقال القاضي أبو العباس ابن الغماز البلنسي:
(1) زاد في م: وقد سبق ذكره مراراً؛ والقطعة في ديوان الأعمى: 27.
(2)
الديوان: في الشرى أسداً.
(3)
الديوان: مطالبه.
(4)
م: وقال الفقيه العالم أبو العباس التطيلي؛ قلت: وهذا يوهم أنه شخص آخر غير الأعمى التطيلي، وهو نفسه والبيتان في ديوانه:48.
من كان يعلم لا محالة أنه لا بد أن يؤدي وإن طال المدى
هلا استعد لمشهد يجزي به من قد أعد من اهتدى ومن اعتدى
وقال أيضاً (1) :
هو الموت فاحذر أن يجيئك بغتة وأنت على سوء من الفعل عاكف
وإياك أن تمضي من الدهر ساعة ولا لحظة إلا وقلبك واجف
فبادر بأعمال تسرك أن ترى إذا نشرت يوم الحساب الصحائف
ولا تيأسن من رحمة الله إنه لرب العباد بالعباد لطائف
14 -
ولما اسوزر باديس صاحب غرناطة اليهودي الشهير بابن نغدلة (2) ، وأعضل داؤه المسلمين، قال زاهد إلبيرة وغرناطة أبو إسحاق الإلبيري قصيدته النونية المشهورة التي منها في إغراء صنهاجة باليهود (3) :
ألا قل لصنهاجة أجمعين بدور الزمان وأسد العرين
مقالة ذي مقة مشفق صحيح النصيحة دنيا ودين
لقد زل سيدكم زلة أقر بها أعين الشامتين
تخير كاتبه كافراً ولو شاء كان من المؤمنين
فعز اليهود به وانتموا وسادوا وتاهوا على المسلمين
وهي قصيدة طويلة، فثارت إذ ذاك صنهاجة على اليهود، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وفيهم الوزير المذكور - وعادة أهل الأندلس أن الوزير هو الكاتب - فأراح الله البلاد والعباد، ببركة هذا الشيخ الذي نور الحق على كلامه باد.
(1) م: وقال رحمه الله أيضاً في الموت وأهواله؛ وقد مرت الأبيات ص: 316.
(2)
هذا وجه من وجوه كتابة هذا الاسم، وكثيراً ما يرد: النغراله والنغريله.
(3)
انظر ديوان الإلبيري: 151 وما بعدها.
15 -
وقال أبو الطاهر الجياني المشهور بابن أبي ركب - بفتح الراء وسكون الكاف (1) -:
يقول الناس في مثل تذكر غائباً تره
فما لي لا أرى وطني (2)
…
ولا أنسى تذكره وكان أبو الطاهر هذا في جملة من الطلبة، فمر بهم رجل معه محبرة آبنوس تأنق في حليتها واحتفل في عملها، فأراهم إياها، وقال: أريد أن أقصد بها بعض الأكابر، وأريد أن تتموا احتفالي بأن تصنعوا لي بينكم أبيات شعر أقدمها معها، فأطرق الجماعة، وقال أبو طاهر:
وافتك من عدد العلا زنجية في حلة من حلية تتبختر
صفراء سوداء الحلي كأنها ليل تطرزه نجوم تزهر
فلم يغب الرجل عنهم إلا يسيراً، وإذا به قد عاد إليهم، وفي يده قلم نحاس مذهب، فقال لهم: وهذا مما أعددته للدفع مع هذه المحبرة، فتفضلوا بإكمال الصنيعة عندي بذكره، فبدر أبو الطاهر وقال:
حملت بأصفر من نجار حليها تخفيه أحياناً وحيناً يظهر
خرسان إلا حين يرضع ثديها فتراه ينطق ما يشاء ويذكر
قال ابن الأبار في تحفة القادم: وحضر يوماً في جماعة من أصحابه وفيهم أبو عبد الله ابن زرقون في عقب شعبان في مكان، فلما تملأوا من الطعام قال أبو الطاهر لابن زرقون: أجز يا أبا عبد الله، وأنشد:
حمدت لشعبان المبارك شبعة تسهل عندي الجوع في رمضان
(1) مر البيتان ص: 113، 160 والأبيات والترجمة عن تحفة القادم: 22 بإيجاز.
(2)
التحفة: سكني.
كما حمد الصب المتيم زورة تحمل فيها الهجر طول زمان
فقال:
دعوها بشعبانية ولو أنهم دعوها بشبعانية لكفاني
16 -
وقال أبو عبد الله ابن خميس الجزائري:
تحفظ من لسانك، ليس شيء أحق بطول سجن من لسان
وكن للصمت ملتزماً إذا ما أردت سلامة في ذا الزمان
وقال أيضاً (1) :
كن حلس بيتك مهما فتنة ظهرت تخلص بدينك وافعل دائماً حسنا
وإن ظلمت فلا تحقد على أحد إن الضغائن فاعلم تنشئ الفتن
وقال:
بدا لي أن خير الناس عيشاً من آمنه الإله من الأنام
فليس لخائف عيش لذيذ ولو ملك مع الشآم
وله (2) :
جانب (3) جميع الناس تسلم منهم
…
إن السلامة في مجانبة الورى وإذا رأيت من إمرئ يوماً أذى لا تجزه أبداً بما منه ترى
وله (4) :
(1) م: وقال وقد أجاد ونصح بموعظته.
(2)
م: وقال في مجانبة الناس والعفو عمن ظلمك.
(3)
دوزي: سالم.
(4)
م: وله في تأديب الصغار والحسد.
من أدب ابناً له صغيراً قرت به عينه كبيرا
وأرغم الأنف من عدو يحسد نعماءه كثيرا
17 -
وقال أبو محمد (1) ابن هرون القرطبي:
بيد الإله مفاتح الرزق الذي أبوابه مفتوحة لم تغلق
عجباً لذي فقر يكلف مثله في الوقت شيئاً عنده لم يخلق
وقال أيضاً (2) :
لعمرك ما الإنسان يرزق نفسه ولكنما الرب الكيريم يسخره
وما بيد المخلوق في الرزق حيلة تقدمه عن وقته أو تؤخره
18 -
وقال الأديب الأستاذ أبو محمد ابن صارة رحمه الله تعالى:
يا من يصيخ إلى داعي السفاة وقد نادى به الناعيان الشيب والكبر
إن كنت لا تمسع الذكرى ففيما ثوى في رأسك الواعيان السمع والبصر
ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل لم يهده الهاديان العين والأثر
لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك ال أعلى ولا النيران الشمس والقمر
ليرحلن عن الدنيا وإن كره فراقهما الثاويان البدو والحضر
وقال رحمه الله تعالى في ابنة ماتت له:
ألا يا موت كنت بنا رؤوفاً فجددت الحياة لنا بزوره
حماد لفعلك المشكور لما كفيت مؤونة وسترت عوره
فأنكحنا الضريح بلا صداق وجهزنا الفتاة بغير شوره
(1) م: وقال محمد.
(2)
م: وقال رحمه الله في الرزق وتسخيره.
19 -
وأنشد أبو عبد الله ابن الحاج البكري الغرناطي:
يا غادياً في غفلة ورائحاً إلى متى تستحسن القبائحا
وكم إلى كم لا تخاف موقفاً يستنطق الله به الجوارحا
يا عجباً منك وكنت مبصراً كيف تجنبت الطريق الواضحا
كيف تكون حين تقرا في غد صحيفة قد ملئت فضائحا
أم كيف ترضى أن تكون خاسراً يوم يفوز من يكون رابحا
وممن روى عنه هذه الأبيات الكاتب الرئيس أبو الحسن ابن الجياب، وتوفي ابن الحاج المذكور سنة 715 رحمه الله تعالى.
20 -
وقال حافظ الأندلس ومحدثها أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي رحمه الله تعالى:
إلهي مضت للعمر سبعون حجة ولي حركات بعدها وسكون
فيا ليت شعري أين أو كيف أو متى يكون الذي لا بد أن سيكون
والصواب أنهما لغيره كما ذكرته في غير هذا الموضع، وبالجملة فهما من كلام الأندلسيين، وإن لم يحقق ناظمهما بالتعيين (1) .
21 -
وقال أبو بكر يحيى التطيلي رحمه الله تعالى:
إليك بسطت الكف في فحمة الدجى نداء غريق في الذنوب عريق
رجاك ضميري كيف تخلص جملتي وكم من فريق شافع لفريق
22 -
وحكي أن بعض المغاربة كتب إلى الملك الكامل بن العادل بن أيوب رقعة في ورقة بيضاء، إن قرئت في ضوء السراج كانت فضية، وإن قرئت في
(1) انظر ص: 117 وكذلك نسبهما لأبي بكر ابن منخل الشلبي في التكملة: 496 وإنما أنشدهما أبو الربيع وقال لتلميذه إنه رآهما في ديوان ابن منخل.
الشمس كانت زهبية، وإن قرئت في الظل كانت حبراً أسود، وفيها هذه الأبيات:
لئن صدني البحر عن موطني وعيني بأشواقها زاهره
فقد زخرف الله لي مكة بأنوار كعبته الزاهره
وزخرف لي بالنبي يثربا وبالملك الكامل القاهره
فقال الملك الكامل قل:
وطيب لي بالنبي طيبة وبالملك الكامل القاهره
وأظن أن المغربي أندلسي لقوله: لئن صدني البحر عن موطني، فلذلك أدخلته في أخبار الأندلسيين ولست على تحقيق ويقين، والله أعلم.
23 -
وأنشد ابن الوليد المعروف بابن الخليع قال: أنشدنا أبو عمر ابن عبد البر النمري الحافظ:
تذكرت من يبكي علي مداوماً فلم ألف إلى العلم بالدين والخبر
علوم كتاب الله والسنن التي أتت عن رسول الله مع صحة الأثر
وعلم الألى من ناقديه وفهم ما له اختلفوا في العلم بالرأي والنظر
وأنشد له أيضاً:
مقالة ذي نصح وذات فوائد إذا من ذوي الألباب كان استماعها
عليكم بآثار النبي فإنه من افضل أعمال الرشاد اتباعها
24 -
وقال أبو الحسن عبد الملك بن عياش الكاتب الأزدي اليابري، وسكن أبوه قرطبة (1) :
عصيت هوى نفسب صغيراً وعندما رمتني الليالي بالمشيب وبالكبر
(1) الذيل والتكملة 5: 28.
أطعت الهوى، عكس القضية ليتني خلقت كبيراً وانتقلت إلى الصغر
وقيل: إن ابنه أبا الحسن علي بن عبد الملك قال بيتاً مفرداً في معنى ذلك، وهو:
هنيئاً له إذ لم يكن كابنه الذي
…
أطاع الهوى في حالتيه وما اعتبر (1) وقيل: إن هذا البيت رابع أربعة أبيات (2) .
25 -
وقال أبو إسحاق ابن خفاجة لما اجتمع به أبو العرب (3) وسأله عن حاله وقد بلغ في عمره إحدى وثمانين سنة، فأنشده لنفسه:
أي عيش أو غذاء أو سنه لابن إحدى وثمانين سنه
قلص الشيب به ظل امرئ طالم جر صباه رسنه
تارة تسطو به سيئة تسخن العين وأخرى حسنه
26 -
وقال أبو محمد عبد الوهاب بن محمد القيسي المالقي:
الموت حصاد بلا منجل يسطو على القاطن والمنجلي
لا يقبل العذر على حالة ما كان من مشكل أو من جلي
27 -
وقال الشيخ عبد الحق الإشبيلي الأزدي صاحب كتاب العاقبة
(1) الذيل: وما ائتمر؛ وعن ابن الأبار: وما اعتذر.
(2)
قلت: أورد في الذيل والتكملة ثلاثة أبيات قبله وهي:
أبي قال قولا سار في البدو والحضر
…
وخلف في الباقين ذكراً وقد غبر
وأسلف إحساناً أوان اقتباله
…
وخاف من التقصير في حيز الكبر
لذلك ما وإلى أنينا وزفرة
…
وأصبح يهوى أن يعاد إلى الصغر
هنيئاً له........
…
......... (البيت) . (3) هو أبو العرب عبد الوهاب التجيبي والأبيات في بغية الملتمس ص: 203 والمعجم: 61 والديوان: 355.
والإحكام وغيرهما:
إن في الموت والمعاد لشغلاً وإدكاراً لذي النهى وبلاغا
فاغتنم خطتين قبل المنايا صحة الجسم يا أخي والفراغا
28 -
وقال أبو الفضل عبد المنعم بن عمر بن عبد الله بن حسان الغساني من أهل جليانة من عمل وادي آش (1) :
ألا إنما الدنيا بحار تلاطمت فما أكثر الغرقى على الجنبات
وأكثر من صاحبت يغرق إلفه وقل فتى ينجى من الغمرات
وكان المذكور من أهل العلم والأدب، رحل وحج وتجول في البلاد، ونزل القاهرة المعزية، وكان أحد السياحين في الأرض، وله تآليف منها جامع أنماط الوسائل في القريض والخطب والرسائل وأكثره من نظمه ونثره، رحمه الله تعالى.
29 -
وقال عبد العليم بن عبد الملك بن حبيب القضاعي الطرطوشي:
وما الناس ألا كالصحائف غيرت وألسنهم إلا كمثل التراجم
إذا اشتجر الخصمان في فطنة الفتى فمقوله في ذاك أعدل حاكم
30 -
وقال أبو الحكم عبد المحسن البلنسي:
من كان للدهر للدهر خدناً في تصرفه أبدت له صفحة الدهر الأعاجيبا
من كان خلواً من الآداب سربله مر الليالي على الأيام تأديبا
31 -
وقال أبو حاتم عمر بن محمد بن فرج من أهل ميرتلة، مدينة بغرب الأندلس، يمدح شهاب الأندلس، يمدح شهاب القضاعي (2) :
(1) مرا في ج 2: 614.
(2)
م: يمدح بها شهاب القضاعي المشهور وهي.
شهب السماء ضياؤها مستور عنا إذا أفلت توارى النور
فانزع هديت إلى شهاب نوره متألق آماله تبصير
تشفي جواهره القلوب من العمى ولطالما انشرحت بهن صدور
فإذا أتى فيه حدبث محمد خذ في الصلاة عليه يا مغرور
وترحمن على القضاعي الذي وضع الشهاب فسعيه مشكور
32 -
وقال الأستاذ أبو محمد غانم بن وليد المخزومي المالقي:
ثلاثة يجهل مقدارها الأمن والصحة والقوت
فلا تثق بالمال من غيرها
…
لو أنه در وياقوت (1) وتذكرت بهذا قول الآخر:
إذا القوت تأتى ل ك والصحة والأمن
وأصبحت أخا حزن فلا فارقك الحزن
وكل ذلك أصله الحديث النبوي [على صاحبه أفضل الصلاة وأزكى التسليم فإنه قال](2) : " من أصبح آمناً في سربه، معافى في بدنه، معه قوت يومه، فكأنما سيقت له الدنيا بحذافيرها ".
وأخبرنا شيخنا القصار أبو عبد الله محمد بن قاسم القيسي مفتي مدينة فاس وخطيبها سنة عشر وألف، قال: حدثنا شيخنا أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل التونسي نزيل فاس الشهير بخروف [قال] حدثنا الإمام سيدي فرج الشريف
(1) زاد في م هنا المقطوعة الآتية: وقال آخر:
قميص من القطن من حله
…
وشربة ماء قراح وقوت
ينال بها المرء ما يبتغي
…
وهذا كثير على من يموت وتذكرت بالأخرى
…
إلخ.
(2)
زيادة من م.
الطحطاوي، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم يقول " من أصبح آمناً في سربه..... الحديث ".
رجع
وقال الأستاذ العارف بالله سيدي أبو العباس أحمد بن العريف الأندلسي دفين مراكش، وقد زرت قبره سنة 1010 (1) :
إذا نزلت بساحتك الرزايا فلا تجزع لها جزع الصبي
فإن لكل نازلة عزاء بما قد كان من فقد النبي
وقال رحمه الله تعالى:
شدوا الرحال وقد نالوا المنى بمنى وكلهم بأليم الشوق قد باحا
راحت ركائبهم تندى روائحها طيباً بما طاب ذاك الوفد أشباحا
نسيم قبر النبي المصطفى لهم راح إذا سكروا من أجله فاحا
يا راحلين إلى المختار من مضر زرتم جسوماً وزرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على شوق وعن قدر ومن أقام على عذر كمن راحا
34 -
وقال (2) أبو محمد المحاربي:
داء الزمان وأهله داء يعز له العلاج
أطلعت في ظلمائه رأياً كما سطع السراج
لمعاشر أعيا ثقا في من قناتهم اعوجاج
كالدر ما لم تختبر فإذا اختبرت فهم زجاج
(1) القطعة في التحفة: 17 والوافي 8 الورقة: 50.
(2)
م: وقال الأديب.
35 -
وقال أبو عبد الله غربيب الثقفي القرطبي (1) :
يهددني بمخلوق ضعيف يهاب من المنية ما أهاب
له أجل ولي أجل وكل سيبلغ حيث يبلغه الكتاب
وما يدري لعل الموت منه
…
قريب أينا قبل (2) المصاب وله (3) :
أيها الآمل ما ليس له طالما غر جهولاً أمله
رب من بات يمني نفسه خانه دون مناه أجله
وفتى بكر في حاجاته عاجلاً أعقب ريثاً عجله
قل لمن مثل في أشعاره يذهب المرء ويبقى مثله
نافس المحسن في إحسانه فسيكفيك مسيئاً عمله
قال ابن الأبار: وهذا البيت الأخير في برنامج الطبني.
36 -
وقال أبو الحسين سليمان بن الطراوة النحوي المالقي (4) :
وقائلة أتصبو للغواني وقد أضحى بمفرقك النهار
فقلت لها حثثت على التصابي أحق الخيل بالركض المعار
37 -
وقال الحافظ أبو الربيع ابن سالم:
إذا برمت نفسي بحال أحلتها على أمل ناء فقرت به النفس
(1) غربيب بن عبد الله الطليطلي من قدامى الشعراء وكان أهل بلده يشاورونه في أمورهم؛ انظر الجذوة: 307 (وبغية الملتمس رقم: 1281) والمغرب 2: 23 والقطعة الأولى في المصادر المذكورة.
(2)
قبل: رواية الجذوة، وفي الأصول: أينا منه.
(3)
م: وله أيضاً في طول الأمل وما الأمل إلا غرور.
(4)
انظر أخبار وتراجم أندلسية (السلفي) : 17.
وأنزل أرجاء الرجاء ركائبي إذا رام إلماماً بساحتي اليأس
وإن أوحشتني من أماني نبوة فلي في الرضى بالله والقدر الأنس
38 -
وقال أبو الحسن سلام بن عبد الله بن سلام الباهلي الإشبيلي (1) مما أنشده لنفسه في كتابه الذي سماه الذخائر والأعلاق في أدب النفوس ومكارم الأخلاق:
إذا تم عقل المرء تمت فضائله وقامت على الإحسان منه دلائله
فلا تنكر الأبصار ما هو فاعله ولا تنكر الأسماع ما هو قائله
وكان أبو المذكور من وزراء المعتمد بن عباد، رحم الله تعالى الجميع.
39 -
وقال أبو بكر الزبيدي اللغوي:
اترك الهم إذا ما طرقك وكل الأمر إلى من خلقك
وإذا أمل قوم أحداً فإلى ربك فامدد عنقك
40 -
وقال القاضي أبو الوليد هشام بن محمد القيسي الشلبي المعروف بابن الطلاء: فاوضت القاضي أبا عبد الله ابن شبرين (2) ما يحذر من فتنة النظر إلى الوجوه الحسان، فقلت:
لا تنظرن إلى ذي رونق أبداً واحذر عقوبة ما يأتي به النظر
فكم صريع رأيناه صريع هوى زو نظرة قادها يوماً له القدر
فأجابني في المعنى الذي انتحيته:
(1) سلام - بتخفيف اللام - كان شيخاً جليلاً أديباً شاعراً وله خطب بارعة ومقامات سبع، وقد أودع كتابه المذكور جملة وافرة من شعره؛ توفي بشلب سنة 544 (الذيل والتكملة 4: 48) .
(2)
زاد في م: العالم الفقيه المحدث، فسألته ما يحدث وما
…
الخ.
إذا نظرت فلا تولع بتقليب فربما نظرة عادت بتعذيب
ورب هنا للتكثير.
41 -
وقال الأستاذ ابن حطوط الله:
أتدري أنك الخطاء حقاً وأنك بالذي تأتي رهين
وتغتاب الألى فعلوا وقالوا وذاك الظن والإفك المبين
قال في " الإحاطة "(1) : أبو محمد عبد الله بن سليمان بن داود بن عمر بن حطوط الله الأنصاري الحارثي، كان فقيهاً جليلاً أصولياً كاتباً أديباً شاعراً متفنناً في العلوم ورعاً ديناً حافظاً ثبتاً فاضلاً، درس كتاب سيبويه ومستصفى أبي حامد الغزالي، وكان، رحمه الله تعالى، مشهوراً بالعقل والفضل، معظماً عند الملوك، معلوم القدر لديهم، يخطب في مجالس الأمراء والمحافل الجمهورية، مقدماً في ذلك بلاغة وفصاحة إلى أبعد مضمار، ولي قضاء إشبيلية وقرطبة ومرسية وسبتة وسلا وميورقة، فتظاهر بالعدل، وعرف بما أبطن من الدين والفضل، وكان من العلماء العاملين، مجانباً لأهل البدع والأهواء، بارع الخط، حسن التقييد، وسمع الحديث، فحصل له سماع لم يشاركه فيه أحد من أهل الغرب، وسمع على الجهابذة كابن بشكوال ةغيره، وقرأ أكثر من ستين تأليفاً بين كبار وصغار، منها الصحيحان، وأكثر عن ابن حبيش وابن الفخار والسهيلي وغيرهم، ومولده في محرم سنة 541، ومات بغرناطة سحر يوم الخميس ثاني ربيع الأول سنة612، ونقل منها في تابوته الذي ألحد فيه يوم السبت تاسع عشر شعبان من السنة المذكورة إلى مالقة فدفن بها، رحمه الله تعالى، انتهى، وبعضه بالمعنى مختصراً.
(1) الإحاطة، الورقة:219.
وللمذكور ترجمة واسعة جداً، وألمعت بما ذكرت على وجه التبرك بذكره، رحمه الله تعالى ورضي عنه.
42 -
وقال أبو المتوكل الهيثم بن أحمد السكوني الإشبيلي (1) :
يجفى الفقير ويغشى الناس قاطبة باب الغني، كذا حكم المقادير
وإنما الناس أمثال الفراش فهم يرون حيث مصابيح الدنانير
وقال تلميذه ابن الأبار: أنشدني بعض أصحابنا عنه هذين البيتين، ولم أسمعهما منه، انتهى.
قلت: وبهذا تعرف وهم من نسب البيتين إلى عبد المهيمن الحضرمي، فإن هذا كان قبل أن يخلق والد عبد المهيمن الحضرمي، وقد أنشدهما الجلاب الفهري في روح الشعر وروح الشحر.
43 -
وقال أبو محمد القاسم بن الفتح الحجاري المعروف بابن افريولة:
ركابي بأرجاء الرجاء مناخة ورائدها علمي بأنك لي رب
وأنك علام بما أنا قائل كما أنت علام بما أضمر القلب
لئن آدها ذنب تولت بعبئه لقد قرعت باباً به يغفر الذنب
وقال أيضاً (2) :
عجباً لحبر قد تيقن أنه سيرى اقتراف يديه في ميزانه
ثم امتطى ظهر المعاصي جهرة لم يثنه التأنيب عن عصيانه
أنى عصى ولكل جزء نعمة من نفسه وزمانه ومكانه
44 -
وقال الشاعر الكبير الشهير أبو بكر يحيى بن عبد الجليل بن مجبر الفهري:
(1) انظر ما تقدم ج 3: 379.
(2)
م: ومما ينسب إليه أيضاً قوله.
إن الشدائد قد تغشى الكريم لأن تبين فضل سجاياه وتوضحه
كمبرد القين إذ يعلو الحديد به وليس يأكله إلا ليصلحه
وقال (1) :
لا تغبط المجدب في عمله وإن رأيت الخصب في حاله
إن الذي ضيع من نفسه فوق الذي ثمر من ماله
45 -
وقال أبو الحجاج يوسف بن أحمد الأنصاري المنصفي البلنسي (2) :
قال لي النفس أتاك الردى وأنت في بحر الخطايا مقيم
هلا اتخذت الزاد قلت أقصري هل يحمل الزاد لدار الكريم
وكان المنصفي المذكور صالحاً، وله رحلة حج فيها، ومال إلى علم التصوف، رحمه الله تعالى، وله فيه أشعار حملت عنه.
46 -
وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن الصائغ القرشي الأموي الأندلسي (3) مخمساً أبيات عز الدين بن جماعة قاضي القضاة رحمه الله تعالى:
هم الأبي على مقدار منصبه وبسط راحته في طي منصبه
ما أنت والدهر تشكو من تقلبه يا مبتلى بقضاء قد بليت به
عليك بالصبر واحذر يا أخي جزعك
صبراً فللصبر في حرب العدا عدد ذر العدو يمته الغيظ والحسد
ولا يكن لك إلا الله معتمد واعلم بأن جميع الخلق لو قصدوا
أذاك لم يقدروا والله قد رفعك
(1) م: ومن نكته العجيبة قوله.
(2)
انظر ما تقدم ج 3: 595.
(3)
ترجم له الصفدي (الوافي 3: 375) ، وكان ممن لقيه بالقاهرة، ولقبه محب الدين وله كنية أخرى هي " أبو البقاء ".
أعلاك في رتب غر معظمة بالعرف معروفة بالعلم معلمة
ومن يناويك في بهماء مظلمة فاصرف هواك وجانب كل مظلمة
واصحب فديتك من بالنصح قد نفعك
قد اجتلبت من الأيام تبصرة وقد كفاك الهدى والذكر تذكرة
فاشكر وقدم مع الإخلاص معذرة واسأل إلهك في الإسحار مغفرة
منه وكن معه حتى يكون معك
وتوفي المذكور بالقاهرة في الطاعون العام سنة 749.
47 -
وقال أبو عبد الله الحميدي (1) :
الناس نبت وأرباب القلوب لهم روض وأهل الحديث الماء والزهر
من كان قول رسول الله حاكمه فلا شهود له إلا الألى ذكروا
وقال أيضاً:
من لم يكن للعلم عند فنائه أرج فإن بقاءه كفنائه
بالعلم يحيا المرء طول حياته فإذا انقضى أحياه حسن ثنائه
وقال أيضاً:
دين الفقيه حديث يستضيء به عند الحجاج وإلا كان في الظلم
إن تأوه ذو مذهب في قفر مشكلة لاح الحديث له في الوقت كالعلم
ولما تعرض بعض من لا يبالي بما ارتكب إلى أصحاب الحديث بقوله:
أرى الخير في الدنيا يقل كثيره وينقص نقصاً والحديث يزيد
(1) م: محمد الحميدي الأندلسي.
فلو كان خيراً كان كالخير كله ولكن شيطان الحديث مريد
ولابن معين في الرجال مقالة سيسأل عنها والمليك شهيد
فإن يك حقاً قوله فهي غيبة وإن يك زوراً فالقصاص شديد
أجابه الإمام أبو عبد الله الحميدي بقصيدة طويلة، منها:
وإني إلى إبطال قولك قاصد ولي من شهادات النصوص جنود
إذا لم يكن خيراً كلام نبينا لديك فإن الخير منك بعيد
وأقبح شيء أن جعلت لما أتى عن الله شيطاناً وذاك شديد
وما زلت في ذكر الزيادة معجباً بها تبدئ التلبيس ثم تعيد
كلام رسول الله وحي ومن يرم زيادة شيء فهو فيه عنيد
ومنها (1) في ابن معين:
وما هو إلا واحد من جماعة وكلهم فيما حكوه شهود
فإن صد عن حكم الشهادة جاهل فإن كتاب الله فيه عتيد
ولولا رواة الدين ضاع وأصبحت معالمه في اللآخرين تبيد
هم حفظوا الآثار من كل شبهة وغيرهم عما اقتنوه رقود
وهم هاجروا في جمعها وتبادروا إلى كل أفق والمرام كؤود
وقاموا بتعديل الرواة وجرحهم فدام صحيح النقل وهو جديد
بتبليغهم صحت معالم ديننا حدود تحروا حفظها وعهود
وصح لأهل النقل منها احتجاجهم فلم يبق إلا عاند وحقود
وحسبهم أن الصحابة بلغوا وعنهم رووا لا يستطاع جحود
فمن حاد عن هذا اليقين فمارق مريد لإظهار الشكوك مريد
(1) م: ومن هذه القصيدة.
ولكن إذا جاء الهدى ودليله فليس لموجود الضلال وجود
وإن رام أعداه الديانة كيدها فكيدهم بالمخزيات مكيد
48 -
وقال أبو بكر محمد بن محرز الزهري البلنسي (1)، والتزم الراء في كل كلمة:
اشكر لربك وانتظر في إثر عسر الأمر يسرا
واصبر لربك وادخر في ستر ضر الفقر أجرا
فالدهر يعثر بالورى والصبر بالأحرار أحرى
والوفر أظهر معشرا والفقر بالأخيار يغرى
وقال أيضاً:
اقنع بما أوتيته تنل الغنى وإذا دهتك ملمة فتصبر
واعلم بأن الرزق مقسوم فلو رمنا زيادة ذرة لم نقدر
والله أرحم بالعباد فلا تسل بشراً تعش عيش الكرام وتؤجر
وإذا سخطت لضر حالك مرة ورأيت نفسك قد عدت فاستبصر
وانظر إلى من كان دونك تدكر لعظيم نعمته عليك فتشكر
49 -
وقال الحافظ أبو محمد ابن حزم: أنشدني والدي أحمد بن سعيد ابن حزم (2) :
إذا شئت أن تحيا غنياً فلا تكن على حالة إلا رضيت بدونها
50 -
وقال القاضي أبو العباس أحمد بن الغماز البلنسي نزيل تونس:
وقالوا أما تخشى ذنوباً أتيتها ولم تك ذا جهل فتعذر بالجهل
(1) ترجمته في التحفة: 143.
(2)
الجذوة: 118.
فقلت لهم هبني كما قد ذكرتم تجاوزت في قولي وأسرفت في فعلي
أما في رضى مولى الموالي وصفحه رجاء ومسلاة لمقترف مثلي
وأنشد رحمه الله تعالى لنفسه في اليوم الذي مات فيه، وهو آخر ما سمع منه ليلة عاشوراء سنة 693:
أدعوك يا رب مضطراً على ثقة بما وعدت كما المضطر يدعوكا
دارك بعفوك عبداً لم يزل أبداً في كل حال من الأحوال يرجوكا
طالت حياتي ولما أتخذ عملاً إلا محبة أقوام أحبوكا
51 -
وقال ابن الزقاق، ويقال إنها مكتوبة على قبره (1) :
أإخواننا والموت قد حال دوننا وللموت حكم نافذ في الخلائق
سبقتكم للموت والعمرطية وأعلم أن الكل لا بد لاحقي
بعيشكم أو باضطجاعي في الثرى ألم نك في صفو من العيش رائق
فمن مر بي فليمض لي مترحماً ولا يك منسياً وفاء الأصادق
52 -
وقال الخطيب (2) أبو عبد الله محمد بن صالح الكتاني الشاطبي، ومولده سنة614 (3) :
أرى العمر يفنى والرجاء طويل وليس إلى قرب الحبيب سبيل
حباه إله الخلق أحسن سيرة فما الصبر عن ذاك الجمال جميل
متى يشتفي قلبي بلثم ترابه ويسمح دهر بالمزار بخيل
دللت عليه في أوائل أسطري فذاك نبي مصطفى ورسول
(1) ديوانه: 205.
(2)
زاد في م: الجليل الصالح الفقيه.
(3)
م: الشاطبي الأندلسي ومولده بشاطبة
…
الخ.
53 -
وقال أيمن بن محمد الغرناطي نزيل طيبة على ساكنها الصلاة والسلام:
أرى حجرات قد أحاطت عراصها ببحر محيط حصره غير ممكن
بحار المعالي والمعاني وإن طمت لدى لجة تفنى وعن هوله تني
محمد المحمود في كل موطن أبو القاسم المختار من خير معدن
نبي إذا أبصرت غرة وجهه تيقنت أن العز عز المهيمن
لك الله من بدر إذا الشمس قابلت محياه قالت إن ذا طالع سني
وله (1) :
كل القلوب مطيعة لك في الهوى جانب فديتك من تشاء ووال
الحسن وال، والقلوب رعية وعلى الرعية أن تطيع الوالي
وقال أيضاً (2) :
ألا أيها الباكي على ما يفوته من الحظ في الدنيا جهلت وما تدري
على فوت حظ من جوار محمد حقيق بأن تبكي إلى آخر العمر
ستدري إذا قمنا وقد رفع اللوا وأحمدها ديناً إلى موقف الحشر
من الفائز المغبوط في يوم عرضه أجار النبي المصطفى أم أخو الوفر
وله:
فررت من الدنيا إلى ساكن الحمى فرار محب لائذ بحبيب
لجأت إلى هذا الجناب، وإنما لجأت إلى سامي العماد رحيب
وناديت مولاي الذي عنده الغنى نداء عليل في الزمان غريب
(1) م: ومن عجيب قوله ورقيق تغزله قوله.
(2)
م: وقال أيضاً يفخر بسيدنا محمد (ص) .
أمولاي إني قد أتيتك لائذاً وأنت طبيبي يا أجل طبيب
فقال لك البشرى ظفرت من الرضى بأوفر حظ مجزل ونصيب
تناومت في أطلال ليل شبيبتي فأدركني بالفجر صبح مشيبي
54 -
وقال أبو بكر الزبيدي اللغوي:
لو لم تكن نار ولا جنة للمرء إلا أنه يقبر
لكان فيه واعظ زاجر ناه لمن يسمع أو يبصر
ولقد صدق رحمه الله تعالى ورضي عنه.
55 -
ولبعض فقهاء طلبيرة:
رأيت الانقباض أجل شيء وأدعى في الأمور إلى السلامه
فهذا الخلق سالمهم ودعهم فرؤيتهم تؤول إلى الندامه
ولا تغنى بشيء غير شيء يقود إلى خلاصك يوم القيامه
56 -
وأمر الكاتب أبو بكر ابن مغاور بكتب هذه الأبيات على قبره، وهي له (1) :
أيها الواقف اعتباراً بقبري استمع فيه قول عظمي الرميم
أودعوني بطن الضريح وخافوا من ذنوب كلومها بأديمي
قلت لا تجزعوا علي فإني حسن الظن بالرؤوف الرحيم
ودعوني بما اكتسبت رهيناً غلق الرهن عند مولى كريم
57 -
وقال (2) الخطيب ابن صفوان:
(1) مرت ثلاثة من هذه الأبيات في ج 3: 331.
(2)
م: وقال العالم العلامة.
رأيتك يدنيني إليك تباعدي فأبعدت نفسي لابتغائي في القرب
هربت له منه إليه فلم يكن بي البعد في قربي فصح به قربي
فيا رب هل نعمى على العبد بالرضى ينال بها فوزاً من القرب بالقرب
وقال الوادي آشي:
وهذا النظم معناه جليل، وتكرار القرب وإن قبح عند تاعروضي فهو المحب جميل، وهم القوم يسلم لهم في الأفعال والأقوال، وترتجى بركتهم في كل الأحوال، انتهى.
58 -
وقال بعض قدماء الأندلس:
سئمت الحياة على حبها وحق لذي السقم أن سأما
فلا عيش إلا لذي صحة تكون له للتقى سلما
وذيله آخر منهم بقوله:
ولا داء إلا لمن لم يزل يقارب في دينه مأثما
فلست تعالج جرح الهوى هديت بمثل التقى مرهما
59 -
وقال أبو جعفر أحمد (1) السياسي القيسي المري:
إذا ما جنى يوماً عليك جناية ظلوم يدق السمر بأساً ويقصف
فلا تنتقم يوماً عليه بما جنى وكل أمره للدهر فالدهر منصف
وقال أيضاً (2) :
ليس حلم الضعيف حلماً، ولكن حلم من لو يشاء صال اقتدارا
(1) أحمد: سقطت من ق؛ ولعل السياسي أن تكون " البياسي ".
(2)
م: وله أيضاً في الحلم والتجاوز عن سيئات من زل إن هفا.
من تغاضى عن السفيه بحلم أصبح الناس دونه أنصارا
من يزوج كريمة الهمة العل يا علواً فقد أجاد الخيارا
ستريه عند الولاد بنيها ال علم والحلم والأناة كبارا
60 -
وقال الخطيب الصالح أبو إسحاق ابن أبي العاصي:
اعمل بعلمك تؤت علماً إنما جدوى علوم المرء نهج الأقوم
وإذا الفتى قد نال علماً ثم لم يعمل به فكأنه لم يعلم
وقال موطئاً غلى البيت الأخير:
أمولاي أنت العفو الكريم لبذل النوال وللمعذره
علي ذنوب وتصحيفها ومن عندك الجود والمغفره
61 -
وقال الخطيب المتصوف الشهير أبو جعفر أحمد بن الزيات من بلش مالقة:
يقال خصال أهل العلم ألف ومن جمع الخصال الألف سادا
ويجمعها الصلاح فمن تعدى مذاهبه فقد جمع الفسادا
وقال أيضاً:
إن شئت فوزاً بمطلوب الكرام غداً فاسلك من العمل المرضي منهاجا
واغلب هوى النفس لا يغررك خادعه فكل شيء يحط القدر منها جا
62 -
وقال الأديب الكبير الشهير أبو محمد عبد الله بن محمد بن صارة البكري الشنتريني رحمه الله تعالى (1) :
(1) انظر أيضاً ما تقدم ص: 117
بنوا الدنيا بجهل عظموها فجلت عندهم وهي الحقيره
يهارش بعضهم بعضاً عليها مهارشة الكلاب على العقيره
وقال:
أي عذر يكون لا أي عذر لابن سبعين مولع بالصبابه
وهو ماء لم تبق منه الليالي في إناء الحياة إلا صبابه
وقال أيضاً:
ولقد طلبت رضى البرية جاهداً فإذا رضاهم غاية لا تدرك
وأرى القناعة للفتى كنز له والبر أفضل ما بخ يتمسك
63 -
وقال أبو محمد ابن صاحب الصلاة الداني، ويعرف بعبدون (1) :
وعجل شيبي أن ذا الفضل مبتلى بدهر غدا ذو النقص فيه مؤملا
ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى بها الحر يشقى واللئيم ممولا
متى ينعم المعتر عيناً إذا اعتفى جواداً مقلاً أو غنياً مبخلا
64 -
وقال أبو الحكم عبيد الله الأموي مولاهم الأندلسي:
إذا كان إصلاحي لجسمي واجباً فإصلاح نفسي لا محالة أوجب
وإن كان ما يفنى إلى النفس معجباً فإن الذي يبقى إلى العقل أعجب
65 -
وقال الفقيه الزاهد أبو إسحاق إبراهيم ابن مسعود الإلبيري رحمه الله تعالى:
لله أكياس جفو أوطانهم فالأرض أجمعها لهم أوكطان
(1) انظر التكملة: 69.
جالت عقولهم مجال تفكر وجلالة فبدا لها الكتمان
ركبت بحار الفهم في فلك النهى وجرى بها الإخلاص والإيمان
فرست بهم لما انتهوا بجفونهم
…
مرسى لهم فيه غنى وأمان (1) 66 - وقال أبو جعفر ابن خاتمة رحمه الله تعالى:
يا من يغيث الورى من بعدما قنطوا ارحم عباداً أكف الفقر قد بسطوا
عودتهم بسط أرزاق بلا سبب سوى جميل رجاء نحوه انبسطوا
وعدت بالفضل في ورد وفي صدر بالجود إن أقسطوا والحلم إن قسطوا
عوارف ارتبطت شم الأنوف لها وكل صعب بقيد الجود يرتبط
يا من تعرف بالمعروف فاعترفت بجم إنعامه الأطراف والوسط
وعالماً بخفيات الأمور فلا وهم يجوز عليه لا ولا غلط
عبد فقير بباب الجود منكسر من شأنه أن يوافي حين ينضغط
مهما أتى يمد الكف أخجله قبائح وخطايا أمرها فرط
يا واسعاً ضاق خطو الخلق عن نعم منه إذا خطبوا في شكرها خبطوا
وناشراً بيد الإجمال رحمته فليس يلحق منه مسرفاً قنط
ارحم عباداً بضنك العيش قد قنعوا فأينما سقطوا بين الورى لقطوا
إذا توزعت الدنيا فما لهم غير الدجنة لحف والثرى بسط
لكنهم من ذرا علياك في نمط سام رفيع الذرى ما فوقه نمط
ومن يكن بالذي يهواه مجتمعاً فما يبالي أقام الحي أم شحطوا
(1) زاد في م أبياتاً قال: وقال الشيخ ابو بكر ابن مغاور (م: مفاوز) وقيل إنها لابن لبال:
ودعتها ومدامعي
…
تنهل بالدمع الطليق
فبكت وأذرت أدمعاً
…
في صفحة الخد الأنيق
ومصت تعض بنانها
…
بين التلهف والشهيق
فرأيت دراً ساقطاً
…
من نرجسين على شقيق
ورأيت مبيض اللجين
…
يعض محمر العقيق
نحن العبيد وأنت الملك ليس سوى وكل شيء يرجى بعد ذا شطط
وقال رحمه الله تعالى:
ملاك الأمر تقوى الله فاجعل تقاه عدة لصلاح أمرك
وبادرنحو طاعته بعزم فما تدري متى يمضي بعمرك
وقال أيضاً (1) :
إذا كنت تعلم أن الأمور بحكم الإله كما قد قضى
ففيم التفكر والحكم ماض ولا رد للحكم مهما مضى
فخل الوجود كما شاءه مدبره وابغ منه الرضى
وقال (2) :
إذا ما الدهر نابك منه خطب وشد عليك من حنق عقاله
فكل لله أمرك لا تفكر ففكرك فيه خبط في حباله
وقال (3) :
عدوك داره ما اسطعت حتى يعود لديك كالخل الشفيق
فما في الأرض أردى من عدو وما في الأرض أجدى من صديق
وقال (4) :
إن أعرضت دنياك عنك بوجهها وغدت ومنها في رضاك نزاع
فاحذر بنيها واحتتفظ من شرهم إن النبين لأمهم أتباع
(1) م: في تفويض الأمر إلى الله والإتكال عليه.
(2)
م: وقال في معناه في توكيل الأمر إلى الله تعالى.
(3)
م: في مداراة العدو ومكايدته.
(4)
م: وقد أبلغ في النصيحة وأجاد إلى الغاية.
وقال (1) :
يا مجيب المضطر عند الدعاء منك دائي وفي يديك دوائي
جذبتني الدنيا إليها بضبعي ودعتني لمحنتي وشقائي
يا إلهي وأنت تعلم حالي لا تذرني شماتة الأعداء
67 -
وقال الحافظ الكبير الشهير أبو عبد الله الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين رحمه الله تعالى (1) :
كتاب الله عز وجل قولي وما صحت به الآثار ديني
وما اتفق الجميع عليه بدءاً تكن منها على عين اليقين
وقال:
طريق الزهد أفضل ما طريق وتقوى الله بادية الحقوق
فثق بالله يكفك، واستعنه يعنك، وذر بنيات الطريق
68 -
وقال أبو بكر مالك بن جبير رحمه الله تعالى:
رحلت وإنني من غير زاد وما قدمت شيئاً للمعاد
ولكني وثقت بجود ربي وهل يشقى المقل مع الجواد
وتوفي المذكور بأريولة - أعادها الله تعالى إلى الإسلام - سنة 561.
69 -
وقال ابن جبير اليحصبي وهو الكتب أبو عبد الله محمد:
كلما رمت أن أقدم خيراً لمعادي ورمت أني أتوب
(1) م: في التضرع إليه تعالى والابتهال إليه.
(1)
م: في التضرع إليه تعالى والابتهال إليه.
صرفتني بواعث النفس قسراً
…
فتقاعست والذنوب ذنوب
رب قلب قلبي لعزمة خير
…
لمتاب ففي يديك القلوب ولتعلم أن كلام أهل الأندلس بحر لا ساحل له، ويرحم الله تعالى لسان الدين بن الخطيب حيث قال في صدر الإحاطة: وهذا الغرض الذي وضعنا له هذا التأليف يطلبنا فيه ما قصدنا به من المباهاة والافتخار بالإكثار، واستيعاب النظام والنثار، ويحملنا فيه خوف السآمة على الاختصار والاقتصار، وكفى بهذا جلاء في الأعذار، والله تعالى مقيل العثار، وساتر العيب المثار، بفضله، انتهى.
70 -
ولنختم هذا الباب بقول أبي زكريا يحيى بن سعد بن مسعود القلني:
عفوك اللهم عنا
…
خير شيء نتمنا
رب إنا قد جهلنا
…
في الذي قد كان منا
وخطينا وخلطنا
…
ولهونا ومجنا
إن نكن رب أسأنا
…
ما أسأنا بك ظنا وذيلته بقولي:
فأنلنا الختم بالحس
…
نى وإنعاماً ومنا آمين (1) .
(1) إلى هنا انتهت النسخة: م.
الباب الثامن
في ذكر تغلب العدو الكافر على الجزيرة بعد صرفه وجوه الكيد إليها وتضريبه بين ملوكها ورؤسائها بمكره، واستعماله في أمرها حيل فكره، حتى استولى - دمره الله تعالى - عليها، ومحا منها التوحيد واسمه، وكتب على مشاهدها ومعاهدها وسمه، وقرر مذهب التثليث، والرأي الخبيث، لديها، واستغاث أهلها استغاثة أضرابها بالنظم والنثر، أهل ذلك العصر، من سائر الأقطار، حين تعذرت بحصصارها، مع قلة حماتها وأنصارها، المآرب والأوطار، وجاءها الأعداء من خلفها ومن بين يديها، أعاد الله تعالى إليها كلمة الإسلام، وأقام فيها شريعة سيد الانما، عليه أفضل الصلاة والسلام، ورفع يد الكفر عنها وعما حواليها، آمين.
ظهور بلاي وخلفائه
قال غير واحد من المؤلفين: أول من جمع فل النصارى بالأندلس - بعد غلبة العرب لهم - علج يقال له بلاي (1) ، من أهل أشتوريش من جليقية، كان رهينة عن طاعة أهل بلده، فهرب من قرطبة أيام الحر بن عبد الرحمن الثقفي، الثاني من أمراء العرب بالأندلس، وذلك في السنة السادسة من افتتاحها، وهي سنة ثمان وتسعين من الهجرة، وثار النصارى معه على نائب الحر بن عبد الرحمن، فطردوه وملكوا البلاد، وبقي الملك فيهم إلى الآنن وكان عدة من ملك منهم إلى آخر أيام الناصر لدين الله اثنين وعشرين ملكاً، انتهى.
وقال عيسى ابن أحمد الرازي: في أيام عنبسة ابن سحيم الكلبي قام بأرض
(1) انظر ما تقدم عن بلاي ج 3: 17.
جليقية علج خبيث يقال له بلاي من وقعة أخذ النصارى بالأندلس، وجد الفرنج في مدافعة المسلمين عما بقي بأيديهم، وقد كانوا لا يطمعون في ذلك، ولقد استولى المسلمون بالأندلس على النصرانية وأجلوهم، وافتتحوا بلادهم، حتى بلغوا أريولة من أرض الفرنجة، وافتتحوا بلبونة من جليقية، ولم يبق إلا الصخرة فإنه لاذ بها ملك يقال له بلاي، فدخلها في ثلاثمائة رجل، ولم يزل المسلمون يقاتلونه حتى مات أصحابه جوعاً، وبقي في ثلاثين رجلاً وعشر نسوة، ولا طعام لهم إلا العسل يشتارونه من خروق بالصخرة فيتقوتون به، حتى أعيا المسلمين أمرهم، واحتقروا بهم، وقالوا: ثلاثون علجاً ما عسى أن يجيء منهم فبلغ أمرهم بعد ذلك من القوة والمثرة ما لا خفاء به، وفي سنة مائة وثلاث وثلاثين، هلك بلاي المذكور، وملك ابنه فافله (1) بعده، وكان ملك بلاي تسع عشرة سنة، وابنه سنتين، فملك بعدهما أذفونش بن بيطر (2) جد بني أذفونش هؤلاء اللذين اتصل ملكهم إلى اليوم، فأخذوا ما كان المسلمون أخذوه من بلادهم، انتهى باختصار.
وقال المسعودي بعد ذكره غزوة سمورة أيام الناصر، ما صورته (3) : وأخذ ما كان بأيدي المسلمين من ثغور الأندلس مما يلي الفرنجة ومدينة أربونة (4) ، خرجت عن أيدي المسلمين سنة ثلاثمائة وثلاين مع غيرها مما كان بأيديهم من المدن والحصون، وبقي ثغر المسلمين في هذا الوقت وهو سنة 336 (5) من شرق الأندلس طرطوشة، وعلى سائر بحر الروم مما يلي طرطوشة آخذاً في الشمال إفراغه على نهر عظيم ثم لاردة، انتهى.
(1)(Fafila) .
(2)
(Alphonso) ابن (pedro) ؛ وكان أذفونش هذا قد تزوج ابنة بلاي واسمها أرمنسندا (Ermensida)(فجر الأندلس: 344) .
(3)
مروج الذهب 1: 162.
(4)
المروج: وآخر ما كان
…
مدينة أربونة.
(5)
المروج: وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة.
الاستيلاء على طليطلة
ومن أول ما استرد الإفرنج من مدن الأندلس العظيمة مدينة طليطلة من يد ابن ذي النون سنة 475، وفي ذلك يقول عبد الله بن فرج اليحصبي المشهور بابن العسال:
يا أهل أندلس حثوا مطيكم فما المقام بها إلا من الغلط
الثوب ينسل من أطرافه وأرى ثوب الجزيرة منسولاً من الوسط
ونحن بين عدو لا يفارقنا كيف الحياة مع الحيات في سفط
ويروى صدر البيت الثالث هكذا:
ومن جاور الشر لا يأمن بوائقه كيف الحياة مع الحيات في سفط
وتروى الأبيات هكذا:
حثوا رواحلكم يا أهل أندلس فما المقام بها إلا من الغلط
السلك ينثر من أطرافه، وأرى سلك الجزيرة منثوراً من الوسط
من جاور الشر لا يأمن عواقبه كيف الحياة مع الحيات في سفط
وقال آخر:
يا أهل أندلس ردوا المعار فما في العرف عارية إلا مردات
ألم تروا بيدق الكفار فرزنه وشاهنا آخر الأبيات شهمات
وقال بعض المؤرخين: أخذ الأذفونش طليطلة من صاحبها القادر بالله بن المأمون يحيى بن ذي النون بعد أن حاصرها سبع سنين، وكان أخذه لها في منتصف محرم سنة478؛ انتهى. وفيه بعض مخالفة لما قبله في وقت أخذها، وسيأتي قريباً بعض ما يؤيده.
قال: وهي مدينة حصينة قديمة أزلية من بناء العمالقة، على ضفة النهر الكبير، ولها قصبة حصينة في غاية المنعة، ولها قنطرة واحدة عجيبة البنيان على قوس واحد والماء يدخل تحته بعنف وشدة جرى، ومع آخر النهر ناعورة ارتفاعها في الجو تسعون ذراعاً، وهي تصعد الماء إلى أعلى القنطرة، ويجري الماء على ظهرها فيدخل المدينة، وطليطلة هذه دار مملكة الروم، وبها كان البيت المغلق الذي كانوا يتحامون فتحه حتى فتحه لذريق فوجد فيه صورة العرب؛ انتهى.
وقد تقدم شيء من هذا فيما مر من هذا الكتاب (1) .
وقد حكى ابن بدرون في شرح العبدونية (2) أن المأمون يحيى بن ذي النون صاحب طليطلة بنى بها قصراً تأنق في بنائه، وأنفق فيه مالاً كثيراً، وصنع فيه بحيرة، وبنى في وسطها قبة، وسيق الماء إلى رأس القبة على تدبير أحكمه المهندسون، فكان الماء ينزل من أعلى القبة حواليها محيطاً بها متصلاً بعضه ببعض، فكانت القبة في غلالة من ماء سكب لا يفتر، والمأمون بن ذي النون قاعد فيها لا يمسه من الماء شيء، ولو شاء أن يوقد فيها الشمع لفعل، فبينما هو فيها إذ سمع منشداً ينشد:
أتبني بناء الخالدين، وإنما بقاؤك فيها، لو علمت، قليل
لقد كان في ظل الأراك كفاية لمن كل يوم يعتريه رحيل
فلم يلبث بعد هذا إلا يسيراً حتى قضى نحبه، انتهى.
وقال ابن خلكان (3) : إن طليطلة أخذت يوم الثلاثاء مستهل صفر سنة 478 بعد حصار شديد، انتهى.
(1) انظر ما تقدم ج 1: 161، 206.
(2)
البسامة: 271.
(3)
وفيات الأعيان 4: 118.
وقال ابن غلقمة: إن طليطلة أخذت يوم الأربعاء لعشر خلون من المحرم سنة478، وكانت وقعة الزلاقة في السنة بعدها، انتهى.
وقعة الزلاقة نقلاً عن الروض المعطار وغيره
ورأيت هنا أن أذكر وقعة الزلاقة التي نشأت عن أخذ طليطلة وما يتبع ذلك من كلام صاحب الروض المعطار وغيره فنقول (1) : إنه لما ملك يوسف بن تاشفين اللمتوني المغرب، وبنى مدينتي تلمسان ومراكش الجديدة، وأطاعته البربر مع شكيمتها الشديدة، وتمهدت له الأقطار الطويلة المديدة، تاقت نفسه إلى العبور لجزيرة الأندلس، فهم بذلك، وأخذ في إنشاء المراكب والسفن ليعبر فيها، فلما علم بذلك ملوك الأندلس كرهوا إلمامه بجزيرتهم، وأعدوا له العدة والعدد، وصعبت عليهم مدافعته، وكرهوا أن يكونوا بين عدوين الفرنج من شمالهم والمسلمين من جنوبهم، وكانت الفرنج تشتد وطأتها (2) عليهم، وتغير تنهب، وربما يقع بينهم صلح على شيء معلوم كل سنة يأخذونه من المسلمين، والفرنج ترهب ملك المغرب يوسف بن تاشفين، إذ كان له اسم كبير وصيت عظيم، لنفاذ أمره وسرعة تملكه بلاد المغرب، وانتقال الأمر إليه في أسرع وقت، مع ما ظهر لأبطال الملثمين ومشايخ صنهاجة في المعارك من ضربات السيوف ورعب في قلوب المنتدبين لقتاله، وكان ملوك الأندلس يفيئون إلى ظله، ويحذرونه خوفاً على ملكهم، مهما عبر إليهم وعاين بلادهم، فلما رأوا ما دلهم على عبوره إليهم وعلموا ذلك، راسل بعضهم بعضاً يستنجدون آراءهم في أمره، وكان مفزعهم في ذلك إلى المعتمد بن عباد، لأنه أشجع القوم، وأكبرهم مملكة، فوقع اتفاقهم
(1) أكثر هذا النص منقول عن ابن خلكان 6: 112 وما بعدها.
(2)
ق ص: تشتد وطاستها.
على مكاتبته لما تحققوا أنه يقصدهم يسألونه الإعراض عنهم، وأنهم تحت طاعته، فكتب عنهم كاتب من أهل الأندلس كتاباً، وهو: أما بعد فإنك إن أعرضت عنا نسبت إلى كرم، ولم تنسب إلى عجز، وإن أجبنا داعيك نسبنا إلى عقل، ولم ننسب إلى وهن، وقد اخترنا لأنفسنا أجمل نسبتينا، فاختر لنفسك أكرم نسبتيك، فإنك بالمحل الذي لا يجب أن تسبق فيه إلى مكرمة، وإن في استباقك ذوي البيوت ما شئت من دوام لأمرك وثبوت، والسلام. فلما وصله الكتاب مع تحف وهدايا، وكان يوسف بن تاشفين لا يعرف باللسان العربي، لكنه ذكي الطبع، يجيد فهم المقاصد، وكان له كاتب يعرف اللغتين العربية والمرابطية، فقال له: أيها الملك، هذا الكتاب من ملوك الأندلس يعظمونك فيه، ويعرفونك أنهم أهل دعوتك، وتحت طاعتك، ويلتمسون منك أن لا تجعلهم في منزلة الأعادي، فإنهم مسلمون وذوو بيوتات، فلا تغير بهم، وكفى بهم من وراءهم من الأعداء الكفار، وبلدهم ضيق لا يحتمل العساكر، فأعرض عنهم إعراضك عمن أطاعك من أهل الغرب، فقال يوسف ابن تاشفين لكاتبه: فما ترى أنت فقال: أيها الملك اعلم أن تاج الملك وبهجته شاهده الذي لا يرد، فإنه خليق بما حصل في يده من الملك والمال أن يعفو إذا استعفي، وأن يهب إذا استوهب، وكلما وهب جليلاً جزيلاً كان لقدره أعظم، فإذا عظم قدره تأصل ملكه، وإذا تأصل ملكه تشرف الناس بطاعته، وإذا كانت طاعته شرفاً جاءه الناس، ولم يتجشم المشقة إليهم، وكان وارث الملك من غير إهلاك لآخرته، واعلم أن بعض الملوك الحكماء الأكابر البصراء بطريق تحصيل الملك قال: من جاد ساد، ومن ساد قاد، ومن قاد ملك البلاد، فلما ألقى الكاتب هذا الكلام على السلطان يوسف بلغته فهمه وعلم صحته، فقال للكاتب: أجب القوم، واكتب بما يجب في ذلك، واقرأ علي كتابك، فكتب الكاتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من يوسف بن تاشفين، سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، تحية من سالمكم وسلم عليكم، وإنكم مما في أيديكم من الملك في أوسع إباحة، مخصوصين منا بأكرم إيثار
وسماحة، فاستديموا وفاءنا بوفائكم، واستصلحوا إخاءنا بإصلاح إخائكم، والله ولي التوفيق لنا ولكم، والسلام. فلما فرغ من كتابه قرأه على يوسف بن تاشفين بلسانه، فاستحسنه، وقرن به ما يصلح لهم من التحف ودرق اللمط التي لا توجد إلا ببلاده، وأنفذ ذلك إليهم، فلما وصلهم ذلك وقرأوا كتابه فرحوا به، وعظموه، وسروا بولايته، وتقوت نفوسهم على دفع الفرنج عنهم، وأزمعوا إن رأوا من الفرنج ما يريبهم أنهم يرسلون إلى يوسف بن تاشفين ليعبر إليهم، أو يمدهم بإعانة منه.
وكان ملك الإفرنج الأذفونش لما وقعت الفتنة بالأندلس وثار الخلاف، وكان كل من حاز بلداً وتقوى فيه ملكه وادعى الملك وصار مثل ملوك الطوائف، فطمع فيهم الأذفونش بسبب ذلك، وأخذ كثيراً من ثغورهم، فقوي شأنه، وعظم سلطانه، وكثرت عساكره، وأخذ طليطلة من صاحبها القادر بالله بن المأمون يحيى بن ذي النون بعد أن حاصرها سبع سنين، وكان أخذه لها في نتصف محرم سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، فزاد لعنه الله تعالىبملكه طليطلة قوة إلى قوته، وأخذ يجوس من خلال الديار، ويستفتح المعاقل والحصون.
قال ابن الأثير في " الكامل "(1) : وكان المعتمد بن عباد أعظم ملوك الأندلس ومتملك أكثر بلادها (2) ، مثل قرطبة وإشبيلية، وكان - مع ذلك - يؤدي الضريبة إلى الأذفونش كل سنة، فلما تملك الأذفونش طليطلة أرسل إليه المعتمد الضريبة المعتادة (3) ، فلم يقبلها منه، وأرسل إليه يهدده ويتوعده بالمسير إلى قرطبة ليفتحها، إلا أن يسلم إليه جميع الحصون المنيعة (4) ، ويبقى السهل للمسلمين، وكان الرسول في جمع كثير نحو خمسمائة فارس، فانزله المعتمد، وفرق أصحابه على قواد
(1) الكامل 10: 142 (ط. صادر) .
(2)
ابن الأثير: وكان يملك أكثر البلاد.
(3)
ابن الأثير: على عادته.
(4)
ابن الأثير: الحصون التي بالجبل.
عسكره، ثم أمر قواده أن يقتل كل منهم من عنده من الكفرة، وأحضر الرسول وصفعه (1) حتى خرجت عيناه، وسلم من الجماعة ثلاثة نفر، فعادوا إلى الأذفونش وأخبروه الخبر، وكان متوجهاً إلى قرطبة ليحاصرها، فرجع إلى طليطلة ليجمع آلات الحصار، ويكثر العدد والعدة، انتهى.
وقال الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن المنعم الحميري في كتابه الروض المعطار في ذكر المدن والأقطار ما ملخصه (2) : إنه لما اشتغل المعتمد بغزو ابن صمادح صاحب المرية حتى تأخر الوقت الذي كان يدفع فيه الضريبة للأذفونش وأرسلها إليه بعد ذلك، استشاط الطاغية غضباً وتشطط، وطلب بعض الحصون زيادة على الضريبة، وأمعن في التجني، وسأل في دخول امرأته القمجيطة (3) إلى جامع قرطبة لتلد فيه، إذ كانت حاملاً، لما أشار عليه بذلك القسيسون والأساقفة لمكان كنيسة كانت في الجانب الغربي منه معظمة عندهم عمل عليها المسلمون الجامع الأعظم، وسأل أن تنزل امرأته المذكورة بالمدينة الزهراء غربي مدينة قرطبة - وهي (4) التي أنشأ بناءها الناصر لدين الله، وأمعن في بنائها، وأغرب في حسنها، وجلب إليها الرخام الملون والمرمر الصافي والحوض المشهور من البلاد والأقطار، وكان يثيب على السارية بكذا وكذا غير الثمن وأجرة الحمل، وأنفق فيها الأموال العظيمة، واشتغل بها، وكان يباشر الصناع بنفسه، حتى تخلف عن حضور الجمعة ثلاث مرات متواليات، وحضر في الرابعة، وكان الخطيب يومئذ الفقيه الزاهد منذر بن سعيد البلوطي، فعلض به في الخطبة، ووبخه على رؤوس الملأ، وقصته في ذلك مشهورة، وبناء الزهراء أيضاً من أغرب مباني الإسلام، فمن أراد الوقوف على ذلك فعليه بتاريخ ابن حيان -.
(1) في بعض أصول ابن الأثير: وضغطه.
(2)
الروض: 84 - 95.
(3)
الروض: القمطيجة.
(4)
وهي.... ابن حيان: استطراد من المقري ليس في الروض المعطار.
ولنرجع إلى الأذفونش فإن الأطباء والقسوس لما أشاروا أن تكون المرأة المذكورة ساكنة بالزهراء، وتتردد إلى الجامع المذكور حتى تكون ولادتها بين طيب نسيم الزهراء وفضيلة موضع الكنيسة من الجامع المذكور، وكان السفير في ذلك يهودياً كان وزير الأذفونش، فامتنع ابن عباد من ذلك، فراجعه، فأباه وأيأسه من ذلك، فراجعه اليهودي في ذلك، وأغلظ له في القول، وواجهه (1) بما لم يحتمله ابن عباد، فأخذ ابن عباد محبرة كانت بين يديه وضرب بها رأس اليهودي، فأنزل دماغه في حلقه، وأمر به فصلب منكوساً بقرطبة، واستفتى لما سكن غضبه الفقهاء عن حكم ما فعله باليهودي، فبادر الفقيه محمد بن الطلاع بالرخصة في ذلك لتعدي الرسول حدود الرسالة إلى ما استوجب به القتل، إذ ليس له في ذلك، وقال للفقهاء: إنما بادرت بالفتوى خوفاً أن سكسل الرجل عما عزم عليه من منابذة العدو، وعسى الله أن يجعل في عزيمته للمسلمين فرجاً.
وبلغ الأذفونش ما صنعه ابن عباد، فأقسم بآلهته ليغزونه بإشبيلية، ويحاصره في قصره، فجرد جيشين جعل على أحدهما كلباً من مساعير كلابه وأمره أن يسير على كورة باجة من غرب الأندلس ويغير على تلك التخوم والجهات، ثم يمر على لبلة إلى إشبيلية، وجعل موعده إياه طريانة للاجتماع معه، ثم زحف الأذفونش بنفسه في جيش آخر عرمرم، فسلك طريقاً غير الطريق التي سلكها الآخر، وكلاهما عاث في البلاد وخرب ودمر، حتى اجتمعا لموعدهما بضفة النهر الأعظم قبالة قصر ابن عباد، وفي أيام مقامه هنالك كتب إلى ابن عباد زارياً عليه: كثر بطول مقامي في مجلسي الذبان، واشتد علي الحر، فأتحفني من قصرك بمروحة أروح بها على نفسي، وأطرد بها الذباب عن وجهي، فوقع له ابن عباد بخط يده في ظهر الرقعة: قرأت كتابك، وفهمت خيلاءك وإعجابك، وسأنظر لك في مراوح من الجلود اللمطية تروح منك لا تروح عليك، إن شاء الله
(1) الروض: وشافهه.
تعالى. فلما وصلت الأذفونش رسالة بن عباد، وقرئت عليه، وعلم مقتضاها، أطرق إطراق من لم يخطر له ذلك ببال.
وفشا في الأندلس توقيع ابن عباد، وما أظهر من العزيمة على جواز يوسف بن تاشفين، والاستظهار به على العدو، فاستبشر الناس، وفرحوا بذلك، وفتحت لهم أبواب الآمال. وأما ملوك طوائف الأندلس فلما تحققوا عزم ابن عباد وانفراده برأيه في ذلك، اهتموا منه، ومنهم من كاتبه، ومنهم من كلمه مواجهة، وحذروه عاقبة ذلك، وقالوا له: الملك عقيم، والسيفان لا يجتمعان في غمد واحد، فأجابهم ابن عباد بكلمته السائرة مثلاً: رعي الجمال خير من رعي الخنازير، ومعناه أن كونه مأكولاً ليوسف بن تاشفين أسيراً له يرعى جماله في الصحراء خير من كونه ممزقاً للأذفونش أسيراً له يرعى خنازيره في قشتالة. وقال لعذاله ولوامه: يا قوم إني من أمري على حالتين: حالة يقين، وحالة شك، ولا بد لي من إحداهما، أما حالة الشك فإني إن استندت لإلى ابن تاشفين أو إلى الأذفونش ففي الممكن أن يفي لي ويبقى على وفائه، ويمكن أن لا يفعل، فهذه حالة الشك، وأما حالة اليقين فإني إن استندت إلى ابن تاشفين فأنا أرضي الله، وإن استندت إلى الأذفونش أسخطت الله تعالى، فإذا كانت حالة الشك فيها عارضة، فلأي شيء أدع ما يرضي الله وآتي ما يسخطه فحينئذ قصر أصحابه عن لومه.
ولما اعتزم أمر صاحب بطليوس المتوكل عمر بن محمد وعبد الله بن حبوس الصنهاجي صاحب غرناطة أن يبعث إليه كل منهما قاضي حضرته، ففعلا، واستحضر قاضي الجماعة بقرطبة أبا بكر عبيد الله بن أدهم، وكان أعقل أهل زمانه، فلما اجتمع عنده القضاة بإشبيلية أضاف إليهم وزيره أبا بكر ابن زيدون، وعرفهم أربعتهم أنهم رسله إلى يوسف بن تاشفين، وأسند إلى القضاة ما يليق بهم من وعظ يوسف بن تاشفين وترغيبه في الجهاد، وأسند إلى وزيره ما لا بد منه في تلك السفارة من إبرام العقود السلطانية، وكان يوسف بن تاشفين لا تزال
تفد عليه وفود ثغور الأندلس مستعطفين، مجهشين بالبكاء، ناشدين الله والإسلام، مستنجدين بفقهاء حضرته ووزراء دولته، فيسمع إليهم، ويصغي لقولهم، وترق نفسه لهم.
فما عبرت رسل ابن عباد البحر إلا ورسل يوسف بالمرصاد، ولما انتهت الرسل إلى ابن تاشفين أقبل عليهم، وأكرم مثواهم، واتصل ذلك بابن عباد، فوجه من إشبيلية أسطولاً نحو صاحب سبتة، فانتظمت في سلك يوسف، ثم جرت بينه وبين الرسل مراوضات، ثم انصرفت إلى مرسلها، ثم عبر يوسف البحر عبوراً سهلاً، حتى أتى الجزيرة الخضراء، فتحوا له، وخرج إليه أهلها بما عندهم من الأقوات والضيافات، وأقاموا له سوقاً جلبوا إليه ما عندهم من سائر المرافق، وأذنوا للغزاة في دخول البلد والتصرف فيه، فامتلأت المساجد والرحبات بالمطوعين، وتواصوا بهم خيراً، هذا مساق صاحب الروض المعطار.
وأما ابن الأثير (1) فإنه لما ذكر وقعة الزلاقة ذكر ما تقدم من فعل المعتمد بالأرسال وقتلهم، وتخوف أكابر الأندلس من الأذفونش، وأنه اجتمع منهم رؤساء، وساروا إلى القاضي عبيد الله (2) بن محمد بن أدهم وقالوا له: ألا تنظر إلى ما فيه المسلمون من الصغار والذلة وإعطائهم الجزية، بعد أن كانوا يأخذونها، وقالوا: قد غلب على البلاد الفرنج، ولم يبق إلا القليل، وإن طال هذا الأمر عادت نصرانية كما كانت أولاً، وقد رأينا رأياً نعرضه عليك، قال: وماهو قالوا: نكتب إلى عرب إفريقية، ونبذل لهم إذا وصلوا إلينا شطر أموالنا، ونخرج معهم مجاهدين في سبيل الله، فقال لهم: إنا نخشى إن وصلوا إلينا أن يخربوا بلادنا كما فعلوا بإفريقية، ويتركوا الإفرنج ويبدأوا بنا، والمرابطون أصلح منهم، وأقرب إلينا، فقالوا له: فكاتب أمير المسلمين، واسأله العبور إلينا أو إعانتنا بما تيسر من الجند، فبينما هم في ذلك يتراوضون إذ قدم عليهم المعتمد بن عباد
(1) الكامل 10: 151 وقد أورده ابن خلكان أيضاً 4: 119.
(2)
في ابن الأثير: عبد الله؛ راجع الصلة: 293.
قرطبة، فعرض عليه القاضي ابن أدهم ما كانوا فيه، فقال له ابن عباد: أنت رسولي إليه في ذلك، فامتنع، وإنما أراد أن يبرئ نفسه من ذلك، فألح عليه المعتمد، فسار إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، فوجده بسبتة، وأبلغه الرسالة وأعلمه بما فيه المسلمون من الخوف من الأذفونش، ففي الحال أمر بعبور العساكر إلى الأندلس، وأرسل إلى مراكش في طلب من بقي من العساكر، فأقبلت إليه يتلو بعضها بعضاً، فلما تكاملت عنده عبر البحر، واجتمع بالمعتمد بن عباد بإشبيلية، وكان المعتمد قد جمع عساكره أيضاً، وخرج من أهل قرطبة عسكر كثير، وقصده المطوعة من سائر بلاد الأندلس، ووصلت الأخبار إلى الأذفونش فجمع عساكره، وحشد جنوده، وسار من طليطلة، وكتب إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين كتاباً كتبه له بعض غواة أدباء المسلمين يغلظ له في القول، ويصف ما معه من القوة والعدد والعدد، وبالغ في ذلك، فلما وصله وقرأه يوسف أمر كاتبه أبا بكر ابن القصيرة أن يجيبه، وكان كاتباً مفلقاً، فكتب وأجاد، فلما قرأه على أمير المسلمين قال: هذا كتاب طويل، أحضر كتاب الأذفونش واكتب في ظهره: الذي يكون ستراه وأرسله إليه، فلما وقف عليه الأذفونش ارتاع له، وعلم أنه بلي برجل لا طاقة له به.
وذكر ابن خلكان (1) أن يوسف بن تاشفين أمر بعبور الجمال فعبر منها ما أغص الجزيرة، وارتفع رغاؤها إلى عنان السماء، ولم يكن أهل الجزيرة رأوا جملاً قط ولا خيلهم، فصارت الخيل تجمح من رؤية الجمال ومن رغائها، وكان ليوسف في عبور الجمال رأي مصيب، فكان يحدق بها عسكره، ويحضرها للحرب، فكانت خيل الفرنج تجمح منها، وقدم يوسف بين يديه كتاباً للأذفونش يعرض عليه فيه الدخول في الإسلام أو الجزية أو الحرب، كما هي السنة، ومن جملة ما في الكتاب: بلغنا يا أذفونش أنك دعوت إلى الاجتماع بنا، وتمنيت أن
(1) وفيات الأعيان 6: 115.
تكون لك سفن تعبر بها البحر إلينا، فقد عبرنا إليك، وقد جمع الله تعالى في هذه الساحة بيننا وبينك، وسترى عاقبة دعائك " وما دعاء الكافرين إلا في ضلال " انتهى بمعناه، وأكثره بلفظه.
ولنرجع إلى كلام صاحب " الروض المعطار "(1) فإنه أقعد بتاريخ الأندلس، إذ هو منهم، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه (2)، قال رحمه الله تعالى: فلما عبر يوسف وجميع جيوشه إلى الجزيرة الخضراء انزعج إلى إشبيلية على أحسن الهيئات، جيشاً بعد جيش، وأميراً بعد أمير، وقبيلاً بعد قبيل، وبعث المعتمد ابنه إلى لقاء يوسف، وأمر عمال البلاد بجلب الأقوات والضيافات، ورأى يوسف من ذلك ما سره ونشطه، وتواردت الجيوش مع أمرائها على إشبيلية، وخرج المعتمد إلى لقاء يوسف من إشبيلية في مائة فارس وجوه أصحابه، فلما أتى محلة يوسف ركض نحو القوم، وركضوا نحوه، فبرز إليه يوسف وحده، والتقيا منفردين، وتصافحا وتعانقا، وأظهر كل منهما لصاحبه المودة والخلوص، وشكرا نعم الله تعالى، وتواصيا بالصبر والرحمة، وبشرا أنفسهما بما استقبلاه من غزو أهل الكفر، وتضرعا إلى الله تعالى في أن يجعل ذلك خالصاً لوجهه، مقرباً إليه، وافترقا، فعاد يوسف لمحلته، وابن عباد إلى جهته، وألحق ابن عباد ما كان أعده من هدايا وتحف وضيافات أوسع بها على محلة يوسف بن تاشفين، وباتوا تلك الليلة، فلما أصبحوا وصلوا الصبح ركب الجميع، وأشار ابن عباد على يوسف بالتقدم نحو إشبيلية، ففعل، ورأى الناس من عزة سلطانه ما سرهم، ولم يبق من ملوك الطوائف بالأندلس إلا من بادر أو أعان وخرج أو أخرج، وكذلك فعل الصحراويون مع يوسف، كل صقع من أصقاعه رابطوا وصابروا (3) . وكان الأذفونش لما تحقق الحركة والحرب استنفر جميع أهل بلاده
(1) الروض: 87.
(2)
بالذي فيه: سقطت من ق.
(3)
في الأصول: وكابروا.
وراءها ورفع القسيسون والرهبان والأساقفة صلبانهم، ونشروا أناجيلهم، فاجتمع له من الجلالقة والإفرنجة ما لا يحصى عدده، وجواسيس كل فريق تتردد بين الجميع، وبعث الأذفونش إلى ابن عباد: إن صاحبكم يوسف قد تعنى من بلاده، وخاض البحور، وأنل أكفيه العناء فيما بقي، ولا أكلفكم تعباً، أمضي إليكم وألقاكم في بلادكم رفقاً بكم وتوفيراً عليكم، وقال لخاصته وأهل مشورته: إني رأيت أني إن مكنتهم من الدخول إلى بلادي، فناجزوني فيها وبين جدرها، وربما كانت الدائرة علي، يستحكمون البلاد، ويحصدون من فيها غداة واحدة، ولكني أجعل يومهم معي في حوز بلادهم، فإن كانت علي اكتفوا بما نالوه، ولم يجعلوا الدروب وراءهم إلا بعد أهبة أخرى فيكون في ذلك صون لبلادي، وجبر لمكاسري، وإن كانت الدائرة عليهم كان مني فيهم وفي بلادهم ما خفت أنا أن يكون في وفي بلادي إذا ناجزوني في وسطها، ثم برز بالمختار من جنوده، وأنجاد جموعه على باب دربه، وترك بيقة جموعه خلفه، وقال حين نظر إلى ما اختاره منهم: بهؤلاء أقاتل الجن والإنس وملائكة السماء، فالمقلل يقول: المختارون أربعون ألف ذراع، ولكل واحد أتباع. وأما النصارى فيعجبون ممن يزعم ذلك، ويرون أنهم أكثر من ذلك كله. واتفق الكل أن عدد المسلمين أقل من الكفرة، ورأى الأذفونش في نومه كأنه راكب فيل يضرب نقيرة طبل، فهالته الرؤيا، وسأل عنها القسوس والرهبان فلم يجبه أحد، فدس يهودياً عمن يعلم تأويلها من المسلمين، فدل على معبر، فقصها عليه، ونسبها لنفسه، فقال له المعبر: كذبت، ما هذه الرؤيا لك، ولا أعبرها لك إلا إن صدقتني بصاحب الرؤيا، فقال له: اكتم علي، الرؤيا للأذفونش، فقال المعبر: صدقت ولا يراها غيره، والرؤيا تدل على بلاء عظيم، ومصيبة فادحة فيه وفي عسكره، وتفسيرها قوله تعالى " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " وأما ضربه النقيرة فتأويلها " فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير " فانصرف اليهودي وذكر للأذفونش
ما وافق خاطره.
ثم خرج الأذفونش ووقف على الدروب، ومال بجيوشه إلى الجهة الغربية من بلاد الأندلس، وتقدم السلطان يوسف فقصده، وتأخر ابن عباد لبعض مهماته، ثم انزعج يقفو أثره بجيش فيه حماة الثغور، ورؤساء الأندلس، وجعل ابنه عبد الله على مقدمته، وسار وهو ينشد لنفسه متفائلاً مكملاً البيت المشهور:
لا بد من فرج قريب يأتيك بالعجب العجيب
غزو عليك مبارك سيعود بالفتح القريب
لله سعدك إنه نكس على دين الصليب
لا بد من يوم يكو
…
ن له أخاً يوم القليب (1) ووافت الجيوش كلها بطليوس، فأناخوا بظاهرها، وخرج إليهم صاحبها المتوكل عمر بن محمد بن الأفطس، فلقيهم بما يجب من الضيافات والأقوات وبذل المجهود، وجاءهم الخبر بشخوص الأذفونش، ولما ازدلف بعضهم إلى بعض أذكى المعتمد عيونه في محلات الصحراويين خوفاً عليهم من مكايد الأذفونش، إذ هم غرباء لا علم لهم بالبلاد، وجعل يتولى ذلك بنفسه، حتى قيل: إن الرجل من الصحراويين لا يخرج على طرف المحلة لقضاء أمر أو حاجة إلا ويجد ابن عباد بنفسه مطيفاً بالمحلة، بعد ترتيب الخيل والرجال على أبواب المحلات، وقد تقدم كتاب السلطان يوسف إلى الأذفونش يدعوه إلى إحدى الثلاث المأمور بها شرعاً، فامتلأ الكافر غيظاً، وعتا وطغى، وراجعه بما يدل على شقائه، وقامت الأساقفة والرهبان فرفعوا (2) صلبانهم، ونشروا أناجيلهم وتبايعوا على الموت، ووعظ يوسف وابن عباد أصحابهما، وقام الفقهاء والصالحون مقام الوعظ، وحضوهم على الصبر والثبات، وحذروهم من الفشل والفرار،
(1) يوم القليب يعني معركة بدر.
(2)
ق: ونصبوا.
وجاءت الطلائع تخبر أن العدو مشرف عليهم صبيحة يومهم، وهو يوم الأربعاء، فأصبح المسلمون وقد أخذوا مصافهم، فكع الأذفونش، ورجع إلى إعمال المكر والخديعة، فعاد الناس إلى محلاتهم، وباتوا ليلتهم، ثم أصبح يوم الخميس فبعث الأذفونش إلى ابن عباد يقول: غداً هو الجمعة، وهو عيدكم، والأحد عيدنا، فليكن لقاؤنا بينهما، وهو السبت، فعرف المعتمد بذلك السلطان يوسف، وأعلمه أنها حيلة منه وخديعة، وإنما قصد الفتك بنا يوم الجمعة، فليكن الناس على استعداد له يوم الجمعة كل النهار، وبات الناس ليلتهم على أهبة واحتراس. وبعد مضي جزء من الليل انتبه الفقيه الناسك أبو العباس أحمد ابن رميلة القرطبي - واكن في محلة ابن عباد - فرحاً مسروراً يقول: إنه رأى النبي، صلى الله عليه وسلم، في تلك الليلة في النوم فبشره بالفتح والموت على الشهادة في صبيحة تلك الليلة، فتأهب ودعا وتضرع ودهن رأسه وتطيب، وانتهى ذلك إلى ابن عباد، فبعث إلى يوسف يخبره بها تحقيقاً لما توقعه من غدر الكافر بالله تعالى.
ثم جاء بالليل فارسان من طلائع المعتمد يخبران أنهما أشرفا على محلة الأذفونش وسمعا ضوضاء الجيوش واضطراب الأسلحة، ثم تلاحق بقية الطلائع متحققين بتحرك الأذفونش، ثم جاءت الجواسيس من داخل محلتهم تقول: استرقنا السمع فسمعنا الأذفونش يقول لأصحابه: ابن المعتمد مسعر هذه الحروب، وهؤلاء الصحراويون وإن كانوا أهل حفاظ وذوي بصائر في الحروب فهم غير عارفين بهذه البلاد، وإنما قادهم ابن عباد، فاقصدوه واهجموا عليه، واصبروا فإن انكشف لكم هان عليكم الصحراويون بعده، ولا أرى ابن عباد يصبر لكم إن صدقتموه الحملة، فعند ذلك بعث ابن عباد الكاتب أبا بكر ابن القصيرة إلى السلطان يوسف يعرفه بإقبال الأذفونش، ويستحث نصرته، فمضى ابن القصيرة يطوي المحلات حتى جاء يوسف بن تاشفين، فعرفه بجلية الأمر، فقال له: قل له إني سأقرب منه إن شاء الله تعالى، وأمر يوسف بعض قواده أن يمضي
بكتيبة رسمها له حتى يدخل محلة النصارى فيضرمها ناراً ما دام الأذفونش مشتغلاً مع ابن عباد.
وانصرف ابن القصيرة إلى المعتمد، فلم يصله إلا وقد غشيته جنود الطاغية، فصدم ابن عباد صدمة قطعت آماله، ومال الأذفونش عليه بجموعه، وأحاطوا به من كل جهة، فهاجت الحرب، وحمي الوطيس، واستحر القتل في أصحاب ابن عباد، وصبر ابن عباد صبراً لم يعهد مثله لأحد، واتبطأ السلطان يوسف وهو يلاحظ طريقه، وعضته الحرب، واشتد عليه وعلى من معه البلاء، وأبطأ عليه الصحراويون وساءت الظنون، وانكشف بعض أصحاب ابن عباد وفيهم ابنه عبد الله، وأثخن ابن عباد جراحات، وضرب على رأسه ضربة فلقت هامته حتى وصلت إلى صدغه وجرحت يمنى يده، وطعن في أحد جانبيه، وعقرت تحته ثلاثة أفراس كلما هلك واحد قدم له آخر، وهو يقاسي حياض الموت، ويضرب يميناً وشمالاً، وتذكر في تلك الحالة ابناً له صغيراً كان مغرماً به تركه في إشبيلية عليلاً، وكنيته أبو هاشم، فقال:
أبا هاشم هشمتني الشفار فلله صبري لذاك الأوار
ذكرت شخيصك تحت العجاج فلم يثنني ذكره للفرار
ثم كان أول من وافى ابن عباد من قواد ابن تاشفين داود بن عائشة، وكان بطلاً شجاعاً شهماً، فنفس بمجيئه عن ابن عباد، ثم أقبل يوسف بعد ذلك، وطبوله تصعد أصواتها إلى الجو، فلما أبصره الأذفونش وجه حملته إليه، وقصده بمعظم جنوده، فبادر إليهم السلطان يوسف، وصدمهم بجمعه، فردهم إلى مركزهم، وانتظم به شمل ابن عباد، واستنشق ريح الظفر، وتياشر بالنصر، ثم صدقوا جميعاً الحملة، فتزلزلت الأرض بحوافر خيولهم، وأظلم النهار بالعجاج والغبار، وخاضت الخيل في الدماء، وصبر الفريقان صبراً عظيماً، ثم تراجع ابن عباد إلى يوسف، وحمل معه حملة جاء معها النصر، وتراجع
المنهزمون من أصحاب ابن عباد حين علموا بالتحام الفئتين، وصدقوا الحملة، فانكشف الطاغية، ومر هارباً منهزماً وقد طعن في إحدى ركبتيه طعنة بقي يخمع بها بقية عمره.
وعلى سياق ابن خلكان (1) أن ابن تاشفين نزل على أقل من فرسخ من عسكر العدو في يوم الأربعاء، وكان الموعد في المناجزة في يوم السبت، فغدر الأذفونش ومكر، فلما كان سحر يوم الجمعة منتصف رجب أقبلت طلائع ابن عباد، والروم في أثرها، والناس على طمأنينة، فبادر ابن عباد للركوب، وبث الخبر في العساكر فماجت بأهلها، ووقع البهت، ورجفت الأرض، وصار الناس فوضى على غير تعبية ولا أهبة، ودهمتهم خيل العدو، فأحاطت بابن عباد، وحطمت ما تعرض لها، وتركت الأرض حصيداً خلفها، وجرح ابن عباد جرحاً أشواه (2) ، وفر رؤساء الأندلس وتركوا محلاتهم وأسلموها، وظنوا أنه وهي لا يرقع، ونازلة لا تدفع، زظن الأذفونش أن السلطان يوسف في المنهزمين ولم يعلم أن العاقبة للمتقين، فركب أمير المسلمين، وأحدق به أنجاد (3) خيله ورجله من صنهاجة رؤساء القبائل، وقصدوا محلة الأذفونش فاقتحموها ودخلوها، وفتكوا فيها، وقتلوا، وضربت الطبول، وزعقت البوقات، فاهتزت الأرض، وتجاوبت الجبال والآفاق، وتراجع الروم إلى محلاتهم بعد أن علموا أن أمير المسلمين فيها، فصدموا أمير المسلمين، فأفرج (4) لهم عنها، ثم كر عليهم فأخرجهم منها، ثم كروا عليه فخرج لهم عنها، ولم تزل الكرات بينهم تتوالى إلى أن أمر أمير المسلمين حشمه السودان فترجل منهم زهاء أربعة آلاف،
(1) انظر ابن خلكان 6: 116 وهو ينقل عن كتاب " تذكر العاقل وتنبيه الغافل " للبياسي.
(2)
في الأصول: أساءه.
(3)
في الأصول: جياد.
(4)
في الأصول: فخرج.
ودخلوا المعترك بدرق اللمط وسيوف الهند ومزاريق الران (1) ، فطعنوا الخيل فرمحت بفرسانها، وأجمحت (2) عن أقرانها، وتلاحق الأذفونش بأسود نقدت مزاريقه، فأهوى ليضربه بالسيف، فلصق به الأسود، وقبض على عنانه، وانتضى خنجراً كان متمنطقاً به، فأثبته في فخذه، فهتك حلق درعه، ونفذ من فخذه مع بداد سرجه، وكان وقت الزوال، وهبت ريح النصر، فأنزل الله سكينته على المسلمين، ونصر دينه القويم، وصدقوا الحملة على الأذفونش وأصحابه، فأخرجوهم عن محلتهم، فولوا ظهورهم وأعطوا أعناقهم، والسيوف تصفعهم والرماح تطعنهم، إلى أن لحقوا ربوة لجأوا إليها واعتصموا بها، وأحدقت بهم الخيل، فلما أظلم الليل انساب الأذفونش وأصحابه من الربوة، وأفلتوا بعدما تشبثت (3) بهم أظفار المنية، واستولى المسلمون على ما كان في محلتهم من الآلات والسلاح والمضارب والأواني وغير ذلك، وأمر ابن عباد بضم رؤوس قتلى المشركين، فاجتمع من ذلك تل عظيم، انتهى، وبعضه بالمعنى.
رجع إلى كلام صاحب الروض المعطار قال (4) :
ولجأ الأذفونش إلى تل كان يلي محلته في نحو خمسمائة فارس كل واحد منهم مكلوم، وأباد القتل والأسر من عداهم من أصحابهم، وعمل المسلمون من رؤوسهم مآذن (5) يؤذنون عليها، والمخذول ينظر إلى موضع الوقيعة ومكان الهزيمة فلا يرى إلا نكالاً محيطاً به وبأصحابه، وأقبل ابن عباد على السلطان يوسف وصافحه وهنأه وشكره وأثنى عليه، وشكر يوسف صبر ابن عباد ومقامه وحسن
(1) في الأصول: الزان.
(2)
ق ص: وأجمحت، ابن خلكان: وأحجمت.
(3)
ابن خلكان: نشبت.
(4)
الروض: 93.
(5)
الروض: صوامع.
بلائه وجميل صبره، وسأله عن حاله عندما أسلمته رجاله بانهزامهم عنه، فقال له: هم هؤلاء قد حضروا بين يديك فليخبروك.
وكتب ابن عباد إلى ابنه بإشبيلية كتاباً مضمونه: كتابي هذا من المحلة المنصورة يوم الجمعة الموفي عشرين من رجب، وقد أعز الله الدين، ونصر المسلمين، وفتح لهم الفتح المبين، وهزم الكفرة والمشركين، وأذاقهم العذاب الأليم، والخطب الجسيم، فالحمد لله على ما يسره وسناه من هذه المسرة العظيمة، والنعمة الجسيمة، في تشتيت شمل الأذفونش والاحتواء على جميع عساكره، أصلاه الله نكال الجحيم، ولا أعدمه الوبال العظيم المليم، بعد إتيان النهب على محلاته، واستئصال القتل في جميع أبطاله وحماته، حتى اتخذ المسلمون من هاماتهم صوامع يؤذنون عليها، فلله الحمد على جميل صنعه، ولم يصبني والحمد لله إلا جراحات يسيرة آلمت لكنها فرجت بعد ذلك، فلله الحمد والمنة، والسلام.
واستشهد في ذلك اليوم جماعة من الفضلاء والعلماء وأعيان الناس، مثل ابن رميلة صاحب الرؤية المذكورة، وقاضي مراكش أبي مروان عبد الملك المصمودي، وغيرهما، رحمهما الله تعالى.
وحكي أن موضع المعترك كان على اتساعه ما كان فيه موضع قدم، إلا على ميت أو دم، وأقامت العساكر بالموضع أربعة أيام، حتى جمعت الغنائم، واستؤذن في ذلك السلطان يوسف، فعف عنها، وآثر بها ملوك الأندلس، وعرفهم أن مقصده الجهاد والأجر العظيم، وما عند الله في ذلك من الثواب المقيم، فلما رأت ملوك الأندلس إيثار يوسف لهم بالغنائم استكرموه، وأحبوه وشكروا له ذلك.
ولما بلغ الأذفونش إلى بلاده وسأل عن أبطاله وشجعانه وأصحابهم ففقدهم ولم يسمع إلا نواح الثكلى عليهم، اهتم ولم يأكل ولم يشرب حتى هلك هماً وغما، وراح إلى أمه الهاوية، ولم يخلف إلا بنتاً واحدو جعل الأمر إليها، فتحصنت بطليلة.
ورحل المعتمد إلى إشبيلية ومعه السلطان يوسف بن تاشفين، فأقام السلطان
يوسف بن تاشفين بظاهر لإشبيلية ثلاثة أيام، وردت عليه من المغرب أخباراً تقتضي العزم فسافر وذهب معه ابن عباد يوماً وليلة، فحلف ابن تاشفين وعزم عليه في الرجوع، وكانت جراحاته تورمت عليه، فسير معه ولده عبد الله إلى أن وصل البحر، وعبر إلى المغرب.
ولما رجع ابن عباد إلى إشبيلية جلس للناس، وهنئ بالفتح، وقرأت القراء، وقام على رأسه الشعراء، فأنشدوه، قال عبد الجليل بن وهبون: حضرت ذلك اليوم، وأعددت قصيدة أنشدها بين يديه، فقرأ القارئ " إلا تنصروه فقد نصره الله " فقلت: بعداً لي ولشعري، والله ما أبقت لي هذه الآية معنى أحضره وأقوم به.
ولما عزم السلطان (1) يوسف بن تاشفين إلى بلاده ترك الأمير سير بن أبي بكر أحد قواده المشاهير، وترك معه جيشاً برسم غزو الفرنج، فاستراح الأمير المذكور اياماً قلائل، ودخل بلاد الأذفونش، واطلق الغارة ونهى وسبى، وفتح الحصون المنيعة والمعاقل الصعبة العويصة، وتوغل في البلاد، وحصل أموالاً وذخائر عظيمة، ورتب رجالاً وفرساناً في جميع ما أخذه، وأرسل للسلطان يوسف جميع ما حصله، وكتب له يعرفه أن الجيوش بالثغور مقيمة على مكابدة العدو وملاومة الحرب والقتال فيس أضيق العيش وانكده، وملوك الأندلس في بلادهم وأهليهم في أرغد العيش وأطيبه، وسأله مرسومه، فكتب إليه أن يأمرهم بالنقلة والرحيل إلى أرض العدوة، فمن فعل فذاك، ومن أبى فحاصره وقاتله، ولا تنفس عليه، ولتبدأ بمن والى الثغور، ولا تتعرض للمعتمد بن عباد، إلا بعد استيلائك على البلاد، وكل بلد أخذته فول فيه أمراً من عساكرك، فأول من ابتدأ به من ملوك الأندلس بنو هود، وكانوا بروطة - بضم الراء المهملة، وبعدها واو ساكنة، وطاء مهملة مفتوحة، وبعدها هاء ساكنة، وهي قلعة منيعة من
(1) عاد إلى النقل عن ابن خلكان بإيجاز.
عاصمات الذرا، ومائها ينبع من أعلاها، وفيها من الأقوات والذخائر المختلفات ما لا تفنيه الأزمان - فحاصرها فلم يقدر عليها ورحل عنها، وجند أجناداً على هيئة الفرنج وزيهم، وأمرهم أن يقصدوها ويغيروا عليها، وكمن هو وأصحابه بقرب منها، فلما رآهم أهل القلعة استضعفوهم، فنزلوا إليهم، ومعهم صاحب القلعة، فخرج عليه سير المذكور، وقبضه باليد، وتسلم الحصن.
ثم نازل بني ضاهر بشرق الأندلس، فأسلموا له البلاد، ولحقوا ببر العدوة.
ثم نازل بني صمادح بالمرية، ولها قلعة حصينة، فحاصرهم وضيق بهم، ولما علم ابن صمادح الغلب أسف ومات غبناً، فأخذ القلعة واستولى على المرية وجميع أعمالها.
ثم قصد بطليوس، وكان بها المتوكل عمر بن محمد بن الأفطس المتقدم ذكره، فحاصره وأخذه واستولى على جميع أعماله وماله، ولم يبق له إلا المعتمد بن عباد، فكتب للسلطان يوسف يعرفه بما فعل، ويسأله مرسومه في ابن عباد، فكتب إليه يأمره انه يعرض عليه النقلة لبر العدوة بجميع الأهل والعشيرة، فإن رضي، وإلا فحاصره وخذه وأرسل به كسائر أصحابه، فواجهه وعرفه بما رسم به السلطان يوسف، وسأله الجواب، فلم يجب بنفي ولا إثبات، ثم إنه نازل إشبيلية وحاصره بها وألح عليه فأقام الحصار شهراً، ودخل البلد قهراً، واستخرجه من قصره، فحمل وجميع أهله وولده إلى العدوة فأنزل بأغمات، وأقام بها إلى أن مات، رحمه الله تعالى وعفا عنه.
وأما ابن الأثير ففي كلامه تقديم وتأخير وبعض خلاف لما مر.
وأخبار المعتمد بن عباد، وما رآه من الملك والعز على كل حاضر وباد، وما قاساه في الأسر من الضيق والعسر وسوء العيش أمر عجيب، يتعظ به العاقل الأريب، وأما ما مدحته به الشعراء وأجوبته لهم في حالي يسره وعسرهن وملكه وأسره، وطيه ونشره، وتجهمه وبشره، فهو كثير، وفي كتب التواريخ منه نظم ونثير، وقد قدمنا منه في هذا الكتاب ما يبعث الاعتبار ويثير، وخصوصاً في الباب السابع من هذا التأليف الذي هو عند المنصف أثير، وفي المعتمد وأبيه
المعتضد يقول بعض الشعراء (1) :
من بني منذر وذاك انتساب زاد في فخرهم بنوا عباد
فتية لم تلد سواها المعالي والمعالي قليلة الأولاد
وقال ابن القطاع في كتابه " لمح الملح "(2) في حق المعتمد: إنه أندى ملوك الأندلس راحة، وأرحبهم ساحة، وأعظمهم ثماداً، وأرفعهم عماداً، ولذلك كانت حضرته ملقى الرحال (3) ، وموسم الشعراء، وقبلة الآمال، ومألف الفضلاء، حتى إنه لم يجتم بباب أحد من الملوك من أعيان الشعراء، وأفاضل الأدباء، ما كان يجتمع ببابه، وتشتمل عليه حاشيتا جنابه.
وقال ابن بسام في " الذخيرة "(4) : للمعتمد شعر، كما انشق الكمام عن الزهر، لو صار مثله ممن جعل الشعر صناعة، واتخذه بضاعة، لكان رائقاً معجباً، ونادراً مستغرباً، [فمن ذلك قوله] (5) :
أكثرت هجرك غير أنك ربما عطفتك أحياناً على أمور
فكأنما زمن التهاجر بيننا ليل، وساعات الوصال بدور
وقال: وهذا المعنى ينظر إلى قول بعضهم من أبيات:
أسفر ضوء الصبح عن وجهه فقام ذاك الخال فيه بلال
كأنما الخال على خده ساعات هجر في زمان الوصال
(1) ابن خلكان 4: 112.
(2)
نقل العمري في المسالك قطعة موجزة من هذا الكتاب؛ وهذا النص قد نقله المقري عن ابن خلكان 4: 115.
(3)
ق ص: الرجال.
(4)
لا يزال المقري يتابع نص ابن خلكان ص: 115.
(5)
زيادة من ابن خلكان.
وعزم على إرسال حظاياه من قرطبة إلى إشبيلية فخرج معهن يشيعهن فسايرهن من أول الليل إلى الصبح، فودعهن ورجع، وأنشد أبيتاً منها:
سليرتهم والليل عقد ثوبه حتى تبدى للنواظر معلما
وفقفت ثم مودعاً وتسلمت مني يد الإصباح تلك الأنجما
وهذا المعنى في نهاية الحسن، ثم ذكر من كلامه جملة.
عود وانعطاف:
ولما جاء أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى ناحية غرناطة (1) - بعدما حصر بعض حصون الفرنج، فلم يقدر عليه - خرج غلى لقائه صاحب غرناطة عبد الله بن بلكين، فسلم عليه، ثم عاد إلى بلده ليخرج له التقادم، فغدر به ودخل البلد، وأخرج عبد الله، ودخل قصره فوجد فيه من الذخائر والأموال ما لا يحد ولا يحصى، ثم رجع إلى مراكش وقد أعجبه حسن بلاد الأندلس وبهجتها، وما بها من المباني والبساتين والمطاعم وسائر الأصناف التي لا توجد في بلاد العدوة، إذ هي بلاد بربر وأجلاف عربان، فجعل خواص يوسف يعظمون عنده بلاد الأندلس ويحسنون له أخذها، ويوغرون قلبه على المعتمد بأشياء نقلوها عنه، فتغير على المعتمد وقصد مشارفة الأندلس.
وحكى ابن خلدون أن علماء الأندلس أفتوا ابن تاشفين بجواز خلع المعتمد وغيره من ملوك الطوائف، وبقتاله إن امتنعوا، فجهز يوسف العساكر إلى الأندلس، وحاصر سير بن أبي بكر أحد عظماء دولة يوسف إشبيلية وبها المعتمد، فكان من دفاعه وشدة ثباته ما هو معلوم، ثم أخذ أسيراً، وصار طرف الملك بعه حسيراً.
(1) لم يكن هذا في الجواز الأول ليوسف.
وفي وصف ذلك يقول صاحب القلائد بعد كلام (1) : ثم جمع هو وأهله وحملتهم الجواري المنشآت، وضمتهم جوانحها كأنهم أموات، بعدما ضاق عنهم القصر، وراق منهم المصر (2) ، والناس قد حشروا (3) بضفتي الوادي، يبكون بدموع كالغوادي، فساروا والنوح يحدوهم، والبوح باللوعة لا يعدوهم، انتهى.
ولما فرغ أمير المؤمنين يوسف بن تاشفين (4) من أمر غزوة الزلاقة المتقدم ذكرها ورجع تكرم له ابن عباد، وسأله أن ينزل عنده، فعلاج إلى بلاده إذ أجابه إلى ما طلب، فلما انتهى ابن تاشفين إلى إشبيلية مدينة المعتمد - وهي من أحسن المدن وأجلها منظراً - أمعن يوسف النظر فيها وفي محلها، وهي على نهر عظيم مستبحر تجري فيه السفن بالبضائع جالبة من بر المغرب وحاملة إليه، وفي غربيها رستاق عظيم مسيرة عشرين فرسخاً يشتمل على آلاف من الضياع كلها تين وعنب وزيتون، وهذا هو المسمى بشرف إشبيلية، وتمتاز بلاد المغرب كلها بهذه الأصناف منه، وفي جانب المدينة قصور المعتمد وأبيه المعتضد في غاية الحسن والبهاء، وفيها أنواع ما يحتاج إليه من المطعوم والمشروب والملبوس والمشروف وغير ذلك، فأنزل المعتمد يوسف بن تاشفين في أحدها، وتولى من إكرامه وخدمته ما أوسع شكر ابن تاشفين له، وكان مع ابن تاشفين أصحاب له ينبهونه على حسن تلك الحال وتأملها، وما هي عليه من النعمة والإتراف، ويغرونه بإتخاذ مثلها، ويقولون له: إن فائدة الملك قطع العيش فيه بالتنعم واللذة، كما هو المعتمد وأصحابه، وكان ابن تاشفين داهية (5) عاقلاً مقتصداً
(1) القلائد: 23.
(2)
القلائد: العصر.
(3)
ق: حشدوا.
(4)
عاد لمتابعة ابن خلكان 6: 118 وما بعدها.
(5)
داهية: سقطت من ق.
في أموره، غير متطاول ولا مبذر، غير سالك نهج الترف والتأنق في اللذة والنعيم، إذ ذهب صدر عمره في بلاده بالصحراء في شظف العيش، فأنكر على من أغراه بذلك الإسراف، وقال له: الذي يلوح لي من أمر هذا الرجل - يعني المعتمد - أنه مضيع لما في يده من الملك، لأن هذه الأموال الكثيرة التي تصرف في هذه الأحوال لا بد أن يكون لها أرباب لا يمكن أخذ هذا القدر منهم على وجه العدل أبداً، فأخذه بالظلم وإخراجه في هذه الترهات من أفحش استهتار، ومن كانت همته في هذا الحد من التصرف فيما لا يعدو الأجوفين متى تستنجد (1) همته في ضبط بلاده وحفظها، وصون رعينه والتوقير لمصالحها ولعمري لقد صدق في كل ذلك.
ثم إن يوسف بن تاشفين سأل عن أحوال المعتمد في لذاته: هل تختلف فتنقص عما عليه في بعض الأوقات فقيل له: بل كل زمانه على هذا فقال: أفكل أصحابه وأنصاره على عدوه ومنجديه على الملك ينال حظاً من ذلك فقالوا: لا، قال: فكيف ترون رضاهم عنه فقالوا: لا رضى لهم عنه، فأطرق وسكت، وأقام عند المعتمد على تلك الحال أياماً.
وفي أثنائها (2) استأذن رجل على المعتمد ودخل وهو ذو هيئة رثة، وكان من أهل البصائر، فلما مثل بين يديه قال: أصلحك الله أيها السلطان، وإن من أوجب الواجبات شكر النعمة، وإن من شكر النعمة إهداء النصائح، وإني رجل من رعيتك حالي في دولتك إلى الاختلال، أقرب منها إلى الاعتدال، ولكنني مع ذلك مستوجب لك من النصيحة ما للملك على رعيته، فمن ذلك خبر وقع في أذني من بعض أصحاب ضيفك هذا يوسف بن تاشفين يدل على أنهم يرون أنفسهم وملكهم، أحق بهذه النعمة منك، وقد رأيت رأياً، فإن آثرت الإصغاء
(1) في الأصول: تستجد؛ وفي دوزي: يستجد همة.
(2)
ابن خلكان: وفي بعض تلك الأيام.
إليه قلته، فقال المعتمد له: قله، فقال له: رأيت أن هذا الرجل الذي أطلعته على ملكك مستأسد على الملوك، قد حطم على زناتة ببر العدوة، وأخذ الملك من أيديهم، ولم يبق على واحد منهم، ولا يؤمن أن يطمح إلى الطمع في ملكك، بل في ملك جزيرة الأندلس كلها، لما قد عاينه من هناءة (1) عيشك، وإنه لمتخيل في مثل حالك سائر ملوك الأندلس (2) ، وإن له من الولد والأقارب وغيرهم من يود له الحلول لما أنت فيه من خصب الجناب، وقد أردى الأذفونش وجيشه واستأصل شأفتهم، وأعدمك منه أقوى ناصر عليه لو احتجت إليه، فقد كان لك منه أقوى عضد وأوقى مجن، وبعد فإنه إن فات الأمر في الأذفونش فلا يفتك الحزم فيما هو ممكن اليوم، فقال له المعتمد: وما هو الحزن اليوم فقال: أن تجمع أمرك على قبض ضيفك هذا واعتقاله في قصرك، وتجزم أنك لا تطلقه حتى يأمر كل من بجزيرة الأندلس من عسكره أن يرجع من حيث جاء، حتى لا يبقى منهم أحد بالجزيرة طفل فمن فوقه، ثم تتفق أنت وملوك الجزيرة على حراسة هذا البحر من سفينة تجري فيه له، ثم بعد ذلك تستحلفه بأغلظ الأيمان ألا يضمر في نفسه عوداً إلى هذه الجزيرة إلا باتفاق منكم ومنه، وتأخذ منه على ذلك رهائن فإنه يعطيك من ذلك ما تشاء، فنفسه أعز عليه من جميع ما يلتمس منه، فعند ذلك يقتنع هذا الرجل ببلاده التي لا تصلح إلا له، وتكون قد استرحت بعدما استرحت من الأذفونش، وتقيم في موضعك على غير حال، ويرتفع ذكرك عند ملوك الجزيرة ويتسع ملكك وينسب هذا الاتفاق لك إلى سعادة وحزم وتهابك الملوك، ثم اعمل بعد هذا ما يقتضيه حزمك في مجاورة من عاملته هذه المعاملة، واعلم أنه قد تهيأ لك من هذا أمر سماوي تتفانى الأمم وتجري بحار الدم دون حصولمثله، فلما سمع المعتمد كلام
(1) ابن خلكان: بلهنية.
(2)
في الأصول: وإني لمتخيل في مثل ذلك لسائر
…
الخ.
الرجل استصوبه، وجعل يفكر بانتهاز الفرصة.
وكان للمعتمد ندماء قد انهمكوا معه في اللذات، فقال أحدهم لهذا الرجل الناصح: ما كان المعتمد على الله - وهو إمام أهل المكرمات - ممن يعامل بالحيف، ويغدر بالضيف، فقال الرجل: إنما الغدر أخذ الحق من يد صاحبه، لا دفع الرجل عن نفسه المحذور إذا ضاق به، فقال ذلك النديم: ضيم مع وفاء، خير من حزم مع جفاء. ثم إن ذلك الناصح استدرك الأمر وتلافاه، فشكر له المعتمد، ووصله بصلة. واتصل هذا الخبر بيوسف فأصبح غادياً، فقدم له المعتمد الهدايا السنية والتحف الفاخرة، فقبلها ثم رحل.
انتهى خبر وقعة الزلاقة وما يتبعه ملخصاً من كتب التاريخ.
ولما انقرض بالأندلس ملك ملوك الطوائف بني عباد وبنيهم ذي النون وبني الأفطس وبني صمادح وغيرهم انتضمت في سلك اللمتونيين، وكانت لهم فيها وقعات بالأعداء مشهورة في كتب التواريخ.
دخول الأندلس في طاعة الموحدين
ولما مات يوسف بن تاشفين سنة خمسمائة قام بالملك بعده ابنه أمير المسلمين علي بن يوسف، وسلك سنن أبيه، وإن قصر عنه في بعض الأمور، ودفع العدو عن الأندلس مدة، إلى أن قيد الله تعالى للثورة عليه محمد بن تومرت الملقب بالمهدي الذي أسس دولة الموحدين، فلم يزل يسعى في هدم بنيان لمتونة إلى أن مات ولم يملك حضرة سلطنتهم مراكش، ولكنه ملك كثيرالً من البلاد، فاستخلف عبد المؤمن بن علي، فكان من استيلاءه على مملكة اللمتونيين ما هو معروف، ثم جاز إلى الأندلس وملك كثيراً منها، ثم أخرج الإفرنج من مهدية إفريقية، وملك بلاد إفريقية وضخم ملكه، وتسمى بأمير المسلمين.
عبد المؤمن بن علي
ولما كانت سنة 545 سار الأذفونش صاحب طليطلة وبلاد الجلالقة إلى قرطبة ومعه أربعون ألف فارس فحاصرها، وكان أهلها في غلاء شديد، فبلغ الخبر عبد المؤمن، فجهزإليهم جيشاً يحتوي على اثني عشر ألف فارس، فلما أشرفوا على الأذفونش رحل عنها، وكان فيها القائد أبو الغمر السائب، فسلمها إلى صاحب جيش عبد المؤمن يحيى بن ميمون فبات فيها، فلما أصبح رأى الفرنج عادوا إلى مكانهم، ونزلوا في المكان الذي كانوا فيه، فلما عاين ذلك رتب هنالك ناساً، وعاد إلى عبد المؤمن، ثم رحل الفرنج إلى ديارهم.
وفي السنة بعدها دخل جيش عبد المؤمن إلى الأندلس في عشرين ألفاً عليهم الهنتاتي، فصار إليه صاحب غرناطة ميمون وابن همشك وغيرهما، فدخلوا تحت طاعة الموحدين، وحرصوا على قصد ابن مردنيش ملك شرق الأندلس، وبلغ ذلك ابن مردنيش، فخاف وأرسل إلى صاحب برشلونة من الإفرنج يستنجده، فتجهز إليه في عشرة آلاف من الإفرنج عليهم فارس، وسار صاحب جيش عبد المؤمن إلى أن قارب ابن مردنيش، فبلغه أمر البرشلوني الإفرنجي فرجع، ونازل مدينة المرية وهي بأيدي الروم فحاصرها، فاشتد الغلاء في عسكره فرجع إلى إشبيلية فأقام فيها، وسار عبد المؤمن إلى سبتة فجهز الأساطيل وجمع العساكر.
ثم سار عبد المؤمن سنة574 (1) إلى المهدية فملكها، وملك إفريقية، وضخم ملكه كما قدمناه.
يوسف بن عبد المؤمن
ولما مات بويع بعده ولده يوسف بن عبد المؤمن، ولما تمهدت له الأمور،
(1) انظر المعجب: 298 حيث جعل سير عبد المؤمن للمهدية سنة 543.
واستقرت قواعد ملكه، دخل إلى جزيرة الأندلس لكشف مصالح دولته (1) وتفقد أحوالها، وكان ذلك سنة ست وستين وخمسمائة، وفي صحبته مائة ألف فارس من الموحدين والعرب، فنزل بحضرة إشبيلية، وخاف ملك شرق الأندلس - مرسية وما انضاف إليها - الأمير الشهير أبو عبد الله محمد بن سعد المعروف بابن مردنيش، وحمل على قلب ابن مردنيش، فمرض مرضاً شديداً ومات، وقيل: إنه سم، ولما مات جاء أولاده وأهله إلى أمير المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن وهو بإشبيلية، فدخلوا تحت حكمه وسلموا لأحكامه البلاد، فصاهرهم وأحسن إليهم وأصبحوا عنده في أعز مكان، ثم شرع في استرجاع البلاد التي استولى عليها الإفرنج، فاتسعت مملكته بالأندلس، وصارت سراياه تغير إلى باب طليطلة، وقيل: إنه حاصرها، فاجتمع الفرنج كافة عليه، واشتد الغلاء في عسكره، فرجع عنها إلى مراكش حضرة ملكه، ثم ذهب إلى إفريقية فمهدها، ثم رجع إلى حضرته مراكش، ثم جاز البحر إلى الأندلس سنة ثمانين وخمسمائة ومعه جمع كثيف، وقصد غربي بلادها، فحاصر مدينة شترين، وهي من أعظم بلاد العدو، وبقي محاصراً لها شهراً، فأصابه المرض فمات في السنة المذكورة، وحمل في تابوت إلى إشبيلية، وقيل: أصابه سهم من قبل الإفرنج، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة الحال.
وفي ابنه السيد أبي إسحاق يقول مطرف التجيبي رحمه الله تعالى:
سعد كما شاء العلا والفخار تصرف الليل به والنهار
ما دانت الأرض لكم عنوة وإنما دانت لأمر كبار
مهدتموها فصفا عيشها
…
واتصل الأمن (2) ، فنعم القرار
(1) تفصيل هذه الأحداث في ابن عذاري 3: 88 (ط. المغرب) .
(2)
ق ص: الابن.
ومنها:
فالشاة لا يختلها ذئبها وإن أقامت معه في وجار
يعقوب المنصور
ولما مات يوسف قام بالأمر بعده ابنه الشهير أمير المؤمنين يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن، فقام بالأمر أحسن قيام، ولما مات يوسف المذكور رثاه أديب الأندلس أبو بكر يحيى بن مجبر بقصيدة طويلة أجاد فيها، وأولها:
جل الأسى فأسل دم الأجفان ماء الشؤون لغير هذا الشان
ويعقوب المنصور هو الذي أظهر أبهة ملك الموحدين، ورفع راية الجهاد، ونصب ميزان العدل، وبسط الأحكام الشرعية، وأظهر الدين وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وأقام الحدود على القريب والبعيد، وله في ذلك أخبار، وفيه يقول الأديب أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الكانمي الأسود الشاعر المشهور:
أزال حجابه عني وعيني تراه من المهابة في حجاب
وقربني تفضله ولكن بعدت مهابة عند اقترابي
وكثرت الفتوحات في أيامه، وأول ما نظر فيه عند صيرورة الأمر إليه بلاد الأندلس، فنظر في شأنها ورتب مصالحها، وقرر المقاتلين في مراكزهم، ورجع إلى كرسي مملكته مراكش المحروسة.
وفي سنة586 بلغه أن الإفرنج ملكوا مدينة شلب وهي من غرب الأندلس، فتوجه إليها بنفسه وحاصرها وأخذها، وأنفذ في الوقت جيشاً من الموحدين والعرب، ففتح أربع مدن مما بأيدي الإفرنج من البلاد التي كانوا أخذوها من المسلمين قبل ذلك بأربعين سنة، وخافه صاحب طليطله، وسأله الهدنة والصلح، فهادنه خمس سنين وعاد إلى مراكش.
وأنشد القائد أبو بكر بن وزير الشلبي (1) وهو من أمراء كتائب إشبيلية قصيدة يخاطب بها يعقوب المنصور فيما جرى في وقعة مع الفرنجكان الشلبي المذكور مقدماً فيها:
ولما تلاقينا جرى الطعن بيننا فمنا ومنهم طائحون عديد
وجال غرار الهند فينا وفيهم فمنا ومنهم قائم وحصيد
فلا صدر إلا فيه صدر مثقف وحول الوريد للحسام ورود
صبرنا ولا كهف سوى البيض والقنا
…
كلانا على حر الجلاد (2) جليد ولكن شددنا شدة فتبلدوا ومن يتبلد لا يزال يحيد
فولوا وللسمر الطوال بهامهم ركوع وللبيض الرقاق سجود
رجع إلى أخبار المنصور بعد هدنة الإفرنج:
ولما انقضت مدة الهدنة، ولم يبق منها إلا القليل، خرج طائفة من الإفرنج في جيش كثيف إلى بلاد المسلمين فنهبوا وسعوا وعاثوا عيثاً فظيعاً، فانتهى الخبر إليه، فتجهز لقصدهم في جيوش موفرة وعساكر مكتبة، واحتفل في ذلك، وجاز إلى الأندلس سنة 591، فعلم به الإفرنج، فجمعوا جمعاً كثيراً من أقاصي بلادهم وأدانيها، وأقبلوا نحوه، وقيل: إنه لما أراد الجواز من مدينة سلا مرض مرضاً شديداً، ويأس منه أطباؤه، فعاث الأذفونش في بلاد المسلمين بالأندلس، وانتهز الفرصة، وتفرقت جيوش المسلمين بسبب مرض السلطان، فأرسل
(1) زدنا ما بين معقفين اعتماداً على ما سيورده المقري فيما بعد عند حديثه عن سقوط المرية؛ وقد أورد ابن الأبار نسبه على نحو آخر (الحلة 2: 271) فقال أبو بكر محمد بن سيدراي بن عبد الوهاب ابن وزير القيسي، وأورد الأبيات الدالية التي أوردها المقري، وقال فيه: ولي قصر الفتح المنسوب إلى أبي دانس عند استرجاعه من أيدي الروم في جمادى الأولى سنة سبع وثمانين وخمسمائة؛ وتوفي في صدر المائة السابعة بعد حصوره بموقعة العقاب.
(2)
الحلة: الطعان.
الأذفونش يتهدد ويتوعد ويرعد ويبرق، ويطلب بعض الحصون المتاخمة له من بلاد الأندلس، وخلاصة اللأمر أن المنصور توجه بعد ذلك إلى لقاء النصارى، وتزاحف الفريقان، فكان المصاف شمالي قرطبة على قرب قلعة رباح في يوم الخميس تاسع شعبان سنة 591، فكانت بينهم وقعة عظيمة استشهد فيها جمع كبير من المسلمين.
وحكي أن يعقوب المنصور جعل مكانه تحت الأعلام السلطانية الشيخ أبا يحيى ابن أبي حفص عم السلطان أبي زكريا الحفصي الذي ملك بعد ذلك إفريقية، وخطب له ببعض الأندلس، فقصد الإفرنج الأعلام ظناً أن السلطان تحتها، فأثروا في المسلمين أثراً قبيحاً، فلم يرعهم إلا والسلطان يعقوب قد أشرف عليهم بعد كسر شوكتهم، فهزمهم شر هزيمة، وهرب الأذفونش في طائفة يسيرة، وهذه وقعة الأرك الشهيرة الذكر.
وحكي أن الذي حصل لبيت المال من دروع الإفرنج ستون ألفاً، وأما الدواب على اختلاف أنواعها فلم يحصر لها عدد، ولم يسمع بعد وقعة الزلاقة بمثل وقعة الأرك هذه، وربما صرح بعض المؤرخين بأنها أعظم من وقعة الزلاقة. وقيل: إن فل الإفرنج هربوا إلى قلعة رباح فتحصنوا بها، فحاصرها السلطان يعقوب حتى أخذها، وكانت قبل للمسلمين، فأخذها العدو، فردت في هذه المرة، ثم حاصر طليطلة وقاتلها أشد قتال وقطع أشجارها وشن الغارات على أرجائها، وأخذ من أعمالها حصوناً وقتل رجالها وسبى حريمها وخرب منازلها وهدم أسوارها وترك الإفرنج في أسوأ حال، ولم يبرز إليه أحد من المقاتلة، ثم رجع إلى إشبيلية، وأقام إلى سنة 593، فعاد إلى بلاد الفرنج، وفعل فيها الأفاعيل، فلم يقدر العدو على لقائه، وضاقت على الإفرنج الأرض بما رحبت، فطلبوا الصلح فأجابهم إليه، لما بلغه من ثورة الميرقي عليه بإفريقية مع قراقوش مملوك بني أيوب سلاطين مصر والشام.
ثم توفي السلطان يعقوب سنة 595. وما يقال إنه ساح في الأرض
وتخلى عن الملك ووصل إلى الشام، ودفن بالبقاع لا أصل فيه، وإن حكى ابن خلكان بعضه. وممن صرح ببطلان هذا القول الشريف الغرناطي في شرح مقصورة حازم، وقال: إن ذلك من هذيان العامة، لولوعهم بالسلطان المذكور.
محمد الناصر ووقعة العقاب
وولي بعده ولده محمد الناصر المشؤوم على المسلمين، وعلى جزيرة الأندلس بالخصوص، فإنه جمع جمعاً اشتملت على ستمائة ألف مقاتل فيما حكاه صاحب " الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية "(1) ودخله الإعجاب بكثرة من معه من الجيوش، فصاف الإفرنج، فكانت عليه وعلى المسلمين وقعة العقاب المشهورة التي خلا بسببها أكثر المغرب، واستولى الإفرنج على أكثر الأندلس بعدها، ولم ينج من الستمائة ألف مقاتل غير عدد يسير جداً لم يبلغ الألف فيما قيل، وهذه الوقعة هي الطامة على الأندلس بل والمغرب جميعاً، وما ذاك إلا لسوء التدبير، فإن رجال الأندلس العارفين بقتال الإفرنج استخف بهم الناصر ووزيره، فشنق بعضهم، ففسدت النيات، فكان ذلك من بخت الإفرنج، والله غالب على أمره، وكانت وقعة العقاب هذه المشؤومة سنة 609، ولم تقم بعدها للمسلمين قائمة تحمد.
نهاية الموحدين
ولما مات الناصر سنة عشرين وستمائة ولي بعده ابنه يوسف المستنصر، وكان مولعاً بالراحة، فضعفت الدولة في أيامه، وتوفي سنة 620.
(1) الذخيرة السنية: 41.
فتولى عم أبيه عبد الواحد بن يوسف بن عبد المؤمن، فلم يحسن التدبير، وكان إذ ذاك بالأندلس العادل بن المنصور، فرأى أنه أحق بالأمر، فاستولى على ما بقي في أيدي المسلمين من الأندلس بغير كلفة، ولما خلع عبد الواحد وخنق بمراكش ثارت الإفرنج على العادل بالأندلس، وتصاف معهم، فانهزم ومن معه المسلمين هزيمة شنعاء، فكانت الأندلس قرحاً على قرح، فهرب العادل، وهرب البحر يروم مراكش، وترك بإشبيلية أخاه أبا العلا إدريس، ودخل العادل مراكش بعد خطوب، ثم قبض عليه الموحدون، وقدموا يحيى بن الناصر صغير السن غير مجرب للأمور، فادعى حينئذ الخلافة أبو العلاء إدريس بإشبيلية، وبايعه أهل الأندلس، ثم بايعه أهل مراكش وهو مقيم بالأندلس، فثار على أبي العلاء بالأندلس الأمير المتوكل محمد بن يوسف الجذامي، ودعا إلى بني عباس، فمال الناس إليه، ورجعوا عن أبي العلاء، فخرج عن الأندلس - أعني أبا العلاء - وترك ما وراء البحر لابن هود. ولم يزل أبو العلاء يتحارب مع يحيى بن الناصر إلى أن قتل يحيى، وصفا الأمر لأبي العلاء بالمغرب، دون الأندلس، ثم مات سنة 630.
وبويع ابنه الرشيد، وبايعه بعض أهل الأندلس، ثم توفي سنة640.
وولي بعده أخوه السعيد، وقتل على حصن بينه وبين تلمسان سنة 646.
وولي بعده المرتضى عمر بن إبراهيم بن يوسف بن علد المؤمن، وفي سنة 665 دخل عليه الواثق المعروف بأبي دبوس ففر، ثم قبض وسيق إلى الواثق فقتله، ثم قتل الواثق بنو مرين سنة 668، وبه انقرضت دواة بني عبد المؤمن، وكانت من أعظم الدول الإسلامية، فاستولى بنو مرين على المغرب.
ظهور ابن هود وابن الأحمر
وأما المتوكل بن هود فملك معظم الأندلس، ثم كثرت عليه الخوارج قريب موته، وقتله غدراً وزيره ابن الرميمي بالمرية، واغتنم الإفرنج الفرصة بافتراق
الكلمة، فاستولوا على كثير مما بقي بأيدي المسلمين من البلاد والحصون.
ثم آل الأمر إلى أن ملك بنو الأحمر، وخطب بعض أهل الأندلس لأبي زكريا الحفصي صاحب إفيرقية، وقد سبق الكلام على أكثر المذكور هنا، وأعدناه لتناسق الحديث، ولما في بعض من زيادة الفائدة على البعض الآخر، وذلك لا يخفى على المتأمل، وقد بسطنا في الباب الثالث أحوال ابن هود وابن الأحمر وغيرهما، رحم الله تعالى الجميع.
الدولة المرينية
ثم استفحل ملك يعقوب بن عبد الحق صاحب المغرب وحضرة ملك فاس، فانتصر به الأندلس على الإفرنج الذين تكالبوا عليهم، فاجتاز إلى الأندلس وهزم الإفرنج أشد هزيمة، حتى قال بعضهم: ما نصر المسلمون من العقاب حتى دخل يعقوب المريني وفتك في بعض غزواته بملك من النصارى يقال له ذوننه، ويقال: إنه قتل من جيشه أربعين ألفاً وهزمهم أشد هزيمة، ثم تتابعت غزواته بالأندلس وجوازه للجهاد، وكان له من بلاد الأندلس رندة والجزيرة الخضراء وطريف وجبل طارق وغير ذلك، وأعز الله تعالى به الدين بعد تمرد الفرنج المعتدين. ولما مات ولي بعده ابنه يوسف بن يعقوب، ففر إليه الأذفونش ملك النصارى لائذاً به وقبل يده، ورهن عند تاجه، فأعانه على استرجاع ملكه.
ولم يزل ملوك بني مرين يعينون أهل الأندلس بالمال والرجال، وتركوا منهم حصة معتبرة من أقارب السلطان بالأندلس غزاة، فكانت لهم وقائع في العدو مذكورة، ومواقف مشكورة، وكان عند ابن الأحمر منهم جماعة بغرناطة، وعليهم رئيس من بيت ملك بني مرين يسمونه شيخ الغزاة.
ولما أفضى الملك إلى السلطان الكبير الشهير أبي الحسن المريني، وخلص له المغرب وبعض بلاد الأندلس
أمر بإنشاء الأساطيل الكثيرة برسم الجهاد بالأندلس، واهتم بذلك غاية الاهتمام، فقضى الله تعالى أن استولى الإفرنج على كثير من تلك المراكب بعد أخذهم الجزيرة الخضراء، وكان الإفرنج جمعوا جموعاً كثيرة برسم الاستيلاء على ما بقي للمسلمين بالأندلس، فاستنفر أهل الأندلس السلطان أبا الحسن المذكور، فجاء بنفسه إلى سبتة فرضة المجاز ومحل أساطيل المسلمين، فإذا الإفرنج جاءوا بالسفن التي لا تحصى ومنعوه العبور وإغاثة أهل الأندلس حتى استولوا على الجزيرة الخضراء، وأنكوه في مراكبه أعظم نكاية، ولله الأمر. وق أفصح عن ذلك كتاب صدر من السلطان أبي الحسن المذكور إلى سلطان مصر والشام والحجاز الملك الصالح ابن الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون الصالحي الألفي، رحم الله الجميع.
رسالة من أبي الحسن المريني إلى الملك الصالح 745 للهجرة
وهذه نسخة الكتاب المذكور الذي خاطب به أمير المسمين السلطان أبو الحسن المريني المذكور ملك المغرب رحمه الله تعالى السلطان الملك الصالح ابن السلطان الملك الشهير الكبير الناصر محمد بن قلاوون، ووصل إلى مصر في النصف - وقيل في العشر الأواخر - من شعبان المكرم سنة 745 بعد البسملة والصلاة: من عبد الله أمير المسلمين، المجاهد في سبيل الله رب العالمين، المنصور بفضل الله المتوكل عليه، المعتمد في جميع أموره لديه، سلطان البرين، حامي العدوتين، مؤثر المرابطة والثاغرة، مؤازر حزب الإسلام حق المؤازرة، ناصر الإسلام، مظاهر دين الملك العلام، ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين، فخر السلاطين، حامي حوزة الدين، ملك البرين، إمام العدوتين، ممهد البلاد، مبدد شمل الأعاد، مجند الجنود، المنصور الرايات والبنود، محط الرحال، مبلغ الآمال، أبي سعيد ابن مولانا أمير المسلمين، المجاهد في سبيل رب العالمين، حسنة الأيام، حسام الإسلام، أبي الأملاك، شجا أهل العناد والإشراك، مانع البلاد، رافع علم الجهاد
مدوخ أقطار الكفار، مصرخ من ناداه للانتصار، القائم لله بإعلاء دين الحق، أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، أخلص الله لوجهه جهاده، ويسر في قهر عداة الدين مراده.
إلى محل ولدنا الذي طلع في أفق العلاء بدراً تماً، وصدع بأنواع الفخار فجلا ظلاماً وظلماً، وجمع شمل المملكة الناصرية فأعلى منها علماً، وأحيا لها رسماً، حائط الحرمين، القائم بحفظ القبلتين، باسط الأمان، قابض كف العدوان، الجزيل النوال، الكفيل تأمينه بحياطة النفوس والأموال، قطب المجد وسماكه، حب الحمد وملاكه، السلطان الجليل، الرفيع الأصيل، الحافل العادل، الفاضل الكامل، الشهير الخطير، الأضخم الأفخم، المعان المؤزر، المؤيد المظفر، الملك الصالح أبو الوليد إسماعيل، ابن محل أخينا الشهير علاؤه، المستطير في الآفاق ثناؤه، زين الأيام والليال، كمال عين إنسان المجد وإنسان عين الكمال، وارث الدول، النافث بصحيح رأيه في عقود أهل الملل والنحل، حامي القبلتين بعدله وحسامه، النامي في حفظ الحرمين أجر اضطلاعه بذلك وقيامه، هازم أحزاب المعاندين وجيوشها، هادم الكنائس والبيع فهي خاوية على عروشها، السلطان الأجل، الهمام الأحفل، الأفخم الأضخم، الفاضل العادل، الشهير الكبير، الرفيع الخطير، المجاهد المرابط، المقسط عدله في الجائز والقاسط، والمؤيد المظفر، المنعم المقدس المطهر، زين السلاطين، ناصر الدنيا والدين، أبي المعالي محمد، ابن الملك الأرضي، الهمام الأمضى، والد السلاطين الأخيار، عاقد لواء النصر في قهر الأرمن والفرنج والتتار، ومحيي رسوم الجهاد، معلي كلمة الإسلام في البلاد، جمال الأيام، ثمال الأعلام، فاتح الأقالم، صالح ملوك عصره المتقادم، الإمام المؤيد، المنصور المسدد، قسيم أمير المؤمنين فيما تقلد، الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون، مكن الله له تمكين أوليائه، ونمى دولته التي أطعلها السعد شمساً في سمائه، وأحسن إيزاعه للشكر أن جعله وارث آبائه.
سلام كريم يفاوح زهر الربى مسراه، وينافح نسيم الصبا مجراه، يصحبه رضوان يدوم ما دامت تقل الفلك حركاته، ويتولاه روح وريحان تحييه به رحمة الله وبركاته. أما بعد حمد الله مالك الملك، جاعل العاقبة للتقوى صدعاً باليقين ودفعاً للشك، وخاذل من أسر في النفاق النجوى فأصر على الدخن والإفك، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسوله الذي محا بأنوار الهدى ظلم الشرك، ونبيه الذي ختم به الأنبياء وهو واسطة ذلك السلك، ودحا به حجة الحق فمادت بالكفرة محمولة الأفلاك وماجت بهم حاملة الفلك، والرضى عن آله وصحبه الذين سلكوا سبيل هداه فسلك في قلوبهم أجمل السلك، وملكوا أعنة هواهم فلزموا من محجة الصواب أنجح السلك، وصابروا في جهاد الأعداء فزاد خلوصهم مع الابتلاء والذهب يزيد خلوصاً على السبك، والدعاء لأولياء الإسلام، وحماته الأعلام، بنصر لمضائه في العدا أعظم الفتك، ويسر بقضائه درك آمال الظهور وأحفل بذلك الدرك، فكتبناه إليكم - كتب الله لكم رسوخ القدم وسبوغ النعم - من حضرتنا بمدينة فاس المحروسة، وصنع الله سبحانه يعرف مذاهب الألطاف، ويكيف مواهب تلهج الألسنة في القصور عن شكرها بالاعتراف، ويصرف من أمره العظيم، وقضائه المتلقى بالتسليم، ما يتكون بين النون والكاف، ومكانكم العتيد سلطانه، وسلطانكم المجيد مكانه، وولاءكم الصحيح برهانه، وعلاؤكم الفسيح في مجال الجلالة ميدانه. وإلى هذا زاد الله سلطانكم تمكيناً، وأفاد مقامكم تحصيناً وتحسيناً، وسلك بكم من سنن من خلفتموه سبيلاً مبيناً، فلا خفاء بما كانت عقدته أيدي التقوى، ومهدته الرسائل التي على الصفاء تطوى، بيننا وبين والدكم نعم الله روحه وقدسه، وبقربه مع الأبرار في عليين آنسه، من مواخاة أحكمت منها العهود تالية الكتب والفاتحة، وحفظ عليها محكم الإخلاص معوذاتها المحبة والنية الصالحة، فانعقدت على التقوى والرضوان، واعتضدت بتعارف الأرواح عند تنازح الأبدان، حتى استحكمت وصلة الولاء، والتأمت كلحمة النسب لحمة
الإخاء، فما كان إلا وشيكاً من الزمان، ولا عجب قصر زمن الوصلة أن يشكوه الخلان، ورد وارد رنق المشارب، وحقق قول " ومن يسأل الركبان عن كل غائب "(1) ، أنبأ باستئثار الله تعالى بنفسه الزكية، وإكنان درته السنية، وانقلابه إلى ما أعد له من المنازل الرضوانية، بجليل ما وقر لفقده في الصدور، وعظيم ما تأثرت له النفوس لوقوع ذلك في الصدور، حناناً للإسلام بتلك الأقطار، وإشفاقاً من أن يعتور قاصدي بيت الله الحرام من جراء الفتن عارض الإضرار، ومساهمة في مصاب الملك الكريم، والولي الحميم، ثم عميت الأخبار، وطويت طي السجل الآثار، فلم نر مخبراً صدقاً، ولا معلماً بمن استقر له ذلكم الملك حقاً.
وفي أثناء ذلك أحفزنا للحركة عن حضرتنا استصراخ أهل الأندلس وسلطانها، وتواتر الأخبار بأن النصارى أجمعوا على خراب أوطانها، ونحن أثناء ذلكم الشان، نستخبر الوارد (2) من تلكم البلدان، عما أجلى عنه ليل الفتن بتلكم الأوطان، فبعد لأي وقعنا منها على الخبير، وجاءنا بوقاية حرم الله بكم البشير، وتعرفنا أن الملك استقر منكم في نصابه، وتداركه الله تعالى منكم بفاتح الخير من أبوابه، فأطفأ بكم نار الفتنة وأخمدها، وأبرأ من أدواء النفاق ما أعل البلاد وأفسدها، فقام سبيل الحج سابلاً، وتعبد طريقه لمن جاء قاصداً وقافلاً، ولما احتفت بهذا الخبر القرائن، وتواتر بنقل الحاضر له والمعاين، أثار حفظ الاعتقاد البواعث، والود الصحيح تجره حقاً الموارث، فأصدرنا لكم هذه المخاطبة المتفننة الأطوار، الجامعة بين الخبر والاستخبار، الملبسة من العزاء والهناء ثوبي الشعار والدثار، ومثل ذلكم الملك رضوان الله عليه من تجل المصائب لفقدانه، وتحل عرى الاصطبار بموته ولات حين أوانه، لكن الصبر أجمل ما ارتداه ذو عقل حصين، والأجر أولى ما اقتناه ذو دين متين، ومثلكم من لا يخف وقاره، ولا يشف عن ظهور الجزع الحادث اصطباره، ومن خلفكم فما مات ذكره، ومن
(1) تمامه: فلا بد أن يلقى بشيراً وناعياً.
(2)
ق: نستجير الوارد.
قمتم بأمره فما زال بل زاد فخره، وقد طالت والحمد لله العيشة الراضية بالحقب، وطاب بين مبداه ومحتضره هنيئاً بما من الأجر اكتسب، وصار حميداً إلى خير المنقاب، ووفد من كرم الله على أفضل ما منح موقناً ووهب، فقد ارتضاكم الله بعده لحياطة أرضه المقدسة، وحماية زوار بيته مقيلة أو معرسة. ونحن بعد بسط هذه التعزية، نهنيكم بما خولكم الله أجمل والإظهار، فاستقبلوا دولة ألقى العز عليها رواقه، وعقد الظهور عليها نطاقه، وأعطاها أمان الزمان عقده وميثاقه، ونحن على ما عاهدنا عليه الملك الناصر رضوان الله عليه من عهود موثقة، وموالاة محققة، وثناء كمائمه عن أذكى من الزهر غب القطر مفتقة.
ولم يغب عنكم ما كان من بعثنا المصحفين الأكرمين اللذين خطتهما منا اليمين، وأوت بهما الرغبة من الحرمين الشريفين إلى قرار مكين، وإنه كان لوالدكم الملك الناصر تولاه الله برضوانه، وأورده موارد إحسانه، في ذلكم من الفعل الجميل، والصنع الجليل، ما ناسب مكانه الرفيع، وشاكله فضله من البر الذي لايضيع، حتى طبق فعله الآفاق ذكراً، وطوق أعناق الوراد والقصاد براً، وكان من أجمل ما به تحفى وأتحف، وأعظم ما بعرفه إلى رضى الملك العلام في ذلك تعرف، إذنه للمتوجهين إذ ذاك الوقف مع اختلاف الجديدين، فجرت أحوال القراء فيهما بذلك الخراج المستقاد، ريثما يصلحهم من خراج ما وقفناه عليهم بهذه البلاد، على ما رسمه رحمة الله عليه من عناية بهم متصلة، واحترام في تلك الأوقاف فوائدها به متوفرة متحصلة، وقد أمرنا مؤدي هذا لكمالكم، وموفده على جلالكم، كاتبنا الأسنى الفقيه الأجل، الأحظى الأكمل، أبا المجد، ابن كاتبنا الشيخ الفقيه الأجل الحاج الأتقى، الأضرى الأفضل، الأحظى الاأكمل، المرحوم أبي عبد الله ابن أبي ندين حفظ الله عليه رتبته، ويسر في قصد
البيت الحرام بغيته، بأن يتفقد أحوال تلك الأوقاف، ويتعرف تصرف الناظر عليها وما فعله من سداد وإسراف، وأن يتخير لها من يرضى لذلك، ويحمد تصرفه فيما هنالك، وخاطبنا سلطانكم في هذا الشأن، جرياً على الود الثابت الأركان، وإعلاماً بما لوالدكم رحمه الله تعالى في ذلك من الأفعال الحسان، وكمالكم يقضي تخليد ذلكم البر الجميل، وتجديد عمل ذلكم الملك الجليل، وتشييد ما اشتمل عليه من الشكر الأصيل، والأجر الجزيل، والتقدم بالإذن السلطاني في إعانة هذا الوافد بهذا الكتاب، على ما يتوخاه في ذلك الشأن من طرق الصواب، وثنائنا عليكم الثناء الذي يفاوح زهر الربى، ويطارح نغم حمام الأيك مطربا.
وبحسب المصافاة، ومقتضى الموالاة، نشرح لكم المتزايدات، بهذه الجهات، وننبئكم بموجب إبطاء إنفاذ هذا الخطاب على ذلكم الجناب: وذلك أنه لما وصلنا من الأندلس الصريخ، ونادى مناد للجهاد عزماً لمثل نداءه يصيخ، أنبئنا أن الكفار قد جمعوا أحزابهم من كل صوب، وحتم عليهم باباهم اللعين التناصر من كل أوب، وأن تقصد طوائفهم البلاد الأندلسية بإيجافها، وتنقص بالمنازلة أرضها من أطرافها، ليمحوا كلمة الإسلام منها، ويقلصوا ظل الإيمان نعنها، فقدمنا من يشتغل بالأساطيل من القواد، وسرنا على إثرهم إلى سبتة منتهى المغرب الأقصى وباب الجهاد، فما وصلناها إلا وقد أخذ أخذه العدو الكفور، وسدت أجفان الطواغيت على التعاون مجاز العبور، وأتوا من أجفانهم بما لا يحصى عدداً، وأرصدوها بمجمع البحر حيث المجاز إلى دفع العدا، وتقلصوا عن الانبساط في البلاد، واجتمعوا إلى الجزيرة الخضراء أعادها الله بكل من جمعوه من الأعاد لكنا مع انسداد تلك الاسبيل، وعدم أمور نستعين بها في ذلكم العمل الجليل، حاولنا امداد تلكم البلاد بحسب الجهد، وأصرخناهم بمن أمكن من الجند، وجهزنا أجفاناً مختلسين فرصة الإجازة، تتردد على خطر بمن جهز للجهاد جهازه، وأمرنا بصاحب الأندلس من المال، بما يجهز به حركته
لمداناة محلة حزب الضلال، وأجرينا له ولجيشه العطاء الجزل مشاهرة، وأرضخنا لهم في النوال ما نرجو به ثواب الآخرة، وجعلت أجفاننا تتردد في ميناء السواحل، وتلج أبواب الخوف العاجل، لإحراز الأمن الآجل، مشحونة بالعدد الموفورة، والأبطال المشهورة، والخيل المسومة، والأقوات المقومة، فمن ناج حارب دونه الأجل وشهيد مضى لما عند الله عز وجل، وما زالت الأجفان تتردد على ذلك الخطر، حتى تلف منها سبع وستون قطعة غزوية أجرها عند الله يدخر، ثم لم نقنع بهذا العمل في الامداد، فبعثنا أحد أولادنا أسعدهم الله تعالى مساهمة به لأهل تلك البلاد، فلقي من هول البحر وارتجاجه، وإلحاح العدو ولجاجه، ما به الأمثال تضرب، وبمثله يتحدث ويستغرب، ولما خلص بتلك العدوة بمن أبقته الشدائد، نزل بإزاء الكافر الجاحد، حتى كان منه بفرسخن أو أدنى، وقد ضرب بعطن يصابح العدو ويماسيه بحرب بها يمنى.
وقد كان من مدننا بالجزيرة جيش شريت شرارته، وقويت في الحرب بدارته، يبلون البلاء الأصدق، ولا يبالون بالعدو وهم منه كالبشامة البيضاء في البعير الأورق، إلا أن المطاولة بحصرها في البحر مدة ثلاثة أعوام ونصف، ومنازلتها في البر نحو عامين معقودتاً عليها الصف بالصف، أدى إلى فناء الأقوات بالبلد، حتى لم يبق لأهله قوت نصف شهر مع انقطاع المدد، وبه من الخلق يربي على عشرة آلاف دون الحرم والولد، فكتب إلينا سلطان الأندلس يرغب في الإذن له عقد الصلح، ووقع الاتفاق على أنه لاستخلاص المسلمين من وجوه النحج، فأذنا له فيه الإذن العام، إذ في إصراخه وإصراخ من بقطره من المسلمين توخينا ذلك المرام، هنالك دعي النصارى إلى السلم فاستجابوا، وقد كانوا علموا فناء القوت وما استرابوا، فتم الصلح إلى عشر سنين، وخرج من بها من فرسان وأهل وبنين، ولم يرزأوا مالاً ولا عدة، ولا لقوا في خروجهم غير النزوع عن أول أرض مس الجلد ترابها شدة، ووصلوا إلينا فأجزلنا لهم العطاء، وأسليناهم عما جرى بالحباء، فمن خيل تزيد على الألف
عتاقها، وخلع تربي على عشرة آلاف أطواقها وأموال عمت الغني والفقير، ورعاية شملت الجميع بالعيش النضير، وكف الله ضر الطواغيت عما عداها، وما انقلبوا بغير مدرة عفا رسمها وصم صداها، وقد كان من لطف الله حين قضى بأخذ هذا الثغر، أن قدر لنا (1) فتح جبل طارق من أيدي الكفر، وهو المطل على هذه المدرة، والفرصة منها إن شاء الله متيسرة، حتى (2) يفرق عقد الكفار، ويفرج بهذه الجهة منهم مجاورو هذه الأقطار، فلولا إجلابهم من كل جانب، وكونهم سدوا مسلك العبور بما لجميعهم من الأجفان والمراكب، لما بالينا بإصعاقهم، ولحللنا بعون الله عقد اتفاقهم، ولكن للموانع أحكام، ولا راد لما جرت به الأقلام، وقد أمرنا لذلك الثغر بمزيد المدد، وتخيرنا له ولسائر تلك البلاد العدد والعدد، وعدنا لحضرتنا فاس لتستريح الجيوش من وعثاء السفر، وترتبط الجياد وتنتخب العدد لوقت الظهور المنتظر، وتكون على أهبة الجهاد، وعلى مرقبة الفرصة عند تمكنها في الأعاد.
وعند عودنا من تلك المحاولة، تيسر الركب الحجازي موجهاً إلى هنالكم رواحله، فأصدرنا إليكم هذا الخطاب، إصدار الود الخالص والحب اللباب، وعندنا لكم ما عند أحنى الآباء، واعتقادنا فيكم في ذات الله لا يخشى جديده من البلاء، وما لكم من غرض بهذه الأنحاء، فموفى قصده على أكمل الأهواء، موالى تتميمه على أجمل الآراء، والبلاد باتحاد الود متحدة، والقلوب والأيدي على مرضاة الله، عز وجل، منعقدة (3) ، جعل الله ذلكم خالصاً لرب العباد، مدخوراً ليوم التناد، مسطوراً في الأعمال الصالحة يوم المعاد، بمنه وفضله، وهو سبحانه وتعالى يصل إليكم سعداً تتفاخر به سعود الكواكب،
(1) ص: قدم؛ ق: قد ولينا.
(2)
ص: حين.
(3)
ق ص: معتضدة.
وتتضافر على الانقياد له صدور المواكب، وتتقاصر عن نيل مجده متطاولات المناكب، والسلام والأتم يخصكم كثثيراً أثيراً ورحمة الله وبركاته، وكتب في يوم الخميس السادس والعشرين لشهر صفر المبارك من عام خمسة وأربعين وسبعمائة، وصورة العلامة (1) ، وكتب في التاريخ المؤرخ.
جواب الملك الصالح من إنشاء الصفدي
ونسخة الجواب عن ذلك من إنشاء خليل الصفدي شارح لامية العجم في سادس شهر رمضان سنة خمس وأربعين وسبعمائة، بعد البسملة، في قطع النصف بقلم الثل؛ عبد الله ووليه، صورة العلامة، ولده اسماعيل بن محمد السلطان الملك الصالح السيد العالم العادل المؤيد المجاهد المرابط المثاغر المظفر المنصور عماد الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي العدل في العالمين، منصف المظلومين من الظالمين، وارث الملك، ملك العرب والعجم والترك، فاتح الأقطار، واهب الممالك والأمصار، إسكندر الزمان، مملك أصحاب المنابر والأسرة والتخوت والتيجان، ظل الله في أرضه، القائم بسنته وفرضه، مالك البحرين، خادم الحرمين الشريفين، سيد الملوك والسلاطين، جامع كلمة الموحدين، ولي أمير المؤمنين، أبو الفداء إسماعيل ابن السلطان الشهيد السعيد الملك الناصر ناصر الدنيا والدين أبي الفتح محمد ابن السلطان الشهيد السعيد الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون، خلد الله تعالى سلطانه، وجعل الملائكة أنصاره وأعوانه، يخص المقام العالي الملك الأجل الكبير المجاهد المؤيد المرابط المثاغر المعظم المكرم المظفر المعمر الأسعد الأصعد الأوحد الأمجد الأنجد، السني السري المنصور أبا الحسن علي ابن أمير المسلمين أبي سعيد ابن أمير المسلمين أبي يوسف
(1) في هامش أصول دوزي أن العلامة هكذا.
يعقوب بن عبد الحق، أمده الله بالظفر، وقرن عزمه بالتأييد، في الآصال والبكر.
سلام وشت البروق وشائعه، وادخرت الكواكب ودائعه، واستوعب الزمان ماضيه ومستقبله ومضارعه، وثناء اتخذ النفحات المسكية صلائعه، ونبه للتغريد في الروض سواجعه، وجلى في كأسه من الشفق المحمر مدامه ومن النجوم فواقعه، بعد حمد الله على نعم أدت لنا الأمانة في عودة سلطنة والدنا الموروثة، وأجلستنا على سرير مملكة زرابيها بين النجوم مبثوثة، وأحسنت بنا الخلف عن سلف عهوده في الأعناق غير منكورة ولا منكوثة، وصلاته على سيدنا محمد عبده وسوله، وعلى آله وصحبه الذين بلغ بجهادهم في الكفرة غاية أمله وسوله، صلاة تحط بالرضوان سيولها، وتجر بالغفران ذيولها، ما ترسل أصحاب، وتواصل أحباب، ويوضح للعلم الكريم، ورود كتابكم العظيم، وخاطبكم على الدر النظيم، تفاخر الحمائل سطوره، ويصبغ خد الورد بالخجل منثوره، ويحكي الرياض اليانعة فالألفات غصونه والهمزات عليها طيوره، ويخلع على الآفاق حلل الأيام والليالي فالطرس صاحبه والنقس د يجوره، لفظه يطرب، ومعناه يعرب فيغرب، وبلاغته تدل على أنه آية لآن شمس بينها طلعت من المغرب، فاتخذنا سطوره ريحاناً، ورجعنا ألفاظه ألحاناً، ولرجعنا إلى الجد فشبهنا ألفاته بظلال الرماح، وورقه بصقال الصفاح، وحروفه المفرقة بأفواه الجراح، وسطوره المنتظمة بالفرسان المزدحمة في يوم الكفاح، وانتهينا إلى ما أودعتموه من اللفظ المسجوع، والمعنى الذي يطرب طائره المسموع، والبلاغة التي فضح المتطبع بيانها المطبوع.
فأما العزاء بأخيكم الوالد قدس الله روحه وسقى عهده، وأحسن لسلفه خلفنا بعده، فلنا برسول الله أسوة حسنة، ولولا الوثوق بأنه عدة الشهداء ما رأى القلب قراره ولا الطرف وسنه، عاش سعيداً يملك الأرض، ومات
شهيداً يفوز بالجنة يوم العرض، قد خلد الله ذكره يسير ميسر الشمس (1) في الآفاق، ويوقف على نضارة حدائقه نظرات الأحداق، وورثنا منه حسن الإخاء لكم، والوفاء بعهود مودة تشبه في اللطف شمائلكم، وأما الهناء بوارثة ملكه، والانخراط مع الملوك في سلكه، فقد شكرنا لكم منحى هذه المنحه، وقابلناها بثناء يعطر النسيم في كل نفحة، ووقفنا عليها حمداً جعل الود علينا إيراده (2) وعلى أنفاس سرحة الروض شرحه، وتحققنا به حسن ودكم الجميل، وكريم إخائكم الذي لا يميد طود رسوخه ولا يميل.
وأما ما ذكر تموه من أمر المصحفين الشريفين اللذين وقفتموهما على الحرمين المنيفين، وأنكم جهزتم كاتبكم الفقيه الأجل الأسنى الأسمي أبا المجد ابن كاتبكم أبي عبد الله ابن أبي مدين أعزه الله تعالى لتفقد أحوالهما، والنظر في أمر أوقافهما، فقد وصل المذكور بمن معه في حرز السلامة وأكرمنا نزلهم، وسهلنا بالترحيب سبلهم، وجمعنا على بذل الإحسان إليهم شملهم، وحضر المذكور بأيدينا وقربناه، وسمعنا كلامه وخاطبناه، وأمرنا في أمر المصحفين الشريفين بما أشرتم، ورسمنا لنوابنا في نواحي أوقافهما بما ذكرتم، وهذا الوقف المبرور جار على أحسن عادة ألفها، وأثبت قاعدة عرفها، مرعي الجوانب، محمي المنازل والمضارب، آمن من إزالة رسمه، أو إزالة حكمه، بدره أبداً في مطالع تمه، وزهره دائماً يرقص في كمه، لا يزداد إلا تخليداً، ولا إطلاق ثبوته إلا تقييداً، ولا عنق اجتهاده إلا تقليداً، جرياً على عادة أوقاف ممالكنا، وقاعدة تصرفاتنا في مسالكنا، وله مزيد الرعاية، وإفادة الحماية، ووفادة العناية.
وأما ما وصفتموه من أمر الجزيرة الخضراء وما لاقاه أهلها، ومني به من
(1) ص: السمر.
(2)
ص: أيراده.
الكفار حزنها وسهلها، فإن شق علينا سماعه الذي أنكى أهل الإيمان، وعدد به ذنوب الزمان، كل قلب بأنامل الخفقان، وطالما فزتم بالظفر، ورزقتم النصر على عدوكم فجر ذيل الهزيمة وفر، ولكن الحروب سجال، وكل زمان لدوائه دولة ولرجائه رجال، ولو أمكنت المساعدة لطارت بنا إليكم عقبان الجياد المسومة، وسالت على عدوكم أباطحهم بقسينا المعوجة وسهامنا المقومة، وكحلنا عيون النجوم بمراود الرماح، وجعلنا ليل العجاج (1) ممزقاً ببروق الصفاح، واتخذنا رؤوسهم لصوالج القوائم كرات، وفرجنا مضايق الحرب بتوالي الكرات، وعطفنا إليهم الأعنة، وخضنا جداول السيوف ودسنا شوك الأسنة، وفلقنا الصخرات بالصرخات، وأسلنا العبرات بالرعبات، ولكن أين الغية من هذا المدى المتطاول وأين الثريا من يد المتناول وما لنا غير إمدادكم بجنود الدعاء الذي نرفعه نحن ورعايانا، والتوجه الصادق الذي تعرفه ملائكة القبول من سجايانا.
وأما ما فقدتموه من الأجفان التي طرقها طيف التلاف، وأم حر فنائها الفناء وطاف به بعد الإلطاف، فقد روع هذا الخبر قلب الإسلام، ونوع له الحزن على اختلاف الإصباح والإظلام، وهذه الدار ما يخلو صفوها من كدر القدر، وطالما أنامت بالأمن أول الليل وخاطبت بالخطب في السحر، ولكن في بقائكم ما يسلس من خطب العطب، ومع سلامة نفسكم الكريمة فلأمر هين لأن الدر يفدى بالذهب.
وأما ما رأيتموه من الصلح فرأي عقده مبارك، وأمر فيه فارط عزم وإن كان فيتدارك، والأمر يجيء كما يحب لا كما نحب، والحروب يزورها نصرها تارة ويغيب، ومع اليوم غدا، وقد يرد الله الردى، ويعيد الظفر بالعدا.
وأما عودكم إلى فاس المحروسة طلباً لإراحة من عندكم من الجنود،
(1) ق ص: الليل العجاج.
وتجهيزاً لمن يصل من عندكم إلى الحجاز الشريف من الوفود، فهذا أمر ضروري التدبير سروري التثمير، لأن النفوس تمل وثير المهاد، فكيف ملازمة صهوات الجياد، وتسأم من مجالسة الشرب، فكيف بممارسة الحرب، وتعرض عن دوام اللذة، فكيف بمباشرة المنايا الفذة، وهذا جبل طارق الذي فتح الله به عليكم، وساق هدي هديته إليكم، لعله يكون سبباً إلى ارتجاع ما شرد، وحسماً لها الطاغية الذي مرد، ورداً لهذا التنازل الذي قدم ورد الصبر لما ورد، فعادة الألطاف الإلهية بكم معروفة، وعزماتكم إلى جهات الجهاد مصرفة، وقد تفاءلنا لكم من هذا الجبل بأنه طارق خير من الرحمن يطرق، وجبل يعصم من سهم يمر من قسي الكفار ويمرق.
وأما ما منحتموه من الخيل العتاق، والملابس التي تطلع بدور الوجوه مشارق الأطواق، والأموال زكت عند الله تعالى ونمت على الإنفاق، فعلى الله عز وجل خلفها، ولكم في منازل الدنيا والآخرة شرفها، وإليكم تساق هدايا أثنيتها وتحفكم تحفها، وإذا وصل وفدكم الحاج، وأنار له بوجه إقبالنا عليهم ليلهم الداج، كانوا مقيمين تحت ظل إكرامنا، وشمول إسعافنا لهم وإنعامنا، يتخولون تحفاً أنتم سببها، ويتناولون طرفاً في كؤوس الاعتناء بهم تنضد حببها، وإذا كان أوان الرحيل إلى الحج فسحنا لهم الطريق، وسهلنا لهم الرفيق، وبلغناهم بحول الله تعالى مناهم من منى، وسولهم ممن إذا زاروا حجرته الشريفة حازوا الراحة من العنا، وفازوا بالغنى، وإذا عادوا عاملناهم بكل جميل ينسيهم مشقة ذلك الدرب، ويخيل إليهم أن لا مسافة لمسافر بين الشرق والغرب، وغمرناهم بالإحسان في العود إليكم، وأمرناهم بما ينهونه شفاهاً لديكم، وعناية الله تعالى تحوط ذاتكم، وتوفر لأخذ الثأر حماتكم، وتخصكم بتأييد تنزلون روضة الأنضر، وتجنون به النصر اليانع من ورق الحديد الأخضر، وتتحفكم بسعد لا يبلى قشبيه، وعز لا يمحو شبابه مشيبه، وتحيته المباركة تغاديكم وتراوحكم، وتفاوحكم أنفاسها المعنبرة وتنافحكم، بمنه وكرمه؛ انتهى.
إجازة من الصفدي رواية الرسالتين
ورأيت بخط منشئ هذا الجواب الصلاح الصفدي رحمه الله تعالى إثر ذكره ما نصه: أما بعد حمد الله تعالى على نعمائه، وصلاته على سيدنا محمد عبده ورسوله خاتم أنبياءه، فقد قرأ الشيخ الإمام العالم العامل العلامة المفيد القدوة عز الدين أبو يعلى حمزة ابن الرئيس الكبير الفاضل القاضي قطب الدين موسى بن أحمد ابن شيخ السلامية الأحمدي (1) - أمتع الله بفوائده - الكتاب الوارد من سلطان المغرب الملك المجاهد المرابط أبي الحسن المريني، صاحب مراكش تغمده الله تعالى برحمته والجواب عنه عن السلطان الشهيد الملك الصالح عماد الدين إسماعيل ابن السلطان الشهيد الملك الناصر محمد قدس الله تعالى روحهما من إنشائي، وأنا أسمع ذلك جميعاً من أولهما إلى آخرهما، قراءة أطربت السمع لفصاحتها، وأمالت العطف لرجاحتها:
وأخجلت ورق الحمى باللوى إن صدحت في ذروة الغصن
تكاد من لطف ومن رقة تدخل في الأذن بلا إذن
وذلك في مجلس واحد في ذي القعدة سنة 756، بالجامع الأموي بدمشق المحروسة، فإن رأى رواية ذلك عني فله علو الرأي في تشريفي بذلك، وكتبه خليل ابن أبيك الشافعي عفا الله عنه؛ انتهى.
أبو الحسن يكتب ثلاثة مصاحف
وكان السلطان أبو الحسن المريني المذكور كتب ثلاثة مصاحف شريفة بخطه، وأرسلها إلى المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، وأوقف عليها أوقافأً جليلة، كتب توقيعه سلطان مصر والشام من إنشاء الأديب الشهير جمال الدين ابن نباتة المصري، ونص ما يتعلق به الغرض منه هنا قوله: وهو
(1) دوزي: الحنبلي.
الذي مد يمينه بالسيف والقلم فكتب في أصحابها، وسطر الختمات الشريفة فأيد الله حزبه بما سطر من أحزابها، واتصلت أخبار ملائكة النصر بلوائه تغدو وتروح، وكثرت فتوحه لأملياء الغرب فقالت أوقاف الشرق لا بد للفقراء من فتوح، ثم وصلت ختمات شريفة كتبها بقلمه المجيد المجدي، وخط سطورها بالعربي وطالما خط في صفوف الأعداء بالهندي، ورتب عليها أوقافاً تجري أقلام الحسنات في إطلاقها وطلقها، وحبس أملاكاً شامية تحدث بنعم الأملاك التي سرت من مغرب الأرض إلى مشرقها، والله تعالى يمتع من وقف هذه الختمات بما سطر له في أكرم الصحائف، وينفع الجالس من ولاة الأمور في تقريرها ويتقبل من الواقف؛ انتهى.
قلت: وقد رأيت أحد المصاحف المذكورة، وهو الذي ببيت المقدس، وربعته في غاية الصنع.
نبذة من أخبار أبي الحسن
وقال بعض المشارفة في حق السلطان أبي الحسن، ما صورته: ملك أضاء المغرب بأنوار هلاله، وجرت إلى المشرق أنواء نواله، وطابت نسماته، واشتهرت عزماته، كان حسن الكتابة، كثير الإنابة، ذا بلاغة وبراعة، وشهامة وشجاعة، كتب بخطه ثلاثة مصاحف ووقفها على المساجد الثلاثة، أقام في الملك عشر سنين وسبعة أيام، ثم صرف بولده أبي عنان بعد حروب يطول شرحها، انتهى من كتاب نزهة الأنام.
ولما ذكر الإمام الخطيب أبو عبد الله ابن مرزوق في كتابه المسند الصحيح الحسن من أخبار السلطان أبي الحسن أمر الربعة التي أرسلها السلطان أبو الحسن بخطه قال ما ملخصه: وأرسل معها للسلطان الملك الناصر بن قلاوون صاحب الديار المصرية من أحجار الياقوت العظيم القدر والثمن ثمانمائة وخمسة وعشرين، ومن الزمرد مائة وثمانية وعشرين، ومن الزبرجد مائة وثمانية وعشرين
ومن الجوهر النفيس الملوكي ثلاثمائة وأربعة وستين، وأرسل حللاً كثيرة منها مذهبة ثلاثة عشر، ومن الإناق عشرين مذهبة، ومن الخلادي ستة وأربعين، ومن القنوع ستة وعشرين مذهبة، ومن المحررات المختمة ثمانمائة، ومن الرصان عشرين شقة، والأكسية المحررة أربعة وعشرين، والبرانس المحررة ثمانية عشر، والمشففات (1) مائة وخمسين، وأحارم الصوف المحررة عشرين، ومن شقق الملف الرفيع ستة عشر، ومن الفضالي المنوعة والفرش والمخاد المنبوق والحلل ثمانمائة، وأوجه اللحف المذهبة عشرين، وحائطان حلة وحنابل مائة واثني عشر كلها حرير (2) ، وفرش جلد مخروز بالذهب والفضة، ومن السيوف المحلاة بالذهب المنظم بالجوهر عشرة، والسروج عشرة بركب ذهب ومهاميز ذهب كذلك، وثلاث ركب فضة، وست مزججة ومذهبة، ومضمتان من ذهب مما يليق بالملوك، وشاشية حرير مطوقة بذهب مكلل بالجوهر، ومن لزمات الفضة عشرة، وسرج مخروزة بالفضة عشرة، وعشر علامات معششة مذهبة، وعشر رايات مذهبة، وعشر براقع مذهبة، وعشر أمثلة (3) مرقومة، وثلاثين جلد أشرك (4) ، وأربعة ألاف درقة لمط منها مائتان بنهود الذهب وثمانية عشر بنهود الفضة، وخباء قبة كبيرة من مائة بنيقه (5) لها أربعة أبواب، وقبة أخرى مضربة من ست وثلاثين بنيقة مبطنة بحلة مذهبة، وهي حرير أبيض ومرابطها حرير ملون وعمودها عاج وأبنوس وأكبارها من فضة مذهبة، ومن البزاة الأحرار المنتقاة أربعة وثلاثين (6) ، ومن عتاق الخيل العراب ثلاثمائة وخمسة وثلاثين، ومن البغال الذكور والإناث مائة وعشرين، ومن الجمال سبعمائة، وتوجهت مع هذه الهدية أمم برسم الحج مع الربعة المكرمة، وأعطى الحرة أم أخته أم
(1) ص: والمشققات.
(2)
قد شرح دوزي أكثر هذه الألفاظ في ملحق المعاجم ولكنه استمد معانيها من النص نفسه.
(3)
ص: أشلة.
(4)
ص: وثلاث زجلوا شركي.
(5)
دوزي: نبيقة.
(6)
هذا العدد والأعداد التالية وردت بصورة الرفع في ص.
ولد أبيه مريم آلاف وخمسمائة ذهباً، ولقاضي الركب ثلاثمائة وكسوة، ولقائد الركب أربعمائة وكساوى متعددة وبغلات، وللرسول المعين للهدية ألفاً، ولشيخ الركب أحمد بن يوسف بن أبي محمد صالح خمسمائة، ولجماعة الضعفاء من الحجاج ستمائة، وبرسم العطاء للعرب ثلاثة آلاف وثمانمائة، ولشراء ربع ستة عشر ألفاً وخمسمائة ذهباً؛ انتهى.
وذكر في الكتاب المذكور أن السلطان أبا الحسن الموصوف أهدى هدايا غير هذه لكثير من الملوك، ومنها لصاحب الأندلس صلة وصدقة في مرات، ومنها لملوك النصارى بعد هداياهم، ومنها لسلاطين السودان كصاحب مالي، ومنها لصاحب إفريقية، ومنها لصاحب تلمسان؛ انتهى.
وقال مؤرخ مصر المقريزي في كتاب السلوك في سنة 738 ما نصه:
وفي ثاني عشرين من رمضان قدمت الحرة من عند السلطان أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب المريني صاحب فاس تريد الحج، ومعها هدية جليلة إلى الغاية، نزل لحملها من الإصطبل السلطاني ثلاثون قطاراً من بغال النقل سوى الجمال، كان من جملتها أربعمائة فرس منها مائة حجرة ومائة فحل ومائتا بغل، وجميعها بسرج ولجم مسقطة بالذهب والفضة، وبعضها سرجها وركبها كلها ذهب، وكذلك لجمها، وعدتها اثنان وأربعون رأساً، منها سرجان من ذهب مرصع بجوهر، وفيها اثنان وثلاثون بازاً، وفيها سيف قرابه ذهب مرصع، وحياصته ذهب مرصع، وفيها مائة كساء، وغير ذلك من القماش العال، وكان قد خرج المهمندار إلى لقائهم، وأنزلهم بالقرافة قريب مسجد الفتح، وهم جمع كبير جداً، وكان يوم طلوع الهدية من الأيام المذكورة، ففرق السلطان الهدية على الأمراء بأسرهم على قدر مراتبهم، حتى نفدت كلها سوى الجواهر واللؤلؤ فإنه اختص به، فقدرت قيمة هذه الهدية بما يزيد على مائة ألف دينار، ثم نقلت الحرة إلى الميدان بمن معها، ورتب لها من الغنم والدجاج والسكر والحلوى والفاكهة في كل يوم بكرة وعشية ماعمهم وفضل عنهم، فكان
مرتبهم كل يوم عدة ثلاثين رأساً من الغنم، ونصف إردب أرز، وقنطار حب رمان، وربع قنطار سكر، وثماني فانوسيات شمع، وتوابل الطعام، وحمل إليها برسم النفقة مبلغ خمسة وأربعين ألف درهم، وأجرة حمل أثقالهم مبلغ ستين ألف درهم، ثم خلع على جميع من قدم مع الحرة، فكانت عدة الخلع مائتين وعشرين خلعة على قدر طبقاتهم، حتى خلع على الرجال الذين قادوا الخيول، وحمل إلى الحرة من الكسوة ما يجل قدره، وقيل لها أن تملي ما تحتاج إليه ولا يعوزها شيء، وإنما تريد عناية السلطان بإكرامها وإكرام من معها حيث كانوا، فتقدم السلطان إلى النشو وإلى الأمير أحمد أقبغا بتجهيزها اللائق بها، فقاما بذلك، واستخدما لها السقائين والضوية، وهيئا كل ما تحتاج إليه في سفرها من أصناف الحلاوات والسكر والدقيق والبقسماط، وطلبا الحمالة لحمل جهازها وازودتهان وندب السلطان للسفر معها جمال الدين متولي الجيزة، وأمره أن يرحل بها في مركب لها بمفردها قدام المحمل، ويمتثل كل ما تأمر به، وكتب لأميري مكة والمدينة بخدمتها أتم خدمة.
وقال في سنة خمس وأربعين وسبعمائة ما نصه: وفي نصف شعبان قدمت الحرة أخت صاحب المغرب في جماعة كثيرة، وعلى يدها كتاب السلطان أبي الحسن يتضمن السلام، وأن يدعو له الخطباء يوم الجمعة وخطبها ومشايخ الصلاح وأهل الخير بالنصر على عدوهم، ويكتب إلى أهل الحرمين بذلك، وذلك أن في السنة الخالية كانت بينه وبين الفرنج وقعة عظيمة قتل فيها ولده، ونصره الله تعالى بمنه على العدو، وقتل كثيراً منهم، وملكوا منهم الجزيرة الخضراء، فعمر الفرنج مائتي شيني، وجمعوا طوائفهم، وقصدوا المسلمين، وأوقعوا بهم على حين غفلة، فاستشهد عالم كثير، ونجا أبو الحسن في طائفة من ألزامه بعد شدائد، وملك الفرنج الجزيرة، وأسروا وسبوا وغنموا شيئاً يجل وصفه، ثم مضوا إلى جهة غرناطة، ونصبوا عليها مائة منجنيق حتى صالحهم أهلها على قطيعة يقومون بها، وتهادنوا مدة عشر سنين، انتهى كلامه.
وقد تقدم نص هذا الكتاب الموجه من السلطان أبي الحسن فليراجع قريباً.
وقال ابن مرزوق في المسند الصحيح الحسن بعد كلام ما ملخصه: وكان يعني السلطان أبا الحسن مجتهداً في الجهاد بنفسه وحرمه، وجاز للأندلس برسم ذلك بنفسه، وأظهر آثاره الجميلة، ومنها ارتجاع جبل الفتح ليد المسلمين بعد أن أنفق عليه الأموال، وصرف إليه الجنود والحشود إذ كان من عمالته هو والجزيرة ورندة، ونازلته جيوشه مع ولده وخواصه وضيقوا به إلى أن استرجعوه ليد المسلمين، وأنفق على بنائه (1) أحمال المال، واعتنى بتحصينه، وبنى حصنه وأبراجه وسوره وجامعه ودوره ومخازنه، ولما كاد يتم ذلك نازله العدو براً وبحراً، فصبر المسلمون صبر الكرام، فخيب الله تعالى أمل العدو، وعاد خاسراً (2) ، والمنة لله، فرأى أن يحصن سفح الجبل بسور يحيط به من جميع جهاته حتى لا يطمع عدو في منازلته، ولا يجد سبيلاً للتضييق عند محاصرته، ورأى الناس ذلك من المحال، فأنفق الأموال، وأنصف العمال، فأحاط بمجموعه إحاطة الهالة بالهلال، وأما بناؤه للمحاسن (3) والطوالع فأمر غير مجهول؛ انتهى.
رسائل للسان الدين ابن الخطيب
1 -
رسالة إلى أحد سلاطين بني مرين
وقد رأيت أن أذكر هنا بعض إنشاء لسان الدين ابن الخطيب في شأن ما يتعلق بجبل الفتح وغيره من بلاد الأندلس، وحال العدو الكافر، وما ينخرط في هذا السلك: فمن ذلك على لسان سلطانه يخاطب أحد السلاطين من أولاد السلطان أبي الحسن المريني، ونصه:
المقام الذي يصرخ وينجد، ويتهم في الفضل وينجد، ويسعف
(1) ص: وأنفقوا فيه.
(2)
ص: ورجعوا خاسرين.
(3)
ص: للمحارس.
ويسعد، ويبرق في سبيل الله ويرعد، فيأخذ الكفر من عزماته المقيم المقعد، حتى ينجز من نصر الله تعالى الموعد، مقام محل أخينا الذي حسن الظن بمجده جميل، وحد الكفر بسعده كليل، وللإسلام فيه رجاء وتأميل، ليس للقلوب عنه مميل، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقاه الله تعالى وعزمه الماضي لصولة الكفر قامعاً، وتدبيره الناجح لشمل الإسلام جامعاً، وملكه الموفق لنداء الله مطيعاً سامعاً، معظم مقداره، وملتزم إجلاله وإكباره، المعتد في الله بكرم شيمته وطيب نجاره، المستظهر على عدو الله بإسراعه إلى تدمير الكافر وبداره.
سلام كريم عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد حمد الله مجيب دعوة السائل، ومتقبل الوسائل، ومتيح النعم الجلائل، مربح (1) من عامله في هذا الوجود الزائف الزائل، والأيام القلائل، بالمتاع الدائم الطائل، والنعيم غير الحائل، ومقيم أود الإسلام المائل، بأولي المكارم من أوليائه والفضائل، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسوله المنقذ من الغوائل، المنجي من الروع الهائل، الصادع بدعوة الحق الصائل، بين العشائر والفصائل، الذي ختم به وبرسالته ديوان الرسل والرسائل، وجعله في الأواخر شرف الأوائل، فحبه كنز العائل، والصلاة عليه زكاة القائل، والرضى عن آله وصحبه وعترته وحزبه تيجان الأحياء والقبائل، المتميزين بكر السجايا وطيب الشمائل، والدعاء لمقام أخوتكم في البكر والأصائل، بالسعد الصادق المخايل، والصنع الذي تتبرج مواهبه تبرج العقائل، والنصر الذي تهز له الصعاد الملد عكف المترانح المتخايل، فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم عزاً يانع الخمائل، ونصراً يكفن للكتائب المدونة في الجهاد ومرضاة رب العباد بسرد المسائل وإقناع السائل، ومن حمراء غرناطة، حرسها الله تعالى، ولا زائد بفضل الله سبحانه إلا استبصار في التوكل على من بيده الأمور، وتسبب مشروع تتعلق به بإذن الله تعالى أحكام القدر
(1) ص: مريح.
المقدور، ورجاء فيما وعد به من الظهور، يتضاعف على توالي الأيام وترادف الشهور، والحمد لله كثيراً كما هو أهله، فلا فضل إلا فضله، ومقامكم المعروف محله الكفيل بالإرواء نهله وعله، وإلى هذا وصل الله تعالى سعدكم، وحرس مجدكم، ووالى النعم عندنا وعندكم (1) ، فإننا في هذه الأيام، أهمنا من أمر الإسلام، ما رنق بالشراب ونغص الطعام، وذاد المنام، لما تحققنا من عمل الكفر على مكايدته، وسعي الضلال - والله الواقي - في استئصال بقيته، وعقد النوادي للاستشارة في شأنه، وشروع الحيل في هد أركانه، ومن يؤمل من المسلمين لدفع الردى وكشف البلوى وبث الشكوى، وأهله - حاطهم الله تعالى وتولاهم، وتمم عوائد لطفه الذي أولاهم، فهو مولاهم - في غفلة ساهون، وعن المغبة فيه لاهون، قد شغلتهم دنياهم عن دينهم، وعاجلهم عن آجلهم، وطول الأمل، عن نافع العمل، إلا من نور الله تعالى قلبه بنور الإيمان وتململ بمناصحة الله تعالى والإسلام تململ السليم، واستدل بالشاهد على الغائب، وصرف الكفر إى مطالب (2) الأمم النوائب، فلما رأينا أن الدولة المرينية التي هي على مر الأيام شجا العدا، ومتوعد من يكيد الهدى، وفئة الإسلام التي إليها يتحيز، وكهفه الذي إليه يلجأ، قد أذن الله تعالى في صلاح أمورها، ولم شعثها، وإقامة صغاها، بأن صرف الله تعالى عنها هنات الغدر (3) ، وأراحها من مس الضر، ورد قوسها إلى يد باريها، وصير حقها إلى وارثها، وأقام لرعي مصالحها من حسن الظن بحسبه ودينه، ورجي الخير من ثمرات نصحه، ومن لم يعلم إلا الخير من سعيه (4) والسداد من سيرته، ومن لا يستريب المسلمون بصحة عقده، واستقامة قصده، أردنا أن نخرج لكم عن العهدة في هذا
(1) وعندكم: سقطت من ص.
(2)
ص: معاطب.
(3)
ص: العدو.
(4)
من سعيه: سقطت من ق.
الدين الحنيف الذي وسمت دعوته وجوه أحبابكم شملهم الله تعالى بالعافية، وتشبثت به أنفس من صار إلى الله تعالى من السلف تغمدهم الله بالرحمة والمغفرة، وفي هذا القطر الذي بلاده ما بين مكفول يجب رعيه طبعاً وشرعاً، وجار يلزم حقه ديناً ودنيا وحمية وفضلا، وعلى الحالين فعليكم بعد الله المعول، وفيكم والمؤمل، فأرعونا أسماعكم المباركة نقص عليكم ما فيه رضى الله، والمنجاة من نكيره، والفخر والأجر وحفظ النعم، والخلف بالذرية بهذا وعدت الكتب المنزلة، والرسل المرسلة: وهو أن هذا القطر الذي تعددت فيه المحارب والمنابر، والراكع والساجد، والذاكر والعابد، والعالم واللفيف، والأرملة والضعيف، قد انقطع عنه ارفاد الإسلام، وشحت الأيدي به منذ أعوام، وسلم إلى عبدة الأصنام، وقوبلت ضرائره بالأعذار، والمواعيد المستغرقة للأعمار، وإن عرضت شواغل وفتن، وشواغب وإحن، فقد كانت بحيث لا يقطع السبب بجملته، ولا يذهب المعروف بكليته:
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة
…
يواسيك أو يسليك أو يتوجع (1) ولو كانت الأشغاب تقطع المعروف وتصرف عن الواجب لم يفتح المقدس والدكم جبل الفتح وهو منازل أخاه بسجلماسة، ولا أمده ولده السلطان أبو عنان وهو بمراكش، وبالأمس بعثنا إلى الجبل وشمانة في جملة ما أهمنا مبلغ جهد وسداد من عوز، وقد فضلت عن ضرائرنا، أموال فرضت من أجل الله على عباده، وطعام سمحنا به على الاحتياج إليه في سبيل جهاده، فلم يسهم المتغلب منها الجانب الله بحبه، ولا أقطعه منها ذرة مستخفاً به جل وعلا، متهاوناً بنكيره الذي هو أحق أن يخشى، فضاععت الأمور واختلت الثغور، وتشذبت الحامية، وتبددت العدد، وخلت المخازن، وهلكت بها الجرذان، وعظمت
(1) ص ق: يتفجع.
بها حسرة الإسلام، أضعاف ما عظمت حبرته أيام ما كانت تكفلها همم الملوك، الكرام والخلفاء العظام، والوزراء والنصحاء، والأشياخ الأمجاد، قدس الله تعالى أرواحهم، وضاعف أنوارهم، ولا كالحسرة في الجبل باب الأندلس، وركاب الجهاد وحسنة بني مرين ومآثر آل يعقوب وكرامة الله للسلطان المقدس أبي الحسن والد الملوك وكبير الخلفاء والمجاهدين والدكم الذي ترد على قبره (1) مع الساعات والأنفاس وفود الرحمة، وهدايا الزلفة، وريحان الجنة، فلولا أنكم على علم من أحواله لشرحنا المجمل، وشكلنا المهمل، إنما هو اليوم شبح ماثل، وطلل بائد، لولا أن الله تعالى شغل العدا عنه بفتنة لم يصرف وجهه إلا إليه، ولا حوم طيره إلا عليه، ولكان بصدد أن يتخذه الصليب داراً، وأن يقر به عيناً، والعدوة فضلاً عن الأندلس، قد أوسعها شراً، وأرهق ما يجاوره عسراً، نسألأ الله تعالى بنور وجهه أن لا يسود الوجوه بالفجع فيه، ولا يسمع المسلمين الثكلة، وما دونه فهو - وإن أنعش بالتعليل عليه ووقع بالجهد خلقه - لحم على وضم، إلا أن يصل الله تعالى وقايته، ويوالي دفاعه وعصمته، لا إله إلا هو الولي النصير، ومازلنا نشكو إلى غير المصمت، ونمد اليد إلى المدبر عن الله المعرض، ونخطب له زكاة الأموال من المباني الضخمة، والخزائن الثرة، والأهراء الطامية، والحظ التافه من المفترض برسمه، فتمضي الأيام لا تزيد الضرائر فيها إلا ضيقاً، ولا الأحوال إلا شدة، ولا الثغر إلا ضعة، ولا نعلم أن نظراً وقع له ولا فكراً أعمل فيه إلا ما كان من تسخير رعيته الضعيفة، وبلالة مجباه السخيفة، في بناء قصر بمنت ميور من جباله:
شاده مرمراً أوجلله كل
…
ساً فللطير في ذراه وكور (2) جلب إليه الزليج (3) ، واختلفت فيه الأوضاع في رأس نيق، لأمل نزوة،
(1) زاد في ص: منه بعد لفظة قبره.
(2)
البيت لعدي بن زيد العبادي.
(3)
ص: الأزليج.
وسوء فكرة، فلما تم أقطع الهجران، فهو اليوم ممتنع البوم وحظ الخراب، فلا حول ولا قوة إلا بالله، حتى جاء أمر الله خالي الصحيفة من البر، صفر اليد من العمل الصالح، نعوذ بالله من نكيره، ونسأله الإلهام والسداد، والتوفيق والرشاد، وقد بذلنا جهدنا قولاً وفعلاً، وموعظة ونصحاً، واستدعينا لتلك الجهة صدقة المسلمين محمولة على أكتاد العباد الضعفاء الذين كانت صدقات فاتحيه رضي الله تعالى عنهم ترفدهم، ونوافله تتعهدهم، فما حرك ذلك الجؤوار حلوباً، ولا استدعى مطلوباً، ولا رفداً مجلوباً، فإلى متى تنضى ركاب الصبر وقد بلغ الغاية، واستنفذ البلالة، بعد أن أعاد الله تعالى العهد، وجبر المال، وأصلح السعي، وأجرى ينابيع الخير، وأنشق رياح الإقالة، وجملة ما نريد أن نقرره فهو لباب الجامع، والقصد الشامل، والداعي والباعث، أن صاحب قشتالة لما عاد إلى ملكه، ورجع إلى قطره، جرت بيننا وبينه المراسلة التي أسفرت بعدم رضاه عن كدحنا لنصره، ومظاهرتنا إياه على أمره، وإن كنا قد بلغنا جهداً، وأبعدنا وسعاً، وأجلت عن شروط ثقيلة لم نقبلها، وأغراض صعبة لم نكملها، ونحن نتحقق أنه إما أن تهيج حفيظته، وتثور إحنته، فيكشف وجه المطالبة مستكثراً بالأمة التي داس بها أهل قشتالة، فراجع أمره غلاباً، وحقه ابتزازاً واستلاباً، أو يصرفها ويهادن المسلمين بخلال ما لا يدع جهة من جهات دينه الغريب إلا عقد معها صلحاً، وأخذ عليها بإعانتها إياه عهداً، ثم تفرغ إلى شفاء غليله، وبلوغ جهده، ولا شك أنها تجيبه صرفاً لبأسه عن نحورها، ومقارضة كما وقع باطريرة من مضيق صدورها، ومؤسف جمهورها، وكل من له دين ما فهو يحرص على التقرب إلى من دانه به وكلفه وظائف تكليف، رجاء لوعده وخوفاً من وعيده، وبالله ندفع ما لا نطيق من جموع تداعت من الجزر ووراء البحور والبر المتصل الذي لا تقطعه الرفاق، ولا تحصي ذرعه الحذاق، وقد أصبحنا بدار غربة، ومحل روعة، ومفترس نبوة، ومظنة فتنة، والإسلام عدده قليل، ومنتجعه في هذه البقعة جديب، وعهده بالإرفاد والإمداد
من المسلمين بعيد " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا - إلى آخر السورة ". (البقرة: 286) .
وإذا تداعت أمم الكفر نصرة لدينها المكذوب، وحمية لصليبها المنصوب، فمن يستدعى لنصر دين الله وحفظ أمانة نبيه إلا أهل ذلك الوطن حيث المآذن بذكر الله تعالى تملأ الآفاق، وكلمة الإسلام قد عمت الربى والوهاد، إنما الإسلام غريق قد تشبث بأهدابكم، يناشدكم الله في بقية الرمق، وقبل الرمي تراش السهام، وهذا أوان الاعتناء، واختيار الحماة، وإعداد الأقوات، قبل أن يضيق المجال، وتمنع الموانع، وقد وجهنا هذا الوفد المبارك للحضور بين يديكم مقرراً الضرورة، منهياً الرغبة، مذكراً بما يقرب عند الله، مذكراً لذمام الإسلام، جالباً على من ورائهم بحول الله تعالى من المسلمين البشرى التي تشرح الصدور، وتسني الآمال، وتستدعي الدعاء والثناء، فالمؤمن كثير بأخيه، ويد الله مع الجماعة، والمسلمون يد على من سواهم، والمؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، والتعاون على البر والتقوى مشروع، وفي الذكر الحكيم مذكور، وحق الجار مشهور، وما كان جبريل يوصي به في الصحيح مكتوب وكما راع المسلمين اجتماع كلمة الكفر، فنرجو أن يروع الكفر من العز بالله، وشد الحيازيم في سبيل الله، ونفير النفرة لدين الله، والشعور في حماية الثغور وعمرانها، وإزاحة عللها، وجلب الأقوات إليها، وإنشاء الأساطيل، وجبر ما تلف من عدة البحر، أمور تدل على ما ورائها، وتخبر بمشيئة الله تعالى عما بعدها " وما تفعلوا من خير يعلمه الله، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " ومن خطب على رضي الله تعالى عنه: أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه رهبة ألبسه الله تعالى سيما الخسف، ووسمه بالصغار، وما بعد الدنيا إلا الآخرة، وما بعد الآخرة إلا إحدى داري البقاء، أفي الله شك " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ". (الحشر: 9) .
والاعتناء بالجبل عنوان هذا الكتاب، ومقدمة هذا الباب، والغفلة عنه منذ أعوام قد صيرتنا لا نقنع باليسير، وقد أبرمته المواعيد، وغير رسومه الانتظار، ومن المنقول " ارحموا السائل ولو جاء على فرس "، والإسراف في الخير أرجح في هذا المحل من عكسه، وكان بعض الأجواد يقول وقد أقتر: اللهم هب لي الكثير، فإن حالي لا تقوم على القليل، وعسى أن يكون النظر له بنسبة الغفلة عنه، والمتعاض له مكافئاً للإزراء به، وخلو البحر يغتنم لإمداده وإرفاده، قبل أن يثوب نظر الكفر إلى قطع المدد وسد البحر، ومن ضيع الحزم ندم، ولا عذر لمن علم، والله عز وجل يطلع من قبلكم على ما فيه شفاء الصدور، وجبر القلوب، وشعب الصدوع، وما نقص مال من صدقة، وطعام الواحد كاف لاثنين، والدين دينكم، والبلاد بلادكم، ومحل رباطكم وجهادكم، وسوق حسناتكم، " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " وقد قلدنا العهد الحفيظ علينا، المصروف العناية بفضل الله تعالى إلينا، والله المستعان، وعليه التكلان؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ انتهى.
وفي اعتقادي أن هذا المكتوب للسلطان أبي فارس عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن المريني، وأن المراد بالمتغلب الوزير عمر بن عبد الله الذي ظفر به أبو فارس المذكور واستقل بالملك بعد محو أثره، حسبما ذكرناه في غير هذا المحل؛ والله سبحانه أعلم.
2 -
رسالة أخرى في استنهاض السلطان المريني
ومن إنشاء لسان الدين على لسان سلطانه في استنهاض عزم صاحب فاس السلطان المريني لنصرة الأندلس، ما نصه: المقام الذي يؤثر حظ الله إذا اختلفت الحظوظ وتعددت المقاصد، ويشرع الأدنى منه إذا تفاضلت المشارع وتمايزت
الموارد، وتشمل عادة حلمه وفضله الشارد، ويسع وارف ظله الصادر والوارد، والغائب والشاهد، ويعيد من نصر الله للإسلام العوائد، ويسد الذرائع ويدر الفوائد، مقام محل أخينا الذي حسنت في الملك سيره، وتعاضد في الفضل خبره وخبره، ودلت شواهد مداركه للحقوق، وتغمده للعقوق، على أن الله تعالى لا يهمله ولا يذره، فسلك فخره متسقة درره، ووجه ملكه شادخة غرره، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله رفيعاً علاؤه، هامية لديه منن الله تعالى وآلاؤه، مزدانة بكواكب السعد سماؤه، محروسة بعز النصر أرجاؤه، مكملاً من فضل الله تعالى في نصر الإسلام، وكبت عبدة الأصنام، أمله ورجاؤه، معظم قدره الذي يحق له التعظيم، وموقر سلطانه الذي له الحسب الأصيل والمجد الصميم، الداعي إلى الله تعالى باتصال سعادته حتى ينتصف من عدو الإسلام الغريم، ويتاح على يد سلطانه الفتح الجسيم، فلان؛ سلام كريم، طيب عميم، ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا، ولا يخيب من أخلص الرغبة إليه أملا، وموفي من ترك له حقه أجره المكتوب متمماً مكملا، وجاعل الجنة لمن اتقاه حق تقاته نزلا، ملك الموت الذي جل وعلا، وجبار الجبابرة الذي لا يجدون على قدره محيصاً ولا من دونه موثلا، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد الذي أنزل الله تعالى عليه الكتاب مفصلا، وأوضح طريق الرشد وكان مغفلا، وفتح باب السعادة ولولاه كان مقفلا، والرضى على آله وأصحابه، وعترته وأحزابه، الذي ساهموه فيما مر وما حلا، وخلفوه من بعد بالسير التي راقت مجتلى، ورفعوا عماد دينه فاستقام لا يعرف ميلا، وكانوا في الحلم والعفو مثلا، والدعاء لمقامكم الأسمى بالنصر الذي يلقى نصه صريحاً لا متأولا، والصنع الذي يبهر حاللاً ومستقبلا، والعز الذي يرسو جبلا، والسعد الذي لا يبلغ أمداً ولا أجلا، فإنا كتبناه إليكم أصحب الله تعالى ركابكم حليف التوفيق حلاً ومرتحلا، وعرفكم عوارف
اليمن الذي يثير جدلا، ويدعوا وافد الفتح المبين فيرد (1) مستعجلا، من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى سلطانه، ومهد أوطانه، إلا الخير الذي نسأل بعده تحسين العقبى، وتوالي عادة الرحمى، والحمد لله على التي هي أزكى، وسدل جناح الستر الأضفى، وصلة اللطائف التي هي أكفل وأكفى، وأبر وأوفى، ومقامكم عندنا العدة التي بها نصول ونرهب، والعمدة التي نطيل في ذكرها، ونسهب، وقد أوفدنا عليكم كل ما زاد لدينا، أو فتح الله تعالى به علينا، ونحن مهما شد المخنق بكم نستنصر، أو تراخى ففي ودكم نستبصر، أو فتح الله تعالى فأبوابكم نهني ونبشر، وقررنا عندكم أن العدو في هذه الأيام توقف عن بلاد المسلمين فلم تصل منه إليها سرية، ولا بطشت له يد جرية، ولا اقترعت من تلقائه ثنية، ولا ندري المكيدة تدبر، أم آراء تنقض بحول الله وتتبر، أو لشاغل في الباطن لا يظهر، وبعد ذلك وردت على بابنا من بعض كبارهم، وزعماء أقطارهم، مخاطبات يندبون فيها إلى جنوحها للسلم في سبيل النصح، لأياد سلفت منا لهم قررها، ووسائل ذكرها، فلم يخف عنا أنه أمر دبر بليل، وخيبة تحت ذيل، فظهر لنا أن نسبر الغور، ونستفسر الأمر، فوجهنا إليه - على عادتنا مع سلفه - لنعتبر ما لديه، وننظر إلى بواطن أمره، ونبحث عن زيد قومه وعمره، فتأتى ذلك وجر مفاوضة في الصلح أعدنا (2) لأجلها الرسالة، واستشعرنا البسالة ووازنا الأحوال واختبرنا، واعتززنا في الشروط ما قدرنا، ونحن نرتقب ما يخلق الله تعالى من مهادنة تحصل بها الأقوات المهيأة للانتساف، وتسكن (3) ما ساء البلاد المسلمة من هذا الإرجاف،
(1) ق ص: ويرد.
(2)
ق: أعددنا.
(3)
ص: وتسكين.
ونفرغ (1) الوقت لمطاردة هذه الآمال العجاف، أو حرب يبلغ الاستبصار فيه غايته، حتى يظهر الله تعالى في نصر الفئة القليلة آيته، ولم نجعل سبب الاعتزاز فيما أدرنا، وشموخ الأنف فيما أصدرنا، إلا ما أشعنا من عزمكم على نصرة الإسلام، وارتقاب خفوق الأعلام، والخفوف إلى دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن الأرض حمية لله تعالى قد اهتزت، والنفرة (2) قد غلبت للنفوس واستفزت، واستظهرنا بكتبكم التي تضمنت ضرب المواعد، وشمرت عن السواعد، وأن الخيل قد أطلقت إلى الجهاد في سبيل الله الأعنة، والثنايا سدتها بروق الأسنة، وفرض الجهاد قد قام به المسلمون، والأموال قد سمح بها المؤمنون، وهذه الأمور التي تمشت بقريبها أو بعيدها أحوال الإسلام، والأماني المعدة لتزجية الأيام، ثم اتصل بنا الخبر الكارث، بما كان من حور العزائم المؤمنة بعد كورها، وتسويف مواعد النصرة، بعد استشعار فورها، وأن الحركة معملة إلى مراكش الجهة التي في يديكم زمامها، وإليكم وإن تراخى الطول ترجع أحكامها، والقطر الذي لا يفوتكم مع الغفلة، ولا يعجزكم عن الصولة، ولا يطلبكم إن تركتموه، ولا يمنعكم إن طرقتموه أو عركتموه، فسقط في الأيدي الممدودة، واختلفت المواعد المحدودة، وخسئت الأبصار المرتقبة، ورجفت المعاقل الأشبة، وساءت الظنون، وذرفت العيون، وأكذب الفضلاء الخبر، ونفوا أن يعتبر، وقالوا: هذا لا يمكن حيث الدين الحنيف، والملك المنيف، والعلماء الذين أخذ الله تعالى ميثاقهم، وحمل النصيحة أعناقهم، هذا المفترض الذي يبعد، والقائم الذي يقعد، يأباه الله تعالى والإسلام، وتأباه العلماء والأعلام، وتأباه المآذن والمنابر، وتأباه الهمم والأكابر، فبادرنا نستطلع طلع هذا النبأ الذي إن كان باطلاً فهو الظن، ولله المن، وإن كان خلافه لرأي ترجح، وتنفق بقرب الملك وتبجح، فنحن نوفد كل من
(1) ق: ونقرع.
(2)
ص: والنعرة.
يقدم إلى الله تعالى بهذا القطر في شفاعة، ويمد إليه كف ضراعة، ومن يوسم بصلاح وعبادة، ويقصد في الدين بث (1) إفادة، يتطارحون عليكم في نقض ما أبرم، ونسخ ما أحكم، فعنكم تجنون به على من استنصركم عكس ما قصد، وتحلون عليه ما عقد، وهب لعذر يقبل في عدم الإعانة، وضرورة الاستعانة والاستكانة، أي عذر يقبل في الاطراح، والإعراض الصراح كأن الدين غير واحد (2) ، كأن هذا القطر لكلمة الإسلام جاحد، وكأن ذمام الإسلام غير جامع، كأن الله غير راء ولا سامع، فنحن نسألكم بالله الذي تساءلون به والأرحام، ونأنف لكم (3) من هذا الإحجام، ونتطارح عليكم أن تتركوا حظكم في أهل تلك الجهة حتى يحكم الله بيننا وبين العدو الذي يتكالب علينا بإدباركم، بعدما تضاءل لاستنفاركم، ولا نكلفكم غير اقتراب داركم، وما سامكم المسلمون بها شططاً، وما حملوكم إلا قصداً وسطا، وما ذهبتم إليه لا يفوت، ولا يبعد وقد تجاوزت البيوت، إنما الفائت من وراءكم، من حديث تأنف من سماعه أوداؤكم، ودين يشمت به أعداؤكم، فأسعفوا بالشفاعة فيمن بتلك الجهة المراكشية قصدنا، وحاشا إحسانكم أن يرضى فيه ردنا، وأنتم بعد بالخيار فيما يجريه الله على يديكم من قدرة، أو يلهمكم إليه من نصرة، وجوابكم مرتقب بما يليق بكم، ويجمل بحسبكم، والله سبحانه يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، والسلام الكريم عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
3 -
رسالة على لسان يوسف بن نصر إلى سلطان فاس
ومن إنشاء لسان الدين أيضاً في مخاطبة سلطان فاس والمغرب على لسان
(1) ص: ببث.
(2)
كأن
…
واحد: سقطت من ص.
(3)
لكم: سقطت من ق.
سلطان غرناطة فيما يقرب من الأنحاء السابقة، ما نصه:
المقام الذي أقمار سعده في انتظام واتساق، وجياد عزه إلى الغاية القصوى ذات استباق، والقلوب على حبه ذات اتفاق، وعناية الله تعالى عليه مديدة الرواق، وأياديه الجمة في الأعناق، ألزم من الأطواق، وأحاديث مجده سمر النوادي وحديث الرفاق، مقام محل أبينا الذي شان قلوبنا الاهتمام بشأنه، وأعظم مطلوبنا من الله تعالى ساعدة سلطانه، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقاه الله تعالى والصنائع الإلهية تحيط ببابه، والألطاف الخفية تعرس في جنابه، والنصر العزيز يحف بركابه، وأسباب التوفيق متصلة بأسبابه، والقلوب الشجية لفراقه، مسرورة بإيابه، معظم سلطانه الذي له الحقوق المحتومة، والفواصل المشهورة المعلومة، والمكارم المسطورة المرسومة، والمفاخر المنسوقة المنظومة، الداعي إلى الله تعالى في وقاية ذاته المعصومة، وحفظها على هذه الأمة المرحومة، الأمير عبد الله يوسف ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل ابن فرج بن نصر، سلام كريم، طيب بر عميم، كما سطعن في غيهب الشدة أنوار الفرج، وهبت نواسم ألطاف الله عاطرة الأرج، يخص مقامكم الأعلى، ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد حمد الله جالي الظلم بعد اعتكارها، ومقيل الأيام من عثارها، ومزين سماء الملك بشموسها المحتجبة، وأقمارها، ومريح القلوب من وحشة أفكارها، ومنشئ سحاب الرحمة على هذه الأمة بعد افتقارها، وشدة اضطرابها واضطرارها، ومتداركها باللطف الكفيل بتمهيد أوطانها وتسيير أوطارها، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله صفوة النبوة ومختارها، ولباب مجدها السامي ونجارها (1) ، نبي الملاحم وخائض تيارها، ومذهب رسوم الفتن ومطفئ نارها، الذي لم ترعه الشدائد باضطراب بحورها، حتى بلغت
(1) ص: وفخارها.
كلمة الله ما شاءت من سطوع أنوارها، ووضوح آثارها، والرضى عن آله وأصحابه الذين تمسكوا بعهده على إحلاء الحوادث وإمرارها، وباعوا نفوسهم في إعلاء دعوته الحنيفية وإظهارها، والدعاء لمقامكم الأعلى باتصال السعادة واستمرارها، وانسحاب العناية الإلهية وإسدال أستارها، حتى تقف الأيام ببابكم موقف اعتذارها، وتعرض على مثابتكم ذنوبها راغبة في اغتفارها، فإنا كتبناه إليكم - كتب الله تعالى لكم أوفى ما كتب لصالحي الملوك من مواهب إسعاده، وعرفكم عوارف الآلاء في إصدار أمركم الرفيع وإيراده، وأجرى الفلك الدوار بحكم مراده، وجعل العاقبة الحسنى كما وعد به في محكم كتابه المبين للصالحين من عباده - من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى، وليس بفضل الله الذي عليه في الشدائد الاعتماد، وإلى كنف فضله الاستناد، ثم ببركة من خلالها، وتخبر سيماها بطلوع السعود واستقبالها، وتدل مخايل يمنها على حسن مآلها، لله الحمد على نعمه التي نرغب في كمالها، ونستدر عذب زلالها، وعندنا من الاستبشار باتساق أمركم وانتظامه، والسرور بسعادة أيامه، والدعاء إلى الله تعالى في إظهاره وإتمامه، ما لا تفي العبارة بأحكامه، ولا تتعاطى (1) حصر أحكامه، وإلى هذا أيد الله تعالى أمركم وعلاه (2) ، وصان سلطانكم وتولاه، فقد علم الحاضر والغائب، وخلص الخلوص الذي لا تغيره الشوائب، ما عندنا من الحب الذي وضحت منه المذاهب، وأننا لما اتصل بنا ما جرت به الأحكام من الأمور التي صحبت مقامكم فيها العناية من الله والعصمة، وجعل على العباد والبلاد الوقاية والنعمة، لا يستقر بقلوبنا القرار، ولا تتأتى بأوطاننا الأوطار، تشوفاً لما تتيحه (3) لكم الأقدار، ويبرزه من سعادتكم الليل والنهار،
(1) ص ق: يتعاطى.
(2)
ق: وعلاكم.
(3)
ص ق: تشوقاً لما تنتجه.
ورجاؤنا في استئناف سعادتكم يشتد على الأوقات ويقوى، علماً بان العاقبة للتقوى، وفي هذه الأيام عميت الأنباء، وتكالبت في البر والبحر الأعداء، واختلفت الفصول والأهواء، وعاقت الوارد الأنواء، وعلى ذلك من فضل الله الرجاء، ولو كنا نجد للاتصال بكم سبباً، أو نلفي لإعانتكم مذ خباً ملا شغلنا البعد الذي بيننا اعترض، والعدو بساحتنا في هذه الأيام ربض، وكان خديمكم الذي رفع من الوفاء راية خافقة، واقتنى منه في سوق الكساد بضاعة نافقة، الشيخ الأجل الأوفى، الأود الأخلص الأصفى، أبو محمد ابن أحبانا (1) سنى الله مأموله، وبلغه من سعادة أمركم سؤلهن وقد ورد على بابنا، وتحيز إلى اللحاق بجنابنا، ليتيسر له من جهتنا القدوم، ويتأتى له بإعانتنا الغرض المروم، فبينما نحن ننظر في تتميم غرضه، وإعانته على الوفاء الذي قام بمفترضهن إذ اتصل بنا خبر قرقورتين من الأجفان التي استعنتم بها على الحركة، والعزيمة (2) المقترنة بالبركة، حطت إحداها بمرسى المنكب والأخرى بمرسى المرية، في كنف العناية الإلهية، فتلقينا (3) من الواصلين فيها الأنباء المحققة بعد التباسها، والأخبار التي يغني نصها عن قياسها، وتعرفنا ما كان من عزمكم على السفر، وحركتكم المعروفة باليمن والظفر، وأنكم استخرتم الله تعالى في اللحاق بالأوطان التي يؤمن قدومكم خائفها، ويؤلف طوائفها، ويسكن راجفها، ويصلح أحوالها، ويسكن أهوالها، وأنكم سبقتم حركتها بعشرة أيام مستظهرين بالعزم المبرور، والسعد الموفور، واليمن الرائق السفور، والأسطول المنصور، فلا تسألوا عن انبعاث الآمال بعد سكونها، ونهوض طيور الرجاء من وكونها، واستبشار الأمة المحمدية منكم بقرة عيونها، وتحقق ظنونها، وارتياح البلاد إلى دعوتكم التي ألبستها ملابس العدل والإحسان، وقلدتها قلائد السير الحسان، وما منها إلا من باح بما يخفيه من وجدهن وجهر
(1) ص: أجانا.
(2)
ق ص: والعزمة.
(3)
ص: تلقينا.
بشكر الله تعالى وحمده، وابتهل إليه في تيسير غرض مقامكم الشهير وتتميم قصده، واستئناس نور سعده، وكم مطل الانتظار بديون آمالها، والمطاولة من اعتلالها. طاولة من اعتلالها. وأما نحن فلا تسألوا عمن استشعر دنو حبيبه، بعد طول مغيبه، إنما بلغنا هذا الخبر بادرنا إلى إنجاز ما بذلنا لخديمكم المذكور من الوعد، واغتنمنا ميقات هذا السعد، ليصل سببه بأسبابكم، ويسرع لحاقه بجنابكم، فعنده خدم نرجو أن يسير الله تعالى أسبابها، ويفتح بنيتكم الصالحة أبوابها، وقد شاهد من امتعاضنا لذلك المقام الذي ندين له بالتشييع الكريم الوداد، ونصل له على بعد المزار ونزوح الأقطار سبب الاعتداء، ما يغني عن القلم والمداد، وقد ألقينا إليه من ذلك كله ما يلقيه إلى مقامكم الرفيع المعتمد، وكتبنا إلى من بالسواحل من ولاتنا نحد لهم ما يكون عليه عملهم في بر من يرد عليهم من جهة أبوتكم الكريمة، ذات الحقوق العظيمة والأيادي الحديثة والقديمة، وهم يعملون في ذلك بحسب المراد، وعلى شاكلة جميل الاعتقاد، ويعلم الله تعالى أننا لو لم تعق العوائق الكبيرة، والموانع الكثيرة، والأعداء الذين دهيت (1) بهم في الوقت هذه الجزيرة، ما قدمنا عملاً على اللحاق بكم، والاتصال بسببكم، حتى نوفي لأبوتكم الكريمة حقها، ونوضح من المسرة طرقها، لكن الأعذار واضحة وضوح المثل السائر، والله العلم بالسرائر، وغلى الله تعالى نبتهل في أن يوضح لكم من التيسير طريقاً، ويجعل السعد لكم مصاحباً ورفيقاً، ولا يعدمكم عناية منه وتوفيقاً، ويتم سرورنا عن قريب بتعرف أنبائكم السارة، وسعودكم الدارة، فذلك منه سبحانه غاية آمالنا، وقيه إعمال ضراعتنا وسؤالنا، هذا ما عندنا باردتا لإعلامكم به أسرع البدار، والله تعالى يوفد علينا أكرم الأخبار، بسعادة ملككم السامي المقدار، وييسر ما له من الأوطار، ويصل سعدكم،
(1) ص: ذهبت.
ويحرس مجدكم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، انتهى.
وكان طاغية النصارى الملعون لكثرة ما مارس من أمور ملوك الأندلس وسلاطين فاس كثيراً ما يدس لأقارب الملوك القيام على صاحب الأمر، ويزين له الثورة، ويعده بالإمداد بالمال والعدة، وقصده بذلك كله توهين المسلمين، وإفساد تدبيرهم، ونسخ الدول بعضها ببعض، لما له في ذلك من المصلحة، حتى بلغ أبعده الله تعالى من أمله الغاية.
4 -
رسالة إلى السلطان المريني في الاعتذار عن فرار أبي الفضل المريني من غرناطة
ومن إنشاء لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى، عن سلطان الأندلس إلى سلطان فاس المريني، يعتذر عن فرار الأمير أبي الفضل المريني الذي كان معتقلاً بغرناطة، فتحيل الطاغية في أمره حتى خرج طالباً للملك، ما نصه:
المقام الذي شهد اللي والنهار بأصالة سعادته، وجرى الفلك الدوار بحكم إرادته، وتعود الظفر بما يناؤه فاطرد والحمد لله جريان عادته، فوليه متحقق لإفادته، وعدوه مرتقب لإبادته، وحلل الصنائع الإلهية تضفو على أعطاف مجادته، مقام محل أخينا الذي سهم سعده صائب، وأمل من كاده خاسر خائب، وسير الفلك المدار في مرضاته دائب، وصنائع الله تعالى له تصحبها الألطاف العجائب، فسيان شاهد منه في عصمة وغائب، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقاه الله تعالى مسدد السهم، ماضي العزم، تجل سعوده عن تصور الوهم، ولا زال مرهوب الحد ممتثل الرسم، موفور الحظ من نعمة الله تعالى عند تعدد القسم، فائزاً بفلج الخصام عند لدد الخصم، معظم قدره، وملتزم بره، المبتهج بما يسببه الله تعالى له من إعزاز نصرهن وإظهار أمره، فلان: سلام كريم، طيب بر عميم، يخص مقامكم الأعلى، ومثابتكم الفضلى، التي حازت في الفخر الأمد البعيد، وفازت من التأييد والنصر بالحظ السعيد، ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي فسح لملككم الرفيع في العز مدى، وعرف عوارفه آلائه وعوائد النصر على أعدائه يوماً وغدا، وحرس سماء علائه بشهب من قدره وقضائه " فمن يستمع الآن يجد له شهباًُ رصدا " وجعل نجح أعماله وحسن مآله قياسا مطردا، فرب مريد ضره ضر نفسه وهاد إليه أهدى وما هدى، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد نبيه ورسوله الذي ملأ الكون نوراً وهدى، وأحيا مراسم الحق وقد صارت طرائق قددا، أعلى الأنام يدا، وأرفهم محتدا، الذي بجاهه نلبس أثواب السعادة جددا، ونظفر بالنعيم الذي لا ينقط أبدا، والرضى عن آله وأصحابه الذين رفعوا لسماء سنته عمدا، وأوضحوا من سبيل اتباعه مقصدا، وتقبلوا شيمه الطاهرة ركعاً وسجدا، سيوفاً على من اعتدى ونجوماً لمن اهتدى، وعلت فروع ملته صعدا، وأصبح بناؤها مديداً مخلدان والدعاء لمقامكم الأسمى بالنصر الذي يتوالى مثنى وموحدا، كما جمع لملككم ما تفرق من الألقاب على توالي الأحقاب، فجعل سيفكم سفاحاً وعلمكم منصوراً ورأيكم رشيداً وعزمكم مؤيدان فإنا كتبناه إليكم - كتب الله تعالى لكم صنعاً يشرح للإسلام خلدا، ونصراً يقيم للدين الحنيف أودا، وعزماً يملأ أفئدة الكفر كمدا، وجعلكم ممن هيأ له من أمره رشدا، ويسر لكم العاقبة الحسنى كما وعد في كتابه العزيز والله أصدق موعدا - من حمراء غرناطة حرسها الله ولا زائد بفضل الله سبحانه إلا استطلاع سعودكم في آفاق العناية، واعتقاد جميل صنع الله في البداية والنهاية، والعلم بأن ملككم تحدى من الظهور على أعدائه بآية وأجرى جياد السعد في ميدان لا يحد بغاية، وخرق حجاب المعتاد بما لم يظهر إلا لأصحاب الكرامة والولاية، ونحن على ما علمتم من السرور بما يهز لملككم المنصور عطفا، ويسدل عليه من العصمة سجفان نقاسمه الارتياح لمواقع نعم الله تعالى نصفاً ونصفا، ونعقد بين أنباء مسرته وبين الشكر لله حلفا، ونعد التشييع له مما يقربنا إلى الله زلفى، ونؤمل
من إمداده ونرتقب من جهاده وقتاً يكفل به الدين ويكفى، وتروى غلل النفوس وتشفى.
وإلى هذا وصل الله سعدكم، ووالى نصركم وعضدكم، فإنا من لدن صدر عن أخيكم أبي الفضل ما صدر من الانقياد لخدع الآمال، والاعتزاز بموارد الآل، وقال رأيه في اقتحام الأهوال، وتورط في هفو حار فيها حيرة أهل الكلام في الأحوال، وناصب من أمركم السعيد جبلاً قضى الله له بالاستقرار والاستقبال، ومن ذا يزاحم الأطواد ويزحزح الجبال وأخلف الظن منا في وفائهن وأضمر عملاً استأثر عنا بإخفائهن واستعان من عدو الدين بمعين قلما يري لمن استنصر به زند، ولا خفق لمن تولاه بالنصر بند، وإن الطاغية أعانه وأنجده ورأى أنه سهم على المسلمين سدده، وغضب للفتنة جرده، فسخر له الفلك، وأمل أن يستخدمه بسبب ذلك الملك، فأورده الهلك والظلم الحلك، علمنا أن طرف سعادته كاب، وسحاب آماله غير ذات انسكاب، وقدم غرته لم يستقر من السداد في غرز ركاب، فغن نجاح أعمال النفوس، مرتبط بنياتها، وغايات الأمور تظهر في بداياتها، وعوائد الله تعالى فيمن نازع قدرته لا تجهل، ومن غالب أمر الله خاب منه المعول.
فبينما نحن نرتقب خسار تلك الصفقة المعقودة، وخمود تلك الشعلة الموقودة، وصلنا كتابكم يشرح الصدور ويشرح الأخبار، ويهدي طرف المسرات على أكف الاستبشار، ويعرب بلسان حال المسارعة والابتدار، عن الود الواضح وضوح النهار، والتحقق بخلوصنا الذي يعلمه عالم الأسرار، فأعاد في الإفادة وأبدى، وأسدى من الفضائل الجلائل ما أسدى فعلم منه مآل (1) من رام أن يقدح زند الشتات من بعد الالتئام، ويثير عجاجة المنازعة من بعد ركود القتام، هيهات تلك قلادة الله تعالى التي ما كان يتركها بغير نظام، ولم يدر
(1) ص: مثال.
أنكم نصبتم له من الحزم حبالة لا يفلتها قنيص، وسددتم له من السعد سهماً ما له عنه من محيص، بما كان من إرسال جوارح الأسطول السعيد في مطاره، حائلاً بينه وبين أوطاره (1) ، فما كان إلا التسمية والإرسال، ثم الإمساك والقتال، ثم الاقتيات والاستعمال، فيا له من زجر استنطق لسان الوجود فجدله (2) ، واستنصر البحر فخذله، وصارع القدر فجدله (3) لما جد له، وإن خدامكم استولوا على ما كان فيه من مؤمل (4) غاية بعيدة، ومنتسب إلى نصبة غير سعيدة، وشانئ غمرته من الكفار، خدام الماء وأولياء النار، تحكمت فيهم أطراف العوالي وصدور الشفار، وتحصل منهم من تخطاه الحمام في قبضة الإسار، فعجبنا من تيسير هذا المرام، وإخماد الله لهذا الضرام، وقلنا: تكييف لا يحصل في الأوهام، وتسديد لا تستطيع إصابته السهام، كلما قدح الخلاف زنداً أطفأ سعدكم شعلته، أو أظهر الشتات ألماً أبرأ يمن طائركم علته، وما ذاك إلا لنية صدقت معاملتها في جنب الله تعالى وصحت، واسترسلت بركتها وسحت، وجهاد نذرتموه إذا فرغت شواغلكم وتمت، واهتمام بالإسلام يكفيه الخطوب التي أهمت، فنحن نهنيكم بمنح الله ومننه، ونسأله أن يلبسكم من عنايته أوقى جننه، فأملنا أن تطرد آمالكم، وتنجح في مرضاة الله أعمالكم، فمقامكم هو العمدة التي يدفع العدو بسلاحها وتنبلج ظلمات صفاحها، وكيف لا نهنيكم بصنع على جهتنا يعود، وبآفاقنا تطلع منه السعود، فتيقنوا ما عندنا من الاعتقاد الذي رسومه قد استقلت واكتفت، وديمه بساحة الود قد وكفت، والله عز وجل يجعل لكم الفتوح عادة، ولا يعدمكم عناية وسعادة، وهو سبحانه يعلي مقامكم، وينصر أعلامكم، ويهني الإسلام أيامكم، والسلام الكريم
(1) ص: أوكاره.
(2)
ق: فحدله.
(3)
ق: فخذله.
(4)
ص: مذموماً.
يخصكم، ورحمة الله وبركاته؛ انتهى.
وكان سلطان الأندلس في الأزمان المتأخرة كثيراً ما يشم أرج الفرج في سلم الكفار ومهادنتهم، حيث لم يقدر في الغالب على مقاومتهم، ولذلك لما قتل السلطان أبو الحجاج الذي كان لسان الدين كاتبه ووزيره، وقام بالأمر بعده ابنه محمد الغني بالله الذي ألقى مقاليده للسان الدين - أكد أمر السلم، وانتظر ما يبرمه القضاء الجزم، والقدر الحتم.
5 -
رسالة عن لسان الغني بالله إلى أبي عنان
من إنشاء لسان الدين في ذلك على لسان الغني مخاطباً لسلطان فاس والمغرب أبي عنان ما صورته:
المقام الذي يغني عن كل مفقود بوجوده، ويهز إلى جميل العوائد أعطاف بأسه وجوده، ونستضيء عند إظلام الخطوب بنور سعوده، ونرث من الاعتماد عليه أسنى ذخر يرثه الولد عن آبائه وجدوده مقام محل أبينا الذي رعي الأذمة شانه، وصلة الرعي سجية انفرد بها سلطانه، ومواعد النصر ينجزها زمانه، والقول والفعل في ذات الله تعالى تكفلت بهما يده الكريمة ولسانه، وتطابق فيهما إسراره وإعلانه، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقاه الله تعالى محروساً من غير الأيام جنابه، موصولة بالوقاية الإلهية أسبابه، مسدولاً عن ذاته الكريمة ستر الله تعالى وحجابه، مصروفاً عنه من صرف القدر ما يعجز عن رده بوابه، ولا زال ملجأ تنفق لديه الوسائل التي تدخرها لأولادها أولياؤه وأحبابه، ويسطر في صحف الفخر ثوابه، وتشتمل على مكارم الدين والدنيا أثوابه وتتكفل بنصر الإسلام وجبر القلوب عند طوارق الأيام كتائبه وكتابه، معظم ما عظم من حقه السائر من إجلاله وشكر خلاله على لاحب طرقه، المستضيء في ظلمة الخطب بنور أفقه، الأمير عبد الله محمد ابن أمير
المسلمين أبي الحجاج ابن أمير المسلمين أبي الوليد ابن فرج بن نصر: سلام كريم، طيب بر عميم، يخص مقامكم الأعلى، ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي لا راد لأمره ولا معارض لفعله، مصرف الأمر بحكمته وقدرته وعدله، الملك الحق الذي بيده ملاك الأمر كله، مقدر الآجال والأعمار فلا يتأخر شيء عن ميقاته ولا يبرح عن محله، جاعل الدنيا مناخ قلعة لا يغتبط العاقل بمائه ولا بظله، وسبيل رحلة فما أكثب ظعنه من حله، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد صفوة خلقه وخيرة أنبيائه وسيد رسله، الذي نعتصم بسببه الأقوى ونتمسك بحبله، ونمد يد الافتقار إلى فضلهن ونجاهد في سبيله من كذب به أو حاد عن سبله، ونصل إليه ابتغاء مرضاته ومن أجله، والرضى على آله وأحزابه وأنصاره وأهله، المستولين من ميدان الكمال على خصله، والدعاء لمقامكم الأعلى بعز نصره ومضاء فضله، فإنا كتبناه إليكم - كتب الله تعالى لكم وقاية لا تطرق الخطوب حماها، وعصمة ترجع عنها سهام النوائب كلما فوقها الدهر ورماها، وعناية لا تغير الحوادث اسمها ولا مسماها، وعزاً يزاحم أجرام الكواكب منتماها - من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى ونعم الله سبحانه تتواتر لدينا دفعاً ونفعاً، وألطافه نتعرفها وتراً وشفعاً، ومقامكم الأبوي هو المستند الأقوى، والمورد الذي ترده آمال الإسلام فتروى، وتهوي إيه أفئدتهم فتجد ما تهوى، ومثابتكم العدة التي تأسست مبانيها على البر والتقوى.
وإلى هذا وصل الله تعالى سعدكم، وأبقى مجدكم، فإننا لما نعلم من مساهمة مجدكم التي تقتضيها كرام الطباع وطباع الكرم، وتدعو إليها ذمم الرعي ورعي الذمم، نعرفكم بعد الدعاء لملككم بدفاع الله تعالى عن ارتقائه، وإمتاع المسلمين ببقائه، بما كان من وفاة مولانا الوالد نفعه الله تعالى بالشهادة التي ألبسه حلتها، والشهادة التي في أعماله الزكية كتبها، والدرحة العالية التي حتمها له وأوجبها، وبما تصير إلينا من أمره، وضم بنا من نشرهن وسدل على من
خلفه من ستره، وإنها لعبرة لمن ألقى السمع، وموعظة تهز الجمع وترسل الدمع، وحادثة أجمل الله سبحانه فيها الدفع، وشرح مجملها وإن أخرس اللسان هولها، وأسلم العبارة قوتها وحولها، أنه رضي الله تعالى عنه لما برز لإقامة سنة هذا العيد، مستشعراً شعار كلمة التوحيد، مظهراً سمة الخضوع للمولى الذي تضرع بين يديه رقاب العبيد، آمناً بين قومه وأهله، متسربلاً في حلل نعم الله تعالى وفضله، قرير العين باكتمال عزه واجتماع شمله، قد احترس بأقصى استطاعته، واستظهر بخلصان طاعته، والأجل المكتوب قد حضر، والإرادة الإلهية قد أنفذت القضاء والقدر، وسجد بعد الركعة الثانية من صلاته، أتاه أمر الله لميقاته، على حين الشباب غض جلبابه، والسلاح زاخر عبابه، والدين بهذا القطر قد أينع بالأمن جنابه، وأمر من يقول للشيء كن فيكون قد بلغ كتابه، ولم يرعه وقد اطمأنت بذكر الله تعالى القلوب، وخلصت الرغبات إلى فضله المطلوب، إلا شقي قيضه الله لسعادته غير معروف ولا منسوب، وخبيث لم يكن بمعتبر ولا محسوب، تخلل الصفوف المعقودة، إلى طاعة الله المحشودة، لا تدل العين عليه شارة ولا بزة، ولا تحمل على الحذر من مثله أنفة ولا عزة، وإنما هو خبيث ممرور، وكلب عقور، وحية سمها وحي محذور، وآلة مصرفة لينفذ بها قدر مقدور، فلما طعنه وأثبته، وأعلق به شرك الحين فما أفلتهن قبض عليه من الخلصان الأولياء، من خبر ضميره، وأحكم تقريره، فلم يجب عند الاستفهام جواباً يعقل، ولا عثر منه على شيء عنه ينقل، لطفاً من الله أفاد براءة الذمم، وتعاوته للحين أيدي التمزيق، وأتبع شلوه بالتحريق، واحتمل مولانا الوالد العزيز رحمه الله تعالى إلى القصر وبه دماء لم يلبث بعد الفتكة العمرية إلا أيسر من اليسير، وتخلف الملك ينظر من الطرف الحسير، وينهض بالجناح الكسير، وقد عاد جمع السلامة إلى التكسير، إلا أن الله تعالى تدارك هذا القطر الغريب بان أقامنا مقامه
لوقته وحينه، ورفع بناء عماد ملكه ولم شعث دينه، وكان جميع من حضر المشهد من شريف الناس ومشروفهم، وأعلامهم ولفيفهم، قد جمعه ذلك الميقات، وحضر الأولياء الثقات، فلم تختلف علينا كلمة، ولا شذت منهم عن بيعتنا نفس مسلمة، ولا أخيف بري، ولا حذر جري، ولا فري فري، ولا وقع لبس، ولا استوحشت نفس، ولا نبض للفتنة عرق، ولا أغفل للدين حق، فاستند النقل إلى نصه، ولم يعدم من فقيدنا غير شخصه، وبادرنا إلى مخاطبة البلاد نمدها ونسكنها، ونقرر الطاعة في النفوس ونمكنها، وأمرنا الناس بها بكف الأيدي، ورفع التعدي، والعمل من حفظ شروط المسالمة المعقودة بما يجدي، ومن شره منهم للفرار (1) ، عاجلناه بالإنكار، وصرفنا على النصارى ما أوصاه مصحباً بالاعتذار، وخاطبنا صاحب قشتالة نرى ما عنده في صلة السلم إلى أمدها من الأخبار، واتصلت بنا البيعات من جميع الأقطار، وعفى على حزن المسلمين بوالدنا ما ظهر عليهم بولايتنا من الاستبشار، واستبقوا تطير بهم أجنحة الابتدار، جعلنا الله تعالى ممن قابل الحوادث بالاعتبار، وكان على حذر من تصاريف الأقدار، واختلاف الليل والنهار، وأعاننا على إقامة دينه في هذا الوطن الغريب المنقط بين العدو الطاغي والبحر الزخار، وألهمنا من شكره لما يتكفل بالمزيد من نعمه، ولا قطع عنا عوائد كرمه.
وإن فقدنا والدنا فأنتم لنا من بعده الوالد، الذي تكرم منه العوائد، والحب يتوارث كما ورد في الأخبار التي صحت (2) منها الشواهد، ومن أعد مثلكم لبنيه، فقد تيسرت من بعد الممات أمانيه، وتأسست قواعد ملكه وتشيدت مبانيه، فالاعتقاد الجميل موصول، والفرع لها في التشيع إليكم أصول، وفي تقرير فخركم محصول، وأنتم ردء المسلمين بهذه البلاد المسلمة الذي يعينهم
(1) ص: للغوار.
(2)
ق ص: وضحت.
بإرفاده، وينصرهم بإنجاده، ويعامل الله تعالى فيها بصدق جهاده.
وعندما استقر هذا الأمر الذي تبعت المحنة فيه المحنة، وراقت من فضل الله تعالى ولطفه فيه الصفحة، وأخذنا البيعة من أهل حضرتنا بعد استدعاء خواصهم وأعيانهم، وتزاحمت على رقها المنشور خطوط أيمانهم، وتأصلت قواعد ألفاظها ومعانيها في قلوبهم وآذانهم، وضمنوا الوفاء بما عاهدوا الله عليه وقد خبر سلفنا والحمد لله وفاء ضمانهم، بادرنا تعريف مقامكم الذي نعلم مساهمته فيما ساء وسر وأحلى وأمر، عملاً بمقتضى الخلوص الذي ثبت واستقر، والحب الذي ما مال يوماً ولا ازور، وما أحق تعريف مقامكم بوقوع هذا الأمر المحذور، وانجلاء ليله عن صنع الصبح البادي السفور وإن كنا قد خاطبنا من خدامكم من يبادر إعلامكم بالأمور، إلا أنه أمر له ما بعده، وحادث يأخذ حده، ونبعث إلى بابكم من شاهد الحال ما بين وقوعها إلى استقرارها رأي العيان وتولى تسديد الأمور بأعماله الكريمة ومقاصده الحسان، ليكون أبلغ في البر وأشرح للصدر وأوعب للبيان، فوجهنا إليكم وزير أمرنا، وكاتب سرنا، الكذا أبا فلان، وألقينا إليه من تقرير تعويلنا على ذلك المقام الأسنى، واستنادنا من التشييع إليه إلى الركن الوثيق المبنى، ما نرجو أن يكون له فيه المقام الأعنى، والثمرة العذبة المنى، فلاهتمامه بهذا الغرض الأكيد الذي هو أساس بنائنا، وقامع أعدائنا، آثرنا توجيهه على توفر الاحتياج له، ومدار الحال عليه، والمرغوب من أبوتكم المؤملة أن يتلقاه قبولها بما يليق بالملك العالي، والخلافة السامية المعالي، والله عز وجل يديم أيامكم لصلة الفضل (1) المتوالي، ويحفظ مجدكم من غير الأيام والليالي، وهو سبحانه يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، ويوالي نصركم وعضدكم، والسلام الكريم يخصكم، ورحمة الله وبركاته؛ انتهى.
(1) ق: فضله.
وقوله في هذه الرسالة " فوجهنا إليكم وزير أمرنا - إلى آخره " هو لسان الدين رحمه الله تعالى، إذ هو كان الوزير إذ ذاك والسفير في هذه القضية، ومن صفحات هذا الكلام يتضح لك ما نال لسان الدين رحمه الله تعالى من الرياسة والجاه ونفوذ الكلمة بالأندلس وبالمغرب رحمه الله تعالى، وقد أكرمه السلطان أبو عنان في هذه الوفادة وغيرها غاية الإكرام، وكان المقصود الأعظم من هذه الوفادة استعانة سلطان الأندلس الغني بالله بالسلطان أبي عنان على طاغية النصارى، كما ألمعنا بذلك في الباب الثاني من القسم الثاني الذي يتعلق بلسان الدين، وكان السلطان أبو عنان ابن السلطان أبي الحسن معتنياً بالأندلس غاية الاعتناء، وخصوصاً بجبل الفتح، حتى أنه بلغ من اهتمامه به أن أمر عليه ولده أبا بكر السعيد، وهو الذي تولى الملك بعده.
6 -
رسالة عن الغني إلى الأمير السعيد
ومن إنشاء لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى على لسان سلطانه ما خاطب به الأمير السعيد المذكور إذ قلده والده جبل الفتح، وهو:
الإمارة التي أشرق في سماء الملك شهابها، واتصلت بأسباب العز أسبابها، واشتملت على الفضل والطهارة أثوابها، وأجيلت قداح المفاخر فكان إلى جهة الله تعالى انتدابها، إمارة محل أخينا الذي تأسس على مرضاة الله تعالى أصيل فخره، واتسم بالمرابط المجاهد على اقتبال سنه وجدة عمره، وبدأ بفضل الجهاد صحيفة أجره، وافتتح بالرباط والصلاح ديوان نهيه وأمره، لما يسره من سعادة نصبته وحباه من عز نصره، الأمير الأجل الأعز الأرفع الأسنى الأطهر الأظهر الأمنع الأصعد الأسمى الموفق الأرضى، محل أخينا العزيز علينا، المهداة أنباء مأمول جواره إلينا، أبي بكر السعيد ابن محل والدنا الذي مقاصده للإسلام وأهله على مرضاة الله تعالى جارية، وعزائمه على نصر الملة الحنيفية
متبارية، السلطان الكذا أبو عنان ابن السلطان الكذا أبي الحسن ابن السلطان الكذا أبي سعيد ابن السلطان يعقوب ابن عبد الحق، أبقاه الله تعالى سديدة آراؤه ناجحة أعماله، ميسرة أغراضه من فضل الله تعالى متتمة آماله، رحيباً في السعد مجاله، يكنفه من السر تعالى ومحل أبينا غمام وارفة ظلاله، هامر نوله، حتى يرضي الله تعالى مصاعه بين يديه ومصاله، وتمضي في الأعداء أمام رايته المنصورة نصاله، أخوه المسرور بقربه، المنطوي على مضمر حبه، أمير المسلمين محمد بن أمير المسلمين أبي الحجاج ابن أمير المسلمين أبي الو ليد ابن فرج ابن نصر: سلام كريم، طيب بر عميم، يخص أخوتكم الفضى، وإمارتكم التي آثار فضلها بحول الله تتلى، ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد حمد الله على ما يكفيك من ألطافه المشرقة الأنوار، ويسره لهذه الأوطان بنصرته من الأوطار، فكلما دجت به شدة طلع الفرج عليها طلوع النهار، وكلما اضطرب منها جانب أعاده بفضل الله تعالى من أقامه لذلك واختاره إلى حال السكون والقرار، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله المصطفى المختار، الذي أكد عليه جبريل صلوات الله عليه حق الجوار، حتى كاد يلحقه بالوسائل والقرب الكبار، الذي وصانا بالالتئام، واتصال اليد في نصرة الإسلام، فنحن نقابل بساطه بالبدار، ونجري على نهجه الواضح الآثار، ونرتجي باتباعه الجمع بين سعادة هذه الدار وتلك الدار، والرضى عن آله وأصحابه، وأنصاره وأحزابه، أكرم الآل والأصحاب والأحزاب والأنصار، الذين كانوا كما أخبرنا الله تعالى عنهم على لسان الصادق الأخبار، رحماء بينهم أشداء على الكفار، والدعاء لإمارتكم السعيدة السعيدية بالتوفيق الذي تجري به الأمور على حسب الاختيار، والعز المنيع الذمار، والسعد القويم المدار، والوقاية التي يأمن بها أهلها من السرار، فإنا كتبناه إليكم - كتب الله تعالى لكم أسنى ما كتب للأمراء الأرضياء الأخيار، ومتعكم من بقاء والدكم بالعدة العظمى والسيرة الرحمى والجلال الرفيع المقدار - من حمراء
غرناطة حرسها الله تعالى، ولا زائد بفضل الله تعالى سبحانه ثم ببركة سيدنا ومولانا محمد رسوله صلى الله عليه وسلم الذي أوضح برهانه إلا ألطاف باهرة، وعناية من الله تعالى باطنة وظاهرة، وبشارة بالقبول واردة وبالشكر صادرة، والله تعالى يصل لدينا نعمه، ويوالي فضله وكرمه.
وإلى هذا فإننا اتصل بنا في هذه الأيام ما كان من عناية والدكم محل أبينا أبقاه الله تعالى بهذه البلاد المستندة إلى تأميل مجده، وإقطاعها الغاية التي لا فرقها من حسن نظره وجميل قصده، وتعينكم إلى المقام بجبل الفتح إبلاغاً في اجتهاده الديني وجده، فقلنا: هذا خبر إن صدق مخبره، وتحصل منتظره، فهو فخر تجددت أثوابه، واعتناء تفتحت أبوابه، وعمل عند الله ثوابه، فإن الأندلس - عصمها الله تعالى - وإن أنجدته عدده وأمواله، ونجحت في نصرها مقاصده الكريمة وأعماله، لا تدري موقع النظر لها من نفسه، وزيادة يومه في العناية على أمسه، حتى يسمح لها بولده، ويخصها بقرة عينه وفلذة كبده، فلما ورد منه (1) الخبر الذي راقت منه الحبر، ووضحت من سعادته الغرر، بإجازتكم البحر، واختياركم في حال الشبيبة الفخر، وصدق مخيلة الدين فيكم، واستقراركم في الثغر الشهير الذي افتتحه سيف جدكم واستنفذه سعد أبيكم، سررنا بقرب المزار، ودنو الديار، وقابلنا صنع الله تعالى بالاستبشار، ووثقنا وإن لم نزل على ثقة من عناية الله تعالى وعناية محل والدنا بهذه الأقطار، وحمدنا الله تعالى على هذه الآلاء المشرقة، والنعم المغدقة، والصنائع المتألقة، بادرنا نهنيء إخوتكم أولاً بما سيره الله تعالى لكم من سلامة المجاز، ثم بما منحكم الله تعالى من فضل الاختصاص بهذا الغرض والامتياز، فإمارتكم الإمارة التي أخذت بأسباب السماء، وركبت إلى الجهاد في سبيل الله تعالى جيال الخيل والماء، واصبحي على حال الشبيبة شجاً في حلوق الأعداء، ونحن أحق بهذا
(1) منه: زيادة من ق.
الهناء، ولكنها عادة الود وسنة الإخاء، فالله عز وجل يجعله مقدماً ميمون الطائر، متهلل البشائر، تتهلل بصنع الله بعده وجوه القبائل والعشائر، ويجري خبر سعادتكم مجرى المثل السائر، ويشكر محل والدنا فيما كان من اختياره، ومزيد إيثاره، ويجازيه جزاء من سمح في ذاته بمظنة ادخاره، ومذ رأينا أن هذا الغرض لا يجتزي فيه بالكتابة، دون الاستنابة، وجهنا لكم من يقوم بحقه، ويجري من تقرير ما لدينا على أوضح طرقه، وهو القائد الكذا، ومجدكم يصغي لما يلقيه، ويقابل بالقبول ما من ذلك يؤديه، والله تعالى يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، والسلام؛ انتهى.
وكان الطاغية الملعون أيام السلطان أبي عنان رحمه الله تعالى نازل جبل الفتح ثم كفى الله تعالى شره في ذلك التاريخ.
7 -
من أبي الحجاج إلى أبي عنان
ومن إنشاء لسان الدين على لسان سلطانه أبي الحجاج يخاطب أبا عنان سلطان فاس والمغرب وذلك بما نصه:
المقام الذي رمى له الملك الأصيل بأفلاذه، وأدى منه الإسلام إلى ملجئه الأحمى وملاذه، وكفلت السعود بإمضاء أمره المطاع وإنفاذه، وشأى حلبة (1) الكرم فكان وحيد آحاده وفذ أفذاذه، وابتدع غرائب الجود فقال لسان الوجود: نعمت البدعة هذه، مقام محل أخينا الذي أركان مجده راسية راسخة، وغرر عزه بادية باذخة، وأعلام فخره سامية شامخة، وآيات سعده محكمة ناسخة، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقاه الله تعالى يجري بسعده الفلك، ويجلى بنور هديه الحلك، ويسطر حسنات ملكه الملك، ويشهد بفضل بأسه
(1) ص: حلية.
ونداه النادي والمعترك. معظم حقوقه التي تأكد فرضها، المثني على مكارمه التي أعيا الأوصاف البليغة بعضها، أمير المسلمين عبد الله يوسف ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر: سلام كريم، طيب بر عميم، يخص أخوتكم الفضلى، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي هيأ لملة الإسلام، بمظاهرة ملككم المنصور الأعلام، إظهاراً وإعزازاً، وجعل لها العاقبة الحسنى بيمن مقامكم الأسنى تصديقاً لدعوة الحق وإنجازاً، وسهل لها بسعدكم كل صعب المرام وقد سامتها صروف الأيام لياً وإعوازاً، وأتاح لها منكم ولياً يسوم أعداءها استلاباً وابتزازاً، ويسكن آمالها وقد استشعرت انحفازاً، حمداً يكون على حلل النعم العميمة والآلاء الكريمة طرازاً، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله الذي بهرت آياته وضوحاً وإعجازاً، واستحقت الكمال صفاته حقيقة لا مجازاً، ونبيه الذي بين للخلق أحكام دينه الحق امتناعاً وجوازاً، ويسر لهم وقد ضلوا في مفاوز الشك مفازاً، والرضى عن آله وأصحابه المستولين على ميادين فضائل الدنيا والدين اختصاصاً بها وامتيازاً، فكانوا غيوثاً إن وجدوا محلاً وليوثاً إن شهدوا برازاً، والدعاء لمقام أخوتكم الأسمى بنصرٍ على أعدائه تبدي له الجياد الجرد ارتياحاً والرماح الملد اهتزازاً، وعز يطأ من أكناف البسيطة وأرجائها المحيطة سهلاً وعزازاً، ويمن يشمل من بلاد الإيمان أقطاراً نازحة ويعم أحوازاً، وسعد تجول في ميدان ذكره المذاع أطراف ألسنة اليراع إسهاباً وإيجازا، وفخر يجوب جيوب الأقطار جوب المثل السيار عراقاً وحجازاً، ولا زالت كتائب سعده تنتهز فرص الدهر انتهازا، وتوسع مملكات (1) الكفر انتهاباً واحتيازاً، فإنا كتبناه إلى مقامكم - كتب الله تعالى لكم سعداً ثابت المراكز، وعزاً لا تلين قناته في يد الغامز، وثناء لا يثني عنان سراه عرض المفاوز، وصنعاً رحيب الجوانب
(1) ق ص: ملكات.
رغيب الحوائز - من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى وفضله، عز وجل، قد أدال العسر يسراً وأحال القبض بسطا، وقرب نوازح الآمال بعد أن تناءت ديارها شحطا، وراض مركب الدهر الذي كان لا يلين لمن استمطى، وقرب غريم الرجاء في هذه الأرجاء وكان مشتطا، والتوكل عليه سبحانه وتعالى قد أحكم منه اليقين والاستبصار المبين ربطا، ومشروط المزيد من نعمه قد لزم من الشكر شرطا، ومقامكم هو عدة الإسلام إذا جد حفاظه، وظله الظليل إذا لفح للكفر شواظه، وملجؤه الذي تنام في كنف أمنه أيقاظه، ووزره الذي إلى نصره تمد أيديه وتشير ألحاظه، ففي أرجاء ثنائه تسرح معانيه وألفاظه، ولخطب تمجيده وتحميده يقول قسه وتحتفل عكاظه، وتشيعنا إلى ذلك الجناب الكريم طويل عريض، ومقدمات ودنا إياه لا يعترضها نقيض، وأفلاك تعظيمنا له ليس لأوجها الرفيع حضيض، وأنوار اعتقادنا الجميل فيه يشف سواد الحبر عن أوجهها البيض.
وإلى هذا - ألبسكم الله تعالى ثوب السعادة المعادة فضفاضاً، كما صرف ببركته إيالتكم الكريمةعلى ربوع الإسلام وجوه الليالي والأيام وقد ازوروت إعراضاً وبسطت آمالها وقد استشعرت انقباضاً - فإننا ورد علينا كتابكم الذي كرم أنحاء وأغراضاً، وجالت البلاغة من طرسه الفصيح المقال رياضاً، ووردت الأفكار من معانيه الغرائب وألفاظه المزرية بدرر النحور والترائب بحوراً صافيةً وحياضاً، فاجتلينا منه حلة من حلل الورد سابغة، وحجة من حجج المجد بالغة، وشمساً في فلك السعد بازغة، الذي بين المقاصد الكريمة وشرحها، وجلا الفضائل العميمة وأوضحها، فما أكرم شيم ذلك الجلال وأسمحها، وأفضل خلال ذلك الكمال وأرجحها، حثثتم فيه على إحكام السلم التي تحوط الأنفس والحريم بسياج، ويداوى القطر العليل منها بأنجع علاج، والحال ذات احتياج، وساحة الجبل عصمه الله تعالى ميدان هياج، ومتبوأ أعلاج، ومظنة اختلاف الظنون الموحشة واختلاج، فحضر لدينا محتمله وزيركم الشيخ
الأجل الأعظم الموقر الأسمى الخاصة الأحظى أبو علي ابن الشيخ الوزير الأجل الحافل الفاضل المجاهد (1) الكامل أبي عبد الله ابن محلى والشيخ الفقيه الأستاذ الأعرف الفاضل الكامل أبو عبد الله ابن الشيخ الفقيه الأجلالعارف الفاضل الصالح المبارك المبرور المرحوم أبي عبد الله الفشتالي، وصل الله سبحانه سعادتهما، وحرس مجادتهما، حالين من مراتب ترفيعنا أعلى محل الإعزاز، وواردين على أحلى القبول الذي لا تشاب حقيقته بالمجاز، عملاً بما يجب علينا لمن يصل إلينا من تلك الأنحاء الكريمة والأحواز، فتلقينا ما اشتملت عليه الإحالة السلطانية من الود الذي كرم مفهوماً ونصاً، والبر الذي ذهب من مذاهب الفضل والكمال الأمد الأقصى، وقد كان سبقهما صنع الله جل جلاله بما أخلف الظنون، وشرح الصدور وأقر العيون، فلم يصلا إلينا إلا وقد أهلك الله تعالى الطاغية، ومزق أحزابه الباغية، نعمة منه سبحانه وتعالى ومنة ملأت الصدور انشراحاً، وعمت الأرجاء أفراحاً، وعنواناً على سعد مقامكم الذي راق غرراً في المكرمات وأوضاحاً، ومد يده إلى سهام المواهب الإلهية فحاز أعلاها قداحاً، فتشوفت (2) نفوس المسلمين إلى ما كانت تؤمله من فضل الله تعالى وترجوه، وبدت في القضية التي أشرتم بأعمالها الوجوه، وانبعثت الآمال بما آلت إليه هذه الحال انبعاثاً، والتاثت أمور العدو قصمته الله تعالى التياثاً، وانتقض غزله من بعد قوته بفضل الله تعالى أنكاثاً، واحتملت المسألة التي تفضلتم بعرضها وأشرم إلى فرضها مأخذاً وأبحاثاً، فألقينا في هذه الحال إلى رسوليكم أعزهما الله تعالى ما يلقيانه إلى مقامكم الأعلى، ومثابتكم الفضلى، وما يتزيد عندنا من الأمور فركائب التعريف بها إليكم محثوثة، وجزئياتها بين يدي مقامكم الرفيع مبثوثة، وقد اضطربت أحوال الكفر وفالت آراؤه، واستحكم بالشتات داؤه، وارتجت بزلزال الفتن
(1) ق: الماجد.
(2)
ق: فتشوقت.
أرجاؤه، وتيسرت آمال الإسلام بفضل الله تعالى ورجاؤه، وما هو إلا السعد يذلل لكم صعب العدو ويروضه، والله سبحانه يهيئ لكم فضل الجهاد حتى تقضى بكم فروضه.
وأما الذي لكم عندنا من الخلوص الصافية شرائعه، والثناء الذي هو الروض تأرج ذائعه، فأوضح من فلق الصبح إذا أشرقت طلائعه، جعله الله تعالى في ذاته، ووسيلةً إلى مرضاته؛ ورسولاكم يشرحان لكم الحال بجزئياته، ويقرران ما عندنا من الود الذي سطع نور آياته، وهو سبحانه وتعالى يصل لكم سعداً سامي المراتب والمراقي، ويجمع لكم بعد بعد المدى وتمهيد دين الهدى بين نعيم الدنيا والنعيم الباقي، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ انتهى.
8 -
رسالة عن يوسف النصري
وأبين من هذا في القضية كتابٌ آخر من إنشاء لسان الدين رحمه الله تعالى صورته:
من أمير المسلمين عبد الله يوسف ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر، إلى محل أخينا الذي نثني على مجادته أكرم الثناء، ونجدد له ما سلف بين الأسلاف الكرام من الولاء، ونتحفه من سعادة الإسلام وأهله بالأخبار السارة والأنباء، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقاه الله تعالى رفيع المقدار، كريم المآثر والآثار، وعرفه من عوارف فضله كل مشرق الأنوار، كفيل بالحسنى وعقبى الدار: سلام كريم، بر عميم، يخص جلالكم الأرفع، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله على عميم آلائه، وجزيل نعمائه، ميسر الصعب بعد إبائه، والكفيل بتقريب الفرج وإدنائه، له الحمد والشكر ملء أرضه وسمائه، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد خاتم رسله الكرام وأنبيائه، الهادي إلى سبيل الرشاد وسوائه، مطلع نور الخلق يجلو ظلم الشك بضيائه، والرضى
عن آله وأصحابه وأنصاره وأحزابه وخلفائه، السائرين في الدنيا والآخرة تحت لوائه، الباذلين نفوسفهم في إظهار دينه القويم وإعلائه، والدعاء لمقامكم بتيسير أمله من فضل الله سبحانه ورجائه، واختصاصه بأوفر الحظوظ من اعتنائه، فإنا كتبناه إليكم - كتبكم الله تعالى فيمن ارتضى قوله وعمله من أوليائه، وعرفكم عوارف السعادة المعادة في نهاية كل أمر وابتدائه - من حمراء غرناطة، حرسها الله تعالى، ولا زائد بفضل الله سبحانه ثم ببركة سيدنا ومولانا محمد رسوله الكريم الذي أوضح برهانه، وعظم أمره ورفع شانه، ثم بما عندنا من الود الكريم وتجديد العهد القديم لمقامكم أعلى الله تعالى سلطانه، إلا الخير الهامي السحاب، واليسر المتين الأسباب، واليمن المفتح الأبواب، والسعد الجديد الأثواب، ومقامكم معتمد بترفيع الجناب، متعهد بالود الخالص والاعتقاد اللباب، معلوم له من فضل الدين وأصالة الأحساب.
وإلى هذا وصل الله تعالى سعدكم مديد الأطناب، ثاقب الشهاب، وأطلع عليكم وجوه البشائر سافرة النقاب، فإنه قد كان بلغكم ما آلت الحال إليه بطاغية قشتالة الذي كلب على هذه الأقطار الغربية من وراء البحار، وما ساماها من الإرهاق والأضرار، وأنه جرى في ميدان الإملاء والاغترار، ومحص المسلمون على يده بالوقائع العظيمة الكبار، وأنه نكث العهد الذي عقده، وحل الميثاق الذي أكده، وحمله الطمع الفاضح على أن أجلب على بلاد المسلمين بخيله ورجله، ودهمها بتيار سيله وقطع ليله، وأمل أن يستولي على جبل الفتح الذي يدعى منه فتحها، وطلع للملة المحمد ية صبحها، فضيقه حصاراً، واتخذه داراً، وعندما عظم الإشفاق، وأظلمت الآفاق، ظهر فينا لقدرة الله تعالى الصنع العجيب، ونزل الفرج القريب، وقبل الدعاء السميع المجيب، وطرق الطاغية، جندٌ من جنود الله تعالى أخذه أخذةً رابية، ولم يبق له من باقية، فهلك على الجبل حتف أنفه، وغالته غوائل حتفه، فتفرقت جموعه وأحزابه، وانقطعت أسبابه، وتعجل لنار الله تعالى مآبه، وأصبحت البلاد
مستبشرة، ورحمة الله منتشرة، ورأينا أن هذه البشارة التي يأخذ منها كل مسلم بالنصيب الموفور، ويشارك فيما جلبته من السرور، أنتم أولى من نتحفه بطيب رياها، ونطلع عليه جميل محياها، لما تقرر عندنا من دينكم المتين، وفضلكم المبين، وعملكم من المساهمة على شاكلة صالحي السلاطين، فما ذلك إلا فضل نيتكم للمسلمين في هذه البلاد، وأثر ما عندكم من جميل الاعتقاد.
وقد ورد رسولنا إليكم القائد أبو عبد الله محمد بن أبي الفتح، أعزه الله تعالى، مقرراً ما لديكم من الود الراسخ القواعد، والخلوص الصافي الموارد، الواضح الشواهد، وأثنى على مكارمكم الأصيلة، وألقى ما عندكم من المذاهب الجميلة، فقابلنا ذلك بالشكر الذي يتصل سببه، ويتضح مذهبه، وسألنا الله أن يجعله وداً في ذاته، ووسيلة إلى مرضاته، وتعرفنا ما كان من تفضلكم بالطريدة المفتوحة المؤخر، وما صدر عن الرئيس المعروف بالناظر من خدام دار الصنعة بالمرية من قبح محاولته، وسوء معاملته، فأمرنا بقطع جرايته وثقافه بمطمورة القصبة جزاء لجنايته، ولولا أننا توقفنا أن يكون عظيم عقابه مما لا يقع من مقامكم بوفقه، لمشهور عفافه ورفقه، لجعلناه نكالاً لأمثاله، وعبرة لأشكاله، وقد وجهنا جفناً سفرياً لإيساق الخيل التي ذكرتم، وإيصال ما إليه من ذلك أشرتم، ويكمل القصد إن شاء الله تعالى تحت لحظ اعتنائكم، وفضل ولائكم.
هذا ما تزيد عندنا عرفناكم به، عملاً على شاكلة الود الجميل، والولاء الكريم الجملة والتفصيل، فعرفونا بما يتزيد عندكم يكن من جملة أعمالكم الفاضلة، ومكارمكم الحافلة، والله تعالى يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، والسلام الكريم عليكم ورحمة الله وبركاته؛ انتهى.
9 -
رسالة في حاجة الأندلس إلى بر العدوة
ومن إنشاء لسان الدين فيما يتعلق بالأندلس وانقطاعها، وأنها لا غنى لها عن العدوة وغير ذلك، ما صورته:
المقام الذي بنور سعادته تنجلي الغماء وتتصل النعماء، من نيته قد حصل منها لجانب الله تعالى الانتماء، واتفقت منه المسميات والأسماء، مقام محل أبينا الذي تتفيأ هذه الجزيرة الغربية أفياء نيته الصالحة وعمله، وتثق بحسن العاقبة اعتماداً على وعد الله تعالى المنزل على خيرة رسله، وتجتني ثمار النجح من أفنان آرائه المتألقة تألق الصبح حالي ريثه وعجله، وتتعرف حالي المورود والمكروه عارفة الخير والخيرة من قبله، أبقاه الله تعالى يحسم الأدواء كلما استشرت، ويحلي موارد العافية كلما أمرت، ويعفي على آثار الأطماع الكاذبة مهما خدعت بخلبها وغرت، ويضمن سعده عودة الأمور إلى أفضل ما عليه استقرت، معظم مقامه الذي هو بالتعظيم حقيق، وموقر ملكه الذي لا يلتبس منه في الفخر والعز طريق، ولا يختلف في فضله العميم ومجده الكريم فريق.
أما بعد حمد الله المثيب المعاقب، الكفيل لأهل التقوى بحسن العواقب، المشيد بالعمل الصالح إلى أرفع المراقي والمراقب، يهدي من يشاء ويضل من يشاء فبقضائه وقدره اختلاف المسالك والمذاهب، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله الحاشر العاقب، ونبيه الكريم الرؤوف الرحيم ذي المفاخر السامية والمناقب، والرضى عن آله وأصحابه وأنصاره وأحزابه الذين ظاهروه في حياته بإعمال السمر العوالي والبيض القواضب، وخلفوه في أمتهبخلوص الضمائر عند شوب الشوائب، فكانوا في سماء ملته كالنجوم النجوم الثواقب، والدعاء لمقامكم الأسمى بالسعادة المعادة في الشاهد من الزمن والغائب، والنصر الذي يقضي بعز الكتائب، والصنع الذي تطلع من ثناياه غرر الصنائع العجائب، من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى ولا زائد بفضل الله سبحانه ثم بما عندنا من الاعتداد بمقامكم أعلى الله تعالى سلطانه، وشمل بالتمهيد أوطانه، إلا تشيع ثابت ويزيد، وإخلاص ما عليه في ميدان الاستطاعة مزيد، وتعظيم أشرف منه جيد، وثناء راق فوق رياضه تحميد وتمجيد.
وإلى هذا وصل الله تعالى سعدكم، وحرس الطاهر الكريم مجدكم، فقد
وصلنا كتابكم الذي هو على الخلوص والاعتقاد عنوان، وفي الاحتجاج على الرضى والقبول برهان، تنطق بالفضل فصوله، وتشير إلى كرم العقد فروعه الزكية وأصوله، ويحق أن ينسب إلى ذلك الفخر الأصيل محصوله، عرفتمونا بما ذهب إليه عيسى بن الحسين من الخلاف الذي ارتكبه، وسبيل الصواب الذي انتكبه، وتنبهون (1) على ما حده الحق في مثل ذلك وأوجبه، حتى لا يصل أحد من جهتنا سببه، ولا يظاهره مهما ندبه، ولا يسعف في الإيواء طلبه، فاستوفينا ما استدعاه ذلك البيان الصريح وجلبه، وخطه القلم الفصيح وكتبه، وليعلم مقامكم وهو من أصالة النظر غني عن الإعلام، ولكن لا بد من الاستراحة بالكلام، والتنفس بنفثات الأقلام، أننا إنما نجري أمورنا مع هذا العدو الكافر الذي رمينا بجواره، وبلينا والحمد لله بمصادمة تياره، على تعداد أقطاره، واتساع براريه وبحاره، بأن تكون الأمة المحمدية بالعدوتين تحت وفاق، وأسواق النفاق غير ذات نفاق، والجماهير تحت عهد لله تعالى وميثاق، فمهما تعرفنا أن اثنين اختلف منهما بالعدوتين عقد، ووقع بينهما في قبول الطاعة رد، ساءنا واقعه، وعظمت لدينا مواقعه، وسألنا أن يتدارك الخرق راقعه، لما نتوقعه من التشاغل عن نصرنا، وتفرغ العدو إلى ضرنا، فكيف إذا وقعت الفتنة في صقعنا وقطرنا، إنما هي شعلة في بعض بيوتنا وقعت، وحادثة إلى جهتنا أشرعت (2) ، وإن كان لسوانا لفظها فلنا معناها، وعلى وطننا يعود جناها، فنحن أحرص الناس على إطفائها وإخمادها، وأسعى في إصلاح فسادها، والمثابرة على كفها واستشهادها، وما الظن بدارٍ فسد بابها، وآمالٍ رثت أسبابها، وجزيرة لا تستقيم أحوال من بها إلا بالسكون، وسلم العدو المغرور المفتون، حتى تقضى من بإعانتكم الديون، وإن اضطرابها إنما هو داء
(1) ق: وتنبهونا.
(2)
ق: أسرعت؛ ص: شرعت.
نستنصر من رأيكم فيه بطبيب، وهدف خطب نرميه من عزمكم بسهم مصيب، وأمر نضرع في تداركه إلى سميع للدعاء مجيب، ونحن في يد أمام يدكم، ومقصدنا فيه تبع لقصدكم، وتصرفنا على حد إشارتكم جار، وعزمنا إلى منتهى مرضاتكم متبار، وعقدنا في مشايعة أمركم متوار.
وقد كنا لأول اتصال هذا الخبر، القبيح العين والأثر، بادرنا تعريفكم بجميع ما اتصل بنا في شأنه، ولم نطو عنكم شيئاً من إسراه ولا إعلانه، وبعثنا رسولنا إلى بابكم العلي نعتد بسلطانه، ونرتجي تمهيد هذا الوطن بتمهيد أوطانه، وبادرنا بالمخاطبة من وجبت مخاطبته من أهل مربلة وأسطبونة نثبت بصائرهم ي الطاعة ونقويها، ونعدهم بتوجيه من يحفظ جهاتهم ويحميها، وعجلنا إلى بعضها مدداً من الرماة والسلاح ليكون ذلك عدة فيها، وعلمنا ما أوجب الله تعالى من الأعمال التي يزلف بها ويرتضيها، وكيف لا نظاهر أمركم الذي هو العدة المذخورة، والفئة الناصرة المنصورة، والباطل سراب يخدع، والحق إليه يرجع، والبغي يردي ويصرع، وكم تقدم في الدهر منتز شذ عن الطاعة، وخرج عن الجماعة ومخالف على الدول، في العصور الأول، بهرج الحق زائفه، ورجمت شهب الأسنة طائفه، وأخذت عليه الضيقة وهاده وتنائفه، فتقلص ظله ونبا به محله، وكما قال يذهب الباطل أهله، لا سيما وسعادة ملككم قد وطئت المسالك ومهدتها، وقهرت الأعداء وتعبدتها، وأطفأت جداول سيوفكم النار التي أوقدتها، وكأن بالأمور إذا أعلمتم فيها رأيكم السديد وقد عادت إلى خير أحوالها، والبلاد بيمن تدبيركم قد شفي ما ظهر من اعتلالها، وعلى كل حال فإنما نحن على تكميل مرضاتكم مبادرون، وفي أغراضكم الدينية واردون وصادرون، ولإشارتكم التي تضمن الخير والخيرة منتظرون، عندنا من ذلك عقائد لا يحتمل نصها التأويل، ولا يقبل صحيحها التعليل، فلتكن أبوتكم من ذلك على أوضح سبيل، فشمس النهار لا تحتاج إلى دليل، والله تعالى يثني لكم عوائد الصنع الجميل، حتى لا يدع عزمكم
مغصوباً إلا رده، ولا ثلماُ في ثغر الدين إلا سده، ولا هدفاً متعاصياً إلا هده، ولا عرقاً من الخلاف إلا جده، وهو سبحانه يبقي ملككم ويصل سعده ويعلي أمره ويحرس مجده، والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله وبركاته، انتهى.
10 -
رسالة عن أبي الحجاج إلى الرعايا
ومن إنشائه رحمه الله تعالى من جملة رسالة على لسان سلطانه أبي الحجاج يخاطب الرعايا، ما نص محل الحاجة منه:
وإلى هذا فقد علمتم ما كانت الحال آلت إليه من ضيقة البلاد والعباد بهذا الطاغية الذي جرى في ميدان الأمل جري الجموح، ودارت عليه خمرة النخوة والخيلاء مع الغبوق والصبوح، حتى طمح بسكر اغتراره، ومحص المسلمون على يده بالوقائع التي تجاوز منتهى مقداره، وتوجهت إلى استئصال الكلمة مطامع أفكاره، ووثق بأنه يطفئ نور الله بناره، ونازل جبل الفتح فشد مخنق حصاره، وأدار أشياعه في البر والبحر دور السوار على أسواره، وانتهز الفرصة بانقطاع الأسباب وانبهام الأبواب، والأمور التي لم تجر للمسلمين بالعدوتين على مألوف الحساب، وتكالب التثليث على التوحيد، وساءت الظنون في هذا القطر الوحيد، المنقطع بين الأمة الكافرة والبحور الزاخرة والمرام البعيد، وإننا صابرنا بالله تعالى سيله، واستضأنا بنور التوكل عليه في جنح هذا الخطب ودجنة ليله، ولجأنا إلى من بيده نواصي الخلائق، واعتقلنا من حبله المتين بأوثق العلائق، وفسحنا مجال الأمل في ذلك الميدان المتضايق، وأخلصنا لله مقيل العثار ومؤوي أولي الاضطرار قلوبنا، ورفعنا إليه أمرنا ووقفنا عليه مطلوبنا، ولم نقصر مع ذلك في إبرام العزم، واستشعار الحزم، وإمداد الثغور بأقصى الإمكان، وبعث الجيوش إلى ما يلينا من بلاد على الأحيان، فرحم الله تعالى انقطاعنا إلى كرمه، والتجاءنا إلى حرمه، فجلى بفضله
سبحانه ظلم الشدة، ومد على الحريم والأطفال ظلال رحمته الممتدة، وعرفنا عوارف الصنع الذي قدم به العهد على طول المدة، ورماه بجيش من جيوش قدرته أغنى عن إيجاف الركاب، واحتشاد الأحزاب، وأظهر فينا قدرة ملكه عند انقطاع الأسباب، واستخلاص العباد والبلاد من بين الظفر والناب، فقد كان جعجع على الحق بأباطيله، وسد المجاز بأساطيله، ورمى الجزيرة الأندلسية بشؤبوب شره، وصيرها فريسة بين غربان بحره وعقبان بره، فلم يخلص إلى المسلمين من إخوانهم مرقبة إلا على الخطر الشديد، والإفلات من يد العدو العنيد، مع توفر العزائم والحمد لله على العمل الحميد، والسعي فيما يعود على الدين بالتأييد.
وبينما شفقتنا على جبل الفتح تقيم وتقعد، وكلب الأعداء عليه يبرق ويرعد، واليأس والرجاء خصمان هذا يقرب وهذا يبعد، إذ طلع علينا البشير بانفراج الأزمة، وحل تلك العزمة، وموت شاه تلك الرقعة، وإبقاء الله تعالى على تلك البقعة، وأنه سبحانه أخذ الطاغية أكمل ما كان اغتراراً، وأعظم أنصاراً، وزلزل أرض عزه وقد أصابت قراراً، وأن شهاب سعده قد أصبح آفلاً، وعلم كبره انقلب سافلاً، وأن من بيده ملكوت السموات والأرض طرقه بحتفه، وأهلكه برغم أنفه، وأن محلته عاجلها التباب والتبار، وعاثت في منازلها النار، وتمخض عن سوء عاقبتها الليل والنهار، وأن حماتها يخربون بيوتهم بأيديهم، وينادي بشتات الشمل لسان مناديهم، وتلاحق الفرسان من جبل الفتح المعقل الذي عليه من عناية الله تعالى رواق مضروب، والرباط الذي من حاربه فهو المحروب، فأخبرت بانفراج الضيق، وارتفاع العائق لها عن الطريق، وبرء الداء الذي أشرق بالريق، وأن النصارى دمرها الله تعالى جدت في ارتحالها، وأسرعت بجبفة طاغيتها إلى سوء مآلها وحالها، وسمحت للنار والنهب بأسلابها وأموالها، فبهرنا هذا الصنع الإلهي الذي مهد الأقطار بعد رجفانها، وأنام العيون بعد سهاد أجفانها، وسألنا الله تعالى أن يعيننا على
شكر هذه النعمة التي إن سلطت عليها قوى البشر فضحتها، ورجحتها، ورأينا سر اللطائف الخفية كيف سريانه في الوجود، وشاهدنا بالعيان أنوار اللطائف الإلهية والجود، وقلنا: إنما هو الفتح الأول شفيع بثان، وقواعد الدين الحنيف أيدت من صنع الله تعالى ببنيان، اللهم لك الحمد على نعمك الباطنة والظاهرة، ومننك الوافرة، إنك ولينا في الدنيا والآخرة؛ انتهى.
11 -
رسالة توضح ضيق حال الأندلس
ومن إنشاء لسان الدين رحمه الله تعالى من أخرى مما يتعلق بضيق حال المسلمين بالأندلس ما صورته:
وإن تشوفتم إلى أحوال هذا القطر ومن به من المسلمين، بمقتضى الدين المتين والفضل المبين، فاعلموا أننا في هذه الأيام ندافع من العدو تياراً، ونكابر بحراً زخاراً، ونتوقع - إلا إن وقى الله تعالى - خطوباً كباراً، ونمد اليد إلى الله تعالى انتصاراً، ونلجأ إليه اضطراراً، ونستمد دعاء المسلمين بكل قطر استعداداً به واستظهاراً، ونستشير من خواطر الفضلاء ما يحفظ أخطاراً، وينشئ ريح روح الله طيبة معطاراً، فإن القومس الأعظم قيوم دين النصرانية الذي يأمرها فتطيع، ومخالفته لا تستطيع، رمى هذه الأمة الغريبة المنقطعة منهم بجراد لا يسد طريقها، ولا يحصى فريقها، التفت على أخي صاحب قشتالة وعزمها أن تملكه بدله، وتبلغه أمله، ويكون الكل يداً واحدة على المسلمين، ومناصبة هذا الدين، واستئصال شأفة المؤمنين، وهي شدة ليس لأهل هذا الوطن بها عهد، ولا عرفها نجد ولا وهد، وقد اقتحموا الحدود القريبة، والله تعالى ولي هذه الأمة الغريبة، وقد جعلنا مقاليد أمورنا بيد من يقوي الضعيف، ويدرأ الخطب المخيف، ورجونا أن نكون ممن قال الله تعالى فيهم " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل
" وهو سبحانه المرجو في حسن العقبى والمآل، ونصر فئة الهدي على فئة الضلال، وما قل من كان الحق كنزه، ولا ذل من استمد من الله عزه " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين " ودعاء من قبلكم من المسلمين مدد موفور، والله سبحانه على كل حال محمود مشكور؛ انتهى.
12 -
من رسالة طويلة
ومن أخرى طويلة من جملتها ما صورته:
وقد اتصل بنا الخبر الذي يوجب نصح الإسلام، ورعي الجوار والذمام، وما جعل الله تعالى للمأموم على الإمام، إيقاظكم من مراقدكم المستغرقة، وجمع أهوائكم المتفرقة، وتهييئكم إلى مصادمة الشدائد المرعدة المبرقة، وهو أن كبير دين النصرانية الذي إليه ينقادون، وفي مرضاته يصادقون ويعادون، وعند رؤية صليبه يكبرون ويسجدون، لما رأى الفتن قد أكلتهم خضماً وقضماً، وأوسعتهم هضماً، فلم تبق عصباً ولا عظماً، ونثرت ما كان نظماً، أعمل نظره فيما يجمع منهم ما افترق، ويرفع ما طرق، ويرفو ما مزق الشتات وخرق، فرمى الإسلام بأمة عددها القطر المنثال، وأمرهم وشأنهم الامتثال، أن يدمثوا لمن ارتضاه من أمته الطاعة، ويجمعوا في ملته الجماعة، ويطلع الكل على هذه الفئة القليلة الغريبة بغتة كقيام الساعة، وأقطعهم - قطع الله تعالى بهم - العباد والبلاد، والطارف والتلاد، وسوغهم الحريم والأولاد، وبالله تعالى نستدفع ما لا نطيقه، ومنه نسأل عادة الفرج فما سدت طرقه، إلا أنا رأينا غفلة الناس مؤذنة البوار، وأشفقنا للدين المنقطع من وراء البحار، وقد أصبح مضغة في لهوات الكفار، وأردنا أن نهزكم بالموعظة التي تكحل البصائر بميل الاستبصار، فإن جبر الله تعالى الخواطر بالضراعة إليه والانكسار، ونسخ الإعسار بالإيسار، وأنجد اليمين بأختها اليسار، وإلا فقد تعين في الدنيا والآخرة حظ الخسار، فإن من ظهر عليه عدو دين الله تعالى وهو من الله مصروف
وبالباطل مشغوف، وبغير العرف معروف، وعلى الحطام المسلوب عنه ملهوف، فقد تله الشيطان للجبين، وقد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين، ومن نفذ فيه أو له قدر الله عن أداء الواجب وبذل المجهود، وأفرد بالعبودية وجه الواحد الأحد المعبود، ووطن النفس على الشهادة المبوئة دار الخلود، العائدة بالحياة الدائمة والوجود، أو الظهور على عدوه المحشور إليه المحشود، صبراً على المقام المحمود، وبيعاً من الله تعالى تكون الملائكة فيه الشهود، حتى تعين يد الله في ذلك البناء المهدود، والسواد الأعظم الممدود، كان على أمريه بالخيار المردود " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين " انتهى.
ضياع المدن الأندلسية
وقال صاحب مناهج الفكر بعد وصفه لجزيرة الأندلس وأقطارها، ما صورته:
ولم تزل هذه الجزيرة منتظمة لمالكها في سلك الانقياد والوفاق، إلى ن طما بمترفيها سيل العناد والنفاق، فامتاز كل رئيس منهم بصقع كان مسقط راسه، وجعله معقلاً يعتصم فيه من المخاوف بأفراسه، فصار كل منهم يشن الغارة على جاره، ويحاربه في عقر داره، إلى أن ضعفوا عن لقاء عدو في الدين يعادي، ويراوح معاقلهم بالعيث ويغادي، حتى لم يبق في أيديهم منها إلا ما هو في ضمان هدنة مقدرة، وإتاوة في كل عام على الكبير والصغير مقررة، كان ذلك في الكتاب مسطوراً، وقدراً في سابق علم الله مقدوراً، انتهى.
وهذا قاله قبل أن يستولي العدو على جميعها، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
[طليطلة 478]
ولنرجع إلى ما كنا بصدده من أخذ النصارى قواعد الأندلس فنقول: قد قدمنا أوائل هذا الباب أن طليطلة أعادها الله تعالى من أول ما أخذ الكفار من المدن العظام بالأندلس، قال ابن بسام (1) : لما توالت على أهل طليطلة الفتن المظلمة، والحوادث المصطلمة، وترادف عليهم البلاء والجلاء، واستباح الفرنج لعنهم الله تعالى أموالهم وأرواحهم، كان من أعجب ما جرى من النوادر الدالة على الخذلان أن الحنطة كانت تقيم عندهم مخزونة خمسين سنة لا تتغير، ولا يؤثر فيها طول المدة بما يمنع من أكلها، فلما كانت السنة التي استولى عليها العدو فيها لم ترفع الغلة من الأندر حتى أسرع فيها الفساد، فعلم الناس أن ذلك بمشيئة الله تعالى لأمر أراده، من شمول البلوى، وعموم الضراء، فاستولى العدو على طليطلة، وأنزل من بها على حكمه، وخرج اين ذي النون منها على أقبح صورة، وأفظع سيرة، ورآه الناس وبيده إصطرلاب يأخذ به وقتاً يرحل فيه، فتعجب منه المسلمون، وضحك عليه الكافرون، وبسط الكافر العدل على أهل المدينة، وحبب التنصر إلى عامة طغامها، فوجد المسلمون من ذلك ما لا يطاق حمله، وشرع في تغيير الجامع كنيسة في ربيع الأول سنة ست وتسعين وأربعمائة.
ومما جرى في ذلك (2) اليوم أن الشيخ الأستاذ المغامي رحمه الله تعالى صار إلى الجامع، وصلى فيه، وأمر مريداً له بالقراءة، ووافاه الفرنج لعنهم الله تعالى وتكاثروا لتغيير القبلة، فما جسر أحد منهم على إزعاج الشيخ ولا معارضته، وعصمه الله تعالى منهم، إلى أن أكمل القراءة وسجد سجدة، ورفع رأسه، وبكى على الجامع بكاء شديداً، وخرج ولم يعرض أحد له بمكروه. وقيل لملك
(1) انظر الذخيرة 1/4: 127 ويبدو أن المقري ينقل بالمعنى.
(2)
المصدر السابق: 190.
النصارى: ينبغي أن تلبس التاج كمن كان قبلك في هذا الملك، فقال: حتى نأخذ قرطبتهم، وأعد لذلك ناقوساً تأنق فيه وفيما رصع به من الجواهر، فأكذبه الله وأزعجه. وورد أمير المسلمين وناصر الدين يوسف بن تاشفين، فما قصر فيما أثر من إذلال المشركين، وإرغام الكافرين، واستدراك أمور المسلمين؛ انتهى ملخصاً، وقد مر مطولاً.
وقعة بطرنة 456
وكانت قبلها وقعة بطرنة (1) سنة ست وخمسين وأربعمائة، وذلك أن الفرنج - خذلهم الله تعالى - انتدبت منهم قطعة كثيفة، ونزلت على بلنسية في السنة المذكورة، وأهلها جاهلون بالحرب، مغترون بأمر الطعن والضرب، مقبلون على اللذات من الأكل والشرب، وأظهر الفرنج الندم على منازلتها، والضعف عن مقاومة من فيها، وخدعوهم بذلك فانخدعوا، وأطعموهم فطمعوا، وكمنوا في عدة أماكن جماعة من الفرسان، وخرج أهل البلد بثياب زينتهم، وخرج معهم أميرهم عبد العزيز بن أبي عامر، فاستدرجهم العدو - لعنهم الله تعالى - ثم عطفوا عليهم فاستأصلوهم بالقتل والأسر، وما نجا منهم إلا من حصنه أجله، وخلص الأمير بنفسه، ومما حفظ عنه أنه أنشد لما أعياه الأمر:
خليلي ليس الرأي في صدر واحد أشيرا علي اليوم ما تريان
وفي أهل بلنسية يقول بعض الشعراء حين خرجوا في ثياب الزينة والترفه:
لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم حلل الحرير عليكم ألوانا
ما كان أقبحهم وأحسنكم بها لو لم تكن ببطرنة ما كانا
(1)(Paterna) : راجع خبر هذه الوقعة في ابن عذاري 3: 252 وهو ينقل عن ابن بسام.
قال ابن بسام: وهكذا جرى لأهل طليطلة، فإن العدو - خذله الله تعالى - استظهر عليهم، وقتل جماهيرهم، وكان من جملة ما غنمه الفرنج من أهلها لما خرجوا إليهم في ثياب الترفه ألف غفارة خارجاً عما سواها.
بربشتر
وقال ابن حيان (1) : وكان تغلب العدو - خذله الله تعالى - على بربشتر قصبة بلد برطانية، وهي تقرب من سرقسطة، سنة ست وخمسين وأربعمائة، وذلك أن جيش الأردمليس (2) نازلها وحاصرها، وقصر يوسف بن سليمان بن هود في حمايتها، ووكل أهلها إلى نفوسهم، فأقام العدو عليها أربعين يوماً، ووقع فيما بين أهلها تنازع في القوت لقلته، واتصل ذلك بالعدو، فشدد القتال عليها والحصر لها حتى دخل المدينة الأولى في خمسة آلاف مدرع، فدهش الناس، وتحصنوا بالمدينة الداخلة، وجرت بينهم حروب شديدة قتل فيها خمسمائة إفرنجي، ثم اتفق أن القناة التي كان الماء يجري فيها من النهر إلى المدينة تحت الأرض في سرب موزون (3) انهارت وفسدت، ووقعت فيها صخرة عظيمة سدت السرب بأسره، فانقطع الماء عن المدينة، ويئس من بها من الحياة، فلاذوا بطلب الأمان على أنفسهم خاصة دون مال وعيال، فأعطاعهم العدو الأمان، فلما خرجوا نكث بهم وغدر، وقتل الجميع إلا القائد ابن الطويل والقاضي ابن عيسى في نفر من الوجوه، وحصل للعدو من الأموال والأمتعة ما لا يحصى، حتى إن الذي خص بعض مقدمي العدو لحصنه - وهو قائد خيل رومة - نحو ألف وخمسمائة جارية أبكاراً، ومن أوقار الأمتعة والحلى
(1) انظر الذخيرة (3: 58) في الخير عن بربشتر نقلاً عن ابن خلكان.
(2)
في الذخيرة: جيش الأردمانيين (Nordmanni) .
(3)
الذخيرة: بتقدير موزون.
والكسوة خمسمائة جمل، وقدر من قتل وأسر بمائة ألف نفس، وقيل: خمسون ألف نفس، ومن النوادر ما جرى على هذه المدينة لما فسدت القناة وانقطعت المياه أن المرأة كانت تقف على السور وتنادي من يقرب منها أن يعطيها جرعة ماء لنفسها أو ولدها فيقول لها: أعطيني ما معك، فتعطيه ما معها من كسوة وحلي وغيره.
قال: وكان السبب في قتلهم أنه خاف من يصل لنجدتهم وشاهد من كثرتهم ما هاله، فشرع في القتل لعنة الله عليه تعالى، حتى قتل منهم نيفاً وستة آلاف قتيل، ثم نادى الملك بتأمين من بقي وأمر أن يخرجوا فازدحموا في الباب إلى أن مات منهم خلق عظيم، ونزلوا من الأسوار في الحبال للخشية من الازدحام في الأبواب ومبادرة إلى شرب الماء، وكان قد تحيز في وسط المدينة قدر سبعمائة نفس من الوجوه وحاروا في نفوسهم، وانتظروا ما ينزل بهم، فلما خلت ممن أسر وقتل وأخرج من الأبواب والأسوار وهلك في الزحمة نودي في تلك البقية بأن يبادر كل منهم إلى داره بأهله، وله الأمان، وأرهقوا وأزعجوا، فلما حصل كل واحد بمن معه من أهله في منزلهم اقتسم الإفرنج لعنهم الله تعالى بأمر الملك، وأخذ كل واحد داراً بمن فيها من أهلها، نعوذ بالله تعالى.
وكان من أهل المدينة جماعة قد عاذوا برؤوس الجبال، وتحصنوا بمواضع منيعة، وكادوا يهلكون من العطش، فأمنهم الملك على نفوسهم، وبرزوا في صور الهلكى من العطش، فأطلق سبيلهم، فبينما هم في الطريق إذ لقيتهم خيل الكفر ممن لم يشهد الحادثة، فقتلوهم إلا القليل ممن نجا بأجله.
قال: وكان الفرنج لعنهم الله تعالى، لما استولوا على أهل المدينة يفتضون البكر بحضرة أبيها، والثيب بعين زوجها وأهلها، وجرى من هذه الأحوال ما لم يشهد المسلمون مثله قط فيما مضى من الزمان، ومن لم يرض منهم أن يفعل ذلك في خادم أو ذات مهنة أو وخش أعطاعهن خوله وغلمانه يعيثون فيهن عيثة، وبلغ الكفرة منهم يومئذ ما لا تلحقه الصفة على الحقيقة، ولما عزم ملك الروم
على القفول إلى بلده تخير من بنات المسلمين الجواري الأبكار والثياب ذوات الجمال، ومن صبيانهم الحسان ألوفاً عدة حملهم معه ليهديهم إلى من فوقه، وترك من رابطة خيله ببربشتر ألفاً وخمسمائة، ومن الرجالة ألفين، انتهى.
قال ابن حيان: وأختم هذه الأخبار الموقظة لقلوب أولي الألباب بنادرة منها يكتفى باعتبارها عما سواها، وهي أن بعض تجار اليهود جاء بربشتر بعد الحادثة ملتمساً فدية بنات بعض الوجوه ممن نجا من أهلها حصلن في سهم قومس من الرابطة فيها كان يعرفه، قال: فهديت إلى منزله فيها، واستأذنت عليه، فوجدته جالساً مكان رب الدار، مستوياً على فراشه، رافلاً في نفيس ثيابه، والمجلس والسرير كما تخلفهما ربهما يوم محنته لم يغير شيئاً من رياشهما وزينتهما، ووصائفه مضمومات الشعور، قائمات على رأسه، ساعيات في خدمته، فرحب بي، وسألني قصدي، فعرفته وجهه، وأشرت إلى وفور ما أبذله في بعض اللواتي على رأسه وفيهن كانت حاجتي، فتبسم وقال بلسانه: ما أسرع ما طمعت فيمن عرضناه لك! أعرض عمن هنا وتعرض لمن شئت ممن صيرته لحصني من سبيي وأسراي أقاربك فيمن شئت منهن، فقلت له: أما الدخول إلى الحصن فلا رأي لي فيه، وبقربك أنست، وفي كنفك اطمأننت، فسمني ببعض من هنا فإني أصير إلى رغبتك، فقال: وما عندك قلت: العين الكثير الطيب والبز الرفيع الغريب، فقال: كأنك تشهيني ما ليس عندي، يا مجة (1) ، ينادي بعض أولئك الوصائف، يريد بهجة فغيره بعجمته، قومي فاعرضي عليه ما في ذلك الصندوق، فقامت إليه وأقبلت ببدر الدنانير وأكياس الدراهم وأسفاط الحلى، فكشف وجعل بين يدي العلج حتى كادت تواري شخصه، ثم قال لها: أدني إلينا من تلك التخوت، فأدنت منه عدة من قطع الوشي والخز والديباج الفاخر مما حار له ناظري وبهت،
(1) الذخيرة: يا مجة.
واسترذلت ما عندي، ثم قال لي: لقد كثر هذا عندي حتى ما ألذ به، ثم حلف بإلهه أنه لو لم يكن عنده شيء من هذا ثم بذل له بأجمعه في ثمن تلك ما سخت بها يدي، فهي ابنة صاحب المنزل، وله حسب في قومه، اصطفيتها لمزيد جمالها لولادتي حسبما كان قومها يصنعون بنسائنا نحن أيام دولتهم، وقد رد لنا الكرة عليهم، فصرنا فيما تراه، وأزيدك بأن تلك الخودة الناعمة، وأشار إلى جارية أخرى قائمة إلى ناحية أخرى، مغنية والدها التي كانت تشدو له على نشواته، إلى أن أيقظناه من نوماته، يا فلانة - يناديها بلكنته - خذي عودك تغني زائرنا بشجوك، قال: فأخذت العود، وقعدت تسويه، وإني لأتأمل دمعها يقطر على خدها، فتسار قالعلج مسحه، واندفعت تغني بشعر ما فهمته أنا فضلاً عن العلج، فصار من الغريب أن حث شربه هو عليه، وأظهر الطرب منه، فلما يئست ما عنده قمت منطلقاً عنه، وارتدت لتجارتي سواه، واطلعت لكثرة ما لدى القوم من السبي والمغنم على ما طال عجبي به، فهذا فيه مقنع لمن تدبره، وتذكر لمن تذكره.
قال ابن حيان: قد أشفينا بشرح هذه الحادثة الفادحة مصائب جليلة مؤذنة بوشك القلعة طالما حذر أسلافنا لحاقها بما احتملوه عمن قبلهم من أثارة، ولا شك عند ذمي الألباب أن ذلك مما دهانا من داء التقاطع وقد أمرنا بالتواصل والألفة، فأصبحنا من استشعار ذلك والتمادي عليه على شفا جرف يؤدي إلى الهلكة لا محالة، انتهى ببعض اختصار.
وذكر بعده كلاماً في ذم أهل ذلك الزمان من أهل الأندلس، وأنهم يعللون أنفسهم بالباطل، وأن من أدل الدلائل على جهلهم اغترارهم بزمانهم، وبعدهم عن طاعة خالقهم، ورفضهم وصية نبيهم، وغفلتهم عن سد ثغورهم، حتى أطل عدوهم الساعي لإطفاء نورهم، يجوس خلال ديارهم، ويستقري بسائط بقاعهم، ويقطع كل يوم طرفاً، ويبيد أمة، ومن لدينا وحوالينا من أهل كلمتنا صموت عن ذكرهم، لهاة عن بثهم، ما إن سمع عندنا بمسجد من
مساجدنا أو محفل من محافلنا، مذكر لهم أو داع، فضلاً عن نفر إليهم أو ماش لهم، حتى كأنهم ليسوا منا أو كان بثقهم ليس بمفض إلينا، وقد بخلنا عليهم بالدعاء بخلنا عليهم بالغناء، عجائب فاتت التقدير، وعرضت للتغيير، ولله عاقبة الأمور، وإليه المصير.
ولقد صدق رحمه الله تعالى، فإن البثق سرى إليهم جميعاً كما ستراه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال قبله: إن بربشتر هذه تناسختها قرون المسلمين منذ ثلاثمائة وثلاث وستين سنة، من عهد الفتوح الإسلامية بجزيرة الأندلس، فرسخ فيها الإيمان، وتدورس القرآن، إلى أن طرق الناعي بها قرطبتنا صدر رمضان من العام، فصك الأسماع، وأطار الأفئدة، وزلزل أرض الأندلس قاطبة، وصير لكل شغلاً يشغل الناس في التحدث به، والتساؤل عنه، والتصور لحلول مثله، أياماً لم يفارقوا فيها لم يفارقوا فيها عادتهم من استبعاد الوجل، والاغترار بالأمل، والاستناد إلى أمراء الفرقة الهمل، الذين هم منهم ما بين فشل ووكل، يصدونهم عن سواء السبيل، ويلبسون عليهم وضوح الدليل، ولم تزل آفة الناس منذ خلقوا في صنفين هم كالملح فيهم الأمراء والفقهاء بصلاحهم يصلحون وبفسادهم يفسدون، فقد خص الله تعالى هذا القرن الذي نحن فيه من اعوجاج صنفيهم لدينا بما لا كفاية له ولا مخلص منه، فالأمراء القاسطون قد نكبوا عن نهج الطريق ذياداً عن الجماعة، وجرياً إلى الفرقة، والفقهاء أئمتهم صموت عنهم صدوف عما أكده الله تعالى عليهم من التبيين لهم، قد أصبحوا ما بين آكل من حلوائهم، وخابط في أهوائهم، وبين مستشعر مخافتهم، آخذ في التقية في صدقهم، وأولئك هم الأقلون فيهم، فما القول في أرض فسد ملحها الذي هو المصلح لجميع أغذيتها، وما هي إلا مشفية من بوارها، ولقد طما العجب من أفعال هؤلاء الأمراء، لم يكن عندهم لهذه الحادثة إلا الفزع لحفر الخنادق، وتعلة الأسوار، وشد الأركان، وتوثيق البنيان، كاشفين لعدوهم عن السوأة
السوأى من إلقائهم يومئذ بأيديهم إليه - أمور قبيحات الصور، مؤذنات الصدور بأعجاز الغير:
أمور لو تدبرها حكيم إذاً لنهى وهيب ما استطاعا
استرجاع بربشتر
ثم قال ابن حيان: فلما كان عقب جمادى الأولى سنة 457 ساع الخبر بقرطبة برجوع المسلمين إليها، وذلك أن أحمد المقتدر بن هود المفرط فيها، والمتهم على أهلها، لانحرافهم إلى أخيه، صمد لها مع إمداد لحليفه عباد، وسعى لإصمات سوء المقالة عنه، وقد كتب الله تعالى عليه منها ما لا يمحوه إلا عفوه، فتأهب لقصد بربشتر في جموع من المسلمين، فجالدوا الكفار بها جلاداً ارتاب منه كل جبان، وأعز الله سبحانه أهل الحفيظة الشجعان، وحمي الوطيس بينهم إلى أن نصر الله تعالى أولياءه، وخذل أعداءه، وولوا الأدبار مقتحمين أبواب المدينة، فاقتحمها المسلمون عليهم، وملكوهم أجمعين، إلا من فر من مكان الوقعة، ولم يدخل المدينة، فأجيل السيف في الكافرين، واستؤصلوا أجمعين، إلا من استرق من أصاغرهم، وفدي من أعاظمهم، وسبوا جميع من كان فيها من عيالهم وأبناءهم، وملكوا المدينة بقدرة الخالق البارئ، وأصيب على منحة النصر المتاح طائفة من حماة المسلمين الجادين في نصر الدين، نحو الخمسين، كتب الله تعالى لهم شهادتهم، وقتل فيه من أعداء الله الكافرين نحو ألف فارس وخمسة آلاف راجل، فغسلها المسلمون من رجس الشرك، وجلوها من صدإ الإفك، انتهى.
وليت طليطلة البائسة استرجعت كهذه، ومع هذا فقد غلب العدو بعد على الكل، والله سبحانه المرجو في الإدالة.
تطيلة وطرسونة
وقال ابن اليسع: أخذ العدو مدينة تطلية وأختها طرسونة سنة أربع وعشرين وخمسمائة.
بلنسية والقنبيطور
ولما صار أمر بلنسية إلى الفقيه القاضي أبي أحمد ابن جحاف قاضيها صيرها لأمير المسلمين يوسف بن تاشفين، فحصره بها القادر بن ذي النون الذي مكن الأذفونش من طليطلة، فهجم عليه القاضي في لمة من المرابطين، وقتله، ودفع ابن جحاف لما لم يعهد من تدبير السلطان، ورجعت عنه طائفة الملثمين الذين كان يعتد بهم، وجعل يستصرخ إلى أمير المسلمين فيبطئ عليه، وفي أثناء ذلك أنهض يوسف بن أحمد بن هود صاحب سرقسطة ردريق الطاغية للاستيلاء على بلنسية، فدخلها، وعاهده القاضي ابن جحاف، واشترط عليه إحضار ذخيرة كانت للقادر بن ذي النون، فأقسم عليه أنها ليست عنده، فاشترط عليه أنه إن وجدها عنده قتله، فاتفق أنه وجدها عنده، فأحرقه بالنار، وعاث في بلنسية (1)، وفيها يقول ابن خفاجة حينئذ:
عاثت بساحتك الظبا يا دار ومحا محاسنك البلى والنار
فإذا تردد في جنابك ناظر طال اعتبار فيك واستعبار
أرض تقاذفت الخطوب بأهلها وتمخضت بخرابها الأقدار
كتبت يد الحدثان في عرصاتها لا أنت أنت ولا الديار ديار
وكان استيلاء القنبيطور - لعنه الله تعالى - عليها سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وقيل: في التي قبلها، وبه جزم ابن الأبار قائلاً: فتم حصار القنبيطور إياها
(1) راجع الخبر عن حادثة بلنسية في ابن عذاري 4: 31 - 42 والذخيرة (3: 30 - 33) .
عشرين شهراً، وذكر أنه دخلها صلحاً، وقال غيره: إنه دخلها عنوة، وعاث فيها، وممن أحرق فيها الأديب أبو جعفر ابن البني (1) الشاعر المشهور رحمه الله تعالى وعفا عنه، فوجه أمير المؤمنين يوسف بن تاشفين الأمير أبا محمد مزدلي ففتحها الله تعالى على يديه سنة خمس وتسعين وأربعمائة، وتوالى عليها أمراء الملثمين، ثم صارت ليحيى بن غانية الملثم حين ولي جميع شرق الأندلس، فقدم عليها أخاه عبد الله بن غانية، ولما ثارت الفتنة في المائة السادسة أخرجه منها مروان بن عبد العزيز، إلى أن قام عليه جيش بلنسية سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وبايعوا لابن عياض ملك شرق الأندلس، ففر مروان إلى المرية، ثم رجعت بلنسية إلى أبي عبد الله ابن مردنيش ملك شرق الأندلس بعد ابن عياض، وقدم عليه (2) أخاه أبا الحجاج يوسف بن سعد بن مردنيش، إلى أن رجع أبو الحجاج إلى جهة بني عبد المؤمن، إلى أن ولي عليها السيد أبو زيد عبد الرحمن ابن السيد أبي عبد الله ابن أبي حفص ابن أمير المسلمين عبد المؤمن بن علي، فلما ثار العادل بمرسية تمنع واعتز، وأظهر طاعة في باطنها معصية، ودام على ذلك مع أبي العلاء المأمون، وكان قائد الأعنة المشار إليه في الدفاع عن بلنسية الأمير زيان بن أبي الحملات ابن أبي الحجاج ابن مردنيش، فأخرجه من بلنسية، وملكه، وفر السيد إلى النصارى.
نهاية بلنسية
ولم يزل أمر بلنسية يضعف باستيلاء العدو على أعمالها إلى أن حصرها ملك برشلونة النصراني، فاستغاث زيان بصاحب إفريقية أبي زكريا ابن أبي حفص،
(1) دوزي: أبو جعفر البتي وكذلك كتب في التكملة المطبوعة؛ ولكن سجع ابن سعيد يدل على أن بنه بالنون " كتاب المنه في حل قرية بنه " وهي من قرى بلنسية؛ وقد سبق أن أشرت إلى أن البني الذي حرقه القنبيطور هو غير البني الذي ترجم له صاحب القلائد.
(2)
عليه: سقطت من ص.
وأوفد عليه في هذه الرسالة كاتبه الشهير أبا عبد الله ابن الأبار القضاعي صاحب كتاب التكملة وإعتاب الكتاب وغيرهما، فقام بين يدي السلطان منشداً قصيدته السينية الفريدة التي فضحت من باراها، وكبا دونها من جاراها، وهي (1) :
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا إن السبيل إلى منجاتها درسا
وهب لها من عزيز النصر ما التمست فلم يزل منك عز النصر ملتمسا
وحاش مما تعانيه حشاشتها فطالما ذاقت البلوى صباح مسا
يا للجزيرة أضحى أهلها جزراً للحادثات وأمسى جدها تعسا
في كل شارقة إلمام بائقة يعود مأتمها عند العدا عرسا
وكل غاربة إجحاف نائبة تثني الأمان حذاراً والسرور أسى
تقاسم الروم لا نالت مقاسمهم إلا عقائلها المحجوبة الأنسا
وفي بلنسية منها وقرطبة ما ينسف النفس أو ما ينزف النفسا
مدائن حلها الإشراك مبتسماً جذلان، وارتحل الإيمان مبتئسا
وصيرتها العوادي العائثات بها يستوحش الطرفمنها ضعف ما أنسا
فمن دساكر كانت دونها حرسا ومن كنائس كانت قبلها كنسا
يا للمساجد عادت للعدا بيعاً وللنداء غدا أثناءها جرسا
لهفي عليها إلى استرجاع فائتها مدارساً للمثاني أصبحت درسا
وأربعاً نمنمت أيدي الربيع لها ما شئت من خلع موشية وكسا
كانت حدائق للأحداق مونقة فصوح النضر من أدواحها وعسا
وحال ما حولها من منظر عجب يستجلس الركب أو يستركب الجلسا
سرعان ما عاث جيش الكفر واحربا عيث الدبا في مغانيها التي كبسا
(1) أورد ابن خلدون (6: 283) هذه القصيدة، وانظر أزهار الرياض 2:207.
وابتز بزتها مما تحيفها تحيف الأسد الضاري لما افترسا
فأين عيش جنيناه بها خضراً وأين عصر جليناه بها سلسا
محا محاسنها طاغ أتيح له ما نام عن هضمها حيناً ولا نعسا
ورج أرجاءها لما أحاط بها فغادر الشم من أعلامها خنسا
خلا له الجو فامتدت يداه إلى إدراك ما لم تطأ رجلاه مختلسا
وأكثر الزعم بالتثليث منفرداً ولو رأى راية التوحيد ما نبسا
صل حبلها أيها المولى الرحيم فما أبقى المراس لها حبلاً ولامرسا
وأحي ما طمست منها العداة كما أحييت من دعوة المهدي ما طمسا
أيام صرت لنصر الحق مستبقاً وبت من نور ذاك الهدي مقتبسا
وقمت فيها بأمر الله منتصراً كالصارم اهتز أو كالعارض انبجسا
تمحو الذي كتب التجسيم من ظلم والصبح ماحية أنواره الغلسا
وتقتضي الملك الجبار مهجته يوم الوغى جهرة لا ترقب الخلسا
هذي رسائلها تدعوك من كثب وأنت أفضل مرجو لمن يئسا
وافتك جارية بالنجح راجية منك الأمير الرضى والسيد الندسا
خاضت خضارة (1) يعليها ويخفضها
…
عبابه فتعاني اللين والشرسا وربما سبحت والريح عاتية كما طلبت بأقصى شده الفرسا
تؤم يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص مقبلة من تربه القدسا
ملك تقلدت الأملاك طاعته ديناً ودنيا فغشاها الرضى لبسا
من كل غاد على يمناه مستلماً وكل صاد إلى نعماه ملتمسا
مؤيد لو رمى نجماً لأثبته ولو دعا أفقاً لبى وما احتبسا
تالله إن الذي ترجى السعود له ما جال في خلد يوماً ولا هجسا
إمارة يحمل المقدار رايتها ودولة عزها يستصحب القعسا
(1) خضارة: البحر.
يبدي النهار بها من ضوئه شنباً ويطلع الليل من ظلمائه لعسا
ماضي العزيمة والأيام قد نكلت طلق المحيا ووجه الدهر قد عبسا
كأنه البدر والعلياء هالته تحف من حوله شهب القنا حرسا
تدبيره وسع الدنيا وما وسعت وعرف معروفه واسى الورى وأسا
قامت على العدل والإحسان دولته وأنشرت من وجود الجود ما رمسا
مبارك هديه باد سكينته ما قام إلا إلى حسنى وما جلسا
قد نوره الله بالتقوى بصيرته فما يبالي طروق الخطب ملتبسا
برى العصاة وراش الطائعين فقل في الليث مفترساً والغيث مرتجسا
ولم يغادر على سهل ولا جبل
…
حياً لقاحاً (1) إذا وافيته بخسا فرب أصيد لا تلفي به صيداً ورب أشوس لا تلقى له شوسا
إلى الملائك ينمى والملوك معاً في نبعة أثمرت للمجد ما غرسا
من ساطع النور صاغ الله جوهره وصان صيقله أن يقرب الدنسا
له الثرى والثريا خطتان فلا أعز من خطتيه ما سما ورسا
حسب الذي باع في الأخطار يركبها إليه محياه أن البيع ما وكساد
إن السعيد امرؤ ألقى بحضرته عصاه محتزماً بالعدل محترسا
فظل يوطن من أرجائها حرماً وبات يوقد من أضوائها قبسا
بشرى لعبد إلى الباب الكريم حدا
…
آماله ومن العذب (2) المعين حسا كأنما يمتطي واليمن يصحبه من البحار طريقاً نحوه يبسا
فاستقبل السعد وضاحاً أسرته من صفحة فاض منها النور وانعكسا
وقبل الجود طفاحاً غواربه من راحة غاص فيها البحر وانغمسا
يا أيها الملك المنصور أنت لها علياء توسع أعداء الهدى تعسا
وقد تواترت الأنباء أنك من يحيي بقتل ملوك الصفر أندلسا
(1) الحي اللقاح: الذين لا يدينون للملوك.
(2)
ق: العد؛ والعد: البئر القديمة الغزيرة الماء.
طهر بلادك منهم إنهم نجس
…
ولا طهارة مل لم تغسل (1) النجسا وأوطئ الفيلق الجرار أرضهم حتى يطأطئ رأساً كل من رأسا
وانصر عبيداً بأقصى شرقها شرقت
…
عيونهم أدمعاً تهمي زكا وخسا (2) هم شيعة الأمر وهي الدار قد نهكت داء متى لم تباشر حسمه انتكسا
فاملأ هنيئاً لك التأييد ساحتها جرداً سلاهب أو خطية دعسا
واضرب لها موعداً بالفتح ترقبه لعل يوم الأعادي قد أتى وعسى
فبادر السلطان بإعانتهم (3) ، وشحن الأساطيل بالمدد إليهم، من المال والأقوات والكسى، فوجدهم في هوة الحصار، إلى أن تغلب الطاغية على بلنسية، ورجع ابن الأبار بأهله إلى تونس، وكان تغلب العدو على بلنسية صلحاً يوم الثلاثاء السابع عشر لصفر من سنة ست وثلاثين وستمائة، فهزت هذه القصيدة من الملك عطف ارتياح، وحركت من جنانه أخفض جناح، ولشغفه بها وحسن موقعها منه أمر شعراء حضرته بمجاوبتها، فجاوبها غير واحد، وحال العدو بين بلنسية وبينه، وتعاهد أهلها مع النصراني على أن يسلمهم في أنفسهم، وذلك سنة سبع وثلاثين وستمائة، أعادها الله تعالى للإسلام.
كتندة - 514
وقد كانت وقعة كتندة (4) على المسلمين قبل هذا التاريخ بمدة، وكتندة - ويقال قتندة بالقاف - من حيز دورقة من عمل سرقسطة من الثغر، وكانت
(1) قال المقري في الأزهار: " نغسل النجسا " هكذا ثبت بالنون كما رايته في بعض النسخ العتيقة وهو أصوب مما وقع بخط بعضهم بالتاء، لأن مثله لا يصلح للمخاطبات السلطانية، ولم يشتهر عند أكثر الناس إلا بالتاء، والصواب ما قدمته أنه بالنون، والله أعلم.
(2)
الزكا: الزوج، والخسا: الفرد.
(3)
انظر ابن عذاري 3: 344 - 345 (ط. المغرب) .
(4)
في الخبر عن وقعة كتندة راجع معجم أصحاب الصدفي (7 - 8) ومعجم ياقوت (قتندة) .
الهزيمة على المسلمين جبرهم الله تعالى، قتل فيها من المطوعة نحو من عشرين قتيلاً، ولم يقتل فيها من العسكر أحد، وكان على المسلمين الأمير إبراهيم بن يوسف بن تاشفين الذي ألف الفتح باسمه قلائد العقيان وكانت سنة أربع عشرة وخمسمائة، وممن حضرها الشيخ أبو علي الصدفي السابق الذكر، وقرينه في الفضل أبو عبد الله ابن الفراء خرجا غازيين، فكانا ممن فقد فيها.
وقال غير واحد: إن العسكر انصرف مفلولاً إلى بلنسية، وإن القاضي أبا بكر ابن العربي كان ممن حضرها، وسئل مخلصه منها عن حاله، فقال: حال من ترك الخباء والعباء، بمعنى أنه ذهب جميع ما لديه.
لوشة - 622
ودخل العدو لوشة سنة اثنتين وعشرين وستمائة (1) ، مع السيد أبي محمد البياسي في الفتنة التي كانت بينه وبين العادل، فعاثوا فيها أشد العيث، ثم ردها المسلمون إلى أن أخذت بعد ذلك كما يأتي.
المرية - 542
ودخل العدو مدينة المرية يوم الجمعة السابع عشر من جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، عنوة، وحكى أبو زكريا الجعيدي (2) عن أبي عبد الله بن سعاد الشاطبي المعمر أن أبا مروان ابن ورد أتاه في النوم شيخ عظيم الهيئة فرمى يديه في عضديه من خلفه، وهزه هزاً عنيفاً حتى أرعبه، وقال له قل:
(1) سنة 623 عند ابن عذاري (3: 249) .
(2)
الجعيدي هو يحيى بن زكريا بن علي بن يوسف الأنصاري البلنسي، توفي سنة 619 (التكملة رقم: 2063) . وفي ص: الحميدي، وهو خطأ.
ألا أيها المغرور ويحك لاتنم فلله في ذا الخلق أمر قد انبهم
فلا بد أن يرزوا بأمر يسوءهم فقد أحدثوا جرماً على حاكم الأمم
قال: وكان هذا في سنة أربعين وخمسمائة، فلم يمض إلا يسير حتى تغلب الروم على المرية في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، بعد تلك الرؤيا بعامين أو نحوهما، وهو مما حكاه ابن الأبار الحافظ في كتاب التكملة له.
ترجمة الرشاطي
وفي وقعة المرية هذه استشهد الرشاطي الإمام المشهور (1) ، وهو أبو محمد عبد الله بن علي بن عبد الله بن علي بن خلف بن أحمد بن عمر، اللخمي الرشاطي، المريي، وكانت له عناية كبيرة بالحديث والرجال والرواة والتواريخ، وهو صاحب كتاب اقتباس الأنوار والتماس الأزهار في أنساب الصحابة ورواة الآثار أخذه الناس عنه، وأحسن فيه، وجمع وما قصر، وهو على أسلوب كتاب أبي سعد ابن السمعاني الحافظ المسمى الأنساب، وولد الرشاطي سنة 466 بقرية من أعمال مرسية يقال لها أوريواله - بفتح (2) الهمزة، وسكون الواو، وكسر الراء، وضم المثناة التحتية، وبعد الألف لام مفتوحة، وبعدها هاء - وتوفي شهيداً بالمرية عند تغلب العدو عليها صبيحة الجمعة العشرين من جمادى الأولىسنة 542. والرشاطي - بضم الراء، وفتح الشين الخففة - وذكر هو أن أحد أجداده كان في جسمه شامة كبيرة، وكانت حاضنته عجمية، فإذا لاعبته قالت: رشاطة (3) ، وكثر ذلك منها، فقيل له: الرشاطي؛ انتهى ملخصاً من وفيات الأعيان وبعضه بالمعنى.
(1) سقطت ترجمة الرشاطي من التكملة وهي وارد في معجم أصحاب الصدفي (رقم: 200) وابن خلكان 2: 291 - 292 وعنه ينقل المقري؛ وتذكرة الحفاظ: 1307.
(2)
ابن خلكان: بضم.
(3)
يعني Roseta.
استرداد المرية وضياعها نهائياً
وبعد أخذ النصارى المرية هذه المرة رجعت إلى المسلمين، واستنقذها الله تعالى على يد الموحدين، وبقيت بأيدي أهل الإسلام سنين، وكان أول الولاة عليها حين استولى عليها أمير المسلمين عبد المؤمن بن علي رجلاً يقال له يوسف بن مخلوف، فثار عليه أهل المرية وقتلوه وقدموا على أنفسهم الرميمي، فأخذها النصارى منه عنوة كما ذكرنا، وأحصي عدد من سبي من أبكارها فكان أربعة عشر ألفاً.
وقال ابن حبيش (1) آخر الحفاظ بالأندلس: كنت في وقعة المرية لما وقع الاستيلاء عليها أعادها الله تعالى للإسلام، فتقدمت إلى زعيم الروم السليطين، وهو ابن بنت الأذفونش، وقلت له: إني أحفظ نسبك منك إلى هرقل، فقال لي: قل، فذكرته له، فقال لي: اخرج أنت وأهلك ومن معك طلقاء بلا شيء.
وابن حبيش شيخ ابن دحية وابن حوط الله وأبي الربيع الكلاعي، رجمهم الله تعالى.
ولما أخذت المرية أقبل إليها السيدان أبو حفص وأبو سعيد ابنا أمير المؤمنين فحصرا النصارى بها، وزحف إليهما أبو عبد الله ابن مردنيش ملك شرق الأندلس محارباً لهما، فكانا يقاتلان النصارى والمسلمين داخلاً وخارجاً، ثم رأى ابن مردنيش العار على نفسه في قتالهم مع كونهم يقاتلون النصارى، فارتحل، فقال النصارى: ما رحل ابن مردنيش إلا وقد جاءهم مدد، فاصطلحوا، ودخل الموحدون المدينة، وقد خربت وضعفت، إلى أن أحيا رمقها الرئيس أبو العباس أحمد بن كمال، وذلك أن أخته أخذت سبية في دخلة عبد المؤمن
(1) يعني أبا القاسم الإمام الحافظ عد الرحمن بن الأنصاري نزيل مرسية، وحبيش هو خاله نسب إليه، ولد بالمرية سنة 504 وتوفي سنة 584 وقد ترجم له كل من ابن الأبار (رقم: 1617) وابن الزبير (انظر تذكرة الحفاظ: 1353) .
لبجانة، فاحتلت بقصره واعتنت بأخيها، فولاه بلده، فصلح به حالها، وكان جواداً حسن المحاولة كثير الرفق، واشتهر من ولاتها في مدة بني عبد المؤمن في المائة السابعة الأمير أبو عمران ابن أبي حفص عم ملك إفريقية أبي زكريا.
ولما كانت سنة خمس وعشرين وستمائة وثارت الأندلس على مأمون بني عبد المؤمن بسبب قيام ابن هود بمرسية قام في المرية بدعوة ابن هود أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي يحيى ابن الرميمي، وجده أبو يحيى هو الذي أخذها النصارى من يده، ولما قام بدعوة ابن هود وفد عليه بمرسية وولاه وزارته، وصرف إليه سياسته، وآل أمره معه إلى أن أغراه بأن يحصن قلعة مرية، ويجعلها له عدة، وهو يبغي ذلك عدة لنفسه، وترك ابن هود فيها جارية تعلق ابن الرميمي بها، واجتمع معها، فبلغ ذلك ابن هود، فبادر إلى المرية، وهو مضمر الإيقاع بابن الرميمي، فتغدى به قبل أن يتعشى به، وأخرج من قصره ميتاً، ووجهه في تابوت إلى مرسية في البحر، واستبد ابن الرميمي بملك المرية، ثم ثار عليه ولده، وآل الأمر بعد أحوال إلى أن تملكها ابن الأحمر صاحب غرناطة، وبقيت في يد أولاده بعده إلى أن أخذها العدو الكافر عندما طوي بساط بلاد الأندلس كما سننبه عليه، والله غالب على أمره.
شعر في العقاب
وما أحسن قول أبي إسحاق إبراهيم بن الدباغ الإشبيلي في هزيمة العقاب بإشبيلية:
وقائلة أراك تطيل فكراً كأنك قد وقفت إلى الحساب
فقلت لها أفكر في عقاب غدا سبباً لمعركة العقاب
فما في أرض أندلس مقام وقد دخل البلا من كل باب
ابن وزير
وقول القائد أبي بكر ابن الأمير ملك شلب أبي محمد عبد الله (1) بن وزير يخاطب منصور بني عبد المؤمن وقد التقى هو وأصحابه مع جماعة من الفرنج فتناصفوا، ثم كان الظفر للمسلمين:
ولما تلاقينا جرى الطعن بيننا فمنا ومنهم طائحون عديد
وجال غرار الهند فينا وفيهم فمنا ومنهم قائم وحصيد
فلا صدر إلا فيه صدر مثقف وحول الوريد للحسام ورود
صبرنا ولا كهف سوى البيض والقنا كلانا على حر الجلاد جليد
ولكن شددنا شدة فتبلدوا ومن يتبلد لا يزال يحيد
فولوا وللسمر الطوال بهامهم ركوع وللبيض الرقاق سجود
وكان المذكور من فرسان الأندلس، وكان ابنه الفاضل أبو محمد غير مقصر عنه فروسية وقدراً وأدباً وشعراً، وولاه ناصر بني عبد المؤمن مدينة قصر أبي دانس في الجهة الغربية، وقتله ابن هود بإشبيلية، وزعم أنه يروم القيام عليه، ومن شعره قوله في ابن عمرو صاحب أعمال إشبيلية:
لا تيأسن من الخلافة بعدما ولي ابن عمرو خطة الأشراف
تباً لدهر هذه أفعاله يضع النوافج في يدي كناف
ضياع ماردة
رجع - ودخل العدو كورة ماردة من محمد بن هود سنة ست وعشرين
(1) قد قدمت التعليق على هذا الاسم، وهو أبو بكر ابن أبي محمد سيداري بن عبد الوهاب بن وزير القيسي؛ ومن بني وزير عبد الله بن وزير الذي كان يدافع عن حصن أبي دانس لما كان البرتغاليون يحاولون الاستيلاء عليه سنة 614.
وستمائة، وكانت مفتتح المصائب على يده، أعادها الله تعالى للإسلام، وهي قاعدة بلاد الجوف في مدة العرب والعجم، والحضرة المستجدة بعدها هي مدينة بطليوس، وبين ماردة وقرطبة خمسة أيام.
المظفر وابنه المتوكل
وملك بطليوس وماردة وما إليها المظفر بن المنصور بن الأفطس مشهور، وهو من رجال القلائد والذخيرة وهو أديب ملوك عصره بلا مدافع ولا منازع، وله التصنيف الرائق، والتأليف الفائق، المترجم بالتذكر المظفري خمسون مجلداً اشمل على فنون وعلوم من مغاز وسير ومثل وأخبار وجميع علوم الأدب، وقال يوماً: والله ما يمنعني من إظهار الشعر إلا كوني لا أقول مثل قول أبي العشائر ابن حمدان (1) :
أقرأت منه ما تخط يد الوغى والبيض تشكل والأسنة تنقط
وقول أبي فراس ابن عمه (2) :
وجررنا العوالي في مقام (3)
…
تحدث عنه ربات الحجال كأن الخيل تعلم من عليها ففي بعض على بعض تعالى
فأين هذا من قولي:
أنفت من المدام لأن عقلي أعز علي من أنس المدام
ولم أرتح إلى روض وزهر ولكن للحمائل والحسام
(1) يتيمة الدهر 1: 210.
(2)
ديوان أبي فراس: 284.
(3)
الديوان: وعدت أجر رمحي عن مقام.
إذا لم أملك الشهوات قهراً
…
فلم أبغي الشفوف على الأنام (1) وله رحمه الله تعالى:
يا لحظه زد فتوراً تزد علي اقتدارا
فالحظ كالسيف أمضا هـ ما يرق غرارا
وابنه المتوكل من رجال القلائد والمسهب وكان في حضرة بطليوس كالمعتمد بن عباد بإشبيلية، قد أناخت الآمال بحضرتهما، وشدت رحال الآداب إلى ساحتهما، يتردد أهل الفضائل بينهما كتردد النواسم بين جنتين، وينظر الأدب منهما عن مقلتين، والمعتمد أشعر، والمتوكل أكتب.
شعر لأبي عبد الله الفازازي
رجع - وقال الفاضل الكاتب أبو عبد الله محمد الفازازي، وقيل: إنها وجدت برقعة في جيبه يوم موته:
الروم تضرب في البلاد وتغنم والجور يأخذ ما بقي والمغرم
والمال يورد كله قشتالة والجند تسقط والرعية تسلم
وذوو التعين ليس فيهم مسلم إلا معين في الفساد مسلم
أسفي على تلك البلاد وأهلها الله يلطف بالجميع ويرحم
وقيل: إن هذه الأبيات رفعت إلى سلطان بلده، فلما وقف عليها قال بعدما بكى: صدق رحمه الله تعالى، ولو كان حياً ضربت عنقه.
(1) سقط البيت من ص.
ترجمة أبي زيد الفازازي
وهذا الفازازي أخو الشاعر الشهير الكاتب الكبير أبي زيد عبد الرحمن الفازازي (1) صاحب الأمداح في سيد الوجود صلى الله عليه وسلم، وهو كما قال فيه بعضهم: صاحب القلم الأعلى، والقدح المعلى، أبرع من ألف وصنف، وأبدع من قرط وشنف، فقد طاع القلم لبنانه، والنظم والنثر لبيانه، كان نسيج وحده رواية وأخباراً، ووحيد نسجه روية وابتكاراً، وفريد وقته خبراً وإخباراً، وصدر عصره إيرادا وإصدرًا، صاحب فهوم، ورافع ألوية علوم، أما الأدب فلا يسبق فيه مضماره، ولا يشق غباره، إن شاء إنشاء أنشى ووشى، سائل الطبع، عذب النبع، له في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، بدائع قد خضع لها البنيان وسلم، أعظم تلك المعجزات نظماً ونثراً، وأوجز في تحبير تلك الآيات البينات فجلا سحراً، ورفع للقوافي راية استظهاراً تخير فيه الأظهر، فعجم وعشر وشفع وأوتر، وأما الأصول فهي من فروعه، في متفرق منظومه ومنثور مجموعه، واما النسب، فإلى حفظه انتسب، وأما الأيام والدول، ففي تاريخه الأواخر والأول، وقد سبك من هذه العلوم في منثوره وموزونه، ما يشهد بإضافتها إلى فنونه، وله سماع في الحديث ورواية، وفهم بقوانينه ودراية، سمع من أبي الوليد بن عبد الرحمن بن بقي القاضي، ومن أبي الحسن جابر بن أحمد القرشي التاريخي، وهو آخر من حدث عنه، ومن أبي عبد الله التجيبي كثيراً وهو أول من سمع عنه في حياة الحافظ أبي الطاهر السلفي إذ قدم عليهم تلمسان، وأجازه الحافظ السهلي وابن خلف
(1) هو عبد الرحمن بن يخلفتن بن أحمد اليجنشي الفازازي، ولد بقرطبة ونشأ بها ثم سكن تلمسان، وكان عالماً بالحديث متصرفاً في فنونه، كاتباً شاعراً مجوداً، مشاركاً في أصول الفقه، ذا معرفة بعلم الكلام، تجول ببلاد العدوة والأندلس كثيراً، وغلب عليه شعر الزهد والتصوف (التكملة رقم: 1641) .
الحافظ وغيرهما، وولد بعد الخمسين والخمسمائة، وتوفي في مراكش سنة 637، رحمه الله تعالى، انتهى ملخصاً.
سقوط ميورقة عن ابن عميرة
رجع - ولما ثارت الأندلس على طائفة عبد المؤمن كان الوالي بجزيرة ميورقة أبو يحيى ابن أبي عمران التينمللي (1) فأخذها الفرنج منه، كذا قال ابن سعيد، وقال ابن الأبار: إنها أخذت يوم الاثنين الرابع عشر من صفر سنة سبع وعشرين وستمائة.
وقال المخزومي في تاريخ ميورقة (2) : إن سبب أخذها من المسلمين أن أميرها محمد بن علي بن موسى كان في الدولة الماضية أحد أعيانها، ووليها سنة ست وستمائة، واحتاج إلى الخشب المجلوب من اليابسة، فأنفذ طريدة بحرية وقطعة حربية، فعلم بها والي طرطوشة، فجهز إليها من أخذها، فعظم ذلك على الوالي، وحدث نفسه بالغزو لبلاد الروم، وكان ذلك رأياً مشؤوماً، ووقع بينه وبين الروم، وفي آخر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وستمائة بلغه أن مسطحاً من برشلونة (3) ظهر على يابسة، ومركباً آخر من طرطوشة انضم إليه، فبعث ولده في عدة قطع إليه حتى نزل مرسى يابسة، ووجد فيه لأهل جنوة مركباً كبيراً، فأخذه وسار حتى وصل إلى المسطح، فقاتله وأخذه، وظن أنه غاب الملوك، وغاب عنه أنه أشأم من عاقر الناقة (4) ، وأن الروم لما بلغهم الخبر
(1) ق: التيفلي.
(2)
هو أبو المطرف ابن عميرة المخزومي، وقد ألف كتاباً في كائنة ميورقة قال فيه ابن عبد الملك: إنه نحا فيه منحى العماد في الفتح القمي، فالمقري هنا يلخص وينقل بتصرف. (انظر كتاب " أبو المطرف ابن عميرة " للأستاذ بن شريفة 287 - 291) .
(3)
ص: برجلونة.
(4)
هو قدار الذي يضرب به المثل في الشؤم.
قالوا لملكهم وهو من ذرية أذفونش: كيف يرضى الملك بهذا الأمر ونحن نقاتل بنفوسنا وأموالنا فأخذ عليهم العهد بذلك، وجمع عشرين ألفاً من أهل البلاد، وجهز في البحر ستة عشر ألفاً، وشرط عليهم حمل السلاح، وفي سنة ست وعشرين وستمائة اشتهر أمر هذه الغزوة فاستعد لها الوالي، وميز نيفاً على ألف فارس من فرسان الحضر والرعية مثلهم، ومن الرجالة ثمانية عشر ألفاً، وذلك في شهر ربيع الأول من السنة، ومن سوء الاتفاق أن الوالي أمر صاحب شرطته أن يأتيه بأربعة من كبراء المصر، فساقهم وضرب أعناقهم، وكان فيهم ابنا خاله، وخالهما أبو حفص ابن سيري ذو المكانة الوجيهة، فاجتمعت الرعية إلى ابن سيري، فأخبره بما نزل، وعزوه فيمن قتل وقالوا: هذا أمر لا يطاق، ونحن كل يوم إلى الموت نساق، وعاهدوه على طلب الثأر، وأصبح الوالي يوم الجمعة منتصف شوال، والناس من خوفه في أهوال، ومن أمر العدو في إهمال، فأمر صاحب شرطته بإحضار خمسين من أهل الوجاهة والنعمة فأحضرهم، وإذا بفارس على هيئة النذير دخل إلى الوالي، وأخبره بأن الروم قد أقبلت، وأنه عد فوق الأربعين من القلوع، وما فرغ من إعلامه حتى ورد آخر من جانب آخر وقال: إن أسطول العدو قد تظاهر، وقال: إنه عد سبعين شراعاً، فصح الأمر عنده، فسمح لهم بالصفح والعفو، وعرفهم بخبر العدو، وأمرهم بالتجهز، فخرجوا إلى دورهم، كأنما نشروا من قبورهم، ثم ورد الخبر بأن العدو قرب من البلد، فإنهم عدوا مائة وخمسين قلعاً، ولما عبر وقصد المرسى أخرج الوالي جماعة تمنعهم النزول، فباتوا على المرسى في الرجل والخيل، وفي الثامن عشر من شوال وهو يوم الاثنين وقع المصاف، وانهزم المسلمون، وارتحل النصارى إلى المدينة، ونزلوا منها على الحريبة الحزينة من جهة باب الكحل، ولم يزل الأمر في شدة وقد أشرفوا على أخذ البلد، ولما رأى ابن سيري (1) أن العدو قد استولى على البلد خرج
(1) ق: ابن شيري.
إلى البادية، ولما كان يوم الجمعة الحادي عشر من صفر قاتلوا البلد قتالاً شديداً، ولما كان يوم الأحد لأخذ البلد، وأخذ منه أربعة وعشرون ألفاً قتلوا على دم واحد، وأخذ الوالي وعذب، وعاش بعد ذلك خمسة وأربعين يوماً، ومات تحت العذاب، وأما ابن سيري فإنه صعد إلى الجبل، وهو منيع لا ينال ون تحصن فيه، وجمع عنده ستة عشر ألف مقاتل، وما زال يقاتل إلى أن قتل يوم الجمعة، عاشر ربيع الآخر سنة 628، وجده من آل جبلة بن الأيهم الغساني، وأما الحصون فأخذت في آخر رجب سنة 628، وفي شهر شعبان لحق من نجا من المسلمين إلى بلاد الإسلام، انتهى ما ذكره ابن عميرة المخزومي ملخصاً.
وكان بميورقة جماعة أعلام وشعراء، ومن شعر ابن عبد الولي الميورقي (1) :
هل أمان من لحظك الفتان وقوام يميل كالخيزران
مهجتي منك في جحيم، ولكن جفوني قد متعت في جناني
فتنتني لواحظ ساحرات لست أخشى من فتنة الشيطان
سعيد بن حكم في ميورقة
ولما استولى النصارى على ميورقة في التاريخ المتقدم سار بجزيرة منورقة، وهي قريبة منها، الجواد العادل العالم أبو عثمان سعيد بن حكم القرشي، وكان وليها من قبل الوالي أبي يحيى المقتول، وتصالح مع النصارى على ضريبة معلومة، واشترط أن لا يدخل جزيرته أحد من النصارى، وضبطها أحسن ضبط، قال أبو الحسن علي بن سعيد: أخبرني أحد من اجتمع به أنه لقي منه براً حبب إليه الإقامة في تلك الجزيرة المنقطعة، وذكر أنه ركب معه فنظر إلى حمالة سيف
(1) ترجمته وشعره في المغرب 2: 468.
ضيقة وقد أثرت في عنقه، فأمر له بإحسان وغنباز، وكتب معه:
حمالة السيف توهي جيد حاملها لا سيما يوم إسراع وإنجاز
وخير ما استعمل الإنسان يومئذ لحسم علتها إلباس غنباز
والغنباز عند أهل المغرب صنف من الملبوس غليظ يستر العنق.
وأصل أبي عثمان من مدينة طبيرة من غرب الأندلس، وقد ألفت باسمه التآليف المشهورة بالمغرب ككتاب روح الشحر وروح الشعر وغيره، وأخذ العدو منورقة بعد مدة.
سقوط عدة مدن
وأخذ العدو جزيرة شقر صلحاً سنة 639 في آخرها.
وأخذ العدو - دمره الله تعالى - مدينة سرقسطة يوم الأربعاء لأربع خلون من رمضان سنة اثني عشرة وخمسمائة.
وكان استيلاء الإفرنج على شرق الأندلس شاطبة وغيرها وإجلاءهم من يشاركهم من المسلمين فيما تغلبوا عليه منها في شهر رمضان سنة خمس وأربعين وستمائة.
وكان استيلاء العدو - دمره الله تعالى - على مدينة قرطبة يوم الأحد الثالث والعشرين لشوال من سنة ست وثلاثين وستمائة.
وكان تملك العدو مرسية صلحاً ظهر يوم الخميس العاشر من شوال، قدم أحمد بن محمد بن هود ولد والي مرسية بجماعة من وجوه النصارى فملكهم إياها صلحاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وحصر العدو إشبيلية سنة خمس وأربعين وستمائة. وفي يوم الاثنين الخامس من شعبان للسنة بعدها ملكها الطاغية صاحب قشتالة صلحاً بعد منازلتها حولاً كاملاً وخمسة أشهر أو نحوها. وقال ابن الأبار في ترجمة أبي علي الشلوبين من التكملة
ما صورته: وتوفي بين يدي منازلة الروم إشبيلية ليلة الخميس منتصف صفر سنة خمس وأربعين وستمائة، وفي العام القابل ملكها الروم.
موقعة أنيشة - 634 ترجمة أبي الربيع ابن سالم
وكانت وقعة أنيجة (1) التي قتل بها الحافظ أبو الربيع الكلاعي رحمه الله تعالى يوم الخميس لعشر بقين من ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وستمائة، ولم يزل رحمه الله تعالى متقدماً أمام الصفوف زحفاً إلى الكفار مقبلاً على العدو ينادي بالمنهزمين: أعن الجنة تفرون حتى قتل صابراً محتسباً برد الله تعالى مضجعه، وكان دائماً يقول: إن منتهى عمره سبعون سنة لرؤيا رآها في صغره، فكان كذلك، ورثاه تلميذه الحافظ أبو عبد الله ابن الأبار بقصيدته الميمية الشهيرة التي أولها (2) :
ألما بأشلاء العلا والمكارم تقد بأطراف القنا والصوارم
وعوجا عليها مأرباً وحفاوة (3)
…
مصارع خصت بالطلى والجماجم نحيي وجوهاً في الجنان وجيهة [بما لقيت حمراً وجوه الملاحم]
[وأجساد إيمان كساها نجيعها](4)
…
مجاسد من نسج الظبي واللهاذم وهي طويلة.
ومن شعر الحافظ أبي الربيع المذكور (5) :
(1) انظر الروض المعطار: (أنيشة) .
(2)
أوردها ابن عبد الملك في الذيل 4: 90 - 95.
(3)
الأصول: ومفازة.
(4)
صوبناه عن الذيل بزيادة ما بين معقفين.
(5)
الذيل والتكملة 4: 88.
تولت ليال للغواية جون ووافى صباح للرشاد مبين
ركاب شباب أزمعت عنك رحلة وجيش مشيب جهزته منون
ولا أكذب الرحمن فيما أجنه وكيف ولا يخفى عليه جنين
ومن لم يخل أن الرياء يشينه فمن مذهبي أن الرياء يشين
لقد ريع قلبي للشباب وفقده كما ريع بالعلق الفقيد ضنين
وآلمني وخط المشيب بلمتي فخطت بقلبي للشجون فنون
وليل شبابي كان أنضر منظراً وآنق مهما لاحظته عيون
فآهاً على عيش تكدر صفوه وأنس خلا منه صفا وحجون
ويا ويح فودي أو فؤادي كلما تزيد شيبي كيف بعد يكون
حرام على قلبي سكون بغرة (1)
…
وكيف مع الشيب الممض سكون وقالوا شباب المرء شعبة جنة فما لي عراني للمشيب جنون
وقالوا شجاك الشيب حدثان ما أتى ولم يعلموا أن الحديث شجون
وقوله (2) :
أمولى الموالي ليس غيرك مولى
…
وما أحد يا رب منك بذا (3) أولى تبارك وجه وجهت نحوه المنى فأوزعها شكراً وأوسعها طولا
وما هو إلا وجهك الدائم الذي أقل حلى عليائه يخرس القولا
تبرأت من حولي إليك وقوتي فكن قوتي في مطلبي وكن الحولا
وهب لي من الرضا ما لي سوى ذاك مبتغى ولو لقيت نفسي على نيله الهولا
وكان - رحمه الله تعالى - حافظاً للحديث، ومبرزاً في نقده تام المعرفة
(1) الذيل: يفره.
(2)
الذيل: 87.
(3)
ق: بنا.
بطرقه، ضابطاً لأحكام أسانيده، ذاكراً لرجاله، ريان من الأدب، خطب ببلنسية، واستقضى، وكان مع ذلك من أولي الحزم والبسالة والإقدام والجزالة، حضر الغزوات وباشر القتال بنفسه وأبلى بلاء حسناً، وروى عن أبي القاسم ابن حبيش وطبقته، وصنف كتباً منها مصباح الظلم في الحديث، والأربعون عن أربعين شيخاً لأربعين من الصحابة، والأربعون السباعية والسباعيات من حديث الصدفي، وحلية الأمالي في الموافقات والعوالي و " تحفة الوراد ونجعة الرواد "(1) والمسلسلات والإنشادات وكتاب الاكتفاء في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازي الثلاثة الخلفاء، وميدان السابقين وحلبة الصادقين المصدقين في غرض كتاب الاستيعاب، ولم يكمله، والمعجم فيمن وافقت كنيته [كنية] زوجه من الصحابة، والإعلام بأخبار البخاري الإمام والمعجم في مشيخة أبي القاسم ابن حبيش، و " برنامج رواياته "(2) وجنى الرطب في سني الخطب ونكتة الأمثال ونفثة السحر الحلال، و " جهد النصيح (3) في معارضة المعري في خطبة الفصيح "، والامتثال لمثال المبهج في ابتداع الحكم واختراع الأمثال ومفاوضة القلب العليل ومنابذة الأمل الطويل بطريقة المعري في ملقى السيل، ومجاز فتيا اللحن للاحن الممتحن مائة مسألة ملغزة، ونتيجة الحب الصميم وزكاة المنثور والمنظوم في مثال النعل النبوية على لابسها أفضل الصلاة والسلام، قال ابن رشيد: لو قال وزكاة النثير والنظيم لكان أحسن، وله كتاب الصحف المنشرة في القطع المعشرة وديوان رسائل سفر، وديوان شعره سفر (4) ، وكتب إلى الأديب الشهير أبي بحر صفوان بن إدريس المرسي عقب انفصاله من
(1) سماه ابن عبد الملك: تحفة الرواد في العوالي والاضداد.
(2)
الذيل: مروياته.
(3)
الذيل: وجهد النصيح وحظ المنيح.
(4)
الذيل: سفير.
بلنسية سنة 587:
أحن إلى نجد ومن حل في نجد وماذا يغني حنيني أو يجدي
وقد أوطنوها وادعين وخلفوا محبهم رهن الصبابة والوجد
تبين بالبين اشتياقي إليهم
…
ووجدي فساوى ما أجن الذي أبدي (1) وضاقت علي الأرض حتى كأنها وشاح على بخصر أو سوار على زند
إلى الله أشكو مما ألاقي من الجوى وبعض الذي لاقيته من جوى يردي
فراق أخلاء وصد أحبة كأن صروف الدهر كانت على وعد
فيا سرحتي نجد، نداء متيم له أبداً شوق إلى سرحتي نجد
ظمئت فهل طل يبرد لوعتي ضحيت فهل ظل يسكن من وجدي
ويا زمناً قد بان غير مذمم لعل لأنس قد تصرم من رد
ليالي نجني الأنس من شجر المنى ونقطف زهر الوصل من شجر الصلد
وسقياً لإخوان بأكناف حاجز كرام السجايا لا يحولون عن عهد
وكم لي بنجد من سري ممجد ولا كابن إدريس أخي البشر والمجد
أخو همة كالزهر في بعد نيلها وذو خلق كالزهر غب الحيا العد
تجمعت الأضداد فيه حميدة فمن خلق سبط ومن حسب جعد
أيا راحلاً أودى بصبري رحيله وفلل من عزمي وثلم من حدي
أتعلم ما يلقى الفؤاد لبعدكم ألا مذ نأيتم ما يعيد ولا يبدي
فيا ليت شعري هل تعود لنا المنى وعيش كما نمنمت حاشيتي برد
عسى الله أن يدني السرور بقربكم فيبدو، ومنا الشمل منتظم العقد
ابن العربي ومعركة 527
وقال القاضي أبو بكر ابن العربي في " أحكام القرآن "(2) عند تفسير
(1) ق: وما أبدي.
(2)
انظر أحكام القرآن ج 2: 943.
قوله تعالى انفروا خفافاً وثقالاً ما صورته: ولقد نزل بنا العدو - قصمه الله تعالى - سنة سبع وعشرين وخمسمائة، فجاس ديارنا، وأسر جيرتنا، وتوسط بلادنا في عدد حدد الناس عدده فكان كثيراً، وإن لم يبلغ ما حددوه، فقلت للوالي والمولى عليه: هذا عدو الله قد في الششرك والشبكة، فلتكن عندكم بركة، ولتكن منكم إلى نصرة الدين المتعينة عليكم حركة، فليخرج عليه جميع الناس حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار، فيحاط به، فإنه هالك لا محالة إن يسركم الله له، فغلبت الذنوب، ورجفت بالعاصي القلوب، وصار كل أحد من الناس ثعلباً يأوي إلى وجاره، وإن رأى المكيدة بجاره، فإن لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل، عنوان على النهايات.
قصيدة الوقشي في مدح أبي يعقوب
وقال أبو جعفر الوقشي البلنسي (1) نزيل مالقة يمدح أمير المؤمنين يوسف ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي:
أبت غير ماء بالنخيل ورودا وهامت به عذب الجمام برودا
وقالت لحاديها أثم زيادة على العشر في وردي له فأزيدا
غلبتك ما هذا القنوع وما أنا عهدتك لا تثنين عنه وريدا
أنوناً إذا ما كنت منه قريبة وضباً إذا ما كان عنك بعيداً
ردي حضرة الملك الظليل رواقه لعمري ففيها تحمدين ورودا
بحيث إمام الدين يوسع فضله جميع البرايا مبدئاً ومعيدا
(1) البلنسي: سقطت من ق؛ وقد كان أبو جعفر الوقشي وزيراً لابن همشك، وهو ممدوح الرصافي البلنسي.
أعاد إليها الأنس بعد شروده وأحيا لنا ما كان منه أبيدا
ولين أيام الزمان بعدله وكانت حديداً في الخطوب حديدا
فلا ليلة إلا يروقك حسنها ولا يوم إلا عاد يفضل عيدا
ومنها يصف حال الأندلس ويبعث على الجهاد:
ألا ليت شعري هل يمد لي المدى فأبصر شمل المشركين طريدا
وهل بعد يقضى بالنصارى بنصرة تغادرهم للمرهفات حصيدا
ويغزو أبو يعقوب في شنت ياقب يعيد عميد الكافرين عميدا
ويلقي على إفرنجهم عبء كلكل فيتركهم فوق الصعيد هجودا
يغادرهم جرحى وقتلى مبرحاً ركوعاً على وجه الفلا وسجودا
ويفتك من أيدي الطغاة نواعماً تبدلن من نظم الحجول قيودا
وأقبلن في خشن المسوح وطالما سحبن من الوشي الرقيق برودا
وغبر منهن التراب ترائباً وخدد منهن الهجير خدودا
فحق لدمعي أن يفيض لأزرق تملكها دعج المدامع سودا
ويا لهف نفسي من معاصم طفلة تجاور بالقد الأليم نهودا
ويا أسفاً ما إن يزال مردداً على شمل أعياد أعيد بديدا
وآهاً تمد الصوت منتحباً على خلو ديار لو يكون مفيدا
وقال في آخرها، وهو مما استحسنه الناس:
حملت من نظامي قلادة يلقبها أهل الكلام قصيدا
غدت يوم إنشاء القريض وحيدة كما قصدت في المعلوات وحيدا
ولما تمهدت الأندلس اعبد المؤمن وبنيه كان لهم فيها وقائع مع عدو الدين، واجتاز إليها عبد المؤمن. ثم لما ولي بعده ملكه ابنه يوسف دخل الأندلس سنة 566، وفي صحبته مائة ألف فارس من العرب الموحدين، فنزل في إشبيلية
فخافه الأمير أبو عبد الله محمد بن سعد بن مردنيش صاحب شرق الأندلس: مرسية وأعمالها وما انضاف إليها، فحمل على قلبه فمرض ومات، وشرع السلطان يوسف في استرجاع بلاد المسلمين من أيدي الفرنج، فاتسعت مملكته في الأندلس، وأغارت سراياه على طليطلة إذ هي قاعدة ملكهم، ثم إنه حاصرها فاجتمعت الفرنج عليه، واشتد الغلاء في عسكره، فرحل عنها وعاد إلى حضرة ملكه مراكش المحروسة.
قصيدة في استنهاض الحفصي بعد سقوط بلنسية
ولم يزال أهل الأندلس بعد ظهور النصارى - دمرهم الله تعالى - على كثير منها يستنهضون عزائم الملوك والسوقة لأخذ الثأر، بالنظم والنثار، فلم ينفعهم ذلك حتى اتسع الخرق، وأعضل الداء أهل الغرب والشرق، فمن القصائد الموجهة في ذلك قول بعضهم لما أخذت بلنسية يخاطب إفريقية أبا زكريا ابن عبد الواحد بن أبي حفص:
نادتك أندلس فلب نداءها واجعل طواغيت الصليب فداءها
صرخت بدعوتك العلية فاحبها من عاطفتك ما يقي حوباءها
واشدد بجلبك جرد خيلك أزرها تردد على أعقابها أرزاءها
هي دارك القصوى أوت لإيالة ضمنت لها مع نصرها إيواءها
وبها عبيدك لا بقاء لهم سوى سبل الضراعة يسلكون سواءها
خلعت قلوبهم هناك عزاءها لما رأت أبصارهم ما سواها
دفعوا لأبكار الخطوب وعونها فهم الغداة يصابرون عناءها
وتنكرت لهم الليالي فاقتضت سراءها وقضتهم ضراءها
تلك الجزيرة لا بقاء لها إذا لم يضمن الفتح القريب بقاءها
رش أيها المولى الرحيم جناها واعقد بأرشية النجاة رشاءها
أشفى على طرف الحياة ذماؤها فاستبق للدين الحنيف ذماءها
حاشاك أن تفنى حشاشها وقد قصرت عليك نداءها ورجاءها
طافت بطائفة الهدى آمالها ترجو بيحيى المرتضى إحياءها
واستشرفت أمصارها لإمارة عقدت لنصر المستضام لواءها
يا حسرتي لعقائل معقولة سئم الهدى نحو الضلال هداءها
إيه بلنسية وفي ذكراك ما يمري الشؤون دماءها لا ماءها
كيف السبيل إلى احتلال معاهد شب الأعاجم دونها هيجاءها
وإلى ربى وأباطح لم تعر من حلل الربيع مصيفها وشتاءها
طاب المعرس والمقيل خلالها وتطلعت غرر المنى أثناءها
بأبي مدارس كالطول دوارس نسخت نواقيس الصليب نداءها
ومصانع كسف الضلال صباحها فيخاله الرائي إليه مساءها
راحت بها الورقاء تسمع شدوها وغدت ترجع نوحها وبكاءها
عجباً لأهل النار حلوا جنة منها تمد عليهم أفياءها
أملت لهم فتعجلوا ما أملوا أيامهم لا سوغوا إملاءها
بعداً لنفس أبصرت إسلامها فتوكفت عن حزبها إسلاءها
أما العلوج فقد أحالوا حالها فمن المطيق علاجها وشفاءها
أهدى إليها بالمكاره جارح للكفر كره ماؤه وهواؤه
وكفى أسى أن الفواجع جمة فمتى يقاوم أسوها أسواءها
هيهات في نظر الإمارة كف ما تخشاه، ليت الشكر كان كفاءها
مولاي هاك معادة أنباءها لتنيل منك سعادة أبناءها
جرد ظباك لمحو لآثار العدا تقتل ضراغمها وتسب ظباءها
واستدع طائفة الإمام لغزوها تسبق إلى أمثالها استدعاءها
لا غرو أن يعزي الظهور لملة لم يبرحوا دون الورى ظهراءها
إن الأعاجم للأعارب نهبة مهما أمرت بغزوها أحياءها
تالله لو دبت لها دبابوها لطوت عليها أرضها وسماءها
ولو استقلت عوفها لقتالها لاستقبلت بالمقربات عفاءها
أرسل جوارحها تجئك بصيدها صيداً وناد لطحنها أرحاءها
هبوا لها يا معشر التوحيد قد آن الهبوب وأحرزوا علياءها
إن الحفائظ من خلالكم التي لا يرهب الداعي بهن خلاءها
هي نكتة المحيا فحيهلا بها تجدوا سناها في غد وسناءها
أولوا الجزيرة مصرة إن العدى تبغي على أقطارها استيلاء
نقصت بأهل الشرك من أطرافها فاستحفظوا بالمؤمنين نماءها
حاشاكم أن تضمروا إلغاءها في أزمة أو تضمروا إقصاءها
خوضوا إليها بحرها يصبح لكم رهواً وجوبوا نحوها بيداءها
وافى الصريخ مثوباً يدعو لها فلتجملوا قصد الثواب ثواءها
دار الجهاد فلا تفتكم ساحة ساوت بها أحياؤها شهداءها
هذي رسائلها تناجي بالتي وقفت عليها ريثها ونجاءها
ولربما أنهت سوالب للنهى من كائنات حملت أنهاءها
وفدت على الدار العزيزة تجتني آلاءها أو تجتلي آراءها
مستسقيات من غيوث غياثها ما وقعه يتقدم استسقاءها
قد أمنت في سبلها أهواءها إذا سوغت في ظلها أهواءها
وبحسبها أن الأمير المرتضى مترقب بفتوحها آناءها
في الله ما ينويه من إدراكها بكلاءة ليفدي أبي أكلاءها
بشرى لأندلس تحب لقاؤه ويحب في ذات الله لقاءها
صدق الرواة المخبرون بأنه يشفي ضناها أو يعيد رواءها
إن دوخ العرب الصعاب مقادة وأبى عليها أن تطيع إباءها
فكأن بفيلقه العرمرم فالقاً هام الأعاجم ناسفاً أرجاءها
أنذرهم بالبطشة الكبرى فقد نذرت صوارمه الرقاق دماءها
لا يعدم الزمن انتصار مؤيد تتسوغ الدنيا به سراءها
ملك أمد النيرين بنوره وأفاده لألاؤه لألاءها
خضعت جبابرة الملوك لعزه ونضت بكف صغارها خيلاءها
أبقى أبو حفص إمارته له فسما إليها حاملاً أعباءها
سل دعوة المهدي عن آثارها تنبيك أن ظباها قمن إزاءها
فغزا عداه واسترق رقابها وحمى حماها واسترد بهاءها
قبضت يداه على البسيطة قبضة قادت له في قده أمراءها
فعلى المشارق والمغارب ميسم لهداه شرف وسمه أسماءها
تطمو بتونسها بحار جيوشه فيزور زاخر موجها زوراءها
وسع الزمان فضاق عنه جلالة والأرض طراً ضنكها وفضاءها
ما أزمع الإيغال في أكنافها إلا تصيد عزمه زعماءها
دانت له الدنيا وشم ملوكها فاحتل من رتب العلا شماءها
ردت سعادته على أدراجها ليل الزمان ونهنهت غلواءها
إن يعتم الدول العزيزة بأسه فالآن يولي جوده إعطاءها
تقع الجلائل وهو راس راسخ فيها يوقع للسعود جلاءها
كالطود في عصف الرياح وقصفها لا رهوها يخشى ولا هوجاءها
سامي الذوائب في أعز ذؤابة أعلت على قمم النجوم بناءها
بركت بكل محلة بركاته شفعاً يبادر بذلها شفعاءها
كالغيث صب على البسيطة صوبه فسقى عمائرها وجاد قواءها
ينميه عبد الواحد الأراضي إلى عليا فتمنح بأسها وسخاءها
في نبعة كرمت وطابت مغرساً وسمت وطالت نضرة نظراءها
ظهرت لمحتدها السماء وجاوزت لسرادقات فخارها جوزاءها
فئة كرام لا تكف عن الوغى حتى تصرع حولها أكفاءها
وتكب في النار القرى فوق الذرى من عزة ألويها وكباءها
قد خلقوا الأيام طيب خلائق فثنت إليهم حمدها وثناءها
ينضون في طلب النفائس أنفساً حبسوا على إحرازها إمضاءها
وإذا انتضوا يوم الكريهة بيضهم أبصرت فيهم قطعها ومضاءها
لا عذر عند المكرمات لهم متى لم تستبن لعفاتهم عذراءها
قوم الأمير فمن يقوم بما لهم من صالحات أفحمت شعراءها
صفحاً جميلاً أيها الملك الرضي عن محكمات لم نطق إحصاءها
تقف القوافي دونهن حسيرة لا عيها تخفي ولا إعياءها
فلعل علياكم تسامح راجياً إصغاءها ومؤملاً إغضاءها
في رثاء طليطلة
ومن ذلك قول بعضهم يندب طليطلة أعادها الله تعالى للإسلام:
لثكلك كيف تبتسم الثغور سروراً بعدما سبيت ثغور
أما وأبي مصاب هد منه ثبير الدين فاتصل الثبور
لقد قصمت ظهور حين قالوا أمير الكافرين له ظهور
ترى في الدهر مسروراً بعيش مضى عنا لطيته السرور
أليس بها أبي النفس شهم يدير على الدوائر إذ تدور
لقد خضعت رقاب كن غلباً وزال عتوها ومضى النفور
وهان على عزيز القوم ذل وسامح في الحريم فتى غيور
طليطلة أباح الكفر منها حماها، إن ذا نبأ كبير
فليس مثالها إيوان كسرى ولا منها الحورنق والسدير
محصنة محسنة بعيد تناولها ومطلبها عسير
ألم تك معقلاً للدين صعباً فذلله كما شاء القدير
وأخرج أهلها منها جميعاً فصاروا حيث شاء بهم مصير
وكانت دار إيمان وعلم معالمها التي طمست تنير
فعادت دار كفر مصطفاة قد اضطربت بأهليها الأمور
مساجدها كنائس، أي قلب على هذا يقر ولا يطير
فيا أسفاه يا أسفاه حزناً يكرر ما تكررت الدهور
وينشر كل حسن ليس يطوى إلى يوم يكون به النشور
أديلت قاصرات الطرف كانت مصونات مساكنها القصور
وأدركها فتور في انتظار لسرب في لواحظه فتور
وكان بنا وبالقينات (1) أولى
…
لو انضمت على الكل القبور لقد سخنت بحالتهن عين وكيف يصح مغلوب قرير
لئن غبنا عن الإخوان إنا بأحزان وأشجان حضور
نذور كان للأيام فيهم بمهلكهم فقد وفت النذور
فإن قلنا العقوبة أدركتهم وجاءهم من الله النكير
فإنا مثلهم وأشد منهم نجور وكيف يسلم من يجور
أنأمن أن يحل بنا انتقام وفينا الفسق أجمع والفجور
وأكل للحرام ولا اضطرار إليه فيسهل الأمر العسير
ولكن جرأة في عقر دار كذلك يفعل الكلب العقور
يزول الستر عن قوم إذا ما على العصيان أرخيت الستور
يطول علي ليلي، رب خطب يطول لهوله الليل القصير
خذوا ثأر الديانة وانصروها فقد حامت على القتلى النسور
ولا تهنوا وسلوا كل عضب تهاب مضارباً له النحور
وموتوا كلكم فالموت أولى بكم من أن تجاروا أو تجوروا
أصبراً بعد سبي وامتحان يلام عليها القلب الصبور
(1) ص: وبالفتيات.
فأم الثكل مذكار ولود وأم الصقر مقلات نزور
نخور إذا دهينا بالرزايا وليس بمعجب بقر يخور
ونجبن وليس نزأر، لو شجعنا ولم نجبن لكان لنا زئير
لقد ساءت بنا الأخبار حتى أمات المخبرين بها الخبير
أتتنا الكتب فيها كل شر وبسرنا بأنحسنا البشير
وقيل تجمعوا لفراق شمل طليطلة تملكها الكفور
فقل في خطة فيها صغار يشيب لكربها الطفل الصغير
لقد صم السميع فلم يعول على نبإ كما عمي البصير
تجاذبنا الأعادي باصطناع فينجذب المخول والفقير
فباق في الديانة تحت خزي تثبطه الشويهة والبعير
وآخر مارق هانت عليه مصائب دينه فله السعير
كفى حزناً بأن الناس قالوا إلى أين التحول والمسير
أنترك دورنا ونفر عنها وليس لنا وراء البحر دور
ولا ثم الضياع تروق حسناً نباكرها فيعجبنا البكور
وظل وارف وخرير ماء فلا قر هناك ولا حرور
ويؤكل من فواكهها الطري ويشرب من جداولها نمير
يؤدى مغرم في كل شهر ويؤخذ كل صائفة عشور
فهم أحمى لحوزتنا وأولى بنا وهم الموالي والعشير
لقد ذهب اليقين فلا يقين وغر القوم بالله الغرور
فلا دين ولا دنيا ولكن غرور بالمعيشة ما غرور
رضوا بالرق يا لله ماذا رآه وما أشار به مشير
مضى الإسلام فابك دماً عليه فما ينفي الجوى الدمع الغزير
ونح واندب رفاقاً في فلاة حيارى لا تحط ولا تسير
ولا تجنح إلى سلم وحارب عسى أن يجبر العظم الكسير
أنعمى عن مراشدنا جميعاً وما إن منهم إلا بصير
ونلقى واحداً ويفر جمع كما عن قانص فرت حمير
ولو أنا ثبتنا كان خيراً ولكن ما لنا كرم وخير
إذا ما لم يكن صبر جميل فليس بنافع عدد كثير
ألا رجل له رأي أصيل به مما نحاذر نستجير
يكر إذا السيوف تناولته وأين بنا إذا ولت كرور
ويطعن بالقنا الخطار حتى يقول الرمح ما هذا الخطير
عظيم أن يكون الناس طراً بأندلس قتيل أو أسير
أذكر بالقراع الليث حرصاً على أن يقرع البيض الذكور
يبادر خرقها قبل اتساع لخطب منه تنخسف البدور
يوسع للذي يلقاه صدراً فقد ضاقت بما تلقى صدور
تنغصت الحياة فلا حياة وودع جيرة إذ لا مجير
فليل فيه هم مستكن ويوم فيه شر مستطير
ونرجو أن يتيح الله نصراً عليهم، إنه نعم النصير
نونية الرندي وشيء من شعره
ومن مشهور ما قيل في ذلك قول الأديب الشهير أبي البقاء صالح بن شريف الرندي رحمه الله تعالى (1) :
(1) هو صالح بن أبي الحسن يزيد بن صالح بن موسى بن أبي القاسم ابن علي بن شريف يكنى بأبي الطيب وأبي البقاء؛ كان فقيهاً حافظاً متفنناً في النثر والنظم؛ وله مقامات ومختصر في الفرائض وكتاب اسمه الوافي (أو الكافي) في نظم القوافي (منه عدة مخطوطات، إحداها بالرباط رقم ك: 1730) انظر ترجمته في الذيل والتكملة 4: 137 ومسالك الأبصار 11: 480 والإحاطة (المخطوطة المغربية: 179 ونسخة الإسكوريال رقم: 1683 ومجلة معهد الدراسات الإسلامية 6: 211) .
لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شان
يمزق الدهر حتماً كل سابغة إذا نبت مشرفيات وخرصان
وينتضي كل سيف للفناء ولو كان ابن ذي يزن والغمد غمدان
أين الملوك ذوو التيجان من يمن وأين منهم أكاليل وتيجان
وأين ما شاده شداد في إرم وأين ما ساسه في الفرس ساسان
وأين ما حازه قارون من ذهب وأين عاد وشداد وقحطان
أتى على الكل أمر لا مرد له حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
وصار ما كان من ملك ومن ملك كما حكى عن خيال الطيف وسنان
دار الزمان على دارا وقاتله وأم كسرى فما آواه إيوان
كأنما الصعب لم يسهل له سبب يوماً ولا ملك الدنيا سليمان
فجائع الدهر أنواع منوعة وللزمان مسرات وأحزان
وللحوادث سلوان يسهلها وما لما حل بالإسلام سلوان
دهى الجزيرة أمر لا عزاء له هوى له أحد وانهد ثهلان
أصابها العين في الإسلام فامتحنت حتى خلت منه أقطار وبلدان
فاسأل بلنسية ما شأن مرسية وأين شاطبة أم أين جيان
وأين قرطبة دار العلوم، فكم من عالم قد سما فيها له شان
وأين حمص وما تحويه من نزه ونهرها العذب فياض وملآن
قواعد كن أركان البلاد فما عسى البقاء إذا لم تبق أركان
تبكي الحنيفية البيضاء من أسف كما بكى لفراق الإلف هيمان
على ديار من الإسلام خالية قد أقفرت ولها بالكفر عمران
حيث المساجد قد صارت كنائس ما فيهن إلا نواقيس وصلبان
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة حتى المنابر ترثي وهي عيدان
يا غافلاً وله في الدهر موعظة إن كنت في سنة فالدهر يقظان
وماشياً مرحاً يلهيه موطنه أبعد حمص تغر المرء أوطان
تلك المصيبة أنست ما تقدمها وما لها مع طول الدهر نسيان
يا راكبين عتاق الخيل ضامرة كأنها في مجال السبق عقبان
وحاملين سيوف الهند مرهفة كأنها في ظلام النقع نيران
وراتعين وراء البحر في دعة لهم بأوطانهم عز وسلطان
أعندكم نبأ من أهل أندلس فقد سرى بحديث القوم ركبان
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قتلى وأسرى فما يهتز إنسان
ماذا التقاطع في الإسلام بينكم وأنتم يا عباد الله إخوان
ألا نفوس أبيات لها همم أما على الخير أنصار وأعوان
يا من لذلة قوم بعد عزهم أحال حالهم كفر وطغيان
بالأمس كانوا ملوكاً في منازلهم واليوم هم في بلاد الكفر عبدان
فلو تراهم حيارى لا دليل لهم عليهم من ثياب الذل ألوان
ولو رأيت بكاهم عند بيعهم لهالك الأمر واستهوتك أحزان
يا رب أم وطفل حيل بينهما كما تفرق أرواح وأبدان
وطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت كأنما هي ياقوت ومرجان
يقودها العلج للمكروه مكرهة والعين باكية والقلب حيران
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
انتهت القصيدة الفريدة، ويوجد بأيدي الناس زيادات فيها ذكر غرناطة وبسطة وغيرهما مما أخذ من البلاد بعد موت صالح بن شريف، وما اعتمدته منها نقلته من خط من يوثق به على ما كتبته، ومن له أدنى ذوق علم أن ما يزيدون فيها من الأبيات ليست تقاربها في البلاغة، وغالب ظني أن تلك الزيادة لما أخذت غرناطة وجميع بلاد الأندلس إذ كان أهلها يستنهضون همم الملوك
بالمشرق والمغرب، فكأن بعضهم لما أعجبته قصيدة صالح بن شريف زاد فيها تلك الزيادات، وقد بينت ذلك في " أزهار الرياض "(1) فليراجع.
وصالح بن شريف الرندي صاحب القصيدة من أشهر أدباء الأندلس، ومن بديع نظمه قوله (2) :
سلم على الحي بذات العرار وحي من أجل الحبيب الديار
وخل من لام على حبهم فما على العشاق في الذل عار
ولا تقصر في اغتنام المنى فما ليالي الأنس إلا قصار
وإنما العيش لمن رامه نفس تدارى وكؤوس تدار
وروحه الراح وريحانه في طيبه بالوصل أو بالعقار
لا صبر للشيء على ضده والخمر والهم كماء ونار
مدامة مدنية للمنى في رقة الدمع ولون النضار
مما أبو ريق أباريقها تنافست فيها النفوس الكبار
معلتي والبرء من علتي ما أطيب الخمرة لولا الخمار
ما أحسن النار التي شكلها كالماء لو كف شرار الشرار
وبي وإن عذبت في حبه ببعده على اقتراب المزار
ظبي غرير نام عن لوعتي ولا أذوق النوم إلا غرار
ذو وجنة كأنها روضة قد بهر الورد بها والبهار
رجعت للصبوة في حبه وطاعة اللهو وخلع العذار
يا قوم قولوا بذمام الهوى أهكذا يفعل حب الصغار
وليلة نبهت أجفانها والفجر قد فجر نهر النهار
والليل كالمهزوم يوم الوغى والشهب مثل الشهب عند الفرار
(1) أزهار الرياض 1: 47.
(2)
بعضها في الإحاطة: 186.
كأنما استخفى السها خيفة وطولب النجم بثار فثار
لذاك ما شابت نواصي الدجى وطارح النسر أخاه فطار
وفي الثريا قمر سافر عن غرة غير منها السفار
كأن عنقوداً تثنى به (1)
…
إذ صار كالعرجون عند السرار كأنها تسبك ديناره وكفها يفتل منه السوار
كأنما الظلماء مظلومة تحكم الفجر عليها فجار
كأنما الصبح لمشتاقه عز غنى من بعد ذل افتقار
كأنما الشمس وقد أشرقت وجه أبي عبد الإله استنار
محمد محمد كاسمه شخص له في كل معنى يشار
أما المعالي فهو قطب لها والقطب لا شك عليه المدار
مؤثل المجد صريح العلا مهذب الطبع كريم النجار
تزهى به لخم وساداتها وتنتمي قيس له في الفخار
يفيض من جود يديه على عافيه ما منه تحار البحار
اليمن من يمناه حكم جرى واليسر من شيمة تلك اليسار
أخ صفا منه لنا واحد فالدهر مما قد جنى في اعتذار
فإن شكرنا فضله مرة فقد سكرنا من نداه مرار
ونحن منه في جوار العلا تدور للسعد بنا منه دار
الحافظ الله وأسماؤه لذلك الجار وذاك الجوار
رسالة ابن عميرة إلى ابن الأبار في سقوط بلنسية
رجع - وقد رأيت أن أثبت هنا رسالة خاطب بها الكاتب البارع القاضي أبو المطرف ابن عميرة المخزومي الشيخ أبا عبد الله ابن الأبار، يذكر له
(1) الإحاطة: بها ماثل.
أخذ العدو مدينة بلنسية وهي (1) :
ألا فيئة للدهر تدنو بمن نأى وبقيا يرى منها خلاف الذي رأى
ويا من عذيري منه، يغدر من أوى
…
إليه ولا يدري سوى خلف من وأى (2) ذخائر ما في البر والبحر صيده فلا لؤلؤاً أبقى عليه ولا وأى
أيها الأخ الذي دهش ناظري لكتابه، بعد أن أدهش خاطري من إغبابه، وسرني من بشره إيماض، بعد أن ساءني من جهته إعراض، جرت على ذكره الصلة فقوم قدح نبعتها، وروى أكناف تلعتها، وأحدث ذكراً من عهدنا الماضي فنقط وجه عروسه، وشعشع خمر كؤوسه، وسقى بماء الشبيبة ثراه، وأبرز مثل مرآة الغريبة مرآه، فبورك فيه أحوذياً وصل رحمه، وكسا منظره من البهجة ما كان حرمه، وحيا الله تعالى منه ولياً على سالف عهدي تمادى، وبشعار ودي نادى، وبين الإحسان شيمته، وأبان والبيان لا تنجاب عنه ديمته، ولا تغلو بغير قلمه قيمته، واعتذر عن كلمة تمنى تبديلها، ودعوة ذكر وجوم النادي لها، ثم أرسلها ترجف بوادرها من خيفة، وتوغر بوغم (3) صدر قلم وصحيفة، وتنذر من ريحانه قريش أن تمنعه عرفها، وتحدق إليه طرفها، واتقى غارة على غرة، من الناجي برأس طمرة، ولم يأمن هجران المهاجر بعد وصله، وعكر عكرمة المغطي بحلمه على أبي جهله، وعند ذكر كتيبة خالد أجحم، وذكر يوم أحاطت به فارس فاستلحم، فاعتذر عما قال، وأضمر الحذر إلا أن يقال، فمهلاً أيها الموفي على علمه، النافث بسحر قلمه، أتظن منزلتك في البلاغة ومهيعها لاحب، ومنزعها بالعقول لاعب، تسفل وقد ترفعت، أو تخفى وإن تلفعت، عرفناك يا سودة، وشهرت حلة
(1) ورد بعض هذه الرسالة في الروض المعطار: 48.
(2)
وأي: وعد.
(3)
في الأصول: رغم؛ والوغم: الحقد والترة.
عطارد الملاحة والجودة، فلم حين تهيب الأخ الأوحد من قصي غطاريفها، ولو استثار من حفائظها تالدها وطريفها، لم يذكر يد قومه عند أبيها، وقد رام خطة أشرف على تأبيها، حين أهاب بكم لمهمه، ودعا منكم أخاه لأمه، ولولا ذلك لما خلا له وجه الكعبة، ولا خلص من تلك المضايق الصعبة، وبأن أعرتموه نجدتكم الموصوفة، غلب على ما كان بأيدي صوفة، فكيف نجحد اليد عند عمنا، أو نشحذ أسنة الألسنة لذمنا، أو كيف نلقاكم بجدنا، وأبوكم أبو بكر معدنا، وما تيامنكم إلى سبأ بن يشجب (1) ، وإن أطلنا فيه التعجب، بالذي يقطع أرحامنا، ويمنع اشتباكنا والتحامنا، بعد أن شددنا فعالنا بفعالكم، ورأينا أقدامنا في نعالكم، ولو شئتم توعدتم بأسود سؤددكم عند الإقدام، وإلحاح إلحافكم في ضرب الهام، لكن نقول إن قومنا لكرام، ولو شاءوا كان لنا منهم شرة وعرام.
وأعود من حيث بدأ الأخ الذي أبثه شوقي، وأتطعم حلاوة عشرته باقية في حاسة ذوقي، طارحني (2) حديث مورد جف، وقطين خف، فيا لله لأتراب درجوا، وأصحاب عن الأوطان خرجوا، قصت الأجنحة وقيل طيروا، وإنما هو القتل أو الأسر أو تسيروا، فتفرقوا أيدي سبا، وانتشروا ملء الوهاد والربى، ففي كل جانب عويل وزفرة، وبكل صدر غليل وحسرة، ولكل عين عبرة، لا ترقأ من أجلها عبرة، داء خامر بلادنا حين أتاها، وما زال بها حتى سجى على موتاها، وشجا ليومها الأطول كهلها وفتاها، وأنذر بها في القوم بحران أنيجة (3) ، يوم أثاروا أسدها المهيجة، فكانت تلك الحطمة طل الشؤبوب، وباكورة البلاء المصبوب، أثكلتنا إخواناً أبكانا نعيهم، ولله أحوذيهم
(1) بعد أن ألمع مآثر مخزوم وذكر بعض رجالها، عاد يتحدث عن قضاعة ومواقفها، ثم تحولها بنسبها إلى يمن.
(2)
من هنا في الروض المعطار.
(3)
يريد أن البحران (أي المرض) الذي أصاب أنيجة كان إنذاراً بما بعده من سقوط بلنسية.
وألمعيهم، ذاك أبو ربيعنا (1) ، وشيخ جميعنا، سعد بشهادة يومه، ولم ير ما يسوءه في أهله وقومه، وبعد ذلك أخذ من الأم بالمخنق، وهي بلنسية ذات الحسن والبهجة والرونق، وما لبث أن أخرس من مسجدها لسان الأذان، وأخرج من جسدها روح الإيمان، فبرح الخفاء، وقيل: على آثار من ذهب العفاء، وانعطفت النوائب مفردة ومركبة كما تعطف الفاء، فأودت الخفة والحصافة، وذهب الجسر والرصافة، ومزقت الحلة والثملة، وأوحشت الجرف والرملة، ونزلت بالحارة وقعة الحرة، وحصلت الكنيسة (2) من جآذرها وظبائها على طول الحسرة، فأين تلك الخمائل ونضرتها، والجداول وخضرتها، والأندية وأرجها، والأودية ومنعرجها، والنواسم وهبوب مبتلها، والأصائل وشحوب معتلها، دار ضاحكت الشمس بحرها وبحيرتها، وأزهار ترى من أدمع الطل في أعينها ترددها وحيرتها، ثم زحفت كتيبة الكفر بزرقها وشقرها، حتى أحاطت بجزيرة شقرها، فآهاً لمسقط الرأس هوى نجمه، ولفادح الخطب سرى كلمه، ويا لجنة أجرى الله تعالى النهر تحتها، وروضة أجاد أبو إسحاق (3) نعتها، وإنما كانت داره التي فيها دب، وعلى أوصاف محاسنها أكب، وفيها أتته منيته كما شاء وأحب، ولم تعدم بعده محبين قشيبهم إليها ساقوه، ودمعهم عليها أراقوه، وقد أثبت من النظم ما يليق بهذا الموضع، وإن لم يكن له ذلك الموقع:
أقلوا ملامي أو فقولوا وأكثروا ملومكم عما به ليس يقصر
وهل غير صب ماتني عبراته إذا صعدت أنفاسه تتحدر
يحن وما يجدي عليه حنينه إلى أربع معروفها متنكر
(1) هو أبو الربيع ابن سالم شيخ ابن الأبار الذي استشهد في أنيجة مقبلاً غير مدبر وهو يحض الناس على القتال، وقد طعن في السن.
(2)
يعدد أبو المطرف هنا المعالم البارزة في بلنسية.
(3)
يعني ابن خفاجة وهو بلدي أبي المطرف فهما من جزيرة شقر.
ويندب عهداً بالمشقر فاللوى وأين اللوى منه وأين المشقر
تغير ذاك العهد بعدي وأهله ومن ذا على الأيام لا يتغير
وأقفر رسم الدار إلا بقية لسائلها عن مثل حالي تخبر
فلم تبق إلا زفرة إثر زفرة ضلوعي لها تنقد أو تتفطر
وإلا اشتياق لا يزال يهزني فلا غاية تدنو ولا هو يفتر
أقول لساري البرق في جنح ليلة كلانا بها قد بات يبكي ويسهر
تعرض مجتازاً فكان مذكراً بعهد اللوى والشيء بالشيء يذكر
أتأوي لقلب مثل قلبك خافق ودمع سفوح مثل قطرك يقطر
وتحمل أنفاساً كومضك نارها إذا رفعت تبدو لمن يتنور
يقر بعيني أن أعاين من نأى لما أبصرته منك عيناي تبصر
وأن يتراءاك الخليط الذين هم بقلبي وإن غابوا عن العين حضر
كفى حزناً أنا كأهل محصب بكل طريق قد نفرنا وننفر
وأن كلينا من مشوق وشائق بنار اغتراب في حشاه تسعر
ألا ليت شعري والأماني ضلة وقولي ألا ليت شعري تحير
هل النهر عقد للجزيرة مثلما عهدنا وهل حصباؤه وهي جوهر
وهل للصبا ذيل عليه تجره فيزور عليه موجه المتكسر
وتلك المغاني هل عليها طلاوة بما راق منها أو بما رق تسحر
ملاعب أفراس الصبابة والصبا تروح إليها تارة وتبكر
وقبلي ذاك النهر كانت معاهد بها العيش مطلول الخميلة أخضر
بحيث بياض الصبح أزار جيبه تطيب وأردان النسيم تعطر
ليال بماء الورد ينضح ثوبها وطيب هواء فيه مسك وعنبر
وبالجبل الأدنى هناك خطى لنا إلى اللهو لا تكبو ولا تتعثر
جناب بأعلاه بهار ونرجس فأبيض مفتر الثنايا وأصفر
وموردنا في قلب قلت كمقلة حذاراً علينا من قذى العين تستر
وكم قد هبطنا القاع نذعر وحشه ويا حسنه مستقبلاً حين يذعر
نقود إليه طائعاً كل جارح له منخر رحب وخصر مضمر
إذا ما رميناه به عبثت به مؤللة الأطراف عنهن تكشر
تضم لأروى النيق حزان سهلها وقد فقدت فيها مهاة وجؤذر
كذاك إلى أن صاح بالقوم صائح وأنذر بالبين المشتت منذر
وفرقهم أيدي سبا وأصابهم على غرة منهم قضاء مقدر
ونعود إلى حيث كنا من تبدد شمل الجيرة، وطي بساط الجزيرة: أما شاطبة فكانت من قصبتها شوساء الطرف، وببطحائها عروساً في نهاية الظرف، فتخلى عن الذروة من أخلاها، وقيل الكافر: شأنك وأعلاها، فقبل أن تضع الحرب أوزارها، كشط عنها إزارها، فاستحل الحرمة أو تأولها، وما انتظر أقصر المدة ولا أطولها، وأما تدمير فجاد عودها على الهصر، وأمكنت عدوها من القصر، فداجى الكفر الإيمان، وناجى الناقوس الأذان، وما وراءها من الأصقاع التي باض الكفر فيها وفرخ، وأنزل بها ما أنسى التاريخ ومن أرخ، فوصفكم على الحادثة فيها أتى، وفي ضمان القدرة الانتصاف من عدو عثا وعتا، وإنا لنرجوها كرة تفك البلاد من أسرها، وتجبرها بعد كسرها، وإن كانت الدولة العامرية منعت بالقراع ذمارها، ورفعت على اليفاع نارها، فهذه العمرية بتلك المنقبة أخلق، والعدو لها أهيب ومنها أفرق، وما يستوي نسب مع البقل نبت، وبالمستفيض من النقل ما ثبت، وآخر علت سماؤه على اللمس، ورسا ركنه في الإسلام رسو قواعده الخمس، وكان كما قال أبو حنيفة في خبر المسح: جاءنا مثل الشمس، والأيام العمرية هي أم الوقائع المحكية، ومن شاء عدها من اليرموكية إلى الأركية، وهذه الأيام الزاهرة هي زبدة حلاوتها، وسجدة تلاوتها، وإمامتها العظمى أيدها الله تعالى، تمهل الكافر مدة إملائه، ثم تشفي الإسلام من دائه، وتطهر الأرض بنجس دمائه، بفضل الله تعالى، المرجو
زيادة نعمه قبلها وآلائه.
راجعت سيدي مؤدياً ما يجب أداؤه، ومقتدياً وما كل أحد يحسن اقتداؤه، وإنما ناضلت ثعلباً (1) ، وعهدي بالنضال قديم، وناظرت جدلياً، وما عندي للمقال تقديم، وأطعته في الجواب ولقريحتي يعلم الله تعالى نكول، ورويتي لولا حق المسألة بطير الحوادث المرسلة عصف مأكول، أتم الله تعالى عليه آلاءه، وحفظ مودته وولاءهن ومتع بخلته الكريمة أخلاءه، بمنه، والسلام؛ انتهت الرسالة.
ورأيت في رحلة ابن رشيد لما ذكر أبا المطرف ما صورته: وأما الكتابة فقد كان حامل لوائها، كما قال بعض أصحابنا: ألان الله تعالى له الكلام، كما ألان الحديد لداود عليه السلام، وأخبرني شيخنا أبو بكر أن شيخه أبا المطرف رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم، فأعطاه حزمة أقلام، وقال: استعن بهذه على كتابتك، أو كما قال صلى الله عليه وسلم؛ انتهى.
رسالة ابن الأبار التي أجاب أبو المطرف عنها
وبعد كتبي لهذه الرسالة رأيت أن أذكر رسالة الحافظ ابن الأبار التي هذه جواب عنها، وهي من غرض ما نحن فيه فلنقتبس نور البلاغة منها، وهي:
سيدي وإن وجم لها النادي، وجمجم بها المنادي، ذلك لصغرها عن كبره في المعارف الأعلام، وصدرها يوغر صدور الصحائف والأقلام، وأعيذ ريحانة قريش، أن تروح من حفيظتها في جيش، قد هابتها مغاوير كل حي، وأجابتها الغطاريف من قصي، تدلف بين يديها كتيبة خالد، وتحلف لا قدحت نار الهيجاء بزند صالد، أو تنصف من غامطها، وتقذف به وسط غطامطها (2) ،
(1) أي من بني ثعل وهم مضرب المثل في رمي السهام.
(2)
الغطامط: الموج المرتفع.
لا جرم أني من جريمتي حذر، وعما وضحت به قيمتي للمجد معتذر، إلا أن يصوح من الروض نبته وجناته، ويصرح بالقبول حلمه وأناته، الحديث عن القديم شجون، والشأن بتقاضي الغريم شؤون، فلا غرو أن أطارحه إياه، وأفاتحه الأمل في لقياه، ومن لي بمقالة مستقلة، أو إخالة غير مخلة، أبت البلاغة إلا عمادها، وعلى ذلك فاستنبئ عمادها: درجت اللدات والأتراب، وخرجت الروم بنا إلى حيث الأعراب، أيام دفعنا لأعظم الأخطار، وفجعنا بالأوطان والأوطار، فإلام نداري برح الألم، وحتام نساري النجم في الظلم، جمع أوصاب ما له من انفضاض، ومضض اغتراب شذ عن ابن مضاض (1) ، فلو سمع الأول بهذا الحادث، ما ضرب المثل بالحارث، يا لله من جلاء ليس به يدان، وثناء قلما يسفر عن تدان، وعد الجد العاثر لقاءه فأنجز، ورام الجلد الصابر انقضاءه فأعجز، هؤلاء الخوان، مكثهم لا يمتع به أوان، وبينهم كنبت الأرض ألوان، بين هائم بالسرى، ونائم في الثرى، من كل صنديد بطل، أو منطيق غير ذي خطإ ولا خطل، قامت عليه النوادب، لما قعدت النوائب، وهجمت بيوتها لمنعاه الجماجم والذوائب، وأما الأوطان المحبب عهدها بحكم الشباب، المشبب فيها بمحاسن الأحباب، فقد ودعنا معاهدها وداع الأبد، وأخنى عليها الذي أخنى على لبد، أسلمها الإسلام، وانتظمها الانتثار والاصطلام، حين وقعت أنسرها الطائرة، وطلعت أنحسها الغائرة، فغلب على الجذل الحزن، وذهب مع المسكن السكن:
كزعزع الريح صك الدوح عاصفها فلم يدع من جنى فيها ولا غصن
واهاً وآهاً يموت الصبر بينهما موت المحامد بين البخل والجبن
أين بلنسية ومغانيها، وأغاريد ورقها وأغانيها، أين حلى رصافتها
(1) يريد الحارث بن مضاض الجرهمي وله في تفرق جرهم قصيدة باكية؛ ولكن أين تفرق قومه مما حل ببلنسية
وجسرها، ومنزلا عطائها ونصرها أين أفياؤها تندى غضارة، وذكاؤها تبدو من خضارة أين جداولها الطفاحة وخمائلها أين جنائبها النفاحة وشمائلها شد ما عطل من قلائد أزهارها نحرها، وخلعت شعشعانية ضحاها بحيرتها وبحرها، فأية حلية لا حيلة في صرفها مع صرف الزمان، وهل كانت حتى بانت إلا رونق الحق وبشاشة الإيمان، ثم لم يلبث داء عقرها، أن دب إلى جزيرة شقرها، فأمر عذبها النمير، وذوى غصنها النضير، وخرست حمائم أدواحها، وركدت نواسم أرواحها، ومع ذلك اقتحمت من الأيام دانية، فنزحت قطوفها وهي دانية، ويا لشاطبة وبطحائها، من حيف الأيام وإنحائها، وا لهفاه ثم لهفاه على تدمير وتلاعها، وجيان وقلاعها، وقرطبة ونواديها، وحمص وواديها، كلها رعي كلؤها، ودهي بالتفريق والتمزيق ملؤها، عض الحصار أكثرها، وطمس الكفر عينها وأثرها، وتلك إلبيرة بصدد البوار، ورية في مثل حلقة السوار، ولا مرية في المرية وخفضها على الجوار، إلى بنيات، لواحق بالأمهات، ونواطق بهاك لأول هاتف بهات.
ما هذا النفخ بالمعمور أهو نفخ في الصور أم النفر عارياً من الحج المبرور وما لأندلس أصيبت بأشرافها، ونقصت من أطرافها قوض عن صوامعها الأذان، وصمت بالنواقيس فيها الآذان، أجنت ما لم تجن الأصقاع أعقت الحق فحاق بها الإيقاع كلا بل دانت للسنة، وكانت من البدع في أحصن جنة: هذه المروانية مع اشتداد أركانها، وامتداد سلطانها، ألقت حب آل النبوة في حبات القلوب، وألوت ما ظفرت من خلعه ولا قلعه بمطلوب، إلى المرابطة بأقاصي الثغور، والمحافظة على معالي الأمور، والركون إلى الهضبة المنيعة، والروض المريعة، من معاداة الشيعة، وموالاة الشريعة، فليت شعري بم استوثق تمحيصها ولم تعلق بعموم البلوى تخصيصها اللهم غفراً طالما ضر ضجر، ومن الأنباء ما فيه مزدجر، جرى بما لم نقدره المقدور، فما عسى أن ينفث به المصدور وربنا الحكيم العليم، فحسبنا
التفويض له والتسليم، ويا عجباً لبني الأصفر أنسيت مرج الصفر، ورميها يوم اليرموك بكل أغلب غضنفر دع ذا فالعهد به بعيد، ومن اتعظ بغيره فهو سعيد، هلا تذكرت العامرية وغزواتها، وهابت العمرية وهبواتها، أما الجزيرة بخيلها محدقة، وبأحاديث فتحها مصدقة، هذا الوقت المرتقب، والزمان الذي زجيت له الشهور والحقب، وهذه الإمامة أيدها الله تعالى هي المنقذة من أسرها، والمنفذة لسلطانهم مراسم نصرها، فيتاح الأخذ بالثار، ويزاح عن الجنة أهل النار، ويعلم الكافر لمن عقبى الدار.
حاورت سيدي بمثار الفاجي الفاجع، وحاولت برء الجوى من جوابه بالعلاج الناجع، وبودي لو تقع في الأرجاء مصاقبة، فترفع من الأرزاء معاقبة، أليس لدبه أسو المكلوم، وتدارك المظلوم وبيديه أزمة المنثور والمنظوم: خيال يختر () في إقناع إياد، وصوغ ما لم يخطر على قلب زيد ولا بخاطر زياد، بست الجبال الطوامح فما بست وأبو فتحها (1) ، وغيضت البحار الطوافح فمن يعبأ بالركايا ومتحها، أين أبو الفضل ابن العميد من العماد الفاضل، وصمصامة عمرو من قلمه الفاصل هذا مدرهها الذي فعل الأفاعيل، وأحمدها (2) الذي سما على إبراهيم وإسماعيل (3) ، وهما إماما الصناعة، وهماما البراعة واليراعة، بهما فخر من نطق بالضاد، وبسببها حسدت الحروف الصاد، لكن دفعهم بالراح، وأعرى مدرعهم من المراح، وشرف دونهم ضعيف القصب على صم الرماح، أبقاه الله تعالى وبيانه صادق الأنواء، وزمانه كاذب الأسواء، ولا زال مكانه مجاوزاً ذؤابة الجوزاء، وإحسانه مكافأ بأحسن الجزاء، والسلام.
(1) يشير إلى أبي الفتح البستي؛ وفي الأصول: " لما ".
(2)
أحدهما: هو أحمد بن عميرة المخزومي، يريد أنه تفوق في النثر على أولئك الأعلام.
(3)
إبراهيم هو الصابي أبو إسحاق، وإسماعيل هو الصاحب بن عباد.
فصول من درر السمط لابن الأبار
وقد عرفت بابن الأبار في " أزهار الرياض " بما لا مزيد عليه، غير أني رأيت هنا أن أذكر فصولاً مجموعة من كلامه في كتابه المسمى ب " درر السمط في خبر البسط ".
قال رحمه الله تعالى (1) : رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت، فروع النبوة والرسالة، وينابيع السماحة والبسالة، صفوة آل أبي طالب، وسراة (2) بني لؤي بن غالب الذين حباهم (3) الروح الأمين، وحلاهم الكتاب المبين، فقل في قوم شرعوا الدين القيم، ومنعوا اليتيم أن يقهر والأيم، ما قد من أديم آدم أطيب من أبيهم طينة، ولا أخذت الأرض أجمل من مساعيهم زينة، لولاهم ما عبد الرحمن، ولا عهد الإيمان، وعقد الأمان، ذؤابة غير أشابة، فضلهم ما شأنه نقص ولا شايه، سرارة محلتهم سر المطلوب، وقرارة محبتهم حبات القلوب، أذهب الله عنهم الرجس، وشرف بخلقهم الجنس، فإن تميزوا فبشريعتهم البيضاء، أو تحيزوا فلعشيرتهم الحمراء، من كل يعسوب الكتيبة، منسوب لنجيب ونجيبة، نجاره الكرم، وداره الحرم، نمته العرانين من هاشم إلى النسب الأصرح الأوضح (4) ، إلى نبعة فرعها في السماء ومغرسها سرة الأبطح، أولئك السادة أحيي وأفدي، والشهادة بحبهم أوفي وأودي، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه.
فصل (5) - ما كانت خديجة لتأتي بخداج (6) ، ولا الزهراء لتلد إلا أزاهر
(1) درر السمط: الورقة الأولى.
(2)
الدرر: وسرارة.
(3)
الدرر: حياهم.
(4)
الأوضح: سقطت من الدرر.
(5)
الدرر: 15.
(6)
الخداج: الناقص.
كالسراج، مثل النحلة لا تأكل إلا طيباً، ولا تضع إلا طيباً، خلدت بنت خويلد ليزكو عقبها من الحاشر العاقب (1) ، ويسمو مرقبها على النجم الثاقب، لم تخد بمثلها المهارى، ولم يلد له عيرها من المهارى، آمت من بعولتها قبلة، لتصل السعادة بحبلها حبله، ملاك العمل خواتمه، رب ربات حجال، أنفذ من فحول رجال:
وما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ
…
ولا التذكير فخرٌ للهلال (2) هذه خديجة من أخيها حزام أحزم، ولشعار الصدق من شعارات القص ألزم، ركنت إلى الركن الشديد، وسددت للهدى كما هديت للتسديد، يوم نبىء خاتم الأنبياء، وأنبىء بالنور المنزل عليه والضياء.
فصل (3) - وكان قبيل المبعث، وبين يدي لم الشعث، يثابر على كل حسنى وحسنة، ويجاور شهراً من كل سنة، يتحرى حراء بالتعهد، ويزجي تلك المدة في التعبد، وذلك الشهر المقصور على التبرر، المقدور فيه رفع التضرر، شهر رمضان، المنزل (4) فيه القرآن، فبيناه، لاينام قلبه وإن نامت عيناه، جاءه الملك مبشراً بالنجح، وقد كان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح، فغمره بالكلاءة، وأمره بالقراءة، وكلما تحبس له غطه ثم أرسله، وإذا أراد الله بعبد خيراً عسله:
تريدين إدراك المعالي رخيصة ولا بدّ دون الشهد من إبر النحل
كذلك حتى عاذ بالأرق من الفرق، وقد علق فاتحة العلق، فلا يجري
(1) الحاشر العاقب من أسماء الرسول (ص) .
(2)
من قصيدة المتنبي في رثاء أم سيف الدولة.
(3)
الدرر: 18.
(4)
الدرر: الذي أنزل.
غيرها على لسانه، وكأنما كتب في جنانه.
فصل (1) - ولما أصبح يؤم الأهل، وتوسط الجبل يريد السهل، وقد قضى الأجل، وما نضا الوجل، نوجي بما في الكتاب المسطور، ونودي كما نودي موسى من جانب الطور، فعرض له في طريقه، ما شغله عن فريقه، فرفع رأسه متأملاً، فأبصر الملك في صورة رجل متمثلاً يشرفه بالنداء، ويعرفه بالاجتباء، وإنما عضد خبر الليلة بعيان اليوم، وأري في اليقظة مصداق ما أسمع في النوم، ليحق الله الحق بكلماته، وعلى ما ورد في الأثر، وسرد رواة السير، فذلك اليوم كان عيد فطرنا الآن وغير بدع ولا بعيد، أن يبدأ الوحي بعيد كما ختم بعيد " اليوم أكملت لكم دينكم " المائدة:3 فبهت عليه السلام لما سمعه وراءه، وثبت لا يتقدم أمامه ولا يرجع وراءه:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي
…
متقدمٌ عنه ولا متأخر (2) ثم جعل في الخوف والرجاء (3) ، لايقلب وجهه في السماء، إلا تعرض له في تلك الصورة، وعرض عليه ما أعطاه الله سبحانه من السورة، فيقف موقف التوكل، ويمسك حتى عن التأمل (4) :
تتوق إليك النفس ثم أردها حياء، ومثلي بالحياء حقيق
أذود سوام (5) الطرف عنك، وما له
…
إلى أحد إلا إليك طريق فصل (6) - وفطنت خديجة لاحتباسه، فأمعنت في التماسه، تزوجوا الودود
(1) الدرر: 20.
(2)
البيت مغير القافية وصوابه " متأخر عنه ولا متقدم " وهو لأبي الشيص الخواعي. (الأغاني 15: 336 والشعر والشعراء: 722) .
(3)
الدرر: بين الرجاء والخوف.
(4)
الشعر للمجنون (ديوانه: 207) .
(5)
الديوان: أرد سواء.
(6)
الدرر: 24.
الولود، ولفورها بل لفوزها بعثت في طلبه رسلها، وانبعثت تأخذ عليه شعاب مكة وسبلها:
إن المحب إذا لم يستزر زارا
طال عليها الأمد، فطار إليها الكمد، والمحب حقيقة، من لايفيق فيقة، بالنفس النفيسة سماحه وجوده، وفي وجود المحبوب الأشرف وجوده (1) :
كأن بلاد الله ما لم تكن بها وإن كان فيها الخلق طراً بلا نقع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ويجمعني والهم بالليل حامع
نهاري نهار الناس حتى إذا دجا لي الليل هزتني إليك المضاجع
لقد ثبتت في القلب منك محبة كما ثبتت في الراحتين الأصابع
فصل (2) - وبعد لأي ما ورد عليها، وقعد مضيفاً إليها، فطفقت بحكم الإجلال تمسح أركانه، وتفسح مجال السؤال عما خلف له مكانه، فباح لها بالسر المغيب، وقد لاح وسم الكرامة على الطيب المطيب، فعلمت أنه الصادق المصدوق، وحكمت بأنه السابق لا المسبوق، اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، وما زالت حتى أزالت ما به من الغمة، وقالت: إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة:
إني تفرست فيك الخير أعرفه والله يعلم أن ما خانني البصر
أنت النبي ومن يحرم شفاعته يوم الحساب فقد أزرى به القدر
لا ترهب فسوف تبهر، وسيبدو أمر الله تعالى ويظهر، أنت الذي سجعت به الكهان، ونزلت له من صوامعها الرهبان، وسارت بخبر كرامته الركبان، أنت الذي ما حملت أخف منه حامل، ودرت ببركته الشاة فإذا هي حافل:
(1) ينسب الشعر للمجنون (ديوانه: 185) كما ينسب لابن الدمينة (ديوانه: 88) .
(2)
الدرر: 26.
وأنت لما ولدت أشرقت ال أرض وضاءت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء وفي النو ر وسبل الرشاد تخترق
فصل (1) - وما لبثت أن غلقت أبوابها، وجمعت عليها أثوابها، وانطلقت إلى ورقة بن نوفل، تطلبه بتفسير ذلك المجمل، وكان يرجع إلى عقل حصيف، ويبحث عمن يبعث بالدين الحنيف، فاستبشر به ناموسا، وأخبر أنه الذي كان يأتي موسى، فازدادت إيماناً، وأقامت على ذلك زماناً، ثم رأت أن خبر الواحد قد يلحقه التنفيذ، ودرت أن المجتهد لايجوز له التقليد، طلب العلم فريضة على كل مسلم، فرجعت أدراجها في ارتياد الإقناع، وألقي في روعها إلقاء الخمار والقناع، فهناك وضح لها البرهان، وصح لها (2) أن الآتي ملك لا شيطان:
تدلى عليه الروح من عند ربه ينزل من جو السماء ويرفع
نشاوره فيما نريد وقصدنا إذا ما اشتهى أنا نطيع ونسمع
فصل (3) - سبقت لها من الله تعالى الحسنى، فصنعت حسناً وقالت حسنا، ومن يؤمن بالله يهد قلبه، ما فتر الوحي بعدها، ولا مطل الحق الحي وعدها، وعد الله لا يخلف الله وعده، دانت لحي ذي الإسلام (4) ، فحياها الملك بالسلام من الملك السلام، من كان لله كان الله له، أغنت غناء الأبطال، فغناها (5) لسان الحال:
هل تذكرين فدتك النفس مجلسنا يوم التقينا فلم أنطق من الحصر
(1) الدرر: 30.
(2)
الدرر: لديها.
(3)
الدرر: 32.
(4)
الدرر: دانت بالحق دين الإسلام.
(5)
الدرر: فغنتها.
لا أرفع الطرف حولي من مراقبة بقياً علي، وبعض الحزم في الحذر
يسرت لاحتمال الأذى والنصب، فبشرت ببيت في الجنة من قصب، هل أمنت (1) إذ آمنت من الرعب، حتى غنيت عن الشبع بما في الشعب:
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله
…
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا (2) واهاً لها احتملت عض الحصار، وما أطاقت فقد المختار:
يطول اليوم لا ألقاك فيه
…
وشهر (3) نلتقي فيه قصير (4) والحبيب سمع المحب وبصره، وله طول محياه وقصره:
أنت كل الناس عندي فإذا غبت عن عيني لم ألق أحد
مكثت للرياسة (5) مواسية وآسية، فثلثت في بحبوحة الجنة مريم وآسية، ثم ربعت البتول فبرعت، نطقت بذلك الآثار وصدعت، خير نساء العالمين أربع.
فصل (6) - إلى البتول سير بالشرف التالد، وسيق الفخر بالأم الكريمة والوالد، حلت في الجيل الجيل، وتحلت بالمجد الأثيل، ثم تولت إلى الظل الظليل:
وليس يصح في الأفهام شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
وأبيها إن أم أبيها، لاتجد لها شبيها، نثرة النبي، وطلة الوصي، وذات
(1) الدرر: ما أمنت.
(2)
الشعر في أمالي القالي (1: 112) لبعض العرب.
(3)
الدرر: وحول.
(4)
البيت لجميل بثينة في ديوانه: 99 وأمالي القالي 1: 202 والزهرة: 60 وروايته: يطول اليوم إن شحطت نواها، وحلو
…
الخ.
(5)
الدرر: للرسالة.
(6)
الدرر: 37.
الشرف المستولي على الأمد القصي، كل ولد الرسول درج في حياته، وحملت هي ما حملت من آياته، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، لا فرع للشجرة المباركة من سواها، فهل جدوى أوفر من جدواها، والله أعلم حيث يجعل رسالاته، حفت بالتطهير والتكريم، وزفت إلى الكفؤ الكريم، فوردا صفو العارفة والمنة، وولدا سيدي شباب أهل الجنة، عرضت من الأمتعة الفاخرة، بسيدي الدنيا (1) والآخرة، ما أثقلنحوها طهراً، ولا بذل غير درعه مهراً، كان صفر اليدين من البيضاء والصفراء، وبحالة لا حيلة معها في إهداء الحلة السيراء، فصاهره الشارع وخالله، وقال في بعض صعلوك لا مال له، نرفع درجات من نشاء.
فصل:
أتنهب الأيام أفلاذ أحمد
…
وأفلاذ من عاداهم تتعدد (2) ويضحى ويظما أحمد وبناته وبنت زياد وردها لا يصرد
أفي دينه في أمنه في بلاده
…
تضيق عليهم فسحة تتورد (3) وما الدين إلا دين جدهم الذي به أصدروا في العالمين وأوردوا
انتهى ما سنح لي ذكره من " دررالسمط " وهو كتاب غاية في بابه، ولم أورد منه غير ما ذكرته، لأن في الباقي ما تشم منه رائحة التشيع، والله سبحانه يسامحه بمنه وكرمه.
رجع إلى ما كنا بسبيله، فنقول: قد ذكرنا في الباب الثاني رسالة أبي المطرف ابن عميرة إلى أبي جعفر ابن أمية (4) ، وهي مشتملة على التلهف على الجزيرة الأندلسية، حين أخذ العدو بلنسية، وظهرت له مخايل الاستيلاء على ما بقي
(1) الدرر: بسيد في الدنيا.
(2)
صرح باسمه في الدرر - وهو معاوية - ولعل المقري كنى عنه تقوى وورعاً.
(3)
في الأصول: تتودد، وصوبناه عن الدرر.
(4)
انظر الجزء الأول من النفح ص: 305.
من الأندلس، فراجعها فيما سبق، وإن كان التناسب التام في ذكرها هنا فالمناسبة هناك حاصلة أيضاً، والله سبحانه الموفق. وذكرنا هنالك أيضاً جملة غيرها من كلامه - رحمه الله تعالى - تتعلق بهذا المعنى وغيره، فلتراجع ثمة.
نهاية الأندلس كما يصورها كتاب " جنة الرضى " لابن عاصم
ورأيت أن أثبت هنا ما رأيته بخط الأديب الكاتب الحافظ المؤرخ أبي عبد الله محمد بن الحداد الوادي آشي نزيل تلمسان رحمه الله تعالى ما صورته (1) :
حدثني الفقيه العدل سيدي حسن ابن القائد الزعيم الأفضل سيدي إبراهيم العراف أنه حضر مرة لإنزال الطلسم المعروف بفروج الرواح من العلية بالقصبة القديمة من غرناطة بسبب البناء والإصلاح، وأنه عاينه من سبعة معادن مكتوباً فيه:
إيوان غرناطة الغراء معتبرٌ طلسمهبولاة الحال دوار
وفارس روحه ريحٌ تدبره من الجماد، ولكن فيه أسرار
فسوف يبقى قليلاً ثم تطرقه دهياء يخرب منها الملك والدار
وقد صدق قائل هذه الأبيات، فإنه طرقت الدهياء ذلك القطر الذي ليس له في الحسن مثال، ونسل الخطب إليه من كل حدب وانثال، وكل ذلك من اختلاف رؤسائه وكبرائه، ومقدميه وقضاته وأمرائه ووزرائه، فكل يروم الرياسة لنفسه، ويجر نارها لقرصه، والنصارى - لعنهم الله تعالى - يضربون بينهم بالخداع والمكر والكيد، ويضربون عمراً منهم بزيد، حتى تمكنوا من أخذ البلاد، والاستيلاء على الطارف والتلاد. قال الرائس القاضي العلامة الكاتب الوزير أبو يحيى ابن عاصم رحمه الله تعالى في كتابه " جنة الرضى في التسليم
(1) انظر هذا الخبر والشعر عن الطلسم في أزهار الرياض 3: 314.
لما قدر الله تعالى وقضى " ما صورة محل الحاجة منه (1) : ومن استقرأ التواريخ المنصوصة، علم أن النصارى - دمرهم الله تعالى - لم يدركوا في المسلمين ثاراً، ولم يرحضوا عن أنفسهم عاراً، ولم يخربوا من الجزيرة منازل ودياراً، ولم يستولوا عليها بلاداً جامعة وأمصاراً، إلا بعد تمكينهم لأسباب الخلاف، واجتهادهم في وقوع الافتراق بين المسلمين والاختلاف، وتضريبهم بالمكر والخديعة بين ملوك الجزيرة، وتحريشهم بالكيد والخلابة بين حماتها في الفتن المبيرة، ومهما كانت الكلمة مؤتلفة، والآراء لا مفترقة ولا مختلفة، والعلماء بمعاناة اتفاق القلوب إلى الله مزدلفة، فالحرب إذ ذاك سجال، ولله تعالى في إقامة الجهاد في سبيله رجال، وللممانعة في غرض المدافعة ميدان رحب ومجال، وروية وارتجال.
إلى أن قال: وتطاولت الأيام ما بين مهادنة ومقاطعة، ومضاربة ومقارعة، ومنازلة ومنازعة، وموافقة وممانعة، ومحاربة وموادعة، ولا أمل للطاغية إلا في التمرس بالإسلام والمسلمين، وإعمال الحيلة على المؤمنين، وإضمار المكيدة للموحدين، واستبطان الخديعة للمجاهدين، وهو يظهر أنه ساعٍ للوطن في العاقبة الحسنى، وأنه منطوٍ لأهله على المقصد الأسنى، ومهتم بمراعاة أمورهم، وناظر بنظر المصلحة لخاصتهم وجمهورهم، وهو يسر حسواً في ارتغائه، ويعمل الحيلة في التماس هلك الوطن وابتغائه، فتباً لعقول تقبل مثل هذا المحال، وتصدق هذا الكذب بوجهٍ أو بحال، وليت المغرور لو يقبل هذا لو فكر في نفسه، وعرض هذا المسموع على مدركات حسه، وراجع أوليات عقله وتجريبات حدسه، وقاس عدوه التي لا ترجى مودته على أبناء جنسه، فأنا أناشده الله عل بات قط بمصالح النصارى وسلطانهم مهتماً، وأصبح من خطبٍ طرقهم مغتماً، ونظر لهم نظر المفكر في العاقبة الحسنة، أو قصد لخم قصد المدبر
(1) من هنا يشترك النفح مع أزهار الرياض 1: 50 - 55 في النقل عن كتاب ابن عاصم.
في المعيشة المستحسنة، أو خطر على قلبه أن يحفظ في سبيل القربة أربابهم وصلبانهم، أو عمر ضميره من تمكين عزمهم بما ترضاه أحبارهم ورهبانهم، فإن لم يكن ممن يدين بدينهم الخبيث، ولم يشرب قبله حب التثليث، ويكون صادق اللهجة، منصفاً عند قيام الحجة، فسيعترف أن ذلك لم يخطر له قط على خاطر ولا مر له ببال، وأن عكس ذلك هو الذي كان به ذا اغتباط وبفعله ذا اهتبال، وإن نسب لذلك المعنى فهو عليه أثقل من الجبال، وأشد على قلبه من وقع النبال، هذا وعقده التوحيد، وصلاته التحميد، وملته الغراء، وشريعته البيضاء، ودينه الحنيف القويم، ونبيه الرؤوف الرحيم، وكتابه القرآن الحكيم، ومطلوبه بالهداية الصراط المستقيم، فكيف نعتقد هذه المريبة الكبرى، والمنقبة الشهرى، لمن عقده التثليث، ودينه المليث، ومعبوده الصليب، وتسميته التصليب، وملته المنسوخة، وقضيته المفسوخة، وختانه التغطيس، وغافر ذنبه القسيس، وربه عيسى المسيح، ونظره ليس البين ولا الصحيح، وأن ذلك الرب قد ضرج بالدماء، وسقي الخل عوض الماء، وأن اليهود قتلته مصلوباً، وأدركته مطلوباً، وقهرته مغلوباً، وأنه جزع من الموت وخاف، إلى سوى ذلك مما يناسب هذه الأقاويل السخاف، فكيف يرجى من هؤلاء الكفرة، من الخير مقدار الذرة، أو يطمع منهم في جلب المنفعة أو دفع المضرة اللهم احفظ علينا العقل والدين، واسلك بنا سبيل المهتدين.
ثم قال بعد كلام ما صورته: كانت خزانة هذه الدار النصرية مشتملة على كل نفيسة من الياقوت، ويتيمة من الجوهر، وفريدة من الزمرد، وثمينة من الفيروزج، وعلى كل واقٍ من الدروع، وحامٍ من العدة، وماضٍ من الأسلحة، وفاخر من الآلة، ونادر من الأمتعة، فمن عقود فذة، وسلوك جمة، وأقراط تفضل على قرطي مارية نفاسةً فائقة وحسناً رائقاً، ومن سيوف شواذ في الإبداع غرائب في الإعجاب، منسوبات الصفائح في الطبع، خالصات الحلى من التبر، ومن دروع مقدرة السرد متلاحمة النسج، واقية للناس في يوم
الحرب، مشهورة النسبة إلى داوود نبي الله، ومن جواشن سابغة اللبسة، ذهبية الحلية، هندية الضرب، ديباجية الثوب، ومن بياضات عسجدية الطرق، جوهرية التنضيد، وزبرجدية التقسيم، ياقوتية المركز، ومن نطاق لجينية الصوغ، عريضة الشكل، مزججة الصفح، ومن درق لمطية، مصمتة المسام، لينة المجسة، معروفة المنعة، صافية الأديم، ومن قسي ناصعة الصبغة، هلالية الخلقة، منعطفة الجوانب، زارية بالحواجب، إلى آلات فاخرة من أتوار (1) نحاسية، ومنابر بلورية، وطيافير (2) دمشقية، وسبحات زجاجية، وصحاف صينية، وأكواب عراقية، وأقداح طباشيرية، وسوى ذلك مما لا يحيط به الوصف، ولا يستوفيه العد، وكل ذلك التهبه شواظ الفتنة، والتقمه تيار الخلاف والفرقة، فرزئت الدار منه بما يتعذر إتيان الدهور بمثله، وتقصر ديار الملوك المؤثلة النعمة عن بعضه فضلاً عن كله؛ انتهى كلامه رحمه الله تعالى (3) .
ولما أخذت قواعد الأندلس مثل قرطبة وإشبيلية وطليطلة ومرسية وغيرها انحاز أهل الإسلام إلى غرناطة والمرية ومالقة ونحوها، وضاق الملك بعد اتساعه، وصار تنين العدو يلتقم كل وقت بلداً أو حصناً، ويهصر من دوح تلك البلاد غصناً، وملك هذا النزر اليسير الباقي من الجزيرة ملوك بني الأحمر، فلم يزالوا مع العدو في تعب وممارسة كما ذكره ابن عاصم قريباً، وربما أثخنوا في الكفار كما علم في أخبارهم، وانتصروا بملوك فاس بني مرين، في بعض الأحايين.
ولما قصد ملوك الإفرنج السبعة في المائة الثامنة غرناطة ليأخذوها اتفق أهلها على أن يبعثوا لصاحب المغرب من بني مرين يستنجدونه، وعينوا للرسالة الشيخ
(1) ص ق: أتاور؛ والأتوار: الآتية، والمفرد تور.
(2)
الطيافير: أطباق مستديرة عميقة قاعها مستو وحافاتها مرتفعة.
(3)
إلى هنا وقف النقل في أزهار الرياض.
أبا إسحاق ابن أبي العاصي والشيخ أبا عبد الله الطنجالي والشيخ ابن الزيات البلشي نفع الله تعالى بهم؛ ثم بعد سفرهم نازل الإفرنج غرناطة بخمسة وثلاثين ألف فارس ونحو مائة ألف راجل مقاتل، ولم يوافقهم سلطان المغرب، فقضى الله تعالى ببركة المشايخ الثلاثة أن كسر النصارى في الساعة التي كسر خواطرهم فيها صاحب المغرب، وظهرت في ذلك كرامة لسيدي أبي عبد الله الطنجالي رحمه الله تعالى.
ثم إن بني الأحمر ملوك الأندلس الباقية بعد استيلاء الكفار على الجل كانوا في جهاد وجلاد في غالب أوقاتهم، ولم يزل ذلك شأنهم حتى أدرك دولتهم الهرم الذي يلحق الدول، فلما كان زمان السلطان أبي الحسن علي بن سعد النصري الغالبي الأحمري، واجتمعت الكلمة عليه بعد أن كان أخوه أبو عبد الله محمد بن سعد المدعو بالزغل قد بويع بمالقة، بعد أن جاء به القواد من عند النصارى وبقي بمالقة برهة من الزمن، ثم ذهب إلى أخيه، وبقي من بمالقة من اقواد والؤساء فوضى، وآل الحال إلى أن قامت مالقة بدعوة السلطان أبي الحسن، وانقضت الفتنة.
واستقل السلطان أبو الحسن بملك ما بقي بيد المسلمين من بلاد الأندلس، وجاهد المشركين، وافتتح عدة أماكن، ولاحت له بارقة الكرة على العدو الكافر، وخافوه، وطلبوا هدنته، وكثرت جيوشه، فأجمع على عرضها كلها بين يديه، وأعد لذلك مجلساً أقيم له بناؤه خارج الحمراء قلعة غرناطة، وكان ابتداء هذا العرض يوم الثلاثاء تاسع عشر ذي الحجة عام اثنين وثمانين وثمانمائة، ولم تزل الجنود تعرض عليه كل يوم إلى الثاني والعشرين من محرم السنة التي تليها، وهو يوم ختام العرض، وكان معظم المتنزهين والمتفرجين بالسبيكة وما قارب ذلك، فبعث الله تعالى سيلاً عارماً على وادي حدره بحجارة وماء غزير كأفواه القرب، عقاباً من الله سبحانه وتأديباً لهم لمجاهرتهم بالفسق والمنكر، واحتمل الوادي ما على حافتيه من المدينة من حوانيت ودور ومعاصر وفنادق وأسواق وقناطر وحدائق، وبلغ تيار السيل إلى رحبة الجامع الأعظم
ولم يسمع بمثل هذا السيل في تلك البلاد.
وكان بين رؤساء الإفرنج في ذلك الوقت اختلاف، فبعضهم استقل بملك قرطبة، وبعض بإشبيلية، وبعض بشريش، وعل ذلك كان صاحب غرناطة السلطان أبو الحسن قد استرسل في اللذات، وركن إلى الراحات، وأضاع الأجناد، وأسند الأمر إلى بعض وزرائه، واحتجب عن الناس، ورفض الجهاد والنظر في الملك، ليقضي الله تعالى ما شاء، وكثرت المغارم والمظالم، فأنكر الخاصة والعامة ذلك منه، وكان أيضاً قد قتل كبار القواد وهو يظن أن النصارى لا يغزون بعد البلاد، ولا تنقضي بينهم الفتنة ولا ينقطع الفساد.
وافق أن صاحب قشتالة تغلب على بلادها بعد حروب، وانقاد له رؤساء الشرك المخالفون، ووجدت النصارى السبيل إلى الإفساد، والطريق إلى الاستيلاء على البلاد، وذلك أنه كان للسلطان أبي الحسن ولدان محمد ويوسف وهما من بنت عمه السلطان أبي عبد الله الأيسر، وكان قد اصطفى على أمهما رومية كان لها منه بعض ذرية، وكانت حظية عنده مقدمة في كل قضية، فخيف أن يقدم أولاد الرومية، على أولاد بنت عمه السنية، وحدث بين خدام الدولة التنافر والتعصب، لميل بعضهم إلى أولاد الحرة، وبعض إلى أولاد الرومية، وكان النصارى أيام الفتنة بينهم هادنوا السلطان لأمدٍ حددوه وضربوه، ولما تم أمد الصلح وافق وقته هذا الشأن بين أولياء الدولة بسبب الأولاد، وتشكى الناس مع ذلك بالوزير والعمال لسوء ما عاملوا به الناس من الحيف والجور، فلم يصغ غليهم، وكثر الخلاف واشتد الخطب، وطلب الناس تأخير الوزير، وتفاقم المر، وصح عند النصارى - لعنهم الله تعالى - ضعف الدولة واختلاف القلوب فبادروا إلى الحامة (1) فأخذوها غدراً آخر أيام الصلح على يد صاحب قادس سنة سبع وثمانين وثمانمائة، وغدوا للقلعة، وتحصنوا بها، ثم شرعوا في أخذ البلد، فملأوا الطرق خيلاً ورجالاً، وبذلوا السيف فيمن ظهر من المسلمين، ونهبوا
(1) ص ق: الحمة.
الحريم، والناس في غفلة نيام من غير استعداد كالسكارى، فقتل من قضى الله تعالى بتمام أجله، وهرب البعض وترك أولاده وحريمه، واحتوى العدو على البلد بما فيه، وخرج العامة والخاصة من أهل غرناطة عندما بلغهم العلم، وكان النصارى عشرة آلاف بين ماشٍ وفارس، وكانوا عازمين على الخروج بما غنموه، وإذا بالسرعان من أهل غرناطة وصلوا، فرجع العدو إلى البلد، فحاصرهم المسلون، وشددوا في ذلك، ثم تكاثر المسلمون خيلاً ورجالاً من جميع بلاد الأندلس، ونازلوا الحامة، وطمعوا في منع الماء عن العدو، وتبين للعامة أن الجند لمينصحوا، فأطلقوا ألسنتهم بأقبح الكلام فيهم وفي الوزير، وبينما هم كذلك إذا بالنذير جاء أن النصاى أقبلوا في جمع عظيم لإغاثة من بالحامة من النصارى، فأقلع جند المسلمين من الحامة، وقصدوا ملاقاة الواردين من بلاد العدو، ولما علم بهم العدو ولوا الأدبار من غير ملاقاة محتجين بقتلهم، وكان رئيسهم صاحب قرطبة.
ثم إن صاحب إشبيلية جمع جنداً عظيماً من جيش النصارى الفرسان والرجالة، وأتى لنصره من في الحامة من النصارى، وعندما صح هذا عند العسكر اجتمعوا، وأشاعوا عند الناس أنهم خرجوا بغير زاد ولا استعداد، والصلاح الرجوع إلى غرناطة، ليستعد الناس ويأخذوا ما يحتاج إليه الحصار من العدة والعدد، فعندما أقلع المسلمون عنها دخلتها النصارى الواردون، وتشاوروا في إخلائها أو سكناها، واتفقوا على الإقامة بها، وحصنوها، وجعلوا فيها جميع ما يحتاج إليه، وانصرف صاحب إشبيلية، وترك أجناده، وفرق فيهم الأموال، ثم عاد المسلمون لحصارها، وضيقوا عليها، وطمعوا فيها من جهة موضع كان النصارى في غفلة عنه، ودخل على النصارى جملة وافرة من المسلمين، وخاب السعد بذلك بأن شعر بهم النصارى، فعادوا عليهم، وتردى بعضهم من أعلى الجبل، وقتل أكثرهم، وكانوا من أهل بسطة ووادي آش، فانقطع أمل الناس من الحامة، ووقع الإياس من ردها.
وفي جمادى الأولى من السنة تواترت الأخبار أن صاحب قشتالة أتى في جنود لا تحصى ولا تحصر، فاجتمع الناس بغرناطة، وتكلموا في ذلك، وإذا به قصد لوشة ونازلها قصداً أن يضيفها إلى الحامة، وجاء بالعدة والعدد، وأغارت على النصارى جملة من المسلمين، فقتلوا من لحقوه، وأخذوا جملة من المافع الكبار، ثم جاءت جماعة أخرى من أهل غرناطة، وناوشوا النصارى، فألجؤوهم إلى الخروج عن الخيام، وأخذوها وغيرها، فهرب النصارى، وتركوا طعاماً كثيراً وآلة ثقيلة، وذلك في السابع والعشرين من جمادى الأولى من السنة المذكورة.
وفي هذا اليوم بعينه هرب الأميران أبو عبد الله محمد وأبو الحجاج يوسف خوفاً من أبيهما أن يفتك بهما بإشارة حظيته الرومية ثريا، واستقرا بوادي آش، وقامت بدعوتهما، ثم بايعتهما تلك المرية وبسطة وغرناطة، وهرب أبوهما السلطان أبو الحسن إلى مالقة.
وفي صفر سنة ثمان وثمانين وثمانمائة اجتمع جميه رؤساء النصارى، وقصدوا قرى مالقة وبلش، في نحو الثمانية آلاف، وفيهم صاحب إشبيلية وصاحب شريش وصاحب إستجة وصاحب أنتقيرة وغيرهم، فلم يتمكنوا من أخذ حصن، ونشبوا في أوعار ومضايق وخنادق وجبال، واجتمع عليهم أهل بلش ومالقة، وصار المسلمون ينالون منهم في كل محل، حتى بلغوا مالقة، ففر كبيرهم، ومن بقي أسر أو قتل، وكان السلطان أبو الحسن في ذلك الوقت قد تحرك لنواحي المنكب، وبقي أخوه أبو عبد الله بمالقة ومعه بعض الجند، وقتل من النصارى في هذه الوقعة نحو ثلاثة آلاف، وأسر نحو ألفين، ومن جملتها خال السلطان وصاحب إشبيلية وصاحب شريش وصاحب أنتقيرة وغيرهم، وهم نحو الثلاثين من الأكابر، وغنم المسلمون غنيمة وافرة من الأنفس والأموال والعدة والذهب والفضة، وبعقب ذلك سافر أهل مالقة لبلاد النصارى، فكسوا هنالك كسرة شنيعة قتل فيها أكثر قواد غرب الأندلس.
ولما استقر السلطان أبو عبد الله ابن السلطان أبي الحسن بغرناطة وطاعت له البلاد غير مالقة والغربية تحرك السلطان أبو الحسن على المنكب ونواحيها، وأتى ابنه السلطان أبو عبد الله في جند غرناطة والجهة الشرقية، والتقوا في موضع يعرف بالدب، فكسر السلطان أبو عبد الله.
ولما سمع السلطان أبو عبد الله صاحب غرناطة بأن عمه بمالقة غنم من النصارى أعمل السفر للغزو بأهل بلاده من غرناطة والشرقية، وذلك في ربيع الأول من السنة، إلى أن بلغ نواحي لشانة، وقتل وأسر وغنم، فتجمعت عليه النصارى من جميع تلك النواحي ومعه كبير قبرة، وحالوا بين المسلمين وبلادهم في جبال وأوعار، فانكسر الجند، وأسر من الناس كثير وقتل آخرون، وكان في جملة من أسر السلطان أبو عبد الله، ولم يعرف، ثم علم به صاحب لشانة، وأراد صاحب قبرة أن يأخذ منه، فهرب به ليلاً، وبلغه إلى صاحب قشتالة، ونال بذلك عنده رفعة على جميع القواد، وتفاءل به، فقلما توجه لجهةٍ أو بعث سريةً إلا وبعثه فيها.
ولما أسر السلطان أبو عبد الله اجتمع كبراء غرناطة وأعيان الأندلس، وذهبوا به لغرناطة، وبايعوه، مع أنه كان أصابه مثل الصرع إلى أن ذهب بصره، وأصابه ضرر، ولما تعذر أمره قدم أخاه أبا عبد الله، وخلع له نفسه، ونزل بالمنكب، فأقام بها إلى أن مات، واستقل أخوه أبو عبد الله المعروف بالزغل بالملك بعده. وأما عبد الله ابن السلطان أبي الحسن فهو في أسر العدو.
وفي شهر ربيع الآخر من سنة تسعين وثمانمائة خرج العدو في قوة إلى نواحي مالقة، بعد أن كان في السنة قبلها استولى على حصون، فاستولى هذه السنة على بعض الحصون، وقصد ذكوان، فهد أسوارها، وكان جملة من أهل الغربية ورندة، ودخل ألف مدرع ذكوان عنوة، فأظفر الله تعالى بهم أهل ذكوان، فقتلوهم جميعاً، ثم طلبوا الأمان وخرجوا.
ثم انتقل في جمادى الأولى إلى رندة وحاصرها، وكان أهلها خرجوا إلى نصرة ذكوان وسواها، فحاصر رندة وهد أسوارها، وخرج أهلها على الأمان، وطاعت له جميع تلك البلاد، ولم يبق بغربي مالقة إلا من دخل في طاعة الكافر وتحت ذمته، وضيق بمالقة، وفرق حصصه على بعض الحصون ليحاصروا مالقة، وعاد إلى بلاده.
وفي تاسع عشر شعبان من العام سافر صاحب غرناطة لتحصين بعض البلاد، وبينما هو كذلك إذا بالخبر جاءه أن محلة العدو خارجة لذلك الحصن.
وفي صبيحة الثاني والعشرين من شعبان أصبحت جنود النصارى على الحصن، كانوا قد سروا إليه ليلاً، وأصبحوا عند الفجر مع جند المسلمين، فقاتلهم المسلمون من غير تعبية، فاختل نظام المسلمين، ووصل النصارى إلى خباء السلطان، ثم التحم القتال واشتد، وقوى الله تعالى المسلمين فهزموا النصارى شر هزيمة، وقتل منهم خلائق، وقصر المسلمون خوفاً من محلة السلطان النصارى إذ كانت قادمة في أثر هذه، ولما رجعت إليهم الفلول رجعوا القهقرى، واستولى المسلمون على غنائم كثيرة وآلات، وجعلوا ذلك كله بالحصن، ولم يحدث شيء بعد إلى رمضان، فتوجه الكافر إلى حصن قنبيل ونازله وهد أسواره، ولم رأى المسلمون أن الحصن قد دخل طلبوا الأمان، وخرجوا بأموالهم وأولادهم مؤمنين، وفر الناس من تلك المواضع مع البراجلة هاربين، واستولى العدو على عدة حصون مثل مشاقر وحصن اللوز، وضيق العدو بجميع بلاد المسلمين، ولم يتوجه إلى ناحية إلا استأصلها، ولا قصد جهة إلا أطاعته وحصلها، ثم إن العدو دبر الحيلة مع ما هو عليه من القوة، فبعث إلى السلطان أبي عبد الله الذي تحت أسره وكساه ووعده بكل ما يتمناه، وصرفه لشرقي بسطة، وأعطاه المال والرجال، ووعده أن من دخل تحت حكمه من المسلمين وبايعه من أهل البلاد فإنه في الهدنة والصلح والعهد والميثاق الواقع بين السلطانين، وخرج لبلش فأطاعه أهلها، ودخلت بلش في طاعته، ونودي بالصلح في الأسواق، وصرخت
به في تلك البلاد الشياطين، وسرى هذا الأمر حتى بلغ أرض البيازين من غرناطة، وكانوا من التعصب وحمية الجاهلية والجهل بالمقام الذي لا يخفى، وتبعهم بعض المفسدين المحبين في تفريق كلمة المسلمين، وممن مال إلى الصلح عامة غرناطة لضعف الدولة، ووسوس للناس شياطين الفتنة وسماسرتها بتقبيحٍ وتحسينٍ، إلى أن قام ربض البيازين بدعوة السلطان الذي كان مأسوراً عند المشركين، ووقعت فتنة عظيمة في غرناطة نفسها بين المسلمين لما أراده الله تعالى من استيلاء العدو على تلك الأقطار، ورجموا البيازين بالحجارة من القلعة، وعظم الخطب، وكانت الثورة ثالث شهر ربيع الأول عام أحد وتسعين وثمانمائة، ودامت الفتنة إلى منتصف جمادى الأولى من العام، وبلغ الخبر أن السلطان الذي قاموا بدعوته قدم على روشة ودخلها على وجه رجاء الصلح بينه وبين عمه الزغل صاحب قلعة غرناطة، بأن العم يكون له الملك، وابن أخيه تحت إيالته بلوش أو بأي المواضع أحد، ويكونون يداً واحدة على عدو الدين، وبينهم في هذا إذا بصاحب قشتالة قد خرج بجند عظيم ومحلة قوية وعدد وعدد، ونازل لوشة حيث السلطان أبو عبد الله الذي كان أسيراً، وضيق بها الحصار، وكان قد دخلها جماعة من أهل البيازين بنية الجهاد ولمعاضدة وليهم، وخاف أهل غرناطة وسواها من أن يكون ذلك حيلة، فلم يأت لنصرته غيرالبيازين، واشتد عليهم الحصار، وكثرت الأقاويل، وصرحت الألسن بأن ذلك باتفاق بين السلطان المأسور وصاحب قشتالة، ودخل على أهل لوشة في ربضهم، وخافوا من الاستئصال، فطلبوا الأمان في أموالهم وأنفسهم وأهليهم، فوفى لهم صاحب قشتالة بذلك، وأخذ البلد في السادس والعشرين لجمادى الأولى سنة إحدى وتسعين وثمانمائة. وهي - أعني لوشة - كانت بلد سلف الوزير لسان الدين ابن الخطيب، كما ذكرناه مستوفى في غير هذا الموضع، وهاجر أهل لوشة إلى غرناطة، وبقي السلطان أبو عبد الله الذي كان مأسوراً مع النصراني في لوشة، فصرح عند ذلك أهل غرناطة بأنه ما جاء للوشة إلا ليدخل إليها العدو الكافر
ويجعلها فداء له، وقيل: إن سرح له حينئذٍ ابنه إذ كان مرهوناً في الفداء، وكثر القيل والقال بينهم وبين أهل البيازين، فظهر بذلك ما كان كامناً بالقلوب، ثم رجع صاحب قشتالة إلى بلاده ومعه السلطان المذكور.
وفي نصف جمادى الثانية خرج إلى إلبيرة فهد بعض الأسوار، وتوعد الناس، فأعطاه أهله الحصن على الأمان، فخرجوا وقدموا على غرناطة، ثم فعل بحصن المتلين (1) مثل ذلك، وقاتلوا قتالاً شديداً، ولما ضاقوا ذرعاً أعطوه بالمقادة على الأمان، فخرجوا إلى غرناطة وأطاع أهل قلنبيرة من غير قتال، فخرجوا إلى غرناطة ثم وصل العدو إلى منتفريد، فرمى عليهم بالمحروقات وغيرها وأحرق دارالعدة، وطلبوا الأمان، وخرجوا إلى غرناطة، وانتقل للصخرة فأخذها، وحصن هذه الحصون كلها، وشحنها بالرجال والعدة، ورتب فيها الخيل لمحاصرة غرناطة، ثم عاد الكافر لبلاده، وتعاهد مع السلطان الذي في أسره بأن من دخل في حكمه وتحت أمره فهو في الأمان التام، وأشاعوا أن ذلك بسبب فتنة وقعة بينه وبين صاحب إفرنسية، فخرج لبلش وأطاعته، ثم بعث لمن والاه من البلاد أنه أتى بصلح صحيح وعقد وثيق، وأن من دخل تحت أمره أمن من حركة النصارى عليه، وأن معه وثائق بخطوط السلاطين، فلم يقبل الناس ذلك، إلا القليل منهم مثل أهل البيازين، فلهجوا بهذا الصلح وأقاموا على صفحته الدلائل، وتكلموا في أهل غرناطة بالكلام القبيح، مع تمكن الفتنة والعداوة في القلوب، فبعث له أهل البيازين أنه إذا قدم بهذه الحجج لتلك الجهات اتبعه الناس، وقاموا بدعوته من غير التباس، فأتى على حين غفلة، ولم يكن يظن اتيانه بنفسه، فأتى البيازين ودخلها ونادى في أسواقها بالصلح التام الصحيح، فلم يقبل ذلك منه أهل غرناطة، وقالوا: ما بعهد لوشة من قدم، ودخل ربض البيازين سادس شوال سنة إحدى وتسعين وثمانمائة، وعمه بالحمراء،
(1) هذا ما ثبت في ص؛ وفي ق: الملتين، وفي دوزي: المثلين.
انتقل للقلعة، واشتد أمر الفتنة، ثم إن صاحب قشتالة أمد صاحب البيازين بالرجال والعدة والمال والقمح والبارود وغيرها، واشتد أمره بذلك، وعظمت أسباب الفتنة، وفشا في الناس القتل والنهب، ولم يزل الأمر كذلك إلى السابع والعشرين من محرم سنة اثنين وتسعين وثمانمائة، فعزم أهل غرناطة مع سلطانهم على الدخول على البيازين عنوةً، وتكلم أهل العلم في من النتصر بالنصارى ووجوب مدافعته، ومن أطاعه عصى الله ورسوله، فدخلوا على أهل البيازين دخول فشل، ثم إن صاحب غرناطة بعث إلى الأجناد والقواد من أهل بصرة ووادي آش والمرية والمنكب وبلش ومالقة وجميع الأقطار، وتجمعوا بغرناطة، وتعاهدوا، وتحالفوا على أن يدهم واحدة على أعداء الدين، ونصرة من قصده العدو من المسلمين، وخاف صاحب البيازين فبعث لصاحب قشتالة في ذلك فخرج لمحلته قاصداً نواحي بلش، وكان صاحب البيازين بعث وزيره إلى ناحية مالقة وإلى حصن المنشأة يذكر ويخوف، ومعه نسخة من عقود الصلح، فقامت مالقة وحصن المنشأة بعوته، ودخلوا في إيالته خوفاً من صاحب قشتالة وصولته، وطمعاً في الصلح وصحته، ثم اجتمع كبار مالقة مع أهل بلش وذكروا لهم سبب دخولهم في هذه الدعوة، والسبب الحالمل لهم على ذلك، فلم يرجع أهل بلش عما عاهدوا عليه أهل غرناطة وسائر الأندلس من العهود والمواثيق، وخرج صاحب قشتالة قاصداً بلش مالقة، ونزل عليها في ربيع الثاني سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة وحاصرها، ولما صح عند صاحب غرناطة ذلك اجتمع بالناس، فأشاروا بالمسير لإغاثة بلش للعهد الذي عقدوه، وأتى أهل وادي آش وغيرها وحشود البشرات، وخرج صاحب غرناطة منها في الرابع والعشرين لربيع الثاني من السنة، ووصل بلش، فوجد العدو نازلاً عليها براً وبحراً، فنزل بجبلٍ هنالك، وكسر لغط الناس، وحملوا على النصارى من غير تعبية، وحين حركتهم بالحملة بلغ السلطان الزغل أن غرناطة بايعت صاحب البيازين، فالتقوا مع النصارى فشلين وقبل الالتحام انهزموا، وتببد جموعهم مع كون
النصارى خائفين وجلين منهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فرجعوا منهزمين، وقد شاع عند الخواص ثورة غرناطة على السلطان، فقصدوا وادي آش، وعاد النصارى إلى بلش بعد أن كانوا رتبوا جيوشهم للقاء السلطان وأهل غرناطة، فلما عادوا إلى بلش دخلوا عنوة ربضها، وضيقوا بها، وكانت ثورة غرناطة، خامس جمادى الأولى.
ولما رأى أهل بلش تكالب العدو عليهم وإدبار جيوش المسلمين عنهم طلبوا الأمان، فخرجوا يوم الجمعة عاشر جمادى الأولى من السنة، وأطاعت النصارى جميع البلاد التي بشرقي مالقة وحصن قمارش.
ثم انتقل العدو إلى حصار مالقة، وكان أهل مالقة قد دخلوا في الصلح وأطاعوا صاحب البيازين، وأتى إليها النصارى بالميرة، ولما نزل بلش بعثوا هدية لصاحب قشتالة مع قائدهم وزير صاحب البيازين وقائد شريش الذي كان مأسوراً عندهم، فلم يلتفت إليهم صاحب قشتالة لقيام جبل فاره وهو حصن مالقة بدعوة صاحب وادي آش، وارتحل صاحب قشتالة إلى مالقة ونازلها براً وبحراً، وقاتله أهلها قتالاً عظيماً بمدافعهم وعدتهم وخيلهم ورجلهم، وطال الحصار حتى أداروا على مالقة من البر الخنادق والسور والأجفان من البحر، ومنع الداخل إليها، ولم يدخلها غير جماعة من المرابطين حال الحصار، وحاربوا حرباً شديداً، وقربوا المدافع ودخلوا الأرباض، وضيقوا عليهم بالحصار إلى أن فني ما عندهم من الطعام (1) فأكلوا المواشي والخيل والحمير، وبعثوا الكتب للعدوتين وهم طامعون في الإغاثة فلم يأت إليهم أحد، وأثر فيهم الجوع، وفشا في أهل نجدتهم القتل، ولم يظهروا مع ذلك هلعاً ولا ضعفاً، إلى أن ضعف حالهم، ويئسوا من ناصر أو مغيث من البر والبحر، فتكلموا مع النصارى في الأمان كما وقع ممن سواهم، فعوتبوا على ما صدر منهم وما وقع من الجفاء، وقيل لهم
(1) من الطعام: سقطت من ص.
لما تحقق العدو التجاءهم: تؤمنون من الموت، وتعطون مفتاح القلعة والحصن، والسلطان ما يعاملكم إلا بالخير إذا فعلتم، وهذا خداع من الكفار، فلما تمكن العدو منهم أخذهم أسرى، وذلك أواخر شعبان سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة، ولم يبق في تلك النواحي موضع إلا وملكه النصارى.
وفي عام ثلاثة وتسعين وثمانمائة خرج العدو الكافر إلى الشرقية وبلش التي كانت في الصلح، فاستولى عليها، واحتجوا بالصلح، فلم يلتفت إليهم، وأخذ تلك البلاد كلها صلحاً، ثم رجع لبلاده.
وفي عام أربعة وتسعين وثمانمائة خرج لبعض حصون بسطة فأخذها بعد حرب، واستولى على ما هنالك من الحصون، ثم نازل بسطة، وكان صاحب وادي آِ لما تعين العدو بمحلته بعث جميع جنده وقواده، وحشد أهل نجدة تلك البلاد من وادي آش والمرية والمنكب والبشرات، فلما نزل العدو بسطة أتت الحشود المذكورة ودخلوها ووقعت بين المسلمين والنصارى حروب عظيمة حتى تقهقر العدو عن قرب بسطة، ولم يقدر على منع الداخل والخارج، وبقي الأمر كذلك رجباً وشعبان ورمضان ومحلات المسلمين نازلة خارج البلد، ثم إن العدو شد الحصاروجد في القتال، وقرب المدافع والآلات من الأسوار حتى منع الداخل والخارج بعض منعٍ، واشتد الحال في ذي القعدة وذي الحجة وقل الطعام، وفي آخر ذي الحجة اختبروا الطعام في خفية فلم يجدوا إلا القليل، وكانوا طامعين في إقلاع العدو عند دخول فصل الشتاء، وإذا بالعدو بنى وعزم على الإقامة، وقوي اليأس على المسلمين، فتكلموا في الصلح على ما فعل غيرهم من الأماكن، وظن العدو أن الطعام لم يبق منه شيء، وأن ذلك هو الملجئ لهم للكلام، وفهموا عنه ذلك، فاحتالوا في إظهار جميع أنواع الطعام بالأسواق، وأبدوا للعدو القوة مع كونهم في غاية الضعف، والحرب خدعة، فدخل بعض كبار النصارى للتكلم معهم وهو عين ليرى ما عليه البلد وما صفة الناس، وعند تحققهم بقاء الطعام والقوة أعطوهم الأمان على أنفسهم دون من أعانهم من أهل
وادي آش والمنكب والمرية والبشرات، فإن دفعوا هؤلاء عنهم صح لهم الأمان، وإلا فلا، فلم يوافق أهل البلد على هذا، وطال الكلام، وخاف أهل البلد من كشف الستر، فاتفقوا أن تكون العقدة على بسطة ووادي آش والمرية والمنكب والبشرات، ففعلوا ذلك، ودخل جميع هؤلاء في طاعة العدو على شروط شرطوها وأمور أظهروها بعضها للناس وبعضها مكتوم، وقبض الخواص مالاً، وحصلت لهم فوائد.
وفي يوم الجمعة عاشر محرم سنة خمس وتسعين وثمانمائة دخل النصارى قلعة بسطة وملكوها، ولم يعلم العوام كيفية ما وقع عليه الشرط والالتزام، وقالوا لهم: من بقي بموضعه فهو آمن، ومن انصرف خرج بماله وسلاحه سالماً، ثم أخرج العدو المسلمين من البلد، وأسكنهم بالربض خوف الثورة، ثم ارتحل العدو للمرية، وأطاعته جميع تلك البلاد، ونزل صاحب وادي آش للمرية ليلقاه بها، فلقيه وأخذ الحصون والقلاع والبروج، وبايع له السلطان أبو عبد الله على أن يبقى تحت طاعته في البلاد التي تحت حكمه كما أحب، فوعده بذلك، وانصرف معه إلى وادي آش، ومكنه من قلعتها أوائل صفر من العام المذكور، وأطاعته جميع البلاد، ولم يبق غير غرناطة وقراها، وجميع ما كان في حكم صاحب وادي آش صار للنصارى في طرفة عين، وجعل في كل قلعة قائداً نصرانياً، وكان قائد من المسلمين أصحاب هذه البلاد دفع لهم الكفار مالاً من عند صاحب قشتالة إكراماً منه لهم بزعمهم، فتباً لعقولهم، وما ذلك منه إلا توفير لرجاله وعدته ودفع بالتي هي أحسن، ثم أخذ برج الملاحة وغيره، وبناه وحصنه، وشحن الجميع بالرجال والذخيرة، وأظهر الصحبة والصلح مع صاحب وادي آش، وأباح الكلام بالسوء في حق صاحب غرناطة مكراً منه وخداعاً ودهاء، ثم بعث في السنة نفسها رسلاً لصاحب غرناطة أن يمكنه من الحمراء كما مكنه عمه من القلاع والحصون، ويكون تحت إيالته، ويعطيه مالاً جزيلاً على ذلك، وأي بلاء شاء من الأندلس يكون فيها تحت حكمه، قالوا:
وأطعمه صاحب غرناطة في ذلك، فخرج العدو في محلاته لقبض الحمراء والاستيلاء على غرناطة، وهذا في سر بين السلطانين، فجمع صاحب غرناطة الأعيان والكبراء والأجناد والفقهاء والخاصة والعامة وأخبرهم بما طلب منه العدو وأن عمه أفسد عليه الصلح الذي كان بينه وبين صاحب قشتالة بدخوله تحت حكمه، وليس لنا إلا إحدى خصلتين: الدخول تحته، أو القتال، فاتفق الرأي على الجهاد والوفاء بما عقده من صلح، وخرج بمحلته.
ثم إن صاحب قشتالة نزل على مرج غرناطة، وطلب من أهل غرناطة الدخول في طاعته، وإلا أفسد عليهم زروعهم، فأعلنوا بالمخالفة، فأفسد الزرع، وذلك في رجب سنة خمس وتسعين وثمانمائة، ووقعت بين المسلمين والعدو حروب كثيرة، ثم ارتحل العدو عند الإياس منهم ذلك الوقت، وهدم بعض حصون، وأصلح برج همدان والملاحة، وشحنهما بما ينبغي، ثم رجع إلى بلاده، وعند انصرافه نزل صاحب غرناطة بمن معه إلى بعض الحصون التي في يد النصارى ففتحها عنوة، وقتل من فيها من النصارى، وأسكنها المسلمين، ورجع لغرناطة، ثم أعمل الرحلة إلى البشرات في رجب المذكور، فأخذ بعض القرى، وهرب من بها من النصارى والمرتدين أصحابهم، ثم أتى حصن أندرش فتمكن منه، وأطاعته البشرات، وقامت دعوة الإسلام بها، وخرجوا عن ذمة النصارى، وهنالك عمه أبو عبد الله محمد بن سعد بجملة وافرة، فقصدهم في شعبان من غرناطة، واستقر عمه بالمرية، وأطاعت صاحب غرناطة جميع البشرات إلى برجة، ثم تحرك عمه مع النصارى إلى أندرش فأخذها لرمضان، ورج صاحب غرناطة لقرية همدان، وكان برجها العظيم مشحوناً بالرجال والعدة والطعام، فحاصره أهل غرناطة، ونصبوا عليه أنواعاً من الحرب، ومات فيه خلق كثير منهم، ونقبوا البرج الأول والثاني والثالث، وألجؤوهم للبرج الكبير، وهو القلعة، فنقبوها ثم أسروا من كان بها، وهو ثمانون ومائة، واحتووا على ما هنالك من عدة وآلات حرب.
وفي آخر رمضان خرج صاحب غرناطة بقصد المنكب، فلما وصل حصن شلوبننية نزله، وأخذه عنوة بعد حصارة، وامتنعت القلعة، وجاءتهم الأمداد من مالقة بحراً فلم تقدر على شيء، وضيقوا بالقلعة، فوصلهم الخبر أن صاحب قشتالة خرج بمحلته لمرج غرناطة، فارتحل صاحب غرناطة عن قلعة شلوبانية، وجاء غرناطة ثالث شوال، وبعد وصولهم غرناطة وصل العدو إلى المرج ومعه المرتدون والمدجنون، وبعد ثمانية أيام ارتحل العدو لبلاده بعد هدم برج الملاحة وإخلائه وبرج آخر، وتوجه إلى وادي آش، فأخرج المسلمين منها، ولم يبق بها مسلم في المدينة ولا الربض، وهدم قلعة أندرش، وحاف على البلاد، ولما رأى ذلك السلطان الزغل وهو أبو عبد الله محمد بن سعد عم سلطان غرناطة بادر بالجواز لبر العدوة فجاز لوهران، ثم لتلمسان، واستقر بها، وبها نسله إلى الآن يعرفون ببني سلطان الأندلس، ودخل صاحب قشتالة لأقاصي مملكته بسبب فتنة بينه وبين الإفرنج ثم تحرك صاحب غرناطة على برشانة وحاصرها وأخذها، وأسر من كان بها من النصارى وأرادت فتيانه (1) القيام على النصارى، فجاء صاحب وادي آش ففتك فيهم.
وفي ذي القعدة من السنة رفع صاحب غرناطة من الند وخلت تلك الأوطان من الانس.
وفي ثاني عشري جمادى الآخرة سنة ست وتسعين وثمانمائة خرج العدو بمحلاته إلى مرج غرناطة، وأفسد الزرع، ودوخ الأرض، وهدم القرى، وأمر ببناء موضع بالسور والحفير، وأحكم بناءه، وكانوا يذكرون أنه عزم على الانصراف فإذا به صرف الهمة إلى الحصار والإقامة، وصار يضيق على غرناطة كل يوم، ودام القتال سبعة أشهر، واشتد الحصار بالمسلمين، غبر أن النصارى على بعد، والطريق بين غرناطة والبشرات متصلة بالمرافق والطعام من ناحية
(1) ق ص: ر فنيانه.
جبل شلير، إلى أن تمكن فصل الشتاء، وكلب البرد، ونزل الثلج، فانسد باب المرافق، وقطع الجالب، وقل الطعام، واشتد الغلاء، وعظم البلاء، واستولى العدو على أكثر الأماكن خارج البلد، ومنع المسلمين من الحرث والسبب، وضاق الحال، وبان الاختلال، وعظم الخطب، وذلك أول عام سبعة وتسعين وثمانمائة، وطمع العدو في الاستيلاء على غرناطة بسبب الجوع والغلاء دون الحرب، ففر ناس كثيرون من الجوع إلى البشرات، ثم اشتد الأمر في شهر صفر من السنة، وقل الطعام، ثم تفاقم الخطب، فاجتمع ناس مع من يشار إليه من أهل العلم، وقالوا: انظروا في أنفسكم وتكلموا مع سلطانكم، فأحضر السلطان أهل الدولة وأرباب المشورة، وتكلموا في هذا المعنى، وأن العدو يزداد مدده كل يوم، ونحن لا مدد لنا، وكان ظننا أنه يقلع عنا في فصل الشتاء، فخاب الظن، وبنى وأسس، وأقام، وقرب منا، فانظروا لأنفسكم وأولادكم، فاتفق الرأي على ارتكاب أخف الضررين، وشاع أن الكلام وقع بين النصارى ورؤساء الأجناد قبل ذلك في إسلام البلد خوفاً على نفوسهم وعلى الناس، ثم عددوا مطالب وشروطاً أرادوها، وزادوا أشياء على ما كان في صلح وادي آش: منها أن صاحب رومة يوافق على الالتزام والوفاء بالشرط إذا أمكنوه من حمراء غرناطة والمعاقل والحصون، ويحلف على عادة النصارى في العهود، وتكلم الناس في ذلك، وذكروا أن رؤساء أجناد المسلمين لما خرجوا للكلام في ذلك امتن عليهم النصارى بمال جزيل وذخائر، ثم عقدت بينهم الوثائق على شروط قرئت على أهل غرناطة، فانقادوا إليها، ووافقوا عليها، وكتبوا البيعة لصاحب قشتالة، فقبلها منهم، ونزل سلطان غرناطة من الحمراء.
وفي ثاني ربيع الأول من السنة - أعني سنة سبع وتسعين وثمانمائة - استولى النصارى على الحمراء ودخلوها بعد أن استوثقوا من أهل غرناطة بنحو خمسمائة من الأعيان رهناً خوف الغدر، وكانت الشروط سبعة وستين منها: تأمين الصغير والكبير في النفس والأهل والمال وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم ورباعهم
وعقارهم، ومنها إقامة شريعتهم على ما كانت ولا يحكم أحد عليهم إلا بشريعتهم، وأن تبقى المساجد كما كانت والأوقاف كذلك، وأن لايدخل النصارى دار مسلم ولا يغصبوا أحداً، وأ، لايولى على المسلمين إلا مسلم أو يهودي ممن يتولى عليهم من قيل سلطانهم قبل، وأن يفتك جميع من أسر في غرناطة من حيث كانوا، وخصوصاً أعياناً نص عليهم، ومن هرب من أسارى المسلمين ودخل غرناطة لا سبيل عليه لمالكه ولا سواه، والسلطان يدفع ثمنه لمالكه، ومن أراد الجواز للعدوة لا يمنع، ويجوزون في مدة عينت في مراكب السلطان لا يلزمهم إلا الكراء ثم بعذ تلك المدة يعطون عشر مالهم والكراء (1) ، وأن لايؤخذ أحد بذنب غيره، وأن لا يقهر من أسلم على الرجوع للنصارى ودينهم، وأن من تنصر من المسلمين يوقف أياماً حتى يظهر حاله ويحضر له حاكم من المسلمين وآخر من النصارى، فإن أبى الرجوع إلى الإسلام تمادى على ما أراد، ولا يعاتب على من قتل نصرانياً أيام الحرب، ولا يؤخذ منه ما سلب من النصارى أيام العداوة، ولا يكلف المسلم بضيافة أجناد النصارى (2) ولا يسفر لجهة من الجهات، ولا يزيدون على المغارم المعتادة، وترفع عنهم جميع المظالم والمغارم المحدثة، ولا يطلع نصراني للسور، ولا يتطلع على دور المسلمين، ولا يدخل مسجداً من مساجدهم، ويسير المسلم في بلاد النصارى آمناً في نفسه وماله، ولا يجعل علامة كما يجعل اليهود وأهل الدجن، ولا يمنع مؤذن ولا مصلٍ ولا صائم ولا غيره من أمور دينه، ومن ضحك منه يعاقب، ويتركون من المغارم سنين معلومة، وأن يوافق على كل الشروط صاحب رومة ويضع خط يده، وأمثال هذا مما تركنا ذكره. م بعذ تلك المدة يعطون عشر مالهم والكراء، وأن لايؤخذ أحد بذنب غيره، وأن لا يقهر من أسلم على الرجوع للنصارى ودينهم، وأن من تنصر من المسلمين يوقف أياماً حتى يظهر حاله ويحضر له حاكم من المسلمين وآخر من النصارى، فإن أبى الرجوع إلى الإسلام تمادى على ما أراد، ولا يعاتب على من قتل نصرانياً أيام الحرب، ولا يؤخذ منه ما سلب من النصارى أيام العداوة، ولا يكلف المسلم بضيافة أجناد النصارى ولا يسفر لجهة من الجهات، ولا يزيدون على المغارم المعتادة، وترفع عنهم جميع المظالم والمغارم المحدثة، ولا يطلع نصراني للسور، ولا يتطلع على دور المسلمين، ولا يدخل مسجداً من مساجدهم، ويسير المسلم في بلاد النصارى آمناً في نفسه وماله، ولا يجعل علامة كما يجعل اليهود وأهل الدجن، ولا يمنع مؤذن ولا مصلٍ ولا صائم ولا غيره من أمور دينه، ومن ضحك منه يعاقب، ويتركون من المغارم سنين معلومة، وأن يوافق على كل الشروط صاحب رومة ويضع خط يده، وأمثال هذا مما تركنا ذكره.
وبعد انبرام ذلك ودخول النصارى للحمراء والمدينةة جعلوا قائداً بالحمراء وحكاماً ومقدمين بالبلد، ولما علم ذلك أهل البشرات دخلوا في هذا الصلح، وشملهم حكمه على هذه الشروط، ثم أمر العدو الكافر ببناء ما يحتاج إليه في
(1) ثم
…
والكراء: سقطت من ص.
(2)
أيام
…
النصارى: سقطت من ص.
الحمراء وتحصينها، وتجديد بناء قصورها وإصلاح سورها، وصار الطاغية يختلف إلى الحمراء نهاراً ويبيت بمحلته ليلاً إلى أن اطمأن من خوف الغدر، فدخل المدينة، وتطوف بها، وأحاط خبراً بما يرومه، ثم أمر سلطان المسلمين أن ينتقل لسكنى البشرات وأنها تكون له وسكناه بأندرش، فانصرف إليها وأخرج الأجناد منها، ثم احتال في ارتحاله لبر العدوة، وأظهر أن ذلك طلبه منه المذكور، فكتب لصاحب المرية أنه ساعة وصول كتابي هذا لا سبيل لأحد أن يمنع مولاي أبا عبد الله من السفر حيث أراد من بر العدوة، ومن وقف على هذا الكتاب فليصرفه ويقف معه وفاء بما عهد له، فصرف في الحين بنص هذا الكتاب، وركب البحر، ونزل بمليلة، واستوطن فاساً، وكان قبل طلب الجواز لناحية مراكش، فلم يسعف بذلك وحين جوازه لبر العدوة لقي شدة وغلاء ووباء.
ثم إن النصارى نكثوا العهد، ونقضوا الشروط عروة عروة، إلى أن آل الحال لحملهم المسلمين على التنصر سنة أربع وتسعمائة، بعد أمور وأسباب أعظمها وأقواها عليهم أنهم قالوا: إن القسيسين كتبوا على جميع من كان أسلم من النصارى أن يرجعوا قهراً للكفر، ففعلوا ذلك، وتكلم الناس ولا جهد لهم ولا قوة، ثم تعدوا إلى أمر آخر، وهو أن يقولوا للرجل المسلم: إن جدك كان نصرانياً فأسلم فترجع نصرانياً، ولما فحش هذا الأمر قام أهل البيازين على الحكام وقتلوهم، وهذا كان السبب للتنصر، قالوا: لأن الحكم خرج من السلطان أن من قام على الحاكم فليس إلا الموت إلا أن يتنصر فينجو من الموت، وبالجملة فإنهم تنصروا عن آخرهم وبادية وحاضرة، وامتنع قوم من التنصر، واعتزلوا الناس، فلم ينفعهم ذلك، وامتنعت قرى وأماكن كذلك منها بلفيق وأندرش وغيرهما، فجمع لهم العدو الجموع، واستأصلهم عن آخرهم قتلاً وسبياً، إلا ما كان من جبل بللنقة فإن الله تعالى أعانهم على عدوهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة مات فيها صاحب قرطبة، وأخرجوا على الأمان إلى فاس بعيالهم وما خف من مالهم دون الذخائر، ثم بعد هذا كله كان من أظهر التنصر من المسلمين
يعبد الله في خفية ويصلي، فشدد عليهم النصارى في البحث، حتى إنهم أحرقوا منهم كثيراً بسبب ذلك، ومنعوهم من حمل السكين الصغيرة فضلاً عن غيرها من الحديد، وقاموا في بعض الجبال على النصارى مراراً ولم يقيض الله لهم ناصراً، إلى أن كان إخراج النصارى إياهم بهذا العصر القريب أعوام سبعة عشر وألف، فخرجت ألوف بفاس، وألوف أخر بتلمسان من وهران، وجمهورهم خرج بتونس، فتسلط عليهم الأعراب ومن لا يخشى الله تعالى في الطرقات، ونهبوا أموالهم،وهذا ببلاد تلمسان وفاس، ونجا القليل من هذه المعرة، وأما الذين خرجوا بنواحي تونس فسلم أكثرهم، وهم لهذا العهد عمروا قراها الخالية وبلادها، وكذلك بتطاوين وسلا ومتيجة (1) الجزائر. ولما استخدم سلطان المغرب الأقصى منهم عسكراً جراراً وسكنوا سلا كان منهم من الجهاد في البحر ما هو مشهور الآن، وحصنوا قلعة سلا، وبنوا بها القصور والدور والحمامات وهم الآن بهذا الحال، ووصل جماعة إلى القسطنطينية العظمى وإلى مصر والشام وغيرها من بلاد الإسلام، وهم لهذا العهد على ما وصف، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
والسلطان المذكور الذي أخذت على يده غرناطة هو أبو عبد الله محمد الذي انقرضت بدولته مملكة الإسلام بالأندلس، ومحيت رسومها، ابن السلطان أبي الحسن ابن السلطان سعد ابن الأمير علي ابن السلطان يوسف ابن السلطان محمد الغني بالله، واسطة عقدهم، ومشيد مبانيهم الأنيقة، وسلطان دولتهم على الحقيقة، وهو المخلوع الوافد على الأصقاع المرينية بفاس، العائد منها لملكه في أرفع الصنائع الحمانية العاطرة الأنفاس، وهوسلطان لسان الدين ابن الخطيب، وقد ذكرنا جملة من أخباره في غبر هذا الموضع، ابن السلطان أبي الحجاج يوسف ابن السلطان اسماعيل قاتل سلطان النصارى دون بطره بمرج غرناطة ابنفرج "
(1) ق ص: وقيجة.
[ابن اسماعيل] بن يوسف بن نصر بن قيس، الأنصاري، الخزرجي، رحمهم الله تعالى جميعاً.
وانتهى السلطان المذكور بعد نزوله بمليلة إلى مدينة فاس بأهله وأولاده معتذراً عما أسلفه، متلهفاً على ما خلفه، وبنى بفاس بعض قصور على طريق بنيان الأندلس، رأيتها ودخلتها، وتوفي رحمه الله تعالى بفاس عام أربعين وتسعمائة، ودفن بإزاء المصلى خارج باب الشريعة وخلف ولدين اسم أحدهما يوسف والآخر أحمد وعقب هذا السلطان بفاس إلى الآن، وعهدي بذريته بفاس سنة 1027،يأخذون من أوقاف الفقراء والمساكين، ويعدون من جملة الشحاذين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
رسالة المخلوع أبي عبد الله إلى الشيخ الوطاسي
وقد رأيت أن أذكر هنا الرسالة التي كتب بها المخلوع المذكور إلى سلطان فاس الشيخ الوطاسي (1)، وهي من إنشاء الكاتب المجيد البارع البليغ أبي عبد الله محمد بن عبد الله العربي العقيلي رحمه الله تعالى وسماها ب " الروض العاطر الأنفاس في التوسل إلى المولى الإمام سلطان فاس " ونصها بعد الافتتاح:
مولى الملوك ملوك العرب والعجم رعياً لما مثله يرعى من الذّمم
بك استجرنا ونعم الجار أنت لمن جار الزّمان عليه جور منتقم
حتى غدا ملكه بالرغم مستلباً وأفظع الخطب ما يأتي على الرغم
حكمٌ من الله حتمٌ لا مردّ له وهل مردٌّ لحكمٍ منه منحتم
وهي الليالي وقاك الله صولتها تصول حتى على الآساد في الأجم
كنّا ملوكاً لنا في أرضنا دولٌ نمنا بها تحت أفنانٍ من النعم
(1) وردت هذه الرسالة في أزهار الرياض 1: 72 - 102.
فأيقظتنا سهام للردى صيب يرمى بأفجع حتف من بهن رمي
فلا تنم تحت ظلّ الملك نومتنا وأيّ ملكٍ بظلّ الملك لك ينم
يبكي عليه الذي قد كان يعرفه بأدمعٍ مزجت أمواهها بدم
كذلك الدّهر لم يبرح كما زعموا يشمّ بوّ الصّغار الأنف ذا الشمم
وصل أواصر قد كانت لنا اشتبكت فالملك بين ملوك الأرض كالرحم
وابسط لنا الخلق المرجوّ باسطه واعطف ولا تنحرف واعذر ولا تلم
لا تأخذنّا بأقوال الوشاة ولم
…
نذنب ولو كثرت أقوال ذي الوخم (1) فما أطقنا دفاعاً للقضاء، ولا أرادت آنفسنا ما حلّ من نقم
ولا ركوباً بإزعاجٍ لسابحةٍ في زاخر بأكفّ الموج ملتطم
والمرء ما لم يعنه الله أضيع من طفلٍ تشكّى بفقد الأم في اليتم
وكل ما كان غير الله يحرسه فإنّ محروسه لحمٌ على وضم
كن كالسموأل إذ سار الهمام له
…
في جحفلٍ كسواد اللّيل مرتكم فلم يبح أدرع الكندي وهو يرى أن ابنه البر قد أشفى على الرجم
أو كالمعلّى مع الضليل الأروع إذ أجاره من أعاريب ومن عجم
وصار يشكره شكراً يكافئ ما أسدى إليه من الآلاء والنّعم
ولا تعاتب على أشياء قد قدرت وخطّ مسطورها في اللوح بالقلم
" وعدّ عمّا مضى إذ لا ارتجاع له "(3)
…
وعدّ أحرارنا في جملة الخدم
إيهٍ حنانيك يا ابن الأكرمين على
…
" ضيفٍ ألمّ بفاسٍ غير محتشم "(4)
(1) من قول كعب بن زهير:
لا تأخذني بأقوال الوشاة فلم
…
أذنب وإن كثرت فيّ الأقاويل (3) مضمن من الشعر القديم.
(4)
اقتبس صدر بيت المتنبي، وعجزه " السيف أحسن فعلاً منه باللمم ".
فأنت أنت ولولا أنت ما نهضت بنا إليها خطا الوخّادة الرّسم
رحماك يا راحماً ينمى إلى رحما في النفس والأهل والأتباع والحشم
فكم مواقف صدقٍ في الجهاد لنا والخيل عالكة الأشداق للّجم
والسيف يخضب بالمحمرّ من علق ما ابيضّ من سبلٍ واسودّ من لمم
ولا ترى صدر عضب غير منقصف ولا ترى متن لدن غير منحطم
حتى دهينا بدهيا لا اقتدار لها سوى على الصون للأطفال والحرم
فقال من لم يشاهدها فربّتما يخال جامحها يقتاد بالخطم
هيهات لو زبنته الحرب كان بها
…
أعيى يداً من يدٍ جالت على رحم (1) تالله ما أضمرت غشّاً ضمائرنا ولا طوت صحّةً منها على سقم
لكن طلبنا من الأمر الذي طلبت ولاتنا قبلنا في الأعصر الدّهم
فخاننا عنده الجدّ الخؤون، ومن تقعد به نكبات الدهر لم يقم
فاسودّ ما اخضرّ من عيشٍ دهته عداً بالأسمر اللّدن أو بالأبيض الخذم
وشتت البين شملاً كان منتظماً والبين أقطع للموصول من جلم
فربّ مبنى شديد قد أناخ به ركب البلا فقرته أدمع الديم
قمنا لديه أصيلاناً نسائله
…
أعيا جواباً وما بالربع من إرم (2) وما ظننّا بأن نبقى إلى زمن نرى به غرر الأحباب كالحمم
لكن رضىً بالقضا الجاري وإن طويت منّا الضلوع على برحٍ من الألم
لبّيك يا من دعانا نحو حضرته دعاء إبراهم الحجّاج للحرم
واعط الأمان الذي رصّت قواعده على أساس وفاء غير منهدم
خليفة الله وافاك العبيد فكن في كلّ فضلٍ وطولٍ عند ظنهم
وبين أسلافنا ما قد علمت به من اعتقاد بحكم الإرث مقتسم
(1) يشير إلى قولهم " أذل من يد في رحم ".
(2)
من قول النابغة:
وقفت فيها أصيلاناً أسائلها
…
عيت جواباً وما بالربع من أحد
وأنت منهم كأصلٍ مطلع غصناً أو كالشراك الذي قد قدّ من أدم
وقد خطوت خطاهم في مآثرهم فلم يذموا إذن فيها ولم تذم
وصيت مولى الورى الشيخ الإمام غدا في الناس أشهر من نارٍ على علم
سلالة الأمراء الجلّة الكبراء العلية الظهراء القادة البهم
بنو مرين ليوثٌ في عرين ابوا رؤيا قرينٍ لهم في البأس والكرم
النازلين من البيضاء وسط حمىً أحمى من الأبلق السامي ومن إرم
والجائسين بدهم الخيل كل ذرا والداعسين بسمر الخط كل كمي
يريك فارسهم إن هزّ عامله في مارقٍ بلظى الهيجاء مضطرم
ليثاً على أجدلٍ عارٍ من آجنحةٍ يسطو بأرقم لدّاغ بغير فم
في اللاّم يدغم من عسّاله ألفاً ولم نجد ألفاً أصلاً بمدّغم
أهل الحفيظة يوم الروع يحفظهم من عصمة الله ما يربي على العصم
يا من تطير شرارٌ منه محرقةٌ لكلّ مدّرعٍ بالحزم محتزم
هم بطائفة التثليث قد فتكوا كمثل ما يفتك السرحان بالغنم
وإن يلثمهم يوم الوغى رهجٌ أنسوك ما ذكروه عن ذوي اللثم
تضيء آراؤهم في كلّ معضلةٍ إضاءة السّرج في داجٍ من الظّلم
هذا ولو من حياءٍ ذاب محتشمٌ لذاب منهم حياءً كلّ محتشم
طابت مدائحهم إذ طابت آنفسهم فاشتقّت النسمات آسماً من النسم
لله درّهم والسّحب باخلة بدرّهن على الأنعام والنعم
بحيث آلافق يرى من لون حمرته كالشيب يخضب بالحنّاء والكتم
هناك تنهلّ أيديهم بصوب حياً يحيي بالاجداث ما فيها من الرّمم
وأنّ بيتي زيادٍ (1) طالما ذكرا
…
إذ ألمّت أحاديث بذكرهم أحلام عادٍ وأجسامٌ مطهّرةٌ من لمعقّة والآفات والأثم
(1) زياد: النابغة الذبياني.
يرون حقاًعليهم حفظ جارهم فلم يضر نازلٌفيهم ولم يضم
فروعه بالدواهي لا يراع، ولا يغمّ منها بما يعرو من الغمم
هم البحار سماحاً غير أنّ بها ما قد أناف على الأطواد من همم
وليس يسلم من حتفٍ محاربهم حتى يكون إليهم ملقي السّلم
كم فيهم من أميرٍ أوحد ندسٍ يقرطس الغرض المقصود بالفهم
ولا كبسط أبي حسون (1) من حسنت
…
أمداحه حسن ما فيه من الشيم هذاكم ابن أبي ذكرى الهمام فقل في أصله المنتقى من مجده العمم
خليفة الله حقّاً في خليقته كنائب ناب في حكمٍ عن الحكم
مهما تنر قسماتٌ منه نيرةٌ تنل بنازله ما جلّ من نعم
فوجهه بدجىً أو كفّه بجدىً أبهى من الزهر أو أندى من الديم
وفضله وله الفضل المبين جرى كجري آلامثال في الأقطار والأمم
وجوده المتوالي للبريّة ما وجوده بينها طرّاً بمنهدم
إذا ابتغت نعماً منه العفاة له لم يسمعوا كلمةً منه سوى نعم
وإن يعبّس زمانٌ في وجوههم لم يبصروا غير وجهٍ منه مبتسم
وجه تبين سمات المكرمات به كما تبين سمات الصدق في الكلم
وراحةٌ لم تزل في كلّ آونةٍ في نيلها راحة الشاكي من العدم
لله ما التزمته من نوافله أيّام لا فرض مفروضٍ بملتزم
أنسى الخلائف في حلمٍ وفي شرفٍ وفي سخاءٍ وفي علمٍ وفي فهم
فجاز معتمداً منهم ومعتضداً وامتاز عن واثقٍ منهم ومعتصم
وناصر الدين في الإقبال فاق، وفي محبّة العلم أزرى بابنه الحكم
أفعال أعدائه معتلّةٌ أبداً متى يرم جذمها بالحذف تنجزم
(1) أبو حسون: هو أبو الحسن علي بن محمد الشيخ بن أبي زكريا يحيى بن زيان الوطاسي ويعرف بابن حسون الباذسي، بويع بفاس أول مرة سنة 932.
فويل أهل القلى من حيّة ذكرٍ للمتلئبّ المهام المجر ملتقم
راموا عداوة من إن شاء غادرهم من الأحاديث عن عادٍ وعن إرم
فسوف يأكلهم من جيشه لجبٌ بكلّ قرمٍ إلى لحمانهم قرم
وإنّ آلاعراب إذ ساروا لغايته لسائرون إلى لقمٍ على لقم
وهم كما قاله ماضٍ " أرى قدمي بسعيه نحو حتفي قد أراق دمي "
فقل إذاً للمناوي الناو لان أذىً يا غرّ غرك ما أبصرت في الحلم
له صوارم لو ناجتك ألسنها لبشّرتك بعمرٍ منك منصرم
وأنّ روحك عن قربٍ سيقبضه قبض المسلّم ما قد حاز من سلم
فهو الذي ما له ندٌّ يشابهه من كلّ متّصفٍ بالدهي متّسم
يدبّر الأمر تدبيراً يخلّصه ممّا عسى أن يرى فيه من الوهم
ويبصر الغيب لحظ الذهن منه إذا تعمى عن آدراكه ألحاظ كلّ عمي
وينعم النّظر المفضي بناظره لصوب وجه صواب واضح اللقم
ذو منطقٍ لم تزل تجلو نتائجه عن مبطل بخصام المبطل الخصم
ومسمعٍ ليس يصغي للوشاة فلم ينفق لديه الذي عنهم إليه نمي
فعقله لا توازيه العقول، وهل يوازن الطود ما قد طال من أكم
إيهٍ جميع الورى من بدو آو حضر نداء مرتبط بالنّصر مرتسم
شدوا وجدّوا ولا تعنوا ولا تهنوا قد لفّها الليل بالسّوّاقة الحطم
هذا الإمام المريني السعيد له سعدٌ يؤيده في كل مصطدم
قد أقسمت أنّه المنصور ألسنةٌ من نخبة الأوليا مبرورة القسم
فشيّعوه ووالوه تروا عجباً وتظفروا معه بالأجر والغنم
والحمد لله إذ أبقى خلافته كهفاً لنا من يخيّم فيه لم يرم
حرز حريزٌ وعزٌّ قائمٌ وندىً غمرٌ دراكٌ بلا منّ ولا سأم
دامت ودام لها سعدٌ يساعدها في كلّ مبتدإ منه ومختتم
فالله عزّ اسمه قد زانها بحلىً من غرّ أمداحه كالدّرّ في النّظم
الواهب الألف بعد الألف من ذهبٍ كالجمر يلمع في مستوقد الضّرم
والفاعل الفعل لم يهمم به أحدٌ والقائل القول فيه حكمة الحكم
ذاكم هو الشيخ فاعجب أنّه هرمٌ جوداً وحاشاه أن يعزى إلى هرم
وحسبنا أن أيدينا به اعتصمت من حبله بوثيقٍ غير منفصم
فما مخالفه يوماً بمضطهدٍ ولا مؤالفه يوماً بمهتضم
ولا موافيه في جهدٍ بمطّرحٍ ولا مصافيه في ودٍّ بمتّهم
ولا محيّا محيّيه بمنكسفٍ ولا رجاء مرجّيه بمنخرم
وما تكرّمه سرّاً بمنكشفٍ ولا تنكّره جهراً بمكتتم
وليس لامح مرآه بمكتئبٍ وليس راضع جدواه بمنفطم
ولا مقبّل يمناه الكريمة في محلّ ممتهنٍ بل دست محترم
وما وسيلتنا العظمى إليه سوى ما ليس ينكر ما فيها من العظم
وإنما هي وما أدراك ما هي من وسيلةٍ ردّها أدهى من الوخم
نبيّنا المصطفى الهادي بخير هدىً محمّدٌ خير خلق الله كلّهم
داعي الورى من أولي خيم وأهل قرى إلى طريق رشادٍ لاحبٍ أمم
عليه منّا صلاة الله ما ذكرت
…
" أمن تذكّر جيرانٍ بذي سلم "(1) وما تشفّع فيها بالشّفيع له دخيل حرمته العلياء في الحرم
ربنا ظلمكنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير، ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم، نعم المولى ونعم النصير.
أما بعد حمد الله الذي لا يحمد على السراء والضراء سواه، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد الذي طلع طلوع الفجر بل البدر فلاح، يدعو إلى سبيل
(1) صدر قصيدة البوصيري المشهورة في مدح الرسول (ص) .
كل فلاح، أولي قلوب غافلة ونفوس سواه، والرضى عن آله وأصحابه وعترته الأكرمين وأحزابه الذين تلقوا بالقبول ما أورده عليهم من أوامر ونواه، وعزروه ونصروه في حال قربه ونواه، فيما مولانا الذي أولانا من النعم ما أولانا لا حط الله تعالى لكم من العزة رواقاً، ولا أذوى لدوحة دولتكم أغصاناً ولا أوراقاً، ولا زالت مخضرة العود، مبتسمةً عن زهرات البشائر متحفة بثمرات السعود، ممطورة بسحائب البركات المتداركات دون بروق ولا رعود، هذا مقام العائذ بمقامكم، المتعلق بأسباب ذمامكم، المترجي لعواطف قلوبكم وعوارف إنعامكم، المقبل الأرض تحت أقدامكم، المتلجلج اللسان عند محاولة مفاتحة كلامكم، وما الذي يقول من وجهه خجل، وفؤاده وجل، وقضيته المقضية عن لتنصل والاعتذار تجل، بيد أني أقول لكم ما أقوله لربي واجترائي عليه أكثر، واحترامي إليه أكبر: اللهم لا بريء (1) فأعتذر، ولا قوي فأنتصر، لكني مستقيل، مستنيل مستعتب مستغفر " وما أبرّئ نفسي، إنّ النّفس لأمّارةٌ بالسّوء "، هذا على طريق التنزل والإنصاف، بما تقتضيه الحال ممن يتحيز إلى حيز الإنصاف، وأما على جهة التحقيق، فأقول ما قالته الأم ابنة الصديق (2) :" والله إني لأعلم أني إن أقررت بما يقوله الناس والله يعلم أني منه بريئة لأقول ما لم يكن، ولئن أنكرت ما تقولون لا تصدقوني، فأقول ما قاله أبو يوسف: صبر جميل والله المستعان على ما تصفون ". على أني لا أنكر عيوبي فأنا معدن العيوب، ولا أجحد ذنوبي فأنا جبل الذنوب، إلى الله أشكو عجري وبجري، وسقطاتي وغلطاتي، نعم كل شيء ولا ما يوله المتقول، المشنع المهول، الناطق بفم الشيطان المسول، ومن أمثالهم " سبني واصدق، ولا تفتر ولا تخلق "، أفمثلي كان يفعل أمثالها، ويحتمل من الأوزار أحمالها ويهلك نفسه ويحبط أعمالها، عياذاً بالله
(1) ص ق: لا بريكة.
(2)
انظر إمتاع الأسماع: 209 مع اختلاف في النص.
من خسران الدين، وإيثار الجاحدين والمعتدين، قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، وايم الله لو علمت شعرة في فودي تميل إلى تلك الجهة لقطعتها، بل لقطفت ما تحت عمامتي من هامتي وقطعتها، غير أن الرعاع في كل وقت وأوان، للملك أعداء وعليه أحزاب وأعوان، كان أحمق أو أجهل من أبي ثروان (1) ، أو أعقل أو أعلم من أشج بني مروان (2) ، رب متهم بري ومسربلٍ بسربال وهو منه عري، وفي الأحاديث صحيح وسقيم، ومن التراكيب المنطقية منتج وعقيم، ولكن ثم ميزان عقل، تعتب ربه أوزان النقل، وعلى الراجح الاعتماد، ثم إشاعة الأحماد، المتصل المتماد، وللمرجوح الاطراح، ثم التزام (3) الصراح، بعد النفض من الراح، وأكثر ما تسمعه الكذب، وطبع جمهور الخلق إلا من عصمه الله تعالى إليه منجذب، ولقد قذفنا من الأباطيل بأحجار، ورمينا بما لا يرمى به الكفار، فضلاً عن الفجار، وجرى من الأمر المنقول على لسان زيد وعمر ما لديكم منه حفظ الجار، وإذا عظم الإنكاء، فعلى تكاءة التجلد الاتكاء، أكثر المكثرون، وجهد في تعثيرنا المتعثرون، ورمونا عن قوس واحدة، ونظمونا في سلك الملاحدة، أكفراً أيضاً كفراً، غفراً (4) اللهم غفراً، أعد نظراً يا عبد قيس، فليس الأمر على ما خيل لك ليس، وهل زدنا على أن طلبنا حقنا، ممن رام محقه ومحقنا، فطاردنا في سبيله عداة كانوا لنا غائظين، فانفتق علينا فتقٌ لم يمكنا له رتق، وما كنا للغيب حافظين. وبعد فاسأل أهل الحل والعقد، والتمييز والنقد، فعند جهينتهم تلقى الخبر يقينا، وقد رضينا بحكمهم يؤثمنا فيوبقنا أو يبرئنا فيقينا، إيه يا من اشرأب إلى ملامنا، وقدح حتى في إسلامنا، رويداً رويداً، فقد وجدت قوةً وأيداً، ويحك إنما طال لسانك علينا، وامتد بالسوء
(1) هو هبنقة القيسي مضرب المثل في الحمق.
(2)
هو عمر بن عبد العزيز.
(3)
ق ص: الزم.
(4)
ص ق: غداً.
إلينا لأن الزمان لنا مصغر ولك مكبر، والأمر عليك مقبل وعنا مدبر، كما قال كاتب الحجاج الموبر، وعلى الجملة فهبنا صرنا إلى تسليم مقالك جدلاً، وذهبنا فأقررنا بالخطإ في كل ورد وصدر، فلله در القائل (1) :
" إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر "
…
وكأنا بمعتسف إذا وصل إلى هنا، وعدم إنصافه يعلمه إلهنا، قد ازور متجانفاً، ثم افتر متهانفاً، وجعل يتمثل بقولهم: إذا عيروا قالوا مقادير قدرت، وبقولهم: المرء يعجزه المحال، فيعارض الحق بالباطل، والحالي بالعاطل، ومنزع بقول القائل: رب مسمع هائل، وليس تحته [من] طائل، وقد فرغنا أول أمس من جوابه، وتركنا الضغن يلصق حرارة (2) الجوى به. وسنلم الآن بما يوسعه تسكيتاً، ويقطعه تبكيتاً، فنقول له: ناشدناك الله تعالى، هل اتفق لك قط وعرض، خروج أمر ما عن القصد منك فيه والغرض مع اجتهادك أثناءه في إصدارك وإيرادك، في وقوعه على وفق اقتراحك ومرادك، أو جميع ما تزاوله بإدارتك، ل يقع إلا مطابقاً لإرادتك، أو كل ما تقصده وتنويه، تحرزه كما تشاء وتحويه فلا بد أن يقر اضطراراً، بأن مطلوبه يشذ عنه مراراً، بل كثيراً ما يفلت صيده من أشراكه. ويطلبه فيعجز عن إدراكه، فنقول: ومسألتنا من هذا القبيل، أيها النبيه النبيل، ثم نسرد له من الأحاديث النبوية ما شينا، مما يسايرنا في غرضنا ويماشينا، كقوله صلى الله عليه وسلم " كل شيء بقضاء وقدر، حتى العجز والكيس " وقوله أيضاً " لو اجتمع أهل السموات والأرض على أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه " أو كما قال، صلى الله عليه وسلم،
(1) هو أبو العتاهية (ديوانه: 449) وقبله:
هي المقادير فلمني أو فذر
…
تجري المقادير على غرز الإبر (2) ص: حزازة.
فأخلق أن يلوذ بأكناف الإحجام، ويزم على نفثة فيه كأنما ألجم بلجام، حينئذٍ نقول له والحق قد أبان وجهه وجلاه، وقهره بحجته وعلاه: ليس لك من الأمر شيء قل إن الأمر كله لله، وفي محاجة آدم وموسى ما يقطع لسان الخصم، ويرخص عن أثواب أعراضنا ما عسى أن يعلق بها من درن الوصم، وكيفما كانت الحال، وإن ساء الرأي والانتحال، ووقعنا في أوجال وأوحال، فثل عرشنا، وطويت فرشنا، ونكس لوانا، وملك مثوانا، فنحن أمثل من سوانا، وفي الشر خيار، ويد اللطائف تكسر من صولة الأغيار، فحتى الآن لم نفقد من اللطيف تعالى لطفاً، ولا عدمنا أدوات أدعية تعطف بلا مهلة على جملتنا المقطوعة جمل النعم الموصولة عطفاً، وإلا فتلك بغداد دار السلام، ومتبوأ الإسلام، المحفوف بفرسان السيوف والأقلام، مثابة الخلافة العباسية، ومقر العلماء والفضلاء أولي السير الأويسية (1) ، والعقول الإياسية (2) ، قد نوزلت بالجيوش ونزلت، وزوولتت بالزحوف وزلزلت، وتحيف جوانبها الجيف، ودخلها كفار التتار عنوة بالسيف، ولا تسل إذ ذاك عن كيف، أيام تجلت عروس المنية كاشفة عن ساقها مبدية، وجرت الدماء في الشوارع والطرق كالأنهار والأودية، وقيد الأئمة والقضاة تحت ظلال السيوف المنتضاة بالعمائم في رقابهم والأردية، وللنجيع سيول، تخوضها الخيول، فتخضبها إلى أرساغها، وتهم ظماؤها بوردها فتنكل عن تجرعها ومساغها، فطاح عاصمها ومستعصمها، وراح ولم يعد ظالمها ومتظلمها، وخربت مساجدها وديارها، واصطلم بالحسام أشرارها وخيارها، فلم يبق من جمهور أهلها عين تطرف، حسبما عرفت أو حسبما تعرف، فلا تك متشككاً متوقفاً، فحديث تلك الواقعة الشنعاء أشهر عند المؤرخين من قفا، فأين تلك الجحافل، والآراء المدارة في المحافل حين أراد الله تعالى
(1) نسبة إلى أويس القرني الزاهد.
(2)
نسبة إلى غياس بن معاوية القاضي الذي يضرب به المثل في الزكانة.
بإدالة الكفر، لم تجد ولا قلامة ظفر، فمن سلمت له نفسه التي هي رأس ماله، وعياله وأطفاله اللذان هما من أعظم آماله، وكل أو جل أو أقل (1) رياشه، وأسباب معاشه الكفيلة بانتهاضه وانتعاشه، ثم وجد مع ذلك سبيلاً إلى الخلاص، في حال مياسرة ومساهلة دون تعصب واعتياص، بعد أن ظن كل الظن أن لا محيد ولا مناص، فما أحقه حينئذٍ وأولاه، أن يحمد خالقه ورازقه ومولاه، على ما أسداه غليه من رفده وخيره، ومعافاته مما ابتلي به كثير من غيره، ويرضى بكل إيراد وإصدار، تتصرف فيهما الأحكام الإلهية والأقدار، فالدهر غدار، والدنيا دار مشحونة بالأكدار، والقضاء لا يرد، ولا يصد، ولا يغالب، ولا يطالب، والدائرات تدور، ولا بد من نقص وكمال للبدور، والعبد مطيع لا مطاع، وليس يطاع إلا المستطاع، وللخالق القدير جلت قدرته في خليقته علم غيبٍ للأذهان عن مداه انقطاع.
ومالي والتكلف لما لا أحتاج إليه من هذا القول، بين يدي ذي الجلالةالمجادة والفضل والطول فله من العقل الأرجح، ومن الخلق الأسجح، ما لا تلتاط معه تهمتي بصفره (2) ، ولا تنفق عنده وشاية الواشي لا عد من نفره، ولا فاز قدحه بظفره، والمولى يعلم أن الدنيا تلعب باللاعب، وتجر براحتها إلى المتاعب، وقديماً للأكياس من الناس خدعت، وانحرفت عن وصالهم أعقل ما كانوا وقطعت، وفعلت بهم ما فعلت بيسار الكواعب تلك التي جبت وجدعت، ولئن رهصت وهصرت، فقد نبهت وبصرت، ولئن قرعت وأمعضت، لقد ارشدت ووعظت، ويا ويلنا من تنكرها لنا بمرة، ورميها لنا في غمرةٍ أي غمرة، أيام قلبت لنا ظهر المجن، وغيم أفقها المصحي وادجن، فسرعان ما عاينا حبالها منيتة، ورأينا منه مالم نحتسب كما تقوم الساعة بغتة، فمن استعاذ من شيء
(1) ق ص: أعقل.
(2)
يريد: لا تعلق بقلبه.
فليستعذ مما صرنا إليه من الحور بعد الكور، والانحطاط من النجد إلى الغور:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا
…
إذا نحن فيهم سوقةٌ تتنصّف (1) فأفٍّ لدنيا لا يدوم نعيمها تقلّب تاراتٍ بنا وتصرّف
وأبيها لقد أرهقتنا إرهاقاً، وجرعتنا من صاب الأوصاب كأساً دهاقاً، ولم نفزع إلى غير بابكم المنيع الجناب، المنفتح حين سدت الأبواب، ولك نلبس غير لباس نعمائكم حين خلعنا ما ألبسنا الملك من الأثواب، وإلى أمه يلجأ الطفل لجأ اللهفان، وعند الشدائد تمتاز السيوف في الأجفان من الأجفان، ووجه الله تعالى يبقى وكلّ من عليها فانٍ، وإلى هنا ينتهي القائل ثم يقول: حسبي هذا وكفان.
ولا ريب في اشتمال العلم الكريم، على ما تعارفته الملوك بينها في الحديث والقديم، من الأخذ باليد عند زلة القدم، وقرع الأسنان وعض البنان من الندم، ديناً تدينت حتى مع اختلاف الأديان، وعادة اطردت فيهم على تعاقب الأزمان والأحيان.
ولقد عرض علينا صاحب قشتالة مواضع معتبرة خير فيها، وأعطى من أمانه المؤكد فيه خطه بأيمانه ما يقنع النفوس ويكفيها، فلم نر ونحن من سلالة الأحمر، مجاورة الصفر، ولا سوغ لنا الإيمان الإقامة بين ظهراني الكفر، ما وجدنا عن ذلك مندوحة ولو شاسعة، وأمنا من المطالب المشاغب حمة شرٍ لنا لاسعة، وادكرنا أي ادكار، قول الله تعالى المنكر لذلك غاية الإنكار " ألم تكن أرض الله واسعة " وقول الرسول، عليه الصلاة والسلام، المبالغ في ذلك بأبلغ الكلام " أنا بريء من مؤمن مع كافر لا تتراءى ناراهما "(2) وقول الشاعر الحاث على
(1) ورد البيتان في قصة حرقة بنت النعمان تخاطب فروة بن إياس بن قبيصة (المحاسن والأضداد: 115) .
(2)
نص الحديث: أنا بريء من كل مسلم مع شرك، قيل: لم يا رسول الله قال: لا تراءى ناراهما.
حث المطية، المتثاقلة عن السير في طريق منجاتها البطية:
وما أنا والتلدّد نحو نجد
…
وقد غصّت تهامة بالرجال ووصلت أيضاً من الشرق إلينا، كتبٌ كريمة المقاصد لدينا، تستدعي الانحياز إلى تلك الجنبات، وتتضمن ما لا مزيد عليه من الرغبات، فلم نختر إلا دارنا التي كانت دار آبائنا من قبلنا، ولم نرتض الإنضواء إلا لمن بحبله وصل حبلنا، وبريش نبله ريش نبلنا، إدلالاً على محل إخاء متوارث لا عن كلالة، وامتثالاً لوصاة أجداد لأنظارهم وأقدارهم أصالة وجلالة، إذ قد روينا عمن سلف من أسلافنا، في الإيصاء لمن يخلف بعدهم من أخلافنا، أن لا يبتغوا إذا دهمهم داهم بالحضرة المرينية بدلاً، ولا يجدوا عن طريقها في التوجه إلى فريقها (1) معدلاً، فاخترقنا إلى الرياض الأريضة الفجاج، وركبنا إلى البحر الفرات ظهر البحر الأجاج، فلا غرو أن نرد منه على ما يقر العين، ويشفي النفس الشاكية من ألم البين، ومن توصل هذا التوصل، وتوسل بمثل ذلك التوسل، تطارحاً على سدة أمير المؤمنين، المحارب للمحاربين، والمؤمن للمستأمنين، فهو الخليق الحقيق بأن يسوغ أصفى مشاربه، ويبلغ أوفى مآربه، على توالي الأيام والشهور والسنين، ويخلص من الثبور إلى الحبور، ويخرج من الظلمات إلى النور، خروج الجنين، ولعل شعاع سعادته يفيض علينا، ونفحة قبول إقباله تسري إلينا، فتخامرنا أريحية تحملنا على أن نبادر، لإنشاد قول الشريف الرضي في الخليفة القادر (2) :
عطفاً أمير المؤمنين فإنّنا
…
في دوحة العلياء لا نتفرّق
ما بيننا يوم الفخار تفاوتٌ
…
أبداً، كلانا في المعالي معرق
إلاّ الخلافة ميّزتك، فإنّني
…
أنا عاطلٌ منها وأنت مطوّق
(1) ص: أفريقيا.
(2)
ديوان الرضي 2: 42.
لا بل الأحرى بنا والأحجى، والأنجح لسعينا والأرجى، أن نعدل عن هذا المنهاج، ويقوم وافدنا بين يدي علاه مقام الخاضع المتواضع الضعيف المحتاج، وينشد ما قال في الشيرازي ابن حجاج (1) :
الناس يفدونك اضطراراً
…
منهم، وأفديك باختياري
وبعضهم في جوار بعضٍ
…
وأنت حتى أموت جاري
فعش لخبزي وعش لمائي
…
وعش لداري وأهل داري ونستوهب من الوهاب تعالى جلت أسماؤه، وتعاظمت نعماؤه، رحمةً تجعل في يد الهداية أعنتها، وعصمةً تكون في مواقف المخاوف جنتنا، وقبولاً يعطف علينا نوافر القلوب، وصنعاً يسني لنا كل مرغوب ومطلوب، ونسأله وطالما بلغ السائل سؤالاً ومأمولاً، متاباً صادقاً على موضوع الندم محمولاً، ثم عزاءً حسناً وصبراً جميلاً، عن أرض أورثها من شاء من عباده معقباً لهم ومديلاً، وسادلاً عليهم من ستور الإملاء الطويلة سدولاً " سنة الله التي قد خلت من قيل ولن تجد لسنة الله تبديلاً " فليطر طائر الوسواس المرفرف مطيراً، كان ذلك في الكتاب مسطوراً، لم نستطع عن مورده صدوراً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
ألا وإن لله سبحانه، في مقامكم العلي الذي أيده وأعانه، سراص من النصر يترجم عنه لسان من النصل، وترجع فروع البشائر الصادقة، بالفتوحات المتلاحقة، من قاعدته المتأصلة، إلى أصل، فبمثله يجب اللياذ، والعياذ، ولشبهه يحق الالتجاء، والارتجاء، ولأمر ما آثرناه واخترناه، بعد أن استرشدنا الله سبحانه واستخرناه، ومنه جل جلاله نرغب أن يخير لنا ولجميع المسلمين ويأوينا من حمايته ووقايته إلى معقل منيع وجناب رفيع أمين، آمين آمين، ونرجو أن يكون ربنا، الذي هو في جميع الأمور حسبنا، قد خار لنا حيث أرشدنا وهدانا،
(1) من أبيات لابن حجاج في أبي الفضل الشيرازي (اليتيمة 3: 47) .
وساقنا توفيقه وحدانا، إلى الإستجارة بملك حفي، كريم وفي، أعز جاراً من أبي داوود، وأحمى أنفاً من الحارث بن عباد، يشهد بذلك الداني والقاصي والحاضر والباد، إن أغاث ملهوفاً فما الأسود ابن قنان يذكر، وإن أنعش حشاشة هالكٍ فما كعب بنم مامة (1) على فعله وحده يشكر، جليسه كجليس القعقاع ابن شور (2) ، ووذاكره كمذاكر سفيان المنتسب من الرباب إلى ثور (3) ، إلى التحلي بأمهات الفضائل، التي أضدادها أمهات الرذائل، وهي الثلاث: الحكمة والعدل والعفة التي تشملها الثلاثة الأقوال والأفعال والشمائل، وينشأ منها ما شئت من عزم وحزم، وعلم وحلم، وتيقظ وتحفظ، واتقاء وارتقاء، وصول وطول، وسماح ونائل، فبنور حلاه المشرق، يفتخر المغرب على المشرق، وبمحتده السامي خطره في الأخطار، وبيته الذي ذكره في النباهة والنجابة قد طار، يباهي جميع ملوك الجهات والأقطار، وكيف لا وهو الرفيع المنتمى والنجار، الراضع من الطهارة صفو ألبان، الناشئ من السراوة وسط أحجار، في ضئضئ المجد وبحبوح الكرم، وسراوة أسرة المملكة التي أكنافها حرم، وذؤابة الشرف التي مجاذبتها لم ترم، من معشر أي معشر بخلوا إن وهبوا ما دون أعمارهم، وجبنوا إن لم يحموا سوى ذمارهم، بنو مرين، وما أدراك ما بنو مرين:
سمّ العداة وآفة الجزر (4)
…
النازلون بكلّ معتركٍ
…
والطيبون معاقد الأزر لهم من الهفوات انتفاء، وعندهم من السير النبوية اكتفاء، انتسبوا إلى بر
(1) مضرب المثل في الإيثار لأنه آثر صاحبه النمري على نفسه بالماء ومات ظمأً.
(2)
يضرب به المثل في حسن المجالسة، قال الشاعر:
وكنت جليس قعقاع بن شور
…
ولا يشقى بقعقاع جليس (3) يريد سفيان الثوري، والرباب مجموعة قبائل فيها ثور وعوف وضبة.
(4)
صدر هذا البيت من شعر الخرنق " لا يبعدن قومي الذين هم ".
ابن قيس، فخرجوا في البر عن القيس (1) ، ما لهم القديم المعروف، قد نفد في سبيل المعروف، وحديثهم الذي نقلته رجال الزحوف، من طرق القنا والسيوف، على الحسن من المقاصد موقوف، تحمد من صغيرهم وكبيرهم ولدنهم، فلله آباء أنجبوهم وأمهات ولدنهم:
شمّ الأنوف من الطراز الأوّل (2)
…
إليهم في الشدائد الاستناد وعليهم في الأزمات المعول، ولهم في الوفاء والصفاء والاحتفاء والعناية والحماية والرعاية الخطو الواسع والباع الأطول، كأنما عناهم بقوله جرول (3) :
أولئك قومٌ إن بنوا أحسنوا البنا
…
وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدّوا
وإن كانت النّعماء فيهم جزوا بها
…
وإن أنعموا لا كدّروها ولا كدّوا
وتعذلني أبناء سعدٍ عليهم
…
وما قلت إلاّ بالتي علمت سعد وبقوله الوثيق مبناه، البليغ معناه (4) :
قومٌ إذا عقدوا عقداً لجارهم
…
شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا (5) يزيحون عن النزيل كل نازح قاصم، وليس له منهم عائب ولا واصم، فهم أحق بما قاله في منقر قيس بن عاصم (5) :
(1) القيس: المقايسة.
(2)
عجز بيت لحسان، وصدره " بيض الوجوه كريمة أحسابهم ".
(3)
ديوان الحطيئة: 41.
(4)
ديوان الحطيئة: 16.
(5)
العناج: حبل يجعل في أسفل الدلو تشد به العراقي، والكرب عقد مثني يشد على العراقي، والمعنى: إذا عقدوا أوفوا لمن عقدوا وكان عقدهم وثيقاً.
(5)
العناج: حبل يجعل في أسفل الدلو تشد به العراقي، والكرب عقد مثني يشد على العراقي، والمعنى: إذا عقدوا أوفوا لمن عقدوا وكان عقدهم وثيقاً.
لا يفطنون لعيب جارهم
…
وهم لحفظ جوارهم فطن حلاهم هذه الغريزة التي ليست باستكراه ولا جعل، وأمير المؤمنين دام نصره قسيمهم فيها حذو النعل بالنعل، ثم هو عليهم وعلى من سواهم بالأوصاف الملوكية مستعل، ارفض مزنهم منه عن غيث ملثٍ يمحو آثار اللزبة، وانشق غيلهم منه عن ليث ضارٍ متقبض على براثنه للوثبة، فقل لسكان الفلا: لا تغرنكم أعدادكم وأمدادكم، فلا يبالي السرحان المواشي سواء مشى إليها النقرى أو الجفلى (1) ، بل يصدمهم صدمة تحطم منهم كل عرنين، ثم يبتلع بعد أشلائهم المعفرة ابتلاع التنين، فهو كما عرفوه، وعهدوه وألفوه، أخو المنايا، وابن جلا وطلاع الثنايا، مجتمع أشده، قد احتنكت سنه وبان رشده، جاد مجد، محتزم بحزام الحزم مشمر عن ساعد الجد:
لا يشرب الماء إلا من قليب دم
…
ولا يبيت له جار على وجل (2) أسدي القلب آدمي الرواء، لابس جلد النمر يزوي العناد والنواء (3) :
وليس بشاوي (4) عليه دمامة
…
إذا ما سعى يسعى بقوس وأسهم ولكنه يسعى عليه مفاضة دلاص كأعيان الجراد المنظم
فالنجاء النجاء سامعين له طائعين، والوحى الوحى (5) لاحقين به خاضعين، قبل أن تساقوا إليه مقرنين في الأصفاد، ويعيا الفداء بنفائس النفوس والأموال على الفاد، حينئذ يعض ذو الجهل والفدامة، على يديه حسرة وندامة، إذا رأى
(1) النقري: الدعوة الخاصة، والجفلى: العامة، يعني وحده أو مع جماعة.
(2)
البيت لأبي سعيد المخزومي (أمالي القالي 1: 259) .
(3)
انظر اللسان (شوه - عين) .
(4)
الشاوي: صاحب الشاء.
(5)
في ق ص: والوجل الوجل.
أبطال الجنود، تحت خوافق الرايات والبنود، قد لفحتهم نار ليست بذات خمود، وأخذتهم صاعقة مثل صاعقة الذين من قبلهم عاد وثمود، زعقات تؤز الكتائب أزاً، وهزاً محققاً للخيل بعد المد المشبع للأعنة همزاً (1) ، وسلاً للهندية سلاً وهزاً للخطية هزاً، حتى يقول النسر للذئب:" هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً "، ثق خليفة الله بذاك، في كل من رام أذى رعيتك أو أذاك، فتلك عادة الله سبحانه وتعالى في ذوي الشقاق والنفاق، الذين يشقون عصا المسلمين ويقطعون طريق الرفاق، وينصبون حبائل البغي والفساد في جميع النواحي والآفاق، فلم يجعلهم الله عز وجل من الآمنين، أنى وكيف وقد أفسدوا وخانوا وهو سبحانه لا يصلح عمل المفسدين، ولا يهدي كيد الخائنين، وها نحن قد وجهنا إلى كعبة مجدكم وجوه صلوات التقديس والتعظيم، بعدما زينا معاطفها باستعطافكم بدر سناء أبهى من در العقد النظيم، منتظمين في سلك أوليائكم، متشرفين بخدمة عليائكم، ولا فقد عزة ولا عدمها، من قصد مثابتكم العزيزة وخدمها، وإن المترامى على سنائكم، لجدير بحرمتكم واعتنائكم، وكل ملهوف تبوأ من كنفكم حصناً حصيناً، عاش بقية عمره محروساً من الضيم مصوناً، وقد قيل في بعض الكلام: من قعدت به نكاية الأيام، أقامته إغاثة الكرام، ومولانا أيده الله تعالى ولي ما يزفه إلينا من مكرمة بكر، ويصنعه لنا من صنيع حافل يخلد في صحائف حسن الذكر، ويروي معنعن حديث حمده، وشكره طرس عن قلم عن بنان عن لسان عن فكر، وغيره من ينام عن ذلك فيوقظ، ويسترسل مع الغفلة حتى يذكر ويوعظ، وما عهد منذ وجد إلا سريعاً إلى داعي الندى والتكرم، بريئاً من الضجر بالمطال والتبرم، حافظاً للجار الذي أوصى النبي، صلى الله عليه وسلم، بحفظه، مستفرغاً وسعه في رعيه المستمر ولحظه، آخذاً من حسن الثناء في جميع الأوقات والآناء بحظه:
(1) ص: وعمزاً.
فهو من دوحة السنا فرع عز
…
ليس يحتاج مجتنيه لهز
كفه في الأمحال أغزر وبل
…
وذراه في الخوف أمنع حرز
حلمه يسفر اسمه لك عنه
…
فتفهم يا مدعي الفهم لغزي
لا تسله شيئاً ولا تستنله
…
نظرة منه فيك تغني وتجزي
فنداه هو الفرات الذي قد
…
عام فيه الأنام عوم الأوز
وحماه هو المنيع الذي تر
…
جع عنهالخطوب مرجع عجز
فدعوا ذهنه يزاول قولي
…
فهو أدرى بما تضمن رمزي
دام يحيا بكل صنع ومل
…
ويعافى من كل بؤس ورجز وكأنا به قد عمل على شاكلة جلاله، من مد ظلاله، وتمهيد حلاله، وتلقى ورودنا بحسن تهلله واستهلاله، وتأنيسنا بجميل قبوله وإقباله، وإيرادنا على حوض كوثره المترع بزلاله، والله سبحانه يسعد مقامه العلي ويسعدنا به في حله وارتحاله، ومآله وحاله، ويؤيد جنده المظفر ويؤيدنا بتأييده على نزال عدوه واستنزاله، وهز الذوابل لإطفاء ذباله، وهو سبحانه وتعالى المسؤول أن يريه قرة العين في نفسه وأهله وخدامه وأمواله، وأنظاره وأعماله، وكافن شؤونه وأحواله، وأحق ما نصل بالسلام وأولى، على المقام الجليل مقام الخليفة المولى، أزكى الصلاة والسلام على خاتمة أنبياءه وأرساله، سيدنا ومولانا محمد، صلى الله عليه وسلم وعلى جميع أصحابه وآله، صلاة وسلاماً دائمين أبداً موصولين بدوام الأبد واتصاله، ضامنين لمجددهما ومرددهما صلاح فاسد أعماله، وبلوغ غاية آماله، وذلك بمشيئة الله تعالى وإذنه وفضله وإفضاله، انتهى.
[ترجمة محمد العربي كاتب الرسالة نقلاً عن الوادي آشي]
وكاتب هذه الرسالة على لسان السلطان المخلوع، قال الوادي آشي في حقه (1) :
(1) انظر تعريفاً بالفقيه أبي عبد الله محمد بن عبد الله العقيلي العربي صاحب هذه الرسالة في أزهار الرياض 1: 103.
إنه إمام الصناعة، وفارس حلبة القرطاس واليراعة، وواسطة عقد البلاغة والبراعة الذي قطف الكمال لما نور، ورتب محاسن البديع في درر فقره وطور، وغرف من بحر عجاج، واقتطف من خاطر وهاج، أبو عبد الله محمد بن عبد الله العربي العقيلي، وما أحسن قوله فيمن قد ظفر به المسلمون:
ألا رب مغرور تنصر ضلة
…
فحاق به شؤم الضلال وشره
فإن يرتفع عند النصارى بالابتدا
…
فكم عندنا من حرف حبل يجره وقال الوادي آشي أيضاً في موضع آخر ما نصه: ولشاعر العصر، ومالك زمامي النظم والنثر، والفقيه العالم المتقن المتفنن العارف الأوحد النبيه النبل، سيدي محمد العربي وصلى الله تعالى رفعة قدره، وحرس من غير الأيام أشعة بدره (1) :
الحب في جمهور أنواره
…
فأين الإخوان والأحباب
وأين أين الإجتماعات، قد
…
تهيأت لهن الأسباب
وأين بنت الجبن مهما بدت
…
طارت إليها شوقاً الباب
وأين الألبان لأكوابها
…
في برم الأرز تسكاب
واللحم بالبسباس قد ألفت
…
لطبخه في القدر الأحطاب
والعود ذو دندنة يطبي
…
آثارها للطاري دبداب
وملح الأصوات قد طورحت
…
وجاء معبدٌ وزرياب (2)
وفض للهو ختام ولم
…
يسد في وجه الهوى باب
وقيل للوقار قم قبل أن
…
تسلب عنك الآن الاثواب
وكلّ إنسانٍ وما يشتهي
…
ليس على مناه حجاب
(1) قد تقرأ القصيدة معربة بشيء من التعسف، ولكني اعتقد أنها قد تعد من الشعر الملحون.
(2)
سقط هذا البيت من ص.
مسترسلاً ليس له عذل
…
كلا ولا عليه رقاب
في راحة خلعت أرسانها
…
لمثلها تعصر الأعناب
فكل بستان قد استأسدت
…
فيه النواوير والاعشاب
وأطلع التراب أدواحه
…
كأنها العرب الاتراب
لما تحلت بحلى زهرها
…
داخلها بالحسن الاعجاب
عرائس ليس لها في سوى
…
ماية أو ينية خطاب
أيام تبدي ثمرات بدا
…
في جنباتهن الارطاب
كأنه في العيتن يافوت أو
…
كأنه في الفم جلاب
هيهات هيهات أمان لها
…
خلب برق لك خلاب
ما حوت الرؤوس أمثالها
…
فكيف تحويهن الأذناب
قد عاق عن ذلك دهر به
…
تعدم الأفراح والأطراب
يروم الإنسان غلاباً له
…
والدهر للإنسان غلاب وقال رحمه الله تعالى لما نزل النصارى لمحاصرة غرناطة:
بالطبل في كل يوم
…
وبالنفير نراع
وليس من بعد هذا
…
وذاك إلا القراع
يا رب جبرك يرجو
…
من هيض منه الذراع
لا تسلبني صبراً
…
منه لقلب ادراع وله رحمه الله تعالى في الموشحات اليد الطولى، فمن ذلك قوله:
بدر أهل الزمان
…
الرفيع القدر
لا تزل في أمان
…
من كسوف البدر
هل يصح الأمان
…
من شبيه البدر
وهو مثل الزمان
…
منتم للغدر
لم يغر الأغر
…
غير غمر جاهل
عيشه الحلو مر
…
وهو فيه ناهل
والصبا الغض مر
…
وهو عنه ذاهل
مرشف البهرمان
…
فوق ثغر الدرر
مطمع للأمان
…
باقتراب الدر وعارض رحمه الله تعالى بهاتين الموشحتين الموشحة المشهورة:
ضاحك عن جمان
…
سافر عن بدر
ضاق عنه الزمان
…
وحواه صدري وممن عارض هذه الموشحة ابن أرقم إذ قال:
مبسم البهرمان
…
في المحيا الدري
صاد قلبي وبان
…
وأنا لم أدري والإنصاف أن معارضة العربي أحسن من هذه.
وله أيضاً معارضتان غير ماتقدم: الأولى قوله:
بان لي ثم بان
…
ذا خدود حمر
ينثني مثل بان
…
في ثياب خضر والثانية قوله:
هل لمرآك ثان
…
في ثناه الدري
أو لحوباه ثان
…
عن هواها العذري
يا مليحاً جلا
…
عن محيا جميل
همت فيه ولا
…
هيمان جميل
مل قليلاً إلى
…
من إليك يميل
عاشق فيك فان
…
كاتم للسر
لك منه مكان
…
في صميم الصدر ومن نظم العربي المذكور لما عرض عليه السلطان رياسة كتابه من قصيدة:
أوجه سعدى انحط عنه اللثام
…
أم بدر أفق فض عنه الغمام
أم أنا في حالي لا عقل لي
…
أم حلم قد لاح لي في المنام
يا لك مرأى من رأى حسنه
…
هيج للقلب غراماً فهام
كأنما أقبس نور البها
…
من وجه مولانا الإمام الهمام
ابن أبي الحسن الأسرى الذي
…
قد كان للأملاك مسك الختام
ضرغام قد (1) أنجب شبهاً له
…
في صدق بأس ومضاء اعتزام
حام وسام فأفاعيله
…
تنقلها أبناء سام وحام
دام له النصر الذي جاءه
…
والسيف من طلى أعاديه دام
فيا أمير المؤمنين الذي
…
له بعروة اليقين اعتصام
أبشر بجد مقبل لم يؤل
…
إلى انصراف لا ولا لانصرام
وعزة لم يفض بنيانها
…
إلى انهداد لا ولا لانهدام
لله منك ملك جنده
…
زهر النجوم (2) وهو بدر التمام ومنها:
يطرب من مادحه مثلما
…
يطرب قلب الصب سجع الحمام
(1) قد: سقطت من ق ص.
(2)
ق: الدراري.
فيفعل الشعر بأعطافه
…
ما ليس تفعل بهن المدام
وإن حكى في حسنه يوسفاً
…
فمدحه يشبه زهر الكمام ومنها:
فداره ليست ببغدادهم
…
مع أنها تدعى بدار السلام ومنها:
أسأله الإعفاء من كل ما
…
أعجز عن حمل له والتزام ومنها:
مستشفعاً له بخير الورى
…
محمد عليه أزكى السلام ومنها:
وكل إنسان وما اختاره
…
ورب ذي عذر قد أضحى يلام وآخرها:
فالحمد لله على أن غدا
…
للشمل بعد الانصداع التئام ولنختم هذه الترجمة بقوله (1) :
جز بالبساتين والرياض فما
…
أبهج مرئيها (2) وأحلاه
واعجب بها للنبات ولتك في
…
أسفله ناظراً وأعلاه
وقدس الله عند ذاك وقل
…
سبحانه لا إله إلا هو سبحان وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين والحمد لله رب العالمين.
انتهى المجلد الرابع
(1) الأبيات في أزهار الرياض 1: 103.
(2)
ق: مرآها.