الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العقل عند الفلاسفة
(1) :
فأما الفلاسفة فقد كثر اضطرابهم في ذلك كحالهم في كل قضية يناقشونها فالعقل عندهم يطلق على عدة معاني منها:
العقل جوهر بسيط مدرك للأشياء بحقائقها (2) .
وهذا الجوهر ليس مركباً من قوة قابلة للفساد، وإنما هو مجرد عن المادة في ذاته مقارن لها في فعله.
العقل قوة النفس التي بها يحصل تصور المعاني، وتأليف القضايا، فهو قوة تجديد تنتزع الصور من المادة، وتدرك المعاني الكلية ولهذه القوة عندهم مراتب:
مرتبة العقل الهيولاني وهو الاستعداد المحض لإدراك المعقولات، ونسب إلى الهيولي لأن النفس في هذه المرتبة تشبه الهيولي الأولى الخالية في حد ذاتها من الصور كلها والعقل الهيولاني مرادف للعقل بالقوة، وهو العقل الذي يشبه الصفحة البيضاء التي لم ينقش عليها شيء بالفعل.
مرتبة العقل بالملكة، وهو العلم بالضروريات واستعداد النفس بذلك لاكتساب النظريات.
مرتبة العقل بالفعل: وهو أن تصير النظريات مخزونة عند القوة العاقلة بتكرار الاكتساب بحيث يحصل لها ملكة الاستحضار متى شاءت من غير تجشم كسب جديد لكنها لا تشاهدها بالفعل.
مرتبة العقل المستفاد: وهو أن تكون النظريات حاضرة عند العقل لا تغيب عنه (3) .
(1) استفدت كثيراً مما جاء في هذا المبحث من مقدمة الدكتور: موسى الدويش لكتاب شيخ الإسلام (بغية المرتاد) مع ما تيسر من إضافات.
(2)
رسالة في حدود الأشياء للكندي، تحقيق يوحنا مخيمر ص 33 دار المشرق بيروت.
(3)
انظر المعجم الفلسفي د- جميل صليبا 2/86.
وعند هذا العقل الأخير يتم النوع الإنساني، وكل عقل من هذه العقول قد يكون عقلاً بالقوة بالنسبة إلى ما فوقه، وعقلاً بالفعل بالنسبة إلى ما تحته، ولا يتم له الانتقال من القوة إلى الفعل إلا بواسطة عقل مفارق هو دائماً بالفعل، وهو العقل الفعال (1) ، ومنزلته فوق العقل الإنساني تفيض عنه الصور على عالم الكون والفساد فتكون موجودة فيه من حيث هي فاعلة، أما في عالم الكون والفساد فهي لا توجد إلا من جهة الانفعال،، وإذا أصبح العقل الإنساني شديد الاتصال بالعقل الفعال كأنه يعرف كل شيء من نفسه سمي بالعقل القدسي.
وهذا كله مأخوذ من قول أرسطو (2)(إن العقل الفاعل هو العقل الذي يجرد المعاني أو الصور الكلية من لواحقها الحسية الجزئية على حين أن العقل المنفعل هو الذي تنطبع فيه هذه الصور) .
وقد اختلف شراح أرسطو في هذا العقل الفاعل، أو الفعال المفارق للمادة.
فذهب الاسكندر الأفروديسي إلى أن هذا العقل الفعال هو الله، لأن الله عقل محض مفارق للمادة عند أرسطو، وكذلك هذا العقل، وهو التأويل الذي اختارته المدرسة الأوغسطينية عامة في العصور الوسطى.
وذهب متفلسفة الإسلام إلى أن هذا العقل هو أحد العقول أو الجواهر المفارقة التي تحرك الأجرام السماوية وبناء عليه أسندوا إليه ثلاث وظائف كبرى: تحريك عالم ما تحت القمر، إفاضة الصور العقلية على النفس، فإفاضة الصور الجوهرية على الموجودات مطلقين عليه من جراء ذلك اسم ((واهب الصور)) .
وذهب فريق ثالث، وعلى رأسهم ثامسطيوس (317-388م) والقديس توما الاكويني (1225-1274م) إلى أنه قوة من قوى النفس (3) .
(1) تاريخ الفلسفة العربية: د- جميل صليبا 255.
(2)
المعجم الفلسفي د- جميل صليبا ص 86، شروح على أرسطو ص 31 وما بعدها تحقيق د- عبد الرحمن بدوي.
(3)
أرسطو المعلم الأول، لماجد فخري 73-74 ط الثانية 1977م الأهلية للنشر والتوزيع بيروت.
وذهب يوسف كرم إلى أن عبارة العقل الفعال من كلام الشراح وابتداعهم بسبب غموض كلام أرسطو في هذا المجال (1) . ومهما يكن فالخلاف حاصل بينهم لا محالة لأنهم يمشون على غير هدى من الله.
وينتهي أرسطو إلى القول بأن هناك علة أولى أو المبدأ الأول ويصفه بأنه عقل محض وعاقل ومعقول. وقد عجز في نهاية الأمر عن بيان كيفية الاتصال بين العالم الحسي والعقل الإلهي الذي تصوره، وهذا شأن الفلاسفة كلهم فهم يبنون أفكارهم على خيالات ذهنية لأنهم اعتمدوا على عقولهم وتركوا دعوة الرسل جانباً.
ولهذا نرى من جاء بعد أرسطو من الاسكندرانيين وعلى رأسهم أفلوطين وجدوا هذا التناقض العظيم بين الفلاسفة فكل منهم يخطئ الآخر، فحاولوا إصلاح تلك الفلسفة الفاسدة، وانتهى أمرهم إلى الإخفاق مثل غيرهم، وكان من ضمن محاولات أفلوطين للجمع بين رأي أفلاطون وأرسطو، القول بنظرية الفيض، وهي النظرية التي تبناها الفارابي فيما بعد ثم ابن سينا، حتى شاعت بين فلاسفة التصوف أمثال ابن عربي وابن سبعين.
ونظرية الفيض: عبارة عن تصوير صدور الموجودات عن الله أو صدور الكثرة عن الواحد.
ويرى هؤلاء (2) . أن إحداث الأشياء ما هو إلا انتشار ما في العلة الأولى من القدرة على التعقل والتأثير مع بقاء ذاتها على ما كانت عليه من السكون والكمال المتعالي عن كل نوع من التغيير والحركة، فإذا قيل: وما الباعث الذي حمل تلك العلة على إحداث العالم؟
الجواب: أنها لم تكن محتاجة إلى العالم، بل كان ذلك لما فيها من الجود وإفراط القدرة.
ثم قال أفلوطين (3) : لو لم يكن للعالم وجود، لما وجد في ذات المبدأ فرق.
(1) تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم ص 213.
(2)
انظر كتاب الوجد الإلهي بين انتصار العقل وتهافت المادة – ص 163 لسانتلانا.
(3)
المصدر نفسه 164.
فهو إذاً غير محتاج إلى العالم، مع شدة احتياج العالم إليه، غير أنه لا يتصور في القدرة إذا بلغت أشدها وأدركت من الكمال غايته أن تبقى في نفسها منحازة معطلة، بل لا تأثير لها ولا فعل، وهذا حال العلة الأولى فإنها لما لها من الكمال لا تبقى معطلة بل لابد أن تفيض قوتها فيضان الماء من العين الغزيرة وانتشار النور من الشمس.
فالوجود عند أفلوطين وشيعته ينحصر في أصل واحد هو: العقل الفائض من العلة الأولى، وما يفيض من العقل من مراتب الموجودات، فالكل أنوار عقلية أي: قوى إلهية انعكست ببعضها عن بعض يتناقص نورها شيئاً فشيئاً بقدر ما تباعدت عن المنبع الأولى إلى أن ينتهي هبوطها إلى رتبة يكاد أن ينعدم فيها النور بالكلية وهي المادة، وتلك عبارة عن الظلام وهو العدم، أي سلب التعيين وفقدان الوجود، فما العالم إلا إبراز ما كان مكنوناً من القوى في العلة الأولى، لا زال معلقاً بها كالظل بالشخص، وكالنور بالشمس، والإله محيط به من جميع أكنافه، حال في جميع أجزائه كما يقع نور الشمس على الأرض.
ويقول أفلوطين أيضاً: ينبغي أن نعلم أن الأشياء الطبيعية متعلق بعضها ببعض، فإذا فسد بعضها صار إلى صاحبه علو إلى أن يأتي الأجرام السماوية، ثم النفس، ثم العقل، فالأشياء كلها ثابتة في العقل، والعقل ثابت بالعلة الأولى، والعلة الأولى بدء لجميع الأشياء ومنتهاها (1) .
تلك هي نظرة هؤلاء الفلاسفة إلى الله سبحانه وتعالى، وهي نظرة تخالف عقيدة التوحيد وتناقضها ولا تلتقي معها أبداً، فهم قد جردوا الإله عن أسمائه الحسنى وصفاته العلى وخاصة صفة الخلق وجعلوا وجوده مجرد وجود في الذهن فقط.
(1) الوجود الإلهي، سانتلانا 121-122.
وقد أخذ متفلسفة الإسلام تلك الآراء الفلسفية وهذبوها وشرحوها وحاولوا مزجها بالشريعة الإسلامية، ومن ذلك نظرية الفيض أو الصدور التي قال بها أفلوطين وشيعته من الاسكندرانيين، وأخذها عنهم هؤلاء المتفلسفة ممن حاول الجمع بين الشريعة والفلسفة وجعلوا الفيض أو الصدور الذي عناه هؤلاء الفلاسفة هو معنى صفة الخلق لله التي نزل بها القرآن، ومن هؤلاء الفارابي، وابن سينا.
يرى ابن سينا أن الإله عقل محض، يعقل ذاته، ففعله الأول أنه يعقل نظام الخير في الوجود وكيف ينبغي أن يكون، لا عقلاً خارجاً من القوة إلى الفعل، ولا عقلاً متنقلاً من معقول إلى معقول بل عقلاً واحداً معاً، ولما كان التعقل علة للوجود كان من الضروري أن يصدر عن تعقل الإله لذاته معلول أول هو أيضاً عقل، وهذا العقل الأول واجب بالإله ممكن بذاته وهو أيضاً يعقل الإله ويعقل ذاته، فإذا عقل الإله لزم عنه بما يعقله وجود عقل ثان تحته، وإذا عقل ذاته صدر عن تعقله لها وجود صورة الفلك الأقصى وكمالها وهي النفس، ووجود جرمية الفلك الأقصى، فالنفس تصدر عن تعقله لذاته واجبة الوجود بالإله، والجسم يصدر عن طبيعة إمكان الوجود المتدرجة من تعقله لذاته، فهناك إذن ثلاثة أشياء تفيض عن العقل الأول، العقل الثاني، وجرم الفلك الأقصى، وصورته التي هي النفس، فتحت كل عقل ثلاثة أشياء في الوجود.
والعقول المفارقة كثيرة العدة، إلا أنها ليست موجودة معاً عن الإله بل يجب أن يكون أعلاها العقل الأول، ثم يتلوه عقل ثان وثالث، ولا يزال هذا التعقل ينتج عقولاً، ونفوساً، وأفلاكاً، حتى ينتهي الإبداع عند العقل العاشر، وهو العقل الفعال المدبر لعالم الكون والفساد.
فالأمور السماوية تؤلف إذن سلسلة، كل حلقة منها تتضمن ثلاثة أشياء: العقل، والنفس، والفلك.
والإله لا يبدع إلا العقل الأول، وهذا العقل الأول يلزم عنه ثلاثة أشياء: العقل الثاني، والفلك الأقصى، ونفسه.
والعقل الثاني يلزم عنه ثلاثة أشياء: العقل الثالث، وفلك الكواكب الثابتة وصورته التي هي النفس وهكذا إلى أن ينتهي الفيض إلى فلك القمر وكرة الهواء المحيطة بالأرض (1) .
فابن سينا كغيره من الفلاسفة يرى أن الموجودات صدرت عن الله لا على سبيل القصد والاختيار بل ضرورة.
ولا شك أن كل عاقل يدرك بطلان تلك النظرية وفسادها ومنافاتها للفطرة السليمة التي لم تتلوث بالآراء الفلسفية، وقد قوبلت تلك النظرية وغيرها بالاستخفاف والاستهزاء من جانب العلماء فنجد مثلاً ابن خلدون يقول (2) :(إن هذا الذي ذهبوا إليه باطل بجميع وجوهه، فأما إسنادهم الموجودات كلها إلى العقل الأول، واكتفاؤهم به في الترقي إلى الواجب، فهو قصور عما وراء ذلك من رتب خلق الله، فالوجود أوسع نطاقاً من ذلك، ويخلق ما لا تعلمون) .
(1) انظر النجاة لابن سينا 454؛ وانظر أيضاً من أفلاطون إلى ابن سينا مجموعة محاضرات للدكتور جميل صليبا ص88-89.
(2)
مقدمة ابن خلدون ص 516.
ونجد الغزالي مع أخذه بالفلسفة أحياناً، يستنكر تلك النظرية فيقول (1) :(ما ذكرتموه تحكمات، وهو على التحقيق ظلمات فوق ظلمات لو حكاه الإنسان في نومه عن منام رآه لاستدل به على سوء مزاجه) .
والحق أن تلك الآراء ما هي إلا امتداد للوثنية القديمة التي ترى أن الكواكب أجسام سماوية، وأن لها نفوساً تحركها وأن لحركاتها تأثيراً في نفوسنا وأجسامنا، وكل كوكب يعتبر إلهاً عندهم، فالمريخ مثلاً إله الغضب، والشمس إله الحرارة، والقمر إله الرطوبة، وقد حكى القرآن ذلك عن قوم إبراهيم قال تعالى:(إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون* أئفكاً ألهة دون الله تريدون* فما ظنكم برب العالمين* فنظر نظرة في النجوم * فقال إني سقيم) .
قلت: والذي عليه علماء المسلمين من أقوالهم –أي الفلاسفة- أن العقل جوهر مجرد قائم بنفسه. قال شيخ الإسلام عنهم ((ولفظ العقل والمادة ونحوهما في كلامهم غير معناه في لغة العرب فإنهم يعنون بالعقل جوهراً مجرداً قائماً بنفسه. والعقل في لغة العرب عَرَض هو علم أو عمل بالعلم وغريزة تقتضي ذلك)) (2) .
(1) تهافت الفلاسفة للغزالي ص 29، وانتقدها من العلماء أيضاً ابن رشد في كتابه التهافت، وفخر الدين الرازي في كتابيه ((محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين)) ، و ((الأربعين في أصول الدين)) والشهرستاني في كتابه ((نهاية الاقدام في علم الكلام)) وأبي البركات البغدادي في كتابه ((المعتبر في الحكمة)) وانتقدها من المحدثين: البيرنصري نادر، في مقدمته لتحقيق كتاب الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة، وسليمان دنيا في مقدمته للجزء الأول من الإشارات لابن سينا، وحمودة غرابة في كتابه ((ابن سينا بين الدين والفلسفة)) وغيرهم، انظر كتاب دراسات في الفكر الفلسفي الإسلامي ص 149-156 للدكتور حسام الألوسي وقد استوفى غالب الأقوال التي انتقدت تلك النظرية.
(2)
درء التعارض (10/302) .
وهذا القول الذي امتاز به فلاسفة اليونان في العقل دعاهم إليه دعوى تنزيه الإله أو الخالق عن أن تصدر عنه الكثرة المشاهدة في المحسوسات فاخترعوا لأجل ذلك قضية توالد العقول وتعاقبها والتي منها هذا العقل المزعوم الذي يشترك فيه الناس. ثم جاء فلاسفتنا فزادوا طينة هذا القول المضحك بلّة فتعسفوا التأويلات واحتجوا بالمأثورات الشاذة والموضوعة ليدللوا على أقوال أولئك الفلاسفة الوثنيين بدعوى الجمع بين الدين والفلسفة لئلا يعارض أحدهما الآخر فالأصل عندهم هو أقوال البشر من الفلاسفة فهي الأقوال المقدمة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. فينبغي حمل ما تيسر من النصوص الإسلامية وقسرها كرهاً على أن تدل على تلك الأقوال ذراً للرماد في أعين عامة المسلمين أن لا يتهمونا بشيء من المروق والإلحاد إن نحن أعرضنا عن نصوصهم ومأثوراتهم كلية!
قال الدكتور موسى الدويش ((حيث أن هؤلاء المتفلسفة أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد ومن هو على شاكلتهم مؤمنون بالفلسفة إيماناً كاملاً وكأنها وحي منزل لذا قاموا بإبراز أفكار من سبقهم من الفلاسفة وخاصة أرسطو وأتباعه أصحاب الفلسفة المشائية، ولما كانت تلك الآراء الفلسفية تناقض الحقائق الدينية ولا تلتقي معها أبداً حاول هؤلاء المتفلسفة التوفيق بينهما وذلك بإخضاع النصوص الشرعية وتأويلها وتحريفها حسب أهوائهم ومحاولة تطبيق الاصطلاحات الفلسفية على المسميات النبوية وكان أفضل طريق يحقق هدفهم هذا هو سلوكهم طريق الباطنية في تحريف النصوص فجمع هؤلاء بين التفلسف والقرمطة)) (1) .
(1) بغية المرتاد (المقدمة 58) .
وقال أيضاً ((إن محاولة الجمع أو التوفيق بين الدين والفلسفة محاولة قديمة فهناك فئة من الناس اغترت بعقولها فذهبت تشرع للناس الشرائع في كل فن حتى وإن خالف شرع الله الذي جاءت به الرسل. وعندما اصطدمت تلك الآراء البشرية بشرع الله المنزل ظهرت فكرة الجمع بين الدين وتلك الآراء البشرية ومن هؤلاء فلاسفة اليونان قديماً. ثم جاء فيلون اليهودي (1) فجعل شريعة نبي الله موسى أساس الفلسفة. فذكر أن الكائنات بادئة من الله ونازلة إلى المادة وتتحد في الكلمة الإلهية ((لوجوس)) التي عنها فاضت الكائنات (2) .
وفي النصرانية جاء كليمنتس (3) فذكر أن الفلسفة في ذاتها ليست شراً فالمعرفة معرفتان:
إحداهما: عن طريق الوحي، بدأت في العهد القديم، واكتملت في العهد الجديد.
(1) أحد فلاسفة اليهود وهو من الاسكندرية عاش فيما بين سنة 20 قبل الميلاد وتوفي سنة 50م فهو من معاصري المسيح عليه السلام، افتتن بالفلسفة اليونانية وجعل هدفه في الحياة هو التوفيق بين الكتاب المقدس وعادات اليهود من جهة والآراء اليونانية وبخاصة فلسفة أفلاطون من جهة أخرى. انظر: تاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم ص 247، قصة الحضارة 11/103 ول ديورانت.
(2)
انظر الفلسفة اليونانية ليوسف كرم ص 250-251؛ تاريخ الفلسفة العربية 1/106-107- حنا الفاخوري، د- خليل الجر؛ تاريخ الفلسفة العربية ص 456 د- جميل صليبا.
(3)
هو كليمنتس الاسكندري عاش فيما بين سنة 150-207م ولد في الاسكندرية وقيل في أثينا، وجال في شبابه أنحاء فلسطين وسوريا واليونان وإيطاليا يتفرج على البلاد ويدرس على مشاهير المعلمين فعرف الأسرار الوثنية، والمذاهب وانتهى بتفضيل الأفلاطونية ولكنه لم يتحقق له فيها شيء من أمانيه الروحية فاعتنق المسيحية، رحل في آخر حياته إلى آسيا الصغرى هرباً من الاضطهاد وهناك توفي. انظر تاريخ الفلسفة اليونانية ص269 ليوسف كرم.
والثانية: عن طريق العقل الطبيعي، وهي التي جاء بها فلاسفة اليونان.
وذكر أيضاً: أن تاريخ المعرفة الإنسانية يشبه مجرى نهرين عظيمين: الناموس اليهودي، والفلسفة اليونانية، وقد تفجرت المسيحية عند ملتقى هذين النهرين.
فالناموس لليهود.
والفلسفة لليونان.
والناموس والفلسفة والإيمان للنصارى.
والفلسفة ليست متنافرة مع الإيمان، لأن لكل إنسان مزية تفرق بينه وبين الحيوانات العجم، وهذه المزية هي: الحكمة، وهي تدعي فكراً من حيث أنها تعرف المبادئ الأولى، وتدعي علماً ومعرفة من حيث أنها تستند إلى هذه المبادئ لتتوصل إلى المعرفة البرهانية، وهي تصبح ((تقنة)) إذا عالجت القضايا العلمية، وتصبح إيماناً عندما تنفتح على التقوى، وتؤمن بالكلمة وتقودنا نحو الخضوع لوصاياه تعالى، وهي في جميع مظاهرها هذه تظل واحدة لا تتعدد (1) .
وجاء أوريجنس (2) فحاول أن يؤيد العقيدة المسيحية ببيان اتفاقها مع الفلسفة اليونانية فكان بذلك واضع الأساس لفلسفة العصور الوسطى (3) .
إن محاولات الجمع بين الشرائع السماوية السابقة وبين الفلسفة من جانب هؤلاء أدى إلى تحريف الدين والعقيدة الصحيحة التي جاءت بها الرسل، ولهذا دخل التحريف على التوراة والإنجيل وأصبح لكل فرقة كتاب يخصهم وعمت الفوضى الفكرية تلك الديانات وتسرّب الإلحاد إليها بسبب تلك المحاولات وغيرها.
(1) انظر تاريخ الفلسفة اليونانية ص 270-271 يوسف كرم، تاريخ الفلسفة العربية 1/104-105 حنا الفاخوري، وخليل الجر.
(2)
هو تلميذ كليمنتس عاش فيما بين 185-254م وهو أول مسيحي حاول أن يرسم الحدود بين العقل والوحي. كانت أسرته وثنية ثم تنصرت، درس في المدرسة الوثنية على يد أمونيوس ما كاس أحد مؤسسي الفلسفة الأفلاطونية الجديدة، توفي في مدينة صور. انظر: تاريخ الفلسفة اليونانية ص 274-275 يوسف كرم.
(3)
انظر تاريخ الفلسفة اليونانية ص 275، تاريخ الفلسفة العربية ص 456 د- جميل صليبا.
أما عملية التوفيق بين الدين الإسلامي والفلسفة فقد بدأت مع حركة النقل والترجمة للكتب الفلسفية، وقد ترجمت كتب كثيرة من المنطق والفلسفة من السريانية واليونانية والفارسية، وكان أكثرها لأرسطو، وكان لترجمتها إلى اللغة العربية الأثر الكبير في زعزعة عقائد بعض أهل البدع لأن تلك البحوث ترتكز على الوثنية اليونانية، وتصور وثنيتهم القومية التي ترجموها في لغتهم الفلسفية وأضفوا عليها صبغة من الفن، وما العقول والأفلاك إلا رموز للوثنية الإغريقية القديمة، وما أفعالها وحركاتها وتصرفاتها إلا عقائد توارثتها الأجيال عندهم، وهي وثنية تعارض التوحيد.
وتشتمل هذه الفلسفة –التي بهرت البعض وتسلطت على عقولهم من غير حق – على ظنون وتخمينات وطلاسم لفظية لا حقيقة لها ولا معنى ولا وجود لها في الخارج، وقد أقبلوا عليها في شيء من التمجيد والتقديس)) (1) .
وقال الدكتور موسى –أيضاً-: ((أول من قام بعملية التوفيق من الفلاسفة الكندي (2) ، فقد أخذ يجمع في بعض تصانيفه بين أصول الشرع وأصول المعقولات محاولاً أن يقيم الدليل على عدم وجود تعارض بينهما، بل يغالي في الفلسفة فيعرفها بأنها (3)((علم الأشياء بحقائقها)) ويدخل في ذلك بحسب رأيه علم الربوبية والوحدانية وكل علم.
(1) مقدمة الدكتور موسى الدويش لكتاب ((بغية المرتاد)) (62/65) .
(2)
هو يعقوب بن إسحاق الكندي أبو يوسف فيلسوف، طبيب، رياضي، منطقي نشأ في البصرة وانتقل إلى بغداد وصار من جلساء المأمون والمعتصم، ولما جاء المتوكل ضربه وأبعده لكونه من المعتزلة، توفي ببغداد سنة 252هـ من تصانيفه كتاب الفلسفة الأولى فيما دون الطبيعيات، رسالة في الحساب الهندي، الطب البقراطي وأسرار تقدمه وغيرها، انظر: الفهرست لابن النديم ص255، لسان الميزان 6/205؛ رسائل الكندي الفلسفية ص1-7 تحقيق محمد عبد الهادي أبو ريده؛ معجم المؤلفين 13/244.
(3)
رسائل الكندي الفلسفية ص 97.
ويذكر أيضاً: أن الدين علم الحق، وفي رسالته إلى أحمد بن المعتصم توضيح ذلك إذ يقول (1) :(ولعمري أن قول الصادق محمد صلوات الله عليه وما أدى عن الله عز وجل لموجود جميعاً بالمقاييس العقلية التي لا يدفعها إلا من حرم صورة العقل واتحد بصورة الجهل من جميع الناس) .
وللمعرفة عند الكندي طريقان:
أحدهما: طريق العقل.
والثاني: طريق الوحي، وهذان الطريقان يوصلان إلى حقيقة واحدة حسب رأيه (2) .
ثم جاء إخوان الصفا (3) فقام مذهبهم على أساس التوفيق بين الدين والفلسفة، وألّفوا لهذا الغرض رسائلهم، فهم يرون أن الشريعة قد دنست بالجهالات واختلطت بالضلالات ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة لأنها حاوية الحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية.
فقامت لهذا الغرض مؤكدة أنه متى انتظمت الفلسفة الاجتهادية اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال (4) .
وهم يفسرون الشريعة الإلهية –أو الوحي- بشرح أفلوطيني فيقولون (5) : (واعلم أن الشريعة الإلهية هي جبلة روحانية تبدو من نفس جزئية في جسد بشري بقوة عقلية تفيض عليها من النفس الكلية، بإذن الله تعالى في دور من الأدوار والقرانات، وفي وقت من الأوقات، لتجذب بها النفوس الجزئية وتخلصها من أجساد بشرية متفرقة ليفصل بينها يوم القيامة) .
(1) رسائل الكندي الفلسفية ص 244، والنص المذكور جزء من رسالة بعث بها الكندي إلى تلميذه أحمد بن المعتصم في الإبانة عن سجود الجرم الأقصى وطاعته لله عز وجل، وقد طلب منه أحمد بن المعتصم شرح الآية (والنجم والشجر يسجدان) فأوضح الكندي معنى السجود وشرحه شرحاً فلسفياً بعيداً عن المعنى الصحيح الذي ذكره أهل التفسير.
(2)
انظر تاريخ الفلسفة العربية د- جميل صليبا ص 129-130.
(3)
انظر الكلام عن جماعة إخوان الصفا ص180، من بغية المرتاد.
(4)
انظر: رسائل إخوان الصفا 1/6 دار صادر بيروت.
(5)
رسائل إخوان الصفا 4/129.
ثم يوردون آيات من القرآن لتأييد مطلبهم، وكل هذا محاولة منهم للجمع بين الشريعة والفلسفة، فنراهم قد ربطوا بين الله والنفس الكلية من جهة، والعقل الإنساني المفاض عليه من جهة أخرى، كما ربطت الأفلاطونية الحديثة بين الله والنفس الكلية من جانب آخر، وجعلوا الخلاص من هذا العالم المادي غاية الإنسان.
ولتأكيد هذه المحاولة نرى إخوان الصفا عندما يريدون تقرير أمر من الأمور فإنهم يجمعون بين النصوص الشرعية والآراء الفلسفية كاستشهادهم على تجرد النفس واشتياقها إلى عالم الأفلاك –بعد الموت- فإن كانت صافية صعدت هناك، وإن كانت عكس ذلك بقيت تحت فلك القمر حسب زعمهم، وهم يستدلون بأقوال الفلاسفة والأنبياء كي يقرروا هذا الرأي الفلسفي ويصبغوه بصبغة شرعية فيقولون (1) :((يقال أن بطليموس (2) كان يعشق علم النجوم، وجعل علم الهندسة سلماً صعد به إلى الفلك. فمسح الأفلاك وأبعادها والكواكب وأعظامها، ثم دوّنه في المجسطي، وإنما كان ذلك الصعود بالنفس لا بالجسد وهكذا.
ويحكى عن هرمس (3) المثلث بالحكمة، وهو إدريس النبي عليه السلام أنه صعد إلى فلك زحل ودار معه ثلاثين سنة، حتى شاهد جميع أحوال الفلك، ثم نزل إلى الأرض فخبر الناس بعلم النجوم.
(1) رسائل إخوان الصفا 1/138.
(2)
هو أفلاديوس بطليموس نشأ في القرن الثاني للميلاد، ألف كتاب ((المجسطي)) بكسر الميم والجيم وتخفيف الياء، وهو أول كتاب دون فيه علم الفلك، نقل هذا الكتاب إلى العربية –انظر تاريخ الفلسفة اليونانية ص 243 يوسف كرم؛ إخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطي ص 63.
(3)
عن هرمس انظر ص 413-414. من بغية المرتاد.
وقال أرسطاطاليس (1) في كتاب ((الثالوجيا)) شبه الرمز: إني ربما خلوت بنفسي وخلعت بدني، وصرت كأني جوهر مجرد بلا بدن فأكون داخلاً في ذاتي، خارجاً عن جميع الأشياء، فأرى في ذاتي من الحسن والبهاء ما أبقى له متعجباً باهتاً، فأعلم أني جزء من أجزاء العالم الأعلى الفاضل الشريف.
وقال فيثاغورس (2) في الوصية الذهبية: إذا فعلت ما قلت لك يا
ديوجانس (3) وفارقت هذا البدن حتى تصير نحلا في الجوّ، فتكون حينئذٍ سائحاً غير عائد إلى الإنسانية ولا قابل للموت.
…
وقال المسيح عليه السلام للحواريين في وصية له: إذا فارقت هذا الهيكل فأنا واقف في الهواء عن يمنة عرش ربي، وأنا معكم حيثما ذهبتم فلا تخالفوني حتى تكونوا معي في ملكوت السماء غداً.
…
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في خطبة له طويلة: ((أنا واقف لكم على الصراط وإنكم ستردون على الحوض غداً فأقربكم مني منزلاً يوم القيامة من خرج من الدنيا على هيئة ما تركته، ألا لا تغيروا بعدي، ألا لا تبدلوا بعدي)) .
(1) أي أرسطو.
(2)
فيثاغورس ولد في ساموس، وعاش بين سنة 572-497 قبل الميلاد وهو فيلسوف يوناني ذاع صيته لمعلوماته العلمية والرياضية، حيث كان رياضياً بارعاً ولقد برهن على أن قوة الأصوات تابعة لطول الموجات الصوتية، انظر: الوجود الإلهي بين انتصار العقل وتهافت المادة لسانتلانا ص28، تاريخ الفلسفة اليونانية يوسف كرم ص20-21، إخبار العلماء بأخبار الحكماء ص170.
(3)
ديوجانس فيلسوف يوناني عاش فيما بين 413-327 قبل الميلاد وهو من أنصار المدرسة الكلبية، يرى أن الرياضة البدنية والنفسية وسيلة الخلاص وسبب الفلاح من رق الأهواء، وكان يحتقر العرف ويرى أن الفرد غير مربوط بجماعة على عكس أفلاطون وأرسطو اللذين كانا يجعلان المدينة شرط الفضيلة، أنظر تاريخ الفلسفة اليونانية ص 212-213.
.. وهكذا فإن إخوان الصفا قد استدلوا بالسنة وقول عيسى بن مريم –عليه السلام كما استدلوا بقول فيثاغورس وأرسطو على ما أرادوا تقريره من بقاء النفوس –وهي باقية- بعد مفارقة الأجسام، وهذا هو ما سلكوه في رسائلهم فعندما يستدلون على قول يجمعون بين أقوال الأنبياء والفلاسفة، وقد وضع إخوان الصفا الأساس لمن جاء بعدهم من الفلاسفة وفلاسفة التصوف حيث نهجوا نهجهم بل زادوا عليهم)) (1) .
…
وقال شيخ الإسلام إن ((ابن سينا وأمثاله خلطوا كلامهم في الإلهيات بكلام كثير من متكلمي أهل الملل فصار للقوم كلام في الإلهيات وصار ابن سينا وابن رشد الحفيد وأمثالهما يقربون أصول هؤلاء إلى طريقة الأنبياء ويظهرون أن أصولهم لا تخالف الشرائع النبوية)) (2) . وقال سيد قطب رحمه الله ((إن عملية التوفيق بين شروح الفلسفة الإغريقية والتصور الإسلامي كانت تنّم عن سذاجة كبيرة وجهل بطبيعة الفلسفة الإغريقية وعناصرها الوثنية العميقة وعدم استقامتها على نظام فكري واحد. وأساس منهجي واحد. مما يخالف النظرة الإسلامية ومنابعها الأصيلة. فالفلسفة الإغريقية نشأت في وسط وثني مشحون بالأساطير ولم تخل من العناصر الوثنية الأسطورية قط. فمن السذاجة والعبث –كان- محاولة التوفيق بينها وبين التصور الإسلامي القائم على أساس التوحيد المطلق العميق التجريد.. ولكن المشتغلين بالفلسفة والجدل من المسلمين، فهموا –خطأ- تحت تأثير ما نقل إليهم من الشروح المتأخرة المتأثرة بالمسيحية أن الحكماء – وهم فلاسفة الإغريق- لا يمكن أن يكونوا وثنيين ولا يمكن أن يحيدوا عن التوحيد! ومن ثم التزموا عملية توفيق متعسفة بين كلام الحكماء وبين العقيدة الإسلامية ومن هذه المحاولة كان ما يسمى الفلسفة الإسلامية!)) (3) .
(1) بغية المرتاد (المقدمة 66-69) .
(2)
الصفدية (1/237) .
(3)
خصائص التصور الإسلامي (12) .
.. إذن ((إن محاولة الجمع بين الشريعة والفلسفة واحدة من المحاولات التي قام بها أعداء الدين من متفلسفة وقرامطة وصوفية وغيرهم من ذوي الأطماع والعصبية الحادة ضد تلك العقيدة الصافية وقد كانت تلك المحاولة من أخطر المحاولات التي مرت على الفكر الإسلامي. فقد أدت إلى خلق بلبلة وفوضى فكرية نتج عنها جمود في أمتنا الإسلامية وطغيان أهل البدع)) (1) . ومن هذا الجمع المتهافت بين الإسلام والفلسفة ما نحن فيه من قضية (العقل) وما هيته فقد قام فلاسفتنا (2) بتتبع المأثورات الشاذة والضعيفة وحملها على أقوال الفلاسفة وتم لهم ذلك في قضية (العقل) بوجود مقدار لا بأس به من الأحاديث الموضوعة في فضل العقل، كان منها حديث العقل المشهور الذي أصبح عمدتهم الأولى في هذه القضية يُدللون به على صحة قول الفلاسفة في تعريفهم له. وأعني به الحديث الذي يقول متنه ((أول ما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل فقال له: أدبر فأدبر فقال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم عليّ منك فبك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وبك العقاب)) (3) . وهذا الحديث موضوع وكذب عند أهل العلم بالحديث. قال شيخ الإسلام عنه ((اتفق أهل المعرفة بالحديث على أنه ضعيف بل هو موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذكر الحافظ أبو حاتم البستي وأبو الحسن الدارقطني والشيخ أبو الفرج ابن الجوزي وغيرهم أن الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في العقل لا أصل لشيء منها. وليس في رواتها ثقة يعتمد)) (4) .
(1) بغية المرتاد (المقدمة 78) .
(2)
قال ابن تيمية ((ليس الفلاسفة من المسلمين كما قالوا لبعض أعيان القضاة الذين كانوا في زماننا: ابن سينا من فلاسفة الإسلام. فقال: ليس في الإسلام فلاسفة)) (الرد على المنطقيين 199) .
…
قلت: وأنا أطلق عليهم فلاسفتنا أحياناً مجاراة للمشهور لا مدحةً لهم.
(3)
الصفدية (1/238) .
(4)
بغية المرتاد (171) .
.. قلت: وذكر ابن الجوزي في الموضوعات (1/171) والسيوطي في الآلي المصنوعة (1/129) عدة روايات لهذا الحديث وبينا اتفاق العلماء على أنها موضوعة.
…
قال ابن الجوزي ((رويت في العقول أحاديث كثيرة ليس فيها شيء يثبت)) (1/171) . وقال ابن القيم في المنار (66)((ومنها –أي الأحاديث الموضوعة- أحاديث العقل كلها كذب)) وقال الدارقطني إن ((كتاب العقل وضعه أربعة: أولهم ميسرة بن عبد ربه ثم سرقه منه داود بن المحبّر فركبه بأسانيد غير أسانيد ميسرة وسرقه عبد العزيز ابن أبي رجاء فركبه بأسانيد أخر ثم سرقه سليمان بن عيسى السجزي فأتى بأسانيد أخر)) (1) . وقال المحدث ناصر الدين الألباني –رحمه الله ((مما يحسن التنبيه عليه أن كل ما ورد في فضل العقل من الأحاديث لا يصح منها شيء وهي تدور بين الضعف والوضع وقد تتبعت ما أورده منها أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه: العقل وفضله فوجدتها كما ذكرت لا يصح منها شيء فالعجب من مصححه الشيخ محمد زاهد الكوثري كيف سكت عنها؟!)) (2) .
…
قلت: ولم يكتف شيخ الإسلام ببطلان هذا الحديث المكذوب سنداً بل أبطل معناه ومتنه من عدة أوجه ليهدم أساس فلاسفتنا الموفقين بين الإسلام والفلسفة ويغلق عليهم منافذ التحريف والتأويل فقال رحمه الله:
…
((الأول: أن كلام ابن الجوزي على حديث العقل قد تقدم حيث بدأنا بالحديث وذكرنا ما قال فيه أئمة العلم وانقضى)) .
(1) تاريخ بغداد (8/360) .
(2)
السلسلة الضعيفة (1/13) وانظر الصفدية (1/238) .
.. الثاني: ((أن من تدبر الكتب المصنفة في العقل لأهل الآثار تبين له تحريف هؤلاء مع ضعف الأصل، ومن أشهرها كتاب العقل لداود بن المحبر وهو قديم في أوائل المائة الثالثة روى عنه الحارث بن أبي أسامة ونحوه، وكذلك مصنفات غيره رووا فيها عن ابن عباس أنه دخل على أم المؤمنين عائشة فقال: ((يا أم المؤمنين أرأيت الرجل يقلّ قيامه ويكثر رقاده وآخر يكثر قيامه ويقل رقاده أيهما أحب إلى الله)) قالت: ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألني عنه فقال: ((أحسنهما عقلاً)) فقلت: يا رسول الله إنما أسألك عن عبادتهما، فقال:((يا عائشة إنهما لا يسألان عن عبادتهما إنما يسألان عن عقولهما، فمن كان أعقل كان أفضل في الدنيا والآخرة)) (1) .
…
ورووا فيها عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لكل إنسان سبيل مطية وثيقة ومحجة واضحة وأوثق الناس مطية وأحسنهم دلالة ومعرفة بالحجة الواضحة أفضلهم عقلاً)) (2) .
…
ورووا فيها عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل ليكون من أهل الصيام وأهل الصلاة وأهل الحج وأهل الجهاد فما يجزى يوم القيامة إلا بقدر عقله)) (3) فهل يشك من سمع هذه الأحاديث أن المراد بذلك الإنسان؟ ليس المراد ما هو أعظم المخلوقات الموجودات بعد الباري عندهم وهو عندهم أبدع كل ما سواه، وأن الاستدلال بهذا الحديث ونحوه على إرادة هذا المعنى من أعظم الضلال وأبعد الباطل والمحال، هذا لعمري لو كان ذلك ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال أبو حاتم بن حبان البستي ((لست أحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبراً صحيحاً في العقل)) .
(1) الموضوعات (1/176) .
(2)
ذم الهوى (7) تحقيق مصطفى عبد الواحد. الطبعة الأولى 1380هـ- تنزيه الشريعة (1/215) .
(3)
المجروحين (3/40) – الموضوعات (1/172) - تنزيه الشريعة (1/214) - الفوائد المجموعة (475) .
.. الثالث: ((أن العقل في لغة المسلمين كلهم أولهم عن آخرهم ليس ملكاً من الملائكة ولا جوهراً قائماً بنفسه بل هو العقل الذي في الإنسان ولم يسم أحد من المسلمين قط أحداً من الملائكة عقلاً ولا نفس الإنسان الناطقة عقلاً بل هذه من لغة اليونان، ومن المعلوم أن حمل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كلام الله تعالى على ما لا يوجد في لغته التي خاطب بها أمته ولا في لغة أمته –وإنما توجد في لغة أمة لم يخاطبهم بلغتهم ولم تتخاطب أمته بلغتهم- فهذا يبين أن الذين وضعوا الأحاديث التي رويت في ذلك ليس المراد بها عند واضعيها ما أثبته الفلاسفة من الجوهر القائم بنفسه، فهؤلاء المستدلون بهذه الأحاديث على قول المتفلسفة لم يفهموا كلام الكاذبين الواضعين للحديث بل حرفوا معناها كما حرفوا لفظها. فإذا كان هذا حالهم في الحديث الذي استدلوا به فكيف في غيره؟ فتبين أن استدلالهم باطل قطعاً)) .
…
الرابع: ((أن العقل في الكتاب والسنة وكلام الصحابة والأئمة لا يراد به جوهر قائم بنفسه باتفاق المسلمين وإنما يراد به العقل الذي في الإنسان الذي هو عند من يتكلم في الجوهر والعرض من قبيل الأعراض لا من قبيل الجواهر. وهذا العقل في الأصل مصدر عقل يعقل عقلاً كما يجئ في القرآن (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون)(أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها)(ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون)(وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) .
.. وهذا كثير، وهذا مثل لفظ السمع فإنه في الأصل مصدر سمع يسمع سمعاً وكذلك البصر فإنه مثل الأبصار ثم يعبر بهذه الألفاظ عن القوى التي يحصل بها الإدراك فيقال للقوة التي في العين بصر والقوة التي يكون بها السمع وبهذين الوجهين يفسر المسلمون العقل. ومنهم من يقول العقل هو من جنس العلم كما يقوله القاضي أبو بكر ابن الباقلاني وأبو الطيب الطبري وأبو يعلى بن الفراء ومنهم من يقول هو الغريزة التي بها يتهيأ العلم كما نقل ذلك عن الإمام أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي ويدخل ذلك في العقل العلمي وهو العمل بمقتضى العلم. وأما تسمية الشخص العاقل عقلاً أو الروح عقلاً فهذا وإن كان يسوغ نظيره في اللغة فقد يسمون الفاعل الشخصي بالمصدر فيسمى عدلاً وصوماً وفطراً فليس هذا من الأمور المطردة في كلامهم فلا يسمون الآكل والشارب أكلاً وشرباً ولو كان ذلك مما يسوغ في القياس بحيث يسوغ أن يسمى كل فاعل باسم مصدره فهذا إنما يسوغ في الاستعمال لا في الاستدلال، فليس لأحد أن يضع هو مجازاً لنفسه يحمل عليه كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وكلام من تكلم قبله، إذ المقصود بالكلام هو فهم مراد المتكلم سواء كان لفظه يدل على المعنى وهو الحقيقة أو لا يدل إلا مع القرينة وهو المجاز. فليس لأحد أن يسمي الجوهر القائم بنفسه عقلاً ثم يحمل عليه كلام النبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم بالاضطرار لمن يعرف لغة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين الذين يتكلمون بلغته أن هذا ليس هو مراد النبي صلى الله عليه وسلم في اسم العقل فليس هذا مراد المسلمين باسم العقل ولا يوجد ذلك في استعمال المسلمين وخطابهم. وإذا كان كذلك لم يجز أن يتمسكوا بشيء من كلام الرسول الذي فيه لفظ العقل –لو كان ثابتاً- على إثبات الجوهر الذي يسمونه عقلاً. ومن تدبر ما يوجد في كلام المسلمين عامتهم وخاصتهم سلفهم وأئمتهم وفقهائهم ومحدثيهم وصوفيتهم ومفسريهم
ونحاتهم ومتكلميهم لم يجد في كلام أحد منهم لفظ العقل منقولاً على ما يزعمه هؤلاء من المتفلسفة)) .
…
الخامس: ((مما يبين كذب هذا الحديث المروي كما رووه أن العقل إذا كان في لغة المسلمين هو عرض قائم بغيره لم يكن مما يخلق منفرداً عن العاقل. وإنما يخلق بعد خلق العقلاء. وأيضاً فإن مثل هذا لا يخاطب ولا يقبل ولا يدبر. وأيضاً فقوله (ما خلقت خلقاً أكرم عليّ منك) لا يجوز أن يضاف إلى الله تعالى فإنه من المعلوم أن الأنبياء والملائكة أكرم على الله منه إذ كان في بعض صفاتهم. ولو قدر أن العقل في لغتهم يكون جوهراً أو ملكاً وقدر أن هذا اللفظ قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجز أن يراد به ما يقوله الفلاسفة ومن سلك سبيلهم لما بينا أنه يدل على أنه خلق قبله خلقاً آخر. وأيضاً فقوله: ((بك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وبك العقاب)) خصه بهذه الأعراض وعندهم هو المبدع لكل ما سواه من العقول والنفوس والأفلاك والنفوس البشرية والعناصر والمولدات فكيف يخصه بأربعة أعراض؟ وأيضاً فقوله: ((لما خلقه قال له أقبل فأقبل)) يقتضي أنه خاطبه في أول أوقات خلقه وعندهم يمتنع أن يكون خلقه في زمان بل يمتنع أن يكون مخلوقاً عندهم كما تقدم)) (1) .
…
السادس ((أن قوله ((أول ما خلق الله العقل قال له)) يقتضي أنه خاطبه في أول أوقات خلقه لا أنه أول المخلوقات كما تقول أول ما لقيت زيداً سلمت عليه وتقدير الكلام أول خلق الله قال له فأول مضاف إلى المصدر والمصدر يجعل ظرف زمان كما تقول كان هذا خفوق النجم وخلافة عبد الملك ومنه قوله تعالى: (وإدبار النجوم) مصدر أدبر يدبر إدباراً)) (2) .
…
السابع: ((أن هذا يقتضي أنه خلق قبل العقل غيره لقوله: ((ما خلقت خلقاً أكرم عليّ منك)) وعندهم هو أول المبدعات)) (3) .
(1) بغية المرتاد (217-243-251-274) .
(2)
الصفدية (1/239) .
(3)
الصفدية (1/239) .
.. وقال القاضي أبو يعلى تعليقاً على قولهم ((وهذا فاسد لأن الدليل على أن الجواهر كلها من جنس واحد خلافاً للملحدة في قولهم هي مختلفة لأن معنى المثلين ما سد أحدهما مسد صاحبه وناب منابه والجواهر على هذا لأن كل واحد منها متحرك وساكن وعالم فلو كان العقل جوهراً لكان من جنس العاقل ولاستغنى العاقل بوجود نفسه في كونه عاقلاً عن وجود مثله وما هو من جنسه، وقد ثبت أنه ليس بعاقل بنفسه فمحال أن يكون عاقلاً بجوهر من جنسه، ولأنه لو كان جوهراً لصح قيامه بذاته ووجوده لا بعاقل، ولصح أن يعقل ويكلف لأن ذلك مما يجوز على الجواهر، وفي امتناع ذلك دليل على أنه ليس بجوهر، فثبت أنه عَرَض)) (1) .
…
قلت: وبعد بيان بطلان هذا الحديث وجميع الأحاديث التي في العقل -سنداً ومتناً-، يتضح لنا مدى جهل وافتراء من زعم أن تضعيف المحدثين لمثل هذه الأحاديث كان بسبب موقفهم من المعتزلة والفلاسفة الذي غلوا في العقل! أو كما يقول أحدهم:((نتيجة للملاحقة السنية العمياء التي حاولت النيل من كل من اشتغل بأمور العقل والكلام)) (2) ! ، أو كما يقول غيره:((لجمود المحدثين الذي اتصف به كثيرٌ منهم)) (3) ! وأن أحاديث العقل تتفق في جوهرها مع الإسلام (4) .
…
((والذي يظهر أنهم ظنوا أن رد هذه الأحاديث فيه تهوين من شأن العقل، وإجحاف بحقه، وهذا غير وارد، حتى مع رد تلك الأحاديث، فللعقل مقام كبير ومنزلة سامية في الإسلام جاء بها قرآنه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي)) (5) .
(1) العدة (1/87) .
(2)
العقل وفهم القرآن - تحقيق حسين القوتلي (ص 127)
(3)
الإسلام والعقل، لصلاح المنجد (ص 41) .
(4)
العقل وفهم القرآن (ص 125 وما بعدها) .
(5)
العقل مجالاته وآثاره في ضوء الإسلام، للشيخ الدكتور عبد الرحمن الزنيدي (ص 54) رسالة ماجستير بجامعة الإمام، والنقولات السابقة منه - حفظه الله -.