الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في عطائها، نزل القرآن بلسانها فجعلها أكثر رسوخا، وأشد بنيانا، وأقوى استقرار. وبفضل القرآن، صارت العربية، أبعد اللغات مدىً، وأوسعها أفقا، وأقدرها على النهوض بتبعاتها الحضارية، عبر التطور الدائم الذي تعيشه الإنسانية. واستطاعت العربية في ظل عالمية الإسلام، أن تتسع لتحيط بأبعد انطلاقات الفكر، وترتقي حتى تصل أرقى اختلاجات النفس، وليس هناك معنى من المعاني، ولا فكر من الأفكار، ولا عاطفة من العواطف، ولا نظرية علمية من النظريات، تعجز اللغة العربية عن تصويره بالأحرف والكلمات، وتجسيده داخل الكلمات.
تاسعا:
وبجانب هذا وذاك، كانت هناك مقومات تاريخية وبشرية، تتصل بالعصر الذي ظهر فيه الإسلام، ثم بالعنصر البشري، والتكوين السكاني. فأما عن العصر، فقد كان الإسلام ختام الأديان السماوية، وكان الإسلام بذلك رباطا لها من الناحية التاريخية، كما كان في الوقت ذاته تصحيحا لها لما أصابها من تخريف الفلاسفة والوثنيين..
ولقد كان هذا كله، قوة دفع للفكر الإسلامي، وما تصل به من حضارة، ومن هنا انطوى التفاعل الإسلامي على قوة غلبت كل التحديات الجاهلية، فانتشر طابع الحضارة الإسلامية على فعالية، لم يعرف لها مثيل في تاريخ الإنسانية..
عاشرا:
ومما يذكر أن ترسيخ معالم الحضارة الإسلامية، قد تضاعف بفعل مقوم إنساني آخر.. وهو تنوع السلالات التي دخلت في الإسلام، ثم هناك ظاهرة أخرى ترتب على كل هذه الجوانب والعوامل، وهي ظاهرة الاتصال والاستمرار الزمني في الحضارة الإسلامية.. ومن وراء كل ذلك هناك الإيمان بالله، فهو القوة الدافعة الموجهة التي تسند الضعيف من أن يسقط، وتمسك القوي من أن يجمح، وتعصم الغالب من أن يطغى، وتمنع المغلوب من أن ييأس..
وقد أثبت التاريخ أن الذين تربوا في مدارس القرآن، هم وحدهم الذين صلحت بهم الحياة، واعتدل في أيديهم ميزان الحق، والعدل..
ولقد كانت المملكة الإسلامية تزدهر بالعلم والحضارة شرقا وغربا، وتنتشر فيها أرقى الصناعات على اختلافها، وما تركه المسلمون من تراث علمي، لأكبر شاهد على ذلك..
ولقد تلمست أوربا الحضارة الإسلامية، فاستقت من روافدها العلوم والمعرفة من الفلك والجبر والهندسة والحساب والكيمياء والطب والزراعة، وسائر أنواع الفنون الحضارية. وبنى رجال أوربا بما تعلموه في معاهد المسلمين بالأندلس، وبما نقلوه من علوم.. بنوا أسس النهضة الحديثة التي ظهرت بوادرها في القرن الثامن عشر، وازدهرت في القرن العشرين..
والإسلام بدعوته إلى العلم هو الذي خرج جهابذة الفكر، ورجال الحضارة، أمثال ابن الهيثم، وابن البيطار، وابن سينا، وابن النفيس، وابن زهر، وابن بطوطة، والكندي، والفارابي، والبيروني، والطوسي، والدينوري، والبغدادي، والرازي، والقزويني، والأنطاكي، والخوارزمي، والإدريسي، والمسعودي، وجابر والحافظ، وغيرهم ممن أفادوا الإنسانية. وهذا ابن الهيثم يبحث في السهول والأودية، ويجول فيها طولا وعرضا، حتى يضع قواعد علم الضوء. وابن الدجيلي، يسهر على قمم الجبال العالية، يحدق في الكواكب والنجوم، ليحد أفلاكها، ويعرف أبعادها، ويقيس محيط الكرة الأرضية. وعبد الله الخوارزمي العالم المسلم الذي ولد في إقليم خوارزم1، أول رجل في العالم يضع أصول علم الجبر، وفي كتابه ((الجبر والمقابلة)) يقسم العلماء إلى ثلاثة أقسام: فمنهم المخترع المبتكر الذي لم يسبق إليه، ومنهم الذي يتناول آراء العلماء قبله بالشرح والتفصيل والتوضيح، ومنهم الذي لم يكلف نفسه أكثر من جمع المتفرق..
وأبو الريحان محمد البيروني الذي ولد في بيرون، وهي مدينة صغيرة تتبع مدينة خوارزم. يساهم في الفلك والرياضيات، بمساهمات فعالة. وابن النفيس العالم الدمشقي، يجري التجارب والاختبارات، حتى يثبت أن الدم ليس سائلا مستقرا في الأوردة والشرايين. بل هو سائل متحرك، يدور في جميع أجزاء الجسم، وذلك قبل أن يكتشف العالم البرتغالي (هارفي) الدورة الدموية بثلاثة قرون..
وابن مسكويه ذلك المفكر الإسلامي الكبير الذي طرق الدراسات الأخلاقية والنفسية، فذلل متونها، وسبق علماء أوربا، فيما وصل إليه من النظريات النفسية والسلوكية.. هذا كله في
1 إقليم خوارزم هذا من الأقاليم الإسلامية التي كانت عامرة بالعلم والعلماء، وهو واقع الآن في قبضة الاستعمار الشيوعي الروسي..
الوقت الذي كانت فيه أوربا تعيش في ظلمات الجهل والهمجية، ولم ينقذ أوربا من ورطتها التي كانت واقعة فيها إلا نور الإسلام. وما زالت أسماء العلوم والمصطلحات التي أعطاها العلماء المسلمون لغرائب العلم، ما زالت حية في جميع اللغات رغم ما مر عليها من تحريف وتغيير.. ولقد سجل تاريخ الحضارة الإسلامية بإعزاز. وتقول الكاتبة الألمانية الدكتورة سيجريد هونكه، في كتابها ((شمس الله تشرق على الغرب)) تقول:((إن هذه الطفرة العلمية الجبارة التي نهض بها أبناء الصحراء من العدم، من أعجب النهضات العلمية الحقيقة في تاريخ العقل البشري، فسيادة أبناء الصحراء التي فرضوها على الشعوب ذات الثقافات القديمة، وحيدة في نوعها، وإن الإنسان ليقف حائرا أمام هذه المعجزة العقلية الجبارة)) ..
وإن من يمعن النظر في أعماق الحضارة الإسلامية، وما حققته للإنسانية من أسباب النمو، وعوامل الازدهار، ويلم بما جاء به الفكر الإسلامي، من مفاهيم تناولت أهم معضلات الحياة. إن من يتعمق في ذلك، يدهشه مدى عمق التفكير الواعي الذي بلغ ذروته علماء الإسلام، وقد يتضاعف إعجاب الباحث، بهذا الفيض الزاخر، من الجهود العلمية التي شرقت بالحضارة وغربت، وملأت الدنيا بإشراقها..
وربما تزداد دهشت الباحث العاقل، والمفكر الناصح، ويتعاظم تمجيده لحركة التحول الخطيرة التي أصابت المجتمع العربي في تلك الفترة القصيرة. ترى أي سر هذا الذي استطاع أن يحول عرب الصحراء، وهذه الشعوب المتفرقة.. إلى أساطين في العلم، ومشاعل في الحضارة، ومنارات في الثقافة؟ وأي قوة رفعت العرب من حال البداوة التي كانوا عليها إلى أبطال وقادة، يفتتحون أعظم الممالك وأوسعها، ويجولون في الأرض غير هيابين ولا وجلين..؟ .. وأي دعوة هذه التي حولت الناس من الجهل والجاهلية والمذاهب الوضعية، إلى النور الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور..؟
ليس من المعقول في نظر المفكر.. ولا من المقبول في نظر الباحث.. ولا من المعروف في نظر الدارس.. أن يطفر الفكر العربي الذي قيدته ظروف الحياة القبلية الآسنة اليبوس.. إلى مثل هذه المرتبة العالية، دون أن تكون هناك الأسباب القوية التي دفعت به إلى الحياة المتحركة دفعا.. فما هي تلك الأسباب التي استقى منها الفكر الإسلامي، مادة حيويته وحركته؟ وما هي الموارد
التي نهل منها أسباب تكامله..
إن المنبع الأول والأصيل الذي استقى منه الفكر أسباب تقدمه ونمائه، هو القرآن الكريم، فهو السر الكامن، وهو القوة المحركة، وهو الدعوة القائمة المستمرة.. وذلك أن القرآن لم يكن كتاب دين يحث على العبادة وتوحيد الله فحسب، وإنما كان إلى جانب تأكيد وحدانية الله، وما يتبعها من عقائد وعبادات.. منبعا أصيلا من منابع الحضارة، ولقد كان أول أثر من آثار القرآن في الحضارة الإنسانية، الاهتمام الواسع بالعلم، وذلك أن العلم عنوان التقدم الحضاري.. ولقد كانت عناية القرآن بالعلم، تفوق حد الوصف واستطاعت توجيهات القرآن العلمية أن تكون منهجا علميا سليما، حدد به المسلمون موقفهم من مشاكل الكون والحياة.
ومن هنا كان التفكير العلمي في الإسلام، يقوم على الموضوعية، والصدق، ومن الحوادث البالغة الدالة على العقلية الموضوعية، لدى الفكر الإسلامي، ما حدث مصادفة، أن كسفت الشمس يوم مات إبراهيم بن محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فقال قوم إنها كسفت لموت إبراهيم.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته". وبهذا قرر الرسول الصادق، مبدأ علميا، يعتمد عليه المسلمون، فيما يتصل بالكون وما فيه)) .
وفي حادثة فيضان نهر النيل، بإقليم مصر الإسلامي، موضوعية علمية، تنبئ عن نظافة الفكر الإسلامي.. حيث كان الاعتقاد قبل الفتح الإسلامي، أن النيل لا يفيض بالماء، إلا إذا ألقيت فيه فتاة حسناء، لتموت فيه غرقا. فلما حان وقتذاك. كتب الحاكم عمرو بن العاص، والي أمر مصر، إلى خليفة المسلمون عمر بن الخطاب، في المدينة المنورة، عاصمة الخلافة الإسلامية، يخبره بما تعود عليه المصريون فأجابه عمر بإرسال رسالة، يلقيها في النيل، وكان في الرسالة:((من عمر أمير المؤمنين إلى النيل إن كنت تجري من عندك فلا حاجة لنا بك، وإن كنت تجري بفضل الله، فاللهم بارك لنا)) .
وفي ميدان التطبيق العملي، نجد أن عمر بن الخطاب في خلافته، قد أمر بقطع شجرة الرضوان، لأن بعض الناس قد أسبغ عليها صفات غير موضوعية.. هذا وأمثاله مظهر للتفكير
العلمي الموضوعي لدى المسلمين ينبئ لكل عاقل أن الإسلام هو الدين الحق والصراط المستقيم.
ولهذا كانت للمسلمين حضارة، وعلوم، ومخترعات.. كانت هناك تشريعات وفلسفة، وقوانين، وطب، وفلك، ورياضيات، وأدب، واجتماع وتاريخ وجغرافيا، وكيمياء، وآداب للسلوك.. وكان لكل هذه العلوم أساتذة عباقرة، كأئمة الفقه، وعلماء التفسير، ورجال الحديث، الذين خرجوا المسائل والأحكام الفقهية، وضبطوا أساليب النقد، وقعَّدوا قواعد التشريع.. ويذكر لنا التاريخ عشرات المئات من العلماء في كل فن.. أصبح هناك قادة وحكام لم يعرف التاريخ لهم مثيلا.. وهم لم يدخلوا الكليات الحربية، ولم يدرسوا في مدارس عسكرية.. ولكن دخلوا شيئا واحدا، هو كلية القرآن الكريم، ومدرسة الإسلام الحنيف.. وهناك مدن امتلأت بالعلم والعلماء، ومعاهد الحضارة، مثل: القاهرة، وبغداد، ودمشق، وقرطبة، وغرناطة، واشبيلية، وبخارى وغيرها من العواصم التي تزخر بكل ألوان الحضارة.. وكانت هناك دول وممالك، في الشرق والغرب، بسطت نفوذها الإسلامية وعقيدتها، وعبقريتها، وشرقت وغربت حتى نشرت الفكر الصحيح.. وكل هذا بفعل الاتجاهات القرآنية التي غرسها الإسلام، في قلوب الناس، والتي أدت إلى تنمية القوى العقلية في الإنسان المسلم، ففتحت أمامه آفاقا واسعة لا حدود لها)) .
واليوم على الغيورين أن يدرسوا حال المسلمين، الذين ابتلوا بالأفكار المستوردة، والأحزاب الحمراء المتنمرة. لنرى هل يمكن أن تعود حضارة المسلمين، وتشرق من جديد، فتنقذ الإنسانية من بلاء الإلحاد. وحضارة المادية العفنة.. وقبل أن نقرر إمكانية عودة الحضارة الإسلامية أضع أمام القارئ الحقائق التالية:
أولا: العالم الإسلامي حباه الله بأعظم النعم، إذ يتربع على كنوز ثمينة ويربض على ثروات معدنية هائلة، ويملك من حقول البترول أجداها نفعا، وأكثرها سخاء وثراء، وأقواها تدفقا وعطاء.
ثانيا: يملك العالم الإسلامي من شواطئ البحار والأنهار، والممرات، والطرق، البرية، والبحرية، والجوية، ما يجعله في مركز القيادة، ويمكنه من المساهمة والإشراف والتحرك الفعال.
ثالثا: مناطق الثقل في العالم الإسلامي بعيدة عن القطبين، ومصونة من الأعاصير، والطوفانات، والثلوج، والمد والجزر، والبراكين وهذا يتيح لها ما تستطيع به العمل والتقدم..
رابعا: العالم الإسلامي غني بالمحاصيل الزراعية، والإنتاج الحيواني، مما يمكن من قيام صناعات متقدمة ومتطورة.
خامسا: يعيش العالم الإسلامي اليوم في يقظة واعية، وصحوة صحية، إذا أحسن توجيهها، أثمرت..
تلك وغيرها أمور تجعل العالم الإسلامي، قوة إيجابية، مرهوبة الجانب مهيأة لإنقاذ الإنسانية من وهدة ولا شك أن الأمور الخمسة المذكورة مع ما سبق ذكره من مقومات الحضارة الإسلامية، هي أسباب قيام حضارة كاملة.. ومن هنا نقول في غير تردد، إن عودة المسلمين إلى إقامة حضارة إسلامية، أمر ممكن، ولا يحتاج منا إلى أن نخرب أنظمة الأمم، ولا أن نتمسك بأحزاب بعثها المخربون، ولا أن نقسم الأمة إلى أنظمة وجبهات، ولا أن نمزق المجتمع الواحد إلى يمين ووسط ويسار، واشتراكيين وأحرار.. وإنما يحتاج إلى أمر واحد فقط هو الإسلام. الإسلام سلوكا وعملا، والإسلام ثقافة وتربية، والإسلام نظاما وحياة، ولن يصلح آخر الأمة إلا بما صلح به أولها. والله الموفق..
أحمد عبد الرحيم السايح
مصر العربية -القاهرة- مدينة نصر
المنطقة الأولى -14 شارع الرياضة