المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وصية الشيخ لتلميذه - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - جـ ٢٢

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌وصية الشيخ لتلميذه

(4)

‌وصيَّة الشيخ لتلميذه

محمد بن أحمد المعلِّمي

الحمد لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللَّهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].

أما بعد:

فقد صَحِبني الولد الفاضل محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد المعلمي ــ وفقه الله تعالى ــ عامين كاملين بمكة المكرمة، وحمدت صحبته وأدبه، وحرصه على طلب العلم. وقرأ عليّ كتبًا في العربية:"الآجرُّومية"، فـ"المتممة"، فـ"القَطْر"، وطرفًا من "ألفية ابن مالك"، مع إعراب عدة أجزاء من القرآن، وأكثر "زبد ابن رسلان" و"الرَّحَبية" مشروحة. وسمعني أشرح ما يجب في الاعتقاد والعمل، وأخذ بنصيب من معرفة ذلك، مع صلاحه في نفسه، وإقباله على الخير، وعدم ميله إلى اللهو واللعب، وشدة محبته لي وحرصه على راحتي، وإتعابه نفسه في خدمتي، حتى في حال مرضه. أسأل الله أن يجزيه خيرًا وبرًّا وتوفيقًا وصلاحًا، وأن يصلح شؤونه في دينه ودنياه. ثم تضافرت الدواعي لرجوعه إلى الوطن لزيارة والديه وغير ذلك، والتمس

ص: 244

منّي أن أكتب له وصية نافعة، فرأيت من الحقِّ عليَّ أن أجيبه إلى ذلك، ومن الله تعالى أسأل التوفيق لي وله، وأرتّبها على مطالب:

المطلب الأول

العقيدة في شأن ذات الله عز وجل وصفاته

بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الخلق، وكان أول مَن دعاه العرب، وكان العرب في جاهليتهم يعترفون بوجود الله عز وجل وربوبيته، وأنه ربُّ كلِّ شيء، وكانوا يصفونه بما تقتضيه الفطرة، وما بقي لديهم من ملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام من صفات الكمال، ويفترون عليه أشياء.

فجاء القرآن والسنَّة بتقريرهم على الحقّ وردّهم عن الباطل، فكان من الباطل: زعمهم أن الملائكة بنات الله ــ تعالى الله عن قولهم ــ وزعمهم: أنه يجوز أن يُعبد مع الله بعض مملوكاته ليكونوا شفعاء لهم إليه، ويقربوهم إليه زُلْفى، وشكُّهم في أنّ الله يبعث الناس بعد موتهم ولا يكون هذا أبدًا؛ ولهذا قال تعالى:{قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 18]، فقرر القرآن في عدة آيات أن الله تعالى تنزَّه عن أن يكون له ولد، وأنه لا يستحق أن يُعبد إلا هو سبحانه، وأن البعث بعد الموت حق. فالاعتقاد هو ما اقتضته الفطرة القاطعة، وصرَّح به القرآن والسنَّة الصحيحة الصريحة.

ولا ريب أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أكمل الخلق في الإيمان وصحّة الاعتقاد، فمن أراد صحة الاعتقاد فليجعل نفسه كواحد منهم، لا يعتدّ إلا بما كان حاصلًا لهم من العقل الفطري، والفهم لكلام الله

ص: 245

عزَّ وجلَّ وكلام رسوله، بِحَسَب

(1)

اللغة العربية، مع صدق الإجلال لله عز وجل، وأن لا يقفو

(2)

ما ليس له [به]

(3)

علم، والتحرز من الهوى واتباعه. فلا يكن همّ الإنسان إلا أن يكون مؤمنًا ملتزمًا للصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، ومنهم رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ ولا يبالي إذا وافق أنْ يخالف أحدًا من الناس. همُّه أن يوافق اللهَ ورسولَه سواءً أَوافقَ قولَ مَن دونهما أو خالفه.

* * * *

المطلب الثاني

بقية أركان الإيمان

وهي الإيمان بملائكة الله، وأنهم عباد غيبيوّن مطيعون لربهم عز وجل، لا يسبقونه بالقول ولا يفعلون إلا ما يأمرهم، ولا يشفعون عنده إلا لمن ارتضى بعد إذنه سبحانه لهم. ولا يرغبوا

(4)

في أن يشفعوا إلا أن يعلموا إذن الله تعالى ورضاه في أن يشفعوا، ولا يفعلون إلا ما يأمرهم ربهم عز وجل.

والإيمان بكتب الله عز وجل التي أنزلها على أنبيائه، والمهيمن عليها القرآن الكريم، وأنه كلام الله عز وجل أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم .

والإيمان برسل الله عز وجل، وهم أناس من البشر اختارهم الله عزَّ

(1)

(ط): "بحب" والظاهر ما أثبت.

(2)

(ط): "يقضوا" والظاهر ما أثبت.

(3)

زيادة متعينة.

(4)

كذا في (ط).

ص: 246

وجلَّ، وأنزل عليهم ملائكته ليبلغوهم كلام ربهم وأمره، حتى يبلغوا عباده. والرسل معصومون في كلِّ ما يبلّغونه عن الله عز وجل، صادقون في ذلك كله، مع طهارتهم في أنفسهم، وصدقهم، ومحبتهم له عز وجل، وطاعتهم له.

وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم بلَّغ رسالة ربه، ونصح لخلقه، ولم يمت حتى بيَّن للناس دينهم. ولا يؤمن أحدٌ حتى يحبه صلى الله عليه وسلم أشدّ من محبته للأب والابن والنفس وغير ذلك.

وقد خصَّه الله عز وجل بالمقام المحمود، والشفاعة العظمى لأهل المحشر؛ ليخلصوا من ضيق المحشر، ويشرع في فصل القضاء.

وأسعد الناس بشفاعته صلى الله عليه وسلم مَن قال: لا إله إلا الله، خالصًا من قلبه، يصدِّق قلبَه لسانُه، وعملُه لسانَه. وعلامة محبتك له صلى الله عليه وسلم : شدّة حرصك على طاعته فيما بلَّغه عن ربه عز وجل.

والإيمان بقَدَر الله عز وجل، فقد قدَّر سبحانه كل ما هو كائن، ثم بيَّن لعباده ما يقرِّبهم إليه، وما يبعدهم عنه؛ لما أرشدهم بعقولهم إلى ما ينفعهم في دنياهم، وما يفرحهم فيها، ثم جعل لهم من التمكين والاستطاعة ما جعل. فالإنسان متمكِّن مستطيع أن يؤمن وأن يكفر، وأن يطيع وأن يعصي، وأن يسعى فيما ينفعه، أو فيما يضره، أو يدع السعي. فمن اختار الخير فهو السعيد الموفَّق، ومَن اختار الشرّ فهو الشقي الموبَق. وقد قدَّر الله هذا وهذا، وله الحجّة البالغة على هذا وهذا.

* * * *

ص: 247

المطلب الثالث

شهادة أن لا إله إلا الله

ومعناها: أنه لا حقيق بأن يُعبد إلا الله عز وجل.

والعبادة هي الخضوع والتذلل طلبًا لنفع غيبي. تسمي العرب الطلب إذا كان الطالب أعلى من المطلوب منه: أمرًا، فإن كان مثله سمّته التماسًا، فإن كان أعلى منه سمته: سؤالًا، فإن كان طلب النفع غيبي

(1)

سمته: دعاءً. فالملك إذا طلب من خادمه شيئًا قيل: أمره بكذا وكذا، والتلميذ إذا طلب من زميل له شيئًا قيل: التمس منه كذا، والرَّعوي إذا طلب من الملك شيئًا قيل: سأله

(2)

كذا. تقول: سألتُ الملك أن ينصفني من خصمي، ولا يقال: دعوت الملك أن ينصفني من خصمي. نعم، يقال: دعوت فلانًا، بمعنى: ناديته، وهذا معنى آخر، إنما الخاص بالنفع الغيبي هو الدعاء بمعنى السؤال الذي هو طلب النفع. فالدعاء بمعنى سؤال النفع الغيبي هو روح العبادة، وبقية العبادات متضمنة له؛ لأنها كلها يُطْلَب بها النفع الغيبي. فمن دعا الله عز وجل، أي: سأل منه [أن يرحمه، أو يشفيه، أو يغنيه، أو غير ذلك، فقد عبده. ومَن دعا غير الله عز وجل، أي: سأل منه]

(3)

نفعًا غيبيًّا فقد عبد غير الله عز وجل.

فأما الخضوع والتذلل طلبًا للنفع الغيبي، فإن الله إذا أمر بالتذلّل لغيره،

(1)

كذا في (ط). ولعل الصواب: "فإن كان طلبًا لنفعٍ غيبيٍّ".

(2)

(ط): "اسأله" خطأ.

(3)

المعكوفان وما بينهما من (ط).

ص: 248

فامتثلنا ذلك كنّا عابدين لله عزَّوجلَّ، لا لمن وقع في الخضوع في الصورة له، فمن تذلل لوالديه إلى الحدّ الذي أذن الله به، وقصد بذلك امتثال أمر الله عزَّوجلَّ فهو عابد لله، لا للوالدين.

فوصيتي لمحمد ولكلّ مسلم أن لا يدعو إلا الله، ولا يفعل فعلًا فيه خضوع يطلب به النفع الغيبي إلا إذا علم أن الله عز وجل أمر به، وأذن فيه. فمن تحقق هذا الأمر والتزمه فلم يدعُ إلا الله عز وجل، ولم يقصد بفعل ما فيه خضوع يطلب به النفع الغيبي إلا ما علم أن الله تعالى أمر به أو أذن فيه فقد برئ من الشرك. ومَن لم يتحقق هذا المعنى، وشكّ فيه، فعليه أن يحتاط. ومَن اطلع على هذا أو شكّ فيه، ثم لم يحتط، فحاصل ذلك أنه أقدم على ما يمكن عنده أن يكون كفرًا وشركًا.

والمهم أن تلتزم سبيل النجاة، وتدعو إليه، وأن تحسن ظنك بالناس، فما دام محتملًا عندك في شخص أنَّ له عذرًا مقبولًا عند الله عز وجل، فاحمله على السلامة، وكِلْ أمرَه إلى الله عز وجل.

* * * *

المطلب الرابع

شهادة أن محمدًا رسول الله

ومِنْ لازمِ ذلك تصديقُه في كلِّ ما أخبر به عن ربه عز وجل، واستيقان أن ذلك حقّ محض لا ريب فيه. ويتبع ذلك المحبة، والطاعة، والاتباع.

* * * *

ص: 249

المطلب الخامس

بقية أركان الإسلام

وهي أداء الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصيام رمضان. وهذه الأشياء تشتمل على أحكام:

منها: ما أجمعت عليها الأمة.

ومنها: ما اختلفت فيه.

فالمُجْمع عليه لابدّ من العمل [به]

(1)

على كلّ حال، وأما المختلف فيه فالواجب ردّه إلى الله عز وجل وإلى رسوله، وذلك بالرد إلى الكتاب والسنَّة. فمن عرف من الكتاب أو السنَّة أن قولًا من الأقوال المختلفة

(2)

فيها أرجح من غيره، فقد لزمه الأخذ به. فإن تركه إيثارًا لقول شيخه أو إمامه، صدق عليه أنه اتخذ غير الله ربًّا مع الله، أي: مُطاعًا في شرع الدين.

ومَن لم يعرف من كتاب الله عز وجل وسنَّة رسوله أيَّ القولين أو الأقوال أرجح، وكان أهلًا للنظر والبحث والفهم المعتدّ به، وتيسّر له ذلك؛ فلينظر وليبحث.

ومن لم يكن كذلك، ووجد عالمًا يثق بعلمه ودينه، وتحرِّيه الحقّ، وغلبت الإصابة في فهمه، وشدّة ورعه، واحتراسه في الهوى؛ بحيث يغلب على ظنك إذا قال هذا العالم في قول= أنه راجح، فاسأل هذا العالم، واعمل

(1)

زيادة لازمة.

(2)

كذا في (ط) ولعلها: "المختلَف".

ص: 250

بما يُفْتيك

(1)

به، وإلا فعليك بالاحتياط. اللَّهمَّ إلا أن يشق عليك في شيء من الأشياء أن تحتاط مشقّةً يصعب عليك احتمالها، فأرجو أن يسعك الأخذُ بالرّخصة إن شاء الله تعالى.

أما العاميّ الذي لم يعرف في مسألة إلا قولًا واحدًا؛ فإنه يلزمه العمل به، ويسعه ذلك.

* * * *

المطلب السادس

في الأعمال التي يتطوّع بها

قد دخل في هذا الباب خلل كثير، فالواجب الاقتصار على ما يتحقق أنه ثابت شرعًا، من صلاة، أو صيام، أو غيرها.

فقد جاء الشرع بالصلوات الخمس وغيرها مما هو ثابت بالسنن الصحيحة، ثم أَذِنَ الشارعُ بالصلاة في غير أوقات النهي على أنها نَفْل مطلق. فعلى المسلم أن يصلي الصلوات الثابتة شرعًا، ويدع الصلاة في أوقات النهي.

ثم يعلم فيما عدا ذلك أن الصلاة مشروعة شرعًا مطلقًا، لا مزية لبعضه على بعض، ولا يلتفت إلى مزية لم تثبت شرعًا. وهكذا سائر

(2)

الصيام وسائر العبادات.

(1)

(ط): "ينفعك" والصواب ما أثبت.

(2)

كذا في (ط).

ص: 251

وقد تشاغل الناسُ بأحزاب وأوراد وأذكار زعم بعض الناس أن لها مزية، ولم يثبت ذلك شرعًا، فعلى المسلم أن يعتقد أن تلك المزية لا يعتد بها؛ لأنها غير ثابتة شرعًا. وما لم يثبت شرعًا فليس من الدين في شيء؛ لأن الدين هو ما أنزله الله عز وجل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فبلَّغه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وتكفَّل الله عز وجل بحفظه، فحفظته الأمة حفظًا تقوم به الحجة، فما ليس كذلك، فليس من الدين في شيء.

فمن سوَّل له الشيطان أن يتشاغل بشيء من ذلك عن العبادات الشرعية، والأعمال النافعة، فقد خاب؛ فإن الشيطان يسعى بصرف الناس عن تلاوة القرآن والأذكار الثابتة شرعًا، كالصلاة الإبراهيمية على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ونحوها، وعن أعمال الخير كالسعي في مصالح الأهل وغيرهم من المسلمين، والعمل فيما ينفع المسلمين، أو فيما ينفع العامل من الحلال. فهو يصرف الجهّال عن ذلك كله بما ليس من الدين في شيء، حتى لا ينتفعوا في دينهم ولا دنياهم، بل يقعون في البدع المهلكة.

والحاصل: أن كل عمل يعمله الإنسان راجيًا للثواب أو البركة إن كان ثابتًا شرعًا أنه مشروع يُرجى منه ذلك الثواب فهو حقّ وإلا فهو باطل. وكثيرًا ما يقع الإنسان بعمله تلك الأعمال التي لم تثبت شرعًا في الشرك، كما يعلم مما تقدم.

* * * *

ص: 252

المطلب السابع

في مخاطبة الناس

يجب على المسلم أن يميِّز بين ما أمر الله به أو أذن فيه، وبين ما نهى عنه أو كرهه، فيلزم الأول على كلِّ حال، ويجتنب الثاني على كل حال، ويحتاط فيما لم يتبيَّن له حُكْمه.

وعليك أن توطِّن نفسَك على حبّ الخير للخلق أجمعين، حتى إذا كرهت كافرًا أو مبتدعًا أو فاسقًا فلا تكرهه إلا لأنك تحبّ له أن يدع ما يضره، ويلتزم ما ينفعه. وهذا زمان قد صِرْنا فيه ــ أو كدنا ــ إلى ما ورد في الحديث:"شُحّ مُطاع، وهوًى مُتّبع، وإعجاب كلِّ ذي رأيٍ برأيه"

(1)

.

فأحب لك أن تجتنب المخاصمات التي لا ترجو لها فائدة.

وإن مما هو من جهةٍ نعمةٌ عظيمةٌ من الله تبارك وتعالى على هذه الأمة، ومن جهةٍ أخرى حُجةٌ بالغة له سبحانه: أنْ كانت عامة المُحْدَثات التي نقول: إنها بدع ضالة، ومنها ما هو شرك بالله عز وجل= ليس فيها ما يقول أحدٌ: إنه ركن، أو شرط للإيمان، ولا فرض لازم، ولا سنَّة مؤكدة؛ بل غاية ما يزعم بعضهم: أنه مما يُرْجى له ثواب وبركة. وقد قال مَن هو أعلم من هذا بكتاب الله عز وجل وسنَّة رسوله وأقوال سلف الأمة: إن ذلك بدعة مضلة،

(1)

أخرجه أبو داود (4341)، والترمذي (3058)، وابن ماجه (4514)، وابن حبان (385) وغيرهم من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه. قال الترمذي:"حسن غريب"، وصححه الحاكم.

ص: 253

ومنه ما هو شرك.

ومع هذا فهناك أعمال كثيرة ثابت

(1)

أنها مشروعة

(2)

، وأن ثوابها أعظم، وبركتها جليلة، ودلَّ الكتاب والسنَّة وأقوال سلف الأمة وأئمتها على ذلك؛ فالمخذول كلّ الخذلان، والمحروم كلّ الحرمان، والخارج عن طريق العلم والإيمان والعقل والفهم = هو مَن يُقْدِم على شيء من تلك المحْدَثات، ويتشاغل بها، في حين أنه يمكنه صرف ذلك الوقت في الأعمال والأقوال الشرعية الثابتة، والثابتِ عظيمُ ثوابها وبركتها.

وإذا أجمع الأطباء على شيء أنه دواء نافع، واختلفوا في شيء فقال بعضهم: إنه مهم، وقال بعضهم: ضارٌّ ضررًا شديدًا، وقال بعضهم: لا يتحقَّق ضرره، وقال بعضهم: ربما يكون له نفع ما، ولكنه لا حاجة إليه للاستغناء عنه بالمجمع عليه= فالعاقل يستغني بالمجمع عليه، ويتجنب المختلف فيه.

وقد قال الله تبارك وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : "الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور متشابهات لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشُّبهات فقد استبرأ لعقله ودينه، ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمَى يوشكُ أن يقع فيه"

(3)

.

هذا في الحلال والحرام، فأما في الإيمان والشرك فالأمر أعظم، وكلُّ

(1)

(ط): "ناس على" ولا معنى لها.

(2)

(ط): "مشروع".

(3)

سبق تخريجه في الخطبة الخامسة.

ص: 254

عاقل يبلغه كلام أهل العلم، لابدّ أن يكون محتملًا عنده، وعلى الأقل في كثير من تلك المحْدَثات أنها شرك، كما صرَّح به جَمْع من أكابر العلماء. والمؤمن لا يمكن أن يقدم على ما يحتمل عنده أنه شرك، هذا مع أنه ليس في الإقدام عليه لذة طبيعية، إلا أن يكون اتباع الهوى، فإن الراغب في الثواب والبركة يجد ما هو باعتراف ألدِّ أنصار المحْدَثات أعظم أجرًا وبركة.

فلو سألت أحدهم عن الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم بالصيغة الإبراهيمية المأثورة، أهي أفضل أم قول القائل:"يا رسول الله"؟ لاعترف لك بأن البَونَ بعيد جدًّا، فإن فضل تلك الصلاة وثوابها وبركتها عظيم جدًّا، وأما قول:"يا رسول الله"، فغايته أن يدَّعي بعضُ أنصار البدع أنه لا بأس به، وقِسْ على هذا سائر المحدثات.

فإذا بيَّنتَ هذا المعنى لرجل وأصرَّ على ترك اجتناب المحْدَثات فقد قُمتَ بالحجة، وإذا اجتنبْتَ المحدثات فاعترض عليك معترض فبيَّنْتَ له هذا المعنى، فقد أَبطلْتَ اعتراضَه ولزمه التسليم لك إن كان له عقل. ولا حاجة بك بعد هذا إلى المحاجّة في تلك المحْدَثات أَشِركٌ هي أم لا، ولا إلى سَرْد الحجج وإبطال الشبه؛ بل يكفيك الاستناد إلى ما تقدم.

ولا بأس بعد ذلك أن تقول لمن نازعك: ليس عندي من العلم ما أتمكَّن به من المناظرة والمحاجّة، ولكنني أعلم أن الواجب على الناس ترك المحدثات، فإن لم يستغنوا ببطلانها وأن منها ما هو شرك، فإنهم يعرفون من اختلاف العلماء احتمال ذلك، فوجَب عليهم اجتناب ما يخافون أن يكون شركًا، وقد علموا أنه ــ على فرض صحة ما يزعم أنصار البدع ــ لا حاجة إليه، فإنّ في العبادات الشرعية العظيمة الأجر والثواب والبركة ما يغني عنه،

ص: 255

ولا ينبغي لعاقل أن يدَعَ ما عُلم بالإجماع والنصوص القاطعة أنه إيمان، ويتشاغل بما يحتمل على الأقل أن يكون شركًا.

* * * *

المطلب الثامن

في مصالح الدنيا ومعاملة الناس

ما دام الإنسان في الدنيا فإنه لا غنى به عن تحصيل المال وإصلاح المعيشة، والسعيد مَن أمكنه تحصيل ذلك بكدّ يمينه وعرق جبينه، بدون احتياج إلى إحسان أحدٍ ولا إضرارٍ بأحد، وإذا أمكنه هذا فقد قارب أن يسلم من الناس.

فأما الدين، فينبغي للإنسان أن يكون مُؤْثِرًا لله عز وجل على كلّ شيء، ويحرص على أن يُفْهِم الناس أنه إنما يريد لهم الخير، وأنه لا يريد علوًّا في الأرض ولا فسادًا، ولا فخرًا ولا شهرة، ولا غير ذلك من الأغراض، وإنما همُّه طاعة الله عز وجل، ثم أن ينصفه الناس فلا يظلموه، ولا يحتقروه.

وعليه أن يسعى في مصالح دنياه بالجدّ والصبر والمثابرة في حدود الحلال، وليعلم مع ذلك أن الأمر كله لله عز وجل.

فإذا حصل مطلوبه من نيل الخير، وزوال الضرر، علم أن ذلك من فضل الله عز وجل وكرمه، فشكره على ذلك، وحَرَص على الزيادة من طاعته. وإن خاب مسعاه رأى أن ذلك من فضل الله عز وجل وكرمه

(1)

؛ فإنه لا يدري

(1)

(ط): "وكلامه" تحريف.

ص: 256

لعله لو حصل مطلوبه لكان شرًّا له في دينه ودنياه. وأقل ما في الأمر أن تكون تلك الخيبة عقوبة من الله عز وجل له على ذنب متقدم، وهذا أيضًا خير؛ لأنه كفَّارة له وإصلاح لشأنه.

والحاصل: أقول: كلُّ شيء يقضيه الله عزَّوجلَّ ويقدّره للمؤمن، فهو خير له، على أن يوقن بذلك، ويجري على حسب يقينه. فما عليه إلا أن يجتهد في طاعة الله عز وجل، وفي إصلاح دنياه في حدود ما أذن الله به، ثم ليكن بعد ذلك واثقًا أنّ كل ما قضاه الله عز وجل فهو خير.

أسأل الله تعالى التوفيق لي ولمحمد ولجميع المسلمين.

7 محرم الحرام سنة 1374 هـ

كتبه/عبد الرحمن بن يحيى المعلمي

ص: 257

[نصيحة لطالب الحق]

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلله فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعد، فهذه مباحث في أحكام أخبار الآحاد، أرجو من فضل الله تعالى ورحمته أن يوفقني فيها لاستقصاء النظر واستخلاص الحق، لتكون عُدَّةً لي ولمن شاء الله تعالى من عباده. هذا مع علمي بقصور علمي وخشيتي أن يُضلَّني الله عز وجل بذنبي، وإنني ما أبرئ نفسي عن الهوى، ولا آمَنُ أن يكون لي هوى أنا غافل عنه أو عارف به غير محترس من الاسترسال معه، أو محترس مقصّر. والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

نصيحة

ينبغي لطالب الحق أن يقدِّم قبل النظر في المسألة محاسبةَ نفسه، بأن يتجسس فيها: هل لها ميلٌ إلى وجهٍ معيّن في تلك المسألة، أو إلى أي وجه يكون ذهب إليه فلان أو أصحاب هذا المذهب أو هذه الفرقة. فإن وَثِقَ بأنه لا ميلَ له البتةَ فالظاهر أنه الآن بريء من الهوى، لكن لا يأمن أن يعرض له

ص: 258

الهوى بعد ذلك لعروضِ سبب من أسبابه، وهي كثيرة. ومتى بان له الميل فليبحث عن سببه، فإن وثِق بأنه لبرهان يقيني لا يحتمل النقيض بوجهٍ من الوجوه فليس هذا بهوًى، فإن كان معه هوًى فهو هوًى وافق الحق. وإن كان ليس إلا لدليل غير قاطع فليقلْ لنفسه: دَعِي عنكِ الهوى، فأنا الآن في مقام النظر، ولعلّي أجد دليلًا مخالفًا لذاك أقوى منه. وإن كان لدليلٍ لا يُعتدّ به، أو لأمرٍ آخر ليس بدليلٍ أصلًا، أو لم يتبيَّن له السبب، فذلك هو الهوى الذي من شأنه أن يُعمي ويُصِمّ. وطريق النجاة حينئذٍ أن يبدأ فيجاهد نفسه في اقتلاع ذلك الهوى منها، فإن عجز فليعرف ذلك الهوى، وليخش أن يكون ما يلوح له معه أنه دليل ليس إلا شبهة قوَّاها الهوى، قال الله تبارك وتعالى في الكفار:{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف، 30، الزخرف: 37].

وبالجملة فمسالك الهوى دقيقة، والسلامة منه عزيزة، والتمييز معه بين الحجة والشبهة صعب. لكن من صدقت رغبته في إصابة الحق، وبذل وسعه في جهاد نفسه، وتضرَّع إلى الله عز وجل سائلًا منه التوفيق، فإن الله تبارك وتعالى يقول:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [خاتمة العنكبوت].

وعسى أن يكون بذلك قد أخذ بحظ وافر من التقوى المعنية بقول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].

ص: 259