المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وقُرىء «مِنِ الله» بكسر نون «مِنْ» على أصلِ التقاءِ الساكنين - الدر المصون في علوم الكتاب المكنون - جـ ٦

[السمين الحلبي]

الفصل: وقُرىء «مِنِ الله» بكسر نون «مِنْ» على أصلِ التقاءِ الساكنين

وقُرىء «مِنِ الله» بكسر نون «مِنْ» على أصلِ التقاءِ الساكنين أو على الإِتباع لميم «مِنْ» وهي لُغَيَّةٌ، فإن الأكثرَ فتحُها مع لام التعريف وكَسْرُها مع غيرها نحو:«مِنِ ابنك» وقد يُعْكَسُ الأمرُ فيهما. وحكى أبو عمرو عن أهل نجران أنهم يَقْرؤون كذلك بكسر النون مع لام التعريف.

ص: 6

قوله تعالى: {فَسِيحُواْ} : هذا على إضمار القول أي: قيل: سيحوا. وهذا التفاتٌ من الغَيْبة إلى الخطاب. يقال: ساح يَسيح سِياحة وسُيُوحاً وسَيَحاناً أي: انساب كسَيْح الماءِ في الأماكن المنبسطة. قال طرفة:

‌2

447 - لو خِفْتُ هذا منك ما نِلْتَني

حتى ترى خيلاً أمامي تَسِيحْ

و «أربعةَ أشهرٍ» ظرف ل «سِيْحوا» . وقرىء {غَيْرُ مُعْجِزِي الله} بنصب الجلالة على أن النونَ حُذِفَتْ تخفيفاً. وقد تقدَّم تحريرُه.

ص: 6

قوله تعالى: {وَأَذَانٌ} : رفع بالابتداء، و «مِن الله» : إمَّا صفةُ أو متعلقٌ به. وإلى الناس «الخبر. ويجوز أن يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: وهذا إعلامٌ، والجارَّان متعلقان به كما تقدَّم في» براءة «. قال الشيخ:» ولا وجهَ لقولِ مَنْ قال إنه معطوف على «براءة» ، كما لا يُقال «عمرو» معطوف على «زيد» في «زيد قائم وعمرو قاعد» . وهو [كما قال] ، وهذه عبارة [الزمخشري بعينها]

ص: 6

وقرأ الضحَّاك وعكرمة وأبو المتوكل: «وإذْن» بكسر الهمزةِ وسكونِ الذال. وقرأ العامَّةُ: «أنَّ الله» بفتح الهمزة على أحدِ وجهين: إمَّا كونِه خبراً ل «أذان» أي: الإِعلامُ من الله براءتُه من المشركين وضعَّف الشيخُ هذا الوجهَ ولم يذكر تضعيفَه وإمَّا على حَذْفِ حرفِ الجر أي: بأن الله. ويتعلَّقُ هذا الجارُّ إمَّا بنفس المصدرِ، وإمَّا بمحذوفٍ على أنه صفتُه. و «يومَ» منصوبٌ بما تعلَّق به الجارُّ في قوله:«إلى الناس» . وزعم بعضُهم أنه منصوبٌ ب «أذانٌ» وهو فاسدٌ من وجهين: أحدهما: وصفُ المصدرِ قبل عمله. الثاني: الفَصْلُ بينه وبين معمولِه بأجنبيّ وهو الخبرُ.

وقرأ الحسن والأعرج بكسر الهمزة، وفيه المذهبان المشهوران: مذهبُ البصريين إضمارُ القول، ومذهبُ الكوفيين إجراءُ/ الأذانِ مجرى القول.

قوله: {مِّنَ المشركين} متعلقٌ بنفس «بريء» كما يقال: «بَرِئْتُ منه» ، وهذا بخلاف {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله} [التوبة: 1] فإنها هناك تحتمل هذا، وتحتمل أن تكونَ صفةً ل «براءة» .

قوله: {وَرَسُولِهِ} الجمهورُ على رَفْعِه، وفيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ أي: ورسولُه بريءٌ منهم، وإنما حُذِفَ للدلالةِ عليه. والثاني: أنه معطوفٌ على الضميرِ المستتر في الخبر، وجاز ذلك للفصلِ المسوِّغ للعطف فرفعُه على هذا بالفاعلية. الثالث: أنه معطوفٌ على محل اسم «أنَّ» ، وهذا عند مَنْ يُجيز ذلك في المفتوحةِ قياساً على المكسورة. قال

ص: 7

ابن عطية: «ومذهبُ الأستاذ يعني ابن الباذش على مقتضى كلامِ سيبويهِ أن لا موضعَ لِما دخلَتْ عليه» أنَّ «؛ إذ هو مُعْرَبٌ قد ظهر فيه عملُ العامل، وأنه لا فرقَ بين» أَنَّ «وبين» ليت «، والإِجماعُ على أن لا موضعَ لِما دَخَلَتْ عليه هذه» . قال الشيخ: «وفيه تعقُّبٌ؛ لأن علةَ كونِ» أنَّ «لا موضعَ لِما دَخَلَتْ عليه ليس ظهورَ عملِ العامل بدليل:» ليس زيد بقائم «و» ما في الدار مِنْ رجل «فإنه ظهر عملُ العامل ولهما موضع، وقولُه:» بالإِجماع «يريد أن» ليت «لا موضعَ لِما دَخَلَتْ عليه بالإِجماع ليس كذلك؛ لأن الفراءَ خالَفَ، وجعل حكمَ» ليت «وأخواتِها جميعِها حكمَ» إنَّ «بالكسر» .

قلت: قوله: «بدليل ليس زيدٌ بقائم» إلى آخره قد يَظْهر الفرق بينهما فإن هذا العاملَ وإنْ ظهر عملُه فهو في حكمِ المعدوم؛ إذ هو زائد فلذلك اعتبرنا الموضعَ معه بخلاف «أنَّ» بالفتح فإنه عاملٌ غيرُ زائد، وكان ينبغي أن يُرَدَّ عليه قولُه:«وأن لا فرقَ بين» أنَّ «وبين» ليت «، فإنَّ الفرقَ قائمٌ، وذلك أن حكمَ الابتداء قد انتسخ مع ليت ولعل وكأن لفظاً ومعنىً بخلافه مع إنَّ وأنَّ فإن معناه معهما باقٍ.

وقرأ عيسى بن عمر وزيد بن علي وابن أبي إسحاق» ورسولَه «بالنصب. وفيه وجهان، أظهرُهما: أنه عطفٌ على لفظ الجلالة. والثاني: أنه مفعولٌ معه، قاله الزمخشري. وقرأ الحسن» ورسولِه «بالجر وفيها وجهان، أحدهما: أنه مقسمٌ به أي: ورسولِه إن الأمر كذلك، وحُذِفَ جوابُه لفهم المعنى. والثاني: أنه على الجِوار، كما أنهم نَعَتوا وأكَّدوا على الجِوار، وقد

ص: 8

تقدَّم تحقيقُه. وهذه القراءةُ يَبْعُد صحتُها عن الحسن للإِبهام، حتى يحكى أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ» ورسولِه «بالجر. فقال الأعرابي: إن كان الله قد بَرِىء مِنْ رسوله فأنا بريء منه، فَلَبَّبه القارىء إلى عمر رضي الله عنه، فحكى الأعرابيُّ الواقعةَ، فحينئذ أَمَرَ عمرُ بتعليم العربية. ويُحكى أيضاً هذه عن أمير المؤمنين عليّ وأبي الأسود الدؤلي. قال أبو البقاء:» ولا يكون عطفاً على المشركين لأنه يؤدي إلى الكفر «. وهذا من الوضحات.

ص: 9

قوله تعالى: {إِلَاّ الذين} : فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه استثناءٌ منقطع. والتقدير: لكنِ الذين عاهدتم فَأَتِمُّوا إليهم عهدَهم. وإلى هذا نحا الزمخشريُّ فإنه قال: «فإن قلت: مِمَّ استثنى قولَه {إِلَاّ الذين عَاهَدتُّم؟} قلت: وجهُه أن يكونَ مستثنى من قوله: {فَسِيحُواْ فِي الأرض} لأن الكلامَ خطابٌ للمسلمين، ومعناه: براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فقولوا لهم: سِيْحوا إلا الذين عاهدْتم منهم ثم لم ينقصوا فأتمُّوا إليهم عهدهم. والاستثناءُ بمعنى الاستدراك، كأنه قيل بعد أن أُمِروا في الناكثين: ولكن الذين لم يَنْكثوا فأتمُّوا إليهم عهدَهم ولا تُجروهم مُجراهم» .

الثاني: أنه استثناءٌ متصلٌ، وقبلهُ جملة محذوفة تقديره: اقتلوا المشركين المعاهَدين إلا الذين عاهَدْتم. وفيه ضعفٌ.

الثالث: أنه مبتدأ والخبرُ قولُه فأتمُّوا إليهم، قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ لأنَّ

ص: 9

الفاءَ تزاد في غير موضعها، إذا المبتدأُ لا يُشْبه الشرط لأنه لأُِناسٍ بأعيانهم، وإنما يتمشَّى على رأي الأخفش إذ يُجَوِّز زيادتها مطلقاً. والأَوْلَى أنه منقطعٌ لأنَّا لو جَعَلْناه متصلاً مستثنى من المشركين في أولِ السورة لأدَّى إلى الفَصْلِ بين المستثنى والمستثنى منه بجملٍ كثيرة.

قوله: {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} الجمهور «يَنْقُصوكم» بالصاد مهملةً، وهو يتعدَّى لواحدٍ ولاثنين. ويجوز ذلك فيه هنا، ف «كُمْ» مفعولٌ، و «شيئاً» : إمَّا مفعول ثان وإمَّا مصدرٌ، أي: شيئاً من النقصان، أو لا قليلاً و [لا] كثيراً من النقصان. وقرأ عطاء بن السائب الكوفي وعكرمة وابن السَّمَيْفَع/ وأبو زيد «يَنْقُضوكم» بالضاد المعجمة، وهي على حَذْفِ مضاف أي: ينقضوا عهدكم، فحُذف المضاف وأُقيم المضافُ إليه مُقامه. قال الكرماني:«وهي مناسِبة لِذِكْرِ العهد» أي: إنَّ النقضَ يُطابق العهدَ، وهي قريبة من قراءة العامة؛ فإنَّ مَنْ نقض العهد فقد نقص من المدة، إلا أن قراءةَ العامة أوقعُ لمقابلها التمام.

ص: 10

قوله تعالى: {الأشهر} : يجوز أن تكون الألف واللام للعهد، والمرادُ بهذه الأشهرِ الأشهرُ المتقدمة في قوله:{فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} ، والعربُ إذا ذكرت نكرةً، ثم أرادت ذِكْرها ثانياً، أتت بمضمرِه أو بلفظه معرَّفاً بأل، ولا يجوز أن نَصِفَه حينئذٍ بصفةٍ تُشْعر بالمغايرة، فلو قيل:«رأيت رجلاً فأكرَمْتُ الرجلَ الطويل» لم تُرِد بالثاني الأولَ، وإن وَصَفْتَه

ص: 10

بما لا يقتضي المغايرة جاز كقولك: «فأكرمت الرجل المذكور» ، ومنه هذه الآيةُ فإن الأشهر قد وُصِفَتْ بالحُرُم، وهي صفةٌ مفهومة من فحوى الكلام فلم تقتض المغايرة. ويجوز أن يُرادَ بها غيرُ الأشهرِ المتقدمة فلا تكون أل للعهد، والوجهان مقولان في التفسير.

والانسلاخُ هنا من أحسنِ الاستعارات، وقد بَيَّن ذلك أبو الهيثم فقال:«يُقال:» أَهْلَلْنا شهرَ كذا «أي: دَخَلَْنا فيه، فنحن نزداد كلَّ ليلةٍ منه إلى مضيِّ نصفِه لباساً، ثم نَسْلَخُه عن أنفسنا جزءاً فجزءاً إلى أن ينقضي وينسلخ، وأنشد:

2448 -

إذا ما سَلَخْتُ الشهرَ أَهْلَلْتُ مثلَه

كفى قاتِلاً سَلْخي الشهورَ وإهلالي

قوله: {كُلَّ مَرْصَدٍ} في انتصابه وجهان أحدهما: أنه منصوبٌ على الظرفِ المكاني. قال الزجاج:» نحو: ذهبت مذهباً «. وقد ردَّ الفارسيُّ عليه هذا القولَ من حيث إنه ظرف مكان مختص، والمكانُ المختصُّ لا يَصِلُ إليه الفعلُ بنفسه بل بواسطة» في «، نحو: صَلَّيْتُ في الطريق، وفي البيت، ولا يَصِلُ بنفسه إلا في ألفاظٍ محصورةٍ بعضُها ينقاسُ وبعضها يُسمع، وجعل هذا نظير ما فَعَلَ سيبويه في بيت ساعِدة:

2449 -

لَدْنٌ بهَزِّ الكفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ

فيه كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ

وهو أنه جعله مما حُذِف فيه الحرفُ اتِّساعاً لا على الظرف؛ لأنه ظرف مكان مختص.

ص: 11

قال الشيخ:» إنه ينتصبُ على الظرف؛ لأنَّ معنى «واقعدوا» لا يُراد به حقيقةُ القعود، وإنما يُراد: ارصُدوهم، وإذا كان كذلك فقد اتفق العاملُ والظرف في المادة، ومتى اتفقا في المادة لفظاً أو معنىً وصل إليه بنفسه تقول: جلست مجلسَ القاضي، وقعدت مجلسَ القاضي، والآيةُ من هذا القبيل «.

والثاني: أنه منصوبٌ على إسقاطِ حرف الجر وهو» على «أي: على كلِّ مَرْصَد، وهذا قول الأخفش، وجعله مِثْلَ قولِ الآخر:

2450 -

تَحِنُّ فَتُبْدِي ما بها مِنْ صَبابةٍ

وأُخْفي الذي لولا الأسى لقَضَاني

وهذا لا ينقاسُ بل يُقتصر فيه على السَّماع كقوله تعالى: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ} أي: على صراطك، اتفق الكل على أنه على تقدير» على «. وقال بعضُهم: هو على تقدير الباء أي بكل مرصد، نقله أبو البقاء: وحينئذٍ تكون الباء بمعنى» في «فينبغي أن تُقَدَّرَ» في «لأن المعنى عليها، وجعله نظيرَ قولِ الشاعر:

2451 -

نُغالي اللحمَ للأضيافِ نَيْئاً

ونَرْخُصُهُ إذا نَضِجَ القدورُ

والمَرْصَدُ مَفْعَل مِنْ رصده يَرْصُدُه أي: رَقَبه يَرْقُبُه وهو يَصْلُح للزمان والمكان والمصدر، قال عامر بن الطفيل:

ص: 12