الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد العاشر: (القسم الأخير من كتاب حكم المرتد)
تابع كتاب حكم المرتد
…
القسم الأخير من كتاب حكم المرتد
وله أيضا، قدس الله روحه ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى من يصل إليه من الإخوان المؤمنين بآيات الله، المصدقين لرسول الله، التابعين للسواد الأعظم من أصحاب رسول الله، والتابعين لهم بإحسان، وأهل العلم والإيمان، المتمسكين بالدين القيم عند فساد الزمان، الصابرين على الغربة والامتحان; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإن الله سبحانه بعث نبيكم صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، وأهل الأرض من المشرق إلى المغرب، قد خرجوا عن ملة إبراهيم، وأقبلوا على الشرك بالله، إلا بقايا من أهل الكتاب؛ فلما دعا إلى الله، ارتاع أهل الأرض من دعوته، وعادَوْه كلهم، جهالهم وأهل الكتاب، عبادهم وفساقهم، ولم يتبعه على دينه إلا أبو بكر الصديق، وبلال وأهل بيته صلى الله عليه وسلم خديجة وأولادها، ومولاه زيد بن حارثة،
وعلي رضي الله عنه.
" قال عمرو بن عبسة: لما أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قلت: ما أنت؟ قال: نبي. قلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله قلت: بأي شيء أرسلك؟ قال: بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يعبد الله لا يشرك به شيئ. قلت: من معك على هذا؟ قال: حر وعبد "، ومعه يومئذ أبو بكر، وبلال.
فهذا صيغة بدو الإسلام وعداوة الخاص والعام له، وكونه في غاية الغربة; ثم قد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ "1. فمن تأمل هذا وفهمه، زالت عنه شبهات شياطين الإنس، الذين يجلبون على من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بخيل الشيطان ورجله.
فاصبروا يا إخواني، واحمدوا الله على ما أعطاكم، من معرفة الله سبحانه، ومعرفة حقه على عباده، ومعرفة ملة أبيكم إبراهيم - في هذا الزمان - التي أكثرُ الناس منكر لها; واضرعوا إلى الله أن يزيدكم إيمانا ويقينا وعلما، وأن يثبت قلوبكم على دينه، وقولوا كما قال الصالحون، الذين أثنى الله عليهم في كتابه:{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [سورة آل عمران آية: 8]
1 مسلم: الإيمان (145)، وابن ماجه: الفتن (3986) ، وأحمد (2/389) .
واعلموا أن الله سبحانه، قد جعل للهداية والثبات أسبابا، كما جعل للضلال والزيغ أسبابا؛ فمن ذلك: أن الله سبحانه أنزل الكتاب، وأرسل الرسول، ليبين للناس ما اختلفوا فيه، كما قال تعالى:{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة النحل آية: 64] فبإنزال الكتب، وإرسال الرسول، قطع العذر، وأقام الحجة، كما قال تعالى:{ئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [سورة النساء آية: 165]
فلا تغفلوا عن طلب التوحيد وتعلمه، واستعمال كتاب الله وإجالة الفكر فيه; وقد سمعتم من كتاب الله ما فيه عبرة، مثل قولهم: نحن موحدون، نعلم أن الله هو النافع الضار، وأن الأنبياء وغيرهم لا يملكون نفعا ولا ضرا، لكن نريد الشفاعة، وسمعتم ما بين الله في كتابه، في جواب هذا، وما ذكر أهل التفسير وأهل العلم، وسمعتم قول المشركين: الشرك عبادة الأصنام، وأما الصالحون فلا، وسمعتم قولهم: لا نريد إلا من الله، لكن نريد بجاههم; وسمعتم ما ذكر الله في جواب هذا كله.
وقد منّ الله عليكم بإقرار علماء المشركين بهذا كله، سمعتم إقرارهم أن هذا الذي يفعل في الحرمين، والبصرة، والعراق، واليمن، أن هذا شرك بالله، فأقروا لكم أن هذا الدين الذي ينصرون أهله، ويزعمون أنهم
السواد الأعظم، أقروا لكم أن دينهم هو الشرك.
وأقروا لكم أيضا أن التوحيد الذي يسعون في إطفائه، وفي قتل أهله وحبسهم، أنه دين الله ورسوله؛ وهذا الإقرار منهم على أنفسهم، من أعظم آيات الله، ومن أعظم نعم الله عليكم، ولا يبقى شبهة مع هذا إلا للقلب الميت، الذي طبع الله عليه، وذلك لا حيلة فيه.
ولكنهم يجادلونكم اليوم بشبهة واحدة، فأصغوا لجوابها، وذلك أنهم يقولون: كل هذا حق، نشهد أنه دين الله ورسوله، إلا التكفير، والقتال; والعجب ممن يخفى عليه جواب هذا! إذا أقروا أن هذا دين الله ورسوله، كيف لا يكفر من أنكره، وقتل من أمر به وحبسهم، كيف لا يكفر من أمر بحبسهم؟! كيف لا يكفر من جاء إلى أهل الشرك، يحثهم على لزوم دينهم وتزيينه لهم؟! ويحثهم على قتل الموحدين، وأخذ مالهم، كيف لا يكفر، وهو يشهد أن هذا الذي يحث عليه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكره ونهى عنه؟! وسماه الشرك بالله، ويشهد أن هذا الذي يبغضه، ويبغض أهله، ويأمر المشركين بقتلهم، هو دين الله ورسوله!.
واعلموا: أن الأدلة على تكفير المسلم الصالح إذا أشرك بالله، أو صار مع المشركين على الموحدين ولو لم يشرك، أكثر من أن تحصر، من كلام الله، وكلام رسوله،
وكلام أهل العلم كلهم.
وأنا أذكر لكم آية من كتاب الله، أجمع أهل العلم على تفسيرها، وأنها في المسلمين، وأن من فعل ذلك فهو كافر في أي زمان كان، قال تعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [سورة النحل آية: 106] إلى آخر الآية وفيها {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} [سورة الأنفال آية: 23] ؛ فإذا كان العلماء، ذكروا أنها نزلت في الصحابة لما فتنهم أهل مكة; وذكروا: أن الصحابي إذا تكلم بكلام الشرك بلسانه، مع بغضه لذلك وعداوة أهله، لكن خوفا منهم، أنه كافر بعد إيمانه; فكيف بالموحد في زماننا، إذا تكلم في البصرة، أو الإحساء، أو مكة، أو غير ذلك خوفا منهم، لكن قبل الإكراه; وإذا كان هذا يكفر، فكيف بمن صار معهم، وسكن معهم، وصار من جملتهم؟! فكيف بمن أعانهم على شركهم، وزينه لهم؟ فكيف بمن أمر بقتل الموحدين، وحثهم على لزوم دينهم؟
فأنتم وفقكم الله تأملوا هذه الآية، وتأملوا من نزلت فيه، وتأملوا إجماع العلماء على تفسيرها، وتأملوا ما جرى بيننا وبين أعداء الله، نطلبهم دائما الرجوع إلى كتبهم التي بأيديهم، في مسألة التكفير والقتال، فلا يجيبوننا إلا بالشكوى عند الشيوخ، وأمثالهم; والله أسأل أن يوفقكم
لدينه القيم، ويرزقكم الثبات عليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[ذكر ما في قصة عمرو بن عبسة من الفوائد]
وقال أيضا رحمه الله تعالى:
ذكر ما في قصة عمرو بن عبسة من الفوائد:
الأولى: كون الشرك يعرف قبحه بالفطرة، لقوله: كنت أظن الناس ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان. الثانية: الحرص على طلب العلم، لأنه سبب للخير، وفسر به قوله:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ} [سورة الأنفال آية: 23]، لقوله: فسمعت أن رجلا بمكة يخبر أخبارا فقعدت على راحلتي، فوجدته مختفيا، فتلطفت حتى دخلت عليه.
الثالثة: قوله فقلت له: ما أنت؟ قال: " نبي. قلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله عز وجل "1. فهذه المسألة هي أصل العلوم كلها، وهي فهم القلب فهما جيدا أن الله أرسل إليك رسولا، فإذا عرفتها هان عليك ما بعدها. الرابعة: قوله: بأي شيء أرسلك؟ قال: "بكذا وكذا" وهذه توضح ما قبلها بالفعل.
الخامسة: قوله: " بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يعبد الله لا يشرك به شيء "2. الأول: حق الخلق، والثاني حق الخالق، وذكر هذه مع هذه، تفسير سياسة المدعو والرفق به، والتلطف في إدخال الخير إلى قلبه;
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (832) ، وأحمد (4/112) .
2 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (832) ، وأحمد (4/112) .
والثاني فيها تعريف الأمر قبل الدخول فيه، لأن الداخل لا يستقيم له الدخول إلا بمعرفته ولو صعب. السادسة: حسن فهم عمرو، لقوله: من معك على هذا؟ السابعة: قوله حر وعبد، والله أعلم.
[أربعة وعشرون مسألة شنع بها الأعداء]
وله أيضا أسكنه الله الفردوس الأعلى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى عبد الله بن سحيم، وبعد: أتانا مكتوبك، وما ذكرت فيه من ذكرك، وما بلغك؛ ولا يخفاك أن المسائل التي ذكرت أنها بلغتكم، في كتاب من العارض، جملتها أربع وعشرون مسألة، بعضها حق، وبعضها بهتان وكذب.
وقبل الكلام فيها، لا بد من تقديم أصل; وذلك: أن أهل العلم إذا اختلفوا، والجهال إذا تنازعوا، ومثلي ومثلكم إذا اختلفنا في مسألة، هل الواجب اتباع أمر الله ورسوله، وأهل العلم؟ أو الواجب اتباع عادة الزمان، الذي أدركنا الناس عليها، ولو خالفت ما ذكره العلماء في جميع كتبهم؟
وإنما ذكرت هذا - ولو كان واضحا - لأن بعض المسائل التي ذكرت أنا قلتها، لكن هي موافقة لما ذكره
العلماء في كتبهم، الحنابلة وغيرهم، ولكن هي مخالفة لعادة الناس التي نشؤوا عليها، فأنكرها علي من أنكرها، لأجل مخالفة العادة، وإلا فقد رأوا تلك في كتبهم عيانا، وأقروا بها وشهدوا أن كلامي هو الحق، لكن أصابهم ما أصاب الذين قال الله فيهم:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [سورة البقرة آية: 89] وهذا هو ما نحن فيه بعينه؛ فإن الذي راسلكم، هو عدو الله ابن سحيم وقد بينت ذلك له فأقر به؛ وعندنا كتبه بيده في رسائل متعددة، أن هذا هو الحق وأقام على ذلك سنين، لكن أنكر آخر الأمر، لأسباب أعظمها: البغي أن ينْزل الله من فضله على من يشاء من عباده، وذلك أن العامة قالوا له ولأمثاله: إذا كان هذا هو الحق، فلأي شيء لم تنهونا عن عبادة شمسان وأمثاله؟ فتعذروا: إنكم ما سألتمونا، قالوا: وإن لم نسألكم، كيف نشرك بالله عندكم، ولا تنصحونا؟ وظنوا أنه يأتيهم في هذا غضاضة، وأن فيه شرفا لغيره.
وأيضا: لما أنكرنا عليهم أكل السحت والرشا، إلى غير ذلك من الأمور، فقام يدخل عندكم وعند غيركم بالبهتان، والله ناصر دينه ولو كره المشركون، وأنت لا تستهون مخالفة العادة على العلماء فضلا عن العوام; وأنا أضرب لك مثلا بمسألة واحدة، وهي: مسألة
الاستجمار ثلاثا فصاعدا، من غير عظم ولا روث، وهو كاف مع وجود الماء، عند الأئمة الأربعة وغيرهم، وهو إجماع الأمة، لا خلاف في ذلك، ومع هذا لو يفعله أحد، لصار هذا عند الناس أمرا عظيما، ولنهوا عن الصلاة خلفه، وبدعوه، مع إقرارهم بذلك، ولكن لأجل العادة.
إذا تبين هذا، فالمسائل التي شنع بها، منها ما هو من البهتان الظاهر، وهي قوله: إني مبطل كتب المذاهب، وقوله: إني أقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء، وقوله: إني أدعي الاجتهاد، وقوله: إني خارج عن التقليد، وقوله: إني أقول إن اختلاف العلماء نقمة، وقوله: إني أكفّر من توسل بالصالحين، وقوله: إني أكفّر البوصيري، لقوله يا أكرم الخلق، وقوله: إني أقول: لو أقدر على هدم حجرة الرسول لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة، لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزابا من خشب، وقوله: إني أنكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: إني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهم، وإني أكفر من حلف بغير الله؛ فهذه اثنتا عشرة مسألة، جوابي فيها أن أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم.
ولكن قبله من بهت النبى محمدا صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى بن مريم، ويسب الصالحين، تشابهت قلوبهم، وبهتوه بأنه يزعم أن الملائكة وعيسى وعزيرا في النار، فأنزل الله في
ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} الآية [سورة الأنبياء آية: 101]
وأما المسائل الأخر، وهي: أني أقول لا يتم إسلام الإنسان، حتى يعرف معنى لا إله إلا الله، ومنها أني أعرف من يأتيني بمعناها; ومنها: أني أقول الإله هو الذي فيه السر، ومنها: تكفير الناذر، إذا أراد به التقرب لغير الله، وأخذ النذر كذلك، ومنها: أن الذبح للجن كفر، والذبيحة حرام، ولو سمى الله عليها إذا ذبحها للجن. فهذه خمس مسائل كلها حق، وأنا قلتها، ونبدأ بالكلام عليها، لأنها أم المسائل وقبل ذلك ذكر معنى لا إله إلا الله.
فنقول: التوحيد نوعان: توحيد الربوبية وهو: أن الله سبحانه متفرد بالخلق والتدبير، عن الملائكة والأنبياء وغيرهم؛ وهذا حق لا بد منه، لكن لا يُدخل الرجل في الإسلام، لأن أكثر الناس مقرون به، قال الله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} [سورة يونس آية: 31] إلى قوله: {أَفَلَا تَتَّقُونَ} .
وإنما الذي يُدخل الرجل في الإسلام هو توحيد الألوهية، وهو أن لا يعبد إلا الله، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بُعث وأهل الجاهلية يعبدون أشياء مع الله، فمنهم من يدعو الأصنام، ومنهم من يدعو عيسى، ومنهم من يدعو الملائكة، فنهاهم عن هذا،
وأخبرهم: أن الله أرسله ليوحَّد، ولا يدعى أحد من دونه، لا الملائكة ولا الأنبياء.
فمن تبعه ووحد الله فهو الذي شهد أن لا إله إلا الله، ومن عصاه ودعا عيسى والملائكة، واستنصرهم، والتجأ إليهم، فهو الذي جحد لا إله إلا الله، مع إقراره أنه لا يخلق، ولا يرزق إلا الله؛ وهذه جملة لها بسط طويل، لكن الحاصل: أن هذا مجمع عليه بين العلماء. ولما جرى في هذه الأمة، ما أخبر نبيها صلى الله عليه وسلم حيث قال:" لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " 1، وكان من قبلهم كما ذكر الله عنهم {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 2.
فصار ناس من الضالين، يدعون أناسا من الصالحين، في الشدة والرخاء، مثل عبد القادر الجيلاني، وأحمد البدوي، وعدي بن مسافر، وأمثالهم من أهل العبادة والصلاح، فأنكر عليهم أهل العلم غاية الإنكار وزجروهم عن ذلك، وحذروهم غاية التحذير والإنذار، من جميع المذاهب الأربعة، في سائر الأقطار والأمصار، فلم يحصل منهم انزجار، بل استمروا على ذلك غاية الاستمرار.
أما الصالحون الذين يكرهون ذلك، فحاشاهم من
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456)، ومسلم: العلم (2669) ، وأحمد (3/84 ،3/89) .
2 سورة التوبة آية: 31.
ذلك; وبين أهل العلم أن مثل هذا هو الشرك الأكبر، وأنت ذكرت في كتابك: ما تقول يا أخي؟ ما لنا والله دليل إلا من كلام أهل العلم; وأنا أقول: كلام أهل العلم رضى، وأنا أنقله لك، وأنبهك عليه، فتفكر فيه، وقم لله ساعة ناظرا ومناظرا مع نفسك، ومع غيرك.
فإن عرفت أن الصواب معي، وأن دين الإسلام اليوم من أغرب الأشياء - أعني دين الإسلام الصرف، الذي لا يمزج بالشرك والبدع، وأما الإسلام الذي ضده الكفر، فلا شك أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم آخر الأمم، وعليها تقوم الساعة - فإن فهمت أن كلامي هو الحق فاعمل لنفسك؛ واعلم أن الأمر عظيم، والخطب جسيم، فإن أشكل عليك شيء، فسفرك إلى المغرب في طلبه غير كثير، واعتبر لنفسك حيث كتبت لي فيما مضى، أن هذا هو الحق الذي لا شك فيه، لكن لا نقدر على التغيير، وتكلمت بكلام حسن.
فلما غربلك الله بولد المويس، ولبس عليك، وكتب لأهل الوشم يستهزئ بالتوحيد، ويزعم أنه بدعة، وأنه خرج من خراسان، ويسب دين الله ورسوله، لم تفطن لجهله وعظم ذنبه، وظننت أن كلامي فيه من باب الانتصار للنفس؛ وكلامي هذا لا يغيرك، فإن مرادي أن تفهم أن الخطب جسيم، وأن أكابر أهل العلم يتعلمون هذا،
ويغلطون فيه فضلا عنا وعن أمثالنا، فلعله إن أشكل عليك تواجهني، هذا إن عرفت أنه حق.
وإن كنت إذا نقلت لك عبارات العلماء، عرفت أني لم أفهم معناها، وأن الذي نقلت لك كلامهم أخطؤوا، وأنهم خالفهم أحد من أهل العلم، فنبهني على الحق، وأرجع إليه إن شاء الله تعالى.
فنقول: قال الشيخ تقي الدين: وقد غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر، ومن أهل العبادة، حتى قلبوا حقيقته: فطائفة ظنت أن التوحيد هو نفي الصفات، وطائفة ظنوا أنه الإقرار بتوحيد الربوبية.
ومنهم من أطال في تقرير هذا الموضع، وظن أنه بذلك قرر الوحدانية، وأن الألوهية هي القدرة على الاختراع ونحو ذلك، ولم يعلم أن مشركي العرب كانوا مقرين بهذا التوحيد، قال الله تعالى:{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1 الآيات؛ وهذا حق لكن لا يخلص به عن الإشراك بالله الذي لا يغفره الله، بل لا بد أن يخلص الدين لله، فلا يعبد إلا الله، فيكون دينه لله; والإله هو المألوه الذي تألهه القلوب; وأطال رحمه الله الكلام.
وقال أيضا في "الرسالة السنية" التي أرسلها إلى
1 سورة المؤمنون آية: 84.
طائفة من أهل العبادة، ينتسبون إلى بعض الصالحين، ويغلون فيه، فذكر حديث الخوارج، ثم قال: فإذا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، ممن ينتسب إلى الإسلام، من مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم: أن المنتسب إلى الإسلام قد يمرق من الدين وذلك بأمور منها: الغلو الذي ذمه الله، مثل الغلو في عدي بن مسافر أو غيره، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه، فكل من غلا في نبي، أو صحابي، أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أنا في حسبك، ونحو هذا، فهو كافر، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده ولا يُدعى معه إله آخر؛ والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل الشمس والقمر، والصالحين، والتماثيل المصورة على صورهم، لم يكونوا يعتقدون أنها تنْزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدون الملائكة والصالحين، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله؛ فبعث الله الرسل، وأنزل الكتب تنهى أن يُدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة; وأطال الكلام رحمه الله. فتأمل كلامه في أهل عصره من أهل النظر، الذين يدّعون العلم، ومن أهل العبادة الذين يدّعون الصلاح.
وقال في "الاقناع" - في باب حكم المرتد، في أوله -: فمن أشرك بالله أو جحد ربوبيته، أو وحدانيته، إلى أن قال: أو استهزأ بالله أو رسله، قال الشيخ: أو كان مبغضا لرسوله، أو لما جاء به اتفاقا، وقال: أو جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم ويتوكل عليهم، ويسألهم، كفر إجماعا، إلى أن قال: أو أنكر الشهادتين أو إحداهما
…
فتأمل هذا الكلام بشراشر قلبك، وتأمل: هل قالوا هذا في أشياء وجدت في زمانهم واشتد نكيرهم على أهلها، أو قالوها ولم تقع؟ وتأمل الفرق بين جحد الربوبية والوحدانية، والبغض لما جاء به الرسول.
وقال أيضا في أثناء الباب: ومن اعتقد أن لأحد طريقا إلى الله، غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم، أو لا يجب عليه اتباعه، أو أن لغيره خروجا عن اتباعه، أو قال: أنا محتاج إليه في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة، أو قال: إن من العلماء من يسعه الخروج عن شريعته، كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى، كفر في هذا كله. ولو تعرف من قال هذا الكلام فيه، وجزم بكفرهم، وعلمت ما هم عليه من الزهد والعبادة، وأنهم عند أكثر أهل زماننا من أعظم الأولياء، لقضيت العجب.
وقال أيضا في الباب: ومن سب الصحابة، واقترن بسبه دعوى أن عليا إله أو نبي، أو أن جبرائيل غلط، فلا
شك في كفر هذا، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره؛ فتأمل هذا؛ إذا كان كلامه هذا في علي، فكيف بمن ادعى أن ابن عربي، أو عبد القادر إلها؟! وتأمل كلام الشيخ في معنى الإله الذي تألهه القلوب.
واعلم: أن المشركين في زماننا، قد زادوا على الكفار في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يدعون الأولياء والصالحين، في الرخاء والشدة، ويطلبون منهم تفريج الكربات، وقضاء الحاجات، مع كونهم يدعون الملائكة والصالحين، ويريدون شفاعتهم والتقرب بهم، وإلا فهم مقرّون بأن الأمر لله؛ فهم لا يدعونهم إلا في الرخاء، فإذا جاءتهم الشدائد أخلصوا لله، قال الله تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} 1 الآية.
وقال أيضا في الإقناع، في الباب: ويحرم تعلم السحر وتعليمه وفعله، وهو عقد ورقى، وكلام يتكلم به، أو يكتبه، أو يعمل شيئا يؤثر في بدن المسحور، أو قلبه أو عقله، ومنه ما يقتل، ومنه ما يمرض، ومنه ما يأخذ الرجل عن امرأته، فيمنعه وطأها، ومنه ما يبغّض أحدهما للآخر، ويحبب بين اثنين.
ويكفر بتعلمه وفعله، سواء اعتقد تحريمه، أو إباحته; فتأمل هذا الكلام، ثم تأمل ما جرى في الناس،
1 سورة الإسراء آية: 67.
خصوصا الصرف، والعطف، تعرف أن الكفر ليس ببعيد. وعليك بتأمل هذا الباب في الإقناع وشرحه، تأملا جيدا، وقف عند المواضع المشكلة، وذاكر فيها كما تفعل في باب الوقف والإجارة، يتبين لك إن شاء الله أمر عظيم.
وأما الحنفية، فقال الشيخ قاسم، في "شرح درر البحار": النذر الذي يقع من أكثر العوام، وهو أن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء، قائلا: يا سيدي فلان، إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي، فلك كذا، وكذا، باطل إجماعا لوجوه; منها: أن النذر للمخلوق لا يجوز.
ومنها: ظن أن الميت يتصرف في الأمر، واعتقاد هذا كفر، إلى أن قال: إذا عرف هذا، فما يؤخذ من الدراهم والشمع، والزيت ونحوها، وينقل إلى ضرائح الأولياء، فحرام بإجماع المسلمين; وقد ابتلي الناس، لا سيما في مولد أحمد البدوي; فتأمل قول صاحب النهر، مع أنه بمصر، ومقر العلماء، كيف شاع بين أهل مصر ما لا قدرة للعلماء على دفعه فتأمل قوله من أكثر العوام، أتظن أن الزمان صلح بعده؟
وأما المالكية، فقال الطرطوشي، في كتاب "الحوادث والبدع": روى البخاري عن أبي واقد الليثي، قال: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون حولها، وينوطون بها
أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال: الله أكبر! هذا كما قال بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، لتركبن سنن من قبلكم ". فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة يقصدها الناس، وينوطون بها الخرق، فهي ذات أنواط، فاقطعوها.
وقال صلى الله عليه وسلم:" بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون إذا فسد الناس " 1، ومعنى هذا: أن الله لما جاء بالإسلام، فكان الرجل إذا أسلم في قبيلته، غريبا مستخفيا بإسلامه، قد جفاه العشيرة، فهو بينهم ذليل خائف، ثم يعود غريبا، لكثرة الأهواء المضلة، والمذاهب المختلفة، حتى يبقى أهل الحق غرباء في الناس، لقلتهم وخوفهم على أنفسهم.
وروى البخاري، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال:(والله ما أعرف فيهم من أمر محمد، إلا أنهم يصلون جميعا) ; وذلك: أنه أنكر أكثر أفعال أهل عصره وقال الزهري: "دخلت على أنس بن مالك بدمشق، وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: ما أعرف فيهم شيئا مما أدركت، إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت". انتهى كلام الطرطوشي.
فليتأمل اللبيب هذه الأحاديث، وفي أي زمان قيلت،
1 مسلم: الإيمان (145)، وابن ماجه: الفتن (3986) ، وأحمد (2/389) .
وفي أي مكان، وهل أنكرها أحد من أهل العلم؟ والفوائد فيها كثيرة، ولكن مرادي منها ما وقع من الصحابة، وقول الصادق المصدوق، إنه مثل كلام الذين اختارهم الله على العالمين لنبيهم: اجعل لنا إلها.
يا عجبا إذا جرى هذا من أولئك السادة، كيف ينكر علينا أن رجلا من المتأخرين غلط في قوله: يا أكرم الخلق; كيف تعجبون من كلامي فيه، وتظنونه خيرا وأعلم منهم؟ ولكن هذه الأمور لا علم لكم بها، وتظنون أن من وصف شركا أو كفرا، أنه الكفر الأكبر المخرج عن الملة. ولكن أين كلامك هذا من كتابك، الذي أرسلت إلي قبل أن يغربلك الله بصاحب الشام؟ وتذكر وتشهد أن هذا هو الحق، وتعتذر أنك لا تقدر على الإنكار؛ ومرادي أبين لك كلام "الطرطوشي" ما وقع في زمانه من الشرك بالشجر، مع كونه في زمن القاضي أبي يعلى، أتظن الزمان صلح بعده؟!
وأما كلام الشافعية، فقال الإمام محدث الشام أبو شامة، في كتاب "الباعث على إنكار البدع والحوادث" وهو في زمن الشارح، وابن حمدان: وقد وقع من جماعة من النابذين لشريعة الإسلام، المنتمين إلى الفقر، الذي حقيقته الافتقار من الإيمان، من اعتقادهم في مشايخ لهم ضالين مضلين، فهم داخلون تحت قوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء
شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 1؛وبهذا الطريق وأمثالها، كان مبادي ظهور الكفر، من عبادة الأصنام وغيرها.
ومن هذا القسم، ما قد عم الابتلاء به، من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان، والعمد، وسرج مواضع في كل بلد، يحكي لهم حاك: أنه رأى في منامه أحدا ممن شهر بالصلاح؛ فيفعلون ذلك، ويظنون أنهم يتقربون إلى الله، ثم يجاوزون ذلك، إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم بالنذر لهم، وهي ما بين عيون، وشجر، وحائط وحجر.
وفي دمشق - صانها الله من ذلك - مواضع متعددة، كعوينة الحمى، والشجرة الملعونة خارج باب النصر، سهل الله قطعها، فما أشبهها بذات أنواط; ثم ذكر كلاما طويلا - إلى أن قال: أسأل الله الكريم معافاته من كل ما يخالف رضاه، ولا يجعلنا ممن أضله فاتخذ إلهه هواه. فتأمل ذكره في هذا النوع، أنه نبذ لشريعة الإسلام، وأنه خروج عن الإيمان، ثم ذكر أنه عم الابتلاء به في الشام.
فأنت قل لصاحبكم: هؤلاء العلماء من الأئمة الأربعة، ذكروا أن الشرك عم الابتلاء به وغيره، وصاحوا
1 سورة الشورى آية: 21.
بأهله من أقطار الأرض، وذكروا أن الدين عاد غريبا؛ فهو بين اثنين: إما أن يقول كل هؤلاء العلماء جاهلون، ضالون مضلون، خارجون; وإما أن يدعي أن زمانه، وزمان مشايخه صلح بعد ذلك.
ولا يخفاك: أني عثرت على أوراق، عند ابن عزاز، فيها إجازات له من عند مشايخه، وشيخ مشايخه، رجل يقال له: عبد الغني، ويثنون عليه في أوراقهم، ويسمونه العارف بالله؛ وهذا اشتهر عنه أنه على دين ابن عربي، الذي ذكر العلماء أنه أكفر من فرعون، حتى قال ابن المقري الشافعي: من شك في كفر طائفة ابن عربي فهو كافر.
فإذا كان إمام دين ابن عربي والداعي إليه، هو شيخهم، ويثنون عليه أنه العارف بالله، فكيف يكون الأمر؟! ولكن أعظم من هذا كله، ما تقدم عن أبي الدرداء وأنس، وهما بالشام، ذلك الكلام فيه العظيم، واحتج به أهل العلم، على أن زمانهم أعظم؛ فكيف بزماننا؟
وقال ابن القيم رحمه الله، في الهدي النبوي، في الكلام على حديث وفد الطائف لما أسلموا، وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يترك لهم اللات لا يهدمها سنة، ولما تكلم ابن القيم على المسائل المأخوذة من القصة، قال: ومنها: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت، بعد القدرة على هدمها وإبطالها، يوما واحدا؛ فإنها شعائر الشرك
والكفر، وهي أعظم المنكرات؛ فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة.
وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتبرك والنذر والتقبيل؛ لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض، مع القدرة على إزالته؛ وكثير منها بمنْزلة اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركا عندها وبها. والله المستعان.
ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت، يعتقد أنها تخلق وترزق، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم؛ فاتبع هؤلاء سنن من قبلهم، وسلكوا سبيلهم، شبرا بشبر وذراعا بذراع، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة.
وغلب الشرك على أكثر النفوس، لغلبة الجهل، وخفاء العلم، وصار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء، وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، انتهى كلامه.
وقال أيضا في الكلام على هذه القصة، لما ذكر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ مال اللات وصرفه في المصالح": ومنها: جواز صرف الإمام الأموال التي تصير إلى هذه الطواغيت في الجهاد، ومصالح المسلمين؛ فيجب عليه أن يأخذ أموال هذه الطواغيت التي تصرف إليها، ويصرفها على الجند والمقاتلة، ومصالح المسلمين، كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أموال اللات.
وكذا الحكم في وقفها، والوقف عليها باطل، وهو مال ضائع، فيصرف في مصالح المسلمين؛ فإن الوقف لا يصح إلا في قربة وطاعة لله ولرسوله، فلا يصح على مشهد ولا قبر يسرج عليه، ويعظم وينذر له، ويعبد من دون الله؛ وهذا مما لا يخالف فيه أحد من أئمة الدين، ومن اتبع سبيلهم، انتهى كلامه.
فتأمل كلام هذا الرجل الذي هو من أهل العلم، وهو أيضا من أهل الشام، كيف صرح أنه ظهر في زمانه فيمن يدعي الإسلام في الشام وغيره، عبادة القبور، والمشاهد، والأشجار، والأحجار، التي هي أعظم من عبادة اللات، والعزى، أو مثلها، وأن ذلك ظهر ظهورا عظيما، حتى غلب الشرك على أكثر النفوس، وحتى صار الإسلام غريبا، بل اشتدت غربته.
أين هذا من قول صاحبكم لأهل الوشم في كتابه - لما ذكروا له: إن في بلدانكم شيئا من الشرك -: يأبى الله أن يكون ذلك في المسلمين؟ وكلام هؤلاء الأئمة من أهل المذاهب الأربعة، أعظم وأعظم وأطم، مما قال ابن عبدان وصاحبه، في أهل زمانهما، أفترى هؤلاء العلماء أتوا فرية عظيمة، ومقالة جسيمة؟ فهذا ما يسر الله نقله، من كلام أهل العلم، على سبيل العجلة.
فأنت تأمله تأملا جيدا، واجعل تأملك لله، مستعيذا بالله من اتباع الهوى، ولا تفعل فعلك أولا، ولما ذكرت لك: أنك تأمل كلامي وكلامه، فإن كان كلامي صحيحا لا مجازفة فيه، وأن شاميكم لا يعرف معنى لا إله إلا الله، ولا يعرف عقيدة الإمام أحمد، وعقيدة الذين ضربوه، فاعرف قدره، فهو بغيره أجهل; واعرف أن الأمر أمر جليل، فإن كان كلامي باطلا، ونسبت رجلا من أهل العلم إلى هذه الأمور العظيمة، بالكذب والبهتان، فالأمر أيضا عظيم، فأعرضت عن ذلك كله، وكتبت لي كتابا في شيء آخر.
فإن كان مرادك اتباع الهوى - أعاذنا الله منه -، وأنك مع ولد المويس كيف كان، فاترك الجواب، فإن بعض الناس يذكرون عنك، أنك صرت معه، لأجل شيء من أمور الدنيا؛ وإن كنت مع الحق، فلا أعذرك من تأمل
كلامي هذا، وكلامي الأول، وتعرضهما على كلام أهل العلم، وتحرره تحريرا جيدا، ثم تتكلم بالحق.
إذا تقرر هذا، فخمس المسائل التي قدمت جوابها في كلام العلماء، وأضيف إليها مسألة سادسة، وهي: إفتائي بكفر شمسان وأولاده، ومن شابههم، وسميتهم طواغيت; وذلك أنهم يدعون الناس إلى عبادتهم من دون الله، عبادة أعظم من عبادة اللات والعزى بأضعاف، وليس في كلامي مجازفة، بل هو الحق، لأن عبادة اللات والعزى، يعبدونها في الرخاء، ويخلصون لله في الشدة، وعبادة هؤلاء أعظم من عبادتهم إياهم، في شدائد البر والبحر.
فإن كان الله أوقع في قلبك معرفة الحق، والانقياد له، والكفر بالطاغوت، والتبرؤ ممن خالف هذه الأصول، ولو كان أباك أو أخاك، فاكتب لي وبشرني، لأن هذا ليس مثل الخطأ في الفروع; بل ليس الجهل بهذا، فضلا عن إنكاره، مثل الزنى والسرقة، بل والله ثم والله ثم والله، إن الأمر أعظم؛ وإن وقع في قلبك إشكال، فاضرع إلى مقلب القلوب، أن يهديك لدينه ودين نبيه.
وأما بقية المسائل، فالجواب عنها ممكن، إذا خلصنا من شهادة أن لا إله إلا الله، وبيننا وبينكم كلام أهل العلم; لكن العجب من قولك: إني هادم قبور الصحابة; وعبارة "الإقناع" في الجنائز: يجب هدم القباب التي على القبور،
لأنها أسست على معصية الرسول،؛ والنبي صلى الله عليه وسلم صح عنه: أنه بعث عليا لهدم القبور; ومثل صاحب كتابكم، لو كتب لكم: أن ابن عبد الوهاب ابتدع، لأنه أنكر على رجل تزوج أخته، فالعجب كيف راج عليكم كلامه فيه؟!
وأما قولي: إن الإله الذي فيه السر; فمعلوم: أن اللغات تختلف، فالمعبود عند العرب، والإله الذي يسمونه عوامنا السيد، والشيخ، والذي فيه السر; والعرب الأولون: يسمون الألوهية ما يسمون عوامنا السر، لأن السر عندهم هو القدرة على النفع والضر، وكونه يصلح أن يدعى ويرجى، ويخاف ويتوكل عليه.
فإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " 1، وسئل بعض العامة: ما فاتحة الكتاب؟ ما فسرت له إلا بلغة بلده; فتارة تقول: هي فاتحة الكتاب، وتارة تقول: هي أم القرآن، وتارة تقول: هي الحمد; وأشباه هذه العبارات التي معناها واحد، ولكن إن كان السر في لغة عوامنا ليس هذا، وأن هذا ليس هو الإله في كلام أهل العلم، فهذا وجه الإنكار، فبينوا لنا.
1 البخاري: الأذان (756)، ومسلم: الصلاة (394)، والترمذي: الصلاة (247)، والنسائي: الافتتاح (910 ،911)، وأبو داود: الصلاة (822)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (837) ، وأحمد (5/316 ،5/321)، والدارمي: الصلاة (1242) .
[تصريح الشيخ ابن عبد الوهاب بكفر ابن سحيم]
وله أيضا، أعلى الله منازله في عليين:
بسم الله الرحمن الرحيم
الذي يعلم به سليمان بن سحيم أنك زعجت قرطاسة فيها عجائب؛ فإن كان هذا قدر فهمك، فهذا من أفسد الأفهام، وإن كنت تلبس به على الجهال، فلا أنت برابح. وقبل الجواب، نذكر لك أنك أنت وأباك، مصرحون بالكفر، والشرك، والنفاق، ولكن صائر لكم عند "خمامة" في معكال، قصاصيب وأشباههم، يعتقدون أنكم علماء؛ ونداريكم نود أن الله يهديكم ويهديهم; وأنت إلى الآن أنت وأبوك، لا تفهمون شهادة أن لا إله إلا الله، أنا أشهد بهذا شهادة يسألني الله عنها يوم القيامة، أنك لا تعرفها إلى الآن، ولا أبوك.
ونكشف لك هذا كشفا بينا، لعلك تتوب إلى الله، وتدخل في دين الإسلام، إن هداك الله، وإلا تبين لكل من يؤمن بالله واليوم الآخر، حالكما، والصلاة وراءكما، وقبول شهادتكما، وخطؤكما، ووجوب عداوتكما، كما قال تعالى:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 1. وأكشف ذلك بوجوه:
الأول: أنكم تقرون، أن الذي يأتيكم من عندنا هو
1 سورة المجادلة آية: 22.
الحق، وأنت تشهد به ليلا ونهارا، وإن جحدت هذا، شهد عليك الرجال والنساء; ثم هذه الشهادة "أن هذا دين الله"، أنت وأبوك مجتهدان في عداوة هذا الدين، ليلا ونهارا، ومن أطاعكما، وتبهتون وترمون المؤمنين بالبهتان العظيم، وتصورون على الناس الأكاذيب الكبار؛ فكيف تشهد أن هذا دين الله، ثم تتبين في عداوة من تبعه؟!
الوجه الثاني: أنك تقول إني أعرف التوحيد، وتقر أن من جعل الصالحين وسائط، فهو كافر، والناس يشهدون عليك أنك تروح للمولد، وتقرؤه لهم، وتحضرهم وهم ينخون ويندبون مشايخهم ويطلبون منهم الغوث والمدد، وتأكل اللقم من الطعام المعد لذلك؛ فإذا كنت تقر: أن هذا كفر، فكيف تروح لهم، وتعاونهم عليه، وتحضر كفرهم؟!
الوجه الثالث: أن تعليقهم التمائم، من الشرك، بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر تعليق التمائم صاحب الإقناع، في أول الجنائز؛ وأنت تكتب الحجب، وتأخذ عليها شرطا، حتى إنك تكتب لامرأة حجابا، لعلها تحبل، وشرطت لك أحمرين، وطالبتها تريد الأحمرين، فكيف تقول: إني أعرف التوحيد، وأنت تفعل هذه الأفاعيل؟ وإن أنكرت، فالناس يشهدون عليك بهذا.
الوجه الرابع: أنك تكتب في حجبك طلاسم، وقد ذكر في الإقناع أنها من السحر، والسحر يكفر صاحبه؛ فكيف تفهم التوحيد، وأنت تكتب الطلاسم؟ وإن جحدت
فهذا خط يدك موجود.
الوجه الخامس: أن الناس فيما مضى، عبدوا الطواغيت، عبادة ملأت الأرض، بهذا الذي تقر أنه من الشرك، ينخونهم ويندبونهم، ويجعلونها وسائط، وأنت وأبوك تقولان: نعرف هذا، ولكن ما سألونا؛ فإذا كنتما تعرفانه، كيف يحل لكما أن تتركا الناس يكفرون ما تنصحانهم ولو ما سألوكما؟
الوجه السادس: أنا لما أنكرنا عبادة غير الله، بالغتم في عداوة هذا الأمر وإنكاره، وزعمتم أنه مذهب خامس، وأنه باطل؛ وإن أنكرتم فالناس يشهدون عليكم بذلك، وأنتم مجاهرون به؛ فكيف تقولون هذا كفر، ولكن ما سألونا عنه؟ فإذا قام من يبين للناس التوحيد، قلتم إنه مغير الدين، وآت بمذهب خامس؛ فإذا كنت تعرف التوحيد، وتقر أن كلامي هذا حق، فكيف تجعله تغييرا لدين الله، وتشكونا عند أهل الحرمين؟
والأمور التي تدل على أنك أنت وأباك، لا تعرفان شهادة أن لا إله إلا الله لا تحصر، لكن ذكرنا الأمور التي لا تقدر أن تنكرها؛ وليتك تفعل فعل المنافقين الذين قال الله فيهم:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} 1 لأنهم يخفون نفاقهم، وأنت وأبوك، تظهران للخاص والعام.
1 سورة النساء آية: 145.
وأما الدليل على أنك رجل معاند ضال على علم، مختار الكفر على الإسلام، فمن وجوه:
الأول: أني كتبت ورقة لابن صالح من سنتين، فيها تكفير الطواغيت، شمسان وأمثاله، وذكرت فيها كلام الله ورسوله، وبينت الأدلة، فلما جاءتك، نسختها بيدك لموسى بن سليم، ثم سجلت عليها، وقلت: ما ينكر هذا إلا أعمى القلب. وقرأها موسى في البلدان وفي منفوحة، وفي الدرعية وعندنا، ثم راح بها للقبلة. فإذا كنت من أول موافقا لنا على كفرهم، وتقول: ما ينكر هذا إلا من أعمى الله بصيرته، فالعلم الذي جاءك بعد هذا يبين لك أنهم ليسوا بكفار، بينه لنا.
الوجه الثاني: أني أرسلت لك رسالة الشيخ تقي الدين، التي يذكر فيها أن من دعا نبيا، أو صحابيا، أو وليا، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أنه كافر بالإجماع؛ فلما أتتك استحسنتها، وشهدت أنها حق، وأنت تشهد به الآن، فما الموجب لهذه العداوة؟
الوجه الثالث: أنه إذا أتاك أحد من أهل المعرفة، أقررت ان هذا دين الله، وأنه الحق، وقلته على رؤوس الأشهاد، وإذا خلوت مع شياطينك "قصاصيبك" فلك كلام
آخر.
الوجه الرابع: أن عبد الرحمن الشنيفي ومن معه، لما أتوك وذاكروك، أقررت بحضرة شياطينك، أن هذا هو الحق، وشهدت أن الطواغيت كفار، وتبرأت من طالب الحمضي، وعبد الكريم، وموسى بن نوح؛ فأي شيء بان لك بعد هذا، أن هذا باطل؟ وأن الذي تبرأت منهم، وعاديتهم أنهم على حق؟
الوجه الخامس: أنك لما خرجت من عند الشيوخ، وأتيت عند الشنيفي، جحدت الكلام الذي قلت في المجلس؛ فإن كان الكلام حقا، فلأي شيء تجحده؟ وأنت وأبوك: مقران أنكما لا تعرفان كلام الله ورسوله، لكن تقولان نعرف كلام صاحب "الإقناع" وأمثاله. وأنا أذكر لك كلام صاحب الإقناع، أنه مكفرك، ومكفر أباك، في غير موضع من كتابه.
الأول: أنه ذكر في أول سطر من أحكام المرتد، أن الهازل بالدين يكفر، وهذا مشهور عنك، وعن ابن أحمد بن نوح، الاستهزاء بكلام الله ورسوله، وهذا كتابكم كفركم.
الثاني: أنه ذكر في أوله، أن المبغض لما جاء به الرسول، كافر بالإجماع، ولو عمل به؛ وأنت مقر أن هذا الذي أقول في التوحيد، أمر الله ورسوله; والنساء والرجال
يشهدون عليكم: أنكم مبغضون لهذا الدين، مجتهدون في تنفير الناس عنه، والكذب والبهتان على أهله؛ فهذا كتابكم كفركم.
الثالث: أنه ذكر من أنواع الردة، إسقاط حرمة القرآن؛ وأنتم كذلك، تستهزئون بمن يعمل به، وتزعمون أنهم جهال، وأنكم علماء.
الرابع: أنه ذكر أن من ادعى في علي بن أبي طالب ألوهية، أنه كافر، ومن شك في كفره فهو كافر، وهذه مسألتك التي جادلت بها في مجلس الشيوخ، وقد صرح في "الإقناع": أن من شك في كفرهم فهو كافر؛ فكيف بمن جادل عنهم، وادعى أنهم مسلمون؟ وجعلنا كفارا لما أنكرنا عليهم؟
الخامس: أنه ذكر أن السحر يكفر بتعلمه وتعليمه؛ والطلاسم من جملة السحر. فهذه خمسة مواضع في "الإقناع". في باب واحد، أن من فعلها فقد كفر، وهي دينك ودين أبيك؛ فإما أن تبرؤوا من دينكم هذا، وإلا أجيبوا عن كلام صاحب "الإقناع"، وكلامنا هذا لغيرك الذين عليهم الشرهة، مثل الشيوخ، أو من يصلي وراءك، لعل الله أن يهديهم، ويعزلوك أنت وأباك عن الصلاة بالناس، لئلا تفسد عليهم دينهم، وإلا فأنا أظنك لا تقبل، ولا يزيدك هذا الكلام إلا جهالة وكفرا.
وأما الكلام الذي لبست به على الناس، فأنا أبينه إن شاء الله كلمة كلمة، وذلك أن جملة المسائل التي ذكرت أربع:
الأولى: النذر لغير الله، تقول إنه حرام ليس بشرك.
الثانية: أن من جعل بينه وبين الله وسائط كفر، أما الوسائط بأنفسهم فلا يكفرون.
الثالثة: عبارة العلماء، أن المسلم لا يجوز تكفيره بالذنوب.
الرابعة: التذكير ليلة الجمعة، لا ينبغي الأمر بتركه. هذه المسائل التي ذكرت.
فأما المسألة الأولى: فدليلك قولهم: إن النذر لغير الله حرام بالإجماع; فاستدللت بقولهم حرام، على أنه ليس بشرك، فإن كان هذا قدر عقلك، فكيف تدعي المعرفة؟ يا ويلك! ما تصنع بقول الله تعالى:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 1 فهذا يدل على أن الشرك حرام ليس بكفر، يا هذا الجاهل الجهل المركب!
ما تصنع بقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} 2، هل يدل هذا التحريم على أنه لا يكفر صاحبه؟ يا ويلك! في أي كتاب وجدته، إذا قيل لك هذا حرام أنه ليس بكفر؟ فقولك: إن ظاهر كلامهم أنه ليس بكفر، كذب وافتراء على أهل العلم.
1 سورة الأنعام آية: 151.
2 سورة الأعراف آية: 33.
بل يقال: ذكر أنه حرام، وأما كونه كفرا، فيحتاج إلى دليل آخر، والدليل عليه: أنه صرح في الإقناع، أن النذر عبادة، ومعلوم: أن لا إله إلا الله معناها لا يعبد إلا الله، فإذا كان النذر عبادة، وجعلتها لغيره، كيف لا يكون شركا؟
وأيضا: مسألة الوسائط تدل على ذلك، والناس يشهدون: أن هؤلاء الناذرين يجعلونهم وسائط، وهم مقرون بذلك; وأما استدلالك بقوله: من قال: انذروا لي، أنه إذا رضي وسكت لا يكفر، فبأي دليل؟ غاية ما يقال: إنه سكت عن الآخذ الراضي، وعلم من دليل آخر.
والدليل الآخر: أن الرضاء بالكفر، كفر صرح به العلماء; وموالاة الكفار كفر، وغير ذلك. هذا إذا قدر أنهم لا يقولونه، فكيف وأنت وغيرك تشهد عليهم أنهم يقولون، ويبالغون فيه، ويقصون على الناس الحكايات، التي ترسخ الشرك في قلوبهم، وتبغض إليهم التوحيد، ويكفرون أهل العارض، لما قالوا: لا يعبد إلا الله; وأما قولك: ما رأينا للترشيح معنى في كلام العلماء، فمن أنت حتى تعرف كلام العلماء؟!.
وأما الثانية: وهي أن الذي يجعل الوسائط هو الكافر، وأما المجعول فلا يكفر، فهذا كلام تلبيس
وجهالة; ومن قال: إن عيسى، وعزيرا، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن الخطاب، وغيرهم من الصالحين، يلحقهم نقص بجعل المشركين إياهم وسائط، حاشا وكلا {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 1.
وإنا كفّرنا هؤلاء الطواغيت، أهل الخرج وغيرهم، بالأمور التي يفعلونها هم; منها: أنهم يجعلون آباءهم وأجدادهم وسائط، ومنها: أنهم يدعون الناس إلى الكفر، ومنها: أنهم يبغضون عند الناس دين محمد صلى الله عليه وسلم ويزعمون: أن أهل العارض كفروا لما قالوا: لا يعبد إلا الله، وغير ذلك من أنواع الكفر؛ وهذا أمر أوضح من الشمس، لا يحتاج إلى تقرير.
ولكن أنت رجل جاهل مشرك، مبغض لدين الله، وتلبس على الجهال الذين يكرهون دين الإسلام ويحبون الشرك ودين آبائهم; وإلا فهؤلاء الجهال، لو مرادهم اتباع الحق، عرفوا أن كلامك من أفسد ما يكون.
وأما المسألة الثالثة: وهي من أكبر تلبيسك الذي تلبس به على العوام، أن أهل العلم قالوا: لا يجوز تكفير المسلم بالذنب، وهذا حق، ولكن ليس هذا ما نحن فيه; وذلك أن الخوارج يكفرون من زنى، أو سرق، أو سفك الدم، بل كل كبيرة إذا فعلها المسلم كفر; وأما أهل السنة فمذهبهم: أن المسلم لا يكفر إلا بالشرك.
1 سورة الأنعام آية: 164.
ونحن ما كفّرنا الطواغيت وأتباعهم، إلا بالشرك; وأنت رجل من أجهل الناس، تظن أن من صلى وادعى أنه مسلم لا يكفر؛ فإذا كنت تعتقد ذلك، فما تقول في المنافقين، الذين يصلون ويصومون ويجاهدون، قال الله تعالى فيهم:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} 1.
وما تقول في الخوارج، الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد، أينما لقيتموهم فاقتلوهم " 2؟ أتظنهم ليسوا من أهل القبلة؟ ما تقول في الذين اعتقدوا في علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثل اعتقاد كثير من الناس في عبد القادر وغيره، فأضرم لهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه نارا، فأحرقهم بها؟ وأجمعت الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس أنكر تحريقهم بالنار، وقال: يُقتلون بالسيف; أتظن هؤلاء ليسوا من أهل القبلة؟ أم أنت تفهم الشرع، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفهمونه؟
أرأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قاتلوا من منع الزكاة، فلما أرادوا التوبة، قال أبو بكر: لا نقبل توبتكم، حتى تشهدوا أن قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار؛ أتظن أن أبا بكر وأصحابه، لا يفهمون، وأنت وأبوك الذين تفهمون؟ يا ويلك أيها الجاهل المركب! إذا كنت تعتقد
1 سورة النساء آية: 145.
2 البخاري: التوحيد (7432)، ومسلم: الزكاة (1064)، والنسائي: الزكاة (2578)، وأبو داود: السنة (4764) ، وأحمد (3/68 ،3/73) .
هذا، أن من أم القبلة لا يكفر، فما معنى هذه المسائل العظيمة الكثيرة، التي ذكرها العلماء في باب حكم المرتد، التي كثير منها في أناس، أهل زهد وعبادة عظيمة؟ ومنهم طوائف، ذكر العلماء: أن من شك في كفرهم، فهو كافر.
ولو كان الأمر على زعمك، بطل كلام العلماء في حكم المرتد إلا مسألة واحدة، وهي: الذي يصرح بتكذيب الرسول، وينتقل يهوديا، أو نصرانيا، أو مجوسيا ونحوهم، هذا هو الكفر عندك، يا ويلك! ما تصنع بقوله: صلى الله عليه وسلم " لا تقوم الساعة، حتى تعبد فئام من أمتي الأوثان "؟ وكيف تقول هذا، وأنت تقر: أن من جعل الوسائط كفر؟ فإذا كان أهل العلم في زمانهم، حكموا على كثير من أهل زمانهم، بالكفر والشرك، أتظن أنكم صلحتم بعدهم؟ يا ويلك!
وأما مسألة التذكير، فكلامك فيها من أعجب العجاب، أنت تقول بدعة حسنة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:" كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار" 1، ولم يستثن شيئا. تشير علينا نصدقك أنت وأباك، لأنكم علماء! ونكذب رسول الله! والعجب من نقلك الإجماع، فتجمع مع الجهالة المركبة، الكذب الصريح والبهتان؛ فإذا كان في "الإقناع" في باب الأذان، قد ذكر كراهيته في مواضع متعددة، أتظن أنك أعلم من صاحب "الإقناع"؟ أم تظنه مخالفا للإجماع؟ وأيضا
1 مسلم: الجمعة (867)، والنسائي: صلاة العيدين (1578)، وابن ماجه: المقدمة (45) ، وأحمد (3/310)، والدارمي: المقدمة (206) .
لما جاءك عبد الرحمن الشنيفي، أقررت لهم أن التذكير بدعة مكروهة، فمتى هذا العلم جاءك؟!
وأما قولك: أمر الله بالصلاة على نبيه على الإطلاق، فأيضا أمر الله بالسجود على الإطلاق، في قوله:{ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} 1، أفيدل هذا على السجود للأصنام؟ أو يدل على الصلاة في أوقات النهي؟ فإن قلت ذاك قد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، قلنا: وكذلك هذا، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البدع، وذكر أن " كل بدعة ضلالة " 2؛ ومعلوم أن هذا حادث من زمن طويل، وأنكره أهل العلم، منهم صاحب "الإقناع". وقد ذكر السيوطي في كتاب "الأوائل" أن أول ما حدث التذكير يوم الجمعة، ليتهيأ الناس لصلاتها، بعد السبعمائة، في زمن الناصر بن قلاوون؛ فأرنا كلام واحد من العلماء أرخص فيه، وجعله بدعة حسنة؛ فليس عندك إلا الجهل المركب، والبهتان والكذب.
وأما استدلالك بالأحايث التي فيها إجماع الأمة والسواد الأعظم، وقول:" من شذ شذ في النار " 3 و " يد الله على الجماعة " 4 وأمثال هذا، فهذا أيضا من أعظم ما تلبس به على الجهال، وليس هذا معنى الأحاديث، بإجماع أهل العلم كلهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الإسلام سيعود غريبا، فكيف يأمرنا باتباع غالب الناس؟! وكذلك الأحاديث الكثيرة، منها قوله: " يأتي على الناس زمان، لا يبقى من
1 سورة الحج آية: 77.
2 مسلم: الجمعة (867)، والنسائي: صلاة العيدين (1578)، وابن ماجه: المقدمة (45) ، وأحمد (3/310)، والدارمي: المقدمة (206) .
3 الترمذي: الفتن (2167) .
4 النسائي: تحريم الدم (4020) .
الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه ".
وأحاديث عظيمة كثيرة، يبين صلى الله عليه وسلم أن الباطل يصير أكثر من الحق، وأن الدين يصير غريبا، ولو لم يكن في ذلك، إلا قوله صلى الله عليه وسلم:"ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة". هل بعد هذا البيان بيان؟ يا ويلك! كيف تأمر بعد هذا باتباع أكثر الناس؟!
ومعلوم: أن أهل أرضنا، وأرض الحجاز، الذي ينكر البعث منهم أكثر ممن يقر به، والذي يعرف الدين أقل ممن لا يعرفه، والذي يضيع الصلاة أكثر من الذي يحافظ عليها، والذي يمنع الزكاة أكثر ممن يؤديها؛ فإن كان الصواب عندك: اتباع هؤلاء، فبين لنا، وإن كان عنزة، وآل ظفير، وأشباههم من البوادي، هو السواد الأعظم، ولقيت في علمك وعلم أبيك: أن اتباعهم حسن، فاذكروا لنا، ونحن نذكر كلام أهل العلم، في معنى تلك الأحاديث، ليتبين للجهال الذين موهت عليهم.
قال ابن القيم رحمه الله، في "إعلام الموقعين" واعلم أن الإجماع والحجة، والسواد الأعظم، هو العالم صاحب الحق، وإن كان وحده، وإن خالفه أهل الأرض; وقال عمرو بن ميمون، سمعت ابن مسعود، يقول:"عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة،" وسمعته يقول: "سيلي عليكم ولاة، يؤخرون الصلاة عن وقتها، فصل الصلاة
وحدك، وهي الفريضة، ثم صل معهم، فإنها لك نافلة. قلت: يا أصحاب محمد، ما أدري ما تحدثون؟ قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة، ثم تقول صل الصلاة وحدك; قال: يا عمرو بن ميمون، لقد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، أتدري ما الجماعة؟ قلت: لا، قال جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة، الجماعة: ما وافق الحق، وإن كنت وحدك".
وقال نعيم بن حماد: "إذا فسدت الجماعة، فعليك بما كان عليه الجماعة، قبل أن تفسد الجماعة; وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ" وقال بعض الأئمة - وقد ذكر له السواد الأعظم -: أتدري ما السواد الأعظم؟ هو محمد بن أسلم الطوسي وأصحابه، الذين جعلوا السواد الأعظم، والحجة والجمهور والجماعة؛ فجعلوهم عيارا على السنة، وجعلوا السنة بدعة، وجعلوا المعروف منكرا، لقلة أهله، وتفردهم في الأقطار والأمصار، وقالوا: من شذ شذ في النار; وعرف المتخلفون: أن الشاذ ما خالف الحق، وإن كان عليه الناس كلهم إلا واحدا، فهم الشاذون.
وقد شذ الناس كلهم في زمن أحمد بن حنبل، إلا نفرا يسيرا، فكانوا هم الجماعة؛ وكان القضاة يومئذ، والمفتون والخليفة وأتباعهم، كلهم هم الشاذون، وكان الإمام أحمد
وحده، هو الجماعة؛ ولما لم تحمل ذلك عقول الناس، قالوا للخليفة: يا أمير المؤمنين، أتكون أنت وقضاتك، وولاتك، والفقهاء والمفتون، على الباطل؟ وأحمد وحده على الحق؟ فلم يتسع علمه لذلك، فأخذه بالسياط والعقوبة، بعد الحبس الطويل; فلا إله إلا الله، ما أشبه الليلة بالبارحة، انتهى كلام ابن القيم، رحمه الله تعالى.
يا سلامة ولد أم سلامة، هذا كلام الصحابة في تفسير السواد الأعظم، وكلام التابعين، وكلام السلف، وكلام المتأخرين، حتى ابن مسعود ذكر في زمانه: أن أكثر الناس فارقوا الجماعة; وأبلغ من هذه: الأحاديث المذكورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غربة الدين، وتفرق هذه الأمة أكثر من سبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة؛ فإن كنت وجدت في علمك، وعلم أبيك، ما يرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم والعلماء، وأن عنزة، وآل ظفير، والبوادي، يجب علينا اتباعهم، فأخبرونا؛ وصلى الله على محمد.
[رد ما صنفه ابن سحيم من الكفر والسب والتهورات]
وله أيضا، حشره الله في زمرة النبيين والصديقين:
بسم الله الرحمن الرحيم
يعلم من يقف عليه: أني وقفت على أوراق، بخط ولد ابن سحيم، صنفها يريد أن يصد بها الناس عن دين الإسلام، وشهادة أن لا إله إلا الله، فأردت أن أنبه على ما فيها، من الكفر الصريح، وسب دين الإسلام، وما فيها من الجهالة التي يعرفها العامة.
فأما تناقض كلامه، فمن وجوه:
الأول: أنه صنف الأوراق يسبنا، ويرد علينا في تكفير كل من قال لا إله إلا الله، وهذا عمدة ما يشبه به على الجهال وعقولها؛ فصار في أوراقه يقول: أما من قال لا إله إلا الله لا يكفر ومن أم القبلة لا يكفر، فإذا ذكرنا لهم الآيات التي فيها كفره وكفر أبيه، وكفر الطواغيت، يقول: نزلت في النصارى، نزلت في الفلاني. ثم رجع في أوراقه يكذب نفسه، ويوافقنا، ويقول: من قال إن النبي صلى الله عليه وسلم أملس الكف كفر، ومن قال كذا كفر; تارة يقول: ما يوجد الكفر فينا، وتارة يقرر الكفر، أعجب لبانيه يخربه؟
الثاني: أنه ذكر في أوراقه، أنه لا يجوز الخروج عن كلام العلماء، وصادق في ذلك; ثم ذكر فيها كفر القدرية،
والعلماء لا يكفرونهم، فكفر ناسا لم يكفروا، وأنكر علينا تكفير أهل الشرك.
الثالث: أنه ذكر معنى التوحيد: أن تصرف جميع العبادات، من الأقوال والأفعال لله وحده، لا يجعل فيها شيء، لا لملك مقرب، ولا نبي مرسل; وهذا حق. ثم يرجع يكذب نفسه، ويقول: إن دعاء شمسان وأمثاله في الشدائد، والنذر لهم، ليبرؤوا المريض، ويفرجوا عن المكروب، الذي لم يصل إليه عبدة الأوثان، بل يخلصون في الشدائد لله، ويجعل هذا ليس من الشرك، ويستدل على كفره الباطل، بالحديث الذي فيه:(إن الشيطان يئس أن يعبد في جزيرة العرب) .
الرابع: أنه قسم التوحيد إلى نوعين، توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية; ويقول: إن الشيخ بين ذلك; ثم يرجع يرد علينا في تكفير طالب الحمضي، وأمثاله، الذين يشركون بالله في توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، ويزعمون أن حسينا، وإدريس، ينفعون ويضرون، وهذه الربوبية; ويزعم أنهم ينخون ويندبون، وهذا توحيد الألوهية.
الخامس: أنه ذكر في {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 1 أنها كافية في التوحيد؛ فوحد نفسه في الأفعال، فلا خالق إلا الله، وفي الألوهية، فلا يعبد إلا إياه، وبالأمر والنهي، فلا حكم إلا لله؛ فيقرر هذه الأنواع الثلاثة، ثم يكفر بها كلها، ويرد
1 سورة الإخلاص آية: 1.
علينا; فإذا كفّرنا من قال: إن عبد القادر، والأولياء، ينفعون ويضرون، قال: كفّرتم أهل الإسلام، وإذا كفّرنا من يدعو شمسان، وتاجا، وحطابا، قال: كفرتم أهل الإسلام; والعجب: أنه يقول: إن من التوحيد توحيد الله بالأمر والنهي، فلا حكم إلا لله، ثم يرد علينا إذا عملنا بحكم الله، ويقول: من عمل بالقرآن كفر، والقرآن ما يفسر.
السادس: أنه ينهى عن تفسير القرآن، ويقول: ما يعرف، ثم يرجع يفسره في تصنيفه، ويقول:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 1 فيها كفاية، فلما فسرها كفر بها.
السابع: أنه ذكر أن التوحيد له تعلق بالصفات، وتعلق بالذات؛ وقبل ذلك قد كتب إلينا: أن التوحيد في ثلاث كلمات: إن الله ليس على شيء، وليس في شيء، ولا من شيء؛ فتارة يذكر: أن التوحيد إثبات الصفات، وتارة يذكر ذلك، ويقول: التوحيد نفي الصفات.
الثامن: أنه ذكر آيات في الأمر بالتوحيد، وآيات في النهي عن الشرك، ثم قال: المراد بهذا الشرك، في هذه الآيات والأحاديث. الشرك الجلي، كشرك عباد الشمس، لا على العموم، كما يتوهمه بعض الجهال، فصرح: بأن مراد الله، ومراد النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل فيه إلا عبادة الأوثان، وأن الشرك الأصغر لا يدخل فيه، ويسمى الذين أدخلوه فيه الجهال، ثم في آخر الصفح بعينه، قال: وقد
1 سورة الإخلاص آية: 1.
يطلق الشرك بعبارات أخر؛ وكل ذلك في قوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1؛ فرد علينا في أول الصفح، وكذب على الله ورسوله، في أن معنى ذلك بعض الشرك، ثم رجع يقرر ما أنكره، ويقول: إن الشرك الأكبر والأصغر، داخل في قوله:{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2. التاسع: أنه ذكر أن الشرك أربعة أنواع: شرك الألوهية، وشرك الربوبية، وشرك العبادة، وشرك الملك; وهذا كلام من لا يفهم ما يقول، فإن شرك العبادة هو شرك الإلهية، وشرك الربوبية هو شرك الملك.
العاشر: أنه قال في مسألة الذبح والنذر، ومن قال: إن النذر والذبح عبادة، فهو منه دليل على الجهل، لأن العبادة ما أمر به شرعا، من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي؛ لكن البهيم لا يفهم معنى العبادة، فاستدل على النفي بدليل الإثبات.
الحادي عشر: بعد أربعة أسطر، كذب نفسه في كلامه هذا، فقال: من ذبح لمخلوق يقصد به التقرب، أو لرجاء نفع، أو دفع ضر من دون الله، فهذا كفر; فتارة يرد علينا إذا قلنا إنه عبادة، وتارة يكفّر من فعله.
الثاني عشر: أنه قرر أن من ذبح لمخلوق، لدفع ضر، أنه يكفر، ثم قرر أن الذبح للجن ليس بكفر.
الثالث عشر: أنه رد علينا في الاستدلال، بقوله:
1 سورة الأنعام آية: 79.
2 سورة الأنعام آية: 79.
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 1،ثم رجع يقرر ما قلنا بكلام البغوي: كان ناس يذبحون لغير الله، فنَزلت فيهم الآية; فياسبحان الله! ما من عقول تفهم أن هذا الرجل من البقر التي لا تميز بين التين والعنب! والحمد لله رب العالمين.
[التحذير من شياطين الإنس الذين يصدون عن سبيل الله]
وله أيضا قدس الله سره:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى من يصل إليه هذا الكتاب، من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} 2،وذلك أن الله أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم ليبين للناس الحق من الباطل، فبين صلى الله عليه وسلم للناس جميع ما يحتاجون إليه من أمر دينهم، بيانا تاما، وما مات صلى الله عليه وسلم حتى ترك الناس على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها.
فإذا عرفت ذلك، فهؤلاء الشياطين، من مردة الإنس، الذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له، إذا رأوا من يعلم الناس ما أمرهم به محمدا، من شهادة أن لا إله إلا الله، وما نهاهم عنه، مثل الاعتقاد في المخلوقين
1 سورة الكوثر آية: 2.
2 سورة الشورى آية: 16.
الصالحين، وغيرهم، قاموا يجادلون، ويلبسون على الناس; ويقولون: كيف تكفرون المسلمين؟ كيف تسبون الأموات؟ آل فلان، أهل ضيف، آل فلان أهل كذا وكذا.
ومرادهم بهذا، لئلا يتبين معنى لا إله إلا الله، ويتبين: أن الاعتقاد في الصالحين النفع والضر، ودعاءهم، كفر ينقل عن الملة; فيقول الناس لهم: إنكم قبل ذلك جهال، لأي شيء لم تأمرونا بهذا؟!
وأنا أخبركم عن نفسي والله الذي لا إله إلا هو، لقد طلبت العلم، واعتقد من عرفني أن لي معرفة، وأنا ذلك الوقت، لا أعرف معنى لا إله إلا الله، ولا أعرف دين الإسلام، قبل هذا الخير الذي من الله به؛ وكذلك مشايخي، ما منهم رجل عرف ذلك.
فمن زعم من علماء العارض: أنه عرف معنى لا إله إلا الله، أو عرف معنى الإسلام قبل هذا الوقت، أو زعم من مشايخه أن أحدا عرف ذلك، فقد كذب وافترى، ولبس على الناس، ومدح نفسه بما ليس فيه; وشاهد هذا: أن عبد الله بن عيسى، ما نعرف في علماء نجد، لا علماء العارض، ولا غيره، أجل منه، وهذا كلامه يصل إليكم إن شاء الله.
فاتقوا الله عباد الله، ولا تكبروا على ربكم، ولا نبيكم، واحمدوه سبحانه، الذي من عليكم، ويسر لكم من
يعرفكم، بدين نبيكم صلى الله عليه وسلم، ولا تكونوا من {الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} 1.
إذا عرفتم ذلك، فاعلموا: أن قول الرجل لا إله إلا الله، نفي وإثبات: إثبات الألوهية كلها لله وحده، ونفيها عن الأنبياء والصالحين وغيرهم؛ وليس معنى الألوهية أنه لا يخلق ولا يرزق، ولا يدبر، ولا يحيي ولا يميت إلا الله، فإن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرون بهذا، كما قال تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 2. فتفكروا عباد الله، فيما ذكر الله عن الكفار، أنهم مقرون بهذا كله، لله وحده لا شريك له، وإنما كان شركهم: أنهم يدعون الأنبياء والصالحين، ويندبونهم، وينذرون لهم، ويتوكلون عليهم، يريدون منهم أنهم يقربونهم إلى الله، كما ذكر الله عنهم ذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3.
إذا عرفتم ذلك، فهؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم، من أهل الخرج وغيرهم، مشهورون عند
1 سورة آية: 28.
2 سورة يونس آية: 31.
3 سورة الزمر آية: 3.
الخاص والعام بذلك، وأنهم يترشحون له، ويأمرون به الناس، كلهم كفار مرتدون عن الإسلام؛ ومن جادل عنهم، أو أنكر على من كفرهم، أو زعم أن فعلهم هذا، لو كان باطلا فلا يخرجهم إلى الكفر، فأقل أحوال هذا المجادل، أنه فاسق لا يقبل خطه ولا شهادته، ولا يصلى خلفه.
بل لا يصح دين الإسلام، إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم، كما قال تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 1.ومصداق هذا: أنكم إذا رأيتم من يخالف هذا الكلام، وينكره، فلا يخلو، إما أن يدعى أنه عارف; فقولوا له: هذا الأمر العظيم لا يغفل عنه، فبين لنا ما يصدقك من كلام العلماء، إذا لم تعرف كلام الله ورسوله؛ فإن زعم أن عنده دليلا فقولوا له يكتبه، حتى نعرضه على أهل المعرفة، ويتبين لنا أنك على الصواب، ونتبعك، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم قد بين لنا الحق من الباطل.
وإن كان المجادل يقر بالجهل، ولا يدعي المعرفة، فيا عباد الله: كيف ترضون بالأفعال والأقوال التي تغضب الله ورسوله، وتخرجكم عن الإسلام؟ اتباعا لرجل يقول: إني عارف؛ فإذا طالبتموه بالدليل، عرفتم أنه لا علم عنده، أو اتباعا لرجل جاهل، وتعرضون عن طاعة ربكم،
1 سورة البقرة آية: 256.
وما بينه نبيكم صلى الله عليه وسلم وأهل العلم بعده.
واذكروا ما قص الله عليكم في كتابه، لعلكم تعتبرون، فقال:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} 1. وهؤلاء أهلكهم الله بالصيحة، وأنتم الآن، إذا جاءكم من يخبركم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنكم فريقان تختصمون، أفلا تخافون أن يصيبكم من العذاب ما أصابهم؟
والحاصل: أن مسائل التوحيد، ليست من المسائل التي هي من فن المطاوعة خاصة، بل البحث عنها وتعلمها فرض لازم على العالم والجاهل والمحرم والمحل، والذكر والأنثى؛ وأنا لا أقول لكم: أطيعوني، ولكن الذي أقول: إذا عرفتم أن الله أنعم عليكم، وتفضل عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، والعلماء بعده، فلا ينبغي لكم معاندة محمد صلى الله عليه وسلم، وقول: تكفّرون المسلمين، كيف تفعلون كذا؟ كيف تفعلون كذا؟ فإنا لم نكفر المسلمين، بل ما كفرنا إلا المشركين.
وكذلك أيضا: من أعظم الناس ضلالا، متصوفة في معكال وغيره، مثل ولد موسى بن جوعان، وسلامة بن مانع وغيرهما، يتبعون مذهب ابن عربي، وابن الفارض؛ وقد ذكر أهل العلم: أن ابن عربي من أئمة أهل مذهب الاتحادية، وهم أغلظ كفرا من اليهود والنصارى، فكل من
1 سورة النمل آية: 45.
لم يدخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم ويتبرأ من دين الاتحادية، فهو كافر بريء من الإسلام، ولا تصح الصلاة خلفه، ولا تقبل شهادته.
والعجب، العجب: أن الذي يدعي المعرفة، يزعم أنه لا يعرف كلام الله ولا كلام رسوله، بل يدعي أنه عرف كلام المتأخرين، مثل "الإقناع" وغيره، وصاحب "الإقناع"، قد ذكر أن من شك في كفر هؤلاء السادة، والمشايخ فهو كافر، سبحان الله! كيف يفعلون أشياء في كتابهم، أن من فعلها كفر؟ ومع هذا يقولون: نحن أهل المعرفة، وأهل الصواب، وغيرنا صبيان جهال; والصبيان يقولون: أظهروا لنا كتابكم، ويأبون عن إظهاره.
أما في هذا ما يدل على جهالتهم وضلالتهم، إذا رأوا من يعلم الشيوخ، وصبيانهم أو البدو، شهادة أن لا إله إلا الله، قالوا: لو قالوا لهم يتركون الحرام; وهذا من أعظم جهلهم، فإنهم لا يعرفون إلا ظلم الأموال، وأما ظلم الشرك فلا يعرفونه، وقد قال الله تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 1.
وأين الظلم الذي إذا تكلم الإنسان بكلمة منه، أو مدح الطواغيت، أو جادل عنهم، خرج من الإسلام، ولو كان صائما قائما؟ من الظلم الذي لا يخرج من الإسلام؟ بل: إما أن يؤدي إلى صاحبه بالقصاص، وإما أن
1 سورة لقمان آية: 13.
يغفره الله، فبين الموضعين فرق عظيم.
وبالجملة - رحمكم الله - إذا عرفتم ما تقدم أن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد بين الدين كله، فاعلموا: أن هؤلاء الشياطين، قد أحلوا كثيرا من الحرام، في الربا والبيع، وغير ذلك، وحرموا عليكم كثيرا من الحلال، وضيقوا ما وسعه الله; فإذا رأيتم الاختلاف، فاسألوا عما أمركم الله به ورسوله، ولا تطيعوني ولا غيري، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[بيان الإشكال في الفتيا بكفر أولاد شمسان وأولاد إدريس]
وله أيضا قدس الله روحه ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى عبد الله بن عيسى، وابنه عبد الوهاب، وعبد الله بن عبد الرحمن، حفظهم الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: ذكر لي أحمد، أنه مشكل عليكم الفتيا بكفر هؤلاء الطواغيت، مثل أولاد شمسان، وأولاد إدريس، والذين يعبدونهم، مثل طالب وأمثاله، فيقال: أولا: دين الله تعالى، ليس لي دونكم، فإذا أفتيت، أو عملت بشيء، وعلمتم أني مخطئ، وجب عليلكم تبيين الحق لأخيكم المسلم.
وإن لم تعلموا وكانت المسألة من الواجبات، مثل التوحيد، فالواجب عليكم: أن تطلبوا وتحرصوا، حتى تفهموا حكم الله ورسوله في تلك المسألة، وما ذكر أهل العلم قبلكم؛ فإذا تبين حكم الله ورسوله بيانا كالشمس، فلا ينبغي لرجل يومن بالله واليوم الآخر، أن يرده، لكونه مخالفا لهواه، أو لما عليه أهل وقته ومشايخه، فإن الكفر كما قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
فالكفر ليس سوى العناد ورد ما
…
جاء الرسول به لقول فلان
فانظر لعلك هكذا دون التي
…
قد قالها فتبوء بالخسران
ومتى لم تتبين لكم المسألة، لم يحل لكم الإنكار على من أفتى أو عمل، حتى يتبين لكم خطؤه، بل الواجب السكوت والتوقف؛ فإذا تحققتم الخطأ، بينتموه ولم تهدروا جميع المحاسن، لأجل مسألة، أو مائة، أو مائتين، أخطأت فيهن، فإني لا أدعي العصمة.
وأنتم تقرون: أن الكلام الذي بينته، في معنى لا إله إلا الله، هو الحق الذي لا ريب فيه، فيا سبحان الله! إذا كنتم تقرون بهذا، فرجل بين الله به دين الإسلام، وأنتم ومشايخكم ومشايخهم لم يفهموه، ولم يميزوا بين دين محمد صلى الله عليه وسلم ودين عمرو بن لحي، الذي وضعه للعرب، بل دين عمرو عندهم دين صحيح، ويسمونه رقة القلب،
والاعتقاد في الأولياء، ومن لم يفعل فهو متوقف لا يدري ما هذا، ولا يفرق بينه وبين دين محمد صلى الله عليه وسلم.
فالرجل الذي هداكم الله به لهذا إن كنتم صادقين، لو يكون أحب إليكم من أموالكم وأولادكم، لم يكن كثيرا، فكيف يقال: أفتى في مسألة الوقف، أفتى في كذا، أفتى في كذا؟! كلها - ولله الحمد - على الحق، إلا أنها مخالفة لعادة الزمان، ودين الآباء.
وأنا إلى الآن: أطلب الدليل من كل من خالفني؛ فإذا قيل له: استدل، أو اكتب، أو ذاكر، حاد عن ذلك، وتبين عجزه، لكن يجتهدون الليل والنهار، في صد الجهال عن سبيل الله، ويبغونها عوجا، اللهم إلا إن كنتم تعتقدون، أن كلامي باطل وبدعة، مثل ما قال غيركم، وأن الاعتقاد، في الزاهد، وشمسان، والمطيوية، والاعتماد عليهم، هو الدين الصحيح، وكل ما خالفه بدعة وضلالة، فتلك مسألة أخرى.
إذا ثبت هذا، فتكفير هؤلاء المرتدين، انظروا في كتاب الله من أوله إلى آخره، والمرجع في ذلك إلى ما قاله المفسرون والأئمة، فإن جادل منافق، بكون الآية نزلت في الكفار، فقولوا له: هل قال أحد من أهل العلم، أولهم وآخرهم: إن هذه الآيات لا تعم من عمل بها من المسلمين؟ من قال هذا قبلك؟!
وأيضا فقولوا له: هذا رد على إجماع الأمة؛ فإن استدلالهم بالآيات النازلة في الكفار، على من عمل بها، ممن انتسب إلى الإسلام، أكثر من أن تذكر.
وهذا أيضا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن فعل مثل هذه الأفاعيل، مثل الخوارج العباد الزهاد، الذين يحقر الإنسان الصحابة عندهم؛ وهم بالإجماع لم يفعلوا ما فعلوا، إلا باجتهاد، وتقرب إلى الله.
وهذه سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خالف الدين، ممن له عبادة واجتهاد، مثل:"تحريق علي رضي الله عنه من اعتقد فيه بالنار، وأجمع الصحابة على قتلهم وتحريقهم، إلا ابن عباس رضي الله عنهما، خالفهم في التحريق، فقال: يقتلون بالسيف".
وهؤلاء الفقهاء، من أولهم إلى آخرهم، عقدوا باب: حكم المرتد للمسلم إذا فعل كذا وكذا، ومصداق ذلك في هذه الكتب، الذي يقول المخالف: جمعوا فيها الثمر، وهم أعلم منا، وهم، وهم; انظروا في متن "الإقناع"، في باب حكم المرتد، هل صرح أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، أنه كافر بإجماع الأمة؟ وذكر فيمن اعتقد في علي بن أبي طالب، دون ما يعتقد طالب، في حسين وإدريس، أنه لا شك في كفره.
وأنا ألزم عليكم: أنكم تحققون النظر، في عبارات "الإقناع"، وتقرؤونها قراءة تفهم، وتعرفون ما ذكر في هذا، وما ذكر في التشنيع علي من الأصدقاء؛ وإذا عرفتم ذلك، عرفتم شيئا من مذاهب الآباء، وفتنة الأهواء، وإذا تحققتم ذلك، وطالعتم الشروح والحواشي، فإذا أنا لم أفهمه، وله معنى آخر، فأرشدوني؛ وعسى الله أن يهدينا وإياكم وإخواننا، لما يحب ويرضى؛ ولا يدخل خواطركم غلظة هذا الكلام، فالله سبحانه يعلم قصدي به، والسلام.
[رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى عبد الرحمن بن ربيعة في معنى التوحيد]
وله أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم من محمد بن عبد الوهاب، إلى عبد الرحمن بن ربيعة، سلمه الله تعالى.
وبعد: وصل كتابك، تسأل عن مسائل كثيرة، وتذكر أن مرادك اتباع الحق; منها: مسألة التوحيد، ولا يخفاك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن، قال له:" إن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله؛ فإن هم أجابوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات " 1 إلى آخره، فإذا كان الرجل لا يدعى إلى الصلوات الخمس، إلا بعدما يعرف التوحيد، وينقاد له، فكيف بمسائل جزئية، اختلف
1 البخاري: التوحيد (7372) .
فيها العلماء؟
فاعلم: أن التوحيد الذي دعت إليه الرسل، من أولهم إلى آخرهم: إفراد الله بالعبادة كلها، ليس فيها حق لملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلا عن غيرهم، فمن ذلك لا يدعي إلا إياه، كما قال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 1.
فمن عبد الله ليلا ونهارا، ثم دعا نبيا، أو وليا عند قبره، فقد اتخذ إلهين اثنين، ولم يشهد أن لا إله إلا الله، لأن الإله هو المدعو، كما يفعل المشركون اليوم عند قبر الزبير، أو عبد القادر، أو غيرهما، وكما يفعل قبل هذا عند قبر زيد وغيره.
ومن ذبح لله ألف أضحية، ثم ذبح لنبي أو غيره، فقد جعل إلهين اثنين، كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2 الآيتين، والنسك هو الذبح؛ وعلى هذا فقس. فمن أخلص العبادات كلها لله، ولم يشرك فيها غيره، فهو الذي شهد أن لا إله إلا الله.
ومن جعل فيها مع الله غيره، فهو المشرك الجاحد لقوله لا إله إلا الله؛ وهذا الشرك الذي ذكره الله، قد طبق اليوم مشارق الأرض ومغاربها، إلا الغرباء المذكورين في
1 سورة الجن آية: 18.
2 سورة الأنعام آية: 162.
الحديث، وقليل ما هم؛ وهذه المسألة لا خلاف فيها بين أهل العلم، من كل المذاهب.
فإذا أردت مصداق هذا، فتأمل "باب حكم المرتد" في كل كتاب، وفي كل مذهب، وتأمل ما ذكروه في الأمور التي تجعل المسلم مرتدا يحل دمه وماله; منها: من جعل بينه وبين الله وسائط، كيف حكى الإجماع في "الإقناع" على ردته; ثم تأمل ما ذكروه في سائر الكتب.
فإن عرفت أن في المسألة خلافا، ولو في بعض المذاهب، فنبهني; وإن صح عندك الإجماع على تكفير من فعل هذا، أو رضيه، أو جادل فيه، فهذه خطوط المويس، وابن إسماعيل، وأحمد بن يحيى، عندنا، في إنكار هذا الدين، والبراءة منه، ومن أهله؛ وهم الآن مجتهدون في صد الناس عنه.
فإن استقمت على التوحيد، وتبينت فيه، ودعوت الناس إليه بعداوة هؤلاء، خصوصا ابن يحيى، لأنه من أنجسهم وأعظمهم كفرا، وصبرت على الأذى في ذلك، فأنت أخونا وحبيبنا؛ وذلك محل المذاكرة في المسائل التي ذكرت، فإن بان الصواب معك، وجب علينا الرجوع إليك، وإن لم تستقم على التوحيد، علما وعملا ومجاهدة، فليس هذا محل المراجعة في المسائل، والله أعلم.
[بيان غلط من زعم أن من عبد الأوثان لا يكفر بعينه]
وله أيضا عفا الله عنه:
بسم الله الرحمن الر حيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى أحمد بن عبد الكريم، سلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
أما بعد: وصل مكتوبك تقرر المسألة التي ذكرت، وتذكر أن عليك إشكالا تطلب إزالته، ثم ورد منك مراسلة، تذكر أنك عثرت على كلام للشيخ أزال عنك الإشكال، فنسأل الله أن يهديك لدين الإسلام.
وعلى أي شيء يدل كلامه، من أن من عبد الأوثان عبادة أكبر من عبادة اللات والعزى، وسب دين الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما شهد به، مثل سب أبي جهل، أنه لا يكفر بعينه.
بل العبارة صريحة واضحة، في تكفيره مثل ابن فيروز، وصالح بن عبد الله، وأمثالهما، كفرا ظاهرا ينقل عن الملة، فضلا عن غيرهما؛ هذا صريح واضح، في كلام ابن القيم الذي ذكرت، وفي كلام الشيخ الذي أزال عنك الإشكال، في كفر من عبد الوثن الذي على قبر يوسف وأمثاله، ودعاهم في الشدائد والرخاء، وسب دين الرسل بعدما أقر به، ودان بعبادة الأوثان بعدما أقر بها.
وليس في كلامي هذا مجازفة، بل أنت تشهد به عليهم؛ ولكن إذا أعمى الله القلب فلا حيلة فيه، وأنا أخاف عليك من قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} 1.
والشبهة التي دخلت عليك، هذه البضيعة التي في يدك، تخاف تضيع أنت وعيالك، إذا تركت بلد المشركين، وشاك في رزق الله، وأيضا قرناء السوء، أضلوك كما هي عادتهم.
وأنت - والعياذ بالله - تنْزل درجة درجة، أول مرة في الشك، وبلد الشرك وموالاتهم، والصلاة خلفهم، وبراءتك من المسلمين مداهنة لهم، ثم بعد ذلك طحت على ابن غنام وغيره، وتبرأت من ملة إبراهيم، وأشهدتهم على نفسك باتباع المشركين، من غير إكراه، لكن خوفا ومداراة.
وغاب عنك قوله تعالى، في عمار بن ياسر وأشباهه:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} 2 إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} 3، فلم يستثن الله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، بشرط طمأنينة قلبه.
والإكراه لا يكون على العقيدة، بل على القول
1 سورة المنافقون آية: 3.
2 سورة النحل آية: 106.
3 سورة النحل آية: 107.
والفعل، فقد صرح بأن من قال المكفر، أو فعله، فقد كفر، إلا المكره بالشرط المذكور، وذلك: أن ذلك بسبب إيثار الدنيا، لا بسبب العقيدة. فتفكر في نفسك، هل أكرهوك، وعرضوك على السيف، مثل عمار، أم لا؟ وتفكر: هل هذا بسبب أن عقيدته تغيرت، أم بسبب إيثار الدنيا؟
ولم يبق عليك إلا رتبة واحدة، وهي: أنك تصرح مثل ابن رفيع، تصريحا بمسبة دين الأنبياء، وترجع إلى عبادة العيدروس، وأبي حديدة، وأمثالهما؛ ولكن الأمر بيد مقلب القلوب.
فأول ما أنصحك به: أنك تفكر، هل هذا الشرك الذي عندكم، هو الشرك الذي ظهر نبيك صلى الله عليه وسلم ينهى عنه أهل مكة؟ أم شرك أهل مكة نوع آخر أغلظ منه؟ أم هذا أغلظ؟
فإذا أحكمت المسألة، وعرفت أن غالب من عندكم سمع الآيات، وسمع كلام أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين، وأقر به، وقال: أشهد أن هذا هو الحق، ونعرفه قبل ابن عبد الوهاب، ثم بعد ذلك يصرح بمسبة ما شهد أنه الحق، ويصرح بحسن الشرك واتباعه، وعدم البراءة من أهله.
فتفكر، هل هذه مسألة مشكلة؟ أو مسألة الردة الصريحة؟ التي ذكرها أهل العلم في الردة؟ ولكن العجب من دلائلك التي ذكرت، كأنها أتت ممن لا يسمع ولا يبصر.
أما استدلالك بترك النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده، تكفير المنافقين وقتلهم، فقد صرح الخاص والعام ببديهة العقل لو يظهرون كلمة واحدة، أو فعلا واحدا من عبادة الأوثان، أو مسبة التوحيد الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أنهم يقتلون أشر قتلة.
فإن كنت تزعم أن الذين عندكم أظهروا اتباع الدين الذي تشهد أنه دين الرسول صلى الله عليه وسلم وتبرؤوا من الشرك بالقول والفعل، ولم يبق إلا أشياء خفية، تظهر على صفحات الوجه أو فلتات اللسان في السر، وقد تابوا من دينهم الأول، وقتلوا الطواغيت، وهدموا البيوت المعبودة، فقل لي.
وإن كنت تزعم أن الشرك الذي خرج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر من هذا، فقل لي.
وإن كنت تزعم أن الإنسان إذا أظهر الإسلام لا يكفر، ولو أظهر عبادة الأوثان، وزعم أنها الدين، وأظهر سب دين الأنبياء وسماه دين أهل العارض، وأفتى بقتل
من أخلص لله الدين، وإحراقه، وحل ماله؛ فهذه مسألتك وقد قررتها، وذكرت: أن من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، لم يقتلوا أحدا، ولم يكفروه من أهل الملة.
أما ذكرت: قول الله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} 1 إلى قوله: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} 2،واذكر قوله:{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا} 3 إلى قوله: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} 4 الآية؛ واذكر قوله في الاعتقاد في الأنبياء {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 5.
واذكر ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شخص رجلا معه الراية، إلى من تزوج امرأة أبيه، ليقتله ويأخذ ماله; فأي هذين أعظم؟ تزوج امرأة الأب؟ أو سب دين الأنبياء بحد معرفته؟ واذكر أنه قد هم بغزو بني المصطلق، لما قيل إنهم منعوا الزكاة، حتى كذب الله من نقل ذلك.
واذكر قوله في أعبد هذه الأمة، وأشدهم اجتهادا:" لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد؛ أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة".واذكر قتال الصديق وأصحابه، مانعي الزكاة، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم.
1 سورة الأحزاب آية: 60.
2 سورة الأحزاب آية: 61.
3 سورة النساء آية: 91.
4 سورة النساء آية: 89.
5 سورة آل عمران آية: 80.
واذكر إجماع الصحابة على قتل أهل مسجد الكوفة، وكفرهم وردتهم، لما قالوا كلمة في تقرير نبوة مسيلمة، ولكن الصحابة اختلفوا في قبول توبتهم لما تابوا؛ والمسألة في صحيح البخاري وشرحه، في الكفالة.
واذكر إجماع الصحابة لما "استفتاهم عمر على أن من زعم أن الخمر تحل للخواص، مستدلا بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} 1"مع كونه من أهل بدر. وأجمع الصحابة على كفر من اعتقد في علي، مثل اعتقاد هؤلاء في عبد القادر، وردتهم، وقتلهم، "فأحرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهم أحياء، فخالفه ابن عباس في الإحراق، وقال: يقتلون بالسيف"، مع كونهم من أهل القرن الأول، أخذوا العلم عن الصحابة; واذكر إجماع أهل العلم من التابعين وغيرهم، على قتل الجعد بن درهم، وأمثاله، قال ابن القيم:
شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان
ولو ذهبنا نعدد من كفره العلماء، مع ادعائه الإسلام، وأفتوا بردته وقتله، لطال الكلام؛ لكن من آخر ما جرى قصة بني عبيد، ملوك مصر وطائفتهم، وهم يدعون أنهم من أهل البيت، ويصلون الجمعة والجماعة، ونصبوا القضاة
1 سورة المائدة آية: 93.
والمفتين، وأجمع العلماء على كفرهم، وردتهم، وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، يجب قتالهم ولو كانوا مكرهين، مبغضين لهم.
واذكر كلامه في "الإقناع" وشرحه، في الردة، كيف ذكروا أنواعا كثيرة موجودة عندكم، ثم قال منصور: وقد عمت البلوى بهذه الفرق، وأفسدوا كثيرا من عقائد أهل التوحيد، نسأل الله العفو والعافية؛ هذا لفظه بحروفه; ثم ذكر قتل الواحد منهم، وحكم ماله، هل قال واحد من هؤلاء من الصحابة إلى زمن منصور: إن هؤلاء يكفر أنواعهم لا أعيانهم؟
وأما عبارة الشيخ التي لبسوا بها عليك، فهي أغلظ من هذا كله، ولو نقول بها لكفرنا كثيرا من المشاهير بأعيانهم؛ فإنه صرح فيها بأن المعين لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة.
فإن كان المعين لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة، فمن المعلوم أن قيامها ليس معناه: أن يفهم كلام الله ورسوله، مثل فهم أبي بكر رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله، وخلا من شيء يعذر به، فهو كافر، كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن، مع قول الله:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أكنةأن يفقهوه} الأنعام 25وقوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ
لا يَعْقِلُونَ} 1.
وإذا كان كلام الشيخ، ليس في الشرك والردة، بل في المسائل الجزئيات، سواء كانت من الأصول أو الفروع، ومعلوم أنهم يذكرون في كتبهم في مسائل الصفات، أو مسألة القرآن، أو مسألة الاستواء، أو غير ذلك، مذهب السلف، ويذكرون أنه الذي أمر الله به ورسوله، والذي درج عليه هو وأصحابه، ثم يذكرون مذهب الأشعري أو غيره، ويرجحونه، ويسبون من خالفه.
فلو قدرنا أنها لم تقم الحجة على غالبهم، قامت على هذا المعين الذي يحكي المذهبين، مذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، ثم يحكي مذهب الأشعري ومن معه؛ فكلام الشيخ في هذا النوع، يقول: إن السلف كفروا النوع، وأما المعين، فإن عرف الحق وخالف، كفر بعينه، وإلا لم يكفر.
وأنا أذكر لك من كلامه ما يصدق هذا، لعلك تنتفع إن هداك الله، وتقوم عليك الحجة قياما بعد قيام، وإلا فقد قامت عليك، وعلى غيرك قبل هذا.
قال رحمه الله في اقتضاء الصراط المستقيم، في الكلام على قوله:{وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} 2: ظاهره: أن ما ذبح لغير الله حرم، سواء لفظ به أو لم يلفظ، وهذا أظهر من تحريم ما ذبح للّحم، وقال فيه باسم
1 سورة الأنفال آية: 22.
2 سورة البقرة آية: 173.
المسيح ونحوه، فإن عبادة الله والنسك له، أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور؛ فكذلك الشرك بالنسك لغيره، أعظم من الاستعانة باسمه.
وعلى هذا لو ذبح لغير الله متقرب إليه، وإن قال فيه بسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين، لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان; ومن هذا الباب، ما قد يفعله الجاهلون بمكة وغيرها، من الذبح للجن، انتهى كلامه بحروفه.
فانظر كلامه فيمن ذبح لغير الله، وسمى الله عليه عند الذبح، أنه مرتد تحرم ذبيحته، ولو ذبحها للأكل، لكن هذه الذبيحة تحرم من جهتين: من جهة أنها مما أهل به لغير الله، وتحرم أيضا لأنها ذبيحة مرتد؛ يوضح ذلك ما ذكرته: أن المنافقين إذا أظهروا نفاقهم، صاروا مرتدين؛ فأين هذا من نسبتك عنه، أنه لا يكفر أحدا بعينه؟
وقال أيضا في أثناء كلامه على المتكلمين، ومن شاكلهم، لما ذكر عن أئمتهم شيئا من أنواع الردة، والكفر، قال رحمه الله: وهذا إذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة، التي يكفر صاحبها؛ لكن ذلك يقع في طوائف منهم، في الأمور الظاهرة، التي يعلم المشركون واليهود والنصارى، أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر من خالفها،
مثل: أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه، من النبيين والملائكة وغيرهم؛ فإن هذا أظهر شرائع الإسلام.
ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع، فكانوا مرتدين؛ وكثير منهم، تارة يرتد عن الإسلام ردة صريحة، وتارة يعود إليه مع مرض في قلبه ونفاق، والحكاية عنهم في ذلك مشهورة. وقد ذكر ابن قتيبة من ذلك طرفا في أول مختلف الحديث؛ وأبلغ من ذلك: أن منهم من صنف في الردة، كما صنف الرازي في عبادة الكواكب، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين. هذا لفظه بحروفه.
فانظر كلامه في التفرقة بين المقالات الخفية، وبين ما نحن فيه، في كفر المعين، وتأمل تكفيره رؤوسهم، فلانا وفلانا بأعيانهم، وردتهم ردة صريحة، وتأمل تصريحه بحكاية الإجماع على ردة الفخر الرازي عن الإسلام، مع كونه عند علمائكم من الأئمة الأربعة؛ هل يناسب هذا لما فهمت من كلامه أن المعين لا يكفر، ولو دعا عبد القادر في الرخاء والشدة، ولو أحب عبد الله بن عون، وزعم أن دينه حسن، مع عبادته أبي حديدة، ولو أبغضك واستنجسك، مع أنك أقرب الناس إليه، لما رآك ملتفتا بعض الالتفات إلى التوحيد، مع كونك توافقهم على شيء
من شركهم، وكفرهم؟!
وقال الشيخ أيضا في رده على بعض المتكلمين وأشباههم: والقوم وإن كان لهم ذكاء وفطنة، وفيهم زهد وأخلاق، فهذا لا يوجب السعادة إلا بالإيمان بالله وحده؛ وإنما قوة الذكاء بمنْزلة قوة البدن، وأهل الرأي والعلم، بمنْزلة الملك والإمارة.
فكل منهم لا ينفعه ذلك، إلا أن يعبد الله وحده لا شريك له، ويتخذه إلها دون ما سواه، وهو معنى قول لا إله إلا الله؛ وهذا ليس في حكمتهم، ليس فيها الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة المخلوقات.
بل كل شرك في العالم، إنما حدث بزي جنسهم؛ فهم الآمرون بالشرك الفاعلون له، ومن لم يأمر منهم بالشرك لم ينه عنه؛ بل يقر هؤلاء وهؤلاء، وإن رجح الموحدين ترجيحا ما، فقد يرجح غيرهم من المشركين، وقد يعرض عن الأمرين جميعا؛ فتدبر هذا فإنه نافع جدا.
وكذلك الذين كانوا في ملة الإسلام، لا ينهون عن الشرك، ويوجبون التوحيد، بل يسوغون الشرك، ويأمرون به؛ وهم إذا ادعوا التوحيد، فإنما توحيدهم بالقول، لا بالعبادة والعمل؛ والتوحيد الذي جاءت به الرسل، لا بد فيه من التوحيد بإخلاص الدين كله لله، وعبادته وحده
لا شريك له، وهذا شيء لا يعرفونه.
والتوحيد الذي يدعونه، إنما هو تعطيل حقائق الأسماء والصفات؛ فلو كانوا موحدين بالكلام، وهو: أن يصفوا الله بما وصفته به رسله، لكان معهم التوحيد دون العمل، وذلك لا يكفي في النجاة، بل لا بد أن يعبد الله وحده، ويتخذه إلها دون ما سواه؛ وهو معنى قول لا إله إلا الله؛ فكيف وهم في القول معطلون جاحدون، لا موحدون ولا مخلصون؟ انتهى.
فتأمل كلامه، واعرضه على ما غرك به الشيطان من الفهم الفاسد، الذي كذبت به الله ورسوله، وإجماع الأمة، وتحيزت به إلى عبادة الطواغيت؛ فإن فهمت هذا، وإلا أشير عليك أنك تكثر من التضرع والدعاء، إلى من الهداية بيده، فإن الخطر عظيم؛ فإن الخلود في النار جزاء الردة الصريحة، ما يسوى بضيعة تربح تومان أو نصف تومان.
وعندنا ناس، يجيئون بعيالهم بلا مال، ولا جاعوا ولا شحذوا، وقد قال الله تعالى في هذه المسألة:{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} 1 إلى قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 2 والله أعلم.
1 سورة العنكبوت آية: 56.
2 سورة العنكبوت آية: 60.
[مسألة التكفير والتصريح به للمعين]
وله أيضا: أعتقه الله من النار:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى أحمد بن إبراهيم، هدانا الله وإياه.
وبعد: ما ذكرت من مسألة التكفير، وقولك أبسط الكلام فيها، فلو بيننا اختلاف، أمكنني أبسط الكلام أو أمتنع; وأما إذا اتفقنا على الحكم الشرعي، لا أنت بمنكر الكلام الذي كتبت إليك، ولا أنا بمنكر العبارات التي كتبت إلي، وصار الخلاف في أناس معينين أقروا أن التوحيد الذي ندعو إليه دين الله ورسوله، وأن الذي ننهى عنه في الحرمين، والبصرة، والأحساء، هو الشرك بالله.
ولكن هؤلاء المعينون، هل تركوا التوحيد بعد معرفته، وصدوا الناس عنه؟ أم فرحوا به وأحبوه، ودانوا به، وتبرؤوا من الشرك وأهله؟ فهذا ليس مرجعه إلى طالب العلم، مرجعه إلى علم الخاص والعام.
مثال ذلك: إذا صح أن أهل الأحساء والبصرة، يشهدون: أن التوحيد الذي تقول، دين الله ورسوله، وأن هذا المفعول عندهم في الأحياء والأموات، هو الشرك بالله، ولكن أنكروا علينا التكفير والقتال خاصة.
والمرجع في المسألة، إلى الحضر والبدو والنساء
والرجال؛ هل أهل "قبة الزبير" و "قبة الكواز" تابوا من دينهم، وتبعوا ما أقروا به من التوحيد؟ أم هم على دينهم؟ ولو يتكلم الإنسان بالتوحيد، فسلامته على أخذ ماله؟
فإن كنت تزعم: أن الكواوزة، وأهل الزبير تابوا من دينهم، وعادَوْا من لم يتب، فتبعوا ما أقروا به، وعادَوْا من خالفه، هذا مكابرة.
وإن أقررتم: أنهم بعد الإقرار، أشد عداوة ومسبة للمؤمنين والمؤمنات، كما يعرفه الخاص والعام، وصار الكلام في اتباع المويس، وصالح بن عبد الله، هل هم مع أهل التوحيد؟ أم هم مع أهل الأوثان؟ بل أهل الأوثان معهم، وهم حربة العدو، وحاملو الراية؛ فالكلام في هذا نحيله على الخاص والعام.
فأود أنك تسرع بالنفور، فتتوجه إلى الله، وتنظر نظر من يؤمن بالجنة والخلود فيها، ويؤمن بالنار والخلود فيها، وتسأله بقلب حاضر أن يهديك الصراط المستقيم.
هذا مع أنك تعلم ما جرى من ابن إسماعيل، وولد ابن ربيعة، سنة الحبس، لما شكونا عند أهل "قبة أبي طالب" أن يكسيه صاية، وجميع من معك، من خاص أو عام، معهم إلى الآن، وتعرف روحة المويس، وأتباعه لأهل "قبة الكواز" و "سية طالب" يوم يكسيه صاية،
ويقول لهم: طالع أناس ينكرون قببكم، وقد كفروا، وحل دمهم ومالهم.
وصائر هذا عندك، وعند أهل الوشم، وعند أهل سدير، والقصيم، من فضائل المويس ومناقبه، وهم على دينه إلى الآن، مع أن المكاتب التي أرسلها علماء الحرمين، مع المزيودي سنة الحبس، عندنا إلى الآن، وقد صرحوا فيها: أن من أقر بالتوحيد كفر، وحل ماله ودمه، وقتل في الحل والحرم، ويذكرون دلائل على دعاء الأولياء في قبورهم، منها قوله تعالى:{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} 1.
فإن كانت ليست عندك، ولا صبرت إلى أن تجيء، فأرسل إلى ولد محمد بن سليمان في أشيقر، ولسيف العتيقي، ويرسلونها إليك، ويجيبون عن قوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} 2 أنهم يدعون على أنهم المعطون، المانعون بالأصالة، وأما دعوتهم على أنهم شفعاء فهو الدين الصحيح، ومن أنكره قتل في الحل والحرم.
وأيضا: جاءنا بعض المجلد الذي صنف القباني، واستكتبه أهل الأحساء، وأهل نجد، وفيه نقل الإجماع، على تحسين "قبة الكواز" وأمثالها، وعبادتها، وعبادة "سية طالب"؛ ويقول في تصنيفه: إنه لم يخالف في تصنيفه إلا
1 سورة الزمر آية: 34.
2 سورة الإسراء آية: 57.
ابن تيمية وابن القيم، وعشرة أنا عاشرهم، الجميع اثنا عشر، فإذا كان يوم القيامة، اعتزلوا وحدهم عن جميع الأمة، وأنتم إلى الآن على ما تعلم مع شهادتكم أن التوحيد دين الله ورسوله وأن الشرك باطل.
وأيضا: مكاتيب أهل الأحساء موجودة، فأما ابن عبد اللطيف، وابن عفالق، وابن مطلق، فحشو بالزبيل أعني: سبابة التوحيد، واستحلال دم من صدق به، أو أنكر الشرك؛ ولكن تعرف ابن فيروز، أنه أقربهم إلى الإسلام، وهو رجل من الحنابلة، وينتحل كلام الشيخ وابن القيم خاصة، ومع هذا صنف مصنفا أرسله إلينا، قرر فيه: أن هذا الذي يفعل عند قبر يوسف وأمثاله، هو الدين الصحيح، واستدل في تصنيفه بقول النابغة:
أيا قبر النبي وصاحبيه
…
ووامصيبتنا لو تعلمونا
وفي مصنف ابن مطلق الاستدلال بقول الشاعر:
وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة
…
سواك بمغن عن سواد بن قارب
ولكن الكلام الأول، أبلغ من هذا كله، وهو شهادة البدو، والحضر، والنساء والرجال، أن هؤلاء الذين يقولون: التوحيد دين الله ورسوله، ويبغضونه أكثر من بغض اليهود والنصارى، ويسبونه، ويصدون الناس عنه، ويجاهدون في زواله وتثبيت الشرك، بالنفس والمال،
خلاف ما عليه الرسل وأتباعهم، فإنهم يجاهدون {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 1.
وأما قولك: أبغي أشاور إبراهيم، فلا أود أن تصير ثالثا لابن عباد، يقول: أي شيء أفعل بالعناقر، وإلا فالحق واضح، ونصحتهم وبينت لهم، وابن عيد أنت خابره، حاول إبراهيم في الدخول في الدين، وتعذر الناس أن إبراهيم ممتنع، يا سبحان الله! إذا كان أهل الوشم، وأهل سدير وغيرهم، يقطعون: أن كل مطوع في قرية، لو ينقاد شيخها، ما منهم من أحد يتوقف، كيف يكون قدر الدين عندكم؟ كيف قدر رضى الله والجنة؟ كيف قدر النار وغضب الله؟
ولكن أود أن تفكر فيما تعلم، لما اختلف الناس بعد مقتل عثمان، وبإجماع أهل العلم: أنهم لا يقال فيهم إلا الحسنى، مع أنهم عثوا في دمائهم؛ ومعلوم أن كلا من الطائفتين، أهل العراق وأهل الشام، معتقدة أنها على الحق، والأخرى ظالمة، ونبغ من أصحاب علي من أشرك بعلي، وأجمع الصحابة على كفرهم وردتهم، وقتلهم، لكن حرقهم علي، وابن عباس يرى قتلهم بالسيف.
أترى أهل الشام، لو حملهم مخالفة علي على الاجتماع بهم، والاعتذار عنهم، والمقاتلة معهم لو امتنعوا، أترى أحدا من الصحابة، يشك في كفر من التجأ
1 سورة الأنفال آية: 39.
إليهم؟ ولو أظهر البراءة من اعتقادهم، وإنما التجأ إليهم وزين مذهبهم لأجل الاقتصاص من قتلة عثمان؟ فتفكر في هذه القضية، فإنها لا تبقي شبهة إلا على من أراد الله فتنته.
وغير ذلك قولك: أريد أمانا على كذا وكذا; فأنت مخالف، والخاص والعام يفرحون بمجيئك، مثلما فرحوا بمجيء ابن غنام، والمنقور، وابن عضيب، مع أن ابن عضيب أكثر الناس سبا لهذا الدين إلى الآن، وراحوا موقرين محشومين، كيف لو تجيء أنت؟ كيف تظن أن يجيئك ما تكره؟ فإن أردت تجديد الأمان على ما بغيت، فاكتب لي، وإن لم تأتنا فكما قال ابن القيم في النونية:
يا فرقة جهلت نصوص نبيها
…
وقصوده وحقائق الإيمان
فسطوا على أتباعه وجنوده
…
بالبغي والتكفير والطغيان
لله حق لا يكون لغيره
…
ولعبده حق هما حقان
لا تجعلوا الحقين حقا واحدا
…
من غير تمييز ولا فرقان
المراد تعريفك، لما صدقتك أن لك نظرا في الحق، أن في ذلك الزمان من يكفر العلماء، إذا ذكروا التوحيد، ويظنونه تنقيصا للنبي صلى الله عليه وسلم، فما ظنك بزمانك هذا؟ وإذا كان المكفرون ممن يعدون من علمائهم، فما ظنك بولد المويس وفاسد وأمثالهما؟ يوضحه تسجيلهم على جواب علماء مكة، ونشره، وقراءته على جماعتهم، ودعوتهم إليه.
وذكر ابن عبد الهادي، في مناقب الشيخ، لما ذكر المحنة التي نالته، بسبب الجواب في شد الرحل، فالجواب الذي كفروه بسببه، ذكر أن كلامه في هذا الكتاب أبلغ منه؛ فالعجب إذا كان الكتاب عندك، وعلماء في زمن الشيخ كفروه بكلام دونه، فكيف بالمويس وأمثاله لا يكفروننا بمحض التوحيد؟!
وذكر ابن القيم في النونية ما يصدق هذا الكلام، لما قالوا له: إنك مثل الخوارج، رد عليهم بقوله:
من لي بمثل خوارج قد كفروا
…
بالذنب تأويلا بلا حسبان
ثم ذكر في البيت الثاني: ان هؤلاء يكفروننا بمحض الإيمان، والخوارج يكفرون بالذنوب، وكلامي هذا تنبيه أن إنكار التوحيد متقدم، وكذلك التكفير لمن اتبعه، وأنت لا تعتقد أن الزمان صلح بعدهم، ولا تعتقد أن المويس وأمثاله أجل وأورع من أولئك الذين كفروا الشيخ وأتباعه، وعد ابن عبد الهادي من كتبه كتاب "الاستغاثة" مجلدا، وجاءنا من الشام مع مربد.
وسببه: أن رجلا من فقهاء الشافعية، يقال له ابن البكري، عثر على جواب للشيخ في الاستغاثة بالموتى في الشدائد، فأنكر ذلك، وصنف مصنفا في جواز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث الله فيه، وصرح بتكفير الشيخ
في ذلك الكتاب، وجعله مستنقصا للأنبياء، وأورد فيه آيات وأحاديث.
فصنف الشيخ كتاب "الاستغاثة"، ردا على ابن البكري، وقرر فيه مذهب الرسل وأتباعهم، وذكر أن الكفار لم يبلغ شركهم هذا، بل ذكر الله عنهم أنهم إذا مسهم الضر أخلصوا، ونسوا ما يشركون.
والمقصود: أن في زمن الشيخ ممن يدعي العلم والتصنيف، من أنكر التوحيد، وجعله سبا للأنبياء والأولياء، وكفر من ذهب إليه؛ فكيف تزعم أن عبدة قبة الكواز، وأمثالها، ما أنكروه؟! بل تزعم أنهم قبلوه، ودانوا به، وتبرؤوا من الشرك، ولا أنكروا إلا تكفير من لا يكفر.
وأعظم وأطم: أنكم تعرفون أن البادية، قد كفروا بالكتاب كله، وتبرؤوا من الدين كله، واستهزؤوا بالحضر الذين يصدقون بالبعث، وفضلوا حكم الطاغوت على شريعة الله، واستهزؤوا بها، مع إقرارهم بأن محمدا رسول الله، وأن كتاب الله عند الحضر، لكن كذبوا وكفروا، واستهزؤوا، عنادا؛ ومع هذا تنكرون علينا كفرهم، وتصرحون بأن من قال لا إله إلا الله لا يكفر.
ثم تذكر في كتابك: أنك تشهد بكفر العالم العابد
الذي ينكر التوحيد، ولا يكفر المشركين، ويقول هؤلاء السواد الأعظم ما يتيهون؛ فإن قلتم إن الأولين وإن كانوا علماء، فلم يقصدوا مخالفة الرسول بل جهلوا، وأنتم وأمثالكم تشهدون ليلا ونهارا، أن هذا الذي أخرجنا للناس من التوحيد، وإنكار الشرك، أنه دين الله ورسوله، وأن الخلاف منا: التكفير والقتال، ولو قدرنا أن غيركم يعذر بالجهل، فأنتم مصرحون بالعلم; والله أعلم.
[بيان الشرك]
وله أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
إلى الأخ فايز، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: مسألة الشرك بالله، بينها الله سبحانه، وأكثر الكلام فيها، وضرب لها الأمثال; ومن أعظم ما ذكر فيها، قوله:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1، مع أن الذي طلبوا منه، ليس شرك القلب.
وأما كونك تعرفه، مثل معرفة الفواحش، وتكرهه كما تكرهها، فهذا له سببان: أحدهما: اللجأ إلى الله، وكثرة الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم، بحضور قلب. الثاني: الفكرة في المثل الذي ضربه الله في سورة الروم،
1 سورة الزمر آية: 65.
بقوله: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} الآية.
فإذا أمعنت النظر وتأملت لو أن رجلا يشرك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مسيلمة في الرسالة، أنها أكبر قبحا من الفواحش؛ فكيف لو يشرك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين امرأة زانية؟!
وأنت تعرف أن أهل بلد، لو يصلون على شيخهم أو إمامهم كما يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، لعد هذا من أعظم الفواحش بكثير؛ فإذا وازنت بين هذا، وبين ما يفعله أكثر الناس اليوم، من دعوة الله، ودعوة أبي طالب، أو الكواز، أو أخس الناس، أو شجرة، أو حجر، أو غير ذلك، تبين لك أن الأمر أعظم مما ذكرنا بكثير كثير.
لكن الذي غير القلوب، أن هذا تعودته وألفته، وتلك الأنواع لم تعودها القلوب، فلذلك تكرهها، لأن القلوب على الفطرة، إلا أن تتغير إذا كبرت بالعادات، والسلام.
[نواقض الإسلام]
وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب، وأسكنه الجنة بغير حساب، بعد كلام له في الإسلام:
هذا كلام حسن، لكن إذا عرفه المسلم، وجب عليه أن يعرف نواقضه. فإذا كان نواقض الوضوء ثمانية، فالذي
ذكر في "الإقناع" أن نواقض الإسلام أكثر من أربعمائة.
ولكن من أشهرها اثنتان:
الأولى: الشرك، وهي أول النواقض التي ذكرها؛ وقد عرفتم الشرك وأنواعه، وكل إنسان يحتاج إلى تعلمه.
الثانية: أنه ذكر من النواقض: من أبغض ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ولو عمل به -،كفر إجماعا; وقد علمتم ما جرى من المطاوعة، ومن العامة، من بعض الذين عرفوا التوحيد، والبراءة من الشرك، حتى إنهم أبغضوا إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وأبغضوا التحية بالسلام، مع أنهم يعرفون ذلك.
الثالثة: من استهزأ بشيء من دين الله إذا ذكر له؛ واذكر قوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 1.
الرابعة: إذا ذكر له ثواب الله أو عقابه، استهزأ، وهو قوله: أو سخر بوعد الله أو وعيده.
الخامسة: في آخر الباب: ويحرم تعلم السحر؛ وذكر أن من فعله أو رضي به كفر، وذكر أن منه ما يحبب بين اثنين، وهو الذي يسمى في زماننا العطف.
السادسة: وهي من أهمها وأكثرها خطرا -:الإعراض عن دين الله لا يتعلمه، والله سبحانه يقول: {وَمَنْ أَظْلَمُ
1 سورة آية: 65-66.
مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ} 1 الآية؛ ويوجد هذا فيمن هو من أورع الناس، وأكثرهم عبادة. وكل هذه الست من أوقع الأشياء.
وكثير منها يقع فيها الإنسان، ولا يدري أنه كفر، بل يظنه خفيفا؛ ومرادنا الإنسان الذي يدعي معرفة التوحيد، والبراءة من الشرك; ولكن من أنفع ما يكون: القراءة عليهم فيما جرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة، في ثلاث عشرة سنة قبل الهجرة، وتعريفهم أنه عند هذه المسألة التي وقعت بيننا بعينها.
فالدين الذي أرسله الله به، هو الذي يسميه مطاوعتكم
…
وفعلوا في عداوته أشياء، ما فعلها أبو جهل وأمثاله; والدين الذي يزينونه للناس، هو دين أهل مكة، الذي أرسل الله رسوله ينذر عنه؛ وفعل مطاوعتكم في نصرته الفرية، وتزيينه لمن سمع منهم، أشياء ما فعلتها قريش في نصرة دينهم.
فأنفع العلم وأهمه وأكبره - مع أنه أوضحه -:معرفة ما جرى من قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم ومن تبعه، ومعرفة أنها مسألتنا بعينها، ومعرفة ما جرى من الناس من عداوة الدين، الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وبغضه وبغض من عمل به، واستحلال دمه وماله، ونصرة دين عريعر وأمثاله، والنجراني وأمثاله، والله أعلم.
1 سورة الكهف آية: 57.
[الدين يكون على القلب واللسان والجوارح]
وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى:
اعلم رحمك الله: أن دين الله يكون على القلب بالاعتقاد، وبالحب والبغض، ويكون على اللسان بالنطق وترك النطق بالكفر، ويكون على الجوارح بفعل أركان الإسلام، وترك الأفعال التي تكفر؛ فإذا اختل واحدة من هذه الثلاث، كفر وارتد.
مثال عمل القلب: أن يظن أن هذا الذي عليه أكثر الناس، من الاعتقاد في الأحياء والأموات حق، ويستدل بكون أكثر الناس عليه، فهو كافر مكذب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولو لم يتكلم بلسانه، ولم يعمل إلا بالتوحيد. وكذلك إذا شك، لا يدري من الحق معه، فهذا لو لم يكذَب فهو لم يصدق النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو يقول عسى الله أن يبين الحق، فهو في شك، فهو مرتد ولو لم يتكلم إلا بالتوحيد.
ومثل اللسان: أن يؤمن بالحق ويحبه ويكفر بالباطل ويبغضه، ولكنه تكلم مداراة لأهل الأحساء، ولأهل مكة أو غيرهم بوجوههم، خوفا من شرهم; وإما أن يكتب لهم كلاما يصرح لهم بمدح ما هم عليه، أو يذكر أنه ترك ما هو عليه، ويظن أنه ماكر بهم، وقلبه موقن أنه لا يضره، وهذا أيضا لغروره.
وهو معنى قول الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ} 1 إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} 2 فقط لا لتغير عقائدهم.
فمن عرف هذا، عرف أن الخطر خطر عظيم شديد، وعرف شدة الحاجة للتعلم والمذاكرة، وهذا معنى قوله في "الإقناع" في الردة: نطقا أو اعتقادا أو شكا أو فعلا، والله أعلم.
[باب حكم المرتد]
وقال أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
باب حكم المرتد، الذي يكفر بعد إسلامه، نطقا أو شكا أو اعتقادا أو فعلا، ولو مميزا، أو كان هازلا، لقوله تعالى:{أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} 3. فمن أشرك بالله تعالى كفر بعد إسلامه، ولو مكرها بحق كفر، أو جحد ربوبيته أو وحدانيته كفر، أو جحد صفة من صفاته، أو ادعى النبوة، أو صدق من ادعاها بعد النبي صلى الله عليه وسلم، أو استهزأ بالله أو رسله، أو هزل بشيء فيه ذكر الله تعالى.
قال الشيخ: أو كان مبغضا لرسوله صلى الله عليه وسلم، أو لما جاء
1 سورة النحل آية: 106.
2 سورة النحل آية: 107.
3 سورة التوبة آية: 65.
به الرسول اتفاقا، كفر، أو جعل بينه وبين الله وسائط، يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم، كفر إجماعا، لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام، قائلين {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1،
أو سجد لصنم أو شمس أو قمر، أو أتى بقول أو فعل صريح، في الاستهزاء بالدين الذي شرعه الله تعالى، أو وجد منه امتهان القرآن، أو أنكر الإسلام كفر، لأن الدين عند الله الإسلام، أو سحر أو أتى عرافا فصدقه، أو جحد البعث كفر،
أو أتى بقول يخرجه عن الإسلام، مثل أن يقول: هو يهودي، أو نصراني أو مجوسي، أو برئ من الإسلام أو القرآن أو النبي صلى الله عليه وسلم، أو يعبد الصليب. وقد عمت البلوى بهذه الفرق، وأفسدوا كثيرا من عقائد أهل التوحيد، نسأل الله العفو والعافية.
أقول: يتأمل المسلم الذي قصده اتباع أمر الله ورسوله، ما ذكره هؤلاء العلماء، وحكوا عليه إجماع المذاهب كلها، في أناس يشهدون أن لا إله إلا الله، ويصلون ويصومون، وأهل عبادة، لكنهم يعتقدون في بعض الأولياء، مثل عبد القادر، ومعروف الكرخي وغيرهما، ويتعلقون عليهم، يقولون: لهم جاه عند الله، كيف حكى العلماء إجماع المذاهب، على أن من فعل ذلك فهو كافر،
1 سورة الزمر آية: 3.
ولو كان زاهدا. هذا الذي أنا طالب منهم، وأعظم من أن الرافضي إذا سب الشيخين، فقد توقف الإمام أحمد في تكفيره.
وأما إذا اعتقد في علي أو الحسين فهو كافر، مع كونه يشهد أن لا إله إلا الله. أتظنون أن هذا في قوم مضوا؟ أتقولون الصحابة أراهم يكفرون أهل الإسلام؟ أم تظنون أن الذين يعتقدون في علي لا يشهدون أن لا إله إلا الله؟
فرحم الله امرأ نصح نفسه، ونصر الله ورسوله ودينه، ولم تأخذه في الله لومة لائم، والله أعلم.
[نواقض الإسلام العشرة]
وقال عفا الله عنه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى محمد بن فارس، سلام عليكم.
وبعد: الواصل إليكم مسألة التكفير، من كلام العلماء، وذكر في "الإقناع" إجماع المذاهب كلها على ذلك؛ فإن كان عند أحد كلمة تخالف ما ذكروه في مذهب من المذاهب، فيذكرها وجزاه الله خيرا؛ وإن كان يبغي يعاند كلام الله، وكلام رسوله، وكلام العلماء، ولا يصغي لهذا أبدا، فاعرفوا أن هذا الرجل معاند ما هو بطلاب حق، وقد
قال الله تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1.
والذي يدلكم على هذا: أن هؤلاء الذين يعتذرون بالتكفير، إذا تأملتهم إذا أن الموحدين أعداؤهم، يبغضونهم ويستثقلونهم، والمشركون والمنافقون هم ربعهم الذين يستأنسون إليهم؛ ولكن هذه قد جرت من رجال عندنا في الدرعية، وفي العيينة الذين ارتدوا وأبغضوا الدين.
وقال أيضا: رحمه الله تعالى: اعلم: أن من أعظم نواقض الإسلام عشرة:
الأول: الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له، والدليل قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 2؛ومنه الذبح لغير الله كمن يذبح للجن، أو القباب.
الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم ويسألهم الشفاعة، كفر إجماعا
الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، كفر إجماعا
الرابع: من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذين يفضلون حكم الطاغوت على حكمه، فهو كافر.
1 سورة آل عمران آية: 80.
2 سورة النساء آية: 48.
الخامس: من أبغض شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به، كفر إجماعا، والدليل قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} 1.
السادس: من استهزأ بشيء من دين الله، أو ثوابه أو عقابه كفر، والدليل قوله تعالى:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 2.
السابع: السحر، ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به كفر، والدليل قوله تعالى:{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} 3.
الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى:(ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين)
التاسع: من اعتقد أن بعض الناس لا يجب عليه اتباعه صلى الله عليه وسلم وأنه يسعه الخروج من شريعته، كما وسع الخضر الخروج من شريعة موسى عليهما السلام، فهو كافر.
العاشر: الإعراض عن دين الله، لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} 5.
1 سورة محمد آية: 9.
2 سورة آية: 65-66.
3 سورة البقرة آية: 102.
4 سورة المائدة: 51.
5 سورة السجدة آية: 22.
ولا فرق في جميع هذه النواقض، بين الهازل والجاد، والخائف، إلا المكره؛ وكلها من أعظم ما يكون خطرا، ومن أكثر ما يكون وقوعا؛ فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف منها على نفسه، نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه، وصلى الله على محمد.
[الشك في تكفير المعين الذي قامت عليه الحجة]
وله أيضا، أسكنه الله الفردوس الأعلى:
بسم الله الرحمن الر حيم
إلى الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: ما ذكرتم من قول الشيخ: كل من جحد كذا وكذا، وقامت عليه الحجة، وأنكم شاكون في هؤلاء الطواغيت وأتباعهم، هل قامت عليهم الحجة؟ فهذا من العجب، كيف تشكون في هذا وقد أوضحته لكم مرارا؟! فإن الذي لم تقم عليه الحجة، هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسألة خفية، مثل الصرف والعطف، فلا يكفر حتى يعرف.
وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه، فإن حجة الله هو القرآن، فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة؛ ولكن أصل الإشكال، أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة، وبين فهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين من
المسلمين، لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} 1.
وقيام الحجة نوع، وبلوغها نوع، وقد قامت عليهم، وفهمهم إياها نوع آخر; وكفرهم ببلوغها إياهم، وإن لم يفهموها. إن أشكل عليكم ذلك، فانظروا قوله صلى الله عليه وسلم في الخوارج:" أينما لقيتموهم فاقتلوهم " 2،وقوله:" شر قتلى تحت أديم السماء " 3، مع كونهم في عصر الصحابة، ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم، ومع إجماع الناس أن الذي أخرجهم من الدين هو التشدد والغلو والاجتهاد؛ وهم يظنون أنهم يطيعون الله، وقد بلغتهم الحجة، ولكن لم يفهموها.
وكذلك قتل علي رضي الله عنه الذين اعتقدوا فيه، وتحريقهم بالنار، مع كونهم تلاميذ الصحابة، ومع عبادتهم وصلاتهم وصيامهم، وهم يظنون أنهم على حق.
وكذلك إجماع السلف: على تكفير غلاة القدرية وغيرهم، مع علمهم وشدة عبادتهم، وكونهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا؛ ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم لأجل كونهم لم يفهموا، فإن هؤلاء كلهم لم يفهموا. إذا علمتم ذلك، فإن هذا الذي أنتم فيه كفر: الناس يعبدون الطواغيت، ويعادون دين الإسلام، فيزعمون أنه ليس ردة
1 سورة الفرقان آية: 44.
2 البخاري: المناقب (3611)، ومسلم: الزكاة (1066)، والنسائي: تحريم الدم (4102)، وأبو داود: السنة (4767) ، وأحمد (1/131) .
3 الترمذي: تفسير القرآن (3000)، وابن ماجه: المقدمة (176) .
، لعلهم ما فهموا الحجة، كل هذا بين.
وأظهر مما تقدم: الذين حرقهم علي، فإنه يشابه هذا. وأما إرسال كلام الشافعية وغيرهم، فلا يتصور يأتيكم أكثر مما أتاكم، فإن كان معكم بعض الإشكال، فارغبوا إلى الله تعالى أن يزيله عنكم، والسلام.
[الدليل على كفر من يأخذ النذور]
وله أيضا، قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الر حيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى محمد بن سلطان، سلمه الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: لا يخفاك أنه ذكر لنا عنك كلام حسن، ويذكر أيضا كلام ما هو بزين، وننتظر قدومك إلينا ونبين لك، عسى الله أن يهدينا وإياك الصراط المستقيم.
وجاءنا عنك أنك تقول: أبغيكم تكتبون لي الدليل، من قول الله، وقول رسوله، وكلام العلماء، على كفر الذين ينصبون أنفسهم للنذور، والنخي في الشدائد، ويرضون بذلك، وينكرون على من زعم أنه شرك.
ويذكرون عنك أنك تقول: أبغي أعرضه على العلماء في الخرج، وفي الأحساء، ولكم علي أني ما أقبل منهم
الطفايس والكلام الفاسد؛ فإن بينوا حجة صحيحة عن الله ورسوله، أو عن العلماء تفسد كلامكم، وإلا تبعت أمر الله ورسوله، واعتقدت كفر الطاغوت ومن عبدهم، وتبرأت منهم. فإن كنت قلت هذا، فهو كلام حسن، وفقك الله لطاعته.
ولا يخفاك أني أعرض هذا من سنين على أهل الأحساء وغيرهم، وأقول: كل إنسان أجادله بمذهبه، إن كان شافعيا فبكلام الشافعية، وإن كان مالكيا فبكلام المالكية، أو حنبليا أو حنفيا فكذلك، فإذا أرسلت إليهم ذلك عدلوا عن الجواب، لأنهم يعرفون أني على الحق وهم على الباطل، وإنما يمنعهم من الانقياد التكبر والعناد على أهل نجد، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} 1.
وأنا أذكر لك الدليل على هذا الأمر، وأوصيك بالبحث عنه والحرص عليه، وأحذرك عن الهوى والتعصب؛ بل اقصد وجه الله واطلب منه، وتضرع إليه أن يهديك للحق، وكن على حذر من أهل الأحساء أن يلبسوا عليك بأشياء لا ترد على المسألة، أو يشبهوا عليك بكلام باطل، كما قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ
1 سورة غافر آية: 56.
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1.
وأنا أشهد الله وملائكته إن أتاني منهم حق لأقبلنه على الرأس والعين؛ ولكن هيهات أن يقدر أحد أن يدفع حجج الله وبيناته.
واعلم أرشدك الله: أن الله سبحانه بعث الرسل، وأنزل الكتب، لمسألة واحدة، وهي: توحيد الله وحده، والكفر بالطاغوت، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2.
والطاغوت هو الذي يسمى السيد، الذي ينخى وينذر له، ويطلب منه تفريج الكربات، غير الله تعالى؛ وهذا يتبين بأمرين عظيمين: الأول: توحيد الربوبية، وهو الشهادة بأنه لا يخلق ولا يرزق، ولا يحيي ولا يميت، ولا يدبر الأمور إلا هو، وهذا حق.
ولكن أعظم الكفار كفرا، الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون به، ولم يدخلهم في الإسلام، كما قال تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 3.
1 سورة آل عمران آية: 78.
2 سورة النحل آية: 36.
3 سورة يونس آية: 31.
فإذا تدبرت هذا الأمر العظيم، وعرفت أن الكفار يقرون بهذا كله، لله وحده لا شريك له، وأنهم إنما اعتقدوا في آلهتهم لطلب الشفاعة، والتقرب إلى الله، كما قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1،وفي الآية الأخرى {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2،
فإذا تبين لك هذا، وعرفته معرفة جيدة، بقي للمشركين حجة أخرى، وهي أنهم يقولون: هذا حق، ولكن الكفار يعتقدون في الأصنام; فالجواب القاطع، أن يقال لهم: إن الكفار في زمانه صلى الله عليه وسلم منهم من يعتقد في الأصنام، ومنهم من يعتقد في قبر رجل صالح، مثل اللات، ومنهم من يعتقد في الصالحين، وهم الذين ذكر الله في قوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 3، يقول تعالى: هؤلاء الذين يدعونهم الكفار، ويدعون محبتهم، قوم صالحون يفعلون طاعة الله، ومع هذا راجون خائفون.
فإذا تحققت أن العلي الأعلى تبارك وتعالى، ذكر في كتابه أنهم يعتقدون في الصالحين، وأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة عند الله، والتقرب إليه بالاعتقاد في الصالحين،
1 سورة يونس آية: 18.
2 سورة الزمر آية: 3.
3 سورة الإسراء آية: 57.
وعرفت أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين من اعتقد في الأصنام، ومن اعتقد في الصالحين، بل قاتلهم كلهم، وحكم بكفرهم، تبين لك حقيقة دين الإسلام.
وعرفت الأمر الثاني وهو توحيد الآلهية وهو أنه لا يسجد إلا لله، ولا يركع إلا له، ولا يدعى في الرخاء والشدائد إلا هو، ولا يذبح إلا له، ولا يعبد بجميع العبادات إلا الله وحده لا شريك له، وأن من فعل ذلك في نبي من الأنبياء، أو ولي من الأولياء، فقد أشرك بالله; وذلك النبي، أو الرجل الصالح، بريء ممن أشرك به، كتبرؤ عيسى من النصارى، وموسى من اليهود، وعلي من الرافضة، وعبد القادر من الفقراء.
وعرفت أن الألوهية، هي التي تسمى في زماننا "السيد"، لقوله تعالى:{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 1.فتأمل قول بني إسرائيل - مع كونهم إذ ذاك أفضل العالمين – لنبيهم: اجعل لنا إلها، يتبين لك معنى الإله، ويزيدك بصيرة قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} 2.
فيا سبحان الله! إذا كان الله يذكر عن أولئك الكفار أنهم يخلصون لله في الشدائد، لا يدعون نبيا ولا وليا;
1 سورة الأعراف آية: 138.
2 سورة الإسراء آية: 67.
وأنت تعلم ما في زمانك أن أكثر ما بهم الكفر والشرك، ودعاء غير الله عند الشدائد، فهل بعد هذا البيان بيان؟!
وأما كلام أهل العلم: فقد ذكر في "الإقناع" في باب حكم المرتد، إجماع المذاهب كلهم، على أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، أنه كافر مرتد، حلال المال والدم; وذكر فيه أن الرافضي إذا شتم الصحابة، فقد توقف الإمام في تكفيره، فإن ادعى أن عليا يدعى في الشدائد والرخاء، فلا شك في كفره؛ هذا معنى كلامه في "الإقناع".
وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما اعتقد فيه النفع والضر أناس في زمانه، حرقهم بالنار، مع عبادتهم؛ فكذلك الذين يدعون شمسان وأمثاله وأجناسه، لا شك في كفرهم. واعلم: أن هذه المسألة، مسألة عظيمة جدا، وهي التي خلق الله الجن والإنس لأجلها، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
فأنت؛ اعرض هذا الكلام على كل من يدعي العلم، وأنا أعيذك بالله وجميع المسلمين، من التكبر والعناد، الذي يرد صاحبه الحق بعدما تبين؛ واعلم أن أكثر القرآن في هذه المسألة، وتقريرها وضرب الأمثال لها، والله أعلم.
[معنى قوله تعالى لنبيه: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) ]
وله أيضا، صب الله عليه من شآبيب بره، ووالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى ثنيان بن سعود، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: سألتم عن معنى قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} 1، وكونها نزلت بعد الهجرة، فهذا مصداق كلامي لكم مرارا عديدة، أن الفهم الذي يقع في القلب، غير فهم اللسان، وذلك: أن هذه المسألة من أكثر ما يكون تكرارا عليكم، وهى التي بوب لها الباب الثاني، في كتاب التوحيد، وذلك: أن العلم لا يسمى علما إلا إذا أثمر، وإن لم يثمر فهو جهل، كما قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 2، وكما قال عن يعقوب:{وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} 3.والكلام في تقرير هذا ظاهر.
والعلم هو الذي يستلزم العمل، ومعلوم تفاضل الناس في الأعمال تفاضلا لا ينضبط، وكل ذلك بسبب تفاضلهم في العلم؛ فيكفيك في هذا استدلال الصديق على عمر، في قصة أبي جندل، مع كونها من أشكل المسائل التي وقعت، في الأولين والآخرين، شهادة أن محمدا رسول الله.
وسر المسألة: العلم بلا إله إلا الله ; ومن هذا قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ
1 سورة محمد آية: 19.
2 سورة فاطر آية: 28.
3 سورة يوسف آية: 68.
تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 1. فإن العلم بهذه الأصول الكبار، يتفاضل فيه الأنبياء فضلا عن غيرهم; ولما نهى نوح بنيه عن الشرك، أمرهم بلا إله إلا الله، فليس هذا تكرارا.
بل هذان أصلان مستقلان كبيران، وإن كانا متلازمين، فالنهي عن الشرك يستلزم الكفر بالطاغوت، ولا إله إلا الله الإيمان بالله، وهذا وإن كان متلازما، فنوضح لكم الواقع، وهو: أن كثيرا من الناس يقول: لا أعبد إلا الله، وأنا أشهد بكذا، وأقر بكذا، ويكثر الكلام، فإذا قيل له: ما تقول في فلان وفلان، إذا عبدا أو عبدا من دون الله؟ قال: ما علي من الناس، الله أعلم بحالهم، ويظن بباطنه أن ذلك لا يجب عليه.
فمن أحسن الاقتران: أن الله قرن بين الإيمان به والكفر بالطاغوت، فبدأ بالكفر به على الإيمان بالله، وقرن الأنبياء بين الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، مع أن في الوصية بلا إله إلا الله ملازمة الذكر بهذه اللفظة، والإكثار منها، ويتبين عظم قدرها، كما بين صلى الله عليه وسلم فضل سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 2 على غيرها من السور، ذكر أنها تعدل ثلث القرآن مع قصرها، وكذلك حديث موسى عليه السلام، فإن في ذكره ما يقتضي كثرة الذكر بهذه الكلمة، كما في الحديث " أفضل الذكر: لا إله إلا الله " 3 والسلام.
1 سورة البقرة: 106، 107.
2 سورة الإخلاص آية: 1.
3 الترمذي: الدعوات (3383)، وابن ماجه: الأدب (3800) .
[معنى قوله تعالى: (اليوم أحل لكم الطيبات) ]
وسئل رحمه الله تعالى، عن قوله تعالى:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} إلى آخر السؤال.
فقال: الجواب والله الموفق للصواب، قوله تعالى:{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} 1 الآية، وقوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 2، الآيتان لا اختلاف في حكمهن بين أحد، آيتان من كتاب الله؛ ولكن الكلام في حكم الذابح، هل هو مسلم، فيدخل حكمه في حكم الآية إذا ذبح وسمى الله عليها؟ فلو ترك التسمية نسيانا حلت ذبيحته، وكانت من الطيبات، بخلاف من ترك التسمية عمدا، فلا تحل ذبيحته.
وكذلك أهل الكتاب، أعني اليهود والنصارى، ذبيحتهم ومناكحتهم حلال، لقوله تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} 3 الآية، وأما المرتد فلا تحل ذبيحته، وإن قال فيها بسم الله، لأن المانع لذلك ارتداده عن دين الإسلام، لا ترك التسمية، لأن المرتد شر عند الله من اليهود والنصارى من وجوه:
أحدها: أن ذبيحته من الخبائث. الثانية. أنها لا تحل مناكحته، بخلاف أهل الكتاب. الثالثة. أنه لا يقر في بلد المسلمين، لا بجزية ولا بغيرها.
الرابعة: أن حكمه يضرب عنقه بالسيف، لقوله صلى الله عليه وسلم:" من بدل دينه فاقتلوه " 4،
1 سورة المائدة آية: 5.
2 سورة الأنعام آية: 118.
3 سورة المائدة آية: 5.
4 البخاري: الجهاد والسير (3017)، والترمذي: الحدود (1458)، والنسائي: تحريم الدم (4059 ،4060 ،4061 ،4062 ،4064 ،4065)، وأبو داود: الحدود (4351)، وابن ماجه: الحدود (2535) ، وأحمد (1/217 ،1/282 ،1/322) .
بخلاف أهل الكتاب.
فإذا تقرر هذا عندك، فاعرف أن الكلام في تحريم ذبيحة المرتد، لا في أن الله أمر بأكل ما سمي عليه، ولا تحليل طعام أهل الكتاب; وقولكم: لم تكفّرون من يعمل بفرائض الإسلام الخمس؟ فقد كان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى الإسلام ثم مرق من الدين، كما في الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث البراء بن عازب معه الراية، إلى رجل تزوج امرأة أبيه، ليقتله ويأخذ ماله، وقد انتسب إلى الإسلام وعمل به.
ومثل: قتال الصديق والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة، وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم، وتسميتهم مرتدين بعدما عملوا بشرائع الإسلام; ومثل إجماع التابعين على قتل الجعد بن درهم، وهو مشتهر بالعلم والدين، إلى غير ذلك، جرى وقائع لا تعد ولا تحصى.
ومثل: بني عبيد الذين ملكوا مصر والشام وغيرها، مع تظاهرهم بالإسلام وصلاة الجمعة والجماعة، ونصب القضاة والمفتين، لما أظهروا من الأقوال والأفعال ما أظهروا، ولم يتوقف أحد من أهل العلم والدين عن قتالهم، مع ادعائهم الملة، ومع قولهم لا إله إلا الله، أو لأجل إظهار شيء من أركان الإسلام، إلا ما سمعنا منكم.
فما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب؟ وهو: "باب حكم المرتد"، وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، حتى ذكروا فيه أنواعا كثيرة، كل نوع منها يكفّر الإنسان، ويحل دمه وماله؛ حتى ذكروا أشياء يسيرة مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه، أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب.
والذين قال الله فيهم: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} 1 الآية، أسمعت الله كفّرهم بكلمة؟ مع كونهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يجاهدون معه، ويصلون ويزكون، ويصومون ويحجون، ويوحدون الله سبحانه، وكذلك الذين قال الله فيهم:{أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} 2 الآية؛ قالوا كلمة على وجه المزح واللعب، فصرح الله أنهم كفروا بعد إيمانهم، وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.
فتأمل أرشدك الله، من انتسب إلى الإسلام، مرق من الإسلام لما أظهر خلاف ذلك، فكيف بما هو أطم من ذلك; فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من انتسب إلى الإسلام من مرق منه، مع عبادته العظيمة، حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذه الأزمان، قد يمرق من الإسلام.
1 سورة التوبة آية: 74.
2 سورة التوبة آية: 65.
وقولكم: هل تعلمون للنبي صلى الله عليه وسلم دينا إلا الإسلام الذي جاء به جبرائيل؟ فمعلوم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يدعو الناس إلى التوحيد سنين عديدة، قبل أن يدعوهم إلى أركان الإسلام; ومعلوم: أن التوحيد الذي جاء به جبرائيل، أعظم فريضة، وهو أعظم من الصلاة والزكاة، والصوم والحج.
فكيف إذا جحد الإنسان شيئا من أركان الإسلام كفر، ولو عمل بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، واذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل، من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم، لا يكفر لأنه يقول لا إله إلا الله، أو لأنه يفعل كذا وكذا؟!
فما الذي فرق بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش؟ هل هو عند الممالك والرياسة والتطاول، أو عند لا إله إلا الله محمد رسول الله؟ فتفرقوا عند ذلك، وقالوا:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 1.
أتظن أن قريشا لو يعلمون أن هذا الكلام مجرد قول بلا عمل، وأنهم يقولون لا إله إلا الله، وينشؤون على دينهم، ولا يضرهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يرضى منهم بذلك، وأنه ما يحاربهم، ولا يكفرهم، ولا يقاتلهم، أتراهم يتركون التلفظ بلا إله إلا الله، كما هو اعتقادكم، أو دين الإسلام لفظ لا إله إلا الله، وأن من قالها فهو المسلم؟ وتؤثرون عليها حديث جبرائيل، وحديث: " بني الإسلام على
1 سورة ص آية: 5.
خمسة أركان " 1‘ وحديث "أمرت أن أقاتل الناس"‘ وحديث أسامة، وحديث: " من صلى صلاتنا "،وحديث أنه إذا أغار كمن عند القرية، فإن سمع أذانا وإلا أثار الغارة عليها.
ولكن الأمر كما قال عمر رضي الله عنه: (إنها لا تنقض عرى الإسلام عروة عروة، حتى ينشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية) ، فذلك أنه إذا لم يعرف الشرك، وما عابه القرآن، وما ذمه، وقع فيه وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، أو فوقه، أو دونه، أو آثر منه، فتنقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويبدع بمتابعة الرسول، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فإن كان سؤالك مسترشدا، فاسأل عن قول الله في إبراهيم:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} 2. قال شيخ الإسلام: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد التوحيد لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله; فتأمل أن الإسلام لا يصح إلا بمعاداة أهل الشرك، وإن لم يعادهم فهو منهم، ولو لم يفعله.
وأسأل عن معنى قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} 3 إلى قوله: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} 4،
1 البخاري: الإيمان (8)، ومسلم: الإيمان (16)، والترمذي: الإيمان (2609)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) ، وأحمد (2/26 ،2/92 ،2/120 ،2/143) .
2 سورة إبراهيم آية: 35.
3 سورة المائدة آية: 78.
4 سورة المائدة آية: 81.
وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} 1 إلى قوله: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 2 الآية. وقال: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 3، الآية وما أشبه ذلك; واسأل عن سبب نزول الآية، وما معناها، وإن كان غير ذلك فلا آسى على الهالكين، وصلى الله على محمد.
[من رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب لمطوع ثرمدا]
وقال أيضا قدس الله روحه، في رسالته لمطوع ثرمدا العاشرة 4: قولك: إن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقروا بتوحيد الربوبية، ثم أوردت الأدلة الواضحة على ذلك؛ وإنما قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند توحيد الألوهية، ولم يدخل الرجل في الإسلام بتوحيد الربوبية، إلا إذا انضم إليه توحيد الألوهية. فهذا كلام من أحسن الكلام وأبينه تفصيلا.
ولكن عام أول، لما واجهنا إبراهيم، كتب له علماء سدير مكاتبة وبعثها لنا، وهي عندنا الآن، ولم يذكروا فيها إلا توحيد الربوبية؛ فإذا كنت تعرف هذا، فلأي شيء ما أخبرت إبراهيم ونصحته أن هؤلاء ما عرفوا التوحيد، وأنهم منكرون دين الإسلام؟
1 سورة الممتحنة آية: 1.
2 سورة الممتحنة آية: 4.
3 سورة المجادلة آية: 22.
4 وأخرناها لمناسبتها هنا، وأول الرسالة في /ج/1/ صفحة 105.
وكذلك أحمد بن يحيى ساكن رغبة، عداوته لتوحيد الألوهية، والاستهزاء بأهل العارض، لما عرفوه - وإن كان يقرئه أحيانا - عداوة ظاهرة، لا يمكن أنها لا تبلغك; وكذلك ابن إسماعيل أنه نقض ما أبرمت في التوحيد.
وتعرف أن عنده الكتاب الذي صنفه رجل من أهل البصرة، كله من أوله إلى آخره، في إنكار توحيد الإلهية، وأتاكم به ولد محمد بن سليمان ساكن أثيثية، وقرأه عندكم، وجادل به جماعتنا; وهذا الكتاب مشهور عند المويس وأتباعه، مثل ابن سحيم وابن عبيد، يحتجون به علينا، ويدعون الناس إليه، ويقولون: هذا كلام العلماء.
فإذا كنت تعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قاتل الناس إلا عند توحيد الألوهية، وتعلم أن هؤلاء قاموا وقعدوا، ودخلوا وخرجوا، وجاهدوا ليلا ونهارا، في صد الناس عن التوحيد، يقرؤون عليهم مصنفات أهل الشرك، لأي شيء لم تظهر عداوتهم، وأنهم كفار مرتدون؟
فإن كان ظاهر لكأن أحدا من العلماء، لا يكفر من أنكر التوحيد، أو أنه يشك في كفره، فاذكره لنا وأفدنا; وإن كنت تزعم أن هؤلاء فرحوا بهذا الدين، وأحبوه، ودعوا الناس إليه، ولما أتاهم تصنيف أهل البصرة في إنكار التوحيد كفروه، وكفروا من عمل به.
وكذلك لما أتاهم كتاب ابن عفالق، الذي أرسله المويس لابن إسماعيل، وقدم به عليكم العام الماضي، وقرأه على جماعتكم، يزعم فيه أن التوحيد دين ابن تيمية، وأنه لما أفتى به كفره العلماء، وقامت عليه القيامة; إن كنت تقول: ما جرى من هذا شيء، فهذا مكابرة، وإن كنت تعرف أن هذا هو الكفر الصراح، والردة الواضحة، ولكن تقول: أخشى الناس، فالله أحق أن تخشاه.
ولا تظن أن كلامي هذا معاتبة وكلام عليك، فوالله الذي لا إله إلا هو إنه نصيحة، لأن كثيرا ممن واجهناه، وقرأ علينا، يتعلم هذا ويعرفه بلسانه، فإذا وقعت المسألة لم يعرفها، بل إذا قال له بعض المشركين: نحن نعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فإن النافع الضار هو الله، يقول: جزاك الله خيرا، ويظن أن هذا هو التوحيد، ونحن نعلمه أكثر من سنة أن هذا هو توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون؛ فالله الله في التفطن لهذه المسألة، فإنها الفارقة بين الكفر والإسلام!
ولو أن رجلا قال: شروط الصلاة تسعة، ثم سردها كلها، فإذا رأى رجلا يصلي عريانا بلا حاجة، أو على غير وضوء، أو لغير القبلة، لم يدر أن صلاته فاسدة، لم يكن قد عرف الشروط ولو سردها بلسانه; ولو قال: الأركان أربعة عشر، ثم سردها كلها، ثم رأى من لا يقرأ الفاتحة،
ومن لا يركع، ومن لا يجلس للتشهد، ولم يفطن أن صلاته باطلة، لم يكن قد عرف الأركان ولو سردها؛ فالله الله في التفطن لهذه المسألة!
ولكن أشير عليك بعزيمة: أنك تصل إلينا، ونتذاكر معك; وكذلك من جهة البدع، قيل لي: إنك تقول فيها شيئا ما يقوله الذي عرف مسألة البدع; وصلى الله على محمد.
[المسائل التي عرَّف بها الشيخ ابن عبد الوهاب]
وله أيضا قدس الله روحه، ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الر حيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى محمد بن عيد، وفقنا الله وإياه لما يحبه ويرضاه.
وبعد: وصل الكراس، وتذكرون أن الحق إن بان لكم اتبعتموه، وفيه كلام غير هذا، سر الخاطر من جهتك خاصة، بسبب أن لك عقلا، والثانية أن لك عرضا تشح به، والثالثة: أن الظن فيك إن بان لك الحق، أنك ما تبيعه بالزهائد.
فأما تقريركم أول الكلام: أن الإسلام خمس كأعضاء الوضوء، وأنكم تعرفون كلام الله، وكلام رسوله، وإجماع العلماء أن له نواقض كنواقض الوضوء الثمانية; منها:
اعتقاد القلب وإن لم يعمل أو يتكلم، يعني إذا اعتقد خلاف ما علمه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته بعدما تبين له، ومنها: كلام باللسان وإن لم يعمل ولم يعتقد، ومنها: عمل بالجوارح وإن لم يعتقد ويتكلم.
ولكن من أظهر الإسلام وظننا أنه أتى بناقض، لا نكفره بالظن، لأن اليقين لا يرفعه الظن; وكذلك لا نكفر من لا نعرف منه الكفر، بسبب ناقض ذكر عنه، ونحن لم نتحققه; وما قررتم هو الصواب الذي يجب على كل مسلم اعتقاده والتزامه.
ولكن قبل الكلام، اعلم: أني عَرَّفْتُ بأربع مسائل:
الأولى: بيان التوحيد مع أنه لم يطرق آذان أكثر الناس.
الثانية: بيان الشرك، ولو كان في كلام من ينتسب إلى العلم أو العبادة، من دعوة غير الله، أو قصده بشيء من العبادة، ولو زعم أنهم يريدون أنهم شفعاء عند الله، مع أن أكثر الناس يظن أن هذا من أفضل القربات، كما ذكرتم عن العلماء، أنهم يذكرون أنه قد وقع في زمانهم.
الثالثة: تكفير من بان له أن التوحيد هو دين الله ورسوله، ثم أبغضه ونفر الناس عنه، وجاهد من صدق الرسول فيه، ومن عرف الشرك، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بإنكاره، وأقر بذلك ليلا ونهارا، ثم مدحه وحسنه للناس، وزعم أن أهله لا يخطئون، لأنهم السواد الأعظم.
وأما ما ذكر الأعداء عني، أني أُكَفِّر بالظن وبالموالاة، أو أكفّر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة، فهذا بهتان عظيم، يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله.
الرابعة: الأمر بقتال هؤلاء خاصة، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فلما اشتهر عني هؤلاء الأربع، صدقني من يدعي أنه من العلماء في جميع البلدان، في التوحيد، وفي نفي الشرك، وردوا علي التكفير والقتال.
إذا تحققت ما ذكرت لك، انبنى الجواب على ما ذكرتم في أول الأوراق، من إقراركم بمعرفة نواقض الإسلام بإجماع العلماء، بشرط أنكم لا تكفّرون بالظن ولا من لا تعرفون.
فنقول: من المعلوم عند الخاص والعام، ما عليه البوادي أو أكثرهم، فإن كابر معاند لم يقدر على أن يقول: إن عنزة وآل ظفير وأمثالهم كلهم، مشاهيرهم والأتباع، إنهم مقرون بالبعث، ولا يشكون فيه; ولا يقدر أن يقول: إنهم يقولون: إن كتاب الله عند الحضر، وإنهم عائفوه، ومتبعو ما أحدث آباؤهم، مما يسمونه الحق، ويفضلونه على شريعة الله، فإن كان للوضوء ثمانية نواقض، ففيهم من نواقض الإسلام أكثر من مائة ناقض.
فلما بينت ما صرحت به آيات التنْزيل، وعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته، وأجمع عليه العلماء: أن من أنكر البعث، أو شك فيه، أو سب الشرع، أو سب الأذان إذا سمعه، أو فضل فراضة الطاغوت على حكم الله، أو سب من زعم أن المرأة ترث، أو أن الإنسان لا يؤخذ في القتل بجريرة أبيه وابنه، أنه كافر مرتد; قال علماؤكم: معلوم أن هذا حال البوادي لا ننكره، ولكن يقولون: لا إله إلا الله، وهي تحميهم من الكفر، ولو فعلوا كل ذلك; ومعلوم أن هؤلاء أولى وأظهر من يدخل في تقريركم.
فلما أظهرت تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، سبوني غاية المسبة، وزعموا أني أكفّر أهل الإسلام، وأستحل أموالهم، وصرحوا: أنه لا يوجد في جزيرتنا رجل واحد كافر، وأن البوادي يفعلون من النواقض، مع علمهم أن دين الرسول عند الحضر، وجحدوا كفرهم; وأنتم تذكرون: أن من رد شيئا مما جاء به الرسول بعد معرفته، أنه كافر.
فإذا كان المويس، وابن إسماعيل، والعديلي، وابن عباد، وجميع أتباعهم، كلهم على هذا، فقد صرحتم غاية التصريح: أنهم كفار مرتدون; وإن ادعى مدع: أنهم يكفرونهم، أو ادعى أن جميع البادية لم تتحقق من أحد منهم من النواقض شيئا، أو ادعى أنهم لا يعرفون أن دين
الرسول خلاف ما هم عليه، فهذا كمن ادعى أن ابن سليمان، وسويد، وابن دوّاس، وأمثالهم، عباد زهاد فقراء، ما شاخوا في بلد قط، ومن ادعى هذا، فأسقط الكلام معه.
ونقول ثانيا: إذا كانوا أكثر من عشرين سنة، يقرون ليلا ونهارا، سرا وجهارا: أن التوحيد الذي أظهر هذا الرجل، هو دين الله ورسوله، لكن الناس لا يطيعوننا، وأن الذي أنكره هو الشرك، وهو صادق في إنكاره، ولكن لو يسلم من التكفير والقتال، كان على الحق؛ هذا كلامهم على رؤوس الأشهاد، ثم مع هذا يعادون التوحيد ومن مال إليه، العداوة التي تعرف، ولو لم يكفر ويقاتل.
وينصرون الشرك نصر الذي تعرف، مع إقرارهم بأنه مشرك، مثل كون المويس وخواص أصحابه، ركبوا وتركوا أهليهم وأموالهم إلى أهل قبة الكواز، وقبة رجب، سنة، يقولون: إنه قد خرج من ينكر قببكم وما أنتم عليه، وقد أحل دماءهم وأموالهم؛ وكذلك ابن إسماعيل، وابن ربيعة، والمويس أيضا بعدهم بسنة، رحلوا إلى أهل قبة أبي طالب، وأغروهم بمن صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وأحلوا دماءنا وأموالنا، حتى جرى على الناس ما تعرف، مع أن كثيرا منهم لم يكفر ولم يقاتل.
وقررتم: أن من خالف الرسول صلى الله عليه وسلم في عشر معشار
هذا، ولو بكلمة، أو عقيدة قلب، أو فعل، فهو كافر، فكيف بمن جاهد بنفسه وماله وأهله ومن أطاعه في عداوة التوحيد، وتقرير الشرك، مع إقراره بمعرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فإن لم تكفروا هؤلاء ومن اتبعهم، ممن عرف أن التوحيد حق، وأن ضده الشرك، فأنتم كمن أفتى بانتقاض وضوء من نزغ منه مثل رأس الإبرة من البول، وزعم أن من يتغوط ليلا ونهارا، وأفتى للناس أن ذلك لا ينقض، وتبعوه على ذلك حتى يموت، أنه لا ينقض وضوءه.
وتذكرون: أني أكفّرهم بالموالاة، وحاشا وكلا; ولكن أقطع: أن كفر من عبد قبة أبي طالب، لا يبلغ عشر كفر المويس وأمثاله، كما قال تعالى:{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} 1 الآيتين.
وأنا أمثل لك مثالا لعل الله أن ينفعك به، لعلمي أن الفتنة كبيرة، وأنهم يحتجون بما تعرفون; منها: ما ذكروا في الأوراق، أنهم لم يقصدوا بحربكم رد التوحيد، وإحياء الشرك، وإنما قصدوا دفع الشر عن أنفسهم، خوف البغي عليهم.
فنقول: لو نقدر أن السلطان ظلم أهل المغرب ظلما عظيما في أموالهم وبلادهم، ومع هذا خافوا استيلاءهم على
1 سورة آية: 8.
بلادهم ظلما وعدوانا، ورأوا أنهم لا يدفعونهم إلا باستنجاد الفرنج، وعلموا أن الفرنج لا يوافقونهم، إلا أن يقولوا نحن معكم على دينكم ودنياكم، ودينكم هو الحق، ودين السلطان هو الباطل، وتظاهروا بذلك ليلا ونهارا، مع أنهم لم يدخلوا في دين الفرنج، ولم يتركوا الإسلام بالفعل،
لكن لما تظاهروا بما ذكرنا، ومرادهم دفع الظلم عنهم، هل يشك أحد أنهم مرتدون، في أكبر ما يكون من الكفر والردة؟ إذا صرحوا أن دين السلطان هو الباطل، مع علمهم أنه حق، وصرحوا أن دين الفرنج هو الصواب، وأنه لا يتصور أنهم لا يتيهون، لأنهم أكثر من المسلمين، ولأن الله أعطاهم من الدنيا شيئا كثيرا، ولأنهم أهل الزهد والرهبانية.
فتأمل هذا تأملا جيدا، وتأمل ما صدرتم به الأوراق، من موافقتهم فيما ينقض به الإسلام، ومعرفتكم بالناقض؛ فإذا تحققتموه وأنه يكون بكلمة، ولو لم تعتقد، ويكون بفعل ولو لم يتكلم، ويكون في القلب من الحب والبغض ولو لم يتكلم ولم يعمل، تبين لك الأمر، اللهم إلا إن كنتم ذاكرين في أول الأوراق، وأنتم تعتقدون خلافه، فذاك أمر آخر.
وأما ما ذكرتم من كلام العلماء، فعلى الرأس والعين، ولكن عنه جوابان أحدهما: أنكم لو لم تنقلوا
كلام ابن عقيل في الفنون، وكلام الشيخ في "اقتضاء الصراط المستقيم" وكلام ابن القيم، لقلت لعلهم مخطئون قائلون بمبلغ علمهم، هذا كله عندنا في هذه الكتب، كما هو عندكم، وابن عقيل ذكر أنهم كفار بهذا الفعل - أعني دعوة صاحب التربة، ودس الرقاع - وأنتم تعلمون ذلك; وأصرح منه كلام الشيخ، في قوله: ومن ذلك ما يفعله الجاهلون بمكة.
يا سبحان الله! كيف تركتم صريحه في العبارة بعينها: أن هذا من فعله كان مرتدا، وأن المسلم إذا ذبح للزهرة، أو الجن أو لغير الله، فهو مما أهل لغير الله به; وهي أيضا: ذبيحة مرتد، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان; فصرح: أن هذا الرجل إذا ذبح للجن مرة واحدة، صار كافرا مرتدا، وجميع ما يذبحه للأكل بعد ذلك لا يحل، لأنه ذبيحة مرتد.
وصرح في مواضع من الكتاب كثيرة، بكفر من فعل شيئا من الذبح والدعوة، حتى ذكر ثابت بن قرة، وأبا معشر البلخي، وذكر أنهم كفار مرتدون وأمثالهم، مع كونهم من أهل التصانيف.
وأصرح من الجميع: كلام ابن القيم في كثير من كتبه، فلما نقلتم بعض العبارة، وتركتم بعضها، علمت أنه ليس بجهالة، ولكن الذي عليك: لو أنك فاعل كما فعل
بعض أهل الأحساء، لما صنف بعضهم كتابا في الرد علينا، يريد أن يبعثه، تكلم رجل منهم، وقال: أحب ما إلى ابن عبد الوهاب وصول هذا إليه، أنتم ما تستحون، فتركوا الرسالة.
الجواب الثاني: أن الشرك لا يكفر من فعله، وأنه شرك أصغر، وأنه معصية غير الكفر، مع أن جميع ما ذكرتم لا يدل على ذلك، فإن أردت بينت لك في غير هذه المرة، معاني هذه العبارات من الأدلة، من كلام كل رجل، كما بينته لك من كلام الشيخ، لكن أنتم مسلِّمون: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكره ونهى عنه، فلو أن رجلا أقر بذلك مع كونه لم يفعله، لكنه زينه للناس ورغبهم فيه، أليس هذا كافرا مرتدا؟
ولو قدرنا: أن الأمر الذي كرهه وصد الناس عنه، ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أمر استحباب، كركعتي الفجر، أو أن الذي نهى عنه ما نهى عنه إلا نهي تنْزيه، كالأكل بالشمال، والنوم للجنُب من غير وضوء; ولو أن رجلا عرف نهي الرسول صلى الله عليه وسلم، وزعم لأجل غرض من الأغراض: أن الأكل بالشمال هو الأحب المرضي عند الله، وأن الأكل باليمين يضر عند الله، وأن الوضوء للجنُب إذا أراد النوم يضر عند الله، وأن النوم من غير وضوء أحب إلى الله، مع علمه بما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، أليس هذا كلام كافر مرتد؟
فكيف بمن سب دين الله الذي بعث به جميع أنبيائه؟ مع إقراره ومعرفته به، ومدح دين المشركين، الذي بعث الله الأنبياء بإنكاره، ودعا الناس إليه، مع معرفته; ولكن أرى لك أن تقوم في السَّحَر، وتدعو بقلب حاضر بالأدعية المأثورة، وتطرح نفسك بين يدي الله تعالى أن يهديك لدينه، ودين نبيه عليه السلام، وصلى الله على محمد.
[بعض المسائل التي سئل فيها الشيخ في باب المرتد]
وسئل أيضا: شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، عن مسائل: الأولى: قوله في باب حكم المرتد: أو استهزأ بالله أو كتبه أو رسله، كفر; فما وصف هذا الاستهزاء
…
إلى آخر المسائل.
فأجاب، رحمه الله بقوله - بعد السلام -: سرني ما ذكرت ألهمك الله التقوى، ولا تتعذر من السؤال، فإن هذا هو الواجب عليك، وعلى غيرك، كما قالوا: مفتاح العلم السؤال; ولكن اعلم: أن المسائل والعلوم المهجورة، ما يفهمها الإنسان إلا بعد المراجعة، وكثرة المذاكرة، ولو كانت واضحة.
وهذه المسائل: من العلوم المهجورة، كما ذكرت، فعل الطلبَة في باب حكم المرتد، مع أن معرفة الله ومعرفة حقه، أجلّ العلوم وأشرفها، فلا تستح من المراجعة وكثرة السؤال، ما بقي في نفسك شيء من الإشكال، وقولك:
إن أهل العلم لم يشرحوها، فكثير من الكتب لم يوجد عندكم، وإلا جميع ما ذكرت قد شرحوه.
فأما المسألة الأولى: فالعلماء استدلوا عليها بقوله تعالى، في حق بعض المسلمين المجاهدين، في غزوة تبوك:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} 1 الآية، فذكر السلف والخلف: أن معناها عام إلى يوم القيامة، فيمن استهزأ بالله، أو القرآن، أو الرسول؛ وصفة كلامهم أنهم قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء؛ يعنون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والعلماء من أصحابه.
فلما نقل الكلام عوف بن مالك، أتى القائل يعتذر أنه قال ذلك على وجه اللعب، كما يفعل المسافرون، فنَزل الوحي أن هذا كفر بعد الإيمان، ولو كان على وجه المزح واللعب، والذي يعتذر، يظن أن الكفر إذا قاله جادا لا لاعبا; إذا فهمت أن هذا هو الاستهزاء، فكثير من الناس يتكلم في الله عز وجلبالكلام الفاحش، عند وقوع المصائب على وجه الجد، وأنه لا يستحق هذا، وأنه ليس بأكبر الناس ذنبا.
وكذلك من يدعي العلم والفقه، إذا استدل الناس عليه بآيات الله أظهر الاستهزاء، وهذه المسألة لعلك لا تحررها تحريرا تاما إلا من الرأس، إذا أوقفناك على نصوص أهل
1 سورة التوبة آية: 65.
العلم، وذكروا أشياء لعل كثيرا من الناس لا ينكرها إذا سمعها.
الثانية: قوله: أو كان مبغضا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يشرك بالله، لكن أبغض السؤال عنه، ودعوة الناس إليه، كما هو حال من يدعي العلم، يقرون أنه دين الله ورسوله، ويبغضونه أكثر من بغض اليهود والنصارى، بل يعادون من التفت إليه، ويحلون دمه وماله، ويرمونه عند الحكام.
وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أتى بالإنذار عن الشرك، بل هو أول ما أنذر عنه، وأعظم ما أنذر عنه؛ ويقرون أنه أتى بهذا، ويقولون: خلق الله ما ينهون، وينصرون بالقلب واللسان واليد; والتكفير بالاتفاق فيمن أبغض النهي عنه، وأبغض الأمر بمعاداة أهله، ولو لم يتكلم ولم ينصر، فكيف إذا فعل ما فعل؟
وكذلك من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم، ويسألهم، ويتوكل عليهم، كفر إجماعا; وذكروا: أن هذا بعينه، هو الذي يفعل أهل زمانهم عند القبور، فكيف بزماننا؟ وبينه لك قول الشارح، لما ذكر هذا، وذكر بعده أنواعا من الكفر المخرج من الملة؛ وقد عمت البلوى بهذه الفرق، وأفسدوا كثيرا من عقائد أهل التوحيد. نسأل الله العفو والعافية، انتهى كلامه في شرح "الإقناع".
فإذا كان هذا في زمانه، لم يذكره عن عشرة أو مائة، بل عمت به البلوى في مصر والشام، في زمن الشارح، فأظنك تقطع أن أهل القصيم ليسوا بخير من أهل مصر والشام، في زمن الشارح؛ فتفطن لهذه المعاني، وتدبرها تدبرا جيدا.
واعلم: أن هذه المسألة أم المسائل، ولها ما بعدها؛ فمن عرفها معرفة تامة، تبين له الأمر، خصوصا إذا عرف ما فعل المويس وأمثاله، مع قبة الكواز وأهلها، وما فعله هو، وابن إسماعيل، وابن ربيعة، وعلماء نجد في مكة سنة الحبس، مع أهل قبة أبي طالب، وإفتائهم بقتل من أنكر ذلك، وأن قتلهم وأخذ أموالهم، قربة إلى الله، وأن الحرم الذي يحرم اليهودي، والنصراني، لا يحرمهم.
ثم تفكر في الأحياء الذين صالوا معهم، هل تابوا من فعلهم ذلك وأسلموا، وعرفوا أن عشر معشار ما فعلوه ردة عن الإسلام، بإجماع المذاهب كلها؟ أم هم اليوم على ما كانوا عليه بالأمس؟ والمويس، وابن إسماعيل، وأضرابهما إلى اليوم، علماء يعظمون ويترحم عليهم!! ومن دعا الناس إلى التوحيد، وترك الشرك، هم الخوارج، الذين خرجوا من الدين!!
فالله الله الله استعن بالله، في فهم هذه المسألة،
واحرص على ذلك، لعلك أن تخلص من هذه الشبكة؛ فلو يسافر المسلم إلى أقصى المشرق، أو المغرب، في تحرير هذه المسألة، لم يكن كثيرا؛ والفكرة فيها في أمرين:
أحدهما: في صورة المسألة، وما قال الله ورسوله، وما قال العلماء.
والفكرة الثانية: إذا عرفت التوحيد الذي دعت إليه الرسل، أولهم نوح عليه السلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وأقر به من أقر به، كيف فعلوا؟ هل أحبوه ودخلوا فيه؟ أم عادوه وصدوا الناس عنه؟ وكذلك لما عرفوا ما جاء به من إنكار الشرك والوسائط، وعرفوا أقوال العلماء: أنه الذي عمت به البلوى في زمانهم، هل فرحوا بالسلامة منه؟ ونهوا الناس؟ أم زينوه للناس وزعموا أن أهله السواد الأعظم؟ وثبتوه بما قدروا عليه من الأقوال والأعمال، وجاهدوا في تثبيته كجهاد الصحابة في زواله؟!
فالله الله الله الله! بادر ثم بادر ثم بادر! فقد قال صلى الله عليه وسلم: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ "1. فأنت تعرف بدوه يوم يقال له صلى الله عليه وسلم: من معك على هذا؟ قال: "حر وعبد"، ومعه يومئذ أبو بكر وبلال; وقد قال الفضيل بن عياض - في زمانه، وهو قبل الإمام أحمد -: لا تترك طريق الحق لقلة السالكين، ولا يضرك الباطل لكثرة الهالكين.
ومع هذا وأمثاله من البيان، أضعاف أضعافه
{مَنْ
1 مسلم: الإيمان (145)، وابن ماجه: الفتن (3986) ، وأحمد (2/389) .
يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} 1. وما أشكل عليك من هذا، فراجعني فيه، فإن كلام العلماء في أنه الشرك الأكبر، وأنه اشتهر عند كثير أهل زمانهم، أكثر من أن يحصر.
وأماالثالثة: فالقول الصريح في الاستهزاء بالدين، مثل ما قدمت لك; وأما الفعل: فمثل مدّ الشفة، وإخراج اللسان، ورمز العين، مما يفعله كثير من الناس، عندما يؤمر بالصلاة، والزكاة، فكيف بالتوحيد؟
الرابعة: إذا نطق بكلمة الكفر، ولم يعلم معناها، صريحا واضحا أنه نطق بما لا يعرف معناه؛ وأما كونه لا يعرف أنها لا تكفره، فيكفي فيه قوله:{لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 2،فهم يعتذرون من النبي صلى الله عليه وسلم ظانين أنها لا تكفرهم.
والعجب ممن يحملها على هذا، وهو يسمع قوله:{وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 3، {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 4، {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 5، أيظن هؤلاء ليسوا كفارا؟ ولا تستنكر الجهل الواضح لهذه المسائل، لأجل غربتها.
1 سورة الكهف آية: 17.
2 سورة التوبة آية: 66.
3 سورة الكهف آية: 104.
4 سورة الأعراف آية: 30.
5 سورة آية: 37.
ومما يكشف لك الإشكال: ما قدمت لك، إجماع العلماء أن هذا كثر في زمانهم، وأيضا: بلدانهم أكثر علماء من بلدانكم.
الخامسة: من أطلق الشارع كفره بالذنوب، فالراجح فيها قولان:
أحدهما: ما عليه الجمهور من أنه أنه لا يخرج من الملة.
الثاني: الوقف، كما قال الإمام أحمد: أمروها كما جاءت، يعني: لا يقال يخرج، ولا ما يخرج; وما سوى هذين القولين غير صحيح.
السادسة: قوله: الذبح للجن منهي عنه; فاعرف قاعدة أهملها أهل زمانك، وهي: أن لفظ التحريم، والكراهة، وقوله: لا ينبغي، ألفاظ عامة، تستعمل في المكفرات، والمحرمات التي دون الكفر، وفي كراهة التنْزيه، التي دون الحرام.
مثل استعمالها في المحرمات، قوله: الإله الذي لا تنبغي العبادة إلا له; وقوله: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} 1. ولفظ التحريم، مثل قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 2 وكلام العلماء لا ينحصر في قولهم: يحرم كذا، لما صرحوا في مواضع أخر أنه كفر.
وقوله: يكره; كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ
1 سورة مريم آية: 92.
2 سورة الأنعام آية: 151.
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} 1. إلى قوله: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} 2. وأما قول الإمام أحمد: أكره كذا، فهو عند أصحابه على التحريم.
إذا فهمت هذا، فهم صرحوا، أن الذبح للجن ردة تخرج، وقالوا: الذبيحة حرام، ولو سمي عليها، قالوا: لأنها يجتمع فيها مانعان: الأول: أنها مما أُهلّ به لغير الله، والثانية: أنها ذبيحة مرتد، والمرتد لا تحل ذبيحته، وإن ذبحها للأكل، وسمى الله عليها; وما أشكل عليك في هذا فراجعني، أذكر لك لفظهم بعينه.
[بيان الشيخ ابن عبد الوهاب للأشياء التي يكفر مرتكبها]
وله أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى الأخ: حمد التويجري، ألهمه الله رشده، سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.
وبعد: وصل الخط، أوصلك الله ما يرضيه، وأشرفنا على الرسالة المذكورة؛ وصاحبها ينتسب إلى مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وما تضمنته رسالته، من الكلام في الصفات، مخالف لعقيدة الإمام أحمد، وما تضمنته من الشبه الباطلة، في تهوين أمر الشرك، بل في إباحته، فمن
1 سورة الإسراء آية: 23.
2 سورة الإسراء آية: 38.
أبين الأمور بطلانه، لمن سلم من الهوى والتعصب.
وكذلك تمويهه على الطغام: بأن ابن عبد الوهاب يقول: الذي ما يدخل تحت طاعتي كافر، ونقول: سبحانك هذا بهتان عظيم! بل نشهد الله على ما يعلمه من قلوبنا، بأن من عمل بالتوحيد، وتبرأ من الشرك وأهله، فهو المسلم في أي زمان، وأي مكان.
وإنما نكفّر من أشرك بالله في إلهيته، بعدما نبين له الحجة، على بطلان الشرك، وكذلك نكفر من حسنه للناس، أو أقام الشبه الباطلة على إباحته، وكذلك من قام بسيفه، دون هذه المشاهد، التي يشرك بالله عندها، وقاتل من أنكرها، وسعى في إزالتها؛ والله المستعان، والسلام.
وقال أيضا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أسكنه الله الجنة.
وبعد: وصل إلينا حميدان وإخوانه، والذي عليهم من الإشكال زال، فالله الله عن مقدَّم بلاد، أو خاص، أو عام، يعترض عليهم، أو يستهزئ بهم، فإن الاستهزاء بالدين كفر صريح، وافهموا ست مسائل في "الإقناع"، في باب حكم المرتد.
الأولى: أنه ذكر الردة مهما تكن اعتقادا، أو شكا، أو نطقا، أو فعلا، فأول ما ذكر الشرك بالله، بسبب أن
الجاهل يقول: الشرك ما هو عندنا، فإذا اعتقد بقلبه، أو شك، أو تكلم ولو عرف بقلبه، أو فعل ولو لم يتكلم.
الثانية: أن من أبغض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو لم يشرك، كفر.
الثالثة: أن الرافضي إذا سب الصحابة، فاختلف العلماء في كفره، وأما إذا اعتقد في علي، أو الحسين، فهو كافر إجماعا، والسني الذي يشك في كفره، كافر.
الرابعة: أنه يحرم تعلم السحر، ثم إنه يكفر إن تعلمه أو فعله؛ ثم ذكر أنواعه، وذكر منها العطف، والصرف، والطلاسم، التي يظنها أكثر المطاوعة حسنة.
الخامسة: أن كون الشيء حراما، لا يناقض كونه كفرا.
السادسة: المسألة العظيمة، استدلال العلماء بقول الله تعالى:{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} . والله أعلم.
وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب: والمسألة الأخرى: يذكر لنا من أعداء الإسلام، من يذكر أنا نكفر بالذنوب، مثل التتن، وشرب الخمر، والزنى أو غير ذلك من كبائر الذنوب، فنبرأ إلى الله من هذه المقالة، بل الذي نحن نقول: الذنوب فيها الحدود، ومعلقة بالمشيئة، إن شاء الله عفا، وإن شاء عذب عليها.
وأما الذي نكفر به: فالشرك بالله، كما قال تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} 1،وقال تعالى:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 2، وقال تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 3.
ونكفّر أيضا: المستهزئين بالدين، مثل ما قال الله في الصحابي، الذي غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 4، وغيرهم مثل ما حكى الله تعالى:{إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} ، وفي الآية الأخرى {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} 5.
1 سورة النساء آية: 48.
2 سورة آية: 65.
3 سورة المائدة آية: 72.
4 سورة آية: 65-66.
5 سورة النساء آية: 140.
[نفي الشيخ ابن عبد الوهاب أنه يكفِّر بالعموم]
وله أيضا رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى من يصل إليه من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: ما ذكر لكم عني: أني أكفر بالعموم، فهذا من بهتان الأعداء، وكذلك قولهم: إني أقول من تبع دين الله ورسوله، وهو ساكن في بلده، أنه ما يكفيه حتى يجيء عندي، فهذا أيضا من البهتان؛ إنما المراد اتباع دين الله ورسوله، في أي أرض كانت.
ولكن نكفر من أقر بدين الله ورسوله، ثم عاداه وصد الناس عنه ; وكذلك من عبد الأوثان، بعدما عرف أنها دين المشركين، وزينه للناس، فهذا الذي أكفره؛ وكل عالم على وجه الأرض يكفر هؤلاء، إلا رجل معاند، أو جاهل؛ والله أعلم، والسلام.
وسئل أبناء الشيخ، وحمد بن ناصر، رحمهم الله: هل تعتقدون كفر أهل الأرض على الإطلاق؟ أم لا؟
فأجابوا: الذي نعتقده دينا، ونرضاه لإخواننا مذهبا، أن من أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وقامت عليه الحجة، فإنه يكفر بذلك، ولو ادعى الإسلام؛ وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء.
ويكفر أيضا: من أنكر وجوب الصلاة، ودُعي إليها وأبى عن فعلها جحدا، يُقتل عندنا كفرا؛ وهو مذهب الإمام أحمد، وإسحاق، وغيرهما من السلف والخلف، وهو الذي تدل عليه الأدلة، من الكتاب والسنة; وفي المسألة قول آخر: أنه يقتل حدا، وهو القول المشهور في مذهب الإمام مالك، والشافعي، وأبي حنيفة.
ونكفر أيضا: من أنكر وجوب الزكاة، وامتنع من أدائها، وقاتل الإمام عليها; ونكفر أيضا: من أبغض شيئا من دين الرسول صلى الله عليه وسلم وسبه.
وقد ذكر بعض العلماء، رحمهم الله: أن الكفر والردة أنواع كثيرة: فمن ذلك ما هو شك، ومنه ما هو اعتقاد، ومنه ما هو نطق؛ فمن أشرك بالله، أو جحد ربوبيته، أو إلهيته، أو جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم، كفر إجماعا، لأن هذا كفعل عابدي الأصنام، قائلين {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1،وذكروا أنواعا كثيرة من أنواع الردة، كل نوع يكفر به المسلم، ويحل دمه وماله.
وأما تكفير أهل الأرض كلهم، فنحن نبرأ إلى الله من هذا، بل نعتقد أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة، بل قد أجارها الله عن ذلك، على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولا تزال طائفة منها على الحق منصورين، لا يضرهم من
1 سورة الزمر آية: 3.
خالفهم ولا من خذلهم، إلى أن تقوم الساعة، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع إخباره بأن أمته تأخذ ما أخذت الأمم قبلها، وتتبع سنتهم، وتسلك مسالكهم، كما ثبت ذلك في الصحيحين، من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة وغيرهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد دل الكتاب العزيز على ذلك أيضا، فقال تعالى:{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 1.
ذكر المفسرون في تفسير هذه الآية عن ابن عباس، قال:(ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم)، قال ابن جريج: ولا أعلم إلا أن فيه "والذي نفسي بيده لتتبعنهم" وعن أبي هريرة، قال:(الخلاق كذلك) ، رواه ابن أبي حاتم.
وعن زيد بن أسلم، قال:(الخوض مما يتكلمون به من الباطل، وما يخوضون فيه من أذى الله ورسوله، وتكذيبهم إياه)، رواه ابن أبي حاتم; وروي عن ابن عباس:(نصيبهم من الآخرة في الدنيا) .
وقال آخرون: نصيبهم من الدين; قال أهل اللغة: الخلاق هو النصيب، والحظ، كأنه مخلوق للإنسان إلى ما قدر له، كما يقال القسم لما قسم له، والنصيب لما نصب
1 سورة التوبة آية: 69.
له، أي: ما ثبت; ومنه قوله تعالى: {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} 1 أي من نصيب، والآية تعم ما ذكره العلماء جميعهم.
فإنه سبحانه قال: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً} 2، فتلك القوة التي كانت لهم، كانوا مستطيعين أن يعملوا بها للدنيا والآخرة، وكذلك أموالهم وأولادهم، وتلك القوة والأموال والأولاد، هو الخلاق، فاستمتعوا بقوتهم، وأموالهم، وأولادهم في الدنيا، ونفس الأعمال التي عملوها بهذه القوة، والأموال هي نصيبهم؛ وتلك الأعمال، لو أرادوا بها الله والدار الآخرة، لكان لهم ثواب في الآخرة عليها، فتمتعهم بها أخذ منهم العاجل بها؛ فدخل بهذا من لم يعمل إلا لدنياه، سواء كان جنس العمل من العبادات أو غيرها.
وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق، وبين الخوض، لأن فساد الدنيا إما أن يقع بالاعتقاد الباطل، والتكلم به، أو يقع في العمل بخلاف الاعتقاد الحق إلا البدع ونحوها، والثاني من جهة الشهوات؛ ولهذا كان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين، صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا قد أعمته دنياه; وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:(أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا، وتتبعون عملهم حذو القذة بالقذة، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا) .
1 سورة البقرة آية: 200.
2 سورة التوبة آية: 69.
وقد أخرج أبو عيسى الترمذي في جامعه، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل، حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية، كان من أمتي من يصنع ذلك. وإن بني إسرائيل تفترق على اثنتين وسبعين ملة، فستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة؛ كلهم في النار إلا ملة واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله الناجية؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي "1.قال أبو عيسى: هذا حديت غريب منكر، لا نعرفه إلا من هذا الوجه; وهذا الافتراق مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة، وسعد، ومعاوية، وعمرو بن عدي.
فانظر رحمك الله إلى ما تضمن هذا الحديث وغيره من الأحاديث، من إخباره بسلوك أمته سلوك الأمم قبلها، وتفرقها على ثلاث وسبعين ملة، وأن الناجية ملة واحدة، ثم وصفها لما سألوه عنها، بأنها ما كان على مثل ما كان عليه هو وأصحابه؛ فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين. وما أحسن ما قال بعضهم:
يا باغي الإحسان يطلب ربه
…
ليفوز منه بغاية الآمال
انظر إلى هدي الصحابة والذي
…
كانوا عليه في الزمان الخالي
فصل: [هل يستتاب من تكلم بكلمة الشرك]
وأما قولكم: هل يستتاب من تكلم بكلمة الشرك أم لا؟ فالذي عليه أكثر أهل العلم: أن المرتد يستتاب، فإن تاب وإلا قتل; وعند بعضهم: أن المرتد
1 الترمذي: الإيمان (2641) .
يقتل من غير استتابة; والصحيح: الأول، لحديث أم مروان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باستتابتها.
وفي الموطأ: أن "عمر رضي الله عنه لما بلغه أن رجلا كفر بعد إسلامه، فقتل من غير استتابة، فقال عمر: فهلا حبستموه ثلاثا، وأطعمتموه كل يوم رغيفا، واستتبتموه لعله يتوب، ويراجع أمر الله. اللهم لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني". والله أعلم.
فصل: [معنى حديث "الإسلام يهدم ما قبله"]
وأما السؤال الثالث، وهو قولكم ورد:" الإسلام يهدم ما قبله " 1،وفي رواية " يجُبُّ ما قبله "، وفي حديث حجة الوداع:" ألا إن دم الجاهلية كله موضوع " 2 إلخ، وظهر لنا من جوابكم: أن المؤمن بالله ورسوله إذا قال أو فعل ما يكون كفرا، جهلا منه بذلك، فلا تكفرونه، حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، فهل لو قتل من هذا حاله، قبل ظهور هذه الدعوة، موضوع أم لا؟
فنقول: إذا كان يعمل بالكفر والشرك، لجهله، أو عدم من ينبهه، لا نحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة؛ ولكن لا نحكم بأنه مسلم، بل نقول عمله هذا كفر، يبيح المال والدم، وإن كنا لا نحكم على هذا الشخص، لعدم قيام الحجة عليه؛ لا يقال: إن لم يكن كافرا، فهو مسلم، بل نقول عمله عمل الكفار، وإطلاق الحكم على هذا الشخص بعينه، متوقف على بلوغ الحجة الرسالية. وقد
1 مسلم: الإيمان (121) ، وأحمد (4/204) .
2 الترمذي: تفسير القرآن (3087)، وابن ماجه: المناسك (3055) .
ذكر أهل العلم: أن أصحاب الفترات، يمتحنون يوم القيامة في العرصات، ولم يجعلوا حكمه حكم الكفار، ولا حكم الأبرار.
وأما حكم هذا الشخص إذا قتل، ثم أسلم قاتله، فإنا لا نحكم بديته على قاتله إذا أسلم، بل نقول: الإسلام يجُبّ ما قبله، لأن القاتل قتله في حال كفره؛ والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما كلام أسعد، على قوله تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 1، أنه الإيمان اللغوي الشرعي، فهو مصيب في ذلك؛ وقد ذكر المفسرون: أن معنى قوله {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 2 أن إيمانهم: إقرارهم بأن الله هو الخالق الرازق المدبر، ثم هم مع هذا الإيمان بتوحيد الربوبية، مشركون بالله في العبادة.
ومعلوم: أن مشركي العرب وغيرهم، يؤمنون بأن الله رب كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، ولم تنفعهم هذه الاعتقادات، حيث عبدوا مع الله غيره، وأشركوا معه؛ بل تجد الرجل يؤمن بالله ورسوله، وملائكته وكتبه ورسله، وبالبعث بعد الموت، فإذا فعل نوعا من المكفرات، حكم أهل العلم بكفره وقتله، ولم ينفعه ما معه من الإيمان.
1 سورة يوسف آية: 106.
2 سورة يوسف آية: 106.
وقد ذكر الفقهاء من أهل كل مذهب باب حكم المرتد، وهو الذي يكفر بعد إسلامه، ثم ذكروا أنواعا كثيرة، من فعل واحدا منها كفر؛ وإذا تأملت ما ذكرناه، تبين لك أن الإيمان الشرعي، لا يجامع الكفر، بخلاف الإيمان اللغوي، والله أعلم.
وأما قولكم: وهل ينفع هذا المؤمن المذكور، ما معه من أعمال البر، وأفعال الخير، قبل تحقيق التوحيد؟
فيقال: لا يطلق على الرجل المذكور اسم الإسلام، فضلا عن الإيمان; بل يقال: الرجل الذي يفعل الكفر، أو يعتقده في حال جهله، وعدم من ينبهه، إذا فعل شيئا من أفعال البر، وأفعال الخير، أثابه الله على ذلك، إذا صحح إسلامه وحقق توحيده، كما يدل عليه حديث حكيم بن حزام:"أسلمت على ما أسلفت من خير".
وأما الحج الذي فعله في تلك الحالة، فلا نحكم ببراءة ذمته، بل نأمره بإعادة الحج، لأنا لا نحكم بإسلامه في تلك الحالة، والحج من شرط صحته الإسلام؛ فكيف نحكم بصحة حجه وهو يفعل الكفر، أو يعتقده؟ ولكنا لا نكفره إلا بعد قيام الحجة عليه، فإذا قامت عليه الحجة وسلك سبيل المحجة، أمرناه بإعادة الحج، ليسقط الفرض عنه بيقين.
وأما ما ذكرته عن السيوطي: أن الردة لا تتبعض إذا لم تتصل بالموت، فهي مسألة اختلف العلماء فيها، وليست من هذا الباب، لأن كلام السيوطي فيمن فعل شيئا من الأعمال في حال إسلامه، ثم ارتد، ثم أسلم، هل يعيد ما فعله قبل ردته، لأنه قد حبط بالردة أم لا؟ لأن الردة لا تحبط العمل إلا بالموت عليها.
[إذا أحب الدين ولم يُعادِ المشركين]
وقال الشيخ حسين، والشيخ عبد الله، ابنا الشيخ محمد، رحمهم الله تعالى، في أثناء جواب لهما 1: المسألة الحادية عشرة: رجل دخل هذا الدين وأحبه، ولكن لا يعادي المشركين، أو عاداهم ولم يكفرهم، أو قال: أنا مسلم، ولكن لا أقدر أن أكفّر أهل لا إله إلا الله، ولو لم يعرفوا معناها، ورجل دخل هذا الدين وأحبه، ولكن يقول: لا أتعرض للقباب، وأعلم أنها لا تنفع ولا تضر، ولكن ما أتعرضها.
الجواب: أن الرجل لا يكون مسلما، إلا إذا عرف التوحيد ودان به، وعمل بموجبه، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، وأطاعه فيما نهى عنه، وأمر به، وآمن به وبما جاء به; فمن قال: لا أعادي المشركين، أو عاداهم ولم يكفرهم، أو قال: لا أتعرض أهل لا إله إلا الله، ولو فعلوا
1 في مجموعة الرسائل النجدية صفحة: 38/ك/1.
الكفر والشرك وعادوا دين الله، أو قال لا أتعرض للقباب، فهذا لا يكون مسلما، بل هو ممن قال الله فيهم:{وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} 1. والله سبحانه وتعالى: أوجب معاداة المشركين، ومنابذتهم، وتكفيرهم، فقال: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 2، الآية وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} 3 الآيات؛ والله أعلم.
المسألة الثانية عشرة: رجل دخل الدين وأحبه، ويحب من دخل فيه، ويبغض الشرك وأهله، ولكن أهل بلده يصرحون بعداوة أهل الإسلام، ويقاتلون أهله، ويعتذر أن ترك الوطن يشق عليه، ولم يهاجر عنهم، فهل يكون مسلما أو كافرا؟ وهل يعذر بعدم الهجرة؟
الجواب: أما الرجل الذي عرف التوحيد وآمن به، وأحبه وأحب أهله، وعرف الشرك وأبغضه، وأبغض أهله، ولكن أهل بلده على الكفر والشرك، ولم يهاجر، فهذا فيه تفصيل: فإن كان يقدر على إظهار دينه عندهم، ويتبرأ مما
1 سورة آية: 150-151.
2 سورة المجادلة آية: 22.
3 سورة الممتحنة آية: 1.
هم عليه من الكفر والشرك، ويظهر لهم كفرهم وعداوتهم، ولا يفتنونه عن دينه، لأجل عشيرته أو ماله، أو غير ذلك، فهذا لا يحكم بكفره.
ولكنه إذا قدر على الهجرة ولم يهاجر، ومات بين أظهر المشركين، فيخاف عليه أن يكون قد دخل في أهل هذه الآية:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 1 الآية؛ فلم يعذر الله إلا من لم يستطع حيلة ولا يهتدي سبيلا؛ ولكن قل أن يوجد اليوم من هو كذلك، إلا أن يشاء الله; بل الغالب: أن المشركين لا يدعونه بين أظهرهم، بل إما قتلوه، وإما أخرجوه إن وجدوا إلى ذلك سبيلا.
وأما إن لم يكن له عذر، وجلس بين أظهرهم، وأظهر لهم أنه منهم، وأن دينهم حق، ودين الإسلام باطل، فهذا كافر مرتد، ولو عرف الدين بقلبه، لأنه يمنعه عن الهجرة محبة الدنيا على الآخرة، ويتكلم بكلام الكفر من غير إكراه، فدخل في قوله تعالى:{وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} 2.
1 سورة النساء آية: 97.
2 سورة النحل آية: 106.
المسألة الثالثة عشرة: فيمن مات قبل هذه الدعوة، ولم يدرك الإسلام، وهذه الأفعال التي يفعلها الناس اليوم يفعلها، ولم تقم عليه الحجة، ما الحكم فيه؟ وهل يلعن أو يسب، أو يكف عنه؟ وهل يجوز لابنه الدعاء له؟ وما الفرق بين من لم يدرك هذه الدعوة، وبين من أدركها ومات معاديا لهذا الدين وأهله؟
الجواب: من مات من أهل الشرك، قبل بلوغ هذه الدعوة، فالذي يحكم عليه: أنه إذا كان معروفا بفعل الشرك، ويدين به، ومات على ذلك، فهذا ظاهره أنه مات على الكفر، ولا يدعى له، ولا يضحى له، ولا يتصدق عنه؛ وأما حقيقة أمره، فإلى الله تعالى، فإن كان قد قامت عليه الحجة في حياته وعاند، فهذا كافر في الظاهر والباطن، وإن كان لم تقم عليه الحجة فأمره إلى الله تعالى.
وأما سبه ولعنه فلا يجوز، بل لا يجوز سب الأموات مطلقا، كما في صحيح البخاري، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا " 1، إلا إن كان أحدا من أئمة الكفر، وقد اغتر الناس به، فلا بأس بسبه إذا كان فيه مصلحة دينية، والله أعلم.
المسألة الرابعة عشرة: فيمن أنكر الصفات التي
1 البخاري: الجنائز (1393) والرقاق (6516)، والنسائي: الجنائز (1936) ، وأحمد (6/180)، والدارمي: السير (2511) .
وصف الله بها نفسه في كتابه، مثل {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} 1، ثم يقول: يد الله قدرته، أو يؤوِّل الاستواء بالاستيلاء، أو يقول: الله في كل مكان، لا يخلو منه مكان، فهل هذا كافر أم لا؟
الجواب: أن من اعتقد هذا الاعتقاد، فهو مبتدع ضال جاهل، قد خالف العقيدة السلفية، التي درج عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون لهم بإحسان، كالأئمة الأربعة، ومن اتبعهم من العلماء; وأما التكفير بذلك، فلا يحكم بكفره إلا إذا عرف أن عقيدته هذه، مخالفة لما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون لهم بإحسان، والله أعلم.
المسألة الخامسة عشرة: فيمن عاهد على الإسلام والسمع والطاعة والمعاداة والموالاة، ولم يف بما عاهد عليه من الموالاة والمعاداة، ولا تبرأ من دينه الأول، ويدعي أن آباءه ماتوا على الإسلام، فهل يكون مرتدا؟ وهل يحل أخذ ماله وسبيه إن لم يرجع؟
الجواب: إن هذا الرجل، إن اعتقد أن آباءه ماتوا على الإسلام، ولم يفعلوا الشرك الذي نهينا الناس عنه، فإنه لا يحكم بكفره؛ وإن كان مراده أن هذا الشرك الذي نهينا الناس عنه، هو دين الإسلام، فهذا كافر؛ فإن كان قد أسلم فهو مرتد، يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل،
1 سورة الفتح آية: 10.
وصار ماله فيئا للمسلمين، وإن تاب قبل موته أحرز ماله، والله أعلم.
وقالا: المسألة الثامنة عشرة: في بلد بلغتهم هذه الدعوة، وبعضهم يقول: هذا الأمر حق ولا أغير منكرا، ولا آمر بمعروف، ولا أعادي، ولا أوالي، ولا أقر أنه قبل هذه الدعوة على ضلال، وينكر على الموحدين، إذا قالوا: تبرأنا من دين الآباء والأجداد; وبعضهم يكفر المسلمين جهارا، أو يسب هذا الدين، ويقول: دين مسيلمة; والذي يقول: هذا أمر زين، لا يمكنه أن يقوله جهارا؛ فما تقولون في هذه البلدة، على هذه الحالة، مسلمون أم كفار؟ وما معنى قول الشيخ وغيره: إنا لا نكفّر بالعموم؟ وما معنى العموم من الخصوص إلخ؟
الجواب: إن أهل هذه البلدة المذكورين، إذا كانوا قد قامت عليهم الحجة، التي يكفر من خالفها، حكمهم حكم الكفار، والمسلم الذي بين أظهرهم، ولا يمكنه إظهار دينه، تجب عليه الهجرة، إذا لم يكن ممن عذر الله، فإن لم يهاجر فحكمه حكمهم، في القتل وأخذ المال؛ والسامعون كلام الشيخ، في قوله: إنا لا نكفر بالعموم، فالفرق بين العموم والخصوص ظاهر.
فالتكفير بالعموم: أن يكفر الناس كلهم عالمهم وجاهلهم، ومن قامت عليه الحجة ومن لم تقم عليه; وأما
التكفير بالخصوص، فهو: أن لا يكفر إلا من قامت عليه الحجة بالرسالة، التي يكفر من خالفها؛ وقد يحكم بأن أهل هذه القرية كفار، حكمهم حكم الكفار، ولا يحكم بأن كل فرد منهم كافر بعينه، لأنه يحتمل أن يكون منهم من هو على الإسلام، معذور في ترك الهجرة، أو يظهر دينه ولا يعلمه المسلمون، كما قال تعالى في أهل مكة، في حال كفرهم:{وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} 1 الآية، وقال تعالى:{وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} 2 الآية. وفي الصحيح: عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:(كنت أنا وأمي من المستضعفين) .
وأما أهل القرية الذين عاهدوا على الإسلام، ولم يهدموا القباب، ولم يعادوا، ولم يوالوا، وفيهم رجلان أو ثلاثة يدعون التوحيد.
فاعلم رحمك الله: أن مجرد العهد على الإسلام، لا يكون الرجل به مسلما، حتى يعمل بما عاهد عليه، من توحيد الله، والتبري من الشرك وأهله، وإقامة الصلوات الخمس في أوقاتها، بشروطها وأركانها، وأداء الزكاة المفروضة، والإيمان بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وإذا
1 سورة الفتح آية: 25.
2 سورة النساء آية: 75.
عاهد على الإسلام ولم يعمل به، واستمر على الشرك بالله، فإنه يكون مرتدا عن الإسلام، وذنبه أعظم من ذنب الكافر الأصلي، الذي لم يعاهد قط، ولم يظهر الإسلام.
ولهذا ثبت في الصحيحين وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من بدل دينه فاقتلوه " 1 وفي الصحيح: أن معاذا لما قدم من اليمن، وجد رجلا عند أبي موسى، موثقا في الحديد، فقال: ما هذا؟ قال: رجع بعد إسلامه; فقال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله; فأمر به فقتل.
المسألة التاسعة عشرة: ما قولكم في قول: سيدي فلان؟ ومخدومنا فلان؟ وكما في "الدلائل": سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم؟ هل يكون شركا؟ وبعض المطاوعة جوزوا هذه الألفاظ، وتركوا كتاب رب العالمين، وجعلوا درسهم "دلائل الخيرات".
الجواب: إن قول: سيدي ونحوه، إن قصد به أن ذلك الرجل معبوده، الذي يدعوه عند الشدائد، لتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، فإن ذلك شرك أكبر; وأما إن كان مراده غير ذلك، كما يقول التلميذ لشيخه: سيدي، ويقال للأمير والشريف، أو لمن كان من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا سيد، فهذا لا بأس به، ولكن لا يجعل عادة وسنة، بحيث لا يتكلم إلا به؛ وثبت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أنا سيد ولد آدم " 2،وقال في الحسن
1 البخاري: الجهاد والسير (3017)، والترمذي: الحدود (1458)، والنسائي: تحريم الدم (4059 ،4060 ،4061 ،4062 ،4064 ،4065)، وأبو داود: الحدود (4351)، وابن ماجه: الحدود (2535) ، وأحمد (1/217 ،1/282 ،1/322) .
2 مسلم: الفضائل (2278) ، وأحمد (2/540) .
" إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين "1. وأما قول صاحب "دلائل الخيرات": اللهم صل على سيدنا ومولانا محمد، فلا ينبغي جعل ذلك عادة وسنة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم أمته، كيف يصلون عليه، ولم يذكر ذلك الكلام فيه 2.
وقالا أيضا: المسألة الثانية والعشرون، في رجل أظهر الإسلام في بلده، ووالى وعادى في بلده، وأمير البلد ما خالف عليه، وأيده وصدقه، فهل يكون هذا مسلم أم لا؟ ولا بقي في بلده وثن أبدا، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر حد الاستطاعة؟
الجواب: هذا الرجل، إذا أظهر إسلامه في بلده، ووالى وعادى في بلده، وأمير بلده لم يخالف عليه، بل أيده وصدقه، فهذا مسلم، لأنه قد عمل بدين الإسلام، وفعل ما يقدر عليه.
المسألة الثالثة والعشرون: إن صاحب البردة وغيره، ممن يوجد الشرك في كلامه، والغلو في الدين، وماتوا، لا يحكم بكفرهم، وإنما الواجب إنكار هذا الكلام، وبيان
1 البخاري: الصلح (2704) والمناقب (3629 ،3746) والفتن (7109)، والنسائي: الجمعة (1410) ، وأحمد (5/44) .
2 وتقدمت: المسألة العشرون والحادية والعشرون، في الجزء الخامس صفحة 141 وصفحة 410 لمناسبتهما هناك.
أن من اعتقد هذا على الظاهر، فهو مشرك كافر; وأما القائل: فيرد أمره إلى الله سبحانه، ولا ينبغي التعرض للأموات، لأنه لا يعلم هل تابوا أم لا.
وأما شعر ابن الفارض: فإنه كفر صريح، لأنه شاعر الاتحادية، الذين لا يفرقون بين العابد والمعبود، والرب والمربوب، بل يقول بوحدة الوجود، وهو من طائفة ابن عربي، الذي قال فيهم ابن المقري الشافعي: من شك في كفر طائفة ابن عربي، فهو كافر; والله أعلم، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
وسئلا أيضا: عن الحلف بغير الله، مثل الحلف بالنبي والولي، أو رأس فلان، أو تربة فلان، هل يكون شركا؟ أو مكروها؟
فأجابا: الحلف بغير الله من أنواع الشرك الأصغر، وقد يكون شركا أكبر، بحسب حال قائله ومقصده; والكفر والشرك أنواع، منها ما لا يخرج عن الملة، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 1 قال: (كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق) .
فإذا حلف بغير الله جاهلا أو ناسيا، فليستغفر الله، وليقل: لا إله إلا الله، كما ثبت في صحيح البخاري: أن
1 سورة المائدة آية: 44.
النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل لا إله إلا الله "1.
[الفصول النافعة في المكفرات الواقعة]
وقال أيضا: شيخ الإسلام، الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أسكنهما الله الفردوس الأعلى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له; وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي بعثه رحمة للعالمين، وحجة على المعاندين، الذي أكمل الله به الدين، وختم به الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه فصول وكلمات، نقلتها من كلام العلماء المجتهدين، أصحاب الأئمة الأربعة، الذين هم أئمة أهل السنة والدين، في بيان بعض الأفعال والأقوال المكفرة للمسلم، المخرجة له من الدين، وأن تلفظه بالشهادتين، وانتسابه إلى الإسلام، وعمله ببعض شرائع الدين، لا يمنع من تكفيره وقتله، وإلحاقه
1 البخاري: تفسير القرآن (4860)، ومسلم: الأيمان (1647)، والترمذي: النذور والأيمان (1545)، والنسائي: الأيمان والنذور (3775)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3247)، وابن ماجه: الكفارات (2096) ، وأحمد (2/309) .
بالمرتدين. 1.
والسبب الحامل على ذلك: أن بعض من ينتسب إلى العلم والفقه، من أهل هذا الزمان، غلط في ذلك غلطا فاحشا قبيحا، وأنكر على من أفتى به، من أهل العلم والدين، إنكارا شنيعا؛ ولم يكن لهم بإنكار ذلك مستند صحيح، لا من كلام الله ولا من كلام رسوله، ولا من كلام أئمة العلم والدين، إلا أنه خلاف عاداتهم وأسلافهم؛ عياذا بالله من الجهل والخذلان، والتعصب.
وأذكر من ذلك ما مست إليه الحاجة، وغلط فيه من غلط، من المنسوبين إلى العلم في هذا الزمان، الذين غلبت عليهم الشقاوة، والجهل والتعصب والخذلان، لما جبلوا عليه من مخالفة الكتاب والسنة، وعمل السلف، والأئمة المهديين، وحب الرياسة، وشهوات الدنيا، والطمع فيما في أيدي الناس، والفسقة المعاندين؛ نسأل الله أن يوفقنا لما يرضاه، من العمل، ويجنبنا لما يسخطه من الزلل، إنه لا يخيب من رجاه، ولا يرد سؤال من دعاه.
فنقول - وبالله التوفيق -: اعلم أن هذه المسائل من
1 ويلاحظ القارئ توافق بعض ما فيها، مع ما في رسالة الشيخ محمد المتقدمة في الجزء التاسع، وكذلك بعض ما في رسالة الشيخ عبد اللطيف في الجزء الأول من النقول، فيستدل به على الاتفاق في المنهج وحسن الاختيار وغير ذلك.
أهم ما ينبغي للمؤمن الاعتناء بها، لئلا يقع في شيء منها وهو لا يشعر، وليتبين له الإسلام والكفر، حتى يتبين له الخطأ من الصواب، ويكون على بصيرة في دين الله، ولا يغتر بأهل الجهل والارتياب؛ وإن كانوا هم الأكثرين عددا، فهم الأقلون عند الله، وعند رسوله والمؤمنين قدرا.
وقد اعتنى العلماء رضي الله عنهم بذلك في كتبهم، وبوبوا لذلك في كتب الفقه، في كل مذهب من المذاهب الأربعة، وهو: باب حكم المرتد وهو: المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، وذكروا أنواعا كثيرة، كل نوع منها يكفر به المسلم، ويبيح دمه وماله.
وسأذكر - إن شاء الله تعالى - من ذلك ما يكفي ويشفي، لمن هداه الله وألهمه رشده، وأجعل كلام كل طائفة من أتباع الأئمة الأربعة - أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد - على حدة، ليسهل ذلك على من أراد الاطلاع عليه. ونبدأ بكلام في الشرك الأكبر، وتكفيرهم لأهله، حين وقع في زمانهم، من بعض المنتسبين إلى الإسلام والسنة، لأنه هو المهم.
فنقول: أما كلام الشافعية، فقال ابن حجر، في كتاب "الزواجر عن اقتراف الكبائر": الكبيرة الأولى: الكفر والشرك، أعاذنا الله منه; ولما كان الكفر أعظم الذنوب، كان أحق أن يبسط الكلام عليه، وعلى أحكامه، قال الله
تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1،وقال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 2، وقال تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 3. وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس، فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور. فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت " 4 ثم ذكر أحاديث كثيرة.
ثم قال: تنبيهات، منها: بيان الشرك، وذكر جملة من أنواعه، لكثرة وقوعها في الناس، وعلى ألسنة العامة، من غير أن يعلموا أنها كذلك؛ فإذا بانت لهم فلعلهم أن يجتنبوها، لئلا تحبط أعمال مرتكبي ذلك، ويخلدون في أعظم العذاب، وأشد العذاب; ومعرفة ذلك أمر مهم جدا.
فإن من ارتكب مكفرا تحبط جميع أعماله، ويجب عليه قضاء الواجب منها، عند جماعة من الأئمة، كأبي حنيفة، ومع ذلك فقد توسع أصحابه في المكفرات، وعدوا منها جملا مستكثرة جدا، وبالغوا في ذلك أكثر من بقية أئمة المذاهب؛ هذا مع قولهم: إن الردة تحبط جميع الأعمال، وبأن من ارتد بانت منه زوجته، وحرمت عليه، فمع هذا التشديد، بالغوا في الاتساع في المكفرات.
1 سورة النساء آية: 48.
2 سورة لقمان آية: 13.
3 سورة المائدة آية: 72.
4 البخاري: الشهادات (2654) والأدب (5976)، ومسلم: الإيمان (87)، والترمذي: البر والصلة (1901) والشهادات (2301) وتفسير القرآن (3019) ، وأحمد (5/36 ،5/38) .
فتعين على كل ذي مسكة في دينه: أن يعرف ما قالوه، حتى يجتنبه، ولا يقع فيه فيحبط عمله، ويلزمه قضاؤه، وتبين منه زوجته عند هؤلاء الأئمة؛ بل عند الشافعي رحمه الله: أن الردة وإن لم تحبط العمل، لكنها تحبط ثوابه، فلم يبق الخلاف بينه وبين غيره، إلا في القضاء فقط; ثم ذكر أنواع الكفر نوعا نوعا؛ وسيأتي بقية كلامه إن شاء الله تعالى في ذلك.
لكن تأمل - رحمك الله - قوله: لكثرة وقوعها في الناس على ألسنة العامة، من غير أن يعلموا أنها كذلك، وأن الشرك والردة قد وقع فيه كثير من أهل زمانه، يتبين لك مصداق ما قلنا، إن شاء الله تعالى.
وقال النووي في شرح مسلم: وأما الذبح لغير الله، فالمراد به: أن يذبح باسم غير الله، كمن ذبح للصنم، أو للصليب، أو لموسى، أو عيسى، أو للكعبة ونحو ذلك؛ وكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة، سواء كان الذابح مسلما، أو نصرانيا، أو يهوديا، نص عليه الشافعي، واتفق عليه أصحابنا؛ فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله، والعبادة له، كان ذلك كفرا، فإن كان الذابح قبل ذلك مسلما، صار بالذبح مرتدا، انتهى.
فتأمل قوله: فإن قصد مع ذلك
…
إلخ، تجده صريحا: في أن المسلم إذا قصد بالذبح لغير الله تعظيم
المذبوح له غير الله والعبادة، أنه يصير كافرا مرتدا، والله أعلم.
وأما كلام الحنفية: فقال في كتاب "تبيين المحارم"، المذكورة في القرآن:"باب الكفر" وهو الستر وجحود الحق، وإنكاره، وهو أول ما ذكر في القرآن العظيم من المعاصي، قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 1.
وهو أكبر الكبائر على الإطلاق، فلا كبيرة فوق الكفر إلى أن قال: واعلم أن ما يلزم به الكفر أنواع: نوع يتعلق بالله سبحانه، ونوع يتعلق بالقرآن، وسائر الكتب المنَزلة، ونوع يتعلق بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء، والملائكة، والعلماء، ونوع يتعلق بالأحكام.
فأما ما يتعلق بالله سبحانه، إذا وصف الله سبحانه بما لا يليق به، بأن شبه الله سبحانه بشيء من المخلوقات، أو نفى صفاته، أو قال بالحلول والاتحاد، أو معه قديم غيره، أو معه مدبر مستقل غيره، أو اعتقد أنه سبحانه جسم، أو محدث، أو غير حي، أو اعتقد أنه لا يعلم الجزئيات، أو كفر باسم من أسمائه، أو أمر من أمره، أو وعيده أو وعده، أو أنكرهما، أو سجد لغير الله،
1 سورة البقرة آية: 6.
أو سب الله سبحانه، أو ادعى أن له ولدا، أو صاحبة، أو أنه متولد من شيء كائن عنه، أو أشرك بعبادته شيئا من خلقه، أو افترى على الله سبحانه وتعالى الكذب، بادعاء الإلهية أو الرسالة، أو نفى أن يكون خالقه ربه، وقال: ليس لي ربا، أو قال لذرة من الذرات: هذه خلقت عبثا وهملا، وما أشبه ذلك مما لا يليق به سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.
يكفر في هذه الوجوه كلها بالإجماع، سواء فعله عمدا أو هزلا؛ ويقتل إن أصر على ذلك، وإن تاب، تاب الله عليه، وسلم من القتل. انتهى كلامه بحروفه.
فتأمل رحمك الله تصريحه بأن من أشرك في عبادة الله غيره، أنه يكفر بالإجماع، ويقتل إن أصر على ذلك.
والعبادة التي لا تصلح إلا لله، ولا يجوز أن يشرك معه فيها غيره، أنواع: منها: الدعاء لجلب خير، أو دفع ضر، قال الله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 1، وقال تعالى:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 2، وقال {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} 3، الآية وقال تعالى:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 4.
1 سورة الجن آية: 18.
2 سورة غافر آية: 60.
3 سورة الرعد آية: 14.
4 سورة الشرح آية: 7.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله "1.
ومن أنواع العبادة: الصلاة، فلا يصلى إلا لله، ولا يسجد ولا يركع إلا لله وحده، قال تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} 2، الآية وقال تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 3.
ومن أنواع العبادة: النسك وهو الذبح، فلا يجوز أن يتقرب العبد بالذبح لأحد سوى الله تعالى، قال الله تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} 4 الآية، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 5 أي: أخلص لربك الصلاة والنحر، بلا شريك له في ذلك، وقال النبي: صلى الله عليه وسلم " لعن الله من ذبح لغير الله "6.
وقد قرن الله بين هاتين العبادتين: الصلاة والنسك، في هاتين الآيتين؛ فإذا كان من صلى لغير الله، أو ركع لغير الله، أو سجد لغير الله، فقد أشرك في عبادة الله غيره، فكذلك من ذبح القربان لغير الله، فقد أشرك في عبادة الله غيره.
ومن أنواع العبادة أيضا: الخشية؛ فلا تجوز الخشية إلا لله وحده، قال الله تعالى:{فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} 7،
1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2516) ، وأحمد (1/293 ،1/303 ،1/307) .
2 سورة آية: 162.
3 سورة الكوثر آية: 2.
4 سورة آية: 162.
5 سورة الكوثر آية: 2.
6 مسلم: الأضاحي (1978)، والنسائي: الضحايا (4422) ، وأحمد (1/108 ،1/118 ،1/152) .
7 سورة المائدة آية: 44.
وقال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1، وقال تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 2، فجعل الطاعة لله ولرسوله، وجعل الخشية والتقوى لله وحده.
ومن أنواع العبادة: التوكل، وهو إسناد العبد أمره إلى الله تعالى وحده لا شريك له، في جميع أموره الدينية والدنيوية، قال الله تعالى:{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 3، {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 4؛ فمن توكل على غير الله، فقد أشرك في عبادة الله غيره.
ومن أنواع العبادة: الاستعانة، قال الله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 5، وقال تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 6 وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: " إذا استعنت فاستعن بالله " 7؛ فمن استعان بغير الله، فقد أشرك في عبادة الله غيره.
ومن أنواع العبادة: النذر، فلا ينذر إلا لله وحده، قال الله تعالى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} 8،وقال تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} 9 وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن
1 سورة آل عمران آية: 175.
2 سورة النور آية: 52.
3 سورة آل عمران آية: 122.
4 سورة المائدة آية: 23.
5 سورة الفاتحة آية: 5.
6 سورة هود آية: 123.
7 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2516) ، وأحمد (1/293 ،1/303 ،1/307) .
8 سورة البقرة آية: 270.
9 سورة الإنسان آية: 7.
يعصي الله فلا يعصه " 1.
والحاصل: أن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من أقوال العباد وأفعالهم، مما أمرهم الله به في كتابه، على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد صرح هذا الحنفي في كتابه الذي قدمته لك: أن من أشرك في عبادة الله غيره، فهو كافر بالإجماع، سواء فعله عمدا أو هزلا، وأنه يقتل إن أصر على ذلك، وإن تاب تاب الله عليه، وسلم من القتل؛ والله أعلم.
وذكر أيضا: أن ما يكون فعله كفرا بالاتفاق، إذا فعله مسلم تحبط جميع أعماله، ويلزمه إعادة الحج، ولا يلزمه إعادة الصلاة والصوم، لأنهما يسقطان عن المرتد، ويكون وطؤه امرأته حراما وزنى، وإن أتى بكلمة الشهادة بحكم العادة، ولم يرجع عما قاله، لا يرتفع الكفر؛ والله أعلم.
وقال الشيخ قاسم، في شرح الدرر: النذر الذي يقع من أكثر العوام، بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء، قائلا: يا سيدي فلان، إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي، فلك من الذهب، أو من الطعام، أو الشمع، كذا، باطل إجماعا، لوجوه: منها: أن النذر للمخلوق لا يجوز، ومنها: أن ذلك كفر، إلى أن قال: وقد ابتلي الناس بذلك، ولا سيما في مولد أحمد البدوي، انتهى؛ فصرح بأن هذا النذر كفر، يكفر به المسلم؛ والله
1 البخاري: الأيمان والنذور (6696 ،6700)، والترمذي: النذور والأيمان (1526)، والنسائي: الأيمان والنذور (3806 ،3807 ،3808)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3289)، وابن ماجه: الكفارات (2126) ، وأحمد (6/36 ،6/41 ،6/208 ،6/224)، ومالك: النذور والأيمان (1031)، والدارمي: النذور والأيمان (2338) .
أعلم.
ومن كلام الشافعية أيضا: ما قاله الإمام المحقق، ناصر السنة، شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم، محدث الشام، المعروف بأبي شامة، في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث": ومن هذا: ما قد عم به الابتلاء، من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، ومواضع مخصوصة في كل بلد، يحكي لهم حاك، أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك، ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله تعالى وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك.
ثم يتجاوزون ذلك إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم بالنذر لهم، وهي: ما بين عيون، وشجر، وحائط، وحجر. وفي مدينة دمشق - صانها الله تعالى - مواضع متعددة، كعوينة الحمى خارج باب توما، والعمود المخلق داخل باب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة، خارج باب النصر، في نفس قارعة الطريق، سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها.
فما أشبهها بذات أنواط، الواردة في الحديث، الذي رواه محمد بن إسحاق، وسفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سنان بن أبي سنان، عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه ‘
قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، وكانت لقريش شجرة خضراء عظيمة، يأتونها كل سنة، فيعلقون عليها سلاحهم، ويعكفون عندها، ويذبحون لها.
وفي رواية: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل حنين، ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عليها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا يا رسول الله; وفي الرواية الأولى: وكانت تسمى ذات أنواط، فمررنا بسدرة، وفي رواية: بشجرة عظيمة خضراء، فتنادينا من جنبتي الطريق، ونحن نسير إلى حنين: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الله أكبر! هذا كما قال قوم موسى لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 1 لتركبن سنن من كان قبلكم ".وأخرجه الترمذي بلفظ آخر، والمعنى واحد، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
قال الإمام أبو بكر الطرطوشي، رحمه الله، في كتابه: فانظروا رحمكم الله، أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، وينوطون بها أسلحتهم، ويضربون عليها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط، فاقطعوها.
1 الترمذي: الفتن (2180) ، وأحمد (5/218) .
قلت: ولقد أعجبني ما صنعه الشيخ أبو إسحاق الجبنياني رحمه الله، أحد الصالحين ببلاد أفريقية، في المائة الرابعة، حكى عنه صاحبه الصالح: أبو عبد الله، محمد بن أبي العباس المؤدب، أنه كان إلى جانبه عين تسمى "عين العافية"، كان العامة قد افتتنوا بها، يأتونها من الآفاق، من تعذر عليها نكاح، أو ولد، قالت: امضوا بي إلى "عين العافية"؛ فتعرف بها الفتنة.
قال أبو عبد الله: فإنا في السحر ذات ليلة، إذ سمعت أذان أبي إسحاق نحوها، فخرجت فوجدته قد هدمها، وأذن الصبح عليها، ثم قال: اللهم إني هدمتها لك، فلا ترفع لها رأسا، قال: فما رفع لها رأس إلى الآن.
قلت: وأدهى من ذلك وأمر: إقدامهم على قطع الطريق السابلة، يجيزون في أحد الأبواب الثلاثة القديمة العادية، التي هي من بناء الجن، في زمن نبي الله سليمان بن داود عليه السلام، أو من بناء ذي القرنين; وقيل فيها غير ذلك، ما يؤذن بالتقدم على ما نقلناه في كتاب تاريخ مدينة دمشق - حرسها الله تعالى - وهو الباب الشمالي، ذكر لهم بعض من لا يوثق به، في أحد شهور سنة ست وثلاثين وستمائة: أنه رأى مناما، يقتضي أن ذلك المكان، دفن فيه بعض أهل البيت، رضي الله عنهم.
وقد أخبرني عنه ثقة: أنه اعترف له، أنه افتعل ذلك، فقطعوا طريق المارة فيه، وجعلوا الباب بكماله أصل مسجد مغصوب؛ وقد كان الطريق يضيق بسالكيه، فتضاعف الضيق والحرج، على من دخل ومن خرج؛ ضاعف الله عذاب من تسبب في بنائه، وأجزل ثواب من أعان على هدمه، وإزالته وإعدامه، اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد الضرار، المرصد لأعدائه من الكفار.
قلت: فلم ينظر الشرع إلى كونه مسجدا، وهدمه لما قصد به السوء والردى، وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} 1. أسأل الله الكريم معافاته من كل ما يخالف رضاه، وأن لا يجعلنا ممن أضله فاتخذ إلهه هواه، انتهى.
فتأمل رحمك الله: كلام هذا الإمام، وتصريحه بأن الذي تفعله العامة في زمانه، في العمد، والشجر، والمواضع المخصوصة، أنه مثل فعل المشركين بذات أنواط، وكذلك تصريح أبي بكر الطرطوشي، وكان من أئمة المالكية، بأن كل شجرة يقصدها الناس، ويعظمون من شأنها، فهي ذات أنواط.
وكذلك تأمل قوله: ولقد أعجبني ما فعل الشيخ أبو
1 سورة التوبة آية: 108.
إسحاق، ببلاد إفريقية في المائة الرابعة، في هدمه تلك العين، التي تسمى "عين العافية" لما رأى الناس يقصدونها، ويتبركون بها، يتبين لك أن الشرك قد حدث في هذه الأمة، من زمان قديم، وأن أهل العلم رضي الله عنهم، ينكرون ذلك أشد الإنكار، ويهدمون ما قدروا عليه مما يفتتن به الناس، وأن هذا مما حدث بعد القرون الثلاثة المفضلة، وأن ذلك ليس من الدين بإجماع أهل العلم، ويجب على من قدر على ذلك إزالته، فويل للأمراء والقضاة، القادرين على إزالته والنهي عنه.
وتأمل أيضا: كلام أبي شامة، في المسجد الذي بني على قارعة الطريق، وتمنيه هدمه وإزالته، وتشبيهه إياه بمسجد الضرار؛ وكان أبو شامة رحمه الله في أوائل القرن السابع، ومعلوم أن الأمر لا يزيد إلا شدة، والله أعلم؛ فهذا ما وقفنا عليه من كلام الشافعية، والحنفية، في هذه المسألة.
فصل: [كلام الحنابلة في تعظيم القبور]
وأما كلام الحنابلة: فقال الإمام أبو الوفاء بن عقيل: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع، إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم؛ وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع، فيها: يا مولاي افعل بي
كذا وكذا، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى، انتهى كلامه; فتأمل قوله: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، وتشبيهه إياهم بمن عبد اللات والعزى.
وقال الشيخ تقي الدين في "الرسالة السنية"، لما ذكر حديث الخوارج، ومروقهم من الدين، وأمره صلى الله عليه وسلم بقتالهم، قال: فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه من انتسب إلى الإسلام، من مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم: أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان، قد يمرق أيضا من الإسلام، وذلك بأسباب، منها: الغلو الذي ذمه الله في كتابه، حيث قال:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} 1 الآية.
وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حرق الغالية من الرافضة، فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة، فقذفهم فيها; واتفق الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس رضي الله عنهما كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق، وهو قول أكثر العلماء، وقصتهم معروفة عند العلماء; وكذلك الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه.
فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك،
1 سورة النساء آية: 171.
ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل؛ فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده، لا يجعل معه إله آخر.
والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح، والملائكة، والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنْزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو صورهم، ويقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله؛ فبعث الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة. وقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 1 الآية. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرا والملائكة، فنَزلت فيهم، إلى أن قال: وعبادة الله وحده هي أصل الدين، وهي التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، قال الله تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2،وقال:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3.
1 سورة آية: 56-57.
2 سورة النحل آية: 36.
3 سورة الأنبياء آية: 25.
وكان صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد ويعلمه أمته، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال:"أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده"، ونهى عن الحلف بغير الله، وقال:" من حلف بغير الله فقد أشرك " 1،وقال في مرض موته " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2 يحذر ما فعلوا، وقال:" اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد "3.
ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، والصلاة عندها; وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان، كان تعظيم القبور، ولهذا اتفق العلماء، على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره، أنه لا يتمسح بحجرته، ولا يقبلها، لأنه إنما يكون لأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق؛ كل هذا لتحقيق التوحيد، الذي هو أصل الدين ورأسه، الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ولا يغفر لمن تركه، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} 4.
ولهذا: كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه، فأعظم آية في القرآن: آية الكرسي {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، 5 وقال صلى الله عليه وسلم:" من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة "6. والإله هو الذي يألهه القلب،
1 الترمذي: النذور والأيمان (1535)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) ، وأحمد (2/34 ،2/69 ،2/86 ،2/125) .
2 البخاري: الجنائز (1330)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531)، والنسائي: المساجد (703) ، وأحمد (1/218 ،6/34 ،6/80 ،6/121 ،6/252 ،6/255 ،6/274)، والدارمي: الصلاة (1403) .
3 أحمد (2/246) .
4 سورة النساء آية: 48.
5 سورة البقرة آية: 255.
6 أبو داود: الجنائز (3116) ، وأحمد (5/233 ،5/247) .
عبادة له، واستعانة به، ورجاء له، وخشية منه، وإجلالا، انتهى كلامه.
فتامل أول كلامه وآخره، وتأمل كلامه فيمن دعا نبيا أو وليا، مثل أن يقول: يا سيدي فلان أغثني ونحوه، أنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، تجده صريحا في تكفير أهل الشرك، وقتلهم بعد الاستتابة، وإقامة الحجة عليهم، وأن من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، فقد اتخذه إلها مع الله، لأن الإله هو المألوه الذي يألهه القلب، أي: يقصده بالعبادة والدعوة، والخشية والإجلال، والتعظيم، وإن زعم أنه لا يريد إلا الشفاعة والتقرب عند الله، لأنه بين أن هذا هو مطلوب المشركين الأولين، ويستدل على ذلك بالآيات الصريحات القاطعات، والله أعلم.
وقال رحمه الله، في كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم": وكانت الطواغيت الكبار التي تشد إليها الرحال ثلاثة: {اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} 1، وكل واحد منها لمصر من أمصار العرب؛ فكانت "اللات" لأهل الطائف، ذكروا أنه كان في الأصل رجلا صالحا، يلت السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره؛ وأما "العزى" فكانت لأهل مكة قريب من عرفات، وكانت هناك شجرة يذبحون عندها ويدعون; وأما "مناة"
1 سورة آية: 19.
فكانت لأهل المدينة، وكانت حذو قديد من ناحية الساحل.
ومن أراد أن يعرف كيف كانت أحوال المشركين في عبادة أوثانهم، ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمه الله وأنواعه، حتى يتبين له تأويل القرآن، فلينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحوال العرب في زمانه، وما ذكره الأزرقي في أخبار مكة وغيره من العلماء.
ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم، ويسمونها "ذات أنواط"، فقال بعض الناس:"يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال: الله أكبر! إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبل كم " 1 فأنكر صلى الله عليه وسلم، مجرد مشابهتهم في اتخاذ شجرة يعكفون عليها، معلقين عليها سلاحهم؛ فكيف بما هو أطم من ذلك الشرك بعينه؟ إلى أن قال: فمن ذلك أمكنة بدمشق مثل: مسجد يقال له "مسجد الكف" فيه تمثال كف، يقال إنه كف علي بن أبي طالب، حتى هدم الله ذلك الوثن; وهذه الأمكنة كثيرة موجودة في أكثر البلاد، وفي الحجاز منها مواضع، انتهى كلامه.
فتأمل رحمك الله كلام هذا الإمام، في اللات والعزى ومناة، وجعله بعينه هذا الذي يفعل بدمشق، وغيرها من البلاد من ذلك; وتأمل قوله على حديث ذات أنواط، وتدبره، فإنه نافع جدا.
1 الترمذي: الفتن (2180) ، وأحمد (5/218) .
وقال رحمه الله تعالى، في الكلام على قوله تعالى:{وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} 1: ظاهره: أنه ما ذبح لغير الله، سواء لفظ به أو لم يلفظ؛ وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله، كان أزكى مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه بسم الله؛ فإن عبادة الله بالصلاة له، والنسك له، أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور; والعبادة لغير الله، أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله؛ فلو ذبح لغير الله متقربا إليه لحرم، وإن قال فيه بسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة؛ وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن؛ انتهى كلام الشيخ رحمه الله.
فتأمل رحمك الله هذا الكلام، وتصريحه فيه: بأن من ذبح لغير الله من هذه الأمة، فهو كافر مرتد، لا تباح ذبيحته، لأنه يجتمع فيها مانعان: الأول: أنها ذبيحة مرتد، وذبيحة المرتد لا تباح بالإجماع. الثاني: أنها مما أهل به لغير الله، وقد حرم الله ذلك في قوله:{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 2.وتأمل قوله: ومن هذا ما
1 سورة البقرة آية: 173.
2 سورة الأنعام آية: 145.
يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن، والله أعلم.
فصل: [أنواع الشرك]
وقال ابن القيم رحمه الله في "شرح المنازل"، في باب التوبة: وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر; فالأكبر: لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله ندا، يحبه كما يحب الله؛ بل أكثرهم يحبون آلهتهم، أعظم من محبة الله، ويغضبون لمنتقص معبودهم من المشايخ، أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين؛ وقد شاهدنا هذا نحن منهم جهرة.
وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده على لسانه، إن قام وإن قعد، وإن عثر وإن استوحش؛ وهو لا ينكر ذلك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله، وشفيعه عنده؛ وهكذا كان عباد الأصنام سواء، وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم؛ فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذوها من البشر، قال الله تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 1.
فهذه حال من اتخذ من دون الله وليا، يزعم أنه يقربه إلى الله تعالى، وما أعز من تخلص من هذا، بل ما أعز من يعادي من أنكره. والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين
1 سورة الزمر آية: 3.
وسلفهم: أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك؛ وقد أنكر الله ذلك عليهم في كتابة وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له، وقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 1؛والقرآن مملوء من أمثال هذه الآية، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته، ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وارثا، وهذا هو الذي يحول بين المرء وبين فهم القرآن، كما قال عمر بن الخطاب:"إنما تنتقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية" وهذا لأنه إذا لم يعرف الشرك، وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره، وهو لا يعرف أنه الذي عليه أهل الجاهلية، فتنتقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع؛ ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا، فالله المستعان.
ومن أنواعه: طلب الحوائج من الموتى، والاستعانة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم; فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فضلا
1 سورة آية: 23.
لمن استغاث به، أو سأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه. والله لم يجعل سؤال غيره سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن؛ والميت محتاج إلى من يدعو له، كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين، أن نترحم عليهم، ونسأل لهم العافية، فعكس المشركون هذا، وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود، وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى التنقص بالأموات.
وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين بذمهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به؛ وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم، ولله در خليله إبراهيم حيث قال:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 1، وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من جرد توحيده لله، وتقرب بمقتهم إلى الله؛ انتهى كلامه رحمه الله.
فتأمل رحمك الله كلام هذا الإمام، وتصريحه بأن من
1 سورة آية: 35.
دعا الموتى وتوجه إليهم، واستغاث بهم ليشفعوا له عند الله، فقد فعل الشرك الأكبر، الذي بعث محمد صلى الله عليه وسلم بإنكاره، وتكفير من لم يتب منه، وقتاله ومعاداته، وأن هذا قد وقع في زمانه، وأنهم غيروا دين الرسول صلى الله عليه وسلم وعادوا أهل التوحيد، الذين يأمرونهم بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له.
وتأمل قوله أيضا: وما أعز من تخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره، يتبين لك الأمر إن شاء الله. وكذلك تأمل أرشدك الله قوله: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من عادى المشركين لله إلى آخره، يتبين لك أن الإسلام لا يستقيم إلا بمعاداة أهل الشرك، فإن لم يعادهم فهو منهم وإن لم يفعله، والله أعلم.
وقال رحمه الله في كتاب "زاد المعاد في هدي خير العباد" في الكلام على غزوة الطائف، وما فيها من الفقه، قال: وفيها: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت، بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما واحدا، فإنها شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة.
وهكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور، التي اتخذت أوثانا وطواغيت، تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتعظيم، والتبرك والنذر والتقبيل، لا يجوز إبقاء
شيء منها على وجه الأرض، مع القدرة على إزالته; وكثير منها بمنْزلة اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، أو أعظم شركا عندها وبها، والله المستعان.
ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت، يعتقد أنها تخلق أو ترزق، أو تحيي وتميت، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها، ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبرا بشبر وذراعا بذراع.
وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل وخفاء العلم، وصار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة؛ ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء، وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر، بما كسبت أيدي الناس; ولكن لا تزال طائفة من الأمة المحمدية قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله سبحانه الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
ومنها جواز صرف الإمام الأموال، التي تصير الى هذه المشاهد والطواغيت، في الجهاد ومصالح المسلمين، كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أموال اللات، وأعطاها أبا سفيان يتألفه بها،
وقضى منها دين عروة والأسود; وكذلك الحكم في أوقافها، فإن وقفها والوقف عليها باطل، ومال ضائع، فإن الوقف لا يصح إلا في قربة؛ وهذا مما لا يخالف فيه أحد من أئمة الإسلام، ومن اتبع سبيلهم، والله أعلم، انتهى كلامه.
فتأمل رحمك الله هذا الكلام، وما فيه من التصريح بأن هذا الذي يفعل عند المشاهد والقباب التي على القبور في كثير من البلدان، أنه هو الشرك الأكبر، الذي فعله المشركون، وأن كثيرا منها بمنْزلة اللات، والعزى، ومناة، بل أعظم شركا من شرك أهل اللات والعزى ومناة، وتصريحه بأنهم فعلوا فعل المشركين، واتبعوا سبيلهم حذو القذة بالقذة; وتأمل قوله: وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل، وخفاء العلم، والله أعلم،
وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله، لما سئل عن قتال التتار، مع التمسك بالشهادتين، ولما زعموا من اتباع أصل الإسلام، فقال: كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة، المتواترة، من هؤلاء القوم، أو غيرهم، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة؛ وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم، بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله
عنهما، فاتفق الصحابة على القتال على حقوق الإسلام، عملا بالكتاب والسنة.
وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه، الحديث عن الخوارج، والأمر بقتالهم، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة، مع قوله:" تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم " 1، فعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام، مع عدم التزام شرائعه، ليس بمسقط للقتال؛ فالقتال واجب.
فأيما طائفة ممتنعة، امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء، أو الأموال، أو الخمر، أو الميسر، أو الزنى، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين، أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها، أو تركها، التي يكفر الواحد بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها؛ وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء.
وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة، إذا أصرت على ترك بعض السنن، كركعتي الفجر، والأذان، والإقامة عند من لا يقول بوجوبها، ونحو ذلك من الشعائر، وهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟ فأما الواجبات
1 البخاري: فضائل القرآن (5058)، ومسلم: الزكاة (1064) ، وأحمد (3/56 ،3/60 ،3/65) .
والمحرمات المذكورة ونحوها، فلا خلاف في القتال عليها.
وهؤلاء عند المحققين من العلماء، ليسوا بمنْزلة البغاة الخارجين على الإمام، أو الخارجين عن طاعته، كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين أو خارجون عليه لإزالة ولايته، وأما المذكورون، فهم خارجون عن الإسلام، بمنْزلة مانعي الزكاة، وبمنْزلة الخوارج الذين قاتلهم علي رضي الله عنه. ولهذا افترقت سيرته في قتاله لأهل البصرة، وأهل الشام، وفي قتاله لأهل النهروان، فكانت سيرته مع البصريين والشاميين، سيرة الأخ مع أخيه، ومع الخوارج بخلاف ذلك، وثبتت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما استقر عليه إجماع الصحابة، من قتال الصديق لمانعي الزكاة، وقتال علي للخوارج، انتهى كلامه.
فتأمل رحمك الله تصريح هذا الإمام في هذه الفتوى، بأن من امتنع عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة، كالصلوات الخمس، والصيام والزكاة والحج، أو ترك المحرمات كالزنى، أو تحريم الدماء والأموال، أو شرب الخمر أو المسكرات، أو غير ذلك، أنه يجب قتال الطائفة الممتنعة عن ذلك، حتى يكون الدين كله لله، ويلتزموا جميع شرائع الإسلام، وإن كانوا مع ذلك ناطقين
بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائع الإسلام، وأن ذلك مما اتفق عليه العلماء من سائر الطوائف، من الصحابة فمن بعدهم، وأن ذلك عملا بالكتاب والسنة.
فتبين لك: أن مجرد الاعتصام بالإسلام، مع عدم التزام شرائعه، ليس بمسقط للقتال، وأنهم يقاتلون قتال كفر، وخروج عن الإسلام، كما صرح به في آخر الفتوى، بقوله: وهؤلاء عند المحققين من العلماء، ليسوا بمنْزلة البغاة الخارجين عن الإمام، بل هم خارجون عن الإسلام بمنْزلة مانعي الزكاة، والله أعلم.
وقال الشيخ رحمه الله، في آخر كلامه على كفر مانعي الزكاة: والصحابة لم يقولوا: هل أنت مقر بوجوبها، أو جاحد لها، هذا لم يعهد عن الصحابة بحال، بل قال الصديق لعمر رضي الله عنهما:(والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها) ، فجعل المبيح للقتال مجرد المنع، لا جحد وجوبها; وقد روي: أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب، لكن بخلوا بها.
ومع هذا، فسيرة الخلفاء فيهم سيرة واحدة، وهي: قتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، والشهادة على قتلاهم بالنار، وسموهم جميعهم أهل الردة; وكان من أعظم فضائل الصديق عندهم: أن ثبته الله على قتالهم، ولم يتوقف كما توقف غيره، حتى ناظرهم فرجعوا إلى قوله.
وأما قتال المقرين بنبوة مسيلمة، فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم؛ وهذه حجة من قال: إن قاتلوا الإمام عليها كفروا، وإلا فلا؛ فإن كفر هؤلاء وإدخالهم في أهل الردة، قد ثبت باتفاق الصحابة المستند إلى نصوص الكتاب والسنة، بخلاف من لم يقاتل الإمام عليها، فإن في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: منع ابن جميل; فقال: " ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله " 1، فلم يأمر بقتله، ولا حكم بكفره; وفي السنن من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم:" ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله " 2 الحديث. انتهى.
فتأمل كلامه وتصريحه: بأن الطائفة الممتنعة عن أداء الزكاة إلى الإمام، أنهم يقاتلون ويحكم عليهم بالكفر والردة عن الإسلام، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم، وإن أقروا بوجوب الزكاة، وصلوا الصلوات الخمس، وفعلوا جميع شرائع الإسلام غير أداء الزكاة، وأن ذلك ليس بمسقط للقتال لهم، والحكم عليهم بالكفر والردة، وأن ذلك قد ثبت بالكتاب والسنة، واتفاق الصحابة رضي الله عنهم، والله أعلم.
[حكم من سب الرسول صلى الله عليه وسلم ]
وقال الشيخ: رحمه الله تعالى في كتاب "الصارم المسلول على شاتم الرسول": قال الإمام إسحاق بن راهويه، أحد الأئمة، يعدل بالشافعي وأحمد: أجمع المسلمون أن
1 البخاري: الزكاة (1468)، ومسلم: الزكاة (983)، والنسائي: الزكاة (2464)، وأبو داود: الزكاة (1623) ، وأحمد (2/322) .
2 النسائي: الزكاة (2449)، وأبو داود: الزكاة (1575) ، وأحمد (5/4)، والدارمي: الزكاة (1677) .
من سب الله أو رسوله، أو دفع شيئا مما أنزل الله، أنه كافر بذلك، وإن كان مقرا بكل ما أنزل الله.
وقال محمد بن سحنون - أحد الأئمة من أصحاب مالك -: أجمع العلماء على أن شاتم الرسول كافر، وحكمه عند الأئمة القتل، ومن شك في كفره كفر; قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن على من سبه القتل.
وقال الإمام أحمد فيمن سبّه يقتل، قيل له: فيه أحاديث؟ قال: نعم; منها: حديث الأعمى الذي قتل المرأة; وقول ابن عمر: "من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل. وعمر بن عبد العزيز يقول: يقتل; وقال في رواية عبد الله: لا يستتاب، فإن خالد بن الوليد قتل رجلا شتم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستتبه" انتهى.
فتأمل رحمك الله: كلام إسحاق بن راهويه، ونقله الإجماع على أن من سب الله، أو سب رسوله، أو دفع شيئا مما أنزل الله، أنه كافر، وإن كان مقرا بكل ما أنزل الله، يتبين لك: أن من تلفظ بلسانه بسب الله تعالى، أو سب رسوله، فهو كافر مرتد عن الإسلام، وإن أقر بجميع ما أنزل الله، وإن كان هازلا بذلك لم يقصد معناه بقلبه، كما قال الشافعي: من هزل بشيء من آيات الله فهو كافر، فكيف بمن هزل بسب الله، أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم؟
ولهذا قال الشيخ تقي الدين: قال أصحابنا وغيرهم، من سب الله تعالى كفر، مازحا أو جادا، لقوله تعالى:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 1، الآية قال: وهذا هو الصواب المقطوع به، انتهى.
ومعنى قول إسحاق رحمه الله تعالى: أو دفع شيئا مما أنزل الله، أن يدفع أو يرد شيئا مما أنزل الله في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الفرائض، أو الواجبات، أو المسنونات، أو المستحبات، بعد أن يعرف أن الله أنزله في كتابة، أو أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم أو نهى عنه، ثم دفعه بعد ذلك، فهو كافر مرتد، وإن كان مقرا بكل ما أنزل الله في كتابه من الشرع، إلا ما دفعه وأنكره لمخالفته لهواه أو عادته، أو عادة أهل بلده.
وهذا معنى قول العلماء: من أنكر فرعا مجمعا عليه كفر، فإذا كان من أنكر النهي عن الأكل بالشمال، أو النهي عن إسبال الثياب، بعد معرفته أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فهو كافر مرتد، ولو كان من أعبد الناس وأزهدهم، فكيف بمن أنكر إخلاص العبادة لله وحده، وإخلاص الدعوة والاستغاثة، والنذر والتوكل، وغير ذلك من أنواع العبادة، التي لا تصلح إلا لله وحده، ولا يصلح منها شيء
1 سورة آية: 65-66.
لملك مقرب، ولا نبي مرسل، التي أرسل الله جميع رسله، وأنزل جميع كتبه لأجل معرفتها والعمل بها، التي هي أعظم شعائر الإسلام، الذي هو معنى لا إله إلا الله؟ فمن أنكر ذلك وأبغضه، وسبه وسب أهله، وسماهم الخوارج، فهو الكافر حقا، الذي يجب قتاله، حتى يكون الدين كله لله، بإجماع المسلمين كلهم؛ والله سبحانه أعلم.
فصل: [قول ابن القيم في اتخاذ القبور أعياداً]
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في "الإغاثة": قال صلى الله عليه وسلم: " لا تتخذوا قبري عيدا " 1، وقال:" اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2؛ وفي اتخاذها عيدا من أعيادهم من المفاسد العظيمة، ما يغضب لأجله من في قلبه وقار لله وغيرة على التوحيد؛ ولكن ما لجرح بميت إيلام.
منها: الصلاة إليها والطواف بها، واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، وسؤالهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات، التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم، وكل من شم أدنى رائحة من العلم، يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى ذلك، وأنه صلى الله عليه وسلم أعلم بعاقبة ما نهى عنه، وما يؤول إليه.
وإذا لعن من اتخذ قبور الأنبياء مساجد يعبد الله فيها، فكيف بملازمتها واعتياد قصدها؟ ومن جمع بين سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به ونهى عنه، وما عليه
1 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .
2 أحمد (2/246) .
أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهما مضادا للآخر.
فنهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ونهى عن تشريفها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها، ونهى أن تتخذ عيدا، وهؤلاء يتخذونها أعيادا، وأمر بتسويتها كما في صحيح مسلم، عن علي رضي الله عنه، وهؤلاء يرفعونها، ويجعلون عليها القباب، ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه، كما في صحيح مسلم عن جابر.
ونهى عن الكتابة عليها، كما رواه الترمذي عن جابر وصححه، ونهى أن يزاد عليها غير ترابها، كما رواه أبو داود عن جابر، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن، ويزيدون على ترابها بالجص، والآجر والأحجار.
وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين، إلى أن شرعوا للقبور حجا، ووضعوا له مناسك، حتى صنف بعضهم كتابا سماه "مناسك حج المشاهد"؛ ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عباد الأصنام.
فانظر إلى هذا التباين العظيم، بين ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم وما شرعه هؤلاء. والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بزيارة القبور،
لأنها تذكّر الآخرة، وأمر الزائرين أن يدعوا لأهل القبور، ونهاه أن يقول هجرا؛ فهذه الزيارة التي أذن فيها لأمته، وعلمهم إياها، هل تجد فيها شيئا مما يعتمده أهل الشرك والبدع؟ أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟!
وما أحسن ما قال الإمام مالك رحمه الله: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك؛ ولقد جرد السلف الصالح التوحيد، وحموا جنابه حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء جعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا؛ وقد نص على ذلك الأئمة الأربعة: أنه يستقبل القبلة للدعاء حتى لا يدعو عند القبر، فإن الدعاء عبادة.
وبالجملة: فالميت قد انقطع عمله، فهو محتاج إلى من يدعو له؛ ولهذا شرع في الصلاة عليه من الدعاء، ما لم يشرع مثله للحي؛ ومقصود الصلاة على الميت الاستغفار له، والدعاء له، وكان صلى الله عليه وسلم يقف على القبر بعد الدفن، فيقول:" سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل " فبدل أهل الشرك والبدع قولا غير الذي قيل لهم: فبدلوا الدعاء له بدعائه نفسه، والشفاعة له بالاستشفاع به، والزيارة التي شرعت إحسانا للميت وإلى الزائر، بسؤال الميت والإقسام به على الله، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء، الذي هو مخ
العبادة، وحضور القلب عندها، وخشوعه أعظم منه في المساجد. وذكر ابن إسحاق، عن أبي العالية قال: لما فتحنا تستر، وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا، عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف، فحملنا المصحف إلى عمر، فدعا كعبا فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل من العرب قرأه؛ قرأته مثلما أقرأ القرآن، فيه سيرتكم وأموركم، ولحون كلامكم، وما هو كائن بعد; قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة، فلما كان الليل دفناه، وسوينا القبور كلها، لنعميه على الناس أن لا ينبشوه.
قلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم، أبرزوا السرير فيمطرون، قلت: من كنتم تظنون الرجل: قال: دانيال; قلت: منذ كم مات؟ قال: من ثلاثمائة سنة; قلت: ما تغير منه شيء؟ قال: لا، إلا شعرات من قفاه؛ إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض، ولا تأكلها السباع. ففي هذه القصة: ما فعله المهاجرون والأنصار، من تعمية قبره، لئلا يفتتن به؛ ولو ظفر به المتأخرون، لجالدوا عليه بالسيوف، وعبدوه، فهم قد اتخذوا من القبور أوثانا من لا يدانيه، وجعلوا لها سدنة.
وقد أنكر الصحابة ما هو دون هذا بكثير، "فقطع
عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشجرة التي بويع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها،" "ولما رأى عمر الناس يذهبون، فسأل عن ذلك فقيل: مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون فيه، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتبعون آثار أنبيائهم، ويتخذونها كنائس، وبيعا؛ فمن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد، فليصل، ومن لا فليمض ولا يتعمدها".
وقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصحابة، لما سألوه شجرة يعلقون عليها أسلحتهم بخصوصها، ثم ذكر حديث ذات أنواط؛ فإذا كان اتخاذ الشجرة لتعليق الأسلحة، والعكوف حولها، اتخاذ إله مع الله، وهم لا يعبدونها ولا يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر، ودعائه والدعاء عنده، والدعاء به؟ وأين نسبة الفتنة بشجرة، إلى الفتنة بالقبر، لو كان أهل الشرك والبدع يعلمون؟ ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم، في هذا الباب وغيره، علم أن بين السلف وبينه، أبعد مما بين المشرق والمغرب؛ والأمر والله أعظم مما ذكرنا.
وفي صحيح البخاري، عن أم الدرداء، قالت: (دخل علي أبو الدرداء مغضبا فقلت: ما لك؟ فقال: والله ما أعرف فيهم شيئا من أمر محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنهم يصلون جميعا" انتهى.
فتأمل رحمك الله كلام الشيخ، وتصريحه بأن عبادة الأوثان قد وقعت في زمانه، وتصريحه بعد ذكره لقصة دانيال، بأن أهل زمانه المتأخرين، قد اتخذوا من قبور من لا يدانيه في المرتبة والفضل والصلاح، أوثانا، وأنهم لو وجدوه لجالدوا عليه بالسيوف، وعبدوه من دون الله، يتبين لك ما أصبح غالب الناس فيه، من عبادة غير الله، ودعائهم، والاستغاثة بهم في الشدائد، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، والإخلاص لهم في العبادة، في أوقات الشدائد، عند ركوبهم في البحر وغيره، الذي لم يفعله المشركون الأولون،
كما أخبر الله عنهم، بقوله:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 1،وقوله:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} 2.
فتأمل رحمك الله: ما ذكر الإله عن هؤلاء المشركين، من إخلاص الدعوة له أوقات الشدائد، ثم تأمل ما يفعله المشركون في زماننا، مما ذكرت لك، يتبين لك غربة الإسلام، الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأزمان. فإذا كان هذا كلام أهل العلم، وتصريحهم بأن الشرك غلب
1 سورة العنكبوت آية: 65.
2 سورة آية: 41.
على أكثر النفوس، وأن القليل الذي تخلص منه، بل القليل من لا يعادي من أنكر الشرك، فما ظنك بزمانك هذا؟ ومعلوم: أن الأمر لا يزداد إلا شدة، وغربة; وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه " أخرجه البخاري في صحيحه، عن أنس.
ولكن الأمر كما قال الشيخ رحمه الله: ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم، في هذا الباب وغيره، علم أن بينهما أبعد مما بين المشرق والمغرب، وهذه هي الفتنة التي قال فيها ابن مسعود رضي الله عنه:"كيف أنتم إذا لبستكم فتنة، يهرم فيها الكبير، وينشأ فيها الصغير، يتخذها الناس سنة، إذا غيرت قيل غيرت السنة"؛ والله أعلم.
فصل: [ابتلاء الناس بالأنصاب والأزلام]
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: والناس قد ابتلوا بالأنصاب والأزلام، فالأنصاب للشرك، والأزلام لطلب علم ما استأثر الله به، هذه للعلم، وتلك للعمل، ودين الله مضاد لهذا، وهذا; "وعمى الصحابة قبر دانيال بأمر عمر"، "ولما بلغه: أن الناس ينتابون الشجرة، التي بويع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها، أرسل فقطعها"، قال عيسى بن يونس: هو عندنا من حديث ابن عون عن نافع؛ فإذا كان هذا فعله في الشجرة التي ذكر الله في القرآن، وبايع تحتها الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا حكمه فيما عداها؟
وأبلغ من ذلك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هدم مسجد الضرار" ففيه دليل على هدم المساجد التي هي أعظم فسادا منه، كالمبنية على القبور، وكذلك قبابها؛ فتجب المبادرة إلى هدم ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله، والله يقيم لدينه من ينصره ويذب عنه.
وكان بدمشق كثير من هذه الأنصاب، فيسر الله سبحانه كسرها على يد شيخ الإسلام، وحزب الله الموحدين; وكانوا يقولون - أي العامة - لشيء منها: إنه يقبل النذر، أي: يقبل العبادة من دون الله، فالنذر عبادة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له.
ولقد أنكر السلف التمسح بحجر المقام، الذي أمر الله أن يتخذ منه مصلى، قال قتادة في الآية: إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه؛ ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها، ذكر لنا من رأى أثر أصابعه، فما زالت هذه الأمة تمسحه حتى اخلولق.
وأعظم الفتنة بهذه الأنصاب: فتنة أصحاب القبور، وهي أصل فتنة عبادة الأصنام، كما ذكره الله في سورة نوح، في قوله:{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 1 الآية؛ ذكر السلف في تفسيرها: أن هؤلاء أسماء رجال صالحين في قوم نوح،
1 سورة نوح آية: 23.
فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم; وتعظيم الصالحين إنما هو باتباع الصالحين، واتباع ما دعوا إليه، دون اتخاذ قبورهم أعيادا وأوثانا، فأعرضوا عن المشروع، واشتغلوا بالبدع. ومن أصغى إلى كلام الله وتفهمه، أغناه عن البدع والآراء، ومن بعد عنه فلا بد أن يتعوض عنه بما لا ينفعه، كما أن من عمر قلبه بمحبة الله، وخشيته والتوكل عليه، أغناه عن محبة غيره، وخشيته والتوكل عليه؛ فالمعرض عن التوحيد مشرك شاء أم أبى، والمعرض عن اتباع السنة مبتدع شاء أم أبى، والمعرض عن محبة الله عابد الصور شاء أم أبى.
وهذه الأمور المبتدعة عند القبور أنواع: أبعدها عن المشروع: أن يسأل الميت حاجته، كما يفعله كثير؛ وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت، كما يتمثل لعباد الأصنام، وهذا يحصل للمشركين وأهل الكتاب، وكذلك السجود للقبر، وتقبيله والتمسح به. والنوع الثاني: أن يسأل الله به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو بدعة إجماعا. النوع الثالث: أن يظن أن الدعاء عنده مستجاب، وأنه أفضل من الدعاء في المسجد، فيقصد القبر لذلك؛ فهذا أيضا من المنكرات إجماعا، وما علمت فيه نزاعا بين أئمة الدين،
وإن كان كثير من المتأخرين يفعله. وبالجملة: فأكثر أهل الأرض مفتتنون بعبادة الأوثان، ولم يتخلص منه إلا الحنفاء أتباع إبراهيم، وعبادتها في الأرض من قبل نوح، وهياكلها ووقوفها، وسدنتها وحجابها، والكتب المصنفة في عبادتها طبق الأرض. قال إمام الحنفاء عليه السلام:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 1. وكفى في معرفة أنهم أكثر أهل الأرض: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون " وقد قال تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} 2، وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 3، وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} 4، وقال: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} 5. ولو لم تكن الفتنة بعبادة الأصنام عظيمة، لما أقدم عبادها على بذل نفوسهم، وأموالهم، وأبنائهم دونها، وهم يشاهدون مصارع إخوانهم، وما حل بهم، ولا يزيدهم ذلك إلا حبا لها وتعظيما، ويوصي بعضهم بعضا بالصبر عليها، والله أعلم.
1 سورة آية: 35.
2 سورة الإسراء آية: 89.
3 سورة الأنعام آية: 116.
4 سورة يوسف آية: 103.
5 سورة الأعراف آية: 102.
فتأمل رحمك الله تعالى: كلام الشيخ في الأنصاب، والأزلام، والقباب المبنية على القبور، وأنه يجب المبادرة إلى هدمها، وأنها أعظم ضررا من مسجد الضرار الذي قال الله في أهله:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} 1، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدمه وتحريقه، ونهى الله نبيه عن الصلاة فيه.
وقوله: والله يقيم لدينه من ينصره ويذب عنه؛ وكان بدمشق كثير من هذه الأنصاب، فيسر الله كسرها على يد شيخ الإسلام، وحزب الله الموحدين، ومراده بذلك: الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله، فإنه هدم مواضع كثيرة بدمشق، مما يعبده العامة من دون الله، وينذرون له، ويقولون: إنه يقبل النذر، أي: يقبل العبادة.
وذلك لأن النذر عبادة، قال تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} 2، وقال تعالى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} 3، فإذا عرفت أن النذر عبادة، وصرفته لغير الله، فقد أشركت في عبادة الله غيره.
وقد أقام الله في زماننا هذا - وهو آخر القرن الثاني عشر من الهجرة النبوية - من بعث به دين الإسلام،
1 سورة التوبة آية: 107.
2 سورة الإنسان آية: 7.
3 سورة البقرة آية: 270.
وإخلاص العبادة لله وحده بعد اندراسه، وهو: الشيخ، الإمام العالم، ذو الفضائل والمكارم، والأخلاق السنية، والأعمال المرضية السنية، محيي السنة النبوية، وقامع البدعة الشركية: محمد بن عبد الوهاب، أسكنه الله الجنة التي هي أحسن المآب، وبرد مضجعه، وأجزل له الثواب.
فنصر الله به الدين القويم، وبين بسببه صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، من النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وأزال الله به الشرك، وعبادة الأوثان من أرض نجد، من الكفر والطغيان، ويسر الله كسر تلك الأوثان على يده، وأيدي أتباعه من الموحدين، وحزب الله المفلحين.
وكان قبل ذلك في كل أرض وبلد من أرض نجد، أوثان وأشجار تعبد من دون الله، وينذر لها ويذبح لها القربان، ويعظمونها أعظم من تعظيم الله، كقبر زيد بن الخطاب رضي الله عنه في "الجبيلة" وكشجرة في "قريوة" في بلد الدرعية، وشجرة أخرى لأهل "الطرفية"، وغار يقال له "غار بنت الأمير" في أسفل بلد الدرعية، وقبر يقال له قبر المغربي.
وأعظم من ذلك: عبادتهم تاجا، وشمسان، مع شهادتهم عليهم بالفجور، لكن يزعمون أنهم أولياء، لا تضرهم الذنوب، ويهابونهم أعظم مما يهابون الله؛ ومنهم
من يدعو الجن ويذبح لهم، وفي كل بلد من ذلك شيء عظيم; فأزال الله ذلك كله، بشيخ الإسلام، وأقام الله به الحجة على أهل زمانه، وعرف التوحيد جميع عدوانه، وأقروا أنه دين الله ورسوله، وأن الذي هم عليه الشرك بالله تعالى، ولم يردهم ذلك إلا بغضا له وعداوة.
وسعوا في إزالته وعداوته، بكل ممكن حسدا له، لما أظهر الله الدين على يده، حتى أظهره الله عليهم، ونصره، ونصر أتباعه على من خذلهم وخالفهم، مع ضعفهم وقلة عددهم، وقوة عدوهم وكثرتهم، وأدخل الله جميع أهل نجد في الإسلام، ودانوا به، واجتمعوا عليه، حاضرتهم وباديتهم؛ فالحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله; ونسأل الله العظيم المنان أن يثبتنا على الإسلام، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يعيذنا من التفرق والاختلاف، إنه على كل شيء قدير.
فصل: [رد الشيخ ابن تيمية على ابن البكري في مسألة الاستغاثة]
وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله تعالى - في رده على ابن البكري، في مسألة الاستغاثة -: العبادة مبناها على الاتباع، لا على الابتداع، فليس لأحد أن يشرع من الدين ما لم يأذن به الله، قال الله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 1، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، عن
1 سورة الشورى آية: 21.
النبي صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد " 1، وفي لفظ في الصحيح:" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد "2.
وفي الصحيح وغيره يقول الله تعالى: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك " 3؛ ولهذا قال الفقهاء: العبادات مبناها على التوقيف، كما في الصحيحين عن عمر رضي الله عنه أنه قبل الحجر الأسود، وقال:"والله إني لأعلم أنك لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك".
والله سبحانه وتعالى أمرنا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته وموالاته ومحبته، وضمن لنا بطاعته ومحبته وكرامته، محبته لنا ومغفرته وهدايته، وإدخالنا الجنة، فقال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} 4، وقال:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} 5، وقال:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 6؛ وأمثال ذلك في القرآن كثير، ولا ينبغي لأحد أن يخرج في هذا الباب عما مضت به السنة، وكان عليه سلف الأمة.
وبالجملة: فمعنا أصلان عظيمان: أحدهما: أن لا نعبد إلا الله. والثاني: أن لا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده
1 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجه: المقدمة (14) ، وأحمد (6/240) .
2 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجه: المقدمة (14) ، وأحمد (6/73 ،6/146 ،6/180 ،6/240 ،6/256 ،6/270) .
3 مسلم: الزهد والرقائق (2985)، وابن ماجه: الزهد (4202) ، وأحمد (2/301 ،2/435) .
4 سورة آل عمران آية: 31.
5 سورة النور آية: 54.
6 سورة النساء آية: 13.
بعبادة مبتدعة; وهذان الأصلان هما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، كما قال تعالى:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 1، قال الفضيل بن عياض: أخلصه، وأصوبه; قال: إن العمل إذا كان خالصا، ولم يكن صوابا، لم يقبل، وإذا كان صوابا، ولم يكن خالصا، لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا; والخالص: أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، وذلك تحقيق قوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 2.
وجاءت السنة: أن يسأل الله بأسمائه وصفاته، فيقال: أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، أسألك بأنك أنت الله، لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
وكذلك قوله: اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم، وجدك الأعلى، وكلماتك التامة، مع أن هذا الدعاء الثاني، في جواز الدعاء به قولان للعلماء; وقال الشيخ أبو الحسين القدوري:
قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به،
1 سورة هود آية: 7.
2 سورة الكهف آية: 110.
وأكره أن يقول بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك، وهو قول أبي يوسف.
قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشك، هو الله، فلا أكره هذا، وأكره بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام; قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، يعني: فلا تجوز وفاقا; وقال البلدجي في شرح المختار: ويكره أن يدعو الإله إلا به، فلا يقول أسألك بحق فلان، وبملائكتك، أو بأنبيائك، ونحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، ويقول في دعائه: أسألك بمعقد العز من عرشك; وعن أبي يوسف أنه يجوز; قلت: وهذا عن أبي حنيفة، وأبي يوسف، وغيرهما، يقتضي المنع; أن يسأل الله تعالى بغيره.
وأما سؤال الميت والغائب، نبيا كان أو غير نبي، فهو من المحرمات المنكرة، باتفاق أئمة المسلمين، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين؛ وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن أحدا منهم ما كان يقول - إذا نزلت به شدة، أو عرضت له حاجة - لميت: يا سيدي فلان، أنا في حسبك، أو اقض حاجتي، كما يقول بعض هؤلاء المشركين، لمن
يدعونهم من الموتى والغائبين؛ ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لا عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا الصلاة عندها.
ولما قحط الناس في زمان عمر بن الخطاب، استسقى بالعباس، وتوسل بدعائه، وقال:(اللهم إنا كنا نتوسل إذا أجدبنا بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا) ، فيسقون، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري، وكذلك معاوية رضي الله عنه لما استسقى بأهل الشام، توسل بيزيد بن الأسود الجرشي؛ فهذا الذي ذكره عمر رضي الله عنه توسل منهم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، ولهذا توسلوا بعده بدعاء العباس، ودعاء يزيد بن الأسود، وهذا هو الذي ذكره الفقهاء في كتاب الاستسقاء، فقالوا: يستحب أن يستسقي بالصالحين، وإذا كانوا من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أفضل.
وقد كره العلماء، كمالك وغيره: أن يقوم الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه، وذكروا أن هذا من البدع، التي لم يفعلها السلف; وقد قال تعالى. {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 1، قال: عيسى ابن مريم، وعزير،
1 سورة آية: 56.
والملائكة.
وكذلك عن إبراهيم النخعي، قال: كان ابن عباس يقول في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} 1: (هو عزير، والمسيح، والشمس، والقمر) ; وكذلك شعبة روى عن السدي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال:(عيسى وأمه والعزير)، وعن عبد الله بن مسعود قال:(نزلت في نفر من العرب، كانوا يعبدون نفرا من الجن، فأسلم الجنيون، والإنس الذين كانوا يعبدونهم، لا يشعرون بإسلامهم، فنَزلت هذه الآية) ، ثبت ذلك عنه في صحيح البخاري.
وهذه الأقوال كلها حق، فإن الآية تعم كل من كان معبوده عابدا لله، سواء كان من الملائكة، أو من الجن، أو من البشر; والسلف في تفسيرهم، يذكرون جنس المراد بالآية، على نوع التمثيل، كما يقول الترجمان لمن سأله: ما معنى لفظ "الخبز"؟ فيريه: رغيفا، فيقول: هذا، فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه، وليس مرادهم بذلك تخصيص نوع دون نوع، مع شمول الآية للنوعين؛ فالآية خطاب لكل من دعا دون الله مدعوا، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجو رحمته ويخاف عذابه.
فكل من دعا ميتا أو غائبا، من الأنبياء والصالحين، سواء كان بلفظ الاستغاثة، أو غيرها، فقد تناولته هذه
1 سورة الإسراء آية: 57.
الآية، كما تتناول من دعا الملائكة والجن؛ ومعلوم أن هؤلاء كلهم وسائط، فيما يقدره الله بأفعالهم، ومع هذا فقد نهى الله تعالى عن دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين، ولا تحويلا، لا يرفعونه بالكلية، ولا يحولونه من موضع إلى موضع، كتغيير صفته أو قدره، ولهذا قال:{وَلَا تَحْوِيلًا} ، فذكر نكرة تعم أنواع التحويل.
فكل من دعا ميتا، أو غائبا، من الأنبياء والصالحين، أو دعا الملائكة، أو دعا الجن، فقد دعا من لا يغيث، ولا يملك كشف الضر عنه، ولا تحويلا; وقد قال تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 1؛ وقد نص الأئمة أحمد وغيره، على أنه لا يجوز الاستغاثة بمخلوق، وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، قالوا: لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بكلمات الله، وأمر بذلك؛ ولهذا نهى العلماء عن التعازيم، والتعاويذ التي لا يعرف معناها، خشية أن يكون فيها شرك.
ومما يبين حكمة الشريعة، وعظم قدرها، وأنها كما قيل: كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، أن الذين خرجوا عن المشروع، زين لهم الشيطان أعمالهم، حتى خرجوا إلى الشرك، وطائفة من هؤلاء، يصلون إلى الميت، ويستدبر أحدهم القبلة، ويسجد للقبر;
1 سورة الجن آية: 6.
ويقول أحدهم: القبلة قبلة العامة، وقبر الشيخ فلان قبلة الخاصة، وهذا يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهدا، وهو شيخ متبوع، ولعله من أمثل أتباع شيخه، يقوله في شيخه.
وآخر من أعيان الشيوخ المتبوعين، أصحاب الصدق والاجتهاد في العبادة والزهد، يأمر المريد أول ما يذهب يتوب: أن يذهب إلى قبر الشيخ، فيعكف عليه عكوف أهل التماثيل عليها؛ وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور، يجدون عند عبادة القبور من الرقة والخشوع، والدعاء وحضور القلب، ما لا يجده أحدهم في مساجد الله، التي أذن أن ترفع ويذكر فيها اسمه.
وآخرون يحجون للقبور، وطائفة صنفوا مناسك حج المشاهد، كما صنف أبو عبد الله محمد بن النعمان، الملقب بالمفيد، أحد شيوخ الإمامية، كتابا في ذلك، وذكر فيه من الحكايات المكذوبة على أهل البيت، ما لا يخفى كذبه على من له معرفة بالنقل. وآخرون يسافرون إلى قبور المشائخ، وإن لم يسموا ذلك منسكا وحجا، فالمعنى واحد؛ ومن هؤلاء من يقول: وحق النبي الذي تحج إليه المطايا، فيجعل الحج إلى النبي لا إلى بيت الله (، وكثير من هؤلاء أعظم قصده من الحج، قصد قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا حج البيت.
وبعض الشيوخ المشهورين بالدين والزهد والصلاح،
صنف كتابا أسماه "الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام"، وهذا الضال استعان بهذا الكتاب، وقد ذكر في مناقب هذا الشيخ: أنه حج مرة، وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم منتهى قصده، ثم رجع ولم يذهب إلى مكة، وجعل هذا من مناقبه؛ فإن كان هذا مستحبا، فينبغي لمن يجب عليه حج البيت إذا حج أن يجعل المدينة منتهى قصده، ولا يذهب إلى مكة، فإنه زيادة كلفة ومشقة، مع ترك الأفضل، وهذا لا يقوله عاقل. وبسبب الخروج عن الشريعة صار بعض أكابر الشيوخ عند الناس، ممن يقصده الملوك، والقضاة، والعلماء، والعامة، على طريق ابن سبعين، قيل عنه أنه كان يقول: البيوت المحجوجة ثلاثة: مكة، وبيت المقدس، والبيت الذي للمشركين بالهند، وهذا لأنه كان يعتقد أن دين اليهود حق ودين النصارى حق.
وجاء بعض إخواننا العارفين- قبل أن يعرف حقيقتة- فقال له: أريد أن أسلك على يديك، فقال علي دين اليهود، أو النصارى، أو المسلمين؟ فقال اليهود والنصارى ليسوا كفارا فقال: لا تشدد عليهم، لكن الإسلام أفضل.
ومن هؤلاء: من قدم الحج إلى المقابر، على الحج إلى البيت ; ومنهم من يرجح الحج إلى البيت، لكن قد يقول أحدهم: إنك إذا زرت قبر الشيخ مرتين أو ثلاثا، كان
كحجة ; ومن الناس من يجعل مقبرة الشيخ بمنْزلة عرفات، يسافرون إليها وقت الموسم، فيعرفون بها كما يعرف المسلمون بعرفات، كما يفعل هذا بالمشرق والمغرب.
ومنهم: من يجعل السفر إلى المشهد والقبر الذي يعظمه، أفضل من الحج؛ ويقول أحد المريدين، للآخر- وقد حج سبع حجج إلى بيت الله العتيق-:أتبيعني زيارة قبر الشيخ بالحجج السبع؟ فشاور الشيخ، فقالوا: لو بعته كنت مغلوبا. ومنهم من يقول: من طاف بقبر الشيخ سبعا، كان كحجة، ومنهم من يقول: زيارة المغارة الفلانية ثلاث مرات كحجة. ومنهم من يحكي عن الشيخ الميت، أنه قال: كل خطوة إلى قبري كحجة، ويوم القيامة لا أبيع بحجة؛ وأنكر بعض الناس ذلك. فتمثل له الشيطان بصورة الشيخ في منامه، وزجره على إنكار ذلك، وهؤلاء وأمثالهم: صلاتهم، ونسكهم لغير الله رب العالمين، فليسوا على ملة الحنفاء.
وليسوا من عمار مساجد الله، الذين قال الله فيهم:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} 1، فعمار مساجد الله لا يخشون إلا الله.
1 سورة التوبة آية: 18.
وعمار مشاهد القبور يخشون غير الله، ويرجون غير الله، حتى إن طائفة من أرباب الكبائر، الذين لا يخشون الله فيما يفعلونه من القبائح، كان إذا رأى قبة الميت، أو الهلال الذي على رأس القبة، فيخشى من فعل الفواحش، ويقول أحدهم لصاحبه: ويحك هذا هلال القبة، فيخشون المدفون تحت الهلال، ولا يخشون الذي خلق السماوات والأرض، وجعل أهلة السماء مواقيت للناس والحج. وهؤلاء إذا نوظروا، خوفوا مناظرهم، كما صنع المشركون بإبراهيم، قال تعالى:{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 1 إلى قوله: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 2.
وآخرون قد جعلوا الميت بمنْزلة الإله، والشيخ الحي المتعلق به كالنبي؛ فمن الميت تطلب قضاء الحاجات، وكشف الكربات، وأما الحي فالحلال ما أحله، والحرام ما حرمة، وكأنهم في أنفسهم قد عزلوا الله عن أن يتخذوه إلها، وعزلوا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يتخذوه رسولا.
1 سورة الأنعام آية: 80.
2 سورة آية: 81.
وقد يجيء الحديث العهد بالإسلام، أو التابع لهم، الحسن الظن بهم أو غيره، يطلب من الشيخ الميت: إما دفع ظلم ملك يريد أن يظلمه، أو غير ذلك، فيدخل ذلك السادن، فيقول: قد قلت للشيخ، والشيخ يقول للنبي، والنبي يقول لله، والله قد بعث رسولا إلى السلطان فلان; فهل هذا إلا محض دين المشركين والنصارى، وفيه من الكذب والجهل، ما لا يستجيزه كل مشرك ونصراني، ولا يروج عليه.
ويأكلون من النذور، والمنذور، وما يؤتى به إلى قبورهم، ما يدخلون به في قوله تعالى:{إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 1، يعرضون بأنفسهم، ويمنعون غيرهم، إذ التابع لهم يعتقد أن هذا سبيل الله ودينه، فيمتنع بسبب ذلك من الدين الحق، الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه.
والله تعالى لم يذكر في كتابه المشاهد، بل ذكر المساجد، وأنها خالصة له، قال تعالى:{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} 2، وقال تعالى:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} 3 الآية،
وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} 4 الآية،
1 سورة التوبة آية: 34.
2 سورة الأعراف آية: 29.
3 سورة التوبة آية: 18.
4 سورة النور آية: 36.
وقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} 1، ولم يذكر بيوت الشرك، كبيوت الأصنام والمشاهد، ولا ذكر بيوت النار، لأن الصوامع والبيع لأهل الكتاب؛ فالممدوح من ذلك ما كان مبنيا قبل النسخ والتبديل، كما أثنى على اليهود والنصارى والصابئين، الذين كانوا قبل النسخ والتبديل، يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويعملون الصالحات.
فبيوت الأوثان، وبيوت النيران، وبيوت الكواكب، وبيوت المقابر، لم يمدح الله شيئا منها، ولم يذكر ذلك إلا في قصة من لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} 2 فهؤلاء الذين اتخذوا مسجدا على أهل الكهف، كانوا من النصارى الذين لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:" لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 3،وفي رواية:?" والصالحين".
ودعاء المقبورين من أعظم الوسائل إلى ذلك، وقد قدم بعض شيوخ المشرق، وتكلم معي في هذا، فبينت له فساد هذا، فقال أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا أعيتكم الأمور، فعليكم بأصحاب القبور"؟ فقلت: هذا مكذوب باتفاق أهل
1 سورة الحج آية: 40.
2 سورة الكهف آية: 21.
3 البخاري: الجنائز (1330)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531)، والنسائي: المساجد (703) ، وأحمد (1/218 ،6/34 ،6/80 ،6/121 ،6/252 ،6/255 ،6/274)، والدارمي: الصلاة (1403) .
العلم، لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد من علماء الحديث.
وبسبب هذا وأمثاله، ظهر مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ ". وهؤلاء الغلاة المشركون، إذا حصل لأحدهم مطلوبه، ولو من كافر، لم يقبل على الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يطلب حاجته من حيث يظن أنها تقضى.
فتارة يذهب إلى ما يظنه قبر رجل صالح، ويكون فيه قبر كافر أو منافق، وتارة يعلم أنه كافر، أو منافق، ويذهب إليه، كما يذهب قوم إلى كنيسة، أو إلى موضع، يقال لهم: إنها تقبل النذر؛ فهذا يقع فيه عامتهم، وأما الأول فيقع فيه خاصتهم.
حتى إن بعض أصحابنا، المباشرين لقضاء القضاة، لما بلغه أني أنهى عن ذلك، صار عنده من ذلك شبهة ووسواس، لما يعتقده من الحق فيما أذكره، ولما عنده من المعارضة، لذلك قال لبعض أصحابنا سرا: أنا جربت إجابة الدعاء عند قبر بالقرافة، فقال له ذلك الرجل: فأنا أذهب معك إليه، لنعرف من هو قبره، فذهب إليه، فوجد مكتوبا عليه "عبد علي" فعرفوا: أنه إما رافضي، أو إسماعيلي.
وكان بالبلد جماعة كثيرون، يظنون فى العبيديين أنهم أولياء الله الصالحون، فلما ذكرت لهم أن هؤلاء كانوا منافقين زنادقة، وخيار من فيهم الرافضة، جعلوا يتعجبون ويقولون: نحن نذهب بالفرس التي فيها مغل إلى قبورهم فتشفى عند قبورهم، فقلت لهم: هذا من أعظم الأدلة على كفرهم.
وطلبت طائفة من سياس الخيل، فقلت: أنتم بالشام ومصر، إذا أصاب الخيل المغل أين تذهبون بها؟ فقالوا: في الشام نذهب بها إلى قبور اليهود والنصارى، وإذا كنا بأرض الشمال، نذهب بها إلى القبور التي ببلاد الإسماعيلية، كالعليقة والمنيقة ونحوهما، وأما في مصر، فنذهب بها إلى دير هناك للنصارى، ونذهب بها إلى قبور هؤلاء الأشراف، وهم يظنون: أن العبيديين أشراف، لما أظهروا أنهم من أهل البيت.
فقلت: هلا تذهبون إلى قبور صالحي المسلمين، مثل الليث بن سعد، والشافعي، وابن القاسم، ونفيسة، وغير هؤلاء، فقالوا: لا; فقلت لأولئك: اسمعوا، إنما يذهبون بها إلى قبور الكفار، والمنافقين، وبينت لهم سبب ذلك، فقلت: لأن هؤلاء يعذبون في قبورهم، والبهائم تسمع أصواتهم، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح، فإذا سمعت ذلك فزعت؛ فبسبب الرعب الذي يحصل لها،
تنحل بطونها، فتروث، فإن الفزع يقتضي الإسهال، فتعجبوا من ذلك؛ وهذا المعنى كثيرا ما كنت أذكره للناس، ولم أعلم أن أحدا قاله، ثم وجدته قد ذكره بعض العلماء.
والمقصود هنا: أن كثيرا من الناس، يعظم قبر من يكون في الباطن كافرا، أو منافقا، ويكون هذا عنده والرسول من جنس واحد، لاعتقاده أن الميت يقضي حاجته، إذا كان رجلا صالحا، وكلا هذين عنده من جنس من يستغيث به.
وكم من مشهد يعظمه الناس، وهو كذب، بل يقال: إنه قبر كافر، كالمشهد الذي بسفح جبل لبنان، الذي يقال إنه قبر نوح، فإن أهل المعرفة يقولون: إنه قبر بعض العمالقة، وكذلك مشهد الحسين الذي بالقاهرة، وقبر أبي بن كعب الذي في دمشق، اتفق العلماء على أنه كذب، ومنهم من قال: هما قبران لنصرانيين؛ وكثير من المشاهد متنازع فيها، وعندها شياطين تضل بسببها من تضل.
ومنهم: من يرى في المنام شخصا، يظن أنه المقبور، ويكون ذلك شيطانا تصور بصورته، أو بغير صورته، كالشياطين التي تكون بالأصنام، وكالشياطين الذين يتمثلون لمن يستغيث بالأصنام، والموتى والغائبين؛ وهذا كثير في زماننا وغيره.
مثل أقوام يرصدون بعض التماثيل التي بالبرابي بديار مصر، بأخميم وغيرها، يرصدون التمثال مدة، لا يتطهرون طهر المسلمين، ولا يصلون صلاة المسلمين، ولا يقرؤون حتى يتعلق الشيطان تلك الصورة، فيراها تتحرك فيضع فيها شمعة، أو غيرها، فيرى شيطانا قد خرج له، فيسجد لذلك الشيطان حتى يقضي بعض حوائجه.
وقد يمكنه من فعل الفاحشة، حتى يقضي حوائجه، ومثل هذا كثير في شيوخ الترك الكفار، يسمونه "البوشت"، وهو:"المخنث"، إذا طلبوا منه بعض هذه الأمور، أرسلوا له من ينكحه، وينصبون له حركات عالية في ليلة ظلماء، وقربوا له خبزا، أو ميتة، وغنوا غناء يناسبه، بشرط أن لا يكون عندهم من يذكر الله، ولا هناك شيء فيه شيء من ذكر الله.
ثم يصعد ذلك الشيخ المفعول به في الهواء، ويرون الدف يطير في الهواء، ويضرب من مد يده إلى الخبز، ويضرب الشيطان بآلات اللهو وهم يسمعون، ويغني لهم الأغاني التي كانت تغنيها آباؤهم الكفار، ثم قد يغيب، وكذلك الطعام، فيرونه وقد نقل إلى بيت "البوشت"، وقد لا يغيب، ويقربون له ميتة يحرقونها بالنار، ويقضي بعض حوائجهم؛ ومثل هذا كثير جدا للمشركين، فالذي يجري عند المشاهد، من جنس ما يجري عند الأصنام.
وقد ثبت بطرق متعددة: أن ما يشرك به من دون الله، من صنم وقبر وغير ذلك، قد يكون عنده شياطين، تضل من أشرك به، وأن تلك الشياطين لا يقضون إلا بعض أغراضهم، وإنما يقضونها إذا حصل منهم من الشرك والمعاصي ما يحبه الشيطان: فمنهم من يأمر الداعي أن يسجد له، ومنهم من يأمره بالفواحش، وقد يفعلها الشيطان، وقد ينهاه عما أمر الله به، من التوحيد والإخلاص، والصلوات الخمس، وقراءة القرآن ونحو ذلك.
والشياطين تغوي الإنسان، بحسب ما تطمع منه، فإن كان ضعيف الإيمان أمرته بالكفر البين، وإلا أمرته بما هو فسق أو معصية؛ وإن كان قليل العلم، أمرته بما لا يعلم أنه مخالف للكتاب والسنة؛ وقد وقع في هذا النوع كثير من الشيوخ، الذين لهم نصيب وافر، من الدين، والزهد، والعبادة، لكن لعدم علمهم بحقيقة الدين، الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، طمعت فيهم الشياطين، حتى أوقعوهم فيما يخالف الكتاب والسنة.
وقد جرى لغير واحد من أصحابنا المشائخ، يستغيث بأحدهم بعض أصحابه، فيرى الشيخ قد جاء في اليقظة، حتى قضى ذلك المطلوب؛ وإنما هي شياطين تتمثل للمشركين، الذين يدعون غير الله، والجن بحسب الإنس،
فالكافر للكافر، والفاجر للفاجر، والجاهل للجاهل، وأما أهل العلم والإيمان، فأتباع الجن لهم كأتباع الإنس، يتبعونهم فيما أمر الله تعالى به ورسوله.
وقد حدثني بعض الثقات عن هذا الشيخ- يعني ابن البكري، الذي جوز في كتابه الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث بالله- أنه كان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم علم مفاتيح الغيب التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: " خمس لا يعلمها إلا الله " 1، {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} 2، وأظنه ذكر عنه أنه قال: علمها بعد أن أخبر أنه لا يعلمها إلا الله.
وآخر من جنسه، يباشر التدريس، وينسب إلى الفتيا، كان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما يعلمه الله، ويقدر على ما يقدر الله عليه، وأن هذا السر انتقل بعده إلى الحسن، ثم انتقل في ذرية الحسن إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي، وقالوا: هذا مقام القطب الغوث، الفرد الجامع.
وكان شيخ آخر، معظم عند أتباعه، يدعي هذه المنْزلة، ويقول: إنه "المهدي" الذي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يزوج عيسى بابنته، وأن نواصي الملوك والأولياء بيده، يولي من يشاء، ويعزل من يشاء، وأن الرب يناجيه دائما، وأنه الذي يمد حملة العرش وحيتان البحر.
1 البخاري: الجمعة (1039) ، وأحمد (2/24 ،2/52 ،2/58 ،2/122) .
2 سورة لقمان آية: 34.
وقد عزرته تعزيرا بليغا، في يوم مشهود، بحضرة من أهل المسجد الجامع، يوم الجمعة بالقاهرة، فعرفه الناس، وانكسر بسببه أشباهه من الدجاجلة.
ومن هؤلاء: من يقول قول الله سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} ، 1 أن الرسول هو الذي يسبح بكرة وأصيلا. ومنهم من يقول: نحن نعبد الله ورسوله، فيجعلون الرسول معبودا.
ومنهم من يأتي إلى قبر الميت- الرجل أو المرأة- الذي يحسن الظن لنفسه، فيقول: اغفر لي وارحمني، ولا توقفني على زلة، ونحو هذا الكلام، إلى أمثال هذه الأمور، التي يتخذ فيها المخلوق إلها.
ولما استقر هذا في نفوس عامتهم، تجد أحدهم إذا سئل عمن ينهاهم: ما يقول هذا؟ فيقول: فلان عنده ما ثم إلا الله، لما استقر في نفوسهم: أنهم يجعلون مع الله إلها آخر، وهذا كله وأمثاله وقع ونحن بمصر، وآخر يقول- معظما لمن يدعو إلى التوحيد-: قد جعل الآلهة إلها واحدا.
وهؤلاء الضالون مستخفون بتوحيد الله، ويعظمون دعاء غير الله من الأموات؛ فإذا أمروا بالتوحيد، ونهوا عن الشرك، استخفوا به، كما أخبر تعالى عن المشركين،
1 سورة آية: 9.
بقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً} 1 الآية، فاستهزؤوا بالرسول صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الشرك.
وقال تعالى عن المشركين: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} 2، وقال تعالى:{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 3، وذكر رحمه الله آيات كثيرة.
وما زال المشركون يسفهون الأنبياء، ويصفونهم بالجنون، والضلال والسفاهة، كما قال قوم نوح لنوح، وعاد لهود:{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 4، فأعظم ما سفهوه لأجله، وأنكروه، هو التوحيد.
وهكذا تجد من فيه شبه هؤلاء من بعض الوجوه، إذا رأى من يدعو إلى توحيد الله، وإخلاص الدين له، وأن لا يعبد الإنسان إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه، استهزأ بذلك، لما عنده من الشرك؛ وكثير من هؤلاء يخربون المساجد، فتجد المسجد الذي بني للصلوات الخمس، معطلا مخربا، ليس له كسوة إلا من الناس، كأنه خان من
1 سورة الفرقان آية: 41.
2 سورة آية: 36-37.
3 سورة آية: 4-5.
4 سورة الأعراف آية: 70.
الخانات، والمشهد الذي بني على الميت، فعليه الستور وزينة الذهب والفضة، والرخام، والنذور تغدو، وتروح إليه.
فهل هذا إلا من استخفافهم بالله وآياته ورسوله، وتعظيمهم للشرك؟ فإنهم اعتقدوا أن دعاء الميت الذي بني له المشهد، والاستغاثة به، أنفع لهم من دعاء الله، والاستغاثة به، في البيت الذي بني لله عز وجلففضلوا البيت الذي بني لدعاء المخلوق، على البيت الذي بني لله.
وإذا كان لهذا وقف، ولهذا وقف، كان وقف الشرك أعظم عندهم منه، مضاهاة لمشركي العرب الذين ذكر الله حالهم في قوله تعالى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} 1 الآية، كما يجعلون لله زرعا وماشية، ولآلهتهم زرعا وماشية، فإذا أصيب نصيب آلهتهم، أخذوا من نصيب الله فوضعوه فيه، وقالوا: الله غني، وآلهتنا فقيرة، فيفضلون ما يجعل لغير الله، على ما يجعل لله.
وهكذا هؤلاء الوقوف والنذور التي تبذل عندهم للمشاهد، أعظم مما تبذل عندهم للمساجد، ولعمار المساجد، والجهاد في سبيل الله؛ وهؤلاء إذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه، بكى عنده وخضع، ويدعو ويتضرع،
1 سورة الأنعام آية: 136.
ويحصل له من الرقة والتواضع، والعبودية، وحضور القلب، ما لا يحصل له مثله في الصلوات الخمس، والجمعة، وقيام الليل، وقراءة القرآن؛ فهل هذا إلا من حال المشركين المبتدعين، لا الموحدين المخلصين، المتبعين لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومثل هذا أنه إذا سمع أحدهم سماع الأبيات، يحصل له من الحضور، والخشوع، والبكاء، ما لا يحصل له مثله عند سماع آيات الله؛ فيخشع عند سماع المشركين المبتدعين، ولا يخشع عند سماع المتقين المخلصين؛ بل إذا سمعوا آيات الله اشتغلوا عنها، وكرهوها، واستهزؤوا بها، وبمن يقرؤها، ما يحصل لهم به أعظم نصيب، من قوله تعالى:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} 1.
وإذا سمعوا القرآن، سمعوه بقلوب لاهية وألسن لاغية، كأنهم صم وعمي، وإذا سمعوا الأبيات، حضرت قلوبهم، وسكنت حركاتهم، حتى لا يشوب العطشان منهم ماء.
ومن هؤلاء من إذا كانوا في سماعهم، فأذن المؤذن، قالوا: نحن في شيء أفضل مما دعانا إليه. ومنهم من يقول: كنا في الحضرة، فإذا قمنا إلى الصلاة صرنا إلى الباب.
وقد سألني بعضهم عمن قال ذلك من هؤلاء الشيوخ
1 سورة التوبة آية: 65.
الضلاّل، فقلت: كذب، كان في حضرة الشيطان، فصار على باب الله، فإن البدع والضلالة فيها من حضور الشيطان، ما قد فصل في غير هذا الموضع.
والذين يجعلون دعاء الموتى، من الأنبياء والأئمة والشيوخ، أفضل من دعاء الله، أنواع متعددة، منهم من تقدم، ومنهم من يحكي أنواعا من الحكايات، حكاية: أن بعض المريدين استغاث بالله فلم يغثه، واستغاث بشيخه فأغاثه، وحكاية: أن بعض المأسورين في بلاد العدو، دعا الله فلم يخرجه، فدعا بعض المشائخ الموتى، فجاءه فأخرجه إلى بلاد الإسلام، وحكاية: أن بعض الشيوخ، قال لمريده: إذا كانت لك إلى الله حاجة، فتعال إلى قبري، وآخر قال: فتوسل إلى الله بي، وآخر قال: قبر فلان هو الترياق المجرب.
فهؤلاء وأشباههم يرجحون هذه الأدعية على أدعية المخلصين لله، مضاهاة لسائر المشركين، وهؤلاء يتمثل لكثير منهم، صورة شيخه الذي يدعوه، فيظنه إياه، أو ملكا على صورته، وإنما هو شيطان أغواه. ومن هؤلاء من إذا نزلت به شدة لا يدعو إلا شيخه، ولا يذكر إلا اسمه، قد لهج به كما يلهج الصبي بذكر أمه، فيستنصر به أحدهم، فيقول: يا فلان؛ وقد قال الله تعالى للموحدين {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ
ذِكْراً} 1
ومن هؤلاء من يحلف بالله ويكذب، ويحلف بشيخه وإمامه ويصدق، ولا يكذب؛ فيكون شيخه عنده في صدره أعظم من الله.
فإذا كان دعاء الموتى، مثل الأنبياء والصالحين، يتضمن هذا الاستهزاء، بالله وآياته ورسوله، فأي الفريقين أحق بالاستهزاء بالله وآياته ورسوله؟ من كان يأمر بدعاء الموتى والاستغاثة بهم، مع ما يترتب على ذلك من الاستهزاء بالله وآياته ورسوله صلى الله عليه وسلم أو من كان يأمر بدعاء الله وحده لا شريك له، كما أمرت به رسله، ويوجب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومتابعته في كل ما جاء به؟
وأيضا: فإن هؤلاء الموحدين، من أعظم الناس إيجابا لرعاية جانب الرسول صلى الله عليه وسلم وتصديقا له فيما أخبر، وطاعة له فيما أمر، واعتناء بمعرفة ما بعث به، والتمييز بين ما روي عنه، من الصحيح والضعيف، والصدق والكذب، واتباع ذلك دون ما خالفه، عملا بقوله تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 2.
وأما أولئك الضلاّل، أشباه المشركين والنصارى، فعمدتهم إما أحاديث ضعيفة، أو موضوعة، أو منقولات عمن لا يحتج بقوله، إما أن يكون كذب عليه، وإما أن يكون غلطا منه، إذ هي نقل غير مصدق، عن قائل غير
1 سورة البقرة آية: 200.
2 سورة الأعراف آية: 3.
معصوم، وإن اعتصموا بشيء مما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم حرفوا الكلم عن مواضعه، وتمسكوا بمتشابهه، وتركوا محكمه كما يفعل النصارى.
وكما فعل هذا الضال، أخذ لفظ الاستغاثة، وهي تنقسم إلى الاستغاثة بالحي وبالميت، والاستغاثة بالحي تكون فيما يقدر عليه، وما لا يقدر عليه، فجعل حكم ذلك كله واحدا، ولم يكفه حتى جعل السؤال بالشخص من مسمى الاستغاثة، ولم يكفه ذلك، حتى جعل الطالب منه إنما طلب من الله، لا منه، فالمستغيث به مستغيثا بالله، ثم جعل الاستغاثة بالله بكل ميت، من نبي وصالح جائزة.
واحتج على هذه الدعوى العامة الكلية، التي أدخل فيها من الشرك والضلال، ما لا يعلمه إلا ذو الجلال، بقضية خاصة جزئية، كسؤال الناس للنبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة أن يدعو الله، وتوجههم إلى الله بدعائه وشفاعته؛ ومعلوم أن هذا الذي جاءت به السنة، حق لا ريب فيه، لكن لا يلزم من ذلك، ثبوت جميع تلك الدعاوى العامة، وإبطال نقيضها، إذ الدعوى الكلية، لا تثبت بمثال جزئي، لا سيما عند الاختلاف والتباين.
وهذا كمن يريد أن يثبت جميع الملاهي لكل أحد، والتقرب بها إلى الله، بكون جاريتين غنتا عند عائشة رضي الله عنها، في بيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد، مع كون وجهه
كان مصروفا إلى الحائط، لا إليهما، ويحتج على استماع كل قول، بقوله:{فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} 1، ولا يدري أن القول هنا، هو القرآن، كما في قوله تعالى:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} 2، وإلا فمسلم لا يسوغ استماع كل قول.
وقد نهى الله عز وجلعن الجلوس مع الخائضين في آياتة، وخوضهم نوع من القول، فقال تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} 3 الآية، وقال تعالى:{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} 4،وقال تعالى:{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} 5 الآية.
وهذا الضال يجوز عنده أن يستغاث بالرسول، في كل ما يستغاث بالله، على معنى أنه وسيلة من وسائل الله، في طلب الغوث؛ وهذا عنده ثابت للصالحين، وهو ثابت عند هذا الضال بعد موته، ثبوتها في حياته، لأنه عند الله في مزيد دائم، لا ينقص جاهه.
فدخل عليه الخطأ من وجوه: منها: أنه جعل المتوسل به بعد موته بالدعاء، مستغيثا به؛ وهذا لا يعرف في لغة أحد من الأمم، لا حقيقة ولا مجازا، مع دعواه الإجماع على ذلك؛ فإن المستغاث هو المسؤول المطلوب
1 سورة آية: 17.
2 سورة المؤمنون آية: 68.
3 سورة الأنعام آية: 68.
4 سورة الفرقان آية: 72.
5 سورة القصص آية: 55.
منه، لا المسؤول به.
الثاني: ظنه أن توسل الصحابة به في حياته، كان توسلا بذاته، لا بدعائه وشفاعته، فيكون التوسل به بعد موته كذلك؛ وهذا غلط، لكنه يوافقه طائفة من الناس، بخلاف الأول، فإني ما علمت أحدا وافقه عليه.
الثالث: أنه أدرج سؤاله أيضا في الاستغاثة به، وهذا صحيح جائز في حياته؛ وهو قد سوى في ذلك بين محياه ومماته، وهذا أصاب في لفظ الاستغاثة، لكن أخطأ في التسوية، بين المحيا والممات.
وهذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء، لكنه موجود في كلام بعض الناس، مثل الشيخ يحيى الصرصري، ففي شعره قطعة منه; والشيخ محمد بن النعمان، له كتاب المستغيثين بالنبي عليه السلام، في اليقظة والمنام، وهذا الرجل قد نقل منه، فيما يغلب على ظني.
وهؤلاء لهم صلاح ودين، لكنهم ليسوا من أهل العلم، العالمين بمدارك الأحكام، الذين يؤخذ بقولهم، في شرائع الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام، وليس لهم دليل شرعي، ولا نقل عن عالم مرضي، بل عادة جروا عليها، كما جرت عادة كثير من الناس، بأنه يستغيث بشيخه
في الشدائد، ويدعوه.
وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم، ولهم فضل وعلم وزهد، إذا نزل به أمر، خطا إلى جهة الشيخ عبد القادر خطوات معدودة، واستغات به، وهذا يفعله كثير من الناس؛ ولهذا لما نبه من نبه من فضلائهم تنبهوا، وعلموا أن ما كانوا عليه، ليس من دين الإسلام، بل هو مشابهة لعباد الأصنام.
لكن هؤلاء كلهم، ليس منهم من يعد نفي هذا والنهي عنه كفرا، إلا مثل هذا الأحمق الضال، الذي حاق به وبيل النكال؛ فإنه من غلاة أهل البدع الذين يبتدعون القول، ويكفرون من خالفهم فيه، كالخوارج والروافض والجهمية، فإن هذا القول الذي قالوه، لم يوافقهم عليه أحد من علماء المسلمين، الأولين، ولا الآخرين.
وقد طاف بجوابه على علماء مصر، ليوافقه واحد منهم، فما وافقوه، وطلب منهم أن يخالفوا الجواب الذي كتبته، فما خالفوه؛ وقد كان بعض الناس يوافقه، على جواز التوسل بالنبي الميت، لكنهم لم يوافقوه على تسميته استغاثة، ولا على كفر من أنكر الاستغاثة به، ولا جعل هذا من السب؛ بل عامتهم وافقوا على منع الاستغاثة به، بمعنى أنه يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله.
وما علمت عالما نازع في أن الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من المخلوقينبهذا المعنى لا تجوز، مع أن قوما كان لهم غرض، وفيهم جهل بالشرع، قاموا في ذلك قياما عظيما، واستغاثوا بمن كان له غرض من ذوي السلطان، وجمعوا الناس وعقدوا مجلسا عظيما، ضل فيه سعيهم، وظهر فيه جهلهم، وخاب فيه قصدهم، وظهر فيه الحق لمن يعاونهم من الأعيان، وتمنوا أن ما فعلوه ما كان، لأنه كان سببا لظهور الحق، مع الذي عادوه، وقاموا عليه، وسببا لانقلاب الخلق إليه، وكانوا كالباحث عن حتفه بظلفه، والجادع مارن أنفه بكفه، مع فرط تعصبهم، وكثرة جمعهم، وقوة سلطانهم، ومكائد شيطانهم.
وهذه الطريقة التي سلكها هذا وأمثاله، هي طريقة أهل البدع الذين يجمعون بين الجهل والظلم، فيبتدعون بدعة مخالفة للكتاب والسنة وإجماع الصحابة، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم، كالخوارج المارقين، وكذلك الروافض الذين كفروا من خالفهم من الصحابة وجمهور المؤمنين، حتى كفروا أبا بكر وعمر وعثمان، ومن والاهم، وأئمة السنة والجماعة.
وأهل العلم والإيمان، فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة، سالمين من البدعة، ويعدلون فيمن خرج عنها ولو ظلمهم، كما قال
تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} 1 الآية، وقال:{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 2 الآية.
فلهذا كان أهل العلم والسنة، لا يكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك، وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه، وتزني بأهله، لأن الكذب والزنى حرام لحق الله، وكذلك التكفير حق لله، فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله.
وأيضا: فإن تكفير الشخص المعين وجواز قتله، موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية، التي يكفر من خالفها؛ فليس كل من جهل شيئا من الدين يكفر ولهذا لما استحل طائفة، من الصحابة والتابعين- كقدامة بن مظعون وأصحابه- الخمر، وظنوا أنها تباح لمن عمل صالحا، على ما فهموه من آية المائدة، اتفق علماء الصحابة، كعمر وعلي وغيرهما، على أنهم يستتابون، فإن أصروا على الاستحلال كفروا، وإن أقروا به جلدوا، فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء، لأجل الشبهة التي عرضت لهم، حتى يتبين لهم الحق، فإذا أصروا على الجحود كفروا.
1 سورة النساء آية: 135.
2 سورة المائدة آية: 8.
وقد ثبت في الصحيحين، حديث الذي قال لأهله:" إذا أنا مت فاسحقوني، ثم ذروني في اليم؛ فوالله لئن قدر الله علي، ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا من العالمين. فأمر الله البر فرد ما أخذه منه، وأمر البحر فرد ما أخذه منه، وقال: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك يا رب، فغفر له ". فهذا اعتقد أنه إذا فعل ذلك، لن يقدر الله على إعادته، وأنه لا يعيده، أو جوز ذلك، وكلاهما كفر، لكن كان جاهلا، لم يتبين له الحق، بيانا لا يعذر بمخالفته، فغفر الله له.
ولهذا كنت أقول للجهمية، من الحلولية، والنفاة الذين نفوا أن يكون الله تعالى فوق العرش: أنا لو وافقتكم كنت كافرا، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون، لأنكم جهال، وكان هذا خطابا لعلمائهم، وقضاتهم، وشيوخهم، وأمرائهم.
وهو قد احتج بحديث الأعمى، الذي قال:" اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد، نبي الرحمة " 1، وهذا الحديث لا حجة فيه، لوجهين: أحدهما: أنه ليس هو استغاثة، بل توجه به. والثاني: أنه إنما توجه بدعائه وشفاعته، فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء، وقال في آخره: اللهم فشفعه في، فعلم أنه شفع له، فتوسل بشفاعته لا بذاته، كما كان الصحابة يتوسلون بدعائه في الاستسقاء،
1 الترمذي: الدعوات (3578)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) .
وكما توسلوا بدعاء العباس بعد مماته صلى الله عليه وسلم.
وكل ذلك في أول الحديث أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، فدل الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له ودعا له، وإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره هو أن يدعو الله تعالى، وأن يسأله قبول شفاعته، وقوله: يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، خطاب لما ظهر في قلبه، كما نقول في صلاتنا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وكما يستحضر الإنسان من يحبه ويبغضه في قلبه، ويخاطبه، وهذا كثير.
وما ذكره من توسل آدم وحكاية المنصور، فجوابها من وجهين: أحدهما: أن هذا لا أصل له، ولا تقوم به حجة، ولا إسناد لذلك. والثاني: أنه لو دل على التوسل بذاته، لا يدل على الاستغاثة به. وأما اشتكاء البعير إليه، فهذا كاشتكاء الآدمي إليه، وما زال الناس يستغيثون به في حياته، كما يستغيثون به يوم القيامة؛ وقد قلنا إنه إذا طلب ما يليق بمنصبه، فهذا لا نزاع فيه؛ والطلب منه في حياته، والاستغاثة به في حياته فيما يقدر عليه، لم ينازع فيه أحد. فما ذكره لا يدل على مورد النِّزاع.
ولكن هذا أخذ لفظ الاستغاثة، ومعناها العام، فجعل يشبه به، وهذا إنما يليق بمن: قال لا يستغيث به أحد حيا،
ولا ميتا في شيء من الأشياء، ومعلوم أن العاقل لا يقول هذا في آحاد العامة، فضلا عن الصالحين، فضلا عن الأنبياء والمرسلين، فضلا عن سيد الأولين والآخرين؛ فإنه ما من أحد إلا يمكن أن يستغاث به في بعض الأشياء، فكيف أفضل الخلق، وأكرمهم على الله.
ولكن النفي عاد إلى شيئين، إلى الاستغاثة به بعد الموت، وأن يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى؛ وأما قول هؤلاء الجهال، فهو يستلزم الردة عن الدين، والكفر برب العالمين؛ ولا ريب أن أصل قول هؤلاء، هو من باب الشرك بالله، الذي هو الكفر، الذي لا يغفره الله تعالى.
فإن الله سبحانه قال في كتابه: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 1 الآية، وقد قال غير واحد من السلف: هذه أسماء قوم صالحين، كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم.
وقد ذكروا ذلك بعبارات متقاربة، في كتب الحديث، والتفسير، وقصص الأنبياء، كما ذكره البخاري في صحيحه، وجماعة من أهل الحديث، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} 2 الآية؛ فيقول أهل الضلال: هذا يقوله هو نفسه، وأما نحن
1 سورة نوح آية: 23.
2 سورة الكهف آية: 110.
فليس لنا أن نقول: هذا بشر، بل نقول كما قال فلان وفلان، ومن زعم أن محمدا بشر كله، فقد كفر.
وهذا يقوله قوم منهم، وهو تشبه بقول النصارى في المسيح، يقولون: ليس هو بشر كله، بل المسيح عندهم: اسم يتناول اللاهوت والناسوت، الإلهية والبشرية جميعا؛ وهذا يقوله طائفة من غلاة الصوفية والشيعة، يقولون باتحاد اللاهوت والناسوت، في الأنبياء والصالحين، كما تقول النصارى في المسيح.
ونحن نعلم بالضرورة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته، أن يدعوا أحدا من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم، بلفظ الاستغاثة، ولا غيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت، ولا إلى ميت، ونحو ذلك؛ بل نعلم: أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، ولكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يتبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يخالفه.
ولهذا ما بينت هذه المسألة قط، لمن يعرف دين الإسلام إلا تفطن لها، وقال: هذا أصل دين الإسلام؛ وكان بعض أكابر الشيوخ- العارفين- من أصحابنا، يقول: هذا أعظم ما بينته لنا، لعلمه أن هذا أصل الدين.
وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى، يدّعون الإسلام، ويدعون الأموات، ويسألونهم، ويستجيرون بهم، ويفزعون إليهم، وربما كان ما يفعلونه بالأموات أعظم، لأنهم إنما يقصدون الميت في ضرورة نزلت بهم، فيدعونه دعاء المضطر، راجين قضاء حاجاتهم بدعائه، والدعاء به عند قبره، بخلاف عبادتهم لله، ودعائهم إياه، فإنهم يفعلون ذلك في كثير من الأوقات، على وجه التكلف والعادة.
حتى إن العدو الخارج من الإسلام، لما قدم دمشق، خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور، يرجون عندها كشف ضرهم، وقال بعض الشعراء:
يا خائفين من التتر
…
لوذوا بقبر أبي عمر
أو قال:
عوذوا بقبر أبي عمر
…
ينجيكمو من الضرر
فقلت لهم: هؤلاء الذين تستغيثون بهم، لو كانوا معكم في القتال لانهزموا، كما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، فإنه قضى أن العسكر ينكسر لأسباب اقتضت ذلك، والحكمة كانت لله في ذلك؛ ولهذا كان أهل المعرفة بالدين والمكاشفة، لم يقاتلوا في تلك المرة، لعدم القتال الشرعي الذي أمر الله به ورسوله.
فلما كان بعد ذلك، جعلنا نأمر الناس بإخلاص
الدين لله، والاستغاثة به، وأنهم لا يستغيثون إلا إياه، لا يستغيثون بملك مقرب، ولا نبي مرسل، فلما أصلح الناس أمورهم، وصدقوا في الاستغاثة بربهم، نصرهم على عدوهم، نصرا لم يتقدم نظيره، ولم يهزم مثل هذه الهزيمة قبل ذلك أصلا، لما صح من توحيد الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ما لم يكن قبل ذلك.
فإن الله ينصر رسله، والذين آمنوا في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد، كما قال تعالى في يوم بدر:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} 1 وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر كان يقول: "يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث "،وفي لفظ " أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك "2.
وهؤلاء يدعون الميت والغائب، فيقول أحدهم: بك أستغيث، بك أستجير، أغثنا، أجرنا، ويقول: أنت تعلم ذنوبي، ومنهم من يقول للميت: اغفر لي وارحمني، وتب علي، ونحو ذلك؛ ومن لم يقل من عقلائهم، فإنه يقول: أشكو إليك ذنوبي، وأشكو إليك عدوي، وأشكو إليك جور الولاة، وظهور البدع، وجدب الزمان، أو غير ذلك.
فيشكو إليه ما حصل من ضرر في الدين والدنيا، ومقصوده بالشكوى: أن يشكيه، فيزيل ذلك الضرر عنه؛
1 سورة الأنفال آية: 9.
2 أبو داود: الأدب (5090) ، وأحمد (5/42) .
وقد يقول مع ذلك: أنت تعلم ما نزل بنا من الضرر، وأنت تعلم ما فعلته من الذنوب، فيجعل الميت، أو الحي الغائب، عالما بذنوب العباد وجزئياتهم، التي يمتنع أن يعلمها بشر حي أو ميت. ثم منهم من يطلق سؤاله والشكوى، ظانا أنه يقضي حاجته، كما يخاطب بذلك ربه، بناء على أنه يمكنه ذلك بطريق من الطرق، وأنه وسيلة وسبب، وإن كان السائل لا يعلم وجه ذلك.
وعقلاؤهم يقولون: مقصودنا أن يسأل الله لنا، ويشفع لنا، ويظنون أنهم إذا سألوه بعد موته، أنه يسأل الله لهم، فإنه يسأل ويشفع، كما يسأل ويشفع لما سأله الصحابة رضي الله عنهم الاستسسقاء وغير ذلك، وكما يشفع يوم القيامة إذا سئل الشفاعة؛ ولا يعلمون أن سؤال الميت أو الغائب، غير مشروع البتة، ولم يفعله أحد من الصحابة، بل عدلوا عن سؤاله وطلب الدعاء منه، إلى سؤال غيره وطلب الدعاء منه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والصالحين وغيرهم، لا يطلب منه بعد موته من الأمور، ما كان يطلب منه في حياته، والله أعلم، انتهى ملخصا.
فتأمل رحمك الله، كلامه ساعة بعد ساعة، ويوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، وسنة بعد سنة، لعلك أن تعرف دين الإسلام، الذي بعث الله به جميع رسله، وأنزل به جميع كتبه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً
أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1 وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2، وقال تعالى:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 3.
ثم تأمل ما ذكره الشيخ، من أنواع الشرك الأكبر، الذي قد وقع في زمانه، لمن يدعي العلم والمعرفة، وينتصب للفتيا والقضاء، لكن لما نبههم الشيخ على ذلك، وبين لهم أن هذا هو الشرك الذي حرمه الله ورسوله، تنبهوا وعرفوا أن ما هم عليه شرك وضلال، وانقادوا للحق، وأن بعضهم لما بين له ذلك، قال: هذا أحسن ما بينته لنا، يتبين لك غربة الإسلام؛ وهذا مصداق ما تواترت به الأحاديث، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لتتبعن سنن من كان قبلكم " 4 الحديث.
وتأمل أيضا: ما وقع من هذا الرجل، وتجويزه الاستغاثة بغير الله، وأنه يجوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث به الله، واحتجاجه على ذلك بمتشابه القرآن والسنة، وتكفير من قال: إنه لا يستغاث إلا بالله في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، من كشف الشدائد وإنزال الفوائد.
ثم تأمل رد الشيخ رحمه الله عليه، بالآيات
1سورة النحل آية: 36.
2 سورة الأنبياء آية: 25.
3 سورة الزخرف آية: 45.
4 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456)، ومسلم: العلم (2669) ، وأحمد (3/84 ،3/89) .
المحكمات، والبراهين القاطعات، من الأحاديث الصريحات، يتبين لك الأمر إن هداك الله، وتنْزاح عنك الشبهة التي أدخلت كثيرا من الناس النار، وهي الاغترار بما عليه الآباء والأجداد، وما استمر عليه عمل كثير من أهل البلاد.
ومن أعجب ما ذكره الشيخ رحمه الله، عن هؤلاء المشركين في زمانه: أن أحدهم يسجد للقبر ويستدبر القبلة، ويقول أحدهم: القبلة قبلة العامة، وقبر الشيخ فلان قبلة الخاصة؛ قال رحمه الله في هذا: يقوله من هو أكثر الناس عبادة وزهدا، وهو شيخ متبوع. قلت: كما يشاهد اليوم في زماننا، يفعل في مشهد علي، وغيره من المشاهد، والمساجد، المبنية على القبور، ويجدون عند عبادة القبور، من الرقة، والخشوع، والبكاء، أعظم مما يجدون في بيوت الله.
بل إذا قام أحدهم في الصلاة بين يدي الله، نقرها نقر الغراب، ومنهم من يحلف بالله اليمين الغموس كاذبا، فإذا قيل له: احلف بتربة فلان، أو بفلان، أبى أن يحلف كاذبا، فيكون فلان، أو تربته، والشيخ فلان، أعظم في صدره من الله؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون، ما أعظمها من مصيبة! تالله إنها فتنة عمت فأعمت، وربت على القلوب والأسماع، فأصمت.
وتأمل أيضا رحمك الله، قول الشيخ رحمه الله: وهذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء، لكنه موجود في كلام بعض الناس، مثل الشيخ يحيى الصرصري، والشيخ محمد بن النعمان، وأن هؤلاء وأشباههم، ليسوا من أهل العلم، العالمين بمدارك الأحكام، الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام.
فإن الشيخ يحيى الصرصري الحنبلي، في شعره قطعة من دعوة الرسل، والاستغاثة بهم، وكذلك غيره من المصنفين في الزيارة؛ فإياك أن تغتر بذلك، وتقلدهم في ذلك، فإنه ليس لهم في ذلك مستند صحيح، لا من كتاب ولا سنة، ولا نقل عن عالم مرضي، بل قال الشيخ رحمه الله: عادة جروا عليها، فلا يقتدى بهم في ذلك؛ إنما يقتدى في الدين بكلام رب العالمين، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، رضي الله عنهم أجمعين.
فهل تجد أحدا من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته، واستغاث به، أو استشفع به إلى ربه، أو قال: يا رسول الله اشفع لي إلى ربك، أو اقض ديني، أو فرج كربتي، أو انصرني، أو اغفر لي ذنبي؟ بل جردوا التوحيد لله تعالى، وحموا جانبه، ولهذا كان "عبد الله بن عمر، وغيره من الصحابة، إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم يقف، فيقول: السلام عليك يا رسول الله. ثم
يقف فيقول: السلام عليك يا أبا بكر، ثم يقف فيقول: السلام عليك يا أبت".
وإذا أراد أحدهم الدعاء، جعل ظهره إلى جدار القبر، واستقبل القبلة إذا أراد أن يدعو، حتى لا يدعو عند القبر؛ وذكر الإمام أحمد وغيره: أنه يستقبل القبلة، ويجعل القبر عن يساره، لئلا يستدبره، وذلك بعد تحيته، والصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو لنفسه؛ وذكروا أنه إذا حياه، وصلى عليه، يستقبل وجهه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم فإذا أراد الدعاء جعل الحجرة عن يساره، واستقبل القبلة ودعا الله.
وذكر أصحاب مالك: أنه يدنو من القبر، فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو مستقبل القبلة، يوليه ظهره، وقيل لا يوليه ظهره؛ وإنما اختلفوا لما فيه من استدباره، فأما إذا جعل الحجرة عن يساره، فقد زال المحذور بلا خلاف. وقال مالك في المبسوط: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يصلي ويسلم، فهذا هو هدي السلف الصالح، من الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان، والأئمة الأربعة.
وما أحسن ما قال الإمام مالك رحمه الله: لن يصلح آخر هذه الأمة، إلا ما أصلح أولها، ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوا
من البدع، والشرك، وغيره، ولهذا كرهت الأئمة استلام القبر وتقبيله، وبنوا بناء منعوا الناس أن يصلوا إليه، والله أعلم.
وتأمل أيضا قول الشيخ رحمه الله، في آخر الكلام: ولا ريب أن أصل قول هؤلاء، هو الشرك الأكبر، والكفر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وأن ذلك يستلزم الردة عن الدين، والكفر برب العالمين، كيف صرح بكفر من فعل هذا وردته عن الدين، إذا قامت عليه الحجة من الكتاب والسنة، ثم أصر على فعل ذلك؛ وهذا لا ينازع فيه من عرف دين الإسلام، الذي بعث الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم؛ والله أعلم.
فصل: [في تعريف المرتد وحكمه]
قال في "الإقناع" وشرحه: باب حكم المرتد، وهو الذي يكفر بعد إسلامه، نطقا، أو شكا، أو فعلا، ولو مميزا، فتصح ردته كإسلامه، لا مكرها، لقوله:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} 1، ولو هازلا، لعموم قوله تعالى:{مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} 2 الآية، وأجمعوا على وجوب قتل المرتد.
فمن أشرك بالله تعالى، كفر بعد إسلامه، لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3، أو جحد ربوبيته، أو وحدانيته، كفر، لأن جاحد ذلك مشرك بالله تعالى، أو جحد صفة من
1 سورة النحل آية: 106.
2 سورة المائدة آية: 54.
3 سورة النساء آية: 48.
صفاته، أو اتخذ له صاحبة أو ولدا كفر، أو ادعى النبوة، أو صدق من ادعاها بعد النبي صلى الله عليه وسلم كفر، لأنه مكذب‘ لقوله تعالى:{وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 1،
أو جحد نبيا، أو كتابا من كتب الله، أو شيئا منه، أو جحد الملائكة، أو واحدا ممن ثبت أنه ملك كفر، لتكذيبه القرآن، أو جحد البعث كفر، أو سب الله ورسوله كفر، أو استهزأ بالله أو كتبه، أو رسله، كفر، لقوله:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُون} 2.
قال الشيخ: أو كان مبغضا لرسوله، أو لما جاء به اتفاقا، أو جعل بينه وبين الله وسائط، يتوكل عليهم، ويدعوهم، ويسألهم، كفر إجماعا، لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام، قائلين:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3، أو أتى بقول أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين الذي شرعه الله، كفر، للآية السابقة، أو وجد منه امتهان للقرآن، كفر.
وإن أتى بقول يخرجه عن الإسلام، مثل أن يقول: هو يهودي، أو نصراني، فهو كافر، أو سخر بوعد الله، أو وعيده، فهو كافر، لأنه كالاستهزاء بالله، أو لم يكفر من دان بغير الإسلام، أو شك في كفرهم، إلى أن قال: ومن قال: أنا محتاج إلى محمد، في علم الظاهر دون
1 سورة الأحزاب آية: 40.
2 سورة التوبة آية: 65.
3 سورة الزمر آية: 3.
علم الباطن، أو قال: من الأولياء من يسعه الخروج عن الشريعة، كما وسع الخضر الخروج من شريعة موسى، فهو كافر.
ومن سب الصحابة رضي الله عنهم، أو واحدا منهم، واقترن بسبه دعوى أن عليا إله، وأن جبرائيل غلط، فلا شك في كفر هذا، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره، وأما من لعن، أو قبح مطلقا، فهذا محل الخلاف، توقف أحمد في تكفيره وقتله.
ويحرم تعلم السحر وتعليمه وفعله، وهو عقد، ورقى، وكلام يتكلم به، أو يكتبه، أو يعمل شيئا يؤثر في بدن المسحور، أو عقله أو قلبه، من غير مباشرة؛ وله حقيقة، فمنه ما يقتل، ومنه ما يمرض، ومنه ما يأخذ الرجل عن امرأته، ومنه ما يفرق بين المرء وزوجته، ومنه ما يبغض أحدهما إلى الآخر، ويحبب بين اثنين، ويكفر بتعلمه وفعله، سواء اعتقد تحريمه أو إباحته، كالذي يركب الجماد من مكة وغيرها، فيطير به في الهواء.
وأما الذي يعزم على الجن، ويزعم أنه يجمعها، فتطيعه، فلا يكفر، ويعزر تعزيرا بليغا، دون القتل، كالمنجم، والضارب بحصى أو شعر، والنظر في ألواح الأكتاف، إذا لم يعتقد إباحته، وأنه لا يعلم به، عزر، ويكف عنه، وإلا كفر. وقال في شرحه، عند قوله: أنا
محتاج إلى محمد، في علم الظاهر، قال: وقد عمت به البلوى في زمنه، في مصر والشام؛ والله أعلم، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
[حال من صدر منه الكفر من غير قصد]
وسئل أيضا، الشيخ عبد الله بن الشيخ، رحمهما الله تعالى، عن حال من صدر منه كفر من غير قصد منه بل هو جاهل، هل يعذر، سواء كان قولا، أو فعلا، أو توسلا؟
فأجاب: إذا فعل الإنسان الذي يؤمن بالله ورسوله، ما يكون فعله كفرا، أو اعتقاده كفرا، جهلا منه بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يكون عندنا كافرا، ولا نحكم عليه بالكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية، التي يكفر من خالفها.
فإذا قامت عليه الحجة، وبين له ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصر على فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه، فهذا هو الذي يكفر، وذلك لأن الكفر: إما يكون بمخالفة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا مجمع عليه بين العلماء في الجملة.
واستدلوا بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 1، وبقوله:{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} 2 إلى قوله: {بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} 3.
1 سورة الإسراء آية: 15.
2 سورة الزمر آية: 71.
3 سورة الزمر آية: 71.
واستدلوا أيضا: بما ثبت في الصحيحين والسنن، وغيرها من كتب الإسلام، من حديث حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن رجلا ممن كان قبلكم، قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم ذروا نصفي في البر، ونصفي في البحر؛ فوالله لئن قدر الله علي، ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين. فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر الله البر فجمع ما فيه، ثم قال له: كن، فإذا الرجل قائم. قال الله: ما حملك على ذلك؟ قال خشيتك ومخافتك، فما تلافاه أن رحمه "1.
فهذا الرجل اعتقد أنه إذا فعل به ذلك، لا يقدر الله على بعثه، جهلا منه لا كفرا ولا عنادا، فشك في قدرة الله على بعثه، ومع هذا غفر له ورحمه، وكل من بلغه القرآن، فقد قامت عليه الحجة بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الجاهل يحتاج إلى من يعرفه بذلك من أهل العلم، والله أعلم.
[من كان مقيما بين أهله في دار الكفر]
وسئل أيضا، الشيخ عبد الله بن محمد، قال السائل: سميتم المسلم الجالس بين أهله وولده ببلده، مشركا كافرا، والله سبحانه يقول:{وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ} 2 الآية، يوم فتح مكة، وهم بين ظهراني المشركين، وقد سماهم الله مؤمنين.
1 البخاري: التوحيد (7506)، ومسلم: التوبة (2756)، والنسائي: الجنائز (2079)، وابن ماجه: الزهد (4255) ، وأحمد (2/269 ،2/304)، ومالك: الجنائز (568) .
2 سورة الفتح آية: 25.
فأجاب: إن الله تبارك وتعالى قد بين لنا في كتابه، أن المراد بذلك المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، الذين لا يقدرون على الهجرة، كما قاله في سورة النساء:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} 1.
ذكر أهل التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في قوم من المسلمين، خرجوا مع المشركين يوم بدر كرها، فقتلوا بالرمي، فلما رآهم بعض الصحابة في القتلى، قالوا: قتلنا إخواننا، فأنزل الله هذه الآية.
وبين فيها حكم هؤلاء المشركين، وأنهم من أهل النار، مع تكلمهم بالإسلام، ولكن لم يهاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل اختاروا الجلوس في بلدهم، بين أهليهم وأولادهم، خوفا من الفقر والفاقة في بلد الإسلام، ولم يعذرهم الله بذلك، لأنهم يستطيعون الهجرة، فقالت لهم الملائكة:{أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} 2.
ثم بين سبحانه حكم من تسقط عنه الهجرة، بقوله:
1 سورة آية: 97.
2 سورة النساء آية: 97.
{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} 1 إلى الهجرة، فحكمه حكم المسلم، لا يجوز قتله ولا أخذ ماله، وقد ثبت في سنن أبي داود وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أنا بريء من مسلم بين ظهراني المشركين " 2، وهو محمول على القادر على الهجرة، والله أعلم.
[سؤال حول حديث "صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي يوم القيامة
…
"]
وسئل أيضا، الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله، عما يذكر في الحديث:"صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية"، وقوله في الحديث:"صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي يوم القيامة: المرجئة والقدرية" الخ؟
فأجاب: الحديثان ليسا بثابتين عند أهل العلم، وعند أهل الحديث، وليسا في الكتب الستة المعتمدة، المسماة دواوين الإسلام؛ وإنما يذكر هذا بعض المصنفين، الذين يروون الغث والسمين، ولا يميزون بين الصحيح، والضعيف، والحسن، والموضوع؛ فلا ينبغي للسائل أن يعبر بمثل هذه العبارة، في مثل هذه الأحاديث وما شاكلها.
وإنما ينبغي له أن يقول: يذكر في الحديث، أو يروى في بعض الكتب، وأشباه هذه العبارة، التي يفعلها أهل التحقيق والعرفان، من أهل الفقه والحديث، وذلك لأنه لا ينبغي أن يجزم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إلا فيما ثبت
1 سورة النساء آية: 98.
2 الترمذي: السير (1604)، والنسائي: القسامة (4780)، وأبو داود: الجهاد (2645) .
إسناده، وصححه أهل العلم بهذا الشأن،
لأنه ثبت في الأحاديث الصحيحة، من رواية جماعة من الصحابة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إن كذبا علي ليس ككذب على غيري؛ من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار "، وفي صحيح مسلم: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين " 1؛ فلهذا كان كثير من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، يهابون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والجزم به، إلا فيما ثبت عندهم وقطعوا عليه.
وقد أخرج إسحاق بن راهويه في مسنده، من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرفوعا:" صنفان من أمتي لا يدخلون الجنة: القدرية والمرجئة "، قال الحافظ ابن حجر: فيه انقطاع، من رواية بقية بن الوليد.
وأخرج أيضا إسحاق، من رواية بقية بن الوليد، حدثني سليمان بن جعفر الأعبدي، عن محمد بن أبي ليلى، عن أبيه عن جده أبي ليلى: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صنفان من أمتي لا يردون على الحوض: القدرية والمرجئة "، وبقية بن الوليد، مختلف فيه؛ ووثقه بعضهم إذا روى عن الثقات، وضعفه إذا روى عن المجهولين.
قال أبو مسهر الغساني: أحاديث بقية ليست بنقية.
1 مسلم: مقدمة (1)، والترمذي: العلم (2662)، وابن ماجه: المقدمة (39 ،41) ، وأحمد (4/255 ،5/14) .
فكن من أحاديث بقية على تقية; وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، ومحمد بن أبي ليلى ضعيف عند أهل الحديث، كان يحيى القطان يضعفه؛ قال أحمد بن حنبل: سيء الحفظ، مضطرب الحديث، في حديثه اضطراب.
إذا علمت ذلك، فاعلم ألهمك الله للصواب، وأزال عن قلبك ظلم الشك والارتياب أن الذي عليه المحققون من العلماء، أن أهل البدع كالخوارج والمرجئة والقدرية والرافضة ونحوهم، لا يكفرون، وذلك لأن الكفر لا يكون، إلا بإنكار ما علم من الدين بالضرورة.
وأما الجهمية: فالمشهور من مذهب أحمد، وعامة أئمة أهل السنة تكفيرهم؛ فإن قولهم صريح في مناقضة ما جاءت به الرسل، من الكتاب والسنة، وحقيقة قولهم: جحود الصانع، وجحود ما أخبر به عن نفسه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، بل وجميع الرسل.
ولهذا قال عبد الله بن المبارك: "إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية"، وبهذا كفروا من يقول: إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، وأن الله ليس على العرش، وأنه ليس له علم، ولا قدرة، ولا رحمة، ولا غضب، ولا غير ذلك من صفاته.
وهم عند كثير من السلف، مثل ابن المبارك، ويوسف بن أسباط، وطائفة من أصحاب أحمد، ليسوا من الثلاث والسبعين فرقة، التي افترقت عليها هذه الأمة.
وأصول هذه الفرق هم الخوارج، والشيعة والمرجئة، والقدرية ; ولا تختلف نصوص أحمد أنه لا يكفر المرجئة، فإن بدعتهم من جنس اختلاف الفقهاء في الفروع، وكذلك الذين يفضلون عليا على أبي بكر، وذلك قول طائفة من الفقهاء، ولكن يبدعون ; وفي الأدلة الشرعية، ما يوجب أن الله لا يعذب من هذه الأمة مخطئا على خطئه.
وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله، إذا مات فحرقوه، ثم ذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين. فلما مات فعلوا به كما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال له: لم فعلت هذا؟ قال من خشيتك يا رب؛ فغفر له "1.
وهذا الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق متعددة من رواية جماعة من الصحابة، منهم أبو سعيد الخدري، وحذيفة، وعقبة بن عامر؛ فهذا الرجل قد وقع له الشك
1 البخاري: التوحيد (7506)، ومسلم: التوبة (2756)، والنسائي: الجنائز (2079)، وابن ماجه: الزهد (4255) ، وأحمد (2/269)، ومالك: الجنائز (568) .
والجهل، في قدرة الله تعالى، على إعادة من فعل به ما أمر أهله أن يفعلوه.
فهذا الرجل لما كان مؤمنا بالله في الجملة، ومؤمنا باليوم الآخر في الجملة، وهو: أن الله يثيب، ويعاقب بعد الموت، فهذا عمل صالح، فغفر الله له بما كان معه، من الإيمان بالله واليوم الآخر، وإنما أخطأ من شدة خوفه؛ وقد وقع الخطأ الكثير في الخلق، في هذه الأمة، واتفقوا على عدم تكفير من أخطأ، مثل ما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحي، وأنكر بعضهم أن يكون المعراج يقظة.
"وكان شريح القاضي ينكر قراءة من قرأ (بل عجبتُ) بالرفع، ويقول: إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي، فقال: إنما شريح شاعر، يعجبه علمه، كان عبد الله أفقه منه، وكان يقرأ (بل عجبت") فهذا أنكر قراءة ثابتة، وأنكر صفة لله، دل عليها الكتاب والسنة، واتفقت الأمة، على أن شريحا إمام من الأئمة.
وكذلك بعض العلماء أنكر حروفا من القرآن، كما أنكر بعضهم {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} 1 فقال إنما هي:"ألم يتبين الذين آمنوا"، وهذا الخطأ معفو عنه بالإجماع؛ وكذلك الخطأ في الفروع العلمية، فإن المخطئ فيها لا يكفر، ولا يفسق، بل ولا يأثم، وإن كان بعض
1 سورة الرعد آية: 31.
المتكلمة، والمتفقهة يجعل المخطئ فيها آثما، وبعض المتفقهة يعتقد أن كل مجتهد فيها مصيب، فهذان القولان شاذان.
والإجماع منعقد على أن من بلغته دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يؤمن بها، فهو كافر، ولا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد، لظهور أدلة الرسالة، وأعلام النبوة؛ والنصوص إنما أوجبت رفع المؤاخذة، بالخطأ لهذه الأمة؛ وإذا كان كذلك، فأصول الإيمان تقتضي وجوب الإيمان بالواجبات الظاهرة المتواترة، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة.
والجاحد لها كافر بالاتفاق، مع أن المجتهد في بعضها إذا أخطأ ليس بكافر بالاتفاق، مع أن كثيرا من أهل البدع، يوجد فيهم النفاق الأكبر، والردة عن الإسلام؛ فما أكثر ما يوجد في الرافضة، والجهمية، ونحوهم، زنادقة منافقون، فأولئك {فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} 1.
وأصل ضلال هؤلاء، هو الإعراض عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، وابتغاء الهدى من غيرهما؛ فمن كان هذا أصله، فهو بعيد عن الخير، والرسالة إنما هي للعامة فوق الخاصة، كما يقوله قوم من المتفلسفة والمتصوفة.
1 سورة النساء آية: 145.
وأكثر السلف يرون قتل الداعية إلى البدعة، لما يجري على يديه من الفساد في الدين، سواء قالوا إنه كافر، أو ليس بكافر، وذلك لأن الدعاء إلى المقالة التي تخالف الكتاب والسنة، أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها، أعظم من مجرد الدعوة إليها.
فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم، بحيث يحكم عليه بأنه مع الكفار، لا يجوز الإقدام عليه، إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة بالرسالة، التي يتبين بها لهم أنهم مخالفون للرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كانت مقالتهم هذه لا ريب أنها كفر، فإن نفي الصفات كفر، والتكذيب بأن الله لا يرى في الآخرة كفر، وإنكار أن يكون الله على العرش كفر، وإنكار القدر كفر؛ وبعض هذه البدع أشد من بعض، والله أعلم.
[الرد على سؤال حول الرافضة]
وسئل أيضا: الشيخ عبد الله رحمه الله، عن بيان حكم الرافضة، وعن قول من يقول: إن من تكلم بالشهادتين لم يجز تكفيره؟
فأجاب، رحمه الله تعالى: الرافضة في الأصل طوائف، منهم طائفة يسمون المفضلة، لتفضيلهم عليا رضي الله عنه على سائر الصحابة رضي الله عنهم، ولا يلعنون؛ ومنهم طائفة يزعمون غلط جبرائيل عليه السلام
في الرسالة، ولا شك في كفر هذه الطائفة؛ وأكثرهم في الأصل يعترفون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ويزعمون أن الخلافة لعلي، ويلعنون الصحابة رضي الله عنهم، ويفسقونهم.
ونذكر ما ذكره الشيخ تقي الدين، رحمه الله، في حكمهم، قال رحمه الله في "الصارم المسلول": ومن سب الصحابة أو واحدا منهم، واقترن بسبه دعوى أن عليا إله، أو نبي، وأن جبرائيل غلط، فلا شك في كفر هذا؛ بل لا شك في كفر من توقف في كفره. ومن قذف عائشة رضي الله عنها، بما برأها الله منه، كفر بلا خلاف، إلى أن قال: وأما من لعن وقبح- يعني لعن الصحابة رضي الله عنهم، ففيه الخلاف، هل يفسق أو يكفر؟ وتوقف أحمد في تكفيره، وقال: يعاقب ويجلد، ويحبس حتى يموت أو يتوب.
قال الشيخ رحمه الله: وأما من جاوز ذلك، كمن زعم أن الصحابة ارتدوا بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفرا يسيرا قليلا، لا يبلغون بضعة عشر، أو أنهم فسقوا، فلا ريب أيضا في كفر قائل ذلك؛ بل من شك في كفره فهو كافر، انتهى.
فهذا حكم الرافضة في الأصل، وأما حكم متأخريهم الآن، فضموا الآن مع الرفض الشرك العظيم، الذي يفعلونه عند المشاهد الذي ما بلغه شرك العرب، الذين بعث إليهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما قول من يقول: إن من تكلم بالشهادتين ما يجوز تكفيره، وقائل هذا القول لا بد أن يتناقض، ولا يمكنه طرد قوله، في مثل من أنكر البعث، أو شك فيه، مع إتيانه بالشهادتين، أو أنكر نبوة أحد من الأنبياء الذين سماهم الله في كتابه، أو قال الزنى حلال، أو نحو ذلك، فلا أظن يتوقف في كفر هؤلاء وأمثالهم، إلا من يكابر ويعاند.
فإن كابر وعاند، وقال: لا يضر شيء من ذلك، ولا يكفر به من أتى بالشهادتين، فلا شك في كفره، ولا كفر من شك في كفره، لأنه بقوله هذا مكذب لله ولرسوله، ولإجماع المسلمين؛ والأدلة على ذلك ظاهرة بالكتاب والسنة والإجماع.
فمن قال: إن التلفظ بالشهادتين لا يضر معهما شيء، أو قال: من أتى بالشهادتين وصلى وصام لا يجوز تكفيره، وإن عبد غير الله فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر، لأن قائل هذا القول مكذب لله ورسوله، وإجماع المسلمين كما قدمنا، ونصوص الكتاب والسنة في ذلك كثيرة، مع الإجماع القطعي، الذي لا يستريب فيه من له أدنى نظر في كلام العلماء، لكن التقليد والهوى يعمي ويصم {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 1.
1 سورة النور آية: 40.
وليعلم من أنعم الله عليه بمعرفة الشرك، الذي يخفى على أكثر الناس اليوم، أنه قد منح أعظم النعم، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} 1، {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ} 2 إلى قوله:{فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} 3، ثم لا يأمن من من الله عليه بذلك من الافتتان.
اللهم إذ هديتنا للإسلام فلا تنْزعه منا، ولا تنْزعنا منه حتى توفانا عليه، {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} 4. انتهى ملخصا، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
[حكم من سب الصحابة]
وسئل أيضا الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله: من سب الصحابه هل يكفر أو يفسق؟ وما الدليل على ذلك؟
فأجاب: فسقه لا خلاف فيه، لقوله عليه السلام:" سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر " 5؛ وأما تكفيره: فاختلف العلماء في ذلك، فمنهم من كفره كما يذكر عن مالك، واحتج على كفره بقوله تعالى:{لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} 6، قال فكل من غاظوه فهو كافر، لهذه الآية.
والذي عليه الأكثر عدم تكفيره، وتوقف أحمد في تكفيره وقتله؛ وأما تعزيره وتأديبه، بالضرب، والحبس،
1 سورة يونس آية: 58.
2 سورة الحجرات آية: 7.
3 سورة الحجرات آية: 8.
4 سورة آل عمران آية: 8.
5 البخاري: الإيمان (48)، ومسلم: الإيمان (64)، والترمذي: البر والصلة (1983) والإيمان (2634 ،2635)، والنسائي: تحريم الدم (4105 ،4106 ،4108 ،4109 ،4110 ،4111 ،4112 ،4113)، وابن ماجه: المقدمة (69) والفتن (3939) ، وأحمد (1/385 ،1/411 ،1/417 ،1/433 ،1/439 ،1/446 ،1/454 ،1/460) .
6 سورة الفتح آية: 29.
الذي يزجره عن ذلك، فلا خلاف فيه.
[الاستغاثة بالمخلوق]
وسئل: هل يجوز التحاكم إلى غير كتاب الله؟
فأجاب: لا يجوز ذلك، ومن اعتقد حله فقد كفر، وهو من أعظم المنكرات، ويجب على كل مسلم الإنكار على من فعل ذلك؛ ولا يستريب في هذا من له أدنى علم.
وقال أيضا: وأما المبحث الثاني عمن كان يستغيث بالمخلوق عند الشدائد، بالنداء والدعاء، ويستغيث ويتوسل، ويتوجه بنبيه صلى الله عليه وسلم أو بالصالحين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في أدعية الصباح:" أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض، وبكل حق هو لك، وبحق السائلين عليك، أن تقيلني في هذه الغداة "،مع الحديث الآخر:" إن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: ادع الله أن يعافيني، قال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك. قال ادعه، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضى، اللهم فشفعة فيّ " 1: فهذان الحديثان مصرحان بالتوسل والتوجه والدعاء، والتشفع والنداء.
وأما حكم من فعل ذلك، وهو غير قاصد للشرك،
1 الترمذي: الدعوات (3578)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) .
ولا معاند للإسلام، فالفرق ظاهر بينه وبين من قصد الشرك والعناد، بعد معرفة التوحيد.
فنقول: الجواب- وبالله التوفيق-: أما سؤال الميت والغائب، نبيا كان أو غيره، تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، والاستغاثة به في الأمور المهمات، فهو من المحرمات المنكرة، باتفاق أئمة المسلمين؛ لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين؛ وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام.
فإنه لم يكن أحد منهم إذا نزلت به ترة، أو عرضت له حاجة، أو نزلت به كربة وشدة، يقول لميت: يا سيدي فلان أنا في حسبك، أو اقض حاجتي، وأنا مستشفع بك إلى ربي، كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم، من الموتى والغائبين؛ ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لا عند قبورهم ولا إذا بعدوا عنها، ولا كانوا يقصدون قبورهم للدعاء والصلاة عندها.
ولهذا ثبت في الصحيح: أن الناس لما قحطوا في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس، وتوسل بدعائه، وقال:(اللهم إنا كنا نتوسل إليك إذا أجدبنا بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا) ،
فيسقون؛ وكذلك معاوية رضي الله عنه لما استسقى بأهل الشام، توسل بيزيد بن الأسود الجرشي.
فهذا الذي ذكره عمر رضي الله عنه توسل منهم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته؛ ولهذا توسل بعده بدعاء العباس، وتوسل معاوية بدعاء يزيد بن الأسود؛ وهذا الذي ذكره الفقهاء في كتاب الاستسقاء، وقالوا: يستحب أن يستسقى بالصالحين، وإذا كانوا من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أفضل.
وهذه الأمور المبتدعة عند القبور أنواع، أبعدها عن الشرع من يسأل الميت حاجته، كما يفعله كثير من الناس، وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، وقد قال الله تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 1 الآية.
قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة، والمسيح، وعزيرا، فقال الله لهم: هؤلاء عبيدي كما أنتم عبيدي، يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي؛ فكل من دعا نبيا، أو وليا، أو صالحا، وجعل فيه نوعا من الإلهية، فقد تناولته هذه الآية، فإنها عامة في كل من دعا من دون الله مدعوا، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجو رحمته ويخاف
1 سورة آية: 57.
عذابه.
فكل من دعا ميتا أو غائبا، من الأنبياء أو الصالحين، سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها، فقد فعل الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه؛ ومعلوم أن هؤلاء كلهم، يجعلونهم وسائط فيما يقدره الله بأفعالهم، ومع هذا فقد نهى عن دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله، لا يرفعونه بالكلية، ولا يحولونه من موضع إلى موضع، كتغيير صفته أو قدره، ولهذا قال:{ولا تحويلا} فذكر نكرة تعم أنواع التحويل.
فكل من دعا ميتا أو غائبا من الأنبياء والصالحين، أو دعا الملائكة أو الجن، فقد دعا من لا يغيث، ولا يملك كشف ضره ولا تحويله، وقد قال تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 1. وقد نص الأئمة كأحمد وغيره، على أنه لا يجوز الاستغاثة بمخلوق، وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، قالوا: لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بكلمات الله، وأمر بذلك، فدل على أن كلمات الله غير مخلوقة، وأنها صفة من صفاته، لأن الاستغاثة بالمخلوق لا تجوز.
والمقصود: أن يعلم السائل- وفقه الله- أن الاستغاثة بالمخلوق في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، من كشف
1 سورة الجن آية: 6.
الكربات، وإغاثة اللهفات، وإجابة الدعوات، من الشرك الذي لا يغفره الله؛ وهو من الغلو الذي ذمة الله في كتابه، حيث قال:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} 1،
وقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} 2. والغلو في الصالحين هو من فعل المشركين، كما حكاه سبحانه عن قوم نوح، في قوله: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً} 3 الآية، قال ابن عباس: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموا بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت".
فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من العبادة مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال؛ فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل.
فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده، ولا يجعل معه إله آخر، والذين يدعون مع الله آلهة
1 سورة النساء آية: 171.
2 سورة المائدة آية: 77.
3 سورة نوح آية: 23.
أخرى، مثل المسيح والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنْزل المطر، أو تنبت النبات؛ وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو صورهم، يقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، كما أخبر الله عنهم بذلك في كتابه، في غير ما آية، فبعث الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة.
وعبادة الله وحده هي أصل الدين، وهي التوحيد الذي أمر الله به الرسل، وأنزل به الكتب، قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد، ويعلمه أمته، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: (أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده " 3، وقال فيما ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله " 4، ونهى عن الحلف بغير الله، وقال: " من حلف بغير الله فقد اشرك " 5.
وقال في مرض موته: " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 6، يحذر ما صنعوا، وقال:"اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " 7، رواه مالك في الموطأ ;
1 سورة النحل آية: 36.
2 سورة الأنبياء آية: 25.
3 أحمد (1/283) .
4 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) ، وأحمد (1/23 ،1/24 ،1/47 ،1/55) .
5 الترمذي: النذور والأيمان (1535)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) ، وأحمد (2/34 ،2/69 ،2/86 ،2/125) .
6 البخاري: الجنائز (1330)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531)، والنسائي: المساجد (703) ، وأحمد (1/218 ،6/34 ،6/80 ،6/121 ،6/252 ،6/255 ،6/274)، والدارمي: الصلاة (1403) .
7 أحمد (2/246) .
وروى الطبراني عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله ".
ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه، فأعظم آية في القرآن: آية الكرسي {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 1، وقال صلى الله عليه وسلم:" من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة " 2 والإله: هو الذي يألهه القلب، خشية له وإجلالا وإكراما.
ولهذا اتفق أئمة الإسلام، على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا الصلاة عندها، وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان، كان تعظيم القبور؛ ولهذا اتفق العلماء، على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره لا يتمسح بحجرته، ولا يقبلها، لأن ذلك إنما يكون لأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق؛ كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه، الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} 3، ولما "كان للمشركين سدرة يعكفون عندها، ويسمونها ذات أنواط، فقال بعض الصحابة: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، قال صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! إنها السنن، لتركبن سنن من كان
1 سورة البقرة آية: 255.
2 أبو داود: الجنائز (3116) ، وأحمد (5/233 ،5/247) .
3 سورة النساء آية: 48.
قبلكم "،فأنكر صلى الله عليه وسلم مجرد مشابهتهم.
فإذا كان اتخاذ الشجرة لتعليق الأسلحة، والعكوف حولها، اتخاذ إله مع الله، وهم لا يعبدونها، ولا يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر، ودعائه، والدعاء عنده، والدعاء به؟ وأي شبه للفتنة بالشجرة، إلى الفتنة بالقبر، لو كان أهل الشرك والبدع يعلمون؟ !
ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم، في هذا الباب وغيره، علم أن بين السلف وبينهم أبعد مما بين المشرق والمغرب؛ والأمر والله أعظم مما ذكرنا، وبالله التوفيق.
النوع الثاني: من الأمور المبتدعة عند القبور: أن يسأل الله تعالى به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو من البدع المحدثة في الإسلام؛ لكن بعض العلماء يرخص فيه، وبعضهم ينهى عنه ويكرهه، وليس هذا مثل النوع الذي قبله، فإنه لا يصل إلى الشرك الأكبر عند من كرهه، ولا يسمى هذا استغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم وإنما هو سؤال به.
والفرق بينه وبين الذي قبله، فرق عظيم، أبعد مما بين المشرق والمغرب؛ والسائل- سامحه الله- لم يفرق بين هذا وهذا، وجعل هذين النوعين نوعا واحدا، وهذا جهل عظيم بدين الإسلام، الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم
وبما درج عليه السلف الصالح، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ومن سلك سبيلهم.
والعامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بالأنبياء والصالحين، كقول أحدهم: أتوسل إليك بنبيك، أو بأنبيائك، أو بملائكتك، أو بالصالحين من عبادك، أو بحق الشيخ فلان، أو بحرمته، أو أتوسل إليك باللوح والقلم، أو بالكعبة وغير ذلك مما يقولونه في أدعيتهم، يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، ولا يسألونها وينادونها، فإن المستغيث بالشيء، طالب منه، سائل له، والمتوسل به لا يدعو، ولا يطلب منه ولا يسأل، وإنما يطلب به.
وكل أحد يفرق بين المدعو به، وبين المدعو المستغاث; والاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون، والمخلوق إنما يطلب منه من هذه الأمور، ما يقدر عليه منها، كما قال تعالى:{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} 1، وكما قال:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 2.
وأما ما لا يقدر عليه إلا الله، فلا يطلب إلا من الله، كما قال تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} 3، حتى إن المشركين عبدة الأوثان، يخلصون الدعاء لله، والاستغاثة به في الشدة، وينسون ما يشركون، لعلمهم أنه
1 سورة الأنفال آية: 72.
2 سورة القصص آية: 15.
3 سورة النمل آية: 62.
لا يقدر على تفريج الكربات، وقضاء الحاجات، وإغاثة اللهفات إلا رب الأرض والسماوات، كما قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} 1.
وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 2، وقال تعالى:{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 3 الآية، وقال تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} 4.
ولا يعرف في لغة أحد من بني آدم، أن من قال: أتوسل إليك برسولك، أو: أتوجه إليك برسولك، فقد استغاث به حقيقة، فإنهم يعلمون أن المستغاث به مسؤول مدعو، فيفرقون بين المسؤول، والمسؤول به، سواء استغاث بالخالق، أو بالمخلوق، فإنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق، فيما يقدر عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم أفضل مخلوق يستغاث به في مثل ذلك.
فلو قال قائل فيمن يستغيث به: أسألك بفلان، أو بحق فلان، لم يقل أحد إنه استغاث بمن توسل به، بل
1 سورة الإسراء آية: 67.
2 سورة العنكبوت آية: 65.
3 سورة لقمان آية: 32.
4 سورة الزمر آية: 8.
إنما استغاث بمن دعاه وسأله؛ ولهذا قال المصنفون في شرح أسماء الله الحسنى، أن المغيث بمعنى المجيب، لكن الإغاثة أخص بالأفعال، والإجابة أخص بالأقوال.
والتوسل إلى الله في الدعاء بغير نبينا صلى الله عليه وسلم، لا نعلم أحدا من السلف فعله، ولا روى فيه أثرا؛ وقد قال أبو الحسين القدوري الحنفي، في شرح الكرخي: قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن تقول بمعقد العز من عرشك، أو بحق خلقك، وهو قول أبي يوسف. قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشك، هو الله، فلا أكره هذا، وأكره بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت، والمشعر الحرام؛ بهذا الحق قالوا جميعا يكره، انتهى.
وكذلك قال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام، الفقيه الشافعي، في فتاويه المشهورة عنه: أنه لا يجوز التوسل إلى الله تعالى بخلقه، إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم إن صح الحديث فيه، يعني حديث الأعمى، الذي رواه الترمذي وغيره؛ والمسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لاحق للمخلوق على الخالق، فلا يجوز أن يسأل ما ليس لمستحق.
ولكن معقد العز من عرشك، هل هو سؤال بمخلوق؟ أو بالخالق؟ فيه نزاع بينهم، فلذلك تنازعوا فيه; وأبو يوسف بلغه الأثر فيه: أسألك بمعقد العز من
عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم، وجدك الأعلى، وكلماتك التامة، فجوزه لذلك، والله أعلم.
وأما الجواب عن الحديثين المذكورين، فمن وجوه: أحدها: أن يقال قد أجاب عنها غير واحد من العلماء، على تقدير صحتها، بأن المعنى بحق السائلين عليك، أي: الحق الذي أوجبه الله على نفسه للسائلين، وهو الإجابة.
ولا ريب أن الله جعل على نفسه حقا لعباده المؤمنين، كما قال تعالى:{وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} 1، وكما قال:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 2. وفي حديث معاذ في الصحيحين: " أتدري ما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم " 3 الحديث؛ فهذا حق وجب بكلماته التامة، ووعده الصادق.
وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب، بوعده الصادق، وتنازعوا: هل يوجب بنفسه على نفسه؟ ومن جوز ذلك احتج بقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 4 وبقوله في الحديث "إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما " 5 وأما الإيجاب عليه، والتحريم، بالقياس على خلقه،
1 سورة الروم آية: 47.
2 سورة الأنعام آية: 54.
3 البخاري: الجهاد والسير (2856) واللباس (5967) والاستئذان (6267) والرقاق (6500) والتوحيد (7373)، ومسلم: الإيمان (30)، والترمذي: الإيمان (2643)، وابن ماجه: الزهد (4296) ، وأحمد (5/228 ،5/230 ،5/234 ،5/236 ،5/238 ،5/242) .
4 سورة الأنعام آية: 54.
5 مسلم: البر والصلة والآداب (2577) ، وأحمد (5/160) .
فهو قول القدرية والمعتزلة، وهو قول مبتدع، مخالف لصحيح المنقول، وصريح المعقول، ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب، قال: إنه كتب على نفسه الرحمة، وحرم على نفسه، لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئا، كما يكون للمخلوق على المخلوق.
فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير، فهو الخالق لهم، وهو المرسل إليهم الرسل، وهو الميسر لهم الإيمان والعمل، وإذا كان كذلك، فالحق الذي لعباده، هو من فضله وامتنانه؛ وإذا سئل بما جعله هو سببا للمطلوب، من الأعمال الصالحة، التي وعد أصحابها كرامته، وإجابته لدعائهم، فهو سؤال وتسبب بما جعله الله سببا.
الوجه الثاني: أن يقال: إن الله إذا سئل بشيء ليس سببا للمطلوب، فإما أن يكون إقساما عليه به، فلا يقسم على الله بمخلوق، وإما أن يكون سؤالا بما لا يقتضي المطلوب، فيكون عديم الفائدة؛ فالأنبياء والمؤمنون، لهم حق على الله بوعده الصادق لهم، وكلماته التامة، هذا حق وليس فيه محذور؛ وأما إذا سئل بنفس ذوات الأنبياء والصالحين، لم يكن في ذلك سبب يقتضي المطلوب.
الوجه الثالث: أن يقال: الذي جاءت به السنة، وتواتر في الأحاديث، هو التوسل والتوجه والإقسام عليه بأسمائه وصفاته، وبالأعمال كالأدعية المعروفة في
السنن: " اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام " 1 الحديث.
وفي الحديث الآخر: " اللهم إني أسألك بأنك أنت الله، لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد "، وفي الحديث الآخر:"أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك " 2 الحديث.
وقد أخبر الله تعالى عن عباده الصالحين، أنهم سألوا الله بالأعمال الصالحة، فقال تعالى:{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} 3 الآيات.
وكما ثبت في الصحيحين، في قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار، فدعوا الله، وتوسلوا إليه بالأعمال الصالحة، وكالتوسل بدعاء الأنبياء والصالحين، وشفاعتهم في حياتهم، فهذا مما لا نزاع فيه، بل هو من الوسيلة التي أمر الله بها، في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 4، وقوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 5 الآية،
1 النسائي: السهو (1300)، وأبو داود: الصلاة (1495) .
2 أحمد (1/452) .
3 سورة آل عمران آية: 193.
4 سورة المائدة آية: 35.
5 سورة الإسراء آية: 57.
فإن ابتغاء الوسيلة منه، هو طلب ما يتوسل به، أي يتقرب به إليه سبحانه، سواء كان على وجه العبادة والطاعة، وامتثال الأمر، أو كان على وجه السؤال به، والاستعانة به، رغبة إليه في طلب المنافع، ودفع المضار؛ ولفظ الدعاء في القرآن يتناول هذا وهذا، بمعنى العبادة، والدعاء بمعنى المسألة، وإن كان كل منهما مستلزما للآخر؛ لكن العبد قد تنْزل به النازلة، فيكون مقصوده طلب حاجاته، وتفريج كرباته، فيسعى في ذلك بالسؤال والتضرع، وإن كان ذلك من العبادة والطاعة.
الوجه الرابع: أن يقال: قد علم بالاضطرار من دين الإسلام، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت، ولا إلى ميت؛ بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأنه من الشرك الذي حرم الله.
قال الله تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} 1، وقال:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 2، وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ
1 سورة الشعراء آية: 213.
2 سورة يونس آية: 106.
كَافِرِينَ} 1،
وقال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} 2، وقال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 3. ومن تأمل أدلة الكتاب والسنة، علم علما ضروريا أن الميت لا يطلب منه شيء، لا دعاء ولا غيره.
وأما حديث الأعمى، فليس فيه بحمد الله تعالى إشكال، فإنه إنما توجه بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، فإن في الحديث: أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، فقال:" يا رسول الله: ادع الله أن يعافيني، فقال: إن شئت صبرت فهو خير لك، وإن شئت دعوت. فقال: فادعه، وقال في آخره: اللهم فشفعه في "،
فعلم أنه شفع له، فتوسل بشفاعته، لا بذاته، كما كان الصحابة يتوسلون بدعائه وشفاعته، في الاستسقاء، كما قال عمر: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فأسقنا"، معناه: نتوسل بدعائه وشفاعته، ونحن نتوسل إليك بدعاء عمه وشفاعته، ليس المراد أنا نقسم عليك به، وما يجري هذا المجرى مما يفعل بعد موته وفي مغيبه، كما يقوله بعض الناس: أسألك بجاه فلان عبدك ; ويقولون: إنا نتوسل إلى الله بأنبيائه.
1 سورة آية: 6.
2 سورة فاطر آية: 14.
3 سورة الجن آية: 18.
ولو كان هذا هو التوسل الذي يفعله الصحابة، لفعلوا ذلك بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعدلوا عنه إلى العباس، مع علمهم أن السؤال به، والإقسام به، أعظم من العباس، فعلم: أن ذلك التوسل الذي في حديث عمر، والذي في حديث الأعمى، هو ما يفعل بالأحياء دون الأموات، وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم.
فالأعمى طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له أن يرد عليه بصره، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء، وأمره أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم فيه؛ فقوله في الحديث:(أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة) ، بدعائه وشفاعته، فلفظ التوجه والتوسل في الحديثين بمعنى واحد.
وقوله: (يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي)، أجاب عنه العلماء: بأن هذا وأمثاله نداء، يطلب به استحضار المنادى في القلب، فيخاطب المشهود بالقلب، كما نقول في صلاتنا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ليس المراد سؤاله والاستغاثة به.
الوجه الخامس: أن يقال: هذا الحديث قد رواه النسائي في اليوم والليلة، والإمامان البيهقي وابن شاهين في دلائلهما، كلهم من حديث عثمان بن حنيف، ولم يذكروا فيه هذه الكلمة، أعني قوله:(يا محمد، يا نبي الله) .
ولفظ الحديث عندهم: عن عثمان بن حنيف: "أن رجلا أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله قد أصبت في بصري، فادع الله لي، فقال له النبي: صلى الله عليه وسلم توضأ وصل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة، إني أتشفع به إليك في رد بصري، اللهم شفع نبيي في. ففعل ذلك، فرد الله عليه بصره، وقال له: فإذا كان لك حاجة فمثل ذلك فافعل " انتهى.
ولفظ التوسل بالشخص، والتوجه به، والسؤال به، فيه إجمال واشتراك، غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة؛ فيراد به التسبب به، لكونه داعيا وشافعا مثلا، أو لكون الداعي مجيبا له مطيعا لأمره مقتديا به، ويراد به الإقسام به والتوسل بذاته؛ فهذا الثاني هو الذي كرهه العلماء ونهوا عنه.
النوع الثالث: من الأنواع المبتدعة عند القبور: أن يظن أن الدعاء عندها مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد، فيقصد القبر لذلك، فإن هذا من المنكرات إجماعا، ولم نعلم في ذلك نزاعا بين أئمة الدين؛ وإن كان كثير من المتأخرين يفعله، فإن هذا أمر لم يشرعه الله ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أئمة المسلمين، ولا ذكره أحد من العلماء، ولا الصالحين المتقدمين؛ بل أكثر ما ينقل ذلك، عن بعض
المتأخرين بعد المائة الثانية.
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجدبوا مرات، ودهمتهم نوائب، ولم يجيئوا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا استغاثوا به؛ بل خرج عمر بالعباس، فاستسقى به، ولم يستسق عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد كان من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير، وعندهم التابعون ومن بعدهم من الأئمة، فما استغاثوا عند قبر صاحب قط، ولا توسلوا به، ولا استسقوا عنده، ولا استنصروا عنده، ولا به؛ ومعلوم: أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله لو وقع، بل على ما هو دونه.
ومن تأمل كتب الآثار، وعرف حال السلف، علم قطعا أن القوم ما كانوا يستغيثون عند القبور، ولا يتحرون الدعاء عندها أصلا، بل كانوا ينهون عن ذلك من يفعله من جهالهم.
فمن ذلك: ما رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا أبو بكر، حدثنا يزيد بن الحباب، حدثنا جعفر بن إبراهيم، حدثنا علي بن عمر، عن أبيه عن علي بن الحسين: أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة، كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيدعو فيها، فقال: ألا أحدثكم حديثا
سمعته من أبي، عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا؛ فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم " 1 رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي، فيما اختاره من الأحاديث الجياد على الصحيحين، وشرطه فيه أحسن من شرط الحاكم في صحيحه.
وروى سعيد في سننه، عن "سهيل بن أبي سهيل، قال رآني الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب عند القبر، فناداني- وهو في بيت فاطمة يتعشى- فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال: مالي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تتخذوا بيتي عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر؛ وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء".
وروى سعيد أيضا، عن أبي سعيد مولى المهدي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تتخذوا بيتي عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم قبورا؛ وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني "2.
1 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .
2 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/284 ،2/337 ،2/367 ،2/378 ،2/388) .
فهذان المرسلان من وجهين مختلفين، يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما وقد احتج من أرسله به، وذلك يقتضي ثبوته عنده، لو لم يكن روي من وجوه مسندة غير هذين، فكيف وقد روى مسندا؟
ووجه الدلالة: أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيدا، فغيره أولى بالنهي كائنا من كان؛ ثم إنه قرن ذلك بقوله:"ولا تتخذوا بيوتكم قبور ا" 1، أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء، فتكون بمنْزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون، من النصارى ومن تشبه بهم.
وقد قال الإمام أحمد: إذا سلم الرجل على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم أراد الدعاء فليستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره، لئلا يستدبره؛ وكذلك ذكر أصحاب مالك، قالوا: يدنو من القبر، فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو مستقبل القبلة.
وقال مالك في "المبسوط": لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويصلي. فقصد الدعاء عند القبر كرهه السلف، متأولين في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:" لا تتخذوا قبري عيدا " 2 كما ذكرنا ذلك عن علي بن الحسين،
1 البخاري: الصلاة (432) والجمعة (1187)، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (777)، والترمذي: الصلاة (451)، والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1598)، وأبو داود: الصلاة (1448)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1377) ، وأحمد (2/6) .
2 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .
والحسن بن الحسن بن عمه، وهما أفضل أهل البيت من التابعين، وأعلم بهذا الشأن من غيرهما، لمجاورتهما الحجرة النبوية نسبا ومكانا.
وقد ذكرنا عن أحمد وغيره: أنهم أخبروا من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أراد أن يدعو، أن ينصرف فيستقبل القبلة؛ وكذلك أنكر ذلك غير واحد من العلماء المتقدمين، كما ذكرناه عن مالك وغيره، وكذلك غير واحد من المتأخرين، مثل أبي الوفاء بن عقيل، وأبي الفرج بن الجوزي.
ولا يحفظ عن صاحب ولا عن تابع، ولا عن إمام معروف، أنه استحب قصد شيء من القبور للدعاء عندها، ولا روى أحد في ذلك شيئا، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة، ولا عن الأئمة المعروفين، والله أعلم.
المبحث الثالث: عمن مات على التوحيد، وإقامة قواعد الإسلام الخمس وأصول الإيمان الستة، ولكنه كان يدعو وينادي، ويتوسل في الدعاء إذا دعا ربه، ويتوجه بنبيه في دعائه معتمدا على الحديثين الذين ذكرناهما، أو جهلا منه وغباوة، كيف حكمهم؟
فالجواب، أن يقال: قد قدمنا الكلام على سؤال الميت والاستغاثة به، وبينا الفرق بينه وبين التوسل به في
الدعاء، وأن سؤال الميت والاستغاثة به في قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، من الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله، واتفقت الكتب الإلهية، والدعوات النبوية، على تحريمه وتكفير فاعله، والبراءة منه ومعاداته.
ولكن في أزمنة الفترات وغلبة الجهل، لا يكفر الشخص المعين بذلك، حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة، ويبين له، ويعرف أن هذا هو الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله؛ فإذا بلغته الحجة، وتليت عليه الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ثم أصر على شركه فهو كافر، بخلاف من فعل ذلك جهالة منه، ولم ينبه على ذلك؛ فالجاهل فعله كفر، ولكن لا يحكم بكفره إلا بعد بلوغ الحجة إليه، فإذا قامت عليه الحجة ثم أصر على شركه فقد كفر، ولو كان يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويصلي ويزكي، ويؤمن بالأصول الستة.
وهذا الدين الذي ندعو إليه، قد ظهر أمره وشاع وذاع، وملأ الأسماع، من مدة طويلة؛ وأكثر الناس بدعونا، وخرجونا، وعادونا عنده، وقاتلونا، واستحلوا دماءنا وأموالنا، ولم يكن لنا ذنب سوى تجريد التوحيد، والنهي عن دعوة غير الله، والاستغاثة بغيره، وما أحدث من البدع والمنكرات، حتى غلبوا وقهروا، فعند ذلك أذعنوا، وأقروا بعد الإنكار.
وأما من مات، وهو يفعل الشرك جهلا لا عنادا، فهذا نكل أمره إلى الله، ولا ينبغي الدعاء له، والترحم عليه، والاستغفار له، وذلك لأن كثيرا من العلماء يقولون: من بلغه القرآن، فقد قامت عليه الحجة، كما قال تعالى:{لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 1.
فإذا بلغه القرآن وأعرض عنه، ولم يبحث عن أوامره ونواهيه، فقد استوجب العقاب، قال تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} 2، وقال تعالى:{وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ} 3.
[حلق شعر الرأس وشرب التنباك]
ثم قال رحمه الله تعالى: وأما البحث عن حلق شعر الرأس، وأن بعض البوادي الذين دخلوا في ديننا، قاتلوا من لم يحلق رأسه، وقتلوا بسبب الحلق خاصة، وأن من لم يحلق رأسه صار مرتدا؟.
فالجواب: أن هذا كذب وافتراء علينا، ولا يفعل هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فإن الكفر والردة لا تكون إلا بإنكار ما علم بالضرورة من دين الإسلام؛ وأنواع الكفر والردة من الأقوال والأفعال، معلومة عند أهل العلم، وليس عدم الحلق منها، بل ولم نقل أن الحلق مسنون،
1 سورة الأنعام آية: 19.
2 سورة طه آية: 124.
3 سورة آية: 99-100-101.
فضلا عن أن يكون واجبا، فضلا عن أن يكون تركه ردة عن الإسلام.
والذي وردت السنة بالنهي عنه، هو القزع، وهو: حلق بعض الرأس، وترك بعضه، وهذا هو الذي نهينا عنه، ونؤدب فاعله؛ ولكن الجهال القادمون إليكم، لا يميزون أنواع الكفر والردة، وكثير منهم غرضه نهب الأموال، ونحن لم نأمر أحدا من الأمراء بقتال من لم يحلق رأسه.
بل نأمرهم بقتال من أشرك بالله، وأبى عن توحيد الله، والتزام شرائع الإسلام، من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، فإذا فعلوا خلاف ذلك، وبلغنا ذلك من فعلهم، لم نقرهم على ذلك، بل نبرأ إلى الله من فعلهم، ونؤدبهم على قدر جرائمهم، بحول الله وقوته.
وأما البحث عن التنباك، وقولكم: بلغنا أنكم أفتيتم فيه، بأنه من المسكرات، اعتمدنا على قولكم، فعارض بعض الراحلين من عندكم، فقالوا: من شربه بعدما تاب منه، فقد ارتد وحل دمه وماله.
فالجواب: أن من نسب إلينا القول بهذا، فقد كذب وافترى؛ بل من قال هذا القول، استحق التعزير البليغ، الذي يردعه وأمثاله، فإن هذا مخالف للكتاب والسنة، بل لو تاب منه ثم عاد إلى شربه، لم يحكم بكفره وردته، ولو
أصر على ذلك، إذا لم يستحله؛ والتكفير بالذنوب مذهب الخوارج، الذين مرقوا من الإسلام، واستحلوا دماء المسلمين بالذنوب والمعاصي 1.
[من يرد عن الحوض وما ذكر العلماء فيهم]
سئل الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود عما جاء في بعض كتب الحديث ما معناه: إنه "يرد على الحوض جماعة من أصحابي، فيعدل بهم ذات الشمال"، هل ورد في تعيينهم أثر خاص
…
إلخ؟
فأجاب: هذه الأحاديث ثابتة في الصحاح والمساند، لكن لم يرد نص فيما علمنا بتعيينهم، وذكر العلماء أن هذا في أهل الردة، الذين ارتدوا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم كأصحاب مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وكثير من بوادي العرب، الذين جاهدهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الصحابة، حتى أدخلهم في الإسلام الذي خرجوا منه، وقتلوا منهم من قتلوا؛ فعلى هؤلاء تنَزل هذه الأحاديث، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، من هذه الأمة.
وأما من جعلها متناولة لأكثر الصحابة وخيارهم، الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، فقد كذب وافترى، واتبع غير سبيل المؤمنين.
1 وتقدم في باب حد المسكر، صفحة 439 - 443/ج/7.
وهؤلاء كأهل البدع، من الروافض والخوارج، الذين كفروا جمهور الصحابة رضي الله عنهم، فهؤلاء وأمثالهم ممن استحوذ عليهم الشيطان، فأضلهم عن الصراط المستقيم.
وجعلوا من أصول دينهم: التبري من جمهور الصحابة، وبغضهم، وسبهم، لأنهم ظنوا أن ذلك من إتمام التولي لعلي، وأهل البيت رضي الله عنهم؛ وهذا من حمقهم وجهلهم، نعوذ بالله من الخذلان.
وأما أهل السنة والجماعة فيتولون أهل البيت، وجميع الصحابة رضي الله عنهم، الذين ثبتوا على الإسلام، وجاهدوا المرتدين، وما أحسن ما قال بعض أهل السنة:
إن كان نصبا حب صحب محمد فليشهد الثقلان أني ناصبي
وذلك أن الروافض يسمون أهل السنة ناصبة، أي: أنهم نصبوا العداوة لأهل البيت، وقد تواتر عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه قال في خلافته على منبر الكوفة:(خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر)، وقال:(لا أوتى برجل يفضل على أبي بكر، إلا جلدته حد المفتري) . ونسأل الله تعالى: أن يهدينا وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه من القول والعمل، ويجنبنا ما يسخطه من المعاصي والزلل، وأن يجعلنا ممن يتبع كتابه، وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم وما عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ويعيذنا من التفرق والاختلاف، ويرزقنا الاجتماع والائتلاف، على دينه القويم، وصراطه المستقيم؛ وفي هذا بيان لمن أراد الله هدايته، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم 1212 هـ.
[من دعا نبيا واستغاث به]
وسئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله: ما قولكم فيمن دعا نبيا أو وليا، أو استغاث به في تفريج الكربات، كقوله: يا رسول الله، أو يا ابن عباس، أو يا محجوب، أو غيرهم من الأولياء والصالحين.
فأجاب: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأستغفره، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبعهم بإحسان، وقفا أثرهم إلى آخر الزمان.
أما بعد: فإن الله تعالى قد أكمل لنا الدين، ورسوله قد بلغ البلاغ المبين، وأنزل عليه الكتاب هدى وذكرى للمؤمنين، قال الله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 1، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ
1 سورة المائدة آية: 3.
لِلْمُؤْمِنِينَ} 1،
وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} 2.
وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} 3. قال ابن عباس: (تكفل الله لمن قرأ القرآن واتبع ما فيه، أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة) ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 4.
وروى مالك في الموطأ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة رسوله " 5، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لقد تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها؛ لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ".
وقال صلى الله عليه وسلم: "ما تركت من شيء يقرب من الجنة إلا وقد حدثتكم به، ولا من شيء يقرب إلى النار إلا وقد حدثتكم به"، وقال صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي؛ تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة
1 سورة يونس آية: 57.
2 سورة النحل آية: 89.
3 سورة آية: 123-124.
4 سورة آية: 36-37.
5 مالك: الجامع (1661) .
ضلالة ".
فمن أصغى إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجد فيهما الهدى والشفاء. وقد ذم الله تعالى من أعرض عن كتابه، ودعا عند التنازع إلى حكم غيره، فقال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} 1.
إذا عرف هذا، فنقول: الذي شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور، إنما هو تذكر الآخرة، والإحسان إلى الميت، بالدعاء له والترحم، والاستغفار له، وسؤال العافية، كما في صحيح مسلم، عن بريدة قال:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، أن يقولوا: السلام على أهل الديا ر ـ وفي لفظ: عليكم أهل الديار- من المؤمنين والمسلمين. وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية "2.
وفي سنن أبي داود، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إذا صليتم على الميت، فأخلصوا له الدعاء " 3، وعن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم:" ما من ميت يصلى عليه أمة من المسلمين، يبلغون مائة، كلهم يشفعون له، إلا شفعوا فيه " 4 رواه مسلم. فإذا كنا على جنازته، ندعو له لا ندعوه، ونشفع له لا نستشفع به، فبعد الدفن أولى وأحرى.
1 سورة النساء آية: 61.
2 مسلم: الجنائز (975)، والنسائي: الجنائز (2040)، وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1547) ، وأحمد (5/353 ،5/359) .
3 أبو داود: الجنائز (3199)، وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1497) .
4 مسلم: الجنائز (947)، والترمذي: الجنائز (1029)، والنسائي: الجنائز (1991) ، وأحمد (3/266 ،6/32 ،6/40 ،6/97 ،6/231) .
فبدل أهل الشرك قولا غير الذي قيل لهم: بدلوا الدعاء له بدعائه، والشفاعة له بالاستشفاع وبه، وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إحسانا إلى الميت، سؤال الميت، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة، بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدعاء مخ العبادة " 1 رواه الترمذي، وعن النعمان بن بشير، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الدعاء هو العبادة " 2، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 3، رواه أحمد والترمذي، وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
ومن المحال أن يكون دعاء الموتى مشروعا، ويصرف عنه القرون الثلاثة المفضلة بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يوفق له الخلوف، الذي يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه طريقة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، هل نقل عن أحد منهم بنقل صحيح، أو حسن، أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة، قصدوا القبور فدعوا عندها، وتمسحوا بها، فضلا عن أن يسألوا أصحابها جلب الفوائد، وكشف الشدائد؟
ومعلوم: أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على
1 الترمذي: الدعوات (3371) .
2 الترمذي: تفسير القرآن (2969)، وابن ماجه: الدعاء (3828) .
3 سورة غافر آية: 60.
نقله، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير، وهم متوافرون؛ فما منهم من استغاث عند قبر ولا دعاه، ولا استشفى به ولا استنصر به، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا الصلاة عندها؛ فإن كان عندكم في هذا أثر صحيح، أو حسن، فأوقفونا عليه.
بل الذي صح عنهم خلاف ما ذهبتم إليه، "ولما قحط الناس في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس، وتوسل بدعائه، وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فأسقنا، فيسقون" ثبت ذلك في صحيح البخاري، ذكره في كتاب الاستسقاء من صحيحه.
ونحن نعلم بالضرورة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأموات، لا الأنبياء ولا الصالحين، ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها؛ بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الأكبر، الذي حرمه الله ورسوله.
قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 1 وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ
1 سورة الجن آية: 18.
دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 1،
وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} 2، وقال تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} 3 الآية، وقال تعالى:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 4، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} 5 الآية.
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 6. قال مجاهد: (يبتغون إلى ربهم الوسيلة هو عيسى وعزير والملائكة".
وكذا قال إبراهيم النخعي، قال: كان ابن عباس يقول في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ:} (هو عزير والمسيح، والشمس والقمر) وعن السدي، وعن أبي هريرة، عن ابن عباس قال: (عيسى وأمه
1 سورة آية: 5-6.
2 سورة الشعراء آية: 213.
3 سورة الرعد آية: 14.
4 سورة يونس آية: 106.
5 سورة آية: 13-14.
6 سورةالإسراء آية: 56-57.
والعزير) .
وعن عبد الله بن مسعود، قال: (نزلت إلى نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن، فأسلم الجنيون، والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم، فنَزلت هذه الآية"، ثبت ذلك عنه في صحيح البخاري، ذكره في كتاب التفسير.
وهذه الأقوال في معنى الآية كلها حق، فإن الآية تعم كل من كان معبوده عابدا الله، سواء كان من الملائكة، أو من الجن، أو من البشر؛ فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعوا، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجو رحمته، ويخاف عذابه؛ فكل من دعا ميتا، أو غائبا من الأنبياء والصالحين، فقد تناولته هذه الآية.
ومعلوم: أن المشركين يسألون الصالحين، بمعنى أنهم وسائط بينهم وبين الله، ومع هذا فقد نهى الله عن دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعي، ولا تحويله، لا يرفعونه بالكلية، ولا يحولونه من موضع إلى موضع، كتغيير صفته، أو قدره، ولهذا قال:{ولا تحويلا} ، فذكر نكرة تعم أنواع التحويل.
فكل من دعا ميتا من الأنبياء والصالحين، أو دعا الملائكة أو الجن، فقد دعا من لا يغيثه، ولا يملك كشف الضر عنه، ولا تحويله.
وهؤلاء المشركون اليوم، منهم من إذا نزلت به شدة، لا يدعو إلا شيخه، ولا يذكر إلا اسمه، قد لهج به كما يلهج الصبي بذكر أمه، فإذا تعس أحدهم، قال: يا ابن عباس، أو يا محجوب. ومنهم من يحلف بالله ويكذب، ويحلف بابن عباس أو غيره فيصدق ولا يكذب، فيكون المخلوق في صدره أعظم من الخالق، وإذا كان دعاء الموتى يتضمن هذا الاستهزاء بالدين، وهذه المحادة لرب العالمين، فأي الفرقين أحق بالاستهزاء، والمحادة لله؟ من كان يدعو الموتى ويستغيث بهم، أو يأمر بذلك؟ أو من كان لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، كما أمرت به رسله، ويوجب طاعة الرسول، ومتابعته في كل ما جاء به؟
ونحن- بحمد الله- من أعظم الناس إيجابا لرعاية الرسول صلى الله عليه وسلم تصديقا له فيما أخبر، وطاعة له فيما أمر، واعتناء بمعرفة ما بعث به، واتباع ذلك دون ما خالفه، عملا بقوله تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 1، وقوله تعالى:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 2.
ومعنا- ولله الحمد- أصلان عظيمان: أحدهما: أن لا نعبد إلا الله، فلا ندعو إلا هو، ولا نذبح النسك إلا لوجهه، ولا نرجو إلا هو، ولا نتوكل إلا عليه. والأصل
1 سورة الأعراف آية: 3.
2 سورة الأنعام آية: 155.
الثاني: أن لا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بعبادة مبتدعة. وهذان الأصلان: هما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
فإن شهادة أن لا إله إلا الله تتضمن إخلاص الإلهية لله، فلا يتأله القلب، ولا اللسان، ولا الجوارح بغيره تعالى، لا بحب ولا خشية، ولا إجلال ولا رهبة. وشهادة أن محمدا عبده ورسوله تتضمن تصديقه في جميع ما أخبر به، وطاعته واتباعه في كل ما أمر به، فما أثبته وجب اتباعه، وما نفاه وجب نفية.
وقد روى البخاري من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: ومن يأبى، يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى "1.
إذا تمهد هذا، فنقول: الذي نعتقده وندين الله به، أن من دعا نبيا أو وليا، أو غيرهما، وسأل منهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، أن هذا من أعظم الشرك، الذي كفر الله به المشركين، حيث اتخذوا أولياء وشفعاء، يستجلبون بهم المنافع، ويستدفعون بهم المضار بزعمهم.
قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا
1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) ، وأحمد (2/361) .
لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1.فمن جعل الأنبياء أو غيرهم، كابن عباس، أو المحجوب، أو أبي طالب، وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع، ودفع المضار، بمعنى أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك، يسألون الملوك حوائج الناس، لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدبا منهم، أن يباشروا سؤال الملك، أو لكونهم أقرب إلى الملك، فمن جعلهم وسائط على هذا الوجه، فهو كافر مشرك، حلال المال والدم.
وقد نص العلماء رحمهم الله على ذلك، وحكوا عليه الإجماع؛ قال في "الإقناع" وشرحه: من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم، ويدعوهم، ويسألهم، كفر إجماعا، لأن ذلك فعل عابدي الأصنام، قائلين {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2. انتهى.
وقال الإمام أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي، رحمه الله: لما صعبت التكاليف على الطغام والجهال، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم.
قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم
1 سورة يونس آية: 18.
2 سورة الزمر آية: 3.
القبور وإكرامها، والتزامها بما نهى عنه الشرع، من إيقاد النيران، وتقبيلها، وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع عليها: يا مولاي افعل لي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى، انتهى كلامه.
وقال الإمام البكري الشافعي، رحمه الله، في تفسيره، عند قوله تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1: وكانت الكفار إذا سئلوا: من خلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله، فإذا سئلوا عن عبادة الأصنام، قالوا:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ} 2، لأجل طلب شفاعتهم عند الله؛ وهذا كفر منهم، انتهى كلامه.
فتأمل ما ذكره صاحب "الإقناع"، وما ذكره ابن عقيل، من تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج، وأن ذلك كفر.
وقال الحافظ العماد بن كثير رحمه الله، في تفسيره عند قوله تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} : 3 إنما يحملهم على عبادتهم: أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين بزعمهم، فعبدوا تلك الصور تنْزيلا لذلك، منْزلة عبادتهم
1 سورة الزمر آية: 3.
2 سورة الزمر آية: 3.
3 سورة الزمر آية: 3.
الملائكة، ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم ورزقهم، وما ينوبهم من أمور الدنيا، فأما المعاد فكانوا جاحدين له، كافرين به.
قال قتادة والسدي، ومالك عن زيد بن أسلم، وابن زيد {إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1 أي: ليشفعوا لنا عنده ويقربونا، ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم، إذا حجوا في جاهليتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. وهذه الشبهة هي التي اعتقدها المشركون، في قديم الدهر وحديثه، وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم بردها، والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم، لم يأذن الله فيه ولا رضي به، بل أبغضه ونهى عنه، قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3.
وأخبر أن الملائكة التي في السماوات، من المقربين وغيرهم، كلهم عبيد، خاضعون لله، لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى، وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم، يشفعون بغير إذنهم، فيما أحبه الملوك وكرهوه؛ فلا
1 سورة الزمر آية: 3.
2 سورة النحل آية: 36.
3 سورة الأنبياء آية: 25.
تضربوا لله الأمثال، تعالى الله عن ذلك، انتهى كلامه.
وقال الإمام البكري، رحمه الله، عند قوله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} 1 الآية: فإن قلت: إذا أقروا بذلك، فكيف عبدوا الأصنام؟ قلت: كلهم كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام، عبادة الله، والتقرب إليه، لكن بطرق مختلفة.
ففرقة قالت: ليس لنا أهلية عبادة الله تعالى بلا واسطة لعظمته، فعبدناها لتقربنا إليه زلفى. وفرقة قالت: الملائكة ذو وجاهة ومنْزلة عند الله، فاتخذنا أصناما على هيئتها، لتقربنا إلى الله زلفى.
وفرقة قالت: جعلنا الأصنام قبلة لنا في العبادة، كما أن الكعبة قبلة في عبادته. وفرقة اعتقدت: أن لكل ملك شيطانا موكلا بأمر الله، فمن عبد الصنم حق عبادته قضى الشيطان حوائجه بأمر الله، وإلا أصابه شيطان بنكبة بأمر الله تعالى، انتهى كلامه.
فانظر إلى كلام هؤلاء الأئمة، وتصريحهم بأن المشركين ما أرادوا ممن عبدوا إلا التقرب إلى الله، وطلب شفاعتهم عند الله، وتأمل: ما ذكره ابن كثير، وما حكاه عن زيد بن أسلم، وابن زيد، ثم قال: وهذه الشبهة، هي التي اعتقدها المشركون، في قديم الدهر وحديثه، وجاءتهم
1 سورة يونس آية: 31.
الرسل- صلوات الله وسلامه عليهم- بردها، والنهي عنها.
وتأمل ما ذكره البكري رحمه الله عند آية الزمر: أن الكفار ما أرادوا إلا الشفاعة، ثم صرح بأن هذا كفر; فمن تأمل ما ذكره الله في كتابه، تبين له أن الكفار ما أرادوا ممن عبدوا إلا التقرب إلى الله، وطلب شفاعتهم عند الله، فإنهم لم يعتقدوا فيها أنها تخلق الخلائق، وتنَزل المطر، وتنبت النبات، بل كانوا مقرين أن الفاعل لذلك هو الله، وحده لا شريك له في ذلك.
قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 1، وقال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2،
1 سورة يونس آية: 31.
2 سورة العنكبوت آية: 61.
3 سورة المؤمنون آية: 84-89.
إلى غير ذلك من الآيات التي أخبر الله فيها أن المشركين معترفون، أن الله هو الخالق الرازق، وإنما كانوا يعبدونهم ليقربوهم، ويشفعوا لهم، كما ذكره سبحانه، في قوله:{وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1؛ فبعث الله الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده، ولا يجعل معه إله آخر، وأخبر سبحانه أن الشفاعة كلها له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وأنه لا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله، وأنه لا يرضى إلا التوحيد، فالشفاعة مقيده بهذه القيود.
قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ?قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 2، وقال تعالى:{مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} 3، وقال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} 4.
وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 5، وقال تعالى:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 6، وقال تعالى:{وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 7.
وفي الصحيحين من غير وجه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
1 سورة يونس آية: 18.
2 سورة آية: 43-44.
3 سورة السجدة آية: 4.
4 سورة البقرة آية: 255.
5 سورة طه آية: 109.
6 سورة النجم آية: 26.
7 سورة سبأ آية: 23.
سيد ولد آدم، وأكرم الخلق على الله، أنه قال:" آتي تحت العرش، فأخر لله ساجدا، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، واشفع تشفع، قال: فيحد لي حدا، ثم أدخلهم الجنة، ثم أعود " 1 فذكر أربع مرات، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى سائر الأنبياء.
وقال الإمام البكري رحمه الله، عند قوله تعالى:{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} 2: نفى الشفيع، وإن كانت الشفاعة واقعة في الآخرة، لأنها من حيث إنها لا تقع إلا بإذنه، كأنها غير موجودة من غيره، وهو كذلك، لكن جعل ذلك لتبيين الرتب؛ وجملة النفي حال من ضمير يحشروا، وهي محل الخوف، والمراد به المؤمنون العاصون، انتهى.
وقال أيضا: عند قوله تعالى {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 3: دل على أن الشفاعة تكون للمؤمنين فقط.
وقال الحافظ عماد الدين بن كثير، عند قوله تعالى:{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} 4: يقرر تعالى أنه لا إله إلا هو، لأنهم معترفون أنه هو الذي خلق السماوات والأرض، وهو ربها ومدبرها؛ وهم مع
1 البخاري: تفسير القرآن (4476)، ومسلم: الإيمان (193) ، وأحمد (3/116 ،3/244 ،3/247) .
2 سورة الأنعام آية: 51.
3 سورة طه آية: 109.
4 سورة الرعد آية: 16.
هذا، قد اتخذوا من دون الله أولياء يعبدونهم، وإنما عبد هؤلاء المشركون آلهة، هم يعترفون أنها مخلوقة عبيد له، كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.
وكما أخبر عنهم في قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1، فأنكر تعالى ذلك عليهم، حيث اعتقدوا ذلك، وهو تعالى: لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 2.
ثم قد أرسل رسله، من أولهم إلى آخرهم، يزجرون عن ذلك، وينهون عن عبادة من سوى الله، فكذبوهم؛ انتهى كلامه.
والمقصود: بيان شرك المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم ما أرادوا ممن عبدوا إلا التقرب إلى الله، وطلب شفاعتهم عند الله، وبيان أن طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم في الشدائد، أنه من الشرك الأكبر، الذي كفر الله به المشركين، وبيان أن الشفاعة كلها لله، ليس لأحد معه فيها شيء، وأنه لا شفاعة إلا بعد إذن الله تعالى، وأنه تعالى لا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله، وأنه لا يرضى إلا التوحيد، كما تقدمت الأدلة الدالة على ذلك.
1 سورة الزمر آية: 3.
2 سورة سبأ آية: 23.
ومعلوم: أن أعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عند الله: الرسل، والملائكة المقربون، وهم عبيد محض، لا يسبقونه بالقول، ولا يتقدمون بين يديه، ولا يفعلون شيئا إلا بعد إذنه لهم وأمره، فيأذن سبحانه لمن يشاء أن يشفع فيه؛ فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له تعالى، والذي شفع عنده إنما شفع بإذنه له، وأمره بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه، وهي إرادته أن يرحم عبيده.
وهذا ضد الشفاعة الشركية، التي أثبتها المشركون ومن وافقهم، وهي التي أبطلها سبحانه في كتابه العزيز، بقوله تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} 1، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} 2.
ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة: أهل التوحيد، كما صرحت بذلك النصوص، فروى البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة، من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه " 3،وعن عوف بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتاني آت من عند ربي، فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة، وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئا " 4، رواه الترمذي
1 سورة البقرة آية: 123.
2 سورة البقرة آية: 254.
3 البخاري: العلم (99) ، وأحمد (2/373) .
4 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2441)، وابن ماجه: الزهد (4317) .
وابن ماجه.
فأسعد الناس بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهل التوحيد، الذين جردوا التوحيد، وأخلصوه من التعلقات الشركية، وهم الذين ارتضى الله سبحانه، قال تعالى:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 1، وقال تعالى:{يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 2؛ فأخبر سبحانه: أنه لا يحصل يومئذ شفاعة تنفع، إلا بعد رضاه قول المشفوع له، وإذنه للشافع؛ فأما المشرك فإنه لا يرتضيه، ولا يرضى قوله، فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه؛ فإنه سبحانه علقها بأمرين: رضاه عن المشفوع له، وإذنه للشافع؛ فما لم يوجد مجموع الأمرين، لم توجد الشفاعة.
وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه سبحانه، فإنه الذي أذن، والذي قبل، والذي رضي عن المشفوع له، والذي وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة؛ فالرب تبارك وتعالى: هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه. فالشفاعة التي نفاها القرآن: ما كان فيها شرك، ولهذا أثبتها الله سبحانه بإذنه، في مواضع من كتابه؛ وبين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد، كما تقدم من حديث أبي هريرة، وعوف بن
1 سورة الأنبياء آية: 28.
2 سورة طه آية: 109.
مالك، فمتخذ الشفيع مشرك، لا تنفعه شفاعته، ولا يشفع فيه، ومتخذ الرب إلهه ومعبوده، هو الذي يأذن للشفيع أن يشفع فيه، قال تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 1، وقال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2.
فبين أن المتخذين شفعاء مشركون، وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذهم، إنما تحصل بإذنه سبحانه للشافع، ورضاه عن المشفوع له، كما تقدم بيانه.
والمقصود: أن الكتاب والسنة دلا على أن من جعل الملائكة والأنبياء أو ابن عباس أو أبا طالب أو المحجوب وسائط بينهم وبين الله، ليشفعوا لهم عند الله لأجل قربهم من الله، كما يفعل عند الملوك، أنه كافر مشرك حلال الدم والمال، وإن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، وصلى وصام، وزعم أنه مسلم؛ بل هو من {الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} 3.
ومن تأمل القرآن العزيز، وجده مصرحا بأن
1 سورة آية: 43-44.
2 سورة يونس آية: 18.
3 سورة آية: 103-104.
المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرون بأن الله هو الخالق الرازق، وأن السماوات السبع ومن فيهن، والأرضين السبع ومن فيهن، كلهم عبيده وتحت قهره وتصرفه، كما حكاه تعالى عنهم في سورة يونس، وسورة المؤمنون، والعنكبوت، وغيرها من السور، ووجده مصرحا بأن المشركين يدعون الصالحين، كما ذكر تعالى ذلك عنهم في سورة سبحان، والمائدة وغيرهما من السور.
وكذلك ذكر عنهم أنهم يعبدون الملائكة، كما ذكر ذلك عنهم، في سورة الفرقان والنجم، ووجده مصرحا بأن المشركين ما أرادوا ممن عبدوا إلا الشفاعة، والتقرب إلى الله، كما ذكر تعالى ذلك عنهم، في سورة يونس والزمر، وغيرهما من السور.
فإذا تبين لكم أن القرآن قد صرح بهذه المسائل الثلاث، أعني: اعتراف المشركين بتوحيد الربوبية، وأنهم يدعون الصالحين، وأنهم ما أرادوا منهم إلا الشفاعة، تبين لكم أن هذا الذي يفعل عند القبور اليوم، من سؤالهم جلب الفوائد، وكشف الشدائد، أنه الشرك الأكبر، الذي كفر الله به المشركين، فإن هؤلاء المشركين مشبهون، شبهوا الخالق بالمخلوق.
وفي القرآن العزيز، وكلام أهل العلم، من الرد على
هؤلاء، ما لا يتسع له هذا الموضع؛ فإن الوسائط التي بين الملوك وبين الناس، تكون على أحد وجوه ثلاثة:
إما لإخبارهم عن أحوال الناس ما لا يعرفونه، ومن قال: إن الله لا يعرف أحوال العباد، حتى يخبره بذلك بعض الأنبياء، أو غيرهم من الأولياء والصالحين، فهو كافر؛ بل هو سبحانه يعلم السر وأخفى، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
الثاني: أن يكون الملك عاجزا عن تدبير رعيته، ودفع أعدائه، إلا بأعوان يعاونون، فلا بد له من أعوان يعاونونه، وأنصار لذله وعجزه؛ والله سبحانه ليس له ظهير ولا ولي من الذل، وكل ما في الوجود من الأسباب، فهو سبحانه ربه وخالقه، وهو الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، بخلاف الملوك المحتاجين إلى ظهرائهم، وهم في الحقيقة شركاؤهم.
والله سبحانه ليس له شريك في الملك، بل لا إله إلا هو، وحده لا شريك له له الملك، وله الحمد؛ ولهذا لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلا عن غيرهما; فإن من شفع عنده بغير إذنه، فهو شريك له في حصول المطلوب أثر فيه بشفاعته، حتى يفعل ما يطلب منه، والله تعالى لا شريك له بوجه من الوجوه.
الثالث: أنه لا يكون الملك مريدا لنفع رعيته، والإحسان إليهم، إلا بمحرك يحركة من خارج، فإذا خاطب الملك من ينصحه ويعظمه، أو من يدل عليه، بحيث يكون يرجوه ويخافه، تحركت إرادة الملك وهمته، في قضاء حوائج رعيته؛ والله تعالى رب كل شيء ومليكه، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وكل الأسباب إنما تكون بمشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وهو سبحانه إذا أراد إجراء، نفع العباد، بعضهم على يد بعض، جعل هذا يحسن إلى هذا، ويدعو له أو يشفع له؛ فهو الذي خلق ذلك كله، وهو الذي خلق في قلب هذا المحسن، والداعي إرادة الإحسان، والدعاء والشفاعة; ولا يجوز أن يكون في الوجود، من يكرهه على خلاف مراده، أو يعلمه ما لم يكن يعلمه.
والشفعاء الذين يشفعون عنده، لا يشفعون إلا بإذنه، كما تقدم بيانه، بخلاف الملوك المحتاجين، فإن الشافع عندهم، يكون شريكا لهم في الملك، وقد يكون مظاهرا لهم، معاونا لهم على ملكهم، وهم يشفعون عند الملوك، بغير إذن الملوك، والملك يقبل شفاعتهم، تارة لحاجته إليهم، وتارة لجزاء إحسانهم ومكافأتهم، حتى إنه يقبل شفاعة ولده وزوجته لذلك.
فإنه محتاج إلى الزوجة والولد، حتى لو أعرض عنه ولده وزوجته لتضرر بذلك، ويقبل شفاعة مملوكه، فإنه إذا لم يقبل شفاعته، يخاف أن لا يطيعه، ويقبل شفاعة أخيه، مخافة أن يسعى في ضرره، وشفاعة العباد بعضهم عند بعض، كلها من هذا الجنس، فلا يقبل أحد شفاعة أحد، إلا لرغبة أو لرهبة؛ والله تعالى لا يرجو أحدا، ولا يخافه ولا يحتاج إلى أحد; بل هو الغني سبحانه عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه.
والمشركون يتخذون شفعاء، من جنس ما يعهدونه عند المخلوق، قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1، وقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً?أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 2.
فأخبر سبحانه: أن ما يدعى من دونه، لا يملك كشف الضر عن الداعي، ولا تحويله، وأنهم يرجون رحمته، ويخافون عذابه، ويتقربون إلى الله؛ فقد نفى سبحانه ما أثبتوه، من توسط الملائكة، والأنبياء. وفيما ذكرنا كفاية
1 سورة يونس آية: 18.
2 سورة آية: 56-57.
لمن هداه الله; وأما من أراد الله فتنته فلا حيلة فيه، {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} 1.
[من تلفظ بالشهادة ولم يصل ولم يزك]
وأما المسألة الثانية، فقالوا: من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولم يصل ولم يزك، هل يكون مؤمنا؟.
فنقول: أما من قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وهو مقيم على شركه، يدعو الموتى، ويسألهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، فهذا كافر مشرك، حلال الدم والمال، وإن قال لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وصلى وصام، وزعم أنه مسلم، كما تقدم بيانه.
وأما إن وحد الله تعالى، ولم يشرك به، ولكنه ترك الصلاة، ومنع الزكاة، فإن كان جاحدا للوجوب، فهو كافر إجماعا; وأما إن أقر بالوجوب، ولكنه ترك الصلاة تكاسلا عنها، فهذا قد اختلف العلماء في كفره.
والعلماء إذا أجمعوا، فإجماعهم حجة، لا يجتمعون على ضلالة، وإذا تنازعوا في شيء، رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول; والواحد منهم ليس بمعصوم على الإطلاق، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
1 سورة الكهف آية: 17.
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} 1،قال العلماء: الرد إلى الله، هو الرد إلى كتابه; والرد إلى الرسول: هو الرد إلى السنة بعد وفاته، وقال تعالى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} 2.
وقد ذم الله تعالى من أعرض عن كتابه، ودعا عند التنازع إلى غيره، فقال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} 3. إذا عرف هذا فنقول:
اختلف العلماء رحمهم الله، في تارك الصلاة كسلا من غير جحود، فذهب الإمام أبو حنيفة، والشافعي في أحد قوليه، ومالك: إلى أنه لا يحكم بكفره، واحتجوا بما رواه عبادة بن الصامت، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" خمس صلوات كتبهن الله على العباد، من أتى بهن كان له عند الله عهدا أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عندالله عهد، إن شاء عذبه، إن شاء غفر له "4.
وذهب إمامنا أحمد بن حنبل، والشافعي في أحد قوليه، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن المبارك، والنخعي، والحكم، وأيوب السختياني، وأبو داود الطيالسي، وغيرهم من كبار الأئمة والتابعين، إلى أنه كافر؛ وحكاه إسحاق بن راهويه إجماعا، ذكره عنه الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي، في "شرح الأربعين"، وذكره في
1 سورة النساء آية: 59.
2 سورة الشورى آية: 10.
3 سورة النساء آية: 61.
4 النسائي: الصلاة (461)، وأبو داود: الصلاة (425 ،1420)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1401) ، وأحمد (5/315)، ومالك: النداء للصلاة (270)، والدارمي: الصلاة (1577) .
كتاب "الزواجر عن اقتراف الكبائر" عن جمهور الصحابة رضي الله عنهم.
وقال الإمام أبو محمد بن حزم: سائر الصحابة رضي الله عنهم، ومن بعدهم من التابعين، يكفرون تارك الصلاة مطلقا، ويحكمون عليه بالارتداد، منهم أبو بكر وعمر، وابنه عبد الله، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، ومعاذ بن جبل، وجابر بن عبد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وغيرهم من الصحابة، ولا نعلم لهؤلاء مخالفا من الصحابة.
وأجابوا عن قوله صلى الله عليه وسلم: " من لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له " 1 أن المراد: عدم المحافظة عليهن في أوقاتهن، بدليل الآيات، والأحاديث الواردة فيها، وفي تركها.
واحتجوا على كفر تاركها، بما رواه مسلم في صحيحه، عن جابر بن عبد الله، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " 2، وعن بريدة بن الحصيب، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر " 3، رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، إسناده على شرط مسلم.
1 النسائي: الصلاة (461)، وأبو داود: الصلاة (425 ،1420)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1401) ، وأحمد (5/315 ،5/317 ،5/319 ،5/322)، ومالك: النداء للصلاة (270)، والدارمي: الصلاة (1577) .
2 مسلم: الإيمان (82)، والترمذي: الإيمان (2620)، وأبو داود: السنة (4678)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، وأحمد (3/370 ،3/389)، والدارمي: الصلاة (1233) .
3 الترمذي: الإيمان (2621)، والنسائي: الصلاة (463)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، وأحمد (5/346 ،5/355) .
وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " بين العبد والكفر والإيمان، الصلاة؛ فإذا تركها فقد كفر وأشرك " 1، وإسناده صحيح على شرط مسلم، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوما، فقال:" من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون، وفرعون، وهامان، وأبي بن خلف " 2 رواه الإمام أحمد، وأبو حاتم، وابن حبان في صحيحه.
وعن عبادة بن الصامت: قال أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تشرك بالله شيئا، ولا تترك الصلاة عمدا؛ فمن تركها عمدا فقد خرج من الملة" رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في سننه; وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ترك صلاة مكتوبة متعمدا، فقد برئت منه ذمة الله " 3 رواه الإمام أحمد; وعن أبي الدرداء، قال:" أوصاني أبو القاسم صلى الله عليه وسلم لا أترك الصلاة متعمدا، فمن تركها متعمدا فقد برئت منه الذمة " 4 رواه ابن أبي حاتم.
وعن معاذ بن جبل: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة " 5 الحديث; وعن عبد الله بن شقيق العقيلي، قال:"كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة" رواه الترمذي.
1 ابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1080) .
2 أحمد (2/169)، والدارمي: الرقاق (2721) .
3 أحمد (5/238) .
4 ابن ماجه: الفتن (4034) .
5 الترمذي: الإيمان (2616)، وابن ماجه: الفتن (3973) ، وأحمد (5/231 ،5/237 ،5/245) .
فهذه الأحاديث كما ترى، صريحة في كفر تارك الصلاة، مع ما تقدم من إجماع الصحابة، كما حكاه إسحاق بن راهويه، وابن حزم، وعبد الله بن شقيق؛ وهو مذهب جمهور العلماء، من التابعين ومن بعدهم.
ثم اعلم: أن العلماء كلهم مجمعون على قتل تارك الصلاة كسلا، إلا أبا حنيفة، ومحمد بن شهاب الزهري، وداود، قالوا: يحبس تارك الصلاة المفروضة، حتى يموت أو يتوب.
ومن احتج لهذا القول، بقوله صلى الله عليه وسلم:" أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها " 1، فقد أبعد النجعة، فإن هذا الحديث لا حجة فيه، بل هو حجة لمن يقول بقتله، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
واحتج الجمهور على قتله بالكتاب والسنة: أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 2 إلى قوله {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 3. فشرط الكف: التوبة من الشرك، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فإذا لم توجد هذه الثلاث، لم يكف عن قتلهم، ولم يخل سبيلهم.
قال ابن ماجه: حدثنا نصر بن علي، حدثنا أبو
1 الترمذي: تفسير القرآن (3341) ، وأحمد (3/295 ،3/300 ،3/332 ،3/394) .
2 سورة التوبة آية: 5.
3 سورة التوبة آية: 5.
أحمد، حدثنا الربيع بن أنس، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، مات والله عنه راض "1.
قال أنس: (وهو دين الله الذي جاءت به الرسل، وبلغوه عن ربهم، قبل هرج الأحاديث، واختلاف الأهواء، وتصديق ذلك في كتاب الله، في آخر ما أنزل الله {فَإِنْ تَابُوا} ، قال: خلعوا الأوثان وعبادتها، {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 2 وقال في آية أخرى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} 3) .
وأما السنة: فثبت في الصحيحين، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله " 4؛
فعلق العصمة على الشهادتين، والصلاة والزكاة. وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتابا فيه:"من محمد رسول الله، إلى أهل عمان. أما بعد: فأقروا بشهادة أن لا إله إلا الله، والنبي رسول الله، وأدوا الزكاة، وخطوا المساجد، وإلا غزوتكم" خرجه الطبراني، والبزار وغيرهما، ذكره الحافظ ابن رجب
1 ابن ماجه: المقدمة (70) .
2 سورة التوبة آية: 5.
3 سورة التوبة آية: 11.
4 البخاري: الإيمان (25)، ومسلم: الإيمان (22) .
الحنبلي، في شرح الأربعين.
وروى ابن شهاب عن حنظلة، عن علي بن الأشجع:"أن أبا بكر الصديق بعث خالد بن الوليد، وأمره أن يقاتل الناس على خمس، فمن ترك واحدة فقاتله عليها كما تقاتله على الخمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام". قال سعيد بن جبير، قال عمر بن الخطاب:"لو أن الناس تركوا الحج، لقاتلناهم على تركه، كما نقاتل على الصلاة والزكاة"
وبالجملة: فالكتاب والسنة، يدلان على أن القتال ممدود إلى الشهادتين، والصلاة والزكاة؛ وقد أجمع العلماء على ذلك، قال في شرح "الإقناع": أجمع العلماء على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام، فإنه يجب قتالها حتى يكون الدين كله لله، كالمحاربين وأولى; انتهى.
وأما حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " 1؛فهذا لا إشكال فيه بحمد الله، وليس لكم فيه حجة، بل هو حجة عليكم، ولو لم يكن إلا قوله:(إلا بحقها) لكان كافيا في إبطال قولكم.
وقد قال علماؤنا رحمهم الله: إذا قال الكافر: لا إله
1 الترمذي: تفسير القرآن (3341) ، وأحمد (3/295 ،3/300 ،3/332 ،3/394) .
إلا الله، فقد شرع في العاصم لدمه، فيجب الكف عنه، فإن تمم ذلك تحققت العصمة وإلا بطلت، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قال كل حديث في وقت، فقال:" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله " 1 ليعلم المسلمون أن الكافر المحارب، إذا قالها كف عنه، وصار دمه وماله معصوما.
ثم بين صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: أن القتال ممدود إلى الشهادتين، والعبادتين، فقال:" أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة " 2 فبين: أن تمام العصمة وكمالها إنما يحصل بذلك، ولئلا تقع الشبهة بأن مجرد الاقرار يعصم على الدوام، كما وقعت لبعض الصحابة، حتى جلاها أبو بكر الصديق، ثم وافقوه رضي الله عنه.
ومما يبين فساد قولكم، وخطأ فهمكم في معنى حديث أبي هريرة: أن الصحابة رضي الله عنهم، أجمعوا على قتال مانعي الزكاة، بعد مناظرة وقعت بين أبي بكر وعمر؛ واستدل عمر على أبي بكر، بحديث أبي هريرة، فبين صديق الأمة رضي الله عنه أن الحديث حجة على قتال من منع الزكاة؛ فوافقه عمر، وسائر الصحابة على قتال مانعي الزكاة، وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويصلون.
ونحن نسوق الحديث بتمامه، ثم نذكر ما قاله العلماء
1 البخاري: الجهاد والسير (2946)، ومسلم: الإيمان (21)، والترمذي: الإيمان (2606)، والنسائي: الجهاد (3090 ،3095) وتحريم الدم (3971 ،3972 ،3974 ،3976 ،3977 ،3978)، وأبو داود: الجهاد (2640)، وابن ماجه: المقدمة (71) والفتن (3927 ،3928) ، وأحمد (1/11 ،2/377 ،2/423 ،2/502 ،2/528 ،3/300 ،3/332 ،3/339 ،3/394) .
2 البخاري: الإيمان (25)، ومسلم: الإيمان (22) .
في شرحه، ليتبين أن فهمكم الفاسد، لم يقل به أحد من العلماء، وأنه فهم مذموم مشؤوم، مخالف للكتاب والسنة، وإجماع الأمة، فنقول: ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة، قال:"لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها؟ فقال أبو بكر: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال؛ فوالله، لو منعوني عقالا، كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه; قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله، قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعلمت أنه الحق"
وهذا الحديث خرجه البخاري في كتاب الزكاة، ومسلم في كتاب الإيمان، وهو من أعظم الأدلة على فساد قولكم؛ فإن الصديق رضي الله عنه جعل المبيح للقتال مجرد المنع، لا جحد الوجوب.
وقد تكلم النووي رحمه الله على هذا الحديث، في شرح صحيح مسلم، فقال: باب الأمر بقتال الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويؤمنوا بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من قال ذلك عصم نفسه وماله إلا بحقها، ووكلت سريرته إلى الله تعالى، وقتال من منع الزكاة وغيرها، من حقوق
الإسلام، واهتمام الإمام بشرائع الإسلام؛ ثم ساق الحديث.
ثم قال: قال الخطابي في شرح هذا الكلام كلاما حسنا لا بد من ذكره، لما فيه من الفوائد، قال رحمه الله:
مما يجب تقديمه، أن يعلم: أن أهل الردة كانوا إذ ذاك صنفين: صنف ارتدوا عن الدين، ونابذوا الملة، وعادوا لكفرهم، وهم الذين عنى أبو هريرة بقوله وكفر من كفر من العرب. والصنف الآخر: فرقوا بين الصلاة، وأنكروا فرض الزكاة، ووجوب أدائها إلى الإمام.
وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين للزكاة، من كان يسمح بالزكاة ولا يمنعها، إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي، وقبضوا على أيديهم في ذلك، كبني يربوع، فإنهم جمعوا صدقاتهم، وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر، فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك، وفرقها فيهم.
وفي أمر هؤلاء عرض الخلاف، ووقعت الشبهة لعمر رضي الله عنه، فراجع أبا بكر رضي الله عنه وناظره، واحتج عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم:" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله؛ فمن قالها فقد عصم نفسه وماله" 1 فكان هذا من عمر رضي الله عنه تعلقا بظاهر الكلام، قبل أن ينظر في آخره، ويتأمل شرائطه.
1 البخاري: الزكاة (1400)، ومسلم: الإيمان (20)، والترمذي: الإيمان (2607)، والنسائي: الزكاة (2443) والجهاد (3091 ،3092 ،3093 ،3094) وتحريم الدم (3969 ،3970 ،3971 ،3973 ،3975)، وأبو داود: الزكاة (1556) ، وأحمد (1/11 ،1/19 ،1/35 ،1/47 ،2/423 ،2/528) .
فقال أبو بكر: الزكاة حق المال; يريد أن القضية التي قد تضمنت عصمة دمه وماله، معلقة بإيفاء شرائطها، والحكم المتعلق بشرطين، لا يحصل بأحدهما والآخر معدوم، ثم قاسه بالصلاة، ورد الزكاة إليها، وكان في ذلك من قوله دليل على أن قتال الممتنع من الصلاة، كان إجماعا من الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك ردوا المختلف فيه إلى المتفق عليه.
فلما استقر صحة رأي أبي بكر رضي الله عنه وبان لعمر صوابه، تابعه على قتال القوم، وهو معنى قوله:"فلما رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال عرفت أنه الحق"‘ يريد انشراح صدره بالحجة، التي أدلى بها، والبرهان الذي أقامه، نصا ودلالة. انتهى.
فتأمل: هذا الباب، الذي ذكره النووي رحمه الله وهو إمام الشافعية، على الإطلاق ـ، تجده صريحا في رد شبهتك: أن من قال لا إله إلا الله، لا يباح دمه وماله، وإن ترك الصلاة ومنع الزكاة؛ فالترجمة نفسها صريحة في رد قولكم، فإنه صرح بالأمر بالقتال، على ترك الصلاة، ومنع الزكاة.
وتأمل: ما ذكره الخطابي، أن الذين منعوا الزكاة، منهم من كان يسمح بها ولا يمنعها، إلا أن رؤساءهم
صدوهم عن ذلك الرأي، وقبضوا على أيديهم، كبني يربوع، فإنهم أرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر، فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك وفرقها فيهم، وأنه عرض الخلاف، ووقعت الشبهة لعمر في أمر هؤلاء، ثم إن عمر وافق أبا بكر على قتالهم.
وتأمل قوله: واحتج عمر بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله " 1، وكان هذا من عمر تعلقا بظاهر الكلام، قبل أن ينظر في آخره، ويتأمل في شرائطه.
وتأمل قوله: إن قتال الممتنع من الصلاة، كان إجماعا من الصحابة.
وقد أشار الخطابي إلى أن حديث أبي هريرة مختصر; قال النووي رحمه الله: قال الخطابي: ويبين لك أن حديث أبي هريرة مختصر، وأن عبد الله بن عمر وأنسا، روياه بزيادة لم يذكرها أبو هريرة; ففي حديث ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها "2.
وفي رواية أنس: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا
1 الترمذي: تفسير القرآن (3341) ، وأحمد (3/295 ،3/300 ،3/332 ،3/394) .
2 البخاري: الإيمان (25)، ومسلم: الإيمان (22) .
أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا؛ فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين " 1. انتهى.
قلت: وقد ثبت في الطريق الثالث المذكور في الكتاب والسنة، من رواية أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به؛ فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها "2.
وفي استدلال أبي بكر، واعتراض عمر رضي الله عنهما: دليل على أنهما لم يحفظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن عمر وأنس وأبو هريرة؛ وكأن هؤلاء الثلاثة سمعوا هذه الزيادة في روايتهم في مجلس آخر، فإن عمر لو سمع ذلك لما خالف، ولما كان احتج بالحديث، فإن هذه الزيادة حجة عليه، ولو سمع أبو بكر هذه الزيادة لاحتج بها، ولما كان احتج بالقياس والعموم، والله أعلم. انتهى كلام النووي.
فتأمل ما ذكره الخطابي، تجده صريحا في رد قولكم، وتأمل قوله: فإن عمر لو سمع ذلك لما خالف، ولما كان احتج بالحديث، فإن هذه الزيادة حجة عليهم.
1 البخاري: الصلاة (393)، والترمذي: الإيمان (2608)، والنسائي: تحريم الدم (3966 ،3967) والإيمان وشرائعه (5003)، وأبو داود: الجهاد (2641) ، وأحمد (3/199 ،3/224) .
2 البخاري: الإيمان (25)، ومسلم: الإيمان (22) .
وبالجملة: فحديث أبي هريرة حجة عليكم لا لكم، ولو لم يكن فيه إلا قوله:"بحقها" لكان كافيا في بطلان شبهتكم؛ فإن الصلاة والزكاة من أعظم حقوق لا إله إلا الله، بل هما أعظمها على الإطلاق.
ومما يدل على بطلان قولكم، وفساد فهمكم في معنى الحديث، أعني حديث أبي هريرة:" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " 1،أن جميع الشراح والمحدثين لم يتأولوه على هذا التأويل الذي ذهبتم إليه.
فإنه حديث صحيح مخرج في الصحاح، وهؤلاء شراح البخاري، ومحشّوه نحوا من أربعين، كما نبه عليه القسطلاني في خطبة شرح البخاري، وكذا شرح مسلم، هل أحد منهم استدل به، على ترك قتال من ترك الفرائض؟ بل الذي ذكروه خلاف ما ذهبتم إليه; ولو لم يكن إلا احتجاج عمر به على أبي بكر، واستدلال أبي بكر على قتال مانعي الزكاة، لكان كافيا؛ ونحن نذكر كلامهم عذرا أو نذرا.
قال النووي، رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله؛ فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها، وحسابه على الله عز وجل "2.قال الخطابي: ومعلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان، دون أهل الكتاب، لأنهم يقولون لا إله إلا الله،
1 الترمذي: تفسير القرآن (3341) ، وأحمد (3/295 ،3/300 ،3/332 ،3/394) .
2 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6924)، ومسلم: الإيمان (20)، والترمذي: الإيمان (2607)، والنسائي: الزكاة (2443) والجهاد (3091 ،3092 ،3093 ،3094) وتحريم الدم (3969 ،3970 ،3971 ،3973 ،3975)، وأبو داود: الزكاة (1556) ، وأحمد (1/11 ،1/19 ،1/35 ،1/47 ،2/423 ،2/528) .
ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف.
قال: ومعنى حسابه على الله، أي: فيما يسرون ويخفون، قال: ففيه: أن من أظهر الإسلام، وأسر الكفر، يقبل إسلامه في الظاهر؛ وهذا قول أكثر العلماء، وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا تقبل، ويحكى ذلك عن أحمد بن حنبل، هذا كلام الخطابي.
وذكر القاضي عياض، رحمه الله في معنى هذا، وزاد عليه وأوضحه، فقال: اختصاص عصمة المال والنفس، لمن قال لا إله إلا الله، تعبيرا عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد مشركو العرب، وأهل الأوثان، ومن لا يوحد، وهم كانوا أول من دعي إلى الإسلام، وقوتل عليه; فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد، فلا يكتفى في عصمته بقول لا إله إلا الله إذا كان يقولها في كفره، وهي من اعتقاده، ولذلك جاء في الحديث الآخر "وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة"؛ هذا كلام القاضي عياض.
قال النووي: قلت: ولا بد من الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في الرواية الأخرى لأبي هريرة: " حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به "1. انتهى كلام النووي.
فتأمل ما ذكر الخطابي، وذكره القاضي عياض، أن
1 مسلم: الإيمان (21) .
المراد بقول لا إله إلا الله: التعبير عن الإجابة إلى الإيمان، واستدل لذلك بالحديث الآخر، الذي فيه:"وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة".
وتأمل قوله: إن المراد بحديث أبي هريرة، مشركو العرب، ومن لا يوحد; فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفى في عصمته بقول لا إله إلا الله، إذا كان يقولها في كفره، وهي من اعتقاده.
وتأمل قول النووي: ولا بد من الإيمان بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبالجملة: فقوله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله " 1 لا نعلم أحدا من العلماء، أجراه على ظاهره، وقال: إن من قال لا إله إلا الله، يكف عنه، ولا يجوز قتاله، وإن ترك الصلاة، ومنع الزكاة، هذا لم يقل به أحد من العلماء.
ولازم قولكم: أن اليهود لا يجوز قتالهم، لأنهم يقولون لا إله إلا الله; وأن الخوارج الذين قاتلهم علي بن أبي طالب، لا يجوز قتالهم، لأنهم يقولون لا إله إلا الله، وأن الصحابة مخطئون في قتالهم لمانعي الزكاة، لأنهم يقولون لا إله إلا الله.
ولازم قولكم: أن بني حنيفة مسلمون، لا يجوز قتالهم، لأنهم يقولون لا إله إلا الله. سبحان الله! ما أعظم
1 الترمذي: تفسير القرآن (3341) ، وأحمد (3/295 ،3/300 ،3/332 ،3/394) .
هذا الجهل! {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 1.
ومن العجب: أنكم تقرؤون في صحيح البخاري هذا الباب، الذي ذكره في كتاب الإيمان، حيث قال: باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 2.
حدثنا عبد الله بن محمد المسندي، أنبأنا أبو روح الحرمي، قال: حدثنا شعبة، عن واقد بن محمد، سمعت أبي يحدث عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله "3.
ثم بعد ذلك تقولون: من قال لا إله إلا الله حرم ماله ودمه، ولا أدري بماذا تجيبون به عن هذه الآية والحديثين، اللذين ذكرهما البخاري؟ وبأي شيء تدفعون به هذه الأدلة؟!
وقال الإمام أبو عيسى الترمذي، في سننه: باب (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) :
حدثنا هناد، وأنبأنا أبو معاوية عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن
1 سورة الروم آية: 59.
2 سورة التوبة آية: 5.
3 البخاري: الإيمان (25)، ومسلم: الإيمان (22) .
أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله " 1 الحديث، ثم أردفه بحديث أبي هريرة في قتال أبي بكر لمانعي الزكاة، وساق الحديث بتمامه.
ثم قال: باب ما جاء " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة " 2: حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني، أنبأنا حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا؛ فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين " 3، وفي الباب عن معاذ بن جبل، وأبي هريرة، هذا حديث حسن صحيح.
والمقصود: فساد هذه الشبهة التي دسها من يدعي أنه من العلماء، على الجهلة من الناس: أن من قال لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أنه مسلم، ولا يجوز قتله، وإن ترك فرائض الإسلام؛ فهذا كلام الله، وهذا كلام رسوله، وهذا كلام العلماء، صريحا في رد هذه الشبهة؛ بل قد دل الكتاب والسنة والإجماع، على أن الطائفة الممتنعة تقاتل على ترك الصلاة، ومنع الزكاة، وإن أقروا بالوجوب، كما تقدمت النصوص الدالة على ذلك.
بل قد صرح العلماء: أن أهل البلد إذا تركوا الأذان
1 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6924)، ومسلم: الإيمان (20)، والترمذي: الإيمان (2607)، والنسائي: الزكاة (2443) والجهاد (3091 ،3092 ،3093 ،3094) وتحريم الدم (3969 ،3970 ،3971 ،3973 ،3975)، وأبو داود: الزكاة (1556) ، وأحمد (1/11 ،1/19 ،1/35 ،1/47 ،2/423 ،2/528) .
2 البخاري: الإيمان (25)، ومسلم: الإيمان (22) .
3 البخاري: الصلاة (393)، والترمذي: الإيمان (2608)، والنسائي: تحريم الدم (3967) والإيمان وشرائعه (5003)، وأبو داود: الجهاد (2641) ، وأحمد (3/224) .
والإقامة، يقاتلون كما سيأتي، وصرحوا أيضا: بأنهم لو تركوا إقامة صلاة الجماعة يقاتلون، وكذلك لو تركوا صلاة العيد؛ وعلماء حرم الله الشريف يقولون: من قال لا إله إلا الله، فقد عصم ماله ونفسه، وإن لم يصل ولم يزك، فسبحان الله مقلب القلوب كيف يشاء!
وهل هذا إلا معارضة لكلام الله، وكلام رسوله، وكلام أئمة المذاهب، وهذا كلامهم موجود في كتبهم، يصرحون بأن من ترك الصلاة قتل، وأن الطائفة الممتنعة من فعل الصلاة، والزكاة والصيام والحج تقاتل، حتى يكون الدين كله لله؛ ويحكون عليه الإجماع، كما صرح بذلك أئمة الحنابلة في كتبهم.
فإذا كانوا مصرحين بأن من ترك بعض شعائر الإسلام، كأهل القرية إذا تركوا الأذان، أو تركوا الجماعة، أو تركوا صلاة العيد، أنهم يقاتلون، فكيف بمن ترك الصلاة رأسا؟ وهؤلاء يقولون: من قال لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فقد عصم ماله ودمه، وإن كانوا طائفة ممتنعين من فعل الصلاة والزكاة.
بل يصرحون بأن البوادي مسلمون، حرام علينا دماؤهم وأموالهم، مع العلم القطعي بأنهم لا يؤذنون، ولا يصلون، ولا يزكون؛ بل الظاهر عنهم أنهم كافرون بالشرائع، وينكرون البعث بعد الموت. فسبحان الله ما
أعظم هذا الجهل!
وقد ذكرنا من كلام الله، وكلام رسوله، وكلام شراح الحديث، ما فيه الهدى لمن هداه الله، وبينا أن العصمة شرطها التوحيد، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة؛ فمن لم يأت بهذه الثلاث، لم يكف عنهم، ولم يخل سبيلهم، وقد قال تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 1.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله "2.
وأما كلام الفقهاء، فنذكره على التفصيل إن شاء الله; أما كلام المالكية: فقال الشيخ علي الأجهوري، في "شرح المختصر": من ترك فرضا آخر، لبقاء ركعة بسجدتيها من الضروري، قتل بالسيف حدا على المشهور، وقال ابن حبيب وجماعة خارج المذهب: كفرا، واختاره ابن عبد السلام، انتهى.
وقال في فضل الأذان: قال المازري: في الأذان معنيان، أحدهما: إظهار الشعائر، والتعريف بأن الدار دار إسلام، وهو فرض كفاية، يقاتل أهل القرية حتى يفعلوه،
1 سورة التوبة آية: 5.
2 البخاري: الإيمان (25)، ومسلم: الإيمان (22) .
فإن عجز عن قهرهم على إقامته إلا بقتال قوتلوا; والثاني: الدعاء للصلاة، والإعلام بوقتها.
وقال الأبي في شرح مسلم: والمشهور: أن الأذان فرض كفاية على أهل المصر، لأنه شعار الإسلام، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يسمع الأذان أغار، وإلا أمسك; وقال المصنف: يقاتلون عليه، ليس القتال من خصائص القول بالوجوب، لأنه نص عن عياض; وفي قول المصنف: والوتر غير واجب، لأنهم اختلفوا في التمادي على ترك السنن، هل يقاتلون عليها؟ والصحيح: قتالهم وإكراههم، لأن في التمادي على تركها إماتتها، انتهى.
وقال في فضل صلاة الجماعة: قال ابن رشد: صلاة الجماعة مستحبة للرجل في نفسه، فرض كفاية في الجملة; ويعني بقوله في الجملة: أنها فرض كفاية على أهل المصر، ولو تركوها قوتلوا، كما تقدم. انتهى.
وعبارة غيره: وإن تركها أهل بلد قوتلوا، وأهل حارة أجبروا عليها؟ انتهى كلام الشيخ علي الأجهوري.
فانظر تصريحهم: بأن تارك الصلاة يقتل باتفاق أصحاب مالك، وإنما اختلفوا في كفره، وأن ابن حبيب، وابن عبد السلام اختارا: أنه يقتل كافرا. وتأمل كلامهم في الطائفة الممتنعة عن الأذان، أو عن إقامة الجماعة في المساجد، أنهم يقاتلون; فأين هذا من قولكم: إن من ترك
الفرائض مع الإقرار بوجوبها، لا يحل قتالهم، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله.
وأما كلام الشافعية، فقال الشيخ الإمام العلامة، أحمد بن حمدان الأذرعي، رحمه الله، في كتاب "قوت المحتاج، في شرح المنهاج": من ترك الصلاة جاحدا لوجوبها كفر بالإجماع، وذلك جار في كل جحود مجمع عليه، معلوم من الدين بالضرورة; فإن تركها كسلا، قتل حدا على الصحيح، أو المشهور.
أما قتله: فلأن الله أمر بقتل المشركين، ثم قال:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 1، فدل على أن القتل لا يرفع إلا بالإيمان، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ولما في الصحيحين:" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها "2.
ثم قال: إشارات، منها: جعل قتله ردة، ووجد لشرذمة، منهم منصور التميمي، وابن خزيمة; وقضية كلام الرونق: أنه كلام منصور، حيث قال: فإذا قتل ففي ماله ودفنه بين المسلمين قولان: أحدهما: ما رواه الربيع عن الشافعي، أن ماله يكون فيئا، ولا يدفن في مقابر المسلمين; والثاني: ما رواه المازني عن الشافعي: ماله
1 سورة التوبة آية: 5.
2 البخاري: الإيمان (25)، ومسلم: الإيمان (22) .
لورثته، ويدفن في مقابر المسلمين.
وقال منصور في "المستعمل": سألت الربيع: ما نصنع بماله إذا قتلناه؟ قال: يكون فيئا; ومنها: قال "في الروضة": تارك الوضوء يقتل على الصحيح، جزم به الشيخ أبو حامد.
وفي "البيان": أو صلى عريانا مع القدرة على الستر، أو الفريضة قاعدا بلا عذر، قتل، وكذلك التشهد، والاعتدال، حكاه ابن الأستاذ عن البحر، فإن صح، طرد في سائر الأركان والشروط، ويجب أن يكون محله فيما أجمع عليه; ومنها: لو امتنع من الصوم والزكاة، حبس ومنع المفطرات.
وقال إمام الحرمين: يجوز أن يجعل الممتنع مما يضيق عليه، كالممتنع من الصلاة، فإن أبى ضربت عنقه; قال المصنف: والصحيح قتله بصلاة واحدة، بشرط إخراجها عن وقت الضرورة، انتهى كلام الأذرعي.
فانظر كلامه في قتل من ترك الصلاة كسلا، وأن الربيع روى عن الشافعي: أن ماله يكون فيئا، ولا يدفن في مقابر المسلمين.
وتأمل كلام أبي حامد، وكلام صاحب "الروضة" في قتل تارك الوضوء، وكلام صاحب "البيان"، فيمن صلى عريانا
مع القدرة على الستر، أو صلى الفريضة قاعدا بلا عذر، أنه يقتل; فأين هذا من قولكم: إن من قال لا إله إلا الله كف عنه، ولا يجوز قتاله بوجه من الوجوه.
وقال الشيخ: أحمد بن حجر الهيتمي في "التحفة" في باب حكم تارك الصلاة: إن ترك الصلاة جاحدا وجوبها، كفر بالإجماع، أو تركها كسلا، مع اعتقاده وجوبها، قتل للآية:{فَإِنْ تَابُوا} ، وخبر:" أمرت أن أقاتل الناس" 1، لأنهما شرطا في الكف عن القتل والمقاتلة: الإسلام، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، لأن الزكاة يمكن الإمام أخذها، ولو بالمقاتلة ممن امتنعوا وقاتلوا، فكانت فيها على حقيقتها بخلافها في الصلاة، فإنه لا يمكن فعلها بالمقاتلة.
وقال في باب صلاة الجماعة: قيل: وهي فرض للرجال، فتجب بحيث يظهر بها الشعائر في ذلك المحل، في البادية أو غيرها، فإن لم يظهر الشعار، بأن امتنعوا كلهم أو بعضهم، كأهل محلة من قرية كبيرة، ولم يظهر الشعار إلا بهم، قوتلوا؛ يقاتلهم الإمام أو نائبه، لإظهار هذه الشعيرة الكبيرة.
وقال في باب الأذان: والإقامة سنة، وقيل فرض كفاية، يقاتل أهل بلد تركوهما، أو أحدهما، أو بحيث لم يظهروا الشعائر.
1 البخاري: الجهاد والسير (2946)، ومسلم: الإيمان (21)، والترمذي: الإيمان (2606)، والنسائي: الجهاد (3090 ،3095) وتحريم الدم (3971 ،3972 ،3974 ،3976 ،3977 ،3978)، وأبو داود: الجهاد (2640)، وابن ماجه: المقدمة (71) والفتن (3927 ،3928) ، وأحمد (1/11 ،2/377 ،2/423 ،2/502 ،2/528 ،3/300 ،3/332 ،3/339 ،3/394) .
وقال في باب صلاة العيد: هي سنة، وقيل فرض كفاية، فعليه يقاتل أهل بلد تركوها، انتهى كلامه في التحفة; فانظر كلامهم في قتل تارك الصلاة كسلا; وتأمل قوله: إن الآية والحديث، شرطا في الكف عن القتل والمقاتلة: الإسلام، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن الإمام يأخذ الزكاة بالمقاتلة، ممن امتنعوا وقاتلوا.
وتأمل كلامه، في باب صلاة الجماعة: وأنها تجب بحيث يظهر الشعار، في ذلك المحل، حتى في البادية وأنهم يقاتلون إذا امتنعوا; وتأمل كلامه في الأذان والإقامة، وأن الإمام يقاتل على تركهما، وعلى ترك أحدهما، على القول بأنها فرض كفاية. وتأمل كلامه في الطائفة: إذا امتنعوا من صلاة العيدين؛ فأين هذا من كلام من يقول: إن أهل البلد والبوادي، إذا قالوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لم يجز قتالهم، وإن لم يصلوا ولم يزكوا; سبحان الله! ما أعظم هذا الجهل!
وأما كلام الحنابلة: فقال في "الإقناع وشرحه"، في كتاب الصلاة: ومن جحد وجوبها كفر، فإن تركها تهاونا وكسلا لا جحودا، دعاه الإمام أو نائبه إلى فعلها، لاحتمال أن يكون تركها لعذر، يعتقد سقوطها به، كالمرض
ونحوه، فيهدده، فإن أبى أن يصليها، حتى تضايق وقت التي بعدها، وجب قتله، لقوله تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 1 إلى قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 2.
فمتى ترك الصلاة، لم يأت بشرط التخلية، فيبقى على إباحة القتل، ولقوله عليه السلام:" ومن ترك الصلاة متعمدا، فقد برئت منه ذمة الله ورسوله " 3 رواه أحمد عن مكحول، وهو مرسل جيد؛ ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثة أيام، كمرتد نصا; فإن تاب بفعلها، وإلا قتل بالسيف، لما رواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة " 4 رواه مسلم; وروى بريدة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من تركها فقد كفر " رواه الخمسة، وصححه الترمذي، انتهى.
وقال رحمه الله في باب الأذان والإقامة: فإن تركهما، أي: الأذان والإقامة، أهل بلد قوتلوا; أي: يقاتلهم الإمام أو نائبه، حتى يفعلوهما، لأنهما من أعلام الدين الظاهرة، فقوتلوا على تركهما، كصلاة العيد.
وقال رحمه الله، في باب صلاة الجماعة: وهي واجبة وجوب عين، فيقاتل تاركها كأذان، لكن الأذان إنما يقاتل على تركه، إذا تركه أهل البلد كلهم، بخلاف الجماعة، فإنه يقاتل تاركها وإن أقامها غيره، لأن وجوبها
1 سورة التوبة آية: 5.
2 سورة التوبة آية: 5.
3 أحمد (6/421) .
4 مسلم: الإيمان (82)، والترمذي: الإيمان (2618 ،2620)، وأبو داود: السنة (4678)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، وأحمد (3/370 ،3/389)، والدارمي: الصلاة (1233) .
على الأعيان بخلافه.
وقال رحمه الله، في باب صلاة العيدين: وهي فرض كفاية، إن تركها أهل بلد يبلغون أربعين بلا عذر، قاتلهم الإمام كأذان، لأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، وفي تركها تهاون بالدين.
وقال رحمه الله، في باب إخراج الزكاة: ومن منعها بخلا أو تهاونا، أخذت منه قهرا، كدين الآدمي. وإن غيب ماله أو كتمه، وأمكن أخذها، بأن كان في قبضة الإمام، أخذت منه بغير زيادة. وإن لم يمكن أخذها استتيب ثلاثة أيام وجوبا، فإن تاب وأخرج كف عنه، وإلا قتل، لاتفاق الصحابة على قتال مانعيها. وإن لم يمكن أخذها إلا بقتال، وجب على الإمام قتاله، إن وضعها موضعها، انتهى كلامه في "الإقناع وشرحه".
فتأمل كلامه فيمن ترك الصلاة كسلا، من غير جحود، أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرا. وتأمل كلامه في أهل البلد، إذا تركوا الأذان والإقامة، وصلاة العيد: أنهم يقاتلون بمجرد ترك ذلك; فهذا كلام المالكية، وهذا كلام الشافعية، وهذا كلام الحنابلة، الكل منهم قد صرح بما ذكرناه.
فإذا كانوا مصرحين بقتال من التزم شرائع الإسلام، إلا
أنهم تركوا الأذان، أو تركوا صلاة الجماعة، أو تركوا صلاة العيد، فكيف بمن ترك الصلاة رأسا؟ كالبوادي الذين لا يصلون، ولا يزكون، ولا يصومون، بل ينكرون الشرائع، وينكرون البعث بعد الموت؛ هذا هو الغالب عليهم، إلا من شاء الله وهم القليل، وإلا فأكثرهم ليس معهم من الإسلام، إلا أنهم يقولون لا إله إلا الله.
ومع هذا يجادل عنهم علماء مكة المشرفة، ويقولون: إنهم مسلمون، وإن دماءهم وأموالهم حرام بحرمة الإسلام، وإن لم يصلوا ولم يزكوا، ولم يصوموا، إلا أنهم يقولون لا إله إلا الله، وهل هذا إلا رد على الله تعالى حيث قال:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} 1.
وهؤلاء يقولون: يخلى سبيلهم، وإن لم يصلوا، ولم يزكوا، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام "2.
وهؤلاء يقولون: من قال لا إله إلا الله، عصم دمه وماله، وإن لم يصل ولم يزك. {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} 3. فهذا كتاب الله، وهذه
1 سورة التوبة آية: 5.
2 البخاري: الإيمان (25)، ومسلم: الإيمان (22) .
3 سورة الروم آية: 59.
سنة رسوله، وهذا إجماع الصحابة، على قتل من ترك الصلاة، أو منع الزكاة.
قال صديق الأمة، أبو بكر رضي الله عنه:"والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالا، كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية: عناقا، لقاتلتهم على منعها"
وهذا أيضا إجماع العلماء. قال في شرح "الإقناع": أجمع العلماء على أن كل طائفة ممتنعة، عن شريعة من شرائع الإسلام، فإنه يجب قتالها، حتى يكون الدين كله لله، كالمحاربين وأولى، انتهى.
وقال أبو العباس رحمه الله: القتال واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب؛ فأيما طائفة ممتنعة عن بعض الصلوات المفروضات، أو الزكاة، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء والأموال، والخمر والزنى والميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، وضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين، أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها، التي يكفر الواحد بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها؛ وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء.
وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة، إذا اجترؤوا على ترك بعض السنن، كركعتي الفجر، أو الأذان والإقامة، عند من لا يقول بوجوبها، ونحو ذلك من الشعائر، فهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها، أم لا؟ فأما الواجبات، والمحرمات المذكورة، ونحوها، فلا خلاف في القتال عليها، انتهى كلامه.
فتأمل: كلام إمام الحنابلة، وتصريحه بأن من امتنع من شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة، كالصلوات الخمس، والصيام، أو الزكاة، أو الحج، وعن ترك المحرمات، كالزنى أو شرب الخمر، أو المسكرات، أو غير ذلك، فإنه يجب قتال الطائفة الممتنعين عن ذلك، حتى يكون الدين كله لله، ويلتزمون جميع شرائع الإسلام، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين ببعض شرائع الإسلام، وإن كان ذلك مما اتفق عليه الفقهاء، من سائر الصحابة فمن بعدهم.
فأين هذا من قولكم: إن من قال لا إله إلا الله، فقد عصم ماله ودمه، وإن ترك الفرائض، وارتكب المحرمات؟ بل من تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، عرف أن قولكم هذا مضاد لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وما فعله الخلفاء الراشدون، ومن بعدهم.
فيا سبحان الله! أما علمتم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود، وهم يقولون لا إله إلا الله، وسبى نساءهم، واستحل دماءهم وأموالهم؟ أما علمتم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يغزو بني المصطلق، لما قيل له إنهم منعوا الزكاة؟ وكان الذي قاله كاذبا؛ والقصة مشهورة في كتب الحديث، والتفسير، ذكرها المفسرون عند قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 1.
أما علمتم: "أن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه حرق الغالية مع أنهم يقولون لا إله إلا الله؟ ". أما علمتم: "أن الصحابة رضي الله عنهم، قاتلوا الخوارج بأمر نبيهم صلى الله عليه وسلم؟ "، مع أنه صلى الله عليه وسلم أخبر: أن الصحابة يحقرون صلاتهم مع صلاتهم، وصيامهم مع صيامهم، وقراءتهم مع قراءتهم، وقال:(أينما لقيتموهم فاقتلوهم) ; أما علمتم: أن الصحابة قاتلوا بني حنيفة؟ وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويصلون، ويؤذنون، ويصومون.
أما علمتم: أن الصحابة قاتلوا بني يربوع؟ لما منعوا الزكاة مع أنهم مقرون بوجوبها، وكانوا قد جمعوا صدقاتهم، وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر، فمنعهم مالك بن نويرة، وفي أمر هؤلاء عرضت الشبهة لعمر رضي الله عنه حتى جلاها له الصديق أبو بكر رضي الله عنه وقال: "والله لو منعوني عقالا، وفي رواية: عناقا،
1 سورة الحجرات آية: 6.
كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق". وقد تقدم ذلك مبسوطا، وذكرنا لفظه في شرح مسلم، في باب الأمر بقتال الناس، حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.
أما علمتم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بردة، إلى رجل تزوج امرأة أبيه"، كما رواه الترمذي في سننه، حيث قال: باب فيما جاء فيمن تزوج امرأة أبيه، حدثنا أبو سعيد الأشج، أخبرنا حفص بن غياث، عن أشعث، عن عدي بن ثابت، " عن البراء، قال مر بي خالي أبو بردة، ومعه لواء، فقلت: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل، تزوج امرأة أبيه، أن آتيه برأسه " 1، حديث حسن غريب، انتهى.
ولو تتبعنا الآيات، والأحاديث، والآثار، وكلام العلماء، في قتال من قال لا إله إلا الله، إذا ترك بعض حقوقها، لطال الكلام جدا، فكيف بمن جحد الإسلام كله؟ وكذب به، واستهزأ به على عمد، إلا أنهم يقولون: لا إله إلا الله، كهؤلاء البوادي.
وفيما ذكرنا كفاية لمن طلب الإنصاف، فقد ذكرنا من كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع الصحابة، وإجماع العلماء بعدهم، فإن كان هذا الذي ذكرناه، له
1 الترمذي: الأحكام (1362)، والنسائي: النكاح (3331 ،3332)، وأبو داود: الحدود (4457)، وابن ماجه: الحدود (2607) ، وأحمد (4/297)، والدارمي: النكاح (2239) .
معنى آخر غير ما فهمناه، فبينوه لنا من كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة، وكلام العلماء، فرحم الله امرءا نظر لنفسه، وعرف أنه ملاقي الله، الذي عنده الجنة والنار.
[كفار أهل زماننا هل هم مرتدون؟]
وسئل: عن قول الفقهاء، إن المرتد لا يرث ولا يورث، فكفار أهل زماننا هل هم مرتدون؟ أم حكمهم حكم عبدة الأوثان، وأنهم مشركون؟
فأجاب: أما من دخل في دين الإسلام ثم ارتد، فهؤلاء مرتدون، وأمرهم عندك واضح; وأما من لم يدخل في دين الإسلام، بل أدركته الدعوة الإسلامية، وهو على كفره، كعبدة الأوثان، فحكمه حكم الكافر الأصلي، لأنا لا نقول الأصل إسلامهم، والكفر طارئ عليهم.
بل نقول: الذين نشؤوا بين الكفار، وأدركوا آباءهم على الشرك بالله، هم كآبائهم، كما دل عليه الحديث الصحيح في قوله:" فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه "1. فإن كان دين آبائهم الشرك بالله، فنشأ هؤلاء واستمروا عليه، فلا نقول الأصل الإسلام والكفر طارئ، بل نقول: هم الكفار الأصليون، ولا يلزمنا على هذا تكفير من مات في الجاهلية قبل ظهور الدين، فإنا لا نكفر الناس بالعموم، كما أنا لا نكفر اليوم بالعموم.
1 البخاري: الجنائز (1358)، ومسلم: القدر (2658)، والترمذي: القدر (2138)، وأبو داود: السنة (4714) ، وأحمد (2/233 ،2/275 ،2/282 ،2/315 ،2/346 ،2/393 ،2/410 ،2/481)، ومالك: الجنائز (569) .
بل نقول: من كان من أهل الجاهلية، عاملا بالإسلام، تاركا للشرك، فهو مسلم، وأما من كان يعبد الأوثان، ومات على ذلك قبل ظهور هذا الدين، فهذا ظاهره الكفر، وإن كان يحتمل أنه لم تقم عليه الحجة الرسالية، لجهله وعدم من ينبهه، لأنا نحكم على الظاهر، وأما الحكم على الباطن فذلك إلى الله، والله تعالى لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 1.
وأما من مات منهم مجهول الحال، فهذا لا نتعرض له، ولا نحكم بكفره ولا بإسلامه، وليس ذلك مما كلفنا به، {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2.فمن كان منهم مسلما أدخله الله الجنة، ومن كان كافرا أدخله الله النار، ومن كان منهم لم تبلغه الدعوة، فأمره إلى الله؛ وقد علمت الخلاف في أهل الفترات، ومن لم تبلغهم الحجة الرسالية.
وأيضا: فإنه لا يمكن أن نحكم في كفار زماننا، بما حكم به الفقهاء في المرتد: أنه لا يرث ولا يورث، لأن من قال لا يرث ولا يورث، يجعل ماله فيئا لبيت مال المسلمين؛ وطرد هذا القول، أن يقال: جميع أملاك الكفار اليوم بيت مال، لأنهم ورثوها عن أهليهم، وأهلوهم مرتدون لا يورثون، وكذلك الورثة مرتدون لا يرثون، لأن
1 سورة الإسراء آية: 15.
2 سورة البقرة آية: 134.
المرتد لا يرث ولا يورث.
وأما إذا حكمنا فيهم بحكم الكفار الأصليين، لم يلزم شيء من ذلك، بل يتوارثون؛ فإذا أسلموا فمن أسلم على شيء فهو له، ولا نتعرض لما مضى منهم في جاهليتهم، لا المواريث ولا غيرها، وقد روى أبو داود، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم، وكل قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام " 1، وروى سعيد في سننه من طريقين، عن عروة بن أبي مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم:" من أسلم على شيء فهو له "، ونص أحمد على مثل ذلك، كما تقدم عنه في رواية مهنا.
واعلم: أن القول بأن المرتد لا يرث ولا يورث، أحد الأقوال في المسألة، وهو المشهور في المذهب، وهو مذهب مالك والشافعي. والقول الثاني: أنه لورثته المسلمين، وهو رواية عن أحمد، وهو مروي عن أبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وهو قول جماعة من التابعين، وهو قول الأوزاعي، وأهل العراق، والقول الثالث: أن ماله لأهل دينه الذي اختاره، إن كان منهم من يرثه، وإلا فهو فيء، وهو رواية عن أحمد، وهو مذهب داود بن علي، وصلى الله على محمد.
[التكفير بالمعصية]
وسئل أيضا: الشيخ حمد بن ناصر، قال السائل: إنكم تكفرون بالمعاصي؟
1 أبو داود: الفرائض (2914)، وابن ماجه: الأحكام (2485) .
فأجاب: ليس هذا قولنا، بل هذا قول الخوارج، الذين يكفرون بالذنوب، ولم نكفر أحدا بعمل المعاصي؛ بل نكفر من فعل المكفرات، كالشرك بالله بأن يعبد معه غيره، فيدعو غير الله، أو يذبح له، أو ينذر له، أو يخافه، أو يرجوه، أو يتوكل عليه، فإن هذه الأمور كلها عبادة لله بنص القرآن، وإيراد الأدلة على ذلك له بسط طويل، لا تحتمله هذه الورقة.
فنقول: الدعاء والذبح والنذر وغير ذلك، حق الله على عباده، فمن أشرك مع الله غيره في هذه الأفعال فهو مشرك كافر، وإن قال لا إله إلا الله، وصلى وصام، وزعم أنه مسلم؛ وهذا مجمع عليه عند أهل العلم، لا اختلاف في ذلك.
[التطير والتشاؤم]
سئل الشيخ سليمان بن حمدان: هل يجوز للإنسان أن يصدق، أو يعتقد، أو يتشاءم، أو يتوهم: أن يصيبه ضرر كمرض أو موت أو غيره من الأعداد أو السنين، أو الشهور أو الأيام، أو الأوقات، أو قراءة سورة أو آية، أو ورد أو فائدة، أو دخول بيت، أو لبس ثوب أو غيره، أم لا؟
فأجاب: الحمد لله، لا يجوز للإنسان التشاؤم، باعتقاد أو توهم: أن يصيبه ضرر، كمرض أو موت، أو غير ذلك من قبل الأشياء المذكورة، أو غيرها،
ولا التصديق بذلك؛ بل هذا ونحوه من الطيرة المنهي عنها، وهي من أعمال أهل الشرك والكفر، كما حكاه الله في كتابه عن قوم فرعون، وقوم صالح، وأصحاب القرية التي جاءها المرسلون، ومن أمور الجاهلية وعاداتها التي جاء الإسلام بإبطالها وتحريمها، فكانوا يتطيرون بالسوانح والبوارح وغيرهما.
والتطير: التشاؤم، وأصله: الشيء المكروه من قول أو فعل أو مرئي، قاله النووي، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر " 1، وهذا نفي لما كانت الجاهلية تعتقده في هذه الأمور، من التأثير من غير أن يكون ذلك بقضاء الله وقدره؛
فدل على بطلان ذلك، وعدم تأثيره. وقد فسرت "الهامة" في هذا الحديث بأنها طائر من طير الليل، قيل: إنه "البومة"، وأن العرب كانت تشاءم بها، إذا وقعت على بيت أحدهم، قال: نَعَتْ إلي نفسي أو أحدا من أهل داري.
ومما جاء في معنى "صفر"، أنه التشاؤم بدخول صفر والقول بأنه شهر مشؤوم، قال ابن رجب رحمه الله: ولعله أشبه الأقوال في ذلك، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل، قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة "2.
1 البخاري: الطب (5757)، ومسلم: السلام (2220 ،2221 ،2220)، وأبو داود: الطب (3911) ، وأحمد (2/266 ،2/267 ،2/327 ،2/397 ،2/406 ،2/420 ،2/434 ،2/453 ،2/487 ،2/507 ،2/524) .
2 البخاري: الطب (5776)، ومسلم: السلام (2224)، والترمذي: السير (1615)، وأبو داود: الطب (3916)، وابن ماجه: الطب (3537) ، وأحمد (3/118 ،3/130 ،3/154 ،3/173 ،3/178 ،3/251 ،3/275 ،3/277) .
فنفى العدوى والطيرة، وأخبر أن الفأل يعجبه، وأنه الكلمة الطيبة; فدل على أنه ليس من الطيرة المذمومة، لأنه حسن ظن، ورجاء خير، وأما الطيرة فهى سوء ظن بالله، وتوقع للبلاء.
ولما ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خيرها الفأل، ولا ترد مسلما "1. قال ابن القيم رحمه الله: أخبر أن الفأل من الطيرة، وهو خيرها، فأبطل الطيرة وأخبر أن الفأل منها، ولكنه خيرها، ففصل بين الفأل والطيرة لما بينهما من الامتياز والتضاد، ونفع أحدهما ومضرة الآخر؛ ونظير هذا منعه من الرقى بالشرك، وإذنه في الرقية إذا لم يكن فيها شرك، لما فيها من المنفعة الخالية من المفسدة، انتهى.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " خيرها الفأل " 2 مع أن الطيرة كلها لا خير فيها، فقال صاحب الفتح: إن أفعل التفضيل في ذلك إنما هو بين القدر المشترك بين شيئين، والقدر المشترك بين الطيرة والفأل: تأثير كل منهما فيما هو فيه، والفأل في ذلك أبلغ، انتهى.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الطيرة شرك، الطيرة شرك "، وهذا صريح في تحريمها، وأنها من الشرك، لما فيها من تعلق القلب على غير الله تعالى، باعتقاد أنها تجلب نفعا أو تدفع ضرا، إذا عمل الإنسان بموجبها، مع أن الأمر
1 أبو داود: الطب (3919) .
2 أبو داود: الطب (3919) .
بخلاف ذلك، وأنه لا تأثير لها في جلب نفع أو دفع ضر، لأنها مجرد وساوس وأوهام يلقيها الشيطان في نفس العبد، فإن صادفت إيمانا كاملا وتوكلا قويا، فلا قرار لها، وإنما تتمكن مع نقص الإيمان وضعف التوكل.
وفي صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " ومنا أناس يتطيرون، قال: ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه، فلا يصدنكم "1. قال ابن القيم رحمه الله: فأخبر أن تشاؤمة بالطيرة إنما هو في نفسه وعقيدته، لا في المتطير به؛ فوهمه، وخوفه، وإشراكه، هو الذي يطيره ويصده، لا ما رآه وسمعه؛ فأوضح صلى الله عليه وسلم لأمته الأمر وبين لهم فساد الطيرة، ليعلموا أن الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة ولا فيها دلالة، ولا نصبها سببا لما يخافونه ويحذرونه، انتهى.
وفي الحديث: " ليس منا من تطير، أو تطير له "؛ وقد جاء بأن الطيرة من الجبت، وذكر بعض العلماء أنها من الكبائر، وقال ابن القيم: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الطيرة شرك " 2، فيحتمل أن تكون من الكبائر، ويحتمل أن تكون دونها.
وقال صاحب الرعاية: تكره الطيرة، وهي: التشاؤم; وكذا قال غير واحد من أصحاب أحمد.
وقال ابن مفلح: الأولى القطع بتحريمها، لأنها شرك،
1 مسلم: السلام (537)، والنسائي: السهو (1218)، وأبو داود: الصلاة (930) ، وأحمد (5/447 ،5/448 ،5/449) .
2 الترمذي: السير (1614)، وأبو داود: الطب (3910)، وابن ماجه: الطب (3538) ، وأحمد (1/389 ،1/438 ،1/440) .
وكيف يكون الشرك مكروها الكراهة الاصطلاحية؟ وقال: ولعل مرادهم - يعني الأصحاب - بالكراهة التحريم، وما قاله هو موجب النصوص، والقواعد تقتضيه، لأن الأحكام الخمسة لا تؤخذ إلا عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛وقد قام الدليل الموجب للتحريم، فتعين القول به، وحمل كلام من أطلق الكراهة عليه بلا تودد.
إذا علم هذا، فيحرم التطير والتشاؤم من حيث هو، من غير استثناء شيء من ذلك، لعموم الأدلة وعدم المخصص؛ وعليه: فالتشاؤم بالأعداد الناتجة عن حساب اسم الشخص واسم أمه، بالجمل، وأن طالعه كذا، ونجمه كذا، والحكم كذا، أو الحكم على ذلك بفقر أو غنى، أو صحة أو مرض، أو حياة أو موت، أو غير ذلك من الدلائل الفلكية على الأحوال السفلية، كما يصنع الآن في بعض النتائج والتقاويم، كل ذلك محرم لا يجوز تعلمه وتعليمه، ولا اعتقاد صحته؛ وهو من الطيرة المذمومة، ومن تعاطي علم ما استأثر الله به من الغيب.
وكذا يحرم التشاؤم بالأزمان، لا فرق في ذلك بين السنين والشهور، والأيام والأوقات، لأن السنين مجموعة من الأشهر، وهي من الأيام، والأيام من الأوقات، لأن الزمان مخلوق مسخر، وليس له فعل ولا إرادة. فالتشاؤم به مضاهاة لأهل الجاهلية، في تشاؤمهم بصفر، وبشوال في
النكاح خاصة، لما فيه من أن طاعونا وقع فيه، مات منه كثير من العرائس فتشاءموا به.
وقد صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال، فأي نسائه كان أحظى عنده مني؟ وكانت تستحب أن يدخل على نسائها في شوال" 1،" وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة في شوال " 2 أيضا، وهذا منه صلى الله عليه وسلم مخالفة لما عليه أهل الجاهلية.
وما زالت هذه العادات السيئة سارية في كثير من الناس، مثل التشاؤم بصفر، وربما نهوا عن السفر فيه، وحتى أن منهم من لا يكاد يذكر صفر إلا ويضيف إليه لفظة "الخير"، نظرا لما قام في قلوبهم من هذه الأمور؛ وقد قال عكرمة:"كنا جلوسا عند ابن عباس، فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير خير، فقال ابن عباس: لا خير ولا شر، فبادره بالإنكار عليه، لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر".
"وخرج طاووس مع صاحب له في سفر، فصاح غراب، فقال الرجل: خير، فقال طاووس: وأي خير عند هذا؟ لا تصحبني! "
فالطيور والشهور كغيرهما، لا خير عندها ولا شر، فلا يجوز أن يضاف إليها شيء من ذلك; ومن هذا تشاؤمهم
1 مسلم: النكاح (1423)، والترمذي: النكاح (1093)، والنسائي: النكاح (3236)، وابن ماجه: النكاح (1990) ، وأحمد (6/54 ،6/206)، والدارمي: النكاح (2211) .
2 ابن ماجه: النكاح (1991) .
ببعض الأيام، كيوم الأربعاء وهذا أمر باطل، وما يروى في يوم الأربعاء من أنه يوم نحس مستمر، قال أهل العلم: إنه حديث لا يصح، بل قد جاء في المسند عن جابر رضي الله عنه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على الأحزاب يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، فاستجيب له يوم الأربعاء بين الظهر والعصر، فعرف البشر في وجهه؛ قال جابر رضي الله عنه: فما نزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت ذلك الوقت، فدعوت الله فيه فرأيت الإجابة"، فتبين بهذا: أنه يوم تجاب فيه الدعوات، وتقضى فيه الحاجات، وهذا ينافي كونه يوم نحس مستمر.
وأما التشاؤم بقراءة سورة، أو آية من كتاب الله، فحرام أيضا، لما تقدم، ولأن قراءة القرآن عبادة مرغب فيها، وهي من أفضل الأعمال، وفيها ثواب عظيم مع الإخلاص.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول {الم} حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف " 1
وأيضا: فإن القرآن كلام الله تعالى، وكلامه صفة من صفات ذاته المقدسة؛ ولذا لو حلف بسورة أو آية منه، فهو يمين تجب فيه الكفارة بالحنث؛ وصفاته تعالى لا شر فيها ولا ضرر يتوقع منها، بل قد قال أعلم الخلق بربه،
1 الترمذي: فضائل القرآن (2910) .
محمد صلى الله عليه وسلم: " والشر ليس إليك " 1 يعني ربه، فلا يصح أن يضاف الشر إلى ذاته تعالى، ولا إلى صفاته.
كذلك، يحرم التشاؤم بالأوراد والأدعية المأثورة، لأنه لا شؤم فيها ولا ضرر، بل قد ورد الأمر بها، والحث على المحافظة عليها في المساء والصباح؛ فالاشتغال بها من أعظم ما يستدفع به الشر والبلاء، فضلا عن كونها سببا في حصوله، لأن الدعاء يمنع البلاء بعد انعقاد أسبابه، وفي الحديث " لا يرد القضاء إلا الدعاء " 2، وقال ابن عباس:"الدعاء يدفع القدر، وهو إذا دفع القدر فهو من المقدر".
وبالجملة: فليس فيما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ما يكون سببا للشر أصلا، بل كل شر أصاب العبد أو يصيبه في دنياه وآخرته، فسببه الذنوب والمعاصي.
وأما الفوائد، سواء كانت دينية أو دنيوية، فقد استفيدت بطريق مباح، فلا ضرر فيها ولا شؤم؛ فيحرم التشاؤم بها، لأنها من نعم الله على عبده، التي يجب أن تقابل بشكر المنعم بها، لا التشاؤم منها؛ ولهذا شرع سجود الشكر عند تجدد النعم واندفاع النقم، دينية كانت أو دنيوية، عامة أو خاصة، وهكذا في الحكم كل ما يتشاءم به، من دخول بيت أو لبس ثوب أو غير ذلك.
إذا تبين هذا، فلا يجوز إضافة الشؤم إلى عدد أو سنة
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (771)، والنسائي: الافتتاح (897) ، وأحمد (1/102)، والدارمي: الصلاة (1238) .
2 الترمذي: القدر (2139) .
أو شهر، أو يوم أو وقت، أو قراءة سورة، أو آية، أو ورد أو فائدة، أو دخول بيت، أو لبس ثوب، أو غير ذلك.
ولا اعتقاد وقوع ضرر منه، أو كونه سببا في حصوله، إلا بقضاء الله وقدره؛ فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو سبحانه خالق الأسباب ومسبباتها، لا خالق غيره ولا مقدر سواه؛ والعبد مأمور بتوقي أسباب الشر الظاهرة، واجتنابها بقدر ما وردت به الشريعة، مثل اتقاء المجذوم والمريض، والقدوم على مكان الطاعون.
وأما ما خفي منها، فلا يشرع اتقاؤه واجتنابه، بل ذلك من الطيرة المحرمة، فإنها سوء ظن بالله تعالى، بغير سبب محقق، فلا تجوز; وأما ما ورد من إثبات الشؤم، في المرأة والدار والدابة، فقد اختلف أهل العلم في معناه؛ وحاصل ما ذكروه من التحقيق في ذلك، هو: أن إثبات الشؤم في هذه الثلاث، بمعنى أنها أسباب، يقدر الله بها الشؤم واليمن ويقرنه، ولهذا شرع لمن استفاد زوجة أو أمة أو دابة، أن يسأل الله من خيرها وخير ما جبلت عليه، ويستعيذه من شرها وشر ما جبلت عليه، وكذا ينبغي لمن سكن دارا أن يفعل ذلك.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم قوما سكنوا دارا، فقل عددهم وقل مالهم، أن يتركوها ذميمة; فترك ما لا يجد الإنسان فيه بركة من دار أو زوجة أو دابة غير منهي عنه.
قال ابن قتيبة في مختلف الحديث: إنما أمرهم من التحول منها، لأنهم كانوا مقيمين فيها، على استثقال لظلها، واستخباث بما نالهم فيها، فأمرهم بالتحول، وقد جعل الله في غرائز الناس وتركيبهم استثقال ما نالهم فيه السوء، إن كان لا سبب له في ذلك، وحب من جرى على يديه الخير لهم وإن لم يردهم به؛ وكيف يتطير صلى الله عليه وسلم والطيرة من الجبت؟ انتهى.
فالواجب على من نصح نفسه: عدم الالتفات إلى شيء من هذه التخيلات الباطلة والأوهام الكاذبة، والاشتغال عنها بما يدفع البلاء من الدعاء والذكر، والصدقة، والتوكل على الله، والإيمان بقضائه وقدره، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وقول ما ورد، ومنه:" اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك" 1 فإذا قال ذلك لم يضره شيء، وأما إذا استرسل معها، وفتح على نفسه باب الوساوس في هذه الأمور، أو همه الشيطان وألقى في نفسه منها ما يفسد عليه دينه وينكد عليه عيشته، وربما وقع به ما يحذره، عقوبة له. والله أعلم وصلى الله على محمد.
1 أبو داود: الطب (3919) .
[الخوراج ومذهبهم في التكفير بالمعاصي]
وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى، عن مذهب الخوارج
…
إلى آخر السؤال.
فأجاب: أما مذهب الخوارج، فإنهم يكفرون أهل الإيمان بارتكاب الذنوب، ما كان منها دون الكفر والشرك، وإنهم قد خرجوا في خلافة علي رضي الله عنه وكفروا الصحابة بما جرى بينهم من القتال، واستدلوا على ذلك بآيات، وأحاديث، لكنهم اخطؤوا في الاستدلال.
فما دون الكفر والشرك من المعاصي، فلا يكفر فاعله، لكنه ينهى عنه إذا أصر على كبيرة ولم يتب منها، فيجب نهيه والقيام عليه؛ وكل منكر يجب إنكاره، من ترك واجب، أو ارتكاب محرم، لكن لا يكفر إلا من فعل مكفرا، دل الكتاب والسنة على أنه كفر، وكذلك ما اتفق العلماء على أن فعله، أو اعتقاده كفر، كما إذا جحد وجوب ما هو معروف من الدين بالضرورة، أو استحل ما هو معروف بالضرورة أنه محرم، فهذا مما أجمع العلماء على أنه كفر إذا جحد الوجوب، لا إذا ترك الصلاة تهاونا وكسلا، فالمشهور في مذهب أحمد أنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرا، وأما الثلاثة فلا يكفرونه بالترك، بل يعدونه من الكبائر؛ وكذلك إذا فعل كبيرة كما تقدم، فلا يكفر عند أهل السنة والجماعة إلا إذا استحلها.
[التحذير من أنواع الكهانة]
له أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الإخوان: علي بن حمد، وإخوانه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وتذكرون أمر "الهتيمي" الذي معه الحيات، ويبيع "سقوة" على الناس البدو الحضر، يسقيهم من ريقه، ويأخذ عليهم العهد، ويدعي أن من سقاه من ريقه لا تلدغه الحية، ولم ينكر عليه إلا عبد العزيز بن عبد الجبار، جزاه الله خيرا.
وتذكرون: أن عثمان بن منصور تابعه، وقبل منه سقوته، هذا تحققناه منكم، ومن سبيع الذين جاؤوا من قبلكم، ويذكرون أنهم توقفوا في مبدأ أمره، وأهل القرايا كذلك، حتى وافقه ابن منصور وقبل منه، وكتب معه خطابا؛ وبعد هذا تزاحم عليه البدو والحضر، الذي يشتري سقوته بدراهم، والذي بعيش، والذي بغنم، والذي بسمن; والذي حصل منهم باعه في "تمير"، وبعد هذا قدم "المجمعة"، وطردوه.
وخط عبد العزيز بن عبد الجبار أشرفنا عليه، وذكر كلام العلماء وإنكارهم على من فعل هذا، وأخذ الحيات، وأن هذه أحوال شيطانية، تحصل بواسطة الشياطين، إذا تقرب إليهم بالشرك بالله، وهذا لا يوجد إلا في أجهل
الناس، وأبعدهم عن الله وعن دينه; وعبد العزيز جزاه الله خيرا أدى الذي عليه.
وأما ابن منصور، فالله أعلم أنه معاقب، ولا ندري هل هذا كله جهل، أوْ له مقصد شر، وإلا فالذي على فطرة أو له عقل ينكر هذا بفطرته وعقله; وذكر شيخ الإسلام رحمه الله، في كتاب "الفرقان" من الأحوال الشيطانية أمورا من هذا، تركنا ذكرها، لئلا يطول الجواب.
فهذا من جنس أحوال الكهان مع الشياطين; والكهانة أنواع هذا منها، وفي الحديث الصحيح:" من أتى كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم "1. وأمور الكهانة وما شابهها، من الاستمتاع بالشياطين، والاستكثار منهم، محاها الله بما أطلع في نجد من الدعوة إلى توحيد الله، وامتدت إلى كثير من الجزائر، كما محا الله أحوال الكهان، ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسدّ صلى الله عليه وسلم أبواب الشرك، وأحوال الجاهلية، وحمى حمى الإسلام.
من ذلك: ما ثبت في حديث ابن مسعود مرفوعا: " إن الرقى والتمائم والتولة شرك " 2، فلم يبح من الرقى إلا ما خصه الدليل، من الآيات القرآنية، والأذكار النبوية، والدعوات المعروفة بالألفاظ العربية. وأما ما كان بأسماء الشياطين، أو بما لا يعرف معناه، فينهى عنه، لهذا الحديث، وحكمه
1 الترمذي: الطهارة (135)، وأبو داود: الطب (3904)، وابن ماجه: الطهارة وسننها (639) ، وأحمد (2/429)، والدارمي: الطهارة (1136) .
2 أبو داود: الطب (3883)، وابن ماجه: الطب (3530) ، وأحمد (1/381) .
التحريم; فإذا كان حال الرقى التي فيها من الألفاظ ما لا يعرف معناه، فكيف بما هو ظاهر أنه من أعمال الشياطين مع من تولاهم؟ مثل هذا الهتيمي وأمثاله، ممن شاهدنا بمصر، لا يشك أحد أنه من أعمال الشيطان. ولهؤلاء اعتقادات شركية في معبودهم الذي يعبدونه من دون الله، وأكثر هذه الطرائق محشوة بالشرك والبدع.
قوله في الحديث: " والتولة شرك " 1 ذكر العلماء: أنها تشبه السحر؛ وما يشبه السحر فهو شرك، وكذلك التمائم شرك، للتعلق بها، والاعتماد عليها من دون الله، وفي بعضها أسماء الشياطين، وما لا يعرف معناه; فكل هذه الأمور لا تجامع الإسلام الصحيح، بل تنافيه إذا اشتملت على ما هو شرك بالله، من التوكل على غيره، ونحو ذلك. وقد وقع في نفوس كثير من الجهال، الذين أخذوا عن هذا الهتيمي كثير من تصديقه، وقبول ما جاءهم به، من هذه الضلالة، وهذه فتنة، وقى الله شرها; وبسط القول في ذلك، وذكر ما قاله العلماء، له موضع آخر، إن شاء الله تعالى، والسلام.
[الوقوع في بعض المكفرات جهلا]
وسئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله: عمن ارتكب شيئا من المكفرات جهلا، يكفر إذا كان جاهلا بكون ما ارتكبه كفر، أم لا؟
فأجاب: قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى
1 أبو داود: الطب (3883)، وابن ماجه: الطب (3530) ، وأحمد (1/381) .
نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} 1.
فلا عذر لأحد بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم في عدم الإيمان به وبما جاء به، بكونه لم يفهم حجج الله وبيناته لأن الله سبحانه أخبر عن الكفار بعدم الفهم، فقال تعالى:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} 2 وقال: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 3 وقال: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 4.
والآيات في وصفهم بغاية الجهل، كثيرة معلومة، فلم يعذرهم تعالى بكونهم لم يفهموا، بل صرح بتكفير هذا الجنس، وأنهم من أهل النار، كما في قوله تعالى:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} 5، وقوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ
1 سورة آية: 163-164-165.
2 سورة الأنعام آية: 25.
3 سورة الأعراف آية: 30.
4 سورة البقرة آية: 171.
5 سورة آية: 103-104-105.
بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 1.
قال الشيخ أبو محمد المقدسي، لما انجر كلامه في مسألة: هل كل مجتهد مصيب، أم لا؟
ورجح ما هو الحق في ذلك، وهو: أنه ليس كل مجتهد مصيبا، بل الحق في قول واحد من أقوال المجتهدين; قال: وزعم الجاحظ أن مخالف ملة الإسلام، إذا نظر فعجز عن إدراك الحق، فهو معذور غير آثم، - إلى أن قال: وأما ما ذهب إليه الجاحظ، فباطل يقينا، وكفر بالله، ورد عليه وعلى رسوله.
فإنا نعلم قطعا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر اليهود والنصارى بالإسلام واتباعه، وذمهم على إصرارهم، وقاتل جميعهم، وقتل البالغ منهم، ونعلم أن المعاند العارف مما يقل، وإنما الأكثر مقلدة، اعتقدوا دين آبائهم تقليدا، ولم يعرفوا معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه.
قال: والآيات الدالة على هذا كثيرة من القرآن، كقوله تعالى:{ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} 2، {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 3، {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} 4، وقوله:{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} 5، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 6، {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 7.
1 سورة الأعراف آية: 179.
2 سورة ص آية: 27.
3 سورة فصلت آية: 23.
4 سورة البقرة آية: 78.
5 سورة المجادلة آية: 18.
6 سورة الأعراف آية: 30.
7 سورة الكهف آية: 104.
وفي الجملة: ذم المكذبين لرسوله صلى الله عليه وسلم مما لا ينحصر في الكتاب والسنة، انتهى كلامه رحمه الله. 1.
فبين رحمه الله: أنا لو لم نكفر إلا العارف المعاند، لزمنا أن لا نكفر اليهود والنصارى، وهذا من أبطل الباطل.
وأما قول الشيخ رحمه الله، لما ذكر شيئا من أنواع الشرك الحادث في هذه الأمة، قال: لكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يقل: حتى يتبين، فتحقق منهم العناد بعد المعرفة.
قال رحمه الله في بعض كتبه، لما ذكر بعض ما يفعله كثير من الكفار، والخروج بذلك عن الإسلام، قال: وهذا كثير غالب، لا سيما في الأعصار والأمصار، التي تغلب فيها الجاهلية والكفر والنفاق؛ فلهؤلاء من عجائب الجهل، والظلم، والكذب، والنفاق، والضلال، ما لا يتسع لذكره المقام.
وإذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال فيها إنه مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها؛ لكن ذلك يقع من طوائف منهم، في الأحوال الظاهرة التي
1 في روضة الناظر ص 194 وص 195.
يعلم الخاصة والعامة من المسلمين، أنها من دين الإسلام
بل اليهود والنصارى، والمشركون، يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر من خالفها، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سوى الله، من الملائكة، والنبيين أو غيرهم؛ فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل هذا: معاداة اليهود والنصارى والمشركين، ومثل تحريم الفواحش، والربا والخمر والميسر، ونحو ذلك، ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع، فكانوا مرتدين، وإن كانوا قد يتوبون من ذلك، أو يعودون إلى أن قال:
وأبلغ من ذلك: أن منهم من يصنف في دين المشركين، والردة عن الإسلام، كما صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب، وأقام الأدلة على حسن ذلك، ومنفعته، ورغب فيه؛ وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين، وإن كان قد يكون عاد إلى الإسلام، انتهى.
فانظر إلى تفريقه بين المقالات الخفية، والأمور الظاهرة‘ فقال في المقالات الخفية التي هي كفر: قد يقال: إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، ولم يقل ذلك في الأمور الظاهرة؛ بل قال: ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأمور، فكانوا مرتدين، فحكم بردتهم مطلقا، ولم يتوقف في الجاهل.
فكلامه ظاهر: في التفرقة بين الأمور المكفرة الخفية، كالجهل ببعض الصفات ونحوها، فلا يكفر بها الجاهل، كقوله للجهمية: أنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال، وقال فيمن ارتكب بعض أنواع الشرك جهلا، لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: لم يمكن تكفيرهم، لأنهم جهال، كما قال في المنكر لبعض الصفات جهلا؛ بل قال: لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فلم ينتهوا، أو إن كانوا جهالا، مع أن قول الشيخ رحمه الله، في عدم تكفير الجهمية ونحوهم، خلاف المشهور في المذهب؛ فإن الصحيح من المذهب: تكفير المجتهد الداعي إلى القول بخلق القرآن، ونفي الرؤية ونحو ذلك.
قال المجد رحمه الله: الصحيح: أن كل بدعة كفرنا فيها الداعية، فإنا نفسق المقلد فيها، كمن يقول بخلق القرآن، أو أن علم الله سبحانه مخلوق، أو أسماءه مخلوقة، أو أنه لا يرى في الآخرة، أو يسب الصحابة، أو أن الإيمان مجرد الاعتقاد، ونحو ذلك؛ فمن كان عالما في شيء من هذه البدع، يدعو إليه، ويناظر عليه، فهو محكوم بكفره، نص أحمد على ذلك في مواضع، انتهى.
فتبين: أن الصحيح من المذهب تكفيره، ولم يعذرهم
بالجهل.
ومما يوضح المسألة: ما هو معلوم من حكم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم في المرتد، أنه يستتاب فإن تاب وإلا قتلوه، ولم يتوقفوا في قتله حتى تتحقق منه المعاندة؛ وكذلك العلماء في المذاهب، ذكروا حكم من كانت ردته بإنكار ما يمكن جهله به، أنه يعرف ذلك، فإن أصر قتل، ولم يعتبروا تحقق العناد منه، كما قالوا فيمن جحد تحريم الخمر ونحوه، أو شك فيه ومثله لا يجهله، كفر، وإن كان مثله يجهله عرف، فإن أصر بعد التعريف كفر وقُتل، ولم يعتبروا المعاندة.
وأيضا، فقد دل القرآن على أن الشك في الجملة كفر، كما في قوله تعالى في الكفار:{قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} 1، وغير ذلك من الآيات الصريحة؛ والشك غير العناد، وهذا ظاهر بحمد الله تعالى.
ومما يبين لك مراد الشيخ تقي الدين رحمه الله، ما ذكره في بعض كتبه، بقوله: من اعتقد أن زيارة أهل الذمة كنائسهم قربة إلى الله فهو مرتد، وإن جهل أن ذلك الأمر محرم عرف ذلك، فإن أصر صار مرتدا; وقال: من سب الصحابة أو واحدا منهم، واقترن بسبه دعوى أن عليا إله أو نبي، أو أن جبريل غلط، فلا نشك في كفره، بل لا شك
1 سورة الجاثية آية: 32.
في كفر من توقف في تكفيره.
وقال أيضا: من زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر، أو أنهم فسقوا، فلا ريب في كفر قائل ذلك، بل من شك في كفره فهو كافر، انتهى.
فانظر تكفيره الشاك، مع القطع بأن سبب الشك هو الجهل، وأطلق على من ذكر مع العلم القاطع بأن أكثر هؤلاء أو كلهم جهال لم يعلموا أن ما قالوه كفر.
وقال أيضا: فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله، مثل أن يقول: يا فلان أغثني، أو ارحمني، أو انصرني، أو اجبرني، أو توكلت عليك، أو أنا في حسبك، أو أنت في حسبي، ونحو هذه الأقوال، التي هي من خصائص الربوبية، التي لا تصلح إلا لله، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، انتهى.
ولم يخص القتل بمن تحقق منه العناد، ولم يقل في هؤلاء ونحوهم: لم يكفروا لأنهم جهال، كما قال في الجهمية، وهذا كثير في كلامه رحمه الله.
وقال أيضا: لما استحل طائفة من الصحابة والتابعين، الخمر، كقدامة وأصحابه، وظنوا أنها تباح لمن آمن وعمل
صالحا، على ما فهموا من آية المائدة، اتفق علماء الصحابة كعمر وعلي وغيرهما، على أنهم يستتابون، فإن أصروا على الاستحلال كفروا، وإن أقروا به جلدوا؛ فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء، لأجل الشبهة حتى يبين لهم الحق، فإن أصروا كفروا، انتهى.
فانظر كيف حكم الصحابة بكفرهم، لو أصروا بعد الاستتابة، ولم يعذروهم بعد المعرفة، وبعد التعريف، فأوضح مما ذكرناه: ضلالا من لم يكفر من ارتكب ما هو كفر، إلا إذا كان معاندا، وأن هذا مخالف للكتاب والسنة، وإجماع الأمة.
فكيف يقول هذا فيمن يشك في وجوب الرب سبحانه وتعالى، أو في وحدانيته، أو يشك في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو في البعث بعد الموت، فإن طرد أصله في ذلك فهو كافر بلا شك، كما قرره موفق الدين في كلامه المتقدم، وإن لم يطرد أصله في ذلك، فلم لا يعذر بالشك في هذه الأشياء، وعذر فاعل الشرك الأكبر، المناقض لشهادة أن لا إله إلا الله، التي هي أصل دين الإسلام بجهله؛ فهذا تناقض ظاهر.
فقد بين أنه لا عذر لأحد في الجهل بهذه الأمور ونحوها، بعد بعثته صلى الله عليه وسلم وبلوغ حجج الله وبيناته، وإن لم يفهمها من بلغته، فحجة الله قائمة على عباده ببلوغ الحجة،
لا بفهمها، فبلوغ الحجة شيء وفهمها شيء آخر؛ ولهذا لم يعذر الله الكفار بعدم فهمهم، بعد أن بلغتهم حجته وبيناته، وهذا ظاهر بحمد الله.
[أهل العلم والسنة لا يكفرون المخالف]
وسئل أيضا: الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله، عن قول شيخ الإسلام تقي الدين، رحمه الله، في رده على ابن البكري: فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفّرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفرهم، لأن الكفر حكم شرعي؛ فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك، وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه، وتزني بأهله، لأن الزنى والكذب، حرام لحق الله تعالى؛ وكذلك التكفير حق لله، فلا نكفر إلا من كفره الله ورسوله.
وأيضا: فإن تكفير الشخص المعين، وجواز قتله، موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية، التي يكفر من خالفها، وإلا فليس كل من جهل شيئا من الدين يكفر، إلى أن قال: ولهذا كنت أقول للجهمية، من الحلولية والنفاة، الذين ينفون أن يكون الله فوق العرش: أنا لو وافقتكم كنت كافرا، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون، لأنكم جهال
…
إلخ، ما معنى قيام الحجة؟
فأجاب: الحمد لله رب العالمين، تضمن كلام الشيخ رحمه الله، مسألتين: إحداهما: عدم تكفيرنا لمن كفرنا،
وظاهر كلامه: أنه سواء كان متأولا أم لا، وقد صرح طائفة من العلماء: أنه إذا قال ذلك متأولا، لا يكفر، ونقل ابن حجر الهيتمي عن طائفة من الشافعية، أنهم صرحوا بكفره إذا لم يتأول، فنقل عن المتولي أنه قال: إذا قال لمسلم: يا كافر، بلا تأويل كفر; قال: وتبعه على ذلك جماعة. واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا قال الرجل لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما " 1، والذي رماه به مسلم، فيكون هو كافرا، قالوا: لأنه سمى الإسلام كفرا؛ وتعقب بعضهم هذا التعليل، وهو قولهم: إنه سمى الإسلام كفرا، فقال: هذا المعنى لا يفهم من لفظه، ولا هو مراده، إنما مراده ومعنى لفظه: إنك لست على دين الإسلام، الذي هو حق، وإنما أنت كافر، دينك غير الإسلام، وأنا على دين الإسلام، وهذا مراده بلا شك.
لأنه إنما وصف بالكفر الشخص، لا دين الإسلام، فنفى عنه كونه على دين الإسلام، فلا يكفر بهذا القول، وإنما يعزر بهذا السب الفاحش، بما يليق به؛ ويلزم على ما قالوه أن من قال لعابد: يا فاسق، كفر، لأنه سمى العبادة فسقا، ولا أحسب أحدا يقوله، وإنما يريد: إنك تفسق، وتفعل مع عبادتك ما هو فسق، لا أن عبادتك فسق، انتهى.
وظاهر كلام النووي في شرح مسلم، يوافق ذلك،
1 البخاري: الأدب (6103) .
فإنه لما ذكر الحديث، قال: وهذا مما عده العلماء من المشكلات، فإن مذهب أهل الحق: أن المسلم لا يكفر بالمعاصي، كالقتل والزنى، وكذا قوله لأخيه: يا كافر من غير اعتقاد بطلان دين الإسلام.
ثم حكى في تأويل الحديث وجوها: أحدها: أنه محمول على المستحل، ومعنى (باء بها) أي بكلمة الكفر، وكذا (حارت عليه) في رواية، أي: رجعت عليه كلمة الكفر، فباء وحار ورجع بمعنى. الثاني: رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره. الثالث: أنه محمول على الخوارج، المكفرين للمؤمنين; وهذا نقله القاضي عياض عن مالك، وهو ضعيف، لأن المذهب الصحيح المختار، الذي قاله الأكثرون، والمحققون: إن الخوارج لا يكفّرون، كسائر أهل البدع. الرابع: معناه: أنه يؤول إلى الكفر، فإن المعاصي كما قالوا: بريد الكفر، ويخاف على المكثر منها، أن يكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر، ويؤيده رواية أبي عوانة، في مستخرجه على مسلم:"فإن كان كما قال، وإلا فقد باء بالكفر". الخامس: فقد رجع بكفره، وليس الراجع حقيقة الكفر، بل التكفير، كونه جعل أخاه المؤمن كافرا، فكأنه
كفر بنفسه، إما لأنه كفر من هو مثله، وإما لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر، يعتقد بطلان الإسلام، انتهى.
وقال ابن دقيق العيد، في قوله: صلى الله عليه وسلم " ومن دعا رجلا بالكفر، وليس كذلك، إلا حار عليه " 1 أي: رجع عليه; وهذا وعيد عظيم لمن كفر أحدا من المسلمين، وليس هو كذلك؛ وهي ورطة عظيمة، وقع فيها خلق من العلماء، اختلفوا في العقائد، وحكموا بكفر بعضهم بعضا.
ثم نقل عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، أنه قال: لا أكفر إلا من كفرني; قال: وربما خفي هذا القول على بعض الناس، وحمله على غير محمله الصحيح؛ والذي ينبغي أن يحمل عليه، أنه لمح هذا الحديث الذي يقتضي: أن من دعا رجلا بالكفر وليس كذلك، رجع عليه الكفر; وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:" من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما "2.
وكان هذا المتكلم، أي: أبو إسحاق، يقول: الحديث دل على أنه يحصل الكفر لأحد الشخصين، إما المكفر أو المكفر، فإذا كفرني بعض الناس، فالكفر واقع بأحدنا، وأنا قاطع أني لست بكافر، فالكفر راجع إليه، انتهى.
فظاهر كلام أبي إسحاق: أنه لا فرق بين المتأول
1 مسلم: الإيمان (61) ، وأحمد (5/166) .
2 البخاري: الأدب (6104)، ومسلم: الإيمان (60)، والترمذي: الإيمان (2637)، وأبو داود: السنة (4687) ، وأحمد (2/112)، ومالك: الجامع (1844) .
وغيره، والله أعلم; وما نقله القاضي عن مالك، من حمله الحديث على الخوارج، موافق لإحدى الروايتين عن أحمد، في تكفير الخوارج، اختارها طائفة من الأصحاب وغيرهم، لأنهم كفروا كثيرا من الصحابة، واستحلوا دماءهم وأموالهم، متقربين بذلك إلى الله، فلم يعذروهم بالتأويل الباطل; لكن أكثر الفقهاء على عدم كفرهم، لتأويلهم، وقالوا: من استحل قتل المعصومين، وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل كفر، وإن كان استحلالهم ذلك بتأويل كالخوارج لم يكفر، والله أعلم.
[تكفير الشخص المعين وجواز قتله]
المسألة الثانية: أن تكفير الشخص المعين وجواز قتله، موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية، التي يكفر من خالفها
…
إلى آخره، يشمل كلامه من لم تبلغه الدعوة، وقد صرح بذلك في موضع آخر; ونقل ابن عقيل عن الأصحاب: أنه لا يعاقب; وقال: إن الله عفا عن الذي كان يعامل ويتجاوز، لأنه لم تبلغه الدعوة، وعمل بخصلة من الخير.
واستدل لذلك بما في صحيح مسلم مرفوعا: " والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي أو نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار "1. قال في شرح مسلم: وخص اليهودي والنصراني، لأن لهم كتابا; قال: وفي مفهومه أن من
1 مسلم: الإيمان (153) ، وأحمد (2/317 ،2/350) .
لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور; قال: وهذا جار على ما تقرر في الأصول، لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح، انتهى.
وقال القاضي أبو يعلى: في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 1: في هذا دليل على أن معرفة الله لا تجب عقلا، وإنما تجب بالشرع، وهو بعثة الرسل، وأنه لو مات الإنسان قبل ذلك، لم يقطع عليه بالنار; انتهى.
وفيمن لم تبلغه الدعوة قول آخر: أنه يعاقب؛ اختاره ابن حامد، واحتج بقوله {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} 2. والله أعلم; فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبلغه القرآن، فقد قامت عليه الحجة، فلا يعذر في عدم الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فلا عذر له بعد ذلك بالجهل.
وقد أخبر الله سبحانه بجهل كثير من الكفار، مع تصريحه بكفرهم، ووصف النصارى بالجهل، مع أنه لا يشك مسلم في كفرهم; ونقطع أن أكثر اليهود والنصارى اليوم جهال مقلدون، فنعتقد كفرهم، وكفر من شك في كفرهم.
وقد دل القرآن على أن الشك في أصول الدين كفر؛
1 سورة الإسراء آية: 15.
2 سورة القيامة آية: 36.
والشك هو التردد بين شيئين، كالذي لا يجزم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ولا كذبه، ولا يجزم بوقوع البعث ولا عدم وقوعه، ونحو ذلك، كالذي لا يعتقد وجوب الصلاة ولا عدم وجوبها، أو لا يعتقد تحريم الزنى ولا عدم تحريمه؛ وهذا كفر بإجماع العلماء، ولا عذر لمن كان حاله هكذا، بكونه لم يفهم حجج الله وبيناته، لأنه لا عذر له بعد بلوغها، وإن لم يفهمها.
وقد أخبر الله تعالى عن الكفار أنهم لم يفهموا، فقال:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} 1، وقال:{إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 2؛ فبين الله سبحانه: أنهم لم يفقهوا، فلم يعذرهم لكونهم لم يفهموا، بل صرح القرآن بكفر هذا الجنس من الكفار، كما في قوله تعالى:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} 3 الآية.
قال الشيخ: أبو محمد، موفق الدين بن قدامة، رحمه الله، لما انجر كلامه في مسألة: هل كل مجتهد، مصيب أم لا؟
ورجح أنه ليس كل مجتهد مصيبا، بل الحق
1 سورة الأنعام آية: 25.
2 سورة الأعراف آية: 30.
3 سورة آية: 103-104-105.
في قول واحد من أقوال المجتهدين، قال: وزعم الجاحظ أن مخالف ملة الإسلام، إذا نظر فعجز عن إدراك الحق، فهو معذور غير آثم، إلى أن قال:: أما ما ذهب إليه الجاحظ، فباطل يقينا، وكفر بالله تعالى، ورد عليه وعلى رسوله.
فإنا نعلم قطعا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر اليهود والنصارى بالإسلام واتباعه، وذمهم على إصرارهم، وقاتل جميعهم، وقتل البالغ منهم; ونعلم: أن المعاند العارف مما يقل، وإنما الأكثر مقلدة اعتقدوا دين آبائهم تقليدا، ولم يعرفوا معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه.
والآيات الدالة في القرآن على هذا كثيرة، كقوله تعالى:{ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} 1، {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2، {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} 3، وقوله:{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} 4، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 5، {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} 6؛ وفي الجملة: ذم المكذبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا ينحصر في الكتاب والسنة، انتهى.
1 سورة ص آية: 27.
2 سورة فصلت آية: 23.
3 سورة البقرة آية: 78.
4 سورة المجادلة آية: 18.
5 سورة الأعراف آية: 30.
6 سورة الكهف آية: 104-105.
فبين رحمه الله: أنا لو لم نكفر إلا المعاند العارف، لزمنا الحكم بإسلام أكثر اليهود والنصارى، وهذا من أظهر الباطل؛ فقول الشيخ تقي الدين، رحمه الله: إن التكفير والقتل موقوف على بلوغ الحجة، يدل من كلامه على أن هذين الأمرين، وهما: التكفير، والقتل، ليسا موقوفين على فهم الحجة مطلقا، بل على بلوغها، ففهمها شيء، وبلوغها شيء آخر. فلو كان هذا الحكم موقوفا على فهم الحجة، لم نكفر ونقتل إلا من علمنا أنه معاند خاصة، وهذا بين البطلان؛ بل آخر كلامه رحمه الله، يدل على أنه يعتبر فهم الحجة، في الأمور التي تخفى على كثير من الناس، وليس فيها مناقضة للتوحيد والرسالة، كالجهل ببعض الصفات.
وأما الأمور التي هي مناقضة للتوحيد، والإيمان بالرسالة، فقد صرح رحمه الله في مواضع كثيرة بكفر أصحابها، وقتلهم بعد الاستتابة، ولم يعذرهم بالجهل، مع أنا نتحقق أن سبب وقوعهم في تلك الأمور، إنما هو الجهل بحقيقتها؛ فلو علموا أنها كفر تخرج من الإسلام، لم يفعلوها.
وهذا في كلام الشيخ رحمه الله كثير، كقوله في بعض كتبه: فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه
نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله، نحو أن يقول: يا فلان أغثني، أو اغفر لي، أو ارحمني، أو انصرني، أو اجبرني، أو توكلت عليك، أو أنا في حسبك، أو أنت حسبي، ونحو هذه الأقوال، التي هي من خصائص الربوبية، التي لا تصلح إلا لله؛ فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل.
وقال أيضا: فمن جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم، كفر إجماعا; وقال: من اعتقد أن زيارة أهل الذمة كنائسهم قربة إلى الله، فهو مرتد؛ وإن جهل أن ذلك محرم عرف ذلك، فإن أصر صار مرتدا.
وقال: من سب الصحابة أو أحدا منهم، أو اقترن بسبه دعوى أن عليا إله، أو نبي، أو أن جبرائيل غلط، فلا شك في كفر هذا؛ بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره.
وقال أيضا: من زعم أن الصحابة ارتدوا، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفرا قليلا، لا يبلغون بضعة عشر، أو أنهم فسقوا، فلا ريب في كفر قائل ذلك؛ بل من شك في كفره، فهو كافر، انتهى;
فانظر كيف كفر الشاك، والشاك جاهل؛ فلم ير الجهل عذرا في مثل هذه الأمور.
وقال رحمه الله في أثناء كلام له، قال: ولهذا قالوا:
من عصى مستكبرا كإبليس، كفر بالاتفاق، ومن عصى مشتهيا لم يكفر عند أهل السنة، ومن فعل المحارم مستحلا، فهو كافر بالاتفاق.
وقال: والاستحلال: اعتقاد أنها حلال، وذلك يكون تارة باعتقاد أن الله لم يحرمها، وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها؛ وهذا يكون لخلل في الإيمان بالربوبية أو الرسالة، ويكون جحدا محضا غير مبني على مقدمة، وتارة يعلم: أن الله حرمها، ثم يمتنع من التزام هذا التحريم ويعاند، فهذا أشد كفرا ممن قبله، انتهى.
وكلامه رحمه الله في مثل هذا كثير، فلم يخص التكفير بالمعاند، مع القطع بأن أكثر هؤلاء جهال لم يعلموا أن ما قالوه أو فعلوه كفر؛ فلم يعذروا بالجهل في مثل هذه الأشياء، لأن منها ما هو مناقض للتوحيد، الذي هو أعظم الواجبات، ومنها ما هو متضمن معارضة الرسالة، ورد نصوص الكتاب والسنة الظاهرة المجمع عليها بين علماء المسلمين.
وقد نص السلف والأئمة على تكفير أناس بأقوال صدرت منهم، مع العلم أنهم غير معاندين;
ولهذا قال الفقهاء رحمهم الله تعالى: من جحد وجوب عبادة من العبادات الخمس، أو جحد حل الخبز ونحوه، أو جحد تحريم الخمر ونحوه، أو شك في ذلك ومثله لا يجهله،
كفر، وإن كان مثله يجهله عرّف ذلك، فإن أصر بعد التعريف، كفر، وقتل؛ ولم يخصوا الحكم بالمعاند، وذكروا في باب حكم المرتد أشياء كثيرة، أقوالا وأفعالا، يكون صاحبها بها مرتدا، ولم يقيدوا الحكم بالمعاند.
وقال الشيخ أيضا: لما استحل طائفة من الصحابة الخمر، كقدامة وأصحابه، وظنوا أنها تباح لمن آمن بالله وعمل صالحا، على ما فهموه من آية المائدة، اتفق علماء الصحابة كعمر وعلي وغيرهما، على أنهم يستتابون، فإن أصروا على الاستحلال كفروا، وإن أقروا به جلدوا؛ فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء لأجل الشبهة، حتى يبين لهم الحق، فإن أصروا كفروا.
وقال أيضا: ونحن نعلم بالضرورة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأموات، لا من الأنبياء ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة، ولا بلفظ الاستعانة، ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لهم السجود لميت، ولا إلى ميت ونحو ذلك؛ بل نعلم أنه نهى عن ذلك كله، وأنه من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، لكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم انتهى.
فانظر إلى قوله: لم يمكن تكفيرهم بذلك، حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: حتى يتبين لهم،
ونتحقق منهم المعاندة بعد المعرفة.
وقال أيضا: لما انجر كلامه في ذكر ما عليه كثير من الناس، من الكفر، والخروج عن الإسلام، قال: وهذا كثير غالب في الأعصار والأمصار، التي تغلب فيها الجاهلية والكفر والنفاق؛ فلهؤلاء من عجائب الجهل، والظلم والكذب، والنفاق والكفر والضلال، ما لا يتسع لذكره المقال.
وإذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، لكن ذلك يقع في طوائف منهم، في الأمور الظاهرة، التي يعلم الخاصة والعامة من المسلمين، أنها من دين الإسلام، بل اليهود والنصارى والمشركون، يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر من خالفها، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه، من الملائكة والنبيين أو غيرهم، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام،
ومثل معاداة اليهود والنصارى والمشركين، ومثل تحريم الفواحش، والربا والخمر والميسر، ونحو ذلك، ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع، فكانوا مرتدين، وإن كانوا قد يتوبون من ذلك، أو يعودون إلى أن قال: وأبلغ من ذلك: أن منهم من يصنف في دين المشركين، والردة عن الإسلام، كما صنف الرازي كتابه في
عبادة الكواكب، وأقام الأدلة على حسن ذلك ومنفعته، ورغب فيه؛ وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين، وإن كان قد يكون عاد إلى الإسلام، انتهى.
فانظر إلى تفريقه بين المقالات الخفية، والأمور الظاهرة، فقال في المقالات الخفية، التي هي كفر: قد يقال إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، ولم يقل ذلك في الأمور الظاهرة؛ فكلامه ظاهر في الفرق بين الأمور الظاهرة والخفية، فيكفر بالأمور الظاهر حكمها مطلقا، وبما يصدر منها من مسلم جهلا، كاستحلال محرم أو فعل أو قول شركي بعد التعريف،
ولا يكفر بالأمور الخفية جهلا، كالجهل ببعض الصفات، فلا يكفر الجاهل بها مطلقا، وإن كان داعية، كقوله للجهمية: أنتم عندي لا تكفرون، لأنكم جهال; وقوله عندي يبين أن عدم تكفيرهم، ليس أمرا مجمعا عليه، لكنه اختياره؛ وقوله في هذه المسألة خلاف المشهور في المذهب، فإن الصحيح من المذهب تكفير المجتهد الداعي إلى القول بخلق القرآن، أو نفي الرؤية، أو الرفض ونحو ذلك، وتفسيق المقلد.
قال المجد رحمه الله: الصحيح: أن كل بدعة كفرنا فيها الداعية، فإنا نفسق المقلد فيها، كمن يقول بخلق القرآن، أو أن علم الله مخلوق، أو أن أسماءه مخلوقة، أو
أنه لا يُرى في الآخرة، أو يسب الصحابة تدينا، أو أن الإيمان مجرد الاعتقاد، وما أشبه ذلك؛ فمن كان عالما في شيء من هذه البدع، يدعو إليه ويناظر عليه، فهو محكوم بكفره، نص أحمد على ذلك في مواضع، انتهى.
فانظر كيف حكموا بكفرهم مع جهلهم، والشيخ رحمه الله يختار عدم كفرهم، ويفسقون عنده; ونحوه قول ابن القيم رحمه الله، فإنه قال: وفسق الاعتقاد، كفسق أهل البدع الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويحرمون ما حرم الله، ويوجبون ما أوجب الله، ولكن ينفون كثيرا مما أثبت الله ورسوله، جهلا وتأويلا وتقليدا للشيوخ، ويثبتون ما لم يثبته الله ورسوله كذلك؛ وهؤلاء كالخوارج المارقة، وكثير من الروافض والقدرية والمعتزلة، وكثير من الجهمية الذين ليسوا غلاة في التجهم.
وأما غلاة الجهمية، فكغلاة الرافضة، ليس للطائفتين في الإسلام نصيب، ولذلك أخرجهم جماعة من السلف، من الثنتين والسبعين فرقة، وقالوا هم مباينون للملة، انتهى.
وبالجملة: فيجب على من نصح نفسه، ألا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله؛ وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه واستحسان عقله، فإن إخراج رجل من الإسلام أو إدخاله فيه، أعظم أمور الدين; وقد
كفينا بيان هذه المسألة كغيرها، بل حكمها في الجملة أظهر أحكام الدين؛ فالواجب علينا: الاتباع وترك الابتداع، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه:"اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم".
وأيضا: فما تنازع العلماء في كونه كفرا، فالاحتياط للدين التوقف وعدم الإقدام، ما لم يكن في المسألة نص صريح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم. وقد استزل الشيطان أكثر الناس في هذه المسألة، فقصر بطائفة فحكموا بإسلام من دلت نصوص الكتاب والسنة والإجماع على كفره، وتعدى بآخرين فكفروا من حكم الكتاب والسنة مع الإجماع بأنه مسلم.
ومن العجب: أن أحد هؤلاء لو سئل عن مسألة في الطهارة، أو البيع ونحوهما، لم يفت بمجرد فهمه واستحسان عقله، بل يبحث عن كلام العلماء، ويفتي بما قالوه؛ فكيف يعتمد في هذا الأمر العظيم، الذي هو أعظم أمور الدين وأشد خطرا، على مجرد فهمه واستحسانه؟ فيا مصيبة الإسلام من هاتين الطائفتين ومحنته من تينك البليتين!!
ونسألك اللهم أن تهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، وصلى الله على محمد.
[التشديد في أمر الشرك]
وله أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، إلى جناب الأخ إبراهيم بن عجلان، وفقه الله لطاعته، وهداه بهدايته، آمين; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته; والخط وصل وصلك الله إلى خير، وصرف عنا وعنكم كل ضير; وذكرت في خطك أشياء، ينبغي تنبيهك عليها.
منها قولكم: إن الشيخ تقي الدين بن تيمية، شدد في أمر الشرك تشديدا لا مزيد عليه، فالله سبحانه هو الذي شدده، لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 1 في موضعين من كتابه، وقال عن قول المسيح لبني إسرائيل:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} 2 الآية،
وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} 3 الآية، وقال:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 4، وقال سبحانه وتعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} 5.
1 سورة النساء آية: 48.
2 سورة المائدة آية: 72.
3 سورة الزمر آية: 65.
4 سورة الأنعام آية: 88.
5 سورة التوبة آية: 5.
وفي السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم من التحذير عن الشرك، والتشديد فيه ما لا يحصى؛ وغالب الأحاديث التي يذكر صلى الله عليه وسلم الكبائر فيها، يبدؤها بالشرك، ولما " سئل صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك " 1. إذا عرف ذلك، تعين على كل مكلف معرفة حد الشرك وحقيقته، لا سيما في هذه الأزمنة التي غلب فيها الجهل بهذا الأمر العظيم.
والشيخ تقي الدين، رحمه الله تعالى، وتلميذه ابن القيم إنما بالغا في بيان هذا الشرك وإيضاحه، لما شهدا من ظهوره في زمنهما، وكثرته في بلاد الإسلام، وبينا بطلانه بالأدلة والبراهين القاطعة الواضحة، كما قال أبو حيان في حق الشيخ:
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا
…
مقام سيد تيم إذ عصت مضر
وأظهر الحق إذ آثاره اندرست
…
وأخمد الكفر إذ طارت له شرر
وقولك: إن هذه الأمور المحدثة، منها ما هو شرك أكبر، ومنها ما هو أصغر، فالأمر كذلك، لكن يتعين معرفة الأكبر، المخرج من الملة، الذي يحصل به الفرق بين المسلم والكافر، وهو عبادة غير الله.
فمن جعل شيئا من العبادة لغير الله، فهو المشرك الشرك الأكبر، من ذلك الدعاء الذي هو مخ العبادة،
1 البخاري: تفسير القرآن (4477)، ومسلم: الإيمان (86)، والترمذي: تفسير القرآن (3182 ،3183)، والنسائي: تحريم الدم (4013 ،4014 ،4015)، وأبو داود: الطلاق (2310) ، وأحمد (1/380 ،1/431 ،1/434 ،1/462 ،1/464) .
كالتوجه إلى الموتى والغائبين، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وكذلك الذبح والنذر لغير الله. كذلك يتعين البحث عن الشرك الأصغر، فمنه الحلف بغير الله، ونحو تعليق الخرز والتمائم عن العين، وكيسير الرياء في أنواع كثيرة لا تحصى.
ومن كلام للشيخ تقي الدين، وقد سئل عن الوسائط، فقال - بعد كلام -: وإن أراد بالواسطة: أنه لا بد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبين الله، في جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يكونوا واسطة في رزق العباد، ونصرهم وهداهم، يسألونهم ذلك، ويرجعون إليهم فيه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء، يجلبون بهم المنافع، ويدفعون بهم المضار، إلى أن قال: قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 1 إلى قوله {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 2.
وقال طائفة من السلف: كان أقوام من الكفار يدعون عيسى، وعزيرا، والملائكة، والأنبياء، فبين الله لهم أن الملائكة والأنبياء لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويلا، وأنهم يتقربون إليه ويرجون رحمته، ويخافون عذابه إلى أن قال رحمه الله:
1 سورة الإسراء آية: 56.
2 سورة الإسراء آية: 57.
فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط، يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع، ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكربات، وسد الفاقات، فهو كافر مشرك بإجماع المسلمين، إلى أن قال:
فمن أثبت وسائط بين الله وبين خلقه، كالحجّاب الذين يكونون بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائجهم، وأن الله إنما يهدي عباده، ويرزقهم وينصرهم، بتوسطهم، بمعنى: أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك، يسألون حوائج الناس لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدبا منهم، لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب،
فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه، فهو كافر مشرك، يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل؛ وهؤلاء مشبهون شبهوا الخالق بالمخلوق، وجعلوا لله أندادا؛ وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لا تتسع له هذه الفتوى؛ فإن هذا دين المشركين عباد الأوثان، كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وإنها وسائل يتقربون بها إلى الله، وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى، إلى أن قال:
وأما الشفاعة التي نفاها القرآن، كما عليه المشركون
والنصارى، ومن ضاهاهم من هذه الأمة، فينفيها أهل العلم والإيمان، مثل أنهم يطلبون من الأنبياء، والصالحين الغائبين، والميتين، قضاء حوائجهم، ويقولون: إنهم إن أرادوا ذلك قضوها; ويقولون: إنهم عند الله كخواص الملوك عند الملوك، ولهم على الملوك إدلال يقضون به حوائجهم، فيجعلونهم لله بمنْزلة شركاء الملك؛ والله سبحانه قد نزه نفسه عن ذلك، انتهى، ملخصا.
فهذا الذي ذكر الشيخ، رحمه الله، إجماع المسلمين على أن مرتكبه مشرك كافر يقتل، هو الذي زعم داود البغدادي أنه جائز; بل زعم: أن الله أمر به، وأنه معنى الوسيلة التي أمر الله بها، في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 1، وزعم أن الوسيلة التي أمر الله بها، أمر إيجاب، أو استحباب، بطلب الحاجات، وتفريج الكربات، من الأموات والغائبين.
وزعم أن الشرك هو السجود لغير الله فقط، وأن دعاء الأموات، والغائبين، والتقرب إليهم بالنذور، والذبائح، ليس بشرك، بل هو مباح; ثم زاد على ذلك بالكذب على الله، وعلى رسوله، وزعم أن الله أمر بذلك، وأحبه; لم يقتصر على دعوى إباحة ذلك، بل زعم: أن الله أمر عباده المؤمنين، أن يقصدوا قبور
1 سورة المائدة آية: 35.
الأموات، ويسألوهم قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم.
فسبحان الله! ما أجرأ هذا على الافتراء والكذب على الله؟ فلو أن إنسانا ادعى إباحة بعض صغائر الذنوب، كأن يزعم أنه يباح للرجل تقبيل المرأة الأجنبية، لكان كافرا بإجماع المسلمين، وإن زاد على ذلك، بأن قال: إن الله يحب ذلك ويرضاه، فقد ازداد كفرا على كفره، فكيف بمن زعم أن الله أباح الشرك الأكبر؟ ثم زاد على ذلك بأن قال: إن الله أمر به وأحب من عباده المؤمنين أن يسارعوا إليه؟ ما أعظم هذه الجراءة!
ومن كذبه على الله، زعمه أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، حتى مفاتيح الغيب الخمس يزعم أن الله أطلعه عليها; وكلام شيخ الإسلام في هذه المسألة كثير، لا يخلو غالب مصنفاته من الكلام عليها; وذكر رحمه الله تعالى، عن بعض علماء عصره أنه قال: هذا من أعظم ما بينته لنا.
وذكر رحمه الله، في "الرسالة السنية" لما ذكر حديث الخوارج، قال: وإذا كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قد مرق من الدين، مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذه الأزمان، قد يمرق أيضا; وذلك بأمور; منها: الغلو الذي ذمه الله، كالغلو في بعض المشائخ، مثل: الشيخ عدي، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح.
فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله، بأن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أجرني، أو توكلت عليك، أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل.
فإن الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده، لا يجعل معه إله آخر؛ والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى، مثل الملائكة، والمسيح، وعزير، والصالحين، لم يكونوا يعتقدون: أنها ترزق، وتدبر أمر من دعاها، وإنما كانوا يدعونهم، يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله; فبعث الله الرسل تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استعانة; وكلامه رحمه الله في هذا الباب كثير.
وكذلك ابن القيم، رحمه الله تعالى، بالغ في إيضاح هذا الأمر، وبين بطلانه، كقوله في "شرح المنازل": ومنه - أي الشرك -: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، فإن هذا أصل شرك العالم؛ فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فضلا عمن يستغيث به، ويسأله أن يشفع له، انتهى; وهذا الذي قال: إنه أصل شرك العالم، هو الذي يزعم داود: أن الله أمر به؛ تعالى الله عما يقول المفترون علوا كبيرا.
وقال ابن القيم في "الهدي" في فوائد غزوة الطائف: ومنها: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت، بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما واحدا؛ فإنها شعائر الكفر والشرك، ولا يجوز الإقرار عليها بعد القدرة عليها البتة. قال: وهكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور، التي اتخذت أوثانا وطواغيت تعبد من دون الله، وكذا الأحجار التي تقصد بالتعظيم والتبرك، والنذر والتقبيل، فلا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض، مع القدرة على إزالتها; وكثير منها بمنزلة اللات، والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركا عندها وبها؛ والله المستعان.
ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت، يعتقد أنها تخلق وترزق، وتحيي وتميت، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها، ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم؛ اتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم، حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم، شبرا بشبر وذراعا بذراع، وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل وخفاء العلم.
وصار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، نشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل
العلماء، وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس؛ ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية، بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين، انتهى. فانظر قوله في المشاهد التي بنيت على القبور، كونها اتخذت أوثانا وطواغيت، وربما ينفر قلب الجاهل من تسمية قبر نبي، أو رجل صالح وثنا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " 1؛ فهذا الحديث ينبئ أنه لو قصد قبر النبي صلى الله عليه وسلم بعبادة له، كان قاصده بذلك قد اتخذه وثنا، فكيف بغيره من القبور؟.
وقوله رحمه الله: وكثير منها بمنْزلة اللات، والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركا عندها وبها; صدق رحمه الله، لما شاهدنا في هذه الأزمنة من الغلو والشرك العظيم، من كون كثير من الغلاة عند الشدائد في البر والبحر، يخلصون الدعاء لمعبوديهم، وكثير منهم ينسون الله عند الشدائد، كما هو مستفيض عند الخاصة والعامة.
وقد أخبر الله عن المشركين الأولين أنهم يخلصون الدعاء له سبحانه وتعالى، وينسون آلهتهم، ونصوص القرآن في ذلك كثيرة، كما قال تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 2، {وَإِذَا
1 أحمد (2/246) .
2 سورة العنكبوت آية: 65.
مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} 1.
وقال: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} 2، {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً} 3؛ فهذا إخباره سبحانه عن المشركين، الذين بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن الشرك، ويأمرهم بالتوحيد، وغالب مشركي أهل هذا الزمان، بعكس ذلك.
وقول ابن القيم، رحمه الله: وغلب الشرك على أكثر النفوس، وسبب ذلك كله ظهور الجهل وقله العلم، فهذا قوله فيما شاهده في زمانه ببلاد الإسلام، فكيف لو رأى هذا الزمان؟ وفي الحديث:" لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه " 4؛ قال ابن مسعود: "لا أقول: زمان أخصب من زمان، ولا أمير خير من أمير، ولكن بذهاب خياركم وعلمائكم"، فكيف لو شاهد من يقول: إن الله أمر بطلب الحاجات من الأموات؟ ويقول: إنما الشرك هو السجود لغير الله لا غير؟ كما قال ذلك داود البغدادي مشافهة لي.
1 سورة الإسراء آية: 67.
2 سورة الأنعام آية: 40-41.
3 سورة الزمر آية: 8.
4 البخاري: الفتن (7068)، والترمذي: الفتن (2206) ، وأحمد (3/179) .
فيلزمه: أن قصد المشركين الأولين لآلهتهم، كاللات والعزى ومناة، وكذلك هبل، إذا طلبوا الحاجات منها، وكشف الكربات، والتقرب إليها بالنذور، والذبائح، أن هذا ليس بشرك، إذا لم يسجدوا لها، فيا سبحان الله! كيف يبلغ الجهل بمن ينتسب إلى علم إلى هذه الفضيحة؟!
وقال ابن القيم، رحمه الله تعالى: رأيت لأبي الوفاء بن عقيل فصلا حسنا، فذكرته بلفظه; قال: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم.
قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور وإكرامها، بما نهى عنه الشرع، من إيقاد السرج عليها، وتقبيلها، وتخليقها، وخطاب أهلها بالحوائج، وكتابة الرقاع، فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، والقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى.
وقولك: إن الشيخ تقي الدين وابن القيم يقولان: إن من فعل هذه الأشياء، لا يطلق عليه أنه كافر مشرك، حتى تقوم عليه الحجة الإسلامية، من إمام أو نائبه،
فيصر; وأنه يقال: هذا الفعل كفر، وربما عذر فاعله، لاجتهاد، أو تقليد، أو غير ذلك، فهذه الجملة التي حكيت عنهما، لا أصل لها في كلامهما.
وأظن اعتمادك في هذا، على ورقة كتبها داود، ونقل فيها نحوا من هذه العبارة، من اقتضاء الصراط المستقيم، للشيخ تقي الدين، لما قدم عنيزة المرة الثانية، معه هذه الورقة، يعرضها على ناس في عنيزة، يشبه بهذا، ويقول: لو سلمنا أن هذه الأمور التي تفعل عند القبور شرك، كما تزعم هذه الطائفة، فهذا كلام إمامهم ابن تيمية، الذي يقتدون به، يقول: إن المجتهد المتأول، والمقلد، والجاهل، معذورون، مغفور لهم فيما ارتكبوه.
فلما بلغني هذا عنه، أرسلت إليه وحضر عندي، وبينت له خطأه، وأنه وضع كلام الشيخ في غير موضعه; وبينت له: أن الشيخ إنما قال ذلك في أمور بدعية، ليست بشرك، مثل تحري دعاء الله عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وبعض العبادات المبتدعة، فقال في الكلام على هذه البدع: وقد يفعل الرجل العمل الذي يعتقده صالحا، ولا يكون عالما أنه منهي عنه، فيثاب على حسن قصده، ويعفى عنه لعدم علمه; وهذا باب واسع.
وعامة العبادات المنهي عنها، قد يفعلها بعض الناس، ويحصل له نوع من الفائدة، وذلك لا يدل على أنها
مشروعة، ثم العالم قد يكون متأولا، أو مجتهدا مخطئا، أو مقلدا فيغفر له خطؤه، ويثاب على فعله من المشروع، المقرون بغير المشروع، فهذا كلامه في الأمور التي ليست شركا.
وأما الشرك، فقد قال رحمه الله: إن الشرك لا يغفر، وإن كان أصغر; نقل ذلك عنه تلميذه صاحب الفروع فيه، وذلك - والله أعلم - لعموم قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 1، مع أن الشيخ رحمه الله، لم يجزم أنه يغفر لمن ذكرهم، وإنما قال قد يكون.
وقد قال رحمه الله، في "شرح العمدة" لما تكلم في كفر تارك الصلاة، فقال: وفي الحقيقة: فكل رد لخبر الله، أو أمره فهو كفر، دق أو جل، لكن قد يعفى عما خفيت فيه طرق العلم، وكان أمرا يسيرا في الفروع، بخلاف ما ظهر أمره، وكان من دعائم الدين، من الأخبار والأوامر، يعني: فإنه لا يقال قد يعفى عنه.
وقال رحمه الله، في أثناء كلام له، في ذم أصحاب الكلام، قال: والرازي من أعظم الناس في باب الحيرة، له نهمة في التشكيك، والشك في الباطل خير من الثبات على اعتقاده، لكن قل أن يثبت أحد على باطل محض، بل لا بد فيه من نوع من الحق، وتوجد الردة فيهم كثيرا، كالنفاق؛ وهذا إذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال: لم
1 سورة النساء آية: 48.
تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها.
لكن يقع ذلك في طوائف منهم، في أمور يعلم العامة والخاصة، بل اليهود والنصارى يعلمون أن محمدا بعث بها، وكفر من خالفها، مثل عبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة غيره، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل أمره بالصلوات الخمس، ومثل معاداة المشركين، وأهل الكتاب، ومثل تحريم الفواحش، والربا والميسر، ونحو ذلك.
وقولك: إن الشيخ يقول، إن من فعل شيئا من هذه الأمور الشركية، لا يطلق عليه أنه مشرك كافر، حتى تقوم عليه الحجة الإسلامية، فهو لم يقل ذلك في الشرك الأكبر، وعبادة غير الله، ونحوه من الكفر، وإنما قال هذا في المقالات الخفية، كما قدمنا من قوله: وهذا إذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال: لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها; فلم يجزم بعد كفره، وإنما قال: قد يقال.
وقوله: قد يقع ذلك في طوائف منهم، يعلم العامة والخاصة، بل اليهود والنصارى، يعلمون أن محمدا بعث بها، وكفر من خالفها، مثل عبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة غيره، فإن هذا أظهر شرائع الإسلام، يعني: فهذا لا يمكن أن يقال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، والأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والنهي
عن عبادة غيره، هو ما نحن فيه، قال تعالى:{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1.
وقوله رحمه الله: بل اليهود والنصارى يعلمون ذلك، حكي لنا عن غير واحد من اليهود في البصرة، أنهم عابوا على المسلمين ما يفعلونه عند القبور، قالوا: إن كان نبيكم أمركم بهذا فليس بنبي، وإن لم يأمركم فقد عصيتموه؛ وعبادة الله وحده لا شريك له، هي أصل الأصول، الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 2، أي: يعبدوني وحدي.
وهو الذي أرسل به جميع الرسل، قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 3، والطاغوت: اسم لكل ما عبد من دون الله، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 4.
وكل رسول أرسله الله، فأول ما يدعوهم إليه هذا التوحيد، قال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 5 {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 6، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا
1 سورة النساء آية: 165.
2 سورة الذاريات آية: 56.
3 سورة النحل آية: 36.
4 سورة الأنبياء آية: 25.
5 سورة الأعراف آية: 59.
6 سورة الأعراف آية: 65.
قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1، {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 2.
فمن جعل شيئا من العبادة لغير الله، فهذا هو الشرك الأكبر، الذي لا يغفره الله، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3؛ فمن زعم أن الله يغفره، فقد رد خبر الله سبحانه.
وحد العبادة وحقيقتها: طاعة الله; فكل قول وعمل ظاهر وباطن يحبه الله فهو عبادة، فكل ما أمر به شرعا، أمر إيجاب، أو استحباب، فهو عبادة؛ فهذا حقيقة العبادة عند جميع العلماء، التي من جعل منها شيئا لغير الله فهو كافر مشرك.
ومما يبين أن الجهل ليس بعذر في الجملة، قوله صلى الله عليه وسلم في الخوارج ما قال، مع عبادتهم العظيمة؛ ومن المعلوم: أنه لم يوقعهم ما وقعوا فيه إلا الجهل، وهل صار الجهل عذرا لهم؟ يوضح ما ذكرنا: أن العلماء من كل مذهب يذكرون في كتب الفقه: باب حكم المرتد، وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه.
وأول شيء يبدؤون به من أنواع الكفر: الشرك، يقولون: من أشرك بالله كفر، لأن الشرك عندهم أعظم
1 سورة الأعراف آية: 73.
2 سورة الأعراف آية: 85.
3 سورة النساء آية: 48.
أنواع الكفر، ولم يقولوا إن كان مثله لا يجهله، كما قالوا فيما دونه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما " سئل: أي الذنب أعظم إثما عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك " 1. فلو كان الجاهل أو المقلد، غير محكوم بردته إذا فعل الشرك، لم يغفلوه؛ وهذا ظاهر.
وقد وصف الله سبحانه، أهل النار بالجهل، كقوله تعالى:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} 2، وقال:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} 3 وقال: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 4.
وقال تعالى: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 5، قال ابن جرير - عند تفسير هذه الآية -: وهذا يدل على أن الجاهل غير معذور؛ ومن المعلوم: أن أهل البدع الذين كفرهم السلف والعلماء بعدهم، أهل علم وعبادة وفهم وزهد، ولم يوقعهم فيما ارتكبوه إلا الجهل.
1 البخاري: تفسير القرآن (4477)، ومسلم: الإيمان (86)، والترمذي: تفسير القرآن (3182 ،3183)، والنسائي: تحريم الدم (4013 ،4014 ،4015)، وأبو داود: الطلاق (2310) ، وأحمد (1/380 ،1/431 ،1/434 ،1/462 ،1/464) .
2 سورة الملك آية: 10.
3 سورة الأعراف آية: 179.
4 سورة الكهف آية: 103-104.
5 سورة الأعراف آية: 30.
والذين حرقهم علي بن أبي طالب بالنار، هل آفتهم إلا الجهل؟ ولو قال إنسان: أنا أشك في البعث بعد الموت، لم يتوقف من له أدنى معرفة في كفره، والشاك جاهل، قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} 1؛ وقد قال الله تعالى عن النصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} 2 الآية. " قال عدي بن حاتم للنبي صلى الله عليه وسلم: ما عبدناهم، قال: أليس يحلون ما حرم الله فتحلونه؟ ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى; قال: فتلك عبادتهم " 3، فذمهم الله سبحانه، وسماهم مشركين، مع كونهم لم يعلموا أن فعلهم معهم هذا عبادة لهم، فلم يعذروا بالجهل.
ولو قال إنسان عن الرافضة في هذا الزمان: إنهم معذورون في سبهم الشيخين وعائشة، لأنهم جهال مقلدون، لأنكر عليهم الخاص والعام. وما تقدم من حكاية شيخ الإسلام رحمه الله، إجماع المسلمين على: أن من جعل بينه وبين الله وسائط، يتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، أنه كافر مشرك، يتناول الجاهل وغيره، لأنه من المعلوم أنه إذا كان إنسان يقر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ويؤمن بالقرآن، ويسمع ما ذكر الله سبحانه في
1 سورة الجاثية آية: 32.
2 سورة التوبة آية: 31.
3 الترمذي: تفسير القرآن (3095) .
كتابه، من تعظيم أمر الشرك، بأنه لا يغفره، وأن صاحبه مخلد في النار، ثم يقدم عليه وهو يعرف أنه شرك، هذا مما لا يفعله عاقل، وإنما يقع فيه من جهل أنه شرك؛ وقد قدمنا كلام ابن عقيل، في جزمه بكفر الذين وصفهم بالجهل فيما ارتكبوه من الغلو في القبور، نقله عنه ابن القيم متحسنا له.
والقرآن يرد على من قال: إن المقلد في الشرك معذور، فقد افترى وكذب على الله، وقد قال الله تعالى عن المقلدين من أهل النار {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} 1، وقال سبحانه حاكيا عن الكفار قولهم:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 2.
وفي الآية الأخرى {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} 3، واستدل العلماء بهذه الآية ونحوها، على أنه لا يجوز التقليد في التوحيد، والرسالة، وأصول الدين، وأن فرضا على كل مكلف أن يعرف التوحيد بدليله، وكذلك الرسالة، وسائر أصول الدين، لأن أدلة هذه الأصول ظاهرة ولله الحمد، لا يختص بمعرفتها العلماء.
وقولك: حتى تقوم عليه الحجة الإسلامية، من إمام
1 سورة الأحزاب آية: 67.
2 سورة الزخرف آية: 22.
3 سورة الزخرف آية: 23.
أو نائبه، معناه: أن الحجة الإسلامية لا تقبل إلا من إمام أو نائبه، وهذا خطأ فاحش، لم يقله أحد من العلماء، بل الواجب على كل أحد قبول الحق ممن قاله كائنا من كان.
ومقتضى هذا: أن من ارتكب أمرا محرما، شركا فما دونه بجهل، وبين له من عنده علم بأدلة الشرع أن ما ارتكبه حرام، وبين له دليله من الكتاب والسنة، أنه لا يلزمه قبوله، إلا أن يكون ذلك من إمام أو نائبه، وأن حجة الله لا تقوم عليه، إلا أن يكون ذلك من الإمام أو نائبه.
وأظنك سمعت هذا الكلام من بعض المبطلين، وقلدته فيه، ما فطنت لعيبه; وإنما وظيفة الإمام أو نائبه: إقامة الحدود، واستتابة من حكم الشرع بقتله، كالمرتد في بلاد الإسلام.
وأظن هذه العبارة مأخوذة، من قول بعض الفقهاء في تارك الصلاة: أنه لا يقتل حتى يدعوه إمام أو نائبه إلى فعلها؛ والدعاء إلى فعل شيء، غير بيان الحجة على خطئه أو صوابه، أو كونه حقا أو باطلا بأدلة الشرع; فالعالم مثلا: يقيم الأدلة الشرعية على وجوب قتل تارك الصلاة، ثم الإمام أو نائبه يدعوه إلى فعلها، ويستتيبه.
وقولك: إنك رأيت كثيرا من هذه الأمور التي نقول إنها شرك، ظاهرة في الشام، والعراق، والحجاز، ولم
تسمع منكرا; فمن رزقه الله بصيرة بدينه، ما راج عليه ذلك؛ والمتعين على الإنسان معرفة الحق بدليله، فإذا عرف الحق بالأدلة الشرعية، عرض أعمال الناس عليه، فما وافق الحق عرفه وقبله، وما خالفه رده، ولا يغتر بكثرة المخالف.
"قال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أترى أننا نظن أنك على الحق، وفلانا على باطل؟ فقال علي: ويحك يا فلان! الحق لا يعرف بالرجال; اعرف الحق، تعرف أهله"
وقد سبق كلام ابن القيم، في وصفه لزمانه، وقوله: غلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل، وخفاء العلم، وصار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء، وغلب السفهاء; هذا وصفه لزمانه، فما ظنك بأهل زمان بعده بخمسمائة عام؟
لأنه لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه، بخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم مع قوله:" لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة " 1 مع أننا قد سمعنا، وبلغنا عن كثير من علماء الزمان، إنكار هذه البدعة الشركية، سمعنا في الحرمين واليمن، وبلغنا عن أناس في مصر والشام، إنكار هذه المحدثات، لكن همتهم تقصر عن إظهار ذلك،
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456)، ومسلم: العلم (2669) ، وأحمد (3/84 ،3/89) .
لأن عمارة هذه المشاهد الشركية، أكثرها من تحت أيدي ولاة الأمور، وأهل الدنيا، ووافقهم على ذلك، وزينه لهم بعض علماء السوء; وبسبب ذلك: استحكم الشر، وتزايد، والشر في زيادة، والخير في نقصان.
وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " هلكت بنو إسرائيل على يدي قرائهم وفقهائهم، وستهلك هذه الأمة على يدي قرائها وفقهائها "؛ فما أصدق قول عبد الله بن المبارك، رحمه الله تعالى:
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها
ومما يبين لك عدم الاغترار بالكثرة، أن أكثر هذه الأمصار التي ذكرت، مخالفون للصحابة والتابعين، وأئمة الإسلام - خصوصا الإمام أحمد ومن وافقه - في صفات الرب تبارك وتعالى، يتأولون أكثر الصفات، بتحريف الكلم عن مواضعه.
من ذلك، قولهم: إن الله لا يتكلم بحرف وصوت، وأن حروف القرآن مخلوقة، ويقولون: الإيمان مجرد التصديق; وكلام السلف والأئمة في ذم أهل هذه المقالات كثير; وكثير منهم صرح بكفرهم; وأكثر الأئمة ذما لهم وتضليلا: الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وأفاضل أصحابه بعده.
وأكثر أهل هذه الأمصار اليوم، على خلاف ما عليه السلف والأئمة; ومن له بصيرة بالحق، لم يغتر بكثرة المخالف، فإن أهل الحق هم أقل الناس فيما مضى، فكيف بهذه الأزمان التي غلب فيها الجهل، وصار بسبب ذلك المعروف منكرا، والمنكر معروفا؟
نسأل الله أن يهدينا وإخواننا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، من النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وصلى الله على محمد.
وسئل أيضا: الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله تعالى، قال السائل: إن قال قائل: تقرون أن إجماع الأمة حجة، وأنها لا تجتمع على ضلالة، وأنتم قد خالفتم جميع العلماء، من أهل الأمصار قاطبة، وادعيتم ما لم يدعه غيركم، وأنكرتم ما لم ينكر في جميع الأرض، وافتريتم أمرا أنكرته جميع علماء الأمة؛ والإشارة هنا إلى التوحيد، وما دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وتكفير من أشرك بالله في ألوهيته عند المشاهد وغيرها، فما الجواب لذلك؟
فأجاب قدس الله روحه: أما دعوى هذا المبطل إجماع العلماء على جواز دعاء أهل القبور، والاستغاثة بهم، والتقرب إليهم بالنذور والذبائح، فهذا كذب ظاهر؛
وشبهته: أن هذه الأمور ظاهرة في جميع الأمصار، ولم يسمعوا أن عالما أنكره; فيقال: بل أنكره كثير من علماء هذا الزمان، ووافق عليه خواص من علماء الحرمين واليمن، وسمعنا منهم مشافهة، ولكن الشوكة لغيرهم.
وصنف فيه جماعة، كالنعمى من أهل اليمن، له مصنف في ذلك حسن، وكذلك الشوكاني، ومحمد بن إسماعيل، وغيرهم; ورأيت مصنفا لعالم من أهل جبل سليمان في إنكار ذلك؛ وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين " 1، وليس المراد الظهور بالسيف، بل بالحجة دائما وبالسيف أحيانا.
ولو قال هذا المجادل: إن أكثر الناس على ما يرى، لكان صادقا، وهذا مصداق الحديث:" بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ "2.
وأيضا: فالبناء على القبور، وإسراجها، وتجصيصها، ظاهر غالب في الأمصار التي نعرف، مع أن النهي عن ذلك، ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ومنصوص على النهي عنه، في جميع المذاهب; فهل يمكن هذا المبطل، أن يقول: إن الأمة مجمعة على جواز ذلك، لكونه ظاهرا في الأمصار؟ والله سبحانه إنما افترض على الخلق طاعته، وطاعة رسوله، وأمرهم أن يردوا إلى كتابه وسنة رسوله، ما تنازعوا فيه؛ وأجمع العلماء على أنه لا يجوز التقليد، في
1 مسلم: الإمارة (1920)، والترمذي: الفتن (2229)، وابن ماجه: المقدمة (10) والفتن (3952) ، وأحمد (5/279) .
2 مسلم: الإيمان (145)، وابن ماجه: الفتن (3986) ، وأحمد (2/389) .
التوحيد والرسالة.
فإذا عرف أن الشرك عبادة غير الله، وعرف معنى العبادة، وأنها كل قول وعمل يحبه الله ويرضاه، ومن أعظم ذلك الدعاء، لأنه مخ العبادة، وعلم ما يفعل عند القبور، من دعاء أصحابها بسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والتقرب إليهم بالنذور والذبائح، عرف أن هذا هو الشرك الأكبر، الذي هو عبادة غير الله تعالى; فإذا تحقق الإنسان ذلك، عرف الحق، ولم يبال بمخالفة أكثر الناس، ويعتقد أن الأمة لا تجتمع على ذلك، لأنه ضلالة.
فإن قال هذا المجادل: إن هذه الأفعال التي تفعل عند القبور، وعلى القبور، جائزة شرعا، فهو محاد لله ولرسوله; وإن قال: هذه الأمور لا تجوز، لكنها ليست شركا، مع دعواه أن علماء الزمان أجمعوا على ذلك، فيلزمه أن الأمة أجمعت على ضلالة; والإنسان إذا تبين له الحق، لم يستوحش من قلة الموافقين، وكثرة المخالفين، لا سيما في آخر هذا الزمان.
وقول الجاهل: لو كان هذا حقا ما خفي على فلان وفلان، هذه دعوى الكفار، في قولهم:{لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} 1، {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} 2؛ وقد قال علي رضي الله عنه:"اعرف الحق تعرف أهله". وأما الذي في حيرة ولبس، فكل شهبة
1 سورة الأحقاف آية: 11.
2 سورة الأنعام آية: 53.
تروج عليه؛ فلو كان أكثر الناس اليوم على الحق، لم يكن الإسلام غريبا، وهو والله اليوم في غاية الغربة.
ولما ذكر ابن القيم رحمه الله نوع الشرك وظهوره، قال: فما أعز من تخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره؟! يعني: ما أقل من لا يعادي من أنكره! وهذا قوله في زمانه، ولا يأتي عام إلا وما بعده شر منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وقد نقلنا في الأوراق التي كتبناها - وهي عندكم - طرفا من كلام العلماء في أنواع الشرك.
ومن ذلك قول: شيخ الإسلام تقي الدين رضي الله عنه: فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط، يدعوهم ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع، ودفع المضار، فهو كافر بإجماع المسلمين، انتهى; وهذا هو الذي يفعل اليوم عند هذه المشاهد، وهذا أظهر أمور الدين; ولكن {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 1.
ونسأل الله أن يهدينا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، من النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين.
[كلا م الشيخ عبد الله أبا بطين في تكفير المعين]
وقال أيضا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، نقول في تكفير المعين: ظاهر الآيات، والأحاديث، وكلام جمهور العلماء تدل على كفر من أشرك بالله فعبد معه غيره، ولم تفرق الأدلة بين المعين وغيره، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا
1 سورة النور آية: 40.
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 1، وقال تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 2، وهذا عام في كل واحد من المشركين.
وجميع العلماء في كتب الفقه، يذكرون حكم المرتد، وأول ما يذكرون من أنواع الكفر والردة: الشرك، فقالوا: إن من أشرك بالله كفر، ولم يستثنوا الجاهل، ومن زعم لله صاحبة أو ولدا كفر، ولم يستثنوا الجاهل، ومن قذف عائشة كفر، ومن استهزأ بالله أو رسله أو كتبه، كفر إجماعا، لقوله تعالى:{لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 3؛ ويذكرون أنواعا كثيرة مجمعا على كفر صاحبها، ولم يفرقوا بين المعين وغيره.
ثم يقولون: فمن ارتد عن الإسلام قتل بعد الاستتابة، فحكموا بردته قبل الحكم باستتابته، فالاستتابة بعد الحكم بالردة، والاستتابة إنما تكون لمعين; ويذكرون في هذا الباب، حكم من جحد وجوب واحدة من العبادات الخمس، أو استحل شيئا من المحرمات، كالخمر والخنْزير ونحو ذلك، أو شك فيه يكفر، إذا كان مثله لا يجهله.
ولم يقولوا ذلك في الشرك ونحوه مما ذكرنا بعضه، بل أطلقوا كفره ولم يقيدوه بالجهل، ولا فرقوا بين المعين وغيره، وكما ذكرنا أن الاستتابة إنما تكون لمعين؛ وهل يجوز لمسلم أن يشك في كفر من قال: إن لله صاحبة أو
1 سورة النساء آية: 48.
2 سورة التوبة آية: 5.
3 سورة التوبة آية: 66.
ولدا، أو أن جبرائيل غلط في الرسالة، أو ينكر البعث بعد الموت، أو ينكر أحدا من الأنبياء، وهل يفرق مسلم بين المعين وغيره في ذلك ونحوه، وقد قال صلى الله عليه وسلم:" من بدل دينة فاقتلوه " 1، وهذا يعم المعين وغيره.
وأعظم أنواع تبديل الدين: الشرك بالله بعبادة غيره، لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 2، ولقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الذنب أعظم؟ أي: عند الله، قال:(أن تجعل لله ندا وهو خلقك)3.
وأما قول الشيخ في موضع من كلامه، لما ذكر الشرك، قال: ولكن لغلبة الجهل في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فالظاهر أن مراده المعين، لجزمه في غير موضع بكفر من فعل الشرك، ولم يتوقف في تكفيره حتى يبين له ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم،
لقوله في مسألة الوسائط: فمن جعل الملائكة أو الأنبياء وسائط، يدعوهم ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكربات، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين، إلى أن قال: فمن أثبت وسائط بين الله وبين خلقه، كالوسائط الذين يكونون بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه،
1 البخاري: الجهاد والسير (3017)، والترمذي: الحدود (1458)، والنسائي: تحريم الدم (4059 ،4060 ،4061 ،4062 ،4064 ،4065)، وأبو داود: الحدود (4351)، وابن ماجه: الحدود (2535) ، وأحمد (1/217 ،1/282 ،1/322) .
2 سورة النساء آية: 48.
3 البخاري: تفسير القرآن (4477)، ومسلم: الإيمان (86)، والترمذي: تفسير القرآن (3182 ،3183)، والنسائي: تحريم الدم (4013 ،4014 ،4015)، وأبو داود: الطلاق (2310) ، وأحمد (1/380 ،1/431 ،1/434 ،1/462 ،1/464) .
بمعنى: أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس، لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدبا منهم، أن يباشروا سؤال الملك، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع من طلبهم من الملك، لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك، يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
فانظر قوله: فهو كافر بإجماع المسلمين، فجزم بكفر من هذه حاله، وأنه إجماع المسلمين، ولم يقل في هذا الموضع لم يمكن تكفير من فعل ذلك حتى يبين له ما جاء به الرسول، وقوله: فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك، يجب أن يستتاب، فجزم بكفره قبل الاستتابة.
وكلامه في هذا الموضع نقله صاحب "الفروع" فيه، وكذا صاحب "الإنصاف" و"الإقناع" وغيرهم؛ وهذا الذي ذكر الشيخ أن من فعله كافر بإجماع المسلمين، هو الذي يفعل اليوم عند هذه المشاهد المشهورة في أكثر بلاد الإسلام، بل زادوا على ذلك أضعافه، وضموا إلى ذلك الذبح والنذر لهم، وبعضهم زاد السجود لهم في الأرض.
فنقول: كل من فعل اليوم ذلك عند هذه المشاهد،
فهو مشرك كافر بلا شك، بدلالة الكتاب والسنة والإجماع؛ ونحن نعلم أن من فعل ذلك ممن ينتسب إلى الإسلام، أنه لم يوقعهم في ذلك إلا الجهل، فلو علموا أن ذلك يبعد عن الله غاية الإبعاد، وأنه من الشرك الذي حرمه الله، لم يقدموا عليه، فكفرهم جميع العلماء، ولم يعذروهم بالجهل، كما يقول بعض الضالين: إن هؤلاء معذورون لأنهم جهال.
وهذا قول على الله بغير علم، معارض بمثل قوله تعالى:{فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1 الآية، {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} 2 الآيتين.
وكذلك الخوارج، ورد فيهم الذم العظيم، مع أنهم ما ارتكبوا ما ارتكبوا إلا عن جهل، ولم يعذروا بذلك؛ وهذا جواب لمن يعترف بأن ما يفعلون شرك.
وأما كثير من الناس، فيقولون: ما يقوله هؤلاء الضالون عند المشاهد، ليس بشرك، بل يقول إنه جائز، أو إنه مستحب، كما يزعمه بعض أئمة الضالين.
وأما قول الشيخ: ولكن لغلبة الجهل في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم
…
إلخ، فهو لم يقل إنهم
1 سورة الأعراف آية: 30.
2 سورة الكهف آية: 103.
معذورون، ولكن هذا توقف منه في إطلاق الكفر عليهم قبل التبيين؛ فيجمع بين كلامه بأن يقال: إن مراده أننا إذا سمعنا من إنسان كلام كفر، أو وجدناه في كلام بعض الناس المنظوم، أو المنثور، أننا لا نبادر في تكفير من رأينا منه ذلك؛ أو سمعناه حتى نبين له الحجة الشرعية، وهذا مع قولنا: إن هؤلاء الغلاة الداعين للمقبورين، أو الملائكة، أو غيرهم، الراغبين إليهم في قضاء حوائجهم، مشركون كفار.
وأما تبيين ما جاء به الرسول لعباد القبور، فلا يمكن اليوم، لأن هذه أمور نشأ عليها الصغير، وهرم عليها الكبير، وقوّى ذلك في نفوسهم أئمة ضلال، زينوا لهم هذا الصنيع؛ فلو يقوم إنسان بين هؤلاء الغلاة، يبين لهم ضلالهم، تبادروا إلى قتله، لأن الفتنة عظمت بسبب من ينتسب إلى علم، يزينون ذلك للناس.
وولاة الأمور يبنون مشاهد الشرك، ويعمرونها، ويقفون عليها الأوقاف، فتبيين ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن إلا من عالم يعرفونه، أو يعظمونه، فقد يحتملون منه؛ ولكن الأمر كما ورد في الحديث:"إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين " 1، وورد أن هلاك هذه الأمة، على يدي قرائها وفقهائها، والله أعلم.
[من لا يعرف معنى الإيمان والكفر ولكنه يلتزم الشرائع]
وسئل أيضا: عمن لا يعرف الإيمان بالله ولا معنى
1 الترمذي: الفتن (2229)، وأبو داود: الفتن والملاحم (4252)، وابن ماجه: الفتن (3952) ، وأحمد (5/278 ،5/284)، والدارمي: المقدمة (209) .
الكفر بالطاغوت، وهذه حالة الأكثر ممن لدينا يدعي الإسلام، ويلتزم شرائعه الظاهرة، ويزعم حب أهل الحق، وينتسب إليهم على الإجمال، وأما على التفصيل، فيبغض أهل التوحيد، ويمقتهم، ويرى منهم الخطأ في الأمور التي تخالف عادته، وما يعرفه، فيعتقد خلاف ما عرف خطأ،.
لأن الذي في ذهنه أن ما عرف الناس عليه هو الدين، ولا يعرف دليلا يرد عليه، ولا يرعوي ولا يلتفت إليه، لأنه يرى الدين ما تظاهر به المنتسبون، فما حال من هذا وصفه؟
ومنهم كثير يصرحون بالبغض والعداوة لأهل الحق، ويحرصون على اتباع عوراتهم، والوقوع في عثراتهم، ونرى مثل هؤلاء الواقع منهم هذا المذكور، مع عدم معرفة أصل الإسلام كفارا، لأنهم لم يعرفوا الإسلام أولا، وثانيا عادْوا أهله وأبغضوهم، ورأوا الدين ما عليه أكثر المنتسبين، فهل رأيُنا فيهم صواب أم لا؟
وبينوا حال الصنف الأول لنا أيضا، هل يطلق عليهم الكفر أم لا؟ وفيمن يزعم أن النفاق لا يوجد في هذه الأمة، بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو قريبا منه، ثم بعد ذلك لا يوجد إلا الإسلام المحض، ويحتج بما رواه البخاري عن عبد الله بن عقبة بن مسعود، قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (إن ناسا يؤاخذون في الوحي وإن
الوحي قد انقطع؛ فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته من شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا، لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة) .
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (إنما النفاق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأما اليوم إنما هو الكفر والإيمان) رواه البخاري، ما الجواب عن قول حذيفة؟ وعن قول عمر؟ وما علامات النفاق، الذي يصير به الرجل في الدرك الأسفل من النار؟
فأجاب رحمه الله تعالى: حكم الصنفين المسؤول عنهما، الموصوفة حالهما، يرجع إلى شيء واحد، وهو: إن كان الرجل يقر بأن هذه الأمور الشركية التي تفعل عند القبور وغيرها، من دعاء الأموات، والغائبين، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والتقرب إليهم بالنذور، والذبائح أن هذا شرك وضلال، ومن أنكره هو المحق، ومن زينه ودعا إليه فهو شر من الفاعل، فهذا يحكم بإسلامه، لأن هذا معنى الكفر بالطاغوت، والكفر بما يعبد من دون الله.
فإذا اعترف أن هذه الأمور وغيرها من أنواع العبادة، محض حق الله تعالى، لا تصلح لغيره، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلا عن غيرهما، فهذا حقيقة
الإيمان بالله، والكفر بما يعبد من دون الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم:" من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله تعالى "1.وفرض على كل أحد معرفة التوحيد، وأركان الإسلام بالدليل.
ولا يجوز التقليد في ذلك، لكن العامي الذي لا يعرف الأدلة، إذا كان يعتقد وحدانية الرب سبحانه، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤمن بالبعث بعد الموت، وبالجنة والنار، وأن هذه الأمور الشركية التي تفعل عند هذه المشاهد، باطلة وضلال، فإذا كان يعتقد ذلك اعتقادا جازما لا شك فيه، فهو مسلم وإن لم يترجم بالدليل، لأن عامة المسلمين ولو لقنوا الدليل، فإنهم لا يفهمون المعنى غالبا.
ذكر النووي في شرح مسلم، في الكلام على حديث ضمام بن ثعلبة، قال: قال أبو عمرو بن الصلاح، فيه دلالة لما ذهب إليه أئمة العلماء، من أن العوام المقلدين مؤمنون، وأنه يكتفى منهم بمجرد اعتقاد الحق، جزما من غير شك وتزلزل، خلافا لمن أنكر ذلك من المعتزلة، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم قرر ضمام على ما اعتمد عليه في معرفة رسالته، وصدقه، ومجرد إخباره إياه بذلك، ولم ينكر عليه ذلك، ولا قال يجب عليك النظر في معجزاتي، والاستدلال بالأدلة القطعية، انتهى.
وأما من قال: إن هذه الأمور التي تفعل عند هذه
1 مسلم: الإيمان (23) ، وأحمد (3/472 ،6/394) .
المشاهد، من دعاء غير الله، والنذر، والذبح لهم، إن هذا ليس بحرام، فإطلاق الكفر على هذا النوع لا بأس به، بل هذا كفر بلا شك، وأما من يوافق في الظاهر، على أن هذه الأمور شرك، ويبطن خلاف ذلك، فهو منافق نفاقا أكبر، فإن كان يظهر منه بغض من قام بهذه الدعوة الإسلامية عامة، فهذا دليل نفاقه.
قال بعض العلماء، في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الأنصار:" لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق " 1، قال: فمن أبغض من قام لنصرة دين الله وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم استحق هذا الوصف، وهو النفاق، وأما من يبغض بعضا دون بعض، فقد يكون ذلك لسبب غير الدين.
وأما من صرح بالسب، فقد قال شيخ الإسلام تقي الدين، رحمه الله تعالى، فيمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: اختلف العلماء في حكمهم على قولين، قيل: بكفرهم، وقيل: بفسقهم; وتوقف أحمد في كفره وقتله، وقال: يعاقب ويجلد، ويحبس حتى يموت، أو يرجع عن ذلك; قال: وهذا هو المشهور من مذهب مالك، انتهى.
فإذا كان هذا كلامهم في الذي يسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذين أثنى الله عليهم ورضي عنهم، فغيرهم دونهم، ولم يقل أحد من العلماء بكفر من سب غيرهم ولا قتله؛ ولهذا قال الأصحاب: من سب إماما عدلا، أو عدلا
1 البخاري: المناقب (3783)، ومسلم: الإيمان (75)، والترمذي: المناقب (3900) ، وأحمد (4/283 ،4/292) .
غيره عزر.
وأما قول من قال: إن النفاق لا يوجد إلا في أفضل القرون، فهذا جاهل بحقيقة النفاق، ضال أو معاند فاجر، بل كافر إذا قال: إنه لا يوجد بعد ذلك إلا الإسلام المحض; وصاحب هذا القول مكذب لله ورسوله، ولجميع علماء أهل السنة والجماعة. فإنهم أجمعوا على كفر الاتحادية، الذين يقولون: الخالق هو المخلوق; وكذلك أجمعوا على تكفير الحلولية، الذين يقولون: إن الله بذاته في كل مكان; وهاتان الطائفتان، منتشرون في أمصار المسلمين.
ولما ذكر صاحب "الإقناع" حكم هاتين الطائفتين، قال شارحه: وقد عمت البلوى بهذه الفرق، فأفسدوا كثيرا من عقائد أهل التوحيد، فأخبر الشارح بكثرة هؤلاء المجمع على كفرهم.
وذكرنا هاتين الطائفتين، وكذا من قذف عائشة رضي الله عنها، أو ادعى أن جبرئيل غلط ونحو ذلك، مما لا يقدر أحد على إنكاره.
وأما أمر الشرك، فالكلام معهم فيه يطول، وكفى هذا فضيحة قوله: إن الكفر والنفاق يوجد في القرن الأول، ويستحيل وجوده فيما بعده، وهذا في حقيقة أمره ينكر على
الفقهاء، وضعهم "باب حكم المرتد" إذا لم يكن إلا الإسلام المحض، فيلزم تخطئتهم، بأن نقول: لا كفر ولا نفاق، بعد القرون الأُوَل الأفاضل.
وأما احتجاج بعضهم بقول عمر رضي الله عنه:"إن الناس كانوا يؤاخذون بالوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم"
…
إلخ، فأي حجة له في هذا، على نفي الكفر والنفاق عن الأمة؟ وإنما هذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم فيمن أتى بشرائع الإسلام، حيث قال:" وحسابهم على الله تعالى "1.
ومراد عمر رضي الله عنه أن من رأينا عمله حسنا، ولم نر منه ما يعاب، أمناه وقربناه، وحسابه في سريرته إلى الله، ومن رأينا منه ما يكرهه الله، من المعاصي، كشرب الخمر، وشهادة الزور، والكذب، والنميمة، والغيبة، وغير ذلك من الذنوب، أو إخلال في فرض، لم نأمنه ولم نقربه، وإن قال سريرته حسنة.
فقوله: من أظهر لنا سوءا، أي: من اطلعنا منه على ذلك، وعلمناه، ليس مراده أنه يظهر ذلك ويجاهر به، كما يقول العلماء في الشاهد، إذا علم منه ما يقدح في شهادته ردت شهادته، وإن كان لا يظهر إلا الخير.
وكذا إذا رأينا من ظاهره الخير، لكن رأيناه يألف الفسقة، أو أهل البدع والضلال، قلنا هذه خصلة سوء يتهم
1 البخاري: الإيمان (25)، ومسلم: الإيمان (22) .
بها، وإن قال سريرته حسنة، نقل أبو داود، عن الإمام أحمد رحمه الله، في الرجل يمشي مع المبتدع، لا تكلمه; ونقل غيره إذا سلم على المبتدع فهو يحبه.
وقال أحمد رحمه الله: إنما هجر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة، لأنه اتهمهم بالنفاق، فكذلك كل من خفنا عليه، وهذا الذي ينكر وجود النفاق، سببه: عدم معرفة الإسلام وضده; وحقيقة النفاق: إظهار الخير وإسرار ضده.
فإذا كان إنسان عند أهل السنة، يظهر بطلان مذهب الاتحادية، والحلولية ونحوهم، وهو يعتقد في الباطن صحة بعض هذه المذاهب، فهو منافق نفاقا أكبر؛ وكذا إذا أظهر تضليل غلاة الرافضة، وهو في الباطن يرى رأيهم، فهو منافق؛ وكذا من اعترف بصحة هذا الأمر، الذي ندعو إليه، وهو التوحيد وإفراد الله بالعبادة، يعترف به ظاهرا، ويبطن خلافه، فهو منافق نفاقا أكبر.
وأما قول حذيفة، فهو كما روي عنه من وجه آخر، أنه قال:(المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفون نفاقهم، وهم اليوم يظهرونه)، ومراد حذيفة: أنهم في زمانه تبدو منهم أمارات ظاهرة، بخلاف حالهم زمن النبوة; وقال:(إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يصير بها منافقا، وإني لأسمعها من أحدكم في اليوم، أو المجلس، عشر مرات) .
"وسمع حذيفة رجلا يقول: اللهم أهلك المنافقين; فقال: يا ابن أخي، لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم، من قلة السالكين".
وهذا النافي للنفاق عن جميع الأمة، قائل بغير علم، كاذب، وما يدريه أنه ليس في الأمة حاضرها وباديها منافق، لأن من أظهر الإسلام وهو يشك في البعث بعد الموت، أو في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فهو منافق نفاقا أكبر؛ وهل اطلع هذا المتخرص على قلوب الأمة، شرقا وغربا؟ وهل يأمن على نفسه من النفاق، بأن يزيغ قلبه إذا زاغ عن الحق؟ {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} 1.
وقد أثنى الله سبحانه على الراسخين في العلم، بسؤالهم إياه أن لا يزيغ قلوبهم، في قولهم:{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} 2؛ ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك. فقيل له: أوتخاف عليك؟ قال: نعم، ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه "3.
ومن دعائه صلى الله عليه وسلم عند الانتباه من النوم: " ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني ".4 قيل للإمام أحمد: ما تقول فيمن لا يخاف
1 سورة الصف آية: 5.
2 سورة آل عمران آية: 8.
3 الترمذي: الدعوات (3522) ، وأحمد (6/294 ،6/301 ،6/315) .
4 أبو داود: الأدب (5061) .
النفاق على نفسه؟ فقال: ومن يأمن على نفسه النفاق؟ وروي عن الحسن: أنه: (حلف ما مضى مؤمن قط أو بقي، إلا وهو من النفاق خائف، ولا مضى منافق قط، ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن"؛ وكلام السلف في هذا كثير.
ويكفي في بطلان قول هذا إثباته الكفر والنفاق، في أفضل قرون الأمة، ونفي ذلك عن القرون التي وصفها صلى الله عليه وسلم بأنها شر إلى يوم القيامة; ويفضح شبهة هذا، وشبهة من قال إنه يستحيل وجود الكفر في أرض العرب: ما ثبت في صحيح مسلم، من حديث أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ليس من بلد إلا سيطوله الدجال إلا مكة والمدينة، وما من نقب من أنقابهما إلا وعليه الملائكة حافين تحرسهما، فينْزل السبخة، فترجف المدينة ثلاث رجفات، يخرج الله تعالى منها كل كافر ومنافق"
فأخبر صلى الله عليه وسلم أن في المدينة إذ ذاك كفارا ومنافقين، موجودين قبل خروج الدجال، فإذا كان هذا حال المدينة، فغيرها أولى وأحرى، والله أعلم.
[من كفر مسلما]
وسئل: عما يروى: "من كفر مسلما فقد كفر"؟
فأجاب: لا أصل لهذا اللفظ فيما نعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما الحديث المعروف:" من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما " 1، ومن كفر إنسانا أو فسقه، أو نفقه متأولا غضبًا لله تعالى، فيرجى العفو عنه، كما قال عمر رضي الله
1 البخاري: الأدب (6104)، ومسلم: الإيمان (60)، والترمذي: الإيمان (2637)، وأبو داود: السنة (4687) ، وأحمد (2/112)، ومالك: الجامع (1844) .
عنه، في شأن حاطب بن أبي بلتعة، أنه منافق; وكذا جرى من غيره من الصحابة وغيرهم، وأما من كفر شخصا، أو نفقه غضبا لنفسه، أو بغير تأويل، فهذا يخاف عليه.
وأما من جعل سبيل الكفار أهدى من سبيل المؤمنين، فإن كان مراده حال أهل الزمان اليوم، كأن يقول: إن فعل مشركي الزمان عند القبور وغيرها، أحسن ممن لا يدعو إلا الله، ولا يدعو غيره، فهذا كافر بلا شك; وكذا قولنا: إن فعل مشركي الزمان عند القبور، من دعاء أهل القبور، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والذبح، والنذر لهم، وقولنا: إن هذا شرك أكبر، وأن من فعله فهو كافر، والذين يفعلون هذه العبادات عند القبور، كفار بلا شك.
وقول الجهال: إنكم تكفرون المسلمين، فهذا ما عرف الإسلام، ولا التوحيد، والظاهر عدم صحة إسلام هذا القائل؛ فإن لم ينكر هذه الأمور، التي يفعلها المشركون اليوم، ولا يراها شيئا، فليس بمسلم.
[من يرتكب شيئا من المكفرات]
وسئل أيضا: عمن يرتكب شيئا من المكفرات
…
إلخ؟
فأجاب: ما سألت عنه، من أنه هل يجوز تعيين إنسان بعينه بالكفر، إذا ارتكب شيئا من المكفرات، فالأمر
الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع العلماء على أنه كفر، مثل الشرك بعبادة غير الله سبحانه، فمن ارتكب شيئا من هذا النوع أو جنسه، فهذا لا شك في كفره.
ولا بأس بمن تحققت منه شيئا من ذلك، أن تقول: كفر فلان بهذا الفعل، يبين هذا: أن الفقهاء يذكرون في باب حكم المرتد أشياء كثيرة، يصير بها المسلم كافرا، ويفتتحون هذا الباب بقولهم: من أشرك بالله كفر، وحكمه أنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، والاستتابة إنما تكون مع معين.
ولما قال بعض أهل البدع عند الشافعي: إن القرآن مخلوق; قال: كفرت بالله العظيم; وكلام العلماء في تكفير المعين كثير.
وأعظم أنواع الكفر: الشرك بعبادة غير الله، وهو كفر بإجماع المسلمين، ولا مانع من تكفير من اتصف بذلك، كما أن من زنى قيل: فلان زان، ومن رابى: قيل: فلان مراب.
وأما قولك: إذا ظهر من إنسان الكفر، وقامت عليه الحجة، وامتنع إنسان من تكفيره، فكأنك تشير إلى حال أهل هذه المشاهد، التي يقع عندها الشرك الأكبر; ومن المعلوم: أنه لا يصح إسلام إنسان، حتى يكفر بالطاغوت، وهو كل ما عبد من دون الله، قال تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 1. وفي الحديث الصحيح: " من قال لا إله
1 سورة البقرة آية: 256.
إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه " 1؛ والكفر بذلك: البراءة منه، واعتقاد بطلانه.
وقال أيضا الشيخ عبد الله أبا بطين: وأما قول القائل: إن دعاءهم الأموات، وسؤالهم قضاء الحاجات، مجاز، والله سبحانه هو المسؤول حقيقة، فهذا حقيقة قول المشركين:{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3، فهم يسألون الوسائط، زاعمين أنهم يشفعون لهم عند الله، في قضاء حوائجهم;
قال شيخ الإسلام، تقي الدين، رحمه الله: فمن جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم ويتوكل عليهم، ويسألهم، كفر إجماعا.
وأما قول من يقول: إن الآيات التي نزلت بحكم المشركين الأولين، فلا تتناول من فعل فعلهم، فهذا كفر عظيم، مع أن هذا قول، ما يقوله إلا "ثور" مرتكس في الجهل، فهل يقول: إن الحدود المذكورة في القرآن والسنة، لأناس كانوا وانقرضوا؟ فلا يحد الزاني اليوم، ولا تقطع يد السارق، ونحو ذلك، مع أن هذا قول يستحيا من ذكره; أفيقول هذا: إن المخاطبين بالصلاة والزكاة، وسائر شرائع الإسلام، انقرضوا، وبطل حكم القرآن؟!
وأما قول من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره ينجي من عذاب الله، أو يغني من الله شيئا، فهذا كفر، يحكم بكفر
1 مسلم: الإيمان (23) ، وأحمد (3/472 ،6/394) .
2 سورة يونس آية: 18.
3 سورة الزمر آية: 3.
صاحبه بعد تعريفه إن كان جاهلا؛ بل أبلغ من ذلك لو قال: إن أحدا يشفع عند الله من غير إذنه له، فهو كافر.
[من فعل الشرك فهو مشرك]
وسئل أيضا: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، عن قول الصنعاني: إنه لا ينفع قول من فعل الشرك: أنا لا أشرك بالله
…
إلخ؟
فأجاب، يعني: أنه إذا فعل الشرك فهو مشرك، وإن سماه بغير اسمه، ونفاه عن نفسه.
وقوله: وقد صرح الفقهاء في كتبهم، بأن من تكلم بكلمة الكفر، يكفر، إن لم يقصد معناها، فمرادهم بذلك: أن من يتكلم بكلام كفر، مازحا أو هازلا، وهو عبارة كثير منهم، في قولهم: من أتى بقول، أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين، وإن كان مازحا، لقوله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 1.
وأما من تكلم بكلمة كفر، لا يعلم أنها كفر، فعرِّف بذلك فرجع، فإنه لا يحكم بكفره، كالذين قالوا: اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط; وقوله: فصاروا كفارا، كفرا أصليا، يعني: أنهم نشؤوا على ذلك، فليس حكمهم كالمرتدين الذين كانوا مسلمين، ثم صدرت منهم هذه
1 سورة آية: 65-66.
الأمور الشركية.
[الإكراه على فعل مكفر]
وسئل: عن الإكراه على فعل مكفر
…
إلخ؟
فأجاب: الظاهر من كلام الفقهاء أنه في حكم المرتد، حيث قالوا: إنه يكفر بعد إسلامه، بقول، أو فعل، أو شك، أو اعتقاد; واشترطوا كونه طوعا، ولم يقيدوه بالقول; قال ابن رجب، في شرح الأربعين: ولو أكره على شرب الخمر، أو غيره من الأفعال المحرمة، ففي إباحته بالإكراه قولان، إلى أن قال:
والقول الثاني: أن التقية بالأقوال، ولا تقية بالأفعال، روي ذلك عن ابن عباس، وجماعة من التابعين، ذكرهم، وهو رواية عن أحمد، إلى أن قال: وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوصى طائفة من أصحابه، وقال:" لا تشركوا بالله، وإن قطعتم، أو حرقتم "، فالمراد: الشرك بالقلوب؛ فظاهر كلامه: أن الإكراه في الفعل، كالقول، لقوله تعالى:{وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} 1،والله أعلم.
[الصلاة خلف الجهمية]
وسئل الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهما الله، عما أورده بعض الملحدين: أنه نسب عن شيخ الإسلام أنه ذكر عن الإمام أحمد: أنه كان يصلي خلف الجهمية
…
إلخ؟
1 سورة النحل آية: 106.
فأجاب: هذا لو سلم، من أوضح الواضحات عند طلبة العلم، وأهل الأثر; وذلك: أن الإمام أحمد وأمثاله من أهل العلم والحديث، لا يختلفون في تكفير الجهمية، وأنهم ضلال زنادقة؛ وقد ذكر من صنف في السنة تكفيرهم عن عامة أهل العلم والأثر، وعد اللالكائي رحمه الله منهم عددا، يتعذر ذكرهم في هذه الرسالة. وكذا عبد الله بن الإمام أحمد، في كتاب السنة، والخلال في كتاب السنة، وابن أبي مليكة في كتاب السنة؛ وإمام الأئمة ابن خزيمة قرر كفرهم، ونقله عن أساطين الأئمة، وقد حكى كفرهم شمس الدين ابن القيم في كافيته، عن خمسمائة من أئمة المسلمين وعلمائهم، والصلاة خلفهم لا سيما صلاة الجمعة، لا تنافي القول بتكفيرهم، لكن تجب الإعادة حيث لا تمكن الصلاة خلف غيرهم؛ والرواية المشهورة عن الإمام أحمد، هي المنع من الصلاة خلفهم.
وقد يفرق بين من قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها، وبين من لا شعور له بذلك؛ وهذا القول يميل إليه شيخ الإسلام في المسائل التي قد يخفى دليلها على بعض الناس. على هذا القول: فالجهمية في هذه الأزمنة، قد بلغتهم الحجة، وظهر الدليل، وعرفوا ما عليه أهل السنة، واشتهرت الأحاديث النبوية، وظهرت ظهورا ليس بعده إلا المكابرة والعناد، وهذا حقيقة الكفر والإلحاد.
كيف: لا؟ وقولهم يقتضي من تعطيل الذات والصفات، والكفر بما اتفقت عليه الرسالة والنبوات، وشهدت به الفطر السليمات، ما لا يبقى معه حقيقة للربوبية والإلهية، ولا وجود للذات المقدسة، المتصفة بجميل الصفات؛ وهم إنما يعبدون عدما لا حقيقة لوجوده، ويعتمدون من الخيالات والشبه، ما يعلم فساده بضرورة العقل، وبالضرورة من دين الإسلام، عند من عرفه وعرف ما جاءت به الرسل من الإثبات.
ولبشر المريسي وأمثاله، من الشبه والكلام في نفي الصفات، ما هو من جنس هذا المذكور عند الجهمية المتأخرين، بل كل أمة أخف إلحادا من بعض هؤلاء الضلال، ومع ذلك، فأهل العلم متفقون على تكفيره، وأن الصلاة لا تصح خلف كافر جهمي أو غيره.
وقد صرح الإمام أحمد، فيما نقل عنه ابنه عبد الله وغيره، أنه كان يعيد صلاة الجمعة وغيرها؛ وقد يفعله المؤمن مع غيرهم من المرتدين، إذا كانت لهم شوكة ودولة؛ والنصوص في ذلك معروفة مشهورة، نحيل طالب العلم على أماكنها ومظانها. وبهذا ظهر الجواب عن السؤال، والله أعلم.
[تكفير من ظاهره الإسلام]
وسئل أيضا الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، عن
تكفير من أحب انتصار آل شامر على المسلمين وفرح بقتلهم، هل له مستند؟
فأجاب: لا أعلم مستندا لهذا القول، والتجاسر على تكفير من ظاهره الإسلام، من غير مستند شرعي ولا برهان مرضي، يخالف ما عليه أئمة العلم من أهل السنة والجماعة; وهذه الطريقة، هي طريقة أهل البدع والضلال، ومن عُدم الخشية والتقوى، فيما يصدر عنه من الأقوال والأفعال.
والفرح بمثال هذه القضية، قد يكون له أسباب متعددة، لا سيما وقد كثر الهرج، وخاضت الأمة في الأموال والدماء، واشتد الكرب والبلاء، وخفي الحق والهدى، وفشا الجهل والهوى، وكثر الخوض والردى، وغلب الطغيان والعمى، وقل التمسك بالكتاب والسنة، بل قل من يعرفهما، ويدري حدود ما أنزل الله من الأحكام الشرعية، كالإسلام والإيمان، والكفر والشرك، والنفاق، ونحوها.
وقد جاء في الحديث: " من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما " 1؛ فإطلاق القول بالتكفير والحالة هذه، دليل على جهل المكفر وعدم علمه بمدارك الأحكام وتأول أهل العلم ما ورد، من إطلاق الكفر على بعض المعاصي، كما في حديث:" سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر " 2،وحديث:
1 البخاري: الأدب (6104)، ومسلم: الإيمان (60)، والترمذي: الإيمان (2637)، وأبو داود: السنة (4687) ، وأحمد (2/112)، ومالك: الجامع (1844) .
2 البخاري: الإيمان (48)، ومسلم: الإيمان (64)، والترمذي: البر والصلة (1983) والإيمان (2634 ،2635)، والنسائي: تحريم الدم (4105 ،4106 ،4108 ،4109 ،4110 ،4111 ،4112 ،4113)، وابن ماجه: المقدمة (69) والفتن (3939) ، وأحمد (1/385 ،1/411 ،1/417 ،1/433 ،1/439 ،1/446 ،1/454 ،1/460) .
" لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " 1، وحديث " لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم " 2، فهذا ونحوه تأولوه على أنه كفر عملي، ليس كالكفر الاعتقادي الذي ينقل عن الملة، كما جزم به العلامة ابن القيم وغيره من المحققين، هذا مع أنه باشره عمل وفرح، وأطلق عليه الشارع هذا الوصف، فكيف بمجرد الفرح؟ وذكر عن الإمام أحمد أنه قال: أمروا هذه النصوص كما جاءت، ولا تعرضوا لتفسيرها.
وقد ذكر شيخ الإسلام في "الفتاوى المصرية" أن السلف متفقون على عدم تكفير البغاة، فكيف بمجرد الفرح؛ وقد قابل هذا الصنف من الإخوان، قوم كفروا أهل العارض أو جمهورهم في هذه الفتنة، واشتهر عن بعضهم أنه تلا عند سماع وقعة آل شامر، قوله تعالى:{وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} 3.
وعللوا بأشياء متعددة، من فرح ومكاتبة وموالاة، وغير ذلك، والفريقان ليس لهم لسان صدق، ولا هدى ولا كتاب منير. قال شيخ الإسلام، رحمه الله: لا بد للمتكلم في هذه المباحث ونحوها، أن يكون معه أصول كلية يرد إليها الجزئيات، ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت، وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل
1 البخاري: العلم (121)، ومسلم: الإيمان (65)، والنسائي: تحريم الدم (4131)، وابن ماجه: الفتن (3942) ، وأحمد (4/358 ،4/363 ،4/366)، والدارمي: المناسك (1921) .
2 البخاري: الحدود (6830) ، وأحمد (1/47 ،1/55) .
3 سورة محمد آية: 10.
وظلم في الكليات؛ وأطال الكلام على الفرق بين المتأول والمتعمد، ومن قامت عليه الحجة وزالت عنه الشبهة، والمخطئ الذي التبس عليه الأمر، وخفي عليه الحكم. وقرر مذهب علي بن أبي طالب، في عدم تكفير الخوارج المقاتلين له، المكفرين له ولعثمان، ولمن والاهما رضي الله عنهما; ونقل قول علي لما سئل عن الخوارج: أكفار هم؟ قال: (من الكفر فروا)، وقوله:(إن لكم علينا أن لا نمنعكم مساجد الله، وأن لا نقاتلكم حتى تبدؤونا بالقتال، وأن لا نمنعكم حقا هو لكم في مال الله) ; ومع هذا هم مصرحون بتكفيره، مقاتلون له، مستحلون لدمه؛ فكيف بالفرح وقد ذكر في الزواجر: أن الفرح بمثل هذه المعاصي من المحرمات، ولم يقل إنه كفر.
ثم اعلم: أن الفتنة في هذا الزمان، بالبادية والبغاة، وبالعساكر الطغاة، فتنة عمياء صماء، عم شرها وطار شررها، ووصل لهيبها إلى العذارى في خدورهن، والعواتق وسط بيوتهن، ولم يتخلص منها إلا من سبقت له من الله الحسنى، وكان له نصيب وافر من نور الوحي، والنور الأول يوم خلق الله الخلق في ظلمة، وألقى عليهم من نوره; وما أعز من يعرف هذا الصنف؛ بل ما أعز من لا يعاديهم ويرميهم بالعظائم!
وأكثر الناس، كما وصفهم أمير المؤمنين علي
رضي الله عنه،
فيما رواه عنه كميل بن زياد، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق؛ ومجرد الانتساب إلى الإيمان والإخوان، والتزيي بزي أهل العلم والإيمان، مع فقد الحقيقة لا يجدي.
والناس مشتبهون في إيرادهم وتفاضل الأقوام في الإصدار
[التحاكم إلى الأعراف والعادات]
وسئل أيضا، الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن، عما يحكم به أهل السوالف من البوادي وغيرهم من عادات الآباء والأجداد، هل يطلق عليهم بذلك الكفر بعد التعريف
…
إلخ؟
فأجاب: من تحاكم إلى غير كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بعد التعريف، فهو كافر، قال الله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 1، وقال تعالى:{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} 2 الآية،
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} 3 الآية، وقال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 4 الآية؛ والآيات في هذا المعنى كثيرة.
[من يقول في الرياح: هذه هبوب الثريا]
وسئل: عمن إذا أكلته يده، أو شهق، أنه يأكل كذا
1 سورة المائدة آية: 44.
2 سورة آل عمران آية: 83.
3 سورة النساء آية: 60.
4 سورة النحل آية: 36.
أو كذا، أو إذا أكله عقب قدمه، قال إنه يحكى فيه، هل هذا شرك أو لا؟
فأجاب: الاستدلال بأكل اليد، والشهيق، وأكلة العقب، على ما ذكر: جهل وضلال، من أوضاع الجهلة الضالين؛ وبعض الرافضة، يزعم أن اختلاج الأعضاء يدل على الحوادث، وينسبونه إلى جعفر الباقر، وقد ذكر أهل العلم: أنه كذب على جعفر، وأنه من أوضاع الرافضة المشركين، الغالين في أهل البيت، سلام الله على أهل بيت رسوله.
وأما مسألة من يقول في الرياح: هذه هبوب الثريا، هذه هبوب التويبع، هذه هبوب الجوزاء، فهذا لا يجوز؛ شدد في المنع منه مالك وغيره، ولا يجوز إضافة هذه الأشياء إلى النجوم، قال قتادة:(خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها) فمن تأول فيها غير ذلك، فقد أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به، والله أعلم.
[الاستهزاء بالدين]
وسئل الشيخ حمد بن عتيق، عن معنى قول الفقهاء: ومن قال: يا فقيِّه، بالتصغير، يكفر; ما المعني بالاستهزاء؟ هل هو بالشخص نفسه؟ أو بما معه من العلم؟ وهل هذا كفر ينقل من الملة؟
فأجاب: كان عليك أن تذكر من قال ذلك من الفقهاء؛ واعلم أن العلماء قد أجمعوا على أن من استهزأ بالله أو رسوله، أو كتابه، أو دينه، فهو كافر; وكذا إذا أتى بقول، أو فعل صريح في الاستهزاء، واستدلوا بقول الله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 1، وسبب النُزول مشهور.
وأما قول القائل: "فقيِّه" أو "عُوَيْلِم" أو "مطَيْوِيع" ونحو ذلك، فإذا كان قصد القائل الهزل، أو الاستهزاء بالفقه، أو العلم، أو الطاعة، فهذا كفر أيضا، ينقل عن الملة، فيستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتدا.
وأما قولك: هل هو استهزاء بالشخص نفسه؟ أو بما معه من العلم؟ فإن كنت تسأل عن مراد القائل، فعجب منك; وإن كان السؤال عن علة الحكم، فإنا نقول: ظاهر هذا القول أن مراد قائله الفقه، أو العلم، أو الطاعة، فيحكم عليه به، ولأنه يمكنه الاستهزاء بالشخص، بدون هذه العبارات، فلما عدل إليها عما هو دونها، أعطيناه حكمها؛ لكن الله يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات.
1 سورة آية: 65-66.
[من لم يكفر الذين يحكمون بغير ما أنزل الله]
وسئل الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، عمن لم يكفر الدولة، ومن جرهم على المسلمين، واختار ولايتهم وأنه يلزمهم الجهاد معه; والآخر لا يرى ذلك كله، بل الدولة ومن جرهم بغاة، ولا يحل منهم إلا ما يحل من البغاة، وأن ما يغنم من الأعراب حرام؟
فأجاب: من لم يعرف كفر الدولة، ولم يفرق بينهم وبين البغاة من المسلمين، لم يعرف معنى لا إله إلا الله،؛ فإن اعتقد مع ذلك: أن الدولة مسلمون، فهو أشد وأعظم، وهذا هو الشك في كفر من كفر بالله، وأشرك به; ومن جرهم وأعانهم على المسلمين، بأي إعانة، فهي ردة صريحة.
ومن لم ير الجهاد مع أئمة المسلمين، سواء كانوا أبرارا أو فجارا، فهو لم يعرف العقائد الإسلامية، إذا استقام الجهاد مع ذوي الإسلام، فلا يبطله عدل عادل ولا جور جائر؛ والمتكلم في هذه المباحث، إما جاهل فيجب تعليمه، أو خبيث اعتقاد، فتجب منافرته ومباعدته.
[الكلام على الجهمية]
وسئل أيضا، الشيخ عبد الله، والشيخ إبراهيم ابنا الشيخ عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان رحمهم الله تعالى، عن الجهمية؟
فأجابوا: أما الجهمية، فالمشهور من مذهب أحمد،
وعامة علماء السنة رحمهم الله، تكفيرهم، لأن قولهم صريح في مناقضة ما جاء به الرسل، وأنزلت به الكتب، وحقيقة قولهم: جحود الصانع، وجحود ما أخبر به عن نفسه، بل وجميع الرسل; ولهذا قال الإمام: عبد الله بن المبارك: (إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية) .
وبهذا كفروا من يقول: القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، وإن الله ليس على العرش، وإنه ليس له علم ولا قدرة، ولا رحمة، ولا غضب، ولا غير ذلك من صفاته; وهم عند كثير من السلف مثل ابن المبارك، ويوسف ابن أسباط، وطائفة من أصحاب أحمد، ليسوا من الثلاث والسبعين فرقة.
وقد بينا لك فيما مضى: أن الإمام أحمد، وأمثاله من أهل العلم والحديث، لا يختلفون في تكفير الجهمية، وأنهم ضلال زنادقة مرتدون; وقد ذكر من صنف في السنة: تكفيرهم عن عامة أهل العلم والأثر، كاللالكائي، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة له، وابن أبي ملكية، والخلال في السنة له، وإمام الأئمة ابن خزيمة، قد قرر كفرهم ونقله عن أساطين الأئمة.
وقد حكى كفرهم شمس الدين ابن القيم في كافيته، عن خمسمائة من أئمة المسلمين وعلمائهم، فكيف إذا
انضاف إلى ذلك كونهم من عباد القبور، وعلى طريقتهم؟ فلا إشكال - والحالة هذه - في كفرهم وضلالهم.
وأما إباضية أهل هذا الزمان، فحقيقة مذهبهم وطريقتهم: جهمية، قبوريون، وإنما ينتسبون إلى الإباضية انتسابا، فلا يشك في كفرهم وضلالهم، إلا من غلب عليه الهوى، وأعمى الله عين بصيرته؛ فمن تولاهم فهو عاص ظالم، يجب هجره ومباعدته، والتحذير منه، حتى يعلن بالتوبة، كما أعلن بالظلم والمعصية.
وما ذكر في السؤال: عمن لا يرى كفر الجهمية، وإباضية أهل هذا الزمان، ويزعم: أن جهاد أهل الإسلام لهم سابقا غلو، وهو لأجل المال كاللصوص، فهذا لم يعرف حقيقة الإسلام، ولا شم رائحته، وإن انتسب إليه وزعم أنه من أهله. {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} 1، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} 2.
وأما ما ذكرته: من استدلال المخالف، بقوله صلى الله عليه وسلم:"من صلى صلاتنا " 3 وأشباه هذه الأحاديث، فهذا استدلال جاهل بنصوص الكتاب والسنة، لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري، فإن هذا فرضه ومحله في أهل الأهواء، من هذه الأمة؛ ومن لا تخرجه بدعته من الإسلام، كالخوارج ونحوهم، فهؤلاء لا يكفرون،
1 سورة المائدة آية: 41.
2 سورة النور آية: 40.
3 البخاري: الصلاة (391)، والترمذي: الإيمان (2608)، والنسائي: تحريم الدم (3966 ،3967 ،3968) والإيمان وشرائعه (4997 ،5003)، وأبو داود: الجهاد (2641) ، وأحمد (3/199 ،3/224) .
لأن أصل الإيمان الثابت، لا يحكم بزواله إلا بحصول مناف لحقيقته، مناقض لأصله; والعمدة: استصحاب الأصل وجودا وعدما، لكنهم يبدعون ويضللون، ويجب هجرهم وتضليلهم، والتحذير عن مجالستهم ومجامعتهم، كما هو طريقة السلف في هذا الصنف.
وأما الجهمية وعباد القبور، فلا يستدل بمثل هذه النصوص على عدم تكفيرهم، إلا من لم يعرف حقيقة الإسلام، وما بعث الله به الرسل الكرام، لأن حقيقة ما جاؤوا به ودعوا إليه، وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، وإخلاص العمل له، وأن لا يشرك في واجب حقه أحد من خلقه، وأن يوصف بما وصف به نفسه، من صفات الكمال ونعوت الجلال.
فمن خالف ما جاؤوا به، ونفاه وأبطله، فهو كافر ضال، وإن قال لا إله إلا الله، وزعم أنه مسلم، لأن ما قام به من الشرك، يناقض ما تكلم به من كلمة التوحيد؛ فلا ينفعه التلفظ بقول لا إله إلا الله، لأنه تكلم بما لم يعمل به، ولم يعتقد ما دل عليه.
وأما قوله: نقول بأن القول كفر، ولا نحكم بكفر القائل; فإطلاق هذا جهل صرف، لأن هذه العبارة لا تنطبق إلا على المعين، ومسألة تكفير المعين مسألة معروفة، إذا
قال قولا يكون القول به كفرا، فيقال: من قال بهذا القول فهو كافر، لكن الشخص المعين، إذا قال ذلك لا يحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها.
وهذا في المسائل الخفية، التي قد يخفى دليلها على بعض الناس، كما في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك مما قاله أهل الأهواء، فإن بعض أقوالهم تتضمن أمورا كفرية، من رد أدلة الكتاب والسنة المتواترة، فيكون القول المتضمن لرد بعض النصوص كفرا، ولا يحكم على قائله بالكفر، لاحتمال وجود مانع كالجهل، وعدم العلم بنقض النص، أو بدلالته، فإن الشرائع لا تلزم إلا بعد بلوغها؛ ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه في كثير من كتبه.
وذكر أيضا تكفير أناس من أعيان المتكلمين، بعد أن قرر هذه المسألة، قال: وهذا إذا كان في المسائل الخفية، فقد يقال بعدم التكفير; وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من الدين بالضرورة، فهذا لا يتوقف في كفر قائله، ولا تجعل هذه الكلمة عكازة، تدفع بها في نحر من كفر البلدة الممتنعة عن توحيد العبادة والصفات، بعد بلوغ الحجة ووضوح المحجة.
وأما قوله: وهؤلاء ما فهموا الحجة; فهذا مما يدل على جهله، وأنه لم يفرق بين فهم الحجة، وبلوغ الحجة، ففهمها نوع وبلوغها نوع آخر؛ فقد تقوم الحجة على من لم
يفهمها; وقد قال شيخنا، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله في كلام له -: فإن الذي لم تقم عليه الحجة، هو الذي حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسائل خفية، مثل مسألة الصرف والعطف، فلا يكفر حتى يعرف.
وأما أصول الدين التي وضحها الله، وأحكمها في كتابه، فإن حجة الله هي القرآن، فمن بلغه فقد بلغته الحجة; ولكن أصل الإشكال: أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة، وفهم الحجة؛ فإن الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} 1، وقال تعالى:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} 2. فقيام الحجة وبلوغها نوع، وفهمها نوع آخر، وكفرهم الله ببلوغها إياهم، مع كونهم لم يفهموها، إلى آخر كلامه رحمه الله.
وأما قوله - عن الشيخ محمد، رحمه الله: إنه لا يكفر من كان على قبة الكواز، ونحوه، ولا يكفر الوثني حتى يدعوه، وتبلغه الحجة، فيقال: نعم; فإن الشيخ محمدا رحمه الله، لم يكفر الناس ابتداء، إلا بعد قيام الحجة والدعوة، لأنهم إذ ذاك في زمن فترة، وعدم علم
1 سورة الفرقان آية: 44.
2 سورة الأنعام آية: 25.
بآثار الرسالة، ولذلك قال: لجهلهم وعدم من ينبههم، فأما إذا قامت الحجة، فلا مانع من تكفيرهم وإن لم يفهموها.
وفي هذه الأزمان، خصوصا في جهتكم، قد قامت الحجة على من هناك، واتضحت لهم المحجة، ولم يزل في تلك البلاد من يدعو إلى توحيد الله، ويقرره، ويناضل عنه، ويقرر مذهب السلف، وما دلت عليه النصوص من الصفات العلية، والأسماء القدسية، ويرد ما يشبه به بعض أتباع الجهمية، ومن على طريقتهم، حتى صار الأمر في هذه المسائل،؛ في تلك البلاد، أظهر منه في غيرها، ولا تخفى النصوص والأدلة، حتى على العوام؛ فلا إشكال - والحالة هذه - في قيام الحجة وبلوغها، على من في جهتكم من المبتدعة، والزنادقة الضلال.
ولا يجادل في هذه المسألة، ويشبه بها، إلا من غلب جانب الهوى، ومال إلى المطامع الدنيوية، واشترى بآيات الله ثمنا قليلا، والله أعلم. وأما قوله: وتجوز حماية الكفار، أو نائبهم، وأخذ علم منهم، لسلامة المال، والسفينة، وأن هذا بمنْزلة الخفير، الذي هو الرفيق، فالجواب، أن يقال: هذا قياس باطل، فإن أخذ
الخفير لسلامة المال، جائز إذا ألجأ الحال إليه، والخفير مسلم ظالم، أو فاجر فاسق؛ وأما الدخول تحت حماية الكفار، فهي ردة عن الإسلام؛ وأخذ العلم منهم لا يجوز، إذا كانوا لم يدخلوا تحت حمايتهم، وولايتهم، وليس بمنْزلة أخذ الخفير لحماية المال، فإن هذا علم وعلامة على أنهم منقادون لأمرهم، داخلون في حمايتهم، وذلك موافقة لهم في الظاهر.
وأجابوا أيضا: لا تصح إمامة من لا يكفر الجهمية، والقبوريين، أو يشك في تكفيرهم؛ وهذه المسألة من أوضح الواضحات عند طلبة العلم وأهل الأثر، وذلك أن الإمام أحمد وأمثاله من أهل العلم والحديث، لم يختلفوا في تكفير الجهمية، وأنهم ضلال زنادقة. وقد ذكر من صنف في السنة تكفيرهم، عن عامة أهل العلم والأثر؛ وعد اللالكائي منهم عددا يتعذر ذكرهم في هذه الفتوى، وكذا عبد الله بن الإمام أحمد، في كتاب السنة، والخلال في كتاب السنة، وإمام الأئمة ابن خزيمة قرر كفرهم، ونقله عن أساطين الأئمة.
وقد حكى كفرهم ابن القيم في كافيته، عن خمسمائة من أئمة المسلمين وعلمائهم؛ وقد يفرق بين من قامت عليه الحجة، التي يكفر تاركها، وبين من لا شعور له بذلك، وهذا القول يميل إليه شيخ الإسلام، في المسائل التي قد
يخفى دليلها على بعض الناس.
وعلى هذا القول: فالجهمية في هذه الأزمنة، قد بلغتهم الحجة، وظهر الدليل، وعرفوا ما عليه أهل السنة والجماعة، واشتهرت التفاسير والأحاديث النبوية، وظهرت ظهورا ليس بعده إلا المكابرة والعناد، وهذه هي حقيقة الكفر والإلحاد، كيف: لا؟ وقولهم يقتضي من تعطيل الذات والصفات، والكفر بما اتفقت عليه الرسالة والنبوات، وشهدت به الفطر السليمات، مما لا يبقى معه حقيقة للربوبية والإلهية، ولا وجود للذات المقدسة، المتصفة بجميل الصفات، وهم إنما يعبدون عدما، لا حقيقة لوجوده، ويعتمدون على الخيالات والشبه، ما يعلم فساده بضرورة العقل، وبالضرورة من حقيقة دين الإسلام، عند من عرفه، وعرف ما جاءت به الرسل.
ولبشر المريسي وأمثاله، من الشبه والكلام في نفي الصفات، ما هو من جنس هذا المذكور عند الجهمية المتأخرين، بل كلامه أخف إلحادا من بعض قول هؤلاء الضلال، ومع ذلك فأهل العلم متفقون على تكفيره؛ وكذلك القبوريون لا يشك في كفرهم، من شم رائحة الإيمان.
وقد ذكر شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم، في غير موضع: أن نفي التكفير بالمكفرات، قوليها وفعليها، فيما
يخفى دليله، ولم تقم الحجة على فاعله، وأن النفي يراد به نفي تكفير الفاعل وعقابه، قبل قيام الحجة عليه، وأن نفي التكفير مخصوص بمسائل النِّزاع بين الأئمة.
دعاء الصالحين، والاستغاثة بهم، وقصدهم في الملمات والشدائد، فهذا لا ينازع مسلم في تحريمه، والحكم بأنه من الشرك الأكبر؛ فليس في تكفيرهم، وتكفير الجهمية قولان.
وأما الإباضية في هذه الأزمنة، فليسوا كفرقة من أسلافهم، والذي يبلغنا أنهم على دين عباد القبور، وانتحلوا أمورا كفرية، لا يتسع ذكرها هنا؛ ومن كان بهذه المثابة فلا شك في كفره، فلا يقول بإسلامهم إلا مصاب في عقله ودينه.
[جواب الشيخ محمد بن عبد اللطيف فيما يفعل عند القبور]
وقال الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف، وفقه الله تعالى 1:
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين
1 قدمت هذه الرسالة في مكانها المناسب المشار إليه في الطبعة الأولى صفحة 481/ج/8.
والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، خاتم النبيين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فقد رفع إلينا ونحن بمكة المشرفة، في المحرم سنة 1358 هـ، أسئلة من رجل من أهل حضرموت، يطلب الجواب عنها، فرأيت الجواب متعينا، فقلت مستعينا بالله معتمدا عليه:
المسألة الأولى: وهي قوله: ما قولكم في مواسم وأعياد تقام في بلادنا الحضرمية، كأعياد الجاهلية الأولى، على بعض الأضرحة في مختلف الأقطار، لمن يدعون لهم الولاية، ويفدون من كل فج عميق، رجالا وركبانا، وتضرب إليها أكباد الإبل، وتقام عندها الحضرات، والموالد والاحتفالات العظيمة، حول تلك القباب الهائعة، والتوابيت الكبيرة، فمن مقبل وملتثم وباك، ومتمسح بالأركان، وآخذ من ذياك التراب، يذره على رأسه للتبرك، والإكثار من الخير، وتشاع فيها الفواحش، والمنكرات
…
إلى آخر السؤال؟
الجواب: وبالله التوفيق: اعلم أن هذه الأفعال هي من دين الجاهلية التي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنكارها وإزالتها،
ومحو آثارها، لأنها من الشرك الأكبر، الذي دلت الآيات المحكمات على تحريمه؛ وهذه الأعياد تشبه أعياد الجاهلية، فمن اعتقد جوازه وحله، وأنه عبادة ودين، فهو من أكفر خلق الله وأضلهم، ومن شك في كفرهم بعد قيام الحجة عليهم فهو كافر.
والآيات والأحاديث الدالة على منع ذلك، أكثر من أن تحصر، قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1، وقال:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2 الآية.
وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 3، وقوله تعالى:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 4.
وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 5 الآية، وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ
1 سورة يونس آية: 18.
2 سورة الزمر آية: 3.
3 سورة آية: 5-6.
4 سورة يونس آية: 106.
5 سورة آية: 56-57.
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 1 الآية،
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 2، وقوله تعالى:{قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} 3 الآية،
وقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 4، وقوله تعالى:{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 5، وقال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 6.
فدلت هذه الآيات على أن الدعاء عبادة، فمن صرف شيئا من هذه العبادة لغير الله، سواء كان ملكا، أو نبيا، أو وليا، أو جنيا، أو إنسيا، أو حجرا، أو شجرا،
1 سورة آية: 22-23.
2 سورة آية: 13-14.
3 سورة الزمر آية: 38.
4 سورة التوبة آية: 31.
5 سورة المائدة آية: 76.
6 سورة غافر آية: 60.
فهو مشرك كافر.
وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى?وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} 1 الآية؛ فهذه الأشجار والأحجار، كانت تعظمها أهل الجاهلية، وينحرون لها، ويعتقدون أنها تقبل النذر، أي: تقبل العبادة.
ولما " خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، عام الفتح، قاصدا حنينا، مر بشجرة يقال لها "ذات أنواط"، فقالوا: يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} . لتركبن سنن من كان قبلكم) 2") أخرجه الترمذي، عن أبي واقد الليثي.
فشبه المقالة بالمقالة، لأن قولهم اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، أي: اجعل لنا إلها، كما لهم آلهة; فهذه الأضرحة، وهذه الأماكن، هي من مواسم الشرك؛ فالنذر لها، وتقبيلها، واستلامها، هو الشرك الأكبر، الذي نزلت الكتب، وأرسلت الرسل بتحريمه، وقتال من دان به، واستحلال دمه وماله.
المسألة الثانية: فيمن خصص بعض المواضع، كبعض
1 سورة آية: 19-20-.
2 الترمذي: الفتن (2180) ، وأحمد (5/218) .
الأحجار التي يعتقدون فيها، أن من وقف بها نهار تاسع ذي الحجة، كأنما وقف بعرفة، وبذلك يسقط عنه فرض الحج، فهل يكفر معتقد ذلك، أم لا يكفر إلا بعد التعريف، والإصرار على ذلك؟
الجواب: إن هذه المسألة كالتي قبلها، لأن من خصص بعض المواضع بعبادة، أو اعتقد أن من وقف عندها سقط عنه الحج، كفره لا يستريب فيه من شم رائحة الإسلام؛ ومن شك في كفره، فلا بد من إقامة الحجة عليه، وبيان أن هذا كفر وشرك، وأن اتخاذ هذه الأحجار مضاهاة لشعائر الله، التي جعل الله الوقوف بها عبادة لله، فإذا أقيمت الحجة عليه، وأصر فلا شك في كفره.
المسألة الثالثة: فيمن يأتي قبر نبي الله هود عليه السلام، في كل حول للزيارة والتبرك به، والاغتسال في موضع تجتمع فيه المياه هنالك، المنحدرة من رؤوس الشعاب، وبطون الأودية، ويعتقدون أن الذي يتمكن من الغسل فيه، يكون مغفورا له من جميع الذنوب.
وهنالك بئر يذهبون إليها، ويقولون بزعمهم إنها "البئر المعطلة" التي ذكرت في سورة الحج، وينادي أكبرهم، فيقول: السلام عليك يا نبي الله آدم، ويعدد الأنبياء عليهم السلام إلى آخرهم، والذين في معيته يؤمّنون على دعائه، ويعتقدون أن أرواح الأنبياء، موجودة في هذه
البئر؟
الجواب: إنه لا يعلم على وجه الأرض قبر معروف، من قبور الأنبياء، لا هود ولا غيره، ومن زعم ذلك فهو مفتر ضال، ولا يعرف إلا قبر محمد صلوات الله وسلامه عليه، وهذه المغارات، والقبور التي تنسب إلى الأنبياء، كلها كذب وافتراء، والماء الذي يزعمون حول قبر هود، وأن من اغتسل منه فهو مغفور له، من أعظم الكذب والزور الذي يروجون به على خفافيش البصائر.
وأما "البئر المعطلة" فالله سبحانه أخبر أنها هي والقصر المشيد آثار من مضى، ذكرها الله للاعتبار، وأن الله أفناهم، وأبقى آثارهم عبرة؛ وأما معنى الآية، فقال البغوي رحمه الله في تفسيره: قوله تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} 1 يعني: من بئر معطلة متروكة، مخلاة عن أهلها، وقوله:{وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} 2: قال قتادة والضحاك ومقاتل: رفيع طويل، من قولهم: شاد بناءه إذا رفعه; وقال سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء: مجصص من الشيد، وهو الجص.
وقيل: إن البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن؛ أما القصر فعلى قمة جبل، والبئر في سفحه، ولكل واحد منهما قوم كانوا في نعمة، فكفروا فأهلكهم الله، فبقي البئر والقصر خاليين.
1 سورة الحج آية: 45.
2 سورة الحج آية: 45.
وروى أبو روق عن الضحاك: أن هذه البئر كانت بحضرموت، في بلد يقال لها "حاصوراء"، وذلك أن أربعة آلاف نفر ممن آمن بصالح نجوا من العذاب، أتوا حضرموت ومعهم صالح، فلما حضروه مات صالح، فسمي حضرموت، لأن صالحا لما حضره مات.
فبنوا حاصوراء، وقعدوا على هذه، وأمَّرُوا عليهم رجلا، فأقاموا دهرا، وتناسلوا حتى كثروا. ثم إنهم عبدوا الأصنام وكفروا، فأرسل الله إليهم نبيا، يقال له: حنظلة بن صفوان، وكان حمالا فيهم، فقتلوه في السوق، فأهلكهم الله، وعطلت بئرهم، وخربت قصورهم، انتهى.
وقال الحافظ ابن كثير على قوله: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} :أي: لا يستقي فيها، ولا يردها أحد، بعد كثرة وارديها والازدحام عليها. {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} قال عكرمة يعني: مبيضا بالجص، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومجاهد وعطاء، وسعيد بن جبير، وأبي المليح والضحاك نحو ذلك.
وقال آخرون: هو المنيف المرتفع; وقال آخرون: المشيد المنيع الحصين، وكل هذه الأقوال متقاربة، ولا منافاة بينها، فإنه لم يحم أهله شدة بنائه ولا ارتفاعه، ولا إحكامه ولا حصانته، عن حلول بأس الله بهم، كما قال
تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} 1. انتهى كلامه رحمه الله.
وأما دعوى: إن أرواح الأنبياء في هذا البئر، فمن الخرافات والكذب، التي تنافي ما جاءت به الشريعة المطهرة. ومن المعلوم بالضرورة: أن أرواح الأنبياء والمرسلين في جنات عدن في الرفيق الأعلى، منعمة من النعيم المقيم; وأما أرواح الكفار، ففي أسفل سافلين، في الأرض السابعة; وأجساد الأنبياء في الأرض لا تبلى، ولا يأكلها التراب، وأرواحهم كما تقدم في الجنة.
وأما وقوف أحدهم على البئر، ينادي يا آدم حتى يعدد الأنبياء والرسل، فهذا من الكذب البحت، فإنما تخاطبهم في القليب الشياطين، تضلهم عن سواء السبيل، ويروّجون بذلك على خفافيش البصائر، الذين خليت قلوبهم من الإيمان، ولا شعور لهم بما جاءت به الرسل، وأنزلت به الكتب، بل هم في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء.
المسألة الرابعة: فيمن خصص بعض ماله، إذا وافته المنية، صدقة جارية، باسم مولد النبي صلى الله عليه وسلم تفعل في رمضان، كقراءة القرآن ختمة، أو ختمتين فأكثر، أو سبعين ألفا من قول لا إله إلا الله، وبوليمة يصنع فيها اللحم،
1 سورة النساء آية: 78.
وأنواع الأطعمة، في تلك الليلة المعلومة، من رمضان، تقدم للفقراء والمساكين، وأرحامه وإن كانوا موسرين؛ وما يقصد من ذلك، إلا الأجر والثواب من الله، فهل لهذا وجه من الشرع؟ أو هو من البدع التي ينبغي هجرها والفرار منها؟
الجواب: إن هذه الأفعال من البدع المنكرات، والأعمال السيئات؛ وصرف المال لأجل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بدعة محرمة، وفاعلها مأزور غير مأجور. فيجب الإنكار على من فعل ذلك؛ وهذا الطعام محرم، لأنه قصد به غير وجه الله، فلا يباح الأكل منه، بل يجب هجر من فعل ذلك، واعتقد جوازه.
ثم قال:
المسألة السادسة: فيما ينذره الناس، لإنارات القبور، والمشاهد من الزيت، وفيمن مرض، أو أصابه شيء من دنياه، فيقول إذا شفي مريضي، وحصل مقصودي، عليّ زيارة لقبر الشيخ الفلاني، أو أن أذبح له، أو أسوي خبزا أو قهوة، أو تمرا، ثم يعمل ذلك، ويجتمع على ذلك أناس، يأكلون الخبز والتمر، واللحم، والقهوة، وغير ذلك عند القبر المذكور، فهل يجوز الأكل من ذلك؟ أم هو رجس أهلّ به لغير الله عز وجل؟
الجواب: إن هذا النذر لغير الله شرك، لأنه عبادة، وصرفها لغير الله شرك، وهذه الذبيحة مما أهل به لغير الله،
والأكل منها ومن الطعام حرام، فلا يباح الأكل منه; والزيارة للقبور إذا كانت بشد رحل وسفر، فهي زيارة بدعية محرمة; وقوله: إذا شفي مريضي أو حصل مقصودي، فعليّ زيارة قبر الشيخ الفلاني، فهذا النذر محرم، ومن البدع المنكرة.
المسألة السابعة: فيما هو مشاع في بلادنا الحضرمية، عندما توضع القواعد لبناء الديار، وهو المسمى عندنا "الساس" فيأتون بالجلبة، ويذبحونها على أول لبنة توضع على الساس، ويقولون هكذا: اذبحوا للساس، ويقصدون بذلك الوقاية من الأعين الخبيثة السمية، ومن الجن. وكذلك إذا حفروا بئرا، أو نبع ماؤها، قالوا: اذبحوا للبئر، أتى أحدهم بجلبة، وذبحها على شفير البئر، لكي يمزج الدماء بماء البئر، فهل هذا يدخل فيما أهل به لغير الله؟ وهل يحل الأكل من الجلبة المذكورة، أم لا؟
الجواب: إن هذا الذبح عند تأسيس البناء، وعند حفر البئر وغيره، مما أهلّ به لغير الله، وإنه حرام؛ والذابح إذا قصد بذبحه دفع الأعين، أو دفع شر الجن، فلا شك أن هذا كفر، والأكل مما ذبح لهذه الأشياء حرام، لا يحل، لأنها من الذبح الذي أهل لغير الله به؛ والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
[جواب الشيخ محمد بن عبد اللطيف عمن اتصف بالكفر من بادية نجد]
وسئل أيضا: الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، عن حكم من اتصف بالكفر اليوم وقام به، من بادية نجد، هل هو كفر أصلي، أم طارئ؟ وهل عمهم الإسلام، في وقت دعوة شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى أم لا؟
فأجاب: اعلم - وفقني الله وإياك للصواب - أن أهل نجد باديتهم وحاضرتهم، قبل دعوة شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام، مجدد ما اندرس من معالم الإسلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه، ونور ضريحه، في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء؛ قد اشتدت غربة الإسلام فيما بينهم، واستحكمت، وعم الشر وطم، وفشا الشرك، وشاع الكفر وذاع، في القرى والأمصار، والبادية والحضار، وصارت عبادة الطواغيت والأوثان، دينا يدينون به، ويعتقدون في الأولياء، أنهم ينفعون ويضرون، وأنهم يعلمون الغيب، مع تضييع الصلاة، وترك الزكاة، وارتكاب المحرمات، ولم يوجد من ينكر ذلك؛ نشأ عليه الصغير وهرم عليه الكبير.
فشرح الله صدر إمام الدعوة الإسلامية، الشيخ محمد رحمه الله، فدعا الخلق إلى دين الله، وعرفهم حقيقة العبادة التي خلقوا لها، وأمروا بها، ودعت إليها الرسل، فشمروا له عن ساق العداوة، فعارضوه، وصادموه، العلماء منهم
والأمراء، وسعوا بالتهييج عليه عند القريب والبعيد، ولم يبقوا ممكنا. فعند ذلك ثبته الله، وصبر على أعباء الدعوة ومكابدة من عارضه، ولم يعبأ بمن خالفه، لأنه قام مقام نبوة، لأن حقيقة ما دعا إليه هي دعوة الرسل، من أولهم إلى آخرهم.
فأعانه على هذه الدعوة، والقيام بها، وتحمل عداوة القريب والبعيد، وآواه ونصره الإمام محمد بن سعود، وأولاده، وإخوانه، فعاضدوه رحمهم الله، فثبتهم الله وقوى عزمهم. وبادأهم من بادأهم بالعداوة والقتال، وألبوا عليهم، فما ثنى عزمهم ولا تضعضعوا، فأظهرهم الله، وخذل جميع من ناوأهم، فدخل كافة أهل نجد والجزيرة، من البادية والحاضرة، تحت ولايتهم، والتزموا ما دعوا إليه، ودانوا به. ولم يوجد في نجد من البادية والحاضرة، من لم يدخل في هذا الدين، ولم يلتزم شرائعه; بل شملتهم الدعوة الإسلامية، والتزموا أحكام الإسلام، وواجباته.
وأقاموا على ذلك مدة سنين، في أمن وعافية، وعز وتمكين، وبنودهم تخفق شرقا وغربا، جنوبا وشمالا، حتى دهمهم ما دهمهم، من الحوادث العظام، التي أزعجت القلوب، وزلزلتهم من الأوطان، عقوبة قدرية، سببها ارتكاب الذنوب والمعاصي، لأن من عصى الله وهو
يعرفه، سلط الله عليه من لا يعرفه.
والفتنة التي حلت بهم، هي فتنة العساكر التركية، والمصرية، فانتثر نظام الإسلام، وشتت أنصاره وأعوانه، وارتحلت الدولة الإسلامية; وأعلن أهل النفاق بنفاقهم، فرجع من رجع إلى دين آبائه، وإلى ما كان عليه سابقا من الشرك والكفر; وثبت من ثبت على الإسلام; وقام بهم من أمور الجاهلية أشياء، لا تخرج من ثبت منهم عن الإسلام.
إذا تبين هذا: فاعلم أن الكفر الموجود في أعراب نجد، الذين قد دخلوا في الإسلام سابقا، إنما هو كفر طارئ، لا كفر أصلي، فيعامل من وجد منه مكفر بما يعامل به أهل الردة، ولا يحكم عليهم بعموم الكفر، لأنه يوجد فيهم من هو ملتزم لشرائع الإسلام وواجباته.
وأما من ظاهره الإسلام منهم، ولكن ربما قد يوجد فيهم من الكفر العملي، الذي لا يخرج من الملة، وفيهم شيء من أمور الجاهلية، ومن أنواع المعاصي، صغائر كانت أو كبائر، فلا يعاملون معاملة المرتدين; بل يعاملون بالنصح برفق ولين، ويبغضون على ما معهم من هذه الأوصاف.
وليعلم: أن المؤمن تجب موالاته ومحبته، على ما معه من الإيمان، ويبغض ويعادى على ما معه من المعاصي، وهجره مشروع إن كان فيه مصلحة، وزجر
وردع، وإلا فيعامل بالتأليف وعدم التنفير، والترغيب في الخير برفق ولطف ولين، لأن الشريعة مبنية على جلب المصالح، ودفع المضار; والله ولي الهداية.
[من يسب الدين ويفعل المكفرات]
وسئل أيضا: عن حكم الذي باع بيته بعد ما نزل، ثم خرج إلى البادية، ومع ذلك يصدر منه مسبة للدين وأهل الدين ويفعل أشياء من المكفرات؟
فأجاب: إذا كان بهذه الصفة، فهو مرتد قد خرج من الإسلام، ولا ينفعه ما فعله أولا، لأن إقامته عند إخوانه، وسماع النصائح، والمواعظ، وسماع القرآن من أعظم قيام الحجة عليه، لأنه عرف ثم أنكر. وقد كان سابقا من جملة المسلمين، وإنما رغب عن السكنى، وفعل ما فعل من المسبة وغيرها، لخبث في قلبه، فهذا يعادى ولا يوالى، ويبغض ولا يحب، وهجره من الواجبات الشرعية، إلا إن حصل منه توبة صادقة، فالتوبة تهدم ما قبلها، ولا يحال بينه وبين التوبة، والتوبة معروضة، وبابها مفتوح لمن وفقه الله وهداه.
[رسالة الشيخ سعد بن حمد في الذبح عند المريض]
وقال الشيخ: سعد بن حمد بن عتيق، أعتقه الله من النار:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وخليله الصادق الأمين; أرسله رحمة للعالمين، وحجة على الخلق أجمعين، فأشاد منار الملة، ومهد قواعد الدين، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه الهداة المهتدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فقد سألني من تعينت إجابته، ولم تسعني مخالفته، عما يفعله كثير من الجهال، من أهل البوادي، ومن شابههم من ساكني البلدان، من ذبح كبش أو غيره، إذا مرض المريض، يزعمون أنهم قصدوا الصدقة، والتقرب إلى الله تعالى بتلك الذبيحة، وهل ذلك مما يجوز فعله للإنسان، ويثاب عليه؟ أو ينهى عنه، وينكر على من فعله؟
الجواب: لا ريب أن التقرب إلى الله بالنسك، من أفضل القربات، وأعظم الطاعات، ومن أشرف الحسنات، وأفضل النفقات التي يعظم ثوابها للمسلم، إذا حسن قصده في ذلك، وتجرد من الشوائب، والأسباب التي توجب
حبوط العمل، وعدم الانتفاع به، أو لحوقه بالمعاصي التي يعاقب عليها، كما سيأتي بيانه.
قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} 1، وقال تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 2.
قال ابن كثير: يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله، ويذبحون لغير اسمه، أنه مخالف لهم في ذلك؛ فإن صلاته ونسكه، على اسمه وحده لا شريك له؛ وهذا كقوله:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} أي: أخلص له صلاتك وذبحك، فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها.
فأمره تعالى بمخالفتهم، والانحراف عما هم فيه، والإقبال بالقصد والنية والعزم، على الإخلاص لله تعالى، قال مجاهد:(النسك الذبح في الحج والعمرة) ؛ قال الثوري عن السدي، عن سعيد بن جبير (وَنُسُكِي) : ذبحي، وكذا قال الضحاك، انتهى; فما يتقرب به المسلم إلى الله تعالى، من الهدي والأضاحي، وغير ذلك من النسك المأمور به شرعا، كل ذلك من العبادات التي أمر الله بها عباده; فمن فعل من ذلك شيئا لغير الله، فهو مشرك.
وقد كان المشركون يتقربون إلى معبوداتهم بأنواع من القرب، كالهدايا والنذور وغير ذلك، وهذا من الشرك الذي
1 سورة آية: 162-163.
2 سورة الكوثر آية: 2.
حرمه الله، وأخبر أنه لا يغفره، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1، وقال:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2،وقال:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 3.
وعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس، فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور. فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت " 4 وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر فقال:?"الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله" وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله" رواه عبد الرزاق; وفي صحيح مسلم، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: " لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن الله من غير منار الأرض "5.
وعن طارق بن شهاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب.
1 سورة النساء آية: 48.
2 سورة الزمر آية: 65.
3 سورة المائدة آية: 72.
4 البخاري: الأدب (5976)، ومسلم: الإيمان (87)، والترمذي: البر والصلة (1901) والشهادات (2301) وتفسير القرآن (3019) ، وأحمد (5/36) .
5 أحمد (1/317) .
قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: مر رجلان على قوم لهم صنم، لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا، فقالوا لأحدهما: قرب; قال ليس عندي شيء أقرب; قالوا: قرب ولو ذبابا; فقرب ذبابا فخلوا سبيله، فدخل النار. وقالوا للآخر: قرب; فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله، فضربوا عنقه فدخل الجنة "
ومن الشرك المحرم: ما يقع في كثير من المدن، والبوادي والقرى، والأمصار، من كثير ممن ينتسب إلى الإسلام، ممن قل نصيبه من الدين، وخالف سبيل المؤمنين، وسلك طريق المغضوب عليهم والضالين، من الذبح للجن، واتخاذهم أولياء من دون الله، مضاهاة لإخوانهم من المشركين الأولين، الذين قال الله فيهم:{إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 1، وقال:{بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 2.
وقد كان أولئك المشركون، يجعلون الجن شركاء لله في عبادته، فيذبحون لهم، وينذرون لهم، ويستعيذون بهم، ويفزعون إليهم عند النوائب; وكان منهم من يفعل ذلك خوفا من شرهم، وتخلصا من أذاهم; ومنهم من يفعل ذلك لقضاء بعض حاجاته، فإن من الناس من تخدمه الجن، فتخبره بأخبار من المغيبات، أو تأتيه بطعام أو
1 سورة الأعراف آية: 30.
2 سورة سبأ آية: 41.
بشراب، أو نفقة أو تدله على مسروق، وربما تطير به في الهواء، ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله; قال: ومثله واقع كثيرا، أعرف منه وقائع كثيرة، انتهى.
وإنما تفعل الجن ذلك بأوليائهم من الإنس، لطاعتهم إياهم فيما يهوونه، ويأمرونهم به من الشرك، وفعل الفواحش، وغير ذلك; وكل ذلك من الاستمتاع الذي ذكره الله في كتابه، في قوله:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} 1، قال بعض المفسرين على هذه الآية: فاستمتاع الإنسي بالجني، في قضاء حوائجه، وامتثال أوامره، وإخباره بشيء من المغيبات، واستمتاع الجني بالإنسي: تعظيمه إياه، واستعاذته به، وخضوعه له، انتهى.
ولهذا أمر الله عباده بالاستعاذة به، قال تعالى:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} 2، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} 3، وقال:{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} 4. وفي صحيح مسلم عن خولة بنت حكيم قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من نزل منْزلا، فقال: أعوذ بكلمات الله التامات، من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منْزله ذلك " 5.
1 سورة الأنعام آية: 128.
2 سورة الفلق آية: 1.
3 سورة الناس آية: 1.
4 سورة المؤمنون آية: 97-98.
5 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708)، والترمذي: الدعوات (3437)، وابن ماجه: الطب (3547) ، وأحمد (6/377 ،6/378 ،6/409)، والدارمي: الاستئذان (2680) .
وفي الدعاء المأثور عنه صلى الله عليه وسلم: "اللهم رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منْزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها. أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر "1.
وكذلك الدعاء الذي علمه النبى صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه: "اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءا، أو أجره إلى مسلم "2.
وفي الموطأ عن كعب الأحبار، قال: كلمات أحفظها من التوراة - لولاها لجعلتني يهود حمارا -: أعوذ بوجه الله العظيم، الذي لا شيء أعظم منه، وبكلمات الله التامات، التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وبأسماء الله الحسنى، ما علمت منها وما لم أعلم، وشر ما خلق وذرأ وبرأ.
فشرع سبحانه لعباده الاستعاذة به، والالتجاء إليه، والاعتصام به، والفزع إليه عند المخاوف والشرور، والرغبة إليه في دفع كل محذور، عكس ما كان عليه جهلة المشركين، من أهل الجاهلية الأولين، ومن سلك سبيلهم، ممن اتخذ الولائج من دون الله، من الأولياء والصالحين
1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713)، والترمذي: الدعوات (3400 ،3481)، وأبو داود: الأدب (5051)، وابن ماجه: الدعاء (3831) ، وأحمد (2/381 ،2/404 ،2/536) .
2 الترمذي: الدعوات (3529) ، وأحمد (2/171) .
وغيرهم، من الأصنام والجن والشياطين، فإنهم كانوا يستجيرون بهم، ويستعيذون بهم، كما قال تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 1.
قال ابن كثير، أي: كنا نرى لنا فضلا على الإنس، لأنهم كانوا يعوذون بنا، أي: إذا نزلوا واديا، أو مكانا موحشا، كما كانت عادة العرب في جاهليتها، يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجن، أن يصيبهم أحد بسوء؛ فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم، زادوهم رهقا، أي: خوفا وإرهابا وذعرا، حتى بقوا أشد منهم مخافة، وأكثر تعوذا بهم، انتهى.
فالاستعاذة بالله من أفضل مقامات العبودية، التي أمر الله بها عباده، مثل الدعاء والخوف والرجاء، والذبح والتوكل غير ذلك؛ فمن صرف منها شيئا لغير الله، من ملك أو ولي أو جني، أو صنم أو غير ذلك، فهو مشرك.
قال ابن القيم رحمه الله: ومن ذبح للشيطان ودعاه، واستعاذ به وتقرب إليه بما يحب، فقد عبده وإن لم يسم ذلك عبادة، أو يسميه استخداما؛ وصدق، هو: استخدام من الشيطان له، فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان؛ لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عبادة، فإن الشيطان لا يخضع له، ولا يعبده كما يفعله هو
1 سورة الجن آية: 6.
به، انتهى.
فصل
[الذبح للجن عند المريض]
والذبح للجن يفعله كثير من أهل الجهل والضلال، في البوادي والبلدان، إذا مرض الشخص أو أصابه جنون، أو داء مزمن ذبحوا عنده كبشا أو غيره، وكثير منهم يصرحون: بأنهم ذبحوه للجن، ويزعمون أن الجن أصابته بسبب حدث منه، فيذبحون عنده ذبيحة للجن، يقصدون تخليصه مما أصابه من ذلك الداء.
ولا شك أن الجن قد تعرض لبعض الإنس بأنواع من الأذى، كالصرع أو غيره، لأسباب يفعلها الإنسي يتأذون بها، كإلقائه عليهم مثقلا، أو غير ذلك من الأسباب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: وصرع الجن للإنس، هو لأسباب ثلاثة: تارة يكون الجني يحب المصروع، فيصرعه ليستمتع به، وهذا الصرع يكون أرفق من غيره وأسهل، وتارة يكون الإنسي آذاهم، إذا بال عليهم أو صب عليهم ماء حارا، أو يكون قتل بعضهم، أو غير ذلك بأنواع الأذى، وهذا أشد الصرع، وكثيرا ما يقتلون المصروع، وتارة يكون بطريق العبث به، كما يعبث سفهاء الإنس بأبناء السبيل، انتهى.
وأكثر ما ينسبه من ابتلي بشيء مما ذكر، ليس كما يزعمون من نسبته إلى الجن، بل أكثر ذلك كذب باطل،
وزعم فاسد؛ ولكن إذا ابتلي الإنسان بشيء من ذلك، فالواجب عليه الفزع إلى الله تعالى، والاستعاذة به، والالتجاء إليه، ورجاؤه والتوكل عليه، والتوجه إليه بقلبه وقالبه، فإن هذا هو السبب المنجي من الشرور.
قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1، وقال تعالى:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2، وقال:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 3، أي: كافيه. وقال ابن عباس: "حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ".
وفي بعض الآثار: إن الله تعالى أوحى إلى داود، يا داود: وعزتي وعظمتي، ما يعتصم بي عبد من عبادي دون غيري، أعرف ذلك من نيته، فتكيده السماوات السبع والأرضون ومن فيهن، إلا جعلت له من بينهن مخرجا. أما وعزتي وعظمتي، ما يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني، أعرف ذلك من نيته، إلا قطعت أسباب السماء من يديه، وأسخت الأرض من تحت قدميه، ثم لا أبالي في أي واد هلك; قال ابن القيم، رحمه الله تعالى:
1 سورة آل عمران آية: 175.
2 سورة المائدة آية: 23.
3 سورة الطلاق آية: 3.
وإذا تولاه امرؤ دون الورى
…
طرا تولاه العظيم الشان
فبالاعتصام بالله والاعتماد عليه، وإنزال الحوائج به دون غيره، يبطل كيد الكائدين، ويندفع عدوان المعتدين، وشر الحاسدين، من الإنس والجن والشياطين؛ وأما العدول عن ذلك، إلى التجاء إلى الجن، والذبح لهم، فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله، كما عرفت مما تقدم في هذا الجواب، وفاعل ذلك مشرك، خارج عن الإسلام، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
والذبيحة على هذا الوجه حرام، لا يباح لمسلم أكلها، وإن ذكر اسم الله عليها، لأنها مما أهل به لغير الله، كذبائح الكفار التي يذبحونها للأصنام، والشمس والكواكب.
قال شيخ الإسلام، رحمه الله في قوله:{وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} 1 مثل أن يقول: هذا ذبيحة لكذا، وإن كان هذا هو المقصود، فسواء لفظ به أو لم يلفظ؛ وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه باسم المسيح، أو نحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله، كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه باسم الله; فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح، أو الزهرة، فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح، أو الزهرة، أو قصد به ذلك، أولى; فإن العبادة لغير الله أعظم كفرا من
1 سورة البقرة آية: 173.
الاستعانة بغيره.
وعلى هذا، فلو ذبح لغير الله متقربا إليه يحرم، وإن قال فيه بسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، الذين يتقربون إلى الكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك؛ وإن كان هؤلاء مرتدين، لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان:
الأول: أنه مما أهل به لغير الله.
والثاني: أنها ذبيحة مرتد؛ ومن هذا الباب ما يفعله الجاهلون بمكة، من الذبح للجن; ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذبائح الجن، انتهى.
قال الزمخشري: كانوا إذا اشتروا دارا أو بنوها، أو استخرجوا عينا ذبحوا ذبيحة، خوفا أن تصيبهم الجن، فأضيفت إليهم الذبائح لذلك; ثم من الناس من يذبح عند المريض، لهذا المقصد الخبيث، ويظهر للناس أنه إنما قصد التقرب إلى الله، والصدقة على الفقراء والمساكين، بلحم ما يذبحه.
وقد اطلع الله منه على سوء القصد، وأنه إنما قصد بذبيحته التقرب إلى الجن، ولكن منعه من بيان مقصده، وإظهار نيته الخوف من المسلمين؛ وهذا نفاق وخيم، وزندقة شنيعة، ومحادة لله ورسوله، ومخادعة لله ولعباده المؤمنين، كإخوانه الموصوفين في قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا
يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} 1.
وفاعل ذلك أعظم من الذي قبله، لأنه أظهر الخير وحسن القصد، والتقرب إلى الله، وهو بضد ذلك، إنما أبطن الشر وقصد السوء، والتقرب إلى غير الله، وهو نظير إخوانه من المنافقين، والزنادقة الضالين.
فصل: [الذبح عند المريض لغير مقصد شركي]
وإذا عرفت أن الذبح عند المريض، على هذا الوصف الذي ذكرناه، من الشرك المحرم، فاعلم: أن من الناس من يذبح عند المريض لغير مقصد شركي، وإنما يقصد بالذبح التقرب إلى الله بالذبيحة، والصدقة بلحمها على من عنده من الأقارب، والمساكين وغيرهم.
ولا يخفى: أن قاعدة سد الذرائع المفضية إلى الشرك، ودرء المفاسد، يقتضي المنع من فعل ذلك، والنهي عنه، لأن ذلك ذريعة قوية، وفتح باب لفعل الشرك المحرم، لما قد عرَّفناك: أن كثيرا من الناس يذبح عند المريض، لقصد التقرب إلى الجن، ولكنه يخفي قصده عن الناس، خوفا من العقوبة الدنيوية، وبعضهم بين قصده بالذبح، ويظهر نيته لإخوانه، وأخدانه من شياطين الإنس، وهذا يعلمه من عرف أحوال الناس.
وقد حدثني من لا أتهم: أن من هذا الجنس من أتى
1 سورة آية: 9-10.
إلى مريض زمن، وأشار بأن يذبح عنده ذبيحة، ثم لما تفرق الناس عنه، ولم يبق عنده إلا ذلك الرجل، الذي حدثني، أسر إليه وأشار: أن الذبيحة لغير الله; وبذلك يعلم: أن المتعين النهي عن الذبح عند المريض، وإن حسن قصد الفاعل، سدا لباب الشرك، وحسما للذرائع، والمواد التي تجر إليه.
فإن العمل وإن كان أصله قربة، وفعله طاعة، فقد يقترن به ما يوجب بطلانه، ويقتضي النهي عنه، ولحوقه بالمنهيات، كأعمال الرياء، وتحري الدعاء، والصلاة لله عند القبور، والصلاة غير ذوات السبب في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، والنحر لله في أمكنة أعياد المشركين، ومواطن أوثانهم، قبل زوالها وبعده.
وفي حديث ثابت بن الضحاك، رضي الله عنه قال:"نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا; قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم "1.
فسأله صلى الله عليه وسلم هل كان في ذلك المحل وثن من أوثان الجاهلية، أو عيد من أعيادهم; وقوله بعد ذلك:" فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله " 2 يفيد: أنه لو كان فيه وثن من
1 أبو داود: الأيمان والنذور (3313) .
2 مسلم: النذر (1641)، والنسائي: الأيمان والنذور (3812 ،3847 ،3848 ،3849 ،3851)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3316) ، وأحمد (4/429 ،4/430 ،4/443)، والدارمي: النذور والأيمان (2337) والسير (2505) .
أوثان الجاهلية، أو عيد من أعياد الجاهلية، لكان الوفاء بالنذر لله فيه معصية، وهذا بين واضح.
قال الشيخ عبد اللطيف رحمه الله تعالى، في بعض رسائله: الوجه الخامس: أن سد الذرائع وقطع الوسائل، من أكبر أصول الدين وقواعده، وقد رتب العلماء على هذه القاعدة من الأحكام الدينية، تحليلا وتحريما، ما لا يحصى كثرة، ولا يخفى أهل العلم والخبرة؛ وقد ترجم شيخ الدعوة النجدية - قدس الله روحه - لهذه القاعدة في "كتاب التوحيد" فقال: باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد، وسده كل طريق يوصل إلى الشرك، انتهى.
وبما ذكرناه وحررناه، يعلم وجه النهي عن ذبح المسلم عند المريض، وإن حسن قصده ; ومن مفاسد ذلك: أنه سبب لدخول أهل النفاق والزندقة، من هذا الباب، متشبهين بالمسلمين، فيذبحون لأوليائهم من الجن، والشياطين، ولا يخافون من أحد من المسلمين، لعلمهم بخفاء سوء قصدهم، وعدم اطلاع المؤمنين على ما أبطنوه، من شركهم وضلالهم.
وقد نهى الله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا له: "راعنا"، لئلا يتشبه بهم اليهود، فيخاطبون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سبا له بذلك.
قال ابن القيم رحمه الله، على قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} 1: نهى سبحانه المؤمنين، أن يقولوا هذه الكلمة، مع قصدهم بها الخير، لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود، في أقوالهم وخطابهم، فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويقصدون بها السب؛ فراعنا من الرعونة، فنهي المسلمون عن قولها، سدا لذريعة المشابهة، ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم تشبها بالمسلمين، يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون، انتهى.
وفيما أوردناه كفاية، ولنختم الجواب بأبيات، قليلة الألفاظ والمباني، جليلة القدر والمعاني، يأنس بها كل ذي قلب سليم، وعقل مستقيم، وهي هذه:
نور الشريعة يهدي قلب ملتمس
…
للحق من ساطع الأنوار مقتبس
والجهل والصدف عن نهج الهدى كفلا
…
لا شك للشخص بالخذلان والفلس
وبالشقا والردى والبعد عن سبل
…
تفضي إلى جنة المأوى بملتمس
فخذ بنص من التنْزيل أو سنن
…
جاءت عن المصطفى الهادي بلا لبس
وسنة الخلفاء الراشدين فهم
…
أكرم بهم لمريد الحق من قبس
فإن خير الأمور السالفات على
…
نهج الهدى والهدى يبدو لمقتبس
1 سورة البقرة آية: 104.
والشر في بدع في الدين منكرة
…
تحلو لدى كل أعمى القلب منتكس
من ذاك ذبح لدى المرضى فصاحبه
…
على شفا جرف الخسران والتعس
فإن به قصد الجن لفواه فذا
…
شرك وكفر جلي غير ملتبس
أولا فبدعة ذي جهل وذي عمه
…
تدني إلى درن الإشراك والدنس
فاصغ للحق واردد سواه على
…
أربابه من أخي نطق وذي خرس
وهذه حجة التحريض قائمة
…
قد أسفرت لمريد الحق فاقتبس
وصلى الله على محمد.
[بماذا يعامل من ظاهره الإسلام، ومن ظاهره لا إسلام ولا كفر]
وقال الشيخ سليمان بن سحمان، رحمه الرحيم المنان.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فقد تأملت ما ذكره الأخ، من المسائل التي ابتلي بالخوض فيها كثير من الناس، من غير معرفة ولا اتقان، ولا بينة ولا دليل واضح، من السنة والقرآن؛ وقد كان غالب من يتكلم فيها بعض المتدينين من العوام الذين لا معرفة لهم بمدارك الأحكام، ولا خبرة لهم بمسالك مهالكها المظلمة العظام، وليس لهم اطلاع على ما قرره أئمة الإسلام، ووضحوه في هذه المباحث، التي لا يتكلم
فيها إلا فحول الأئمة الأعلام.
وهذه المسائل قد وضحها أهل العلم وقرروها، وحسبنا أن نسير على منهاجهم القويم; ونكتفي بما وضحوه، من التعليم والتفهيم، ونعوذ بالله من القول على الله بلا علم. وهذه المسائل التي أشرت إليها، لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب، ومن رزق الفهم عن الله، وأوتي الحكمة، وفصل الخطاب.
ونحن وإن كنا لسنا من أهل هذا الشأن، ولا ممن يجري الجواد في هذا الميدان، فإنما نسير على منهاج أهل العلم، ونتكلم بما وضحوه في هذا الباب؛ ولولا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الوعيد في ذلك، بقوله:" من سئل عن علم وهو يعلمه، فكتمه، ألجمه الله بلجام من نار " 1، لضربت عن الجواب صفحا، ولطويت عن ذلك كشحا، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله.
فقوله: ماذا يعامل من ظاهره الإسلام؟ ومن ظاهره لا إسلام ولا كفر، بل جاهل؟ ومن ظاهره الكفر؟ ومن ظاهره المعاصي دون الكفر؟ ومن الذي تباح ذبيحته منهم؟ ومن الذي لا تباح ذبيحته؟ وما القدر الواجب في الإسلام المبيح للذبيحة؟
1 الترمذي: العلم (2649)، وأبو داود: العلم (3658)، وابن ماجه: المقدمة (266) ، وأحمد (2/263 ،2/296 ،2/305 ،2/344 ،2/353 ،2/495) .
فالجواب: أن من في جزيرة العرب، لا نعلم ما هم عليه جميعهم، بل الظاهر أن غالبهم وأكثرهم ليسوا على الإسلام، فلا نحكم على جميعهم بالكفر، لاحتمال أن يكون فيهم مسلم.
وأما من كان في ولاية إمام المسلمين، فالغالب على أكثرهم الإسلام، لقيامهم بشرائع الإسلام الظاهرة; ومنهم من قام به من نواقض الإسلام، ما يكون به كافرا، فلا نحكم على جميعهم بالإسلام، ولا على جميعهم بالكفر لما ذكرنا.
وأما من لم يكن في ولاية إمام المسلمين، فمن كان ظاهره الإسلام منهم، فيعامل بما يعامل به المسلم في جميع الأحكام.
وأما من ظاهره لا إسلام ولا كفر، بل هو جاهل، فنقول: هذا الرجل الجاهل، إن كان معه الأصل الذي يدخل به الإنسان في الإسلام، فهو مسلم، ولو كان جاهلا بتفاصيل دينه، فإنه ليس على عوام المسلمين، ممن لا قدرة لهم على معرفة تفاصيل ما شرعه الله ورسوله، أن يعرفوا على التفصيل، ما يعرفه من أقدره الله على ذلك، من علماء المسلمين، وأعيانهم، مما شرعه الله ورسوله، من الأحكام الدينية؛
بل عليهم أن يؤمنوا بما جاء به الرسول، إيمانا عاما مجملا، كما قرر ذلك شيخ الإسلام في المنهاج. وإن لم يوجد معه الأصل، الذي يدخل به الإنسان في الإسلام، فهو كافر، وكفره هو بسبب الإعراض عن تعلم دينه، لا علمه، ولا تعلمه، ولا عمل به.
والتعبير بأن ظاهره لا إسلام ولا كفر، لا معنى له عندي، لأنه لا بد أن يكون مسلما جاهلا، أو كافرا جاهلا؛ فمن كان ظاهره الكفر، فهو كافر، ومن كان ظاهره المعاصي، فهو عاص؛ ولا نكفر إلا من كفره الله ورسوله، بعد قيام الحجة عليه.
وأما الذي تباح ذبيحته منهم، فهو المسلم، وأما الذي لا تباح ذبيحته، فهو الكافر، والمرتد، وهو الذي يكفر بعد إسلامه، بفعل ناقض من نواقض الإسلام، المخرجة من الملة؛ وقد وضحنا حكم أعراب أهل نجد.
والعجب كل العجب من هؤلاء الجهال، الذين يتكلمون في مسائل التكفير، وهم ما بلغوا في العلم والمعرفة، معشار ما بلغه من أشار إليهم الشيخ عبد الله أبا بطين، من أن أحدهم لو سئل عن مسألة في الطهارة، أو البيع، ونحوهما لم يفت بمجرد فهمه، واستحسان عقله؛
بل يبحث عن كلام العلماء، ويفتي بما قالوه، فكيف يعتمد في هذا الأمر العظيم، الذي هو أعظم أمور الدين، وأشدها خطرا، على مجرد فهمه، واستحسان عقله؟ فما أشبه الليلة بالبارحة، في إقدام هؤلاء على الفتوى، في مسائل التكفير، بمجرد أفهامهم، واستحسان عقولهم، ثم أخذ بذلك عنهم، وأفتى به من لا يحسن قراءة الفاتحة؟
المسألة الرابعة: قول السائل: وما الإعراض الذي هو ناقض من نواقض الإسلام؟ وما الذي يصدق عليه الإعراض؟
فالجواب أن نقول: قد ذكرنا الجواب عن هذه المسألة، ولكن نذكر هاهنا ما ذكره شيخنا، الشيخ عبد اللطيف، رحمه الله تعالى، لما سئل عن هذه المسألة.
فقال، الجواب: إن أحوال الناس تتفاوت تفاوتا عظيما، وتفاوتهم بحسب درجاتهم في الإيمان، إذا كان أصل الإيمان موجودا، والتفريط والشرك، إنما هو فيما دون ذلك من الواجبات، والمستحبات; وأما إذا عدم الأصل الذي يدخل به في الإسلام، وأعرض عن هذا بالكلية، فهذا كفر إعراض، فيه قوله تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} 1 الآية، وقوله:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} 2 الآية.
1 سورة الأعراف آية: 179.
2 سورة طه آية: 124.
ولكن عليك أن تعلم: أن المدار على معرفة حقيقة الأصل، وحقيقة القاعدة، وإن اختلف التعبير واللفظ; فإن كثيرا يعرف الأصل والقاعدة، ويعبر بغير التعبير المشهور؛ وتعزيرهم وتوقيرهم كذلك، تحته أنواع أيضا، أعظمها: رفع شأنهم، ونصرتهم على أهل الإسلام، وتصويب ما هم عليه، فهذا وجنسه من المكفرات؛ ودونه مراتب، من التوقير بالأمور الجزئية، كلياقة الدواة ونحوه، انتهى.
فتبين من كلام الشيخ: أن الإنسان لا يكفر، إلا بالإعراض عن تعلم الأصل، الذي يدخل به الإنسان في الإسلام، لا ترك الواجبات والمستحبات.
ثم قال رحمه الله تعالى: وأما قول السائل: ومما يتقاولونه بينهم، ما فعل المشايخ بهم ذلك، إلا أنهم مكفرون لهم.
فالجواب: أن نقول: هذا من أعظم كذبهم، وافترائهم على المشايخ، لأنه قد كان من المعلوم أن المبادرة بالتكفير، والجراءة على ذلك بغير بينة من الله ولا برهان، من طرائق أهل البدع ومذاهبهم، كما قال شيخ الإسلام:
ومن مثالب أهل البدع: تكفير بعضهم لبعض; ومن
ممادح أهل العلم: أنهم يخطئون ولا يكفرون; فإذا فهمت هذا، وتحققت أن المشايخ لا يكفرون بما دون الكفر من الذنوب والمعاصي، تبين لك أن هذه الأمور، التي زعموا أن المشايخ ما منعوهم من فعلها، إلا أنهم مكفرون لهم بها، كان من المعلوم: أنهم هم الذين يكفرون بها، لاعتقادهم أنها كفر.
والمشايخ: يبرؤون إلى الله من هذا المعتقد، لأن هذا هو حقيقة مذهب الخوارج الذين يكفرون بما دون الكفر من الذنوب؛ وإذا كان هذا هو معتقدهم، وكان هذا القول، الذي بهتوا به المشايخ، ثابتا عنهم، فلا تسأل عنهم وعن معتقدهم، هذا عين ما نطقوا به، وأظهروه علانية، وهذا هو الذي خاف الإمام والمشايخ بمنعهم، أن يتجارى بهم هذا الأمر، ويبثوه في عوام البدو، الذين ليس عندهم من المعرفة والعلم إلا ما ألقاه هؤلاء إليهم، فيصادف قلوبا خالية من غيره، فيصعب إخراجه من قلوبهم، كما قيل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
…
فصادف قلبا خاليا فتمكنا
وهذا قد وقع في كثير من البدو، لا يقبلون إلا ما قاله هؤلاء لهم; والعاقل يسير وينظر، والظاهر أنهم في رميهم وبهتانهم المشايخ بأنهم مكفرون لهم، مبرئون أنفسهم مما هو معلوم بالضرورة، بأن تلك هي حالتهم وسيرتهم، كما
قيل:
…
رمتني بدائها وانسلت.
ثم إن المشايخ - ولله الحمد والمنة - لا يزكون أنفسهم، ولا يبرئونها من الخطأ والزلل، والذنوب والمعاصي، بل هم معترفون بذلك على أنفسهم، وأنهم مقصرون في الأعمال الصالحات، والعصمة إنما هي للرسل؛ ولكنهم لا يرضون ما يسخط الله، من الأقوال والأعمال، والغلو، والتجاوز، والمجاوزة للحد، بغير ما شرعه الله ورسوله، ولا القول على الله بلا علم؛ وحسبنا الله ونعم الوكيل.
[السؤال عن حكم استعمال الساعات وعن تركيبها]
[استعمال الساعات وتركيبها]
وله أيضا قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وإمام المتقين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد تأملت ما ذكره الأخ المكرم حفظه الله، من السؤال عن الساعة، وعن تركيبها; والموجب لذلك: أن رجلين تنازعا في شأنها، فقال أحدهما: هي عمل سحر; وقال الآخر: هي صنعة من سائر الصناعات، المخترعة في هذه الأزمنة; قال الآخر: أقل أحوالها أنها
بدعة، لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، والبدع محظورة
…
إلى آخر السؤال.
فاعلم وفقك الله لطاعته، وأحاطك بحياطته، وتولاك في الدنيا والآخرة: أن أمر الساعة قد تكلم العلماء فيها قديما، ولم تكن مما أحدث في هذه الأزمان; وقد كانت موجودة على عهد مشايخ أهل الإسلام، الذين هم القدوة، وبهم الأسوة في مسائل الدين والأحكام، وهم يعلمون أنها موجودة في بلادهم، وعند بعض الولاة والحكام، ولم ينكرها أحد منهم، ولم يتكلم فيها بشيء مما يتكلم به هؤلاء المتمعلمون المتنطعون، الصعافقة المجان، الذين تكلفوا أن يتجروا فينا بلا أثمان.
فإذا تحققت هذا، وعرفته، فاعلم أن قول المنكر للساعات: إنها عمل سحر، وإن أقل أحوالها أنها بدعة، لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، والبدع محظورة، قول خطأ محض، لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، ولا إجماع، ولا قول أحد من العلماء، الذين يعتد بقولهم في الخلاف والوفاق، بل هو قول مجرد عن الدليل، ودعوى عارية عن التأصيل، والتفصيل.
ونحن نبين ما ذكره العلماء في ذلك، ليزول الإشكال والتلبيس، ويندفع ما قصده من التمويه والتدليس; قال الإمام الحافظ: العماد بن كثير، رحمه الله تعالى في
تفسيره، على قوله تعالى {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} 1 الآية:
حكى أبو عبد الله الرازي، في تفسيره، عن المعتزلة أنهم أنكروا وجود السحر، فذكر كلاما طويلا، إلى أن قال: ثم ذكر أبو عبد الله الرازي، أنواع السحر ثمانية، فذكرها إلى أن قال: النوع الخامس من السحر: الأعمال العجيبة، من تركيب الآلات، المركبة من النسب الهندسية، كفارس على فرس، في يده بوق، كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق، من غير أن يمسها أحد; ومنها: الصور التي تصورها الروم والهند، حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان، حتى يصوروها ضاحكة وباكية، إلى أن قال:
فهذه الوجوه من لطيف أمور التخاييل; قال: وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل، قلت: يعني ما قاله بعض المفسرين، أنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي، فحشوها زئبقا، فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق، فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها.
قال الرازي: ومن هذا الباب: تركيب صندوق الساعات، ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال بالآلات الخفية; قال: وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب
1 سورة البقرة آية: 102.
السحر، لأن لها أسبابا معلومة يقينية، من اطلع عليها قدر عليها.
قلت: ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم، بما يرونهم إياه من الأنوار، كقضية قمامة الكنيسة، التي لهم ببلد المقدس، وما يحتالون به من إدخال النار إلى الكنيسة، وإشعال ذلك القنديل بصفة لطيفة، تروج على العوام منهم; وأما الخواص منهم، فهم معترفون بذلك، ولكن يتأولون: أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم، فيرون ذلك سائغا لهم
…
إلى آخر كلامه رحمه الله.
فتأمل ما ذكره الرازي، من تركيب صندوق الساعات، وأنه من هذا الباب، يعني من باب جعل الزئبق في الحبال والعصي، فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق، فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها; ثم قال: ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال بالآلات الخفية; قال: وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر، لأن لها أسبابا معلوما يقينية، من اطلع عليها قدر عليها. فذكر: أن تركيب صندوق الساعات، وعلم جر الأثقال بالآلات الخفية، لا ينبغي أن يعد من باب السحر، لأن لها أسبابا معلومة يقينية، من اطلع عليها قدر عليها، وهذا مما لا إشكال فيه، لأنه قد ذكر ابن القيم رحمه الله في "بدائع الفوائد" ما معناه: أن سحر سحرة
فرعون من باب الشعبذة والتخييلات، كما قال تعالى:{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} 1، وقال تعالى:{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} 2، فذكر أنهم سحروا أعين الناس، وخيلوا إليهم بسحرهم أنها تسعى، وهذا بخلاف جعل الزئبق، في الحبال، والعصي، فإنه صناعة من الصناعات؛ ورد رحمه الله قول من قال من المفسرين: إنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي فحشوها زئبقا، لأن هذا صناعة من الصناعات، ليس من باب الشعبذة، ولا من باب التخييل.
وقد أقر الحافظ ابن كثير ما ذكره الرازي من صندوق الساعات، وعلم جر الأثقال بالآلات الخفية، ولم يعترض عليه في ذلك بشيء، كما اعترض عليه فيما أخطأ فيه من الأمور التي تقدم ذكرها، في السحر، وجواز تعلمه، ووجوبه، وغير ذلك; بل ذكر رحمه الله: أن صناعة صندوق الساعات، كمثل صناعات النصارى، فيما تتحيل به على عوامهم، بما يرونهم إياه من الأنوار، كقضية قمامة المتقدم ذكرها، وقد ذكرها ابن القيم في "هداية
1 سورة آية: 65-66.
2 سورة آية: 115-116.
الحيارى"، وذكر أنها من الحيل والصناعات التي أضلت بها النصارى عوامهم، وليست من قبيل السحر، كما يظنه من لا معرفة لديه.
فإذا فهمت هذا، وتحققته، فاعلم: أن المنكر للساعات لم يأت بدليل يمنع من استعمالها، ولا ذكر أن أحدا من العلماء، المعتد بأقوالهم أنكرها، وجعلها من قبيل السحر; وإنما ذكر: أن أقل أحوالها، أنها بدعة، والبدع محظورة، والجواب عن ذلك من وجوه.
الوجه الأول: أن البدع لا تكون إلا في القرب، والعبادات التي يتقرب بها العبد إلى ربه، لا في العادات، كالصناعات، والملابس، والمآكل، والمشارب، وغير ذلك من العادات الطبيعية، ولا يعترض بمثل هذا إلا الجهال العوام الذين هم أشبه شيء بسائمة الأنعام.
الوجه الثاني: أنا لو سلمنا أنها من البدع، وأنها محظورة، فما الجواب عن الآلات، والصناعات، والملابس، التي حدثت بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كالمدافع، والصمع، وآلات الحرب، مما يستعمله الناس، إن كانت من قبيل البدع، فلأي شيء لم ينكر هذه البدع؟ وما الذي يسوغ له السكوت عن إنكارها، إن كان مقصوده إنكار البدع؟
الوجه الثالث: أن يقال لهذا الجاهل: لا بد أن تذكر شيئا من الأدلة الشرعية، على الفرق بين جواز استعمال آلات الحرب، والصنائع العادية المحدثة بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنها من قسيم العادات التي يجوز استعمالها، وبين آلات صندوق الساعات، وما أحدثه الناس من الملابس، والمطاعم، وغيرها من العادات المصنوعة، لكن بعضها بأسباب خفية لطيفة، وبعضها بأسباب معلومة ظاهرة، وأنها من قسيم العبادات، والبدع المحظورة المحدثة، بعد عهد النبوة.
فإن لم يذكر دليلا شرعيا، يدل على الفرق بين ما ذكرناه، وإلا فكيف يجوز له أن يتكلم فيما لا معرفة له به؟ ويأمر وينهى وينكر بغير علم، وقد قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 1. ومن سوى بين العبادات التي يتقرب بها إلى الله، وبين العادات التي هي مباحة في الجملة، فهو أضل من حمار أهله.
وقد اعترض رجل من الجهمية، على أهل الإسلام، بمسائل يطعن عليهم بها في دينهم، منها قوله: أكثر ما
1 سورة الأعراف آية: 33.
تستعملونه من شرب القهوة، ولبس المحارم، بدعة. فأجاب شيخنا: الشيخ عبد اللطيف، بقوله: وهذا من أدلة جهله، وعدم معرفته للأحكام الشرعية، والمقاصد النبوية؛ فإن الكلام في العبادات، لا في العادات، والمباحث الدينية نوع، والعادات الطبيعية نوع آخر؛ فما اقتضته العادة من أكل، وشرب، ومركب، ونحو ذلك، ليس الكلام فيه; والبدعة: ما ليس لها أصل في الكتاب والسنة، ولم يرد بها دليل شرعي، ولم تكن من هديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه.
وأما ما له أصل، كإرث ذوي الأرحام، وجمع المصحف، والزيادة في حد الشارب، وقتل الزنديق، ونحو ذلك، فهذا وإن لم يفعل في وقته صلى الله عليه وسلم فقد دل عليه الدليل الشرعي؛ وبهذا التعريف تنحل إشكالات، طالما عرضت في المقام. وقال رحمه الله تعالى، في رده على البولاقي صاحب مصر، في قوله:
وها أنتمو قد تفعلون كغيركم
…
حوادث قد جاءت عن الأب والجد
كحرب ببارود وشرب لقهوة
…
وكم بدع زادت عن الحد والعد
قال رحمه الله تعالى:
وأعجب شيء أن عددت لقهوة
…
مع الحرب بالبارود في بدع الضد
وقد كان في الإعراض ستر جهالة
…
غدوت بها من أشهر الناس في البلد
فما بدع في الدين تلك وإنما
…
يراد بها الإحداث في قرب العبد
فتبين بما ذكرناه، عن الشيخ عبد اللطيف رحمه الله: كثافة جهل هذا المنكر، وعدم علمه ومعرفته بالأحكام الشرعية والمقاصد النبوية، حيث زعم أن العادات الطبيعية والآلات الصناعية، من قسيم العبادات، وأنها محظورة، لأنها لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولم يفرق بين العادات، والعبادات.
وأما قول، القائل: ومما يدل على أنها سحر، أن فلانا قرأ عليها آية من القرآن، فوقفت؟
فالجواب: أن نقول: وهذا أيضا من الأدلة الدالة على جهل هذا المتكلم، وكثافة طبعه وشدة غباوته، حيث حكم واستدل على أنها من السحر، بحكاية لم يسندها من نقلها، عمن يوثق به في دينه وعدالته.
وحقيقة الأمر: أن الذي صدر في قراءته على الساعة، أنه قرأ عليها بمحضر من الإخوان، قراءة طويلة، وجعل يتفل عليها بريقه، فلم تقف، فلما تبين عجزه، وتبين كذبه في دعواه أنها سحر، أمسك عن القراءة; وأخذ الساعة صاحبها، فأزال عنها الأذى الذي حصل بريقه فيها.
فقال القارئ: أعوذ بالله، كيف تزيل عنها كلام الله؟
فزعم هذا الجاهل المركب: أن تفاله وريقه القذر المخلوق، هو نفس كلام الله سبحانه وتعالى، وكلام الله سبحانه وتعالى صفة قائمة بذاته، ليس هو الريق المتفول المخلوق المستقذر، تعالى الله وتقدس عما يقوله الجاهلون علوا كبيرا، ولكنا نحمله على الجهل؛ فكيف يستدل بقول هذا الجاهل أو فعله، عاقل؟ مع عدم ثبوت النقل على حقيقته، في التحليل والتحريم، سبحانك هذا بهتان عظيم!
وقد كان من المعلوم أن دعواه أنها وقفت بقراءته عليها كذب، وأنها لم تقف; ومما يبين كذب هذه الدعوى، أنها معنا ومع من يحملها من طلبة العلم وغيرهم، ممن يقرأ القرآن، فلا تقف عند قراءة أحد من الناس. ثم إنه قد كان من المعلوم أن كثيرا من الناس، إذا اختلت نقض صندوقها، ونثرها، ثم أعادها على هيئتها الأولى، وهم لا يعرفون السحر، ولا أسبابه ولا أنواعه. وقد أشكل على بعض الناس ما ذكره ابن كثير عن الرازي، لما أدخل في مسمى السحر، وأنواعه، بعض الصناعات، باسمه العام في اللغة، فظن أنه من السحر الذي من تعلمه وعمل به كان كافرا، وليس الأمر كذلك.
وقد بيّن ذلك ابن كثير رحمه الله تعالى، بقوله: قلت
وإنما أدخل كثيرا من هذه الأنواع المذكورة في فن السحر، للطافة مداركها، لأن السحر في اللغة: عبارة عما لطف وخفي سببه; ولهذا جاء في الحديث: " إن من البيان لسحرا " 1، وسمي "السَّحَر" لكونه يقع خفيا آخر الليل; و "السَّحَر" الرئة، وهي محل الغذاء، وسميت بذلك لخفائها، ولطف مجاريها، إلى أجزاء البدن وغضونه، كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة: انتفخ سحره، أي: انتفخت رئته من الخوف، وقالت عائشة رضي الله عنها:"توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري"، وقال تعالى:{سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} 2، أي: أخفوا عنهم عملهم، والله أعلم.
وبهذا القدر الذي أوردناه كفاية لمن كان قصده الحق، والله المستعان، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
1 البخاري: النكاح (5146)، والترمذي: البر والصلة (2028)، وأبو داود: الأدب (5007) ، وأحمد (2/16 ،2/59 ،2/62 ،2/94)، ومالك: الجامع (1850) .
2 سورة الأعراف آية: 116.
[تقريظ الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف على رسالة حكم استعمال الساعات]
قال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، وصلى الله على محمد النبي الهاشمي المصطفى، وسلم تسليما.
أما بعد: فقد تأملت ما أجاب به الشيخ سليمان بن سحمان، فيمن سأله عن أمر الساعة، فما أجاب به هو عين الصواب، وأهل الخوض فيها فلان وأشياعه، ممن ارتكب ما نهى الله عنه من التحليل والتحريم برأيه، ممن تناولهم نص هذه الآية، وهي قوله تعالى:{وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} 1 وهي قديمة من القرن السادس، أو قبله، متداولة بين الملوك.
وقد نص شيخ الإسلام، على أشياء ملتحقة بالسحر، لأنها بواسطة عبادة الشياطين، كالسيميا، والكيميا، ولم يتعرض للساعة، لأنها من الصناعة المستخرجة; وهذا مشاهد أنها من قوي إدراكه أحسن تركيبها; وبالجملة: من أصغى إلى هؤلاء وكلامهم، فقد رضي بافتراء الكذب على الله، في التحليل والتحريم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
1 سورة النحل آية: 116.
وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف، وفقه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أقام من شاء من عباده لنصر السنة والقرآن، ووفقهم لكشف ما موّه به أهل الزيغ والافتتان، وصلى الله وسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين، وصفوة الخلق أجمعين، نبينا محمد سيد ولد عدنان، وآله وصحبه الذابين عن دينه، بالسيف واللسان، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإني نظرت فيما كتبه العالم النبيل، والفاضل الجليل، الشيخ سليمان بن سحمان، جوابا لمن سأله عن الساعة، فإذا هو عين الصواب، والحق الذي لا شك فيه ولا ارتياب؛ إذ المجادل فيها، والقائل أنها من السحر، من أضل الناس، وأجهلهم بقواعد الشرع، وبالتحريم والتحليل، لأن من يحلل ويحرم بلا حجة ولا برهان، بل بمجرد رأيه، فهو أضل من حمار أهله. والتحليل والتحريم، مرجعهما ومأخذهما، من كتاب الله وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه السلف الصالح، وأئمة الدين.
والساعة صنعة من الصناعات، التي تدرك بالحذق والفكرة، ليست من البدع، ولا من السحر؛ إذ البدع
المذمومة ما كانت في القرب الشرعية، وأما العادات والصناعات، فليست من قسيم البدع. وقد تداولها الملوك وغيرهم، والعلماء من أهل التحقيق، يشاهدونها، ويسمعون بها، ولم يبلغنا عن أحد ممن مضى ممن يعتد به، تحريمها، ولا إنكارها.
ولكن إذا خاض في مسائل التحليل والتحريم، من لا بصيرة له ولا علم، ولا دراية له بالحدود الشرعية، وقلده على جهله من هو من عوام المسلمين، الذين هم أشباه الأنعام، وقع اللبس والتشكيك؛ ولا يلتفت إلى هؤلاء الصعافقة، إلا من قلّ حظه، وضاع نصيبه، من العلم، والإيمان. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
[تقريظ الشيخ سعد بن حمد على رسالة حكم استعمال الساعات]
وقال الشيخ سعد بن حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نور قلوب أهل العلم والإيمان، بنور السنّة والقرآن، ووفق من أراد هدايته عند الاختلاف، لإصابة الحق والعرفان، وحرم المخذولين بما انتحلوه، من طرائق الجهل، وموارد الخذلان؛ أحمده على تيسير السنة والقرآن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة متواطئ عليها القلب واللسان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، سيد ولد عدنان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد: فقد نظرت في هذا التحرير المفيد، والكلام السديد، الذي كتبه أخونا الشيخ الفاضل سليمان بن سحمان، أيده الله بروح منه وسلطان، في رد ما قاله بعض الجهلة، في صندوق الساعة، من أنها من السحر المحرم، وأنه يحرم على المسلم اتخاذها واستعمالها، فوجدت كلامه عافاه الله، وافيا بالمرام، شافيا للسقام، كافيا في رد ما انتحله أولئك الجهلة الطغام، وتهجين ما توهموه واعتقدوه بآرائهم الفاسدة، وعقولهم الكاسدة؛ فجزاه الله أحسن
الجزاء.
ولا يشك من له معرفة بمدارك الأحكام الشرعية، وأصول الشريعة المحمدية أن هذا القول من أفسد الأقوال، وأبعدها عن الصواب، وأنه من القول على الله في شرعه وأحكامه بغير علم.
وقد قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 1، وقال تعالى:{وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} 2. وكيف يستجيز من له نصيب من العقل والدين، الجراءة على مثل هذا القول؟!
ومن العجب: أن الرجل الذي اخترع هذا الكلام، حتى اغتر به بعض جهلة العوام، الذين هم أشبه شيء بالأنعام، ينسب هذا القول – أعني: زعمه أن صندوق الساعة من السحر - إلى ابن كثير رحمه الله، ويدعي أنه استدل بكلام ابن كثير، على ما اعتقده برأيه الفاسد؛ وهذا يدل العاقل على كثافة جهل هذا الرجل، وفساد تصوره لما ذكره ابن كثير؛ فإن ما ذكره ابن كثير، ونقله عن
1 سورة الأعراف آية: 33.
2 سورة النحل آية: 116.
الرازي، أوضح شيء في بيان أن الساعة ليست من السحر في شيء، وإنما هي من الأعمال العجيبة، والحِرَف التي هي أسباب تخفى على من لا يعرفها. وقد اجتمعت بهذا الرجل، وبينت خطأه في ذلك، وفساد تصوره لما ذكره ابن كثير، وأنه ينادي بخلاف ما ادعاه، ويشهد بجهله وخطئه، فأصر على ما انتحله، وكابر وعاند; ولا يغتر بما تخيله هذا الرجل ورآه، واعتقده بجهله، وافتراه من التحريم، بغير حجة من الله ولا برهان، إلا من هو من الجهلة المخذولين; والله الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[حكم ذبائح الصلب وكفار البوادي]
وله أيضا: أسكنه الله الفردوس الأعلى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من سليمان بن سحمان إلى عبد الكريم بن السيد عباس، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: وصل إلي منك جملة خطوط، تذكر فيها التنصل من هذه الفتوى المنسوبة إليك، وتزعم أنها مكذوبة عليك، وتبرأ إلى الله منها وممن قالها؛ وهذا بخلاف ما حدثني به الشيخ عبد الله بن بليهد، لما قدم الهند،
واجتمع بك، وعرض عليك الفتوى التي أفتيت بها، في حل ذبائح الصلب 1 وكفار البوادي، بمجرد النطق بالشهادتين، وانتسابهم إلى دين الإسلام، مع ترك الصلاة والزكاة والصوم والحج، وارتكاب جميع المحارم، التي حرمها الله ورسوله، وذكر لي أنك ستكتب بالتوبة، والرجوع عما قلت فيها.
ثم لما جاءتنا رسائلك، فإذا هي بخلاف ما ذكره الشيخ عنك; ولا يخفى عليك أن الرد الذي كتبناه، إنما كتبناه في الرد على هذه الشبهات، التي شبّه بها هذا المفتري على أهل الإسلام، وزعم أنها مما أمر الله به ورسوله; وليس المقصود الرد عليك نفسك، وإنما هو على هذه الورطات العظيمة، والشبهات المدلهمة الوخيمة.
وليس المقصود الأعظم بالرد على من أباح ذبائح الصلب فقط، لأنه من المعلوم عند جميع المسلمين أنهم كفار، وأنها لا تباح ذبائحهم، وإنما المقصود بالرد على من أفتى بهذه الفتوى لأمور:
أحدها: أن دعوى من أفتى بهذه الفتوى: أن من تلفظ بالشهادتين يكون مسلما تؤكل ذبيحته، وإن كان مع ذلك لا يصلي ولا يزكي، ولا يصوم ولا يحج، ويرتكب مع ذلك جميع الكبائر.
وقد تبين لك: أنه لا بد من معرفة شهادة أن لا إله
1 وتقدم للشيخ إسحاق الكلام في صيد الصلب صفحة 485/ج/7.
إلا الله، والعمل بمقتضاها من القيام بهذه الأركان الأربعة. وهؤلاء الصَّلب الذين أحل ذبائحهم، وشهد لهم بالإسلام، لا يعرفون معنى لا إله إلا الله، ولا عملوا بمقتضاها، وقد حكم لهم بغير ما أمر الله به ورسوله.
الأمر الثاني: أنه زعم أن من انتسب إلى الإسلام، يكون مسلما بمجرد انتسابه إليه، فعلى زعمه: أن عباد القبور اليوم، ممن يدعون الأنبياء، والأولياء والصالحين، وسائر من كفر بالله، وأشرك به ممن يتلفظ بالشهادتين، أنهم مسلمون بمجرد انتسابهم إلى الإسلام، تحل نساؤهم، وتؤكل ذبائحهم؛ وقد تبين لك ما أمر الله به فيهم ورسوله، من تكفيرهم وعدم إسلامهم.
الأمر الثالث: أنه زعم أن الرجل يكون مسلما بنفسه، لا باعتقاده وإرادته، وقوله وعمله; وزعم: أن هذا القول لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهو نقل محرف متصرف فيه، كما بيناه في الرد، وأن هذا لا يقوله عالم؛ ولو أن هذا الرجل من أهل العلم والمعرفة، العالمين بمدارك الأحكام، لعلم أن آخر العبارة يناقض تحريفهم، وما تصرفوا فيه منها.
فإن قوله رحمه الله: وكل حكم علق بأسماء الدين، من إسلام وإيمان، وكفر ونفاق، وردة وتهود وتنصر، إنما يثبت لمن اتصف بالصفات الموجبة لذلك، فهذا يناقض ما
حرفوه بقولهم، هو حكم يتعلق بنفسه، لا باعتقاده، وإرادته، وقوله وعمله؛ فإن هذه الأوصاف: من الإيمان والإسلام، والكفر والنفاق، والردة وغيرها، هي الموجبة لكونه مسلما، أو يهوديا، أو نصرانيا.
الأمر الرابع: أنه زعم أن من أشرك بالله وكفر به، مسلم بمجرد انتسابه إلى الإسلام، قياسا على اليهود والنصارى، لأن الله أحل ذبائحهم ونساءهم، بمجرد انتسابهم إلى الكتاب، وأن الله سماهم أهل كتاب، مع أنهم لم يعملوا بما في التوراة والإنجيل، مما أمر الله به؛ فكذلك تحل ذبيحة من ارتد عن الإسلام، وكفر بالله وأشرك به، من هذه الأمة على زعمه، وإن لم يعملوا بما أمر الله به، من الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، بمجرد انتسابه إلى الإسلام.
الأمر الخامس: أنه قاس هؤلاء الصَّلَب، وكفار البدو، الذين لم يعملوا بشيء من شرائع الإسلام، ولم يأتمروا بشيء من الأوامر، ولم ينتهوا عن شيء من المناهي، إلا بمجرد التلفظ بالشهادتين; وقد كان من المعلوم بالضرورة: أن الله قد أكمل لنا الدين، وأتم لنا شرائع الإسلام، وقد بلّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين، فقاسهم على الأعراب، الذين قالوا - أول ما دخلوا في الإسلام -:آمنا، فقال الله: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا
أَسْلَمْنَا} 1.
الأمر السادس: أنه ذكر في آخر جوابه، أن ذبيحة المرتد لا تؤكل عند جمهور العلماء، إلا ما ذكر عن إسحاق، وسفيان الثوري، وقد ذكر العلماء في باب حكم المرتد: أنه هو الذي يكفر بعد إسلامه، وقد كان من المعلوم أنهم ذكروا أشياء، مما يكون به الرجل مرتدا عن الإسلام، وإن كان مع ذلك يتلفظ بالشهادتين، وينتسب إلى الإسلام، كما هو مذكور في باب حكم المرتد وغيره، فناقض ما ذكره العلماء في هذا الباب، بأنه يكون مسلما بمجرد انتسابه إلى الإسلام، والتلفظ بالشهادتين.
الأمر السابع: أنه استدل في جوابه على إسلام الصّلبة - الذين لا يصلون ولا يزكون، ولا يصومون ولا يحجون، لأنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وينتسبون إلى الإسلام - بما في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل "، وأن مجرد التلفظ بالشهادتين، يكتفى به في عصمة المال والدم، ويكون الرجل به مسلما، وإن لم يصل ويزك ويصم ويحج.
1 سورة الحجرات آية: 14.
وقد أشكل هذا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا خليفة رسول الله، كيف نقاتل الناس
…
؟ الحديث، فقال أبو بكر:? "ألم يقل إلا بحقها؟ فإن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم. على منعها، قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعلمت أنه الحق"، فوافق عمر أبا بكر، واتفق الصحابة كلهم على ذلك، وقاتلوا من منع الزكاة، وأدخلوهم في حكم أهل الردة، فكيف بمن أضاف إلى ذلك ترك الصلاة، والصيام، والحج؟ فهذا أولى بالكفر والردة عن الإسلام، ممن ترك الزكاة وحدها، فناقض ما أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من تكفير هؤلاء، وجعلهم مسلمين بمجرد التلفظ بالشهادتين.
الأمر الثامن: أنه استدل على حل ذبائح الكفار، من الصلبة وغيرهم، بقوله في الحديث، لما "سئل صلى الله عليه وسلم: إن أناسا يأتوننا باللحم، ولا ندري أسموا الله عليها، أم لا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سموا الله عليها، ثم كلوها "، وهذا إنما هو في حل ذبائح البادية، الذين أسلموا، وكانوا حديثي عهد بكفر، ولا يدرى أذكروا اسم الله عليها، أم لا؟ فأمرهم إذا شكوا في ذلك، أن يذكروا اسم الله ويأكلوا.
فناقض هذا ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم من الأمر بأكل ذبيحة المسلم، الذي لا يدرى أذكر اسم الله عليها أم لا،
بحل ذبائح من كفر بالله، وأشرك به وارتد عن الإسلام؛ وليس الكلام مع هذا، في مجرد التسمية على الذبيحة، وإنما الكلام معه في تحريم ذبيحة المرتد، وقد ذكر أهل العلم أنها لا تباح بحال، سواء ذكر اسم الله عليها، أو لم يذكره.
الأمر التاسع: أنه استدل على إسلام من كفر بالله، وأشرك به، وعلى حل ذبائحهم، بقوله صلى الله عليه وسلم:" من كفر مسلما فقد كفر "، فمن كفر هؤلاء الصلب، التاركين للصلاة والزكاة، والصيام والحج، وحرم ذبائحهم، فقد كفر المسلمين، ومن كفر مسلما وحرم ذبيحته، فقد كفر عند هذا المفتي!!
وأيضا: فلنا جواب ثان عن قولك: من كفر مسلما فقد كفر; فيقال لك: صحح نسبة هذا الحديث إلى قائل معروف يحتج بقوله، ويكفينا في قبوله إذا كان له وجود في دواوين الإسلام، التي صنفها الحفاظ أهل الحديث؛ فإن لم تجد أصلا لهذا اللفظ، فكيف تحكيه جازما به؟ وما كان كذلك فلا ينهض للاحتجاج به. نعم: قد ثبت في الصحيح، عن أبي ذر:" من دعا رجلا بالكفر، أو قال: يا عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه " 1، فليتأمل قوله:(وليس كذلك) ومعنى قوله: "حار عليه" أي: رجع; وغاية ما في هذا الحديث: الوعيد
1 مسلم: الإيمان (61) ، وأحمد (5/166) .
الشديد، إذا لم يكن خصمه كذلك.
الأمر العاشر: أن الكفار الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفون معنى لا إله إلا الله، وأنها تنفي جميع ما يعبد من دون الله، وتثبت العبادة لله وحده لا شريك له، ولهذا لما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: لا إله إلا الله. قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 1، فأبوا عن التلفظ بهذا.
وأما عباد القبور اليوم، فإنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ومع ذلك يدعون الأنبياء، والأولياء، والصالحين، ويستشفعون بهم في المهمات والملمات، ويلجؤون إليهم في جميع الطلبات والرغبات، ويطلبون منهم قضاء الحاجات، وكشف الكربات، وإغاثة اللهفات، ويزعم هذا وأضرابه من الجهال أنهم مسلمون بمجرد التلفظ بالشهادتين، والانتساب إلى الإسلام. سبحانك هذا بهتان عظيم!!
الحادي عشر: أنه زعم فيما نقله عن الإمام، العماد بن كثير من تفسيره، حيث قال: هم الذين أسلموا حقا وصدقا، لا نفاقا ولا خوفا، ولكنهم لم يعملوا بأمر من الأوامر، ولم يجتنبوا الكبائر والمناهي؛ وهذا هو قول جمهور الصحابة والتابعين، وهو الراجح، انتهى.
1 سورة ص آية: 5.
وهذا كذب وافتراء على ابن كثير رحمه الله، فإنه لم يذكر هذا بلفظه، بل حرفه وتصرف فيه، كما هو مذكور في الرد؛ وهذا يناقض ما ذكره شيخ الإسلام، في كتاب الإيمان، قال رحمه الله بعد كلام له -: وأما ما ذكره أحمد فاتبع فيه الزهري، حيث قال: فكانوا يرون الإسلام: الكلمة، والإيمان: العمل، في حديث سعد بن أبي وقاص; وهذا على وجهين.
فإنه قد يراد به: الكلمة بتوابعها، من الأعمال الظاهرة، وهذا هو الإسلام الذي بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:" الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت "1. وقد تراد: الكلمة فقط، من غير فعل الواجبات الظاهرة، وليس هذا هو الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام، لكن قد يقال: إسلام الأعراب كان من هذا; فيقال: الأعراب وغيرهم، كانوا إذا أسلموا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ألزموا بالأعمال الظاهرة: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، ولم يكن أحد يترك بمجرد الكلمة; بل كان من أظهر المعصية يعاقب عليها، انتهى.
فناقض هذا ما ذكره أهل العلم، مع الكذب عليهم بقوله: ولكنهم لم يعملوا بأمر من الأوامر، ولم يجتنبوا
1 مسلم: الإيمان (8)، والترمذي: الإيمان (2610)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990)، وأبو داود: السنة (4695)، وابن ماجه: المقدمة (63) ، وأحمد (1/27 ،1/51) .
الكبائر، والمناهي; ثم لم يكتف بذلك، حتى زعم أن هذا هو قول جمهور الصحابة، والتابعين، وهو الراجح.
الأمر الثاني عشر: أنه زعم أن شيخ الإسلام ابن تيمية، صرح في الاختيارات، أنه قال: واذا أنكروا شيئا من أركان الإسلام، والإيمان، غير الشهادتين جهلا، لا يقال بردتهم; وهذا كذب على شيخ الإسلام، لم يقله في الاختيارات بهذا اللفظ الذي نسبه إليه.
والذي في الاختيارات: ومن شك في صفة من صفات الله تعالى ومثله لا يجهلها فمرتد، وإن كان مثله يجهلها، فليس بمرتد؛ ولهذا لم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الشاك في قدرة الله وإعادته، لأنه لا يكون كافرا إلا بعد الرسالة.
فهذا وأضعاف أضعافه، هو الذي حملنا على الرد على هذه الشبهات، وتغيير هذه المنكرات، التي هي من أعظم السيئات الموبقات، ولا يسعنا مع القدرة على إنكارها، والرد على من قالها السكوت عليها، لأن الله سبحانه وتعالى أوجب علينا نصر الدين، وفرضه علينا، كما قال ابن القيم رحمه الله:
هذا ونصر الدين فرض لازم
…
لا للكفاية بل على الأعيان
بيد وإما باللسان فإن عجز
…
ت فبالتوجه والدعا بجنان
وأما قولك: وإني أشهد الله على محبتك، ومحبة المشايخ، ما دمتم متمسكين بالكتاب والسنة، وهذا القول ليس من محاباة، ولا تقية، لأني ما زلت سابقا ولاحقا، مشددا النكير على المبتدعة، ويشهد لي بذلك الوقائع، التي وقعت بالكويت، وبغداد مع المبتدعة.
فأقول: أما ما وقع لك من الإنكار، على الجهمية وغيرهم من المبتدعة، وانتسابك إلى أهل هذه الدعوة المحمدية، ومحبة المشايخ، فلولا هذا لكان جوابك عندنا غير ما ترى. وأما ما ذكرت من جهة الرسالة، المسماة: بحقيقة المذهب الوهابي، فهي عندنا موجودة، منسوبة إلى ابن دخيل، صاحب القصيم، مع ما فيها من الإجمال والقصور، والتقصير، والكذب في بعضها، كقوله: إن علماء أهل نجد، يحرمون التنباك على العامة، ويكرهونه للخاصة، وقوله: وأعهد منهم الآن الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وكان شاعرا بليغا، وذكر من شعره كيت وكيت؛ وهذا كله كذب لا أصل له.
[كلمات في بيان الطاغوت ووجوب اجتنابه]
وقال أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه كلمات في بيان الطاغوت، ووجوب اجتنابه، قال الله تعالى:{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1، فبين تعالى أن المستمسك بالعروة الوثقى، هو الذي يكفر بالطاغوت؛ وقدم الكفر به على الإيمان بالله، لأنه قد يدعي المدعي أنه يؤمن بالله، وهو لا يجتنب الطاغوت، وتكون دعواه كاذبة.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2، فأخبر أن جميع المرسلين قد بعثوا باجتناب الطاغوت، فمن لم يجتنبه فهو مخالف لجميع المرسلين، قال تعالى:{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى} 3. ففي هذه الآيات من الحجج على وجوب اجتنابه وجوه كثيرة؛ والمراد من اجتنابه هو بغضه، وعداوته بالقلب، وسبه وتقبيحه باللسان، وإزالته باليد عند القدرة،
1 سورة البقرة آية: 256.
2 سورة النحل آية: 36.
3 سورة الزمر آية: 17.
ومفارقته، فمن ادعى اجتناب الطاغوت ولم يفعل ذلك فما صدق.
وأما حقيقته والمراد به، فقد تعددت عبارات السلف عنه، وأحسن ما قيل فيه، كلام ابن القيم رحمه الله تعالى، حيث قال: الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود، أو متبوع، أو مطاع؛ فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه، غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه في غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله؛ فهذه طواغيت العالم، إذا تأملتها، وتأملت أحوال الناس معها، رأيت أكثرهم ممن أعرض عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله، إلى طاعة الطاغوت ومتابعته، انتهى.
وحاصله: أن الطاغوت ثلاثة أنواع: طاغوت حكم، وطاغوت عبادة، وطاغوت طاعة ومتابعة؛ والمقصود في هذه الورقة هو طاغوت الحكم، فإن كثيرا من الطوائف المنتسبين إلى الإسلام، قد صاروا يتحاكمون إلى عادات آبائهم، ويسمون ذلك الحق بشرع الرفاقة، كقولهم شرع عجمان، وشرع قحطان، وغير ذلك، وهذا هو الطاغوت بعينه، الذي أمر الله باجتنابه.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاجه، وابن كثير
في تفسيره: أن من فعل ذلك فهو كافر بالله، زاد ابن كثير: يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله.
قال شيخ الإسلام: ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر; ومن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلا من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر؛ فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل؛
وقد يكون العدل في دينها، ما رآه أكابرهم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام، يحكمون بعاداتهم التي لم ينْزلها الله، كسوالف البوادي، وكأوامر المطاعين في عشائرهم، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به، دون الكتاب والسنة، وهذا هو الكفر.
فإن كثيرا من الناس أسلموا، ولكن مع هذا لا يحكمون إلا بالعادات الجارية، التي يأمر بها المطاعون في عشائرهم؛ فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله، فلم يلتزموا ذلك، بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله، فهم كفار، انتهى.
وفيه بيان كفر الحاكم نفسه، والمتحاكمين على الوجه الذي ذكره، وكذا من لم يعتقد وجوب ما أنزل الله، وإن لم يكن حاكما ولا متحاكما، فتأمله; ذكره عند قوله تعالى:
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 1.
وقال ابن كثير، رحمه الله، في قوله تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} 2؛ ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى، المشتمل على كل خير وعدل، الناهي عن كل شر، إلى ما سواه من الآراء والأهواء، والاصطلاحات التي وضعها الرجال، بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الجهالات،
وكما يحكم به التتار من السياسات، المأخوذة من جنكسخان الذي وضع لهم كتابا مجموعا من أحكام، اقتبسها من شرائع شتى، من الملة الإسلامية، وفيه كثير من الأحكام أخذها عن مجرد نظره، فصار في بنيه يقدمونه على الحكم بالكتاب والسنة؛ ومن فعل ذلك فهو كافر، يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في كثير ولا قليل، انتهى.
وما ذكرناه من عادات البوادي، التي تسمى "شرع الرفاقة" هو من هذا الجنس، من فعله فهو كافر، يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير.
1 سورة المائدة آية: 44.
2 سورة المائدة آية: 50.
وقد قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} 1 الآيات إلى قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} 2.
قال الشعبي: "كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، عرف أنه لا يأخذ الرشوة، ولا يميل في الحكم. وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود، لعلمه أنهم يأخذون الرشوة، ويميلون في الحكم. ثم اتفقا على أنهما يأتيان كاهنا في جهينة، فيتحاكمان إليه، فنَزلت {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} الآية"؛
وقيل نزلت في "رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف; ثم بعد ذلك ترافعا إلى عمر بن الخطاب، فذكر له أحدهما القصة، فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذلك؟ قال: نعم، فضربه بالسيف فقتله، فنزلت الآية".
وهكذا ينبغي أن يفعل بالمتحاكمين إلى الطواغيت؛ فإذا كان هذا الخليفة الراشد، قد قتل هذا الرجل، بمجرد طلبه التحاكم إلى الطاغوت، فمن هذا عادته التي هو
1 سورة النساء آية: 60.
2 سورة النساء آية: 61.
عليها، ولا يرضى لنفسه وأمثاله سواها، أحق وأولى أن يقتل، لردته عن الإسلام، وعموم فساده في الأرض.
فإنه لا صلاح للخليقة، إلا بأن يكون الله معبودها، والإسلام دينها، ومحمد نبيها الذي تتبعه، وتتحاكم إلى شريعته، ومتى عدم ذلك عظم فسادها، وظهر خرابها.
فقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} 1 الآية، بيان بأن من زعم الإيمان بالله وبرسوله، وهو يحكم غير شريعة الإسلام، فهو كاذب منافق، ضال عن الصراط المستقيم، كما قال تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 2، فأقسم بنفسه: أن الخلق لا يؤمنون، حتى يحكموا الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع موارد النِّزاع؛ فإذا حكم انتفى الحرج باطنا، وحصل التسليم الكامل ظاهرا؛ فمن لم يحصل منه ذلك فالإيمان منتف عنه.
وقد تظاهرت الأدلة الشرعية، بالدلالة على ذلك، فذم الله في كتابه من أعرض عن حكم رسوله، قال الله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
1 سورة النساء آية: 60.
2 سورة النساء آية: 65.
وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1.
واعلم: أنه ما دعا داع إلى حق، إلا كان للشيطان شبهة عنده، يصد بها الناس عنه، ومن ذلك أنه إذا قيل لأهل الطاغوت: ارجعوا إلى حكم الله ورسوله، واتركوا أحكام الطواغيت، قالوا: إنا لا نفعل ذلك إلا خوفا من أن يقتل بعضنا بعضا، فإني إذا لم أوافق صاحبي، على التحاكم إلى "شرع الرفاقة" قتلني أو قتلته.
فالجواب أن نقول: يظهر فساد هذه الشبهة الشيطانية، بتقرير ثلاثة مقامات:
المقام الأول: أن الفساد الواقع في الأرض، من قتل النفوس، ونهب الأموال، إنما هو بسبب إضاعة أوامر الله، وارتكاب نواهيه، كما قال تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} 2، المفسرون من السلف (البر) أهل العمود من البوادي، (والبحر) أهل القرى.
أخبر تعالى: أن ظهور الفساد في البادية والحاضرة، سببه أعمالهم؛ فلو أنهم عبدوا ربهم، وحكموا نبيهم، لصلحت أحوالهم، ونمت أموالهم وأنفسهم، كما
1 سورة آية: 48-49-50-51.
2 سورة الروم آية: 41.
فأخبر: أن الرحمة في هذا القرآن، فمن اكتفى به عن أحكام الباطل، فهو المرحوم، ومن أعرض عنه إلى غيره، فهو الخاسر؛ فإذا أعرض الناس عن كتاب ربهم، وحكموا غير نبيهم، عاقبهم الله بأن يعادي بعضهم بعضا، ويقتل بعضهم بعضا، كما قال تعالى:{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} 3.
ولكن لما عاد الإسلام غريبا كما بدأ، صار الجاهلون به، يعتقدون ما هو سبب الرحمة، سبب العذاب، وما هو سبب الألفة والجماعة، سبب الفرقة والاختلاف، وما يحقن الدماء سببا لسفكها، كالذين قال الله فيهم: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ
1 سورة الأعراف آية: 96.
2 سورة آية: 51-52.
3 سورة المائدة آية: 14.
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1.
وكذلك الذين قالوا لأتباع الرسل: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} 2؛ فمن اعتقد أن تحكيم شريعة الإسلام، يفضي إلى القتال والمخالفة، وأنه لا يحصل الاجتماع والألفة، إلا على حكم الطاغوت، فهو كافر عدو لله ولجميع الرسل؛ فإن هذا حقيقة ما عليه كفار قريش، الذين يعتقدون أن الصواب ما عليه آباؤهم، دون ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم.
المقام الثاني: أن يقال: إذا عرفت أن التحاكم إلى الطاغوت كفر، فقد ذكر الله في كتابه أن الكفر أكبر من القتل، قال:{وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} 3، وقال:{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} 4، والفتنة: هي الكفر; فلو اقتتلت البادية والحاضرة، حتى يذهبوا، لكان أهون من أن ينصبوا في الأرض طاغوتا، يحكم بخلاف شريعة الإسلام، التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم.
المقام الثالث: أن نقول: إذا كان هذا التحاكم كفرا، والنّزاع إنما يكون لأجل الدنيا، فكيف يجوز لك أن تكفر لأجل ذلك؟ فإنه لا يؤمن الإنسان، حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وحتى يكون الرسول أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين.
1 سورة الأعراف آية: 131.
2 سورة آية: 18-19.
3 سورة البقرة آية: 217.
4 سورة البقرة آية: 191.
فلو ذهبت دنياك كلها، لما جاز لك المحاكمة إلى الطاغوت لأجلها، ولو اضطرك مضطر وخيرك، بين أن تحاكم إلى الطاغوت، أو تبذل دنياك، لوجب عليك البذل، ولم يجز لك المحاكمة إلى الطاغوت; والله أعلم، وصلى الله على محمد، وآله وسلم تسليما كثيرا.
[الرد على من أنكر على أهل الدعوة الوهابية إنكارهم الشرك]
وقال أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، اعلم: أيها الطالب للحق، الراغب في معرفة الإخلاص والصدق، أنه ورد علينا أوراق صدرت من رجل سوء، تتضمن التحذير من التكفير، من غير تحقيق ولا تحرير.
يقول فيها: قال شيخ الإسلام ابن تيمية، في الرد على أهل الرفض، من الخوارج والاعتزال: أقول: هذه عبارة من لا علم عنده، ولسنا بصدد بيان ما فيها من الجهل والخطل؛ والبصير يدرك ما فيها من الزلل.
ثم إنه قال: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهؤلاء الذين ابتدعوا أصولا، زعموا أنه لا يمكن تصديق الرسول إلا بها، وأن معرفتها شرط في الإيمان، واجبة على الأعيان، أهل بدعة عند السلف والأئمة، وجمهور العلماء
الحذاق، من الأئمة ومن تبعهم بإحسان; إنها باطلة في العقل، مبتدعة في الشرع
…
إلى أن قال:
ومن شأن أهل البدع: أنهم يبتدعون أقوالا، يجعلونها واجبة في الدين، بل يجعلونها من الإيمان الذي لا بد منه، ويكفرون من خالفه بها، ويستحلون دمه، كفعل الخوارج والجهمية والمعتزلة وغيرهم
…
مقطعا أخذ منه ما قصد به اللبس والتضليل، وترك منه ما فيه البيان والتفصيل.
وما وجدنا لنقل هذا الرجل لكلام شيخ الإسلام وغيره، محملا حسنا يحمل عليه، ولا حاجة لذلك دعته إليه، إذ ليس في جزيرة العرب وما حولها، من يرى رأيا ويكفر الصحابة وغيرهم، من أهل الإيمان بالذنوب، التي لا يكفر صاحبها، ولا من يقول بالمنْزلة بين المنْزلتين، وينكر القدر، كالمعتزلة، ولا من يجحد صفات الرب تعالى كالجهمية، ولا من يغلو في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ويدعي فيهم الإلهية، كالرافضة.
فإذا كان ذلك كذلك، علم: أنه إنما أراد بهذه النقول، أهل هذه الدعوة الإسلامية، التي ظهرت بنجدنا، فانتفع بها الخلق الكثير، والجم الغفير من هذه الأمة، وتمسكوا فيها بالأصول، من الكتاب والسنة، وتأيدوا بإجماع سلف الأمة، وما قرره أتباع السلف من الأئمة، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة: محمد بن قيم
الجوزية، وسلفهم من أهل السنة والجماعة.
وهذا الرجل إنما أُتي من جهة فساد الاعتقاد، فلا يرى الشرك الجلي ذنبا كبيرا يكفر فاعله، فوجه إنكاره وطعنه على من أنكر الشرك وفارق أهله، وكفرهم بالكتاب والسنة والإجماع; ولا يخفى أن من أشد الناس إنكارا للشرك: شيخ الإسلام ابن تيمية، وأمثاله من علماء السنة، لما حدث في زمانهم، وعمت به البلوى، فأنكروه، وبينوا أن هذا هو الشرك الجلي، الذي عليه المشركون الأولون، كما سيأتي في كلامه رحمه الله. فصار من هؤلاء المشركين، من يكفر أهل التوحيد، بمحض الإخلاص والتجريد، وإنكارهم على أهل الشرك والتنديد; فلهذا قالوا: أنتم خوارج، أنتم مبتدعة، كما أشار العلامة ابن القيم، إلى مثل هذه الحال، بقوله:
من لي بشبه خوارج قد كفروا
…
بالذنب تأويلا بلا إحسان
ولهم نصوص قصروا في فهمها
…
فأُتوا من التقصير في العرفان
وخصومنا قد كفرونا بالذي
…
هو غاية التوحيد والإيمان
وهذا الرجل: قد أخذ بطريقة من يكفر بتجريد التوحيد، فإذا قلنا: لا يُعبد إلا الله، ولا يدعى إلا هو، ولا يرجى سواه، ولا يتوكل إلا عليه، ونحو ذلك من أنواع العبادة، التي لا تصلح إلا لله، وأن من توجه بها لغير الله
فهو كافر مشرك، قال: ابتدعتم، وكفرتم أمة محمد، أنتم خوارج، أنتم مبتدعة؛ وأخذ من كلام شيخ الإسلام في أهل البدع، ما كتبه يعرض بأهل التوحيد.
ولا يخفى ما قاله شيخ الإسلام فيمن أشرك بالله، قال: من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم، ويسألهم، ويتوكل عليهم، كفر إجماعا; وغاية ما موَّه به على الجهال، من أن شيخ الإسلام رحمه الله، ذكر في أهل المقالات الخفية: أنها وإن كانت كفرا، فلا ينبغي أن يكفر صاحبها حتى تقوم علية الحجة.
وهذا كلامه، قال: نفي الصفات كفر، والتكذيب بأن الله يرى في الآخرة كفر، وإنكار أن يكون الله على العرش كفر، وما في معنى ذلك; فتكفير المعين من هؤلاء، بحيث يحكم عليه بأنه مع الكفار، لا يجوز الإقدام عليه، إلا أن تقوم الحجة التي يتبين بها أنهم مخطئون.
فتأمل قوله: من هؤلاء; وتأمل قوله: بحيث يحكم عليه بأنه مع الكفار‘ وقوله: حتى تقوم عليه الحجة‘ فأراد بالكفار هنا المشركين، كما سيأتي تقريره في كلام هذا الشيخ وغيره.
ونحن بحمد الله قد خلت ديارنا من المبتدعة، أهل هذه المقالات، وقد صار الخلاف بيننا وبين كثير من
الناس، في عبادة الأوثان، التي أرسل الله الرسل وأنزل الكتب بالنهي عنها، وعداوة أهلها، فندعو إلى ما دعت إليه الرسل، من التوحيد والإخلاص، وننهى عما نهت عنه من الشرك بالله، في ربوبيته، وإلهيته، كما قال تعالى:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 1.
والقرآن من أوله إلى آخره، في بيان هذا الشرك والنهي عنه، وتقرير التوحيد، كما قال الله تعالى:{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} 2 الآيات.
وهذا التوحيد هو من أصولنا بحمد الله، وكاتب الأوراق، يقول: هذا بدعة; نعم هو بدعة عند نحو القائلين: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} 3.
فانظر كلام شيخ الإسلام رحمه الله، الذي لا يقبل اللبس، فإنه لما ذكر من تقدمت الإشارة إليهم، من أرباب المقالات، قال: وهذا إذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة، لكن ذلك يقع في طوائف منهم، في الأمور الظاهرة، التي يعلم العامة والخاصة من المسلمين أنها من دين الإسلام.
1 سورة الزخرف آية: 45.
2 سورة آية: 14-15.
3 سورة ص آية: 7.
بل اليهود، والنصارى، والمشركون، يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر من خالفها، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه، من الملائكة والنبيين، والشمس والقمر، والكواكب، والأصنام وغير ذلك، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام،
ومثل أمره بالصلاة، وإيجابه لها، وتعظيم شأنها، ومثل معاداة اليهود والنصارى، والمشركين والصابئين والمجوس، ومثل تحريم الفواحش، والربا والميسر، ونحو ذلك; ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع، فكانوا مرتدين، انتهى كلامه رحمه الله.
فتأمل قوله: ومثل معاداة اليهود والنصارى والمشركين
…
إلى آخره; والذين قال فيهم شيخ الإسلام: إنهم يكونون - بمخالفتهم لبعض الشرائع - مرتدين، هو الذي نقول به، وعليه أئمة الإسلام قاطبة؛ وهو الذي ينقم منا هذا الرجل، وأمثاله من المنحرفين عن التوحيد.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى: ومن اعتقد أنه بمجرد تلفظه بالشهادة يدخل الجنة، ولا يدخل النار، فهو مخالف الكتاب والسنة، والإجماع; انتهى.
وذكر شيخ الإسلام أن الفخر الرازي صنف "السر
المكتوم" في عبادة النجوم، فصار مرتدا، إلا أن يكون قد تاب بعد ذلك؛ فقد كفر الرازي بعينه لما زين الشرك.
وقال: بعد أن ذكر العلة في النهي عن اتخاذ القبور مساجد، والنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، قال: فسد الذريعة أن لا يصلى في هذه الساعة، وإن كان المصلي لا يصلي إلا لله، ولا يدعو إلا الله، لئلا يفضي إلى دعائها والصلاة لها.
وهذا من أسباب الشرك الذي ضل به كثير من الأولين والآخرين، حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام، وصنف كتبا على مذهب المشركين، مثل أبي معشر البلخي، وثابت بن قرة، وأمثالهما ممن دخل في الشرك، وآمن بالجبت والطاغوت، وهم ينتسبون إلى الكتاب، قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 1. انتهى.
فانظر إلى هذا الإمام، الذي نسب عنه - من أزاغ الله قلبه - عدم تكفير المعين، كيف ذكر عن الفخر الرازي، وأبي معشر وغيرهما، من المصنفين المشهورين أنهم كفروا، وارتدوا عن الإسلام.
وتأمل قوله: حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام، لتعلم ما وقع في آخر هذه الأمة من الشرك بالله،
1 سورة النساء آية: 51.
وقد ذكر الفخر الرازي في رده على المتكلمين، وذكر تصنيفه "السر المكتوم" وقال: هذه ردة صريحة باتفاق المسلمين.
وقال في "الرسالة السنية": وكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل.
فإن الله إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده، ولا يجعل معه إله آخر؛ والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، وتنْزل المطر وتنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم أو صورهم، ويقولون:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1، {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2.
فبعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم ينهى أن يدعى أحد من دون الله، لا دعاء عبادة ولا دعاء استعانة، قال الله تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 3 الآية؛ قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح، وعزيرا، والملائكة.
1 سورة الزمر آية: 3.
2 سورة يونس آية: 18.
3 سورة آية: 56-57.
ثم ذكر رحمه الله آيات، ثم قال: وعبادة الله وحده لا شريك له، هي أصل الدين، وهي أصل التوحيد، الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1، وقال:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2.
وكان صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد ويعلمه أمته، حتى " قال له رجل: ما شاء الله وشئت; قال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده " 3، ونهى عن الحلف بغير الله، وقال: " من حلف بغير الله فقد أشرك "، وقال في مرض موته: " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 4 يحذر ما فعلوا; وقال:" اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " 5، وقال:" لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي حيث ما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني "6.
ولهذا اتفق أئمة الإسلام، على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا الصلاة عندها، وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان: كان تعظيم القبور; ولهذا اتفق العلماء: على أنه من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره، أنه لا يتمسح بحجرته، ولا يقبلها، لأنه إنما يكون لأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق.
1 سورة النحل آية: 36.
2 سورة الأنبياء آية: 25.
3 أحمد (1/283) .
4 البخاري: الجنائز (1330)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531)، والنسائي: المساجد (703) ، وأحمد (1/218 ،6/34 ،6/80 ،6/121 ،6/252 ،6/255 ،6/274)، والدارمي: الصلاة (1403) .
5 أحمد (2/246) .
6 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .
كل هذا لتحقيق التوحيد، الذي هو أصل الدين، ورأسه الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} 1؛ ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه، انتهى.
قلت: فلم يبق بحمد الله لمرتاب حجة في كلام العلماء، بعد هذا التفصيل والإيضاح والبيان، وما أحسن ما قال العلامة ابن القيم رحمه الله شعرا:
والعلم يدخل قلب كل موفق
…
من غير بواب ولا استئذان
ويرده المحروم من خذلانه
…
لا تشقنا اللهم بالخذلان
وله رحمه الله: تفصيل حسن في "مدارج السالكين" في ذكر أجناس ما يتاب منه، وهي اثنا عشر جنسا، مذكورة في كتاب الله عزوجل: الأول الكفر، والثاني الشرك.
فأنواع الكفر خمسة: كفر تكذيب، وكفر استكبار وإباء مع التصديق، وكفر إعراض، وكفر شك، وكفر نفاق - وبيّن هذه الأنواع - ثم قال: وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر؛ فأما الأكبر: فلا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله ندا، يحبه كما يحب الله؛ وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب
1 سورة النساء آية: 48.
العالمين.
ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1، مع إقرارهم بأن الله وحده هو خالق كل شيء، وربه ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق، ولا تميت ولا تحيي؛ وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة، كما هو حال مشركي العالم، بل كلهم يحبون معبوداتهم، ويعظمونها ويوالونها من دون الله. وكثير منهم بل أكثرهم، يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده، ويغضبون لمنتقص معبوديهم وآلهتهم من المشايخ، أعظم مما يغضبون إذا استنقص أحد رب العالمين، وإذا انتهكت حرمة من حرمات آلهتهم ومعبوديهم، غضبوا غضب الليث إذا حَرِدَ; وإذا انتهكت حرمات الله، لم يغضبوا لها، بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئا، أعرضوا عنه ولم تستنكر له قلوبهم.
وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله، على لسانه دَيْدَنًا له، إن قام وإن قعد، وإن عثر وإن استوحش; فذكر إلهه ومعبوده من دون الله، هو الغالب على قلبه ولسانه، وهو لا ينكر ذلك، ويزعم: أنه باب حاجته إلى الله،
1 سورة آية: 97-98.
وشفيعه عنده ووسيلته إليه، وهكذا كان عباد الأصنام سواء.
وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون، بحسب اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذوها من البشر، قال الله تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 1.
ثم شهد عليهم بالكذب والكفر، وأخبر أنه لا يهديهم، فقال:{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 2 فهذا حال من اتخذ من دون الله وليا، يزعم أنه يقربه إلى الله; وما أعز من تخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! والذي قام في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم: أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك.
وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه، وأبطله وأخبر أن الشفاعة كلها له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن الله أن يشفع فيه، ورضي قوله وعمله، وهم أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء؛ فإنه يأذن سبحانه لمن يشاء في الشفاعة لهم، حيث لم يتخذوهم شفعاء من دونه، فيكون أسعد الناس بشفاعته من يأذن له، وهو صاحب التوحيد، الذي لم يتخذ شفيعا من دون الله.
1 سورة الزمر آية: 3.
2 سورة الزمر آية: 3.
والشفاعة التي أثبتها الله ورسوله، هي الشفاعة الصادرة عن إذنه لمن وحده، والشفاعة التي نفاها، هي الشفاعة الشركية في قلوب المشركين، المتخذين من دون الله شفعاء، فيعاملون بنقيض قصدهم من شفاعتهم، ويفوز بها الموحدون.
فتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة، وقد سأله:" من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: أسعد الناس بشفاعتي، من قال: لا إله إلا الله"، كيف جعل أعظم الأسباب، التي تنال بها شفاعته، تجريد التوحيد؟ عكس ما عند المشركين، أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء، وعبادتهم، وموالاتهم من دون الله؛ فقلب النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع.
ومِنْ جَهْلِ المشرك: اعتقاده أن من اتخذ وليا أو شفيعا، أنه يشفع له وينفعه عند الله، كما تكون خواص الملوك والولاة تنفع من والاهم، ولم يعلموا أن الله لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال تعالى في الفصل الأول:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 1، وفي الفصل الثاني {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 2.
1 سورة البقرة آية: 255.
2 سورة الأنبياء آية: 28.
وبقي فصل ثالث، وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا التوحيد، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وعن هاتين الكلمتين يسأل الأولون والآخرون، كما قال أبو العالية: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون، ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين1؟.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
آخر الجزء العاشر من الدرر السنية، ويليه الجزء الحادي عشر أول مختصرات الردود.
1 إلى آخر كلامه رحمه الله. انظر صفحة 341 /جـ 1 من مدارج السالكين.