الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد الحادي عشر: (القسم الأول من كتاب مختصرات الردود)
كتاب مختصر الردود
…
كتاب مختصر الردود
قال الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين; وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند ولا معين; وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين، وحجة على الكافرين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
أما بعد: فإنه لما كان منتصف جمادى الثانية، من سنة سبع عشرة بعد المائتين والألف، ورد علينا رسالة من محمد بن أحمد الحفظي اليمني، يسأل فيها عن مسائل أوردها عليه بعض المجادلين، فطلب منا الجواب عليها.
منها: أنه زعم أن إطلاق الكفر بدعاء غير الله، غير مسلم لوجوه:
الوجه الأول: عدم النص الصريح على ذلك بخصوصه.
الثاني: إن نظر فيه من حيثية القول، فهو كالحلف بغير الله، وقد ورد أنه شرك وكفر ثم أولوه بالأصغر وإن نظر فيه من حيثية الاعتقاد، فهو كالطيرة، وهي من الأصغر.
الثالث: أنه قد ورد في حديث الضرير، قوله:" يا محمد إني أتوجه بك " 1 إلخ. وفي الجامع الكبير،
1 الترمذي: الدعوات (3578)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) ، وأحمد (4/138) .
وعزاه للطبراني فيمن انفلتت عليه دابته، قال:" يا عباد الله احبسوا " وهذا دعاء ونداء لغير الله.
الجواب:- وبالله التوفيق والتأييد، ومنه أستمد العون والتسديد - اعلم: أن دعاء غير الله وسؤاله نوعان:
أحدهما: سؤال الحي الحاضر ما يقدر عليه، مثل سؤاله أن يدعو له أو يعينه، أو ينصره مما يقدر عليه، فهذا جائز كما كان الصحابة رضي الله عنهم يستشفعون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فيشفع لهم، ويسألونه الدعاء فيدعو لهم.
فالمخلوق يطلب منه من هذه الأمور ما يقدر عليه منها، كما قال تعالى في قصة موسى:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [سورة القصص آية: 15] وقال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [سورة الأنفال آية: 72] وكما ورد في الصحيحين أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، ثم بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي سنن أبي داود، " أن رجلا قال للنبي:صلى الله عليه وسلم إنا نستشفع بالله عليك، ونستشفع بك على الله، فقال: شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه " فأقره على قوله نستشفع بك على الله; وأنكر قوله: نستشفع بالله عليك. فالصحابة رضي الله عنهم كانوا يطلبون منه الدعاء، ويستشفعون به في حياته صلى الله عليه وسلم.
النوع الثاني: سؤال الميت والغائب وغيرهما، مما لا يقدر عليه إلا الله; مثل: سؤال قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات; فهذا من المحرمات المنكرة، باتفاق أئمة المسلمين; لم يأمر الله به، ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين.
وهذا مما يعلم بالاضطرار أنه ليس من دين الإسلام؛ فإنه لم يكن أحد منهم إذا نزلت به شدة أو عرضت له حاجة، يقول لميت: يا سيدي فلان اقض حاجتي، أو اكشف شدتي، أو أنا في حسبك، أو أنا متشفع بك إلى ربي، كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين. ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها; فإن هذا من الشرك الأكبر، الذي كفّر الله به المشركين، الذين كفرهم النبي صلى الله عليه وسلم واستباح دماءهم وأموالهم; لم يقولوا إن آلهتهم شاركت الله في خلق العالم، أو إنها تنْزل المطر وتنبت النبات; بل كانوا مقرين بذلك لله وحده، كما قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة لقمان آية: 25] الآية وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84-85] إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 89] .
وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [سورة يوسف آية: 106] قال طائفة من السلف، في تفسير هذه الآية: إذا سئلوا من خلق السماوات والأرض، قالوا: الله، وهم يعبدون غيره؛ ففسروا الإيمان في الآية، بإقرارهم بتوحيد الربوبية، وفسروا الإشراك بإشراكهم في توحيد الإلهية، الذي هو توحيد العبادة.
والعبادة: اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، من ذلك: الدعاء بما لا يقدر على جلبه أو دفعه إلا الله; فمن طلبه من غيره، واستعان به فيه، فقد عبده به والدعاء من أفضل العبادات، وأجل الطاعات، قال الله تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [سورة غافر آية: 60] .
وفي الترمذي: عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" الدعاء مخ العبادة " 1 وللترمذي والنسائي وابن ماجه، من حديث النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الدعاء هو العبادة "2 ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [سورة غافر آية: 60] الآية، قال الترمذي حديث حسن صحيح.
قال الشارح: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " الدعاء هو العبادة " أي: معظمها، فهو كقوله:" الحج عرفة " 3 أي: ركنه الأعظم. ومعنى قوله: "الدعاء العبادة" أي: خالصها،
1 الترمذي: الدعوات (3371) .
2 الترمذي: تفسير القرآن (2969)، وابن ماجه: الدعاء (3828) .
3 الترمذي: الحج (889)، والنسائي: مناسك الحج (3016)، وأبو داود: المناسك (1949)، وابن ماجه: المناسك (3015) ، وأحمد (4/309 ،4/335)، والدارمي: المناسك (1887) .
لأن الداعي إنما يدعو الله، عند انقطاع أمله مما سواه، وذلك حقيقة التوحيد والإخلاص، انتهى.
والدعاء في القرآن يتناول معنيين:
أحدهما: دعاء العبادة، وهو: دعاء الله لامتثال أمره، في قوله:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}
الثاني: دعاء المسألة; وهو دعاؤه سبحانه في جلب المنفعة، ودفع المضرة.
وبقطع النظر عن الامتثال، فقد فسر قوله تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] بالوجهين:
أحدهما: ما هو عام في الدعاء وغيره، وهو العبادة، وامتثال الأمر له سبحانه؛ فيكون معنى قوله:{أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أثبكم، كما قال في الآية الأخرى:{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [سورة الشورى آية: 26] أي يثيبهم على أحد التفسيرين.
الثاني: ما هو خاص، معناه: سلوني أعطكم، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ينْزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه سؤاله؟ من يستغفرني فأغفر له؟ " 1 فذكر أولا لفظ الدعاء، ثم السؤال، ثم الاستغفار، والمستغفر سائل، كما أن المسائل داع؛ فعطف السؤال والاستغفار على الدعاء؛ فهو من باب عطف الخاص على العام.
1 البخاري: التوحيد (7494)، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758)، والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498)، وأبو داود: الصلاة (1315) والسنة (4733)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) ، وأحمد (2/258 ،2/264 ،2/267 ،2/282 ،2/419 ،2/487 ،2/504 ،2/521)، ومالك: النداء للصلاة (496)، والدارمي: الصلاة (1478 ،1479) .
وهذا المعنى الثاني، أعني: الخاص هو الأظهر، لوجهين:
أحدهما: ما في حديث النعمان بن بشير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن الدعاء هو العبادة " 1 ثم قرأ الآية: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] فاستدلاله عليه الصلاة والسلام، بالآية على الدعاء، دليل على أن المراد منها: سلوني.
وخطاب الله عباده المكلفين بصيغة الأمر، منصرف إلى الوجوب، ما لم يقم دليل يصرفه إلى الاستحباب؛ فيفيد قصر فعله على الله، فلا يجعل لغيره، لأنه عبادة; ولهذا أمر الله الخلق بسؤاله، فقال:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [سورة النساء آية: 32] .
وفي الترمذي: عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يُسأل " 2 وله عن أبي هريرة، مرفوعا:" من لم يسأل الله يغضب عليه " 3 وله أيضا: " إن الله يحب الملحين في الدعاء " فتبين بهذا: أن الدعاء من أفضل العبادات، وأجل الطاعات.
الوجه الثاني: أنه سبحانه قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [سورة البقرة آية: 186] والسائل راغب راهب، وكل سائل راغب راهب، فهو عابد للمسؤول. وكل عابد فهو أيضا راغب راهب، يرجو رحمته ويخاف عذابه؛ فكل عابد سائل، وكل سائل لله فهو عابد.
1 الترمذي: تفسير القرآن (2969)، وابن ماجه: الدعاء (3828) .
2 الترمذي: الدعوات (3571) .
3 الترمذي: الدعوات (3373)، وابن ماجه: الدعاء (3827) .
قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} [سورة الأنبياء آية: 90] لا يتصور أن يخلو داع لله دعاء عبادة، أو دعاء مسألة، من الرغب والرهب، والخوف والطمع له; فدعاء العبادة، ودعاء المسألة، كلاهما عبادة لله، لا يجوز صرفها إلى غيره; فلا يجوز أن يطلب من مخلوق ميت أو غائب، قضاء حاجة، أو تفريج كربة، ما لا يقدر عليه إلا الله، لا يجوز أن يطلب إلا من الله.
فمن دعا ميتا أو غائبا فقال: يا سيدي فلان أغثني، أو انصرني، أو ارحمني، أو اكشف عني شدتي، ونحو ذلك، فهو كافر مشرك، يستتاب فإن تاب وإلا قتل. وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء، فإن هذا هو شرك المشركين، الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم لم يكونوا يقولون تخلق وترزق، وتدبر أمر من دعاها؛ بل كانوا يعلمون أن ذلك لله وحده، كما حكاه عنهم في غير موضع من كتابه.
وإنما كانوا يفعلون عندها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم، من دعائها، والاستغاثة بها، والذبح لها، والنذر لها؛ يزعمون أنها وسائط بينهم وبين الله، تقربهم إليه، وتشفع لهم لديه، كما حكاه عنهم في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] .
وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا
يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون الدعاء كله لله، والذبح كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع العبادات كلها لله.
والله سبحانه قد بين في غير موضع من كتابه أن الدعاء عبادة، فقال تعالى: حاكيا عن خليله إبراهيم عليه السلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة مريم آية: 48-49] .
وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 5] فأخبر سبحانه أنه لا أضل من هذا الداعي، وأن المدعو لا يستجيب له، وأن ذلك عبادة يكفر بها المعبود يوم القيامة، كقوله تعالى:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [سورة مريم آية: 81-82] .
وقد سمى الله سبحانه الدعاء دينا في غير موضع من كتابه، وأمرنا أن نخلصه له، وأخبر أن المشركين يخلصون له في الشدائد، فقال تعالى:{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة لقمان آية: 32] وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ
عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة يونس آية: 22] وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [سورة العنكبوت آية: 65] فأخبر سبحانه أنهم عند الاضطرار يدعونه وحده لا شريك له، مخلصين له في تلك الحالات، لا يستغيثون بغيره، فلما نجاهم من تلك الشدة، إذا هم يشركون في دعائهم; ولهذا قال:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} [سورة الإسراء آية: 67] أي: أنه سبحانه لما نجاكم إلى البر أعرضتم، أي: نسيتم ما عرفتم من توحيده، وأعرضتم عن دعائه وحده لا شريك له.
وقال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة غافر آية: 14] وقال تعالى: {الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة غافر آية: 65] فالدعاء من أفضل العبادات، وأجل الطاعات، ولهذا أخبر أنه الدين، فذكره معرفا بالألف واللام، وأخبر أن المشركين يخلصون له في الشدائد، وأنهم في الرخاء يشركون معه غيره، فيدعون من لا ينفعهم ولا يضرهم ولا يسمع دعاءهم؛ فصاروا بذلك كافرين.
ومن تأمل أدلة الكتاب والسنة، علم أن شرك المشركين الذين كفرهم النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو في الدعاء والذبح والنذر، والتوكل والالتجاء ونحو ذلك.
فإن جادل مجادل، وزعم أنه ليس هذا، قيل له: فأخبرنا عما كانوا يفعلون عند آلهتهم؟ وما الذي يريدون؟ وما هذا الشرك الذي حكاه الله عنهم؟ فإن قال: شركهم عبادة غير الله، قيل له: وما معنى عبادتهم لغير الله؟ أتظن أنهم يعترفون أن تلك الأخشاب والأحجار، تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها؟ فهذا يكذبه القرآن; لأن الله أخبر عنهم: أنهم مقرون بذلك لله وحده.
فإن قال: إنهم يريدون منهم النفع والضر من دون الله، فهذا يكذبه القرآن أيضا; لأن الله أخبر عنهم: أنهم لم يريدوا إلا التقرب بهم إلى الله، وشفاعتهم عنده، كما قال تعالى حاكيا عنهم:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] الآية وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [سورة يونس آية: 18] الآية.
وأخبر تعالى عن شركهم في غير آية من كتابه، كقوله تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] الآيتين أي: لا يرفعونه بالكلية، ولا يحولونه من حال إلى حال، ثم قال:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [سورة الإسراء آية: 57] .
قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح والعزير والملائكة، فبين الله لهم أن هؤلاء عبادي كما أنتم عبادي، يرجون رحمتي، كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما
تخافون عذابي; وأخبر أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين، ولا تحويله؛ وهذا هو الإغاثة.
والمشركون يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم بالسؤال لله، والطلب منه، فيقضي الله لهم تلك الحاجات؛ فأبطل الله هذه الشفاعة التي يظنها المشركون، وبين أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فقال:{وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ "آية: 23] الآية وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] .
فمن جعل الأنبياء والملائكة وسائط بين الله وبين خلقه، كالحُجّاب الذين يكونون بين الملك ورعيته، بحيث يزعم أنهم يرفعون الحوائج إلى الله، وأن الله يرزق عباده، وينصرهم بتوسطهم، أي بمعنى: أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله; فمن اعتقد هذا فهو كافر مشرك.
إذا تقرر هذا، فنقول: قول القائل: إن إطلاق الكفر بدعاء غير الله، غير مسلم لوجوه: الوجه الأول: عدم النص الصريح على ذلك بخصوصه، كلام باطل; بل النصوص الصريحة في كفر من دعا غير الله وجعل لله ندا من خلقه يدعوه كما يدعو الله، ويرجوه كما يرجو الله، ويتوكل عليه في أموره.
قال الله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [سورة الأنعام آية: 1] وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ
أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] إلى قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [سورة البقرة آية: 167] . فمن أحب مخلوقا كما يحب الله، أو رجاه كما يرجو الله، فقد جعله ندا لله؛ وصار من الخالدين في النار.
وفي صحيح البخاري، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار "1. وفي الصحيحين: "أنه صلى الله عليه وسلم سئل: أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك " 2.
والند: المثل، قال الله تعالى:{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 22] وقال تعالى عن أهل النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية: 97-98] ومعلوم: أنهم ما سووهم به في الخلق والرزق، والإحياء والإماتة، وإنما سووهم به في الدعاء والخوف والرجاء، والمحبة والتعظيم والإجلال.
وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [سورة الزمر آية: 8] فصرح بكفره.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117]، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً
1 البخاري: تفسير القرآن (4497) ، وأحمد (1/374 ،1/407 ،1/425 ،1/462 ،1/464) .
2 البخاري: الأدب (6001)، ومسلم: الإيمان (86)، والترمذي: تفسير القرآن (3182 ،3183)، والنسائي: تحريم الدم (4013 ،4014 ،4015)، وأبو داود: الطلاق (2310) ، وأحمد (1/380 ،1/431 ،1/434 ،1/462 ،1/464) .
لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 79] إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80]، فبين: أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] وقال فيما حكاه عن المسيح: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] .
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ?إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [سورة فاطر آية: 13-14] فدلت الآية الكريمة: على أن أعظم شركهم إنما هو دعاء غير الله؛ فإنه أخبر أنهم لا يملكون من قطمير، وهو القشر الذي يكون على ظهر النواة، أي: ليس لهم من الأمر شيء، وإن قل. ثم أخبر: أنهم لا يسمعون دعاءهم، وأنهم لو سمعوا ما استجابوا لهم؛ وهذا صريح في دعاء المسألة.
ثم أخبر: أن هذا شرك يكفرون به يوم القيامة، فقال:{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [سورة فاطر آية: 14] كقوله: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [سورة مريم آية: 82] وكقوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 6] .
والله سبحانه قد أرسل رسله، وأنزل كتبه، ليعبد وحده، ويكون الدين كله له، ونهى أن يُشرك به أحد من خلقه. وأخبر أن الرسالة عمت كل أمة، وأن دين الرسل واحد، وهو: الأمر بعبادته وحده لا شريك له، وأن لا يشرك به أحد سواه، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36]، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] .
وأخبر أنه لا يغفر أن يشرك به، وأن من أشرك به فقد حبط عمله، وصار من الخالدين في النار، كما قال تعالى:{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [سورة التوبة آية: 17] .
فيقال لمن أنكر: أن يكون دعاء الموتى، والاستغاثة بهم في الشدائد شركا أكبر: أخبرنا عن هذا الشرك الذي عظمه الله وأخبر أنه لا يغفره؟ أتظن أن الله يحرمه هذا التحريم، ولا يبينه لنا؟ ومعلوم أن الله سبحانه أنزل كتابه تبيانا لكل شيء، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين.
وقد أخبر في كتابه أنه أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا، فكيف يجوز أن يترك بيان الشرك، الذي هو أعظم ذنب عصي الله به سبحانه؟! فإذا
أصغى الإنسان إلى كتاب الله وتدبره، وجد فيه الهدى والشفاء. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [سورة الرعد آية: 33] {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] .
ويقال أيضا: قد أمرنا الله سبحانه بدعائه وسؤاله، وأخبر أنه يجيب دعوة الداع إذا دعاه، وأمرنا أن ندعوه خوفا وطمعا؛ فإذا سمع الإنسان قوله تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [سورة الأعراف آية: 55] ، وأطاع الله ودعاه، وأنزل به حاجته، وسأله تضرعا وخفية، فمعلوم أن هذا عبادة. فيقال: فإن دعا في تلك الحاجة نبيا، أو ملكا، أو عبدا صالحا، هل أشرك في هذه العبادة؟ فلا بد أن يقر بذلك إلا أن يكابر ويعاند.
ويقال أيضا: إذا قال الله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2] ، وأطعت الله، ونحرت له، هل هذا عبادة؟ فلابد أن يقول: نعم; فيقال له: فإذا ذبحت لمخلوق، نبي أو ملك أو غيرهما، هل أشركت في هذه العبادة؟ فلا بد أن يقول: نعم، إلا أن يكابر ويعاند. وكذلك السجود عبادة، فلو سجد لغير الله لكان شركا.
ومعلوم: أن الله سبحانه وتعالى، ذكر في كتابه النهي عن دعاء غيره، وتكاثرت نصوص القرآن على النهي عن ذلك، أعظم مما ورد في النهي عن السجود لغير الله، والذبح لغير الله.
فإذا كان من سجد لقبر نبي، أو ملك، أو عبد صالح، لا يشك أحد في كفره. وكذلك لو ذبح له القربان، لم يشك أحد في كفره; لأنه أشرك في عبادة الله غيره؛ فيقال: السجود عبادة، وذبح القربان عبادة، والدعاء عبادة؛ فما الفارق بين السجود والذبح، وبين الدعاء إذ الكل عبادة، والدعاء عبادة؟ وما الدليل على أن السجود لغير الله، والذبح لغير الله شرك أكبر، والدعاء بما لا يقدر عليه إلا الله شرك أصغر؟
ويقال أيضا: قد ذكر أهل العلم من أهل كل مذهب، باب حكم المرتد، وذكروا فيه أنواعا كثيرة، كل نوع منها يكفر به الرجل، ويحل دمه وماله، ولم يرد في واحد منها ما ورد في الدعاء؛ بل لا نعلم نوعا من أنواع الكفر والردة، ورد فيه من النصوص مثل ما ورد في دعاء غير الله، بالنهي عنه والتحذير من فعله، والوعيد عليه.
ولا يشتبه هذا إلا على من لم يعرف حقيقة ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من التوحيد، ولم يعرف حقيقة شرك المشركين، الذين كفرهم النبي صلى الله عليه وسلم وأحل دماءهم وأموالهم، وأمره الله أن يقاتلهم {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [سورة البقرة آية: 193] أي: لا يكون شرك، {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] .
فمن أصغى إلى كتاب الله، علم علما ضروريا أن دعاء الأموات من أعظم الشرك، الذي كفر الله به المشركين؛ فكيف يسوغ لمن عرف التوحيد الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل
ذلك من الشرك الأصغر، ويقول: قد عدم النص الصريح على كفر فاعله؟ فإن الأدلة القرآنية والنصوص النبوية، قد دلت على ذلك دلالة ظاهرة ليست خفية؛ ومن أعمى الله بصيرته فلا حيله فيه {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [سورة الأعراف آية: 186] .
وأيضا: فإن كثيرا من المسائل التي ذكرها العلماء في مسائل الكفر والردة، وانعقد عليها الإجماع، لم يرد فيها نصوص صريحة بتسميتها كفرا، وإنما يستنبطها العلماء من عموم النصوص، كما إذا ذبح المسلم نسكا متقربا به إلى غير الله، فإن هذا كفر بالإجماع، كما نص على ذلك النووي وغيره، وكذلك لو سجد لغير الله.
فإذا قيل: هذا شرك، لأن الذبح عبادة والسجود عبادة، فلا يجوز لغير الله، كما دل على ذلك قوله:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2]، وقوله:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} [سورة الأنعام آية: 162-163] ؛ فهذا صريح في الأمر بهما، وأنه لا يجوز صرفهما لغير الله. فينبغي أن يقال: فأين الدليل المصرح بأن هذا كفر بعينه؟.
ولازم هذه المجادلة الإنكار على العلماء في كل مسألة من مسائل الكفر والردة التي لم يرد فيها نص بعينها، مع أن هذه المسألة المسؤول عنها، قد وجدت فيها النصوص الصريحة
من كلام الله وكلام رسوله، وأوردنا من ذلك ما فيه الهدى لمن هداه الله.
وأما كلام العلماء، فنشير إلى قليل من كثير، ونذكر كلام من حكى الإجماع على ذلك: قال في الإقناع وشرحه: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم، كفر إجماعا، لأن هذا كفعل عابدي الأصنام، قائلين:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] . انتهى.
[هل لابد من واسطة تبلغنا أمر الله]
وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله، وقد سئل عن رجلين تناظرا؛ فقال أحدهما: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله، فإنا لا نقدر أن نصل إليه إلا بذلك.
فأجاب بقوله: إن أراد بذلك أنه لا بد من واسطة تبلغنا أمر الله، فهذا حق.
فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما أمر به وما نهى عنه إلا بالرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده؛ وهذا مما أجمع عليه أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى؛ فإنهم يثبتون الوسائط بين الله وبين عباده، وهم الرسل الذين بلغوا عن الله أوامره ونواهيه، قال الله تعالى:{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [سورة الحج آية: 75] ؛ ومن أنكر هذه الوسائط فهو كافر بإجماع أهل الملل.
وإن أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبين الله، في جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يكون
واسطة في رزق العباد، ونصرهم وهداهم، يسألونه ذلك، ويرجعون إليه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين؛ حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء، يجتلبون بهم المنافع، ويدفعون بهم المضار، لكون الشفاعة لم يأذن الله له فيها.
قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [سورة السجدة آية: 4]، وقال تعالى:{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 51]، وقال تعالى:{وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 70]، وقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍوَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 22-23] .
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] إلى قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [سورة الإسراء آية: 57] .
قال طائفة من السلف: كان أقوام من الكفار يدعون عيسى والعزير، والملائكة والأنبياء; فبين الله لهم أن الملائكة والأنبياء لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويلا، وأنهم يتقربون إليه، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه.
قال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ
أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] ، فبين الله سبحانه وتعالى أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر، فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط، يدعوهم ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكربات، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين.
وقد قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [سورة الأنبياء آية: 26-27-28] إلى قوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [سورة الأنبياء آية: 29]، وقال تعالى:{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [سورة النساء آية: 172] الآية، وقال تعالى:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [سورة النجم آية: 26] .
وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255]، وقال:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [سورة الأنعام آية: 17] الآية، وقال تعالى:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة فاطر آية: 2] .
فمن أثبت الوسائط بين الله وبين خلقه كالحُجّاب الذين بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج
خلقه، وأن الله تعالى إنما يهدي عباده ويرزقهم، وينصرهم بتوسطهم، بمعنى: أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك، يسألون الملوك حوائج الناس بقربهم منهم، والناس يسألونهم، أدبا منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك، لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه، فهو كافر مشرك؛ يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل. وهؤلاء مشبهون شبهوا الخالق بالمخلوق، وجعلوا لله أندادا. وفي القرآن من الرد على هؤلاء، ما لا تتسع له هذه الفتوى.
فإن هذا دين المشركين عباد الأوثان، كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وإنها وسائل يتقربون بها إلى الله تعالى؛ وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى، حيث قال:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31] .
وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [سورة البقرة آية: 186] أي: فليستجيبوا لي إذا دعوتهم بالأمر والنهي، ويؤمنوا بي أني أجيب دعاءهم لي بالمسألة، والتضرع، وقال تعالى:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [سورة الشرح آية: 7-8] .
وقد بين الله هذا التوحيد في كتابه، وحسم مواد الإشراك به، حيث لا يخاف أحد غير الله، ولا يرجوه سواه، ولا يتوكل إلا عليه، قال تعالى:{فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [سورة المائدة آية: 44]، وقال تعالى:{وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران آية: 175] وقال: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة التوبة آية: 18]، وقال:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [سورة النور آية: 52] ؛ فبين أن الطاعة لله والرسول، وأما الخشية والتقوى فلله وحده.
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [سورة التوبة آية: 59] فبين أن الإيتاء لله والرسول، وأما الحسب فهو لله وحده؛ كما قالوا حسبنا الله، ولم يقولوا حسبنا الله ورسوله، ونظيره قوله تعالى:{فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [سورة آل عمران آية: 173] .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق هذا التوحيد لأمته، ويحسم عنهم مواد الشرك؛ وهذا تحقيق قولنا: لا إله إلا الله; فإن الإله هو الذي تألهه القلوب، بالمحبة والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف، حتى قال لهم:" لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء محمد "1.
" وقال له رجل: ما شاء الله وشئت. قال: أجعلتني لله
1 ابن ماجه: الكفارات (2118) ، وأحمد (5/72)، والدارمي: الاستئذان (2699) .
ندا؟ بل ما شاء الله وحده " 1 وقال لابن عباس: " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله "، وقال: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله " 2 وقال:" لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا علي حيث ما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني "3.
وقال في مرضه: " لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما فعلوا " 4 قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن خشي أن يتخذ مسجدا، وهذا باب واسع. انتهى ما لخصته من كلام الشيخ في مسألة الوسائط.
وقال رحمه الله تعالى، في موضع آخر: والله سبحانه وتعالى لم يجعل أحدا من الأنبياء والمؤمنين واسطة في شيء من الربوبية والإلهية مثل ما ينفرد به، من الخلق والرزق وإجابة الدعاء، والنصر على الأعداء، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات؛ بل غاية ما يكون العبد سببا مثل أن يدعو ويشفع.
والله تعالى قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255]، وقال تعالى:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [سورة النجم آية: 26]، وقال تعالى:{وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] .
1 ابن ماجه: الكفارات (2117) ، وأحمد (1/283) .
2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) ، وأحمد (1/23 ،1/24 ،1/47 ،1/55) .
3 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .
4 البخاري: الجنائز (1330)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531)، والنسائي: المساجد (703) ، وأحمد (1/218 ،6/34 ،6/80 ،6/121 ،6/252 ،6/255 ،6/274)، والدارمي: الصلاة (1403) .
فبين سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر، ولهذا كانوا في الشفاعة على ثلاثة أقسام: فالمشركون: أثبتوا الشفاعة التي هي شرك، كشفاعة المخلوق عند المخلوق، كما يشفع عند الملوك خواصهم، لحاجة الملوك إلى ذلك؛ فيسألونهم بغير إذنهم، ويجيب الملوك سؤالهم لحاجتهم إليهم؛ فالذين أثبتوا مثل هذه الشفاعة عند الله مشركون كفار; لأن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يحتاج إلى أحد من خلقه، بل من رحمته وإحسانه إجابة دعاء الشافعين.
ولهذا قال: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [سورة السجدة آية: 4]، وقال:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [سورة الزمر آية: 43-44]، وقال عن صاحب يس:{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} [سورة يس آية: 23] .
وأما الخوارج والمعتزلة: فإنهم أنكروا شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر من أمته، وهؤلاء مبتدعة ضلال، مخالفون للسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولإجماع خير القرون.
[الشفاعة وما يثبت وما ينتفي منها]
القسم الثالث: أهل السنة والجماعة، وسلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان: أثبتوا ما أثبته الله في كتابه وسنة رسوله، ونفوا ما نفاه؛ فالشفاعة التي أثبتوها هي التي جاءت بها الأحاديث.
وأما الشفاعة التي نفاها القرآن، كما عليه المشركون والنصارى ومن ضاهاهم من هذه الأمة، فينفيها أهل العلم والإيمان؛ مثل أنهم يطلبون من الأنبياء والصالحين، الغائبين والميتين قضاء حوائجهم، ويقولون: إنهم إذا أرادوا ذلك قضوها; ويقولون: إنهم عند الله كخواص الملوك عند الملوك، يشفعون بغير إذن الملوك، ولهم على الملوك إدلال يقضون به حوائجهم؛ فيجعلونهم لله بمنْزلة شركاء الملك؛ والله سبحانه قد نزه نفسه عن ذلك، انتهى.
[أنواع الشرك]
وقال ابن القيم رحمة الله تعالى: وأما الشرك فنوعان: أصغر وأكبر; فالأكبر: الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله ندا يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي يتضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين.
ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ?إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية: 97-98] مع إقرارهم بأن الله هو الخالق وحده، خالق كل شيء ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق، ولا تحيي ولا تميت؛ وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة، كما هو حال أكثر مشركي العالم يحبون معبوداتهم، ويعظمونها ويوالونها من دون الله.
وكثير منهم بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله
وحده، ويغضبون إذا انتقص أحد معبوداتهم وآلهتهم من المشائخ، أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين; وإذا انتقصت حرمة من حرمات آلهتهم ومعبوديهم، غضبوا غضب الليث إذا حرب، وإذا انتهكت حرمات الله لم يغضبوا لها.
بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئا رضوا عنه، ولم تنكره قلوبهم، وقد شاهدنا هذا منهم نحن وغيرنا، ونرى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله، على لسانه إن قام وإن قعد، وإن عثر وإن مرض؛ فذكر إلهه ومعبوده من دون الله، هو الغالب على لسانه وهو لا ينكر ذلك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده، ووسيلته إليه؛ وهكذا كان عباد الأصنام سواء.
وهذا القدر، هو الذي قام بقلوبهم، يتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذوها من البشر، قال تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [سورة الزمر آية: 3] ، ثم شهد عليهم بالكذب والكفر وأخبر أنه لا يهديهم، فقال:{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] فهذا حال من اتخذ من دون الله وليا، يزعم أنه يقربه إلى الله، وما أعز من يتخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره!
والذي قام في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن
آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك؛ وقد أنكره الله عليهم في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لمن رضي قوله وعمله، وهم أهل التوحيد، الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء، ثم ساق كلاما طويلا وقرره أحسن تقرير.
فتأمل كلامه هذا، حيث قرر أن الذي يفعله مشركو زمانه، هو عين الشرك الذي فعله المشركون الأولون، ثم قال: وما أعز من يتخلص من هذا، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! ففي هذا شاهد لصحة الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ " 1 وقوله: فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتمو. قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 2 أخرجاه في الصحيحين.
[قول ابن تيمية لما تكلم عن حديث الخوارج]
وقال الشيخ أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، في رسالته "السنية" لما تكلم عن حديث الخوارج: فإذا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه، ممن انتسب إلى الإسلام، من قد مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذا الزمان، قد يمرق أيضا، وذلك بأمور; منها: الغلو الذي ذمه الله كالغلو في المشائخ، كالشيخ عدي، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح.
1 مسلم: الإيمان (145)، وابن ماجه: الفتن (3986) ، وأحمد (2/389) .
2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456)، ومسلم: العلم (2669) ، وأحمد (3/84 ،3/89) .
فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل: أن يدعوه من دون الله، بأن يقول: يا سيدي فلان أغثني، وأنا في حسبك، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل.
فإن الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده، ولا يجعل معه إله آخر، والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى، مثل الملائكة والمسيح، وعزير والصالحين، أو قبورهم، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق وترزق; وإنما كانوا يدعونهم، يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله؛ فبعث الله الرسل تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة، انتهى.
وقال أبو الوفاء ابن عقيل رحمه الله: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم; إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل: تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع، من إيقاد السرج، وتقبيلها، وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع، فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى.
والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف، ولم يتمسح
بالآجر يوم الأربعاء، ولم يقل الحمالون على جنازته أبو بكر الصديق، أو محمد أو علي، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجا بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه، ولم يرق ماء الورد على القبر، انتهى كلامه.
فتأمل رحمك الله ما ذكره هذا الإمام، وما كشف من الأمور التي يفعلها الخواص من الأنام، فضلا عن النساء، والغوغاء والعوام، مع كونه في سادس القرون، والناس لما ذكره يفعلون، وجهابذة العلماء والنقدة لذلك مشاهدون، وحظهم من النهي مرتبته الثانية، فهم بها قائمون، يتضح لك فساد ما زخرفه المبطلون، وموه به المتعصبون والملحدون.
فصل
وأما قوله الثاني: إن نظر فيه من حيثية القول، فهو كالحلف بغير الله، وقد ورد أنه شرك وكفر، ثم أولوه بالأصغر; وإن نظر فيه من حيثية الاعتقاد، فهو كالطيرة وهي من الأصغر.
فنقول: هذا كلام باطل، وليس يخفى ما بينهما من الفرق؛ فأي مشابهة بين من وحد الله وعبده، ولم يشرك معه أحدا من خلقه وأنزل حاجاته كلها بالله، واستغاث به في تفريج كرباته، وإغاثة لهفاته; لكنه حلف بغير الله يمينا مجردة لم يقصد بها تعظيمه على ربه، ولم يسأله ولم يستغث به، وبين من استغاث بغير الله، وسأله جلب الفوائد وكشف الشدائد؟!
فإن هذا صرف مخ العبادة الذي هو لبها وخالصها لغير الله، وأشرك مع الله غيره في أجل العبادات، وأفضل القربات التي أمرنا الله بها، في غير موضع من كتابه، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه هو العبادة، كما تقدم في حديث النعمان بن بشير، أن الدعاء هو العبادة، وفي حديث أنس:" الدعاء مخ العبادة " 1، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يحب الملحين فيه، وأن من لم يسأل الله يغضب عليه.
ففي الترمذي عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم:" سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يسأل " 2، وفيه أيضا:" إن الله يحب الملحين في الدعاء " وفيه أيضا: " من لم يسأل الله يغضب عليه " 3، وفي الترمذي وابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس شيء أكرم على الله من الدعاء "4.
وأما الحلف: فلم يأمرنا الله به; بل أمرنا بحفظه، فقال:{وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [سورة المائدة آية: 89] قيل المعنى: لا تحلفوا، وقيل: لا تحنثوا، ولا يرد على هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حلف في مواضع؛ فاليمين تستحب إذا كان فيها مصلحة راجحة، وعلى هذا حمل العلماء، ما روي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو يحلف لمصالح مطلوبة للأمة، كزيادة إيمانهم، وطمأنينة قلوبهم، كما أمره الله بذلك في ثلاثة مواضع من كتابه، وأما الحلف لغير مصلحة فليس مشروعا، بل يباح إذا كان صادقا.
1 الترمذي: الدعوات (3371) .
2 الترمذي: الدعوات (3571) .
3 الترمذي: الدعوات (3373)، وابن ماجه: الدعاء (3827) .
4 الترمذي: الدعوات (3370)، وابن ماجه: الدعاء (3829) .
وأما الدعاء: فهو محبوب مشروع لله، بل سماه الله في كتابه الدين، وأمر بإخلاصه له; وسماه رسوله صلى الله عليه وسلم العبادة، ومخ العبادة، فكيف يقال: هو الحلف؟ فمن صرف الدعاء لغير الله، فقد أشرك في الدين، الذي أمر الله بإخلاصه، وفي العبادة التي أمر الله بها.
وأيضا: فإن الداعي راغب راهب، فالعبد يدعو ربه رغبا ورهبا، ويتوكل عليه في حصول مطلوبه، ودفع مرهوبه; فإذا طلب فوائده، وكشف شدائده من غير الله، فقد أشرك مع الله في الرغبة والرهبة، والرجاء والتوكل، فإن هذا من لوازم الدعاء، وهو من العبادة التي أمر الله بها، كقوله تعالى:{إِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [سورة الشرح آية: 8]، وقوله تعالى:{فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [سورة النحل آية: 51]، وقال:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 23] .
فمن استغاث بغير الله، فهو راغب في حصول مطلوبه، راج له متوكل عليه، وذلك هو حقيقة العبادة التي لا تصلح إلا لله، وهو معنى لا إله إلا الله; فإن الإله هو الذي تألهه القلوب، محبة ورجاء وخوفا وتوكلا.
ويقال أيضا: الذي يدعو غير الله في مهماته، وكشف كرباته، قد رد على الله وكذب بآياته؛ فإن الله أخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وأن الشفاعة كلها لله، وهذا زعم: أن الميت يشفع له. وأخبر الله أن الأولياء والصالحين لا يملكون
كشف الضر ولا تحويله، وأنهم لا ينفعون ولا يضرون، ولا يسمعون الدعاء ولا يستجيبون; وهذا زعم: أنهم باب حوائجه إلى الله، وأنهم ينفعون ويشفعون، وللدعاء يسمعون، وله يستجيبون; فكذب على الله وكذب بآياته.
فكيف يقال: إن هذا كالحلف بغير الله الذي قصاراه أن يكون شركا أصغر، يعاقب عليه كما يعاقب الزاني، وقاتل النفس وآكل الربا; لأنه ارتكب محرما غير مستحل له، نظير ما يفعله الزاني وقاتل النفس، فأما إن فعله مستحلا له، أو يكون المخلوق في قلبه أعظم من الخالق، كان ذلك كفرا؟
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء، والتواضع للخلق، والحلف بغير الله، ومالي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا; وقد يكون هذا شركا أكبر، بحسب حال قائله ومقصده، انتهى.
ويقال أيضا: من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، أن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التوحيد، وينهى عن الإشراك؛ فكان أول آية أرسله الله بها {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [سورة المدثر آية: 1-2-3-4-5] ؛ فأنذر عن الشرك، وهجر الأوثان وكبر الله، وعظمه بالتوحيد.
فاستجاب له من استجاب من المسلمين، وصبروا على
الأذى من قومهم، وقاسوا الشدائد العظيمة، فهاجروا وأخرجوا من ديارهم، وأوذوا في الله وتميز الكافر من المسلم، ومات من المسلمين من استوجب الجنة، ومات من الكفار من استوجب النار، هذا كله قبل النهي عن الحلف بغير الله.
فالاستغاثة بأهل القبور، واستنجادهم واستنصارهم، لم يبح في شرائع الرسل كلهم؛ بل بعث الله جميع رسله بالنهي عن ذلك، والأمر بعبادته وحده لا شريك له.
وأما الحلف: فكان الصحابة يحلفون بآبائهم، ويحلفون بالكعبة وغير ذلك، ولم ينهوا عن ذلك إلا بعد مدة طويلة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم " 1، وقال:" من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت " 2، ومن لا يميز بين دعاء الميت والحلف به، لا يعرف الشرك الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم ينهى عنه، ويقاتل أهله.
[الجامع بين الحلف والاستغاثة]
وأي جامع بين الحلف والاستغاثة؟ فالمستغيث طالب سائل، والحالف لم يطلب ولم يسأل. فإن كان الجامع بينهما عند القائل باتحادهما: أن كلا منهما قول باللسان فيقال له: والإنكار والدعوات، وقول الزور وقذف المحصنات، كل ذلك قول باللسان; ولو قال أحد: إنها ألفاظ متقاربة لعد من المجانين.
وإن أراد هذا القائل اتحادهما في المعنى، فهذا باطل كما تقدم بيانه; وأي مشابهة بين من جعل لله ندا من خلقه، يدعوه
1 البخاري: الأدب (6108) والأيمان والنذور (6646 ،6647)، ومسلم: الأيمان (1646)، والترمذي: النذور والأيمان (1533)، والنسائي: الأيمان والنذور (3766 ،3767 ،3768)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3249)، وابن ماجه: الكفارات (2094) ، وأحمد (1/18 ،2/7 ،2/8) .
2 البخاري: الشهادات (2679) والمناقب (3836) والأدب (6108) والأيمان والنذور (6646) والتوحيد (7401)، ومسلم: الأيمان (1646)، والترمذي: النذور والأيمان (1534)، والنسائي: الأيمان والنذور (3764)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3249) ، وأحمد (2/11 ،2/17 ،2/20 ،2/76 ،2/98 ،2/142)، ومالك: النذور والأيمان (1037)، والدارمي: النذور والأيمان (2341) .
ويرجوه، ويستنصره ويستغيث به، وبين من لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، وأخلص له في عبادته؟ فالأول أشرك مع الله في قوله وفعله، واعتقاده بخلاف الحالف؛ بل لو اعتقد الحالف تعظيم المخلوق على الخالق، لصار مشركا شركا أكبر كما تقدم.
ومما يبين ذلك أيضا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الحلف بغير الله، وحلف بعض الصحابة حدثاء العهد، فقال في حلفه: واللات، قال النبي صلى الله عليه وسلم " من حلف باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله " 1، ولما " قال له بعض الصحابة حدثاء العهد بالكفر: اجعل لنا ذات أنواط، قال: الله أكبر إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، لتركبن سنن من كان قبلكم " 2.
فانظر كيف نهى الحالف، وأرشده إلى الكفارة، بأن يقول: لا إله إلا الله، من غير تغليظ; والذين قالوا: اجعل لنا ذات أنواط، غلظ عليهم التغليظ الشديد، وحلف لهم أن طلبتهم كطلبة بني إسرائيل، وأن قولهم: اجعل لنا ذات أنواط، كقول بني إسرائيل: اجعل لنا إلها، سواء؛ فهما متفقان معنى، وإن اختلفا لفظا; وهذا مما يبين لك شيئا من معنى لا إله إلا الله.
فإذا كان اتخاذ الشجرة للعكوف حولها، وتعليق
1 البخاري: تفسير القرآن (4860) والأدب (6107) والاستئذان (6301) والأيمان والنذور (6650)، ومسلم: الأيمان (1647)، والترمذي: النذور والأيمان (1545)، والنسائي: الأيمان والنذور (3775)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3247)، وابن ماجه: الكفارات (2096) ، وأحمد (2/309) .
2 الترمذي: الفتن (2180) ، وأحمد (5/218) .
الأسلحة بها للتبرك، اتخاذ إله مع الله، مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر، ودعائه في إنزال الفوائد، والاستغاثة به في كشف الشدائد، وأخذ تربته تبركا، وإسراج القبر وتخليقه؟!
وأي شبهة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر؟ لو كان أهل الشرك والبدع يعلمون. قال بعض أهل العلم، من أصحاب مالك: فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة، أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمونها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، ويضربون بها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط فاقطعوها، انتهى.
ومما يبين الفرق بين دعاء الأموات والاستغاثة بهم وبين الحلف بهم، أن العلماء قسموا الشرك إلى أكبر وأصغر، جعلوا دعاء الأموات، والاستغاثة بهم فيما لا يقدر عليه إلا رب السماوات والأرض، هو عين شرك المشركين الذين كفرهم الله في كتابه، وجعلوا الحلف بغير الله شركا أصغر.
فيذكرون الأول في باب حكم المرتد، وأن من أشرك بالله فقد كفر، ويستدلون بقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [سورة النساء آية: 48] ، ويفسرون هذا الشرك بما ذكرناه، ويذكرون الثاني في كتاب الأيمان؛ فيفرقون بين هذا وهذا.
ولم نعلم أن أحدا من العلماء الذين لهم لسان صدق في
الأمة، قال إن طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم شرك أصغر، ولا قال إن ذلك كالحلف بغير الله، اللهم إلا أن يكون بعض المنتسبين إلى العلم، من المتأخرين الضالين، الذين قرروا الشرك، وحسنوه للناس، نظما ونثرا، وصار لهم نصيب من قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [سورة النساء آية: 51] .
وأما قوله: وإن نظر فيه من جهة الاعتقاد، فهو كالطيرة; فهذا كلام باطل أيضا، يظهر بطلانه مما تقدم. فيقال: وأين الجامع بين شرك من جعل بينه وبين الله واسطة، يدعوه ويسأله قضاء حاجاته، وكشف كرباته، ويقول: هذا وسيلتي إلى الله، وباب حاجتي إليه، وبين من عبد الله وحده لا شريك له، ودعاه خوفا وطمعا، وأنزل به حاجاته كلها، وتبرأ من عبادة كل معبود سواه؟ ولكن وقع في قلبه شيء من الطيرة؟ فالأول: هو دين أبي جهل وأصحابه، وهو دين أعداء الرسل، من لدن نوح إلى يومنا هذا.
وأما الطيرة: فتقع على المؤمنين الموحدين، كما في حديث ابن مسعود المرفوع:"الطيرة شرك " 1 وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل، رواه أبو داود، ورواه الترمذي وصححه، وجعل آخره من قول ابن مسعود; وفي مراسيل أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس عبد إلا سيدخل قلبه طيرة؛ فإذا أحس بذلك، فليقل: أنا عبد الله، ما شاء الله لا قوة إلا
1 الترمذي: السير (1614)، وأبو داود: الطب (3910)، وابن ماجه: الطب (3538) ، وأحمد (1/389 ،1/438 ،1/440) .
بالله، لا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يذهب بالسيئات إلا الله. أشهد أن الله على كل شيء قدير. ثم يمضي لوجهه "
وفي مسند الإمام أحمد، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:" من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك، وكفارة ذلك أن يقول أحدهم: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك "1. وفي صحيح ابن حبان عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا طيرة، والطيرة على من تطير ".
ومعنى هذا: من تطير تطيرا منهيا عنه، بأن يعتمد على ما يسمعه، أو يراه من الأمور التي يتطير بها، حتى تمنعه مما يريد من حاجته، فإنه قد يصيبه ما يكرهه، وأما من توكل على الله، ولم ينظر إلى الأسباب المخوفة، وقال ما أمر به من هذه الكلمات، ومضى؛ فإنه لا يضره ذلك. فإذا كان هذا حال الطيرة، فأين الجامع بينها وبين الشرك الأكبر في الاعتقاد؟!
فإن أراد السائل: أن التطير إذا زجر الطير، أو تطير بما يراه من علم النجوم وغيره، أو يسمعه من الكلام، يعتقد في ذلك علم الغيب، وأن الطير تخبره عما هو صائر إليه في المستقبل، وأن الأفلاك تدبر أمر الخلائق، فليس هذا من الشرك الأصغر؛ بل هذا من الشرك الأكبر؛ نظير شرك عباد الكواكب.
فصل [في دعاء غير الله]
وأما قول القائل: الثالث أنه قد ورد في حديث الضرير، قوله: يا محمد. وفي الجامع الكبير، وعزاه للطبراني فيمن
1 أحمد (2/220) .
انفلتت عليه دابته، قال:" يا عباد الله احبسوا، " وهذا دعاء ونداء لغير الله.
فنقول - وبالله التوفيق -: اعلم أن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى التوحيد، والنهي عن الإشراك؛ فحمى حمى التوحيد، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك، حتى في الألفاظ، حتى " إن رجلا قال له: ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحد هـ"؛ فكيف يأمر بدعاء الميت أو الغائب؟
بل من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن دعاء الميت والغائب، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا فعله أحد من أئمة المسلمين، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته; ولا قال أحد: إن الصحابة استغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولو كان هذا جائز أو مشروعا لفعلوه، ولو كان خيرا لسبقوا إليه.
وقد كان عندهم من قبور أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير، وهم متوافرون؛ فما منهم من استغاث عند قبر صاحب، ولا دعاه ولا استغاث به، ولا استنصر به. ومعلوم: أن مثل هذا مما توفر الهمم والدواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونه.
وحينئذ فلا يخلو: إما أن يكون دعاء الموتى والغائبين، أو الدعاء عند قبورهم والتوسل بأصحابها أفضل، أو لا
يكون؟ فإن كان أفضل، فكيف خفي علما وعملا على الصحابة والتابعين وتابعيهم؟ فتكون القرون الثلاثة الفاضلة، جاهلة علما وعملا بهذا الفضل العظيم، يظفر به الخلوف علما وعملا.
وهذان الحديثان اللذان أوردهما السائل، إما أن يكون الصحابة الذين رووهما، وسمعوهما من النبي صلى الله عليه وسلم جاهلين بمعناهما، وعلمه هؤلاء المتأخرون; وإما أن يكون الصحابة علموها علما، وزهدوا فيها عملا مع حرصهم على الخير، وطاعتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم؛ وكلاهما محال.
بل هم أعلم الناس بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطوع الناس لأوامره، وأحرص الناس على كل خير; وهم نقلوا إلينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فهل فهموا من هذه الأحاديث جواز دعاء الموتى والغائبين، والفضلاء؟ فضلا عن استحبابه والأمر به؟!
ومعلوم: أنهم عرضت لهم شدائد واضطرارات، وفتن وقحط وسنون مجدبات، أفلا جاؤوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم شاكين، وله مخاطبين، وبكشفها عنهم وتفريج كرباتهم داعين؟
والمضطر يتشبث بكل سبب يعلم أن له فيه نفعا، لا سيما الدعاء; فلو كان ذلك وسيلة مشروعة، وعملا صالحا لفعلوه.
فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل القبور حتى توفاه الله، وهذه سنة خلفائه الراشدين، وهذه طريقة جميع الصحابة
والتابعين، هل يمكن أحد أن يأتي عنهم بنقل صحيح، أو حسن، أو ضعيف أنهم كانوا إذا كانت لهم حاجة، أو عرضت لهم شدة، قصدوا القبور، فدعوا عندها وتمسحوا بها، فضلا عن أن يسألوها حوائجهم؟ فمن كان عنده في هذا أثر، أو حرف واحد في ذلك، فليوقفنا عليه.
نعم، يمكنهم أن يأتوا عن الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، بكثير من المختلقات، والحكايات المكذوبات؛ حتى لقد صنف في ذلك عدة مصنفات، ليس فيها حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وإنما فيها التمويهات، والحكايات والمخترعات، والأحاديث المكذوبات.
كقولهم: إذا أعيتكم الأمور، فعليكم بأصحاب القبور; وحديث: لو أحسن أحدكم ظنه بحجر نفعه; ومنها حكايات لهم عن تلك القبور: إن فلانا استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها، وفلانا دعاه أو دعا به في حاجة فقضيت، وفلانا نزل به ضر، فأتى صاحب ذلك القبر، فكشف ضره، ونحو ذلك مما هو مضاد، لما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الدين.
ومن له معرفة بما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم، يعلم أنه حمى جانب التوحيد، وسد الذرائع الموصلة إلى الشرك؛ فكيف يستدل بكلامه على نقيض ما أمر به؟ فيستدل في حديث الأعمى
بقوله: يا محمد، على أنه أمر بدعائه في حال غيبته، فيدل على جواز الاستغاثة بالغائب، وكذلك قوله:"يا عباد الله احبسوا" يدل على ذلك أيضا، هذا من أعظم المحال وأبطل الباطل.
بل كلامه صلى الله عليه وسلم يوافق الوحي المنزل عليه، يصدقه ولا يكذبه، فإنهما من مشكاة واحدة {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [سورة النجم آية: 3-4] ونحن نجيب عن هذين الحديثين، بعون الله وتأييده، من وجوه.
الوجه الأول: أن القرآن فيه {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [سورة آل عمران آية: 7] ؛ فيردّ المتشابه إلى المحكم، ولا يضرب كتاب الله بعضه ببعض. وكذلك السنة: فيها محكم ومتشابه؛ فيردّ متشابهها إلى المحكم، ولا يضرب بعضها ببعض; فكلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يتناقض، بل يصدق بعضه بعضا؛ والسنة توافق القرآن ولا تناقضه. وهذا أصل عظيم يجب مراعاته; ومن أهمله فقد وقع في أمر عظيم وهو لا يدري.
ومن المعلوم: أن أدلة القرآن الدالة على النهي عن دعاء غير الله، متظاهرة مع وضوحها وبيانها، كقوله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] .
وقوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [سورة الرعد آية: 14]، وقوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا
يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} [سورة يونس آية: 106] ، إلى غير ذلك من الآيات الواضحات البينات.
فمن أعرض عن هذا كله، وتعامى عنه، وأعرض عن الأحاديث الصحيحة الدالة على تحقيق التوحيد، وإبطال الشرك وسد ذرائعه، وتعلق بحديث ضعيف، بل ذكر بعض العلماء أنه حديث منكر، وهو قوله:"إذا انفلتت دابة أحدكم، فليناد يا عباد الله احبسوا" ومثل حديث الأعمى، الذي فيه: يا محمد، وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يسأله في حال غيبته، لم يكن هذا إلا من زيغ في قلبه؛ قد تناوله قوله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [سورة آل عمران آية: 7] ، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيح، من حديث عائشة رضي الله عنها:" إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم "1.
الوجه الثاني: أن يقال لمن استدل بالحديثين على دعاء غير الله: أتظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أمته بالشرك، وقد نهى عنه وقد جرد التوحيد لله، ونهى عن دعوة غير الله؟ وقال فيما ثبت عنه في صحيح البخاري:" من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار " 2، وقال لابن عباس:" إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله "3. فكيف يجتمع في قلبك أن الله بعثه يأمر بالتوحيد، ويحذر من الإشراك، ثم يأمر أمته بعين ما
1 البخاري: تفسير القرآن (4547)، ومسلم: العلم (2665)، والترمذي: تفسير القرآن (2994)، وأبو داود: السنة (4598) ، وأحمد (6/48 ،6/132 ،6/256)، والدارمي: المقدمة (145) .
2 البخاري: تفسير القرآن (4497) ، وأحمد (1/374 ،1/407 ،1/425 ،1/462 ،1/464) .
3 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2516) ، وأحمد (1/293 ،1/303 ،1/307) .
حذرهم عنه؟!
فمن زعم أن قوله "يا عباد الله احبسوا" يدل على جواز دعاء الغائب بالنص، وعلى دعاء الميت بالقياس على الغائب، وكذلك حديث الأعمى، فمن زعم هذا فقد حادّ الله ورسوله; حيث زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أمته بالإشراك الذي بعثه الله ينهى عنه.
الوجه الثالث: أن يقال: وعلى تقدير أن هذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله شرك أصغر، فيظن من في قلبه رائحة الإيمان أن الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أمته بالشرك الأصغر، الذي قد حرمه الله ورسوله; بل إذا علم الإنسان أن هذا شرك أصغر، ثم زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أمته به كان كافرا.
وقد قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 79] إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] فحاشا جنابه صلى الله عليه وسلم أن يأمر أمته بالشرك، ولو كان أصغر.
ومن استدل بهذين الحديثين على دعاء الموتى والغائبين، فهو بين أمرين لا محيد له عنهما: إما أن يقول: هذا يدل على أن دعاءهم مستحب أو جائز؛ ومن قال ذلك فقد خالف إجماع المسلمين، ومرق من الدين; فإنه لم يقل أحد من المسلمين: إن دعاء الموتى جائز أو مستحب.
وإما أن يقول: إن ذلك يدل على أن دعاء الموتى شرك أصغر لا أكبر؛ ومن قال ذلك فقد تناقض في استدلاله، حيث استدل بكلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر به على ما نهى عنه؛ وكيف يسوغ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يستدل بأمره على نهيه؟
ثم يقال: لهذا المستدل بقوله: فليقل: "يا عباد الله احبسوا" أخبرنا عن هذا الأمر، هل هو للوجوب، أو الاستحباب أو الإباحة؟ وهي أقل أحواله، وأما ما كان مكروها أو محرما، فلا يكون فيما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فما وجه الاستدلال؟
الوجه الرابع: أن هذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه من رواية معروف بن حسان، وهو منكر الحديث؛ قاله ابن عدي.
الوجه الخامس: أن يقال: إن صح الحديث فلا دليل فيه على دعاء الميت والغائب؛ فإن الحديث ورد في أذكار السفر; ومعناه: أن الإنسان إذا انفلتت دابته وعجز عنها، فقد جعل الله عبادا من عباده الصالحين، أي صالحي الجن أو الملائكة، أو ممن لا يعلمه من جنده سواه {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [سورة المدثر آية: 31] .
أما خبر النبي صلى الله عليه وسلم إن لله عبادا قد وكلهم لهذا الأمر، فإذا انفلتت الدابة، ونادى صاحبها بما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث حبسوا عليه دابته؛ فإن هؤلاء عباد لله أحياء، قد
جعل الله لهم قدرة على ذلك، كما جعل الله للإنس. فهو ينادي من يسمع ويعين بنفسه ويرى بعينه، كما ينادي أصحابه الذين معه من الإنس. فأين هذا من الاستغاثة بأهل القبور؟! بل هذا من جنس ما يجوز طلبه من الأحياء، فإن الإنسان يجوز له أن يسأل المخلوق من الأحياء ما يقدر عليه، كما قال تعالى:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [سورة القصص آية: 15]، وكما قال تعالى:{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [سورة الأنفال آية: 72] ، وكما يستغيث الناس يوم القيامة بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، حتى يأتوا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم؛ بل هذا من جنس استغاثته برفقته من الإنس.
فإذا انفلتت دابته، ونادى أحد رفقته: يا فلان ردوا الدابة، لم يكن في هذا بأس; فهذا الذي ورد في الحديث من جنس هذا بل قد تكون قربة إذا قصد به امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأين هذا من استغاثة العبادة؟ بأن ينادي ميتا، أو غائبا في قطر شاسع، سواء كان نبيا أو عبدا صالحا؟!
الوجه السادس: أن الله تعالى قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] ؛ فبعد أن أكمله بفضله ورحمته، فلا يحل له أن يخترع فيه ما ليس منه، ونقيس عليه ما لا يقاس عليه; بل الواجب اتباع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فنقول كما أمر به،
فإذا نادى شخصا معينا باسمه، فقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونادى من لم يؤمر بندائه؛ وليس ذلك في كل حركة وسكون وقيام وقعود، وإنما ذلك في أمر مخصوص.
وأما حديث الأعمى، فالجواب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن الحديث إذا شذ عن قواعد الشرع لا يعمل به؛ فإنهم قالوا: إن حد الحديث الصحيح، إذا رواه العدل الضابط عن مثله، من غير شذوذ ولا علة. فهذا الحديث: لا يجوز الاحتجاج به في هذا الباب، لمخالفته لقواعد الشرع وأصوله؛ بل من احتج به على دعاء الميت والغائب، فقد خالف نصوص الكتاب والسنة، مع أنه - بحمد الله - يوافق ذلك ولا يخالفه; فليس فيه دليل على ما ذكره السائل، كما سننبه عليه إن شاء الله تعالى، وكيف يستدل بما ليس فيه دلالة مطابقة ولا تضمن ولا التزام؟!
الوجه الثاني: أن يقال: هذا الحديث قد رواه النسائي، في اليوم والليلة، والبيهقي وابن شاهين في دلائلهما، كلهم عن عثمان بن حنيف، ولم يذكروا فيه هذه اللفظة - أعني قوله: يا محمد - ولفظ الحديث عندهم: عن عثمان بن حنيف، " أن رجلا أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا نبي الله: قد أصبت في بصري، فادع الله لي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: توضأ وصل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أتوجه إليك بنبيي
محمد، نبي الرحمة، أي: أتشفع به إليك، في رد بصري، اللهم شفع نبيي في. ففعل ذلك فرد الله عليه بصره، وقال له: إذا كانت لك حاجة فبمثل ذلك فافعل " انتهى.
فهذا الحديث بهذا اللفظ، لا حجة للمبطل فيه; لأن غايته: أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وساقه الترمذي بسياق قريب من هذا، فقال: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا شعبة عن أبي جعفر، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف:"أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك. قال: فادعه فأمره أن يتوضأ ويحسن وضوءه، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه في " 1 هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث أبي جعفر، وهو غير الخطاء، انتهى. هذا لفظه بحروفه، وفي نسخة أخرى:"إني توجهت إلى ربي"; وليست هذه اللفظة في سياق هؤلاء الأئمة، أعني قوله: يا محمد; التي هي غاية ما يتعلق به المبطلون.
الوجه الثالث: أن يقال: على تقدير صحة هذه اللفظة، فليس فيها ما يدل على دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته; ولو كان فيها ما يدل على ذلك، لفعله الصحابة رضي الله عنهم.
1 الترمذي: الدعوات (3578)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) .
فلما ثبت أن الصحابة لم يفعلوه، بل ولا أجازوه، علمنا أنه ليس في ذلك دلالة، فبقي أن يقال: ما معناه؟
فنقول: ذكر العلماء في معناه قولين: أحدهما: أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فيدل: على جواز التوسل به صلى الله عليه وسلم في حياته، وبعد وفاته، إلا أن التوسل ليس فيه دعاء له، ولا استغاثة به، وإنما سأل الله بجاهه، وهذا ذكره الفقيه أبو محمد بن عبد السلام; فإنه أفتى: بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم قال: وأما التوسل به صلى الله عليه وسلم فيجوز إن صح الحديث فيه، يعني: حديث الأعمى.
[التوسل إلى الله بغير نبينا]
قال الشيخ: تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى: أما التوسل إلى الله بغير نبينا صلى الله عليه وسلم فلم نعلم أحدا من السلف فعله، ولا روى فيه أثرا، ولا نعلم فيه إلا ما أفتى ابن عبد السلام من المنع. وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ففيه حديث في السنن، وهو حديث الأعمى الذي أصيب بصره، فلأجل هذا الحديث، استثنى الشيخ التوسل به.
وللناس في معنى هذا الحديث قولان:
أحدهما: أن هذا التوسل هو الذي ذكره عمر رضي الله عنه لما استسقى بالعباس؛ فذكر: أنهم يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم به هو استسقاؤهم به، بحيث يدعو ويدعون معه، فيكون هو وسيلتهم إلى الله تعالى.
وهذا لم يفعله الصحابة بعد موته، ولا في مغيبه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مثل هذا شافعا لهم داعيا، ولهذا قال في حديث الأعمى:"اللهم فشفعه في"; فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له، فسأل الله أن يشفعه فيه.
والثاني: أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم يكون في حياته وبعد وفاته، انتهى كلام الشيخ رحمه الله تعالى; فتبين بهذا: أن معناه التوسل إلى الله بدعائه وشفاعته في حضوره، أو التوسل بذاته أن يسأل الله بجاهه. والتوسل غير الاستغاثة، فإنه لم يقل أحد إن من قال: اللهم إني أسألك بحق فلان، أنه استغاث به؛ بل إنما استغاث بمن دعاه.
بل العامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بأمور، كقول أحدهم: أتوسل إليك بحق الشيخ فلان، أو بحرمته، أو نحو ذلك مما يقولونه في أدعيتهم، يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور؛ فإن المستغيث بالشيء طالب منه سائل له، والمتوسل به لا يدعى، ولا يسأل ولا يطلب منه; وإنما يطلب به، وكل أحد يفرق بين المدعو والمدعو به.
والاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون، فكل أحد يفرق بين المسؤول والمسؤول به. فالحديث على هذا المعنى، الذي ذهب إليه ابن عبد السلام، لا حجة فيه لمن جوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد
وفاته; فإن هذا لم يفهمه أحد من العلماء من الحديث، ولم يذكروا في معناه إلا هذين القولي، اللذين ذكرناهما، أحدهما: ما ذهب إليه ابن عبد السلام.
والثاني: ما ذهب إليه الأكثرون، أن معناه: التوسل إلى الله بدعائه، وشفاعته بحضوره، كما في صحيح البخاري:"أن عمر رضي الله تعالى عنه استسقى بالعباس، فقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيُسقون"، فبين عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يتوسلون به في حياته فيسقون.
وتوسلهم به، هو أنهم يسألونه أن يدعو الله لهم، فيدعو ويدعون معه؛ فيتوسلون بدعائه، كما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه " أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة، من باب كان نحو دار القضاء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما، ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا; فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ثم قال: اللهم أغثنا " 1 الحديث بطوله.
ففي هذا أنه قال: ادع الله أن يغيثنا; فلما كثر الغيث، قال: ادع الله أن يمسكه عنا ;2 فهذا هو التوسل الذي كانوا يفعلونه; فلما مات صلوات الله وسلامه عليه، لم يتوسلوا به، ولم يستسقوا به; فلو كان ذلك مشروعا لم يعدلوا إلى العباس، وكيف يتركون التوسل بنبيهم صلى الله عليه وسلم ويعدلون إلى
1 البخاري: الجمعة (1014)، ومسلم: صلاة الاستسقاء (897)، والنسائي: الاستسقاء (1518) .
2 البخاري: الجمعة (1013)، ومسلم: صلاة الاستسقاء (897)، والنسائي: الاستسقاء (1518)، وأبو داود: الصلاة (1174) ، وأحمد (3/104 ،3/187 ،3/194 ،3/245 ،3/261 ،3/271) .
العباس؟ وكذلك "معاوية رضي الله عنه استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي، وقال: اللهم إنا نستشفع إليك بخيارنا; يا يزيد: ارفع يدك إلى الله؛ فرفع يديه ودعا ودعوا فسقوا".
وقال الشيخ الإمام أبو العباس، تقي الدين بن تيمية في رده على ابن البكري، لما تكلم على حديث الأعمى; قال: والأعمى كان قد طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، كما كان الصحابة يطلبون منه في الاستسقاء; وقوله: أتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، أي: بدعائه وشفاعته ; ولهذا قال في تمام الحديث: اللهم فشفعه في; فالذي في الحديث: متفق على جوازه، وليس هو مما نحن فيه، انتهى.
وقال رحمه الله تعالى، في موضع آخر: لفظ التوجه والتوسل، يراد به: أن يتوجه به ويتوسل إلى الله بدعائهم وشفاعتهم، فهذا هو الذي جاء في ألفاظ السلف، من الصحابة رضي الله عنهم; كقول عمر:"اللهم إنا كنا إذا أجدبنا، نتوسل إليك بنبينا فتسقينا; وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فأسقنا، فيسقون". فهذا إخبار من عمر رضي الله عنه عما كانوا يفعلونه، وتوسلوا بالعباس كما كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك "معاوية رضي الله عنه لما استسقى بأهل الشام، توسل بيزيد"
ومن هذا الباب ما في البخاري: عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: "ربما ذكرت قول الشاعر، وأنا أنظر إلى
وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي، فما ينْزل حتى يجيش الميزاب.
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
…
ثمال اليتامى عصمة للأرامل
ومن هذا الباب: حديث الأعمى؛ فإنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ادع الله أن يعافيني، قال: إن شئت دعوته، وإن شئت صبرت فهو خير لك. قال: ادع الله; فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه في "1. فأمره أن يطلب من الله أن يشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يكون طالبا لتشفيعه فيه إذا شفع فيه، فدعا الله.
وكذلك في أول الحديث: أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، فدل الحديث على: أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له ودعا له، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره هو: أن يدعو الله، وأن يسأله قبول شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا نظير توسلهم به في الاستسقاء، حيث طلبوا منه أن يدعو الله لهم، ودعوا هم الله تعالى أيضا.
وقوله: " يا محمد إني توجهت بك إلى ربي " 2 خطاب لحاضر قلبه، كما نقول في صلاتنا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وكما يستحضر الإنسان من يحبه، أو يبغضه ويخاطبه، وهذا كثير; فهذا كله يبين أن معنى
1 الترمذي: الدعوات (3578)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) .
2 الترمذي: الدعوات (3578)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) .
التوسل والتوجه به، وبالعباس وغيرهما في كلامهم هو التوسل، والتوجه بدعائه وبدعاء العباس، ودعاء من توسلوا به، وهذا مشروع بالاتفاق لا ريب فيه، انتهى كلام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى.
وفيما ذكرنا كفاية لمن نور الله قلبه، ومن أعمى الله قلبه لم تزده كثرة النقول إلا حيرة وضلالا {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] .
فصل [توسل آدم بالنبي]
وأما قول القائل: وأما التوسل، فقد أخرج الحاكم في مستدركه وصححه، أن آدم توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وورد: اللهم بحق نبيك والأنبياء قبلي، ولا أدري من خرجه ; فأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فقد رأيت لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، قدس الله سره، ونور رمسه، نقلا في جواز ذلك عن ابن عبد السلام، فبقي الكلام في النداء وفي غيره من الأنبياء، وفي معاني الأحاديث الأخر، وما حكمها؟ وما الحجة القابلة لما يقولون، المخصصة لما يعممون؟
وأما التوسل بغير الأنبياء، فيوردون:"أن عمر توسل بالعباس في الاستسقاء فسقوا، وطفق الناس يتمسحون به،" ويقولون: هذا الوسيلة إلى الله، فأما أول القصة فهي في البخاري، وهي لدينا بحمد الله.
وقولهم فطفق
…
إلخ، لا أدري من قالها، فما تقولون في معناها; وقد رأيت لبعض المحققين: أن التوسل بالأولياء غير التوسل إليهم، فالأول: جائز; والثاني: شرك، وفي عدة الحصن الحصين للجزري، والتوسل إلى الله بأنبيائه ورسله والصالحين
…
إلى آخره.
فالجواب أن يقال: العبادات مبناها على الأمر والاتباع، لا على الهوى والابتداع; والتوسل الذي جاءت به السنة، وتواتر في الأحاديث، هو: التوسل والتوجه إلى الله بالأسماء والصفات، وبالأعمال الصالحة كالأدعية الواردة في السنة، كقوله:" اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم " 1
وفي الحديث الآخر: " اللهم إني أسألك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد " 2، وكقوله في الحديث الآخر:"أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك "3.
وكما حكى الله سبحانه عن عباده المؤمنين: أنهم توسلوا إليه بصالح أعمالهم، فقال حاكيا عنهم:{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [سورة آل
1 النسائي: السهو (1300)، وأبو داود: الصلاة (1495) .
2 الترمذي: الدعوات (3475)، وابن ماجه: الدعاء (3857) .
3 أحمد (1/452) .
عمران آية: 193] .
وكما ثبت في الصحيحين، من قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار، فانطبقت عليهم الصخرة، فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم.
وكالتوسل بدعاء الأنبياء والصالحين، وشفاعتهم في حياتهم، كما ذكرنا من توسل الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، وتوسلهم بالعباس، وبيزيد بن الأسود، وتوسل الأعمى بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته له; فهذا مما لا نزاع فيه; بل هو من الأمور المشروعة، وهو من الوسيلة التي أمر الله بها، في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [سورة المائدة آية: 35] .
[سؤال الله بذوات المخلوقين]
وأما التوسل بالذات فيقال: ما الدليل على جواز سؤال الله بذوات المخلوقين؟ ومن قال هذا من الصحابة والتابعين؟ فالذي فعله الصحابة رضي الله عنهم: هو التوسل إلى الله بالأسماء والصفات، والتوحيد، والتوسل بما أمر الله به من الإيمان بالرسول، ومحبته وطاعته، ونحو ذلك، وكذلك توسلوا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، وتوسلوا بدعاء العباس، وبيزيد.
وأما التوسل بالذات بعد الممات، فلا دليل عليه، ولا قاله أحد من السلف; بل المنقول عنهم يناقض ذلك، وقد نص غير واحد من العلماء، على أن هذا لا يجوز; ونقل عن بعضهم جوازه.
وهذه المسألة وغيرها من المسائل، إذا وقع فيها النّزاع بين العلماء، فالواجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، قال الله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة النساء آية: 59]، وقال تعالى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [سورة الشورى آية: 10] ومعلوم: أن هذا لم يكن منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا مشهورا بين السلف، وأكثر النهي عنه.
ولا ريب أن الأنبياء والصالحين، لهم الجاه عند الله، لكن الذين لهم عند الله من الجاه، والمنازل والدرجات، أمر يعود نفعه إليهم; ونحن ننتفع من ذلك باتباعنا لهم، ومحبتنا؛ فإذا توسلنا إلى الله بإيماننا بنبيه صلى الله عليه وسلم ومحبته وطاعته، واتباع سنته، كان هذا من أعظم الوسائل.
وأما التوسل بنفس ذاته، مع عدم التوسل بالإيمان به وطاعته، فلا يكون وسيلة; فالمتوسل بالمخلوق، إذا لم يتوسل بما أمر من التوسل به، من الدعاء للمتوسل، وبمحبته واتباعه، فبأي شيء يتوسل به؟
والإنسان إذا توسل إلى غيره بوسيلة، فإما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك، مثل أن يقول لأبي الرجل، أو صديقه، أو من يكرم عليه: اشفع لنا عند
فلان، وهذا جائز; وإما أن يقسم عليه، ولا يجوز الإقسام بمخلوق; كما أنه لا يجوز أن يقسم على الله بالمخلوقين; فالتوسل إلى الله بذات خلقه، بدعة مكروهة، لم يفعلها السلف من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان.
[أنواع الأمور المبتدعة عند القبور]
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: في كتابه "إغاثة اللهفان في مكائد الشيطان": وهذه الأمور المبتدعة عند القبور أنواع:
أبعدها عن الشرع: أن يسأل الميت حاجته، كما يفعله كثير من هؤلاء من جنس عباد الأصنام ; ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت، كما يتمثل لعباد الأصنام، وكذلك السجود للقبر، وتقبيله والتمسح به.
النوع الثاني: أن يسأل الله به; وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو بدعة إجماعا.
النوع الثالث: أن يظن أن الدعاء عنده مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد؛ فيقصد القبر لذلك; فهذا أيضا من المنكرات إجماعا، وما علمت فيه نزاعا بين أئمة الدين، وإن كان كثير من المتأخرين يفعله.
وبالجملة: فأهل الأرض مفتونون بعبادة الأصنام، ولم يتخلص منه إلا الحنفاء، أتباع ملة إبراهيم. وعبادتها في الأرض من قبل نوح. وهياكلها، ووقوفها وسدنتها وحجابها، والكتب المصنفة في عبادتها طبق الأرض. قال إمام الحنفاء، عليه الصلاة والسلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ
نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [سورة إيراهيم آية: 35-36] . وكفى في معرفة أنهم أكثر أهل الأرض: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون" وقد قال تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} [سورة الإسراء آية: 89]، وقال:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة الأنعام آية: 116] .
ولو لم تكن الفتنة بعبادة الأصنام عظيمة، لما أقدم عبادهم على بذل نفوسهم، وأموالهم وأبنائهم دونها، وهم يشاهدون مصارع إخوانهم، وما حل بهم، ولا يزيدهم ذلك إلا حبا لهم وتعظيما، ويوصي بعضهم بعضا بالصبر عليها، انتهى كلامه، رحمة الله عليه. والمقصود: أنه حكى الإجماع، على أن التوسل إلى الله بصاحب القبر، بدعة إجماعا.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه - في رده على ابن البكري -: وما زلت أبحث وأكشف ما أمكنني من كلام السلف، والأئمة والعلماء، هل جوز أحد منهم التوسل بالصالحين في الدعاء؟ أو فعل ذلك أحد منهم؟ فما وجدته.
ثم وقعت على فتيا للفقيه: أبي محمد بن عبد السلام، أفتى بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بالنبي صلى الله عليه وسلم
فجوز التوسل به، إن صح الحديث في ذلك. وذكر القدوري في شرح الكرخي، عن أبي حنيفة وأبي يوسف: أنه لا يجوز أن يسأل الله بالأنبياء، انتهى كلامه.
وذكر ابن القيم رحمه الله تعالى، عن أبي الحسين القدوري نحو ذلك، فقال رحمه الله تعالى: قال القدوري، قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف، قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعقد العز من عرشك; أو يقول: بحق خلقك. وقال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشك، هو الله، فلا أكره ذلك، وأكره بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام. قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لا حق لمخلوق على الخالق؛ فلا تجوز، يعني وفاقا.
وقال البلدجي في "شرح المختارة": ويكره أن يدعو الله إلا به، فلا يقول: أسألك بفلان، أو بملائكتك، أو أنبيائك، أو نحو ذلك، لأنه لا حق لمخلوق على الخالق، انتهى.
[التوسل بالشخص والتوجه به]
وقال أبو العباس، تقي الدين أحمد بن تيمية، قدس الله نفسه، ونور رمسه، في كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم": لفظ التوسل بالشخص، والتوجه به، والتوسل به، فيه إجمال واشتراك، غلط بسببه من لم يفهم مقصود
الصحابة; يراد به التسبب به، لكونه داعيا وشافعا مثلا; أو يكون الداعي مجيبا له، مطيعا لأمره، مقتديا به.
فيكون التسبب: إما بمحبة السائل واتباعه له، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته. ويراد به: الإقسام والتوسل بذاته؛ فهذا هو الذي كرهوه ونهوا عنه. وكذلك لفظ السؤال بشيء، قد يراد به المعنى الأول، وهو التسبب به، لكونه سببا في حصول المطلوب، وقد يراد به الإقسام. ومن الأول حديث الثلاثة الذين أووا إلى غار، وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما، فإن الصخرة انطبقت عليهم، فقالوا: ليدْعُ كل رجل منكم بأفضل عمله، فدعوا الله بصالح أعمالهم لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله، ويتوجه به إليه ويسأل به؛ وهؤلاء دعوه بعبادته، وفعل ما أمر به من العمل الصالح، وسؤاله والتضرع إليه.
ومن هذا ما يذكر عن "فضيل بن عياض، أنه أصابه عسر البول، فقال: بحبي إياك إلا فرجت عني، ففرج عنه"، وكذلك دعاء "المرأة المهاجرة، التي أحيا الله ابنها، قالت: اللهم إني آمنت بك وبرسولك، وهاجرت في سبيلك، وسألت الله أن يحيي ولدها"، وأمثال ذلك، وهذا كما قال المؤمنون:{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [سورة آل
عمران آية: 193] الآيات.
فسؤال الله والتوسل إليه، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
وأما قوله في حديث أبي سعيد: " أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا " 1 فهذا الحديث رواه عطية العوفي، وفيه ضعف؛ لكن بتقدير ثبوته هو من هذا الباب، فإن حق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق المطيعين له أن يثيبهم، فالسؤال له والطاعة سبب لحصول إجابته وإثابته، فهو التوسل به، والتوجه به، والتسبب به.
ولو قدر أنه قسم، لكان قسما بما هو من صفاته؛ فإن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله، فصار هذا كقوله في الحديث الصحيح:" أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك " 2؛ والاستعاذة لا تصح بمخلوق، كما نص عليه الإمام أحمد وغيره من الأئمة.
فاستعاذ صلى الله عليه وسلم بعفوه ومعافته من عقوبته، مع أنه لا يستعاذ بمخلوق، كسؤال الله بإجابته وإثابته، وإن كان لا يسأل بمخلوق. ومن قال من العلماء لا يسأل إلا به، لا ينافي السؤال بصفاته، كما أن الحلف لا يشرع إلا بالله، ومن حلف بغير الله فقد أشرك، ومع هذا فالحلف بعزة الله، ولعمر الله، ونحو ذلك مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الحلف
1 ابن ماجه: المساجد والجماعات (778) ، وأحمد (3/21) .
2 مسلم: الصلاة (486)، والترمذي: الدعوات (3493)، والنسائي: التطبيق (1100 ،1130) والاستعاذة (5534)، وأبو داود: الصلاة (879)، وابن ماجه: الدعاء (3841) ، وأحمد (6/58)، ومالك: النداء للصلاة (497) .
به، لم يدخل في الحلف بغير الله.
وأما قول بعض الناس: أسألك بالله وبالرحم، وقراءة من قرأ {تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [سورة النساء آية: 1] ، فهو من باب التسبب بها، فإن الرحم توجب الصلة، وتقتضي أن يصل الإنسان قرابته؛ فسؤال السائل بالرحم لغيره، يتوسل إليه بما يوجب صلته من القرابة التي بينهما، ليس هو من باب الإقسام، ولا من باب التوسل بما لا يقتضي المطلوب، بل هو توسل بما يقتضي المطلوب، كالتوسل بدعاء الأنبياء، وبطاعتهم.
ومن هذا الباب: ما يروى، أن "عبد الله بن جعفر قال: كنت إذا سألت عليا شيئا فلم يعطنيه، قلت له: بحق جعفر إلا ما أعطيتنيه، فيعطيه"، أو كما قال; فإن بعض الناس ظن: أن هذا من باب الإقسام عليه بجعفر، أو من قولهم: أسألك بحق أنبيائك ونحو ذلك، وليس كذلك.
بل جعفر هو أخو علي، وعبد الله ابنه، وله عليه حق الصلة، فصلة عبد الله صلة لأبيه جعفر، كما في الحديث:" إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد ما يولي "1.
ولو كان من هذا الباب الذي ظنوه، لكان سؤاله لعلي بحق النبي صلى الله عليه وسلم وإبراهيم ونحوهما، أولى من سؤاله بحق
1 مسلم: البر والصلة والآداب (2552)، والترمذي: البر والصلة (1903)، وأبو داود: الأدب (5143) ، وأحمد (2/97) .
جعفر، ولكان علي إلى تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته وإجابته السائل، أسرع منه إلى إجابة السائل بغيره; انتهى ملخصا.
وأما قول القائل: فقد أخرج الحاكم في المستدرك وصححه، "أن آدم توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم"، فهو من رواية: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، قال أحمد بن حنبل: ضعيف; وقال ابن معين: ليس حديثه بشيء; وضعفه ابن المديني جدا، وقال أبو داود: أولاد زيد بن أسلم كلهم ضعيف، وقال النسائي: ضعيف.
وقال ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: ذكر رجل لمالك حديثا، فقال: من حدثك؟ فذكر إسنادا له منقطعا; فقال: اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد، يحدثك عن أبيه، عن نوح عليه السلام، وقال أبو زرعة ضعيف; وقال أبو حاتم: ليس بقوي في الحديث، كان في نفسه صالحا، وفي الحديث واهيا.
وقال ابن حبان: كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم، حتى كثر ذلك في روايته، من رفع المراسيل، وإسناد الموقوف، فاستحق الترك; وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، ضعيفا جدا; وقال ابن خزيمة: ليس هو ممن يحتج أهل العلم بحديثه; وقال الحاكم، وأبو نعيم: روى عن أبيه أحاديث موضوعة; وقال ابن الجوزي: أجمعوا على
ضعفه; فهذا الحديث الذي استدل به، تفرد به عبد الرحمن بن زيد، وهو كما تسمع.
وقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية، قدس الله روحه ونور ضريحه في رده على ابن البكري: وأما قول القائل: قد توسل به الأنبياء، آدم، وإدريس، ونوح، وأيوب، كما هو مذكور في كتب التفسير وغيرها، فيقال: مثل هذه القصص لا يجوز الاحتجاج بها، بإجماع المسلمين. فإن الناس لهم في شرع من قبلنا قولان:
أحدهما: أنه ليس بحجة.
الثاني: أنه حجة ما لم يأت شرعنا بخلافه، بشرط أن يثبت ذلك بنقل معلوم، كإخبار النبي صلى الله عليه وسلم. فأما الاعتماد على نقل أهل الكتاب، أو نقل من نقل عنهم، فهذا لا يجوز باتفاق المسلمين، لأن في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إذا حدثكم أهل الكتاب، فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم "1.
وهذه القصص التي فيها ذكر توسل الأنبياء بذاته، ليست في شيء من كتب الحديث المعتمدة، ولا لها إسناد معروف عن أحد من الصحابة; وإنما تذكر مرسلة، كما تذكر الإسرائيليات التي تروى عمن لا يعرف. وقد بسطنا الكلام في غير هذا الموضع، على ما نقل في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وتكلمنا عليه وبينا بطلانه.
ولو نقل ذلك عن كعب، ووهب، ومالك بن
1 أبو داود: العلم (3644) ، وأحمد (4/136) .
دينار، ونحوه ممن ينقل عن أهل الكتاب، لم يجز أن يحتج به; لأن الواحد من هؤلاء، وإن كان ثقة، فغاية ما عنده أن ينقل من كتاب من كتب أهل الكتاب، أو يسمعه من بعضهم، فإنه بينه وبين الأنبياء دهر طويل; والمرسل عن المجهول من أهل الكتاب، الذي لا يعرف علمه وصدقه، لا يقبل باتفاق المسلمين.
ومراسيل أهل زماننا عن نبينا صلى الله عليه وسلم لا تقبل عند العلماء، مع كون ديننا محفوظا محروسا، فكيف بما يرسل عن آدم وإدريس، ونوح وأيوب عليهم السلام؟ والقرآن قد أخبرنا بأدعية الأنبياء وتوباتهم واستغفارهم، وليس فيها شيء من هذا; وقد نقل أبو نعيم في الحلية: أن داود عليه السلام قال: يا رب أسألك بحق آبائي عليك، إبراهيم وإسحاق ويعقوب; فقال: يا داود: وأي حق لآبائك علي؟
فإن كانت الإسرائيليات حجة، فهذا يدل على أنه لا يسأل بحق الأنبياء، وإن لم تكن حجة لم يجز الاحتجاج بتلك الإسرائيليات، انتهى كلامه; فبين رحمه الله تعالى: أنه لم يصح في هذا شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأن جميع ما روي في ذلك باطل لا أصل له.
[التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة]
وأما قوله: وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة فقد رأيت لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب نقلا في جواز
ذلك عن ابن عبد السلام.
فنقول: قد تقدم أن التوسل المشروع، هو التوسل إلى الله بالأسماء والصفات، والتوحيد، وكذلك التوسل بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان به وطاعته، وكذلك التوسل بدعائه وشفاعته؛ وكل هذا مشروع بلا ريب، وأما التوسل بنفس الذات، فقد قدمنا أن كثيرا من العلماء نهوا عن ذلك، وجعلوه من البدع المكروهة المحدثة.
وبعضهم رخص في ذلك، وهو قول ضعيف مردود; وعز الدين بن عبد السلام: أنكر التوسل إلى الله بغير النبي صلى الله عليه وسلم، وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فعلق القول بجوازه على صحة حديث الأعمى; لأنه فهم من الحديث: أن الأعمى توسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الجمهور: فحملوا حديث الأعمى على أنه توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما كان الصحابة يتوسلون به في الاستسقاء، كما في حديث أنس الذي رواه البخاري في صحيحه، وقد تقدم; وشيخنا رحمه الله: نقل كلام العز بن عبد السلام ليبين أن مسألة التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم بدعة مكروهة; وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فأجازه بعض العلماء، كالعز بن عبد السلام.
والسائل فهم من نقل الشيخ أنه اختاره، وليس الأمر كذلك; بل الذي اختاره رحمه الله تعالى، هو الذي ذهب
إليه الجمهور: أن ذلك بدعة محدثة، لم يفعلها الصحابة، ولا التابعون، فإنه لم ينقل عن أحد منهم: أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، كما قدمناه. وأما قوله:
وأما التوسل بغير الأنبياء، فيوردون:"أن عمر توسل بالعباس في الاستسقاء"، وقد نقلنا بيانه بما فيه كفاية، وبينا أن التوسل بدعاء الصالحين في الاستسقاء وغيره مشروع، كما فعله الصحابة لما توسلوا بالعباس ويزيد بن الأسود، وليس كلامنا في هذا، وإنما الكلام في التوسل بنفس الذات.
وأما قولهم في حديث العباس "فطفق الناس يتمسحون به"، فلم نقف لها على أصل، ولا رأيناها في شيء من الكتب، وعلى تقدير ثبوتها فليس فيها حجة على التوسل بالأموات.
فصل
وأما قوله: إن سلمنا هذا القول، وظهر دليله، فالجاهل معذور; لأنه لم يدر ما الشرك والكفر، ومن مات قبل البيان فليس بكافر، وحكمه حكم المسلمين في الدنيا والآخرة; لأن قصة ذات أنواط، وبني إسرائيل، حين جاوزوا البحر، تدل على ذلك.. إلى آخره.
فالجواب أن يقال: إن الله تعالى أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل،
فكل من بلغه القرآن ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قامت عليه الحجة قال الله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [سورة الأنعام آية: 19]، وقال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [سورة الإسراء آية: 15] .
وقد أجمع العلماء على أن من بلغته دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أن حجة الله قائمة عليه. ومعلوم بالاضطرار من الدين: أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه الكتاب ليعبد وحده ولا يشرك معه غيره، فلا يدعى إلا هو، ولا يذبح إلا له، ولا ينذر إلا له، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يخاف خوف السر إلا منه.
والقرآن مملوء من هذا، قال الله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18]، وقال:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [سورة الرعد آية: 14]، وقال:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} [سورة يونس آية: 106]، وقال:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2]، وقال:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 23]، وقال:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [سورة هود آية: 123]، وقال:{وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [سورة البقرة آية: 40]، وقال:{وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران آية: 175]، وقال:{وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [سورة التوبة آية: 18] ، والآيات الواردة في هذا المعنى كثيرة.
والله تعالى: لا يعذب خلقه إلا بعد الإعذار إليهم، فأرسل رسله وأنزل كتبه، لئلا يقولوا:{لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة القصص آية: 47]، وقال:{وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [سورة طه آية: 134] .
وكل من بلغه القرآن فليس بمعذور؛ فإن الأصول الكبار، التي هي أصل دين الإسلام، قد بينها الله تعالى في كتابه، وأوضحها وأقام بها حجته على عباده. وليس المراد بقيام الحجة أن يفهمها الإنسان فهما جليا، كما يفهمها من هداه الله ووفقه، وانقاد لأمره; فإن الكفار قد قامت عليهم الحجة من الله تعالى، مع إخباره بأنه جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوا كلامه، فقال:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} [سورة الأنعام آية: 25] .
وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} [سورة فصلت آية: 44]، وقال تعالى:{إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الأعراف آية: 30]، وقال تعالى:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاًالَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 103-104] .
والآيات في هذا المعنى كثيرة؛ يخبر سبحانه أنهم لم يفهموا القرآن ولم يفقهوه، وأنه عاقبهم بالأكنة على قلوبهم، والوقر في آذانهم، وأنه ختم على قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم؛ فلم يعذرهم مع هذا كله؛ بل حكم بكفرهم وأمر بقتالهم، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم بكفرهم ; فهذا يبين لك أن بلوغ الحجة نوع، وفهمها نوع آخر.
وقد سئل شيخنا رحمه الله تعالى، عن هذه المسألة، فأجاب السائل بقوله: من العجب العجاب، كيف تشكون في هذا، وقد وضحته لكم مرارا؟! فإن الذي لم تقم عليه الحجة، هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون في مسألة خفية، مثل الصرف والعطف، فلا يُكَفَّر حتى يُعرَّف; وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه، فإن حجة الله هي القرآن؛ فمن بلغه فقد بلغته الحجة. ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة، وفهم الحجة; فإن أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [سورة الفرقان آية: 44] . وقيام الحجة وبلوغها نوع، وفهمهم إياها نوع آخر; وكفّرهم الله
ببلوغها إياهم، مع كونهم لم يفهموها. وإن أشكل عليكم ذلك، فانظروا قوله صلى الله عليه وسلم في الخوارج " أينما لقيتموهم فاقتلوهم " 1 مع كونهم في عصر الصحابة، ويحقر معهم الإنسان عمل الصحابة، ومع إجماع الناس أن الذي أخرجهم من الدين، هو التشديد والغلو والاجتهاد، وهم يظنون أنهم مطيعون لله، وقد بلغتهم الحجة، ولكن لم يفهموها.
وكذلك: قتل علي رضي الله عنه الذين اعتقدوا فيه، وتحريقهم بالنار، مع كونهم تلاميذ الصحابة، ومع عبادتهم وصلاحهم؛ وهم أيضا يظنون أنهم على حق، وكذلك إجماع السلف على تكفير أناس من غلاة القدرية، وغيرهم، مع كثرة علمهم، وشدة عبادتهم، وكونهم يظنون أنهم يحسنون صنعا; ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم; لأجل أنهم لم يفهموا، فإن هؤلاء كلهم لم يفهموا، انتهى كلامه.
إذا تقرر هذا، فنقول: إن هؤلاء الذين ماتوا قبل ظهور هذه الدعوة الإسلامية، وظاهر حالهم الشرك، لا نتعرض لهم، ولا نحكم بكفرهم ولا بإسلامهم؛ بل نقول: من بلغته هذه الدعوة المحمدية، وانقاد لها، ووحد الله، وعبده وحده لا شريك له، والتزم شرائع الإسلام، وعمل بما أمره الله به، وتجنب ما نهاه عنه،
1 البخاري: المناقب (3611)، ومسلم: الزكاة (1066)، والنسائي: تحريم الدم (4102)، وأبو داود: السنة (4767) ، وأحمد (1/131) .
فهذا من المسلمين الموعودين بالجنة، في كل زمان وفي كل مكان.
وأما من كانت اله حال أهل الجاهلية، لا يعرف التوحيد الذي بعث الله رسوله يدعو إليه، ولا الشرك الذي بعث الله رسوله ينهى عنه، ويقاتل عليه، فهذا لا يقال إنه مسلم لجهله؛ بل من كان ظاهر عمله الشرك بالله، فظاهره الكفر، فلا يستغفر له ولا يتصدق عنه، ونكل حاله إلى الله الذي يبلو السرائر، ويعلم ما تخفي الصدور.
ولا نقول: فلان مات كافرا، لأنا نفرق بين المعيّن وغيره، فلا نحكم على معين بكفر، لأنا لا نعلم حقيقة حاله وباطن أمره؛ بل نكل ذلك إلى الله. ولا نسب الأموات؛ بل نقول: أفضوا إلى ما قدموا. وليس هذا من الدين الذي أمرنا الله به؛ بل الذي أمرنا به أن نعبد الله وحده ولا نشرك به، ونقاتل من أبى عن ذلك، بعد ما ندعوه إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإذا أصر وعاند كفّرناه وقاتلناه.
فينبغي للطالب أن يعهم الفرق بين المعين وغيره؛ فنكفر من دان بغير الإسلام جملة، ولا نحكم على معين بالنار، ونلعن الظالمين جملة، ولا نخص معينا بلعنة، كما قد ورد في الأحاديث من لعن السارق، وشارب الخمر؛ فنلعن من لعنه الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم جملة، ولا نخص شخصا
بلعنة؛ يبين ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن شارب الخمر جملة. ولم اجلد رجلا قد شرب، قال رجل من القوم: اللهم اللعنه، ما أكثر ما يؤتى به النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله ?".
فصل
وأما قوله: ومنها: أن كثيرا من العلماء الكبار فعلوا هذه الأمور، وفُعلت بحضرتهم ولم تنكر. ومن ذلك تتابعهم على بناء القباب على القبور، واتخاذها أعيادا في الغالب؛ فلكل شيخ يوم معروف، في شهر معلوم، يؤتى إليه من النواحي؛ وقد يحضرهم بعض العلماء فلا ينكر.
فالجواب من وجوه: الوجه الأول: أن يقال: قد افترض الله على الخلق طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر أن من أطاعه فقد أطاع الله، فقال:{ومن يطع الرسول فقد أطاع الله} وقال: {وإن تطيعوه تهتدوا} ، وقال:{وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} .
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} .
فإذا اختلف الناس في شيء من أمور الدين، هل هو واجب أو محرم أو جائز، وجب رد ما وقع فيه الاختلاف إلى الله والرسول، ويجب على المؤمن إذا دعي إلى ذلك، أن يقول: سمعا وطاعة; قال الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [سورة النور آية: 51] . فنحن نحاكم من نازعنا في هذه المسألة وغيرها من المسائل، إلى الله والرسول، لا إلى أقوال الرجال وآرائهم.
فنقول لمن أجاز بناء القباب على القبور بالجص والآجر وأسرجها، وفرشها بالرخام، وعلق عليها قناديل الفضة وبيض النعام، وكساها كما يكسى بيت الله الحرام: هل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا وحث عليه؟ أم نهى عنه وأمر بإزالة ما وضع من ذلك عليه؟ فما أمرنا به ائتمرنا، وما نهانا عنه انتهينا; وسنته هي الحاكمة بيننا وبين خصومنا في محل النّزاع.
فنقول: قد ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي، قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته " 1 ; وفي صحيحه
1 مسلم: الجنائز (969)، والترمذي: الجنائز (1049)، وأبو داود: الجنائز (3218) ، وأحمد (1/96 ،1/128) .
أيضا، عن ثمامة بن شفي الهمداني، قال:"كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها".
وفي صحيحه أيضا، عن جابر بن عبد الله، قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه "1. وفي سنن أبي داود، والترمذي، عن جابر رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تجصص القبور، وأن يبنى عليها، ويكتب عليها " 2، قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:" لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج " 3، رواه الإمام أحمد، وأهل السنن.
فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البناء عليها، وأمر بهدمه بعد ما يبنى، ونهى عن الكتابة عليها، ولعن من أسرجها؛ فنحن نأمر بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من تسويتها، وننهى عن البناء عليها، كما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو الذي افترض الله علينا طاعته واتباعه.
وأما غيره فيؤخذ من قوله ويترك، كما قال الإمام مالك: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الإمام أحمد: لا تقلد في دينك أحدا، ما جاء
1 مسلم: الجنائز (970)، والترمذي: الجنائز (1052)، والنسائي: الجنائز (2027 ،2028 ،2029)، وأبو داود: الجنائز (3225)، وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1562) ، وأحمد (3/295 ،3/332 ،3/339 ،3/399) .
2 مسلم: الجنائز (970)، والترمذي: الجنائز (1052)، والنسائي: الجنائز (2028 ،2029)، وأبو داود: الجنائز (3225)، وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1562 ،1563) ، وأحمد (3/295 ،3/332 ،3/339) .
3 الترمذي: الصلاة (320)، والنسائي: الجنائز (2043)، وأبو داود: الجنائز (3236)، وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1575) ، وأحمد (1/229 ،1/287 ،1/324 ،1/337) .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه فخذه; ثم التابعين بعد، الرجل فيهم مخير. وقال أيضا: لا تقلدوني، ولا تقلدوا مالكا، ولا الثوري، ولا الأوزاعي، وخذوا من حيث أخذوا.
والعجب ممن يسمع هذه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من النهي عن تعظيم القبور، وعقد القباب عليها بالجص والآجر، وإسراجها، ولعن من أسرجها; ثم يقول فعلت هذه الأمور، بحضرة العلماء الكبار ولم ينكروا، كأنه لم يسمع ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "يوشك أن تنْزل عليكم حجارة من السماء. أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر". وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، ويذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] : أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك؛ لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
فإذا كان هذا كلام ابن عباس، فيمن عارض السنة لقول أبي بكر وعمر، وكلام أحمد فيمن ذهب إلى رأي سفيان، فكيف بمن عارض السنة بقول فلان وفلان؟ وقد روى البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أشد ما أتخوف على أمتي ثلاثا: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناق الرجال "1. ومن المعلوم أن المخوف في زلة العالم تقليده فيها؛ إذ لولا ذلك لم يخف من زلة العالم على غيره؛ فإذا عرف أنها زلة، لم يجز له أن يتبعه فيها باتفاق العلماء; فإنه اتباع للخطأ على عمد.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "يفسد الزمان ثلاثة: أئمة مضلون، وجدال المنافق بالقرآن والقرآن حق، وزلة العالم". فإذا صح وثبت أن العالم يزل ويخطئ، لم يجز لأحد أن يفتي ويدين الله بقول لا يعرف وجهه؛ فكيف إذا عارض بقوله أو فعله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعله؟
الوجه الثاني: أن يقال: إذا لم تقنع ولم يطمئن قلبك بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت: العلماء أعلم منا بالسنة، وأطوع لله ولرسوله، فنقول: أعلم الناس بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وما نهى عنه: أصحابه رضي الله عنهم، فهم أعلم الناس بسنته، وأطوعهم لأمره; وهم الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، ورضي عمن اتبعهم بإحسان.
وفي حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه عن
1 الدارمي: المقدمة (649) .
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي؛ تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة " 1 وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " خير القرون قرني الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم "2.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:"من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم". وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه:"يا معشر القراء، استقيموا وخذوا طريق من قبلكم، فوالله لقد سبقتم سبقا بعيدا، ولئن أخذتم يمينا وشمالا، لقد ضللتم ضلالا بعيدا".
فإن احتج أحد علينا بما عليه المتأخرون، قلنا: الحجة بما عليه الصحابة، والتابعون، الذين هم خير القرون، لا بما عليه الخلف، الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هل نقل عنهم أنهم عقدوا القباب على القبور، وأسرجوها؟ وخلقوها وكسوها الحرير؟ أم هذا مما حدث بعدهم من المحدثات، التي
1 الترمذي: العلم (2676)، وأبو داود: السنة (4607)، وابن ماجه: المقدمة (42 ،44) ، وأحمد (4/126)، والدارمي: المقدمة (95) .
2 البخاري: الشهادات (2652)، ومسلم: فضائل الصحابة (2533)، والترمذي: المناقب (3859)، وابن ماجه: الأحكام (2362) ، وأحمد (1/378 ،1/417 ،1/434 ،1/438 ،1/442 ،4/267 ،4/276 ،4/277) .
هي بدع وضلالات؟
ومعلوم أن عندهم من قبور الصحابة، الذين ماتوا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته ما لا يحصى، هل بنوا على قبورهم وعظموها، ودعوا عندها، وتمسحوا بها؟ فضلا عن أن يسألوها حوائجهم؟ أو يسألوا الله بأصحابها؟ فمن كان عنده في هذا أثر صحيح أو حسن، فليرشدنا إليه وليدلنا عليه، وأنى له بذلك؟ فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وسنة خلفائه الراشدين.
وقد روى خالد بن سنان، عن أبي العالية قال:"لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف، فحملناه إلى عمر بن الخطاب فدعا له كعبا، فنسخه بالعربية؛ فأنا أول رجل من العرب قرأه، قرأته مثلما أقرأ القرآن. قال خالد، فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ قال: سيرتكم، وأموركم، ولحون كلامكم، وما هو كائن بعد. قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة، فلما كان بالليل دفناه، وساوينا القبور كلها مع الأرض، لنعميه عن الناس لا ينبشونه. فقلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم، أبرزوا السرير فيمطرون. فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له "دانيال". فقال: منذ كم
وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة; قلت: ما كان تغير منه شيء؟ قال: لا، إلا شعرات من قفاه; إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض، ولا تأكلها السباع".
ففي هذه القصة: ما فعله المهاجرون والأنصار، من تعمية قبره، لئلا يفتنن به الناس; ولم يبرزوه للدعاء عنده، والتبرك به; ولو ظفر به هؤلاء المشركون، وعلموا حقيقته لبنوا عليه وعظموه، وزخرفوا قبره، وأسرجوه، وجعلوه وثنا يعبد.
فإنهم قد اتخذوا من القبور أوثانا، ممن لا يداني هذا ولا يقاربه - بل لعله عدو لله - وأقاموا لها سدنة، وجعلوها معابد، واعتقدوا أن الصلاة عندها، والدعاء حولها والتبرك بها، فضيلة مخصوصة ليست في المساجد ; ولو كان الأمر كما زعموا، بل لو كان مباحا، لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علما، ولما أخفوه خشية الفتنة به؛ بل دعوا عنده وبينوه لمن بعدهم؛ ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه، من هؤلاء الخلوف، الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وصرفوا لغير الله جل العبادات. وما أحسن ما قال الإمام مالك، رحمه الله تعالى: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها; ولكن كلما نقص تمسكهم بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وهديه، وسنة خلفائه الراشدين، تعوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك.
ومن له خبرة بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور، وما يفعل بها، وما يفعل عندها، وبما كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ثم وازن بين هديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه، وبين ما عليه المتأخرون اليوم، وما يفعلونه عند القبور، تبين له التباين والتضاد، وعلم أن بينهما من الفرق أبعد مما بين المشرق والمغرب، كما قيل:
سارت مشرقة وسرت مغربا شتان بين مشرق ومغرب
الوجه الثالث: أن يقال: قوله: إن كثيرا من العلماء فعلوا هذه الأمور، وفعلت بحضرتهم فلم ينكروا، من ذلك تتابعهم على بناء القباب على القبور.
فيقال: بل قد نهوا عن ذلك، وصرحوا بكراهته والنهي عنه، وهذه كتبهم بأيدينا مصرحة بما ذكرنا، ونحن نسوق عباراتهم بألفاظها:
فأما كلام الحنابلة، فقال في الإقناع: ويستحب رفع القبر قدر شبر، ويكره فوقه، ويكره البناء عليه، سواء لاصق البناء القبر أو لا، ولو في ملكه من قبة أو غيرها، للنهي عن ذلك.
وقال ابن القيم، رحمه الله تعالى، في "إغاثة اللهفان": ويجب هدم القباب التي على القبور ; لأنها أسست على معصية الرسول، انتهى.
وهو في المسبلة أشد كراهة; قال الشيخ: هو غاصب;
وقال أبو حفص: تحرم الحجرة؛ بل تهدم وهو الصواب، انتهى كلامه في الإقناع; وهذا الذي ذكره، ذكره غير واحد من أئمة الحنابلة، فلا حاجة إلى الإطالة بنقل عباراتهم.
[تجصيص القبر والبناء والكتابة عليه]
وأما كلام الشافعية، فقال الأذرعي، رحمه الله تعالى: في "قوت المحتاج إلى شرح المنهاج" عند قول المؤلف، رحمه الله تعالى: ويكره تجصيص القبر، والبناء والكتابة عليه؛ ثبت في صحيح مسلم النهي عن التجصيص والبناء.
وفي الترمذي وغيره: النهي عن الكتابة، وعبارة الحلوانية ممنوعا منهما; وعبارة القاضي ابن كج: ولا يجوز أن تجصص القبور، ولا أن يبنى عليها قبابا، ولا غير قباب؛ والوصية بها باطلة.
وقال الحضرمي في شرح المهذب: وقد يقولون - يعني الأصحاب -: لا تبنى القبور، وكأنهم يريدون: لا تبنى القبور في نفسها بآجر، والبناء قبل، فالمفهوم من كلامهم: أن هذا كالتجصيص فيكره، ولا يحرم، إلا أن يريد في المقبرة المسبلة فيحرم.
قلت: وينبغي تحريمه في المسبلة مطلقا وإن لم يضيق; لأنه قد أبدى بالجص وإحكام البناء، فيمنع من الدفن هناك بعد البلاء، ولا يبعد الجزم بالتحريم في ملكه وغيره، على من علم النهي عنه؛ بل هو القياس الحق.
قوله: ولو بني في مقبرة مسبلة هدم، أي: البناء على القبر فيها; وعلى الفرق في التحريم بين ملكه وملك غيره جرى كثيرون، منهم القاضيان الحسين، والماوردي في موضع آخر، فقال: يكره البناء على
القبور، كالقباب والبيوت؛ وإن كان في غير ملكه لم يجز للنهي عن ذلك والتضييق.
قال الشافعي رضي الله عنه: ورأيت الولاة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى منها، ولم أر الفقهاء يعيبون ذلك عليهم، انتهى.
وأما بطلان الوصية ببناء القباب، وغيرها من الأبنية العظيمة، وإنفاق الأموال الكثيرة عليها، فلا ريب في تحريمه; والعجب كل العجب ممن يلزم ذلك الورثة من حكام العصر، ويعمل بالوصية بذلك، مع قول الأصحاب: لا تنفذ الوصية بالتابوت، حيث لا حاجة إليه. ومن جوز البناء في الملك صرح بالكراهة، فكيف تنفذ الوصية على المكروه؟ انتهى كلام الأذرعي رحمه الله.
فصرح بأن البناء مكروه، وساق عبارات الأصحاب; وهل الكراهة كراهة تحريم أم لا؟ أم يفرق بين المسألة وغيرها؟ واختار التحريم مطلقا في ملكه وغيره، على من علم النهى; وقال: بل هو القياس الحق.
وأما كلام المالكية، فقال القرطبي رحمه الله: في شرح مسلم، لما ذكر قوله صلى الله عليه وسلم:" ولا قبرا مشرفا إلا سويته" 1 ظاهره: منع تسنيم القبور، ورفعها، وأن تكون لاطئة
1 مسلم: الجنائز (969)، والترمذي: الجنائز (1049)، والنسائي: الجنائز (2031)، وأبو داود: الجنائز (3218) ، وأحمد (1/96 ،1/128 ،1/145) .
بالأرض، وقد قال به بعض أهل العلم. وذهب الجمهور إلى أن هذا الارتفاع المأمور بإزالته، ليس هو التسنيم، ولا ما يعرف به القبر، كي يحترم; إنما هو الارتفاع الكثير، الذي كانت الجاهلية تفعله; فإنها كانت تعلي عليها، وتبني فوقها، تفخيما لها وتعظيما.
وأما تسنيمها، فذلك صفة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وعمر، على ما ذكر في الموطأ. وقد جاء عن عمر: أنه هدمها، وقال: ينبغي أن تسوى تسوية تسنيم. وهذا معنى قول الشافعي: تسطح القبور، ولا تبنى ولا ترفع، وتكون على وجه الأرض; وتسنيمها: اختاره أكثر العلماء، وجملة أصحابنا، وأصحاب أبي حنيفة، والشافعي. قلت: والذي صار إليه عمر أولى، فإنه جمع بين التسوية والتسنيم.
وقوله: نهى أن يجصص القبر، ويبنى عليه; التجصيص، والتقصيص، هو: البناء بالجص; وبظاهر هذا الحديث، قال مالك: وكره البناء والجص على القبور، وقد أجازه غيره، وهذا الحديث حجة عليه. ووجه النهي عن البناء، والتجصيص في القبور: أن ذلك مباهاة، واستعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، وتشبه بمن كان يعبد القبور، ويعظمها. وباعتبار هذه المعاني، وبظاهر هذا النص، ينبغي أن يقال: هو حرام، كما قال به: بعض أهل العلم، انتهى كلام القرطبي رحمه الله.
وقال الشيخ سالم السنهوريفي كتابه "تيسير الملك الجليل، شرح مختصر خليل": قال بعض: لا شك أن "المعلاة" و "الشبيكة" من مقابر المسلمين المسبلة، المرصدة لدفن الموتى بمكة المشرفة، وأما البناء بهما لا يجوز، ويجب هدمه، يدل له قول الشافعي: رأيت من الولاة من يهدم بمكة ما بني بها.
قال في المدخل: وقد "جعل عمر رضي الله عنه "القرافة" بمصر لدفن موتى المسلمين"، واستمر الأمر على ذلك، وأن البناء بها ممنوع، وأن السلطان "الظاهر" أمر باستفتاء العلماء في زمانه في هدم ما بها من البناء، فاتفقوا على لسان واحد: يجب على ولي الأمر هدمه، وأن يكلف أصحابه رمي ترابها في "الكمارة"؛ ولم يختلف في ذلك أحد منهم; ثم إن الملك الظاهر سافر إلى الشام، فلم يرجع، انتهى.
قال بعض: ولم أعلم أحدا من المالكية أباح البناء حول القبور في مقابر المسلمين، سواء كان الميت صالحا أو عالما أو شريفا أو سلطانا أو غير ذلك.
وفي جواب ابن رشد - عن سؤال القاضي له عن ذلك -: أما ما بني في مقبرة المسلمين ووقف، فإن وقفه باطل، وأنقاضه باقية على ملك ربها إن كان حيا أو كان له ورثة؛ ويؤمر هو ووارثه بنقلها عن مقابر المسلمين. وإن لم يكن له وارث استأجر
القاضي على نقلها منها وصرف الباقي في مصاريف بيت المال.
ولا يؤخذ جواز البناء على القبور، من قول الحاكم في مستدركه - عقب تصحيحه الأحاديث -: النهي عن البناء على القبر، والكتب عليه: ليس العمل عليها؛ فإن أئمة المسلمين شرقا وغربا مكتوب على قبورهم، وأخذه الخلف عن السلف، فيكون إجماعا، مستندا إلى حديث آخر كخبر:"لا تجتمع أمتي على ضلالة".
ولا من قول ابن قداح في مسائله: لا يجوز البناء على القبر; وهل يكتب عليه أو لا؟ لم يرد في ذلك عن السلف الصالح شيء، ولكن إن وقع وعمل على قبر رجل من أهل الخير فخفيف; لأن كلام الحاكم وابن قداح: خاص بالكتابة، لا يتعداها إلى البناء. وقال ابن رشد: كره مالك البناء على القبر، وجعل البلاطة المكتوبة، وهي من بدع أهل الطول، وأحدثوه إرادة الفخر والمباهاة والسمعة؛ وهو مما لا اختلاف فيه، انتهى كلام السنهوري رحمه الله.
وأما كلام الحنفية فقال الزيلعي - في شرحه على الكنْز - عند قول الماتن: ويسنم القبر ولا يربع ولا يجصص، لما روى البخاري عن سفيان التمار: أنه رأى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مسنما.
وقال إبراهيم النخعي: أخبرني بعض من رأى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وعمر مسنمة، وسنم محمد بن الحنفية قبر ابن عباس. ويسنم قدر شبر; وقيل: قدر أربع أصابع; ولا بأس برش الماء عليه، حفظا لترابه عن الاندراس. وعن أبي يوسف أنه كرهه; لأنه يجري مجرى التطيين.
ويكره أن يبنى على القبر. وفي الخلاصة: ولا يجصص القبر ولا يطين، ولا يرفع عليه بناء. وذكر أيضا قاضي خان، في فتاويه: أنه لا يجصص القبر ولا يبنى عليه، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن التجصيص والتقصيص، وعن البناء فوق القبر; قالوا: أراد بالبناء السفط الذي يجعل في ديارنا.
وقال ابن الهمام في "فتح القدير"، قال أبو حنيفة: حدثنا شيخ لنا، يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تربيع القبور وتجصيصها. وروى محمد بن الحسن، عن أبي حنيفة عن حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم قال: أخبري من رأى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وعمر، ناشزة من الأرض، وعليها فلق أبيض من مدر.
فتأمل كلام الحنفية في ذكر كراهة البناء على القبور؛ والمراد بالكراهة: كراهة التحريم، التي هي في مقابلة ترك الواجب; وقد ذكروا من قواعدهم: أن الكراهة حيث أطلقت، فالمراد منها التحريم; وممن نبه على ذلك: ابن نجيم
في "البحر" وغيره، حيث قال: وأفاد صحة إطلاق الحرمة على المكروه تحريما.
وتأمل كلام الزيلعي، وما ذكره من الخلاف بين الأصحاب، هل يسنم قدر شبر؟ أو قدر أربع أصابع؟ وذكر عن أبي يوسف أنه كره رش القبر بالماء; لأنه يجري مجرى التطيين; وهل هذا منهم رحمهم الله، إلا اتباع ما عليه السلف الصالح من ترك تعظيم القبور، التي هي من أعظم الوسائل إلى الشرك.
فتأمل رحمك الله: كلام العلماء من أهل المذاهب الذين نقلنا عنهم، والموجود في كلام غيرهم، يوافق ذلك ولا يخالفه، وكلامهم صريح في النهي عن البناء على القبور; لكن هل هو تحريم أو تنْزيه؟ اختلفوا في ذلك; فبعضهم قال: هو حرام مطلقا، اتباعا للنص; ولم يفرق بين ملكه وغيره. وبعضهم صرح بالنهي مطلقا، اتباعا للنص، وجعل التحريم في البناء في المقبرة المسبلة; والقول بتحريمه في المسبلة، هو قول الأئمة الأربعة.
وهذا صريح في إبطال ما ذكره القائل: أن العلماء لم ينكروا ذلك; فإذا كانوا مصرحين بالنهي عن ذلك، في كتب أصحاب الأئمة الأربعة; فكيف يقال: لم ينهوا عن ذلك بل أقروهم؛ وقد صرحوا بتحريمه، ووجوب هدمه إذا بني في مقابر المسلمين؟! ومع هذا فقد ضيقت المقابر بالقباب، في كل
مصر من الأمصار، مع وجود النهي والإنكار.
فظهر لك بهذا وتبين أنه ليس بناء هذه القباب وتعظيمها وإسراجها بأمر من العلماء، ولا رضى منهم بذلك; بل هو بأمر الذين أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وشربوا الخمور والمسكرات، وأعرضوا عن سماع الآيات، وأقبلوا على سماع الأبيات; فهل يقول أحد: إن هؤلاء الذين تركوا المأمور، وارتكبوا كل محظور، قد أقرهم العلماء على ذلك، ورضوا به، ولم ينكروه؟!
وهذا القائل الذي زعم: أن بناء القباب جائز; لأن العلماء لم ينكروه، يقال له: هل وجد في زمانهم من ترك الصلاة، ولا يؤدي الزكاة، ويشرب الخمور ويجاهر بالفجور؟ فإن قال: لم يوجد، فهذا مكابرة، كمن ينكر الشمس بالهاجرة.
وإن قال بل وجدت في سائر الأقطار، وكثر في جميع الأعصار والأمصار، فيقال: هل أجازه العلماء ورضوا به؟ فإن كان وجود القباب يدل على رضاهم بها، فهذا مثله، وكيف يقال: إن العلماء بذلك راضون، وله فاعلون؟ وهذه كتبهم مشحونة بالنهي عن ذلك وتحريمه، ويوجبون هدمه في المقابر المسبلة.
وهذه المقابر المسبلة مشحونة بالقباب في الحرمين، ومصر والشام واليمن، والعراق وبلاد العجم، وكتبهم تنهى
عن ذلك وتحرمه، وتوجب هدمه; ولا يقول: إن العلماء لم ينكروه إلا من قصر في العلم باعه، وقل نظره واطلاعه; هذا مع أنا نقول كما قال صلى الله عليه وسلم:" خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة "1.
فلو قدر: أن المتأخرين فعلوا ذلك، وحضروه وأقروه، ولم ينكروه، لم يكن قولهم حجة {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} وكل يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فما وافق هديه فهو مقبول، وما خالفه فهو مردود، كما ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 2، وكل قول يخالف سنته، فهو مردود على قائله.
وما أحسن ما قال الشافعي، رحمه الله: إذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي الحائط; وقال أيضا: أجمع الناس أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد; وصح عنه، أنه قال: إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا، ولم آخذ به، فاعلموا أن عقلي قد ذهب. وصح عنه أنه قال: لا قول لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا وإن كان لسان الشافعي، فهو لسان الجماعة كلهم.
وأبلغ من هذا كله، قول الله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}
1 مسلم: الجمعة (867)، والنسائي: صلاة العيدين (1578)، وابن ماجه: المقدمة (45) ، وأحمد (3/310 ،3/319 ،3/371) .
2 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجه: المقدمة (14) ، وأحمد (6/73 ،6/146 ،6/180 ،6/240 ،6/256 ،6/270) .
[سورة النساء آية: 59] .
فهذا دليل على أنه يجب رد موارد النّزاع، في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كله، أصوله وفروعه، إلى الله ورسوله، لا إلى غير الله ورسوله.
فمن أحال في الرد على غيرهما، لقول فلان أو نص كتابه، أو عمل فلان وطريقة أصحابه، فقد ضاد الله في أمره; فلا يدخل العبد في الإيمان حتى يرد كل ما تنازع فيه المتنازعون، إلى الله ورسوله; ولهذا قال:{إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة النساء آية: 59]، وهذا شرط ينتفي المشروط بانتفائه؛ فدل: على أن من حكّم غير الله ورسوله في موارد النّزاع، كان خارجا عن مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر.
وقد اتفق السلف والخلف، على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته بعد وفاته؛ قال تعالى:{ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] أي: هذا الرد الذي أمرتكم به من طاعتي، وطاعة رسولي، وأولي الأمر؛ ورد ما تنازعتم فيه إلى الله والرسول، خير لكم في معاشكم ومعادكم، وهو سعادتكم في الدارين، فهو خير لكم وأحسن عاقبة; فدل على: أن طاعة الله ورسوله، وتحكيم الله ورسوله، هو سبب السعادة عاجلا وآجلا.
وهذه قاعدة عظيمة مهمة، يحتاج إليها كل أحد، وطالب العلم إليها أحوج، فإنه في غالب الأحوال يرى نصوص أهل مذهبه قد خالفت نصوص غيرهم من أهل
المذاهب، فلا ينبغي له أن يهجم على كتب المذاهب، ويأخذ بعزائمها ورخصها; بل الواجب عليه أن يطلب ما جاء في تلك المسائل، عن الله ورسوله، ويعرض نصوص مذهبه ونصوص غيرهم من أهل المذاهب، على ما جاء عن الله ورسوله؛ فما وافقها قبله، وما خالفها رده على قائله، كائنا من كان; فيجعل ما جاء عن الله ورسوله، هو المعيار، ويدور معه حيث دار.
وكثير من الناس أو أكثرهم نكس هذا الحكم على رأسه، وجعلوا الحكم للكتب التي صنفها المتأخرون {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة المؤمنون آية: 53] . بل صرح بعضهم في مصنفاته بأنه يجب على العامي، أن يتمذهب بمذهب، يأخذ بعزائمه ورخصه، وإن خالف نص الكتاب أو السنة؛ وهذا من أعظم حيل الشيطان، وحبائله التي صاد بها كثيرا ممن ينتسب إلى العلم والدين؛ فنبذوا كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، وأقبلوا على الكتب التي صنفها متأخروهم; وقالوا: هم أعلم منا.
ثم لم يكتفوا بها، ولم يعملوا بما فيها؛ بل إن وافق ما فيها أهواءهم قبلوه، وعملوا به، وقالوا: نص عليه في الكتاب الفلاني; وإن خالف ما فيها أهواءهم، لم يعبؤوا بها، ولم يحتجوا بها؛ بل ربما جعلوا حجتهم ما فعله إخوان
الشياطين، من الرعايا والسلاطين، الذين بنوا القباب على القبور، وارتكبوا كل محظور؛ فزخرفوا القبور بالبناء، وكسوها كما يكسى البيت الحرام، وفعلوا عندها ما يفعله عباد الأصنام؛ حتى آل الأمر إلى أن صار فعلهم هذا حجة، تعارض بها النصوص.
فيقول قائلهم: هذا موجود في كل عصر ومصر من غير نكير، فيكون إجماعا؛ هذا مع علمه بما نص عليه الفقهاء من النهي عن ذلك وتحريمه، خصوصا البناء في المقابر المسبلة، فإنهم اتفقوا على تحريم البناء فيها.
ثم لا يخفى ما في الحرمين الشريفين، من القباب المبنية في المعلاة، والبقيع، ومقابر مصر، كالقرافة وغيرها، ومقابر الشام وغيرها، فهلا أنكر المتأخرون ما نهى عنه علماؤهم، وحرموه؟ بل أعرضوا عن ذلك، كأنهم لم يسمعوه.
بل أعرضوا عن كتاب ربهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وغلبت عليهم العادة التي نشؤوا عليها، ووجدوا أهلهم عليها، واحتجوا بالحجة القرشية {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 22] ، والحجة الفرعونية {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [سورة طه آية: 51] ، وقبلهم إبراهيم، لما قال لهم عليه السلام:{هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [سورة الشعراء آية: 72-73-74] .
والمشركون في هذا الزمان يسلكون سبيلهم حذو القذة بالقذة، لما أنكرنا عليهم الشرك بالله، وتعظيم القبور والبناء عليها، وإسراجها ودعاءها، والدعاء عندها، ولم يكن لهم حجة يحتجون بها إلا هذه الحجج، التي حكى الله عن المشركين، من قريش ومن قبلهم.
فيقولون: هذا قد وجد من ستمائة سنة فلم ينكر، هذا عمل الناس في القديم والحديث، هذا فلان قد نص على هذا في منسكه، هذا صاحب البردة قد ذكره في بردته، هذا فلان حضره فلم ينكره; وهذه الشبهة هي التي ملأت قلوبهم، وأخذت أسماعهم وأبصارهم، فلم يلتفتوا إلى غيرها; فإذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول، رأيتهم يصدون وهم مستكبرون.
وغاية ما يحتج به أحدهم، إذا قيل له: انزل، وألجئ إلى المحاجة والمناظرة، أن يقول: القرآن لا يفسره إلا الصحابة، كان ابن عباس لا يفسره إلا في الصحراء، مخافة أن ينْزل عليه العذاب.
فإذا قيل له: بيننا وبينكم تفاسير السلف، كابن عباس، قال: لسنا أهلا لذلك، بل فرضنا التقليد؛ ومشائخنا أعلم منا بكتاب الله، فلو كان هذا شركا لما ذكروه في مناسكهم وأشعارهم. ثم ينشد من الأشعار ما تقشعر منه الجلود، لما فيها من الشرك بالواحد المعبود; ويقول: هذا
كلام العالم الفلاني في قصيدته، وشرحها فلان وفلان، وتداولها العلماء فلم ينكروا ذلك.
وهذه الشبهة هي التي قامت بقلوبهم، وتوارثوها عن آبائهم؛ فهم لا يصغون إلا إليها، ولا يعولون إلا عليها؛ كأنهم لم يسمعوا بكتاب منزل، ولا نبي مرسل. فلما فضحهم الله، وهتك أستارهم، بما أقيم عليهم من أدلة الكتاب والسنة على إبطال الشرك، وكفر من فعله وإباحة دمه وماله، وأقيم عليهم من الأدلة ما لا يقدرون على دفعه، لم يكن لهم حيلة إلا الجحود والإنكار; وقالوا: نعم هذا الشرك بالله، ونشهد أنه باطل، ولكن هذه القباب التي على القبور، لا يقصدها إلا العوام، والجهلة الطغام.
فإذا قيل: أفلا تنهون العوام عما يفعلونه، من الإشراك؟ وتهدمون هذه البنايات التي على القبور؟ قالوا: هذا أمره إلى الملوك; فبسبب هذه الأمور: غلب الشرك على أكثر النفوس، لغلبة الجهل، وقلة العلم؛ حتى صار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة؛ ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه الكبير.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى، في كتاب "الهدى" كلاما حسنا، يناسب ذكره في هذا الموضع; قال رحمه الله لما ذكر غزوة الطائف، وذكر فوائد القصة، قال: ومنها: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت، بعد القدرة على هدمها
وإبطالها يوما واحدا؛ فإنها شعائر الكفر والشرك، وهي من أعظم المنكرات; فلا يجوز الإقرار عليها بعد القدرة البتة.
وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور، التي اتخذت أوثانا وطواغيت تعبد من دون الله تعالى، والأحجار التي تقصد بالتعظيم والتبرك، والنذر والتقبيل; فلا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض، مع القدرة على إزالتها; وكثير منها بمنْزلة اللات، والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، وأعظم شركا عندها وبها، والله المستعان.
فلم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت، يعتقد أنها تخلق، وترزق وتميت، وتحيي، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها، ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم. فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم، شبرا بشبر، وذراعا بذراع. وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل وخفاء العلم؛ فصار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة. ونشأ في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير. وطمست الأعلام واشتدت غربة الإسلام. وقل العلماء وغلبت السفهاء. وتفاقم الأمر واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية، بالحق قائمين ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، انتهى كلامه.
[فصل في العبادات مبناها على الأمر والاتباع]
فصل
وأما قول القائل: واتخاذها أعيادا في الغالب، فلكل شيخ يوم معروف، في شهر معلوم، يؤتى إليه من النواحي؛ وقد يحضر بعض العلماء ولا ينكر.
فنقول: هذه المسألة يظهر جوابها مما تقدم; فإن الله قد أتم نعمته على خلقه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه الكتاب، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وافترض على الخلق طاعته، وأخبر أن من أطاعه فقد أطاع الله، فقال تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [سورة النساء آية: 80]، وقال جل وعلا:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] .
وهو صلى الله عليه وسلم أنصح الخلق للأمة، كما أخبر الله عنه في قوله:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [سورة التوبة آية: 128] ؛ فدل أمته على كل خير يعلمه لهم، وحذر أمته عن شر ما يعلمه لهم؛ فكل عمل لم يشرعه فليس من الدين.
والعبادات مبناها على الأمر والاتباع، لا على الهوى والابتداع، وكل عمل ليس عليه أمره فهو رد، كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد "1.
وقال صلى الله عليه وسلم:" كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى.
1 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجه: المقدمة (14) ، وأحمد (6/73 ،6/146 ،6/180 ،6/240 ،6/256 ،6/270) .
قالوا: يا رسول الله، وما يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى " 1.
فيقال لمن أجاز اتخاذ القبور أعيادا: هل هذا مما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغب فيه؟ أم هو مما نهى عنه وحذر من الوقوع فيه؟ وهل فعل ذلك خلفاؤه الراشدون؟ والذين أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم سنتهم؟ كما في حديث العرباض: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي؛ تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة "2.
ومعلوم أن قبره صلى الله عليه وسلم أشرف قبر على وجه الأرض، فلو كان فضيلة لما أهملوه. ومن له معرفة بالسنن والآثار، يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وحذر أمته، وأن الصحابة لم يفعلوه، وكذلك أتباعهم الذين اتبعوهم بإحسان لم يفعلوه؛ بل نهوا عن ذلك، وأنكروا على من فعله.
ونحن نذكر بعض ما ورد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن اتخاذ قبره عيدا، وهو سيد القبور؛ فقبر غيره من باب الأولى والأحرى: قال أبو داود في سننه: حدثنا أحمد بن صالح، قال: قرأت على عبد الله بن نافع، أخبرني ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم " 3، وهذا إسناد جيد، رواته كلهم ثقات مشاهير.
1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) ، وأحمد (2/361) .
2 أبو داود: السنة (4607)، والدارمي: المقدمة (95) .
3 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/284 ،2/337 ،2/367 ،2/378 ،2/388) .
وقال أبو يعلى الموصلي، في مسنده: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين، حدثنا علي بن الحسن: أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة، كان عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو؛ فنهاه، فقال: ألا أحدثكم بحديث سمعته من أبي عن جدي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم " 1 رواه أبو عبد الله عمد بن عبد الواحد المقدسي في مختاراته التي اختارها من الأحاديث الجياد، الزائدة على الصحيحين.
وقال سعيد بن منصور، في السنن: حدثنا حبان بن علي، حدثني محمد بن عجلان، عن أبي سعيد مولى المهري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تتخذوا بيتي عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي حيث ما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني "2.
وقال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد، أخبرني سهيل بن أبي سهيل، قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر، فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى، فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده; فقال: مالي رأيتك عند القبر؟ فقلت سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر؛ لعن الله اليهود
1 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .
2 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .
والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء " 1.
فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين، يدلان على ثبوت الحديث؛ لاسيما وقد احتج به من أرسله؛ وذلك يقتضي ثبوته عنده؛ هذا لو لم يكن روي مسندا من وجوه غير هذا، فكيف وقد تقدم مسندا؟
ووجه الدلالة منه: أن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيدا؛ فقبر غيره أولى بالنهي، كائنا من كان. ثم إنه قرن ذلك بقوله:" ولا تتخذوا بيوتكم قبورا" 2 أي: لا تعطلوها، من الصلاة فيها، والدعاء، والقرآن، فتكون بمنْزلة القبور.
فأمر بتحري النافلة في البيوت، ونهى عن تحري العبادة عند القبور، وهذا ضد ما عليه المشركون; ثم إنه عقب النهي عن اتخاذه عيدا، بقوله:" وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم" 3 يشير بذلك إلى ما ينالني منكم من الصلاة والسلام، يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم؛ فلا حاجة إلى اتخاذه عيدا.
وقد حرف هذه الأحاديث، بعض من أخذ شبها من النصارى بالشرك، وشبها من اليهود بالتحريف، فقال: هذا أمر بملازمة قبره، والعكوف عنده، واعتياد قصده،
1 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .
2 البخاري: الصلاة (432) والجمعة (1187)، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (777)، والترمذي: الصلاة (451)، والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1598)، وأبو داود: الصلاة (1448)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1377) ، وأحمد (2/6) .
3 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .
وانتيابه; ونهى أن يجعل كالعيد الذي إنما يكون من الحول إلى الحول؛ بل اقصدوه كل ساعة، وكل وقت; وهذا مراغمة ومحادة، ومناقضة لما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم وقلب للحقائق، ونسبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التدليس والتلبيس والتناقض. فقاتل الله أهل الباطل أنى يؤفكون! ولا ريب أن ارتكاب كل كبيرة بعد الشرك، أسهل إثما وأخف عقوبة، من تعاطي مثل ذلك في دينه وسنته; وهكذا غيرت أديان الرسل، ولولا أن الله أقام لدينه أنصارا وأعوانا يذبون عنه، لجرى عليه ما جرى على الأديان قبله.
ولو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله هؤلاء الضلال، لم ينه عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، ويلعن فاعل ذلك; فإنه إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد الله فيها، فكيف يأمر بملازمتها، والعكوف عندها؟! وأن يعتاد قصدها وانتيابها؟! ولا تجعل كالعيد الذي يجيء من الحول إلى الحول؟!
وكيف يسأل ربه ألا يجعل قبره وثنا يعبد؟ وكيف يقول أعلم الخلق بذلك: ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجدا؟ وكيف يقول: " لا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي حيث ما كنتم " 1؟ وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك، ما فهمه هؤلاء الضلال الذين جمعوا بين الشرك والتحريف؟!
وهذا أفضل التابعين من أهل بيته: علي بن الحسين، رضي الله تعالى عنه، نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند
1 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .
قبره صلى الله عليه وسلم، واستدل عليه بالحديث، وهو الذي رواه وسمعه من أبيه الحسين، عن جده علي، وهو أعلم بمعناه من هؤلاء الضلال. وكذلك عن الحسن بن الحسن شيخ أهل بيته، كره أن يقصد الرجل القبر، إذا لم يكن يريد المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدا. فانظر إلى هذه السنة، كيف مخرجها من أهل المدينة، وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب نسبي، وقرب الدار، لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم، وكانوا له أضبط.
والعيد إذا جعل اسما للمكان، فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه، وانتيابه للعبادة عنده أو لغير العبادة، كما أن المسجد الحرام، ومزدلفة، وعرفة، جعلها الله عيدا، مثابة للناس يجتمعون فيها، وينتابونها للدعاء والذكر والنسك؛ وكان المشركون لهم أمكنة ينتابونها للاجتماع عندها، فلما جاء الإسلام محا الله ذلك كله.
فصل
[فصل في اتخاذ القبورأعيادا]
واعلم: أن في اتخاذ القبور أعيادا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله، ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله، وغيرة على التوحيد.
فمن ذلك: الصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها،
واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، والاستغاثة بأصحابها، وسؤالهم الرزق، والنصر والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأصنام يسألونها أوثانهم؛ وهذا هو عين الشرك الأكبر، الذي بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه، ويقاتل أهله، ومن مات عليه كان من أهل النار، عياذا بالله من ذلك.
وكان مبدأ هذا الداء العظيم في قوم نوح لما غلوا في الصالحين، كما أخبر الله عنهم كتابه، حيث قال:{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [سورة نوح آية: 23] .
قال ابن جرير: وكان من خبر هؤلاء ما حدثناه ابن حميد، حدثنا مهران عن سفيان، عن موسى عن محمد بن قيس: أن يغوث ويعوق ونسرا، كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا، قال أصحابهم الذين يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم؛ فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون، دب إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر؛ فعبدوهم.
وقال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا
تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.
فهؤلاء جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل؛ وهما الفتنتان اللتان أشار إليهما النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكرت له أم سلمة كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، فقال:" أولئك إذا مات فيهم العبد الصالح، أو الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور. أولئك شرار الخلق عند الله "1.
وهذا كان سبب عبادة اللات، فروى ابن جرير بإسناده، عن منصور عن مجاهد {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [سورة النجم آية: 19] قال: كان يلت السويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره. وكذلك قال أبو الجوزاء، عن "ابن عباس: كان يلت السويق للحاج، فقد رأيت أن سبب عبادة يغوث، ويعوق ونسر، واللات، إنما كان سببه تعظيم قبورهم؛ ثم اتخذوا لها تماثيل، ثم عبدوها"
قال أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه، ونور ضريحه: وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور؛ وهي التي أوقعت كثيرا من الأمم، إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك; فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه، أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر.
ولهذا نجد أهل الشرك كثيرا يتضرعون عندها ويخشعون، ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله،
1 البخاري: الصلاة (434)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (528)، والنسائي: المساجد (704) ، وأحمد (6/51) .
ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها، والدعاء ما لا يرجون في المساجد، فلأجل هذه المفسدة: حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها، حتى نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس، وإن لم يقصد ما قصده المشركون سدا للذريعة.
قال: وأما إن قصد الرجل بالصلاة عند القبر تبركا بالصلاة في تلك البقعة، فهذا عين المحادة لله ورسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله; فإن المسلمين قد أجمعوا على أن الصلاة عند القبور منهي عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد. فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها; فقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك، والتغليظ فيه؛ بل نهى عن ذلك في آخر حياته، ثم إنه لعن وهو في السياق، من فعل ذلك من أهل الكتاب، ليحذر أمته أن يفعلوا ذلك.
قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 1، ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا; متفق عليه، وقولها: خشي; هو بضم الخاء المعجمة، تعليلا لمنع إبراز قبره; وأبلغ من هذا: أنه نهى عن الصلاة إلى القبر، فلا يكون القبر بين المصلي وبين القبلة.
1 البخاري: الجنائز (1330)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531)، والنسائي: المساجد (703) ، وأحمد (1/218 ،6/34 ،6/80 ،6/121 ،6/252 ،6/255 ،6/274)، والدارمي: الصلاة (1403) .
فروى مسلم في صحيحه، عن أبى مرثد الغنوي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها " 1؛ وفي هذا إبطال قول من زعم أن النهي عن الصلاة فيها لأجل النجاسة، فهذا أبعد شيء عن مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم. وهو باطل من عدة أوجه:
منها: أن الأحاديث كلها ليس فيها فرق بين المقبرة الحديثة والمنبوشة كما يقوله المعللون بالنجاسة.
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى، على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد; ومعلوم قطعا أن هذا ليس لأجل النجاسة; لأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع، وليس للنجاسة عليها طريق، فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم، فهم في قبورهم طريون.
ومنها: أنه نهى عن الصلاة إليها.
ومنها: أنه أخبر أن الأرض كلها مسجد، إلا المقبرة والحمام; ولو كان ذلك لأجل النجاسة، لكان ذكر الحشوش، والمجازر، أولى من ذكر القبور.
ومنها: أنه لعن المتخذين عليها المساجد؛ ولو كان ذلك لأجل النجاسة لأمكن أن يتخذ عليها المساجد، مع تطيينها بطين طاهر؛ وهذا باطل قطعا.
وبالجملة: فمن له معرفة بالشرك وأسبابه، وفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مقاصده، جزم جزما لا يحتمل النقيض أن هذه
1 مسلم: الجنائز (972)، والترمذي: الجنائز (1050)، والنسائي: القبلة (760)، وأبو داود: الجنائز (3229) ، وأحمد (4/135) .
المبالغة، واللعن، والنهي، ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل الشرك; فإن هذا وأمثاله منه صلى الله عليه وسلم صيانة لحمى التوحيد؛ فأبى المشركون إلا معصية لأمره، وارتكابا لنهيه.
ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به، وما نهى عنه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهما مضادا للآخر، مناقضا له; فإنه نهى عن الصلاة إليها، وهؤلاء يصلون عندها؛ ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مشاهد، مضاهاة لبيوت الله؛ ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها.
ونهى أن تتخذ عيدا، وهؤلاء يتخذونها أعيادا، ومناسك يجتمعون لها، كاجتماعهم للعيد أو أكثر؛ وأمر بتسويتها، وهؤلاء يرفعونها، ويبنون عليها القباب; ونهى عن الكتابة عليها، وهؤلاء يكتبون عليها القرآن وغيره; ونهى أن يزاد عليها غير ترابها، وهؤلاء يزيدون سوى التراب الآجر، والأحجار والجص; فأهل الشرك مناقضون لما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم في أهل القبور، وفيما نهى عنه، محادون له في ذلك.
فإذا نهى الموحدون عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعظيمها، والصلاة عندها، وإسراجها، والبناء عليها، والدعاء عندها، وما هو أعظم من ذلك، مثل: بناء المساجد
عليها، ودعائها وسؤالها قضاء الحاجات، وإغاثة اللهفات، غضب المشركون، واشمأزت قلوبهم، وقالوا: قد تنقص أهل الرتب العالية، وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر.
وسرى ذلك في نفوس الجهال الطغام، حتى عادَوْا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عن دين الإسلام، ووالوا أهل الشرك، وعظموهم {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 32-33] .
فصل
وأما قوله: فلكل شيخ يوم معروف، في شهر معلوم، يؤتى إليه من النواحي؛ وقد يحضر بعض العلماء فلا ينكر.
فنقول: أما قوله فلكل شيخ يوم معروف في شهر معلوم، فقد قدمنا الجواب عن ذلك، وبينا أن ذلك من اتخاذها أعيادا، وأنه مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن العيد ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان، ومكان. فالزمان كقوله صلى الله عليه وسلم " يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام منى، عيدنا أهل الإسلام " 1 رواه أبو داود وغيره.
وأما المكان، فكما روى أبو داود في سننه: " أن رجلا قال: يا رسول الله، إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة; فقال: أبها
1 الترمذي: الصوم (773)، والنسائي: مناسك الحج (3004)، وأبو داود: الصوم (2419) ، وأحمد (4/152)، والدارمي: الصوم (1764) .
وثن من أوثان المشركين؟ أو عيد من أعيادهم؟ قال: لا; قال: فأوف بنذرك " 1، وكقوله: " لا تجعلوا قبري عيدا " 2. فالعيد مأخوذ من المعاودة والاعتياد.
فإذا كان اسما للمكان، فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه، وإتيانه للعبادة ولغيرها، كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة، وعرفة والمشاعر، جعلها الله عيدا للحنفاء، كما جعل أيام التعبد فيها عيدا؛ فإتيان القبور في يوم معلوم، من شهر معلوم، والاجتماع لذلك، بدعة لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفعلها الصحابة، ولا التابعون لهم بإحسان، سواء كان ذلك في البلد أو خارجا عنه.
وأما قوله: يؤتى إليه من النواحي؛ فنقول: وهذا أيضا بدعة مذمومة، لم يفعلها الصحابة ولا التابعون لهم بإحسان; وبيان ذلك: أن زيارة القبور نوعان: زيارة شرعية، وزيارة بدعية شركية; فالزيارة الشرعية مقصودها: ثلاثة أشياء:
أحدها: تذكير الآخرة، والاتعاظ والاعتبار.
والثاني: الإحسان إلى الميت، وأن لا يطول عهده به، فيهجره ويتناساه. فإذا زاره وأهدى إليه هدية، من دعاء أو صدقة، سر الميت بذلك، كما يسر الحي من يزوره ويهدي له; ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم للزائرين أن يدعوا لأهل القبور بالمغفرة والرحمة، ولم يشرع أن يدعوهم، ولا يدعو بهم، ولا يصلى عندهم.
1 أبو داود: الأيمان والنذور (3313) .
2 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .
الثالث: إحسان الزائر إلى نفسه، باتباع السنة، والوقوف عندما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيحسن إلى نفسه، وإلى المزور.
وأما الزيارة البدعية الشركية: فأصلها مأخوذ من عبادة الأصنام; وهو: أن يقصد قبر صالح في الصلاة عنده، أو الدعاء عنده، أو الدعاء به، أو طلب الحوائج منه، والاستغاثة به، ونحو ذلك من البدعة التي لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، كما تقدم بيانه مبسوطا.
ثم اعلم: أن الزيارة الشرعية هي التي لا تشد لها الرحال؛ فإن كانت بشد رحل، فهي زيارة بدعية، لم يأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلها الصحابة; بل قد نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في الصحيحين، أنه قال:"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا "1. وهذا الحديث: اتفق الأئمة على صحته، والعمل به.
فلو نذر رجل أن يصلي في المسجد، أو يعتكف فيه، أو يسافر إليه، لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة؛ حتى نص بعض العلماء على أنه لا يسافر إلى مسجد قباء لأنه ليس من الثلاثة، مع أن مسجد قباء تستحب زيارته لمن كان بالمدينة; لأن ذلك ليس بشد رحل، كما في الصحيح:" من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء، لا يريد إلا الصلاة فيه، كان كعمرة ".
1 البخاري: الجمعة (1189 ،1197) والحج (1864) والصوم (1996)، ومسلم: الحج (827)، والترمذي: الصلاة (326)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1410) ، وأحمد (3/78) .
[السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين]
قالوا: ولأن السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة، لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا استحسنها أحد من أئمة المسلمين; فمن اعتقد ذلك عبادة، وفعلها، فهو مخالف للسنة.
وإنما اختلف العلماء أتباع الأئمة في الجواز، بعد اتفاقهم أنه ليس مشروعا، ولا مستحبا؛ فالمتقدمون منهم قالوا: لا يجوز السفر إليها، ولا تقصر الصلاة في هذا السفر، لأنه معصية; وهذا قول: أبي عبد الله بن بطة، وأبي الوفاء بن عقيل، وطوائف كثيرة.
وذهب طائفة من المتأخرين: أصحاب أحمد، والشافعي، إلى جواز السفر إليها، كأبي حامد الغزالي، وابن عبدوس، وأبي محمد المقدسي; وأجابوا عن حديث "لا تشد الرحال" بأنه لنفي الاستحباب والفضيلة; ورد عليهم الجمهور من وجهين:
أحدهما: أن هذا تسليم منهم، أن هذا السفر ليس بعمل صالح، ولا قربة ولا طاعة؛ ومن اعتقد أن السفر لزيارة القبور قربة وطاعة، فقد خالف الإجماع، وإذا سافر لاعتقاده أنه طاعة، فإن ذلك محرم بإجماع المسلمين؛ فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة; ومعلوم: أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك، وأما إذا قصد بشد الرحل غرضا من الأغراض المباحة، فهذا جائز.
الوجه الثاني: أن النفي يقتضي النهي، والنهي يقتضي التحريم؛ والأحاديث التي تذكر في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ضعيفة، باتفاق أهل العلم بالحديث; بل هي موضوعة; فليس في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح، ولا حسن، ولا روى أهل السنن المعروفة - كسنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجة، والترمذي - في ذلك شيئا. بل ولا أهل المسانيد المعروفة، كمسند أحمد، وأبي داود الطيالسي، وعبد بن حميد وغيرهم، ولا أهل المصنفات المعروفة، كموطأ مالك وغيره. بل لما سئل الإمام أحمد وغيره - وهو أعلم الناس في زمانه بالسنة - عن هذه المسألة، لم يكن عنده ما يعتمد عليه، إلا حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يسلم علي، إلا رد الله علي روحي، حتى أرد عليه السلام 1، وعلى هذا اعتمد أبو داود في سننه. وكذلك مالك في الموطأ، روى عن (عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه كان إذا دخل المسجد قال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليكم يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت; ثم ينصرف
واتفقت الأمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لا يستقبل قبره. وتنازعوا عند السلام عليه؛ فقال مالك وأحمد وغيرهما: يستقبل قبره ويسلم عليه; وهو الذي ذكره أصحاب
1 أبو داود: المناسك (2041) ، وأحمد (2/527) .
الشافعي، وأظنه منصوصا عنه.
وقال أبو حنيفة: يستقبل القبلة ويسلم عليه، هكذا في كتب أصحابه. وقال مالك: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو; ولكن يسلم ويمضي. ومن رخص منهم في الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم فإنه إنما يرخص فيما إذا سلم عليه ثم أراد الدعاء، أن يدعو مستقبل القبلة، إما مستدبر القبر، وإما منحرفا عنه; وهو أن يستقبل القبلة ويدعو، ولا يدعو مستقبل القبر.
وهكذا المنقول عن سائر الأئمة; ليس فيهم من استحب للمرء أن يستقبل القبر - أعني قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو عنده؛ فإذا كان هذا حالهم وفعلهم، عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بغيره؟
ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عصر الصحابة والتابعين، مشهد يقصد بالزيارة، لا في الحجاز، ولا في الشام، ولا اليمن، ولا العراق، ولا خراسان، ولا مصر، بعد ما فتح الله هذه البلاد، وصارت بلاد إسلام.
وإنما حدث فيها بعد انقراض عصر السلف، فصار يوجد في كلام بعض الناس: فلان ترجى الإجابة عند قبره، وفلان يدعى عند قبره. وبعضهم يقول: قبر فلان الترياق المجرب، ونحو ذلك مما لم يكن معروفا في عهد الصحابة والتابعين.
وقائل هذا، أحسن أحواله: أن يكون مجتهدا في هذه المسألة، أو مقلدا، فيعفو الله عنه؛ أما أن هذا الذي قاله يقتضي استحباب ذلك، فلا; بل يقال: هذه زلة، فلا يجوز تقليده فيها، إذا عرف أنها زلة; لأنه اتباع للخطأ على عمد; ومن لم يعرف أنها زلة، فهو أعذر من العارف، وكلاهما مفرط فيما أمر به.
وقال الشعبي: قال عمر رضي الله عنه: "يفسد الزمان ثلاثة: أئمة مضلون; وجدال المنافق بالقرآن والقرآن حق، وزلة العالم". وقال معاذ رضي الله عنه: "احذروا زيغة الحكيم؛ فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق"، وقال:"اجتنبوا من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال: ما هذه؟ ولا يثنيك ذلك عنه، فإنه لعله يراجع; وتلقّ الحق إذا سمعته، فإن على الحق نورا".
واعلم رحمك الله: أن الرجل الجليل، الذي له في الإسلام قدم صالح، وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلة، وهو فيها معذور، بل مأجور لاجتهاده; فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن يهدر مكانه وإمامته، ومنْزلته من قلوب المسلمين.
قال مجاهد، والحكم، ومالك، وغيرهم: ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك، إلا النبي صلى الله عليه وسلم. وقال سليمان التيمي: إن أخذت برخصة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله.
وقد روى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه عن جده، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إني لأخاف على أمتي من بعدي، من أعمال ثلاثة; قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: أخاف عليهم من زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن والقرآن حق، وعلى الحق منار كأعلام الطريق ".
ويكفي اللبيب في هذا ما قصه الله في كتابه عن بني إسرائيل، مع صلاحهم وعلمهم: أنهم بعد ما فلق الله لهم البحر، وأنجاهم من عدوهم، أتوا نبيهم صلى الله عليه وسلم قائلين: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.
وكذلك ما رواه الترمذي وغيره: أن أناسا من الصحابة، في غزوة حنين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم حين مروا بسدرة للمشركين يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها "ذات أنواط"، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط; فقال:"الله أكبر! إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 1. لتركبن سنن من كان قبلكم ".
فإذا كان هذا قد خفي عليهم، مع صلاحهم، ووضوحه، وبيانه، وقبلهم قوم موسى، مع صلاحهم وعلمهم، وقد اختارهم الله على عالمي زمانهم، وخفي عليهم
1 الترمذي: الفتن (2180) ، وأحمد (5/218) .
هذا، وقالوا: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة; فهذا يفيد أن المسلم، بل العالم، قد يقع في أشياء من الشرك، وهو لا يدري; فيفيد الحرص وبذل الجهد، في البحث عما جاء عن الله ورسوله، ولا يقلد دينه الرجال؛ فإنهم لن يسلموا أن يغلطوا، وأبى الله أن يصح إلا كتابه، وأن يعصم إلا رسوله صلى الله عليه وسلم.
وإذا اشتبه عليه الحق في هذا الباب أو غيره فليدع بما رواه مسلم في صحيحه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا قام من الليل:" اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " 1 وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770)، والترمذي: الدعوات (3420)، والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1625)، وأبو داود: الصلاة (767)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) ، وأحمد (6/156) .
[أبيات من البردة فيها من الغلو والشرك العظيم]
وقال شيخ الإسلام، علم الهداة الأعلام، الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله لهم الثواب، وأدخلهم الجنة بغير حساب:
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [سورة الفرقان آية: 2-3] . وأشهد أن محمد عبده ورسوله، الذي قال الله خطابا له:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [سورة الفرقان آية: 45-46] . اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد وأصحابه، ومن أذهب الله عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا.
أما بعد: فإني وقفت، على جواب للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، وقد سئل عن أبيات من البردة، وما فيها من الغلو، والشرك العظيم، المضاهي لشرك النصارى ونحوهم، ممن صرف خصائص الربوبية والإلهية، لغير
الله، كما هو صريح الأبيات المذكورة; ولا يخفى على من عرف دين الإسلام أنه الشرك الأكبر، الذي لا يغفره الله لمن لم يتب منه، وأن الجنة عليه حرام.
وذكر الشيخ في جوابه أن الأبيات المذكورة تضمنت الشرك، وصرف خصائص الربوبية والإلهية لغير الله، فاعترض عليه جاهل ضال، فقال مبرئا لصاحب الأبيات من ذلك الشرك بقوله: حماه الله من ذلك، ويكفيه في نفي هذه الشناعة، قوله أول المنظومة:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم
…
...............البيت،
المطابق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم "1.
الجواب: أن هذه التبرئة إنما نشأت عن الجهل وفساد التصور، فلو عرف الناظم، وهذا المعترض، ومن سلك سبيلهم، حق الله على عباده، وما اختص به من ربوبيته، وألوهيته، وعرفوا معنى كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لما قالوا ما قالوا، هم وأمثالهم، ممن جهل التوحيد، كما قال تعالى في حق من هذا وصفه:{وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} [سورة الأنعام آية: 119] .
فالجهل بما بعث الله به رسله قد عم كثيرا من هذه الأمة، فظهر فيها ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) ، وأحمد (1/23 ،1/24 ،1/47 ،1/55) .
قال: فمن؟ " 1 ونحو هذا من الأحاديث.
وقوله: ويكفيك في نفي هذه الشناعة، قوله أول المنظومة:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم
…
البيت.
الجواب: أن هذا يزيده شناعة ومقتا، لأن هذا تناقض بيّن، وبرهان على أنه لا يعلم ما يقول؛ فلقد وقع فيما وقعت فيه النصارى، من الغلو العظيم، الذي نهى الله عنه ورسوله، ولعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله، أو فعل ما يوصل إليه، بقوله:" لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2، يحذر ما صنعوا.
وقال: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله " 3، وقوله، لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت; قال: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده "، وقال:" إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل ".
فلقد حذر أمته، وأنذرهم عن الشرك ووسائله، وما دق منه وجل، ودعا الناس إلى التوحيد، ونهاهم عن الشرك، وجاهدهم على ذلك؛ حتى أزال الله به الشرك والأوثان، من جميع الجزيرة، وما حولها من نواحي الشام واليمن، وغير ذلك.
وقد بعث السرايا في هدم الأوثان وإزالتها، كما هو مذكور في كتب الحديث، والتفسير والسير، كما في حديث أبي الهياج الأسدي، الذي في الصحيح، قال: قال علي بن أبى
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456)، ومسلم: العلم (2669) ، وأحمد (3/84 ،3/89) .
2 البخاري: الصلاة (436)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531)، والنسائي: المساجد (703) ، وأحمد (1/218 ،6/34 ،6/80 ،6/121 ،6/252 ،6/255 ،6/274)، والدارمي: الصلاة (1403) .
3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) ، وأحمد (1/23 ،1/24 ،1/47 ،1/55) .
طالب رضي الله عنه: " ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع قبرا مشرفا إلا سويته، ولا تمثالا إلا طمسته "؛ وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح لهدم مناة.
وبعث خالد بن الوليد يومئذ لهدم العزى، وقطع السمرات التي كانت تعبدها قريش وهذيل، وبعث المغيرة بن شعبة لهدم اللات فهدمها، وأزال من جزيرة العرب وما حولها، جميع الأصنام والأوثان التي كانت تعبد من دون الله. والصحابة رضي الله عنهم تعاهدوا هذا الأمر، واعتنوا بإزالته أعظم الاعتناء، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما يقع في أمته من الاختلاف، كما في حديث العرباض بن سارية، قال:" فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا " 1 الحديث; فوقع ما أخبره به صلى الله عليه وسلم، وعظم الاختلاف في أصل الدين بعد القرون المفضلة، كما هو معلوم عند العلماء؛ ولو أخذنا نذكر ذلك أو بعضه، لخرج بنا عن المقصود من الاختصار.
فانظر إلى ما وقع اليوم، من البناء على القبور والمشاهد، وعبادتها؛ فلقد عمت هذه البلية في كثير من البلاد، ووقع ما وقع من الشرك وسوء الاعتقاد في أناس ينتسبون إلى العلم. قال سليمان التيمي: لو أخذت بزلة كل عالم، لاجتمع فيك الشر كله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقوله: المطابق لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
1 الترمذي: العلم (2676)، وأبو داود: السنة (4607)، وابن ماجه: المقدمة (42 ،44) ، وأحمد (4/126)، والدارمي: المقدمة (95) .
" لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم "1.
أقول: لا ريب أن المطابقة وقعت منه ولا بد، لكنها في المنهي عنه، لا النهي، فالذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من الإطراء، طابقته الأبيات من قوله:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك
…
إلى آخرها.
فقد تضمنت غاية الإطراء والغلو الذي وقعت فيه النصارى وأمثالهم; فإنه قصر خصائص الإلهية والربوبية التي قصرها الله على نفسه، وقصرها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصرفها لغير الله; فإن الدعاء مخ العبادة، واللياذ من أنواع العبادة.
وقد جمع في أبياته الاستعانة والاستغاثة بغير الله، والالتجاء والرغبة إلى غير الله؛ فإن غاية ما يقع من المستغيث والمستعين والراغب، إنما هو الدعاء، واللياذ بالقلب واللسان؛ وهذه هي أنواع العبادة التي ذكرها الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه، وشكرها لمن قصرها على الله، ووعده على ذلك الإجابة والإثابة، كقوله تعالى:{هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة غافر آية: 65]، وقوله:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60]، وقوله:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدا} [سورة الجن آية: 19-20-21-22] الآية.
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) ، وأحمد (1/23 ،1/24 ،1/47 ،1/55) .
فهذا هو الدين الذي بعث الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأمره أن يقول لهم: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 20] ؛ فقصر الدعاء على ربه، الذي هو توحيد الإلهية، وقال:{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} [سورة الجن آية: 21] إلى آخر الآيات، وهذا هو توحيد الربوبية; فوحد الله في إلهيته وربوبيته، وبين للأمة ذلك كما أمره الله تعالى.
وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [سورة الشرح آية: 7-8] ؛ أمره بقصر الرغبة على ربه تعالى، وقال:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [سورة الأنبياء آية: 90] .
ونهى عن الاستعاذة بغيره، بقوله تعالى عن مؤمن الجن:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [سورة الجن آية: 6] .
واحتج الإمام أحمد رحمه الله وغيره، على القائلين بخلق القرآن، بحديث خولة بنت حكيم، مرفوعا:" من نزل منْزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق " 1 الحديث، على أن القرآن غير مخلوق; إذ لو كان مخلوقا، لما جاز أن يستعاذ بمخلوق لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك، وأمثال ذلك في القرآن والحديث كثير، يظهر بالتدبر.
وأما قول المعترض: إن النصارى يقولون: إن المسيح ابن الله، نعم قاله طائفة، وطائفة قالوا: هو الله; والطائفة
1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708)، والترمذي: الدعوات (3437)، وابن ماجه: الطب (3547) ، وأحمد (6/377 ،6/378 ،6/409)، والدارمي: الاستئذان (2680) .
الثالثة قالوا: هو ثالث ثلاثة; وبهذه الطرق الثلاث عبدوا المسيح عليه السلام، فأنكر الله عليهم تلك الأقوال في المسيح.
وأنكر عليهم ما فعلوه من الشرك، كما قال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 31] ؛ فأنكر عليهم عبادتهم للمسيح، والأحبار والرهبان.
أما المسيح فعبادتهم له بالتأله، وصرف خصائص الإلهية له من دون الله، كما قال الله تعالى:{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [سورة المائدة آية: 116] فأخبر أن الإلهية - وهي العبادة - حق الله لا يشركه فيها أولو العزم ولا غيرهم؛ يبين ذلك قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [سورة المائدة آية: 117] .
وأما عبادتهم للأحبار والرهبان، فإنهم أطاعوهم فيما حللوه لهم من الحرام، وتحريم ما حرموه عليهم من الحلال. ولما قدم عدي بن حاتم رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فراره - من الشام، وكان قبل مقدمه على النبي صلى الله عليه وسلم نصرانيا، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مسلما، تلا عليه هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ
[سورة التوبة آية: 31] .
قال يا رسول الله: لسنا نعبدهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه؟ ويحرمون عليكم ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم " ففيه بيان أن من أشرك مع الله غيره في عبادته، وأطاع غير الله في معصيته، فقد اتخذه ربا معبودا، وهذا بين بحمد الله.
فلو تأمل هذا الجاهل المعترض قول الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [سورة المؤمنون آية: 91] ، لعلم أن الله تعالى قد أنكر على النصارى، قولهم وفعلهم، وعلى كل من عبد معه غيره، بأي نوع من أنواع العبادة. لكن هذا وأمثاله كرهوا التوحيد، وألفوا الشرك وأحبوه، وأحبوا أهله؛ فترامى بهم هذا الداء العضال، إلى ما ترى من التخليط والضلال، والاستغناء بالجهل ووساوس الشيطان " فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه "1.
ولا شفاء لهذا الداء العظيم، إلا بالتجرد عن الهوى والعصبية، والإقبال على تدبر الآيات المحكمات في بيان التوحيد الذي بعث الله به المرسلين، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة يونس آية: 57]، ومثل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ
1 مسلم: البر والصلة والآداب (2577) .
سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 64] ؛ أمره تعالى أن يدعو أهل الكتاب، إلى أن يخلصوا العبادة لله وحده، ولا يشركوا فيها أحدا من خلقه؛ فإنهم كانوا يعبدون أنبياءهم، كالمسيح بن مريم، ويعبدون أحبارهم ورهبانهم.
وتأمل قوله: {كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} ؛ وهذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم إلى جميع من أرسل إليه، كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [سورة الرعد آية: 36]، وقوله:{وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} تعم كل شرك دق أو جل كثر أو قل. قال العماد بن كثير، في تفسيره: هذا الخطاب مع أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، ومن جرى مجراهم، وقوله:{سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} [سورة آل عمران آية: 64] لا وثنا ولا صنما، ولا صليبا ولا طاغوتا، ولا نارا، ولا شيئا، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له؛ قلت: وهذا هو معنى لا إله إلا الله.
ثم قال: وهذه دعوة جميع الرسل، قال الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25]، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ
رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] . انتهى المقصود.
وقال رحمه الله، في تفسير قوله:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 79] الآية: قال محمد بن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي، حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام: أتريد يا محمد أن نعبدك، كما عبدت النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران - يقال له الرئيس -: أو ذاك منا يا محمد، وإليه تدعونا؟ أو كما قال; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"معاذ الله أن نعبد غير الله، أو نأمر بعبادة غير الله، وما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني" أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فأنزل الله عز وجل في ذلك: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 79] إلى قوله: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . قوله: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 79] أي: ما ينبغي لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يقول للناس: اعبدوني من دون الله، أي مع الله.
وإذا كان هذا لا يصح لنبي ولا لمرسل، فلأن لا يصح لأحد من الناس بطريق الأولى والأحرى؛ ولهذا قال الحسن البصري: لا ينبغي هذا للمؤمن أن يأمر الناس بعبادته؛ وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضا، يعني أهل الكتاب.
وقوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ} بعبادة أحد غير الله، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل {أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة آل عمران آية: 80] أي: لا يفعل ذلك; لأن من دعا إلى عبادة غير الله، فقد دعا إلى الكفر; والأنبياء: إنما يأمرونكم بالإيمان، وعبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25]، وقال:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 45] وقال في حق الملائكة: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [سورة الأنبياء آية: 29] انتهى.
وهو في غاية الوضوح، وبيان التوحيد، وخصائص الربوبية، والإلهية؛ ونظائر هذه الآيات كثيرة في القرآن، وفي السنة من الأحاديث كذلك. فإذا كان من المستحيل عقلا وشرعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وجميع الأنبياء والمرسلين، أن يأمروا أحدا بعبادتهم، فكيف جاز في عقول هؤلاء الجهلة، أن يقبلوا قول صاحب البردة؟
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
…
سواك عند حلول الحادث العمم
وقد أخلص الدعاء الذي هو مخ العبادة، واللياذ الذي هو من أنواع العبادة، وتضمن إخلاص الرغبة والاستكانة والاستعانة، والالتجاء إلى غير الله؛ وهذه هي معظم العبادة، كما أشير إلى ذلك، كما قال تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [سورة الرعد آية: 14] الآية، وقوله:{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} [سورة الأنعام آية: 71] إلى قوله: {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سورة الأنعام آية: 73] . وعن أنس رضي الله عنه مرفوعا: " الدعاء مخ العبادة " 1 رواه الترمذي.
وقوله:
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلا وإلا فقل يا زلة القدم
المنافي لقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار آية: 17-18-19]، وقوله:{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} [سورة الجن آية: 21] الآية، وقوله:{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً} [سورة الأعراف آية: 188] .
1 الترمذي: الدعوات (3371) .
وفي الحديث الصحيح، قال لابنته فاطمة، وأحب الناس إليه:"يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا "1.
فتأمل ما بين هذا، وبين قول الناظم، من التضاد والتباين، ثم المصادمة منه لما ذكره الله تعالى، وذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 128] .
وتأمل ما ذكره العلماء، في سبب نزول هذه الآية، وأمثال هذه الآية كثير، لم ينسخ حكمها ولم يغير؛ ومن ادعى ذلك فقد افترى على الله كذبا، وأضل الناس بغير علم، كقوله تعالى:{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سورة هود آية: 123] . وبهذا يعلم أن الناظم قد زلت قدمه، اللهم إلا أن يكون قد تاب وأناب قبل الوفاة، والله أعلم.
وأما قوله:
فإن من جودك الدنيا وضرتها
…
...............
فمن المعلوم: أن الجواد لا يجود إلا بما يملكه، فمقتضى ذلك أن الدنيا والآخرة ليست لله، بل لغيره، وأن أهل الجنة من الأولين والآخرين، لم يدخلهم الجنة الرب الذي خلقهم وخلقها لهم؛ بل أدخلهموها غيره
1 البخاري: الوصايا (2753) والمناقب (3527) وتفسير القرآن (4771)، ومسلم: الإيمان (206)، والنسائي: الوصايا (3646)، والدارمي: الرقاق (2732) .
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [سورة الصافات آية: 180] .
وفي الحديث الصحيح: " لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته ".
وقد قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [سورة النساء آية: 134]، وقوله:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة الملك آية: 1]، وقوله:{قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [سورة الأنعام آية: 12]، وقوله:{وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} [سورة الليل آية: 13] .
فلا شريك لله في ملكه، كما لا شريك له في إلهيته وربوبيته؛ والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا.
وقوله:
...............
…
ومن علومك علم اللوح والقلم
وهذا أيضا كالذي قبله، لا يجوز أن يقال إلا في حق الله تعالى، الذي أحاط علمه بكل شيء، كما قال تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سورة الأنعام آية: 73]، وقال:{وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سورة يونس آية: 61]، وقوله:{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [سورة الأنعام آية: 50] .
وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سورة الأنعام آية: 59]، وقال تعالى:{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة النمل آية: 65] .
والآيات في هذا المعنى كثيرة تفوت الحصر؛ وكل هذه الأمور من خصائص الربوبية والألوهية، التي بعث الله رسله، وأنزل كتبه، لبيانها واختصاصها لله سبحانه، دون كل من سواه.
وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [سورة الجن آية: 26-27]، كقوله في آية الكرسي:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [سورة البقرة آية: 255] ؛ فقد أطلع من شاء من أنبيائه ورسله، على ما شاء من الغيب، بوحيه إليهم.
فمن ذلك ما جرى من الأمم السالفة، وما جرى عليهم، كما قال تعالى:{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [سورة هود آية: 49] ، وكذلك ما تضمنه الكتاب والسنة، من أخبار المعاد والجنة والنار ونحو ذلك، أطلع الله عليه رسوله، والمؤمنون عرفوه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به.
وأما إحاطة العلم بالمعلومات كلياتها وجزئياتها، وما كان منها وما لم يكن، فذاك إلى الله وحده، لا يضاف إلى غيره من خلقه.
فمن ادعى ذلك لغير الله فقد أعظم الفرية على الله، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم. فما أجرأ هذا القائل على الله في سلب حقه! وما أعداه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن تولاه من المؤمنين والموحدين؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وذكر قول عمر بن الخطاب، رضي الله عنه:"إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية" فمن لم يعرف الجاهلية والشرك، وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره ودعا إليه وصوبه وحسنه، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، أو نظيره، أو شر منه أو دونه؛ فتنتقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة، والسنة بدعة؛ ويكفر الرجل بمحض الإيمان، وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومفارقة الأهواء والبدع. ومن له بصيرة وقلب حي، يرى دلك عيانا، والله المستعان، انتهى.
قلت: وقد رأينا ذلك والله عيانا من هؤلاء الجهلة، الذين ابتلينا بهم في هذه الأزمنة، أشربت قلوبهم الشرك والبدع، واستحسنوا ذلك، وأنكروا التوحيد والسنة، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، فضلوا وأضلوا.
وأما قول الناظم:
فإن لي ذمة منه بتسميتي محمدا
…
.............. البيت
فهذا من جهله، إذ من المعلوم عند من له أدنى مسكة من عقل، أن الاتفاق في الاسم لا ينفع إلا بالموافقة في الدين، واتباع السنة؛ فأولياء الرسول صلى الله عليه وسلم أتباعه على دينه، والعمل بسنته، كما دل على ذلك الكتاب والسنة.
كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} [سورة الأعراف آية: 156-157] إلى قوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة الأعراف آية: 157] .
وتأمل قصة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان يحوطه ويحميه وينصره، ويجمع القبائل على نصرته صلى الله عليه وسلم وحمايته من أعدائه، وقد قال في حق النبي صلى الله عليه وسلم:
لقد علموا أن ابننا لا مكذب
…
لدينا ولا يعنى بقول الأباطل
حدبت بنفسي دونه وحميته
…
ودافعت عنه بالذرى والكلاكل
ولما لم يتبرأ من دين أبيه عبد المطلب، ومات على ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك " 1، أنزل الله سبحانه:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [سورة التوبة آية: 113] .
فلا وسيلة للعبد إلى نيل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالإيمان به وبما جاء به من توحيد الله، وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له، ومحبته واتباعه، وتعظيم أمره ونهيه، والدعوة إلى ما بعث به من دين الله، والنهي عما نهى عنه من الشرك والبدع، وما لا فلا.
فعكس الملحدون الأمر - فطلبوا الشفاعة - الذي بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه وإنكاره، وقتال أهله، وإحلال دمائهم وأموالهم، وأضافوا إلى ذلك إنكار التوحيد، وعداوة من قام به، واقتفى أثر النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في كلام شيخ الإسلام رحمه الله، من قوله: ويكفر الرجل بمحض الإيمان، وتجريد التوحيد، إلى آخر كلامه.
وأما قول الناظم:
ولن يضيق رسول الله جاهك بي
…
............. البيت
فهذا هو الذي ذكر الله عن المشركين، من اتخاذ الشفعاء
1 البخاري: الجنائز (1360) والمناقب (3884) وتفسير القرآن (4675 ،4772)، ومسلم: الإيمان (24)، والنسائي: الجنائز (2035) ، وأحمد (5/433) .
ليشفعوا لهم، ويقربوهم إلى الله زلفى، قال الله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2] . فهذا هو دين الله الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه. ثم ذكر بعد ذلك دين المشركين، فقال:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] ؛ فتأمل كون الله تعالى كفرهم بقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] .
وقال في آخر هذه السورة: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [سورة الزمر آية: 43-44] ؛ قلت: وقد وقع من هؤلاء من اتخاذهم شفعاء، بدعائهم وطلبهم، ورغبتهم، والالتجاء إليهم، وهم أموات غافلون عنهم، لا يقدرون ولا يسمعون لما طلبوا منهم وأرادوه.
وقد أخبر تعالى: أن الشفاعة ملكه، لا ينالها من أشرك به غيره، وهو الذي له ملك السماوات والأرض، كما قال تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 5-6] ؛ فعاملهم الله بنقيض قصدهم من جميع الوجوه، وأسجل عليهم بالضلال.
ولهذه الآية نظائر كثيرة، كقوله:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13-14] .
فبين أن دعوتهم غير الله شرك بالله، وأن المدعو غيره لا يملك شيئا، وأنه لا يسمع دعاء الداعي، ولا يستجيب له، وأن المدعو ينكر ذلك الشرك ويتبرأ منه، ومن صاحبه، يوم القيامة؛ فمن تأمل هذه الآيات، انزاحت عنه بتوفيق الله وفتحه جميع الشبهات. ومما يشبه هذه الآية، في حرمان من أنزل حوائجه بغير الله، واتخذه شفيعا من دون الله، بتوجيه قلبه وقالبه إليه، واعتماده في حصول الشفاعة عليه، كما قد تضمنه بيت الناظم، قول الله تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة يونس آية: 18] .
فانظر كيف حرمهم الشفاعة، لما طلبوها من غير الله، وأخبر أن حصولها مستحيل في حقهم، بطلبها في دار العمل من غيره؛ وهذه هي الشفاعة التي نفاها القرآن كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ
فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [سورة البقرة آية: 254]، وقال:{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 51] ؛ فهذه الشفاعة المنفية هي التي فيها الشرك.
وأما الشفاعة التي أثبتها القرآن فإنما ثبتت بقيدين عظيمين: إذن الرب تعالى للشفيع، ورضاه عن المشفوع له؛ وهو لا يرضى من الأديان الستة المذكورة في قوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [سورة الحج آية: 17] الآية إلا الإيمان الذي أصله وأساسه التوحيد والإخلاص، كما قال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255]، وقال تعالى:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [سورة الأنبياء آية: 28]، وقال:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [سورة النجم آية: 26]، وقال تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [سورة الأعراف آية: 54] إلى قوله: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [سورة يونس آية: 3] .
وفي الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر شفاعته، قال:" وهي نائلة إن شاء الله، من مات لا يشرك بالله شيئا"1. وقال أبو هريرة: " من أحق الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه " 2. قال شيخ الإسلام في
1 مسلم: الإيمان (199)، والترمذي: الدعوات (3602)، وابن ماجه: الزهد (4307) ، وأحمد (2/426) .
2 البخاري: العلم (99) ، وأحمد (2/373) .
هذا الحديث: فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله.
وقد كشفنا - بحمد الله - بهذه الآيات المحكمات تلبيس هذا المعترض الملبس ولجاجه، وافتراءه على الله ورسوله; فإن دعوة غير الله ضلال وشرك ينافي التوحيد، وإن اتخاذ الشفعاء إنما هو بدعائهم، والالتجاء إليهم، وسؤالهم أن يشفعوا للداعي.
وقد نهى الله عن ذلك، وبين أن الشفاعة له؛ فإذا كانت له وحده، فلا تطلب إلا ممن هي ملكه، فيقول: اللهم شفع نبيك في; لأنه تعالى هو الذي أذن للشفيع أن يشفع فيمن يرضى دينه وهو الإخلاص، كما تقدم بيانه.
وأما قول المعترض: إن المعتزلة احتجوا بالآيات التي فيها نفي الشفاعة، على أنها لا تقع لأهل الكبائر من الموحدين.
فأقول: لا ريب أن قولهم هذا بدعة وضلالة، وأنت أيها المجادل في آيات الله بغير سلطان، مع المعتزلة في طرفي نقيض، تقول: إن الشفاعة تثبت لمن طلبها، وسألها من الشفيع؛ فجعلت طلبها موجبا لحصولها، والقرآن قد نفى ذلك وأبطله، في مواضع كثيرة بحمد الله.
والحق: أنها لا تقع إلا لمن طلبها من الله وحده، ورغب إليه فيها، وأخلص له العبادة بجميع أنواعها؛ فهذا هو الذي
تقع له الشفاعة، قبل دخول النار، أو بعده إن دخلها بذنوبه؛ فهذا هو الذي يأذن الله للشفعاء أن يشفعوا له، بما معه من الإخلاص، كما صرحت بذلك الأحاديث، والله أعلم.
وقد قدمنا: ما دل عليه الكتاب والسنة: أن ما في القرآن من ذكر الشفاعة نفيا وإثباتا، فحق لا اختلاف فيه بين أهل الحق; فالشفاعة المنفية إنما هي في حق المشرك، الذي اتخذ له شفيعا يطلب الشفاعة منه، فيرغب إليه في حصولها، كما في البيت المتقدم؛ وهو كفر، كما صرح به القرآن.
وأما الشفاعة التي أثبتها الكتاب والسنة، فقد ثبتت للمذنبين الموحدين المخلصين؛ وهذا هو الذي تظاهرت عليه النصوص، واعتقده أهل السنة والجماعة، ودانوا به.
والحديث الذي أشار إليه المعترض، من قوله:" أنا لها، أنا لها " لا ينافي ما تقرر، وذلك: أن الناس في موقف القيامة، إذا فزعوا إلى الرسل ليشفعوا لهم إلى الله، في إراحتهم من كرب ذلك المقام بالحساب، وكل نبي ذكر عذره.
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: " فيأتوني فأخرّ بين يدي الله ساجدا " 1 أو كما قال: " فأحمده بمحامد يفتحها علي، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل تسمع، واسأل تعطه، واشفع تشفع، قال: فيحد لي حدا، فأدخلهم الجنة " 2 فتأمل كون هذه الشفاعة لم تقع إلا بعد السجود لله، ودعاه وحمده، والثناء عليه بما هو أهله، وقوله: " فيحد لي
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3340) وتفسير القرآن (4712)، ومسلم: الإيمان (194)، والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2434) ، وأحمد (2/435) .
2 البخاري: التوحيد (7410)، ومسلم: الإيمان (193)، وابن ماجه: الزهد (4312) ، وأحمد (3/116 ،3/244 ،3/247) .
حدا "، فيه: بيان أن الله هو الذي يحد له، وهذا الذي يقع من الناس يوم القيامة مع الرسل، هو من باب سؤال الحي الحاضر، والتوسل إلى الله بدعائه، كما كان الصحابة رضي الله عنهم، يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته أن يدعو لهم إذا نابهم شيء، كما في حديث الاستسقاء وغيره.
ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يفعلون عند قبره شيئا من ذلك البتة؛ ففرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أعلم الأمة وأفضلها - بين حالتي الحياة والممات. وكانوا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد والخروج منه، وفي الصلوات والخطب، وعند ذكره، امتثالا لقوله:" لا تجعلوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا؛ وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني أينما كنتم "1.
ولما أراد عمر رضي الله عنه أن يستسقي بالناس، أخرج معه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقال:"اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيدعو". فلو جاز أن يتوسل عمر والصحابة بذات النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، لما صلح منهم أن يعدلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى العباس؛ فلما عدلوا عنه إلى العباس، علم أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لا يجوز في دينهم، وصار هذا إجماعا منهم.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وقد أنكر أئمة الإسلام
1 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .
ذلك، فقال أبو الحسن القدوري في شرح كتاب الكرخي، قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف، يقول: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام. قال أبو الحسن: أما المسألة بغير الله، فتكره في قولهم; لأنه لا حق لغير الله عليه؛ وإنما الحق لله على خلقه.
وقال ابن بلدجي في شرح المختار: ويكره أن يدعو الله إلا به، فلا يقول: أسالك بفلان، أو بملائكتك، أو بأنبيائك، ونحو ذلك; لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، وما يقول فيه أبو حنيفة وأصحابه: أكره كذا، هو عند محمد حرام; وعند أبى حنيفة وأبي يوسف: هو إلى الحرام أقرب، وجانب التحريم عليه أغلب.
فإذا قرر الشيطان عنده: أن الإقسام على الله به، والدعاء به، أبلغ في تعظيمه واحترامه، وأنجع لقضاء حاجته، نقله درجة أخرى إلى دعائه نفسه من دون الله، ثم ينقله بعد درجة أخرى، إلى أن يتخذ قبره وثنا يعكف عليه، ويوقد عليه القنديل، ويعلق عليه الستور، ويبنى عليه المسجد، ويعبده بالسجود له، والطواف به وتقبيله واستلامه، والحج إليه، والذبح عنده؛ ثم ينقله درجة أخرى إلى دعاء الناس لعبادته، واتخاذه عيدا ومنسكا، وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم.
قال شيخنا - قدس الله روحه -: وهذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتب: أبعدها عن الشرع: أن يسأل الميت حاجته، ويستغيث به فيها، كما يفعله كثير من الناس; قال: وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، وهذا يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب؛ يدعو أحدهم من يعظمه، ويتمثل لهم الشيطان أحيانا، وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة.
ثم ذكر المرتبة الثانية، وهي: أن يسأل الله به، وقال: هو بدعة باتفاق المسلمين. والثالثة: أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد؛ فهذا أيضا من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين، وهي محرمة، وما علمت في ذلك نزاعا بين أئمة الدين؛ وإن كان كثير من الناس يفعل ذلك، انتهى.
ففرض على كل أحد: أن يعلم ما أمر الله به ورسوله، من إخلاص العبادة لله وحده، فإنه الدين الذي بعثه به، وأن يترك ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم من الشرك فما دونه، كما قال تعالى:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 106] ، وأن لا يدين الله تعالى إلا بما دل الدليل على أنه من دين الله، ولا يكون إمعة يطير مع كل ريح.
فإن الناس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم والأمم قبلها، قد تنازعوا في ربهم وأسمائه وصفاته، وما يجب له على عباده، وقد قال
تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] . فيا سعادة من تجرد عن العصبية والهوى، والتجأ إلى حصن الكتاب والسنة؛ فإن العلم معرفة الهدى بدليله، وما ليس كذلك فجهل وضلال.
وأما قول المعترض: فانظر إلى الشفاء; تجده حكى كفر من قال مثل هذه الكلمة، أي: الكلمة التي ذكرها المجيب، في معنى قوله:{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} [سورة الجن آية: 21] الآيات، ذكر عبارات النسفي في معناها، وهي قوله: هو إظهار للعبودية، وبراءة مما يختص بالربوبية من علم الغيب; أي: أنا عبد ضعيف، لا أملك لنفسي اجتلاب نفع، ولا دفع ضر
…
إلى آخر كلامه.
إذ من عادة هذا المعترض الجاهل: رد الحق، والمكابرة في دفعة، والغلو المتناهي، وإلا فمن المعلوم عند من له معرفة بدين الإسلام: أن المجيب إنما أتى في جوابه، بتحقيق التوحيد، ونفي الشرك بالله، وذلك تعظيم لجانب الرسالة؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى أمته عن كل ما يؤول بهم إلى الغلو.
ولما قيل له صلى الله عليه وسلم: أنت سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا; قال:" يا أيها الناس، قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان. أنا عبد الله ورسوله؛ ما أحب أن ترفعوني فوق منْزلتي التي أنزلني الله تعالى " 1 والنبي هو أحق
1 أحمد (3/249) .
الخلق بالتواضع لله وحده سبحانه.
وفي الحديث: "فإنك إن تكلني إلى نفسي، تكلني إلى ضيعة وعورة، وذنب وخطيئة. وإني لا أثق إلا برحمتك" الحديث; والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، يخبر بذلك عن نفسه، ويعترف بذلك لربه، وهو الصادق المصدوق; فإذا قال المسلم مثل هذا في حقه صلى الله عليه وسلم وأخبر بما أخبر به عن نفسه، لم يكن منتقصا له؛ بل هذا من تصديقه والإيمان به.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: إذا كان الكلام في سياق توحيد الرب، ونفي خصائصه عما سواه، لم يجز أن يقال: هذا سوء عبارة في حق من دون الله، من الأنبياء، والملائكة؛ فإن المقام أجل من ذلك، وكل ما سوى الله يتلاشى عند تجريد توحيده.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان أعظم الناس تقريرا لما يقال على هذا الوجه، وإن كان نفسه المسلوب، كما الصحيحين في حديث الإفك، " لما نزلت براءة عائشة من السماء، وأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قالت لها أمها: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمده، ولا إياكما؛ ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي "، فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم وأبوها على هذا الكلام، الذي نفت فيه أن تحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: بحمد الله لا بحمدك; ولم يقل أحد هذا سوء أدب عليه صلى الله عليه وسلم.
وأخرج البيهقي بسنده إلى محمد بن مسلم، سمعت حبان صاحب ابن المبارك، يقول: قلت لعبد الله بن المبارك: قول عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: بحمد الله لا بحمدك، إني لأستعظم هذا، فقال عبد الله: ولت الحمد أهله; وكذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد، بسنده عن الأسود بن سريع:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بأسير، فقال: اللهم أتوب إليك، ولا أتوب إلى محمد; فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عرف الحق لأهله "1.
وهذا المعترض، وأمثاله: ادعوا تعظيم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قد نهى عنه، من الغلو والإطراء، وهضموا ربوبية الله، وتنقصوا إلهيته، وأتوا بزخارف شيطانية، وحاولوا أن يكون حق الله من العبادة - التي خلق لها عباده - نهبا بين الأحياء والأموات؛ هذا يصرفه لنبي، وهذا لملك، وهذا لصالح، أو غير هؤلاء ممن اتخذوهم أندادا لله، وعبدوا الشياطين بما أمروهم به من ذلك الشرك بالله.
فإن عبادتهم للملائكة والأنبياء والصالحين، إنما تقع في الحقيقة على من زينها لهم من الشياطين، وأمرهم بها، كما قال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سورة سبأ آية: 40-41] . ونحو هذه الآية كثير في القرآن.
ولما ذكر العلامة ابن القيم، رحمه الله، ما وقع في
1 أحمد (3/435) .
زمانه من الشرك بالله، قال: وهذا هضم للربوبية، وتنقص للإلهية، وسوء ظن برب العالمين؛ وذكر أنهم ساووهم بالله في العبادة، كما قال تعالى عنهم وهم في النار {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية: 97-98] .
وأما ما ذكره عن خالد الأزهري، فخالد وما خالد؟ أغرك منه كونه شرح التوضيح، والآجرومية في النحو؟ وهذا لا يمنع كونه جاهلا بالتوحيد، الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، كما جهله من هو أعلم وأقدم منه، ممن لهم تصانيف في المعقول، كالفخر الرازي، وأبي معشر البلخي، ونحوهما ممن غلط في التوحيد.
وقد كان خالد هذا يشاهد أهل مصر يعبدون البدوي وغيره، فما أنكر ذلك في شيء من كتبه، ولا نقل عنه أحد إنكاره. فلو صح ما ذكره خالد من حال الناظم، لم يكن جسرا تذاد عنه النصوص، من الآيات المحكمات القواطع، والأحاديث الواضحات البينات، كقوله تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة النساء آية: 36]، وقوله:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:" من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار "1.
1 البخاري: تفسير القرآن (4497) ، وأحمد (1/374 ،1/407 ،1/425 ،1/462 ،1/464) .
وقد استدرج الله أهل الشرك بأمور تقع لهم، يظنونها كرامات، عقوبة لهم; وكثير منها أحوال شيطانية، أعانوا بها أولياءهم من الإنس، كما قد يقع كثيرا لعباد الأصنام; وما أحسن ما قال بعضهم شعرا:
تخالف الناس فيما قد رأوا ورووا
…
وكلهم يدعون الفوز بالظفر
فخذ بقول يكون النص ينصره
…
إما عن الله أو عن سيد البشر
وقد حاول هذا الجاهل المعترض صرف أبيات البردة عما هو صريح فيها، ونص فيما دلت عليه من الشرك في الربوبية والإلهية، ومشاركة الله في علمه وملكه؛ وهي لا تحتمل أن تصرف عما هي فيه من ذلك الشرك والغلو، فما ظفر هذا المعترض من ذلك بطائل؛ غير أنه وسم نفسه بالجهل والضلال، والزور والمحال؛ ولو سكت لسلم من الانتصار لهذا الشرك العظيم، الذي وقع فيه.
وأما قول المعترض: ورد في الحديث: لولا حبيبي محمد، ما خلقت سمائي ولا أرضي، ولا جنتي ولا ناري، فهذا من الموضوعات، لا أصل له؛ ومن ادعى خلاف ذلك، فليذكر من رواه من أهل الكتب المعتمدة في الحديث، وأنى له ذلك؟ بل هو من أكاذيب الغلاة الوضاعين.
وقد بين الله تعالى حكمته في خلق السماوات والأرض، في كثير من سور القرآن، كما قال في الآية التي
تأتي بعد، وهي قول الله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [سورة الطلاق آية: 12] ، ولها نظائر تبين حكمة الرب في خلق السماوات والأرض.
وقوله: وكيف ينكر تصرفه في إعطاء أحد بإذن الله، من الدنيا في حياته، أو في الآخرة بعد وفاته؟
أقول: هذا كلام من اجترى، وافترى، وأساء الأدب مع الله، وكذب على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف حقيقة الشفاعة، ولا عرف تفرد الله بالملك يوم القيامة؛ وهل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد من أصحابه، أو من بعدهم من أئمة الإسلام: إن أحدا يتصرف يوم القيامة في ملكه؟ ولو أطلقت هذه العبارة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم لادعاه كل لمعبوده، من نبي وملك أو صالح، أنه يشفع له إذا دعاه. {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [سورة الفرقان آية: 18] ، وقال تعالى:{يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة هود آية: 105]، وقال:{لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [سورة النبأ آية: 38] .
وهذا القول الذي قاله الجاهل، قد شافهنا به جاهل مثله بمصر، يقول: الذي يتصرف في الكون سبعة: البدوي، والإمام الشافعي، والشيخ الدسوقي، حتى
أكمل السبعة من الأموات; هذا يقول: هذا ولي له شفاعة، وهذا صالح كذلك، وقد قال تعالى:{لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [سورة غافر آية: 15-16] إلى قوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [سورة غافر آية: 18] . أي ظلم أعظم من الشرك بالله؟ ودعوى الشريك في الملك والتصرف؟ وهذا غاية الظلم.
قال شيخ الإسلام، رحمه الله في معنى قوله تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍوَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 22-23] : نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون؛ فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عونا لله، ولم يبق إلا الشفاعة؛ فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب; فالشفاعة التي يظنها المشركون منتفية، كما نفاها القرآن.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولا، ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل تسمع، واسأل تعطه، واشفع تشفع; وقال له أبو هريرة رضي الله عنه:" من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه " 1؛ فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص
1 البخاري: العلم (99) ، وأحمد (2/373) .
بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله.
وحقيقته: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص؛ فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه وينال المقام المحمود; فالشفاعة التي نفاها القرآن: ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص، انتهى كلامه.
وقال العلامة ابن القيم في "مدارج السالكين": وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعا، فقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 22-23] .
فالمشرك إنما يتخذ معبوده، لما يحصل له به من النفع؛ والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع، إما مالك لما يريده عابده منه؛ فإن لم يكن مالكا كان شريكا للمالك؛ فإن لم يكن شريكا له كان معينا له وظهيرا؛ فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا، كان شفيعا عنده; فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيا مرتبا، منتقلا من الأعلى إلى الأدنى؛ فنفى الملك، والشركة، والمظاهرة، والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه.
فكفى بهذه الآية برهانا، ونجاة، وتجريدا للتوحيد، وقطعا لأصول الشرك ومواده، لمن عقلها. والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته، وتضمنه له، ويظنه في نوع وقوم قد خلوا من قبل، ولم يعقبوا وارثا؛ فهذا هو الذي يحول بين القلب، وفهم القرآن; ولعمر الله إن كان أولئك، إلى أن قال:
ومن أنواعه - أي الشرك -: طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم؛ وهذا أصل شرك العالم; فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا عن أن يملك لمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها. وهذا من جهله بالشافع، والمشفوع له عنده، فإنه لا يقدر أن يشفع عند الله إلا بإذنه، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه: كمال التوحيد.
فجاء هذا المشرك، بسبب يمنع هذا الإذن، وهو بمنْزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها؛ وهذه حالة كل مشرك. فجمعوا بن الشرك بالمعبود، وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبة أهله إلى التنقص بالأموات.
وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين له، بذمهم، وعيبهم، ومعاداتهم; وتنقصوا من أشركوا
به غاية التنقص؛ إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم يوالونهم عليه. وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم!
قال: وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من جرد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله، واتخذ الله وحده وليه وإلهه ومعبوده؛ فجرد حبه لله، وخوفه لله، ورجاءه لله، وذله لله، وتوكله على الله، واستعانته بالله، والتجاءه إلى الله، وأخلص قصده لله متبعا لأمره، متطلبا لمرضاته؛ إذا سأل سأل الله، وإذا استعان استعان بالله، وإذا عمل عمل لله؛ فهو بالله ومع الله، انتهى.
فرحم الله هذا الإمام وشيخه، فلقد بينا للناس حقيقة الشرك وطرقه وما يبطله; وما حديث ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله " 1، ولم يقل فاسألني واستعن بي، فقصر السؤال والاستعانة على الله الذي لا يستحقه سواه، كما في قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ، فمن صرف ذلك لغير الله، فقد عصى الله ورسوله، وأشرك بالله.
وللمعترض كلام ركيك، لا حاجة لنا إلى ذكر ما فيه، وإنما نتتبع من كلامه، ما يحتاج إلى رده وإبطاله جنس ما تقدم.
1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2516) ، وأحمد (1/293 ،1/303 ،1/307) .
واعلم أنه قال: لما ذكر قول المجيب - إنه لا يجتمع الإيمان بالآيات المحكمات وتلك الأبيات، لما بينهما من التنافي والتضاد، قال المعترض: أقول: يحتمعان، بأن يفرد الله بالعبادة، ولا يقدح فيه تشفعه بأحباب حبه إليه. وكيف يحكم عليه بالضلال، بمجرد طلبه الشفاعة ممن هو أهل لها؟ كما في الحديث "أنا لها، أنا لها" ومعلوم: أن الضلال ضد الحق.
فالجواب: لا يخفى ما في كلامه من التخليط والتلبيس، والعصبية المشوبة بالجهل المركب؛ لا يدري ولا يدري أنه لا يدري. وقد بينا فيما تقدم أن دعوة غير الله ضلال، وأن اتخاذ الشفعاء الذين أنكر الله تعالى، إنما هو بدعائهم والالتجاء إليهم، والرغبة إليهم فيما أراده الراغب منهم، من الشفاعة التي لا يقدر عليها إلا الله؛ وذلك ينافي الإسلام والإيمان بلا ريب.
فإن طلبها من الأموات والغائبين، طلب لما لا يقدر عليه إلا الله، وهو خلاف لما أمر الله تعالى به، وارتكاب لما نهى عنه، كما تقدم بيانه في معنى قوله تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] الآية، وقوله:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] الآية، وقوله:
{مَا
نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] .
فطلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم وغيره بعد وفاته، وبعده عن الداعي، لا يحبه الله تعالى، ولا يرضاه، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وهو التوسل الذي ذكره العلامة ابن القيم، وشيخه، وصرحا بأنه شرك.
وللعلامة "ابن القيم" أبيات في المعنى، وهي قوله:
والشرك فهو توسل مقصوده الـ
…
زلفى من الرب العظيم الشان
بعبادة المخلوق من حجر ومن
…
بشر ومن قبر ومن أوثان
والناس في هذا ثلاث طوائف
…
ما رابع أبدا بذي إمكان
إحدى الطوائف مشرك بإلهه
…
فإذا دعاه دعا إلها ثان
هذا وثاني هذه الأقسام ذ
…
لك جاحد يدعو سوى الرحمن
هو جاحد للرب يدعو غيره
…
شركا وتعطيلا له قدمان
هذا وثالث هذه الأقسام خيـ
…
ر الخلق ذاك خلاصة الإنسان
يدعو إله الحق لا يدعو ولا
…
أحدا سواه قط في الأكوان
يدعوه في الرغبات والرهبات والـ
…
حالات من سر ومن إعلان
وقد أنكر الله ذلك الدعاء، على من زعم في الرسل والملائكة، وذلك كما قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] .
قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح، وأمه، وعزيرا، والملائكة; فأنكر الله ذلك، وقال:
هؤلاء عبيدي يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي؛ وهؤلاء الذين نزلت هذه الآية في إنكار دعوتهم، من أوليائه وأحبابه; وقد تقدم أن الدعاء وجميع أنواع العبادة، حق الله المحض، كما تقدم في الآيات.
والحاصل: أن الله تعالى لم يأذن لأحد أن يتخذ شفيعا من دونه يسأله، ويرغب إليه، ويلتجئ إليه؛ وهذا هو العبادة، ومن صرف من ذلك شيئا لغير الله، فقد أشرك مع الله غيره، كما دلت عليه الآيات المحكمات؛ وهذا ضد إفراد الله بالعبادة. وكيف يتصور إفراد الله بالعبادة، وقد جعل العبد ملاذا ومفزعا سواه؟ فإن هذا ينافي الإفراد; فأين ذهب عقل هذا وفهمه؟
قال شيخ الإسلام رحمه الله: العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة، انتهى.
وقد تبين أن الدعاء مخ العبادة، وهو مما يحبه الله ويأمر به عباده أن يخلصوه له; وقد تقدم من الآيات: ما يدل عل ضلال من فعل ضد ذلك وكفره; وبهذا يحصل الجواب عن قول المعترض: إن الشفاعة المنفية إنما هي في حق الكفار ; فنقول: فمن اتخذ معبودا سوى الله، يرجوه أو يخافه، فقد كفر.
وتأمل قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [سورة النحل آية: 20-21-22] ؛ فبين تعالى أن المخلوق لا يصلح أن يدعى من دون الله، وأن من دعاه فقد أشرك مع الله غيره في الإلهية.
والقرآن من أوله إلى آخره، يدل على ذلك، وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن الملحدون محجوبون عن فهم القرآن، كما حجبوا عن الإيمان، بجهلهم وضلالهم، وإعراضهم عما أنزل الله في كتابه، من بيان دينه الذي رضيه لنفسه، ورضيه لعباده. قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى: وحقيقة التوحيد: أن يعبد الله وحده، لا يدعى إلا هو، ولا يخشى، ولا يتقى إلا هو، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يكون الدين إلا له، وأن لا يتخذ الملائكة والنبيون أربابا، فكيف بالأئمة والشيوخ؟
فإذا جعل الإمام والشيخ، كأنه إله يدعى، مع غيبته وموته، ويستغاث به، ويطلب منه الحوائج، كأنه مشبها بالله، فيخرجون عن حقيقة التوحيد، الذي أصله شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، انتهى.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عباس: " إذا سألت
فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله " 1؛ فلو جاز أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قصر سؤاله واستعانته على الله وحده؛ وابن عباس أحق الناس، بأن يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيه له منفعة.
فلو جاز صرف ذلك لغير الله، لقال: واسألني واستعن بي، بل أتى صلى الله عليه وسلم بمقام الإرشاد، والإبلاغ، والنصح لابن عمه بتجريد إخلاص السؤال لله، والاستعانة بالله تعالى. فأين ذهبت عقول هؤلاء الضلال، عن هذه النصوص؟! والله المستعان.
[القول بأن لناظم البردة جانباً عظيماً من الزهد والورع والرد عليه]
وقال الشيخ رحمه الله: واعلم أن لفظ الدعاء والدعوة في القرآن، يتناول معنيين: دعاء العبادة، ودعاء المسألة; وكل عابد سائل، وكل سائل عابد، وأحد الاسمين يتناول الآخر، عند تجرده عنه.
وإذا جمع بينهما، فإنه يراد بالسائل: الذي يطلب لجلب المنفعة ودفع المضرة، بصيغ السؤال والطلب. ويراد بالعابد: من يطلب ذلك بامتثال الأمر، وإن لم يكن هناك صيغة سؤال. ولا يتصور أن يخلو داع لله، دعاء عبادة، أو دعاء مسألة، من الرغب والرهب، والخوف والطمع، انتهى.
فتبين أن أبيات البردة التي قدمنا الكلام عليها، تنافي الحق وتناقضه، وماذا بعد الحق إلا الضلال.
وقول المعترض: لا سيما وللناظم جانب عظيم من
1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2516) ، وأحمد (1/293 ،1/303 ،1/307) .
الزهد، والورع والصلاح، بل وله يد في العلوم، كما حكى ذلك مترجموه؛ وهذا كله صار هباء منثورا، حيث لم يرضوا عنه.
أقول: هذه دعوى تحتمل الصدق والكذب، والظاهر: أنه لا حقيقة لذلك، فإنه لا يعرف إلا بهذه المنظومة؛ فلو قدر أن لذلك أصلا، فلا ينفعه ذلك من تلك الأبيات، لأن الشرك يحبط الأعمال، كما قال تعالى:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 88] ، وقد صار العمل مع الشرك هباء منثورا.
قال سفيان بن عيينة: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل؛ فإن فتنتهم فتنة لكل مفتون. فإن كان للرجل عبادة، فقد فتن بأبياته كثيرا من الجهال؛ وعبادته إن كانت فلا تمنع كونه ضالا، كما يرشد إلى ذلك آخر الفاتحة.
قال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا، ففيه شبه من النصارى. فالواجب علينا: أن نبين ما في كلامه، مما يسخط الله ورسوله، من الشرك، والغلو; وأما الشخص وأمثاله ممن قد مات، فيسعنا السكوت عنه، لأنا لا ندري ما آل أمره إليه، وما مات عليه.
وقد عرف أن كلام خالد الأزهري لا حجة فيه؛ وأهل الغلو والشرك، ليس عندهم إلا المنامات، والأحوال
الشيطانية، التي يحكيها بعضهم عن بعض، كما قال لي بعض علماء مصر: إن شيخا مشى بأصحابه على البحر، فقال: لا تذكروا غيري، وفيهم رجل ذكر الله فسقط في البحر، فأخذ بيده الشيخ، فقال: ألم أقل لكم لا تذكروا غيري؟
فقلت: هذه الحكاية تحتمل أحد أمرين لا ثالث لهما: أحدهما: أن تكون مكذوبة مثل أكاذيب سدنة الأوثان، أو أنها حال شيطانية; وأسألك أيها الحاكي لذلك: أيكون فيها حجة على جواز دعوة غير الله؟ فأقر، وقال: لا حجة فيها على ذلك.
والمقصود بيان أنه ليس عند الغلاة من الحجة على ما زخرفوه، أو كذبوه; وما قال الله، وقال رسوله، فهذا - بحمد الله - كله عليهم لا لهم، وما حرفوه من ذلك، رد إلى صحيح معناه، الذي دل عليه لفظه مطابقة، وتضمنا والتزاما. قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [سورة الأنعام آية: 112] .
[الادعاء بأن غير واحد من العلماء رأوا النبي والمنظومة تنشد بين يديه]
وذكر المعترض حكاية يقول - عن غير واحد من العلماء العظام - إنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم والمنظومة تنشد بين يديه، إلى قوله: لكن الخصم مانع ذلك كله، بقوله: إنهم كفار.
فالجواب: أن يقال: ليس هذا وجه المنع، وإنما وجهه: أنها حكاية مجهولة عن مجهول; وهذا جنس إسناد الأكاذيب; فلو قيل: من هؤلاء العظام؟ وما أسماؤهم؟ وما زمنهم؟ وما طبقتهم؟ لم يدر عنهم; وأخبار المجهولين لا تقبل شهادة، ولا رواية يقظة، فكيف إذا كانت أحلاما؟! والمعترض كثيرا ما يحكي عن هيان بن بيان.
ثم قال المعترض على قول المجيب: وطلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم ممتنع شرعا وعقلا، قال المعترض: من أين هذا الامتناع؟ وما دليله من العقل والسمع؟
فالجواب: أن يقال: معلوم أن دليله من الجهتين، لا تعرفه أنت ومن مثلك، وإنما معرفتك في اللجاج، الذي هو كالعجاج، الذي يحوم في الفجاج; أما دليله من السمع، فقد تقدم في آيات الزمر، ويونس وغيرها، وقد بسطنا القول في ذلك، بما يغني عن إعادته؛ فليرجع إليه.
وأما دليله من العقل، فالعقل الصحيح يقضي ويحكم بما يوافق النقل بأن النجاة والسعادة والفلاح، وأسباب ذلك كله، لا تحصل إلا بالتوجه إلى الله تعالى وحده، وإخلاص الدعاء له، والالتجاء إليه; لأن الخير كله بيده، وهو القادر عليه; وأما المخلوق فليس في يده من هذا شيء، كما قال تعالى:{مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13] .
فتسوية المخلوق بالخالق، خلاف العقل، كما قال تعالى:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل آية: 17] . فالذي له الخلق والأمر، والنعم كلها منه، وكل مخلوق فقير إليه، لا يستغنى عنه طرفة عين، هو الذي يستحق أن يدعى ويرجى، ويرغب إليه، ويرهب منه، ويتخذ معاذا وملاذا، ويتوكل عليه، وقد قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [سورة فاطر آية: 15] .
وقال المفسرون المحققون، السلفيون المتبعون، في قول الله تعالى:{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [سورة الأنفال آية: 2] أي: لا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [سورة الرعد آية: 41] ؛ ولهذا قال سعيد بن جبير: التوكل جماع الإيمان، ذكره العلماء في تفسيره.
وليتأمل ما ذكره الله عن صاحب ياسين، من قوله:{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة يس آية: 23-24] ، فهذا دليل فطري عقلي سمعي.
وأما قول المعترض: إن قول الناظم:
ومن علومك علم اللوح والقلم، أن "من" بيانية،
فالجواب: أنه ليس كما قال; بل هي تبعيضية. ثم لو كانت بيانية، فما ينفعه والمحذور بحاله، وهو أنه يعلم ما في اللوح المحفوظ؟
وقد صرح المعترض بذلك، فقال: ولا شك أنه أوتي علم الأولين والآخرين، وعلم ما كان وما يكون.
فالجواب: هذه مصادمة لما هو صريح في كتاب الله، وسنة رسوله بأن الإحاطة بما في اللوح المحفوظ علما، ليس إلا لله وحده؛ كذلك علم الأولين والآخرين، ليس إلا لله وحده، إلا ما أطلع الله عليه نبيه في كتابه، كما قال الله تعالى:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [سورة البقرة آية: 255] .
فالرجل في عمى عن قول الله تعالى: {بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [سورة البقرة آية: 255] . وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [سورة الطلاق آية: 12] ، وقد تقدم لهذه الآيات نظائر؛ فإحاطة العلم بالموجودات، والمعدومات التي وجدت، أو ستوجد، لله وحده؛ لم يجعل ذلك لأحد سواه.
[سورة الأعراف آية: 187] ؛
فأسند علم وقت الساعة إلى ربه بأمره، كقوله تعالى:{يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَارضي الله عنهفِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} [سورة النازعات آية: 42-43-44] . وأمثال هذه الآيات، مما يدل على أن الله تعالى اختص بعلم الغيب كله، إلا ما استثناه بقوله:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [سورة البقرة آية: 255] ، ومن تبعيضية هاهنا بلا نزاع.
وقد قال الخضر لموسى عليهما السلام: " ما نقص علمي وعلمك في علم الله، إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر " 1، فتأمل هذا وتدبر.
وأما قول المعترض، وتأويله، لقوله تعالى:{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة النمل آية: 65] ؛ فتأويل فاسد، ما قاله غيره، ولا يقوله مسلم، من: أنه يعلم الغيب بتعليم الله له; والنفي في الآية أن يعلمه بنفسه بدون أن يعلمه الله ذلك; فما أجرأ هذا الجاهل على هذا التأويل! وما أجهله بالله وبكتابه!
فيقال في الجواب: لا ينفعك هذا التأويل الفاسد، إذ لو كان أحد يعلم جميع الغيب بتعليم الله، لصدق عليه أن يقال: هذا يعلم الغيب كله، الذي يعلمه الله; فما بقي على هذا القصر علم الغيب على الله في هذه الآية معنى، وحصل الاشتراك. نعوذ بالله من الافتراء على الله وعلى كتابة، وخرق ما لم ينزل الله به سلطانا.
1 البخاري: تفسير القرآن (4725)، ومسلم: الفضائل (2380)، والترمذي: تفسير القرآن (3149) .
وأما قوله في قول الناظم: إن لم تكن في معادي آخذا بيدي، أن الأخذ باليد: بالشفاعة.
فالجواب: أن حقيقة هذا القول، وصريحه: طلب ذلك من غير الله; فلو صح هذا الحمل، فالمحذور بحاله، لما قد عرفت من أن الاستغاثة بالأموات والغائبين، والاستشفاع بهم، في أمر هو في يد الله، ممتنع حصوله لكونه تألها وعبادة; وقد أبطله القرآن; فهذا المعترض الجاهل، يدور على منازعة الله في حقه، وملكه، وشمول علمه، والله يجزيه بعمله.
وأما قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [سورة الأنعام آية: 59] فقيل: المراد بها الخمس المذكورة في سورة لقمان، وهذا قبل أن يطلع نبيه عليها، وإلا فقد ذكر عامة أهل العلم أنه لم يتوفاه الله تعالى حتى علّمه كل شيء حتى الخمس.
فالجواب: انظر إلى هذا المفتري الجاهل البليد، كيف اقتفى أثر صاحب الأبيات بجميع ما اختلقه، وافتراه! وأكثر من الأكاذيب على أهل العلم!
فإن قوله: ذكر عامة أهل العلم أنه لم يتوفاه الله حتى علمه كل شيء حتى الخمس; فحاشا أهل العلم الذين يعرفون بأنهم من أهل العلم، من هذه المقالة; وعامة أهل العلم، بل كلهم على خلاف ما ادعاه، سلفا وخلفا.
قال أبو جعفر محمد بن جرير رحمه الله، في تفسيره الكبير، الذي فاق على التفاسير: ابتدأ تعالى ذكر الخبر عن علمه بمجيء الساعة، فقال:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [سورة لقمان آية: 34] التي تقوم فيها القيامة، لا يعلم ذلك أحد غيره، {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} من السماء، لا يقدر على ذلك أحد غيره، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [سورة لقمان آية: 34] أرحام الإناث، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} [سورة لقمان آية: 34] ، يقول: وما تعلم نفس حي ماذا تعمل في غد، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [سورة لقمان آية: 34] يقول: وما تعلم نفس حي بأي أرض يكون موتها. {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [سورة لقمان آية: 34] يقول: إن الذي يعلم ذلك كله هو الله، دون كل أحد سواه.
وذكر سنده عن مجاهد: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [سورة لقمان آية: 34]، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: امرأتي حبلى، فأخبرني ماذا تلد؟ وبلادنا جدبة، فأخبرني متى ينزل الغيث؟ وقد علمت متى ولدت، فمتى أموت؟ فأنزل الله:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [سورة لقمان آية: 34] إلى آخر السورة; قال: فكان مجاهد يقول: هن مفاتح الغيب التي قال الله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [سورة الأنعام آية: 59] . وأخرج بسنده عن قتادة: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [سورة لقمان آية: 34] الآية: خمس من الغيب استأثر الله بهن، فلم يطلع عليهن ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا. وبسنده عن عائشة رضي الله عنها: من قال: إن أحدا يعلم الغيب إلا الله، فقد كذب، وأعظم
الفرية على الله؛ قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة النمل آية: 65] .
وبالسند عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [سورة لقمان آية: 34] الآية. ثم قال: لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم أحد متى ينزل الغيث إلا الله، ولا يعلم أحد متى قيام الساعة إلا الله، ولا يعلم أحد ما في الأرحام إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت ". وبسنده عن مسروق عن عائشة، قالت: من حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [سورة لقمان آية: 34] . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خمس لا يعلمهن إلا الله {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [سورة لقمان آية: 34] الآية". انتهى ما ذكره ابن جرير.
وذكر البغوي في تفسيره: حديث ابن عمر وعائشة المتقدم، ثم قال: وقال الضحاك ومقاتل: مفاتح الغيب: خزائن الأرض; وقال عطاء: ما غاب عنكم من الثواب، وقيل: انقضاء الأجل، وقيل: أحوال العباد من السعادة والشقاوة، وخواتيم أعمالهم، وقيل: ما لم يكن بعد، أنه يكون أو لا يكون، وما لا يكون كيف يكون; انتهى.
قلت: ولا يعرف عن أحد من أهل العلم خلاف ما
دلت عليه هذه الآيات المحكمات. ونعوذ بالله من مخالفة ما أنزل الله في كتابه، وما أخبر به عن نفسه، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه العلماء؛ فإن الله أستأثر بعلمه عن خلقه، ووصف نفسه بأنه علام الغيوب، ونعوذ بالله من حال أهل الافتراء، والتكذيب.
وأما قوله: ولو أن عبارات أهل العلم، مثل البيضاوي، وأبي السعود، والقسطلاني، وأمثالهم، تجدي إليكم شيئا، لذكرناها؛ لكنها تمحى بلفظة واحدة، وهي: أنهم كلهم كفار، فلا نقبل منهم أحدا؛ ومن هذه حاله فلا حيلة به.
فالجواب: أنه ليس للبيضاوي ومن ذكر، عبارات تخالف ما قاله السلف والعلماء في معنى الآيات، ومعاذ الله أن يقول المجيب: إن هؤلاء كفار; ولا يوجد عن أحد من علماء المسلمين أنه كفر أحدا قد مات من هذه الأمة؛ فمن ظاهره الإسلام، فلو وجد في كلامه زلة من شرك، أو بدعة، فالواجب التنبيه على ذلك، والسكوت عن الشخص; لما تقدم من أنا لا ندري ما خاتمته.
وأما هؤلاء الذين ذكرهم من المفسرين، فإنهم من المتأخرين الذين نشؤوا في اغتراب من الدين. والمتأخرون يغلب عليهم الاعتماد على عبارات أهل الكلام، مخالفة لما عليه السلف، وأئمة الإسلام، من الإرجاء، ونفي حكمة الله،
وتأويل صفات الله، وسلب معانيها، ما يقارب ما في كشاف الزمخشري; والإرجاء والجبر يقابل ما فيه من نفي القدر; وكلاهما في طرفي نقيض، وكل واحد خالف ما عليه أهل السنة والجماعة في ذلك.
ومعلوم أن صاحب الكشاف أقدم من هؤلاء الثلاثة، وأرسخ قدما منهم في فنون من العلم، ومع هذا، فقال شيخ الإسلام البلقيني: استخرجت ما في الكشاف من دسائس الاعتزال بالمناقيش; وقال أبو حيان وقد مدح الكشاف، وما فيه من لطيف المعنى، ثم قال:
ولكنه فيه مجال لناقد
…
وزلات سوء قد أخذن المخانقا
يثبت موضوع الأحاديث جاهلا
…
ويعزو إلى المعصوم ما ليس لائقا
وينسب إبداء المعاني لنفسه
…
ليوهم أغمارا وإن كان سارقا
ويسهب في المعنى الوجيز دلالة
…
بتكثير ألفاظ تسمى الشقاشقا
يقول فيها الله ما ليس قائلا
…
وكان محبا في المخاطب وامقا
ويشتم أعلام الأئمة ضلة
…
ولا سيما إن أولجوه المضائقا
لئن لم تداركه من الله رحمة
…
لسوف يُرى للكافرين مرافقا
فإذا كان هذا في تفسير مشهور، وصاحبه معروف بالذكاء والفهم، فما دونه من المتأخرين، أولى بأن لا يتلقى من كلامهم بالقبول، إلا ما وافق تفسير السلف، وقام عليه الدليل.
وهذا المعترض، من جهله يحسب كل بيضاء
شحمة، يعظم المفضول من الأشخاص والتصانيف، ولا يعرف ما هو الأفضل؛ ولو كان له أدنى مسكة من فهم، ومعرفة بالعلماء ومصنفاتهم، لعلم أن أفضل ما في أيدي الناس من التفاسير، هذه الثلاثة التي نقلنا منها: تفسير أبي جعفر، محمد بن جرير الطبري، وتفسير الحسين بن مسعود البغوي، وتفسير العماد إسماعيل بن كثير؛ فهذه أجل التفاسير.
ومصنفوها أئمة مشهورون، أهل سنة، ليسوا بجهمية، ولا معتزلة، ولا قدرية، ولا جبرية، ولا مرجئة - بحمد الله -؛ وأكثر ما في هذه التفاسير: الأحاديث الصحيحة، وآثار الصحابة، وأقوال التابعين وأتباعهم؛ فلا يرغب عنها إلا الجاهلون، الناقصون المنقوصون; والله المستعان. والمصنفون في التفسير وغيره، غير ما ذكر المعترض، كثيرون، وأحسن من البيضاوي، وأبي السعود:"البحر" لأبي حيان، لأنه كثيرا ما ينقل في تفسيره عن السلف والأئمة، وكذلك تفسير الخازن.
وبالجملة: فمن كان من المصنفين أبعد عن تقليد المتكلمين، وذكر عباراتهم، ويعتمد أقوال السلف، فهو الذي ينبغي النظر إليه، والرغبة فيه; وعلى كل حال، فليس في تفسير البيضاوي، وأبي السعود، وشرح
القسطلاني، ومواهبه، ما ينفع هذا الجاهل المفتري، وكل يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقول المعترض على قول المجيب: علماؤهم شر من تحت أديم السماء، فيقال: هل ورد هذا الحديث في أهل العراق؟ فهم على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كفار مجوس، أو فيما يأتي؟ فهذه شناعة على غالب علماء الأمة؛ ومنهم الإمام أبو حنيفة والإمام أحمد وأمثالهم.
فالجواب: أن هذا كلام من لا يعقل، ولا يفهم شيئا، ولا يفرق بين أهل السنة والجماعة، وأهل البدعة والضلالة؛ ففي الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقوم الساعة حتى يعبد فئام من أمتي الأوثان، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك " 1 رواه البرقاني في صحيحه. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق، كما افترقت اليهود والنصارى؛ فاليهود افترقت على إحدى وسبعين، والنصارى على اثنتين وسبعين، وهذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقه، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة.
وأول من فارق الجماعة، في عهد الصحابة رضي الله عنهم: الخوارج، قاتلهم علي رضي الله عنه بالنهروان،
1 مسلم: الإمارة (1920)، والترمذي: الفتن (2229)، وابن ماجه: المقدمة (10) والفتن (3952) ، وأحمد (5/278) .
والقدرية في أيام ابن عمر، وابن عباس، وأكثر الصحابة موجودون; ومن دعاتهم: معبد الجهني، وغيلان القدري الذي قتله هشام بن عبد الملك; وكذلك الغلاة في علي، الذين خد لهم علي الأخاديد، وحرقهم بالنار; ومنهم المختار بن أبي عبيد، الذي قتله مصعب بن الزبير، ادعى النبوة وتبعه خلق.
ثم ظهرت فتنة الجهمية، وأول من أظهرها الجعد بن درهم، قتله خالد بن عبد الله القسري; والصحابة رضي الله عنهم والتابعون والأئمة، متوافرون وقت ظهور مبادئ هذه البدع، لم يلحقهم من ضلال هذه الفرق شناعة، ولا غضاضة; لأنهم متمسكون بالكتاب والسنة منكرون لما خالف الحق.
وصح من حديث أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يأتي على الناس زمان، إلا والذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم " سمعته من نبيكم.
وظهرت بدعة جهم بن صفوان، في زمن أبي حنيفة، وأنكرها وناظرهم، وانتشرت في زمن الإمام أحمد رحمه الله، والفقهاء، وأهل الحديث; وامتحن الإمام أحمد، فتمسك بالحق وصبر.
وصنف العلماء رحمهم الله المصنفات الكبار، في الرد على الجهمية القائلين بخلق القرآن، المعطلين لصفات
الملك الديان، كالإمام أحمد في رده المعروف، وابنه عبد الله، وعبد العزيز الكناني في كتاب "الحيدة"، وأبي بكر الأثرم، والخلال، وعثمان بن سعيد الدارمي، وإمام الأئمة محمد بن خزيمة واللالكائي، وأبي عثمان الصابوني، وقبلهم وبعدهم ممن لا يحصى؛ وهذا كله إنما هو في القرون الثلاثة المفضلة.
ثم بعدها ظهرت كل بدعة، بدعة الفلاسفة، وبدعة الرافضة، وبدعة المعتزلة، وبدعة المجبرة، وبدعة أهل الحلول، وبدعة أهل الاتحاد، وبدعة الباطنية الإسماعيلية، وبدعة النصيرية، والقرامطة ونحوهم.
وأما أهل السنة والجماعة فيردون بدعة كل طائفة من هؤلاء الطوائف بحمد الله; فالأئمة متمسكون بالحق، في كل زمان ومكان; والبلد الواحد من هذه الأمصار، يجتمع فيها أهل السنة وأهل البدعة، وهؤلاء يناظرون هؤلاء، ويناضلونهم بالحجج والبراهين.
وظهر معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: " خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون؛ فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " 1، وقال: " بدأ الإسلام غريبا،
1 مسلم: الإيمان (50) ، وأحمد (1/458 ،1/461) .
وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون إذا فسد الناس " 1، وفي رواية: " يصلحون ما أفسد الناس " 2.
وقد صنف العلماء رحمهم الله مصنفات، وبينوا ما تنتحله كل فرقه من بدعتها المخالفة لما عليه أهل الفرقة الناجية. وليس على الفرقة الناجية شناعة، ولا نقص في مخالفة هذه الفرق كلها وإنما ظهر فضل هذه الفرقة بتمسكها بالحق، وصبرها على مخالفة هذه الفرق الكثيرة، والاحتجاج بالحق ونصرته. وما ظهر فضل الإمام أبي حنيفة، والإمام أحمد، ومن قبلهما من الأئمة، ومن بعدهما، إلا بتمسكهم بالحق، ونصرته وردهم الباطل.
وما ضر شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وأصحابه، حين أجلب عليهم أهل البدع، وآذوهم; بل أظهر الله بهم السنة، وجعل لهم لسان صدق في الأمة، وكذلك من قبلهم، ومن بعدهم، كشيخنا، شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، لما دعا إلى التوحيد وبين أدلته، وبين الشرك وما يبطله.
وفيه قال الإمام العلامة الأديب، أبو بكر ابن غنام، رحمه الله تعالى:
وعاد به نهج الغواية طامسا
…
وقد كان مسلوكا به الناس تربع
وجرت به نجد ذيول افتخارها
…
وحق لها بالألمعي ترفع
1 مسلم: الإيمان (145)، وابن ماجه: الفتن (3986) ، وأحمد (2/389) .
2 الترمذي: الإيمان (2630) .
فآثاره فيها سوام سوافر
…
وأنواره فيها تضيء وتسطع
فهذا المعترض لو تصور وعقل، لتبين له أن ما احتج به ينقلب حجة عليه.
وقول المعترض: وإن كان قد ورد في حق أهل الحرمين، فهذا ظاهر البطلان، إذ هي مهبط الوحي، ومنبع الإيمان; ولو قيل: إن هذا الحديث وأمثاله، ورد في ذم نجد وأهلها، فقد ورد في ذمهم أحاديث كثيرة شهيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم:" لا يزالون في شر من كذابهم إلى يوم القيامة ".
فالجواب: أن نقول: الأحاديث التي وردت في غربة الدين، وحدوث البدع وظهورها، لا تختص بمكة والمدينة، ولا غيرهما من البلاد; والغالب: أن كل بلد لا تخلو من بقايا متمسكين بالسنة; فلا معنى لقوله: وإن كان قد ورد في حق أهل الحرمين، في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم، بل في وقت الخلفاء الراشدين، ما هو معروف عند أهل العلم، مشهور في السير والتآريخ.
وأول ذلك: مقتل أمير المؤمنين، عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم وقعة الحرة المشهورة، ومقتل ابن الزبير في مكة، وما جرى في خلال ذلك من الفتن؛ وصار الغلبة في الحرمين وغيرها، لأهل الأهواء؛ فإذا كان هذا وقع في خير القرون، فما ظنك فيما بعد، حين اشتدت غربة
الإسلام، وعاد المنكر معروفا والمعروف منكرا، فنشأ على هذا الصغير وهرم عليه الكبير؟
وأما قوله: إذ هي مهبط الوحي، ومنبع الإيمان.
فالجواب، أن نقول: مهبط الوحي في الحقيقة قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [سورة الشعراء آية: 193-194]، وقال تعالى:{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [سورة العنكبوت آية: 49] ؛ فهذا محل الوحي ومستقره; وقوله: ومنبع الإيمان; الإيمان: ينزل به الوحي من السماء، لا ينبع من الأرض، ومحله قلوب المؤمنين. وهذه السور المكية التي في القرآن معلومة، نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأكثر من في مكة المشركون، وفيها ذمهم والرد عليهم، كقوله:{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [سورة الأنعام آية: 66]، وقال:{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [سورة الأنعام آية: 26]، وقوله:{فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [سورة الأنعام آية: 33] ، ونحو هذه الآيات كما في "فصلت" و "المدثر" وغيرهما.
ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، وأهل الشرك لم يزالوا بها، ومنعوا رسول الله وأصحابه من دخولها - بالوحي - وقاتلوهم ببدر، وأحد، والخندق، وهم كانوا
من آخر العرب دخولا في الإسلام، حاشا من هاجر؛ وكل هذا بعد نزول الوحي.
ونحن - بحمد الله - لا ننكر فضل الحرمين؛ بل ننكر على من أنكره. ولكن نقول: الأرض لا تقدس أحدا، وإنما يقدس المرء عمله؛ فالمحل الفاضل قد يجتمع فيه المسلم والكافر، وأهل الحق وأهل الباطل، كما تقدم، فأهل الحق يزدادون بالعمل الصالح في المحل الفاضل، لكثرة ثوابه. وأهل الباطل لا يزيدهم إلا شرا، تعظم فيه سيئاتهم، كما قال تعالى في حرم مكة:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة الحج آية: 25] . فإذا كان هذا الوعيد في الإرادة، فعمل السوء أعظم؛ فالمعول على الإيمان والعمل الصالح، ومحله قلب المؤمن، والناس مجزيون بأعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
وقوله: ولو قيل إن هذا الحديث ورد في ذم نجد وأهلها
…
إلى آخره.
فأقول: الذم إنما يقع في الحقيقة على الحال، لا على المحل؛ والأحاديث التي وردت في ذم نجد، كقوله صلى الله عليه وسلم " اللهم بارك لنا في يمننا، اللهم بارك لنا في شامنا " قالوا: وفي نجدنا، قال:" هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان "، قيل: إنه أراد نجد العراق؛ لأن في بعض ألفاظه
ذكر المشرق، والعراق شرقي المدينة، والواقع يشهد له، لا نجد الحجاز، ذكره العلماء في شرح هذا الحديث.
فقد جرى في العراق من الملاحم والفتن، ما لم يجر في نجد الحجاز، يعرف ذلك من له اطلاع على السير، والتاريخ، كخروج الخوارج بها، الذين قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وكمقتل الحسين، وفتنة ابن الأشعث، وفتنة المختار وقد ادعى النبوة، وقتال بني أمية لمصعب بن الزبير، وقتله، وما جرى في ولاية الحجاج بن يوسف، من القتل والسفك، وغير ذلك مما يطول عده.
وعلى كل حال، فالذم يكون في حال دون حال، ووقت دون وقت، بحسب حال الساكن; لأن الذم إنما يكون للحال دون المحل، وإن كانت الأماكن تتفاضل. وقد تقع المداولة فيها; فإن الله يداول بين خلقه حتى في البقاع، فمحل معصية في زمن، قد يكون محل طاعة في زمن آخر.
وأما قول المعترض: منها قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يزالون في شر من كذابهم "
فالجواب: أن هذا من جملة كذبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهله بالعلم، لا يميز بين الحديث وغيره; وهذا الكلام ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في نفر من بني حنيفة، سكنوا الكوفة في ولاية ابن مسعود عليها،
وكانوا في مسجد من مساجدها، فسمع منهم كلمة تشعر بتصديق مسيلمة، فأخذهم عبد الله بن مسعود، وقتل كبيرهم ابن النواحة. وقال في الباقين: لا يزالون في بلية من كذابهم - يعني ذلك النفر - يذم نجدا بنفر أحدثوا حدثا في العراق. وقد أفنى الله كل من حضر مسيلمة في القرن الأول، ولم يبق بنجد من يصدق الكذاب; بل من كان في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم، ومن بعدهم بنجد، يكفرون مسيلمة ويكذبونه، فلم يبق بنجد من فتنة مسيلمة لا عين ولا أثر.
فلو ذم نجد بمسليمة بعد زواله، وزوال من يصدقه، لذم اليمن بخروج الأسود العنسي دعواه النبوة، وما ضر المدينة سكنى اليهود فيها، وقد صارت مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومعقد الإسلام، وما ذمت مكة بتكذيب أهلها الرسول صلى الله عليه وسلم وشدة عداوتهم له، بل هي أحب أرض الله إليه.
فإذا كان الأمر كذلك، فأرض اليمامة لم تعص الله؛ وإنما ضرت المعصية ساكنيها، بتصديقهم كذابهم. وما طالت مدتهم على ذلك الكفر - بحمد الله - فطهر الله تلك البلاد منهم، ومن سلم منهم من القتل دخل في الإسلام؛ فصارت بلادهم بلاد إسلام، بنيت فيها المساجد، وأقيمت
الشرائع، وعبد الله فيها في عهد الصحابة، رضي الله عنهم، وبعدهم، ونفر كثير منهم مع خالد بن الوليد، لقتال العجم، فقاتلوا مع المسلمين.
فنال تلك البلاد من الفضل، ما نال غيرها من بلاد أهل الإسلام، على أنها تفضل على كثير من البلاد بالحديث الذي رواه البخاري في صحيحه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو بمكة لأصحابه: " أريت دار هجرتكم "1، فوصفها، ثم قال:" فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو يثرب " ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق، وكفى بهذا فضلا لليمامة، وشرفا لها على غيرها.
فإن ذهاب وهله صلى الله عليه وسلم في رؤياه إليها، لا بد أن يكون له أثر في الخير يظهر، فظهر ذلك الفضل - بحمد الله - في القرن الثاني عشر، فقام الداعي يدعو الناس إلى ما دعت إليه الرسل، من إفراد الله بالعبادة، وترك عبادة ما سواه، وإقامة الفرائض، والعمل بالواجبات، والنهي عن مواقعة المحرمات. وظهر فيها الإسلام أعظم من ظهوره في غيرها في هذه الأزمان، ولولا ذلك ما سب هؤلاء نجدا واليمامة بمسيلمة.
إذا عرف ذلك، فليعلم أن مسيلمة وبني حنيفة إنما كفروا بجحودهم بعض آية من كتاب الله جهلا وعنادا; وهذا المعترض وأمثاله جحدوا حقيقة ما بعث الله به رسله
1 أحمد (6/198) .
من التوحيد الذي دلت عليه الآيات المحكمات التي تفوت الحصر، وعصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بارتكاب ما نهى عنه من الغلو والشرك.
فجوزوا أن يدعى مع الله غيره، وقد نهى الله ورسوله عن ذلك، في أكثر سور القرآن، وجوزوا أن يستعان بغير الله؛ ورسوله نهى عن ذلك أشد النهي، وجعلوا لله شريكا في ملكه وربوبيته، كما جعلوا له شريكا في الإلهية.
وجعلوا له شريكا في إحاطة العلم بالمعلومات، كلياتها وجزئياتها؛ وقد قال تعالى، مبينا لما اختص به من شمول علمه:{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍعَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [سورة الرعد آية: 8-9] إلى قوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [سورة الرعد آية: 14] الآية.
وهذه الأصول كلها في الفاتحة؛ يبين تعالى أنه هو المختص بذلك دون كل من سواه; ففي قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الفاتحة آية: 2] اختصاص الله بالحمد، لكماله في ربوبيته، وإلهيته وملكه، وشمول علمه وقدرته، وكماله في ذاته وصفاته، {رَبِّ الْعَالَمِينَ} هو ربهم وخالقهم ورازقهم، ومليكهم والمتصرف فيهم بحكمته، ومشيئته ليس ذلك إلا له.
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] فيه تفرده بالملك، كقوله:{يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار آية: 19] . وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] فيه قصر العبادة عليه تعالى بجميع أفرادها، وكذلك الاستعانة، وفي {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] أيضا توحيد الربوبية.
وهذه الأصول أيضا، في:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [سورة الناس آية: 1] فهو ربهم ورازقهم، والمتصرف فيهم والمدبر لهم {مَلِكِ النَّاسِ} [سورة الناس آية: 2] هو الذي له الملك كما في الحديث الوارد في الأذكار " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " وقوله: {إِلَهِ النَّاسِ} [سورة الناس آية: 3] هو مألوههم ومعبودهم، لا معبود لهم سواه; فأهل الإيمان خصوه بالإلهية، وأهل الشرك جعلوا له شريكا، يألهونه بالعبادة، كالدعاء، والاستعانة والاستغاثة والالتجاء، والرغبة والتعلق عليه ونحو ذلك.
وفي {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] براءة النبي صلى الله عليه وسلم من الشرك والمشركين. {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [سورة الكافرون آية: 1-2] إلى قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [سورة الكافرون آية: 6] فهذا هو التوحيد العملي؛ وأساسه البراءة من الشرك والمشركين باطنا وظاهرا.
وفي {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 1] توحيد العلم والعمل؛ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} سورة الإخلاص آية: 1 [] يعني هو الله الواحد الأحد، الذي لا نظير
له، ولا وزير ولا ند، بل ولا شبيه له ولا عديل; ولا يطلق هذا اللفظ في الإثبات، إلا على الله عز وجل لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله.
وقوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [سورة الإخلاص آية: 2] ، قال عكرمة عن ابن عباس، رضي الله عنهما: يعني الذي يصمد الخلائق إليه في حوائجهم، ومسائلهم. قلت: وفيه توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية; وقال الأعمش عن شقيق، عن أبي وائل، الصمد: السيد، الذي قد انتهى سؤدده.
وقال الحسن أيضا، الصمد: الحي القيوم، الذي لا زوال له. وقال الربيع بن أنس: هو الذي لم يلد ولم يولد، كأنه جعل ما بعده تفسيرا له. وقال سفيان عن منصور عن مجاهد، الصمد: المصمت لا جوف له. قال أبو القاسم الطبراني، في كتاب السنة: وكل هذه صحيحة، وهي صفات ربنا عز وجل.
وقال مجاهد: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 4] يعني لا صاحبة له، وهذا كما قال تعالى:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة الأنعام آية: 101] أي: هو مالك كل شيء، وخالقه؛ فكيف يكون له من خلقه نظير يساميه، أو قريب يدانيه؟ تعالى وتقدس وتنزه. قلت: فتدبر هذه السورة، وما فيها من توحيد
الإلهية والربوبية، وتنْزيه الله عن الشريك والشبيه والنظير، وما فيها من مجامع صفات كماله، ونعوت جلاله; ومن له بعض تصور، يدري هذا بتوفيق الله {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] .
وأما قول المعترض على قول المجيب: ونوع الشرك جرى زمن شيخ الإسلام ابن تيمية; أقول: هذه البردة متقدمة على زمن شيخ الإسلام، ومع هذا لم ينقل عنه فيها كلمة واحدة.
فالجواب: تقدم البردة على زمن شيخ الإسلام، إن كان كذلك فماذا يجدي عليه؟ وما الحجة منه على جواز الشرك؟ وأيضا: فشهادته هذه على شيخ الإسلام، غير محصورة، فلا تقبل; وهو لم يطلع إلا على النّزر اليسير من كلام شيخ الإسلام، ولم يفهم معنى ما اطلع عليه; وهو في شق، وشيخ الإسلام في شق.
وليس في كلام شيخ الإسلام إلا ما هو حجة على هذا المعترض; لكنه يتعلق في باطله، بمثل خيط العنكبوت; فإن كان يقنعه كلام شيخ الإسلام رحمه الله، المؤيد بالبرهان، فقد تقدم من كلامه ما يكفي ويشفي، في تمييز الحق من الباطل؛ وكلامه رحمه الله في أكثر كتبه، يبين هذا الشرك وينكره، ويرده، كما قد رد على ابن البكري، حين جوز الاستغاثة بغير الله.
ولا يشك من له أدنى مسكة من عقل وفهم أن كلام صاحب البردة، داخل تحت كلام شيخ الإسلام، في الرد عليه والإنكار. وأنا أورد هنا جوابا لشيخ الإسلام، عن سؤال من سأله عن نوع هذا الشرك، وبعض أفراده، فأتى بجواب عام شامل كاف واف.
[سؤال وجه لشيخ الإسلام فيمن يستنجد بأهل القبور، والجواب عنه]
قال السائل: ما قول علماء المسلمين فيمن يستنجد بأهل القبور ويطلب منهم إزالة الألم، ويقول: يا سيدي أنا في حسبك؟ وفيمن يستلم القبر، ويمرغ وجهه عليه، ويقول: قضيت حاجتي ببركه الله، وبركة الشيخ ونحو ذلك؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين. الدين الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، هو عبادة الله وحده لا شريك له، واستعانته والتوكل عليه، ودعاؤه لجلب المنافع ودفع المضار، كما قال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2] الآيات.
وقال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18]، وقال:{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة غافر آية: 14]، وقوله:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] الآيتين قال طائفة من السلف: كان أقوام
يدعون المسيح، وعزيرا، والملائكة، قال الله تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم عبادي، يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي.
فإذا كان هذا حال من يدعو الأنبياء والملائكة، فكيف بمن دونهم؟ قال تعالى:{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} [سورة الكهف آية: 102] الآية وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 22-23] .
فبين سبحانه أن من دعي من دون الله، من جميع المخلوات، الملائكة، والبشر، وغيرهم، أنهم لا يملكون مثقال ذرة في ملكه؛ وأنه ليس له شريك في ملكه، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير; وأنه ليس له عون، كما يكون للملك أعوان وظهراء؛ وأن الشفعاء لا يشفعون عنده إلا لمن ارتضى؛ فنفى بذلك وجوه الشرك.
وذلك أن من دعي من دونه، إما يكون مالكا، وإما أن لا يكون مالكا، وإذ لم يكن مالكا، فإما أن يكون شريكا، وإما أن لا يكون شريكا; وإذا لم يكن شريكا، فإما أن يكون معاونا، وإما أن يكون سائلا طالبا; فأما الرابع فلا يكون إلا من بعد إذنه، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا
الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255]، وكما قال تعالى:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [سورة النجم آية: 26] .
وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [سورة الزمر آية: 43-44]، وقال:{لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 51] وقال: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [سورة السجدة آية: 4]، وقال:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 79] إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] .
فبين سبحانه أن من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا كان كافرا؛ فكيف بمن اتخذ من دونهم من المشائخ وغيرهم أربابا؟ فلا يجوز أن يقول لملك، ولا لنبي، ولا لشيخ، سواء كان حيا أو ميتا: اغفر ذنبي، أو انصرني على عدوي، أو اشف مريضي، أو ما أشبه ذلك.
ومن سأل ذلك مخلوقا كائنا من كان، فهو مشرك بربه، من جنس المشركين الذين يعبدون الملائكة والأنيياء، والتماثيل التي يصورونها على صورهم، ومن جنس دعاء
النصارى للمسيح وأمه، قال الله تعالى:{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} [سورة المائدة آية: 116] الآية، وقال:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 31] .
وإن قال: أنا أسأله، لأنه أقرب إلى الله مني ليشفع لي; لأني أتوسل إلى الله به، كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه، فهذا من أفعال المشركين والنصارى؛ فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء، يستشفعون بهم في مطالبهم.
ولذلك أخبر الله عن المشركين، أنهم قالوا:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3]، وقد قال سبحانه:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} [سورة الزمر آية: 43] إلى قوله: {تُرْجَعُونَ} ، وقال:{مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [سورة السجدة آية: 4]، وقال:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] .
فبين الفرق بينه وبين خلقه؛ فإن من عادة الناس أن يستشفع إلى الكبير بمن يكرم عليه، فيسأله ذلك الشافع فيقضي حاجته، إما رغبة وإما رهبة، وإما حياء وإما غير
ذلك؛ فالله لا يشفع عنده أحد حتى يأذن هو للشافع؛ فلا يفعل إلا ما يشاء، وشفاعة الشافع عن إذنه والأمر كله له.
فالرغبة يجب أن تكون إليه، كما قال تعالى:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [سورة الشرح آية: 7-8] ، والرهبة تكون منه، قال تعالى:{وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [سورة البقرة آية: 40]، وقال:{فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [سورة المائدة آية: 44] وقد أمرنا أن نصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء، وجعل ذلك من أسباب إجابة دعائنا.
وقول كثير من الضلال: هذا أقرب إلى الله مني وأنا بعيد منه؛ لا يمكن أن ندعوه إلا بهذه الواسطة، ونحو ذلك، هو من قول المشركين؛ فإن الله تعالى يقول:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [سورة البقرة آية: 186] .
وقد روي أن الصحابة رضي الله عنهم، قالوا: يا رسول الله، ربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنَزلت الآية; وقد أمر الله العباد كلهم بالصلاة له، ومناجاته، وأمر كلا منهم أن يقول:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] .
ثم يقال لهذا المشرك: أنت إذا دعوت هذا، فإن كنت تظن أنه أعلم بحالك، أو يقدر على سؤالك، وأرحم
بك من ربك، فهذا جهل وضلال، وكفر; وإن كنت تعلم أن الله تعالى أعلم وأقدر وأرحم، فلماذا عدلت عن سؤاله إلى سؤال غيره؟
وإن كنت تعلم أنه أقرب إلى الله منك، وأعلى منْزلة عند الله منك، فهذا حق أريد به باطل؛ فإنه إذا كان أقرب منك، وأعلى درجة، فإن معناه أن يثيبه، ويعطيه؛ ليس معناه: أنك إذا دعوته، كان الله يقضي حاجتك، أعظم مما يقضيها إذا دعوته أنت; فإنك إن كنت مستحقا للعقاب، ورد الدعاء، فالنبي والصالح لا يعين على ما يكرهه الله، ولا يسعى فيما يبغضك إليه، وإن لم يكن كذلك، فالله أولى بالرحمة والقبول منه.
فإن قلت: هذا إذا دعا الله أجاب دعاءه، أعظم مما يجيب إذا دعوته أنا، فهذا هو القسم الثاني، وهو: أن يطلب منه الفعل ولا يدعوه، ولكن يطلب أن يدعو له، كما يقال للحي: ادع لي، وكما كان الصحابة يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء، فهذا مشروع في الحي.
وأما الميت من الأنبياء والصالحين وغيرهم، فلم يشرع لنا أن نقول: ادع لنا، ولا: اسأل لنا ربك، ونحو ذلك; ولم يفعل هذا أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا أمر به أحد من الأئمة، ولا ورد بذلك حديث؛ بل الذي ثبت في الصحيح، أنهم لما أجدبوا زمن عمر، استسقى بالعباس
رضي الله عنهما، فقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيُسقون.
فلم يجيئوا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم قائلين: يا رسول الله ادع الله، أو استسق لنا، ونحن نشكو إليك ما أصابنا، ونحو هذا; ولم يقله أحد من الصحابة قط; بل هو بدعة ما أنزل الله بها من سلطان; بل كانوا إذا جاؤوا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون عليه، ثم إذا أرادوا الدعاء لم يدعوا الله مستقبلي القبر، بل ينحرفون، فيستقبلون القبلة، ويدعون الله وحده لا شريك له، كما كانوا يدعونه في سائر البقاع.
وفي الموطأ وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد. اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "1.
وفي السنن أيضا، أنه قال:"لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا علي حيث ما كنتم؛ فإن صلاتكم تبلغني"2.
وفي الصحيح: أنه قال في مرضه الذي لم يقم منه: " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 3، يحذر ما فعلوا، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، لكن خشي أن يتخذ مسجدا; وفي سنن أبي داود عنه، أنه قال:" لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج "4.
1 أحمد (2/246) .
2 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .
3 البخاري: الجنائز (1330)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531)، والنسائي: المساجد (703) ، وأحمد (1/218 ،6/34 ،6/80 ،6/121 ،6/252 ،6/255 ،6/274)، والدارمي: الصلاة (1403) .
4 الترمذي: الصلاة (320)، والنسائي: الجنائز (2043)، وأبو داود: الجنائز (3236)، وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1575) ، وأحمد (1/229 ،1/287 ،1/324 ،1/337) .
ولهذا قال العلماء: لا يجوز بناء المساجد على القبور; وقالوا: إنه لا يجوز أن ينذر لقبر، ولا للمجاورين عند القبر شيئا، لا من دراهم، ولا زيت، ولا شمع، ولا حيوان، ولا غير ذلك؛ كله نذر معصية.
ولم يقل أحد من أئمة المسلمين: إن الصلاة عند القبور في المشاهد مستحبة، ولا أن الدعاء هناك أفضل؛ بل اتفقوا كلهم على أن الصلاة في المساجد، وفي البيوت، أفضل من الصلاة عند قبر، لا قبر نبي ولا صالح، سواء سميت مشاهد أم لا؛ وقد شرع الله ذلك في المساجد دون المشاهد.
وقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [سورة البقرة آية: 114] ، ولم يقل في المشاهد، وقال تعالى:{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [سورة الأعراف آية: 29]، وقال تعالى:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة التوبة آية: 18] الآية.
وذكر البخاري في صحيحه، والطبرى وغيره في تفاسيرهم، في قوله تعالى:{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً} [سورة نوح آية: 23] الآية، قالوا: هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم؛ ثم طال عليهم الأمد، فاتخذوا تماثيلهم أصناما.
فالعكوف على القبور، والتمسح بها وتقبيلها، والدعاء عندها، هو أصل الشرك وعبادة الأوثان; ولهذا اتفق العلماء على أن من زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الأنبياء والصالحين، فإنه لا يتمسح به ولا يقبله.
وليس في الدنيا ما شرع تقبيله إلا الحجر الأسود؛ وقد ثبت في الصحيحين: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "والله إني لأعلم إنك حجر، لا تضر ولا تنفع؛ ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك" ولهذا: لا يسن أن يقبل الرجل ويستلم ركني البيت اللذين يليان الحجر، ولا جدران البيت، ولا مقام إبراهيم، ولا صخرة بيت المقدس، ولا قبر أحد من الأنبياء والصالحين، انتهى.
وقال رحمه الله في "الرد على ابن البكري" بعد كلام له سبق: لكن من هو الذي جعل الاستغاثة بالمخلوق ودعاءه سببا في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله؟ ومن الذي قال: إنك إذا استغثت بميت أو غائب من البشر، سواء كان نبيا أو غير نبي، كان ذلك سببا في حصول الرزق والنصر والهدى، وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله؟ ومن الذي شرع ذلك وأمر به؟ ومن الذي يفعل ذلك من الأنبياء والصحابة والتابعين لهم بإحسان؟ فإن هذا المقام يحتاج إلى مقدمتين: إحداهما: أن هذه أسباب لحصول
المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله; والثانية: أن هذه الأسباب مشروعة لا يحرم فعلها; فإنه ليس كل ما كان سببا كونيا يجوز تعاطيه، إلى أن قال: وهذا المقام مما يظهر به ضلال هؤلاء المشركين، خلقا وأمرا؛ فإنهم مطالبون بالأدلة الشرعية، على أن الله شرع لخلقه أن يسألوا ميتا أو غائبا، وأن يستغيثوا به، سواء كان ذلك عند قبره، أو لم يكن عند قبره.
بل نقول: سؤال الميت والغائب، نبيا كان أو غير نبي، من المحرمات المنكرة، باتفاق أئمة المسلمين؛ لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين؛ وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين المسلمين.
فإن أحدا منهم ما كان يقول إذا نزلت به شدة، أو عرضت له حاجة لميت: يا سيدي فلان أنا في حسبك، أو اقض حاجتي، كما يقول بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لا عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها; بل ولا أقسم بمخلوق على الله أصلا، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا قبور غير الأنبياء، ولا الصلاة عندها.
وقد كره العلماء - كمالك وغيره - أن يقوم الرجل
عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه; وذكروا أن هذا من البدع التي لم يفعلها السلف.
وأما ما يروى عن بعضهم، أنه قال: قبر "معروف" الترياق المجرب; وقول بعضهم: فلان يدعى عند قبره; وقول بعض الشيوخ: إذا كانت لك حاجة فاستغث بي; أو قال: استغث عند قبري، ونحو ذلك، فإن هذا قد وقع فيه كثير من المتأخرين وأتباعهم؛ ولكن هذه الأمور كلها بدع محدثة في الإسلام، بعد القرون المفضلة.
وكذلك المساجد المبنية على القبور، التي تسمى "المشاهد" محدثة في الإسلام، والسفر إليها محدث في الإسلام؛ لم يكن شيء من ذلك في القرون الثلاثة المفضلة؛ بل ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 1 يحذر ما فعلوا، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا.
وثبت في الصحيح عنه، أنه قال قبل أن يموت بخمس:" إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك "2. وقد تقدم أن عمر لما أجدبوا: استسقى بالعباس، فقال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا، نتوسل إليك بنبينا
1 البخاري: الجنائز (1330)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531)، والنسائي: المساجد (703) ، وأحمد (1/218 ،6/34 ،6/80 ،6/121 ،6/252 ،6/255 ،6/274)، والدارمي: الصلاة (1403) .
2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (532) .
فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا؛ فاسقنا؛ فيسقون"، فلم يذهبوا إلى القبر، ولا توسلوا بميت ولا غائب، بل توسلوا بالعباس؛ وكان توسلهم به توسلا بدعائه، كالإمام مع المأموم؛ وهذا تعذر بموته.
فأما قول القائل عند ميت من الأنبياء والصالحين: اللهم إني أسألك بفلان، أو بجاه فلان، أو بحرمة فلان، فهذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة ولا التابعين; وقد نص غير واحد من العلماء أنه لا يجوز، فكيف بقول القائل للميت: أنا أستغيث بك، أو أستجير بك، أو أنا في حسبك، أو سل الله لي، ونحو ذلك.
فتبين أن هذا ليس من الأسباب المشروعة، لو قدر أن له تأثيرا؛ فكيف إذا لم يكن له تأثير صالح؟ وذلك: أن من الناس الذين يستغيثون بغائب أو ميت، من تتمثل له الشياطين، وربما كانت على صورة ذلك الغائب، وربما كلمته، وربما قضت له أحيانا بعض حوائجه، كما تفعل شياطين الأصنام.
فإن أحدا من الأنبياء والصالحين لم يعبد في حياته إذ هو ينهى عن ذلك؛ وأما بعد الموت فهو لا يقدر أن ينهى، فيفضي ذلك إلى اتخاذ قبره وثنا يعبد؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تتخذوا قبري عيدا " 1، وقال:" اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد "2.
1 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .
2 أحمد (2/246) .
وقال غير واحد من السلف، في قوله تعالى:{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [سورة نوح آية: 23] الآية: إن هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم; ولهذا المعنى لعن النبي صلى الله عليه وسلم الذين اتخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد، انتهى ملخصا.
وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن الزبير: أنه رأى قوما يمسحون المقام; فقال: لم تؤمروا بهذا، إنما أمرتم بالصلاة عنده. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة، في قول الله تعالى:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [سورة البقرة آية: 125] قال: إنما أمروا أن يصلوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه؛ ولقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلهم. فإن كان المعترض يستدل بكلام شيخ الإسلام، فهذا صريح كلامه، المؤيد بالأدلة والبراهين. وكلام العلماء كمثل كلام الشيخ في هذا كثير جدا؛ لو ذكرناه لطال الجواب.
[ادعاء مدح الصرصري والرد عليه]
وأما قول المعترض: بل مدح الصرصري وأثنى عليه، بقوله: قال الفقيه الصالح، يحيى بن يوسف الصرصري، في نظمه المشهور،
فالجواب: أن هذا من جملة أكاذيب المعترض على شيخ
الإسلام وغيره، وقد كذب على "الإقناع" و"الشفاء"، وليس في الكتابين إلا ما يبطل قوله، وفي الحديث:" إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت "؛ وإلا فكلام الشيخ في رد ما يقوله الصرصري وإنكاره، موجود بحمد الله.
قال رحمه الله في رده على ابن البكري، بعد وجهين ذكرهما، الثالث: أنه أدرج سؤاله أيضا في الاستغاثة به، وهذا جائز في حياته، لكنه أخطأ في التسوية بين المحيا والممات، وهذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء، ولكنه موجود في كلام بعض الناس، مثل الشيخ يحيى الصرصري، ففي شعره قطعة، وكمحمد بن النعمان.
وهؤلاء لهم دين وصلاح، لكنهم ليسوا من أهل العلم العالمين بمدارك الأحكام، الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام، وليس معهم دليل شرعي، ولا نقل عن عالم مرضي؛ بل عادة جروا عليها، كما جرت عادة كثير من الناس بأنه يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه؛ وأكثر منه من يأتي إلى قبر الشيخ يدعوه، ويدعو به ويدعو عنده.
وهؤلاء ليس لهم مستند شرعي من كتاب أو سنة، أو قول عن الصحابة والأئمة، وليس عندهم إلا قول طائفة أخرى: قبر معروف، ترياق مجرب، والدعاء عند قبر الشيخ مجاب، ونحو ذلك، ومعهم: أن طائفة استغاثوا بحي أو
ميت، فرأوه قد أتى في الهواء، وقضى بعض تلك الحوائج؛ وهذا كثير واقع في المشركين، الذين يدعون الملائكة، والأنبياء، والصالحين، أو الكواكب والأوثان.
فإن الشياطين كثيرا ما تتمثل لهم فيرونها، وقد تخاطب أحدهم ولا يراها؛ ولو ذكرت ما أعلم من الوقائع الموجودة في زماننا لطال المقال؛ وكلما كان القوم أعظم جهلا وضلالا، كانت هذه الأحوال الشيطانية عندهم أكثر.
وقد يأتي الشيطان أحدهم بمال أو طعام، أو لباس أو غير ذلك، وهو لا يرى أحدا أتاه به، فيحسب ذلك كرامة، وإنما هو من الشيطان؛ وسببه شركه بالله، وخروجه عن طاعة الله ورسوله، إلى طاعة الشيطان؛ فأضلتهم الشياطين بذلك، كما كانت تضل عباد الأصنام، انتهى ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله، من إنكاره ما في شعر الصرصري وغيره، من هذه الأمور الشركية، وبيان أسبابها.
وأما قول المعترض: وفيه توسل عظيم، إن لم يؤد على قول صاحب البردة لم ينقص عنه، فالجواب: أن هذا من عدم بصيرته، وكبير جهله، فإن من له أدنى معرفة وفهم، يعلم أن بين قول صاحب البردة، وقول الصرصري في أبياته، تفاوتا بعيدا؛ فقد نبهنا على ما يقتضيه كلام صاحب البردة، من قصر الإلهية والربوبية
والملك، وشمول العلم، على عبد شرفه الله بعبوديته ورسالته، ودعوة الخلق إلى عبادته وحده، وجهاد الناس على ذلك، وبلغ الأمة ما أنزل الله تعالى عليه، في الآيات المحكمات، من تجريد التوحيد، والنهي عن الشرك ووسائله، كما قدمنا الإشارة إليه.
وأما الصرصري، ففي كلامه: التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به، بلا قصر ولا حصر للاستعانة والاستغاثة في جانب المخلوق؛ وقد أنكره شيخ الإسلام رحمه الله، وذكر أنه لا دليل من كتاب ولا سنة عليه، ولا قال به أحد من الصحابة والتابعين والأئمة. وقد بين رحمه الله أن استغاثة الحي بالحي، إنما هي بدعائه وشفاعته، وأما الميت والغائب، فلا يجوز أن يستغاث به، وكذلك الحي فيما لا يقدر عليه إلا الله، وأن أهل الإشراك ليس معهم إلا الجهل والهوى، وعوائد نشؤوا عليها بلا برهان. وقد عرفت أن هذا المعترض لم يأت إلا بشبهات واهية، وحكايات سوفسطائية، أو منامات تضليلية، كما قال كعب بن زهير:
فلا يغرنك ما منت وما وعدت إن الأماني والأحلام تضليل
وليس مع هؤلاء المشركين إلا دعوى مجردة محشوة بالأكاذيب، وليس معهم- بحمد الله- دليل من كتاب أو
سنة، أو قول أحد من سلف الأمة وأئمتها؛ وقد جئناهم بأدلة الكتاب والسنة، وما عليه الصحابة والأئمة، ولو استقصينا ذكر الأدلة، وبسطنا القول، لاحتمل مجلدا ضخما.
وسبب الفتنة بقصائد هؤلاء المتأخرين، كقصائد البوصيري، والبرعي واختيارها على قصائد شعراء الصحابة كحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وكعب بن زهير، وغيرهم من شعراء الصحابة رضي الله عنهم، وفيها من شواهد اللغة والبلاغة، ما لم يدرك هؤلاء المتأخرون منه عشر المعشار، وما ذلك إلا لأن قصائد هؤلاء المتأخرين، تجاوزوا فيها الحد إلى ما يكرهه الله ورسوله، فزينها الشيطان في نفوس الجهال، والضلال، فمالت إليها نفوسهم عن قصائد الصحابة التي ليس فيها إلا الحق والصدق، وما قصروا فيها جهدهم عما يصلح أن يمدح به رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحروا ما يرضيه، وتجنبوا ما يسخطه صلى الله عليه وسلم وما نهى عنه من الغلو.
فما أشبه هؤلاء بقول أبي الوفاء بن عقيل- وهو في القرن الخامس-: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع
…
إلى آخره.
ومما يتعين أن نحسم به هذا الجواب: "فصل" ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله، ونفعنا بعلومه، قال بعد أن ذكر زيارة الموحدين للقبور، وأن مقصودها ثلاثة أشياء:
أحدها: تذكير الآخرة، والاعتبار والاتعاظ.
الثاني: الإحسان إلى الميت وأن لا يطول عهده به فيتناساه؛ فإذا زاره وأهدى إليه هدية، من دعاء أو صدقة، ازداد بذلك سروره وفرحه. ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم للزائر أن يدعو لأهل القبور، بالمغفرة والرحمة، وسؤال العافية فقط، ولم يشرع أن يدعوهم، ولا يدعو بهم، ولا يصلي عندهم.
الثالث: إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة، والوقوف عند ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما الزيارة الشركية، فأصلها مأخوذ من عباد الأصنام، قالوا: الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله، لا يزال تأتيه الألطاف من الله، وتفيض على روحه الخيرات؛ فإذا علق الزائر روحه به وأدناها منه، فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها، كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية، والماء على الجسم المقابل له.
قالوا: فتمام الزيارة، أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه
إلى الميت، ويعكف بهمته عليه، ويوجه قصده كله وإقباله عليه، بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره؛ وكلما كان جمع القلب والهمة عليه أعظم، كان أقرب إلى الانتفاع به.
وقد ذكر هذه الزيارة ابن سينا والفارابي وغيرهما، وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها؛ وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها أعيادا، وتعليق الستور عليها وإيقاد السرج، وبناء المساجد عليها.
وهو الذي قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطاله ومحوه بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه؛ فوقف المشركون في طريقه، وناقضوه في قصده؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في شق، وهؤلاء في شق.
وهذا الذي ذكره هؤلاء في زيارة القبور، والشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها، وتشفع لهم عند الله، قالوا: فإن العبد إذا تعلق روحه بروح الوجيه المقرب عند الله، وتوجه بهمته إليه، وعكف بقلبه عليه، صار بينه وبينه اتصال يفيض عليه نصيب مما يحصل له من الله. وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحضرة، وقرب من السلطان، وهو شديد التعلق به؛ فما يحصل لذلك من السلطان من الإنعام والإفضال، ينال ذلك المتعلق به بحسب تعلقه به؛ فهذا سر عبادة الأصنام، وهو الذي
بعث الله رسله، وأنزل كتبه بإبطاله، وتكفير أصحابه ولعنهم، وأباح دماءهم وأموالهم، وسبى ذراريهم، وأوجب لهم النار.
والقرآن من أوله إلى آخره: مملوء من الرد على أهله، وإبطال مذهبهم، قال الله تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [سورة الزمر آية: 43-44] ، فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السماوات والأرض، وهو الله وحده، وهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه ليرحم عبده، فيأذن هو لمن يشاء أن يشفع فيه؛ فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له، والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه وأمره، بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه، وهي إرادته من نفسه أن يرحم عبده.
وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون ومن وافقهم؛ وهي التي أبطلها الله سبحانه وتعالى، بقوله:{وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [سورة البقرة آية: 123]، وقوله:{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [سورة البقرة آية: 254]، وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ
أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 51] .
وأخبر سبحانه أنه ليس للعباد شفيع من دونه؛ بل إذا أراد سبحانه رحمة بعبده أذن هو لمن يشفع فيه، كما قال تعالى:{مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِه} [سورة يونس آية: 3]، وقال:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] . فالشفاعة بإذنه، ليست شفاعة من دونه، ولا الشافع شفيع من دونه، بل يشفع بإذنه; والفرق بين الشفيعين كالفرق بين الشريك، والعبد المأمور.
فالشفاعة التي أبطلها: شفاعة الشريك؛ فإنه لا شريك له، والتي أثبتها: شفاعة العبد المأمور الذي يشفع، ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له، ويقول: اشفع في فلان؛ ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة: أهل التوحيد الذين جردوا التوحيد، وخلصوه من تعلقات الشرك وشوائبه؛ وهم الذين ارتضى الله سبحانه.
قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28]، وقال تعالى:{يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [سورة طه آية: 109]، فأخبر: أنه لا تحصل يومئذ شفاعة تنفع، إلا بعد رضى قول المشفوع
له، وإذنه للشافع؛ فأما المشرك فإنه لا يرضاه، ولا يرضى قوله؛ فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه؛ فإنه سبحانه علقها بأمرين: رضاه عن المشفوع له، وإذنه للشافع؛ فمتى لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة.
وسر ذلك: أن الأمر كله لله وحده، فليس لأحد معه من الأمر شيء; وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده، هم الرسل والملائكة المقربون، وهم عبيد محض، لا يسبقونه بالقول ولا يتقدمون بين يديه، ولا يفعلون شيئا إلا من بعد إذنه لهم، ولا سيما يوم لا تملك نفس لنفس شيئا، فهم مملوكون مربوبون، أفعالهم مقيدة بأمره وإذنه.
فإذا أشركهم به المشرك، واتخذهم شفعاء من دونه، ظنا منه أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله، فهو من أجهل الناس بحق الرب سبحانه، وما يجب له وما يمتنع عليه؛ فإن هذا محال ممتنع، يشبه قياس الرب سبحانه على الملوك والكبراء؛ حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم، من يشفع له عندهم في الحوائج.
وبهذا القياس الفاسد عبدت الأصنام، واتخذ المشركون من دون الله الشفيع والولي؛ والفرق بينهما هو الفرق بين الخالق والمخلوق، والرب والمربوب، والسيد والعبد، والمالك والمملوك، والغني والفقير، والذي لا
حاجة به إلى أحد قط، والمحتاج من كل وجه إلى غيره. فالشفعاء عند المخلوقين هم شركاؤهم، فإن قيام مصالحهم بهم، وهم أعوانهم وأنصارهم، الذين قيام الملوك والكبراء بهم، ولولاهم لما انبسطت أيديهم وألسنتهم في الناس، فلحاجتهم إليهم يحتاجون إلى قبول شفاعتهم، وإن لم يأذنوا فيها ولم يرضوا عن الشافع، لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم فتنقص طاعتهم لهم، ويذهبون إلى غيرهم، فلا يجدون بدا من قبول شفاعتهم على الكره والرضى. فأما الذي غناه من لوازم ذاته، وكل ما سواه فقير إليه لذاته، وكل من في السماوات والأرض عبيد له، مقهورون لقهره، مصروفون بمشيئته؛ لو أهلكهم جميعا لم ينقص من عزه، وسلطانه وملكه، وربوبيته وإلهيته مثقال ذرة، قال تعالى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة المائدة آية: 17] وقال في سيدة آي القرآن، آية الكرسي:{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255]، وقال:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة الزمر آية: 44] ؛ فأخبر أن ملكه السماوات والأرض يوجب أن تكون
الشفاعة كلها له وحده، وأن أحدا لا يشفع عنده إلا بإذنه؛ فإنه ليس بشريك بل مملوك محض، بخلاف شفاعة أهل الدنيا بعضهم عند بعض.
فتبين أن الشفاعة التي نفاها الله سبحانه في القرآن، هي هذه الشفاعة الشركية، التي يفعلها بعضهم مع بعض؛ ولهذا يطلق نفيها تارة، بناء على أنها هي المعروفة عند الناس، ويقيدها تارة، بأنها لا تنفع إلا بإذنه. وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه؛ فإنه هو الذي قبل والذي أذن، والذي رضي عن المشفوع، والذي وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة.
وقوله: فمتخذ الشفيع لا تنفعه شفاعته، ولا يشفع فيه، ومتخذ الرب وحده إلهه ومعبوده، ومحبوبه ومرجوه، ومخوفه الذي يتقرب إليه وحده، ويطلب رضاه ويتباعد من سخطه، هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع ليشفع له. قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة يونس آية: 18] ؛ فبين سبحانه أن متخذي الشفعاء مشركون، وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذهم.
وسر الفرق بين الشفاعتين: أن شفاعة المخلوق للمخلوق، وسواه للمشفوع عنده، لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده، لا خلقا ولا أمرا ولا إذنا؛ بل هو سبب محرك له من خارج، كسائر الأسباب. وهذا السبب المحرك، قد يكون عند المحرك لأجله ما يوافقه، كمن يشفع عنده أمر يحبه ويرضاه، وقد يكون عنده ما يخالفه، كمن يشفع إليه في أمر يكرهه. ثم قد يكون سؤاله وشفاعته أقوى من المعارض، فيقبل شفاعة الشافع، وقد يكون المعارض الذي عنده أقوى من شفاعة الشافع فيردها، وقد يتعارض عنده الأمران، فيبقى مترددا بين ذلك المعارض الذي يوجب الرد، وبين الشفاعة التي تقتضي القبول، فيتوقف إلى أن يترجح عنده أحد الأمرين بمرجح.
وهذا بخلاف الشفاعة عند الرب سبحانه؛ فإنه ما لم يخلق شفاعة الشافع، ويأذن له فيها ويحبها منه، ويرضى عن الشافع، لم يمكن أن توجد. والشافع لا يشفع عنده بمجرد امتثال أمره وطاعته له، فهو مأمور بالشفاعة مطيع بامتثال الأمر؛ فإن أحدا من الأنبياء والملائكة، وجميع المخلوقات، لا يتحرك بشفاعة، ولا غيرها إلا بمشيئة الله وخلقه.
فالرب تعالى هو الذي يحرك الشفيع حتى يشفع، والشفيع عند المخلوق هو الذي يحرك المشفوع إليه حتى يقبل. والشافع عند المخلوق مستغن عنه في أكثر أموره، وهو في الحقيقة شريكه، ولو كان مملوكه وعبده؛ فالمشفوع عنده محتاج إليه فيما يناله من النفع والضر، والمعاونة، وغير ذلك، كما أن الشافع محتاج إليه فيما يناله من رزق أو نصر أو غيره؛ فكل منهما محتاج إلى الآخر. ومن وفقه الله لفهم هذا الموضوع، تبين له حقيقة التوحيد والشرك، والفرق بين ما أثبت الله من الشفاعة، وما نفاه وأبطله، {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} ، ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله، وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم، علم أن بين السلف وبين هؤلاء الخلوف من البعد، أبعد مما بين المشرق والمغرب، وأنهم على شيء والسلف على شيء، كما قيل:
سارت مشرقة وسرت مغربا
…
شتان بين مشرق ومغرب
والأمر- والله- أعظم مما ذكرنا. انتهى، وبه كمل الجواب، والحمد لله الذي هدانا لدينه، الذي رضيه لعباده، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وصلى الله وسلم على محمد النبي الأمي، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
[ما قاله الشيخ عبد الرحمن بن حسن في بردة البوصيري]
وقال أيضا الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. اعلم: أن البردة التي تنسب للبوصيري، قد ضمنها أبياتا شركية، تنافي ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من توحيده. وقد افتتن بها كثير من الناس، وجعلوها أفضل من الأوراد النبوية التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعضهم اشتغل بها عن القرآن.
ومن المعلوم عند أهل السنة والجماعة: أن أبيات حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وكعب بن زهير وأمثالهم، أفضل منها لوجوه: منها: أنه على الوجه العربي. ومنها: أن اللغة سليقتهم. ومنها: أنه ليس فيها من الإطراء- الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء. ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعها واستحسنها، وهم صحابته. وهؤلاء عدلوا عنها إلى شعر المولدين، الذين جمعوا فيه الغث والسمين، وتصرفوا في الدين بآرائهم التي لم ينزل الله بها سلطانا.
وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} [سورة الجن آية: 21-22]، وقال: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا
شَاءَ اللَّهُ} [سورة الأعراف آية: 188] .
وقال تعالى: {أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ} [سورة الأنعام آية: 19] الآية، وقال:{وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} [سورة آل عمران آية: 80] الآية. فهذا ما أمر الله نبيه أن يبلغه الأمة ليؤمنوا به، ويعرفوا لربهم حقه من إخلاص العبادة له وحده؛ وتبرأ من شرك المشركين في هذه الآيات، ونحوها فأبى الظالمون إلا كفورا.
ولما نزل عليه صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [سورة الشعراء آية: 214] ، "صعد الصفا، وقال: " يا معشر قريش "، أو كلمة نحوها، " اشتروا أنفسكم. لا أغني عنكم من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئا. ويا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا ""1.
فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا ينجي المرء من عذاب الله، إلا الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من توحيده، وطاعته، وترك ما نهاهم عنه من الشرك بالله، في الأقوال، والأعمال الباطنة والظاهرة.
والقرآن كله يدل على ذلك، قال تعالى:{ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [سورة غافر آية: 12] الآية؛ فقصر الدعاء على نفسه، كسائر أنواع
1 البخاري: الوصايا (2753)، ومسلم: الإيمان (204 ،206)، والنسائي: الوصايا (3644 ،3646 ،3647) ، وأحمد (2/333 ،2/360 ،2/519)، والدارمي: الرقاق (2732) .
العبادة، بقوله:(وحده) ومن لم يقصره عليه فهو مشرك، كما في هذه الآية ونظائرها، كقوله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18]، وقوله:{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} [سورة الأنعام آية: 71] الآية.
والقرآن كله يقرر التوحيد، وينهى عن الغلو والشرك، وكذلك السنة؛ وقد أنكر الله على المشركين اتخاذ الشفعاء والوسائط، في طلب ما ينفع وما يدفع.
إذا عرفت ذلك، فإن هذه المنظومة حصل فيها أبيات، كثيرها مما اختلقه المتأخرون، من الوقوع فيما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغلو والشرك، لجهلهم بمعنى الله، ومعنى لا إله إلا الله، فلم يعرفوا الإله الذي نهوا عن عبادته، ولا عرفوا العبادة التي من قصد بها صار إلها. فالجهل بالتوحيد، أوقعهم فيما وقعوا فيه، من هذا الشرك العظيم، فلذلك قبلوه، واستحسنوه، نعوذ بالله من زيغ القلوب؛ فلم يعرفوا من التوحيد، إلا ما أقر به المشركون من قريش، وأهل الجاهلية وغيرهم، من أن الله رب كل شيء، ومليكه وخالقه. ولم يعرفوا أنه المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له، ولا عرفوا الشرك الذي هو تنْزيل المخلوق منْزله الخالق فيما يختص به، أو يجعله شريكا في خصائص الإلهية، التي
هي أبين شيء في القرآن وأوضحه.
فعمت البلوى بهذا الشرك، وأطلقوا عنان الغلو في الأموات والغائبين، وأنزلوهم منْزلة رب العالمين في الرغبات والرهبات والدعوات، التي لا يصلح منها شيء لغير الله. فمما وقع فيه هؤلاء من الغلو والشرك العظيم، ما ذكره صاحب هذه المنظومة، بقوله:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
فعظم النبي صلى الله عليه وسلم بما يسخطه ويحزنه؛ فقد اشتد نكيره صلى الله عليه وسلم عما هو دون ذلك، كما لا يخفى على من له بصيرة في دينه؛ فقصر هذا الشاعر لياذه على المخلوق دون الخالق، الذي لا يستحقه سواه؛ فإن اللياذ عبادة كالعياذ.
وقد ذكر الله عن مؤمني الجن أنهم أنكروا استعاذة الإنس بهم، بقوله:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [سورة الجن آية: 6] أي: طغيانا. واللياذ يكون لطلب الخير، والعياذ لدفع الشر؛ فهما سواء في الطلب والهرب، كما قال العلامة ابن القيم:
وبك المعاذ ولا ملاذ سواك أنـ ت غياث كل ملدد لهفان
وقد ذكر هذا المعنى ابن كثير في تفسيره، وابن جرير وغيرهما ; فهذا الشاعر أتى بما ينافي الآيات المحكمات،
وبالغ في الغلو، وارتكب ما اشتد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه في أحاديث كثيرة؛ لكن لما اشتدت غربة الإسلام، وقع من الغلو أضعاف ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في رده على ابن البكري: أنه لما قدم مصر، وجد بها ممن غلا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتكب ما نهى عنه أمته من الغلو، ومن جملة من ذكر منهم: صاحب البردة، ذكر له أبياتا:
وهذا كلام شيخ الإسلام في تعظيم ما قاله من الغلو، فقال: ومن هؤلاء من يقول أسقط الربوبية، وقل في الرسول ما شئت، ويقول:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم
…
واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
فإن فضل رسول الله ليس له
…
حد فيعرب عنه ناطق بفم
وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف
…
وانسب إلى قدره ما شئت من عظم
لو ناسبت قدره آياته عظما
…
أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم
ومنهم من يقول: نحن نعبد الله ورسوله، فيجعلون الرسول معبودا، ومنهم من يأتي إلى قبر الميت، الرجل أو المرأة الذي يحسن به الظن، فيقول اغفر لي وارحمني، ولا توقفني على زلة، ونحو هذا الكلام. وأمثال هذه الأمور التي يتخذ منها المخلوق إلها، وهذا وأمثاله وقع ونحن بمصر، انتهى.
فهذا ما ذكره شيخ الإسلام، عن صاحب هذه
المنظومة وغيره، من الغلو العظيم. ومن المعلوم: أن أنواع الغلو كثيرة، والشرك بحر لا ساحل له، ولا ينحصر في قول النصارى، لأن الأمم أشركوا قبلهم بعبادة الأوثان، وأهل الجاهلية كذلك.
وليس فيهم من قال في إلهه ما قالت النصارى في المسيح غالبا: إنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة؛ بل كلهم معترفون أن آلهتهم ملك لله، لكن عبدوها معه، لاعتقاد أنها تشفع لهم أو تنفعهم. فيحتج الجهلة المفتونون بهذه الأبيات، هو أن قوله - في منظومته- دع ما ادعته النصارى في نبيهم، مخلص من الغلو بهذا البيت؛ وهو قد فتح ببيته هذا باب الغلو والشرك، لاعتقاده بجهله أن الغلو مقصور على هذه الأقوال الثلاثة، وأن من لم يقل في النبي واحدا منها، فإنه قد وفاه حقه بكل قول يقوله بلا حد.
وقد عرفت أن أنواع الغلو الذي فعله المشركون مع معبوديهم لا تنحصر؛ فإذا أنزل المخلوق منْزلة الخالق في شيء من خصائص الإلهية، فقد غلا فيه وأشرك. وكان أهل الجاهلية يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما هلك.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله ذكر هذه العبارة عنه، لبيان أنه أفرط في الغلو غاية الإفراط، وهو كذلك،
وبلغ فيه حدا لا نهاية له، تشنيعا منه رحمه الله على جنس المشركين في زمانه؛ وقيل يبين ذلك الأبيات بعد هذا البيت.
فتأمل ما فيها من المجازفة العظيمة التي لا يحبها الله ولا رسوله؛ بل أنكر على من مدحه بما هو أقل من هذا بمراتب، ولما قال له رجل: أنت سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، قال:" قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان، ما أحب أن ترفعوني فوق منْزلتي التي أنزلني الله عز وجل " صلاة الله وسلامه عليه، فقد جرد خصائص الربوبية لربه تعالى، التي لا يستحقها سواه.
والقرآن من أوله إلى آخره، يبين أن الشرك تشبيه المخلوق بالخالق في العبادة، على أي وجه كان، كما قال تعالى عن المشركين:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية: 97-98]، وقال تعالى:{وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [سورة النحل آية: 51] ؛ فقصر الرهبة عليه، كما قصر الرغبة في قوله تعالى:{وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} [سورة الأنبياء آية: 90]، وقوله:{وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [سورة الشرح آية: 8] ؛ وكل ما أدى إلى صرف العبادة لغير الله، فهو غلو كما جرى من قوم نوح، وغيرهم.
[من أعظم الغلو ما قاله صاحب البردة: إن لم تكن في معادي آخذا بيدي]
ومن أعظم الغلو: ما ذكره صاحب البردة، بقوله:
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي فضلا وإلا فقل يا زلة القدم
فلم يقصد في طلب النجاة إلا المخلوق، دون خالقه الذي له ملك السماوات والأرض، كما قال تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [سورة النساء آية: 134]، وقال:{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [سورة غافر آية: 15] إلى قوله: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [سورة يوسف آية: 39] ؛ فلم يطلب صاحب الأبيات النجاة من الذي له الملك كله، يأذن بالشفاعة لأهل التوحيد خاصة، ويمنعها ممن طلبها من غيره؛ وهذا ينافي ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من توحيد الله تعالى بالعبادة، الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء والمرسلين، كما قال تعالى عن المسيح ابن مريم:{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [سورة المائدة آية: 117]، وقال تعالى لنبيه:{وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [سورة الشرح آية: 8] فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرغب إليه وحده، وهذا رغب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ومن المعلوم أن الرغبة إلى غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، من ميت، أو غائب، وغيرهما، شرك عظيم.
ومن ذلك قوله:
فإن من جودك الدنيا وضرتها
…
ومن علومك علم اللوح والقلم
وهذا ينافي قول الله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [سورة طه آية: 6] . فإذا كانت الدنيا والآخرة من جود المخلوق، فما أبقى هذا الشاعر للخالق ما يجود به؛ بل جعلها كلها لعبده، وهي لله وحده، وقد قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سورة سبأ آية: 22] إلى قوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 23] ؛ فأخبر أنه صلى الله عليه وسلم لم يبق لمخلوق في ملك السماوات والأرض مثقال ذرة، ولا له شركة أصلا في هذا المقدار.
وهذا الشاعر: جعل ملك السماوات والأرض لغير الله، دون الله تعالى؛ فما أبعد هذا الضلال، وما أعظم هذا المحال! ناقض الآيات المحكمات، وأتى بعكس المطلوب منها والمراد، فلم يترك لله شيئا من ملكه الذي اختص به، من أمر الدنيا والآخرة، قال تعالى:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} [سورة فاطر آية: 13-14] الآية.
وقوله: ومن علومك علم اللوح والقلم. فصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن
إلى يوم القيامة " قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، يكتب آثارهم، وأعمالهم، وأرزاقهم، وآجالهم وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله.
وقد قال تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [سورة الأنعام آية: 50]، {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} [سورة هود آية: 31] رد لقوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها، وقوله:{وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [سورة الأنعام آية: 50] رد لقوله: ومن علومك علم اللوح والقلم. وقال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة النمل آية: 65]، وقال:{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [سورة الأعراف آية: 188]، وقال:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [سورة الأنعام آية: 59] إلى قوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سورة الأنعام آية: 59] .
ومما تشهد به العقول والفطر، والآيات والأحاديث والآثار أن ذلك لا يعلمه إلا الله، قال تعالى:{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [سورة هود آية: 123] فهذه الآية تبطل جميع هذا الغلو المذكور في هذه الأبيات.
وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً
إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [سورة الجن آية: 26-27] ؛ قال ابن عباس في الآية: فأعلم الله سبحانه وتعالى الرسل من الغيب الوحي، أظهرهم عليه، بما أوحى إليهم من غيبه، وبما يحكم الله عز وجل؛ فإنه لا يعلم ذلك غيره. وروى معمر عن قتادة {إلا من ارتضى من رسول} فإنه يظهره من الغيب على ما يشاء، فارتضاه.
وقال تعالى {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [سورة يونس آية: 61] الآية؛ وهذا كله لله، وهو المختص به.
وأخبر أنه أطلع أنبياءه ورسله على ما شاء، فيما أوحاه إليهم من الغيب، كما قال:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [سورة البقرة آية: 255] . والقرار كله من غيبه، كما قال ابن زيد: وقد أطلع الله نبيه على كثير مما يحدث في أمته، وعلى ما يقع يوم القيامة، ليجب الإيمان به صلى الله عليه وسلم وعلى أمته، ويقرر البعث، والنشور على الأعمال والجنة والنار لوجوب العلم بذلك، وهو في القرآن أيضا.
وأما الإحاطة بالغيب كله، وعلم ما كان وما يكون في الدنيا والآخرة، فلا يعلم ذلك كله إلا الله، كما دلت عليه هذه الآيات؛ وأمثالها في القرآن كثير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، في معنى هذه الآية: يبين أنهم لا يعلمون من علمه إلا ما علمهم إياه، كما قالت الملائكة:{لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [سورة البقرة آية: 32] ؛ فكان في هذا النفي إثبات أنه عالم، وأن عباده لا يعلمون إلا ما علمهم إياه، فأثبت أنه الذي يعلم، لا ينالون العلم إلا منه؛ فإنه الذي خلق الإنسان من علق، وعلم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، انتهى.
وما ذكرنا يبين أن صاحب البردة أفرط في الغلو غاية الإفراط، وخرج عما يحبه الله ورسوله، إلى ما حرمه الله ورسوله، ويدل على شدة إعراض هؤلاء الغلاة عن القرآن والإيمان به، ومخالفة الآيات التي دلت على أن العبادة لا يصلح منها شيء لملك مقرب، ولا نبي مرسل، وأن الله هو الذي يتصرف في خلقه، بمشيئته، وإرادته، وحكمته وعلمه.
وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في حق عمه أبي طالب، لما مات على دين أبيه عبد المطلب:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [سورة القصص آية: 56]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لن يدخل أحد الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته "1.
1 البخاري: المرضى (5673)، ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2816) ، وأحمد (2/256 ،2/264 ،2/326 ،2/385 ،2/390 ،2/469 ،2/473 ،2/524) .
ولما دعا صلى الله عليه وسلم على كفار قريش، لشدة عداوتهم له ولأصحابه، أنزل الله:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [سورة آل عمران آية: 128] . وأهل الجاهلية أقروا له بالربوبية، وأنه المدبر لجميع الأمور، الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وأما مشركو هذه الأمة، فجعلوا له شريكا في ربوبيته؛ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وممن غلا في الدين في وقت شيخ الإسلام: القاضي السبكي، لكنه لم يبلغ ما ذكر شيخ الإسلام عن الغلاة الذين وجدهم بمصر وقد رد عليه الحافظ محمد بن عبد الهادي، في مجلد كبير، سماه "الصارم المنكي في الرد على السبكي"؛ فمن قوله المردود: أن المبالغة في تعظيمه، أي: الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة.
فأجابه الحافظ محمد بن عبد الهادي، بقوله: إن أريد بها المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيما، حتى الحج إلى قبره والسجود له والطواف به، واعتقاد أنه يعلم الغيب، وأنه يعطي ويمنع، ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين، ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن يشاء، ويدخل الجنة من يشاء، فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك،
وانسلاخ من جملة الدين. قلت: ومن المعلوم أن الأخذ بعموم كلام السبكي، من الغلو الذي لا يحبه الله ولا يرضاه. وأما ما أعطى الله نبيه صلى الله عليه وسلم من الخصائص إكراما له، وزيادة في فضله، فهي كثيرة، كما قال تعالى:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [سورة الإسراء آية: 79] ، وهو مقام الشفاعة، كما عليه أكثر المفسرين. وأحاديث الشفاعة معروفة لا مطمع فيها لأهل الغلو، ولا أهل الإشراك ; بل هي مختصة بأهل الإخلاص من أمته صلى الله عليه وسلم، وهم في القرون المفضلة لا يحصيهم إلا الله، ومن كان على التوحيد والسنة ممن بعدهم.
جعلنا الله وإخواننا المسلمين، ممن تناله شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ووفقنا للإخلاص لله، وإنكار الشرك والغلو الذي نهى عنه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهو الذي عرفنا بالله، ودعانا إلى توحيده، وأن لا نتخذ معبودا سواه، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. قال تعالى:{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [سورة غافر آية: 14]، وقال:{هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة غافر آية: 65] .
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا انفتل من صلاة الفريضة، يقول: " لا إله إلا الله وحده لا شريك
له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ". فالإخلاص هو حق الله، الذي بعث به رسله، ودعا أمته إليه، وهو في الآيات المحكمات، أكثر من أن يحصر، طلبا وخبرا، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم
وله أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، وابنه عبد اللطيف، إلى عبد الخالق الحفظي، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فقد بلغنا من نحو سنتين، اشتغالكم ببردة البوصيري، وفيها من الشرك الأكبر ما لا يخفى، من ذلك قوله:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
إلى آخر الأبيات التي فيها طلب ثواب الدار الآخرة من النبي صلى الله عليه وسلم وحده.
فأما دعاء الميت والغائب فقد ذكر الله في كتابه العزيز- الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم النهي عن دعوة الأموات، والغائبين بقوله:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 106] الآية؛ فلم يستثن الله من هذا أحدا، والنبي صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله.
وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [سورة القصص آية: 88] الآية؛ فانظر إلى هذا الوعيد الشديد، المترتب على دعوة غير الله، وخاطب به نبيه صلى الله عليه وسلم ليكون أبلغ للتحذير؛ فكيف يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أن الله ينهاه عن ذلك
مع غيره، صلوات الله وسلامه عليه. ولما قال له رجل:" ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده ".
ودعوة غير الله تنافي الإخلاص، الذي هو دينه الذي لا يقبل الله دينا سواه. وذكر تعالى اختصاصه بالدعاء، بقوله:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [سورة الرعد آية: 14] الآية، وأخبر أن دعوة الحق مختصة به؛ وما ليس بحق فهو باطل، ولا يحصل به نفع لمن فعله؛ بل هو ضرر في العاجل والآجل، لأنه ظلم في حق الله تعالى.
يقرر هذا تهديده لمن دعا الأنبياء والصالحين والملائكة بقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [سورة الإسراء آية: 56] الآية، نزلت في عيسى وأمه والعزير والملائكة، باتفاق أكثر المفسرين من الصحابة والتابعين والأئمة؛ فكيف يظن من له عقل أنه يرضى منه في حقه قولا وعملا، تهدد الله من فعله مع عيسى وأمه والعزير والملائكة؟.
وكونه صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، لا يلزم أن يختص دونهم بأمر نهى الله عنه عباده، عموما وخصوصا; بل هو مأمور أن ينهى الناس عنه، ويتبرأ منه كما تبرأ المسيح منه في الآيات، في آخر سورة المائدة، وكما تبرأت منه الملائكة،
الآيات في آخر سورة المائدة، وكما تبرأت منه الملائكة في الآيات التي في سورة سبأ.
وأما اللياذ، فهو كالعياذ سواء؛ فالعياذ لدفع الشر، واللياذ لجلب الخير. وحكى الإمام أحمد وغيره الإجماع على أنه لا يجوز العياذ إلا بالله وأسمائه وصفاته، وأما العياذ بغيره فشرك ولا فرق. وأما قوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها. فمناقض لما اختص الله به تعالى يوم القيامة من الملك، في قوله:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [سورة غافر آية: 16]، وفي الفاتحة:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4]، وفي قوله تعالى:{يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار آية: 19] ، وغير ذلك من الآيات في هذا المعنى. وقال غير ذلك في منظومته، مما يستبشع من الشرك.
ومدح النبي صلى الله عليه وسلم شعراء العرب الفصحاء، ولم يقرب منهم أحد حول هذا الحمى، الذي هو لله وحده؛ بل مدحوه بالنبوة، وما خصه الله من الفضائل، والأخلاق الحميدة، مثل حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وكعب بن زهير، وأمثال هؤلاء. فما تعلقت قلوبكم يا عبد الخالق، إلا بنظم للشياطين فيه حظ وافر؛ قد أنكر الله ورسوله على من قاله وفعله.
وهذه الأمور كانت عند محمد الحفظي، وأبيه وأخيه، فأقلعوا عنها، وتابوا إلى الله منها، وتجنبوا الشرك، وتبرؤوا إلى الله منه ومن أهله، وجاهدوا أهله نثرا ونظما. وقد نزلت المنْزلة التي كانوا عليها في الجاهلية ثم تابوا منها، فأصغ سمعك لكتاب الله؛ فإنه يكفيك ويشفيك من كل خير، ويعصمك من كل شر.
[رد الشيخ عبد الرحمن بن حسن على الكشميري]
وقال أيضا الشيخ الإمام، شيخ الإسلام عبد الرحمن بن حسن، ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله تعالى، ورضي عنهم 1. بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا مثل ولا معين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين؛ صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، واهدهم سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وجنبهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واجعلهم شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك؛ فاقبلها منهم، وأتمها عليهم. اللهم انصر دينك وكتابك، ورسولك، وعبادك المؤمنين. اللهم أظهر دينك - دين الهدى، ودين الحق- الذي بعثت به نبيك محمدا صلى الله عليه وسلم على الدين كله.
اللهم عذب الكفار والمنافقين، الذين يصدون عن
1 أي في "الرد على عبد المحمود الكشميري".
سبيلك، ويبدلون دينك، ويعادون عبادك المؤمنين. اللهم خالف بين كلمتهم، وشتت بين قلوبهم، واجعل تدميرهم في تدبيرهم، وأدر عليهم دائرة السوء. اللهم أنزل بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وزلزلهم، وانصرنا عليهم. اللهم أعنا ولا تعن علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا. اللهم اجعلنا شاكرين ذاكرين مطاويع إليك مخبتين، أواهين منيبين. اللهم تقبل توبتنا واغسل حوبتنا، واهد قلوبنا وثبت حجتنا واسلل سخيمة صدورنا يا رب العالمين.
أما بعد: فاعلموا معشر الإخوان، أن الله تعالى أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظمات إلى النور، وعرفهم ما خلقوا له من إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما كانوا يعبدونه من دون الله، والرغبة عن عبادة غيره، والبراءة منها، والكفر بالطاغوت وهو الشيطان، وما زينه من عبادة الأوثان.
فدعا قريشا والعرب إلى أن يقولوا لا إله إلا الله، لما دلت عليه من بطلان عبادة كل ما يعبد من دون الله، وإخلاص العبادة لله وحده دون كل ما سواه؛ وهذا هو التوحيد الذي خلق الله الخلق لأجله، وأرسل الرسل لأجله، وأنزل الكتب لأجله؛ وهو أساس الإيمان والإسلام ورأسه؛ وهو الدين
الحق الذي لا يقبل الله من عبد دينا سواه.
قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] أي: يوحدون، وقال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [سورة الإسراء آية: 23] ، وهذه الآية تفسر الآية قبلها، وتبين أن المراد بالعبادة التوحيد، وأن يكون الله سبحانه وتعالى هو المعبود وحده دون كل ما سواه؛ والقرآن كله في تقرير هذا التوحيد وبيانه، وبين ذلك قوله تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة يوسف آية: 40] .
والرسل عليهم الصلاة والسلام افتتحوا دعوتهم لقومهم بهذا التوحيد {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة المؤمنون آية: 32] . وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [سورة العنكبوت آية: 16-17-18] .
قوله: {فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} [سورة العنكبوت آية: 18] يعني قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب مدين، والمؤتفكات وهم قوم لوط، وقد قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ
اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [سورة النحل آية: 36] .
وكل رسول يدعو قومه إلى أن يخلعوا عبادة ما كانوا يعبدونه من دون الله، ويخلصوا أعمالهم كلها عن الأصنام والأوثان التي اتخذوها، وجعلوها أندادا لله بعبادتهم، كما قال تعالى:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} [سورة يس آية: 74] ، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، لا يشك في هذا مسلم، كما قال تعالى:{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 65] .
فأجابوه بقولهم: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [سورة هود آية: 53-54-55]، وهذا هو المنفي في كلمة الإخلاص {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ} [سورة هود آية: 54-55] ، كما قال تعالى مخبرا عن جميع رسله، أنهم قالوا لقومهم:{إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] .
والإيمان بالله وحده، هو البراءة مما كانوا يعبدونه من الأصنام والأوثان، وإخلاص العبادة لله وحده؛ لا يرتاب في هذا مسلم. فمن شك في أن هذا هو معنى لا إله إلا الله، فليس
معه من الإسلام ما يزن حبة خردل. والقرآن أفصح عن معنى لا إله إلا الله، في آيات كثيرة يطول الكتاب بذكرها؛ ويأتي بعضها إن شاء الله في هذا الجواب.
وأنتم معشر المخاطبين بهذا قد تقرر عند من له علم فيكم- حتى العامة- من أكثر من مائه وثلاثين سنة أن هذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه؛ فما بال أناس يرغبون عما عرفوه، وعرفوه من كتاب الله وسنة رسوله، إلى طلب العلم ممن لم يعرف هذا التوحيد، ولا نشأ في تعلمه ولا عرفه، كما هو ظاهر في كلامه؟ يعرف من له عقل، وبصيرة أنه لا يتكلم به إلا من لم يعرف ما بعث الله به المرسلين من توحيد رب العالمين.
وقد علمتم، معشر الموحدين ما حال بين كثير من الناس، وبين معرفة التوحيد، من العوائد الشركية، والشبهات الخيالية، لما افترقت الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة. فلقد عظمت نعمة الإسلام على من عرفها، وقبلها وأحبها، وصار مستيقنا بها قلبه، مخلصا صادقا، ورزق الثبات والاستقامة على ذلك.
فيا لها من نعمة ما أعظمها، وموهبة ما أجملها! نعوذ بالله أن يصدف عنها صادف، أو يصرف عنها صارف، ونعوذ بالله من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن. فاتقوا الله عباد الله، وارغبوا فيما كنتم فيه من نعمة الإسلام والإيمان،
وجددوا، وجدوا واجتهدوا في معرفته على الحقيقة، بأدلته وبراهينه، التي نصبها عليه رب العالمين في كتابه المبين، وبينها لكم نبيه الصادق المصدوق الأمين؛ صلوات الله وسلامه عليه، وعلى من اتبعه إلى يوم الدين.
ثم إنه قد تكلم غريب، في معنى لا إله إلا الله، لا يعرف ما هو ولا ممن هو، وكتب في ذلك ورقة، تبين فيها من الجهل والضلال، ما سنذكره لكم حذرا وتحذيرا، واعذارا وتعذيرا؛ والقلوب بين أصابع الرحمن، نسأل الله الثبات على الإسلام والإيمان.
ذكر ما في الورقة، قال: الحمد لله المتوحد بجميع الجهات.
الجواب- وبالله التوفيق-: لا يخفى على من له ذوق وممارسة، ومعرفة بمذاهب المبتدعة أن هذا لفظ لا معنى له، إلا على قول أهل الحلول، من الجهمية ومن تابعهم؛ فإنهم يقولون: إن الله تعالى حال في جميع الجهات، وفي كل مكان، ويجحدون ما تقرر في القرآن، من علو الله على جميع خلقه، واستوائه على عرشه؛ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وهذا الرجل إنما تكلم بألسنتهم؛ فهذا محصوله من العلم الذي ادعاه، قد ظهر واستبان، على صفحات وجهه وفلتات لسانه، وأهل السنة ينكرون هذه الألفاظ، ويشيرون
إلى ما فيها من دسائس أهل البدع، أسوة أمثال هذا من الفلاسفة، وأهل الوحدة وغيرهم، ممن لم يستضئ بنور العلم، ولم يلجأ إلى ركن وثيق، فلا تنظر إلى منظر الرجل، وانظر إلى مخبره.
وقد غلط أكثر الفرق الثلاث والسبعين في مسمى التوحيد؛ وكل فرقة لها توحيد تعتقد أنه هو الصواب، حتى الأشاعرة القائلين بأن معنى الإله: الغني عما سواه، المفتقر إليه ما عداه، يقولون إنهم أهل السنة، وهيهات هيهات. ولم يصبر منها على الحق إلا فرقة واحدة، وهم الذين عرفوا التوحيد على الحقيقة، من الآيات المحكمات، وصحيح السنة - جعلنا الله وإياكم من الفرق الناجية- وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى إلى هذا المعنى، فقال:
وقد غلط في مسمى التوحيد طوائف، من أهل النظر والكلام، ومن أهل الإرادة والعبادة؛ وهذا يفيد الحذر من مخالطة كل من لا يعرف دينه.
وقد كان بعض العلماء إذا دخل عليه مبتدع، جعل أصبعيه في أذنيه حتى يفارقه، حذرا من أن يلقي إليه كلمة تفتنه. فارجعوا رحمكم الله إلى صريح القرآن، فإنه حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم. وهو النور، كما قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة المائدة آية: 15-16] .
ثم إن هذا قال، في ورقته: اعلم أن الإله هو المعبود فقط، غير مقيد بقيد الحقيقة والبطلان؛ إذ اشتقاقه من أَلِهَه، إذا عبده يوجب اتحاده معه في المعنى، لعدم وجوده بدونه، إذ الاشتقاق وجود التناسب في اللفظ والمعنى.
فالجواب أن نقول: سبحان الله! كيف يشكل على من له أدنى مسكة من عقل، ما في هذا القول من الكذب والضلال، والإلحاد والمحال؟ فلقد صادم الكتاب والسنة؛ والفطر والعقول، واللغة والعرف.
أما مصادمته الكتاب والسنة، فإن الله تعالى يقول:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [سورة الحج آية: 62] في عدة مواضع من الكتاب والسنة، فالله تعالى الحق، وعبادته وحده هي الحق أزلا وأبدا، وما يدعى من دونه هو الباطل، قبل وضع اللغات وبعدها. وهذا لا يمتري فيه مسلم أصلا.
وأما مصادمته للعقل، فإن كل مألوه معبود; ولا بد أن يكون حقا أو باطلا؛ فإن كان هو الله فهو الحق سبحانه، كما في حديث الاستفتاح الذي رواه البخاري وغيره:" ولك الحمد أنت الحق ووعدك حق "، وإن كان المعبود غيره فهو باطل بنص القرآن؛ والقرآن كله يدل على أن الله هو الحق، وأن ما يدعى
من دونه فهو باطل.
وأما مخالفته للفطر، فباتفاق الناس على ما دل عليه الكتاب، والسنة، والمعقول؛ حتى أهل البدع من كل طائفة، لا يقول بهذا القول- الذي قاله هذا- أحد منهم؛ لكن كل طائفة تدعي أنها أسعد من غيرها بالدليل، على ما في أدلة كل طائفة من التحريف والتأويل.
وأما مخالفته للغة: فلا ريب أن الواضع وضع الألفاظ بإزاء معانيها؛ فكل لفظ وضع لمدلوله الذي وضع له لأجل الدلالة عليه. والواضع وضع الألفاظ دالة على معانيها؛ فاللفظ دال والمعنى مدلوله؛ يعرف هذا كل من له أدنى مسكة من عقل. وكل ما ذكرناه لا نزاع فيه، ولا يعرف أن أحدا قال بخلاف ما ذكرناه.
وواضع اللغة، قال بعض العلماء: هو الله تعالى، وقال بعضهم: وضعها غيره من بني آدم المتقدمين بإلهام منه تعالى، وجبلة جبلهم عليها. واللغات وإن تعددت فهي بإلهام من الله، وبها يعرف مراد المتكلم، ومقصوده.
إذا عرفت ذلك، فيلزم على قول هذا الجاهل أن الملائكة قبل خلق آدم وذريته كانت عبادتهم لله تعالى غير مقيدة بحق ولا باطل؛ وهذا اللازم باطل فبطل الملزوم، وكذلك عبادة آدم وذريته قبل حدوث الشرك في قوم نوح، لا توصف عبادتهم لله بأنها حق أو باطل؛ وهذا اللازم باطل فبطل الملزوم.
وكذلك قوم نوح لما عبدوا آلهتهم، قالوا لما دعاهم نوح عليه السلام:{لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [سورة نوح آية: 23] فيلزم على قول هذا أن عبادتهم لتلك الأصنام ليست باطلة؛ وهذه اللوازم الباطلة تلزمه، وببطلانها يبطل ملزومها الذي ذكرناه عنه.
وأيضا: ففي قوله هذا مضاهاة لقول ابن عربي، إمام أهل الوحدة:
وعباد عجل السامري على هدى ولائمهم في اللوم ليس على رشد
فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. فلا تعجب، فكل صاحب بدعة، لا بد أن يجادل عن بدعته. والعلم نور يهبه الله لمن يشاء من عباده، وهو معرفة الهدى بدليله؛ والناس ليسوا كلهم كذلك إلا أقل القليل، الذين تمسكوا بالكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة، وأئمتها علما وعملا.
ومن تدبر القرآن رأى العجب فيما قصه الله تعالى عن الرسل مع أممهم قديما وحديثا، كما قال تعالى:{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [سورة غافر آية: 4-5] .
فإذا كان الكلام في بيان معنى لا إله إلا الله، فإن الله تعالى هو الذي تولى بيانه في مواضع من كتابه، وأجمعت عليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] .
بل القرآن كله في بيان معناها، كما قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26-27-28] أي: إليها من البراءة من عبادة كل معبود سوى الله.
وإخلاص العبادة له، كقول إمام الحنفاء عليه الصلاة والسلام، في هذه الآية:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} [سورة البقرة آية: 256] ، وهي لا إله إلا الله.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} [سورة الزمر آية: 17]، والطاغوت: الشيطان، وما زينه للمشركين من عبادة معبوداتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى، كأصنام قوم نوح، وأصنام قوم إبراهيم، واللات والعزى ومناة، وما لا يحصى كثرة في العرب والعجم وغيرهم.
وهي موجودة في الخارج معينة معلومة الوجود،
كأصنام قوم نوح، وغيرها مما لا يحصى كثرة؛ فمن قال لا إله إلا الله بصدق وإخلاص ويقين، فقد برئ من كل معبود يعبد من دون الله، ممن كان يعبده أهل الأرض.
وهذه الكلمة دلت على البراءة من الشرك والكفر به تضمنا، ودلت عليه وعلى إخلاص العبادة لله تعالى مطابقة، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] . بين تعالى أن الحكمة في خلق الجن والإنس أن يعبدوه وحده لا شريك له، ومن المعلوم أنه خلق الجن قبل الإنس.
فيلزم على هذا القول الفاسد، الذي أبداه هذا الجاهل: أن العبادة التي خلق تعالى لها الثقلين، لا توصف بحق ولا باطل حين خلقهم لها؛ واللازم باطل فبطل الملزوم. وهذا الموضع الذي بينا بطلانه بالمعقول والمنقول، هو ثاني موضع زلت فيه قدم هذا الذي يدعي أنه على شيء، وليس معه شيء يلتفت إليه بما يوجب إنكاره عليه.
وقد قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة العنكبوت آية: 51]، وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [سورة الجاثية آية: 18-19] .
وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3] .
وعن زياد بن حدير، قال: قال لي عمر: "هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا. قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين"، رواه الدارمي؛ فرضي الله تعالى عن أمير المؤمنين عمر، كأنه ينظر إلى ما وقع في هذه الأمة، من جدال أهل الأهواء بالكتاب، وكثرة الآراء المخالفة للحق، التي بها كثر أهل الضلال، وكثرت بها البدع، وتفرقت الأمة، واشتدت غربة الإسلام؛ حتى عاد المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة؛ نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير.
وما أحسن ما قال بعض السلف: لا تستوحش من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين. وقال بعضهم: ليس العجب ممن هلك كيف هلك؟ إنما العجب ممن نجا كيف نجا؟ فالناصح لنفسه يتهم رأيه وهواه، ويرجع إلى تدبر كتاب الله سبحانه لا إله غيره، ولا رب سواه، وإلى ما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وما عليه سلف الأمة وأئمتها قبل حدوث الأهواء، وتفرق الآراء؛ وليكن من الشيطان وجنده على حذر.
اللهم اجعلنا هادين مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك، حربا لأعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك. اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة. اللهم هذا الجهد، وعليك التكلان.
وأما قول هذا في ورقته: إذ اشتقاقه من ألهه، يوجب اتحاده معه في المعنى.
أقول: قد عرفتم ما ذكرناه من تناقضه في هذه العبارة، وما قبلها. وقد أخطأ أيضا فيما عبر به عن الاشتقاق، من وجهين: الأول: أنه جعل ألهه مشتقا منه، وهو: فعل، يشتق، ولا يشتق منه. والمصدر هو الذي يشتق منه الفعل، كما في الخلاصة 1.
...............
…
وكونه أصلا لهذين انتخب
ومصدره أَلِهَ إلهة; قال في القاموس: أله إلهة وأُلوهة وأُلوهية: عبد عبادة; ومنه لفظ الجلالة. وأصله: إله كفعال بمعنى مألوه; وكل ما اتخذ معبودا إله عند متخذه; انتهى.
الوجه الثاني: قوله: أَلِهَه إذا عبده، فجعل عبده
1 المعروفة: بألفية ابن مالك.
مشتقا من ألهه، وهو من غير مادته، وهو فعل أيضا، فإن عبده مشتق من عبادة، يقال: عبده عبادة، فمادته عبد، لكن عبد تفسير لأله، فاتفقا في المعنى لا في اللفظ. وأيضا، فقوله: ألهه إذا عبده، يناقض ما سلف من كلامه.
وأما قوله: يوجب اتحاده معه في المعنى، لعدم وجوده بدونه، فالجواب: أن قوله يوجب اتحاده معه في المعنى، ليس كذلك؛ بل لابد أن يتضمن أحدهما، وهو: الفعل، معنى المصدر وزيادة، لدلالته على الحدث والزمان. والمصدر: إنما يدل على الحدث فقط. وهذا أمر معروف عند النحاة وغيرهم، محسوس. فعبارته تدل على أنه لا يعرف معنى الاشتقاق الذي ذكره العلماء؛ ولو سئل عن معناه لما أجاب.
ولكنه خلا بأناس عظموه في نفسه، فأراد أن يأخذ العلوم بمجرد الدعوى، ومن نظر في كلامه عرف أنه لا شيء هناك؛ فتجده يأتي بعبارات متضمنة لجهالات لم يسبقه إليها سابق، كما قد عرفتم، وتعرفونه فيما يأتي من كلامه، وما فيه من التناقض؛ فما أقبح جهل من يدعي العلم! وما أفحش خطأ من يدعي الفهم!
والله أسأل أن يوزعنا شكر ما أنعم به علينا مما علمناه
وفهمناه، فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه، ونسأله الثبات والاستقامة، والعفو والعافية في الدنيا والآخرة، ولكل من عرف الإسلام وقبله، ودان به ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وأما قوله: ثم استعمل في العرف على الأغلب والأكثر على المعبود بحق، لعدم تحقق العبادة إلا بعد اعتقاد العابد استحقاق المعبود لها، وإلا فلا تسمى عبادة.
فالجواب أن قوله: ثم استعمل في العرف، أي: بعد أن كان الإله المعبود لغة غير مقيد بقيد الحقيقة والبطلان، كما تقدم صريحا في كلامه، فليت شعري متى هذا العرف، الذي وضع للألفاظ اللغوية معناها؟ ومن هم أهل هذا العرف، هل كانوا في قوم نوح أو قوم هود؟ فيسأل هذا متى كانوا؟ فما أقبح هذه الأقوال المختلقة، التي غايتها التمويه والتلبيس! فلا منقول ولا معقول، ولم يسبقه إليها أحد؛ وقد تقدم ما يلزم على هذا القول من اللوازم الباطلة.
فتبين أن قوله هذا كذب على اللغة، لا يعرف عن أحد لغوي، ولا عن عربي؛ والعرف لا يغير اللغة عن أصلها لفظا ومعنى. وهذه كتب اللغة، كالقاموس، وصحاح الجوهري وغيره، ليس فيها ما يدل على هذا القول الباطل؛ فيكون قد كذب على اللغة العربية وعلى غيرها من
اللغات، وعلى كتاب الله وسنة رسوله.
وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، رحمه الله تعالى: الإله هو الذي تألهه القلوب محبة ورجاء وتوكلا، وغير ذلك من أنواع العبادة؛ وهذا قول أهل السنة قاطبة، لا يختلف فيه اثنان.
وأما قوله: على الأغلب والأكثر، على المعبود بحق; فمفهومه: أنه يستعمل في غير الأغلب والأكثر، على غير المعبود بحق، فهذا صحيح، لكنه لا يختص بالعرف بل هو في اللغة كذلك؛ فإذا كان يطلق على غير المعبود بحق، كما تفهمه كل أمة، فهذا حجة عليه؛ فإن جميع الأصنام والأوثان، وما يعبد من دون الله، كلها آلهة معبودة بغير حق، باطلة بكلمة الإخلاص: لا إله إلا الله؛ ففيها النفي والإثبات، كما سيأتي بيان ذلك.
وكل ما نفته لا إله إلا الله من الأصنام والأنداد، فليس كليا لا يوجد ذهنا، كما يقوله المفتري: أفلاطون الفيلسوف، وشيعته، وإنما كانت أشخاصا متعددة، يباشرها عبادها بالعبادة بالدعاء، والاستغاثة والاستشفاع بها، والعكوف عندها والتبرك بها، كأصنام قوم نوح، وأصنام قوم عاد القائلين:{إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [سورة هود آية: 54] .
وأصنام نمرود التي تبرأ منها خليل الرحمن بقوله:
{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26-27-28] أي: هذه الكلمة، وهي: عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، وهي لا إله إلا الله، وجعلهما في ذريته باقية {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 28] أي إليها.
فالخليل عليه السلام فسر لا إله إلا الله بمدلولها، من النفي والإثبات؛ فالنفي في قوله:{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [سورة الزخرف آية: 26] فالبراءة منها وإبطالها نفيها ; وقوله: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [سورة الزخرف آية: 27] استثنى الإله الحق، الذي لا تصلح العبادة إلا له، وهو الذي فطره، أي: خلقه، وخلق جميع المخلوقات {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [سورة الصافات آية: 5] .
وقد قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 64] : فإن تولوا، أي: عما تدعوهم إليه، من عبادة الله وحده لا شريك له، والرغبة عما كانوا يعبدونه من دون الله، كالمسيح وأمه عليهما السلام؛ فإن سبب نزول الآية في نصارى نجران، وكانوا يعبدون آلهة أخرى.
فقوله: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة آل عمران آية: 64] ينفي كل معبود سوى
الله، ويثبت العبادة لله وحده، التي لا يستحقها غيره؛ وهذا ظاهر جلي، لا يخفى على من له أدنى بصيرة.
وسبب النّزول: لا يمنع عموم النهي لجميع الأمة، كما هو ظاهر في قوله:{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 2] ، فلم يستثن أحدا سواه، لا ملكا ولا نبيا، ولا من دونهما، كما قال تعالى:{وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [سورة النحل آية: 51]، وقوله:{وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 64] أي: من جميع المخلوقات من بشر، وحجر وغير ذلك.
لكن قوله: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً} [سورة آل عمران آية: 64] يختص بالبشر لما تقدم من أنهم كانوا يعبدون المسيح وأمه، وغيرهما من الأنبياء والصالحين، ويشمل غيرهم من باب أولى. وقد قال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18]، وأحدا: نكرة في سياق النهي، وهي تعم كل مدعو من دون الله، من أهل السماوات والأرض.
وتأمل قوله: (مع الله) وخبر (لا) التي لنفي الجنس محذوف، تقديره: حق، كما دل عليه القرآن، قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [سورة الحج آية: 62] ؛ وهذا قول أهل السنة والجماعة، اتباعا لما دل عليه القرآن.
ومن قدر الخبر المحذوف غير ذلك، كقول بعضهم: إن المحذوف "أحد" فلا حجة له ولا برهان؛ ينبئك على هذا المعنى العظيم: ما قرره ابن القيم، رحمه الله تعالى; قال: فإن قوام السماوات والأرض والخليقة، بأن تأله الإله الحق، فلو كان فيهما آلهة أخرى غير الله لم يكن إلها حقا؛ إذ الإله الحق لا شريك له، ولا سمي له ولا مثل له.
فلو تألهت غيره لفسدت كل الفساد، بانتفاء ما فيه صلاحها؛ إذ صلاحها بتأله الإله الحق، كما أنها لا توجد إلا باستنادها إلى الرب الواحد القهار، ويستحيل أن تستند في وجودها، إلى ربين متكافئين، فكذلك يستحيل أن تستند في تألهها إلى إلهين متساويين. وقد قال رحمه الله قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] الآية، قال: فالمؤمنون أشد حبا لربهم ومعبودهم، من كل محب لكل محبوب. وليست هذه المسألة من المسائل التي للعبد عنها غنى أو منها بد؛ بل هذه أفرض مسألة على العبد. وهي أصل عقد الإيمان، الذي لا يدخل فيه الداخل إلا بها؛ ولا فلاح للعبد ولا نجاة له من عذاب الله إلا بها؛ فليشتغل العبد بها أو ليعرض عنها.
ومن لم يتحقق بها علما وعملا وحالا، لم يتحقق
شهادة أن لا إله إلا الله، فإنها سرها وحقيقتها ومعناها، وإن إبى ذلك الجاحدون، وقصر عن علمه الجاهلون؛ فإن الإله هو المحبوب المعبود، الذي تأله القلوب بحبه وتخضع له، وتذل له وتخافه، وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه، وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده؛ ولهذا كانت أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداؤه، وأهل غضبه ونقمته.
فهذه المسألة قطب رحى الدين الذي عليه مداره، وإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد، فالفساد لازم له في علومه وأعماله، وأحواله وأقواله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، انتهى، فما أحسن هذا من بيان!
وأما قول الملحد في ورقته: لعدم تحقق العبادة، إلا بعد اعتقاد استحقاق المعبود لها،
فالجواب: هذا القيد ممنوع، وهو من جملة اختلافاته، وأكاذيبه، لأنه فاسد شرعا، ولغة وعرفا؛ ومما يبين فساده: ما في الحديث من قصة الرجلين اللذين مرا على صنم قوم، لا يجاوزه أحد إلا قرّب له شيئا، فقالوا لأحد الرجلين: قرّب، فقال: ما عندي شيء أقرب، فقالوا: قرّب ولو ذبابا، فقرّب ذبابا، فخلوا
سبيله، فدخل النار، أي: بتقريبه الذباب لصنمهم.
وهو إنما قربه للتخلص من شرهم، من غير اعتقاد استحقاقه لذلك، فصار عبادة للصنم دخل بها النار؛ وهذا يدل على أن هذا الفعل منه هو الذي أوجب له دخول النار، لأنه عبد مع الله غيره بهذا الفعل.
وقالوا للآخر: قرب، فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل، فضربوا عنقه فدخل الجنة.
وأيضا: فقد قال أبو طالب:
لقد علموا أن ابننا لا مكذب
…
لدينا ولا يعني بقول الأباطل
وقوله يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم
ودعوتني وعرفت أنك ناصحي
…
ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت دينا قد عرفت بأنه
…
من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة
…
لوجدتني سمحا بذاك مبينا
فثبت بهذا: أن أبا طالب لم يعتقد أن ما كان قومه عليه من الشرك حقا، ولم يمنعه من الدخول في الإسلام، إلا خوف أن يسب أسلافه فقط، ومع هذا مات مشركا، كما ثبت في الصحيح؛ وهذا يبين فساد هذا القيد.
فإذا عرف ذلك، تبين أن هذا الرجل يختلق أقوالا، لا برهان عليها، ولا حجة. ثم إن من المعلوم أن كل من عبد معبودا غير الله، وأصر على عبادته له أنه يعتقد استحقاقه للعبادة؛ وهذا هو الغالب على المشركين في حق
معبوداتهم، ولهذا تجدهم يجادلون عنها ويناضلون مجادلة من يعتقد أنها تستحق ما كانوا يفعلونه لها من العبادة. وقوله: في كل أمة أيضا، اعتراف منه بأن الإله يطلق على كل معبود يعتقد عابده أنه يستحق العبادة، كما هو حال أكثر المشركين. فاحفظ هذا الاعتراف منه، فسيأتي في كلامه ما يناقضه.
وأما قوله: ولهذا ذهب كثير من المتبحرين، إلى أنه عبارة عن المعبود بحق، وما قيل من أن كثيرا ما يطلق على الآلهة الباطلة، كما ورد في أكثر موارد القرآن، وهو يوجب عدم صحة المدعى، فمدفوع بأن إطلاقها عليها بالنظر، إلى اعتقاد عبادها، لا باعتبار نفس الأمر.
فالجواب: أن يقال: هذا يناقض ما تقدم له، من أن العابد إذا اعتقد استحقاق معبوده للعبادة، صار إلها؛ ولا يخفى مناقضة هذا له، فإنه أقر فيما تقدم قريبا أن المعبود يكون إلها، باعتقاد عابده استحقاقه للعبادة في نفس الأمر؛ وقد عرفت أن القيد ممنوع، فأخطأ في الموضعين، أي في هذا والذي قبله، وتناقض.
وأما قوله: ولهذا ذهب كثير من المتبحرين...... إلخ. فهذا القول مجهول قائله، لا يعرف أن أحدا من المسلمين قاله، والقائل به مجهول، لا يقبل له قول، وقد
أجمع العلماء قديما وحديثا، على أن المجهول لا يقبل له قول ولا خبر، ولا تقوم به حجة في شيء من أبواب العلم؛ فكيف إذا كان إلحادا، وطعنا في أصل الدين؟ وقد أجمع المحدثون على أن رواية المجهول لا تقبل كذلك؛ فسقط هذا القول من أصله وفسد. وقوله: كما ورد في أكثر موارد القرآن، فانظر إلى هذا الجهل العظيم، في محاولته رد ما ورد في أكثر موارد القرآن، بقول المجهولين الذين لا يعتد بقولهم عند أحد من طوائف العلماء؛ وموارد القرآن يحتج بها، لا يحتج عليها بقول أحد.
وهي الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، كما قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة النساء آية: 59] الآية؛ فما وافق القرآن سواء كان نصا أو ظاهرا قُبل، وما خالفه رُد على من قاله، كائنا من كان.
فقد ارتقى هذا مرتقى صعبا، بتهجينه القرآن، وإبطال دلالته عنه، بما زخرفه ونسبه إلى مجهولين؛ فسبحان الله! كيف يخفى هذا على أحد؟ فمن تدبر هذا المحل، تبين له ضلاله.
وأما قوله: فمدفوع بأن إطلاقه عليها، بالنظر إلى
اعتقاد عبادها،
فالجواب: أن هذا يبطله القرآن، كما قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة الأنعام آية: 74]، وقال:{أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [سورة الصافات آية: 86] ، فسماها الخليل آلهة، مع كونها باطلة.
وكونها باطلة لا ينافي تسميتها آلهة، كما قال موسى عليه الصلاة والسلام، لما قال له بنو إسرائيل:{اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ?قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً} [سورة الأعراف آية: 138-139-140] ، فسماه الكليم إلها، مع إنكاره عليهم ما طلبوا، وهو قد أقر فيما تقدم أنه يطلق على غير الإله الحق، فتناقض.
وأما الإلهية المنفية في كلمة الإخلاص، بدخول أداة النفي عليها، وهي "لا" النافية، فالمراد بنفيها إبطالها، والبراءة منها، والكفر بها، واعتزالها، وغير ذلك مما سيأتي ذكره، إن شاء الله تعالى، كما تسمى آلهه وأندادا، وأربابا وشركاء، وأولياء، لأن من عبدها فقد جعلها مألوهة له، وجعل لها شركة في العبادة التي هي حقه، ومثلها بالله في عبادته لها، واتخذها أربابا وأولياء.
وكل هذا في القرآن، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] . وقد تقدم كلام العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى، على هذه الآية العظيمة.
وقال تعالى: {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} [سورة القصص آية: 64]، وقال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31]، وقال:{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} [سورة الكهف آية: 102] ؛ وهذا في القرآن كثير.
فصارت تطلق عليها هذه الأوصاف، بجعل عابديها، واتخاذهم لها كذلك، بعبادتهم وإرادتهم، كما تقدم بيانه في هذه الآيات، كما في قوله تعالى:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} [سورة يس آية: 74]{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً} [سورة مريم آية: 81] ؛ فصارت آلهة بالفعل، والاتخاذ والإرادة، والقصد.
واستشهد العلماء على ذلك، بقول رؤبة بن العجاج:
لله در الغانيات المدَّه
…
سبّحن واسترجعن من تألُّه
أي: من تعبد; وتقدم كلام صاحب القاموس، على هذا المعنى، وقرأ ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما:{وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [سورة الأعراف آية: 127] أي: عبادتك قال: لأنه كان يعبد؛ وتقدم تقرير هذا في كلام العلماء، وهذا يبين أن كل معبود إله، حقا كان أو
باطلا، لأنه قد ألهه العابد بالعبادة. وتبين بهذا أن هذا الرجل يتكلم في هذه الأمور بلا علم، ويأتي بما يخالف القرآن واللغة، والسلف والعلماء، ويتناقض؛ ومن فرط جهله، قوله: وبهذا تعين فساد ما توهم، من أن الإله المنفي بلا- في الكلمة الطيبة- هو المطلق، غير المقيد بالحق أو الباطل؛ وهذا القول الذي أقر بفساده، هو الذي قاله آنفا، وبينا فساده في محله.
فتأمل ما في هذا الكلام من الفساد والضلال، فإنه جعل المنفي في كلمة الإخلاص، قابلا للوصفين، أي: الحق والباطل؛ فإنه لا شك أن الإله المنفي باطل، ولا بد من تقييده بالبطلان، لأن المنفي في كلمة الإخلاص، هي الطواغيت والأصنام، وكل ما عبد من دون الله؛ وكلها باطلة بلا ريب، كما قال لبيد في شعره، الذي سمعه منه النبي صلى الله عليه وسلم:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
…
.....................
ومن لم يعتقد هذا، فليس من الإسلام في شيء؛ وتقدم في الآيات: أن المستثنى في كلمة الإخلاص "بإلا" هو الله الحق، كما قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [سورة الحج آية: 62] . وهذا الرجل قد افترى على اللغة، وكذب عليها بقوله المتقدم: إن الإله هو المعبود، لا بقيد الحقيقة ولا البطلان؛ فهو دائما
يتناقض، يذكر قولا وينفيه، ثم يذكره بعده ويثبته ثم ينفيه.
ومن وقف على ما كتبته في هذا المعنى 1 عرف ذلك من حاله ومقاله؛ ومحط رحله هو قول الفلاسفة، كابن سينا، والفارابي، وابن العلقمي، القائلين بأن مدلول لا إله إلا الله نفيا وإثباتا فرد، هو: الوجود المطلق، أو قول الاتحادية: إنه الوجود بعينه.
وكلام هذا وعبارته، المتقدم منها والآتي، يدل على أنه يقول بقولهم، ويحمل معنى كلمة الإخلاص لا إله إلا الله، على إلحادهم؛ يعرف هذا من له فهم واطلاع على ما ذكره العلماء، في بيان حقيقة قول هاتين الطائفتين الكفريتين، كما سيأتي في كلام شيخ الإسلام، وابن القيم وغيرهما.
وهذا إعراب كلمة الإخلاص، الذي يعرفه أهل العربية وغيرهم من العلماء في إعرابها، فيقولون:"لا" نافية للجنس، واسمها "إله" مبني معها على الفتح، منفي بلا، والإله جنس، يتناول كل معبود، من بشر أو حجر، أو شجر أو مدر 2 أو غير ذلك، فهذا الجنس على تعدد أفراده منفي بلا.
1 انظر: صفحة 238 وما بعدها.
2 وهو: الطين.
وخبر "لا" محذوف على الصحيح، كما في الآيات، وتقدم ذكره، والاستثناء من الخبر، و"إلا" أداة الاستثناء، والله هو المستثنى بإلا، وهو الإله الحق وعبادته حق، وقوله الحق ; والصحيح: أنه مخرج من اسم لا وحكمه، كما قرره العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى.
والأدلة على هذا في القرآن، أكثر من أن تحصر، وقد صرحت بذلك الآيات المحكمات، كقوله تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} [سورة يونس آية: 104] ؛ وهذا هو المنفي بلا في كلمة الإخلاص، وقوله:{وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} [سورة يونس آية: 104] هو معنى إلا الله.
وهذا هو الذي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو أمته إليه، وما خالف هذا فهو تلبيس وتشبيه، وبهرج وباطل، نعوذ بالله من كل قول يؤخذ عن غير القرآن، وعن غير ما دان به أهل الإسلام والإيمان.
ثم إن هذا الرجل، انتهى أمره فيما كتبه، إلى أن زعم أن المنفي بلا كلي، وهذا الكلي منوي ذهنا، لا يوجد منه في الخارج إلا فرد، وذلك الفرد المنفي بلا هو المستثنى بعينه؛ وهذا صريح كلامه، وأتى فيه بثلاث عظائم، هي إلى الكفر أقرب منها إلى الإيمان:
الأولى: أنه زعم أن المنفي بلا كلي لا يوجد إلا ذهنا؛ فعنده أنها لم تنف طاغوتا، ولا وثنا، ولا صنما، ولا غيرها، مما يعبد من دون الله؛ فخالف أيضا أهل المنطق، فإن الكلي عندهم مقول على كثيرين، مختلفين بالعدد دون الحقيقة، ولم يقولوا: إنه منوي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد.
الثانية: أنه زعم أن ذلك الفرد الذي لا يوجد غيره، لما كان منفيا بلا صار ثابتا بإلا، وهو فرد واحد؛ فصار الإله عنده متصفا بالنفي والإثبات. والنفي والإثبات في فرد نقيضان، ومقتضاه أن هذا الفرد صار أولا باطلا لأنه منفي، ثم صار حقا لأنه استثني بإلا؛ فاجتمع فيه الوصفان، نعوذ بالله من هذا التهافت والإلحاد، والتناقض والعناد. وقد عرفت أن النحاة وأهل الكلام،، كالرازي وغيره ومن قبلهم، يعلمون أن المنفي غير المثبت، كما سنذكر عنهم اتفاقهم على ذلك، وأنه لا يحصل التوحيد إلا بذلك؛ وهذا أمر يعرفه كل أحد، حتى مشركو العرب ومن ضاهاهم، من الأمم أعداء الرسل، يعلمون أنها نفت الآلهة التي كانت تعبد من دون الله، وأثبتت إلهية الحق الذي أقروا أنه رب كل شيء ومليكه، وخالق كل شيء ورازق كل حي، وذلك هو الله العلي الأعلى، القاهر فوق عباده.
والثالثة: أنه صرح أن المنفي كلي، والفرد الموجود في الخارج جزئي، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا؛ وهذا هو حقيقة قول هذا، ولهذا مثله بقوله: لا شمس إلا الشمس.
ومن أشكل عليه فساد قول هذا وضلاله، فليتدبر القرآن، وليراجع كلام المفسرين في معنى كلمة الإخلاص، وما وضعت له، وما دلت عليه هذه الكلمة العظيمة؛ فقد قال تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 256] .
فدلت الآية على أنه لا يكون مستمسكا بلا إله إلا الله، إلا إذا كفر بالطاغوت، وهي العروة الوثقى، التي لا انفصام لها؛ ومن لم يعتقد هذا، فليس بمسلم، لأنه لم يتمسك بلا إله إلا اله. فتدبر واعتقد ما ينجيك من عذاب الله، وهو تحقيق معنى لا إله إلا الله نفيا وإثباتا.
وتدبر قوله تعالى عن خليله عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26-27-28] ؛ والكلمة هي: لا إله إلا الله، بإجماع المفسرين؛ فلا أحسن من هذا التفسير، ولا أبين منه، وليس للجنة طريق إلا بمعرفته وقبوله، واعتقاده
والعمل به. نسأل الله أن يوزعنا شكر ما أنعم به علينا من هذا التوحيد، والبصيرة فيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فتأمل كيف عبر الخليل عليه السلام، عن هذه الكلمة بمدلولها الذي وضعت له، من البراءة من عبادة كل معبود سوى الله، من وثن وصنم، وغير ذلك، وقصر العبادة على الله وحده بقوله:{إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 27] . ودلت على أن المنفي جنس، تحته أفراد موجودة في الخارج يعبدها المشركون، وليست آلهة إلا في حق من يعبدها ويتألهها، دون من يكفر بها، ويتبرأ منها، ويعاديها، ويعادي من عبدها.
إذا ثبت ذلك وعرفت أن الحق فيما دل عليه كتاب الله، وسنة رسوله، في بيان معنى هذه الكلمة، فاعلم: أن النحاة والمتكلمين، اختلفوا: هل تحتاج "لا" النافية لخبر مضمر، أم لا؟ فمنعه الرازي، والزمخشري، وأبو حيان، وقالوا: إنه يكفي في الدلالة على التوحيد، ما تضمنته من النفي والإثبات، بناء على أن أصلها مبتدأ وخبر، ثم قدم الخبر على المبتدأ، ثم دخل حرف النفي على الخبر المقدم، ودخل حرف إلا مستثنى على المبتدأ؛ فانتفت الإلهية عن كل ما سوى الله، من كل ما يعبد من دونه، من صنم، ووثن، وطاغوت، وغير ذلك.
هذا مضمون ما ذهب إليه هؤلاء، وغيرهم وافقهم في
المعنى، فاتفقوا أن المستثنى مخرج بإلا، ولولا الاستثناء لدخل؛ قال الكسائي هو مخرج من اسم لا، وقال الفراء مخرج من حكم اسمها وهو النفي؛ والصحيح: أنه مخرج منهما، كما قرره العلامة ابن القيم، رحمه الله.
إذا عرفت ذلك، فكثير من النحاة وغيرهم، يقولون: لا بد لها من خبر مضمر. قال بعض من صنف في إعراب هذه الكلمة، ومعناها- بعد كلام له سبق- أقول: قد عرفت أن المضمر على تقدير: أن يكون في الكلام إضمار، إما الخبر، أو المرفوع بإلا، المكتفى به عن الخبر.
[المعنى المقصود في لا إله إلا الله]
وقد عرفت أيضا أن المعنى المقصود في لا إله إلا الله، هو قصر الألوهية على الله تعالى؛ والعلامة الدواني قائل بهذا، كما يشير إليه في البحث الخامس من رسالته، وصرح به في شرحه للعقائد العضدية، حيث قال:
واعلم: أن التوحيد إما بحصر وجوب الوجود، أو بحصر الخالقية، أو بحصر العبودية، ثم قال: الأول كذا، والثاني كذا، وساق الكلام، وحقق المقام، أي في رده، إلى أن قال: والثالث، وهو: حصر العبودية، وهو أن لا يشرك بعبادة ربه أحدا.
فقد دلت عليه الدلائل السمعية، وانعقد عليه إجماع الأنبياء عليهم السلام؛ وكلهم دعوا المكلفين أولا إلى هذا
التوحيد، ونهوهم عن الإشراك في العبادة، قال تعالى: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [سورة الصافات آية: 95-96] انتهى.
ثم قال الناقل: ومصداق إجماع الأنبياء، قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] بعد قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [سورة الأنبياء آية: 24] .
وقوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [سورة النحل آية: 2]، وقوله تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36]، وقال تعالى:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 45] إلى أن قال:
فإثبات الألوهية له تعالى على وجه الانحصار، فرع على أصل ثبوتها له تعالى، وأصل ثبوتها له تعالى، فرع على ثبوته تعالى في نفسه؛ بل أصل ثبوت الألوهية له تعالى أيضا على ما يقتضيه دلالة هذا الكلام لغة، أمر مسلم الثبوت مفروغ منه، لا نزاع فيه.
وإنما النّزاع أي مع المشركين في قصر الألوهية عليه تعالى؛ فالموحد يخصها به، فيقول: لا إله إلا الله، والمشرك ينكر
ذلك استكبارا، فيقول:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5] . قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 35-36]، إلى أن قال:
فإذا تمهد هذا، فنقول: لما كان في لا إله إلا الله نفي وإثبات، فهي في الحقيقة جملتان اسميتان، لأن كلا من النفي والإثبات يقتضي طرفين ينعقد الحكم بينهما؛ فطرف الإثبات هو الاسم الجليل، مع صحة الإيجاب من إله، فصح أن يقصر بالأولى استمرار الثبوت الممتنع الانفكاك، وبالثانية استمرار النفي، الممتنع الانفكاك؛ ومقام الدعوة إلى كلمة التوحيد، قرينة على أن المعنى المراد من لا إله إلا الله نفيا وإثباتا، هو هذا الاستمرار الممتنع الانفكاك، ضرورة أن الشارع لا يقول إلا صدقا، واستمرار ثبوت الإلهية له تعالى، على سبيل امتناع الانفكاك، واستمرار انتفاء الألوهية عن غيره تعالى، هو المطابق لما في نفس الأمر، فهو المقصود للشارع، فلم يبق إلا أن أهل اللسان هل فهموا ذلك منه، حتى يكون دلالته لغوية أم لا؟
فنقول: إنهم قد فهموا منه ذلك، بدليل قوله تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 35-36] ؛ ووجه دلالته على ما ذكرناه، هو أن الصادق أخبر بأن إنكارهم لما
يلزم من الاعتراف بلا إله إلا الله- من تركهم آلهتهم، واختصاصه تعالى بالألوهية- إنكار بمحض استكبار لا لتمسك عقلي، انتهى ما نقلته، وهو تقرير حسي، موافق لما دل عليه الكتاب والسنة، كما عرفت من صريح الآيات، والأحاديث.
لكن قوله: وأصل ثبوتها له تعالى، فرع على ثبوته تعالى في نفسه، أمر فطري مسلم حتى عند أعداء الرسل؛ فإنهم يعرفونه ويعبدونه، لكن عبدوا معه غيره، فدلالتها على وجوده تعالى دلالة التزام.
فيلزم من اختصاصه بالإلهية، وجوده وكماله في ذاته، وصفاته ومباينته للمخلوقين، وأنه أحد صمد، لا كفء له، ولا مثل له، ولا شريك له، ولا ظهير له، ولا ند له تعالى وتقدس، كما قال تعالى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 1-2-3-4]، وقال تعالى:{يْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] ، إلى أمثال هذه الآيات.
رجعنا إلى تقرير معنى هذه الكلمة العظيمة، قال الله تعالى:{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [سورة يونس آية: 32] ؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى، في هذه الآية:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [سورة يونس آية: 32] : فالآية إنما سيقت فيمن يعبد غير الله، فما عبد إلا الضلال المحض، والباطل
البحت، انتهى.
وقد فسر العلماء من المفسرين وغيرهم، سلفا وخلفا، معنى قوله تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة البقرة آية: 256] ، أن الطاغوت هو الشيطان، وما زينه من عبادة الأوثان، كما تقدم؛ ولا ريب أن الكفر بالشيطان، يحصل بالبراءة منه، ومعصيته في كل ما أمر به ونهى عنه- وكان موجودا- أعاذنا الله من عبادته؛ وكذلك الأوثان يكفر بها المؤمنون، ويتبرؤون من عبادتها مع وجودها، ومن عبادة المشركين لها.
والمقصود: أن نفي الأوثان، الذي دلت عليه كلمة الإخلاص، يحصل بتركها، والرغبة عنها، والبراءة منها، والكفر بها وبمن يعبدها، واعتزالها واعتزال عابديها، وبغضها وعداوتها، وكل هذا في القرآن مبينا؛ وقد انتفت عبادة كل ما عبد من دون الله، مما هو موجود في الخارج، مما يعبده المشركون سلفا وخلفا، بهذه الكلمة، كما تقدم.
وقد ذكر تعالى عن خليله عليه السلام، أنه قال:{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [سورة الشعراء آية: 77-78] الآيات، وبالله التوفيق.
وصح عن أهل السير والمغازي، وغيرهم من العلماء: أن الله تعالى لما أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنه رسول الله، وكان حول الكعبة ثلاثمائة
وستون صنما، تعبدها قريش، وكانوا يعبدون اللات والعزى ومناة، وهي أكبر الطواغيت، التي يعبدها أهل مكة والطائف ومن حولهم، فاستجاب للنبي صلى الله عليه وسلم من استجاب من السابقين الأولين، وهاجر من هاجر منهم إلى الحبشة، وكل من آمن منهم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، رغبة عن الشرك وعبادة الأوثان، وكفرا بها، وبراءة منها، ومسبة لها؛ فصح إسلامهم، وإيمانهم بذلك، مع كونها موجودة يعبدها من يعبدها، ممن لم يرغب عنها، وعن عبادتها.
فبهذا يتبين أنه ليس المراد من نفي الأوثان والأصنام وغيرها، في كلمة الإخلاص، زوال ماهية الأصنام، ونفي وجودها؛ وإنما المراد إنكار عبادتها، والكفر بها، وعداوتها، كما تقدم بيانه. وكل من تبرأ منها، ورغب عنها، فقد نفاها بقول لا إله إلا الله، وأثبت الألوهية لله تعالى، دون كل ما يعبد من دونه.
فلما تمكن صلى الله عليه وسلم من إزالة هذه الأصنام، كسرها، وبعث من يزيل ما بعد عنه منها، فخلت الجزيرة من أعيانها؛ وهذا معنى قوله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] .
وفيه الرد على الفلاسفة، وأهل الاتحاد، القائلين بأن المنفي كلي، يوجد منه ذهنا، ولا يوجد منه في الخارج إلا
فرد، بناء على ما اعتقدوه في الله تعالى، من الكفر به، وبكتابه وبرسوله؛ وقد عرفت أن المنفي بها أفرادا متعددة من الأصنام والأنداد، والشركاء والأولياء، من حين حدث الشرك بعبادة الأصنام في قوم نوح، إلى أن تقوم الساعة.
فيجب بلا إله إلا الله البراءة من كل ما يعبده المشركون من دون الله؛ فلا بد من نفي هذا كله، بالبراءة من عبادته، ومن عابديه. فمن تبرأ من عبادتها كلها، وأنكرها وكفر بها، فقد قال لا إله إلا الله، وأخلص العبادة لله وحده، وصار بهذا التوحيد مسلما مؤمنا.
وتأمل ما ذكره المفسرون، في قول الله تعالى:{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 4-5] .
قال أبو جعفر ابن جرير، رحمه الله تعالى: أنبأنا أبو كريب، وابن وكيع، قالا: حدثنا أبو أسامة، أنبأنا الأعمش، حدثنا عباد عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما مرض أبو طالب، دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل، فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا، ويفعل ويفعل، ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته.
فبعث إليه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت، وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل، قال: فخشي أبو جهل إن جلس
النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنب أبي طالب، أن يكون أرق عليه، فوثب فجلس في ذلك المجلس، ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا قرب عمه، فجلس عند الباب.
فقال له أبو طالب: أي ابن أخي، ما بال قومك يشكونك؟ يزعمون أنك تشتم آلهتهم، وتقول وتقول؟ قال: وأكثروا عليه القول، وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"?يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية" ففزعوا لكلمته، ولقوله، فقال القوم: كلمة واحدة، نعم وأبيك عشرا.
فقالوا: وما هي؟ وقال أبو طالب: وأي كلمة هي يا ابن أخي؟ قال: "?لا إله إلا الله" فقاموا فزعين ينفضون التراب عنهم، ويقولون:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5] إلى قوله: {لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [سورة ص آية: 8] : لفظ أبي كريب.
وهكذا رواه الإمام أحمد والنسائي، من حديث محمد بن عبد الله بن نمير، كلاهما عن أبي أسامة عن الأعمش، عن عباد منسوبا به نحوه، ورواه الترمذي والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن جرير، كلهم من تفاسيرهم، من حديث سفيان الثوري، عن الأعمش، عن يحيى بن عمارة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وقال الترمذي: حسن.
ففي هذا من البيان والعلم أن لا إله إلا الله، تبطل
عبادة كل ما يعبده المشركون من دون الله، وتنفي ما كان بينهم من معبوداتهم الموجودة في الخارج بأعيانها. وفيه أن المشركين عرفوا معناها الذي وضعت له، ودلت عليه، من إبطال عبادة كل معبود سوى الله.
فإذا كان معناها هذا يعرفه كل أحد، حتى المشركون يعرفون ما نفته، وما أثبتته، فإذا جاء ملحد لا يعرف معناها من كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا لغة، ولا عرف، ولا عرف من معناها ما عرفه المشركون، وقال: إن لا إله إلا الله لم تنف إلا كليا منويا لا يوجد منه في الخارج إلا فرد، وهذا الفرد المنفي هو المثبت، فأين هذا من معناها الذي يعرفه المسلمون، وبه يدينون، ويعرفه المشركون أيضا، ويشمئزون منه وينفرون؟ كما قال تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 35-36] . فالمشركون عرفوا وأنكروا مدلولها، وهذا الملحد أنكر مدلولها، مع الجهل بمعناها، الذي يعرفه كل أحد، حتى أعداء الرسل القائلون:{أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} [سورة الأعراف آية: 70] .
فسبحان الله ما أبين ضلال هذا الملحد عند أهل البصيرة من أهل التوحيد، وعند أهل الفطر والعقول قاطبة! فكل ذي عقل ينكر هذا القول، ويعرف بطلانه.
ونذكر وجوها، تبين بطلان هذا القول مع ما تقدم.
الأول: أن هذا يناقض ما شهد الله به، وشهدت به ملائكته، وأولو العلم من عباده، قال تعالى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة آل عمران آية: 18] ؛ فلم يبق معبود يعبده الأولون والآخرون من دون الله، إلا بطلت عبادته، وإلهيته، بشهادة الله عز وجل وملائكته، وأولي العلم قاطبة. وأن المعبودات التي بطلت بشهادة الله، ليست كليا لا يوجد منه في الخارج إلا فرد، كما يقوله الملحد، بل كل ما يوجد في الأمم، وفي العرب من الأوثان، والأصنام التي لا تحصى كثرة، كأصنام قوم نوح وغيرها. ومن لم يعتقد أن هذا هو الذي شهد الله به، وملائكته، وأنبياؤه، بنفي، عن هذه الأصنام، وكل ما عبد من دون الله، فما قال لا إله إلا الله، وما عرف من الإسلام ما يعصم دمه وماله، وصار عما شهد الله به في معزل.
الوجه الثاني: أن هذا القول ينافي ما بينه الله تعالى في كتابه، من ملة الخليلين، لقوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [سورة الزخرف آية: 26] الآية، وقد تقدمت. وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} [سورة العنكبوت آية: 16-17] .
فذكرها عليه السلام بصيغة الجمع؛ أيجوز في عقل عاقل أن ما ذكره تعالى عن خليله، من إنكاره لعبادة هذه الأوثان، وإخباره أنهم لا يملكون لعابديهم رزقا، أنها لا توجد في الخارج؟ ولا ريب أنه لا يجحد هذا إلا مكابر معاند، مخالف لما جاءت به الرسل من التوحيد. وقوله تعالى عن خليله:{وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [سورة العنكبوت آية: 25] الآية، أيشك من له عقل أن تلك الأوثان موجودة عند عابديها، يباشرونها بالعبادة؟ وهل يعرف أحد من هذا السياق، إلا أنها موجودة معبودة، منتفية بلا إله إلا الله. وكذلك قول الله تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة الأنعام آية: 74] ، ولا خلاف أن الصنم شيء مصور، على صورة شخص يعبد من دون الله، وذلك لا يكون إلا موجودا في الخارج؛ فسماه الخليل أوثانا، وآلهة، وأنكرها وتبرأ منها، وممن عبدها.
الوجه الثالث: أن الله بعث محمدا ينهى قريشا والعرب وغيرهم من المشركين، عن أن يعبدوا مع الله غيره،
كاللات والعزى ومناة، والأصنام التي كانت حول الكعبة كما تقدم. وقد قال تعالى:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [سورة النجم آية: 19] إلى قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [سورة النجم آية: 23] ؛ أيشك أحد بعد هذا أنها موجودة تعبد من دون الله؟ بل لا يشك مسلم، ولا مشرك في وجودها، وأن قريشا وغيرهم يعبدونها.
الوجه الرابع: أن الله تعالى، قال:{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [سورة نوح آية: 1-2-3] ، فأجابوا ردا عليه، فيما دعاهم إليه:{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [سورة نوح آية: 23] ؛ ومعلوم عند العلماء قاطبة، بل وعند العامة، أنها أسماء رجال صالحين، صورها قومهم أصناما على صورهم، وسموها بأسمائهم، فآل بهم الأمر إلى أن عبدوها؛ وهي موجودة في الخارج، لا يشك في وجودها أحد، ولا ريب أنها منتفية بكلمة الإخلاص، لا إله إلا الله. وهذه الأصنام استخرجها عمرو بن لحي الخزاعي، الكاهن، لما كان واليا على مكة قبل قريش، وفرقها في العرب؛ فعبدوها كما عبدها قوم نوح، كما ذكره البخاري في صحيحه.
الوجه الخامس: ما ذكره الله عن قوم هود، لما دعاهم هود عليه السلام إلى أن يعبدوا الله وحده ويتقوه، قال لهم:{أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [سورة الأعراف آية: 71]، فأجابوه بقولهم:{أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [سورة الأعراف آية: 70]، فظهر: أن لهم ولآبائهم، معبودات في الخارج، يعبدونها من دون الله، ودعوة الرسل تبطل عبادتها. وتقدم ما ذكره الله تعالى في سورة هود، من قولهم لهود عليه السلام:{إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [سورة هود آية: 54] ، وهذا لا يقال إلا على آلهة موجودة تعبد. ودلت هذه الآيات على أن الإلهية هي العبادة، وأن المشركين وضعوها فيمن لا يستحقها من صنم ووثن وطاغوت وغير ذلك.
الوجه السادس: قول يوسف عليه السلام: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [سورة يوسف آية: 39-40] ؛ فسبحان الله! أين ذهب عقل الفيلسوف، حين اعتقد أن المنفي كلي لا يوجد إلا ذهنا؟! ومعلوم: أنه لا يكون له أعداد على هذا الاعتقاد الباطل، وتبين أن كلمة الإخلاص نفت أربابا متفرقين، وضعت عليها أسماء ما أنزل الله بها من
سلطان، كما كان أهل الأوثان يسمون آلهتهم.
وفيما ذكرناه في هذه الوجوه كفاية، فلو ذكرنا ما يبطل قوله من الوجوه، لبلغ مائة أو أكثر.
وقد قدمنا عن أئمة اللغة في معنى" الإله" موافقتهم في لغتهم لما دل عليه الكتاب والسنة، من معنى كلمة الإخلاص، وما دلت عليه مطابقة وتضمنا والتزاما؛ وكذلك النحاة، وجميع العلماء من المفسرين، وغيرهم، أجمعوا قاطبة على أن الإله هو المعبود، وأن العبادة حق لله، لا يجوز أن يصرف منها شيء لغير الله، كائنا ما كان، وأن المنفي في كلمة الإخلاص: كل ما كان يعبد من دون الله، من بشر أو ملك أو شجر أو حجر أو غير ذلك.
ولولا قصد الاختصار، لبسطت القول في هذا المعنى العظيم، الذي لا يصلح لأحد دين، إلا إذا عرفه على الحقيقة، وقبل ما دل عليه الكتاب والسنة، من بيان توحيد الله، وقصر العبادة عليه دون كل ما سواه.
واعلم: أني لما كتبت قبل هذا، في رد قول هذا الملحد: أن المنفي بلا إله إلا الله كلي منوي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد، وهو المستثنى، فأجبت بما حاصله: إذا كانت لا إله إلا الله لم تنف إلا كليا منويا، فعلى هذا القول الباطل: لم تنف لا إله إلا الله صنما، ولا وثنا، ولا طاغوتا، وصار النفي منصبا على الفرد، فهو المنفي، وهو المستثنى؛ وتناقض هذا،
لا يخفى على من له عقل وفهم.
وقد عرفت أن هذه دعوى منه مخالفة، لما بعث الله به رسله من توحيده؛ وعلى قول هذا: لم يكن للا إله إلا الله مدخل في الكفر بالطاغوت، والبراءة من الأوثان، التي صرح القرآن بنفيها، بكلمة الإخلاص لا إله إلا الله، كما في آية البقرة وغيرها؛ وقد تقدم بيان ذلك.
وبهذا يتبين لمن له فهم: أن قول هذا الرجل، من أبطل الباطل، وأبين الضلال، وأمحل المحال؛ والمسلم الموحد يعلم من الكتاب والسنة، ومن قول أهل العقول الصحيحة، والفطر السليمة أن لا إله إلا الله لها موضوع عظيم، ومدلولها هو حقيقة الإسلام، والإيمان.
فإنها إنما وضعت للرغبة عن عبادة كل ما يعبد من دون الله، والبراءة منه والكفر به، وإنكار ذلك وبغضه، وعداوته، وعداوة من اتخذ الشرك في العبادة دينا؛ وهذا هو أظهر ما في القرآن، وأبينه إيضاحا وتقريرا.
وجواب ثان: وهو قولي: كيف يجوز أن يكون الفرد الذي وجد من الكلي المنفي، داخلا في المنفي بإلا، خارجا بالاستثناء، فيكون متصفا بالنفي والإثبات، وأحدهما نقيض الآخر، وأن لا إله إلا الله، لا تدل إلا على هذا الفرد خاصة، نفيا وإثباتا؟ هذا لا يقبله إلا من كان عقلة فاسدا، لا يعرف حقا من باطل، ولا هدى من ضلال.
كيف يصح استثناء فرد منفي، ويكون هو المستثنى؟ فأين المستثنى، والمستثنى منه الذي يعرفه العرب من لغتهم، المستعملة في الكتاب والسنة، وأقوال سلف الأمة وأئمتها، وأهل العربية وغيرهم، ويعرفه أهل اللغات؟ فما أبعد ضلال هذا وأجهله، وأبعده عن العلم وأهله!
ثم إن هذا الرجل سمع بما كتبته على قوله، من الرد والإبطال، فأجاب بقوله: قلنا إنما يلزم هذا، لو أريد بالمستثنى منه فرد خاص جزئي؛ وإنما أريد منه المفهوم العام المتناول لأفراد المعبود بحق، سواء كانت في الذهن، أو في الخارج.
فالجواب: أنه عدل عن قوله الأول، إلى ما هو أفظع منه وأشنع، فزعم أن المستثنى منه، إنما أريد منه المفهوم العام، المتناول لأفراد المعبود بحق، فصرح بأن المستثنى منه، إنما أريد منه المفهوم العام، المنفي مرادا؛ فصار المفهوم العام المنفي له أفراد; ومعلوم: أن الأفراد لا توجد في الذهن، وإنما توجد في الخارج؛ فتراه يحوم حول الباطل ويتهافت.
وأعظم من هذا، قوله: إن المفهوم العام المنفي، متناول لأفراد المعبود بحق؛ فجعل للمعبود بحق أفرادا منفية بلا، وكلها حق، فكيف يجوز أن ينفي ما هو حق؟ وكيف تكون الأفراد كلها حقا؟! فتدبر يتضح لك الحال؛ فهذه فنون من الضلال والإلحاد، يبديها تارة، ثم يأتي بما هو أعظم
منها، وأبين في الضلال والمحال.
والمنفي بلا في كلمة الإخلاص، لا يكون حقا؛ بل هو الباطل، كما دل عليه الكتاب والسنة، وما عليه المسلمون. و"الحق" في كلمة الإخلاص هو المستثنى، وهو الله تعالى:{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [سورة الفرقان آية: 59] ، لا شريك له في إلهيته، ولا في ربوبيته، ولا في أفعاله، ولا مثل له، ولا كفء له، ولا ند له، وكل معبود سواه فباطل؛ ومن لم يعتقد هذا فليس بمسلم.
ولا يخفى أنه يلزم على قول هذا، أن للكلي أفرادا معبودة، فإذا كانت كلها معبودة بحق، جاز أن تقصد بالعبادة؛ وهذا دين المشركين، الذي بعث الله رسله بإنكاره وإبطاله، كما قال تعالى:{وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [سورة النحل آية: 51]، وقال تعالى:{وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [سورة القصص آية: 88] ؛ والآيات في المعنى كثيرة جدا. فمن عبد مع الله غيره، فقد ألحد وأشرك; وكل هذه العبارات التي ذكرها هذا في ورقته، ينكرها كل من له عقل.
وأصل هذا الرجل الذي اعتمده وعبر عنه، هو بعينه الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله، عن أفلاطون الفيلسوف وأتباعه، بناء منهم على كفرهم؛ فإنهم يقولون: إن الله هو
الوجود المطلق. ومعلوم أن هذا لا يكون له وجود متميز بنفسه، مباين للمخلوقات؛ إذ الكلي كالجنس، والفصل، والخاص، والعرض العام لا يوجد في الخارج منفصلا عن الأعيان الموجودة؛ وهذا معلوم بالضرورة، متفق عليه بين العقلاء.
قال شيخ الإسلام: وإنما يحكى الخلاف في ذلك، عن شيعة أفلاطون ونحوه، الذين يقولون بإثبات المثل الأفلاطونية، وهي الكليات المجردة عن الأعيان خارج الذهن. قلت: وهذا قول هذا الرجل في ورقته، تبع فيه أفلاطون، وهو قوله: إن المنفي في لا إله إلا الله كلي، لا يوجد منه في الخارج إلا فرد واحد، وهو المستثنى؛ وقد عرفت بطلان هذا القول من الكتاب والسنة، وأن العلماء أنكروا هذا القول غاية الإنكار، كما سيأتي في كلام شيخ الإسلام؛ لأن المنفي بلا إله إلا الله، كل ما يعبد من دون الله، وهي أجناس موجودة في الخارج، كما قال الخليل عليه السلام:{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [سورة الزخرف آية: 26-27] . وقال تعالى عن أهل الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16]، ولا ريب أن المنفي: ما كان أهل الشرك يباشرونه بعباداتهم، وهي أنداد موجودة في الخارج.
[قول شيخ الإسلام في رده على أفلاطون وأتباعه]
قال شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى- في رده قول أفلاطون ومن تبعه-: والمعلم الأول أرسطو وأتباعه، متفقون على بطلان قول هؤلاء; فلو ظنوا أن البارئ هو الوجود المطلق بهذا الاعتبار، لوقعوا فيما منه فروا؛ فإن هذا يستلزم مباينته لجميع المخلوقات، وانفصاله عنها، مع أن عاقلا لا يقول: إن الكليات هي المبدعة لمعيناتها.
بل هم يقولون: إن العلم بالقضية المعينة المطلوب إثباتها- وهو علو الله على العالم- معلوم بالضرورة والفطرة، ويعلمون بطلان نقيضها بالفطرة والضرورة، ويعلمون أنه إذا لم يكن مباينا كان داخلا محايدا؛ فيلزم الحلول والاتحاد. وذكر رحمه الله تعالى، في موضع آخر أن قدماء الفلاسفة خالفوا أفلاطون وأتباعه، في الكلي والجزئي، لأنه قول غير معقول. قلت: وبهذا يعلم أن قول هذا الرجل أن المنفي كلي لا يوجد في الخارج، قول غير معقول.
وذكر شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى أن الطوائف من المسلمين وغيرهم خالفوا هذا القول، وذكروا أنه لا يعقل، وذكر رحمه الله تعالى أن الفلاسفة وأهل الاتحاد لم يفرقوا بين القديم والحديث، ولا بين المأمور والمحظور، وقد وقع كثير من الصوفية في هذا الضلال؛ وكلتا الطائفتين ضلوا، وأضلوا عن سواء السبيل.
وقال رحمه الله تعالى: إن ابن سينا ومن تبعه، أخذوا أسماء جاء بها الشرع، ووضعوا لها مسميات مخالفة لمسميات صاحب الشرع، فأخذوا مخ الفلسفة، وكسوه ثوب الشريعة؛ وهذا كلفظ: الملك، والملكوت، والجبروت، واللوح المحفوظ كما يوجد في كلام أبي حامد -يعني الغزالي- ونحوه، من أصول هؤلاء الفلاسفة الملاحدة، الذين يحرفون كلام الله ورسوله. قلت: ومن ذلك ما ذكره العلامة ابن القيم عنهم، من أنهم يقولون: عناية إلهية، وتحت هذه الكلمة نفي القدر، والحكمة.
ثم إن هذا في ورقته، صرح بأن معنى لا إله إلا الله، مثل لا شمس إلا الشمس، استثناء للشيء من نفسه; وهذا قول في غاية الضلال والجهل، باطل بأدلة الكتاب والسنة، لا يقوله أحد من الأولين والآخرين، ولا في لغة أحد; وليس في المعقول والمنقول إلا رده وإبطاله؛ ومن لم يعرف بطلان هذا القول، فلا حيلة فيه.
وتأمل قول هذا أيضا: وخلاصة المعنى: سلب مفهوم الإله لما سوى الله، وإيجابه له وانحصاره فيه، وصرح بهذا المراد بإلا الله. قلت: فمن يسمع كلامه هذا ظن أنه حق، وقد بناه على ما مثل به: لا شمس إلا الشمس. وحقيقة هذا القول أن الإله
واحد، يبينه قوله: سلب مفهوم الإله على ما تقدم له من أن المنفى كلي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد.
وقد عرفت مما قدمناه أن توحيد الأنبياء والمرسلين، البراءة من عبادة الأصنام، والأوثان، والطواغيت، وكلها موجودة في الخارج بأعيانها، كما قال تعالى عن قوم نوح:{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [سورة نوح آية: 23] ؛ فتبين أن نوحا عليه السلام دعا قومه إلى ترك عبادة هذه الأصنام، والبراءة منها، والكفر بها.
وكذلك هود عليه السلام دعا قومه إلى عبادة الله وحده، وترك ما كان يعبده آباؤهم، كما أخبر تعالى عنهم، أنهم قالوا له:{أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [سورة الأعراف آية: 70] ؛ ومعلوم أن آباءهم لم يكونوا يعبدون كليا ذهنيا لا يوجد إلا في الذهن، بل يعبدون أشخاصا موجودة في الخارج، وقد قالوا لهود عليه السلام:{إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [سورة هود آية: 54] . وقد تقدم من الأدلة ما يدل على أن المنفي والمنهي عنه، هو: عبادة الأصنام، والأوثان، والطواغيت التي تعبد من دون الله، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36]، {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} [سورة الزمر آية: 17] فلا
يشك مسلم، بل كل من له عقل أن الطواغيت التي يعبدها المشركون، موجودة في الخارج؛ والقرآن من أوله إلى آخره يدل على هذا.
فيا من لا يعرف من كلمة الإخلاص، ما عرفه عوام المسلمين، ارجع إلى نفسك، وتأمل ما وقعت فيه! أما علمت أن لا النافية إنما وضعت لغة لنفي الجنس تنصيصا؟ والجنس الذي وضعت له، لا بد له من أشخاص متعددة الخارج، قديمة، وحديثة، يعبدها كل مشرك، وليست كليا لا يوجد إلا في الذهن.
فإن هذه الدعوى الباطلة لم يقل بها مسلم، في معنى كلمة الإخلاص؛ حتى المشركون في لغاتهم، لا يعرفون أن هذا معناها، ولا أنها سلبت مفهوم الإله؛ بل عرفوا كلهم أن من دعاهم إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، فإنما أراد منهم ترك ما كانوا يعبدونه من أصنامهم وأوثانهم وطواغيتهم التي كانت عندهم، يعبدونها من دون الله.
أما قريش والعرب فأخبر الله تعالى عنهم، أنهم لما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:" قولوا لا إله إلا الله " قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [سورة ص آية: 5] إلى قوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [سورة ص آية: 6] . وآلهتهم: اللات، والعزى، ومناة، التي كانت حول الكعبة؛ فهذا هو المراد من هذه الكلمة من لغتهم، لا يعرفون
غير ذلك. فمعنى النفي في هذه الكلمة: ترك عبادة الأوثان والبراءة منها، والكفر بها وعداوتها، وعداوة من عبدها.
وقد كان العرب، يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك؛ والشريك إنما هو أوثانهم، أشركوها مع الله في العبادة، واتخذوها أندادا، كما قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] ؛ ومفهوم الإله الذي لا يوجد إلا ذهنا، لا يوصف بالاتخاذ ولا بالمحبة، بل ولا له ثبوت.
وتأمل ما فهمه أعداء الرسل، لما دعتهم الرسل إلى أن يعبدوا الله وحده، قال تعالى عن قوم هود:{إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [سورة هود آية: 54]، وقالوا:{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا} [سورة الأحقاف آية: 22] ؛ عرفوا أنه دعاهم إلى ترك عبادتها، والبراءة منها، قال تعالى:{فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة هود آية: 101] . والمفهوم الكلي الذي لا يوجد في الخارج، لا يوصف بهذه الصفات، ولا يجمع بهذا الجمع ; بل ولا يتصور أن يدعى من دون الله.
وقال تعالى عن قوم صالح: {يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [سورة هود آية: 62] ، عرفوا أنه أراد منهم، ونهاهم أن يعبدوا ما يعبد آباؤهم من الأوثان، وقال تعالى عن قوم شعيب:{أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [سورة هود آية: 87] ، عرفوا في لغاتهم أنه نهاهم
عن عبادة ما كان يعبد آباؤهم، من الأوثان الموجودة في الخارج.
وتأمل، قول الله تعالى:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً} [سورة مريم آية: 81]، وقال:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [سورة الأنبياء آية: 24]، وقال:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} [سورة الزمر آية: 43]، وقال:{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً} [سورة الكهف آية: 102]، وقال:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [سورة الشورى آية: 6] . ولا شك عند من له أدنى مسكة من عقل أن الذي اتخذه المشركون يعبدونه من دون الله، أشخاصا متعددة في القرآن من هذا النمط، لا تحصى.
والمقصود: أن الرسل من أولهم إلى آخرهم، دعوا أممهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما كانوا يعبدونه من دونه، والكفر به والبراءة منه، كما أفصح عن ذلك خليل الرحمن إبراهيم، كما قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة الأنعام آية: 74]، وقال:{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} [سورة العنكبوت آية: 17]، وقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ
مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] .
فالنهي عن عبادة الأصنام والطواغيت، والبراءة منها والكفر بها، وإخلاص العبادة لله وحده، هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأفصح القرآن عنه، وجرى يسبب جحوده على الأمم والمشركين ما جرى من العذاب، والذهاب والعقاب؛ فأين هذا من سلب مفهوم ذهني، لا يفيد شركا ولا براءة، ولا عداوة؟!
فسبحان من طبع على قلوب من شاء من عباده، عن فهم ما بعث الله به رسله، من توحيده في العبادة وصرفهم عن فهم الأدلة التي أظهر فيها لعباده مراده، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
وبهذا يتبين فساد ما لبس به هذا المفتري في معنى كلمة التوحيد، وأنه مصادم لما في كتاب الله، من تفسير هذه الكلمة العظيمة، ومناقض لما بعث الله به رسله، من إخلاص العبادة له، وترك عبادة ما سواه، والبراءة منها. وهذا أظهر شيء في القرآن، وأبينه؛ لا يمتري فيه مسلم.
ونشير إلى ما ذكره بعض العلماء، في أصل هذه المقالة وبطلانها: قال إبراهيم بن سعد الكوراني، في "مصنفه" في
بيان معنى لا إله إلا الله وإعرابها، وأنها دلت على توحيد الإلهية، مطابقة وتضمنا، وما دلت عليه التزاما، وذكر كلاما في تقرير هذا المعنى، وذكر أن بعضهم اشترط في "لا" النافية للجنس هذه الكلمة الوحدة الذهنية، فجعلوا الجنس المنفي واحدا، لا يوجد إلا ذهنا.
قال: وبما ذكرناه، يتضح أنه لا يصح أن يقال: نأخذ الجنس بشرط الوحدة الذهنية، فتكون القضية طبيعية. أما أولا: فالمراد بالجنس - بلا شرط - الصالح للصدق على الأفراد، كما هو الشأن في موضوع القضايا. وأما ثانيا: فلأن الكلام يخرج عن إفادة التوحيد بالكلية، لأن حاصله حينئذ هذا الجنس المأخوذ بشرط الوحدة الذهنية، المغايرة لله تعالى، منتف؛ وليس هذا من التوحيد في شيء، ولا شم من رائحة الدلالة عليه. ويقال ثالثا: إن أريد أن هذا الجنس منتف في الذهن، فهو قطعي البطلان ; إذ كل من ينطق بهذا التوحيد، مستحضرا لمعناه، قد تحقق هذا الجنس في ذهنه، فكيف يصلح نفيه؟ وعلى كل حال، فلا يصح تفسيرا لهذه الكلمة، لأن المراد من لا إله إلا الله، هو الدلالة على توحيد الألوهية؛ وهذا معلوم بالضرورة، وعلى تفسيرهم يكون بينه وبين الدلالة على التوحيد بعد المشرقين.
قلت: وهذا الذي ذكره إبراهيم بن سعد، من
اشتراطهم: أن يكون الجنس فردا، لا يؤخذ إلا ذهنا، هو الذي صرح به هذا الملحد في ورقته، وهو أن "لا" في كلمة التوحيد سلبت مفهوم الإله الذي لا يوجد إلا ذهنا؛ وقد عرفت بعد هذا، عن التوحيد الذي دلت عليه كلمة الإخلاص.
ولقد صرفوا هذه الكلمة العظيمة، عما وضعت له وأريد بها لغة وشرعا، وعقلا وفطرة، فإنها وضعت للبراءة من كل ما يعبد من دون الله، وإبطال عبادته والكفر به؛ وقد عرف هذا كل أحد، حتى مشركو الأمم، ومشركو العرب، كما تقدم بيانه.
وأما قوله: وخلاصة المعنى: سلب مفهوم الإله لما سوى الله، وإيجابه له، وانحصاره فيه، وصرح بهذا المراد بإلا الله،
فمراده بقوله: وإيجابه له، وانحصاره فيه: هذا هو توحيد الفلاسفة، وأهل الوحدة؛ فإن الله عندهم، مسماه: الكون المطلق، فكل ما كان خارجا عن الذهن من الأشخاص، فقد دخل في مسمى الله؛ فكل ما في الكون من خبيث، وطيب فهو الله، كما ذكره شيخ الإسلام، وابن القيم، وغيرهما عنهم.
فواجب الوجود، والممكن، كله داخل في هذا المسمى
عندهم؛ وقد صرحوا بهذا في كتبهم، فلم يفرقوا بين الخالق والمخلوق. وقد قدمنا التنبيه في كلام شيخ الإسلام، وابن القيم رحمهما الله تعالى، كما ذكر إبراهيم بن سعد ذلك عنهم، وكما قال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى:
يا أمة معبودها موطوؤها أين الإله وثغرة الطعان؟
والناصح لنفسه يكون من هؤلاء الملبسة على حذر، ولا يهمل السؤال عنهم، وعن مذهبهم، وما يخدعون به العامة، من زخرف القول الذي ربما يظن الجاهل أنه حق؛ وهو عبارة هؤلاء عن باطلهم، كما نبه على ذلك شيخ الإسلام، من وضعهم أسماء الحق على باطلهم، وكل طائفة من أهل البدع لها توحيد، وهذا الذي ذكرناه هو توحيد الفلاسفة، والاتحادية، وقد أضلوا بما موهوا به كثيرا، ممن ينتسب إلى العلم.
يا قومنا الله في إسلامكم
…
لا تفسدوه لنخوة الشيطان
وتأمل ما ذكره الفخر الرازي في معنى لا إله إلا الله، فإنه قال: التحقيق أن المضمر المرفوع بإله، راجع بالحقيقة إلى نفي الأعيان التي سموها آلهة من حيث إنها آلهة، لا إلى وجودها في حد ذاتها، ضرورة أنها موجودة في الخارج بالفعل، محسوسة. وحاصله: نفي كل فرد من أفراد إله، من تلك الحيثية غير الله، راجع إلى نفي الألوهية عن كل موجود غير الله، انتهى.
فتأمل قوله: راجع إلى نفي الأعيان التي سموها آلهة. قلت: وهو الحق، لأنها نفت إلهية كل مألوه، يألهه المشركون غير الله، من كل صنم ووثن، وشريك وطاغوت; وهذا هو مدلول لا إله إلا الله: نفي إلهية كل ما يؤله من دون الله. وقوله: لا إلى وجودها، دفعا لقول من قال: إن الخبر المضمر موجود؛ وقد بين وجه ذلك، وتقديره للخبر بأحد، قريب مما تقدم في المعنى.
وتأمل قوله: وحاصله: نفي كل فرد من أفراد إله؛ فبين أن المنفي له أفراد كثيرة، وهذا ظاهر بين لا يمنعه أحد، كما هو ظاهر في الكتاب والسنة، واللغة والفطرة، خلافا للفلاسفة. وكذلك قوله: راجع إلى نفي الإلهية عن كل موجود غير الله؛ وهذا هو الذي يعرفه الناس كلهم، إلا ما كان من هذه الطائفة، ومن أهل الوحدة، فإنهم ألحدوا في التوحيد، وأتوا بكل ما يستحيل عقلا وشرعا.
فسبحان الله، والله أكبر، أيجوز في عقل أن المشركين من أولهم إلى آخرهم، الذين عبدوا مع الله غيره، أنهم إنما عبدوا فردا في الذهن، لا وجود له في الخارج؟ هذا أمحل المحال، وأبطل الباطل. وقد نبهت فيما تقدم، على أنهم أرادوا بهذا: أن الأصنام، والأوثان والطواغيت، لا تدخل في المنفي لأنها من جملة الوجود الذي يسمونه الله. وأقول أيضا: الآلهة هي الأنداد والطواغيت،
والشركاء، وقد قال تعالى:{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 22] ، فذكرها مجموعة، لكثرة أفرادها في الخارج، وقال:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] ، فذكرها بصيغة الجمع، يدل على كثرة إفرادها، وقال تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة البقرة آية: 256]، وقال:{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} [سورة الزمر آية: 17] .
وهذه الآيات: تدل على أن المعبودات، التي تعبد من دون الله كثيرة، من الطواغيت، وغيرها، كقوله في آيه البقرة:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [سورة البقرة آية: 257]، وكقوله:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} [سورة الأنعام آية: 100] ؛ ولا ريب أن الجن لهم وجود في الخارج، وقوله:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى آية: 21] .
فدلت هذه الآيات على أن لهذه المعبودات أفرادا كثيرة، وكلها منتفية بلا إله إلا الله، ما قال تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [سورة الأنبياء آية: 24] وهذا واضح- بحمد الله- فبطل ما اختلق الفيلسوف، وتبين به إلحاده في التوحيد، الذي بعث الله به رسوله، وأنزل به كتبه {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [سورة الحشر آية: 2] .
واعلم: أن هؤلاء الزنادقة قد طردوا أصلهم هذا حتى في الإيمان، كما قال شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى، في "كتاب الإيمان" عن هؤلاء: إنهم يثبتون لهذه المسميات وجودا مطلقا، مجردا عن جميع القيود والصفات؛ وهذا لا حقيقة له في الخارج، وإنما هو شيء يقدره الإنسان في ذهنه، كما يقدر موجودا لا قديما ولا محدثا، ويقدر إنسانا لا موجودا ولا معدوما.
ويقول: الماهية من حيث هي، لا توصف بوجود ولا عدم، ويقول: الماهية من حيث هي، هي شيء يقدره الذهن، وذلك موجود في الذهن، لا في الخارج؛ فهكذا الإيمان، يقدر إيمانا لا يتصف به مؤمن، بل هو مجرد عن كل قيد، كتقدير إنسان لا يكون موجودا ولا معدوما، بل ما ثم إيمان إلا مع المؤمنين.
قلت: وكذلك إله لا يوجد إلا مع مألوه تألهه القلوب بالعبادة، وقد أشرت إلى ما ذكره شيخ الإسلام عن هذه الطائفة، كابن سينا ومن سبقه، أخذوا أسماء جاء بها الشرع، ووضعوا لها مسميات مخالفة لمسميات صاحب الشرع، ثم صاروا يتكلمون بتلك الأسماء، فيظن الجاهل أنهم قصدوا بها ما قصده صاحب الشرع؛ فأخذوا مخ الفلسفة، فكسوه ثوب الشريعة.
وهذا كلفظ: الملك، والملكوت، والجبروت، واللوح
المحفوظ، والملك، والملكوت، والشيطان، والحدث والقدم، وغير ذلك. وقد ذكرنا من ذلك طرفا في الرد على الاتحادية، لما ذكرنا قول ابن سبعين، وابن عربي، وما يوجد في كلام أبي حامد وغيره، من أصول الفلاسفة، والملاحدة، التي يحرفون بها كلام الله ورسوله عن مواضعه، كما فعلت القرامطة الباطنية؛ انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
والمقصود من هذا الجواب: بيان ما قد يفتريه الجاهل، من كلام هؤلاء الذين يلبسون على العامة، فيأتونهم بما لا يعرفون أنه حق أو باطل، فربما اعتقدوه تعليلا لهؤلاء، فيقعون قي حيرة وشك؛ وهم قبل الابتلاء بهؤلاء في عافية، فسبحان مقلب القلوب.
والأصل في ذلك ما أشار إليه شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى، في مثل هؤلاء: أنه ليس عندهم من علم القلب، ومعرفته، ويقينه ما يدفع الريب، ولا عندهم من قوة الحب لله، ورسوله ما يقدمونه على الأهل والمال؛ وهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا، دخلوا الجنة، وإن ابتلوا بمن يدخل عليهم شبهات توجب ريبهم، فإن ينعم الله عليهم بما يزيل الريب، وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع من النفاق. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
فليكن العبد المؤمن من المحنة بأهل الأهواء على حذر، ومن دنياه على خطر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم. اللهم مصرف القلوب، صرف قلوبنا على توحيدك وطاعتك وتقواك، وأقم لنا ديننا الذي ارتضيته لنا وثبتنا عليه. اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.
ونختم الجواب بذكر ما ذكر العلماء، رحمهم الله تعالى، في معنى لا إله إلا الله: قال ابن رجب، رحمه الله تعالى: الكلام على لا إله إلا الله، الإله: هو الذي يطاع فلا يعصى هيبة له، وإجلالا ومحبة، وخوفا ورجاء، وتوكلا وسؤالا منه، ودعاء له، ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز وجل. فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية، كان ذلك قدحا في إخلاصه في قول: لا إله إلا الله، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك.
وقال البقاعي: لا إله إلا الله، أي: انتفى انتفاء عظيما أن يكون معبودا بحق غير الملك الأعظم؛ فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علما نافعا، إذا كان مع الإذعان، والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف. وقال الطيبي: الإله فعال، بمعنى مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، من أله إلهة، أي: عبد عبادة. قلت: وهذا الذي ذكره الطيبي، رحمه الله تعالى، على معنى ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قرأ {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}
[سورة الأعراف آية: 127] .
قال: لأنه كان يُعبَد، ولا يَعْبُد؛ وهذا ظاهر- بحمد الله- لمن تدبر القرآن، وعرف حقيقة الإسلام والإيمان، والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.
[المورد العذب الزلال في الرد على من لم يذكر اسمه]
وله أيضا قدس الله روحه 1:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومستدرج العاصين بمكره، الذي أظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يمانع، الظاهر على خلقه فلا ينازع، الحكيم فيما يريد فلا يدافع.
أحمده على إعزازه لأوليائه، ونصرته لأنصاره، وخفضه لأعدائه، حمد من استشعر الحمد باطن سره، وظاهر جهاره. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه، وأرضى بالمعاداة فيه والموالاة ربه.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، رافع الشك وخافض الشرك، وقامع الكذب والإفك؛ اللهم صل على محمد وعلى آله، وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.
1 " المورد العذب الزلال " في الرد على من لم يذكر اسمه.
وبعد: فاعلم أيها الطالب للسلامة، الساعي في أسباب تحصيل الفقه والكرامة، أني وقفت على رسالة لمن لم يسم نفسه، مشعرة بأنه من بلاد الخرج، متضمنة لأنواع من الكذب والمرج، جامعة لأمور من الباطل، لا يسع مسلما السكوت عليها، خشية أن يفتن بها بعض الجاهلين، فيعتمد عليها؛ فإن كل عصر لا يخلو من قائل بلا علم، ومتكلم بغير إصابة ولا فهم.
وقد جعل الله في كل زمان فترة، بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويبصرون بدين الله أهل العمى، ويحيون بكتاب الله الموتى؛ فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وتائه ضال قد هدوه؛ فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم!
وقد عن لي الجواب، ليتميز الخطأ من الصواب، فلا بد من ذكر مقدمة نافعة، لتكون هي المقصودة بالذات، ورجاء أن تكون سببا موصلا إلى رضوان الله، يستبصر بها طالب الهدى من عباد الله، وذلك بتوفيق الله الذي لا إله سواه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. اعلم أيها المنصف: أن دين الله القويم، وصراطه المستقيم، إنما يتبين بمعرفة أمور ثلاثة، عليها مدار دين الإسلام، وبها يتم العمل بأدلة الشريعة والأحكام، ومتى اختلت وتلاشت، وقع الخلل في ذلك النظام.
الأمر الأول: أن تعلم أن أصل دين الإسلام، وأساسه وعماد الإيمان ورأسه، هو: توحيد الله تعالى، الذي بعث به المرسلين، وأنزل به كتابه المحكم المبين، قال تعالى:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [سورة هود آية: 1-2] ؛ وهذا هو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله. فإن أصل دين الإسلام: أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع، لا بالأهواء والبدع. وقد قال شيخنا رحمه الله، إمام الدعوة الإسلامية، والداعي إلى الملة الحنيفية: أصل دين الإسلام وقاعدته: أمران: الأمر بعبادة الله وحده والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه، والنهي عن الشرك في عبادته والتغليظ فيه، والمعاداة فيه وتكفير من فعله. والمخالف في ذلك أنواع ذكرها رحمه الله.
وهذا التوحيد له أركان، ومقتضيات، وفرائض ولوازم، لا يحصل الإسلام الحقيقي على الحال والتمام، إلا بالقيام بها علما وعملا.
وله نواقض ومبطلات تنافي ذلك التوحيد، فمن أعظمها أمور ثلاثة:
الأول: الشرك بالله في عبادته، كدعوة غير الله، ورجائه، والاستعانة به، والاستغاثة، والتوكل، ونحو ذلك
من أنواع العبادة; فمن صرف منها شيئا لغير الله كفر، ولم يصح له عمل. وهذا الشرك، هو أعظم محبطات الأعمال، كما قال تعالى:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 88] .
وقوله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الزمر آية: 65-66] ؛ ففي هذه الآية: نفي الشرك، وتغليظه، والأمر بعبادة الله وحده; ومعنى قوله:{بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} [سورة الزمر آية: 66] أي: لا غيره؛ فإن تقديم المعمول يفيد الحصر عند العلماء.
الأمر الثاني من النواقض: انشراح الصدر لمن أشرك بالله، وموادة أعداء الله، كما قال تعالى:{وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة النحل آية: 106] إلى قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [سورة النحل آية: 107] ، فمن فعل ذلك فقد أبطل توحيده، ولو لم يفعل الشرك بنفسه، قال الله تعالى:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة المجادلة آية: 22] الآية.
قال شيخ الإسلام: أخبر سبحانه أنه لا يوجد مؤمن يوادّ كافرا؛ فمن وادّه فليس بمؤمن. قال: والمشابهة مظنة الموادة، فتكون محرمة. وقال العماد ابن كثير رحمه الله في تفسيره: قيل: نزلت في أبي عبيدة، حين قتل أباه يوم بدر، {أَوْ
أَبْنَاءَهُمْ}
في الصديق يومئذ هم بقتل ابنه عبد الرحمن، {أَوْ إِخْوَانَهُمْ} في مصعب بن عمير، قتل أخاه عبيد بن عمير، {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} في عمر قتل قريبا له يومئذ أيضا، وحمزة وعلي، وعبيدة بن الحارث، قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذ. قلت: ذكر في السيرة، أن سعد بن مالك حرص على قتل أخيه عتبة يوم أحد.
وقال في قوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [سورة المائدة آية: 119] سر بديع، وهو: أنهم لما سخطوا على الأقارب والعشائر في الله، عوضهم الله بالرضى عنهم، ورضاهم عنه بما أعطاهم، من النعيم المقيم، والفوز العظيم، والفضل العميم، ونوه بفلاحهم وسعادتهم، ونصرتهم في الدنيا والآخرة، قي مقابلة ما ذكر عن أولئك من أنهم {حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [سورة المجادلة آية: 19] . قلت: هم الذين والوا أهل الضلال، وسخطوا على أهل الإيمان.
الأمر الثالث: موالاة المشرك، والركون إليه ونصرته وإعانته باليد، أو اللسان أو المال، كما قال تعالى:{فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ} [سورة القصص آية: 86]، وقال:{رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [سورة القصص آية: 17]، وقال:{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة الممتحنة آية: 9] .
وهذا خطاب الله للمؤمنين، من هذه الأمة؛ فانظر أيها السامع، أين تقع من هذا الخطاب، وحكم هذه الآيات؟ ولما أعانت قريش بني بكر على خزاعة سرًّا، وقد دخلوا في صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتقض عهدهم، وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك غضبا لله، وتجهز لحربهم ولم ينبذ إليهم.
ولما كتب لهم حاطب كتابا، يخبرهم بذلك إخبارا، أنزل الله تعالى في ذلك هذه السورة، ابتدأها بقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [سورة الممتحنة آية: 1] إلى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [سورة الممتحنة آية: 1] .
ثم أمر تعالى بالتأسي بخليله عليه السلام، وإخوانه من المرسلين، بالعمل بدينه الذي بعثهم به، فقال:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] .
فذكر أمورا خمسة، لا يقوم التوحيد إلا بها، علما وعملا ; وعند القيام بهذه الخمسة، ميز الله الناس لما ابتلاهم بعد، وهم كما قال تعالى:{الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [سورة العنكبوت آية: 1-2-3] .
وحذر تعالى عباده عن توليهم عدوهم، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة المائدة آية: 57]، وقال تعالى:{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [سورة النساء آية: 138-139] الآية.
وقال تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 80-81] .
فتأمل ما في هذه الآيات، وما رتب الله سبحانه وتعالى على هذا العمل، من سخطه والخلود في عذابه، وسلب الإيمان، وغير ذلك.
وقال شيخ الإسلام، في معنى قوله تعالى:{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [سورة المائدة آية: 81] ؛ فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} [سورة محمد آية: 25] إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} [سورة محمد آية: 26] ، والسين حرف تنفيس، تفيد استقبال الفعل؛ فدل على
أنهم وعدوهم ذلك سرا، بدليل قوله تعالى:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [سورة محمد آية: 26-27-28] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
والمقصود: بيان عظم هذا الذنب عند الله، وما رتب عليه من العقوبات عاجلا وآجلا؛ نسأل الله الثبات على الإسلام والإيمان، ونعوذ بالله من الخيبة والخذلان. وقد ذكر شيخنا رحمه الله، في مختصر السيرة له، عن سيرة الواقدي:"أن خالد بن الوليد لما قَدِمَ "العُرْضَ" قدَّم مائتي فارس، فأصابوا مُجَّاعة بن مرارة، في ثلاثة عشر رجلا من قومه بني حنيفة، فقال لهم خالد بن الوليد: ما تقولون في صاحبكم؟ فشهدوا أنه رسول الله، فضرب أعناقهم حتى إذا بقي سارية بن عامر، قال: يا خالد إن كنت تريد بأهل اليمامة خيرا أو شرا، فاستبق مجاعة، وكان شريفا، فلم يقتله، وترك سارية أيضا.
فأمر بهما فأوثقا في مجامع من حديد، فكان يدعو مجاعة وهو كذلك، فيتحدث معه، وهو يظن أن خالدا يقتله; فقال: يا ابن المغيرة، إن لي إسلاما، والله ما كفرت; فقال خالد: بين القتل والترك منْزلة، وهي الحبس حتى يقضي الله في أمرنا ما هو قاض، ودفعه إلى أم متمم زوجته، وأمرها أن تحسن إساره.
فظن مجاعة أن خالدا يريد حبسه ليخبره عن عدوه، وقال: يا خالد، لقد علمت أني قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته على الإسلام، وأنا اليوم على ما كنت عليه بالأمس، فإن يكن كذاب قد خرج فينا، فإن الله يقول:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة الأنعام آية: 164] .
فقال: يا مُجاعة، تركت اليوم ما كنت عليه أمس، وكان رضاؤك بأمر هذا الكذاب، وسكوتك عنه، وأنت من أعز أهل اليمامة، إقرارا له، ورضاء بما جاء به، فهلا أبديت عذرا فتكلمت فيمن تكلم؟ فقد تكلم ثمامة فرد وأنكر، وتكلم اليشكري، فإن قلت: أخاف قومي، فهلا عمدت إلي، أو بعثت إلي رسولا؟ ".
فتأمل كيف جعل خالد سكوت مجاعة، رضاء بما جاء به مسيلمة وإقرارا; فأين هذا ممن أظهر الرضى وظاهر، وأعان وجد وشمر، مع أولئك الذين أشركوا مع الله في عبادته، وأفسدوا في الأرض؟ فالله المستعان.
الأمر الثاني من الأمور التي لا يصلح الإسلام إلا بها: العمل بشرائعه وأحكامه؛ وبالقيام بذلك يقوم الدين، وتستقيم الأعمال، كما قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [سورة النساء آية: 66] الآية. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا
يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 58-59] .
وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [سورة الشورى آية: 10] الآية، وقال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [سورة الأحزاب آية: 36]، وقال تعالى:{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة النور آية: 48-49-50] .
وقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [سورة القصص آية: 50] الآية، وقال تعالى:{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [سورة النور آية: 43-44] . وفي هذا المعنى قال أبو تمام شعرا:
وعبادة الأهواء في تطويحها
…
بالدين مثل عبادة الأوثان
وهذا هو الغالب على كثير من الناس، رد الحق لمخالفة الهوى، ومعارضته بالآراء؛ وهذا من نقص
الدين، وضعف الإيمان واليقين.
الأمر الثالث: أداء الأمانات، واجتناب المحرمات، والشهوات، والجد في أداء الفرائض، والعبادات والواجبات، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله; وقد وقع الخلل العظيم في ذلك، كما قال تعالى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [سورة مريم آية: 59] الآية.
وبذلك وقعت الغفلة والإعراض عن كتاب الله تعالى، واشتغل أكثر الناس بدنياهم، عن طاعة مولاهم، وزهدوا في كل ما يعود نفعه إليهم في دنياهم وأخراهم، مما يوجب رضى ربهم، ومولاهم، كما قال تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [سورة الكهف آية: 57] .
فيجب على من نصح نفسه، ممن جعل الله تعالى له القدرة والسلطان، ونفوذ الكلمة، أن يهتم بحفظ هذه الثغور الثلاثة؛ فإنها ثغور الإسلام، وقد سعى في خرابها من ليس له فيه رغبة ولا مقام; ومن أسباب حفظها: الإخلاص لله، والصدق، واللجأ إليه، وتعظيم أمره ونهيه، والتوكل عليه، وتمييز الخبيث من الطيب؛ فإن الله تعالى ميزهم لعباده لما ابتلاهم. فعليك ببغض أعداء الله، والاهتمام بما يرضيه، ومحبة ما يحبه، وكراهة ما يكرهه،
وخشيته ومراقبته، فإنه أوثق عرى الإيمان، والله المستعان.
[فصل في الإشارة إلى ما تضمنته لا إله إلا الله]
فصل
في الإشارة إلى ما تضمنته: لا إله إلا الله، من الشرك، وإبطاله، وتجريد التوحيد لله تعالى، والإشارة إلى بعض ما تنتقض به عرى الدين، الذي بعث الله به المرسلين، والباعث على ذلك: ما بلغني عن رجل، قبل طروق الفتن، يغلو في التكفير، ويكفر بأشياء لم يكفّر بها أحد من أهل العلم.
ثم إنه قال بعد ذلك، لما غرق في الفتن - أعاذنا الله من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن -: من قال لا إله إلا الله، فهو المسلم المعصوم، وإن قال ما قال. فأقول وبالله التوفيق: اعلم أن لا إله إلا الله: كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وقد سماها الله كلمة التقوى، والعروة الوثقى؛ وهي كلمة الإخلاص، التي جعلها إبراهيم عليه السلام كلمة باقية، في عقبه لعلهم يرجعون.
ومضمونها: نفي الإلهية عما سوى الله، وإخلاص العبادة بجميع أفرادها لله وحده، كما قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [سورة الزخرف آية: 26-27] الآية، وقال عن يوسف عليه السلام: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [سورة يوسف آية: 38] إلى قوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 40]، وقال تعالى:{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [سورة الأنعام آية: 14]، وقال:{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 164]، وقال:{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [سورة الأنعام آية: 114]، وقال:{قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ لااللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [سورة الرعد آية: 36] . والقرآن من أوله إلى آخره، يقرر أن دين الله الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، هو: إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله وحده، دون كل ما سواه، والبراءة من الشرك وأهله، وقتالهم حتى لا تكون فتنة، أي: شرك; وهذا لا يخفى على من له أدنى بصيرة؛ وهذا هو مدلول لا إله إلا الله.
وقد عرف ذلك كفار قريش، فما انقادوا له؛ فإنهم لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، قالوا:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ?وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [سورة ص آية: 5-6] .
وقد تفاوت الناس في هذا التوحيد، الذي هو معنى لا
إله إلا الله؛ فهما وعلما، واعتقادا وعملا، أعظم تفاوت: فمنهم من يقولها: عن علم ويقين، صدقا مخلصا من قلبه، وأدى حقوقها، وعمل بمقتضاها، من المعاداة لأهل الشرك بالله، والموالاة لأهل التوحيد، متقدمهم، ومتأخرهم، واستقام على ذلك، ولم يأت بما يبطلها.
وهؤلاء هم المسلمون المؤمنون، الذين لم يخلطوا إيمانهم بشرك، فأدوا شكر ما أنعم الله به عليهم، بالإخلاص له، والبراءة من كل دين يخالف ذلك، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [سورة فصلت آية: 30] الآية.
والمراد الربوبية الخالصة، وهي: أن يتخذوا خالقهم ومالكهم، والمتصرف فيهم معبودا، دون كل ما سواه. أخرج ابن جرير بسنده عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [سورة فصلت آية: 30]، قال:" قد قالها الناس ثم كفر أكثرهم "1.
ومنهم من يقول لا إله إلا الله، ولا عرف مدلولها من النفي والإثبات، فيثبت بفعله ما دلت هذه الكلمة العظيمة على نفيه بإشراكه بالله في الإلهية، وينفي ما دلت على إثباته من إفراد الرب تعالى بالإلهية، وينكر ذلك ويعادي من دعا إلى التوحيد وعرف به؛ وذلك من فرط جهله بمعنى ما يقول، كما هو الغالب على أكثر من يقول: لا إله إلا الله.
فإذا قال الموحد: لا تجوز العبادة إلا لله تعالى، فلا يدعى
1 الترمذي: تفسير القرآن (3250) .
إلا الله، ولا يرجى ولا يتوكل إلا عليه، وأمثال ذلك من أنواع العبادة، أنكرته قلوبهم وألسنتهم.
فليتأمل الناصح لنفسه ما قرره الله في كتابه من أدلة التوحيد، كقوله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة الزوم آية: 30-31-32] . ومنهم المنافقون، وقد كانوا مع المسلمين، ويقولون لا إله إلا الله، ويشهدون أن محمدا رسول الله، ويصلون ويزكون، ويصومون، ويجاهدون مع المسلمين، ولم يظاهروا عليهم عدوا؛ ومع هذا وغيره، أكذبهم الله لما جاءوا رسوله صلى الله عليه وسلم وقالوا: نشهد إنك رسول الله، وأكدوا لشهادتهم بالمؤكدات: إنّ واللام، فقال الله عز وجل:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [سورة المنافقون آية: 1-2-3] . ووجه الدلالة من هذه الآيات: أن شهادتهم وأعمالهم لم تنفعهم، مع قيام المنافي لذلك< فإنهم قام بهم من الجهل والشك، والريب وغير ذلك، ما صاروا به كفارا في
الدرك الأسفل من النار.
ومن صفاتهم، ما ذكر الله في سورة البقرة:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [سورة البقرة آية: 10] إلى قوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [سورة البقرة آية: 14] الآية.
وقال: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [سورة النساء آية: 143] الآية، وقال تعالى:{يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [سورة الفتح آية: 11]، وقال:{يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة التوبة آية: 8] .
والمقصود: أن القول لا ينفع إلا مع علم القلب، وإيمانه، ويقينه؛ والأعمال تصدق ذلك إذا كانت على مقتضى الإيمان، وأما مع الإتيان بالمنافي، فإنه أعدل شاهد على كذب ذلك القول؛ إذ لو كان صدقا لعمل بمدلول ذلك. ومدلول اللفظ هو المعنى المطابق للدال، وهو اللفظ; وكل قول مستعمل دال، ومدلوله: المعنى الذي وضع ذلك اللفظ للدلالة عليه.
إذا عرف ذلك، فإن منهم من يقول لا إله إلا الله عالما بمدلولها، لكن قد يعرض له ما يمنعه من الاستقامة على العمل، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ
رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [سورة العنكبوت آية: 10-11] .
فتأمل ما ذكره المفسرون في معنى هذه الآيات، وكان يمنعني من سياق كلامهم، وجوده وشهرته، مع أن قصدي الاختصار. ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفر من كفر من العرب، ولم يتركوا قول لا إله إلا الله، ومنهم بنو حنيفة، كفروا بتصديقهم مسيلمة في كذبه؛ وقصة عمر مع أبي بكر رضي الله عنهما مشهورة، في الصحاح، والسنن، والمسانيد.
وتأمل قول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ?لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [سورة التوبة آية: 65-66] ؛ وسبب نزولها، وفيمن نزلت، مشهور في كتب التفسير والحديث. وكان أولئك النفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، يصلون، وينفقون، ويجاهدون، فكفرهم الله تعالى بما قالوه. وكذلك قوله تعالى:{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [سورة التوبة آية: 74] الآية، وسبب نزولها، ومن نزلت فيهم، معروف، لا يحتاج إلى أن نذكره.
وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ
لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} [سورة التوبة آية: 75-76-77] . فليتق الله المرء في نفسه، ويخاف من عقوبات الذنوب.
وكذلك قوله تعالى، عن أهل مسجد الضرار {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة التوبة آية: 107] ، وهو أبو عامر الفاسق؛ وهؤلاء، ومن قبلهم يقولون: لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وفي الظاهر كانوا في عداد الأنصار، قبل أن يظهر الله ما أسروه من الكفر.
وقال الله في شأنهم: {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ_ إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [سورة التوبة آية: 110] أي: بالموت; والكتاب والسنة: مملوء بمثل هذه الأدلة; وفيما ذكرناه كفاية للمسترشدين، وبالله التوفيق.
أيظن من وقع منه مثل ما وقع من أولئك، أنه يسلم من هذه العقوبات؟ وليس معه براءة من الله، وهو يعلم أن ما كلف به أولئك كلف به من بعدهم، وما عوقبوا به، عوقب به من بعدهم، إذا عمل بأعمالهم، ونسج على منوالهم. نسأل الله الثبات في الدين، واتباع سبيل المؤمنين.
ومن تدبر القرآن مسترشدا مصيخا مصغيا، علم أن الرسل إنما بعثوا إلى الناس بالدعوة، إلى أن يعملوا بالتوحيد،
ويؤدوا ما افترض الله عليهم، ويجتنبوا ما نهاهم عنه، من عبادة ما سواه، ويخلصوا أعمالهم لله وحده.
والقرآن العظيم من أوله إلى آخره، يقرر هذا التوحيد، وينهى عن الشرك بالله في عبادته، التي لا يصلح أن يقصد بها غيره; فانظر واستمع، تجده يقرر الإخلاص وشرائعه، وينفي الشرك وتوابعه، أوضح بيان; وكذلك الأحاديث والسير، ترشد إلى ذلك، وتقرره على أكمل الوجوه، وأحسن البيان.
لكن لما اشتدت غربة الدين بهجوم المفسدين، وقع الريب والشك بعد الإيمان، وانتقض أكثر عرى الإسلام، بانقراض عصر الأئمة الأعلام، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب:"إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية".
ومما انتقض من عراه: الحب في الله، والبغض في الله، والمعاداة والموالاة لله وفي الله، كما جاء في الحديث الصحيح:"أوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله"؛ وأنت ترى حال الكثير، حبه لهواه، وبغضه لهواه، ولا يسكن إلا لمن يلائم طبعه وهواه، وإن غره وأغراه؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
والحاصل: أن كل قول وعمل صالح يحبه الله ويرضاه، فهو من مدلول لا إله إلا الله، إما مطابقة أو تضمنا، أو التزاما; يقرر ذلك أن الله تعالى سماها:{كَلِمَةَ التَّقْوَى} ، [الفتح: 26] .
والتقوى: أن يتقي العبد سخط الله وعقابه وعذابه، بترك الشرك والبراءة منه ومن أهله، وإخلاص العبادة لله تعالى، وامتثال ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، متبعا في ذلك كله ما شرعه الله ورسوله.
وقد عرّفها السلف رضي الله عنهم، قال طلق بن حبيب:"التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله; وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله تعالى" وأخرج الترمذي وابن ماجه، بالإسناد عن عبد الله بن يزيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين، حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس "1.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله في قوله:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [سورة فصلت آية: 30]، قال أبو بكر الصديق: فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة; أي: لم يلتفتوا بقلوبهم إلى ما سواه، لا بالحب، ولا بالخوف، ولا بالرجاء، ولا بالتوكل عليه؛ بل لا يحبون إلا الله، ولا يحبون إلا له، انتهى.
وقال شيخنا، شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، سألني الشريف عما نقاتل عليه، وما نكفّر به؟ فقال في الجواب: إنا لا نقاتل إلا على ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان بعد التعريف، إذا عرف ثم أنكر; فنقول: أعداؤنا معنا على أنواع.
الأول: من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله، وأن
1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2451)، وابن ماجه: الزهد (4215) .
هذه الاعتقادات في الحجر والشجر، والبشر، الذي هو دين غالب الناس، أنه الشرك الذي بعث الله رسوله بالنهي عنه، وقاتل أهله ليكون الدين كله لله، ولا يلتفت إلى التوحيد ولا تعلمه، ولا دخل فيه، ولا ترك الشرك، فهذا كافر نقاتله، لأنه عرف دين الرسل فلم يتبعه، وعرف دين المشركين فلم يتركه، مع أنه لم يبغض دين الرسول، ولا من دخل فيه، ولا يمدح الشرك ولا يزينه.
الأمر الثاني: من عرف ذلك، ولكن تبين في سب دين الرسول، مع ادعائه أنه عامل به، وتبين في مدح من عبد يوسف، والأشقر، وأبا علي، والخضر، وفضلهم على من وحد الله، وترك الشرك؛ فهذا أعظم كفرا من الأول، وفيه قوله تعالى:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [سورة البقرة آية: 89] الآية، وممن قال الله فيهم:{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [سورة التوبة آية: 12] الآية.
الثالث: من عرف التوحيد وأحبه واتبعه، وعرف الشرك وتركه؛ لكن يكره من دخل في التوحيد، ويحب من بقي على الشرك؛ فهذا أيضا كافر، وفيه قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [سورة محمد آية: 9] .
النوع الرابع: من سلم من هذا كله، ولكن أهل بلده يصرحون بعداوة التوحيد، واتباع الشرك، ويسعون في قتالهم، وعذره: أن ترك وطنه يشق عليه، فيقاتل أهل
التوحيد مع أهل بلده، ويجاهد بنفسه وماله؛ فهذا أيضا كافر; لأنهم لو أمروه بترك صيام رمضان، ولا يمكنه ذلك إلا بفراق وطنه فعل، ولو أمروه بتزوج امرأة أبيه، ولا يمكنه مخالفتهم إلا بذلك فعل. وأما موافقتهم على الجهاد معهم بماله ونفسه مع أنهم يريدون قطع دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فأكبر مما ذكرنا بكثير؛ فهذا أيضا كافر، ممن قال الله فيهم:{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ} [سورة النساء آية: 91] الآية. والله سبحانه وتعالى أعلم؛ وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
فصل
وهذا شروع في الجواب، المشار إليه سابقا وقد كنت عزمت على أن أتتبع كلامه، وأجيب عنه تفصيلا، ثم إنه عرض لي ما يجب أن يكون هو المقصود بالذات، مما قدمته حماية لجانب التوحيد والشريعة، ثم بدا لي أن أقتصر في جواب الرجل، لما في الاقتصار من رعاية الصبر والاصطبار; لأنا لو أجبناه بكل ما يليق في الجواب، لم نسلم من أمثاله ممن نسج على منواله، كما هو الواقع من أكثر البشر قديما وحديثا، مع كل من قام بالحق، ونطق بالصدق.
فكل من كان أقوم في دين الله، كان أذى الناس إليه أسرع، والعداوة له أشد وأفظع; وأفضل خلق الله رسله، وقد عالجوا من الناس أشد الأذى؛ حكمة بالغة، كما قال الله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [سورة الفرقان آية: 31] . والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة جدا ينبئك عن تفصيل هذا ما ذكره الله في كتابه عن أنبيائه، لما دعوا أممهم إلى التوحيد، كيف قيل لهم، وما خوطبوا به.
وتأمل ما جرى لخيار هذه الأمة، كالخلفاء الراشدين، وسادات أصحاب سيد المرسلين، من أعدائهم كالروافض، والخوارج ونحوهم، وما جرى لأعيان التابعين ومن بعدهم من أعيان الأئمة، كالإمام أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، وأحمد بن نصر الخزاعي، وأمثال هؤلاء ممن لا يمكن حصرهم.
ولو ذكرنا جنس ما جرى لهم من الأذى لطال الجواب، والقصد الاقتصار؛ ومن أراد الوقوف على ذلك، فعليه بالسير والتاريخ، ولله در أبي تمام حيث يقول، شعرا:
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود
وقال أبو الطيب شعرا:
وشأن صدقك عند الناس كذبهم
…
وهل يطابق معوج بمعتدل
إذا علمت ذلك، فإن هذا الرجل ذكر عن الشيخ
عبد الرحمن بن حسن، أنه لا يصلي بهم، ولا يقدم من يهوونه، ولا يقطع خصومة، وعدوه من نظر في كتاب، أو نطق بصواب؛ هذا كلامه فيه عن هذه الأمور من المثالب، والبصير إذا تأمل، رآها من المناقب; لأن المسلم لا يجوز أن يحمل إلا على الخير، فيما خفي عذره فيه، حتى يتبين ما يرفع الاحتمال.
وهذه العيوب الخمسة، محتملة لأمور:
منها: ما يحتمل أنه فعله تأثما من الصلاة بالناس، لعذر خفي عليهم أوجب ذلك. وأما الثاني: فيحتمل أنه إنما فعله نصحا لهم، وطلبا للسلامة من تبعة ذلك؛ ولا يخفى أن نظره لهم، خير من نظرهم لأنفسهم، فإن جهال العامة لا يهتدون غالبا إلى ما يصلح دينهم.
وأما الثالث: ففيه التثبت في الفتيا؛ فإن الإفتاء في دين الله بلا علم حرام; فلا بد للمفتي والقاضي، من التأمل والمراجعة، وإلا أصيبت مقاتله. والعامة لا يعجبهم ذلك; والعالم عندهم من يبادرهم بالحكم والإفتاء، من غير تأن ولا مراجعة؛ وهذا من فرط جهلهم، وعدم علمهم، كما يتبين من حال هذا المعترض.
وأما الرابع، والخامس: ففيه حماية جانب العلم، وصيانته عن مثل هؤلاء الجهال الذين لا يعلمون، ولا يعلمون أنهم لا يعلمون؛ فإن صيانة العلم عن تخبيط الجاهلين
أمر لا بد منه. فانظر كيف وقع من أمثالهم من تتبع الرخص، أعاذنا الله من ذلك، وما أحسن ما قال بعض العلماء، رحمه الله:
العلم قال الله قال رسوله
…
قال الصحابة ليس خلف فيه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة
…
بين الرسول ورأي كل فقيه
وهذا الضرب من الناس: أفسدوا بدعواهم العلم، على كثير من العامة دينهم، لما قلدوهم لهواهم، وأحسنوا بهم الظن، وفاقا لدنياهم; فتأمل تجد ما ذكرته واقعا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم; فلفرط عداوة هذا الرجل، عدّ هذه الأمور الخمسة من المثالب؛ وهي كما ترى صالحة لأن تعدّ من المناقب، كما قيل:
إذا كان من فيهم قليل حظ
…
فما حسناته إلا ذنوب
ثم إنه أخذ يحذر الإمام من أولاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأنه لا يجوز له أن يصغي إليهم، ولا يأخذ منهم، ولا يلين لهم بجانبه، إلى غير ذلك، ويحلف جهد يمينه أن الحامل إلى هذا القول محض النصيحة بلا عول.
فأقول: يكفيك دليلا على كذب هذا وغشه، وسخافة عقله، وقلة دينه وجهله، ما عبر به من هذا القيل; أما كان يعرف ما كان عليه المسلمون؟ وما كانوا ينصحون به الإمام؟ فإن كل من يعرف بإسلام حسن، يوصيه بضد هذا; ولا ريب عندهم أن هذا كلام لا يقوله إلا رجل سوء; فسل من شئت
من غير أهل الفساد; وكل إناء بالذي فيه ينضح; وفيما قص الله عن الأنبياء: تسلية لعبده المسلم، إذا كان له أعداء، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [سورة الفرقان آية: 31] .
فيؤخذ من هذا: أن من قال الحق ودعا إليه، فلا بد أن يتصدى له من يوقع الأذى عليه، وما ذاك إلا لصعوبة الحق على النفوس، ومخالفته الأهواء، وإيثار الشهوات على التقوى. نسأل الله الثبات على الإيمان، والعفو والعافية، في الدين والدنيا والآخرة; ولقد أحسن من قال في مثل هذه الحال شعرا:
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
وقائل هذا إنما أخذه من كتاب الله تعالى، وهو مذكور في عدة آيات من الكتاب، ترشد إلى من لم يرد الله به خيرا، يرى أن نفس الخطأ هو عين الصواب.
ثم إن هذا المعترض زعم أن ابن ثنيان يطعمهم الحرام. فالجواب: أن يقال: وهذا من جهله وقلة دينه وعقله، لأن هذا الكلام شاهد على قائله أنه لا يعرف شيئا من الأحكام، ولا يتصور الواقع؛ وذلك لا يخلو، إما أن يكون صدر عن سوء طوية وفساد روية، أسوة أمثاله ممن لم يستضيء بنور التوحيد الذي هدى الله إليه كثيرا من أهل نجد وغيرهم، أحرارهم والعبيد.
أو أنه مغفل عن هذا الشأن، كحال أهل المهن، وأرباب الدنيا في كل زمان؛ فلو سألت أحدهم عن الدين، الذي بعث الله به المرسلين، لما أحسن التعبير عنه، ولا عرف حقيقة الإسلام بيقين. ولا ريب أن هذه قصارى حال المشار إليه، لدلالة كتابه عليه؛ فإن هذا كلام من لا يدري ما يقول، من غير تصور ولا معقول، فلا بد - والحالة هذه - من بيان يكشف ما يقول، قد يلتبس على بعض الجهال من ذلك الهذيان.
فأقول: من المعلوم عند الموافق والمخالف، أن أئمة المسلمين الذين أقام الله بهم هذا الدين، بعد ما اشتدت غربته من بين الظلمة والمفسدين، أن الله بفضله ورحمته، أقامهم بالحق المبين، فدعوا إلى التوحيد، وأنكروا كل شرك وشك وتنديد، ونشروا أعلام الجهاد، حتى أدخل الله بدعوتهم كل حاضر من قومهم وباد.
فأخذوا تلك الأموال من أهل البغي والفساد، بسيف الحق والجهاد، فهو - بحمد الله - من طيب الحلال بلا تردد ولا إشكال؛ فقد أحل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ولأمته الغنائم; وقد غنم الصحابة رضي الله عنهم أموال من ارتد من العرب، أو شك في الحق واضطرب.
وكل ما لا يؤيد بالدليل، فلا التفات إليه ولا تعويل،
على أن الكثير من تلك الأموال التي أخذت على هذا الوجه الحلال، وصارت من جملة بيت المال، قد تركت في أيدي الغاصبين لها، حين تبدلت الحال; فلما قام هؤلاء الولاة، واجتمع عليهم الناس في هذه الأوقات، لم يبق في أيديهم من أموال الفيء إلا القليل، لتغلب أناس عليها من ظلمة ذلك الجيل.
فإن كان ابن ثنيان استولى عليها، فقد فاته منها الكثير; وذلك أمر بين شهير. وإن كان قد أخذ غير ذلك بتأويل الجهاد، أو بمن يمنع زكاته من أهل تلك البلاد، أسوة الماضين من الولاة المتقدمين، كالأمويين والعباسيين، وعلى هذا، فدعوى أن مجموع ما أخذه كله حرام، من جملة الهذيان في الكلام.
فإن القول بحلِّها هو الصواب المقرر في كتب الأحكام، كما نص عليه الصحابة والأئمة بعدهم، في جوائز السلطان، فإنها أحب إلى بعضهم من صلات الإخوان، ولأنها حلال لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون الزكاة، في المأثور والمنقول.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأصل الضلال في أهل الأهواء، من اتخاذ دين لم يشرعه الله، أو تحريم ما لم يحرمه الله; إذا عرف ذلك، فلا يخفى حال من سلف من الولاة، المتغلبين على هذه الجهات، قبل أن يظهر عليها أهل الإسلام، أنهم يقاتلون عليها بغير الحق المبين، ويأخذون الأموال ظلما وعدوانا بيقين.
وفي تلك المدة وقفوا الأوقاف، وليس بأيديهم إلا تلك الأموال، فهل يصح - والحالة هذه - ما كان هذا أصله من تلك الأوقاف؟ وكذا أموال التجار، فإنهم يعاملون فيها بالربا، في جميع القرى والأمصار ويكون لتلك الأموال والمعاوضة بها امتداد وانتشار، من غير سؤال عنها ولا استفسار، مثل هذا ما يأخذه الأعراب المعتدون من أموال الغير، وبها يمتارون; فما قال هذا المجترئ على شيء من ذلك أنه حرام، أو أن فيه إشكالا في حال من الأحوال.
وكذلك ما وقع في هذه الديار من المعاملات الربوية، ولا ريب أنها بلية، وأي بلية؟! وأمر خاسر ظاهر في أناس، من ظهور أمارات الخيانة عليهم، ونسبتها - لقوة القرينة - إليهم، وكل ذلك لا عتب فيه ولا بأس؛ وأما الثلب والسب منه والعتاب، فإنما يتوجه إلى خصوص أولاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وإن لم يكن لهم مدخل في الأموال، ولا عمل لهم فيها بحال!!
أعوذ برب الناس من كل طاعن علينا بسوء أو ملح بباطل
والعارف لا يخفى عليه موجب هذه العداوة.
فإن قيل: ما قولكم في حكم ما ذكرتموه، من هذه الأموال؟ أمن الحرام هي، أم من الحلال؟
قلنا: القول فيها يتوقف على البحث عن كل فرد منها، والاستفصال؛ ولكن من حيث عدم العلم،
بأعيانها، على طريق الإجمال، فالمأثور عن السلف والأئمة، في جوائز السلطان، وما كان على هذا المنوال: أنه من قسيم الحلال، إلا ما علم أنه بعينه حرام، وما لا فلا يمنع أخذه ممن أعطاه إياه، إذا كان يستحقه.
قال الإمام أحمد، رحمه الله: ليس أحد من المسلمين إلا وله في هذه الدراهم حق، وكيف أقول: إنها سحت؟ والحسن، والحسين، وعبد الله بن جعفر، وكثير من الصحابة يقبلون جوائز معاوية; قال: ولأن جوائز السلطان لها وجه في الإباحة والتحليل، فإن لها جهات كثيرة من الفيء والصدقة وغيرها، انتهى من المغني.
قال ابن رجب: وروي في ذلك آثار كثيرة عن السلف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: يعاملون المشركين، وأهل الكتاب، مع علمهم أنهم لا يجتنبون الحرام; وقال ابن مسعود: إنما الهنا لكم، والوزر عليهم. قلت: وما زال العلماء في كل عصر، يقبلون جوائز الأمراء، ويأخذون حقهم من بيت المال، فلم ينكر ذلك أحد من أهل الورع، ولا غيرهم من العلماء.
إذا عرف ذلك، فهنا أمر ينبغي الإشارة إليه، وهو أن يقال: ما حكم هذه الأموال، لما كانت بأيدي أناس تغلبوا عليها بعد أئمة المسلمين، وجاروا على الناس وصدوهم عن الحق، وأفسدوا في الأرض بالمعاصي؟ فإن
علم أن ما في أيديهم هو من عين ما غصبوه، فالحكم فيه كالحكم في الأموال المغصوبة، وكذا ما علم أن صاحبه أخذه على وجه الخيانة، فينبغي أن يجتنب.
فينظر حال هذا الرجل؛ فإن كان متحاشيا من أخذ هذه الأموال، ويتباعد عمن كانت في يده، ولم يبق إلا أنه جهل حكم تلك الأموال، فالأمر أهون; وإن كان لا يتحاشى من الحرام الذي هذا وجهه، ويحرم الحلال الذي عرف وجهه، صار محلا لإساءة الظن به، خصوصا إذا عرف أنه لا سبب بينه وبين أولاد الشيخ يقتضي هذه العداوة إلا الدين الذي يعرفون به ويدعون إليه.
فقد كان بعض أهل نجد، لما أخرج الله ضغائنهم، توصلوا إلى مسبة دين الله بمسبة أهله، كما فعل أشباههم من الماضين، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [سورة التوبة آية: 32] .
ثم إن هذا المعترض، قال في أولئك الذين وجه الطعن إليهم: إنهم نظروا إلى سد باب القبلة ومصر، ولم ينظروا إلى أبواب السماء، يعني أنهم رضوا لمتولي أمرهم أن يداهن أهل تلك الجهات.
فالجواب أن يقال: أين أنت يا هذا لما كان أهل مصر ببلاد نجد؟ هل صحبتهم وأقمت فيهم؟ أم فارقتهم وخالفتهم؟ فارجع العيب إلى نفسك إن كنت إذ ذاك في عدادهم.
ونقول أيضا، في الجواب: لا يخلو هذا الرجل من حالتين: إما أن يكون من أبله الناس، وأشدهم غباوة، وأجهلهم بالناس وأحوالهم، ولا معرفة له بالواقع أصلا، وإما أنه يتعمد الكذب ولا يبالي، ويظن أن ولي الأمر لا يعرف الحال، فلعله أن ينقدح في قلبه من ذلك شك، أو إشكال.
وإلا فمن المعلوم من رأيهم لولاة الأمر، ونصحهم لهم، التنبه على أن هذا الأمر لا يصلح معه حال، وأن المداراة لا تصل إلى هذا الحد الذي يفعلونه، وأنه كان يكفيهم مما فعلوه كف أيديهم؛ وقد كانوا يرضون الأئمة بتقوى الله، والعمل بكتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتباع شرعه، وتنفيذ أحكامه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك من فضل الله تعالى عليهم وعلى الناس؛ ومن ادعى ما ليس فيه كذبته شواهد الامتحان.
ومن كانت هذه حالهم، فلا يتعرض لسبهم وعداوتهم، إلا من يكره هذه الأفعال، فإن العداوة لها أسباب، أعظمها: اختلاف الدين; والناس إنما يتميزون بأعمالهم لا بأقوالهم، فرب ناطق بالحق وهو لا يحبه، ولا يقبل أهله، بل ربما نطق بالحق، وهو لا يعرف حقيقة ما يقول.
فعلى من نصح نفسه من أئمة المسلمين أن يبذلوا
الجد في إقامة الدين، ويصرفوا الهمة إلى معرفة التوحيد، بالصدق، واليقين، وأن يحملوا الناس على ذلك، ويجاهدوهم على ما هنالك، وأن يحبوا في ربهم، ويبغضوا فيه، ويعادوا لأجله، ويوالوا فيه.
وليحذروا من أمور ثلاثة، توجب الذم والإثم، والعقوبة:
الأول: ترك الحق بعد ظهوره وتبينه.
والثاني: التقصير في طلبه ليتبين له.
الثالث: الإعراض عن طلب معرفته، لهوى أو كسل، أو نحو ذلك.
وهذه الثلاثة الأشياء، هي الآفة العظمى، ومن أجلها يضيع الدين. وقد انقسم الناس في هذه الأزمان، إلى هذه الأقسام، وكل قسم منهم معجب بنفسه، ويظن أنه في رتبة الكمال من العلم والدين؛ وهذا من خدع الشيطان وغروره، فلا حول ولا قوة إلا بالله. وقد قال الله تعالى:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَإِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [سورة الجاثية آية: 18-19] ؛ فتأمل هذه الآية، وما فيها من الامتنان، والترغيب في اتباع ما جعله الله عليه مما شرعه له، وما فيها من التحذير والإنذار؛ فما أعظم خطر هذا! وما أحوج العبد إلى ذلك! خصوصا إن نظر العبد بعين البصيرة، إلى ما انتحله
أكثر الناس من الشرك بالله في عبادته، وما جروا عليه من أنواع الظلم والفساد. فما أكثر المغرورين بالجهل والأهواء، وطاعة الأنفس، والشيطان! وقد حدثت هذه الأمور في هذه الأمة، في زمن من سلف من الأئمة، وبينوا وحذروا، وأنكروا وأنذروا، رحمة الله عليهم، كما قال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى:
ولقد رأينا من فريق يدعي الـ
…
إسلام شركا ظاهر التبيان
جعلوا له شركاء والوهم وسا
…
ووهم به في الحب لا السلطان
والله ما ساووهم بالله بل
…
زادوا لهم حبا بلا كتمان
وكل من تدبر القرآن، وفهم أدلة التوحيد، وعرف حقيقة الشرك، الذي بعث الله الرسل بإزالته، والنهي عنه، وألهمه الله رشده، علم يقينا الذي عليه أكثر الجهال من هذه الأمة؛ حيث جعلوا أرباب القبور من الأموات، محطا لرحالهم في طلب الحاجات، وتفريج الكربات، وتألهتهم قلوبهم بالخشية، والإجلال والتعظيم والالتجاء إليهم، والتوكل عليهم، وغير ذلك من العبادة التي لا تصلح إلا لفاطر الأرض والسماوات، كما قال تعالى:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2-3] .
ثم بين ضد ذلك، وهو ما عليه أهل الشرك، فقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى
اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] .
إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] ؛ فأقام الله الحجة على هذه الأمه، وبين دينه الذي رضيه لنفسه، ورضيه لعباده، وبين الدين الذي انتحله المشركون، وأخبر عن ضلالهم، وسوء مآلهم، وأبان أنهم ما أرادوا ممن عبدوا، إلا القربة والشفاعة، وبين أنواع العبادة، التي صرفها المشركون لآلهتهم، وأخبر أن ذلك لا ينبغي إلا للواحد القهار.
فأقام الحجة على عباده، وقطع بهذا البيان كل حجة واعتذار، وأعذر إليهم على لسان البشير النذير صلى الله عليه وسلم {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [سورة النجم آية: 31] . قال الله تعالى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [سورة العنكبوت آية: 1-2-3] إلى قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [سورة العنكبوت آية: 10] إلى قوله: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [سورة العنكبوت آية: 11] .
وقال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [سورة آل عمران آية: 179]، وقال تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [سورة التوبة آية: 16] .
وقد بلى الله أخبار الناس، بما جرى في هذه الأعوام، وميز بها من قاتل أهل الإسلام وسبهم، ممن والاهم وأحبهم؛ والله يعلم إنا لم نرد بهذا تشيين أحد، أو عداوته، ولكنا تأثمنا من كتمان العلم، ورغبنا في إرشاد العباد إلى طاعة ربهم، ومعبودهم لما ابتلينا بأناس من أهل نجد، يقولون على الله بلا علم، ويتكلمون في أشياء من غير دراية ولا فهم.
فكان الواجب على من منحه الله علما أن ينشر منه ما تيسر، وقت الاحتياج إليه، وخصوصا في هذه الأزمنة، لما قل العلم وكثر الجهل، وغلبت الأهواء، واشتعل الناس فية بمحبة دنياهم، وإيثارها على طاعة مولاهم، والعمل لأخراهم.
والله تعالى هو المرجو المسؤول أن يرفع عنا وعن المسلمين العقوبة، وأن يكتب لنا المثوبة لتحري رضاه، وأن يوفقنا للاستقامة على طاعته وتقواه، وأن يحقق لنا ولإخواننا ما طلبناه، ورجوناه، إنه هو البر الرحيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
واعلم: أن هذا الرجل وأمثاله، لما امتلأت قلوبهم بالعداوة والبغضاء، وظهرت على صفحات وجوههم، وفلتات ألسنتهم، وأتوا بكل بلية ورمية، كما تقدم، طمعوا فيما هو أعظم من ذلك، وأكبر ضررا مما هنالك،
فأوردوا على الجهال شبهات، تحسينا لما قد فعلوه، وتزيينا لسبيلهم الذي قد سلكوه، أسوة من مضى من أمثالهم.
قال العماد، في "التفسير": قال قتادة، في قول الله تعالى:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [سورة المؤمنون آية: 68] : إذ والله يجدون في القرآن زاجرا عن معصية الله، لو تدبره القوم وعقلوه، ولكنهم أخذوا بما تشابه فهلكوا عند ذلك؛ والعارف إذا نظر إليها، علم أنهم قد أقروا على أنفسهم، وعلى الذين والَوْهم وآووهم، بما قد لا يصرح به غيرهم فيهم ابتداء.
فمن ذلك، قول بعضهم: إن الله تعالى يقول: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة الفتح آية: 25] الآية، يشير إلى أنه معذور بإقامته مع هؤلاء، كما عذر من أقام من المؤمنين بمكة مع الشركين.
فيقال له: أولا: إن هؤلاء الذين سماهم الله مؤمنين ما لم يظاهروا على المؤمنين مشركا، ولا منافقا، ولا باغيا، ولا ظالما، ولا سبوا مؤمنا ولا عادوه; ومنهم من قيده أهله بمكة، ومنعوه من الهجرة، كأبي جندل بن سهيل، فإنه خرج يوم الحديبية من مكة، يرسف بقيوده، فلو أن أحدا منهم سب المسلمين أو عابهم، أو أعان عدوهم، انتقض إسلامه بلا ريب، لكن الله تعالى حفظهم
من هذه الأمور، وعذرهم باستضعافهم وعجزهم.
ولهذا ثبت في الصحيح وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو لهم في الفريضة، كما أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد، قنت بعد الركوع، وربما قال إذا قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد:" اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين " 1 قوله: "والمستضعفين من المؤمنين" هو من عطف العام على الخاص بلا ريب.
ومن المحال أن يسميهم الله ورسوله مؤمنين، وقد وقع منهم ما ينافي الإيمان، قال الله تعالى:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [سورة المجادلة آية: 22] .
فعلم من هذه الآية: أن أولئك المستضعفين من المؤمنين، لما كانوا بمكة مع قريش، أنهم لم يتخذوهم أولياء من دون المؤمنين، ولم يطمعوا منهم بموادة ولا ركون، وحاشاهم من ذلك، كما قال تعالى: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ
1 البخاري: الأذان (804) والجمعة (1006) والجهاد والسير (2932) وأحاديث الأنبياء (3386) وتفسير القرآن (4560 ،4598) والأدب (6200) والدعوات (6393) والإكراه (6940)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (675)، والنسائي: التطبيق (1073 ،1074)، وأبو داود: الصلاة (1442)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1244) ، وأحمد (2/239 ،2/255 ،2/271 ،2/396 ،2/407 ،2/418 ،2/470 ،2/502 ،2/521)، والدارمي: الصلاة (1595) .
لَدُنْكَ نَصِيراً} [سورة النساء آية: 75] ؛ فلهذا وصفهم الله بالإيمان.
وقد أخبر تعالى: أن الإيمان ينتفي بموالاة أعدائه، كما قال:{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 81] . قال بعض المفسرين في الآية الأولى: من الممتنع أن تجد قوما من المؤمنين يوادون من حاد الله ورسوله; وقد تقدم ذلك في كلام شيخ الإسلام، رحمه الله.
ويقال أيضا: إن الله بين حال الذين عذرهم عن الهجرة، وميزهم بالوصف، ممن لم يعذرهم، فقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [سورة النساء آية: 97] ؛ قال في شرح البخاري: والسؤال للتوبيخ; أي: لم تركتم الجهاد والهجرة والنصرة؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 97] .
وروى البخاري في صحيحه عن عبد الرحمن بن الأسود قال: قطع على أهل المدينة بعث، فاكتتبت فيه، فلقيني عكرمة فأخبرته، فنهاني أشد النهي، وقال: أخبرني ابن عباس: أن أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين، يأتي السهم فيصيب أحدهم فيقتله أو يضربه فيقتله، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ
كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [سورة النساء آية: 97] الآيتين.
فتأمل كيف ترتب عليهم هذا الوعيد، وأوجب لهم النار; وقد ورد أنهم مكرهون على تكثير سواد المشركين فقط، فكيف بمن كثر سوادهم بغير إكراه، وأعان وظاهر، وقال، وفعل من غير استضعاف؟ أترى بقي مع هذا شيء من الإيمان، والحالة هذه؟!
ثم إن الله تعالى: بين في هذه الآية، من خرج من هذا الوعيد، بأوصاف لا تخفى على البليد، فقال:{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [سورة النساء آية: 98-99] فذكر أنهم الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، وهم العاجزون عن الهجرة من كل وجه; وهؤلاء هم الذين دعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة المتقدم، بخلاف من لم يعجز عن الهجرة، بل اختارهم ورغب فيهم، وسكن إليهم ووافقهم، وتأيد بهم واستنصر، مثل: عبد الله بن أبي سرح، ومقيس بن صبابة الليثي، وأمثالهما ممن تزين له الباطل، كجبلة بن الأيهم الغساني، وأمثال هؤلاء كثيرون; نسأل الله الثبات على الإسلام، والعفو والعافية في الدنيا والآخرة.
الأمر الثاني: استدلالهم على جواز الإقامة مع المشركين، وتركهم الهجرة، بأن الصحابة هاجروا إلى الحبشة، وفيها نصارى; فيقال أولا: لا يجوز عند من له أدنى معرفة، أن يستدل على ترك الهجرة، بأن الصحابة هاجروا، وكيف يجوز في عقل من له أدنى مسكة من عقل، أن يستدل لترك شيء: بأن ذلك الشيء الذي تركه، قد فعله غيره؟!
وقد عرفت أن الله سبحانه أسجل على من ترك الهجرة، بالوعيد الشديد، وبرئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثنى على من هاجر، ووعدهم على الهجرة بخير الدنيا والآخرة، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 41]، وقال:{فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [سورة آل عمران آية: 195] . وأي جهل أعظم من جهل من يسوي بين حسنات المقربين الأبرار، وسيئات العصاة الأشرار؟ {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [سورة السجدة آية: 18] .
وأيضا: فإن الصحابة رضي الله عنهم، هاجروا إلى الحبشة لما لم يجدوا إذ ذاك دار إسلام، ففعلوا ما أمكنهم
فعله، من طاعة الله، وتقواه؛ وأهل الحبشة، وإن كانوا نصارى، فهم أقرب مودة للذين آمنوا، من اليهود والذين أشركوا.
ثم إنه حصل بتلك الهجرة، من سلامة دينهم وظهوره، والدعوة إلى الله، وإسلام النجاشي، وبعض أساقفته، ونصرتهم وإكرامهم إياهم، وغيظ عدوهم من المشركين، ومراغمتهم ما هو من مقاصد الدين، فتأمل!
وهذا سياق قصة مهاجرة الحبشة: قال أبو نعيم في "منتقاه" من سيرة ابن هشام: قال ابن إسحاق: حدثنا محمد بن مسلم الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت:"لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار "النجاشي" أمنا على ديننا، وعبدنا الله لا نؤذى، ولا نسمع شيئا نكرهه.
فلما بلغ ذلك قريشا، ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هديا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم؛ فجمعوا له أدما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا، إلا أهدوا له هدية.
ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص، وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته، قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدِّما
إلى النجاشي هداياه، ثم اسألاه: أن يسلِّمهم إليكما قبل أن يكلمهم.
قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار، عند خير جار، إلى أن قالت: وكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، وقال له: أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي الضعيف.
وكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه، من الحجارة والأوثان; وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات. وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا. وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.
قالت: فعدد عليه أمور الإسلام، فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا. فعدا علينا قومنا، وعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل من الخبائث؛ فلما قهرونا وظلمونا، وحالوا بيننا وبين ديننا،
خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا: أن لا نظلم عندك أيها الملك.
قالت، فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت، فقال جعفر: نعم، فقال له النجاشي: اقرأ علي; فقرأ عليه صدرا من (كهيعص) . قالت: فبكى النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلي عليهم. ثم قال النجاشي: إن هذا - والله - والذي جاء به موسى، ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكم، ولا أكاد; ثم ساقت القصة".
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان، عن عروة عن عائشة، قالت:"لما مات النجاشي، كانوا يتحدثون أنه لا يزال على قبره نور"، انتهى. وذكر ابن إسحاق في قوله عز وجل {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} [سورة القصص آية: 52] إلى قوله: {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [سورة الرعد آية: 22] الآية، وقد سألت الزهري عن هذه الآيات، فيمن نزلت؟ فقال: ما زلت أسمع من علمائنا، أنهن أنزلن في النجاشي وأصحابه.
والآيات في سورة المائدة: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً} [سورة المائدة آية: 82] إلى قوله: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [سورة المائدة آية: 83] .
قال السهيلي رحمه الله: وفي هذه من الفقه: الخروج من الوطن، وإن كان الوطن مكة على فضلها، إذا كان الخروج فرارا بالدين؛ فإن الحبشة كانوا نصارى، وسمي الصحابة بهذه الهجرة مهاجرين، وهم أصحاب الهجرتين، الذين أثنى الله عليهم بالسبق، فقال:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [سورة التوبة آية: 100] ؛ وجاء في التفسير: أنهم الذين صلوا القبلتين، وهاجروا الهجرتين.
فانظر كيف أثنى الله عليهم بهذه الهجرة، لما كان فعلهم ذلك احتياطا على دينهم، وأن يخلى بينهم وبين عبادة ربهم آمنين مطمئنين؛ وهذا حكم مستمر. فإذا غلب المنكر على بلد، وأوذي على الحق مؤمن، ورأى الباطل قاهرا للحق، ورجى أن يكون في بلد آخر، أي بلد كان، يبين فيه دينه، ويظهر فيه عبادة ربه، فإن الخروج على هذا الوجه حتم على المؤمن؛ وهذه الهجرة لا تنقطع إلى يوم القيامة; انتهى ملخصا.
وكل من له أدنى معرفة، لا يفهم من هذه القصة إلا أنها حجة عظيمة على من ترك الهجرة الواجبة، من وجوه لا تخفى على البليد، اللهم إلا من ابتلي بسوء الفهم، وفساد التصور، وكابر العقل والشرع، فلا حيلة فيه. يا ربنا نسألك الثبات على الإسلام.
وأورد أيضا، حديث: " أنا بريء من مسلم يبيت
بين أظهر المشركين، لا تراءا ناراهما " 1؛ والحجة منه: أنه سماه مسلما; فيفيد: أن إقامته بين أظهر المشركين لا تخرجه عن الإسلام.
فالجواب: أن براءة النبي صلى الله عليه وسلم ممن جلس بين ظهرانيهم، إنما كان عقوبة له، على مجرد الإقامة بين أظهرهم; وأما إيواؤهم، ونقض العهد لهم، ومظاهرتهم، ومعاونتهم، والاستبشار بنصرهم، وموالاة وليهم، ومعاداة عدوهم من أهل الإسلام، فكل هذه الأمور، زائدة على الإقامة بين أظهرهم؛ وكل عمل من هذه الأعمال، قد توعد الله عليه بالعذاب، والخلود فيه، وسلب الإيمان، وحلول السخط به، وغير ذلك مما هو مضمون الآيات المحكمات، التي قد تقدمت; وكل ذنب من هذه الذنوب، له عقوبة تخصه، وكلما ازداد منه، زاد الله له في العقوبة.
فإن لم يؤمن بتلك الآيات المحكمات، ويعترف بصدور تلك الأعمال منه، فما أشبه حاله بحال من قال الله فيهم:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [سورة البقرة آية: 85-86] .
1 الترمذي: السير (1604)، والنسائي: القسامة (4780)، وأبو داود: الجهاد (2645) .
واعلم: أن هؤلاء المشركين، لم يرضوا من هذا وأمثاله، بمجرد الموالاة والنصرة، دون عبادتهم، وتسويتهم لهم بالله، في التعظيم والإجلال، والتودد إليهم؛ فمن ذلك الانحناء لهم، والإشارة باليد إلى أشرف أعضاء السجود، وهو الجبهة والأنف؛ وكل ذلك من خصائص الإلهية، وذلك أمر لا محيد لهم عنه، كما قال تعالى عن أهل الكهف:{إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [سورة الكهف آية: 20] ، ولهذا لم يجدوا من مفارقتهم بدًّا، حتى ذهبوا إلى غار في رأس جبل، خوفا من ذهاب دينهم؛ فآثروا الله على كل ما سواه.
قال شيخنا، في هذه القصة: فيه اعتزال أهل الشرك، واعتزال معبوداتهم، وقوله: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [سورة الكهف آية: 16] فيه شدة صلابتهم في دينهم، حيث عزموا على ترك الرياسة الكبرى، والنعمة العظيمة، واستبدلوا بها كهفا في رأس جبل.
قلت: ومثل ذلك ما ذكره الله عن سحرة فرعون، لما استنارت قلوبهم بالإيمان، قالوا لفرعون لعنه الله:{لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [سورة طه آية: 72] .
واعلم: أن حقيقة حال هؤلاء المشبهة، أن الله تعالى
أمرهم بقتال المشركين فقاتلوا معهم، وأمرهم بالبعد عنهم فآووهم، وقربوا منهم، وأمرهم بمعاداتهم فوالوهم، وأمرهم ببغضهم فوادّوهم، وأمرهم بأن ينصروا أهل الإسلام فنصروا الكفرة عليهم، ونهاهم عن مداهنتهم فداهنوهم، ونهاهم عن كتمان ما أنزل الله من هذا وغيره فكتموا وشبهوا، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 174] .
وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 140]، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [سورة البقرة آية: 159] الآية، فجمعوا بين الكتمان والرد على من بين ولم يكتم، والتشبيه والمجادلة بالباطل، فتركوا ما أوجبه الله عليهم، وارتكبوا ما حرم عليهم؛ وهذا ظاهر جدا لا يرتاب فيه من له أدنى معرفة بالناس؛ وما وقع منهم، فلا يأمنهم ويقربهم بعد هذه العظائم، إلا من سفه نفسه.
ولهم شبهة أخرى، وهي: أن أبا بكر استأجر عبد الله بن أريقط، في طريق الهجرة إلى المدينة، وكان هاديا خريتا، يدلهم على الطريق، فأحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبته؛ فتكون صحبته للعسكر، وإعانتهم على
المسلمين، ونصرتهم لا بأس بها.
فيقال: أولا: قد ذكرت في الشبهة التي قبل هذه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أنا بريء من مسلم بات بين أظهر المشركي ن" 1، وهذا يناقض ما استدللت به هنا، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتبرأ من صاحب عمل وهو يفعله؛ ومثل هذا قوله:" من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله " 2، والآيات المحكمات صريحة، في التحذير من موالاتهم، ناطقة بالوعيد الشديد على موادتهم ونصرتهم؛ إذا عرف هذا، فالفرق بين الدليل والمدعى، أبعد مما بين المشرق والمغرب.
وذلك أن ابن أريقط أعان رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبر البر بعد الإسلام، وأفرض الفرائض بعد الإيمان، وسعى لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مصالحه التي يتوصل بها إلى رضى مولاه، ومراغمة أعدائه; ولا ريب أن هذا لو صدر من ابن أريقط بنية صالحة، لكان من أفضل الأعمال; فإذا أسلم كتب له ذلك من أفضل حسناته، على حديث حكيم " أسلمت على ما أسلفت من خير "3، بخلاف من آوى المشركين، ورضي بهم بدلا من المسلمن، وأعانهم واستنصر بهم، وفرح بنصرهم، وظهورهم، ودعا الناس إلى متابعتهم؛ فالفرق بين الفعلين، كالفرق بين فعل أبي طالب، من النصرة،
1 الترمذي: السير (1604)، والنسائي: القسامة (4780)، وأبو داود: الجهاد (2645) .
2 أبو داود: الجهاد (2787) .
3 البخاري: الزكاة (1436)، ومسلم: الإيمان (123) ، وأحمد (3/402) .
والحياطة والحماية، وفعل أبي جهل وعقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث؛ فلو أسلم أبو طالب لكان فعله من أعظم القربات.
وفعل أبي جهل وأمثاله من أعظم الكفر، الموصل إلى الدركات في العذاب، وحلول المثلات; فأين من أعان الباطل، وواد أهله ونصرهم، وظاهرهم، ممن أعان المسلمين، وسعى في مصالحهم، وراغم عدوهم؟
سارت مشرقة وسرت مغربا شتان بين مشرق ومغرب
فابن أريقط فعل خيرا، كما فعل سراقة بن مالك، فقد فعل من النصيحة في حال كفره ما يحمد به باطنا وظاهرا، بخلاف من والى المشركين، ونصح لهم، وعادى المسلمين، وألّب عليهم; فإنه قد وقع في الوعيد والسخط، والمقت، وفساد الدين، ومفارقة المؤمنين؛ والله أعلم بما يؤول إليه حال أعيان أولئك.
لكنه يخشى عليهم أن يصيبهم، مثل ما قصه الله في شأن "بلعام" وأهل مسجد الضرار، وقد كانوا قبل ذلك في عداد الأنصار; فيا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على الإيمان. ولا ريب أن عدول هذا المستدل، عن الآيات المحكمات، وصحيح الأخبار، ترك للمحكم واتباع للمتشابه، كما قال تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [سورة آل عمران آية: 7] الآية؛
وعن عائشة رضي الله عنها، مرفوعا:" إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم "1.
وحاصل ما قدمنا من الجواب، عما أورده المشبه هنا، يتضمن خمسة أوجه:
الأول: أن ابن أريقط أجير، ومن شأن الأجير أن يخدم المستأجر; لأنه ملك منافعه بعقد الإجارة؛ والأجير تحت المستأجر.
الوجه الثاني: أن ذلك الرجل مستأجر في مصلحة دينية، هي من أكبر مصالح الدين؛ فإعانته للمسلم وقت الحاجة إليه لا محذور فيها; لكونها مصلحة محضة. فكيف يجوز أن يستدل بذلك على ما هو أعظم المفاسد في الدين، وموالاة المشركين وإعانتهم على باطلهم، والصد عن سبيل الله؟! شعرا:
شتان بين الحالتين فإن ترد جمعا فما الضدان يجتمعان
الوجه الثالث: أن استئجار المسلم للكافر للمصلحة، نظير استرقاق الكافر؛ وذلك جائز، بخلاف العكس، فإنه لا يجوز; لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. وهذا المشبه كأمثاله، صاروا لأهل الباطل كالمماليك في طاعتهم ومتابعتهم، وإعانتهم، اختيارا منهم لا اضطرارا.
الوجه الرابع: أن ما فعله ابن أريقط لا يعاب عليه
1 البخاري: تفسير القرآن (4547)، ومسلم: العلم (2665)، والترمذي: تفسير القرآن (2994)، وأبو داود: السنة (4598) ، وأحمد (6/48 ،6/132 ،6/256)، والدارمي: المقدمة (145) .
عقلا ولا شرعا; بل قد يثاب عليه في حال كفره في الدنيا، إن لم يكن أسلم، ولعله - والله أعلم - صار سببا لإسلامه، لقربه من الإسلام، بإعانة أهله على طاعة ربهم، فإنه يستروح لذلك بقول الجن في شعرهم:
هما نزلاها بالهدى فاهتدت به فقد فاز من أمسى رفيق محمد
وهذا بخلاف من أعان على معصية الله - والصد عن سبيله; فأين من كان مع أهل الحق، ممن كان مع عدوهم؟! وهل سمعت بتفاوت أعظم من هذا التفاوت؟ شعرا:
والله ما استويا ولن يتلاقيا حتى تشيب مفارق الغربان
الوجه الخامس: أن ما فعله ابن أريقط يغيظ كفار قريش، وإغاظة الكفار يحبها الله، بخلاف من يفعل معهم ما يسرهم، ويغيظ عدوهم من المؤمنين؛ فأين هذا من هذا، لو كانوا يعلمون؟! والبصير يعلم: أن هذا التشبيه من هؤلاء على العوام، صد لهم عن سبيل الله، وأنه من آثار عقوبات تلك الأعمال.
اللهم إنا نعوذ بك أن نفتن عن ديننا، أو نرد على أعقابنا، وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا; وهذا آخر ما تيسر جمعه، والله أسأل أن يعم نفعه.
[الرد على ما في ورقة رجل من فارس لما تضمنته من الشقاق لأهل التوحيد]
وله أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فقد وقفت على ورقة لرجل من أهل فارس، تضمنت من الجهل والشقاق لأهل التوحيد، ما يتبين للبصير أنها لم تخرج إلا من رجل أجهل من حماره، يعتقد المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، والحق باطلاً والباطل حقا، ويأتي بالمحال في معرض الجدال؛ وهذا لفظه:
من عبد الرحمن بن محمد، إلى مخدومنا: الحاج إدريس. أما بعد، فلا يخفى على جنابك من طرف هذا الرجل الذي نزل في "دوان" يذكر عنه ما ليس بمرضي، من تأويل الكتاب والسنة، بتأويل أهل البدع؛ فلا تغتر بما يلوح لكم من قوله: قال الله قال رسوله; لأن أهل الملل الثنتين والسبعين الهالكة، كلهم يقولون: قال الله قال رسوله؛ فلا اعتبار بقولهم.
فالجواب وبالله التوفيق: قوله: ليس بمرضي; فمن المعلوم: أن الملحد لا يرضى بقول الموحّد كعكسه، كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى
الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [سورة النساء آية: 61] .
فمن تأمل كلامه هذا، وجده جاريا على أسلوب اعتقاد المنافقين، لأن قلوبهم تأبى الحق وقوله، وتعرض عن دليله، وتنكر مدلوله، ويسمون أهل الإيمان سفهاء، كما قال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [سورة البقرة آية: 13] الآية.
فما أشبه الليلة بالبارحة! كذا يقول أمثالهم في هذه الأزمنة في أهل التوحيد، أنهم أهل بدعة؛ فبفساد قلوب هؤلاء المنافقين أنكروا الحق، ونصبوا العداوة لأهله، كما قال تعالى:{لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [سورة التوبة آية: 10] . يحقق ما قلناه في هذا الملحد، قوله لمخدومه إدريس: فلا تغتر بما يلوح لك من قوله: قال الله تعالى، قال رسوله; لأن التحذير عن سماع ما قال الله ورسوله، وتسميته ذلك غرورا، هذا بعينه قول أهل النفاق.
وقوله: إن أهل الملل الثنتين والسبعين الهالكة كلهم يقولون: قال الله، قال رسوله، فلا ريب أن هذا القول - مع فساده عقلا وشرعا - من حيل أهل البدع والضلال، ليصرفوا قلوب الجهال عن قبول أدلة الكتاب والسنة؛ وهذا إنما تفرع عن ذلك الأصل
الفاسد، وهو كراهة الحق، وعداوة أهله.
ومن لم يقبل الدليل من الكتاب والسنة، امتنع عليه معرفة الحق من الباطل؛ فإذا لم يعرف الحق بدليله، لم يبق هناك ما يمنعه من عقائد أهل الأهواء والضلال; لأنه إذا جهل الحق ضل عنه، وغلب عليه الباطل، كحال أكثر الخلق; فإنهم لما غاب عنهم الدليل، ضلوا عن سواء السبيل.
فلا ريب أن هذه الشبهة من أعظم مكائد الشيطان، التي كاد بها أولياءه من الإنس والجان، ليصرف بها قلوبهم عن قبول الحجة والبرهان، كما قال تعالى:{فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} [سورة الأنعام آية: 157] .
ويقال لهذا المفتري الجاهل أيضا: إذا كان أهل الملل الثنتين والسبعين يقولون: قال الله، قال رسوله، فكيف يصير ذلك مانعا من قبول الدليل؟ والإصغاء إليه بالكلية؟! وبطلان هذا يدركه كل عاقل، وينتقض عليه هذا الأصل الفاسد، بأن الفرقة الناجية إنما تستدل بأدلة الكتاب والسنة؛ وذلك هو الذي تعتمده الفرقة الناجية؛ وهي أسعد الفرق بمعرفة الأدلة الشرعية ومدلولها.
وتبين خطأ الفرق الثنتين والسبعين، في موارد الأدلة ومفهومها؛ فجميع ما استدلت به الفرق من أدلة الكتاب والسنة صحيح، لكن الخطأ في فهم المستدل. فإذا تحقق معنى الدليل، رجعت أدلة الكتاب والسنة كلها إلى تقرير ما عليه الفرقة الناجية؛ فيجب قبول الأدلة والنظر في معناها، وما أراده المستدل، فقد يكون دليله حجة عليه.
وأما قوله: إنه يتأول الكتاب والسنة، بتأويل أهل البدع.
فيقال له: بين لنا تأويله الكتاب والسنة، وما وافق فيه أهل البدع، ومن الذي تعني بأهل البدع؟ فإن كنت تعني بهم أهل السنة والجماعة، بتأويلهم الصحيح، الموافق لما عليه الصحابة، والتابعون وأتباعهم من الفقهاء، وأهل الحديث، الذين يعتمدون تفاسير الأئمة المشهورين الذين يفسرون الآيات بالآثار المرفوعة، أو الموقوفة على الصحابة، وبتفسير الصحابة، ومن أخذ عنهم من أئمة التفسير.
وأشهر من صنف التفسير: الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، ومحمد بن جرير، فسر القرآن بالأحاديث، وأقوال أئمة التفسير من السلف، ونقلها بالأسانيد، وكذلك من نحا نحوهم، كالحسين بن مسعود البغوي، والعماد بن كثير الشافعي،
والسيوطي في كتابه "الدر المنثور".
فأهل نجد اليوم، أهل الدعوة الإسلامية، ومن أخذ عنهم، إنما يعتمدون في معاني الكتاب والسنة، على مصنفات أهل السنة والجماعة.
وأما الأشاعرة فتعتقد هم أهل السنة، وليسوا كذلك؛ فإنهم تأولوا نصوص الكتاب والسنة، بتأويل أهل الكلام الذين خاضوا مع المعتزلة والجهمية، فأحدثوا للنصوص تأويلات اختلقوها من عند أنفسهم، خالفوا فيها السلف، والأئمة الأربعة، وغيرهم من أهل السنة والجماعة; فتأويلاتهم للكتاب والسنة، تأويلات أحدثها أهل الكلام {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [سورة يوسف آية: 40] .
وكل صاحب بدعة، لا يألف إلا كتب من هو مثله، كالأشاعرة، فإنهم لا يألفون من التفاسير وغيرها، إلا تفاسير من هو مثلهم في المعتقد، ممن يؤول النصوص، ويصرفها عن مدلولها اللائق بجلال الله، وعظمته، ويخالف أهل السنة في الإيمان، وحكمة الرب تعالى، ويقول بالجبر; وهذه البدع أخذوها عن أتباع جهم بن صفوان. وكذلك المعتزلة، لا يقبلون إلا تفاسير أمثالهم في المعتقد. وكذلك الباطنية لهم تفاسير خالفوا فيها الجميع.
وكذلك الرافضة، لهم تفاسير، ولهم تأويلات فاسدة. وأما أهل السنة والجماعة، فإنهم تمسكوا بالكتاب
والسنة، وأقوال الصحابة والتابعين والأئمة، وأثبتوا لله ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات كماله، على ما يليق بذي الجلال، إثباتا بلا تأويل، وتنْزيها بلا تعطيل، لا ينفون عنه صفات كماله، ولا يشبهونه بخلقه؛ تعالى الله عما يقوله المشبهة، والمعطلة علوا كبيرا.
وينكر أهل السنة والجماعة، ما أنكره النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو في أهل القبور، والإطراء والتعظيم، والبناء عليها وإسراجها، والعكوف عندها وعبادتها، والرغبة إليها في قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وتعظيمها بالسدنة.
فإن النص الصريح، والعقل الصحيح، يمنع أن يكون الميت يسمع ويضر وينفع، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13-14] .
إذا علم ذلك، فلا ريب: أن كثيرا من أئمة الحديث، صنفوا في إبطال مذهب الأشاعرة ومن وافقهم من نفاة الصفات، وبينوا ما دل عليه الكتاب والسنة. وأول من صنف في ذلك: الإمام أحمد بن حنبل، وابنه عبد الله، وأبو بكر المروذي، وأبو بكر الخلال، وعثمان بن سعيد الدارمي وإمام الأئمة محمد بن خزيمة، وأبو عثمان
الصابوني، والدارقطني، وأبو عمر بن عبد البر النمري، ومحمد بن جرير الطبري، في التفسير الكبير، وابن أبي حاتم، ومن بعدهم، كالقاضي أبي يعلى الحنبلي، وأبي محمد عبد الله بن قدامة المقدسي، وشيخ الإسلام ابن تيمية في عامة كتبه، ومن أشهرها: كتاب العقل والنقل، الذي لا نظير له، وكتاب المنهاج في رده على الرافضة، والعلامة ابن القيم رحمه الله، في الجيوش، والصواعق.
وكل هؤلاء وأمثالهم من أهل السنة والجماعة، ممن لا يمكن حصرهم سلفا وخلفا، قد خالفوا الأشاعرة، وردوا مذهبهم; وممن خالفهم: أبو الحسن الأشعري، في كتبه الإبانة والمقالات، والرسائل; وصرح بأنه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، في إثبات الصفات، والإيمان، وغير ذلك من أصول الدين؛ فالحمد لله الذي هدانا لما اختلف فيه من الحق بإذنه.
وأما قول هذا الجاهل: وإنما المتبوع الفرقة الناجية، المتبعة للكتاب والسنة، على ما بين الشارع صلى الله عليه وسلم، ثم الخلفاء الراشدون، ثم الأئمة الستة "اللقاط"، ثم الأئمة الأربعة النقاد، وانعقد على ذلك الإجماع، في القرن الثاني؛ فمن أتى بمذهب غير ذلك فهو مبتدع، وإن زعم أنه يقول عن الله ورسوله.
فالجواب: انظر إلى هذا التناقض الفاسد، تارة يحذر عمن استدل بالكتاب والسنة، ثم يمدح من اتبع الكتاب والسنة، على ما بين الشارع والخلفاء الراشدون، ثم أئمة الحديث والأربعة؛ وقد عرفت مما تقدم أنه خالف هذا كله، وخالف هؤلاء المذكورين في أصول الدين، وألحد في الأسماء والصفات، وسب أهل التوحيد والإثبات.
واعتمد عقيدة ما أنزل الله بها من سلطان، لم يبينها الشارع، ولا الخلفاء الراشدون، ولا الصحابة ولا التابعون، ولا الأئمة الأربعة؛ فمدح الفرقة الناجية، وهو عنها بمعزل، ومدح أتباع الكتاب والسنة، وهو يحذر عن سماع ذلك وقبوله. فما أقبح هذا التناقض وما أخنعه!
وقد عرفت أنه أظهر الشناعة على من اتبع الفرقة الناجية في التوحيد، والإثبات والإيمان; ومن المعلوم: أن الفرقة الناجية يعمرون المساجد بالصلوات والطاعة، ويهدمون المشاهد والبناء على القبور، وينكرون دعاءها والاستغاثة بها، وسدوا الطرق والوسائل إلى ذلك، فهدموا البناء عليها، وأمروا بتسويتها، لئلا يغلو فيها غال فيعظمها.
كما في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال، قال لي علي:" ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته "، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " لعن زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج "1.
1 الترمذي: الصلاة (320)، والنسائي: الجنائز (2043)، وأبو داود: الجنائز (3236)، وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1575) ، وأحمد (1/229 ،1/287 ،1/324 ،1/337) .
وصح عنه أنه قال: " لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 1 يحذر ما صنعوا; وقال لأم سلمة وأم حبيبة، حين ذكرتا له كنيسة رأتاها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور:" أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح، أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور؛ أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة "2.
وقد حدث من هذه المنكرات في هذه الأمة كثير، حتى اعتقدوه قربة ودينا، واشتد نكيرهم على من أنكرها من الموحدين، ورموه بالبدعة.
وأما قوله: من أهل الحديث الستة "اللقاط" والأئمة الأربعة "النقاد".
فقوله: "اللقاط" كلمة محدثة، لم يستعملها أحد من أهل العلم. وقوله:"الستة" لا وجه لهذا الحصر، فلقد صنف في الحديث عدد كثير، وجم غفير يتعذر حصره، وحصر ما صنفوه من الكتب.
وأما قوله: والأئمة الأربعة النقاد، فحصر العلم والدين في المذاهب الأربعة، مما أحدثه غلاة المقلدين من المتأخرين، وإلا فمن المعلوم: أن كل من صنف في الفقه من الأئمة بعد الأربعة، يذكر من أقوال الأئمة الأربعة وغيرهم، ويذكرون دليل كل قول نصحا للأمة، وحفظا للعلم، فلعل قول
1 البخاري: الصلاة (436)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531)، والنسائي: المساجد (703) ، وأحمد (1/218 ،6/34 ،6/80 ،6/121 ،6/252 ،6/255 ،6/274)، والدارمي: الصلاة (1403) .
2 البخاري: الصلاة (434)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (528)، والنسائي: المساجد (704) ، وأحمد (6/51) .
غيرهم، يكون أرجح من جهة الدليل؛ فالمجتهدون من الأئمة، أكثر من أن يحصروا; وقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في مسائل من العلم، وهي مذكورة في كتب المصنفين، في الخلاف كابن المنذر، وأبي عمر بن عبد البر، وابن حزم، وصاحب المغني وغيرهم، وكذلك أقوال الفقهاء السبعة من التابعين، وأقوال غيرهم، كإبراهيم النخعي والحسن، وابن سيرين وربيعة بن عبد الرحمن، شيخ الإمام مالك، وحماد بن أبي سليمان، شيخ أبي حنيفة، وكالليث بن سعد، إمام أهل مصر، والأوزاعي إمام أهل الشام، وسفيان الثوري إمام أهل العراق، وأبي ثور، وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه، ومحمد بن نصر، وداود بن علي الظاهري، وأمثال هؤلاء يذكر العلماء أقوالهم.
وما استدل به القائل لقوله: وربما وقع في أقوالهم ما يخالف أقوال الأئمة الأربعة، ومن أتباع الأئمة الأربعة، من يختار غير قول إمامه، فدعوى هذا الجاهل الإجماع على مذاهب الأربعة، وترك من خالفها، وأن خلافها بدعة، كذب وافتراء على العلماء، شعرا:
لا يبلغ الأعداء من جاهل
…
ما يبلغ الجاهل من نفسه
وأما قوله: وبهذه الحيلة يجرون اعتقاد ابن تيمية،
ومذهبه في الخلق.
فالجواب: اعتقاد ابن تيمية هو الحق، يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قبله من المرسلين {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة المؤمنون آية: 32] ، وقوله:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 64] الآية.
وينهى عن الشرك المنافي لهذا التوحيد، ويعرف به، ويبين أنه هو الواقع من كثير من هذه الأمة - ويورد الأدلة على بطلانه، ويبين الفرق بين نوعي التوحيد، توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية - فعبدوا مع الله غيره؛ وهذا الشرك هو الذي أباح دماءهم، وأموالهم حيث لم يتركوه.
وترك هذا الشرك، هو مدلول كلمة الإخلاص، لا إله إلا الله، كما قال تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 35-36] فجملة "لا إله" نفت الشرك في الإلهية، وجملة "إلا الله" أثبتت الإلهية لله، دون كل من سواه.
فهذا الشيخ قرر هذا التوحيد بأدلته، وصنف الكتب في بيانه، ونفى ما ينافيه؛ فلا ينكر اعتقاد هذا الشيخ، إلا مشرك بالله، يعتقد الشرك، ويراه دينا، نعوذ
بالله من الشرك وأهله.
وأما اعتقاده في توحيد الأسماء والصفات، فهو الذي يعتقده الصحابة والتابعون، ومن بعدهم من أهل السنة والجماعة، يثبتون لله ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال، ونعوت الجلال، وينفون عن الله مشابهة المخلوقين، في ذاته وصفاته; ويقول: إن إثبات الصفات فرع عن إثبات الذات؛ فكما أن لله ذاتا لا تشبه الذوات، فصفاته كذلك لا تشبه صفات المخلوقين، تعالى الله عما يقول المشبهة علوا كبيرا.
وهذا معتقد الأئمة الأربعة، ومن سلك سبيلهم من أهل السنة يُنَزّهون الله تعالى عن كل عيب ونقص، ويثبتون له كل كمال على ما يليق بذي العزة والجلال. وقرر هذا الشيخ هذا المذهب، وبين نصوص علماء السلف في ذلك.
وله الكتب المشهورة في أصول الدين؛ وهو الذي رد على الفلاسفة والمعتزلة والجهمية، وأتباعهم من الأشعرية والكرامية، والماتريدية، فإن هذه الطوائف الثلاث، وافقوا الجهمية في الكثير من بدعتهم، وخالفوهم في شيء، وغلطوا على السلف، وادعوا أن مذهبهم الإيمان باللفظ، وتفويض المعنى; وبين شيخ الإسلام وجه غلطهم على السلف، وأوضح ذلك في أكثر مصنفاته.
فهو الإمام الذي لا يجارى ولا يمارى في فنون العلم، وهو حنبلي المذهب لا يخرج عن مذهب الإمام أحمد، وهو أحسن من اجتهد في مذهب إمامه; لقوة نظره وفهمه لمعاني الأدلة، والتوفيق بين ما قد يظن اختلافا، وقد خالف المذهب في مسائل قليلة يظهر رجحانها عنده، وعند العلماء.
وقد عظم هذا الشيخ كثير ممن قد اجتمع به من العلماء، حتى قال بعضهم: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث، وقال ابن دقيق العيد - لما رآه - رأيت رجلا كل العلوم بين عينيه، يأخذ ما شاء ويدع ما يشاء، انتهى.
وأما إلحاق هذا الخبيث له بمسيلمة الكذاب، فمن تعمقه في باطله، وشدة عداوته لأهل الحق، ومن عادى أتباع الرسل فقد عاداهم; وهذا الملحد هو الأشبه بمسيلمة الكذاب، لكذبه على أهل التوحيد; بل كذب بالحق لما جاءه، فهو ومسيلمة رضيعا لبان، يعرف ذلك من له أدنى عقل ومعرفة.
وأما قوله: فإن كنت في شك من هذا، فأتوا به إلينا حتى نخرج أضغانهم.
فالجواب: أقول: هو الذي أخرج أضغانه، وكشف عن حاله، وعن سوء معتقده، عبر عنه بفساد مقاله وشدة
ضلاله، كما لا يخفى.
ثم إنه أتى في ورقته بمقالة قصمت ظهره، فقال: فالحذر منهم لازم، إلا من قال: إنه شافعي، وإن أفتى بقول الشافعي، فاتركوا قوله.
فالجواب أن يقال: أي سبب اقتضى هذا الغلو العظيم، في قول الإمام الشافعي؟ وما وجه هذا التخصيص، من دون جميع الأئمة وعلماء الأمة؟ وصحيح العقل لا يقول هذا; لأن الأمة أجمعوا على أنه لا يتعين قصر أحد على قول إمام واحد، بل كلهم يقول: يجوز تقليد من يجوز تقليده، من أئمة المسلمين; والشافعي رحمه الله ليس بأفضل الأئمة، ولا بأكثرهم رواية، ولا بأوسعهم علما.
قال بعض المحققين من أئمة أهل السنة: وأما إن قلد شخصا دون نظيره، بمجرد هواه، ونصره بيده، ولسانه من غير علم أن الحق معه، فهذا من أهل الجاهلية، وإن كان متبوعه مصيبا لم يكن عمله صالحا، وإن كان متبوعه مخطئا كان آثما، كمن قال في القرآن برأيه، فإن أصاب فقد أخطأ، وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار، انتهى.
وهذا الجاهل قد تناقض، فادعى الإجماع على مذاهب الأربعة، وقد أخطأ في هذا كله، وقد ترك معتقد الإمام الشافعي في توحيد الأسماء والصفات، وهو مجمع عليه
بين الصحابة والتابعين، وأتباعهم والأئمة، ورغب عن معتقدهم كلهم وما أجمعوا عليه، واعتقد قول الأشاعرة المخالف للكتاب والسنة، وما عليه السلف والأئمة.
فهو من أعظم من ترك قول الشافعي المجمع عليه، فظهر تناقضه وجهله وخرقه للإجماع؛ وهذا من فساد عقله، لأنه جعل قول هذا الإمام جسرا تذاد عنه أقوال العلماء المجتهدين، وتذاد عنه نصوص الكتاب والسنة، فلا يلتفت إليها عند قوله؛ فما أعظمها من زلة! وما أكبرها من خطيئة وضلة!
ومن تأمل قول هذا الجاهل: رآه قد تنقص العلماء سلفا وخلفا، وغلا في الإمام الشافعي، غلوا لا يرضاه من له أدنى معرفة بالعلماء والفقهاء ومراتبهم في العلم، فما أجهل هذا الشخص! وما أشنع ما يأتي به من المحال! وما أفسد ما يورده من الجدال!
وأما قوله: وأمر الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي أن يخرج ابن تيمية من الحرمين.
فالجواب: هذا من اختلاقاته وكذبه الفاحش، فإن ابن حجر هذا، لم يكن في عصر شيخ الإسلام ابن تيمية; بل ولا عاصره أحد من شيوخ ابن حجر، وإنما كانت وفاة شيخ الإسلام بأوائل القرن الثامن، وابن حجر وشيوخه
بعده بأعصار.
والمقصود: أن هذا الفارسي أظهر للناس فساد عقله ودينه، فمن ذلك: إنكاره على شيخنا، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ما وضعه في أصول الدين، من المسائل، والقواعد؛ ولا ريب أنها قد تضمنت معرفة الحق بدليله، والجهل بما فيها من الأصول هلاك وضلال؛ فلا يصح إسلام أحد إلا بمعرفة ما تضمنته هذه الأصول والقواعد.
فأما المسائل، ففيها معرفة الله بما نصب لعباده من آياته ومخلوقاته، ودلالة القرآن على ذلك؛ وهذه هي المسألة الأولى. الثانية: معرفة دين الإسلام بدليله، وهو الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه. المسألة الثالثة: معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدليل.
وهذه الثلاث هي مسائل القبر، التي يسأل عنها كل إنسان في قبره حال الدفن؛ فمن عرفها نجا، ومن جهلها هلك، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة؛ وكل مسألة يبرهن عنها في العلم، يعبر عنها بهذه العبارة، فيقال: مسألة كذا، مسألة كذا، فكيف يسوغ لأحد أن ينكر ما هو معروف متداول عند العلماء؟!
وكذلك القواعد، فإن كل مسألة ينبني عليها مسائل، يسميها العلماء قاعدة، وقد صنف العلماء كتبا كبارا، وسموها بالقواعد؛ فمنها ما هو في أصول الفقه،
كالقواعد لابن عبد السلام الشافعي، وابن اللحام الحنبلي، ومنها ما هو في الفقه، كالقواعد لابن رجب، وهو كتاب ضخم كبير الحجم. وهذه القواعد التي وضعها شيخنا رحمه الله، أحق بهذا الاسم من غيرها، لما ينبني عليها من أصول الدين؛ فإن معرفة توحيد الربوبية، من توحيد الإلهية، لا يسع أحدا جهله.
فالقاعدة الأولى، في بيان توحيد الربوبية، وأن المشركين أقروا بذلك. والقاعدة الثانية، في توحيد الإلهية وبيانه، وأنه هو الذي جحده المشركون، وأوجب قتالهم وشدة عداوتهم، لكونهم جحدوا هذا التوحيد، وجعلوا لله شريكا في العبادة، وبيان ما وقع في هذه الأمة من هذا الشرك في الربوبية والإلهية؛ وهو الشرك الذي لا يغفره الله، وأسجل على من فعله بالخلود في النار، إن مات على ذلك الشرك.
وقبل هذا الشيخ رحمه الله، وبيانه لهذه القواعد ومعناها، قد التبس ذلك على أكثر الناس، واعتقد هذا الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله دينا، ظنوا أنه يقربهم إلى الله؛ فرحم الله هذا الشيخ، فلقد أخرج الله به كثيرا من هذه الأمة، من ظلمات الجهل إلى نور التوحيد والإيمان.
وقبله لا يعرف كثير من الناس معنى لا إله إلا الله، والحاذق منهم يظن أن معناها: لا يخلق ولا يرزق، ولا
يحيي ولا يميت، إلا الله؛ وهذا قد أقر به المشركون، لكنهم جحدوا توحيد الإلهية، الذي هو مدلول كلمة الإخلاص؛ فإنها تنفي إلهية كل من سوى الله، وتثبت الإلهية لمن لا يستحقها غيره، وهو الله تعالى; والإله هو المألوه بالعبادة، فمن صرف شيئا من العبادة لغير الله فقد اتخذه إلها.
وأفراد العبادة كثيرة; منها الدعاء والرجاء، والإنابة والخشية، والرغبة والرهبة، والخوف والتوكل وغير ذلك من أنواع العبادة بالقلب والجوارح؛ وتلك الأنواع وغيرها لا يصلح منها شيء لغير الله.
وكلمة الإخلاص: دلت على قصر العبادة بأنواعها على الله، ونفيها عما سواه، كما قال تعالى.:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِوَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26-27-28] .
فمن أنكر هذه القواعد التي وضعها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب قدس الله روحه، فقد كفر بما تضمنته من أدلة أصول الدين، التي تضمنتها آيات القرآن المحكمات وصحيح الأحاديث؛ وذلك هو الدين القيم، كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة الروم آية: 30-31-32] .
وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] .
وبهذا البيان، يعلم المنصف أنه لا ينكر تلك القواعد إلا من أقعده جهله، وعميت بصيرته، وضل فهمه، وتغيرت فطرته، وضاع عقله; نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله معرفة الحق وقبوله، ومحبته والعمل به والثبات عليه، والاستقامة في الدنيا والآخرة؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما.
[الرد على رسالة من الأحساء مشتملة على الكذب والبهتان]
وله أيضا صب الله عليه من شآبيب بره ووالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنوره أهل العمى؛ فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، ومن تائه ضال قد هدوه؛ فما أحسن أثرهم على الناس! وما أقبح أثر الناس عليهم!
ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا أعنة الفتنة؛ فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب مجمعون على مخالفة الكتاب، يقولون على الله وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم; فنعوذ بالله من فتن المضلين.
أما بعد: فإنه قد ألقي إلينا رسالة من الأحساء مشتملة على الكذب والبهتان، والإثم والعدوان، قد صدرها صاحبها بشبهة تنبئ عن شكه في الدين وانحرافه عن سبيل المؤمنين.
وهذه الشبهة التي ألقاها، هي التي أوردها شياطين أهل نجد، على شيخنا شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، لما دعاهم إلى أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، ويتركوا عبادة ما كانوا يعبدونه، من القبور والطواغيت، والأشجار والأحجار.
وممن أورد هذه الشبهة: عبد الله المويس في سدير، وابن إسماعيل في الوشم، وابن سحيم وابنه في الرياض، وسليمان بن عبد الوهاب في حريملاء، زعموا: أن هذه الأمة لا يقع فيها شرك ولا بدعة؛ فورثهم هذا الجاهل المرتاب، فقال بقولهم سواء بسواء.
وقد رد شيخنا، رحمه الله، شبهة أولئك المنكرين لدين الإسلام والدعوة إليه، وأبطل شبههم بالآيات المحكمات البينات، وبالسنة الصحيحة الصريحة، وبالعقل والفطرة، وبين بالأدلة والبراهين أن هذا الذي يفعله أولئك وغيرهم، في تلك الأوقات، أنه الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله.
وبين أن الذي دهى هؤلاء، وصدفهم عن معرفة الدين الذي بعث الله به المرسلين، هو عدم معرفتهم للتوحيد، وجهلهم بالشرك في العبادة والتنديد؛ وقد ألفوا هذا الشرك واعتادوه، فأنكروا ما خالف تلك العوائد، واشمأزت قلوبهم من الدعوة إلى الإخلاص في العبادة.
فأبطل الله ما أوردوه من الشبهات، فصمموا على الإنكار، وصاحوا عند الظلمة والفجار، فأظهر الله - وله الحمد - هذه الدعوة، وقبلها من أراد الله هدايته، وهم الخلق الكثير والجم الغفير، وأقر بها كثير من أهل الأمصار. وانتشرت بحمد الله في هذه الأعصار، ونفع الله بها أناسا من أهل تلك الأقطار، فاطمأنت بها القلوب، وذلت بها الألسن، فلم
يبق لأهلها فيها مجادل ولا معاند، ولا مماحل. فلله الحمد على ظهور الحجة، وبيان المحجة، لا نحصي ثناء عليه، ولا ملجأ منه إلا إليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم إن هذا الجاهل أظهر تلك الشبهة في هذا الوقت القريب، وصدر به كتابه الذي ألقاه، وأخفى نفسه، فقال فيما ضمنه رسالته: أيها الرجل الجاهل المعجب بنفسه، لقد غويت وجهلت باعتقادك في هذه الأمة المحمدية، الذين قال الله فيهم:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [سورة آل عمران آية: 110]، وقال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [سورة البقرة آية: 143] أي: عدلا خيارا.
وقال صلى الله عليه وسلم: " ألا وإن هذه الأمة توفي سبعين أمة، هي خيرها وأكرمها عند الله " 1، وذكر أحاديث في فضل الأمة قد حرفها، كما حرف هذا الحديث، وكتم من الآيتين اللتين ذكرهما، ما هو دليل عليه.
ثم قال: وأنت جعلتهم ما بين مشرك ومبتدع، وفاسق وجاهل وظالم، ولا هنا مسلم حقيقي إلا أنت؛ وكم نفر من الذي تشتهي، ولا سبقك أحد بهذا الاعتقاد.
فأقول: الله أكبر!! ما أعظم هذه الفرية على الله وعلى كتابه، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم! فإنه ادعى أني أنا الذي جعلت الأمة، ما بين مشرك ومبتدع، وظالم وجاهل، والله تعالى هو الذي ذكر الكفار، وأعمالهم، والمشركين وشركهم،
1 الترمذي: تفسير القرآن (3001)، وابن ماجه: الزهد (4288) ، وأحمد (4/446)، والدارمي: الرقاق (2760) .
ورد عليهم في كتابه، وأباح دماءهم وأموالهم، وسبي ذراريهم ونسائهم، وأعد لهم نار جهنم والخلود فيها؛ وكذلك المنافقين، وكل من عصى الله من هذه الأمة، ناله من الوعيد بحسب ما فعل من المعصية.
والقرآن من أوله إلى آخره، في بيان الشرك والكفر، والتحذير منه، والنهي عن الفسوق والعصيان، والدعوة إلى ما يحبه الله ويرضاه، من توحيده وطاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما دعا إليه وأمر به، والانتهاء عما حرمه ونهى عنه؛ ومن له أدنى مسكة من عقل، يعرف أن ما عبر به هذا الجاهل ينبئ عن غاية الجهل والضلال، وأنه لا يدري عن القرآن، ولا عما فيه من تمييز الهدى من الضلال، ومعرفة أهل الحق من أهل الباطل.
وقوله: ما هنا مسلم حقيقي، إلا أنت؛ وكم نفر من الذي تشتهي.
فأقول: سبحانك هذا بهتان عظيم! اللهم إني أعوذ بك من بهتان أهل البهتان، وظلم أهل الظلم والعدوان; لا ريب أن الأمة لا تخلو من المسلمين، في كل زمان إلى أن تقوم الساعة; وفي القرون الثلاثة المفضلة، المسلمون قد ملؤوا الأمصار، في المشارق والمغارب، والحجاز واليمن.
فالحمد لله الذي كثر المسلمين والمؤمنين من هذه الأمة، وإن كان عدوهم من هذه الأمة أكثر، فلهم العزة والظهور،
يقلون تارة ويكثرون أخرى، ويظهر عدوهم عليهم تارة، وتكون لهم العاقبة؛ وهذا أمر مجمع عليه، لا يرتاب فيه من عرف الأمة، وما جرى منها وما عليها.
وقوله: ولا سبقك أحد بهذا الاعتقاد.
فأقول: ما أعظمها من فرية! فكل مسلم يعلم أن في الأمة من هذه الأصناف الخمسة كثيرا، في جميع الأعصار، من حين بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة؛ فما عاداه - صلوات الله وسلامه عليه - هو وأصحابه، إلا الكفار، والمشركون، وهم من هذه الأمة. وبعد هجرته ظهر النفاق في دار الهجرة، وقد رمته العرب عن قوس العداوة، وذلك لكفرهم وشركهم وضلالهم؛ وهذا أمر ظاهر لا يرتاب فيه مسلم، ولا يمكن أحد أن يجحده، اللهم إلا أن يكون مثل هذا الجاهل، الذي لا يدري إلا عما أكل أو شرب أو لبس.
وهل يشك أحد أن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الأسود والأحمر، والإنس والجن، بالهدى ودين الحق، فآمن به من آمن، وكفر به من كفر، ونافق من نافق؟
وفي كل سورة من القرآن من السور المكية، يذكر تعالى فيها محاجته للمشركين، والرد عليهم، وبيان ضلالهم; وبعد الهجرة أمره بقتالهم، فقال تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سورة النساء آية: 84] .
فأوجب تعالى أن يقاتلوا لكفرهم، فقال تعالى:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [سورة التوبة آية: 36]، وقال تعالى:{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [سورة محمد آية: 1] إلى قوله: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [سورة محمد آية: 4] ، إلى غير ذلك من الآيات.
وكل من دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد من قريب أو بعيد، فهم من أمته الذين أرسل إليهم، كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة التغابن آية: 2]، وقال تعالى:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [سورة البقرة آية: 26] ، والمراد من بعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم. فإذا كان الأمر كذلك، فلا يخلو صاحب هذه الشبهة من أحد أمور ثلاثة: إما أن يقول: إن الذين سماهم الله كفارا ومشركين ومنافقين، وأمر نبيه والمؤمنين بقتالهم، ليسوا من أمة محمد؛ وهذا لا يقوله إلا جاهل، أو مكابر معاند.
الأمر الثاني: أن يقول: إن الكفار والمنافقين والمبتدعة من هذه الأمة كلهم من خير أمة أخرجت للناس; فهذا من أبين البطلان، وأعظم الضلال، لعدم الإيمان
بالقرآن، وبمن أنزل القرآن، وبمن بلغه صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى:{لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [سورة الحشر آية: 20]، وقال:{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [سورة ص آية: 28] .
فإن أقر بأنهم من هذه الأمة، وأنهم كفار، ومنافقون، ومشركون، رجع عن قوله، وأبطل شبهته. وينبغي بسط الجواب، مع الاقتصار على بعض، لتحصل به الفائدة؛ فلعل هذا الجاهل ألقى هذه الشبهة على بعض من لا بصيرة له، فتعلق بقلبه؛ فيتعين كشفها عمن ألقيت إليه.
والله أسأل أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، موجبا للفوز بجنات النعيم، وفي الأثر "إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، والعقل الكامل عند حلول الشهوات".
فنقول وبالله التوفيق، قال الله تعالى:
(بسم الله الرحمن الرحيم)، {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [سورة فصلت آية: 1-2-3-4] إلى قوله {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [سورة فصلت آية: 5] ؛ فأخبر تعالى في هذه الآيات أن الأكثر أعرضوا عن هذا القرآن الذي أوحاه الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يقبلوا
ما جاءهم به، وهم الذين بعث فيهم صلى الله عليه وسلم من قريش وغيرهم، ولا ريب أنهم من أمته صلى الله عليه وسلم؛ فصاروا فريقين، فريق آمنوا به واتبعوه، والأكثر أعرضوا عنه، ونصبوا له العداوة ولأتباعه، وهؤلاء كثير، منهم من مات على كفره، ومنهم من قتل ببدر، وأحد، والخندق، ولا يمكن أحدا له أدنى مسكة من عقل أن يقول: إن هؤلاء ليسوا من أمة محمد، ولا أن الكفار الذين ماتوا على الكفر، وقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أنهم من خير أمة أخرجت للناس.
فظهر بهذا الدليل الواضح الجلي، أن خير الأمة هم المؤمنون، الذين عزروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه، واتبعوه في حياته، وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ومن اتبع سبيلهم إلى يوم القيامة، بخلاف من عاداهم وخالفهم، فأولئك شرار الأمة في كل زمان ومكان.
ولما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، أقام بمكة ثلاث عشرة سنة، يوحى إليه السور المكية، وكلها جدال مع المشركين، ونهي عن الشرك بالله في العبادة، وبيان للتوحيد بأدلته، من الآيات المحكمات.
وبعد ذلك، شرع الله الهجرة لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهاجروا إلى المدينة، فأمره الله بقتال المشركين من قريش وغيرهم، قال تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ
الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [سورة محمد آية: 4]، وقال تعالى:{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة النساء آية: 84] ، ونحو هذه الآيات في القرآن كثير.
فأمر تعالى بقتال الكفار والمشركين، من أهل الكتاب وغيرهم، كما قال تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [سورة التوبة آية: 29] ؛ فهؤلاء وأمثالهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهم من شرار الأمة بلا ريب.
وقد أخبر تعالى عن الكفار، من أهل الكتاب والمشركين، أنهم في نار جهنم، وأنهم شر البرية، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [سورة البينة آية: 6] .
فدلت هذه الآيات أن في هذه الأمة كفارا ومشركين، وأنهم في النار، وأنهم شر البرية. فبعدا لرجل ادعى أن أولئك الذين هم شر البرية، من الأمة الوسط، ومن خير أمة أخرجت للناس! أما علم أن قوله محادة لله ولرسوله ولدينه، وأنه لا يقول هذا إلا من ليس له عقل ولا دين، وليس معه من الإسلام إلا مجرد الدعوى. نعوذ بالله من الضلال وسوء الحال.
ونقول أيضا: لا ريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل كعب بن الأشرف اليهودي، وأجلى بني قينقاع، والنضير، وقتل بني قريظة، لما نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهم من أمة الدعوة بلا ريب، لكنهم من شرار الأمة لا من خيرها.
فيلزم هذا الجاهل، على قوله الذي قدمنا ذكره، أن يقول: هؤلاء من الأمة الوسط، ومن خير أمة أخرجت للناس؛ ولا يخفى أن هذا لا يقوله مسلم أصلا.
وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده، لا يسمع بي رجل من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار " 1، ولأحمد عن أبي هريرة مثله; وهذا الحديث نص على أن اليهود والنصارى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن من لم يؤمن به، فهو من أهل النار.
وقد دل على أنهم من أمته، قوله تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [سورة الأعراف آية: 158]، وقوله: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [سورة الفرقان آية: 1]، وقوله تعالى:{لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [سورة الأنعام آية: 19] .
ولما فرغ صلى الله عليه وسلم من قتال العرب، أخذ في قتال أهل
1 مسلم: الإيمان (153) ، وأحمد (2/317 ،2/350) .
الكتاب، فقتل اليهود بخيبر، وبعث سريته إلى الشام لقتال النصارى، وغزاهم بنفسه حتى بلغ تبوك، فلم يلق كيدا، فرجع صلى الله عليه وسلم.
وعن بريدة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرا على جيش أو سرية، أوصاه بتقوى الله تعالى، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال:" اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله " 1 الحديث.
فعلم من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل من كفر بالله في حياته، وبعث السرايا لقتالهم، وهم من أمة الدعوة، وليسوا من خير أمة أخرجت للناس، إلا من دخل منهم في الإسلام؛ وهذا وغيره يبطل شبهة أهل الريب، ويبين أنهم لا علم لهم ولا دين، لمعارضتهم لنصوص الكتاب والسنة بالجهل والعناد؛ فإنهم حاولوا نبذ الإسلام وراء الظهر، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
وقد كنت أحب لهؤلاء المنحرفين عن دعوة الإسلام، أن يقبلوا الحق، ويعتقدوه، ويعملوا به، لكني أخشى عليهم أن يكونوا، كمن قال الله فيهم:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [سورة البقرة آية: 18] .
نسأل الله الثبات على الإسلام، والاستقامة عليه والوفاة عليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
1 مسلم: الجهاد والسير (1731)، والترمذي: الديات (1408) والسير (1617)، وأبو داود: الجهاد (2613)، وابن ماجه: الجهاد (2858) ، وأحمد (5/352 ،5/358)، والدارمي: السير (2439) .
وأما الجواب عما استدل به من الآيتين والأحاديث، فأقول: قد وصف الله تعالى خير أمة أخرجت للناس بثلاث صفات، فقال:{تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 110]، كما قال تعالى في سورة براءة:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [سورة التوبة آية: 71] الآية، والآية التي بعدها.
فمن تدبر هذه الأوصاف، علم يقينا أن خير الأمة هم الأقلون عددا، الأعظمون قدرا عند الله، وهم المؤمنون خاصة؛ قال الحسن رحمه الله: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال.
ووصف المنافقين في هذه السورة، بعكس هذه الصفات، فقال تعالى:{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة التوبة آية: 67] ؛ فوصفهم بالكفر تارة، وبالفسوق أخرى، ولعنهم; فقال:{لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [سورة التوبة آية: 66] . وقال في سورة الأحزاب:
{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [سورة الأحزاب آية: 60] إلى قوله: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [سورة الأحزاب آية: 61] .
وقد كانوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وكانوا معه في الحضر والسفر، يشهدون أن لا إله إلا الله بألسنتهم، ويصلون، وينفقون، فلم ينفعهم ذلك، لعدم إيمانهم بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم; ولا ريب أنهم لم يكونوا من خير أمة أخرجت للناس، بل هم من شرار الأمة.
وذكر العماد بن كثير، رحمه الله تعالى، في تفسير سورة براءة، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف، سيف للمشركين {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [سورة التوبة آية: 5] ، وسيف للكفار، أهل الكتاب {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [سورة التوبة آية: 29] وسيف للمنافقين: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [سورة التوبة آية: 73] وسيف للبغاة: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} "[سورة الحجرات آية: 9] قال رحمه الله: وهذا يقتضي أنهم يجاهَدون بالسيوف، إذا أظهروا النفاق، وهو اختيار ابن جرير.
قلت: وأحسب أن هذا الرجل الذي أورد الشبهة، قد ظهرت مشابهته للمنافقين، في كراهته أهل الأمر بالمعروف، وعداوته لهم وموالاته لأهل الإلحاد،
والإعراض عما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ممن لم يرفع بهذا الدين رأسا; وما أسرّ عبد سريرة، إلا ألبسه الله رداءها على صفحات وجهه، وفلتات لسانه.
فتبين أن خير أمة أخرجت للناس هم المؤمنون الذين يوالون في الله، ويعادون فيه، ويأمرون بالمعروف، وأعظمه توحيد الله بالعبادة، وجميع ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال، وينهون عن المنكر، وأعظمه الشرك بالله في العبادة، والإلحاد في أسمائه وصفاته، ووصفه بما لا يليق بجلاله وعظمته.
وأما الجواب عما استدل به من الآية الأخرى، وهي قوله:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [سورة البقرة آية: 143] أي: عدلا خيارا {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [سورة البقرة آية: 143] ، فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم المعنيون بهذا؛ ويلحق بهم من سلك سبيلهم من المؤمنين.
بخلاف الكفار والمشركين والمنافقين الذين هم أهل النار، يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ويعادون أهل المعروف ويبغضونهم، ويوالون أهل المنكر ويحبونهم؛ وهم الذين شاقوا الله ورسوله، وقد قال فيهم:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] .
فخص بالثناء والجزاء بالجنة، لمن آمن بالله ورسوله وكتابه، ووالى فيه، وعادى فيه; والمقت والوعيد بالغضب والعذاب، لمن كفر بالله وأشرك به، وحاد الله ورسوله؛ وهذا ظاهر - بحمد الله - لا يخفى إلا على من أعمى الله بصيرته، وأعرض عن كتاب الله وسنة رسوله.
وأما قول هذا المرتاب: وأنت جعلتهم ما بين كافر ومشرك، ومبتدع وفاسق، وجاهل وظالم.
فأقول نعم، بهذا أقول؛ وقد قال الله تعالى في كتابه، كما في أول سورة البقرة، ذكر الكفار والمنافقين، وأكثر السور يذكر فيها الكفار، والمشركين بصفاتهم، ويأمر بقتالهم، وكذلك المنافقين أمر بجهادهم؛ وهذا لا يخفى إلا على من كان قلبه منكوسا، أو في بادية بعيدة، لم يسمع من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كلمة واحدة، فقد يجهل ذلك؛ ولا ينكر هذا إلا من لا يعرف الإسلام من الكفر، ومن لا يعرف الإسلام من الكفر، كيف يصح له إسلام؟
وهذا قد أنكر أن يكون في الأمة كافر، ومشرك، ومبتدع، فيكون قد أنكر ما في كتاب الله، وما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلا يخلو إما أن يكون في غاية الجهل، وكراهة الحق، والإعراض عن القرآن بالكلية، وإما أن يكون معاندا، مشاقا منكرا لما أنزله الله في كتابه، وعمل به
رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وقد تقدم في الآيات ما يدل على ذلك. وعلى كل حال، فهذا القول في غاية المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، واتباع غير سبيل المؤمنين.
وقد أخبر هذا في كلامه عن نفسه، بعدم الإيمان بالله وكتابه، ورسوله صلى الله عليه وسلم، كما لا يخفى على ذوي البصائر والإيمان; ومع هذا، فإنه قد جعل الإيمان بما في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك الذي لا يصح إسلام أحد إلا بالإيمان به، عيبا ومثلبة، وهو - بحمد الله - من أعظم المناقب.
فكفى بالمؤمن شرفا أن يؤمن بما ذكره الله في كتابه، وبما قام به رسوله صلى الله عليه وسلم وعمل به أصحابه رضي الله عنهم، ومن سلك سبيلهم، وعادى الكفار والمشركين والمنافقين في الله، ووالى المؤمنين الموحدين لربهم، الآمرين بما يحبه الله ويرضاه، والمنكرين لما يكرهه الله ويبغضه؛ فيا لها من فضيلة ما أجلها! ونعمة ما أعظمها لمن وفق لها، واطمأن بها قلبه!
قال العماد بن كثير، رحمه الله، في تفسيره، في معنى قول الله تعالى:{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [سورة التوبة آية: 97] : أخبر تعالى أن في الأعراب كفارا ومنافقين ومؤمنين، وأن كفرهم ونفاقهم أعظم من غيرهم {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة آية: 97] .
أي: عليم بمن يستحق أن يعلمه الإيمان والعلم، حكيم فيما قسم بين عباده، من العلم والجهل، والإيمان، والكفر والنفاق، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [سورة الأنبياء آية: 23] لعلمه وحكمته.
وقوله: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 99]، هذا هو القسم الممدوح من الأعراب. قلت: وهم الموصوفون بالإيمان، والإخلاص; فتبين: أن الأعراب - وهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيهم الكافر والمشرك، والمنافق والمؤمن; وما زالوا كذلك في كل زمان، إلى يومنا هذا وبعده.
وشرهم اليوم أكثر، وكفرهم أكبر وأظهر، فيلزمه على أصله أن كلهم من خير أمة أخرجت للناس، ومن الأمة الوسط، وأن من قتلهم لشركهم، وكفرهم، فقد ظلمهم؛ فتدبر! وهذا طعن على أئمة المسلمين; بل فيه طعن على الصحابة، في قتالهم من كفر من الأعراب، وأفسد في الأرض.
ثم ذكر تعالى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، فقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ} [سورة التوبة آية: 100] .
وذكر قول الشعبي: إن السابقين من أدرك بيعة الرضوان. قلت: والمذكورون في هذه الآية من الأمة الوسط، وهم خير أمة أخرجت للناس.
قال العماد: فيا ويل من أبغضهم أو سبهم، أو أبغض أو سب بعضهم، ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وخيرهم، وأفضلهم، أعني: الصديق الأكبر، والخليفة الأعظم، أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه؛ فإن الطائفة المخذولة من الرافضة، يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم، ويسبونهم عياذا بالله من ذلك.
وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة، وقلوبهم منكوسة; فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن؟! وقد عمت البلوى بمن يتولى الرافضة، الذين يسبون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أكثرهم! لا كثرهم الله، ولا عزهم، إذ يسبون من رضي الله عنهم.
وأما أهل السنة، فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه، ويسبون من سبه الله ورسوله، ويوالون من يوالي الله، ويعادون من يعادي الله؛ وهم متبعون لا مبتدعون، ومقتدون لا مبتدئون؛ ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون، انتهى.
قلت: فتأمل ما ذكره رحمه الله، من صفات أهل السنة، من أنهم يترضون عمن رضي الله عنهم، ويسبون من سبه الله ورسوله، ويوالون من يوالي الله، ويعادون من يعادي الله ورسوله; وبهذا يحصل التمييز بين الموحد من الملحد، والصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق؛ لاح الصباح لمن له عينان.
وأقول: اللهم اجعلنا هادين مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائك، حربا لأعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك. اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة. اللهم هذا الجهد وعليك التكلان.
فصل
[فصل في ذكر أهل الردة والخوارج وغيرهم]
لا يخفى أن العرب لما سمعوا بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ارتد أكثرهم عن الإسلام، فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه بالصحابة، حتى دخلوا من الباب الذي خرجوا منه، وقتل من قتل منهم على ردته.
وكذلك بنو حنيفة، صدقوا مسيلمة لما ادعى النبوة، وكفروا; وقاتلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأميرهم خالد بن الوليد، وهو أمير الجيش الذين قاتلوا من ارتد; ولا ريب أن بني حنيفة كفار، ومن قتل منهم قتل كافرا، فلم ينفعهم مع
الكفر بالله كونهم من هذه الأمة، وعلى رأي هذا المشبه، ليسوا كفارا، والصحابة أخطؤوا في قتالهم.
وكذلك الخوارج الذين قتلهم علي بن أبي طالب بالنهروان; فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنهم "يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية " 1، وقال:" أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم "2. وعند ابن ماجه عن أبي أمامة، قال أبو غالب، سمعته يقول: " شر قتلى قتلوا تحت أديم السماء، وخير قتيل من قتلوا، كلاب أهل النا ر" 3. وقد كانوا هؤلاء مسلمين، فصاروا كفارا; قلت يا أبا أمامة: هذا شيء تقوله؟ قال: بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا ريب: أنهم من هذه الأمة، وهم الذين قتلوا علي بن أبي طالب، قتله عبد الرحمن بن ملجم، وهو منهم؛ وكذلك الذين اعتقدوا الألوهية في علي بن أبي طالب، خدَّ لهم الأخاديد، وأحرقهم بالنار لشركهم بالله.
فسل هذا الجاهل المفتري: هل أصاب علي في قتلهم أم أخطأ؟ وهل كانوا كفارا أم لا؟ ومن لم يكفرهم فهو كافر.
وكذلك الذين أخبر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي. وأنا خاتم الأنبياء، لا نبي بعدي " أيكون هؤلاء كفارا أم لا؟ فإن طرد أصله، قال: لم يكونوا كفارا، صار أخا لهم; لأنه زكاهم
1 البخاري: المناقب (3611)، ومسلم: الزكاة (1066)، والنسائي: تحريم الدم (4102)، وأبو داود: السنة (4767) ، وأحمد (1/88 ،1/91 ،1/131 ،1/147 ،1/151 ،1/156 ،1/160) .
2 البخاري: المناقب (3611)، ومسلم: الزكاة (1066)، والنسائي: تحريم الدم (4102)، وأبو داود: السنة (4767) ، وأحمد (1/131) .
3 الترمذي: تفسير القرآن (3000)، وابن ماجه: المقدمة (176) .
وتولاهم، مع أنهم يقولون: لا إله إلا الله، وفيهم عباد وزهاد.
وكذلك الذين أنكروا القدر، منهم معبد الجهني، وغيلان القدري، الذين قال عبد الله بن عمر فيهم، لما أخرجه يحيى بن يعمر، قال له:"إذا لقيت أولئك، فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر، إن أحدهم لو أنفق مثل أحد ذهبا، ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر".
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مجوس هذه الأمة، وأفتى العلماء رحمهم الله بقتل داعيتهم، غيلان القدري؛ فقتله هشام بن عبد الملك في خلافته؛ وهم مبتدعة بإجماع العلماء، لمخالفتهم ما دل عليه الكتاب، والسنة في إثبات القدر؛ وهو من أصول الإيمان، كما في سؤال جبرائيل للنبي صلى الله عليه وسلم قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره. قال: صدقت "؛ والآيات والأحاديث في إثبات القدر كثيرة جدا.
والمقصود: أن نفاة القدر من هذه الأمة، قد صاروا مبتدعة ضلالا، ومن كان كذلك فليس من خير أمة أخرجت للناس، بل هم من شرار الأمة؛ صدق الله، وكذب المرتابون.
ثم ظهرت بدعة الجهمية في أواخر دولة بني أمية،
فجحدوا ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات كماله، ونعوت جلاله. وكان أول من أظهر هذه البدعة: الجعد بن درهم، فضحى به خالد بن عبد الله القسري؛ وكان إذ ذاك أميرا على العراق، فقال في خطبته يوم الأضحى: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما.
قال العلامة ابن القيم، رحمه الله لما ذكر بدعة الجهمية:
ولأجل ذا ضحى بجعد خالد الـ
…
قسري يوم ذبائح القربان
شكر الضحية كل صاحب سنة
…
لله درك من أخي قربان
وفي تلك الدولة والإسلام ظاهر، والسنة ظاهرة، وأهلها كذلك، والبدعة إذا ظهرت أنكرت، وعوقب أهلها بالقتل تارة، وبالحبس تارة، وبالتعزير تارة.
ثم إن جهم بن صفوان أظهر هذه البدعة في دولة بني العباس، فأنكر ذلك العلماء وكفروه ومن تبعه على بدعته؛ منهم سفيان الثوري، وأبو حنيفة والإمام مالك، وخلق كثير من أهل الحديث والفقه، قال العلامة ابن القيم:
ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان
فعظمت بدعتهم، وتكلم العلماء في ردها وإبطالها، وصنفوا الكتب في ذلك؛ وممن صنف في رد هذه البدعة:
الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وابنه عبد الله بن أحمد، وعثمان بن سعيد الدارمي، وأبو بكر المروذي، صاحب الإمام أحمد، وإمام الأئمة: محمد بن خزيمة في كتاب التوحيد له، واللالكائي في كتاب السنة، وأبو عثمان الصابوني، وخلق كثير.
وبعض العلماء ضمن كتابه الرد عليهم، كالبخاري في كتاب التوحيد، وغيره من أئمة الحديث. وممن رد عليهم: شيخ الإسلام، أبو إسماعيل الأنصاري، في كتاب الفاروق له، وصنف شيخ الإسلام: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، كتاب العقل والنقل، في الرد على الجهمية والفلاسفة، كما قال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى:
واقرأ كتاب العقل والنقل الذي ما في الوجود له نظير ثان
قلت: فلو عرف هذا الجاهل المشبه، ما وقع في هذه الأمة من البدع، والمنكرات، لم يتفوه بهذه الشبهة؛ لكنه جاهل لا يدري ما وقع في الأمة من خير وشر، وقد أعجب بنفسه، وهو من السفلة الضلال؛ فلا علم ينفعه، ولا عقل يردعه. نعوذ بالله من غرور الشيطان، والانحراف عن سبيل أهل الإيمان.
وهذه البدع التي ذكرنا ظهرت في القرون المفضلة، لكنها تنكر وتغير، وفي هذه القرون من الأمة المفضلة الخلق الكثير، والجم الغفير، لا يحصيهم إلا الله سبحانه وتعالى،
وقد عرفت أن أهل البدع والنفاق بينهم، مقهورون ذليلون قليلون.
وأهل هذه القرون هم الذين عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله"؛ وهم المعنيون بقوله صلى الله عليه وسلم " قال الله لعيسى بن مريم: إني باعث بعدك أمة، إذا أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم. قال يا رب: كيف لا حلم ولا علم؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي "1.
فإذا تصور العارف ما حصل في خلافة أبي بكر وعمر، ممن اجتمع من المسلمين على حرب فارس والروم، ثم لما أظهرهم الله عليهم، ملؤوا الشام والعراق، والحجاز واليمن وغيرها، فما زالوا كذلك على السنة، في القرون الثلاثة، والجهاد قائم بهم، والأقاليم مملوءة منهم.
وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنَزلنا منْزلا، فمنا من يضرب خباءه، ومنا من هو في جَشَرِه، ومنهم من ينتضل، إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة، فانتهيت إليه وهو يخطب الناس، ويقول: " أيها الناس إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على ما يعلمه خيرا لهم، وينذرهم عما يعلمه
1 أحمد (6/450) .
شرا لهم. ألا وإن عافية هذه الأمة في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وفتن، يرقق بعضها بعضا. تجيء الفتنة، فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، فتجيء أخرى: فيقول: هذه، هذه، ثم تنكشف. فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر " 1 الحديث.
ويشهد لهذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: " خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن؛ وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " 2 انتهى.
قلت: وقد وقع ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر القرن الثالث، وفيه: امتحن المأمون بن الرشيد علماء الحديث، وحملهم على القول بخلق القرآن. فمنهم من أجاب مكرها، ومنهم من لم يجب وصبر على المحنة، كالإمام أحمد، ومحمد بن نوح رحمهم الله تعالى، واستمرت المحنة في خلافة أخيه المعتصم، وفي خلافة الواثق. فلما استخلف المتوكل رفع المحنة عن الإمام أحمد، وأهل الحديث.
ثم بعد ذلك ظهرت دولة القرامطة في المشرق، وصار
1 مسلم: الإمارة (1844)، والنسائي: البيعة (4191)، وابن ماجه: الفتن (3956) ، وأحمد (2/191) .
2 مسلم: الإيمان (50) ، وأحمد (1/458 ،1/461) .
لهم صولة، وأظهروا الكفر، وقتلوا الحُجَّاج بمكة، وألقوهم في بئر زمزم، وقلعوا الحجر الأسود، ونقلوه إلى بلادهم; قال شيخ الإسلام: وهم من أشد الناس كفرا.
وظهرت دولة بني بويه في المشرق، والعراقين في أوائل القرن الرابع، فأظهروا الغلو في أهل البيت، وبنوا المساجد على قبورهم، وبنوا المشاهد، وعبدوها من دون الله، فأشبهوا اليهود والنصارى، كما في الحديث الصحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 1، يحذر ما صنعوا.
ولما ذكرت له أم سلمة، وأم حبيبة كنيسة رأتاها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، قال:" أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح، أو العبد الصالح، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور؛ أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة "2.
وكذلك بنو عبيد القداح، تغلبوا على مصر وبعض المغرب، وبنوا المساجد على القبور، والمشاهد، بزعمهم أنها قبور أناس من أهل البيت؛ وهي موجودة تعبد إلى الآن، وغيرها تعبد من دون الله. وظهرت المقالات والبدع، من الفلاسفة والجهمية، والمعتزلة والكلابية، والكرامية والأشاعرة، وغيرهم من أهل البدع، وفشا
1 البخاري: الصلاة (436)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531)، والنسائي: المساجد (703) ، وأحمد (1/218 ،6/34 ،6/80 ،6/121 ،6/252 ،6/255 ،6/274)، والدارمي: الصلاة (1403) .
2 البخاري: الصلاة (434)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (528)، والنسائي: المساجد (704) ، وأحمد (6/51) .
الشرك والزندقة، في هذه الفرق وغيرها، وقل أهل السنة والجماعة.
وفي القرن السابع سار التتر، وقتلوا الخليفة العباسي ببغداد، وقتلوا العلماء، وألقوا كتب الحديث والسنة في شط دجلة، وتحصن أهل الشام عنهم في رؤوس الجبال، فقاتلهم سلطان مصر، ومن معه من أهل مصر والشام، فهزمهم الله، وذلك بسبب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لما شجع السلطان.
وفي تلك القرون اشتدت غربة الإسلام، وعاد المعروف فيها منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير. قال بعض أهل السنة: لا تستوحش من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين. وفي هذا الحال يقول الشاطبي، رحمه الله تعالى:
وهذا زمان الصبر من لك باللتي كقبض على جمر فتنجو من البلا
وكل هذه الدول وهذه الفرق، فيهم الكافر كالفلاسفة، وفيهم أهل الشرك الذين بنوا المساجد على القبور وعبدوها، وكذلك أهل البدع كالقدرية المعتزلة، والجهمية النفاة الجبرية الحلولية، وكذلك أهل وحدة الوجود، ومن رأى رأي هذه الطوائف من المتأخرين،
كلهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لكنهم شرارها.
وهذا الجاهل الذي لا يدري، ولا يميز الحق من الباطل، زعم أن الكل من خير أمة أخرجت للناس؛ فاعرفوا حاله وحال أمثاله، ممن ارتاب في الدين، فلا يغتر به إلا من كان جاهلا مغرورا; وذلك أن هذه الأزمنة هي التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإسلام سيعود غريبا كما بدأ، وأن القابض على دينه كالقابض على الجمر.
قال ابن القيم: والحديث رواه الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء. قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: النّزّاع من القبائل ". وفي حديث عبد الله بن عمرو: " قيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: ناس صالحون قليل، في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم "1.
قال العلامة ابن القيم: ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم إنهم "النّزاع من القبائل" أن الله سبحانه بعث رسوله صلى الله عليه وسلم وأهل الأرض على أديان مختلفة، فهم ما بين عباد أوثان، وعباد نيران، وعباد صلبان، ويهود، وصابئة، وفلاسفة.
1 أحمد (2/222) .
فكان الإسلام في أول ظهوره غريبا، فكان من أسلم منهم، واستجاب لله ورسوله، غريبا في جنسه وقبيلته، وقريته وأهله وعشيرته، وكان المستجيبون لدعوة الإسلام نزاعا من القبائل، آحادا منهم، تغربوا عن قبائلهم، وعشائرهم، فكانوا هم الغرباء حقا حتى ظهر الإسلام، وانتشرت دعوته ودخل الناس فيه أفواجا.
ثم أخذ في الاغتراب حتى عاد غريبا كما بدأ؛ بل الإسلام الحق، الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، اليوم أشد منه غربة في أول ظهوره، وإن كانت أعلامه ورسومه الظاهرة مشهودة معروفة. فالإسلام الحقيقي غريب جدا، وأهله غرباء بين الناس؛ كيف لا يكون فرقة واحدة قليلة جدا غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة ذات أتباع، ورياسات ومناصب وولايات لا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؟
فإن نفس ما جاء به مضاد أهواءهم ولذاتهم، وما هم عليه من الشبهات التي هي منتهى فضيلتهم وعلمهم، والشهوات التي هي غاية مقاصدهم، وإراداتهم؛ فكيف لا يكون المؤمن السائر إلى الله على طريق المتابعة، غريبا بين هؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم، وأطاعوا شيخهم، وأعجب كل منهم برأيه؟ انتهى.
قلت: فإذا كان هذا في القرن السابع وما قبله، فما بعدها أشد غربة للإسلام والسنة.
وبسبب اشتداد الغربة، أنكر الناس على من قام يدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا؛ وقد ثبتت الأحاديث التي فيها افتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة من الصحابة، منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ وقد رواها الإمام محمد بن نصر المروزي رحمه الله، في "كتاب الاعتصام" وغيره، فنذكر من كل حديث ما دل على ذلك.
فروى بإسناده إلى سعيد بن جبير، عن أبي الصهباء، قال: "سمعت علي بن أبي طالب، وقد دعا رأس الجالوت وأسقف النصارى، فقال: إني سائلكما عن أمر، وأنا أعلم به منكما، فلا تكتماني. يا رأس الجالوت، أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى، وأطعمكم المن والسلوى، وضرب لكم في البحر طريقا، وأخرج لكم من الحجر اثنتي عشرة عينا لكل سبط من بني إسرائيل عين، إلا ما أخبرتني عن كم افترقت بنو إسرائيل بعد موسى؟ فقال له: ولا فرقة واحدة; فقال له علي ثلاث مرات: كذبت والله الذي لا إله إلا هو، لقد افترقت على إحدى وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة واحدة.
ثم دعا الأسقف، وقال: أنشدك الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، وجعل على رجله البركة، وأراكم العبرة فأبرأ الأكمه وأحيا الموتى، وصنع لكم من الطين طيورا، وأنبأكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم، فقال: دون هذا أصدقك يا أمير المؤمنين.
فقال علي: كم افترقت النصارى بعد عيسى من فرقة؟ فقال: لا والله ولا فرقة; فقال ثلاث مرات: كذبت والله الذي لا إله إلا هو، لقد افترقت على ثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة; فأما أنت يا يهودي، فإن الله يقول:{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [سورة الأعراف آية: 159]، فهي التي تنجو. وأما أنت يا نصراني فإن الله يقول:{مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [سورة المائدة آية: 66]، فهي التي تنجو. وأما نحن فيقول:{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [سورة الأعراف آية: 181] ، وهي التي تنجو من هذه الأمة".
وبالسند إلى زاذان أبي عمرو، قال: "قال علي: يا أبا عمرو، أتدري كم افترقت اليهود؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم; فقال: افترقت على إحدى وسبعين فرقة،
كلها في الهاوية إلا واحدة، هي الناجية.
والنصارى على ثنتين وسبعين فرقة، كلها في الهاوية إلا واحدة، هي الناجية; يا أبا عمرو: أتدري كم تفترق هذه الأمة؟ فقلت: الله ورسوله أعلم; قال: تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في الهاوية إلا واحدة وهي الناجية. ثم قال علي: أتدري كم تفترق في؟ قلت: وإنه يفترق فيك يا أمير المؤمنين؟ قال نعم: اثنتي عشرة فرقة، كلها في الهاوية إلا واحدة، هي الناجية، وهي تلك الواحدة، يعني: الفرقة التي من الثلاث والسبعين، وأنت منهم يا أبا عمرو".
وبالسند إلى عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سيأتي على أمتي ما أتى على بني إسرائيل، مثلا بمثل، حذو النعل بالنعل، وإنهم تفرقوا على ثنتين وسبعين ملة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار غير واحدة. قالوا: يا رسول الله، وما تلك الواحدة؟ قال: هو ما أنا عليه اليوم وأصحابي "1.
وبالسند إلى عبد الله بن عبيدة، عن بنت سعد، عن أبيها سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" افترقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين ملة، ولن تذهب الليالي والأيام، حتى تفترق أمتي على مثلها "، أو قال:"على مثل ذلك، وكل فرقة منها في النار، إلا واحدة، وهي الجماعة".
وبالسند إلى سويد بن غفلة، عن ابن مسعود، قال:
1 الترمذي: الإيمان (2641) .
" دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن مسعود. قلت: لبيك يا رسول الله; قال: أتدري أي الناس أعلم؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم; قال: فإن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس، وإن كان مقصرا في العمل; واختلف من قبلي على ثنتين وسبعين فرقة، نجا منها ثلاث، وهلك سائرها; فرقة آذت الملوك وقاتلوهم على دينهم، ودين عيسى، وأخذوهم فقطعوهم بالمناشير. وفرقة لم يكن لهم طاقة بموازاة الملوك، ولا بأن يقيموا بين ظهرانيهم، ويدعونهم إلى دين الله، ودين عيسى بن مريم، فساحوا في البلاد وترهبوا، وهم الذين قال الله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [سورة الحديد آية: 27] إلى قوله: {فاسقون} " وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من آمن بي وصدقني واتبعني، فقد رعاها حق رعايتها، ومن لا يتبعني فأولئك هم الهالكون ".
قلت: فالفرقة الثالثة، هي التي آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم واتبعته، من بني إسرائيل وغيرهم.
وبالسند إلى يزيد الرقاشي، حدثني أنس بن مالك مرفوعا " أن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا
فرقة واحدة " 1؛ قال يزيد الرقاشي: وهي الجماعة; وفيه حديث معاوية، وهو مشهور.
فتبين بهذه الأحاديث أن الفرقة الناجية من الثلاث والسبعين، هي التي تمسكت بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعملوا بما في كتاب الله، وأخلصوا له العبادة، واتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن أصل دين الإسلام أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع; وأنت ترى اليوم أكثر من ينتسب إلى العلم، لا يعرف من معنى لا إله إلا الله، إلا ما دلت عليه التزاما، وهو توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون.
وذلك أن هؤلاء يفسرون الإله، بالقادر على الاختراع، وما اهتدوا إلى ما دلت عليه كلمة الإخلاص مطابقة، وهو نفي ما يأله المشركون من دون الله، بأي نوع كان من أنواع العبادة؛ هذا هو المنتفي بجملة لا إله. ومعنى إلا الله، أنه هو الذي يؤله ويعبد، بكل نوع من أنواع العبادة، دون كل ما سواه. وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله.
وبسبب جهل كثير مما دلت عليه لا إله إلا الله، لم ينكروا عبادة الطواغيت، والأشجار، والأحجار، والقبور; وذلك أنه لا يعرف عن أحد من العلماء، في العصر الذي قام فيه شيخنا، رحمه الله، ولا ما قبله، أنه أنكر الشرك في الإلهية، ودعا الناس إلى أن يعبدوا الله وحده.
فبسبب الجهل بهذا التوحيد، الذي هو حق الله على
1 ابن ماجه: الفتن (3993) ، وأحمد (3/120 ،3/145) .
عباده أنكروا على شيخنا رحمه الله تعالى، لما دعا الناس في القرن الثاني عشر، إلى ما دعت إليه الرسل:{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة المؤمنون آية: 32]{أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 26]، {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍأَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [سورة هود آية: 1-2-3] . فالوقت الذي صارت دعوة الرسل فيه عند أهله منكرا، فالإسلام فيه قد بلغ في الغربة إلى غايتها ومنتهاها.
وقد دل القرآن العزيز، على أن الكفار الذين جحدوا هذا التوحيد، كانوا يعرفون ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لهم:" قولوا لا إله إلا الله " 1، قال تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 35-36] ؛ فعرفوا أن معناها: ترك عبادة الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله.
وقد أخبر تعالى عن قوم هود، أنهم أجابوه لما قال لهم:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59]، {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} [سورة الأعراف آية: 70] ، وقوله تعالى:{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [سورة الأحقاف آية: 21] .
فتبين بهذه الآيات، وجميع ما في القرآن أن الدعوة
1 البخاري: تفسير القرآن (4675)، ومسلم: الإيمان (24)، والنسائي: الجنائز (2035) ، وأحمد (5/433) .
التي اتفق عليها الرسل هي إفراد الرب تعالى بالعبادة، كما في قوله تعالى في فاتحة الكتاب:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ؛ فتقديم المعمول يفيد الحصر، أي: لا نعبد غيرك، ولا نستعين إلا بك. فالجهل بهذا التوحيد هو غاية الجهل، والإنكار على من دعا إليه هو الغاية في الكفر.
وقد قال عالم صنعاء، في منظومته المشهورة، التي بعث بها لشيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله:
لقد أنكرت كل الطوائف قوله بلا صدر في الحق منهم ولا ورد
إلى أن قال:
وقد جاءت الأخبار عنه بأنه
…
يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي
وينشر جهرا ما طوى كل جاهل
…
ومبتدع منه فوافق ما عندي
والمقصود: أن الله تعالى منّ على الناس في آخر هذه الأعصار، ببيان الدين الذي بعث الله به رسله، وهو الذي خلق الخلق لأجله، وبيان أدلته من الكتاب والسنة، ودعوة الناس إلى أن يتدبروا ذلك، ويعرفوا ما أراد الله تعالى من عباده.
وبينه تعالى بقوله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2-3]، وقوله:{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} [سورة الزمر آية: 14]، وقال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] .
وقد ذكر الإمام أحمد، وابن جرير في تفسيره: أن الدين المذكور في هذه الآيات وأمثالها، هو الدعاء، والدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، والكل عبادة؛ فمن أخلص الدعاء بنوعيه لله تعالى، ولم يجعل له فيه شريكا في ذلك، فقد وحد الله تعالى بعبادته وأسلم لله، ومن جعل لله شريكا في ذلك، فقد أشرك مع الله غيره.
وهذا واضح في الآيات المحكمات، كقوله تعالى:{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} [سورة الزمر آية: 64-65-66] ؛ وهذه الآية تشبه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5]، والمعنى: بل الله فاعبد لا غيره؛ فإن تقديم المعمول يفيد الحصر، وهذا هو الإخلاص، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
فمن لم يفهم دين الإسلام، الذي رضيه الله تعالى لعباده، من هذه الآيات المحكمات، فأبعده الله; فإن الخصومة بين الرسل والأمم إنما كانت في إخلاص العبادة لله، كما قال تعالى:{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [سورة الأحقاف آية: 21] .
وهذا هو الدين الذي دعا إليه شيخنا، رحمه الله، في آخر هذه الأعصار، لما اندرست أعلامه، وانمحت آثاره، واتخذ أكثر الناس الشرك في العبادة دينا، وأنزلوا حوائجهم بمن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا؛ فكيف يملك لهم من الضر والنفع ما لا يملك لنفسه، كما قال تعالى:{فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة المائدة آية: 76] ؟ والقرآن من أوله إلى آخره في بيان توحيد العبادة، وهو أظهر شيء في القرآن، وأبينه.
وقد أشرت إلى سبب خفاء هذا التوحيد على كثير من المتكلمين، ومن سلك سبيلهم; فلهذا لم ينكروا الشرك الذي وقع في هذه الأمة، من عبادة الأشجار، والأحجار، والطواغيت، والجن، فصار هذا الشرك لهم عادة، نشأ علية الصغير، وهرم عليه الكبير؛ وهذا هو سبب إنكارهم على من نهاهم عنه.
فمن تدبر ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه "، تبين له خطأ المغرورين، في إنكارهم على من دعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، واشمئزازهم من ذلك، وكراهتهم له؛ وهو الحامل لهم على إلقاء الشبهات الفاسدة.
فلنذكر ما ورد في هذا المعنى: ففي الحديث الصحيح، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:"أنتم أشبه الناس سمتا وهيئة ببني إسرائيل، تتبعون آثارهم حذو القذة بالقذة، لا يكون فيهم شيء إلا كان فيكم مثله".
وبالإسناد إلى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال:"إنه لم يكن في بني إسرائيل شيء إلا كان فيكم"; وعن عبد الله بن عمرو، قال:"لتركبن سنن من كان قبلكم، حلوها ومرها"; وتقدم في الأحاديث المرفوعة مثل هذا.
ولا يعرف ما وقع في الأمة من أنواع الشرك الأكبر، وخفائه على الأكثر، إلا من شرح الله صدره للإسلام، وتدبر القرآن، بخلاف من أعرض عن كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واعتمد على ما في كتب المتكلمين وتقلد بهم؛ نعوذ بالله من عمى البصيرة، وفساد الطوية والسريرة.
وقد اعترف عالم صنعاء، الأمير محمد بن إسماعيل، بما كان الناس عليه من الجهل بالتوحيد، في وقت ظهور شيخنا رحمه الله، فمن ذلك قوله:
وينشر جهرا ما طوى كل جاهل
…
عسى بلدة فيها هدى وصواب
فيخبر كل عن قبائح ما رأى
…
وليس لأهليها يكون متاب
لأنهم عدوا قبائح فعلهم
…
محاسن يرجى عندهن ثواب
ونذكر شيئا من مبدإ دعوة شيخنا، رحمه الله، فنقول: شرح الله صدره للإسلام، وتبين له ما كان أكثر الناس عليه من الجهل بالتوحيد، وما وقعوا فيه من الشرك والتنديد.
دعا من كان حوله إلى تدبر كتاب الله تعالى، ومعرفة التوحيد الذي خلقوا له، وبعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وضمنه أشرف كتبه، وهو القرآن الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم. وما وقع منهم من الاعتقاد في الطواغيت، وأرباب القبور والأشجار، والأحجار، هو الشرك الذي بعث الله رسله بإنكاره.
فصاحوا به منكرين لما دعاهم إليه، واستنجدوا بالملوك من كل جانب، حتى أخرجوه من بلده العيينة، فهاجر إلى الدرعية. فتلقاه شيخ البلد محمد بن سعود رحمه الله، هو وأولاده، وقرابته، وأعيان أهل بلده، فقابلوا دعوته بالقبول، وجدوا في نصرته على ضعفهم وقلتهم، وكثرة عدوهم.
واستصرخ أعداؤهم الملوك عليهم، فما زالوا يرمونهم بقوس العداوة، وحزبوا عليهم مرارا كثيرة من كل جهة، فأظهرهم الله على من عاداهم، على ضعفهم وقلتهم، وأوقع بأسه بكل من عاداهم في الملوك، وأهلكهم الله، وأباد خضراهم؛ وفي ذلك آيات لمن كان واعيا. وهذه الآية
لا تخفى على من صحت بصيرته; وأما أعمى البصيرة فلا يبصر.
وكلما كادهم عدو، ورام هلاكهم، أهلكه الله؛ فما زالوا- بحمد الله- ظاهرين بهذه الدعوة، التي خصهم الله بالسبق إلى قبولها، ونصرتها إلى يومنا هذا {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة الجاثية آية: 36-37] .
ولله در الشيخ حسين بن غنام، حيث قال: لما ظهرت له أنوار التوحيد، أظهر ذلك في شعره ونثره، وأجاب محمد بن فيروز في هجوه وسبه; ومنظومته موجودة في تأريخه، فمن قوله رحمه الله:
نفوس الورى إلا القليل ركونها
…
إلى الغي لا يلفى لدين حنينها
فسل ربك التثبيت أي موحد
…
فأنت على السمحاء باد يقينها
وغيرك في بيد الضلالة سائر
…
وليس له إلا القبور يدينها
وأنت بمنهاج الشريعة سالك
…
وسنة خير المرسلين تبينها
قلت: ولا يخفى على ذوي البصائر، أن من أعظم الجهل، وأبين الكذب، وأبعد الضلال: جحود من جحد أنه ليس في هذه الأمة كافر ولا مشرك، ولا مبتدع، ولا فاسق، ولا ظالم؛ والقرآن كله من أوله إلى آخره، يخبر عن الكفار، والمشركين، والمنافقين، والفاسقين والظالمين.
فسبحان الله! كيف أدته العداوة والبغضاء لمن قام بالدعوة إلى التوحيد، إلى أن جحد الكثير من القرآن والسنة، وادعى أن الأمة كلها من أولها إلى آخرها، كلهم خير أمة أخرجت للناس، وأنهم الأمة الوسط، فجحد ما لم يمكن جحوده في حق أحد.
وحقيقة حال هذا: أنه كذب بما في القرآن من ذلك; فتأمل ما يترتب على هذا القول، من الفساد والإلحاد، وكيف يمكن أحدا أن يجحد ما وقع في هذه الأمة، من الكفر والشرك والبدع.
وقد ذكرت في هذا الجواب، بعض ما وقع في الأمة من ذلك، على سبيل الاختصار، لبيان بطلان هذه الشبهة، وشدة ضلال ملقيها; ثم إنه حرف القرآن والأحاديث، ووضعها في غير موضعها، فلهذا يقول إن المطيع والعاصي، والمؤمن والكافر على حد سواء، وهذا ممتنع عقلا وشرعا وفطرة.
وقد تقدم في هذا الجواب، ما يبين الخطأ من الصواب - ولله الحمد والمنة- مع الاقتصار، كما في الأثر:"خير الكلام ما قل ودل، ولم يطل فيمل" والقصد بذلك: انتفاع طالب الحق بالجواب عن شبه المشبهين، وتحريف الملحدين -وبالله التوفيق-، وإلا فالواقع اليوم ممن هم من هذه الأمة، يكفي البصير في رد هذه الشبهة وإبطالها.
فإن الرافضة اليوم كثيرون، وشركهم وبدعتهم لا يخفى على من يعرفهم؛ وكذلك أحوال الأعراب، وما فيهم من الفساد، والجفاء في الدين، واستحلال المحرمات، وسفك الدماء، ونهب الأموال، وإخافة السبيل وقطعها، ولا ريب أنهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وصلى الله على محمد سيد المرسلين، وإمام المتقين، وعلى الله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.
[الرد على أوراق جاء بها رجل من أهل جبل سليمان مشتملة على الشرك والإلحاد]
وله أيضا، أسكنه الله الفردوس الأعلى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق المبين. اللهم صل على محمد وآل محمد وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
أما بعد: فإني رأيت أوراقا، جاء بها رجل من أهل جبل سليمان، يطلب رد ما فيها من الأباطيل والتخاييل، فنظرت فيها، فإذا هي مشتملة على الشرك بالله، والإلحاد في الله، والزيغ عن الهدى، والزندقة والضلال؛ يعرف ذلك كل من في قلبه أدنى مسكة، من عقل وبصيرة، فلذلك لم تحتج إلى تتبع الجواب، عما فيها من الزيغ
والضلال، فإنها كما قال بعض أهل السنة شعرا:
شبه تهافت كالزجاج تخالها
…
حقا وكل كاسر مكسور
ولهذا اقتصرت على بيان التوحيد بأدلته، ودحض الشرك ووسوسته، وجعلت ذلك في فصلين.
الفصل الأول: أن هذا الجاهل المركب جهله، قد اتخذ الشرك بالله دينا، وجحد التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه; وهو: إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى، وهو الذي أمر الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الزمر آية: 11-12] إلى قوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [سورة الزمر آية: 14-15] .
وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [سورة يوسف آية: 40] ؛ فالدين القيم تجريد التوحيد ونفي الشرك والتنديد، وهو الإسلام الذي لا يقبل الله دينا سواه، كما قال تعالى:{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [سورة لقمان آية: 22] .
والعروة الوثقى هي: لا إله إلا الله؛ والآية قد تضمنت نفى الشرك، والبراءة منه، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ
وَلا أُشْرِكَ بِهِ} [سورة الرعد آية: 36] .
وأمثال هذه الآيات في القرآن كثيرة جدا، لا يصد عنها إلا من كان مغمورا في بحار الشرك بالله.
فإن المشرك أعمى أصم لا يعرف الحق، ولا يهتدي إلى أدلته، كما قال تعالى في أمثال هذا:{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [سورة المؤمنون آية: 63]، وقال تعالى:{وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} [سورة الإسراء آية: 45-46] .
واعلم أن هذا الملحد المفتري، قد ادعى أن الاستمداد من الأموات الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا جائز، وأن من أنكره فقد ضل.
فالجواب عن هذا من وجوه:
الوجه الأول: أن الاستمداد بالأموات والغائبين هو الشرك الأكبر، الذي لا يغفره الله; فإن الاستمداد عبادة، والعبادة لا يجوز أن يصرف منها شيء لغير الله؛ وذلك أن الاستمداد نتيجته الاعتماد، والاعتماد هو معنى التوكل الذي هو من خصائص الإلهية، وأجمعها لأعمال القلوب.
فمن توكل على غير الله، فقد نازع الله تعالى في خصائص الإلهية، واتخذ له معبودا سواه، ولا بد، قال تعالى:{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة المائدة آية: 76] ؛ ففي هاتين الصفتين بيان أنه تعالى هو السميع لدعاء عبده ومناجاته، العليم بأحوال خلقه وأعمالهم وإراداتهم دون كل من سواه. وتأمل ما في هذه الآية من التأكيد، وهو قوله {نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة المائدة آية: 76] ؛ ففي هذه الآيات من ظهور أنوار التوحيد ما يفوق الشمس، نورا وظهورا، فكيف يسوغ بعد هذا أن يستمد ممن لا يسمع، ولو سمع ما استجاب بخبر الخبير؟ قال تعالى:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13] ، وهو القشر الذي على النواة، {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [سورة فاطر آية: 14] ؛ أخبر أصدق القائلين أن المدعو لا يسمع مع القرب منه، ولا البعد عنه، ولو سمع- على سبيل الفرض- ما استجاب، فخاب سعي من دعا مع الله من لا يسمع، ولا يستجيب، ففي الآية معتبر عظيم، وزجر عن التعلق بغير الله عميم؛ فانقطع أمل المستمد الداعي لغير الله، وخاب سعيه.
ثم قال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [سورة فاطر آية: 14] ، فأخبر أن هذا الاستمداد بهم في الرهبات والرغبات، شرك عظيم ومرتع وخيم؛ فانعكس على المستمد مطلوبه، وفاته الفلاح والنجاح، وخسر خسرانا مبينا؛ وسيأتي ذكر ما دلت عليه هذه الآيات.
الوجه الثاني: أن مورد العبادة القلب واللسان والأركان، والمستمد لا يكون إلا داعيا وراغبا، وراهبا وخاشعا ومتذللا، ومستعينا؛ فإن الاستمداد طلب المدد، بالقلب واللسان والأركان ولا بد؛ وهذه الأعمال هي أنواع العبادة، فإذا كانت لله وحده فقد ألهه العبد، فإذا صرفه لغير الله تعالى صار مألوها له.
والآله مشرك بصرفه العبادة لغير الله، والله هو مألوه العباد ومعبودهم، دون كل ما سواه; فمن أله غيره بأي نوع كان من أنواع العبادة، صار مشركا شاء أم أبى؛ وقد قصر تعالى العبادة بجميع أنواعها عليه، كما قال تعالى في فاتحة الكتاب {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ، أي: لا نعبد غيرك، ولا نستعين إلا بك. فالعبادة والاستعانة من خصائص الإلهية والربوبية، ومصدرها عن القلب واللسان والجوارح، كما تقدم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} [سورة الأنعام آية: 162-163] ؛ فليس في هذه الموارد نصيب لغير الله، لا عبادة، ولا استعانة، فإن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة.
والاستمداد سؤال وطلب بالقلب، أو بالقلب واللسان والأركان كما تقدم، وذلك هو العبادة، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، كما قال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [سورة غافر آية: 60] .
وقال تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [سورة غافر آية: 12] ؛ فتبين بهذه الآية أن دعوة غير الله شرك؛ ولها نظائر في القرآن كثيرة.
وفي السنن: عن النعمان بن بشير رضي الله عنه مرفوعا: " الدعاء هو العبادة " 1، وفي السنن أيضا عن أنس، مرفوعا " الدعاء مخ العبادة " 2؛ فتبين بهذا أن المستمد بغير الله مشرك; لأنه جعل للمخلوق نصيبا في حق الله من العبادة.
قال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى، في معنى قول الله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] : فيها سر الخلق والأمر، والدنيا والآخرة؛ وهي متضمنة لأجل الغايات، وأفضل الوسائل. فأجل الغايات عبوديته، وأفضل الوسائل إعانته؛ فلا معبود يستحق العبادة إلا هو، وقد
1 الترمذي: الدعوات (3372)، وأبو داود: الصلاة (1479)، وابن ماجه: الدعاء (3828) ، وأحمد (4/267 ،4/271 ،4/276) .
2 الترمذي: الدعوات (3371) .
اشتملت هذه الكلمة على نوعي التوحيد، وهما توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، انتهى.
ولا يخفى أن المستمد بغير الله مستعين به، عابد له، فيصير مشركا ولابد، وإن غير اللفظ فهذا هو المعنى. ومما يدل أيضا على قصر العبادة بجميع أنواعها، على الله وحده، قوله تعالى:{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [سورة الزمر آية: 64] إلى قوله: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الزمر آية: 66] .
فتبين بما تقرر، في هذين الوجهين أن الاستمداد عبادة، ويجمع أنواعا من العبادة، فيكون شركا، كما قال تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة النساء آية: 36]، وقال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] ؛ لأنه إذا استمد بغير الله فلا يصدق عليه أنه مخلص. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [سورة ص آية: 65] الآية. وهذه الآيات ونحوها ينتفي بها كل شرك، بأي نوع كان من أنواع العبادة.
الوجه الثالث: أن الاستمداد ينافي الإخلاص لأنه إذا استمد بغير الله، فلا يصدق عليه أنه مخلص، بل يكون مشركا؛ ودين الله الذي لا يقبل دينا سواه، هو إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله وحده لا شريك له، والاستمداد
بغير الله ينافي الإخلاص ولابد.
قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [سورة البينة آية: 5]، والحنيف هو: المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه، والمستمد من غير الله قد عكس الأمر، فأعرض عن الله، وأقبل على من سواه، فصرف حق الله لغيره، وأشغل موارد العبادة بغيره، فصار مشركا.
الوجه الرابع: أنك إذا تأملت قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} [سورة الأنعام آية: 162-163] ، علمت أن المستمد بغير الله، لم يجعل محياه كله لله، بل جعله له ولغيره؛ وكذلك الصلاة والنسك، فإن الصلاة تتناول الدعاء الذي هو مخ العبادة، وكذلك النسك وهو ذبح القربان. وقد نفت هذه الآية أن يكون أحد شريكا لله في العبادة؛ والشرك ينافي الإخلاص، كما تقدم بيانه في معنى هذا الوجه.
الوجه الخامس: أن الاستمداد من غير الله ينافي الإسلام، والإسلام أصله: إسلام القلب والوجه لله، كما قال تعالى:{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [سورة آل عمران آية: 20]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً
وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [سورة النساء آية: 125]، وقال تعالى:{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [سورة لقمان آية: 22] . وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، إسلام القلب إذ هو الأصل لكل عمل.
والمقصود: أن المستمد من غير الله، لم يسلم وجهه وقلبه لله، كيف وقد أسلم لغيره بوجهه وقلبه؟! وهذا المستمد من غير الله، وإن قال: لا إله إلا الله بلسانه، فقد عكس مدلولها، فلم ينف ما نفته من الشرك، ولم يأت بما أثبتته من إخلاص الإلهية لله وحده، فلم يسلم قلبه لله.
والإسلام: هو دين الله الذي لا يقبل دينا سواه، كما قال تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [سورة آل عمران آية: 19]، وقال تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 85] ؛ وحقيقته: أن لا يعبد إلا الله، ولا يعبد إلا بما شرع، لا بالأهواء والبدع.
الوجه السادس: أن الله تعالى أرسل الرسل، وأنزل الكتب، بالأمر بعبادته وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة من سواه، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [سورة البقرة آية: 21] إلى قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 22]، وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] .
وهذا هو مدلول كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، ومعنى (قضى) وصى، وأمر.
الوجه السابع: أن يقال: إذا كان الرسل من أولهم إلى آخرهم، عليهم الصلاة والسلام، قد اتفقت دعوتهم على إخلاص العبادة بجميع أنواعها الباطنة والظاهرة، لله تعالى دون كل من سواه، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36]، وقال تعالى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 25-26] الآية، فإذا كان الرسل كلهم: قد بعثوا بالدعوة إلى إخلاص العبادة، والنهي عن الشرك في العبادة، فكيف ساغ لمن يدعي المعرفة، أن يخالف ما جاءت به الرسل، وأمروا به من التوحيد، ويخالف ما أرسلوا به من النهي عن الشرك بالله؟ وأنت ترى هذا الملحد قد اتخذ الشرك دينا، ونبذ كتاب الله وراء ظهره، وجحد ما جاءت به الرسل من الإخلاص، أسوة أمثاله من أهل الإشراك والتنديد؛ فهم أعداء الرسل، كالذين أخذهم الله بعذاب الاستئصال، لما فعلوا فعل هؤلاء، وتمسكوا بالشرك، وجحدوا التوحيد، فاتبعهم هؤلاء فأدلجوا في ضلالهم وعماهم، وشرعوا لأنفسهم دينا لم يأذن به الله، وصدوا عن سبيل الله؛ فالله المستعان.
الوجه الثامن: أن الله تعالى هو الذي حكم على عباده، أن يعبدوه وحده بأنواع العبادة كلها، قال الله تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة يوسف آية: 40] . فالتوحيد دينه الذي حكم به على عباده، وخلقهم له وهذه حكمته الشرعية الدينية، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] . وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [سورة النساء آية: 64] ؛ فمنهم من أطاع، ومنهم من عصى، وخرج عن الدين الذي رضيه الله لعباده، وأراده منهم، كما قال تعالى:{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [سورة النساء آية: 27] .
وهذا التوحيد هو الدين الذي عهده تعالى إلى عباده على ألسنة رسله؛ فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، قال الله تعالى:{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [سورة الأعراف آية: 102]، وقال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ?وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [سورة يونس آية: 99-100] .
فمن هداه الله إلى تدبر كتابه نجا، ومن أعرض عنه ضل؛ نعوذ بالله من الضلال والعمى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الوجه التاسع: أن الذي ينصر الشرك بالوساوس الشيطانية، إنما يخاصم ربه الذي خلقه وأسبغ عليه نعمه؛ فإن الله تعالى قد أظهر حججه على من أشرك به، واحتج عليهم بما أقروا به من ربوبيته، على ما جحدوه من إلهيته، كما قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ ي} [سورة الزمر آية: 38] .
وقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة الأحقاف آية: 4] . واحتج عليهم تعالى بأنه لا حجة لهم على ما اختلقوه من الشرك في العبادة، وأبطل استمدادهم من غيره، كما قال تعالى عن أهل الكهف:{هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [سورة الكهف آية: 15]، وقال:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل آية: 17] .
فالعبادة لا تصلح إلا لمن انفرد بخلق كل شيء، وقهر العباد بتصرفه فيهم كيف شاء بفضله، ويضل ويعذب من يشاء بعدله، وهو الحكيم في خلقه، يدبر أمرهم بحكمته وعلمه؛ فكيف جاز لأحد أن يعبد عبدا عاجزا، يجعله شريكا للقاهر
القادر الخالق الأزلي الذي له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الذي له ملك السماوات والأرض؟
فمن تدبر واعتبر، وعرف الله، علم أن الشرك أعظم ذنب عصي الله به، وعلم أن المستمد من غير الله، قد وضع العبادة في غير موضعها {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان آية: 13] ؛ يوضح ذلك:
الوجه العاشر: وهو أن الله تعالى سجل على من دعا غيره، بأنه لا أحد أضل منه، فقال:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 5] .
ففي هذه الآية أمور خمسة، كل واحد منها يبطل الاستمداد بغير الله:
الأول: قوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة الأحقاف آية: 5] ; ففيها بيان: أن دعوة غير الله، هي الغاية في الضلال.
الثاني: قوله: {مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} [سورة الأحقاف آية: 5] ، فالذي لا يستجيب له دعوته، له عناء وشقاء ووبال، في الحال والمآل.
الثالث: قوله: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 5] ؛ فهذا المستمد بمن هو غافل عنه لا أضل منه؛ وهذا كله يبين ضلال المستمد ويحققه، ويدل على فساد عقله. كيف يستمد بالغافل، ويترك القريب المجيب، السميع البصير، العليم الخبير؟ ويرغب عنه إلى من لا يضر ولا ينفع؟
الرابع: قوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً} [سورة الأحقاف آية: 6] ، فأخبر
تعالى: أن المدعو الذي طلب منه الداعي المدد، تخونه دعوته أحوج ما كان إليها؛ فيكون المدعو عدوا له، وخصما له بين يدي الله يوم القيامة، فخاب سعيه وانقطع رجاؤه، وشقي بدعوته، وصار إلى النار بشركه وضلاله.
الخامس: قوله: {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 6] ، فكل ولي لله، وعبد صالح، يكفر بعبادة من عبد مع الله غيره في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد؛ فهم أعداؤه في الدنيا والآخرة: يستحلون دماءهم، وأموالهم في الدنيا، وينكرون عليهم شركهم يوم القيامة، ويظهرون عداوتهم والبراءة منهم؛ فكما كفروهم في الدنيا، يكفرونهم يوم القيامة ولا بد، لأنهم دانوا بخلاف دينهم، الذي من دان بخلافه، نصبوا له العداوة ظاهرا وباطنا.
فتدبر القرآن، فإن نظائر هذه الآية كثير، كقوله تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سورة سبأ آية: 40-41]، أي: الشياطين الذين زينوا لهم عبادة غير الله.
وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [سورة المائدة آية: 116] إلى قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ
فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سورة المائدة آية: 117] ؛ ففي هذه الآية أيضا: إبطال قول من ادعى علم الغيب، لغير الله تعالى الذي اختص بعلم الغيب، إلا ما أطلع عليه أنبياءه بوحيه إليهم؛ فإن قوله:{فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [سورة المائدة آية: 117] هذا وعيسى عليه السلام حي في السماء، فكيف بمن مات؟ !
وأخرج البخاري في الصحيح، عن ابن عباس، قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [سورة الأنبياء آية: 104] . ثم إن أول من يكسى يوم القيامة: إبراهيم عليه السلام، إلا أنه يؤتى برجال من أمتي، فيؤخذ بهم ذات الشمال; قال: فأقول يا رب أصحابي; فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك; فأقول: كما قال العبد الصالح {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [سورة المائدة آية: 117] إلى قوله: {شهيد} ".
فدل على أن شهادته عليهم، إنما كانت وهو بين أظهرهم، وأما بعد مفارقته لهم، فأسند ذلك إلى الله تعالى، بقوله:{فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سورة المائدة آية: 117] . فليتأمل هذا التأكيد البليغ المفيد، لاختصاص الله بعلم الغيب، وأن الميت والغائب لا يعلم شيئا. فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يستمد بمن لا يطلع على أحوال العباد
وأعمالهم؟! وهذا مما يبطل الاستمداد بغير الله تعالى.
وقد تقدم أن الاستمداد طلب المدد، لا يكون إلا بالقلب واللسان والأركان، وهذا هو الشرك في العبادة، كما قال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18]، وقال:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] .
فتبين أن الاستمداد بغير الله كفر بالله، وفيه الوعيد الشديد بنفي الفلاح؛ ونفي الفلاح يدل على أن هذا الكافر لا تنفعه شفاعة شافع، ولا ينفعه نافع في دنياه ولا أخراه، كما قال تعالى عن صاحب يس:{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [سورة يس آية: 23-24-25] .
وهذا القدر الذي ذكرناه من الأدلة والبراهين، كاف في إبطال حجة هذا المستمد الملحد المشرك؛ والحمد لله على بيان الحق وظهوره، وزهوق الباطل واضمحلاله، وبالله التوفيق.
ثم إن هذا الملحد يقول: إنه قادري; يعني: أنه على طريقة عبد القادر الجيلاني؛ وهذه النسب ابتدعها جهال الصوفية، ما أنزل الله بها من سلطان، بل هي من محدثات الأمور التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم أمته، كما قال: " وإياكم
ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة " 1.
ولم يعهد مثل هذه النسبة في عهد الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من فضلاء الشيوخ، الذين هم أفضل من عبد القادر بمراتب؛ فهو فاضل بالنسبة إلى من دونه، مفضول بالنسبة إلى من فوقه، كبشر الحافي، والجنيد، وسهل بن عبد الله، وأمثالهم ممن في طبقاتهم وغيرهم.
وعبد القادر رحمه الله، في أواخر القرن الخامس، وهو حنبلي، صنف الغنية في مذهب الإمام أحمد، وليس بأفضل الحنابلة؛ بل فيهم من هو أفضل منه في العلم والدين، وحفظ الأحاديث، ومعرفة صحيحها، ومعلولها، وغير ذلك. وله عبارات حسنة في الإخلاص والتوكل، وأعمال القلوب، لو تأملها هذا المنتسب لكفته في أصل الدين، ولكنه خالف طريقة عبد القادر وملته، وهو ينتسب إليه، ويرغب عن ملته وطريقته ودينه.
وملة عبد القادر هي الإسلام الذي رضيه الله تعالى لعباده، وها أنا أذكر شيئا من نمط كلام عبد القادر، تحقيقا لما قلته.
فإنه قال رحمه الله في كتابه "فتوح الغيب": لعمري إنك لتدعو وتبتهل إلى ربك عز وجل بالدعاء، والتضرع، وهما عبادة وطاعة، امتثالا لأمره عز وجل بقوله:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60]، وقوله: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ
1 أبو داود: السنة (4607)، والدارمي: المقدمة (95) .
فَضْلِهِ} [سورة النساء آية: 32] ،
وغير ذلك من الآيات، ولا تسأم من دعائه؛ فإنك إن لم تربح لم تخسر، إن لم يجبك عاجلا أثابك آجلا.
وقال رحمه الله: قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] . اتق الشرك جدا ولا تقربه، واجتنبه في حركاتك وسكناتك، وليلك ونهارك، في خلوتك وجلوتك.
وقال رحمه الله: اتبعوا ولا تبتدعوا، وأطيعوا ولا تمرقوا، ووحدوا ولا تشركوا. ومن كلامه في الموعظة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ملعون من كان ثقته بمخلوق مثله ". ما أكثر الذين قد دخلوا في هذه اللعنة! ومن وثق بمخلوق مثله، فهو كالقابض على الماء، يفتح يده، لا يرى فيها شيئا.
وله في كتبه عدة مواضع تدل على إخلاصه الدعاء وغيره من أنواع العبادة، محافظة منه على معنى شهادة أن لا إله إلا الله، والتحذير من الشرك في العبادة، أسوة أمثاله من أهل السنة سلفا وخلفا، يأمرون بإخلاص العبادة، والطاعة لله وحده، ويتبعون ما شرعه لهم، على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد خالف هذا الملحد جميع أهل السنة والجماعة، فأظهر الشرك وزينه، وأبداه في قالب الاستمداد؛ وقد علمت مما تقدم أن الاستمداد لا يكون إلا بالقلب واللسان اعتمادا ورغبة إلى غير الله، وتركا للإخلاص في العبادة، الذي رضيه الله
لعباده، وأوجبه عليهم.
فخالف طريقة شيخه عبد القادر، الذي ينتسب، إليه وغيره من الشيوخ والعلماء، واتبع غير سبيلهم، واتبع من شرع من الدين ما لم يأذن به الله، وقد قال عن مؤمن آل فرعون:{لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الْآخِرَةِ} [سورة غافر آية: 43] الآية.
فعلى الناصح لنفسه أن يتدبر ما في القرآن، من أدلة التوحيد التي لو استقصينا في ذكرها، لاحتمل مجلدا لكثرة وجود البيان في الإخلاص، وبطلان الشرك في العبادة؛ وفيما ذكرنا من الأدلة، ما تقوم به الحجة على كل ملحد منحرف، عن الصراط المستقيم، والله المستعان.
[الرد عليه حين يسمي أهل التوحيد معتزلة]
الفصل الثاني
إن هذا الملحد المبهرج، يسمي أهل التوحيد والإخلاص النافين للشرك، المعادين لأهله: معتزلة; والمعتزلة طائفة معروفة، ابتدعوا بنفي القدر، فنفوا ما أثبته الله في كتابه، وما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم بما جرى به القلم بما يكون إلى يوم القيامة، واعتزلوا مجلس الحسن البصري، رحمه الله تعالى، وسموا معتزلة لذلك; فإنهم اعتزلوا أهل السنة، وخالفوهم فيما ذكرنا، وقالوا: بالمنْزلة بين المنْزلتين، قالوا في صاحب الكبيرة: فاسق، لا مؤمن ولا كافر، وقالوا بتخليده في النار.
وخالفوا أيضا ما تواترت به الأحاديث: أن الله يدخل من يشاء من أهل المعاصي النار، ثم يخرجهم منها بما معهم من التوحيد; فإذا جازاهم الله تعالى بإدخالهم النار، ومكثهم فيها على قدر ذنوبهم، أخرجهم بما معهم من التوحيد، فأدخلهم الجنة برحمته؛ وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، فإنهم خالفوا هذه الطائفة وكل مبتدع.
ثم إن هؤلاء المعتزلة وافقوا جهما وشيعته في نفي الصفات، فنفوا ما أثبته الله لنفسه في كتابه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، من صفات كماله، ونعوت جلاله، على ما يليق بعظمته؛ ففارقت هذه الطائفة أهل السنة بهذه البدع وغيرها، فلم يثبتوا الشفاعة لأهل الكبائر أيضا؛ فهذا هو
الذي تعلق به هذا المبهرج الملحد.
فإنه جعل الشرك وما دونه من الكبائر بابا واحدا، فظن أن من تعلق بالشفعاء، ورغب إليهم، وسألهم أن يشفعوا له، أن ذلك يوجب له شفاعتهم; فظن هذا الظن: أنه لا ينكر هذا إلا المعتزلة، لأنهم ينكرون الشفاعة في أهل الكبائر على مذهبهم؛ وهذه الشفاعة أبطلها القرآن، فلا حظ فيها لمشرك، لأن اتخاذ الشفعاء هو دين المشركين من العرب وغيرهم، فافهم، واعتبر ما ذكره الله عنهم بقوله:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] إلى قوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة يونس آية: 18] ، فنَزّه نفسه عن شركهم هذا، الذي هو اتخاذ الشفعاء، والتوجه إليهم، وطلب الشفاعة منهم، فصار ذلك سببا لحرمانهم الشفاعة، بدليل قوله تعالى:{قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [سورة يونس آية: 18] . فالشفاعة في حقهم منتفية، كما قال تعالى:{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [سورة البقرة آية: 254] .
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] ؛ فكفر من
تعلق على غيره تعالى، ورغب إليه ورجاه، واعتمد عليه في أن يشفع له عند الله.
فدلت هذه الآيات على أن من فعل ذلك، فهو مشرك بالله، كافر به؛ قال تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [سورة الزمر آية: 43-44] .
فالشفاعة لمن له ملك السماوات والأرض، ومرجع الخلق إليه سبحانه وتعالى؛ وهو الذي يأذن فيها لأهل التوحيد خاصة، كما قال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255]، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28] ، وقال تعالى:{يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [سورة طه آية: 109]، وقال:{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 51] .
فهؤلاء هم أهل الإخلاص، الذين لم يتخذوا من دون الله شفيعا يسألونه ويرغبون إليه؛ بل قصروا رجاءهم ودعاءهم، ورغبتهم ورهبتهم، وجميع أنواع العبادة، عليه تعالى وتقدس؛ فهو المستحق لذلك دون كل ما سواه.
فلا تطلب الشفاعة في هذه الدار، إلا من مالكها الذي لا تحصل إلا بإذنه، وهو الله تعالى، كما قال وهو أصدق القائلين: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [سورة السجدة آية: 4]، وقال في سورة يونس:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [سورة يونس آية: 3] .
فالمعتزلة الذين تقدم ذكر بدعتهم لسنا- بحمد الله- في شيء من مقالاتهم، بل ننكرها عليهم؛ ونعتقد أنهم خالفوا ما تواترت به النصوص، وتظاهرت عليه أدلة القرآن الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت آية: 42] .
وأما أهل الشرك بالله فإنهم خالفوا ما خلقوا له، من توحيد الله، وما جاءت به الرسل، واتفقت دعوتهم، من أولهم إلى آخرهم عليه، فصار ذنبهم أعظم ذنب عصي الله به؛ لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها، فصرفوها لمخلوق لا يستحقها؛ وأكثر القرآن في الاحتجاج عليهم فيما فعلوه، مما تظاهرت على النهي عنه نصوص الكتاب والسنة، وكل رسول بعثه الله، ينهى أمته عنه أشد النهي.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [سورة النساء آية: 116]، وقال تعالى:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [سورة النساء آية: 48]، وقال:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72] .
فالحنفاء أهل التوحيد، اعتزلوا هؤلاء المشركين، لأن الله أوجب على أهل التوحيد اعتزالهم، وتكفيرهم، والبراءة منهم، كما قال تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً} [سورة مريم آية: 48] إلى قوله: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة مريم آية: 49] .
وقال: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4]، وقال عن أهل الكهف:{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [سورة الكهف آية: 16] الآية.
فلا يتم لأهل التوحيد توحيدهم، إلا باعتزال أهل الشرك، وعداوتهم وتكفيرهم؛ فهم معتزلة بهذا الاعتبار؛ لأنهم اعتزلوا أهل الشرك، كما اعتزلهم الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وأما ما يزعمه هؤلاء الغلاة المشركون في الأموات، أنهم يعلمون الغيب، وأنهم يسمعون من دعاهم، وأن لهم تصرفا، فهذا من أبطل الباطل، وأعظم الكذب والافتراء، ومن فرط الغلو في الشرك بالله؛ ويكفي في هذا الزعم الفاسد، قول الله تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي
مَلَكٌ} [سورة الأنعام آية: 50] .
فهذه حال أشرف الخلق وأكرمهم على الله تعالى، أمره الله تعالى أن يقول ذلك، وأن يقول:{إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [سورة الأحقاف آية: 9] . فلا يعلم الغيب أحد من العالم العلوي والسفلي، إلا ما أخبرهم الله تعالى به، وأطلعهم عليه، كما قال تعالى:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [سورة البقرة آية: 255] .
فمن تأمل قوله: {بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [سورة البقرة آية: 255] ، وأن من للتبعيض، وشيء للتقليل، واستحضر قول الخضر لموسى عليهما السلام، حين رأى عصفورا نقر في البحر، قال: ما نقص علمي وعلمك من علم الله، إلا كما نقص هذا العصفور من البحر.
فعلم الخلائق في علم الله، كما يأخذ العصفور في منقاره من البحر، مع أن الله تعالى قد أنزل على موسى التوراة من علمه، وكذلك الإنجيل والزبور والقرآن؛ وما أوحاه الله إلى أنبيائه ورسله، وما أطلع عليه ملائكته، فهو يسير في غيب الله وعلمه.
وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة الأعراف آية: 188] .
والآيات في هذا المعنى كثيرة، لم نذكرها اختصارا،
فسبحان الله! كيف غاب هذا عن قلوب هؤلاء الغلاة؟ كأنهم لم يسمعوا ما قال الله ورسوله!
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا حزبه أمر، فزع إلى الصلاة; وثبت أنه صلى الله عليه وسلم يوم بدر يناشد ربه، ويسأله النصر على المشركين، وكذلك ما جرى له ولأصحابه بأحد والخندق.
وقد كان يدعو في صلاة الصبح، على قادة الأحزاب من قريش، ويلعنهم، فأنزل الله:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 128] ، فتاب عليهم.
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [سورة آل عمران آية: 154] ؛ فإذا كان سيد المرسلين لا ينصره على عدوه، إلا الذي أرسله بالهدى ودين الحق، وكان يستمد النصر والنفع من الله تعالى، ويتضرع إليه؛ ولما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأناس من الصحابة:"قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق" - وهو عبد الله بن أبي، كما صرح به ابن أبي حاتم في روايته- قال النبي صلى الله عليه وسلم:" إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل ".
فإذا كانت هذه حال سيد المرسلين، فكيف يعتقد في عبد القادر، وفيمن هو دونه، أو فوقه في العلم والعبادة: أنهم
يسمعون وينفعون ويضرون، وهم جثث بالقبور، صارت أجسادهم إلى الفناء والبلاء؟ فكيف ذهب الشيطان بعقول هؤلاء المشركين، إلى أن بلغ بهم الشيطان إلى أن نزلوا المخلوق منْزلة الخالق، والعبد العاجز منْزلة المعبود القاهر فوق عباده؟! ونزلوا الميت منْزلة الحي القيوم، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، فجعلوهم شركاء لله في الإلهية والربوبية والملك، وفي علم الغيب; واعتقدوا فيهم أنهم يسمعون من دعاهم من الأماكن البعيدة، وهم أموات رفاة.
وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [سورة النحل آية: 20-21-22] . فترك هؤلاء الإيمان بالقرآن، ونبذوه وراء الظهر، واعتقدوا المحال الذي أحالته العقول الصحيحة، وأنكرته الفطر السليمة، والقلوب المستقيمة.
قال بعض العلماء من أهل السنة، في قول الله تعالى:{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [سورة الإسراء آية: 85] : قالوا: معرفة حقيقية الروح، مما استأثر الله بعلمه، قالوا: والحكمة في إبهامه اختبار الخلق، ليعرفهم عجزهم عن علم ما لا يدركونه، حتى يضطرهم إلى رد
العلم إليه. فتقرر بما ذكرنا من الأدلة والبراهين الماحية لشبهة كل مشرك تعلق في مهماته بغير الله.
ونذكر أيضا ما يزداد به طالب الحق يقينا، فنقول: من زعم أن الأنبياء والصالحين يشفعون لمن دعاهم في دنياهم أو أخراهم، فقد ادعى دعوى أهل الشرك، من مشركي العرب ومن ضاهاهم.
ولا ريب أن هذا الزعم زور وكذب وضلال، كما ذكر الله تعالى في محكم كتابه عن أولئك المشركين، أنهم قالوا:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ؛ قال الله تعالى في الجواب: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] .
وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18]، فأجابهم الله بقوله:{قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [سورة يونس آية: 18] ؛ فأخبر أن حصول الشفاعة على هذا الوجه ممتنع قطعا، وهي الشفاعة التي نفاها القرآن في هذه الآية وغيرها، لأن طلبها من غير الله شرك؛ ولهذا نزه تعالى نفسه عن ذلك الشرك بقوله:{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة يونس آية: 18] .
فالشفاعة على هذا الوجه، ممتنعة شرعا وقدرا، وعقلا وفطرة؛ فإذا كان من يدعوه ويرجوه من الأموات، غافلا عن دعوته، لا يسمع دعاءه، كما في قوله تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا
يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 14]، وقال تعالى:{فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [سورة يونس آية: 28-29] ، وهذا كما هو بين في القرآن، فهو بعيد في العقل.
فإذا كان المدعو في حال حياته، واجتماع حواسه وحركاته، لا يسمع من دعاه على البعد، ولو مسيرة فرسخ، فكيف يجوز في عقل من له أدنى مسكة من عقل، أنه إذا مات وفارقت روحه جسده، وذهبت حواسه وحركته بالكلية، وصار رهينا في الثرى، جسدا بلا روح أنه- والحالة هذه- يسمع من البعيد، ولو مسيرة شهر، أو أكثر، ويجيب؟ فكل عقل صحيح يحيل ذلك، ويعلم أنه من أمحل المحال.
لكن هؤلاء المشركون فسدت عقولهم وفطرهم، وزين لهم الشيطان ما يعتقدونه من الكذب والمحال، والشرك والضلال، قال تعالى:{إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [سورة النمل آية: 80] ؛ شبه من لم يطلب الحق، ولم يرده في عدم انتفاعه بسماع الحجة، بالميت الذي لا يسمع بالكلية، وبالأصم إذا أدبر، لكونه لا يسمع مناديهلما قام به من الوصفين.
وشبهه أيضا: في عدم رؤيته للحق، بالذي لا يبصر،
لأن الأعمى عمي بصره؛ وهذا عميت بصيرته عن معرفة الحق وقبوله؛ وهذا هو المعنى الصحيح في هذه الآيات.
فإن قيل: إن هذا الذي أردناه من هؤلاء الأموات، يحصل لنا من أرواحهم،
قيل: وهذا منتف في العقل، كما نفاه القرآن، وذلك: أن أرواح الأنبياء والصالحين في أعلى عليين، فيمتنع عقلا وشرعا وفطرة وقدرا، أن الأرواح التي فوق السماوات السبع وفي أعلى عليين، أنها تسمع دعاء أهل الأرض، وتنفعهم وتتصرف فيهم؛ هذا محال قطعا، وضلال مبين.
فإن الله تعالى، قال:{وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 5] ؛ فكل من دعي من الأموات، والغائبين، والأنبياء والصالحين، فمن دونهم، غافل عن دعاء داعيه، بنصوص القرآن العزيز الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت آية: 42] . فسبحان من أنزل كتابه روحا، وهدى ونورا، وبرهانا، يهتدي به من هداه الله إلى صراطه المستقيم.
وقد قال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [سورة غافر آية: 14]، وقال تعالى:{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [سورة غافر آية: 18] . وأظلم الظلم دعوة غير الله، من الأموات والغائبين; لأن الله تعالى نهى عن ذلك أشد النهي،
وأخبر أنه شرك وكفر؛ وقد تقدم بيان ذلك، وتقدم أن اتخاذ الشفعاء والتعلق عليهم، في جلب نفع أو دفع، أنه شرك عظيم.
قال أبو جعفر بن جرير، في معنى قوله تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [سورة يونس آية: 18] إلى آخر الآية، قال: ويعبد هؤلاء المشركون من دون الله، الذي لا يضرهم شيئا، ولا ينفعهم في الدنيا، ولا في الآخرة، وذلك هو الآلهة والأصنام، التي كانوا يعبدونها رجاء شفاعتها عند الله؛ قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [سورة يونس آية: 18] .
يقول: أتخبرون الله بما لا يكون في السماوات ولا في الأرض؟! وذلك أن الآلهة لا تشفع لهم عند الله في السماوات ولا في الأرض؛ وكان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم عند الله، فقال الله لنبيه: قل لهم: أتخبرون الله أن ما لا يشفع في السماوات ولا في الأرض يشفع لكم فيها؟! وذلك باطل لا يعلم حقيقته وصحته.
بل يعلم الله أن ذلك خلاف ما تقولون، وأنها لا تشفع لأحد ولا تنفع ولا تضر. {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة يونس آية: 18] ، يقول: تنْزيها لله وعلوا عما يفعله هؤلاء المشركون، من إشراكهم في عبادته ما لا يضر ولا ينفع، وافترائهم عليه الكذب، انتهى.
تتمة
[تتمة في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفات في الحياة وبعد الممات]
قال الشيخ صنع الله الحلبي، الحنفي، في كتابه: الرد على من ادعى، أن للأولياء تصرفات في الحياة وبعد الممات: هذا، وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين، جماعات يدعون أن للأولياء تصرفات بحياتهم، وبعد مماتهم، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهممهم تكشف المهمات؛ فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات، مستدلين على أن ذلك منهم كرامات.
وقالوا: منهم أبدال ونقباء، وأوتاد ونجباء، وسبعون وسبعة، وأربعون وأربعة; والقطب هو الغوث للناس، وعليه المدار بلا التباس. وجوزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيها الأجور.
قال: وهذا كلام فيه تفريط وإفراط؛ بل فيه الهلاك الأبدي، والعذاب السرمدي. لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالفة لعقائد الأئمة، وما اجتمعت عليه الأمة، وفي التنْزيل:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] .
ثم قال: فأما قولهم: إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات، فيرده قوله تعالى:{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}
[سورة النمل آية: 60] ،
{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [سورة الأعراف آية: 54] . وذكر من الآيات الدالة على أنه المتفرد بالخلق والتدبير، والتصرف والتقدير، ولا شيء لغيره في شيء بوجه من الوجوه؛ فالكل تحت ملكه وقهره، تصرفا وملكا، وإحياء وإماتة وخلقا، إلى أن قال:
وأما القول بالتصرف بعد الممات، فهو أشنع وأبدع من القول في التصرف في الحياة; قال جل ذكره:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [سورة الزمر آية: 30]، وقوله:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [سورة الزمر آية: 42] الآية، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [سورة آل عمران آية: 185] ، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [سورة المدثر آية: 38] ، وفي الحديث:" إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث " 1 الحديث.
فجميع ذلك وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أرواحهم ممسكة، وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان، فدل ذلك أن ليس للميت تصرف في ذاته، فضلا عن غيره؛ فإذا عجز عن حركة نفسه، فكيف يتصرف في غيره؟! فالله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده، وهؤلاء الملحدون يقولون: إن الأرواح مطلقة متصرفة {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [سورة البقرة آية: 140] .
قال: وأما قولهم: ويستغاث بهم في الشدائد، فهو أقبح مما قبله، وأبدع، لمصادمته قوله جل ذكره: {أَمَّنْ يُجِيبُ
1 مسلم: الوصية (1631)، والترمذي: الأحكام (1376)، والنسائي: الوصايا (3651)، وأبو داود: الوصايا (2880) ، وأحمد (2/372)، والدارمي: المقدمة (559) .
الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [سورة النمل آية: 62]، {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [سورة الأنعام آية: 63] ؛ وذكر آيات في هذا المعنى ثم قال:
فإنه جل ذكره، قرر أنه الكاشف للضر، لا غيره، وأنه المنفرد بإجابة المضطرين، وأنه المستغاث لذلك كله، وأنه القادر على دفع الضر، القادر على إيصال الخير؛ فهو المنفرد بذلك؛ فإذا تعين هو جل ذكره، خرج غيره من ملك ونبي وولي.
قال: وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم، كما تفعله جاهلية العرب، والصوفية الجهال، وينادونهم، ويستنجدون بهم، فهذا من المنكرات؛ فمن اعتقد أن لغير الله، من نبي أو ولي أو روح، أو غير ذلك، في كشف كربة، أو قضاء حاجة، تأثيرا، فقد وقع في وادي جهل خطير، فهو على شفا حفرة من السعير.
وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات، فحاشا لله أن تكون أولياء الله بهذه المثابة؛ فهذا ظن أهل الأوثان، كذا أخبر الرحمن {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} [سورة يس آية: 23] . فإن ذكر ما ليس من شأنه النفع، ولا
دفع الضر، من نبي وولي، وغيره، على وجه الإمداد منه، إشراك مع الله؛ إذ لا قادر على الدفع غيره، ولا خير إلا خيره، انتهى.
ولنختم الجواب، بما قاله بعض السلف: لقد والله عز المسلمون، الذين يعرفون المعروف وبمعرفتهم يعرف، وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر; وقال مجاهد في قول الله تعالى:{وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [سورة الأنعام آية: 153] قال: السبل: البدع والشبهات.
وقد اقتصرنا على هذا القدر، وبه تقوم حجة الله، على كل مبطل ضل وأضل؛ والحمد لله الذي هدانا للإسلام {لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [سورة الأعراف آية: 43] ، وصلى الله على محمد سيد المرسلين، وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما.
[ورود أوراق تتضمن التحذير من التكفير من غير تحقيق ولا تحرير]
وقال أيضا: شيخ الإسلام، الشيخ عبد الرحمن بن حسن، قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
اعلم: أيها الطالب للحق، الراغب في معرفة الإخلاص والصدق، أنه ورد علينا أوراق صدرت من رجل سوء، تتضمن التحذير من التكفير، من غير تحقيق ولا تحرير، يقول فيها: قال شيخ الإسلام ابن تيمية، في الرد على أهل الرفض من الخوارج والاعتزال.
أقول: هذه عبارة من لا علم عنده، ولسنا بصدد بيان ما فيها من الجهل والخطل، والبصير يدرك ما فيها من الزلل.
ثم إنه قال: قال شيخ الإسلام ابن تيميه: وهؤلاء الذين ابتدعوا أصولا، زعموا أنه لا يمكن تصديق الرسول إلا بها، وأن معرفتها شرط في الإيمان، واجبة على الأعيان أهل بدعة عند السلف، والأئمة وجمهور العلماء الحذاق من الأمة، ومن تبعهم بإحسان; إنها باطلة في العقل، مبتدعة في الشرع، إلى أن قال: ومن شأن أهل البدع: أنهم يبتدعون أقوالا يجعلونها واجبة في الدين; بل يجعلونها من الإيمان الذي لا بد منه،
ويكفّرون من خالفهم فيها، ويستحلون دمه، كفعل الخوارج، والجهمية، والرافضة والمعتزلة، وغيرهم.
وأهل السنة لا يبتدعون قولا ولا يكفرون من اجتهد فاخطأ، وإن كان مخالفهم لهم مستحلا لدمائهم، كما لم تكفر الصحابة رضي الله عنهم الخوارج، مع تكفيرهم، واستحلالهم دماء المسلمين المخالفين لهم، وساق كلام شيخ الإسلام في الخوارج والجهمية، والمعتزلة وغيرهم مقطعا، أخذ منه ما قصد به اللبس، والتضليل، وترك منه ما فيه البيان والتفصيل.
وما وجدنا لنقل هذا الرجل لكلام شيخ الإسلام وغيره، محملا حسنا يحمل عليه، ولا حاجة لذلك دعته إليه، إذ ليس في جزيرة العرب وما حولها، من يرى رأي الخوارج، ويكفر الصحابة وغيرهم من أهل الإيمان بالذنوب، التي لا يكفر صاحبها، ولا من يقول بالمنْزلة بين المنْزلتين، وينكر القدر كالمعتزلة، ولا من يجحد صفات الرب تعالى، كالجهمية، ولا من يغلو في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ويدعي فيهم الإلهية، كالرافضة.
فإذا كان ذلك كذلك، علم أنه إنما أراد بهذه النقول، أهل هذه الدعوة الإسلامية، التي ظهرت بنجد، فانتفع بها الخلق الكثير، والجم الغفير من هذه الأمة، وتمسكوا فيها بالأصول من الكتاب والسنة، وتأيدوا بإجماع سلف الأمة،
وما قرره أتباع السلف من الأئمة، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة محمد بن قيم الجوزية، وسلفهم من أهل السنة والجماعة. وهذا الرجل إنما أتى من جهة فساد الاعتقاد; فلا يرى الشرك الجلي ذنبا كبيرا يكفر فاعله; فوجه إنكاره وطعنه على من أنكر الشرك، وفارق أهله، وكفرهم بالكتاب والسنة والإجماع; ولا يخفى أن من أشد الناس إنكارا للشرك: شيخ الإسلام ابن تيمية، وأمثاله من علماء السنة، لما حدث في زمانهم، وعمت به البلوى فأنكروه، وبينوا أن هذا هو الشرك الجلل، الذي عليه المشركون الأولون، كما سيأتي في كلامه رحمه الله تعالى.
فصار من هؤلاء المشركين من يكفر أهل التوحيد، بمحض الإخلاص والتجريد، وإنكارهم على أهل الشرك والتنديد; فلهذا قالوا: أنتم خوارج، أنتم مبتدعة، كما أشار العلامة ابن القيم إلى مثل هذه الحال في زمانه، بقوله:
من لي بشبه خوارج قد كفرونا
…
بالذنب تأويلا بلا حسبان
ولهم نصوص قصروا في فهمها
…
فأتوا من التقصير في العرفان
وخصومنا قد كفرو بالذي
…
هو غاية التوحيد والإيمان
وهذا الرجل قد أخذ بطريقة من يكفر بتجريد التوحيد، فإذا قلنا: لا يعبد إلا الله ولا يدعى إلا هو،
ولا يرجى سواه ولا يتوكل إلا عليه، ونحو ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله، وأن من توجه بها لغير الله فهو كافر مشرك، قال: ابتدعتم وكفرتم أمة محمد، أنتم خوارج، أنتم مبتدعة.
وأخذ من كلام شيخ الإسلام في أهل البدع، ما كتبه يعرض بأهل التوحيد؛ ولا يخفى ما قاله شيخ الإسلام فيمن أشرك بالله، قال رحمه الله تعالى: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويسألهم ويتوكل عليهم، كفر إجماعا.
وغاية ما موه به هذا على الجهال: أن شيخ الإسلام رحمه الله، ذكر في أهل المقالات الخفية، أنها وإن كانت كفرا، فلا ينبغي أن يكفر صاحبها حتى تقوم عليه الحجة، وهذا كلامه:
قال: نفي الصفات كفر، والتكذيب بأن الله يرى في الآخرة كفر، وإنكار أن يكون الله على العرش كفر، وما في معنى ذلك؛ فتكفير المعين من هؤلاء، بحيث يحكم عليه بأنه مع الكفار، لا يجوز الإقدام عليه إلا أن تقوم عليه الحجة التي يتبين بها أنهم مخطئون، فتأمل قوله: من هؤلاء بحيث يحكم عليه بأنه مع الكفار; وقوله: حتى تقوم عليه الحجة; فأراد بالكفار هنا المشركين، كما سيأتي تقريره في كلام هذا الشيخ وغيره.
ونحن بحمد الله قد خلت ديارنا من المبتدعة، أهل هذه المقالات، وقد صار الخلاف بيننا وبين كثير من الناس، في عبادة الأوثان التي أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب بالنهي عنها، وعداوة أهلها؛ فندعو إلى ما دعت إليه الرسل من التوحيد والإخلاص، وننهى عما نهت عنه من الشرك بالله في ربوبيته وإلهيته، كما قال تعالى:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 45] .
والقرآن من أوله إلى آخره، في بيان هذا الشرك والنهي عنه، وتقرير التوحيد، كما قال تعالى:{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [سورة الزمر آية: 14-15] .
وهذا التوحيد من أصولنا بحمد الله، وكاتب هذه الأوراق، يقول: هذا بدعة، نعم هو بدعة عند نحو القائلين:{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [سورة ص آية: 7] .
فانظر كلام شيخ الإسلام، رحمه الله، الذي لا يقبل اللبس، فإنه لما ذكر من تقدمت الإشارة إليهم، من أرباب المقالات، قال: وهذا إذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة، لكن ذلك يقع في
طوائف منهم في الأمور الظاهرة، التي يعلم العامة والخاصة من المسلمين أنها من دين الإسلام.
بل اليهود والنصارى والمشركون، يعلمون أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر من خالفها، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سوى الله، من الملائكة والنبيين، والشمس والقمر والكواكب، والأصنام وغير ذلك، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل أمره بالصلاة، وإيجابه لها، وتعظيم شأنها، ومثل معاداة اليهود والنصارى، والمشركين، والصابئين، والمجوس، ومثل تحريم الفواحش، والربا والميسر، ونحو ذلك; ثم تجد كثيرا من رؤوسهم، وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين; انتهى كلامه، رحمه الله تعالى.
فتأمل قوله: مثل معاداة اليهود والنصارى والمشركين
…
إلخ. والذين قال فيهم شيخ الإسلام: إنهم يكونون بمخالفتهم لبعض الشرائع مرتدين، هو الذي نقول به؛ وعليه أئمة الإسلام قاطبة، وهو الذي ينقم منا هذا الرجل، وأمثاله من المنحرفين عن التوحيد.
[من اعتقد أنه بمجرد تلفظه بالشهادة يدخل الجنة]
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى: ومن اعتقد أنه بمجرد تلفظه بالشهادة، يدخل الجنة ولا يدخل
النار، فهو ضال، مخالف للكتاب والسنة، والإجماع; انتهى.
وذكر شيخ الإسلام رحمه الله: أن الفخر الرازي صنف "السر المكتوم، في عبادة النجوم" فصار مرتدا إلا أن يكون قد تاب بعد ذلك; فقد كفر الرازي بعينه، لما زين الشرك، وقال بعد أن ذكر العلة في النهي عن اتخاذ القبور مساجد، والنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها،
قال: فسد الذريعة أن لا يصلي في هذه الساعة، وإن كان المصلي لا يصلي إلا لله، ولا يدعو إلا الله، لئلا يفضي إلى دعائها والصلاة لها؛ وهذا من أسباب الشرك، الذي ضل به كثير من الأولين والآخرين، حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام، وصنف كتابا على مذهب المشركين، مثل أبي معشر البلخي، وثابت بن قرة، وأمثالهما ممن دخل في الشرك، وآمن بالجبت والطاغوت، وهم ينتسبون إلى الكتاب، كما قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [سورة النساء آية: 51] . انتهى.
فانظر إلى هذا الإمام، الذي نسب عنه من أزاغ الله قلبه، عدم تكفير المعين، كيف ذكر عن الفخر الرازي، وأبي معشر، وغيرهما من المصنفين المشهورين، أنهم كفروا وارتدوا عن الإسلام.
وتأمل قوله: حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام، لتعلم ما وقع في آخر هذه الأمة من الشرك بالله؛ وقد
ذكر الفخر الرازي في رده على المتكلمين، وذكر تصنيفه "السر المكتوم" وقال: فهذه ردة صريحة باتفاق المسلمين.
وقال في "الرسالة السنية": وكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك، وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، لأن الله تعالى إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده، ولا يجعل معه إله آخر؛ والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح والملائكة، والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، وتنزل المطر، وتنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم، أو صورهم، ويقولون:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3]، ويقولون:{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] .
فبعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم ينهى أن يدعى أحد من دون الله، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استعانة، قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [سورة الإسراء آية: 56-57] الآية. قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح، وعزيرا، والملائكة، ثم ذكر رحمه الله آيات.
ثم قال: عبادة الله وحده لا شريك له، هي أصل الدين، وهي أصل التوحيد، الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36]، وقال:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] .
وكان صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد ويعلمه أمته، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال:"أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده،" ونهى عن الحلف بغير الله وقال: "من حلف بغير الله فقد أشرك " 1، وقال في مرض موته:" لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 2، يحذر ما فعلوا، وقال:" اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " 3، وقال:" لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي حيث ما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني "4.
ولهذا اتفق أئمة الإسلام، على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا الصلاة عندها; وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان، كان تعظيم القبور، ولهذا اتفق العلماء، على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره، أنه لا يتمسح بحجرته، ولا يقبلها; لأنه إنما يكون لأركان بيت
1 الترمذي: النذور والأيمان (1535)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) ، وأحمد (2/34 ،2/69 ،2/86 ،2/125) .
2 البخاري: الجنائز (1330)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531)، والنسائي: المساجد (703) ، وأحمد (1/218 ،6/34 ،6/80 ،6/121 ،6/252 ،6/255 ،6/274)، والدارمي: الصلاة (1403) .
3 أحمد (2/246) .
4 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .
الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق.
كل هذا لتحقيق التوحيد، الذي هو أصل الدين ورأسه، الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ويغفر لصاحبه، ولا يغفر لمن تركه، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [سورة النساء آية: 48] ؛ ولهذا كانت كلمة التوحيد، أفضل الكلام وأعظمه، انتهى.
قلت: فلم يبق- بحمد الله- لمرتاب حجة في كلام العلماء، بعد هذا التفصيل والإيضاح والبيان، وما أحسن ما قال العلامة ابن القيم، رحمة الله تعالى:
والعلم يدخل قلب كل موفق
…
من غير بواب ولا استئذان
ويرده المحروم من خذلانه
…
لا تشقنا اللهم بالخذلان
[ذكر أجناس ما يتاب منه]
وله رحمه الله تفصيل حسن، في "مدارج السالكين" في ذكر أجناس ما يتاب منه، وهي: اثنا عشر جنسا، مذكورة في كتاب الله عز وجل: الأول: الكفر، والثاني: الشرك; فأنواع الكفر خمسة: كفر تكذيب، وكفر استكبار وإباء مع التصديق، وكفر إعراض، وكفر شك، وكفر نفاق; وبين هذه الأنواع ثم قال.
وأما الشرك، فهو نوعان: أكبر وأصغر؛ فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون
الله ندا، يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، ولهذا قالوا لآلهتهم في النار:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية: 97-98] ، مع إقرارهم بأن الله وحده خالق كل شيء، وربه ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق، ولا تميت ولا تحيي; وإنما كانت هذه التسوية، في المحبة، والتعظيم، والعبادة، كما هو حال مشركي العالم.
بل كلهم يحبون معبوداتهم، ويعظمونها، ويوالونها من دون الله، وكثير منهم بل أكثرهم يحبون آلهتهم، أعظم من محبة الله، ويستبشرون بذكرهم، أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده، ويغضبون من تنقص معبوداتهم، وآلهتهم من المشائخ، أعظم مما يغضبون إذا تنقص أحد رب العالمين.
وإذا انتهكت حرمة من حرمات آلهتهم، ومعبوديهم غضبوا غضب الليث إذا حرب، وإذا انتهكت حرمات الله لم يغضبوا لها، بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئا أعرضوا عنه، ولم تستنكر له قلوبهم، وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة.
وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله، على لسانه إن قام، وإن قعد، وإن عثر، وإن
استوحش; فذكر إلهه ومعبوده من دون الله، هو الغالب على قلبه ولسانه، وهو لا ينكر ذلك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله، وشفيعه عنده ووسيلته إليه. وهكذا كان عباد الأصنام سواء، وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم؛ فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذوها من البشر.
قال الله تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [سورة الزمر آية: 3] ، ثم شهد عليهم بالكذب والكفر، وأخبر أنه لا يهديهم، فقال:{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] . فهذه حال من اتخذ من دون الله وليا، يزعم أنه يقربه إلى الله; وما أعز من تخلص من هذا! بل ما أعز من لا يعادي من أنكره!
والذي قام في قلوب هؤلاء المشركين، وسلفهم: أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك؛ وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن له أن يشفع فيه، ورضي قوله وعمله؛ وهم أهل التوحيد، الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء؛ فإنه يأذن سبحانه لمن يشاء في الشفاعة لهم، حيث لم يتخذوهم شفعاء من دونه، فيكون أسعد
الناس بشفاعة من يأذن له، وهو صاحب التوحيد، الذي لم يتخذ شفيعا من دون الله.
[ذكر الشفاعة المثبتة والمنفية]
والشفاعة التي أثبتها الله ورسوله، هي الشفاعة الصادرة عن إذنه لمن وحده، والتي نفاها الله: الشفاعة الشركية في قلوب المشركين، المتخذين من دون الله شفعاء؛ فيعاملون بنقيض قصدهم من شفاعتهم، ويفوز بها الموحدون.
فتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة، وقد سأله: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: " أسعد الناس بشفاعتي، من قال: لا إله إلا الله "، كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته، تجريد التوحيد، عكس ما عند المشركين: أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء، وعبادتهم، وموالاتهم من دون الله؛ فقلب النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع.
[ثلاثة أصول تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها]
ومن جهل المشرك: اعتقاده أن من اتخذ وليا أو شفيعا، أنه يشفع له وينفعه عند الله، كما تكون خواص الملوك والولاة تنفع من والاهم؛ ولم يعلموا أن الله لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال تعالى: في الفصل الأول {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] ، وفي
الفصل الثاني: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28]، وبقي فصل ثالث: وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا التوحيد، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.
وعن هاتين الكلمتين، يُسأل الأولون والآخرون، كما قال أبو العالية: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فهذه ثلاثة أصول، تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها، وعقلها: لا شفاعة إلا بإذنه، ولا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله، ولا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله تعالى لا يغفر شرك العادلين به غيره، كما قال تعالى:{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [سورة الأنعام آية: 1]، وأصح القولين: يعدلون به غيره في العبادة; والموالاة، والمحبة كما في الآية الأخرى:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية: 97-98]، وكما في آية البقرة:{يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] .
وترى المشرك يكذب حاله وعمله قوله; فإنه يقول: لا نحبهم كحب الله، ولا نسويهم بالله، ثم يغضب لهم، ولحرماتهم إذا انتهكت، أعظم مما يغضب لله، ويستبشر بذكرهم، ويتبشبش به، سيما إذا ذكر عنهم ما ليس فيهم، من إغاثة اللهفات، وكشف الكربات، وقضاء
الحاجات، وأنهم باب بين الله وعباده؛ فترى المشرك يفرح، ويسر ويحن قلبه، ويهيج منه لواعج التعظيم، والخضوع لهم، والموالاة.
وإذا ذكرت له الله وحده، وجردت توحيده، لحقَتْه وحشة، وضيق، وحرج، ورماك بتنقص الآلهة التي له، وربما عاداك؛ رأينا والله منهم هذا عيانا، ورمونا بعداوتهم، وبغوا لنا الغوائل، والله مخزيهم في الدنيا والآخرة؛ ولم تكن حجتهم إلا أن قالوا كما قال إخوانهم: عاب آلهتنا; فقال هؤلاء: تنقصتم مشائخنا، وأبواب حاجاتنا إلى الله.
وهكذا قال النصارى للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال لهم: إن المسيح عبد، قالوا: تنقصت المسيح وعبته. وهكذا قال أشباه المشركين، لمن منع اتخاذ القبور أوثانا تعبد، ومساجد، وأمر بزيارتها على الوجه الذي أذن الله فيه، ورسوله، قالوا: تنقصت أصحابها. فانظر إلى هذا التشابه بين قلوبهم، حتى كأنهم قد تواصوا به. {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} [سورة الكهف آية: 17] .
وقد قطع تعالى الأسباب التي تعلق بها المشركون جميعها، قطعا يعلم من تأمله وعرفه، أن من اتخذ من دون الله وليا، أو شفيعا فهو {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً
وََإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [سورة العنكبوت آية: 41] ؛ فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍوَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 22-23] .
فالمشرك إنما يتخذ معبوده، لما يحصل له به من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريده عابده منه، فإن لم يكن مالكا كان شريكا للمالك، فإن لم يكن شريكا للمالك كان معينا له وظهيرا، فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده.
فنفى سبحانه هذه المراتب الأربع نفيا مرتبا، منتقلا من الأعلى إلى ما دونه: فنفى الملك، والشركة، والمظاهرة، والشفاعة التي يظنها المشرك؛ وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه. فكفى بهذه الآية نورا وبرهانا، ونجاة وتجريدا للتوحيد، وقطعا لأصول الشرك ومواده، لمن عقلها.
والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس، لا يشعر بدخول الواقع تحته، وتضمنه له، ويظنه في نوع وقوم قد خلوا من قبل، ولم يعقبوا وارثا؛ وهذا هو الذي يحول بين القلب، وبين فهم القرآن.
ولعمر الله؛ إن كان أولئك قد خلوا، فقد ورثهم من هو مثلهم، وشر منهم ودونهم؛ وتناول القرآن لهم، كتناوله لأولئك، ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية".
وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية، والشرك، وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره، ودعا إليه وصوبه وحسنه، وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية، أو نظيره أو شر منه، أو دونه؛ فينتقض بذلك عرى الإسلام، ويعود المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والبدعة سنة والسنة بدعة، ويكفر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويبدع بتجريد متابعة الرسول، ومفارقة الأهواء والبدع؛ ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا، فالله المستعان، انتهى.
قلت: فتأمل قول شيخ الإسلام، رحمه الله المتقدم: وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان، كان تعظيم القبور؛ ولهذا اتفق العلماء على أنه من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره، أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق؛ كل هذا لتحقيق التوحيد، الذي هو أصل الدين ورأسه، الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ولا يغفر لمن تركه
…
إلى آخر كلامه.
وتأمل قول العلامة ابن القيم، رحمه الله: فالأكبر لا يغفره إلا الله إلا بالتوبة منه، وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين كما هو حال مشركي العرب، بل كلهم يحبون معبوداتهم، ويعظمونها، ويوالونها من دون الله
…
إلى قوله: وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة
…
إلى قوله:
وهكذا كان عباد الأصنام سواء، قال الله تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، ثم شهد عليهم بالكذب والكفر، وأخبر أنه لا يهديهم، فقال:{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] .
إلى قوله: وترى المشرك يكذب حاله وعمله قوله، فإنه يقول: لا نحبهم كحب الله، ولا نسويهم بالله، ثم يغضب لهم، ولحرماتهم إذا انتهكت، أعظم مما يغضب لله، وإذا ذكرت له الله وحده وجردت له توحيده، لحقته وحشة وضيق، وحرج
…
إلى آخر ما تقدم من كلامه؛ وهذا هو الواقع من كثير من أهل هذه الأزمنة، فتأمله جملة جملة.
وقوله: ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته، وتضمنه له
…
إلخ. والمقصود: بيان ما كان عليه شيخ الإسلام، وإخوانه من أهل السنة والجماعة من
إنكار الشرك الأكبر الواقع في زمانهم، وذكرهم الأدلة من الكتاب والسنة، على كفر من فعل هذا الشرك، أو اعتقده؛ فإنه بحمد الله يهدم ما بناه- هذا الجاهل المفتري- على شفا جرف هار.
وتأمل أيضا ما ذكره العلامة ابن القيم، بعد ذكره ما تقدم، وذكره أنواعا من الشرك، كما هو الواقع في زمانه، وما بعده ينبغي أن نذكره هنا أيضا، قال: ومن أنواعه: طلب الحوائج من الموتى، والاستعانة بهم، والتوجه إليهم؛ وهذا أصل شرك العالم.
فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فضلا لمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها؛ وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، كما تقدم؛ فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه، والله لم يجعل استعانته وسؤاله سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، وهو بمنْزلة من استعان في حاجة بما يمنع حصولها، وهذه حالة كل مشرك.
والميت محتاج إلى من يدعو له، ويترحم عليه، ويستغفر له، كما وصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زرنا قبور المسلمين، أن نترحم عليهم، ونسأل لهم العافية، والمغفرة؛ فعكس المشركون هذا، وزاروهم زيارة العبادة،
واستقضاء الحوائج، والاستغاثة بهم، وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد، وسموا قصدها حجا، واتخذوا عندها الوقفة، وحلق الرؤوس.
فجمعوا بين الشرك بالمعبود، وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبتهم إلى التنقص بالأموات؛ وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين له الذين لم يشركوا به شيئا بذمهم، وعيبهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به وأنهم يوالونهم عليه.
وهؤلاء هم أعداء الرسل والتوحيد في كل زمان ومكان وما أكثر المستجيبين لهم، ولله در خليله إبراهيم، حيث يقول:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [سورة إبراهيم آية: 35-36] .
وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله، وجرد رجاءه لله، وذله لله، وتوكله على الله، واستعانته بالله، والتجاءه إلى الله، واستغاثته بالله، وأخلص قصده متبعا لأمره، متطلبا لمرضاته؛ إن سأل سأل الله وإذا استعان استعان بالله، وإذا عمل عمل لله؛ فهو لله وبالله، ومع الله، انتهى.
فتأمل قوله: وما أكثر المستجيبين لهم; وقوله: وما
نجا من شرك هذا الشرك الأكبر، إلا من جرد التوحيد لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله
…
إلى آخره، يتبين لك: خطأ ذلك المفتون وضلاله، خصوصا إذا عرفت أن هذا الشرك الأكبر، قد وقع في زمانهما، وكفّرا أهله بالكتاب والسنة والإجماع، وبينا أنه لم ينج منه إلا القليل، الذين هذا وصفهم، وهم الغرباء في الأمة، الذين أخبر بهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ".
ولا ريب أن الله تعالى لم يعذر أهل الجاهلية، الذين لا كتاب لهم، بهذا الشرك الأكبر، كما في حديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم:" إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب "1. فكيف يعذر أمة كتاب الله بين أيديهم، يقرؤونه، ويسمعونه، وهو حجة الله على عباده، كما قال تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة إبراهيم آية: 52] ، وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي بين فيها افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، ثم يجيء من يموه على الناس، ويفتنهم عن
1 مسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2865) ، وأحمد (4/162) .
التوحيد، بذكر عبارات لأهل العلم، يزيد فيها وينقص، وحاصلها الكذب عليهم; لأنها في أناس لهم إسلام ودين، وفيهم مقالات كفّرهم بها طائفة من أهل العلم، وتوقف بعضهم في تكفيرهم حتى تقوم عليهم الحجة ولم يذكرهم بعض العلماء في جنس المشركين وإنما ذكروهم في الفساق، كما ستقف عليه في كلام العلامة ابن القيم إن شاء الله تعالى.
ومن تمويهه الذي كتبه في أوراقه، مما نسبه لشيخ الإسلام في قوله: وكان قتال الخوارج بالنصوص الثابتة، وبإجماع الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين ثم قال: فهذا كلامه صلى الله عليه وسلم في هؤلاء العباد، وأمره بقتالهم، فعلم أن أهل الذنوب الذين يعترفون بذنوبهم، أخف ضررا على المسلمين من أهل البدع الذين يبتدعون بدعة يستحلون بها عقوبة من يخالفهم، وتكفيره.
ثم قال: وهؤلاء بذلك كفروا الأمة، وضللوها سوى طائفتهم الذين يزعمون أنها الطائفة المحقة، فجعلوا طائفتهم صفوة بني آدم.
أقول: هذا الكلام من شيخ الإسلام، إنما هو في الخوارج الذين كفروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم صفوة الأمة، فكيف ينزل في طائفة عرفوا للصحابة فضلهم؟ وتولوهم في الدين، وأحبوهم واقتدوا بهم،
وكفروا من كفره الصحابة رضي الله عنهم، ممن ارتد عن الإسلام، ودعوا الناس إلى إخلاص العبادة لله، ونهوهم عن اتخاذ الأوثان وعبادتها، وأطلقوا الكفر على المشركين، طاعة لرب العالمين، وإيمانا بما أنزله في كتابه المبين، كما قال تعالى:{وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80]، وقوله:{أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍمَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [سورة ق آية: 42-26] ،
وكقوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [سورة التوبة آية: 17] الآية؛ فحكم الله فيمن كان الشرك وصفه، أنه كافر، وأن عمله حابط، وأنه في النار خالدا؛ والآية نزلت في مشركي أهل مكة.
وكقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [سورة غافر آية: 10] إلى قوله: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [سورة غافر آية: 12] .
وكقوله: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} [سورة غافر آية: 74] ، وقد أقروا
لله بالربوبية، وشركهم صار في الإلهية، وقوله:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] .
فالله تعالى كفّر في هذه الآيات من دعا معه غيره؛ فكيف ينزل من تمسك بكتاب الله، ودعا إلى توحيد الله وطاعته، وأنكر الشرك بالله، ونهى عن معصية الله، واتبع سبيل المؤمنين وأصحابه، منْزلة الخوارج؟! ولا ريب أن هذا ضلال مبين، وانحراف عن سبيل المؤمنين.
وقد سلف الوعد بأن نذكر ما قاله العلامة ابن القيم، قال رحمه الله: وفسق الاعتقاد كفسق أهل البدع، الذين يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر، ويحرمون ما حرمه الله ورسوله، ويوجبون ما أوجبه الله; لكن ينفون كثيرا مما أثبته الله ورسوله، جهلا وتأويلا، وتقليدا للشيوخ، ويثبتون ما لم يثبته الله ورسوله كذلك؛ وهؤلاء كالخوارج المارقة، وكثير من الروافض، والقدرية، والمعتزلة، وكثير من الجهمية، الذين ليسوا غلاة في التجهم.
وأما غالية الجهمية فكغلاة الرافضة، وليس للطائفتين في الإسلام نصيب; ولذلك أخرجهم جماعة من السلف، من الثنتين وسبعين فرقة، وقالوا: هم مباينون للملة
…
إلى أن قال: فتوبة هؤلاء الفساق، من جهة الاعتقادات الفاسدة، بمحض اتباع السنة، ولا يكتفي منهم بذلك أيضا، حتى يبينوا
فساد ما كانوا عليه من البدعة؛ إذ التوبة من كل ذنب هي بفعل ضده، انتهى المقصود، فتأمل كيف جعل أهل هذه البدع، جنس الفساق، لأنهم يؤمنون بالله ورسوله، واليوم الآخر.
وقولنا في هؤلاء المبتدعة الذين ذكرهم شيخ الإسلام، وذكرهم العلامة ابن القيم، قولهما، وقول السلف، والأئمة فيهم; ننكر على كل مبتدع بدعته، ونعتقد فساد ما أصلوه من أصول بدعهم. فنحن- بحمد الله- متبعون لا مبتدعون، ننكر الشرك الأكبر، ونكفر أهله، وننكر البدع، ونناظر أهلها بالسنة؛ فله الحمد على ما هدانا.
وأما أهل الإشراك فقد عرفت ما قال الله فيهم، وما قرره هذا الإمام وغيره من العلماء، من تكفيرهم بالشرك في الإلهية، ومخالفة الشريعة; وملة الشرك: ملة كفر، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [سورة الحج آية: 17] .
فأهل الإيمان هم أهل الحق؛ ما عداهم من الملل الخمس، فملل كفر قطعا؛ ومن لم يعرف هذا، ولم يفهم هذا، ولم يفهم الفرق، فهو جاهل مفتون {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [سورة المائدة آية: 41] .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، في الفتاوى المصرية: قد قال بعض الناس إنه تجوهر، وهذا قول قوم داوموا على الرياضة مدة، فقالوا: لا نبالي بما عملنا، وإنما الأمر والنهي
رسم العوام، ولو تجوهروا سقط عنهم؛ وحاصل النبوة يرجع إلى الحكمة والمصلحة، والمراد منها ضبط العوام، ولسنا من العوام فندخل في التكليف، لأنا قد تجوهرنا، وعرفنا الحكمة.
فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، بل هم أكفر أهل الأرض، فإن اليهود والنصارى آمنوا ببعض، وكفروا ببعض، وهؤلاء كفروا بالجميع، خارجون عن التزام شيء من الحق; ثم قال: ومن جحد بعض الواجبات الظاهرة المتواترة، أو جحد بعض المحرمات الظاهرة، كالفواحش والظلم، والخمر والزنا والربا، أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة، كالخبز واللحم والنكاح، فهو كافر مرتد، يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
قلت: ولم يقل شيخ الإسلام: إنهم يعذرون بالجهل، بل كفّرهم وقال: إنهم ارتدوا. قال: ومن أضمره فهو منافق، لا يستتاب عند أكثر العلماء. ومن هؤلاء: من يستحل بعض الفواحش، كمؤاخاة النساء الأجانب، والخلوة بهن، والمباشرة لهن، في عامة أن يحصل لهن البركة بما يفعله معهن، وإن كان محرما في الشريعة.
وكذلك من يستحل ذلك من المردان، ويزعم أن التمتع بالنظر إليهم، ومباشرتهم، هو طريق لبعض السالكين، حتى يترقى في محبة المخلوق، إلى محبة الخالق، ويأمرون بمقدمات
الفاحشة الكبرى، كما يستحلها من يقول: إن اللواط مباح بملك اليمين؛ هؤلاء كلهم كفار باتفاق أئمة المسلمين، انتهى.
قلت: فنحن- بحمد الله- ننكر هذه الكفريات، ونعادي أهلها؛ فإن أبى المنحرف، إلا أن يطعن علينا بقوله: كفرتم أمة محمد، قلنا: معاذ الله، لا نكفر مسلما، ولا نجحد ما أعطى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الفضائل، التي لم يعطها أمة قبلها، وهم الأمة الوسط بنص الكتاب. فالقرون المفضلة لا ريب أن الإسلام فيها أظهر، والعلم والصلاح فيها أكثر، والنبي صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعا يوم القيامة؛ لكن كلما كان أقرب إلى عهده، فالخير فيهم أكثر، والبدعة فيهم أقل وأندر، وكلما تباعد عن ذلك العهد كان بالعكس.
وحدث في الأمة ما حدث، وعمت البلوى بما وقع من تلك الشرور، التي ذكرها شيخ الإسلام وتلميذه العلامة ابن القيم، رحمهما الله تعالى، وغيرهما، كابن وضاح، وأبي شامة في "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، فلقد صدقوا وبينوا، وفرقوا بين الهدى والضلال.
فتأمل ما ذكره الله في كتابه، عن أهل الكتاب، يتبين لك الصواب، ويظهر لك أن بعد تلك القرون المفضلة، انتشرت البدع، وحدث في الأمة ما قد ذكره شيخ الإسلام
فيما تقدم، وذكر أن منهم من هو أكفر من اليهود والنصارى، كالباطنية الإسماعيلية، والقرامطة ونحوهم.
ومن هذه الطوائف حدث البناء على القبور والمشاهد، وحدث الغلو ومقدمات الشرك، وعمت البلوى بهذه الأمور؛ فأنكر ذلك العلماء، وحكوا ما قد جرى من الشرك وعبادة الأوثان، حتى وقع ذلك فيمن يدعي الزهد والعبادة، وبلغ الشيطان من كثير الأمة مراده.
وصنف العلماء في غربة الإسلام كتبا، يعرفها الخواص من أهل العلم والعوام، والواقع من ذلك لا يخفى على ذوي البصائر؛ ويكفي طالب الحق ما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين، حين قالت:"يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث "1. وقد ذكرنا ما ذكره العلماء، مما حدث في أواخر هذه الأمة، وتواتر وشاهدناه.
وقد تقدم قول العلامة ابن القيم، رحمه الله لما ذكر ما قد وقع في الأمة من الشرك-: وما أعز من يتخلص من هذا! بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! فلقد صدق وبين؛ فإذا كان هذا قد وقع في القرن السابع وقبله، فكيف بقرون انقرض فيها العلم، وظهر فيها الجهل والفساد والظلم؟! فالله المستعان.
وقد اغتر كثير من الناس في أمر الدين بمجرد التلفظ بلا إله إلا الله، مع الجهل بمدلولها ومخالفة مضمونها، قولا وعملا واعتقادا؛ فيثبت ما نفته لا إله إلا الله من الشرك
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3346)، ومسلم: الفتن وأشراط الساعة (2880)، والترمذي: الفتن (2187)، وابن ماجه: الفتن (3953) ، وأحمد (6/428 ،6/429) .
بالله، وينفي ما أثبتته لا إله إلا الله من إخلاص العبادة لله، كما قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] .
فإذا دعا غير الله واستغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله، وقال له الموحدون: لا يعبد إلا الله والعبادة بجميع أنواعها مقصورة على الله، قال: تنقصتم الصالحين، وأمثال ذلك من العبارات المتضمنة للكفر بمعنى لا إله إلا الله والإنكار على من دعا إلى مضمون لا إله إلا الله، وهو إخلاص العبادة لله كما قال تعالى:{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة الزمر آية: 45] ؛ فما أشبه هؤلاء بمن نزلت فيهم هذه الآية.
[قول شيخ الإسلام في بناء المساجد على القبور]
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: بناء المساجد على القبور محرم، ولو بني عليها غير مسجد نهي عنه باتفاق العلماء؛ فهذا من وسائل الشرك المحرمة.
وقال رحمه الله: واعلم أن لفظ الدعاء، والدعوة في القرآن، يتناول معنيين: دعاء العبادة، ودعاء المسألة. وكل عابد سائل، وكل سائل عابد، وأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه؛ وإذا جمع بينهما، فإنه يراد بالسائل الذي يطلب جلب المنفعة، ودفع المضرة بصيغ السؤال والطلب،
ويراد بالعابد: من يطلب ذلك بامتثال الأوامر، وإن لم يكن هناك صيغة سؤال ; ولا يتصور أن يخلو داع لله، دعاء عبادة، أو دعاء مسألة، من الرغب والرهب، والخوف والطمع.
وقال رحمه الله: الدين الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو عبادة الله وحده لا شريك له. فإذا كان مطلوب العبد من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، مثل شفاء مريضه، أو وفاء دينه، أو عافيته مما به من بلاء الدنيا والآخرة، وانتصاره على عدوه، أو هداية قلبه، أو غفران ذنبه، وأمثال ذلك.
فهذا لا يجوز أن يطلب إلا من الله. ولا يجوز أن يقال لملك ولا نبي، ولا شيخ ولا جني: اغفر لي، انصرني؛ فمن سأل مخلوقا شيئا من ذلك، فهو مشرك به، يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهذا مثل النصارى، وكذلك قوله: يا سيدي، أنا في جيرتك، فلان يظلمني، يا شيخي فلان، انصرني عليه، انتهى. قلت: فتأمل كلام شيخ الإسلام هذا، وانظر ما يقع من هذا الشرك على ألسن كثير. وكان يكفينا في معرفة ما وقع من الشرك، وبيانه ما ذكره الله تعالى، في قصص الأنبياء، وغيرهم، من الشرك الذي نهى الله عنه، وأخبر أنه لا يغفره، ودخول الواقع من الناس تحت ما ذكره، من شرك الأمم، وشرك العرب، الذي بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ينهاهم عنه.
وإنما ذكرنا ما ذكرنا عن العلماء، في بيان ذلك، وبيان ما وقع منه في طوائف من هذه الأمة، ليتبين سبيل أهل العلم والإيمان، ولينقطع ما تعلق به المبطلون، وحرفوه على أهل العلم، وأن الحجة فيما قرره العلماء في بيان التوحيد، وما ينافيه من الشرك، بالحجج القاطعة، والبراهين الظاهرة.
فتأمل كلام أهل السنة والجماعة، يطلعك على معاني القرآن؛ فرحمة الله على أئمة المسلمين، وسلف الموحدين.
وأعلى الهمم وأشرفها: إعظام الرغبة فيما أمر الله به من تدبر القرآن، كما قال تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة ص آية: 29]، وقال:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} [سورة محمد آية: 42-25] .
فتدبر أيها الناصح لنفسه: ما أمر الله به من توحيد العبادة، كقوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [سورة الرعد آية: 36]، وقال:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 40] .
وقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [سورة الروم آية: 30] إلى قوله: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة الروم آية: 31-32] ، وإقامة الوجه، هو: إخلاص العبادة لله، والحنيف: المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه.
وتدبر ما افتتح به المرسلون دعوتهم، في كثير من سور القرآن; ففي سورة الأعراف:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [سورة الأعراف آية: 59]، وقال:{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة الأعراف آية: 65] .
وتأمل ما أجابوه به: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} [سورة الأعراف آية: 70] ؛ فقد عرفوا ربهم وأنه الله لكنهم أبوا أن يخلصوا له العبادة; والإخلاص هو دين الله، ودعوة المرسلين، كما قال تعالى:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2-3]، وقال:{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} [سورة الزمر آية: 14] ؛ فتقديم المعمول يفيد الحصر، كما في أم القرآن {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ، أي: لا نعبد غيرك، ولا نستعين إلا بك، وكقوله:{بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الزمر آية: 66] .
والمقصود: أن الله تعالى بين هذا الدين وفرق بين الموحدين والمشركين، وجعل عداوة المشرك من لوازم هذا الدين، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [سورة الأنفال آية: 73] .
ثم إن الجاهل المرتاب، قال في أوراقه قولا، قد تقدم الجواب عنه، ولا بد من ذكره، قال: فإذا قال المسلم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} [سورة الحشر آية: 10] ، يقصد من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوله، أو قال كفرا، أو فعله، وهو لا يعلم أنه يضاد الشهادتين، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان.
فأقول: انظر إلى هذا التهافت والتخليط، والتناقض؛ ولا ريب أن الكفر ينافي الإيمان، ويبطله، ويحبط الأعمال، بالكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين، قال الله تعالى:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة المائدة آية: 5] .
ويقال: وكل كافر قد أخطأ، والمشركون لا بد لهم من تأويلات، ويعتقدون أن شركهم بالصالحين، تعظيم لهم، ينفعهم، ويدفع عنهم، فلم يعذروا بذلك الخطأ، ولا بذلك التأويل؛ بل قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] .
وقال تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الأعراف آية: 30]، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاًالَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 103-104] الآية. فأين ذهب عقل هذا عن هذه الآيات، وأمثالها من الآيات المحكمات؟! والعلماء رحمهم الله تعالى سلكوا منهج الاستقامة، وذكروا باب حكم المرتد، ولم يقل أحد منهم أنه إذا قال كفرا، أو فعل كفرا، وهو لا يعلم أنه يضاد الشهادتين، أنه لا يكفر لجهله.
وقد بين الله في كتابه أن بعض المشركين جهال مقلدون، فلم يدفع عنهم عقاب الله بجهلهم وتقليدهم، كما قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [سورة الحج آية: 3] إلى قوله: {إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [سورة الحج آية: 4] .
ثم ذكر الصنف الثاني: وهم المبتدعون، بقوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [سورة الحج آية: 8] ، فسلبهم العلم والهدى؛ ومع ذلك فقد اغتر بهم الأكثرون، لما عندهم من الشبهات، والخيالات، فضلوا وأضلوا، كما قال تعالى في آخر السورة {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [سورة الحج آية: 71] . وتقرير هذا المقام، قد سلف في كلام العلامة ابن القيم، وكلام شيخ الإسلام.
وقال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى، أيضا في طبقات الناس- من هذه الأمة وغيرها-: الطبقة السابعة عشر:
طبقة المقلدين، وجهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين هم تبع، يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة ولنا أسوة بهم.
قال: وقد اتفقت الأمة على أن هذه الطبقة كفار، وكانوا جهالا مقلدين لرؤسائهم، وأئمتهم إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لا يحكم لهؤلاء بالنار وجعلهم بمنْزلة من لم تبلغه الدعوة؛ وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين، لا الصحابة ولا التابعين، ولا من بعدهم.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه " 1، فأخبر أن أبويه ينقلانه عن الفطرة، إلى اليهودية، أو النصرانية، أو المجوسية، ولم يعتبر في ذلك غير المربي، والمنشأ على ما عليه الأبوان. وصح عنه أنه قال:" إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة " 2؛ وهذا المقلد ليس بمسلم وهو عاقل مكلف، والعاقل المكلف لا يخرج عن الإسلام أو الكفر.
قال: والإسلام هو: توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان برسوله واتباعه فيما جاء به؛ فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم وإن لم يكن معاندا، فهو كافر جاهل. وغاية هذه الطبقة: أنهم كفار جهال، غير معاندين؛ وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفارا. فإن الكافر من جحد توحيد الله، وكذب رسوله إما عنادا وإما جهلا وتقليدا لأهل العناد.
1 البخاري: الجنائز (1358)، ومسلم: القدر (2658)، والترمذي: القدر (2138)، وأبو داود: السنة (4714) ، وأحمد (2/233 ،2/275 ،2/282 ،2/315 ،2/346 ،2/393 ،2/410 ،2/481)، ومالك: الجنائز (569) .
2 البخاري: الرقاق (6528)، ومسلم: الإيمان (221)، والترمذي: صفة الجنة (2547)، وابن ماجه: الزهد (4283) ، وأحمد (1/386 ،1/437 ،1/445) .
وقد أخبر الله في القرآن، في غير موضع، بعذاب المقلدين لأسلافهم من الكفار، وأنهم يتحاجون في النار، وأن الأتباع يقولون:{رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 38] . انتهى ملخصا; وهذه الآية لها نظائر كثيرة في القرآن، والحمد لله على حسن البيان.
وقد دلت الآيات المحكمات على كفر من أشرك بالله غيره في عبادته قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [سورة الزمر آية: 8] .
ولها نظائر كثيرة سوى ما تقدم، كقوله:{قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [سورة الأعراف آية: 37] . ففي هذه الآية من البيان أن معظم شركهم هو دعاؤهم، وأنه كفر بالله؛ فلا اعتبار بمن أعمى الله بصيرته، عن تدبر كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الجاهل يدعي أنه ينقل من منهاج السنة لشيخ الإسلام، وقد عرفت ما في ذلك من فساد قصده، ووضعه العبارة في غير من هي له، ومن قصد بها.
وهذا كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، في المنهاج،
يطابق ما قد أسلفناه عنه في هذا الجواب.
قال رحمه الله تعالى: وأشهر الناس بالردة، خصوم أبي بكر الصديق، رضي الله عنه وأتباعه، كمسيلمة الكذاب وأتباعه، وغيرهم.
ومن أظهر الناس ردة: الغالية الذين حرقهم علي رضي الله عنه بالنار لما ادعوا فيه الإلهية، والسبئية أتباع عبد الله بن سبأ الذي أظهر سب أبي بكر وعمر.
وأول من ظهر عنه دعوة النبوة، من المنتسبين إلى الإسلام: المختار بن أبي عبيد، وكان من الشيعة. فعلم أن أعظم الناس ردة، هم في الشيعة أكثر منهم في سائر الطوائف؛ ولهذا لا يعرف أسوأ ردة من ردة الغالية، كالنصيرية، ومن ردة الإسماعيلية الباطنية، ونحوهم، انتهى. ومن المعلوم: أن كثيرا من هؤلاء جهال، يظنون أنهم على الحق، ومع ذلك حكم شيخ الإسلام بسوء ردتهم.
وقال أيضا: وأشهر الناس بقتال المرتدين، هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فلا يكون المرتدون في طائفة أكثر مما في خصوم أبي بكر، انتهى.
أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي، أو قال من أمتي، فيجلون عن الحوض;
فأقول: أصحابي! أصحابي! فيقال: إنه لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقري " 1 وفي رواية: فيُحَلَّؤُون 2.
وللبخاري، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" بينما أنا قائم على الحوض، إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم; فقلت: إلى أين؟ قال: إلى النار والله; قلت: فما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري. ثم إذا زمرة، حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم; فقلت: إلى أين؟ قال: إلى النار والله; قلت: فما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا على أدبارهم؛ ولا أراه يخلص منهم إلا مثل هملاء النعم "3.
قلت: فدلت الأحاديث على أن في خير قرون الأمة من قد ارتد عن الإسلام; وذكر شيخ الإسلام أن ذلك وقع في طوائف، وصرح به في منهاج السنة وغيره؛ وأخبار هؤلاء الطوائف، وذكر مقالاتهم، وكفرياتهم مبسوط في كتب العلماء، وتواريخ الإسلام، لا يخفى ذلك إلا على من هو أجهل الناس بالعلم والعلماء، كهذا الجاهل البليد، الذي أخذ عن أشياخه عداوة التوحيد. فما أشبه حاله بمن قال الله فيهم:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا}
1 البخاري: الرقاق (6586) .
2 أي: يطردون، كذا في فتح الباري صفحة 474/جـ/11.
3 البخاري: الرقاق (6587) .
[سورة المائدة آية: 104] .
الآية، وقوله:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [سورة الحج آية: 8-9] .
وهؤلاء في الحقيقة: خصوم شيخ الإسلام، وإخوانه من العلماء الأعلام، وسلف الأئمة الكرام، كما قد عرفت فيما قدمته لك، من تقرير هذا الإمام; فما أشبه هذا البليد بابن البكري، لما خالف شيخ الإسلام فيما أنكره عليهم من الاستغاثة بغير الله، أخذ يرد على شيخ الإسلام، من كتابه "الصارم المسلول".
قال شيخ الإسلام: فأزال بهجته، أي: كتابه "الصارم"، والبصير يعلم أن أعداءنا في هذا الدين، هم أعداء أئمة المسلمين، لأنا لا نخرج عما أجمعوا عليه، ولا نخالفهم فيما اتفقوا عليه؛ نسأل الله الثبات على الإسلام، والإيمان.
وقد عرفت أنا لم نكن بصدد مناقشته فيما قاله وأورده، لكنه ذكر في جملة الأحاديث الواردة في الخوارج الحديث المعروف في وصفهم وفيه:" يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان " 1؛ وهذه حال هذا الرجل، فإنه سعى في عداوة أهل التوحيد الذي هو أصل الإيمان ومعظمه، ووالى عباد الأوثان. فإن الخوارج تركوهم، وهذا أعانهم وذب عنهم، وحاول أن يدخلهم في عموم أهل الإيمان مع ارتكابهم
1 البخاري: المغازي (4351) والتوحيد (7432)، ومسلم: الزكاة (1064)، والنسائي: الزكاة (2578) .
الذنب الذي لا يغفره الله؛ وقد تقدم أن الله كفّر أهله وجعلهم أهل النار الذين هم أهلها نعوذ بالله من النار وأعمالها.
[كلام شيخ الإسلام في المراد بالواسطة]
واعلم أنه قد وقع في الفتاوى المصرية لشيخ الإسلام، كلام حسن بين، يزداد به المقام ظهورا، والموحد سرورا. قال رحمه الله: والإله الذي تألهه القلوب بكمال المحبة والتعظيم، والإجلال والإكرام، والرجاء والخوف.
قال: ومن قال: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله، فإن أراد أنه لا بد من واسطة تبلغه أمر الله ونهيه، فهذا حق لا بد للناس من رسول، يبلغ عن الله أمره ونهيه ويعلمهم دين الله الذي بعثه به؛ فهذا مما أجمع عليه أهل الملل، ومن أنكر ذلك فهو كافر بالإجماع.
وإن أراد بالواسطة أنه لا بد منه في جلب المنافع ودفع المضار، ورزق العباد، وهداهم، فهذا شرك، كفّر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دونه شفعاء وأولياء، يستجلبون بهم المنافع؛ فمن جعل الملائكة أربابا وواسطة يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم تفريج الكربات، فهو كافر بإجماع المسلمين.
ومن جعل المشايخ من أهل العلم والدين وسائط يعلمونهم، ويقتدون بهم، فقد أصاب؛ والعلماء ورثة
الأنبياء وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإن أثبتهم وسائط، بمعنى الحُجّاب، الذين بين الملك والرعية، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، فهذا شرك وكفر، انتهى.
ومن أراد الوقوف على ما جرى في آخر هذه الأمة من الشرك، وما أورده المشركون من الشبه، فليطالع " كتاب الإغاثة" للعلامة ابن القيم، "وكتاب الاستغاثة" لشيخ الإسلام - في الرد على ابن البكري- رحمهما الله تعالى "وكتاب الرد على ابن الأخنائي"؛ ففي هذه الكتب من بيان التوحيد، وما ينافيه من الشرك، ما يعين المنصف على فهم كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وحقيقة ما بعث الله به رسوله من دينه.
وقد أشار الشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني، في قصيدته التي سيرها إلى شيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، وذكر فيها ما عم وطم من الشرك الأكبر، فقال:
وقد جاءت الأخبار عنه بأنه
…
يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي
وينشر جهرا ما طوى كل جاهل
…
ومبتدع منه فوافق ما عندي
ويعمر أركان الشريعة هادما
…
مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد
أعادوا بها معنى سواع ومثله
…
يغوث وود بئس ذلك من ود
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها
…
كما يهتف المضطر بالصمد الفرد
وكم عقروا في سوحها من عقيرة
…
أهلت لغير الله جهرا على عمد
وكم طائف حول القبور مقبل
…
ومستلم الأركان منها باليد
وقال العلامة: أبو بكر بن غنام- فريد وقته بعلم المعقول والمنقول، والشعر والإنشاء- في صدر القرن الثالث عشر، شعرا من قصيدة:
نفوس الورى إلا القليل ركونها
…
إلى الغي لا يلفى لدين حنينها
فسل ربك التثبيت أي موحد
…
فأنت على السمحاء باد يقينها
وغيرك في بيد الضلالة سائر
…
وليس له إلا القبور يدينها
ولو تتبعنا كلام العلماء، فيما صدر في هذه الأمة من الشرك الأكبر، من عبادة القبور والأشجار والكواكب والأحجار وغير ذلك، لطال الجواب؛ وذلك مما لا يخفى على ذوي البصائر والعقول والألباب. فاعتبر أيها الناصح لنفسه، واعلم أن الاختلاف، إنما وقع بيننا وبين كثير من الناس، في معنى لا إله إلا الله، والعمل بها.
فهم قنعوا من كلمة التوحيد باللفظ، ورأوه نافعا، وإن لم يعتقدوا المعنى ولم يعملوا به; ومن له أدنى مسكة من عقل، يعلم أن لا إله إلا الله تدل على التوحيد ولا ريب أن الشرك ينافي التوحيد كما تقدم أنه مبطل للأعمال؛ هذا ولو كانت الأعمال في الأصل صحيحة، فكيف إذا كان مبناها على الكفر بمعنى لا إله إلا الله أو الشرك؟ !
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الاختلاف بين الرسل
وأممهم إنما هو معنى لا إله إلا الله بالمطابقة؛ فإن جملة: لا إله، تنفي الشرك والإلهية، عن كل ما سوى الله، وجملة: إلا الله، تثبت الإلهية بجميع أنواعها الباطنة والظاهرة، لله وحده؛ وبيان هذا في القرآن في آي كثير.
قال تعالى عن الخليل عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [سورة الزخرف آية: 26-27] ؛ فبين تعالى: أن ملة الخليل هذه الكلمة، وأن مدلولها البراءة من كل ما عبد من دون الله، وقصر العبادة على الله وحده، بقوله:{إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 27] ، فدلت هذه الجملة على أن الإله المنفي هو المعبود، وأن العبادة لا تصلح إلا لمن فطر الخلق، وهو الله وحده لا شريك له.
قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 28] وهي لا إله إلا الله؛ وعبر عنها الخليل بمعناها، وهو إفراد الله بالعبادة، ونفيه عن كل ما سواه؛ فدلالتها على معنى لا إله إلا الله، دلالة مطابقة. وهذه ملة الخليل عليه السلام، وملة إخوانه من المرسلين، قال الله تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] الآية.
وأخبر تعالى عن ابن ابن ابنه يوسف بن يعقوب، عليهم السلام، أنه قال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ
مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [سورة يوسف آية: 38] ، فبين أن ملة آبائه نفي الشرك، والبراءة منه، وأن أكثر الناس ليسوا على تلك الملة، ثم بين التوحيد الذي هو إخلاص العبادة لله وحده، بقوله:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة يوسف آية: 40] الآية.
وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وغيرهم، إلى معنى لا إله إلا الله، قال تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 64] .
فأصل الملة دين الإسلام، ومعنى لا إله إلا الله في هاتين الكلمتين {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً و} [سورة آل عمران آية: 64] ، وقوله:{وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 64] . فهذا المنهي عنه، هو الواقع من كثيرين، اتخذوا بعضهم من الأموات أربابا من دون الله، يدعونهم، ويرجونهم، ويستغيثون بهم في المهمات، ويرغبون إليهم في كشف الكربات؛ هذا وهم رفات أموات، لا يسمعون، ولا يستجيبون.
ولما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله، أخبر تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 35-36] . فترك الآلهة والبراءة من
عبادتها، قد دلت عليه لا إله إلا الله دلالة تضمن، كما في هذه الآية.
وقال في السورة بعدها عن المشركين، لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد قالوا:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5] . فهذا الذي عجب منه المشركون، هو دين الله الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه: أن العبادة والتأله حق الله على عباده، كما قال تعالى:{وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [سورة النحل آية: 51] ؛ فقصر الرهبة عليه بتقديم المعمول لأنها نوع من أنواع العبادة; قال شيخ الإسلام: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأفعال، الظاهرة والباطنة، انتهى.
فالعبادة بجميع أنواعها مقصورة على الله دون كل ما سواه، كما في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ، وفي قوله:{بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الزمر آية: 66] . والقرآن كله من أوله إلى آخره، في تقرير معنى لا إله إلا الله؛ فهي كلمة الإخلاص، وكلمة التقوى والعروة الوثقى.
ولا يتمسك بها إلا من كفر بالطاغوت وآمن بالله كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 256] . قال الإمام مالك رحمه الله، وغيره:
الطاغوت ما عُبد من دون الله.
فانظر، يا من عرفه الله دين المرسلين، وما ينافيه من دين المشركين، إلى تلاعب الشيطان بأكثر الجهال، وكيف سلبوا أنوار شرف العلوم، حتى زين لهم الشيطان سلب حقيقة معنى لا إله إلا الله، فقنعوا منها بلفظها دون المعنى الذي وضعت له، من نفي الشرك بالله، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى، فوقعوا بذلك الجهل والغرور، في أعظم ذنب وأكبر محظور، وصرفوا معظم المحبة ومخ العبادة لأرباب القبور، وزادوا على ذلك الشرك، حتى اعتقدوا لها التدبير، وصرفوا لها التأثير.
والربوبية والإلهية، لا تصلح بجميع أفرادها، إلا للملك العظيم القدير، الذي {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة التغابن آية: 1] ، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سورة الأنعام آية: 18] ، {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13-14] .
وصلى الله على محمد النبي البشير النذير، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه، ومن اتبعهم ممن اعتصم بالله، وهو مولاه، فنعم المولى ونعم النصير، وسلم تسليما.
[رسالة من عبد الرحمن بن حسن إلى عبد الله بن محمد في نصرهم بالحجة والبيان]
وله أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إلى الأخ عبد الله بن محمد: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وما ذكرت من أنا ننصركم، فبلدكم بعيد لا يستطاع الوصول إليه، وأما نصرتكم بالحجة والبيان، فالله تعالى قد قال في كتابه:{وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [سورة الفرقان آية: 33] .
والخصومة بينكم وبين الضد، في عبادتهم غير الله من الأموات، الذين لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، كما قال تعالى:{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة المائدة آية: 76] .
وقد كان جل عبادتهم لهم في الرغبات والرهبات، بالدعاء والاستغاثة، وقد قال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، و (أحدا) نكرة في سياق النهي، تعم كل مدعو من دون الله، كالأنبياء ومن دونهم.
وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعبد ربه وحده بالدعاء، وغيره من أنواع العبادة، قال الله تعالى آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو أمته أن يخلصوا الدعاء لربهم وخالقهم، فقال
تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [سورة الرعد آية: 36]، وقال تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [سورة الرعد آية: 14] .
فبين تعالى أنه المستحق لدعوة الحق، وأن الذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء؛ فإن دعوة غيره ضلال والضلال ضد الهدى، وكفّرهم بذلك، وقال تعالى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] ، فكفّر من يدعو غيره في هاتين الآيتين.
وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 5-6]، وقال تعالى:{إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 14] .
فهذه الآيات تقصم ظهر المشرك الملحد؛ فمن تمسك بها غلب خصمه المشرك، كما قال شيخنا رحمه الله: والعامي من الموحدين، يغلب ألفا من علماء هؤلاء الشياطين.
وما ذكرت من أنهم يأتون بفتاوى من علماء مكة، فليس مع من عارض أدلة التوحيد، إلا شبهات شياطين؛ وقد كتبنا نسخة في هذا المعنى، ردا على من زعم أن الاستمداد بالأموات جائز، وفيها كفاية لأهل الحق.
وأما ما سألتنا عنه: فيمن أنكر الحكم برجحان العمل بالحديث الصحيح في مقابلة المذهب الملتزم، فهذا من محدثات الأمور التي ما أنزل الله بها من سلطان، قال تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3] .
وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة النساء آية: 59] ؛ وهذا أصل عظيم من أصول الدين. قال العلماء رحمهم الله: كل يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهذا قول الإمام مالك رحمه الله.
وهذا القول الذي يقوله هؤلاء يفضي إلى هجران الكتاب والسنة، وتبديل أحكام النصوص، كما فعل أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
والكتاب والسنة شفاء وهدى لمن أصغى إليهما، ومن طلب الحق منهما ناله وفهمه، وقد قال تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة ص آية: 29] والأمر بتدبره والتذكر ليس
مخصوصا بالعلماء المجتهدين، بل عام لكل من له فهم يدرك به معنى الكلام. والتقليد المفضي إلى هذا الإعراض عن تدبر الكتاب والسنة، فيه شبه بمن قال الله فيهم:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31]، وقوله:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى آية: 21] .
وأهل الاجتهاد من العلماء، وإن كانوا معذورين باجتهادهم، إنما هو في معنى أدلة الكتاب والسنة، وينهون عن تقليدهم؛ فالأئمة رحمهم الله اجتهدوا ونصحوا، قال الإمام الشافعي: إذا جاء الحديث بخلاف قولي، فاضربوا بقولي الحائط، فهو مذهبي.
وأما قولكم: الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر.
فالأصغر: كيسير الرياء، والحلف بغير الله، وقول الرجل: أنا في حسب الله وحسبك، ولولا الله وأنت، وأن يجاهد ويأمر بالمعروف لطلب رياسة أو مال أو وظيفة، كمن يتعلم العلم لوظيفة المسجد، أو يقرأ القرآن ليسأل الناس به، أو يبيع ختمات أو يحج ليأخذ المال، أو يتصدق ليكثر ماله، أو نحو ذلك، وهذا إنما يتبين بالتمثيل والحد، لا بالعد.
وأما الشرك الأكبر فهو اتخاذ الأنداد، من أرباب
القبور والغائبين، ومخاطبتهم بالحوائج، والذبح لهم، والنذر لهم، واعتقاد أنهم ينفعون ويدفعون، وكاتخاذ الأشجار والأحجار، والأصنام، لجلب الخير، ودفع الضر بها، وغير ذلك؛ وهو كثيرا جدا، وهو أن يرغب إلى شيء، أو يدعوه أو يخافه، أو يرجوه، أو يعكف عند القبر تعظيما له، ونحو ذلك.
وأمور الشرك أكبره وأصغره لا تدرك بالعد، لكن الشرك الأكبر يخرج من الملة، ويحبط الأعمال; لأنه أعظم ذنب عصي الله به؛ وهو أظلم الظلم لأن الشرك أخذ حق الله، ووضعه فيمن لا يستحقه.
وأما الشرك الأصغر فهو أكبر من الكبائر، " لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن رأى في يده حلقة من صفر، فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة; قال: انزعها. فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا "
ولا يكفر الشرك أصغره وأكبره، إلا بالتوبة منه قبل الممات؛ والأصغر لا يكفره في الدار الآخرة، إلا كثرة الحسنات; لأن الأصغر لا يحبط إلا العمل الذي وقع فيه خاصة.
وأما قولكم في الذهاب إلى المقابر، التي بني عليها القباب، وأوقد فيها المصباح،
فالجواب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى، فقال:" لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 1، وقال:" لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج "2.
وبناء القباب على القبور وإسراجها، وسيلة إلى عبادتها، والخضوع لها، والتذلل والتعظيم، وسؤالها ما لا يقدر عليه إلا الله; وفي الحديث الذي رواه مالك في الموطأ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد. اشتد غضب الله على قوم، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "3.
وأما مسألة: استغاثة الأحياء بالموتى، في طلب الجاه، والسعة للرزق، والأولاد، مثل أن يقول عند القبور: أن تدعو الله في دفع فقرنا، وبسط رزقنا، وكثرة أولادنا، وشفاء مريضنا، لأنكم سلف مستجابو الدعوات عند الله،
فالجواب: هذا من الشرك الأكبر، الذي لا يغفره الله، وهذا شرك في الربوبية والإلهية؛ وقد كان شرك المشركين في جاهليتهم، بطلب الشفاعة والقربة.
وأما طلب الرزق والأولاد، وشفاء المرضى، فقد أقروا بأن آلهتهم لا تقدر على ذلك، كما قال تعالى:
{قُلْ
1 البخاري: الصلاة (436)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531)، والنسائي: المساجد (703) ، وأحمد (1/218 ،6/34 ،6/80 ،6/121 ،6/252 ،6/255 ،6/274)، والدارمي: الصلاة (1403) .
2 الترمذي: الصلاة (320)، والنسائي: الجنائز (2043)، وأبو داود: الجنائز (3236)، وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1575) ، وأحمد (1/229 ،1/287 ،1/324 ،1/337) .
3 أحمد (2/246) .
مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] ، فأقروا لله تعالى أنه الخالق الرازق، المدبر لجميع الأمور.
وقال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [سورة النمل آية: 62]، أي: يفعل ذلك، فأقروا لله بذلك، وصار إقرارهم حجة عليهم في اتخاذهم الشفعاء; وقد قال تعالى في فاتحة الكتاب:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5]، أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك؛ فهو المعبود وحده، وهو المستعان.
وقد تقدم، ما يبين أن الدعاء مخ العبادة، لأن الله تعالى نهى عن دعوة غيره، وأخبر أن المدعو لا يستجيب لداعيه، وأنه شرك وضلال، وأنه كفر بالله؛ وقد أوضحنا ذلك في الجواب، في إبطال دعوة المدعي جواز الاستمداد بالأموات 1.
ومن قال: إن الميت يسمع ويستجيب، فقد {كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} [سورة الزمر آية: 32] ، وقال تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 5] ؛ فأخبر تعالى أنه لا أضل
1 صفحة 413 - 429.
ممن يدعو أحدا من دون الله، وأخبر أن المدعو لا يستجيب، وأنه غافل عن الداعي ودعوته، وأنه عدوه يوم القيامة.
فأهل التوحيد أعداء أهل الشرك في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى:{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [سورة يونس آية: 28-29] ، فأخبر تعالى أن آلهتهم تبرأ منهم بين يدي الله ومن عبادتهم، ويستشهدون الله على أنهم في حال دعوتهم لهم غافلون لا يسمعون ولا يستجيبون.
وهذا كتاب الله هو الحاكم بيننا وبين جميع من أشرك بالله، من الأولين والآخرين; وليس فعل أحد من الناس - ولو من يظن أنه عالم- يكون حجة على كتاب الله; بل القرآن هو الحجة على كل أحد؛ فلا تغتروا بقول بعضهم: قال فلان، وفعل فلان.
وأما السؤال عن "دلائل الخيرات"، فيكفي عن دراستها ما وردت به السنة، " عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن كيفية الصلاة؟ قال: قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد " 1 إلخ. وقد قال بعض العلماء، لما قيل له: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أحرق دلائل الخيرات، استحسن ذلك، فقال:
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3370)، ومسلم: الصلاة (406)، والترمذي: الصلاة (483)، والنسائي: السهو (1287 ،1288 ،1289)، وأبو داود: الصلاة (976)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (904) ، وأحمد (4/241 ،4/243 ،4/244)، والدارمي: الصلاة (1342) .
وحرق عمدا للدلائل دفترا
…
أصاب ففيها ما يجل عن العد
غلو نهى عنه الرسول وفرية
…
بلا مرية فاتركه إن كنت تستهدي
أحاديث لا تعزى إلى عالم فلا
…
تساوي فليسا إن رجعت إلى النقد
وأما السؤال عن البردة للبوصيري، والهمزية وأمثالهما في المديح، فالمنكر من ذلك ما كان فيه شرك، كقول صاحب البردة:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به
…
سواك.......................
فدعا غير الله، ولاذ به من دون الله; والدعاء مخ العبادة، واللياذ نوع من أنواع العبادة، كالعياذ؛ وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير ما كان عليه أهل الجاهلية، من الاستعاذة بالجن إذا هبطوا واديا، يقولون: نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، كما قال تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [سورة الجن آية: 6] أي طغيانا.
فشرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته قصر الاستعاذة على الله وأسمائه وصفاته، فقال في حديث خولة بنت حكيم، وهو في الصحيح:" من نزل منْزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منْزله ذلك "1.
وكذلك قول صاحب البردة:
1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708)، والترمذي: الدعوات (3437)، وابن ماجه: الطب (3547) ، وأحمد (6/377 ،6/378 ،6/409)، والدارمي: الاستئذان (2680) .
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي
…
فضلا وإلا فقل يا زلة القدم
وقوله:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
فكل هذا شرك محرم بالكتاب والسنة، فما كان من جنس ذلك، وجب إنكاره، والنهي عنه، وتغييره بطمسه؛ وهذا يتبين بما تقدم من الآيات المحكمات في النهي عن دعوة غير الله، والرغبة إليه، والتوكل عليه، ورجائه.
وأما الإجماع، فقد حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقال: من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم ويسألهم، ويتوكل عليهم، كفر إجماعا.
وأما البدعة المنهي عنها، فكل ما حدث بعد النبي وأصحابه، ولا دل عليه قول من النبي صلى الله عليه وسلم ولا فعل، وكذلك أصحابه، الذين هم أحرص الأمة على فعل الخير، فكل ما حدث بعدهم في العبادات، وغيرها من أمور الدين، فهو بدعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في خطبته:" وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة "1.
وبسط القول في هذا يستدعي كتابا ضخما، لكن في أصول الأدلة، ما يكفي المسافر إلى الله على صراطه المستقيم; وكل ما لم يفعله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مما حدث بعدهم، فالجواب أن يقال: لو كان خيرا لسبقونا إليه.
1 أبو داود: السنة (4607)، والدارمي: المقدمة (95) .
وأما السؤال: عن السفر إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم،
فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى "1. فالنهي عن شد الرحال إلى غير الثلاثة لفظ عام، يتناول المساجد وغيرها؛ وفحوى الخطاب يدل عليه; لأن غير المساجد من باب أولى.
ولكن إذا نوى الإنسان السفر إلى مسجده، حصلت زيارة القبر الشريف تبعا؛ فإنه إذا وصل إلى المسجد، سلم على النبي صلى الله عليه وسلم من قرب، فيكون قد أخذ بعموم الحديث، وحصلت له الزيارة، من غير أن يخصها لشد الرحال المنهي عنها.
وأما السؤال عن الرسوم، والعادات التي شاعت وذاعت في الأعاجم، سيما في مشائخهم، إذا مرض أحدهم يخفون ويحيطون، فيقرؤون شيئا من الآيات بحساب وأعداد معلومات، فإذا انتهت قالوا: يا قاضي الحاجات، ويا كاشف الكربات، ثم يأتون بالأطعمة النفيسة، فيأكلونها بأجمعهم؟
فالجواب: أن الذي وردت به السنة، دعاء العائد له وحده، من غير تكلف ولا اجتماع; فإن شاء رقاه بما وردت به السنة، كما قال "عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
1 البخاري: الجمعة (1189)، ومسلم: الحج (1397)، والنسائي: المساجد (700)، وأبو داود: المناسك (2033)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، وأحمد (2/238)، والدارمي: الصلاة (1421) .
لزوجته، لما نخستها عينها: إنما يكفيك أن تقولي: أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما"؛ هذا جنس المشروع.
وأما على هذه الكيفية التي ذكرها السائل، فبدعة تجري مجرى ما ذكره الله تعالى، ردا على من ابتدع في دينه، فقال:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى آية: 21] .
وأما ما ذكره السائل: من أنه إذا مات أحدهم، يتصدقون أقاربه وعشائره، ويذبحون الذبائح، ويطبخون الطعام، ويفرشون الحرير، ويدعون الناس كلهم، الغني والفقير.
فليس هذا من دين الإسلام، بل هو بدعة وضلالة، ما أنزل الله بها من سلطان؛ وهذا من جنس ما أحدثه اليهود والنصارى من التغيير والتبديل في شريعتهم، خالفوا به ما جاءت به أنبياؤهم؛ فيجب اجتناب ذلك المأتم، وما في معناه.
وأما ما سألت عنه: من شد الرحال إلى مكانات مشرفة للأنبياء والأولياء هل هو ممنوع ومحذور، أم لا؟
فالجواب: لا ريب أن هذا مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي تقدم، وهو قوله: " لا تشد الرحال إلا إلى
ثلاثة مساجد ". فإذا كان تبركا للمحل المزور، فهو من الشرك، لأنهم قصدوا بذلك تعظيم المزور، كقصد النبي صلى الله عليه وسلم أو الولي، لتعود بركته عليهم بزعمهم؛ وهذه حال عباد الأصنام سواء، كما فعله المشركون، باللات والعزى ومناة، فإنهم يقصدونها لحصول البركة بزيارتهم لها، وإتيانهم إليها.
وفي الحديث الذي رواه الترمذي، عن أبي واقد الليثي، قال:" خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط. فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال النبي صلى الله عليه وسلم الله أكبر! إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [سورة الأعراف آية: 138] ، لتركبن سنن من كان قبلكم ".
فجعل التبرك بالأشجار، مثل قول بني إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها؛ وهذا هو جنس عبادة الأشجار والأحجار.
وأما قول بعضهم: إن أمور التعظيمات خصصه الله تعالى للذات، وسماه بالعبادة، كالسجود، والركوع، والقيام كقيام الصلاة، والتصدق بالصدقات، والصيام
باسمه، وقصد السفر إلى بيته من المكانات البعيدات، فهذا من وحي الشيطان وزخرفته، التي ألقاها على ألسن المشركين، فجمع لهم الشرك، وتعظيمه والغلو فيه، والبدع والضلالات، وكل هذا باطل ما أنزل الله به من سلطان {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [سورة النجم آية: 23] .
وأما سؤاله: عن رجل بنى في جوار قبر صالح، لإفاضة الفيوضات عليه، وإصابة البركات، ورجل جلس مرابطة على قبر صالح،
فالجواب: من أخبر هذا المغرور، أن بركة هذا المدفون تفيض عليه؟! وهذا من جنس ما قبله مما زين الشيطان، وأجراه على ألسن المغرورين المفتونين الذين أعرضوا عن كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولما " قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت; قال: أجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده " 1.
وقال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد. اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ". وقد صان الله قبر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن صار قبره في حجرته، حذرا من هذه الأمور التي نهى عنها، قالت عائشة:"ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا" وقال صلى الله عليه وسلم: " إياكم والغلو! فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو"2.
1 أحمد (1/283) .
2 النسائي: مناسك الحج (3057) .
والضابط: أن ما كان يفعل مع الميت، من رفع الأصوات على جنازته، والتبرك به وبتربته، والنذر له، وغير ذلك من الشرك، كالذبائح والنذور التي يقصد بها الميت، حرام، وهي مما أهل به لغير الله، كما صرح به القرآن، قال الله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [سورة المائدة آية: 3] .
وقد تضمنت هذه الأفعال التي ذكرت، الشرك والبدع، والغلو في الدين، وخالف أهلها، وصادموا ما بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، من إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى، وتوجيه الوجه والقلب إلى الله تعالى، بجميع الإرادات الشرعية، والأحوال الدينية.
وقد أبطل الله في كتابه التعلق على غيره، كائنا من كان، قال الله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سورة الحج آية: 62]، وقال تعالى:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 106] .
وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [سورة الحج آية: 11-13] ،
وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] الآية، وقال تعالى:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [سورة الحج آية: 31]، وقال تعالى:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل آية: 17] إلى قوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [سورة النحل آية: 20-21] .
إذا عرفت ذلك وما في معناه، من الآيات المحكمات، فهذه الشبهات التي اعتمدها كثير من جهلة المشركين كلها باطلة، تصادم كتاب الله وسنة رسوله; وأول من زخرف هذه الشبهات، وزين للجهال التعلق على الأموات: زنادقة الفلاسفة الكفار، الدعاة إلى الخلود في عذاب النار، كابن سينا، والفارابي،
فإنهم أدخلوا على كثير ممن ينتسب إلى العلم كثيرا من الفلسفة، وزخرفوا هذه الشبهات، التي صارت في أيدي المشركين، وحاولوا بها إبطال ما في الكتاب والسنة، من توحيد المرسلين، وخالص حق رب العالمين، فإن حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا.
فمن التفت إلى الأموات، يستمد منهم نفعا، وتبركا
بهم، فقد اتخذهم أربابا من دون الله، قال الله تعالى:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 79-80] .
وقد أخبر تعالى عن عيسى بن مريم، أنه قال:{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} [سورة المائدة آية: 117] الآية؛ وفي الآية دليل على أن من مات فلا اطلاع له على الأحياء، ولا علم له بهم، فكيف يدعو من لا يعلم حاله، ولا يدري ما يفعله وما يقوله؟
وقد تقدم في الآيات المحكمات ما يدل على ذلك، وأن المدعو لا يسمع ولا يستجيب; فما هذه التعلقات الشركية التي هي أضل الضلال، وأمحل المحال، إلا من وحي الشياطين، وزخرفة أعداء المرسلين، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [سورة الأنعام آية: 112] .
وكل هذه التعلقات على الأموات والغائبين، هي أعمال الشرك من المشركين، قديما وحديثا؛ وهو شرك قوم
نوح لما صوروا الأصنام على صور صالحيهم، قال من بعدهم: ما عظم أولنا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم، فعبدوهم; أي: بطلب الشفاعة منهم، واستمداد البركة بهم؛ وهذا هو شرك العالم، وهم في آخر هذه الأمة أشد وأعظم، فاستمسك بأدلة القرآن، وسبيل أهل الإيمان.
وقد عرفت أن عبادة الأشجار والقبور والأحجار، بدعائهم لها باستمداد البركة منها في زعمهم، أنه أبطل الباطل، وأمحل المحال، كما دل عليه الكتاب والسنة؛ وهذا الجواب يكفيك عما تقدم، من السؤالات، فكل ما كان يفعل عند القبور من التعظيم لها ولأربابها، وقصدها، والتبرك بها، والدعاء عندها، أو لها، كل هذا شرك وضلال.
فتأمل قوله عن خليله عليه السلام: {يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة الأنعام آية: 78-79]، والحنيف هو: المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه.
فهذه الأدلة التي ذكرنا، تبطل كل ما تعلق به المشركون، مما كانوا يفعلونه مع العزى ومناة؛ ومن ادعى جواز شيء من ذلك، أو أنه يحتمل الجواز، فيطالب بالدليل من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على أن هذا
جائز.
ولا يخفى أنه ينافي الإخلاص، لما فيه من الإقبال على غير الله، والرغبة إليه، وجلب النفع والدفع منه، وكل هذا مردود بالآيات المحكمات، والأحاديث الصحيحة، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، أنه قال:" لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله"1.
وكل ما كان يفعل هؤلاء مع الأموات، فليس فيه مستحب، ولا مباح، إلا زيارة القبور من غير شد رحل، لتذكر الآخرة، والاستعداد لما بعد الموت، من الإخلاص والعمل المشروع، من غير تحر لإجابة الدعاء عندها، والصلاة إليها، ولو كانت لله؛ فهذا محرم سدا لذريعة الشرك، وحماية لجناب التوحيد.
وأما قولهم في عصمة الأنبياء، فالذي عليه المحققون: أنه قد تقع منهم الصغائر، لكن لا يقرون عليها، وأما الكبائر فلا تقع منهم؛ وكل ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ثبت عنه فهو حق، كما قال تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [سورة النجم آية: 3-4] ، كذلك تقريراته حق.
وأما قول أبي الوفاء ابن عقيل رحمه الله، فهو حق، وأعظمه خطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع، فيها: يا مولاي افعل كذا وكذا، وأخذ تربتها والتبرك بها، فهذا
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) ، وأحمد (1/23 ،1/24 ،1/47 ،1/55) .
الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله؛ وقد كتبنا الأدلة على الذي يقول بالإمداد من الموتى، فطالعه، وفيه ما يكفي، ويميز الحق من الباطل.
وأما ما ذكره ابن عقيل رحمه الله، من إفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها، فهو من إفراطهم وغلوهم في الآلهة التي يعبدونها من دون الله؛ وكلامه عندنا مسلّم; لأنه اشتمل على إنكار الشرك، من التعلق بالأموات، واعتقاد أن لهم قدرة على قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، ويخاطبونهم بذلك من قريب وبعيد، لاعتقادهم أن لهم تصرفات، وأنهم يعلمون الغيب، وأن لهم قدرة على ما أرادوا.
والقرآن كله من أوله إلى آخره، ينكر ذلك عليهم، ويبين أنه شرك وكفر وضلال، ودليله من الكتاب والسنة، وإجماع أهل السنة والجماعة، مذكور، في الرد على صاحب الاستمداد 1، وأما قول الأئمة الأربعة فذلك مذكور في مذاهبهم، في باب حكم المرتد، في كل مذهب.
وأما الرسالة التي أرسلتموها إلينا، فالجواب عليها يصل إليكم، إن شاء الله تعالى، ويظهر بطلانها، بالتمسك بالآيات المحكمات، والوقوف عندها؛ ويكفي في ردها: ما في سورة الفاتحة، في قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] من قصر العبادة، والاستعانة على الله دون كل ما سواه؛ فإن غالط،
1 انظر صفحة 413 ، وما بعدها.
فأدلة النهي عن دعوة غير الله وأنها شرك وكفر تكفي المتمسك بها. وذكرنا من الأدلة ما فيه كفاية، ولو تتبعنا ما في كتاب الله وسنة رسوله، من دلائل التوحيد، وكلام السلف والخلف من أهل السنة، لاحتمل مجلدا ضخما أو مجلدات.
[رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن في اطلاعه على أشياء في كتب عثمان بن منصور بعد وفاته]
وقال أيضا الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، بوأه الله منازل الصديقين:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإنا قد اطلعنا على أشياء وجدناها في كتب عثمان بن منصور بعد وفاته. فمن ذلك: منظومة أنشأها في مدح داود بن جرجيس، وتعظيمه بما تصدى له من الرد على المسلمين الموحدين، فاتفقا على تأييد الشرك ونصرته، والإنكار على من دعا إلى توحيد الله بالعبادة، الذي دلت عليه الآيات المحكمات، والأحاديث الصحيحة، واعتقدا إسلام عبدة الأوثان، الذين بنوا المساجد والمشاهد على القبور، وعبدوها بأنواع العبادة، فزعما وغيرهما من الدعاة إلى الشرك أن هذا الشرك لا يخرج من فعله عن ملة الإسلام.
ووجدنا في كتبه ردا على شيخنا رحمه الله، لما استدل على تحريم موادة المشركين، بقوله تعالى:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة المجادلة آية: 22] .
فقال في رده: من هم هؤلاء الذين تقول إن موادتهم تحرم؟ يعني أنه لا وجود لهم، وأن الأمة ليس فيها من تحرم موادته، وشنع على شيخنا في دعوته الناس إلى أن يعبدوا الله وحده، ويتركوا عبادة ما سواه، فبنى أمره على هذا الأصل الفاسد.
وكلام هؤلاء يدور على أن هذا الشرك الذي وقع في الأمة، إما جائز، أو مستحب، ومن طالبهم بتركه فقد أخطأ وشق عليهم، وعرضهم لما يكرهونه.
وزعم أن شيخنا رحمه الله تعالى شق على الناس فيما نهاهم عنه من الشرك، وأمرهم به من إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وعرضهم لحرب الدول; وذكر هذا في رده الذي وجدناه بعد وفاته بخطه في بريدة، أتى فيه من السب والشتم، والكذب والزور على شيخنا، ما يطول عده، ولا تنبغي حكايته.
وزعم في رده هذا أنه اجتمع بعبد الله بن سليمان في المدينة المنورة، فاستشاره هل يقدم على المسلمين بنجد أم لا؟ فأشار إليه المذكور أن لا يقدم عليهم، في زعمه أنه أنكر هذه الدعوة، وعد هذا من حججه الواهية؛ وعبد الله بن سليمان هذا قدم نجدا، وقرأ على شيخنا شيخ الإسلام في الاقتضاء، وصار يكتب لأولاده لا يبرح عندهم يكتب الرسائل والكتب؛ فإن كان ما أشار به عليه نصيحة فإنه لم ينصح نفسه بها.
فقبل عنه بزعمه ما أشار به عليه، فقصد الزبير، والبصرة، فود بالزبير محمد بن سلوم، وابن جديد، وكانا من أهل نجد، فتركاها كراهية لهذه الدعوة، وعداوة لمن دعا إلى التوحيد، ووجد بالبصرة ابن سند، وهو أشد منهما عداوة لكل موحد، وحبا لكل ملحد، فتلقى عن هؤلاء الثلاثة هذه البلوى، التي ابتلي بها من عداوة شيخنا ومن استجاب له.
ثم بعد ذلك خرج إلى نجد، فصار يبدر منه ما يدل على انحرافه عن التوحيد، من ذكر أحاديث الخوارج، في زعمه أنهم كفروا من يفعل هذه الأمور الشركية، والخوارج إنما كفّروا بالمعاصي، وهذا كفّر من يقول: اعبدوا ربكم، وأفردوه بالعبادة، واتركوا عبادة ما تعبدونه من دونه، من قبر أو مشهد، أو طاغوت أو شجر أو حجر؛ والنهي عن هذا الشرك، والدعوة إلى التوحيد، هو الذي بالغ في إنكاره على شيخنا رحمه الله.
وهذا الذي أنكره، هو الذي دعت إلى إنكاره وتركه والبراءة منه الرسل، من أولهم إلى آخرهم، ودعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أبو سفيان لهرقل لما سأله عما يأمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول: " اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم "1.
والنبي صلى الله عليه وسلم ينادي بهذه الدعوة، وناله ومن استجاب له من قريش، الأذى العظيم، عند إخلاص العبادة لله،
1 البخاري: بدء الوحي (7) .
والدعوة إلى ذلك، وإنكار الشرك في العبادة.
وقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5]، وقال تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 35-36] ، فاستكبروا عن هذه الكلمة، لعلمهم أنها تتضمن ترك عبادة ما كانوا يعبدونه من دون الله.
وهذا هو الشرك الذي نهاهم عنه، من عبادة اللات والعزى، ومناة، وغيرها من الأصنام، وكانوا يعبدون الملائكة والصالحين، كما دلت عليه الآيات المحكمات، وليس معهم من الحجة إلا ما ذكر الله عنهم بقوله:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا} [سورة الزخرف آية: 22] الآية، وقول فرعون:{فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [سورة طه آية: 51] .
فسلك هؤلاء الذين أنكروا على شيخنا التوحيد، مسلك أولئك المشركين، من كفار قريش وغيرهم، سواء بسواء. وسلك من دعا إلى التوحيد،
ونفي الشرك، مسلك من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الدين، من السابقين الأولين.
والآيات في بيان التوحيد، وما ينافيه من الشرك والتنديد، أكثر من أن تحصى، ولا يقدر مبطل أن يعارض آية منها؛ والقرآن كله من أوله إلى آخره، يدل على هذا التوحيد،
ونفي الشرك، مطابقة وتضمنا، والتزاما.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداء دعوته أنه لم يتبعه إلا أبو بكر وبلال، كما في حديث عمرو بن عبسة، لما اجتمع به بمكة، وأخبره بما بعثه الله به من التوحيد، قال: فمن معك؟ قال: "حر وعبد". وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام يعود غريبا كما بدأ، وقال:" طوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس " 1، وفي رواية:" الذين يصلحون ما أفسد الناس " 2 وأخبر أنهم النّزاع من القبائل، وأن من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم.
وكل هذا الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وقع بعد القرون المفضلة، لما حدثت بدعة الجهمية، وظهرت في آخر القرون الثلاثة، وكفرهم من العلماء نحو من خمسمائة أو أكثر؛ لأنهم جحدوا ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال، ونعوت الجلال، على ما يليق بالله تعالى؛ فلم يفهموا من صفات الله، إلا مثل ما يعرفونه من صفات المخلوقين، فشبهوا أولا، وعطلوا ثانيا، فهذا إلحاد منهم في التوحيد العلمي الاعتقادي.
وأما الإلحاد في التوحيد العملي، توحيد القصد والطلب، فذلك وقع لما صار لبني بويه الديلمي في المشرق دولة، فأظهروا الغلو في أهل البيت، وبنوا المشهد بزعمهم أنه على قبر أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وبنوا
1 أحمد (4/73) .
2 الترمذي: الإيمان (2630) .
على قبر الحسين وغيره من قبور أهل البيت.
وبالغوا في الغلو، وزخرفة البناء على قبورهم، وعبدوهم بأنواع العبادة، واستجلبوا غيرهم لعبادتهم، وتبعهم على ذلك أهل مصر، بنو عبيد القداح، وزعموا أنهم وجدوا رأس الحسن بعسقلان، فدفنوه بالقاهرة، وبنوا عليه مسجدا عظيما.
قال شيخ الإسلام: فلما كان بعد زمن البخاري من عهد بني بويه الديلمي، فشا في الرافضة التجهم، وأكثر أصول المعتزلة، وظهرت القرامطة ظهورا كثيرا، وجرت حوادث عظيمة، وعبدت الأموات في هذا المصر وغيره، حتى ادعوا فيهم التصرف في الكون من دون الله تعالى؛ فما زال هذا الشرك يزداد حتى ملأ الأرض قاصيها ودانيها، وما زال الغرباء ينكرونه، لكنهم أقل القليل لا يسمع لهم، ولا يطاع.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: " خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون؛ فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل "1.
وفي حديث ثوبان الذي رواه مسلم، وأبو داود وغيرهما: "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى يعبد فئام
1 مسلم: الإيمان (50) ، وأحمد (1/458 ،1/461) .
من أمتي الأوثان. وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي. ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى " 1.
وفي الحديث الصحيح الذي جاء من طرق يشد بعضها بعضا، كما قاله العماد بن كثير في تفسيره، وأخرجه الإمام أحمد وأبو داود، والترمذي، وغيرهم، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليأتين على أمتي كما أتى على بني إسرائيل، حذو النعل بالنعل، حتى إن كان فيهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك. وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة. قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي "2.
وفي رواية أحمد، وأبي داود:" ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة. وإنه سيخرج في أمتي قوم تتجارى بهم تلك الأهواء، كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله "3.
وعن أبي الدرداء، قال:" كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء، فقال: هذا أوان يختلس فيه العلم من الناس، حتى لا يقدروا منه على شيء " 4 رواه الترمذي.
1 الترمذي: الفتن (2229)، وأبو داود: الفتن والملاحم (4252)، وابن ماجه: الفتن (3952) ، وأحمد (5/278 ،5/284)، والدارمي: المقدمة (209) .
2 الترمذي: الإيمان (2641) .
3 أبو داود: السنة (4597) ، وأحمد (4/102) .
4 الترمذي: العلم (2653)، والدارمي: المقدمة (288) .
ومن المعلوم: أن العلم في الكتاب والسنة، اختلس بالإعراض عن الآيات المحكمات، واتباع الأهواء والشبهات، فوقع ما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم؛ وهو علم من أعلام النبوة.
ولا يشك في وقوع ما أخبر به في هذه الأمة، إلا منكوس القلب من أعداء الرسل، نسأل الله العفو والعافية، وكيف ينكر ما هو موجود في العيان، مسموع بالآذان؟ ولا يجحد كونه هو الشرك الأكبر، إلا من استحوذ عليه الشيطان. نسأل الله لنا ولإخواننا المسلمين معرفة الحق وقبوله، ومعرفة الباطل وإنكاره، والثبات على الإيمان.
قال شيخ الإسلام، رحمه الله: وقد غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر والكلام، ومن أهل الإرادة والعبادة، حتى قلبوا حقيقته
…
إلى آخره.
وذكر في كتابه "العقل والنقل": أن أهل الكلام غلطوا في معنى لا إله إلا الله، وظنوا أن معناها: القادر على الاختراع، وهذا من توحيد الربوبية؛ وإنما مدلولها توحيد الإلهية، وهو صرف العبادة لله وحده؛ وهذا الذي ظنوه معنى لا إله إلا الله، قد أقر به مشركو العرب وغيرهم، ولم يجحدوه.
وأما الذي جحدوا فهو توحيد الإلهية وهي العبادة، فأبوا أن يخلصوا العبادة لله وحده، وأن يتركوا عبادة ما سواه
من الأصنام والأوثان، كما تقدم ذلك من قول كفار قريش:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [سورة ص آية: 5] ، وقال عن قوم هود، لما قال: اعبدوا الله: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [سورة الأعراف آية: 70] ، وهذا صريح في أنهم إنما جحدوا توحيد العبادة.
واما القدرة على الاختراع، فلم يجحدوه، بل أقروا به لله وحده، كما تقدم، كما دلت على ذلك الآيات المحكمات، كقوله تعالى:{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84] إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 89] ؛ وأمثال هذه الآيات كثيرة في القرآن.
وبسبب هذا الغلط وقع في الشرك من وقع، كأبي معشر البلخي، والفخر الرازي، ومحمد بن النعمان الشيعي، وثابت بن قرة وغيرهم؛ وبهذا الجهل اشتدت غربة الإسلام، وعاد المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة؛ نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير، وفيه يقول الشاطبي:
وهذا زمان الصبر من لك بالتي كقبض على جمر فتنجو من البلا
قال العماد بن كثير، في قول الله تعالى:{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة إبراهيم آية: 10] ، يخبر تعالى عما دار بين الكفار وبين رسلهم من المجادلة، وذلك أن أممهم لما واجهوهم بالشك فيما جاؤوهم
به، من عبادة الله وحده لا شريك له، قالت الرسل:{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} .
وهذا يحتمل شيئين: أحدهما: أفي وجوده شك؟ فإن الفطر شاهدة بوجوده، مجبولة على الإقرار به؛ فإن الاعتراف ضروري في الفطر السليمة، ولكن قد يعرض لبعضها شك واضطراب، فيحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده، ولهذا قالت لهم الرسل ترشدهم إلى طريق معرفته: فإنه فاطر السماوات والأرض الذي خلقهما وأبدعهما على غير مثال سبق، فإن شواهد الحدث والخلق، والتسخير، ظاهر عليها، فلا بد لها من صانع، وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء، وإلهه ومليكه.
والمعنى الثاني، في قولهم:{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} : أفي إلهيته شك؟ وتفرده بوجوب العبادة له شك؟ وهو الخالق لجميع الموجودات، فلا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له; فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع، ولكن تعبد معه غيره من الوسائط، التي يظنونها تنفعهم، أو تقربهم إلى الله زلفى. انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وهذا الإمام هو من بقايا أهل السنة; وكلام العلماء فيما حدث من الشرك، ومن أنكره كثير.
وقد ذكرنا في غير هذا الجواب كلام أبي الوفاء بن
عقيل، وابن أبي شامة، وابن وضاح، وصنع الله الحلبي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والحافظ بن عبد الهادي، وابن رجب وغيرهم ممن لا يحصى؛ ومنهم من ابتلي عند إنكاره هذا الأمر، الذي وقع من الشرك والبدع، كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم،
والمقصود: بيان أن ما أخبر به النبي من حدوث الشرك في الأمة، واتباع أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فيما غيروا وبدلوا، وافتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين، كل هذا وقع; ومن جهل عثمان أنه اعترض على شيخنا، رحمه الله تعالى، وأنكر قوله في كتاب التوحيد، على قوله صلى الله عليه وسلم:" من قال لا إله إلا الله" 1 إلى آخره.
قال شيخنا: فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له; بل لا يحرم ماله ودمه، حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه؛ قال هذا المخذول الضال: واغوثاه من هذا الكلام.
قلت: وهذا الذي ذكره شيخنا هو معنى لا إله إلا الله مطابقة، وهو معنى قوله تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}
1 مسلم: الإيمان (23) ، وأحمد (3/472 ،6/394) .
[سورة البقرة آية: 256] .
وهذا لا يشك فيه مسلم - بحمد الله -، ومن شك فيه فلم يكفر بالطاغوت؛ وكفى بهذا حجة على المعترض، وبيانا لجهله بالتوحيد، الذي هو أصل دين الإسلام وأساسه.
فرحم الله محمد بن شهاب الزهري، حيث يقول لعبد الملك بن مروان، لما ذكر العلماء في الأمصار، قال: إنما هو دين، من حفظه ساد، ومن ضيعه سقط. فلقد ساد شيخنا بهذا التوحيد، وبيانه والدعوة إليه. وهذا يبين حال هذا الرجل: أنه لم يعرف لا إله إلا الله؛ ولو عرف معنى لا إله إلا الله، لعرف أن من شك أو تردد في كفر من أشرك مع الله غيره، أنه لم يكفر بالطاغوت.
وقد تقدم له من نصرة الشرك وتأييد من نصره، ما يدل على أنه لم يتبين له معنى كلمة الإخلاص، وما دلت عليه من التوحيد، وما نفته من الشرك؛ وهذا ظاهر من قوله: لا يخفى على من له بصيرة في دينه؛ فظهر من حاله فيما وضعه وكتبه أنه يؤيد الشرك، ويوالي أهله، وينكر التوحيد ويعادي أهله؛ وهذا حقيقة ما وجدناه في كتبه بخطوطه، والله أعلم بما آل أمره في آخر حياته، هل راجع الله أم لا.
وأما شيخنا رحمه الله، فقد أقر له بالفضل كل من بلغته دعوته إلى التوحيد، من قريب أو بعيد، وقد خصه
الله تعالى بمعارضة أهل البدع في بدعتهم، وأهل الشرك في شركهم، وأهل الأهواء في أهوائهم.
وألف في دحض أقوالهم، وتزييف أمثالهم، وأجاب عن شبههم الشيطانية، ومعارضتهم النفسانية للشريعة الحنيفية المحمدية، بما منحه الله تعالى من البصائر الرحمانية، والدلائل النقلية، حتى انكشف قناع الحق، وبان - بما جمعه في ذلك وألفه - الكذب من الصدق، حتى لو أن أصحابها أحياء، ووفقوا لغير الشقاء، لأذعنوا له بالتصديق، ودخلوا في الدين العتيق.
ولقد وجب على كل من وقف عليها، وفهم ما لديها، أن يحمد الله على حسن توفيقه هذا الإمام، بنصرة الحق بالبراهين الواضحة العظام; ومن أراد اختبار صحة ما قلته، فلينظر بعين الإنصاف العري من الحسد والانحراف، لكن عدم التوفيق وغلبة الهوى، أوقع من أوقع في الضلال {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] .
وقد حصل في دعوته مشابهة لما جرى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإخوانه من المرسلين، من العز والظهور والتمكين، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: ويستدل بتخصيص الأنبياء، وأتباعهم بالنصر وحسن العاقبة، وتخصيص مكذبيهم بالخزي، وسوء العاقبة، على أنه يأمر ويحب ويرضى ما جاءت به الرسل، ويكره، ويسخط ما كان
عليه مكذبوهم; لأن تخصيص أحد النوعين بالإكرام والنجاة، والذكر الحسن والدعاء، وتخصيص الآخر بالعذاب والهلاك، وقبح الذكر، واللعنة، يستلزم محبة ما يفعله الصنف الأول، وبغض ما فعله الصنف الثاني، انتهى.
وقد جرى مثل هذا في هذه الدعوة - بحمد الله -، وهو أظهر الأدلة على صحة هذه الدعوة، وأنها هي الحق، كما دلت عليه الآيات المحكمات، والبراهين الواضحات، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} [سورة البقرة آية: 99] .
وقال شيخنا أبو بكر، حسين بن غنام رحمه الله، فيه:
لقد رفع المولى به رتبة الهدى
…
بوقت به يعلو الضلال ويرفع
سقاه نمير الفهم مولاه فارتوى
…
وعام بتيار المعارف يقطع
فأحيا به التوحيد بعد اندراسه
…
وأوهى به من مطلع الشرك مهيع
سما ذروة المجد التي ما ارتقى لها
…
سواه ولا حاذى فناها سميدع
وشمر في منهاج سنة أحمد
…
يؤيد ويحمي ما تعفى ويرقع
يناظر بالآيات والسنة التي
…
أمرنا إليها في التنازع نرجع
فآثاره فيها سوام سوافر
…
وأنواره فيها تضيء وتلمع
فلقد أظهر الله دعوته، ونشرها على كثرة من خالفه في الدين، وناوأه، وأقر عينه بهلاك من تصدى لحربه،
وعاداه؛ فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه أن جعل هذا الشيخ إماما للدين يعرف الناس به، ويدعوهم إليه، ويجاهدهم عليه، و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [سورة الحديد آية: 21] .
وقد ابتلي رحمه الله في دعوته، بجهلة المنتسبين إلى العلم، لمخالفة ما نشؤوا عليه، واعتقدوه، من الشرك بأرباب القبور، والطواغيت وغيرهم، فإن حالهم وحال أسلافهم، ما ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى عن جنس هؤلاء.
فقال: وما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور، ويلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها، من محبة أصحابها من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب; ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء به، والإقسام على الله به; فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه، أو يسأل بأحد من خلقه.
وإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم إلى دعائه، وعبادته وسؤاله الشفاعة من الله، واتخاذ قبره وثنا، تعلق عليه الستور والقناديل، ويطاف به ويستلم، ويحج إليه; فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيدا ومنسكا، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم، وأخراهم؛ وكل هذا مما قد علم بالاضطرار من دين
الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسله، من تجريد التوحيد، وأن لا يعبد إلا الله.
فإذا تقرر ذلك، نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل الرتب العالية، وحطهم عن منْزلتهم، وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر، وغضب المشركون واشمأزت قلوبهم، كما قال تعالى:{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة الزمر آية: 45] .
وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عنهم، ووالوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه، ويأبى الله ذلك {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [سورة الأنفال آية: 34] . انتهى.
فهذا الذي ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله، هو حال من أنكر على شيخنا دعوته إلى التوحيد، لتمكن الشرك الأكبر من قلوبهم فاعتقدوه دينا؛ وهذا ظاهر لا خفاء به بحمد الله.
وهؤلاء قلبوا مدلول كلمة الإخلاص، فأثبتوا ما نفته من الشرك، وجحدوا ما أثبتته من التوحيد؛ وهم أعداء الرسل بلا ريب، ولهذا استحسنوا قول صاحب
البردة:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
والله تعالى يقول: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 106]، وقال تعالى:{فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [سورة الشعراء آية: 213] . والآيات في هذا المعنى أكثر من أن تحصر.
[خطاب الموتى بالحوائج]
وقد أجمع العلماء على أن خطاب الموتى بالحوائج، شرك عظيم؛ لا يجوز أن يدعى أحد دون الله كائنا من كان. وقول صاحب البردة: مالي من ألوذ به سواك، قصر اللياذ على العبد دون المعبود، وهو نوع من أنواع العبادة، كالعياذ; فإن العياذ لدفع الشر، واللياذ لجلب الخير، وهذا هو معناه لغة وشرعا واستعمالا.
وقوله: عند حلول الحادث العمم، أي: في أشد مقام يحتاج فيه العبد، إلى آخر أبياته; وهذا محض الشرك الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:"لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله ورسوله"1.
فإذا كان أئمة التابعين، كعلي بن الحسين، والحسن بن علي، أنكروا على من أتى عند فرجة يدعو عند
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) ، وأحمد (1/23 ،1/24 ،1/47 ،1/55) .
قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله، ورأوا أن ذلك من اتخاذه عيدا، ولم يفعل ذلك أحد من الخلفاء، ولا من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، فكيف بمن أخلص الدعاء لغير الله تعالى، ولم يجعل الله في مطلبه إذنا ولا رضى؟!
وقد نهى الله في كتابه عن اتخاذ الشفعاء في مواضع، وكل شفاعة فيها شرك، فهي منفية كما نفاها القرآن، كما قال تعالى:{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [سورة الأنعام آية: 51] الآية، وقال:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} [سورة الزمر آية: 43]، وقال:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [سورة الزمر آية: 44] وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255]، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28] .
وأخبر: أن اتخاذ الشفعاء هو دين المشركين، قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، فأخبر أن الشفاعة لا تقع لهم على هذا الوجه، وبين أن هذا هو الشرك، بقوله:{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة يونس آية: 18]، وقوله:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] . فكل من اتخذ له شفيعا فقد ضاهى المشركين في دينهم، وأشرك مع الله غيره.
وقد أخبر الله تعالى أن المدعو دونه لا يسمع دعاء الداعي، ولا يستجب له، وأن المدعو ينكر ذلك، وأن ذلك شرك عظيم، وضلال مبين، كما قال تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 5] إلى قوله: {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 6] . فتدبر هذه الآيات وما فيها من البيان، ومعرفة الحق من الضلال؛ وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. وفي هذا كفاية لمن أراد الله به خيرا، وبالله التوفيق.
فصل
[فصل قد ابتلي أهل الجدل بقلب الحقائق]
وقد ابتلي أهل الجدل بقلب الحقائق، من ذلك قوله: إن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، لم يعرف من معنى لا إله إلا الله، ما عرفه أبو جهل.
قلت: وهذا هو وصف القائل، كما في المثل: رمتني بدائها وانسلت; ومن المعلوم عند القريب والبعيد، والموافق والمخالف أن شيخ الإسلام هو الذي بين للناس ما جهلوه من معنى لا إله إلا الله، فأرشدهم إلى أن هذه الكلمة دلت على أمرين: الأول: نفي الإلهية عن كل ما سوى الله، نفيا عاما بقوله: لا إله، وأوجبت الإلهية لله وحده، بقوله: إلا الله، وهذا الثاني دلالتها عليه دلالة
مطابقة؛ وهذا هو الإخلاص الذي هو دين الله، الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه.
قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [سورة الزمر آية: 2] الآية، وقال تعالى:{وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة الأعراف آية: 29]، وقال:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة البينة آية: 5] الآية. فكل ما تعبد الله به عباده، من الأعمال الباطنة والظاهرة، فهو من الدين; فأوجب الله على عباده أن تكون أقوالهم وأعمالهم لله وحده، وحرم عليهم أن يصرفوا منها شيئا لغيره، كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ} [سورة الرعد آية: 36] .
فالذي لم يعرف معنى لا إله إلا الله، هو الذي يعتقد أن عبادة أرباب القبور دين يدان الله به، والله تعالى لم يشرع ذلك، بل حرمه أشد التحريم، ونهى عنه بقوله:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [سورة الأنعام آية: 151] الآية؛ فحرم الشرك ونهى عنه. فسبحان من طبع على قلوب المشركين؛ نسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، والحمد لله الذي عافانا مما ابتلي به هؤلاء الجهلة الضلال، الذين صادموا الحق بالزور والمحال، والله المستعان.
وقد بين الله تعالى معنى لا إله إلا الله في آيات كثيرة من القرآن، أصرح شيء وأبينه، لا يخفى إلا على من امتلأ
قلبه بمحبة الشرك، وعبادة الأوثان، كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [سورة الإسراء آية: 23] فيه معنى: إلا الله.
وأمثال هذه الآية كثيرة في القرآن، كقوله تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة آل عمران آية: 64] ؛ فمن لم يوفق لمعرفة هذه الآيات، فلا حيلة فيه.
قال أبو جعفر بن جرير، رحمه الله تعالى، في تفسيره، في قوله:{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [سورة لقمان آية: 20] على قراءة الإفراد، ذكر مجاهد عن ابن عباس: أنه فسرها بالإسلام; وقال مجاهد: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [سورة لقمان آية: 20] قال: "لا إله إلا الله، قال: وعن ابن عباس أيضا: أنها لا إله إلا الله".
وقوله: {ظَاهِرَةً} يقول: ظاهرة على الألسن قولا، وعلى الأبدان وجوارح الجسد عملا; قوله:{وَبَاطِنَةً} في القلوب اعتقادا ومعرفة.
وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً} [سورة الحج آية: 8]، يقول تعالى ذكره: ومن الناس من يخاصم في توحيد الله، وإخلاص الطاعة والعبادة له بغير علم عنده بما يخاصم، {وَلا هُدًى} يقول: ولا بيان يبين به صحة ما يقول، {وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [سورة الحج آية: 8] ، يقول: ولا بتنْزيل من
الله تعالى جاء بما يدعي، يبين حقيقة دعواه، وصلى الله على محمد.
[في كتب عثمان بن منصور أمورا تتضمن الطعن على المسلمين وتضليل إمامهم]
وله أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على سيد المرسلين محمد، وآله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما.
أما بعد: فإنا قد وجدنا في كتب عثمان بن منصور بخطوطه، أمورا تتضمن الطعن على المسلمين، وتضليل إمامهم شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، فيما دعا إليه من التوحيد، وإظهار ما يعتقده في أهل هذه الدعوة، من أنهم خوارج، تنزل الأحاديث التي وردت في الخوارج عليهم.
وساق جملة من الأحاديث التي وردت في الحث على قتال الخوارج، منها حديث:" أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم" 1، وما في معناه من الأحاديث التي صحت عنه صلى الله عليه وسلم فيهم.
فنذكر أولا سبب هذه الفتنة التي وقع فيها وأسرها في نفسه، وظهرت على صفحات وجهه، وفلتات لسانه، وفي خطوطه، لمن يظن أنه يرى رأيه، أو يسمع منه.
1 البخاري: المناقب (3611)، ومسلم: الزكاة (1066)، والنسائي: تحريم الدم (4102)، وأبو داود: السنة (4767) ، وأحمد (1/131) .
وذلك أنه لما ظهر هذا الدين بنجد، وانتشر في البادية والحاضرة، طلبت نفسه السفر إلى بلاد الزبير، وفيها أناس كثير من أهل نجد قد أجلاهم عنه كراهة هذا الدين وعداوته، منهم محمد بن سلوم، جلا من سدير بسبب كراهة الإسلام والمسلمين، فاجتمع به وقرأ عليه، وأقام عنده مدة من السنين، فصار معظما عنده.
ثم إنه تردد إلى البصرة، واجتمع بابن سند وقرأ عليه، واتخذه له شيخا، وهو من أشد الناس عداوة لهذا الدين ومن دعا إليه، يصرح بسبهم وعداوتهم.
ثم إن عثمان بعد ذلك قدم الفرعة من بلد الوشم، فأخرجه أهلها من الصف الأول كراهة له، ولما كان عليه في تلك الحال التي ذكرنا، فهو حقيق بأن يمقت ويهان.
ثم إنه سكن سديرا في حال اختلاف أهل نجد، لما ابتلوا به من عساكر مصر، فصارت حالهم، وحال أهل الزبير والشمال واحدا، في الموالاة والمحبة، والإكرام، وصاروا يزوجونهم نساءهم، فصار فيهم قاضيا إلى أن ظهر ما كان يعتقده في أهل الإسلام، لكنه بين مصدق ومكذب؛ فمن كانت له غيرة في الدين، عرف حاله وكرهه، ومن لم يكن كذلك غره جهله.
فخذ الجواب عما وجدنا له في كتبه بخطه، فقد تضمنت ورقتة التي وجدناها له ثلاثة أمور:
الأول: سياقه أحاديث الخوارج، وتنْزيله تلك الأحاديث على المسلمين، وأنهم خوارج. فالجواب: من وجوه:
الأول: أن الخوارج الذين أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرجوا في خلافة علي بن أبي طالب، منصرفه من قتال صفين، فأظهروا تكفير الصحابة بما جرى بينهم من القتال، كفروا عليا رضي الله عنه بذلك، فدعاهم إلى الرجوع إلى الحق.
واستدل عليهم ابن عباس رضي الله عنه بقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [سورة الحجرات آية: 9] ، فسماهم مؤمنين مع الاقتتال. وأنكروا التحكيم، وقالوا: لا حكم إلا لله، فناظرهم ابن عباس في ذلك أيضا، واستدل بقوله:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [سورة النساء آية: 35] ، إلى غير ذلك مما هو مذكور في كتب الحديث والسير. وأجمع الصحابة رضي الله عنهم والتابعون والأئمة أن هؤلاء هم الذين عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث، وأمر بقتالهم، وعرف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنهم هم المعنيون، وظهرت العلامة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها توجد فيهم، وهو المخدج الذي له ثدي كثدي المرأة، فوجد في القتلى، فسر بذلك علي رضي الله عنه.
وأما أهل هذه الدعوة الإسلامية، التي أظهرها الله
بنجد، وانتشرت، واعترف بصحتها كثير من العلماء والعقلاء، وأدحض الله حجة من نازعهم بالشهادة، فهم بحمد الله أبعد الناس عن مشابهة الخوارج وغيرهم من أهل البدع: ودينهم هو الحق، يدعون إلى ما بعث الله به رسله، من إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وينهون عن دعوة الأموات والغائبين، وطلب الشفاعة منهم.
وأنكروا ما يعتقده المشركون، من أن الأموات والغائبين، يملكون الضر والنفع، والتصرف والتدبير; فإن جماع الدين: ألا يعبد إلا الله، وألا يعبد إلا بما شرع ; فخالفوا من خرج عن هذا الدين، وجاهدوا من قدروا على جهاده، حتى أظهر الله هذا الدين، وأبطل كيد الكائدين، وشبه المشبهين.
ولم يكفروا أحدا من الصحابة، رضي الله عنهم; بل أحبوهم ووالوهم، وأعرضوا عما شجر بينهم، وعلموا أن لهم حسنات عظيمة، يمحو الله بها السيئات، وتضاعف بها الحسنات. وهذه الطائفة - بحمد الله - على منهج الصحابة، في أصول الدين وفروعه، والحجة عندهم فيما قاله الله ورسوله، وما كان عليه الصحابة والتابعون، وأئمة الإسلام، وفارقوا أهل الشرك وعبادة الأوثان، وأظهروا عداوتهم في الجملة.
وخالفوا أهل كل بدعة في بدعتهم، كالجهمية والمعتزلة والمرجئة، وغيرهم من أهل البدع، كالباطنية، والفلاسفة وغيرهم؛ فما ناظرهم صاحب بدعة إلا وألجؤوه المضائق، وأدحضوا حجته بالكتاب والسنة؛ فالحمد لله الذي هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
ولكن السبب في تنْزيله لهم منْزلة الخوارج: أنهم ينهون عن دعوة غير الله، وعبادته من الأموات والغائبين، ويقولون: العبادة حق الله، لا يصلح منها شيء لملك مقرب، ولا نبي مرسل، وينكرون ما وقع في كثير من البلاد، من دعوة أرباب القبور، والتذلل لهم والرغبة إليهم، وإنزال الحوائج بهم، والتقرب إليهم بالنحر والذبح لهم، وغير ذلك مما يطول عده.
فمن أنكر هذا الشرك سماه خارجيا، لاعتقاده أن هذا الشرك لا يضر، ولا يناقض الإسلام; والإسلام عنده: بناء المساجد والمدارس، والنداء إلى الصلاة وفعلها، والصدقة، وغير ذلك، فهذا عنده هو الدين الذي لا يضر معه اعتقاد ولا عمل؛ وسيأتي الجواب عن هذا إن شاء الله تعالى.
فبسبب محبته لأهل الشرك، وموالاتهم، والرضى عنهم، اعتقد في المسلمين ما اعتقد; يبين ذلك نظمه لداود بن جرجيس، وثناؤه عليه فيما ألقاه من الشبهات
الواهية، في مصادمة الآيات المحكمات، وصحيح الأحاديث في بيان التوحيد; وهو يقرر أن الاستغاثة بالأموات جائزة، فأطنب بالثناء عليه برده على المسلمين، بما كذب فيه وشبه، وماحل وعاند، فصار هذا عند عثمان هو الحق الذي يمدح صاحبه ويمجد، وشعره هذا لم نجده إلا في كتبه، وقد قدم على ما قدم؛ فهذا ما ظهر منه في حياته، وأما الخاتمة فعلمها عند الله، نسأل الله الثبات والاستقامة.
لكن نذكر ما يلزمه على ما اعتقده في المسلمين، من أنهم خوارج، وأن من قاتلهم من أهل بغداد ونواحيه، ومن قاتلهم من أهل مصر، وقتل منهم، أن لهم أجرا في قتالهم، وهذا اللازم لا محيد له عنه؛ فتدبر ما أوجبه هذا القول من الضلال البعيد.
المسألة الثانية. اعتراضه على شيخنا، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، فإنه قال بعد ذلك: قال محمد بن عبد الوهاب، في مواضعه التي تكلم بها على السيرة: إذا عرفت أن الإنسان لا يستقيم له إسلام، وإن وحد الله، وترك الشرك، إلا بعداوة المشركين والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء، كما قال تعالى:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة المجادلة آية: 22] الآية،
فالجواب قبل ذكر الاعتراض، أن نقول: هذا الذي أنكره على شيخنا رحمه الله، هو الذي نطق به القرآن، كما قال تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] ؛ ونظائر هذه الآيات كثيرة في القرآن، فمن أنكر هذا القول فقد أنكر ما في الكتاب والسنة. إذا عرفت ذلك فإنه قال في الاعتراض: ظاهر هذا الكلام: أن النجاشي ملك الحبشة كافر، حيث لم يصرح بعداوة قومه من النصارى، وأيضا جعفر وأصحابه كفار، حيث لم يصرحوا بعداوة الحبشة، وكذلك مؤمن آل فرعون; فيا لله العجب ما أعمى عين الهوى عن الهدى! فنقول: تأمل كيف جعل ما تضمنه الكتاب والسنة عمى عن الهدى؟! وأما الجواب عن الاعتراض، فأقول: لقد عميت بصيرته عن فهم كلام شيخنا رحمه الله، فإنه رحمه الله أراد: أنه لا يستقيم إسلام أحد، حتى يصرح بعداوة المشركين وبغضهم، وهذا صريح كلامه ومراده رحمه الله، أن من لحق بالمشركين في بلادهم، وحصل لهم منه موادة ومداهنة، وموالاة فعل ذلك باختياره، أنه قد عرض نفسه
للوعيد الشديد، وفعل ما ينافي إسلامه; ولهذا المعنى استدل رحمه الله، بقوله تعالى:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة المجادلة آية: 22] الآية، فعلم: أن كلامه فيمن أظهر الموادة لأهل الشرك، والمداهنة لهم. وأما النجاشي: فإنه أظهر المخالفة لهم، والإيمان بالنبى صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، لما قرأ عليه جعفر رضي الله عنه صدر سورة مريم، أذعن وصدق، وقبل، وشهد بأن هذا هو الحق، وشهد بأن هذا هو الذي يعتقده في عيسى عليه السلام، بمحضر من بطارقته. وذكر بعض المفسرين: أنه بكى حتى أخضل لحيته. وبعث الوفد من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال بعض المفسرون: إنهم خمسون، وبعضهم قال: أكثر، وبعضهم قال: دون ذلك، أقوال ثلاثة: فلما قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، بكوا حتى أخضلوا لحاهم، فانقلبوا مؤمنين مصدقين، وأنزل الله فيهم {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ
الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [سورة المائدة آية: 82-85] ، فأثبت لهم الإيمان في
الآية، فلهم أجران على الإيمان بنبيهم، والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم. وأيضا: فإن قريشا لما بعثوا عمرو بن العاص إلى النجاشي، ليرد إليهم من هاجر إليه، فغضب غضبا شديدا، خاف عمرو أن يقع به، ورد هداياهم إليهم، وحضر جعفر وأصحابه رضي الله عنهم، فتكلم بالحق الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم كما هو مذكور في السير والتفسير. وقال لهم النجاشي، مخاطبا لجعفر وأصحابه: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي، من سبكم غرم. فأظهروا دينهم، ووحدوا ربهم لا يمنعهم منه مانع، ولا يعارضهم معارض؛ فما حصل منهم لمن كان هناك من النصارى موالاة، ولا ركون إليهم، ولا شيء مما يكرهه الله; وإنما صاروا دعاة إلى الله، وصاروا سببا لإسلام من أسلم من الحبشة. فأين هذا ممن داهن وركن، وأظهر الموافقة للمشركين في شركهم، كحال المعترض؟ فإنه ينادي في رسائله بموادة أهل الشرك ومحبتهم، والثناء عليهم، وتعظيمهم بانتصابهم لمعاداة الإسلام، وأهله. فمثلك أيها المعترض، هو الذي عناه شيخنا; لأن من فعل هذا الفعل الذي فعلته، لم يكن مسلما، لمحبة الشرك
وأهله، وبغضه التوحيد وأهله؛ وهذا ينافي حقيقة الإسلام، نعوذ بالله من سوء الخاتمة. فأي فائدة حصلت له من الكتب التي جمعها، إذا كان حاله ما ترى وتسمع. وأما مؤمن آل فرعون، فقد قام على فرعون وملئه مقاما عظيما، فنصحهم وحذرهم، وأنذرهم وخوفهم عقاب الدنيا والآخرة، وأبدى وأعاد في نصحهم ودعوتهم، وقال:{يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [سورة غافر آية: 38] ؛ فأظهر لهم إيمانه، ودعاهم إليه؛ وقال تعالى:{فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [سورة غافر آية: 45] وقد قام على آل فرعون مقام أنبيائهم، فما داهن في دينه، ولا كتمه، بل أظهر المخالفة لفرعون وقومه، فما حصل منه إلا ما يحبه الله ويرضاه، ولهذا ذكره الله في كتابه وأثنى عليه. فأين هذا ممن قال للمشركين، الذين اتخذوا الأنداد، وجعلوهم شركاء لله في عبادته، فتقربوا إليهم بمدحهم وتعظيمهم، وتهنئتهم بعداوة الإسلام وأهله، فشرح لهم صدره وأحبهم، لما بدر منهم من نصرة الشرك وإنكار التوحيد؟!.
سارت مشرقة وسرت مغربا
…
شتان بين مشرق ومغرب
المسألة الثالثة: قوله: ثانيا، من هم هؤلاء المشركون الذين يطلب عداوتهم، وهم يعمرون المدارس والمساجد، ويدعون بداعي الفلاح على
رؤوس المنابر، ما هذا العمى؟!
{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [سورة آل عمران آية: 8] . انتهى كلامه. فالجواب: أن هذا هو محط رحله الذي عليه اعتماده، وأن ما يقع في مصر والشام والعراق من تعظيم الأموات وعبادتهم، وبناء المساجد على قبورهم والرغبة إليهم، وسؤالهم قضاء حاجاتهم وتفريج كرباتهم، وكثير منهم يعتقد أنهم أسرع فرجا من الله إذا دعي في كشف كربة، وكل هذا عنده جائز لا ينقض إسلامهم، لأنهم يعمرون المدارس والمساجد.
ولا ريب أن هذا المعتقد لا يقوله إلا من هو من أجهل خلق الله، وأبعدهم عن دين الله; وقد عرفت أن دين الله الذي بعث به رسله، هو أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع، كما تقرر في الآيات، وبينه تعالى في دعوة الرسل؛ فإنه أرسلهم بالإنذار عن هذا الشرك، ونفيه وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25]، وقال تعالى:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 45] . وهؤلاء الذين ذكرنا، قد ألهوا أرباب القبور بقلوبهم، وألسنتهم وأعمالهم، ليجلبوا لهم المنافع، ويدفعوا عنهم المضار؛ وقد أخبر تعالى أنهم {فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ
وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] ؛ وقد نزلت هذه الآية فيمن عبد
المسيح وأمه، والعزير والملائكة بالدعاء رجاء ورغبة، وغير ذلك مما كان يقصده عباد القبور.
فإذا كانت هذه الآية نزلت فيمن ذكر، فكيف بمن دونهم؟! ومن المعلوم أن هؤلاء قد جاوزوا ما كان عليه مشركو العرب؛ فإن أولئك أشركوا بالله في العبادة، وأقروا له بالربوبية، وهؤلاء بلغ من شركهم أنهم جعلوا التدبير والتصرف في الكون للأموات، الذين كانوا يعبدونهم من دون الله؛ وهذا الأصل مقرر في كتب هذا الذي جمعها; فإن فيها من كتب شيخ الإسلام، وابن القيم وأمثالهما من أهل السنة، وفيها بيان هذا الشرك الذي وقع في هذه الأمة في زمانهم وقبله، وبعده بأحسن بيان. فليت شعري، ما الذي صده عن محكم القرآن، وصريح السنة، وتقرير العلماء والأئمة؟! فسبحان المتصرف في القلوب بعلمه وحكمته وعدله، كيف جاز في عقل من يدعي العلم جعل الشرك إسلاما، ويجعل الانتصار لهذا الشرك والدعوة إليه دينا؟! ويعظم عند ذلك ويثنى عليه; أليس يدعي أنه حنبلي، وكتب الحنابلة عنده، وفيها حكم المرتد، وحكاية الإجماع على أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويسألهم كفر إجماعا؟! قاله شيخ الإسلام، وتلقاه العلماء عنه بالقبول ورضوه.
ويقال أيضا: عمارة المدارس والمساجد، والدعاء إلى الصلاة على المنابر، لا تصح إلا بشرط الإسلام، فسبحان الله كيف يذكر العمل، ويترك شرطه الذي لا تصح الأعمال إلا به؟! وهذا الشرط مذكور في مذهبه، ومذهب غيره من العلماء، لما ذكروا الصلاة، قالوا: تصح بشروط، أولها: الإسلام؛ وكذلك ذكروه في الصيام والزكاة، والحج وغير ذلك من العبادات.
[عبادة أرباب القبور]
وعبادة أرباب القبور تنافي الإسلام، فإن أساسه التوحيد والإخلاص؛ ولا يقوم الإخلاص إلا بنفي الشرك، والبراءة منه، كما قال تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة البقرة آية: 256] . وهذه الأعمال مع الشرك تكون {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [سورة إبراهيم آية: 18]، وتكون هباء منثورا {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [سورة النور آية: 39] الآية.
فلا إله إلا الله، كيف خفي على هذا الشرك، حتى اتخذه دينا تجب نصرته؟! وأجمع العلماء سلفا وخلفا، من الصحابة والتابعين، والأئمة، وجميع أهل السنة أن المرء لا يكون مسلما إلا بالتجرد من الشرك الأكبر، والبراءة منه وممن فعله، وبغضهم ومعاداتهم بحسب الطاقة، والقدرة، وإخلاص الأعمال كلها لله، كما في حديث معاذ الذي في الصحيحين:" فإن حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا "1.
1 البخاري: الجهاد والسير (2856)، ومسلم: الإيمان (30)، والترمذي: الإيمان (2643)، وابن ماجه: الزهد (4296) ، وأحمد (3/260 ،5/228 ،5/229 ،5/230 ،5/234 ،5/236 ،5/238 ،5/242) .
والقرآن كله في بيان هذا التوحيد، وما ينافيه من الشرك والتنديد. وفي حديث "ابن مسعود قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك " 1. ولقد أحسن ابن القيم رحمه الله في قوله:
والعلم يدخل قلب كل موفق
…
من غير بواب ولا استئذان
ويرده المحروم من خذلانه
…
لا تشقنا اللهم بالخذلان
وقال شيخنا: أبو بكر بن غنام رحمه الله تعالى:
نفوس الورى إلا القليل ركونها
…
إلى الغي لا يلفى لدين حنينها
فسل ربك التثبيت أي موحد
…
فأنت على السمحاء باد يقينها
وغيرك في بيد الضلالة سائر
…
وليس له إلا القبور يدينها
وصدق رحمه الله تعالى، فلقد جعلوا عبادة القبور دينا؛ وكم فتن بهذه الشبهات والجهالات من الخلق، ما لا يحصيهم إلا الله، الذين هم كالأنعام السائمة، يطيرون مع كل ريح، ولم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق. اللهم إنا نسألك الثبات على الإسلام، والاستقامة، والاعتصام بحبلك، والاهتداء بهداك، واتباع نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
1 البخاري: الأدب (6001)، ومسلم: الإيمان (86)، والترمذي: تفسير القرآن (3182 ،3183)، والنسائي: تحريم الدم (4013 ،4014)، وأبو داود: الطلاق (2310) ، وأحمد (1/380 ،1/431 ،1/434 ،1/462 ،1/464) .
[رسالة كتبها عثمان بن منصور ثم أنكرها]
وله أيضا قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
وبعد: فإنه قد بلغنا عمن لا نتهم، عن عثمان بن منصور أنه قد كتب له نسخة، نال فيها من إمام الدعوة الإسلامية، محمد بن عبد الوهاب، ومن تابعه على ملة الإسلام، أنهم كالخوارج، يكفرون المسلمين، وذكرت ذلك للإمام فيصل بن تركي، فاستبعد هذا، واتهم القائل.
فلما حضر ابن منصور، حلف بالله جهد أيمانه أنه لم يقل، ولم يكتب ذلك؛ ولعله تأول للإمام، وكنت لا أبعده عن ذلك وإن حلف، لما قد استبان لي من أحواله، مع شهادة من هو أصدق منه.
فلما استقضاه الامام على أهل سدير، لكونهم طلبوه، أظهر ذلك تنفيرا لهم عن جماعة المسلمين، وتغييرا للأمر الذي قد عرفوه من الدين، ليصدفهم عنه، وعن متابعة أهل الإسلام والدخول في جماعتهم، فوقعت تلك النسخة في يد بعض من أنكرها من المسلمين، فبعث بها إلينا، فإذا هي تشتمل على أمور:
أحدها: أن المسلمين القائمين بهذا الدين بعد غربته ودروس معالمه، قد زعم أنهم أهل بدعة، كالخوارج الذين يكفرون بالذنوب، لاعتقاده أن ما يفعل عند القبور من عبادة الأموات، ليس بشرك يكفر فاعله، وأنهم وإن فعلوا ذلك فهم مجتهدون مخطئون، وأن أولئك الذين يقع فيهم مثل ذلك، هم الجماعة الذين وردت الأحاديث في وعيد من فارقهم، وساق الأحاديث الواردة في الخوارج، وفيمن فارق الجماعة.
وجعل هذه الطائفة الذين يأمرون بالتوحيد، ويدعون إليه، وينهون عن الشرك، ويقاتلون عليه، كالخوارج الذين يكفرون الصحابة، وأنهم فارقوا الجماعة، وذكر من كلام العلماء في رسالته كلاما يتناقض بقوله: إنهم لا يكفرون المعين ولم يفرق بين
…
1.
إن الكبائر على نوعين: نوع يكفر فاعله، كما ذكر العلماء في حكم المرتد، وذكر في الإقناع وغيره عن شيخ الإسلام ابن تيمية، أنه قال: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم، ويتوكل عليهم، كفر إجماعا، انتهى.
وما ذكر العلماء سلفا وخلفا أن الشرك يسوغ فيه
1 بياض بالأصل.
الاجتهاد، ويعذر فاعله باجتهاده؛ وهذا كذب على الكتاب والسنة، وإجماع علماء الأمة; بل المعاصي كلها لا يعذر أحد ارتكبها بدعوى أنه مجتهد، والوعيد من الله لفاعلها.
ولو قدر أن لبعضهم تأويلا، فكل ما يخالف حكم الله ودينه لا يسوغ، ولو ساغ ذلك لتعطلت الشرائع والحدود؛ وليس مع ما بينه الله من دينه الذي دعت إليه رسله، من أولهم إلى آخرهم عذر لأحد.
والقرآن حجة الله على الأمة، مشركهم وكتابيهم، كما قال تعالى:{لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [سورة الأنعام آية: 19]، وقال تعالى:{هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} [سورة إبراهيم آية: 52] ، ولم يستثن أحدا من الناس.
وقال: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً} [سورة آل عمران آية: 138]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة الأعراف آية: 52] ؛ فالبيان عام، والهدى والرحمة خاص، فذلك عدله وحجته، وهذا فضله ورحمته. وهذا القرآن ينادي بدعوة كل رسول إلى التوحيد، والنهي عن الشرك، ويذكر ما ردوا به على من جحده، وذكر تعالى ما وعد على ذلك من عذاب الاستئصال.
والاجتهاد إنما هو مختص بأهل العلم والدين، وله شروط لا توجد تامة إلا في خواص من المتقدمين; فإذا كنت
يا هذا لا تعرف هذا، فما هذا العلم الذي تدعي معرفته؟!
الأمر الثاني: أن من الذنوب ما لا يكفر فاعله، عند أهل السنة والجماعة
…
1. ما كان من أعظم الكبائر من المعاصي، كالزنا والسرقة، وشرب الخمر; والخوارج كفّروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأويل غير سائغ، وقد اجتهدوا ولكنهم لم يحسنوا، ولم يوفقوا بين الأدلة، فما نفعهم اجتهادهم، واستدلالهم بالكتاب والسنة.
ومن المعلوم أن لله حججا، وما عذرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الاجتهاد والاستدلال حتى أمر بقتلهم؛ ومن حجة أهل الحق عليهم، قوله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [سورة الحجرات آية: 9] ، فسماهم مؤمنين مع الاقتتال؛ ولأهل الحق أدلة أخر، ليس هذا موضع ذكرها، إذ الغرض التنبيه على ضلال هذا الضال الملبس.
وشيخنا رحمه الله ينكر على الخوارج، وعلى من قال بقولهم، ويعتقد بطلانه؛ أما علمت ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل أناسا بأعيانهم لكفرهم، كالنضر وعقبة بن أبي معيط؟! والحاصل: أن هذه الطائفة لم يعاملوا المسلمين إلا بمعاملة
…
2.
1 بياض بالأصل.
2 بياض بالأصل ولعله [المشركين] .
ولو بسطنا القول في هذا، وبيان نقضه من الكتاب والسنة، وأقوال السلف والعلماء، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم
…
1 وقد اكتفيت بما ذكره شيخنا، في رده على سليمان بن عبد الوهاب، الذي صدره بحديث عمرو بن عبسة.
[فضل العلم وأهميته وذكر بعض من أعرض عن الحق]
وله أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي رفع بالعلم أقواما، ووضع به آخرين، وذم من لم يرفع رأسا بما بعث به رسله، وصرف علمه إلى الأفكار الرديئة، وزبالة الأذهان ووساوس الشياطين، فقال تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [سورة الأعراف آية: 175] ، ومدح من عمل بما علم، فقال:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [سورة فاطر آية: 28] العاملين.
أما بعد: فإن العلم النافع أعظم ما صرفت إليه الهمم، ونشر بساطه في محافل أولي النجابة والكرم، إذ من عدمه فقد عدمت حياته، وجانبه الرشد أو فاته، كما قال صلاح الدين الأخفش، واسمه: عمرو بن مسعده:
1 بياض بالأصل.
وبعد فالعلم أفضل مطلب
…
وأحسن ما في كسبه العمر ينفق
ويخفق سعي الطالبين لغيره
…
وسعي امرئ في كسبه ليس يخفق
ولا سيما علم الشريعة إنه
…
من العلم مقصود إذا هو يطلق
فإن فنون العلم أجمع وصلة
…
بهن إلى تحصيله يتسلق
هو المقصد المطلوب بالذات دونها
…
ومن أجلها قد دونوها ودققوا
ولكنه صعب على من لنفسه
…
مريح وللذات ليس يطلق
فمن خطب الحسناء وفَّى صداقها
…
وما هي إلا بالمشيئة تصدق
وقد مر في بعض الأوقات، في مجلس من مجالس الإخوان - وفقهم الله للصالحات - ذكر علماء الوقت، الذين أعرضوا عن الحق، فباؤوا بالغضب والمقت، وما عارضوا به شيخنا محيي الدين، أبو الحسن محمد بن عبد الوهاب، نضر الله وجهه في جنته يوم المآب، حتى أظهره الله تعالى، ونفع بدعوته جميع من بلغته فعمل بها.
فانجر الكلام إلى ذكر عثمان بن سند، الكائن بالبصرة، فذكره بعض الإخوان، ومدحه بما له به شهرة; فقلت له: إنه اشتهر بالأشعار الخبيثة، ومدح الطريقة النقشبندية، ووضعها، ومدح الظلمة والفجار.
ومقامه مع أهل القباب، واللواط، وشرب الخمور، والأشرار، حاكم بمعرفة حاله; إذ بالولاء والبراء يكون الاعتبار؛ ومصنفه في مدح خالد الخبيث، الذي أحدث الطريقة، يطلعك على حاله بالحقيقة.
فأقول: اعلم أن زكى الإنسان وطهارته في أصلين: الأصل الأول: أن لا يعبد إلا الله تعالى. الثاني: أن لا يعبده إلا بما شرع على لسان محمد صلى الله عليه وسلم؛ ذلك هو تحقيق قول: لا إله إلا الله، كما قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة البينة آية: 5] الآية.
ولها أربع مراتب: أولها: العلم والمعرفة، واعتقاد صحة المشهود به وثبوته. الثاني: نطقه بذلك. الثالث: أن يعلم غيره بما شهد به، ويبينه له بالقول تارة، وبالفعل أخرى. رابعها: أن يلتزم بمضمون هذه الشهادة، ويأمر غيره أن يعمل بذلك. ولا تتم الشهادة إلا بهذه المراتب الأربع، قاله ابن القيم قدس الله روحه.
وهذا الرجل المذكور، عن هذه المراتب في بون بعيد، كما هو غير خفي على من عرف الولاء والبراء، واعتنى بالتوحيد؛ وهذا هو الذي بيننا وبين الناس كلهم، وهو الحنيفية ملة إبراهيم؛ وهذا يكفي في معرفته واعتقاده مع الألفاظ الشركية ومباحثه واعتقاده، وأنه من التقوى عار من اللباس، هادما لأصل التوحيد والأساس.
[عثمان بن منصور ابتلي بكراهة الدعوة الإسلامية]
وقال أيضا الشيخ عبد الرحمن بن حسن، قدس الله روحه، ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فاعلم أيها الناظر إلى هذا التعليق: أن عثمان بن منصور، ابتلي بكراهة هذه الدعوة الإسلامية، التي قام بها شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب، مجدد الدين بعد اندراسه وذهابه، فأطنب في الكذب والزور والبهتان، على من تصدى لهذا الشأن العظيم، والخطب الجسيم؛ فحسيبه الله تعالى فيما قال فيه، مما هو ليس له بأهل. وكان يخفي أمره هذا، وربما ظهر لأناس من فلتات لسانه، ما يتبين من حاله بعد وفاته، وخطوطه ومؤلفاته.
وهو في الحقيقة إنما جنى على نفسه، فبنى ما زوره على أصلين فاسدين، ينقض أحدهما الآخر: الأول: أن هذه الأمة كلها صالحة، من أولها إلى آخرها، ليس فيها شرك ينافي التوحيد; فنذكر من حال الأمة ما يبين جهله وضلاله فيما زعمه. الثاني: أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، كفّر الأمة، وليس فيها كافر; فنبين ما يبطل هذين الأصلين الضالين الباطلين، إن شاء الله تعالى.
فأقول وبالله التوفيق: أما الأمة ففيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين توفى فيهم، وهم على التوحيد الذي دعاهم إليه، وجاهدوا عليه، فجاهدوا أهل الردة، الذين ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من قبائل العرب، حتى دخلوا من الباب الذي خرجوا منه، فاجتمعوا كلهم على الإسلام، وجاهدوا فارس والروم، ففتح الله عليهم الشام ومصر، والعراق.
وما زالوا كذلك في زمن الخلفاء الراشدين، وولاية بني أمية، وصدرا من بني العباس؛ وكل من ظهرت بدعته إذ ذاك، قمع وحمل على السيف، وفيهم الأئمة الأعلام، الذين أخذ عنهم العلم، كعلماء التفسير، والحديث، والفقه، من غير تكلف ولا تعسف. فما زال الحال كذلك في زمن الأئمة الأربعة، وأمثالهم من المحدثين والفقهاء.
وقد ثبت في الصحاح والمسانيد والسنن، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن؛ وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " 1 فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمة لا بد أن يقع فيها ما يوجب الجهاد، بحسب قدرة المؤمن.
1 مسلم: الإيمان (50) ، وأحمد (1/458 ،1/461) .
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كما افترقت اليهود والنصارى، وكلها في النار إلا واحدة؛ قال العماد بن كثير، رحمه الله تعالى: والحديث له طرق كثيرة، وكل هذا سيقع في الأمة، بخبر الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
وأول ما ظهر من البدع: بدعة الجهمية والمعتزلة، فأنكرها العلماء من الفقهاء، وأهل الحديث، وكفرهم أكثر أهل الحديث، حتى استخلف المأمون بن الرشيد، فعرب كتب اليونان. واستماله أهل البدع والضلال، من الجهمية والمعطلة، فامتحن أهل الحديث، وألزمهم أن يقولوا بخلق القرآن؛ فعظمت الفتنة، وظهرت، وامتحن الإمام أحمد رحمه الله، بالضرب بالسياط، في ولاية المعتصم والواثق.
قال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى:
فلقد رأيتم ما جرى لأئمة الإسـ
…
لام من محن على الأزمان
لا سيما لما استمالوا جاهلا
…
ذا قدرة للناس مع سلطان
وسعوا إليه بكل إفك بين
…
بل قاسموهم بأغلظ الأيمان
أن النصيحة قصدهمكنصيحة الشيـ
…
طان حين خلا به الأبوان
فيرى عمائم ذات أذناب على
…
تلك القشور طويلة الأردان
ويرى هيولا لا تهول لمبصر
…
وتهول أعمى في ثياب جبان
وبعد ذلك تفرقت الأمة على بني العباس، فظهر بنو بويه في المشرق، وغلوا في أهل البيت وبنوا المساجد على القبور، وعبدوها من دون الله، وظهرت دولة القرامطة، وأنكروا الشرائع، وزعموا أن لها باطنا غير ظاهرها.
ولما استولى بنو عبيد القداح على مصر، فعلوا مثل ما فعل بنو بويه، من الغلو، لزعمهم أنهم من ولد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثوا ركبا إلى عسقلان، في زعمهم أن رأس الحسين بن علي بن أبي طالب مدفونا هناك، وقد كذبوا في ذلك، فدفنوا في القاهرة ما جاؤوا به، وبنوا عليه مسجدا يعظم، وصاروا يعبدون هذا الوثن ويعظمونه.
وحدث في وقتهم أوثان كثيرة، بنيت عليها المساجد؛ وفي أيامهم ظهرت الإسماعيلية، والنصيرية، والفلاسفة، وأهل الوحدة، والمتكلمون، كل أعلن بمذهبه وطريقته، ودعا إليها، كالمعتزلة، والأشاعرة؛ ومذاهبهم مذكورة في كتب أهل العلم.
والسنة موجودة في أهلها، لكنهم يقلون تارة ويكثرون أخرى، كلما تقادم عهد النبوة اشتدت الكربة، وعظمت الغربة، وعاد المعروف منكرا، والمنكر معروفا، نشأ على هذا الصغير، وهرم عليه الكبير؛ وفي ذلك يقول الشاطبي:
وهذا زمان الصبر من لك بالتي
…
كقبض على جمر فتنجو من البلا
وقال يحيى الصرصري:.-
لم يبق إلا حاكم هو مرتش
…
أو عالم تخش الرعية ظلمه
لولا بقايا سنة ورجالها
…
لم يبق نهج واضح نأتمه
قال أبو الوفاء بن عقيل: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع، إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت حكم غيرهم; قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم هذه القبور، وإكرامها مما نهى عنه الشرع، من إيقاد النيران، وتقبيلها، وتخليقها، وكتب الرقاع، فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبدت اللات والعزى.
والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف، ويتمسح بآجرة المسجد الملموسة يوم الأربعاء، ولم يقل الحمالون على جنازتة: الصديق أبو بكر، ومحمد، أو علي، أو لم يعقد على قبر أبيه الجص والآجر، ولم يخرق ثيابه إلى الذيل، ولم يرق ماء الورد على القبر، انتهى.
وقال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل،
المعروف: بأبي شامة، في كتابه "الباعث على إنكار البدع والحوادث": ومن هذا القسم: ما قد عم الابتلاء به، من تزيين الشيطان للعامة، من تخليق الحيطان والعمد، وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح، والولاية، ويفعلون ذلك، ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك.
ثم يتجاوزون ذلك إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهي من عيون وشجر وحائط وحجرة وفي مدينة دمشق من ذلك مواضع متعددة، كعوينة الحمى خارج باب توماء، والعمود المخلق خارج باب الصغير، والشجرة الملعونة في نفس قارعة الطريق، سهل الله قطعها، واجتثاثها من أصلها؛ فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث! انتهى.
فما حدث في هذه الأمة، من الأمور الشركية، هو الذي أنكره شيخنا رحمه الله، على أهل زمانه، لما استعظم، وعمت به البلوى؛ وكلام العلماء فيما حدث من ذلك كثير، فنذكر منه ما تحصل به الفائدة، ورد شبهات المشبهين، كهذا الذي نحن بصدد الرد عليه وأمثاله.
وما زال الشر يزيد بعد من ذكرت كلامه، إلى أن ظهر شيخ الإسلام ابن تيمية، فوجد الشرك والبدع قد طم وعم في الأمة، فرد على كل طائفة من المبتدعة: رد على الرافضة في مجلدات، فما أبقى لهم حجة، ولا شبهة إلا أبطلها، ورد على الفلاسفة في مجلد ضخم.
ورد على أهل الوحدة ابن عربي، ومن وافقه على بدعته، ورد على أهل المنطق اليونان; وذكر أن الصحيح منه موجود، في أصول الفقه، وأبطل باطله. ورد على ابن الأخنائى بمجلد.
ورد على من اعتقد في المشائخ أن لهم كرامات توجب الغلو فيهم، وتعظيمهم، كما في الرسالة السنية له. ورد على ابن البكري، وأبطل ما زخرفه من الشبهات، وما جوزه من الاستغاثة بالغائبين والأموات. ورد على أهل الحيل من فقهاء المتأخرين، وغير ذلك مما لا يمكن عده، من الكتب والرسائل. ولتلميذه العلامة ابن القيم مثل ذلك، وكذلك الحافظ محمد بن عبد الهادي؛ فأحيا الله بهم وبأصحابهم، ما درست آثاره من السنة في ذلك الوقت.
وحصل على شيخ الإسلام، من المحن من القضاة والولاة، ما هو مذكور في ترجمته رحمه الله تعالى، أعظم مما
جرى على الإمام أحمد، وحبس بمصر والشام، ومات بالحبس; وعزر ابن القيم رحمه الله، وما ذاك إلا لظهور البدع، وغربة الحق، كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى:
وأي اغتراب فوق غربتنا التي
…
لها أضحت الأعداء فينا تحكم
وهذا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ "1. ثم بعد طبقة الشيخ وأصحابه، ومن وافقه على ما قام به، عادت الغربة أعظم مما كان، حتى إن بعض المصنفين من متأخري الحنابلة، ظنوا أن عقيدة الأشاعرة عقيدة الإمام أحمد، ونسبوها إليه.
وأما الشرك بعبادة القبور والطواغيت، والجن والأشجار والأحجار، فعم وطم، حتى لا ينكره منكر، ممن له عقل يميز به الصدق من الكذب، وصار العلماء فيه ما بين مستحسن، أو مجيز لفعله، حتى أظهر الله شيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى.
فقام بهذا الدين الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، فبين للناس من التوحيد ما جهلوه، وأنكر من الشرك ما ألفوه، فلم يوجد عند من اتبعه شرك ولا بدعة، ولا منكر، فطهر الله به نجدا من كل خبيث، من الشرك والمنكرات، فلم يوجد فيها شرك، حتى عم ذلك نجدا
1 مسلم: الإيمان (145)، وابن ماجه: الفتن (3986) ، وأحمد (2/389) .
وأكثر الحجاز، وعمان، وشهد له الخاص والعام، بحسن هذا المقام، وأنه هو حقيقة دين الإسلام.
وصنف بعض العلماء في البلاد البعيدة، على منوال ما دعا إليه من التوحيد; وفضائله في العلم والرأي، وحسن البيان، والزهد في الدنيا، مما يشهد به القريب والبعيد، لا ينازع فيه منازع، إلا من استحوذ عليه الشيطان، واختار الكفر على الإيمان، بغيا وعنادا، وجهلا وفسادا.
ونذكر من كلام شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى، ما يبين الحق من الباطل، وما كان ينكره من ذلك، على كل معاند أو جاهل؛ وشيخنا رحمه الله، حذا حذوه، لأنه إمام عظيم، به الأسوة والقدوة، ولا يقول قولا إلا مؤيدا بالدليل، مستقيمًا على سواء السبيل.
قال شيخ الإسلام، رحمه الله: والذي يجري عند المشاهد من جنس ما يجري عند الأصنام؛ وقد ثبت بالطرق المتعددة ما يشرك به من دون الله، من صنم، ووثن أو قبر، قد يكون عنده شياطين تضل من أشرك به، وأن تلك الشياطين يقضون بعض أغراضهم، وإنما يقضونها إذا حصل منهم الشرك والمعاصي.
ومنهم من يأمر الداعي أن يسجد، وقد ينهاه عما أمره الله به، من التوحيد والإخلاص، والصلوات الخمس، وقراءة القرآن ونحو ذلك؛ وقد وقع في هذا النوع
كثير من الشيوخ، الذين لهم نصيب من الدين والزهد، والعبادة، لعدم علمهم بحقيقة الدين الذي بعث الله به رسله؛ طمعت فيهم الشياطين، حتى أوقعوهم فيما يخالف الكتاب والسنة.
وقد جرى لغير واحد من أصحابنا المشائخ، يستغيث بأحدهم أحد أصحابهم، فيرى الشيخ جاء في اليقظة، وإنما هو الشياطين تتمثل للذين يدعون غير الله، فالكافر للكافر، والفاجر للفاجر، والجاهل للجاهل، انتهى.
وقال أيضا - بعد كلام له سبق -: الوجه السادس: أن سؤال الميت والغائب، نبيا كان أو غيره، من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين؛ فإن أحدا منهم ما كان يقول - إذا نزلت به شدة، أو عرضت له حاجة - لميت: يا سيدي فلان أنا في حسبك، أو اقض حاجتي، كما يقوله هؤلاء المشركون، لمن يدعونهم من الموتى والغائبين.
ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لا عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها; بل ولا أقسموا بمخلوق على الله تعالى أصلا، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا عند غير قبور الأنبياء.
وقد كره العلماء، كمالك وغيره: أن يقوم الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه، وذكروا أن هذا من البدع التي لم يفعلها السلف.
وأما ما يروى عن بعضهم، أنه قال: قبر معروف الترياق المجرب; وقول بعضهم: فلان يدعى عند قبره، وقول بعض الشيوخ: إذا كانت لك حاجة إلى الله تعالى، فاستغث بي، أو قال: استغث عند قبري، ونحو ذلك، فإن هذا قد وقع في كثير من المتأخرين وأتباعهم. وكثير من هؤلاء إذا استغاث بالشيخ رأى صورته، وربما قضى بعض حاجته، فيظن أنه الشيخ نفسه، أو أنه ملك تصور على صورته، وأن هذا من كرامته؛ ولا يعلم أن هذا من جنس ما تفعله الشياطين بعباد الأوثان، بحيث تتراءى أحيانا لمن يعبدها، وتخاطبهم ببعض الأمور الغائبات، وتقضي لهم بعض الطلبات; ولكن هذه الأمور كلها بدع محدثة في الإسلام، بعد القرون الثلاثة المفضلة.
وكذلك المساجد المبنية على القبور، التي تسمى "المشاهد" محدثة في الإسلام، والسفر إليها محدث في الإسلام، لم يكن شيء من ذلك في القرون المفضلة; بل ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 1، يحذر ما فعلوا، الحديث; وفي الصحيح عنه أنه قال، قبل أن يموت
1 البخاري: الجنائز (1330)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531)، والنسائي: المساجد (703) ، وأحمد (1/218 ،6/34 ،6/80 ،6/121 ،6/252 ،6/255 ،6/274)، والدارمي: الصلاة (1403) .
بخمس: " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك "1.
فأما قول القائل عند ميت من الأنبياء والصالحين: اللهم إني أسالك بفلان، أو بجاه فلان، أو بحرمة فلان، فهذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا عن التابعين؛ وقد نص غير واحد من العلماء، على أنه لا يجوز، ونقل عن بعضهم جوازه; قلت: لكن بغير مستند، فكيف يقول القائل لميت: إني أستغيث بك، أو أستجير بك، أو أنا في حسبك؟!
فتبين: أن هذا ليس من الأسباب المشروعة، لو قدر أن له تأثيرا، فكيف إذا لم يكن له تأثير صالح؟ بل مفسدته راجحة على مصلحته، كأمثال من دعا غير الله; وذلك أن من الناس الذين يستغيثون بغائب، أو ميت، تتمثل لهم الشياطين؛ وربما كانت في صورة الغائب، وربما كلمته، وربما قضت له أحيانا بعض حوائجه، كما تفعل شياطين الأصنام؛ وهذا مما جرى لغير واحد، فينبغي أن يعرف هذا.
ومن هؤلاء: من يؤذي الميت بسؤاله إياه، أعظم مما يؤذيه لو كان حيا، وربما قضيت حاجته مع ذنب يلحقه، كما كان الرجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا فيعطيه، ويقول:
1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (532) .
" إن أحدكم يسألني المسألة فيخرج يتأبطها نارا " 1، وقال صلى الله عليه وسلم:" لا تتخذوا قبري عيدا "، وقال:" اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "2.
وقد قال غير واحد من السلف، قوله تعالى:{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [سورة نوح آية: 23] قال: كانوا قوما صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد؛ حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت، انتهى.
[قول ابن القيم في تدرج الشيطان بأصحاب القبور]
وقال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى: وما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور، ويلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أصحابها، من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب; ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء به، والإقسام على الله به، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه، أو يسأل بأحد من خلقه.
فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى دعائه وعبادته، وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره، وثنا، تعلق عليه الستور والقناديل، ويطاف به، ويستلم ويقبل، ويحج إليه، ويذبح عنده; فإذا تقرر ذلك
1 أحمد (3/4) .
2 أحمد (2/246) .
عندهم، نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيدا ومنسكا، ورأوا أن ذلك أنفع في دنياهم وأخراهم.
وكل هذا مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من تجريد التوحيد وأن لا يعبد إلا الله; فإذا تقرر ذلك
عندهم، نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل الرتب العالية، وحطهم عن منْزلتهم، وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر، وغضب المشركون، واشمأزت قلوبهم، كما قال تعالى:{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة الزمر آية: 45] .
وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، فعادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عنهم، ووالوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله; ويأبى الله ذلك، وما كانوا أولياءه، إن أولياؤه إلا المتقون; انتهى.
وهذا الذي قرره شيخ الإسلام، وابن القيم، وإخوانهم من أهل السنة، رحمهم الله تعالى، هو معنى لا إله إلا الله، وهو الذي ذكره تعالى في كتابه عن رسله، وأنبيائه، من قوله:{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}
[سورة المؤمنون آية: 32] .
فمن لم يعرف هذا على الحقيقة، ويقبله ويدين الله به، فليس من الإسلام في شيء.
وهذا التوحيد توحيد الرسل، الذي أنكره داود، وأقره على إنكاره - وقبول الشرك المنافي له - عثمان بن منصور، في كتبه الموجودة بعد موته، ونصره نظما ونثرا، وأنكر على شيخنا قوله:{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة المؤمنون آية: 32]، {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [سورة الأنعام آية: 26] . والأصل - في خطأ هذين المذكورين، ومن تلقى عنهم شبهاتهم - إنما أخطؤوا في معنى لا إله إلا الله ; فلا ريب أن كل كلمة مستعملة في اللغة العربية، فالاستعمال يعبر بها عن مدلولها، وهو معناها الذي دلت عليه ووضعت له؛ ولا إله إلا الله خير الكلام، وأفضله، وتناولت الدين كله، ودلت عليه مطابقة وتضمنا والتزاما.
وتضمنت أمرين هما أساس الدين:
الأول: نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى نفيا عاما، وهي العبادة كما نطق به القرآن في مواضع كثيرة فـ "لا" هي أداة النفي، دخلت على المنفي بها، فانتفى إذا قاله الموحد.
الأمر الثاني: المستثنى بإلا وهو الله وحده دون كل ما سواه، من قبر أو وثن أو شجر، أو حجر أو غير ذلك، فلا يقصد بشيء من أنواع العبادة شيئا سوى الله تعالى وحده.
فدلت على هذين الأمرين مطابقة، وهو معنى قوله:
{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} [سورة آل عمران آية: 62]، وبعدها قوله تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} [سورة آل عمران آية: 64] . فقوله: {أَلَّا نَعْبُدَ} هو معنى لا إله، وقوله:{إِلَّا اللَّهَ} هو المستثنى في كلمة الإخلاص.
وأمثال هاتين الآيتين في القرآن كثير، لا يكاد يحصر، كقوله:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23]، ففي هذه الآية: الأمران، نفيا وإثباتا، كما في كلمة الإخلاص، وكقول يوسف عليه السلام:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة يوسف آية: 40] ، وهذا هو الحكم الشرعي الديني، الذي أرسلت به الرسل، وأنزلت به الكتب.
وكل شريعة فمبناها على الأصل الأصيل، فإذا قيل: لا إله إلا الله، معناها: نفي الشرك، فدلالتها عليه دلالة تضمن، أو قيل دلت على إخلاص العبادة لله تعالى، فدلالتها على ذلك دلالة تضمن؛ ومثله في القرآن قوله:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 35-36] عرفوا على شركهم أنها دلت على ترك عبادتهم لآلهتهم.
وهذه المعرفة لم تحصل من هؤلاء المجادلين في هذا
الدين; بل قلبوا الحقيقة، واتخذوا الشرك المنفي بها دينا وقربة؛ والمثبت بها عندهم، هو المنكر الذي أنكروه على من دعا إليه، وقال: إن دعواه أن أرباب القبور لا يدعون، ولا يستغاث بهم، منكر; فأنكروا ما أثبتته كلمة الإخلاص، وأثبتوا ما نفته من الشرك وعبادة الأوثان; فانظر إلى هذا الجهل العظيم، والضلال المبين؛ هذا الذي أوقعهم فيما أوقعهم فيه، وشابهوا أهل الكتاب والفلاسفة في شبهاتهم وترهاتهم، وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.
وأدلة هذه الدعوة، التي قام بها شيخنا رحمه الله تعالى، من الكتاب والسنة، واعتبار الواقع، أبين من الشمس في نحر الظهيرة، ليس دونها قتر ولا غمام; وذلك أنه قام بهذا الدين وحده، لم يساعده غيره على معرفته، فدعا إليه، فما زال يزيد واحدا بعد واحد، حتى أتاح الله له أنصارا، فأنكر الجم الغفير، والخلق الكثير من أهل نجد، والقرى والأمصار، وبذلوا الجد والجهد في إطفاء هذا النور من كل ناحية، وكل قبيلة، فما ظفروا بما أرادوا؛ وأبى الله إلا أن يتم نوره.
فانقلب المعادي لهم مسالما، وأقروا له بصحة ما قام به من الدين، وشهد له بصحته [أهل] نجد والحجاز وعمان، وتابعوه ودانوا بهذا الدين وقبلوه، وأيده العلماء
بالتصانيف في تقرير هذه الدعوة; منهم: محمد بن إسماعيل الصنعاني، صنف "تطهير الاعتقاد في درن الإلحاد"، والشيخ حسين بن غنام، صنف "العقد الثمين"، وغيرهم؛ وبعضهم نظم ذلك في شعر أنشأه، من أهل فارس والبحرين وغيرهم; فلو ذهبنا نذكر من أقر بذلك من أهل الأمصار، لطال الجواب، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
ويكفي في حق من جادل في التوحيد ما ذكره الله في كتابه، من خلود الأبد في النار، لمن أشرك بالله غيره في العبادة؛ أجارنا الله وإخواننا المسلمين من الشرك بالله، واتباع سبل الشيطان، وهي البدع والشبهات، كما فسر العلماء بذلك قوله تعالى:{وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [سورة الأنعام آية: 153] . والحمد لله على رؤية الحق، والبصيرة في الدين، ونسأله الثبات والاستقامة على الإخلاص والسنة، حتى نلقى الله تعالى بالإسلام الذي يحبه ويرضاه.
وهذا الذي ذكرنا ظاهر بحمد الله، لا يخفى إلا على الجهلة الذين ليس لهم التفات إلى العلم، أو منكوس القلب، زين له الشيطان الباطل، فرآه في صورة الحق، وصدقه، حتى صار عنده الحق بمنْزلة الباطل، فأخذ يجادل ويماحل، ويفتري الكذب عليه ويجتري.
وشيخنا رحمه الله إنما أنكر ما وقع في هذه الأمة، من هذا
الشرك الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه، وقد وقع بعد القرون المفضلة، وعظمت القبور ببناء المساجد عليها، وعبدت من دون الله، رغبة إليها وخوفا، ورجاء وتعظيما ومحبة، وصرفوا لها خصائص الإلهية، التي لا يصلح منها شيء لغير الله تعالى؛ وما زال العلماء من أهل السنة ينكرون هذا الشرك، كابن عقيل، وأبي شامة، وابن وضاح وغير هؤلاء مما لا يمكن حصرهم.
وممن اشتهر عنه إنكاره وبيانه، والجواب عما شبه به المشركون، والرد على من اعتقد هذا الشرك، وأجازه، شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وتبعهم على هذا في عصرهم الخلق الكثير من أهل السنة؛ وبعدهم بمدة رجع أكثر الأمة على ذلك، لكثرة المخالفين للحق في تلك الأعصار، وفي أكثر الأمصار، حتى غلب الشرك، ونسي العلم الذي بعث الله به رسله، من توحيد الله تعالى، وإخلاص العبادة له، فاستحكمت الغربة، وعظمت البلية.
وفي حدود القرن العاشر وما بعده، لا يعرف أحد من العلماء تكلم بالتوحيد ودعا إليه، وعرف هذا الشرك ونهى عنه، حتى أظهر الله هذا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في آخر هذه الأمة، وهي نعمة عظيمة، فبين حقيقة التوحيد، وأنواعه، على ما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، لا يعدل عن طريقتهم.
فأنكر كل بدعة بأدلة الكتاب والسنة، وأحيا السنن، وحمل من اتبعه وأطاعه على العمل بالتوحيد، وشرائع الإسلام، والنهي عن جميع المحارم والآثام، فأخرج الله به الكثير من الظلمات إلى النور؛ فتركوا عبادة الأشجار والأحجار، والطواغيت والقبور، والتزموا ما شرعه الله في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
واعتمد على ما ذكره المفسرون من أهل السنة، كأبي جعفر بن جرير، والعماد بن كثير وغيرهما، كتفسير ابن أبي حاتم الرازي وغيرهما، والبغوي وغير هؤلاء، ممن سلمت عقائدهم.
واعتمد كتب الحديث التي أجمعت الأمة في الجملة على قبولها، كالصحيحين، والسنن والمسانيد، ففهم من هذه الكتب، رحمه الله أدلة التوحيد وبيانه، والشرك المنافي للتوحيد وبيانه، مع أن الأكثر لم يعرفوا ذلك منها تفصيلا.
واعتمد ما رجحه المحققون من الفقهاء، في كتب الفقه، بالأدلة من الكتاب والسنة؛ فطريقته رحمه الله، لم تخرج عن هذا، وبين اختلاف الفقهاء، وصنف في ذلك المصنفات، وانتشرت مصنفاته بمضمون ما ذكرناه.
إذا عرفت ذلك، فلا عبرة بما يقوله المخالف المعاند، الذي أشرب قلبه بالشرك، والبدع والضلال، ونصرة
المشركين، وفتنة الجهال; فصار هؤلاء ضحكة بين الناس، فيما كذبوه وافتروه; فإذا كان الرسل لم يسلموا من الطعن فيهم، ونسبتهم إلى الجنون والضلال، فما بالك بمن هو دونهم بأضعاف.
لكن بحمد الله، صار الغلبة للحق على الباطل، والصدق على الكذب، فلا يقدر مبطل أن يكذب أو يفتري، إلا وكذبه كل لسان من بعيد وقريب؛ فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
[العثور على أوراق بخط عثمان منها منظومة لداود بن جرجيس يعظمه وينصره]
وقال أيضا الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
أما بعد: فإنا قد رأينا أوراقا بخط عثمان بن منصور بعد وفاته، تنبئ عن سوء اعتقاده في هذه الدعوة، التي من الله بها في آخر هذه الأزمان، وأخرج الله بها الخلق الكثير من الظلمات إلى النور، فصار يعتقد خلاف ما يعتقده المسلمون; فالمسلمون عرفوا أنه هو الحق الذي دعت إليه الرسل، فصار يعتقد خلاف ذلك.
فمن ذلك: أنا وجدنا له منظومة لداود بن جرجيس، يعظمه وينصره، لكونه أنكر التوحيد، وجوز الشرك الأكبر; وفي ورقة أخرى: ذكر فيها أحاديث الخوارج، يعني بذلك أن أهل هذه الدعوة خوارج، لتكفيرهم من كفروا، وهو يرى أن هذه الأمة ليس فيها من يعمل الكفر، كما هو صريح كلامه.
وذكر في هذه الورقة الاعتراض على شيخنا محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، في استدلاله بقوله:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}
[سورة المجادلة آية: 22] الآية
يعني أنه لا يصدق الاستدلال بهذه الآية على أحد من هذه الأمة.
فالجواب: أما تأييده لداود، فكل من سمع به أنكره واستعظمه، وقد أجبت داود عما كتبه في عدة كراريس، فليرجع إليه. وعلى هذا يصلح جوابنا لشبهات داود في الرد على عثمان، فيما أورده من الاعتراض، ومن أيده ونصره. وله الحمد على فضله وعظم منته علينا، وعلى المسلمين، في معرفة الحق والصدق، وإنكار الشرك والفساد، فالحمد له حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، غير مكفي ولا مكفور، ولا مودع ولا مستغنى عنه.
وأما استدلاله بأحاديث الخوارج، وتنْزيله المسلمين منْزلتهم، فهم أبعد الناس شبها بالخوارج; بل رأيهم في الخوارج هو رأي الصحابة رضي الله عنهم; وأما ابن منصور وشيعته: فهم أقرب الناس شبها بالخوارج، بل هم أعظم، لتكفيرهم المسلمين بالتوحيد، وهو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له؛ فمن كفر المسلمين بالتوحيد، فهو أعظم بدعة من الخوارج، كما قال العلامة ابن القيم، رحمة الله تعالى:
من لي بمثل خوارج قد كفروا
…
بالذنب تأويلا بلا برهان
ولهم نصوص قصروا في فهمها
…
فأتوا من التقصير في العرفان
وخصومنا قد كفرونا بالذي
…
هو غاية التحقيق والبرهان
وهذا هو الذي زعم ابن منصور أنه رأي الخوارج،
هو إنكار الشرك على من أشرك بالله في عبادته، كما قد أطبق عليه أهل الوقت الذي أنكر عليهم شيخنا، فلا تكاد تجد بلدة أو قبيلة إلا وهم يعبدون أرباب القبور، والطواغيت الذين يدعون علم الغيب، وأنهم ينفعون من أرادوا نفعه، ويضرون من أرادوا ضره، بالنية والقصد، على القرب منهم والبعد، ويعبدون الأشجار والأحجار، من غير أن ينكره منكر.
ولهذا أنكروا على من أنكره، حتى العلماء وأهل الفتوى والتدريس، وهذا هو الشرك الذي أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب بتحريمه، والنهي عنه، والوعيد عليه بالنار. فدعاهم شيخنا رحمه الله: إلى أن يتركوا الشرك رأسا، ويخلصوا العبادة لله وحده، كما قال تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة آية: 21] إلى قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [سورة البقرة آية: 22] .
وقال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [سورة يس آية: 60-61] ؛ فالصراط المستقيم هو عبادة الله وحده، وترك ما زينه لهم الشيطان من عبادة الأوثان، وقال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ
الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2-3] .
وقال: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [سورة غافر آية: 14] .
فكل من أنكر إخلاص العبادة لله، وأجاز الشرك بأرباب القبور وغيرهم، فهو كافر بنصوص الكتاب المتظاهرة؛ وقد حكى العلماء الإجماع على ذلك، وهذا هو أصل دين الإسلام وأساسه، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
فدعاهم شيخنا رحمه الله إلى معنى هذه الكلمة، وهو ترك الشرك في العبادة، وإخلاصها بجميع أنواعها لله وحده، وأمرهم بفعل ما أوجب الله عليهم من حقوق التوحيد، وأعمال الإسلام، فدعاهم إلى العمل بأركان الإسلام، والتزام أركان الشريعة والعمل بها، وترك البدع.
فتناولت دعوته الناس: العمل بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الأمر بالتوحيد، والأعمال الصالحة، والنهي عن الشرك والبدع والفساد؛ فصار لا يوجد فيمن أطاعه واتبعه شرك ولا بدعة، ولا فساد، ومن ترك شيئا من أحكام الشرع ألزمه فعله؛ وبهذا أيد الله من آواه ونصره، على من ناوأه من الملوك والدول، لما قاتلوهم عند هذه الدعوة على كثرة من المقاتل والمخالف لهم، في كل جهة وبلدة وإقليم.
ومن المعلوم: أن أعداء الرسل الأكثرون، وأتباعهم هم الأقلون، كما قال تعالى:{وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [سورة هود آية: 40] ، وقال في ثمانية مواضع من سورة الشعراء، عند ذكر دعوة كل رسول يدعو قومه إلى التوحيد، في آخر كل قصة:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة الشعراء آية: 8] ، وذلك في سور كثيرة أيضا، فتدبر; فليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا!
وقد أظهر الله هذه الدعوة، وأعز من قام بها، وتمسك بها، ودمر من ناوأهم وعاداهم، وأعز من أطاعهم ووالاهم؛ فما بقي لمن ينكر هذه الدعوة من مدة سنين، إلا الواحد والاثنان; وكثير من العلماء صنفوا في هذه الدعوة المصنفات المفيدة، كما لا يخفى.
[اعتراض ابن منصور على شيخنا والرد عليه]
فنذكر اعتراض ابن منصور على شيخنا، بجهله وضلاله عن الهدى، فإنه قال في أوراقه التي وجدنا في كتبه - وهي ينادى عليها تباع بعد موته - قال: محمد بن عبد الوهاب، في مواضعه التي تكلم بها على السيرة، إذا عرفت أن الإنسان لا يستقيم له إسلام، وإن وحد الله وترك الشرك، إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء، كما قال تعالى:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة المجادلة آية: 22] الآية،
قال في الاعتراض: ظاهر هذا الكلام أن النجاشي ملك الحبشة كافر، حيث لم يصرح بعداوة قومه من النصارى; وأيضا: جعفر وأصحابه كفار، حيث لم يصرحوا بعداوة الحبشة، وكذلك مؤمن آل فرعون; فيا لله العجب! ما أعمى عين الهوى عن الهدى! انتهى.
فالجواب: أما اعتراضه على شيخنا في استدلاله بالآية على تحريم موادة المشركين، فخطأ بين، فشيخنا رحمه الله تعالى، إنما قال بحكم القرآن: إن من فعل الشرك الأكبر تحرم موادته؛ وكذلك أرباب المعاصي، إذا أصروا عليها تحرم موادتهم، كما هو الواقع في كثير من الأمصار. فهذا هو الحق الذي دلت عليه الآيات، لا ينازع في هذا من عرف الواقع في الأمة، بعد القرون الثلاثة المفضلة، من الشرك الأكبر.
فإذا كان عبادة الأموات، بسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وقع ممن كان يعبدهم، كما يفعل عند عبد القادر بالعراق، وكما يفعل بالشام ومصر، ومن نحا نحوهم من الأعاجم وغيرهم، فإن هذا هو الشرك الأكبر، الذي الأدلة عليه، وعلى تحريمه أكثر من أن تحصر؛ فإنه هو الذي دلت عليه الآية من تحريم موادة المشركين، وصح الاستدلال بها، كما عليه عمل الصحابة فيمن عبد اللات، والعزى، ومناة، والأصنام وغيرها، من قريش وغيرهم سواء بسواء.
فإن شرك هؤلاء أغلظ من شرك أولئك المشركين، من وجوه لا تخفى على ذوي البصائر; فإذا كان يعتقد أن هذا الذي يفعل عند القبور والمشاهد ليس بشرك، فقد وافق على هذا الاعتقاد، من كان يعبد اللات والعزى، ومناة وهبل، سواء من قريش وغيرهم، فإنهم نصبوا العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن عبادة هذه الأوثان.
فهذا أصل عظيم يتبين به المسلم من الكافر، والمخلص من المشرك، ولا عبرة بمن زين الشرك ورضيه، وهم الأكثرون عددا في السالفين والخالفين، كما قال تعالى:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة الأنعام آية: 116] إلى قوله: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [سورة الأنعام آية: 116] .
وأما قوله: ظاهر هذا الكلام أن النجاشي ملك الحبشة كافر، حيث لم يصرح بعداوة قومه من النصارى.
فالجواب من وجوه:
الوجه الأول: أنه لا اعتراض على حكم القرآن بتحريم موادة المشركين.
الوجه الثاني: أن المهاجرين إلى الحبشة هاجروا ليأمنوا على دينهم، حيث لم يجدوا عن ذلك بدا، إذ لم يجدوا بلدا ولا قبيلة يأمنوا فيها غير الحبشة، وهذا في أول الدعوة قبل أن تفرض الفرائض، وتنْزل الآيات في الأحكام، وبيان الحلال من الحرام، وأعظم الفرائض بعد التوحيد الصلاة،
وأخذوا عشرا بمكة لم تفرض عليهم صلاة ولا زكاة، ولا صوم ولا حج، وكذلك أحكام الهجرة والجهاد؛ كل هذا إنما نزل بعد ذلك بعد البعثة.
الوجه الثالث: أن النجاشي أسلم، وطائفة من قومه كذلك أسلموا، فلهم حكم الظهور، وذلك معروف في السير والتفسير؛ فإذا ظهر الإسلام في بلد، لم تحرم الإقامة بها على من صان دينه، وأظهره. وكذلك جعفر وأصحابه، صان الله دينهم بما جرى لهم من النجاشي، قال: من سبكم غرم; فمن تابعهم في تلك البلاد قبلوا منه، ومن لم يتابعهم لم يتبعوه، ولم يلتفتوا إليه، فأظهروا دينهم على رغم من كره.
والآية لا تتناول مثل هؤلاء - بحمد الله - بحيث لم تحصل منهم موادة لمشرك، ولا موافقة لهم؛ فأين هذا ممن يواد المشركين، ويظهر لهم محبتهم ومعاشرتهم؟ فهذا الذي لا يبقى معه إيمان.
وأما مؤمن آل فرعون، فحذر وأنذر، ودعاهم بالترغيب والترهيب، وخوفهم من الكفر والتكذيب، قال الله تعالى:{فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [سورة غافر آية: 45] الآية؛ فأخرجه الله منهم، ونجا مع بني إسرائيل لما أغرق آل فرعون، فسبحان الله! أين ذهب عقل هذا الرجل؟ فلا يدري ما يقول، ففاته من العلم المعقول والمنقول.
وأما قوله: ما أعمى عين الهوى عن الهدى! هذا وصف القائل بعينه؛ فإنه أجاز الشرك ونصره، وخاصم أهل التوحيد في حق ربهم تبارك وتعالى; وشيخنا رحمه الله تعالى، يقول: لا يدعى إلا الله، ولا يعبد سواه; وهذا يقول: يدعى ويستغاث بغير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله، قال الله تعالى:{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة هود آية: 24] .
ثم قال في هذه الورقة، ثانيا: من هؤلاء المشركون الذين يطلب عداوتهم، وهم يبنون المساجد والمدارس، ويدعون بداعي الفلاح؟!
فالجواب: هذا هو الذي حوله يدندن تارة، ويصرح، وتارة يلوح بأن الأمة في زمانه وما قبله ليس فيهم من تحرم موادته; بل كلهم لهم حكم الإسلام في زعمه، وهذا غاية الضلال. أما علم ما يقع عند قبور أهل البيت من الشرك العظيم، وغيرها من القبور التي بنيت عليها المساجد، وبنيت بأسمائهم المشاهد، وكثر عبادها بسؤالهم من الأموات قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم؟ وما ينحر لهم وما ينذر لهم، وغير ذلك مما لا يخفى على من له أدنى مسكة من عقل، والتفات إلى ما وقع؟ وقد عمت البلوى بهذا الشرك العظيم، فكيف يخفى هذا ويجحد؟!
لكن لما لم يفهموا التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ولم يفهموا الشرك الذي نهى الله عنه في الآيات المحكمات، ولم يلتفتوا إلى ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر به أنه يقع في الأمة من التفرق والاختلاف في الدين، ومشابهة أهل الكتاب، وأن الدين يعود وغريبا كما بدأ، فخفي على هذا وأمثاله هذا الشرك الجلي.
فليس لهؤلاء من العلم ما يهديهم ولا ينجيهم؛ نعوذ بالله من موت القلوب، ورين الذنوب، وقد قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ} [سورة النحل آية: 73] الآية. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] ، ونحو هذه الآيات، وهي في القرآن أكثر من أن تحصر، في بيان الشرك، وأنواع العبادة التي وقع الشرك بها، في الأولين والآخرين، بدعاء الأموات الغائبين، ممن لا يسمع دعاء الداعي، ولا يستجيب، ولا يحبه منه ولا يرضاه.
وأما قوله: وهم يبنون المساجد والمدارس، ويدعون بداع الفلاح،
فالجواب من وجوه: الوجه الأول: أن اليهود والنصارى بنوا الكنائس والبيع والصوامع، ويتعبدون
فيها، فلم يتركوا دينهم رأسا، ويقرؤون التوراة والإنجيل، ويحكمون بكثير من الأحكام الشرعية، مع ما وقع منهم من الكفر والشرك؛ وقد قال تعالى:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [سورة المائدة آية: 78] الآيات.
وقال قبلها في حق عيسى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة المائدة آية: 76] ، وذكرهم في صدر سورة البقرة لما وقع منهم من عظائم الذنوب.
الوجه الثاني: أن الشرك مبطل للأعمال، فلا ينفع معه عمل لامرئ، وإن قام ليله وصام نهاره؛ فصورة العمل لا تنفع إلا بالإخلاص والمتابعة. وكثير من الجهال اغتروا بصورة الأعمال، ولم يأتوا بشرطها وهو التوحيد، فصارت كسراب بقيعة، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [سورة النور آية: 39] الآية؛ فهذه حال الأعمال مع الشرك، كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
قال الفضيل بن عياض، في قوله تعالى:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ، قال:"أخلصه وأصوبه; قيل له: يا أبا علي: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا".
فالخالص أن يكون لله، والصواب: أن يكون على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأيضا: فقد ذكر الفقهاء، في حكم المرتد: أن الرجل قد يكفر بقول يقوله، أو عمل يعمله، وإن كان يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله ويصلي، ويصوم، ويتصدق، فيكون مرتدا تحبط أعماله ما قال أو فعل، خصوصا إن مات على ذلك، فيكون حبوط أعماله إجماعا، بخلاف ما إذا تاب قبل الموت، ففيه الخلاف.
والمقصود: أن الأعمال لا ينفع منها شيء مع الشرك، ولهذا ذكر الفقهاء أن الردة تنقض الوضوء، لفوات النية بالردة، فيفوت استصحابها؛ وكل هذا بين لا يخفى إلا على البلداء الأغبياء. فبهذه الأمور يبطل ما احتج به، من أن الصلاة والأذان ينفع مع الشرك، وهذا لا يقوله من له أدنى مسكه من عقل، والله أعلم. نسأل الله الثبات على الإسلام والسنة، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. آخر الجزء الحادي عشر من الدرر السنية، ويليه الجزء الثاني عشر، وأوله: وله أيضا
…
إلخ.