الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد الثاني عشر: (القسم الثاني من كتاب مختصرات الردود)
تابع كتاب مختصرات الردود
…
[جواب الشيخ عبد الرحمن بن حسن على ابن منصور]
وله أيضا: أي الشيخ عبد الرحمن بن حسن، صب الله عليه من شآبيب بره، ووالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
أما بعد: فليعلم أن هذا الذي علقته في هذه الورقات، قد اقتصدت فيه، واقتصرت على ما تحصل به الفائدة، ويحصل به الثواب من الكريم الوهاب، لأنه من أفضل الجهاد في الدين، والنصيحة لعامة المسلمين، ولمن يصل إليه ممن له رغبة في معرفة حقيقة الدين، الذي بعث الله به الأنبياء والمرسلين.
فأقول - قبل الشروع في تحرير الجواب -: إن عثمان بن منصور اعترض على شيخنا رحمه الله، فيما دعا إليه من توحيد الله تعالى من الحنيفية ملة إبراهيم، وما بعث به محمد النبي الكريم، صلوات الله وسلامه عليهما، وعلى جميع المرسلين.
فقال: إنه لم يتخرج على أشياخ في العلم، وهذا مما افتراه واختلقه، عمن استند إليه من شيوخه الثلاثة: ابن سند، وابن جديد، وابن سلوم؛ وهذا من جهلهم بحال شيخنا، وشدة عداوتهم له; فتلقى عن هؤلاء الثلاثة ما زعموه، من الكذب والبهتان.
والجواب عن هذا: أنه لا يعرف شيخنا، ولا حيث نشأ،
كما يعرفه الخبير بحاله، ممن يقول الحق ويقصده، ويتحرى الصدق ويؤثره ; فلا ريب أنه لما قدم جده سليمان بن علي، من الروضة، ونزل العيينة، كان أفقه من نزل نجدا في وقته، فتخرج عليه خلق كثير من أهل نجد، منهم ابناه عبد الوهاب وإبراهيم.
وكان المتولي للقضاء في العارض: أبوه عبد الوهاب; وكان عمه يسافر إلى ما حولهم من البلاد، لحاجتهم إليه في الإفتاء، وما يقع بينهم من بيع العقارات، وكان عليه اعتمادهم فيما كتبه وأثبته؛ وأكثر إقامته مع أخيه عبد الوهاب. فظهر شيخنا بين أبيه وعمه، فحفظ القرآن وهو صغير.
وقرأ في فنون العلم، وصار له فهم قوي، وهمة عالية في طلب العلم، فصار يناظر أباه وعمه في بعض المسائل بالدليل، على بعض الروايات عن الإمام أحمد، والوجوه عن الأصحاب، فتخرج عليهما في الفقه، وناظرهما في مسائل، قرأها في الشرح الكبير والمغني، والإنصاف، لما فيهما من مخالفة ما في متن المنتهى والإقناع.
وعلت همته إلى طلب التفسير والحديث، فسافر إلى البصرة غير مرة، كل مرة يقيم بين من كان بها من العلماء، فأظهر الله له من أصول الدين، ما خفي على غيره، وكذلك ما كان عليه أهل السنة، في توحيد الأسماء والصفات والإيمان.
فيقال في الجواب: أنت يا ابن منصور، إنما افتخرت
برحلتك إلى البصرة والزبير، وأقمت بين أشياخك الثلاثة، فما الذي خصك بأخذ العلم منها دونه؟ إذا كان الكل قد سافر إليها، وجالس العلماء، وتميز عنك بالأخذ عما لا يتهم في حقه بالكذب والزور، وأنت قبلت فيه قول أهل الريب والفجور. فصنف في البصرة كتاب التوحيد، الذي شهد له بفضله بتصنيفه القريب والبعيد، أخذه من الكتب التي في مدارس البصرة من كتب الحديث.
وأما أنت يا ابن منصور فأي علم جئت به من رحلتك؟ ضيعت زمانك، وأخملت شأنك، وصرت ضحكة عند من أخذ عمن أخذ عن هذا الشيخ، وقد عدوا عليك من الغلطات ما لا فائدة في عدها هنا، وأنت لم تنقل عنهم واحدة غلطوا فيها، وذلك ببركة ما حصلوه ممن أخذ عن شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فكيف حالك لو رأيت من أخذ عنه؟ لكنت في نفسك أحقر; ومن الدليل على ما ذكرته هنا: أنه طلب الإجازة مني على هذا الكلام، فأجزته بمروياتي في الحديث وغيره، ظنا مني أنه على هدى، وأنه بأهل العلم قد اقتدى.
ثم إن شيخنا رحمه الله تعالى، بعد رحلته إلى البصرة، وتحصيل ما حصل بنجد وهناك، رحل إلى الأحساء، وفيها فحول العلماء، منهم عبد الله بن فيروز، أبو محمد الكفيف، ووجد عنده من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم ما سر به، وأثنى على عبد الله هذا بمعرفته بعقيدة الإمام أحمد.
وحضر مشائخ الأحساء، ومن أعظمهم: عبد الله بن عبد اللطيف القاضي، فطلب منه أن يحضر الأول من فتح الباري على البخاري، ويبين له ما غلط فيه الحافظ في مسألة الإيمان، وبين أن الأشاعرة خالفوا ما صدر به البخاري كتابه، من الأحاديث والآثار، وبحث معهم في مسائل وناظر؛ وهذا أمر مشهور يعرفه أهل الأحساء، وغيرهم من أهل نجد، فإذا خفي عليك يا ابن منصور، أو جحدته، فغير مستغرب، والعدو يجحد فضائل عدوه.
كل العداوة قد ترجى مودتها
…
إلا عداوة من عاداك في الدين
ثم إن شيخنا رحمه الله رجع من الأحساء إلى البصرة، وخرج منها إلى نجد قاصدا الحج، فحج رحمه الله تعالى، وقد تبين له بما فتح الله تعالى عليه، ضلال من ضل، باتخاذ الأنداد، وعبادتها من دون الله، في كل قطر وقرية، إلا من شاء الله.
فلما قضى الحج وقف في الملتزم، وسأل الله تعالى أن يظهر هذا الدين بدعوته، وأن يرزقه القبول من الناس، فخرج قاصدا المدينة مع الحاج يريد الشام، فعرض له بعض سراق الحجيج، فضربوه وسلبوه، وأخذوا ما معه وشجوا رأسه، وعاقه ذلك عن مسيره مع الحجاج.
فقدم المدينة بعد أن خرج الحاج منها، فأقام بها، وحضر عند العلماء إذ ذاك، منهم محمد حياة السندي، وأخذ عنه كتب الحديث إجازة في جميعها، وقراءة لبعضها، ووجد فيها بعض
الحنابلة، فكتب كتاب الهدي لابن القيم بيده، وكتب متن البخاري، وحضر في النحو، وحفظ ألفية ابن مالك، حدثني بذلك حماد بن حمد عنه رحمهما الله.
ثم رجع إلى نجد وهم على الحالة التي لا يحبها الله ولا يرضاها، من الشرك بعبادة الأموات، والأشجار، والأحجار، والجن، فقام فيهم يدعوهم إلى التوحيد، وأن يخلصوا العبادة بجميع أنواعها لله، وأن يتركوا ما كانوا يعبدونه من قبر أو طاغوت، أو شجر أو حجر؛ والناس يتبعه منهم الواحد والإثنان.
فصاح به الأكثرون، وحذروا منه الملوك، وأغروهم بعداوته، حتى إن ابن حميد ملك الأحساء والقطيف والبادية، أرسل إلى ابن معمر أمير العيينة أن يقتله، أو ينفيه، فنفاه إلى الدرعية. وتلقاه محمد بن سعود رحمه الله، وأولاده، وإخوته، فصبروا على حرب القريب والبعيد، حتى أظهر الله هذا الدين، فنجا بدعوته من أنجاه الله من الشرك والضلال، وهلك بدعوته من هلك ممن بغى وطغى، واستكبر وحسد؛ وكل من دعا إلى ما دعت إليه الرسل، لا بد أن يقع له من الناس ما وقع لهم.
والمقصود: ذكر نعمة الله تعالى على شيخنا رحمه الله تعالى، وبيان كذب المفتري، وأنه نشأ في طلب العلم، وتخرج على أهله في سن الصبا، ثم رحل لطلب العلم للبصرة مرارا وللأحساء، ثم إلى المدينة؛ والمعول على ما وهبه الله من الفهم والحفظ،
وتمييز الحق من الباطل، ومعرفة حقيقة التوحيد، وما ينافيه من الشرك الأكبر، وسبيل أهل السنة، ومعرفة ما خالف السنة من البدع؛ أعطاه الله في ذلك علما عظيما، فصار بذلك يشبه أكابر علماء السنة، وما كان عليه السلف الصالح، فصار آية في العلوم، ونفع الله بدعوته الخلق الكثير، والجم الغفير، وبقيت علومه في الناس، يعرفها العام والخاص، من أهل نجد وغيره.
وما أنكر هذه الدعوة الإسلامية، بعد ظهورها في نجد وما والاه، إلا جاهل معاند، لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري؛ فدحضت - بحمد الله - حجة كل مجادل ومعاند، ومما حل، فأتم الله نعمته على من قبل هذه الدعوة الإسلامية. وقد قال بعض العلماء، رحمهم الله: الإخلاص سبيل الخلاص، والإسلام مركب السلامة، والإيمان خاتم الأمان; فالحمد لله على تمام هذه النعمة العظيمة، التي لا نعمة أكبر منها، فلا أعظم منها ولا أنفع.
إذا عرف مما تقدم ما افتراه ابن منصور على شيخنا، وأنه صدر عن غير علم ولا معرفة بحاله في نشأته وطلبه، فينبغي أن نزيد ما تقدم من الانتصار لإمام الدعوة الإسلامية النبوية رحمة الله عليه، فنقول: ما أدراه عن حال شيخنا رحمة الله عليه؟ وقد تقدم أنه لا دراية له ولا عناية له بحاله، يعرف ذلك مما قدمناه. ومن المعلوم أنه لا يعتني بمعرفة حال مثله، إلا من أحبه وأحب ما قام به، ودعا إليه، وأما من انحرف عنه، وعن
دعوته في مبدأ نشأته، وتوجه برحلته إلى من اشتدت عداوته له في دينه، كابن سند، وابن جديد، وابن سلوم، فهؤلاء الثلاثة المذكورون قد أشربوا عداوة التوحيد ومن دعا إليه فصار أهل التوحيد هم أعداؤهم، بما أشربوه من كراهته، وكراهة من دان به.
فلعله أخذ عنهم ما وضعه في كتبه من الزور، والكذب والفجور، وانتصر فيها لعباد القبور، وزعم أنهم مسلمون، لأنهم يقولون لا إله إلا الله، ويصلون; والعدو لا يرى محاسن عدوه، خصوصا إذا عاداه في الدين، وصاروا أعداء لكل موحد، ونصرة لكل مشرك ملحد، فأخذ عنهم هذه البضاعة، وشنع على إمام المسلمين بما أودعه كتبه غاية الشناعة؛ ولا ريب أن شره إنما يعود عليه، ويرجع وبال ذلك كله عليه.
والمقصود: أن يعلم أن هؤلاء الثلاثة هم أشياخه، الذين تخرج عليهم بالانحراف عن الدين، وتضليل الموحدين، ولولا أنه شحن كتبه بذلك، لما ذكرناه، وهذا هو المحصول الذي حصله، والأساس الذي أسسه وأصله. فقدم بنجد بعد طول المقام، عند أولئك الملحدين المنحرفين عن الدين، فصار حظه جمع الكتب، من غير رواية لها ولا دراية، ولم ير للعلم عليه أثر. مع أن هؤلاء مع ما فيهم من العداوة، صاروا أعقل منه، فلم يكتبوا شيئا من هذه الأكاذيب، والزندقة، والتخليطات الفاسدة، وهذا لقلة عقله وفساد قصده جرى منه ما جرى.
وبالجملة: فقد قال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى: فالحاسد يحمله بغض المحسود على معاداته، والسعي في أذاه بكل ممكن، مع علمه بفضله وعلمه، وأنه لا شيء فيه يوجب عداوته، إلا محاسنه وفضائله ; ولهذا قيل للحاسد: عدو النعم والمكارم. فالحاسد لم يحمله على معاداة المحسود، جهله بفضله أو كماله; وإنما حمله على ذلك: فساد قصده وإرادته، كما هي حال أعداء الرسل مع الرسل، انتهى.
وقال العماد بن كثير في تفسيره، قال تعالى:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [سورة الأنعام آية: 110] ؛ والآيات في هذا المعنى كثيرة، دلت على أن الله عز وجل يجازي من قصد الخير بالتوفيق، ومن قصد الشر بالخذلان، وكل ذلك بقدر مقدر.
ونسأل الله الكريم رب العرش العظيم بكلماته، وبآياته التي أنزلها على نبيه صلى الله عليه وسلم لهداية عباده أن يجعل ما كتبنا في هذا وغيره نصرة لهذا الدين، الذي أكرم به عباده المؤمنين، وأن لا يجعله انتصارا لأنفسنا، ولا لسلفنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، ونسأله العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ثم قال الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى: وقد أخبر شيخنا، رحمه الله تعالى أنه كان في ابتداء طلبه للعلم، وتحصيله في فن الفقه وغيره، لم يتبين له الضلال،
الذي كان الناس عليه من عبادة غير الله، من جن أو غائب، أو طاغوت أو شجر، أو حجر، أو غير ذلك.
ثم إن الله جعل له نهمة، في مطالعة كتب التفسير والحديث، وتبين له من معاني الآيات المحكمات، والأحاديث الصحيحة أن هذا الذي وقع فيه الناس، من هذا الشرك: أنه الشرك الذي بعث الله رسله، وأنزل كتبه بالنهي عنه، وأنه الشرك الذي لا يغفره الله لمن لم يتب منه.
فبحث في هذا الأمر مع أهله، وغيرهم من طلبة العلم، فاستنار قلبه بتوحيد الله، الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، فأعلن بالدعوة إليه، وبذل نفسه لذلك على كثرة المخالفين، وصبر على ما ناله من الأذى العظيم في ابتداء دعوته. فلما اشتهر أمره أجلبوا عليه بالعداوة، خصوصا العلماء والرؤساء، وحرصوا على قتله؛ فأتاح الله له من ينصره على قلة منهم وحاجة، وتصدى لحربهم القريب والبعيد، واستجلبوا على حربهم الدول.
ونذكر بعض ما جرى عليهم ممن عاداهم، وتأييد الله لهم ونصره على قلة منهم وضعف، وقوة من عدوهم وكثرة، لما فيه من العبرة، والشهادة لهم أنهم على الحق، وعدوهم على الباطل، فأخذت من حفظي بعض الوقائع، التي جرت عليهم من عدوهم في الدين، وفيها شبه بما جرى لنبينا صلى الله عليه وسلم من عدوه، ونصر الله له، فأقول:
المقام الأول: أن شيخنا شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، لما ألهمه الله رشده وفتح بصيرته في تمييز الحق من الضلال، وأنكر ما عليه الناس من الشرك فبادروه بالعداوة والإنكار لمخالفتهم ما قد اعتادوه ونشؤوا عليه هم وأسلافهم من الشرك والبدع; وأعظم من عاداه ونفر الناس من دعوته العلماء والرؤساء، كما قال تعالى:{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [سورة غافر آية: 83] ، وفيه مشابهة لنبينا صلى الله عليه وسلم فيما ناله من الرؤساء، والأحبار في الابتداء; فإن شيخنا رحمه الله تعالى أظهر هذه الدعوة في بلد العيينة - وهي في أعلى وادى حنيفة -، فاستحسن دعوته من استحسنها، وقبلها من قبلها، وأنكرها من أنكرها.
ثم إن أهل الأحساء، لما استصرخوا شيخهم سليمان آل محمد، شيخ بني خالد، وأرسل إلى ابن معمر شيخ العيينة، بأن يقتله، فهاجر إلى الدرعية بلد محمد بن سعود، فتلقاه هو وأولاده بالقبول، وتابعهم على ذلك أكثر أهل بلده وقبيلته، على قلة منهم، وضعف، كما قدمناه.
فصبروا على مخالفة الناس، والملوك ممن حولهم، والبعيد عنهم؛ وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب؛ ولهذا تحمل هذا الرجل وأتباعه، عداوة كل من عادى هذا الدين، قال تعالى:{يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [سورة البقرة آية: 105] . وقد قال هرقل لأبي سفيان: وسألتك هل
يرتد أحد سخطه لدينه، فذكرت أن لا، فكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
فأشبه أمر هذا الشيخ، رحمه الله تعالى ما جرى لخاتم النبيين، حتى في مهاجره، وأنصاره، وكثرة من عاداه وناوأه في الابتداء، كما هو حال الحق في المبادي، يرده الكثير وينكرونه، ويقبله القليل وينصرونه; فأول من عاداهم: أقرب الناس إليهم بلدا، وأقواه كثرة ومالا، بلاد دهام بن داوس.
وهو أول من شن الغارة عليهم على غفلة وغرة، وعدم الاحتساب منهم، فخرجوا إليه على فشل، فقتل منهم رجالا، منهم فيصل بن سعود، وسعود بن محمد بن سعود، فسبحان من قوى جأش هذا الرجل على نصرة هذا الدين، حين قتل ابناه; ثم سطا عليهم مرة ثانية، فقتل كثيرا ممن سطا بهم، فأخذ المسلمون الثأر منهم. ثم بعد ذلك استمر الحرب بينهم وبينه، أكثر من ثلاثين سنة، وفي تلك الثلاثين السنة أو أكثر، أعانه على حربهم أهل نجران، وابن حميد شيخ بني خالد، مرارا، فيأتونهم بأنواع الكيد والكثرة، فينصرهم الله عليهم، وفي ذلك أعظم عبرة.
وبعد هذه المدة وقع بينه وبين المسلمين وقعة بين البلدين، فقتل فيها ابناه "دواس" و "سعدون" فانتهى أمره، فخرج من بلده هاربا في يوم صيف شديد الحر، وتبعه من تبعه؛ فصارت بلده فيئا للمسلمين، ولم يبق لآل دواس بعد ذلك عين تطرف،
فاعتبروا يا أولي الأبصار!
المقام الثاني: ما في دعوة هذا الشيخ رحمه الله ابتداء، من المشابهة لما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم: في أول دعوته قريشا والعرب، إلى التوحيد، والإيمان بالقرآن، وقد قال صلى الله عليه وسلم " بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ"1.
وفي حديث عمرو بن عبسة، الذي رواه مسلم وغيره، "أنه قدم مكة فاجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم في أول بعثته، فأخبره أن الله بعثه بأن يعبد الله وحده، ولا يشرك به شيئا"، وغير ذلك مما هو مذكور في الحديث، من نفي عبادة الأوثان، والأمر بمكارم الأخلاق; فقال له عمرو:" من معك على هذا؟ قال: حر وعبد; ومعه يومئذ أبو بكر وبلال "2. فما زال الحق يزيد بزيادة من قبله، ودخل فيه، حتى أكمل الله لهذه الأمة الدين، وأتم عليهم النعمة.
وقد قال هرقل لأبي سفيان، لما سأله عن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم: أيزيدون أم ينقصون؟ قال: بل يزيدون، قال هرقل: وكذلك أتباع الرسل. وبهذه المشابهة يتحقق المنصف أن هذا الدين الذي دعا إليه هو الحق، وأنه هو الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دلت عليه الآيات المحكمات، التي لا يخفى معناها إلا على من عميت بصيرته، وفسدت سريرته.
فتأمل حماية الله ونصره لمن قبل هذه الدعوة، ونصرها، على ضعف منهم في الحال، وقلة من العدد والرجال، مع كثرة
1 مسلم: الإيمان 145 ، وابن ماجه: الفتن 3986 ، وأحمد 2/389.
2 أحمد 4/114.
من خالفهم من قريب وبعيد، وكثير وقليل مع الكيد الشديد، فأبطل الله كيدهم، وصارت الغلبة للحق وأهله، ومحق الله الباطل وأهله.
المقام الثالث: وفيه حجة أيضا ومعتبر، ودليل على صحة هذا الدين، ومدكر لمن عقل وافتكر، وذلك أن الذين أنكروا هذه الدعوة، من الدول الكبار، والشيوخ وأتباعهم من أهل القرى والأمصار، أجلبوا على عداوة هذا العدد القليل، في حال تخلف الأسباب عنهم وفقرهم، فرموهم عن قوس العداوة.
من أهل نجد: دهام بن داوس المتقدم ذكره، وابن زامل، وآل بجاد أهل الخرج، ومحمد بن راشد صاحب الحوطة، وتركي الهزاني، وزيد، ومن والاهم من الأعراب والبوادي، كذلك العنقري في الوشم ومن تبعه، وشيوخ قرى سدير والقصيم، وبوادي نجد، وابن حميد ملك الأحساء، ومن تبعه من حاضر وباد.
كلهم مجمعون لحرب المسلمين، مرارا عديدة مع عريعر، وأولاده.
منها: نزولهم على الدرعية، وهي شعاب لا يمكن تحصينها بالأبواب والبناء؛ وقد أشار إلى ذلك العلامة: حسين بن غنام رحمه الله، حيث يقول شعرا:
وجاؤوا بأسباب من الكيد مزعج
…
مدافعهم يزجي الوحوش رنينها
فنَزلوا البلاد، واجتمع من أهل نجد حتى من يدعي أنه
من العلماء؛ ولما قيل لرجل منهم، وهو من أمثل علمائهم وعقلائهم: كيف أشكل عليكم عريعر وفساده، وظلمه، وأنتم تعينونه وتقاتلون معه؟ فقال: لو أن الذي حربكم إبليس لكنا معه.
والمقصود: أن الله تعالى ردهم بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال، وحمى الله تلك القرية، فلم يشربوا من آبارها.
وأما وزير العراق، فسار مرارا عديدة بما يقدر عليه من الجنود والكيد الشديد، وأجرى الله عليهم من الذل ما لا يخطر ببال، قبل أن يقع بهم ما وقع.
من ذلك: أن ثويني في مرة من المرار، مشى بجنوده إلى الأحساء بعد ما دخل أهلها في الإسلام، في حال حداثتهم بالشرك والضلال، فلما قرب من تلك البلاد، أتاه رجل مسكين لا يعرف، من غير ممالأة لأحد من المسلمين، فقتله فمات؛ فنصر الله هذا الدين برجل لا يعرف، وذلك مما به يعتبر، فانفلّت تلك الجنود، وتركوا ما معهم من المواشي والأموال، خوفا من المسلمين ورعبا، فغنمها من حضر; وقد قال الشيخ حسين بن غنام في ذلك:
تقاسمتم الأحساء قبل منالها
…
فللروم شطر والبوادي لهم شطر
ثم جددوا أسبابا لحرب المسلمين، وساروا بدول عظيمة يتبع بعضها بعضا، وكيد عظيم، فنَزلوا الأحساء، وقائدهم
"علي كيخيا" فتحصن من ثبت على دينه في "الكوت" و "ثغر صاهود" فنَزل بهم، وصار يضربهم بالمدافع والقنابل، وحفر اللغوب؛ فأعجزه الله، ومن معه ممن ارتد عن الإسلام، فولى مدبرا بجنوده.
فاجتمع بسعود بن عبد العزيز في "تاج" وغزوه الذين معه رحمه الله; والذين معه من المسلمين أقل من "المنتفق" و "آل ظفير" الذين مع الكيخيا، فألقى الله الرعب في قلوبهم على كثرتهم، وقوتهم، فصارت عبرة عظيمة؛ فطلبوا الصلح على أن يدعهم سعود يرجعون إلى بلادهم، فأعطاهم أمانا على الرجوع، فذهبوا في ذل عظيم; فلما قدم كل منهم مكانه، مات سليمان باشا؛ وذلك من نصر الله لهذا الدين، فأهلك الله من أنشأ هذه الدولة.
تم قام علي كيخيا فصار هو الباشا، فأخذ يجدد آلة الحرب، فجمع من الكيد والأسباب، أعظم مما كان معه في تلك الكرة. فلما كملت أسبابه، وجمع الجموع، فلم يبق إلا خروجه لحرب المسلمين، لينتقم من أهل هذا الدين، سلط الله عليه صبيين مملوكين عنده يبيتونه، فقتلوه آخر الليل؛ فخمدت تلك النيران، وتفرقت تلك الأعوان، فما قام لهم قائمة حتى الآن.
فيا لها من عبرة ما أظهرها لمن له أدنى بصيرة! فاعتبروا يا أولي الأبصار! فأين ذهب عقل من أنكر هذا الدين وجادل، وكابر في دفع الأدلة على التوحيد وماحل؟!
المقام الرابع: ما جرى من العبر في حرب أشراف مكة، لهذه الدعوة الإسلامية، والطريقة المحمدية، وذلك أنهم من أول من بدأ المسلمين بالعداوة، فحبسوا حاجهم، فمات في الحبس منهم عدد كثير، ومنعوا المسلمين من الحج أكثر من ستين سنة؛ وفي هذه المدة سار إليهم غالب الشريف، بعسكر كثيف، وكيد عنيف، فقدم أخاه عبد العزيز قبله بالخروج، فنَزل على قصر بسام، فأقام مدة يضرب بالمدافع والقنابل، وجر عليه الزحافات؛ فأبطل الله كيده على هذا القصر، الضعيف بناؤه، القليل رجاله، فرحل منه.
ووافى غالبا ومعه أكثر الجنود، ومعه من الكيد مثل ما كان مع أخيه أو يزيد، فنَزلوا جميعا "بالشعرى"، فأخذ في حربهم بكل كيد، فأعجزه الله، هو ومن معه، عن ذلك البناء الضعيف، الذي لم يتأهب أهله للحرب بالبناء، ولا بالسلاح، فأبطل الله كيده، ورده عنهم بعد الإياس والإفلاس.
فسلط الله المسلمين على من كان معه من الأعراب، خصوصا "مطير" فأوقع الله بهم في العداوة ومعهم مطلق الجربا، فهزمهم الله تعالى، وغنم المسلمون جميع ما كان معهم من الإبل والخيل، وسائر المواشي؛ فصار ما ذكرناه من نصر الله، وتأييده لأهل هذا الدين، عبرة عظيمة، وفي جملة قتلاهم حصان إبليس.
وبعد ما ذكرناه، جد غالب في الحرب، واجتهد، لكن صار حربه للأعراب، ولم يتعد النير، فيعدو على من استضعف
ويغير، فأعطى الله أعراب المسلمين الظفر عليه في عدة وقعات، من أعظمها وقعة الخرمة على يد ربيع، وغزوه من أهل الوادي وقحطان، فهزمه الله تعالى، واشتد القتل في عسكره، فأخذوا جميع ما كان معه من المواشي وغيرها، فصار بعد ذلك في ذل وهوان.
وفتح الله الطائف للمسلمين، وصار أميره عثمان بن عبد الرحمن، فاجتمع فيه دولة للمسلمين، وساروا لحرب الشريف، ومعهم عبد الوهاب أبو نقطة أمير عسير، وسالم بن شكبان أمير أكعل بيشة، فنَزلوا دون الحرم. فخرج إليهم عسكر من مكة فقتلوهم، فطلب الشريف المذكور منهم الأمان، فلم يقبلوا منه إلا الدخول في الإسلام، والبيعة للإمام سعود، فأعطاهم البيعة على يد رجال بعثوهم إليه، هذا بعد وقعات تركنا ذكرها كراهة الإطالة، لأن القصد بهذا الموضع: الاعتبار بما جرى لأهل هذه الدعوة، من النصر والتأييد، والظهور على قلة أسبابهم، وكثرة عدوهم وقوته، وذلك من آيات الله وبيناته على أن ما قام به هذا الشيخ في حال فساد الزمان، أنه الدين الذي بعث الله به رسله؛ وتبين أن هذه الطائفة في هذه الأزمنة، هي الطائفة المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم:"ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى وهم على ذلك ".
وقد كانت هذه الطائفة قبل ظهور الشيخ فيما تقدم، موجودة في الشام، والعراق ومصر وغيرها، بوجود السنة وأهلها، وأهل الحديث في القرون المفضلة وبعدها، فلما اشتدت غربة الإسلام، وقل أهل السنة، واشتد النكير عليهم، وسعى أهل البدع في إيصال المكر إليهم، من الله بهذه الدعوة، فقامت بها الحجة، واستبانت بها المحجة؛ فيا سعادة من قبلها وأحبها ونصرها و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [سورة الجمعة آية: 4] .
وأهل العلم من أتباع السلف، والأئمة، لهم المصنفات المفيدة في بيان التوحيد، توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات، والكثير منها موجود بأيدي علماء المسلمين؛ وما علمنا أحدا بعد القرن الثامن في حال اشتداد غربة الإسلام، يذكر، بمعرفة ما عليه أهل السنة في أنواع التوحيد، أو يلتفت إلى كتبهم، ولا عرفوا الشرك الذي لا يغفره الله.
فلذلك لم ينكر منهم منكر، ولا أخبر بوقوعه من علمائهم مخبر، حتى أظهر الله هذا النور، وشفى الله به الصدور، وظهرت كتب أهل السنة، وعظمت بمعرفتها والدعوة إليها المنة؛ يعرف ذلك من عرفه، وشكره وأحبه وقبله، فلا عبرة بمن أخلد إلى الأرض، والغفلة والإعراض والجهل.
المقام الخامس: أن كل من ذكرنا ممن عاداهم، من أهل نجد والأحساء، وغيرهم من البوادي، أهلكهم الله، ولحقتهم
العقوبة حتى في الذراري، والأموال، فصارت أموالهم فيئا لأهل الإسلام، كما يروى عن زيد بن عمرو بن نفيل، حيث يقول:
عجبت وفي الليالي معجبات
…
وفي الأيام يعرفها البصير
بأن الله قد أفنى رجالا
…
كثيرا كان شأنهم الفجور
وأبقى آخرين ببر قوم
…
فيربو منهم الطفل الصغير
وانتشر ملكهم، وصار كل من بقي في مكانهم سامعا مطيعا لإمام المسلمين، القائم بهذا الدين؛ فانتشر ملك أهل الإسلام، حتى وصل إلى حدود الشام مع الحجاز وتهامة وعمان، وصاروا - بحمد الله - بأمن وأمان، يخافهم كل مبطل وشيطان؛ ففي هذا معتبر لأهل الاعتبار، مع ما وقع بمن حاربهم من الخراب والدمار، واستيلاء المسلمين على ما كان لهم من العقار والديار. فلا يرتاب في هذا الدين بعد هذا البيان، إلا من عميت بصيرته، وفسدت علانيته وسريرته.
المقام السادس: أن كل من أظهر النفاق، وأضمر الشقاق، صار مكروها مبغضا ممقوتا، وكل ما أبداه المشبهون والمموهون، من زخارفهم، وكذبهم وباطلهم وعنادهم، وفسادهم في أقوالهم، وأحوالهم انعكس عليهم المراد، وحرموا التوفيق والسداد، وصاروا مثلة، حتى استوحش منهم أكثر العباد، ومقتهم كل حاضر وباد؛ فما صار لهم باطل يظهر، ولا شبهة تذكر، اللهم إلا ما كانوا يستخفون به عن الناس - حين ظهرت
أنوار التوحيد، واستعلت وزال بها الالتباس - مخافة المقت والشناعة، حين كسدت لهم تلك البضاعة؛ وهذه العبر يعتبر بها الأريب، إذ هو من الحق وقبول العلم قريب.
المقام السابع: أن كثيرا ممن عاداهم ابتداء، تبين له صحة ما دعا إليه هذا الشيخ، وأنه الحق الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وأنه علم من اتبعه ما أوجبه الله عليهم وحرمه، وعلمهم مكارم الأخلاق، ونهاهم عن سفاسفها.
فمن ذلك: ما حدثنا به عثمان بن عبد الرحمن المضايفي - لما أتى راغبا في هذا الدين - أن جاسر الحسيني الذي جلا من حرمه، لعداوة هذا الدين، سكن بغداد، ثم صار في سنين ظهور الإسلام في نجد وما والاه، حضر عند الشريف غالب مجاورا، فسمع الشريف المذكور يسب شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب.
فقال له: يا شريف، لك علي من المعروف، ما يوجب أن أنصح لك. لا تقل هذا في الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فإنه قام بنجد وهم في أسوإ حال من الفساد، والظلم والضلال، فجمعهم الله تعالى به بعد التفرق والاختلاف، وعلمهم مكارم الأخلاق، حتى ما ينبغي أن يقولوه في مخاطباتهم، وما لا ينبغي أن يقولوه من الألفاظ المستكرهة. فاحذر أن تذكره بسوء!
وهذا الذي ذكره جاسر للشريف، اعترف به كثير؛ حتى من أهل مصر والشام، والعراق، اعترفوا بصحة هذه الدعوة
الإسلامية، والسنة المحمدية، وأكثروا الدعاء له؛ وهذا من العبر والدلالة على صحة ما جدده شيخ الإسلام من الدين، بعد ما اشتدت غربته في كل زمان ومكان، وصار من يطلب العلم ويعلمه، لا يعرف حقيقة التوحيد، ولا ما ينافيه من الشرك والتنديد، مع قراءتهم للقرآن، والأحاديث، لكن جهلوا ما هو المراد من الحق، الذي يأمرهم به رب العباد.
فظهر الحق بعد الخفاء، وتبين ما دلت عليه الآيات المحكمات، والبراهن البينات، وتبين الحق بعد أن كان مجهولا، وعرف الباطل، فصار بهذه الدعوة مخذولا. فهذا مقام لا يخفى إلا على من جحد الحق، وكابر وعاند، ممن عميت بصيرته؛ نعوذ بالله من رين الذنوب، وموت القلوب.
المقام الثامن: أن الله سبحانه ألبس هذه الطائفة أفخر لباس، واشتهر في الخاصة والعامة من الناس، فلا يسميهم أحد إلا بالمسلمين، وهو الاسم الذي سمى الله به عباده المؤمنين، من أصحاب سيد المرسلين، فقال جل ذكره:{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [سورة الحج آية: 78] . فهذا الاسم ألحقه الله أصحاب رسوله، وألحقه هذه الطائفة، كما ألحقه إخوانهم من السابقين الأولين. فيا لها من عبرة، ما أقطعها لحجة من شك وارتاب، وما أنفعها في الاعتبار لمن أراد الحق وطلبه، وإليه أناب؛ فهذا إتمام الثمانية فاقرأها، وتدبرها سرا وعلانية.
وقد اقتصرت فيها غاية الاقتصار، وأشرت إلى بعض
الوقائع بإيجاز واختصار. نسأل الله أن يجعلها نافعة، لمن أبداها وكتبها وانتفع بها شافعة، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.
المقام التاسع: وأما الدول التركية المصرية، فابتلى الله بهم المسلمين لما ردوا حاج الشام عن الحج، بسبب أمور كانوا يفعلونها في المشاعر، فطلبوا منهم أن يتركوها، وأن يقيموا الصلاة جماعة، فما حصل منهم ذلك، فردهم سعود رحمه الله تدينا؛ فغضبت تلك الدولة التركية، وجرى عندهم أمور يطول عدها، ولا فائدة في ذكرها.
فأمروا محمد علي، صاحب مصر أن يسير إليهم بعسكره، وبكل ما يقدر عليه من القوة والكيد، فبلغ سعود ذلك، فأمر ابنه عبد الله أن يسير لقتالهم، وأمره أن ينْزل دون المدينة. فاجتمعت عساكر الحجاز، على عثمان بن عبد الرحمن المضايفي، وأهل بيشة وقحطان وجميع العربان، فنَزلوا بالجديدة.
فاختار عبد الله بن سعود القدوم عليهم والاجتماع بهم، وذلك أن العسكر المصري في ينبع، فاجتمع المسلمون في بلد حرب، وحفروا في مضيق الوادي خندقا، وعبؤوا الجميع، فصار في الخندق من المسلمين أهل نجد، وصار عثمان ومن معه من أهل الحجاز في الجبل فوق الخندق.
فحين نزل العسكر أرزت خيولهم، وعلموا أنه لا طريق
لها إلى المسلمين، فأخذوا يضربون بالقبوس، فدفع الله شر تلك القبوس الهائلة عن المسلمين، إن رفعوها مرت ولا ضرت، وإن خفضوها اندفنت في التراب فهذه عبرة، وذلك أن أعظم ما معهم من الكيد أبطله الله في الحال.
ثم ساروا على عثمان ومن معه في الجبل، فتركهم حتى قربوا منه، فرموهم بما احتسبوهم به، وما عدوه لهم حين أقبلوا عليهم، فما أخطأ لهم بندق، فقتلوا العسكر قتلا ذريعا. وهذه أيضا من العبر، لأن العسكر الذي جاءهم أكثر منهم بأضعاف، ومع كل واحد الفرود والمزندات، فما أصابوا رجلا من المسلمين، وصار القتل فيهم؛ وهذه أيضا عبرة عظيمة، هذا كله وأنا أشاهده.
ثم مالوا إلى الجانب الأيمن من الجبال، بجميع عسكرهم من الرجال، وأما الخيل فليس لها فيه مجال، فانهزم كل من كان على الجبل، من أهل بيشة وقحطان، وسائر العربان، إلا ما كان من حرب فلم يحضروا، فاشتد على المسلمين لما صاروا في أعلى الجبل، فصاروا يرمون المسلمين من فوقهم، فحمي الوطيس آخر ذلك اليوم، ثم من الغد. فاستنصر أهل الإسلام ربهم الناصر لمن ينصره.
فلما قرب الزوال من اليوم الثاني، نظرت فإذا برجلين قد أتيا، فصعدا طرف ذلك الجبل، فما سمعنا لهم بندقا ثارت، إلا أن الله كسر ذلك البيرق 1 ونحن ننظر، فتتابعت الهزيمة
1 أي أدبر وتولى.
على جميع العسكر فولوا مدبرين، وجنبوا الخيل والمطرح، وقصدوا طريقهم الذي جاؤوا معه، فتبعهم المسلمون يقتلون ويسلبون؛ هذا ونحن ننظر إلى تلك الخيول قد حارت، وخارت.
وظهر عليهم عسكر من الفرسان من جانب الخندق، ومعهم بعض الرجال، فولت تلك الجنود مدبرة، فتبعتهم خيول المسلمين في أثرهم، وليس معهم زاد ولا مزاد ; فانظر إلى هذا النصر العظيم من الإله الحق رب العباد، لأن الله هزم تلك العساكر العظيمة برجلين; فهذه ثلاث عبر لكن أين من يعتبر؟ فأخذوا بعد ذلك مدة من السنين.
ثم بعد ذلك سار "طوسون" كبير ذلك العسكر الذي هزمه الله، فقصد المدينة فورا، فأمر سعود على عبد الله، ومن معهم من المسلمين أن ينهضوا لقتالهم، فوجدوهم قد هجموا على المدينة ودخلوها، وأخرجوا من كان بها من أهل نجد وعسير، فحج المسلمون تلك السنة.
فأقبل ذلك العسكر ونزل رابغا، ونزل المسلمون وادي فاطمة; فخان لهم شريف مكة وضمهم إليه، وجاؤوا مع "الخبت" على غفلة من المسلمين، فعلم المسلمون أنه لا مقام لهم مع ما جرى من الخيانة; فرجعوا إلى الطائف، وإلى أوطانهم.
فخاف عثمان وهو بالطائف أن يكون الحرب منهم، ومن الشريف عليه، لما يعلم من شدة عداوتهم، فخرج بأهله وترك
لهم الطائف أيضا، مخافة أن يجتمعوا على حربه، وليس معه إلا القليل من عشيرته، ولا يأمن أهل الطائف أيضا.
فنَزل المسلمون بتربة بعد ذلك نحوا من شهر، ثم رجعوا حين نفد ما معهم من الزاد، فجرى بعد ذلك وقعات، بينهم وبين المسلمين، ولا فائدة في الإطالة بذكرها.
والمقصود: أن استيلاءهم على المدينة ومكة والطائف، كان بأسباب قدرها الملك الغلاب.
فيريك عزته ويبدي لطفهو العبد في الغفلات عن ذا الشان
وفيها من العبر: أن الله أبطل كيد العدو، وحمى الحوزة وعافى المسلمين من شرهم، وصار المسلمون يغزونهم فيما قرب من المدينة ومكة، في نحو ثلاث سنين أو أربع؛ فتوفى الله سعود رحمه الله تعالى، وهم غزاة على من كان معينا لهذا العسكر من البوادي، فأخذوا وغنموا؛ فبقي لهم من الولاية ما كانوا عليه أولا، إلا ما كان من مكة والطائف وبعض الحجاز.
وبعد وفاة سعود تجهزوا للجهاد، على اختلاف كان من أولئك الأولاد; فصاروا جانبين، جانبا مع عبد الله، وجانبا مع فيصل أخيه، فنَزل عبد الله الحناكية، ونزل فيصل تربة باختيار وأمر من أخيه له، فوافق أن:"محمد علي" حج تلك السنة، فراسل محمد علي فيصلا هناك، فطلب منه أن يصالحه على الحرمين فأبى فيصل، وأغلظ له الجواب، وفيما قال:
لا أصلح الله منا من يصالحكم
…
حتى يصالح ذئب المعز راعيها
فأخذت "محمد علي" العزة والأنفة، فسار إلى "بسل". الظاهر أنه كان حريصا على الصلح، فاستعجل فيصل بمن معه، فساروا إليه في بسل، وقد استعد لحربهم خوفا مما جرى منهم، فأقبلوا وهم في منازلهم، فسارت عليهم العساكر والخيول فولوا مدبرين؛ لكن الله أعز المسلمين فحبس عنهم تلك الدول، والخيول، حتى وقفوا على التلول، فسلم أكثر المسلمين من شرهم، واستشهد منهم القليل.
[رجوع محمد علي إلى مصر ونزول طوسون الحناكية]
ولا بد في القتال من أن ينال المسلم أو ينال منه; قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [سورة آل عمران آية: 140] الآيات، وقال الله تعالى:{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [سورة آل عمران آية: 146] إلى قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 146] الآيات.
وقد قال هرقل لأبي سفيان: فما الحرب بينكم وبينه؟ قال: سجال، ينال منا وننال منه; فهذه سنة الله في العباد، زيادة للمؤمنين في الثواب، وتغليظا على الكافرين في العقاب.
وأما عبد الله فرجع بمن معه، فلم يلق كيدا دون المدينة، فتفكروا في حماية الله لهذه الطائفة، مع كثرة من عاداهم، وناوأهم، ومع كثرة من أعان عليهم، ممن ارتاب في هذا الدين، وكرهه، وقبل الباطل وأحبه، فما أكثر هؤلاء لا كثرهم الله، لكن الله قهرهم بالإسلام، ففي هذا المقام عبرة، وهو: أن الله أعزهم وحفظهم من شر من عاداهم، فلله الحمد والمنة.
وبعد ذلك رجع محمد علي إلى مصر، وبعث الشريف غالب إلى إصطنبول، وأمر ابنه طوسون أن ينْزل الحناكية دون المدينة، وأمر العطاس أن يسعى بالصلح بينهم، وبين عبد الله بن سعود، ويسير له من مكة. وأراد الله أن أهل الرس يخافون، لأنهم صاروا في طرف العسكر، واستلحقوا لهم طائفة من المغاربة، وطوسون على الحناكية.
وصار في أولاد سعود نوع من العجلة في الأمور، فأمروا على الرعايا بالمسير إلى الرس، فنَزلوا الرويضة، فتحصن أهل الرس بمن عندهم; فأوجبت تلك العجلة أن استفزع أهل الرس أهل الحناكية، فلما جاء الخبر بإقبالهم نصرة لأهل الرس، وارتحل المسلمون يلتمسون من أعانهم من حرب ما بينهم وبين المدينة، فصادفوا خزنة العسكر، فقتلوهم وأخذوا ما معهم.
فهذا مما يسره الله من النصر من غير قصد، ولا دراية، فرجع المسلمون إلى عنيزة، والعسكر نزلوا الشبيبية قريبا منهم، ويسر الله للمسلمين أسبابا أخر، وذلك من توفيق الله ونصره، جهزوا جيشا وخيلا، فأغاروا على جانب العسكر، فخرجوا عليهم فهزمهم الله، وقتل المسلمون فيهم قتلا كثيرا، فألقى الله الرعب في قلوبهم على كثرة من أعانهم، وقوة أسبابهم، وذلك من نصر الله لهذا الدين.
فرجعوا إلى الرس خوفا من هجوم المسلمين عليهم،
فتبعهم المسلمون، ونزلوا الحجناوي فقدم العطاس على الأمر الذي عمد عليه محمد علي فوجد الحال قد تغيرت، فصدهم ابتداء، فامتنعوا مما جاء له؛ ثم إنهم سعوا في الصلح، والمسلمون على الحجناوي وكل يوم يجرى بين الخيل طراد، فمل أكثر المسلمين من الإقامة، فلم يبق منهم إلا شرذمة قليلة.
فجاء منهم أناس يطلبون الصلح، فأصلحهم عبد الله رحمه الله، وطلبوا منه أن يبعث معهم رجلا من أهل بيته، خوفا أن يعرض لهم أحد من المسلمين في طريقهم، فسار معهم محمد بن حسن بن مشاري إلى المدينة.
والمقصود: أن الله سبحانه أذلهم، وألقى الرعب في قلوبهم، وحفظ المسلمين من شرهم؛ بل غنمهم مما بأيديهم، من حيث بذلهم المال في شراء الهجن فاشتروا من المسلمين الذلول بضعفي ثمنها، وهذا مما يفيد صحة هذا الدين، وأنه الذي يحبه الله ويرضاه، وهو الذي يسر أسباب نصر من تمسك به، وخذلان من ناواهم وعاداهم في هذا الدين.
فتفكر يا من له قلب، ولولا ما صار في أهل هذا الدين، من مخالفة المشروع في بعض الأحوال، لصار النصر أعظم مما جرى، لكن الله سبحانه عفا عن الكثير، وحمى دينه عمن أراد إطفاءه؛ فلله الحمد والمنة لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه خلقه.
فتدبر هذه الوقائع وما فيها من الألطاف العجيبة، والدلالات
الظاهرة، على صدق هذه الدعوة إلى التوحيد والإخلاص في العبادة لله والتجريد، وإنكار الشرك والتنديد، والاهتمام بإقامة حقوق الإسلام، على ما شرعه الله ورسوله، والنهي عما حرمه الله ورسوله، من الشرك والبدع، والفساد الذي وقع في آخر هذه الأمة، لكن خفي على أهل الشقاق والعناد.
فلو ساعد القدر وتم هذا الصلح، لكان الحال غير الحال، ولكن ما أراد الله تعالى واقع على كل حال; لكن جرى من عبد الله بن سعود رحمه الله تعالى، ما أوجب نقض ذلك الصلح; وهو أنه بعث عبد الله بن كثير لغامد وزهران، بخطوط مضمونها: أن يكونوا في طرفه وأمره. فبعثوا بها إلى محمد علي، فلم يرض بذلك، وقال: إنهم من جملة من وقع عليهم الصلح، فهذا سبب النقض.
فأنشا عسكرا مع إبراهيم باشا، ونزلوا الحناكية، ودار الرأي عند عبد الله بن سعود، وأهل الرأي; يقولون: اضبط ديرتك، واحتسب بالزهبة، كذلك أهل البلدان، واتركوه على هيئته، فإن سار تبين لكم الرأي، وربما أن الله يوفقكم لرأي يصير سبب كسره. وجاء حباب وغصاب، يريدان أن يخلوا بعبد الله في السفر، وملازمته في مجلسه ومأكله ومشربه، ونومه وتغطيته، فأدركاه على الخروج بالمسلمين والعربان، فوصلوا الماوية، وفيها عسكر، فضربوهم بالمدفع، ووقع هزيمة وقى الله شرها، واستشهد فيها قليل من المسلمين.
وبعدها، جسر إبراهيم باشا على القدوم، فنَزل القصيم وحربهم قدر شهرين، وأيدهم الله بالنصر لما كانوا مستقيمين صابرين، وعزم على الرجوع عنهم؛ لكن قوى عزمه فيصل الدويش قاتله الله، وطمعه وخوفه، وبعد هذا صالح أهل الرس وعبد الله بمن معه على عنيزة، ورجع إلى بلده; وأشار عليه مبارك الظاهري أنه يجيء بثلاثة آلاف من الإبل عند ابن جلهم، ويجعل عليها الأشدة، ويحمل عليها كل ما كان له، ولا يدع في الدرعية له طارفة.
ويصد مع عربان قحطان ونحوهم، وكل من كان له مروءة من بدوي أو حضري راح معه، كذلك الذي يخاف، فلو ساعد القدر لم يظفر به عدوه، وتبرأ منهم من أعانهم بالرحيل، من مطير وغيرهم؛ ولله فيما جرى حكم قد ظهر بعضها لمن تدبر وتفكر، وهذا الرأي أسلم له، والذي يريد القعود يقعد، ويكون ظهره على السعة ; ويذكر له: أنك يا عبد الله إذا صرت كذلك، صار لك في العسكر مكائد، منها قطع سابلة ما بينه وبين المدينة، وهذا الرأي سديد، ولكن لم يرد الله قبوله، لأن الأقدار غالبة، ولو قدر ذلك لكان.
فنَزل الدرعية، وأخذوا قدر ثمانية أشهر متحصنين عنه، وهو يضربهم بالقنابل والقبوس، فوقى الله شره. وأراد الله بعد ذلك أنه يزحمهم مع أماكن خالية ما فيها أحد، لأن البلاد متطاولة، وليس فيها سور ينفع والمقاتل قليل، وانتهى الأمر
إلى الصلح، فأعطاهم العهد والميثاق على ما في البلد، من رجل أو مال، حتى الثمرة التي على النخل.
لكن لم يف لهم بما صالحهم عليه؛ لكن الله تعالى وقي شره عن أناس معه عليهم حنانة، بسبب أناس من أهل نجد يكثرون فيهم عنده، فكف الله يده ويد العسكر، وغدروا بسليمان بن عبد الله، وآل سويلم، وابن كثير عبد الله بسبب البغدادي الخبيث، حداه عليهم، فاختار الله لهم؛ وبعد هذا شتت أهل البلد عنها، وقطع النخل، وهدم المساكن إلا القليل.
وانتقل للحور 1 بعسكره، وأرسل من أرسل لمصر، بعد إرسال عبد الله بن سعود رحمه الله، وتبعه عياله وإخوانه، وكبار آل الشيخ; وبعد ذلك حج، فسلط الله على عسكره الفناء، ولا وصل مصر إلا القليل. فلما وصل مصر حل بهم عقوبات أهل الإسلام، فسار على السودان ولا ظفره الله، فرجع مريضا.
ثم إن محمد علي بعث ابنه إسماعيل، وتمكن منهم بصلح؛ فلما رأوا منه الخيانة بأخذ عبيد وجوار، أحرقوه بالنار ومن معه في بيته، ومن كان معه من العسكر، ثم بعده أرسل لهم دفتر دار، ولا ذبل منهم شيئا.
فأما عسكر الحجاز التي وصلت إلى مصر، قبل إبراهيم باشا حسين بيه الذي صار في مكة، وعابدين بيه الذي
1 بفتحتين، ماء قريب من البرة غربي الدرعية نحو مرحلتين.
صار في اليمن، فسيرهم محمد علي قبل هذا الحرب، إلى موره، وجريده، لما خرجوا على السلطان، فاستمده السلطان على حربهم، فأمده بهذين العسكرين، فهلكوا عن آخرهم، ولم يفلت منهم عين تطرف.
وذلك أن موره وجريده، في أصل ولاية السلطان، فخرجوا عليه، فهلك من عسكر السلطان، والعساكر المصرية في حربهم ما لا يحصى. وهذه عقوبة أجراها الله عليهم، بسبب ما جرى منهم على أهل الإسلام، حتى العرناووط في جبلهم، عصوا على السلطان قبل حادثة موره وجريده. وبعد هذا اشتد الأمر على السلطان، وبعث يستنصر محمد علي، فبعث لهم عسكرا كبير هم قار علي فهلكوا في البحر قبل أن يصلوا.
ثم إن السلطان بعث نجيب أفندي لمحمد علي يطلب منه أن يسير بنفسه، فبعث إليه يعتذر بالمرض، وأن إبراهيم باشا يقوم مقامه، وقبل ذلك بعث ابنه حسين بيه، الذي سبا أهل نجد، وقتل منهم البعض في ثرمداء، قاتله الله؛ أرسل للسلطان نجيب، قبل إرسال إبراهيم باشا بعسكره الذي كان معه بنجد، وتبعه إبراهيم باشا يمده، ونزلوا موره لحرب أهلها، فأذلهم الله لهم، فقتلوا فيهم قتلا عظيما. فأما عسكر حسين بيه فما قدم مصر منهم إلا صبي.
وأما إبراهيم باشا، فاشترى نفسه منهم بالأموال ; فانظر إلى هذه العقوبات العاجلة، التي أوقعها الله سبحانه وتعالى على
الآمر والمأمور، وأكثر الناس لا يدري بهذه الأمور. وهذا الذي ذكرناه فيه عبرة عظيمة، وشاهد لأهل هذا الدين: أن الله لما سلط عليهم عدوهم، ونال منهم ما نال، صار العاقبة والسلامة لمن ثبت على دينه، واستقام على دين الإسلام.
ثم إن الله تعالى أوقع بعدوهم ما ذكرنا وأعظم; لكن ذكرنا الواقع على سبيل الاختصار لقصد الاعتبار، {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [سورة الحشر آية: 2] . ثم إن الله أجرى على من أعانهم من أهل نجد، ممن شك منهم في هذا الدين، وأكتر الطعن على المسلمين، أن الله سبحانه وتعالى أفناهم؛ وهذه أيضا من العبر، لم يبق أحد ممن أظهر شره، وإنكاره وعداوته للمسلمين، إلا وعوجل بالهلاك والذهاب، ولا فائدة بالإطالة بعدهم، ومن سألنا أخبرناه عنهم بأعيانهم.
وأما ظهور خالد وإسماعيل، فإنهم لما جاء الخبر بأنهم وصلوا المدينة، وخرجوا منها، استشارنا فيصل رحمه الله في الغزو والإقامة.
فأشرت أن اخرج بالمسلمين، ويكونوا في البطينيات، من الدجاني إلى ما دونه، وينْزل قريبا من العربان، لأن أكثر رعيهم من الدهناء، ويؤلف كبارهم بالزاد، وينقل البر من سدير والوشم، وزاد الأحساء والقطيف من تمر وعيش، ويقرب منه كبار العربان بالزاد; وكذلك من معه من المسلمين، ويصير له رجال في القصيم عند من ثبت وينتظر.
فلو ساعد القدر وتم هذا الرأي، لم يقدر العسكر أن يتعدى القصيم للوشم والعارض، وخافوا من قطع سابلتهم، ولا لهم قدرة على حرب فيصل، وهو في ذلك المكان. فلو قدرنا أن بعض عسكرهم يريد أن يقصده، هلكوا في الدهناء والصمان، إذا ماج عن وجوههم يوما أو يومين; فلو قدر أن يفعل هذا الرأي لما ظفروا به، ولا وصلوا إلى بلده، لأسباب معروفة.
لكن لما أراد الله سبحانه خيانة أهل الرياض في الإمام فيصل، وهم معه في الصريف قدم الرياض وتركها لهم خوفا منهم، فساروا على الفرع 1 هم والذين معه، من البادية والحاضرة، وصار هلاكهم أن هجموا على الحلوة على غفلة، وأخلى أهل الحلوة البلد لهم.
وأراد الله أن تركي الهزاني، وبعض أهل الحوطة يغيرون عليهم، وكسر الله تلك العساكر العظيمة، فيما بين قتل وهلاك، وصاروا يتتبعونهم موتى تحت الشجر، يأخذون السلاح والمال؛ والذي أغار عليهم ما يجيء عشير معشارهم، فصارت آية عظيمة.
ورجع أقلهم إلى الرياض، وساعدهم من ساعدهم - والله حسيبهم -، وتصلبوا إلى أن جاءهم خرشد مددا. ونزل فيصل الدلم، وأشير عليه أنه ما يقعد به، ويتحصن بمن معه مر المسلمين في بعض الشعاب، التي بين الحوطة ونعام، ويجعل
1 مجموعة من البلدان في وادي نعام، ووادي بريك.
ثقله وراءه، فإن حصل منهم مسير، جاهدهم بأهل تلك القرى، ولا أراد الله أن يفعل ذلك.
فلما تمكنوا من فيصل وأخذوه، وأرسلوه إلى مصر، صار عسكرهم في ذهاب، وعذاب وفساد؛ فأوقع الله الحرب بين السلطان، ومحمد علي، ورد الله الكرة لأهل نجد، فرجعوا كما كانوا أولا، على ما كانوا عليه قبل حرب هذه الدولة، كما قال تعالى في بني إسرائيل:{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [سورة الإسراء آية: 6-7] .
فنسأل الله أن يمن علينا بالإحسان، وينفي عنا أسباب التغييرات، إنه ولينا، وهو على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
والمقصود بما ذكرنا هو الاعتبار، بأن الله حفظ هذا الدين ومن تمسك به، وأيدهم بالنصر على ضعفهم وقلتهم، وأوقع بأسه بهذه الدول على قوتهم وكثرتهم، وأسباب كيدهم.
ثم إن الله تعالى أهلك تلك الدول، بما جرى عليهم من حرب النصارى؛ في بلد الروم، فكل دولة سارت إلى نجد والحجاز، لم يبق منهم اليوم عين تطرف، وكان عددهم لا يحصيه إلا الله تعالى، فهلكوا في حرب النصارى، فصارت العاقبة والظهور، لمن جاهدهم في الله من الموحدين، فجمع الله لهم بعد تلك الحوادث العظيمة من النعم، والعز والنصر، ما لا يخطر بالبال،
ولا يدور في الخيال.
فلا يشك في هذا الدين بعد ما جرى ممن ذكرناه، إلا من أعمى الله بصيرته، وجعل على قلوبهم أكنة عن فهم أدلة الكتاب والسنة، ويعتبروا بما جرى لهذا الدين، من ابتدائه إلى يومنا هذا، وكل ما ذكرناه من الدول، والبادي والحاضر، رام إطفاءه; وكلما أرادوا إطفاءه استضاءت أنواره، وعز أنصاره.
فهذا ما جرى على الدول التي زعم ابن منصور أن شيخنا جرها على أهل نجد، وما جرى بسبب تلك الدول، من ظهور هذا الدين، والعز والتمكين، وذهاب من ناوأهم، من هذه الدول وغيرها. فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه، وهو المرجو أن يوزعنا شكر ما أنعم به علينا، من هذا الدين الذي رضيه لعباده، وخص به المؤمنين.
ومن عجيب ما اتفق لأهل هذه الدعوة أن محمد بن سعود - عفا الله عنه - لما وفقه الله لقبول هذا الدين ابتداء، مع تخلف الأسباب، وعدم الناصر، شمر في نصرته، ولم يبال بمن خالفه من قريب أو بعيد، حتى إن بعض الناس ممن له قرابة به، عذله عن هذا المقام الذي شمر إليه، فلم يلتفت إلى عذل عاذل، ولا لوم لائم، ولا رأي مرتاب، بل جد في نصرة هذا الدين، فملكه الله تعالى كل من استولى عليه في حياته من أهل القرى.
ثم بعد وفاته صار الأمر في ذريته، يسوسون الناس بهذا
الدين، ويجاهدون فيه كما جاهدوا في الابتداء، فزادت دولتهم، وعظمت صولتهم على الناس بهذا الدين، الذي لا إشكال فيه، ولا التباس، فصار الأمر في ذريته لا ينازعهم فيه منازع، ولا يدافعهم عنه مدافع؛ فأعطاهم الله القبول والمهابة، وجمع الله عليهم من أهل نجد وغيرهم، ممن لا يمكن اجتماعهم على إمام واحد، إلا بهذا الدين.
وظهرت آثار الإسلام في كثير من الأقاليم النجدية وغيرها، مما تقدم ذكره، وأصلح الله بهم ما أفسدت تلك الدول، التي حاربتهم، ودافعتهم عن هذا الدين، ليطفئوه، فأبى الله ذلك، وجعل لهم العز والظهور، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.
فنسأل الله أن يديم ذلك، وأن يجعلهم أئمة هدى، وأن يوفقهم لما وفق له الخلفاء الراشدين، الذين لهم التقدم في نصرة هذا الدين؛ وعلينا وعلى المسلمين أن ندعو لمن ولاه الله أمرنا من هذه الذرية، أن يصرف عنا وعنهم كل محنة وبلية، ويحيي الله بهم ما درس من الشريعة المحمدية، ويصلح الله لنا ولهم القلوب، ويغفر لنا ولهم الذنوب، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
فإن قيل: ما ذكرتموه حق، لكن الله تعالى سلط الدولة المصرية على بلدتهم، وقتلوا من قتلوا، وقطعوا النخيل، وهدموا المساكن، وأخذوا ما بأيديهم من الأموال، وعم فسادهم بنجد.
قلنا: نعم، هذه آثار الذنوب التي حدثت، لما عمت
البلوى فيهم بفتنة الشهوات، وذلك بأسباب; منها: توفر الدنيا عليهم، وإقبالهم على طلبها، والإسراف فيها، وتمكن بطانة السوء وكثرتهم، وقربهم من الإمام، وقبول ما زينوه وزخرفوه.
فضعف الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وقل جدا، وكثر عليه الأذى، فوقع إهمال، وإعراض، فوقعت العقوبة بسبب ما وقع من التفريط، والغفلة، وتمكن أهل الأهواء {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 49] .
لكن الله سبحانه منّ على كثير من أهل نجد، بحفظ دينهم، وهجرتهم إلى ما يمنعهم من هذا العدو، من أرض الله، فاعتصموا بحبل الله، وصارت لهم العاقبة على هذا العدو، الذي سلط بسبب ذنوب من أذنب، وتفريط من فرط، وغفلة من غفل، ورد لهم الكرة المرة بعد المرة، فالحمد لله على فضله وعدله؛ ففي هذا أيضا عبرة عظيمة، ونعمة جسيمة، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
[رسالة من عبد الرحمن بن حسن إلى عثمان بن منصور]
وله أيضا رحمة الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى عثمان بن منصور، وبعد: أشرفت على خطك، وهو كلام من لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري؛ ولكن نبين لك عسى فتح من الله; جئت من الزبير والبصرة تلك المجيء، وجرى عليك من آل فائز لأجل طول إقامتك، في أماكن يعبد فيها غير الله.
وأراد الله سبحانه وتعالى أن كبارنا يقدمونك في سدير; لأجل اسم العلم الذي لمح لهم: أنك عرفت صحة الدعوة، دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إلى توحيد الإلهية، وإنكار الشرك والبراءة منه، الذي لا يصير الإنسان مسلما إلا به؛ والذي يدخل هذا قلبه، ويتقدم بالناس، ويصير له مشاركة في العلوم، يدعو الناس إليه ويحثهم عليه، ويبين لهم معنى لا إله إلا الله، وما دلت عليه من إخلاص العبادة لله، ونفي الشرك، وما تقتضيه من المعاداة والموالاة، والحب والبغض، كذلك حقوق لا إله إلا الله.
ولا حصل منك إلا ضد هذا، إذا جاء عندك إما مشرك، أو إنسان ما ينكر الشرك، من أهل تلك المكانات، استأنست معه، وقدرته وأكرمته، فإذا أراد أن يتزوج زوجتموه، ولا حصل منك إلا إذا جاء أهل سدير، يتنازعون في أموالهم، ويستفتونك في مسألة فرعية.
والذي هذا حاله، ما يجوز يلين معه الجانب، أو يرد له رأس؛ فلو أن لك معرفة في التوحيد، أو قبوله، لكنت تكثر من ذكره، كما قيل من أحب شيئا أكثر من ذكره.
بل الذي يذاكر في التوحيد عند ربعك ويلهج به، وينكر الشرك ويبغض أهله ويعاديهم، ما يجوز عندكم إلا كما يجوز رأس الحمار; ولولا هذا، كان ما يجهلك: أن طلبة العلم هم ربعي، وهم إخواني، وهم خاصتي، ولكن أنت ما لقيت فيك حيلة، إذا فتشنا عن كلامك في شرحك وغيره، وجدنا معتقدك في توحيد الإلهية، معتقد عبد الله المويس، حظه منها اللفظ مع إنكار المعنى، وتضليل من عمل بمعناها وقام بمقتضاها، والجهال ما يدرون عن الحقيقة.
والذي هذه حالته يجب التحذير عنه، نصحا لله ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم; ويا ليتك، ثم يا ليتك قمت بهذا الدين، وأحببت أهله، ودعوت إليه، وأنكرت ضده; لكن القلوب بيد البارئ يقلبها كيف شاء; وأسأل الله أن يقلب قلبك إلى الإسلام، ويدخل فيه الإيمان؛ فإن وفقك الله للتوبة، فلا علينا منك، ولا عليك منا، ولو ما صادقناك ورافقناك ما يضر.
ومن الأمور الظاهرة البينة أنك تكتب في الخوارج، وتذكر كلام شيخ الإسلام فيهم، والواقع في كثير من الأمة أعظم من مقاتلة الخوارج: عبادة الأوثان، وتزيين عبادتها،
وإنكار التوحيد; ولو أن في قلبك من التوحيد شيئا، فعلت فعل الشيخ عبد الله أبا بطين، ما صبر لما أن داود وأمثاله شبهوا على الناس، رد عليهم من كتاب الله وسنة رسوله، وأقوال الصحابة، وأقوال العلماء والأئمة، وأدحض حججهم بالوحي.
والخوارج ما عندنا أحد منهم، حتى في الأمصار، ما فيها طائفة تقول بقول الخوارج، إلا الإباضية في أقصى عمان، ووقعوا فيما هو أكبر من رأي الخوارج، وهي عبادة الأوثان، ولا وجدنا لخطك، وتسميه بالخوارج، وتسميه بالمعارج، إلا أن هذه الدعوة الإسلامية، التي هي دعوة الرسل، إذا كفروا من أنكرها، قلت: يكفرون المسلمين، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله; والله أعلم.
[رسالة من عبد الرحمن بن حسن إلى محمد بن عمر]
وله أيضا:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ محمد بن عمر، عمر الله دارهم بالإيمان والقرآن، ووفقهم لاتباع داعي الإسلام والإيمان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: وصل الخط، وصلك الله ما يرضيه، وسرنا طيبك وعافيتك، جعلنا الله وإياكم من الطيبين المهتدين.
ومن جهة تصانيف ابن منصور، فلا يستنكر، كما قيل: ليس العجب ممن هلك كيف هلك؟ إنما العجب ممن نجا كيف
نجا؟ ولا ضر إلا نفسه، رد على الشيخ رحمه الله تعالى في دعوته، أناس متشبهين بالعلم، فأبطل الله كيدهم، وصار وبالا عليهم.
ولكن هذا الرجل فعل فعلا ما فعله أحد قبله، ممن كره هذا الدين، والله أعلم بما وافى به الله من إصرار أو توبة; نسأل الله تعالى: أن يجعلنا وإياكم ممن عرف لله حقه، وجرد إخلاصه وصدقه، وذلك فضله سبحانه ورحمته، فلو أنت أرسلت الكتاب، ما كرهنا الإشراف عليه.
وله أيضا:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ محمد بن عمر بن سليم، سلمه الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، ونحمد إليكم الله تعالى، على ما أولاه من النعم، وما صرف من النقم؛ نسأل الله لنا ولكم معرفة الحق والعمل به، والصبر والاستقامة، والثبات على الإسلام.
وما ذكرت من الورقة التي رميت، يقول صاحبها: إنكم جعلتم الناس بين مشرك ومبتدع، وفاسق وجاهل ظالم، ولا سبقكم أحد بهذا الاعتقاد، فهذا ما ضر إلا نفسه؛ وهذه الشبهة قد تلقاها الجهال، في وقت ظهور شيخنا رحمه الله، وهذه من أفسد شبههم. لأن الذي تدخل معه يدل على جهله، وانحرافه عن دينه،
ومخالفته للكتاب والسنة، لأن الله تعالى ذكر الكفار والمشركين من هذه الأمة، وأمر بقتالهم، وأباح دماءهم وأموالهم، وكذلك أهل البدع هم الكثير، وهم دول، وأهل الفسوق كذلك، وهذا الأمر ما يخفى على أبلد الناس، ولكن ما حصل إلا المسبة.
مثل من أغار على فريق، وأخذوه ولا أبقوا له شيئا، وصار هذا باعثا على رد هذه الشبهة؛ وإن كان شيخنا قد ردها في كشف الشبهات، لكن كتبنا الرد عليها على سبيل الاختصار، وإلا فردها يحتمل مجلدا، وصار جوابا نافعا لكل موحد.
وأرسله الإمام للأحساء، يقرأ في المدارس والمساجد والمجالس، لأنه ربما دخل على بعض من ينتسب إلى العلم، وهم جهال; وما جرى منهم فهو خير بلا شر; وهو في الحقيقة نعمة، ووباله على من أبداه; وليس هذا بأول، قد حزمها علينا ناس من الأشرار، ولا ندري عنهم، ويكفينا هم الله، ولله الحمد، وصلى الله على محمد.
[جواب الشيخ سليمان في التوسل المشروع
قال الشيخ: سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إلى الأخ عبد الله بن أحمد، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: وصل الخط، وصلك الله إلى رضوانه، وما سألت عنه: هل يجوز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، أو غيره من الأنبياء والمرسلين، والصالحين في الدعاء؟
فالجواب: أن التوسل المشروع الذي جاء به الكتاب والسنة هو التوسل إلى الله سبحانه وتعالى، بالأعمال الصالحات، والأسماء والصفات، اللائقة بجلال رب البريات، كقوله تعالى حاكيا عن عباده المؤمنين، أنهم توسلوا إليه بصالح أعمالهم:{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [سورة آل عمران آية: 193] الآيات.
وكما ثبت في الصحيحين، من قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار، فانطبقت عليهم الصخرة، فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، الحديث; وكقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد، وابن أبي شيبة، وابن حبان في صحيحه وغيره:" أسالك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك " الحديث.
والذي رواه الترمذي وغيره: "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم " 1، وفي الحديث الذي رواه الترمذي أيضا وحسنه:"أسألك يا الله، يا رحمان بجلالك ونور وجهك " 2 الحديث، وأمثال ذلك، فهذا كله أمر مشروع لا نزاع فيه.
وهو من الوسيلة التي أمر الله بها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [سورة المائدة آية: 35] ، وكذلك التوسل إلى الله بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، وبدعاء غيره من الأنبياء والصالحين في حياتهم، فهذا كله مستحب، كما توسل الصحابة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، وتوسلوا بدعاء العباس بن عبد المطلب، عم النبي صلى الله عليه وسلم وبدعاء يزيد بن الأسود الجرشي.
وأما التوسل بجاه المخلوقين كمن يقول: اللهم إني أسألك بنبيك محمد، أو أسألك بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك بعد موتهم، فهذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأكثر العلماء على النهي عنه.
وحكى ابن القيم رحمه الله تعالى: أنه بدعة إجماعا; ولو كان الأنبياء والصالحون لهم جاه عند الله سبحانه وتعالى، فلا يقتضي ذلك جواز التوسل بذواتهم وجاههم، لأن الذي لهم من الجاه والدرجات، أمر يعود نفعه إليهم، ولا ننتفع من ذلك بشيء، إلا باتباعنا لهم ومحبتنا لهم.
1 النسائي: السهو 1300 ، وأبو داود: الصلاة 1495.
2 الترمذي: الدعوات 3570.
وأما التوسل بذواتهم مع عدم التوسل بالإيمان، والطاعة، فلا يكون وسيلة; ولأن المتوسل بالمخلوق، إن لم يتوسل بما يحصل من المتوسل به من الدعاء للمتوسل، أو بمحبته واتباعه، فبأي شيء يتوسل؟!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى، في كتاب "الاستغاثة": وما زلت أبحث، وأكشف ما أمكنني من كلام السلف، والأئمة والعلماء، هل جوز أحد منهم التوسل بالصالحين في الدعاء؟ أو فعل ذلك أحد منهم؟ فما وجدته. ثم وقفت على فتيا للفقيه أبي محمد بن عبد السلام، أفتى بأنه لا يجوز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بالنبي صلى الله عليه وسلم فجوز التوسل به إن صح الحديث في ذلك.
وذكر القدوري في "شرح الكرخي" عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يجوز أن يسأل الله بالأنبياء; انتهى كلام الشيخ رحمه الله تعالى; قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، فلا تجوز وفاقا; انتهى.
وقد احتج من أجاز السؤال بالمخلوقين، بأمور:
الأول: ما رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، " من خرج من بيته إلى الصلاة، فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا.." 1 الحديث.
1 ابن ماجه: المساجد والجماعات 778 ، وأحمد 3/21.
فالجواب: أن الحديث في إسناده عطية العوفي، وفيه كلام، ضعفه الإمام أحمد والثوري، وهشيم وأبو زرعة، وأبو حاتم، والجوزجاني، والنسائي; وابن حبان، وقال: لا يحل كتب حديثه إلا على التعجب، وقال ابن معين: صالح; وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله تعالى. وبتقدير ثبوته، هو من التوسل المستحب; فإن حق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق المطيعين له أن يثيبهم، فالسؤال له، والطاعة سبب لحصول الإجابة والإثابة.
والثاني: ما رواه الحاكم في المستدرك وصححه، من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه عن جده، عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما اقترف آدم الخطيئة، قال: رب أسألك بحق محمد، لما غفرت لي
…
" الحديث.
فالجواب: أن هذا الحديث ساقط، لأن عبد الرحمن بن زيد ضعيف بالاتفاق، ضعفه مالك وأحمد وابن معين، وابن المديني وأبو زرعة، وأبو داود وابن سعد، وأبو حاتم، وابن خزيمة وابن حبان، قال ابن الجوزي: أجمعوا على ضعفه; فهذا كما ترى، تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو هو.
وقال الحافظ الذهبي في تلخيص المستدرك، لما ذكر الحاكم هذا الحديث، فقال: هذا صحيح، قال الذهبي: أظنه موضوعا، ثم هو مخالف للقرآن، لأن الله عز وجل ذكر قصة آدم عليه السلام، وتوبته وتوسله، ولم يذكر الله أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم.
الثالث: ما رواه الترمذي، والنسائي في اليوم والليلة، وابن شاهين، والبيهقي، وصححه الترمذي، عن عثمان بن حنيف: " أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني; فقال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك قال: فادعه.
فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إنى توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه في " هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث أبي جعفر، وهو غير الخطمي، هذا لفظ الترمذي; وقال بعضهم: هذا يدل على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته، فجعله مخصوصا بالنبي صلى الله عليه وسلم لا غير.
والجواب: أن هذا التوسل هو الذي ذكره عمر رضي الله عنه لما استسقى بالعباس رضي الله عنه، فذكر أنهم يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم به، هو: دعاؤه ودعاؤهم معه، فيكون وسيلتهم إلى الله تعالى؛ وهذا لم يفعله الصحابة في حق النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا في مغيبه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مثل هذا، شافعا لهم داعيا لهم.
ولهذا قال في حديث الأعمى: " اللهم فشفّعه في "، فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له، فسأل الله أن يشفعه فيه; قلت: ومن تأمل الحديث، علم صحة هذا، فإنه صريح في أن الأعمى
أتاه، فقال: ادع الله أن يعافيني، فقال:"إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك. قال: فادعه". فهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له، وأن الأعمى سأل ربه أن يشفعه فيه، بأن يستجيب دعاءه؛ وهذا كاف في معرفة حكم هذه المسألة.
واعلم: أن التوسل بذات المخلوق، أو بجاهه غير سؤاله ودعائه; فالتوسل بذاته أو بجاهه، أن يقول: اللهم اغفر لي وارحمني، وأدخلني الجنة بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم أو بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك، فهذا بدعة ليس بشرك.
وسؤاله ودعاؤه، هو أن يقول: يا رسول الله أسألك الشفاعة، وأنا في كرب شديد فرج عني، واستجرت بك من فلان فأجرنين ونحو ذلك؛ فهذا كفر وشرك أكبر، ينقل صاحبه عن الملة، لأنه صرف حق الله لغيره، لأن الدعاء عبادة لا يصلح إلا لله ; فمن دعاه فقد عبده، ومن عبد غير الله فقد أشرك.
والأدلة على هذا أكثر من أن تحصر، وكثير من الناس لا يميز، ولا يفرق بين التوسل بالمخلوق أو بجاهه، وبين دعائه وسؤاله؛ فافهم ذلك، وفقنا الله وإياك لسلوك أحسن المسالك. وبهذا يظهر جواب المسألة الثانية، وهي: إذا وجد نحو ذلك في تصنيف بعض العلماء، هل له محمل أم لا؟ والله أعلم.
[رسالة الشيخ عبد الله أبا بطين في حقيقة ما خلقنا له]
وقال الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن، أبا بطين رحمه الله تعالى1:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فقد قال الله عز وجل {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ؛ فلما علمنا سبحانه: أنه ما خلقنا إلا لعبادته، وجب علينا الاعتناء بما خلقنا له علما وعملا، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة آية: 21]، وقال تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة النساء آية: 36] ؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كل ما في القرآن من الأمر بالعبادة، فالمراد به التوحيد".
وبذلك أرسل الله جميع الرسل، قال الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25]، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ
1 وتتفق هذه الرسالة أيضا مع بعض الرسائل الأخرى في النقول وغيرها، ومن ذلك ما تقدم في الأجزاء السابقة المشار إليها في صفحة 150 / ج / 10 فليعلم..
مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 45] ، وكل رسول أول ما يقرع أسماع قومه، أن يقول:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59] .
وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36]، قال مالك وغير واحد من المفسرين: كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنهما: "الطاغوت الشيطان".
قال ابن كثير رحمه الله: وهو قول قوي جدا، فإنه يتناول كل ما كان عليه أهل الجاهلية، من عبادة الأوثان، والتحاكم إليها، والانتصار بها، ذكره على قوله:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} [سورة البقرة آية: 256] الآية.
قال النووي: قال الليث وأبو عبيدة والكسائي، وجماهير أهل اللغة: الطاغوت: كل ما عبد من دون الله ; وقال الجوهري: الطاغوت الشيطان، وكل رأس في الضلالة، انتهى. وما تضمنته هذه الآية ونحوها من آي القرآن، من الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة غيره، هو معنى لا إله إلا الله; قال ابن جرير في الكلام على معنى لفظ الجلالة، قال: روي لنا عن ابن عباس، قال:"أي: هو ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين".
وقال الجوهري: أله بالفتح، إلهة، أي: عبد عبادة; قال: ومنه قولنا: الله، وأصله إله على وزن فعال، بمعنى
مفعول، لأنه مألوه بمعنى معبود; قال: والتأليه التعبيد، والتأله التنسك والتعبد; قال رؤبة:
…
سبَّحن واسترجعن من تأله، انتهى.
وفي القاموس: أله إلهة وألوهة وألوهية، عبد عبادة، ومنه لفظ الجلالة، وقال: وأصله: إله بمعنى مألوه، وكل ما اتخذ معبودا، فهو إله عند متخذه; قال: والتأله التنسك والتعبد.
وفي المصباح: أَلِهَ من باب تَعِبَ إلهة، بمعنى عبد عبادة، وتأله تعبد، والإله المعبود، وهو الله سبحانه; استعاره المشركون لما عبد من دون الله، انتهى. وقال: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: الإله هو المعبود المطاع، فهو إله بمعنى مألوه.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: الإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالا، وإنابة، وإكراما وتعظيما، وذلا وخضوعا، وخوفا ورجاء وتوكلا.
وقال ابن رجب: الإله هو الذي يطاع ولا يعصى، هيبة له وإجلالا ومحبة وخوفا، ورجاء وتوكلا، وسؤالا منه، ودعاء له; ولا يصلح ذلك إلا لله، فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي من خصائص الإلهية، كان قدحا في إخلاصه، في قوله: لا إله إلا الله، ونقصا في توحيده، وكان فيه من عبودية المخلوق، بحسب ما فيه من ذلك؛ وهذا كله من فروع الشرك.
وقال ابن هبيرة في الإفصاح، قوله: شهادة أن لا إله إلا الله تقتضي: أن يكون الشاهد عالما بأن لا إله إلا الله، قال
تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ} [سورة محمد آية: 19] ، وينبغي أن يكون الناطق بها شاهدا بها; فقد قال تعالى ما وضح به أن الشاهد بالحق إذا لم يكن عالما بما شهد به، فإنه غير بالغ من الصدق به مبلغ من شهد بما يعلمه، في قوله تعالى:{إِِلَاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة الزخرف آية: 86] .
قال: واسم الله مرتفع بعد إلا، من حيث أنه الواجب له الإلهية، فلا يستحقها غيره سبحانه; قال: واقتضى الإقرار بها أن تعلم أن كل ما فيه إمارات الحدث، فإنه لا يكون إلها; فإذا قلت: لا إله إلا الله، اشتمل نطقك هذا على أن ما سوى الله ليس بإله، فلزمك إفراده سبحانه وحده.
قال: وجملة الفائدة في ذلك، أن تعلم: أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله؛ فإنك لما نفيت الإلهية، وأثبت الإيجاب لله، كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله، انتهى.
وقال أبو عبد الله: القرطبي في "التفسير": لا إله إلا هو، أي: لا معبود إلا هو; وقال الزمخشري: الإله من أسماء الأجناس، كالرجل والفرس، يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق.
وقال البقاعي: لا إله إلا الله، أي: انتفاء عظيما، أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم؛ فإن هذا العلم هو
أعظم الأذكار المنجية من أهوال الساعة؛ وإنما يكون علما إذا كان نافعا، وإنما يكون نافعا إذا كان مع الإذعان والعمل بما يقتضيه، وإلا فهو جهل صرف، انتهى.
وجميع المفسرين: يفسرون "الإله" بالمعبود; والمشركون يعرفون ذلك، لأنهم أهل اللسان، فلما طلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوا: لا إله إلا الله، قالوا:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5] . وهم يعترفون بأن الله هو الخالق الرازق، المدبر لجميع الأمور، رب كل شيء ومليكه، كما أخبر الله عنهم بذلك في مواضع كثيرة من كتابه. والله سبحانه فرض على عباده معرفة معنى لا إله إلا الله. وترجم البخاري على الآية، فقال: باب العلم قبل القول والعمل; إشارة إلى أن العلم بمعنى لا إله إلا الله: أول واجب، ثم بعد ذلك القول والعمل.
وقال تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [سورة إبراهيم آية: 52]، لم يقل: ليقولوا إنما هو إله واحد; وقال تعالى: {إِلَاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة الزخرف آية: 86] بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم، وقال صلى الله عليه وسلم:" من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة"1.
واستدل العلماء بهذه الآية ونحوها، على أن أول واجب على الإنسان: معرفة الله; ودلت هذه الآية، على أن آكد
1 أحمد 1/65.
الفرائض: العلم بمعنى لا إله إلا الله، وأن أعظم الجهل: نقص العلم بمعناها، إذ كان معرفه معناها آكد الواجبات، والجهل بذلك أعظم الجهل وأقبحه.
ومن العجب: أن بعض الناس إذا سمع من يتكلم في معنى لا إله إلا الله نفيا وإثباتا، عاب ذلك، وقال: لسنا مكلفين بالناس والقول فيهم.
فيقال له: بل أنت مكلف بمعرفة التوحيد، الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، وأرسل جميع الرسل يدعون إليه، ومعرفة ضده وهو الشرك الذي لا يغفره الله؛ ولا عذر لمكلف في الجهل بذلك، ولا يجوز فيه التقليد، لأنه أصل الأصول؛ فمن لم يعرف المعروف، وينكر المنكر فهو هالك، لا سيما أعظم المعروف، وهو التوحيد، وأكبر المنكر وهو الشرك.
قال رجل لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: هلكت إن لم آمر بالمعروف وأنه عن المنكر; فقال ابن مسعود: "هلكت إن لم يعرف قلبك المعروف، وينكر المنكر"; وبمعرفة التوحيد يعرف أهله; قال علي رضي الله عنه: "اعرف الحق تعرف أهله". ""
وأما الإقرار بتوحيد الربوبية، وهو أن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء ومليكه ومدبره، فهذا يقر به المسلم والكافر، ولا بد منه؛ لكن لا يصير به الإنسان مسلما، حتى يأتي بتوحيد الإلهية الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون، وبه يتميز المسلم من المشرك، وأهل الجنة من أهل النار.
وقد أخبر الله سبحانه في مواضع من كتابه عن المشركين أنهم يقرون بتوحيد الربوبية، ويحتج عليهم سبحانه بإقرارهم بتوحيد الربوبية، على شركهم بتوحيد الإلهية، قال الله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [سورة يونس آية: 31] إلى قوله: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَاّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [سورة يونس آية: 31-32] .
قال البكري الشافعي في تفسيره على هذه الآية: إن قلت: إذا أقروا بذلك فكيف عبدوا الأصنام.
قلت: كلهم كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة الله، والتقرب إليه، لكن بطرق مختلفة: ففرقة قالت: ليس لنا أهلية عبادة الله بلا واسطة لعظمته، فعبدناها لتقربنا إلى الله زلفى. وفرقة قالت: الملائكة ذو وجاهة عند الله، فاتخذنا أصناما على هيئة الملائكة، لتقربنا إلى الله زلفى.
وفرقة قالت: جعلنا الأصنام قبلة لنا في العبادة، كما أن الكعبة قبلة في عبادته. وفرقة اعتقدت: أن لكل صنم شيطانا موكلا بأمر الله، فمن عبد الصنم حق عبادته قضى الشيطان حوائجه بأمر الله، وإلا أصابه الشيطان بنكبة بأمر الله.
قال ابن كثير رحمه الله، عند قوله تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] الآية: إنما يحملهم على عبادتهم: أنهم عبدوا الأصنام، اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم؛ فعبدوا تلك الصور
تنْزيلا لذلك منْزلة عبادتهم الملائكة، ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم، ورزقهم وما ينوبهم من أمر الدنيا; قال قتادة والسدي ومالك، عن زيد بن أسلم وابن زيد:{إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] : ليشفعوا لنا، ويقربونا عنده.
وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة الزخرف آية: 87]{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [سورة الزخرف آية: 9]، وقال:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [سورة يوسف آية: 106]، قال ابن عباس وغيره:"إذا سألتهم من خلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله; وهم يعبدون معه غيره". ففسروا الإيمان في هذه الآية بإقرارهم بتوحيد الربوبية، والشرك بعبادتهم غير الله، وهو إنكار توحيد الإلهية.
فلما تقرر الإله وأنه المعبود، تعين علينا معرفة حقيقة العبادة وحدها؛ فعرفها بعضهم: بأنها ما أُمر به الإنسان شرعا، من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي; وقال بعضهم: هي كمال الحب مع كمال الخضوع، وهذا يستلزم طاعة المحبوب والانقياد له.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله، ويرضاه، من الأقوال، والأعمال الباطنة، والظاهرة، كالصلاة والزكاة والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والأمر
بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعاء والذكر والقرآن، وأمثال ذلك من العبادة؛ فالدين كله داخل في العبادة.
فإذا علم الإنسان وتحقق معنى الإله، وأنه المعبود، وعرف حقيقة العبادة، تبين له أن من جعل شيئا من العبادة لغير الله، فقد عبده واتخذه إلها، وإن فر من تسميته معبودا وإلها، وسمى ذلك توسلا وتشفعا، والتجاء، ونحو ذلك. فالمشرك مشرك شاء أم أبى، كما أن المرابي مراب شاء أم أبى، وإن لم يسم ما فعله ربا، وشارب الخمر شارب للخمر وإن سماها بغير اسمها.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: " يأتي أناس من أمتي يشربون الخمر، يسمونها بغير اسمها " 1 فتغيير الاسم، لا يغير حقيقة المسمى، ولا يزيل حكمه، كتسمية البوادي سوالفهم الباطلة حقا، وتسمية الظلمة ما يأخذونه من الناس بغير اسمه.
ولما سمع عدي بن حاتم - وهو نصراني - قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31]، قال للنبي صلى الله عليه وسلم إنا لسنا نعبدهم; قال:" أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: قلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم ".
فعدي رضي الله عنه ما كان يظن أن موافقتهم في ذلك عبادة منهم لهم، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك عبادة منهم لهم، مع أنهم لا يعتقدونه عبادة لهم.
1 النسائي: الأشربة 5658 ، وأحمد 4/237.
وكذلك: ما يفعله عباد القبور، من دعاء أصحابها، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والتقرب إليهم بالذبائح والنذور، عبادة منهم للمقبورين، وإن كانوا لا يسمونه ولا يعتقدونه عبادة.
وكذلك الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط، وإن كانوا يظنون أن هذا من التأله لغير الله، الذي تنفيه لا إله إلا الله، لأنهم يقولون لا إله إلا الله، ويعرفون معناها لأنهم العرب، لكن خفيت عليهم هذه المسألة، لحداثة عهدهم بالكفر، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم:" الله أكبر إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 1 لتركبن سنن من كان قبلكم ".
فإن قيل: فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكفرهم بذلك.
قلنا: هذا يدل على أن من تكلم بكلمة كفر جاهلا بمعناها، ثم نبه فانتبه، أنه لا يكفر; ولا شك أن هؤلاء لو اتخذوا ذات أنواط بعد إنكار النبي صلى الله عليه وسلم لكفروا.
وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَاّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26-27-28] الضمير في قوله: {وَجَعَلَهَا} راجع لقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَاّ الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 26] ؛ قال مجاهد وقتادة: هي شهادة أن لا إله إلا الله،
1 الترمذي: الفتن 2180 ، وأحمد 5/218.
فلا يزال في ذرية إبراهيم من يعبد الله وحده.
ففي الآية والحديثين قبلها، بيان لمعنى لا إله إلا الله، وأن المراد منها البراءة من التألة والعبادة لغير الله، وإفراده سبحانه وتعالى بالعبادة.
ومن أعظم المصائب: إعراض أكثر الناس عن النظر في معنى هذه الكلمة العظيمة، حتى صار كثير منهم يقول: من قال لا إله إلا الله، لا نقول فيه شيئا، وإن فعل ما فعل، لعدم معرفتهم بمعنى هذه الكلمة نفيا وإثباتا، مع أن قائل ذلك لا بد أن يتناقض.
فلو قيل له: ما تقول فيمن قال لا إله إلا الله، ولا يقر برسالة محمد بن عبد الله؟ لم يتوقف في تكفيره، أو أقر بالشهادتين وأنكر البعث، لم يتوقف في تكفيره، أو استحل الزنى واللواط ونحوه، أو قال: إن الصلوات الخمس ليست بفرض، فلا بد أن يقول بكفر من قال ذلك; فكيف لا تنفعه لا إله إلا الله إذاً، ولا تحول بينه وبين الكفر؟!
فإذا ارتكب ما يناقضها، وهو عبادة غير الله، وهو الشرك الأكبر الذي هو أكبر الذنوب، قيل: هو يقول لا إله إلا الله، ولا يجوز تكفيره، لأنه يتكلم بكلمة التوحيد! لكن آفة الجهل والتقليد أوجبت ذلك، وهؤلاء ونحوهم إذا سمعوا من يقرر التوحيد، ويذكر الشرك، استهزؤوا به وعابوه.
قال شيخ الإسلام - في أثناء كلامه -: والضالون مستخفون
بتوحيد الله، ويعظمون دعاء غير الله من الأموات، وإذا أمروا بالتوحيد، ونهوا عن الشرك استخفوا به، كما قال تعالى:{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَاّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [سورة الفرقان آية: 41-42] .
فاستهزؤوا بالرسول لما نهاهم عن الشرك، وما زال المشركون يسبون الأنبياء، ويصفونهم بالسفاهة والضلالة، والجنون، إذا دعوهم إلى التوحيد، لما في أنفسهم من تعظيم الشرك؛ وكذلك من فيه شبه منهم، إذا رأوا من يدعو إلى التوحيد، استهزؤوا بذلك، لما عندهم من الشرك.
ومن كيد الشيطان لمبتدعة هذه الأمة، من المشركين بالبشر، من المقبورين وغيرهم، لما علم عدو الله أن كل من قرأ القرآن وسمعه، يفر من الشرك، ومن عبادة غير الله، ألقى في قلوب الجهال أن هذا الذي يفعلونه مع المقبورين وغيرهم، ليس هو عبادة لهم، وإنما هو توسل وتشفع بهم، والتجاء إليهم ونحو ذلك.
فسلب العبادة والشرك اسمهما من قلوبهم، وكساهما أسماء لا تنفر عنها القلوب؛ ثم ازداد اغترارهم، وعظمت الفتنة بأن صار بعض من ينسب إلى علم ودين، يسهل عليهم ما ارتكبوه من الشرك، ويحتج لهم بالحجج الباطلة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فصل
[فيما أورده بعض المجادلين عن شيخ الإسلام من قوله في دعاء الأموات]
وقد أورد بعضهم: أن شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى ذكر كلاما وحكايات، تدل على أن دعاء الأموات ليس بشرك، كما ذكر أنه روى أن رجلا جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه الجدب عام الرمادة، فرآه وهو يأمره أن يأتي إلى عمر بن الخطاب، فيأمره أن يستسقي بالناس، وغير ذلك من الحكايات.
قال بعض المجادلين: ولو سلم لكم في بعض الأمور أنها شرك وكفر، فإن الشيخ ذكر في اقتضاء الصراط المستقيم، أن المتأول والمجتهد والمخطئ والمقلد، مغفور لهم ما ارتكبوه من الشرك، والكفر; فهذا تلبيس من الناقل، وكذب على الشيخ رحمه الله تعالى، لأنه إنما قال ذلك في سياق الكلام في بعض البدع، كتحري دعاء الله عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره.
فقال: وقد يفعل الرجل العمل الذي يعتقده صالحا، ولا يكون عالما أنه منهي عنه، فيثاب على حسن قصده، ويعفى عنه لعدم علمه؛ وهذا باب واسع، وعامة العبادة المبتدعة المنهي عنها، قد يفعلها بعض الناس، ويحصل له نوع من الفائدة، وذلك لا يدل على أنها مشروعة؛ ثم العامل قد يكون متأولا، أو مخطئا مجتهدا، أو مقلدا، فيغفر خطؤه ويثاب على فعله من الخير المشروع، المقرون بغير المشروع.
قال: والحاصل: أن ما يقع من الدعاء المشتمل على كراهية شرعية، بمنْزلة سائر العبادات; وقد علم أن العبادة المشتملة
على وصف مكروه، قد تغفر تلك الكراهة لصاحبها لاجتهاده، أو تقليده، أو حسناته، أو غير ذلك؛ تم ذلك لا يمنع أن يكون ذلك مكروها منهيا عنه، وإن كان هذا الفاعل المعين قد زال موجب الكراهة في حقه.
قال: فإذا سمعت دعاء أو مناجاة مكروهة في الشرع، قد قضيت حاجة صاحبها، فكثيرا ما يكون من هذا الباب; ولا يقال: هؤلاء لما نقصت معرفتهم سوغ لهم ذلك، فإن الله لم يسوغ هذا لأحد، لكن قصور المعرفة قد يرجى معه العفو والمغفرة، أما استحباب المكروهات، أو إباحة المحرمات، فلا; وفرق بين العفو عن الفاعل والمغفرة له، وبين إباحة فعله والمحبة له.
وإنما استحباب الأفعال واتخاذها دينا، بكتاب الله وسنة نبيه، وما كان عليه السابقون الأولون، وما سوى هذا من الأمور المحدثة، فلا تستحب، وإن اشتملت أحيانا على فوائد، لأنا نعلم أن مفاسدها راجحة على فوائدها. ولما قرر رحمه الله: أن تحري الدعاء عند القبور منهي عنه، قال:
ولا يدخل في هذا الباب: أن أقواما سمعوا السلام من قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الصالحين، وأن سعيد بن المسيب كان يسمع الأذان من القبر ليالي الحرة، فهذا كله حق ليس مما نحن فيه، والأمر أجل من ذلك وأعظم.
قال وكذلك أيضا: ما روي أن رجلا جاء إلى قبر النبي
صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الجدب عام الرمادة، فرآه وهو يأمره أن يأتي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيأمره أن يخرج فيستسقي بالناس، فإن هذا ليس من هذا الباب.
وكذلك سؤال بعضهم عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم حاجته فتقضى، فإن هذا قد وقع كثير، وليس هو مما نحن فيه، إلى أن قال: وكل هذا لا يقتضي استحباب الصلاة عند القبور، ولا قصد الدعاء والنسك عندها، لما في قصد العبادة عندها من المفاسد التي علمها الشرع.
ثم قال رحمه الله تعالى: فذكرت هذه الأمور لأنها مما يتوهم أنها معارضة لما قدمنا، وليس كذلك، فإن الخلق لم ينهوا عن الصلاة عند القبور، واتخاذها مساجد، استهانة بأهلها، بل لما يخاف عليهم من الافتتان; وإنما تكون الفتنة إذا انعقد سببها، فلولا أنه قد يحصل عند القبور ما يخاف الافتتان به، لما نهى الناس عن ذلك، انتهى.
فانظر قوله: وليس هو مما نحن فيه، وليس فيه معارضة لما ذكرنا، لأنه قرر أن قصد القبور لدعاء الله عندها بدعة منهي عنها; وكذلك قرر: أن دعاء الأموات والغائبين، والاستغاثة بهم شرك، وذكر أنه ليس فيما ذكره معارضة لما قرره، دفعا لما قد يتوهم.
واحتج بعض من يجادل عن المشركين بقصة الذي قد أوصى أهله أن يحرقوه بعد موته، على أن من ارتكب الكفر
جاهلا لا يكفر، ولا يكفر إلا المعاند.
والجواب عن ذلك كله: أن الله سبحانه وتعالى أرسل رسله مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل؛ وأعظم ما أرسلوا به ودعوا إليه: عبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن الشرك الذي هو عبادة غيره؛ فإن كان مرتكب الشرك الأكبر معذورا لجهل، فمن الذي لا يعذر؟!
ولازم هذه الدعوى: أنه ليس لله حجة على أحد إلا المعاند، مع أن صاحب هذه الدعوى لا يمكنه طرد أصله، بل لا بد أن يتناقض، فإنه لا يمكنه أن يتوقف في تكفير من شك في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أو شك في البعث، أو غير ذلك من أصول الدين، والشاك جاهل؛ والفقهاء يذكرون في كتب الفقه حكم المرتد: أنه المسلم الذي يكفر بعد إسلامه، نطقا أو فعلا أو شكا أو اعتقادا، وسبب الشك الجهل.
ولازم هذا: أنا لا نكفر جهلة اليهود والنصارى، والذين يسجدون للشمس والقمر والأصنام لجهلهم، ولا الذين حرقهم علي ابن أبي طالب رضي الله عنه بالنار، لأنا نقطع أنهم جهال؛ وقد أجمع المسلمون على كفر من لم يكفر اليهود والنصارى، أو شك في كفرهم، ونحن نتيقن أن أكثرهم جهال.
[قول الشيخ تقي الدين فيمن سب الصحابة]
وقال الشيخ تقي الدين، رحمه الله تعالى: من سب الصحابة رضوان الله عليهم، أو واحدا منهم، واقترن بسبه دعوى أن عليا إله أو نبي، أو أن جبرائيل غلط، فلا شك في كفر هذا،
بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره.
قال: ومن زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر، أو أنهم فسقوا، فلا ريب في كفر قائل ذلك، بل من شك في كفره فهو كافر.
قال: ومن ظن أن قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] بمعنى قدر، وأن الله سبحانه ما قدر شيئا إلا وقع، وجعل عبدة الأصنام ما عبدوا إلا الله، فإن هذا من أعظم الناس كفرا بالكتب كلها، انتهى.
ولا ريب أن أصحاب هذه المقالة، أهل علم وزهد وعبادة، وأن سبب دعواهم هذه، الجهل.
وقد أخبر الله سبحانه عن الكفار: أنهم في شك مما تدعوهم إليه الرسل، وأنهم في شك من البعث، وقالوا لرسلهم:{وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [سورة إبراهيم آية: 9] وقال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [سورة هود آية:110]، وقال تعالى اخبارا عنهم:{إِنْ نَظُنُّ إِلَاّ ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [سورة الجاثية آية: 32] .
وقال تعالى عن الكفار: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الأعراف آية: 30]، وقال تعالى:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 103-104] .
ووصفهم الله سبحانه بغاية الجهل، كما في قوله تعالى:{لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [سورة الأعراف آية: 179] .
وقد ذم الله المقلدين، بقوله عنهم:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 22] الآيتين، ومع ذلك كفّرهم; واستدل العلماء بهذه الآية ونحوها، على أنه لا يجوز التقليد في معرفة الله والرسالة، وحجة الله سبحانه قائمة بإرساله الرسل، وإن لم يفهموا حجج الله وبيناته.
[قول ابن قدامة لما سئل هل كل مجتهد مصيب؟]
قال الشيخ موفق الدين أبو محمد بن قدامة، رحمه الله تعالى لما انجر كلامه: هل كل مجتهد مصيب؟ ورجح قول الجمهور، أنه ليس كل مجتهد مصيب، بل الحق في قول واحد من أقوال المجتهدين.
قال: وزعم الجاحظ أن من خالف ملة الإسلام، إذا نظر فعجز عن إدراك الحق، فهو معذور غير آثم، إلى أن قال: أما ما ذهب إليه الجاحظ فباطل يقينا، وكفر بالله ورد عليه وعلى رسوله، فنعلم قطعا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر اليهود والنصارى بالإسلام واتباعه، وذمهم على الإصرار، وقاتلهم جميعهم، يقتل البالغ منهم; ونعلم: أن المعاند العارف ممن يقل، وإنما الأكثر مقلدة اعتقدوا دين آبائهم تقليدا، ولم يعرفوا معجزة الرسول وصدقه.
والآيات الدالة في القرآن على هذا كثيرة، كقوله تعالى:{ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سورة ص آية: 27] الآية، وقوله:{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [سورة فصلت آية: 23] الآية، وقوله:{وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَظُنُّونَ} [سورة البقرة آية: 78] وقوله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [سورة المجادلة آية: 18] وقوله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الأعراف آية: 30] وقوله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 103-104] الآية. وفي الجملة: ذم المكذبين للرسول مما لا ينحصر في الكتاب والسنة، انتهى.
والعلماء يذكرون أن من أنكر وجوب عبادة من العبادات الخمس، أو قال في واحدة منها إنها سنة لا واجبة، أو جحد حل الخبز ونحوه، أو جحد تحريم الخمر ونحوه، أو شك في ذلك، ومثله لا يجهله، كفر؛ وإن كان مثله يجهله عرف، فإن أصر بعد التعريف كفر، وقتل; ولم يقولوا: فإذا تبين له الحق وعاند كفر.
وأيضا: فنحن لا نعرف أنه معاند، حتى يقول: أنا أعلم أن ذلك حق ولا ألتزمه، ولا أقوله، وهذا لا يكاد يوجد.
وقد ذكر العلماء من أهل كل مذهب، أشياء كثيرة لا يمكن حصرها، من الأقوال، والأفعال، والاعتقادات أنه يكفر صاحبها، ولم يقيدوا ذلك بالمعاند؛ فالمدعي أن مرتكب الكفر متأولا، أو مجتهدا أو مخطئا، أو مقلدا أو جاهلا، معذور،
مخالف للكتاب والسنة، والإجماع بلا شك، مع أنه لا بد أن ينقض أصله، فلو طرد أصله كفر بلا ريب، كما لو توقف في تكفير من شك في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك.
وأما الرجل الذي أوصى أهله أن يحرقوه، وأن الله غفر له مع شكه في صفة من صفات الرب تبارك وتعالى، فإنما غفر له لعدم بلوغ الرسالة له، كذلك قال غير واحد من العلماء; ولهذا قال الشيخ تقي الدين: من شك في صفة من صفات الرب تعالى، ومثله لا يجهله، كفر، وإن كان مثله يجهله لم يكفر; قال: ولهذا لم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الشاك في قدرة الله تعالى، لأنه لا يكفر إلا بعد بلوغ الرسالة؛ وكذلك قال ابن عقيل، وحمله على أنه لم تبلغه الدعوة.
واختيار الشيخ تقي الدين في الصفات أنه لا يكفر الجاهل، وأما في الشرك ونحوه فلا، كما ستقف على بعض كلامه إن شاء الله تعالى؛ وقد قدمنا بعض كلامه في الاتحادية وغيرهم، وتكفيره من شك في كفرهم.
قال صاحب اختياراته: والمرتد من أشرك بالله، أو كان مبغضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لما جاء به، أو ترك إنكار كل منكر بقلبه، أو توهم أن من الصحابة من قاتل مع الكفار، أو أجاز ذلك، أو أنكر فرعا مجمعا عليه إجماعا قطعيا، أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم، كفر إجماعا.
ومن شك في صفة من صفات الله تعالى، ومثله لا يجهلها
فمرتد، وإن كان مثله يجهلها فليس بمرتد، ولهذا لم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الشاك في قدرة الله، فأطلق فيما تقدم من المكفرات، وفرق في الصفة بين الجاهل وغيره، مع أن رأي الشيخ أن التوقف في تكفير الجهمية ونحوهم، خلاف نصوص أحمد وغيره من أئمة الإسلام.
قال المجد رحمه الله تعالى: كل بدعة كفرنا فيها الداعية، فإنا نفسق المقلد فيها، كمن يقول: بخلق القرآن، أو أن علم الله مخلوق، أو أن أسماءه مخلوقة، أو أنه لا يرى في الآخرة، أو يسب الصحابة رضي الله عنهم تدينا، أو أن الإيمان مجرد الاعتقاد، وما أشبه ذلك، فمن كان عالما في شيء من هذه البدع يدعو إليه، ويناظر عليه، محكوم بكفره، نص أحمد على ذلك في مواضع، انتهى. فانظر كيف حكم بكفرهم مع جهلهم.
[فصل فيما يتعين الاعتناء به معرفة ما أنزل الله على رسوله]
ومما يتعين الاعتناء به، معرفة ما أنزل الله على رسوله، لأن الله سبحانه ذم من لا يعرف حدود ما أنزل الله على رسوله، فقال تعالى:{الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلَاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [سورة التوبة آية: 97] .
قال شيخ الإسلام: ومعرفة حدود الأسماء واجبة، لأن بها قيام مصلحة الآدميين في المنطق الذي جعله الله رحمة لهم، لا سيما حدود ما أنزل الله على رسوله من الأسماء، كالخمر والربا؛ فهذه الحدود هي المميزة بين ما يدخل في المسمى، وما
يدل عليه من الصفات، وبين ما ليس كذلك، وقد ذم الله سبحانه من لا يعرف حدود ما أنزل الله على رسوله، انتهى.
ففرض على المكلف معرفة حد العبادة، وحقيقتها التي خلقنا الله لأجلها، ومعرفة حد الشرك، وحقيقته الذي هو أكبر الكبائر; وتجد كثيرا ممن يشتغل بالعلم لا يعرف حقيقة الأكبر، وإن قال: إنه الشرك في العبادة، لقوله تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة النساء آية: 36]، وقوله:{وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" 1؛ فإنه مع اعترافه بأن الشرك الذي حرمه الله، هو الشرك في العبادة، لا يعرف حد العبادة وحقيقتها.
وربما قال: العبادة التي صرفها لغير الله شرك، الصلاة والسجود؛ فإذا طلب منه الدليل على أن الله يسمي الصلاة لغيره، والسجود لغيره شركا، لم يجده، وربما قال: لأن ذلك خضوع والخضوع لغير الله شرك، فيقال له: هل تجد في القرآن والسنة تسمية هذا الخضوع شركا؟ فلا يجده; فيلزمه أن يقول إنه عبادة; فيقال: وكذلك الدعاء والذبح والنذر عبادات، مع ما يلزم هذه العبادات من أعمال القلوب، من الذل، والخضوع، والحب والتعظيم، والتوكل والخوف والرجاء، وغير ذلك; وفي الحديث:" الدعاء مخ العبادة "2.
وقد قرن الله بين الصلاة والذبح، في قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ
1 البخاري: الجهاد والسير 2856 ، ومسلم: الإيمان 30 ، والترمذي: الإيمان 2643 ، وابن ماجه: الزهد 4296 ، وأحمد 5/229 ،5/230 ،5/234 ،5/236 ،5/242.
2 الترمذي: الدعوات 3371.
وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2] أي: أخلص له صلاتك، {وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2] أي: ذبيحتك. فكما أن الصلاة لغير الله شرك، فكذلك قرين الصلاة، وهو الذبح لغير الله شرك، قال تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الأنعام آية: 162-163] .
ومن العجب، قول بعض من يحتج للمشركين بالأموات إنهم لا يرجون منهم قضاء حاجاتهم من الميت ونحوه.
فنقول: هذا مكابرة ومغالطة، لأن من المعلوم عند كل ذي عقل أنهم ما دعوهم، وتذللوا، وخضعوا لهم، وبذلوا أموالهم بالنذور، والذبائح، إلا لأنهم يرجون حصول مطلوبهم، وقضاء حاجاتهم من جهتهم؛ فكيف يتصور عند عاقل أن يسمع من يسأل الميت والغائب حاجة، بأن يقول: أعطني كذا وأنا في حسبك، أو يستغيث به لدفع عدو، أو كشف ضر، ويتذلل ويخضع له، ثم يقول: إنه لا يرجو حصول مطلوبه، ودفع مرهوبه من جهته؟!
وكيف يتصور: أن يبذل ماله بالنذور والذبائح - مع أن المال عزيز عند أهله - لمن يرجوه، ويعتقد أنه لا يحصل له من جهته نفع ولا دفع ضر؟! فهذا من أبين المحال، وأبطل الباطل; كيف وهم يفتخرون بقضاء حاجاتهم، وكشف كرباتهم من جهتهم؟! فبعض هؤلاء، منهم من يعتقد أن الميت ونحوه يفعل ذلك أصالة.
وبعضهم يقول: هم وسيلتنا إلى الله، يعنون واسطة بينهم وبين الله تعالى، كما عليه المشركون الأولون، لأنه سبحانه أخبر عن المشركين، الموجودين حين نزول القرآن أنهم يخلصون لله الدعاء في حال الشدة، وينسون آلهتهم.
وكثير من غلاة أهل هذا الزمان يخلصون الدعاء عند هذه الأمور المهمة والشدائد لولائجهم، كما هو مستفيض عنهم; قال الله تعالى إخبارا عن المشركين الأولين:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} } [سورة العنكبوت آية: 65] الآية، وقال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 67] الآية، وقال تعالى:{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الأنعام آية: 63] .
ومن العجب، قول من ينسب إلى علم ودين: إن طلبهم من المقبورين والغائبين ليس دعاء لهم، بل هو نداء!! أفلا يستحي هذا القائل من الناس، إذا لم يستح من الله من هذه الدعوى الفاسدة السامجة، التي يروج بها على رعاع الناس؟!
والله سبحانه قد سمى الدعاء نداء، كما في قوله تعالى:{إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} [سورة مريم آية: 3]، وقوله:{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنْتَ} [سورة الأنبياء آية: 87] ؛ وأي فرق بين ما إذا سأل العبد ربه حاجته، وبين ما إذا طلبها من غيره، من ميت أو غائب، بأن الأول يسمى دعاء، والثاني يسمى
نداء؟! ما أسمج هذا القول وأقبحه، وهو قول يستحى من حكايته لولا أنه يروج على الجهال، لا سيما إذا سمعوه ممن يعتقدون علمه ودينه.
وأي فرق بين سؤال الميت حاجته، وبين سؤالها من صنم ونحوه، بأن الثاني يسمى دعاء، والأول نداء؟! فإن قال: الكل نداء لا دعاء، فهذا مشاقة للقرآن، ومحادة لله ورسوله، ولا يحتاج في بطلانه إلى أكثر من حكايته؛ وما أظن أن عاقلا يحيك هذا في نفسه، وإنما هو عناد ومكابرة، وإنما يروج على أشباه البهائم.
أما يخاف هذا أن يتناوله قوله تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [سورة غافر آية: 5] ؛ والله سبحانه وتعالى سمى سؤال غيره دعاء في غير موضع من كتابه، قال تعالى:{إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} [سورة فاطر آية: 14] ؛ والدعاء في القرآن يتناول دعاء العبادة، ودعاء المسألة.
[فصل فيما يقال لمن ادعى أن الشرك هو الصلاة والسجود لغير الله]
ويقال لمن ادعى أن الشرك هو الصلاة والسجود لغير الله، مع أن هذا مكابرة من مدعيه؛ فكما أن السجود عبادة، فكذلك الدعاء والنذر، والذبح وغيرهما، كما تقدم تعريفه. وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن دعاء غيره، وذم فاعل ذلك، وأمر بإخلاص الدعاء له أكثر مما ذكر في خصوصية السجود،
مع أن الدعاء في القرآن يتناول دعاء المسألة، ودعاء العبادة الذي يدخل فيه السجود، وغيره من أنواع العبادة.
قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية:18]، وقال:{فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة غافر آية: 65] وقال: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [سورة الرعد آية: 14]، وقال:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} [سورة يونس آية: 106]، وقال:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 5]، وقال:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} [سورة فاطر آية: 13-14] الآية، وفي القرآن من ذلك ما لا يحصى.
[قول الشيخ في الكلام على دعوة ذي النون]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى، في الكلام على دعوة ذي النون: لفظ الدعاء والدعوة في القرآن، يتناول دعاء العبادة، ودعاء المسألة، وفسر قوله تعالى:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] بالوجهين، وفي حديث النُزول " من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له "1. والمستغفر سائل، والسائل داع، لكن ذكر السائل لدفع الشر للخير، وذكرهما بعد الدعاء الذي يتناولهما وغيرهما، من عطف الخاص على العام، وسماها دعوة لتضمنها النوعين. فقوله: {لا إِلَهَ إِلَاّ أَنْتَ} [سورة الأنبياء آية: 87] اعترافا بتوحيد الإلهية، وهو يتضمن النوعين؛ فإن الإله هو المستحق لأن
1 البخاري: الجمعة 1145 ، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها 758 ، والترمذي: الصلاة 446 والدعوات 3498 ، وأبو داود: الصلاة 1315 والسنة 4733 ، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها 1366 ، وأحمد 2/258 ،2/264 ،2/267 ،2/282 ،2/419 ،2/487 ،2/504 ،2/521 ، ومالك: النداء للصلاة 496 ، والدارمي: الصلاة 1478 ،1479.
يدعى بالنوعين.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى، في "البدائع" بعد آيات ذكرها; قال: وهذا في القرآن كثير، يبين أن المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر؛ فهو يدعى للنفع والضر دعاء المسألة، ويدعى رجاء وخوفا دعاء العبادة; فعلم أن النوعين متلازمان.
فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة، إلى أن قال: وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما، واستعمال اللفظ في حقيقته، ومجازه; بل هذا استعماله في حقيقته الواحدة، المتضمنة للأمرين جميعا، انتهى; فعلى هذا يكون النهي عن دعاء غيره سبحانه نصا في دعاء العبادة، ودعاء المسألة، فهو نهي عن كل منهما حقيقة.
[فصل في قول ابن تيمية فيمن ترجى له المغفرة]
فصل وقد ذكرنا: أن الشيخ تقي الدين، قال: إنما ترجى المغفرة لمن فعل بعض البدع مجتهدا أو جاهلا؛ لم يقل ذلك فيمن ارتكب الشرك الأكبر، والكفر الظاهر، بل قد قال رحمه الله تعالى: إن الشرك لا يغفره الله، وإن كان أصغر؛ وقد قدمنا بعض كلامه في ذلك، ونذكر هنا بعض ما اطلعنا عليه من كلامه، وكلام غيره من العلماء.
قال رحمه الله تعالى - في أثناء كلام له في ذم أصحاب
الكلام -: والرازي من أعظم الناس في باب الحيرة، لكن هو مسرف فيه، له نهمة في التشكيك; والشك في الباطل خير من الثبات على اعتقاده; لكن قل أن يثبت أحد على باطل محض، بل لا بد فيه من نوع من الحق; وتوجد الردة منهم كثيرا كالنفاق; وهذا إذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال: لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها.
لكن يقع في ذلك طوائف منهم، في أمور يعلم الخاصة والعامة، بل اليهود والنصارى، يعلمون أن محمدا بعث بها، وكفر من خالفها، مثل عبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة غيره؛ فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل أمره بالصلوات الخمس، وتعظيم شأنها، ومثل معاداة المشركين وأهل الكتاب، ومثل تحريم الفواحش والربا والميسر ونحو ذلك، إلى أن قال: وصنف الرازي كتابا في عبادة الأصنام والكواكب، وأقام الأدلة على حسنه، ورغب فيه، وهذه ردة عن الإسلام إجماعا، انتهى.
فقوله رحمه الله تعالى: بل اليهود والنصارى يعلمون ذلك، هو كما قال؛ فقد سمعنا غير واحد من اليهود: أنهم يعيبون على المسلمين ما يفعل عند هذه المشاهد، يقولون: إن كان نبيكم أمركم بهذا فليس بنبي، وإن كان نهاكم عنه فقد عصيتموه; فسبحان الله ما أعجب هذا؟! اليهود ينكرون هذه الأمور الشركية، ويقولون: ما يأتي بها نبي، وكثير من علماء هذه
الأزمان يجوزون ذلك، ويوردون الشبه الباطلة عليه، وينكرون على من أنكره!!
وانظر قول الشيخ: لكن قد يعفى عما خفيت فيه طرق العلم، وكان أمرا يسيرا في الفروع; وقوله أيضا: وهذا إذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال: لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها.
وقال الشيخ، في الرسالة السنية - لما ذكر حديث الخوارج -: فإذا كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه من مرق من الدين مع عبادته العظيمة، فليعلم: أن المنتسب إلى الإسلام في هذا الزمان، قد يمرق أيضا، وذلك بأمور: منها: الغلو الذي ذمه الله سبحانه كالغلو في بعض المشائخ، كالشيخ عدي، بل الغلو في علي ابن أبي طالب، بل الغلو في المسيح.
فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله، بأن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو اجبرني، أو توكلت عليك، أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك، وضلال، يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل; فإن الله تعالى أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبد وحده، ولا يجعل معه إلها آخر.
والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى، مثل الملائكة والمسيح وعزير، والصالحين وقبورهم، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق وترزق، وإنما كانوا يدعونهم، يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند
الله، فبعث الله الرسل تنهى أن يدعى أحد من دون الله، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة.
قال رحمه الله أيضا: وقد سئل عن رجلين تنازعا; فقال أحدهما: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله، فإنا لا نقدر أن نصل إليه إلا بذلك.
فأجاب بقوله: إن أراد بذلك أنه لا بد لنا من واسطة تبلغنا أمر الله، فهذا حق، فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما يأمرهم به وينهاهم عنه، إلا بواسطة الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده؛ وهذا مما أجمع عليه أهل الملل، من المسلمين واليهود والنصارى، فإنهم يثبتون الوسائط بين الله وبين عباده، وهم الرسل، الذين بلغوا عن الله أوامره ونواهيه، قال الله تعالى:{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [سورة الحج آية: 75] ، ومن أنكر هذه الوسائط فهو كافر بإجماع أهل الملل.
وإن أراد بالواسطة: أنه لا بد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبين الله، في جلب المنافع، ودفع المضار، مثل أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم، وهداهم، يسألونهم ذلك ويرجعون إليه، فهذا من أعظم الشرك، الذي كفر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دونه أولياء وشفعاء، يجتلبون بهم المنافع، ويستدفعون بهم المضار، إلى أن قال:
فمن جعل الأنبياء والملائكة وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم
غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكربات، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين، إلى أن قال:
فمن أثبت وسائط بين الله وبين خلقه، كالحُجّاب الذين بين الملك وبين رعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، وأن الله إنما يهدي عباده وينصرهم ويرزقهم، بتوسطهم; بمعنى: أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك، يسألون الملوك حوائج الناس لقربهم منهم، وأن الناس يسألونهم أدبا منهم أن يباشروا سؤال الملوك، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملوك، لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه، فهو كافر مشرك، يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
وهؤلاء مشبهون، شبهوا الخالق بالمخلوق، وجعلوا لله أندادا; وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لا تتسع له هذه الفتوى; فإن هذا دين المشركين عبدة الأوثان، كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وإنها وسائل يتقربون بها إلى الله، وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى، قال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 31] انتهى.
فقد جزم رحمه الله تعالى في مواضع كثيرة، بكفر من فعل ما ذكرنا من أنواع الشرك، وحكى إجماع المسلمين على ذلك، ولم
يستثن الجاهل ونحوه، قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] الآية، وقال تعالى عن عيسى عليه السلام أنه قال:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] .
فمن خص ذلك الوعيد بالمعاند فقط، وأخرج الجاهل والمتأول والمقلد، فقد شاق الله ورسوله، وخرج عن سبيل المؤمنين; والفقهاء يصدرون "باب حكم المرتد" بمن أشرك بالله، ولم يقيدوا ذلك بالمعاند، وهذا أمر واضح - ولله الحمد - فقد قال تعالى:{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [سورة النساء آية: 165] .
[الأمور المبتدعة عند القبور أنواع]
وقال الشيخ أيضا: وهذه الأمور المبتدعة عند القبور أنواع، أبعدها عن الشرع: أن يسأل الميت حاجته، كما يفعله كثير من الناس، وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت، والغائب، كما يتمثل لعباد الأصنام.
ومن تقريره رحمه الله تعالى، في هذا الأصل: ما ذكره في "اقتضاء الصراط المستقيم" حيث قال: إن الدعاء المتضمن شركا، كدعاء غير الله أن يفعل، أو دعائه أن يدعو ونحو ذلك، لا يحصل غرض صاحبه، ولا يورث حصول الغرض شبهة، إلا في الأمور الحقيرة; وأما الأمور العظيمة: كإنزال الغيث عند القحط، وكشف العذاب النازل، فلا ينفع فيه هذا الشرك.
قال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ
السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام آية: 40-41]، وقال تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة العنكبوت آية: 65]، وقال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 67]، وقال تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [سورة النمل آية: 62] الآية، فكون هذه المطالب العظيمة، لا يستجيب فيها إلا هو سبحانه وتعالى، دل على توحيده، وقطع شبهة من أشرك به.
وعلم بذلك: أن ما دون هذا أيضا من الإجابات، إنما فعلها له سبحانه وحده لا شريك له، وإن كانت تجري بأسباب محرمة أو مباحة، كما أن خلقه السماوات والأرض والسحاب والرياح، وغير ذلك من الأجسام العظيمة، دل على وحدانيته، وأنه خالق كل شيء، وأن ما دون هذا بأن يكون خلقا له أولى، إذ هو منفصل عن مخلوقاته العظيمة، فخالق السبب التام خالق للمسبب لا محالة.
وجماع ذلك: أن الشرك نوعان: شرك في ربوبيته، بأن يجعل لغيره معه تدبيرا، كما قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سورة سبأ آية: 22] فبين أنهم لا يملكون مثقال ذرة استقلالا، ولا يشركونه في شيء من ذلك، ولا يعينونه على ملكه، فمن لم يكن مالكا،
ولا شريكا، ولا عوينا، فقد انقطعت علاقته.
وشرك في الألوهية: بأن يدعى غيره دعاء عبادة، أو دعاء مسألة، كما قال تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] . فكما أن إثبات المخلوقات أسبابا، لا يقدح في توحيد الربوبية، ولا يمنع أن يكون الله خالق كل شيء، ولا يوجب أن يدعى المخلوق دعاء عبادة، أو دعاء استعانة، كذلك إثبات بعض الأفعال المحرمة، من شرك أو غيره أسبابا، لا يقدح في توحيد الإلهية، ولا تمنع أن يكون الله هو الذي يستحق الدين الخالص، ولا يوجب أن تستعمل الكلمات والأفعال التي فيها شرك، إذا كان الله يسخطه ذلك، ويعاقب العبد عليه.
وتكون مضرة ذلك على العبد أكثر من منفعته، إذ قد جعل الخير كله في أنا لا نعبد إلا إياه، ولا نستعين إلا به، وعامة آيات القرآن تثبت هذا الأصل، حتى إنه سبحانه قطع أثر الشفاعة بدون إذنه، فذكر رحمه الله آيات كثيرة في هذا المعنى، ثم قال: القرآن عامتة إنما هو في تقرير هذا الأصل العظيم، الذي هو أصل الأصول.
وقال رحمه الله، في موضع آخر: ونحن نعلم بالضرورة، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأحياء والأموات، لا الأنبياء ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة في حال الشدة، ولا بلفظ الاستعانة، ولا بغيرهما، كما لم يشرع الله السجود لميت، ولا إلى ميت، ونحو ذلك; بل نعلم أنه نهى عن ذلك كله،
وأنه من الشرك الذي حرمه الله ورسوله.
لكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة، في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول، قال: ولهذا ما بينت هذه المسألة لمن يعرف أصل دين الإسلام إلا تفطن لها، وقال: هذا أصل دين الإسلام; وكان بعض أكابر الشيوخ العارفين من أصحابنا، يقول: هذا أعظم ما بينته لنا، لعلمه بأن هذا أصل الدين، انتهى.
فقوله رحمه الله: لم يمكن تكفيرهم حتى يبين لهم ما جاء به الرسول، أي: لم يمكن تكفيرهم بأشخاصهم وأعيانهم، بأن يقال: فلان كافر ونحوه، بل يقال: هذا كفر، ومن فعله كافر؛ كما أطلق رحمه الله الكفر على فاعل هذه الأمور ونحوها في مواضع لا تحصى، وحكى إجماع المسلمين على كفر فاعل هذه الأمور الشركية.
وصرح بذلك رحمه الله في مواضع، كما قال في أثناء جواب له في الطائفة القدرية، قال بعد كلام كثير: وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر، في الكتاب والسنة والإجماع، يقال: هي كفر مطلق، كما دل على ذلك الدليل الشرعي؛ فإن الإيمان والكفر، من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله، ليس ذلك مما يحكم الناس فيه بظنونهم، ولا يجب أن يحكم في كل شخص، قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير، وتنتفي موانعه; مثل من قال: إن الزنى والخمر حلال، لقرب
عهده بالإسلام، ونشوئه ببادية بعيدة.
وقال رحمه الله تعالى، في موضع آخر - في أثناء كلام له على هذه المسألة -: وحقيقة الأمر في ذلك: أن القول يكون كفرا، فيطلق القول بتكفير صاحبه; فيقال: من قال كذا فهو كافر; لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، فهذا كما في نصوص الوعيد; فإن الله يقول:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [سورة النساء آية: 10] الآية.
فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد; فلا نشهد لمعين من أهل القبلة بالنار، لجواز أن لا يلحقه الوعيد، لفوات شرط، أو ثبوت مانع؛ فقد لا يكون بلغه التحريم، وقد يتوب من فعله المحرم، وقد يكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم، وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في "شرح المنازل": ومن أنواعه، أي: الشرك: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا هو أصل شرك العالم; فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا لمن استغاث به، وسأله أن يشفع له.
وقال في أثناء كلام له: فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله، ولو كانت ما كانت; ويقولون: إن هذا الحجر،
وهذه الشجرة، وهذه العين، تقبل النذر، أي: تقبل العبادة من دون الله تعالى، فإن النذر عبادة وقربة، يتقرب بها الناذر إلى المنذور له.
وقال في الهدي - في غزوة الطائف - ومنها: أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت، بعد القدرة على هدمها، وإبطالها يوما واحدا; فإنها شعائر الكفر والشرك، وهي من أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها بعد القدرة البتة.
وهكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا، وطواغيت تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد بالتعظيم والتبرك والنذر والتقبيل، فلا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض، مع القدرة على إزالتها، وكثير منها بِمنْزلة اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم تركا عندها وبها، والله المستعان.
ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت، يعتقد أنها تخلق وترزق، وتحيي وتميت; وإنما كانوا يفعلون عندها وبها، ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم؛ فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وأخذوا مأخذهم شبرا بشبر وذراعا بذراع؛ وغلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل، وخفاء العلم، فصار المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة.
نشأ على ذلك الصغير وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس؛ ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض، ومن عليها، وهو خير الوارثين، انتهى.
والأمر كما قال رحمه الله تعالى: إن سبب حدوث الشرك وظهوره: ظهور الجهل، وخفاء العلم وقلة العلماء، وغلبت السفهاء; فيتبين لطالب الحق أن من جادل عن المشركين، وسهل عليه ما ارتكبوه من الشرك، واحتج لهم بالحجج الباطلة، أنه فاقد أصل العلم وأفرضه، فيستحق أن يوصف بالجهل، وإن كان له اشتغال بأنواع من العلوم القليل نفعها، وفي هذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم:" لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة "1. وما أحسن ما قال ابن المبارك:
وهل أفسد الدين إلا الملوك
…
وأحبار سوء ورهبانها
ويروى: أن هلاك من كان قبلنا، كان على يد قرائهم وفقهائهم، فإنا لله وانا إليه راجعون.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن ذبح للشيطان ودعاه واستغاث به، وتقرب إليه بما يحب، فقد عبده، وإن لم يسم ذلك عبادة، ويسميه استخداما من الشيطان له، وقال:
والشرك فاحذره فشرك ظاهر
…
ذا القسم ليس بقابل الغفران
1 البخاري: أحاديث الأنبياء 3456 ، ومسلم: العلم 2669 ، وأحمد 3/84 ،3/89.
وهو اتخاذ الند للرحمن أيا
…
كان من حجر ومن إنسان
يدعوه أو يرجوه ثم يخافه
…
ويحبه كمحبة الديان
والله ما ساووهمو بالله في
…
خلق ولا رزق ولا إحسان
لكنهم ساووهمو بالله في
…
حب وتعظيم وفي إيمان
جعلوا محبتهم مع الرحمن ما
…
جعلوا المحبة قط للرحمن
[قول شيخ الإسلام فيما نذر لغير الله]
وقال شيخ الإسلام: وأما ما نذره لغير الله، كالنذر للأصنام والشمس، والقمر والقبور ونحو ذلك، فهو بِمنْزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات، والحالف بالمخلوقات، لا وفاء عليه ولا كفارة، وكذلك الناذر للمخلوق ليس عليه وفاء ولا كفارة; فإن كليهما شرك: والشرك ليس له حرمة، بل عليه أن يستغفر الله من هذا العقد، ويقول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" من حلف باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله" 1 انتهى; قوله: فهو بِمنْزلة أن يحلف بغير الله; أي: في عدم الانعقاد، لا حقيقة كحقيقته، لأن النذر عبادة بخلاف الحلف. وقال أيضا، على قوله تعالى:{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [سورة المائدة آية: 3] : ظاهره: أنه ما ذبح لغير الله، مثل أن يقول: هذه ذبيحة لكذا; وإذا كان هذا المقصود، فسواء لفظ به أو لم يلفظ به، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبح للحم، وقيل فيه: بسم المسيح ونحوه،
لأن ما ذبحناه متقربين به إلى الله، كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم، وقلنا فيه: بسم الله، فإن عبادة الله بالصلاة له
1 البخاري: تفسير القرآن 4860 والأدب 6107 والاستئذان 6301 والأيمان والنذور 6650 ، ومسلم: الأيمان 1647 ، والترمذي: النذور والأيمان 1545 ، والنسائي: الأيمان والنذور 3775 ، وأبو داود: الأيمان والنذور 3247 ، وابن ماجه: الكفارات 2096 ، وأحمد 2/309.
والنسك، أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور; فإذا حرم ما قيل فيه: بسم المسيح والزهرة، فلأن يحرم ما قيل فيه: لأجل المسيح أو الزهرة، أو قصد به ذلك، أولى; فإن العبادة لغير الله أعظم كفرا، من الاستعانة بغير الله.
فعلى هذا: فلو ذبح لغير الله متقربا إليه، لحرم، وإن قال فيه: بسم الله، كما يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، الذين يتقربون إلى الكواكب بالذبح والنحر، ونحو ذلك، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال; لكن يجتمع في الذبيحة مانعان; ومن هذا الباب ما يفعله الجاهلون بمكة، من الذبح للجن.
وقال: ولهذا كان عباد الشياطين والأصنام، يذبحون لها الذبائح، فالذبح للمعبود، غاية الذل، والخضوع، ولهذا لم يجز الذبح لغير الله.
وقال في موضع آخر: والمسلم إذا ذبح لغير الله، أو ذبح بغير اسمه، لم تبح ذبيحته، وإن كان يكفر بذلك; إلى أن قال: ولأن الذبح لغير الله، وباسم غيره، قد علم أنه ليس من دين الإسلام، بل هو من الشرك الذي أحدثوه; قال، وقول الشيخ: انذروا لي لتقضى حاجاتكم، واستعينوا بي، إذا أصر ولم يتب قتل.
قال أبو محمد البربهارى، شيخ الحنابلة في وقته، في عقيدته: ولا نخرج أحدا من أهل القبلة من الإسلام، حتى
يرد آية من كتاب الله تعالى، أو يرد شيئا من آثار رسول لله صلى الله عليه وسلم، أو يصلي لغير الله، أو يذبح لغير الله، فقد وجب عليك أن تخرجه من الإسلام، في كلام كثير، انتهى، سمع البربهاري من المروزي وغيره.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: رأيت لأبي الوفاء بن عقيل فصلا حسنا، فذكرته بلفظه، قال: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع، إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم; قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وإكرامها بما نهى عنه الشرع، من إيقاد السرج، وتقبيلها وتخليقها، وخطاب أهلها بالحوائج، وكتب الرقاع، فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى.
والويل عندهم، لمن لم يقبل مشهد الكف، ولم يتمسح بالآجر يوم الأربعاء، ولم يقل الحمالون على جنازته: أبو بكر الصديق، ومحمد، وعلي، أو لم يعقد علي قبر أبيه آزجا بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه، ولم يرق ماء الورد على القبر، انتهى كلامه. فانظر إلى تكفير ابن عقيل لهم، مع إخباره بجهلهم.
وقال الشيخ قاسم الحنفي في "شرح درر البحار": النذر الذي يقع من أكثر العوام، على ما هو مشاهد الآن، كأن يكون
لإنسان غائب، أو مريض، أو له حاجة ضرورية، فيأتي إلى قبر بعض الصلحاء ويجعل على رأسه سترة، ويقول: يا سيدي فلان إن رد الله غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي، فلك من الذهب كذا؛ أو من الفضة كذا، أو من الطعام كذا، أو من الماء كذا، أو من الشمع كذا، فهذا باطل بالإجماع، لوجوه:
منها: أنه نذر لمخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز، ولأنه عبادة، والعبادة لا تكون لمخلوق. ومنها: أن المنذور له ميت، والميت لا يملك. ومنها: أنه ظن الميت يتصرف في الأمور دون الله، واعتقاد ذلك كفر، إلى أن قال: إذا علمت ذلك، فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها، وينقل إلى ضرائح الأولياء، تقربا إليهم، فحرام بإجماع المسلمين.
وقال النووي في شرح مسلم، على قول النبي صلى الله عليه وسلم:" لعن الله من ذبح لغير الله " 1، المراد به: أن يذبح بغير اسم الله، كمن يذبح للصنم، أو للصليب أو لموسى، أو لعيسى، أو للكعبة ونحو ذلك، فكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة، وسواء كان الذابح مسلما، أو نصرانيا، إلى أن قال: فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله، أو العبادة له، كان كافرا; فإن كان الذابح مسلما، صار بالذبح مرتدا، انتهى.
وقال الشيخ صنع الله، في الرد على من أجاز الذبح والنذر للأولياء، وأثبت الأجر في ذلك: فهذا الذبح والنذر، إن كان على اسم فلان وفلان لغير الله، فيكون باطلا؛ وفي التنْزيل:
1 مسلم: الأضاحي 1978 ، والنسائي: الضحايا 4422 ، وأحمد 1/108 ،1/118 ،1/152.
{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [سورة الأنعام آية: 121]{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} ، [سورة الأنعام آية: 162-163] ، أي: صلاتي وذبحي لله كما فسر به قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2]، قال: والنذر لغير الله إشراك مع الله، إلى أن قال: والنذر لغير الله، كالذبح لغير الله; وقال الفقهاء: خمسة لغير الله شرك، الركوع والسجود، والنذر، والذبح، واليمين، قال: والحاصل: أن النذر لغير الله فجور، فمن أين تحصل لهم الأجور؟!.
وقال ابن النحاس في "كتاب الكبائر": ومنها: إيقادهم السرج عند الأحجار والأشجار، والعيون والآبار، ويقولون: إنها تقبل النذر، وهذه كلها بدع، ومنكرات قبيحة، تجب إزالتها، ومحو أثرها; فإن أكثر الجهال يعتقدون: أنها تنفع وتضر، وتجلب وتدفع، وتشفي المرضى، وترد الغائب إذا نذر لها، وهذا شرك، ومحادة لله ورسوله.
وقال أبو محمد: عبد الرحمن بن إسماعيل الشافعي، المعروف بأبي شامة في كتاب "الباعث على إنكار البدع والحوادث": ومن هذا القسم أيضا: ما قد عم الابتلاء به، مع تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، وسرج مواضع مخصوصة، يحكي لهم حاك: أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية؛ فيفعلون ذلك ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا
إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم بالنذر لهم، وهي ما بين عيون وشجر وحائط.
وفي مدينة دمشق - صانها الله من ذلك - مواضع متعددة، كعوينة الحمى خارج باب توما، والعمد المخلق داخل باب الصغير، والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر، في نفس قارعة الطريق، سهل الله قطعها، واجتثاثها من أصلها; فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث، وذكر الحديث.
ثم قال: قال أبو بكر الطرطوشي: فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة، أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها، ويرجون البرء والشفاء منها، ويضربون بها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط فاقطعوها; ثم قال [أبو شامة] :
ولقد أعجبني ما صنعه الشيخ أبو إسحاق الجبنياني رحمه الله تعالى، أحد الصالحين ببلاد إفريقية، في المائة الرابعة، حكى عنه صاحبه الصالح: أبو عبد الله، محمد بن أبي العباس المؤدب، أنه كان إلى جانبه عين تسمى "عين العافية" كانت العامة قد افتتنوا بها، يأتونها من الآفاق من تعذر عليها نكاح، أو ولد، قالت: امضوا بي إلى العافية، فتعرف بها الفتنة.
قال أبو عبد الله: فأنا في السحر ذات ليلة، إذ سمعت أذان أبي إسحاق نحوها، فخرجت فوجدته قد هدمها، وأذن
الصبح عليها، ثم قال: اللهم إني هدمتها لك، فلا ترفع لها رأسا؛ فما رفع لها رأس إلى الآن، انتهى كلامه. وكان العالم: أبو محمد ابن أبي زيد، يعظم شأن أبي إسحاق، ويقول: طريقة أبي إسحاق خالية، لا يسلكها أحد في الوقت.
[الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفا في الحياة وبعد الممات]
قال الشيخ: صنع الله الحنفي، في كتابه الذي ألفه في الرد على من ادعى، أن للأولياء تصرفا في الحياة وبعد الممات، على سبيل الكرامة: هذا وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين، جماعات يدعون أن للأولياء تصرفا في حياتهم، وبعد الممات، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم، وينادونهم في قضاء الحاجات، مستدلين على أن ذلك منهم كرامات; وقالوا: منهم أبدال ونقباء، وأوتاد ونجباء، وسبعة وسبعون، وأربعة وأربعون، والقطب هو الغوث للناس، وعليه المدار بلا التباس، وجوزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيهما الأجور.
قال: وهذا كلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي، والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومضادة الكتاب العزيز المصدق، ومخالف لعقائد الأئمة، وما اجتمعت عليه الأمة، وفي التنْزيل:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] إلى أن قال: الفصل الأول: فيما انتحلوه من الإفك الوخيم، والشرك العظيم، إلى أن قال:
فأما قولهم: إن للأولياء تصرفا في حياتهم وبعد الممات، فيرده، قوله تعالى:{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [سورة النمل آية: 60]{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [سورة الأعراف آية: 54]{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [سورة الشورى آية: 49] ونحوه من الآيات الدالة على أنه المنفرد بالخلق والتدبير، والتصرف والتقدير، ولا شيء لغيره فيه شيء ما بوجه من الوجوه، فالكل تحت ملكه وقهره، تصرفا وملكا، وإحياء وإماتة وخلقا، وتمدح الرب سبحانه بانفراده في ملكه بآيات من كتابه، كقوله تعالى:{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [سورة فاطر آية: 3]{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13] وذكر آيات في هذا المعنى.
قال: فقوله في الآيات كلها {مِنْ دُونِهِ} [سورة فاطر آية: 13] أي: من غيره، فإنه عام يدخل فيه من اعتقدته، من ولي وشيطان تستمده; فإن من لم يقدر على نصر نفسه، كيف يمد غيره؟! إلى أن قال: فكيف يمكن أن يتصرف؟ إن هذا من السفاهة لقول وخيم وشرك عظيم، إلى أن قال:
وأما القول بالتصرف بعد الممات، فهو أقبح، وأشنع وأبدع، من القول بالتصرف في الحياة، قال جل ذكره:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [سورة الزمر آية: 30]{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [سورة الزمر آية: 42]، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [سورة المدثر آية: 38] .
وفي الحديث: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث " 1
1 مسلم: الوصية 1631 ، والترمذي: الأحكام 1376 ، والنسائي: الوصايا 3651 ، وأبو داود: الوصايا 2880 ، وأحمد 2/372 ، والدارمي: المقدمة 559.
الحديث؛ فجميع ذلك، وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أرواحهم ممسكة، وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان، فدل ذلك على أنه ليس للميت تصرف في ذاته، فضلا عن غيره، بحركة، وأن روحه محبوسة مرهونة بعملها، من خير وشر؛ فإذا عجز عن حركته لنفسه، فكيف يتصرف لغيره؟! فالله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده; وهؤلاء الملحدون، يقولون: إن الأرواح مطلقة متصرفة، {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [سورة البقرة آية: 140] ؟!
قال: وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات، فهو من المغالطة، لأن الكرامة شيء من عند الله، يكرم بها أولياءه، لا قصد لهم فيه، ولا تحد ولا قدرة، ولا علم، كما في قصة مريم بنت عمران، وأسيد بن حضير، وأبي مسلم الخولاني.
قال: وأما قولهم: ويستغاث بهم في الشدائد، فهذا أقبح مما قبله وأبدع، لمضادة قوله تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [سورة النمل آية: 62] الآية {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الأنعام آية: 63] ، وذكر الآيات في هذا المعنى، ثم قال:
فإنه جل ذكره، قرر أنه الكاشف الضر لا غيره، وأنه المتعين لكشف الشدائد والكرب، وأنه المتفرد بإجابة المضطرين، وأنه المستغاث لذلك كله، وأنه القادر على دفع الضر، وعلى
إيصال الخير، فهو المتفرد بذلك; فإذا تعين جل ذكره، خرج غيره من ملك ونبي وولي.
قال: والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية، من الأمور الحسية في قتال، وإدراك عدو، أو سبع ونحوه، كقولهم: يا لزيد! ويا لقوي! ويا للمسلمين، كما ذكروا ذلك في كتب النحو، بحسب الأسباب الظاهرة بالفعل، وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير، أو في الأمور المعنوية من الشدائد، كالمرض، وخوف الغرق، والضيق، والفقر، وطلب الرزق ونحوه، فمن خصائص الله، فلا يطلب فيها غيره.
قال: وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم، كما تفعله جاهلية العرب، والصوفية الجهال وينادونهم، ويستنجدون بهم، فهذا من المنكرات، إلى أن قال: فمن اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولي أو روح أو غير ذلك، في كشف كربة أو قضاء حاجة تأثيرا، فقد وقع في وادي جهل خطير، فهو على شفا حفرة من السعير.
وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات، فحاشا أولياء الله أن يكونوا بهذه المثابة، فهذا ظن أهل الأوثان، كذا أخبر الرحمن {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ؛ {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3]، {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} [سورة يس آية: 23] ؛ فإن ذكر ما ليس من شأنه النفع،
ولا دفع الضر، من نبي وولي وغيره، على وجه الإمداد منه، إشراك مع الله إذ لا قادر على الدفع غيره، ولا خير إلا خيره.
وأما ما قالوه أن فيهم أبدالا ونقباء، وأوتادا ونجباء، وسبعين وسبعة، وأربعين وأربعة، والقطب وهو الغوث للناس، فهذا من موضوعات إفكهم، كما ذكره القاضي المحدث ابن العربي، في سراج المريدين، وابن الجوزي، وابن تيمية، انتهى باختصار ; وأقوال العلماء في ذلك كثير، واكتفينا بما ذكرنا.
[فصل في قول الشيخ: الشيطان يضل بني آدم بحسب قدرته]
وتقدم في كلام الشيخ الإشارة إلى أنه لولا أنه يخشى من الفتنة بالقبور، لما نهى عن الصلاة عندها وغير ذلك، وتأكدت الفتنة بقضاء حوائج بعض قاصديها والمشركين بها، وذكر الشيخ رحمه الله من ذلك أشياء كثيرة، ذكرها في "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان"، وغيره من كتبه.
قال: والشيطان يضل بني آدم بحسب قدرته، فمن عبد الشمس والقمر والكواكب ودعاها، كما يفعل أهل دعوى الكواكب، فإنه ينْزل عليه شيطان يخاطبه، ويحدثه ببعض الأمور، يسمون ذلك روحانيات الكواكب، وهو شيطان؛ وكذلك عباد الأصنام، قد تخاطبهم الشياطين؛ وكذلك من استغاث بميت أو غائب؛ وكذلك من دعا الميت أو دعا عنده، وظن أن الدعاء عند قبره أفضل منه في البيوت والمساجد.
وللنصارى والضلال من المسلمين أحوال عند المشاهد، يظنونها كرامات، وهي من الشيطان، مثل أن يضعوا سراويل عند القبر، فيجدونه قد عقد، أو يوضع عنده مصروع، فيبصرون شيطانه قد فارقه، فيفعل هذا الشيطان ليضلهم، ومثل: أن يرى أحدهم أن القبر قد انشق، فيخرج منه إنسان، فيظنه الميت.
ومن هؤلاء: من يستغيث بمخلوق حي أو ميت، سواء كان ذلك الحي مسلما أو نصرانيا أو مشركا، فيتصور الشيطان بصورة ذلك المستغاث به، ويقضي بعض حاجة ذلك المستغيث، فيظن أنه ذلك الشخص، أو أنه ملك على صورته ; وإنما هو شيطان أضله لما أشرك بالله، كما كانت الشياطين تدخل الأصنام وتكلم المشركين.
ومن هؤلاء: من يتصور له الشيطان، ويقول له: أنا الخضر، وربما أخبره ببعض الأمور، وأعانه على بعض مطالبه ; ومنهم: من يطير به الجني إلى مكة أو بيت المقدس، أو غيرهما ; ومنهم: من يحمله عشية عرفة ثم يعيده من ليلته ; ومنهم: من كان يؤتى بمال مسروق سرقه الشيطان ويأتيه به ; ومنهم: من كانت تدله على المسروقات.
قال رحمه الله تعالى: حتى إني أعرف من هؤلاء جماعات، يأتون إلى الشيخ نفسه الذي استغاثوا به، وقد رأوه أتاهم في الهواء فيذكرون ذلك له; وهؤلاء يأتون إلى هذا الشيخ، فتارة
يكون الشيخ نفسه لم يعلم بتلك القضية، فإن كان يحب الرياسة، أوهمهم أنه نفسه أتاهم وأعانهم.
وإن كان فيه صدق مع جهل وضلال، قال: هذا ملك صوره الله على صورتي، وجعل هذا من كرامات الصالحين، وجعله عمدة لمن يستغيث بالصالحين، ويتخذهم أربابا من دون الله، وأنهم إذا استغاثوا بهم بعث الله ملائكة على صورهم تغيث المستغيثين بهم.
ولهذا أعرف غير واحد منهم، ممن فيه صدق وزهد وعبادة، لما ظنوا أن هذا من كرامات الصالحين، صار أحدهم يوصي مريده، يقول: إذا كانت لأحدكم حاجة، فليستغث بي وليستنجد بي ; ويقول: أنا أفعل بعد موتي ما كنت أفعل في حياتي؛ وهو لا يعرف أن تلك شياطين تصور على صورته، لتضله وتضل أتباعه.
فيحسن لهم الإشراك بالله، ودعاء غير الله، والاستغاثة بغير الله، وأنها قد تلقي في قلبه: أنا نفعل بأصحابك بعد موتك، ما كنا نفعل بهم في حياتك، فيظن هذا من خطاب إلهي ألقي إليه، فيأمر أصحابه بذلك؛ وذكر أشياء كثيرة من هذا الجنس وأعظم منه.
والمقصود: أن الإنسان إذا سمع بوقوع مثل ذلك لا يستبعده، ولا يفتتن به، إذا عرف أن مثل هذه الأمور تقع لعباد الأصنام والقبور؛ والأمر كله لله، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
فصل
[فيما يتعين على من نصح نفسه]
يتعين على من نصح نفسه، وعلم أنه مسؤول عمّا قال وفعل، ومحاسب على اعتقاده، وقوله وفعله، أن يعدّ لذلك جوابا، ويخلع ثوبي الجهل والتعصب، ويخلص القصد في طلب الحق، قال الله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سورة سبأ آية: 46] . وليعلم أنه لا يخلصه إلا اتباع كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3]، وقال تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة ص آية: 29] .
ولما كان قد سبق في علم الله وقضائه أنه سيقع الاختلاف بين الأمة، أمرهم وأوجب عليهم عند التنازع، الرد إلى كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] ؛ قال العلماء: الردّ إلى الله: الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله: الرد إليه في حياته، والرد إلى سنته بعد وفاته.
ودلت الآيات على أن من لم يرد عند التنازع، إلى كتاب الله وسنة نبيه، فليس بمؤمن، لقوله تعالى:{إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [سورة النساء آية: 59] ؛ فهذا شرط ينتفي المشروط بانتفائه، ومحال أن يأمر الله الناس بالرد إلى ما لا يفصل النّزاع، لا سيما في
أصول الدين، التي لا يجوز فيها التقليد عند عامة العلماء.
وقال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] .
ولما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع الاختلاف الكثير بعده بين أمته، أمرهم عند وجود الاختلاف بالتمسك بسنته، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، فقال صلى الله عليه وسلم:" إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة "1.
ولم يأمرنا الله ولا رسوله بالرد عند التنازع والاختلاف إلى ما عليه أكثر الناس، ولم يقل الله ولا رسوله: لينظر كل أهل زمان إلى ما عليه أكثرهم، أي: في زمانهم فيتبعونهم، ولا إلى أهل مصر معين، أو إقليم ; وإنما الواجب على الناس: الرد إلى كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وما مضى عليه الصحابة رضوان الله عليهم، والتابعون لهم بإحسان.
فيجب على الإنسان الالتفات إلى كتاب الله، وسنة نبيه، وطريقة أصحابه والتابعين، وأئمة الإسلام، ولا يعبأ بكثرة المخالفين بعدهم ; فإذا علم الله من العبد الصدق في طلب
1 أبو داود: السنة 4607 ، والدارمي: المقدمة 95.
الحق، وترك التعصب، ورغب إلى الله في سؤال هدايته الصراط المستقيم، فهو جدير بالتوفيق ; فإن على الحق نورا، لا سيما التوحيد الذي هو أصل الأصول، الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهو توحيد الإلهية؛ فإن أدلته وبراهينه في القرآن ظاهرة، وعامته إنما هو في تقرير هذا الأصل العظيم.
ولا يتوحش الإنسان لقلة الموافقين، وكثرة المخالفين، فإن أهل الحق أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، لا سيما في هذه الأزمنة المتأخرة، التي صار الإسلام فيها غريبا.
والحق لا يُعرف بالرجال، كما قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه لمن قال له: أترى أنا نرى الزبير وطلحة مخطئين، وأنت المصيب؟ فقال له علي:"ويحك يا فلان! إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله" وأيضا قال: "الحق ضالة المؤمن".
وليحذر العاقل من شبهة الذين قال الله عنهم: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [سورة الأحقاف آية: 11]، {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [سورة الأنعام آية: 53] . وقد قال بعض السلف: "ما ترك أحد حقا إلا لكبر في نفسه" ومصداق ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: " لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر " 1، ثم فسر الكبر: بأنه "بطر الحق" أي: رده، " وغمط الناس " 2 أي: احتقارهم وازدراؤهم ; ولقد أحسن القائل:
وتعر من ثوبين من يلبسهما
…
يلق الردى بمذمة وهوان
1 مسلم: الإيمان 91 ، والترمذي: البر والصلة 1998 ،1999 ، وأبو داود: اللباس 4091 ، وابن ماجه: المقدمة 59 والزهد 4173 ، وأحمد 1/399 ،1/412 ،1/416 ،1/451.
2 مسلم: الإيمان 91 ، والترمذي: البر والصلة 1999.
ثوب من الجهل المركب فوقه
…
ثوب التعصب بئست الثوبان
وتحل بالإنصاف أفخر حلة
…
زينت بها الأعطاف والكتفان
واجعل شعارك خشية الرحمن مع
…
نصح الرسول فحب ذا الأمران
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وما أحسن ما قال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن المعروف بأبي شامة، في كتاب "الباعث على إنكار البدع والحوادث" حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة، فالمراد به: لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلا، والمخالف له كثيرا، إلا أن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى، من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا تنظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم.
قال عمرو بن ميمون الأودي: "صحبت معاذا، فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام. ثم صحبت من بعده أفقه الناس: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فسمعته يقول: عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة.
ثم سمعته يوما من الأيام، وهو يقول: سيكون عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لميقاتها فهي الفريضة، وصلوا معهم، فإنها لكم نافلة، قال: قلت يا أصحاب محمد، ما أدري ما تحدثون؟! قال: وماذا؟ قلت: تأمرني بالجماعة، وتحضني عليها، ثم تقول: صل الصلاة وحدك وهي الفريضة، وصل مع الجماعة وهي لك نافلة.
قال يا عمرو بن ميمون: قد كنت أظن أنك من أفقه أهل
هذه القرية، أتدري ما الجماعة؟ قلت: لا ; قال: إن جمهور الجماعة الذين فارقوا الجماعة. الجماعة ما وافق الحق، وإن كنت وحدك. وفي طريق آخر: فضرب على فخذي، وقال: ويحك! إن جمهور الناس فارقوا الجماعة، وإن الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل". قال نعيم بن حماد:"إذا فسدت الجماعة، فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن يفسدوا، وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ" ذكره البيهقي وغيره.
وروى مبارك بن فضالة، عن الحسن البصري، قال: "لو أن رجلا أدرك السلف الأول، ثم بعث اليوم، ما عرف من الإسلام شيئا، قال: ووضع يده على خده، ثم قال: إلا هذه الصلاة.
ثم قال: أما والله لمن عاش في هذه النكرى، ولم يدرك هذا السلف الصالح، فرأى مبتدعا يدعو إلى بدعته، ورأى صاحب دنيا يدعو إلى دنياه، فعصمه الله من ذلك، وجعل قلبه يحن إلى ذلك السلف الصالح، يسأل عن سبيلهم، ويقتص آثارهم، ويتبع سبيلهم، ليعوّض أجرا عظيما، فكذلك فكونوا إن شاء الله".
وروى محمد بن وضاح، عن أبي الطفيل: أن حذيفة بن اليمان، أخذ حصاة بيضاء فوضعها في كفه، ثم قال: "إن هذا الدين قد استضاء استضاءة هذه الحصاة. ثم أخذ كفا من تراب، فجعل يذره على الحصاة حتى وارها، ثم قال: والذي نفسي
بيده، ليجيئن أقوام يدفنون الدين، كما دفنت هذه الحصاة. ولتسلكن طريق الذين كانوا قبلكم، حذو القذة بالقذة، وحذو النعل بالنعل".
وقال محمد بن وضاح: الخير بعد الأنبياء ينقص، والشر يزيد، قال ابن وضاح: إنما هلكت بنو إسرائيل على يد قرائهم، وروى ابن وضاح، عن عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن حسان ابن أبي جبلة عن أبي الدرداء، قال:"لو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم اليوم، ما عرف شيئا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة، قال الأوزاعي: فكيف لو كان اليوم؟! قال عيسى ابن يونس: فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان"؟!
وروى ابن وضاح عن الأوزاعي، قال:"قال لي شقيق أبو وائل: يا سليمان ما شبهت قراء زمانك إلا غنما رعت حمضا، فمن رآها ظن أنها سمينة، وإذا ذبحها لم يجد فيها شاة سمينة". وروى ابن وضاح عن "أبي الدرداء، قال: لو أن رجلا تعلم الإسلام وأتمه، ثم تفقده ما عرف منه شيئا".
وروى ابن وضاح عن عبد الله بن المبارك، قال:"اعلم أي أخي، أن الموت اليوم كرامة لكل مسلم لقي الله على السنة" فإنا لله وإنا إليه راجعون، فإلى الله نشكو وحشتنا، وذهاب الإخوان وقلة الأعوان، وظهور البدع، وإلى الله نشكوا عظيم ما حل بهذه الأمة من ذهاب العلماء وأهل السنة، وظهور البدع، انتهى.
فكيف لو رأى من تقدم ذكرهم هذه الأزمنة، التي ظهر فيها الشرك الأكبر، والأصغر، والبدع التي لا تعد ولا تحصى في الاعتقادات، والأقوال والأعمال، وظهرت جميع الفواحش في أكثر أمصار المسلمين، وضيعت الصلاة واتبعت الشهوات، وظهر مصداق قول حذيفة:"ليجيئن أقوام يدفنون الدين، كما دفنت هذه الحصاة".
وأبلغ من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة القذة قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 1 وقال: "لتأخذن هذه الأمة مأخذ الأمم قبلها، شبرا بشبر وذراعا بذراع. قالوا: فارس والروم؟ قال: فمن الناس إلا أولئك" وظهر مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء "2.
واعتبر هذا بما عاب به سبحانه اليهود من تبديلهم، برجم الثيب الزاني بالجلد والتحميم، فال سبحانه وتعالى في شأنهم:{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [سورة المائدة آية: 41]، يقولون: إن أفتاكم محمد بالجلد والتحميم فاقبلوا، وإن أفتاكم بالرجم فلا تقبلوا. وقال سبحانه عنهم:{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة المائدة آية: 41]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما رجم الزاني:" اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه "3. فكيف حال الذين عطلوا الحدود بالكلية؟ ثم زاد الشر إلى أن آل الأمر ببعض الولاة أنهم يضربون على البغايا الخراج، وتعدوا
1 البخاري: أحاديث الأنبياء 3456 ، ومسلم: العلم 2669 ، وأحمد 3/84 ،3/89.
2 مسلم: الإيمان 145 ، وابن ماجه: الفتن 3986 ، وأحمد 2/389.
3 مسلم: الحدود 1700 ، وأبو داود: الحدود 4447 ،4448 ، وابن ماجه: الحدود 2558 ، وأحمد 4/286 ،4/300.
حدود الله في السارق، بالصلب، والقتل، صيانة لأموالهم، ولم يعبؤوا بانتهاك حرمات مولاهم؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وليجتهد المسلم في تحقيق العلم والإيمان، وليتخذ ربه هاديا ونصيرا، وحاكما ووليا، فإنه {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [سورة الأنفال آية: 40] ، {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [سورة الفرقان آية: 31] .
وينبغي أن يكثر الدعاء بما رواه مسلم وغيره، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام يصلي من الليل يقول: " اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ".
اللهم إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم، وصلى الله وسلم على نبينا، وعلى آله وصحبه أجمعين، صلاة وسلاما دائمين إلى يوم الدين.
[جواب الشيخ أبا بطين عما يورده بعضهم أن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون]
قال الشيخ العالم المبجل عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله تعالى.
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد طلب مني بعض الإخوان، أن أكتب له جوابا عما يورده بعض الناس، من قوله صلى الله عليه وسلم:" إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب " 1، ويستدلون به على استحالة وقوع شيء من الشرك في جزيرة العرب، والحديث المروي " يا عباد الله احبسوا".وعما يورده بعضهم من قوله صلى الله عليه وسلم لأسامة:"أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ " 2، وقوله:" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله " 3؛ ويستدل بذلك على أن من قال: لا إله إلا الله لا يجوز قتاله.
الجواب: أما قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب " 4، فيقال أولا: من المعلوم بالضرورة، أن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التوحيد، وهو توحيد الألوهية، وينهى عن الشرك، وهو عبادة غير الله.
وأما الشرك في الربوبية، فمن المعلوم بنصوص الكتاب أن المشركين الذين بعث إليهم رسول الله، وقاتلهم، يقرون بتوحيد الربوبية، وأن شركهم إنما هو في توحيد العبادة، وهو
1 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار 2812 ، والترمذي: البر والصلة 1937 ، وأحمد 3/313 ،3/354 ،3/366 ،3/384.
2 البخاري: المغازي 4269 والديات 6872 ، ومسلم: الإيمان 96 ، وأحمد 5/200.
3 البخاري: الجهاد والسير 2946 ، ومسلم: الإيمان 21 ، والترمذي: الإيمان 2606 ، والنسائي: الجهاد 3090 ،3095 وتحريم الدم 3971 ،3972 ،3974 ،3976 ،3977 ،3978 ، وأبو داود: الجهاد 2640 ، وابن ماجه: المقدمة 71 والفتن 3927 ،3928 ، وأحمد 1/11 ،2/377 ،2/423 ،2/502 ،2/528 ،3/300 ،3/332 ،3/339 ،3/394.
4 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار 2812 ، والترمذي: البر والصلة 1937 ، وأحمد 3/313 ،3/354 ،3/366 ،3/384.
توحيد الألوهية، الذي هو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله، فعبدوا من عبدوه من دون الله، ليشفعوا لهم عنده، في نصرهم، ورزقهم وغير ذلك، كما قال تعالى إخبارا عنهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3]، {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] .
فبعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ينهاهم عن هذا الشرك، ويدعوهم إلى توحيد العبادة؛ وهذه دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم، قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36]، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] . وهذا الأصل هو الذي خلق الله جميع الجن والإنس لأجله، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] .
فإذا تبين أن هذا الأصل هو أصل الأصول، علمنا يقينا أن الله سبحانه وتعالى لم يترك هذا الأمر ملتبسا؛ بل لا بد من أن يكون بينا واضحا لا لبس فيه، ولا اشتباه، لأنه أصل الدين، ومعرفته فرض على كل مكلف، ولا يجوز فيه التقليد.
وحقيقة ذلك: أن الشرك هو عبادة غير الله، والعبادة هي الطاعة بفعل ما أمر الله به ورسوله، من واجب ومندوب؛ فمن أخلص ذلك لله فهو الموحد، ومن جعل شيئاً من العبادة لغير الله فهو مشرك، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ
شَيْئاً} [سورة النساء آية: 36] أي: في العبادة، وقال تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] .
فإذا علم الإنسان حقيقة الشرك، عرف يقينا أن الشرك وقع في الجزيرة كثيرا، عند مشاهد وقبور، يمنا وحجازا، من دعاء الأموات والغائبين، والاستغاثة بهم من سؤال الحاجات، وتفريج الكربات، والتقرب إليهم بالنذور، والذبائح، وكذلك الذبح للجن والاستعاذة بهم؛ وهذا معلوم بالتواتر عند من لم يشاهد ذلك.
فإذا تحقق الإنسان ذلك، علم أن قوله صلى الله عليه وسلم:" إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب " 1 ليس فيه معارضة لهذا الأصل العظيم، الذي هو أصل الأصول، وليس فيه دلالة على استحالة وجود الشرك في أرض العرب.
فمن استدل بهذا الحديث على استحالة وجود الشرك في أرض العرب، يقال له: بيِّن لنا الشرك الذي حرمه الله، وأخبر أنه لا يغفره فإن فسره بالشرك في توحيد الربوبية، فنصوص القرآن تبطل قوله، لأن الله سبحانه أخبر عن المشركين أنهم يقرون بتوحيد الربوبية، كما في قوله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [سورة الزخرف آية: 9] ؛ والآيات في ذلك كثيرة.
وإن فسر الشرك ببعض أنواع العبادة دون بعض، فهو مكابر، ويخاف على مثله أن يكون من الذين في قلوبهم زيغ،
1 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار 2812 ، والترمذي: البر والصلة 1937 ، وأحمد 3/313 ،3/354 ،3/366 ،3/384.
يتركون المحكم ويتبعون المتشابه، مع أنه ليس في الحديث حجة لهم ولا شبهة ; وإنما معنى الحديث: أنه يئس أن يجتمعوا كلهم على الكفر.
قال ابن رجب على هذا الحديث، المراد: أنه يئس أن تجتمع الأمة كلها على الكفر، وأشار ابن كثير إلى هذا المعنى عند تفسير قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ [سورة المائدة آية: 3] قال ابن عباس: يعني يئسوا أن تراجعوا دينهم، وكذا قال عطاء والسدي، ومقاتل.
قال: وعلى هذا يرد الحديث الصحيح: " إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب " 1، فأشار إلى أن معنى الحديث موافق لمعنى الآية، وأن معنى الحديث: أنه يئس أن يرجع المسلمون عن دينهم إلى الكفر.
قال غير واحد من المفسرين: إن المشركين كانوا يطمعون في عود المسلمين إلى دينهم، فلما قوي الإسلام وانتشر، يئسوا من رجوعهم عن الإسلام إلى الكفر؛ وكذا معنى إياس الشيطان، لما رأى من ظهور الإسلام وانتشاره، وتمكنه من القلوب ورسوخه فيها ; وعلى هذا: فلا يدل الحديث على أن الشيطان يئس من وجود الشرك، في جزيرة العرب أبد الآبدين.
ويدل لما ذكرناه: ما رواه الإمام أحمد، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، رنّ إبليس رنة اجتمعت إليه جنوده، فقال: ايئسوا أن تردوا أمة محمد إلى الشرك
1 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار 2812 ، والترمذي: البر والصلة 1937 ، وأحمد 3/313 ،3/354 ،3/366 ،3/384.
بعد يومكم هذا، ولكن افتنوهم في دينهم فأفشوا فيهم النوح".
وأيضا: ففي الحديث نسبة الإياس إلى الشيطان مبنيا للفاعل، لم يقل أُيس بالبناء للمفعول، ولو قدر أنه يئس من عبادته في أرض العرب إياسا مستمرا، فإنما ذلك ظن منه وتخمين لا عن علم، لأنه لا يعلم الغيب، وهذا غيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [سورة الجن آية: 26-27] فإنه يطلعه على ما يشاء من الغيب.
وقد قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [سورة لقمان آية: 34] أي: ما تكسب غدا من خير وشر؛ وهذا من مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله، " لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله " 1 الحديث.
وكانت الشياطين والجن، في زمن سليمان بن داود عليهما السلام، يدعون علم الغيب، فلما مات سليمان، لم يعلموا بموته إلا بعد سنة، وهم في تلك السنة دائبون في التسخير والأعمال الشاقة، فلما علموا بموته؛ تبين لهم أنهم لا يعلمون الغيب.
وعلمت الإنس أيضا أن الجن لا يعلمون الغيب، قال تعالى:{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سورة سبأ آية: 14] .
1 البخاري: التوحيد 7379 ، وأحمد 2/52 ،2/58 ،2/85 ،2/122.
ونبينا صلوات الله وسلامه عليه أخبر أنه يجاء برجال من أمته يوم القيامة، فيؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، فيقول: أصحابي أصحابي ; فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ; فيكف يقال: إن الشيطان يعلم ما تستمر عليه الأمة من خير وشر، وكفر وإسلام، وهذا غيب لا يعلمه إلا الله، ومن يطلعه عليه من رسله؟
فتبين بما ذكرنا أنه لا دلالة في الحديث على استحالة وقوع الشرك، في جزيرة العرب ; ويوضح ذلك أن أكثر العرب ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فكثير منهم رجعوا إلى الكفر وعبادة الأوثان، وكثير صدقوا من ادعى النبوة كمسيلمة وغيره.
ومن أطاع الشيطان في نوع من أنواع الكفر فقد عبده، لا تختص عبادة الشيطان بنوع الشرك، لقوله تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [سورة يس آية: 60]، أي: لا تطيعوه فعبادته طاعته.
يوضح ذلك تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لقول الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31] الآية، أنه طاعتهم في التحريم والتحليل، فسمى الله ذلك شركا، وعبادة منهم للأحبار والرهبان.
وأيضا: فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تقوم الساعة حتى تعبد اللات والعزى " 1، وقال:" لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة " 2، وهو
1 مسلم: الفتن وأشراط الساعة 2907.
2 البخاري: الفتن 7116 ، ومسلم: الفتن وأشراط الساعة 2906 ، وأحمد 2/271.
صنم كان لهم في الجاهلية، بعث النبي صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله ليهدمها ; فتبين أن عبادة الشيطان وجدت بعد موته صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب، وتوجد آخر الزمان، بهذه النصوص الثابتة.
وقال: صلى الله عليه وسلم "ل تتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " 1، وقال:" لتأخذن هذه الأمة مأخذ الأمم قبلها، شبرا بشبر، وذراعا بذراع. قالوا: يا رسول الله، فارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا أولئك ".
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة تفعل كما فعلت الأمم قبلها، اليهود والنصارى، وفارس والروم، وأن هذه الأمة لا تقصر عما فعلت الأمم قبلها، وقال:" لا تزال طائفة من أمتي على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى وهم على ذلك "2. نسأل الله أن يجعلنا منهم بفضله ورحمته آمين، والله أعلم.
وأما الجواب عن الحديث المروي، فيمن انفلتت دابته في السفر، أنه يقول:"يا عباد الله احبسوا! " فأجيب بأنه غير صحيح، لأنه من رواية معروف بن حسان، وهو منكر الحديث، قاله ابن عدي ; ومن المعلوم - إن كان الحديث صحيحا - أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر من انفلتت دابته أن يطلب ردها، وينادي من لا يسمع ولا يقدر على ردها، بل نقطع أنه إنما أمره أن ينادي من يسمعه، وله قدرة على ذلك، كما ينادي الإنسان أصحابه
1 البخاري: أحاديث الأنبياء 3456 ، ومسلم: العلم 2669 ، وأحمد 3/84 ،3/89.
2 البخاري: العلم 71 وفرض الخمس 3116 والمناقب 3641 والتوحيد 7460 ، وابن ماجه: المقدمة 9 ، وأحمد 4/99.
الذين معه في سفر، ليردوا دابته.
فهذا يدل - إن صح - أن لله جنودا يسمعون ويقدرون {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [سورة المدثر آية: 31] . وروى زيادة لفظة في الحديث: "فإن لله حاضرا"، فهذا صريح في أنه إنما ينادى حاضرا يسمع؛ فكيف يستدل بذلك على جواز الاستغاثة بأهل القبور الغائبين؟!
فمن استدل بهذا الحديث على دعاء الأموات، لزمه أن يقول: إن دعاء الأموات ونحوهم، إما مستحب أو مباح، لأن لفظ الحديث فليناد، وهذا أمر أقل أحواله الاستحباب والإباحة ; ومن ادعى أن الاستغاثة بالأموات والغائبين مستحب أو مباح، فقد مرق من الإسلام، والله أعلم.
فإذا تحققت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمر من انفلتت دابته أن ينادي من لا يسمعه، ولا قدرة له على ذلك، ودل عليه قوله:"فإن لله حاضرا"، تبين لك ضلال من استدل به على دعاء الغائبين والأموات، الذين لا يسمعون ولا ينفعون ولا يضرون.
وهل هذا إلا مضادة لقوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 106]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍإِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [سورة فاطر آية: 13-14] الآية.
وقولة تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ
لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 5] .
وقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18]، وقال:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [سورة الرعد آية: 14] الآية.
فهذه الآيات وأضعاف أضعافها نص في تضليل من دعا من لا يسمع دعاءه، ولا قدرة له على نفعه ولا ضره، ولو قدر سماعه فإنه عاجز؛ فكيف تترك نصوص القرآن الواضحة، وترد لقوله:"يا عباد الله احبسوا! "، مع أنه ليس في ذلك معارضة لما دل عليه القرآن، ولا شبهة معارضة - ولله الحمد -، والله أعلم.
وأما من ادعى أن من قال: لا إله إلا الله، فإنه لا يجوز قتله وإن فعل أي ذنب، ولا قتال الطائفة الممتنعة إذا قالوا هذه الكلمة، فهذا قول مخالف للكتاب والسنة، والإجماع؛ ولو طرد هذا القائل أصله، لكان كافرا بلا شك.
أما الكتاب فقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا} [سورة التوبة آية: 5] أي: عن الشرك، {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة آية: 5] ؛ فجعل قتالهم ممدودا إلى إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، بعد الإتيان بالتوحيد ; وقال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [سورة البقرة آية: 193] أي: شرك، {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] .
وأما السنة فكثيرة جدا، منها: ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها "1.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستُخلف أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس، وقد قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها.
فقال أبو بكر: لأقتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال؛ فوالله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها ; فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق"؛ فقد جعل الصديق رضي الله عنه المبيح للقتال مجرد المنع، لا جحد الوجوب.
وقال النووي في شرح مسلم: باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويؤمنوا بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن من أتى بذلك عصم نفسه وماله إلا بحقها، ووكلت سريرته إلى الله، وقتال مانعي الزكاة وغيرها من حقوق الإسلام
1 البخاري: الإيمان 25 ، ومسلم: الإيمان 22.
واهتمام الإمام بشرائع الإسلام، ثم ساق الحديث، قال: قال الخطابي في شرح هذا الكلام كلاما حسنا، لا بد من ذكره لما فيه من الفوائد.
قال رحمه الله، مما يجب تقديمه: أن يعلم أن أهل الردة كانوا صنفين: صنف ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة، وعادوا لكفرهم، وهم الذين عنى أبو هريرة بقوله: وكفر من كفر من العرب. والصنف الآخر: فرقوا بين الصلاة والزكاة، فأقروا بالصلاة، وأنكروا فرض الزكاة ووجوب أدائها إلى الإمام.
وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين، من لا يكاد يسمح بالزكاة، ولا يمنعهما، إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي، وقبضوا على أيديهم في ذلك، كبني يربوع، فإنهم جمعوا صدقاتهم، وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر، فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك وفرقها فيهم.
وفي أمر هؤلاء عرض الخلاف ووقعت الشبهة عند عمر رضي الله عنه فراجع أبا بكر وناظره، واحتج عليه بقوله صلى الله عليه وسلم:" أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله؛ فمن قال لا إله إلا الله، فقد عصم نفسه وماله "1. وكان هذا من عمر تعلقا بظاهر الكلام، قبل أن ينظر في آخره، ويتأمل شرائطه.
فقال له أبو بكر: "الزكاة حق المال"، يريد أن القضية قد تضمنت عصمة دم ومال، معلقة بإيفاء شرائطها؛ والحكم المعلق بشرطين لا يحصل بأحدهما، والآخر معدوم، ثم قايسه
1 البخاري: الزكاة 1400 واستتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم 6924 والاعتصام بالكتاب والسنة 7285 ، ومسلم: الإيمان 20 ، والترمذي: الإيمان 2607 ، والنسائي: الزكاة 2443 والجهاد 3091 ،3092 ،3093 ،3094 وتحريم الدم 3969 ،3970 ،3971 ،3973 ،3975 ، وأبو داود: الزكاة 1556 ، وأحمد 1/11 ،1/19 ،2/423 ،2/528.
بالصلاة ورد الزكاة إليها؛ وكان في ذلك من قوله دليل على أن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعا من الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك رد المختلف فيه إلى المتفق عليه.
فلما استقر عندهم صحة رأي أبي بكر رضي الله عنه، وبان لعمر صوابه تابعه على قتال القوم، وهو معنى قوله:"فلما رأيت الله شرح صدر أيي بكر للقتال، عرفت أنه الحق"، يريد انشراح صدره بالحجة التي أدلى بها، والبرهان الذي أقامه نصا ودلالة، انتهى والله أعلم.
وقال النووي أيضا: قال الخطابي: ويبين لك أن حديث أبي هريرة مختصر، أن عبد الله بن عمر وأنسا، روياه بزيادة لم يذكرها أبو هريرة، ففي حديث ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا وأن يصلوا صلاتنا؛ فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم، إلا بحقها، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين " 1 انتهى.
قلت: وقد ثبت في الطريق الثالث المذكور في الكتاب، من رواية أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله لا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها "2.
وفي استدلال أبي بكر، واعتراض عمر رضي الله عنهما
1 البخاري: الصلاة 393 ، والترمذي: الإيمان 2608 ، والنسائي: تحريم الدم 3966 ،3967 والإيمان وشرائعه 5003 ، وأبو داود: الجهاد 2641 ، وأحمد 3/199 ،3/224.
2 البخاري: الجهاد والسير 2946 ، ومسلم: الإيمان 21 ، والترمذي: الإيمان 2606 ، والنسائي: الجهاد 3090 ،3095 وتحريم الدم 3971 ،3972 ،3974 ،3976 ،3977 ،3978 ، وأبو داود: الجهاد 2640 ، وابن ماجه: الفتن 3928 ، وأحمد 1/11 ،2/377 ،2/423 ،2/502 ،2/528 ،3/300 ،3/332 ،3/339 ،3/394.
دليل على أنهما لم يحفظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حفظه ابن عمر وأنس وأبو هريرة، وكان هؤلاء الثلاثة: سمعوا هذه الزيادة في روايتهم في مجلس واحد؛ فإن عمر لو سمع ذلك لما خالف، ولما كان احتج بالحديث، فإن هذه الزيادة بها حجة عليه؛ ولو سمع أبو بكر هذه الزيادة لاحتج بها، ولما كان احتج بالقياس والعموم، والله أعلم ; انتهى كلام النووي.
وقال النووي في شرح مسلم أيضا: قوله: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها، وحسابه على الله "1.
قال الخطابي: معلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان، دون أهل الكتاب، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، ثم يقاتلون، ولا يرفع عنهم السيف ; قال: ومعنى حسابهم على الله أي: فيما يسرونه ويخفونه ; قال: ففيه أن من أظهر الإسلام وأسر الكفر يقبل إسلامه في الظاهر؛ وهذا قول أكثر العلماء، وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا تقبل، ويحكى ذلك عن أحمد بن حنبل، هذا كلام الخطابي.
وذكر القاضي عياض معنى هذا وزاد عليه وأوضحه، فقال: اختصاص عصمة المال والنفس لمن قال: لا إله إلا الله، تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد مشركو العرب وأهل الأوثان، ومن لا يوحِّد، وهم أول من دعي إلى الإسلام وقوتل عليه، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد، فلا يكتفى في
1 البخاري: الزكاة 1400 والجهاد والسير 2946 واستتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم 6924 والاعتصام بالكتاب والسنة 7285 ، ومسلم: الإيمان 20 ، والترمذي: الإيمان 2606 ،2607 ، والنسائي: الزكاة 2443 والجهاد 3090 ،3091 ،3092 ،3094 ،3095 وتحريم الدم 3969 ،3970 ،3971 ،3972 ،3973 ،3974 ،3975 ،3976 ،3977 ، وأبو داود: الزكاة 1556 والجهاد 2640 ، وابن ماجه: المقدمة 71 والفتن 3927 ، وأحمد 1/11 ،1/19 ،1/35 ،1/47 ،2/314 ،2/345 ،2/384 ،2/423 ،2/475 ،2/502 ،2/527 ،2/528.
عصمته بقول: لا إله إلا الله، إذا كان يقولها في كفره، وهي من اعتقاده، فلذلك جاء في الحديث الآخر:" وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة "1. هذا كلام القاضي.
قلت: ولا بد من الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في الرواية الأخرى، عن أبي هريرة رضي الله عنه:" حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به " 2 انتهى كلام النووي.
ولازم قول من قال: إنه لا يجوز قتال من قال: لا إله إلا الله، تخطئة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتالهم مانعي الزكاة، وإجماعهم على قتال من لا يصلي إذا كانوا طائفة ممتنعين ; بل يلزم من ذلك تخطئة جميع الصحابة في قتال بني حنيفة، وتخطئة علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قتال الخوارج.
بل لازم ذلك رد نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل رد نصوص القرآن، كما قدمنا التي لا تحصى، ويلزم صاحب هذه المقالة الفاسدة أنه لا يجوز قتال اليهود لأنهم يقولون: لا إله إلا الله؛ فتبين بما قررناه أن صاحب هذا القول مخالف للكتاب والسنة والإجماع.
ونذكر بعض ما اطلعنا عليه، من كلام فقهاء المذاهب: 3 قال الشيخ علي الأجهوري المالكي: من ترك فرضا أخره لبقاء ركعة بسجدتها من غير الضرورة، قتل بالسيف حدًّا على المشهور.
1 البخاري: الإيمان 25 ، ومسلم: الإيمان 22.
2 مسلم: الإيمان 21.
3 وتقدم بعض منه في رسائل أخرى في الجزء الرابع.
وقال ابن حبيب وجماعة: ظاهر المذهب: كفره، واختاره ابن عبد السلام.
وقال في فضل الأذان: قال المازري: في الأذان معنيان، أحدهما: إظهار شعائر الإسلام، والتعريف بأن الدار دار إسلام، وهو فرض كفاية يقاتل أهل القرية حتى يفعلوه، إن عجز عن قهرهم على إقامته إلا بقتال ; والثاني: الدعاء إلى الصلاة والإعلام بوقتها.
وقال الأبي في شرح مسلم: والمشهور أن الأذان فرض كفاية على أهل المصر، لأنه شعار الإسلام؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يسمع أذانا أغار وإلا أمسك ; وقول المصنف: يقاتلون عليه، ليس القتال عليه من خصائص القول بالوجوب، لأنه نص عن عياض في قول المصنف: والوتر غير واجب، لأنهم اختلفوا في التمالي على ترك السنن، هل يقاتلون عليها؟ والصحيح قتالهم وإكراههم، لأن في التمالي على تركها إماتتها، انتهى.
وقال في فضل صلاة الجماعة: صلاة الجماعة مستحبة للرجل في نفسه، فرض كفاية في الجملة، يعني على أهل المصر ; قال: ولو تركوها قوتلوا، كما تقدم، انتهى.
وقال الشيخ: أحمد بن حمدان الأذرعي الشافعي، في "كتاب قوت المحتاج، في شرح المنهاج": من ترك الصلاة جاحدا وجوبها، كفر بالإجماع؛ وذلك جار في أي جحود كان مجمع عليه، معلوم من الدين بالضرورة، فإن تركها كسلا قتل
حدا على الصحيح، والمشهور.
أما قتله، فلأن الله تعالى قال:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [سورة التوبة آية: 5]، ثم قال:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة آية: 5] ، فدل على أن القتل لا يرفع إلا بالإيمان، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولما في الصحيحين:" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها " 1 إلى أن قال في الروضة:
تارك الوضوء يقتل على الصحيح، جزم به الشيخ أبو حامد ; وفي "البيان": لو صلى عريانا مع القدرة على السترة، أو صلى الفريضة قاعدا بلا عذر، قتل، إلى أن قال: والصحيح قتله بصلاة واحدة، بشرط إخراجها عن وقت الضرورة.
وقال ابن حجر الهيتمي، في "التحفة" في باب: حكم تارك الصلاة: إن ترك الصلاة جاحدا وجوبها، كفر بالإجماع، أو تركها كسلا مع اعتقاد وجوبها، قتل، كما قال تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة آية: 5]، وحديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله
…
" 2 الحديث؛ فإنهما شرطا في الكف عن القتل والمقاتلة: الإسلام، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، لكن الزكاة يمكن الإمام أخذها ولو بالمقاتلة، ممن امتنعوا وقاتلوا، فكانت فيها على حقيقتها، بخلافها في الصلاة، فإنه لا يمكنه
1 البخاري: الإيمان 25 ، ومسلم: الإيمان 22.
2 البخاري: الإيمان 25 ، ومسلم: الإيمان 22.
فعلها بالمقاتلة، فكانت فيها بمعنى القتل، اهـ.
وأما كلام الحنابلة فصرحوا بأن أهل البلد إدا تركوا الأذان والإقامة قوتلوا، أي: قاتلهم الإمام أو نائبه حتى يفعلوهما؛ وكذا قالوا في صلاة الجماعة، يقاتل تاركها؛ وكذا قالوا في صلاة العيد، يقاتل أهل بلد تركوها؛ وكذا قالوا: بقتال مانعي الزكاة، وأن الواحد إذا امتنع من أداء الزكاة، ولم يمكن أخذها منه قهرا، قُتل بعد الاستتابة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى: كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين لبعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة؛ وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم، بعد سابقة مناظرة عمر لأبي بكر رضي الله عنهم.
فاتفق الصحابة رضي الله عنهم على القتال على حقوق الإسلام، عملا بالكتاب والسنة، وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من عشرة أوجه الحديث عن الخوارج، وأخبر أنهم شر الخلق والخليقة، مع قوله:" تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم " 1، فعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام، مع عدم التزام شرائعه، ليس بمسقط للقتال، فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة؛ فمتى كان الدين لغير الله، فالقتال واجب.
1 البخاري: فضائل القرآن 5058 ، ومسلم: الزكاة 1064 ، وأحمد 3/56 ،3/60 ،3/65.
فأيما طائفة ممتنعة، امتنعت من بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء والأموال، أو الخمر أو الزنى، أو الميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين ومحرماته، التي لا عذر لأحد في جحودها، أو تركها، التي يكفر الواحد بجحودها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها؛ وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء.
وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة، إذا أصروا على ترك بعض السنن، كركعتي الفجر، والأذان، والإقامة، عند من لا يقول بوجوبها، ونحو ذلك من الشعائر، فهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟ فأما الواجبات أو المحرمات المذكورة ونحوها، فلا خلاف في القتال عليها، انتهى.
وأيضا: فالمقصود من لا إله إلا الله، البراءة من الشرك وعبادة غير الله ; ومشركو العرب يعرفون المراد منها، لأنهم أهل اللسان ; فإذا قال أحدهم: لا إله إلا الله، فقد تبرأ من الشرك، وعبادة غير الله، فلو قال: لا إله إلا الله، وهو مصر على عبادة غير الله، لم تعصمه هذه، لقوله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [سورة البقرة آية: 193] أي: شرك، {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] وقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [سورة التوبة آية: 5] إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا} أي: عن الشرك {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [سورة التوبة آية: 5] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له " 1، وهذا معنى قوله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ} [سورة البقرة آية: 193] أي: الطاعة والعبادة لِلَّهِ وهذا معنى لا إله إلا الله، نسأل الله أن يجعلها آخر كلامنا ; وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
وقال أيضا: رحمه الله تعالى:
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب "2، فقد يحتج بهذا الحديث من زعم أن هذه الأمور الشركية التي تفعل عند القبور، ومع الجن، مثل سؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والاستعاذة بهم، والتقرب إليهم بالذبح لهم، والنذر لهم، وغير ذلك من أنواع العبادة، ليست عبادة لهم ولا شركا.
فيقال أولا: إن النبي صلى الله عليه وسلم نسب الإياس إلى الشيطان، ولم يقل: إن الله أيسه؛ فالإياس الصائر من الشيطان لا يلزم تحقيقه واستمراره، ولكن عدو الله لما رأى ما ساءه من ظهور الإسلام في جزيرة العرب وعلوه، يئس من ترك المسلمين دينهم، الذي أكرمهم الله به، ورجوعهم إلى الشرك الأكبر؛ وهذا كما أخبر الله سبحانه عن الكفار، في قوله:{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} [سورة المائدة آية: 3] .
1 أحمد 2/92.
2 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار 2812 ، والترمذي: البر والصلة 1937 ، وأحمد 3/313 ،3/354 ،3/366 ،3/384.
قال المفسرون: لما رأى الكفار ظهور الإسلام في أرض العرب وتمكنه فيها، يئسوا من رجوع المسلمين عن الإسلام إلى الكفر، قال ابن عباس وغيره من المفسرين: يئسوا أن يراجعوا دينهم، قال ابن كثير: وعلى هذا يرد الحديث الثابت في الصحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم "1، يعني أن إياس الشيطان مثل إياس الكفار، وأن الكل يئس من ارتداد المسلمين وتركهم دينهم، ولا يلزم من ذلك امتناع وجود الكفر في أرض العرب.
ولهذا قال ابن رجب على الحديث: يئس أن تجتمع الأمة على الشرك الأكبر ; يوضح ذلك: ما حصل من ارتداد أكثر أهل الجزيرة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وقتال الصديق والصحابة لهم، على اختلاف تنوعهم في الردة ; قال أبو هريرة: لما مات النبي صلى الله عليه وسلم وكفر من كفر من العرب ; وردة بني حنيفة مشهورة.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون "2، معناه: أنه يئس أن يطيعه المصلون في الكفر بجميع أنواعه، لأن طاعته في ذلك هي عبادته، قال تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [سورة يس آية: 60] .
ومن استدل بالحديث على امتناع وجود كفر في جزيرة العرب، فهو ضال مضل; فماذا يقول هذا الضال في الذين قاتلهم الصديق رضي الله عنه والصحابة من العرب، وسموهم
1 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار 2812 ، والترمذي: البر والصلة 1937 ، وأحمد 3/313 ،3/354 ،3/366 ،3/384.
2 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار 2812 ، والترمذي: البر والصلة 1937 ، وأحمد 3/313 ،3/354 ،3/366 ،3/384.
مرتدين كفارا؟! فلازم دعوى هذا الضال: أنه لم يكفر أحد من العرب بعد موته صلى الله عليه وسلم، وأن الصحابة أخطؤوا في قتالهم، والحكم عليهم بالردة.
وقد ثبت في الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لا تقوم الساعة حتى تعبد اللات والعزى " 1، ومكانهما معلوم، وقال صلى الله عليه وسلم:" لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس عند ذي الخلصة "2، وهو صنم لدوس، رهط أبي هريرة، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله البجلي وهدمه.
وفي الحديث الصحيح من خبر الدجال: أنه لا يدخل المدينة، بل ينْزل بالسبخة، فترجف المدينة ثلاث رجفات، فيخرج منها كل كافر ومنافق؛ فأخبر أن في المدينة إذ ذاك كفارا ومنافقين.
ويقال أيضا لهذا المجادل: بيّن لنا الشرك الذي حرمه الله وعظم أمره، فإنه لا يعرفه، أو يفسره بالشرك في الربوبية الذي أقر به المشركون، وحينئذ بينت له أن الشرك في الإلهية، وهو جعل شيء من العبادة لغير الله، كالسجود ودعاء الأموات والغائبين، والذبح لهم والنذر لهم؛ وهذه الأمور كانت تفعل، عند مشاهد شركية، في اليمن والحرمين، ومع الجن في نجد وغيرها من الجزيرة.
أيظن هؤلاء المجادلون بالباطل أن العلماء الذين نصّوا على أن هذه الأفعال والأقوال من الشرك الأكبر، أنهم لا يعرفون معنى الحديث الذي أوردتموه؟ أو لا يعرفون الشرك؟ وهذا
1 مسلم: الفتن وأشراط الساعة 2907.
2 البخاري: الفتن 7116 ، ومسلم: الفتن وأشراط الساعة 2906 ، وأحمد 2/271.
ظاهر - ولله الحمد -؛ ونص العلماء وحكوا الإجماع عليه، وأقاموا عليه أدلة من الكتاب والسنة، فإن كابر وعاند، فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئا ; نسأل الله أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
[نقل أبيات من البردة والسؤال عن مستصحبها]
نقل الشيخ محمد بن عبد الله بن سليم، والشيخ محمد بن عمر بن سليم، هذه الأبيات من البردة للبوصيرى، وتشطيرها لداود بن جرجيس، وأرسلاها إلى الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، وسألاه: أيتعين نصح مستصحبها؟ أم هجره والتحذير عنه؟
يا خير من يمم العافون ساحت
…
فحصلوا من نداه أوفر القس
ومن رجاه فما أن خاب حيث أت
…
سعيا وفوق متون الأينق الرسم
ومنها أيضا: وتشطيرها لداود:
فإن لي ذمة منه بتسميتي
…
كاسمه ذا مقام السعود سمي
شاركته بحروف الاسم حيث غدا
…
محمدا وهو أوفى الخلق بالذمم
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي
…
ومنقذي من عذاب الله والألم
أو شافعا لي فيما جنيت غدا
…
فضلا وإلا فقل يا زلة القدم
حاشاه أن يحرم الراجي مكارمه
…
فيرجعن منه صفر الكف ذا عدم
فلا يظن به تخييب ذا أمل
…
أو يرجع الجار منه غير محترم
ومنها أيضا، لهما:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
…
عند الزحام إذا ما اشتد بي ندمي
إن لم تكن لي فمن أرجوه يشفع لي
…
سواك عند حلول الحادث العمم
ولن يضيق رسول الله جاهك بي
…
وقد وسعت به للرسل والأمم
فانظر إلي بعين اللطف لا سيما
…
إذا الكريم تحلى باسم منتقم
فإن من جودك الدنيا وضرتها
…
حاشاك تبخل عني معدن الكرم
وكيف تغفل عن مثلي وتهمله
…
ومن علومك علم اللوح والقلم
فأجاب رحمه الله تعالى: هذه الأبيات تتضمن تنْزيل الرسول صلى الله عليه وسلم بمنْزلة رب العالمين، إذ مضمونها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المسؤول المرجو، لكشف أعظم الشدائد، وهو عذاب الآخرة، وأن الدنيا والآخرة من جوده وإفضاله، وأنه يعلم الغيب، وهذه هي خصائص الربوبية والألوهية، التي جعلتها النصارى للمسيح بن مريم.
ففيه مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم " لتتبعن سنن من كان قبلكم "1، وهؤلاء وإن لم يقولوا إن محمدا هو الله، لكن أثبتوا له خصائص الرب الإله، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، فانظر قوله:
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي
…
ومنقذي من عذاب الله والألم
وانظر قول الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} [سورة الأنعام آية: 15] يا محمد: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [سورة الأنعام آية:15] . وهذا الضال يزعم أن محمدا ينقذ من شاء من عذاب الله ; وقال تعالى عن صاحب يس: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} [سورة يس آية: 23] ، ووازن بينه وبين البيت المذكور.
1 البخاري: أحاديث الأنبياء 3456 ، ومسلم: العلم 2669 ، وأحمد 3/84 ،3/89.
وقوله: أو شافعا لي
…
إلخ ; فالقرآن يخبر أن من أراده الله بضر، فلا منقذ له ولا شافع، وهذا يزعم أن الرسول ينقذ من عذاب الله، ويشفع فيمن عذبه الله، فأثبت هذين الأمرين الذين نفاهما القرآن ; فأي محادّة للقرآن أعظم من ذلك؟! وقال تعالى:{يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار آية: 19] ، ونحو ذلك في القرآن كثير.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا بني كعب بن لؤي: أنقذوا أنفسكم من النار " 1 إلى أن قال: " يا بني عبد المطلب، أنقذوا أنفكسم من النار. يا فاطمة بنت محمد، أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئا "2. وهذا المفتري يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم ينقذ من عذاب الله من شاء ; فأي مشاقة لله ورسوله أعظم من هذا؟!
وقال سبحانه: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} [سورة الجن آية: 21]، وقال:{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [سورة الأعراف آية: 188]، أي: أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع، ولا دفع ضر، كالمملوك، إلا ما شاء الله مالكي من النفع لي والدفع؛ فكيف يجتمع في قلب عبد: الإيمان بما ذكرنا من الآيات، ونحوها من آي القرآن، وقوله صلى الله عليه وسلم لابنته:" أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك من الله شيئا " 3، كيف يجتمع الإيمان بذلك، والإيمان بقول الضال:
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي
…
ومنقذي من عذاب الله والألم
ويزعم بعض المتعصبين لهم أن مرادهم بذلك طلب
1 مسلم: الإيمان 204 ، والنسائي: الوصايا 3644 ، وأحمد 2/360.
2 البخاري: الوصايا 2753 والمناقب 3527 ، ومسلم: الإيمان 204 ، والترمذي: تفسير القرآن 3185 ، والنسائي: الوصايا 3644 ، وأحمد 2/360 ،2/519.
3 البخاري: الوصايا 2753 ، ومسلم: الإيمان 204 ، والترمذي: تفسير القرآن 3185 ، والنسائي: الوصايا 3644 ،3646 ،3647 ، وأحمد 2/333 ،2/350 ،2/360 ،2/398 ،2/519 ، والدارمي: الرقاق 2732.
الشفاعة، فيقال أولا: طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته ممتنع شرعا وعقلا.
وأيضا: فالمستشفع يقول للمستشفع به: اشفع لي، ادع الله لي ; لا يقول: أعطني، كما كان الصحابة يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته: استسق لنا، استنصر لنا ; لا يقولون: اسقنا أو أغثنا، أو انصرنا على عدونا ; فمن استشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم أو غيره إلى الله، في جلب رزق أو دفع ضر، أو رفعه، لا يقول ارزقني أو اكشف ضري ; بل يقول: ادع الله لي.
وأيضا، فقول الناظم أولا:
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي
…
ومنقذي من عذاب الله والألم
تم قال: أو شافعا لي
…
إلخ ; فعطف الشفاعة على الأخذ باليد والإنقاذ، فالمعطوف غير المعطوف عليه، فهو يقول: إن لم يحصل منك إنقاذ بالفعل، فانزل إلى مرتبة الشفاعة، وحاشاك أن تخيب رجائي فيك؛ وقد أبطل سبحانه هذين الأمرين اللذين تعلق بهما المشركون، كما في قوله:{مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [سورة السجدة آية: 4] ، فالولي هو الناصر المعين بالقول ; وهذا كثير في القرآن، يقرر أنه لا ولي من دونه، ولا شفيع من دونه.
وأما قوله:
فإن من جودك الدنيا وضرتها
…
ومن علومك علم اللوح والقلم
فجعل الدنيا والآخرة من عطاء النبي صلى الله عليه وسلم وإفضاله، والجود
هو العطاء والإفضال ; فمعنى الكلام: أن الدنيا والآخرة له صلى الله عليه وسلم والله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} [سورة الليل آية: 13]، {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} [سورة النجم آية: 25] ، وأي غلو أكبر من هذا؟!
وكذا قوله: ومن علومك علم اللوح والقلم ; فجعل ما جرى بالقلم السابق في اللوح المحفوظ بعض علوم محمد صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه يقول:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سورة الأنعام آية: 59] .
ومقتضى قوله، بل صريح قوله: ومن علومك علم اللوح والقلم، أنه يجوز أن يقال: ومحمد يعلم ذلك ; وأنه يجوز أن يقال: مفاتح الغيب لا يعلمها إلا الله ومحمد ; وقال سبحانه: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة النمل آية: 65]، فيجوز عند الناظم أن يقال: لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ومحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا صريح كلامه، وإن تأوله بعض المتعصبين بتأويلات بعيدة، لا يحتملها اللفظ.
وقد قال سبحانه لنبيه: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [سورة الأنعام آية: 50]، وأن يقول:{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [سورة الأعراف آية: 188]، فقال صلى الله عليه وسلم: " إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن
يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع " 1؛ والآيات والأحاديث في هذا كثيرة، مع أن هذا لا يحتاج إلى إقامة الأدلة على بطلانه، لأنه معلوم بالاضطرار من دين الرسل كلهم أن الدنيا والآخرة لله وحده، وأنه لا يعلم الغيب إلا هو ; ولقد أحسن القائل:
الحق شمس والعيون نواظر
…
لكنها تخفى على العميان
ويشبه قوله هذا قوله في الهمزية، في مخاطبته النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قال:
الأمان الأمان إن فؤادي
…
من ذنوب أتيتهن هواء
فهذه علتي وأنت طبيبي
…
وليس يخفى عليك في القلب داء
فانظر إلى طلبه الأمان من النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: وليس يخفى عليك في القلب داء، يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم علل القلوب وأدواءها، وأنه لا يخفى عليه ما في القلوب، وقد قال الله سبحانه وتعالى:{وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [سورة التوبة آية: 101] .
وغير ذلك من أدلة الكتاب والسنة، التي تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم ما في القلوب، إلا ما أطلعه الله عليه، قال تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [سورة فاطر آية: 26-27]، أي: فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه؛ والله المسؤول المرجو أن يهدينا إلى صراطه المستقيم، وأن يتوفانا مسلمين غير مغيرين ولا مبدلين، وهو أرحم الراحمين.
1 البخاري: المظالم والغصب 2458 والشهادات 2680 والحيل 6967 والأحكام 7169 ،7181 ،7185 ، ومسلم: الأقضية 1713 ، والترمذي: الأحكام 1339 ، والنسائي: آداب القضاة 5401 ،5422 ، وأبو داود: الأقضية 3583 ، وابن ماجه: الأحكام 2317 ، وأحمد
6/203 ،6/290 ،6/307 ،6/308 ،6/320 ، ومالك: الأقضية 1424.
ثم كتب الشيخ لهما:
بسم الله الرحمن الر حيم
من عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، إلى محمد بن عبد الله، ومحمد بن عمر آل سليم، زادهما الله علما، ووهب لنا ولهما حكما، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والأبيات التي نقلتم كتبنا عليها، ما اتسع له المحل، وبطلان ما تضمنته ظاهر - ولله الحمد - لا يخفى إلا على من أعمى الله بصيرته، ولكن إذا تحققتم بقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة تتبع اليهود والنصارى فيما أحدثوا، حذو القذة بالقذة، مع قوله صلى الله عليه وسلم:" بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ " 1، فإذا صدّق الإنسان بذلك، لم يستنكر ما حدث من الشرك والبدع، وظهور المنكرات، وتضييع شرائع الإسلام، وتعطيل حدود الله، فإذا عرف الإنسان ذلك، وعلم أنه لم يضل اليهود والنصارى إلا علماؤهم، علم أن سبب ضلال هذه الأمة علماؤهم، وفي الحديث المشهور:" علماؤهم شر من تحت أديم السماء، منهم خرجت الفتنة وفيهم تعود ".
وقول القائل: لو أن هذا ما يجوز، ما خفي على فلان وفلان، فهذه شبهة باطلة ; وقد روى ابن وضاح، عن عمر رضي الله عنه قال: " أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحيتي - وأنا أعرف الحزن في وجهه - فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقلت أجل، إنا لله
1 مسلم: الإيمان 145 ، وابن ماجه: الفتن 3986 ، وأحمد 2/389. لا
وإنا إليه راجعون، فما ذلك يا رسول الله؟
قال: أتاني جبرائيل، فقال: إن أمتك مفتتنة بعد قليل من الدهر غير كثير، قلت: فتنة كفر؟ أم فتنة ضلالة؟ قال: كل سيكون ; قلت: وأين يأتيهم ذلك، وأنا تارك فيهم كتاب الله؟ قال بكتاب الله يضلون " أي: يتأولونه علي غير تأويله، وزاد " من قبل قرائهم وأمرائهم ".
قال محمد بن وضاح: الخير بعد الأنبياء ينقص، والشر يزداد، وقال:"إنما هلك بنو إسرائيل على يد قرائهم وفقهائهم، وستهلك هذه الأمة على أيدي قرائهم وفقهائهم" قال ابن المبارك:
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها
وقد أخبر الله سبحانه عن اليهود أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، أي: يتأولون كتاب الله على غير ما أراد الله، وقال:{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 75]، وأخبر عنهم أنهم {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [سورة النساء آية: 51] ؛ ولا بد أن يوجد في هذه الأمة من يتابعهم على ما ذمهم الله به.
والإنسان إذا عرف الحق من ضده، لم يبال بمخالفة من خالف كائنا من كان، ولا يكبر في صدره مخالفة عالم ولا عابد، لأن هذا أمر لا بد منه؛ وما أخوفني على من عاش أن يرى أمورا
عظيمة لا منكر لها، والله المستعان، والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم صدرت من كثير من المتأخرين، ممن يشار إليهم بالعلم.
وقد صنف رجل - يقال له ابن البكري - كتابا في الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وردّ عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجلد، بيّن فيه بطلان ما ذهب إليه، وبيّن أنه من الشرك.
قال الشيخ رحمه الله تعالى: وقد طاف هذا - يعني ابن البكري - على علماء مصر، فلم يوافقه منهم أحد، وطاف عليهم بجوابي الذي كتبته، وطلب منهم معارضته، فلم يعارضه أحد منهم، مع أن عند بعضهم من التعصب ما لا يخفى، ومع أن قوما كان لهم غرض وجهل بالشرع، قاموا في ذلك قياما عظيما، واستعانوا بمن له غرض من ذي سلطان، مع فرط عصبيتهم، وكثرة جمعهم، وقوة سلطانهم، ومكايدة شيطانهم.
قال رحمه الله تعالى: والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، موجودة في كلام بعض الناس، مثل يحيى الصرصري، ومحمد بن النعمان، وهؤلاء لهم صلاح، لكن ليسوا من أهل العلم ; بل جروا على عادة، كعادة من يستغيث بشيخه في الشدائد، ويدعوه ; انتهى.
والمقصود: أن نوع الشرك من الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره، جرى في زمان الشيخ، والشر يزيد " لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه " 1 والله المستعان ; وفي هذه الأزمنة يقال: العجب ممن نجا كيف نجا؟ ليس العجب ممن هلك كيف هلك؟
1 البخاري: الفتن 7068 ، والترمذي: الفتن 2206 ، وأحمد 3/179.
وقول من يقول: استعملها من هو أعلم منا، وأعرف بكلام العرب،
فبئست الحجة الواهية، والله سبحانه لم يأمرنا باتباع من رأيناه أعلم منا، وإنما أوجب علينا عند التنازع، الرد إلى كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة النساء آية: 59] خاصة في أصول الدين، بأنه لا يجوز التقليد فيها بإجماع العلماء، ولأن أدلته - ولله الحمد - ظاهرة.
ولم يقل الله سبحانه: إذا تنازعتم فاتبعوا ما عليه أكثر الناس، ولا ما عليه بلد من البلدان؛ وأكثر الناس اليوم خصوصا طلبة العلم، خفي عليهم الشرك. وشيخ الرجل المذكور يجوز الاستغاثة بالأموات، فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم؟! وكلامه صريح لا يحتمل تأويلا، كقوله: ومنقذي من عذاب الله والألم; نسأل الله السلامة.
وابن عجلان أقل الأحوال هجره، وأما النصيحة فلا تفيد في مثله، وأمره هذا: إن وصل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، أو فيصلا، أو ابن سعود الأدنى، فأخاف على نفسه، ولو كان له عقل ما أظهر مثل هذا الأمر، الذي يجر عليه شرا، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
[اعتراض بعض المبطلين على الشيخ أبا بطين والرد عليه]
ثم اعترض بعض المبطلين، فرد اعتراضه، وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما.
أما بعد: فإني لما كتبت كلمات يسيرة على الأبيات التي في البردة، وزيادة البغدادي المتضمنة للغلو في النبي صلى الله عليه وسلم، وبينت بعض ما اشتملت عليه من الباطل، وجد ورقة فيها اعتراض على ما كتبته، وهو اعتراض ظاهر البطلان، لكن لغلبة الجهل قد يحصل به تلبيس على الجهال.
فطلب مني بعض الإخوان تعقب اعتراضات هذا المبطل، وبيان فسادها، فأجبته لما رأيت من تمكن الجهل، في قلوب أكثر الناس، خاصة والتوحيد الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، وبه أرسل جميع الرسل، وأنزل به جميع الكتب، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
من ذلك أني ذكرت أن ما تضمنته هذه الأبيات، وهي قوله:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
…
سواك...................
إلى قوله:
فإن من جودك الدنيا وضرتها
…
ومن علومك علم اللوح والقلم
وقوله:
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ومنقذي من عذاب الله والألم
وما قبل هذه الأبيات، وما بعدها، ذكرت أن هذا يشابه غلو النصارى في المسيح عليه السلام، قال المعترض: حاشاه من ذلك
…
إلخ.
فنقول: مقتضى هذه الأبيات، إثبات علم الغيب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن الدنيا والآخرة من جوده، وتضمنت الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم من أعظم الشدائد، ورجاه لكشفها، وهو الآخذ بيده في الآخرة، وإنقاذه من عذاب الله ; وهذه الأمور من خصائص الربوبية والألوهية، التي ادعتها النصارى في المسيح عليه السلام.
وإن لم يقل هؤلاء إن محمدا هو الله، أو ابن الله، ولكن حصلت المشابهة للنصارى في الغلو الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم بقوله:" لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله "1، والإطراء هو المبالغة في المدح، حتى يؤول إلى أن يجعل للممدوح شيء من خصائص الربوبية والألوهية.
وقول المعترض: إن مراد الناظم من هذه الأبيات طلب الشفاعة:
فنقول أولا: هذه الألفاظ صريحة في الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم كقوله: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك
…
إلخ. أي: وإلا فأنا هالك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه " لا ملجأ منك إلا إليك " 2 وقوله:
1 البخاري: أحاديث الأنبياء 3445 ، وأحمد 1/23 ،1/24 ،1/47 ،1/55.
2 البخاري: الوضوء 247 والدعوات 6311 ،6313 ،6315 والتوحيد 7488 ، ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار 2710 ، والترمذي: الدعوات 3394 ،3574 ، وأبو داود: الأدب 5046 ، وابن ماجه: الدعاء 3876 ، وأحمد 4/285 ،4/290 ،4/292 ،4/296 ،4/299 ،4/300 ،4/301 ، والدارمي: الاستئذان 2683.
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي
…
ومنقذي من عذاب الله والألم
أو شافعا
…
إلخ، أي: وإلا هلكت ; وأي لفظ في الاستغاثة أبلغ من هذه الألفاظ؟ وعطف الشفاعة على ما قبلها بحرف "أو" في قوله: أو شافعا لي، صريح في مغايرة ما بعدها لما قبلها، وأن المراد مما قبلها طلب الإغاثة بالفعل والقوة، فإن لم يكن فبالشفاعة.
وقول المعترض يحتمل أن العطف هنا للتفسير، وهذا من جهله، فإن عطف التفسير إنما يكون بالواو، لا بغيرها من حروف العطف، ذكره ابن هشام وغيره ; ومحل عطف التفسير إذا عطف لفظا على لفظ معناهما واحد، مع اختلاف اللفظ، كما ذكره من قول الشاعر: وألفى قولها كذبا ومينا، والمين هو الكذب.
وأما قول الناظم: ومنقذي من عذاب الله والألم، أو شافعا لي
…
إلخ ; فمعنى الإنقاذ غير معنى الشفاعة، قال الله تعالى عن صاحب يس:{إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} [سورة يس آية: 23] .
ولم يقل أحد من المفسرين: إن عطف الإنقاذ على الشفاعة من عطف التفسير ; بل فسروا الإنقاذ بالنصر، والمظاهرة بالفعل، وفسروا الشفاعة بالمعاونة بالجاه؛ وهذا ظاهر، لكن لأجل تخبيط هذا الجاهل الأحمق، أوجب بيان جهله وغلطه.
ومن كلام ابن القيم رحمه الله على هذه الآية، قال بعد كلام سبق: فإن العابد يريد من معبوده أن ينفعه وقت حاجته دائما، وإذا أرادني الرحمن الذي فطرني بضر، لم يكن لهذه الآلهة من القدرة، ما تنقذني بها من ذلك الضر، ولا من الجاه والمكانة عنده ما تشفع لي إليه، لأتخلص من ذلك الضر، فبأي وجه تستحق العبادة؟ إني إذا لفي ضلال مبين، إن عبدت من هذا شأنه ; انتهى.
ونقول أيضا: أنه إذا خوطب الرسول أو غيره من الأموات والغائبين، بلفظ من ألفاظ الاستغاثة، أو طلب منه حاجة، بنحو قول: أغثني، أو أنقذني، أو خذ بيدي، أو اقض حاجتي، أو أنت حسبي، ونحو ذلك، يتخذه واسطة بينه وبين الله في ذلك.
فهذا شرك العرب الذين بعث الله إليهم النبي صلى الله عليه وسلم كما وضحه الله سبحانه في كتابه في مواضع، مخبرا عنهم أنهم يقولون:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3]، {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، ولم يقولوا: إن آلهتهم تحدث شيئا، أو تدبر أمرا من دون الله ; قال تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] الشرك في الألوهية، إذا اعترفتم بالربوبية:{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [سورة المؤمنون آية: 84-85] الآيات.
والآيات في هذا كثيرة، يحتج عليهم سبحانه بإقرارهم بتوحيد الربوبية، على إشراكهم في توحيد الألوهية، كما قال سبحانه:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [سورة يوسف آية: 106] ، فسر إيمانهم في هذه الآية، بإقرارهم بتوحيد الربوبية ; وهو: أنهم إذا سئلوا من خلق السماوات والأرض؟ ومن ينزل المطر وينبت النبات، ونحوه؟ قالوا: الله ; ومع ذلك يعبدون غيره.
وفسر إيمانهم في الآية: بإخلاصهم الدعاء لله في الشدائد، كما في قوله سبحانه:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة العنكبوت آية: 65] ، ونحو ذلك من الآيات، ويشركون في الرخاء بدعاء غيره ; فهذه نصوص القرآن صريحة في أنهم يعترفون بتوحيد الربوبية اعترافا جازما، وأنهم ما أرادوا من آلهتهم إلا الشفاعة عند الله.
وأما من ظن أن مدعوه ومسؤوله يحدث شيئا من دون الله، ويدبر أمرا من دون الله؛ فهذا شرك في توحيد الربوبية والألوهية معا، ولم يدع ذلك أحد من المشركين، الذين بعث الله إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم، وإنما أرادوا من آلهتهم الشفاعة إلى الله، الذي بيده الضر والنفع، بجاههم ومنْزلتهم عنده، كما أخبر الله عنهم بذلك.
[جواب ابن تيمية في المراد بالواسطة]
وسئل شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية، رحمه الله ورضي عنه، عن رجلين تناظرا، فقال أحدهما: لا بد لنا من
واسطة بيننا وبين الله، فإنا لا نقدر عليه إلا بذلك ; فأجاب رحمه الله
…
إلى أن قال:
فإن أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة يتخذها العباد بينهم وبين الله، في جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يكون واسطة في رزق العباد، ونصرهم، وهداهم، يسألون ذلك ويرجعون إليه فيه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء، وشفعاء يجتلبون بهم المنافع، ويدفعون بهم المضار.
لكن الشفاعة لمن يأذن الله، قال تعالى:{مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [سورة السجدة آية: 4]، وقال:{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 51]، وقال:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 22-23] .
وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [سورة الإسراء آية: 56-57]، قال طائفة من السلف: كان أقوام من الكفار، يدعون المسيح وعزيرا والملائكة والأنبياء، فبين لهم أن الملائكة والأنبياء لا يملكون كشف
الضر عنهم ولا تحويله، وأنهم يتقربون إليه ويرجون رحمته، ويخافون عذابه.
وقال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] ، فبين سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا، كفر ; فمن جعل الملائكة وسائط بينه وبين الله يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب، وهداية القلوب، وتفريج الكربات، وسد الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين
…
إلى أن قال:
فمن أثبت وسائط بين الله وبين خلقه، كالحجاب الذين يكونون بين الملك وبين رعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، وأن الله إنما يهدي عباده ويرزقهم وينصرهم بتوسطهم، بمعنى أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك، يسألون الملوك حوائج الناس، لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدبا منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك، لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه، فهو مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
وهؤلاء شبهوا الخالق بالمخلوق، وجعلوا لله أندادا ; وفي القرآن من الرد على هؤلاء، ما لا تتسع له هذه الفتوى، فإن هذا دين المشركين عباد الأوثان ; كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء
والصالحين، وإنها وسائل يتقربون بها إلى الله، وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى، حيث قال:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [سورة التوبة آية: 31] .
وقد بين الله هذا التوحيد في كتابه، وحسم مواد الإشراك به، حيث لا يخاف أحد غير الله، ولا يرجو سواه، ولا يتوكل إلا عليه، قال تعالى:{فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [سورة المائدة آية: 44]، وقال:{وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة التوبة آية: 18]، وقال:{فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران آية: 175]، وقال:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [سورة النور آية: 52] ، فبين أن الطاعة لله والرسول، وأما الخشية والتقوى فلله وحده ; انتهى ملخصا.
وقال رحمه الله في الرسالة السنية - بعد كلام سبق - فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ لا أريده.
أو يقول: إذا ذبح شاة باسم سيدي، أو يعبده بالسجود له، أو لقبره، أو يدعوه، مثل أن يقول: يا سيدي فلان اغفر لي، أو ارحمني، أو انصرني، أو أغثني، أو اجبرني، أو توكلت عليك، أو أنا في حسبك، أو أنت حسبي، ونحو هذه الأقوال والأفعال، التي هي من خصائص الربوبية، التي لا تصلح إلا لله، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد
وحده، ولا يجعل معه إله آخر، والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى، مثل الشمس والقمر، والمسيح وعزير والملائكة، واللات والعزى ومناة، وغير ذلك، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق، وتنبت النبات، وتنزل المطر.
وإنما كانوا يعبدونهم، أو تماثيلهم، أو قبورهم، يقولون:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3]، {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] فبعث الله الرسل تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة ; انتهى.
فليتأمل مريد نجاة نفسه، ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله، يتبين له حقيقة الشرك، الذي أرسل الله الرسل من أولهم إلى آخرهم، ينهون عنه، وأنه الذي يسميه بعض الناس مجازا في هذه الأزمنة تشفعا وتوسلا، وبعض الضّلاّل يسميه مجازا; يعني بذلك أن استغاثتهم بالمقبورين والغائبين، وسؤالهم قضاء حاجاتهم، وتفريج الكربات على سبيل المجاز، وأن الله هو المقصود في الحقيقة.
وهذا معنى قول المشركين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3]، {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، لأنهم لم يكونوا يعتقدون أن آلهتهم تدبر شيئا من دون الله، وإنما يستجلبون النفع، ويستدفعون الضر بجعلها وسائط بينهم وبين الله الذي بيده الضر والنفع ; ولهذا يخلصون لله الدعاء في الشدائد، لاعتقادهم أن آلهتهم
لا تغني عنهم شيئا من دون الله، وأنها لا تضر ولا تنفع.
وقد لبس الشيطان على كثير من الناس، خاصة ممن ينتسب إلى طلب العلم بأن السكوت عن الكلام في هذا الباب، هو الدين والورع، فتولد من ذلك الإعراض عن الاعتناء بهذا الأمر الذي هو أصل الدين، حتى صار جاهلا به، ثم آل الأمر ببعض هؤلاء إلى استحسان الشرك، والنفرة من ذكر التوحيد.
ولم يدر هذا المتورع الورع الشيطاني أن أفرض العلوم، معرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته، ومعرفة حقه على عباده، الذي خلق الجن والإنس لأجله، وهو توحيد الألوهية، الذي أرسل به جميع الرسل، وأنزل به جميع الكتب ; قال سبحانه:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد آية: 19]، وقال:{أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ} [سورة هود آية: 14]، أي: واعلموا أن لا إله إلا هو.
وقال: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [سورة إبراهيم آية: 52] ، فبين سبحانه أن من الحكمة في إنزال القرآن، ليعلم الله بما فيه من الحجج والبراهين، أنه هو المستحق للألوهية وحده، ففرض على عباده العلم بأنه لا إله إلا هو وحده، وأخبر أنه ضمن كتابه من الأدلة والبراهين ما يدل على ذلك.
فيتعين على كل مكلف معرفة معنى لا إله إلا الله، الذي هو
أصل الأصول، وأوجب العلوم؛ وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:" من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة " 1، فرتب دخول الجنة، على العلم بأنه لا إله إلا الله؛ وهذا يبين معنى أحاديث أخر، كقوله صلى الله عليه وسلم:" من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة " 2، و " من قال لا إله إلا الله صدقا من قلبه، دخل الجنة " 3، وغير ذلك من الأحاديث، وأن المراد من هذه الأحاديث ونحوها، العلم بأن لا إله إلا الله.
وهذه الأمور التي انتشرت في أكثر الأمصار، من الاستغاثة بالمقبورين في تفريج الكربات، وسؤالهم قضاء الحاجات، والتقرب إليهم بالنذور، والذبائح، وغير ذلك من أنواع القربات، من لم يعرف أن هذا تأله لغير الله، وشرك عظيم تنفيه لا إله إلا الله، فهو لم يعلم أن لا إله إلا الله حقيقة العلم.
وزعم المعترض أننا بإنكارنا ما تضمنته الأبيات المشار إليها، من الغلو فيه صلى الله عليه وسلم، متنقصون لجنابه صلوات الله وسلامه عليه؛ فهذا قوله مثل قول النصارى لما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن عيسى عبد الله مربوب، قالوا: إنه يسب المسيح وأمه، ووشوا به عند النجاشي؛ وهذا ما يلقيه الشيطان على ألسنة المشركين قديما وحديثا، إذا قال الموحدون: إن آلهتكم باطلة، وإنها لا تستحق شيئا من العبادة، اشمأزوا من ذلك، وزعموا أن من سلبهم ذلك، فقد هضم مراتبهم، وتنقصهم.
فلهم نصيب من قوله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ
1 أحمد 1/65.
2 أبو داود: الجنائز 3116 ، وأحمد 5/233 ،5/247.
3 مسلم: الصلاة 385 ، وأبو داود: الصلاة 527.
قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة إبراهيم آية: 52]، {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [سورة غافر آية: 12] .
وقد أحسن القائل، رحمه الله تعالى، وهو ابن القيم:
قالوا تنقصتم رسول الله وا
…
عجبا لهذا البغي والعدوان
أنتم تنقصتم إله العرش والقـ
…
ـرآن والمبعوث بالقرآن
ونظير هذا قول أعداء المسيـ
…
ـح من النصارى عابدي الصلبان
إنا تنقصنا المسيح بقولنا
…
عبد وذلك غاية النقصان
وكذاك أشباه النصارى من غلوا
…
في دينهم بالجهل والطغيان
صاروا معادين الرسول ودينه
…
في صورة الأحباب والإخوان
فانظر إلى تبديلهم توحيده
…
بالشرك والإيمان بالكفران
وانظر إلى تجريده التوحيد من
…
أسباب كل الشرك بالرحمن
اجمع مقالتهم وما قد قاله
…
واستدع بالنقاد والوزان
عقل وفطرتك السليمة ثم زن
…
هذا وذا لا تطغ في الميزان
فهنا تعلم أيما حزبينا هو الـ
…
ـمنتقص المنقوص ذو العدوان
رامي البريء بدائه ومصابه
…
فعل المباهت أوقح الحيوان
كمعير للناس بالزغل الذي هو
…
ضربه فاعجب لذا البهتان
يا فرقة التنقيص بل يا أمة الـ
…
ـدعوى بلا علم ولا عرفان
والله ما قدمتم يوما مقا
…
لته على التقليد للإنسان
تبا لكم ماذا التنقص بعد ذا
…
لو تعرفون العدل من نقصان
والله أمركم عجيب معجب
…
ضدان فيكم ليس يتفقان
تقديم آراء الرجال عليه مع هذا
…
الغلو فكيف يجتمعان
كفرتم من جرد التوحيد جهـ
…
ـلا منكم بحقائق الإيمان
لكن تجردتم لنصر الشرك والبـ
…
ـدع المضلة في رضى الشيطان
والله لم نقصد سوى التجريد للتـ
…
ـوحيد ذاك وصية الرحمن
ورضى رسول الله منا، لا غلو
…
المشرك أصل عبادة الأوثان
ولقد نهى ذا الخلق عن إطرائه
…
فعل النصارى عابدي الصلبان
ولقد نهانا أن نصير قبره
…
عيدا حذار الشرك بالرحمن
ودعا بأن لا يجعل القبر الذي
…
قد ضمه وثنا من الأوثان
فأجاب رب العالمين دعاءه
…
وأحاطه بثلاثة الجدران
حتى غدت أرجاؤه بدعائه
…
في عزة وحماية وصيان
ولقد غدا عند الوفاة مصرحا
…
باللعن يصرخ فيهم بأذان
أعن] الأولى جعلوا القبور مساجداً
…
وهم اليهود وعابدو الصلبان
والله لولا ذاك أبرز قبره
…
لكنهم حجبوه بالحيطان
قصدوا إلى تسنيم حجرته ليمـ
…
ـتنع السجود له على الأذقان
قصدوا موافقة الرسول وقصده التـ
…
ـجريد للتوحيد للرحمن
فلينظر المنصف وليتأمل، فالأمر كما قال رحمه الله: أمركم عجيب معجب ; وهذا حال غلاة زماننا، تشابهت قلوبهم فتشابهت أقوالهم، جمعوا بين الضدين: الغلو، والتنقص ; فجعلوا للنبي صلى الله عليه وسلم خصائص الربوبية والألوهية، بل جعلوها لمن دون الرسول، وبدَّعوا من جرد التوحيد، بل كفروهم.
وضموا إلى هذا الغلو: التنقص للنبي صلى الله عليه وسلم بحيث أنهم لا يلتفتون إلى سنته، ولا يعبؤون بها إذا خالفت ما عليه مشائخهم، ويقولون: مشائخنا أعلم منا، وفرضنا التقليد ; ويعيبون على من قدم سنة النبي صلى الله عليه وسلم على من خالفها، وينسبونه إلى الجهل وتنقص العلماء ; وهم مع ذلك مخالفون لإمام المذهب الذي ينتسبون إليه، ولأتباعه من علماء مذهبه، ولسائر الأئمة في النهي عن تقليدهم.
وضموا إلى ذلك موالاة أعداء أئمة المذهب الذين ينتحلونه من المعطلة، بزعمهم أنهم أهل الحق والسواد الأعظم، فجمعوا بين الغلو في أهل مذهبهم لا سيما متأخريهم، وبين تنقصهم؛ بحيث زعموا أن مخالفيهم في الأسماء والصفات والإيمان، وغير ذلك، هم أهل الحق الذين لا تجوز مخالفتهم، كما جمعوا بين الغلو والتنقص في جانب الرسول، صلوات الله وسلامه عليه.
قال المعترض: وأما استدلالكم على أن النبي لا يشفع بقوله سبحانه: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [سورة السجدة آية: 4]، قال: والآية نزلت في الكفار؛ وجميع ما في القرآن من نفي الشفاعة، فهو في حق الكفار، انتهى.
أما نسبته إلينا، أنا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشفع، فلا يحتاج إلى جواب، لأنه يعلم هو وأصحابه أنا لا ننفي شفاعته صلى الله عليه وسلم بإذن الله ; بل هو صاحب الشفاعة العظمى، وله صلى الله عليه وسلم شفاعات
غيرها؛ والأنبياء يشفعون، والملائكة يشفعون، والمؤمنون يشفعون، لكن لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه.
وسيد الشفعاء صلوات الله وسلامه عليه، لا يبدأ بالشفاعة أولا، بل يسجد لربه ويحمده بمحامد يفتحها عليه، حتى يقال له: يا محمد، ارفع رأسك وسل تعط، واشفع تشفع ; قال تعالى:{مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [سورة يونس آية: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] .
وهذا من عظمته سبحانه وجلاله وكبريائه، أن لا يتجاسر أحد أن يشفع عنده حتى يؤذن له؛ والقرآن صرح بنفي الشفاعة عن الكفار مطلقا، ونفاها عن غيرهم بغير إذنه؛ ونحن إنما ننفي الشفاعة الشركية التي نفاها القرآن، وهو أن أحدا يشفع عنده بغير إذنه.
وأما قول هذا الضال: إن قوله سبحانه: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [سورة السجدة آية: 4] في الكفار خاصة،
يعني: فلعصاة المسلمين ولي من دونه وشفيع، والولي هو الناصر، والشفيع ذو الجاه؛ وهذا القول كفر ظاهر، حيث جعل قوله سبحانه:{مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [سورة السجدة آية: 4] خاصا بالكفار، أي: فلغيرهم - على زعمه - ولي من دونه، وشفيع ; فأي كفر أعظم من هذا وأبين منه؟! وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه، والله سبحانه يقول مخاطبا لجميع الناس:{مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [سورة السجدة آية: 4]
وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [سورة الأنعام آية: 51] في هذا اليوم الذي لا حاكم فيه إلا الله، {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 51] ، وقال:{وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 70] ، يخبر سبحانه أنه ليس لمن عصاه ولي ينصره من دونه ولا يشفع بغير إذنه.
وزعم المعترض أن "من" في قول الناظم: من جودك الدنيا وضرتها، ومن
…
إلخ: أنها لبيان الجنس، وهذا الجاهل الأحمق، يتحذلق عند أصحابه بما لا يعرفون، ليظنوا أن عنده علما، وهو لا يميز بين "من" التي لبيان الجنس والتي للتبعيض، و "من" في الموضعين للتبعيض بلا شك.
والذين يتكلمون على معاني الحروف، ذكروا علامة "من" التي للتبعيض صحة حلول بعض محلها، وعلامة التي لبيان الجنس صحة حلول الذي محلها، كما في قوله:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [سورة الحج آية: 30] أي: فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، والتي لبيان الجنس لا يبدأ بها، ومن في هذين الموضعين لا يصح حلول الذي محلها، بل يصح حلول بعض موضعها، فالمعنى بعض جودك الدنيا وضرتها، وبعض علومك علم اللوح والقلم ; أي: فالدنيا وضرتها بعض جودك وعلم اللوح والقلم بعض علمك.
والمقصود: بيان بطلان تحذلق هذا الجاهل، وإلا فكلام
الناظم باطل على كل حال ; وعلى زعم الجاهل: أنها لبيان الجنس، فالمعنى: جودك الدنيا وضرتها، وعلومك هي علم اللوح والقلم، لا تنقص عنها بل هي عينها ; وصرح المعترض بدعواه أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، حتى مفاتح الغيب الخمس ; والناظم آل به المبالغة في الإطراء، الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا الغلو، والوقوع في هذه الزلقة العظيمة.
ونحو ذلك قوله في الهمزية، في خطابه للنبي صلى الله عليه وسلم:
الأمان الأمان إن فؤادي
…
من ذنوب أتيتهن هواء
فهذه علتي وأنت طبيبي
…
وليس يخفى عليك في القلب داء
فطلب الأمان من النبي صلى الله عليه وسلم، وشكا إليه علة قلبه ومرضه من الذنوب، فتضمن كلامه سؤاله من النبي صلى الله عليه وسلم مغفرة ذنبه، وصلاح قلبه؛ ثم صرح بأنه لا يخفى عليه في القلب داء، أي: فهو يعلم ما احتوت عليه القلوب.
وقد قال الله سبحانه: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [سورة التوبة آية: 101]، وقال:{وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [سورة الأنفال آية: 60]، وخفي عليه صلى الله عليه وسلم أمر الذين أنزل الله فيهم:{وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} [سورة النساء آية: 107] ، الآيات حتى جاءه الوحي، وخفي عليه صلى الله عليه وسلم أمر أهل الإفك، حتى أنزل الله القرآن ببراءة أم المؤمنين رضي الله عنها؛ وهذا في حياته، فكيف بعد موته؟! وهذا يقول: وليس يخفى
عليك في القلب داء، يعنى: أنه يعلم ما في القلوب.
والله سبحانه يقول: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [سورة آل عمران آية:154]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إنما أنا بشر، وإنكم لتختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع؛ فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار ".
ثم كابر المعترض، فصرح بقوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب حتى مفاتح الغيب الخمس، وزعم أن عامة العلماء قالوا ذلك؛ فانظر إلى هذه الجراءة العظيمة في الكذب على الله وعلى رسوله، وعلى عامة العلماء، بقوله: إن عامة العلماء قالوا: إن الله لم يتوف نبيه صلى الله عليه وسلم حتى علمه ما كان وما يكون، وعلمه كل شيء حتى الخمس.
وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [سورة الأنعام آية: 50]، وقال:{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة الأعراف آية: 188]، أي: لو كنت أعلم الغيب لكنت على خلاف ما أنا عليه من استكثار الخير، واجتناب السوء والمضار، حتى لا يمسني شيء منها، ولم أكن غالبا مرة، ومغلوبا أخرى في الحروب.
وقال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ
إِلَّا اللَّهُ} [سورة النمل آية: 65]، وقال:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [سورة الأنعام آية: 59] . وعلى قول هذا الأفاك، يجوز أن يقال:{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة النمل آية: 65] ومحمد، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [سورة الأنعام آية: 59] ومحمد.
وبيان ذلك: أنه لو كان أهل قرية لا يحفظ أحد منهم سورة البقرة مثلا إلا زيد ; قالوا: لا يحفظ أحد منا سورة البقرة إلا زيد، ثم علمها زيد عمراً، وقالوا: لا يحفظ أحد منا سورة البقرة إلا زيد وعمرو، كان كلاما مستقيما صحيحا؛ ما أعظم جراءة هذا الخبيث على هذه الفرية العظيمة؟! مع أن له سلف ضلال وكفر في هذه الدعوى.
حكى شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، في رده على الذي جوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عن بعض أهل زمانه: أنه جوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث فيه بالله، وصنف فيه مصنفا، وكان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله.
قلت: ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، قالت:"من حدثكم أن محمدا يعلم ما في غد، فقد كذب، ثم قرأت {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} [سورة لقمان آية: 34] " لفظ البخاري ; ولفظ مسلم: "من زعم أن محمدا يخبر بما في غد، فقد أعظم الفرية على الله، ثم قرأت {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} [سورة لقمان آية: 34] "، ومرادها رضي الله عنها نفي ذلك في حياته،"
فكيف بعد الموت؟! مع أنه لا يحتاج في بيان بطلان هذا القول إلى أكثر من حكايته ; قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً} [سورة النساء آية: 50] . وأما قول الله سبحانه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [سورة الجن آية: 26-27] والمعنى عند جميع المفسرين: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [سورة الجن آية: 27] ، فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه، ليكون معجزة له، وليس خاصا بنبينا عليه وعليهم الصلاة والسلام.
وقول المعترض: إن الشيخ تقي الدين أثنى على الصرصري في نظمه المشهور الذي فيه التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، يعني بالتوسل الاستغاثة، فقد كذب على الشيخ وافترى؛ وكتابه الذي صنفه في الرد على من جوز الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم معروف موجود.
قال رحمه الله: والاستغاثة به صلى الله عليه وسلم موجودة في كلام بعض الناس، مثل يحيى الصرصري، ومحمد بن النعمان؛ وهؤلاء لهم صلاح، لكن ليسوا من أهل العلم، بل جروا على عادة كعادة من يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه، انتهى ; قلت: والبوصيري ليس معروفا بالعلم.
قال المعترض: ومراد الناظم بقوله: إن من جودك الدنيا وضرتها، أن الله أعطاه خير الدارين، قال: وكيف ينكر تصرفه في إعطاء أحد بإذن الله تعالى؛ واستشهد لذلك بالكذب الذي عزاه لشرح الإقناع، أن النبي صلى الله عليه وسلم يقطع أرض الجنة، وأنكر
على من ينكر تصرفه صلى الله عليه وسلم بقوله: وكيف ينكر تصرفه
…
إلخ ; فهذا إنكار منه على من ينكر تصرفه صلى الله عليه وسلم وتعجب منه، يقتضي إثبات التصرف له صلى الله عليه وسلم في خيري الدنيا والآخرة، بالإعطاء والمنع، وأن الله جعل له ذلك خصوصا في الآخرة، بإدخاله الجنة من يشاء.
فيا سبحان الله! ما أعظم جراءة هذا على الكذب على الله تعالى!! وهذه دعوى عظيمة يطلب منه إقامة البينة على صحتها، كما قال سبحانه عن قول الذين:{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [سورة البقرة آية: 111] أي: حجتكم وبينتكم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة البقرة آية: 23] ؛ فإن كل قول لا دليل عليه مردود على قائله ; ومن المعلوم: أنه لا دليل له على ذلك، ولا شبهة.
ونصوص القرآن والسنة كثيرة، دالة على بطلان هذه الفرية العظيمة، قال تعالى:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] أي: يوم الجزاء والحساب؛ وتخصيصه الملك بذلك اليوم لا ينفيه عما عداه، لأنه تقدم أول السورة أنه رب العالمين، والرب هو المالك المتصرف، وذلك عام في الدنيا والآخرة.
وإنما أضيف إلى يوم الدين، لأنه لا يدعي أحد هناك شيئا، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه، كما قال تعالى:{يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة هود آية: 105]، {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [سورة النبأ آية:
38] .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] يقول: لا يملك أحد معه في ذلك اليوم حكما، كملكهم في الدنيا".
وقال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [سورة الفرقان آية: 26] وقال: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [سورة غافر آية: 16]، وقال:{وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [سورة الأنعام آية: 73]، وقال:{يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار آية: 19] .
وقال: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [سورة هود آية: 123]، أي: ليس أحد من الخلق أمر معه ذلك اليوم، مع أن الأمر كله له سبحانه، في الدنيا والآخرة، كما قال {قل إن الأمر كله لله} :[سورة آل عمران آية: 154] ؛ واختصاصه سبحانه بالتفرد بالأمر في ذلك اليوم، قال المفسرون، معناه: أنه لا يملك أحد في ذلك اليوم شيئا، كما ملكهم في الدنيا.
وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} [سورة البقرة آية: 48] وقال: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} [سورة الدخان آية: 41-42]
وهذا المفتري يزعم أن الله سبحانه جعل لنبيه محمدا التصرف في ذلك اليوم، فيكون شريكا له في الأمر، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ; وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأقرب الناس إليه عمه العباس، وعمته صفية وابنته فاطمة:" أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أغني عنكم من الله شيئا " 1، وقال صلى الله عليه وسلم: " لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله. قالوا ولا أنت يا رسول
1 البخاري: الوصايا 2753 وتفسير القرآن 4771 ، ومسلم: الإيمان 204 ،206 ، والترمذي: تفسير القرآن 3185 ، والنسائي: الوصايا 3644 ،3646 ،3647 ، وأحمد 2/333 ، والدارمي: الرقاق 2732.
الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته " 1؛ والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وقول المعترص: ورد في الحديث: "لولا حبيبي محمد، ما خلقت سمائي ولا أرضي، ولا جنتي ولا ناري"، فيقال أولا: هذا حديث باطل؛ هؤلاء الذين صنفوا في معجزاته وفضائله صلى الله عليه وسلم، كصاحب الشفاء وغيره، أين ذهب عنهم هذا الحديث، فلم يذكروه؟ مع أنه لا حجة فيه للمبطل.
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو خليل الله وحبيبه، وأقرب الناس إليه وسيلة، وأعظمهم عنده منْزلة، صلوات الله وسلامه عليه، دائما إلى يوم الدين ; وقد قال الله تعالى:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [سورة آل عمران آية: 128] والله سبحانه قد بين في كتابة الحكمة من خلق السماوات والأرض وما بينهما، فقال:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [سورة الطلاق آية: 12] ، فأخبر سبحانه أنه إنما خلق السماوات والأرض، وما احتويا عليه من آياتة وعجائب مصنوعاته، ليستدل بذلك على كمال قدرته وسعة علمه.
وقال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [سورة هود آية: 7] ، فنبه على الحكمة في ذلك، وهو: أنه ليبلو عباده أيهم أحسن عملا، وقال:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية:
1 البخاري: الرقاق 6463 ، ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار 2816 ، وأحمد 2/235 ،2/256 ،2/264 ،2/319 ،2/326 ،2/343 ،2/385 ،2/390 ،2/451 ،2/466 ،2/469 ،2/473 ،2/482 ،2/488 ،2/495 ،2/503 ،2/509 ،2/514 ،2/519 ،2/524 ،2/537.
56] ،
فأخبر سبحانه بالحكمة في خلقه الجن والإنس، وهي: أنه إنما خلقهم ليعبدوه وحده.
وقال: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [سورة النجم آية: 31] ، فأعلمنا سبحانه أنه إنما خلق هذه المخلوقات للحكم التي ذكرها، لا لأجل أحد من خلقه.
وقد ذكرت في الجواب على الأبيات، بعض كلام النسفي في تفسيره، على قوله سبحانه:{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} الآية [سورة الأعراف آية: 188]، قال: هو إظهار للعبودية، وبراءة مما يختص بالربوبية من علم الغيب، أي: أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع، ولا دفع ضر، كالمملوك إلا ما شاء الله مالكي، من النفع لي، ودفع الضر عني، {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [سورة الأعراف آية: 188] أي: لكانت حالي على خلاف ما هي عليه من استكثار الخير، واجتناب السوء والمضار، حتى لا يمسني شيء منها، ولم أكن غالبا مرة، ومغلوبا أخرى في الحروب، انتهى.
فاستعظم المعترض لفظ: أنا عبد ضعيف، وقال: ما هذه الجراءة والتنقص لجناب حبيب الملك الوهاب! فانظر إلى "الشفاء" تجده حكى كفر من قال مثل هذه الكلمة، انتهى.
أقول: ما الذي منع هذا الأحمق، من نقل ما في الشفاء لأصحابه، ليتحفهم به وليحتجوا به، وهو أتحفهم وأضلهم
بالكذب الصريح، ونذكر - إن شاء الله- بعض ما ذكره صاحب الشفاء، من المبالغة في سد الذرائع إلى الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم.
ونحن نشهد الله، وملائكته وجميع خلقه أننا نعتقد أن جميع أهل السماوات والأرض عبيد له مربوبون، فقراء إليه ضعفاء لديه، لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعا ولا ضرا، ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا، وأنه لا غناء لأحد منهم عنه طرفة عين، قال تعالى:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [سورة مريم آية: 93]، وقال:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [سورة فاطر آية: 15] .
وقال سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: " اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. أنت ربي ورب المستضعفين. إلى من تكلني "، ومن دعائه صلى الله عليه وسلم:" وأشهد أنك إن تكلني إلى نفسي، تكلني إلى ضيعة وعورة، وذنب وخطيئة؛ وإني لا أثق إلا برحمتك "1.
ومن دعائه: " اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول وبك أصول، وبك أقاتل "2. وفي الدعاء المأثور في عرفة: " أنا البائس الفقير المستغيث المستجير "، والبائس الذي اشتد به البؤس، وهو شدة الفقر ; وأظن في هذا الجاهل أنه لو يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم غني عن ربه، لم يستعظم هذا القول.
وذكرنا في الجواب الحديث المشهور الذي فيه: " علماؤهم شر من تحت أديم السماء، منهم خرجت الفتنة، وفيهم تعود "
1 أحمد 5/191.
2 الترمذي: الدعوات 3584 ، وأبو داود: الجهاد 2632.
قال المعترض: هل ورد هذا الحديث، في أهل العراق؟ فهم كفار مجوس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو فيما يأتي؟ فهذا شناعة على عامة العلماء، ومنهم الإمام أحمد وأبو حنيفة ; وإن كان ورد في حق أهل الحرمين، فهذا ظاهر البطلان، إذ هي مهبط الوحي، ومنبع الإيمان.
فانظر إلى هذه الوقاحة، هل قلنا إن هذا الحديث خاص ببلد معين؟! وإنما مقتضى الحديث: الإخبار بما يحدث في الأمة، من تغير الدين، وأن سبب ذلك علماء السوء، ولا يختص هذا ببلد معين؛ فمن اتصف بصفة علماء السوء الذين يلبسون الحق بالباطل، ويفترون على الله الكذب، تناوله الذم، في أي زمان ومكان.
والله سبحانه لم يأمر عباده عند الاختلاف، بالرد إلى أهل بلد، ولا إلى ما عليه أكثر الناس، ولا إلى شخص غير الرسول، قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] ، وشيء نكرة في سياق الشرط، فيعم كل شيء حصل فيه النِّزاع، من أصول الدين وفروعه؛ ثم قال:{إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة النساء آية: 59] ، وهذا خطاب لجميع الناس، إلى آخر الزمان; وأجمع العلماء على أن الرد إلى الله، هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول، الرد إليه في حياته، والرد إلى سنته بعد مماته.
قال ابن كثير رحمه الله، في الآية: هذا أمر من الله تعالى،
بأن كل شيء تنازع فيه المسلمون من أصول الدين وفروعه، أن يرد المتنازع فيه من ذلك، إلى الكتاب والسنة، كما قال تعالى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [سورة الشورى آية: 10] ، فما حكم به كتاب الله وسنة نبيه، وشهدا له بالصحة فهو الحق، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [سورة يونس آية: 32] .
ولهذا قال: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [سورة النساء آية: 59] ، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النّزاع إلى الكتاب والسنة، ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس بمؤمن بالله واليوم الآخر ; وقوله:{ذَلِكَ خَيْرٌ} [سورة النساء آية: 59] أي: التحاكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، والرجوع في فصل القضاء إليهما، {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] أي: وأحسن عاقبة ومآلا، انتهى.
ومن المحال أن يأمر الله سبحانه بالتحاكم إلى ما لا يفصل النِّزاع. ويحكى عن بعض الضلال، أنه يقول: نحن مقلدون، ولسنا داخلين تحت حكم هذه الآية ونحوها فيقال له: يلزمك هذا في جميع خطاب القرآن، كقوله:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة الأنفال آية: 1]، {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة الأعراف آية: 3] ، {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} [سورة الأنعام آية: 155] ، وغير ذلك من خطاب القرآن بالأوامر والنواهي ; فمن زعم أنه ليس داخلا في ذلك ولا معنيا به، فلا شك في كفره.
ومن أعظم مكائد الشيطان لكثير من الناس، خصوصا من ينتسب إلى علم: أن حال بينهم وبين تدبر القرآن وتفهمه،
خصوصا فيما تضمنه من أدلة التوحيد، وسائر أصول الدين التي لا يجوز التقليد فيها عند عامة العلماء ; فإذا علم أنه لا يجوز التقليد فيها، تعين معرفة أدلتها من الكتاب والسنة.
والله سبحانه قد بين ذلك غاية البيان، والنبي صلى الله عليه وسلم بين للناس ما نزل إليهم من ربهم ; قال الله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [سورة النحل آية: 44] ، ثم الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وأئمة الهدى بعدهم، تكلموا في ذلك بما يكفي ويشفي.
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [سورة آل عمران آية: 7]، قال ابن كثير رحمه الله: يخبر سبحانه أن في القرآن آيات محكمات ; أي: بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أخرى فيها اشتباه في الدلالة، على كثير من الناس، أو بعضهم، فمن رد ما اشتبه إلى الواضح منه، وحكّم محكمه على متشابهه عنده، فقد اهتدى، ومن عكس انعكس، انتهى.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "المحكمات، قوله تعالى:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الآيات [سورة الأنعام آية: 151] .
وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] ، وآيات بعدها"، يعني: أن هذه الآيات ونحوها من المحكم ; وقال ابن عباس أيضا: "التفسير على أربعة أنحاء: تفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء،
وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير لا يعلمه إلا الله".
ومن أعظم ما فتن به الشيطان في هذه الأزمنة المتأخرة أكثر العامة، بل كثيرا من ينتسب إلى علم الاغترار بالأكثر، فيقول أحدهم: هذه الأمور التي تنكرونها مما يفعل عند القبور، من دعاء أصحابها، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات والنذر، والذبائح لهم، منتشر مشتهر في أمصار المسلمين، وكذلك القصائد المتضمنة للاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم كما في البردة، ونظم الصرصري وغيرهما، متداول مستعمل لا ينكرونه، وهذا كلام فلان في قصيدته، وشرحها فلان وفلان، وتداولها العلماء ; وهذه هي الشبهة العظيمة التي قامت بقلوبهم، فلا يصغون إلا إليها، ولا يعولون إلا عليها، كأنهم لم يسمعوا بنبي مرسل ولا بكتاب منْزل.
فيقال أولا: هؤلاء أصحاب موسى الكليم الذين صحبوه، فضلهم الله على عالمي زمانهم، وآتاهم الكتاب والحكمة، قد سألوا موسى أن يجعل لهم إلها، قال سبحانه:{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [سورة الأعراف آية: 138] .
وكذلك الذين قالوا لنبينا - من أصحابه - اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال صلى الله عليه وسلم "الله أكبر! إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً
كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [سورة الأعراف آية: 138] ، لتركبن سنن من كان قبلكم" 1.
فهؤلاء خفي عليهم أن الذي طلبوه بقولهم: اجعل لنا ذات أنواط، أنه من التأله لغير الله، ومن الشرك الذي حرمه الله ; وكذلك قول بني إسرائيل {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً} [سورة الأعراف آية: 138] ، خفي عليهم قبح ما طلبوه، وأنه من الشرك الذي ينهى عنه موسى عليه السلام ; فإذا كان قد خفي على المذكورين، فلا يستبعد خفاؤه على من دونهم.
ويقال أيضا لمن يحتج بأكثر الناس، وأن الحق ما هم عليه خاصة: إذا كان المحتج ممن ينتسب إلى مذهب الإمام أحمد ; والحنابلة أكثر الناس في هذه الأزمان، مخالفون لما عليه الإمام أحمد وأصحابه، في كثير من صفات الرب سبحانه، منها: صفة علو الرب سبحانه فوق سماواته، واستوائه على عرشه، فأكثر الناس اليوم لا يثبتون هذه الصفة، ويبدعون من أثبتها ويضللونهم، وبعضهم يكفرهم، ويخصون الحنابلة بذلك،
لأن مذهب الإمام أحمد وأصحابه: إثبات صفة علو الرب، واستوائه على عرشه حقيقة، من غير تكييف ولا تمثيل، وعلى ذلك سائر أئمة الإسلام، وكلامهم معروف في تضليل من لم يثبت هذه الصفة، وأكثرهم صرح بكفرهم.
ومن ذلك: مسألة كلام الرب سبحانه، أكثر الناس اليوم يقولون: كلامه سبحانه هو المعنى النفسي، وأن حروف القرآن
1 الترمذي: الفتن 2180 ، وأحمد 5/218.
مخلوقة; ومذهب أحمد وأصحابه وسائر الأئمة: أن القرآن كلام الله حروفه ومعانيه، وليس شيء منه مخلوقا، ويضللون من قال بخلق الحروف؛ وخلاف الحنابلة مع هؤلاء معروف، ذكرنا هاتين المسألتين على سبيل المثال، وإلا فكثير الناس اليوم على خلاف ما عليه السلف في أكثر الصفات.
وكذلك في الإيمان، فجمهور الناس في هذه الأزمان، يقولون: الإيمان هو التصديق، ويقولون: الأعمال ليست من الإيمان، وإن سميت إيمانا في بعض الأحاديث، فعلى سبيل المجاز ; ومذهب أهل السنة: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص ; وكثير من السلف كفروا من قال: إن الإيمان هو التصديق فقط.
إذا عرف ذلك، تبين للمحتج بأكثر - إن كان على مذهب الإمام أحمد وأصحابه، وجميع أهل السنة في إثبات الصفات - أن حجته حجة داحضة واهية، وعلم أن أهل الحق هم الأقلون عددا، الأعظمون عند الله قدرا، وقد روى ابن وضاح، عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال:"تعلموا العلم تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله؛ فإنه سيأتي من بعدكم زمان ينكر فيه تسعة أعشارهم".
ويشهد لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: " تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة" 1، وقال:" بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء "2.
1 أبو داود: السنة 4597 ، وأحمد 4/102 ، والدارمي: السير 2518.
2 مسلم: الإيمان 145 ، وابن ماجه: الفتن 3986 ، وأحمد 2/389.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لعمرو بن ميمون: "أتدري ما الجماعة؟ قلت: لا ; قال: إن جمهور الجماعة الذين فارقوا الجماعة ; الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك ; وفي طريق أخرى: إن جمهور الناس فارقوا الجماعة، وإن الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل".
والله سبحانه علم ما يحدث في الأمة من الاختلاف والتنازع، وأوجب عليهم عند التنازع، الرد إلى كتابه وسنة نبيه، فقال:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] ، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر الأمة عند الاختلاف، بالرد إلى سنته، وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، فقال:" إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ "1.
وقول بعض الناس: لو كان ما تقولون حقا، لكان غيركم أولى به منكم، يشابه قول الكفار:{لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [سورة الأحقاف آية: 11]، {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [سورة الأنعام آية: 53] فقال الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [سورة الأنعام آية: 53]، وقال سبحانه:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [سورة القصص آية: 68]، وقال:{وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [سورة البقرة آية: 105] .
والميزان العدل هو: الكتاب والسنة، وعليه تعرض أقوال
1 أبو داود: السنة 4607 ، والدارمي: المقدمة 95.
الناس وأعمالهم، فما شهد له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال. ونحن نتحقق: أن في أمصار المسلمين كثيرا ينكرون هذه الأمور الشركية، كما قد سمعنا من بعض من لقينا، وبلغنا عن بعض من لم نلق، لكن صارت الغلبة لضدهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وأما قول المعترض: لو أن عبارات العلماء، مثل البيضاوي والقسطلاني وغيرهما، تجدي لديكم شيئا لذكرناها، ولكنها تمحى بلفظة واحدة، وهي أنهم كفار، انتهى.
فهلا ذكر لأصحابه من كلام من ذكر، وغيرهم ما ينشطهم؟ وهو قد غرهم بما افتراه من الكذب على الله، وعلى رسوله، وعلى علماء الأمة؛ فما الذي يمنعه من ذكر الصدق لهم، ليزدادوا يقينا في باطلهم؟!
وأما افتراؤه علينا أننا نكفر علماء المسلمين فهو قد افترى على الله الكذب، وعلى رسوله، وقد قال الله تعالى:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ} [سورة النحل آية: 105] . ونحن ندعوا للمسلمين عموما ولعلمائهم خصوصا، فنقول:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [سورة الحشر آية: 10]، ومع ذلك نقول كما أوصونا به: كل يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهم زلات ; وفي الحديث المشهور: " اتقوا زلة العالم ".
فإذا تبين لنا زلة من أحد منهم، لم نتابعه عليها وندعوا له ; وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما:"أخشى أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال الله ورسوله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر".
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63]، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك؛ لعله إذا رد بعض قوله أن يقع ما قلبه شيء من الزيغ فيهلك، انتهى.
وليعلم أننا لا نجترئ على تكفير من وجدنا في كلامه ألفاظا شركية، كصاحب البردة وأمثاله ; وهذه زلات عظيمة ربما لو نبهوا عليها لتنبهوا، ولا نسب الأموات وقد أفضوا إلى ما قدموا ; ونسأل الله أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب.
وأنكر المعترض قولنا: إن طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم ممتنع عقلا وشرعا، فقال: ومن أين لكم هذا الامتناع؟ وما دليله من العقل والسماع؟ جوابه: أما امتناعه عقلا: فلأن النبي صلى الله عليه وسلم ميت، قال الله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [سورة الزمر آية: 30]، وقال أبو بكر رضي الله عنه: "من كان يعبد محمدا فإن محمدا بشر قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ; وقال: أما الموتة التي
كتبت عليك فقد متّها، ولن يجمع الله عليك موتتين".
ومقتضى قول من يقول: إنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره، كحياته حين كان على وجه الأرض، أن الله يجمع عليه موتتين، لأنه قد قام الدليل القاطع أنه عند النفخ في الصور، لا يبقى أحد حيا؛ والعقل الصحيح يمنع طلب الدعاء من الميت، ولم يرد حديث صحيح بأنه صلى الله عليه وسلم حي في قبره ; لكن نقطع أن الأنبياء أعلى رتبة من الشهداء؛ وقد أخبر الله عن الشهداء: أنهم أحياء عند ربهم يرزقون ; فالأنبياء أولى بذلك، قال تعالى:{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [سورة آل عمران آية: 169] ؛ ومع ذلك فالشهداء داخلون تحت قوله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [سورة آل عمران آية: 185] ؛ وقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [سورة الزمر آية: 30] ، فهذا الموت المثبت غير الموت المنفي.
فالموت المثبت هو فراق الروح البدن، والمنفي زوال الحياة بالجملة عن الروح والبدن ; فلو جاء إنسان إلى الشهيد بعد خروج روحه، وهو على وجه الأرض، لا يتحرك ولا ينطق، يطلب منه أن يدعو الله، لأنكر ذلك ذوو الفطرة السليمة، والعقل الصحيح ; فكيف إذا صار في بطن الأرض؟ فهو في تلك الحالتين، حي حياة الله أعلم بحقيقتها، مع القطع بأنها ليست كحياته لما كان على وجه الأرض قبل القتل.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، تسرح حيث شاءت من الجنة، وهم مع ذلك أحياء ; وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه. وفي سنن أبي داود عنه صلى الله عليه وسلم:" ما من مسلم يسلم علي، إلا رد الله علي روحي، حتى أرد عليه السلام "1، فهذا يدل على أن روحه صلى الله عليه وسلم ليست في جسده دائما ; بل هي في أعلى عليين، ولها اتصال بجسده أحيانا، الله أعلم بحقيقته.
وليس ذلك الرد - أعني: رد الروح - خاصا به صلى الله عليه وسلم؛ بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من مسلم يمر بقبر أخيه، كان يعرفه في الدنيا، فسلم عليه، إلا رد الله عليه روحه، حتى يرد عليه السلام " هذا وروحه في الجنة، كما تقدم في الحديث ; فأرواح الشهداء، بل وعامة المؤمنين في الجنة، ولها اتصال بأجسادهم في بعض الأحيان، لا يعلم صفته إلا الله؛ وأمر البرزخ وأحكامه على خلاف ما يشاهد في الدنيا.
وأما امتناع طلب الدعاء منه بعد موته شرعا؛ فلأن الصحابة رضي الله عنهم، وهم أعلم بالله وبرسوله ممن بعدهم، لا يأتون إلى قبره صلى الله عليه وسلم يطلبون منه أن يدعو لهم، ويستسقي لهم، ويستنصر لهم، لعلمهم أن هذا ممتنع بعد موته ; ولم يأت أحد منهم يستفتيه في قبره، في مسائل كثيرة أشكلت عليهم.
قال عمر رضي الله عنه:"ثلاث وددت أني سألت رسول الله
1 أبو داود: المناسك 2041 ، وأحمد 2/527.
صلى الله عليه وسلم عنها"، واستسقى بالعباس ولم يأت إلى قبره صلى الله عليه وسلم ليستسقي لهم ; وكان الناس يجيئون إلى أم المؤمنين عائشة يستفتونها عند قبره صلى الله عليه وسلم، وهو مع ذلك يسمعهم، ويجيبهم لو سألوه على مقتضى زعم الغلاة، هذا من المحال ; بل نهوا عن تحري دعاء الله عند قبره صلى الله عليه وسلم.
ولما رأى علي بن الحسين رحمه الله رجلا، كان يجيء إلى فرجة، كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو، فنهاه، وقال:"ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا تتخذوا قبري 1 عيدا، ولا بيوتكم قبورا، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم " فرأي علي بن الحسين رحمه الله: أن ذلك من اتخاذه عيدا.
وروى سهل بن أبي سهيل، قال:"رآني الحسن بن الحسين ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند القبر، فناداني، وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال: هلم إلى العشاء ; فقلت: لا أريده ; فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم ; ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم قبورا. لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء " 2") .
1 وفي رواية "بيتي" أنظر الرد على الأخنائي.
2 أبو داود: المناسك 2042 ، وأحمد 2/367.
قال شيخ الإسلام، رحمه الله: فهذا علي بن الحسين، أفضل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من التابعين، نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم، واستدل بالحديث الذي سمعه من أبيه الحسين، عن جده علي، وهو أعلم بمعناه من غيره ; فبين: أن قصده للدعاء ونحوه، اتخاذ له عيدا، وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن، شيخ أهل بيته، كره أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ونحوه، عند غير دخول المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدا.
فانظر هذه السنة، كيف مخرجها من أهل المدينة، وأهل البيت رضي الله عنهم الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب النسب، وقرب الدار، لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم، فكانوا له أضبط.
قال رحمه الله: ولقد جرد السلف الصالح التوحيد، وحموا جانبه، حتى كرهوا قصد دعاء الله عند قبره صلى الله عليه وسلم فكيف بدعائه نفسه؟! وكان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يدعو الله، استقبل القبلة وجعل ظهره إلى جدار القبر.
ونص على ذلك الأئمة الأربعة: أنه يستقبل القبلة إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يدعو الله، لأن الدعاء عبادة ; وفي الترمذي وغيره " الدعاء هو العبادة " 1؛ فجرد السلف العبادة لله، ولم يفعلوا عند القبور إلا ما أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من السلام على أصحابها، والاستغفار لهم، والترحم عليهم.
1 الترمذي: الدعوات 3372 ، وأبو داود: الصلاة 1479 ، وابن ماجه: الدعاء 3828 ، وأحمد 4/267 ،4/271 ،4/276.
وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله: لن يصلح آخر هذه الأمة، إلا ما أصلح أولها ; ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، ونقص إيمانهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوا من البدع والشرك.
وقال شيخ الإسلام: ودعاء الميت من الشرك، سواء طلب منه أن يفعل، أو طلب منه أن يسأل الله ; وذكر القاضي عياض في "الشفاء" عن مالك رحمه الله، أنه كره أن يقال: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم: قال القاضي، والأولى عندي أن منعه وكراهة مالك له، لإضافته إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم:" اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد. اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " 1، فحمى إضافة هذا اللفظ إلى القبر، والتشبه بفعل أولئك، قطعا للذريعة وسدا للباب.
وفي المبسوط عن مالك: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويمضي ; وقال: لا بأس لمن قدم من سفر، أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه، ويدعو له، ولأبي بكر وعمر.
فقيل له: إن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر، ولا يريدونه، يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة، أو في الأيام المرة والمرتين، أو أكثر عند القبر، فيسلمون ويدعون ساعة.
فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا، وتركه
1 أحمد 2/246.
واسع، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغنى عن أول هذه الأمة وصدرها، أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر، أو أراده، انتهى.
فانظر إلى ما ذكر عن علي بن الحسين، وما روي عن الحسن بن الحسن مما قدمناه، وإلى قول الإمام مالك: يكره إلا لمن جاء من سفر، أو أراده ; هل هذا تنقص منهم له صلى الله عليه وسلم؟ أو سد للذريعة عن الغلو الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم؟
وفي أثناء كلام شيخ الإسلام رحمه الله، قال: وكل ما سوى الله يتلاشى عند ذكر توحيده، والنبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس تقريرا لما يقال على هذا الوجه، وإن كان هو المسلوب، كما قالت عائشة رضي الله عنها لما أخبرها ببراءتها - "والله لا أقوم إليه ولا أحمده، ولا أحمد إلا الله"; وفي لفظ "بحمد الله لا بحمدك" ; فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم وأبوها على ذلك ; لأن الله أنزل براءتها بغير فعل أحد.
قال حبان، قلت لابن المبارك: إني لأستعظم هذا القول ; قال: ولت الحمد أهله ; وفي الحديث الذي رواه أحمد: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد ; قال: "عرف الحق لأهله" 1، وكان يعلم أصحابه تجريد التوحيد، فقال:" لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء محم د" 2 وقال له رجل: ما شاء الله وشئت ; فقال: " أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده "3.
1 أحمد 3/435.
2 ابن ماجه: الكفارات 2118 ، وأحمد 5/72 ، والدارمي: الاستئذان 2699.
3 أحمد 1/224.
وقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله " 1، وقال:" يا أيها الناس ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله" 2 وقال: " لا تتخذوا قبري عيدا " 3، وقال:" اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد "4.
وقد قال سبحانه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [سورة آل عمران آية: 128]، وقال:{قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [سورة آل عمران آية: 154]، وقال:{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [سورة الجن آية: 21-22]، وقال:{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} [سورة الجن آية: 21-22]، أي: لن أجد من دونه من ألتجئ إليه وأعتمد عليه.
وقال لابنته فاطمة، وعمه العباس، وعمته صفية:"لا أملك لكم من الله شيئا " 5 وفي لفظ " لا أغني عنكم من الله شيئا" 6، فعظم ذلك على المشركين بشيوخهم وآلهتهم، وأبوا ذلك كله، وادعوا لشيوخهم ومعبوديهم خلاف هذا كله.
وزعموا أن من سلبهم ذلك، فقد هضم مراتبهم، وتنقصهم ; وهم قد هضموا جناب الإلهية غاية الهضم، وتنقصوه، فلهم نصيب من قوله:{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة الزمر آية: 45] . ونسأل الله أن يهدينا وإخواننا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين
1 البخاري: أحاديث الأنبياء 3445 ، وأحمد 1/23 ،1/24 ،1/47 ،1/55.
2 أحمد 3/153.
3 أبو داود: المناسك 2042 ، وأحمد 2/367.
4 أحمد 2/246.
5 البخاري: الوصايا 2753 والمناقب 3527 وتفسير القرآن 4771 ، ومسلم: الإيمان 204 ، والترمذي: تفسير القرآن 3185 ، والنسائي: الوصايا 3644 ،3646 ،3647 ، وأحمد 2/350 ،2/360 ،2/398 ،2/448 ،2/519 ، والدارمي: الرقاق 2732.
6 البخاري: الوصايا 2753 والمناقب 3527 وتفسير القرآن 4771 ، ومسلم: الإيمان 206 ، والترمذي: تفسير القرآن 3185 ، والنسائي: الوصايا 3644 ،3646 ،3647 ، وأحمد 2/360 ،2/398 ،2/448 ،2/519 ، والدارمي: الرقاق 2732.
والشهداء والصالحين وحسن أولئك وفيقا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
[رسالة الشيخ عبد اللطيف في الرد على أوراق أرسلها الملا داود]
قال الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، قدس الله روحه، ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله الذي يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، أرسل الرسل وأنزل الكتب، لتأصيل الأصول وتحقيق الحقائق، فقامت حجة الله على المكلفين من الخلائق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مخلص لله صادق، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المبعوث بأحسن الملل والطرائق، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، الذين قاموا بجهاد كل كافر ومنافق.
أما بعد: فقد وقفت على أوراق أرسلها الملا داود بن سليمان الجرجيس، العاني، العراقي، إلى بعض أصحابنا، فرأيت فيها من الصد عن سبيل الله، والدعوة إلى عبادة الأولياء والصالحين، ودعائهم، والحث عل قصدهم في الملمات والشدائد، والإلحاد في آيات الله، وتحريف الكلم عن مواضعه، ما لا يسع السكوت عليه.
فإن الله تعالى قد بعث محمدا بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأمر يجهاد الكفار والمنافقين
بالحجة والبيان، كما أمر بجهادهم باليد والسنان، قال تعالى:{وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [سورة الفرقان آية: 52]، وقال تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] .
وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [سورة الحج آية: 78]، وقال تعالى:{فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [سورة هود آية: 116] .
قال ابن كثير: يقول تعالى: فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات، والفساد في الأرض؟ وقوله:{إِلَّا قَلِيلاً} [سورة هود آية: 116] أي: قد وجد منهم من هذا الضرب قليل، وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غِيَرِه، وفجأة نقمته ; ولهذا أمر الله تعالى هذه الأمة الشريفة: أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
وقوله: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} [سورة هود آية: 116] أي: استمروا على ما هم فيه من المعاصي والمنكرات، ولم يلتفتوا إلى إنكار أولئك حتى فجأهم العذاب ; وقال أبو السعود:{أُولُو بَقِيَّةٍ} [سورة هود آية: 116] من الرأي والعقل، أولوا فضل وخير، وسميا بها، لأن الرجل إنما يستبقي مما يخرجه عادة أجوده وأفضله، ومن قولهم: في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا، انتهى.
وقد ينتفع بهذا من أراد الله هدايته، واستعماله فيما يرضيه،
من توحيده وطاعته، ولو سبق منه رده والصد عنه ; قال الله تعالى:{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [سورة الممتحنة آية:7] الآية. وما أحسن ما قيل:
أبن وجه نور الحق في صدر سامع
…
ودعه فنور الحق يسري ويشرق
سيؤنسه يوما وينسى نفاره
…
كما نسي التوثيق من هو مطلق
فصل
[في قول العراقي: إني وجدي ووالدي بيت علم والرد عليه]
فصل قال العراقي في رسالته: اعلم: أني وجدي ووالدي بيت علم، وعقيدتنا عقيدة السلف؛ وليس الآن في بغداد من هو على مذهب الإمام أحمد غيري، وأنا تابع لأقوال الشيخين ابن تيمية وابن القيم.
والجواب أن يقال: مذهبك وعقيدتك وما أنت عليه قد اشتهر، وعرف من رسائلك، وسمع منك شفاها، ونقله العدول، ولم يزل يتواتر من وقت قدومك الجبل والقصيم، واجتماعك بالشيخ عبد الله أبا بطين؛ وما وقع بينكما من المناظرة في مسمى العبادة، وغيرها، كل ذلك وصل إلينا، وتواتر لدينا، واستفاض استفاضة تورث علما ضروريا: أنك داعية إلى دعاء الصالحين والأولياء، وندائهم بالحوائج، والاستغاثة بهم في الملمات والشدائد، وأن ذلك لديك مستحب وارد، وأن من كفّر من يعبد الصالحين فهو مخطئ ضال، وأنه لا يكفر ولا يشرك إلا من دعاهم استقلالا، وزعم أنهم الفاعلون المدبرون؛
وأما على وجه الجاه والشفاعة، فذلك عندك ليس بشرك ولا كفر. كل هذا ثبت لدينا قبل هذه الرسالة الأخيرة، فلما وقفنا على ما فيها، وتأملنا خافيها وباديها، إذا هي على المذهب الذي حكينا، والطريقة التي عرفنا وروينا؛ بل فيها من الزيادة في الكذب على الله، وكتابه، والكذب على أهل العلم في نقل مذاهبهم، وتحريف كلامهم، ما لا يصدر عمن تصور الإسلام وعرفه، وآمن بالله واليوم الآخر؛
بل لا يصدر عمن له عقل يحسن أن يعيش به. فنعوذ بالله من الجهالة والعمى، والضلال عن سبيل الإيمان والهدى ; ونسبة هذا إلى الإمام أحمد وإلى الشيخين، كنسبة اليهودية والنصرانية إلى إبراهيم، أو إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وخواص أصحابه وأهل ملته.
نزلوا بمكة في قبائل هاشم ونزلت بالبيداء أبعد منْزل
والمؤمن يعرف هذا بمجرد إيمانه، ولا يختص بمعرفته أولوا العلم. وأما تبرئتك نفسك من الحلف بغير الله، فمسألة الحلف لو سلمت لك البراءة منها، دون ما أنت عليه بكثير؛ فإن من استحب دعاء غير الله، وألحد في آياته، وصد عن سبيله، أعظم إثما، وأكبر جرما ممن يحلف بغيره.
وأما ما زعم العراقي من أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فالمعروف في عرفه هو دعاء الصالحين، ونداؤهم بالحوائج، وهذا عند الله ورسوله، وعند أولي العلم من خلقه، أكبر الكبائر على الإطلاق، كما في حديث ابن مسعود قال: " قلت يا رسول
الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك " 1.
وهذا العراقي صرح بأنه يجوز نداؤهم، أعني: نداء الأنبياء والصالحين، بل والجمادات، كما هو مشهور عنه ; لكن يسميه توسلا، خالف المشركين في التسمية، لا في الحقيقة، فيدعو الغير ويرجوه في كل مطلوب، على وجه الجاه والتسبب؛ وهذا حقيقة الشرك والتنديد، والمنكر في عرفه هو النهي عن هذا، وعن تكفير أهله.
ولهذا صرح في هذه الرسالة بأنه ينصح عن تكفير هذا الضرب من الناس، ويزعم أن لهم نيات صالحة، ومقاصد صحيحة؛ فظهر أنه رأس من دعا إلى المنكر، وسعى في هدم المعروف، ومحو آثاره ; وأي معروف يبقى مع دعاء غير الله؟! وأي منكر يزجر عنه وينهى، لو كانوا يعلمون؟! قال تعالى:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 103-104] .
وأصل الإسلام وقاعدته: أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع; وهذا وأمثاله من أجهل الناس بهذا الأصل، وأضلهم عن هذا السبيل ; بل هم من أعظم الناس صدا عنه وردا له، وعيبًا لأهله، والمخلص الداعي إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له، عندهم خارجي مبتدع، كما صرح به في رسالته الأولى، وزعم أن هذا دين الخوارج، وأن من كفر
1 البخاري: تفسير القرآن 4477 ،4761 والأدب 6001 والحدود 6811 والديات 6861 والتوحيد 7520 ،7532 ، ومسلم: الإيمان 86 ، والترمذي: تفسير القرآن 3182 ،3183 ، والنسائي: تحريم الدم 4013 ،4014 ،4015 ، وأبو داود: الطلاق 2310 ، وأحمد 1/380 ،1/431 ،1/434 ،1/462 ،1/464.
بدعاء غير الله، فهو ممن يكفّر أهل القبلة بالذنوب ; وأكثر هؤلاء لا يقتصرون على نسبة أهل التوحيد إلى الخوارج والمبتدعة، بل يصرحون بتكفيرهم، واستحلال دمائهم وأموالهم، والله المستعان.
قال العراقي: ولكنا لا نكفر الناس بهذه الأشياء، لأنا اطلعنا على كتاب الله وسنة رسوله، وكذا وكذا.
فيقال: أبعد الخلق عن كتاب الله وسنة رسوله، هم أهل الاعتقادات الباطلة، وأهل الغلو في الأنبياء والأولياء والصالحين؛ وهم أضل خلق الله عما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وإن ورثوا الكتاب ودرسوه؛ فإن الوراثة والدراسة والاطلاع نوع، والعلم به والإيمان والعمل، ومعرفة حقائقه ونصوصه نوع آخر.
قال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} [سورة الأنعام آية: 25] الآية، وقال:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [سورة الجمعة آية: 5] الآية. وفي الحديث الذي في وصف الخوارج "يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم؛ هم شر قتلى تحت أديم السماء"، فالعلم والكتاب إذا لم يخلص إلى القلوب، فهو حجة على ابن آدم.
ويقال: كتاب الله وسنة رسوله، وأقوال أهل العلم، صريحة متوافرة متظاهرة، على تكفير من دعا غير الله، وناداه بما لا يقدر عليه إلا الله، قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا
لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 106]، وقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] الآية.
والقرآن كله دال على هذا المعنى، مقرر له، وإن اختلفت الطرق والأوجه في بيانه والتنبيه عليه؛ فكيف ينسب جواز دعاء غير الله، وعدم تكفير فاعله إلى القرآن، أو إلى السنة؟! وهل يقول هذا من يعرف ما جاءت به الرسل، ويتصوره، فضلا عمن يؤمن به؟! والمشركون الأولون يعترفون للرسل وأتباعهم أنهم دعاة إلى التوحيد، وإخلاص العبادة والدعاء لله، وإنما نازعوا في تصديقهم وقبول ما جاؤوا به.
وهذا الذي يزعم أنه اطلع على كتاب الله، لم يعرف منه ما عرفه أولئك المشركون ; فالإسلام في هذه الأوقات أغرب منه في أول ظهوره، والدعوة إليه، مع كثرة من يقرأ القرآن، وينسخه ويطبع المصاحف وكتب العلم؛ فسبحان من قلوب العباد بيده، يصرفها بقدرته وحكمته، ويدبرها بعلمه ومشيئته. شعر:
ومن العجائب والعجائب جمة
…
قرب الدواء وما إليه وصول
كالعيس في البيداء يقتلها الظما
…
والماء فوق ظهورها محمول
وما أحسن ما قال مجاهد، رحمه الله، في قول الله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [سورة الأنفال آية: 24] قال: حتى يتركه لا يعقل.
وأما قوله: إن الشيخ أحمد بن تيمية، وتلميذه ابن قيم الجوزية، لا يكفران أحدا من أهل القبلة.
فيقال: لو عرف هذا، من أهل القبلة في هذا الموضع، ومن المراد بهذه العبارة، لما أوردها هنا محتجا بها، على دعاء غير الله، وعدم تكفير فاعله؟! ومن أعرض عن كلام أهل العلم، ورأى أن من صلى، وقال: لا إله إلا الله، فهو من أهل القبلة، وإن ظهر منه من الشرك والترك لدين الإسلام ما ظهر، فقد نادى على نفسه بالجهالة والضلالة، وكشف عن حاصله من العلم والدين، بهذه المقالة.
وقد أنكر الإمام أحمد رحمه الله، قول القائل: لا نكفر أهل الذنوب ; وهذا يزعم أنه على مذهب الإمام أحمد ; ومقصود من قالها: إنما هو البراءة من مذهب الخوارج الذين يكفرون بمجرد الذنوب، وهذا وضع كلامهم في غير موضعه، وأزال بهجته، لأنه تأوله في أهل الشرك ودعاء الصالحين، فالتبس عليه الأمر، ولم يعرف مراد من قال هذا من السلف.
وهذا الفهم الفاسد مردود بكتاب الله وسنة رسوله، وبإجماع أهل العلم ; وقد عقد الفقهاء من أرباب المذاهب، بابا مستقلا في هذه المسألة، وذكروا حكم المرتد من أهل القبلة، وقرروا من المكفرات أشياء كثيرة دون ما نحن فيه، وجزموا بأن العصمة بالتزام الإسلام ومبانيه، ودعائمه العظام; لا بمجرد القول والصلاة، مع الإصرار على المنافي ; وهذا يعرفه صغار
الطلبة، وهو مذكور في المختصرات من كتب الحنابلة وغيرهم ; فهذا لم يعرف ما عرفه صبيان المدارس والمكاتب، فالدعوى عريضة، والعجز ظاهر.
وأعجب من هذا، أنه يقول في رسالته: إني رأيت لمن يدعو الصالحين والأولياء، ويناديهم في حاجاته، أدلة صحيحة، ونيات صالحة، ما تخرج عن التوحيد، لأن المقصود التسبب والوسائل لا الاستقلال ; هذا كلامه؛ ومن بلغت به الجهالة والعماية إلى هذه الغاية، فقد استحكم على قلبه الضلال والفساد، ولم يعرف ما دعت إليه الرسل، وسائر الأمم والعباد.
ومن له أدنى نهمة في العلم، والتفات إلى ما جاءت به الرسل، يعرف أن المشركين من كل أمة في كل قرن، ما قصدوا من معبوداتهم وآلهتهم التي عبدوها مع الله، إلا التسبب والتوسل والتشفع، ليس إلا ; ولم يدّعوا الاستقلال والتصرف لأحد من دون الله، ولا قاله أحد منهم سوى فرعون، والذي حاج إبراهيم في ربه.
وقد قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [سورة النمل آية: 14] ؛ فهم في الباطن يعلمون أن ذلك لله وحده، قال تعالى في بيان قصدهم ومرادهم بدعاء غيره:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [سورة يونس آية: 18] الآية، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
[سورة الزمر آية: 3] .
وقال تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً} [سورة الأحقاف آية: 28]، وقال:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} [سورة الزمر آية: 43]، وقال:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] ، فأخبر تعالى أنهم تعلقوا على آلهتهم، ودعوهم مع الله للشفاعة، والتقريب إلى الله، بالجاه والمنْزلة، وأحبوهم مع الله محبة تأله وتعبد، لنيل أغراضهم الفاسدة، ولم يريدوا منهم تدبيرا ولا تأثيرا، ولا شركة ولا استقلالا.
يوضحه قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [سورة يونس آية: 31] إلى قوله: {أَفَلا تَتَّقُونَ} وقوله: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا} [سورة المؤمنون آية: 84] إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 89]، وقوله {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً} [سورة النمل آية: 61] إلى قوله {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة البقرة آية: 111] .
فتأمل هذه الآيات، وما فيها من الحجج والبيانات، تطلعك على جهل هذا العراقي وأمثاله، وأنهم ما عرفوا شرك المشركين، وما كانوا عليه من القصد والدين، ولم يعرفوا ما كان عليه أنبياء الله وأتباعهم من توحيد رب العالمين.
وتأمل كيف استدل سبحانه وتعالى على توحيد إلهيته، ووجوب عبادته وحده لا شريك له، بما أقر به الخصم واعترف به، من توحيد ربوبيته واستقلاله بالملك والخلق، والتأثير
والتدبير؛ وهذه عادة القرآن دائما، يعرج على هذه الحجة، لأنها من أكبر الحجج، وأوضحها وأدلها على المقصود ; فسبحان من جعل كلامه في أعلى طبقات البلاغة والفصاحة، والجلالة والفخامة، والدلالة والظهور ; فأي شبهة بعد هذا تبقى للمماحل المغرور؟!
واعلم: أن دعاء الأموات والغائبين ليس بسبب لما يقصده المشرك ويريده ; بل هو سبب لنقيض قصده وحرمانه، وهلاكه في الدنيا والآخرة ; قال تعالى:{يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [سورة الحج آية: 12-13] لأنه في الحقيقة إنما عبد الشيطان، ودعاه وأطاعه فيما يأمر به، ولذلك تتبرأ الملائكة والصالحون ممن دعاهم، وصرف لهم شيئا من العبادة.
وأيضا: فليس كل سبب يباح ; بل من الأسباب ما هو محرم، وما هو كفر، كالسحر والتكهن ; والغبي يظن أن الدليل يسلم له، إذا أراد السبب لا الاستقلال ; وعباد الكواكب وأصحاب النيرنجيات، ومخاطبات النجوم يرون أنها أسباب، ووسائل نافعة، ويظنونها كالأسباب العادية 1 وعباد القبور والأنفس المفارقة، يرون أن تعلق قلب الزائر، وروحه بروح
1 وانظر صفحة: 346 من اقتضاء الصراط المستقيم حول هذه الأمور التي يظن أن لها تأثيرا
…
إلخ.
المزور، سبب لنيل مقصوده، وتحصيل نصيب مما يفيض على روح ذلك المزور، كما ذكره الفارابي وغيره من عباد الكواكب والأنفس المفارقة ; وقد قال بعض السلف: ما عبدت الشمس والقمر، إلا بالمقاييس.
فصل
[في ذكر ما استدل به على جواز دعاء الصالحين والرد عليه]
قال العراقي: ومن الأدلة على جواز دعاء الصالحين وندائهم ما ذكر الله عن نبيه سليمان، وقوله لآصف، وقد طلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله.
فنقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [سورة النور آية: 16]، {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [سورة البقرة آية: 102] . وقصة آصف من أدلة التوحيد، وآصف توسل إلى الله بتوحيده وإلهيته، وكرر ذلك في دعائه ; وقد قيل: إنه يعرف الاسم الأعظم، فهو طالب من الله راغب إليه سائل له، وسليمان عليه السلام آمر ليس بسائل ولا طالب ; وفرق بين الأمر والمسألة، ومن لم يفرق بين الأمرين، ولم يدر حكم المسألتين، فليرجع إلى وراء، وليقتبس نورا من كلام أئمة العلم والهدى.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب: " لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك " 1، وهذا من جنس الأسباب العادية؛ فإن الرجل إذا كان معروفا بالصلاح، وإجابة الدعاء، فطلب منه الدعاء أو أمر به، فدعا الله فاستجيب له، لا يكون هو الفاعل للاستجابة، وليس المطلوب منه ما يختص بالله من الفعل، وإنما يطلب منه
1 الترمذي: الدعوات 3562 ، وأبو داود: الصلاة 1498 ، وابن ماجه: المناسك 2894.
ما يختص به من الدعاء، والتضرع؛ فالآية من أدلة التوحيد، وصرف الوجوه إلى الله، وإقبال القلوب عليه.
فإن آصف توسل إلى الله بتوحيده وربوبيته، وقصده وحده، ولم يقصد سليمان ولا غيره، مع أن سليمان أفضل منه لنبوته ; وفيها: أن الأنبياء لا يسألون ولا يقصدون ; بل ربما صار حصول مقصودهم، ونيل مطلوبهم، على يد من هو دونهم من المؤمنين ; وإن أعظم الوسائل، وأشرف المقاصد، هو: توحيد الله بعبادته، ودعائه وحده لا شريك له، كما فعل آصف.
وفيها: براءة أولياء الله من الحول والقوة، كما دلت عليه القصة، فإنه توضأ وصلى ودعا، فقال في دعائه: يا ذا الجلال والإكرام، قاله مجاهد. وقال الزيادي: يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا، لا إله إلا أنت، ائتني بعرشها، فأي شبهة تبقى مع هذا؟! وأي حجة فيه على أن غير الله يدعى؟!
ثم أخذ العراقي في هذيان وإسهاب، حاصله: أن السبب لا يفعل، وأن الله هو الفاعل؛ ومراده بهذا أن دعاء الأموات والغائبين، من الأولياء والصالحين، يجوز ويسوغ، إذا اعتقد أن الله هو الفاعل؛ وقد مر رد هذا، وتقرير جهل قائله، ومفارقته لما عليه أهل الإسلام
وقد تقدم أن أصل الإسلام وقاعدته، هي: عبادة الله وحده لا شريك له، وإفراده بالقصد والطلب، وأن توحيد الربوبية، واعتقاد الفاعلية له تعالى، لا يكفي في السعاد والنجاة،
ولا يكون به الرجل مسلما، حتى يعبد الله وحده، ويتبرأ مما سواه من الأنداد والآلهة.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: " آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله "1. وهذا ظاهر بحمد الله، وإن خفي على خفافيش البصائر، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، فهاموا من الجهل والضلال، في كل فج عميق، مع انتسابهم إلى العلوم والدفاتر، وتقدمهم في المجالس والمحاضر.
لا عيب في القوم من طول ومن قصر
…
جسم البغال وأحلام العصافير
فصل
[في خلق أفعال العباد وما يريد بها والجواب عن ذلك]
قال العراقي: فعند أهل السنة أفعال العبد مخلوقة لله ; وعند المعتزلة: أن المخلوق خالق لأفعاله، ومع هذا فأهل السنة لا يكفرونهم، انتهى.
قلت: يريد العراقي، أن مسألة الأموات والغائبين، ودعائهم في الحوائج والشدائد، مبنية على هذه المسألة، وأن أهل السنة يثبتون ذلك لمن اعتقد أن الله خالق أفعال العباد، وأن من أنكر دعاء الصالحين ونداءهم، فهو من المعتزلة، لأن إنكاره مبني على اعتقاده أن العبد خالق لأفعال نفسه.
والجواب أن يقال: أما هذه المسألة، أعني: خلق أفعال
1 البخاري: مواقيت الصلاة 523 ، ومسلم: الإيمان 17 ، والترمذي: الإيمان 2611 ، والنسائي: الإيمان وشرائعه 5031 والأشربة 5692 ، وأبو داود: الأشربة 3692 ، وأحمد 1/361.
العباد، فأهل السنة قائلون بها، لدلالة الكتاب والسنة، والأدلة العقلية والنقلية، قال تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [سورة الصافات آية: 96] ؛ وقد انعقد الإجماع على هذا. ثم حدث قول القدرية النفاة، في أواخر عصر الصحابة، وأول من اشتهر عنه ذلك: غيلان القدري، ومعبد الجهني.
فأما غيلان: فكان في زمن هشام بن عبد الملك، فناظره الأوزاعي إمام أهل الشام في زمانه، وألزمه الحجة، وحكم بكفره؛ وقتله هشام ; ومعبد الجهني: قتله الحجاج بن يوسف ; وأكثر السلف والأئمة يكفرونه بهذه المقالة، كما هو معروف في محله، وقد قال الإمام أحمد: ناظروهم بالعلم، فإد أقروا به خصموا ; وإن أنكروا كفروا.
وقد حكى الإجماع على كفر من أنكر العلم: شمس الدين ابن قيم الجوزية، وناهيك به علما واطلاعا؛ فنسبته عدم التكفير إلى أهل السنة كذب، جره عدم الحياء ; ثم أي حجة في هذا، على أن الأولياء والصالحين يدعون، بما لا يقدر عليه إلا الله؟!
فمسألة خلق الأفعال، لا تلازم بينها وبين دعاء الأولياء والصالحين بوجه ما، وإنما أتي هذا من جهة ظنه، أن من قال: بأن الله يخلق أفعال العباد، يباح له دعاء الصالحين ; ومن قال: إن العبد يخلق أفعال نفسه، يحرم عليه ذلك، هذا ظن الأحمق، لم يفرق بين مذهب المعتزلة، والقدرية، ودين
المشركين من العرب والصائبين.
ويذكر أن بعض الأغبياء شكا رجلا إلى أمير من الأمراء، فقال: إنه مرجئ خارجي، رافضي ناصبي، يسب معاوية بن الخطاب، الذي قتل علي بن العاص ; فقال له الوالي: لا أدري على أي شيء من هذا أحسدك؟ على علمك بالمقالات، أو على معرفتك بالأنساب.
قال العراقي: وكان أحمد يصلي خلفهم، وكل السلف.
والجواب أن يقال: سبحان الله! ما أقبح الوقاحة والجراءة، والتمادي في الكذب على الله، وعلى أولى العلم من خلقه!! ما صلى الإمام أحمد خلف قدري قط ; بل أفتى بعض أهل الحديث بمجلسه: أنه لا يصلى خلفهم، فاستحسنه واستصوبه، والمعروف من مذهبه: أن الصلاة لا تصح خلف فاسق باعتقاده، أو فعله.
وقد كذب هذا بانتسابه إليه، والحكم عليه بالصلاة خلف القدرية، وأكثر أهل السنة لا يرون الصلاة خلفهم، كما ذكره صاحب كشف الغمة ; وبعض العلماء يقول: مسألة صلاة الجمعة والجماعة، مبنية على مسألة القول بالتكفير وعدمه، ويرى الصلاة خلف من لم يكفر ببدعته، إذا احتيج إلى ذلك فما حكاه هذا عن أهل السنة، كذب لا مرية فيه، والصواب التفصيل عند بعضهم، والمنع مطلقا عند آخرين.
فصل
[في قول العراقي: وهذا من باب الكرامة]
قال العراقي: وهذا من باب الكرامة، وتكلم في إثبات الكرامة، وأنها تكون بعد الموت، واستدل بقولة تعالى عن الملائكة:{نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [سورة فصلت آية: 31] ؛ ومراد العراقي: أن دعاء الصالحين والاستشفاع بهم وطلب ما لا يقدر عليه إلا الله منهم، من جنس الكرامة المثبتة التي أثبتها أهل السنة.
وهذه طامة عظيمة، وغاية في الجهالة والسفاهة، بل هي من جنس احتجاج النصارى على دعاء المسيح وأمه وعبادتهما، ظنوا أن ما حصل للمسيح ولأمه عليهما السلام، من الكرامات والمعجزات، يبيح لهم دعاءهما وعبادتهما؛ وإذا خاطبت النصراني، سرد عليك من المعجزات والكرامات التي أعطيها المسيح، واحتج بها على دعواه.
وعباد القبور يحتجون في هذا الباب، بما لم يثبت؛ وما ثبت فأكثره دون ما أعطيه المسيح; ومع ذلك، فالاحتجاج به على دعائهم، من جنس حجج النصارى، لا يدل على المدعى; بل غايته أن يدل على علو الدرجة، وصدق الرسالة، أو ثبوت الولاية، إذا اقترن به عمل صالح.
وأما الاستدلال بذلك على أنه يدعى ويرجى، ويشفع وينفع، فهذا من دين النصارى والصائبة، وعباد الأصنام; وهذه الشبهة هي التي أوقعت في الشرك جمهور المشركين;
فإن أصل عبادة الأصنام، هو التعلق على الصالحين، وتصوير صورهم وتماثيلهم; بل عباد الكواكب، دعاهم إلى عبادتها: ما أودع الله فيها من الحكم، والمنافع التي ظهرت آثارها في هذا العالم، كما يعرفه من عرف مذاهب القوم.
وطرد الدليل الذي استدل به العراقي، أن يقال بدعاء كل ذي كرامة ومزية، إذا اعتقد أن الفاعل هو الله، ولا يتوجه الإنكار على النصارى، في قولهم: يا عيسى افعل كذا، يا روح القدس، أعطني كذا، يا والدة المسيح اشفعي لنا إلى الإله، لأنه من أولي العزم، ومن أكابر أهل الكرامات; والمسلم إذا تصور هذا، ظهر له ما فيه من الجهل والضلال، بمجرد الفطرة ومعرفة الإسلام.
وأما من رزق الفهم فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ووفق للاستدلال بآيات الله ومخلوقاته التي نصبها شاهدة ودالة على توحيده في ربوبيته وإلهيته، فذلك أكمل إيمانا وأتم علما وإيقانا، يرى كفر من تعلق على غير الله، ودعاه فيما يختص بالله، من أوضح الواضحات، وأبين البينات.
قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة الشورى آية: 9] ، استدل بعموم قدرته وإيجاده، وإحيائه الموتى، على وجوب توليه بعبادته وحده لا شريك له; والقرآن والسنة يدلان على هذا، ويقررانه بأنواع الدلالات، وألطف التقريرات.
والآية التي استدل بها، ليس فيها ما يدل على دعواه; بل فيها ما يبطلها ويدحضها; فإن أول الآية نص على وجوب التوحيد، وإفراد الله بالعبادة، والاستقامة عل ذلك، بالتزام حقوقه وواجباته; وتنزل الملائكة، ومخاطبتهم للمؤمنين بهذا الخطاب، وتوليهم له، لا يدل على أنه يفعل ويشفع، وإنما يدل على كرامته وعلو درجته، ونيل مشتهاه ومدعاه في دار الكرامة.
فأين في هذا ما يدل على أنه يدعى في حياته أو بعد مماته؟! وفي الحديث: " من قال في القرآن برأيه، فليتبوأ مقعده من النار " 1، وفي رواية "بغير علم"، وهذا الجاهل يتخبط في الاستدلال بآيات الله، ويحملها على غير محملها، ويتأولها على غير تأويلها، بل على نقيضه وضده؛ فسبحان من طبع على قلبه!
وقد استدل بعض من يدعي العلم، على مسألة تصرف الأولياء، وأنهم يدعون، بقوله تعالى:{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [سورة آل عمران آية: 169]، فقال بعض عوام المسلمين: إن كانت القراءة رضي الله عنه {يَرْزُقُون} بفتح الياء فذاك متجه، وإلا فالآية حجة عليك. قال في الفتاوى البزازية من كتب الحنفية، قال علماؤنا: من قال أرواح المشائخ حاضرة تعلم، يكفر; انتهى.
فإن أراد علماء الشريعة، فهو حكاية للإجماع، والإجماع على هذا يعلم بالضرورة من دين الإسلام، وهذا أحد الطرق التي يعرف بها الإجماع.
1 الترمذي: تفسير القرآن 2951 ، وأحمد 1/233 ،1/269.
وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي، في رسالته في الرد على من زعم: أن الأولياء يدعون، ويتصرفون، على أن ذلك كرامة; قال: وهذا كلام فيه تفريط وإفراط; بل فيه الهلاك الأبدي، والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالفة عقائد الأئمة، وما اجتمعت عليه الأمة; والمقصود: أنه حكى إجماع الأمة على كفر من زعم ذلك.
فصل
واستدل العراقي على دعاء الصالحين، وندائهم بالحوائج، بقوله تعالى:{فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} [سورة النازعات آية: 5]، وذكر عن البيضاوي: أنها أرواح الموتى.
والجواب أن يقال: قد حكى البيضاوي أقوالا على هذه الآية، وقدم: أنها الملائكة، وحكى أنها النجوم، وحكى أنها خيل الغزاة، وحكى أنها أنفس الغزاة; وعلى زعم هذا وطرد دليله: كل ما ذكر يدعى مع الله، حتى خيل الغزاة; والبيضاوي لا يقول: بدعاء أحد مع الله; بل ذكر في تفسيره مواضع يعز استقصاؤها، في المنع من ذلك وتحريمه.
ثم هذا القول الذي قاله العراقي: رجوع إلى عبادة الملائكة والنجوم، والأنفس المفارقة، وهذا حقيقة دين الصائبة; أوقع العراقي فيه ظنه أن العبادة لا تكون عبادة وشركا، إلا إذا اعتقد التأثير من دون الله; وهذا الشرط هو الذي أوقعه فيما
وقع فيه، من تجويز عبادة الملائكة، والنجوم والأنفس المفارقة; وهذه المسألة غلط فيها كثير من الضالين، مع أن الله تعالى وضحها في كتابه، توضيحا كافيا شافيا; وقد تقدم بعض ذلك قريبا.
والشرك جعْل شريك لله تعالى فيما يستحقه، ويختص به من العبادة الباطنة والظاهرة، كالحب والخضوع، والتعظيم والخوف والرجاء والإنابة، والتوكل والنسك والطاعة، ونحو ذلك من العبادات; فمتى أشرك مع الله غيره في شيء من ذلك، فهو مشرك بربه، قد عدل به سواه، وجعل له ندا من خلقه، ولا يشترط في ذلك أن يعتقد له شركة في الربوبية، أو استقلالا بشيء منها.
والعجب كل العجب أن مثل هؤلاء يقرؤون كتاب الله ويتعبدون بتلاوته، وربما عرفوا شيئا من قواعد العربية، وهم في هذا الباب: من أضل خلق الله وأبعدهم عن فهم وحيه وتنْزيله; ومن الأسباب المانعة عن فهم كتاب الله: أنهم ظنوا أن ما حكى الله عن المشركين، وما حكم عليهم به، ووصفهم به، خاص بقوم مضوا، وأناس سلفوا وانقرضوا، لم يعقبوا وارثا.
وربما سمع بعضهم قول من يقول من المفسرين: هذه نزلت في عباد الأصنام، هذه في النصارى، هذه في الصائبة، فيظن الغمر أن ذلك مختص بهم، وأن الحكم لا يتعداهم; وهذا من أكبر الأسباب التي تحول بين العبد وبين فهم القرآن والسنة.
ثم اعلم: أن قول البيضاوي هنا، قولا لا يلتفت إليه، ولا يعول في الدليل عليه، لأنه صدر عمن لا يرضى، ولا يؤتم به في هذا الشأن، ولا يقتدى، ولم يقله أحد من أئمة التفسير والهدى; بل قد صرحوا بخلافه، كما يعرفه أولو الأحلام والنهى، ونبهوا على أن أصل الشرك، هو سؤال أرواح الموتى; والبيضاوي وأمثاله: إنما يؤخذ عنهم ما شهدت له الأدلة الشرعية، وجرى على القوانين المرضية التي يتلقاها أهل العلم والإيمان، من أحكام السنة والقرآن.
وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ذهاب الإسلام من ثلاثة: "زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وحكم الأئمة المضلين"، هذا لو سلمنا ثبوت العلم، لمن يحكي مثل هذه الأقوال، وإلا فأين العنقاء لتطلب؟ وأين السمندل ليجلب؟
وأهل التحقيق من المفسرين: على أن المراد بهذه الآية، هم الملائكة، فإسناد التدبير إليهم كإسناد النزع والنشط، والتقسيم والزجر، كما في قوله:{فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} [سورة الذاريات آية: 4]، وقوله:{فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} [سورة الصافات آية: 2-3] ، وليس في هذه الآيات الكريمات ما يدل على دعاء الملائكة وعبادتهم، فإنهم رسل مأمورون مدبرون، كما أن إبلاغ الرسالة من الرسول البشري، لا يدل على دعائه ولا يقتضيه، فكذلك الملائكة، لأنهم رسل بالأوامر الكونية والشرعية.
والقدرة والتدبير، وتسخير المخلوقات، كل ذلك لله وحده;
وهو من أدلة توحيده وإلهيته، وصرف الوجوه إليه، والإعراض عما سواه، قال تعالى في حق الملائكة:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} إلى قوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [سورة الأنبياء آية: 26-29] .
وقال في شأن جبرائيل وغيره من الملائكة: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [سورة مريم آية: 64] ؛ فتأمل ما في هذا القول من كمال العبودية، ومتابعة الأمر، والبراءة من الملكة والحول والقوة، والاعتراف له تعالى بذلك; فاستدل بعموم الربوبية، ثم قال:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [سورة مريم آية: 64] ثناء عليه تعالى بإثبات العلم، ونفي ما يضاده أو ينافي كماله.
قال تعالى في حق المسيح: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [سورة النساء آية: 172] ؛ الآية والمقصود: أن تسخير الملائكة وتدبيرها وإرسالها، من أدلة إلهيته تعالى، واستحقاقه لأن يعبد وحده لا شريك له.
ومن العجب: أن هذا العراقي زعم أن للأرواح تدبيرا وتأثيرا في العالم، مستدلا بعبارة رآها في كتاب الروح؛ وهذا غلط فاحش وخطأ واضح؛ فإن ما ذكره العلامة ابن القيم، ليس فيه أنها تدبر وتتصرف، وتجيب من دعاها; وليس فيه إلا مجرد الحكاية: أن روح النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه قد رآها بعض الناس عند القتال، وأنها هزمت أهل الشرك، وليس
فيه أنها تدبر وتتصرف؛ وهذه الرؤيا والقضية الجزئية لا دلالة فيها، علي ما زعمه العراقي بوجه من الوجوه.
وأبلغ من هذا قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة الأنفال آية: 9-10] ، فانظر هذه الآية الكريمة، وما فيها من قطع التعلق والالتفات إلى غير الله، مع أن المدد بالملائكة، وقتالهم مشهود محسوس متواتر؛ ولو قال إنسان بجواز دعاء الملائكة وطلب ذلك منهم، والاستغاثة بهم عند الشدائد والحرب، لكان ذلك كفرا، ورجوعا إلى عبادة الملائكة، والأنفس المفارقة.
ومن نظر في كلام هذا الرجل، عرف أنه أجنبي عن العلم، لم يعرف ما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، وكيف كان الشرك في الأمم، وإلا فأي تلازم بين ما ذكره، وما أخبر الله به عن مدده بالملائكة، وبين دعائهم والاستغاثة بهم، والاستعانة، والإنابة، في كشف الشدائد والمهمات؟!
والرجل وجد مادة وكتبا شتت فهمه، وحيرت عقله، أراد الاستغناء بها فلم تزده إلا عمى وجهلا، فأضاف إلى ذلك الجرأة في الكذب على الله، وعلى رسله، وعلى أولي العلم من خلقه، كما كذب على الشيخ ابن تيمية، وتلميذه ابن قيم الجوزية، وزعم أنهما قالا: الأرواح تدبر وتتصرف بعد الموت.
والشيخ رحمه الله نص على أن القول بمثل هذا من أقوال
الفلاسفة والصابئة; قال رحمه الله: من قال: إن أرواح الموتى تجيب من دعاها، فهذا يشبه قول من يقول: الأرواح بعد المفارقة تجتمع هي والأرواح الزائرة، فيقوى تأثيرها; وهذه المعاني ذكرها طائفة من الفلاسفة، ومن أخذ عنهم، كابن سينا وأبي حامد وغيرهما; وهذه الأحوال، هي من أصول الشرك، وعبادة الأصنام; وهي من المقاييس التى قال بعض السلف: ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس.
وقال أيضا رحمه الله في الكلام على رؤساء المتكلمين -: وقد رأيت في مصنفاتهم، في عبادة الملائكة، وعبادة الأنفس المفارقة أنفس الملائكة وغيرهم، ما هو أصل الشرك.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله في "مدارجه": ومن أنواعه - أي: الشرك الأكبر -: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم; فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فضلا عمن استغاث به، أو سأله أن يشفع له عند الله.
[فصل فيما استدل به العراقي على أن أرواح الصالحين تدعى وتدبر]
قال العراقي في استدلاله، على أن أرواح الصالحين تدعى وتدبر: ومن الآيات التي تدل على ذلك، قوله تعالى:{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [سورة يوسف آية: 24]، قال المفسرون - منهم البغوي -: رأى يعقوب عاضا على أنملته، يقول: إياك وإياها! فلم يفعل؛ فكان يوسف في مصر، ويعقوب في
الشام، فهذا نوع من الكرامة، وهي سبب، والقدرة لله.
قلت: يريد العراقي أن مثل هذا يدل على جواز دعاء الصالحين، وندائهم بالحوائج في الغيبة وبعد الممات، لأن هذا كرامة، والكرامة: يدعى صاحبها وينادى.
والجواب أن يقال: عبادة الله وحده لا شريك له، وإفراده بالدعاء والطلب فيما لا يقدر عليه إلا هو، دلت على وجوبها الكتب السماوية، واتفقت عليها الدعوة الرسالية، وهي أصل الدين وقاعدته، لا يعتريها نسخ ولا تخصيص.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [سورة فاطر آية: 3]، وقال تعالى:{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [سورة الملك آية: 20-21] وقال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [سورة العنكبوت آية: 17] .
فتأمل هذه الآيات ونظائرها، وانظر ما دلت عليه، من اختصاصه تعالى بالخلق والرزق، اللذين هما أصل المخلوقات وقوامها، وانظر كيف استدل بها على وجوب عبادته وطاعته والإيمان به؛ وهل يعارض هذا الأصل بمثل هذه الأوهام الضالة، من شم رائحة العلم، ودرى ما الناس فيه من أمر دينهم؟
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة
…
وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
هذا لو سلم أن الكرامات سبب، وأن هذا المثال فيه إثبات الكرامة، فكيف والأمر بخلاف ذلك، بإجماع أهل العلم؟! والمقدمتان كاذبتان، لأن الكرامة فعل الله تعالى لا فعل للولي فيها، ولا قدرة له عليها ولا تأثير، وكل من يذكر تعريف الكرامة وحدها، يقول: هي خرق الله العادة لوليه، لحكمة ومصلحة تعود عليه أو على غيره.
وعلى هذا التعريف، لا فعل للولي فيها ولا إرادة، فمن أين يؤخذ أنها سبب يقتضي دعاء من قامت به أو فعلت له؟ ومن أي وجه دلت الكرامة على هذا؟ وأفضل الناس الرسل، والملائكة من أفضل خلق الله، ولهم من المعجزات والكرامات والمقامات ما ليس لغيرهم.
قد جاء عيسى بن مريم بما هو من أفضل المعجزات والكرامات، يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ويبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، وينبئهم من الغيب ما يأكلون وما يدخرون.
وقد أنكر تعالى على من قصده ودعاه في حاجاته وملماته، وأخبر أن فاعل ذلك كافر بربه، ضال بعبادة غيره; وقال تعالى:{وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} [سورة آل عمران آية: 80] الآية، والأرباب هم المعبودون المدعوون، وسيأتي تحقيق هذا.
وقال تعالى فيمن عبدوا المسيح: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة المائدة آية: 76] وسيأتيك أن الدعاء والنداء بما لا يقدر عليه إلا الله، داخل في مسمى العبادة، فتنبه! فأخبر تعالى عن المسيح أنه لا يملك لمن دعاه نفعا ولا ضرا، وإن قل كما يفيده التنكير، وأبطل عبادته وأنكرها أشد الإنكار، ومعجزاته أوضح من الشمس وسط النهار; وقد تقدم أن هذه الشبهة هي التي تعلق بها النصارى في دعائه ودعاء أمه.
ثم اعلم: أن الآية ليس فيها ما يدل على كرامة يعقوب عليه السلام، إلا حفظه في عقبه، وصيانة ولده; فإن الله يحفظ الرجل الصالح في نفسه وأهله وولده، كما في حديث ابن عباس:" احفظ الله يحفظك " 1، وليس ذلك من جهه المثال وتخصيصه، فإن هذا لا يفيد الكرامة ولا يفهمها; وقد تمثل جبرائيل في صورة دحية الكلبي، وكثيرا ما يتمثل الملك في صورة البشر.
والذي رآه يوسف هو المثال، لا نفس يعقوب وذاته، كما فهمه الغبي، فإن هذا لا يدل عليه كلامهم أصلا; وكرامات يعقوب عليه السلام أجل من ذلك وأعظم; وقد يمثل للإنسان من يحب ويأنس به، أو من يجله ويهابه لمصلحة تعود عليه، لا على نفس صاحب المثال; ولذلك نظائر وأشباه في اليقظة والمنام، يعرفها أولو العلم والأفهام.
1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع 2516 ، وأحمد 1/293 ،1/303 ،1/307.
تنبيه
[ليست الكرامة من لوازم المنْزلة وعلو الدرجة]
ليست الكرامة من لوازم المنْزلة وعلو الدرجة؛ مشى قوم فوق البحار، ومات عطشا من هو أفضل منهم وأقوى إيمانا; وقد كثرت في القرن الثاني والثالث، وفي القرن الأول من هو أفضل وأجل، ممن وقعت له هذه الخوارق؛ وبسط هذا له محل، والقصد إبطال كلام هذا الضال.
ويقال له: أكثر المفسرين على غير هذا; فمنهم من قال: إن هم يوسف من جنس الخطرات، والواردات التي لا تستقر، وليست بعزم، فتركها والإعراض عنها حسنة، كما دل عليه حديث:" إذا هم العبد بالسيئة فلم يفعلها كتبت له حسنة "1. ومنهم من قال: البرهان المشار إليه، هو قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [سورة الإسراء آية: 32] ، رأى الآية مكتوبة في السقف. ومنهم من قال: رأى ثلاث آيات هي البرهان. ومنهم من قال: لم يهم يوسف بسوء، لوجوب عصمته حتى قبل النبوة.
وقوله: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [سورة يوسف آية: 24] معلق على عدم الرؤية وقد ثبتت، فلا هم; تقول: هلك زيد لولا عمرو، وهذا معنى ما قال بعضهم: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ هم بها; وهذا يذهب إليه من يقول: بعصمة الأنبياء قبل النبوة; وهو الراجح عند من اعتمد أقوالهم هذا العراقي، فيما وصل إلينا في مسألة علم الغيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا خالفه ظنا منه أن
1 البخاري: الرقاق 6491 ، ومسلم: الإيمان 131 ، وأحمد 1/279 ، والدارمي: الرقاق 2786.
إثبات الكرامة، يقتضي إباحة الدعاء مع الله؛ قال بعض السلف: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري; أي مذهب وافق هواك تمذهبت به.
ومن العجب أن يقول في هذه الرسالة: سلوني سلوني إن أشكل عليكم شيء; وعندي من النسخ وعندي كذا وكذا، ويطري نفسه إطراء لا يصدر عمن له دين وعقل، أو دراية بشيء من الآداب، والنقل، حتى أنشد في مدح نفسه، قول الشاعر
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم
…
فليس سواء عالم وجهول
وما أحسن ما قيل:
إني سألت ولكن لم أجد أحدا
…
أثنى عليك ومدح النفس تضليل
ومثل هذا لا يحسن ممن له علم وفضل، أو أدب ينتفع به وعقل، فكيف بمن لا يعلم حقيقة الإسلام؟ ولم يعرف منه ما عرفه آحاد العوام؟! وقد اعترض بعض الجهال على شيخ الإسلام، في بعض تقاريره، فأخطأ الإصابة، ولم يتأدب بحضرة تلك العصابة، وقال له الشيخ: لا أدب ولا فضيلة، وأنى لمثل هذا بالفضل والأدب، وقد عدم العلم الذي هو أصل الفضائل والرتب.
فقر الجهول بلا علم إلى أدب
…
فقر الحمار بلا رأس إلى رسن
وهذه الدعوى الكاذبة، يمكن كل أحد أن يدعيها، ولكن
هيهات هيهات، قد حيل بين النفوس الجاهلة وبين أمانيها، لقول أصدق الورى، ومن لا ينطق عن الهوى:" لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال دماء قوم وأموالهم " 1 الحديث.
والله يعلم أني ما رأيت لهذا إصابة قط فيما يدعيه وينفرد به، حتى إنه قال في بدء رسالته وخطبته، في وصف الأرواح: فما تعارف منها في الأزل ائتلف; فزاد في الحديث قوله: في الأزل، وهي زيادة تدل على جهله وكثافة فهمه، فإن الأزل لا وجود للأرواح فيه، فضلا عن أن تتعارف، لأنه اسم لما قبل إيجاد المخلوقات.
[فصل في طلب الشفاعة من الرسول بعد موته عند زيارته]
قال: وقد أجمع الحنابلة وغيرهم، على طلب الشفاعة من الرسول بعد موته عند زيارته.
والجواب أن يقال: هذه دعوى عريضة كبيرة، لا تصدر إلا عن اطلاع كلي، وإحاطة تامة بأقوال أهل العلم، أو عن وقاحة كلية وتهور في الكذب، وإيغال في الافتراء.
ومن المعلوم ضرورة، عند من نظر في كلام هذا من أهل العلم: أنه ليس من القسم الأول، بل هو ممن يجهل الضروريات الإسلامية، والبديهيات الإيمانية اليقينية، مما لا يخفى على عامة المسلمين; فكيف له بمعرفة الإجماع في هذه المسألة؟! والمدعي يطالب بتصحيح دعواه.
1 البخاري: تفسير القرآن 4552 ، ومسلم: الأقضية 1711 ، والنسائي: آداب القضاة 5425 ، وابن ماجه: الأحكام 2321 ، وأحمد 1/351 ،1/363.
ولكن نتنزل مع هذا، ونكتفي منه بتصحيح ذلك عن واحد فقط، ممن يحتج به من أئمة العلم والفتوى، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من بعدهم من التابعين وتابعي التابعين، أو الأئمة الأربعة، أو أصحاب الوجوه والترجيحات في مذاهبهم.
وأما من لا يحتج به من الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فهؤلاء ليسوا بحجة ولا يرجع إليهم بالاتفاق; والآثار والأحاديث دلت على عيبهم وذمهم بما أحدثوه في دين الله، من الأقوال والأفعال، كما في حديث العرباض بن سارية، وغيره من الأحاديث.
وما علمت أحدا من أهل العلم وأئمة الفتوى قال هذا، لا من الصحابة ولا من غيرهم; بل حكى الشيخ الإمام أحمد بن عبد الحليم: الإجماع على المنع من دعائه صلى الله عليه وسلم والطلب منه، وقرر أن هذا من شعب الشرك الظاهرة، وسيأتيك بسط كلامه.
وذكر الحنابلة كصاحب الفروع والإقناع وغيرهم، حتى أصحاب المختصرات أن المسلم عند القبر لا يستقبله عند الدعاء، ولا يدعو الله عنده، وهذا منهم صيانة للتوحيد.
وأبو حنيفة قال: لا يستقبله عند السلام عليه صلى الله عليه وسلم بل يستقبل القبلة، حكاه شيخ الإسلام; وقد كره مالك للرجل أن يدعو عند القبر الشريف - على صاحبه أفضل الصلاة والسلام -، وذكر أنه يستقبل القبلة عند الدعاء، كما ذكره في المبسوط
وغيره من كتب المالكية; وفي منسك الإمام أحمد مثل هذا; بل كرهوا للرجل من أهل المدينة أن يأتي القبر الشريف كلما دخل المسجد، لأنه محدث لم يفعله أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال مالك: ولن يصلح آخر هذه الأمة، إلا ما أصلح أولها.
وأما من قدم من سفر، أو أراده من أهل المدينة، فرخصوا له في إتيان القبر الشريف للسلام، لأن ابن عمر كان يفعله; قال ابن أخيه عبيد الله بن عمر بن عاصم: لم يفعله أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ابن عمر; وعبيد الله المصغر، من أفضل آل عمر، ومن أعيان وقته ثقة وزهدا وعلما.
وأما دعاؤه وطلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم بعد موته، فهم مجمعون على المنع منه؛ ولم ينقل عن أحد من أئمة المسلمين لا الأئمة الأربعة، ولا غيرهم ما يقتضي الجواز والإباحة.
قال شيخ الإسلام أبو العباس رحمه الله، والطلب من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، وفي مغيبه، ليس مشروعا قط; ولكن كثيرا من الناس يدعو الموتى والغائبين من الشيوخ وغيرهم، فتتمثل له الشياطين، وتقضي بعض مآربه لتضلهم عن سبيل الله، كما تفعل الشياطين بعباد الأصنام وعباد الشمس والقمر، تخاطبهم وتتراءى لهم؛ وهذا كثير يوجد في زماننا، وغير زماننا، انتهى.
وقال الشيخ رحمه الله: وكان الصحابة والتابعون لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد، إلى زمن الوليد بن عبد الملك،
لا يدخل أحد إليها، لا لصلاة هناك، ولا لتمسح بالقبر، ولا دعاء هناك، بل هذا جميعه إنما يفعل بالمسجد; وكان السلف إذا سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم وأرادوا الدعاء، دعوا مستقبلي القبلة، لم يستقبلوا القبر.
وأما وقوف المسلم عليه، فقال أبو حنيفة: ليستقبلوا القبلة أيضا، لا يستقبلوا القبر; وقال أكثر الأئمة: بل ليستقبلوا القبر عند السلام عليه خاصة، ولم يقل أحد من الأئمة أنه يستقبل القبر عند الدعاء، أي: الدعاء الذي يقصده لنفسه، إلا في حكاية مكذوبة تروى عن مالك، ومذهبه بخلافها؛ واتفق الأئمة على أنه لا يمس قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يقبله; وهذا كله محافظة على التوحيد، فإن من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد.
قال طائفة من السلف، في قوله تعالى:{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [سورة نوح آية: 23] الآية: هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم; وقد ذكر بعض هذا البخاري في صحيحه، لما ذكر قول ابن عباس; وذكره ابن جرير وغيره عن غير واحد من السلف; وذكره وثيمه وغيره في قصص الأنبياء من عدة طرق. انتهى.
وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي - من أكابر الحنابلة وعلمائهم -: والسلف كلهم متفقون على أن الزائر لا يسأله
شيئا -يعني النبي صلى الله عليه وسلم ولا يطلب منه ما يطلب منه في حياته، ويطلب منه يوم القيامة، لا شفاعة ولا استغفارا. وقال أيضا: والحكاية التي تنسب إلى مالك مع أبي جعفر المنصور، كذب عند أهل المعرفة بالنقل والتصحيح، انتهى.
ومذهب مالك رحمه الله، المعروف عند أصحابه، يخالف هذه الحكاية المكذوبة، ويردها; قال القاضي عياض: قال مالك في المبسوط: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو; ولكن يسلم ويمضي. وقال القاضي إسماعيل في المبسوط: قال مالك: لا أرى أن يقف الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو; ولكن يسلم على النبي، وعلى أبي بكر، وعمر، ثم يمضي. ولما نقل ابن وهب عن مالك أنه يدعو النبي صلى الله عليه وسلم عند القبر، حمله أكابر أصحابة على الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وابن عبد البر يقول: لفظ الرواية على ما ذكره ابن القاسم والقعنبي وغيرهما: يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم هذا لفظ مالك.
وقال بعض المالكية: المراد بالدعاء السلام، بدليل أنه ذكر في رواية ابن وهب نفسه، يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله; وقد تقدم مذهب الحنابلة وأبي حنيفة.
وإذا كان هذا ممنوعا مع أنه دعاء لله، فما ظنك بدعاء الرسول نفسه، وطلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم؟! فالأول منع منه، لأنه وسيلة وذريعة إلى هذا المحذور، الذي هو السؤال لغير الله، وقصده في الحاجات، ولم يكن في عهد السلف شيء من هذا; وإنما
حدث أوائله ومباديه بعد القرون المفضلة، وأنكرها أهل العلم والإيمان، محافظة منهم على السنة، وحماية لجناب التوحيد، وطاعة لله ورسوله، وسدا لذرائع الشرك ووسائله.
وقد روى الضياء في المختارة، عن الحسن بن الحسن أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه عن ذلك; قال: ألا أخبركم بحديث سمعته من أبي عن جدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم "1، وروى أيضا عن علي بن الحسين زين العابدين.
وهذان الإمامان، هما أفضل أهل البيت في زمانهما; وقد روي هذا الحديث عن أبي هريرة، في سنن أبي داود بلفظ:" لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا قبري عيدا " 2 الحديث.
فانظر هذه السنة المأخوذة عن أقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبا ودارا وتأمل ما دلت عليه من الحكم والفوائد; من ذلك نهيه عن اتخاذ قبره عيدا; والعيد: ما يعتاد مجيئه في وقت مخصوص; وتأمل حكمة ذلك ومقصوده، وما فهمه السلف من النهي عن التردد إلى القبر الشريف كلما دخل المسجد.
وفيه: أن الصلاة والسلام يبلغه وإن بعد المسلم; وفيه: أن الذي يجب له صلى الله عليه وسلم من التوقير والتكريم، والصلاة والتسليم مطلوب في كل مكان، وعلى أي حال; وذلك أكمل وأتم ممن يعتاد ذلك عند مجيئه إلى القبر، أو يزيد بالغلو والإطراء فإذا
1 أبو داود: المناسك 2042 ، وأحمد 2/367.
2 أبو داود: المناسك 2042 ، وأحمد 2/284 ،2/337 ،2/367 ،2/378 ،2/388.
بعد عنه فهو من أشد الناس معصية وجفاء.
وفيه: حماية أصل الدين وقاعدته، بصرف الوجوه إلى الله، وإنابة القلوب إليه واعتمادها عليه; ورعاية هذا الأصل من أهم أصول الشريعة، ومدارك الأحكام; وسؤال المخلوق، وصرف الوجه إليه بالمسألة، والطلب في الأمور الكلية العامة، يعود على هذا الأصل بالهدم والقلع; فمن عرف هذا حق المعرفة، ونظر في أدلته وأصوله، تبين له علم السلف، ودقة نظرهم وحسن سياستهم للناس، بما يصلح دينهم ودنياهم.
وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى، على اتخاذ قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد; وذكر أبو بكر الإمام الأثرم وغيره، من أئمة الحنابلة أن العلة في ذلك، كون الصلاة ونحوها من العبادات عند القبور، وسيلة وذريعة إلى تعظيم أربابها، بما لم يشرع من الغلو، والدعاء وعبادتها مع الله; فكيف والحالة هذه، يقال بجواز طلب الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أو أن ذلك مجمع عليه، كما زعمه هذا المفتري الجاهل بالله تعالى، ومعرفة حقه وحق رسله؟! فنعوذ بالله من الخذلان.
والعلم يدخل قلب كل موفق
…
من غير بواب ولا استئذان
ويرده المحروم من خذلانه
…
لاتشقنا اللهم بالخذلان
فصل
[في قول العراقي: والمقصود أن تكفير الناس بمجرد فهم واحد لم يفهمه النبي]
قال العراقي: والمقصود أن تكفير الناس بمجرد فهم واحد من كتاب الله، لم يفهمه النبي صلى الله عليه وسلم كقوله:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13] ، وهذه الآية صحيحة، ولكن هذا الفهم باطل، لأن الدعاء المذكور هو السجود على أنها أرباب، وهي الأصنام، وهم كانوا يعبدونها على أنها أرباب لهم، وهي أخشاب وأحجار لا تملك شيئا.
فالذي يستدل بهذه الآية، يقال له: أين مذكور تفسير هذه الآية: أن المراد بها الأنبياء، والشهداء، والأولياء الذين يناديهم المسلم نداء لا عبادة؟ فإن هذا لم يذكر قط في تفسير، ولا في حديث، ولا في أقوال السلف.
نعم: ذكره الشيخ تقي الدين، وقال إنه من باب الزجر والتغليظ والإشارة، لا من باب الحكم على المسلم بالردة، فله أكثر من مائة عبارة تنفي ذلك; والدعاء ليس في كل مكان يراد به العبادة، قال تعالى:{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [سورة العلق آية: 17-18]، أيقال: إن الله تعالى عبد الزبانية، لأنه دعاهم؟ انتهى كلامه.
وإنما سقناه بحروفه ليعلم المؤمن قدر ما أنعم الله عليه به، من نعمة الإسلام، وما اختصه به من الكرامة ورفع المقام، وليعتبر بما يراه من حال هولاء الضالين، كيف تلاعب بهم الشيطان، وأوصلهم إلى غاية من الجهل والضلال، حجبهم
بها عن معرفة الله، ودينه وحقه على عبيده، وعن معرفة رسله ومعرفة حقهم، وما يجب لهم، وما يستحيل، وأوهمهم مع ذلك أنهم من أهل العلم بشرعه ودينه، في التحريم والتحليل; وهم كما ترى ليس معهم من الإسلام أصل ولا خبر، ولم يقعوا من ذلك على عين ولا أثر.
فإن حاصل ما قرره هنا: أن الله تعالى لم يحرم عبادة الأنبياء والملائكة، والصالحين ودعاءهم، وإنما حرم اعتقاد الاستقلال من دونه، واعتقاد الربوبية فيها، وأن العبادة هي السجود فقط، مع اعتقاد أنها أرباب، وهي الأصنام والأخشاب والأحجار، لا تملك شيئا، وأن النداء يجوز لأنه ليس بعبادة، وأنه لم يذكر قط كون النداء عبادة وما ذكره الشيخ تقي الدين هو من باب الزجر والإشارة، وله أكثر من مائة عبارة، تنفي كون نداء الأنبياء والصالحين عبادة، ومن فهم من كلام الله تحريم دعاء الصالحين، فهو مخطئ ضال، منفرد بهذا الفهم؛ هذا حاصل كلامه.
فيا ويحه ما أكبر زلته؟! وما أغلظ كفره، وما أشد عداوته لما جاءت به الرسل، واتفقت عليه دعوتهم؟! وهذا النوع هم أعوان إبليس وأنصاره، في كل زمان ومكان، ظهروا للناس في ثياب القراء والعلماء، وهم من أجهل من تحت أديم السماء.
يا فرقة ما خان دين محمد
…
وجنى عليه وماله إلا هي
وفي كلام هذا من الكذب على الله، والكذب على رسوله،
وعلى أولي العلم من ورثته، والقول عليه بغير علم، وتحريف الكلم عن مواضعه، والكذب على اللغة والشرع، ما يعز استيفاء الكلام عليه واستقصاؤه.
فقوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفهم من هذه الآية ونحوها تكفير من دعا الأنبياء والصالحين، كذب على الرسول، ونسبة ما لا يليق بآحاد المؤمنين إليه، وهل وقعت الخصومة وجرد السيف، ودعا من دعا من أهل الكتاب إلى المباهلة، وأمر بقتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، إلا لأجل عبادة الأنبياء والصالحين ودعائهم؟ وهل صورت الأصنام وعبدت، إلا باعتبار من هي على صورته وتمثاله، من الأنبياء والملائكة والصالحين؟
والآيات التى يعبر فيها بالموصول وصلته، كقوله:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13] ونحوها من الآيات، كقوله تعالى:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} [سورة يونس آية: 106]، {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [سورة الإسراء آية: 56] .
فهذه الموصولات في كلام الله وكلام رسوله، واقعة على كل مدعو ومعبود، نبيا أو ملكا أو صالحا، إنسيا أو جنيا، حجرا أو شجرا، متناولة لذلك بأصل الوضع; فإن الصلة كاشفة ومبينة للمراد، وهي واقعة على كل مدعو من غير تخصيص، وهي أبلغ وأدل وأشمل من الأعلام الشخصية والجنسية؛ وهذا هو الوجه في إيثارها على الأعلام، وشرط الصلة أن تكون
معهودة عند المخاطب، تقول: جاء الذي قام أبوه لمن يعهد قيام الأب، ويجهل النسبة بينه وبين من جاء.
والمعهود عند كل من يعقل من أصناف بني آدم أن الأنبياء والملائكة والصالحين، قد عبدوا مع الله، وقصدهم المشركون بالدعاء في حاجاتهم وملماتهم، كما جرى لليهود والنصارى في عبادة الأنبياء والأحبار والرهبان; وكما جرى لقوم نوح في ود وسواع، ويغوث ويعوق ونسر.
وكما جرى للعرب في عبادة الملائكة، واللات، وهو رجل صالح كان يلت السويق للحاج؛ وهذا أوضح من أن يحتاج لتقرير، وأظهر من أن يتوقف على كشف وتفسير، فإن العربي سليم الذوق والفطرة يعرف بعربيته وفطرته; وجميع المفسرين يقررون هذا بضروب من العبارات والتقريرات، ويفهمها الذكي; ومن خص الأصنام في بعض المواضع، فهو لا يمنع أنها عبدت باعتبار من هي على صورته؛ وقد ذكر هذا ابن كثير في تفسيره، وذكره غيره من أهل العلم.
وقد كذب هذا عليهم، ونسبهم إلى الجهل، كما كذب على الله ورسوله; قال تعالى:{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [سورة الزمر آية: 60]، وأيضا: فقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] ؛ فإن نازع هذا في عموم النفي، فهو على مذهب من قال:
{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5] ، وإن سلم العموم، وزعم أن دعاء الصالحين ونداءهم، ليس بعبادة ولا دعاء، فقد خرج عن المعقول والمنقول، وأتى بجهالة حمقى، خرج بها عما قاله جميع أئمة العلم والهدى.
وقوله تعالى عن نبيه يوسف: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [سورة يوسف آية: 39] هي من هذا الباب؛ فإن تفرق الآلهة والأرباب، يصدق بعبادة الأنبياء والصالحين؛ ومن نازع في هذا فليس من جملة العقلاء، ولا ممن يعرف الضروريات التي يعرفها الحمقاء، هذا لو لم يرد في عبادة الأنبياء والصالحين والملائكة نصوص خاصة.
وقد جاء في ذلك ما فيه الهدى والشفاء، قال تعالى:{وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية:80]، والأرباب هنا: هم الآلهة المعبودة، فإن الرب وضع للمعبود، كما وضع للمالك والمربي والخالق، وليس هذا من المشترك ولا من المتواطئ، بل هو من استعمال اللفظ في حقيقته اللغوية والشرعية.
وبهذا يستبين لك خطأ العراقي في قوله: على أنها أرباب; فإنه يريد بهذا القيد أنها لا تكون عبادة إلا مع اعتقاد التدبير والتأثير لها، كما تقدم عنه صريحا; وقال تعالى فيمن عبد الصالحين بطاعتهم من دون الله، وغلا في الأنبياء:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية:31] ، الآية
فسرها النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: بطاعتهم في التحليل والتحريم، المخالف لأحكام الله تعالى.
وقال تعالى فيمن عبد الصالحين: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] الآية، وهذه فيمن عبد الصالحين من الجن والإنس، والملائكة، كما فسرها بذلك غير واحد من السلف، ويدل عليه قوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [سورة الإسراء آية: 57] ، وقد وصفهم بأنهم لا يملكون كشف الضر، ولا تحويله من حال إلى حال، وإن قل، كما يفيده النكرة في سياق النفي، فبطل دعاؤهم بما لا يقدر عليه إلا الله.
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [سورة سبأ آية: 57] الآية، نفى أن يكون لهؤلاء المدعوين ملك في السماوات والأرض، ولو قل، كمثقال ذرة؛ وهذا هو الذي يعبر عنه بالاستقلال.
ونفى أن يكون لهم فيهما شرك ولو قل، كما يفيده قوله:{مِنْ شِرْكٍ} [سورة سبأ آية: 22] فإنه يفيد استغراق النفي. ونفى أن يكون له منهم من ظهير يعاونه ويوازره، وإذا بطل الملك والشركة والمعاونة، لم يبق سوى الشفاعة، فنفاها بقوله {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 23] ؛ فإن هذا يفيد إبطال الشفاعة التي ظنها المشرك، ودعا غير الله لأجلها، وقد دل القرآن على نفيها في مواضع.
والشفاعة المثبتة التي دل عليها الاستثناء، وجاءت بها الأحاديث النبوية، نوع آخر غير ما ظنه المشركون; وحقيقتها: أن الله تعالى إذا أراد رحمة عبده ونجاته، أذن لمن شاء في الشفاعة رحمة للمشفوع فيه، وكرامة للشافع، وقيدت الشفاعة المثبتة بقيود:
منها: إذنه تعالى للشافع.
ونكتة هذا القيد وسره صرف الوجوه إلى الله، وإسلامها له، وعدم التعلق على غيره لأجل الشفاعة، ولذلك يساق هذا بعد ذكر التوحيد، وما يدل على وجوب عبادة الله وحده؛ وهذا الموضع لم يفهمه كثير من الناس، ظنوا أن الاستثناء يفيد إثبات الشفاعة مطلقا، وطلبها من غير الله، فعادوا إلى ما ظنه المشركون وقصدوه، قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] . ومنها: أنه لا يشفع أحد إلا فيمن رضي الله قوله وعمله، قال تعالى:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [سورة النجم آية: 26]، وقال تعالى:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28] ؛ ومن الآيات الخاصة بمن يدعو الملائكة وأمثالهم، قوله تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سورة سبأ آية: 40] الآية، وقال تعالى في شأن المسيح:{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة المائدة آية: 116] .
فتأمل ما فيها من العلوم، إن كنت من ذوي الألباب والفهوم; منها: أن اتخاذ الأنبياء والصالحين آلهة شرك، ينبغي تنْزيه الرب تعالى عنه; وفيها براءة أولياء الله ممن أشرك بهم. وفيها: أن الرسل ما أمرت الخلق إلا بما أرسلوا به من عبادة الله وحده. وفيها برهان ما جاءت به الرسل من الأمر بالعبادة، وأن الرب الذي عمت ربوبيته جميع خلقه، هو المستحق أن يعبد،
وأن العبد المربوب ولو علت درجته، كعيسى وغيره من الرسل والملائكة، لا يكون شريكا لربه ومالكه، {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} [سورة الروم آية: 28] الآية. والقرآن كله يدل على هذا، ولكن من عادة القرآن مراعاة ما تقتضيه الحال، فيطنب في محل الإطناب، ويوجز في محل الإيجاز؛ والبلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال.
فظهر: أن آية سورة فاطر التي أوردها، دالة على ما دل عليه سائر الآيات، وأن فيها من العموم المستفاد من الصلة، ما لا يتأتى معه التخصيص، وأن ما تقدم من الآيات دال على ذلك، يعضد مفهوم من أوردها في المنع من دعاء الصالحين.
فصل
وقول العراقي: هذه الآية صحيحة لكن الفهم باطل، مما يدل على جهله المركب، وكثافة فهمه؛ فإن القرآن أغنى وأعلى وأجل وأعظم، من أن يعبر عنه بهذه العبارة، أو يقسم إلى صحيح وغيره، وإنما تستعمل هذه العبارة فيما يقبل القسمة
من الأحاديث، لأنها تنقسم إلى صحيح وحسن، وضعيف وموضوع، ولا يصحح إلا من يضعف، ولا يحسن إلا من يقبح.
وقد أنكر أبو حنيفة على رجل صار يحسن ما يسمع منه من الروايات، وزجره عن ذلك، وقال: إنما يحسن من يقبح; هذا في السنة ونحوها، فكيف بالقرآن الذي هو كله حق وهدى؟ {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت آية: 42] .
وقوله: إن الدعاء هو السجود في هذه الآية، وإن نداء الصالحين ليس بعبادة، إلى آخر عبارته، فهذا الكلام نشأ عن جهله باللغة والشرع، وما جاءت به الأنبياء، فإن العبادة تتضمن غاية الخضوع والذل؛ ومنه طريق معبد، إذا كان مذللا قد وطئته الأقدام، هذا أصلها في اللغة.
وأما في الشرع، فهي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة; قاله شيخ الإسلام; وقال بعضهم: هي ما أمر به شرعا من غير اقتضاء عقلي، ولا اطراد عرفي; وقال بعضهم: هي فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله، ابتغاء وجه الله والدار الآخرة.
فدخل في هذه التعاريف والحدود: جميع أنواع العبادات، فلا يقصد بها غير الله، ولا تصرف لسواه; وهذا الغبي لم يعرف من أفرادها غير السجود.
ودعاء المسألة من أفضل أنواعها وأجلها، كما في حديث النعمان بن بشير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الدعاء هو العبادة"1.
1 الترمذي: الدعوات 3372 ، وأبو داود: الصلاة 1479 ، وابن ماجه: الدعاء 3828 ، وأحمد 4/267 ،4/271 ،4/276.
والحصر يقتضي الاختصاص الدعائي، والتمييز على سائر العبادات; قال بعض الشراح، هو كقوله:" الحج عرفة" 1، أي: ركن العبادة الأعظم هو الدعاء.
وفي حديث أنس: " الدعاء مخ العبادة " 2 ومخ الشيء خالصه ولبه، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين "، والعماد والعمود ما يقوم به الشيء، ويعتمد عليه جعله عمادا، لأنه لا يقوم إلا به. وأنت ترى كل العبادات الباطنة والظاهرة دالة على الطلب والمسألة، على اختلاف المطلوب والمسؤول، وكان هذا هو الوجه في التعبير بالدعاء دون العبادة، في أكثر موارد القرآن والسنة.
ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الدعاء يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير". وقد سئل ابن عيينة عن معناه، فأنشد قول أمية في عبد الله بن جدعان:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني
…
حياؤك إن شيمتك الحياء
قال في القاموس: الدعاء هو الرغبة إلى الله، انتهى; وقال الحسين بن محمد النعمي: الدعاء في الأصل موضوع لأن يكون من فقير عاجز خاضع لغني قادر عزيز قاهر، انتهى; والدعاء يرد في الكتاب والسنة بمعنى الطلب والمسألة، بامتثال الأمر واجتناب النهي; ويرد بمعنى المسألة والطلب بالصيغة القولية.
1 الترمذي: الحج 889 ، والنسائي: مناسك الحج 3016 ، وأبو داود: المناسك 1949 ، وابن ماجه: المناسك 3015 ، وأحمد 4/309 ،4/335 ، والدارمي: المناسك 1887.
2 الترمذي: الدعوات 3371.
وقد فسر قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] الآية بدعاء العبادة، وبدعاء المسألة، والقولان معروفان، والآية تشمل النوعين، قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، وذكر أنهما متلازمان؛ فكل عابد سائل، وكل سائل عابد. وقال رحمه الله: والدعاء والدعوة في القرآن يتناول معنيين، دعاء العبادة، ودعاء المسألة وساق جملة من الآيات.
ثم قال: ولفظ الصلاة في اللغة بمعنى الدعاء، وسميت به لتضمنها معنى الدعاء، دعاء العبادة، والمسألة; ثم قال: فأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه، ولكن إذا جمع بينهما فيراد بالسائل من يطلب بصيغة السؤال، ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال الأمر، وإن لم يكن في ذلك صيغة سؤال، وسمى الذكر دعاء لما فيه من التعريض بالمسألة.
قال: وهذه الصيغة صيغة الطلب والاستدعاء، إذا كانت مما لا يحتاج إليه الطالب، أو ممن يقدر على قهر المطلوب منه ونحو ذلك، فإنها تقال على وجه الأمر، إما لما في ذلك من حاجة الطالب، وإما لما فيه من نفع المطلوب منه؛ وأما إذا كانت من الفقير من كل وجه للغني من كل وجه، فإنها سؤال محض بتذلل وافتقار، انتهى.
قلت: وقد نص على ما ذكره الشيخ من الفرق علماء المعاني، صاحب المفتاح وغيره، وفرقوا في الصيغة الواحدة نظرا للمخاطب، والمخاطب بكسر الطاء، فقالوا: هي من
الأعلى أمر، ومن المساوي التماس، ومن دونه مسألة وطلب.
وقد فسر قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [سورة الأعراف آية:55] بدعاء المسألة، قاله العلامة ابن القيم; وقال: إنه في هذه الآية أظهر، وذكر أن استعمال الدعاء في العبادة والمسألة من استعمال اللفظ في حقيقته الواحدة، ليس من المشترك، ولا المتواطئ ولا المجاز.
وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 67] ظاهر في دعاء المسألة، لمناسبة الحال والواقع; وفي حديث عكرمة بن أبي جهل، لما فر يوم الفتح إلى السيف، وركب البحر، جاءتهم ريح عاصف، وظنوا الهلكة أخلصوا الدعاء لله، وصاروا يتواصون بذلك; ويقول بعضهم لبعض: لا ينجي في مثل هذا إلا الله.
فقال عكرمة: إن كان لا ينجي في الشدة إلا هو تعالى، فكذلك لا ينجي في الرخاء إلا هو; وقال: لئن أنجاني الله لأرجعن إلى محمد، ولأضعن يدي في يده، فكان ذلك، وأسلم وحسن إسلامه رضي الله تعالى عنه; والقصة معروفة عند أهل العلم.
وفي الحديث: " دعوة أخي ذي النون، ما دعا بها مكروب إلا فرّج الله عنه "، سماها دعوة، وهي سؤال وطلب، وتوسل بالتوحيد; والعراقي يقول: لا تسمى دعاء، وإنما هي نداء; وهذا رد على رسول الله وتكذيب بآيات الله، وقول على الله بغير علم.
وفي السنن من حديث حصين بن عبيد الخزاعي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين أسلم: " كم كنت تعبد؟ قال: سبعة: واحد في السماء، وستة في الأرض; قال فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال الذي في السماء ".
ومن هذا الباب: قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة الأنعام آية: 40] الآية؛ وهذا الدعاء ظاهر في دعاء المسألة حال الشدة والضرورة; وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة العنكبوت آية: 65] الآية. وما زال أهل العلم يستدلون بالآيات التي فيها الأمر بدعاء الله، والنهي عن دعاء غيره، على المنع من مسألة المخلوق ودعائه بما لا يقدر عليه إلا الله؛ وكتبهم مشحونة بذلك، لا سيما، شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، اللذين يزعم هذا العراقي أنه على طريقتهما.
أيها المدعي سليمى سفاها
…
لست منها ولا قلامة ظفر
إنما أنت من سليمى كواو
…
ألحقت في الهجاء ظلما بعمرو
يوضح هذا: أن ما لا يقدر عليه من الأمور العامة الكلية، كهداية القلوب، ومغفرة الذنوب، والنصر على الأعداء، وطلب الرزق من غير جهة معينة، والفوز بالجنة، والإنقاذ من النار، ونحو ذلك غاية في القصد والإرادة، فسؤاله وطلبه، غاية في السؤال والطلب.
وفي ذلك من الذل وإظهار الفاقة والعبودية، ما لا ينبغي أن يكون لمخلوق، أو يقصد به غير الله؛ وهذا أحد الوجوه في الفرق بين دعاء المخلوق، فيما يقدر عليه من الأسباب العادية الجزئية، وبين ما تقدم، مع أن سؤال المخلوق قد يحرم مطلقا.
ومسألة المخلوق في الأصل محرمة وإنما أبيحت للضرورة، قال تعالى:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [سورة الشرح آية: 7-8] . وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه بايع نفرا من أصحابه، أن لا يسألوا الناس شيئا، فكان أحدهم يسقط السوط من يده، فلا يقول لأحد: ناولنيه.
وقد اشتهر عنه صلى الله عليه وسلم أنه منع من تعليق الأوتار والتمائم، وأمر بقطعها، وبعث رسوله بذلك، كما في السنن وغيرها; وقال:" من تعلق شيئا وكل إليه " 1؛ بل نهى عن قول الرجل: ما شاء الله وشئت; وقال لمن قال له ذلك: "أجعلتني لله ندا؟ "، ومنع من التبرك بالأشجار والأحجار.
وقال لأبي واقد الليثي وأصحابه من مسلمة الفتح، لما قالوا له: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط: " قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة "2.
ونهى عن الصلاة عند القبور، وإن لم يقصدها المصلي، ولعن من فعل ذلك، وأخبر أنهم شرار الخلق عند الله، ونهى عن الذبح لله في مكان يذبح فيه لغيره، حسما لمادة الشرك،
1 الترمذي: الطب 2072.
2 الترمذي: الفتن 2180 ، وأحمد 5/218.
وقطعا لوسائله وسدا لذرائعه، وحماية للتوحيد وصيانة لجنابه.
فمن المستحيل شرعا وفطرة وعقلا: أن تأتي هذه الشريعة المطهرة الكاملة، بإباحة دعاء الموتى والغائبين، والاستغاثة بهم في المهمات والملمات، كقول النصراني: يا والدة المسيح اشفعي لنا إلى الإله; أو يا عيسى أعطني كذا وافعل بي كذا.
وكذلك قول القائل: يا علي أو يا حسين، أو يا عباس، أو يا عبد القادر، أو يا عيدروس، أو يا بدوي، أو فلان وفلان، أعطني كذا، أو أجرني من كذا، أو أنا في حسبك أو نحو ذلك، من الألفاظ الشركية التي تتضمن العدل بالله، والتسوية به تعالى وتقدس؛ فهذا لا تأتي شريعة ولا رسالة بإباحته قط، بل هو من شعب الشرك الظاهرة الموجبة للخلود في النار، ومقت العزيز الغفار، وقد نص على ذلك مشائخ الإسلام، حتى ذكره ابن حجر في الأعلام مقررا له:
وتأويل الجاهلين، والميل إلى شبه المبطلين، هو الذي أوقع هؤلاء وأسلافهم الماضين، من أهل الكتاب والأميين، في الشرك بالله رب العالمين; فبعضهم يستدل على شركه بالمعجزات والكرامات، وبعضهم برؤيا المنامات، وبعضهم بالقياس على السوالف والعادات، وبعضهم بقول من يحسن به الظن.
وكل هذه الأشياء ليست من الشرع في شيء، وعند رهبان النصارى، وعباد الصليب، والكواكب، من هذا الضرب
شيء كثير، وبعضهم أحذق من هذا العراقي وأمثاله، الذين لم يفهموا من العبادة سوى السجود، ولم يجدوا في معلومهم سواه.
فأين الحب والخضوع، والتوكل والإنابة والخوف، والرجاء والرغب والرهب، والطاعة والتقوى، ونحو ذلك من أنواع العبادة الباطنة والظاهرة؟! فكل هذا عند العراقي يصرف لغير الله، ولا يكون عبادة، لأن العبادة السجود فقط.
بل عبارته تفهم أن السجود لا يحرم إلا على من زعم الاستقلال؛ وقد رأينا كثيرا من المشركين، ولم نر مثل هذا الرجل في جهله ومجازفته وبلادته؛ ولولا ما نقصده من انتفاع من اطلع على هذه الرسالة، لم نتعرض لرد شيء من كلامه، لظهور بطلانه.
ويزيد هذا ظهورا، ما جاء في الحديث من قوله:" من سأل الناس وله ما يغنيه، جاءت مسألته خدوشا أو خموشا في وجهه يوم القيامة " 1، وقوله:" لا تزال المسألة بأحدكم، حتى يلق الله وليس على وجهه مزعة لحم " 2 وقوله: " من نزلت به فاقة، فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله أوشك له بالغنى، أو بموت عاجل أو غنى عاجل "3.
وقوله: " لا تحل المسألة إلا لثلاثة، لذي غرم مفظع، أو فقر مدقع، أو دم موجع " 4، هذا في سؤال الخلق ما يقدرون عليه من الأسباب العادية الجزئية، فكيف ترى بما لا يقدر عليه إلا الله، من الأمور العامة الكلية؟! وعلى زعم هذا العراقي، لا يكره
1 الترمذي: الزكاة 650 ، والنسائي: الزكاة 2592 ، وأبو داود: الزكاة 1626 ، وابن ماجه: الزكاة 1840 ، وأحمد 1/388 ،1/441.
2 البخاري: الزكاة 1475 ، ومسلم: الزكاة 1040 ، والنسائي: الزكاة 2585 ، وأحمد 2/15 ،2/88.
3 أبو داود: الزكاة 1645.
4 أبو داود: الزكاة 1641 ، وابن ماجه: التجارات 2198 ، وأحمد 3/126.
شيء من ذلك، ولا يمنع منه لمن قصد الصالحين ودعاهم!!
وقولة: على أنها أرباب، يريد به ما مر من أن دعاءها ومسألتها بطريق السبب والشفاعة لا يضر; وقد تقدم رد هذا بما يغني عن إعادته؛ وقد علق الحكم بالكفر، وإباحة الدم والمال، بنفس الشرك وعبادة غير الله، قال تعالى:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ} [سورة التوبة آية: 36]، وقال:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [سورة البقرة آية: 193]، والفتنة الشرك; وقال تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] الآية، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [سورة النساء آية: 48] .
ومن المشتهر عندهم: أن تعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعلة; وهذا الأحمق زاد قيدا، فقال: لا يشرك إلا من قصد واعتقد الاستقلال من دون الله; وفي تلبية المشركين في الجاهلية: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، فهؤلاء لم يدعوا الاستقلال، وعلى زعم هذا ليسوا بمشركين!!.
وقوله: وهذا نداء لا دعاء، من أدل الأشياء على جهله، وعدم ممارسته لشيء من العلم; وإن قال: فإن النداء هو رفع الصوت بالدعاء، أو الأمر أو النهي، ويقابله: النجاء، الذي هو المسارة وخفض الصوت، هذا بإجماع أهل اللغة، كما حكاه ابن القيم في نونيته، وشيخ الإسلام في تسعينيته، وليس قسيما للدعاء كما ظنه الغبي، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ
نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ} [سورة الكهف آية: 52] ، الآية ما فعلوه هو عين ما أمروا به، وكفى بهذه الآية حجة على إبطال قوله.
وقال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [سورة الكهف آية: 52]، {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ} [سورة الكهف آية: 52] ، {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} [سورة الأنبياء آية: 87] ، وقال تعالى:{ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [سورة مريم آية: 2-3] .
وسمي هذا النداء دعاء في كتابه العزيز، قال عن نوح عليه السلام:{فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [سورة القمر آية: 10]، وقال:{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [سورة آل عمران آية: 38] . وفي الحديث: " دعوت أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج الله عنه ".
وفيه أيضا: " لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا " 1، يعني الشيطان الذي تفلت عليه صلى الله عليه وسلم، وفيه:" ألا أنبئكم بأول أمري وآخره، دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى "2.
يشير بدعوة سليمان إلى قوله: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [سورة ص آية: 35]، الآية وبدعوة إبراهيم إلى قوله تعالى:{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} [سورة البقرة آية: 129] الآية، فسمى هذه المسألة دعوة، والتاء فيها للوحدة.
وقال معاذ رضي الله تعالى عنه، في الطاعون:"إنه ليس برجز، إنه دعوة نبيكم; وموت الصالحين قبلكم، ورحمة ربكم";
1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة 542 ، والنسائي: السهو 1215.
2 أحمد 4/127.
يشير إلى قولة: " اللهم اجعل فناء أمتي بالطعن والطاعون "1.
فانظر هذه النصوص، وما أفادت من إطلاق اسم الدعاء على المسألة والطلب؛ وقد تقدم بعض هذا، وكرر تتميما للفائدة، وربما جر شأن شؤونا.
وأما قول العراقي: إن الشيخ ذكر هذا على سبيل التغليظ والزجر، وله مائة عبارة تنفي ذلك وتخالفه.
فيكفي من هذا العراقي أن يصحح دعواه بعبارة واحدة، ولا نكلفه تصحيح المائة، لأنه أعجز وأقل؛ وقد تقدم التنبيه على كذبه ومجازفته، وأنه وجد كتبا وموادا شتّتت فهمه، وحجبت إدراكه وعلمه، فلم يزدد بها إلا حيرة وشكا; وما أحسن ما قيل:
جهد المغفل في الزمان مضيع
…
وإن ارتضى استاذه وزمانه
كالثور في الدولاب يسعى وهو لا
…
يدرى الطريق فلا يزل مكانه
وعبارات الشيخ في هذا الباب، أعنى إنكار الشرك وتكفير أهله، والحكم عليهم بما حكم الله به ورسوله في الدنيا والآخرة، موجود مشهور، لو تتبعناه لعز حصره واستقصاؤه، ولكن نشير لبعضه إلى ما وراءه.
قال رحمه الله: وما علمت عالما نازع في أن الاستغاثة بالنبي أو غيره فيما لا يقدر عليه إلا الله، لا تجوز; قال: وعلو درجته صلى الله عليه وسلم بعد الموت لا تقتضي أن يسأل، كما لا تقتضي أن يُستفتى؛ ولا يمكن أحد أن يذكر دليلا شرعيا، على أن سؤال
1 أحمد 3/437.
الموتى من الأنبياء والصالحين وغيرهم مشروع، بل الأدلة على تحريم ذلك كثيرة.
وقال رحمه الله: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم، كفر إجماعا. قال البهوتي في شرحه على هذا الموضع: لأنه فعل عباد الأصنام، قائلين:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] .
وقال رحمه الله بعد أن سرد جملة من الآيات -: وتفصيل القول: أن مطلوب العبد إن كان من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى، مثل: أن يطلب شفاء مريض من الآدميين والبهائم، ووفاء دينه من غير جهة معينة، أو عافية أهله، أو ما به من بلاء الدنيا والآخرة، وانتصاره على عدوه، وهداية قلبه، وغفران ذنبه، أو دخول الجنة ونجاته من النار، أو أن يتعلم القرآن أو العلم، أو أن يصلح قلبه، أو يحسن خلقه ويزكي نفسه، وأمثال ذلك، فهذه الأمور لا يجوز أن تطلب إلا من الله تعالى؛ ولا يجوز أن يقال لملك ولا نبي، ولا شيخ سواء كان حيا أو ميتا: اغفر ذنبي، ولا انصرني على عدوي، ولا اشف مريضي، ولا عافني وعاف أهلي ودوابي، وما أشبه ذلك.
ومن سأل ذلك مخلوقا كائنا من كان، فهو مشرك بربه، من المشركين الذين يعبدون الملائكة، والتماثيل التي يصورونها على صورهم، ومن جنس دعاء النصارى المسيح وأمه; قال
الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [سورة المائدة آية: 116] الآية، وقال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [سورة التوبة آية: 31] . الآية وقال رحمه الله: وكثير من الناس يقع في الشرك والإفك، جهلا وضلالا من المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع; والله سبحانه وتعالى قد أرسل جميع رسله، وأنزل جميع كتبه، بأن لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، لا يعبد معه لا ملك ولا نبي ولا صالح، ولا تماثيلهم ولا قبورهم، ولا شمس ولا قمر، ولا كوكب، ولا ما صنع من التماثيل لأجلهم، ولا شيئا من الأشياء.
وبين أن كل ما يعبد من دونه، فإنه يضر ولا ينفع، وإن كان ملكا أو نبيا، وأن عبادته كفر، قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} إلى قوله: {مَحْذُوراً} [سورة الإسراء آية: 56-57] ؛ بين سبحانه: أن كل ما يدعى من دونه من الملائكة والجن والإنس، لا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا، وأن هؤلاء المدعوين من الملائكة والأنبياء يتقربون إلى الله، ويرجونه ويخافونه; وكذلك كان قوم من الإنس يعبدون رجالا من الجن، فآمنت الجن المعبودون، وبقي عابدوهم يعبدونهم، كما ذكر ذلك ابن مسعود.
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [سورة سبأ آية: 22] إلى قوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 23] ؛ بين سبحانه أن كل ما يدعى من دونه من الملائكة والبشر وغيرهم ليس لهم مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا لهم نصيب فيهما، وليس لله ظهير يعاونه من خلقه.
وهذه الأقسام الثلاثة، هي التي تحصل مع المخلوقين: إما أن يكون لغيره ملك دونه، أو أن يكون شريكا له، أو يكون معينا وظهيرا له؛ والرب تعالى ليس من خلقه مالك، ولا شريك، ولا ظهير له; فلم يبق إلا الشفاعة، وهو دعاء الشافع وسؤاله الله في المشفوع له، فقال:{وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 23] .
ثم إنه خص بالذكر الملائكة والأنبياء، في قوله:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [سورة آل عمران آية: 79] إلى قوله: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] ، بين أن اتخاذهم أربابا كفر.
وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [سورة المائدة آية: 17] إلى قوله: {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة المائدة آية: 76]، وقد بين: أن من دعا المسيح وغيره، فقد دعا ما لا يملك له ضرا ولا نفعا.
وقال لخاتم الرسل: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [سورة الأنعام آية: 50]، وقال: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ
الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [سورة الأعراف آية: 188]، الآية وقال:{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} [سورة الجن آية: 21] .
وقال: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِين َلَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [سورة آل آية: 127-128] الآية، وقال {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [سورة القصص آية: 56] ، وقال:{إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [سورة النحل آية: 37] . انتهى.
وكلامه من هذا المعنى يعز حصره أو يتعذر، وكذلك صاحبه شمس الدين بن القيم، كلامه في هذا الباب أشهر من أن يذكر، وأكثر من أن يحصر، إلا بكلفة ومشقة; وتقدم 1 قوله في المدارج.
وقال أبو الوفاء بن عقيل: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها هم لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت غيرهم; وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل خطاب الموتى بالحوائج، ودس الرقاع في قبورهم; فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا وتعليق الستور على القبور، اقتداء بمن عبد اللات والعزى; والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكف، أو لم يعقد على قبره أو قبر أبيه بالآجر، ولم يقل الحمالون على جنازته: أبو بكر وعمر، انتهى.
والمقصود: أن النصوص بهذا المعنى كثيرة شهيرة; والعاقل
1 في صفحة 209.
يسير فينظر؛ ويكفي المؤمن أن دعاء الموتى والغائبين، لا يعرف عن أحد من أهل العلم والإيمان، الذين لهم لسان صدق في الأمة، ولم تأت به شريعة من الشرائع; بل المنقول عن جميع الأنبياء يرده ويبطله; فإن الله حكى أدعيتهم وتوجهاتهم، وما قالوه وأمروا به، وندب عباده إلى الاقتداء بهم، فقال تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [سورة الأنعام آية: 90] .
وقد أجمع المسلمون على ذم البدع وعيبها، قال تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى آية: 21]، وقال تعالى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة الأحقاف آية: 4] .
وفي حديث العرباض بن سارية: " إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل بدعة ضلالة "1. وهذا الوجه كاف في الجواب، للاتفاق على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة.
فصل
[دعاء الصالحين والتوجه بهم إلى الله]
قال العراقي: والأصل في ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [سورة المائدة آية: 35] الآية. قلت: يريد العراقي أن الآية أصل في دعاء الصالحين، والتوجه بهم إلى الله وجعلهم وسائط بين العباد وبين الله،
1 أبو داود: السنة 4607 ، والدارمي: المقدمة 95.
ووسائل إليه في قضاء حاجاتهم وتفريج كرباتهم.
والجواب: أن هذا القول صدر عن جهل بمسمى الوسيلة شرعا، فإن الوسيلة في شرع الله الذي شرعه على ألسن جميع رسله، هي: عبادته وحده لا شريك له، والإيمان به وبرسله، والأعمال الصالحة التي يحبها الله ويرضاها، كما في البخاري وغيره، من حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في غار، فتوسلوا إلى الله تعالى بأعمالهم الصالحة، من البر والعفة والأمانة.
وكذلك ما شرع من واجب أو مستحب، قال تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [سورة الإسراء آية: 57] ، وابتغاؤها بالقيام بما أمر به وأحبه، ورضيه من الأعمال الصالحة.
وأما دعاء غير الله فليس وسيلة شرعية، بل هو وسيلة أهل الشرك والجاهلية من أعداء الرسل، في كل زمان ومكان؛ والله لا يأمر بالشرك ولا يرضاه {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة الأعراف آية: 29] . فكيف يتوسل إليه بالشرك به الذي هو أظلم الظلم، وضد القسط، والذي يمنع من إقامة الوجوه له عند المساجد. وهو -أي: الشرك- حقيقة التوسل الذي قصده المشركون، قال الله تعالى:{فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً} [سورة الأحقاف آية: 28]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، فهذا قد يسمى توسلا.
فإن لفظ التوسل صار مشتركا، فيطلق شرعا على ما يقرب إلى الله من الأعمال الصالحة التي يحبها الرب ويرضاها، ويطلق على التوسل بذوات الصالحين، ودعائهم واستغفارهم، ويطلق في عرف عباد القبور، على التوجه إلى الصالحين، ودعائهم مع الله في الحاجات والملمات؛ والمراد بالآية هو الأول، عند أهل العلم والمفسرين.
وأما التوسل بذوات الأنبياء والصالحين بدون طاعتهم، وبدون استغفارهم، فهذا لم يشرع ولا أصل له؛ فإن التوسل بالأنبياء مع معصيتهم، ومخالفتهم في الدين والملة، قد دلت آية سورة التحريم على المنع منه، وعدم الانتفاع بالتعلق والقرابة والنسب، والتوسل بذلك لمن لم يؤمن بما جاؤوا به من الهدى ودين الحق.
وكذلك في الحديث: لما أنزل عليه قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [سورة الشعراء آية: 214]، قال:" يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم. لا أغني عنكم من الله شيئا "1. وأكبر من هذا: من يدعوهم ويستغيث بهم، ويتقرب إليهم بعبادتهم، على أنها وسيلة له وشفعاء، فإن هذا هو عين الشرك الذي ذمه القرآن وعابه، وإن سمي توسلا.
وأما ما ذكره بعد هذا الكلام، من نسبة الذي ينهى عن
1 البخاري: الوصايا 2753 ، ومسلم: الإيمان 206 ، والنسائي: الوصايا 3646 ،3647 ، وأحمد 2/350 ،2/398 ،2/448 ، والدارمي: الرقاق 2732.
دعاء غير الله إلى الجهل، وعدم الفهم، فهذا يتناول كل من نهى عن دعاء الأنبياء والصالحين; ومعلوم: أن الرسل نهت عن دعاء غير الله، بما لا يقدر عليه إلا الله، بل وفيما لا تدعو إليه حاجة ولا ضرورة، من جنس المسألة; فلازم كلامه: مسبة الأنبياء وأتباعهم إلى يوم القيامة; فنعوذ بالله من حال أهل الجهالة والسفاهة.
فصل
[الحلف بغير الله]
قال العراقي: إنكم تكفّرون بالحلف بغير الله، ويكفر به السابقون من أهل بلدكم، وهو ليس بشرك ولا كفر; بل: هو مكروه كراهة تنْزيه، للأدلة على ذلك، ولأنه قد ورد أن النبي قال لبعض أصحابه:"لا وأبيك".
ولأن الترمذي ترجم على هذه المسألة بالكراهة، وساق حديث ابن عمر:" من حلف بغير الله فقد أشرك " 1، وأن هذا يدل على الكراهة، للترجمة، ولأنه ساق الرواية الأخرى عن ابن عمر:" من حلف بغير الله فقد كفر "2. وقال بعد: هذا محمول على التغليظ والزجر، كالرياء الذي فسر به قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} [سورة الكهف آية: 110] .
والجواب أن يقال: في هذا الكلام من الجهل والخلط، ما يتنَزه عنه العاقل فضلا عن العالم; من ذلك، أنه قال: الحلف بغير الله ليس بشرك ولا كفر، ثم ساق حديث ابن عمر:" من حلف بغير الله فقد أشرك " 3، ثم قادته المقادير إلى أن نطق بالرواية
1 الترمذي: النذور والأيمان 1535 ، وأبو داود: الأيمان والنذور 3251 ، وأحمد 2/34 ،2/69 ،2/86 ،2/125.
2 الترمذي: النذور والأيمان 1535 ، وأبو داود: الأيمان والنذور 3251 ، وأحمد 2/34 ،2/69 ،2/86 ،2/125.
3 الترمذي: النذور والأيمان 1535 ، وأبو داود: الأيمان والنذور 3251 ، وأحمد 2/34 ،2/69 ،2/86 ،2/125.
الأخرى: " من حلف بغير الله فقد كفر " 1 فقف، وتأمل هذه العبر.
ثم استدل: بأن الترمذي ترجم بالكراهة، وهو أول من يخالف الترمذي في أكثر ما في سننه، مع أنه لم يفهم كلام الترمذي، ولا حام حول مراده.
ويقال: مسألة الحلف بغير الله، تظاهرت وتواترت النصوص النبوية بالنهي عنها، ودلت على أنه شرك لا يحل، ولا يجوز، كما ذكره أصحاب الكتب الستة، وأهل المساند من حديث أبي هريرة، وعمر وابنه، وابن مسعود وغيرهم، وإنما ساق الترمذي حديث ابن عمر; والترمذي رحمه الله أثبت أنه شرك، وجعله كالرياء.
والرياء شرك بالنص والإجماع، وهو من الكبائر، إلا أنه ليس مما ينقل عن الملة ويوجب الردة، للآيات والأحاديث; وكلام الترمذي يدل على هذا، وقد جعله مثل الرياء، وقاسه عليه في الحكم، وحمله على هذا المحمل.
والتأويل: أن الرواية الأخرى التي خرجها عن ابن عمر، فيها تكفير من حلف بغير الله، والحكم بأنه كفر; وأراد الترمذي: أن هذا الكفر ليس هو مما يخرج عن الملة، كالشرك الأكبر، بل كفر دون كفر، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم، كما قاله البخاري في صحيحه، وتسميته هذا كفرا من باب التغليظ، هذا مراده رحمه الله; وأما كونه شركا محرما، فلم ينفه الترمذي، ولم يتعرض له بتأويل; بل أثبته وقال به، لأنه جعله مثل الرياء.
1 الترمذي: النذور والأيمان 1535 ، وأبو داود: الأيمان والنذور 3251 ، وأحمد 2/34 ،2/69 ،2/86 ،2/125.
وهذا الجاهل اغتر بكونه ترجم بالكراهة، والكراهة في عرف هذا الرجل: إنما تطلق على التنْزيه، هذا وجه ضلالة; ولم يدر أن إطلاقها على كراهة التنْزيه عرف حادث; وأن الكراهة في عرف الكتاب والسنة، وقدماء الأمة، تطلق على التحريم.
قال تعالى: بعد أن ذكر المحرمات المتفق عليها في جميع الكتب السماوية: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [سورة الإسراء آية: 38]، وفي الحديث:" إن الله يكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال " 1 وأظن هذا يحمل كل ما تقدم على كراهة التنْزيه.
قال الترمذي رحمه الله: باب كراهة الحلف بغير الله، وساق بسنده حديث ابن عمر:" من حلف بغير الله فقد أشرك" 2، وسكت الترمذي على هذا، ولم يتعقبه بتأويل; ثم قال: باب، وساق بسنده الرواية الأخرى عن ابن عمر:" من حلف بغير الله فقد كفر " 3، وتأول لفظة كفر بأنها على وجه الزجر والتغليط، لأن الحلف بغير الله لا ينقل عن الملة، بل هو كالرياء في عدم الردة، وإن كان شركا.
إذا عرفت هذا فالعراقي دلس، وجعل البابين بابا واحدا، وجعل كلام الترمذي في تأويله لفظة كفر راجعا إلى كلا البابين، وأن الحلف مكروه كراهة تنْزيه; والترمذي لم يتعرض لكونها للتنْزيه.
1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس 2408 ، ومسلم: الأقضية 593 ، وأحمد 4/246 ،4/249.
2 الترمذي: النذور والأيمان 1535 ، وأبو داود: الأيمان والنذور 3251 ، وأحمد 2/34 ،2/69 ،2/86 ،2/125.
3 الترمذي: النذور والأيمان 1535 ، وأبو داود: الأيمان والنذور 3251 ، وأحمد 2/34 ،2/69 ،2/86 ،2/125.
وأما قوله: إنكم تكفرون به، وترون أنه كفر، فهو كذب بحت، وفرية ظاهرة; ما قال أحد ممن يعتد به عندنا: إنه كفر مخرج عن الملة; وقد يطلق العالم والمفتي ما أطلقه الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذا، ويقف حيث وقف; ومن أنكر هذا الإطلاق، فقد أنكر على الرسول صلى الله عليه وسلم على أن ابن قيم الجوزية قال: قد يكون ذلك شركا أكبر، بحسب ما قام بقلب قائله; وقاله القاضي عياض من المالكية، وهذا ظاهر لا يخفى إذا قصد تعظيم من حلف به، كتعظيم الله.
أما استدلال هذا العراقي على عدم التحريم، بقوله صلى الله عليه وسلم:" من حلف باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله " 1، فهذا الاستدلال والفهم ليس بشيء; والحديث دليل على التحريم; والاستدلال به عليه هو عين الفقه عن الله ورسوله، لأنه أمر من حلف بغير الله أن يكفر بتجديد الإسلام، والإتيان بكلمة الإخلاص، التي تضمنت البراءة من الشرك، وإثبات التوحيد.
وقد قال لقريش وغيرهم من عباد الأصنام: " قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا " 2 وقال لعمه: " قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله" 3، فإذا كان ذاك يدل على الكراهة، فهذا أيضا إنما يدل عليها؛ فسبحان من حال بين قلوب هؤلاء، وبين الفقه عنه، ومعرفة المراد من كلامه وكلام رسوله.
وفي الحديث: إن حسنة التوحيد تمحو الشرك وتكفره، فإن الإسلام يجب ما قبله قال ابن مسعود: "لأن أحلف بالله
1 البخاري: تفسير القرآن 4860 والأدب 6107 والاستئذان 6301 والأيمان والنذور 6650 ، ومسلم: الأيمان 1647 ، والترمذي: النذور والأيمان 1545 ، والنسائي: الأيمان والنذور 3775 ، وأبو داود: الأيمان والنذور 3247 ، وابن ماجه: الكفارات 2096 ، وأحمد 2/309.
2 البخاري: تفسير القرآن 4675 ، ومسلم: الإيمان 24 ، والنسائي: الجنائز 2035 ، وأحمد 5/433.
3 البخاري: الجنائز 1360 ، ومسلم: الإيمان 24 ، والنسائي: الجنائز 2035 ، وأحمد 5/433.
كاذبا، أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقا".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس سره، بعد أن ذكر تحريم الحلف، واستدل له: ومعنى قول ابن مسعود: إن حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الشرك أعظم من سيئة الكذب، مع أن الكذب محرم بالإجماع. وأما ما حكاه عن شيخنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، أنه قال في مختصر الإنصاف: ويكره الحلف بغير الله، وأن الشيخ استدل للكراهة. فلا يخفى أن العراقي دلس هنا ولبس، فأسقط من العبارة كلام ابن عبد البر، وحكاية الإجماع على التحريم؛ هذا تدليسه.
وأما تلبيسه، فإن الشيخ قال بعد ذلك: وقيل: يجوز; فأخره، وحكاه بصيغة التمريض، وذكر أن القائل استدل لهذا، بأن الله أقسم بمخلوقاته، وبقوله:" أفلح وأبيه إن صدق " 1، وبقوله في حديث أبي العشراء:" أما وأبيك لو طعنت في فخذها أجزأك " 2، ثم تعقب الشيخ هذا، وذكر: أن أحمد لم يثبت حديث أبي العشراء، واستدل بقوله:" إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت " 3، وبحديث ابن عمر:" من حلف بغير الله فقد أشرك " 4 وقرر الشيخ أدلة التحريم.
والشيخ رحمه الله، في كتاب التوحيد، استدل على هذه المسألة، بقوله تعالى:{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 22] ، وترجم بالآية على هذه المسألة، وساق حديث
1 البخاري: الإيمان 46 والصوم 1891 والشهادات 2678 والحيل 6956 ، ومسلم: الإيمان 11 ، والنسائي: الصلاة 458 والصيام 2090 والإيمان وشرائعه 5028 ، وأبو داود: الصلاة 391 والأيمان والنذور 3252 ، وأحمد 1/162 ، ومالك: النداء للصلاة 425 ، والدارمي: الصلاة 1578.
2 الترمذي: الأطعمة 1481 ، والنسائي: الضحايا 4408 ، وأبو داود: الضحايا 2825 ، وابن ماجه: الذبائح 3184 ، وأحمد 4/334 ، والدارمي: الأضاحي 1972.
3 البخاري: الأيمان والنذور 6646 ، ومسلم: الأيمان 1646 ، والترمذي: النذور والأيمان 1533 ،1534 ، والنسائي: الأيمان والنذور 3766 ،3767 ،3768 ، وأبو داود: الأيمان والنذور 3249 ، وابن ماجه: الكفارات 2094 ، وأحمد 2/7 ،2/8 ،2/11 ، ومالك: النذور والأيمان 1037 ، والدارمي: النذور والأيمان 2341.
4 الترمذي: النذور والأيمان 1535 ، وأبو داود: الأيمان والنذور 3251 ، وأحمد 2/69 ،2/86 ،2/125.
ابن عمر، وما روي عن ابن عباس، ومنه "والله وحياتك".
وأما الجواب عن قوله: "أفلح وأبيه" وقوله: "أما وأبيك" فلأهل العلم عنه أجوبة معروفة في محلها; منها: أن هذا ليس من جنس اليمين المقصودة، بل هو مما جرى على ألسنتهم من غير قصد، مثل قوله:"تربت يداك"، "ثكلتك أمك"، "ويح عمار" وهذا الجواب ذكره كثير من الناس; وقيل: إن ذلك منسوخ; واستدل القائل لهذا القول، بما لا يمكن أمثال هذا العراقي نقضه; وبعضهم تكلم في السند، ولم يثبت هذا، كما تقدم عن أحمد في حديث أبي العشراء.
وهذا آخر ما أوردناه; والحمد لله حمدا كثيرا، كما ينبغي لكرم وجهه، وعز جلاله، وعظيم سلطانه; وصلى الله على عبده ورسوله محمد النبي الأمي، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
[الرد على كراسة أنشأها الصحاف لعيب الموحدين ومدح شيوخه المارقين]
وله أيضا، أسكنه الله الفردوس الأعلى:
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [سورة الأحزاب آية: 46] .
أما بعد: فإن بعض الإخوان ناولني كراسة أنشأها عبد اللطيف بن عبد المحسن الصحاف، فيها تعرض لعيب الموحدين، وذم لما هم عليه من الملة والدين، ومدح لبعض شيوخه المارقين، وأنهم من جلة العلماء العاملين، الذين لهم لسان صدق في الآخرين; وفيها غير ذلك مما هو مستبين للواقفين عليها والناظرين.
وقد طلب مني من ناولنيها أن أكتب شيئا في بيان ما تضمنته من الأباطيل، مع الاختصار، وترك البسط والتطويل، إلا لإيراد حجة، أو كشف دليل؛ فأسأل الله الإعانة على ذلك، والهداية إلى ما هنالك.
فأما المقدمة التي قدمها الصحاف أمام مقصوده، وجعلها طالعة نثره وعقوده، ففيها من الدلالة على جهلة وقصوره، ما يعرف بأول نظر في جمعه ومسطوره، من ذلك أنه يصف بالعلم
من ليس من أهله، ويكذب على المعصوم في عزوه ونقله، يحتج في فضل العلم بالضعيف الموضوع، لجهله بما صح من المرسل والمرفوع.
ليست له ملكة في نقد الثابت من المصنوع، يتأول كل حاذق فقيه عند سماع خلطه وما يبديه، حديث عبد الله بن عمرو في قبض العلم ورياسة الغمر. وكلامه من أظهر الأدلة على ما قلناه، عند كل من وقف عليه من أهل الفقه عن الله، فلذلك اكتفينا بالإشارة عن بسط القول والعبارة.
فأما قوله في المقدمة التي مدح بها أشياخه المذكورين في رسالته: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل" وقوله: "نظرك إلى وجه العالم، خير لك من ألف فرس تتصدق بها في سبيل الله; وسلامك على العالم، خير لك من عبادة ألف سنة" كذلك قوله: "إن العالم أو المتعلم إذا مر على قرية فإن الله يرفع العذاب عن مقبرة تلك القرية أربعين صباحا" وقوله "إن الله يغفر للعالم أربعين ذنبا قبل أن يغفر للجاهل".
فهذه الآثار ونحوها ليست بشيء عند أهل العلم بالحديث، ولا يحتج بها ويعول عليها من له أدنى تمييز وممارسة; وإنما يلتفت إليها، ويحكيها أهل الجهالة والسفاهة، من القصاصين والكذابين; وأما أهل العلم والدين، فبمجرد النظر إليها، والوقوف عليها، يعرفون أنها من الأخبار الموضوعة المكذوبة، التي لا تروج إلا على سفهاء الأحلام، وأشباه الأنعام.
وقد ورد في فضل العلم والعلماء، من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية ما ينيف على مائة وخمسين دليلا، كما قرره صاحب مفتاح دار السعادة، وقد مر صلى الله عليه وسلم في رهط من أصحابه، وهم سادات العلماء والمتعلمين، على قبرين يعذبان، فشق جريدة ووضعها عليهما، وقال:" لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا " 1، ولم يقل: لمروري ومرور أصحابي عليهما يخفف عنهما، كما زعمه هذا الجاهل.
وكأي من قرية عذبت وأتاها أمر الله بغتة، وأنبياؤهم وعلماؤهم قبل ذلك يدعونهم، وهم ينظرون إلى وجوههم ويخاطبونهم، ويسمعون كلامهم، فما أغنى عنهم ذلك، إذ لم يؤمنوا بآيات الله، وأصابهم من العذاب ها أصابهم; وكان الأولى بهذا الرجل أن لا يخوض فيما لا يدريه، وأن يعطي القوس باريه:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده
…
ولا الصبابة إلا من يعانيها
وأما قوله: إن في الحديث: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"، فهذا الحديث لم يثبته الحفاظ من أهل العلم، بل ذكروا أنه موضوع.
قال ابن عبد البر، إمام المغرب في وقته، وحامل لواء المالكية في زمانه: حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعد، أبا عبد الله بن مفرج حدثه، قال: حدثنا محمد بن أيوب الصموت، قال: قال لنا البزاز: وأما ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أصحابي كالنجوم; فهذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
1 البخاري: الوضوء 218 ، ومسلم: الطهارة 292 ، والنسائي: الطهارة 31 والجنائز 2068 ، وأبو داود: الطهارة 20 ، وأحمد 1/225.
وقال ابن القيم الجوزية -بعد أن ذكر طرق هذا الحديث-: لا يثبت شيء منه; ثم قال ما معناه: إن الأخذ بعمومه يقتضي أن الاهتداء يحصل بالاقتداء بكل صحابي، ولو تخالفت أقوالهم وتباينت آراؤهم، وأن الشخص مخير بين الأخذ بالقول وضده.
فيخير في مسألة الجد والإخوة، بين مذهب أبي بكر ومن خالفه، وفي مسألة جعل الطلاق الثلاث واحدة، بين رأي عمر وغيره، وفي مسألة المتوفى عنها زوجها، وبين الاعتداد بالوضع، وتربص أقصى الأجلين، وفي مسألة استرقاق المرتدات، بين مذهب أبي بكر وعمر؛ ويخير في بيع أمهات الأولاد، بين مذهب من يقول: بجوازه كعلي، ومن يقول بمنعه كعمر ومن وافقه.
وبالجملة: فإطلاق هذا يوجب أن الاهتداء يحصل بأحد الضدين، ولا نعلم قائلا به من أهل العلم والإيمان; والحق واحد في نفسه لا يتعدد، وقد قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] ، والخطاب عام لجميع الأمة الصحابة وغيرهم.
وهي نص في أن الاهتداء لا يحصل مع النّزاع والاختلاف، إلا بالرد إلى الله والرسول، لا الاقتداء بأحد من الخلق، كائنا من كان؛ وأما مع عدم النص المخالف، فالاقتداء بمن هدى الله من النبيين هو الواجب، كما قال:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [سورة الأنعام آية: 90] .
وأما ثناء الصحاف، على مشائخه الستة الذين سماهم، وادعى أنهم من أهل العلم والفضل، وقدمهم على من سواهم، فيقال له: هذه الدعوى، وهذا الثناء، هو بحسب ما عندك وما ظهر لك.
ومن تجاوزت به الغفلة والجهالة، إلى أن يجعل عباد الله الموحدين من أهل الضلالة، الذين يكفّرون أهل لا إله إلا الله، ويجعل عبّاد الأولياء والصالحين الذين يفزعون إليهم بالدعوة من دون رب العالمين، هم أهل لا إله إلا الله، كيف يعرف العلم والإيمان؟! أو يرجع إليه في تحقيق هذا الشأن؟! شعرا:
ما أنت بالحكم الترضى حكومته ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
وشهادة من لا يعرف العلم أو النحو، أو الهندسة أو الطب مثلا لشخص، بأنه عالم أو نحوي أو مهندس، أو طبيب، شهادة زور، وقول بلا علم; وفي المثل: لا يعرف الفضل إلا ذووه، ولو عرف هذا الرجل الفضل وأهله، والعلم ومحله، لأحجم عن هذا الهذيان; وقد نقل لنا عن بعض هؤلاء الستة، الذين سماهم واختارهم، ما يقتضي - إن صح - بأنه من المعطلة الضالين.
ويقال أيضا: هذه الدعوى قد ادعاها كل أحد لشيخه ومتبوعه، فادعتها الجهمية والقدرية، والخوارج والمعتزلة، والروافض والنصيرية، ونحوهم من كل مبتدع ضال; فكل أحد يدعي أن شيخه وإمامه أولى بالعلم والإيمان من خصومه; والدعاوي المجردة لسنا منها في شيء.
وقد قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [سورة البقرة آية: 111-112] .
فإسلام الوجه لله هو عبادته، والكفر بعبادة من سواه، وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله؛ وهذه الكلمة تتضمن العلم والعمل مع القول، فلا يكتفي ببعض ذلك; بل لا بد من العلم والعمل والشهادة.
وأما الإحسان، فهو: أن تعبد الله بما شرع، لا بالأهواء والبدع; وهذا هو حقيقة شهادة: أن محمدا رسول الله، فإنها تقتضي وتتضمن وجوب متابعته، وتحريم معصيته، وأن السير إلى الله من طريقه ومحجته؛ هذا هو حقيقة اتباع الرسول، والشهادة له بالرسالة; والدين كله يدخل في هذه الجملة الشريفة، وبسط الكلام عليها يستدعي أسفارا.
والسؤال الذي أجاب عنه هذا الرجل في رسالته، يلزم المفتي ويجب عليه التفصيل في جوابه، ولا يجوز له إطلاق القول لأن الحكم يختلف باختلاف الحال; وإطلاق القول بتكفير كل صالح من صلحاء الأمة من غير تعيين، يدخل فيه كل موصوف بهذه الصفة، من حين مبعثه صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين؛ وما أظن هذا يقع من عاقل يتصور ما يقول، مسلما كان أو كافرا، سنيا كان أو بدعيا،
لأن الكافر لا يرى الحكم والإسلام، إذ هي أحكام شرعية لا يقول بها إلا أهل الشريعة; وأما المسلم فلا يتصور أن يكفر صلحاء أهل ملته ودينه؛ وكذلك السني والبدعي، كل منهما يدعي موالاة صلحاء الأمة، ويرى أنهم هم أسلافه وأئمته، وكل طائفة تدعي موالاة الصلحاء، والبراءة من الفساق ونحوهم.
وأما إن كان قصد السائل: من يكفر معينا من هذه الأمة، فعليه أن يعبر بغير هذه العبارة الموهمة; والمجيب عليه أن يستفصل، لأن ترك الاستفصال فيه إيهام; ولا شك أن تكفير بعض صلحاء الأمة ممكن الوقوع; بل قد وقع من الخوارج وغيرهم من أهل البدع.
فيقال حينئذ: إن كان المكفر لبعض صلحاء الأمة متأولا مخطئا، وهو ممن يسوغ له التأويل، فهذا وأمثاله ممن رفع عنه الحرج والتأثيم، لاجتهاده، وبذل وسعه، كما في قصة حاطب بن أبي بلتعة؛ فإن عمر رضي الله عنه وصفه بالنفاق، واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم "1.
ومع ذلك فلم يعنف عمر على قوله لحاطب: إنه قد نافق; وقد قال الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [سورة البقرة آية: 286] ؛ وقد ثبت أن الرب تبارك وتعالى قال بعد نزول هذه الآية، وقراءة المؤمنين لها:" قد فعلت ".
1 البخاري: الجهاد والسير 3007 ،3081 والمغازي 3983 ،4274 وتفسير القرآن 4890 ، ومسلم: فضائل الصحابة 2494 ، والترمذي: تفسير القرآن 3305 ، وأبو داود: الجهاد 2650 ، وأحمد 1/79.
وأما إن كان المكفر لأحد من هذه الأمة، يستند في تكفيره له إلى نص وبرهان، من كتاب الله وسنة نبيه، وقد رأى كفرا بواحا، كالشرك بالله، وعبادة ما سواه، والاستهزاء به تعالى أو بآياته أو رسله، أو تكذيبهم، أو كراهة ما أنزل الله من الهدى ودين الحق، أو جحد صفات الله تعالى ونعوت جلاله، ونحو ذلك، فالمكفر بهذا وأمثاله، مصيب مأجور، مطيع لله ورسوله.
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [سورة النحل آية:36] ، فمن لم يكن من أهل عبادة الله تعالى وإثبات صفات كماله ونعوت جلاله، مؤمنا بما جاءت به رسله، مجتنبا لكل طاغوت يدعو إلى خلاف ما جاءت به الرسل، فهو ممن حقت عليه الضلالة، وليس ممن هدى الله للإيمان به، وبما جاءت به الرسل عنه.
والتكفير بترك هذه الأصول وعدم الإيمان بها، من أعظم دعائم الدين؛ يعرفه كل من كانت له نهمة، في معرفة دين الإسلام.
وغالب ما في القرآن إنما هو في إثبات ربوبيته تعالى، وصفات كماله، ونعوت جلاله، ووجوب عبادته وحده لا شريك له، وما أعد لأوليائه، الذين أجابوا رسله في الدار الآخرة، وما أعد لأعدائه الذين كفروا به وبرسله، واتخذوا من دونه الآلهة والأرباب؛ وهذا بين بحمد الله.
وقد يصدر التكفير لصلحاء الأمة، من أعداء الله ورسوله، أهل الإشراك به والإلحاد في أسمائه؛ فهؤلاء يكفرون المؤمنين بمحض الإيمان، وتجريد التوحيد، ويعيبون أهل الإسلام، ويذمونهم على إخلاص الدين، وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل قد يقاتلونهم على ذلك، ويستحلون دماءهم وأموالهم، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [سورة البروج آية: 10] .
فمن كفّر المسلمين أهل التوحيد، أو فتنهم بالقتال أو التعذيب، فهو من شر أصناف الكفار، ومن {الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِجَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [سورة إبراهيم آية: 28-29.] . وفي الحديث " من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما "1.
وأما من أطلق لسانه بالتكفير، لمجرد عداوة، أو هوى، أو لمخالفة في المذهب، كما يقع لكثير من الجهال، فهذا من الخطأ البين.
والتجاسر على التكفير أو التفسيق والتضليل، لا يسوغ إلا لمن رأى كفرا بواحا، عنده فيه من الله برهان; والمخالفة في المسائل الاجتهادية التي قد يخفى الحكم فيها على كثير من الناس، لا تقتضي كفرا ولا فسقا; وقد يكون الحكم فيها قطعيا جليا عند بعض الناس، وعند آخرين يكون الحكم فيها مشتبها خفيا; والله لا يكلف نفسا إلا وسعها.
1 البخاري: الأدب 6104 ، ومسلم: الإيمان 60 ، والترمذي: الإيمان 2637 ، وأبو داود: السنة 4687 ، وأحمد 2/112 ، ومالك: الجامع 1844.
والواجب على كل أحد أن يتقي الله ما استطاع; وما يظهر لخواص الناس من الفهوم والعلوم، لا يجب على من خفيت عليه، عند العجز عن معرفتها; والتقليد ليس بواجب، بل غايته أن يسوغ عند الحاجة; وقد قرر بعض مشائخ الإسلام أن الشرائع لا تلزم إلا بعد البلوغ وقيام الحجة; ولا يحل لأحد أن يكفّر أو يفسّق بمجرد المخالفة للرأي والمذهب.
وبقي قسم خامس، وهم الذين يكفرون بما دون الشرك من الذنوب، كالسرقة، والزنى وشرب الخمر; وهؤلاء هم الخوارج، وهم عند أهل السنة ضلاّل مبتدعة، قاتلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الحديث قد صح بالأمر بقتالهم والترغيب فيه، وفيه: أنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم.
وقد غلط كثير من المشركين في هذه الأعصار، وظنوا أن من كفر من تلفظ بالشهادتين، فهو من الخوارج; وليس كذلك، بل التلفظ بالشهادتين لا يكون مانعا من التكفير إلا لمن عرف معناهما، وعمل بمقتضاهما، وأخلص العبادة لله، ولم يشرك به سواه؛ فهذا تنفعه الشهادتان.
وأما من قالهما ولم يحصل منه انقياد لمقتضاهما، بل أشرك بالله، واتخذ الوسائط والشفعاء من دون الله، وطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، وقرب لهم القرابين، وفعل لهم ما يفعله أهل الجاهلية من المشركين، فهذا لا تنفعه الشهادتان; بل هو كاذب في شهادته، كما قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قالوا
نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [سورة المنافقون آية: 1] .
ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله، هو: عبادة الله، وترك عبادة ما سواه؛ فمن استكبر عن عبادته ولم يعبده، فليس ممن يشهد أن لا إله إلا الله، ومن عبده وعبد معه غيره، فليس هو ممن يشهد أن لا إله إلا الله.
وأما قول السائل في سؤاله: ويعتقد أن أهل "القسم" كلهم كفار معطلون، كاليهود والنصارى، ومن لم يكفرهم فهو كافر; وإذا لقيه أحد من المسلمين وسلم عليه، قال: عليكم، إلى آخر ما قال.
فاعلم: أن أهل "القسم" يخفى حالهم علينا، ولا ندري ما هم عليه من الدين؛ وفيما تقدم من التفصيل كفاية، فالمكفر لهم لا يخرج عن الأقسام المتقدمة، والصحاف قد خلط هنا، وأطال الهذيان; وزعم أن من كفرهم يكفر، ولا يصلى خلفه.
وقد عرفت أن المسألة فيها تفصيل، كما قدمناه، وبه يعرف حكم الصلاة خلفه، وأنها لا تصح خلف من أشرك بالله، أو جحد أسماءه وصفاته لكفره؛ وأهم شروط الصلاة والإمامة، هو: الإسلام، معرفته والعمل به; ومن كفّر المشركين ومقتهم، وأخلص دينه لله، فلم يعبد سواه، فهو أفضل الأئمة وأحقهم بالإمامة، لأن التكفير بالشرك والتعطيل، هو أهم ما يجب من الكفر بالطاغوت.
وأما من كفّر من ليس من أهل الكفر، لكنه متأول يسوغ تأويله، فهو أيضا من الأئمة المرضيين، إذا تمت له شروط الإمامة، وخطؤه مغفور له بنص الحديث; وأما من يكفر لهوى أو عصبية، أو لمخالفة في المذاهب، أو لأنه يرى رأي الخوارج، فهو فاسق لا يصلى خلفه إذا أمكنت الصلاة مع غيره، إلا إن كان ذا سلطان تخشى سطوته، فيصلى خلفه، كما يصلى خلف أئمة الظلم والجور.
إذا عرفت هذا، فاعلم: أن الصحاف ذكر في جوابه ما لا يتعلق بالسؤال، كمسبته وعيبه من يعيب مشائخه، الذين ذكرهم، وترضى عنهم، كابن كمال، وعبد الله البصري، وحسين الدوسري، وغيرهم ممن ذكر، وحكمه على من عابهم أنه من الجهال المبتدعة، أكلة الحرام، الذين لا هم لهم في الدين، وأنهم ممن قال فيهم صاحب الزبد:
وعالم بعلمه لم يعملن معذب من قبل عباد الوثن
وأن همهم في جمع الدرهم والدينار، يعملون في تحصيلها أنواع الحيل، بالليل والنهار؛ فهذا الكلام مجرد دعوى، ومسبة ينَزه العاقل نفسه عن مثلها. ويكفي في ردها منعها وتكذيبها.
ويمكن خصم الصحاف أن يقابلها ويعارضها بما هو محق فيه، كقوله: بل أنتم أهل الجهل بما بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، لم تعرفوه بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله من صفات الكمال، ونعوت الجلال; ولكنكم أخذتم
العقيدة عن أفراخ الفلاسفة واليونان، الذين هم من أعظم الخلق مناقضة لما نطق به القرآن، وما وصف به الرب نفسه في كتابه العزيز.
وكذلك أنتم في باب معرفة حق الله وتوحيده، من أضل الناس وأجهلهم، تجعلون عبادة غير الله ودعاءه، والاستغاثة والاستعاذة به، والنذر له، والحب مع الله، توسلا بالصالحين، وتشفعا بهم؛ وقد صرح بهذا أشياخ هذا الصحاف وأشياعه، وكتبوا به إلينا، وإلى شيخنا رحمه الله تعالى.
وعندهم أن الإنسان لا يكفر، ولا يكون مشركا إلا إذا اعتقد التأثير له من دون الله; ولم يفقهوا أن الله حكى عن المشركين في غير موضع من كتابه: أنهم يعترفون له بأنه هو المختص بالإيجاد والتأثير والتدبير، وأن غيره لا يستقل بشيء من ذلك، ولا يشاركه فيه; وحكى عن المشركين أنهم ما قصدوا بعبادة من سواه، إلا القربان والشفاعة، كما ذكر ذلك في غير موضع من كتابه.
قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة إبراهيم آية: 28-29.]، وقال: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ
بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84-85-86-87-88-89] .
ومثل هذا كثير في القرآن، يخبر فيه تعالى أن المشركين يعترفون بأن الله هو المتفرد بالإيجاد، والتأثير والتدبير.
وقال تعالى في صفة شرك المشركين، وبيان قصدهم:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18]، وقال:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3]، وقال:{فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [سورة الأحقاف آية: 28] . فأبيتم هذا كله، وقلتم هذا دين الوهابية، ونعم هو ديننا بحمد الله، ورضي الله عن الشافعي، إذ يقول:
يا راكبا قف بالمحصب من منى
…
واهتف بقاعد خيفها والناهض
إن كان رفضا حب آل محمد
…
فليشهد الثقلان أنى رافضي
فصل
قال الصحاف: وأنهم إذا سمعوا من يذكر الله جهرا بأنواع الأذكار، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم جهرا، خصوصا على المنار، كما يفعله سائر أهل الأمصار، أنكروا ذلك، ونفروا عنه وفروا; فيقال: أما ذكر الله جهرا بأنواع الأذكار، فلا نعلم أحدا من المسلمين بحمد الله تعالى ينكره، أو ينفر عنه؛ وإطلاق هذه
العبارة من الكذب البين، والبهت الظاهر الذي لا يمتري فيه من عرف حال من يشير إليهم هذا الرجل.
وليس هذا بعجيب من جرأته وظلمه، وقد قال تعالى:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [سورة النحل آية: 105] . نعم قد أنكروا ما يفعله كثير من جهلة أهل الطرائق المبتدعة، من الاجتماعات على السماع الشيطاني، وقيامهم بين يدي المنشد يميلون ويرقصون.
وبعضهم يذكر الله بمجرد الاسم الظاهر، أو المضمر، ويزعم أن هذا هو ذكر الخواص أهل المعرفة والتحقيق؛ فهؤلاء مبتدعة ضلال، وما فعلوه ليس بذكر شرعي، بل هو دين مبتدع غير مرضي، قال الله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى آية: 21] .
وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [سورة الجاثية آية: 18] ، وفي الحديث "إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة "1.
وكل عالم يعرف أن هذا السماع الشيطاني مبتدع، لم يحدث إلا بعد القرون المفضلة؛ وقد أنكره عامة أئمة الإسلام، وأشدهم في ذلك أتباع الإمام مالك بن أنس، الذي ينتسب هذا الرجل إلى مذهبه; وكفى به جهلا وضلالا أن يعيب ما عليه قدماء أئمته، وفضلاؤهم، ونصوصهم موجودة بأيدينا، في
1 مسلم: الجمعة 867 ، والنسائي: صلاة العيدين 1578 ، وابن ماجه: المقدمة 45 ، وأحمد 3/310 ،3/319 ،3/371 ، والدارمي: المقدمة 206.
إنكار هذا السماع الشيطاني، وتضليل فاعله وتفسيقه.
وقد صنف ابن قيم الجوزية، في هذا الذكر المبتدع، كتابا مستقلا، قرر فيه مذاهب الأئمة في حكم هذا السماع، وأنه محرم لا يجوز. وإن كان قصد هذا المعترض خصوص رفع الصوت، بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الأذان، كما يفعله أهل الأمصار، فقد صدق في حكاية إنكار هذا منهم، والنهي عنه؛ وهم لا ينازعون في مشروعية الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم سرا وجهرا، بل يستحبونها، ويوجبونها في الصلاة، ويرون أنها من جملة الأركان فيها، لكنهم يرون أن ما يفعله أهل الأمصار على المنابر بعد الأذان، مبتدع محدث، في القرن الخامس والسادس; وسبب إحداثه رؤيا رآها بعض ملوك مصر، على ما ذكره بعض المؤرخين; وقد أنكره بعض الأئمة، وقالوا: هو بدعة لم يفعله صلى الله عليه وسلم مع التمكن من فعله، ولم يفعله أحد من أئمة الهدى بعده، ولا غيرهم من أهل القرون المفضلة.
وقد أُمرنا بالاتباع ونُهينا عن الابتداع، قال ابن مسعود:"اتبعوا ولا تبتدعوا ومن كان منكم مستنا فعليه بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، والقيام بدينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم"، أو كما قال.
وقد تقدم من الآيات والأحاديث، ما يدل لقوله ويشهد
له، وكتب قدماء أهل المذاهب الأربعة، وجمهور متأخريهم، ليس فيها استحباب هذا، ولا الأمر به; بل فيها ما يدل على منعه، وأن الواجب هو ما شرعه الله ورسوله.
قالوا: وأما الصلاة والسلام عليه سرا بعد الأذان، وسؤال الله له الوسيلة والفضيلة، فهذا مشروع، قد ورد به الخبر، وصح به الأثر، وليس مع من خالفهم من الأدلة، ما يجب المصير إليه؛ وإنما يعيب على من منع البدع، واختار السنن أهل الجهالة والسفاهة الذين {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [سورة إبراهيم آية: 3] .
ثم إن هذا المفتري الصحاف، أطلق لسانه بالمسبة، وأطال في ذلك {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [سورة الشعراء آية: 227] ؛ وقد قيل في المثل، وقال العي: أنا ذاهب إلى المغرب، فقالت الحماقة: وأنا معك.
وقد ذكر في جوابه من الحشو والكلام الذي لا يقتضيه المقام، ما يدل على قصوره وعجزه وعدم ممارسته لصناعة العلم، كما ذكر قضيته مع راشد بن عيسى في مسألة الهبة، واختلافهما في لزومها، ومسألة العقد على اليتيمة.
فلقد أبدى بذلك ما خفي من جهله، ورب كلمة تقول: دعني; وكلامهم في الهبة ولزومها، كلام غير محقق، والناس مختلفون في الهبة ولزومها، هل هو بالعقد فقط، أو لا بد من القبض؟
وعن بعضهم ما يقتضي التفرقة بين المكيل والموزون
وغيرهما، واختلف الناس أيضا: هل تبطل بالموت قبل القبض أو لا؟ واختلف القائلون باشتراط القبض، هل يشترط فيما وهبه لزوجته، أو لا يشترط؟
وأدلة هذه الأقوال، ومآخذها، والرد على المخالف، مبسوط في المطولات، ولا غرض لنا في ذكره; وإنما قصدنا: أن حكم هذا الصحاف على أحد الأقوال بالصحة، مع قصوره عن معرفتها، ومعرفة أدلتها؛ والتزامه التقليد، حكم باطل لا يجوز، وما للأعمى ونقد الدراهم! وحكمه على الذي أفتى بخلاف قوله: بأنه ضال عن سبيل الرشاد، حكم باطل، أوجبه ما بينهما من التنافس والعناد.
ومثل هذه المسائل الاجتهادية لا يجوز لأحد أن ينكر فيها على خصمه بمجرد التقليد، وحكاية فروع المذهب; بل لا بد من الدليل على ذلك، من كتاب أو سنة أو إجماع، أو قياس صحيح; ومن كلام شيخ الإسلام: من ترك الدليل ضل السبيل.
وجميع ما ذكره إنما هو مجرد نقل لأقوال بعض المالكية، كالشيخ خليل، وعبد الباقي، وابن عرفة وأمثالهم; وتقليد هؤلاء إنما يسوغ عند الضرورة، والمقلد لهم ولغيرهم، ليس من أهل العلم بالإجماع، كما حكاه ابن عبد البر إمام المالكية، عمن يحفظ قوله من أهل العلم.
فكيف - والحال هذه - يحكم هذا الجاهل، الذي ليس هو من أهل العلم عند أئمة مذهبه وغيرهم، بصحة جوابه، وفساد
قول خصمه وضلاله؛ وهل يعلم هذا إلا بالنص، من كلام الله، أو كلام رسوله، أو إجماع الأمة؛ فما للمقلد والحكم بالصحة والصواب، وقد جهل نصوص السنة والكتاب، ومن تشبع بما لم يعط، كان كلابس ثوبي زور.
وقوله: فلا شك أن الطاعن في أهل القسم من أهل النار بعيد عن الهدى، وأنه لا يفلح أبدا في الدنيا خاسر أي خاسر، وفي الآخرة إلى النار صائر، إلى آخر عبارته; فهذا الكلام لا يصدر عن عاقل يعرف ما خرج من بين شفيته، نعوذ بالله من الجهل المردي، والهوى المعمي.
وهذه المسبة والحكم على المخالف في هذه المسألة بالنار، مما تقشعر منه جلود الذين آمنوا؛ وما أشبهها بأخلاق أهل المجون، وأصحاب الوقاحة والجنون. وكان ينبغي لنا أن نعد هذه الفتوى من جملة هذيان الضالين، وأن نكف القلم عن إجابة هذا النوع من المفترين، ولكن الضرورة اقتضت؛ فلا إله إلا الله، ما أشد غربة الدين، وما أقل العارفين له والمميزين؟!
كيف يقر مثل هذا بين ظهراني من له عقل يميز به الخبيث من الطيب، ويفرق به بين الآجن والصيب، وأصحاب رسول الله، لم يكفروا من كفرهم من الخوارج الحرورية; وقد "سئل علي رضي الله عنه فقيل له: أكفّارٌ هم؟ فقال: من الكفر فروا". وفي الحديث: "أن رجلا فيمن قبلنا، رأى من يعمل بالمعاصي فاستعظم ذلك، وقال: والله لن يغفر الله لفلان; فقال الله: من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له ".
وأما قوله: ومن تسمى بالإسلام، وأحب محمدا سيد الأنام، وأحب أصحابه الكرام، واتبع العلماء الأعلام، لا يكفر أحدا من سائر المسلمين، فضلا عن هداتهم في الدين، اللهم إلا أن يكون من الغلاة الذين أسقطوا حرمة لا إله إلا الله، وسوّل لهم الشيطان وأملى لهم، حيث استباحوا دماء المسلمين، إلى آخر رسالته.
فيقال في جوابه: هذا الجاهل يظن أن من أشرك بالله، واتخذ من الأنداد والآلهة، ودعاهم مع الله لتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، يحكم عليه - والحال هذه- بأنه من المسلمين، لأنه يتلفظ بالشهادتين، ومناقضتها لا تضره، ولا توجب عنده كفره؛ فمن كفره فهو من الغلاة الذين أسقطوا حرمة لا إله إلا الله؛ وهذا القول مخالف لكتاب الله، وسنة رسوله، وإجماع الأمة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: من جعل بينه وبين الله وسائط، يدعوهم ويسألهم، ويتوكل عليهم، كفر إجماعا، انتهى.
ومجرد التلفظ من غير التزام لما دلت عليه كلمة الشهادة، لا يجدي شيئا؛ والمنافقون يقولونها، وهم في الدرك الأسفل من النار; نعم إذا قالها المشرك ولم يتبين منه ما يخالفها، فهو ممن يكف عنه بمجرد القول، ويحكم بإسلامه.
وأما إذا تبين منه وتكرر عدم التزام ما دلت عليه، من الإيمان بالله وتوحيده، والكفر بما يعبد من دونه، فهذا لا يحكم له بالإسلام، ولا كرامة له؛ ونصوص الكتاب والسنة، وإجماع الأمة يدل على هذا.
فمن تسمى بالإسلام حقيقة، وأحب محمدا واقتدى به في الطريقة، وأحب أصحابه الكرام، ومن تبعهم من علماء الشريعة، يجزم ولا يتوقف بكفر من سوّى بالله غيره، ودعا معه سواه من الأنداد والآلهة؛ ولكن هذا الصحاف يغلط في مسمى الإسلام، ولا يعرف حقيقته; وكلامه يحتمل أنه قصد الخوارج الذين يكفّرون بما دون الشرك من الذنوب، وحينئذ يكون له وجه، ولكنه احتمال بعيد، والظاهر الأول.
وقد ابتلي بهذه الشبهة، وضل بها كثير من الناس، وظنوا أن مجرد التكلم بالشهادتين مانع من الكفر، وقد قال تعالى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] ، فكفره بدعاء غيره تعالى.
وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 106]، وقال تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [سورة الرعد آية: 14] .
فالتكفير بدعاء غير الله، هو نص كتاب الله؛ وفي الحديث " من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار " 1، وفي الحديث أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " 2، وفي رواية:" إلا بحق الإسلام "3.
وأعظم حق الإسلام وأصله الأصيل، هو: عبادة الله وحده، والكفر بما يعبد من دونه؛ وهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص، فمن قالها وعبد غير الله، واستكبر عن عبادة الله، فهو مكذب لنفسه، شاهد عليها بالكفر والإشراك.
وقد عقد كل طائفة من أتباع الأئمة، في كتب الفقه بابا مستقلا في حكم المرتد، وذكروا أشياء كثيرة يكفر بها الإنسان، ولو كان يشهد أن لا إله إلا الله.
وقد قال تعالى في النفر الذين قالوا في غزوة تبوك بعض القول الذي فيه ذم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [سورة التوبة آية: 65-66] ، فكفّرهم بعد إيمانهم بالاستهزاء، ولو كان على وجه المزح واللعب، ولم يمنع ذلك قولهم: لا إله إلا الله.
وكذلك إجماع الأمة على كفر من صدق مسيلمة الكذاب، ولو شهد أن لا إله إلا الله؛ وقد كفّر الصحابة أهل مسجد بالكوفة، بكلمة ذكرت عنهم في احتمال صدق مسيلمة، ولم
1 البخاري: تفسير القرآن 4497 ، وأحمد 1/374 ،1/407 ،1/425 ،1/462 ،1/464.
2 الترمذي: تفسير القرآن 3341 ، وأحمد 3/295 ،3/300 ،3/332 ،3/394.
3 البخاري: الإيمان 25 ، ومسلم: الإيمان 22.
يلتفت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله، لأنه قد وجد منهم ما ينافيها ويناقضها، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] .
وبالجملة: فالذي يقوم بحرمة لا إله إلا الله، هم الذين جاهدوا الناس عليها، ودعوهم إلى التزامها، علما وعملا، كما هي طريقة رسل الله وأنبيائه، ومن تبعهم بإحسان، كشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى.
وأما من أباح الشرك بالله، وعبادة غيره، وتولى المشركين وذب عنهم، وعادى الموحدين وتبرأ منهم، فهو الذي أسقط حرمة لا إله إلا الله، ولم يعظمها ولا قام بحقها، ولو زعم أنه من أهلها القائمين بحرمتها.
وأما ما ساقه هذا الصحاف من كلام شيخه حسين الدوسري، فالخصم يعارضه ويمنعه; وما ذكره ليس بحمد الله من أوصاف أهل التوحيد، ولكنه وصف أهل الشرك والتنديد؛ والذي أنكر الطاعة وعصى ربه في كل ساعة، واتبع هوى نفسه الخداعة، وشذ عن السنة وفارق الجماعة، ووافق المشبهة وأهل الإضاعة، هو: من كانت طريقته عبادة غير الله، والاستغاثة بغير مولاه، وصرف الوجه لغير من خلقه وسواه، وتعبد بغير الذي شرعه الله، على لسان عبده الذي اصطفاه، من أهل التعطيل والتضليل، والإلحاد والتمثيل، الذين اختلفوا في الكتاب، وخالفوا الكتاب، وضلوا عن الصواب.
وأما قول الصحاف نقلا عن شيخه الدوسري: أما كفروا العلماء؟ أما سفكوا الدماء؟ أما استحلوا المحرمات؟ أما روعوا المسلمين والمسلمات؟ أما أسخطوا رب السماوات؟ أما رجفوا أهل الحرم؟ أما تجاسروا على حجرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فلا أفلح من ظلم.
فالجواب عن هذا، أن يقال: كل عاقل يعرف سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، يعلم أنه من أعظم الناس إجلالا للعلم والعلماء، ومن أشد الناس نهيا عن تكفيرهم وتنقصهم، وأذيتهم.
بل هو ممن يدين بتوقيرهم وإكرامهم، والذب عنهم، والأمر بسلوك سبيلهم، عملا بقوله تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة التوبة آية: 71] الآية، وبقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} [سورة الحشر آية: 10] الآية.
وبقوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 62-63] ، فالإيمان والتقوى هما أصل العلم بالله وبدينه وشرعه، فكيف يظن بمسلم فضلا عن شيخ الإسلام أنه يكفر العلماء؟! سبحانك هذا بهتان عظيم!
والشيخ رحمه الله، لم يكفّر إلا من كفّره الله ورسوله، وأجمعت الأمة على كفره، كمن اتخذ الآلهة والأنداد لرب
العالمين، ولم يلتزم ما جاءت به الرسل من الإسلام والدين، أو جحد ما نطق به الكتاب المبين، من صفات الكمال ونعوت الجلال لرب العالمين.
وكذلك من نصب نفسه لنصرة الشرك والمشركين، وزعم أنه توسل بالأنبياء والصالحين، وأنه مما يسوغ في الشرع والدين; فالشيخ وغيره من جميع المسلمين يعلمون أن هذا من أعظم الكفر وأفحشه; ولكن هذا الجاهل يظن أن من زعم أنه يعرف شيئا من أحكام الفروع، وتسمى بالعلم وانتسب إليه، يصير بذلك من العلماء، ولو فعل ما فعل.
ولم يدر هذا الجاهل أن الله كفّر علماء أهل الكتاب، والتوراة والإنجيل بأيديهم، وكفّرهم رسوله لما أبوا أن يؤمنوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق؛ ولا ضير على الشيخ بمسبة هؤلاء الجهال، وله أسوة بمن مضى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من أهل الإيمان والاهتداء.
قال الشافعي رحمه الله: ما أرى الناس ابتلوا بسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ليزيدهم الله بذلك ثوابا عند انقطاع أعمالهم; وما أحسن ما قيل شعرا:
قدمت لله ما قدمت من عمل
…
وما عليك بهم ذموك أو شكروا
عليك في البحث أن تبدي غوامضه
…
وما عليك إذا لم تفهم البقر
وقد اعترضت اليهود والنصارى، على عبد الله ورسوله، بالقتال وسفك الدماء، وسبي الذرية، وقالوا: إنما يفعل هذا
الملوك المسلطون؛ وحكايتهم في ذلك معروفة، مشهورة عند أهل العلم، ويكفي في ذلك قوله:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [سورة النساء آية: 51] الآية.
وأما قوله: أما رجفوا أهل الحرم، فلا يخفى أن الذي جرى في الحرمين، في أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، هو: هدم القباب التي أسست على معصية الله ورسوله، وصارت من أعظم وسائل الشرك وذرائعه، وكسروا آلات التنباك، وسائر المنكرات، وألزموا الناس المحافظة على الصلوات في الجماعات، ونهوا عن لبس الحرير، وألزموهم بتعلم أصول الدين، والالتفاف إلى ما في الكتاب والسنة، من أدلة التوحيد وبراهينه.
وقرروا الكتب المصنفة في عقائد السلف، أهل السنة والجماعة، في باب معرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، وقرروا إثبات ذلك، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تشبيه ولا تمثيل، وأنكروا على من قال بقول الجهمية في ذلك، وبدعوه وفسقوه؛ فإن كان هذا إرجافا للحرم فحبذا هو، وما أحسن ما قيل:
وعيرني الواشون أني أحبها
…
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
وقد أمر الله تعالى من خاض في مثل هذا أن يتكلم بعلم وعدل، كما قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} الآية
[سورة النساء آية: 135] ،
وهذا الرجل كلامه جهل محض، وجور ظاهر، وأصله الذي يرجع إليه هو الانتصار للنفس والهوى، لا لنصر الحق والهدى.
وأما التجاسر على حجرة النبى صلى الله عليه وسلم، فكأنه يشير به إلى المال الذي استخرجه الأمير سعود من الحجرة الشريفة، وصرفه في أهل المدينة ومصالح الحرم، وهو رحمه الله لم يفعل هذا، إلا بعد أن أفتاه علماء المدينة، من الحنفية، والمالكية، والشافعية والحنبلية.
فاتفقت فتواهم على أنه يتعين ويجب على ولي الأمر إخراج المال الذي في الحجرة، وصرفه في حاجة أهل المدينة، وجيران الحرم، لأن المعلوم السلطاني قد منع في تلك السنة، واشتدت الحاجة والضرورة إلى استخراج هذا المال وإنفاقه؛ ولا حاجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إبقائه في حجرته وكنْزه لديه.
وقد حرم كنْز الذهب والفضة، وأمر بالإنفاق في سبيل الله، لا سيما إذا كان المكنوز مستحقا لفقراء المسلمين، وذوي الحاجة منهم، كالذي بأيدي الملوك والسلاطين، فلا شك أن استخراجها على هذا الوجه، وصرفها في مصارفها الشرعية، أحب إلى الله ورسوله من إبقائها واكتنازها؛ وأي فائدة في إبقائها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل المدينة في أشد الحاجة والضرورة إليها.
وتعظيم الرسول وتوقيره، إنما هو في اتباع أمره، والتزام دينه وهديه. فإن كان عند من أنكر علينا دليل شرعي يقتضي
تحريم صرفها في مصالح المسلمين، فليذكره لنا. ولم يضع هذا المال أحد من علماء الدين الذين يرجع إليهم، وليس عند هؤلاء إلا اتباع عادة أسلافهم ومشائخهم؛ يعرف هذا من ناظرهم ومارسهم، ودعواهم عريضة، وعجزهم ظاهر.
وقد أطال هذا الصحاف فيما نقله عن شيخه حسين الدوسري، وأكثر فيه من النصيحة، ولا بأس بالنصائح، لمن أراد الحق وتوخاه، ونهى عما يسخطه الرب ولا يرضاه، ولم يلحد في أسمائه ولم يعبد سواه؛ فهذا هو الصادق في نصحه، وقوله الذي أبداه.
بخلاف من توهم الأمر على خلاف ما هو عليه، ولبس الحق بالباطل لديه، واعتقد أن المجاهد لإعلاء كلمة الله، يشار بالذم إليه، فعمل مثل هذا {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 39-40] .
نسأل الله تعالى أن يمن علينا بالهداية إلى صراطه المستقيم، والفوز لديه بجنات النعيم.
[رسالة من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى عثمان القاضي، وما بلغه عنه عند قدوم داود العراقي إليه]
وله أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى جناب المكرم، عثمان بن محمد القاضي، وفقه الله لاجتناب المساخط واتباع المراضي، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: بلغنا عنك من عبد الله بن عبد العزيز، كلام حسن، عند قدوم داود العراقي إليكم; وقبله أعرف منك بصيرة في بعض الأمور، ويعجبني كلامك في أشياء من الدين، تلتبس على أكثر الناس، ورجوت لك النجاة من هذه الفتن، بما كنت أسمعه منك {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 21] .
فاعلم: أنه لما وقع في آخر هذه الأمة، ما أخبر به نبيها صلى الله عليه وسلم من اتباع سنن من قبلها، من أهل الكتاب، وفارس والروم، وتزايدت تلك السنن، حتى وقع الغلو في الدين، وعبدت قبور الأولياء والصالحين، وجعلت أوثانا تقصد من دون الله رب العالمين، عظمها قوم لم يعرفوا حقيقة الإسلام، ولم يشموا رائحة العلم، ولم يحصلوا على شيء من رائحة النبوة، ولم يفقهوا شيئا من أخبار الأمم قبلهم، وكيف كان بدء أمرهم وشركهم، ومنتهى نحلتهم وحقيقة طريقتهم، وهذا الذي عابه القرآن عليهم وذمه..
وتلطف الشيطان في كيد هؤلاء الغلاة في قبور الصالحين، بأن دس عليهم تغيير الأسماء والحدود الشرعية، والألفاظ اللغوية، فسموا الشرك وعبادة الصالحين توسلا ونداء، وحسن اعتقاد في الأولياء، وتشفعا بهم، واستظهارا بأرواحهم الشريفة; فاستجاب له صبيان العقول، وخفافيش البصائر، وداروا مع الأسماء، ولم يقفوا مع الحقائق.
فعادت عبادة الأولياء والصالحين، ودعاء الأوثان والشياطين، كما كانت قبل النبوة، وفي زمان الفترة حذو النعل بالنعل، وحذو القذة بالقذة، وهذا من أعلام النبوة، كما ذكره غير واحد، ولم يزل ذلك في ظهور وازدياد حتى عم ضرره، وبلغ شرره الحاضر والباد.
ففي كل إقليم، وكل مدينة وقرية، ممن ينتسب إلى الإسلام، ولائج يدعونهم مع الله، ويلتمسون بدعائهم قرب الرب ورضاه، يفزعون إليهم في الشدائد والمهمات، ويلوذون بهم في النوائب والحاجات، وبعضهم لا يرد على خاطره، ولا يلم بباله دعاء الله تعالى، في شيء من ذلك، إلا استشعاره حصول مقصوده، ونجاح مطلوبه، من جهة الأولياء والأنداد.
وقد رأينا وسمعنا من ذلك ما يعز حصره واستقصاؤه، ولو كان يخفى لعرجنا على ذكره وتفصيله، ولكنه أشهر من الشمس في نحر الظهيره.
إذا عرفت هذا وتحققته، فاعلم: أن الله أطلع شمس
الإيمان به وتوحيده، في آخر هذه الأزمان، على يد من أقامه في هذه البلاد النجدية، داعيا إليه على بصيرة، مذكرا به آمرا بتوحيده وإخلاص الدين له، ورد العباد إلى فاطرهم وبارئهم وإلههم الحق، الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، ينهى عن الشرك به وصرف شيء من العبادة إلى غيره، وابتداع دين لم يأذن به، ولا سلطان، ولا حجة على مشروعيته.
واستدل لذلك، وقرر وألف، وصنف وحرر، وناظر المبطلين، ونازع الغلاة والمارقين، حتى ظهر دين الله على كل دين؛ فتنازع المخالفون أمره، وجحدوا برهان صدقه; فقوم قالوا: هذا مذهب الخوارج المارقين; وطائفة قالت: هو مذهب خامس لا أصل له في الدين; وآخرون قالوا: هو يكفر أهل الإسلام; وصنف نسبوه إلى استحلال الدماء والأموال الحرام; ومنهم من عابه بوطنه، وأنه دار مسيلمة الكذاب.
وكل هذه الأقاويل لا تروج على من عرف أصل الإسلام، وحقيقة الشرك وعبادة الأصنام، وإنما يحتج بها قوم عزبت عنهم الأصول والحقائق، ووقفوا مع الرسوم والعادات، في تلك المناهج والطرائق، و {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [سورة المائدة آية: 104] ؛ فهم من شأنه في أمر مريج، وما ذاك إلا أنه أشرقت له شموس النبوة فقصدها; وظهرت له حقائق الوحي والتنْزيل، فآمن بها واعتقدها، وترك رسوم الخلق لم يعبأ بها، ورفض تلك العوائد
والطرائق الضالة إلى أهلها.
واترك رسوم الخلق لا تعبأ بها
…
في السعد ما يغنيك عن دبران
وقد صنف بعض علماء المشركين في الرد عليه، ودفع ما قرره ودعا إليه، واستهوتهم الشياطين، حتى سعوا في آيات الله معاجزين، وقد بدد الله شملهم، وتمزقوا - أيادي سبأ - وذهبت أباطليهم وأراجيفهم حتى صارت هباء.
نعم بقيت من تلك الشبه بقية، بيدي قوم ليس لهم في الإسلام قدم، ولا بالإيمان درية، يتخافتون بينهم ما تضمنته من الشبهة الشركية، ويتواصون بكتمانها كما تكتم كتب التنجيم والكتب السحرية، حتى أتيح لهم رجل من أهل العراق، فألقيت إليه تلك الكتب، فاستعان بها على إظهار أباطيله، وتسطير إلحاده وأساطيره; وزاد على ما في تلك المصنفات، وأباح لغير الله أكثر العبادات.
بل زعم: أن للأولياء تدبيرا وتصريفا مع الله، وأجاز أن يكل الله أمور ملكه وعباده، إلى الأولياء والأنبياء، ويفوض إليهم تدبير العالم، وهذا موجود عندنا بنص رسائله; وشبه على الجهال الذين أعمى الله بصائرهم، أتباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، من الإيمان والفهم، بشبهات ضالة.
كقوله: إن دعاء الأموات ونحوه لا يسمى دعاء، وإنما هو نداء، وأن العبادة التي صرفت لأهل القبور، لا تسمى عبادة
ولا شركا، إلا إذا اعتقد التأثير لأربابها من دون الله تعالى.
وقوله: من قال: لا إله إلا الله، واستقبل القبلة، فهو مسلم، وإن لم يرغب عن ملة عباد القبور، الذين يدعونها مع الله؛ ويكذب على أهل العلم من الحنابلة وغيرهم، ويزعم أنهم قالوا وأجمعوا على استحباب دعاء الرسول بعد موته صلى الله عليه وسلم.
ويلحد في آيات الله، وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، ونصوص أهل العلم، ويخرجها عن موضوعها، ويتعمد الكذب على الله وعلى رسوله، وعلى العلماء؛ يعرف ذلك من كلامه من له أدنى نهمة في العلم، والتفات إلى ما جاءت به الرسل; ولا يروج باطله إلا على قوم لا شعور لهم بشيء من ذلك; عمدتهم في الدين النظر إلى الصور، وتقليد أهلها.
ومن شبهاته، قوله في بعض الآيات: هذه نزلت فيمن يعبد الأصنام; هذه نزلت في أبي جهل; هذه نزلت في فلان وفلان; يريد - قاتله الله - تعطيل القرآن، عن أن يتناول أمثالهم وأشباههم، ممن يعبد غير الله، ويعدل بربه. ويزعم أن قوله تعالى:{وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [سورة النساء آية: 51] دليل على استحباب دعاء الصالحين مع الله; ويظن أن الشرك الذي جاءت الرسل بتحريمه، هو الوسيلة إلى الله، ويحتج على ذلك بما يمج سماعه، ويستوحش منه عوام السلمين بمجرد الفطرة. فسبحان من أضله وأعماه، {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [سورة يونس آية: 33] .
وهذا الرجل يأنس إلى بلدتكم، ويعتاد المجيء إليها، وله من ملئها وأكابرها من يعظمه ويواليه وينصره؛ وفي هذا من المشاقة والمراغمة ما يوجب الدمار والبوار، ولا تقال معه للمجرم العثار; والواجب علينا وعليك نصحهم، وتذكيرهم بأيام الله فيهم، فقد رأيتم وجربتم، وسمعتم من ذلك ما يطول شرحه، ولا يفيد في هذه الرسالة ذكره، شعرا:
إذا أنت لم يهديك عقلك فانتسب
…
لعلك تهديك القرون الأوائل
فإن لم تجد من دون عدنان والدا
…
ودون معد فلتزعك العواذل
وما أحسن قول أخي بني قريظة: أفي كل موطن لا تعقلون؟ ويلزمك تعطي ابن جليدان هذه الرسالة، يقرؤها في مساجد عنيزة، وينصحهم عما يوجب الفرقة والاختلاف، ويزرع العداوة والبغضاء، والله يهدي من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم. والإمام فيصل أخبرني أنه كتب فيما مضى أنه لا يقدم القصيم، والذين عزموه اكتبوا أسماءهم نعرضهم على الإمام، ويعرفهم المسلمون، ويحذرهم المؤمنون. والسلام.
[رسالة من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى أهل عنيزة]
وله أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى من يصل إليه هذا الكتاب، من أهل عنيزة: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: يجرى عندكم أمور يتألم منها المؤمنون، ويرتاح لها المنافقون؛ ولا بد من النصيحة معذرة إلى الله تعالى، وطلبا لرضاه، وإلا فالحجة قد قامت، وجمهوركم يتجشم ما يأتي، لأسباب لا تخفى; من ذلك قصد المشاقة والمعاندة، بإكرام داود العراقي، مع اشتهاره بعداوة التوحيد وأهله، والتصريح بإباحة دعاء الصالحين، والحث عليه، وغير ذلك مما يطول عده.
ولا بد من تقديم مقدمة ينتفع بها الواقف على هذا; فنقول: لما وقع في آخر هذه الأمة، ما أخبر به نبينا صلى الله عليه وسلم من اتباع سنن من قبلنا من أهل الكتاب، وفارس والروم، وتزايدت تلك الفتن، حتى وقع الغلو في الدين، وعبدت قبور الأولياء والصالحين، وجعلت أوثانا تقصد من دون الله رب العالمين; عظمها قوم لم يعرفوا حقيقة الإسلام، ولم يشموا رائحة العلم، ولم يحصلوا على شيء من نور النبوة، ولم يفقهوا شيئا من أخبار الأمم قبلهم، وكيف كان بدء شركهم ومنتهى نحلتهم، وحقيقتهم وطريقتهم، وما هذا الذي عابه القرآن عليهم وذمهم.
وتلطف الشيطان في كيد هؤلاء الغلاة في قبور الصالحين، بأن دس عليهم تغيير الأسماء والحدود الشرعية، والألفاظ
اللغوية، فسمى الشرك وعبادة الصالحين توسلا ونداء، وحسن اعتقاد في الأولياء، وتشفعا بهم، واستظهارا بأرواحهم الشريفة؛ فاستجاب له صبيان العقول، وخفافيش البصائر، وداروا مع الأسماء ولم يقفوا مع الحقائق؛ فعادت عبادة الأولياء والصالحين، ودعاء الأوثان والشياطين، كما كانت قبل النبوة، وفي أزمان الفترة حذو النعل بالنعل، وحذو القذة بالقذة؛ وهذا من أعلام النبوة، كما ذكره غير واحد.
ولم يزل ذلك في ظهور وازدياد، حتى عم ضرره، وبلغ شرره الحاضر والباد؛ ففي كل إقليم، وكل مدينة وقرية، ممن ينتسب إلى الإسلام، ولائج يدعونهم مع الله، ويلتمسون بدعائهم قرب الرب ورضاه، يفزعون إليهم في المهمات والشدائد، ويلوذون بهم في النوائب، والحاجات، وبعضهم لا يرد على خاطره، ولا يلم بباله دعاء الله تعالى في شيء من ذلك، لاستشعاره حصول مقصوده ونجاح مطلوبه، من جهة الأولياء والأنداد; وقد رأينا وسمعنا من ذلك ما يعز حصره واستقصاؤه، ولو كان يخفى لعرجنا على ذكره وتفصيله، ولكنه أشهر من الشمس في نحر الظهيرة.
إذا عرف هذا وتحقق، فاعلموا أن الله أطلع شمس الإيمان به وتوحيده، في آخر هذه الأزمان، على يد من أقامة الله في هذه البلاد النجدية، داعيا إليه على بصيرة، مذكرا به، آمرا بتوحيده وإخلاص الدين له، ورد العباد إلى فاطرهم وبارئهم وإلههم الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه، ينهى عن
الشرك به، وصرف شيء من العبادات إلى غيره، وابتداع دين لم يأذن به الله، ولا سلطان ولا حجة على مشروعيته.
واستدل على ذلك وقرر وصنف وحرر، وناظر المبطلين، ونازع الغلاة والمارقين، حتى ظهر دين الله على كل دين، فتنازع المخالفون أمره، وجحدوا برهان صدقه; فقوم قالوا: هذا مذهب الخوارج المارقين; وطائفة قالت: هو مذهب خامس لا أصل له في الدين; وآخرون قالوا: هو يكفر أهل الإسلام; وصنف نسبوه إلى استحلال الدماء والأموال الحرام; ومنهم من عابه بوطنه، وأنه دار مسيلمة الكذاب.
وكل هذه الأقاويل لا تروج على من عرف أصل الإسلام، وحقيقة الشرك وعبادة الأصنام؛ وإنما يحتج بها قوم عزبت عنهم الأصول والحقائق، ووقفوا مع الرسوم والعادات، في تلك المناهج والطرائق، و {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [سورة المائدة آية: 104] . فهم من شأنه في أمر مريج، وما ذاك إلا أنه قد أشرقت له شموس النبوة فقصدها; وظهرت له حقائق الوحي والتنْزيل فآمن بها، واعتقدها، وترك رسوم الخلق لم يعبأ بها، ورفض تلك العوائد والطرائق الضالة لأهلها.
واترك رسوم الخلق لا تعبأ بها في السعد ما يغنيك عن دبران
وقد صنف بعض علماء المشركين في الرد عليه، ودفع ما قرره ودعا إليه، واستهوتهم الشياطين، حتى سعوا في آيات
الله معاجزين، وقد بدد الله شملهم، فتمزقوا - أيادي سبأ - وذهبت أباطيلهم وأراجيفهم، حتى صارت هباء; نعم بقيت لتلك الشبهة بقية، بأيدي قوم ليس لهم في الإسلام قدم، ولا بالإيمان درية، يتخافتون بينهم ما تضمنته تلك الكتب من الشبه الشركية، ويتواصون بكتمانها، كما تكتم كتب التنجيم والكتب السحرية.
حتى أتيح لهم هذا الرجل من أهل العراق، فألقيت إليه تلك الكتب، فاستعان بها على إظهار أباطيله، وتسطير إلحاده وأساطيره، وزاد على ما في تلك المصنفات، وأباح لغير الله أكثر العبادات; بل زعم أن للأولياء تدبيرا وتصرفا مع الله، وأجاز أن يكل الله أمور ملكه وعباده، إلى الأولياء والأنبياء، ويفوض إليهم تدبير العالم، وهذا موجود عندنا بنص رسائله.
وشبه على الجهال الذين أعمى الله بصائرهم، أتباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق من الإيمان والفهم، بشبهات ضالة، كقوله: إن دعاء الموتى ونحوه لا يسمى دعاء إنما هو نداء، وأن العبادات التي صرفت لأهل القبور، لا تسمى عبادة ولا شركا، إلا إذا اعتقد التأثير لأربابها من دون الله.
وقوله: من قال لا إله إلا الله، واستقبل القبلة فهو مسلم، وإن لم يرغب عن ملة عباد القبور، الذين يدعونها مع الله، ويكذب على أهل العلم من الحنابلة وغيرهم; ويزعم أنهم قالوا وأجمعوا على استحباب دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موته،
ويلحد في آيات الله وأحاديث رسول الله، ونصوص أهل العلم، ويتعمد الكذب على الله وعلى رسوله، وعلى العلماء؛ يعرف ذلك من كلامه من له أدنى نهمة في العلم، والتفات إلى ما جاءت به الرسل، ولا يروج باطله إلا على قوم لا شعور لهم بشيء من ذلك، عمدتهم في الدين النظر إلى الصور وتقليد أهلها.
ومن شبهاته: قوله في بعض الآيات: هذه نزلت فيمن يعبد الأصنام; هذه نزلت في أبي جهل; هذه نزلت في فلان وفلان; يريد - قاتله الله - تعطيل القرآن عن أن يتناول أمثالهم، وأشباههم ممن يعبد غير الله، ويعدل بربه، ويزعم أن قوله تعالى:{وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [سورة المائدة آية: 35] دليل على استحباب دعاء الصالحين مع الله، ويظن أن الشرك الذي جاءت الرسل بتحريمه، هو الوسيلة إلى الله، ويحتج على ذلك بما يمج سماعه، ويستوحش منه عوام المسلمين بمجرد الفطرة، فسبحان من أضله وأعماه، {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [سورة يونس آية: 33] .
وهذا الرجل يأنس إلى بلدتكم، ويعتاد المجيء إليها، وله من ملئها وأكابرها من يعظمه ويواليه وينصره، ويأخذ عنه ما تقدم من الشبه وأمثالها. ولذلك أسباب، منها: البغضاء ومتابعة الهوى، وعدم قبول ما من الله به من النور والهدى، حيث عرف من جهة العارض; وتأملوا قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ
تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [سورة إبراهيم آية: 28-29-30] .
وقد أجمع العلماء أن نعمة الله المقصودة هنا، هي بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالهدى، ودين الحق، اللذين أصلهما وأساسهما: عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الآلهة والأنداد; والكفر بهذه النعمة، هو ردها وجحودها، واختيار دعاء الصالحين، والتعليق على الأولياء والمقربين. فرحم الله امرءا تفكر في هذا، وبحث عن كلام المفسرين من أئمة الدين، وعلم أنه ملاق ربه الذي عنده الجنة والنار.
ثم فيما أجرى الله عليكم من العبر والعضات، ما ينبه من كان له قلب، أو فيه أدنى حياة، قال تعالى لنبيه موسى عليه السلام:{وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [سورة إبراهيم آية: 5] .
وجماعتكم أعيا المسلمين داؤهم، وعز ما عليه انتقالهم؛ وما أحسن ما قال أخو بني قريظة لقومه: أفي كل موطن لا تعقلون؟ {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [سورة الأحزاب آية: 4] ، وصلى الله على محمد.
[رسالة من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى عثمان بن منصور بأنه وصل إليه منه خطان]
وله أيضا عفا الله عنه.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الشيخ عثمان بن منصور، أنقذه الله من طوارق الفتن والشرور، ورفع همته عن سفاسف الأمور، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، على ما ألبسنا من ملابس فضله التي لا تخلعها الأنداد، وأستزيده من بره، التي ليس لها انقضاء ولا نفاد.
أما بعد: فقد وصل إلينا منك خطان، فأولهما صادف حين الاشتغال بلقى الأحبة والآل، وأما الثاني فبعد أن ألقيت عصا الترحال، وارتاح من ألم شوقه القلب والبال. فبمجرد الوقوف على خطك ومطالعة نقشك، ووشيك، بحثت عن الوجه الذي تدلي به علينا، وعن حقيقة المعنى الذي تشير به إلينا، وما هو اللائق في إجابة أمثالك، وهل يحسن بنا النسج على منوالك، أو نقتصر على موجب:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} [سورة النساء آية: 86] ؛ إذ ليس وراءها مزية دينية شرعية، لأكون على بصيرة من أمري، ومعرفة للحقائق قبل اقتداح زندي.
فاخبرني الثقة بالجرح والتعديل، الخبير بما قد شاع عنك من القيل: أن صاحب الخط ينتمي إلى ممارسة العلوم، المنقول منها والمفهوم، غير أنه قد نسب عنه هفوات، إن صحت فهي من عظائم المعضلات، ولم نقف لها على تصحيح يعتمد، ولم نلتفت إلى البحث في متنها والسند، اكتفاء بإعراضه عن الابتهاج
بهذه الدعوة، ولهذا الأصل والمذاكرة، واستغناء بعدم التفاته إلى المواخاة في الله والموازرة; بل كل الناس لديه إخوان، والضدان عنده يجتمعان، يصاحب أولياء الأوثان، كما يصاحب عابدي الرحمن، ويأنس بالمنقلب على عقبه، كما يأنس بالثابت على الإيمان، مع أنه قد شرح التوحيد وادعى الإتيان بكل معنى موجز سديد.
يوما بحزوى ويوما بالعقيق
…
وبال عذيب يوما ويوما بالخليصاء
وتارة تنتحي نجدا وآونة
…
شعب الغوير وطورا قصر تيماء
فهو وإن ينتسب إلى الحق، فقد والى من خرج عنه وعق; فقلت له: إيه من رجل لو استقام! وصارم لولا ما عراه من الانثلام! لكني أعلم أن للعلم بركات، وللملك لمات، فأرجو أن يقوده العلم إلى ثمراته، وأن يحول بينه وبين الشيطان وخطواته. {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [سورة الحديد آية: 17] .
والقلب بين أصبعين من أصابع الرحمن، كما رواه المحدثون من الأعيان، فلعل ميت رجائنا يحييه من يحيي عظام الميت وهي رميم؛ ولهذا أشرت إلى الشيخ الوالد أعز الله قدره، ورفع بوارثة النبيين مجده وفخره، بأن يرد لك الجواب، ويعلمك بالخطب أتى من أي باب، طمعا في الأوبة والفلاح، وحرصا على سلوك سبل الهداية والصلاح، لئلا تتوهم غير ذلك من الأسباب التي تنقل عنك، من الاستطالة في الأعراض والاغتياب.
إذ هي لا يلتفت إليها المؤمن العاقل، ولا يأخذ بها إلا غر
مماحل; وهي باقية ليوم ترجعون فيه إلى الله، ويجزي كل قائل بما زوره وافتراه; ولعل الله أن يمن برجوعك إلى الحق بعد الشرود، وأن يقضي بصحبتك على توحيد ربنا المعبود فإني أسر بذلك، وأتأسف على تنكب أمثالك؛ والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد.
[رسالة من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى عبد العزيز بن إبراهيم]
وقال أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم عبد العزيز بن إبراهيم بن عبد اللطيف، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فنحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على عافيته، جعلنا الله وإياك من أهل العافية في الدنيا والآخرة؛ وتذكر أن بعض الناس ينكر ما نسب إلى ابن منصور، من عداوة الدين، وموالاة المشركين، ومسبة أئمة المسلمين، وجعلهم من الخوارج المارقين; وهذا أظهر شيء عند من عرف حال هذا الرجل وجالسه، ونظر في كلامه؛ فإنه يبديه كثيرا لجلسائه، ويذكره في رسائله ومصنفاته، وهوامشه التي يعلق.
والرجل فيه رعونة تمنعه من المداراة والتقية، حتى كتابه الذي يزعم أنه شرح على التوحيد، رأيت فيه من الدواهي والمنكرات، ما لا يحصيه إلا الله؛ من ذلك قوله في الكلام على قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ،
أن ابن العربي المالكي، قال: العبادة هي موافقة القضاء والقدر; وابن عباس يقول: كفر الكافر تسبيح; هذا رأيته
بخط ابن نصر الله من أهل بلده، في كلامه على كتاب التوحيد.
ولهذه نظائر وأخوات، لا يعرفها إلا من وقف على كلامه من طلبة العلم؛ ونبرأ إلى الله أن نبهت مسلما، وأن نفتري عليه ونؤذيه بغير ما اكتسب; وإنما يظن بهذا حزب الشيطان وجنده من الجاهلين، الذين لم يستضيئوا بنور العلم.
وكتابه الذي وقفنا عليه في هذه الأيام بخط يده، نظر فيه من يعرفه يقينا، من أهل سدير: عبد العزيز بن عيبان وغيره، وعلي بن عيسى من أهل الوشم، وكثير من طلبة العلم; والعامة شهدوا بأنه خطه بيده; ومسبته فيه للتوحيد ومن جاء به، حشو بالزنبيل، وتصريحه بتزكيته أهل الأمصار، ممن عبد القباب والصالحين، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس; والشيخ واتباعه على إفراد الله بالعبادة، عنده خوارج من أهل النهروان.
ويصرح بأن الشيخ ضال مضل، وأنه أجهل من أبي جهل بمعنى لا إله إلا الله، وأنه ضل في تخطئته صاحب البردة، وأن دعاء الرسول وطلب الشفاعة منه بعد موته جائز، وأن الله ابتلى أهل نجد بهذا الرجل; بل ابتلى به جزيرة العرب; وأنه لم يتخرج على العلماء، وأن أهل الأمصار يبنون المساجد والمنار، وأنه أخذ بلدان المسلمين بيت مال له ولعياله، وأنه أتى الأمة من الباب الضيق، وهو: تكفيرها; ولم يأتها من الباب الواسع. ورد مسائل في كشف الشبهة، ومسائل في كتاب التوحيد، ومن الستة المواضع التي تكلم الشيخ عليها من السيرة; وأتى بجهالات وضلالات، ووقاحة ومسبة، لا تصدر ممن يؤمن بالله واليوم الآخر.
ومن كذب بهذا النقل، فهو مكابر معاند، جاحد للحسيات والمتواترات; والغالب أن هذه المكابرة، لا تقع من محب لما جاء به الشيخ، من توحيد الله ودينه; وإنما يذهب إليها من في قلبه مرض، يتوصل بهذه المكابرة، والمباهتة، إلى رد التوحيد وبغضه وبغض أهله؛ وأكثر هذا الصنف، ليس لهم التفات إلى ما جاءت به الرسل; والغالب عليهم هو الغفلة عن ذلك، والإعراض عنه.
وقد قال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} [سورة النجم آية: 29-30] . واقرأ هذه الرسالة على من ارتاب في أمره، وماحل وجادل في دين الله. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
[الجواب المنثور في الرد على ابن منصور وكشف حاله]
وقال أيضا الشيخ عبد اللطيف، قدس الله روحه 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فاعلم أيها الناظر إلى ما علقته في هذه الأوراق، في كشف حال أهل الشقاق والنفاق، أن عثمان بن منصور،
1 يسمى بالجواب المنثور، في الرد على ابن منصور، وسمي بذلك لما يأتي من الرد المنظوم صفحة: 333-336.
بعد مجيئه من البصرة والزبير، وطول إقامته عند مشائخه: ابن سند وابن جديد وابن سلوم، أقبل إلى نجد، فكرهه من كرهه من المسلمين، واغتر به من اغتر به، من المقدمين، لانتسابه إلى العلم، وصار الأئمة يستعملونه في بعض البلاد، لا سيما في سدير; فصار قاضيا به، ومتوليا أمورهم، في الحكم بينهم، والإفتاء، وغير ذلك.
فصار يظهر منه في تلك الحال كراهة التوحيد، ومن قام به ودعا إليه، ويكتب فيهم ما ورد في الخوارج، لزعمه أنهم خرجوا من الإسلام والسنة، لقبولهم دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، إلى إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وخالفوا المشركين، وإنكار ما وقع من الشرك الذي عمت به البلوى، في القرى والأمصار، من عبادة أرباب القبور والطواغيت، والأحجار والأشجار.
فنَزل أهل الشرك وعباد الأوثان، منْزلة الصحابة رضي الله عنهم، حيث كفرتهم الخوارج بما شجر بينهم، ونزل أهل التوحيد الداعين إلى الإخلاص والتجريد، وإنكار الشرك الأكبر، والغلو والتنديد، منْزلة من خرج على المسلمين، بالقتال والتكفير.
ويظهر منه لبعض الخاصة، من عداوته شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ما يبوح لهم به؛ وفي أعيان المسلمين من يصدق ذلك، وفيهم من لا يصدق.
فلما توفي وعرضت كتبه للبيع، وجد فيها من الطعن على
شيخ الإسلام بدعوته إلى دين الإسلام، وتأييده لمن عارض هذه الدعوة، في الشبهات والترهات، وأبلغ في الثناء والتمجيد والتأييد، لمن قام في نصرة الشرك بالله، وأن ما وقع من الشرك من الاستغاثة بالأموات والغائبين، أنه مما يحبه الله ويرضاه!!
وله منظومة: في هذا المعنى 1 بالغ فيها من المدح لداود، على ما كتبه من الشبهات والخيالات والضلالات، وجدت في كتبه بخطه; ووجدنا من اعتراضه على شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ورده عليه فيما كتبه، في تحريم موادة المشركين، وحاصله: إنكار وجود الشرك، وأن ما ذكرته أيها الشيخ، لا يوجد في الأمة من تحرم موادته أصلا.
فكابر الواقع الذي يشهد به كل أحد، ولا ينكر وجوده وعموم البلوى به، إلا بعض الأفراد الذين طبع الله على قلوبهم، وصاروا دعاة إلى النار، يستحسنون كل شرك وقبيح، وينكرون كل ما هو حق وصحيح.
ثم إنه أتانا من رجل من بريدة نسخة لابن منصور - خطه بيده - أكثر فيها السباب لشيخ الإسلام، والاعتراض عليه فيما دعا إليه من دين المرسلين، الذي افترضه الله على الخلق أجمعين; وهو: إخلاص الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، للكبير المتعال، وإنكار ما ينافي ذلك من الشرك والضلال.
فرحم الله شيخ الإسلام، فلقد أنقذ الله به من الهلاك
1 تأتي في صفحة: 331 - 333.
الخلق الكثير، والجم الغفير، وأطبق على الثناء عليه بمقامه هذا جميع أهل نجد، والحجاز وتهامة وعمان، وكثير من علماء الحرمين، ومصر والعراق والشام؛ حتى من أهل المغرب، وبلاد الروم، كلهم أو غالبهم بين من يثني على صاحب هذه الدعوة ويدعو له، ومن ليس كذلك، فلا يظهر منه إنكار.
وكثير منهم عاداه في أول هذه الدعوة، ثم رجع واعترف ; فلله الحمد على دعوته إلى هذا التوحيد، وتأييده بالنصر والظهور، على من ناوأه وناوأ أتباعه، وما ناوأهم أحد إلا وينقلب مدحورا مكسورا، إلى غير ذلك مما يطول عده، من الآيات التي جرت برهانا لصحة هذا الدين، الذي اتفقت عليه في دعوة المرسلين ; فهذا هو الذي أوجب عداوته لشيخ الإسلام رحمه الله تعالى، فسلك مسلك أشياخه الثلاثة، في عداوة التوحيد ومن دعا إليه.
ولله در العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى حيث يقول:
فلا بد لكل نعمة من حاسد، ولكل حق من جاحد ومعاند ; ثم ذكر جنس هؤلاء الجاحدين المعاندين، فقال رحمه الله تعالى: اللهم فعياذا بك ممن قصر في الحق اتباعه، وطالت في الجهل وأذى عبادك باعه؛ فهو لجهله يرى الإحسان إساءة، والسنة ذراعة والعرف نكرا، والظلمة نورا ويجزي بالحسنة سيئة كاملة، وبالسيئة الواحدة عشرا.
قد اتخذ بطر الحق وغمط الناس سلما إلى ما يحبه من الباطل
ويرضاه، ولا يعرف من المعروف، ولا ينكر من المنكر إلا ما وافق إرادته أو خالف هواه، يستطيل على أولياء الرسل وحزبه بأصغريه، ويجالس أهل الغي والجهالة، ويزاحمهم بركبتيه.
قد ارتوى من ماء آجن وتضلع، واستشرف إلى وراثة الأنبياء وتطلع، يركض في ميدان جهل مع الجاهلين، ويبرز عليهم الجهالة فيظن أنه من السابقين، وهو عند الله ورسوله والمؤمنين، عن تلك الوراثة النبوية بمعزل.
وعياذا بك ممن جعل الملامة بضاعته، والعذل نصيحته، فهو دائما يبدي في الملامة، ويعيد ويكرر على العذل، فلا يفيد ولا يستفيد؛ بل عياذا بك من عدو في صورة ناصح، وولي في مسلاخ بعيد كاشح، يجعل عداوته وأذاه حذارا وإشفاقا، وتنفيره وتخذيله إسعافا وإرفاقا.
وإذا كانت العين لا تكاد إلا على أمثالهم تفتح، والميزان بهم يخف ولا يرجح، فما أحرى اللبيب بأن لا يعيرهم من قلبه جزءا من الالتفات، ويسافر في طريق مقصده بينهم سفره إلى الأحياء بين الأموات وما أحسن ما قال القائل:
وفي الموت قبل الموت موت لأهله
…
وأجسامهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم
…
وليس لهم حتى النشور نشور
اللهم فلك الحمد وإليك المشتكى، وأنت المستعان وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك، وأنت حسبنا ونعم الوكيل، انتهى كلامه رحمه الله.
وعلى هذا، يكون هذا الرجل عدوا لمن قام بالتوحيد، لانطباق هذه الأوصاف عليه، ومرجعها عند التأمل إليه. وقد ابتلي شيخنا رحمه الله في ابتداء دعوته، بأناس هذا وصفهم، فمنهم من رجع، ومنهم من هلك؛ ولله الحمد والمنة على ظهور هذا الدين، وانتفاع الخلق بهذه الدعوة، وتأييد من قام بها، ودعا إليها من المسلمين.
وبقي هذا الرجل مضمرا لعداوة هذا الدين، ولمن أقر بأنه هو الحق المبين؛ فأصل عقيدته على أصل هو أفسد الأصول، وأبعدها عن المنقول والمعقول، لتضمنه الطعن والتكذيب مما أخبر به النبي الرسول، مما لا بد أن يقع في هذه الأمة، مع إلحاده في مدلول الآيات المحكمات، في بيان الشرك بأنواعه، وإيضاحه، وبيان التوحيد الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه.
فاعتقد هذا الرجل البليد، الذي صار في معتقده بين الناس كالفريد، في شدة عداوته التوحيد، فصرح بأنه لا يوجد في هذه الأمة من ينكر عليه، ولا من يهاجر عنه من أهل الشرك، حتى من كان يعبد القبور والمشاهد، ولا من هو متميز ببيان الإسلام والدعوة إليه يهاجر إليه؛ وهذا جهل عظيم وضلال مبين.
وفيما اعترض به على شيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: أنه يكفر الأمة بالعموم، وهذا من أعظم البهتان؛ فإن الأمة فيها خير القرون الثلاثة، من الذين هم على الإسلام والإيمان، ونقلوا شرائع الإسلام، وصنفوا في العلوم
النافعة والأحكام، وأخذت عنهم العلوم الشرعية، والدعوة إلى الملة الإسلامية، وفيهم أصحاب رسول الله وهم الخلق الكثير، والجم الغفير. وتبعهم على ذلك التابعون، فأظهر الله بهم نور الإسلام، وأطفأ بهم الظلم والظلام؛ فأصبحت أعلام الإسلام بهم ظاهرة، وأحكام الشريعة بهم متداولة متكاثرة، فإذا ظهرت فيهم بدعة أنكروها، وإذا استبانت لهم سنة أظهروها.
وقد قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 110]، فصاروا خير أمة بثلاثة شروط: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان بالله، وأساسه: إخلاص العبادة لله، والبراءة من عبادة كل ما يعبد من دون الله؛ وهذا الوصف معظم أهله مضوا في خير القرون.
ثم وقع في الأمة بعدها ما وقع، من الشرك والبدع، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمة بعد القرون الثلاثة، سيحدث فيها من التفرق والاختلاف، ما قد حدث، فوقع من ذلك ما هو كعين اليقين، كما قد اعترف به العلماء، عصرا بعد عصر يزداد ظهورا ويستبين، حتى استحكمت غربة الإسلام، واستبدل الأكثر الباطل بالحق، والحرام بالحلال.
وقد أنكر علماء السنة ما حدث من الشرك والبدع والضلالات، منهم: أبو الوفاء بن عقيل، وأبو شامة، وابن
وضاح، وصنع الله الحلبي، وغير هؤلاء من علماء السنة، عرفوا ما وقع في الأمة من الشرك، وأنكروه؛ فما زال في الأمة من يدعو إلى التوحيد، وينكر ما وقع من هذا الشرك.
فإذا كان الشرك والكفر قد وقع في خير القرون، فلا بد أن يقع أكثر منه في شرها، فلا تغفل عما وقع من العرب، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من خروج الأكثر من باب الإسلام، فجاهدهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخلوا من الباب الذي خرجوا منه، وقتل من قتل منهم على ردته وكفره.
وبنو حنيفة لما صدقوا مسيلمة الكذاب، في زعمه أنه نبي، فقاتلهم خالد بن الوليد رضي الله عنه بالصحابة ومن أسلم معه من العرب، واستشهد من استشهد من المسلمين، منهم زيد بن الخطاب، وثابت بن قيس، وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم. وبنو حنيفة من هذه الأمة بلا ريب وإن كفروا، وقتل مسيلمة ومحكم بن الطفيل، وصالح مجاعة خالدا على بقية بني حنيفة، فأسلموا.
ثم إن الله تعالى جمع أصحاب رسوله وكل من دخل في الإسلام، على جهاد فارس والروم؛ فأول من جاهد الفرس خالد بن الوليد، بعد قتال بني حنيفة ; وأما الروم فأمر على الجنود التي بعثت إليهم يزيد بن أبي سفيان، وأبا عبيدة بن الجراح، فما زالوا يجاهدون حتى فتح الله الشام ومصر والعراق، وما يليها، على المسلمين، وغنمهم خزائن كسرى وقيصر.
فما زال الأمر كذلك في خلافة عمر وعثمان، حتى جرى على عثمان في خلافته، ما هو مذكور في السير والتاريخ.
والمقصود: بيان كثرة أهل الإيمان، وظهور الإسلام، في تلك القرون المفضلة; فسبحان الله! أيجوز لأحد أن يكفر الأمة، وقد فضلهم الله تعالى بالإسلام والإيمان؟ !
نسبه هذا إلى شيخ الإسلام، الجواب عنه، أن نقول: سبحانك هذا بهتان عظيم! وأما دعوى هذا المفتري أن هذه الأمة لها حكم الإسلام، ولا يوجد فيها ما ينافيه، وليس فيها من تحرم موادته وموالاته لكفره وشركه، فمقتضى هذا القول نبذ الإسلام وراء الظهر، والإيمان بالطاغوت، والاختلاق المخالف للكتاب والسنة وإجماع الأمة، فإنه - والحالة هذه - قد عمي قلبه عن تصور الحق على ما هو عليه، وتصور الباطل على ما هو عليه، ولم يصدق بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من وقوع الشرك في هذه الأمة؛ فانقلب تصوره، وعاد الضرر عليه، فتعين رد قوله هذا جملة. فنبتدئ ذلك بذكر ابتداء دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.
فنقول: بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله ; فدعا قريشا والعرب إلى ما بعثه الله به، من إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وترك ما كان يعبد من دون الله، من شجر أو حجر أو ميت، حتى الأنبياء والملائكة، كما دلت عليه الآيات المحكمات.
فما أجابه إلى ما دعا إليه ابتداء أحد من قومه، سوى أبي بكر الصديق، وخديجة أم المؤمنين، وبلال بن أبي رباح، وعلي
ابن أيي طالب - وكان إذ ذاك صبيا - كما دل على ذلك حديث: عمرو بن عبسة لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره: "أن الله أرسله بكسر الأصنام، وصلة الأرحام، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء ; قال من معك على هذا؟ قال: حر وعبد" 1 ومعه يومئذ أبو بكر وبلال، فهذا حاله صلى الله عليه وسلم في مبدإ دعوته.
وكان يعرض نفسه على القبائل فيقول: "من يمنعني من أذى قومي؟ "، فلم يجبه إلى ذلك أحد في ابتداء دعوته، وعرض نفسه على أهل الطائف: ابن عبد ياليل، ومن معه من كبارهم، فأغلظوا له القول، ورموه بالحجارة، حتى أدموا قدميه وعقبيه، صلوات الله وسلامه عليه، وفي ذلك يقول أبو قيس صرمة بن أبي قيس:
ثوى في قريش بضع عشرة حجة
…
يذكر لو يلقى حبيبا مواتيا
ويعرض في أهل المواسم نفسه
…
فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا
إلى آخر الأبيات.
وقد قال فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون إذا فسد الناس، أو يصلحون ما أفسد الناس " 2، وأخبر أنهم النُّزاع من القبائل، وأن من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم؛ وكل هذا قد وقع بعد القرون المفضلة بلا ريب، كما سيأتي.
والغربة: إنما هي في معرفة ما دعا إليه من التوحيد، والنهي عن ما يضاده من الشرك ; وهذا قد صار مجهولا عند أكثر
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها 832 ، وأحمد 4/112.
2 مسلم: الإيمان 145 ، وابن ماجه: الفتن 3986 ، وأحمد 2/389.
الأمة، حتى من ينتسب إلى العلم، من المتكلمين وأتباعهم ; فلهذا وقع كثير منهم في الشرك، فعاد الإسلام في هذه الأمة غريبا كما بدأ، لعموم البلوى بالشرك، وظهوره في المشارق والمغارب، وبناء المساجد على القبور والمشاهد، وعبادتها بكل ما يعبد به الله من أنواع العبادة.
وهذا لا يقدر أحد على إنكاره، وأنه وقع في الأمة بعد القرون المفضلة، وعمت به البلوى؛ فظن الأكثر أن التوحيد إنما هو توحيد الربوبية، الذي أقر به المشركون، كما في قوله:{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إلى قوله {تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84-89]، وقوله:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} إلى قوله: {أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية:31] ، وهذا هو الذي عند الأشعري وغيره من أمثاله.
وأما توحيد الإلهية، الذي جحده مشركو قريش والعرب ابتداء، فما عرفوا التوحيد، وهو الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، فلهذا وقع الأكثر في الشرك الأكبر المنافي لهذا التوحيد، بدعوتهم الأموات في الرغبات والرهبات، والاستغاثة بهم في المهمات؛ فإذا لم ينكر العلماء هذا الشرك، ولا عرفوا الإخلاص الذي هو الدين، الذي شرعه الله للأنبياء والمرسلين، وقعوا في الشرك، وتبعهم على ذلك الخلق الكثير والجم الغفير.
وقد صنفت المصنفات في جواز هذا الشرك، كما ذكره
شيخ الإسلام عن جماعة ممن ينتسب إلى العلم، كأبي معشر البلخي، والفخر الرازي، وثابت بن قرة، ومحمد بن النعمان، وابن البكري، وابن الأخنائي وغيرهم، فلم ينكر هذا الشرك الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقع في أمته إلا الفرقة الناجية، وهم الأقلون عددا، الأعظمون قدرا عند الله وسنذكر بعضهم إن شاء الله تعالى.
وقد ذكر العلماء المصنفون، في دلائل النبوة ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من وقوع الشرك في هذه الأمة، وما تبعوا فيه اليهود والنصارى، وعدوا ذلك من المعجزات، ودلائل النبوة، كالحافظ الذهبي وغيره، وهو كذلك.
ولا ينكر ما وقع في هذه الأمة من غربة الإسلام، وما حدث من الشرك والبدع، والجهل العظيم، إلا جاهل مغفل منكوس القلب، لا يتصور الأمور على ما هي عليه؛ وهذا كثير في الأمة، كما ذكر جنسه أبو الوفاء ابن عقيل، وأبو شامة وابن وضاح، وصنع الله الحلبي، والمقريزي وغيرهم.
وقد ذكره في كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله تعالى، فقال: وقد غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر والكلام، ومن أهل الإرادة والعبادة، حتى قلبوا حقيقته ; وكل طائفة تسمي بدعتها توحيدا، كالجهمية، والمعتزلة، والفلاسفة، وأهل الوحدة، وغيرهم من أهل البدع، كما هو موجود في مصنفاتهم، انتهى.
وهذه الطائفة وفق الله شيخهم الذي دعاهم لما اختلف فيه من الحق، فعرف التوحيد الذي غلطت الطوائف في مسماه، وهو أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع، وأنكر ما ينافيه من الشرك في العبادة، الذي عمت به البلوى في جميع الأقطار.
ولهذا خصهم الله تعالى دون غيرهم من الناس، بالاسم الذي يسمي الله به المؤمنين من هذه الأمة، فلا ينصرف ذكر المسلمين إلا إليهم، من غير مواطأة ولا اصطلاح ; وإنما هو إلهام من الله تعالى، يجرى لهم على لسان الموافق والمخالف، وذلك من جملة ما يتبين به أنهم أهل الحق، فلا يوجد عندهم وثن يعبد، ولا معبود يقصد بالعبادة، إلا الله تعالى.
وقد كان أهل نجد وغيرهم قبل هذه الدعوة كغيرهم، يعبدون القبور والأشجار والأحجار والجن; ما من قرية إلا إذا اشتكى فيهم أحد، تقربوا للجن بالذبح لهم، ولا ينكر ذلك أحد منهم، بل كان من يستفتى منهم يأمرهم بذلك، والبدع فيهم أكثر؛ فبعد هذه الدعوة، زالت تلك الأمور رأسا، فلم يبق منها شيء؛ وكفى بهذا برهانا على صحة هذا الدين الذي أقامهم الله بالدعوة إليه، والجهاد عليه؛ فلا ينكر ما ذكرناه منهم إلا مباهت ضال مضل.
ونذكر ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما وقع في هذه الأمة عموما وخصوصا، من الشرك في العبادة، فمن ذلك: ما في حديث ثوبان، وهو عند مسلم وأبي داود وغيرهما، وفيه: " وإنما أخاف
على أمتي الأئمة المضلين؛ ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى يعبد فئة من أمتي الأوثان. وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي. ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله عز وجل " 1.
وعن معاوية بن أبي سفيان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم، على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا واحدة " 2 أخرجه أبو داود، وأخرجه الإمام محمد بن نصر في " كتاب الاعتصام " من طرق، وذكر العماد ابن كثير: أن هذا الحديث يروى من طرق كثيرة، تدل على صحته.
فتأمل قوله: " كلها في النار إلا واحدة "3. وكل هذا الفرق وجدت في هذه الأمة، ولله در الشاطبي حيث يقول:
وهذا زمان الصبر من لك بالتي
كقبض على جمر فتنجو من البلا
فإذا كان هذا في زمن الشاطبي، في حدود القرن السادس، فما ازداد الإسلام بعده إلا غربة، كما في حديث أنس:"لا يأتي على الناس زمان، إلا والذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم "، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم، فوقع من الغربة ما يحكي ويشبه ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم في أول دعوته، حتى إن من دعا إلى التوحيد، رمي بقوس العداوة؛ فجعلوا التوحيد عندهم أنكر المنكرات، وعبادة القبور من القربات، وهذا غاية الغربة ونهاية الكربة.
1 الترمذي: الفتن 2229 ، وأبو داود: الفتن والملاحم 4252 ، وابن ماجه: الفتن 3952 ، وأحمد 5/278 ،5/284 ، والدارمي: المقدمة 209.
2 أبو داود: السنة 4597 ، وأحمد 4/102.
3 ابن ماجه: الفتن 3993 ، وأحمد 3/120.
وقد ذكرت فيما كتبه قبل هذه، بعدما حدث من البدع في هذه الأمة كبدعة الرافضة، وما أحدثوا من البناء على القبور وتعظيمها، وبناء المشاهد، والسفر إلى عبادتها، وبذل الأموال في عمارتها، وما يتقربون به إلى سدنتها، والمجاورين لها، كما جرى من بني بويه أهل المشرق بعد القرون المفضلة، وما جرى من بني عبيد القداح بمصر، من عبادتهم لمشهد الحسين؛ زعموا أنهم أتوا برأس الحسين من عسقلان، وبنوا عليه مسجدا عظيما معروفا بالقاهرة، وأجروا له الأوقاف، وصار عندهم أعظم مسجد بالقاهرة، وما كانوا يفعلونه من عبادة أحمد البدوي وما يقع في مولده من فنون الشرك الأكبر، والفساد من بناء المساجد على قبور أهل البيت، والغلو فيها وعبادتها،
وكما يفعلون عند قبر الست زينب، والست نفيسة، وغير ذلك مما يطول عده، من الأوثان التي كانوا يعبدونها من دون الله ; وما كان يفعل عند قبر عبد القادر ببغداد وغيره، وما ذكره أبو شامة عن أهل الشام، وكل بلد قد امتلأت شركا، اللهم إلا أن يوجد من ينكر ذلك في نفسه، مما لا يطلع عليه إلا الله.
فمن الله تعالى بقيام من دعا إلى التوحيد، الذي اندرس وعفت آثاره، وأنكر الشرك الذي عم البلاد وطار غباره، وهو شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى؛ فإن الطائفة لم تزل في هذه الأمة على الإسلام والسنة، لكن تقل تارة وتكثر أخرى.
وما سمعنا بعد شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم والحافظ ابن عبد الهادي، وأصحابهم، ومن أخذ عنهم، كابن رجب، ومن في طبقتهم من أهل السنة، ممن اشتهر عنهم إنكار الشرك الذي عمت البلوى بوقوعه في هذه الأمة، فإنهم أبطلوا ما أبداه أهل الشرك من الشبهات، وبينوا إلحادهم في معنى الآيات المحكمات، وضلالهم عن التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه.
فبقيت مصنفاتهم في ذلك سلاحا للموحدين، على هؤلاء المشركين الملحدين، لكنها قبل ظهور شيخنا، رحمه الله تعالى، بهذه الدعوة، كانت مهجورة لا يلتفت إليها، ولا ينظر إلى ما فيها من الحجة والبيان، والدليل والبرهان، فلعموم الجهل أنزلوها منْزلة كتب البدع عند أهل السنة.
فلما من الله على شيخنا، رحمه الله بهذه الدعوة، صارت تلك الكتب مشهورة، وظهرت أنوار الحق، وزالت ظلمات الشرك بالحجج والبراهين، وطلب أهل التوحيد أدلته في مظانها، من كتب العلماء الأعلام، كتفسير أبى جعفر بن جرير، رحمه الله، وتفسير العماد بن كثير، وأمثالهما.
ففيها من بيان التوحيد، ونفي الشرك ما يشفي العليل ويروي الغليل، مما لا يجهله إلا من عميت بصيرته، وفسدت سريرته، وأشرب الشرك في قلبه، كأمثاله ممن مضى من أعداء الرسل، الذين كذبوهم، مع ظهور الآيات، والبراهين
والمعجزات ; قال تعالى: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [سورة يونس آية: 101] .
فيجب على من عرف حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنكر ما ينافيه من الشرك، وعادى في الله ووالى فيه أن يشكر الله على هذه النعمة، خصوصا إن تدبر ما في القرآن، من بيان ما جرى من الأمم المكذبة للرسل، وما جرى في هذه الأمة مما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه، من الشرك والضلال، وما جرى على النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداء دعوته.
فيا لها نعمة ما أجلها لمن عرف قدرها، ورعاها حق رعايتها، وأحبها وسر بها، ولزم العمل بها وذكرها. {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [سورة هود آية: 88] والحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، غير مكفي ولا مكفور، ولا مودع، ولا مستغنى عنه، ربنا، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
وقد ذكر العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى، حال من حرم الهدى لجهله وإعراضه، وعدم قبوله لما أنزل الله تعالى في كتابه من الهدى والعلم، فقال - بعد كلام له سبق -: والمقصود: أن الإنسان إذا لم يكن له علم بما يصلحه في معاشه ومعاده، كان الحيوان البهيم خيرا منه، لسلامته في المعاد مما يهلكه، دون الإنسان الجاهل.
ومن جهل هذا الرجل، وشدة ضلاله أنه لما ذكر قول
شيخنا، رحمه الله تعالى، على قوله صلى الله عليه وسلم:" من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله " 1 إلى آخره، قال شيخنا: فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده، بل لا يحرم ماله ودمه، حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو تردد لم يحرم دمه وماله ; فقال هذا المخذول الضال: واغوثاه من هذا الكلام!!.
فالجواب، أن نقول: إن من له أدنى مسكة من عقل، يعلم أن هذا الكلام هو معنى كلمة الإخلاص، مطابقة ووضعا؛ فإن الكلمة دلت بوضعها على شيئين، نفي الإلهية عما سوى الله تعالى، نفيا عاما في حق كل معبود سوى الله، وهذا هو الركن الأول من ركني كلمة الإخلاص; الركن الثاني، قوله: إلا الله، فهو المخصوص بالإلهية دون كل ما سواه.
والركن الأول هو الذي منع مشركي قريش والعرب من التلفظ بها، لأنهم أهل اللغة، ويعرفون مدلول الكلام ; فلو تكلموا بها للزمهم أن يتركوا عبادة ما كانوا يعبدونه من الأصنام والأوثان، فتركوا التلفظ بما يلزمهم به من ترك دينهم، فلم ينفوا الإلهية عما كانوا يعبدونه من دون الله، فلذلك تركوا التلفظ بها.
وأما مشركو آخر هذه الأمة، فجهلوا معناها فتلفظوا بها، مع عدم نفيهم لما نفته من الشرك بعبادة الأوثان والأصنام،
1 مسلم: الإيمان 23 ، وأحمد 3/472 ،6/394.
الذي عمت به البلوى في هذه الأعصار والأمصار؛ ولا ينكر وقوعه إلا من أعمى الله قلبه، وأطفى نور بصيرته بالكلية. وكلام شيخنا هذا في معناها كلام بليغ حسن فصيح مبين، ظاهر، مستوف للمعنى الذي دلت عليه كلمة الإخلاص بكماله؛ وهو معلوم من الدين بالضرووة، وهو أصدق الكلام في معنى الكلمة مع اختصاره، وقد ذكر من معناها فيه، ما ذكره بعض العلماء في جزء، كابن رجب وغيره.
ومن المعلوم: أنه لو شك فيما نفتة لا إله إلا الله، من إلهية غير الله، أو تردد، لم يكن نافيا لما نفته، كما قال تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [سورة البقرة آية: 256] الآية؛ بين تعالى أنه لم يستمسك بلا إله إلا الله، إلا إذا كفر بالطاغوت، وهو ما زينه الشيطان من عبادة غير الله، كما ذكره ابن كثير وغيره من المفسرين؛ ونظائرها في القرآن كثير، كقوله تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] ، وغير ذلك من الآيات المحكمات.
وغاية هذا الرجل: أنه أنكر المعقول والمنقول، ولم يعرف التوحيد الذي بعث الله به كل نبي وكل رسول، ويظن أن التوحيد هو نصرة الشرك والضلال، واعتقاد صحة ما عليه الطغام والجهال، ومن ضل من أرباب البدع والضلال؛ فلا ينكر وقوع ذلك إلا من أشرب قلبه الباطل، فلم يجد الحق فيه مساغا; ولهذا أنكر أصدق الكلام وأبينه، الذي فيه معنى كلمة الإسلام
بالمطابقة التي هي أبلغ من دلالة التضمن والالتزام.
فحاصل أمره: مخالفة المنقول والمعقول، وعدم قبول ما أخبره به النبي الرسول، ولو عقل لكفاه ما أسنده جابر بن عبد الله ورواه، حيث قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا، وسيخرجون منه أفواجا " 1 رواه الإمام أحمد، ونقله العماد ابن كثير، على قوله:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [سورة النصر آية: 1] إلى آخر السورة.
فكابر هذا وماحل، وكذب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: لم يخرج من الإسلام أحد ; وقال في شرحه: وكفر الكافر تسبيح ; فجعل الكفر كالإيمان، ولم يعتقد كونهما نقيضين. فسبحان من طبع على قلوب من شاء بعلمه وحكمته، ووفق لمعرفة دينه من شاء من عباده، بفضله ورحمته، فالحمد لله الذي جعل نار أعداء الشيخ في هذه الدعوة رمادا، وجعل كفرهم بغيا وعنادا.
قال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى: قال محمد بن الفضل الصوفي الزاهد: ذهاب الإسلام على يد أربعة أصناف من الناس: صنف لا يعملون بما يعلمون، وصنف يعملون بما لا يعلمون، وصنف لا يتعلمون ولا يعلمون، وصنف يمنعون الناس من التعلم.
قلت: الصنف الأول: من له علم بلا عمل، فإنه أضر شيء على العامة، فإنه حجة لهم في كل نقيضة ومحنة ; الثاني:
1 أحمد 3/343.
العابد الجاهل، فإن الناس يحسنون به الظن، لعبادته وصلاحه، فيقتدون به على جهله ; وهذان الصنفان هما اللذان ذكرهما بعض السلف، في قوله: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، فالناس إنما يقتدون بعلمائهم وعبادهم ; فإذا كان العلماء فجرة، والعباد جهلة، عمت المصيبة، وعظمت الفتنة على الخاصة والعامة.
الصنف الرابع: نواب إبليس في الأرض، وهم الذين يثبطون الناس عن طلب العلم، والتفقه في الدين، فهؤلاء أضر عليهم من شياطين الجن، فإنهم يحولون بين القلب وبين هدى الله وطريقه ; فهؤلاء الأربعة الأصناف، الذين ذكرهم هذا العالم، رحمه الله، كلهم على شفا جرف هار وعلى سبيل هلكة.
وما يلقى العالم الداعي إلى الله ورسوله ما يلقاه من الأذى والمحاربة، إلا على أيديهم، والله يستعمل من يشاء في سخطه، كما يستعمل من يشاء في مرضاته، إنه خبير بصير؛ ولا ينكشف سر هذه الطوائف، وطرائقهم إلا بالعلم، فعاد الخير بحذافيره إلى العلم وموجبه، والشر بحذافيره إلى الجهل وموجبه، انتهى.
قلت: والبصير يعلم أن ابن منصور، أشبه بالآخرين من هذه الأربعة بلا ريب، فإنه بالغ في نصرة الشرك وعداوة التوحيد، بالزور والبهتان، بكل ما أمكنه من الطغيان؛ فمن ذلك اعتذاره عن صاحب البردة، في أبياته الشركية، وهي قوله:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
…
سواك..............
فقصر اللياذ في ذلك اليوم، الذي قال الله فيه:{يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار آية: 19]، وقال:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ} [سورة غافر آية: 16]، وقال:{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [سورة النبأ آية: 38] ، فلم يعلق رغبته ورهبته في ذلك اليوم، بمن له الملك كله.
بل علقه على النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يشفع إلا إذا أذن له في الشفاعة، في خصوص أهل الإخلاص، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر: أنه " يأتي فيسجد لربه، ويحمده بمحامد يفتحها عليه، لا يبدأ بالشفاعة أولا، ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه. قال: فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة "1.
فأخبر أن الله هو الذي يحد له، فنسب الحد إليه تعالى؛ فإذا شفع في إراحة الخلق من ذلك الموقف العظيم للحساب، شفع لأهل الإخلاص في دخول الجنة، وهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهم الذين تركوا ما يكره من الأسباب، اعتماداً على الله وتوكلا عليه، فببعدهم عن الشرك استوجبوا الشفاعة لهم بدخول الجنة التي قد وعدهم بدخولها.
ثم بعد ذلك يشفع فيمن أذن الله له أن يشفع فيه، من أهل التوحيد، ممن عليه سيئات، وذلك مقيد بإذن الله ورضاه، كما قال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] .
1 البخاري: التوحيد 7510 ، ومسلم: الإيمان 193 ، وابن ماجه: الزهد 4312 ، وأحمد 3/116 ،3/144 ،3/244 ،3/247 ، والدارمي: المقدمة 52.
وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28.] .
وما لا يرضاه الله سبحانه، ولا يأذن فيه، فهو منتف، كما نفاه القرآن، كما قال تعالى:{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 51] .
وصاحب الأبيات لم يجعله في نظمه شفيعا، بل لاذ به من دون الله، واللياذ والعياذ عبادة، لأن العياذ من الشرك، واللياذ لطلب الخير، والعائذ واللائذ، كل منهما داع راج، وراغب، وهذا إذا صرفه لغير الله، فقد صرف العبادة لغير من يستحقها، وكذلك قوله:
فإن من جودك الدنيا وضرتها
…
ومن علومك علم اللوح والقلم
وكل هذا من خصائص الربوبية، لا يصلح منه شيء لملك مقرب، ولا نبي مرسل، فضلا عن غيرهما، ولا يصلح إلا لله. فسبحان الله! كيف تعظم هذه الأبيات وتقبل وهى منافية للتوحيد؟! وقد قال تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [سورة الرعد آية: 14] وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 20] .
والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه إنما يدعو ربه وحده، فكيف يجوز أن يعامل بما لم يشرعه، ولا يرضاه؟! بل اشتد نهيه عما هو دون ذلك بأضعاف، كقوله:"لا تطروني"، وقوله لمن قال: ما شاء الله وشئت: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده "1.
فتبين أن صاحب البردة قد جعل لله ندا في عبادته، في
1 أحمد 6/371.
تعلق قلبه ورغبته ورهبته بغيره؛ وهذا واضح بحمد الله لمن له بصيرة، ونهمة في معرفة ما بعث الله به رسوله، ودعا إليه من التوحيد والنهي عن الشرك.
ثم إن ابن منصور، قال قولا أبعد شيء من المعقول، تمويها على الطغام، وتضليلا للعوام، الذين لا يميزون ما فسد من الكلام، فقال: إن محمد بن عبد الوهاب، لم يعرف من معنى لا إله إلا الله، ما عرفه أبو جهل.
قلت: وهذا بعينه هو وصف القائل، لا يعدوه بلا ريب، كما قيل: رمتني بدائها وانسلت.
وأما من عرف منها ما عرفه أبو بكر الصديق، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، من معرفة معنى الكلمة نفيا وإثباتا، والقيام بها عملا وجهادا، فشيخنا رحمه الله تعالى قد كمل هذا المقام، الذي وفق الله له سادات الصحابة الكرام، ومن تبعهم من هذه الأمة، ممن دان بالإيمان والإسلام، ودعا إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وشهد لله بما شهد به لنفسه، في قوله:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [سورة آل عمران آية: 18] ، وأنكر دين أبي جهل أشد الإنكار، وجاهد الناس على تركه، كما جاهدهم سيد المرسلين.
وأما دين أبي جهل، فقد بينه الله في كتابه، فقال تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [سورة الصافات
آية: 35] الآية،
وأبوا أن يتركوا ما نفته لا إله إلا الله، من ترك عبادة الآلهة، ونصروها حتى أثخنهم الله، فقال تعالى عنهم، لما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلي هذه الكلمة، نفيا وإثباتا:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} إلى قوله: {لَشَيْءٌ يُرَادُ} [سورة ص آية: 5، 6] .
وهذه هي طريقة ابن منصور، بل هم أعلم منه بالمعنى، وإن وافقهم في الاعتقاد، حيث لم ينكر ما كان يفعله المشركون في هذه الأزمنة، من بناء المشاهد بأسماء الأموات، وعبادة من بنيت باسمه، وكذلك بناء المساجد على القبور، وعبادتها بالتضرع إليها، وإنزال الحوائج بها، رغبة ورهبة، وخوفا ورجاء، وتوجها إليها بالوجه واللسان والأركان.
فنصر ابن منصور من قال: إنها تدعى وترجى، في كل ما يستغاث به الله، واعتقد أن أهل هذه الأوثان وعبادها، من جملة المسلمين، لأنهم يصلون ويؤذنون، وقد قال تعالى:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 88] .
فلم ينفعهم عمل مع الشرك، لكنه لم يعتقده شركا ; وهذا بعينه هو الشرك الذي اعتقده أبو جهل وأمثاله، فعبدوا اللات والعزى، ومناة وهبل، وعبدوا الملائكة أيضا والصالحين، {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] .
وهؤلاء المشركون الذي يعتقد إسلامهم، لم يقتصروا على مقالة أبي جهل في شركه، باتخاذ الأموات والغائبين شفعاء، بل أخلصوا لهم الدعاء، والافتقار والتذلل، والخضوع والتعظيم،
حتى إنه لو قيل لأحدهم على دعوى عليه: احلف بالله، سارع إلى الحلف، وأما من يدعوه من الأموات، فلا يتجاسر على الحلف به، وهو كاذب تعظيما له.
والمراد: أنهم كانوا يفعلون مع أهل الضرائح أعظم مما كانوا يفعلونه في المساجد ; فلو قيل لهم: لا يدعى إلا الله، ولا يرجى غيره، لشتموا القائل وضربوه، أو قتلوه. فهذا الرجل قد أنكر على شيخنا رحمه الله، ما أنكره أبو جهل وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم سواء بسواء، ويقول: هؤلاء مسلمون، دعهم يشركون فقد أصابوا في شركهم، وأخطأنا في الإنكار عليهم؛ وهذا هو قول كفار العرب بعينه.
والحمد لله الذي أظهر به نور التوحيد، وأطفأ به من الشرك كثيرا، في جزيرة العرب وغيرها، وأقر عين أهل التوحيد بظهوره، كما أقر عين نبينا بظهوره في حياته. فلله الحمد والمجد والثناء، لا نحصي ثناء عليه، كما أثنى هو على نفسه.
ومن عمي بصره بالكلية، لم ير للشمس نورا، وكذلك من عميت بصيرته لا يرى الحق، ولا يرى له ظهورا؛ فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. اللهم إنا نسألك الاستقامة والثبات، إلى أن نلقاك بالتوحيد الذي هو أساس الإسلام، ورضيته لنا دينا، وقد أكملته بفضلك وإحسانك، لمن وفقته للعلم بما أنزلته في كتابك، وما سنه رسولك.
وتحقيق ما ذكرناه في هذا التعليق، وتقريره، يتبين ويظهر مما ذكره العلامة ابن القيم، رحمه الله، وشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية: قال العلامة ابن القيم، رحمه الله، في "إغاثة اللهفان": وما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور، ويلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها، من محبة أصحاب القبور، من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب.
ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء به، والإقسام على الله به، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم أو يسأل بأحد من خلقه. فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى دعائه وعبادته، وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثنا تعلق عليه الستور، والقناديل ويطاف به ويستلم ويحج إليه، ويذبح عنده.
فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيدا ومنسكا، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم. وكل هذا مما قد علم بالاضطرار، من دين الإسلام: أنه مضاد لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من تجريد التوحيد أن لا يعبد إلا الله.
فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك، فقد تنقص أهل الرتب العالية، وحطهم من منْزلتهم، وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر، وغضب المشركون، واشمأزت قلوبهم، كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة الزمر آية: 45] .
وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادَوْا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم ونفروا الناس عنهم، ووالوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله، ويأبى الله ذلك؛ {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [سورة الأنفال آية: 34] . انتهى.
قلت: فتبين من كلامه أن هذه الأمور، قد وقعت في زمنه رحمه الله تعالى، فلا يجحد وقوع هذا في الأمة، إلا معاند مكابر، معاد لله ولرسوله.
وقال شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى: والذي يجري عند المشاهد من جنس ما يجري عند الأصنام؛ وقد ثبت من الطرق المتعددة أن ما يشرك به من دون الله، من صنم ووثن أو قبر، قد يكون عنده شياطين تضل من أشرك به، وأن تلك الشياطين يقضون بعض أغراضهم، إنما يقضونها إذا حصل منهم الشرك، والمعاصي ; ومنهم من يأمر الداعي أن يسجد له، وقد ينهاه عما أمره الله به من التوحيد والإخلاص.
وقد وقع في هذا النوع كثير من الشيوخ الذين لهم نصيب من الدين والزهد والعبادة، لعدم علمهم بحقيقة الدين الذي بعث الله به رسله، طمعت فيهم الشياطين حتى أوقعوهم فيما يخالف الكتاب والسنة.
قلت: وهذا الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، قد عمت به البلوى قبل ظهور هذا الشيخ بلا ريب، فبلغ من التوحيد وبما وقع من الشرك في هذه الأمة أن أنكروا التوحيد ونصروا الشرك، مثل ما ظهر من حال عثمان بن منصور كما ترى في مبالغته في إنكار الدعوة إلى التوحيد، ونصرته لأهل الشرك على شركهم.
نعوذ بالله من زيغ القلوب، ورين الذنوب على القلوب. {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [سورة آل عمران آية: 8] وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
وقد جازف في عداوته لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، وبالغ في الكذب والزور، وذكر عنه رحمه الله ضد ما كان متصفا به، من كمال العلم والفهم، والقوة في أمر الله، ومعاني كلام الله وكلام رسوله، واشتغاله بعلم التفسير والحديث، واعتماده على ما صح وثبت واشتهر، فصار علما لأهل الإسلام والإيمان، يرجع إليه في معاني السنة والقرآن ; فقال هذا العدو البغيض من الأكاذيب الكبار ما يكذبه كل عاقل مختار من صديق وعدو بعيدا كان أو جارا.
فقال - وحسيبه الله -: وكفى أنه لم يأخذ ما ذهب إليه عن العلماء، ولم يجلس عند عالم يتعلم منه، وأن أباه نهاه عما بدر منه من ترهات، وقال: ويل للناس منك! وأن أهل البصرة
أخرجوه، ثم نهاه أخوه، وأن أتباعه لو طلبت منهم طريقا يتصل بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يجدوها، وأنهم لم يعرفوا ذلك، وأنهم يأخذون عن: حدثني قلبي عن ربي، ونحو هذه الأكاذيب؛ فلو ناقشناه عن جميع ما قال، لاستدعى تطويلا، ولكنا نذكر ما لا بد منه.
فأما قوله: وأن أباه نهاه عما بدر منه من ترهاته، فما أعظم هذه الكلمة في حق هذا الكذوب! من تسميته ما دعا إليه من دعوة الرسل ترهات. الله أكبر! ما أعظمها من زلة وما أكبرها من ضلة!
وأما قوله: إنهم يأخذون عن حدثني قلبي عن ربي، فما أكذبه!
فإنما يأخذون بحمد الله من الآيات المحكمات، وأحاديث الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، وهذا لا ريب فيه بحمد الله؛ وهو إنما يحدثه قلبه عن إبليس وجنوده، زين له عداوة التوحيد، ومحبة الشرك والتنديد، ورد الحق بما أمكنه، ونصرة الباطل بالكذب والبهتان، على أهل العلم والإيمان.
وأما قوله: إنه لم يأخذ ما ذهب إليه عن العلماء، فذلك {فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [سورة الحديد آية: 21] ؛ وكثير من العلماء والمجتهدين لم يأخذوا كل علومهم عمن رووا عنهم، وأكثر علومهم مما يفتح الله عليهم، من الفهم في كتاب الله، وسنة رسوله. فكم من عالم يختار خلاف
ما اختاره شيخه، وكثير من العلماء يكون أفضل في العلوم من شيوخه، هذا أمر معلوم لا ينكر.
وأما قوله: ولم يجلس عند عالم، فهذا من جملة أكاذيبه، وما يدريك يا ابن منصور عن حاله وعمن أخذ عنه؟ وقد ذكرنا رحلته في طلب العلم إلى البصرة، ثم إلى الأحساء، ثم إلى المدينة المنورة، وجلوسه، وما يورده عليهم فيما خالفت فيه مذاهبهم أهل السنة والجماعة، وحدث رحمه الله تعالى: أنه لم يجد أحدا على مذهب الإمام أحمد في هذه الأماكن، إلا عبد الله بن فيروز في الأحساء ; وأخذ علم الحديث عن علماء المدينة كمحمد حياة السندي، وكان يروي كتب الحديث عنه وعن غيره.
ولا ينازع في رسوخه في فنون العلم، وما دل عليه الكتاب والسنة، إلا عدو مماحل، يحكي عن الأحوال بأضدادها ; ولشيخنا رحمه الله كتب تنبئ عن رسوخه في العلم، كاستنباطه على القرآن، وكتاب التوحيد الذي لم يسبقه إلى مثله أحد؛ فلو أن بعض العلماء الراسخين، رام أن يجمع ما أودعه شيخنا في هذا الكتاب من الأحاديث، والآثار، من الصحاح والسنن، والمسانيد وغيرها، لأعجزه ذلك مع حسن الاستدلال، والتراجم.
وقد بلغت رسائله في التوحيد إلى الأمصار، وردوده على من عارضه من الأشرار، فتلقاها العلماء بالقبول والتسليم
لصحتها، وحسن وضعها، فصارت تباع بغالي الأثمان، في مصر والشام وغيرها؛ وهذا مما لا يجهله من عرفه.
وأما قوله: وإن أباه قد نهاه، فهذا من جملة أكاذيبه، فلو كان قد نهاه لكان العيب في ذلك على الناهي لا على المنهي، لأنه لم يقل لهم إلا: اعبدوا ربكم، أطيعوا ربكم. وكذب على أهل البصرة بقوله: أخرجوه قاتله الله، {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ} [سورة النحل آية:105] . وقد نهاه عن ذلك من هو أعظم من أبيه، كأكابر علماء الأحساء وغيرها، فما زاده نهيهم إلا ظهورا لما نهوه عنه، وجهلا لهم في الدين الذي رضية لهم ربهم.
وأما قوله: ثم نهاه أخوه; فلم يحك هذا على وجهه، بل أدرجه في الكذب ; فإن أخاه سليمان تابعه على هذا الدين عددا من الأعوام والسنين، فاتفق له بعد ذلك ما أوجب فتنته ; ولأن أهل حريملاء الذين كان إماما لهم استفزهم الشيطان بكراهتهم للجهاد، لما طلب منهم أن يجاهدوا من أنكر التوحيد، فتابعهم سليمان على فتنتهم فشرد إلى مجمعة سدير.
وبعد هذا، أقر واعترف، واستعظم ما بدر منه من العداوة والجهل بالتوحيد ; فإنهم قد وقفوا له على رسائل في حال فتنته تنبئ عن ارتيابه، ثم آل أمره إلى التوبة، وكتب في ذلك رسالة ذكرناها بلفظها، في ردنا على ابن منصور، وقد شهد له بأنه دعا إلى الحق، ونهى عن الباطل الخلق الكثير، والجم الغفير
من العلماء والعقلاء، مما لا يتسع هذا المختصر لعدهم، لكن نذكر بعضهم على وجه التمثيل منهم محمد بن إسماعيل، وأولاده وأصحابه.
وأشعاره ومصنفاته في هذا موجودة ; ومنهم النعيمي، رد على من تعرض هذا الشيخ برد حسن، أبلغ فيه ونصح ; ومنهم أبو بكر حسين بن غنام عالم الأحساء؛ وفي الشام جماعة، ومصر جماعة، وفي العراق كذلك؛ ووصلت دعوته إلى الهند والصومال، والأفغان، حتى بلاد الروم والمغرب، وكثير من الناس أقبلوا على قبول هذه الدعوة.
وأنت يا ابن منصور أدبرت على قرب الدار، والأمر أظهر من أن يومى إليه ويشار {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} [سورة الرعد آية: 42] . فاعتبر يا من نصح نفسه ما جرى على الرسل ممن كذبهم، فرموهم بالجنون والسحر والكهانة، كما قال تعالى:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [سورة الذاريات آية: 52]، وقالوا:{إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [سورة النحل آية: 103]، وقالوا:{أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [سورة الفرقان آية: 5] ، إلى غير ذلك من آي القرآن المبين.
فلا تخلو الأمة من أمثال هؤلاء المكذبين، الذين دفعوا الحق بالباطل والزور، {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [سورة البقرة آية: 210] ، و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [سورة الأنعام آية: 1] . وصلى
الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
ولما وصل إلى نجد "مصنف" داود بن جرجيس، في تقرير استحباب دعاء الصالحين من أهل القبور، والاستغاثة بهم، وما اشتمل عليه من الشبه والضلالات، التي يسميها بزعمه حججا وبينات، يرد بها ما دل على عبادة الله وحده لا شريك له، وتجريد التوحيد له، ويسب أهل الإسلام وعلماءهم؛ وقد ملأ مصنفه من الإلحاد والتحريف، والحكايات الضالة، التي هي نوع حكايات النصارى وجهالهم، ومن جنس ما يحتج به الجاهلية من مشركي العرب، إلى غير ذلك من أباطيله.
وقد رد عليه من انتصب لنصر المرسلين، وبيان تحريف الضالين، وانتحال المبطلين، منهم الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، وابنه الشيخ عبد اللطيف، وغيرهما، مطولا ومختصرا ; فأرغم الله به أنوف المنافقين، وغصت به حلوق الضالين.
أنشأ عثمان بن منصور منظومة ضالة، أثنى فيها على هذا الملحد، ومدح طريقته والتوجد على لقائه، وحثه وتحريضه على مسبة أهل الإسلام وعلمائهم، والرد عليهم، وتسميتهم خوارج وجبرية، وهذا نصها، قال:
خليلاي هلا تنظراني لحاجة
…
أقيما فواقا من نهار كما البدر
حتى تنقضي الحاجات مني رسالة
…
إلى الجسر من بغداد بالود واليسر
لرد رسوم يستضاء بضوئها
…
تفوح عبيرا من أصداغها الشقر
بها بينات واضحات من الهدى
…
تحطم منهاج الخوارج الصغر
وتفصح عن عوب الطغام بمازق
…
من الجيش فرسان الدلائل كالبحر
أتينا بها نحت الحديد بمبرد
…
على جاهل يهذي بقول ولا يدري
يؤول آيات الكتاب على الذي
…
ينادون بالإخلاص والعمل البر
تشعشع أنوارا من الوحي رائقا
…
مطرزة بالوشي سابغة الأزر
ومنبعها بيت النبوة يا لها
…
صواعق رعد تقذف بالصخر
تأملتها سبرا لها فوجدتها
…
جواهر وحي صافية الدر
تبارك ربى ما أجل متونها
…
وأرصفها رصفا بقاصمة الظهر
تدمدم جرف الزيغ من بعد ما علا
…
وتدحض جور الخارجي والجبر
فضيفتها مني قريضا مروق
…
على أنها الحسناء واضحة الثغر
عليها من الوحي المبين دلائل
…
يقصر عنها كل مبتدع غمر
يضل ضلال العادلين عن الهدى
…
فغم بها غم المعذب في القبر
فمني سلام رائق ما سرى الصبا
…
وما هبت النكباء أو غنت القمر
وما هطلت وبل السحاب وما زها
…
من النبت زهو القحوياني بالقطر
وما ضحكت زهر الرياض بنورها
…
وما هزت الحسناء عطفا لها تجري
وما نفحت عود الخزامى بأجرع
…
من الطل مغمور الأجارع والخمر
على سيد السادات روحي ومهجتي
…
مثير غرام الود قابل العذر
سمي نبي الله داود ليتني
…
تمليت منه الأنس في ساعة العمر
إلى جده جرجيس بالأصل ينتمي
…
لبنت رسول الله عالية الخدر
من الخل عثمان التميمي قريضها
…
على نقض زيغ من طغام أصدى وكر
سرت من ربى نجد تجر ثيابها
…
مغطرفة الأرداف كالنقا المثري
بأزكى صلاة للنبي مضاعف
…
مع الآل والأصحاب ذي العز والفخر
فدم واستقم ما عشت قامعا
…
لشيعة جند النهروان ذوي الغدر 1
فرد عليه علماء نجد، منهم الشيخ: عبد الرحمن بن حسن وتقدم. 2
وهذا جواب الشيخ: عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن، رحمهم الله:
على وجهها الموسوم بالشوم والغدر
…
شمائل زيغ لا تزال مدى الدهر
فإن سودتها كف بغي وغادر
…
فأقلامنا بالرد أنهارها تجري
رسالة مختال تجر ذيولها
…
إلى مهمه قفر من العلم والذكر
هدية عثمان إلى شر صاحب
…
إلى الجسر من بغداد بالود واليسر
مؤيدة حزب الضلال وشيعة
…
إلى درك النيران أعمالها تسري
بها من صريح الإفك أخبث مورد
…
وإن ظنها الجهال من خالص التبر
رأيت بها ما يستباح بمثله
…
على ناظم سل المهند والسمر 3
فتعسا لها منظومة ما أضلها
…
وأبعدها عن منهج الرشد والبر
أيوصف بالإيمان يا عابد الهوى
…
دعاة إلى باب الجحيم وما تدري
فما أحوج الإنسان في أمر دينه
…
إلى ناصح والصمت أجدر بالحر
أترضى بأن يدعى حسين وخالد
…
وزيد وما يدعى مع الله في العسر
وتنصر قوما يعدلون بربهم
…
مجاهرة في كل بر وفي بحر
1 "ن" لشيعة نجد والنهروان والجبر.
2 في الجزء الحادي عشر ص: 512 - 533، وص 55 و 576.
3 "ن" المهندة البتر.
ترى كل موتور ينادي وليجه
…
ويسأل ما لا يستطاع من الأمر
يرون صوابا من سفاهة رأيهم
…
مناشدة الأموات من ساكني القبر
إذا شب حرب لا ينادى وليدها
…
ودارت على كره بقاصمة الظهر
وفر على أعقابه كل فارس
…
وضاقت بها في حجرها ربة الخدر
وإن غشيهم موج من اليم زاخر
…
وجاشت على علاتها أنة الصدر
فما يرتجى في كشف ذاك وحله
…
سوى مشهد بألطف في ساحة القبر
وما تربة الجيلي إلا مناتهم
…
ومعقلهم في كل كرب وفي يسر
ينادونه سرا على بعد داره
…
أغثنا أغثنا بالإجابة والنصر
ويرجونه في كل أمر وحادث
…
على أنه كنْز المواهب والذخر
وإخوانهم في الغي أضحى مقيلهم
…
ومجمعهم عند المشاهد في مصر
بدف ومزمار ونغمة شادن
…
مع الرقص بالأرداف في الصحو والسكر
وإن شئت أصل الدين تلقاه عندهم
…
لأربابهم تحت الصفائح والصخر
دعاء وذبح واستغاثة عابد
…
وإخبات ذي فقر وإلحاح ذي عسر
وفي كل مصر مثل مصر وما الذي
…
ذكرت بأقصى ما لدى القوم من كفر
أما جعلوا أمر التصاريف ينتهي
…
إلى سبعة جحدا لما خط في الذكر
وهذا لعمري في الضلالة غاية
…
ومن دونها قول المثلث في السبر
فأين خطاب الأنبياء وقومهم
…
وما قد جرى في معرض الأمر والنذر
وأين تقارير الجهابذة الأولى
…
لنا نقلوا نص الشريعة كالدر
وأين إلى أين الذهاب وكلما
…
على ظهرها يأتيك بالخبر الخبر
حنانيك رب العرش من أن يغرني
…
كما غرهم ضرب من الزور والهذر
وأين تصانيف المذاهب والذي
…
تقرر في أبوابها واضح السطر
يعدون كفرا دون ذا ولديهم
…
من الله برهان يلوح بلا نكر
على الرغم من أنف المكارم والعلا
…
يهاجي إمام الدين نادرة العصر
فيا ويحه إن لم يباشره رحمة
…
وعفوا وإلا فالمصير إلى حر
تراه لأهل الحق أضحى معاديا
…
على غير ذنب أحدثوه ولا غدر
سوى منهج قد أوضحوه وقرروا
…
أدلته بالنص والسنن الغر
وقولهم للخلق نصحا ورحمة
…
أنيبوا إلى رب السماوات بالشكر
ولا تعبدوا غير المهيمن إنه
…
مليك جليل قد تفرد بالأمر
فإن كان هذا عنده الزيغ والهوى
…
ودين فريق النهرواني والجبري
فما صدقت تلك الدعاوى وعودها
…
وقد خاب مسعاها فوا ضيعة العمر
على هضبات الشعب من أيمن الحمى
…
سلام مشوق لا على جانب الجسر
كروض كساه الوبل وشيا ملونا
…
يباكره سحا وأمطاره تجري
ترى ظبيات القاع في ظل نبته
…
يروعها نفح الشمال إذا تسري
كأن مرور الريح من فوق زهره
…
صرير سهام نبلها أبدا يفري
ففي روضها والشعب أشلاء عالم
…
أضاءت له الأخرى بكوكبها الدر
وقد كان منهاج الشريعة طامسا
…
وأعلام أصل الدين في ساحة الجر
فجرد عزما لا يضاهى بمثله
…
وقام قيام الليث في عزمة الصقر
فزالت بهذا الشيخ عنها غياهب
…
وعادت كما قد كان في سالف العصر
تجر به نجد ذيول افتخارها
…
إلى منهل صاف من الشرك والكفر
عليه من المولى الكريم تحية
…
يباشره روح الرياحين والزهر
وخير صلاة الله ثم سلامه
…
على سيد السادات خاتمة الشعر
ورد عليه أيضا الشيخ: ابن مشرف وغيره
[رسالة من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى محمد بن عمير في بيان ما تضمنه كتاب جلاء الغمة]
وله أيضا رحمه الله:
بسم الله الرحمن لرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى محمد بن عمير، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
وصلتنا خطوطك ومنظومتك، والله سبحانه وتعالى المسؤول أن يمن علينا وعليك بمعرفة الحق بدليله، والدعوة إلى الله وإلى سبيله، وتعرف أنا رأينا من أجناس المعاندين، وأعيان المشركين خلقا كثيرا، ولم ير مثل هذا المفتون في جهله وضلالته، وشناعة معتقده ومقالته.
وقد رأيت كتابه الذي سماه "جلاء الغمة"، ورأيت حشوه من مسبة دين الله، والصد عن سبيله، والكذب على الله وعلى رسوله، وعلى أولي العلم من خلقه، وأئمة الهدى، ما لم نر مثله للمويس، وابن فيروز، والقباني وأمثالهم ممن تجرد لعداوة الدين، ومسبة مشايخ المسلمين.
فابتدأ مصنفه بمسبة الشيخ، وأن الله ابتلى به أهل نجد، وجزيرة العرب، وأنه كفر الأمة عامها وخاصها، وجعل من يبني المساجد ويرفع المنار مشركين أصليين، وأن قوله يتناقض، وأنه أخذ أموال المسلمين، وجعلها فيئا له ولعياله، وأن
خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وخطاب الموتى، بطلب الشفاعة وغيرها من المطالب، ليس بشرك؛ ويستدل على ذلك بأحاديث موضوعة، وحكايات مكذوبة.
ويزعم أن من له الشفاعة يوم القيامة، يجوز دعاؤه وطلبه في هذه الحياة الدنيا، ويسوغ التوجه إليه، وأن صاحب البردة قد أحسن وأصاب، ويستدل من جهله على ذلك بأنه رواها عن فلان وفلتان، وهيان بن بيان، وابن حجر وابن حيان، ونحو ذلك من طوائف الشيطان، ويرد بمثل هذا نصوص السنة والقرآن، نعوذ بالله من الجهل والحمق والخذلان؛ وكأن الرجل من رجال الجاهلية الأولى، لم يأنس بشيء مما جاءت به الأنبياء، ولم يدر ما كان عليه السلف الصالح والأولياء.
ويحتج على بطلان دعوة شيخنا بأن بلاده بلاد مسيلمة الكذاب، ولم يدر أنه عاب بذلك أهل الإسلام، ممن سكن مصر والشام والعراق، والحرمين وسائر البلاد الإسلامية، التي سكنها من نازع الله في الربوبية والإلهية.
فيا ويحه إن لم تداركه توبة
…
لسوف يرى للمجرمين مرافقا
وله من ركاكة القول، وفهاهة الخطاب، وعدم المعرفة بقواعد الإعراب، ما يوجب تشبيهه بسائمة الأنعام، وثور الدولاب وقد حررت إليك بهذه البطاقة، لتقرأها على الخاصة والجماعة، وتنذر من سمع شيئا من مقالته، أن يغتر بجهالته وضلالته؛ {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [سورة الأحزاب آية: 4] .
[رسالة من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى محمد بن عمير يعاتبه فيما بلغه عنه]
وله أيضا: صب الله عليه من شآبيب بره ووالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى عبد الله بن عمير، سلام على عباد الله الصالحين.
وبعد: فقد بلغنا ما أنت عليه، أنت ومن غرك وأغواك من مسبة مشايخ المسلمين، والقدح فيما هم عليه من العقيدة والدين، ونسبتهم إلى تكفير المؤمنين والمسلمين.
وقد عرفت أني لما أتيتكم عام أربع وستين، بلغني أنك على طريقة من ينتسب إلى الأشعري، من تلامذة الجهمية الذين جحدوا علوه تعالى على خلقه، واستواءه على عرشه، وزعموا أن كتابه الكريم الذي نزل به جبرائيل، على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم عبارة أو حكاية عما في نفس الباري، لا أنه تكلم به حقيقة وسمع كلامه الروح الأمين، وكذلك بقية الصفات التي ذهب الأشاعرة فيها، إلى خلاف ما كان عليه سلف الأمة وأئمتها.
ونقل عنك ما كنت تنتحله، من تصحيح العقود الباطلة في الإجارات، وشافهتك في البحث عن بعض ذلك، فاعتذرت وتنصلت وطلبت الكف عن هذه المادة، وأنك لا تعود إلى شيء من ذلك، فجريت معك بالسيرة الشرعية، في الكف عمن أظهر الخير والتزمه، وترك السرائر إلى الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وقد بلغنا عنك، بعد ذلك أنك أبديت لأخدانك وجلسائك شيئا مما تقدمت الإشارة إليه، من السباب والقدح، لا سيما إذا خلوت بمن يعظمك، ويعتقد فيك، من أسافل الناس، وسقطهم الذين لا رغبة لهم فيما جاءت به الرسل، من معرفة الله، ومعرفة دينه وحقه، وما شرع من حقوق عباده المؤمنين.
وقد عرفت يا عبد الله أن من باح بمثل هذا، وأظهر ما انطوى عليه من سوء المعتقد، وطعن في شيء من مباني الإسلام، وأصول الإيمان، فدمه هدر، وقتله حتم.
وقد حكى ابن القيم رحمه الله تعالى، عن خمسمائة إمام من أئمة الإسلام، ومفاتيه العظام: أنهم كفروا من أنكر الاستواء، وزعم أنه بمعنى الاستيلاء، ومن جملتهم إمامك الشافعي رحمه الله، وجملة من أشياخه، كمالك وعبد الرحمن بن مهدي، والسفيانين، ومن أصحابه، أبو يعقوب البويطي والمزني، وبعدهم إمام الأئمة ابن خزيمة الشافعي، وابن سريج وخلق كثير.
وقولنا: إمامك الشافعي مجاراة للنسبة ومجرد الدعوى، وإلا فنحن نعلم أنك بمعزل عن طريقته في الأصول، وكثير من الفروع، كما هو معروف عند أهل العلم والمعرفة.
وأما تكفير من أجاز دعاء غير الله، والتوكل على سواه، واتخاذ الوسائط بين العباد وبين الله في قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم، وإغاثة لهفاتهم، وغير ذلك من أنواع عباداتهم،
فكلامهم فيه، وفي تكفير من فعله أكثر من أن يحاط به ويختصر; وقد حكى الإجماع عليه غير واحد ممن يقتدى به، ويرجع إليه من مشايخ الإسلام وأئمته الكرام.
ونحن قد جرينا على سنتهم في ذلك، وسلكنا مناهجهم فيما هنالك، لم نكفر أحدا إلا من كفره الله ورسوله، وتواترت نصوص أهل العلم على تكفيره، ممن أشرك بالله وعدل به سواه ; أو عطل صفات كماله، ونعوت جلاله، أو زعم أن لأرواح المشايخ والصالحين تصرفا وتدبيرا مع الله؛ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وقد رأيت ورقة، فيها الطعن على من دعا الناس إلى توحيد الله، وما دلت عليه كلمة الإخلاص من الإيمان به، والكفر بالطواغيت، وبعبادة سواه تعالى.
وفيها ذم من قرر للناس أن دعاء مثل علي والحسين والعباس، وعبد القادر وغيرهم، ممن يدعى مع الله، هو الشرك الأكبر البواح الجلي، الذي لا يغفر إلا بالتوبة، والتزام الإسلام. وقرر أن هذا ونحوه هو ما كانت عليه العرب، في عبادتها الملائكة والأوثان والأصنام، قبل ظهور الإيمان والإسلام.
وفي ورقة المشبه المبطل: أنكم كفرتم خير أمة أخرجت للناس، وقصده هؤلاء المشركون؛ وزعم أنهم هم الأمة الوسط، وأنهم صفوف أهل الجنة، وأنهم عتقاء الله في شهر الصيام، وأن من كفرهم فقد كفر أمة محمد، لأنهم يتكلمون بالشهادتين.
وهذا الكلام من أوضح الأدلة وأبينها على ضلال مبديه، وسفاهة ملقيه، وأنه أضل من الأنعام ; ويكفي في رده مجرد حكايته، فإن الفطر السليمة تقضي بردّه وبطلانه، والأدلة من الكتاب والسنة والإجماع: تدل على أن قائله عدو للنصوص، والفطر، والعقل، والنظر.
ولا يبعد أنه تلقّاه عن مثلك، ووصل إليه من أبناء جنسك، وما أظن اجتماعك بهذا الضرب من الناس، إلا على هذا وجنسه، من الشبهات، والجهالات التى حاصلها: القدح في أصول الإيمان، وعيب أهله وذمهم، و {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [سورة الأنعام آية: 67] .
وهذه الشبهة، يعرف فسادها كل من كانت له ممارسة في العلم، وإن قلت ; فإن لفظ الأمة مفرد مضاف، يقع على المستجيب المهتدي، ويقع أيضا على المكذب المعاند ; فالأول كقوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [سورة آل عمران آية: 110] .
وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [سورة البقرة آية: 143] .
وقوله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [سورة الأعراف آية: 181] .
وفي الحديث: " أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله " 1، وفيه:" إن أهل الجنة مائة وعشرون صفا، هذه الأمة منها ثمان ون " 2 فهذا ونحوه يطلق، ويراد به المؤمنون والمسلمون.
وقد يطلق هذا اللفظ، ويتناول المكذبين والضالين، كما
1 ابن ماجه: الزهد 4288 ، وأحمد 4/447.
2 الترمذي: صفة الجنة 2546 ، وابن ماجه: الزهد 4289 ، وأحمد 5/347 ، والدارمي: الرقاق 2835.
في قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [سورة النحل آية: 36] ، فأطلق الأمة على الفريقين، وتناول لفظها الحزبين، وكذلك قوله تعالى:{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [سورة فاطر آية: 24] ، وقع الاسم على من أجاب النذير ومن عصاه.
وقوله في خصوص هذه الأمة: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً?يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} [سورة النساء آية: 41-42] ؛ فالإشارة في الآية إلى هذه الأمة، وقد نص على أن منهم من كفر وعصى.
وكذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [سورة النحل آية: 84]، وقوله:{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ} [سورة النحل آية: 89]، وقوله:{وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الآيتين [سورة الجاثية آية: 28] ؛ فانظر إلى ما دلت عليه الآيات من التقسيم، إن كنت ذا عقل سليم.
وفي الحديث: " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة؛ كلها في النار إلا واحدة "1. وفي الحديث
1 الترمذي: الإيمان 2640 ، وأبو داود: السنة 4596 ، وابن ماجه: الفتن 3991 ، وأحمد 2/332.
" والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار " 1، وفيه:" القدرية مجوس هذه الأمة " 2، وخرج ابن ماجه عن ابن عباس وجابر:" صنفان من أمتي، ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية "3.
إذا عرفت هذا، فاعلم أن نفس الآية الكريمة، التي يوردها المبطل، وهي قوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [سورة آل عمران آية: 110] ، فيها الدليل الكافي، والبرهان الشافي، على إبطال قول المشبه المرتاب، ورد شبهته.
فإن الخطاب في هذه الآية مخصوص بأهل الإيمان، الذي أصله ورأسه معرفة الله وتوحيده، وإخلاص العبادة له، وهو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص؛ ومن عدا هؤلاء ليس بداخل في أصل الخطاب، بل هو ساقط من أول رتب الأعداد، كما لا يخفى إلا على من طبع الله على قلبه.
الثاني: أنه ذكر العلة والمقتضى، بقوله:{تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 110] ؛ وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بالعلة، وأحق الناس بهذا الوصف وأولاهم به: من دعا إلى توحيد الله، وخلع ما سواه من الأنداد والآلهة ; وقرر أن دعاء عبد القادر وأمثاله، هو الشرك الأكبر، الذي يحول بين العبد وبين الإسلام والإيمان، وأن أهله ممن عدل بالله، وسوى برب العالمين سواه.
بل قد وصلوا في عبادتهم المشايخ والأولياء، إلى غاية ما
1 مسلم: الإيمان 153 ، وأحمد 2/317 ،2/350.
2 أحمد 2/86.
3 الترمذي: القدر 2149.
وصل إليها مشركو العرب، كما يعرف ذلك من عرف الإسلام، وما كانت عليه الجاهلية قبل ظهوره؛ فمقت هؤلاء المشركين، وعيبهم، وذمهم، وتكفيرهم، والبراءة منهم، هو حقيقة الدين، والوسيلة العظمى إلى رب العالمين ; ولا طيب لحياة مسلم وعيشه، إلا بجهاد هؤلاء ومراغمتهم، وتكفيرهم، والتقرب إلى الله بذلك، واحتسابه لديه، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُون إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [سورة الشعراء آية: 88-89] .
فهذا المقام الشريف، والوصف المنيف، هو الذي أنكرتموه، واستحللتم به أعراض المسلمين، ورميتموهم لأجله بالعظائم؛ وإلى الله نمضي جميعا، وعنده تنكشف السرائر، وتبدو مخبآت الضمائر، ويعلم من عادى حزبه وأولياءه، ووالى حربه وأعداءه، ماذا جنى على نفسه؟ وأي الفريقين أولى به؟ وأي الدارين أليق به؟ فالمرء مع من أحب ونصر ووالى، شاء أم أبى.
وهل حدث الشرك في الأرض، إلا برأي أمثال هؤلاء المخالفين، الذين يظهرون للناس في زي العلماء، وملابس الصلحاء، وهم من أبعد خلق الله عما جاءت به الرسل، من توحيده ومعرفته، والدعاء إلى سبيله؛ بل هم جند محضرون للقباب وعابديها، وقد عقدوا الهدنة والمواخاة بينهم وبين من عبد الأنبياء والمشايخ.
وأوهموهم أنهم إذا أتوا بلفظ الشهادتين، واستقبلوا القبلة، لا يضرهم مع ذلك شرك ولا تعطيل، وأنهم هم
المسلمون، وهم خير أمة أخرجت للناس، وهم صفوف أهل الجنة؛ فاغتروا بهذا القول منهم، وغلوا في شركهم وضلالهم، حتى جعلوا لمعبوديهم التصرف، والتدبير، والتأثير، من دون الله رب العالمين.
فهل ترى يا ذا العقل السليم، أضل وأجهل ممن هذا شأنه، وهذه طريقته وعقيدته؟! وإن كان في هذه المظاهر الظاهرة، والرسوم الشائعة، معدود من أهل العلم بالشرع والإسلام، فهو والله أضل من سائمة الأنعام.
وأهل العلم والإيمان، لا يختلفون في أن من صدر منه قول أو فعل يقتضي كفره، أو شركه، أو فسقه، أنه يحكم عليه بمقتضى ذلك، وإن كان ممن يقر بالشهادتين، ويأتي ببعض الأركان؛ وإنما يكف عن الكافر الأصلي إذا أتى بهما، ولم يتبين منه خلافهما ومناقضتهما، وهذا لا يخفى على صغار الطلبة.
وقد ذكروه في المختصرات من كل مذهب، وهو في مواضع من كتاب الروض، الذي تزعم أنك تقريه وتدري ما فيه، ولكن الأمر كما قال تعالى:{وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} الآية [سورة المائدة آية: 41] .
بل قد ذكروا أن من أنكر فرعا مجمعا عليه، كتوريث البنت والجد، أنه يكفر بذلك، ولا يكون من خير أمة أخرجت للناس؛ وهذا منصوص في كتب الشافعية وغيرهم، فكيف ترى يا هذا فيمن أنكر التوحيد، الذي هو حق الله على العبيد،
ودان بمحض الشرك والتنديد؟ فقاتل الله الجهل، ماذا يفعل بأهله!
الثالث، قوله تعالى:{وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 110] ؛ وأصل الإيمان بالله، هو عبادته وحده لا شريك له، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث وفد عبد القيس؛ هذا هو الإيمان الذي اختص به المؤمنون، وجحده المشركون، وفيه وقع النّزاع، وله شرع الجهاد وانقسم العباد.
وقد ابتليت أنت بأمور، أوجبت لك الجهل بأصل الإسلام، وعدم الرغبة في البحث عن قواعده ومبانيه العظام ; من ذلك أنك تبعت مشايخ الطوائف، الذين جعلتموهم من خير أمة أخرجت للناس، في طلب العلم والأخذ به، وهم قد خفي عليهم معنى كلمة الإخلاص، التي هي أصل الدين، وما دلت عليه من وجوب عبادة الله رب العالمين، والبراءة من دين الجهلة المشركين.
وأكثرهم يقر أن معناها: إثبات قدرته على الاختراع، ونفي ذلك عما سوى الله ; والإله عندهم هو القادر على الاختراع. وبعضهم يرى أن الفناء في توحيد الربوبية هو الغاية التي شمر إليها السالكون ; وبعضهم قرر أن معناها: أنه تعالى هو الغني عما سواه المفتقر إليه كل ما عداه، كما يذكر عن السنوسي، صاحب الكبرى في العقائد المبتدعة.
وهذه المعاني ليست هي المقصود بالوضع والأصالة، من
هذه الكلمة الشريفة، التي هي الفارقة بين المسلم والكافر ; وأكثر الكفار لا ينازعون في قدرة الرب وغناه، وإنما المقصود بالوضع: نفي الإلهية عن غيره، واستحقاق العبادة وإثباتها له تعالى، على أكمل الوجوه وأتمها، كما يعلم من كتب اللغة والتفسير، وكلام أئمة العلم، الذين إليهم المرجع في هذا الشأن.
والمعنى الأول لازم للمعنى المراد لا ينفك عنه، لأنه المقصود بالوضع والأصالة، فإن المستحق لأن يعبد ويعظم، ويقصد دون غيره، لا بد أن يكون قادرا غنيا، ومن عداه فقير محتاج لا قدرة له؛ فبهذا السبب خفي عليك ما هو واضح في نفسه، ولولا حجاب التقليد، وحسن الظن بهؤلاء الطوائف، لاتضح الحكم لديك، ولم يخف أمره عليك.
ومنها: أنك رغبت عن الطريقة الشرعية، والحجة الواضحة السوية، وأخذت عن حسين النقشبندي طريقة مبتدعة وعبادة مخترعة، لا أصل لها في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنت ظننتها الغاية المقصودة، والدرة المفقودة ; وهي: البدع المضلة، الخارجة عن المنهاج والملة.
وقد نص العلماء الأعلام على دخولها فيما حذر عنه نبينا، عليه أفضل الصلاة والسلام، في غير ما حديث، كحديث العرباض بن سارية، وحديث ابن مسعود، وحديث حذيفة وغيرهم؛ وقد اشتملت هذه الطريقة على خلوات، ورياضات، مخالفة لواضع الأخبار والآيات.
قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [سورة الشورى آية: 21]، وقال تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3] .
ومن المعروف، عند أهل العلم والتجربة أن المعني بهذه الخلوات والرياضات المبتدعة، يحصل له تنَزل شيطاني وخطاب شيطاني؛ وبعضهم تطير بهم الشياطين من مكان إلى مكان، ومن بلد إلى بلد ; ومن طلب التنْزيل الرحماني الإلهي الرباني، من غير طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتلى بالتنْزيل الشيطاني.
وبعض هؤلاء يقول: ذكر العامة: لا إله إلا الله، وذكر الخاصة الله الله ; وذكر خاصة الخاصة: هو هو ; وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أفضل الكلام بعد القرآن أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر "1. والاسم المفرد مظهرا أو مضمرا، ليس بذكر ولا كلام، ولم يرد ما يدل على مشروعيته.
وعمدتهم فى ذلك طلب تفريج الخاطر من الواردات، وجمع القلب حتى تستعد النفس لما ينْزل عليها؛ وقد خفي على هؤلاء المبتدعة أن الوارد الشرعي الديني ممنوع ومحظور على من لم يأت من الباب النبوي، والطريق المحمدي، وأن السنة كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك.
وقد دل الكتاب والسنة على أن التحصن من الشيطان، لا يحصل إلا بذكر الله، وعدم فراغ الذهن والقلب من ذلك،
1 أحمد 4/36.
قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} الآية [سورة الزخرف آية: 36]، وفي حديث يحيى بن زكريا:" وآمركم بذكر الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل جد العدو في طلبه، فأوى إلى حصن حصين "1.
وبعضهم آل الأمر به إلى القول، بأن النبوة مكتسبة، وأنه قد حصل له مثل ما حصل للأنبياء وأعظم ; وهذه الكفريات سببها: الخروج عما شرعه الله ورسوله، ومن ابتلي بشيء منها، فإنه من العلم والهدى بحسب ما فيه؛ ولولا الامتحان والابتلاء، لما سارعت وهرولت إلى هذا النقشبندي، مع خلعه لربقة الإسلام، وتركه لما عليه العلماء الأعلام.
ثم ابتليت بسميه، مع ما هو عليه من الريب، في هذه الدعوة الإسلامية، التي من الله بها في هذه الأزمان، التي هي أشبه بأيام الفترات، لبعد العهد، وغربة الدين ; والذباب يأبى إلا السقوط على العذرة، وقد ابتليت وابتلي صاحبك بعيب أهلها وذمهم، وموالاة أعدائهم، الذين هم ما بين جهمي، أو رافضي، أو من عباد القبور.
وغرك بما يعده ويمنيه، من نيل رتبة القضاء ; ودون عليان القتادة والخرط ; المسلمون في حرج من كون مثلك يؤم في المساجد، وينتصب في المدارس، فكيف بالقضاء ونحوه؟! يأبى الله ذلك والمؤمنون، وإن مناك به الجهلة المبطلون.
واعلم: أن إمامنا - وفقه الله - على طريقة أسلافه وأعمامه،
1 الترمذي: الأمثال 2863.
في الدعوة الإسلامية، وحماية هذا الدين، وأخشى إن كثر فيك القول، وظهر له منك ما أشرنا إليه، من الجنف والعول، أن يسلك بك مسلك من سلف، من أشرار الأحساء، الذين لم يقبلوا ما من الله به من النور والهدى، فأوقع بهم الإمام سعود من بأسه، ما خمدت به نار الفتنة والجحود.
كأني بكم والليت آخر قولكم
…
ألا ليتنا كنا إذا الليت لا يغني
فصل 1
وأما طعنكم على الشيخ المكرم، بأنه قبل جوائز ابن ثنيان، وأنه بنى بيت الشيخ من أموال محرمة، فهذا القول منكم مبني على ما في أول هذه الورقة، من الطعن في العقيدة، وأنهم كفروا خير أمة أخرجت للناس، واستباحوا دماءهم وأموالهم، وجعلوها بيت مال بغير حق شرعي، كما فعل الخوارج المعتدون؛ هذه عقيدتكم، وطريقتكم التي أنتم عليها، في أمر هذه الدعوة الإسلامية.
وقد أظهره الله، وأبدى ضغينتكم، وكشف لعباده سريرتكم، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [سورة محمد آية: 30] . وهذا تصريح منكم يعرفه كل عاقل ; والإمام وغيره من ذوي الألباب، يعرفون هذا من نفس خطابكم، أن تخصيص ابن ثنيان تستر، وخوف من السيف، وإلا فهم عندكم على طريقة واحدة، ومذهب واحد.
1 وتقدم بعضه في الجزء التاسع ص 321 - 323.
فقد كنت تخفي حب سمراء حقبة
…
فبح الآن منها بالذي أنت بائح
ولو حقق الأمر، لم يوجد عندكم فارق بين ابن ثنيان وغيره ; إذا عرف هذا، فلو سلم تسليما صناعيا أن قصدكم الأموال المغصوبة، فوجودها في بيت المال لا يقتضي التحريم على من لم يعلم عين ذلك، ولم يميز لديه، والمسؤول عن التخليط ولي الأمر، لا من أخذ منه، إذا لم يعلم عين المغصوب ; وقد ذكر ذلك أئمتكم من الشافعية، وغيرهم من أهل العلم ; بل ذكر ابن عبد البر، إمام المالكية في وقته: أنه لا يعرف تحريم أموال السلاطين، عن أحد ممن يقتدى به من أهل العلم.
وقال في رسالته - لمن أنكر عليه ذلك -:
قل لمن ينكر أكلي لطعام الأمراء
…
أنت من جهلك عندي بمحل السفهاء
فإن الاقتداء بالسلف الماضين هو ملاك الدين. ثم قال بعد ذلك: ومن حكي عنه تركها، كأحمد وابن المبارك وسفيان وأمثالهم، فذاك من باب الزهد في المباحات، وهجر التوسعات، لا اعتقاد التحريم، إلى أن قال:
وقد قال عثمان رضي الله عنه: (جوائز السلطان لحم ظبي ذكي)، وقال ابن مسعود - لما سئل عن طعام من لا يجتنب الربا في مكسبه -:(لك المهنأ، وعليه المأثم، ما لم تعلم الشيء بعينه حراما)، وحكي عن أحمد رحمه الله: جوائز السلطان أحب إلينا من صلة الإخوان، لأن الإخوان يمنون، والسلطان لا يمن، قال: وكان ابن عمر يقبل جوائز صهره المختار، وكان المختار
غير المختار.
حكى هذا عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وناهيك به حفظا وأمانة، عند الكلام على حديث:" إذا دخل أحدكم بيت أخيه، فأطعمه من طعامه، وسقاه من شرابه، فليأكل من طعامه، وليشرب من شرابه ولا يسأل عنه " 1، والحديث معروف في السنن، قال الحافظ الذهبي: قيل لعبد الله بن عثمان بن خثيم: ما كان معاش عطاء؟ قال: صلة الإخوان ونيل السلطان ; وهذا مشهور بين أهل العلم ; وقد قال صالح بن أحمد لأبيه - لما ترك الأكل مما بيد ولده من أموال الخلفاء -:أحرام هي يا أبت؟ قال متى بلغك أن أباك حرمها؟
وأما إذا علم الإنسان، عين المال المحرم، لغصب أو غيره، فلا يحل له الأكل بالاتفاق؛ والمشتبه الذي ندب إلى تركه: هو ما لم يعلم حله ولا تحريمه ; وأما إذا امتاز بحال، وعرف الحكم، فهو لاحق بالبين لا الاشتباه; وفي دخول أموال السلاطين في المشتبه بحث جيد، لا يخاطب به إلا من سلمت في السلف الصالح سريرته، وحسنت في المسلمين عقيدته ; والمرتاب يصان عنه العلم، ولا يخاطب إلا بما يزجره ويردعه.
وقد قبل صلى الله عليه وسلم الهدايا من المقوقس، وصاحب دومة الجندل وغيرهما ; وهو صلى الله عليه وسلم لا يقبل إلا طيبا، ولا يأكل إلا طيبا ; وأموال الكفار لا يبيحها الغصب لمثل المقوقس ; وإنما تباح وتملك بالقهر والغلبة والاستيلاء للمسلمين ; وهذا كله منا على
1 أحمد 2/399.
سبيل التنَزل والمجاراة ; وإلا فنحن نعلم أنكم لا تذكرون هذا إلا على سبيل العيب، والمذمة والغيبة، لا عن ورع فيكم، ولا عن تحر للصواب وطلب للفقه لديكم.
بل أنتم، كما قال تعالى:{وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [سورة المائدة آية: 62-63] .
وقد اشتهر أنكم في المزاحمة على الأموال المحرمة، أحمق من نعجة على حوض؛ وغالب ما في أيديكم من الأوقاف والريع، والمال، إنما وصل إليكم من جهة من لا يعرف الدعوة الإسلامية، وليست لهم ولاية شرعية، كرؤساء الأحساء - قبل المسلمين - من آل حميد، والأتراك وتجار البحر، الذين لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، فكيف تلمزون بأمراء المسلمين، وهذا حالكم، وهذه مآكلكم؟!.
وما فرض من ذلك على الوجه الشرعي، فهو لا يباح، إلا لمن قام في وظيفة التدريس والإمامة بما شرع الله ورسوله، من دعاء الخلق إلى توحيده، ونهيهم عن الشرك، واتخاذ الأنداد معه، وقرر ما تعرف الرب به إلى عباده، من صفات كماله ونعوت جلاله، وأظهر مسبة من جحدها وألحد فيها، ونفى عن كتاب الله تحريف المبطلين، وتأويل الجاهلين وزيغ الزائغين، وجرد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتخذ من دون الله ولا رسوله
ولا المؤمنين وليجة.
ومن لم يكن هكذا، فهو غاش للمسلمين غير ناصح لهم، متشبع بما لم يعط، كلابس ثوبي زور في انتصابه في المدارس والمساجد ; والعلم: معرفة الهدى بدليله، وإدراك الحكم على ما هو عليه في نفس الأمر ليس إلا.
وأما التزيي بالملابس، والتحلي بالمظاهر، والانتصاب في المدارس، من غير غيرة لدين الله، ولا نصرة لأوليائه، ولا مراغمة لأعدائه، ولا دعوة إلى سبيله، فما ذاك إلا حرفة الفارغين البطالين، الذين صحبوا الأماني، وقنعوا من الخلاق بالخسيس الفاني؛ وهذا لا يفيد إيمان الرجل، فضلا عن كونه عالما، فلا يباح - والحالة هذه - لمن كان هكذا، أن يحوز أوقافا قصد بها التقرب إلى الله، والإعانة على إظهار دينه، والتماس مرضاته، والدعوة إلى سبيله.
ومن أكل منها وهو مجانب لهذه الأوصاف، فقد أكل ما لا يحل له، وما لا يستحقه؛ وهذا يستفاد من قول الفقهاء: يشترط أن يكون الوقف على جهة بر، ولا يستحقه إلا من كان من أهل تلك الجهة ; وفي الحديث:" إن هذا المال حلوة خضرة، فمن أخذه بحقه بورك له فيه، ورب متخوض في مال الله بغير حق، ليس له يوم القيامة إلا النار "1.
والأوقاف من مال الله؛ ولهذا عزل الخليفة المتوكل كل من يتهم بشيء من بدعة الجهمية، عن المساجد والقضاء،
1 البخاري: الزكاة 1472 ، ومسلم: الزكاة 1035 ، والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع 2463 ، والنسائي: الزكاة 2531 ،2601 ،2602 ،2603 ، وأحمد 3/434 ، والدارمي: الزكاة 1650 والرقاق 2750.
وغيره من الوظائف الدينية، وذلك بأمر من الإمام أحمد رحمه الله؛ فإنه رحمه الله توجه إليه الفتح ابن خاقان - وزير المتوكل - بورقة فيها أسماء القضاة والأئمة، فقرأها الفتح على الإمام، فأمر بعزل من يعرف منه شيء من ذلك، أو يتهم به، فعزل خلق كثير، وهو عند المسلمين في ذلك بار راشد متبع لأمر الله ورسوله.
فصل
ما جاء في رؤيا الطفيل: (أنه مر على نفر من اليهود، فقال لهم: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله، فقالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد ; ومر على ملإ من النصارى، فقال: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله ; فقالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: والكعبة) .
فأخبر الطفيل برؤياه رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى الناس عن هذه الأقوال، وقرر حكم هذه الرؤيا ; والغرض منها هاهنا: ذكر المشابهة بينكم وبينهم في إدراك الخفي مما زعمتموه عيبا، مع العمى والجهل بما أنتم عليه، فاعجب لها من نادرة! قال حسان:
تعدون قتلا في الحرام عظيمة
…
وأعظم من ذا لو يرى الرشد راشد
صدودكمو عن مسجد الله أهله
…
وإخراجكم من كان لله ساجد
تنبيه
طول المعاشرة، وكثرة المخالطة لها تأثير ظاهر، وفعل بين في الأخلاق والطباع والشيم، والعقائد والديانات، كما هو مشاهد محسوس، حتى إن الإنسان قد يسري إليه ما جبل بعض الحيوانات عليه، كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم:" الغلظة في الفدادين، أهل الوبر والشعر، والسكينة في أهل الغنم ".
ولا يخفى ما أنتم عليه، من كثرة المعاشرة، وطول المزاولة لجيرانكم، الذين ابتلوا بشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيار هذه الأمة، حتى رموهم بما يستحى من ذكره، وكثرة ثنائهم، وموالاتهم، للزنادقة والكفار، من أعداء هذه الملة؛ ولعل ما جاء عنكم من الذم والقيل، هو من ذلك القبيل ; شعرا:
لما رأت أختها بالأمس قد خربت
…
كان الخراب لها أعدى من الجرب
وأما عمى بصائركم، عما من الله به على هذا الشيخ من النعم الباطنة والظاهرة، وكونه نصب نفسه - بحمد الله ومنته - لحماية هذا الدين، والذب عنه، ومراغمة أعدائه فقام في وجوه من أجاز دعاء غير الله، والاعتماد عليه، والتوكل على غيره، وذم من حسن حالهم وذب عنهم، وتصدى للرد عليه، وتجهيله وتضليله.
وقام في وجوه أهل البدع المنكرة، كالجهمية والأشاعرة، والسالمية والكرامية، وقمعهم الله به؛ وصاروا في بلدتكم
يستترون، وكذلك أهل الموالد والأعياد الجاهلية، كبتهم الله بما أبداه، وقرره من عيبهم وتضليلهم.
وقد من الله عليه بنشر العلم، وانتفع الناس به، بعد ما كاد أن يعدم في البلاد النجدية، بعد المحنة المصرية، فجدد الله به آثار سلفه الصالح ; وجمهور من له معرفة بالعلم، وما جاءت به الرسل، من أهل هذه البلاد النجدية، إنما تخرج عليه وسمع منه، وتربى بين يديه؛ ومن لم يحط بهذا فهو دون غيره، كما لا يخفى على عارف؛ والمنصف من الأعداء يعترف بهذا.
وقد عرف العامة والخاصة مناصحته لولاة الأمور، وحثهم على ما ينتفعون به في الدنيا والآخرة، من تحكيم كتاب الله، والجهاد لأعداء كلمته، ونصحهم عن الإصغاء إلى أهل الريب والشك في الدعوة الإسلامية، والحقائق التوحيدية، الذين يبغونها عوجا، ولا يحبون ظهور هذا الدين وعلوه ; فهو قد نصح ولاة الأمر عنهم، وكبت الله بسببه وأخزى منهم عددا كثيرا.
وهو قائم على قضاة تلك البلاد، في النظر في أحكامهم، يرد كثيرا مما أجمع على بطلانه منها، وينقضها بالقانون الشرعي، والمنهاج المرعي؛ وهذا مشهور لا ينكره إلا مكابر ; شعرا:
وما ضر عين الشمس إن كان ناظرا
…
إليها عيون لم تزل دهرها عميا
وقد عرف من كان له فضل وعلم أن كلام أمثالكم، وبهت أشباهكم، مما يدل على فضله وجلالته، وهيبته وفطانته، وأن
ذلك مما يزيده الله به رفعة وشرفا، في الدنيا والآخرة، ويوجب - إن شاء الله - حسن العاقبة.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة النور آية: 11]، وقال تعالى:{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [سورة آل عمران آية: 186] .
ومما يستحسن لشيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، قوله شعرا:
لو لم يكن لي في القلوب مهابة
…
لم تكثر الأعداء في وتقدح
كالليث لما هيب خط له الزبى
…
وعوت لهيبته الكلاب النبح
وقال أبو الطيب:
يرمونني شزر العيون لأنني
…
غلست في طلب العلا وتصبحوا
وقال:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
…
فهي الشهادة لي بأني فاضل
وقد أنطق الله ألسن المسلمين بالثناء والدعاء لهذا الشيخ، ونرجو أن الله يقبل شهادتهم، ويجيب لهم دعوتهم، ويقيل عثرته وعثرتهم ; اللهم اغفر لنا ما لا يعلمون، واجعلنا خيرا مما يظنون ; والمغرور من اغتر بثناء الناس عليه، ولم يعرف حقيقة ما منه وما لديه؛ لكن الغرض تعريفك أن كلامك زاده الله به رفعة وشرفا.
كم كان في نكث أسباب العهود بها
…
إلى المخدرة العذراء من سبب
وأما من بهته فقد أصبح بين أهل الإسلام والكمال، كقبر أبي رغال، مرجوما بشهب المذمة والمقال، معدودا في زمرة أهل الغي والضلال.
ما يبلغ الأعداء من جاهل
…
ما يبلغ الجاهل من نفسه
عجيبة:
عبتم على الشيخ حرثه، وطلبه الرزق باتخاذه النخيل والزروع، مع أن هذا هو حرفة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، جمهورهم أهل نخيل وحروث؛ ولما فتح الله خيبر اقتسموها وعاملوا أهلها عليها، وصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهمه المعروف. ولما أجلى عمر رضي الله عنه اليهود، تولى المسلمون العمل فيها بأنفسهم، وهذا معدود من مناقبهم.
لم يذهبوا إلى ما ذهبت إليه اليهود والنصارى، ومن شابههم من هذه الأمة، من الأكل بدينهم، وجعله آلة يكتسب بها الدنيا، ويحتال بها على أكل الحبوس والأوقاف؛ وكثير من علمائكم جزم بأن الحرث أفضل المكاسب ; ونصوصهم موجودة عندكم ; ولكن الهوى والعداوة أدياكم إلى أن جعلتم المناقب مثالب.
ولا ذنب للشيخ عندكم يقتضي هذا ويوجبه، لم يحل بينكم وبين مآكلكم ورياساتكم، ولكن يدعوكم إلى الرغبة في الدين،
ونشره في بلاد المسلمين، وترك شبه المرتابين والضالين، والرغبة عن تقليد المشايخ الماضين، شعرا:
أصبحت بين معاشر هجروا الهدى
…
وتقبلوا الأخلاق من أسلافهم
قوم أحاول رشدهم وكأنما
…
حاولت نتف الشعر من آنافهم
فصل
بلغنا عن خدنك ومن يلوذ بك أنهم انكروا على الإمام بناء المسجد الجامع ; فقيل لهم: إنه قد بناه سعود رحمه الله أولا ; فقالوا: هذا من باب قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 23]، وقالوا: ومن يصلي في هذا، وقد بني من مال حاله كيت وكيت ; وهذا يدل على ما قلناه: أن اعتقادكم في الإمام، مثل اعتقادكم في ابن ثنيان، سواء بسواء.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
…
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وهذا ثابت بنقل العدد الكثير من أهل نجد وأهل الأحساء، وإنكاره مكابرة ورد للواضحات ; وقد علم: أن الاقتداء بأهل الدين، في البر والخير، والعمل الصالح، كبناء المساجد، ورفع شأنها، من آكد ما شرع، ومن أفضل ما سعي فيه ووضع ; والاستدلال عليه بقوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [سورة الأنعام آية: 90] أقرب للصواب.
والله أسأل أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويحسن العاقبة
لعباده المؤمنين، وأوليائه المتقين، إنه ولي ذلك كله، وهو القادر على كل شيء، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
[جوابا من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى أبي بكر بن محمد لرسالة أساء فيها بذكر أمور يحصل منها نفور]
وقال أيضا الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، قدس الله روحه، ما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي افترض تغيير المنكر باليد واللسان والجنان، وأخذ الميثاق على ورثة الرسل بالبلاغ والبيان، وأن لا يداهنوا في دين الله مغرورا بحبائل الشيطان، وأن لا يركنوا إلى مفتون بزخارف الهذيان، وإن ظن أنه من أهل البصيرة والإيمان، والصلاة والسلام على سيد من جاهد في ذات الله، وإمام من حارب كل من استعبده صنمه أو جاهه أو هواه.
من الفقير إلى الله سبحانه: عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الشيخ أبي بكر بن محمد، جمعنا الله وإياه على الطاعة، وجنبنا سبل الفتنة والشناعة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فقد وصلت إلي رسالتك إلى شيخنا الوالد حفظه الله، ومتعنا والمسلمين بحياته، وقد أحسنت فيها بذكر المعتقد وبيانه، وأنك اقتديت فيه بكلام أئمة الدين، كالإمام أبي حنيفة وغيره من السلف الماضين؛ وهذا هو القصد منكم، وقد أشرت به إليك وقت اجتماعنا.
إذ بذكرك معتقدك وتقريره، والتبري من أهل البدع،
كالجهمية والمعتزلة، والأشعرية والكرامية، والماتريدية، يحصل لنا نحن وإياك اتفاق الكلمة، وصلاح الطوية، نسأل الله أن يمن بذلك ; لكنك أسأت بذكر أمور، يحصل لنا منها نفور واشمئزاز؛ وهذه معاكسة ظاهرة، لما أشرت به إليك شفاها، ومتابعة لغرض نفسي شيطاني، لا لقصد شرعي إيماني.
من ذلك: أنك لما ذكرت أن الرسالة ليست لك، بل لبعض أسلافك من علماء الأحساء، وأنه كان أشعري الاعتقاد، اعترفت، وصرحت بأنك نقلتها لبعض الإخوان بخطك; وهذا فيه ما لا يخفى من التهمة القوية، حيث أثبتها بخطك، وأشعتها في قومك ورهطك، غير ملتفت لرد ما فيها من الزور والبهتان، والمخالفة لصريح السنة والقرآن.
وقوله فيها: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، وإن آيات الصفات وأحاديثها من المتشابه، وغير ذلك مما ساق من خرافاته، وما نمق من غلطاته ووهلاته; وأنت مع ذلك لم تتحاش من نقلها وإهدائها إلى الإخوان؛ وكذلك سميت هذا الرجل وعددته - مع ما ارتكبه - من علماء المسلمين؛ وما هكذا المعروف من هدى أهل العلم والإيمان، فإنهم لا يكتبون الضلال والباطل والزور، إلا لرده، ودفعه في نفس ذلك المزبور؛ وأنت قد خالفت هديهم، وخرجت عن طريقتهم، ومن سلك مسالك التهم، فلا يلومن من أساء به الظن.
ثم إن خط الرجل حجة عليه; ودعواه أنه ناقل، دعوى
تفتقر إلى إثبات ودليل، فلا غرو أن حكم شيخنا الوالد بخطك عليك، وأشار برد أباطيله إليك؛ وقد ذكرت أنك كنت متأسيا حال النقل، بما في الفقه الأكبر لأبي حنيفة، في العقيدة السليمة الحميدة، وعسى الله أن يحقق ذلك.
وعلى تسليمه، كيف ساغ لك أن تكتب ضدها، ولا تبين ما فيه؟ ولو أخذت بواجب أمر الفرقان، وتخلقت بخلق أهل الإيمان، المذكور في قوله سبحانه:{وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [سورة الفرقان آية: 72] لما وجه الوالد ولا غيره إليك ردا ولا ملاما، ولكن عرضت نفسك للبلاء فاستهدف.
ومن ذلك قولك: قد تمادى بنا الكلام، حتى خرجنا عن المقام، تشبيها لأولي الأفهام، ودفعا للكثير من الأوهام، وهذا تصريح منك: بأن أخذك بخطك من باب الوهم؛ ومن المعلوم: أنه لم يكن مما يفيد اليقين والثبوت، فأقل أحواله تنْزيلا: أن يكون من باب الفراسة، والحكم بالقرائن القوية.
ومن زعم أن الحكم بها من باب الأوهام، فسفسطته وجدله مما لا يحتاج برهانه وتقريره بسط كلام.
ولا يشك من له أدنى مسكة من عقل أن من اعتنى بنسخ كتب الزندقة والتعطيل، والتجهم، مع دعواه أنه لا يعتقدها، فهو مخبول العقل، ليس عنده من وازع الدين ما يقتضي تركها؛ هذا لو سلمنا هذه الدعوى، وتركنا الأدلة والقرائن على
استحسانها واعتقادها.
وأدهى من هذا وأمر، وأوضح منه: من نظر في خطك، واعتبر أنك تقول: إنه لم يظهر لك في حال نقلك لتلك الرسالة، من نفي إثبات الصفات، المؤدي إلى التعطيل، ما فهمه شيخنا الوالد حفظه الله، فإن كنت لا تفهم من قول هذا الرجل في ربه: إنه لا داخل العالم، ولا خارجه ولا فوقه، وأن ما دل على حقائق صفات الله سبحانه، ونعوت جلاله، من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، معدود عند السلف من المتشابه، ونحو ذلك من كلامه.
فإن كنت لا تفهم من هذا نفيا ولا تعطيلا، فلتبك عقلك النوائح ; أين أولو البصائر والأفهام؟ أين المناضلون عن ملة الإسلام؟ ما هذه إلا مكابرة جلية، وسفسطة جدليه ; فإن صبيان المكاتب، فضلا عن أولي العلم والمراتب، يعلمون أن هذه العبارة صريحة في التعطيل، غير محتملة للتصحيح والتأويل.
وقد كنت أظن بك دون هذه المكابرة، وأحسب أنك ترعوي عند المحاقة والمخابرة، لا سيما بعد اطلاعك على هذا الرد النفيس، وما تضمنه من براهين الإثبات والتقديس، فخلت أن همتك ترتفع به إلى فوق، وأنك لا ترضى سبيل الميل والعوق، وأن أفراخ اليونان لا تعوقك عن الوصول، وأن أسلاف القوم لا يصدونك عن سنن الرسول، لكن كما قيل:
خفافيش أعشاها النهار بضوئه
…
ووافقها قطع من الليل مظلم
وقولك إن المفاهيم تتفق وتختلف، جوابه: أن الاتفاق والاختلاف، إنما يقع عند ذوي البصيرة والعقول، والأفهام السليمة، في غير صرائح العبارات، ومنطوقها، وفي غير الدلالة المطابقة ; ولا يمتري عاقل فضلا عن عالم أن الذي خالف فهمك فهم شيخنا فيه، صريحه ومنطوقه يرد زعمك وينافيه.
ثم إنك ادعيت أولا أنك سليم العقيدة، موافق لما في الفقه الأكبر لأبي حنيفة، ولما عليه الأئمة الذين حكيت أقوالهم، وهذا حسن جيد، لكن يعكر عليك ويناقضه، قولك بعد: لكني وقفت بعد ذلك على كلام لبعض العلماء، ينافي بعض ما فيها، فملت إليه، وعولت عليه، لكونه أقرب للسلامة، وأشبه بهدى أهل الاستقامة؛ وهذا تصريح منك بالميل إلى خلافها، والتعويل على سواها بعد اعتقادها، وهو مخالف ومناقض لكلامك الأول، حيث زعمت أنك كنت في حال نقلها، متأسيا بما في الفقه الأكبر.
ثم يا هذا، قد استدللت على رجوعك بقضية عمر في المشتركة، وبما صح من رجوع كثير من أئمة الاجتهاد عن أقوال ظهر لهم الحق في خلافها، والرجوع إلى الحق أولى وأحق، لكن لا يخفى أن رجوعهم من اجتهاد إلى اجتهاد، بخلاف من رجع من ذنب يأثم به، ولا يؤجر عليه ; بل غايته بعد التوبة أن يغفر ; ولذلك قالوا بصحة الاجتهاد الأول.
فإن قلت: الشبه ليس من كل الوجوه، بل من حيث
الرجوع إلى الحق، قلت: لأي شيء عدلت عن قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [سورة الزمر آية: 53] ؟؛ والعدول عن الدليل الصريح المطابق من كل الوجوه، يقدح في فهم الرجل وتأليفه.
ثم إنك تقول: اعلم أني بحمد الله غير مستنكف عن قبول الحق، ولا مستكبر، ولا مستحقر ; وأقول: أي كبر أعظم وأدهى من أنفة الرجل أن يدعى إلى الله ظاهرا، ويرد قوله الذي قد شاع ونسخ جهارا؟! ويعد هو ذنوبه وخطاياه من باب الاجتهاد؟! وقد أعرضنا عن غير ذلك من علامات بطر الحق.
وأما كون شيخنا الوالد صرح باسمك في الرياض، فهو منه اهتمام بالواجب الشرعي، فإن الرجل إذا خيف أن يفتن به الجهال، ومن لا تمييز عندهم في نقد أقاويل الرجال، فحينئذ يتعين الإعلان بالإنكار، والدعوة إلى الله في السر والجهار، ليعرف الباطل فيجتنب، وتهجر مواقع التهم والريب ; ولو طالعت كتب الجرح والتعديل، وما قاله أئمة التحقيق والتأصيل، فيمن اتهم بشيء يقدح فيه، أو يحط من رتبة ما يحدث به ويرويه، لرأيت من ذلك عجبا، ولعرفت أن سعي الشيخ محمود قولا وسببا.
ثم إنك تذكر أن الرد صار للعوام والطغام، سلما للوقيعة في أعراض علماء الإسلام، وفي هذا من تزكية نفسك، والتنويه بذكرها ما لا يخفى، وما أظن عالما يقول: أنا عالم; وقد قال
عمر رضي الله عنه: "من قال: أنا عالم فهو جاهل، ومن قال: أنا مؤمن فهو كافر ; ومن قال: أنا في الجنة فهو في النار". انتهى.
والعالم من يخشى الله، وهذا مأخوذ من قوله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [سورة فاطر آية: 28] ؛ فإن الآية تقتضي حصر العلماء في أهل الخشية، كما تقتضي حصر الخشية في العلماء.
وحقيقة العلم: هو ما جاءت به الرسل، من معرفة الله سبحانه بصفات الكمال، ونعوت الجلال، إثباتا لا تعطيلا، وتنْزيها لا تمثيلا؛ وذلك يقتضي من إسلام الوجه له، والتبتل إليه وحده لا شريك له، حبا وإجلالا وتعظيما، وذلا وإخلاصا وانقيادا، وهو محسن في ذلك بعدم الانحراف عما جاءت به الرسل، طاعة لهم وتكريما; وهذا أيضا يقتضي العلم بالأوامر الشرعية، لأن الجاهل لا يحسن السير؛ ولا بد في العلم بهذا من النفوذ إلى ما جاءت به الرسل، فيعرف الحكم من دليله.
وأما غير ذلك من أنواع العلوم، التي أحدثت بعد خير القرون، في العقائد والعبادة بما لم يشرع، كما عليه كثير ممن يدعي العلم، في باب معرفة الله سبحانه وتعالى، فإنهم أخذوا العقيدة في هذا الباب، عن أهل القوانين الكلامية، كالجهمية وغيرهم، ممن خرج عن العقائد السلفية، وكما عليه كثير من أهل الطرق والتصوف، فإنهم أحدثوا من التعبد بالذوق والهوى، ما لم ترد به هذه الشريعة.
وكذلك من اقتصر على تقليد المتأخرين في الأحكام، ولم يلتفت إلى أخذ الحكم من هدي سيد الأنام، فهذا ونحوه وإن جاز لهم التقليد، فليسوا من أهل العلم بالإجماع، كما حكاه الحافظ ابن عبد البر رحمه الله.
وبالجملة: فلو عرفت حقيقة العلم، لأحجمت عن عد نفسك من أهله، ولأيقنت أن من ابتغى معرفة الله سبحانه وتعالى مما نصبه مشايخ اليونان، والفلاسفة من الأدلة العقلية، والموازين الكلامية، أو أخذ عن تلامذتهم الذين نشؤوا على ملتهم، ودانوا ببدعتهم، ولم يلتفت إلى ما جاء به الوحيان، من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، زعما منه بأنها ظواهر لفظية، ومجازات لغوية، وأن قانون المنطق هو القواطع العقلية، والبراهين الجلية، وأن ما جاءت به الكتب، وأخبرت به الرسل، من صفات الله معدود من متشابه الكلام، مصروف عن حقيقته عند ذوي البصائر والأفهام فنفى لذلك صفات الكمال، وأغرب في سلب نعوت الجلال، وأضاف إلى ذلك تقليد مشايخه في الأحكام والفروع، فلم يأخذ من هدي الرسول العلم المتبوع، فهذا ونحوه من أضل الناس وأبعدهم عن هدي المرسلين، فضلا عن أن يكون من علماء المسلمين.
وإن انضم إلى ذلك الضلال عن معرفة توحيد العبادة الذي هو فعل العبد وعمله وكسبه، فاتخذ الآلهة من دون الله
أربابا، فأحبهم كحب الله، وذل وخضع، واستغاث واستعان، وذبح لغير الله القربان، وحلف تعظيما وتفخيما، ورجاء أن يكون الند له شفيعا وعوينا، فهناك تشتد الرزية وتعظم البلية، ويعلم أن هؤلاء الضرب من الناس بينهم وبين الإسلام أبعد بون، وأن الأمر كما قيل:
نزلوا بمكة من قبائل هاشم
…
ونزلت بالبيداء أبعد منْزل
والمقام يستدعي أكثر من هذا، ولكن العاقل يسير فينظر؛ والسلف قد أنكروا على من سماهم علماء، فما بالك فيمن سمى نفسه عالما، وتشبع بما لم يعط، نعوذ بالله من الخذلان. هذا وفي رسالتك شيء من الهمز، والتصنع، والمداهنة والغش، والحقد والمشاحنة وعدم التثبت، وأن الأولى الإسرار إليك، وترك ما كتبته، وكذلك في تسميته من خاض في هذا عواما، أهل لغو بالفضول، ما لا يخفى على أرباب العقول.
ولو شئت أن أبين لك من الأولى بذلك كله، فأقيم لك البراهين على أنك متصف به لفعلت، وسجلت وحررت وحققت، ولكن سأترك ذلك ليوم تبدو فيه السرائر، ويظهر الله مكنون الضمائر؛ ولو صرحت بما في نفسك من الرد وسجلت، وناضلت لكان أليق بك، فإن من أظهر ما في نفسه حري بالرجوع إلى الحق، بخلاف من كتم وداهن، كما قيل:
فلست أرى إلا عدوا محاربا
…
أو آخر خير منه عند المحارب
وكان قصدي منك أيها الشيخ أن تكتب ما تعتقده،
وتدع التزكية والعتاب، وتطرح كل شك وارتياب، فإن ذلك أجمع للقلوب، وأقرب للاتفاق؛ والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
[رسالة إلى علي بن سليمان ووصوله إلى بلاد فارس]
وله أيضا رحمه الله، وعفا عنه
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الابن: علي بن حمد بن سلمان، سلمه الله تعالى، وزينه بزينة الإيمان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأحمد إليك الله على إنعامه، والخط وصل، وما ذكرت صار معلوما ; فأما رغبتك عن البلدة، التي تظهر فيها أعلام الكفر والشركيات، وتهدم قواعد الإسلام والتوحيد، ويرفع فيها إلى غير أحكام القرآن المجيد، فقد أحسنت فيما فعلت، والهجرة ركن من أركان الدين؛ نسأل الله أن يكتب لك أجر المخلصين الصادقين.
وأما وصولك إلى بلدة فارس، فالذي رأيتهم ينتسبون إلى متابعة الشيخ محمد، رحمة الله عليه، فهم كما في خطك، لكن فيهم جهال، لا يعرفون ما كان الشيخ عليه وأمثاله، من أئمة الهدى، وفيهم من بدعة المعتزلة والخوارج، ولا معرفة لهم بالعقائد والنحل، واختلاف الناس ; والزمان زمان فترة، يشبه زمن الجاهلية، وإن كانت الكتب موجودة، فهي لا تغني ما لم يساعدهم التوفيق، وتؤخذ المعاني والحدود والأحكام،
من عالم رباني، كما قيل:
والجهل داء قاتل وشفاؤه
…
أمران في التركيب متفقان
نص من القرآن أو من سنة
…
وطبيب ذاك العالم الرباني
والكتب السماوية بأيدي أهل الكتاب، وقد صار منهم ما صار، وأسباب الجهل والهلاك قد توافرت جدا ; وقد قال بعض الأفاضل، منذ زمان: ليس العجب ممن هلك كيف هلك؟ إنما العجب ممن نجا كيف نجا؟
وهؤلاء الذين ذكرتهم من أهل فارس، وذكرت عنهم العقائد الخبيثة، ليسوا بعرب يفهمون الأوضاع العربية، والحقائق الشرعية، والحدود الدينية، ولا يرجعون إلى نص من كتاب ولا سنة، وإنما هو تقليد لمن يحسنون به الظن، من غير فهم ولا بصيرة، قال الحسن البصري في أمثالهم من المعتزلة من العجم: إن عجمتهم قصرت بهم عن إدراك المعاني الشرعية، والحقائق الإيمانية.
وكذلك لما ناظر عمرو بن العلاء عمرو بن عبيد، من رؤوس المعتزلة، وجده لا يفرق بين الوعد والوعيد ; فقال: من العجمة أتيت ; وأما عبد الرحمن البهمني، فهو على ما نقلت عنه في غاية الجهالة والضلالة، وله من طريقة غلاة الجهمية نصيب وافر، وله من الاعتزال ومن نحلة الخوارج نصيب.
وكلام أهل الإسلام وأئمة العلم، في الجهمية والمعتزلة والخوارج، مشهور ; فأما جهم بن صفوان: فطريقته في
التعطيل، ونفي العلو والاستواء، والكلام وسائر الصفات، قد أخذها عن الجعد بن درهم؛ والجعد أخذها بالواسطة عن لبيد بن الأعصم اليهودي، الذي صنع السحر لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وكانوا يخفون مقالتهم.
ومن أظهر شيئا من ذلك قتل، كما صنع خالد بن عبد الله القسري أمير واسط بالجعد بن درهم، فإنه ضحى به يوم العيد ; وقال على المنبر:"أيها الناس ضحوا، تقبل الله ضحاياكم؛ فإني مضح بالجعد بن درهم؛ إنه يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا" ثم نزل فذبحه. والجهم قتل أيضا لما ظهرت مقالته.
ثم لما كان في زمن الخليفة المأمون العباسي، ظهرت في الناس تلك المقالات، بواسطة بعض الوزراء والأمراء، وكثر الخوض، فصاح بهم أهل الإسلام من كل ناحية، وبدعوهم وفسقوهم وكفروهم ; وقال ابن المبارك الإمام الجليل من أكابر أهل السنة:"من لم يعرف أن الله فوق عرشه، بائن من خلقه، فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا مقابر أهل الذمة، لئلا يتأذى به أهل الذمة من اليهود والنصارى".
وقال الفضيل بن عياض، ويوسف بن أسباط:"الجهمية ليست من الثلاث والسبعين فرقة، التي افترقت إليها هذه الأمة"، يعني أنهم لا يدخلون في أهل القبلة. وقد صنفت التصانيف،
وجمعت النصوص والآثار، في الرد عليهم وتكفيرهم، وأنهم خالفوا المعقول والمنقول، وأن قولهم يؤول إلى أنهم لا يثبتون ربا يعبد، ولا إلها يصلى له ويسجد، وإنما هو تعطيل محض؛ ولذلك كفروهم، قال العلامة ابن القيم، في الكافية الشافية:
ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان
يعني: أن خمسمائة عالم أئمة مشاهير، جزموا بكفرهم ونصوا عليه ; وحججهم وشبهاتهم واهية داحضة، لا تروج على من شم رائحة الإسلام؛ قال بعض العلماء: أهل البدع لهم نصوص يدلون بها، فقد اشتبه عليهم معناها، ولم يهتدوا فيها، إلا الجهمية، فليس معهم شيء مما جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب ; انتهى.
والقرآن والسنة كلها رد عليهم ; قال بعض أصحاب الإمام الشافعي، رحمه الله تعالى: في القرآن ألف دليل على علو الله على خلقه، وأنه فوق العرش، وذكر ابن القيم رحمه الله طرفا صالحا في نونيته من ذلك ; وأما نصوص السنة، وكلام أهل العلم، فلا يحصيها ويحيط بها إلا الله.
ويكفي المؤمن أن يعلم: أن كل من عرف الله بصفات جلاله، ونعوت كماله، وتبين له شيء من ربوبيته وأفعاله، يعلم ويتيقن: أنه هو العلي الأعلى الذي على عرشه استوى، وعلى الملك احتوى، وأنه القاهر فوق عباده، وأنه يدبر الأمر من السماء الى الأرض ; ولا يشك في ذلك إلا من اجتالته
الشياطين عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
والكلام يستدعي بسطا طويلا؛ فعليك بكتب أهل السنة، واحذر كتب المبتدعة، فإنهم قد سودوها بالشبهات، والجهالات التي تلقوها عن أسلافهم وشيعهم.
وأما دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره، فإن أرادوا الحياة الدنيوية، فالنصوص والآثار والإجماع والحس يكذبه، قال الله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [سورة الزمر آية: 30]، وقال تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [سورة الأنبياء آية: 34] . وقد قام أبو بكر في الناس يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "أما بعد: فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وتلا هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} [سورة آل عمران آية: 144] ".
وأما إن أراد الحياة البرزخية، كحياة الشهداء فللأنبياء منها أفضلها وأكملها، ولنبينا محمد صلى الله عليه وسلم منها الحظ الوافر، والنصيب الأكمل ; ولكنها لا تنفي الموت، ولا تمنع إطلاقه على النبي والشهيد; وأمر البرزخ لا يعلمه ولا يحيط به إلا الله تعالى الذي خلقه وقدره؛ والواجب علينا: الإيمان بما جاءت به الرسل، ولا نتكلف ولا نقول بغير علم؛ والحياة الأخروية بعد البعث والنشور أكمل مما قبلها، وأتم للسعداء والأشقياء.
وأما دعواه أن العبادة هي السجود فقط، فهذا ليس بغريب عن مثل هذا الملحد؛ والنصوص القرآنية والأحاديث النبوية، قد فصلت أنواع العبادة تفصيلا، وقسمتها تقسيما، ونوعتها تنويعا، قال تعالى:{الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [سورة البقرة آية: 1-2] إلى قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة البقرة آية: 5] ؛ وهل المهتدون والمفلحون إلا خواص عباد الله.
وقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [سورة البقرة آية: 177] إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [سورة البقرة آية: 177] ، فخصهم بالصدق والتقوى، وحصرها فيهم، لأن ما ذكر: رأس العبادة ; والإيمان: متضمن لما لم يذكر، مستلزم له، فلهذا حسن الحصر.
وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [سورة البقرة آية: 83] إلى قوله: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [سورة البقرة آية: 43] ، فبدأ بذكر العبادة المجملة، ثم خص بعض الأفراد، تنبيها على الاهتمام، وأنها من أصول الدين،
ولئلا يتوهم السامع أن العبادة تخص بنوع دون ما ذكر، في قوله:{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [سورة الأعراف آية: 170] ؛ ومعلوم أن إقام الصلاة داخل فيما قبله، لأنه آكد الأركان الإسلامية بعد الشهادتين، وكذلك قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ؛ والاستعانة عبادة بالإجماع، وعطفها على ما قبلها
اهتماما بالوسيلة، وتنبيها على التوكل.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [سورة النحل آية: 90] إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [سورة الأنعام آية: 152] ؛ والعدل تدخل فيه، الواجبات كلها، والإحسان تدخل فيه نوافل الطاعات، وإيتاء ذي القربى يدخل فيه حقوق الأرحام، ونحوها من العبادات المتعدية، والنهي عن الفحشاء والمنكر، يدخل فيه ما نهى الله عنه، من ظاهر الإثم وباطنه، وتركه من أجل العبادات، والبغي من أكبر السيئات، وتركه من أهم الطاعات؛ فهذا كله داخل في العبادة بالإجماع.
وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23]، إلى قوله:{وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} [سورة الإسراء آية: 39] ، فابتدأ الآية بالأمر بعبادته وحده لا شريك له، وعطف بقية العبادة المذكورة اهتماما بها، وتنويها بشأنها؛ ولا قائل أن ما ذكر ليس بعبادة ; بل أهل اللغة، وأهل الشرع، من المفسرين وغيرهم مجمعون على أن ما أمر الله به في هذه الآيات، من أفضل ما يتقرب به العبد من القرب والعبادات، وما علمت أحدا من أهل العلم واللغة ينازع في ذلك؛ ولكن القوم - كما تقدم - عجم أو مولدون.
قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [سورة البينة آية: 5] ، فعطف إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على ما قبله، وإن كان يدخل فيه عند
الإطلاق، تنبيها على ما تقدم من الاهتمام والحض، على ما ذكر في حديث جبرائيل المشهور في الكتب الستة وغيرها: " أن جبرئيل أتى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل وهو جالس في أصحابه.
فقال له: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت، قال: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، وبالقدر خيره وشره، قال: صدقت; قال: فما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك
…
ثم قال: هذا جبرائيل أتاكم ليعلمكم أمر دينكم " 1 فجعل ذلك كله هو الدين.
والدين بمعنى العبادة، بدليل قوله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5]، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " 2، ومن قال: ليست هذه الشعبة عبادة، فهو من أشر الدواب، وأجهل الحيوان.
وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم العبادة في بعض أفرادها، كما في حديث النعمان بن بشير، أنه قال:" الدعاء هو العبادة " 3، وفي حديث أنس " الدعاء مخ العبادة " 4 وكقوله:" الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين "؛ وكل ما ورد من فضائل الأعمال،
1 البخاري: الإيمان 50 ، ومسلم: الإيمان 9 ،10 ، والنسائي: الإيمان وشرائعه 4991 ، وابن ماجه: المقدمة 64 ، وأحمد 2/426.
2 البخاري: الإيمان 9 ، ومسلم: الإيمان 35 ، والترمذي: الإيمان 2614 ، والنسائي: الإيمان وشرائعه 5005 ، وأبو داود: السنة 4676 ، وابن ماجه: المقدمة 57 ، وأحمد 2/414 ،2/445.
3 الترمذي: تفسير القرآن 2969 ، وابن ماجه: الدعاء 3828.
4 الترمذي: الدعوات 3371.
وأنواع الذكر داخل في مسمى العبادة ; وقد جمع ابن السني، والنسائي في عمل اليوم والليلة من ذلك طرفا، يبين أن العبادة في أصل اللغة بمعنى الذل والخضوع، كما قال بعضهم 1:
تباري عتاقا ناجيات وأتبعت
…
وظيفا وظيفا فوق مَوْر معبّد
أي: طريق مذلل قد ذللته الأقدام، مأخوذ من معنى الذل والخضوع، يقال: دنته فدان، أي: ذللته فذل؛ وفي الاصطلاح الشرعي يدخل فيه كل ما يحبه الله ويرضاه، من الأعمال الباطنة والظاهرة، الخاصة والمتعدية، البدنية والمالية ; ولذلك عرفها الفقهاء بأنها: ما أمر الله به شرعا، من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي.
إذا عرف هذا، فالتقوى والعبادة والدين، إذا أفردت ولم تقترن بغيرها، دخل فيها مجموع الدين وسائر العبادات، وإذا اقترنت بغيرها، فسر كل واحد بما يخصه، كالإيمان والعمل الصالح، والإسلام والإيمان، وصدق الحديث، وكالإيمان والصبر، وكالعبادة والاستعانة، وكالتقوى وابتغاء الوسيلة.
فيفسر كل بما يناسبه ويخصه، كما في سورة الأحزاب {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ
1 هو طرفة بن العبد البكري، يشير به إلى ناقته، وأنها تباري الكرام من الإبل وهن مسرعات في السير، تتبع وظيف رجلها وظيف يدها
…
إلخ.
وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [سورة الأحزاب آية: 35] ، ففسر كل اسم بما يخصه مع الاقتران.
وإذا أطلق اسم العبادة، كما في قوله:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} [سورة الفرقان آية: 63] ، واسم الأبرار، واسم الإيمان، واسم الإسلام، في مقام المدح والثناء، دخل فيه الدين كله؛ فمن عرف هذا، تبين له اصطلاح القرآن والسنة، وعرف أن هؤلاء المبتدعة، من أجهل الناس، بحدود ما أنزل الله على رسوله.
والصلاة نفسها تشتمل على أقوال وأفعال غير السجود، وكلها عبادة بإجماع المسلمين، فالقراءة عبادة، والقيام عبادة، والركوع عبادة، والرفع منه عبادة، والسجود عبادة، والجلوس عبادة، والأذكار المشروعة في تلك المواطن عبادة، والتكبير عبادة، والتسليم عبادة.
وأما قوله: إن قبر الولي أفضل من الحجر الأسود،
فهذا من جنس ما قبله في الفساد والضلال، فالحجر الأسود يمين الله في أرضه، من صافحه واستلمه فكأنما بايع ربه، قال تعالى:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [سورة آل عمران آية: 96-97] ؛ ولم يرد في قبور الأولياء، ما يدل على مثل ذلك، فضلا عن أن يكون أفضل منه.
والحج ركن من أركان الإسلام، والطواف بالبيت أحد أركان الحج، والركن الذي فيه الحجر الأسود أفضل أركان
البيت، والطواف به من أفضل العبادات وأوجبها.
والطواف بالقبور واستلامها، والعكوف عندها، من أوضاع المشركين والجاهلية، وفيه مضاهاة لما يفعله اليهود والنصارى، عند قبور أحبارهم ورهبانهم؛ وأفضل القبور على الإطلاق قبره صلى الله عليه وسلم، ولا يشرع تقبيله واستلامه بالإجماع ; بل ولا يشرع الدعاء عنده، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق، وبيت العبد ببيت الرب.
وبالجملة: فهذا القول قول شنيع، لا مستند له ولا دليل عليه، وتقبيل الحجر الأسود مشروع، وكذا استلامه باليد، فإن استلمه بالمحجن ونحوه لعذر، فقد صح "أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى الحجر الأسود واستلمه بمحجن كان في يده "1.
وأما قوله: إنكم تعتقدون العلو، فنعم نعتقده، ونشهد الله عليه، وكل مسلم عرف الله بأسمائه وصفاته يعتقد أنه هو العلي الأعلى، الذي على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، هذا نص القرآن ; وقد قال تعالى:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [سورة هود آية: 17] .
وأول من أنكر العلو فرعون، إذ قال:{يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ?أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [سورة غافر آية: 36-37] ؛كذب موسى فيما جاء به من الله، أن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق عباده مستو على عرشه.
1 البخاري: الحج 1608 ،1612 ،1613 ،1632 والطلاق 5293 ، ومسلم: الحج 1272 ، والترمذي: الحج 865 ، والنسائي: المساجد 713 ومناسك الحج 2954 ، وأبو داود: المناسك 1877 ،1881 ، وابن ماجه: المناسك 2948 ، وأحمد 1/237 ،1/248 ،1/304 ، والدارمي: المناسك 1845.
وأما الآية الكريمة التي احتج بها هذا الضال، فلم يعرف معناها، ولم يدر المراد منها؛ وأهل التفسير متفقون على أن المراد، بقوله:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [سورة الزخرف آية: 84] ، أنه معبود في السماء، ومعبود في الأرض، لأنه الإله المعبود، كما في قوله:{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [سورة الأنعام آية: 3]، وقال تعالى:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [سورة مريم آية: 93] .
والحلولية من غلاة الجهمية يرون أنه حال بذاته في كل مكان، لم ينَزهوه عن شيء، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وأما حديث: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد " 1 فهو حديث صحيح جليل، مثل قوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [سورة الإسراء آية: 57] ، فالقرب في هذا ونحوه، أضيف إلى العبد; والقلب إذا أناب إلى الله وأخلص في عبادته، وصدق في معاملته، كان له من القرب بحسب صدقه وإخلاصه، ورتبته من الإيمان، فترتفع عنه حجب الشهوات والشبهات، وينقشع عنه ليلها وظلامها، وهذا المعنى حق لا يشك فيه.
ويضاف القرب إلى الله تعالى، كما في قوله:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [سورة البقرة آية:
1 مسلم: الصلاة 482 ، والنسائي: التطبيق 1137 ، وأبو داود: الصلاة 875 ، وأحمد 2/421.
186] ؛
فهذا قرب خاص للسائلين والداعين؛ وقد يقرب من عباده، ومن القلوب الطيبة كيف يشاء، لكنه قرب خاص، ليس كما يظنه الجهمي، من أن ذاته تحل في المخلوقات.
فهو سبحانه ليس كمثله شيء في صفاته، وكمال عظمته وقدرته، ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، وهو مستو على عرشه، عال فوق خلقه، لا تحيط به المخلوقات، ولا تحتوي عليه الكائنات، ويدنو عشية عرفة، فيباهي ملائكته بأهل الموقف؛ ومع ذلك، فصفة العلو والاستواء ثابتة في تلك الحال، لا يخلو العرش منه، ولا يعلم قدر عظمته إلا هو جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه.
وقد يكون المؤمن المخلص القريب من الله في مكان، معه من هو ملعون مطرود عن رحمة الله، وهما في مكان واحد، كما جرى لموسى وفرعون؛ فالقرب الذي وردت به الأحاديث، وصرحت به النصوص، حجة على الجهمي المعطل، القائل: بأن الله في كل مكان، تعالى الله وتقدس.
فهؤلاء الجهال خاضوا فيما قصرت عقولهم وأفهاههم عن إدراك معناه وما يراد به، فصاروا في بحر الشبهات غرقى، لا يعرفون لهم ربا، ولا يستدلون بصفة من صفاته على معرفة كماله وجلاله.
وقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم ما أنزل إليه من ربه، قراءة على الناس، وأكثره في معرفة الرب وصفاته، وربوبيته وتوحيده ;
سمعه منهم قرويهم وبدويهم، خاصهم وعامهم، عربهم وعجمهم، ولم يشكل على أحد منهم ذلك، ولا يشك فيه.
بل آمنوا به وعرفوا المراد منه، ومضت القرون الثلاثة على إثبات ذلك والإيمان به، وتلقي معناه عن الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وإن جحد بعض المنافقين، فهو مدحور مقهور، حتى حدث ما حدث في آخر القرن الثالث وما بعده.
وأما دعواه أن الأولياء يقدرون على خلق ولد من غير أب، فهذه طامة كبرى، وردة صريحة، وتكذيب لجميع الكتب السماوية، ورد على كل رسول، ومخالفة لإجماع الأمم المنتسبين إلى الرسل والكتب السماوية، فإنهم مجمعون على أن الله هو الخالق وحده، وغيره مخلوق.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [سورة فاطر آية: 3]، وقال تعالى:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [سورة الأنعام آية: 102]، وقال تعالى:{أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [سورة الأعراف آية: 191] ؛ ولو كان لغير الله شركة فى الخلق والتأثير، لكان له شركة في الربوبية والإلهية.
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا
مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} الآية [سورة سبأ آية: 22-23] .
فنفى سبحانه عن غيره أن يكون له ملك في السماوات والأرض، ولو قل، كمثقال ذرة ; ونفى الشركة أيضا في القليل والكثير ; ونفى أن يكون له ظهير وعوين يعاونه في خلق أو تدبير؛ فإنه الغني بذاته عن كل ما سواه، والخلق بأسرهم فقراء إليه؛ ثم نفى الشفاعة إلا لمن أذن له ; قال بعض السلف: هذه الآية تقطع عروق شجرة الشرك من أصلها.
ومعلوم: أن من يخلق له ملك ما خلقه، فلو كان ثم خالق غير الله تعددت الأرباب والآلهة، قال تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [سورة الأنبياء آية: 22]، وقال تعالى:{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [سورة آل عمران آية: 6]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة آية: 21] .
فعيسى داخل في عموم هذه الآيات، ولم يخالف في ذلك إلا من ضل من النصارى، قال تعالى في خصوص عيسى:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة آل عمران آية: 59] ، فكان عيسى بكن كما كان آدم.
وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة المائدة آية: 116] إلى قوله: {مَا قُلْتُ
لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [سورة المائدة آية: 117] ؛ فاعترف أن الله ربه وخالقه ومعبوده. فكفى بهذه النصوص ردا على من أشرك بالله، وجعل معه خالقا آخر.
وما احتج به الملحد، من قوله تعالى حاكيا عن جبرئيل، أنه (قال) لمريم:{إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} [سورة مريم آية: 19]، فيقال: قراءة البصريين (ليهب لك) بالياء، وهي: تفسير للقراءة الأخرى، وعلى القراءة الأخرى نسب الهبة إليه، بسبب نفخ الروح في درعها؛ والسبب يضاف إليه الفعل، كما جزم به البيضاوي وغيره في هذه الآية، والله سبحانه وتعالى: ينفذ أمره الكوني على يد من يشاء من ملائكته.
وربما نسب الفعل إليهم، كما قال تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [سورة الزمر آية: 42]، وقال تعالى في موضع آخر:{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} [سورة الأنفال آية: 50]، وقال تعالى:{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [سورة الأنعام آية: 61] ، فأضافه إليهم لأنهم موكلون بقبض الأرواح ; ولما كانوا لا يستقلون بشيء من دونه، ولا يفعلون إلا بمشيئته وحوله وقوته، صرح بهذا المعنى في الآية الأولى، فقال:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [سورة الزمر آية: 42]، وأبلغ من هذا: أنه نسب إليهم التدبير، في قوله:{فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} [سورة النازعات آية: 5] لأنهم رسل بأمره الكوني.
وأخبر بأنه المدبر الفاعل المختار، في غير آية من كتاب الله، كقوله تعالى:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [سورة السجدة آية: 5]، وقوله:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [سورة يونس آية: 3]، وقوله:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [سورة يونس آية: 31] إلى قوله: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [سورة يونس آية: 31] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالات على اختصاصه تعالى بالتدبير والإيجاد.
وفي الحديث القدسي: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟ فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا شعيرة" وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [سورة الحج آية: 73] .
وأكابر الخلق كالملائكة والأنبياء لم يدع أحد منهم أنه إله، وأنه يخلق، كما قال تعالى في حق الملائكة:{بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [سورة الأنبياء آية: 26-27-28-29]، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ
إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 79-80] ، فأخبر أن اتخاذهم أربابا كفر بعد الإسلام.
وأيضا: فآخر الآية، وهو قوله تعالى:{قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً} [سورة مريم آية: 21] ، وهو الذي قدره وقضاه؛ كل هذا يرد على المبطل. فتفطن - هداك الله - للأدلة على تفرده سبحانه بالخلق والإيجاد والتدبير، لا يحيط بها إلا الله سبحانه، وله في كل شيء آية تدل على أنه واحد.
وأما كونهم لا يشهدون الجمعة والجماعة، ولا يسلمون ولا يردون السلام، فهم بذلك مخالفون لأهل السنة والجماعة من سلف الأمة وأئمتها ; ولو وجد في الإمام من الفجور ما لا يخرجه عن الإسلام، فأهل السنة يصلون خلف أهل الأهواء، إذا تعذرت الجمعة خلف غيرهم؛ وإن كانوا يرون كفر من لا يوافقهم على أهوائهم، فهم من جنس الخوارج الذين وردت فيهم الأحاديث الصحيحة، بأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وأنهم كلاب أهل النار.
وصلى الله على سيد ولد آدم، وعلى آله وأصحابه، الذين جاهدوا في الله حق جهاده، آمين، والحمد لله على التمام وحسن الختام.
وقال الشيخ: عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى، ردا على البولاقي:
تبسم وجه النصر في طالع السعد
…
وأشرق نور الحق من كوكب الرشد
وأيد نظم للأمير محمد
…
فأدبر نحس للطوالع بالصد
وخر على الأذقان من صنع ماهر
…
بناء بناه الناكبون عن القصد
وولى على الأعقاب أفجر عائب
…
يرى نفسه فردا أشد من الأسد
جهول ببولاق المعرة جهله
…
صريح ينادي بالتهافت في العقد
يحوم مع الغربان يطلب رشده
…
وقد ضل من كان الغراب له يهدي
وقد جئت من رد عليه بمنطق
…
عميم فخذ بالعلم عن كل مستهد
وألق سماعا للجواب ولا تكن
…
جهولا يروم الباب من جانب السد
فأما تمني الشيخ في النظم قربهم
…
على أنه كفؤ المخالف والضد
فتلك أماني الجبان فإنه
…
إذا ما خلا سل المهند عن غمد
وإن كشفت عن ساقها الحرب خلته
…
نعامة طير تحذر الصوت من بعد
ووالله لو أن الديار تقاربت
…
عرفت قصورا أمنك في العلم والرشد
وعدت حسير الطرف عودة خاسئ
…
يرى مغنما أن لا يقاد إلى القد
ومنعك إنكار الطوائف قوله
…
مكابرة لو يعلم الحق من يبدي
فكم لامهم في نصرة الدين لائم
…
كمثلك جهلا بالمحجة والقصد
ودعواك أن القوم قالوا لمذنب
…
بشيء من المكروه أسلم كمرتد
وتكفيرهم من لا يجيب دعاءهم
…
وإطلاق كفر المذنبين مع الصد
فذا فرية لا يمتري فيه عاقل
…
ولكنه الإفلاس يدعوك للجحد
وأن من ملوك القوم من صد فرقة
…
عن البيت روما للصيانة عن جهدي
فقد قام أهل العلم بالغزو جهرة
…
وما صدهم أخذ الجوائز كالضد
وقولك في شرك المشاهد آية
…
على الجهل ذي التركيب بالحق والرشد
وها هو ما قد قال فيكم مشاهد
…
وقيدك بالأرباب في الشرك لا يجدي
ففي لفظة الرب اشتراك مقرر
…
فسل عنه أهلا للإصابة من نجد
فمنه مليك خالق ومدبر
…
كذا السيد المعبود والمنعم المسدي
فأي المعاني قد أردت فإنني
…
مشوق بتوضيح الأدلة من مهدي
فإن كنت تنفي نوع ذلك كله
…
لغير إله الحق في سائر البلد
ولكنكم عند القبور دعاكم
…
تحري بقاع الصالحين ذوي المجد
فذا ظاهر البطلان يعلم رده
…
على أنه زور من الفعل في النقد
فما شرع الله العبادة عندها
…
ولكن بيوت الله من كل مسجد
أما صرح المختار عند مماته
…
بلعن البغاة الساجدين لدى اللحد
وإن كان معنى القيد أن دعاءها
…
لمعتقد التأثير للواحد الفرد
وذبحا ونذرا عندها واستغاثة
…
تسوغ لمطلوب من الميت للرفد
وهذا الذي تعني وخدنك قاله
…
كأشياعه حرب الرسول ذوي الجحد
تبصر تجد قبل الحواميم رده
…
وبعد الطوال السبع والحق مستبد
وأين أبو جهل وأجلاف قومه
…
من القول بالتأثير يا شيخ للند
ولكنهم ضلوا بوهم شفاعة
…
دهاك بها أشقى البرية ذو الطرد
وما قيل في المختار من بعد بعثه
…
وفعل مع العباس وابن الأسود
فذاك دليل صادم لمقالكم
…
ولكنكم عن فهم ذا الحق في بعد
فأين سؤال العبد ما لا يطيقه
…
من السؤال في الميسور من طاقة العبد
ولو كان ما قد قيل حقا وجائزا
…
لما عدل الفاروق للعم في الجهد
ولكن ذا ينفي الذي قد زعمتم
…
وبالعلم حزنا رتبة الفضل والمجد
وزعمك أنه ليس يقضي بهدمها
…
لديك غلو الزائغين عن الرشد
وقيدك منع الرفع في الوقف زلة
…
لشيخ مضى من قبل في غابر العهد
وأغرب من ذا في الضلالة قائس
…
على خوخة الصديق ذي السبق للحمد
تروم به رفع القباب معمما
…
بوقف وملك في المقابر واللحد
فأبد موازين الأصول وزن بها
…
إذا رمت تحقيق المسائل في الرد
وأظهر لنا شرط القياس لديهم
…
لتعرف بالمقياس يا واحد البلد
فخوخة صديق سبيل لمسجد
…
به اختص أولى الصحب بالفخر والمجد
وأما قباب السوء فهي ذرائع
…
إلى الشرك بالمعبود والجعل للند
فهل يستوي حكم القباب وخوخة
…
وما اشتركا في جامع عندهم مجد
وفي مسلم أن الرسول مصرح
…
بهدم القبور المشرفات وبالهد
وذا مبطل حكم القياس وإن جرى
…
على شرطه المعروف والمنع مستبد
وإطلاق ذم المحدثات حديثه
…
شهير لدى أهل الدراية والرشد
وقد قلت فيه إنه لضلالة
…
جزاؤك في ذا الصفع بالنعل والجلد
وما قلت في المفعول بعد نبينا
…
من القتل للزنديق والزيد في الحد
وإرث ذوي الأرحام مع جمع مصحف
…
وعول بميراث وكالحكم بالرد
فذا داخل في الدين ليس بمحدث
…
بنص رسول الله أفصح من يهدي
وترغيبنا في الاجتهاد هداية
…
عن السلف الأعلام من كل مستهد
فأحمد والنعمان قالا ومالك
…
وقول ابن إدريس يقرره المهدي
وإيجاب تقليد الأئمة ما له
…
دليل يفيد الحق صرفا لدى النقد
وكم رد أصحاب الأئمة عنهم
…
مذاهب يدريها الخبير بما أبدي
وما قال في حق الإمام ابن ثابت
…
مقالا يبيح العيب فضلا عن الهندي
ولكنه يحكى الذي شاع عندهم
…
من القول في المنبوذ فاعلمه للفرد
وما فاه في حب سواه بسوءة
…
سوى أنهم كالناس في الحل والعقد
وفي المنع للتقليد فاعلمه للذي
…
تمكن في المنقول والأخذ والرد
وهذا مقال ليس فيه قباحة
…
ولكنكم في الزور أول من يبدي
وما قال في حرق الدلائل قولة
…
تقابل بالتصفيق والرقص كالقرد
سوى أنه لما رأى أن جلها
…
أحاديث وضع تستبين لذي النقد
رأى حرقها خوفا على أهل درسها
…
من الكذب الموعود مبديه بالصفد
وقد صح في شأن الصلاة كفاية
…
من الآي والأخبار في خير مسند
وأعجب شيء أن عددت لقهوة
…
مع الحرب بالبارود في بدع الضد
وقد كان في الإعراض ستر جهالة
…
غدوت بها من أشهر الناس في البلد
فما بدع في الدين تلك وإنما
…
يراد بها الأحداث من قرب العبد
وبعد فما مقدار شخص سوى الذي
…
يفيد من التحقيق في ساحة الرد
وها ما نهى عنه النبي وذمه
…
وحقا من الدين الحنيفي في بعد
لديكم شهير في الأصول وغيرها
…
كمذهب جهم والمريسي والجعد
وذبك عن منشي الفصوص جهالة
…
بما قرر الأعلام واسطة العقد
أليس الذي قد قال شر مقالة
…
تزيد على قول المثلث في العد
وما هكذا شطح التصوف والتي
…
تقال من الزلات للعالم المهدي
ولكنه كفر الفلاسفة الأولى
…
أباحوا حمى التوحيد في وحدة الجحد
وهبه كما قد قلت أن مقاله
…
تجارى عليه الملحدون ذوو الطرد
فنحن أردنا قائل الزور والذي
…
على أثره يسعى ويغرب في اللد
وهل عالم يخشى الإله منبها
…
على زيغها أهل الجهالة في الجد
ولستم بجمهور لأمة أحمد
…
ولكن غثاء زائغون عن الورد
وقولك في الأخرى مقالة غابر
…
من الناس نحن الهود في جنة الخلد
وما تلك بالدعوى وبالشطح والمنى
…
ولكن بفضل الله تقسم للجند
فخذها نبالا من حنيف موحد
…
تمزق من سوء العقيدة ما يردي
منزهة عن ذكر ليلى وقدها
…
وعن وصل هند والرباب وعن دعد
وعن وصف آرام نشرن ذوائبا
…
مطيبة الأطراف بالمسك والورد
ولكنها تحمي حمى خير معشر
…
شموس الهدى أهل الإصابة من نجد
ذوائب مجد من كرام قبائل
…
مطهرة الأنساب عالية المجد
وصل إلهي كل آن وساعة
…
على السيد المختار من كل مستهد
مع الآل والأصحاب والتابع الذي
…
على نهجهم يسعى إلى الله بالحمد
[رسالة للشيخ إسحاق لما سأله عبد الله آل أحمد عن حكم بلدان المشركين والسفر إليها]
قال الشيخ إسحاق بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله ; الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينا، ونصب الأدلة على صحته وبينها تبيينا، وأعان من أراد هدايته على طاعته، وكفى بربك هاديا ومعينا.
من إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن، إلى الأخ المكرم: عبد الله آل أحمد، وفقنا الله وإياه لسلوك الطريق الأحمد.
أما بعد: فقد كتبت تسألني عن الصواب عندنا، في حكم بلدان المشركين، وهل يجوز السفر إليها لمن أظهر دينه؟ وما إظهار الدين الذي تبرأ به الذمة؟ وأرسلت إلي بما أملاه بعض المنتسبين في إباحة ذلك، وأنه صار عندكم مانع ومجيز، ونعوذ بالله من التفرق والاختلاف.
وليس هذا بمستغرب في هذا الزمان، الذى ضعف فيه الإسلام والإيمان، وعظمت فيه الفتنة بعباد الأوثان، ومن على سبيلهم من كل منافق شيطان، حتى بلغت الشبهات من أكثر الناس كل مبلغ، فهم كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكميل بن زياد: "والناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق،
أو حامل حق لا بصيرة له في إحيائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا يدري أين الحق، إن قال أخطأ، وإن أخطأ لم يدر، مشغوف بما لا يدري حقيقته، فهو فتنة بمن فتن به" إلى آخر كلامه هذا.
والمسألة المذكورة ظاهرة - بحمد الله -، لا تخفى على من عرف أصل دين الإسلام ومبانيه، وما تضمنته شهادة أن لا إله إلا الله، أو تقتضيه ; ولأئمة هذه الدعوة في ذلك ما يشفي العليل، ويروي الغليل، مستدلين له من السمع، بما لو جمع لقارب حد التواتر المعنوي ; وهو ما حصل العلم عنده، مع ما علمتم من حالهم لما ابتلى الله بتلك العساكر المصرية.
فمن حاد عن طريقهم وتخلف عن رفيقهم، فلسوء حظه في الدين، ولجناية منه على نفسه; والعجب ممن التمس الترجيح منا، وكلام هؤلاء الأئمة موجود بين يديه؛ ونحن لم نصل إلى ساحل ما حققوه وقرروه، ولم نبلغ شأوهم في ميدان ما وضحوه وحرروه، بل نحن معهم كما قيل:
أما الخيام فإنها كخيامهم
…
وأرى نساء الحي غير نسائها
ولمثلي خاصة أن يتوقى الأجوبة عن المسائل، اكتفاء بمشائخي الأفاضل، وإخواني الأماثل; لكني لحسن ظني، وبعد السائل، أسعفك بمطلوبك، لأن للسائل حقا وإن جاء على فرس ;وإني أتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يجمعنا على كلمة الإسلام، ويلم بها شعثنا، ويجودها
في قلوبنا حتى نلاقي الحمام.
هذا واعلم: أنه بعد التسليم لحكم السنة والقرآن، ووجوب الرد إليهما على كل فرد من أفراد نوع هذا الإنسان، فقد أجمع علماء السنة أنه إذا تواطأ الكتاب والسنة وصريح العقل على إثبات حكم، فلا يمكن أن يعارض ثبوته بدليل صحيح صريح البتة.
بل إن كان المعارض سمعيا كان كذبا قطعا، أو كان المعارض به أخطأ في فهمه، أو عقليا فكذلك.
إذا تقرر هذا الأصل، فالسؤال عن حكم الدار، ليترتب عليه ما زعم المجيز فاسد الاعتبار، من وجهين.
الأول: أن أهل العلم رتبوا حكم الهجرة، على وجود الشرك، والبدع، والمعاصي، لمن لا يستطيع إنكارها.
ومن المعلوم بالضرورة: أن الشرك بالأموات والغائبين، والتعلق على الأنبياء والصالحين، بل: على المجاذيب والمجانين، قد ظهر في ديارهم شعاره، وتطاير فيها شراره، وثار فيها قتامه وغباره، وعدم فيها للتوحيد أعوانه وأنصاره، مع ما هم عليه من البدع في العبادات والاعتقادات، وأصناف المعاصي التي تشيب اللمم والنواصي.
فالسؤال عن الدار: هل هي دار إسلام أم لا؟ بمعنى أن المقيم فيها، كالمقيم في بلد سالمة من ذلك، خطأ ظاهر ; وقد تقرر في عبارات أئمتنا الحنابلة وغيرهم: أنهم يوجبون الهجرة
بمشاهدة ما هو دون ذلك، حتى من بلد تظهر فيها عقائد أهل البدع، كالمعتزلة والخوارج والروافض.
وقد حكى ابن العربي المالكي، عن ابن القاسم، قال: سمعت مالكا يقول: لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يُسب فيها السلف ; وقال في "الإقناع وشرحه" - لما ذكرها -: فيخرج منها وجوبا، إن عجز عن إظهار مذهب أهل السنة فيها، فعلق الحكم بالوصف الذي هو وجود البدع، والمعاصي، لمن لا يستطيع إنكارها، لا بالدار.
وإذا كان من المعلوم: أن مصر دار إسلام، فتحها عمرو بن العاص، زمن الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه، فأين إجماع الناس على أنها دار حرب، أيام بني عبيد القداح؟! وكذلك جزيرة العرب أيام الردة، مع أن الدار دار إسلام، لا دار كافر أصلي بالإجماع.
لكن لما قام بهم الوصف الذي يبيح الدم والمال، لم يكن لتسميتها دار إسلام حكم ; وصار الحكم لهذا الوصف الطارئ، تعريف على محل طاهر تلوث به المحل؛ وللشيء حكم نظيره، فكيف بما هو أقبح وأشد؟! فبطل ما طرده المجيز من التعلق باسم الدار.
أما تعريف الدار من حيثية الأحكام المرتبة عليها، فإن كان المستولى عليها هو الكافر الأصلي، فيتعلق به أحكام يخالف فيها المرتد، كحكم اللقيط والأموال وغيرهما؛ وعلى هذا تفاريع
ذكرها الفقهاء، وجعل بعضهم الدار ضابطا لأشياء نوزع في بعضها.
قال في التنقيح: فإن وجد اللقيط في بلد كفار حرب، لا مسلم فيه، أو فيه مسلم، كتاجر وأسير، فكافر رقيق، أي: اللقيط; فإن كثر المسلمون فمسلم؛ ومثله ما صرح به الحنابلة وغيرهم: أن البلدة التي تجري عليها أحكام الكفر، ولا تظهر فيها أحكام الإسلام بلدة كفر.
وما حكاه ابن مفلح، عن الشيخ تقي الدين: أن البلدة التي تظهر فيها أحكام الكفر وأحكام الإسلام، لا تعطى حكم الإسلام من كل وجه، ولا حكم الكفر من كل وجه؛ وهو الذي عنى الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين.
فإنه لما سأله الوالد - قدس الله روحه - عن حكم ما باعوه، أو وهبوه، مما استولوا عليه في نجد؟ أجاب: بأنهم مرتدون، دارهم دار إسلام، والمرتد لا يملك عند جمهور العلماء ; ونص كلامه: فهؤلاء العدو الذين استولوا على نجد، من حكمنا بكفره منهم، فحكمه حكم المرتدين، لا الأصليين، لأن دارهم دار إسلام، وحكم الإسلام غالب عليها ; هذا حاصل كلامه، وهو عندنا بخطه.
ومعناه: أن الإسلام غالب عليها، بمعنى: أنا نغلب جانب الإسلام فيما استولوا عليه، فلا يملكون والحالة هذه لأنهم مرتدون، والمرتد لا يملك مال المسلم؛ فأخذ الناقل
بمطلق كلامه، ولم يفهم أصل المأخذ، فأين حكم الهجرة وفراق المشركين، المنوط بسماع الشرك والبدع، والمعاصي، ممن لا يستطيع تغييرها، من هذا، لو كانوا يعلمون؟!
يوضحه: أن متأخري الشافعية، صرحوا به; قال ابن حجر، في شرح المنهاج: والظاهر أن بلد الإسلام التي استولوا عليها، لها حكم بلد الكفر، انتهى؛ فسماها دار إسلام نظرا إلى الأصل، وأعطى الطارئ حكمه.
الوجه الثاني: أن المجيز علق حكم إباحة الإقامة فيما نقلت عنه، بما إذا لم يمنعوك عن واجبات دينك، مصرحا بأنها هي النطق بالشهادتين، والصلاة، والعبادات البدنية، التي يوافقك عليها المشرك في هذا الزمان; فإذا كان كذلك فالمدعى أوسع من الدليل.
إذ عدم المنع من العبادات البدنية، والدعاء بداعي الفلاح موجود في أكثر أقطار الأرض، فالسؤال مطرح من أصله؛ ولعل السائل جعله بئرا في الطريق، وعلى نفسها تجني براقش، وعلينا أن نقول الحق، لا تأخذنا في الله لومة لائم، وهذا جوابنا على المسألة الأولى.
وأما المسألة الثانية، وهي: ما إظهار الدين؟
فالجواب - وبالله التوفيق -: أن إظهار الدين على الوجه المطلوب شرعا، تباح به الإقامة بقيد أمن الفتنة، ولا تعارض نصوص الهجرة المنوطة بمجرد المساكنة، إذ هي الأصل;
وإبطال دليل الإباحة، ودليل التحريم، ممتنع قطعا ; فيتعين الجمع بما تقرر في الأصول، من أن العام يبنى على الخاص ولا يعارضه.
وإذا كان كذلك، فلا بد من ذكر طرف منها قبل الكلام عليها. فأقول: قد دل الكتاب والسنة والإجماع، مع صريح العقل، وأصل الوضع على وجوب الهجرة من دار الشرك والمعاصي، وتحريم الإقامة فيها.
أما الكتاب، فقد قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآيتين [سورة النساء آية: 97] ، وهذه الآية نص في وجوب الهجرة، بإجماع المفسرين ; وفيها ترتب الوعيد على مجرد المقام مع المشرك ; والقرآن إذا أناط الحكم بعلة أو وصف، فصرفه عنه من التأويل الذي رده السلف ; وقد ذم الله من أعرض عنه، فكيف بمن عارضه؟!
وقد قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56] ، قال أبو جعفر بن جرير، رحمه الله تعالى: يقول الله تعالى للمؤمنين من عباده: يا عبادي الذين وحدوني، وآمنوا برسولي، إن أرضي واسعة، لم تضق عليكم، فتقيموا بموضع منها لا يحل لكم المقام فيه؛ ولكن إذا عمل بمكان منها بمعاصي الله، فلم تقدروا على تغييره، فاهربوا منه.
وساق بسنده عن سعيد بن جبير، في قوله تعالى: {إِنَّ
أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [سورة العنكبوت آية: 56]، قال: إذا عمل فيها بالمعاصي، فاخرج منها ; وساق من طريق وكيع عن سعيد بن جبير مثله أيضا ; وعن عطاء:"إذا مررتم بالمعاصي، فاهربوا"، وعنه: مجانبة أهل المعاصي; وعن مجاهد في قوله: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [سورة العنكبوت آية: 56]، قال: فهاجروا وجاهدوا، وذكر عن آخرين إن ما خرج: من أرضي من الرزق واسع لكم، ورجح الأول.
وقال محيي السنة البغوي رحمه الله، في تفسيره: وهذه الآية نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة بمكة، وقالوا: نخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة؛ وساق كلام سعيد بن جبير وغيره، ثم قال:"ويجب على كل من كان ببلد يعمل فيها بالمعاصي، ولا يمكنه تغييرها، الهجرة إلى حيث تتهيأ له العبادة،". انتهى.
فسمى تغيير المعاصي عبادة، يجب على المسلم الهجرة إذا لم تتهيأ له، وأطلق العبادة عليها من إطلاق الشيء وإرادة معظمه؛ والمعصية إذا أطلقت وأفردت لا في مقابلة ما هو أعلى، فهي عامة كما قرره شيخ الإسلام في "كتاب الإيمان"، وقرره غيره.
وقال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [سورة النساء آية: 100]، ومعنى الآية: أن المهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مكانا يسكن فيه، على رغم أنف قومه الذين هاجرهم، ويجد سعة في البلاد وقيل: في الرزق، وقيل:
في إظهار الدين، أو في تبديل الخوف بالأمن، أو من الضلال إلى الهدى; فهذا تفسير التابعين ومن بعدهم، وهو الذي فهم علماء التفسير.
فمن غلب الحقائق وجعلها نصا في عدم وجوب الهجرة، على من لم يمنع من عبادة ربه، التي هي فى زعمه: الصلاة، وما يتعلق بالبدن، وحمل إظهار الدين على ذلك، وفهم من قوله تعالى:{فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56]، أي: في كل مكان من دار إسلام أو كفر، فقد عكس القضية وأخطا في فهمه.
والحق: أن الحكم فيها منوط بمجرد المقام مع المشركين ومشاهدة المحرمات، قال ابن كثير رحمه الله تعالى، في تفسيره على قوله تعالى:{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16] : وإذ فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم، في عبادتهم غير الله، ففارقوهم أيضا بأبدانكم؛ فحينئذ هربوا إلى الكهف.
وقال في تفسير آية النساء، لما ذكر أقوال السلف في سبب نزولها: فهذه الآية عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه، مرتكب حراما بالإجماع، وبنص هذه الآية، حيث يقول:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [سورة النساء آية: 97]، أي: بترك الهجرة {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [سورة النساء آية: 97]، أي: لم مكثتم ها هنا، وتركتم الهجرة؟ {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ} الآية [سورة النساء آية: 97] . انتهى.
وقال الحنفي، في تفسيره: وأمر الهجرة حتم، ولا توسعة
في تركها، حتى إن من تبين اضطراراه - يعني من هو مستضعف - حقه أن يقول: عسى الله أن يعفو عني، فكيف بغيره؟ انتهى ملخصا.
قلت: واستثناء المستضعفين في هذه الآية، يبطل دعوى من قصر إظهار الدين على مجرد العبادة، لأنه إذا حمل على ذلك، فقد تساوى المستثنى والمستنى منه، إذ هو مناط الرخصة في زعم المجيز؛ ولا يتصور في المستضعف أنه يترك عبادة ربه، فما فائدة تعلق الوعيد بالقادر على الهجرة، دون من لم يقدر؟ وقد علم أن الاستثناء معيار العموم.
فإن قلت: الفائدة فيه أمن الفتنة، وتكثير سواد المسلمين، والجهاد معهم، قلنا: هذا من فوائد الهجرة، لكن قصرها عليه من القصور، لأن مثل هذا، وإن كان مأمورا به، فلا يحتمل هذا الوعيد الشديد.
وقد تكون أسباب الحكم الواحد متعددة، وبعضها أعظم من بعض، كما قال تعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} الآية [سورة المائدة آية: 91] ، فهذه أسباب المنع، وكل سبب منها مستقل بالحكم.
وقد تحتم المنع من هذا المحرم إلى قيام الساعة، وإن لم توجد الأسباب؛ فلو ادعى أحد أن الخمر لا يسكره، ولا يصده عن طاعة الله، ولا يوقع عداوة، فإنه لا يسلم له ذلك; فعلم
أنه لا مفهوم للفظ "الفتنة" لتحتم المنع المنوط بسماع الشرك، في الآيات المحكمات، وفي حديث من لا ينطق عن الهوى.
فمن حمل الآيات والأحاديث، على من فتنه المشركون خاصة، فقد قصر; بل أمن الفتنة قيد إباحة الإقامة لمن أظهر دينه، وصرح بمخالفة ما هم عليه؛ والتنصيص على بعض أفراد العام، معروف في تفسير السلف، لا يقتصر عليه إلا جاهل.
ولما ذكر الحافظ بن حجر، خصوص السبب، قال: وكذلك المفارقة بسبب فيه صالحه، كالفرار من دار الكفر، وساق كلاما حسنا، ورد على الطيبي قوله: فانقطعت الأولى وبقيت الأخريان، حماية لجناب النصوص.
وقال الحافظ بن رجب، في شرح الأربعين: فمن هاجر إلى دار الإسلام، حماية لله ورسوله، ورغبة في تعلم دين الإسلام، وإظهارا لدينه، حيث يعجز عنه في دار الشرك، فهو المهاجر حقا، انتهى كلامه.
والدين كلمة جامعة لخصال الخير، أعلاها وأغلاها التوحيد ولوازمه; فمن قصره على العبادات التي يوافق فيها المشرك، بل يواليك عليها، فقد أخطأ.
وأما الأحاديث فكثيرة جدا، منها: ما رواه أبو داود والحاكم، عن سمرة مرفوعا:" من جامع المشرك أو سكن معه فهو مثله "1، ولفظ الحاكم "وساكنهم أو جامعهم فليس منا" وقال: صحيح على شرط البخاري.
1 أبو داود: الجهاد 2787.
ومنها: ما رواه أبو داود والنسائي، والترمذي عن جرير بن عبد الله مرفوعا:" أنا بريء من مسلم يقيم بين ظهراني المشركين، لا تراءى ناراهما " 1 رواه ابن ماجه أيضا، ورجال إسناده ثقات، وهو إن صح مرسلا، فهو حجة من وجوه متعدده، يعرفها علماء أصول الحديث; منها: أن المرسل إذا اعتضد بشاهد واحد، فهو حجة.
وقد اعتضد هذا الحديث بأكثر من عشرين شاهدا، وتشهد له الآيات المحكمات، مع الكليات من الشرع، وأصول يسلمها أهل العلم; ومنها: حديث جرير الذي رواه النسائي وغيره: (أنه بايع النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبد الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويفارق المشركين) ; وفي لفظ: (وعلى فراق المشركين) ; ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكفى، لتأخر إسلام جرير.
ومنها: ما روى الطبراني والبيهقي، عن جرير موفوعا:"من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة"، قال المناوي: حديث حسن، يقصر عن رتبة الصحيح، وصححه بعضهم.
ومنها: ما رواه النسائي وغيره، من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده مرفوعا:" لا يقبل الله من مشرك عملا بعد ما أسلم، أو يفارق المشركين "2.
ومنها: ما رواه النسائي وغيره، عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا:" لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار " 3، وفي معناه حديث معاوية:" لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة " 4 الحديث،
1 الترمذي: السير 1604 ، والنسائي: القسامة 4780 ، وأبو داود: الجهاد 2645.
2 النسائي: الزكاة 2568.
3 النسائي: البيعة 4172.
4 أبو داود: الجهاد 2479 ، وأحمد 4/99 ، والدارمي: السير 2513.
وما رواه سعيد بن منصور وغيره: " لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد "1.
ففي هذه الأحاديث مع تباين مخارجها، واختلاف طرقها، هيئة اجتماعية يقطع معها بهذا الحكم العظيم، الذي هو من أعظم مصالح الشريعة.
قال أبو عبد الله الحليمي في المجالس، وهو من أجل علماء الشافعية، وأئمة الحديث في وقته، وهو في طبقة الحاكم، لما ذكر بقاء الهجرة، قال: إنها انتقال من الكفر إلى الإيمان، ومن دار الحرب إلى دار الإسلام، ومن السيئات إلى الحسنات، وهذه الأشياء باقية ما بقى التكليف.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: وقد أفصح ابن عمر بالمراد، فيما ذكره الإسماعيلي، بلفظ:(انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تنقطع ما قوتل الكفار)، أي: ما دام في الدنيا دار كفر، انتهى.
وكلام أئمة المذهب في ذلك في غاية الوضوح والقوة، قال في الشرح الكبير: وحكم الهجرة باق لا ينقطع إلى يوم القيامة، لحديث معاوية، وما رواه سعيد بن منصور وغيره، مع إطلاق الآيات، والأخبار الدالة عليها، وتحقق المعنى المقتضي لها في كل زمان ومكان.
وأما الإجماع على تحريم الإقامة بين ظهراني المشركين، فحكاه الحافظ بن كثير، ولم ينازع في ذلك أحد فيما نعلم، وقد
1 أحمد 4/62.
تقدم، وقال ابن هبيرة في الإفصاح: واتفقوا، يعني: الأربعة على وجوب الهجرة من ديار الكفار إن قدر على ذلك.
وأما ما يدل على ذلك لغة ووضعا، فأصل الهجرة: الترك، والهجرة إلى الشيء الانتقال من غيره إليه، ويؤخذ من لفظ العداوة، لأنها وضعت للمجانبة والمباينة; لأن أصل العداوة: أن تكون في عدوة، والعدو في أخرى; وأصل البراءة: الفراق والمباينة أيضا، مأخوذ من براه إذا قطعه; قال الحافظ في الفتح: والعداوة تجر إلى البغضاء، انتهى.
فعلم: أن العداوة سبب للبغضاء ووسيلة; وبغض الكافر مشروط في الإيمان، محبوب إلى الرحمن، فكانت مطلوبة، لأن وسيلة المطلوب المحبوب مطلوبة محبوبة، فاتفق الشرع والوضع على هذه الشعبة، التي هي من أعظم شعب الإيمان.
وأما وجوب الهجرة، وفراق المشركين عقلا، فلأن الحب أصل كل عمل من حق وباطل؛ ومن علامة صدق المحبة: موافقة المحبوب فيما أحب وكره، ولا تتحقق المحبة إلا بذلك؛ ومحال أن توجد المحبة مع ملاءمة أعداء المحبوب، هذا مما لا تقتضيه المحبة؛ فكيف إذا كان قد حذرك من عدوه الذي قد طرده عن بابه، وأبعده عن جنابه، واشترطه عليك في عهده إليك، هذا والله مما لا يسمح به المحب، ولا يتصوره العاقل.
متى صدقت محبة من يراني
…
من الأعداء في أمر فظيع
فتسمح أذنه بسماع شتمي
…
وتسمح عينه لي بالدموع
إذا تقرر ذلك، فالكلام على إظهار الدين الذي هو مقصود السؤال، والذي قد وقع فيه الإشكال في مقامين:
الأول: وهو أعلاها، الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ وقد تقدم بعض التنبيه عليه، فيما نقله ابن جرير وغيره من السلف، ويأتيك له مزيد بسط، في كلام الحنابلة والشافعية وغيرهم، وإليه يومئ كلام الماوردي رحمه الله.
الثاني: الامتياز عن عبادة الأوثان والأصنام، وتصريح المسلم بما هو عليه من دين الإسلام، والبعد عن الشرك ووسائله، وهو دون الأول. فاصغ سمعك لبرهان هذين المقامين، لعل الله أن ينفعك به.
واعلم: أن الدين كلمة جامعة لخصال الخير، وأعلاها التوحيد، كما تقدم؛ وهو على القلب بالاعتقاد، والصدق والمحبة، وعلى اللسان بتقريره وتحقيقه والدعوة إليه واللهجة به، وعلى الجوارح بالعمل بمقتضاه، والسعي في وسائله والبعد عن مضاده.
قال الوالد رحمه الله، في رسالته لأهل الأحساء: فإن الإنسان لا يصلح له إسلام ولا إيمان، إلا بمعرفة هذا التوحيد، وقبوله، ومحبته، والدعوة إليه، وتطلب أدلته، واستحضارها ذهنا وقولا وطلبا ورغبة; انتهى بحروفه.
وقد أوضح ذلك القرآن أي إيضاح، وضمن لمن قام به ودعا إليه، وصبر عليه، السعادة والفلاح; قال تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يونس آية: 105]، وقال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ} [سورة الشورى آية: 13] .
فقوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} [سورة الشورى آية: 13] أمر عام، وقد اقتبسه العماد ابن كثير فيما تقدم من قوله: وليس متمكنا من إقامة الدين.
وقال تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْر إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر آية: 1-2-3] ؛ فأقسم سبحانه بالعصر - وهو الزمن أو الوقت - على خسران جميع هذا النوع الإنساني، إلا من استثنى، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، بأن دعوا إليه وصبروا على الأذى فيه؛ وهذا أصل الأصول، وهو طريق الرسول; والصلاة وسائر العبادات فروعه.
وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] .
ففي هذه الآية أعظم دلالة: على أعلى مقامات إظهار الدين، لأن الله بين هذا الحكم العميم، وأكد هذا المشهد العظيم،
الذي هو مشهد الأسوة بالأنبياء والرسل، معبرا بصيغة الماضي، وبقد التحقيقية الدالة على لزوبه، ولزومه على البرية، ووصفه بالحسن، وضد الحسن القبيح; وأزال دعوى الخصومة بقوله:{وَالَّذِينَ مَعَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] ، ترغيبا في معية أوليائه.
ثم صرح: بأنها هي القول باللسان، مع العداوة، والبغضاء; خلافا لمن قال: أبغضهم بقلبي، وأتبرأ من العابد والمعبود جميعا; وقدّم البراءة من العابد، تنويهاً بشناعة فعله، ثم أعادها بلفظ آخر أعم من البراءة، وهو قوله:{كَفَرْنَا بِكُمْ} [سورة الممتحنة آية: 4]، أي: جحدناكم، وأنكرنا ما أنتم عليه; وكشف الشبهة بقوله:{وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ} [سورة الممتحنة آية: 4] . ومعنى: {وَبَدَا} [سورة الممتحنة آية: 4] ، ظهر؛ وقرن بين العداوة والبغضاء إشارة إلى المباعدة والمفارقة، بالباطن والظاهر معا، وأكد العداوة، وأيدها بقوله:{أَبَداً} [سورة الممتحنة آية: 4] ، معبرا بالظرف الزماني المستقبل المستمر، إلى غاية وهي الإيمان، وأتى بحتى الغائية، الدالة على مغايرة ما قبلها لما بعدها، المعنى: إن لم تؤمنوا فالعداوة باقية.
وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ?لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [سورة الكافرون آية: 1-2] ، إلى أخر السورة، أمر الله تعالى نبيه أن يخاطبهم بأنهم كافرون، وأن يخبرهم أنه لا يعبد ما يعبدون، أي: أنه بريء من دينهم; ويخبرهم أنهم لا يعبدون ما يعبد، أي: أنهم بريئون من التوحيد.
وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يونس آية: 104-105] .
والآيات في بيان الدعوة إلى الله، ومباينة المشركين، والبعد عنهم، وجهادهم بالحجة واللسان، والسيف والسنان، كثيرة جدا؛ وهذا المقام العظيم، للنفس فيه مغالطات، وللشيطان فيه ركضات، قد غلط فيه أكثر الناس، وأشكل أمره حتى على العباس.
فتدبر القرآن إن رمت الهدى
…
فالعلم تحت تدبر القرآن
قال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى، على قوله:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ?وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26-27-28] أي: هذه الموالاة لله، والمعادة التي هي معنى شهادة أن لا إله إلا الله، باقية في عقبه، يتوارثها الأنبياء وأتباعهم إلى يوم القيامة، انتهى ملخصا.
وهو من تفسير الشيء بلازمه؛ والمعاداة والموالاة، من باب المفاعلة الدالة على المشاركة، كالمبايعة والمقاتلة والمعاهدة; المعنى: أن كلا منهما أظهر العداوة للآخر، واشتركا فيها، لأن الاشتراك هو الأصل، كما هو معلوم عن علماء الصرف، وليس مع المنازع ما يدفع هذه الآيات المحكمات، والقواطع البينات، إلا دعوى الخصوصية، وأنى له ذلك؟!
وقد قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة آل عمران آية: 110]، وقال تعالى:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [سورة الأعراف آية: 165] .
وفي الحديث الصحيح: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، إلى يوم القيامة "1.
وقد هاجر جعفر وأصحابه إلى الحبشة؛ وتسمى هجرة الانتقال عن دار الخوف، وصبروا على الغربة وفراق الوطن، ومجاورة غير الشكل، وما ذاك إلا لأجل هذه البراءة، والتصريح بما هم عليه من الدين.
"ولما قالت قريش لابن الدغنة، بعد إرجاعه أبا بكر إلى مكة، وإجارته إياه: مره أن يعبد ربه بداره ولا يستعلن، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، أبى إلا الاستعلان بالقرآن، ونبذ إلى ابن الدغنة ذمته، ورضي بجوار الله. ولم يزل على ذلك إلى أن هاجر" والقصة مشهورة مبسوطة في دواوين الإسلام.
فمن كان بهذه المثابة، داعيا إلى الله، ناهيا عن المنكر، أو مصرحا بما هو عليه، بحيث أن يرجى بإقامته هداية غيره، فمقامه - والحالة هذه – جائز؛ وقد نوزع الماوردي، في إطلاق الأفضلية في حقه، فإنه قال الشوكاني لما ذكره: ولا يخفى ما في هذا الرأي، من المصادمة لأحاديث الباب ويأتيك باقي
1 البخاري: المناقب 3641 ، ومسلم: الإمارة 1037.
الكلام عليه، في الجواب عن المعارضة، إن شاء الله تعالى.
وقال ابن القيم، رحمه الله في "البدائع" على قوله:{لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة آل عمران آية: 28] إلى قوله: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [سورة آل عمران آية: 28] : ومعلوم أن التقاة ليست بموالاة، ولكن لما نهاهم عن موالاة الكفار، اقتضى ذلك معاداتهم والبراءة منهم، ومجاهرتهم بالعداوة في كل حال، إلا إذا خافوا من شرهم، فأباح لهم التقية، وليست التقية موالاة لهم، فهو إخراج من متوهم غير مراد، انتهى كلامه.
فانظر إلى قوله: والبراءة منهم، ومجاهرتهم بالعداوة في كل حال، وأن الاستثناء منقطع، وعليه فالتقية ليست من الركون، ولا حجة فيها لمفتون، بل هي إباحة عارضة لا تكون إلا مع خوف القتل، كما قاله أكثر المفسرين، وعن سعيد بن جبير:(لا تكون التقية في سلم إنما هي في الحرب) .
وقد بنى العلامة ابن قدامة، وابن أبي عمر وغيرهما، كالحافظ وغيره حكم الإباحة على مقدمتين: إظهار الدين، وأداء الواجبات; والحكم إذا علق بوصفين لم يتم بدونهما، خصوصا إذا أعيدت الأداة، وتكررت الصيغة; وقد أعيدت الأداة وتكررت، وأعيدت الصيغة هنا، حيث قالوا: ولا يمكنه إظهار دينه، ولا يمكنه إقامة واجبات دينه، وهذا يدل على أن لكل جملة معنى غير الذي للأخرى.
ولو كان إظهار الدين هو أداء الواجبات البدنية فقط - كما
فهم المجيز - لما طابق مقتضى الحال، وحاشا الأئمة من ذلك; فالفهم فاسد والمحصل كاسد; نعم: لو سلمنا أن إظهار الدين هو أداء الواجب، فأوجب الواجبات: التوحيد وما تضمنه، وهو أوجب من الصلاة وغيرها؛ وهو الذي ما زالت الخصومة فيه، وهذا اللفظ يصدق عليه.
فإظهاره هو الإعلان بمباينة المعتقد، والبعد عن ضده، دع الدعوة إليه فإنه أمر وراء ذلك؛ فلو استقل الحكم بما زعمه المجيز - هداه الله - من أن العلة عدم المنع من العبادة، لبقيت نصوص الشارع عديمة الفائدة، لأنه لا يمنع أحد من فعل العبادات الخاصة في أكثر البلاد، فبطل ما زعمه وسقط ما فهمه.
قال شيخنا العلامة عبد اللطيف، رحمه الله، في بعض رسائله: قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في المواضع التي نقلها من السيرة: فإنه لا يستقيم للإنسان إسلام - ولو وحد الله وترك الشرك - إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء.
قال: فانظر إلى تصريح الشيخ، بأن الإسلام لا يستقيم إلا بالتصريح لهم بالعداوة والبغضاء، وأين التصريح من هؤلاء المسافرين؟! والأدلة من الكتاب والسنة ظاهرة متواترة على ما ذكره الشيخ، وهو موافق لكلام المتأخرين في إباحة السفر لمن أظهر دينه، ولكن الشأن كل الشأن في إظهار الدين؛ وهل اشتدت العداوة بينه صلى الله عليه وسلم وبين قريش، إلا لما كافحهم بسبب دينهم، وتسفيه أحلامهم، وعيب آلهتهم.
وأي رجل تراه يعمل المطي جادا في السفر إليهم واللحاق بهم، حصل منه أو نقل عنه ما هو دون هذا الواجب؟! والمعروف المشتهر عنهم ترك ذلك كله بالكلية، والإعراض عنه، واستعمال التقية والمداهنة؛ وشواهد هذا كثيرة، إلى أن قال: حتى ذكر جمع بتحريم القدوم إلى بلد تظهر فيها عقائد المبتدعة، كالخوارج والمعتزلة والرافضة، إلا لمن عرف دينه في هذه المسائل، وعرف أدلته وأظهره عند الخصم، انتهى كلامه.
فانظر إلى قوله: وأنه لا يستقيم الإسلام إلا بالتصريح بالعداوة، يعني: أن الإسلام ناقص وصاحبه معرض للوعيد; وانظر إلى قوله: والأدلة عليه من الكتاب والسنة متواترة، أي: على وجوب التصريح، وإلا فالعداوة لا يخلو منها من يؤمن بالله ورسوله، ففرق بين العداوة وإظهار العداوة؛ ومن هنا غلط من غلظ حجاب طبعه ولم يعرف المفهوم من التخاطب ووضعه.
وكلام الشيخ هذا، هو صريح كلام السلف قديما وحديثا، كما قدمنا لك عن سعيد بن جبير، وعطاء ومجاهد، ومن بعدهم؛ وقد مر بك صريحا في كلام ابن القيم، رحمه الله وغيره، وفي قصة خالد مع مجاعة، حين أسره دلالة ظاهرة، فإنه قال له: قد أسلمت وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا اليوم على ما كنت عليه أمس، فإن يكن كذابا خرج فينا، فإن الله يقول:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة الأنعام آية: 164] .
وقول خالد له: "تركت اليوم ما كنت عليه أمس، وكان
سكوتك إقرارا له، فهلا أبديت عذرا وتكلمت فيمن تكلم؟ فقد تكلم فلان وفلان; فإن قلت: أخاف قومي فهلا عمدت إلي أو بعثت إلي رسولا، فخصمه خالد، فطلب العفو فعفا عن دمه"، والقصة مشهورة.
قال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في شعب الإيمان، ما نصه: فالظاهر منها، أي: من الهجرة هو الفرار بالجسد من الفتن، لقوله صلى الله عليه وسلم "أنا بريء من أهل ملتين تتراءى ناراهما"، فتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم منهم، لتخلف شعبة الهجرة عنهم، إذ هي من أعظم شعب الإيمان، ولقوله صلى الله عليه وسلم وقد ذكر الفتن:" لا يسلم لذي دين دينه، إلا من فر من شاهق إلى شاهق "، وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآيتين [سورة النساء آية: 97] .
وفي البخاري: والفرار من الفتن من الإيمان، فما كان من الإيمان فهو من شعبه بلا شك؛ فالفرار ظاهر من بين ظهراني المشركين، واجب على كل مسلم، وكذلك كل موضع يخاف فيه من الفتنة في الدين من ظهور بدعة، أو ما يجر إلى كفره في أي بلد كان من بلاد المسلمين، فالهجرة منها واجبة إلى أرض الله الواسعة.
وكلام أبي عبد الله الحليمي في هذا المقام واضح، فإنه قال: وكل بلد ظهر فيها الفساد، وكانت أيدي المفسدين أعلى من أيدي أهل الصلاح، وغلب الجهل، وسمعت الأهواء فيهم،
وضعف أهل الحق عن مقاومتهم، واضطروا إلى كتمان الحق، خوفا على أنفسهم من الإعلان، فهو كمكة قبل الفتح في وجوب الهجرة منها، لعدم القدرة عليها؛ ومن لم يهاجر فهو من السَّمحَاء بدينه.
وقال: ومن الشح بالدين أن يهاجر المسلم من موضع لا يمكنه أن يوفي الدين فيه حقوقه إلى موضع يمكنه فيه ذلك؛ فإن أقام بدار الجهالة ذليلا مستضعفا، مع إمكان انتقاله عنها، فقد ترك فرضا في قول كثير من العلماء، لقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآيتين [سورة النساء آية: 97] ؛ لا يقال ليس في الآية تصريح بذكر المؤمنين، فيجوز أن يكون المراد بها الكافر، لأنا نقول: ذكر العفو عمن استثنى يرد ذلك، فإن الله لا يعفو عن الكافرين، وإن عزم على الإيمان ما لم يؤمن، انتهى.
وهو صريح في بيان المقصود; بهذا كله تعرف أن من عبر من أهل العلم بأمن الفتنة، أو القدرة على أداء الواجبات، أو إطلاق لفظ العبادة، فكلامه مجمل، يرد إلى صريح الظاهر الذي قد قال به السلف الصالح من سلف هذه الأمة وأئمتها، ممن قدمنا ذكرهم وغيرهم.
وقد ذكر صاحب المعتمد - وهو من أجلاء الشافعية - أن الهجرة كما تجب من دار الشرك، تجب من بلد إسلام أظهر بها حقا، أي: واجبا ولم يقبل منه، ولا قدرة له على إظهاره; وهو موافق لقول البغوي الذي قدمنا: يجب على من كان ببلد
يعمل فيها بالمعاصي، ولا يمكنه تغييرها، الهجرة إلى حيث تتهيأ له العبادة، نقله عنهما ابن حجر في شرح المنهاج.
وقال به جمع من الشراح، منهم: الأذرعي والزركشي، وأقروه؛ ومن متأخريهم البلقيني، ذكر ابن حجر أنه صرح به، وبأن شرط ذلك: أن يقدر على الانتقال إلى بلد سالمة من ذلك; فإظهار الدين هو ما صرح به هؤلاء الأئمة، وكلامهم لا يختلف فيه; والقول بأن الشارع رتب الوعيد على مجرد المساكنة والمجامعة، هو الذي يعطيه ظاهر الدليل، وقد قال به طائفة من أهل العلم; والقول بأن إظهار الدين يبيح الإقامة، رخصة; ومن الجناية على الشرع: أن تفسر هذه الرخصة بما يوافق الرأي والهوى، ثم يدفع به في نحر النصوص الواضحة البينة; وأما متأخرو الحنابلة فكلامهم في الباب أشهر من نار على علم.
قال في الإقناع وشرحه: وتجب الهجرة على من يعجز عن إظهار دينه بدار الحرب، وهو ما يغلب عليها حكم الكفر، زاد جماعة وجزم في المنتهى أو بلد بغاة، أو بدع مضلة، كالرافضة والخوارج، فيخرج منها إلى دار أهل السنة وجوبا، إن عجز عن إظهار مذهب أهل السنة فيها.
فعلم: أن إظهار الدين في عبارة الموفق ومن قبله ومن بعده من الأصحاب، هو: إظهار التوحيد الذي هو إفراد الله بالعبادة، في بلد يخفى فيه، بل يجعل ضده هو الدين؛ ومن تكلم به هو الوهابي الخارجي، صاحب المذهب الخامس، الذي يكفر الأمة.
وقال الشيخ العلامة، حمد بن عتيق: وأما مسألة إظهار الدين، فكثير من الناس قد ظن أنه إذا قدر أن يتلفظ بالشهادتين، وأن يصلي الصلاة ولا يرد عن المساجد، فقد أظهر دينه، وإن كان ببلد المشركين؛ وقد غلط في ذلك أقبح الغلط.
قال: ولا يكون المسلم مظهرا للدين، حتى يخالف كل طائفة بما اشتهر عنها، ويصرح لها بعداوته؛ فمن كان كفره بالشرك فإظهار الدين له، أن يصرح بالتوحيد والنهي عن الشرك، والتحذير منه؛ ومن كان كفره بجحد الرسالة، فإظهار الدين عنده التصريح عنده، بأن محمدا رسول الله؛ ومن كان كفره بترك الصلاة، فإظهار الدين عنده بفعل الصلاة.
ومن كان كفره بموالاة المشركين، والدخول في طاعتهم، فإظهار الدين التصريح بعداوته وبراءته منه، ومن المشركين.. إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى; وقد مر لك هذا صريحا في كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، في المواضع التي نقلها من السيرة، وسماه العلامة عبد اللطيف واجبا، قال فيه: وأي رجل نقل عنه، ما هو دون هذا الواجب؟!
فالحاصل هو ما قدمناه من أن إظهار الدين الذي تبرأ به الذمة، هو الامتياز عن عباد الأوثان بإظهار المعتقد، والتصريح بما هو عليه، والبعد عن الشرك، ووسائله؛ فمن كان بهذه المثابة إن عرف الدين بدليله، وأمن الفتنة، جاز له الإقامة، والله أعلم.
بقي مسألة العاجز عن الهجرة ما يصنع؟ قال الوالد رحمه الله، لما سئل عنه: وأما إذا كان الموحد بين ظهراني أناس من المبتدعة والمشركين، ويعجز عن الهجرة، فعليه بتقوى الله، ويعتزلهم ما استطاع، ويعمل بما وجب عليه في نفسه، ومع من يوافقه على دينه، وعليهم أن يصبروا على أذى من يؤذيهم في الدين؛ ومن قدر على الهجرة وجبت عليه، وبالله التوفيق؛ انتهى جوابه، وبه انتهى الجواب عن المسألة، وبالله التوفيق.
وأما المسألة الثالثة، وهي مسألة السفر إلى أوطانهم، ففرع عما تقدم، فمن حرم الإقامة بين أظهرهم إلا بشروطها حرم السفر، ولكن ليس كمن أقام بين ظهراني المشركين، يشهد ما هم عليه من الكفر الجلي البواح، والحكم بالقوانين، ورد الأحكام الشرعية، وغير ذلك مما لا يحصى، بل لكل درجات مما عملوا؛ فذنب المسافرين أخف من ذنب المقيمين، وذنب المقيمين فقط، أخف من ذنب من تولاهم بالمحبة والنصرة والطاعة، مما هو بنص القرآن مناف للإيمان.
قال في الإقناع وشرحه: وتكره التجارة والسفر إلى أرض العدو، وبلاد الكفر مطلقا، أي: مع الأمن والخوف، وإلى بلاد الخوارج، والروافض، والبغاة والبدع المضلة، لأن الهجرة منها لو كان فيها، مستحبة إن قدر على إظهار دينه، وإن عجز عن إظهاره فيها حرم سفره إليها; انتهى بلفظه.
وقد علمت معنى إظهار الدين فيما مر من كلامهم، وقد
جعلوا هنا حكم المسافر حكم المقيم صريحا، موافقين للسلف في ذلك، فجزاهم الله عن الإسلام خيرا.
قال الشيخ عبد اللطيف في بعض رسائله: ولا بد في إباحة السفر إلى بلاد المشركين، من أمن الفتنة؛ فإن خاف بإظهار الدين الفتنة بقهرهم وسلطانهم، أو شبهات زخرفهم وأقوالهم، لم يبح له القدوم إليهم والمخاطرة بدينه.
ولما اعترض ابن منصور على إمام الدعوة، قدس الله روحه، بأنه يمنع السفر إلى جميع بلاد الإسلام، قال عبد اللطيف، رحمه الله، في جوابه: يطالب أولا بتصحيح هذا، فإن صح فللسلف فيه كلام معروف، في السفر إلى ما يظهر فيه شيء من شعائر الكفر والفسوق، لمن لم يقدر على إظهار دينه، وللقادر أيضا، كما يعرفه أهل العلم والفقه.
وقد منعوا من السفر إلى بلاد تظهر فيها البدع، لمن خشي الفتنة، فكيف ببلد يدعى فيها غير الله، ويستغاث بسواه، ويتوكل على ما عبد معه من الآلهة؟ فماذا على شيخنا رحمه الله لو حمى الحمى، وسد الذريعة، وقطع الوسيلة لا سيما في زمن فشا فيه الجهل، وقبض العلم، وبعد العهد بآثار النبوة، وجاءت قرون لا يعرفون أصل الإسلام ومبانيه العظام؟
وأكثرهم يظن أن الإسلام هو التوسل بدعاء الصالحين، وقصدهم في الملمات والحوائج، وأن من أنكر جاء بمذهب خامس لا يعرف قبله؛ فإن كان الحال هكذا، فأي مانع من
قوله - يعني الشيخ محمدا رحمه الله تعالى -، وأي دليل يجيز السفر ويبيحه مطلقا؟ هذا لا يقوله إلا جاهل بأصل الشريعة ومدارك الأحكام، انتهى كلامه رحمه الله.
ونحن نقول كما قال هذا الإمام: بأنه لا ينكر على منكر السفر والحالة هذه إلا جاهل، أو صاحب هوى، وأنه قد ورث هذا المعترض في أغلوطاته؛ ومن تشبه بقوم فهو منهم.
ولما سئل العلامة: سليمان بن عبد الله عن السفر إلى بلاد المشركين،
أجاب: بأنه إن كان يقدر على إظهار دينه، وإظهار الدين هو الذي قدمنا لك مرارا، ولا يوالي المشركين، جاز له ذلك، فقد سافر بعض الصحابة رضي الله عنهم كأبي بكر وغيره; وإن كان لا يقدر على إظهار دينه، ولا على معاداتهم، لم يجز له؛ نص على ذلك العلماء، وعليه تحمل الأحاديث التي تدل على النهي، لأن الله تعالى أوجب على الإنسان العمل بالتوحيد، وفرض عليه عداوة المشركين، فما كان ذريعة وسببا إلى إسقاط ذلك منع منه، وقد يجر إلى موالاتهم وموافقتهم وإرضائهم كما هو الواقع من كثير ممن يسافر من فساق المسلمين انتهى بلفظه.
وقال شيخ الإسلام، في "اقتضاء الصراط المستقيمط فإن استقراء الشريعة في مواردها ومصادرها، دال على أن ما أفضى إلى الكفر غالبا حرم، وما أفضى إليه على وجه خفي حرم، انتهى.
فظهر لك من كلام هؤلاء الأئمة ما يكفي ويشفي، إذ هم أئمة الإسلام، ومصابيح الظلام؛ فانظر إلى عمن تأخذ دينك، ولا تغتر بمن مال معه العامة عن غير فقه ولا ورع، ولا من قابله بزائد على ما أمر الله به وشرع.
فإذا تبين لك ما قدمناه، تبين لك جهل من قال: أعطونا دليلا ولو من تاريخ، أننا نقول إذا سافرنا: يا كفار; ولو زال حجاب الدنيا وشهواتها عنه، واتقى الله وحلت الغيرة الإيمانية لله ولدينه من قلبه محل سويداه، لعرف: أن الكتاب والسنة وصريح العقل، مع من أمر بالإغلاظ على المشركين، وحذر عنهم العامة المساكين، إلا لمن ليس في سفره مضرة على الدين؛ وذلك إلا ما شاء الله، قد تعذر، وصار كالكبريت الأحمر.
ولما عظمت غربة الإسلام، ولاذ أكثر المتفقهة بالأوهام، جعلوا يؤسسون عقد المصالحة بين أهل الإسلام، وضدهم اللئام، وليت شعري إلى أي شيء قاموا به من عداوة المشركين؟ وأي ثغر رابطوا فيه ولو ساعة لنصر الدين؟ لقد والله نسجت على الدين عناكب النسيان، وسمح دونه بكثرة الهذيان، وعد عند الأكثرين في خبر كان.
فنعوذ بالله من الخذلان، ومن نزغات الشيطان؛ هذا وأنا لا أعرف عين من نسبت إليه هذا الأمر، ولا أدري أهو من أهل الغمر، أو من أهل الغمر؟! لكني أقول: من هذا الذي يرد ما قرره علماء الدين؟ ومن جعل الله دعوتهم رجومًا للشياطين،
بأقوال منبوذة بالعراء، مطروحة من وراء وراء وهذا القول كاف لمن وفق للإنصاف، وبالله التوفيق، وهو الهادي لأقوم طريق.
فإن قلت: قد أرخيت عنان القلم في هذا الباب، وأطنبت في هذه المسائل بعض الإطناب، فأجب عن المعارضة، وإن خرج بنا عن قانون الجواب، لشدة الحاجة إلى كشف هذا الحجاب.
قلت: الجواب عن المعارضة، وإن كان يستفاد مما تقدم لمن جعل الله له نورا، هو من وجهين: مجمل، ومفصل.
أما المجمل: فإنه لو كان مع المجيز نص في محل النّزاع، وأنى له ذلك، فقد تقرر في الأصول: أنه لا تعارض بين نصين، ولا بين نص وظاهر، ولا بين مجمل ومفصل; لأن التعارض بين النصين محال قطعا، لأن السنة لا تتناقض ولا تتعارض، ولو صح، لأنه قد يكون صحيحا لا صريحا، فيقدم النص الذي لا يحتمل إلا مدلولا واحدا، ويحمل عليه ما عداه.
وقد صرح أئمة الأصول بأن ما احتمل معنيين، وكان أحدهما أظهر، فدلالته ظنية، ولا يعارض متحد المعنى إجماعا، بل يطلب التوفيق; ثم لو كان كلاهما متحد المعنى في المقابلة، ولا سبيل إلى نسخ ولا جمع، فالتوقف إلى أن يظهر الترجيح، أو تحف القرائن، كالحظر مثلا، فإنه مقدم على الإباحة، خصوصا إذا صار أظهر في سد المفاسد، لأن الشرع جاء بالمصالح المحضة.
ثم إن القضايا العينية مقصورة على مواردها، لا يقاس عليها، ولا تعارض النصوص بوجه عند الأصوليين; ثم لو كان المعارض مساويا، فقد قرروا أن المساوي مدفوع، فكيف بما هو دونه؟ قال الرصفي في آداب البحث:
فإن يكن مساويا فيدفع وإن يكن أخص ليس ينفع
وكل ما ذكرنا يجري في مسألتنا عند التأمل والتفصيل؛ فليعرض المجيز بضاعته على هذا الأصل، الذي يسلمه أئمة النقل، وإن لم يتخلص منه فلا يدعي ما ليس له، وليتعلم ثم ليتكلم.
وليته جمع بين النصوص المتقدمة، وبين ما يستدل به، ولم يضرب الصريح الصحيح بتلك المحتملات، وأعطى كل ذي حق حقه، فلم ينف وجوب الهجرة عن كل أحد، وقوفا مع المنع، ولم يوجب الهجرة على كل أحد، وقوفا مع الرخصة بشروطها، فإنه خير من الإطلاق المتكرر في عباراته، وأحسن عاقبة وأخف ضررا.
وأما الجواب المفصل: فقوله عن المانع: أنه استدل بعمومات أحاديث مع ما فيها، قول ساقط لا يعول عليه، ولا سبقه إليه أحد ممن يعتد بقوله ويرجع إليه; ولعمر الله، لئن كان الرد والقبول بمجرد الهوى، وما لا يلائم الغرض، يقال: هو عمومات وأحاديث فيها ما فيها، فإن الخصم لا يعجز عن مثل هذه الكلمات، فلا يثبت له حجة بشيء منها أصلا.
وإن كان الرد ليس بالهوى، بل بالعلم واعتبار شروطه عند أهله، فلا بد من الاتفاق أولا على الشروط، ثم اتباعها حيث وجدت، وحينئذ فأقول: لا جرم أن المانع معه النصوص القاطعة، والحجج الساطعة التي لا تحتمل غير مدلول واحد، بخلاف ما مع المجيز، فإنها أخبار خاصة لا تعارض العلم المطلق المستغرق لما صلح له، بل لا يعمل بها إلا إذا سلمت عن معارض.
وأما إذا كان العمل بها يفضي إلى ترك المحكم البين، فيتعين الجمع كما قدمنا؛ ودعواهم أنها عمومات خطأ بين، لأن العمومات عند أهل العلم هي دعوى تناول اللفظ العام للمحكم الخاص، والمنازع لا يسلم ذلك.
وأما اللفظ العام الكلي المستغرق لما صلح له، الصادق على كل فرد من أفراد الجنس، كالإنسان مثلا، والمنوط بالوصف كالإسلام مثلا، أو الشرك، فهو من الكليات المطلقة؛ ومن زعم أنه يعارض بالمحتمل أو بالمجمل، أو بالقضايا العينية فهو أضل من حمار أهله.
أما المتعلق بالشخص فهو محل نظر، فإذا لم يعارض بما هو أولى منه، فهو عام ويقال فيه: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ وقد رجح عمومه بحديث: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" وفيه نزاع ذكره في المحصول وغيره; قال في جمع الجوامع، في وجوب الترجيح: ويرجح بما فيه تهديد،
وما كان عموما مطلقا على ذي السبب إلا في السبب.
وقد وردت بحمد الله نصوص القرآن والسنة في إثبات هذا الحكم العام، المتعلق بكل فرد من أفراد جنسه، فعكس هذا الزاعم القضية، فجعل المتشابه دليلا قاطعا، والمحكم الذي هو عام الخطاب، المنوط بالأوصاف المطابق لمدلوله، جعله من العمومات التي يضعفها أهل العلم، إذا عارضها ما هو أقوى منها. فالله المستعان!
ومن لم يفرق بين العام المطلق المطابق لمدلوله، وبين المحكم الذي يدعي أن العمومات تتناوله، فهو حاطب ليل وحاطم سيل.
قال العلامة الشيخ عبد اللطيف رحمه الله: ثم إن النصوص الواردة في وجوب الهجرة، والمنع من الإقامة بدار الشرك، نصوص عامة مطلقة، وأدلة قاطعة محققة; ومن قال بالتخصيص والتقييد لها، إنما يستدل بقضايا عينية خاصة، وأدلة جزئية لا عموم لها عند جمهور الأصوليين، بل هي في نفسها محتملة للتخصيص والتقييد، ومن قال بالرخصة لا ينازع في عموم الأدلة، الموجبة للهجرة من المجامعة والمساكنة
…
إلى آخر كلامه فراجعه.
فإذا علمت أن الشيخ ومن قبله سلفا وخلفا، ممن قد قدمنا لك ذكرهم، وغيرهم، فهموا من النصوص أنها أدلة قاطعة، والمعارض لها قابل للتخصيص والتقييد، تبين لك
خطأ المجيز في تمريضه أدلة المانع، لأن كل مخالف للشرع معه من الشبهات، ومحتملات الدليل التي ساء فيها فهمه ولم يوفق للتوفيق بينها وبين مقابلها، أضعاف أضعاف ما مع هؤلاء؛ فيلزم منا نتوقى رد أباطيله نظرا إلى ملفق دليله؛ كلا، بل نعلم سوء فهمه قبل النظر في وهمه لما تمسكنا به من هذا الأصل الأصيل، وهو: أن السنة يصدق بعضها بعضا، والبدعة ينقض بعضها بعضا.
وأما قوله: فيها ما فيها، يعني حجة المانع، فمن أين علم أن فيها ما فيها؟ وهو ما رواها ولا اطلع ولا دراها؛ هذا والله سطوة على النصوص، وكأنه قصد حديث قيس بن أبي حازم، وحديث سمرة، وتقدم لك ما يعضدهما من الأحاديث المشتهرة.
ولو لم يكن إلا حديث جرير المتقدم، وقد تأخر إسلام جرير من مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم على أن يعبد الله ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويفارق المشركين، لكان كافيا؛ وقد روى البخاري في صحيحه أنه يعمل بالآخر فالآخر من أمره صلى الله عليه وسلم، قال في "مرقاة الوصول إلى علم الأصول": والحديث إذا تلقته الأمة بالقبول، وكان راويه عدلا وله شاهد، فهو كالمتواتر في أنه يحتج به، انتهى.
وحكى النووي في شرح المهذب: أن الشافعي يحتج بالمرسل إذا اعتضد بشاهد واحد؛ وهو من أعظم الأئمة توقفا فيه،
وعن المالكيين والكوفيين يقبل مطلقا؛ وقد اعتضد هذا بأكثر من عشرين شاهدا، مع الآيات المحكمات والكليات من الشرع، كما قدمنا لك: منها وجوب عداوة المشركين، والعداوة تقتضي البعد والمفارقة، ومنها القاعدة الكلية والأصل العظيم، وهو سد الذرائع المفضية إلى أشد المفاسد، إذ الوسائل لها حكم الغايات؛ وقد تقدمت الإشارة إلى هذا كله.
ومنها: أن ما كان في أمر الوعد والوعيد، فالصحابة والتابعون لا يطلقونه مرفوعا، إلا مع الجزم بصحته، فإن قيس بن أبي حازم مخضرم، ويقال له رواية، روى عن العشرة المبشرة، فعلى هذا: إما أن يكون من كبار التابعين، وهو المعتبر عند الشافعي، وغيره، وإما أن يكون صحابيا روايته مرسلة، مرسل صحابي له حكم المرفوع، لأن الصحابة كلهم عدول؛ وقد رجح جمع من المحدثين وصله عن جرير، وأصله في صحيح مسلم، هذا لو لم يكن إلا هو في هذا الباب.
فقول المجيز: إن المانعين استدلوا بأحاديث فيها ما فيها، مجرد هذيان لا طائل تحته، ولو لم يكن مع المانعين إلا مجرد المنع المترجح بتحقق المفسدة لكفى، لما في آداب البحث: أنه يقدم دليل الحظر على دليل الإباحة عند التعارض، إلا في أشياء ذكروها، الأصل فيها البراءة، كالعقود، أو حسية كالأطعمة.
وأما قوله: البلاد بلاد إسلام، لأن شعائر الإسلام ظاهرة فيها، من غير ذمة من المشركين ولا جوار; ولهذا إذا كانت
الغلبة لأهل الإسلام، صارت دار إسلام، فكلام متناقض لفظا؛ وقد تقدم التنبيه على ما مر فيه من الوهم معنى. وقوله: من غير ذمة ولا جوار، فأظنه لاحظ ظلم الأموال والأبدان، لأن حب الدنيا قد غلب على النفوس، والمصيبة فيها هي المصيبة العظمى عندهم؛ فإذا كان هذا هو المرام، فهو موجود في جميع الممالك، وللنصارى لعنهم الله في ذلك الحظ الأوفر.
وأما ظلم الأديان والخفارة فيها، فلا يعرفها إلا من نور الله بصيرته، وكان من الأشحاء بدينه؛ وأي خفارة وذلة أعظم من كون الإنسان يسمع ويرى الكفر البواح في المساء والصباح؟ ولو أظهر أن هذا هو فعل المشركين لقتلوه أو أخرجوه.
ومن العقوبات القدرية على القلوب: عدم الإحساس بالشر، وهي آلام وجودية يضرب بها القلب، تنقطع بها مواد حياته وصلاحه، وإذا انقطعت عنه حصل له أضدادها بلا شك؛ وعقوبة القلب أشد من عقوبة البدن، فلذلك يصير المعروف منكرا، والمنكر معروفا.
وهل يشك أحد أن المقيم هناك لا يسعه إلا الحكومة الضالة، وأن مولوده يكون في القرعة، وأن جبايات أمواله ومعشراته لهم، وغير ذلك من البلايا التي كلما ازداد مكوثه ازداد تحكما عليه في قلبه وقالبه؛ فمن ادعى غير ذلك فهو مباهت، ومن له مشاركة فيما قرره المحققون، علم أن البلد بلد شرك، وأن الغلبة فيها للشرك وأهله، وأن الحق مع من حكم النصوص
القاضية بالمنع، وقال العدل وقام بالشرع.
وأما ما نقله عن الشيخ عبد الله بأن بلدهم بلد إسلام، فقد قدمنا أنه لا يدل على ما قصدوا؛ والشيخ درج على ما درج عليه الرعيل الأول من نصر التوحيد والرد على من ناوأه من أهل الشرك والتنديد، وكلامه مجمل على أنها ليست بلاد كافر أصلي، يترتب عليها ما يترتب عليه، وهو الذي يفهم من كلام الأصحاب وغيرهم؛ لكن أتظنه يشك في كفر من تظاهر بدعاء الصالحين وعبادتهم، بالاستعانة والاستغاثة والذبح والنذر والتوكل وغير ذلك، على أنهم وسائط بينهم وبين الله في الحاجات والملمات؟.
وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه، وغيره من الأئمة: أن هذا هو الكفر الصريح، وهو دين المشركين وفعل الجاهلين الضالين؛ وهؤلاء زادوا عليهم، بأن طلبوا الحاجات منهم استقلالا كما شاهدناه؛ فظهر لك أن قول المجيز: البلد بلد إسلام، تمهيدا لجواز الإقامة فيها، خطأ لا يتابع عليه، كما تقدم لك مرارا: أن الشارع أناط الحكم بمشاهدة الكفر والمعاصي، لمن لا يستطيع إنكارها.
وما أحسن ما قيل:
العلم بالرأي إجمال ومغلطة
…
والعلم بالنص تحقيق وتفصيل
وقد تقدم لك أن المدعى أعم من كون البلد بلد إسلام، أو بلد كفر إذا كان العلة عدم المنع من العبادة، وأن السؤال
ملغى من أصله، فلا حاجة إلى فتوى أبا بطين وغيره.
وأما دعواه: أن إظهار الدين إذا لم يمنعوك عن واجبات دينك، أي: من الصلاة والعبادة الخاصة، مستدلا بما رواه البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقا على الله أن يدخله الجنة، هاجر أو جلس في أرضه التي ولد فيها " 1، وحديث صاحب الخضرمة.
فجوابه أن يقال: أولا: ليس في الحديثين دلالة على أن البلد بلد شرك، غاية ما فيها إثبات الإيمان لمن أسلم ومات في بلده.
الثاني: أنهما يدلان على كمال الإيمان، فهما على حد قوله:" وإن زنى وإن سرق " 2، ونحن نقول: بموجبه، فمن أقام في بلاد الشرك مع القدرة على الخروج منها شحا بالوطن، أو غير ذلك من الأعذار، فهو مرتكب كبيرة، فيقال: هو مؤمن ناقص الإيمان.
الثالث: أن الاستدلال بهما وما في معناهما، خروج عن المقصود، إذ هي فيمن أسلم في بلده، أما الذهاب إلى أوطانهم اختيارا، واللحاق بهم استقرارا، فلا تدل عليه بوجه من الوجوه؛ إذ الاستدلال بالنصوص فرع ثبوتها أولا، ثم مطابقتها للمستدل عليه معنى، كما هو مقرر في مواضعه؛ وإذا كان من آمن ولم يهاجر من الأعراب ناقصا، فكيف بمن آمن ولم يهاجر من بلدان المشركين.
1 البخاري: التوحيد 7423 ، وأحمد 2/335.
2 البخاري: الجنائز 1237 ، ومسلم: الإيمان 94 ، والترمذي: الإيمان 2644 ، وأحمد 5/159.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: في اقتضاء الصراط المستقيم - لما ذكر النهي عن مشابهة المشركين -: وقريب من هذا: مخالفة من لم يكمل دينه من الأعراب، لأن كمال الدين بالهجرة، فكان من آمن ولم يهاجر من الأعراب ونحوهم ناقصا.
الرابع: أن قوله: هاجر أو جلس، هو معنى قوله: جاهد أو جلس; يدل على ذلك: ما رواه النسائي وغيره، عن أبي الدرداء مرفوعا:" من أقام الصلاة وآتى الزكاة، ومات لا يشرك بالله شيئا، كان حقا على الله أن يغفر له، هاجر أو مات في مولده " 1، فقلنا يا رسول الله: أفلا نخبر الناس فيستبشروا، فقال:" إن للجنة مائة درجة، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله " 2 الحديث، ثم قال النسائي بعده: ما لمن آمن وهاجر وجاهد؟ يعني من الأجر.
فدل على أن الهجرة هناك بمعنى الجهاد، وقد جاء في رواية البخاري بلفظ:" جاهد في سبيل الله أو جلس " 3، وترجم له في الجهاد لأنها تطلق أيضا ويراد بها الجهاد، كما روى أحمد عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه مرفوعا:"أي الهجرة أفضل؟ قال: الجهاد".
فتبين على كلا التقديرين أن المقصود إثبات الإيمان لمن أسلم ولم يهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجاهد، وإن انتفى كماله; فمن أين له: أن الحديث يدل على جواز الإقامة بين ظهراني المشركين؟ ومن درأ بمثل هذه المحتملات في نحر ما تقدم من
1النسائي: الجهاد 3132.
2 النسائي: الجهاد 3132.
3 البخاري: الجهاد والسير 2790.
النصوص الصريحة الصحيحة، كحديث حكيم بن حزام مرفوعا:" لا يقبل الله من مسلم عملا بعد ما أسلم، أو يفارق المشركين " 1 رواه النسائي، وحديث أبي مالك الأشجعي مرفوعا:" وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن " 2، وذكر الهجرة رواه أحمد وغيره، وما في معناها، فليس بمنصف.
الخامس - وهو من أظهرها -: أن الاحتجاج بمثل هذه الأحاديث المطلقة، ولو بلغت حد التواتر، يستدعي بطلان حكم النصوص المصرحة بفراق المشركين، كما هنا، وكما في حديث نهيك الآتي. 3": وعلى زيال المشركين"، فيحمل المطلق مما احتج به المجيز، ولو صح وتعدد على هذا المقيد من مفهوم الوصف المانع من الإقامة؛ فبزوال هذا المانع الذي تسبب عنه الحكم بفراق الوطن يوجد المقتضي، وإلا فلا، وهذا ظاهر بحمد الله، يتعين المصير إليه توفيقا بين النصوص، إذ لا مجال للرأي في مثل هذا، مع وجود الأخبار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومما يدل على أن من أسلم ولم يهاجر، يكون كأعراب المسلمين - وتسمى منازله داره - حديث بريدة رضي الله عنه مرفوعا:" ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين " 4، وفي بعض ألفاظه: "فإن أبوا واختاروا دارهم، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري
1 النسائي: الزكاة 2568.
2 الترمذي: الأمثال 2863 ، وأحمد 4/130 ،4/202.
3 في صفحة: 436، 437.
4 مسلم: الجهاد والسير 1731 ، والترمذي: السير 1617 ، وأبو داود: الجهاد 2612 ، وابن ماجه: الجهاد 2858 ، وأحمد 5/352 ،5/358.
على المؤمنين " 1 الحديث، إلا في حق الأعرابي الذي أذن له النبي صلى الله عليه وسلم في ترك الهجرة، في قوله: " اعمل من وراء البحار " 2 يعني: القرى " فإن الله لن يترك من عملك شيئا " 3 أي: لا يحرم أجر الهجرة ولا تنقص، لما علم النبي صلى الله عليه وسلم من قلة صبره على سكنى المدينة، {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [سورة الأحزاب آية: 43] .
وكذلك أذن لأسلم - القبيلة المعروفة - فيما رواه الإمام أحمد وغيره: عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ابدوا يا أسلم " 4، قالوا يا رسول الله: إنا نخاف أن يقدح في هجرتنا، قال:" أنتم مهاجرون حيث كنتم" 5، ومعناه: أن تكونوا في البادية وهم في إذنه صلى الله عليه وسلم لا من سواهم، لأن من أذن له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك له حكم المهاجرين، لأن مفهوم الإذن لهم، عدم الإذن لغيرهم.
وأما الأعراب، فالأمر في حقهم أخف، وليس لهم فضل المهاجرين لضعف إسلامهم، وسرعة ميلهم مع الباطل، يدل عليه ما رواه النسائي: أخبرنا أحمد بن عبد الله بن الحكم، قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث عن أبي كثير عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الهجرة هجرتان: هجرة الحاضر، وهجرة البادية; فأما البادي فيجيب إذا دعي، ويطيع إذا أمر; وأما الحاضر فهو من أعظمها بلية وأعظمها أجرا"6.
وأما ما رواه النسائي أيضا بسنده، عن فضالة بن عبيد:
1 مسلم: الجهاد والسير 1731 ، وأبو داود: الجهاد 2612 ، وابن ماجه: الجهاد 2858 ، وأحمد 5/352 ،5/358.
2 البخاري: الزكاة 1452 ، ومسلم: الإمارة 1865 ، والنسائي: البيعة 4164 ، وأبو داود: الجهاد 2477 ، وأحمد 3/14 ،3/64.
3 البخاري: الزكاة 1452 ، ومسلم: الإمارة 1865 ، والنسائي: البيعة 4164 ، وأبو داود: الجهاد 2477 ، وأحمد 3/14 ،3/64.
4 أحمد 3/361.
5 أحمد 4/55.
6 النسائي: البيعة 4165.
أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أنا زعيم والزعيم الحميل لمن آمن بي وأسلم وهاجر ببيت في وسط الجنة، وبيت في أعلى غرف الجنة " 1 الحديثين; فتبين أن المقصود: إثبات الإيمان لمن لم يهاجر ولم يجاهد بعد ما أسلم، وأن من جاهد وهاجر فقد كمل إيمانه؛ فأي دليل فيه على جواز الإقامة بين ظهراني المشركين؟!
وإذا كان المرتد بعد هجرته أعرابيا ملعونا من أجل خوف الجفا ونسيان العلم، ولمصالح الإسلام، كما رواه الطبراني من حديث جابر بن سمرة، مرفوعا:"لعن الله من بدا بعد هجرته إلا في الفتنة"، وما رواه النسائي عن عبد الله بن مسعود مرفوعا:" لعن الله آكل الربا وموكله " 2 الحديث، وفيه "والمرتد بعد هجرته أعرابيا"، قال ابن الأثير في النهاية: كان من رجع بعد هجرته إلى موضعه من غير عذر يعدونه كالمرتد، انتهى من الفتح.
ومثله: ما رواه البخاري عن سلمة بن الأكوع، أنه لما دخل على الحجاج، قال: يا ابن الأكوع ارتددت على عقبيك، تعربت؟ قال: لا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي في البدو؛ فإذا كان كذلك فهو يدل بالفحوى على البعد عن المشركين لمن أسلم، أما من كان مسلما ثم لحق بهم، واختارهم من غير مصلحة في الدين، فيطالب هذا بدليله، ولو من كلام إمام يعتد به، وإلا فقد قدمنا لك أن الاستدلال بمثل هذه المحتملات خروج عن المقصود.
1 النسائي: الجهاد 3133.
2 النسائي: الزينة 5103.
وأما حديث الأعرابي فقد تقدمت الإشارة إليه، وأنه من القضايا العينية المتعلقة بالأشخاص والأحوال والأزمان. قال القرطبي على حديث الأعرابي: يحتمل أن يكون ذلك خاصا بهذا الأعرابي لما علم من حاله، وضعفه عن المقام بالمدينة، أشفق عليه صلى الله عليه وسلم وكان بالمؤمنين رحيما، انتهى.
ومن المعلوم: أن هذه القضية إن كانت بعد الفتح، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري وغيره، لما فتح مكة:" لا هجرة بعد الفتح " 1، فعلم أنه قبل الفتح، والهجرة واجبة إليه بالإجماع؛ ولم يفهم أحد أن قصة هذا الأعرابي أبطلت حكم الهجرة، وإن كانت بعد الفتح، فالجواب عنها هو الجواب عن الحديثين قبلها.
ووجه آخر، وهو: أن لأول الإسلام من اللين والهوادة ما ليس لآخره؛ وقد تقدم لك حديث جرير، ومعاهدته النبي صلى الله عليه وسلم على مفارقة المشركين، وقد تأخر إسلامه.
وبالجملة: فليس في حديث الأعرابي ولا غيره من الأحاديث - ولو كانت صحيحة - ما يدل على مساكنة مشرك البتة، بل هي صريحة في سكنى البادية لمن أسلم ولم يهاجر، ولم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم اعمل في القرى، لأن القرى إذ ذاك لم تكن بلاد إسلام، ولكن قال له: اعمل من وراء القرى، أي: اعبد الله، وحل منها حيث شئت، وأنت على هجرتك، رفقا به.
وأما حديث نهيك بن عاصم، فإنه لا يدل على أن
1 البخاري: الجهاد والسير 2783 ، ومسلم: الإمارة 1353 ، والترمذي: السير 1590 ، والنسائي: البيعة 4170 ، وأبو داود: الجهاد 2480 ، وأحمد 1/226 ،1/355 ، والدارمي: السير 2512.
الرسول صلى الله عليه وسلم أذن له في مساكنة مشرك، بل أذن له في سكنى البادية فقط، وأن يحل حيث شاء ولا يجني إلا على نفسه؛ وقد أشار إلى ذلك، ما رواه البخاري عن الصعب بن جثامة مرفوعا:"لا حجر إلا لله ورسوله "1. هذا معنى حديث نهيك وما في معناه من الأخبار، أن أهل الجاهلية كان لهم حدود حجر، يمنعون منه من شاؤوا، وقد أبدل الله ذلك بالإسلام، لأن الإسلام يقتضي السلامة، ويأمن به كل أحد.
ولما ساق العلامة ابن القيم القصة بطولها وفي آخرها: قلت: يا رسول الله: على ما أبايعك؟ فبسط النبي صلى الله عليه وسلم يده، وقال:" على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وزيال المشركين، وأن لا تشرك بالله شيئا، قلت يا رسول الله: وإن لنا ما بين المشرق والمغرب؟ فقبض النبي صلى الله عليه وسلم يده، وظن أني مشترط ما لم يعطه، قال: قلت نحل منها حيث شئنا، ولا يجني امرؤ إلا على نفسه "2.
قال في الكلام عليه، وقوله في عقد البيعة:" وزيال المشرك " 3 أي: مفارقته ومعاداته، فلا تجاوره ولا تواله، كما في حديث السنن " لا تراءى ناراهما " 4 انتهى كلام ابن القيم بحروفه.
وقوله في الحديث: "نحل منها حيث شئنا" 5 مع قوله: "وزيال المشركين" بالميم، يبين لك مراد الشارع. فانظر إلى هذا المجيز - عافانا الله - يحتج بما هو حجة عليه، ويقول ذكره ابن القيم في الهدى؛ وأما استدلاله بقصة هجرة الحبشة، فهو من إحدى الرزايا، وعكس القضايا، ولا أعلم أحدا سبقه
1 البخاري: المساقاة 2370 ، وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء 3083 ، وأحمد 4/38 ،4/71 ،4/73.
2 أحمد 4/13.
3 أحمد 4/13.
4 الترمذي: السير 1604 ، والنسائي: القسامة 4780 ، وأبو داود: الجهاد 2645.
5 أحمد 4/13.
إليه، إلا بعض من اعترض على إمام الدعوة.
وقوله: إنهم هاجروا ليأمنوا لا ليفتتنوا، مجرد تمويه، صدر ممن لم يعرف قدر الشرك، الذي هو أعظم هضم لجناب الربوبية، وإبطال لما دعت إليه الرسل، من توحيد الإلهية؛ فأين الأمان واستقرار الجنان، لمن يشاهد عبادة الأوثان، ومسبة الديان، في كل حال وأوان؟!
ومن استدل بقصة الهجرة على هذا، فتصوره فاسد، وذهنه كاسد، إذ كل من عقل عن الله شرعه، وسبر أحوال الصحابة وما هم عليه، من نصر الدين وزيال المشركين، علم قطعا أن هجرة الحبشة حجة عظيمة في وجوب الهجرة؛ وهو من باب ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما، وإطلاق لفظ الهجرة عليها كاف في المطلوب على قدر الوسع، وإن لم يتم المقصود كله، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداء دعوته أمر بالإعراض، ثم أمر بالصدع، ثم أمر بالجهاد.
وظهور الدين يطلق ويراد به ظهوره بالقهر والغلبة والجهاد، وهذا قد تأخر، ويطلق ويراد به ظهوره وشهرته، وعدم منع الداخل فيه؛ وهذا قد حصل بأرض الحبشة، وتسمى هجرة وانتقال، كما حكاه النووي في شرح الأربعين له.
وحكاه مجتهد عصره إبراهيم بن حسن الكردي، عن الحافظ بن حجر، أنه قال: وقعت الهجرة في الإسلام على وجهين:
الأول: الانتقال عن دار الخوف إلى دار الأمن كما في هجرة الحبشة، وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة.
الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان، وذلك بعد أن استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين، وكانت الهجرة إذ ذاك تختص بالانتقال إلى المدينة إلى أن فتحت مكة، وانقطع الاختصاص، وبقي عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه باقيا، انتهى.
وذكر عن الأسيوطي: أن الهجرة ثمانية أقسام: الهجرة الأولى: إلى الحبشة، عندما آذى الكفار الصحابة، أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلى أرض الحبشة; وأذن لهم مرة ثانية وهي الثانية الثالثة: من مكة إلى المدينة; الرابعة: هجرة القبائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعلم الشرائع، ثم يرجعون إلى قومهم لينذروهم.
الخامسة: هجرة من أسلم من مكة، ليأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم. السادسة: هجرة من كان مقيما بدار الكفر، ولا يقدر على إظهار الدين، فإنه يجب عليه أن يهاجر إلى بلد الإسلام؛ هذا لفظ الأسيوطي، في المنتهى، واقتصرنا على المقصود منه، وقد صرح بذلك أصحابنا; وقريب منه لفظ النووي في شرحه لأربعينه.
ولما قرر هذا المقام من سطعت - بحمد الله - للدين أنواره وطلعت ببرهان دعوته شموسه وأقماره، وتضاحكت في
عرصات المجد كمائمه وأزهاره، اعترضه من اشترى الضلالة بالهدى، وتحول عن السلامة إلى الردى، إن لم يتداركه الله برحمته، فقال: قال محمد ابن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، في مواضعه التي كتبها على السيرة: اعلم أن الإنسان لا يستقيم له إسلام ولو وحد الله، إلا بعداوة المشركين، والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء.
قال المعترض: فظاهر كلامه أن النجاشي كافر، حيث لم يصرح بعداوة قومه، وكذلك جعفر وأصحابه كفار بهذه العبارة، إلى آخر كلامه، الذي لا يصدر ممن شم للعلم النافع رائحة، أو له في واديه غادية ورائحة.
وقد أجابه من أجاد وأفاد، ووفق في كلامه لنهج السداد، شيخنا العلامة: عبد اللطيف - بعد ما ساق شبهته - بما ملخصه: وقد ثبت أن النجاشي صرح بعداوتهم والبراءة من مذهبهم، وراغمهم، زيادة على التصريح بالعداوة; وقال:"وإن نخرتم" لما صرح بعبودية عيسى عليه السلام، حيث قرأ عليه جعفر صدر سورة مريم، وما فيها من ذكر عيسى; فقال النجاشي: والله ما زاد عيسى على هذا
…
إلى آخره.
فأي عداوة؟ وأي تصريح أعظم من هذا؟ ومع ذلك نصر المهاجرين ومكنهم من بلاده; وقال: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي، من سبكم ندم، ومن ظلمكم غرم; فصرح بأنه يعاقب من سب دينهم، وسفه رأيهم فيه، وهذا قدر زائد على التصريح
بعداوتهم، ولا يقول: إن جعفر أو أصحابه يكتمون دينهم بأرض الحبشة، ولا يصرحون بعداوة الكفار المشركين إلا جاهل.
وهل ترك جعفر وأصحابه بلادهم وأرض قومهم، واختاروا بلاد الحبشة إلا لأجل التصريح بعداوة المشركين، والبراءة منهم جهارا، في المذهب والدين، ولولا ذلك لما احتاجوا للهجرة، واختاروا الغربة، ولكن ذلك في ذات الإله، والمعاداة لأجله؛ وهذا ظاهر لا يحتاج إلى تقرير، لولا غلبة الجهل، انتهى باختصار.
قال الشيخ الوالد قدس الله روحه - في رد ما اعترضه: - أما قوله: ظاهر هذا أن النجاشي كافر إلى آخره. فجوابه من وجوه، الأول: أنه لا اعتراض على حكم القرآن.
الثاني: أن المهاجرين إلى أرض الحبشة هاجروا، ليأمنوا على دينهم حيث لم يوجد بلد ولا قبيلة يأمنون فيها غير الحبشة؛ قلت: وذلك بأمره صلى الله عليه وسلم لما بلغه من حسن جوار النجاشي ما بلغه
قال الوالد، رحمه الله تعالى: ثم هذا في أول الدعوة قبل أن تفرض الفرائض، وتنَزل الآيات في بيان الأحكام، وأعظم الفرائض بعد التوحيد الصلاة، ولم تفرض إذ ذاك إلا بعد العشر، وكذلك أحكام الهجرة والجهاد، إلى أن قال:
الثالث: أن النجاشي وطائفة من قومه أسلموا، فلهم حكم الظهور، وذلك معروف في السير والتفاسير؛ فإذا ظهر
الإسلام في بلد لم تحرم الإقامة بها، على من صان دينه وأظهره، وكذلك جعفر وأصحابه صانهم الله بما جرى لهم من النجاشي، فإنه قال: من سبكم غرم، فمن تبعهم في تلك البلاد قبلوا منه، وأظهروا دينهم على رغم من كرهه، فالآية لا تناولهم، فأين هذا ممن يواد المشركين، ويظهر لهم المحبة والمعاشرة؟! فهذا الذي لا يبقى معه إيمان، انتهى كلامه رحمه الله.
ولما ساق رحمه الله في رده على صاحب الخرج، قصة النجاشي وما قال لعمرو بن العاص رسول قريش قال: وقد أنزل الله في النجاشي وأصحابه قرآنا، وأثنى عليهم، فلا يجوز أن يحتج على جواز الإقامة مع أهل الباطل وموالاتهم والطمأنينة بهجرة الصحابة، وفرارهم بدينهم، لئلا يفتنهم المشركون عنه.
وكل أحد يفهم من هذه القصة أنها حجة عظيمة على من ترك الهجرة من وجوه، لا تخفى على من له أدنى معرفة وفهم حتى البليد، ولا يقدر مكابر أن يحتج بحجة هي بعينها عليه، اللهم إلا من ابتلي بسوء الفهم، وفساد التصور. انتهى كلامه، من خطه رحمه الله.
فبطلت الشبهة من أصلها لأن الإنسان إذا أظهر الإسلام ببلد، لم تحرم الإقامة بها لمن فعل، كما فعل جعفر وأصحابه، لأنهم
أظهروا دينهم في بلد من يعتقد مباينة الإسلام لدينه، وهم أقرب مودة من المشركين بنص القرآن؛ أفيجعل حكمهم حكم من لو علم منك المباينة في الاعتقاد، لجعل توحيد الله عين الكفر والخروج؟ وأقل أحواله الحكم عليك بالطرد والخروج؟ فالله المستعان.
وبالجملة: فالبلد إذا كانت بهذه المثابة، والإسلام بها يظهر، وواليها عضد لأهل الإسلام، يوافقهم عليه، ويقرهم، ويقول لجنده ما قال النجاشي، فلا يمنع أحد؛ فإن كان التوحيد هو أصل الأصول، وأوجب الواجبات، يجوز إخفاؤه للمصالح الدنيوية، وتسمى سائر العبادات التي هي فروعه إظهار الدين، فما فائدة العلم؟!
قال ابن القيم رحمه الله في قصة هجرة الحبشة، قال السهيلي: وفيه من الفقه: الخروج من الوطن وإن كان الوطن مكة على فضلها، إذا كان الخروج فرارا بالدين، وإن لم يكن إلى أرض الإسلام؛ فإن الحبشة كانوا نصارى، يعبدون المسيح، ويقولون: هو ابن الله، وسموا بهذه الهجرة مهاجرين.
وهم أصحاب الهجرتين، الذين أثنى الله عليهم، وهم قد خرجوا من بلد الله الحرام، إلى بلد الكفر، لما كان ذلك احتياطا على دينهم، وأن يخلي بينهم وبين عبادة ربهم يذكرونه آمنين؛ وهذا حكم مستمر، متى غلب المنكر على بلد، وأوذي على الحق مؤمن، ورأى الباطل قاهرا للحق، ورجا أن يكون
في بلد آخر، أي بلد كان، يبين فيه دينه، ويظهر عبادة ربه، فإن الخروج على هذا الوجه، حتم على كل مؤمن؛ وهذه الهجرة لا تنقطع إلى يوم القيامة {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 115] . انتهى كلام السهيلي.
فانظر إلى قوله: إذا كان الخروج فرارا بالدين، وقوله: فأثنى الله عليهم لما كان فعلهم احتياطا على دينهم، وقوله: يذكرونه آمنين، أي: يفردونه ظاهرا بين من لا يفرده كالنصارى، بخلاف من يوافق على التهليل كاليهود، فلا يكفي إلا التصريح بالرسالة، كما تقدم.
وقوله: هذا حكم مستمر، متى غلب المنكر على بلد، وأوذي على الحق مؤمن، ورأى الباطل قاهرا للحق، ورجا أن يكون في بلد، أي بلد كان يبين فيه دينه؟ فما هذا الدين؟ أتظنه من العام الذي أريد به الخصوص؟ كلا! ثم ما هذا الاحتياط يرحمك الله؟ أتظنه في الذهاب إلى بلد المشركين؟ لما أوذيت على الحق في بلد المسلمين؟ ورأيت الباطل قاهرا للحق؟ فما أعظم جناية المجيز لو أخذناه بلازم قوله؟ الله كبر، ماذا يفعل الجهل بأهله، مهلا عن الله مهلا!
وأما ما نقله عن شيخ الإسلام في الأسير، إذا لم يمنعوه عن واجبات دينه، فلا يدل على ما قصدوا بوجه من الوجوه، لأن كلام الشيخ ليس بظاهر في أن الدين هو مجرد العبادة فقط، وليس بظاهر أيضا في أن أهل أوثان لا يرضون منه
بالتوحيد، فيحتمل أنهم نصارى، يكفي في إظهار الدين عندهم الشهادتان والصلاة.
ثانيا: أنه قد علم من حال شيخ الإسلام بالضرورة، ما يرد هذا الزعم؛ فإن لشيخ الإسلام من تعظيم النصوص، والذب عنها، ونصر الدين باليد واللسان، والحث على قطع المسالمة بين أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان، ما هو معروف من حاله، ومقاله.
وقد نقل عنه شيخنا، العلامة عبد اللطيف: أن آيات الوعيد في موالاة المشركين، دالة على انتفاء الإيمان الواجب، عمن واد من حاد الله ورسوله، وأن معاداتهم وبغضهم والبعد عنهم، من واجبات الدين، فيحمل محتمل كلامه على صريحه; وإذا كان الحنابلة صرحوا بأنه لا يتزوج الأسير في أرض العدو، معللين بأنه ربما صار على دينهم، قالوا: وكذلك التاجر، لأنه لا يأمن أن تأتي امرأته بولد، فينشأ على دينهم؛ قالوا: فتزويجه تعريض لهذا الفساد العظيم.
وهذا كلام المغني مع المتن، قال: مسألة: ولا يتزوج في أرض العدو، إلا أن تغلب عليه الشهوة، فيتزوج مسلمة ويعزل عنها، قال الشارح بعد كلام: وسئل الإمام أحمد عن أسير أسرت معه امرأته، أيطؤها؟ فقال: كيف يطؤها؟ ولعلها تعلق بولد فيكون معهم؛ وإذا كان كذلك بطل ما فهموه من محتمل كلام الشيخ وغيره.
وإذا كانت محتملات النصوص، وإن صحت ترد إلى صريحها، فكيف بأقوال هي مقابلة - بحمد الله - بأصرح منها من كلام السلف من أن إظهار الدين هو إظهار المعتقد، وإنكار المنكر؟ فتبقى النصوص لا معارض لها بحمد الله.
ولما احتج بعضهم بقول مالك رضي الله عنه فيمن لم يدر: أطلق واحدة أم ثلاثا، إنها ثلاث احتياطا، قال ابن القيم: فنعم، هذا قول مالك رضي الله عنه فكان ماذا حجته هو على الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد رضي الله عنهم، وعلى كل من خالفه، في هذه المسألة، حتى يجب عليهم أن يتركوا قولهم لقوله؟ انتهى; وعلى التنَزل: فهذا جوابنا على كل ما احتج به المخالف.
وأما الاستدلال بقصة العباس، ونعيم بن عبد الله بن النحام، على مجرد الإقامة في بلاد المشركين، فمن الجهل الصرف؛ والقصتان حجة عليه لا له، من وجوه: منها: ما في قصة نعيم، من "أن بني عدي قالوا له، لما أراد أن يهاجر: أقم عندنا، وأنت على دينك، واكفنا ما كنت تكفينا؛ فتخلف عن الهجرة مدة من أجل ذلك، ثم هاجر; وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: قومي ثبطوني عن الهجرة وطاعة الله"، وهذه تركها صاحبك، وهو من الخيانة في النقل; إذ هي ترد شبهته، لأن من المعلوم أن منعه ممن يريد أذاه، لا يكون إلا على المباينة في الدين، وإلا فمن سكت لا يؤذى.
وفي بعض ألفاظ القصة: أقم عندنا على أي دين شئت، ذكره ابن الأثير في "جامع الأصول"، فهو ظاهر في أنه صرح بدينه، الذي هو مباينة دين قريش، لأنه قد أسلم قديما زمان إسلام عمر، وكان يخفي إسلامه، فلما أراد الهجرة التزموا له أن يمنعوه ممن يؤذيه، فأقام مظهرا لدينه، ومع ذلك فقد تأسف على التثبط عن الهجرة إلى الله ورسوله، لقوله: قومي ثبطوني عن الهجرة، فكان مثبطا عن هذا الواجب؛ لو تم لهذا المجيز الاستدلال به، فلا حجة فيه أيضا.
ثم لو كان مأذونا له من النبي صلى الله عليه وسلم على طريق التنَزل، صار من القضايا العينية الخاصة، لأن الإذن لإنسان يدل على المنع، لولا الإذن، عند أهل المعاني، كما أذن للأعرابي، وكما أذن لأسلم بقوله:" ابدوا يا أسلم، وأنتم على هجرتكم "1.
وللشارع أن يخص من شاء بما شاء، ومثله العباس، فإنه كان مأذونا له؛ فهو مخصوص من المنع، لأن في إقامته مصلحة للمسلمين؛ فلما ذكر ابن حجر حجة المنع قال: ويستثنى من ذلك، من كان في إقامته مصلحة للمسلمين، لأنه روي "أن العباس أسلم قديما، واستمر إسلامه إلى هجرته، يكتب بأخبارهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وكان يحب القدوم إليه، فكان يكتب له أن مقامك في مكة خير".
قال ابن حجر بعده: ولم يثبت ذلك، فإن لم يثبت له من النبي صلى الله عليه وسلم إذن، فلا حجة فيه أيضا، لأنه قبل الهجرة جارية
1 أحمد 3/361.
عليه أحكامهم، وقد تثبط قبل بدر عن الهجرة، وخرج مع المشركين، فأسره المسلمون وافتدى، كما هو مشهور في السير، فيكون مثبطا كما ثبط نعيم رضي الله عنهما؛ فلا حجة فيه، كما أنه لا حجة في خروجه، في صف المشركين يوم بدر.
والصحيح: أن العباس كان يظهر إسلامه بعد بدر، لأنه ثبت أنه "لما أخبره الحجاج بن علاط، في مقدمه على قريش: أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح خيبر، وكان الحجاج قد أظهر لقريش خلاف ذلك، لإذن النبي صلى الله عليه وسلم فيه; فلما ذهب الحجاج، قام العباس في أنديتهم مصرحا: أن الله قد أعز دينه، ونصر رسوله"، وفي هذا أعظم إغاظة للمشركين؛ فبطل الاحتجاج بالقصتين على كلا التقديرين، وانحلت هذه الشبهة من أصلها.
وأما قوله عن ابن العربي: إن الهجرة فرضت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم واستمرت بعده لمن خاف على نفسه، فجوابه من وجوه:
الأول: أنا قدمنا له، أنه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالاستدلال به استدلال بالمفهوم؛ وهو ضعيف إذا خالف النص، كيف وهو محتمل عبارة لا حجة فيها; الثاني: أن عبارة النووي عنه ترد هذا، فإنه قال في شرح الأربعين له: قال ابن العربي: قسم العلماء رحمهم الله الذهاب في الأرض طلبا وهربا.
فالأول: ينقسم إلى ستة أقسام: الأول: الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، وهي باقية إلى يوم القيامة؛ والتي
انقطعت بالفتح، في قوله صلى الله عليه وسلم:" لا هجرة بعد الفتح " 1 هي القصد إلى رسول الله.
الثاني: الخروج من أرض البدع، وذكر قول ابن القاسم عن مالك المتقدم؛ فوازن بين هذا، وبين مجمل عبارة نقلت عنه، لا صراحة فيها.
الثالث: أن خوفه على نفسه مع إظهار الدين، أقرب الاحتمالين، لموافقة قول سلفه.
وأما قوله: قال الخطابي: الحكمة في وجوب الهجرة على من أسلم، ليسلم من أذى الكفار، فإنهم كانوا يعذبون من أسلم، ليرجع عن دينه، فلم أقف عليه من كلام الخطابي، بل هو من قول الحافظ؛ وكلام الخطابي قبله بيسير، وهو في الفتح فراجعه.
ثم هو من تفسير الشيء ببعض أفراده، وقد علل بعضهم: أنها إنما فرضت، لتكثير سواد المسلمين; وبعضهم علل بتعليم شرائع الدين، وبعضهم بخوف الفتنة، وقد قدمنا: أن الحكم الواحد تتعد أسبابه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه: والسلف رضي الله عنهم يذكرون في تفسيرهم جنس المراد بالآية، على نوع التمثيل، ليس مرادهم تخصيص نوع دون نوع، انتهى.
وقال الصنعاني، رحمه الله: والعلة المنصوصة لا تقتضي الحصر قيدا فيها عند الأصوليين؛ وقد تقدم لك مررا، ما يدل
1 البخاري: الجهاد والسير 2783 ، ومسلم: الإمارة 1353 ، والترمذي: السير 1590 ، والنسائي: البيعة 4170 ، وأبو داود: الجهاد 2480 ، وأحمد 1/226 ،1/355.
على أن خوف الفتنة بالدعوة إلى الله وإظهار الدين، إذ لا فتنة تتوقع للساكت حتى في بلاد الروم; أفلا يستحي العاقل من حمل عبارات العلماء على مجرد فهمه، من أن فعل العبادات، غير المعتقد، هو إظهار الدين؟! فالله المستعان.
ولو سلم هذا لانحلت عروة شعبة الهجرة من أصلها، ولما أطلق الماوردي ما هو مسلم في الجملة، من أن من رجا دخول غيره في الإسلام جاز له ذلك، أنكر عليه هذا الإطلاق ونوزع فيه، كما تقدم.
وأما نقله عن الماوردي والحافظ، كلاهما على قول عائشة:(لا هجرة اليوم، كان المؤمن يفر بدينه إلى الله ورسوله، مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام) ، فكلام عائشة صريح في أن العلة التي من أجلها كان المؤمن يفر بدينه زالت بظهور الإسلام، ونحن نقول بموجب ذلك; ومفهوم الحافظ ليس هو مقتضى كلام عائشة، إن كان على ما زعم المجيز مع أنه لمجرد العبارة، وفي النقل تصرف مخل، لا ينبغي لطالب العلم; وأنا أسوق لك العبارة من أصلها، لتعلم أن هذا العلم دين.
قال الحافظ: إشارة عائشة إلى بيان مشروعية الهجرة، وأن سببها خوف الفتنة، والحكم يدور مع علته، فمقتضاه أن من قدر على عبادة ربه، في أي موضع كان اتفق، لم تجب عليه الهجرة; ومن ثم قال الماوردي: إذا قدر على إظهار دينه، في بلد من بلاد الكفر، فقد صارت البلد به دار إسلام، انتهى كلام الحافظ.
فأسقط المجيز قوله: ومن ثم، ولعله ذهول، وهي تدل: على أن عبارة الحافظ تنبني على ذلك، وأن الماوردي فهم كما فهم، لأن معنى: ومن ثم، أي: ومن هذه الحيثية، فعلم أنه لاحظ ذلك المعنى الذي قصده الماوردي من جواز الإقامة لمن أظهر دينه، ورجا إسلام غيره، مع أن كلام الحافظ يشعر بتمريض إطلاق الماوردي الأفضلية؛ وقد قدمنا لك الكلام عليه، وأنه لم يسلم للماوردي ما أطلق، فكذلك لا يسلم للحافظ لو قدر أنه يوافقه، مع أن عبارته محتملة غير صريحة؛ إذ العبادة لفظ عام، لا يحمل على ما زعموا إلا بقرينة، على ما قاله علماء البيان، ولا قرينة حينئذ؛ فحمله، وكذلك حمل ما قبله وما بعده، من مطلق عبارات العلماء، على ما يشهد له البرهان من قول الشارع، أولى، لوجوب الرد إليه عند التنازع.
وأما نقله عن الحافظ، وابن قدامة، من أن إظهار الدين أداء الواجبات، فقد تقدم لك ما يدل على أنه لا يتم له الاستدلال به على كل تقدير، لأنهم في عباراتهم غايروا بين الجملتين، فقالوا: لا يمكنه إظهار دينه، ولا يمكنه أداء واجباته، وأعادوا الجملة ثانيا، فصار هذا الحكم مركبا من جزئين، ولا يصح بدونهما، فظهر أن إظهار الدين هو إظهار المعتقد.
قال شيخ الإسلام: والأمر المركب من أجزاء، تكون الهيئة الاجتماعية، مبنية على تلك الأجزاء، مركبة منها، لأن
إعادة الأداة عند أهل المعاني، من باب التأسيس لا من باب التأكيد؛ وأظنه لا يفرق بين النوعين كما أنه لم يعرف الفرق بين العام المطلق المستغرق لأفراده، وبين العمومات المتناولة للشيء، وليس ببدع، إذ الدعاوي قد كثرت، ولو كان ثم خلاف لنبه عليه المتأخرون، لأنهم صرحوا بالمراد، كما تقدم.
وأما نقله عن الحافظ: أنه إذا لم يكن إمام وجب على المسلمين
…
إلخ،
فجوابه: أن نصب الإمام حجة ظاهرة في التماس الحوزة، والحوزة لا تكون إلا تنفيذ الأمر والنهي، ومعناه أنهم يجعلون إماما وقاضيا، يقضي بحكم القرآن، فما هذا الإمام؟ وما هذه الحوزة إذا لم تنفذ شيئا؟! فما وجه المأخذ؟ وأين مطابقته للإقامة بين ظهراني المشركين، لمسلم لا يستطيع إظهار ما هو عليه من الدين؟!.
وقوله: وكلام العلماء يطول، مجرد تهويل لا يعبأ به؛ وإذا كان هذا غاية بضاعته فلو شاء لنقل مجلدات. وقد قدمنا لك أول الجواب كلام ابن القيم أنه إذا تواطأ الكتاب والسنة على حكم، فلا يمكن أن يعارض، فلعل الله أن ينفعك به، فإنه أصل يزيل عنك شبهات كثيرة، وليس الشأن في كثرة التسويد; بل الشأن كل الشأن في فهم النصوص، ورد محتملاتها إلى صريحها.
ولما رأى بعض المغاربة كلاما أعجبه، قال: وليس الفقيه من يحفظ عددا كثيرا من العلم، وإنما الفقيه من يعرف مواقع
الخطاب ومدلولات الألفاظ، ومن ظن ذلك، فقد عرض له ما يعرض لمن ظن: أن الخفاف هو الذي عنده الخفاف الكثيرة، لا الذي يقدر على عملها، فقد يأتيه إنسان بقدم ليس في خفافه ما يوافقها، فيلجأ به إلى صانع الخفاف، فيصنع له قدر ما يوافقه.
وأما احتجاجه بسفر أبي بكر، فمن أعظم الجهل، لأنه قد قام بقلوب أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من الغيرة لله ولدينه وعداوة أعدائه، وإزهاق النفوس في مرضاته، ومفارقة الآباء والإخوان والعشيرة، ما هو معروف، لا يخفى إلا على من أراد لبس الحق بالباطل. هذا سعد رضي الله عنه لما قدم مكة كافح أمية، وتوعده بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من قتله، وهو نازل عليه، فأغاظه ولم يبال به.
وهذه أخت عمر رضي الله عنه لما قال لها: أريني هذا الكتاب، قالت: إنه لا يمسه إلا المطهرون، ولم توافقه، وقد أدمى رأسها، ومع ذلك، قالت: كان ذلك - تعني الإسلام - على رغم أنفك; وكذلك أم حبيبة بنت أبي سفيان، طوت فراش النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيها، فقال: بنية، أرغبت بي عن هذا الفراش، أو رغبت به عني؟ قالت:(بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك، نجس، فلا أحب أن تجلس عليه) ; ومثل هذا كثير من أقوالهم وأفعالهم، رضي الله عنه وأرضاهم.
والمقصود: أن لهم من الغيرة ما هو معلوم، ومصالح سفرهم للدين، والدعوة إليه ظاهرة، وحججهم على أعدائه
قائمة قاهرة؛ ومن استدل بهذا على ما يصدر من أهل الزمان، فهو المكابر لا محالة، وهو كمن يستدل بجواز القبلة في نهار رمضان، على جواز الوطء فيه.
والحاصل: أن المسلم لا يكون مظهرا لدينه، سواء كان مسافرا أو مقيما، حتى يخالف كل طائفة بما اشتهر عنها، وهو الذي يفهم من كلام السلف. أما قول: يا كافر! وقولك: أوجدنا عليه دليلا، ولو من تاريخ، أو غيره، فهذا لفظ لا يقول به أحد، ولا نعلم أحدا قال باشتراطه، لأنه مما لا مصلحة فيه حتى لو الداعي إلى الدين.
فإن الله قال لموسى وهارون، في حق من ادعى الربوبية:{فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [سورة طه آية: 44] ، بل يكتفي من ذلك بإظهار التوحيد، وإنكار الشرك والبراءة منهم، والتصريح لهم بذلك؛ والله أعلم. ولا بد من عودة يقتضيها المقام، أعرج فيها على بعض عبارات أئمة هذه الدعوة، أختم بها هذا الجواب، وإن كنت قد ذكرت شيئا منها فيما تقدم، وقد يستلذ المعاد، كما قيل:
ردد كلامك ما أمللت مستمعا
…
ومن يمل من الأنفاس ترديدا
وفي أجوبة أولاد الشيخ، لما سئلوا: هل يجوز للإنسان أن يسافر إلى بلد الكفار، وشعائر الشرك ظاهرة، لأجل التجارة أم لا؟
الجواب عن هذه المسألة، هو الجواب عن التي قبلها
سواء، ولا فرق في ذلك، بين دار الحرب والصلح، فكل بلد لا يقدر المسلم على إظهار دينه فيها، لا يجوز السفر إليها.
وقال السائل أيضا: وهل يفرق بين المدة القريبة، مثل شهر أو شهرين، وبين المدة البعيدة؟
الجواب: أنه لا فرق بين المدة القريبة والبعيدة، فكل بلد لا يقدر المسلم على إظهار دينه فيها ولا على عدم موالاة المشركين، لا يجوز له المقام فيها، ولا يوما واحدا، إذا كان يقدر على الخروج منها، انتهى.
وفي أجوبة أخرى لهم: ما قولكم في رجل دخل في هذا الدين وأحبه، ويحب من دخل فيه، ويبغض الشرك؛ وأهله يصرحون بعداوة الإسلام، ويقاتلون أهله؛ ويتعذر بأن ترك الوطن يشق عليه، ولم يهاجر عنهم بهذه الأعذار، فهل يكون مسلما هذا؟ أم كافرا؟
الجواب: أما الرجل الذي عرف التوحيد وآمن به، وأحبه وأحب أهله، وعرف الشرك وأبغضه وأبغض أهله، ولكن أهل بلده على الكفر والشرك، ولم يهاجر، فهذا فيه تفصيل; فإن كان يقدر على إظهار دينه عندهم، ويتبرأ منهم، ومما هم عليه من الدين، ويظهر لهم كفرهم وعداوته لهم، ولا يفتنونه عن دينه، لأجل عشيرة، أو مال أو غير ذلك، فهذا لا يحكم بكفره.
ولكنه إذا قدر على الهجرة ولم يهاجر ومات بين أظهر المشركين، فنخاف أن يكون قد دخل في أهل هذه الآية: {إِنَّ
الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآيتين [سورة النساء آية: 97] ، فلم يعذر الله إلا من لم يستطع حيلة ولم يهتد سبيلا; ولكن قل من يوجد اليوم من هو كذلك، إلى آخر المسألة؛ وهذا جواب الشيخ حسين، والشيخ عبد الله بن الشيخ محمد ابن عبد الوهاب، رحمهم الله وعفا عنهم، وقد فهموا من إطلاق النصوص المنع من المساكنة مطلقا.
ونحن نقول بالرخصة لمن أظهر دينه، بتصريح أو امتياز يرجى به إسلام غيره، كما قدمنا لك عن السلف؛ لكن هذه الرخصة قد قيدت بأمن الفتنة، وأنت خبير بأن أكثر المسافرين في هذا الزمان، لا يعرفون ما حرم الله تعالى، من موالاة أعدائه وأقسامها، وما يكفر به المسلم، وما لا يكفر به وما يحفظ الدين؛ بل هم إلى موالاة المشركين أسرع من السيل إلى منحدره؛ فأين من يعرف أدلته ويظهره عند الخصم إذا ابتلي فيه؟ بل غالبهم - إلا من شاء الله - يفتتن عند أول شبهة تعرض له؛ وهذا كلام أئمة هذه الدعوة، ومن أنكره، فإنما أنكر في الحقيقة عليهم، وإن تعامى عنهم وجعله في معاصريه.
وإذا كان الشيخ وأتباعه إلى يومنا هذا يقولون بموجب هذه النصوص التي قدمناها، ويوالون عليها ويعادون، فالآن يسأل ضرورة: هل هم فيما قرروه، على نهج قويم وصراط مستقيم، أو هم ممن لم يفهم درك المعاني، ولم يعرف أصولها
والمباني؟ فليكشف عن النقاب، وليبين وجه الخطأ بفصل الخطاب.
وأما المغالطات والتلبيس فلا حاجة لنا به، ولا نقبل لمجرد النقل الذي وضع في غير موضعه، لكن على قانون البحث بأن تكون المعارضة بمساو في الصحة، أو نص في الحكم لا يحتمل إلا مدلولا واحدا؛ وحاشا أن يجد ذلك، لأنا لو ذهبنا مع المحتملات والمجاملات، والقضايا العينية المتعلقة بالأشخاص، أو الأزمان، أو الأحوال، لم يبق في الأرض سنة يعمل بها.
ولا شك أن عقد مناظرة في مثل هذا الأصل الأصيل، ترفع إلى علماء الإسلام، ومن لهم البصيرة والعناية بهذا المقام، وتصير مثله بصاحبها على ممر الأيام، نوع جنون وبرسام؛ فاعرف أخي الحق بدليله، واترك المراء فيه، فإن المراء علامة الحرمان، قال حبر الأمة رضي الله عنه:(المراء لا تفهم حكمته، ولا تؤمن غائلته) .
قال ابن القيم رحمه الله: وحقيقة التعظيم للأمر والنهي أن لا يعارضا بترخص جاف، ولا يعارضا بتشديد غال، ولا يحملا على علة توهن الانقياد؛ فإن المقصود: هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله عز وجل؛ وما أمر الله عز وجل بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما تقصير وتفريط، وإما إفراط وغلو، فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطتين. انتهى. وما أقرب كلا الخطتين فيمن تمكن منه الشيطان، وتولاه وطلب
العلم لغير الله وما كان كذلك، فهذه عقباه.
ولفقيه زمانه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، في رسالته إلى آل سليم، كلام يناسب ذكره هنا; قال: وقد أخبر الله عن اليهود أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، أي: يتأولون كتاب الله على غير ما أراد، قال تعالى:{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 75] .
وأخبر عنهم أنهم {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [سورة النساء آية: 51] ، ولا بد أن يوجد من هذه الأمة، من يتابعهم على ما ذمهم الله به. والإنسان إذا عرف الحق وضده، لم يبال بمخالفة من خالف، كائنا من كان، ولا يكبر في صدره مخالفة عالم، ولا عابد; وما أخوفني على من عاش أن يرى أمورا كثيرة لا منكر لها.
ثم ذكر الشرك، وذكر ما ابتلي به شيخ الإسلام من علماء وقته; قال: وأكثر الناس اليوم - خصوصا طلبة العلم - خفي عليهم الشرك، انتهى من رسالته المشهورة. والفائدة: معرفة أن هذا الإمام له اليد الطولى في معرفة أصول الدين وفروعه، والحمية الإيمانية لله ولرسوله، وصدق الفراسة في التواء غصن الدين وذبوله.
وهذا آخر ما أوردناه زائدا على السؤال، حملني عليه النصح للمسلمين، والشفقة بأهل الدين، لما اشتدت غربة الإسلام،
وأعرض المنتسب عما يجب عليه من القيام، ومال إلى ما مالت إليه العوام، منشدا ما قاله بعض العلماء الأعلام:
قدمت لله ما قدمت من عمل
…
وما عليك بهم ذموك أو شكروا
وأسأل الله العظيم أن يثبتنا على الدين القويم، والصراط المستقيم، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا؛ والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على أشرف المرسلين، محمد وآله وصحبه أجمعين.
[تقريظات علماء عصر الشيخ إسحاق]
تقريظات علماء عصره: قال الشيخ حمد بن عبد العزيز:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مبطل كيد الكائدين، ومقيم حجته على الطغاة والمعاندين، الذي وهب ما يشاء لمن يشاء من نصر الحق والدين، وتحقيق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم حيث يقول:"يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين".
هذا وما ضمنه الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن هذه الأوراق وأملاه، هو الحق في هذه المسائل المهمة، التي ظاهر من ألقاها الاسترشاد، وحقيقته المشاقة والمراء والجدال والعناد؛ فأفاد وأجاد في تقرير الحق ونفي ما يضاده، مما تفوه به هؤلاء الحمقى والجهال، الذين حقيقة أمرهم الترويج والتلبيس على العامة والجهال، فلهم حظ من قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ
بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] .
وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} [سورة آل عمران آية: 7] .
وصح عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا رأيتم الذين يتبعون المتشابه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم "1. فنسأل الله العظيم أن يهدينا وسائر الإخوان صراطه المستقيم، وأن يجنبنا وإياهم طريق المغضوب عليهم والضالين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وممن قرظ على هذا الكتاب أيضا: إمام عصره، الشيخ العالم العلامة: عبد الله بن عبد اللطيف، والشيخ العلامة: حسن بن حسين، والشيخ عبد العزيز بن محمد، والشيخ محمد بن محمود، والشيخ إبراهيم بن عبد الملك، والشيخ سعد بن عتيق رحمهم الله تعالى، وعفا عنا وعنهم بمنه وكرمه، إنه قريب مجيب.
وقال أيضا الشيخ إسحاق بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمهم الله تعالى:
نصول بالله في نحر امرئ دانا
…
بالشرك أبدى لدين الله كفرانا
رجس ببغداد أملى من زخارفه
…
سفاسطا قد حوت زورا وبهتانا
مخلطا ليس يدري حين أنشدها
…
ماذا بمرصدها إذ كان وسنانا
أبدى معارضة الأكفاء من سفه
…
ما كان كفوًا لهم فازداد خذلانا
جاءت سهام ذوي الإسلام نافذة
…
فهدمت لذوي الإشراك بنيانا
1 البخاري: تفسير القرآن 4547 ، ومسلم: العلم 2665 ، والترمذي: تفسير القرآن 2993 ،2994 ، وأبو داود: السنة 4598 ، وابن ماجه: المقدمة 47 ، وأحمد 6/124 ،6/132 ،6/256 ، والدارمي: المقدمة 145.
كم من صريع غدا من وقع أسهمهم
…
تحت الحضيض ينادي الويل خسرانا
فالحمد لله جاءتكم كتائبهم
…
تشفي العليل وتهدي الحق حيرانا
فيها حتوفكمو يا شيعة ألفت
…
دين ابن جرجيس عدوانا وطغيانا
وحكمة الله يا أعمى البصيرة في
…
خلق الخليقة تكفي فيه بطلانا
فالحق ما وافق النص الصريح ولن
…
يعلوه باطلكم لو صيغ أوزانا
لكن من ضعفت أنوار فطرته
…
يبقى على الريب سل مولاك إيقانا
واحذر أولي الزيغ إن الله بينهم
…
في صدر سورة ذكرى آل عمرانا
واسأل خؤونا يسمى بالأمين وقد
…
عادى الأمين ووالى عنه شيطانا
قل ما تحاول والإسلام قد ثبتت
…
أطنابه وقتام الشرك قد بانا
يا رافلا في ثياب الجهل مفتخرا
…
وشاربا من كؤوس الغي نشوانا
نصرت والله أعداء الرسول وقد
…
عاديت من أسسوا للدين أركانا
فأبرزوا للعدى مزبور زخرفه
…
وقرروا أنه قد كان فتانا
لو كان متبعا أقوالهم لرأى
…
جعل الوسائط إشراكا وكفرانا
لأنهم قد حكوا إجماع مذهبهم
…
في كفر من جعل الأنداد أعوانا
ومنهم من حكى الإجماع قاطبة
…
فأين تذهب يا من كان سكرانا
من قال ما يشتهي لا يكذبن على
…
أئمة بينوا الأحكام تبيانا
فأخسأ أمين فإن الحق أسهمه
…
قد غادرت قبلك المخذول دحلانا
لا بد من عصبة بالحق ظاهرة
…
ينفون عن سنة المعصوم ما شانا
غضبت من حجة لله قد ظهرت
…
من عصبة ثابتي الأقدام إيمانا
هلا غضبت لشرع الله إذ طمست
…
أعلامه في بلاد الله أزمانا
قد بدلوا واجب التأذين تصدية
…
وبدلوا الوحي بالقانون كفرانا
يا أمة خالفوا نص الرسول لقد
…
أغويتمو همجا في الناس عميانا
لقبتمو عندهم أهل الرشاد بما
…
نفرتموهم به زورا وبهتانا
حذرتموهم وقلتم إنهم نفر
…
تنقصوا أولياء الله عدوانا
وأنكروا للكرامات التي جعلت
…
فيهم وقد عمموا بالكفر من كانا
صلى إلى قبلة الله التي نصبت
…
فكنتمو لهمو في الشر أعوانا
والله ما كفروا يا من قضى شططا
…
إلا الذي بصريح الشرك قد دانا
إن كان قد عرف التوحيد ثم أتى
…
بضده لو يصلي الخمس إدمانا
وقلتمو يهنكم أن النداء أتى
…
إباحة والدعا قد كان كفرانا
حتى غدا كلهم يدعو وليجته
…
وهو الندا كان عند القوم ديدانا
هذا لعمري صريح الشرك غايته
…
والله إنهما في النهي سيانا
قد جاء في مريم والأنبياء وفي
…
ص الذي يكشف التلبيس تبيانا
وفي الحديث أخي ذي النون دعوته
…
أن الإله سوى من عم إحسانا
وكنت شددت إنكارا عليه به
…
أين الدراية ما أعماك إنسانا
أما الزيارة فالتحقيق أنهمو
…
قد أنكروا ما فشا في الناس ذا الآنا
وهي التي القصد منها أن يزور لكي
…
يأتي النبي والولي يدعوه لهفانا
يقول يا سيدي اشفع لي وخذ بيدي
…
يوم الجزاء وقد يدعون شيطانا
كم قد تمثل والله الخبيث لهم
…
في صورة الصالح المقبور أحيانا
فنال مقصوده منهم وطلبته
…
حتى امتلت مدن الإسلام أوثانا
وقد نهى المصطفى عن ذا وبينه
…
نهيا تأكد منه اللعن قد كانا
عند السياق وقد والله شدده
…
يا ويل من خالف المعصوم عدوانا
ما صح أن الذي يأتيه يسأله
…
بل يقصدون صلاة ثم إتيانا
إلى الضريح لتسليم عليه وذا
…
فعل الصحابة أزكى الناس إيمانا
في قولك الحق ما أفتى الإمام به
…
بئس الإمام إذًا ذاك الذي هانا
والباطل المحض ما أفتى الخبيث به
…
عقلا وشرعا وإجماعا وقرآنا
وذاك من وضر الشرك الذي استعرت
…
نيرانه فيك يا من صد حرمانا
نصرت خبا لئيما قد خسرت به
…
إن لم تتب تصل يوم الحشر نيرانا
والله ما كان ذا علم فتنسبه
…
للعلم بل كان في بغداد فتانا
قد كان داعية للشرك مبتدعا
…
محرفا قصده إطفاء ما بانا
من دعوة ظهرت في الأرض واشتهرت
…
بها اضمحلت رسوم الشرك إعلانا
لما علته سيوف الحق حين جنى
…
على الشريعة في صلح به خانا
وعارض البينات الواضحات بما
…
يمجه سمع عبد حاز عرفانا
منتك نفسك إقداما لنصرته
…
فابرز تجد من ذوي الإسلام شجعانا
مثل الضياغم في غيل الغياظ لها
…
صولات صدق تذيق الذعر من دانا
كالعالم الفاضل النحرير قدوتنا
…
عبد اللطيف حباه الله رضوانا
والسيدين الألوسيين من هجرا
…
في الله من عبد الأنداد إيمانا
في الانتصار وفي ردي أبي حسن
…
ما يجعل الراسخ الإيمان جذلانا
فإنهم حين ما بانت زخارفه
…
جالوا عليه بوحي الله فرسانا
فأبطلوا كل ما أبداه من شبه
…
ظل الجهول به في الأرض حيرانا
قد قال إني وآبائي حنابلة
…
بحور علم وما بغداد لولانا
ما زان داود بغدادا وساكنها
…
إن لم يشن ساكني بغداد ما زانا
لما رأوه انتمى في زور باطله
…
إلى الحنابلة اختاروه ميزانا
فألزموه الذي كان ادعاه إذًا
…
فكان ما يدعي الزنديق بهتانا
هذا الذي قاله عبد اللطيف فإن
…
أبدى الذي خالف المنصوص عرفانا
فإنما طاعة الوحيين مذهبنا
…
بحمد من أنزل القرآن تبيانا
رجوتمو بالأحاديث التي وضعت
…
بوضعها صرح الحفاظ إتقانا
فاسأل أمين فما الشرك الذي تركوا
…
إن كان هذا مباحا عندهم زانا
وإن ذا الرد أخطا حين أنكره
…
على المبهرج داود بن سلمانا
فإن يقل سبب قلنا نعم سبب
…
يهدي إلى النار هاتوا فيه برهانا
بأنه كان في شرع الرسول وعن
…
خير القرون فما يهدون سلطانا
وأنه ما نهى عن ذاك سيدنا
…
إلا الذي قصد التأثير إتيانا
من جهله أنه ظن الكرامة لا
…
تكون في صالح إلا وقد كانا
في المستغاث به من دون خالقه
…
هذا الذي نده قد جاء عصيانا
أهلا لأن يرتجى أو يستغاث به
…
من دون خالقه سبحان مولانا
إلهنا خالق الأكوان من عدم
…
مسدي الفضائل إنعاما وإحسانا
وهذه حجج والله واهية
…
ما أنزل الله بالإشراك سلطانا
تبا له من وضيع قبثر فلقد
…
والله أصخى عن الإيمان آذانا
لقد تربى رضيع الشرك من صغر
…
فأنكر الأخنع التوحيد خذلانا
إن الصحابة أخفوا قبر من عرفوا
…
خوفا على الناس من أمر وقد هانا
على النفوس وزادوا الشر واقترفوا
…
من بعد خير الورى في الأرض أديانا
وذاك مصداق ما قال الرسول فلا
…
تعجب فما خافه المعصوم قد آنا
عليه منا صلاة الله دائمة
…
ما رجَّع الطير عالي الدوح ألحانا
وما همى المزن أو هب النسيم وما
…
هدت عصابة أهل الدين أوثانا
والآل والصحب ثم التابعين لهم
…
من أسسوا للهدى في الأرض أركانا
وقال الشيخ العلامة: إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله، ذبا عن الدين المتين أن يضام، وحمية لجناب الإسلام والمسلمين أن يعروه اهتضام، مجيبا لمن لا يطابق اسمه مسماه، المتكلم بالقحة والزور، فيما نماه: أمين بن حنش البغدادي، لا زال ممقوتا فيما تقول، في كل مجمع ونادي.
الحمد لله حمدا أستزيد به
…
فضل الإله وأرجو منه رضوانا
وأستعين به في رد خاطئة
…
من العراق أتت بغيا وعدوانا
من جاهل عارض الحق المتين بما
…
هدى به سفها تيها وطغيانا
فدم ببغداد وغد لا خلاق له
…
خب لئيم حليف الشر مذ كانا
قد عاب أهل الهدى من غير ما سبب
…
وقام يعمر للإشراك بنيانا
وظل يمدح ما أبداه طاغية
…
مؤسسا لصريح الكفر أركانا
بقوله الحق ما أفتى الإمام به
…
يعني بذلك داود الذي خانا
والشرك لا شك ما أفتى اللئيم به
…
أعني به الفدم داود بن سلمانا
الجاهل المارق المغبون صفقته
…
والمغوي الناقص المملوء طغيانا
من الأراذل ممن ليس يردعهم
…
عن حومة الكفر والإشراك من كانا
من الدعاة إلى طرق الضلال وذا
…
لا شك فيه لدى من حاز عرفانا
من الطغام وشر الناس قاطبة
…
هداهم لسبيل الكفر طغيانا
والسائرين على نهج الردى وعلى
…
طرائق الشر إخوانا وأعوانا
قد كان والله لا علم ولا ورع
…
بل كان أجهل خلق الله إنسانا
فضل من بقريظ الشعر يمدحه
…
مصوبا للذي أبداه طغيانا
كخائن ابن حنيش حين قرر ما
…
أبدى من الكفر في صلح به خانا
فليس بالعالم المرضي مقالته
…
ولا الأصيل ولا من نال إتقانا
حتى يقرر ما جاء الخبيث به
…
من السفاسف إشراكا وكفرانا
إن كان إلا غويا خالعا عفنا
…
وزائغا حائدا بل كان ديصانا
يا من تهور فيما قد أتى سفها
…
ولم يبال بقول الزور مجانا
بشراك بالخزي يا أشقى الورى فلقد
…
أبديت عمري من الكفران ألوانا
وفهت بالزور فيما قلت مجتريا
…
فما أمين ولكن كنت خوانا
فيما تقولته يا ذا الخؤون على
…
شمس الهدى كذبا بغيا وعدوانا
والشيخ منه برئ لم يقله ولم
…
يفه به أبدا بل كان بهتانا
والله ما كان عن جهل عبارته
…
لكنه العلم إيضاحا وتبيانا
وقد غدا قاطع الإجماع حجته
…
والراجحات من الأقوال برهانا
فما يكفر كل الناس قاطبة
…
ولا يجهلهم يا شر من كانا
ولا يكفر أهل القبلة الفضلا
…
لا بل يكفر من بالشرك قد دانا
من كان يصرف للمخلوق دعوته
…
وكان يندب للأموات أحيانا
يدعوهمو باعتقاد منه أنهمو
…
يفرجون عن المكروب أحزانا
وما تنقص خير المرسلين ولم
…
يبح له حرمة ترجى ولا شانا
بل كان يرعى حقوق المصطفى وكذا
…
للأمر منه والنهي الذي بانا
يرعى لحرمته يقضي بسنته
…
يدعو لأمته بالخير إحسانا
لكنه لا يرى أن تجعلوه له
…
شركا مع الله جل الله مولانا
ما ذاك حق له والله حذرنا
…
عن ذا يقينا بذكرى آل عمرانا
كذا الشفاعة منه ليس يحرمها
…
إلا جهول بمحض الشرك قد دانا
كمثلكم يا ذوي داود إنكمو
…
جعلتمو أولياء الله أوثانا
تنسون خالقكم في كل حادثة
…
وتذهبون إلى الأموات سرعانا
هذا لديكم شهيرا ليس ينكره
…
يا أغلف القلب إلا جاحدا بانا
هذا هو الشرك قد أعليت ذروته
…
وسوف تصبح يوم الدين ندمانا
كذا النداء عبادات أما لك من
…
وقف على واضح القرآن إمعانا
فيه الدعا والندا لا فرق بينهما
…
حقا بهذا كتاب الله أنبانا
في الأنبياء كذا في مريم ذكرا
…
وجاء لفظ الدعا في آل عمرانا
في تلو ياسين نادى نوح مرسله
…
كذاك في اقتربت منه الدعا كانا
كذاك ذو النون نادى عند شدته
…
سماه طه دعاء جاء تبيانا
وآية هي في الكفار قد نزلت
…
تأتي يقينا على من جاء كفرانا
من كان يقصر آيات الكتاب على
…
أسباب إنزالها قد نال خسرانا
فالاعتبار عموم اللفظ قال بذا
…
من شاد للملة السمحاء أركانا
همو الهداة الأولى نص الرسول على
…
تفضيلهم زمنا علما وعرفانا
كذاك متبع طرق الهداة على
…
قواعد الشرع إسلاما وإيمانا
فهو المراد بآيات مبشرة
…
من الإله أتت عفوا وغفرانا
والمشرك الكافر الزنديق إن له
…
عند الإله غداة الحشر نيرانا
وليس ننكر أسبابا مؤثرة
…
والله خالقها سبحان مولانا
والاعتماد على الأسباب منقصة
…
لأنه من قسيم الشرك قد بانا
فمن يلاحظ للأسباب يفردها
…
من دون خالقها قد نال خذلانا
ومن يعطل أسبابا وينكرها
…
قد خالف الشرع والمعقول طغيانا
أما الخوارق للعادات فهي إذا
…
لا تقتضي الفضل إطلاقا لمن كانا
أكل من أحدث الله الحكيم له
…
كرامة منه إنعاما وإحسانا
أهل بأن يرتجى أو يستعان به
…
أو يطلب القطر عند الجدب أحيانا
هذا ضلال مبين واضح أبدا
…
لا بل هو الشرك بالمعبود عدوانا
كذا الزيارة تحقيق فما شرعت
…
إلا لتذكير إخوان لإخوانا
نص الرسول على هذا وبينه
…
ونسأل الله للمقبول غفرانا
وفي زيارة خير الخلق قد ذكرت
…
آثار أبطلها من حاز عرفانا
وليس فيها صحيح مسندا أبدا
…
حتى نسلم للمنصوص إذعانا
لكنما عندنا حقا زيارته
…
من غير ما شد رحل للنبي كانا
إلا لمسجده حالا فذا وردت
…
به الأحاديث لكن كنت سكرانا
وما سوى ذاك من فعل الذين عصوا
…
فليس حقا ولكن كان عصيانا
هذا الذي قاله عبد اللطيف إذًا
…
ولم يكن يمنع المشروع بل كانا
مستمسكا بصحيح النقل متبعا
…
خير القرون الأولى دانوا بما دانا
ينفي عن الحق ما أبداه مبتدع
…
أضحى بما قاله في الدين جذلانا
يرديه تحت حضيض الأرض يطرحه
…
بأسهم الحق إيضاحا وتبيانا
يحمي طريق رسول الله عن شبه
…
وعن ضلال بذا التأسيس أتيانا
عن ذاك أفصح مصباح له ولقد
…
أعلى بذلك للتوحيد بنيانا
إذا تأمل ذو الإنصاف أسطره
…
يقضي له عجبا حفظا وإتقانا
يرى أدلته في ذاك واضحة
…
من الصحاح أحاديثا وقرآنا
يهتز منها ذوو الإسلام من طرب
…
وتترك المشرك الزنديق حيرانا
لا غرو مما هذى هذا الغبى به
…
إن كان غيظا على الإسلام ملآنا
فمفرط الحسد المردي دعاك إلى
…
ما قلته كذبا بغيا وطغيانا
لما رأيت سيوف الحق بارقة
…
في سوح بغداد أبديت الذي كانا
فالحمد لله لا والله ما أحد
…
يرى الذي قلته إلا وقد هانا
هذا وقد قال فيما قال مقتديا
…
وأقبح القول ما قد قيل عدوانا
لو كان كفوا له أو من يقارنه
…
أو من يقاربه يا ليت لو كانا
لكنت أبرز ما قد كنت أكتمه
…
ولا أبالي بمن قد عز أو هانا
فليت شعري أكان الوغد يظهر ما
…
أجنه من خبيث القول كتمانا
إذا نعد له والله أجوبة
…
مثل الصواعق آيات وقرآنا
من كل أروع شهم القلب فكرته
…
تريك فصلا وإيضاحا وتبيانا
حتى نغادره في قعر مظلمة
…
يهوي حسيرا كسيرا نال خذلانا
ما ضر أفق السما نبح الكلاب كذا
…
ما ضر أهل الهدى من سب أو شانا
فالحمد لله حمدا لا انقطاع له
…
جار على مرّ ما يبقى وما كانا
لا فاز بالأمن عبد مشركا أبدا
…
وسوف يجني غداة الحشر خسرانا
ولا غدا بجزيل الأمن مبتهجا
…
عن الإله ولا أعطاه رضوانا
هذا جوابك يا هذا موازنة
…
فالحر ما دين إنصافا به دانا
ثم الصلاة على المعصوم سيدنا
…
أزكى البرية بل أعلاهمو شانا
والآل والصحب ما هب النسيم وما
…
مس الحجيج لبيت الله أركانا
[رسالة الشيخ حمد بن عتيق إلى حسين المخضوب جوابا لما ذكره من فقدان الإخوان]
وقال الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من حمد بن عتيق إلى الأخ المكرم، الشيخ عبد الله بن حسين المخضوب، وفقني الله وإياه للعلم والعمل، بالسنة والكتاب، وأزال عنا وعنه الحجب والارتياب، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وما ذكرت من فقد الإخوان، فهو وصمة على الدين والإيمان، ويدل على أن ما أخبر به الصادق قد آن؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم:" إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، وإنما يقبض العلم بقبض العلماء؛ حتى إذا لم يبق عالما، اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا " 1، وقال صلى الله عليه وسلم "لا تقوم الساعة حتى يرفع العلم، ويوضع الجهل " 2، في أحاديث كثيرة في هذا المعنى، وقد أخبر به الصادق المصدوق.
وبعد ذلك قد بلغني عنك ما أساءني، وعسى أن يكون كذبا، وهو أنك تنكر على من اشترى من أموال أهل الأحساء
1 البخاري: العلم 100 ، ومسلم: العلم 2673 ، والترمذي: العلم 2652 ، وابن ماجه: المقدمة 52 ، وأحمد 2/162 ،2/190 ،2/203 ، والدارمي: المقدمة 239.
2 البخاري: الحدود 6808 ، والترمذي: الفتن 2205 ، وأحمد 3/98.
التي تؤخذ منهم قهرا، فإن كان صدقا، فلا أدري ما الذي عرض لك؟ والذي عندنا: أنه لا ينكر مثل هذا، إلا من يعتقد معتقد أهل الضلال القائلين: إن من قال: لا إله إلا الله، لا يكفر، وأن ما عليه أكثر الخلق من فعل الشرك وتوابعه، والرضى بذلك وعدم إنكاره، لا يخرج من الإسلام.
وبذلك عارضوا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في أصل هذه الدعوة؛ ومن له مشاركة فيما قرره المحققون، قد اطلع على أن البلد، إذا ظهر فيها الشرك، وأعلنت فيها المحرمات، وعطلت فيها معالم الدين، تكون بلاد كفر، تغنم أموال أهلها، وتستباح دماؤهم.
وقد زاد أهل هذا البلد، في إظهار المسبة له ولدينه، ووضعوا قوانين ينفذونها في الرعية، مخالفة لكتاب الله وسنة نبيه؛ وقد علمت أن هذه كافية وحدها، في إخراج من أتى بها من الإسلام; هذا ونحن نقول: قد يوجد فيها من لا يحكم بكفره في الباطن، من مستضعف ونحوه، وأما في الظاهر فالأمر - ولله الحمد - واضح.
ويكفيك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، مع أن فيهم مستضعفين، وكذلك ما فعله أصحابه بكثير ممن ارتد عن الإسلام، من استباحة الدم والمال والسبي؛ وكل عاقل وعالم يعلم أن ما أتى به هؤلاء، من الكفر والردة، أقبح وأفحش، وأكثر مما فعله أولئك؛ فارجع البصر في نصوص الكتاب والسنة، وفي
سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، تجدها بيضاء نقية، لا يزيغ عنها إلا هالك؛ تحر فيما ذكر العلماء، وارغب إلى الله في هداية القلب، وإزالة الشبهة، وما كنت أظن أن هذا يصدر من مثلك، ولا تغتر بما عليه الجهال، وما يقوله أهل الشبهات.
فإنه قد بلغني أن بعض الناس يقول: إن في الأحساء من هو مظهر دينه، لأنه لا يرد عن المساجد والصلاة، وأن هذا عندهم هو إظهار الدين، وهذه زلة فاحشة، غايتها: أن أهل بغداد وأهل بنبي وأهل مصر، قد أظهر من هو عندهم دينه، فإنهم لا يمنعون من صلى، ولا يردون عن المساجد.
فيا عباد الله أين عقولكم؟ فإن النّزاع بيننا وبين هؤلاء، ليس هو في الصلاة، وإنما هو في تقرير التوحيد والأمر به، وتقبيح الشرك والنهي عنه، والتصريح بذلك، كما قال إمام الدعوة النجدية: أصل دين الإسلام وقاعدته أمران:
الأمر الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه.
الأمر الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله. هذا هو إظهار الدين يا عبد الله بن حسين.
تأمل أرشدك الله، مثل قوله في السورة المكية:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [سورة الكافرون آية: 1-2] ، إلى آخر السورة، فهل وصل إلى قلبك أن الله أمره أن يخاطبهم بأنهم كافرون، ويخبرهم
بأنه لا يعبد ما يعبدون، أي: أنه بريء من دينهم، ويخبرهم أنهم لا يعبدون ما يعبد، أي: أنهم بريئون من التوحيد، ولهذا ختمها بقوله {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [سورة الكافرون آية: 6] ، فهذا يتضمن براءته من دينهم وبراءتهم من دينه.
وتأمل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يونس آية: 104-105] ؛ فهل سمعت الله أمره أن يقول لهم: إني بريء من دينهم؟ وأنه أمره أن يكون من المؤمنين الذين هم أعداؤهم؟ ونهاه أن يكون من المشركين الذين هم أولياؤهم وحزبهم؟!
وفي القرآن آيات كثيرة مثل ما ذكر الله عن خليله إبراهيم إمام الحنفاء {وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ} الآيتين [سورة الممتحنة آية: 4] ؛ فأمرنا الله بالتأسي بهم قولا وفعلا. والقصد تنبيهك، خوفا من الوفاة على غير طائل من الدين؛ أعاذنا الله وإياك من مضلات الفتن؛ والله أعلم، وصلى الله على محمد وصحبه وسلم.
[ورود رسالة من فارس فيها أربع مسائل والجواب عنها]
وقال بعضهم وقيل: إنه الشيخ محمد بن سلطان، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله عظيم الشأن، دائم الإحسان، الغني القوي السلطان، الأول ولا زمان، الآخر الباقي فليس بعده إنس ولا جان، الذي كتب آيات التوحيد والإيمان، بقلوب أهل التصديق، لما أوقد مصابيح التوفيق، فردا وإجمالا. لا يمثل للعيان، ولا يخيل للجنان، أخرج ذرية آدم بقدرته وحكمته، فقسمهم إلى ذي حظ وحرمان؛ فكم من حقير رفع، وكم من عزيز هان، صفى أسرار قوم، وكدر أسرار آخرين وأشان.
فأهل الكدر يتعارفون، وأهل الصفا يتهادون، ويتداعون كالإخوان، ويحذر بعضهم بعضا مواطن الغفلة والخسران، كما أمرهم بذلك خالق الخلق ومكون الأكوان، فقال في محكم القرآن:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] ، فسبحان من أظهر أسرار البيان، في تعليم تعظيم:{الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [سورة الرحمن آية: 1-2-3-4] .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أحقق بها حقائق الإيمان. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي بعثه داعيا إلى الله، وأرسله بالدين القويم ليظهره على سائر الأديان، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما.
أما بعد: فورد على بعض إخواننا من فارس "ورقة" فيها
كلام طويل، كل عاقل يرى الإعراض عنه، لأن أكثره لغو وهذيان، وتخليط أباطيل، يموه صاحبه بباطله على العميان؛ فرد أخونا على هذا المبطل ردا بسيطا، جزاه الله بالإحسان؛ ولكن أحببنا إعانة أخينا، امتثالا لقوله:" والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه "1. وإن كنا لسنا من أهل هذا الشأن.
فقال هذا المبطل كلاما، كما قدمنا: أنه لغو وهذيان، ولكن ملخصه، وحاصله أربع مسائل:
المسألة الأولى: تعطيل صفات ربنا الديان، وذاته تعالى وتقدس عظيم الشأن.
المسألة الثانية: تحليل الشرك وعبادة الأوثان، وجواز صرف الدعاء للأحياء والأموات، من الإنس والجان ; ويستدل هذا الجاهل المغرور، بعمومات كالسراب الذي بقيعة يحسبه ماء الظمآن.
المسألة الثالثة: إثبات الشفاعة الشركية التي نفاها القرآن.
المسألة الرابعة: استحسان البدع المضلة، والمحدثات التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان.
فالجواب، نقول: يا معلم إبراهيم علمني، وإلى طريق الحق فهمني، أوجب الله على عباده اتباع ما أنزل عليهم في كتابه، وما جاءهم به رسوله، قال تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [سورة الأعراف آية: 3] .
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [سورة آل عمران آية: 31] .
وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [سورة طه آية: 123] .
1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار 2699 ، والترمذي: القراءات 2945 ، وابن ماجه: المقدمة 225 ، وأحمد 2/252.
وذم الله من أعرض عن كتابه وما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [سورة طه آية: 124] .
وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} الآية [سورة السجدة آية: 22] .
وقال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [سورة النجم آية: 29-30] .
وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} الآية [سورة الكهف آية: 57] . والآيات في ذلك كثيرة معلومة.
فإذا فهمت أن الله أوجب على عباده اتباع كتابه الذي جعله تبيانا لكل شيء، وهدى ورحمة، وطاعة رسوله الذي بعثه ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فقال تعالى:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [سورة المائدة آية: 92] .
وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [سورة النساء آية: 80] .
وقال صلى الله عليه وسلم " لو كان موسى حيا، ما وسعه إلا اتباعي " 1 الحديث.
فإذا عرفت وجوب ذلك، فأوجب الله أيضا على العباد: أن يردوا ما تنازعوا فيه واختلفوا فيه، إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [سورة النساء آية: 59] .
وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} الآية، [سورة البقرة آية: 213] .
وقال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي
1 أحمد 3/338 ، والدارمي: المقدمة 435.
اخْتَلَفُوا فِيهِ} الآية [سورة النحل آية: 64] .
وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [سورة النساء آية: 65] .
وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله " 1 وقال صلى الله عليه وسلم " تركتم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك ".
فإذا عرفت هذه المقدمة - وهي الأصول الثلاثة - الاتباع، وتحريم الإعراض، ووجوب رد ما تنازعوا فيه، إلى ما أنزل إليهم من ربهم، وما جاء به نبيهم من السنة، وما عليه سلف الأمة.
فالجواب: أن هذه البدعة بدعة الجهمية، ومقالتهم في الصفات، إنما حدثت في أواخر عصر التابعين، ومأخوذة عن تلامذة اليهود والمشركين، وضلال الصابئين؛ وأول من حفظت عنه هذه المقالة: الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، فنسبت مقالة الجهمية إليه.
وقد قيل: إن الجعد أخذ هذه المقالة عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت - وما اختلفوا فيه -، وطالوت عن لبيد اليهودي، الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم؛ ومستندهم في ذلك قول الأخطل، كافر نصراني; فإذا عرفت: أن أصل هذه المقالة - التحريف التعطيل - مأخوذة عمن ذكرنا: تلامذة الصابئين، والمشركين، واليهود، فكيف تطيب نفس مؤمن، بل نفس عاقل أن يأخذ سبيل هؤلاء المغضوب عليهم والضالين، ويدع
1 الترمذي: المناقب 3788 ، وأحمد 3/14 ،3/17 ،3/26 ،3/59.
سبيل الذين أنعم الله عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؟!
فإذا عرفت أن مضمون مقالتهم هذه، واتباعهم سبيل الجهمية والمعتزلة، مضمونه: أن كتاب الله لا يهتدى به في معرفة الله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم معزول عن التعليم، والإخبار بصفات الله الذي أرسله، وأن الناس عند التنازع لا يردون ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، وإلى طريقة السلف؛ بل يردون عند التنازع إلى طريقة طواغيت الفلاسفة، والمجوس واليهود.
وقد أنكر الله على من أراد أن يتحاكم إليهم، قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [سورة النساء آية: 60-61-62] ؛ فإن هؤلاء إذا دعوا إلى ما أنزل الله في الكتاب، وإلى الرسول بعد وفاته، وهو الدعاء إلى سنته، أعرضوا عن ذلك، وقالوا: إنما قصدنا وما أردنا بذلك إلا إحسانا علما وعملا؛ ثم ضربوا للكتب الإلهية أنواع التحريف والتبديل، وأصناف المجاز والتأويل، ولا أبقوا العقول على ما فطرها الله عليه، مضاهاة للكثير من اليهود والصابئين، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: " لتركبن سنن
من كان قبلكم " 1 الحديث.
ولكن قام برد هذه البدع أصحاب الكتاب، والآثار المأخوذة عن سيد المرسلين، وهم أهل القرآن والحديث، الباحثون في كل باب في العلم، من الصحابة والتابعين، من السابقين الأولين، الذين أخبر بهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول:"يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين". وكانوا هم أئمة الإسلام، الذين هم قدوة المؤمنين، بحيث كان أرباب هذه البدع في أيامهم أصاغر مغموصين.
واعلم: أن الضلال والتهوك إنما استولى على كثير من المتأخرين، لنبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإعراضهم عما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى، وتركهم البحث عن طريقة السابقين والتابعين، والأئمة الأربعة عليهم رضوان الله أجمعين، وأن ما أصف: فرع هؤلاء.
وإذا كان ذلك كذلك، فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة مملوء بما هو، إما نص شاهر، أو لفظ ظاهر: أن الله هو العلي الأعلى، وهو فوق كل شيء، وهو عال على كل شيء، وأنه استوى على العرش.
مثل قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] .
ومثل قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}
1 الترمذي: الفتن 2180 ، وأحمد 5/218.
[سورة فاطر آية: 10] .
وقوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [سورة آل عمران آية: 55]، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} [سورة الملك آية: 16-17] ، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [سورة النساء آية: 158] ، {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [سورة المعارج آية: 4] ، {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [سورة السجدة آية: 5] .
وقوله في الملائكة: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [سورة النحل آية: 50]، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سورة الأنعام آية: 18] ، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] ، في ستة مواضع {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [سورة غافر آية: 36-37] ، {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت آية: 42] ، {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [سورة الأنعام آية: 114] ، {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [سورة فصلت آية: 2] ، مما لا يكاد يحصى إلا بكلفة.
مثل قصة معراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه، ونزول الملائكة من عند الله، وصعودها إليه، وقوله عليه السلام في الملائكة الذين " يتعاقبون فيكم بالليل والنهار، فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم، فيسألهم وهو أعلم بهم "1. وفي الصحيحين في حديث الخوارج: " ألا تأمنوني؟ وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر
1 البخاري: مواقيت الصلاة 555 ، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة 632 ، والنسائي: الصلاة 485 ، وأحمد 2/257 ،2/312 ،2/344 ،2/396 ،2/486 ، ومالك: النداء للصلاة 413.
السماء صباحا ومساء " 1.
وفي حديث الرقية، الذي رواه أبو داود وغيره، وفي حديث الأوعال:" والعرش فوق ذلك، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه " 2 كما رواه أحمد وأبو داود، وغيرهما، وفي حديث الجارية، وقوله في الحديث الصحيح:" إن الله لما خلق الخلق كتب في كتاب، فهو موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضب ي" 3، وقوله في حديث قبض الروح التي يعرج بها إلى السماء.
وكذلك في حديث أبي موسى الأشعري، الذي في صحيح مسلم، وأمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله، مما هو أبلغ; تواترت اللفظية والمعنوية، التي تورث علما يقينا من أنفع العلوم الضرورية، عن الرسول صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله بإثبات صفات الذي أرسله، من العلو والكلام إلى غير ذلك، كما فطر الله على ذلك جميع الخلق، عربهم وعجمهم، إلا من اجتالته الشياطين، ثم في ذلك عن السلف من الأقوال، ما لو جمع لبلغ مئين ألوفا.
وهذا وأمثاله كما قدمنا، يعلم البصير العاقل: أنهم مستحقون ما قاله الشافعي، رضي الله عنه حيث قال: حكمي في أهل الكلام، أن يُضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام، إلى غير ذلك من ذم أهل الكلام، وأنهم مبتدعة، كما قُتل الجعد، والجهم بن صفوان، وغيرهما.
1 البخاري: المغازي 4351 ، ومسلم: الزكاة 1064 ، وأحمد 3/4.
2 أحمد 2/197.
3 البخاري: بدء الخلق 3194 والتوحيد 7404 ،7422 ،7453 ،7553 ،7554 ، ومسلم: التوبة 2751 ، والترمذي: الدعوات 3543 ، وابن ماجه: المقدمة 189 والزهد 4295 ، وأحمد 2/257 ،2/259 ،2/313 ،2/358 ،2/381 ،2/397 ،2/433 ،2/466.
وأما مذهب السلف في ذلك، واعتقادهم: فيثبتون للرب ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات العلى، والأسماء الحسنى، كما قال بعضهم يروي ذلك عن مالك، رحمه الله، وعليه السلف، كما قال ربيعة وابن عيينة، وغيرهما من أهل العلم بالقبول، لما سئل عن الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب.
وروي عن بعضهم مثل ذلك، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] .
وقال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [سورة طه آية: 110] ، فالممثل يعبد صنما، والمعطل يعبد عدما، والموحد يعبد إلها أحدا صمدا {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 3-4] .
وقال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [سورة الصافات آية: 180-181-182] ، في تبليغهم ما أرسلوا به، {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام آية: 45] .
وأما قولك: "في" تقع ظرفية، فهي تقع ظرفية، وتقع بمعنى الاستعلاء، كما قال تعالى:{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [سورة التوبة آية: 2] . وقال، إخبارا عن فرعون:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [سورة طه آية: 71]، و {فِي الْأَرْضِ} [سورة البقرة آية: 11] ، أي على الأرض; وهذا مفهوم معهود في خطاب القرآن، فقوله:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16] ، بمعنى الاستعلاء، أي: من على السماء.
ولكن قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [سورة آل عمران آية: 7] ، مرض
{فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} الآية [سورة آل عمران آية: 7] .
وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها، عنه عليه السلام:" إذا رأيتم الذين يتبعون المتشابه ويتركون المحكم، فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم "1.
فصل
وأما المسألة الثانية، وهو قوله: إنكم تنكرون الاعتقاد في الأولياء ودعاءهم عند المهمات والاستشفاع بهم.
فالجواب: أن هذا هو الشرك الأكبر المحرم، الذي لا يغفره الله، وحرم الجنة على فاعله، كما قال تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] . وهذا هو شرك المشركين، قال تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] .
وقوله: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] .
وهذا أيضا هو اعتقاد قوم نوح، كما قيل عنهم: ما عظم أولنا هؤلاء، إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله; فعبدوهم بذلك. وهذا الاعتقاد هو شرك الأولين أيضا؛ فبعث الله الرسل تدعوهم إلى التوحيد، وتخبرهم أن هذا هو الشرك الأكبر، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] .
1 البخاري: تفسير القرآن 4547 ، ومسلم: العلم 2665 ، والترمذي: تفسير القرآن 2994 ، وأبو داود: السنة 4598 ، وابن ماجه: المقدمة 47 ، وأحمد 6/48 ،6/124 ،6/132 ،6/256 ، والدارمي: المقدمة 145.
وكما ذكر الله في دعوتهم قومهم: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة المؤمنون آية: 32] .
وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] .
فإذا عرفت فرضية التوحيد والأمر به، فاعرف أن الله حرم الشرك، كما قال تعالى:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة الأنعام آية: 151] .
وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة النساء آية: 36] .
وقال تعالى إخبارا عن عظم الشرك، وبطلان عمل صاحبه، لما ذكر الأنبياء قال:{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 88] .
وقال في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الزمر آية: 65-66] .
وأخبر جل وعلا أنه لا يغفره، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] ، وأخبر أنه حرم الجنة على فاعله، كما قال تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] ، وأخبر أنه لا تنفعهم شفاعة الشافعين، فقال تعالى في حق نبيه:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية، [سورة التوبة آية: 113] .
فإذا كان هذا عظم الذنب العظيم، وعظم جرم فاعله، فكيف يليق بمن له أدنى عقل وفقه يبيحه للناس، ويدعو إليه؟!
ولكن نقول: سبحان من طبع على قلوب أعدائه.
فإن قال هذا الجاهل: الاعتقاد في الأولياء ودعاؤهم، والاستشفاع والتوسل بهم، ليس بشرك.
فيقال: أوجب الله علينا أن نرد ما اختلفنا فيه، وما وقع فيه النّزاع، إلى كتابه وسنة رسوله، كما قدمنا، فإنه قال:{لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [سورة البقرة آية: 213] .
وقال: {لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} [سورة النحل آية: 64] .
وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [سورة النساء آية: 59] .
فنقول: ورد في القرآن العزيز، نفي ما أثبت اتخاذه مع الله، كذلك ورد نفي الشفيع والولي من دون الله، واتخاذ الأنداد معه أيضا، قال تعالى:{مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [سورة السجدة آية: 4] .
وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 51] .
وخاطب الله من زعم ذلك واعتقده بالكفر، قال تعالى:{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً} [سورة الكهف آية: 102]، إلى قوله:{وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً} [سورة الكهف آية: 106]، كذلك قول الله تعالى:{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 22] .
وقال تعالى: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ
أَصْحَابِ النَّارِ} [سورة الزمر آية: 8] .
وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم لما سئل: " أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك "1.
وأما الكلام على الدعاء، فالدعاء من أجل الطاعات وأعظم العبادات، وصرفه لغير الله من أعظم المنكرات، وقد بين الله في كتابه العزيز، خصوصا، فيه: الآيات المحكمات; ولم يكثر الله في نوع من أنواع العبادة في كتابه أعظم من الدعاء، كالسجود لغير الله، فذكر الذبح في موضعين، وذكر أنواع العبادة كذلك; وأما الدعاء فذكره في نحو ثلاثمائة موضع على أنواع.
تارة يذكره على صيغة الأمر به، كما قال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [سورة غافر آية: 60] ، سماه الله عبادة، فلأجل ذلك قرن الأمر به الأمر بالإخلاص أيضا، كما قال تعالى:{فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة غافر آية: 65] .
وقال تعالى: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [سورة الأعراف آية: 29] ؛ فأمر، وأكد بأن يكونوا في دعائه مخلصين، كذلك قال تعالى:{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [سورة غافر آية: 14] ، فأخبر أن لا يكره دعاءه، والإخلاص له في عبادته، إلا من كان صفته الكفر.
وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} [سورة العنكبوت آية: 65-66] ، فدلت هذه الآية الكريمة
1 البخاري: تفسير القرآن 4477 ، ومسلم: الإيمان 86 ، والترمذي: تفسير القرآن 3182 ، والنسائي: تحريم الدم 4013 ، وأبو داود: الطلاق 2310 ، وأحمد 1/434.
على فوائد:
منها: أن الدعاء هو أصل التوحيد، والشرك والعبادة، حيث ذكر لما دعوه مخلصين له العبادة في ذلك.
الفائدة الثانية: أنه الشرك إذا صرف لغير الله; الفائدة الثالثة: أنه كفرهم على ذلك حيث قال: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} الآية [سورة النحل آية: 55] .
النوع الثاني: ذكره بصيغة النهي، كما قال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ؛ وذكر ذلك باسم النكرة: قوله {أَحَداً} نافية، لا نبي ولا ولي ولا ملك; وقال تعالى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] .
وتارة يقع مع النهي الوعيد، قال تعالى:{فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [سورة الشعراء آية: 213] .
وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 106] . فإذا كان إمام الحنفاء وأعظمهم توحيدا لله - وهو معصوم - لو يدعو من دون الله أحدا لكان من الظالمين، ومن المعذبين.
وتارة يقع الإخبار بأن المدعو إله، كما قال تعالى:{وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} الآية [سورة القصص آية: 88] .
وقال تعالى إخبارا عن أهل الكهف: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} [سورة الكهف آية: 14] .
وفي حديث أبي واقد الليثي {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً} [سورة الأعراف آية: 138] إلى غير ذلك.
النوع الثالث: يقع في الخطاب، بمعنى الإنكار على الداعي،
كقوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا} [سورة الأنعام آية: 71] إلى قوله: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام آية: 71] .
وكما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ} [سورة الأعراف آية: 194] إلى قوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [سورة الأعراف آية: 197] .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [سورة الحج آية: 73] .
وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [سورة الرعد آية: 14] إلى قوله: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [سورة الرعد آية: 14] .
النوع الرابع: يقع بمعنى الإخبار، والاستخبار، كما قال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة الأحقاف آية: 4] .
وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً} [سورة فاطر آية: 40] .
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ} الآية [سورة الأعراف آية: 195] .
النوع الخامس: يقع بالأمر الذي بصيغة النهي والإنكار، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [سورة سبأ آية: 22] إلى قوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 23] .
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] .
النوع السادس: - وهو المقصود بالجواب - أن الدعاء هو العبادة، وأن صرفه لغير الله شرك، قال تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 5-6] .
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13-14] سمى الله ذلك شركا.
وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة الأحقاف آية: 4] .
ومما يؤيد ذلك: أن من دعا غير الله فهو عابد له بمجرد الدعاء، كما قال تعالى إخبارا عن إبراهيم عليه السلام:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة مريم آية: 48-49] ، والآيات في ذلك أكثر من أن تحصر.
وكذلك الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم مثل قوله: " الدعاء مخ العبادة " 1، ومخ الشيء خالصه أي خالصها، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث
1 الترمذي: الدعوات 3371.
الآخر: " الدعاء هو العبادة " 1 أي معظم العبادة ليس نفيا لغيره من أنواعها، كقوله صلى الله عليه وسلم:" الحج عرفة " 2 أي: معظم الحج عرفة.
فتبين بهذين الحديثين: أن من دعا الله، فقد صرف معظم العبادة، ومخها وخالصها لله، ومن دعا غير الله، فقد صرف معظم العبادة، ومخها وخالصها لغير الله، سواء كان المدعو نبيا أو ملكا، أو وليا، شاء أم أبى; ومما يؤيد ذلك: أن الدعاء معظم كل عبادة، كما في الصلاة، وكما في الحج، وكذلك سائر الأركان، كالصيام، والقيام، وسائر العبادات.
ثم هو الدعاء أيضا، فمعظم العبادة وأنواعها تبعا له، كالتذلل; لأن العبادة في اللغة: الذل، يقال: طريق معبد أي مذلل، وهو كمال الخضوع، مع المحبة والرجاء، والخوف والرغبة والرهبة، فهذه الأنواع معظم العبادة، وهي تبع له.
قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} الآية [سورة السجدة آية: 16] .
وقال تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [سورة الأنبياء آية: 90] .
وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [سورة الأعراف آية: 55] إلى قوله: {خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة الأعراف آية: 56] .
فإذا فهمت: أنه معظم العبادة ومخها، فنهى الله عباده أن يشركوا به في عبادته أحدا، قال تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية
1 الترمذي: تفسير القرآن 2969 ، وابن ماجه: الدعاء 3828.
2 الترمذي: الحج 889 ، والنسائي: مناسك الحج 3016 ، وأبو داود: المناسك 1949 ، وابن ماجه: المناسك 3015 ، وأحمد 4/335.
: 110] .
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 20] ، ورد نكرة في سياق النفي، فقوله:{أَحَداً} يتضمن نفي كل أحد، لا نبي ولا ولي ولا غيرهما; وإنما ذكرنا على الدعاء إشارة، لإكثار الله في كتابه وسنة رسوله، ذلك خشية الإطالة، والله المستعان.
فإذا عرفت ما تقدم على المسألتين من الجواب، على سبيل الإيجاز والاختصار، فعليك أيضا بمعرفة آية من كتاب الله، وما بعدها من الآيات، وما فيها من الدلالة على الأصول - كما قدمنا - وهي: قوله تعالى، لما أخبر عن الكفار ومقالتهم حين اعترفوا:{رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [سورة غافر آية: 11] ، فأخبر سبحانه بعد ذلك رادا عليهم، ومخبرا لهم: أن أعظم ما اقترفوه، وأكبر ما ارتكبوه، قوله:{ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [سورة غافر آية: 12] .
فدلت الآية الكريمة على أصول:
الأصل الأول: على أن معظم عبادة الله وحده لا شريك له، الدعاء، لقوله تعالى:{إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ} [سورة غافر آية: 12] ، وكذلك ذكر الشرك بعده، وأنهم مؤمنون بالشرك به، ولم يذكر الله ذلك إلا في سياق الدعاء، وأن هذا هو أعظم ذنوبهم، وهذا هو عين مجادلة هذا الجاهل، ومذهبه وأتباعه، أعاذنا الله من الإيمان بالباطل.
الأصل الثاني: قوله تعالى: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ} [سورة غافر آية: 12] أي: الحكم
القدري، والكوني، والشرعي له، أي: لا يحكم، ولا يشرع، ولا يقضي إلا هو.
{الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سورة غافر آية: 12] ،
وهذا الأصل الثالث: إثبات الصفات، لأنه أثبت له جل وعلا العلو، وأنه الكبير؛ وهذا كثير في القرآن يجمع بين هذين الوصفين، كما قال تعالى:{الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [سورة الرعد آية: 9] .
وتارة يجمع بين العلي والعظيم، كما في آية الكرسي; فيا سبحان الله! ماذا حُرمه المعرضون؟ فكيف وقد قال تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 44] . فلما أثبت له جل وعلا هذين الوصفين العظيمين، قال في غير هذا الموضع مخبرا:{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [سورة الحديد آية: 9] .
وقال: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [سورة غافر آية: 13]، فأرشد سبحانه: أن العلي الكبير، الذي له الحكم أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم آيات بينات.
وهذا الأصل الرابع على أن القرآن مُنَزَّلٌ من عند الله، منه بدأ وإليه يعود، وأنه آيات بينات، وهذا كقوله تعالى:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 1-2] .
وهذا الأصل الخامس، وهو أن القرآن أنزل محكما مفصلا من لدن حكيم خبير، وأن زبدة ما جاء فيه:{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 2] ؛ وهو أيضا دال على إثبات أصول الإيمان، بسياق هذه
الآيات، الإيمان بالله، والإيمان بالكتاب، والإيمان بالرسول لقوله:{يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ} [سورة الحديد آية: 9] ، ثم أخبر أنه لا يتذكر إلا من ينيب.
الأصل السادس: بعد ما ذم الله الكفار المشركين على شركهم، وإنكارهم توحيده ودعاءه بالإخلاص، قال آمرا لعباده المؤمنين:{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [سورة غافر آية: 14] ، وذلك بعد ذكره أنه أنزل كتابه، وأرسل رسوله، فبدأ بهذا الأصل العظيم، كقوله فيما تقدم:{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 2] ، فأمر بدعائه، وأمر أن يكونوا فيه مخلصين.
ثم أخبر عن هذه الصفة العظيمة، أنه {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [سورة غافر آية: 15] .
وهذا الأصل السابع، وهذا كقوله:{ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [سورة المعارج آية: 3-4] . وإنما ذكرت إشارات، على ما تضمنته الآيات المحكمات.
ثم ذكر اليوم الآخر، وما يقع فيه إلى قوله:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [سورة غافر آية: 16] ؛ فهو موصوف أيضا بهاتين الصفتين العظيمتين: الوحدانية والقهر، في ذلك اليوم وغيره، فهو واحد لا شريك له في ربوبيته وإلهيته، وواحد في ذاته وصفاته، لا مثل له ولا كفو له، ولا شبيه له ولا نظير له، تعالى وتقدس عما يقول الظالمون علوا كبيرا؛ وهاتان الصفتان يجمع بينهما في مواضع من كتابه; وتارة يقرن بين القهر والفوقية، كما قال تعالى: {وَهُوَ
الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [سورة الأنعام آية: 18] .
والإيمان باليوم الآخر هو من أصول الإيمان أيضا؛ ثم ذكر أهوال يوم القيامة، وما ينفع فيه، ثم أخبر أن الظالمين في ذلك اليوم ما لهم من حميم ولا شفيع يطاع، وهذا الأصل الثامن: نفي الشفاعة الشركية; ثم أخبر عن عدله، وأنه يقضي بالحق، وأن الذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء، وقوله:{مِنْ دُونِهِ} [سورة الأعراف آية: 197] ، تعم من سواه، ثم ذكر صفاته أنه {هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة الإسراء آية: 1] .
ولما سئل بعض العلماء عن الصفات، قال: آمنت بالله، وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله، من غير تكييف ولا تمثيل، ولا تحريف ولا تعطيل.
فصل
وأما الجواب على المسألة الثالثة، وهي قوله في الشفاعة الشركية، وما استدل به عليها من العموم، فنقول: انقسم الناس فيها ثلاث طوائف، فنفاها المعتزلة والخوارج، وأثبتوا نصوص الوعيد في أهل الكبائر من المسلمين، ونفوا رحمة أرحم الراحمين، وشفاعة الشافعين، وأثبتوا خلود الموحدين في العذاب من المذنبين.
وغلا فيها طائفة، وجعلوها هي القصد الأعظم، وتطلب
من المخلوقين، حتى عند الحاجات، ودفع المهمات؛ يطلبها الطالب في كل وقت وحين، حتى سلكوا في ذلك مذهب المشركين، من الأولين والآخرين.
وتوسطت فيها طائفة، فسلكوا فيها سبيل السابقين الأولين، فأثبتوا ما أثبته الكتاب من البيان في ذلك والتبيين، وسنة سيد المرسلين، ونفوا ما نفياه؛ فكانوا بذلك من الموحدين، وكانوا وسطا بين الغالين والجافين.
فالشفاعة المثبتة، لا بد فيها من شرطين، كما بين الله ذلك في الكتاب المبين، وكما سنبينه إن شاء الله تعالى.
قال الله تعالى رادا على المشركين: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} الآية [سورة الزمر آية: 44] .
وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [سورة البقرة آية: 48] ، في الموضعين.
وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة البقرة آية: 254] ، وهذا يحمل على الشفاعة الشركية، كما أنكر الله عليهم ذلك حيث قالوا:{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18]، إلى قوله:{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة يونس آية: 18] كما قدمنا.
وأما الشفاعة التي أثبتها القرآن، وأثبتتها السنة، فنثبتها، قال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية:
255] .
وقال تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ} [سورة سبأ آية: 23] .
وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28] .
وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [سورة النجم آية: 26] .
فتبين: أن الشفاعة المثبتة، لا بد فيها من شرطين: الإذن من الله للشافع، والرضى عن المشفوع فيه، كما بين ذلك، وكما دلت عليه السنة; وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم " من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من ق لبه" 1، والخالص ضد المشوب، وهو التوحيد الخالص، العاري من الشرك والبدع.
والشفاعة من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما في حديث الشفاعة الطويل: " ثم يقال: ارفع رأسك، وقل يسمع " 2 الحديث، فدل على الإذن من الله له بذلك; وفي بعض ألفاظ الحديث الواردة:" هي لمن مات لا يشرك بالله شيئا " 3؛ ويؤيد ذلك قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [سورة طه آية: 109] .
وأما الشفاعة الشركية، فنفاها القرآن كما قدمنا؛ ويعضد له أيضا قوله:{وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} الآية [سورة الزخرف آية: 86] .
والخصومة بين الرسل وأممهم فيها، كما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم
1 البخاري: العلم 99 ، وأحمد 2/373.
2 مسلم: الإيمان 193 ، وأحمد 3/247.
3 مسلم: الإيمان 199 ، والترمذي: الدعوات 3602 ، وابن ماجه: الزهد 4307 ، وأحمد 2/426.
مع قومه، حين تلا سورة النجم، وألقى الشيطان عليه في تلاوته: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتها لترتجى; فلما بلغ السجدة سجد صلى الله عليه وسلم، وسجد المشركون معه كما ذكره المفسرون وأهل السير، حتى إن شيخا رفع كفا من حصى فسجد عليه، حتى إنه أظهر أن محمدا وافقه قومه قريش.
وبلغ الخبر الحبشة والمهاجرين، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فحزن، وخاف من الله خوفا عظيما، حتى أنزل الله {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [سورة الحج آية: 52] إلى قوله: {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} الآية [سورة الحج آية: 53] .
فالشفاعة المثبتة: أن تطلبها ممن حقيقتها هي له، كقولك: اللهم شفع فِيّ نبيك، ومن شئت من خلقك. اللهم ارزقني شفاعة نبيك يوم القيامة، وأمثال ذلك.
وأما طلب الشفاعة من المخلوقين، وصرف ياء النداء المعهودة في الخطاب تطلبه الشفاعة، أو تستغيث به، فقد صرفت الدعاء للمدعو الذي هو نفس العبادة ومخها، وخالصها، كما قدمنا أنه معظم العبادة، وأنواع العبادة تبع له.
قال تعالى عن زكريا: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} [سورة مريم آية: 3] إلى قوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [سورة مريم آية: 4] .
وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [سورة الصافات آية: 75] .
وقال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [سورة الأنبياء آية: 83] .
وقال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} الآية [سورة الأنبياء آية: 87] ؛ سمى النداء دعاء، والدعاء نداء، كما تقدم، وقال تعالى:{فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18]{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [سورة الرعد آية: 14] . وقد تقدم في بيان ذلك ما فيه كفاية عن إعادته هنا، ولكن ما يتذكر إلا من ينيب.
ومن عرف ما ابتلي به كثير من المشركين والمبتدعين، من الزخارف، والتزيين، في تحسين دين المشركين، وتعطيل صفات رب العالمين، معنى ولفظا، وإبراما ونقضا، عرف ضروريته إلى الدعاء المروي عن سيد المرسلين، فيما روت عنه عائشة رضي الله عنها:" اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل " 1 إلى قوله: "اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم "2.
وفي دعاء الخليل: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَام رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} الآية [سورة إبراهيم آية: 35-36] .
فرع:
قال تعالى منكرا على من عدل عن الكتاب والسنة: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} الآية [سورة العنكبوت آية: 51] .
وقال ذاما لمن اتبع الظن، الذي يسمونه المعقول اليوم:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [سورة النجم آية: 23] .
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها 770 ، والترمذي: الدعوات 3420 ، وأبو داود: الصلاة 767 ، وأحمد 6/156.
2 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها 770 ، والترمذي: الدعوات 3420 ، وأبو داود: الصلاة 767 ، وأحمد 6/156.
وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الآية [سورة الأنعام آية: 153] .
وقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة القصص آية: 50] .
وأمره الله تعالى، أن يقول:{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [سورة الأنعام آية: 19] ، "ومَنْ" تفيد العموم إلى يوم القيامة.
وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [سورة الأنعام آية: 114] .
وما أحسن ما أخبر الله به عن الجن إذ سمعوه، قال مخبرا عنهم:{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [سورة الجن آية: 1-2]، فعرفوا أن الهدى إلى الرشد فيه؛ ثم ذكروا أنه أفادهم أصلين عظيمين:{فَآمَنَّا بِهِ} [سورة الجن آية: 2] ، استلزم ذلك الإيمان بجميع ما فيه.
الأصل الثاني: قولهم: {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} [سورة الجن آية: 2] ، لا نبيا مرسلا ولا ملكا مقربا.
فأين هذا ممن هدم هذه الأصول الثلاثة، الذين مدح الله المتصفين بهم، عند مجرد سماعهم كلامه، بخلاف من قدمنا مقالته - والعياذ بالله -.
قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سورة فصلت آية: 44] .
وأما الكلام على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فاعتقادنا في ذلك
اعتقاد سلف الأمة ومتقدميها، وهم الأسوة وسط، أخذوا ذلك من الكتاب، ومشكاة النبوة؛ وهو أنه صلى الله عليه وسلم قبض ودفن، وزالت عنه الحياة الدنيوية، كما قال أبو بكر رضي الله عنه حين قبله – (ما أطيبك حيا وميتا
…
) إلخ.
وأما حياة البرزخ، فهو حي الحياة البرزخية، وكذلك الشهداء أيضا أحياء، كما نص على ذلك الكتاب والسنة; ولحوم الأنبياء لا تأكلها الأرض; ويبلغه التسليم ممن سلم عليه.
فلو كان حيا حياة دنيوية، فما يقال في وقعة الحرة، وما جرى فيها من القتل والسبي، أفلا نهاهم؟ ولا جاء أحد من أصحابه يرفع الأمر إليه، لعلمهم بذلك، كما صرح به القرآن {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [سورة الزمر آية: 30] ، وله من الحرمة كما له في حياته، والآثار والأخبار يطول تتبعها في ذلك، وإنما ذكرنا إشارة.
وأما الاستغاثة به فنهى عنها صلى الله عليه وسلم في حياته، قال:" إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل " الحديث; وكذلك إنكاره تعالى على الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات، وذكر مقالتهم إلى قوله:{إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [سورة التوبة آية: 59] ، ولم يقل ورسوله، أفردوا الرغبة له تعالى; وأنكر صلى الله عليه وسلم على من قال:" ما شاء الله وشئت; قال: أجعلتني لله ندا؟ "1 الحديث، فنعوذ بالله أن نكون كالنصارى، حيث لم يقبلوا ما قال لهم نبيهم فيه: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي
1 أحمد 6/371.
بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [سورة المائدة آية: 117] .
وأما نسبته آدم والأنبياء من بعده إلى الشرك، فنقول: سبحانك هذا بهتان عظيم! ولم يسبقه إلى ذلك يهودي ولا نصراني، فضلا عن المنتسبين، ولكن كما قال تعالى:{وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [سورة الفرقان آية: 29] .
فصل
وأما الجواب عن المسألة الرابعة - أعني البدع - واستدلاله عليها، فنقول: أكمل الله الدين وأتم النعمة على عباده، كما قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} الآية [سورة المائدة آية: 3] . ونزلت بعد حجة لوداع، بعدما أكملت الفرائض وتم الدين، كما صرح بذلك أهل التفسير.
وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كُفيتم " 1 الحديث 2.
وقال صلى الله عليه وسلم: في حديث عائشة رضي الله عنها، الذي ذكره العلماء، أنه ثلث الدين:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" 3، وفي لفظ "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " 4. وهذا أمر منه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح الصريح: أن كل عمل من أعمال البر، ووجوه القرب، كالصلاة والدعاء، والقراءة، إذا لم يكن مأمورا به وبوقته وفعله، فهو رد.
1 الدارمي: المقدمة 205.
2 وقيل إنه من قول ابن مسعود رضي الله عنه.
3 مسلم: الأقضية 1718 ، وابن ماجه: المقدمة 14 ، وأحمد 6/270.
4 مسلم: الأقضية 1718 ، وأحمد 6/180 ،6/256.
وكذلك في حديث العرباض بن سارية، قال فيه صلى الله عليه وسلم:" فإنه مَنْ يعشْ منكم فسيرى اختلافا كثيرا " 1، ثم أمر وأوصى عند الاختلاف:" فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " 2، ثم أكد الأمر باللزوم:" عضوا عليها بالنواجذ"، ثم نهى عن المحدثات في الدين، فقال:"وإياكم ومحدثات الأمور! " ثم أخبر "أن كل محدثة بدعة "، ثم أخبر عن الأمر المشكل، استحسان البدع، فقال:"وكل بدعة ضلالة " الحديث.
وقال في صفة الفرقة الناجية من الفرق: " ما كنت عليه اليوم وأصحابي "3. ولما رأى ابن مسعود من يفعل ما لم يكن على عهدهم، قال: "لقد جئتم بدعة ظلماء، أو قد سبقتم أصحاب محمد فضلا؟ " فكل ما أشكل عليك، اعرضه على طريقة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإن خالفهم فاطرحه كائنا من كان، لقوله صلى الله عليه وسلم: " من رغب عن سنتي فليس مني " 4.
والإخلاص والمتابعة شرطان في العمل، كما ذكر عن العلماء؛ وكانوا ينهون عن الحدث في الدين، كما ذكر عن حذيفة، وأُبَي، والفضيل بن عياض، والحسن البصري وغيرهم، وكما قال ابن عباس رضي الله عنهما؛ وتتبع ذلك يطول; وأما فعل معاذ فهي قضية عين، كما ذكر ذلك الفقهاء، رحمهم الله.
وأما استدلال بعض الجهال بذلك على أنه يزيد في العبادة فرضا سادسا، فهذا ما قال به أحد؛ بل نهى عنه العلماء، وأن من اعتقد ذلك يستتاب؛ فكيف يلزم العباد ما لم يلزمهم الله ورسوله؟
1 الترمذي: العلم 2676 ، وأبو داود: السنة 4607 ، وابن ماجه: المقدمة 44 ، وأحمد 4/126 ، والدارمي: المقدمة 95.
2 الترمذي: العلم 2676 ، وأبو داود: السنة 4607 ، وابن ماجه: المقدمة 44 ، وأحمد 4/126 ، والدارمي: المقدمة 95.
3 الترمذي: الإيمان 2641.
4 البخاري: النكاح 5063 ، ومسلم: النكاح 1401 ، والنسائي: النكاح 3217 ، وأحمد 3/241 ،3/259 ،3/285.
وأما كلام آخر، مثل مدحه شيخه وهذيان قاله، فقد مدح الله المعرضين عن مثل ذلك، قال تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [سورة المؤمنون آية: 3] .
وقال: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [سورة القصص آية: 55] .
آخره والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
[رسالة الشيخ سليمان بن سمحان في الرد على بشرف نزيل البحرين]
قال الشيخ: سليمان بن سمحان، رحمه الله:
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرض; وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فإنه بلغني أن الرجل المسمى: بشرف - نزيل البحرين - لما سمع بما كتبته من الرد على بابصيل المكي، فيما افتراه هو وشيخه أحمد بن زيني دحلان، على الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، من الأكاذيب المخترعة الخاسرة، والتزويرات المبتدعة الجائرة، ومن الله بالرد عليهما فيما افترياه، ولفقاه من الشبهات، وإبطال ما سفسطا به من التمويهات والخرافات،
أخذته الحمية لأخدانه، واحتملته العصبية القبلية لإخوانه، حين شرق بما سمع في الرد عليهما من الحق، والتحقيق، الذي هو على أهدى سنن، وأقوم طريق، ولله في ذلك المنة، وله الحمد.
فقام فانتصر لأنداده، فقال في خطبته يوم الجمعة، وبعدها في يوم العيد على المنبر، بعد ما أثنى على الأئمة الأربعة، وذكر شيئا من مناقبهم، قال: فهم أئمتنا، فإنا بهم مقتدون، ولهم مقلدون; ومن طرف هذه الكتب التي دارت في بلدكم هذه، أن الذي ألفها سالك فيها مسالك الفرقة الضالة المضلة، الكافرة الخارجية الشيطانية، المجسمة المبتدعة الوهابية، وأنه مؤول فيها الاستواء بالاستقرار - قاتله الله -، والله تعالى خال عن الجهات الست، وأنه منكر فيها زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن عنده منها شيء فليأتنا به سريعا، ولا تحدثوا فيها تحريفا ولا تمزيقا، لأن فيها آيات قرآنية، وأحاديث من الصحاح نبوية، أراد بها مؤلفها التلبيس والتشبيه على العوام الطغام، الجهال الشرذمة القليلة الذميمة; فنقول: يا عباد الله، وعليكم بطريقة الأشعرية، والماتريدية ; هذا لفظه الذي نقل إلينا بحروفه.
فلما تأملت ما نقل إلينا من كلامه، وعرفت قصده في مرامه، فإذا هو عن معرفة العلوم الشرعية، والاعتقادات السلفية بمكان بعيد، قد انهمك والعياذ بالله في مهامه الغي،
وانحسر في فلوات البغي، فما على جهله وهوسه من مزيد؛ وعرفت أنه لم يأنس بشيء من العلوم، ولا دراية لديه بالمنطوق منها والمفهوم، وأنه ليس بكفء أن يجاب، بأزيد مما ذكرته من الخطاب، لأنه ليس من أهل العلم، ولا ممن عرف بالدراية والرواية والفهم.
فلأجل ذلك رددت عليه بهذه القصيدة، واتبعتها بذكر انموذج من العقيدة، وبما كان عليه إمام هذه الدعوة، مما درج عليه أهل التحقيق والصفوة من عقيدة السلف الأبرار، والأئمة الأخيار، خصوصا الأئمة الأربعة، الذين يزعم أنه يقلدهم ويقتدي بهم، ويحض على ذلك، وذكرت شيئا قليلا من كلام الأئمة، ليتبين لكل منصف ممن أراد الحق وطلبه، تزوير هذا المفتري وكذبه.
وأن هؤلاء الجهلة الصعافقة، الحيارى المفتونين، قد ركبوا غارب الزور والبهتان، وتعاونوا على الإثم والعدوان، وأنهم في سكرتهم يعمهون، وفي فلوات الغي ومهامه البغي يهيمون، وأنهم فيما يقولونه وينقلونه إلا ما شاء الله قد اقترحوا كذبا وزورا {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [سورة الفرقان آية: 23] .
والمقصود بما نقله عن الأئمة الأعلام، وأذكره في هذه الأوراق من ذلك المرام، إنما أقصد به من يطلب الحق، مع من كان وأينما كان، ولا يتعصب للباطل وأهله بكل إمكان؛ وأما
هؤلاء الصعالكة الغافلون، الذين هم في غمرة ساهون، وعماية في الدعوى عما عليه أهل الحق وكلمة التقوى، فهم لا يرعوون إلى ما فيه نجاتهم وسلامتهم من الغواية، ولا يقبلون هذا الحق ولو جاءتهم كل آية; والله المسؤول المرجو الإجابة أن يجزل لنا بفضله ورحمته الإثابة، وأن يمدنا فيما نقوله ونعتقده بالإصابة.
وهذا هو الجواب، ومن الله استمد الصواب:
الحمد لله حمدا دائما وكفى
…
حمدا كثيرا فكم أعطى وكم لطفا
ثم الصلاة على المعصوم سيدنا
…
أوفى البرية بل أزكاهم شرفا
والآل والصحب ثم التابعين لهم
…
والتابعين على منهاج من سلفا
وبعد فاعلم بأن القول أحسنه
…
ما وافق الحق حتما واقتضى النصفا
وقد أتانا من البحرين معضلة
…
مقالة قالها من جانب الشرفا
يدعونه شرفا جهلا بحالته
…
ولو دروا لدعوه بينهم سرفا
والله ما كان ذا علم وذا شرف
…
كلا ولا كان فيما قاله الظرفا
مهذبا فطنا أو بلتعا لسنا
…
بل كان فدما أفينا جانفا حلفا
أغراه قوم طغاة لا خلاق لهم
…
فوازروه فأبدى جهله السرفا
لو كان يدري به عيسى ويعرفه
…
حق الدراية أبدى اللهف والأسفا
أو كان يعلم أن الوغد داعية
…
إلى الضلال لأضحى واجلا وجفا
فإنه كان جهميا أخا بدع
…
يدعو إلى الكفر والإشراك دون خفا
والله لو كان يدري عن جهالته
…
لم يرض أن يرتقي فوق الذرى شرفا
وأن يصلي إماما بالورى سفها
…
يا ويحه من إمام قد أتى جنفا
فالفدم ليس له علم ومعرفة
…
بل قال بالجهل لما أن طغى فهفا
بل كان بالجهل معروفا ومتصفا
…
بالمنكرات التي تهفو بمن شرفا
يحكيه أهل التقى والصدق حيث غدا
…
للزور مقترفا بالإفك متصفا
لو لم يكن جاهلا ما قال من عمه
…
مقالة قالها لما علا الشرفا
في يوم عيد وقبل العيد في جمع
…
ما قال ذلك فيما ينقلون خفا
يحذر الناس كي لا يسمعوا كتبا
…
تدعو إلى الله من قد ند وانصرفا
تدعو إلى الحق والتوحيد ليس إلى
…
أوضاع جهم وتأويلات من صدفا
ولا إلى الكفر والإشراك حيث غلا
…
في الصالحين أناس فيهم شغفا
فيهن نور الهدى كالشمس شارقة
…
ما شابها الزور يوما أو أتت جنفا
تحمى حمى معشر بالحق قد صدعوا
…
عن إفك قوم طغام قد أتوا سرفا
كما تعيب أناسا قد بغوا وطغوا
…
لم يعرفوا الحق لما أن بدا وضفا
والله ما كان فيها من سفاسفهم
…
ومن ضلالاتهم ما يوجب التلفا
والله ما كان فيها من شقاشقهم
…
ومن جهالاتهم ما يوجب الأنفا
بل كان فيهن إثبات العلو له
…
سبحانه وتعالى مثل ما وصفا
بالقدر والقهر والذات التي ارتفعت
…
عن كفر من رام تعطيلا لها فنفا
على السماوات فوق العرش مرتفعا
…
مباينا لجميع الخلق متصفا
بكل أوصافه العليا التي كملت
…
وليس هذا بحمد الله فيه خفا
فلم نؤول كما قد قاله عمها
…
ونتبع الجهم فيما قال وانصرفا
ولم نجسم كما قالوا بزعمهم
…
بل نثبت الفوق والأوصاف والشرفا
إن المجسمة الضُّلاّل ليس لهم
…
في غيهم من دليل يوجب النصفا
بل يزعمون بأن الله خالقنا
…
جسم تعالى إلهي ما بذا اتصفا
والمصطفى لم يقل هذا وصحبته
…
والآل يوما ومن بالعلم قد عرفا
والله ما قال منا واحد أبدا
…
بأنه كان جسما إن ذا لجفا
كما يقول هشام إذ يقول له
…
سبحانه وفرة تبا لمن جنفا
فلا نقول بهذا القول نثبته
…
أو نبتغي النفي فالقولان قد نسفا
بل نثبت الذات والأوصاف كاملة
…
كما به الله والمعصوم قد وصفا
ولم نشبه كأهل الزيغ حين بغوا
…
واستبدلوا بضياء الحق ما انخسفا
إن المشبهة الضلال حيث غلوا
…
قد شبهوا ربهم لما أتوا سرفا
بخلقه في مقالات لها ابتدعوا
…
راموا بذلك إثباتا فصار سفا
ولم نعطل كجهم والذين على
…
منواله نسجوا ممن طغى فهفا
فإنهم زعموا أن لا إله لهم
…
على السماوات فوق العرش قد عرفا
فليس داخل ذي الأكوان خالقهم
…
أيضا ولا خارجا منها فوالهفا
كلا ولا هو أيضا تحتها أبدا
…
ولا مباينها من فوقها فنفا
ولا محايث بل لا يمنة أبدا
…
ولا شمالا لقد جاؤوا بذا جنفا
ولا أماما ولا خلفا فقد كفروا
…
بالله خالقهم جحدا له سرفا
هذا هو العدم المحض الذي عرفت
…
كل الخلائق إلا من هفا وجفا
ونحن لم نعد آيات مبينة
…
ونص ما قاله المعصوم حيث شفا
إن الإله له الأوصاف كاملة
…
حقيقة بمعانيها كما وصفا
فإن يكن وصفنا لله خالقنا
…
بكل أوصافه لم نبتدع جنفا
كفرا وجهلا وتجسيما ومنقصة
…
فليشهدوا أننا قلناه غير خفا
وأن ذلك دين الله قال به
…
من كان بالعلم والإنصاف متصفا
كمالك وابن إدريس وثالثهم
…
أعني ابن حنبل والنعمان من شرفا
وكالبخاري ويحيى والذين مضوا
…
كابن المبارك وابن الماجشون قفا
ومسلم والعقيلي في عقائدهم
…
والتابعين لهم ممن سما وصفا
وكل أهل الحديث العاملين به
…
العالمين بما قد قاله الحنفا
وكل حبر فقيه عالم ثقة
…
يدري الحقائق لا يبغى لها خلفا
على الصراط السوي المستقيم مضوا
…
ما خالفوا من لهم في الدين قد سلفا
إلا أناسا إلى جهم قد انتسبوا
…
ما منهم بالهدى من كان متصفا
كانوا لبشر وجهم في عقائدهم
…
من أعظم الناس فيما أحدثا كلفا
أو آخرين أولي علم ومعرفة
…
لكن دهاهم من التأويل ما صرفا
وأحسنوا الظن فيما قلدوه عمى
…
عن رؤية الحق لما أن بدا وضفا
ظنوه لله تنْزيها وما صدقوا
…
لما اجتروا ونفوا أوصافه سرفا
والله ما لأبي بكر ولا عمر
…
ولا لعثمان من قد أكملوا الشرفا
ولا علي ولا للتابعين لهم
…
كانوا لهم تبعا في الدين حيث صفا
فصل
والاستواء فمعقول حقيقته
…
لا يمتري فيه إلا بعض من خلفا
من الأشاعر الغالين أو فرق
…
من شيعة الجهم ممن ضل وانحرفا
والكيف من ذاك مجهول وممتنع
…
فاربأ بنفسك عن تكييف ما سجفا
لكنما السلف الأبرار قد ذكروا
…
تفسير معنى استوى قولا شفى وكفى
ففسروا ذاك باستقراره وكذا
…
بالارتفاع وباستعلائه شرفا
وبالصعود على العرش العظيم فخذ
…
تفسير أعلم خلق الله من سلفا
حكاه عنهم وفي التفسير قرره
…
حقا أبو جعفر ما قال ذاك خفا
أعني إمام الورى دينا ومعرفة
…
محمد بن جرير من كفى وشفا
وبعده الحبر والبحر الخضم حكى
…
في كتبه ذاك واستقصى لها طرفا
من كان بالعلم والإنصاف متصفا
…
وللهدى من أعادي الدين منتصفا
أعني به الحجة ابن القيم الثقة
…
الحبر الإمام ومن بالعلم قد عرفا
وليس تفسيرهم معنى استوى بعلا
…
أو استقر على تفسير من سلفا
معناه تكييف ما لا نستطيع له
…
إدراك كنه وذا تأويل من جنفا
لكنما ذاك معقول حقيقته
…
والكيف قد كان مجهولا كما وصفا
وليس يلزم من لفظ استقر بأن
…
يكون جسما كما قد قال من صدفا
فاترك أقاويل جهم والذين غووا
…
واستحدثوا بدعا صاروا بها هدفا
يرميهم بالهدى والعلم من حسنت
…
في الدين منهم مساع عند من عرفا
وأنت سوف ترى من شؤم بدعتكم
…
ما قد يسيء وما تلقى به الدنفا
فقل لطاغية البحرين أبد لنا
…
علما مبينا عن الأمجاد كان شفا
إن الذي أثبت الأوصاف كاملة
…
حقائقا ومعان قد أتى سرفا
مجسم خارجي قد أتى بدعا
…
إن كنت ويحك ذا علم بمن سلفا
وما يقولونه في الله خالقهم
…
والله ما منهم من يبتغي الجنفا
وقل لطاغية البحرين هات لنا
…
على ابتداعك نصا وافق النصفا
عن الأئمة أو عن عالم ثقة
…
من صحبهم حيث كانوا كلهم حنفا
دع من نحا نحو جهم في ضلالته
…
لكن عن السادة الأمجاد من خلفا
ومن على نهجهم قد كان متبعا
…
ممن نحا نحوهم في دينهم وقفا
والله ما كنت فيما قلت مقتديا
…
أو المقلد فيما وافقوا السلفا
لكن بجهم وبشر كنت مقتديا
…
مقلدا لهما فيما بدا وخفا
ومن نحا نحو جهم من أشاعرة
…
والماتريدية الضلال من عرفا
بالابتداع وبالأهواء حيث غلوا
…
في الدين واتبعوا الجهمي حيث هفا
فانظر بعلم أهاتان الفرقتان على
…
نهج الرسول النبي المجتبى شرفا
أو صحبه بعده والتابعين لهم
…
أو الأئمة من كانوا لنا سلفا
أم أنت في غمرة عن نهج سنتهم
…
للماتريدية الغالين منصرفا
والأشعرية أعني من بغوا وغلوا
…
في الدين منهم بما قد خالفوا الحنفا
تحض أتباعك الغوغا وتندبهم
…
إلى اتباع غواة قد أتوا جنفا
تبا وسحقا لمن يدعو إلى بدع
…
تدعو الى النار من يهفو ومن زهفا
لو كان يعلم هذا الوغد حيث غوى
…
ما قد جناه لأبدى اللهف والأسفا
وسوف يلقى غدا إن لم يتب ندما
…
وغبّ ما قد جنى من شؤم ما اقترفا
يذم أهل التقى والدين من سفه
…
ومن شقاوته لما ارتضى السرفا
يذم من أظهر التوحيد وانتشرت
…
أنواره وعلت من بعد ما انخسفا
والناس في ظلمة من قبل دعوته
…
لا يعرفون من الإسلام ما انكشفا
وبان بل ظهرت أعلامه وعلت
…
لله در إمام أظهر الشرفا
والناس في غمرة في الجهل قد غرقوا
…
وفي الضلالة هاموا فوا لهفا
على أناس وأقوام قد انهمكوا
…
لم يعرفوا الحق لما أن بدا وضفا
والله لو كان يدري عن جهالته
…
ما فاه بالزور يوما أو به هتفا
والله لو كان يدري عن غباوته
…
ما اعتاض عن ساطع التوحيد ما انعسفا
والله لو كان يدري عن حماقته
…
لم ينتصب جهرة بين الورى هدفا
بل سولت نفسه أمرا ففاه به
…
وقام منتصرا للكفر منتصفا
كقول هذا الغوي المفتري كذبا
…
إنا خوارج هل يدري وهل عرفا
ما قالت الفئة البعدى التي مرقت
…
لما غلت وتعدت طورها سرفا
أم كان فدما جهولا كاذبا أشرا
…
ما نال علما ولا حلما ولا شرفا
إن الخوارج قوم كفّروا سفها
…
من قد أتى بذنوب هفوة وجفا
فكفرت أمة التوحيد من عمه
…
عن رؤية الحق إذ لم تعرف النصفا
وخلدت في لظى بل أنكرت سفها
…
شفاعة المصطفى ويل لمن صدفا
والحق كالشمس لا تخفى دلائله
…
إلا على جاهل بالعلم ما اتصفا
لكننا نحن كفّرنا الذين غلوا
…
في الدين وانتحلوا الإشراك والسرفا
وأشركوا الأنبياء والصالحين ومن
…
يدعونه غير ربي جهرة وخفا
فيما به الله مختص وليس له
…
في ذاك شرك فهل كنا وهم ألفا
إن كان تكفير من يدعو وليجته
…
مع المهيمن من يدعونه الحنفا
رأي الخوارج كالقوم الذين غلوا
…
في الدين وانتحلوا الإشراك والجنفا
فقد كفانا العنا من رد شهبته
…
إذ كان ليس بذي علم ولا عرفا
ولا اعتنى بعلوم الناس حيث غدوا
…
في دينهم شيعا قد خالفوا السلفا
وإن أمتنا حقا قد افترقت
…
سبعين زادت ثلاثا ليس فيه خفا
وإنها كلها في النار داخلة
…
إلا من استن بالمعصوم والخلفا
والآل والصحب حقا وهي واحدة
…
قد صح هذا عن المعصوم من شرفا
فصل
وقول هذا الغوي المبتغي جنفا
…
من قول أهل الردى ممن بغى وهفا
والله خال عن الست الجهات فذا
…
قول يقول به من للإله نفا
أما الجهات التي ستا لها ذكروا
…
فالله بالفوق منها كان متصفا
وسائر الخمس لم يوصف بها فإذا
…
عنها ننْزهه إذ نتبع الصحفا
لكنما علمه سبحانه أبدا
…
لم يخل منه مكان عند من عرفا
وهذه لفظة بدعية خرجت
…
من ضئضئ الجهم في من ضل وانحرفا
ما قال ذاك أبو بكر ولا عمر
…
ولا الصحابة من كانوا لنا سلفا
ولا الأئمة يوما في عقائدهم
…
لكنهم قلدوا الجهمي حيث هفا
لا يعبدون إلها واحدا صمدا
…
فوق السماوات بالفوقية اتصفا
لا يعبدون سوى المعدوم حيث نفوا
…
ربا على العرش باستعلائه عرفا
ففخرنا بعروج المصطفى عنت
…
إن لم يكن ربنا بالفوق متصفا
فمن بنى هذه السبع الطباق ومن
…
علا العرش واستعلى كما وصفا
فرفعنا لأكف نحوه سفه
…
إن لم يكن فوقنا يا من بغوا جنفا
وبالضرورة والمعقول في فطن
…
حتى البهائم ترنوا نحوه الطرفا
يا أمة لعبت بالدين وانحرفت
…
عن منهج السنة الغراء والخلفا
والآل والصحب ثم التابعين لهم
…
وعن أئمتنا الأمجاد والحنفا
لقد ضللتم وأضللتم بزخرفكم
…
قوما طغاما بما لفقتم خرفا
سفا سطا وأكاذيبا مزخرفة
…
يدري بها كل من يدري ومن عرفا
فصل
وقول هذا الغوي المفتري كذبا
…
المرتدي برداء الزور غير خفا
وأنه منكر فيها زيارته
…
يعني بذاك رسول الله من شرفا
فهذه فرية منهم ومعضلة
…
لسنا نقول بقول قد حوى الجنفا
بل إنها من خصال الخير فاضلة
…
نرجو بها عند معبود الورى زلفا
وتلك من فاضل الأعمال إن صدرت
…
ولم يشبْها غلو منهمُ وجفا
لكننا نمنع الشد الذي وردت
…
فيه الأحاديث بالمنع الذي وصفا
فلا نشد رحالا في زيارته
…
بل نقصد المسجد المخصوص من عرفا
وخص بالفضل من أجل الصلاة به
…
ومن هناك نزور المصطفى زلفا
نزوره لو على الأجفان من وله
…
ونسكب الدمع من أجفاننا شغفا
منكسين رؤوسا عند موقفنا
…
مستحضرين هناك القدر والشرفا
كأنما المصطفى حي نشاهده
…
نغض صوتا وطرفا أن نجيء جفا
مستقبلين له عند السلام له
…
ولا نمس له قبرا ولا شرفا
ولا نطوف به سبعا نشبهه
…
بالبيت أو نمسح الأركان والزلفا
وننثني بعد هذا نحو قبلتنا
…
ندعو الإله كما يدعونه الحنفا
وندعُ للمصطفى المعصوم سيدنا
…
لا ندعُه كالذي يدعونه هرفا
ومرة بالتياع واحتراق جوى
…
في كل ذلك قد يدعونه لهفا
ويطلبون من المعصوم ينقذهم
…
من العذاب وأن يرخي لهم كنفا
وأن يجيرهمُ من كل معضلة
…
ويكشف السوء واللأواء والقشفا
وكل ذلك شرك لا خفاء به
…
يدري ويعرفه أهل التقى الحنفا
وقد رووا ثم أخبارا ملفقة
…
موضوعة من رواها كلهم ضعفا
فلا تكن رافعا رأسا بها أبدا
…
فإنها لا تفيد المبتغي النصفا
كقولهم في حديث لا ثبات له
…
ولا غناء به في قول من عرفا
معناه من حج ثم انصاع منصرفا
…
ولم يزرني فهذا قد عصى وجفا
وقولهم في حديث لا ثبات له
…
معناه إذ لم يكن في النظم مؤتلفا
من زارني بعد موتي وافدا وجبت
…
له الشفاعة مني من عرى وحفا
وحر نار تلظى والحساب ومن
…
هول هناك يقول المرء وا لهفا
ذكرت ذلك بالمعنى الذي قصدوا
…
من لفظه ذلك الموضوع حيث هفا
فإن يكن عندكم علم ومعرفة
…
يخالف الحق مما خط أو وصفا
فأبرز ورد ترى والله أجوبة
…
مثل الصواعق تردي من غلا وجفا
وتنصر الحق والتوحيد حيث علت
…
منه المعالم في الآفاق والسدفا
وتقمع الأحمق الزنديق عن زهف
…
يعلو بذلك أو يبدي به زخفا
فمن أراد نزالا منكم فغدا
…
نلقى على قلبه من ردنا رضفا
ومن يكن مبغضا أو كارها فإذا
…
نعلي على قلبه الأوصاب والطخفا
والحمد لله حمدا دائما أبدا
…
مباركا فيه كم أعطى وكم لطفا
ثم الصلاة على المعصوم سيدنا
…
والآل والصحب من قد أكملوا الشرفا
ما انهل ودق وماض البرق في سحب
…
أو ناح طير على الأغصان أو هتفا
فصل
ونذكر ههنا: ما قاله الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، في معنى الاستواء، وأنه العلو والارتفاع، قال رحمه الله تعالى: الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه:
منها: انتهاء شباب الرجل وقوته; فيقال إذا صار ذلك: قد استوى الرجل; ومنها: استقامة ما كان فيه أود من الأمور والأسباب، يقال منه: استوى لفلان أمره إذا استقام له بعد أود، من قول الطرماح بن حكيم:
طال على رسم مهده أبده
…
وعفى واستوى به بلده
يعني استقام به، ومنها: الإقبال على الشيء بالفعل، كما يقال: استوى فلان على فلان بما يكرهه ويسوؤه، بعد الإحسان إليه; ومنها: الاحتياز والاحتواء، كقولهم: استوى فلان على المملكة، بمعنى احتوى عليها وحازها; ومنها: العلو والارتفاع، كقول القائل: استوى فلان على سريره، يعني به علوه عليه، وأولى المعاني بقول الله جل ثناؤه:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ} [سورة البقرة آية: 29] علا عليهن وارتفع، فدبرهن بقدرته، وخلقهن سبع سماوات.
والعجب ممن أنكر المعنى المفهوم من كلام العرب، في تأويل قول الله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [سورة البقرة آية: 29] ، الذي هو بمعنى العلو والارتفاع، هربا عند نفسه، من أن يلزمه بزعمه، إذا تأوله بمعناه المفهوم، كذلك أن يكون إنما علا وارتفع، بعد
أن كان تحتها، إلى أن تأوله بالمجهول من تأويله، المستكره.
ثم لم ينجح مما هرب منه، فيقال: زعمت أن تأويل قوله: {اسْتَوَى} [سورة البقرة آية: 29] أقبل، أو كان مدبرا عن السماء فأقبل إليها؛ فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل، ولكنه إقبال تدبير، قيل له: فكذلك قيل: علا عليا، علو ملك وسلطان، لا علو انتقال وزوال، ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا، إلا لزم في الآخر مثله.
ولولا أنا كرهنا إطالة الكتاب بما ليس من جنسه، لأثبتنا عند فساد قول كل قائل في ذلك، قولا لأهل الحق فيه مخالفا؛ وفيما بينا منه ما يشرف بذي الفهم، على ما فيه الكفاية، إن شاء الله تعالى; انتهى: كلام الإمام محمد بن جرير، رحمه الله تعالى.
وأما تفسيره: بالاستقرار، وبالصعود، والارتفاع، والعلو، فقد ذكره ابن القيم، رحمه الله تعالى، في الكافية الشافية، وذكر الإجماع عليه عن علماء أهل السنة، الذين هم القدوة وبهم الأسوة، فقال رحمه الله تعالى:
هذا وسادس عشرها إجماع أهـ
…
ـل العلم أعني حجة الأزمان
من كل صاحب سنة شهدت له
…
أهل الحديث وعسكر القرآن
لا عبرة بمخالف لهم ولو
…
كانوا عديد الشاء والبعران
إن الذي فوق السماوات العلى
…
والعرش وهو مباين الأكوان
هو ربنا سبحانه وبحمده
…
حقا على العرش استوى الرحمن
فاسمع لذا أقوالهم واشهد عليـ
…
ـهم بعدها بالكفر والإيمان
واقرأ تفاسير الأئمة ذاكري الـ
…
إسناد فهي هداية الحيران
وانظر إلى قول ابن عباس بتفـ
…
ـسير استوى إن كنت ذا عرفان
وانظر إلى أصحابه من بعده
…
كمجاهد ومقاتل حبران
وانظر إلى الكلبي أيضا والذي
…
قد قاله من غير ما نكران
وكذا رفيع التابعي أجلهم
…
ذاك الرياحي العظيم الشان
كم صاحب ألقى إليه علمه
…
فلذاك ما اختلفت عليه اثنان
فليهن من قد سبه إذ لم يوا
…
فق قوله تحريف ذي البهتان
فلهم عبارات عليها أربع
…
قد حصلت للفارس الطعان
وهي استقر وقد علا وكذلك ار
…
تفع الذي ما فيه من نكران
وكذاك قد صعد الذي هو رابع
…
وأبو عبيدة صاحب الشيبان
يختار هذا القول في تفسيره
…
أدرى من الجهمي بالقرآن
والأشعري يقول تفسير استوى
…
بحقيقة استولى من البهتان
هو قول أهل الاعتزال وقول أتـ
…
ـباع لجهم وهو ذو بطلان
في كتبه قد قال ذا من موجز
…
وإبانة ومقالة ببيان
وكذلك البغوي أيضا قد حكا
…
عنهم بمعالم القرآن
وانظر كلام إمامنا هو مالك قد
…
صح عنه قول ذي إتقان
في الاستواء وأنه المعلوم لـ
…
ـكن كيفه خاف على الأذهان
وروى ابن نافع الصدوق سماعه
…
منه على التحقيق والإتقان
الله حقا في السماء وعلمه
…
سبحانه حقا بكل مكان
فانظر إلى التفريق بين الذات والمـ
…
ـعلوم عم جميع ذي الأكوان
ذا ثابت عن مالك من رده
…
فلسوف يلقى مالكا بهوان
وكذاك قال الترمذي بجامع
…
عن بعض أهل العلم والإيمان
الله فوق العرش لكن علمه
…
مع خلقه تفسير ذي إيمان
وكذاك أوزاعيهم أيضا حكى
…
عن سائر العلماء في البلدان
من قرنه والتابعين جميعهم
…
متوافرين وهم أولو العرفان
إيمانهم بعلوه سبحانه
…
فوق العباد وفوق ذي الأكوان
وكذاك قال الشافعي حكاه عنه
…
البيهقي وشيخه الرباني
حقا قضى الله الخلافة ربنا
…
فوق السماء لأصدق العبدان
حب الرسول وقائم من بعده
…
بالحق لا فشل ولا متوان
فانظر إلى المقضي فى ذي الأرض
…
لكن في السماء قضاء ذي السلطان
وقضاؤه وصف له لم ينفصل
…
عنه وهذا واضح البرهان
وكذلك النعمان قال وبعده
…
يعقوب والألفاظ للنعمان
من لم يقر بعرشه سبحانه
…
فوق السماء وفوق كل مكان
ويقر أن الله فوق العرش لا
…
يخفى عليه هواجس الأذهان
فهو الذي لا شك في تكفيره
…
لله درك من إمام زمان
هذا الذي في الفقه الأكبر عندهم
…
وله شروح عدة لبيان
وانظر مقالة أحمد ونصوصه
…
في ذاك تلقاها بلا حسبان
فجميعها قد صرحت بعلوه
…
وبالاستوا والفوق للرحمن
وله نصوص واردات لم تقع
…
لسواه من فرسان هذا الشأن
إذا كان ممتحنا بأعداء الحدـ
…
ـث وشيعة التعطيل والكفران
وإذا أردت نصوصه فانظر إلى
…
ما قد حكى الخلال ذو الإتقان
وكذاك إسحاق الإمام فإنه
…
قد قال ما فيه هدى الحيران
وابن المبارك قال قولا شافيا
…
إنكاره علم على البهتان
قالوا له ما ذاك نعرف ربنا
…
حقا به لنكون ذا إيمان
فأجاب نعرفه بوصف علوه
…
فوق السماء مباين الأكوان
وبأنه سبحانه حقا على الـ
…
ـعرش الرفيع فجل ذو السلطان
وهو الذي قد شجع ابن خزيمة إذ
…
سل سيف الحق والعرفان
وقضى بقتل المنكرين علوه
…
بعد استتابتهم من الكفران
وبأنهم يلقون بعد القتل فو
…
ق مزابل الميتات والأنتان
فشفى الإمام العالم الحبر الذي
…
يدعى إمام أئمة الأزمان
ولقد حكاه الحاكم العدل الرضى
…
في كتبه عنه بلا نكران
وحكى ابن عبد البر في تمهيده
…
وكتاب الاستذكار غير جبان
إجماع أهل العلم أن الله فو
…
ق العرش بالإيضاح والبرهان
وأتى هناك بما شفى أهل الهدى
…
لكنه مرض على العميان
وكذا على الأشعري فإنه
…
في كتبه قد جاء بالإحسان
من موجز وإبانة ومقالة
…
ورسائل للثغر ذات بيان
وأتى بتقرير استواء الرب فو
…
ق العرش بالإيضاح والبرهان
وأتى بتقرير العلو بأحسن التـ
…
ـقرير فانظر كتبه بعيان
والله ما قال المجسم مثل ما
…
قد قاله ذا العالم الرباني
فارموه ويحكمو بما ترموا به
…
هذا المجسم يا أولى العدوان
أولا فقولوا إن ثم حزازة
…
وتنفس الصعداء من حران
فسلوا الإله شفاء ذا الداء العضا
…
ل مجانب الإسلام والإيمان
وانظر إلى حرب وإجماع حكى
…
لله درك من فتى كرمان
وانظر إلى قول ابن وهب أوحد الـ
…
ـعلماء مثل الشمس في الميزان
وانظر إلى ما قال عبد الله في
…
تلك الرسالة مفصحا ببيان
من أنه سبحانه وبحمده
…
بالذات فوق العرش والأكوان
وانظر إلى ما قاله الكرخي في
…
شرح لتصنيف امرئ رباني
وانظر إلى الأصل الذي هو شرحه
…
فهما الهدى لملدد حيران
وانظر إلى تفسير عبد ما الذي
…
فيه من الآثار في ذا الشان
وانظر إلى تفسير ذاك الفاضل الثبـ
…
ـت الرضي المتضلع الرباني
ذاك الإمام ابن الإمام وشيخه
…
وأبوه سفيان فرازيان
وانظر إلى النسائي في تفسيره
…
هو عندنا سفر جليل معان
واقرأ كتاب العرش للعبسي وهـ
…
ـو محمد المولود من عثمان
واقرأ لمسند عمه ومصنف
…
أتراهما نجمين بل شمسان
واقرأ كتاب الاستقامة للرضي
…
ذاك ابن أصرم حافظ رباني
واقرأ كتاب الحافظ الثقة الرضي
…
في السنة العليا فتى الشيباني
ذاك ابن أحمد أوحد الحفاظ قد
…
شهدت له الحفاظ بالإتقان
واقرأ كتاب الأثرم العدل الرضي
…
في السنة الأولى إمام زمان
وكذا الإمام ابن الإمام المرتضى
…
حقا أبا داود ذي العرفان
تصنيفه نظما ونثرا واضح
…
في السنة المثلى هما نجمان
واقرأ كتاب السنة الأولى الذي
…
أبداه مضطلع من الإيمان
ذاك النبيل ابن النبيل كتابه
…
أيضا نبيل واضح البرهان
وانظر إلى قول ابن اسباط الرضي
…
وانظر إلى قول الرضي سفيان
وانظر إلى قول ابن زيد ذاك حمـ
…
ـاد وحماد الإمام الثاني
وانظر إلى ما قاله علم الهدى
…
عثمان ذاك الدارمي الرباني
في نقضه والرد يا لهما كتا
…
با سنة وهما لنا علمان
هدمت قواعد فرقة جهمية
…
خرت سقوفهم على الحيطان
وانظر إلى ما في صحيح محمد
…
ذاك البخاري العظيم الشأن
من رده ما قاله الجهمي بالنـ
…
ـقل الصحيح الواضح البرهان
وانظر إلى تلك التراجم ما الذي
…
في ضمنها إن كنت ذا عرفان
وانظر الى ما قاله الطبري في الشـ
…
ـرح الذي هو عندكم سفران
أعني الفقيه الشافعي اللالكا
…
ئي المسدد ناصر الإيمان
وانظر إلى ما قاله علم الهدى التيـ
…
ـمي في إيضاحه وبيان
ذاك الذي هو صاحب الترغيب والتـ
…
ـرهيب ممدوح بكل لسان
وانظر إلى ما قاله في السنة الـ
…
ـكبرى سليمان هو الطبراني
وانظر إلى ما قاله شيخ الهدى
…
يدعى بطلمنكيهم ذو شان
وانظر إلى قول الطحاوي الرضي
…
وأجره من تحريف ذي بهتان
وكذلك القاضي أبو بكر هو ابـ
…
ـن الباقلاني قائد الفرسان
قد قال في تمهيده ورسائل
…
والشرح ما فيه جلي بيان
في بعضها حقا على العرش استوى
…
لكنه استولى على الأكوان
وأتى بتقرير العلو إبطال الـ
…
ـلام التي زيدت على القرآن
من أوجه شتى وذا في كتبه
…
باد لمن كانت له عينان
وانظر إلى قول ابن كلاب وما
…
يقضي به لمعطل الرحمن
اخرج من العقل الصحيح ونقله
…
من قال قول الزور والبهتان
ليس الإله بداخل في خلقه
…
أو خارج عن جملة الأكوان
وانظر إلى ما قاله الطبري في التـ
…
ـفسير والتهذيب قول معان
وانظر إلى ما قاله في سورة ال
…
أعراف مع طه ومع سبحان
وانظر إلى ما قاله البغوي في
…
تفسيره والشرح بالإحسان
في سورة الأعراف عند الاستوا
…
فيها وفي الأولى من القرآن
وانظر إلى ما قاله ذو سنة
…
وقراءة ذاك الإمام الداني
وكذاك سنة الأصبهاني أي هو الشـ
…
ـيخ الرضي المستل من حيان
وانظر إلى ما قاله علم الهدى
…
أعني أبا الخير الرضي النعمان
وكتابه في الفقه وهو بيانه
…
يبدي مكانته من الإيمان
وانظر إلى السنن التي قد صنف
…
العلماء بالآثار والقرآن
زادت على المائتين منها مفردا
…
أوفى من الخمسين في الحسبان
منها لأحمد عدة موجودة
…
فينا رسائله إلى الإخوان
واللاء في ضمن التصانيف التي
…
شهرت ولم تحتج إلى حسبان
فكثيرة جدا فمن يك راغبا
…
فيها يجد فيها هدى الحيران
أصحابها هم حافظو الإسلام لا
…
أصحاب جهم حافظو الكفران
وهم النجوم لكل عبد سائر
…
يبغي الإله وجنة الحيوان
وسواهم والله قطاع الطـ
…
ـريق أئمة تدعو إلى النيران
ما في الذين حكيت عنهم آنفا
…
من حنبلي واحد بضمان
بل كلهم والله شيعة أحمد
…
فأصوله وأصولهم سيان
وبذاك في كتب لهم قد صرحوا
…
وأخو العماية ما له عينان
أتظنهم لفظية جهلية
…
مثل الحمير تقاد بالأرسان
حاشاهم من ذاك بل والله هم
…
أهل العقول وصحة الأذهان
وانظر إلى تقريره لعلوه
…
بالنقل والمعقول والبرهان
عقلان عقل بالنصوص مؤيد
…
ومؤيد بالمنطق اليونان
والله ما استويا ولن يتلاقيا
…
حتى تشيب مفارق الغربان
أفتقذفون أولاء بل أضعافهم
…
من سادة العلماء كل زمان
بالجهل والتشبيه والتجسيم والتبـ
…
ـديع والتعطيل والبهتان
يا قومنا الله في إسلامكم
…
لا تفسدوه لنخوة الشيطان
يا قومنا اعتبروا بمصرع من خلا
…
من قبلكم في هذه الأزمان
لم يغن عنهم كذبهم ومحالهم
…
وقتالهم بالزور والبهتان
كلا ولا التدليس والتلبيس عنـ
…
ـد الناس والحكام والسلطان
وبدا لهم عند انكشاف غطائهم
…
ما لم يكن للقوم في حسبان
وبدا لهم عند انكشاف حقائق الإ
…
يمان أنهم على البطلان
ما عندهم والله غير شكاية
…
فأتوا بعلم وانطقوا ببيان
ما يشتكي إلا الذي هو عاجز
…
فاشكوا لنعذركم إلى القرآن
ثم اسمعوا ماذا الذي يقضي لكم
…
وعليكم فالحق في القرآن
لبّسْتُمُ معنى النصوص وقولنا
…
فغدا لكم في الحق تلبيسان
من حرف النص الصريح فكيف لا
…
يأتي بتحريف على إنسان
يا قوم والله العظيم أسأتم
…
بأئمة الإسلام ظن الشاني
ما ذنبهم ونبيهم قد قال ما
…
قالوا كذاك منْزل القرآن
ما الذنب إلا للنصوص لديكم
…
إذ جسمت بل شبهت صنفان
ما ذنب من قد قال ما نطقت به
…
من غير تحريف ولا عدوان
هذا كما قال الخبيث لصحبه
…
كلب الروافض أخبث الحيوان
لما أفاضوا في حديث الرفض عنـ
…
ـد القبر لا يخشون من إنسان
يا قوم أصل بلائكم ومصابكم
…
من صاحب القبر الذي تريان
كم قدم ابن أبي قحافة بل غدا
…
يثني عليه ثناء ذي شكران
ويقول في مرض الوفاة يؤمكم
…
بعدي أبو بكر بلا روغان
ويظل يمنع من إقامة غيره
…
حتى يرى في صورة الغضبان
ويقول لو كنت الخليل لواحد
…
في الناس كان هو الخليل الداني
لكنه الأخ والرفيق وصاحبي
…
وله علينا منة الإحسان
ويقول للصديق يوم الغار لا
…
تحزن فنحن ثلاثة لا اثنان
الله ثالثنا وتلك فضيلة
…
ما حازها إلا فتى عثمان
يا قوم ما ذنب النواصب بعد ذا
…
لم يدهكم إلا كبير الشان
فتفرقت تلك الروافض كلهم
…
قد أطبقت أسنانه الشفتان
وكذلك الجهمي ذاك رضيعهم
…
فهما رضيعا كفرهم بلبان
ثوبان قد نسجا على المنوال يا
…
عريان لا تلبس فما ثوبان
والله شر منهما، فهما على
…
أهل الضلالة والشقا علمان
فصل
إذا تأملت هذا وعرفت أنه إجماع أهل العلم الذين هم الحجة، وهم القدوة وبهم الأسوة، فمن المحال أن يكون من بعدهم من الخالفين المحجوبين الناقصين المسبوقين، الحيارى المتهوكين المخالفين لطريقة السلف، أعلم وأحكم من هؤلاء السابقين الذين هم ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل وأعلام الهدى، ومصابيح الدجى، الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، فضلا عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم، وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحى من يطلب المقابلة.
فإذا عرفت هذا تبين لك أن هذا الضال المضل إنما سلك مسلك هؤلاء المتأخرين الحيارى المتهوكين، الذين أخذوا عقائدهم عن أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان، وورثة المجوس والمشركين، وضلال اليهود والنصارى والصابئين، وأشكالهم وأشباههم من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم.
وتبين لك أيضا أن شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، كان على طريقة السلف الماضين، والأئمة المهتدين، فيما يقولونه ويعتقدونه؛
ولكن هذا الرجل من أعداء الله، الذين قاموا في عداوة هذا الدين ومن قام به، واتبع {أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [سورة المائدة آية: 77] ، لأنهم -، والعياذ بالله - قد انهمكوا في الشبهات، وتلقوها عن أهل الجهل والضلالات، فانقلبت لديهم الحقائق والتبست عليهم المعارف بالشقاشق.
وهذا الضرب من الناس - والعياذ بالله - إن أنصفتهم لم يقبل طبعهم الإنصاف، وإن طلبته منهم فأين الثريا من يد الملتمس؛ قد انتكست قلوبهم، وعمى عليهم مطلوبهم، رضوا بالأماني وابتلوا بالحظوظ، وحصلوا على الحرمان، وخاضوا بزعمهم بحار العلم لكن بالدعاوي الباطلة وشقاشق الهذيان.
ولا والله ابتلت من وشله أقدامهم، ولا زكت به قلوبهم وأحلامهم، أتعبوا نفوسهم وحيروا من اقتدى بهم من الناس، فبقوا في حيرة وتشكيك والتباس، وضيعوا الأصول فحرموا الوصول؛ وما أحسن ما قال قتادة في مثل هؤلاء: والله ما آسى عليهم، ولكن آسى على من أهلكوا.
إذا تم هذا واستبان تبين لكل منصف عدوان هؤلاء الضلال وبهتهم، وأنهم إنما أخذوا بأقوال قوم، قد شرقوا بهذه الدعوة المحمدية، فأخذوا ينفرون الناس ويصدونهم عن دين الله ورسوله بالترهات الباطلة، والتمويهات العاطلة.
فإن أردت الوقوف على حقيقة ما عليه شيخ الإسلام،
وعلم الهداة الأعلام، وما كان عليه الفضلاء النبلاء من أصحابه وتلامذته، فهذا كلام شيخنا: الشيخ عبد اللطيف رحمه الله، تقف عليه، إن شاء الله تعالى، وبه الكفاية، قال رحمه الله تعالى:
فصل 1
ونقصّ عليك شيئا من سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ونذكر طرفا من أخباره وأحواله، ليعلم الناظر فيه حقيقة أمره، فلا يروج عليه تشنيع من استحوذ عليه الشيطان، وأغواه، وبالغ في كفره واستهواه، فنقول:
قد عرف واشتهر واستفاض من تقارير الشيخ ومراسلاته، ومصنفاته المسموعة المقروءة عليه، وما ثبت بخطه وعرف واشتهر من أمره، ودعوته، وما عليه الفضلاء النبلاء من أصحابه وتلامذته، أنه على ما كان عليه السلف الصالح، وأئمة الدين أهل الفقه والفتوى، في باب معرفة الله وإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله التي نطق بها الكتاب العزيز، وصحت بها الأخبار النبوية، وتلقاها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبول والتسليم، يثبتونها ويؤمنون بها ويمرونها كما جاءت، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
1 وتقدم جله في رسالة الشيخ إسحاق صفحة 516-535/ ج1، وانظر إن شئت منهاج التأسيس والتقديس صفحة 56-68 الطبعة الثانية.
وقد درج على هذا من بعدهم من التابعين وتابعيهم، من أهل العلم والإيمان وسلف الأمة وأئمتها، كسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وطلحة بن عبيد الله، وسليمان بن يسار وأمثالهم.
ومن الطبقة الأولى: كمجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وابن سيرين، وعامر الشعبي، وجنادة بن أبي أمية، وحسان بن عطية، وأمثالهم.
ومن الطبقة الثانية: علي بن الحسين، وعمر بن عبد العزيز، ومحمد بن مسلم الزهري، ومالك بن أنس، وابن أبي ذئب، وابن الماجشون، وكحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، والفضيل بن عياض، وعبد الله بن المبارك، وأبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومحمد بن إدريس، وإسحاق بن إبراهيم، وأحمد بن حنبل، ومحمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج القشيري، وإخوانهم وأمثالهم، ونظائرهم من أهل الفقه والأثر، في كل مصر وعصر.
وأما توحيد العبادة والإلهية، فلا خلاف بين أهل الإسلام، فيما قاله الشيخ وثبت عنه، من المعتقد الذي دعا إليه؛ يوضح ذلك أن أصل الإسلام وقاعدته: شهادة أن لا إله إلا الله؛ وهي أصل الإيمان بالله وحده، وهي أفضل شعب الإيمان، وهذا الأصل لا بد فيه من العلم والعمل والإقرار، بإجماع المسلمين.
ومدلوله: وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة
من عبادة ما سواه، كائنا من كان؛ وهذا هو الحكمة التي خلقت لها الإنس والجن، وأرسلت لها الرسل، وأنزلت بها الكتب؛ وهي تتضمن كمال الذل والحب، وتتضمن كمال الطاعة والتعظيم، هذا ودين الإسلام، الذي لا يقبل الله دينا غيره، لا من الأولين ولا من الآخرين.
فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام، وهو يتضمن الاستسلام لله وحده، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية:36.] .
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] .
وقال تعالى عن الخليل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26-27-28] .
وقال تعالى عنه: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية: 75-76-77] .
وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] .
وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 45] . وذكر
عن رسله نوح، وهود وصالح وشعيب، وغيرهم أنهم قالوا لقومهم:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59] .
وقال عن أهل الكهف: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاًهَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [سورة الكهف آية: 13-14-15] .
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] ، في موضعين.
قال رحمه الله: والشرك المراد بهذه الآيات ونحوها، يدخل فيه شرك عباد القبور، وعباد الأنبياء والملائكة والصالحين؛ فإن هذا هو شرك جاهلية العرب، الذين بعث فيهم عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا يدعونها، ويلتجئون إليها، ويسألونها على وجه التوسل بجاهها وشفاعتها، لتقربهم إلى الله.
كما حكى الله ذلك عنهم في مواضع من كتابه، كقوله تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} الآية [سورة يونس آية: 18] .
[سورة الزمر آية: 3] .
وقال تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [سورة الأحقاف آية: 28] .
قال رحمه الله: ومعلوم أن المشركين لم يزعموا أن الأنبياء، والأولياء والصالحين، والملائكة، شاركوا الله في خلق السماوات والأرض، أو استقلوا بشيء من التدبير والتأثير والإيجاد، ولو في خلق ذرة من الذرات، قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [سورة الزمر آية: 38] .
فهم معترفون بهذا مقرون به لا ينازعون فيه، ولذلك حسن موقع الاستفهام، وقامت الحجة بما أقروا به من هذه الجمل، وبطلت عبادة من لا يكشف الضر ولا يمسك الرحمة; ولا يخفى ما في التنكير من العموم والشمول، المتناول لأقل شيء وأدناه من ضر أو رحمة.
وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84] إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 89] .
وقال تعالى {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [سورة يوسف آية: 106] ، ذكر فيه السلف، كابن عباس وغيره، إيمانهم هنا بما أقروا به، من ربوبيته وملكه، وفسر شركهم بعبادة غيره.
قال رحمه الله تعالى: وقد بين القرآن في غير موضع، أن من المشركين من أشرك بالملائكة، ومنهم من أشرك بالأنبياء والصالحين، ومنهم من أشرك بالأصنام؛ وقد رد عليهم جميعهم، وكفر كل أصنافهم، كما قال تعالى:{وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] .
وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} ، الآية [سورة التوبة آية: 31] .
وقال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ} الآية [سورة النساء آية: 172] ؛ ونحو ذلك في القرآن كثير; وبه يعلم المؤمن أن عبادة الأنبياء والصالحين، كعبادة الكواكب والأصنام، من حيث الشرك والكفر بعبادة غير الله.
قال رحمه الله تعالى: وهذه العبادات التي صرفها المشركون لآلهتهم، هي أفعال العبد الصادرة منه، كالحب والخضوع والإنابة والتوكل، والدعاء والاستعانة والاستغاثة، والخوف والرجاء والنسك والتقوى، والطواف ببيته رغبة ورجاء، وتعلق القلوب والآمال بفيضه ومدده، وإحسانه وكرمه.
فهذه الأنواع أشرف أنواع العبادة وأجلها; بل هي لب سائر الأعمال الإسلامية وخلاصتها، وكل عمل يخلو منها، فهو خداج مردود على صاحبه؛ وإنما أشرك وكفر من كفر من
المشركين، بقصد غير الله بهذا، وتأليهه لذلك.
قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل آية: 17] .
وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [سورة الأنبياء آية: 43] .
وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} الآية [سورة الفرقان آية: 3] .
وحكى عن أهل النار أنهم يقولون لآلهتهم التي عبدوها مع الله: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية: 97-98] ؛ ومعلوم أنهم ما سووهم به في الخلق والتدبير والتأثير، وإنما كانت التسوية في الحب والخضوع، والتعظيم والدعاء، ونحو ذلك من العبادات.
قال رحمه الله: فجنس هؤلاء المشركين وأمثالهم، ممن يعبد الأولياء والصالحين، نحكم بأنهم مشركون، ونرى كفرهم إذا قامت عليهم الحجة الرسالية؛ وما عدا هذا من الذنوب التي دونه في الرتبة والمفسدة، لا نكفر بها، ولا نحكم على أحد من أهل القبلة، الذين باينوا عباد الأوثان والأصنام والقبور، بمجرد ذنب ارتكبوه، وعظيم جرم اجترحوه.
وغلاة الجهمية والقدرية والرافضة ونحوهم ممن كفرهم السلف، لا نخرج فيهم عن أقوال أئمة الهدى والفتوى من سلف هذه الأمة، ونبرأ إلى الله مما أتت به الخوارج، وقالته في أهل الذنوب من المسلمين.
قال رحمه الله: ومجرد الإتيان بلفظ الشهادة، من غير علم بمعناها، ولا عمل بمقتضاها، لا يكون به المكلف مسلما; بل هو حجة على ابن آدم، خلافا لمن زعم أن الإيمان مجرد الإقرار، كالكرامية، ومجرد التصديق كالجهمية.
وقد أكذب الله المنافقين فيما أتوا به وزعموه من الشهادة، وأسجل على كذبهم، مع أنهم أتوا بألفاظ مؤكدة بأنواع من التأكيدات، قال تعالى:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [سورة المنافقون آية: 1] .
فأكدوا بلفظ الشهادة و (إِنَّّّّّّّّ) المؤكدة، واللام والجملة الإسمية، فأكذبهم، وأكد تكذيبهم بمثل ما أكدوا به شهادتهم سواء بسواء، وزاد التصريح باللقب الشنيع، والعلم البشع الفظيع; وبهذا تعلم أن مسمى الإيمان لا بد فيه من الصدق والعمل.
ومن شهد أن لا إله إلا الله وعبد غيره، فلا شهادة له، وإن صلى وزكى وصام، وأتى بشيء من أعمال الإسلام؛ قال تعالى لمن آمن ببعض الكتاب، ورد بعضا:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} الآية [سورة البقرة آية: 85] .
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} الآية [سورة النساء آية:-151 150] .
وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} الآية [سورة المؤمنون آية: 117] .
والكفر نوعان: مطلق، ومقيد. فالمطلق: أن يكفر بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والمقيد: أن يكفر ببعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حتى إن بعض العلماء، كفر من أنكر فرعا مجمعا عليه، كتوريث الجد أو الأخت، وإن صلى وصام؛ فكيف بمن يدعو الصالحين، ويصرف لهم خالص العبادة ولبها؟! وهذا مذكور في المختصرات من كتب المذاهب الأربعة; بل كفروا ببعض الألفاظ التي تجري على ألسن بعض الجهال، وإن صلى وصام، من جرت على لسانه.
قال رحمه الله: والصحابة كفّروا من منع الزكاة، وقاتلوهم، مع إقرارهم بالشهادتين، والإتيان بالصلاة، والصوم والحج. قال رحمه الله: وأجمعت الأمة على كفر بني عبيد القداح مع أنهم يتكلمون بالشهادتين، ويبنون المساجد في قاهرة مصر وغيرها، وذكر أن ابن الجوزي صنف كتابا في وجوب غزوهم وقتالهم، سماه:"النصر على مصر".
قال: وهذا يعرفه من له أدنى إلمام بشيء من العلم والدين، فتسمية عباد القبور مسلمين، لأنهم يصلون ويصومون، ويؤمنون بالبعث، مجرد تعمية على العوام وتلبيس، لينفق شركهم، ويقال بإسلامهم وإيمانهم، ويأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون.
وأما مسائل القدر والجبر، والإرجاء، والإمامة والتشيع، ونحو ذلك من المقالات والنحل، فهو أيضا فيها على ما كان عليه السلف الصالح، وأئمة الهدى والدين، يبرأ إلى الله مما قالته القدرية النفاة، والقدرية المجبرة، وما قالته المرجئة والرافضة، وما عليه غلاة الشيعة والناصبة.
ويوالي جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكف عما شجر بينهم، ويرى أنهم أحق الناس بالعفو عما يصدر منهم، وأنهم أقرب الخلق إلى مغفرة الله وإحسانه، لفضائلهم وسوابقهم وجهادهم، وما جرى على أيديهم من فتح القلوب بالعلم النافع، والعمل الصالح، وفتح البلاد، ومحو آثار الشرك، وعبادة الأوثان والنيران، والأصنام والكواكب، ونحو ذلك مما عبده جهال الأنام.
ويرى البراءة مما عليه الرافضة، وأنهم سفهاء الأحلام، ويرى أن أفضل الأمة بعد نبيها: أبو بكر، فعمر، فعثمان، فعلي، رضي الله عنهم أجمعين.
ويعتقد: أن القرآن الذي نزل به الروح الأمين، على قلب سيد المرسلين، وخاتم النبيين، كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، ويبرأ من رأي الجهمية، القائلين بخلق القرآن، ويحكي تكفيرهم عن جمهور السلف، أهل العلم والإيمان.
ويبرأ من رأي الكلابية، أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب، القائلين بأن كلام الله هو المعنى القائم بنفس الباري، وأن ما
نزل به جبرائيل حكاية أو عبارة عن المعنى النفسي; ويقول: هذا من قول الجهمية; وأول من قسم هذا التقسيم هو ابن كلاب، وأخذ عنه الأشعري وغيره كالقلانسي.
ويخالف الجهمية، في كل ما قالوه، وابتدعوه في دين الله، ولا يرى ما ابتدعه الصوفية من البدع والطرائق المخالفة لهدي رسول الله وسنته، في العبادات والخلوات، والأذكار المخالفة للمشروع.
ولا يرى ترك السنن والأخبار النبوية لرأي فقيه، ومذهب عالم خالف ذلك باجتهاده؛ بل: السنة أجل في صدره وأعظم عنده، من أن تترك لقول أحد كائنا من كان; قال عمر بن عبد العزيز:"لا رأي لأحد في سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ نعم عند الضرورة وعدم الأهلية، والمعرفة بالسنن والأخبار، وقواعد الاستنباط والاستظهار، يصار إلى التقليد، لا مطلقا، بل فيما يتعسر ويخفى.
ولا يرى إيجاب ما قاله المجتهد، إلا بدليل تقوم به الحجة من الكتاب والسنة، خلافا لغلاة المقلدين; ويوالي الأئمة الأربعة، ويرى فضلهم وإمامتهم، وأنهم في الفضل والفضائل في غاية رتبة، يقصر عنها المتطاول; ويوالي كافة أهل الإسلام وعلمائهم من أهل الحديث والفقه والتفسير، وأهل الزهد والعبادة.
ويرى المنع من الانفراد عن أئمة الدين، من السلف
الماضين، برأي مبتدع، أو قول مخترع، فلا يحدث في الدين ما ليس له أصل يتبع، وما ليس من أقوال أهل العلم والأثر.
ويؤمن بما نطق به الكتاب، وصحت به الأخبار، وجاء الوعيد عليه، من تحريم دماء المسلمين، وأموالهم وأعراضهم، ولا يبيح من ذلك إلا ما أباحه الشرع، وأهدره الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن نسب إليه خلاف هذا، فقد كذب وافترى، وقال ما ليس له به علم، وسيجزيه الله ما وعد به أمثاله، من المفترين.
وأبدى رحمه الله من التقارير المفيدة، والأبحاث الفريدة، على كلمة الإخلاص والتوحيد: شهادة أن لا إله إلا الله، ما دل عليه الكتاب المصدق، والإجماع المستنير المحقق، من نفي استحقاق العبادة والإلهية عما سوى الله، وإثبات ذلك لله سبحانه، على وجه الكمال، المنافي لكليات الشرك وجزئياته، وأن هذا هو معناها وصفا ومطابقة، خلافا لمن زعم غير ذلك من المتكلمين، كمن يفسر ذلك بالقدرة على الاختراع، أو بأنه تعالى غني عما سواه، مفتقر إليه كل ما عداه؛ فإن هذا لازم المعنى، إذ الإله لا يكون إلا قادرا غنيا عما سواه، وأما كون هذا هو المعنى المقصود بالوضع، فليس كذلك؛ والمتكلمون خفي عليهم هذا، وظنوا أن تحقيق توحيد الربوبية والقدرة، هو الغاية المقصودة، والفناء فيه هو تحقيق التوحيد، وليس الأمر كذلك.
بل هذا لا يكفي في الإيمان، وأصل الإسلام، إلا إذا
أضيف إليه واقترن به توحيد الإلهية، وإفراد الله بالعبادة، والحب والخضوع والتعظيم، والإنابة والتوكل والخوف والرجاء، وطاعة الله، وطاعة رسوله؛ هذا أصل الإسلام وقاعدته.
والتوحيد الأول، توحيد الربوبية والخلق والإيجاد، وهو الذي بني عليه توحيد العمل والإرادة؛ وهو دليله الأكبر، وأصله الأعظم، كما قال تعالى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [سورة البقرة آية: 163] إلى آخر الآيات. قال العلامة ابن القيم، رحمه الله تعالى:
إن كان ربك واحدا سبحانه
…
فاخصصه بالتوحيد مع إحسان
أو كان ربك واحدا أنشاك لم
…
يشركه إذ أنشاك رب ثان
فكذاك أيضا وحده فاعبده لا
…
تعبد سواه يا أخا العرفان
وهذه الجملة منقولة عن السلف، والأئمة من المفسرين، وغيرهم من أهل اللغة، إجمالا وتفصيلا.
وقد قرر رحمه الله، على شهادة أن محمدا رسول الله، من بيان ما تستلزمه هذه الشهادة، وتستدعيه وتقتضيه، من تجريد المتابعة، والقيام بالحقوق النبوية، من الحب والتوقير، والنصرة والمتابعة والطاعة، وتقديم سنته صلى الله عليه وسلم على كل سنة وقول، والوقوف معها حيث ما وقفت، والانتهاء حيث انتهت، في أصول الدين وفروعه، باطنة وظاهرة، خفية وجلية، كلية وجزئية، ما ظهر به فضله، وتأكد علمه ونبله، وأنه سباق غايات، وصاحب آيات، لا يشق غباره، ولا تدرك في البحث
والإفادة آثاره، وأن أعداءه ومنازعيه، وخصومه في الفضل وشائبيه، يصدق عليهم المثل السائر، بين أهل المحابر والدفاتر، شعرا:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه
…
فالقوم أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها
…
حسدا وبغيا إنه لذميم
وله رحمه الله، من المناقب والمآثر، ما لا يخفى على أهل الفضل والبصائر; ومما اختصه الله به من الكرامة: تسلط أعداء الدين، وخصوم عباد الله المؤمنين على مسبته، والتعرض لبهته وعيبه; قال الشافعي رحمه الله: ما أرى الناس ابتلوا بشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ليزيدهم الله بذلك ثوابا عند انقطاع أعمالهم.
وأفضل الأمة بعد نبيها: أبو بكر وعمر، وقد ابتليا من طعن أهل الجهالة، والسفاهة بما لا يخفى؛ وما حكيناه عن الشيخ، حكاه أهل المقالات، عن أهل السنة والجماعة مفصلا، وهذه عبارة أبي الحسن الأشعري، في كتابه:"مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين".
قال أبو الحسن الأشعري: جملة ما عليه أصحاب الحديث، وأهل السنة: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون من ذلك شيئا، والله تعالى إله واحد، فرد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن
النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور،
وأن الله تعالى على عرشه، كما قال:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وأن له يدين بلا كيف، كما قال:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75]، وكما قال:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64] ، وأن له عينين بلا كيف، وأن له وجها جل ذكره، كما قال تعالى:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [سورة الرحمن آية: 27] ، وأن أسماء الله تعالى لا يقال إنها غير الله، كما قالت المعتزلة والخوارج.
وأقروا: أن لله تعالى علما، كما قال تعالى:{أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [سورة النساء آية: 166]، وكما قال:{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [سورة فاطر آية: 11] ، وأثبتوا السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك كما نفتة المعتزلة، وأثبتوا لله القوة، كما قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [سورة فصلت آية: 15] .
وقالوا: إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله تعالى كما قال تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [سورة الإنسان آية: 30]، وكما قال المسلمون: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن; وقالوا: إن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله الله، أو يكون أحد يقدر على أن يخرج عن علم الله، وأن يفعل شيئا علم الله أنه لا يفعله.
وأقروا: أنه لا خالق إلا الله، وأن أعمال العباد يخلقها
الله، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئا، وأن الله تعالى وفق المؤمنين لطاعته، وخذل الكافرين بمعصيته، ولطف بالمؤمنين ونظر لهم وأصلحهم وهداهم، ولم يلطف بالكافرين ولا أصلحهم ولا هداهم، ولو أصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين.
وأن الله تعالى يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم، حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وخذلهم وأضلهم وطبع على قلوبهم، وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره.
ويؤمنون بقضاء الله وقدره، خيره وشره، حلوه ومره، ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، إلا ما شاء الله، كما قال; ويلجئون أمرهم إلى الله، ويثبتون الحاجة إلى الله في كل وقت، والفقر إلى الله في كل حال.
ويقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، والكلام في الوقف، واللفظ؛ من قال: باللفظ، أو بالوقف، فهو مبتدع عندهم؛ لا يقال: اللفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال: غير مخلوق. ويقولون: إن الله تعالى يُرى بالأبصار يوم القيامة، كما يُرى القمر ليلة البدر، ويراه المؤمنون، ولا يراه الكافرون، لأنهم عن الله محجوبون، قال الله تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [سورة المطففين آية: 15] ، وأن موسى سأل الله سبحانه
الرؤية في الدنيا، وأن الله تجلى للجبل فجعله دكا، فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا، بل يراه في الآخرة.
ولم يكفّروا أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه، كنحو الزنى والسرقة، وما أشبه ذلك من الكبائر؛ وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون، وإن ارتكبوا الكبائر.
والإيمان عندهم، هو: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم; والإسلام، هو: أن يشهد أن لا إله إلا الله، على ما جاء في الحديث. والإسلام عندهم غير الإيمان; ويقرون بأن الله مقلب القلوب.
ويقرون بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنها لأهل الكبائر من أمته، وبعذاب القبر، وأن الحوض حق، والمحاسبة من الله للعباد حق، والوقوف بين يدي الله حق; ويقرون: بأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ولا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق، ويقولون: أسماء الله هي الله.
ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار، ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين، حتى يكون الله تعالى أنزلهم حيث شاء، ويقولون: أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم; ويؤمنون بأن الله تعالى يخرج قوما من الموحدين من النار، على ما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وينكرون: الجدل والمراء في الدين، والخصومة في القدر،
والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل، ويتنازعون فيه من دينهم، بالتسليم للروايات الصحيحة، ولما جاءت به الآثار التي رواها الثقات، عدل عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقولون: كيف، ولا لم، لأن ذلك بدعة.
ويقولون: إن الله لم يأمر بالشر بل نهى عنه، وأمر بالخير ولم يرض بالشر، وإن كان مريدا له، ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ويأخذون بفضائلهم، ويمسكون عما شجر بينهم، صغيرهم وكبيرهم.
ويقدمون أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليا رضي الله عنهم; ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون، وأنهم أفضل الناس كلهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أن الله ينْزل إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من مستغفر؟ " 1 كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويأخذون بالكتاب والسنة، كما قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] ، ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين، ولا يبتدعون في دينهم ما لم يأذن به الله; ويقرون: أن الله تعالى يجيء يوم القيامة، كما قال تعالى:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [سورة الفجر آية: 22] ، وأن الله تعالى يقرب من خلقه كيف شاء، كما قال تعالى:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق آية: 16] .
ويرون العيد والجمعة والجماعةخلف كل إمام، بر
1 أحمد 4/81 ، والدارمي: الصلاة 1480.
أو فاجر، ويثبتون المسح على الخفين سنة، ويرونه في الحضر والسفر; ويثبتون فرض الجهاد للمشركين، منذ بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى آخر عصابة تقاتل الدجال؛ وبعد ذلك، يرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح، وأنه لا يخرج عليهم بالسيف، وأن لا يقاتلوا في الفتنة، ويصدقون بخروج الدجال، وأن عيسى بن مريم يقتله.
ويؤمنون بمنكر ونكير، والمعراج، والرؤيا في المنام، وأن الدعاء لموتى المسلمين، والصدقة عنهم بعد موتهم، تصل إليهم; ويصدقون بأن في الدنيا سحرة، وأن الساحر كافر، كما قال الله تعالى، وأن السحر كائن موجود في الدنيا; ويرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة، مؤمنهم وفاجرهم.
ويقرون: أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن من مات بأجله، وكذلك من قُتل بأجله، وأن الأرزاق من قبل الله تعالى، يرزقها عباده، حلالا كانت أو حراما، وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه، ويخطيه، وأن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله تعالى بآيات تظهر عليهم، وأن السنة لا تنسخ القرآن، وأن الأطفال أمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم وإن شاء فعل بهم ما أراد، وأن الله عالم ما العباد عاملون، وكتب أن ذلك يكون، وأن الأمور بيد الله تعالى.
ويرون الصبر على حكم الله، والأخذ بما أمر الله به، والانتهاء عما نهى الله عنه، وإخلاص العمل والنصيحة للمسلمين;
ويدينون بعبادة الله في العابدين، والنصيحة لجميع المسلمين، واجتناب الكبائر، والزنى، وقول الزور، والمعصية، والفخر، والكبر والإزراء على الناس والعجب.
ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن، وكتابة الآثار، والنظر في الفقه، مع التواضع والاستكانة، وحسن الخلق وبذل المعروف، وكف الأذى، وترك الغيبة والنميمة والسعاية، وتفقد المأكل والمشرب.
فهذه جملة ما يأمرون به، ويعتقدونه ويرونه؛ وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل. انتهى ما ذكره شيخنا، الشيخ عبد اللطيف، رحمه الله تعالى، وعفا عنه.
فإذا عرفت هذا وتحققته، وعلمت أنه لم يخرج رحمه الله عن طريقة السلف، وما درج عليه العلماء الأمناء بعدهم، على ما يعتقدونه ويقولونه، بل كان على ما كانوا عليه، من تقرير توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتجريد متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقديم قوله على قول كل أحد، كائنا من كان،
وأنه كان على ما كانوا عليه، من مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، والأمر بالصبر على البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضى بمر القضاء، وحسن الجوار، والإحسان إلى الأيتام والمساكين وابن السبيل، والنهي عن الفخر والخيلاء والبغي،
والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق، ويأمر بمعالي الأخلاق وينهى عن سفسافها، ويأمر بالجهاد على ما أمر الله به ورسوله، والانتهاء عما نهى الله عنه، بالحجة واللسان، والسيف والسنان.
وأنه ييرأ إلى الله تعالى، من جميع من خالف أهل الحق، من جميع الفرق الذين خرجت بهم الأهواء وتشعبت، وفرقوا دينهم {وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة الروم آية: 32] ، وأصول هذه الفرق: ست فرق: الروافض، والخوارج، والمرجئة، والجهمية، والقدرية، والجبرية، وكل فرقة من هذه الفرق تشعبت، على ما ذكره أهل العلم، على اختلاف نحلهم ومللهم، وتشعب آرائهم وأهوائهم.
فإذا تحققت ذلك، تبين لك: أن هذا الملحد المفتري الضال، ممن نكب عن طريقة السلف الصالح، وصدف عنها، واتبع غير سبيل المؤمنين، ومن يتبع غير سبيل المؤمنين يوله الله ما تولى، ويصله جهنم وساءت مصيرا.
وقد اشتهر وظهر من شأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، من الدعوة إلى الله، والنهي عن الشرك في العبادة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، واتباع سبيل المؤمنين، من سلف هذه الأمة وأئمتها، ما شاع وذاع، وملأ الأسماع، انتفع بدعوته الخلق الكثير، والجم الغفير؛ فرحمه الله من إمام، ما أحسن أثره على الناس، وما أسوأ أثر الناس عليه.
وما أحسن ما قاله الإمام العالم الرباني: محمد بن أحمد
الحفظي اليمني، رحمه الله، في أرجوزة له، ذكر فيها أمر هذه الدعوة، وما حصل في ضمنها من إظهار الدين، ونشره في البلاد والعباد، ونشر أعلام الجهاد، فقال رحمه الله:
الحمد حقا مستحقا أبدا
…
لله رب العالمين سرمدا
أحمده مهللا مسجلا
…
محوقلا محيعلا محسبلا
مصليا على الرسول الشارع
…
وآله وصحبه والتابعي
في البدء والختم وأما بعد
…
فهذه منظومة تعد
حركني لنظمها الخير الذي
…
قد جاءنا في آخر العصر القذي
لما دعا الداعي من المشارق
…
بأمر رب العالمين الخالق
وبعث الله لنا مجددا
…
من أرض نجد عالما مجتهدا
شيخ الهدى محمد المحمدي
…
الحنبلي الأثري الأحمدي
فقام والشرك الصريح قد سرى
…
بين الورى وقد طغى واعتكرا
لا يعرفون الدين والتهليلا
…
وطرق الإسلام والسبيلا
إلا أساميها وباقي الرسم
…
والأرض لا تخلو من أهل العلم
وكل حزب فلهم وليجة
…
يدعونه في الضيق للتفريجة
وملة الإسلام والأحكام
…
في غربة وأهلها أيتام
دعا إلى الله وبالتهليلة
…
يصرخ بين أظهر القبيلة
مستضعفا وما له مناصر
…
ولا له معاون موازر
في ذلة وقلة وفي يده
…
مهفة تغنيه عن مهنده
كأنها ريح الصبا في الرعب
…
والحق يعلو بجنود الرب
قد أذكرتني درة لعمر
…
وضرب موسى بالعصى للحجر
ولم يزل يدعو إلى دين النبي
…
ليس إلى نفس دعا أو مذهب
يعلم الناس معاني أشهد
…
أن لا إله غير فرد يعبد
محمد نبيه وعبده
…
رسوله إليكم وقصده
أن تعبدوه وحده لا تشركوا
…
شيئا به والابتداع فاتركوا
ومن دعا دون الإله أحدا
…
أشرك بالله ولو محمدا
إن قلتمو نعبدهمو للقربة
…
أو للشفاعات فتلك الكذبة
فربنا يقول في كتابه
…
هذا هو الشرك بلا تشابه
هذي معاني دعوة الشيخ لمن
…
عاصره فاستكبروا عن السنن
فانقسم الناس فمنهم شارد
…
مخاصم محارب معاند
ما بين خفاش وبين جعل
…
شاهت وجوه أهل هذا المثل
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله وصحبه وسلم.
آخر الجزء الثاني عشر
ويليه الجزء الثالث عشر: "كتاب التفسير"
إن شاء الله تعالى