الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد الثاني:
(كتاب التوحيد)
كتاب التوحيد
…
كتاب التّوحيد
بسم الله الرحمن الر حيم
كتاب التوحيد
[أربعة قواعد يتميز بها المسلم من المشرك]
قال شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله الذي يستدل على وجوب وجوده ببدائع له من الأفعال، المنزه في ذاته وصفاته عن النظائر والأمثال، أنشأ الموجودات فلا يعزب عن علمه مثقال، أحمده سبحانه وأشكره إذ هدانا لدين الإسلام، وأزاح عنا شبه الزيغ والضلال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة موحد له في الغدو والآصال.
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، نبي جاءنا بدين قويم، فارتوينا مما جاءنا به من عذب زلال; اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد وأصحابه الذين هم خير صحب وآل، وسلم تسليما.
أما بعد: فقد طلب مني بعض الأصدقاء الذين لا تنبغي مخالفتهم، أن أجمع مؤلفا يشتمل على مسائل أربع،
وقواعد أربع، يتميز بهن المسلم من المشرك.
الأولى: أن الذي خلقنا وصورنا لم يتركنا هملا، بل أرسل إلينا رسولا، معه كتاب من ربنا، فمن أطاع فهو في الجنة، ومن عصى فهو في النار، والدليل قوله تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} [سورة المزمل آية: 15]، وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [سورة النساء آية: 13"14] .
الثانية: أنه سبحانه ما خلق الخلق إلا ليعبدوه وحده، مخلصين له الدين، والدليل على ذلك، قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56]، وقال:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [سورة البينة آية: 5] .
الثالثة: أنه إذا دخل الشرك في عبادتك، بطلت ولم تقبل; وأن كل ذنب يرجى له العفو إلا الشرك، والدليل قوله تعالى:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة الزمر آية: 65]، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [سورة النساء آية: 116]، وقال تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72] .
ومن نوع هذا الشرك: أن يعتقد الإنسان في غير الله: من نجم، أو إنسان أو نبي، أو صالح، أو كاهن، أو ساحر، أو نبات، أو حيوان، أو غير ذلك، أنه يقدر بذاته على جلب منفعة من دعاه أو استغاث به، أو دفع مضرة، فقد قال الله تعالى:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة فاطر آية: 2]، وقال تعالى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [سورة يونس آية: 107] .
فإذا تبين في القلب أنه عز وجل بهذه الصفة، وجب أن لا يستغاث إلا به، ولا يستعان إلا به، ولا يدعى إلا هو; ولذلك قال تعالى:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [سورة التوبة آية: 51] .
وقال تعالى موبخا لأهل الكتاب الذين يستغيثون بعيسى وعزير، عليهما السلام، لما أنزل الله عليهم القحط والجوع:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [سورة الإسراء آية: 56"57] .
وقال تعالى لنبيه:صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110]، وقال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ
كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة الأعراف آية: 188] .
ومن نوع هذا الشرك: التوكل، والصلاة، والنذر، والذبح لغير الله، فقد قال الله تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [سورة هود آية: 123]، وقال تعالى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [سورة الفرقان آية: 58]، وقال تعالى:{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [سورة آل عمران آية: 122]، وقال تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [سورة المائدة آية: 3]، إلى قوله:{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [سورة المائدة آية: 3]، وقال تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2]، وقال تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام آية: 162] .
ومن نوع هذا الشرك: تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، واعتقاد ذلك، فقد قال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 31] ، وقال عدي بن حاتم، " يا رسول الله، ما عبدوهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم؟ وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم؟ قال: بلى; قال: فتلك عبادتهم " وأحبارهم ورهبانهم: علماؤهم وعبادهم; وذلك أنهم اتخذوهم أربابا، وهم لا يعتقدون ربوبيتهم، بل يقولون: ربنا وربهم الله، ولكنهم أطاعوهم في تحليل ما حرم
الله، وتحريم ما أحل الله، وجعل الله ذلك عبادة. فمن أطاع إنسانا عالما، أو عابدا، أو غيره، في تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم الله، واعتقد ذلك بقلبه، فقد اتخذه ربا، كالذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله.
ومن ذلك: " أن أناسا من المشركين، قالوا: يا محمد، الميتة من قتلها؟ قال: الله; قالوا: كيف تجعل قتلك أنت وأصحابك حلالا وقتل الله حراما؟ فنزل قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} 1") .
ومن نوع هذا الشرك: الاعتكاف على قبور المشهورين بالنبوة، أو الصحبة، أو الولاية، وشد الرحال إلى زيارتها لأن الناس يعرفون الرجل الصالح وبركته ودعاءه، فيعكفون على قبره، ويقصدون ذلك; فتارة يسألونه وتارة: يسألون الله عنده; وتارة يصلون ويدعون الله عند قبره.
ولما كان هذا بدء الشرك، سد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب; ففي الصحيحين أنه قال في مرض موته:" لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "2، يحذر ما صنعوا. قالت عائشة:(ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا) .
وقال: " لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا عليّ حيث كنتم، فإن صلاتكم تبلغني "3 وقال صلى الله عليه وسلم: " لعن الله زائرات
1 النسائي: الضحايا (4437)، وأبو داود: الضحايا (2819) .
2 البخاري: الجنائز (1390)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531)، والنسائي: المساجد (703) ، وأحمد (1/218 ،6/34 ،6/121 ،6/146 ،6/255)، والدارمي: الصلاة (1403) .
3 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/367) .
القبور، والمتخذين عليها المساجد، والسرج "1 وفي الموطأ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد "2.
وفي صحيح مسلم عن علي، قال:"بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته، ولا أدع تمثالا إلا طمسته "3، فأمر بمسح التماثيل من الصور الممثلة على صورة الميت، والتمثال الشاخص المشرف فوق قبره، فإن الشرك يحصل بهذا أو بهذا.
"وبلغ عمر رضي الله عنه أن قوما يذهبون إلى الشجرة التي بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه تحتها، فأمر بقطعها"، "وأرسل إليه أبو موسى: أنه ظهر بتستر قبر دانيال، وعنده مصحف، فيه أخبار ما سيكون، وفيه أخبار المسلمين، وأنهم إذا جدبوا، كشفوا عن القبر، فمطروا. فأرسل إليه عمر، يأمره أن يحفر في النهار ثلاثة عشر قبرا، ويدفنه بالليل بواحد منها، لئلا يعرفه الناس، فيفتنون به".
واتخاذ القبور مساجد مما حرم الله ورسوله، وإن لم يبن عليها مسجد، ولما كان اتخاذ القبور مساجد، وبناء المساجد عليها محرما، لم يكن من ذلك شيء على عهد الصحابة والتابعين.
وكان الخليل عليه السلام في المغارة التي دفن فيها، وهي مسدودة، لا أحد يدخلها، ولا تشد الصحابة الرحال إليه، ولا إلى غيره من المقابر، ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم
1 الترمذي: الصلاة (320)، والنسائي: الجنائز (2043)، وأبو داود: الجنائز (3236) ، وأحمد (1/229 ،1/287 ،1/324) .
2 مالك: النداء للصلاة (416) .
3 مسلم: الجنائز (969)، والترمذي: الجنائز (1049)، والنسائي: الجنائز (2031)، وأبو داود: الجنائز (3218) ، وأحمد (1/96) .
قال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا " 1، فكان من يأتي منهم إلى المسجد الأقصى، يصلون فيه، ثم يرجعون، لا يأتون مغارة الخليل ولا غيرها. وكانت مسدودة حتى استولى النصارى على الشام في أواخر المائة الرابعة، وجعلوا ذلك مكان كنيسة، ولما فتح المسلمون البلاد، اتخذه بعض الناس مسجدا، وأهل العلم ينكرون ذلك.
وهذه البقاع وأمثالها لم يكن السابقون الأولون يقصدونها، ولا يزورونها، فإنها محل الشرك; ولهذا توجد فيها الشياطين كثيرا، وقد رآهم غير واحد على صورة الإنسان، يتلون لهم رجال الغيب، فيظنون أنهم رجال من الإنس غائبون عن الأبصار، وإنما هم جن، والجن يسمون رجالا، قال تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [سورة الجن آية: 6] .
وما حدث في الإسلام من هذه الخرافات وأمثالها ينافي ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من كمال التوحيد، وإخلاص الدين لله وحده، وسد أبواب الشرك التي يفتحها الشيطان.
ولهذا يوجد من كان أبعد عن التوحيد والإخلاص، ومعرفة الإسلام، أكثر تعظيما لمواضع الشرك; فالعارفون سنة محمد صلى الله عليه وسلم أولى بالتوحيد والإخلاص، وأهل الجهل بذلك: أقرب إلى الشرك والبدع; ولهذا يوجد في الرافضة أكثر مما يوجد في غيرهم، لأنهم أجهل من غيرهم، وأكثر شركا
1 البخاري: الجمعة (1189 ،1197) والحج (1864) والصوم (1996)، ومسلم: الحج (827)، والترمذي: الصلاة (326)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1410) ، وأحمد (3/78) .
وبدعًا؛ ولهذا: يعظمون المشاهد، ويخربون المساجد، فالمساجد لا يصلون فيها جمعة، ولا جماعة; وأما المشاهد فيعظمونها، حتى يرون زيارتها أولى من الحج.
وكلما كان الرجل أتبع لدين محمد صلى الله عليه وسلم، كان أكمل توحيدا لله وإخلاصا لدينه; وإذا أبعد عن متابعته، نقص عن دينه بحسب ذلك; فإذا كثر بعده عنه، ظهر فيه من الشرك والبدع ما لا يظهر فيمن هو أقرب منه، لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ والله إنما أمر بالعبادة في المساجد، وذلك عمارتها، فقال تعالى:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 18] ، ولم يقل مشاهد الله، وأما نفس بناء المساجد، فيجوز أن يبنيه البر والفاجر، وذلك بناء، كما قال صلى الله عليه وسلم " من بنى لله مسجدا، بنى الله له بيتا في الجنة "1.
ثم كثير من المشاهد أو أكثرها كذب، كالذي بالقاهرة، على رأس الحسين رضي الله عنه؛ فإن الرأس لم يحمل إلى هناك، وكذلك مشهد علي، إنما حدث في دولة بني بويه; قال الحافظ وغيره: هو قبر المغيرة بن شعبة; وعلي إنما دفن بقصر الإمارة بالكوفة; ودفن معاوية بقصر الإمارة بدمشق; ودفن عمرو بن العاص بقصر الإمارة بمصر، خوفا عليهم إذا دفنوا في المقابر أن تنبشهم الخوارج.
المسألة الرابعة: أنه إذا كان عملك صوابا ولم يكن خالصا، لم يقبل؛ وإذا كان خالصا ولم يكن صوابا، لم
1 البخاري: الصلاة (450)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (533)، والترمذي: الصلاة (318)، وابن ماجه: المساجد والجماعات (736) ، وأحمد (1/61)، والدارمي: الصلاة (1392) .
يقبل; فلا بد: أن يكون خالصًا، صوابًا، على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك قال سبحانه في علماء أهل الكتاب وعبادهم وقرائهم:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاًالَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 103"104]، وقال تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [سورة الغاشية آية: 2"3"4] . وهذه الآيات ليست في أهل الكتاب خاصة، بل كل من اجتهد في علم، أو عمل، أو قراءة، وليس موافقا لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو من الأخسرين أعمالا، الذين ذكرهم الله تعالى في محكم كتابه العزيز، وإن كان له ذكاء، وفطنة، وفيه زهد وأخلاق، فهذا العذر لا يوجب السعادة والنجاة من العذاب إلا باتباع الكتاب والسنة; وإنما قوة الذكاء بمنزلة قوة البدن وقوة الإرادة، فالذي يؤتى فضائل علمية، وإرادة قوية، وليس موافقا للشريعة، بمنزلة من يؤتى قوة في جسمه وبدنه.
وروي في صحيح البخارى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يخرج فيكم قوم، تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعلمكم مع علمهم، يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يرى شيئا، وينظر في القدح فلا يرى شيئا، وينظر في الريش فلا يرى شيئا، ويتمارى في الفوق "1.
1 البخاري: فضائل القرآن (5058)، ومسلم: الزكاة (1064) ، وأحمد (3/56) .
وروى في صحيح البخاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يأتي في آخر الزمان ناس حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة "1. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يكون في آخر الزمان رجال كذابون، يأتون من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم! لا يضلونكم، ولا يفتنونكم! "2 رواه أبو هريرة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل "3 رواه ابن مسعود رضي الله عنه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتي قائمة على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي الله بأمره، وهم على ذلك "4 رواه معاوية رضي الله عنه: وقال صلى الله عليه وسلم: " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قيل: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى "5 رواه أبو هريرة. رضي الله عنه وعن
1 البخاري: المناقب (3611)، ومسلم: الزكاة (1066)، والنسائي: تحريم الدم (4102)، وأبو داود: السنة (4767) ، وأحمد (1/81) .
2 مسلم: مقدمة (7) ، وأحمد (2/321 ،2/349) .
3 مسلم: الإيمان (50) ، وأحمد (1/458) .
4 البخاري: المناقب (3641)، ومسلم: الإمارة (1037) .
5 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) ، وأحمد (2/361) .
ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا يؤمن أحدكم، حتى يكون هواه تبعا لما جئت به "1.
وقد تبين أن الواجب طلب علم ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، ومعرفة ما أراد بذلك، كما كان عليه الصحابة، والتابعون، ومن سلك سبيلهم فكل ما يحتاج إليه الناس، فقد بينه الله ورسوله، بيانا شافيا كافيا، فكيف أصول التوحيد، والإيمان؟ ثم إذا عرف ما بينه الرسول، نظر في أقوال الناس وما أرادوا بها، فعرضت على الكتاب والسنة، والعقل الصريح الذي هو موافق للرسول، فإنه الميزان مع الكتاب، فهذا سبيل الهدى.
وأما سبيل الضلال والبدع والجهل، فعكسه أن تبدع بدعة بآراء رجال وتأويلاتهم، ثم تجعل ما جاء به الرسول تبعا لها، وتحرف ألفاظه وتأويله على وفق ما أصلوه؛ وهؤلاء تجدهم في نفس الأمر لا يعتمدون على ما جاء به الرسول، ولا يتلقون منه الهدى، ولكن ما وافقهم منه قبلوه، وجعلوه حجة لا عمدة، وما خالفهم منه تأولوه، كالذين يحرفون الكلم عن مواضعه، أو فوضوه، كالذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني.
وكثير منهم إنما ينظر في تفسير القرآن والحديث فيما يقوله موافقة على المذهب; وكثير منهم لم يكن عمدتهم في نفس الأمر اتباع نص أصلا، كالذين ذكرهم الله من اليهود الذين يفترون على الله الكذب، وهم يعلمون;
1 البخاري: الإيمان (13)، ومسلم: الإيمان (45)، والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2515)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (5016 ،5017)، وابن ماجه: المقدمة (66) ، وأحمد (3/176 ،3/272)، والدارمي: الرقاق (2740) .
ثم جاء من بعدهم من ظن صدق ما افترى أولئك، وهم في شك منهم، كما قال تعالى:{وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [سورة الشورى آية: 14] .
ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: " لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ "1. فهذا دليل على أن ما ذم الله به أهل الكتاب، يكون في هذه الأمة من يشبههم فيه، هذا حق قد شوهد، قال الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سورة فصلت آية: 53] . فمن تدبر ما أخبر الله به رسوله، رأى: أنه قد وقع من ذلك أمور كثيرة.
ومن زاد في الدين بشيء ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم وليس عليه الصحابة والتابعون، فكأنما نقص، عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم "2. وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما بال قوم يتنزهون عن شيء أصنعه؟! فوالله إني لأعلمهم، وأشدهم لله خشية "3.
وعن أنس بن مالك قال: " جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلما أخبروا
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456)، ومسلم: العلم (2669) ، وأحمد (3/84 ،3/89) .
2 أبو داود: الأدب (4904) .
3 البخاري: الأدب (6101)، ومسلم: الفضائل (2356) ، وأحمد (6/45 ،6/181) .
كأنهم تقالوها، قالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد; وقال أحدهم: أنا أصوم الدهر ولا أفطر; وقال الآخر: أنا أعتزل النساء ولا أتزوج فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم: كذا وكذا؟ أما والله، إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي، فليس مني" رواه البخاري ; وقال صلى الله عليه وسلم "أنتم أعلم بأمر دنياكم فخذوا به "1.
وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} 2 قال صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم الذين يتبعون المتشابه، ويتركون المحكم، فأولئك الذين سمى الله: أهل الزيغ، فاحذروهم " وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال:" هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمع صوت رجلين اختلفا في آية، فخرج في وجهه الغضب، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي، فإن له من الأجر مثل أجور من عمل بها، من غير أن ينقص من أجورهم شيء. ومن ابتدع بدعة ضلالة لا
1 مسلم: الفضائل (2363)، وابن ماجه: الأحكام (2471) ، وأحمد (6/123) .
2 البخاري: تفسير القرآن (4547)، ومسلم: العلم (2665)، وأبو داود: السنة (4598)، وابن ماجه: المقدمة (47) ، وأحمد (6/48 ،6/124 ،6/132 ،6/256)، والدارمي: المقدمة (145) .
يرضاها الله ورسوله، كان عليه من الإثم مثل آثام من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيء "1 رواه بلال بن الحارث المازني رضي الله عنه، وروى في صحيح البخاري، ومسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "2. وروى عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: " إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، أصحاب البدع والأهواء من هذه الأمة ".
وعن العرباض بن سارية، قال:" صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فوعظنا موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، وقال قائل: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فأوصنا; قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة لأميركم، وإن كان عبدا حبشيا، فإنه من يعش منكم، فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة "3.
وروي في سنن أبي داود، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" تفرقت بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين ملة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار، إلا واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من عمل بما أنا عليه اليوم، وأصحابي " قال عبد الله
1 الترمذي: العلم (2677)، وابن ماجه: المقدمة (210) .
2 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجه: المقدمة (14) ، وأحمد (6/240 ،6/270) .
3 أبو داود: السنة (4607)، والدارمي: المقدمة (95) .
ابن مسعود: "إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها" ورواه جابر مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي المختار الطائي، عن ابن أخي الحارث الأعور، عن الحارث الأعور، قال: "مررت بالمسجد، فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فدخلت على علي رضي الله عنه فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا ترى أن الناس قد خاضوا في الأحاديث؟ قال: أوقد فعلوها؟ قلت: نعم; قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ألا إنها ستكون فتنة، قلت: فما المخرج يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.
وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه. وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا:{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} . من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم".
قوله: (لا تزيغ به الأهواء)، يعني: لا يصير بسببه مبتدعا ضالا; وقوله: (لا تلتبس به الألسن) ; أي: لا يختلط به
غيره، بحيث يشبهه، ويلتبس الحق بالباطل، قال تعالى:{وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر آية: 9] .
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الدين بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي "1 رواه طلحة عن أبيه عن جده; وقال صلى الله عليه وسلم: " من تمسك بسنتي عند فساد أمتي، فله أجر مائة شهيد " رواه أبو هريرة; وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إنكم في زمن من ترك منكم عشر ما أمر الله به هلك، ثم يأتي زمان من عمل بعشر ما أمر الله به نج ا"2 حديث غريب.
وعن عبد الله بن مسعود، قال:" خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا، ثم قال: هذا سبيل الله. ثم خط خطوطا عن يمينه، وعن شماله وقال: هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، وقرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 3") .
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نزل القرآن على خمسة وجوه: حلال وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال; فأحلوا الحلال; وحرموا الحرام; واعملوا بالمحكم; وآمنوا بالمتشابه; واعتبروا بالأمثال ".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأمر ثلاثة: أمر بين غيه، فاجتنبه; وأمر بين رشده، فاتبعه; وأمر اختلف فيه، فكله إلى الله تعالى ".
1 الترمذي: الإيمان (2630) .
2 الترمذي: الفتن (2267) .
3 ابن ماجه: المقدمة (11) ، وأحمد (3/397) .
وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن، مثل الأترجة، طعمها طيب، وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن، مثل التمرة، طعمها طيب، ولا ريح لها ; ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن، مثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مر; ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن، مثل الحنظلة، طعمها مر ولا ريح لها "1 فبين أن في الذين يقرؤون القرآن، مؤمنين، ومنافقين.
وإذا كانت سعادة الأولين والآخرين هي باتباع المرسلين فمن المعلوم أن أحق الناس بذلك أعلمهم بآثار المرسلين، وأتبعهم لذلك؛ فالعالمون بأقوالهم وأفعالهم، المتبعون لها، هم أهل السعادة في كل زمان ومكان، وهم: الطائفة الناجية من أهل كل ملة; وهم: أهل السنة والحديث من هذه الأمة.
والرسل عليهم البلاغ المبين ; وقد بلغوا البلاغ المبين ; وخاتم الرسل: محمد صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليه كتابه، مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه; فهو المهيمن على جميع الكتب; وقد بين أبين بلاغ وأتمه وأكمله، وكان أنصح الخلق لعباد الله، وكان بالمؤمنين رؤوفا رحيما، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد الله حتى أتاه اليقين؛ فأسعد الخلق، وأعظمهم نعيما، وأعلاهم درجة أعظمهم اتباعا له وموافقة علما
1 البخاري: فضائل القرآن (5020 ،5059) والأطعمة (5427) والتوحيد (7560)، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (797)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (5038)، وأبو داود: الأدب (4829)، وابن ماجه: المقدمة (214) ، وأحمد (4/408)، والدارمي: فضائل القرآن (3363) .
وعملا; والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقال رحمه الله تعالى:
أصل دين الإسلام وقاعدته: أمران: الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه. الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله.
والمخالفون في ذلك أنواع: فأشدهم مخالفة: من خالف في الجميع; ومن الناس من عبد الله وحده، ولم ينكر الشرك، ولم يعاد أهله. ومنهم: من عاداهم ولم يكفرهم. ومنهم: من لم يحب التوحيد ولم يبغضه. ومنهم: من كفرهم وزعم أنه مسبة للصالحين. ومنهم: من لم يبغض الشرك ولم يحبه. ومنهم: من لم يعرف الشرك، ولم ينكره. ومنهم: من لم يعرف التوحيد ولم ينكره.
ومنهم:" وهو أشد الأنواع خطرا" من عمل بالتوحيد، لكن لم يعرف قدره، ولم يبغض من تركه، ولم يكفرهم. ومنهم: من ترك الشرك وكرهه، ولم يعرف قدره، ولم يعاد أهله، ولم يكفرهم; وهؤلاء قد خالفوا ما جاءت به الأنبياء من دين الله سبحانه وتعالى، والله أعلم.
وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه:
بسم الله الرحمن الر حيم
أسأل الله الكريم، رب العرش العظيم، أن يتولاك في الدنيا والآخرة، وأن يجعلك ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر؛ فإن هذه الثلاث عنوان السعادة.
اعلم، أرشدك الله لطاعته أن الحنيفية ملة إبراهيم: أن تعبد الله مخلصا له الدين، وبذلك أمر الله جميع الناس، وخلقهم لها، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] . فإذا عرفت أن الله خلقك لعبادته، فاعلم أن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة إلا مع الطهارة ; فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت، كالحدث إذا دخل في الطهارة، كما قال تعالى:{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [سورة التوبة آية: 17] . فإذا عرفت أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها، وأحبط العمل، وصار صاحبه من الخالدين في النار، عرفت: أن أهم ما عليك معرفة ذلك، لعل الله أن يخلصك من هذه الشبكة، وهي الشرك بالله، وذلك بمعرفة أربع قواعد ذكرها الله في كتابه.
القاعدة الأولى: أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرون أن الله هو الخالق، الرازق، المحيي المميت، المدبر لجميع الأمور، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام، والدليل قوله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] .
القاعدة الثانية: أنهم يقولون: ما دعوناهم وتوجهنا إليهم، إلا لطلب القربة والشفاعة، نريد من الله لا منهم، لكن بشفاعتهم والتقرب إلى الله بهم؛ فدليل القربة قوله تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، ودليل الشفاعة، قوله تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] .
والشفاعة شفاعتان: شفاعة منفية، وشفاعة مثبتة، فالشفاعة المنفية هي التي تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، والدليل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة البقرة آية: 254] . والمثبتة هي التي تطلب من الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله; والشافع مكرم بالشفاعة، والمشفوع له من رضي الله قوله وعمله، بعد الإذن، والدليل قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ
لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] .
القاعدة الثالثة: أن النبي صلى الله عليه وسلم ظهر على أناس متفرقين في عباداتهم: منهم من يعبد الشمس والقمر ومنهم من يعبد الملائكة; ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين؛ ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار; وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفرق بينهم; والدليل قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [سورة الأنفال آية: 39] .
فدليل الشمس والقمر، قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [سورة فصلت آية: 37]، ودليل الملائكة قوله تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سورة سبأ آية: 40"41] .
ودليل الأنبياء قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} الآية [سورة المائدة آية: 116]، وقوله:{وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] ؛ ودليل الصالحين قوله تعالى:
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] .
ودليل الأشجار والأحجار، قوله تعالى:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [سورة النجم آية: 19"20] ، وحديث أبي واقد الليثي، قال:" خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة، يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال; رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى:، {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ".
القاعدة الرابعة: أن مشركي زماننا أغلظ شركا من الأولين، لأن الأولين يخلصون لله في الشدة، ويشركون في الرخاء، ومشركي زماننا شركهم دائم في الرخاء والشدة، والدليل قوله تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [سورة العنكبوت آية: 65] . فعلى هذا: الداعي عابد والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 5] . والله سبحانه أعلم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
[أربع قواعد يميز بها بين المسلمين والمشركين]
وله أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
أما بعد: فهذه أربع قواعد ذكرها الله في محكم كتابه، يعرف بها الرجل شهادة أن لا إله إلا الله، ويميز بها بين المسلمين والمشركين; فتدبرها، يرحمك الله; وأصغ إليها فهمك; فإنها عظيمة النفع.
الأولى: أن الله ذكر أن الكفار في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون أن الله الخالق، الرازق، لا يشاركه في ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل; وأنه لا يرزق إلا هو; وأنه سبحانه منفرد بملك السماوات والأرض; وأن جميع الأنبياء، والمرسلين عبيد له، تحت قهره وأمنه.
فإذا فهم أن هذا مقر به الكفار، ولا يجحدونه، وسألك بعض المشركين عن دليله، فاقرأ عليه، قوله تعالى في حق الكفار: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون َسَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ?قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ?قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84"89]، وقال تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] .
القاعدة الثانية: أنهم يعتقدون في الملائكة، والأنبياء، والأولياء، لأجل قربهم من الله تعالى، قال الله تعالى في الذين يعتقدون في الملائكة:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سورة سبأ آية: 40"41] . وقال: في الذين يعتقدون في الأنبياء: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [سورة المائدة آية: 75"76] . وقال في الذين يعتقدون في الأولياء: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} الآية [سورة الإسراء آية: 57] .
القاعدة الثالثة: وهي أن الله العلي الأعلى ذكر في كتابه، أن الكفار ما دعوا الصالحين، إلا لطلب التقرب من الله تعالى، وطلب الشفاعة; وإلا فهم مقرون بأنه لا يدبر الأمر إلا الله كما تقدم، فإذا طلب المشرك الدليل على ذلك، فاقرأ عليه قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ
وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18]، وقال:{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] . فإذا فهمت هذه المسألة، وتحققت: أن الكفار عرفوا ثلاث هذه المسائل، وأقروا بها الأولى: أنه لا يخلق، ولا يرزق، ولا يخفض، ولا يرفع، ولا يدبر الأمر، إلا الله وحده، لا شريك له; الثانية: أنهم يتقربون بالملائكة والأنبياء، لأجل قربهم من الله وصلاحهم; الثالثة: أنهم معترفون أن النفع والضر بيد الله، ولكن الرجاء، من الملائكة والأنبياء للتقرب من الله، والشفاعة عنده.
فتدبر هذا، تدبرا جيدا، واعرضه على نفسك ساعة بعد ساعة; فما أقل من يعرفه من أهل الأرض، خصوصا من يدعى العلم! فإذا فهمت هذا، ورأيت العجب، فاعرف وحقق المسألة الرابعة وهي: أن الذين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشركون دائما، بل تارة يشركون، وتارة يوحدون ويتركون دعاء الأنبياء والشياطين؛ فإذا كانوا في السراء دعوهم، واعتقدوا فيهم وإذا أصابهم الضر، والألم الشديد، تركوهم، وأخلصوا لله الدين، وعرفوا أن الأنبياء، والصالحين، لا يملكون نفعا، ولا ضرا.
فإذا شك أحد في أن الكفار الأولين كانوا يخلصون لله بعض الأحيان، فاقرأ عليه قوله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ
ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} [سورة الإسراء آية: 67]، وقال تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [سورة الزمر آية: 8] .
فهذا الذي هو من أصحاب النار: يخلص الدين لله تارة، ويخلص للملائكة والأنبياء تارة، وقال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام آية: 40"41] . وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
[توحيد العبادة]
وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب:
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد المرسلين، وإمام المتقين؛ سألت" رحمك الله" أن أكتب لك كلاما، ينفعك الله به.
فأول ما أوصيك به: الالتفات إلى ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله تبارك وتعالى، فإنه جاء من عند الله بكل ما يحتاج إليه الناس، فلم يترك شيئا يقربهم إلى الله وإلى جنته إلا أمرهم به، ولا شيئا يبعدهم من الله، ويقربهم إلى عذابه، إلا نهاهم، وحذرهم عنه; فأقام الله الحجة على خلقه، إلى يوم القيامة; فليس لأحد حجة على الله بعد بعثه محمدا صلى الله عليه وسلم؛ قال الله عز وجل فيه وفي إخوانه من المرسلين:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة النساء آية: 163] إلى قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [سورة النساء آية: 165] .
فأعظم ما جاء به من عند الله، وأول ما أمر الناس به:
توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له، وإخلاص الدين له وحده، كما قال عز وجل:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [سورة المدثر آية: 1"3]، ومعنى قوله:{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [سورة المدثر آية: 3] أي: عظم ربك بالتوحيد، وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له; وهذا قبل الأمر بالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وغيرهن، من شعائر الإسلام; ومعنى:{قُمْ فَأَنْذِرْ} [سورة المدثر آية: 2]، أي: أنذر عن الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له; وهذا قبل الإنذار عن الزنى، والسرقة، والربا، وظلم الناس، وغير ذلك من الذنوب الكبار.
وهذا الأصل هو أعظم أصول الدين، وأفرضها، ولأجله خلق الله الخلق، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، ولأجله أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] ، ولأجله تفرق الناس بين مسلم وكافر.
فمن وافى الله يوم القيامة وهو موحد لا يشرك به شيئا دخل الجنة; ومن وافاه بالشرك دخل النار، وإن كان من أعبد الناس؛ وهذا معنى قولك: لا إله إلا الله، فإن الإله، هو: الذي يدعى، ويرجى، لجلب الخير، ودفع الشر، ويخاف منه، ويتوكل عليه. فإذا عرفت هذا، فعليك" رحمك الله" بمعرفة أربع قواعد; قلت: تقدم نحوها، فتركناها خشية التكرار.
[أربع قواعد يميز بهن بين مذهب المسلمين ومذهب المشركين]
وقال أيضا رحمه الله تعالى: هذه أربع قواعد من قواعد الدين; يميز بهن المسلم بين مذهب المسلمين من مذهب المشركين.
القاعدة الأولى: أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرون بأن الله هو الخالق، الرازق، المحيي، المميت، المدبر، الضار، النافع; ولم ينفعهم إقرارهم، إذ لم يخلصوا الدعاء لله وحده; والدليل على ذلك قوله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31]، وقوله تعالى:{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [سورة المؤمنون آية: 84"85]، إلى قوله:{فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 89]، وقوله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} الآية [سورة الزمر آية: 38] .
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا
مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سورة سبأ آية: 22]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} الآية [سورة فاطر آية: 13"14]، وقال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} [سورة الأحقاف آية: 4] إلى قوله: {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 6] .
القاعدة الثانية: أن هولاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما قصدوا من قصدوا بعبادتهم إلا لأجل التقرب والشفاعة منهم إلى الله، وأنه عز وجل نزه نفسه عن أن يتخذ من دونه ولي أو شفيع؛ بل أمرنا بالإخلاص، وهو: أن لا يجعل له واسطة: فلا نستغيث، ولا نستعين إلا به; والدليل على ذلك، قوله تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} الآية [سورة الزمر آية: 3]، وقال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} الآية [سورة يونس آية: 18]، وقال تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} الآية [سورة الزمر آية: 44] .
القاعدة الثالثة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى أناس، منهم: من يعبد الأصنام الجمادات، والسحرة، والكهنة، والشياطين; ومنهم: من يعبد الملائكة، والصالحين; فلم يفرق بين الكل، بل قاتلهم جميعا، ولا فرق بينهم، إلى أن
كان الدين كله لله، والدليل على ذلك قوله تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} الآية [سورة الإسراء آية: 56"57] . وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} الآية [سورة سبأ آية: 40"41]، وقال تعالى:{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} [سورة يونس آية: 28] .
القاعدة الرابعة: أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابهم الضر لم يجعلوا لله واسطة، بل يدعونه وحده مخلصين له الدين، والدليل على ذلك قوله تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [سورة العنكبوت آية: 65]، وقوله تعالى:{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [سورة الروم آية: 33]، وقوله تعالى:{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} الآية [سورة لقمان آية: 32] . وصلى الله على محمد.
[التوجه لغير الله بالدعاء]
وله أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
اعلم رحمك الله: أن الحنيفية ملة إبراهيم، أن تعبد الله مخلصا له الدين، وبذلك أمر الله جميع الناس، وخلقهم لها، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] .
فإذا عرفت أن الله خلقك لعبادته فاعلم أن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة، إلا مع الطهارة; فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت، كالحدث إذا دخل في الطهارة، كما قال تعالى:{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [سورة التوبة آية: 17] .
فمن دعا غير الله، طالبا منه ما لا يقدر عليه إلا الله، من جلب خير، أو دفع ضر، فقد أشرك في عبادة الله، كما قال تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 5"6]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ
خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13"14] .
فأخبر تبارك وتعالى أن دعاء غير الله شرك، فمن قال: يا رسول الله! أو: يا عبد الله بن عباس: أو: يا عبد القادر، أو: يا محجوب! زاعما أنه يقضي حاجته إلى الله تعالى، أو أنه شفيعه عنده! أو وسيلته إليه، فهو الشرك الذي يهدر الدم، ويبيح المال، إلا أن يتوب من ذلك؛ وكذلك من ذبح لغير الله، أو نذر لغير الله، أو توكل على غير الله، أو رجا غير الله، أو التجأ إلى غير الله، أو استغاث بغير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهو أيضا شرك.
وما ذكرنا من أنواع الشرك فهو الذي قال الله فيه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [سورة النساء آية: 48] ، وهذا الذي قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي العرب، وأمرهم بإخلاص العبادة لله.
ويتضح بمعرفة أربع قواعد: أولها: أن تعلم أن الله هو: الخالق، الرازق، المحيي، المميت، الضار، النافع، المدبر لجميع الأمور; والدليل على ذلك قوله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31]، وقوله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ
وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84"89] .
إذا عرفت هذه القاعدة، وأنهم أقروا بهذا، ثم توجهوا إلى غير الله، فاعرف القاعدة الثانية، وهي: أنهم يقولون: ما توجهنا إليهم ودعوناهم، إلا لطلب الشفاعة عند الله، نريد من الله لا منهم، لكن بشفاعتهم; والدليل على ذلك قوله تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة يونس آية: 18] . وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] .
فإذا عرفت هذا، فاعرف القاعدة الثالثة، وهي: أن منهم من تبرأ من الأصنام، وتعلق بالصالحين، مثل عيسى، وأمه، والأولياء; قال الله فيمن اعتقد في عيسى وأمه:{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة المائدة آية: 75"76]، وقال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية
[سورة التوبة آية: 31] .
وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [سورة الإسراء آية: 57] . والرسول صلى الله عليه وسلم قاتل من عبد الأصنام، ومن عبد الصالحين، ولم يفرق بين أحد منهم، حتى كان الدين كله لله.
القاعدة الرابعة: وهي أن الأولين يخلصون لله في الشدائد، وينسون ما يشركون، كما قال تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [سورة العنكبوت آية: 65] . وأهل زماننا يخلصون الدعاء في الشدائد لغير الله؛ فإذا عرفت هذا، فاعرف أن شرك المشركين، الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخف من شرك أهل زماننا، لأن أولئك يخلصون لله في الشدائد، وهؤلاء يدعون مشائخهم في الشدة والرخاء; والله أعلم.
[رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى ابن عبيد وغيره يأمرهم بلإخلاص]
وله أيضا، قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الر حيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، خصوصا: محمد بن عبيد، وعبد القادر العديلي، وابنه، وعبد الله بن سحيم، وعبد الله بن عضيب، وحميدان بن تركي وعلي بن زامل، ومحمد أبا الخيل، وصالح بن عبد الله.
أما بعد: فإن الله تبارك وتعالى، أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلينا على حين فترة من الرسل، فهدى الله به إلى الدين الكامل، والشرع التام؛ وأعظم ذلك وأكبره، وزبدته، هو: إخلاص الدين، لله، بعبادته وحده لا شريك له، والنهي عن الشرك؛ وهو: أن لا يدعى أحد من دونه، من الملائكة، والنبيين، فضلا عن غيرهم; فمن ذلك: أن لا يسجد إلا لله، ولا يركع إلا له; ولا يدعى لكشف الضر إلا هو، ولا لجلب الخير إلا هو، ولا ينذر إلا له، ولا يحلف إلا به، ولا يذبح إلا له؛ وجميع العبادة لا تصلح إلا له وحده لا شريك له؛ وهذا معنى قول لا إله إلا الله ; فإن المألوه هو: المقصود، المعتمد عليه ; وهذا أمر هين عند من لا يعرفه، كبير عظيم عند من عرفه. فمن عرف هذه المسألة، عرف أن أكثر الخلق قد لعب بهم الشيطان، وزين لهم الشرك بالله، وأخرجه في قالب حب الصالحين وتعظيمهم.
والكلام في هذا: ينبني على قاعدتين عظيمتين: الأولى: أن تعرف أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفون الله، ويعظمونه، ويحجون، ويعتمرون; ويزعمون أنهم على دين إبراهيم الخليل; وأنهم يشهدون أنه لا يخلق، ويرزق ولا يدبر إلا الله وحده لا شريك له; كما قال تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} الآية [سورة يونس آية: 31] .
فإذا عرفت أن الكفار يشهدون بهذا كله، فاعرف
القاعدة الثانية وهي: أنهم يدعون الصالحين، مثل الملائكة، وعيسى، وعزير، وغيرهم; وكل من ينتسب إلى شيء من هؤلاء، سماه إلها; ولا يعني بذلك، أنه يخلق، أو يرزق; بل يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، ويقولون:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] . والإله في لغتهم، هو الذي يسمى في لغتنا: فيه السر; والذي يسمونه الفقراء: شيخهم; يعنون بذلك: أنه يدعى، وينفع، ويضر; وإلا فهم مقرون لله بالتفرد بالخلق، والرزق; وليس ذلك معنى الإله، بل الإله المقصود: المدعو، المرجو.
لكن المشركون في زماننا أضل من الكفار الذين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهين: أحدهما: أن الكفار إنما يدعون الأنبياء والملائكة في الرخاء; وأما في الشدائد، فيخلصون لله الدين، كما قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} الآية [سورة الإسراء آية: 67] . والثاني: أن مشركي زماننا، يدعون أناسا لا يوازنون عيسى والملائكة.
إذا عرفتم هذا، فلا يخفى عليكم ما ملأ الأرض من الشرك الأكبر، عبادة الأصنام، هذا يأتي إلى قبر نبي، وهذا إلى قبر صحابي، كالزبير، وطلحة، وهذا إلى قبر رجل صالح وهذا يدعوه في الضراء، وفي غيبته; وهذا ينذر له، وهذا يذبح للجن، وهذا يدخل عليه من مضرة الدنيا والآخرة، وهذا يسأله خير الدنيا، والآخرة.
فإن كنتم تعرفون أن هذا الشرك من جنس عبادة الأصنام الذي يخرج الرجل من الإسلام، وقد ملأ البر، والبحر، وشاع، وذاع، حتى إن كثيرا ممن يفعله يقوم الليل، ويصوم النهار، وينتسب إلى الصلاح، والعبادة"فما بالكم لم تفشوه في الناس؟ وتبينوا لهم أن هذا كفر بالله، مخرج عن الإسلام.
أرأيتم لو أن بعض الناس، أو أهل بلدة، تزوجوا أخواتهم، أو عماتهم، جهلا منهم، أفيحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتركهم؟ لا يعلمهم أن الله حرم الأخوات، والعمات؟ فإن كنتم تعتقدون أن نكاحهن أعظم مما يفعله الناس اليوم عند قبور الأولياء والصحابة، وفي غيبتهم عنها، فاعلموا أنكم لم تعرفوا دين الإسلام، ولا شهادة أن لا إله إلا الله، ودليل هذا مما تقدم من الآيات التي بينها الله في كتابه; وإن عرفتم ذلك، فكيف يحل لكم كتمان ذلك، والإعراض عنه؟ وقد {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [سورة آل عمران آية: 187] .
فإن كان الاستدلال بالقرآن عندكم هزوا وجهلا، كما هي عادتكم، ولا تقبلونه، فانظروا في: الإقناع، في باب حكم المرتد، وما ذكر فيه من الأمور الهائلة التي ذكر أن الإنسان إذا فعلها فقد ارتد، وحل دمه، مثل: الاعتقاد في الأنبياء والصالحين. وجعلهم: وسائط بينه وبين الله، ومثل الطيران في الهواء، والمشي في الماء، فإذا كان من
فعل هذه الأمور منكم، مثل: السائح الأعرج، ونحوه، تعتقدون صلاحه، وولايته; وقد صرح في الإقناع، بكفره; فاعلموا أنكم لم تعرفوا معنى شهادة: أن لا إله إلا الله.
فإن بان في كلامي هذا شيء من الغلو، من أن هذه الأفاعيل، لو كانت حراما فلا تخرج من الإسلام، وأن فعل أهل زماننا في الشدائد، في البر، والبحر، وعند قبور الأنبياء والصالحين ليس من هذه، بينوا لنا الصواب، وأرشدونا إليه.
وإن تبين لكم أن هذا هو الحق الذي لا ريب فيه، وأن الواجب إشاعته في الناس، وتعليمه النساء والرجال، فرحم الله من أدى الواجب عليه، وتاب إلى الله، وأقر على نفسه، فإن التائب عن الذنب كمن لا ذنب له; وعسى الله أن يهدينا وإياكم، وإخواننا، لما يحب ويرضى، والسلام.
وقال أيضا: رحمه الله تعالى، بعد كلام له:
وأما النوع الثاني: فهو الكلام في الشرك والتوحيد، وهو المصيبة العظمى، والداهية الصماء; والكلام على هذا النوع، والرد على هذا الجاهل: يحتمل مجلدا، وكلامه فيه، كما قال ابن القيم رحمه الله: إذا قرأه المؤمن تارة يبكي، وتارة يضحك!!.
ولكن أنبهك منه على كلمتين; الأولى: قوله: إنهما نسبا من قبلهما إلى الخروج من الإسلام، والشرك الأكبر أفيظن أن قوم موسى لما قالوا: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، خرجوا من الإسلام؟ أفيظن أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قالوا: اجعل لنا ذات أنواط فحلف لهم أن هذا مثل قول قوم موسى: اجعل لنا إلها، أنهم خرجوا من الإسلام؟ أيظن: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمعهم يحلفون بآبائهم فنهاهم وقال: " من حلف بغير الله فقد أشرك "1 أنهم خرجوا من الإسلام؟ إلى غير ذلك من الأدلة التي لا تحصر، فلم يفرق بين الشرك المخرج عن الملة، من غيره، ولم يفرق بين الجاهل والمعاند.
والكلمة الثانية: قوله: إن المشرك لا يقول: لا إله إلا الله، فيا عجبا من رجل يدعي العلم، وجاء من الشام بحمل كتب، فلما تكلم إذا أنه لا يعرف الإسلام من الكفر; ولا يعرف الفرق بين أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبين مسيلمة الكذاب.
أما علم أن مسيلمة يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويصلي ويصوم أما علم أن غلاة الرافضة الذين حرقهم علي رضي الله عنه يقولونها؟! وكذلك الذين يقذفون عائشة، ويكذبون القرآن; وكذلك الذين يزعمون أن جبرائيل غلط وغير هؤلاء، ممن أجمع أهل العلم على كفرهم; منهم من ينتسب إلى الإسلام،
1 الترمذي: النذور والأيمان (1535)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) ، وأحمد (2/34 ،2/86 ،2/125) .
ومنهم: من لا ينتسب إليه، كاليهود؛ وكلهم يقولون: لا إله إلا الله وهذا بين عند من له أقل معرفة بالإسلام، من أن يحتاج إلى تبيان.
وإذا كان المشركون لا يقولونها، فما معنى: باب حكم المرتد الذي ذكر الفقهاء من كل مذهب؟ هل الذين ذكرهم الفقهاء، وجعلوهم مرتدين، لا يقولونها؟ هل الذي ذكر أهل العلم أنه أكفر من اليهود، والنصارى وقال بعضهم: من شك في كفر أتباعه، فهو كافر; وذكرهم في الإقناع في: باب حكم المرتد; وإمامهم: ابن عربي، أيظنهم لا يقولون: لا إله إلا الله؟! لكن هو أتى من الشام، وهم يعبدون ابن عربي، جاعلين على قبره صنما يعبدونه، ولست أعني أهل الشام كلهم، حاشا وكلا; بل لا تزال طائفة على الحق، وإن قلّت، واغتربت.
لكن العجب العجاب، استدلاله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى قول: لا إله إلا الله ولم يطالبهم بمعناها، وكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحوا بلاد الأعاجم، وقنعوا منهم بلفظها، إلى آخر كلامه. فهل يقول هذا الكلام من يتصور ما يقول؟ !.
فنقول، أولا: هو الذي نقض كلامه وكذبه، بقوله دعاهم إلى ترك عباده الأوثان، فإذا كان لم يقنع منهم إلا بترك عبادة الأوثان، تبين أن النطق بها لا ينفع إلا بالعمل بمقتضاها، وهو: ترك الشرك، وهذا هو المطلوب; ونحن
إنما نهينا عن الأوثان المجعولة على قبر الزبير، وطلحة، وغيرهما، في الشام، وغيره.
فإن قلتم: ليس هذا من الأوثان، وإن دعاء أهل القبور، والاستغاثة بهم في الشدائد، ليست من الشرك، مع كون المشركين الذين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلصون لله في الشدائد، ولا يدعون أوثانهم، فهذا كفر; وبيننا وبينكم كلام العلماء، من الأولين، والآخرين، الحنابلة وغيرهم.
وإن أقررتم أن ذلك كفر وشرك، وتبين أن قول: لا إله إلا الله، لا ينفع إلا مع ترك الشرك، فهذا هو المطلوب، وهو الذي نقول، وهو الذي أكثرتم النكير فيه، وزعمتم أنه لا يخرج إلا من خراسان; وهذا القول، كما في أمثال العامة: لا وجه سمح، ولا بنت رجال; لا أقول صواب، بل خطأ ظاهر، وسب لدين الله; وهو أيضا متناقض، يكذب بعضه بعضا، لا يصدر إلا ممن هو أجهل الناس.
وأما دعواه: أن الصحابة لم يطلبوا من الأعاجم إلا مجرد هذه الكلمة، ولم يعرفوهم بمعناها، فهذا قول من لا يفرق بين دين المرسلين، ودين المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار; فإن المؤمنين يقولونها، والمنافقين يقولونها، لكن المؤمنون: يقولونها، مع معرفة قلوبهم بمعناها، وعمل جوارحهم بمقتضاها، والمنافقون يقولونها من غير فهم لمعناها ولا عمل بمقتضاها; فمن أعظم المصائب وأكبر الجهل من لا يعرف الفرق بين
الصحابة والمنافقين. لكن هذا لا يعرف النفاق، ولا يظنه في أهل زماننا، بل يظنه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأما زمانه فصلح بعد ذلك! وإذا كان زمانه وبلدانه ينزهون عن البدع، ومخرجها من أهل خراسان، فكيف بالشرك والنفاق؟! ويا ويح هذا القائل، ما أجرأه على الله! وما أجهله بقدر الصحابة وعلمهم! حيث ظن أنهم لا يعلمون الناس معنى لا إله إلا الله.
أما علم هذا الجاهل أنهم يستدلون بها على مسائل الفقه، فضلا عن مسائل الشرك; ففي الصحيحين:"أن عمر رضي الله عنه لما أشكل عليه قتال مانعي الزكاة، لأجل قوله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها "1 قال أبو بكر: فإن الزكاة من حقها"; فإذا كان منع الزكاة من منع حق: لا إله إلا الله، فكيف بعبادة القبور؟ والذبح للجن؟ ودعاء الأولياء وغيرهم، مما هو دين المشركين؟!.
وصرح الشيخ تقي الدين في: اقتضاء الصراط المستقيم، بأن من ذبح للجن، فالذبيحة حرام من جهتين: من جهة: أنها مما أهل لغير الله به; ومن جهة: أنها ذبيحة مرتد، فهي: كخنزير مات من غير ذكاة; ويقول: ولو سمى الله عند ذبحها، إذا كانت نيته ذبحها للجن، ورد على من قال: إنه إن ذكر اسم الله حل الأكل منها مع
1 الترمذي: تفسير القرآن (3341) ، وأحمد (3/300 ،3/332 ،3/394) .
التحريم.
وأما ما سألت عنه، من قوله: اللهم صل على محمد إلى آخره فهذه المحامل التي ذكر غير بعيدة، لو كان الإنكار على الرجل الميت الذي صنفها; والإنكار إنما هو على الخطباء والعامة الذين يسمعون; فإن كان يزعم أن عامة أهل هذه القرى، كل رجل منهم يفهم هذا التأويل، فهذا مكابرة; وإن كان يعرف أنهم ما قصدوا إلا المعاني التي لا تصلح إلا لله، لم يمنع من الإنكار عليهم، ولو تبين أنه شرك لكون الذي قالها أولا، قصد معنى صحيحا.
كما لو أن رجلا من أهل العلم كتب إلى عامية أن نكاح الأخوات حلال ففهموا منه ظاهره، وجعلوا يتزوجون أخواتهم، خاصتهم وعامتهم لم يمنع من الإنكار عليهم، ولو تبين أن الله حرم نكاح الأخوات، لكون القائل أراد الأخوات في الدين، كما قال إبراهيم" عليه السلام" لسارة: هي أختي; وهذا واضح بحمد الله، ولكن من انفتح له تحريف الكلم عن مواضعه، انفتح له باب طويل عريض.
[رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى علماء الإسلام في الفتنة بالقبور]
وله أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
من محمد بن عبد الوهاب: إلى من يصل إليه من علماء الإسلام، أنس الله بهم غربة الدين، وأحيا بهم سنة إمام المتقين، ورسول رب العالمين، سلام عليكم معشر الإخوان، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإنه قد جرى عندنا فتنة عظيمة، بسبب أشياء نهيت عنها بعض العوام، من العادات التي نشؤوا عليها، وأخذها الصغير عن الكبير; مثل: عبادة غير الله، وتوابع ذلك، من تعظيم المشاهد، وبناء القباب على القبور، وعبادتها، واتخاذها مساجد، وغير ذلك، مما بينه الله ورسوله غاية البيان، وأقام الحجة، وقطع المعذرة; ولكن الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم:" بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ "1.
فلما عظم العوام قطع عاداتهم; وساعدهم على إنكار دين الله بعض من يدعي العلم، وهو من أبعد الناس عنه" إذ العالم من يخشى الله" فأرضى الناس بسخط الله; وفتح للعوام باب الشرك بالله، وزين لهم، وصدهم عن إخلاص الدين لله; وأوهمهم أنه من تنقيص الأنبياء والصالحين; وهذا بعينه هو الذي جرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر أن عيسى عليه السلام عبد مربوب ليس له من الأمر شيء،
1 مسلم: الإيمان (145)، وابن ماجه: الفتن (3986) ، وأحمد (2/389) .
قالت النصارى: إنه سب المسيح وأمه; وهكذا قالت الرافضة لمن عرف حقوق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبهم، ولم يغل فيهم، رموه ببغض أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهكذا هؤلاء، لما ذكرت لهم ما ذكره الله ورسوله، وما ذكره أهل العلم من جميع الطوائف، من الأمر بإخلاص الدين لله، والنهي عن مشابهة أهل الكتاب من قبلنا، في اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله; قالوا لنا: تنقصتم الأنبياء والصالحين والأولياء; والله تعالى ناصر لدينه، ولو كره المشركون.
وها أنا أذكر مستندي في ذلك، من كلام أهل العلم من جميع الطوائف، فرحم الله من تدبرها بعين البصيرة، ثم نصر الله ورسوله، وكتابه ودينه; ولم تأخذه في ذلك لومة لائم.
فأما كلام الحنابلة: فقال الشيخ تقي الدين، رحمه الله، لما ذكر حديث الخوارج: فإذا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ممن قد انتسب إلى الإسلام، من مرق منه، مع عبادته العظيمة، فيعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة، قد يمرق أيضا; وذلك بأمور، منها: الغلو الذي ذمه الله تعالى كالغلو في بعض المشائخ، كالشيخ عدي، بل الغلو في علي ابن أبي طالب، بل الغلو في المسيح، ونحوه.
فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله، بأن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أجرني; أو أنت حسبي أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك، وضلال، يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل; فإن الله أرسل الرسل ليعبد وحده، لا يجعل معه إله آخر، والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى، مثل الملائكة، أو المسيح، أو العزير، أو الصالحين، أو غيرهم، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق وترزق; وإنما كانوا يدعونهم، يقولون:{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، فبعث الله الرسل تنهى أن يدعى أحد من دون الله، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة، انتهى.
وقال في الإقناع، في أول باب حكم المرتد: إن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، فهو كافر إجماعا.
وأما كلام الحنفية: فقال الشيخ قاسم في شرح: درر البحار: النذر الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء، قائلا: يا سيدي، إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي، فلك من الذهب، أو الطعام، أو الشمع، كذا وكذا، باطل إجماعا، لوجوه; منها: أن النذر للمخلوق، لا يجوز، ومنها: أنه ظن الميت يتصرف في الأمر، واعتقاد هذا كفر; إلى أن قال: وقد ابتلي الناس بذلك، ولا سيما في مولد الشيخ أحمد البدوي.
وقال الإمام البزازي في فتاويه: إذا رأى رقص صوفية زماننا هذا في المساجد، مختلطا بهم جهال العوام الذين لا يعرفون القرآن، والحلال والحرام، بل لا يعرفون الإسلام والإيمان، لهم نهيق يشبه نهيق الحمير، يقول: هؤلاء لا محالة: اتخذوا دينهم لهوا ولعبا. فويل للقضاة والحكام، حيث لا يغيرون هذا مع قدرتهم.
وأما كلام الشافعية: فقال الإمام محدث الشام: أبو شامة، في كتاب: الباعث على إنكار البدع والحوادث" وهو في زمن الشارح، وابن حمدان:" لكن نبين من هذا ما وقع فيه جماعة من جهال العوام، النابذين لشريعة الإسلام، وهو ما يفعله الطوائف من المنتسبين إلى الفقر الذي حقيقته الافتقار من الإيمان، من مواخاة، النساء الأجانب، واعتقادهم في مشائخ لهم.
وأطال رحمه الله الكلام، إلى أن قال: وبهذه الطرق، وأمثالها كان مباديء ظهور الكفر من عبادة الأصنام، وغيرها، ومن هذا ما قد عم الابتلاء به، من تزيين الشيطان للعامة، تخليق الحيطان والعمد، وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد، يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح، ثم يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهي ما بين عيون، وشجر، وحائط; وفي مدينة دمشق، صانها الله من ذلك، مواضع متعددة.
ثم ذكر" رحمه الله" الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قاله له بعض من معه: " اجعل لنا ذات أنواط، قال: الله أكبر، قلتم والذي نفس محمد بيده، كما قال قوم موسى {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} " 1 انتهى كلامه ورحمه الله.
وقال في اقتضاء الصراط المستقيم: إذا كان هذا كلامه صلى الله عليه وسلم في مجرد قصد شجرة لتعليق الأسلحة، والعكوف عندها، فكيف بما هو أعظم منها: الشرك بعينه بالقبور ونحوها.
وأما كلام المالكية: فقال أبو بكر الطرطوشي في كتاب الحوادث والبدع، لما ذكر حديث الشجرة ذات أنواط: فانظروا رحمكم الله، أينما وجدتم سدرة أو شجرة، يقصدها الناس، ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء لمرضاهم من قبلها، فهي ذات أنواط، فاقطعوها; وذكر حديث العرباض بن سارية الصحيح، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:" فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة "2.
قال في البخاري، عن أبي الدرداء أنه قال:(والله ما أعرف من أمر محمد شيئا، إلا أنهم يصلون جميعا) . وروى: مالك، في الموطأ، عن بعض الصحابة، أنه قال: (ما أعرف
1 الترمذي: الفتن (2180) ، وأحمد (5/218) .
2 الترمذي: العلم (2676)، وأبو داود: السنة (4607)، وابن ماجه: المقدمة (42) ، وأحمد (4/126)، والدارمي: المقدمة (95) .
شيئا مما أدركت عليه الناس، إلا النداء بالصلاة) . قال الزهري: دخلت على أنس بدمشق وهو يبكي
…
فقال: (ما أعرف شيئا مما أدركت، إلا هذه الصلاة; وهذه الصلاة، قد ضيعت) ; قال الطرطوشي" رحمه الله:" فانظروا رحمكم الله إذا كان في ذلك الزمن طمس الحق، وظهر الباطل، حتى ما يعرف من الأمر القديم إلا القبلة; فما ظنك بزمانك هذا؟! والله المستعان.
وليعلم الواقف على هذا الكلام من أهل العلم" أعزهم الله" أن الكلام في مسألتين: الأولى: أن الله سبحانه بعث محمدا صلى الله عليه وسلم لإخلاص الدين لله، لا يجعل معه أحد في العبادة والتأله، لا ملك، ولا نبي، ولا قبر، ولا حجر، ولا شجر، ولا غير ذلك; وأن من عظم الصالحين بالشرك بالله، فهو يشبه النصارى; وعيسى عليه السلام بريء منهم.
والثانية: وجوب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك البدع، وإن اشتهرت بين أكثر العوام، وليعلم أن العوام محتاجون إلى كلام أهل العلم من تحقيق هذه المسائل، ونقل كلام العلماء; فرحم الله من نصر الله ورسوله ودينه، ولم تأخذه في الله لومة لائم، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
[إخلاص الدين واتباع السنة]
وله أيضا: رحمه الله تعالى، وعفا عنه:
بسم الله الرحمن الر حيم
إلى من يصل إليه من المسلمين، هدانا الله وإياهم لدينه القويم، وسلوك صراطه المستقيم، ورزقنا وإياهم ملة الخليلين: محمد، وإبراهيم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39]، وقال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103]، وقال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} [سورة الشورى آية: 13] إلى قوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} الآية [سورة الشورى آية: 13] . فيجب على كل إنسان يخاف الله والنار أن يتأمل كلام ربه الذي خلقه، هل يحصل لأحد من الناس أن يدين الله بغير دين النبي صلى الله عليه وسلم؟ لقوله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الآية [سورة النساء آية: 115] . ودين النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد; وهو معرفة: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والعمل بمقتضاهما.
فإن قيل: كل الناس يقولونها، قيل: منهم من يقولها ويحسب معناها، أنه لا يخلق إلا الله، ولا يرزق إلا الله، وأشباه ذلك; ومنهم من لا يفهم معناها ومنهم من لا يعمل بمقتضاها; ومنهم: من لا يعقل حقيقتها; وأعجب من ذلك: من عرفها من وجه، وعاداها وأهلها من وجه; وأعجب منه: من أحبها وانتسب إلى أهلها، ولم يفرق بين أوليائها. وأعدائها; يا سبحان الله العظيم! تكون طائفتان مختلفتين في دين واحد، وكلهم على الحق! كلا والله {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [سورة يونس آية: 32] .
فإذا قيل: التوحيد زين، والدين حق، إلا التكفير والقتال; قيل: اعملوا بالتوحيد ودين الرسول، ويرتفع حكم التكفير، والقتال; فإن كان حق التوحيد الإقرار به، والإعراض عن أحكامه، فضلا عن بغضه ومعاداته، فهذا والله عين الكفر وصريحه; فمن أشكل عليه من ذلك شيء فليطالع سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه; والسلام عائد عليكم، كما بدا، ورحمة الله وبركاته.
[رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى عيسى في قبوله كتب أهل الباطل]
وله أيضا: رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى: عبد الوهاب بن عبد الله بن عيسى، سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فنحمد إليكم الله، الذي لا إله إلا هو؛ وأبلغوا الوالد السلام، وفي نفسي عليه بعض الشيء من جهة هذه المكاتيب، لما حبسها عنا ظننا فيه الظن الجميل، ثم بعد ذلك سمعنا أنه أعطاها بعض السفهاء، يقرؤونها على الناس; وأنا أعتقد فيه المحبة; واعتقد أيضا أن له غاية وعقلا; وهو صاحب إحسان علينا، فلا أود يعقبه بالأذى، ويكدر هذه المحبة بلا منفعة في العاجل والآجل.
وذكر أيضا عنه كلام يشوش الخاطر؛ فإن كان يرى أن هذا ديانة، ويعتقده من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأنا ولله الحمد لم آت الذي أتيت بجهالة، وأشهد الله وملائكته إن أتاني منه، أو ممن دونه في هذا الأمر كلمة من الحق، لأقبلنها على الرأس والعين، وأترك قول كل إمام اقتديت به، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يفارق
الحق; فإن كانت مكاتيب أولياء الشيطان، وزخرفة كلامهم، الذي أوحى إليهم" ليجادل في دين الله، لما رأى أن الله يريد أن يظهر دينه" غرته وأصغت إليها أفئدتكم، فاذكروا لي حجة، مما فيها أو كلها، أو في غيرها من الكتب، مما تقدرون عليه أنتم ومن وافقكم، فإن لم أجاوبه عنها بجواب فاصل بين، يعلم كل من هداه الله أنه الحق، وأن تلك هي الباطل، فأنكروا علي.
وكذلك: عندي من الحجج الكثيرة الواضحة، ما لا تقدرون أنتم ولا هم أن تجيبوا عن حجة واحدة منها، وكيف لكم بملاقاة جند الله ورسوله؟ وإن كنتم تزعمون: أن أهل العلم على خلاف ما أنا عليه، فهذه كتبهم موجودة، ومن أشهرهم وأغلظهم كلاما: الإمام أحمد، وكلهم على هذا الأمر، لم يشذ منهم رجل واحد ولله الحمد، ولم يأت منهم كلمة واحدة أنهم أرخصوا لمن لم يعرف الكتاب والسنة في أمركم هذا، فضلا عن أن يوجبوه.
وإن زعمتم: أن المتأخرين معكم، فهؤلاء سادات المتأخرين وقادتهم: ابن تيمية، وابن القيم، وابن رجب، عندنا له مصنف مستقل في هذا; ومن الشافعية الذهبي، وابن كثير، وغيرهم; وكلامهم في إنكار هذا أكثر من أن يحصر; وبعض كلام الإمام أحمد ذكره ابن القيم رحمه الله في الطرق الحكمية، فراجعه. ومن أدلة شيخ
الإسلام: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة التوبة آية: 31] ، فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة بعده بهذا الذي تسمونه الفقه، وهو الذي سماه الله شركا واتخاذهم أربابا، لا أعلم بين المفسرين في ذلك اختلافا.
والحاصل: أن من رزقه الله العلم، يعرف أن هذه المكاتيب التي أتتكم، وفرحتم بها، وقرأتموها على العامة، من عند هؤلاء الذين تظنون أنهم علماء، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [سورة الأنعام آية: 112]، إلى قوله:{وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [سورة الأنعام آية: 113]، لكن هذه الآيات ونحوها عندكم من العلوم المهجورة; بل أعجب من هذا: أنكم لا تفهمون شهادة: أن لا إله إلا الله، ولا تنكرون هذه الأوثان، التي تعبد في الخرج، وغيره، التي هي الشرك الأكبر، بإجماع أهل العلم، وأنا لا أقول هذا وحدي 1.
[رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى نغميش في اتباع الدين]
وله أيضا: رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى: نغيمش، وجميع الإخوان; سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته. وبعد: إن
1 آخر ما وجد.
سألتم عنا، فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، ونخبركم أنا بخير وعافية، أتمها الله علينا وعليكم في الدنيا والآخرة; وسرنا والحمد لله ما بلغنا عنكم من الأخبار، من الاجتماع على الحق، والاتباع لدين محمد صلى الله عليه وسلم؛ وهذا هو أعظم النعم المجموع لصاحبه بين خيري الدنيا والآخرة، عسى الله أن يوفقنا وإياكم لذلك، ويرزقنا الثبات عليه.
ولكن، يا إخواني: لا تنسوا قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [سورة الفرقان آية: 20]، وقوله:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [سورة العنكبوت آية: 2"3] .
فإذا تحققتم أن من اتبع هذا الدين، لا بد له من الفتنة; فاصبروا قليلا، ثم أبشروا عن قليل، بخير الدنيا والآخرة، واذكروا قول الله تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [سورة غافر آية: 51]، وقوله:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِين َإِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [سورة الصافات آية: 171"173] ، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [سورة المجادلة آية: 20"21] .
فإن رزقكم الله الصبر على هذا، وصرتم من الغرباء الذين تمسكوا بدين الله مع ترك الناس إياه، فطوبى ثم طوبى، إن كنتم ممن قال فيه نبيكم صلى الله عليه وسلم:" بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء قيل يا رسول الله، من الغرباء؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس "1. فيا لها من نعمة! ويا لها من عظيمة! جعلنا الله وإياكم من أتباع الرسول، وحشرنا تحت لوائه، وأوردنا حوضه، الذي يرده من تمسك بدينه في الدنيا; ثم أنتم في أمان الله وحفظه، والسلام.
[رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى أحمد بن يحيى وذكره مخالفيه]
وله أيضا: رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
من محمد بن عبد الوهاب، إلى أحمد بن يحيى، سلام عليكم، ورحمة الله، وبركاته.
وبعد: ما ذكرت من قبل مراسلة سليمان، فلا ينبغي أنها تغضبك، أولا: أنه لو خالف، فمثلك يحلم ; ولا يأتي بغايته هذا، ولا أكثر منه; وثانيا: أنك إذا عرفت أن كلامه ما له فيه قصد، إلا الجهد في الدين، ولو صار مخطئا فالأعمال بالنيات; والذي هذا مقصده يغتفر له، ولو جهل عليك، ونحن: ملزمون عليك لزمة جيدة; وربك ونبيك ودينك لزمتهم لزمة تتلاشى فيها كل لزمة; وهذه الفتنة الواقعة
1 مسلم: الإيمان (145)، وابن ماجه: الفتن (3986) ، وأحمد (2/389) .
ليست في مسائل الفروع التي ما زال أهل العلم يختلفون فيها من غير نكير، ولكن هذه في شهادة أن لا إله إلا الله، والكفر بالطاغوت.
ولا يخفاك أن الذي عادانا في هذا الأمر هم الخاصة، ليسوا بالعامة; هذا ابن إسماعيل، والمويس، وابن عبيد، جاءتنا كتبهم في إنكار دين الإسلام الذي حكى في الإقناع، في باب حكم المرتد الإجماع من كل المذاهب، أن من لم يدن به فهو كافر; وكاتبناهم، ونقلنا لهم العبارات، وخاطبناهم بالتي هي أحسن، وما زادهم ذلك إلا نفورا. وزعموا أن أهل العارض، ارتدوا لما عرفوا شيئا من التوحيد! وأنت تفهم أن هذا لا يسعك، الاكتفاء بغيرك فيه، فالواجب عليك نصر أخيك، ظالما أو مظلوما.
وإن تفضل الله عليك بفهم ومعرفة، فلا تعذر لا عند الله ولا عند خلقه، من الدخول في هذا الأمر; فإن كان الصواب معنا، فالواجب عليك الدعوة إلى الله، وعداوة من صرح بسب دين الله ورسوله ; وإن كان الصواب معهم، أو معنا شيء من الحق وشيء من الباطل أو معنا غلو في بعض الأمور، فالواجب منك مذاكرتنا ونصيحتنا، وترينا عبارات أهل العلم، لعل الله أن يردنا بك إلى الحق; وإن كان إذا حررت المسألة، إذا أنها من مسائل الاختلاف، وأن فيها خلافا عند الحنفية، أو الشافعية، أو المالكية، فتلك مسألة أخرى.
وبالجملة: فالأمر عظيم، ولا نعذرك من تأمل كلامنا وكلامهم، ثم تعرضه على كلام أهل العلم، ثم تبين في الدعوة إلى الحق، وعداوة من حاد الله ورسوله، منا أو من غيرنا، والسلام.
[ما يجب علينا من معرفة الله]
وسئل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى.
قال السائل: ما يقول الشيخ، شرح الله له صدره، ويسر له أمره، في مسائل أشكلت علي، فيما يجب علينا من معرفة الله، إذا كان موجب الإلهية الربوبية، وأراك قليل التعريج عليها، عند تقرير الإلهية؟
ويشكل علي أيضا: كون مشركي العرب، أقروا به; هل يكون من غير معرفة لوضوحه؟ أم توغلوا في التقليد، ولم يلتفتوا للحقيقة الموجبة للعبادة؟ أم زعمهم: أن هذا شيء يرضاه الرب؟ أم كيف الحال؟
أيضا: كلمة التوحيد، كونها محتوية على جميع الدين، من إنزال الكتب، وإرسال الرسل، وأنها نافية جميع المقصودات المسماة بالآلهة الباطلة، إذ حدها القصد، فتسمى بذلك من غير استحقاق، لأنها مخلوقة مربوبة مقهورة، والواحد في القصد هو الواحد في الخلق; وإن تكلم الناس في معناها وعملها، وأن ألفاظها مجردة من غير معرفة لا يفيد شيئا، لكن نظرت في حديث الشفاعة الكبرى،
عند قوله سبحانه: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [سورة الإسراء آية: 79] ، وإخراجه العصاة من أمته بإذن ربه، حتى قال:"أذن لي فيمن قال لا إله إلا الله"1 هذا مشكل علي جدا، وقاصر فهمي عن معرفته، إذا كان كلمة التوحيد هي الغاية، وتقييدها بالمعرفة مع العمل، وإخراجه صلى الله عليه وسلم من كان في قلبه أدنى مثقال حبة خردل من إيمان; فأنت" جزاك الله خيرا" بين لي معنى هذا الكلام، لا أضل ولا أضل.
وأخبرك: أني غافل عن الفهم في الربوبية، ما فهمي بجيد في الإلهية، فحين بان لي شيء من معرفتها، واتضح لي بعض المعرفة في الإلهية بضرب المثل: إن فيصل ما استعبد لعريعر إلا لأجل كبر ملك عريعر، مع أنه قبيل له، وأظن غالب الناس كذلك، وفيهم من لا يرى الربوبية، ولا يعتبرها، أو يتهاون بها، وهذا تسمعه من بعضهم، فجزاك الله خيرا، صرح بالجواب.
فأجاب:
بسم الله الرحمن الر حيم، إلى الأخ، حسن، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
سرني ما ذكرت من الإشكال، وانصرافك إلى الفكرة في توحيد الربوبية، ولا يخفاك أن التفصيل يحتاج إلى أطول، ولكن ما لا يدرك كله، لا يترك كله. فأما توحيد الربوبية، فهو: الأصل، ولا يغلط في الإلهية إلا من لم يعطه حقه، كما قال تعالى فيمن أقر بمسألة منه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى
1 البخاري: التوحيد (7510) .
يُؤْفَكُونَ} [سورة الزخرف آية: 87] .
ومما يوضح لك الأمر أن التوكل من نتائجه، والتوكل من أعلى مقامات الدين، ودرجات المؤمنين; وقد تصدر الإنابة والتوكل من عابد الوثن بسبب معرفته بالربوبية، كما قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} الآية [سورة الزمر آية: 8] ؛ وأما عبادته سبحانه بالإخلاص دائما، في الشدة والرخاء، فلا يعرفونها، وهي نتيجة الإلهية، وكذلك الإيمان بالله واليوم الآخر، والإيمان بالكتب، والرسل وغير ذلك; وأما الصبر والرضى، والتسليم والتوكل، والإنابة، والتفويض، والمحبة، والخوف، والرجاء، فمن نتائج توحيد الربوبية، وكذلك توحيد الإلهية، هو أشهر نتائج توحيد الربوبية; وهذا وأمثاله لا يعرف إلا بالتفكر، لا بالمطالعة، وفهم العبارة.
وأما الفرق بينهما: فإن أفرد أحدهما مثل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [سورة فصلت آية: 30] ، فهو توحيد الإلهية، وكذلك إذا أفرد توحيد الإلهية، مثل قوله:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد آية: 19] ، وأمثال ذلك; فإن قرن بينهما، فسرت كل لفظة بأشهر معانيها، كالفقير، والمسكين. وأما ما ذكرت من أهل الجاهلية: كيف لم يعرفوا الإلهية إذا أقروا بالربوبية؟ هل هو كذا؟ أو كذا؟ أو غير ذلك؟ فهو لمجموع ما ذكرت، وغيره.
وأعجب من ذلك: ما رأيت، وسمعت، ممن يدعى أنه أعلم الناس، ويفسر القرآن ويشرح الحديث بمجلدات، ثم
يشرح البردة، ويستحسنها، ويذكر في تفسيره وشرحه للحديث أنه شرك! ويموت ما عرف ما خرج من رأسه! هذا هو العجب العجاب، أعجب بكثير من ناس لا كتاب لهم، ولا يعرفون جنة، ولا نارا، ولا رسولا، ولا إلها; وأما كون لا إله إلا الله، تجمع الدين كله، وإخراج من قالها من النار، إذا كان في قلبه أدنى مثقال ذرة، فلا إشكال في ذلك.
وسر المسألة أن الإيمان يتجزأ، ولا يلزم إذا ذهب بعضه أن يذهب كله، بل هذا مذهب الخوارج، فالذي يقول: الأعمال كلها من لا إله إلا الله، فقوله الحق; والذي يقول: يخرج من النار من قالها، وفي قلبه من الإيمان مثقال ذرة، فقوله الحق؛ السبب مما ذكرت لك، من التجزي; وبسبب الغفلة عن التجزي، غلط أبو حنيفة، وأصحابه في زعمهم، أن الأعمال ليست من الإيمان، والسلام.
[التوحيد ثلاثة أصول]
وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه.
بسم الله الرحمن الر حيم،، وبه نستعين. الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد: فاعلم رحمك الله، أن الله تعالى خلق الخلق ليعبدوه، ولا يشركوا به شيئا، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] والعبادة هي:
التوحيد، لأن الخصومة بين الأنبياء والأمم فيه، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] .
التوحيد: ثلاثة أصول، توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الذات والأسماء والصفات.
الأصل الأول: توحيد الربوبية، وهو: الذي أقر به المشركون في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أدخلهم في الإسلام، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستحل دماءهم وأموالهم، وهو: توحيد الله بفعله، والدليل عليه، قوله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31]، وقوله:{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ? قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84"89] ، والآيات على هذا كثيرة جدا، أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر.
والأصل الثاني: وهو توحيد الألوهية، فهو الذي وقع فيه النزاع في قديم الدهر وحديثه، وهو: توحيد الله بأفعال العباد، كالدعاء، والرجاء، والخوف، والخشية، والاستعانة، والاستعاذة، والمحبة، والإنابة، والنذر،
والذبح، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والتذلل، والتعظيم; فدليل الدعاء، قوله تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية [سورة غافر آية: 60] ، وكل نوع من هذه الأنواع، عليه دليل من القرآن.
وأصل العبادة تجريد الإخلاص لله تعالى وحده، وتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18]، وقوله تعالى:{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [سورة الأعراف آية: 158]، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] ، وقوله تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [سورة الرعد آية: 14] إلى قوله: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [سورة الرعد آية: 14]، وقوله:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} الآية [سورة الحج آية: 62]، وقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، [سورة الحشر آية: 7] ، وقوله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 31] .
الأصل الثالث: وهو توحيد الذات والأسماء والصفات كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 1"4]، وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ
يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأعراف آية: 180]، وقال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] .
واعلم: أن ضد التوحيد الشرك، وهو ثلاثة أنواع شرك أكبر; وشرك أصغر; وشرك خفي.
والدليل على الشرك الأكبر، قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [سورة النساء آية: 116]، وقوله تعالى:{وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72] .
وهو: أربعة أنواع.
النوع الأول: شرك الدعوة، والدليل عليه، قوله تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [سورة العنكبوت آية: 65"66] .
النوع الثاني: شرك النية، وهي: الإرادة والقصد; والدليل عليه، قوله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة هود آية: 15"16] .
النوع الثالث: شرك الطاعة، والدليل عليه قوله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 31] ، وتفسيرها الذي لا إشكال فيه، هو طاعة العلماء والعباد، في معصية الله سبحانه، لا دعاؤهم إياهم، كما فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم، لما سأله فقال لسنا نعبدهم فذكر له أن عبادتهم طاعتهم في المعصية.
النوع الرابع: شرك المحبة، والدليل عليه قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [سورة البقرة آية: 165] إلى قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [سورة البقرة آية: 167] .
والنوع الثاني: شرك أصغر، وهو الرياء، والدليل عليه، قوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] .
والنوع الثالث: شرك خفي، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفاة السوداء في ظلمة الليل"1 وكفارته قوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم إن أعوذ بك أن أشرك بك شيئا وأنا أعلم، وأستغفرك من الذنب الذي لا أعلم ".
والكفر: كفران، كفر يخرج من الملة، وهو: خمسة أنواع.
1 أحمد (4/403) .
النوع الأول: كفر التكذيب، والدليل عليه، قوله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} [سورة العنكبوت آية: 68] .
النوع الثاني: كفر الاستكبار، والإباء، مع التصديق; والدليل عليه، قوله:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [سورة البقرة آية: 34] .
النوع الثالث: كفر الشك، وهو كفر الظن، والدليل عليه، قوله تعالى:{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} [سورة الكهف آية: 35"37] .
النوع الرابع: كفر الإعراض، والدليل عليه، قوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [سورة الأحقاف آية: 3] .
النوع الخامس: كفر النفاق، الدليل عليه، قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [سورة المنافقون آية: 3] . وكفر أصغر لا يخرج من الملة، وهو: كفر النعمة; والدليل عليه، قوله تعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ} الآية [سورة النحل آية: 112]، وقوله:{إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [سورة إبراهيم آية: 34] .
وأما النفاق، فهو: نوعان; نفاق اعتقادي، ونفاق عملي.
فأما الاعتقادي، فهو ستة أنواع: تكذيب الرسول، أو تكذيب بعض ما جاء به الرسول، أو بغض الرسول، أو بغض ما جاء به الرسول، أو المسرة بانخفاض دين الرسول، أو الكراهية لانتصار دين الرسول; فهذه الأنواع الستة، صاحبها من أهل الدرك الأسفل من النار; نعوذ بالله من الشقاق، والنفاق.
وأما النفاق العملي فهو خمسة أنواع; إذا حدث كذب; وإذا خاصم فجر; وإذا عاهد غدر; وإذا ائتمن خان; وإذا وعد أخلف; والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.
[أنواع التوحيد]
وسئل أيضا: رحمه الله تعالى، عن توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الصفات؟
فأجاب: توحيد الربوبية: هو الذي أقر به الكفار، كما في قوله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] .
وأما توحيد الألوهية، فهو: إخلاص العبادة لله وحده من
جميع الخلق، لأن الإله في كلام العرب، هو الذي يقصد للعبادة، وكانوا يقولون: إن الله هو إله الآلهة، لكن يجعلون معه آلهة أخرى، مثل الصالحين، والملائكة، وغيرهم; يقولون: إن الله يرضى هذا، ويشفعون لنا عنده.
فإذا عرفت هذا معرفة جيدة، تبين لك غربة الدين; وقد استدل عليهم سبحانه بإقرارهم بتوحيد الربوبية، على بطلان مذهبهم، لأنه إذا كان هو المدبر وحده، وجميع من سواه لا يملكون مثقال ذرة، فكيف يدعونه ويدعون معه غيره، مع إقرارهم بهذا.
وأما توحيد الصفات: فلا يستقيم توحيد الربوبية ولا توحيد الألوهية، إلا بالإقرار بالصفات، لكن الكفار أعقل ممن أنكر الصفات، والله أعلم.
وقال أيضا رحمه الله تعالى:
أصل الحنيفية: عبادة الله وحده لا شريك له، وتجنب الشرك، كما قال تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة النساء آية: 36]، ومغلظ الكفر: الكبر، والشرك; فإن كان الإنسان ما عبد الله، فهو مستكبر، مثل ما يقع من غالب البدو، من التهزى بالوضوء والصلاة; فإن كان عبد الله، وعبد معه غيره، فهو مشرك، مثل ما يقع من كثير من العباد، مثل النصارى وجنسهم، ولكن فيهم رقة.
فإذا عرفت هذا، وعرفت ما جرى من النبي صلى الله عليه وسلم من سد
الذرائع، مثل كونه نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، ونهى المصلي أن لا يصمد للسترة، وألا يستقبل النار، ونهى المأمومين عن القيام إذا صلى الإمام جالسا، وأمرهم بالجلوس وغير ذلك.
فإذا عرف الإنسان أنه أمر بالجلوس إذا جلس الإمام، والإخلال بالركن لأجل المشابهة لما يفعله الكفار لعظمائهم، ونظر لما يجري من الناس من التكبر، والقيام والخضوع، وغير ذلك، عرف نفسه، وعرف ربه، وما يجب له من الحقوق، لعله واقع في شيء من هذا.
وعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك شيئا ينفع أمته إلا أمرهم به، ولا شيئا يضرهم إلا نهاهم عنه، وكذلك كونه يعرف أن أصل الشرك الاعتقاد في الصالحين وغيرهم، وهو الذي فارق النبي صلى الله عليه وسلم قومه، وقاتلهم عنده.
وقال رحمه الله تعالى:
إذا أمر الله العبد بأمر، وجب عليه فيه سبع مراتب: الأولى: العلم به; الثانية: محبته; الثالثة: العزم على الفعل; الرابعة: العمل; الخامسة: كونه يقع على المشروع خالصا صوابا; السادسة: التحذير من فعل ما يحبطه; السابعة: الثبات عليه.
إذا عرف الإنسان أن الله أمر بالتوحيد، ونهى عن الشرك; أو عرف أن الله أحل البيع، وحرم الربا; أو
عرف أن الله حرم أكل مال اليتيم، وأحل لوليه أن يأكل بالمعروف إن كان فقيرا، وجب عليه أن يعلم المأمور به، ويسأل عنه إلى أن يعرفه، ويعلم المنهي عنه، ويسأل عنه إلى أن يعرفه.
واعتبر ذلك بالمسألة الأولى، وهي: مسألة التوحيد، والشرك.
أكثر الناس علم أن التوحيد حق، والشرك باطل، ولكن أعرض عنه ولم يسأل، وعرف أن الله حرم الربا، وباع واشترى ولم يسأل، وعرف تحريم أكل مال اليتيم، وجواز الأكل بالمعروف، ويتولى، مال اليتيم ولم يسأل.
المرتبة الثانية: محبة ما أنزل الله، وكفر من كرهه، لقوله:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [سورة محمد آية: 9] . فأكثر الناس لم يحب الرسول، بل أبغضه، وأبغض ما جاء به ولو عرف أن الله أنزله.
المرتبة الثالثة: العزم على الفعل; وكثير من الناس عرف وأحب، ولكن لم يعزم، خوفا من تغير دنياه.
المرتبة الرابعة: العمل، وكثير من الناس إذا عزم أو عمل وتبين عليه من يعظمه من شيوخ أو غيرهم"ترك العمل.
المرتبة الخامسة: أن كثيرا ممن عمل، لا يقع خالصا، فإن وقع خالصا، لم يقع صوابا.
المرتبة السادسة: أن الصالحين يخافون من حبوط
العمل، لقوله تعالى:{أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [سورة الحجرات آية: 2] ، وهذا من أقل الأشياء في زماننا.
المرتبة السابعة: الثبات على الحق، والخوف من سوء الخاتمة، لقوله صلى الله عليه وسلم:" إن منكم من يعمل بعمل أهل الجنة، ويختم له بعمل أهل النار "1، وهذه أيضا: من أعظم ما يخاف منه الصالحون; وهي قليل في زماننا، فالتفكر في حال الذي تعرف من الناس، في هذا وغيره، يدلك على شيء كثير تجهله، والله أعلم.
[مفهوم التوحيد الذي فرض الله على عباده]
وله أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
اعلم رحمك الله: أن التوحيد الذي فرض الله على عباده، قبل الصلاة والصوم، هو: توحيد عبادتك، فلا تدعو إلا الله وحده لا شريك له، لا تدعو النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره; كما قال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18]، وقال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] .
واعلم أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، صفة إشراكهم أنهم يدعون الله، ويدعون معه الأصنام، والصالحين، مثل عيسى، وأمه، والملائكة; يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله; وهم يقرون أن الله سبحانه، هو:
1 البخاري: القدر (6594)، ومسلم: القدر (2643)، والترمذي: القدر (2137)، وأبو داود: السنة (4708)، وابن ماجه: المقدمة (76) ، وأحمد (1/382 ،1/414 ،1/430) .
النافع، الضار، المدبر; كما ذكر الله عنهم في قوله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} الآية [سورة يونس آية: 31] .
فإذا عرفت هذا وعرفت أن دعاءهم الصالحين، وتعلقهم عليهم، أنهم يقولون: ما نريد إلا الشفاعة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتلهم ليخلصوا الدعاء لله، ويكون الدين كله لله; وعرفت أن هذا هو التوحيد، الذي أفرض من الصلاة والصوم، ويغفر الله لمن أتى به يوم القيامة، ولا يغفر لمن جهله ولو كان عابدا. وعرفت أن ذلك هو الشرك بالله، الذي لا يغفر الله لمن فعله، وهو عند الله أعظم من الزنى، وقتل النفس، مع أن صاحبه يريد به التقرب من الله.
ثم مع هذا عرفت أمرا آخر، وهو أن أكثر الناس" مع معرفة هذا الدين" يسمعون العلماء في سدير، والوشم، وغيرهم، إذا قالوا: نحن موحدون الله، نعرف ما ينفع ولا يضر إلا الله، وأن الصالحين لا ينفعون ولا يضرون، وعرفت أنهم لا يعرفون من التوحيد إلا توحيد الكفار، توحيد الربوبية، عرفت عظم نعمة الله عليك، خصوصا إذا تحققت أن الذي يواجه الله، ولا عرف التوحيد، أو عرفه ولم يعمل به، أنه خالد في النار، ولو كان من أعبد الناس، كما قال تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] . والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
وله أيضًا: تقريب الله التوحيد، بالعقل، والنقل والأئمة، والأدلة المصرفة.
فأما العقل: فكون الإنسان الذي في عقله أنك تلجأ إلى الحي، ولا تلجأ إلى الميت، وتطلب الحاضر، ولا تطلب الغائب، وتطلب الغني ولا تطلب الفقير; وأما النقل: ففي القرآن أكثر من أربعين مثلا; والأئمة مثل ما يعرف: أن الناس متعلقة قلوبهم باتباع العلماء، ويقال من أكبر الأئمة; ومعلوم أنه محمد، وإبراهيم، عليهما السلام.
فأما إبراهيم، فكما قال تعالى:{إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [سورة البقرة آية: 124] ، لما جعله الله إماما، معلوم أنه في التوحيد، وما جرى عليه من قومه، أوقدوا له نارا، إذا مر الطير من فوقها سقط فيها.
ومحمد صلى الله عليه وسلم فأي شيء هو مرسل به؟ دعوة الصالحين، هو مرسل بهدمها أو يقيمها؟ أو هو ساكت عنها؟ لا قال شينة، ولا زينة؟! ومعلوم أنه ما تفارق هو وقومه إلا عندها. وأما الأدلة المصرفة: فبحر لا ساحل له، كل ما رأيت فهو يدل على الوحدانية.
[أربع قواعد في حال المشركين ينبغي فهمهن]
وقال رحمه الله تعالى:
هذه: أربع قواعد، ينبغي لكل إنسان يتأملهن، ويفهمهن فهم قلب يفيض عملهن على الجوارح.
الأولى: الإنسان إذا مات على ما علم من ألفاظ الصلاة
فقط، هل معه دين يدخل به الجنة وينجيه من النار؟ أم لا؟
الثانية: هذه الحوادث عند المقامات ونحوها، هل هي توجد أو شيء منها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين، والقرون المثنى عليهم؟ أم لا؟
الثالثة: هذا الذي يفعلونه عندها، من القصد، والتوجه، من إجابة الدعوات، وقضاء الحاجات، وإغاثة اللهفات، هل هو الذي يفعله مشركو العرب قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم عند اللات، والعزى، ومناة، سواء بسواء؟ أم لا؟
الرابعة: من فعل هذا، وهو مسلم مؤمن، هل يكفر ويحبط إيمانه بذلك؟ أم لا؟ فإن أشكلت عليك الأولى، فانظر، إلى سؤال الملكين في القبر، وقوله: هاه، هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا، فقلته مثلهم; الثانية: إن قلت توجد، فعليك الإثبات; الثالثة: إن قلت القصد، غير القصد فعليك التفريق، بالأدلة الصحيحة، من كتاب أو سنة، أو إجماع الأمة; الرابعة: إن قلت، الإسلام: يحميه عن الكفر ولو فعل ما فعل، فطالع باب حكم المرتد، من الإقناع وغيره; والله أعلم.
[ما قاله الشيخ ابن عبد الوهاب في قوله لو أتيتني بقراب الأرض خطايا]
وقال رحمه الله تعالى:
ظهر لي في الحديث، في قوله:صلى الله عليه وسلم " لو أتيتني بقراب الأرض خطايا "1 إلخ، أن هذا فيه: تنبيه على جلالة التوحيد،
1 الترمذي: الدعوات (3540) .
وأن هذا من نوع التمثيل، كما ذكر في الشرك وكبره عند الله، في قوله تعالى في الأنبياء {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 88] ، لكون التوحيد يكفر الخطايا، كما أن الشرك يحبط الحسنات.
وقال أيضا، رحمه الله تعالى:
الواجب على كل عبد أن يعرف هذه المسائل:
المسألة الأولى: الرب الذي خلقنا ورزقنا لم يتركنا هملا لم يأمرنا، ولم ينهنا ; بل أرسل إلينا رسولا، من أطاعه فهو في الجنة، ومن عصاه فهو في النار، والدليل على ذلك قوله تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} [سورة المزمل آية: 15"16] .
المسألة الثانية: أن أعظم ما جاء به هذا الرسول من عند الله أن الله لا يرضى أن يشرك معه في عبادته أحد غيره، والدليل على ذلك، قوله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] .
المسألة الثالثة: أن من صدق الرسول، ووحد الله، ما يجوز له يواد من حاد الله ورسوله حتى يتوب من المحادة لله ورسوله، والدليل على ذلك، قوله تعالى. {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة المجادلة آية: 22] .
فمن لم يعرف ربه، بمعنى معبوده، ودينه ورسوله الذي أرسله الله إليه بدلائله في الدنيا، ولم يعمل به، سئل عنه في القبر فلم يعرفه; ومن لم يعرفه في القبر، ضربته الملائكة بمرزبة من حديد، لو اجتمع عليها الجن والإنس ما أطاقوا حملها.
ومن عرفه بدليله، وعمل به في الدنيا، ومات عليه، سئل في القبر فيجيب بالحق، فإنه ذكر في الحديث:" إن العبد المؤمن، أو الموقن، إذا وضع في قبره، سألته الملائكة عن ربه، وعن دينه، وعن نبيه; فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا، وصدقنا، واتبعنا، فيقال له: نم صالحا، قد علمنا أنك مؤمن "1. وأعظم البينات الذي جاء به الرسول: كتاب الله، كما قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة البقرة آية: 23] .
وأما المنافق والمرتاب، إذا سئل عن ذلك، يقول:" هاه، هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته "2 فتعذبه الملائكة; فالحذر، الحذر، من ذلك! تفقهوا في دينكم قبل الموت، وصلى الله على محمد.
1 البخاري: تفسير القرآن (4699)، ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2871)، والنسائي: الجنائز (2057)، وأبو داود: السنة (4753) ، وأحمد (4/295) .
2 البخاري: العلم (86)، ومسلم: الكسوف (905) ، وأحمد (6/345)، ومالك: النداء للصلاة (447) .
وسئل أيضا: عن مسائل فأجاب:
الأولى: أن الله سبحانه، بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بتحقيق التوحيد، وتجريده، ونفي الشرك بكل وجه، حتى في الألفاظ.
الثانية: أن العبادة التي شرعها الله تعالى كلها، تتضمن إخلاص الدين كله لله تحقيقا لقوله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [سورة البينة آية: 5] ؛ فإن دين الإسلام، هو دين الله، الذي أمر به الأولين والآخرين، كما قال تعالى" وهي: الثالثة" {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [سورة البقرة آية: 112]، وفسر إسلام الوجه بما يقتضى الإخلاص; والإحسان: العمل الصالح، المأمور به; وهذان الأصلان جماع الدين; لا نعبد إلا الله، ولا نعبده بالبدع، بل بما شرع، كما قال تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [سورة الكهف آية: 110] .
الرابعة: أن هذين الأصلين هما تحقيق الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا رسول الله.
فالأولى: تتضمن إخلاص الألوهية، فلا يتأله القلب غيره، لا بحب، ولا خوف، ولا رجاء، ولا إجلال، ولا إكرام. والثانية: تتضمن تصديق الرسول فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر; فلا حرام إلا ما حرم، ولا دين إلا ما شرع.
ولهذا ذم الله تعالى المشركين، في سورة الأنعام، والأعراف، وغيرهما، لكونهم حرموا ما لم يحرمه الله، وشرعوا ما لم يأذن فيه، قال تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [سورة الأحزاب آية: 45"46] . فمن دعا إلى غير الله فقد أشرك، ومن دعا الله بغير إذنه فقد ابتدع، والشرك بدعة، والمبتدع يؤل إلى الشرك، كما قال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31]، وقال تعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [سورة التوبة آية: 29] .
ولفظ الإسلام يتضمن الاستسلام، والانقياد، ويتضمن الإخلاص، فمن استسلم له ولغيره، فهو مشرك; ومن لم يستسلم له، فهو مستكبر.
وقال أيضا:
الدعاء الذي يفعل في هذا الزمان أنواع: النوع الأول: دعاء الله وحده لا شريك له، الذي بعث الله به رسوله.
النوع الثاني: أن يدعو الله، ويدعو معه نبيا، أو وليا، ويقول: أريد شفاعته، وإلا فأنا أعلم ما ينفع ولا يضر إلا الله. لكن أنا مذنب، وأدعو هذا الصالح لعله يشفع لي، فهذا الذي فعله المشركون، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى يتركوه، ولا يدعوا مع الله أحدا، لا لطلب شفع، ولا نفع.
النوع الثالث: أن يقول: اللهم إني أتوسل إليك بنبيك، أو بالأنبياء، أو الصالحين; فهذا ليس شركا، ولا نهينا الناس عنه; ولكن المذكور عن أبي حنيفة، وأبي يوسف، وغيرهم أنهم كرهوه، لكن ليس مما نختلف نحن، وغيرنا فيه.
وقال أيضا رحمه الله:
ذكر في السيرة، في استماع أبي جهل، قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وكلامه معروف، يقول: هذا حق، وذكر الذي منعه، خوفه أن يصيروا تبعا لبني عبد مناف، والواقع: لو أن واحدا من الملوك، يقر أن هذا الدين حق، ولا يدع اتباعه، إلا خوف أن يزول ملكه، لوجدت النفوس تعذره.
الثانية: كونهم يخفون إقرارهم على عامة أهل مكة، مخافة أن يتبعوه، وأما أهل هذا الزمان، فكل مطوع شيطان، منطقه الله: أن التوحيد دين الله ورسوله، والشرك الذي هم يفعلون: دين الشيطان; ولا أحد يعي لقولهم.
وقال أيضا، الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب، وأسكنه الجنة بغير حساب:
هذه: كلمات في معرفة شهادة أن لا إله إلا الله وأن
محمدا رسول الله، وقد غلط أهل زماننا فيها، وأثبتوا لفظها دون معانيها، وقد يأتون بأدلة على ذلك، تلتبس على الجاهل المسكين، ومن ليس له معرفة في الدين، وذلك يفضي إلى أعظم المهالك.
فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم وأموالهم "1 الحديث، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن شفاعته: من أحق بها يوم القيامة؟ قال: " من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه "2 وقوله صلى الله عليه وسلم: " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة "3، وكذلك حديث عتبان:" فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله "4.
وهذه الأحاديث الصحيحة، إذا رآها هذا الجاهل، أو بعضها، أو سمعها من غيره، طابت نفسه وقرت عينه، واستفزه المساعد على ذلك، وليس الأمر كما يظنه هذا الجاهل المشرك، فلو أنه دعا غير الله، أو ذبح له، أو حلف به، أو نذر له، لم ير ذلك شركا، ولا محرما، ولا مكروها، فإذا أنكر عليه أحد بعض ما ينافي التوحيد لله، والعمل بما أمر الله، اشمأز ونفر، وعارض بقوله: قال رسول الله، وقال رسول الله.
وهذالم يدر حقيقة الحال، فلو كان الأمر كما قال، لما قال الصديق رضي الله عنه في أهل الردة: (والله لو منعوني عناقا، أو قال عقالا، كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم
1 البخاري: الإيمان (25)، ومسلم: الإيمان (22) .
2 البخاري: العلم (99) ، وأحمد (2/373) .
3 أبو داود: الجنائز (3116) ، وأحمد (5/233 ،5/247) .
4 البخاري: الصلاة (425)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (33) .
عليه) ، أفيظن هذا الجاهل أنهم لم يقولوا لا إله إلا الله؟
وما يصنع هذا الجاهل، بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوارج:" أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم، فإنهم شر قتيل تحت أديم السماء "1، أفيطن هذا الجاهل أن الخوارج الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، أنهم لم يقولوا لا إله إلا الله؟ وقال صلى الله عليه وسلم (في هذه الأمة") ولم يقل: منها" " قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم "2.
وكذلك أهل حلقة الذكر"لما رآهم أبو موسى في المسجد، في كل حلقة رجل يقول: سبحوا مائة، هللوا مائة" الحديث" فلما أنكر عليهم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: والله ما أردنا إلا الخير; قال: (كم من مريد للخير لم يصبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا " أن قوما يقرءون القرآن، لا يجاوز حلوقهم، أو قال تراقيهم "3 وأيم الله لا أدري أن يكون فيكم أكثرهم) ، فما كان إلا قليلا، حتى رأوا أولئك يطاعنون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النهروان، مع الخوارج; أفيظن هذا الجاهل المشرك، أنهم يشركون لكونهم يسبحون ويهللون ويكبرون؟
وكذلك المنافقون، على عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاهدون في سبيل الله، بأموالهم، وأنفسهم، ويصلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس، ويحجون معه، قال الله
1 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6930)، ومسلم: الزكاة (1066)، والنسائي: تحريم الدم (4102)، وأبو داود: السنة (4767) ، وأحمد (1/81 ،1/131) .
2 البخاري: المناقب (3610)، ومسلم: الزكاة (1064) .
3 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6931)، ومسلم: الزكاة (1064) ، وأحمد (3/60) .
تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [سورة النساء آية: 145] ، أفيظن هذا الجاهل أنهم لم يقولوا لا إله إلا الله؟ وكذلك قاتل النفس بغير الحق يقتل، أفيظن هذا الجاهل أنه لم يقل لا إله إلا الله، وأنه لم يقلها خالصا من قلبه؟
فسبحان من طبع على قلب من شاء من عباده، وأخفى عليه الصواب، وأسلكه مسلك البهائم والدواب، {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [سورة الفرقان آية: 44] ، حتى قال هؤلاء الجهلة ممن ينتسب إلى العلم والفقه: قبلتنا من أمها لا يكفر.
فلا إله إلا الله، نفي وإثبات الإلهية كلها لله: فمن قصد شيئا من قبر، أو شجر، أو نجم، أو ملك مقرب، أو نبي مرسل، لجلب نفع، وكشف ضر، فقد اتخذه إلها من دون الله; مكذب بلا إله إلا الله، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
فإن قال: هذا المشرك، لم أقصد إلا التبرك ; وإني لأعلم أن الله هو الذي ينفع ويضر، فقل له: إن بني إسرائيل ما أرادوا إلا ما أردت، كما أخبر الله عنهم، أنهم لما جاوزوا البحر:{فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [سورة الأعراف آية: 138]، فأجابهم بقوله:{إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} الآيتين [سورة الأعراف آية: 138] .
وحديث أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة
يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى" {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} لتركبن سنن من كان قبلكم" وقال تعالى:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [سورة النجم آية: 19] ، وفي الصحيح عن ابن عباس، وغيره:"كان يلت السويق للحاج، فمات، فعكفوا على قبره".
فيرجع هذا المشرك، يقول: هذا في الشجر، والحجر، وأنا أعتقد في أناس صالحين، أنبياء، وأولياء، أريد منهم الشفاعة، عند الله، كما يشفع ذو الحاجة عند الملوك، وأريد منهم القربة إلى الله; فقل له: هذا دين الكفار بعينه، كما أخبر سبحانه بقوله:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3]، وقوله:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] .
وقد ذكر أناسا يعبدون المسيح، وعزيرا فقال الله: هؤلاء عبيدي، يرجون رحمتي، كما ترجونها، ويخافون عذابي، كما تخافونه; وأنزل الله سبحانه:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} الآيتين [سورة الإسراء آية: 56]، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا
سُبْحَانَكَ} الآيتين [سورة سبأ آية: 40] .
والقرآن، بل والكتب السماوية، من أولها إلى آخرها مصرحة ببطلان هذا الدين، وكفر أهله، وأنهم أعداء الله ورسوله، وأنهم أولياء الشيطان، وأنه سبحانه لا يغفر لهم، ولا يقبل عملا منهم، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48]، وقال تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [سورة الفرقان آية: 23]، وقال تعالى:{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية:22] . قال ابن مسعود وابن عباس: لا تجعلوا له أكفاء من الرجال، تطيعونهم في معصية الله. وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم " ما شاء الله وشئت، قال: اجعلتني لله ندا؟ قل: ما شاء الله وحده "1 وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " أخوف ما أخاف عليكم: الشرك الأصغر" فسئل عنه فقال: الرياء "2.
وبالجملة: فأكثر أهل الأرض، مفتونون بعبادة الأصنام، والأوثان، ولم يتخلص من ذلك إلا الحنفاء، أتباع ملة إبراهيم عليه السلام، وعبادتها في الأرض، من قبل قوم نوح، كما ذكر الله، وهي كلها، ووقوفها، وسدانتها، وحجابتها، والكتب المصنفة في شرائع عبادتها، طبق الأرض، قال إمام الحنفاء:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [سورة إبراهيم آية: 35] ، كما قص الله ذلك عنهم في القرآن، وأنجى الرسل وأتباعهم من الموحدين.
1 النسائي: الأيمان والنذور (3773) ، وأحمد (6/371) .
2 أحمد (5/428) .
وكفى في معرفة كثرتهم، وأنهم أكثر أهل الأرض، ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن بعث النار من كل ألف: تسعمائة وتسعة وتسعون" قال الله تعالى: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} [سورة الإسراء آية: 89]، وقال:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة الأنعام آية: 116]، وقال:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [سورة يوسف آية: 103] .
ولما أراد سبحانه إظهار توحيده وإكمال دينه، وأن تكون كلمته هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، بعث محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وحبيب رب العالمين، وما زال في كل جيل مشهورا، وفي توراة موسى، وإنجيل عيسى مذكورا، إلى أن أخرج الله تلك الدرة بين بني كنانة وبني زهرة، فأرسله على حين فترة من الرسل، وهداه إلى أقوم السبل.
فكان له صلى الله عليه وسلم من الآيات والدلالات على نبوته قبل مبعثه ما يعجز أهل عصره، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:" أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت، حين وضعتني، أنه خرج منها نور أضاءت له بصرى من أرض الشام "1.
وولد صلى الله عليه وسلم ليلة الاثنين، الثاني عشر من ربيع الأول، عام الفيل، وانشق إيوان كسرى ليلة مولده، حتى سمع انشقاقه، وسقط أربع عشرة شرفة، وهو باق إلى اليوم آية من آيات الله، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك، وغاضت
1 أحمد (4/127) .
بحيرة ساوة، وكانت بحيرة عظيمة في مملكة العراق، عراق العجم وهمدان، تسير فيها السفن، وهي أكثر من ستة فراسخ، فأصبحت ليلة مولده يابسة ناشفة، كأن لم يكن بها ماء، واستمرت على ذلك، حتى بني مكان "ساوة" وباقية إلى اليوم.
وأرسلت الشهب على الشياطين، كما أخبر الله بقوله:{وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} الآية [سورة الجن آية: 9] . وأنبته الله نباتا حسنا، وكان أفضل قومه مروة، وأحسنهم خلقا، وأعزهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثا، حتى سماه قومه الأمين، لما جعل الله فيه من الأحوال الصالحة، والخصال المرضية.
ووصل بصرى من أرض الشام، مرتين، فرآه بحيرا الراهب فعرفه، وأخبر عمه أنه رسول الله، وأمر برده، فرده مع بعض غلمانه، وقال لعمه: احتفظ به، فلم نجد قدما أشبه من القدم الذي بالمقام من قدمه. واستمرت كفالة أبي طالب، كما هو مشهور، وبغضت إليه الأوثان، ودين قومه، فلم يكن شيء أبغض إليه من ذلك.
والدليل على أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقل والنقل ; أما النقل: فواضح; وأما العقل: فنبه عليه القرآن; من ذلك: ترك الله خلقه بلا أمر، ولا نهي لا يناسب في حق الله، ونبه عليه في قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ
مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} [سورة الأنعام آية: 91] .
ومنها أن قول الرجل: إني رسول الله، إما أن يكون خير الناس، وإما أن يكون شرهم وأكذبهم؛ والتمييز بين ذلك سهل، يعرف بأمور كثيرة; ونبه على ذلك بقوله:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} الآيات [سورة الشعراء آية: 221] . ومنها: شهادة الله بقوله: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [سورة الرعد آية: 43]، ومنها: شهادة أهل الكتاب بما في كتبهم، كما في الآية.
ومنها:" وهي أعظم الآيات العقلية" هذا القرآن الذي تحداهم الله بسورة من مثله، ونحن إن لم نعلم وجه ذلك من جهة العربية، فنحن نعلمها من معرفتنا بشدة عداوة أهل الأرض له، علمائهم، وفصحائهم، وتكريره هذا، واستعجازهم به، ولم يتعرضوا لذلك على شدة حرصهم على تكذيبه، وإدخال الشبه على الناس؛ ومنها تمام ما ذكرنا، وهو إخباره سبحانه أنه لا يقدر أحد أن يأتي بسورة مثله إلى يوم القيامة، فكان كما ذكر، مع كثرة أعدائه في كل عصر، وما أعطوا من الفصاحة والكمال والعلوم.
ومنها: نصرة من اتبعه، ولو كانوا أضعف الناس، ومنها: خذلان من عاداه، وعقوبته في الدنيا، ولو كانوا أكثر الناس وأقواهم؟ ومنها: أنه رجل أمي لا يخط، ولا يقرأ
الخط، ولا أخذ عن العلماء، ولا ادعى ذلك أحد من أعدائه، مع كثرة كذبهم، وبهتانهم; ومع هذا، أتى بالعلم، الذي في الكتب الأولى، كما قال تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [سورة العنكبوت آية: 48] .
وقال رحمه الله تعالى:
ولما بلغ أربعين سنة: بعثه الله {بَشِيراً وَنَذِيراً} [سورة البقرة آية: 119]، {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً [سورة الأحزاب آية: 46] . ولما أتى قومه بلا إله إلا الله، قالت قريش:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [سورة ص آية: 5]، قال الترمذي: حدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمرو بن قتادة، وزيد بن مروان، وغيرهم، قالوا:" قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين مستخفيا، ثم أعلن في الرابعة، فدعا عشر سنين، يوافي الموسم كل عام، فيقول: أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب، وتدين لكم بها العجم، فإذا متم كنتم ملوكا في الجنة "1، وأبو لهب وراءه، يقول: لا تطيعوه، فإنه صابئ كذاب، فيردون عليه أقبح الرد.
ولما أمره الله بالهجرة، هاجر، وأظهر الله دينه على الدين كله، وقاتل جميع المشركين، ولم يميز بين من اعتقد في نبي، ولا ولي، ولا شجر، ولا حجر; وما زال يعلم الناس التوحيد، ويقمع من دعاة الشرك كل شيطان مريد، حتى أزال الله الجهل والجهال، وبان للناس من التوحيد ساطع الجمال، وعن أنس قال قال أناس: يا رسول الله، يا خيرنا
1 أحمد (3/492) .
وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال صلى الله عليه وسلم:" يا أيها الناس، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل "1.
وعن عبد الله بن الشِّخِّير، قال:" انطلقت في وفد بني عامر، إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أنت سيدنا، فقال: السيد الله تبارك وتعالى "2. وعن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله "3.
وما زال صلى الله عليه وسلم معلما لأصحابه هذا التوحيد، ومحذرا من الشرك، حتى أتاهم وهم يتذاكرون الدجال، فقال:" ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل "4 وحتى قال: " لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله "5، وحتى قال:" لا يقل أحدكم ما شاء الله وشاء فلان "6، وحتى قال " لا تقولوا: لولا الله وفلان"،وحتى قال: "لا يقل أحدكم: عبدي وأمتي "7، وحتى قال: " من حلف بغير الله فقد أشرك أو كفر " 8.
وحذرهم من الشرك بالله، في الأقوال والأعمال، حتى قال: "إنما أنا بشر، يوشك أن يأتيني رسول ربي، فأجيب. وأنا تارك فيكم كتاب الله، فيه الهدى والنور، ومن تركه كا ن
1 أحمد (3/249) .
2 أبو داود: الأدب (4806) .
3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) ، وأحمد (1/23 ،1/24) .
4 ابن ماجه: الزهد (4204) ، وأحمد (3/30) .
5 البخاري: الأيمان والنذور (6648)، وابن ماجه: الكفارات (2101) ، وأحمد (2/8) .
6 أبو داود: الأدب (4980) ، وأحمد (5/384) .
7 البخاري: العتق (2552)، ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2249)، وأبو داود: الأدب (4975) ، وأحمد (2/316) .
8 الترمذي: النذور والأيمان (1535)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) ، وأحمد (2/34 ،2/86 ،2/125) .
على الردى "1، وحتى قال: " خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة 2 وكل ضلالة في النار "، وحتى أنه لم يترك النهي عند الموت، والتحذير لنا من هذا الشرك، حتى قال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "3 وحتى قال:" دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب " الحديث.
وحتى حذرهم عن الكفر بنعمة الله، قيل هو قول الرجل: هذا مالي، ورثته عن آبائي، وقال بعضهم: هو كقوله: الريح طيبة، والملاح حاذق، ونحو ذلك; ولما ذكر شيخ الإسلام تقي الدين الأحاديث:" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله "4 وكذلك حديث ابن عمر في الصحيحين: " أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة" 5 قال: (إن الصلاة من حقها، والزكاة من حقها) كما قال الصديق لعمر، ووافقه عمر، وسائرهم على ذلك، ويكون ذلك أنه إذا قالها قد شرع في العصمة، وإلا بطلت.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد من الحديثين، في وقت، ليعلم المسلمون أن الكافر إذا قالها وجب الكف عنه، ثم صار القتال مجردا إلى الشهادتين، ليعلم أن تمام العصمة يحصل بذلك، لئلا يقع شبهة; وأما مجرد الإقرار، فلا يعصمهم على الدوام، كما وقعت لبعض الصحابة، حتى
1 مسلم: فضائل الصحابة (2408) ، وأحمد (4/366)، والدارمي: فضائل القرآن (3316) .
2 مسلم: الجمعة (867) ، وأحمد (3/371) .
3 مالك: النداء للصلاة (416) .
4 البخاري: الإيمان (25)، ومسلم: الإيمان (22) .
5 البخاري: الإيمان (25)، ومسلم: الإيمان (22) .
جلاها الصديق رضي الله عنه ووافقه عمر.
وقال صاحب المنازل: شهادة أن لا إله إلا الله، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، هذا هو التوحيد، الذي نفى الشرك الأعظم، وعليه نصبت القبلة، وبه حقنت الدماء والأموال; وانفصلت دار الإيمان من دار الكفر، وصحت به الملة للعامة، وإن لم يقوموا بحسن الاستدلال، بعد أن يسلموا من الشبهة، والحيرة، والريبة، بصدق شهادة، صححها قبول القلب، وهذا توحيد العامة، الذي يصح بالشواهد، وهي الرسالة والصنائع، ويجب بالسمع، ويوجد بتبصير الحق، وينمو على مشاهدة الشواهد، والحمد لله رب العالمين.
وقال أيضا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، قدس الله روحه.
لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة: بعثه الله {بشيرا ونذيرا} ، {وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا} . ونذكر قبل ذلك شيئا من أمور الجاهلية، وما كانت عليه قبل بعثته، قال قتادة: ذكر لنا أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الهدى وشريعة من الحق; ثم اختلفوا بعد ذلك; فبعث الله لهم نوحا، وكان أول رسول أرسل لأهل الأرض; قال ابن عباس، في قوله تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [سورة البقرة آية: 213] ، قال (على الإسلام) .
وكان أول ما كادهم الشيطان به تعظيم الصالحين، كما ذكر الله ذلك في كتابه {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [سورة نوح آية: 23] ، قال الكلبي: هؤلاء قوم صالحون، فماتوا في شهر، فجزع عليهم أقاربهم، وقال لهم رجل: هل لكم أن أعمل لكم خمسة أصنام، على صورهم؟ قالوا: نعم، فنحت لهم خمسة أصنام، ونصبها لهم.
وفي غير حديثه، قال أصحابهم: لو صورنا صورهم، كان أشوق لنا إلى العبادة، فكان الرجل يأتي أباه وابن عمه، فيعظمه، حتى ذهب القرن الأول، ثم جاء القرن الآخر، وعظموهم أشد من الأول; ثم جاء القرن الثالث، فقالوا: ما عظم أولونا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم، فعبدوهم. فلما بعث الله نوحا، وأغرق من أغرق، وأهبط الماء هذه الأصنام، من أرض إلى أرض، حتى قذفها إلى أرض جدة; فلما نضب الماء، بقيت على الشاطئ، فسفت الريح عليها حتى وارتها، ثم عمر نوح وذريته الأرض، وبقوا على الإسلام ما شاء الله، ثم حدث فيهم الشرك.
وما من أمة إلا ويبعث الله فيها رسولا، يأمرهم بعبادة الله وحده، وينهاهم عن الشرك، فمنهم: عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد; بعث الله لهم هودا عليه السلام، وكانوا في ناحية الجنوب، بين اليمن وعمان، فكذبوه، فأرسل الله عليهم الريح فأهلكتهم، ونجى الله هودا ومن معه; ثم بعث
الله صالحا إلى ثمود، وكانوا بالشمال، بين الشام والحجاز، {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [سورة فصلت آية: 17] ، فأرسل الله عليهم صيحة فأهلكتهم; ونجى الله صالحا ومن معه. ثم بعد ذلك أخرج إليهم إبراهيم عليه السلام، وأهل الأرض إذ ذاك كلهم كفار، فكذبوه إلا ابنة عمه سارة، زوجته، ولوطا أيضا، فأكرمه الله ورفع قدره، وجعله إماما للناس، وجعل في ذريته النبوة والكتاب.
ومنذ ظهر إبراهيم، لم يعدم التوحيد في الأرض، كما قال تعالى:
{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 28] ، وكان له ابنان، أحدهما: إسحاق عليه السلام وهو أبو بني إسرائيل، وإسرائيل يعقوب بن إسحاق، والثاني: إسماعيل عليه السلام، وهو أبو العرب، وقصته وأمه مشهورة، لما وضعها عليه السلام في مكة، وكان هو في الشام، فنشأ إسماعيل عليه السلام في أرض العرب، فصار له ولأولاده: ولاية البيت ومكة.
فلم يزالوا بعده على دين إسماعيل، حتى نشأ فيهم عمرو بن لحي، بن قمعة، فملك مكة، وكان معظما فيهم بسبب الدين والدنيا; فسار إلى الشام، ورآهم يعبدون الأوثان، فاستحسن ذلك، وزينه لأهل مكة، ثم اقتدى بهم أهل الحجاز، وكان له رئي من الجن، فأتاه، فقال: عجل السير والظعن من تهامة، بالسعد والسلامة، ائت جدة، تجد فيها أوثانا معدة، فأوردها تهامة ولا تهب، ثم ادع العرب إلى
عبادتها تجب.
فأتى جدة فاستثارها، ثم حملها. فلما حضر الحج، دعا العرب إلى عبادتها، فأجابوه، ففرقها في كل قبيلة واحد، فلم تزل تعبد حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فكسرها، وقال:" رأيت عمرو بن عامر يجر قصبه في النار "1، وكان أول من سيب السوائب، وغير دين إبراهيم، ونصب الأوثان، وكان أهل الجاهلية إذ ذاك، فيهم بقايا من دين إبراهيم، مثل تعظيم البيت، والطواف به، والحج والعمرة، وإهداء البدن; وكانت نزار تقول في إهلالها: لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك.
ومن أقدم أصنامهم: مناة على ساحل البحر، بقديد بين مكة والمدينة، ولم يكن أحد أشد تعظيما له من الأوس والخزرج; فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فهدمها عام الفتح. ثم اتخذوا اللات بالطائف، وكان أصله رجلا صالحا يلت السويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره; فلما أسلمت ثقيف بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها. ثم اتخذوا العزى، وكانت بوادي نخلة، وبنوا عليها بيتا، وكانوا يسمعون منه الصوت، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، بعث خالد بن الوليد فأتاها، فعضدها وكانت ثلاث سمرات، فلما عضد الثالثة: إذ هو بجنية، نافشة شعرها، فقال خالد،
يا عزى كفرانك لا سبحانك
…
إني رأيت الله قد أهانك
ثم ضربها ففلق رأسها، فإذا هي حممة.
1 البخاري: المناقب (3521) وتفسير القرآن (4623)، ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2856) ، وأحمد (2/366) .
وكان من العرب من يتعلق على الملائكة، يريدون شفاعتهم، وهم بنو ملح، وكان منهم من يدعو الجن، وكانت النصارى تدعو عيسى وأمه; وكان من الناس، من يدعو أناسا صالحين، غير ما ذكرنا; وهو أول أنواع الشرك وقوعا في الأرض، كما تقدم. وامتلأت أرض العرب، وغيرها، من الأوثان، والشرك بالله، وكان لكل قوم شيء يقصدونه، غير ما كان عند الآخرين.
فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد، قالوا:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5] . ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وجد حول البيت: ثلاثمائة وستين صنما، وجعل يطعن في وجوهها، ويقول:{جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [سورة الإسراء آية: 81] ، وهي تساقط على رؤوسها، ثم أمر بها فأخرجت من المسجد، وحرقت.
وقال بعض الصحابة في اللات:
لا تنصروا اللات إن الله مهلكها
…
إن التي حرقت بالسد فاشتعلت
وكيف ينصركم من ليس ينتصر
…
فلم تقاتل لدى أحجارها هدر
وصلى الله على محمد.
[بيان الشهادة والتوحيد]
وقال أيضا: بوأه الله منازل النبيين، والصديقين:
بسم الله الرحمن الر حيم
هذه كلمات، في بيان شهادة أن لا إله إلا الله، وبيان
التوحيد، الذي هو حق الله على العبيد، وهو أفرض من الصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، فرحم الله امرأ نصح نفسه، وعرف أن وراءه جنة ونارا، وأن الله عز وجل جعل لكل منهما أعمالا. فإن سأل عن ذلك، وجد رأس أعمال أهل الجنة: توحيد الله تعالى، فمن أتى به يوم القيامة، فهو من أهل الجنة، قطعا، ولو كان عليه من الذنوب مثل الجبال.
ورأس أعمال أهل النار: الشرك بالله، فمن مات على ذلك، فلو أتى يوم القيامة بعبادة الله الليل والنهار، والصدقة والإحسان، فهو من أهل النار قطعا، كالنصارى، الذين يبني أحدهم صومعة في البرية، ويزهد في الدنيا، ويتعبد الليل والنهار، لكنه خلط ذلك بالشرك بالله، تعالى الله عن ذلك، قال الله عز وجل:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [سورة الفرقان آية: 23] . وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [سورة إبراهيم آية: 18] .
فرحم الله امرأ، تنبه لهذا الأمر العظيم، قبل أن يعض الظالم على يديه، ويقول:{يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} [سورة الفرقان آية: 27] .
نسأل الله: أن يهدينا، وإخواننا المسلمين إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم، وهم العلماء، الذين علموا ولم
يعملوا، وطريق الضالين، وهم العباد الجهال، فما أعظم هذا الدعاء، وما أحوج من دعا به أن يحضر قلبه في كل ركعة، إذا قرأ بها، بين يدي الله تعالى، أن يهديه وأن ينجيه; فإن الله قد ذكر: أنه يستجيب هذا الدعاء الذي في الفاتحة، إذا دعا به الإنسان من قلب حاضر.
فنقول: لا إله إلا الله، هي: العروة الوثقى ; وهي: كلمة التقوى; وهي: الحنيفية ملة إبراهيم; وهي: التي جعلها الله عز وجل كلمة باقية في عقبه; وهي: التي خلقت لأجلها المخلوقات; وبها قامت الأرض والسماوات; ولأجلها أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب; قال الله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36]، والمراد: معنى هذه الكلمة; وأما: التلفظ باللسان، مع الجهل بمعناها، فلا ينفع; فإن المنافقين يقولونها، وهم تحت الكفار، في الدرك الأسفل من النار.
فاعلم: أن معنى هذه الكلمة: نفي الإلهية عما سوى الله تبارك وتعالى، وإثباتها كلها لله وحده، لا شريك له، ليس فيها حق لغيره، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، كما قال تعالى:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [سورة مريم آية: 93]، وقال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ
الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [سورة النبأ آية: 38]، وقال تعالى:{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} الآية [سورة النحل آية: 111] .
فإذا قيل: لا خالق إلا الله، فهذا معروف، لا يخلق الخلق إلا الله، لا يشاركه في ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وإذا قيل: لا يرزق إلا الله، فكذلك; فإذا قيل: لا إله إلا الله، فكذلك، فتفكر رحمك الله، في هذا، واسأل عن معنى الإله، كما تسأل عن معنى الخالق، والرازق.
واعلم أن معنى الإله، هو المعبود هذا هو تفسير هذه اللفظة، بإجماع أهل العلم، فمن عبد شيئا، فقد اتخذه إلها من دون الله، وجميع ذلك باطل، إلا إله واحد، وهو: الله وحده، تبارك وتعالى علوا كبيرا.
والعبادة: أنواع كثيرة ; لكني أمثلها بأنواع ظاهرة، لا تنكر، من ذلك: السجود؟ فلا يجوز لعبد، أن يضع وجهه على الأرض، ساجدا، إلا لله وحده، لا شريك له، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، ولا لولي.
ومن ذلك: الذبح فلا يجوز لأحد، أن يذبح إلا لله وحده; كما قرن الله بينهما في القرآن، في قوله تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} [سورة الأنعام آية: 162] ، والنسك، هو: الذبح; وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2] ، فتفطن لهذا"
واعلم أن من ذبح لغير الله، من جني أو قبر، فكما لو سجد له; وقد لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، قال:" لعن الله من ذبح لغير الله "1.
ومن أنواع العبادة: الدعاء؛ كما كان المؤمنون، يدعون الله وحده، ليلا ونهارا، في الشدة والرخاء، لا يشك أحد، أن هذا من أنواع العبادة، فتفكر" رحمك الله" فيما حدث في الناس اليوم، من دعاء غير الله في الشدة والرخاء; هذا يريد سفرا، فيأتي عند قبر أو غيره، فيدخل عليه بما له، عمن ينهبه، وهذا تلحقه الشدة، في البر، أو البحر، فيستغيث بعبد القادر، أو شمسان، أو نبي من الأنبياء، أو ولي من الأولياء، أن ينجيه من هذه الشدة.
فيقال لهذا الجاهل: إن كنت تعرف أن الإله هو: المعبود، وتعرف أن الدعاء من العبادة، فكيف تدعو مخلوقا، ميتا، عاجزا؟! وتترك الحي، القيوم، الحاضر، الرؤوف، الرحيم، القدير؟! فقد يقول" هذا المشرك": إن الأمر بيد الله، ولكن هذا العبد الصالح يشفع لي عند الله، وتنفعني شفاعته وجاهه; ويظن أن ذلك يسلمه من الشرك.
فيقال لهذا الجاهل: المشركون عباد الأصنام، الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وغنم أموالهم وأبناءهم ونساءهم، كلهم يعتقدون أن الله هو النافع، الضار، الذي يدبر الأمر، وإنما أرادوا ما أردت من الشفاعة عند الله، كما قال
1 مسلم: الأضاحي (1978)، والنسائي: الضحايا (4422) ، وأحمد (1/108 ،1/118 ،1/152) .
تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3.] ، وإلا فهم يعترفون بأن الله هو الخالق، الرازق، النافع الضار، كما أخبر الله عنهم بقوله:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] .
فليتدبر اللبيب العاقل، الناصح لنفسه، الذي يعرف: أن بعد الموت جنة ونارا، هذا الموضع، ويعرف الشرك بالله، الذي قال الله فيه:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية [سورة النساء آية: 48]، وقال:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] . فما بعد هذا البيان بيان، إذا كان الله عز وجل قد حكى عن الكفار أنهم مقرون أنه هو الخالق، الرازق، المحيي، المميت، الذي يدبر الأمر، وإنما أرادوا من الذين يعتقدون فيهم التقرب والشفاعة عند الله تعالى.
وكم آية في القرآن، ذكر الله فيها هذا، كقوله تعالى:{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [سورة المؤمنون آية: 84] إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 89] ، وكقوله; {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة العنكبوت آية: 61]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة العنكبوت آية: 63] ، وغير ذلك من الآيات التي أخبر الله بها عنهم أنهم أقروا بهذا لله وحده، وأنهم ما أرادوا من الذين يعتقدون فيهم إلا الشفاعة، لا غير ذلك.
فإن احتج بعض المشركين أن أولئك يعتقدون في الأصنام، وهي حجارة وخشب ونحن نعتقد في الصالحين، قيل له: والكفار أيضا، منهم من يعتقد في الصالحين، مثل الملائكة، وعيسى ابن مريم، وفي الأولياء مثل العزير، واللات، والعزى، وناس، من الجن، وغيرهم; وذكر الله عز وجل ذلك في كتابه، فقال في الذين يعتقدون في الملائكة ليشفعوا لهم:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سورة سبأ آية: 41]، وقال:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28] .
وقال فيمن اعتقد في عيسى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} الآية [سورة النساء آية: 171]، وقال:{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة المائدة آية: 76] فإذا كان عيسى بن مريم، وهو من أفضل الرسل، قيل
فيه هذا، فكيف بعبد القادر وغيره، أن يملك ضرا أو نفعا؟!
وقال في حق الأولياء: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [سورة الإسراء آية: 56"57]، قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة، وعزيرا، والمسيح، فقال الله: هؤلاء عبيدي كما أنتم عبيدي، يرجون رحمتي، كما ترجون أنتم رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، فرحم الله امرأ: تفكر في هذه الآية العظيمة، وفيما نزلت فيه وعرف: أن الذين اعتقدوا فيهم، إنما أرادوا التقرب إلى الله والشفاعة عنده.
وهذا كله يدور على كلمتين: الأولى: أن تعرف أن الكفار، يعرفون أن الله سبحانه هو الخالق الرازق، الذي يدبر الأمر، وحده، وإنما أرادوا التقرب بهؤلاء إلى الله تعالى; والثانية: أن تعرف أن منهم أناسا يعتقدون في أناس من الأنبياء والصالحين، مثل: عيسى، والعزير، والأولياء; فصاروا هم والذين يعتقدون في الأصنام، من الحجر، والشجر، واحدا، فلما قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين الذين يعتقدون في الأوثان، من الخشب، والحجر، وبين الذين يعتقدون في الأنبياء، والصالحين، على أن أهل زماننا هذا، يعتقدون في الحجارة على
القبور، والشجر الذي عليها.
إذا تبين هذا، وأنه ليس من دين الله، وقال بعد ذلك المشرك: هذا بين، نعرفه من أول
…
فقل له: إذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعرفوا هذا إلا بعد التعلم، ومن الشرك أشياء ما عرفوها إلا بعد سنين; وأنت عرفت هذا بلا تعلم، فأنت أعلم منهم! بل الأنبياء لم يعرفوا هذا إلا بعد أن علمهم الله تعالى، قال الله تعالى لأعلم الخلق محمد صلى الله عليه وسلم {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [سورة محمد آية: 19] ، وقال تعالى:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الزمر آية: 65] .
فإذا كان هذا نبينا، فما بال الخليل إبراهيم عليه السلام يوصي بها أولاده، وهم أنبياء؟ قال تعالى:{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة البقرة آية: 132]، و {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان آية: 13] . فإذا كان هذا أمر لا يخاف على المسلمين منه، فما بال الخليل، يخاف على نفسه وعلى بنيه، وهم أنبياء؟ حيث قال:{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [سورة إبراهيم آية: 35] .
وما بال العليم الحكيم، لما أنزل كتابه ليخرج الناس من الظلمات، إلى النور، جعله في هذا الأمر، وكثر الكلام فيه، وبينه، وضرب فيه الأمثال، وحذر منه، وأبدى وأعاد؟ فماذا كان الناس يفهمونه بلا تعلم، ولا يخاف عليهم من الوقوع فيه، فما بال رب العالمين جعل أكثر كتابه فيه؟ فسبحان من طبع على قلب من شاء من خلقه، فأصمهم وأعمى أبصارهم.
وأنت يا من من الله عليه بالإسلام، وعرف أن ما من إله إلا الله، لا تظن أنك إذا قلت: هذا هو الحق، وأنا تارك ما سواه، لكن لا أتعرض للمشركين، ولا أقول فيهم شيئا، لا تظن أن ذلك يحصل لك به الدخول في الإسلام، بل لا بد من بغضهم، وبغض من يحبهم، ومسبتهم، ومعاداتهم، كما قال أبوك إبراهيم، والذين معه:{إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4]، وقال تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} الآية [سورة البقرة آية: 256]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] .
ولو يقول رجل: أنا أتبع النبي صلى الله عليه وسلم وهو على الحق، لكن لا أتعرض اللات والعزى، ولا أتعرض أبا جهل وأمثاله، ما علي منهم; لم يصح إسلامه; وأما مجادلة بعض
المشركين بأن هؤلاء الطواغيت ما أمروا الناس بهذا، ولا رضوا به، فهذا لا يقوله إلا مشرك مكابر؛ فإن هؤلاء ما أكلوا أموال الناس بالباطل، ولا ترأسوا عليهم، ولا قربوا من قربوا، إلا بهذا; وإذا رأوا رجلا صالحا استحقروه، وإذا رأوا مشركا كافرا تابعا الشيطان، قربوه وأحبوه وزوجوه بناتهم، وعدوا ذلك شرفا!!
وهذا القائل يعلم أن قوله ذلك كذب، فإنه لو يحضر عندهم، ويسمع بعض المشركين يقول: جاءتني شدة، فنخيت الشيخ، أو السيد، فنذرت له، فخلصني، لم يجسر أن يقول هذا القائل: لا يضر ولا ينفع إلا الله; بل لو قال هذا، وأشاعه في الناس، لأبغضه الطواغيت; بل لو قدروا على قتله لقتلوه; وبالجملة: لا يقول هذا إلا مشرك مكابر، وإلا فدعواهم هذه، وتخويفهم الناس، وذكرهم السوالف الكفرية التي بآبائهم شيء مشهور لا ينكره من عرف حالهم، كما قال تعالى:{شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [سورة التوبة آية: 17] .
ولنختم الكتاب، بذكر آية من كتاب الله، فيها عبرة لمن اعتبر، قال تعالى في حق الكفار:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 67] ، فذكر عن الكفار أنهم إذا جاءتهم الشدة تركوا غيره، وأخلصوا له الدين; وأهل زماننا إذا جاءتهم الشدة والضر، نخوا غير الله، سبحانه وتعالى عن ذلك.
فرحم الله: من تفكر في هذه الآية وغيرها من الآيات; وأما من من الله عليه بالمعرفة، فليحمد الله تعالى; وإن أشكل عليه شيء، فليسأل أهل العلم عما قال الله ورسوله، ولا يبادر بالإنكار، لأنه إن رد، رد على الله، قال الله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [سورة السجدة آية: 22] .
واعلم رحمك الله أن أشياء من أنواع الشرك الأكبر وقع فيه بعض المصنفين على جهالة، لم يفطن له، من ذلك، قوله في البردة:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
…
سواك عند حلول الحادث العمم
وفي الهمزية جنس هذا وغيره أشياء كثيرة; وهذا من الدعاء، الذي هو من العبادة التي لا تصلح إلا لله وحده; وإن جادلك بعض المشركين بجلالة هذا القائل، وعلمه وصلاحه، وقال بجهله: كيف هذا؟ فقل له: أعلم منه وأجل، أصحاب موسى، الذين اختارهم الله وفضلهم على العالمين، حين قالوا:{يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [سورة الأعراف آية: 138] ، فإذا خفي هذا على بني إسرائيل، مع جلالتهم وعلمهم وفضلهم; فما ظنك بغيرهم؟
وقل لهذا الجاهل: أصلح من الجميع وأعلم، أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لما مروا بشجرة، قالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
هذا: كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [سورة الأعراف آية: 138] ففي هذا عبرتان عظيمتان:
الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح أن من اعتقد في شجرة، أو تبرك بها، أنه قد اتخذها إلها، وإلا فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفون أنها لا تخلق، ولا ترزق، وإنما ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بالتبرك بها، صار فيها بركة.
والعبرة الثانية: أن الشرك قد يقع فيمن هو أعلم الناس، وأصلحهم، وهو لا يدري، كما قيل: الشرك أخفى من دبيب النمل; بخلاف قول الجاهل: هذا بين نعرفه; فإذا أشكل عليك من هذا شيء، وأردت بيانه من كلام أهل العلم، وإنكارهم جنس الشرك، الذي حرمه الله، فهو موجود; وأعني كلام العلماء في هذا، إن أردت من الحنابلة، وإن أردت من غيرهم; والله أعلم.
وقال رحمه الله تعالى:
فصل في معنى لا إله إلا الله: اعلم رحمك الله تعالى، أن "لا إله إلا الله" هي: الكلمة العالية، والشريفة الغالية، من استمسك بها فقد سلم، ومن اعتصم بها فقد عصم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل "1. والحديث يفصح أن لا إله إلا الله، لها لفظ ومعنى،
1 مسلم: الإيمان (23) ، وأحمد (3/472 ،6/394) .
ولكن الناس فيها ثلاث فرق: فرقة نطقوا بها وحققوها، وعلموا أن لها معنى وعملوا به، ولها نواقض فاجتنبوها. وفرقة: نطقوا بها في الظاهر، فزينوا ظواهرهم بالقول، واستبطنوا الكفر والشك. وفرقة: نطقوا بها ولم يعملوا بمعناها، وعملوا بنواقضها، فهؤلاء {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 104] .
فالفرقة الأولى هي الناجية، وهم المؤمنون حقا; والثانية هم المنافقون; والثالثة هم المشركون; فلا إله إلا الله: حصن، ولكن نصبوا عليه منجنيق التكذيب، ورموه بحجارة التخريب، فدخل عليهم العدو، فسلبهم المعنى، وتركهم مع الصورة; وفي الحديث:" إن الله لا ينظر إلى صوركم وأبدانكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم "1 سلبوا معنى لا إله إلا الله، فبقي معهم لقلقة باللسان، وقعقعة بالحروف، وهو ذكر الحصن لا مع الحصن، فكما أن ذكر النار لا يحرق، وذكر الماء لا يغرق، وذكر الخبز لا يشبع، وذكر السيف لا يقطع، فكذلك ذكر الحصن لا يمنع.
فإن القول قشر، والمعنى لب، والقول صدف، والمعنى در، ماذا يصنع بالقشر مع فقدان اللب؟! وماذا يصنع بالصدف مع فقدان الجوهر؟!
لا إله إلا الله مع معناها، بمنزلة الروح من الجسد، لا ينتفع بالجسد دون الروح، فكذلك لا ينتفع بهذه الكلمة دون معناها. فعالم
1 مسلم: البر والصلة والآداب (2564) .
الفضل: أخذوا بهذه الكلمة بصورتها ومعناها، فزينوا بصورتها ظواهرهم بالقول، وبواطنهم بالمعنى، وبرز لهم شهادة القدم بالتصديق {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة آل عمران آية: 18] .
وعالم العدل: أخذوا هذه الكلمة بصورتها دون معناها، فزينوا ظواهرهم بالقول، وبواطنهم بالكفر، بالاعتقاد فيمن لا يضر ولا ينفع؛ فقلوبهم مسودة مظلمة، لم يجعل الله لهم فرقانا يفرقون به بين الحق والباطل، ويوم القيامة يبقون في ظلمة كفرهم {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [سورة البقرة آية: 17] .
فمن قال: لا إله إلا الله، وهو عابد لهواه ودرهمه وديناره ودنياه، ماذا يكون جوابه يوم القيامة لمولاه؟ {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [سورة الجاثية آية: 23] ، " تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش "1.
إذا قلت: لا إله إلا الله، فإن كان مسكنها منك اللسان لا ثمرة لها في الثمرة، فأنت منافق، وإن كان مسكنها منك القلب، فأنت مؤمن؛ وإياك أن تكون مؤمنا بلسانك دون قلبك. فتنادي عليك هذه الكلمة في عرصات القيامة: إلهي صحبته كذا وكذا سنة، فما اعترف بحقي، ولا رعى لي
1 البخاري: الجهاد والسير (2887) .
حرمتي حق رعايتي؛ فإن هذه الكلمة تشهد لك، أو عليك.
فعالم الفضل تشهد لهم بالاحترام، حتى تدخلهم الجنة; وعالم العدل تشهد لهم بالاحترام، حتى تدخلهم النار {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [سورة الشورى آية: 7] .
لا إله إلا الله: شجرة السعادة; إن غرستها في منبت التصديق، وسقيتها من ماء الإخلاص، ورعيتها بالعمل الصالح، رسخت عروقها، وثبت ساقها، واخضرت أوراقها، وأينعت ثمارها، وتضاعف أكلها {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [سورة إبراهيم آية: 25] .
وإن غرست هذه الشجرة في منبت التكذيب والشقاق، وأسقيتها بماء الرياء والنفاق، وتعاهدتها بالأعمال السيئة والأقوال القبيحة، وطفح عليها غدير العذر ولفحها هجير هجر، تناثرت ثمارها، وتساقطت أوراقها، وانقشع ساقها، وتقطعت عروقها، وهبت عليها عواصف القذر، ومزقتها كل ممزق {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [سورة الفرقان آية: 23] .
فإذا تحقق المسلم هذا، فلا بد معه من تمام بقية أركان الإسلام، كما في الحديث الصحيح: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان،
وحج البيت الحرام، من استطاع إليه سبيلا، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين "1 وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
وسئل رحمه الله، عن: معنى: "لا إله إلا الله ".
فأجاب: اعلم رحمك الله، أن هذه الكلمة، هي الفارقة بين الكفر والإسلام، وهي: كلمة التقوى، وهي: العروة الوثقى، وهي: التي جعلها إبراهيم عليه السلام: {كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 28] . وليس المراد قولها باللسان مع الجهل بمعناها، فإن المنافقين يقولونها وهم تحت الكفار في الدرك الأسفل من النار، مع كونهم يصلون ويصومون ويتصدقون; ولكن المراد معرفتها بالقلب، ومحبتها ومحبة أهلها، وبغض من خالفها ومعاداته، كما قال صلى الله عليه وسلم:" من قال لا إله إلا الله مخلصا "2، وفي رواية:" صادقا من قلبه "3، وفي لفظ:" من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله "4، إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على جهالة أكثر الناس بهذه الشهادة.
واعلم: أن هذه الكلمة، نفي، وإثبات: نفي الألوهية عما سوى الله تبارك وتعالى من المخلوقات، حتى عن محمد صلى الله عليه وسلم وعن الملائكة، حتى جبرائيل، فضلا عن غيرهم من الأولياء والصالحين؛ إذا فهمت ذلك، فتأمل هذه الألوهية التي أثبتها الله لنفسه، ونفاها عن محمد،
1 البخاري: الإيمان (8)، ومسلم: الإيمان (16)، والترمذي: الإيمان (2609)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) ، وأحمد (2/92 ،2/120) .
2 أحمد (5/236) .
3 البخاري: العلم (128) .
4 مسلم: الإيمان (23) ، وأحمد (3/472 ،6/394) .
وجبرائيل عليهما السلام، فضلا عن غيرهما من الأولياء والصالحين، أن يكون لهم مثقال حبة خردل.
إذا عرفت هذا، فاعلم أن هذه الألوهية هي التي تسميها العامة، في زماننا: السر، والولاية; فالإله معناه: الولي الذي فيه السر; وهو الذي يسمونه: الفقير، والشيخ; وتسميه العامة: السيد، وأشباه هذا; وذلك أنهم يظنون، أن الله جعل لخواص الخلق عنده منزلة، يرضى أن الإنسان يلتجئ إليهم ويرجوهم، ويستغيث بهم، ويجعلهم واسطة بينه وبين الله; فالذي يزعم أهل الشرك في زماننا أنهم وسائطهم، هم الذين يسميهم الأولون: الإله، والواسطة هو الإله، فقول الرجل: لا إله إلا الله، إبطال للوسائط.
إذا أردت أن تعرف هذا معرفة تامة، فذلك بأمرين: الأول: أن تعرف أن الكفار الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم وقتلهم، وغنم أموالهم، واستحل دماءهم، وسبى نساءهم، كانوا مقرين لله بتوحيد الربوبية; وهو أنه لا يخلق إلا الله، ولا يرزق، ولا يحيي، ولا يميت، ولا يدبر الأمر إلا الله، كما قال تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] .
وهذه: مسألة عظيمة، مهمة، وهي: أن تعرف أن
الكفار شاهدون بهذا كله، ومقرون به، ومع هذا لم يدخلهم في الإسلام، ولم يحرم دماءهم وأموالهم، وكانوا أيضا يتصدقون، ويحجون، ويعتمرون، ويتعبدون، ويتركون أشياء من المحرمات، خوفا من الله عز وجل.
ولكن الأمر الثاني، هو الذي كفرهم، وأحل دماءهم وأموالهم، وهو: أنهم لا يشهدون الله بتوحيد الألوهية وهو: أنه لا يدعى إلا الله، ولا يرجى إلا الله وحده لا شريك له، ولا يستغاث بغيره، ولا يذبح لغيره، ولا ينذر لغيره، لا لملك مقرب، ولا نبي مرسل، فمن استغاث بغيره فقد كفر، ومن ذبح لغيره، فقد كفر، ومن نذر لغيره فقد كفر; وأشباه هذا.
وتمام هذا: أن تعرف أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يدعون الملائكة، وعيسى، وعزيرا، وغيرهم من الأولياء، فكفرهم الله بهذا، مع إقرارهم بأن الله هو الخالق، الرازق، المدبر; فإذا عرفت معنى لا إله إلا الله وعرفت أن من نخا نبيا أو ملكا، أو ندبه، أو استغاث به، فقد خرج من الإسلام؛ وهذا هو الكفر، الذي قاتلهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
فإن قال قائل من المشركين: نحن نعرف أن الله هو الخالق، الرازق، المدبر، لكن هؤلاء الصالحين مقربون، ونحن ندعوهم، وننذر لهم، وندخل عليهم، ونستغيث بهم،
نريد بذلك الجاه، والشفاعة وإلا فنحن نفهم أن الله هو المدبر; فقل: كلامك هذا دين أبي جهل وأمثاله; فهم يدعون عيسى، وعزيرا، والملائكة، والأولياء، يقولون:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3]، وقال:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] .
فإذا تأملت هذا تأملا جيدا، عرفت أن الكفار يشهدون لله بتوحيد الربوبية، وهو التفرد بالخلق، والرزق، والتدبير؛ فهم ينخون عيسى، والملائكة، والأولياء يقصدون أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، ويشفعون لهم عنده; وعرفت أن الكفار، خصوصا النصارى منهم من يتعبد الليل والنهار، ويزهد في الدنيا، ويتصدق بما دخل عليه منها، معتزلا في صومعة عن الناس، ومع هذا كافر، عدو لله، مخلد في النار، بسبب اعتقاده في عيسى أو غيره من الأولياء، يدعوه، ويذبح له، وينذر له; وتبين لك أن كثيرا من الناس عنه بمعزل; وتبين لك: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بد أ"1.
فالله، الله، إخواني! تمسكوا بأصل دينكم أوله وآخره، أسه ورأسه، وهو: شهادة أن لا إله إلا الله; واعرفوا معناها; وأحبوا أهلها، واجعلوهم إخوانكم، ولو كانوا بعيدين; واكفروا بالطواغيت، وعادوهم، وأبغضوا من أحبهم، أو جادل عنهم، أو لم يكفرهم، أو قال: ما علي
1 مسلم: الإيمان (145)، وابن ماجه: الفتن (3986) ، وأحمد (2/389) .
منهم، أو قال: ما كلفني الله بهم، فقد كذب هذا على الله، وافترى; بل كلفه الله بهم، وفرض عليه الكفر بهم، والبراءة منهم، ولو كانوا: إخوانه، وأولاده; فالله، الله، تمسكوا بأصل دينكم، لعلكم تلقون ربكم، لا تشركون به شيئا. اللهم توفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين.
ولنختم الكلام بآية ذكرها الله في كتابه، تبين لك أن كفر المشركين من أهل زماننا، أعظم من كفر الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} الآية [سورة الإسراء آية: 67] ، فقد ذكر الله تعالى عن الكفار، أنهم إذا مسهم الضر تركوا السادات والمشائخ، فلا يدعونهم، ولا يستغيثون بهم، بل يخلصون لله وحده لا شريك له، ويستغيثون به ويوحدونه; فإذا جاء الرخاء أشركوا.
وأنت ترى المشركين من أهل زماننا، ولعل بعضهم يدعي أنه من أهل العلم، وفيه زهد واجتهاد وعبادة، وإذا مسه الضر، يستغيث بغير الله، مثل: معروف، وعبد القادر الجيلاني، وأجل من هؤلاء، مثل: زيد بن الخطاب، والزبير وأجل من ذلك مثل: رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالله المستعان! وأعظم من ذلك، وأعظم: أنهم يستغيثون بالطواغيت، والكفرة المردة، مثل: شمسان; وإدريس، ويوسف، وأمثالهم; والله أعلم.
وقال رحمه الله تعالى:
اعلم رحمك الله أن فرض معرفة شهادة أن لا إله إلا الله قبل فرض الصلاة، والصوم؛ فيجب على العبد أن يبحث عن معنى ذلك، أعظم من وجوب بحثه عن الصلاة، والصوم. وتحريم الشرك، والإيمان بالطاغوت أعظم من تحريم نكاح الأمهات، والعمات; فأعظم مراتب الإيمان بالله: شهادة أن لا إله إلا الله.
ومعنى ذلك: أن يشهد العبد أن الإلهية كلها لله، ليس منها شيء لنبي، ولا لملك، ولا لولي، بل هي حق الله على عباده. والألوهية هي التي تسمى في زماننا: السر؟ والإله في كلام العرب هو الذي يسمى في زماننا: الشيخ، والسيد، الذي يدعى به، ويستغاث به; فإذا عرف الإنسان أن هذا الذي يعتقده كثيرون في شمسان وأمثاله، أو قبر بعض الصحابة، هو العبادة التي لا تصلح إلا لله، وأن من اعتقد في نبي من الأنبياء فقد كفر، وجعله مع الله إلها آخر، فهذا لم يكن قد شهد أن لا إله إلا الله.
ومعنى الكفر بالطاغوت: أن تبرأ من كل ما يعتقد فيه غير الله، من جنى، أو أنسى، أو شجر، أو حجر، أو غير
ذلك; وتشهد عليه بالكفر، والضلال، وتبغضه، ولو كان أنه أبوك أو أخوك; فأما من قال أنا لا أعبد إلا الله، وأنا لا أتعرض السادة، والقباب على القبور، وأمثال ذلك، فهذا كاذب في قول لا إله إلا الله، ولم يؤمن بالله، ولم يكفر بالطاغوت.
وهذا كلام يسير، يحتاج إلى بحث طويل، واجتهاد في معرفة دين الإسلام، ومعرفة ما أرسل الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، والبحث عما قال العلماء، في قوله:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة البقرة آية: 256] ، ويجتهد في تعلم ما علمه الله رسوله، وما علمه الرسول أمته من التوحيد; ومن أعرض عن هذا فطبع الله على قلبه، وآثر الدنيا على الدين، لم يعذره الله بالجهالة، والله أعلم.
[لا إله إلا الله تنفي أربعة أنواع وتثبت أربعة]
وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه، ما نصه:
اعلم رحمك الله: أن معنى لا إله إلا الله، نفي وإثبات: لا إله نفي، إلا الله إثبات; تنفي أربعة أنواع; وتثبت أربعة أنواع; المنفي الآلهة، والطواغيت، والأنداد، والأرباب.
فالإله ما قصدته بشيء من جلب خير أو دفع ضر، فأنت متخذه إلها، والطواغيت: من عبد، وهو راض، أو ترشح للعبادة، مثل: شمسان; أو تاج، أو أبو حديدة.
والأنداد: ما جذبك عن دين الإسلام، من أهل، أو
مسكن، أو عشيرة، أو مال، فهو: ند، لقوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] .
والأرباب: من أفتاك بمخالفة الحق، وأطعته مصدقا، لقوله تعالى:
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة التوبة آية: 31] .
وتثبت أربعة أنواع: القصد: كونك ما تقصد إلا الله; والتعظيم، والمحبة، لقوله عز وجل {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] ، والخوف، والرجاء، لقوله تعالى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [سورة يونس آية: 107] .
فمن عرف هذا، قطع العلائق من غير الله، ولا يكبر عليه جهامة الباطل، كما أخبر الله عن إبراهيم، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، بتكسيره الأصنام، وتبريه من قومه; لقوله تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] .
وقال أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه:
اعلم أرشدك الله؛ أن الله خلقك لعبادته، وأوجب
عليك طاعته; ومن أفرض عبادته عليك: معرفة لا إله إلا الله، علما، وقولا، وعملا؛ والجامع لذلك، قوله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103]، وقوله:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [سورة الشورى آية: 13] .
فاعلم: أن وصية الله لعباده، هي: كلمة التوحيد، الفارقة بين الكفر، والإسلام; فعند ذلك: افترق الناس، سواء جهلا، أو بغيا، أو عنادا; والجامع لذلك: اجتماع الأمة على وفق قول الله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [سورة الشورى آية: 13]، وقوله:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} الآية [سورة يوسف آية: 108] .
فالواجب على كل أحد، إذا عرف التوحيد وأقر به، أن يحبه بقلبه، وينصره بيده ولسانه; وينصر من نصره ووالاه; وإذا عرف الشرك وأقربه أن يبغضه بقلبه، ويخذله بلسانه، ويخذل من نصره ووالاه، باليد واللسان والقلب; هذه حقيقة الأمرين; فعند ذلك يدخل في سلك من قال الله فيهم:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] .
فنقول: لا خلاف بين الأمة، أن التوحيد: لا بد أن يكون بالقلب، الذي هو العلم واللسان الذي هو القول; والعمل الذي هو تنفيذ الأوامر والنواهي; فإن أخل بشيء
من هذا، لم يكن الرجل مسلما; فإن أقر بالتوحيد ولم يعمل به، فهو كافر، معاند، كفرعون وإبليس; وإن عمل بالتوحيد ظاهرا، وهو لا يعتقده باطنا، فهو: منافق خالصا، أشر من الكافر; والله أعلم.
قال رحمه الله: وهو نوعان: توحيد الربوبية; وتوحيد الألوهية. أما توحيد الربوبية، فأقر به الكافر والمسلم; وأما توحيد الألوهية، فهو الفارق بين الكفر والإسلام، فينبغي لكل مسلم أن يميز بين هذا، وهذا.
ويعرف أن الكفار لا ينكرون أن الله هو الخالق، الرازق، المدبر; قال الله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} الآية [سورة يونس آية: 31]، وقال:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة العنكبوت آية: 61] .
فإذا تبين لك أن الكفار يقرون بذلك، عرفت أن قولك: لا يخلق ولا يرزق إلا الله ولا يدبر الأمر إلا الله; لا يصيرك مسلما حتى تقول: لا إله إلا الله، مع العمل بمعناها؛ فهذه الأسماء، كل واحد منها، له معنى يخصه.
أما قولك: الخالق، فمعناه: الذي أوجد جميع مخلوقاته، بعد عدمها; وأما قولك: الرازق، فمعناه: أنه لما
أوجد الخلق، أجرى عليهم أرزاقهم؛ وأما المدبر، فهو: الذي تنزل الملائكة من السماء إلى الأرض بتدبيره، وتصعد إلى السماء بتدبيره، ويسير السحاب، بتدبيره، وتصرف الرياح، بتدبيره؛ وكذلك جميع خلقه، هو: الذي يدبرهم، على ما يريد. فهذه الأسماء، التي يقر بها الكفار، متعلقة بتوحيد الربوبية، التي يقر بها الكفار.
وأما توحيد الألوهية، فهو قولك: لا إله إلا الله، وتعرف معناها كما عرفت معنى الأسماء المتعلقة بالربوبية، فقولك: لا إله إلا الله، نفي وإثبات; فتنفي الألوهية كلها، وتثبتها لله وحده; فمعنى الإله في زماننا: الشيخ، والسيد، الذي يقال فيهما أو غيرهما: سر ممن يعتقد فيهم أنهم يجلبون منفعة أو يدفعون مضرة; فمن اعتقد في هؤلاء، أو غيرهم، نبيا كان أو غيره، فقد اتخذه إلها من دون الله.
فإن بني إسرائيل لما اعتقدوا في عيسى ابن مريم وأمه سماهما الله إلهين; قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [سورة المائدة آية: 116] . ففي هذا دليل على أن من اعتقد في مخلوق لجلب منفعة، أو دفع مضرة، فقد اتخذه إلها; فإذا كان الاعتقاد في الأنبياء هذا
حاله، فما دونهم أولى.
وأيضا فإن من تبرك بحجر، أو شجر، أو مسح على قبر أو قبة يتبرك بهم، فقد اتخذهم آلهة; والدليل على ذلك أن الصحابة لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، يريدون بذلك التبرك، قال:"الله أكبر: إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [سورة الأعراف آية: 136"137] ".
فمثل قول الصحابة في ذات أنواط، بقول بني إسرائيل، وسماه إلها، ففي هذا دليل على أن من فعل شيئا مما ذكرنا، فقد اتخذه إلها.
والإله هو: المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له، وهو الله وحده، فمن نذر لغير الله، أو ذبح له، فقد عبده، وكذلك: من دعا غير الله
…
قال الله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 106]، وفي الحديث:"الدعاء مخ العبادة" 1، وكذلك: من جعل بينه وبين الله واسطة، وزعم أنها تقربه إلى الله، فقد عبده.
وقد ذكر الله ذلك عن الكفار، فقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا
1 الترمذي: الدعوات (3371) .
عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3]، وكذلك ذكر عن الذين: جعلوا الملائكة وسائط، فقال:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سورة سبأ آية: 41] .
فذكر سبحانه: أن الملائكة نزهوه عن ذلك، وأنهم تبرؤوا من هؤلاء، وأن عبادتهم كانت للشياطين، الذين يأمرونهم بذلك، وذكر سبحانه عن الذين جعلوا الصالحين وسائط، فقال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [سورة الإسراء آية: 57"56]، وذكر سبحانه: أنهم لا يملكون كشف الضر عن أحد، ولا عن أنفسهم، وأنهم لا يحولونه عن أحد; وأنهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه; فهذا يبين لك معنى لا إله إلا الله.
فإذا عرفت حال المعتقدين في عيسى بن مريم، والمعتقدين في الملائكة، والمعتقدين في الصالحين، وحالهم معهم، أنهم: لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، فضلا عن غيرهم، عرفت أن من اعتقد فيمن دونهم أضل سبيلا; فحينئذ يتبين لك معنى لا إله إلا الله، والله أعلم
مذاكرة الشيخ: أهل حرمة.
قال لهم: لا إله إلا الله، سألنا عنها كل من جاءنا منكم من مطوع، ولا وجدنا عندهم، إلا أنها لفظة ما لها معنى! ومعناها لفظها! ومن قالها فهو مسلم! ووقتا يقولون لها معنى، لكن معناها لا شريك له في ملكه!
ونحن نقول: لا إله إلا الله، ليست باللسان فقط، لا بد للمسلم إذا لفظ بها، أنه يعرف معناها بقلبه; وهي التي جاءت لها الرسل، وإلا فالملك ما جاءت الرسل له.
وأنا أبين لكم إن شاء الله مسألة التوحيد، ومسألة الشرك، تعرفون: المشهد فيه قبة، والذي من الرجال صلى الظهر، قام واستقبل القبر، وولى الكعبة قفاه، وركع لعلي ركعتين، صلاته لله توحيد، وصلاته لعلي شرك، أأنتم فهمتم؟ قالوا: فهمنا، صار هذا مشركا، صلى لله، وصلى لغيره.
ولله سبحانه حق على عبده، في البدن، والمال، والصلاة: زكاة البدن، والزكاة في المال حق لله; فإذا زكيت لله، وخرجت بشيء تقسمه عند القبة، فزكاتك لله توحيد، وزكاتك للمخلوق شرك; كذلك سفك الدم: إن ذبحت لله توحيد، وإن ذبحت لغيره صار شركا، كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} [سورة الأنعام آية: 162]، والنسك: سفك الدم; كذلك التوكل، من أنواع العبادة، إن توكلت على الله صار توحيدا; وإن
توكلت على صاحب القبة، صار شركا، قال تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [سورة هود آية: 123] .
وأكبر من ذلك كله: الدعاء; تفهمون أن الدعاء مخ العبادة; قالوا: نعم; قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، أنتم تفهمون أن هنا من يدعو الله، ويدعو الزبير، ويدعو الله، ويدعو عبد القادر، الذي يدعو الله وحده مخلص; وإن دعا غيره صار مشركا، فهمتم هذا؟ قالوا: فهمنا، قال الشيخ: هذا إن فهمتموه، فهذا الذي بيننا وبين الناس.
فإن قالوا: هؤلاء يعبدون أصناما، ويدعونهم، يريدون منهم; ونحن عبيد مذنبون، وهم صالحون، ونبغي بجاههم، فقل لهم: عيسى نبي الله عليه السلام، وأمه صالحة، والعزير صالح، والملائكة كذلك; والذين يدعونهم أخبر الله عنهم، وأنهم ما أرادوا منهم ما أرادوا إلا بجاههم قربة وشفاعة.
واقرأ عليه الآيات في الملائكة، في قوله تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} الآية وفي الأنبياء، قوله:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} الآية [سورة النساء آية: 171]، وفي الصالحين:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} الآية [سورة الإسراء آية: 56] ، ولا فرق بينهم صلى الله عليه وسلم.
وسئل عن قوله صلى الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله صادقا "1.
1 أحمد (4/402) .
والحديث الآخر: "مخلصا دخل الجنة" ما معنى الصدق؟ والإخلاص؟ والفرق بينهما؟ وأيضا حديث: البطاقة، كونها رجحت بتلك السجلات، لما تضمنت من الإخلاص، والصدق; ما معنى: الصدق في ذلك؟
فأجاب رحمه الله:
المسألة كبيرة; ولما ذكر الإمام أحمد الصدق والإخلاص، قال: بهما ارتفع القوم، ولكن يقربهما إلى الفهم: التفكر في بعض أفراد العبادة، مثل الصلاة، فالإخلاص فيها، يرجع إلى إفرادها عما يخالطها كثيرا، من الرياء، والطبع، والعادة، وغيرها؛ والصدق يرجع إلى إيقاعها على الوجه المشروع ولو أبغضه الناس لذلك. وحديث البطاقة: أنه رزق عند الخاتمة قولها، على ذلك الوجه، والأعمال بالخواتيم; مع أن علي بقية إشكال، والله أعلم.
وقال أيضا: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
هذه: أمور خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عليه أهل الجاهلية
الكتابيين، والأميين، مما لا غنى للمسلم عن معرفتها.
فالضد يظهر حسنه الضد
…
وبضدها تتبين الأشياء
فأهم ما فيها، وأشدها خطرا: عدم إيمان القلب بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن انضاف إلى ذلك استحسان ما عليه أهل الجاهلية، تمت الخسارة، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [سورة العنكبوت آية: 52] .
المسألة الأولى: أنهم يتعبدون بإشراك الصالحين في دعاء الله وعبادته، يريدون شفاعتهم عند الله، كما قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، وهذه أعظم مسألة خالفهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى بالإخلاص، وأخبر أنه دين الله، الذي أرسل به جميع الرسل، وأنه لا يقبل من الأعمال إلا الخالص; وأخبر أن من فعل ما يستحسنونه، فقد حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار; وهذه المسألة هي التي تفرق الناس لأجلها، بين مسلم وكافر; وعندها وقعت العداوة، ولأجلها شرع الجهاد، كما قال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] .
المسألة الثانية: أنهم متفرقون في دينهم، كما قال تعالى:{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة المؤمنون آية: 53] ، وكذلك في دنياهم، ويرون ذلك هو الصواب، فأتى بالاجتماع في الدين بقوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [سورة الشورى آية: 13]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 159]، ونهانا عن مشابهتهم بقوله:{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [سورة آل عمران آية: 105]، ونهانا عن التفرق في الدين بقوله:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] .
المسألة الثالثة: أن مخالفة ولي الأمر عندهم، وعدم الانقياد له، فضيلة، والسمع والطاعة ذل ومهانة; فخالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بالصبر على جور الولاة، وأمر بالسمع والطاعة لهم، والنصيحة، وغلظ في ذلك، وأبدى فيه وأعاد. وهذه الثلاث التي جمع بينها فيما ذكر عنه، في الصحيحين أنه قال:" إن الله يرضى لكم ثلاثا، أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم "1 ولم يقع خلل في دين الناس، ودنياهم، إلا بسبب الإخلال بهذه الثلاث، أو بعضها.
الرابعة: أن دينهم مبني على أصول، أعظمها التقليد، فهو القاعدة الكبرى لجميع الكفار، أولهم وآخرهم، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
1 أحمد (2/367)، ومالك: الجامع (1863) .
آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 23]، وقال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [سورة لقمان آية: 21]، فأتاهم بقوله:{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} الآية [سورة سبأ آية: 46]، وقوله:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3] .
الخامسة: أن من أكبر قواعدهم: الاغترار بالأكثر، ويحتجون به على صحة الشيء، ويستدلون على بطلان الشيء بغربته وقلة أهله، فأتاهم بضد ذلك، وأوضحه في غير موضع من القرآن.
السادسة: الاحتجاج بالمتقدمين، كقوله:{قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [سورة طه آية: 51]، {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا} [سورة المؤمنون آية: 24] .
السابعة: الاستدلال بقوم أعطوا قوى في الأفهام والأعمال، وفي الملك والمال والجاه; فرد الله ذلك بقوله:{وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} الآية [سورة الأحقاف آية: 26]، وقوله:{وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [سورة البقرة آية: 89]، وقوله:{يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} الآية [سورة البقرة آية: 146] .
الثامنة: الاستدلال على بطلان الشيء، بأنه لم يتبعه إلا الضعفاء كقوله:{أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [سورة الشعراء آية: 111]، وقوله:{أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [سورة الأنعام آية: 53] ، فرده الله
بقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [سورة الأنعام آية: 53] .
التاسعة: الاقتداء بفسقة العلماء فأتى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 34]، وبقوله:{لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [سورة المائدة آية: 77] .
العاشرة: الاستدلال على بطلان الدين بقلة أفهام أهله، وعدم حفظهم كقوله:{بَادِيَ الرَّأْيِ} [سورة هود آية: 27] .
الحادية عشر: الاستدلال بالقياس الفاسد، كقوله:{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [سورة إبراهيم آية: 10] .
الثانية عشر: إنكار القياس الصحيح. والجامع لهذا وما قبله: عدم فهم الجامع والفارق.
الثالثة عشر: الغلو في العلماء، والصالحين كقوله:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [سورة النساء آية: 171] .
الرابعة عشر: أن كل ما تقدم مبني علي قاعدة وهي: النفي والإثبات، فيتبعون الهوى والظن، ويعرضون عما آتاهم الله.
الخامسة عشر: اعتذارهم عن اتباع ما آتاهم الله بعدم
الفهم، كقوله:{قُلُوبُنَا غُلْفٌ} ، {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ} [سورة هود آية: 91] ، فأكذبهم الله، وبين أن ذلك بسبب الطبع على قلوبهم; والطبع بسبب كفرهم.
السادسة عشر: اعتياضهم عما أتاهم من الله، بكتب السحر، كما ذكر الله ذلك، في قوله:{نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [سورة البقرة آية: 101"102] .
السابعة عشر: نسبة باطلهم إلى الأنبياء، كقوله:{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [سورة البقرة آية: 102]، وقوله:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً} [سورة آل عمران آية: 67] .
الثامنة عشر: تناقضهم في الانتساب، ينتسبون إلى إبراهيم مع إظهارهم ترك اتباعه.
التاسعة عشر: قدحهم في بعض الصالحين، بفعل بعض المنتسبين، كقدح اليهود في عيسى، وقدح اليهود والنصارى في محمد صلى الله عليه وسلم.
العشرون: اعتقادهم في مخاريق السحرة وأمثالهم أنها من كرامات الصالحين، ونسبته إلى الأنبياء، كما نسبوه لسليمان.
الحادية والعشرون: تعبدهم بالمكاء والتصدية.
الثانية والعشرون: أنهم اتخذوا دينهم لهوا ولعبا.
الثالثة والعشرون: أن الحياة الدنيا غرتهم، فظنوا أن عطاء الله منها يدل على رضاه، كقوله:{نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سورة سبأ آية: 35] .
الرابعة والعشرون: ترك الدخول في الحق إذا سبقهم إليه الضعفاء، تكبرا، وأنفة، فأنزل الله:{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الآيات [سورة الأنعام آية: 52] .
الخامسة والعشرون: الاستدلال على بطلانه بسبق الضعفاء، كقوله:{لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [سورة الأحقاف آية: 11] .
السادسة والعشرون: تحريف كتاب الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون.
السابعة والعشرون: تصنيف الكتب الباطلة ونسبتها إلى الله، كقوله:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} الآية [سورة البقرة آية: 79] .
الثامنة والعشرون: أنهم لا يعقلون من الحق إلا الذي مع طائفتهم، كقوله:{نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [سورة البقرة آية: 91] .
التاسعة والعشرون: أنهم مع ذلك لا يعلمون بما تقوله الطائفة، كما نبه الله عليه بقوله:{فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [سورة البقرة آية: 91] .
الثلاثون:" وهي من عجائب آيات الله" أنهم لما تركوا وصية الله بالاجتماع، وارتكبوا ما نهى الله عنه من الافتراق، صار كل حزب بما لديهم فرحون.
الحادية والثلاثون:" وهي من عجائب الله أيضا" معاداتهم الدين، الذي انتسبوا إليه، غاية العداوة، ومحبتهم دين الكفار الذين عادوهم وعادوا نبيهم، غاية المحبة، كما فعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاهم بدين موسى، واتبعوا كتب السحر، وهي من دين آل فرعون.
الثانية والثلاثون: كفرهم بالحق إذا كان مع من لا يهوونه، كما قال تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} الآية [سورة البقرة آية: 113] .
الثالثة والثلاثون: إنكارهم ما أقروا أنه من دينهم، كما فعلوا في حج البيت، فقال تعالى:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [سورة البقرة آية: 130] .
الرابعة والثلاثون: أن كل فرقة تدعي أنها الناجية، فأكذبهم الله بقوله:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة البقرة آية: 111]، ثم بين الصواب بقوله:{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} الآية [سورة البقرة آية: 112] .
الخامسة والثلاثون: التعبد بكشف العورات، كقوله:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} الآية [سورة الأعراف آية: 28] .
السادسة والثلاثون: التعبد بتحريم الحلال، كما تعبدوا بالشرك.
السابعة والثلاثون: التعبد باتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله.
الثامنة والثلاثون: الإلحاد في الصفات كقوله تعالى: {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ} [سورة فصلت آية: 22] .
التاسعة والثلاثون: الإلحاد في الأسماء، كقوله:{وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [سورة الرعد آية: 30] .
الأربعون: التعطيل، كقول آل فرعون.
الحادية والأربعون: نسبة النقائص إليه.
الثانية والأربعون: الشرك في الملك: كقول المجوس.
الثالثة والأربعون: جحود القدر.
الرابعة والأربعون: الاحتجاج على الله.
الخامسة والأربعون: معارضة شرع الله بقدره.
السادسة والأربعون: مسبة الدهر كقولهم: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [سورة الجاثية آية: 24] .
السابعة والأربعون: إضافة نعم الله إلى غيره كقوله:
{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [سورة النحل آية: 83] .
الثامنة والأربعون: الكفر بآيات الله.
التاسعة والأربعون: جحد بعضها.
الخمسون: قولهم ما أنزل الله على بشر من شيء.
الحادية والخمسون: قولهم في القرآن: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَر} [سورة المدثر آية: 25] .
الثانية والخمسون: القدح في حكمة الله تعالى.
الثالثة والخمسون: أعمال الحيل الظاهرة والباطنة، في دفع ما جاءت به الرسل، كقوله:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [سورة آل عمران آية: 54]، وقوله تعالى:{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ} [سورة آل عمران آية: 72] .
الرابعة والخمسون: الإقرار بالحق ليتوصلوا به إلى دفعه، كما قال في الآية.
الخامسة والخمسون: التعصب للمذهب، كقوله فيها:{وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [سورة آل عمران آية: 73] .
السادسة والخمسون: تسمية اتباع الإسلام شركا، كما ذكره في قوله تعالى:{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآيتين [سورة آل عمران آية: 79] .
السابعة والخمسون: تحريف الكلم عن مواضعه.
الثامنة والخمسون: لي الألسنة بالكتاب.
التاسعة والخمسون: تلقيب أهل الهدى، بالصباة، والحشوية.
الستون: افتراء الكذب على الله.
الحاديه والستون: التكذيب بالحق.
الثانية والستون: كونهم إذا غلبوا بالحجة فزعوا إلى الشكوى للملوك، كما قال:{أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [سورة الأعراف آية: 127] .
الثالثة والستون: رميهم إياهم بالفساد في الأرض، كما في الآية.
الرابعة والستون: رميهم إياهم بانتقاص دين الملك، كما قال تعالى:{وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [سورة الأعراف آية: 127]، وكما قال تعالى:{ِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} الآية [سورة غافر آية: 26] .
الخامسة والستون: رميهم إياهم بانتقاص آلهة الملك، كما في الآية.
السادسة والستون: رميهم إياهم بتبديل الدين، كما قال:{إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [سورة غافر آية: 26] .
السابعة والستون: رميهم إياهم بانتقاص الملك، كقولهم:{وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [سورة الأعراف آية: 127] .
الثامنة والستون: دعواهم العمل بما عندهم من الحق، كقوله:
{نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [سورة البقرة آية: 91] ، مع تركهم إياه.
التاسعة والستون: الزيادة في العبادة، كفعلهم يوم عاشوراء.
السبعون: نقصهم منها، كتركهم الوقوف بعرفات.
الحادية والسبعون: تركهم الواجب ورعا.
الثانية والسبعون: تعبدهم بترك الطيبات من الرزق.
الثالثة والسبعون: تعبدهم بترك زينة الله.
الرابعة والسبعون: دعاؤهم الناس إلى الضلال بغير علم.
الخامسة والسبعون: دعواهم محبة الله، مع تركهم شرعه، فطالبهم الله بقوله:{إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} الآية [سورة آل عمران آية: 31] .
السادسة والسبعون: دعاؤهم إياهم إلى الكفر، مع العلم.
السابعة والسبعون: المكر الكبار، كفعل قوم نوح.
الثامنة والسبعون: أن أئمتهم إما عالم فاجر، وإما عابد جاهل، كما في قوله:{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 75] إلى قوله: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ} .
التاسعة والسبعون: تمنيهم الأماني الكاذبة، كقولهم:{لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [سورة البقرة آية: 80]، وقولهم:{لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} [سورة البقرة آية: 111] .
الثمانون: دعواهم أنهم أولياء الله من دون الناس.
الحادية والثمانون: اتخاذ قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد.
الثانية والثمانون: اتخاذ آثار أنبيائهم مساجد، كما ذكر عن عمر.
الثالثة والثمانون: اتخاذ السرج على القبور.
الرابعة والثمانون: اتخاذها أعيادا.
الخامسة والثمانون: الذبح عند القبور.
السادسة والثمانون: التبرك بآثار المعظمين، كدار الندوة، وافتخار من كانت تحت يده، كما قيل لحكيم بن حزام: بعت مكرمة قريش؟ فقال: ذهبت المكارم إلا التقوى.
السابعة والثمانون: الاستسقاء بالأنواء.
الثامنة والثمانون: الفخر بالأحساب.
التاسعة والثمانون: الطعن في الأنساب.
التسعون: النياحة.
الحادية والتسعون: أن أجل فضائلهم الفخر بالأنساب، فذكر الله فيه ما ذكر.
الثانية والتسعون: أن أجل فضائلهم الفخر أيضا، ولو بحق، فنهي عنه.
الثالثة والتسعون: أن الذي لا بد منه عندهم، تعصب لإنسان لطائفته، ونصر من هو منها ظالما أو مظلوما، فأنزل الله في ذلك ما أنزل.
الرابعة والتسعون: أن دينهم أخذ الرجل بجريمة غيره، فأنزل الله:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة الأنعام آية: 164] .
الخامسة والتسعون: تعيير الرجل بما في غيره، فقال:" أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية "1.
السادسة والتسعون: الافتخار بولاية البيت، فذمهم الله بقوله:
{مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 67] .
السابعة والتسعون: الافتخار بكونهم ذرية أنبياء، فأتى لله بقوله:{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ} الآية [سورة البقرة آية: 134] .
الثامنة والتسعون: الافتخار بالصنائع، كفعل أهل
1 البخاري: الإيمان (30)، ومسلم: الأيمان (1661)، وأبو داود: الأدب (5157) .
الرحلتين على أهل الحرث.
التاسعة والتسعون: عظمة الدنيا في قلوبهم، كقولهم:{لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [سورة الزخرف آية: 31] .
المائة: التحكم على الله، كما في الآية.
الحادية بعد المائة: ازدراء الفقراء، فأتاهم بقوله:{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [سورة الأنعام آية: 52] .
الثانية بعد المائة: رميهم أتباع الرسل بعدم الإخلاص وطلب الدنيا، فأجابهم بقوله:{مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية [سورة الأنعام آية: 52] ، وأمثالها.
الثالثة بعد المائة: الكفر بالملائكة.
الرابعة بعد المائة: الكفر بالرسل.
الخامسة بعد المائة: الكفر بالكتب.
السادسة بعد المائة: الإعراض عن ما جاء عن الله.
السابعة بعد المائة: الكفر باليوم الآخر.
الثامنة بعد المائة: التكذيب بلقاء الله.
التاسعة بعد المائة: التكذيب ببعض ما أخبرت به الرسل عن اليوم الآخر، كما في قوله:{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ} [سورة الأعراف آية: 147]، ومنها: التكذيب بقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] . وقوله: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [سورة البقرة آية: 254]، وقوله:{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة الزخرف آية: 86] .
العاشرة بعد المائة: الإيمان بالجبت والطاغوت;
الحادية عشر بعد المائة: تفضيل دين المشركين، على دين المسلمين.
الثانية عشر بعد المائة: لبس الحق بالباطل.
الثالثة عشر بعد المائة: كتمان الحق مع العلم به.
الرابعة عشر بعد المائة: قاعدة الضلال وهي: القول على الله بلا علم.
الخامسة عشر بعد المائة: التناقض الواضح لما كذبوا الحق، كما قال تعالى:{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [سورة ق آية: 5] .
السادسة عشر بعد المائة: الإيمان ببعض المنزل دون بعض.
السابعة عشر بعد المائة: التفريق بين الرسل.
الثامنة عشر بعد المائة: مخالفتهم فيما ليس لهم به علم.
التاسعة عشر بعد المائة: دعواهم اتباع السلف، مع التصريح بمخالفتهم.
العشرون بعد المائة: صدهم عن سبيل الله من آمن به.
الحادية والعشرون بعد المائة: مودتهم الكفر والكافرين.
الثانية والعشرون بعد المائة: والثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة والعشرون بعد المائة: العيافة، والطرق، والطيرة، والكهانة، والتحاكم إلى الطاغوت، وكراهية التزويج بين العيدين; والله أعلم1.
1 صححت هذه الرسالة وعدلت أرقام مسائلها وفق ما ظهر من التحقيق لها في القسم الأول من مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من صفحة 333 - إلى نهاية - 352.
وقال أيضا: رحمه الله تعالى:
ذكر بعض ما في قصة الجاهلية المذكورة في السيرة، من الفوائد:
الأولى: ما في قصة ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر من بيان الشرك بالله; وإزالة الشبهة التي أدلى بها المشركون، من قولهم: نريد الجاه والشفاعة، وقولهم: ليس دعوة الصالحين مثل الأصنام وقولهم: نحن نعلم أن الله هو النافع الضار وقولهم: هؤلاء ولو أشركوا، فهم من أمة محمد; وقول شياطينهم: هذا شرك أصغر. فكل هذا: يكشفه قصتهم.
الثانية: مضرة البدع ولو صح قصد مبتدعها، وأنها سبب للخروج عن الإسلام.
الثالثة: التحذير من الغلو.
الرابعة: كون الحق في القلوب ينقص، والباطل يزيد.
الخامسة: التحذير من الكذب على العلماء، وقد يكون الكاذب لم يتعمد.
السادسة: معرفة أن الأصنام لم تعبد لذاتها; وإنما عبدت لأجل الصالحين.
السابعة: أن الردة وعبادة الأصنام، قد يكون سببها فعل بعض الصالحين.
الثامنة: التحذير من الفتنة بقبور الصالحين، لقوله:(عكفوا على قبورهم) .
التاسعة: أن من أسباب الردة بعد الأمد عن النبوة.
العاشرة: أن من أسبابها: نسيان العلم.
الحادية عشر: ما في قصة عمرو بن لحي من التحذير من فتنة البلد الحرام.
الثانية عشر: التحذير من فتنة أهل الشام.
الثالثة عشر:
التفطن لما أعطي عمرو من الأعمال.
الرابعة عشر: ما أعطى من الكمال.
الخامسة عشر: ما أعطى من الملك.
السادسة عشر: ما أعطى من طاعة الناس له.
السابعة عشر: التفطن للفرق بين: كرامات الأولياء، وتنزل الشياطين.
الثامنة عشر: أن من علامات الباطل زيادته كل وقت، وعلامات الحق ثقله ونقصانه. التاسعة عشر: العبرة برؤية النبي صلى الله عليه وسلم له في النار.
العشرون: اللطيفة: كون صور الصالحين يبعث عليها أول الرسل، ولم يكسرها إلا خاتم الرسل. الحادية والعشرون: معرفة أن الكفار لم يقصدوا بالشرك وعبادة الأصنام إلا الخير. الثانية والعشرون: كون بعض الأوثان عندهم أعظم من بعض. الثالثة والعشرون: تفرقهم واختلافهم، في تعظيم أوثانهم وفي عبادتها. الرابعة والعشرون: كونهم في أمر مريج وفي قول مختلف، يقولون: إن الأمر بيد الله لا يدبر إلا هو، ويقولون:{اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [سورة هود آية: 54] . الخامسة والعشرون: فعلهم العبادات1.
[معنى قوله تعالى يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية]
وسئل رحمه الله، عن قوله تعالى:{يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [سورة آل عمران آية: 154]، وقوله:{الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [سورة الفتح آية: 6]، وقوله:{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [سورة فصلت آية: 23] ، ما معنى سوء الظن بالله؟
1 آخر ما وجد.
وقوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [سورة النساء آية: 123]، ما معناه؟ وما معنى: إدخال البخاري إياه في كتاب الطب؟
وكذلك: الحديث الذي أورده: " ما من مسلم يصيبه أذى "1 فإن فسرتم "الأذى" بجميع المكروهات، كما هو المشهور من معنى اللفظ الآخر:" ما يصيب المسلم، من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى "2 فعطف: "الأذى" على ما تقدم، والعطف يقتضي المغايرة، هل المراد: المسلم الذي لم يصدر منه شرك بالكلية; أم لا؟
وما معنى قولهم: من الشرك التصنع للمخلوق، وخوفه، ورجاؤه؟.
وهل المراد به: الشرك الأكبر؟ أو الأصغر؟
وقوله: "أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن بي خيرا فله، وإن ظن بي شرا فله "3 ما معناه؟
فأجاب: أما قوله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [سورة آل عمران آية: 154]، وقوله:{الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [سورة الفتح آية: 6] ، فقد بسط الكلام عليها في الهدى، على وقعة أحد، وقد فسره بأشياء كثيرة، نقولها ونعتقدها، ولا نظن إلا أنها عقل وصواب، فتأمل كلامه تأملا جيدا.
وأما قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [سورة النساء آية: 123] ، وإدخال البخاري لها في كتاب الطب، فمراد البخاري: أن هذه الأمراض، التي يكرهها العبد، هي مما يكفر الله بها عن المؤمن
1 البخاري: المرضى (5647)، ومسلم: البر والصلة والآداب (2571) ، وأحمد (1/381 ،1/441 ،1/455)، والدارمي: الرقاق (2771) .
2 البخاري: المرضى (5642)، ومسلم: البر والصلة والآداب (2573)، والترمذي: الجنائز (966) ، وأحمد (2/303 ،2/335 ،3/4 ،3/18 ،3/24 ،3/38 ،3/48 ،3/61 ،3/81) .
3 أحمد (2/391) .
سيئاته، ويطهره بها، لأن قوله:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [سورة النساء آية: 123]، عام في جزاء الدنيا والآخرة; وأما: إدخاله هذا في كتاب الطب، فواضح، وأهل العلم: يذكرون في الباب، ما هو أبعد من هذا، تعلقا واستطرادا.
وأما قوله: (ما من مسلم يصيبه أذى) فهو عام، وأما عطف:"الأذى" على الوصب، والنصب، والهم; فمن عطف العام على الخاص، وهو كثير جدا في كلام العرب، وفي كلامنا.
وأما سؤالكم: هل هذا في المسلم الذي لم يصدر منه شرك بالكلية؟
فنقول: أما الشرك الذي يصدر من المؤمن وهو لا يدري، مع كونه مجتهدا في اتباع أمر الله ورسوله، فأرجو أن لا يخرجه هذا من الوعد.
وقد صدر من الصحابة أشياء من هذا الباب، كحلفهم بآبائهم، وحلفهم بالكعبة، وقولهم: ما شاء الله وشاء محمد، وقولهم: اجعل لنا ذات أنواط; ولكن إذا بان لهم الحق اتبعوه، ولم يجادلوا فيه حمية الجاهلية لمذهب الآباء والعادات.
وأما الذي يدعي الإسلام، وهو يفعل من الشرك الأمور العظام، فإذا تليت عليه آيات الله استكبر عنها، فليس هذا بالمسلم; وأما الإنسان الذي يفعلها بجهالة، ولم يتيسر له من
ينصحه، ولم يطلب العلم الذي أنزله الله على رسوله، بل أخلد إلى الأرض، واتبع هواه، فلا أدري ما حاله. وأما قول من قال: من الشرك التصنع للمخلوق; فلعل مراده: التصنع بطاعة الله الذي يسمى: الرياء، وهو كثير جدا، فهذا صحيح في أمور لا يفطن لها صاحبها.
وأما خوف المخلوق فالمراد به: الخوف الذي يحملك أن تترك ما فرض الله عليك، وتفعل ما حرم الله عليك، خوفا من ذلك المخلوق; وأما: الرجاء، فلعل المراد: الذي يخرج العبد عن التوكل على الله والثقة بوعده، وكل هذه الأمور كثيرة جدا.
وأما قولك: هل المراد به الشرك الأصغر، أو الأكبر؟ فهذا يختلف باختلاف الأحوال، وقد يتصنع لمخلوق فيخافه، أو يرجوه، فيدخل في الشرك الأصغر، وقد يتزايد ذلك ويتوغل فيه، حتى يصل إلى الشرك الأكبر.
وسئل رحمه الله:
عن معنى عقد اللحية؟ والضرب في الأرض؟ هو الذي نعرف: أن بعضهم يخط خطوطا، ثم يعدها: إن ظهرت شفعا فكذا، وإن ظهرت وترا فكذا، أم غير ذلك؟ وتفسير:"الجبت" برنة الشيطان; ما رنة الشيطان؟. وحديث: "من ردته الطيرة فقد أشرك، وكفارة ذلك أن تقول: اللهم لا طير إلا طيرك" إلخ، أم كيف يزول ذلك الشرك بهذا اللفظ؟ مع أن الطيرة مخامرة باطنة، واللفظ وحده لا يفيد، أو فائدة
قليلة؟ وما معنى: الفخر، والطعن؟ وما معنى مكر الله بالعبد؟ وما الفرق بين الروح، والرحمة؟
فأجاب رحمه الله: عقد اللحية: لا أعلمه، لكن ذكر في الآداب ما يقتضي أنه شيء يفعله بعض الناس في الحرب، على وجه التكبر. وأما الضرب، فهو مشهور جدا حتى إن بعض الناس يخط، فمن وافق خطه فذاك، والذي يبدو للذهن: أنه عام في كل أنواع الخط، وخط ذلك النبيِّ عُدِمَ، لا يوجد من يعرفه.
ورنة الشيطان: لا أعرف مقصود الحسن، بل عادة السلف، يفسرون اللفظ العام ببعض أفراده، وقد يكون السامع يعتقد أن ذلك ليس من أفراده، وهذا كثير في كلامهم جدا، ينبغي التفطن له.
وقوله في الطيرة: "وكفارة ذلك أن تقول" إلخ.
فالطيرة تعم أنواعا، منها ما لا إثم فيه، كما قال عبد الله:(وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل) ; فإذا وقع في القلب شيء، وكرهه، ولم يعمل به، بل خالفه، وقال، لم يضره، فإن قال من الحسنات شيئا فهو أبلغ وأتم في الكفارة; فلو قدرنا أن تلك الطيرة من الشرك الخفي أو الظاهر، ثم تاب منه، وقال هذا الكلام على طريق التوبة، فكذلك.
وأما الفخر بالأحساب؛ فالأحساب: الذي يذكر عن مناقب الآباء السالفين، التي نسميها: المراجل; إذا تقرر هذا، ففخر الإنسان بعمله منهي عنه; فكيف افتخاره بعمل غيره؟!
وأما الطعن في الأنساب، ففسر بالموجود في زماننا: ينتسب إنسان إلى قبيلة، ويقول بعض الناس: ليس منهم، من غير بينة، بل الظاهر أنه منهم.
وأما مكر الله، فهو: أنه إذا عصاه وأغضبه، أنعم عليه بأشياء يظن أنها من رضاه عليه. وأما الفرق بين الروح والرحمة، فلا أعرفه، ولعله: فرق لطيف، لأن الروح فسر بالرحمة في مواضع.
وسئل رحمه الله:
عن الوعيد فيمن حفظ القرآن ثم نسيه، هل هو صحيح، أم غير ذلك؟. أيضا نبهني عبد الوهاب في خطه للموصلي: أنك ما رضيت قوله: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في مشيئته وإرادته، حتى إني أفكر فيها، ولا بان لي فيها شيء أيضا، سوى المذكور عند النووي:
" اللهم إني أسلمت نفسي إليك "1 إلخ، بين لي معناه، جزاك الله خيرا.
الجواب: الوعيد فيمن حفظ القرآن ثم نسيه ثابت عند أهل الحديث; فإن كنت قد حفظت القرآن، أو شيئا منه، ثم نسيته، فودي أن تعود إليه. وأما قوله في الخطبة:
1 البخاري: الدعوات (6311)، ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2710)، والترمذي: الدعوات (3394 ،3574)، وأبو داود: الأدب (5046)، وابن ماجه: الدعاء (3876) ، وأحمد (4/285 ،4/290 ،4/292 ،4/296 ،4/299 ،4/301)، والدارمي: الاستئذان (2683) .
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك في مشيئته، وإرادته، فعجب! كيف يخفى عليك؟ هذا للألوهية، والمذكور في الخطبة توحيد الربوبية، الذي أقر به الكفار.
وأما قوله: " اللهم إني أسلمت نفسي إليك "1 إلى آخره، فترجع إلى الإخلاص، والتوكل، ولو كان بينهما فروق لطيفة. والله أعلم.
وسئل رحمه الله:
عن الفقير الصابر، والغني الشاكر أيهما أفضل؟ وعن حد الصبر وحد الشكر؟. فأجاب: أما مسألة الغنى والفقر، فالصابر والشاكر كل منهما من أفضل المؤمنين; وأفضلهما: أتقاهما، كما قال تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات آية: 13] .
وأما حد الصبر وحد الشكر، فلا عندي علم إلا المشهور بين العلماء، أن الصبر: عدم الجزع، والشكر: أن تطيع الله بنعمته التي أعطاك.
[رسالة حسين وعبد الله ابني الشيخ إلى الحفظى في الحث على التوحيد]
قال ابنا الشيخ محمد، رحمهم الله تعالى، ما نصه:
بسم الله الرحمن الر حيم
من حسين، وعبد الله، ابني الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، إلى جناب: الأخ في الله: محمد بن أحمد الحفظي، سلمه الله تعالى من الآفات، واستعمله بالباقيات
1 البخاري: الدعوات (6311)، ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2710)، والترمذي: الدعوات (3394 ،3574)، وأبو داود: الأدب (5046)، وابن ماجه: الدعاء (3876) ، وأحمد (4/285 ،4/290 ،4/292 ،4/296 ،4/299 ،4/301)، والدارمي: الاستئذان (2683) .
الصالحات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإنا نحمد الله إليك، الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير; والصلاة والسلام، على نبيه وحبيبه، محمد البشير النذير، وعلى آله وأصحابه أولي الفضل الشهير، والعلم المستطير، وقد وصل الله إلينا كتابك، وفهمنا ما حواه، من حسن خطابك; وتذكر أنك على هذا الدين، الذي نحن عليه، من إخلاص الدين لله، وترك عبادة ما سواه، وأنك لا ترضى بالإشراك والتخلف عن التوحيد، ولو قدر فواق.
فالحمد لله الذي من علينا وعليك، وهذا هو أفرض الفرائض على جميع الخلق; ومن انتفع بهذا الدين، واستقام عليه، فله البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة وله العزة والرفعة والجاه، والملابس الفاخرة; وفي الحديث: عن الصادق المصدوق، صلوات الله وسلامه عليه، قال:" إن الله ليرفع بهذا الدين أقواما، ويضع به آخرين ".
والذي نوصيك به، ونحضك عليه: التفقه في التوحيد، ومطالعة مؤلفات شيخنا رحمه الله، فإنها تبين لك حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله، وحقيقة الشرك الذي حرمه الله ورسوله، وأخبر أنه لا يغفره، وأن الجنة على فاعله حرام، وأن من فعله حبط عمله، والشأن كل الشأن، في معرفة حقيقة التوحيد، الذي بعث الله به رسوله، وبه يكون الرجل مسلما، مفارقا للشرك وأهله; وذلك لأن كثيرا
من المصنفين، إذا ذكر التوحيد لم يبينه، وقد يفسره بتوحيد الربوبية، الذي أقر به المشركون; ومنهم من يفسره بتوحيد الذات، والصفات; وذلك وإن كان حقا، فليس هو المراد من توحيد العبادة، الذي هو معنى لا إله إلا الله.
وكثير من المصنفين يفسر الشرك بالإشراك في توحيد الربوبية، الذي أقر به كفار العرب، وغيرهم من طوائف المشركين، كما قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة العنكبوت آية: 61]، وقال:{قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [سورة المؤمنون آية: 88] ، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أن المشركين يقرون بتوحيد الربوبية، وإنما الخلاف بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم هو في توحيد الإلهية، الذي هو توحيد العبادة; ولهذا لم يصيروا موحدين بمجرد الإقرار بتوحيد الربوبية; فإياك أن تغتر بما أحدثه المتأخرون وابتدعوه، كابن حجر: الهيتمي وأشباهه.
واعتمد في هذا الأصل على كتاب الله الذي أنزله تبيانا لكل شيء، وهدى ورحمة وبشرى للمؤمنين، وعلى ما كان عليه السلف الصالح من أصحابه والتابعين لهم بإحسان، ولا تغتر بما حدث بعدهم من البدع المضلة في أصول الدين وفروعه، كما قال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}
[سورة الأنعام آية: 153] .
وبهذا تعرف أن حقيقة أصل الإسلام، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله: أن لا نعبد إلا الله وحده لا شريك له.
وتحقيق شهادة أن محمدا رسول الله، هو أن يطاع فيما أمر، وينتهى عما عنه نهى وزجر، ويكون هو الإمام المتبع، ومن سواه فيؤخذ من كلامه ويترك; فعلى أقواله وأفعاله: تعرض الأقوال والأفعال; فما وافق قوله، فهو: المقبول; وما خالفه فهو المردود; وكاتبه حمد بن ناصر بن معمر، وصلى الله على محمد.
وسئل الشيخ: حمد بن ناصر، بن معمر، رحمه الله تعالى، عن الفرق بين الشفاعة المثبتة، والمنفية؟
فأجاب: أما الفرق بين الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية، فهي مسألة عظيمة، ومن لم يعرفها لم يعرف حقيقة التوحيد والشرك; والشيخ رحمه الله تعالى عقد لها بابا في كتاب التوحيد، فقال: باب الشفاعة، وقول الله تعالى:{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 51] ، ثم ساق الآيات، وعقبه بكلام الشيخ تقي الدين.
فأنت راجع الباب، وأمعن النظر فيه، يتبين لك حقيقة الشفاعة، والفرق بين ما أثبته القرآن وما نفاه، وإذا تأمل الإنسان القرآن، وجد فيه آيات كثيرة في نفي الشفاعة، وآيات كثيرة
في إثباتها; فالآيات التي فيها نفي الشفاعة، مثل قوله:{لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [سورة الأنعام آية: 51]، ومثل قوله:{أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [سورة البقرة آية: 254]، وقوله:{مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [سورة السجدة آية: 4]، وقوله:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [سورة الزمر آية: 44] ، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الآيات التي فيها إثبات الشفاعة، فمثل قوله تعالى:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [سورة النجم آية: 26]، وقوله:{وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 23]، وقوله:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [سورة الأنبياء آية: 28]، وقوله:{يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [سورة طه آية: 109] ، إلى غير ذلك من الآيات.
فالشفاعة التي نفاها القرآن هي; التي يطلبها المشركون من غير الله، فيأتون إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى قبر من يظنونه من الأولياء والصالحين; فيستغيث به، ويستشفع به إلى الله، لظنه أنه إذا فعل ذلك شفع له عند الله، وقضى الله حاجته، سواء أراد حاجة دنيوية أو حاجة أخروية، كما حكى الله عن المشركين في قوله:{وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [سورة يونس آية: 18] ، لكن كان الكفار الأولون، يستشفعون بهم في قضاء الحاجات الدنيوية; وأما المعاد، فكانوا مكذبين به، جاحدين له; وأما المشركون اليوم فيطلبون من غير الله حوائج الدنيا والآخرة;
ويتقربون بذلك إلى الله، ويستدلون عليه بالأدلة الباطلة، و {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [سورة الشورى آية: 16] .
وأما الشفاعة: التي أثبتها القرآن، فقيدها سبحانه بإذنه للشافع، ورضاه عن المشفوع له; فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا يأذن للشفعاء أن يشفعوا إلا لمن رضي قوله وعمله; وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد.
وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أسعد الناس بشفاعته أهل التوحيد والإخلاص، فمن طلبها منه اليوم، حرمها يوم القيامة؛ والله سبحانه قد أخبر أن المشركين لا تنفعهم شفاعة الشافعين; وإنما تنفع من جرد توحيده، بحيث أن يكون الله وحده هو إلهه، ومعبوده؛ وهو سبحانه: لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا، كما قال تعالى:{أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 3] .
فإذا تأملت الآيات، تبين لك أن الشفاعة المنفية هي التي يظنها المشركون، ويطلبونها اليوم من غير الله. وأما الشفاعة المثبتة فهي التي لأهل التوحيد والإخلاص. كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن شفاعته نائلة من مات من أمته، لا يشرك بالله شيئا; والله أعلم.
وسئل أيضا: الشيخ حمد بن ناصر بن معمر، عن قوله:(أسألك بحق السائلين عليك)
…
؟ إلخ.
فأجاب: أما السؤال عن قول الخارج إلى الصلاة: (اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك) ، فهذا ليس فيه دليل على جواز السؤال بالمخلوق، كما قد توهم بعض الناس فاستدل به على جواز التوسل بذوات الأنبياء والصالحين ; وإنما هو سؤال الله تعالى بما أوجبه على نفسه، فضلا وكرما، لأنه يجيب سؤال السائلين إذا سألوه، كما قال تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [سورة البقرة آية: 186] .
ونظيره قوله تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الروم آية: 47]، وقوله:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [سورة هود آية: 6]، وقوله:{وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الأنبياء آية: 88] . هذا ما ذكره العلماء في الحديث الوارد في ذلك إن صح، وإلا فهو ضعيف، وعلى تقدير صحته فهو من باب السؤال بصفات الله، لا من باب السؤال بذوات المخلوقين، والله أعلم.
سئل الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ:
هل يجوز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، أو غيره من الأنبياء والمرسلين والصالحين في الدعاء؟
فأجاب: التوسل المشروع، الذي جاء به الكتاب
والسنة، هو: التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بالأعمال الصالحات، والأسماء والصفات اللائقة بجلال رب البريات، كقوله تعالى حاكيا عن عباده المؤمنين أنهم توسلوا إليه بصالح أعمالهم:{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} الآية [سورة آل عمران آية: 193] .
وكما ثبت في الصحيحين من قصة الثلاثة الذين أووا إلى الغار، فانطبقت عليهم الصخرة، فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، الحديث; وكقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة وابن حبان في صحيحه وغيره:" أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك "1.
وفي الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم "2، وفي الحديث الذي رواه الترمذي وحسنه:" أسألك يا الله يا رحمن بجلالك ونور وجهك" 3 الحديث، وأمثال ذلك.
فهذا كله أمر مشروع، لا نزاع فيه، وهو من الوسيلة التي أمر الله بها في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [سورة المائدة آية: 35] .
وكذلك التوسل إلى الله بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، وبدعاء غيره من الأنبياء والصالحين في حياتهم، فهذا كله مستحب، كما توسل
1 أحمد (1/452) .
2 النسائي: السهو (1300)، وأبو داود: الصلاة (1495) .
3 الترمذي: الدعوات (3570) .
الصحابة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، وتوسلوا بدعاء العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وبدعاء يزيد بن الأسود الجرشي.
وأما التوسل بجاه المخلوقين، كمن يقول: اللهم إني أسألك بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك، فهذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر العلماء على النهي عنه. وحكى ابن القيم رحمه الله تعالى أنه بدعة إجماعا، ولو كان الأنبياء والصالحون لهم جاه عند الله سبحانه وتعالى، فلا يقتضي ذلك جواز التوسل بذواتهم وجاههم، لأن الذي لهم من الجاه والدرجات أمر يعود نفعه إليهم، ولا ننتفع من ذلك إلا باتباعنا لهم ومحبتنا لهم، والله المجازي لنا على ذلك.
وأما التوسل بذواتهم، مع عدم التوسل بالإيمان والطاعة، فلا يكون وسيلة، ولأن المتوسل بالمخلوق إن لم يتوسل بما يحصل من المتوسل به من الدعاء للمتوسل أو بمحبته واتباعه، فبأي شيء يتوسل؟!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، في كتاب: الاستغاثة: ما زلت أبحث وأكشف ما أمكنني من كلام السلف والأئمة والعلماء، هل جوز أحد منهم التوسل بالصالحين في الدعاء، أو فعل ذلك أحد منهم، فما وجدته، ثم وقفت على فتيا للفقيه أبي محمد بن عبد السلام، أفتى بأنه
لا يجوز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم، وأما بالنبي صلى الله عليه وسلم فجوز التوسل به إن صح الحديث في ذلك.
وذكر القدوري في شرح الكرخي، عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يجوز أن يسأل الله بالأنبياء. انتهى كلام الشيخ رحمه الله تعالى. قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق، فلا تجوز معنى، وفاقا. انتهى.
وقد احتج من أجاز المسألة بالمخلوقين بأمور:
الأول: ما رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا "1 الحديث.
فالجواب: إن الحديث في إسناده عطية العوفي، وفيه كلام، ضعفه الإمام أحمد، والثوري، وهشيم، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والجوزجاني والنسائي، وابن حبان، وقال: لا يحل كتب حديثه إلا على التعجب، وقال ابن معين: صالح; وقال ابن سعيد: كان ثقة إن شاء الله تعالى. وبتقدير ثبوته، هو من التوسل المستحب، فإن حق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق المطيعين له أن يثيبهم، فالسؤال له، والطاعة سبب لحصول الإجابة وإثابته.
والثاني: ما رواه الحاكم في المستدرك وصححه من
1 ابن ماجه: المساجد والجماعات (778) ، وأحمد (3/21) .
حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه عن جده، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لما اقترف آدم الخطيئة، قال: رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي " الحديث.
فالجواب: إن هذا الحديث ساقط، لأن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف بالاتفاق، ضعفه مالك، وأحمد، وابن معين، وابن المديني، وأبو زرعة، وأبو داود، وابن سعد، وأبو حاتم، وابن خزيمة، وابن حبان، قال ابن الجوزي: أجمعوا على ضعفه.
فهذا كما ترى، تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو: هو. وقال الحافظ الذهبي في تلخيص المستدرك لما ذكر الحاكم هذا الحديث فقال: هذا صحيح، قال الذهبي: أظنه موضوعا، ثم هو مخالف للقرآن، لأن الله عز وجل ذكر قصة آدم عليه السلام وتوبته وتوسله، ولم يذكر الله أنه توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم.
الثالث: ما رواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة، وابن شاهين والبيهقي وصححه الترمذي عن عثمان بن حنيف:" أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني، فقال: إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه، ويدعوه بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه في "1 هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا
1 الترمذي: الدعوات (3578)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) .
من حديث أبي جعفر، وهو غير الخطمي، هدا لفظ الترمذي، وقال بعضهم: هذا يدل على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم لا غير. والجواب: إن هذا التوسل هو الذي ذكره عمر رضي الله عنه لما استسقى بالعباس رضي الله عنه، فذكر أنهم يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته؛ وتوسلهم به هو: دعاؤه، ودعاؤهم معه، فيكون وسيلتهم إلى الله تعالى، وهذا لم يفعله الصحابة في حق النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا في مغيبه.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مثل هذا شافعا لهم داعيا لهم، ولهذا قال في حديث الأعمى: اللهم فشفعه في، فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له، فسأل الله أن يشفعه فيه.
قلت: ومن تأمل هذا الحديث، علم صحة هذا، فإنه صريح في أن الأعمى أتاه فقال: ادع الله أن يعافيني، فقال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك; قال: فادعه، فهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له، وأن الأعمى سأل ربه أن يشفعه فيه، بأن يستجيب دعاءه صلى الله عليه وسلم وهذا كاف في حكم هذه المسألة.
واعلم: أن التوسل بذات المخلوق أو بجاهه غير سؤاله ودعائه. فالتوسل بذاته أو بجاهه أن يقول: اللهم اغفر لي، وارحمني، وأدخلني الجنة بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم أو
بجاه نبيك محمد (، ونحو ذلك، فهذا بدعة ليس بشرك.
وسؤاله ودعاؤه، هو أن يقول: يا رسول الله أسألك الشفاعة، أو أنا في كرب شديد فرِّج عني، أو استجرت بك من فلان فأجرني، ونحو ذلك، فهذا كفر وشرك أكبر ينقل صاحبه عن الملة، لأنه صرف حق الله لغيره، لأن الدعاء عبادة لا يصلح إلا لله، فمن دعاه فقد عبده، ومن عبد غير الله فقد أشرك والأدلة على هذا أكثر من أن تحصر.
وكثير من الناس لا يميز ولا يفرق بين التوسل بالمخلوق أو بجاهه، وبين دعائه وسؤاله; فافهم ذلك، وفقنا الله وإياك لسلوك أحسن المسالك.
وبهذا يظهر جواب المسألة الثانية، وهي: إذا وجد نحو ذلك في تصنيف بعض العلماء، هل له محمل أم لا، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
[رسالة عبد العزيز بن سعود إلى الحفظي يوصيه بتحقيق الشهادتين]
وقال الإمام: عبد العزيز بن محمد بن سعود، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
من عبد العزيز بن سعود، إلى جناب الأخ في الله: محمد بن أحمد الحفظي، سلمه الله من جميع الأشرار، وجعله من عباده الصالحين الأبرار، الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم من الفجار.
أما بعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو; وهو للحمد والثناء أهل، وأسأله أن يصلي على صفوته وخيرته من خلقه، محمد خير أنبيائه، وأمينه على إنبائه، وعلى آله وصحبه، الذين كانوا سيوفا قاطعة على رقاب أعدائه.
وقد وصل إلينا كتابكم، وفهمنا ما تضمنه، من لطيف خطابكم، فإن سألت عن الأحوال، فلله الحمد والمنة، نحن في أحسن حال، وأسر بال، نسأل الله أن يزيدنا، وسائر إخواننا من النعم والإفضال.
وما ذكرت من اتباعكم، هذه الدعوة الإيمانية، وإخلاصكم الدعوة والتوحي، لمن له الوحدانية، فهنيئا لمن كانت حاله كذلك، وأنقذه الله من الشرك والمهالك، لأن الإسلام عاد في هذه الأزمان غريبا كما بدأ، كما أخبر به الصادق المصدوق، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره; نسأل الله أن يجعلنا وإياك من الغرباء، الذين ذكر أنهم يحيون من السنة ما أمات الناس.
وما ذكرت من طلب الوصية في كتابك، فأعظم ما نوصيك به: تحقيق هذين الأصلين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله; وذلك لأنهما أصل الإسلام; ولا ينفع علم، ولا يقبل عمل، بدون تحقيقهما قولا وعملا واعتقادا؛ وهما أصل التقوى، التي أوصى الله بها الأولين والآخرين، في كتابه، بقوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [سورة النساء آية: 131] .
وفسر التقوى من فسرها من السلف، بتفاسير; منها: أنها العمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله; واجتناب معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله; فأعظم ما نوصيك به: استحضار هذا.
ثم الدعوة إلى الله، قال جل جلاله:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة فصلت آية: 33] . وقال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [سورة يوسف آية: 108] ، قال (لعلي ابن أبي طالب (" فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير لك من حمر النعم "1
فإذا حققت هذه التقوى، وكنت من أهلها، فلا تخف ولا تحزن; وقد وردت البشرى من الله أنه معك حيث كنت، ناصرا، ومعينا، وحافظا، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [سورة النحل آية: 128] . وإذا كان الله معك، فمن تخاف؟ وإذا كان عليك، فمن ترجو؟ وكما قال بعضهم: من اتقى الله، كان الله معه، ومن كان الله معه: فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل.
نسأل الله أن يهدينا، وإياكم إلى صراطه المستقيم، ويدخلنا برحمته جنات النعيم، والسلام عليكم. ورحمة الله
1 البخاري: المناقب (3701)، ومسلم: فضائل الصحابة (2406) ، وأحمد (5/333) .
وبركاته.
وبعد ما فرغ أمير المؤمنين من جوابه، خطر لأحد خدام علماء المسلمين أن يذيل بكلمات لطيفة، غايتها ثناء على الله، وتحدث بنعمة الله، وترغيب في دين الله، مراعيا فيها ما قيل في المثل: خير الكلام ما قل ودل، ولم يطل فيمل; وقد اتفقت على روي المبتدي1 وبحره.
فقال غفر الله له:
تألق برق الحق في العارض النجدي
…
فعم حياة الكون في الغور والنجد
وأورقت الأشجار وانتضدت بها
…
يوانع أنواع من الثمر الرغد
وأشرقت الأنوار من زهر ورده
…
وأعبقت الأقطار من طيب الند
وغردت الأطيار بالذكر تطرب ال
…
مسامع جهرا فوق أغصانها الملد
وقام خطيب الكائنات لربها
…
على الخصب بعد المحل بالشكر والحمد
فذاك الحيا محيي القلوب ربيعها
…
ومطعومها مشروبها طيبها الوردي
فها نحن نجني من ثمار غراسه
…
ونرجوا جناه العفو في جنة الخلد
فإن كنت مشتاقا إلى ذلك الجنا
…
فذقه تجد طعما ألذ من الشهدي
هو الوحي دين الله عصمة أهله
…
وحظهم الأوفى وجدهم المجدى
به ينتجى والناس في هلكاتهم
…
به يرتجى نيل الرغائب والرفد
1 المراد بالمبتدي الحفظي، أرسل قصيدة إلى الإمام عبد العزيز بن سعود، تتضمن إجابته واستبشاره بهذه الدعوة، وهذه القصيدة المذيل بها هنا جواب عليها.
به الأمن في الدنيا وفي الحشرواللقا
…
ومن قبل عند الاحتضار وفي اللحد
به تصلح الدنيا به تحقن الدما
…
به يحتمى من كل باغ وذي حقد
به زعزعت أركان كسرى وقيصر
…
ولم يجد ما حازا من المال والجند
ومثلهما في السالكين طريقهم
…
أرانا كما قد قاله صادق الوعد
فلله حمد يرتضيه لنفسه
…
على نعم زادت عن الحصر والعد
فأعظمها بعث الرسول محمد
…
أمين إله الخلق واسطة العقد
دعانا إلى الإسلام دين إلهنا
…
وتوحيده بالقول والفعل والقصد
هدانا به بعد الضلالة والعمى
…
وأنقذنا بعد الغواية بالرشد
حبانا وأعطانا الذي فوق وهمنا
…
وأمكننا من كل طاغ ومعتد
وأيدنا بالنصر واتسقت لنا
…
ممالك لا تدعو سوى الواحد الفرد
فنسأله إتمام نعمته بأن
…
يثبتنا عند المصادر كالورد
فيا فوز عبد قام لله جاهدًا
…
على قدم التجريد يهدي ويستهدي
وجدد في نصر الشريعة صارما
…
بعزم يرى أمضى من الصارم الهندي
وتابع هدي المصطفى الطهر مخلصًا
…
لخالقه فيما يسر وما يبدي
ويا حسرة المحروم رحمة ربه
…
بإعراضه عن دين ذي الجود والمجد
لقد فاته الخير الكثير وما درى
…
وقد خاب واختار النحوس على السعد
ومن بعد حمد الله أزكى صلاته
…
وتسليمه الأوفى الكثير بلا حد
على المصطفى خير الأنام وآله
…
وأصحابه أهل السوابق والزهد
قال الإمام: عبد العزيز بن محمد بن سعود، رحمه الله تعالى، وقد سئل عن رجل عبد الله على ظاهر دين الإسلام، يأتي بالواجبات، ويترك المقبحات، ولا يقلد في دينه أحدا من
أرباب هذه المذاهب المشهورة، بل إن كان فيه أهلية النظر في أدلة الكتاب والسنة عمل بها، وإلا سأل من وجده من العلماء، فهل هذا ناج، أم لا؟
فنقول: بعد الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه، وعلى آله وسلم، قال الله تعالى في كتابه:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [سورة النساء آية: 69] .
فأخبر الله سبحانه أن من أطاع الله ورسوله، من الأولين والآخرين، فهو ناج من العذاب، ويحصل جزيل الثواب، وهذا أمر مجمع عليه بين الأمة، ولله الحمد، لا اختلاف فيه، لكن الشأن في تحقيق ذلك، وتصديق القول بالعمل بما في كتاب الله، وسنة رسوله، عليه من الله أفضل الصلاة والسلام، وذلك: لأن الناس أحدثوا بعد نبيهم (والسلف الصالح محدثات، زعموا أنها من البدع الحسنة، فأقبح ذلك وأشده: دعوة غير الله، والاستغاثة بالصالحين، من الأحياء والأموات، في جلب الفوائد، وكشف الشدائد، وسؤالهم الحاجات، ليشفعوا لهم عند الله، ويقربوهم عنده.
وكذلك كنا نفعله، قبل أن يمن الله علينا بدين الإسلام، نحن وغيرنا، حتى اشتهر ذلك في كثير من البلاد، وصار عند غالب الناس هو غاية تعظيم الصالحين ومحبتهم، ومن أنكره عليهم كفروه وخرجوه.
فلما ظهر الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، أسكنه الله الجنة يوم المآب نهانا عن ذلك، وأخبر أن هذا هو الشرك الذي لا يغفره الله، إلا بالتوبة منه، وأنه هو فعل المشركين عبدة الأوثان، من العرب وغيرهم.
وأتانا بالدلائل القطعية، من الكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة، كقوله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18]، وقوله تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 5"6] . وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [سورة غافر آية: 60] .
والآيات في هذا المعنى كثيرة معروفة. فلما عرفنا أن هذا هو الشرك الذي بعث الله الرسل وأنزل الكتب، تنهى عنه، وتأمر بعبادة الله، وإخلاص الدعوة له وحده لا شريك له، وأن هذا هو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، تبرأنا من الشرك بالله وأهله، ومن دعوة غير الله، والاستغاثة بهم في الشدائد، وجلب الفوائد، وإخلاص الدعوة لله وحده لا شريك له.
فلما فعلنا ذلك، وأزلنا جميع الأوثان والقباب التي في بلداننا، أنكر الناس ذلك، وكفرونا، وخرجونا، وبدعونا، ورمونا بعداوتهم عن قوس واحد، فاعتصمنا بالله،
وتوكلنا عليه، وجاهدناهم في الله، وفي دين الله، فنصرنا الله عليهم، وأورثنا أرضهم وديارهم وأموالهم، والحمد لله على ذلك، فهو الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
إذا عرفتم ذلك، فنقول في جواب المسألة الكبرى: من عبد الله وحده لا شريك له، وأخلص جميع العبادة بأنواعها لله وحده لا شريك له، فلم يستغث إلا بالله، ولم يدع إلا الله وحده، ولم يذبح إلا لله وحده، ولم ينذر إلا لله وحده، ولم يتوكل إلا عليه، ويذب عن دين الله، وعمل بما عرف من ذلك بقدر استطاعته، فهو ناج بلا شك، وإن لم يعرف هذه المذاهب المشهورة.
[نبذة للشيخ عبد العزيز الحصين في توحيد العبادة]
قال الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله الحصين رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله المتفرد بالكمال والبقاء والعز والكبرياء، الموصوف بالصفات والأسماء، المنَزه عن الأشباه والنظراء، الذي سبق علمه في بريته بحكم القضاء، من السعادة والشقاء; وأكمل لنا ديننا، ولم يجعله ملتبسا علينا، وتفضل، فرضي لنا الإسلام دينا، فنحمده على ذلك ونشكره، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونتوب إليه ونستغفره، وصلى الله وسلم على المبعوث بالمحجة البيضاء، والشريعة الغراء; محمد أفضل الرسل والأنبياء; وعلى آله وأصحابه الأتقياء،
صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم البعث والجزاء.
أما بعد: فإن العبادة التي هي اسم جامع، لكل ما يحبه الله ويرضاه، هي الغاية التي خلق الله لها جميع العباد، من جهة أمر الله تعالى، ومحبته ورضاه، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، وبها أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وذلك أن الدين كله بأنواعه لله وحده، والأمر كله لله، مختص بجلاله وعظمته، ليس للخلق منه شيء البتة، لا ملك، ولا نبي، ولا ولي، بل حق لله تعالى، غير جنس حق المخلوق.
فأما حقه تعالى: فتوحيده وإفراده بعبادته، التي أوجبها تعالى على عباده، وخلقهم ليعملوا بها، وإخلاصها له تعالى وتقدس، بعد نفيها عن غيره; وحصرها له وعليه; والدعاء بما لا يقدر على جلبه ودفعه إلا الله، مختصا به، لا يجوز أن يدعى في ذلك غيره تبارك وتعالى، ورجاؤه فيه، والتوكل عليه، وذبح النسك، والنذر، لجلب الخير، أو دفع الشر، والإنابة، والخضوع كله لله، مختص بجلاله، كالسجود، والتسبيح، والتكبير والتهليل.
قال سبحانه وتعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [سورة الرعد آية: 14] . وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] . وقال لنبيه {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا
يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} [سورة يونس آية: 106] . وقال تعالى لأفضل خلقه: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} [سورة الجن آية: 21"22] .
وقال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة الأعراف آية: 188] . وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الأنعام آية: 162"163] . وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [سورة هود آية: 123] .
وحق الأنبياء: الإيمان بهم، وبما جاؤوا به، واتباع النور الذي أنزل معهم، وتعزيرهم، وتوقيرهم، وموالاتهم، وتقديم محبتهم على النفس والمال والبنين، والناس أجمعين; وعلامة التصديق في ذلك: اتباع هديهم، والإيمان بما جاؤوا به من عند ربهم، والإيمان بمعجزاتهم، وأنهم بلغوا رسالات ربهم، وأدوا الأمانة، ونصحوا الأمة، وأن محمدا (خاتمهم، وأفضلهم، وإثبات شفاعتهم، التي أثبتها الله سبحانه في كتابه، وهي من بعد إذن ربهم لهم فيها، ممن يرضى عنه من أهل التوحيد، وأن المقام المحمود، الذي ذكره الله في كتابه لنبينا محمد (.
وكذلك حق أوليائه: محبتهم، والترضي عنهم، والإيمان
بكرامتهم، لا عبادتهم ليجلبوا لمن دعاهم خيرا لا يقدر على جلبه إلا الله تبارك وتعالى، ويدفعوا عنهم سوءا لا يقدر على دفعه أو رفعه إلا الله، لأنه عبادة مختصة بجلاله سبحانه، قال الله تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [سورة غافر آية: 60] ، فسماه عبادة، وأضافها إلى نفسه; وروى النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله: "إن الدعاء هو العبادة، ثم قرأ رسول الله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} " الآية [سورة غافر آية: 60] ، رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وكل ما في القرآن، من دعاء، أو دعوة، فهو إما بمعنى: اسألوني أعطكم، كما في هذا الحديث، وكقوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية [سورة البقرة آية: 186] . وإما بمعنى: امتثال الأوامر، واجتناب المناهي، كما في قوله:{وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ} [سورة الشورى آية: 26] ، أي يثيبهم على أحد التفسيرين، لا أن يتخذوا في ذلك واسطة، بين الله، وبين من دعاهم، ولا سيما في حصول المطلوب، كالواسطة بين السلطان ورعيته; فإن ذلك دين المشركين الذين قال الله فيهم:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} الآية [سورة سبأ آية: 22] . وقال
تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء آية: 56] .
وإنما ذكر الله ذلك عنهم، لأنهم يدعون الملائكة والأنبياء، ويصورون صورهم محبة لهم، ويرجونهم ويلتجئون إليهم ليشفعوا لهم فيما دعوهم فيه، وذلك بطرق مختلفة; ففرقة قالت: ليس لنا أهلية مباشرة دعاء الله ورجائه، بلا واسطة تقربنا إليه، وتشفع لنا عنده، لعظمته; وفرقة قالت: الأنبياء والملائكة ذوو وجاهة عند الله، ومنْزلة عنده، فاتخذوا صورهم من أجل حبهم لهم، ليقربوهم إلى الله زلفى; وفرقة: جعلتهم قبلة في دعاء الله؛ وفرقة قالت: إن على كل صورة مصورة على صور الملائكة والأنبياء وكيلا موكلا بأمر الله، فمن أقبل على دعائه ورجائه، وتبتل إليه، قضى ذلك الوكيل ما طلب منه بأمر الله، وإلا أصابته نكبة بأمره; فالمشرك إنما يدعو غير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، ويلتجئ إليه فيه ويرجوه منه، لما يحصل له في زعمه من النفع.
وهو لا يكون إلا فيمن وجدت فيه خصلة من أربع: إما أن يكون مالكا لما يريد منه داعيه، فإن لم يكن مالكا، كان شريكا; فإن لم يكن، كان ظهيرا، فإن لم يكن ظهيرا، كان شفيعا. فنفى الله سبحانه هذه المراتب الأربع عن غيره نفيا مرتبا، منتقلا من الأعلى إلى الأدنى، فنفى الملك عن غيره، والشركة، والمظاهرة، والشفاعة، التي لأجلها وقعت
العداوة والمخاصمة، بقوله تعالى:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [سورة الإسراء آية: 111]، {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} [سورة المؤمنون آية: 88] . وقوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [سورة آل عمران آية: 26] .
وقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [سورة غافر آية: 16] . وقوله: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار آية: 19] . وقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4]، وقوله:{وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} [سورة طه آية: 108]، وقوله:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سورة سبأ آية: 22"23] .
فأثبت سبحانه وتعالى ما لا نصيب فيها للمشرك البتة، وهي: الشفاعة بإذنه لمن رضي عنه سبحانه، الذي يعلم السر وأخفى، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء; ولهذا لما قالت الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله، أربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ أنزل الله تبارك وتعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية [سورة البقرة آية: 186] "وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ
قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [سورة الزمر آية: 43"44] . وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} الآية [سورة الأنعام آية: 51] .
فليس الموحد إلا من اجتمع قلبه ولسانه على الله، مخلصا له تعالى ألوهيته المقتضية لعبادته، بمحبته، وخوفه، ورجائه، ودعائه، والاستعانة به، والتوكل عليه، وحصر الدعاء بما لا يقدر على جلبه أو دفعه عنه إلا الله وحده، والموالاة في ذلك، والمعاداة فيه، وأمثال هذا، عالما بالفرق، بين حق: الخالق، والمخلوق، من الأنبياء، والأولياء، مميزا بين الحقين؛ وذلك واجب في علم القلب، وشهادته، وذكره، ومعرفته، وفي حال القلب أيضا، وعبادته، وقصده، وإرادته، ومحبته، وموالاته، وطاعته.
فهذا من تحقيق معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن معنى الإله عند الأولين: ما تألهه القلوب بالمحبة التي كحب الله، والتعظيم، والإجلال، والخضوع، والرجاء، والالتجاء، والتوكل، والدعاء، بما هو مختص بالله، وذبح النسك له.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [سورة البقرة آية: 165]، وقالوا لمن أحبوه كحب الله {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية: 97"98] ، وهم ما
ساووهم به في الصفات، ولا في الذات، ولا في الأفعال، كما حكى الله عنهم في الآية، في قوله:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} الآية [سورة يونس آية: 31]، وقوله:{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الآيات [سورة المؤمنون آية: 84] .
والشاهد لله، بأنه: لا إله إلا هو، وقائلها نافيا في قلبه ولسانه، ألوهية كل ما سواه من الخلق، ومثبتا الألوهية لمستحقها، وهو الله المعبود بالحق، فيكون معرضا عن ألوهية جميع المخلوقات، مقبلا على عبادة رب الأرض والسماوات؛ وذلك يتضمن: اجتماع القلب، في عبادته، ومعاملته، على الله تعالى، ومفارقته في ذلك ما سواه، فيكون مفرقا في علمه وقصده، وشهادته وإرادته، ومعرفته ومحبته، بين الخالق والمخلوق؛ بحيث يكون عالما بالله، ذاكرا له، عارفا به، وأنه تعالى مباين لخلقه، منفرد عنهم، بعبادته وأفعاله وصفاته.
فيكون محبا له، مستعينا، به لا بغيره، متوكلا عليه لا على غيره، ممتنعا عن دعاء غيره، بما لا يقدر على إيجاده أو دفعه أو رفعه إلا الله; فلا يجعل ما هو مختص بجلاله تعالى، لغيره وهذا المقام، هو لمعنى في:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ؛ وهذا من خصائص ألوهيته تعالى، التي يشهد له بها عباده المؤمنون; كما أن رحمته تعالى لعبيده، وهدايته إياهم، وخلق السماوات
والأرض وما بينهما، وما فيهما من الآيات، من خصائص ربوبيته التي يشترك في معرفتها المؤمن والكافر، والبر والفاجر؛ حتى إبليس عليه اللعنة، معترف بها في قوله:{رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون} [سورة الحجر آية: 36] . وقوله: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [سورة الحجر آية: 39] .
وأمثال هذا الخطاب الذي يعرف فيه بأن الله ربه وخالقه ومليكه، وأن ملكوت كل شيء في يده تعالى وتقدس، وإنما كفر بعناده، وتكبره عن الحق، وطعنه فيه، وزعمه أنه فيما ادعاه وقاله، محق، وكذلك المشركون الأولون يعرفون ربوبيته تعالى، وهم له بها يعترفون.
قال الله (آمرا نبيه (أن يسألهم عن ربهم الذي خلقهم، ورزقهم، ويحييهم، ويميتهم، ويدبر أمورهم كلها، فإذا عرفوه واعترفوا به، استحق أن يخص بألوهيته، فلا يدعوا مع الله إلها آخر، بل يتركوا تلك الآلهة التي يدعونها ويرجونها، وينسكون لها، لتقربهم إلى الله زلفى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} الآية [سورة يونس آية: 31] . وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [سورة المؤمنون آية: 84"85]، وقال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة العنكبوت آية: 61] .
فهم قد أقروا واعترفوا بأن الله سبحانه: خالق الأشياء كلها، وموجدها، ومالكها، وأنه النافع، الضار، المعطي، المانع، الذي لا رازق سواه، ولا قابض، ولا باسط إلا هو، وحده لا شريك له في ذلك، قال تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام آية: 40"41] .
وقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} الآية [سورة لقمان آية: 32] . وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [سورة العنكبوت آية: 65] . وقال تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [سورة المؤمنون آية: 88"89] . وقال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ} الآيات [سورة الشعراء آية: 69"70] .
وروى الإمام أحمد في مسنده، والترمذي، من حديث حصين بن منذر: أن رسول الله (قال: " يا حصين كم تعبد؟ قال; سبعة، ستة في الأرض، وواحد في السماء، قال: فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء، فقال له رسول الله: أسلم حتى أعلمك كلمات، ينفعك الله بهن فأسلم، فقال: قل اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي ".
فبمجرد معرفتهم ربوبيته تعالى، واعترافهم بها، لم تنفعهم ولم تدخلهم في الإسلام، مع جعلهم مع الله آلهة أخرى يدعونها ويرجونها، لتقربهم من الله زلفى، وتشفع لهم عند الله، فبذلك كانوا مشركين في عبادته، ومعاملته، ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم: لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك.
وقد وصف الله سبحانه، دين المشركين، الذي قال الله فيه:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72] . وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48] . وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [سورة الزمر آية: 65"66] . وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] .
وسيظهر تعالى المحق على المبطل، بحكمه بين الفريقين غدا، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [سورة الزمر آية: 3] .
وفي صحيحي: البخاري، ومسلم، عن عبد الله بن مسعود (قال: " سألت رسول الله (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك.
قال: قلت: ثم أى؟ قال: أن تزاني حليلة جارك " 1، فأنزل الله تصديقها:{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} الآية [سورة الفرقان آية: 68]، فبين النبي (أن أعظم الذنب: الشرك بالله الذي هو جعل الأنداد واتخاذهم من خلقه ليقربوهم إليه.
وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة، أن النبي (قال:" إن الله يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم " 2، فدين الله وسط، بين الغالي فيه، والجافي عنه.
والشرك شركان؛ شرك أكبر، وهو: الذي تقدم بيانه آنفا، فهو محبط للأعمال، موجب للخسران والخلود في النيران، إلا بالتوبة منه والرجوع إلى دين الإسلام.
وشرك أصغر: كالرياء، والسمعة، ففي صحيح مسلم، عن أبي هريرة (عن النبي (قال:"قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه غيري، تركته وشركه "3. ومنه: الحلف بغير الله، روى الإمام أحمد، وأبو داود من حديث ابن عمر: " عن النبي أنه قال رجل: ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا; قل: ما شاء الله وحده " 4، وروى الإمام أحمد في مسنده: " أن رجلا أتي به قد أذنب ذنبا، وهو أسير، فلما وقف بين يدي النبي (قال: اللهم إني أتوب إليك، ولا أتوب إلى محمد، فقال: النبي عرف
1 البخاري: الأدب (6001)، ومسلم: الإيمان (86)، والترمذي: تفسير القرآن (3182)، والنسائي: تحريم الدم (4013 ،4014)، وأبو داود: الطلاق (2310) ، وأحمد (1/431) .
2 مسلم: الأقضية (1715) ، وأحمد (2/367)، ومالك: الجامع (1863) .
3 مسلم: الزهد والرقائق (2985) .
4 أحمد (1/347) .
الحق لأهله " 1.
والشرك الأصغر: ذنب تحت المشيئة، كسائر الذنوب، بل هو أكبرها، لعموم قوله:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [سورة النساء آية: 48]، وحديث:" أي الذنب أعظم " 2، ولكن لا يكفر مرتكبها ولا يخرج عن الملة الإسلامية، إذا لم يستحل فعلها.
فلم يبق إلا التوسل بالأعمال الصالحة، كتوسل المؤمنين بإيمانهم، في قولهم:{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} [سورة آل عمران آية: 193] ، وكتوسل أصحاب الصخرة المنطبقة عليهم، وهم الثلاثه النفر، توسلوا إلى الله بأعمالهم الصالحة التي تقربهم وتحببهم إلى ربهم، رواه البخاري في صحيحه; لأنه وعد أنه: يستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله.
وكسؤاله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، قال الله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [سورة الأعراف آية: 180] . وكالأدعية المأثورة في السنن: " اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، الحنان، المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام " 3 وأمثال ذلك.
وهذا معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [سورة المائدة آية: 35] ، فإنها القربة التي تقرب إلى الله، وتقرب فاعلها منه، وهي: الأعمال الصالحة، كما
1 أحمد (3/435) .
2 البخاري: تفسير القرآن (4477)، ومسلم: الإيمان (86)، والترمذي: تفسير القرآن (3182 ،3183)، والنسائي: تحريم الدم (4013 ،4014 ،4015)، وأبو داود: الطلاق (2310) ، وأحمد (1/380 ،1/431 ،1/434 ،1/462 ،1/464) .
3 النسائي: السهو (1300)، وأبو داود: الصلاة (1495) .
روى البخاري في صحيحه، من حديث أبي هريرة، عن رسول الله (قال:" قال الله تعالى: من عادى لي وليا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه. وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها. ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه " 1 الحديث بتمامه.
ولهذا كان رسول الله (إذا همه أمر فزع إلى الصلاة، فإنها أعظم التقرب إلى الله (كما قال تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [سورة البقرة آية: 45] .
وليست الوسيلة بمخلوق يبتغى، ليجعل واسطة بينه وبين خلقه، يتقربون به إليه، لأن هذا عين ما نهى الله عنه في الآيات، وأنزل بقبحه الكتب، وأرسل الرسل، وهو ما قالت بنو إسرائيل لموسى، صلاة الله وسلامه عليه، يا موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة; فإن قصدهم يتقربون به إليه.
وأما الإقسام على الله بمخلوق، فهو منهي عنه باتفاق العلماء، وهل هو منهي عنه، نهي تنْزيه، أو تحريم؟ على قولين، أصحهما أنه كراهة تحريم; قال بشر بن الوليد، سمعت أبا يوسف يقول، قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: لا ينبغي لأحد أن يدعو إلا به، وأكره: بمعاقد العز من عرشك،
1 البخاري: الرقاق (6502) .
وهو حق خلقك; وقال أبو يوسف: معاقد العز: هو الله، فلا أكره هذا; وأكره: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت، والمشعر الحرام، قال رحمه الله: المسألة بحق المخلوق لا تجوز لهذا، فلا يقول: أسألك بفلان، أو بملائكتك، أو أنبيائك، ونحو ذلك، لأنه: لا حق للمخلوق على الخالق.
وقال تعالى: {مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئاً} الآية [سورة الجاثية آية: 10] ، فإذا والى العبد ربه وحده، أقام له وليا من الشفعاء، وعقد الموالاة بينه وبين عباده المؤمنين، فصاروا أولياءه في الله; بخلاف من اتخذ مخلوقا من دون الله، فهذا لون، وذاك لون; كما أن الشفاعة الشركية الباطلة نوع، والشفاعة الحق الثابتة التي إنما تنال بالتوحيد نوع; وهذا موضع فرقان، بين أهل التوحيد، وأهل الشرك بالله; والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ومما استدل به الذين يدعون مع الله غيره، في المهمات من أهل القبور والأموات، ويقولون: المراد الوسيلة: " اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد، نبي الرحمة; يا محمد إني، أتوجه بك إلى ربي، في حاجتي هذه لتقضى، اللهم شفعه في " 1 رواه الترمذي، والحاكم، وابن ماجه، عن عثمان بن حنيف، قال: " جاء رجل ضرير إلى النبي، فقال: ادع الله لي أن يعافيني، فقال: إن شئت اخترت لك، وهو خير، وإن شئت دعوت
1 الترمذي: الدعوات (3578)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) .
لك. قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء " 1 قال الحاكم: صحيح.
وهذا الحديث دليل للشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، لا عليه، لوجوه.
الأول: أنه في غير محل النِّزاع، بل اختراع منكر، ووردت الأحاديث بحرمته، وهو عمارة القبور، وإلقاء الستور عليها، وتسريجها، وهذه كلها كبائر كما قال أهل العلم، حتى ابن حجر الهيتمي، وغيره; إن حدها: كل ما أتبع بلعنة، أو غضب، أو نار.
روى البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة (أن رسول الله (قال:" قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "2.
ولمسلم: " لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "3.
وفي صحيحه: عن جندب بن عبد الله البجلي، (قال " سمعت النبي (قبل: أن يموت بخمس، وهو يقول: إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا. ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم، كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك " 4.
1 الترمذي: الدعوات (3578)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385) .
2 البخاري: الصلاة (437)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (530)، وأبو داود: الجنائز (3227) ، وأحمد (2/284 ،2/396 ،2/453 ،2/518) .
3 البخاري: الجنائز (1390)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531)، ولنسائي: المساجد (703) ، وأحمد (1/218 ،6/34 ،6/121 ،6/146 ،6/255)، والدارمي: الصلاة (1403) .
4 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (532) .
وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وعبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، قال:" لما نزل برسول الله، طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا " 1 متفق عليه.
وروى الإمام أحمد في مسنده، بإسناد جيد، عن عبد الله بن مسعود، (أن النبي قال:"إن من شرار الناس، من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد " 2 وعن ابن عباس، رضي الله عنهما; قال:" لعن رسول الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد، والسرج" 3 رواه الإمام أحمد، وأهل السنن.
وهذا حال من سجد لله عند قبر، فكيف بمن سجد للقبر نفسه؟ أو دعاه، وعدل عن أوضاع الشرع، إلى تعظيم أوضاع الجهال والطغام، وضعوها لأنفسهم بتلبيس إبليس عليهم، فسهلت لهم، وطابت بها قلوبهم، من تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع، من عبادتها بدعائها، ورجائها، والالتجاء إليها، والتوكل عليها، والنذر لها، وكتب الرقاع فيها، وخطاب الموتى بالحوائج: يا سيدي، يا مولاي افعل بي كذا وكذا; وأخذ ترابها، وجعل الخرق عليها تبركا، وإيقاد السرج عليها، وتقبيلها، وتحليتها، وشد الرحال إليها؛ وينضاف إلى ذلك إلقاء الخرق على الشجر،
1 البخاري: الصلاة (436)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531)، والنسائي: المساجد (703) ، وأحمد (1/218 ،6/34)، والدارمي: الصلاة (1403) .
2 صحيح البخاري: كتاب الفتن (7067)، وسنن الترمذي: كتاب الطهارة (12) .
3 الترمذي: الصلاة (320)، والنسائي: الجنائز (2043)، وأبو داود: الجنائز (3236)، وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1575) ، وأحمد (1/229 ،1/287 ،1/324 ،1/337) .
ودعاؤها، والذبح والنذر لها، اقتداء بمن عبد اللات، والعزى; والويل كل الويل عندهم، لمن عاب، أو أنكر عليهم.
ومن جمع بين سنة رسول الله (في القبور، وما أمر ونهى، وما كان عليه أصحابه، وبين الذي عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادا للآخر، مناقضا له، بحيث لا يجتمعان أبدا; ودعاء المقبور عند المهمات شرك بالله (، قد ذكرنا أدلته فيما تقدم; وإن كان سبب قول الله {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 22] ، مجيء خبر من اليهود، إلى رسول الله (والمسلمين، وقوله:"نعم القوم أنتم، لولا أنكم تجعلون لله أندادا; فتقولون: ما شاء الله وشاء فلان، فقال أما إنه قد قال حقا " 1، وأنزل الله {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} الآية [سورة البقرة آية: 22] .
وممن أخرج الحديث: جلال الدين السيوطي في: الدر المنثور، في تفسير الآية، وعن قتيلة" امرأة من جهينة" قالت:" أتى يهودي إلى النبي فقال: إنكم تنددون وتشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت; وتقولون: والكعبة; فأمرهم النبي (أن يقولوا: ورب الكعبة، وما شاء الله، ثم شئت ;" رواه النسائي.
وقد أقر النبي (قول اليهودي: إن هذا شرك، فكيف حال من نادى عند المهمات غير الله؟ إذ هو داخل تحت
1 ابن ماجه: الكفارات (2118) ، وأحمد (5/72)، والدارمي: الاستئذان (2699) .
قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] .
وهؤلاء يحب أحدهم معتقده أكثر من حب الله، وإن زعم أنه لا يحبه كحب الله، فشواهد الحال تشهد عليه بذلك; فإنه يعظم القبر أعظم من بيت الله، ويحلف بالله كاذبا، ولا يحلف بمعتقده; ويحلف بالله تعالى في أي محل، ولا يحلف بمعتقد يعتقده; فلا جامع بين ما استدلوا به، وبين ما نهاهم عنه محمد بن عبد الوهاب، عافاه الله تعالى.
الثاني: أن الحديث دليل للشيخ رحمه الله تعالى، أنه لا يدعى غير الله (فإن مسألة:(اللهم إني أتوجه إليك) ; المسؤول: الله (، وإنما توجه إليه بحبيبه المصطفى عنده، ونهايته: سؤال الله (أن يشفعه، فمستهله سؤال الله (، ونهايته سؤاله سبحانه; ووسطه: يا حبيبنا محمدا، إنا نتوسل بك إلى ربك، فاشفع لنا.
فهذا خطاب لخاص معين في قوله، كقولنا في صلاتنا: السلام عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته; وكاستحضار الإنسان محبه ومبغضه في قلبه، فيخاطبه بما يهواه لسانه، وهذا كثير في لسان الخاصة، دون العامة، ومعناه: أتوجه إليك بدعاء نبيك وشفاعته المشتملة على الدعاء; ولهذا قال في تمام الحديث: اللهم شفعه في; وهذا متفق على جوازه.
وقد مضت السنة أن الحي يطلب منه الدعاء، كما يطلب منه سائر ما يقدر عليه، سواء كان بلفظ الاستغاثة، أم بغيرها; ومنه ما قص الله عن الإسرائيلي المستغيث بموسى على القبطي، في قوله:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى} الآية [سورة القصص آية: 15] . وكاستشفاع الأمة من أهل الموقف بالأنبياء، والطواف عليهم، يسألونهم أن يشفعوا إلى الله من أهل الموقف عامة.
وأما: المخلوق الغائب أو الميت، فلا يستغاث به، ولا يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله البتة; وهذا موافق لقوله تعالى {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [سورة آل عمران آية: 154] . وإنما غاية طلب الشفاعة عند الله (أن يشفع نبيه فيه، وهو (قد انتقل من هذه الدار، إلى دار القرار، بنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
ولهذا استسقى أصحابه بعمه العباس بن عبد المطلب، وسألوه أن يدعو لهم في الاستسقاء عام القحط، أخرجه البخاري، عن أنس بن مالك (في: باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء، إذا قحطوا; ولم يأتوا إلى قبره، ولا وقفوا عنده، مع أنه (حي في قبره حياة برزخية، أعلى من حياة الشهداء.
وقد اتفق الصحابة والتابعون لهم بإحسان، على أن النبي (لا يسأل بعد موته، لا استغفارا، ولا دعاء ولا
غيرهما; فإن الدعاء عبادة مبناها على التوقيف والاتباع، لا على الهوى والابتداع، ولو كان هذا من العبادة، لَسَنَّهُ رسولُ الله (، ولكان أصحابه أعلم بذلك وأتبع له.
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} الآية [سورة النساء آية: 64] ، فإتيانهم له (للاستغفار مخصوص بوجوده في الدنيا، ولهذا لم يفعله أحد من الصحابة ولا التابعين، مع شدة احتياجهم وكثرة مدلهماتهم، وهم أعلم بمعاني كتاب الله وسنة رسوله، وأحرص اتباعا لملته من غيرهم; بل كانوا ينهون عنه، وعن الوقوف عند القبر للدعاء عنده; منهم الإمام مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، والشافعي; وهم من خير القرون التي قد نص (عليها في قوله:" خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم " 1 قال عمران: لا أدري أذكر اثنين أو ثلاثة بعد قرنه، رواه البخاري في صحيحه.
الثالث: أنهم زعموا أنه دليل للوسيلة إلى الله تعالى بغير محمد (، فلا دليل فيه أصلا، لأنهم صرحوا بأنه لا يقاس مع فارق، فلا يجوز لنا أن نقول: اللهم إنا نسألك ونتوجه إليك برسولك نوح، يا رسول الله، يا نوح، إلى آخره، ولا أن نقول: اللهم إنا نسألك، ونتوجه إليك بخليلك إبراهيم، إلى آخره، ولا أن نقول: بكليمك موسى، ولا بروحك عيسى.
1 البخاري: الشهادات (2651)، ومسلم: فضائل الصحابة (2535)، والترمذي: الفتن (2221)، والنسائي: الأيمان والنذور (3809) ، وأحمد (4/427 ،4/436) .
ونحن نقول: إن الجامع في نوح عليه الصلاة والسلام: الرسالة; وفي إبراهيم، عليه الصلاة والسلام: الخلة مع الرسالة; وفي موسى عليه الصلاة والسلام: الكلام مع الرسالة; وفي عيسى عليه الصلاة والسلام: كونه روح الله وكلمته، مع الرسالة; فليس لنا هذا، لأنه أولا: لم يرد، ولا حاجة لنا إلى فعل شيء لم يرد; ثانيا: إنما أبيح القياس عند من يقول به، للحاجة في حكم لم يوجد فيه نص; فإذا وجد النص، فلا يحل القياس، عند من يقول به، ولا حاجة بنا إلى قول هو مخترع، خصوصا مع ما ورد في الشرك، وأنه في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل.
الرابع: أن الوسيلة ليست هي أن ينادي العبد غير الله ويطلب حاجته، التي لا يقدر على وجودها إلا الله، ممن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ولا موتا، ولا حياة، ولا نشورا، {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [سورة الحج آية: 73] ، بل هذا شرك بالله؛ وجعلوا دليلهم مع ما تقدم، بعد ارتكابهم أكبر المناكر، قوله ("يا عباد الله أعينوني" وقوله:"يا عباد الله احبسوا".
وهذا من جملة الجهل والضلال، وإخراج المعاني عن مقاصدها، من وجوه:
الأول: أن هذه ليست بوسيلة أصلا، إذ معنى الوسيلة: ما يتقرب به من الأعمال إلى الله (، وهذا ليس بقربة، لأنه ورد في أذكار السفر: أن العبد، إذا أراد عونا، بمعنى:
أنه إذا أعيى من حمل متاعه، أو انفلتت دابته، فقد جعل الله عبادا من صالحي الجن أو من الملائكة، أو ممن لا يعلمه من جنده سواه {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [سورة المدثر آية: 31] ، واستعماله في كل المهمات، من أعظم الجور; وإن أراد فيما ورد الحديث به خاصة: امتثال قول رسول الله (فقد يكون بهذه الإرادة قربة.
ولا دلالة فيه أن ينادي عبد القادر الجيلاني من قطر شاسع، بل ولا من عند قبره، ولا ينادي غيره، لا الأنبياء، ولا الأولياء، إنما غايته أن العبد يقول، كما قال رسول الله (:"يا عباد الله"، وإذا نادى شخصا باسمه، معينا، فقد كذب على رسول الله (ونادى من لم يؤمر بندائه، وليس ذلك في كل حركة وسكون، وقيام وقعود; وإنما أبيح له ذلك، إن أراد عونا على حمل متاعه، على الدابة، أو انفلتت.
الثاني: أن الحديثين غير صحيحين; أما الأول: فرواه الطبراني في الكبير بسند منقطع، عن عتبة (وحديث: انفلات الدابة، عزاه النووي لابن السني، وفي إسناده: معروف بن حسان، قال ابن عدي: منكر الحديث; ولا دليل في الحديثين، مع ضعفهما، ولا في الحديث المتقدم قبلهما، على شيء يفعله عباد القبور، من دعائها، ورجائها، والتوكل عليها، والذبح، والنذر لها، والهتف بذكر من فيها، عند الشدائد.
الثالث: أن الله قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [سورة المائدة آية: 3] ، فبعد أن أكمله بفضله ورحمته، فلا يحل لنا أن نخترع فيه ما ليس منه، ونقيس ما لا يقاس عليه.
الرابع: أن الحديث الصحيح ما رواه العدل الضابط عن مثله، من غير شذوذ ولا علة، فكيف يعمل بالحديث المتكلم فيه، فيما لا يدل عليه دلالة مطابقة، ولا تضمن، ولا التزام؟! فهذا هو البهتان.
الخامس: أنهم عمروا مواقفهم بذكر من يعتقدونه، ونسبوا الأفعال إليهم، وكل أحد يذكر ما وقع له من الاستغاثة بفلان، ومن أنجده، وكشف شدته، فإذا قال أحد:{فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة يس آية: 83]، {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [سورة النور آية: 16] ، قامت عليه الجماعة، وقالوا: معلوم {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [سورة يونس آية: 62] .
فإذا قال: نعم، وليس بيد أحد منهم ملكوت خردلة، والله يقول:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13] . والقطمير: القشرة اللطيفة تكون على النواة {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [سورة فاطر آية: 14] .
فإذا كان فيهم من يدعي العلم والإنصاف، وهو
واسع الصدر، يقول: هذه الآية نزلت في عباد الأصنام; فإذا قيل له: نعم، الأصنام: ود، وسواع، ونسر: أسماء رجال صالحين; وهذه الخرق على التوابيت، هي: فعل عباد الأصنام، وأسماء رجال صالحين; وقد قرر أهل العلم: أن العام لا يقصر على السبب; ولا يحل إلا أن نؤدي الأمانة.
فإذا قيل: أدوا الأمانة، فإنه تعالى يقول:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ} [سورة النساء آية: 58]، فلا نقول: هذه نزلت في مفتاح باب الكعبة، فلا نحتج بها; كذلك لا نقول: هذه نزلت في عباد الأصنام، ونفعل فعلهم، ونقول: لسنا بمشركين; وفي الأحاديث القدسية عن سيد البرية: "قال الله (: إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي " أخرجه الترمذي، والبيهقي في شعب الإيمان، عن أبي الدرداء (، فيجيب بأن الأمة مطبقة على هذا، والأمة لا تجتمع على ضلالة، يلزم من هذا تضليل الأمة وتسفيه الآثار.
فيجاب عليه: أما إن الأمة مطبقة على هذا، فكذب على الأمة، وليست بمطبقة على هذا؛ وهذه كتب الفروع في كل مذهب، وكتب الحديث والتفسير، ليس فيها أنه يدعى غير الله (ولا يسن، ولا يستحب، ولا ينبغي، ولا يجوز، ولا يباح; بل الآيات البينات، والأحاديث، وأقوال العلماء ترشد إلى أن هذا شرك محقق; والله تعالى يقول لرسوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ
أَلَاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة الأنعام آية: 151] . ويقول: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] .
السادس: قد اختلف في التوسل إليه بشيء من مخلوقاته، فقال أبو محمد ابن عبد السلام في فتاويه: إنه لا يجوز التوسل إليه بشيء من مخلوقاته، لا الأنبياء، ولا غيرهم، وتوقف في حق نبينا (لاعتقاده أنه ورد في ذلك حديث، وأنه لم يعرف صحة هذا الحديث; وتقدم قول أبي حنيفة وأصحابه، رحمهم الله تعالى.
السابع: أنهم يشترون أولادهم ممن يعتقدونه، ويجعلون له النذور، وإذا جاء المولود، جعلوا لمن ينتسب إلى ذلك المعتقد طعاما، وقد أوحى إليهم الشيطان أن يجعلوا زوايا لمن يعتقدونه، وفيها جماعة ينسبون أنفسهم إلى ذلك، كالعلوانية، والقادرية، والرفاعية، وأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، بل قال تعالى:{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [سورة الحج آية: 78] ، في الكتب المنَزلة، كالتوراة، والإنجيل، وفي هذا القرآن؛ فاستبدلوا الذي هو أدنى، بالذي هو خير.
وإذا مرض هذا المشترى من المعتقد، نذر أهله النذور، ولم يزل يستغيث به ليشفي سقمه، ويكشف شدته، ولم يلتزموا في فعلهم هذا أن يكون المشترى منه الولد ميتا في تلك البلدة; بل يشتري أهل مكة أولادهم من عبد القادر الجيلاني، ومن الجبرتي، المدفون في زبيد;
ويجهلون قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة آل عمران آية: 6] ، فإن الشراء ممن يملك الشيء.
وهذا الأمر سار في العلماء، والجهال; فهم قد غلبت عليهم العوائد، وسلبت عقولهم من تفهم المراد والمقاصد، ولم يجدوا هذا في كتاب فروع أحد من الأئمة، صانهم الله عن هذه الوصمة، فما استدلوا به مما تقدم، لا يكون دليلا على التوسل بالأموات، المعلوم حالهم أنهم في أعلى الجنان، فكيف غيرهم، ممن لا يعلم حاله، ولا يدرى أين مآله؟ أم كيف يكون دليلا على دعاء غير الله تعالى، في المهمات؟ ويقال: المراد الوسيلة، ويستدل لها بهذا؟! {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [سورة النور آية: 16] ، وتحريف للكلم عن مواضعه.
فبهذا تبين أن الشيطان اللعين نصب لأهل الشرك قبورا يعظمونها ويعبدونها أوثانا من دون الله; ثم يوحي إلى أوليائه أن من نهى عن عبادتها واتخاذها أعيادا، وجعلها" والحالة هذه" أوثانا، فقد انتقصها وغمصها حقها، وسبها; فيسعى الجاهلون المشركون في قتالهم وعقوباتهم، وما ذنبهم عند هؤلاء المشركين، إلا أنهم أمروهم بإخلاص توحيده، ونهوهم عن الشرك بأنواعه، وقالوا بتعطيله.
فعند ذلك غضب المشركون، واشمأزت قلوبهم فهم لا يؤمنون، وقالوا: قد انتقصوا أهل المقامات والرتب،
فاستحقوا الويل والعتب، وفي زعمهم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر، ويسري ذلك في نفوس الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، وحب الأولياء وأتباع المرسلين.
بسبب ذلك عادونا، وبالعظائم والكبائر والجرائم الغزار رمونا، ونسبوا كل قبيح إلينا، ونفروا الناس عنا وعما ندعو إليه، ووالوا أهل الشرك وظاهروهم علينا، وزعموا أنهم أولياء الله، وأنصار دينه ورسوله وكتابه.
ويأبى الله ذلك: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [سورة الأنفال آية: 34] له، الموافقون له، العارفون به وبما جاء به، والعاملون به، والداعون إليه، لا المتشبعون بما لم يعطوا، اللابسون ثياب الزور، الذين يصدون الناس عن دينه وهديه وسنته {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} [سورة الأعراف آية: 45] .
{وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 104] ، باتباعه واحترامه والعمل به، وتعظيم الأنبياء والأولياء، واحترامهم متابعتهم لهم فيما يحبونه، وتجنب ما يكرهونه; وهم: أعصى الناس لهم، وأبعدهم منهم، ومن هديهم ومتابعتهم، كالنصارى مع المسيح، واليهود مع موسى، والرافضة مع علي.
وأهل التوحيد أين كانوا، أولى بهم وبمحبتهم، ونصرة طريقتهم وسنتهم، وهديهم، ومنهاجهم، وأولى بالحق قولا وعملا، من أهل الباطل؛ فالمؤمنون
والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، والمنافقون والمنافقات، والمشركون والمشركات، بعضهم من بعض.
ومن أصغى إلى كلام الله بكلية قلبه، وتدبره وتفهمه، أغناه عن اتباع الشيطان وشركه، الذي يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وينبت النفاق في القلب، وكذلك من أصغى إليه وإلى حديث الرسول بكليته، وحدث نفسه بهما، وعمل باقتباس الهدى والعلم منه، لا من غيره، أغناه عن البدع والشرك، والآراء والتخرصات، والشطحات والخيالات، التي هي من وساوس الشيطان والنفوس، وتخيلات الهواء والبؤساء.
ومن بعد عن ذلك، فلا بد أن يتعوض بما لا ينفعه، بل مضرة عليه; كما أن من عمر قلبه بمحبة الله وذكره، وخشيته والتوكل عليه، أغناه أيضا عن عشق الصور؛ وإذا خلا من ذلك، عبد هواه أي شيء استحسنه ملكه واستعبده؛ فالمعرض عن التوحيد عابد الشيطان، مشرك، شاء أم أبى، والمعرض عن السنة مبتدع، شاء أم أبى، والمعرض عن محبة الله وذكره، عابد الصور، شاء أم أبى.
وفي صحيح: مسلم، عن أبي الهياج الأسدي، واسمه حيان بن حصين، قال: "قال لي علي ابن أبي طالب (: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله: أن لا أدع
تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته " 1 وفي صحيحه أيضا; عن ثمامة بن شفي الهمداني قال:"كنا مع فضالة بن عبيد، بأرض الروم، فتوفى صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوي، فقال: سمعت رسول الله يأمر بتسويتها، وقد أمر به " 2 وفعله الصحابة، والتابعون، والأئمة المجتهدون.
قال الشافعي، في الأم: رأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى على القبور ويؤيد الهدم، قوله:" ولا قبرا مشرفا إلا سويته " 3، وحديث جابر الذي في صحيح مسلم:"نهى (عن البناء على القبور"؛ ولأنها أسست على معصية الرسول، لنهيه عن البناء عليها، وأمره بتسويتها; فبناء أسس على معصيته، ومخالفته (، بناء غير محترم، وهو أولى بالهدم من بناء الغاصب قطعا، وأولى من هدم مسجد الضرار، المأمور بهدمه شرعا، إذ المفسدة أعظم، حماية للتوحيد; والله المستعان، وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
قال الشيخ: عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى، شرحا لكلام جده، الشيخ: محمد، رحمهما الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
قوله رحمه الله تعالى: أصل دين الإسلام، وقاعدته أمران: الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والتحريض على ذلك، والموالاة فيه، وتكفير من تركه.
1 مسلم: الجنائز (969)، والترمذي: الجنائز (1049)، والنسائي: الجنائز (2031)، وأبو داود: الجنائز (3218) ، وأحمد (1/96 ،1/128) .
2 مسلم: الجنائز (968)، والنسائي: الجنائز (2030)، وأبو داود: الجنائز (3219) .
3 صحيح مسلم: كتاب الجنائز (969)، وسنن الترمذي: كتاب الجنائز (1049)، وسنن النسائي: كتاب الجنائز (2031)، وسنن أبي داود: كتاب الجنائز (3218) ، ومسند أحمد (1/87 ،1/96 ،1/128) .
قلت: وأدلة هذا في القرآن أكثر من أن تحصر، كقوله تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة آل عمران آية: 64] : أمر الله تعالى نبيه أن يدعو أهل الكتاب إلى معنى لا إله إلا الله، الذي دعا إليه العرب وغيرهم.
والكلمة هي: لا إله إلا الله، ففسرها بقوله:{أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة آل عمران آية: 64]، فقوله:(ألا نعبد)، فيه معنى: لا إله، وهو نفي العبادة عما سوى الله، وقوله:(إلا الله) ، هو المستثنى في كلمة الإخلاص; فأمره تعالى أن يدعوهم إلى قصر العبادة عليه وحده، ونفيها عمن سواه ومثل هذه الآية كثير، يبين أن الإلهية هي العبادة، وأنها لا يصلح منها شيء لغير الله، كما قال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23]، معنى قضى: أمر ووصى، قولان، ومعناهما واحد; وقوله:{أَلَّا تَعْبُدُوا} [سورة الإسراء آية: 23]، فيه معنى: لا إله، وقوله:{إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] فيه معنى: إلا الله.
وهذا هو توحيد العبادة، وهو دعوة الرسل، إذ قالوا لقومهم:{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة المؤمنون آية: 32] . فلا بد من نفي الشرك في العبادة رأسا، والبراءة منه وممن فعله، كما قال تعالى، عن خليله إبراهيم عليه السلام:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 26"27] . فلا بد
من البراءة من عبادة ما كان يعبد من دون الله.
وقال عنه عليه السلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة مريم آية: 48] . فيجب اعتزال الشرك وأهله بالبراءة منهما، كما صرح به في قوله تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] ، والذين معه هم الرسل، كما ذكره ابن جرير.
وهذه الآية تتضمن جميع ما ذكره شيخنا رحمه الله، من التحريض على التوحيد، ونفي الشرك، والموالاة لأهل التوحيد، وتكفير من تركه بفعل الشرك المنافي له؛ فإن من فعل الشرك فقد ترك التوحيد؛ فإنهما ضدان لا يجتمعان، فمتى وجد الشرك انتفى التوحيد.
وقد قال تعالى في حال من أشرك: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [سورة الزمر آية: 8] ، فكفّره تعالى باتخاذ الأنداد، وهم الشركاء في العبادة؛ وأمثال هذه الآيات كثيرة، فلا يكون موحدا إلا بنفي الشرك، والبراءة منه، وتكفير من فعله.
ثم قال رحمه الله تعالى: الثاني: الإنذار عن الشرك في عبادة الله، والتغليظ في ذلك، والمعاداة فيه، وتكفير من فعله، فلا يتم مقام التوحيد إلا بهذا ; وهو دين الرسل،
أنذروا قومهم عن الشرك، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] . وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25] . وقال تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة الأحقاف آية: 21] .
قوله في عبادة الله: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة.
قوله: والتغليظ في ذلك، وهذا موجود في الكتاب والسنة، كقوله تعالى:{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [سورة الذاريات آية: 50]، {وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [سورة الذاريات آية: 51] . ولولا التغليظ، لما جرى على النبي (وأصحابه من قريش ما جرى، من الأذى العظيم، كما هو مذكور في السير مفصلا، فإنه بادأهم بسب دينهم وعيب آلهتهم.
قوله رحمه الله تعالى: والمعاداة فيه كما قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [سورة التوبة آية: 5] ، والآيات في هذا كثيرة جدا، كقوله:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] . والفتنة: الشرك.
ووسم تعالى أهل الشرك بالكفر فيما لا يحصى من
الآيات، فلا بد من تكفيرهم أيضا، وهذا هو مقتضى لا إله إلا الله، كلمة الإخلاص؛ فلا يتم معناها إلا بتكفير من جعل لله شريكا في عبادته، كما في الحديث الصحيح:" من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله "1. فقوله: (وكفر بما يعبد من دون الله) : تأكيد للنفي، فلا يكون معصوم الدم والمال إلا بذلك، فلو شك أو تردد، لم يعصم دمه وماله.
فهذه الأمور هي تمام التوحيد، لأن؛ لا إله إلا الله قيدت في الأحاديث بقيود ثقال: بالعلم، والإخلاص، والصدق، واليقين، وعدم الشك؛ فلا يكون المرء موحدا إلا باجتماع هذا كله، واعتقاده، وقبوله، ومحبته، والمعاداة فيه، والموالاة فبمجموع ما ذكره شيخنا، رحمه الله، يحصل ذلك.
ثم قال رحمه الله تعالى: والمخالف في ذلك أنواع: فأشدهم مخالفة، من خالف في الجميع، فقبل الشرك واعتقده دينا، وأنكر التوحيد واعتقده باطلا، كما هو حال الأكثر؛ وسببه: الجهل بما دل عليه الكتاب والسنة، من معرفة التوحيد، وما ينافيه من الشرك والتنديد، واتباع الأهواء وما عليه الآباء، كحال من قبلهم من أمثالهم من أعداء الرسل، فرموا أهل التوحيد بالكذب والزور، والبهتان والفجور; وحجتهم:{بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [سورة الشعراء آية: 74] .
1 مسلم: الإيمان (23) ، وأحمد (3/472 ،6/394) .
وهذا النوع من الناس والذي بعده، قد ناقضوا ما دلت عليه كلمة الإخلاص، وما وضعت له، وما تضمنته من الدين الذي لا يقبل الله دينا سواه، وهو دين الإسلام الذي بعث الله به جميع أنبيائه ورسله، واتفقت دعوتهم عليه كما لا يخفى فيما قص الله عنهم في كتابه.
ثم قال رحمه الله: ومن الناس من عبد الله وحده، ولم ينكر الشرك، ولم يعاد أهله. قلت: ومن المعلوم أن من لم ينكر الشرك، لم يعرف التوحيد، ولم يأت به، وقد عرفت أن التوحيد لا يحصل إلا بنفي الشرك، والكفر بالطاغوت المذكور في الآية.
ثم قال رحمه الله تعالى: ومنهم من عاداهم ولم يكفرهم; فهذا النوع أيضا لم يأت بما دلت عليه لا إله إلا الله من نفي الشرك، وما تقتضيه من تكفير من فعله، بعد البيان إجماعا؛ وهو مضمون سورة الإخلاص، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] وقوله، في آية الممتحنة:{كَفَرْنَا بِكُمْ} [سورة الممتحنة آية: 4] ومن لم يكفر من كفر القرآن فقد خالف ما جاءت به الرسل من التوحيد، وما يوجبه.
ثم قال رحمه الله: ومنهم من لم يحب التوحيد، ولم يبغضه، فالجواب: أن من لم يحب التوحيد لم يكن موحدا، لأنه هو الدين الذي رضيه الله تعالى لعباده، كما قال:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] ؛ فلو رضي بما رضي به الله، وعمل به لأحبه، ولا بد من المحبة، لعدم
حصول الإسلام بدونها، فلا إسلام إلا بمحبة التوحيد. قال شيخ الإسلام، رحمه الله: الإخلاص: محبة الله، وإرادة وجهه؛ فمن أحب الله أحب دينه، وما لا فلا؛ وبالمحبة يترتب عليها ما تقتضيه كلمة الإخلاص من شروط التوحيد.
ثم قال رحمه الله تعالى: ومنهم من لم يبغض الشرك ولم يحبه. قلت: ومن كان كذلك، فلم ينف ما نفته لا إله إلا الله من الشرك والكفر بما يعبد من دون الله، والبراءة منه، فهذا ليس من الإسلام في شيء أصلا، ولم يعصم دمه ولا ماله، كما دل عليه الحديث المتقدم.
وقوله رحمه الله: ومنهم من لم يعرف الشرك ولم ينكره. قلت: من لم يعرف الشرك ولم ينكره، لم ينفه ; ولا يكون موحدا، إلا من نفى الشرك وتبرأ منه وممن فعله، وكفرهم؛ وبالجهل بالشرك لا يحصل شيء مما دلت عليه لا إله إلا الله، ومن لم يقم بمعنى هذه الكلمة ومضمونها، فليس من الإسلام في شيء، لأنه لم يأت بهذه الكلمة ومضمونها عن علم ويقين، وصدق وإخلاص، ومحبة وقبول، وانقياد; وهذا النوع، ليس معه من ذلك شيء، وإن قال لا إله إلا الله، فهو لا يعرف ما دلت عليه، ولا ما تضمنته.
ثم قال رحمه الله تعالى: ومنهم من لم يعرف التوحيد ولم ينكره فأقول: هذا كالذي قبله، لم يرفعوا رأسا بما خلقوا له من الدين الذي بعحث الله به رسله وهذه الحال
حال من قال الله فيهم: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [سورة الفرقان آية: 44] .
وقوله رحمه الله: ومنهم" وهو أشد الأنواع خطرا" من عمل بالتوحيد ولم يعرف قدره، فلم يبغض من تركه ولم يكفرهم، فقوله رحمه الله: وهو أشد الأنواع خطرا، لأنه لم يعرف قدر ما عمل به، فلم يجيء بما يصحح توحيده، من القيود الثقال التي لا بد منها، لما علمت أن التوحيد يقتضي نفي الشرك، والبراءة منه، ومعاداة أهله، وتكفيرهم، مع قيام الحجة عليهم، فهذا قد يغتر بحاله، وهو لم يجيء بما عليه من الأمور التي دلت عليها كلمة الإخلاص، نفيا وإثباتا.
وكذلك قوله رحمه الله: ومنهم من ترك الشرك وكرهه، ولم يعرف قدره; فهذا أقرب من الذي قبله، لكن لم يعرف قدر الشرك، لأنه لو عرف قدره لفعل ما دلت عليه الآيات المحكمات، كقول الخليل:{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 26"27]، وقوله:{إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً} [سورة الممتحنة آية: 4] .
فلا بد لمن عرف الشرك وتركه من أن يكون كذلك، من الولاء والبراء، من العابد والمعبود، وبغض الشرك وأهله، وعداوتهم، وهذان النوعان، هما الغالب على أحوال كثير ممن يدعى الإسلام، فيقع منهم من الجهل
بحقيقته ما يمنع الإتيان بكلمة الإخلاص، وما اقتضته على الكمال الواجب الذي يكون به موحدا، فما أكثر المغرورين، الجاهلين بحقيقة الدين!
فإذا عرفت أن الله كفر أهل الشرك، ووصفهم به في الآيات المحكمات، كقوله:{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [سورة التوبة آية: 17] وكذلك السنة.
قال شيخ الإسلام، رحمه الله تعالى: فأهل التوحيد، والسنة، يصدقون الرسل فيما أخبروا، ويطيعونهم فيما أمروا، ويحفظون ما قالوا، ويفهمونه، ويعملون به، وينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ويجاهدون من خالفهم، تقربا إلى الله، وطلبا للجزاء من الله لا منهم. وأهل الجهل والغلو لا يميزون بين ما أمروا به ونهوا عنه، ولا بين ما صح عنهم، وما كذب عليهم، ولا يفهمون حقيقة مرادهم، ولا يتحرون طاعتهم، بل هم جهال لما أتوا به، معظمون لأغراضهم.
قلت: ما ذكره شيخ الإسلام يشبه حال هذين النوعين الأخيرين ; بقي مسألة حدثت، تكلم بها شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو: عدم تكفير، المعين ابتداء لسبب ذكره رحمه الله تعالى، أوجب له التوقف في تكفيره قبل إقامة الحجة عليه، قال رحمه الله تعالى: ونحن نعلم بالضرورة، أن النبي لم يشرع لأحد أن يدعو أحدا من الأموات، لا
الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها؛ كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت، ولا إلى ميت، ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن هذه الأمور كلها، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله (، ولكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين ما جاء به الرسول مما يخالفه، انتهى.
قلت: فذكر رحمه الله تعالى ما أوجب له عدم إطلاق الكفر عليهم، على التعيين خاصة، إلا بعد البيان والإصرار فإنه قد صار أمة وحده; لأن من العلماء من كفره، بنهيه لهم عن الشرك في العبادة، فلا يمكن أن يعاملهم بمثل ما قال، كما جرى لشيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، في ابتداء دعوته، فإنه إذا سمعهم يدعون زيدا بن الخطاب، قال: الله خير من زيد، تمرينا لهم على نفي الشرك، بلين الكلام، نظرا إلى المصلحة، وعدم النفرة، والله سبحانه أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
[تقرير الإلهية]
وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه، في تقرير الإلهية، ما نصه:
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد
المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما.
اعلم أن أعظم شهادة، وأفرضها على الخلق، قولا، وعملا، واعتقادا، ما شهد الله به لنفسه من اختصاصه بالإلهية، دون جميع خلقه، أزلا وأبدا، قال تعالى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة آل عمران آية: 18] . فكرر الشهادة به في هذه الآية; وأخبر أن ملائكته، وأولي العلم شهدوا له بذلك، جل وعلا; وأخبر عباده بهذه الشهادة، ودعاهم إلى أن يشهدوا له بها، قال تعالى:{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [سورة النساء آية: 87]، وقال تعالى:{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [سورة طه آية: 8]، وقال:{وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} [سورة القصص آية: 70] .
وأخبر أنه بعث بهذه الشهادة الرسل جميعهم، فقال:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25]، فبين في هذه الآية وأمثالها كقوله:{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة المؤمنون آية: 32] ، أن الإلهية هي العبادة; فإن الإله هو المألوه الذي تألهه القلوب، محبة، وتعظيما، وتذللا، وخضوعا، وتوكلا، ورغبة إليه، ورهبة، وخوفا، ورجاء، وغير ذلك من أنواع العبادة.
وقال تعالى {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [سورة الأنعام آية: 102] ، وبين تعالى ما تضمنته هذه الشهادة من النفي والإثبات بقوله، عن خليله عليه السلام، أنه قال لأبيه وقومه:{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة الزخرف آية: 26"28] .
والكلمة هي: لا إله إلا الله، فعبر عنها الخليل بمعناها، فنفى ما نفته هذه الكلمة من الشرك في العبادة، بالبراءة من كل ما يعبد من دون الله، واستثنى الذي فطره، وهو الله سبحانه الذي لا يصلح من العبادة شيء لغيره، كما قال تعالى:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [سورة هود آية: 1]، {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 2] ، فقوله:{أَلَّا تَعْبُدُوا} [سورة هود آية: 2]، فيه معنى: لا إله، وقوله:{إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 2] ، هو المستثنى في هذه الكلمة العظيمة، وفي هذه الآيات: نفي الإلهية عما سوى الله، نفيا عاما، بلا النافية للجنس، وأثبت الإلهية له وحده، دون كل ما سواه.
والآيات في معنى هذه الكلمة كثيرة في القرآن، قال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23]، فقوله:{أَلَّا تَعْبُدُوا} [سورة الإسراء آية: 23] : نفي استحقاق العبادة لغيره، وأثبتها لنفسه بقوله:{إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] . وقال تعالى: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة يوسف آية: 40] ، وأمر نبيه (أن يدعو أهل الكتاب إلى معنى هذه الكلمة، وما تضمنته من النفي والإثبات،
فقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة آل عمران آية: 64] ، فتضمنت هذه الآية معنى " لا إله إلا الله " من نفي الإلهية عما سوى الله وتفردة بالعبادة دون كل ما سواه.
ومعنى: {تَعَالَوْا} [سورة آل عمران آية: 64]، أي: هلموا وأقبلوا، إلى أن نكون نحن وأنتم في توحيد الله مجتمعين على ذلك، ثم قرر تعالى بقوله:{وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة آل عمران آية: 64] .
وهذه الكلمة هي التي دعا رسول الله (قريشا والعرب أن يقولوها، ويعملوا بها، وقال لهم:"قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، كلمة تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم، وتكونون بها ملوكا في الجنة " 1 فقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص آية: 5]، {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} [سورة ص آية: 7] .
وذلك أنهم نشؤوا في الفترة، بعد عبادة الأصنام، حين استخرجها عمرو بن لحي الخزاعي، وفرقها في القبائل، وهي الأصنام التي عبدها قوم نوح، فعبدوها، وكثرت عبادة الأوثان والأصنام; فصار عند الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، على صورة من كانوا يعبدونه.
وعبدوا اللات: والعزى، ومناة، وذا الخلصة، وغيرها مما لا يحصى كثرة، ولذلك أنكروا معنى لا إله إلا الله
1 أحمد (3/492) .
لما دعاهم النبي (إلى ترك عبادة ما كانوا يعبدونه من دون الله، فأبوا أن ينفوا ما نفته من عبادة الأوثان والأصنام، وأن يخلصوا العبادة لله وحده.
ولمعرفتهم معنى هذه الكلمة نهوا أبا طالب عن أن يقولها عند موته، لما قال له رسول الله:" يا عم قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله. قال له أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ " 1 علموا أنه لو قالها لترك عبادة غير الله، وأنكرها، لمعرفتهم ما دلت عليه من النفي والإثبات، قال الله تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 36] .
وأما هذه الأمة، فلما كثر الشرك فيهم كما كثر في أولئك، وبنيت المساجد على القبور وعبدت، وبنيت المشاهد على اسم من بنيت باسمه من الصالحين وعبدت، صاروا يقولون: لا إله إلا الله، والشرك قد قام في قلوبهم، واتخذوه دينا، فأثبتوا ما نفته هذه الكلمة من عبادة غير الله، وأنكروا ما دلت عليه من الإخلاص.
فعكسوا مدلول هذه الكلمة العظيمة، بكونهم أثبتوا ما نفته من الشرك، ونفوا ما أثبتته من الإخلاص الذي هو حق الله على عباده، فيقول قائلهم: لا إله إلا الله، وقد اعتقد عكس ما دلت عليه; وهذا غاية الجهل والضلال، يقول كلمة
1 البخاري: المناقب (3884)، ومسلم: الإيمان (24)، والنسائي: الجنائز (2035) ، وأحمد (5/433) .
تتضمن النفي والإثبات، فلا يعرف ما نفت ولا ما أثبتت؛ هذا وهم فيما يقرءونه، ويقرؤونه في مذاهبهم، وما كانوا يتعاطونه من العلوم، لا يجهلون مثل هذا.
وكثير منهم له في علم المعقول اليد الطولى، فسبحان الله! كيف جهلوا من ذلك ما دعت إليه الرسل من توحيد الله، ونفي الشرك الذي نهوا أممهم عنه، كما هو صريح في القرآن، لا يخفى على من له أدنى فهم إن وفق لفهمه، فوضعوا الشرك موضع التوحيد، بالقبول والعمل، ووضعوا التوحيد موضع الشرك، بالإنكار على من دعا إليه وعداوته!
فبهذا يتبين لك معنى ما أخبر به النبي من قوله: " بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدا ". 1 فلا غربة للإسلام أعظم من هذه الغربة التي عليها الأكثرون في هذه القرون المتأخرة; وقد ذكر العلماء" رحمهم الله" من أهل السنة والجماعة في معنى: لا إله إلا الله، وبيان ما نفته وما أثبتته، ما يفيد العلم اليقيني بمعناها الذي أوجب الله تعالى معرفته، وما تضمنته من النفي والإثبات.
قال الوزير: أبو المظفر في الإفصاح: قوله: شهادة أن لا إله إلا الله، يقتضي أن يكون الشاهد عالما بأنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد آية: 19] . قال: واسم الله مرتفع بعد { (إِلَاّ} [سورة محمد آية: 19] من
1 مسلم: الإيمان (145)، وابن ماجه: الفتن (3986) ، وأحمد (2/389) .
حيث أنه الواجب له الإلهية، فلا يستحقها غيره سبحانه، قال: وجملة الفائدة في ذلك أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فإنك لما نفيت الإلهية وأثبت الإيجاب لله تعالى، كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله.
قال ابن القيم رحمه الله في البدائع: فدلالتها" أي لا إله إلا الله" على إثبات الإلهية أعظم من دلالة قولنا الله إله، ولا يستريب أحد في هذا البتة. انتهى بمعناه.
وقال رحمه الله: والإله هو: الذي تألهه القلوب، محبة وإجلالا، وإنابة، وإكراما، وتعظيما، وذلا، وخضوعا، وخوفا، ورجاء، وتوكلا عليه، وسؤالا منه، ودعاء له، لا يصلح ذلك كله إلا لله؛ فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية، كان ذلك قدحا في إخلاصه في قوله: لا إله إلا الله، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك، وقال: أبو عبد الله القرطبي، في تفسيره: لا إله إلا الله، أي: لا معبود إلا هو.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الإله هو: المعبود المطاع، فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو: الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق هو، بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع.
وقال رحمه الله تعالى: فإن الإله هو: المحبوب، المعبود الذي تألهه القلوب بحبها، وتخضع له، وتذل له، وتخافه، وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه، وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده، وبهذا كانت لا إله إلا الله أصدق الكلام، وكان أهلها هم أهل الله وحزبه; والمنكرون لها أعداؤه، وأهل غضبه ونقمته. فإذا صحت، صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد، فالفساد لازم له في علومه وأعماله.
وقال البقاعي: لا إله إلا الله، أي: انتفى انتفاء عظيما أن يكون معبودا بحق، غير الملك الأعظم; فإن هذا العلم، هو: أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة ; وإنما يكون علما إذا كان نافعا، وإنما يكون نافعا إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه; وإلا فهو جهل صرف ; وهذا الذي ذكرناه عن شيخ الإسلام والبقاعي، هو: الموجود في كلام أهل السنة جميعهم.
إذا عرفت ذلك فمما يدل على غربة الإسلام ما أخبر به النبي (من وقوع الشرك في هذه الأمة، كما في الصحيح من حديث ثوبان:" وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان ". وأخرج أبو داود عن عبد الله بن مسعود، عن النبي (أنه قال: " تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين، أو ست وثلاثين، أو
سبع وثلاثين، فإن يهلكوا، فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم، يقم تسعين عاما. قال: قلت: أمما بقي، أو مما مضى؟ قال: مما مضى " 1.
ومما يبين غربة الإسلام وشدتها، ما جرى من الملوك والقضاة والرؤساء على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، من العداوة والحبس، وشدة الإنكار عليه، لما دعاهم إلى ما تضمنته لا إله إلا الله، ومعناها الذي تقدم عنه وعن أمثاله من العلماء; وقد ردوا عليه بشبهات واهية، وضلالات في الضلال متناهية; رد عليهم رحمه الله تعالى في: منهاج السنة، واقتضاء الصراط المستقيم، وكتاب الاستغاثة في الرد على ابن البكري; ورد على أهل البدع جميعهم من الفلاسفة والمتكلمين، كالجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة.
وذكر رحمه الله أن هؤلاء كلهم، وإن كثرت أبحاثهم ومصنفاتهم، فما منهم من يعرف ما دلت عليه كلمة الإخلاص:" لا إله إلا الله "؛ فلم يعرفوا التوحيد الذي أثبتته، ولا الشرك الذي نفته؛ هذا معنى كلامه ولتلميذه العلامة ابن القيم، في بيان أنواع التوحيد والرد على أهل البدع، المصنفات الكثيرة المفيدة؛ فمن أحسنها: إغاثة اللهفان، وكتاب: الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة.
وللحافظ ابن عبد الهادي: الصارم المنكي في الرد
1 أبو داود: الفتن والملاحم (4254) .
علي السبكي ولهم أصحاب كثير أخذوا عنهم; فلما طال الأمد بعدهم صارت كتبهم في أيدي أناس جهلة، وفي خزائن الكتب الموقوفة، فلم يلتفتوا إليها، فرجعوا إلى ما كان عليه من قبلهم ممن مضى من المبتدعة، وكثر الشرك في القرى والأمصار; وصاروا لا يعرفون من التوحيد إلا ما تدعيه الأشاعرة من تأويل صفات الرب والإلحاد فيها، فصاروا كذلك حتى نسي العلم، وعم الشرك والبدع، إلى منتصف القرن الثاني عشر، فإنه لا يعرف إذ ذاك عالم أنكر شركا أو بدعة مما صار في آخر هذه الأمة.
فشرح الله صدر شيخنا، فضلا من الله ونعمة عظيمة منَّ بها تعالى في آخر هذا الزمان، فعرف من الحق ما عرف شيخ الإسلام ابن تيمية وأصحابه، بتدبره الآيات المحكمات، وصحيحي البخاري ومسلم، والسن، والمسانيد، والآثار، ومعرفة ما كان عليه رسول الله (والتابعون، وأتباعهم، وما عليه سلف الأمة وأئمتها، والأئمة من أهل الحديث والتفسير، والفقهاء كالأئمة الأربعة ومن أخذ عنهم، فتبين له التوحيد وما ينافيه، والسنة وما يناقضها.
فدعا الناس من أهل قريته وما قرب منها أن يتركوا عبادة أرباب القبور والطواغيت، وعبادة الأشجار والأحجار، والذبح للجن، ونحو ذلك; وكل هذا قد وقع في قرى نجد وغيرها كالبوادي؛ فلما أنكر ذلك كرهوا
ذلك منه، وطرده أهل قريته عنها، وهي: حريملا، وصار في العيينة يدعو إلى دين الإسلام، وينهى عن الشرك وعبادة الأوثان، وقبل ذلك طائفة منهم ومن أهل الدرعية; ثم بعد ذلك ضاق نطاق أمير العيينة لما رآه قد أنكر قوله الخلق الكثير والجم الغفير، وقد نصب له العداوة أهل القرى والأمصار، والبادي والحاضر، فأمره أن ينتقل من بلده عنه.
وصار في الدرعية عند محمد بن سعود وأولاده وإخوانه، وبعض الأعيان من جماعته؛ فصار لهم قبول لهذه الدعوة، فصبروا على عداوة الناس قريبهم وبعيدهم، وكل قصدهم بالحرب، فثبتهم الله على قلتهم وكثرة من خالقهم، وقتل من قتل من أعيانهم، فصبروا، وصارت الحرب بينهم سجالا، والله يحميهم ويقوي قلوبهم؛ وما جرى بينهم وبين عدوهم، مذكور في التاريخ.
فأظهر الله هذا الدين في نجد، والبادية، حتى لم يكن فيهم من ينازع ويجادل، لأن الله أبطل كل شبهة، بما أبداه هذا الشيخ ببيانه، ومصنفاته التي صارت في أيدي المسلمين; وانتشرت دعوته في الأمصار، وقبلها القليل منهم ممن له التفات إلى ما ينفعه، بخلاف من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله، وهم الأكثرون، فلله الحمد على هذه النعمة العظيمة، فيا سعادة من هدي إلى معرفة حقيقة دين الإسلام واتبعه.
وقد وجدت للعلامة ابن القيم رحمه الله كلاما في الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، يتعين نقله هنا، لعظيم فائدته، وشدة الحاجة إليه، قال رحمه الله تعالى:
فصل: عظيم النفع، جليل القدر; ينتفع به: من عرف نوعي التوحيد القولي العلمي الخبري والتوحيد القصدي الإرادي العملي، كما دل على الأول سورة:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 1]، وعلى الثاني سورة:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] . وكذلك دل على الأول، قوله:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} الآية [سورة البقرة آية: 136]، وعلى الثاني:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} [سورة آل عمران آية: 64] ، ولهذا كان النبي (يقرأ بهاتين السورتين في سنة الفجر وسنة المغرب; ويقرأ بهما في ركعتي الطواف; ويقرأ بالآيتين في سنة الفجر، لتضمنهما التوحيد العلمي والعملي.
والتوحيد العلمي أساسه: إثبات الكمال للرب، ومباينته لخلقه، وتنْزيهه عن العيوب والنقائص، والتمثيل; والتوحيد العملي أساسه: تجريد القصد بالحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والإنابة، والاستعانة، والاستغاثة، والعبودية بالقلب، واللسان، والجوارح، لله وحده.
ومدار ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، على
هذين التوحيدين؛ وأقرب الخلق إلى الله: أقومهم بهما علما وعملا; ولهذا كانت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أقرب الخلق إلى الله؛ وأقربهم إليه وسيلة، أولو العزم؛ وأقربهم الخليلان؛ وخاتمهم: سيد ولد آدم، وأكرمهم على الله، لكمال عبوديته وتوحيده.
فهذان الأصلان هما قطب رحى الدين، وعليهما مداره، وبيانهما من أهم الأمور; والله سبحانه بينهما غاية البيان، بالطرق العقلية والنقلية، والفطرية والنظرية، والأمثال المضروبة؛ ونوع سبحانه الطرق بإثباتهما كل التنويع، بحيث صار معرفة القلوب الصحيحة والفطر السليمة لهما بمنْزلة: رؤية العين المبصرة التي لا آفة بها، للشمس، والقمر، والنجوم، والأرض والسماء، فذلك للبصيرة، بمنْزلة هذه للبصر.
فإن تسلط التأويل على التوحيد الخبري، العلمي كان تسليطه على التوحيد العملي القصدي أسهل، وانمحت رسوم التوحيد، وقامت معالم التعطيل والشرك; ولهذا كان الشرك والتعطيل متلازمين، لا ينفك أحدهما عن صاحبه ; وإمام المعطلين المشركين: فرعون، فهو إمام كل معطل ومشرك إلى يوم القيامة، كما أن إمام الموحدين: إبراهيم، ومحمد عليهما السلام.
وقال أيضا لما ذكر سبب عبادة الأصنام التي صورها قوم نوح، على صور الصالحين; وما زال الشيطان يوحي
إلى عباد القبور ويلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها، من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بالمقبور والإقسام به على الله; فإن شأن الله أعظم من أن يقسم به عليه، أو يسأل بأحد من خلقه; فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى دعائه، وعبادته، وسؤاله الشفاعة، واتخاذ قبره وثنا تعلق عليه القناديل والستور، ويطاف به ويستلم ويقبل، ويحج إليه ويذبح عنده.
فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيدا ومنسكا; ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم؛ وكل هذا قد علم بالاضطرار من دين الإسلام، أنه مضاد لما بعث الله به رسوله (من تجريد التوحيد، وألا يعبد إلا الله.
فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل الرتب العالية، وحطهم عن منْزلتهم، وزعم أنه لا حرمة لهم، ولا قدر، وغضب المشركون واشمأزت قلوبهم، كما قال تعالى:{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة الزمر آية: 45] .
وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عنهم، ووالوا أهل
الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله، وأنصار دينه ورسوله؛ ويأبى الله ذلك {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [سورة الأنفال آية: 34] . انتهى كلامه، رحمه الله تعالى.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [سورة الحج آية: 73"74] .
فتأمل هذا المثل الذي أمر الناس كلهم باستماعه" فمن لم يسمعه فقد عصى أمره" كيف تضمن إبطال الشرك وأسبابه، بأصح برهان، وأوجز عبارة وأحسنها وأحلاها، وسجل على جميع آلهة المشركين أنهم لو اجتمعوا كلهم في صعيد واحد، وساعد بعضهم بعضا، وعاونه بأبلغ المعاونة، لعجزوا عن خلق ذباب واحد؛ ثم بين ضعفهم وعجزهم عن استنقاذ ما يسلبه الذباب إياه، فأي إله أضعف من هذا الإله المطلوب، ومن عابده الطالب، فهل قدر القوي العزيز حق قدره من أشرك معه آلهة هذا شأنها؟
فأقام سبحانه حجة التوحيد، وبين إفك أهل الشرك والإلحاد، بأعذب الألفاط وأحسنها، لم يعترها غموض، ولم يشبها تطويل، ولم يعبها تعقيد، ولم يزر بها زيادة ولا تنقيص؛ بل بلغت في الحسن والفصاحة والإيجاز، ما لا يتوهم متوهم، ولا يظن ظان، أن يكون أبلغ في معناها منها،
وتحتها من المعنى الجليل العظيم الشريف، البالغ في النفع، ما هو أجل من الألفاظ; انتهى، والله أعلم، وصلى الله على محمد.
[معنى حديث من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله]
وسئل: أيضا، قدس الله روحه، ونور ضريحه عما في الصحيح عن النبي (أنه قال:" من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله "1.
فأجاب: اعلم أن لا إله إلا الله هي: كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وهي العروة الوثقى، وكلمة التقوى؛ وهي الكلمة التي جعلها إبراهيم الخليل، عليه السلام باقية في عقبه لعلهم يرجعون; ومعناها: نفي الشرك في الإلهية عما سوى الله، وإفراد الله تعالى بالإلهية.
والإلهية هي: تأله القلب بأنواع العبادة، كالمحبة، والخضوع، والذل، والدعاء، والاستعانة، والرجاء، والخوف، والرغبة، والرهبة، وغير ذلك من أنواع العبادة التي ذكر الله في كتابه العزيز، أمرا وترغيبا للعباد، أن يعبدوا بها ربهم وحده.
وهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة؛ وكل فرد من أفراد العبادة لا يستحق أن يقصد به إلا الله وحده؛ فمن صرفه لغير الله فقد أشركه في حق الله، الذي لا يصلح لغيره، وجعل له أندادا.
1 مسلم: الإيمان (23) ، وأحمد (3/472 ،6/394) .
وقد عمت البلوى بهذا الشرك الأكبر، بأرباب القبور والأشجار والأحجار، واتخذوا ذلك دينا، زعموا أن الله يحب ذلك ويرضاه، وهو: الشرك الذي لا يغفره الله، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية [سورة النساء آية: 48] . وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] .
وقال في معنى هذا التوحيد: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23]، أي: أمر ووصى; وهذا معنى: لا إله إلا الله; فقوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا} [سورة الإسراء آية: 23]، هو معنى: لا إله، في كلمة الإخلاص، وقوله:(إلا إياه) ، هو معنى الاستثناء، في لا إله إلا الله، ونظائر هذه الآية في القرآن كثير، كما سنذكر بعضه.
وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] ، وهذا نهي عام يتناول كل مدعو، من ملك، أو نبي، أو غيرهما، فإن:{أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] نكرة في سياق النهي، وهي تعم؛ وأمثال هذه الآية كثير، كقوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 20] . وفي حديث معاذ الذي في الصحيحين: " فإن حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " 1، وفيهما أيضا:" من مات وهو يدعو لله ندا، دخل النار "2.
وإخلاص العبادة لله تعالى هو: التوحيد الذي
1 البخاري: الجهاد والسير (2856)، ومسلم: الإيمان (30)، والترمذي: الإيمان (2643)، وابن ماجه: الزهد (4296) ، وأحمد (3/260 ،5/236 ،5/242) .
2 البخاري: تفسير القرآن (4497) .
جحده المشركون قديما وحديثا ولما قال رسول الله لقومه وغيرهم من أحياء العرب: " قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا " 1 قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [سورة ص آية: 5"7] .
فعرفوا معنى لا إله إلا الله، وأنه توحيد العبادة، لكن جحدوه، كما قال عن قوم هود:{أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} [سورة الأعراف آية: 70] . وقال تعالى عن مشركي هذه الأمة: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 35"36] . عرفوا أن المراد من لا إله إلا الله ترك الشرك في العبادة، وأن يتركوا عبادة ما سواه مما كانوا يعبدونه من ملك، أو نبي، أو شجر، أو حجر، أو غير ذلك.
فإخلاص العبادة لله هو: أصل دين الإسلام الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو سر الخلق، قال تعالى لنبيه:{قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [سورة الرعد آية: 36]، وقال تعالى:{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة لقمان آية: 22]، فإسلام الوجه هو: إخلاص الأعمال الباطنة والظاهرة كلها لله تعالى.
وهذا هو توحيد الإلهية، وتوحيد العبادة، وتوحيد القصد
1 أحمد (3/492) .
والإرادة; ومن كان كذلك فقد استمسك بالعروة الوثقى، وهي: لا إله إلا الله; فإن مدلولها نفي الشرك، وإنكاره، والبراءة منه، وإخلاص العبادة لله وحده، وهو معنى قول الخليل عليه السلام:{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة الأنعام آية: 79] .
وهذا هو الإخلاص الذي هو دين الله، الذي لم يرض لعباده دينا سواه كما قال تعالى:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2"3]، والدين هو: العبادة، وقد فسّره أبو جعفر بن جرير في تفسيره بالدعاء; وهو بعض أفراد العبادة، كما في السنن من حديث أنس:" الدعاء مخ العبادة " 1، وحديث النعمان بن بشير:" الدعاء هو العبادة " 2 أي: معظمها، وذلك أنه يجمع من أنواع العبادة، أمورا سنذكرها، إن شاء الله تعالى.
وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [سورة الزمر آية: 11] . وقال: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} [سورة الزمر آية: 14] . وقال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة غافر آية: 14] . والدعاء في هذه الآية هو الدعاء بنوعيه: دعاء العبادة، ودعاء المسألة.
وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة البينة آية: 5]، والحنيف هو: الراغب عن الشرك، المنكر له؛ وقد فسّره ابن القيم، رحمه الله، بتفسير شامل
1 الترمذي: الدعوات (3371) .
2 الترمذي: تفسير القرآن (3247)، وابن ماجه: الدعاء (3828) .
المدلول: لا إله إلا الله، فقال: الحنيف المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه، وهذا التوحيد هو الذي أنكره أعداء الرسل، من أولهم إلى آخرهم.
وقد بين تعالى ضلالهم بالشرك، كما قال تعالى:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [سورة الفرقان آية: 3] . وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سورة الأحقاف آية: 4]، وهذا المذكور في هذه الآية هو: توحيد الربوبية، ومشركوا العرب، والأمم لم يجحدوه بل أقروا به لله، فصار حجة عليهم فيما جحدوه من الإلهية.
ولهذا قال بعد هذه الآية: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 5] . وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [سورة الحج آية: 71] . والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا، بل القرآن من أوله إلى آخره يدل على هذا التوحيد، مطابقة، وتضمنا، والتزاما.
وهو الدين الذي بعث به المرسلين، من أولهم إلى
آخرهم، كما قال تعالى:{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة الأحقاف آية: 21] ، فدلت هذه الآية وما قبلها على أن الله تعالى إنما أراد من عباده أن يخلصوا له العبادة، وهي أعمالهم، ونهاهم أن يجعلوا له شريكا في عباداتهم وإراداتهم، التي لا يستحقها غيره، كما تقدم، قال تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [سورة النساء آية: 36] . وقال تعالى: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [سورة الحج آية: 34] .
وقال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [سورة الحج آية: 26]، والمراد: تطهيره عن الشرك في العبادة، ولهذا قال تعالى:{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [سورة الحج آية:30"31] .
وقد بين الله تعالى في مواضع من القرآن، معنى كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، ولم يكل عباده في بيان معناها إلى أحد سواه، وهو صراطه المستقيم، كما قال تعالى:{وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} ، [سورة يس آية: 61] وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي
فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ، فعبر عن معنى: لا إله، بقوله:{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [سورة الزخرف آية: 26]، وعبر عن معنى: إلا الله، بقوله:{إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 27] .
فتبين أن معنى لا إله إلا الله، هو: البراءة من عبادة كل ما سوى الله، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى، كما تقدم; وهذا واضح بين لمن جعل الله له بصيرة، ولم تتغير فطرته، ولا يخفى إلا على من عميت بصيرته، بالعوائد الشركية، وتقليد من خرج من الصراط المستقيم، من أهل الأهواء والبدع والضلال {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] .
وقال تعالى في بيان معناها: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران آية: 64] . والمعنى: أي بعض كان من نبي أو غيره، كالمسيح ابن مريم، والعزير، ونحوهما; وفي قوله:{أَلَّا نَعْبُدَ} [سورة آل عمران آية: 64]، معنى: لا إله، وقوله: إلا الله، هو المستثنى في كلمة الإخلاص.
وهذا التوحيد هو الذي دعا إليه النبي (أهل الكتاب وغيرهم من الإنس والجن، كما قال تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف آية: 108] .
وقد قال تعالى في معنى هذه الكلمة عن أصحاب الكهف: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16]، ففي قوله:{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ} [سورة الكهف آية: 16] ، معنى لا إله، وقوله:{إِلَّا اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16] ، هو المستثنى في كلمة الإخلاص، وقال تعالى:{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا} [سورة الكهف آية: 14]، إلى قوله:{لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً} [سورة الكهف آية: 14] . فتقرر بهذا أن الإلهية هي: العبادة ; وأن من صرف شيئا لغير الله فقد جعله لله ندا، والقرآن كله في تقرير معنى لا إله إلا الله، وما تقتضيه وما تستلزمه، وذكر ثواب أهل التوحيد وعقاب أهل الشرك.
ومع هذا البيان الذي ليس فوقه بيان، كثر الغلط في المتأخرين من هذه الأمة في معنى هذه الكلمة، وسببه: تقليد المتكلمين الخائضين فظن بعضهم أن معنى لا إله إلا الله: إثبات وجود الله تعالى، ولهذا قدروا الخبر المحذوف في: لا إله إلا الله، وقالوا: لا إله موجود، إلا الله ; ووجوده تعالى قد أقر به المشركون الجاحدون لمعنى هذه الكلمة. وطائفة ظنوا أن معناها: قدرته على الاختراع.
وهذا معلوم بالفطرة، وما يشاهد من عظيم مخلوقات الله تعالى كخلق السماوات والأرض، وما فيهما من عجائب المخلوقات; وبه استدل الكليم موسى عليه الصلاة والسلام على فرعون، لما قال:{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [سورة الشعراء آية:
23"26] .
وفي سورة بني إسرائيل: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [سورة الإسراء آية: 102] . ففرعون يعرف الله، ولكن جحده مكابرة وعنادا.
وأما غير فرعون من أعداء الرسل، من قومهم، ومشركي العرب، ونحوهم، فأقروا بوجود الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} . [سورة الزخرف آية: 9] . وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة الزخرف آية: 87] ، فلم يدخلهم ذلك في الإسلام، لما جحدوا ما دلت عليه لا إله إلا الله من إخلاص العبادة بجميع أفرادها لله وحده.
وفي الحديث الصحيح: " من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار " 1، وتقدم قول قوم هود:{أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} [سورة الأعراف آية: 70] ، دليل على أنهم أقروا بوجوده وربوبيته، وأنهم يعبدونه، لكنهم أبوا أن يجردوا العبادة لله وحده دون آلهتهم التي كانوا يعبدونها معه.
فالخصومة بين الرسل وأممهم، ليست في وجود الرب، وقدرته على الاختراع فإن الفطر والعقول دلتهم على وجود الرب، وأنه رب كل شيء ومليكه، وخالق كل شيء، والمتصرف في كل شيء; وإنما كانت الخصومة في ترك ما كانوا يعبدونه من دون الله، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ
1 البخاري: تفسير القرآن (4497) .
أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [سورة هود آية: 25"26] .
وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة العنكبوت آية: 16]، {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [سورة العنكبوت آية: 17] ، {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [سورة العنكبوت آية: 18] .
فالشرك في العبادة هو الذي عمت به البلوى في الناس، قديما وحديثا، كما قال تعالى:{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} [سورة الروم آية: 42] .
وقد أخبر النبي (أن هذه الأمة تأخذ مأخذ القرون قبلها، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، ولهذا أنكر كثير من أعداء الرسل في هذه الأزمنة، وقبلها، على من دعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده وجحدوا ما جحدته الأمم المكذبة من التوحيد; واقتدوا بمن سلف من أعداء الرسل، في مسبتهم من دعاهم إلى إخلاص العبادة لله، ونسبته إلى الخطأ والضلال، كما رأينا ذلك في كلام كثير منهم، كـ " ابن كمال " المشهور بالشرك والضلال، وقد كمل في جهله وضلاله، وأتى في كلامه بأمحل المحال.
وقد اشتهر عنه بأخبار الثقات أنه يقول: عبد القادر في قبره، يسمع، ومع سمعه ينفع؛ وما يشعره أنه في قبره الآن رفات، كحال الأموات، وهذا قول شنيع، وشرك فظيع; ألا ترى أن الحي الذي قد كملت قوته، وصحت حاسة سمعه وبصره، لو ينادى من مسافة فرسخ أو فرسخين، لم يمكنه سماع نداء من ناداه; فكيف يسمع ميت من مسافة شهر أو شهرين، أو دون ذلك أو أكثره، وقد ذهبت قوته، وفارقته روحه، وبطلت حواسه؟ هذا من أعظم ما تحيله العقول، وتنكره الفطر.
وفي كتاب الله (ما يبطله، قال الله تعالى:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13"14] ، فأخبر الخبير جل وعلا أن سماعهم ممتنع، واستجابتهم لمن دعاهم ممتنعة.
فهؤلاء المشركون لما استغرقوا في الشرك، ونشؤوا عليه، أتوا في أقوالهم بالمستحيل، ولم يصدقوا الخبير في إخباره، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [سورة فاطر آية: 13] ، فذكره تعالى أنهم أموات دليل على بطلان دعوتهم، وكذلك عدم شعورهم، يبين تعالى بهذا جهل المشرك، وضلاله، فأحق في كتابه
الحق، وأبطل الباطل، ولو كره المشركون.
لكن هؤلاء لما عظم شركهم نزلوا الأموات في علم الغيب، منْزلة علام الغيوب، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وشبهوهم برب العالمين، سبحانه وتعالى عما يشركون; قال الله تعالى:{أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [سورة الأعراف آية: 191 192] .
وليس عند هؤلاء الملاحدة ما يصدون به العامة عن أدلة الكتاب والسنة، التي فيها النهي عن الشرك في العبادة إلا قولهم: قال أحمد بن حجر الهيتمي، قال فلان، وقال فلان: يجوز التوسل بالصالحين، ونحو ذلك من العبارات الفاسدة. فنقول: هذا وأمثاله ليسوا بحجة تنفع عند الله وتخلصكم من عذابه، بل الحجة ما في كتاب الله وسنة رسوله الثابتة عنه، وما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها. وما أحسن ما قال الإمام مالك رحمه الله: وكلما جاءنا رجل أجدل من رجل، نترك ما نزل به جبرائيل على محمد لجدله؟!
إذا عرف ذلك فالتوسل يطلق على شيئين ; فإن كان ابن حجر وأمثاله أرادوا سؤال الله بالرجل الصالح، فهذا ليس في الشريعة ما يدل على جوازه؛ ولو جاز، لما ترك
الصحابة السابقون الأولون، من المهاجرين والأنصار، رضي الله عنهم، التوسل بالنبي (بعد وفاته، كما كانوا يتوسلون بدعائه في حياته إذا قحطوا.
وثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه خرج بالعباس بن عبد المطلب، عام الرمادة، بمحضر من السابقين الأولين، يستسقون، فقال عمر:(اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، فاسقنا، ثم قال: ارفع يديك يا عباس، فرفع يديه يسأل الله تعالى) ; ولم يسأله بجاه النبي ولا بغيره; ولو كان هذا التوسل حقا، كانوا إليه أسبق، وعليه أحرص.
فإن كانوا أرادوا بالتوسل دعاء الميت، والاستشفاع به، فهذا هو شرك المشركين بعينه; والأدلة على بطلانه في القرآن كثيرة جدا، فمن ذلك قوله تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [سورة الزمر آية: 43"44] . فالذي له ملك السماوات والأرض، هو الذي يأذن في الشفاعة، كما قال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [سورة البقرة آية: 255] .
وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [سورة النجم آية: 26] ، وهو لا يرضى إلا الإخلاص في الأقوال
والأعمال، الباطنة والظاهرة، كما صرح به النبي في حديث أبي هريرة وغيره; وأنكر تعالى على المشركين اتخاذ الشفعاء، فقال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة يونس آية: 18] .
فبين تعالى في هذه الآية أن هذا هو شرك المشركين، وأن الشفاعة ممتنعة في حقهم، لما سألوها من غير وجهها، وأن هذا شرك، نزه نفسه عنه، بقوله تعالى:{سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فهل فوق هذا البيان بيان; وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [سورة الزمر آية: 3] ، فكفرهم بطلبهم من غيره أن يقربوهم إليه.
وقد تقدم بعض الأدلة على النهي عن دعوة غير الله، والتغليظ في ذلك، وأنه في غاية الضلال، وأنه شرك بالله، وكفر به، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] .
فمن أراد النجاة: فعليه بالتمسك بالوحيين، اللذين هما حبل الله، وليدع عنه بنيات الطريق، كما قال تعالى: {وَأَنَّ
هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة الأنعام آية: 153] ، وقد مثل النبي الصراط المستقيم، وخط خطوطا عن يمينه وعن شماله، وقال:" هذه هي السبل، وعلى كل سبيل شيطان يدعو إليه " 1 والحديث في الصحيح وغيره، عن عبد الله بن مسعود، وكل من زاغ عن الهدى، وعارض أدلة الكتاب والسنة بزخرف أهل الأهواء، فهو شيطان.
فصل:
والعاقل، إذا تأمل ما عارض به أولئك الدعاة إلى الشرك بالله في عبادته، كابن كمال وغيره، من دعا الناس إلى إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، فالعاقل يعلم أن معارضتهم قد اشتملت على أمور كثيرة:
الأمر الأول: أنهم أنكروا ما جاءت به الرسل من توحيد العبادة، وما نزلت فيه الكتب الإلهية من هذا التوحيد؛ فهم في الحقيقة إنما عارضوا الرسل والكتب المنْزلة عليهم من عند الله.
الأمر الثاني: تضمنت معارضتهم قبول الشرك الأكبر ونصرته، وهو الذي أرسل الله رسله وأنزل كتبه بالنهي عنه، وقد خالفوا جميع الرسل والكتب، فهم في الحقيقة قد أنكروا على من دان بهذا التوحيد، ودعا إليه من الأولين والآخرين.
1 أحمد (1/435)، والدارمي: المقدمة (202) .
وقد تضمنت معارضتهم أيضا مسبة من دعا إلى التوحيد وأنكر الشرك، أسوة أعداء الرسل، كقوم نوح إذ قالوا:{إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة الأعراف آية: 60]، وقال قوم هود:{إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [سورة الأعراف آية: 66] ، وقول من قال من مشركي العرب، للنبي:{إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً} [سورة الفرقان آية: 4] ، فالظلم والزور في كلام هؤلاء المنكرين للتوحيد أمر ظاهر، يعرفه كل عاقل منصف، فقد تناولت مسبتهم: كل من دعا إلى الإسلام وعمل به، من الأولين والآخرين، كما أن من كذب رسولا، بما جاء به من الحق، فقد كذب المرسلين، كما ذكره الله تعالى في قصص الأنبياء؛ فمن أنكر ما جاءت به الرسل، فهو عدو لهم.
الأمر الرابع: وتضمنت معارضتهم أيضا الكذب، والإفك، والبهتان، وزخرف القول في ذلك، أسوة أعداء الرسل، الذين قال الله فيهم:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [سورة الأنعام آية: 112] ، فهذه حال كل داعية إلى الشرك بالله، في عبادته، من الأولين والآخرين، فإذا تأمل اللبيب ما زخرفوه وأتوا به من الفشر والأكاذيب، وجدها كما قال تعالى:{كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
[سورة النور آية: 39] .
والأمر الخامس: معارضة أولئك للآيات المحكمات البينات التي هي في غاية البيان والبرهان، وبيان ما ينافي التوحيد من الشرك والتنديد، فعارضوا بقول أناس من المتأخرين لا يجوز الاعتماد عليهم في أصول الدين؛ فيقولون: قال ابن حجر الهيتمي، قال البيضاوي، قال فلان، ولا ريب أن الزمخشري وأمثاله من المعطلة أعلم من هؤلاء، وأدرى في فنون العلم، لكنهم أخطؤوا كخطأ هؤلاء، وفي تفسير الزمخشري من دسائس الاعتزال ما لا يخفى، وليسوا بأعلم منه.
وعلى كل حال فليسوا بحجة يعارض بها نصوص الكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة وأئمتها من الدين الحنيف، الذي هو ملة إبراهيم الخليل عليه السلام، ودين الرسل الذي قال الله تعالى فيه:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [سورة الشورى آية: 13] ، فأولئك المعارضون للحق، ممن ذكرنا وأمثالهم، فيهم شبه بمن قال الله فيهم:{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 23]، {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سورة الزخرف آية: 24] . وهذا على تقدير أنهم أصابوا في
النقل عنهم، ولعلهم أخطؤوا وكذبوا عليهم، والله أعلم.
والأدلة بالإجماع ثلاثة: الكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة وأئمتها، وأما القياس الصحيح فعند بعض العلماء حجة إذا لم يخالف كتابا ولا سنة، فإن خالف نصا أو ظاهرا، لم يكن حجة، وهذا هو الذي أجمع عليه العلماء سلفا وخلفا، وتفصيل ذلك في كتب أصول الفقه.
وأما قوله في الحديث الصحيح: " وكفر بما يعبد من دون الله " 1، فهذا شرط عظيم لا يصح قول لا إله إلا الله إلا بوجوده، وإن لم يوجد لم يكن من قال لا إله إلا الله معصوم الدم والمال; لأن هذا هو معنى لا إله إلا الله، فلم ينفعه القول بدون الإتيان بالمعنى الذي دلت عليه، من ترك الشرك والبراءة منه، وممن فعله فإذا أنكر عبادة كل ما يعبد من دون الله، وتبرأ منه، وعادى من فعل ذلك، صار مسلما، معصوم الدم والمال; وهذا معنى قول الله تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 256] .
وقد قيدت لا إله إلا الله، في الأحاديث الصحيحة، بقيود ثقال لا بد من الإتيان بجميعها، قولا، واعتقادا، وعملا فمن ذلك حديث عتبان الذي في الصحيح: " فإن
1 مسلم: الإيمان (23) ، وأحمد (3/472 ،6/394) .
الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله " 1، وفي حديث آخر: " صدقا من قلبه " "، خالصا من قلبه " 2 مستيقنا بها قلبه، غير شاك، فلا تنفع هذه الكلمة قائلها إلا بهذه القيود، إذا اجتمعت له مع العلم بمعناها ومضمونها، كما قال تعالى:{وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة الزخرف آية: 86] . وقال تعالى لنبيه (: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد آية: 19] ، فمعناها يقبل الزيادة، لقوة العلم، وصلاح العمل.
فلا بد من العلم بحقيقة معنى هذه الكلمة، علما ينافي الجهل، بخلاف من يقولها وهو لا يعرف معناها ولا بد من اليقين المنافي للشك، فيما دلت عليه من التوحيد؛ ولا بد من الإخلاص المنافي للشرك، فإن كثيرا من الناس يقولها وهو يشرك في العبادة، وينكر معناها، ويعادي من اعتقده وعمل به؛ ولا بد من الصدق المنافي للكذب، بخلاف حال المنافق الذي يقولها من غير صدق، كما قال تعالى:{يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [سورة الفتح آية: 11] ؛ ولا بد من القبول المنافي للرد، بخلاف من يقولها ولا يعمل بها ولا بد من المحبة لما دلت عليه من التوحيد والإخلاص، وغير ذلك، والفرح بذلك، المنافي لخلاف هذين الأمرين ولا بد من الانقياد بالعمل بها وما دلت عليه مطابقة، وتضمنا، والتزاما. وهذا هو دين الإسلام، الذي لا يقبل الله دينا سواه.
1 البخاري: الصلاة (425)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (33) .
2 البخاري: العلم (99) ، وأحمد (2/373) .
وأنت أيها الرجل: ترى كثيرا ممن يدعي العلم والفهم، قد عكس مدلول لا إله إلا الله، كابن كمال ونحوه من الطواغيت، فيثبتون ما نفته لا إله إلا الله من الشرك في العبادة، ويعتقدون ذلك الشرك دينا، وينكرون ما دلت عليه من الإخلاص، ويشتمون أهله، وقد قال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2"3] .
وهذا النوع من الناس، الذين قد فتنوا، وفتنوا يستجهلون أهل الإسلام، ويستهزؤون بهم، أسوة من سلف من أعداء الرسل، وقد قال الله تعالى في أمثال هؤلاء:{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة الزمر آية: 45] .
وقال أيضا: شيخ الإسلام، الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى:
الكلام في بيان ما أوردناه، على الجهمي، الذي في بني ياس.
أما الكلام في معنى لا إله إلا الله، فأقول وبالله التوفيق: أما هذه الكلمة العظيمة، فهي التي شهد الله بها لنفسه، وشهد بها له ملائكته، وأولو العلم من خلقه، كما قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ
قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة آل عمران آية: 18] . فلا إله إلا الله هي: كلمة الإسلام، لا يصح إسلام أحد إلا بمعرفة ما وضعت له، ودلت عليه، وقبوله والانقياد للعمل به ; وهي: كلمة الإخلاص المنافي للشرك، وكلمة التقوى التي تقي قائلها من الشرك بالله، فلا تنفع قائلها إلا بشروط سبعة.
الأول: العلم بمعناها، نفيا وإثباتا.
الثاني: اليقين، وهو: كمال العلم بها، المنافي للشك والريب.
الثالث: الإخلاص، المنافي للشرك.
الرابع: الصدق، المانع من النفاق.
الخامس: المحبة لهذه الكلمة، ولما دلت عليه، والسرور بذلك.
السادس: القبول، المنافي للرد؛ فقد يقولها من يعرفها، لكن لا يقبلها ممن دعاه إليها، تعصبا، وتكبرا، كما قد وقع من كثير.
السابع: الانقياد بحقوقها، وهي: الأعمال الواجبة إخلاصا لله، وطلبا لمرضاته.
إذا عرفت ذلك؛ فقولك: لا إله إلا الله، فلا: نافية للجنس، والإله هو المألوه بالعبادة، وهو: الذي تألهه القلوب، وتقصده رغبة إليه في حصول نفع، أو دفع ضر، كحال من عبد الأموات، والغائبين، والأصنام; فكل معبود: مألوه بالعبادة، وخبر لا المرفوع محذوف، تقديره: حق، وقوله: إلا الله: استثناء من الخبر المرفوع، فالله سبحانه هو الحق، وعبادته وحده هي الحق، وعبادة غيره منتفية بلا في هذه الكلمة، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ
وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [سورة الحج آية: 62] ، فإلهية ما سواه باطل، فدلت الآية على أن صرف الدعاء الذي هو مخ العبادة عنه لغيره، باطل.
فتبين أن الإلهية هي العبادة، لأن الدعاء من أفرادها، فمن صرف منها شيئا لغيره تعالى، فهو باطل. والقرآن كله يدل على أن الإلهية هي العبادة، كما قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 26"27] . فذكر البراءة من كل معبود سوى الله، ولم يستثن إلا عبادة من فطره، ثم قال:{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [سورة الزخرف آية: 28]، أي: لا إله إلا الله، فعبر عن الإلهية بالعبادة، في النفي والإثبات.
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 20] . فقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} [سورة الجن آية: 20]، هو معنى: إلا الله في كلمة الإخلاص. وقوله: {وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 20]، هو: المنفي في كلمة الإخلاص بلا إله، فتبين: أن لا إله إلا الله دلت على البراءة من الشرك في العبادة، في حق كل ما سوى الله، وقال الله تعالى:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [سورة الزمر آية: 11] ، والدين، هو: العبادة.
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [سورة الرعد آية: 36]، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [سورة الكهف آية: 110] ، أي:
الذي لا تصلح الإلهية إلا له وحده، فانتفت الإلهية وبطلت في حق كل ما سوى الله والقرآن يبين بعضه بعضا ويفسره، والرسل إنما يفتتحون دعوتهم بمعنى لا إله إلا الله:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59]، {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 65] .
فتبين أن الإلهية هي: العبادة، ولهذا قال قوم هود لما قال:{يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59]، {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [سورة الأعراف آية: 70] . فتبين بالآية أنهم لم يستنكفوا من عبادة الله، لكنهم أبوا أن يخلصوا العبادة لله وحده، فلم ينفوا ما نفته لا إله إلا الله، فاستوجبوا ما وقع بهم من العذاب، لعدم قبولهم ما دعاهم إليه من إخلاص العبادة، كما قال تعالى:{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} [سورة الأحقاف آية: 21]، وهم الرسل جميعهم {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 2] . وهذا هو معنى كلمة الإخلاص الذي اجتمعت عليه الرسل.
فقوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا} [سورة هود آية: 2]، هو معنى:"لا إله"، وقوله {إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 2] ، هو المستثنى في كلمة الإخلاص; فهذا هو تحقيق معناها بحمد الله; وإنذار الرسل جميعهم أممهم عن الشرك في العبادة، وأن يخلصوها لله وحده لا شريك له ; فما ذكرناه في هذه الآيات في معناها، كافٍ، وافٍ، شافٍ; ولله
الحمد والمنة.
وأما تعريف العبادة، فقد قال العلامة ابن القيم، رحمه الله في الكافية الشافية:
وعبادة الرحمن غاية حبه
…
مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر
…
ما دار حتى قامت القطبان
ومداره بالأمر أمر رسوله
…
لا بالهوى والنفس والشيطان
فذكر أصل العبادة التي يصلح العمل مع حصولها، إذا كان على السنة، فذكر قطبيها، وهما: غاية المحبة لله، في غاية الذل له؛ والغاية تفوت بدخول الشرك وبه يبطل هذا الأصل، لأن المشرك، لا بد أن يحب معبوده، ولا بد أن يذل له، ففسد الأصل بوجود الشرك فيه؛ ولا تحصل الغاية فيهما إلا بانتفاء الشرك، وقصر المحبة والتذلل لله وحده، وبهذا تصلح جميع الأعمال المشروعة، وهي المراد بقوله: وعليهما فلك العبادة دائر، والدائر هي الأعمال، ولا تصلح إلا بمتابعة السنة.
وهذا معنى قول الفضيل بن عياض رحمه الله، في قوله تعالى:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [سورة هود آية: 7]، قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه، وأصوبه; قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا، لم يقبل وإذا كان صوابا، ولم يكن خالصا، لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا; والخالص: ما كان لله، والصواب: ما كان
على السنة.
وأما أقسام التوحيد، فهي: ثلاثة:
توحيد الإلهية، وهي: العبادة كما تقدم، فهي تعلق بأعمال العبد، وأقواله الباطنة والظاهرة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة، فمن صرف منها شيئا لغير الله، فهو مشرك بالله; فهذا هو الذي أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب بالإنذار عنه، وترتبت عليه عقوبات الدنيا والآخرة، في حق من لم يتب منه.
ويسمى هذا التوحيد، إذا كان لله وحده: توحيد القصد، والطلب، والإرادة; وهو الذي جحده المشركون من الأمم؛ وقد بعث الله نبينا محمدا بالأمر به، والنهي عما ينافيه من الشرك، فأبى المشركون إلا التمسك بالشرك الذي عهدوه من أسلافهم، فجاهدهم على هذا الشرك، وعلى إخلاص العبادة لله وحده، كما قال تعالى:{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [سورة ص آية: 4"5] إلى قوله {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [سورة ص آية: 6] .
النوع الثاني: توحيد الربوبية، وهو: العلم والإقرار بأن الله تعالى رب كل شيء ومليكه، وهو المدبر لأمور خلقه جميعهم، كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ
وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} [سورة يونس آية: 31] إلى قوله: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] . وقال: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84"85] إلى قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 89] . وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير، وهذا النوع قد أقر به المشركون، كما دلت عليه الآيات.
والنوع الثالث: توحيد الأسماء والصفات، وهو: أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله من صفات الكمال التي تعرف بها سبحانه إلى عباده، وينفي ما لا يليق بجلاله وعظمته، وهذا النفي أقسام، ذكرها العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى، في الكافية الشافية. فأهل السنة والجماعة، سلفا وخلفا، يثبتون لله هذا التوحيد، على ما يليق بجلال الله وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وتنْزيها بلا تعطيل، وهذا النوع والذي قبله، هو: توحيد العلم والاعتقاد.
وأما تعريف التوحيد، فقد ذكره ابن القيم، رحمه الله تعالى، في الكافية الشافية بقوله:
فالصدق والإخلاص ركنا ذلك الت
…
وحيد كالركنين للبنيان
وحقيقة الإخلاص توحيد المرا
…
د فلا يزاحمه مراد ثان
والصدق توحيد الإرادة وهو بذ
…
ل الجهد لا كسلا ولا متوان
ثم ذكر توحيد المتابعة فقال:
والسنة المثلى لسالكها فتوح
…
يد الطريق الأعظم السلطان
فلواحد كن واحدا في واحد
…
أعني طريق الحق والإيمان
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، الإخلاص، بمثل ما ذكره ابن القيم، رحمه الله، فقال: الإخلاص: محبة الله، وإرادة وجهه.
وأما أقسام العلم النافع، الذي يجب معرفته واعتقاده، فهو: يتضمن ما سبق ذكره؛ وهو ثلاثة أقسام، ذكرها العلامة ابن القيم، رحمه الله، في الكافية الشافية، قال:
والعلم أقسام ثلاثة ما لها
…
من رابع خلوا عن الروغان
علم بأوصاف الإله وفعله
…
وكذلك الأسماء للرحمن
والأمر والنهي الذي هو دينه
…
وجزاؤه يوم المعاد الثان
وبهذا تم الجواب عما أوردناه، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
[تعريف أقسام العلم النافع ومعرفة لا إله إلا الله وشروطها]
وله أيضا رحمه الله تعالى:
اعلم رحمك الله أن كلمة الإخلاص لا إله إلا الله لا تنفع قائلها إلا بمعرفة معناها، وهو نفي الإلهية عما سوى الله، والبراءة من الشرك في العبادة، وإفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة، كما قال تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة آل عمران
آية: 64] .
ومعنى: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [سورة آل عمران آية: 64]، أي: نستوي نحن وأنتم في قصر العبادة على الله، وترك الشرك كله.
وقال الخليل عليه السلام: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [سورة الزخرف آية: 26] . {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [سورة الزخرف آية: 27] . {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [سورة الزخرف آية: 28] . فهذا، هو حقيقة معنى: لا إله إلا الله; وهو البراءة من كل ما يعبد من دون الله، وإخلاص العبادة لله وحده وهذا هو معناها الذي دلت عليه هذه الآيات وما في معناها; فمن تحقق ذلك وعلمه، فقد حصل له العلم بها، المنافي لما عليه أكثر الناس، حتى من ينتسب إلى العلم، من الجهل بمعناها.
فإذا عرف ذلك، فلا بد له من القبول لما دلت عليه، وذلك ينافي الرد، لأن كثيرا ممن يقولها ويعرف معناها، لا يقبلها، كحال مشركي قريش، والعرب، وأمثالهم، فإنهم عرفوا ما دلت عليه، لكن لم يقبلوا، فصارت دماؤهم، وأموالهم، حلالا لأهل التوحيد، فإنهم كما قال تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [سورة الصافات آية: 35]، {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [سورة الصافات آية: 36] . عرفوا أن لا إله إلا الله توجب ترك ما كانوا يعبدونه من دون الله.
ولا بد أيضا من الإخلاص المنافي للشرك، كما قال تعالى:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الزمر آية: 11"12]، إلى قوله:{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [سورة الزمر آية: 14"15] ، وفي
حديث عتبان: " من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله ".
ولا بد أيضا من المحبة المنافية لضدها، فلا يحصل لقائلها معرفة وقبول إلا بمحبة ما دلت عليه من الإخلاص ونفي الشرك؛ فمن أحب الله أحب دينه، ومن لا فلا، كما قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] ، فصارت محبتهم لله ولدينه خاصة، فأحبوا لله ولدينه، ووالوا لله ولدينه، فأحبوا من أحبه الله، وأبغضوا من أبغضه الله.
وفي الحديث: " وهل الدين إلا الحب والبغض "، ولهذا وجب أن يكون الرسول أحب إلى العبد من نفسه، وولده، ووالده، والناس أجمعين فإن شهادة ألا إله إلا الله تستلزم شهادة أن محمدا رسول الله، وتقتضي متابعته، كما قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 31] .
ولا بد أيضا من الانقياد لحقوق لا إله إلا الله، بالعمل بما فرضه الله وترك ما حرمه الله، والتزام ذلك، وهو ينافي الشرك، فإن كثيرا ممن يدعي الدين يستخف بالأمر والنهي، ولا يبالي بذلك.
والإسلام حقيقته أن يسلم العبد بقلبه وجوارحه لله تعالى، وينقاد له بالتوحيد والطاعة، كما قال تعالى: {بَلَى
مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [سورة البقرة آية: 112] . وقال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة لقمان آية: 22] ، وإحسان العمل لا بد فيه من الإخلاص، ومتابعة ما شرعه الله ورسوله.
ولا بد أيضا لقائل هذه الكلمة من اليقين بمعناها، المنافي للشك والريب، كما في الحديث الصحيح:"مستيقنا بها قلبه، غير شاك فيها" ومن لم يكن كذلك فإنها لا تنفعه، كما دل عليه حديث: سؤال الميت في قبره.
ولا بد أيضا من الصدق المنافي للكذب، كما قال تعالى عن المنافقين:{يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [سورة الفتح آية: 11] ، فالصادق يعرف معنى هذه الكلمة، ويقبله، ويعمل بما تقتضيه، وما يلزم قائلها من واجبات الدين، فيصدق قلبه لسانه. فلا تصح هذه الكلمة، إلا إذا اجتمعت هذه الشروط؛ وبالله التوفيق.
وقال أيضا: رحمه الله تعالى، في جواب له:
وسرنا ما ذكرت من معرفتك جهل أكثر الناس بمعنى لا إله إلا الله، وإن تكلموا بها لفظا، فقد أنكروها معنى، فانتبه لأمور ستة أو سبعة، لا يسلم العبد من الكفر والنفاق إلا باجتماعها، وباجتماعها والعمل
بمقتضاها، يكون العبد مسلما; إذ لا بد من مطابقة القلب للسان، علما، وعملا، واعتقادا، وقبولا، ومحبة، وانقيادا.
فلا بد من العلم بها المنافي للجهل، ولا بد من الإخلاص المنافي للشرك; ولا بد من الصدق المنافي للكذب، بخلاف المشركين والمنافقين؛ ولا بد من اليقين المنافي للشك والريب; فقد يقولها وهو شاك في مدلولها ومقتضاها; ولا بد من المحبة المنافية للكراهة؛ ولا بد من القبول المنافي للرد، فقد يعرف معناها ولا يقبله، كحال مشركي العرب.
ولا بد أيضا من الانقياد المنافي للشرك، لترك مقتضياتها، ولوازمها، وحقوقها، المصححة للإسلام والإيمان; فمن تحقق ما ذكرته، ووقع منه موقعا، صرف الهمة إلى تعلم معنى: لا إله إلا الله; وصار على بصيرة من دينه، وفرقان، ونور، وهدى، واستقامة. وبالله التوفيق.
[رد قول أن المستثنى بإلا في لا إله إلا الله دخل في المنفي]
وقال أيضا الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى:
زعم من لا علم لديه: أن المستثنى بإلا في لا إله إلا الله، دخل في عموم المنفي، في اسم لا; وهذا خطأ بين، من وجوه:"
الأول: أن النفي يناقض الإثبات، فاجتماع النفي والإثبات في جملة جمع بين النقيضين، وهما
لا يجتمعان، فيمتنع الجمع بينهما.
الثاني: أن لا النافية للجنس لها اسم وخبر، ولا بد، فلا تتم فائدة اسمها إلا بخبرها، والخبر الجزء المتم للفائدة، ف "لا" حرف نفي، و"إله" اسمها، مبني معها على الفتح، والخبر المقدر، وهو " حق " على الصحيح، كما في قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [سورة الحج آية: 6] ، والخبر وصف في المعنى، قيد في الاسم، وقد خص من الإلهية ما ليس بحق، وفائدته: إخراج الإله الحق من المنفي، لتخصيص المنفي بانتفاء حقيقته، وهذا ظاهر لمن له أدنى فهم، فالاستثناء من الخبر، المقيد في حقيقة المستثنى، وهو الله تعالى، دون ما يعبد من دونه، وكل ما يعبد من دونه هو المنفي بحرف النفي، فيكون النفي منصبا على كل مألوه ليس بحق، وأما الحق فثابت لم ينتف، بدليل الوصف المثبت له.
الثالث: أن الآية، وهي قوله:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [سورة الزخرف آية: 26]، {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [سورة الزخرف آية: 27] ، {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [سورة الزخرف آية: 28] ، فأتى بمعناها، نفيا وإثباتا، فيجري في مدلولها ما جرى في الدال، وهو: لا إله إلا الله، فلا يجوز في قلب مسلم أن يعتقد أن إبراهيم عليه السلام، تبرأ من معبوده، الذي فطره، بقوله:{إِنَّنِي بَرَاءٌ} [سورة الزخرف آية: 26] ، ثم أثبته بقوله (إلا) ، هذا لا يقع اعتقاده من مسلم عرف هذه الكلمة ومعناها.
والحق الذي يجب اعتقاده، ويدان الله به: أن الخليل عليه السلام تبرأ من كل ما كانوا يعبدونه سوى الله سبحانه، المستحق للعبادة وحده، سبحانه وبحمده، فاستثناه تعالى من معبوداتهم، لأنهم كانوا يعبدون الله، ويعبدون غيره، والقرآن يدل على هذا، كما هو ظاهر في آيات التوحيد، كما قال تعالى عن الخليل عليه السلام أنه قال لقومه:{أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الصافات آية: 86"87] .
وقال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي} [سورة مريم آية: 48]، وقال عن أصحاب الكهف:{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16] ، لكن الجاهل أعمى، ولهذا تجد أكثرهم يتعصب لجهله {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] . وصلى الله على محمد.
[رسالة الشيخ ابن عبد الوهاب إلى الإمام فيصل في معنى لا إله إلا الله]
وله أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على سيد المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الإمام المكرم: فيصل، كرمه الله بالتوحيد، وحماه من شبه أهل الشرك والإلحاد والتنديد، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فاعلم أن لا إله إلا الله لها معنى عظيم، يستضيء به قلوب أهل الإسلام والإيمان، وهو الذي بعث الله به جميع الرسل، من أولهم إلى آخرهم، وخلقهم لأجله والقرآن من أوله إلى آخره يبين معنى هذه الكلمة.
ونذكر بعض ما دل عليه القرآن من معناها، وما ذكره العلماء من أئمة الإسلام فدونك كلام العماد ابن كثير، رحمه الله، في تفسير سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] ، ذكر أن هذه السورة، سوره البراءة من العمل، الذي يعمله المشركون، وهي آمرة بالإخلاص، وأن قريشا دعوا رسول الله (إلى عبادة أوثانهم سنة، ويعبدون إلهه سنة، فأنزل الله هذه السورة، وأمره فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية، فقال:{لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [سورة الكافرون آية: 2] ، يعني من الأصنام والأنداد، {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [سورة الكافرون آية: 3] ، وهو الله وحده؛ ولهذا كانت كلمة الإسلام: لا إله إلا الله، محمد رسول الله ; والمشركون يعبدون غير الله.
قلت: فدلت هذه السورة الكريمة على البراءة من عبادة أصنام المشركين، وأوثانهم; فأمر الله نبيه (أن يتبرأ من دين المشركين وأصنامهم التي كانت موجودة في الخارج: اللات، والعزى، ومناة، وغيرها; وقد أخبر الله عن خليله إبراهيم، عليه السلام، أنه قال لأبيه، وقومه:{مَا} [سورة الشعراء آية: 70]، إذا كنتم {تَعْبُدُونَ} ؟ [سورة الشعراء آية: 70] ، فصرح بعداوة أصنامهم بأعيانها، وهي موجودة في الخارج، واستثنى
من معبوداتهم رب العالمين، لأنهم كانوا يعبدون الله، لكنهم يعبدون معه الأصنام.
فاستثنى المعبود الحق الذي لا تصلح العبادة إلا له، فأخبر تعالى أنه قال لقومه:{أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ [سورة الصافات آية: 86] . وأخبر عنه أنه قال لقومه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [سورة الزخرف آية: 26"28]، وهي:"لا إله إلا الله" بإجماع أهل الحق، فعبر عنها بالبراءة من معبوداتهم التي كانوا يعبدونها في الخارج؛ فقوله:{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [سورة الزخرف آية: 26]، هو معنى النفي في قوله:"لا إله" وقوله: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [سورة الزخرف آية: 27]، هو معنى:" إلا الله ". وهذا كاف في البيان لمثلك، الذي قد عرفه الله معنى لا إله إلا الله.
وهذا المعنى في هذه الكلمة يعرفه حتى المشركون، كما قال تعالى:{إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} الآية [سورة الصافات آية: 35] . عرفوا أن "لا إله إلا الله"، علم على ترك عبادة آلهتهم التي كانوا يعبدونها، من أوثانهم وأصنامهم، وكل الفرق يعرفون معناها، حتى أعداء الرسل، كما قالت عاد:{أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [سورة الأعراف آية: 70] ، عرفوا على شدة كفرهم أنه أراد منهم ترك عبادة ما كان يعبده آباوهم، فتبين بهذا أن "لا إله إلا الله"، نفت كل ما كان يعبد من دون الله من صنم ومن وثن، من حين حدوث الشرك في قوم نوح إلى أن تقوم
الساعة.
وهذا المعنى أكثر أهل العلم يسلمونه، يعرفونه، حتى الخوارج، والرافضة، والمعتزلة، والمتكلمون، من كل أشعري، وكرامي، وماتريدي; وإنما اختلفوا في العمل بلا إله إلا الله، فبعضهم يظن أن هذا في حق أناس كانوا فبانوا، فخفي عليهم حقيقة الشرك.
وأما الفلاسفة وأهل الاتحاد، فإنهم لا يقولون بهذا المعنى، ولا يسلمونه، بل يقولون: إن المنفي بلا إله إلا الله كلي، لا يوجد منه في الخارج إلا فرد، وهو الله، فهو المنفي، وهو المثبت، بناء على مذهبهم الذي صاروا به أشد الناس كفرا، وهو قولهم: إن الله هو الوجود المطلق، فلم يخرجوا من ذلك صنما ولا وثنا.
وشبيه قولهم هذا قول أهل وحدة الوجود، القائلين بأن الله تعالى هو الوجود بعينه، فيقولون: إن المنفي كلي، والمثبت بقوله:"إلا الله" هو الوجود بعينه; ولا فرق عند الطائفتين بين الخالق والمخلوق، ولا بين العابد والمعبود; كل شيء عندهم هو الله، حتى الأصنام والأوثان، وهو حقيقة قول هذا الرجل سواء.
فخذ قولي، واقبله، وفقك الله، فلقد عرفت بحمد الله ما أرادوه من قولهم: إن المنفي كلي لا يوجد منه في الخارج إلا فرد; ويدعي هذا مثل ما ادعته هذه الطائفة، أن
تقدير خبر " لا " موجود; وهذه الكلمة لم توضع لتقرير الوجود، وإنما وضعت لنفي الشرك، والبراءة منه، وتجريد التوحيد، كما دلت عليه الآيات المحكمات البينات، ودعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم.
وتقدير خبر "لا" موجود لا يجري إلا على مذهب الطائفتين، لعنهم الله، على قولهم: إن الله هو الموجود، فلا وجود إلا الله، فهذا معنى قوله: إنه كلي، لا يوجد منه في الخارج إلا فرد، فغير المعنى الذي دلت عليه لا إله إلا الله، من نفي جميع المعبودات التي تعبد من دون الله، والمنفي إنما هو حقيقتها، كما قال المسيح عليه السلام:{مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [سورة المائدة آية: 116] .
ولا ريب أن كل معبود سوى الله فهو باطل. والمنفي بلا إله إلا الله هو المعبودات الباطلة، والمستثنى بإلا هو سبحانه ويدل على هذا قوله تعالى في سورة الحج:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى} الآية [سورة الحج آية: 6] . وقال في آخر السورة: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [سورة الحج آية: 62] . وقال في سورة لقمان: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [سورة لقمان آية: 30] .
فقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [سورة الحج آية: 6]، هو المستثنى: إلا "الله"، وهو الحق، وقوله: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ
الْبَاطِلُ} [سورة الحج آية: 62] ، هو المنفي بلا إله؛ وما بعد هذا إلا التلبيس على الجهال، وإدخال الشك عليهم في معنى كلمة الإخلاص، فكابر المعقول والمنقول، بدفعه ما جاء به كل رسول.
نسأل الله لنا ولكم علما نستضيء به من جهل الجاهلين، وضلال المضلين، وزيغ الزائغين ; وفي الحديث:" رب لا تزغ قلبي بعد إذ هديتني "1. وقد كان أبو بكر الصديق يقرأ في الركعة الأخيرة من المغرب: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [سورة آل عمران آية: 8] .
وهذا بحمد الله كاف في بيان الحق، وبطلان الباطل ; وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
[رسالة تتضمن الوصية بتقوى الله]
وله أيضا، مع مشاركة:
بسم الله الرحمن الر حيم
من عبد الرحمن بن حسن، وعلي بن حسين، وإبراهيم بن سيف، إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان، رزقنا الله وإياهم الفقه في الدين، والإيمان واليقين. سلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإنا نوصيكم بتقوى الله في الغيب والشهادة، والسر والعلانية، ونذكركم ما أنعم الله به علينا وعليكم، من دين الإسلام الذي رضيه لكم دينا; كما قال تعالى: {الْيَوْمَ
1 أبو داود: الأدب (5061) .
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] . وهو الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 85] .
وليس الإسلام بمجرد الدعوى والتلفظ بالقول، وإنما معناه: الانقياد لله بالتوحيد والخضوع، والإذعان له بالربوبية والإلهية، دون كل ما سواه، كما قال تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} الآية [سورة البقرة آية: 256] . وقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [سورة الروم آية: 30]، إلى قوله:{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [سورة الروم آية: 32] . وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} الآية [سورة البينة آية: 5] . وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} الآية [سورة يوسف آية: 40] .
وهو الدين الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 25]، وقال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [سورة فصلت آية: 6] . والإله: الذي تألهه القلوب، محبة، ورجاء، وتعظيما، وتوكلا، واستعانة، ونحو ذلك من أنواع العبادة، الباطنة، والظاهرة.
فالتوحيد هو إفراد الله بالإلهية، كما تقدم بيانه، ولا يحصل ذلك إلا بالبراءة من الشرك والمشركين باطنا وظاهرا، كما ذكر الله تعالى ذلك عن إمام الحنفاء، عليه السلام، بقوله:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} الآية [سورة الزخرف آية: 26]، وقوله:{يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة الأنعام آية: 78"79] .
فتأمل: كيف ابتدأهم بالبراءة من المشركين، وهذا هو حقيقة معنى لا إله إلا الله، ومدلولها، لا بمجرد قولها باللسان، من غير معرفة وإذعان، لما تضمنته كلمة الإخلاص، من نفي الشرك، وإثبات التوحيد ; والجاهلون من أشباه المنافقين يقولونها بألسنتهم، من غير معرفة لمعناها، ولا عمل بمقتضاها; ولهذا تجد كثيرا ممن يقولها باللسان، إذا قيل له: لا يعبد إلا الله، ولا يدعى إلا الله، اشمأز من هذا القول، كما قال تعالى:{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة الزمر آية: 45] .
وقال تعالى لنبيه محمد (: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس آية: 105"106] ، والحنيف، هو: المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه، وقد قال تعالى:{فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}
[سورة العنكبوت آية: 56] .
وتقديم المعمول يفيد الحصر، كما في هذه الآية وأشباهها.
قال: العماد ابن كثير، رحمه الله، في معنى قوله:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} : [سورة البقرة آية: 130] ، فيها الرد على المشركين المخالفين لملة إمام الحنفاء، فإنه جرد توحيد ربه، فلم يدع معه غيره، ولا أشرك به طرفة عين، وتبرأ من كل معبود سواه، وخالف في ذلك قومه، حتى تبرأ من أبيه، كما ذكر الله ذلك عنه في قوله:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [سورة مريم آية: 48"49] ، وكيف بادأهم بذكر اعتزالهم أولا، ثم عطف عليه باعتزال معبوداتهم، كما في سورة الكهف:{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16] ؛ وهذا هو حقيقة التوحيد.
وقد أرشد الله نبيه محمدا (والمؤمنين أن يأتموا بخليله في ذلك، ويتأسوا به، فقال:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سورة الممتحنة آية: 4] .
ولهذا الأصل العظيم، الذي هو ملة إبراهيم، شرع الله جهاد المشركين، فقال: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا
يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [سورة التوبة آية: 36]، وفي الحديث:" بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له "1.
ومع هذا حذر الله نبيه (وعباده المؤمنين من الركون إليهم، فقال:{وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [سورة الإسراء آية: 74"75]، وقال تعالى:{وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} الآية [سورة هود آية: 113] . وأظلم الظلم: الشرك بالله، كما قال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان آية: 13] .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} الآية [سورة الممتحنة آية: 1] ، ومن المعلوم أن الذين نزلت هذه الآية في التحذير عن توليهم ليسوا من اليهود ولا من النصارى; ولا ريب أن الله تعالى أوجب على عباده المؤمنين البراءة من كل مشرك، وإظهار العداوة لهم والبغضاء، وحرم على المؤمنين موالاتهم والركون إليهم.
ومعلوم أن مشركي العرب لا يقولون: إن آلهتهم تخلق وترزق، وتدبر أمر من دعاها، وشركهم إنما هو في التأله والعبادة، كما قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} الآية [سورة البقرة آية: 165] . وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ
1 أحمد (2/50) .
اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [سورة الأحقاف آية: 5] ، والآية الثانية.
وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [سورة الرعد آية: 14] . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [سورة فاطر آية: 13"14] .
والآيات في بيان الشرك في العبادة، وأنه دين المشركين، وما تضمنه القرآن من الرد عليهم، وبيان ضلالهم، وضياع أعمالهم أكثر من أن تحصر; ويكفي اللبيب الموفق لدينه بعض ما ذكرناه من الآيات المحكمات؛ وأما من لم يعرف حقيقة الشرك، لإعراضه عن فهم الأدلة الواضحة، والبراهين القاطعة، فكيف يعرف التوحيد؟ ومن كان كذلك، لم يكن من الإسلام في شيء، وإن صام وصلى، وزعم أنه مسلم.
وأما من شرح الله صدره للإسلام، وأصغى قلبه إلى ذكر الله من الآيات المحكمات في بيان التوحيد المتضمن لخلع الأنداد التي تعبد من دون الله، والبراءة منها ومن عابديها، عرف دين المرسلين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36]، والطاغوت: ما تجاوز به العبد حده، من معبود، أو متبوع، أو مطاع.
وكلما ازداد العبد تدبرا لما ذكره الله تعالى في كتابه، من أنواع العبادة التي يحبها الله من عبده ويرضاها، عرف أن من صرف شيئا منها لغير الله فقد أشرك، كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} الآية [سورة الكهف آية: 110]، ويجمع أنواع العبادة تعريفها بأنها: كل ما يحبه الله ورسوله، من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة.
إذا فهمتم ذلك وعقلتموه، علمتم أن من المصائب في الدين ما يقع اليوم من كثير ممن يدعي الإسلام، مع هؤلاء الذين يأتونهم من أهل الشمال، وهم يعلمون أن الأوثان التي تعبد، وتقصد بأنواع العبادة، موجودة في بلادهم، وأن الشرك يقع عندهم، من الأقوال، والأعمال، ولا يحصل منهم نفرة ولا كراهة له; مثل هؤلاء الذين لا يعرف منهم أنهم عرفوا ما بعث الله به رسوله من توحيده، ولا أنكروا الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، بل الواقع منهم إكرامهم وإعظامهم، بل زوجوهم نساءهم، فأي موالاة أعظم من هذا؟! وأي ركون أبين من هذا؟ أين العداوة لهم والبغضاء؟ هل كان ذلك الذي شرع الله وأوجبه على عباده، خاصا بأناس كانوا فبانوا؟ والناس بعد أولئك القرون
قد صلحوا; أم كان الشرك 1.
[رسالة إلى أهل القصيم وذكر ما من الله به من التوحيد]
وله أيضا قدس الله روحه:
بسم الله الرحمن الر حيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الإخوان من أهل القصيم.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: اعلموا وفقنا الله وإياكم لمعرفة العلم النافع، والعمل به، تفهمون أن الله سبحانه منَّ على أهل نجد بتوحيده بالعبادة، وترك عبادة ما سواه وهذه نعمة عظيمة، خص الله أهل نجد بالقيام فيها، من الخاصة على العامة، لكن ما عرف قدرها.
والغفلة ذمها الله في كتابه، وذكر أنها صفة أهل النار، نعوذ بالله من النار، بقوله:{أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [سورة الأعراف آية: 179] . وذم أهل الإعراض بقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [سورة طه آية: 124] . وهو القرآن، ولا تعرفون العبادة التي خلقكم الله لها، إلا من القرآن؛ والقرآن من أوله إلى آخره يبين لكم كلمة الإخلاص:" لا إله إلا الله ". ولا يصح لأحد إسلام إلا بمعرفة ما دلت عليه هذه الكلمة، من نفي الشرك في العبادة، والبراءة منه، وممن فعله، ومعاداته، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له; والموالاة في ذلك
1 آخر ما وجد.
فمن الآيات التي بين الله تعالى فيها، هذه الكلمة، قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً} [سورة الزخرف آية: 26"27"28]، وهي: لا إله إلا الله، وقد افتتح قوله، بالبراءة مما كان يعبده المشركون عموما، ولم يستثن إلا الذي فطره، وهو: الله تعالى، الذي لا يصلح شيء من العبادة إلا له.
ونوع تعالى البيان لمعنى هذه الكلمة في آيات كثيرة، يتعذر حصرها، كقوله تعالى:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة آل عمران آية: 64]، والكلمة هي: لا إله إلا الله; بالإجماع، ففسرها بقوله:{سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [سورة آل عمران آية: 64] ، أي نكون فيها سواء، علما، وعملا، وقبولا، وانقيادا، فقال:{أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} [سورة آل عمران آية: 64]، فنفى ما نفته: لا إله إلا الله، بقوله:{أَلَّا نَعْبُدَ} [سورة آل عمران آية: 64] ، وأثبت ما أثبتته لا إله إلا الله، بقوله:{إِلَّا اللَّهَ} [سورة آل عمران آية: 64]، وقال:{أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة يوسف آية: 40] .
فهذا أعظم أمر أمر الله به عباده، وخلقهم له ; ففي قوله:{أَلَّا تَعْبُدُوا} [سورة يوسف آية: 40]، نفي الشرك الذي نفته: لا إله إلا الله، وقوله:{إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة يوسف آية: 40]، هو: الإخلاص الذي أثبتته: لا إله إلا الله، وقال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23]، قضى: أي أمر {أَلَّا تَعْبُدُوا} [سورة الإسراء آية: 23]، فيه من النفي ما في معنى: لا إله، وقوله {إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23] ، هذا هو الإثبات
الذي أثبتته "لا إله إلا الله"؛ وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ} [سورة الرعد آية: 36] ، فهذا هو الذي أمر به ودعا الناس إليه، وهو: إخلاص العبادة، وتخليصها من الشرك، قولا، وفعلا، واعتقادا.
وقد فعل ذلك، ودعا الناس إليه، وجاهدهم عليه حق الجهاد، وهذا هو حقيقة دين الإسلام، كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة الأنبياء آية: 108] ، بين تعالى أن توحيد الإلهية هو الإسلام، والأعمال كلها لا يصلح منها شيء إلا بهذا التوحيد، وهو أساس الملة ودعوة المرسلين؛ والدين كله من لوازم هذا الأصل، وحقوقه.
وقد قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة ص آية: 29] . فمن تدبر القرآن، وتذكر به، عرف حقيقة دين الإسلام الذي أكمله الله لهذه الأمة، كما قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] . هذا ما ننصحكم به، وندعوكم إليه، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وسلم.
[رسالة إلى الأحساء فيما دلت عليه كلمة الإخلاص]
وله أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الإخوان: الأمير محمد بن أحمد، والشيخ عبد اللطيف بن مبارك، وأعيان أهل الأحساء، وعامتهم، رزقنا الله وإياهم الاعتصام بالكتاب والسنة، وجنبنا وإياهم سبل أهل البدع والأهواء، ووفقنا وإياهم لمعرفة ما بعث الله به رسوله من النور والهدى; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فإن الباعث على هذا الكتاب هو النصيحة لله، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم؛ وأوصيكم بما دلت عليه شهادة ألا إله إلا الله، وما تضمنته من نفي الإلهية عما سوى الله، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، والبراءة من كل دين يخالف ما بشر الله به رسله من التوحيد، كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [سورة فصلت آية: 6] .
وقال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ
خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة فصلت آية: 13"14] . وهذه الآية وما في معناها تتضمن النهي عن الشرك في العبادة، والبراءة منه ومن المشركين، من الرافضة وغيرهم ; والقرآن من أوله إلى آخره يقرر هذا الأصل العظيم، فلا غناء لأحد عن معرفته، والعمل به باطنا وظاهرا.
قال بعض السلف: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الزمر آية: 11"12] . وهذا هو مضمون شهادة ألا إله إلا الله، كما تقدمت الإشارة إليه.
ومضمون شهادة أن محمدا رسول الله: وجوب اتباعه، والرضى به نبيا ورسولا، ونفي البدع، والأهواء المخالفة لما جاء به (؛ فلا غناء لأحد عن معرفة ذلك وقبوله، ومحبته والانقياد له، قولا وعملا، باطنا وظاهرا.
[رسالة إلى الشتري وغيره ووصيتهم بتدبر الكتاب]
وله: أيضا، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الإخوان: صالح الشثري، وزيد بن محمد، وإخوانهم، سلمهم الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فموجب الخط إبلاغكم السلام، والسؤال عن
الحال، جعلنا الله وإياكم ممن عرف الحق فاتبعه، وقابل النعم بشكرها; وأوصيكم بتدبر أنوار الكتاب، التي هي أظهر من الشمس في نحر الظهيرة، ليس دونها قتر ولا سحاب، لا سيما دوال التوحيد، والتفكر في مدلولاته، ولوازمه، وملزوماته، ومكملاته، ومقتضياته، ثم التفطن فيما يناقضه وينافيه من نواقضه ومبطلاته.
فالخطر به شديد، ولا يسلم منه إلا من وفق للصبر والتأييد، والفعل الحميد، والقول السديد، وخالط قلبه آيات الوعد والوعيد، وعرف الله بأسمائه، وصفاته، التي تجلو الريب والشكن قلب كل مريد، واعتصم بها عن كل شيطان مريد، {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [سورة البروج آية:12" 16] .
فقد عمت البلوى، بالجهل المركب والبسيط، {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [سورة آل عمران آية: 120] . فالله الله، في التحفظ على القلب، بكثرة الاستغفار من الذنب! جعلنا الله وإياكم ممن نجا من ظلمة الجهالة، وأخلص لله أقواله وأعماله.
وسئل رحمه الله تعالى عمن يعرف التوحيد ويعتقده، ويقرأ في التفسير كتفسير البغوي ونحوه، هل له أن يحدث بما سمعه وحفظه، من العلم، ولو لم يقرأ في النحو، أو لا؟
فأجاب: من المعلوم أن كثيرا من العلماء من المحدثين والفقهاء، إنما كان دأبهم طلب ما هو الأهم، والنحو، إنما يراد لغيره، فيأخذ الرجل منه ما صلح لسانه ; فانشر ما علمت من العلم، خصوصا علم التوحيد، الذي هو في الآيات المحكمات كالشمس في نحر الظهيرة، لمن رغب فيه وأحبه وأقبل عليه.
وقد عرفت أن كتمان العلم مذموم، بالكتاب والسنة، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [سورة البقرة آية: 159] . وقد أرشد الله تعالى عباده إلى تدبر كتابه، وذم من لم يتدبره، وقد قال تعالى:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [سورة العنكبوت آية: 51] .
وأخبر عن جن نصيبين، أنهم لما سمعوا قراءة النبي للقرآن بوادي نخلة، منصرفه من الطائف:{وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} الآية [سورة الأحقاف آية: 29"30] ، وأخبر تعالى عنهم، في سورة الجن أنهم أنكروا الشرك الذي كان يفعله الإنس مع الجن، من الاستعاذة بهم، إذا نزلوا واديا.
وأخبر تعالى عن هدهد سليمان، أنه أنكر الشرك،
وهو طائر من جملة الطير، قال تعالى:{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية [سورة النمل آية: 22"25] .
فحدث الهدهد، سليمان عليه السلام، بما رآهم يفعلونه من السجود لغير الله، والسجود نوع من أنواع العبادة؛ فليت أكثر الناس عرفوا من الشرك ما عرف الهدهد ; فأنكروه، وعرفوا الإخلاص فالتزموه؛ وبالله التوفيق، وسبحان من غرس التوحيد في قلب من شاء من خلقه، وأضل من شاء عنه، بعلمه وحكمته وعدله.
[فائدة في حقيقة التوحيد]
وقال أيضا الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى:
فائدة عظيمة النفع لمن تدبرها وفهمها، في حقيقة التوحيد والمتابعة، قال العلامة ابن القيم رحمه الله في: كتاب المفتاح: الوجه الرابع والثلاثون بعد المائة: أن الله سبحانه خلق خلقه لعبادته، الجامعة لمحبته ومرضاته، المستلزمة لمعرفته؛ ونصب للعباد علما، لا كمال لهم إلا به، وهو: أن تكون حركاتهم كلها واقعة على وفق مرضاته ومحبته، ولذلك أرسل رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه؛ فكمال العبد،
الذي لا كمال له إلا به، أن تكون حركاته موافقة لما يحبه الله ويرضاه، ولهذا جعل اتباع رسله دليلا على محبته، قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 31] .
قال بعض العلماء: المحب الصادق إن نطق نطق بالله، وإن سكت سكت لله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فسكونه استعانة على مرضاة الله، فهو لله وبالله، ومع الله ; ومعلوم أن صاحب هذا المقام أحوج خلق الله إلى العلم، فإنه لا تتميز له الحركة المحبوبة لله من غيرها، ولا السكون المحبوب له من غيره، إلا بالعلم، فليست حاجته إلى العلم كحاجة من طلب العلم لذاته، لأنه في نفسه صفة كمال، بل حاجته إلى العلم، كحاجته إلى الطعام والشراب.
ولهذا اشتدت وصاة شيوخ العارفين لمريديهم بالعلم وطلبه، وأن من لم يطلب العلم لم يفلح، حتى كانوا يعدون من لا علم له من السفلة؛ قال ذو النون" وقد سئل عن السفلة" فقال: من لا يعرف الطريق إلى الله تعالى، ولا يتعرفه.
وقال أبو يزيد: لو نظرتم إلى الرجل وقد أعطي من الكرامات حتى يترفع في الهواء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، وحفظ الحدود، ومعرفة الشريعة. وقال أبو حمزة: من علم طريق الحق، سهل عليه سلوكه; ولا دليل إلى الله، إلا بمتابعة
رسول الله " في أقواله، وأفعاله، وأحواله.
وقال محمد بن فضل، الصوفي الزاهد: ذهاب الإسلام على يد أربعة أصناف: صنف: لا يعملون بما يعلمون. وصنف: يعملون بما لا يعلمون. وصنف: لا يعلمون ولا يعملون، وصنف: يمنعون الناس من التعلم.
قلت: الصنف الأول: من له علم بلا عمل، فهو أضر شيء على العامة; فإنه حجة لهم في كل نقيصة ومنحسة.
والصنف الثاني: العابد الجاهل، فإن الناس يحسنون الظن به لعبادته وصلاحه، فيقتدون به على جهله. وهذان الصنفان، هما اللذان ذكرهما بعض السلف في قوله: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، فإن الناس إنما يقتدون بعلمائهم وعبادهم، فإذا كان العلماء فجرة، والعباد جهلة عمت المصيبة بهما، وعظمت الفتنة على الخاصة والعامة.
الصنف الثالث: الذين لا علم لهم ولا عمل، وإنما هم كالأنعام السائمة.
الصنف الرابع: نواب إبليس في الأرض; وهم الذين يثبطون الناس عن طلب العلم والتفقه في الدين، فهؤلاء أضر عليهم من شياطين الجن، فإنهم يحولون بين القلوب وبين هدى الله وطريقه.
فهؤلاء الأربعة الأصناف هم الذين ذكرهم هذا
العارف، رحمه الله تعالى; وهؤلاء كلهم، على شفا جرف هار، وعلى سبيل هلكة، وما يلقى العالم الداعي إلى الله ورسوله ما يلقاه من الأذى والمحاربة إلا على أيديهم، والله يستعمل من يشاء في سخطه، كما يستعمل من يحب في مرضاته، {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [سورة الشورى آية: 27] . ولا ينكشف سر هذه الطوائف وطريقتهم إلا بالعلم; فعاد الخير بحذافيره، إلى العلم وموجبه، والشر بحذافيره إلى الجهل وموجبه. انتهى.
بسم الله الرحمن الر حيم
من عبد الرحمن بن حسن، إلى الابن عبد اللطيف، سلمه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته; وبعد: هذا الوجه 1 من أنفع ما رأيت في تحقيق التوحيد والمتابعة، فأنت اقرأه على الإمام، فيا سعادة من عقله وصار على باله، والله أعلم.
1 يشير إلى الوجه الرابع والثلاثين بعد المائة عند منتهاه في هذه الصفحة، وتقدمت بدايته في صفحة 277 ، وهو من كلام ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة ج/1 صفحة 159 - 160.
[رسالة الإمام فيصل إلى أشراف اليمن يأمرهم بالإخلاص وترك الشرك]
قال الإمام: فيصل بن تركي، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
من فيصل بن تركي بن سعود، إلى من يصل إليه هذا الكتاب، من أشراف اليمن، وعلمائهم، ووجوه القبائل ; سلمهم الله من النار، ومن غضب الجبار، ورزقهم إخلاص العبادة للواحد القهار، ووفقهم لاتباع سبيل محمد النبي المختار، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه المقربين منهم والأبرار، وسلم تسليما. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإنه قد وصل إلينا من جهتكم الشيخ صالح بن سعيد الجوني، فأحببت أن أكتب معه إليكم نصيحة مختصرة، وفي الحديث:" الدين النصيحة " 1، وهو من الأحاديث الصحيحة، فأعظم ما يستنصح به العبد، وينصح به غيره:3صض الإيمان بالله، والعمل له، والتواصي بالحق، والصبر عليه.
فأصل دين الإسلام، وأساسه الذي تنبني عليه الأعمال، وتصح به الأقوال والأفعال، هو: إخلاص العبادة بجميع
1 مسلم: الإيمان (55)، والنسائي: البيعة (4197 ،4198)، وأبو داود: الأدب (4944) ، وأحمد (4/102) .
أنواعها لله تعالى؛ وهي منقسمة على القلب، واللسان، والجوارح; ولا يكون مخلصا إلا بترك الشرك في العبادة، والبراءة منه.
وأفضل الأعمال: الأركان الخمسة، التي أعظمها تجريد التوحيد، والبراءة من الشرك والتنديد، قال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [سورة الشورى آية: 13] ، وهؤلاء الخمسة هم أولو العزم من الرسل، ثم قال:{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} الآيات [سورة الشورى آية: 15] .
وقال تعالى لنبيه محمد: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف آية: 108] ، فسبيله، وسبيل أتباعه: النهي عن الشرك، والدعوة إلى الإخلاص; ولهذا قال:{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف آية: 108] .
وقد بين تعالى ما وصى به عباده من ذلك، وما نهى عنه من الشرك في العبادة، فأخبر عن رسوله نوح ومن بعده من الرسل، عليهم السلام، أنهم قالوا لقومهم:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59]، {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 2] . وقال خطابا لنبيه ولأمته: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}
[سورة الإسراء آية: 23] .
قال العلماء رحمهم الله تعالى: قضى: وصى، وقيل: أمر، وهما بمعنى واحد.
وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الزمر آية: 11"12] . والإسلام هو: الإخلاص، لأنه شرط لكل عمل، وكل عمل مفتقر إليه، وقد فسره علماء السلف بالإخلاص، كما في قوله تعالى:{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [سورة البقرة آية: 112]، وقوله:{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [سورة لقمان آية: 22] . قالوا: إسلام الوجه: الإخلاص، والإحسان، والمتابعة؛ والقرآن من أوله إلى آخره، وكذلك السنة، في تقرير هذين الأصلين.
ومن تدبر سيرة النبي قبل هجرته، وبعدها، وما كان عليه الصحابة، والتابعون، وأتباعهم، والأئمة، عرف حقيقة دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه، وتبين له كثرة المنحرفين عنه في هذه الأزمنة، وقبلها، فإن الأمة بعد القرون الثلاثة افترقت على ثلاث وسبعين فرقة، وذلك بعد ظهور دول الأعاجم، والقرامطة في المشرق; وبني عبيد القداح في مصر والمغرب، وظهرت الفلسفة، وغيرها من أصول البدع، وظهر الشرك.
وكل قرن ينحل فيه عقد الإسلام، حتى اشتدت الغربة، وعظم الافتراق، وعاد المعروف منكرا، والمنكر معروفا، ونشأ
عليه الصغير، وهرم عليه الكبير، وجهل الناس التوحيد الذي دعت إليه الرسل وبعث به إمامهم وسيدهم محمد (، ووقعوا في الشرك الذي نهى الله عنه ورسوله، حتى ظنوه من أفضل القربات {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [سورة النجم آية: 23] .
فيجب على من نصح نفسه، وطلب لها الخلاص من عذاب الله، أن يسعى في خلاصها بالإخلاص لله وحده، بجميع أنواع العبادة التي موردها القلب، واللسان، والجوارح، ويطلب العلم الذي ينجو به من النار، ويدخل به جنات تجري من تحتها الأنهار، ويصح به إيمانه، وتنفعه معه أعماله.
ومن عرف ما جرى من الأمم مع الرسل، وما ذكره الله عن الأكثر، وما جرى من اليهود مع نبينا محمد، لم يغتر بكثرة المخالفين لهذا الدين، ولا يصدفه عن الحق المبين زخرف الملحدين المزخرفين، كما قال تعالى:{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [سورة الأعراف آية: 102]، وقال تعالى:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [سورة يوسف آية: 103]، وقال في حال اليهود:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [سورة البقرة آية: 89] .
وفي الحديث الصحيح عن النبي (أنه قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله: اليهود
والنصارى؟ قال فمن ;" 1 يعني أنهم هم المراد، ولهذا قال سفيان بن عيينة، رحمه الله: من فسد من علمائنا، ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا، ففيه شبه من النصارى ; هذا وهو في القرن الثاني من القرون الثلاثة المفضلة، فما الظن بمن. بعدهم من القرون التي فيها هؤلاء الخلوف، الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، بنص الحديث؟ وفي حديث أنس مرفوعا: " لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم 2 سمعته من نبيكم ".
ولهذا لما اشتدت غربة الإسلام في هذه الأزمان وقبلها، عاد الأمر إلى: أن من دعا بدعوى المرسلين، وقال: لا يعبد إلا الله، ولا يدعى إلا هو، ولا يتوكل إلا عليه، قيل له: تنقصت الأنبياء والصالحين ; فأشبهوا من قال الله فيهم: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة الزمر آية: 45] .
وقد أمر الله تعالى بإخلاص العبادة له في مواضع كثيرة، من كتابه، ونهى نبيه (وأمته أن يدعوا أحدا من دونه، فقال:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} الآية [سورة يونس آية: 106] .
وقال: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [سورة الشعراء آية: 213]، وقال: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3456)، ومسلم: العلم (2669) ، وأحمد (3/84 ،3/89) .
2 البخاري: الفتن (7068)، والترمذي: الفتن (2206) ، وأحمد (3/179) .
إِلَّا هُوَ} [سورة القصص آية: 88]، وقال:{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي} [سورة غافر آية: 66]، وقال:{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} الآية [سورة الأنعام آية: 56] . وهذه الآيات تحقق أن الدعاء عبادة، وأن صرفه لغير الله شرك بالله، وقد قال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] إلى قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 20] .
وقال: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 117] ، فبين في هذه الآية أن دعوة غيره كفر، كما قال تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [سورة الأحقاف آية: 5"6]، وقال تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [سورة الرعد آية: 14] .
فتدبروا: ما في هذه الآيات من النهي الأكيد، والوعيد الشديد، والبيان الذي لا يخفى حتى على البليد.
وهذا النهي عام، يتناول كل مدعو من الأنبياء، فمن دونهم، كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا
يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [سورة الإسراء آية: 56"57] . نزلت هذه الآيات فيمن يدعو: المسيح بن مريم وأمه، وعزيرا، والملائكة، على الصحيح من أقوال المفسرين; وعليه أكثرهم. يقول الله: هؤلاء عبيدي كما أنتم عبيدي، يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي.
ولا ريب أن المسيح بن مريم والملائكة أحياء، لكنهم غافلون عمن دعاهم، ولا يستجيبون لهم بشيء، وأما العزير ومريم فقد ماتا، فلا يدعى ميت ولا غائب: فبطل بهذه الآية كل ما ادعاه المشركون في معبوديهم، كقولهم: ندعوهم؛ لأن لهم صلاحا، وترجى شفاعتهم. ونظائر هذه الآية، في القرآن كثير في الرد على من دعا الأنبياء والصالحين والملائكة ونحوهم.
ومع هذا البيان، فلا بد من وجود من يجادل في آيات الله، كما قال تعالى:{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} الآية [سورة غافر آية: 4"5] . وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ
أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام آية: 121] .
يخبر تعالى أنه لا بد للحق من أعداء يجادلون في آيات الله وحججه، وبيناته، تحذيرا عنهم وعن الإصغاء إليهم وإلى شبهاتهم، وعن طاعتهم، فأقام تعالى الحجة على عباده، وحذر وأنذر، وبيَّن وأظهر:{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [سورة الأنعام آية: 149] .
وكل شبهة، يلقيها أهل الباطل على أهل الحق، ففي الكتاب والسنة ما يبطلها، كما قال تعالى:{وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [سورة الفرقان آية: 33] .
[جواب أبا بطين في تعريف العبادة والإخلاص]
سئل الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله تعالى: ما قولكم، دام فضلكم، في تعريف العبادة وتعريف توحيد العبادة، وأنواعه؟ وتعريف الإخلاص؟ وما بين الثلاثة من العموم والخصوص؟ وهل هو مطلق، أو وجهي؟ وما معنى الإله؟ وما معنى الطاغوت الذي أمرنا باجتنابه والكفر به؟
فأجاب: الحمد لله رب العالمين، أما العبادة في اللغة، فهي: من الذل; يقال; بعير معبد، أي: مذلل، وطريق معبد، إذا كان مذللا قد وطأته الأقدام، وكذلك الدين أيضا، من الذل، يقال دنته، فدان، أي: ذللته، فذل ; وأما تعريفها في الشرع، فقد اختلفت عباراتهم، في تعريفها، والمعنى واحد.
فعرفها طائفة بقولهم هي: ما أمر به شرعا، من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي; وعرفها طائفة بأنها: كمال الحب مع كمال الخضوع ; وقال أبو العباس، رحمه الله تعالى: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة.
فالصلاة، والزكاة، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وجهاد الكفار، والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك، من العبادة.
وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمته، والرضى بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك، فالدين كله داخل في العبادة. انتهى.
ومن عرفها بالحب من الخضوع، فلأن الحب التام، مع الذل التام يتضمن طاعة المحبوب والانقياد له، فالعبد، هو الذي ذلله الحب والخضوع لمحبوبه، فبحسب محبة العبد لربه وذله له، تكون طاعته; فمحبة العبد لربه وذله له يتضمن عبادته وحده لا شريك له ; والعبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية الذل لله، بغاية المحبة له، كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
ليس العبادة غير توحيد المـ
…
حبة مع خضوع القلب والأركان
والحب نفس وفاقه فيما يحب
…
وبغض ما لا يرتضى بجنان
ووفاقه نفس اتباعك أمره
…
والقصد وجه الله ذي الإحسان
فعرف العبادة بتوحيد المحبة مع خضوع القلب والجوارح، فمن أحب شيئا وخضع له، فقد تعبد قلبه له، فلا تكون المحبة المنفردة عن الخضوع عبادة، ولا الخضوع بلا محبة عبادة; فالمحبة والخضوع ركنان للعبادة، فلا يكون أحدهما عبادة بدون الآخر، فمن خضع لإنسان مع بغضه له، لم يكن عابدا له، ولو أحب شيئا، ولم يخضع له، لم يكن عابدا له، كما يحب ولده وصديقه. ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء، وأن يكون أعظم عنده من كل شيء، بل لا يستحق المحبة الكاملة والذل التام إلا الله سبحانه.
إذا عرف ذلك، فتوحيد العبادة هو: إفراد الله سبحانه بأنواع العبادة المتقدم تعريفها، وهو نفس العبادة المطلوبة شرعا، ليس أحدهما دون الآخر; ولهذا قال ابن عباس:"كل ما ورد في القرآن من العبادة، فمعناه التوحيد" وهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون. وأما العبادة من حيث هي، فهي أعم من كونها توحيدا عموما مطلقا، فكل موحد عابد لله، وليس كل من عبد الله يكون موحدا، ولهذا يقال عن المشرك: إنه يعبد الله، مع كونه مشركا، كما قال الخليل (:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية:75" 77] . وقال عليه السلام: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [سورة الزخرف آية:
29" 27] .
فاستثنى الخليل ربه من معبوديهم، فدل على أنهم يعبدون الله.
فإن قيل: ما معنى النفي في قوله سبحانه: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [سورة الكافرون آية: 3] ؟ قيل: إنما نفى عنهم، الاسم الدال على الوصف والثبوت; ولم ينف وجود الفعل الدال على الحدوث والتجدد، وقد نبه ابن القيم، رحمه الله تعالى، على هذا المعنى اللطيف في بدائع الفوائد، فقال لما انجر كلامه على سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] : وأما المسألة الرابعة، وهو أنه لم يأت النفي في حقهم إلا باسم الفاعل، وفي جهته جاء بالفعل المستقبل تارة، وباسم الفاعل أخرى.
وذلك" والله أعلم" لحكمة بديعة، وهي: أن المقصود الأعظم، براءته من معبوديهم بكل وجه، وفي كل وقت ; فأتى أولا بصيغة الفعل، الدالة على الحدوث والتجدد، ثم أتى في هذا النفي بعينه بصيغة اسم الفاعل، الدالة على الوصف والثبوت، فأفاد في النفي الأول: أن هذا لا يقع مني، وأفاد في الثاني أن هذا ليس وصفي ولا شأني، فكأنه قال: عبادة غير الله لا تكون فعلا لي ولا وصفا، فأتى بنفيين لمنفيين مقصودين بالنفي.
وأما في حقهم، فإنما أتى بالاسم الدال على الوصف والثبوت، دون الفعل; أي: الوصف الثابت اللازم للعابد لله، منتف عنكم، فليس هذا الوصف ثابتا لكم، وإنما
يثبت لمن خص الله وحده بالعبادة، لم يشرك معه فيها أحدا، وأنتم لما عبدتم غيره، فلستم من عابديه، وإن عبدتموه في بعض الأحيان، فإن المشرك يعبد الله، ويعبد معه غيره، كما قال تعالى، عن أهل الكهف:{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة الكهف آية: 16] ، أي اعتزلتم معبوديهم، إلا الله، فإنكم لم تعتزلوه، وكذا قول المشركين، عن معبوديهم:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر آية: 3] ، فهم كانوا يعبدون الله، ويعبدون معه غيره، لم ينف عنهم الفعل لوقوعه منهم، ونفى الوصف؛ لأن من عبد غير الله لم يكن ثابتا على عبادة الله، موصوفا بها.
فتأمل هذه النكته البديعة، كيف تجد في طيها أنه لا يوصف بأنه عابد لله، وإن عبده، ولا المستقيم على عبادته، إلا من انقطع إليه بكليته، وتبتل إليه تبتيلا، لم يلتفت إلى غيره، ولم يشرك به أحدا في عبادته؛ وأنه إن عبده وأشرك به غيره، فليس عابدا لله، ولا عبدا له؛ وهذا من أسرار هذه السورة العظيمة الجليلة، التي هي أحد سورتي الإخلاص، التي تعدل ربع القرآن، كما جاء في بعض السنن. وهذا لا يفهمه كل أحد، ولا يدركه إلا من منحه الله فهما من عنده، فله الحمد والمنة. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
وأما الإخلاص فحقيقته: أن يخلص العبد لله، في أقواله، وأفعاله، وإرادته، ونيته، وهذه هي: الحنيفية،
ملة إبراهيم التي أمر الله بها عباده كلهم، ولا يقبل من أحد غيرها، وهي: حقيقة الإسلام {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 85]، وهي ملة إبراهيم التي من رغب عنها فهو من أسفه السفهاء:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [سورة البقرة آية: 130] .
وقد تظاهرت دلائل الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، على اشتراط الإخلاص للأعمال والأقوال الدينية، وأن الله لا يقبل منها إلا ما كان خالصا وابتغي به وجهه، ولهذا كان السلف الصالح يجتهدون غاية الاجتهاد في تصحيح نياتهم، ويرون الإخلاص أعز الأشياء وأشقها على النفس، وذلك لمعرفتهم بالله وما يجب له، وبعلل الأعمال وآفاتها، ولا يهمهم العمل لسهولته عليهم; وإنما يهمهم سلامة العمل وخلوصه من الشوائب المبطلة لثوابه، والمنقصة له.
قال الإمام أحمد رحمه الله: (أمر النية شديد) . وقال سفيان الثوري: "ما عالجت شيئا، أشد علي من نيتي لأنها تتقلب علي". وقال يوسف بن إسباط: "تخليص النية من فسادها، أشد على العاملين من طول الاجتهاد". وقال سهل بن عبد الله: "ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص، ولأنه ليس لها فيه نصيب". وقال يوسف بن الحسين: (أعز شيء في الدنيا: الإخلاص، وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي،
وكأنه ينبت فيه على لون آخر، فيجب على من نصح نفسه أن يكون اهتمامه بتصحيح نيته، وتخليصها من الشوائب، فوق اهتمامه بكل شيء، لأن الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى) .
وأما ما بين الثلاثة من العموم والخصوص، وهل هو وجهي، أو مطلق؟
فقد قدمنا أن العبادة من حيث هي أعم من توحيد العبادة، عموما مطلقا، وأن العبادة المطلوبة شرعا هي نفس توحيد العبادة ; ودل كلام ابن القيم رحمه الله أن توحيد العبادة أعم من الإخلاص، حيث قال:
فلواحد كن واحدا في واحد
…
أعني سبيل الحق والإيمان
هذا وثاني نوعي التوحيد تو
…
حيد العبادة منك للرحمن
أن لا تكون لغيره عبدا ولا
…
تعبد بغير شريعة الإيمان
فتقوم بالإسلام والإيمان وال
…
إحسان في سر وفي إعلان
والصدق والإخلاص ركنا ذلك الت
…
وحيد كالركنين للبنيان
إلى أن قال:
وحقيقة الإخلاص توحيد المرا
…
د فلا يزاحمه مراد ثان
والصدق توحيد الإرادة وهو بذ
…
ل الجهد لا كسلا ولا متوان
والسنة المثلى لسالكها فتو
…
حيد الطريق الأعظم السلطان
فقوله رحمه الله: والصدق، والإخلاص، ركنا ذلك التوحيد، جعل الإخلاص، أحد ركني العبادة، والصدق ركنه
الآخر، وفسر الصدق بما ذكر. وقال في بعض كلامه: ومقام الصدق جامع للإخلاص; فعرفنا رحمه الله أن توحيد العبادة أعم من الإخلاص، ولم يذكر إلا عموما مطلقا. وأما العموم الوجهي، فالظاهر، أن المراد به: إذا كان أحد الشيئين أعم من وجه، وأخص من وجه ; والعموم الذي بين مطلق العبادة، وبين توحيد العبادة، والإخلاص، مطلق لا وجهي.
وأما الإله، فهو: الذي تألهه القلوب، بالمحبة، والخضوع، والخوف، والرجاء، وتوابع ذلك من: الرغبة، والرهبة، والتوكل، والاستغاثة، والدعاء، والذبح، والنذر، والسجود; وجميع أنواع العبادة: الظاهرة والباطنة ; فهو إله، بمعنى: مألوه، أي: معبود. وأجمع أهل اللغة أن هذا معنى الإله، قال الجوهري: أله بالفتح، إلهة، أي: عبد عبادة، قال: ومنه قولنا: الله، وأصله: إله، على فعال، بمعنى مفعول، لأنه مألوه، بمعنى معبود، كقولنا: إمام، فعال، بمعنى: مفعول، لأنه مؤتم به; قال: والتأليه: التعبيد; والتآله: التنسك والتعبد; قال رؤبة:
سبحن واسترجعن من تأله
…
.........................................
انتهى
وقال في القاموس: أله، إلهة، وألوهة: عبد، عبادة ; ومنه لفظ الجلالة ; واختلف فيه على عشرين قولا ; يعني في لفظ الجلالة، قال، وأصله: إله، بمعنى: مألوه;
وكل ما اتخذ معبودا، إله عند متخذه; قال، والتأله: التنسك والتعبد. انتهى. وجميع العلماء من المفسرين، وشراح الحديث، والفقه، وغيرهم، يفسرون الإله بأنه: المعبود.
وإنما غلط في ذلك بعض أئمة المتكلمين، فظن أن الإله هو القادر على الاختراع، وهذه زلة عظيمة وغلط فاحش، إذا تصوره العامي العاقل تبين له بطلانه، وكأن هذا القائل، لم يستحضر ما حكاه الله عن المشركين في مواضع من كتابه، ولم يعلم أن مشركي العرب وغيرهم يقرون بأن الله هو القادر على الاختراع، وهم مع ذلك مشركون. ومن أبعد الأشياء أن عاقلا يمتنع من التلفظ بكلمة يقر بمعناها، ويعترف به، ليلا ونهارا، سرا وجهارا; هذا ما لا يفعله، من له أدنى مسكة من عقل.
قال أبو العباس، رحمه الله تعالى: وليس المراد بالإله هو القادر على الاختراع، كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين، حيث ظن أن الألوهية هي القدرة على الاختراع، وأن من أقر بأن الله هو القادر على الاختراع، دون غيره، فقد شهد ألا إله إلا الله; فإن المشركين كانوا يقرون بهذا التوحيد، كما قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة لقمان آية: 25] . وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ
أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة المؤمنون آية: 84"85] الآيات، وقال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [سورة يوسف آية: 106] . قال ابن عباس: (تسألهم من خلق السماوات والأرض; فيقولون: الله; وهم مع هذا، يعبدون غيره) .
وهذا التوحيد من التوحيد الواجب، لكن لا يحصل به الواجب، ولا يخلص بمجرده عن الإشراك الذي هو أكبر الكبائر، الذي لا يغفره الله، بل لا بد أن يخلص لله الدين، فلا يعبد إلا إياه، فيكون دينه لله. والإله، هو: المألوه، الذي تألهه القلوب; فهو إله بمعنى مألوه لا بمعنى أله. انتهى.
وقد دل صريح القرآن على معنى الإله، وأنه هو المعبود، كما في قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [سورة الزخرف آية: 26"28]، قال المفسرون: هي كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، {بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [سورة الزخرف آية: 28] ، أي: ذريته ; قال قتادة: لا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحده; والمعنى: جعل هذه الموالاة، والبراءة من كل معبود سواه، كلمة باقية في ذرية إبراهيم، يتوارثها الأنبياء وأتباعهم، بعضهم عن بعض، وهي كلمة: لا إله إلا الله.
فتبين: أن موالاة الله بعبادته والبراءة من كل معبود سواه، هو معنى لا إله إلا الله. إذا تبين ذلك، فمن صرف لغير الله شيئا من أنواع العبادة المتقدم تعريفها، كالحب،
والتعظيم، والخوف، والرجاء، والدعاء، والتوكل، والذبح، والنذر، وغير ذلك، فقد عبد ذلك الغير واتخذه إلها، وأشركه مع الله في خالص حقه، وإن فر من تسمية فعله ذلك تألها، وعبادة وشركا. ومعلوم عند كل عاقل أن حقائق الأشياء لا تتغير بتغير أسمائها، فلو سمى: الزنى، والربا، والخمر، بغير أسمائها، لم يخرجها تغيير الاسم عن كونها: زنى، وربا، وخمرا، ونحو ذلك.
ومن المعلوم أن الشرك إنما حرم لقبحه في نفسه، وكونه متضمنا مسبة الرب وتنقصه، وتشبيهه بالمخلوقين؛ فلا تزول هذه المفاسد بتغيير اسمه، كتسميته: توسلا، وتشفعا، وتعظيما للصالحين، وتوقيرا لهم، ونحو ذلك; فالمشرك مشرك، شاء أم أبى، كما أن الزاني زان، شاء أم أبى، والمرابي مراب، شاء أم أبى.
وقد أخبر النبي (أن طائفة من أمته يستحلون الربا، باسم البيع، ويستحلون الخمر، باسم آخر غير اسمها، وذمهم على ذلك؛ فلو كان الحكم دائرا مع الاسم، لا مع الحقيقة، لم يستحقوا الذم، وهذه من أعظم مكائد الشيطان لبني آدم، قديما وحديثا ; أخرج لهم الشرك في قالب تعظيم الصالحين وتوقيرهم; وغير اسمه بتسميته إياه: توسلا، وتشفعا، ونحو ذلك; والله الهادي إلى سواء السبيل.
وأما: تعريف الطاغوت، فهو مشتق من طغا، وتقديره
طغوت، ثم قلبت الواو ألفا، قال النحويون: وزنه: فعلوت، والتاء زائدة، قال الواحدي: قال جميع أهل اللغة: الطاغوت: كل ما عبد من دون الله، يكون واحدا، وجمعا، ويذكر، ويؤنث ; قال تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [سورة النساء آية: 60] . فهذا في الواحد، وقال تعالى في الجمع:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [سورة البقرة آية: 257] .
وقال في المؤنث: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} [سورة الزمر آية: 17] . قال: ومثله: في أسماء الفلك، يكون واحدا، وجمعا، ومذكرا، ومؤنثا; قال: قال الليث، وأبو عبيدة، والكسائي، وجماهير أهل اللغة، الطاغوت: كل ما عبد من دون الله، وقال الجوهري، الطاغوت: الكاهن، والشيطان، وكل رأس في الضلال; وقال مالك، وغير واحد من السلف، والخلف: كل ما عبد من دون الله، فهو طاغوت.
وقال: عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهما وكثير من المفسرين: "الطاغوت الشيطان" قال ابن كثير: وهو قول قوي جدا، فإنه يشمل كل ما عليه أهل الجاهلية من: عبادة الأوثان، والتحاكم إليها، والاستنصار بها ; وقال الواحدي، عند قول الله تعالى:{يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [سورة النساء آية: 51] : كل معبود من دون الله فهو
جبت وطاغوت; قال ابن عباس في رواية عطية: "الجبت: الأصنام، والطاغوت: تراجمة الأصنام، الذين يكونون بين أيديهم، يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس؟ " وقال" في رواية الوالبي": "الجبت: الكاهن، والطاغوت: الساحر". وقال بعض السلف في قوله سبحانه: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [سورة النساء آية: 60] : إنه كعب بن الأشرف; وقال بعضهم: حيي بن أخطب، وإنما استحقا هذا الاسم، لكونهما من رؤساء الضلال، ولإفراطهما في الطغيان، وإغوائهما الناس، ولطاعة اليهود لهما في معصية الله؛ فكل من كان بهذه الصفة، فهو طاغوت، قال ابن كثير رحمه الله تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [سورة النساء آية: 60] لما ذكر ما قيل إنها نزلت في من طلب التحاكم إلى كعب بن الأشرف، أو إلى حاكم الجاهلية، وغير ذلك، قال: والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هاهنا.
فتحصل من مجموع كلامهم رحمهم الله: أن اسم الطاغوت يشمل كل معبود من دون الله، وكل رأس في الضلال، يدعو إلى الباطل، ويحسنه، ويشمل أيضا: كل من نصبه الناس للحكم بينهم بأحكام الجاهلية المضادة لحكم الله ورسوله ; ويشمل أيضا: الكاهن، والساحر، وسدنة الأوثان، الداعين إلى عبادة المقبورين وغيرهم، بما
يكذبون من الحكايات المضلة للجهال، الموهمة أن المقبور ونحوه يقضي حاجة من توجه إليه وقصده، وأنه فعل كذا وكذا، مما هو كذب أو من فعل الشياطين، ليوهموا الناس أن المقبور ونحوه يقضي حاجة من قصده؛ فيوقعوهم في الشرك الأكبر وتوابعه. وأصل هذه الأنواع كلها، وأعظمها: الشيطان، فهو: الطاغوت الأكبر. والله سبحانه وتعالى أعلم.
[رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن في معنى العبادة]
وقال أيضا رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد، وآله وصحبه، الطيبين الطاهرين; أما بعد: فقد ورد علينا رسالة من شيخنا العلامة، الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، متعنا الله بوجوده، متضمنة للإفادة، أخرجها مخرج السؤال، بقوله: عرفونا، ما معنى: العبادة؟ ويكون التعريف جامعا مانعا، وكذلك الإله المنفي، بكلمة الإخلاص، والإلهية المثبتة للحق سبحانه وتعالى؟
فالجواب، وبالله التوفيق: أما تعريف العبادة، فقد عرفها شيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في فوائده على كتابه: كتابه التوحيد، بأن العبادة هي: التوحيد، لأن الخصومة فيه، وأن من لم يأت به لم يعبد الله، فدل على أن التجرد من الشرك، لا بد منه في العبادة، وإلا فلا يسمى عبادة.
وقال الشيخ تقي الدين،: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأفعال، فهي الغاية
المحبوبة له تعالى: وبها أرسل الرسل وأنزل الكتب كما قال نوح عليه السلام، لقومه:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59] ، ?وكذلك هود، وصالح; وذلك أن الإله، يطلق على كل معبود بحق وباطل; والإله الحق هو الله; قال الله تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد آية: 19] .
ويسمى هذا النوع: توحيد الإلهية، لأنه مبني على إخلاص التأله، وهو: أشد المحبة لله وحده لا شريك له؛ وذلك يستلزم إخلاص العبادة، وتوحيد العبادة، وتوحيد الإرادة، لأنه مبني على إرادة وجه الله بالأعمال، وتوحيد القصد، لأنه مبني على إخلاص القصد المستلزم لإخلاص العبادة لله وحده، وتوحيد العمل، لأنه مبني على إخلاص العمل لله وحده، قال الله تعالى:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2"3] .
فالموحد: من جمع قلبه ولسانه، مخلصا لله تعالى في الإلهية المقتضية لعبادته، بمحبته، وخوفه، ورجائه، ودعائه، والاستغاثة به، والتوكل عليه، وحصر الدعاء، بما لا يقدر على جلبه أو دفعه إلا الله وحده، والموالاة في ذلك والمعاداة فيه، وامتثال أمره، ناظرا إلى حق الخالق والمخلوق من الأنبياء، والأولياء، مميزا بين الحقين، وذلك واجب في علم القلب، وشهادته، وذكره، ومعرفته،
ومحبته; وموالاته، وطاعته، وهذا من تحقيق "لا إله إلا الله".
لأن معنى "الإله" عند الأولين: ما تألهه القلوب بالمحبة التي كحب الله، والتعظيم، والإجلال، والخضوع; قال الله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} الآية [سورة البقرة آية: 165] ؛ فالمحبة التي لله، غير المحبة التي مع الله، قال الله تعالى، عن الكفار:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية: 97"98] .
فمعنى شهادة ألا إله إلا الله أن يقولها نافيا بقلبه ولسانه الإلهية عن كل ما سواه، ومثبتها لمستحقها، وهو الله المعبود بالحق؛ فيكون معرضا بقلبه عن جميع المخلوقات، لا يتألههم فيما لا يقدر عليه إلا الله، مقبلا على عبادة رب الأرض والسماوات؛ وذلك يتضمن إرادة القلب في عبادته ومعاملته، ومفارقته في ذلك كل ما سواه; فيكون مفرقا في علمه وقصده، وشهادته وإرادته، ومعرفته ومحبته، بين الخالق والمخلوق؛ بحيث يكون عالما بالله، ذاكرا له، عارفا به، وأنه تعالى مباين لخلقه، منفرد عنهم بعبادته وأفعاله، وصفاته; ويكون محبا له، مستعينا به لا بغيره، متوكلا عليه لا على غيره.
وهذا هو معنى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية:
5] ، وهي من خصائص الإلهية، كما أن رحمته لعبيده، وهدايته إياهم، وخلقه السماوات والأرض وما فيهما من الآيات، من خصائص الربوبية التي يشترك في معرفتها المؤمن والكافر، والبر والفاجر، حتى إبليس لعنه الله معترف بها في قوله:{رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [سورة الحجر آية: 39]، وقوله:{أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [سورة الأعراف آية: 14] مقر بأن كل شيء في يده سبحانه، وإنما كفر بعناده وتكبره عن الحق، وطعنه فيه؛ وكذلك المشركون الأولون، يعرفون ربوبيته، وهم بها له معترفون، كما ذكر الله ذلك عنهم في قوله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} الآية [سورة يونس آية: 31] ، وغيرها من الآيات، وكما يقولون في تلبيتهم: لا شريك لك، إلا شريك هو لك.
فمن ترك التوحيد، وارتكب ضده من الإقبال إلى غير الله، بالتوكل عليه، ورجائه فيما لا يمكن إلا من الله، والتجأ إلى ذلك الغير، مقبلا عليه بقلبه، طالبا شفاعته، متوكلا عليه، راغبا إليه فيها، تاركا ما هو المطلوب المتعين عليه، متعلقا على المخلوق لأجله، فإن هذا بعينه فعل المشركين واعتقادهم. ولا نشأت فتنة في الوجود، إلا بهذا الاعتقاد، فصار شقيا بالإرادة الكونية.
والإرادة الدينية أصل في إيجاد المخلوق، والإرادة الكونية أصل فيمن كتبت عليه الشقاوة، فلا ييسر إلا لها،
ولا يعمل إلا بها، قال تعالى:{وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [سورة هود آية: 118"119] . فهي الإرادة الكونية، وهي لا تعارض الإرادة الدينية، التى هي أصل إيجاد المخلوقات؛ فمن ذلك قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، فقد يعبدون، وقد لا يعبدون؟ وقوله:" اعملوا فكل ميسر لما خلق له " 1، وكما في حديث القبضتين؟ فبهذا يتبين الفرق، بين الإرادة الكونية، والإرادة الدينية.
وأما تعريف الشرك وأنواعه، فقد عرفه شيخنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، في: كتاب التوحيد، فذكر أنواعه وأقسامه، وجليه وخفيه، وأكبره وأصغره، خصوصا الشرك في العبادة، مما عساك لا تجده مجموعا في غيره من الكتب المطولات، فإن الإيمان النافع لا يوجد إلا بترك الشرك مطلقا.
وأما أنواعه، فمنها: الشرك في الربوبية، وهو نوعان: شرك التعطيل كشرك فرعون، وشرك الذي حاج إبراهيم في ربه، ومنه شرك طائفة ابن عربي، ومنه: شرك من عطل أسماء الرب سبحانه وأوصافه، من غلاة الجهمية، ومنه: شرك من جعل مع الله إلها آخر، ولم يعطل ربوبيته، كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة.
النوع الثاني: الشرك في أسمائه وصفاته: ومنه تشبيه
1 البخاري: تفسير القرآن (4949)، ومسلم: القدر (2647)، والترمذي: القدر (2136)، وابن ماجه: المقدمة (78) ، وأحمد (1/82 ،1/157) .
الخالق بالمخلوق، كمن يقول: يد كيدي; وهو شرك المشبهة.
والنوع الثالث: الشرك في توحيد الإلهية والعبادة، فكل ما ذكرنا من توحيد الإلهية، وأنواع العبادة، والقصد، التي لا يستحقها إلا الله، صرفها إلى غيره شرك.
النوع الثاني من شرك العبادة: الشرك الأصغر، كالرياء، والسمعة، والعمل لأجل الناس. وقد قال شيخنا محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله: إن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر، ومنه: الشرك في الألفاظ، كقول: ما شاء الله وشئت، ونحوه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الشرك نوعان: أكبر، وأصغر. فمن خلص منهما وجبت له الجنة، ومن مات على الأكبر وجبت له النار. ومن خلص من الأكبر، وحصل له بعض الأصغر، مع حسنات راجحة، دخل الجنة. ومن خلص من الأكبر، لكن كثر الأصغر حتى رجحت به سيئاته، دخل النار، وذلك على سبيل الإشارة والاختصار. والله أعلم.
وأجاب أيضا:
وقولك: هل تعريف العبادة تعريف العبودية؟ المراد: هل معناهما واحد؟. فالعبادة أخص من العبودية، واسم
العبودية عام. قال ابن القيم، رحمه الله، في المدارج: العبودية نوعان: عامة، وخاصة.
فالعبودية العامة: عبودية أهل السماء والأرض كلهم: مؤمنهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم، وهي: عبودية القهر والملك، قال تعالى:
{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [سورة مريم آية: 93] ، فهذا يدخل فيه مؤمنهم وكافرهم.
وأما النوع الثاني: فعبودية الطاعة، والمحبة، واتباع الأوامر، قال تعالى:{يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [سورة الفرقان آية: 63] .
وسئل أيضا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، عن قول من يقول: إن الأمر بعبادة الله وحده لا يفيد النهي عن الشرك، بل لا بدّ من النهي عن الشرك.
فأجاب: قول الجاهل، الكاذب على الله، الهاضم لكلام الله عما أريد منه، من قوله: إن الأمر بعبادة الله وحده لا يفيد النهي عن الشرك، بل لا بد من النهي عن الشرك، فهذا مخطئ ضال؛ والوعيد الشديد فيمن قال في القرآن برأيه ولو أصاب; فكيف بمن قال برأيه وأخطأ؟ وقد قال ابن عباس: (كل ما ورد في القرآن من الأمر بالعبادة،
فمعناها التوحيد) ، وعلى هذا جميع المفسرين، والعلماء.
فعلى قول هذا الجاهل: إن قوله سبحانه: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [سورة البقرة آية: 21]، وقوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [سورة الفاتحة آية: 5]، وقوله:{وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء آية: 92]، وقوله:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56]، وقوله:{فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت آية: 56] ، ونحو ذلك، لا يفيد النهي عن الشرك، فإذا كانت العبادة المأمور بها، هي التوحيد والتوحيد هو إفراد الله بالإلهية، ونفيها عمن سواه، وهو معنى لا إله إلا الله، التي حقيقتها إثبات العبادة لله وحده، ونفي الشركة عن الله سبحانه فيها، وهذا أمر واضح ما يحتاج إلى إيضاح، فقد تبين بطلان قوله بما ذكرناه.
وسئل عن معنى: لا إله إلا الله؟ وما تنفي، وما تثبت؟
فأجاب رحمه الله: أول واجب على الإنسان: معرفة معنى هذه الكلمة، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [سورة محمد آية: 19] ، وقال: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [سورة الزخرف آية: 86] ، أي بلا إله إلا الله، {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة الزخرف آية: 86] ، بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم فأفرض الفرائض: معرفة معنى هذه الكلمة، ثم التلفظ بها والعمل بمقتضاها؛ فالإله هو: المعبود، والتأله: التعبد، ومعناها: لا معبود إلا الله ; نفت الإلهية عمن سوى الله،
وأثبتتها لله وحده.
فإذا عرفت أن الإله هو: المعبود، والإلهية هي: العبادة، والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله تعالى ويرضاه، من الأقوال والأفعال; فالإله، هو: المعبود المطاع؛ فمن جعل شيئا من العبادة لغير الله، فهو مشرك، وذلك كالسجود، والدعاء، والذبح، والنذر; وكذلك التوكل، والخوف، والرجاء، وغير ذلك من أنواع العبادة الظاهرة والباطنة؛ وإفراد الله سبحانه بالعبادة، ونفيها عمن سواه، هو حقيقة التوحيد، وهو معنى لا إله إلا الله.
فمن قال: لا إله إلا الله، بصدق ويقين، أخرجت من قلبه كل ما سوى الله، محبة وتعظيما، وإجلالا، ومهابة، وخشية، وتوكلا. فلا يصير في قلبه محبة لما يكرهه الله، ولا كراهة لما يحبه؛ وهذا حقيقة الإخلاص، الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم:" من قال لا إله إلا الله، مخلصا من قلبه، دخل الجنة، أو حرم الله عليه النار "1.
"قيل للحسن البصري: إن ناسا، يقولون: من قال لا إله إلا الله، دخل الجنة، فقال، من قال: لا إله إلا الله، فأدى حقها، وفرضها" إلخ. وغالب من يقول لا إله إلا الله، إنما يقولها تقليدا، ولم يخالط الإيمان بشاشة قلبه، فلا يعرف الإخلاص فيها؛ ومن لا يعرف ذلك، يخشى عليه أن يصرف عنها عند الموت؛ وغالب من يفتن في القبور،
1 أحمد (5/236) .
أمثال هؤلاء، كما في الحديث:"سمعت الناس يقولون شيئا فقلته "1. نسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. والله أعلم.
وسئل: أيضًا، عن معنى لا إله إلا الله، وعمن قالها ولم يكفر بما يعبد من دون الله، وهل من قالها ودعا نبيا أو وليا تنفعه؟ أو هو: مباح الدم والمال، ولو قالها؟
فأجاب رحمه الله: معنى "لا إله إلا الله" عند جميع أهل اللغة، وعلماء التفسير، والفقهاء كلهم، يفسرون الإله بالمعبود; والتأله: التعبد، وأما العبادة، فعرفها بعضهم بأنها: ما أمر به شرعا من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي، والمأثور عن السلف تفسير العبادة بالطاعة، فيدخل في ذلك فعل المأمور وترك المحظور، من واجب ومندوب، وترك المنهي عنه من محرم ومكروه.
فمن جعل نوعا من أنواع العبادة لغير الله، كالدعاء، والسجود، والذبح، والنذر، وغير ذلك، فهو مشرك. ولا إله إلا الله متضمنة للكفر بما يعبدون من دونه، لأن معنى لا إله إلا الله: إثبات العبادة لله وحده، والبراءة من كل معبود سواه؛ وهذا معنى الكفر بما يعبد من دونه، لأن معنى الكفر بما يعبد من دونه: البراءة منه، واعتقاد بطلانه، وهذا معنى الكفر بالطاغوت في قوله تعالى: {فَمَنْ
1 البخاري: العلم (86)، ومسلم: الكسوف (905) ، وأحمد (6/345 ،6/354)، ومالك: النداء للصلاة (447) .
يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة البقرة آية: 256] .
والطاغوت: اسم لكل معبود سوى الله، كما في قوله تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:" من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله، ودمه، وحسابه على الله " 1، فقوله:"وكفر بما يعبد من دون الله" الظاهر: أن هذا زيادة إيضاح; لأن لا إله إلا الله، متضمنة الكفر بما يعبد من دون الله.
ومن قال: لا إله إلا الله، ومع ذلك يفعل الشرك الأكبر، كدعاء الموتى والغائبين، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، والتقرب إليهم بالنذور، والذبائح، فهذا مشرك، شاء أم أبى، و {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [سورة النساء آية: 48] ، و {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة آية: 72] ، ومع هذا فهو شرك، ومن فعله فهو كافر.
ولكن كما قال الشيخ: لا يقال فلان كافر، حتى يبين له ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن أصر بعد البيان، حكم بكفره، وحل دمه وماله; وقال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [سورة الأنفال آية: 39]، أي: شرك {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [سورة الأنفال آية: 39] . فإذا كان في بلد وثن يعبد من دون الله، قوتلوا لأجل هذا
1 مسلم: الإيمان (23) ، وأحمد (3/472 ،6/394) .
الوثن، أي لإزالته، وهدمه، وترك الشرك، حتى يكون الدين كله لله.
والدعاء دين، سماه الله دينا كما في قوله تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة العنكبوت آية: 65]، أي: الدعاء، وقال صلى الله عليه وسلم:"بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده لا شريك له" 1 فمتى كان شيء من العبادة مصروفا لغير الله، فالسيف مسلول عليه، والله أعلم.
وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين، عن إنكار النبي على من قال نستشفع بالله عليك.. إلخ.
فقال: وما سألت عنه، من إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على من قال: نستشفع بالله عليك، ولم ينكر قوله: نستشفع بك على الله، لأن معنى قوله: نستشفع بك على الله، أي: نطلب منك، أن تدعو الله أن يغيثنا، لأن الداعي شافع; ومعنى نستشفع بالله عليك: نطلب من الله أن يطلب منك أن تدعو لنا، وتستسقي لنا؛ فالله سبحانه يشفع إليه، ولا يستشفع هو إلى أحد.
وأما آخر الحديث الذي أشار إليه، بعد قوله:"لا يستشفع به على أحد، شأن الله أعظم من ذلك، إن الله على عرشه، إن عرشه على سماواته وأرضه، هكذا بأصابعه، مثل القبة" 2 وفي لفظ: "وإن عرشه فوق سماواته، وسماواته فوق
1 أحمد (2/50) .
2 أبو داود: السنة (4726) .
أرضه، هكذا وقال بأصابعه مثل القبة" وقوله في الحديث الآخر:"إنه لا يستغاث بي" الحديث.
فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بهذا الحماية لجانب التوحيد، وإن كانت الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه جائزة، كقوله تعالى:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [سورة القصص آية: 15] ؛ وإذا أقبل عليك عدو، واستغثت بأصحابك ليعينوك، فهذا استغاثة بهم، والاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه جائزة.
وسئل: أيضا، رحمه الله، عن سؤال الله بحق الكعبة، وطوافي عليك يا رب! وبحق محمد، ومدينته، عليك يا رب! وبحق القرآن، عليك يا رب! وبحق جبرائيل، والملائكة، والجنة، والنار، والشمس، والقمر، والأقطاب، والأبدال، والأوتاد، وغيرها؟
فأجاب: السؤال بهذه الأشياء التي ذكرتم، باطل لا أصل له؛ والمشروع إنما هو سؤاله سبحانه بأسمائه وصفاته، كما في الأحاديث المشهورة، والله أعلم.
[رسائل الشيخ عبد اللطيف أن الله خلق الخلق لعبادته]
قال الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
اعلم رحمك الله أن الله خلق الخلق لعبادته، الجامعة
لمعرفته، ومحبته، والخضوع له، وتعظيمه، والإنابة إليه، والتوكل عليه، وإسلام الوجه له; وهذا، هو الإيمان المطلق، المأمور به في جميع الكتب السماوية، وسائر الرسالات النبوية؛ ويدخل في باب معرفة الله تعالى توحيد الأسماء، والصفات فيوصف سبحانه بما وصف به نفسه من صفات الكمال ونعوت الجلال، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يتجاوز ذلك، ولا يوصف إلا بما ثبت في الكتاب والسنة.
وجميع ما في الكتاب والسنة يجب الإيمان به، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، قال الله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [سورة الأعراف آية: 180] ، فأسماؤه كلها حسنى، لأنها تدل على الكمال المطلق، والجلال المطلق، والصفات الجميلة؛ فنثبت ما أثبته الرب لنفسه، وما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم، لا نعطله، ولا نلحد فيه، ولا نشبه صفات الخالق بصفات المخلوق، فإن تعطيل الصفات، عما دلت عليه كفر، والتشبيه فيها كذلك كفر.
وقد قال مالك بن أنس، رحمه الله، لما سأله رجل، فقال:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، كيف استوى؟ فاشتد ذلك على مالك رحمه الله.، حتى علته الرحضاء، إجلالا لله وهيبة له من الخوض في ذلك، ثم قال رحمه الله: الاستواء معلوم، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. يريد رحمه الله
تعالى السؤال عن الكيفية.
وهذا الجواب: يقال في جميع الصفات، لأنه يجمع الإثبات والتنزيه ويدخل في الإيمان بالله ومعرفته، الإيمان به وبربوبيته العامة الشاملة لجميع الخلق والتكوين، وقيوميته العامة الشاملة لجميع التدبير والتيسير والتمكين؛ فالمخلوقات بأسرها، مفتقرة إلى الله، في قيامها، وبقائها، وحركاتها، وسكناتها، وأرزاقها، وأفعالها، كما هي مفتقرة إليه في خلقها، وإنشائها، وإبداعها، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [سورة فاطر آية: 15"17] .
ويدخل في الإيمان به إيمان العبد بتوحيد الإلهية الذي تضمنته شهادة الإخلاص: لا إله إلا الله. فقد تضمنت نفي استحقاق العبادة بجميع أنواعها عما سواه تعالى، من كل مخلوق. ومربوب؟ وأثبت ذلك على وجه الكمال الواجب والمستحب لله تعالى، فلا شريك له في فرد من أفراد العبادة، إذ هو الإله الحق المستحق، المستقل بالربوبية، والملك، والعز، والغنى، والبقاء.
وما سواه فقير مربوب، معبد خاضع، لا يملك لنفسه نفعا، ولا ضرا; فعبادة سواه من أظلم الظلم، وأسفه السفه; والقرآن كله راد على من أشرك بالله، في هذا التوحيد، مبطل لمذهب جميع أهل الشرك والتنديد، آمر
ومرغب في إسلام الوجه لله، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والتبتل في عبادته؛ ومعنى العبادة في أصل اللغة لمطلق الذل والخضوع، ومنه: طريق معبد إذا كان مذللا، قد وطأته الأقدام، كما قال الشاعر:
تبارى عتاقا ناجيات واتبعت
…
وظيفا وظيفا فوق مور معبد
واستعملها الشارع في العبادة الجامعة لكمال المحبة، وكمال الذل والخضوع. وأوجب الإخلاص له فيها، كما قال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [سورة الزمر آية: 2"3] . وهذا هو التوحيد الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب. والعبادة إذا خالطها الشرك، أفسدها، وأبطلها; ولا تسمى عبادة، إلا مع التوحيد؟ قال ابن عباس:"ما جاء في القرآن من الأمر بعبادة الله إنما يراد به التوحيد". انتهى.
ويدخل في العبادة الشرعية كل: ما شرعه الله ورضيه، من الأقوال والأعمال، الباطنة والظاهرة، كمحبة الله، وتعظيمه، وإجلاله، وطاعته، والتوكل عليه، والإنابة إليه، ودعائه خوفا وطمعا، وسؤاله رغبا ورهبا، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهود، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجار واليتيم والمملوك والمسكين وابن السبيل، وكذا النحر والنذر، فإنهما من أجل العبادات وأفضل الطاعات، وكذا الطواف ببيته تعالى، وحلق الرأس تعظيما وعبودية، وكذا سائر الواجبات
والمستحبات.
فحق الله على العباد: أن يعبدوه وحده لا شريك له، ولا يشركوا به شيئا والشرك في العبادة ينافي هذا التوحيد ويبطله، كما قال تعالى، لما ذكر حال خواص أوليائه ومقربي رسله:{ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 88] . والشرك قد عرفه النبي صلى الله عليه وسلم بتعريف جامع، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:" يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك " 1، والند: المثل والشبيه.
فمن صرف شيئا من العبادات لغير الله، فقد أشرك به، شركا يبطل التوحيد وينافيه، لأنه شبه المخلوق بالخالق، وجعله في مرتبته، ولهذا كان أكبر الكبائر على الإطلاق، ولما فيه من سوء الظن به تعالى، كما قال الخليل عليه السلام:{أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الصافات آية: 86"87] .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: أي: فما ظنكم أن يجازيكم إذا لقيتموه، وقد عبدتم غيره؟ وما ظننتم بأسمائه وصفاته، وربوبيته من النقص، حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره؟ فلو ظننتم به ما هو أهله، من أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وأنه قائم بالقسط على خلقه، وأنه المتفرد
1 البخاري: الأدب (6001)، ومسلم: الإيمان (86)، والترمذي: تفسير القرآن (3182 ،3183)، والنسائي: تحريم الدم (4013 ،4014 ،4015)، وأبو داود: الطلاق (2310) ، وأحمد (1/431 ،1/434 ،1/462 ،1/464) .
بتدبير خلقه، لا يشركه فيه غيره، والعالم بتفاصيل الأمور، فلا تخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده، لا يحتاج إلى معين، والرحمن بذاته، فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه.
وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء، فإنهم محتاجون من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم، والذي يعينهم على قضاء حوائجهم إلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة، لحاجتهم، وعجزهم، وضعفهم وقصور علمهم.
فأما القادر على كل شيء، الغني بذاته عن كل شيء، العالم بكل شيء، الرحمن الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء، فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه تنقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظن به طن السوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر، وقبحه مستقر في العقول السليمة فوق كل قبيح. انتهى.
إذا عرفت هذا، فصلاح العبد وفلاحه، وسعادته ونجاته، وسروره ونعيمه، في إفراد الله بهذه العبادات، والإنابة إليه بما شرعه لعباده منها:" وهو أصلها" كمال المحبة، وكمال الذل والخضوع، كما تقدم. هذا سر العبادة وروحها، ولا بد في عبادة الله من كمال الحب، وكمال الخضوع، فأحب خلق الله إليه، وأقربهم منزلة عنده، من قام بهذه المحبة والعبودية، وأثنى عليه" سبحانه" بذكر أوصافه
العلى، فمن أجل ذلك كان الشرك أبغض الأشياء إليه، لأنه ينقص هذه المحبة، والخضوع، والإنابة، والتعظيم، ويجعل ذلك بينه وبين من أشرك به.
والله لا يغفر أن يشرك به، لأنه يتضمن التسوية بينه تعالى وبين غيره في المحبة والتعظيم، وغير ذلك من أنواع العبادة، قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] ، أخبر سبحانه أن من أحب شيئا دون الله كما يحب الله فقد اتخذه ندا، وهذا معنى قول المشركين لمعبوديهم:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الشعراء آية: 97"98] ، فهذه تسوية في المحبة والتأله، لا في الذات والأفعال والصفات؛ فمن صرف ذلك لغير إلهه الحق، فقد أعرض عنه، وأبق عن مالكه وسيده، فاستحق مقته وبغضه، وطرده عن دار كرامته ومنزل أحبابه.
والمحبة: ثلاثة أنواع: محبة طبيعية، كمحبة الجائع للطعام، والظمآن للماء، وغير ذلك، وهذا لا يستلزم التعظيم.
والنوع الثاني: محبة رحمة وإشفاق، كمحبة الوالد لولده الطفل، ونحوها، وهذه أيضا لا تستلزم التعظيم.
والنوع الثالث: محبة أنس وألفة، وهي محبة المشتركين في صناعة، أو علم، أو مرافقة، أو تجارة، أو سفر، بعضهم لبعض، وكمحبة الإخوة بعضهم بعضا. فهذه المحبة التي تصلح للخلق بعضهم من بعض، ووجودها فيهم لا يكون
شركا في محبة الله سبحانه، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل، وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، وكان أحب اللحم إليه الذراع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب نساءه، وكانت عائشة أحبهن إليه، وكان يحب أصحابه، وأحبهم إليه الصديق.
وأما المحبة الخاصة، التي لا تصلح إلا لله وحده، ومتى أحب العبد بها غيره كان شركا لا يغفره الله، فهي محبة العبودية، المستلزمة للذل والخضوع، والتعظيم وكمال الطاعة، وإيثاره على غيره. فهذه المحبة لا يجوز تعليقها بغير الله أصلا، وهي التي سوى المشركون بين آلهتهم وبين الله فيها، وهي أول دعوة الرسل، وآخر كلام العبد المؤمن، الذي إذا مات عليه دخل الجنة، باعترافه وإقراره بهذه المحبة، وإفراد الرب بها.
فهي أول ما يدخل به في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا إلى الله. وجميع الأعمال كالأدوات والآلات لها; وجميع المقامات وسائل إليها، وأسباب لتحصيلها وتكميلها وتحصينها من الشوائب والعلل، فهي: قطب رحى السعادة، وروح الإيمان، وساق شجرة الإسلام؛ ولأجلها أنزل الله الكتاب، والحديد، فالكتاب هاد إليها ودال عليها، ومفصل لها; والحديد لمن خرج عنها، وأشرك مع الله غيره فيها، ولأجلها خلقت الجنة والنار، فالجنة دار، أهلها الذين أخلصوها لله وحده، وأخلصهم لها. والنار دار من أشرك فيها
مع الله غيره، وسوى بينه وبين الله فيها. فالقيام بها واجب، علما وعملا وحالا، وتصحيحها هو تصحيح شهادة أن لا إله إلا الله.
فحقيق لمن نصح نفسه، وأحب سعادتها ونجاتها، أن يتيقظ لهذة المسألة، وتكون أهم الأشياء عنده، وأجل علومه وأعماله، فإن الشأن كله فيها، والمدار عليها، والسؤال عنها يوم القيامة، كما قال تعالى:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الحجر آية: 92"93]، قال غير واحد من السلف: عن قول لا إله إلا الله; وهذا حق، فإن السؤال كله عنها، وعن أحكامها وحقوقها، قال أبو العالية:"كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ ماذا أجبتم المرسلين؟ ". فالسؤال عما كانوا يعبدون السؤال عنها نفسها، والسؤال عن ماذا أجابوا المرسلين سؤال عن الوسيلة والطريقة المؤدية، هل سلكوها، وأجابوا الرسل لما دعوهم إليها فعاد الأمر كله إليها.
وأمر هذا شأنه، حقيق أن تثنى عليه الخناصر، ويعض عليه بالنواجذ، ويقبض فيه على الجمر، ولا يؤخذ بأطراف الأنامل، ولا يطلب على فضلة، بل يجعل هو المطلوب الأعظم، وما سواه إنما يطلب على فضلة، والله المسؤول أن يمن علينا بتحقيق ذلك، علما وعملا وحالا. ونعوذ بالله أن يكون حظنا من ذلك مجرد حكايته ; وصلى الله على محمد.
وسئل أيضًا الشيخ: ٍعبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمهما الله تعالى، عن تفصيل ما يجب على الإنسان من التوحيد وأنواعه، وما يجب فيه، من المعاداة والموالاة؟
فأجاب: معرفة التفاصيل تتوقف على معرفة الأحكام الشرعية، من أدلتها التفصيلية. فالدين كله توحيد، لأن التوحيد إفراد الله بالعبادة، وأن تعبده مخلصا له الدين; والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة فيدخل في ذلك قول القلب وعمله، وقول اللسان، وعمل الجوارح؛ وترك المحظورات والمنهيات داخل في مسمى العبادة، ولذلك فسر قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة آية: 21] ، بالتوحيد في العبادة، لأن الخصومة فيه، وهو تفسير ابن عباس.
إذا عرفت هذا، عرفت أن على العبد أن يخلص أقواله وأعماله لله؛ وأن من صرف شيئا من ذلك لغيره فقد أشرك في عبادة ربه، ونقص توحيده وإيمانه، وربما زال بالكلية إذا اقتضى شركه التسوية بربه، والعدل به، وتضمن مسبة الله; فإن الشرك الأكبر يتضمنهما، ولهذا ينزه الرب تعالى، ويقدس نفسه عن ذلك الشرك في مواضع من كتابه، كقوله تعالى:{سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة القصص آية: 68] ، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
[سورة الصافات آية: 180"182]، {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف آية: 108] .
ومحل تفاصيلها الكتب المصنفة في بيان الأحكام الشرعية، وواجباتها ومستحباتها; سواء كانت في معرفة القلوب وعلمها، أو عملها وسيرها، فالأول: العقائد، وهي: التوحيد العلمي. وقد صنف أهل السنة فيها مصنفات، من أحسنها: كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وأما الثاني، وهو: علم أعمال القلوب وسيرها، المسمى: علم السلوك، فقد بسط القول فيه ابن القيم رحمه الله تعالى، في شرح المنازل، وفي: سفر الهجرتين. وأما أعمال الجوارح الظاهرة، فالمصنفات فيها أكثر من أن تحصر; وبالجملة: فمعرفة جميع تفاصيل العبادة تتعذر، إذ ما من عالم إلا وفوقه من هو أعلم منه، حتى ينتهي العلم إلى الله تعالى.
وأما الموالاة والمعاداة، فهي من أوجب الواجبات، وفي الحديث:" أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله " وأصل الموالاة: الحب، وأصل المعاداة: البغض؛ وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة، كالنصرة، والأنس، والمعاونة، وكالجهاد، والهجرة، ونحو ذلك من الأعمال؛ والولي ضد العدو.
[جواب الشيخ عبد اللطيف عن معنى لا إله إلا الله]
وسئل أيضا الشيخ عبد اللطيف، عن معنى لا إله إلا الله، فأجاب:
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى; وبعد: فقد خاض بعض الجاهلين في معنى كلمة الإخلاص وإعرابها، وأتى بخلط وجهل لا يسع السكوت عليه؛ فنقول: اعلم أن لا إله إلا الله هي كلمة التقوى، والعروة الوثقى، وأصل دين الإسلام، ومفتاح دار السلام; قد دلت بمنطوقها وموضوعها على نفي استحقاق الإلهية عن غيره تعالى، والبراءة من كل معبود سواه، قولا وفعلا، وإثبات استحقاق الإلهية على وجه الكمال لله تعالى.
فالأول: وهو النفي، يستفاد من: لا واسمها وخبرها المقدر؛ والإثبات: يستفاد من الاستثناء، لأن الإثبات بعد النفي المتقدم أبلغ من الإثبات بدونه؛ وهذه طريقة القرآن، يقرن بين النفي والإثبات غالبا، كما في هذا الموضع، لأن المقصود لا يحصل إلا بهما، قال تعالى:{فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [سورة البقرة آية: 256]، وقال:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل آية: 36] . وقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء آية: 23]، وقال:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [سورة هود آية: 1"2]، وقال عن نبيه يوسف:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [سورة يوسف آية: 40]، وهذا هو معنى: لا إله إلا الله.
قال ابن القيم رحمه الله: وطريقة القرآن في مثل هذا، أن يقرن النفي بالإثبات، فينفي عبادة ما سوى الله، ويثبت عبادته: وهذا هو حقيقة التوحيد، والنفي المحض ليس بتوحيد، وكذلك الإثبات بدون النفي؛ فلا يكون التوحيد، إلا متضمنا للنفي والإثبات، وهذا حقيقة لا إله إلا الله. انتهى.
ولذلك أفادت هذه الكلمة، الحصر والاختصاص؛ وقرر بعض المحققين لهذه الكلمة الطيبة، وما شابهها من الآيات التي ابتدأت بنفي الإلهية والعبادة عن غير الله، أن ذلك أبلغ وآكد في الإثبات والاختصاص; ومنه: لا رجل إلا زيد، أو: لا كريم إلا زيد، فإنه مع إفادته نفي الصفة عن غير المستثنى، أفاد إثباتها له على وجه الكمال الذي لا يتأتى بمجرد الإثبات، من غير نفي، فلا تقيده: زيد رجل; أو زيد كريم; ولأن بين النفي والإثبات هنا تلازم من كل وجه، فلا براءة من الشرك وعبادة غير الله إلا بتوحيده، ولا توحيد إلا بالبراءة من كل معبود سوى الله؛ وكما تضمنت العلم، فهي تتضمن العمل؛ ولا يتصور وجود شهادة، وإذعان وإتيان بمدلولها إلا مع العلم والعمل، وهذا الذي قررناه تدل عليه عبارات أهل العلم، من اللغويين والمفسرين وغيرهم.
والإله وضع لكل معبود، حقا كان أو باطلا، لأنه مشتق من الإلهة، بمعنى: العبادة، قال في القاموس: أله، يأله، إلهة، وألوهية: عبد، يعبد، عبادة; وكل من عبد شيئا، فقد اتخذه إلها. انتهى، وقال غيره: إله، اسم
جنس، يقع على كل معبود; والإله، بمعنى المألوه، كالكتاب بمعنى المكتوب. قال شيخ الإسلام: الإله هو الذي تألهه القلوب، محبة، وذلا وإنابة، وتعظيما، وتوكلا، وخوفا، ورجاء. وكذا قال ابن القيم، وابن رجب، وغيرهما من أهل العلم. وبعد التعريف، والتفخيم، صار علما على ربنا جل وعلا، قال سيبويه: هو أعرف المعارف; قال تعالى متمدحا بذلك: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [سورة مريم آية: 65] ، والدليل على أنه بمعنى العبادة، قول رؤبة:
لله در الغانيات المُدَّهِ
…
سبحن واسترجعن من تأله
يعني تعبد، وقرأ ابن عباس:{وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [سورة الأعراف آية: 127]، أي: عبادتك، وزنا ومعنى) ; وأما التعبيد، فهو في الأصل: التذليل، كما قال الشاعر:
تباري عتاقا ناجيات وأتبعت
…
وظيفا وظيفا فوق مور معبد
والمور المعبد هو: الطريق المذلل. وفي الاصطلاح: هي أخص، لأنه لا بد فيها من وجود الركن الأعظم، وهو الحب، قال في الكافية:"
وعبادة الرحمن غاية حبه
…
مع ذل عابده هما قطبان
والقطب: الأس الذي عليه المدار. وبهذا يتبين أن المقصود: نفي استحقاق العبادة عن غيره تعالى، لا نفي وجود التأله والتعبد لسواه; فإن نفي وجوده مكابرة للحس والنص، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ
عِزّاً} [سورة مريم آية: 81]، وقال:{أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [سورة الصافات آية: 86]، وقال عن صاحب يس:{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [سورة يس آية: 23] ، فسمى معبوداتهم على اختلاف أجناسها آلهة؛ وعبادة غير الله وجدت وانتشرت، واشتهرت في الأرض، من عهد قوم نوح، وقد تقدم أن من عبد شيئا، فقد اتخذه إلها؛ ويدل عليه، قوله تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1] .
وقد غلط هنا بعض الأغبياء، وقدر الخبر:"موجود"، وبعضهم قدره:"ممكن"، ومعناه: أنه لا يوجد، ولا يمكن وجود إله آخر، وهذا جهل بمعنى الإله; ولو أريد بهذا الاسم الإله الحق وحده، لما صح النفي من أول وهلة؛ والصواب: أن يقدر الخبر: "حق"، لأن النزاع بين الرسل وقومهم في كون آلهتهم حقا أو باطلا، قال تعالى:{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة سبأ آية: 24] ، وأما إلهية الله فلا نزاع فيها، ولم ينفها أحد ممن يعترف بالربوبية.
لكن زعموا أن إلهية أندادهم وأصنامهم، حق أيضا، ولذلك قالت لهم رسلهم:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [سورة الأعراف آية: 59] ؛ وبادر منهم من جحد ذلك بقوله: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [سورة ص آية: 5] ، لما دعي إلى هذه الكلمة، فأنكروا إبطال عبادتها المستلزم لإبطال تسميتها، وهذا مستفيض عندهم، قد ارتاضت به
ألسنتهم، لا يحتاجون فيه إلى موقف ومعلم، بل عرفوه بمجرد الوضع، قال أبو جهل لأبي طالب لما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى كلمة الإخلاص: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فعرف بعربيته أنها تبطل عبادة وإلهية من عبده عبد المطلب وقومه، وهذا قصر إفراد، لا قصر قلب، لأن المقصود إفراده بالإلهية واستحقاقها.
فيكون النفي على هذا منصبا على الخبر، وهو:"حق" المقدر. وتقديره: موجود، أو ممكن، لا يفيد ما تقدم، إلا إذا وصف الاسم بحق; وقيل: لا إله حق موجود، فحينئذ يستقيم الكلام، ويرجع إلى ما قلنا.
و"لا" هذه هي: النافية للجنس، واسمها يبنى معها على الفتح، على المشهور، والخبر ما مر تقريره، و"إلا" أداة استثناء، وما بعدها هو المستثنى، وهو مرفوع، والعامل فيه، هو العامل في الخبر لأنه بدل منه عند البصريين، وعند الكوفيين هو عطف نسق، قال ثعلب: كيف يكون بدلا، وهو موجب، ومتبوعه منفي يريد أن التابع والمتبوع لا بد أن يتوافقا نفيا وإثباتا، وأجيب عنه بأنه بدل منه في عمل العامل؛ وتخالفهما في النفي والإيجاب لا يمنع البدلية، وأجاب خالد الأزهري بأن محل اشتراط ذلك في غير بدل البعض.
قلت: وبما قالوه، يعلم أن المستثنى مغاير للمستثنى منه معنى ولفظاً، فمن أجهل خلق الله وأضلهم من
فهم دخول المثبت في المنفي، والمستثنى في المستثنى منه; فكيف يتوهم من يعقل ما يقول دخول الإله الحق في اسم:"لا" المنفي؟! وهل بعد هذا التوهم من الضلال، أمد ينتهي إليه؟ وقد ترد "إلا" بمعنى: غير، كما في قوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [سورة الأنبياء آية: 22] ، وذلك إذا كان الموصوف جمعا أو شبهه، ويؤيده حديث الاستفتاح:"سبحانك اللهم وبحمدك.... ولا إله غيرك" وعاقبت "غير""إلا" في هذا المحل، وهي تفيد مغايرة ما قبلها لما بعدها بالذات، كما إذا قلت: جاءني رجل غير زيد، وفي الصفات، كقولك: خرجت بوجه غير الذي دخلت.
إذا عرفت ذلك، فاعلم أنه رفع إلي رسالة لرجل فارسي تكلم فيها على معنى: لا إله إلا الله، وأتى بخلط وضلال، يخالف ما عليه أهل العلم في هذا المقام، من ذلك: أنه افتتح رسالته بقوله: الحمد لله المتوحد بجميع الجهات، وهذه العبارة دائرة بين أمرين: إما سوء المعتقد، والقول بأنه تعالى في كل مكان، كما هو قول أهل الحلول، وإما الجهل بالعربية ومعاني الحروف، ولا يقال إن "الباء" بمعنى "من" لأنها لا تنوب إلا عن "من" التبعيضية، ويشترط في نيابتها أن تشرب معنى لا يستفاد من "من"، وقد اجتمع الأمران في قوله تعالى:{عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [سورة الإنسان آية: 6]، وقول الشاعر:
شربن بماء البحر ثم ترفعت
…
متى لجج خضر لهن نئيج
ثم قال في رسالته: وبالله التمسك والاعتصام; والتمسك إنما يكون بدينه، وكتابه، وأمره، ولا يقال: تمسكت بالله، لأن التمسك بمعنى: الالتزام والأخذ والثبات; ولا تليق هذه المعاني هاهنا، وقال في رسالته: إن الإله وضع في اللغة للمعبود فقط، لا بقيد الحقيقة أو البطلان; وهذه العبارة كذب على اللغة، فإن كتب اللغة بأجمعها، دلت وقررت أن الإله موضوع لكل معبود، وأدلة ذلك تعرف في مواضعها، فلا نطيل بذكرها.
وأيضا هذه العبارة فاسدة، من جهة المعنى، فإنه لا يتصور، ولا يوجد إله غير مقيد، ولا موصوف بحق أو باطل، هذا كلام لا يعقل، فكيف ينسب إلى اللغة، أو ينقل، فإن القسمة في مسمى الإله ثنائية، إما حق أو باطل؟ وتجويز الثالث مستحيل عقلا وشرعا، ولا يقول هذه العبارة إلا مخبول في عقله، جاهل في حكايته ونقله.
وقال في رسالته: إن الإله في "لا إله إلا الله" واقع على الإله الحق، وسميت آلهة، باعتبار زعم من عبدها، وهذا منه جهل عريض، وظلمات مركبة، كيف يقع في ذهن من له أدنى تعقل وتفهم تجويز ذلك، وأن الله ورسوله يسميها آلهة، باعتبار زعمهم، ويجاريهم في هذا الزعم والتسمية، ثم يكفرهم بهذا، ويبيح دماءهم وأموالهم،
ونساءهم، لعباده المؤمنين؟ ويرتب على تركه والبراءة منه، ما رتبه من الإسلام والإيمان، والأحكام الدنيوية والأخروية.
ولو جارى قريشا، وسماها أسماء تختص بالحق، لما حصل التوحيد والإيمان، من مدلول هذه الكلمة، ولما قالوا له:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [سورة ص آية: 5] ؛ لأن المثبت عين المنفي، على زعم هذا، وهو الإله الحق; وهذا تغيير لدين الإسلام، وإلحاد في معنى كلمة الإخلاص، وتأييد لما زعمه عباد الأصنام، من أنها حق لا باطل {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 40 والروم آية 30] .
ولذلك راج بهرجه على جهلة المدعين للطلب، أتباع كل ناعق، الذين لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق في المعتقد، فأي ريح هبت مالت بهم، وأي غرض عرض عصفهم؛ فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى، ومن الغي بعد الرشاد.
ويرده قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [سورة الأنعام آية: 33] . وقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} الآية [سورة النمل آية: 14] ؛ فإن فيها أنهم يعرفون بطلانها، ولا يعتقدون في الباطن أنها حق، وهذا يبطل قوله: سميت آلهة باعتبار اعتقاد من عبدها، ويبطل قوله: وأن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع اعتقاد العابد أنها حق.
وقال في رسالته: إن إله وضع للمفهوم الكلي، يريد به تقرير ما مر من الباطل، والكلي هو الذي لا يتقيد بذات، ولا بصفة. وهذه قضية كاذبة خاطئة، لم يوضع إلا للجنس الشايع في أفراده، والمعاني الكلية لا توجد إلا ذهنية، لا خارجية؛ ولذلك ضل من ضل من المتكلمين في إثبات وجود الرب، ووجود ذاته، وقال بنفي الصفات؛ بناء على أن الكلي لا يتقيد، ولا يتخصص بصفة من الصفات؛ وهذا من أكبر قواعدهم، وإفكهم الذي جر إليهم الكفر الجلي، وجحد ما في الكتاب والسنة من الصفات.
وكلام السلف: في تكفيرهم وتضليلهم موجود مشهور، لا نطيل بذكره، فمن أقل ما قيل فيهم، قول محمد بن إدريس الشافعي: حكمي في أهل الكلام: أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على علم الكلام.
وأصل ضلال: جهم، أنه لقي قوما من السمنية، فجادلهم بالكلام والمنطق، فقالوا له: ألست تزعم أن لك إلها؟ قال: نعم. قالوا: فهل رأيته؟ هل سمعته؟ أو لمسته؟ أو ذقته؟ قال: لا; فتحير الخبيث أريعين يوما، لا يدري من يعبد. ثم استدرك حجة من جنس حجج النصارى، وقال لهم: أنتم تقولون بوجود الروح، هل رأيتموها؟ أو سمعتموها؟ أو لمستموها؟ أو ذقتموها؟ قالوا:
لا، قال: فكذلك، هو، روح غائب عن الأبصار.
وهذا الكلام الذي أورده السمنية على جهم، باطل مموه؛ وهؤلاء يقال لهم: السفسطائية، وأصل هذه الكلمة ومعناها: الحكمة المموهة. وحق الكلام أن يقال: ما لا يحس، ولا يمكن الإحساس به، لا يكون موجودا، فموهوا بأن ما لا يحسه هو، ويدركه بحواسه، لا يكون موجودا. فارتبك الغبي، ولم يفرق بين ما لا يمكن إحساسه، وما لا يدركه هو بحاسته، فأجاب بجوابه الفاسد المتقدم.
ولو هدي للعقل والنقل، لفرق بين العبارتين، وقال لهم: الله تعالى يمكن الإحساس به، فيرى يوم القيامة، ويسمع كلامه، وقد أدرك موسى كلامه بحاسة سمعه، وسمعته ملائكته وما شاء من خلقه؛ والإنسان يقر ضرورة بوجود أشياء لا يحس بها هو، مما يعرف بضرورة العقل، كوجود بعض الأماكن والأمم، بل وأصله الذي تكون منه، وهو مادته، لا يحس به هو، ولا ينكره عاقل، لكنه يمكن أن يحس به غيره.
فإحساس الإنسان نوع; وإمكان الإحساس نوع آخر؛ وبسبب عدم التفرقة، ضل جهم وشيعته; وجره الكلام المموه إلى الكفر البواح، والانسلاخ من الدين; فكيف يقول عاقل بقول لم يسبق إليه؟ ولا يصح له معنى، عند أهل العلم والإيمان؟ ويعتمد عبارة منطقية في مثل هذا
الشأن، هذا لو سلم أن المناطقة أوردوها هنا. والصواب أنها مختلقة، لا محكية. مع أن عبارة صاحب هذه الرسالة فاسدة من جهة أخرى، وهو أنه زعم في أول رسالته أن المراد باسم الإله هو: الإله الحق، وأن آلهة المشركين سميت بذلك باعتبار اعتقادهم فيها، وقد تقدم هذا عنه، ولكن سيق هنا لبيان تناقضه؛ فإن التقييد ينافي المعنى الكلي. فكلامه تخريف، وظلمات بعضها فوق بعض {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور آية: 40] .
وفي آخر كلامه اضطرب: وقال: وضع للمفهوم الكلي، وإن لم يوجد منه إلا فرد، كالشمس; وهذا مع مخالفته ما تقدم، فهو غلط قبيح، من وجوه: منها: أنه يلزم عليه أن المنفي عين المثبت، وأنه مساو لاسم الله في معناه، ومدلوله. وهذا ضلال مبين، ولا يستقيم معه نفي إلهية ما سوى الله، ولا تدل الكلمة الطيبة على التوحيد على زعم هذا، لأن المنفي هو المثبت، فأي نفي وأي توحيد يبقى مع اتحادهما معنى.
وقد تقدم إبطال هذا، ورده، وأن الله سمى معبودات المشركين آلهة، وأبطل عبادتها، وإلهيتها. وقد تقدم قوله تعالى:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً} [سورة مريم آية: 81]، وقوله عن صاحب يس:{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [سورة يس آية: 23] ، فسماها آلهة مع الحكم بأنها لا تغني
عنهم شيئا، ولا ينقذونهم، وقال منكرا على من عبد سواه:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} [سورة يس آية: 74] . وحكى عن خليله: إبراهيم، أنه قال لقومه:{أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [سورة الصافات آية: 86] ، جعلها إفكا، مع تسميتها آلهة، فأي شبهة تبقى مع هذا؟ وكيف يقول من يسمع هذه الآيات ويفهمهما: أن الله سماها آلهة باعتبار اعتقاد المشركين، وأن "إله" وضع للإله الحق، ولا يقال لغيره إله، فنعوذ بالله من الجهل والعمى.
وقول المناطقة: إن الشمس وضعت لكل كوكب نهاري، مردود، لأن الله هو الذي وضع الأسماء، وعلمها آدم، وحين التعليم والوضع، لم يكن في الخارج إلا هذا الكوكب المعروف، فدعوى: دخول غيره، لو فرض وجوده، باطل.
وقال في رسالته: إن الاستثناء وقع من الإخراج المنوي، يريد به الجواب عن الاعتراض، الذي مر، وهو: أن كلمة التوحيد، على تقريره، لا تفيد النفي والإبطال لآلهة المشركين، ولكل ما عبد من دون الله، وأن المثبت عين هذا المنفي، والمستثنى نفس المستثنى منه.
وحاصل جوابه: أن الإخراج والإبطال وقع بالنية، فاستثني من المنوي، وهذا تصريح منه بأن لا إله إلا الله ما نفت، ولا أخرجت، ولا أبطلت شيئا، إلا بالنية; وأنها لم تدل على التوحيد باللفظ، وهذا الجهل العريض
الأكبر لم يسبقه إليه سابق، ولم يقل به من يعرف معنى الكلام؛ حتى المشركون يعرفون ويفهمون من هذه الكلمة إبطال آلهتهم، ونفي استحقاقها للعبادة، ولذلك قالوا:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [سورة ص آية: 5] ، فعرفوا النفي، أنه من اللفظ، وعرفوا المعنى المقصود من الإله، وعرفوا المراد من الاستثناء، وكل هذا عرفوه بمجرد اللغة، وكونهم عربا؛ فجاء هذا الفارسي الذي لا يعرف لغتهم، ولا يحسن شيئا منها، فخبط خبط عشواء، وهرول ولكنه في ظلماء؛ شعرا:
ما كل داع بأهل أن يصاخ له
…
كم قد أصم بنعي بعض من ناحا
وهذا القول: لم يسبقه إليه عاقل، يفهم ما يقول. والنحاة مجمعون على أن الاستثناء من المذكور، لفظه وحكمه، إلا أن السهيلي قال: لم يدخل المستثنى في المستثنى منه، بل الاستثناء أثبت حكما مستقلا مغايرا لما قبله، وقال بعضهم: الاستثناء أخرج من الحكم المذكور، لا من اللفظ. ومذهب الجمهور: أن الاستثناء من اللفظ والحكم معا، الاسم من الاسم، والحكم من الحكم، ومن الممتنع: إخراج الاسم المستثنى منه، مع دخوله تحته في الحكم، فإنه لا يعقل الإخراج حينئذ البتة، فإنه لو شاركه في حكمه، لدخل معه في الحكم والاسم جميعا، فكان استثناؤه غير معقول.
ورد أهل هذا القول: زعم من زعم أن المستثنى مسكوت عن حكمه قبل الاستثناء، نفيا وإثباتا، وأبطلوا ذلك
من وجوه؛ منها: أنك إذا قلت: ما قام إلا زيد، وما ضربت إلا عمرا، ونحو ذلك من الاستثناءات المفرغة، لم يشك السامع أن الأحكام المذكورة أثبتت لما بعد "إلا" كما سلبت عن غيره؛ ولو قيل إنه مسكوت عنه، لما أفهم إثبات هذه الأفعال لما بعد "إلا".
ومنها: أنه لو كان مسكوتا عنه لم يدخل الرجل في الإسلام بقول: لا إله إلا الله، لأنه على هذا التقدير الباطل، لم يثبت الإلهية لله. فهذه أعظم كلمة تضمنت بالوضع نفي الإلهية عما سوى الله، وإثباتها لله بوصف الاختصاص؛ فدلالتها على إثبات الإلهية أعظم من دلالة قولنا: الله إله، ولا يستريب أحد في هذا البتة انتهى ملخصا.
وهو يبطل كلام الفارسي، ويبين جهله من وجوه:
فالأول: إجماعهم على أن الاستثناء باللفظ، والإخراج باللفظ، خلافا له.
والثاني: أنهم متفقون على مغايرة إلا لما قبلها في الحكم واللفظ.
ومنها: اتفاقهم على سلب الحكم عما قبل "إلا" وإثباته لما بعدها، فتأمل؛ ثم أتى بطامة أخرى، كأخواتها، فقال: إنه لا حاجة إلى تقدير في الخبر، بل يقدر من الأفعال العامة، كالوجود، والإمكان، وهذا مبني على أساسه الفاسد، الواهي، وهو قوله: إن "إله" يستعمل ويراد به: الإله الحق، في الكلمة الطيبة، فكونه حقا، يستفاد عنده من اسم "لا" وهو: إله، فلا حاجة إلى أن يجعل الخبر حقا، وكل من تصور المعنى المراد أي تصور، يعرف أن
المنفي كون هذه الآلهة التي عبدت من دون الله حقا، ويعرف فساد هذا القول، وقد مر تقريره في كلامنا.
والنّزاع بين الرسل ومن خالفهم، في حقيقة معبوداتهم مع الله، لا في وجودها، فإن الوجود أمر محسوس لا ينكر، ولكن أهل الكلام يكذبون بالحسيات والبديهيات، ويزعمون أنهم أهل العلم والعقليات، ويسمون نصوص الكتاب والسنة ظنيات، وقواعد المناطقة قطعيات، فلا عجب من ضلالهم في معنى هذه الكلمة. وما أحسن ما حكى الله عن رسله من قولهم، لمن كذب بتوحيده، وشك فيما جاءت به رسله:{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة إبراهيم آية: 10] ، لأن هذا من أظهر الظاهرات، وأوضح الواضحات، وأبين البينات.
وليس يصح في الأذهان شيء
…
إذا احتاج النهار إلى دليل
وأما قوله: إن المشتق يتحد مع المشتق منه في المعنى، فهي عبارة جاهلية تدل على إفلاس قائلها من العلم، لا سيما علم الصرف واللغة، كفى بالجهل قائلا: الله مشتق من: إله، أو من الآلهة، وهو لا يوافقه، ولا يتحد معه في المعنى، وضرب من الضرب، وشرف من الشرف، هذا في الاشتقاق الأصغر، والاشتقاق الأكبر مثل ذلك وأظهر، كما في خلق، وخرق، وأمثالهما؛ فإن المدار في ذلك على الاتفاق في معظم الحروف. واشتق عمرو" وهو دال على الذات" من التعمير، وهو المصدر، واشتق محمد
من الحمد، وبينهما تفاوت في اللفظ والمعنى، ولو قيل: إنه يتضمنه وزيادة، لصح الكلام، واستقام. وبالجملة: فلا يقول هذا إلا من لا يعرف ما يتكلم به؛ وقال بعد ما سبق من الهذيان: وحاصل المعنى: سلب مفهوم الإله لما سوى الله، كأنه أراد عما سوى الله، فقال: لما; فلم يفرق بين معنى اللام، وعن ; ومن بلغت به الجهالة، إلى هذه الغاية والحالة، سقط معه البحث والمقالة.
وذكر لي أنه يزعم، أو بعض تلامذته: أن هذا التخليط مأخوذ من كلام شيخ الإسلام، وهذا من أعجب العجب، كيف ينسب إليه هذا الجهل والضلال، مع وفور عقله وعلمه، ومتانة دينه وجودة بحثه، وامتيازه في العلوم. ولكن إن صح هذا، فله فيه سلف، نقل لنا عن داود بن جرجيس العراقي، أنه يزعم أنه يرد على شيخنا بكلام ابن تيمية، وابن القيم، فلما وقفنا على كلامه، إذا هو من أجهل خلق الله بكلامه ودينه، وبكلام نبيه، وبكلام أولي العلم من خلقه.
وأبلغ من قول هذين وأعجب، قول اليهود: إن إبراهيم كان يهوديا، وقول النصارى: بل كان نصرانيا، فرد الله عليهم بقوله:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة آل عمران آية: 67] . وأما قوله: هذا ما ظهر لي، فصدق في هذه، وهل يظهر الحق والصواب إلا لمن اعتصم بالسنة والكتاب; وأما من
أعرض عن ذلك، فقد سد على نفسه الباب، وكشف حجابه عن فهم المراد والخطاب. وقال تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} الآية [سورة النساء آية: 160] .
خاتمة، تتضمن النصيحة لله، ولرسوله، وكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، لا سيما جهال الطلبة، الذين لا بصيرة لهم بدين الله، ولا معرفة لهم بحدود ما أنزل الله على رسوله، فاعلم أن أمر المسلمين ما زال مستقيما في القرن الأول، والقرن الثاني، على ما كان عليه السلف الصالح، في أفضل أبواب العلم، وأشرفها، وأوجبها، وهو: باب معرفة الله بصفات كماله، ونعوت جلاله، وفي: باب عبادته وحده لا شريك له.
ثم دخل في أمور المسلمين، مع ولاة الأمور، من قصر في باب العلم باعه، وقل في شرع نبيه نظره واطلاعه، قوم أعيتهم السنن أن يحفظوها، وأبت عليهم الأحكام أن يعرفوها، فطلبوا علوم الأوائل من أهل منطق اليونان واستحسنوها؛ وتركوا السنة والقرآن وما فيهما من الأحكام، ولم يعظموها؛ منهم: بشر المريسي، وابن أبي دؤاد، وكانا قد تمكنا من عبد الله: المأمون، أمير المؤمنين الخليفة العباسي، وزينا لديه المنطق وحسناه، وأنه ميزان العقول والأفكار.
فلهج به المأمون واشتغل، واعتقد أنه امتاز على من
سبقه في باب معرفة الله، وما يجب له وما يستحيل عليه; وما زال به ذلك حتى ألزم الناس برأيه، ورفع شأن من وافقه وكان على طريقه، وولاهم الولايات، وعزل من خالفه وأهانه، وحبس وشرد وابتلي المؤمنون به، وجرى على الإسلام أعظم محنة، وأكبر بلية; وكتب إلى وزيره ببغداد يذم أهل السنة ويعيبهم، ويصفهم بالجهالة والضلالة، وأنهم حشو وسفلة، ولا نظر لهم ولا علم، ولا نور ولا فهم، يعني بذلك الإمام أحمد، ومن كان على طريقه المثبتين للصفات، القائلين بأن القرآن كلام الله غير مخلوق.
ويقول في كتابه: إن الجمهور الأعظم، والسواد الأكبر، من حشو الرعية، وسفلة العامة، ممن لا نظر لهم ولا روية، ولا استضاءة بنور العلم وبرهانه، أهل جهالة بالله تعالى، وعمى عنه وضلالة عن حقيقة دينه، وأنهم انتسبوا إلى السنة والجماعة، وأنهم أهل الحق، وأن من سواهم أهل الباطل، والكفر، وإنما هم أوعية الجهالة وأعلام الكذب، ولسان إبليس الناطق في أوليائه، والهائل على أعدائه، من أهل دين الله. وأطال الكلام، وأمر وزيره بامتحانهم على موافقته على ما اعتقد من أن القرآن مخلوق، وأمره أن يحبس، ويفعل، ويفعل، بمن امتنع عن هذا القول.
ولما بلغه أن أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، وأحمد بن نصر، امتنعوا من الإجابة إلى رأيه، أمر بحملهم
إليه في القيود. وكان بطوس في بعض غزواته، فدعا الله أحمد بن حنبل أن لا يريه إياه، فمات المأمون قبل وصولهم، فردوا إلى بغداد. ثم امتحنهم أخوه المعتصم وابنه الواثق، وجرى على الإسلام والقرآن أعظم محنة من العناية بمنطق اليونان، حتى ضرب أحمد بن حنبل بالسياط، وقتل أحمد بن نصر، وبعض العلماء شرد، وهاجر.
فلما تولى أمير المؤمنين أبو جعفر المتوكل رفع المحنة، ونشر السنة، وأمر بلعن الجهمية على المنابر، وقرب الإمام أحمد وأكرمه، وأخذ برأيه، ورفع شأن السنة والقرآن، فهو الذي هدم مشهد الحسين، وما عليه من البناء الذي أحدثه الناس، فجزاه الله عن الإسلام وأهله خيرا.
فتأمل ما جرّ المنطق على أهله من البلايا والمحن، وما أوقعهم فيه من التعطيل والريب والفتن; فكيف يستجيز من له أدنى عقل أو دين، أن يقرأ كتب المنطق وعلوم اليونان؟! ويدع الاشتغال بعلوم السنة والقرآن؟! وهل هذا إلا زيغ في القلوب؛ ومثل هذا لا يوفق لطلب العلم، من كتاب الله وفهمه؛ قال ابن عيينة، في قوله تعالى:{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [سورة الأعراف آية: 146] أي: عن فهم القرآن.
فأي ذريعة وأي وسيلة إلى ترك كتاب الله، وسنة نبيه، ومعرفته وتوحيده، أضر وأقرب من المنطق، والأخذ عن أهله، وخلط دين الله به; فنسأل الله الثبات على دينه،
وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يجعلنا من أوليائه وحزبه الذين ينصرونه ويذبون عن دينه وكتابه، وينفون عنه تحريف المبطلين، وتأويل الجاهلين، وزيغ الزائغين، إنه ولي ذلك وهو على كل شيء قدير. وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.
[رسالة للشيخ سليمان بن سمحان في التحذير من البدع]
قال الشيخ: سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله الذي أوضح المحجة للسالكين، وأقام الحجة على جميع المكلفين، وأشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله، الصادق الأمين، الذي علم الله به من الجهالة، وهدى به من الضلالة، وفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، وبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وعبد الله حتى أتاه اليقين; فصلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى، قد أكمل لنا الدين، وبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين، فليس لأحد من الناس أن يشرع في دين الله ما لم يأذن به الله، ولا أن يزيد فيه بعد أن أكمله الله، قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3]، وقال صلى الله عليه وسلم:
" تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك " 1، وقال صلى الله عليه وسلم:" عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثه بدعة، وكل بدعة ضلالة ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " ما تركت من شيء يقربكم من الجنة إلا وقد حدثتكم به، ولا من شيء يبعدكم من النار إلا وقد حدثتكم به " وقال صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 2 رواه البخاري، ومسلم، وفي رواية:" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد "3.
وقال أبو ذر رضي الله عنه: "لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما طائر يقلب جناحيه إلا ذكر لنا منه علما"، وفي صحيح مسلم: أن بعض المشركين، قالوا لسلمان: لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ قال: أجل) . فإذا تحققت هذا وعلمته، فالواجب على المسلم أن يقتدي ولا يبتدي وأن يتبع، ولايبتدع; كما قيل:
فخير الأمور السالفات على الهدى
…
وشر الأمور المحدثات البدائع
فقد حذر صلى الله عليه وسلم أصحابه عن البدع، ومحدثات الأمور، وأمرهم بالاتباع الذي فيه النجاة من كل محذور، ونهاهم عن الغلو في الدين، واتباع غير سبيل المؤمنين; قال صلى الله عليه وسلم:" إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين " 4، إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في هذا المعنى،
1 ابن ماجه: المقدمة (5) .
2 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجه: المقدمة (14) ، وأحمد (6/240 ،6/270) .
3 مسلم: الأقضية (1718) ، وأحمد (6/146 ،6/180 ،6/256) .
4 النسائي: مناسك الحج (3057) .
وقال صلى الله عليه وسلم: " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ".
فعلى من نصح نفسه، وأراد نجاتها أن يعتصم بكتاب الله وسنة رسوله، وأن يتمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم القدوة، وبهم الأسوة، وما من خير إلا وقد سبقونا إليه، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:"من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإظهار دينه; فخذوا بهديهم، واعرفوا لهم فضلهم، فإنهم كانوا على الصراط المستقيم".
وقال الإمام: محمد بن وضاح، في كتاب البدع والنهي عنها: أخبرنا الحكم بن المبارك، أخبرنا عمر بن يحيى قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه، قال: "كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري، فقال: أخرج عليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج: قمنا إليه جميعا، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد آنفا أمرا أنكرته، ولم أر
والحمد لله إلا خيرا، قال: فما هو؟ قال: إن عشت فستراه.
قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً، ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة، فيكبرون مائة؛ فيقول: هللوا مائة، فيهللون مائة؛ فيقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة؛ قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئاً، أنتظر رأيك، وأنتظر أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء، ثم مضى، ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم، فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى، نعد به التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، قال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء. ويحكم يا أمة محمد! ما أسرع هلكتكم! هؤلاء أصحابه متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تنكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة. قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن، ما أردنا إلا الخير؛ قال: وكم من مريد للخير لم يصبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم." وأيم الله لا أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم. فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك، يطاعنونا يوم النهروان، مع الخوارج" انتهى.
فإذا كان هذا حال هؤلاء القوم، وهم إنما يكبرون الله،
ويحمدونه، ويسبحونه، قد كانوا مفتتحين باب ضلالة لأنهم عملوا عملا لم يكن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، فأفضى بهم إلى الغلو في الدين، والمجاوزة للحد، أن مرقوا من الإسلام، فصار أكثرهم يطاعنون الصحابة مع الخوارج، يوم النهروان.
فإذا تبين هذا، وما ذكرته قبل ذلك، مما تقدم بيانه، فاعلم أنه قد حدث في هذه الأزمان من بعض الإخوان، من الغلو والمجاوزة للحد، في بعض المسائل الدينية، والأوامر الشرعية، ما يجب على كل مسلم إنكاره، وبيان خطأ من أحدثه في الدين، من غير بينة ولا برهان ولا حجة يجب المصير إليها، من السنة والقرآن، ولا قال بها أحد من أئمة الإسلام الذين هم معالم الهدى، ومصابيح الدجى، وهم القدوة، وبهم الأسوة في بيان مراتب الدين والأحكام، إلى أن قال:
وأذكر قبل الشروع في الكلام على هذه المسائل والجواب عنها، معنى لا إله إلا الله، وما ذكره العلماء في ذلك، وما ذكره شيخنا: الشيخ عبد الرحمن بن حسن، مفتي الديار النجدية، رحمه الله تعالى، من شروطها التي لا يصح إسلام أحد من الناس إلا إذا اجتمعت له هذه الشروط، وقال بها، علما، وعملا، واعتقادا، وكذلك نواقض الإسلام العشرة، التي ذكرها شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، لأن هذا هو الأصل الذي
تتفرع عليه هذه المسائل، وتنبني عليه أحكامها.
فأقول، وبالله التوفيق، وبه العصمة والثقة:
اعلم رحمك الله أن كلمة الإخلاص، لا إله إلا الله، هي الكلمة التي قامت بها الأرض والسماوات، وفطر الله عليها جميع المخلوقات، وعليها أسست الملة، ونصبت القبلة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وبها أمر الله جميع العباد؛ فهي فطرة الله التي فطر الناس عليها، ومفتاح عبوديته التي دعا الأمم على ألسن رسله إليها، وهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وأساس الفرض والسنة. فإذا عرفت هذا، فاعلم أن لا إله إلا الله لا تنفع قائلها إلا بعد معرفة معناها، والعمل بمقتضاها، وأنها لا تنفعه إلا بعد الصدق، والإخلاص، واليقين، لأن كثيرا ممن يقولها في الدرك الأسفل من النار.
فلا بدّ في شهادة ألا إله إلا الله من اعتقاد بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، فإن اختل نوع من هذه الأنواع لم يكن الرجل مسلما؟ فإذا كان الرجل مسلما. وعاملا بالأركان، ثم حدث منه قول، أو فعل أو اعتقاد يناقض ذلك، لم ينفعه قول: لا إله إلا الله؛ وأدلة ذلك في الكتاب والسنة، وكلام أئمة الإسلام، أكثر من أن تحصر.
وقد أخرج البخاري في صحيحه، بسنده عن قتادة، قال
حدثنا: أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم" ومعاذ، رضي الله عنه رديفه على الرحل" قال: "يا معاذ. قال: لبيك يا رسول الله، وسعديك، قال: يا معاذ. قال لبيك يا رسول الله وسعديك، ثلاثا، قال: ما من أحد يشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، صدقا من قلبه، إلا حرم الله تعالى عليه النار. قال: يا رسول الله، أفلا أخبر الناس فيستبشروا؟ قال: إذا يتكلوا " فأخبر بها معاذ عند موته تأثما.
قال شيح الإسلام، وغيره، في هذا الحديث ونحوه: أنه فيمن قالها، ومات عليها كما جاءت مقيدة، لقوله:" خالصا من قلبه " غير شاك فيها، بصدق ويقين، فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله تعالى جملة، فمن شهد أن لا إله إلا الله، خالصا من قلبه، دخل الجنة، لأن الإخلاص، هو انجذاب القلب إلى الله تعالى، بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحا، فإذا مات على تلك الحالة نال ذلك.
فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة؛ وتواترت بأن كثيرا ممن يقول لا إله إلا الله، يدخل النار، ثم يخرج منها؛ وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم، فهؤلاء كانوا يصلون، ويسجدون لله؛ وتواترت بأنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله، وشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً
رسول الله، لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال.
وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص، وأكثر من يقولها تقليدا وعادة، ولم يخالط الإيمان بشاشة قلبه، وغالب من يفتن عند الموت، وفي القبور، أمثال هؤلاء، كما في الحديث:" سمعت الناس يقولون شيئا فقلته "1. وغالب أعمال هؤلاء إنما هو تقليد واقتداء بأمثالهم، وهم من أقرب الناس من قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 23] .
وحينئذٍ: فلا منافاة بين الأحاديث، فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام، لم يكن في هذا الحال مصرا على ذنب أصلا، فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، فإذا لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما أمر الله، وهذا هو الذي يحرم على النار، وإن كانت له ذنوب قبل ذلك، فإن هذا الإيمان، وهذا الإخلاص، وهذه التوبة، وهذه المحبة، وهذا اليقين لا تترك له ذنبا إلا محي عنه، كما يمحوا الليل النهار.
فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر، فهذا غير مصر على ذنب أصلا، فيغفر له، ويحرم على النار، وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك، فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات، فيرجح بها ميزان الحسنات، كما في حديث البطاقة، فيحرم على النار، ولكن تنقص
1 البخاري: العلم (86)، ومسلم: الكسوف (905) ، وأحمد (6/345 ،6/354)، ومالك: النداء للصلاة (447) .
درجته في الجنة بقدر ذنوبه.
وهذا بخلاف من رجحت سيئاته بحسناته، ومات مصرا على ذلك، فإنه يستوجب النار، وإن قال لا إله إلا الله، وخلص بها من الشرك الأكبر، لكنه لم يمت على ذلك، بل أتى بعدها بسيئات رجحت على حسنة توحيده، فإنه في حال قولها كان مخلصا، لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص، فأضعفته، وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك؛ بخلاف المخلص المستيقن، فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته، ولا يكون مصرا على سيئات، فإن مات على ذلك دخل الجنة.
وإنما يخاف على المخلص أن يأتي بسيئة راجحة، فيضعف إيمانه، فلا يقولها بإخلاص ويقين مانع من جميع السيئات، ويخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر؛ فإن سلم من الأكبر، بقي معه من الأصغر، فيضيف إلى ذلك سيئات تنضم إلى هذا الشرك، فيرجح جانب السيئات؛ فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين، فيضعف قول لا إله إلا الله، فيمتنع الإخلاص بالقلب، فيصير المتكلم بها كالهاذي أو النائم، أو من يحسن صوته بآية من القرآن، من غير ذوق طعم وحلاوة.
فهؤلاء، لم يقولوها بكمال الصدق واليقين، بل يأتون بعدها بسيئات تنقص ذلك، بل يقولونها من غير يقين وصدق، ويموتون على ذلك، ولهم سيئات كثيرة تمنعهم من دخول
الجنة، فإذا كثرت الذنوب، ثقل على اللسان قولها، وقسا القلب عن قولها، وكره العمل الصالح، وثقل عليه سماع القرآن، واستبشر بذكر غيره، واطمأن إلى الباطل، واستحلى الرفث. ومخالطة أهل الباطل، وكره مخالطة أهل الحق.
فمثل هذا إذا قالها قال بلسانه ما ليس في قلبه، وبفيه ما لا يصدقه عمله، قال الحسن: ليس الإيمان بالتحلي، ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال، فمن قال خيرا قبل منه، ومن قال خيرا وعمل شرا لم يقبل منه. وقال أبو بكر بن عبد الله المزني: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام، ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في قلبه.
فمن قال لا إله إلا الله، ولم يقم بموجبها، بل اكتسب مع ذلك ذنوبا، وكان صادقا في قولها، موقنا بها، لكن له ذنوب أضعفت صدقه ويقينه، وانضاف إلى ذلك الشرك الأصغر العملي، فرجحت هذه السيئات على هذه الحسنة، ومات مصرا على الذنوب؛ بخلاف من يقولها بيقين، وصدق ثابت، فإنه لا يموت مصرا على الذنوب; إما ألا يكون مصرا على سيئة أصلا، أو يكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته.
والذي يدخل النار ممن يقولها، إما أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التام المنافيين للسيئات، أو لرجحانها، أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئات رجحت على حسناتهم، ثم ضعف لذلك صدقهم ويقينهم، ثم لم يقولوها بعد ذلك
بصدق ويقين تام، لأن الذنوب قد أضعفت ذلك الصدق واليقين من قلوبهم، فقولها من مثل هؤلاء لا يقوى على محو السيئات، فترجح سيئاتهم على حسناتهم. انتهى ملخصاً.
وقال الوزير، أبو المظفر، في الإفصاح: قوله "شهادة أن لا إله إلا الله" يقتضي: أن يكون الشاهد عالما بلا إله إلا الله، كما قال تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد آية: 19] . قال: واسم (اللَّهِ) مرتفع بعد (إِلَّا) من حيث أنه الواجب له الإلهية، فلا يستحقها غيره سبحانه، قال: وجملة الفائدة في ذلك، أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله؛ فإنك لما نفيت الإلهية، وأثبت الإيجاب لله سبحانه، كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله.
وقال في البدائع، ردا لقول من قال: إن المستثنى مخرج من المنفي، قال: بل هو مخرج من النفي وحكمه، فلا يكون داخلا في المنفي، إذ لو كان كذلك لم يدخل الرجل في الإسلام بقوله:"لا إله إلا الله" لأنه لم يثبت الإلهية لله تعالى، وهذه أعظم كلمة تضمنت لنفي الإلهية عما سوى الله تعالى، إثباتها له بوصف الاختصاص، فدلالتها على إثبات الإلهية أعظم من دلالة قولنا: الله إله؛ ولا يستريب أحد في هذا البتة. انتهى بمعناه.
وقال أبو عبد الله القرطبي، في تفسير " لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ ": أي: لا معبود إلا هو. وقال الزمخشرى: الإله من أسماء الأجناس، كالرجل، والفرس، يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق.
قال شيخ الإسلام: الإله هو: المعبود المطاع؛ فإن الإله هو: المألوه، والمألوه هو: الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد، هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع، قال: فإن الإله هو: المحبوب المعبود، الذي تألهه القلوب بحبها، وتخضع له، وتذل له، وتخافه وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه، وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده.
ولهذا كانت "لا إله إلا الله" أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداؤه وأهل غضبه ونقمته؛ فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال، وذوق، فإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله.
وقال ابن القيم: الإله الذي تألهه القلوب محبة وإجلالا، وإنابة وإكراما وتعظيما، وذلا وخضوعا وخوفا ورجاء، وتوكلاً.
وقال ابن رجب: الإله هو الذي يطاع فلا يعصى، هيبة له وإجلالا، ومحبة وخوفا ورجاء، وتوكلا عليه وسؤالا منه،
ودعاء له، ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز وجل. فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية، كان ذلك قدحا في إخلاصه في قول لا إله إلا الله، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك.
وقال البقاعي: لا إله إلا الله، أي انتفى انتفاء عظيما أن يكون معبودا بحق غير الملك الأعظم، فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علما إذا كان نافعا، وإنما يكون نافعا إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف.
وقال الطيبي: الإله فعال بمعنى مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، عن أله إلهة، أي: عبد عبادة، قال: الشارح: وهذا كثير في كلام العلماء، وإجماع منهم؛ فدلت:"لا إله إلا الله" على نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى، كائنا من كان، وإثبات الإلهية لله وحده، دون كل ما سواه؛ وهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ودل عليه القرآن من أوله إلى آخره، كما قال تعالى عن الجن:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} [سورة الجن آية: 1"2] .
فلا إله إلا الله لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفيا وإثباتا، واعتقد ذلك وقبله، وعمل به. وأما من قالها من
غير علم، واعتقاد، وعمل، فقد تقدم في كلام العلماء أن هذا جهل صرف، فهي حجة عليه بلا ريب؛ فقوله في الحديث:"وحده لا شريك له" تأكيد، وبيان لمضمون معناها، وقد أوضح عن ذلك وبينه في قصص الأنبياء والمرسلين في كتابه المبين.
فما أجهل عباد القبور بحالهم! وما أعظم ما وقعوا فيه من الشرك، المنافي لكلمة الإخلاص: لا إله إلا الله! فإن مشركي العرب ونحوهم، جحدوا لا إله إلا الله لفظا ومعنى، وهؤلاء المشركون أقروا بها لفظا، وجحدوها معنى: فتجد أحدهم يقولها، وهو يأله غير الله بأنواع العبادة، كالحب، والتعظيم، والخوف، والرجاء، والتوكل، والدعاء، وغير ذلك، من أنواع العبادة.
بل زاد شركهم على شرك العرب، بمراتب فإن أحدهم إذا وقع في شدة، أخلص الدعاء لغير الله تعالى، ويعتقدون أنه أسرع فرجا لهم من الله؛ بخلاف حال المشركين الأولين، فإنهم يشركون في الرخاء، وأما في الشدائد، فإنهم يخلصون لله وحده، كما قال تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} الآية [سورة العنكبوت آية: 65] .
فبهذا تبين أن مشركي هذه الأزمان أجهل بالله وبتوحيده من مشركي العرب ومن قبلهم. انتهى من فتح المجيد، فهذا بعض ما ذكره بعض العلماء، في معنى لا
إله إلا الله، وفيه كفاية:{لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [سورة ق آية: 37] .
فصل:
وأما شروطها التي ذكر شيخنا: الشيخ عبد الرحمن بن حسن، أنه لا بد منها في شهادة أن لا إله إلا الله، فقال رحمه الله: لا بد في شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط، لا تنفع قائلها إلا باجتماعها.
الأول: العلم المنافي للجهل؛ فمن لم يعرف المعنى، فهو جاهل بمدلولها.
الثاني: اليقين المنافي للشك، لأن من الناس من يقولها، وهو شاك فيما دلت عليه من معناها.
الثالث: الإخلاص المنافي للشرك؛ فإن لم يخلص أعماله كلها لله، فهو مشرك شركا ينافي الإخلاص.
الرابع: الصدق المنافي للنفاق، لأن المنافقين يقولونها، ولكنه لم يطابق ما قالوه، لما يعتقدونه، فصار قولهم كذبا، لمخالفة الظاهر للباطن.
الخامس: القبول المنافي للرد، لأن من الناس من يقولها، مع معرفته معناها، لكن لا يقبل ممن دعاه إليه، إما كبرا، أو حسدا، أو غير ذلك من الأسباب المانعة من القول، فتجده يعادي أهل الإخلاص، ويوالي أهل الشرك ويحبهم.
السادس: الانقياد المنافي للشرك، لأن من الناس من يقولها وهو يعرف معناها لكنه لا ينقاد للإتيان بحقوقها،
ولوازمها من الولاء، والبراء، والعمل بشرائع الإسلام، ولا يلائمه إلا ما وافق هواه، أو تحصيل دنياه; وهذه حال كثير من الناس.
السابع: المحبة المنافية لضدها. انتهى ما ذكره الشيخ.
فإذا تبين لك هذا وعرفته، وتحققت أن لا إله إلا الله هي كلمة الإخلاص، وهي الفارقة بين الكفر والإسلام، وهي كلمة التقوى; وهي العروة الوثقى، فاعلم أن هذه الكلمة نفي وإثبات: نفي الإلهية عما سوى الله من المخلوقات، وإثباتها لله وحده لا شريك له، وأنها لا تنفع قائلها إلا باجتماع هذه الشروط التي تقدم ذكرها. فمن عرف معناها، وعمل بمقتضاها، وتحقق بها علما وعملا واعتقادا، فقد استمسك بالإسلام الذي قال الله فيه:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [سورة آل عمران آية: 19]، وقال:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة آل عمران آية: 85] .
فإذا علمت هذا، فقد ذكر أهل العلم نواقض الإسلام، وذكر بعضهم أنها قريب من أربعمائة ناقض، ولكن الذي أجمع عليه العلماء هو ما ذكره شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، من نواقض الإسلام، وأنها عشرة.
فقال رحمه الله: اعلم أن نواقض الإسلام عشرة نواقض:
الأول: الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له، قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [سورة النساء آية: 48]، {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [سورة المائدة آية: 72] ، ومنه: الذبح لغير الله، كمن يذبح للجن أو للقبر.
الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة، ويتوكل عليهم، كفر إجماعا.
الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، كفر.
الرابع: من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذين يفضلون حكم الطواغيت، على حكمه، فهو كافر.
الخامس: من أبغض شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به، كفر.
السادس: من استهزأ بشيء من دين الله، أو ثوابه، أو عقابه، كفر، والدليل قوله تعالى:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [سورة التوبة آية: 65] .
السابع: السحر، ومنه الصرف والعطف. فمن فعله أو رضي به، كفر، والدليل قوله تعالى:{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [سورة البقرة آية: 102] .
الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة المائدة آية: 51] .
التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام، فهو كافر.
العاشر: الإعراض عن دين الله، لا يتعلمه، ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [سورة السجدة آية: 22] . ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف، إلا المكره. وكلها من أعظم ما يكون خطرا، وأكثر ما يكون وقوعا، فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف منها على نفسه، نعوذ بالله من موجبات غضبه، وأليم عقابه. انتهى.
[جواب الشيخ سليمان عن الفرق بين التوحيد العلمي والإرادي]
وسئل الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله: عن الفرق بين التوحيد العلمي الخبري، والتوحيد الإرادي الطلبي؟
فأجاب: الفرق بينهما "الأول: هو توحيد الأسماء والصفات والثاني: هو توحيد الإلهية. ثم وجدت لابن القيم رحمه الله ما لفظه: وأما التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأنزلت به الكتب، فهو نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد.
فالأول هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى، وأسمائه وصفاته، وأفعاله، وعلوه فوق سماواته على عرشه وتكلمه. وتكليمه، لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمه، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع حد الإفصاح، كما
في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر الحشر، وأول تنزيل السجدة، وأول آل عمران، وسورة الإخلاص، بكمالها، وغير ذلك. النوع الثاني: ما تضمنته سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [سورة الكافرون آية: 1]، و {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية [سورة آل عمران آية: 64] ، وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها، وأول سورة يونس، ووسطها، وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وجملة سورة الأنعام، وغالب سور القرآن، بل كل سورة في القرآن، فهي متضمنة لنوعي التوحيد.
بل نقول قولا كليا: إن كل آية في القرآن، فهي متضمنة للتوحيد، شاهدة به، داعية إليه؛ فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته، وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري؛ وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم
آخر الجزء الثاني، ويليه: الجزء الثالث، كتاب الأسماء والصفات.