المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(كتاب الأسماء والصفات) - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - جـ ٣

[عبد الرحمن بن قاسم]

الفصل: ‌(كتاب الأسماء والصفات)

‌المجلد الثالث: ‌

(كتاب الأسماء والصفات)

كتاب الأسماء والصفات

قال الحبر الحجة الثقة، الإمام الأعظم، شيخ الإسلام والمسلمين، محيي السنة في العالمين، الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الثواب.

بسم الله الرحمن الرحيم.

من محمد بن عبد الوهاب، إلى عبد الله بن سحيم حفظه الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد: فقد وصل كتابك تطلب شيئا من معنى كتاب المويس، الذي أرسل لأهل الوشم، وأنا أجيبك عن الكتاب جملة، فإن كان الصواب فيه، فنبهني وأرجع إلى الحق، وإن كان الأمر كما ذكرت لك، من غير مجازفة، بل أنا مقتصر، فالواجب على المؤمن أن يدور مع الحق حيث دار؛ وذلك أن كتابه مشتمل على الكلام، في ثلاثة أنواع من العلوم: الأول: علم الأسماء والصفات الذي يسمى: علم أصول الدين ; ويسمى أيضا: العقائد، والثاني: الكلام على التوحيد والشرك، والثالث: الاقتداء بأهل العلم، واتباع الأدلة، وترك ذلك.

ص: 5

أما الأول: فإنه أنكر على أهل الوشم إنكارهم على من قال: ليس بجوهر، ولا جسم، ولا عرض ; وهذا الإنكار جمع فيه بين اثنتين، إحداهما: أنه لم يفهم كلام ابن عيدان وصاحبه الثانية: أنه لم يفهم صورة المسألة، وذلك أن مذهب الإمام أحمد وغيره من السلف، أنهم لا يتكلمون في هذا النوع، إلا بما تكلم الله به ورسوله، فما أثبته الله لنفسه أو أثبته رسوله، أثبتوه، مثل: الفوقية، والاستواء، والكلام، والمجيء، وغير ذلك، وما نفاه الله عن نفسه ونفاه عنه رسوله، نفوه، مثل: المثل، والند، والسمي، وغير ذلك.

وأما ما لا يوجد عن الله ورسوله إثباته ولا نفيه، مثل: الجوهر، والجسم، والعرض، والجهة، وغير ذلك، لا يثبتونه؛ فمن نفاه، مثل صاحب الخطبة التي أنكرها ابن عيدان وصاحبه، فهو عند أحمد والسلف مبتدع؛ ومن أثبته مثل هشام بن الحكم وغيره، فهو عندهم مبتدع ; والواجب عندهم: السكوت عن هذا النوع، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ هذا معنى كلام الإمام أحمد الذي في رسالة المويس، أنه قال: لا أرى الكلام إلا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن العجب استدلاله بكلام الإمام أحمد على ضده؛ ومثله في ذلك كمثل حنفي، يقول: الماء الكثير، ولو بلغ قلتين، ينجس بمجرد الملاقاة من غير تغير، فإذا سئل عن الدليل، قال قوله صلى الله عليه وسلم " الماء طهور لا ينجسه شيء "1، فيستدل

1 الترمذي: الطهارة (66)، وأبو داود: الطهارة (66) .

ص: 6

بدليل خصمه؛ فهل يقول هذا من يفهم ما يقول؟ وأنا أذكر لك كلام الحنابلة في هذه المسألة.

قال الشيخ تقي الدين - بعد كلام له على من قال: إنه ليس بجوهر، ولا عرض، ككلام صاحب الخطبة - قال رحمه الله: فهذه الألفاظ، لا يطلق إثباتها ولا نفيها، كلفظ: الجوهر، والجسم، والتحيز، والجهة، ونحو ذلك من الألفاظ؛ ولهذا لما سئل ابن سريج عن التوحيد، فذكر توحيد المسلمين، قال: وأما توحيد أهل الباطل فهو الخوض في الجواهر والأعراض، وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك؛ وكلام السلف والأئمة في ذم الكلام وأهله مبسوط في غير هذا الموضع.

والمقصود: أن الأئمة، كأحمد وغيره، لما ذكر لهم أهل البدع الألفاظ المجملة، كلفظ: الجسم، والجوهر، والحيز، لم يوافقوهم، لا على إطلاق الإثبات، ولا على إطلاق النفي. انتهى كلام الشيخ تقي الدين.

إذا تدبرت هذا، عرفت أن إنكار ابن عيدان وصاحبه، على الخطيب الكلام في هذا، هو عين الصواب؛ وقد اتبعا في ذلك إمامهما أحمد بن حنبل وغيره، في إنكارهم ذلك على المبتدعة، ففهم صاحبكم أنهما يريدان إثبات ضد ذلك، وأن الله جسم، وكذا وكذا، تعالى الله عن ذلك، وظن أيضا أن عقيدة أهل السنة هي نفي أنه لا جسم ولا

ص: 7

جوهر، ولا كذا ولا كذا ; وقد تبين لكم الصواب أن عقيدة أهل السنة هي السكوت ; من أثبت بدّعوه، ومن نفى بدّعوه، فالذي يقول: ليس بجسم، ولا، ولا، هم الجهمية، والمعتزلة ; والذين يثبتون ذلك هو: هشام وأصحابه؛ والسلف بريئون من الجميع، من أثبت بدّعوه، ومن نفى بدّعوه.

فالمويس لم يفهم كلام الأحياء، ولا كلام الأموات، وجعل النفي الذي هو مذهب الجهمية والمعتزلة، مذهب السلف ; وظن أن من أنكر النفي أنه يريد الإثبات، كهشام وأتباعه، ولكن أعجب من ذلك: استدلاله على ما فهم بكلام أحمد المتقدم ; ومن كلام أبي الوفاء ابن عقيل قال: أنا أقطع أن أبا بكر وعمر ماتا، ما عرفا الجوهر والعرض، فإن رأيت أن طريقة أبي علي الجبائي وأبي هاشم، خير لك من طريقة أبي بكر وعمر، فبئس ما رأيت، انتهى.

وصاحبكم يدعي أن الرجل لا يكون من أهل السنة حتى يتبع أبا علي وأبا هاشم، بنفي الجوهر والعرض، فإن أنكر الكلام فيهما، مثل أبي بكر وعمر، فهو عنده على مذهب هشام الرافضي؛ فظهر بما قررناه أن الخطيب الذي يتكلم بنفي العرض والجوهر، أخذه من مذهب الجهمية والمعتزلة، وأن ابن عيدان وصاحبه أنكرا ذلك مثل ما أنكره أحمد والعلماء كلهم على أهل البدع.

ص: 8

وقوله في الكتاب: ومذهب أهل السنة: إثبات من غير تعطيل، ولا تجسيم، ولا كيف، ولا أين، إلى آخره ; وهذا من أبين الأدلة على أنه لم يفهم عقيدة الحنابلة، ولم يميز بينها وبين عقيدة المبتدعة ; وذلك أن إنكار الأين من عقائد أهل الباطل، وأهل السنة يثبتونه، اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح أنه قال للجارية:" أين الله؟ " فزعم هذا الرجل أن إثباتها مذهب المبتدعة ; وأن إنكارها مذهب أهل السنة، كما قيل، وعكسه بعكسه. وأما الجسم فتقدم الكلام أن أهل الحق لا يثبتونه ولا ينفونه ; فغلط عليهم في إثباته؛ وأما التعطيل والكيف، فصدق في ذلك، فجمع لكم أربعة ألفاظ، نصفها حق من عقيدة الحق، ونصفها باطل من عقيدة الباطل، وساقها مساقا واحدا، وزعم: أنه مذهب أهل السنة ; فجهل وتناقض.

وقوله أيضا: ويثبتون ما أثبته الرسول صلى الله عليه وسلم من السمع، والبصر، والحياة، والقدرة، والإرادة، والعلم، والكلام، إلى آخره، وهذا أيضا من أعجب جهله؛ وذلك أن هذا مذهب طائفة من المبتدعة، يثبتون الصفات السبع، وينفون ما عداها ولو كان في كتاب الله، ويؤلونه ; وأما أهل السنة، فكل ما جاء عن الله ورسوله أثبتوه ; وذلك صفات كثيرة، لكن أظنه نقل هذا من كلام المبتدعة، وهو لا يميز بين كلام أهل الحق من كلام أهل الباطل.

إذا تقرر هذا فقد ثبت خطؤه من وجوه: الأول: أنه

ص: 9

لم يفهم الرسالة التي بعثت إليه.

الثاني: أنه بهت أهلها، بإثبات الجسم وغيره.

الثالث: أنه نسبهم إلى الرافضة ; ومعلوم أن الرافضة من أبعد الناس عن هذا المذهب وأهله.

الرابع: أنه نسب من أنكر هذه الألفاظ إلى الرفض والتجسيم، وقد تبين أن الإمام أحمد وجميع السلف ينكرونه ; فلازم كلامه: أن مذهب الإمام أحمد وجميع السلف مجسمة على مذهب الرفض.

الخامس: أنه نسب كلامهما إلى الفرية الجسمية ; فجعل عقيدة إمامه وأهل السنة فرية جسمية.

السادس: أنه زعم أن البدع اشتعلت في عصر الإمام أحمد، ثم ماتت حتى أحياها أهل الوشم، فمفهوم كلامه بل صريحه: أن عصر الإمام أحمد وأمثاله، عصر البدع والضلال ; وعصر ابن إسماعيل عصر السنة والحق.

السابع: أنه نسبهما إلى التعطيل ; والتعطيل إنما هو جحد الصفات.

الثامن: بهتهما أنهما نسبا من قبلهما من العلماء إلى التعطيل، لكونهما أنكرا على خطيب من المبتدعة، وهذا من البهتان الظاهر.

التاسع: أنه نسبهما إلى وراثة هشام الرافضي.

العاشر: أن المسلم أخو المسلم، فإذا أخطأ أخوه، نصحه سرا، وبين له الصواب، فإذا عاند أمكنه المجاهرة بالعداوة ; وهذا لما راسلاه، صنف عليهما ما علمت، وأرسله إلى البلدان، اعرفوني، اعرفوني، فإني قد جئت من الشام.

وأما التناقض، وكون كلامه يكذب بعضه بعضا،

ص: 10

فمن وجوه: منها: أنه نسبهما تارة إلى التجسيم، وتارة إلى التعطيل؛ ومعلوم أن التعطيل ضد التجسيم، وأهل هذا أعداء لأهل هذا، والحق وسط بينهما. ومنها: أنه نسبهما إلى الجهمية وإلى المجسمة ; والجهمية والمجسمة بينهما من التناقض والتباعد، كما بين السواد والبياض، وأهل السنة وسط بينهما. ومنها: أنه يقول مذهب أهل الحق إثبات الصفات، ثم يقول: ولا أين، ولا، ولا، وهذا تناقض. ومنها: أنه يقول: ما أثبته الله ورسوله أثبت، ثم يخص ذلك بالصفات السبع، فهذا عين التناقض.

فعقيدته التي نسب لأهل السنة، جمعها من نحو أربع فرق من المبتدعة، يناقض بعضهم بعضا، ويسب بعضهم بعضا ; ولو فهمت حقيقة هذه العقيدة، لجعلتها ضحكة. ومنها: أنه يذكر عن أحمد أن الكلام في هذه الأشياء مذموم، إلا ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم، ثم ينقل لكم إثبات كلام المبتدعة ونفيهم، ويتكلم بهذه العقيدة المعكوسة، ويزعم أنها عقيدة أهل الحق، هذا ما تيسر كتابته عجلا، على السراج في الليل.

والمأمول فيك: أنك تنظر فيها بعين البصيرة، وتتأمل هذا الأمر، واعرض هذا عليه، واطلب منه الجواب عن كل كلمة من هذا، فإن أجابك بشيء فاكتبه وإن عرفته باطلا، وإلا فراجعني فيه أبينه لك؛ ولا تستحقر هذا الأمر، فإن

ص: 11

حرصت عليه جدا، عرفك عقيدة الإمام أحمد وأهل السنة، وعقيدة المبتدعة، وصارت هذه الواقعة أنفع لك من القراءة في علم العقائد، شهرين أو ثلاثة، بسبب أن الخطأ والاختلاف، مما يوضح الحق، ويبين الخطأ فيه.

وسئل عن قول الشيخ، في تسمية المعبودات أربابا، إذ الرب يطلق على المالك، والمعبود، وعلى الإله، وكل اسم من أسمائه جل وعلا له معنى يخصه بالتخصيص، دون التداخل والتعميم.

فأجاب: الرب، والإله، في صفة الله تبارك وتعالى، متلازمة غير مترادفة ; فالرب، من الملك، والتربية بالنعم، والإله، من التأله وهو: القصد لجلب النفع، ودفع الضر بالعبادة ; وكانت العرب تطلق الرب على الإله، فسموا معبوداتهم أربابا لأجل ذلك، أي: لكونهم يسمون الله ربا، بمعنى: إلها. والله أعلم.

[جواب أبناء الشيخ ابن عبد الوهاب عن آيات الصفات الواردة في الكتاب]

سئل أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ حمد بن ناصر رحمه الله تعالى، عن آيات الصفات الواردة في الكتاب، كقوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5]، وكذلك قوله:{لِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [سورة طه آية: 39]، وقوله:{بِأَعْيُنِنَا} ، وقوله:{أَسْمَعُ وَأَرَى} ، وقوله:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64]، وقوله:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75] وقوله:

{وَجَاءَ

ص: 12

رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [سورة الفجر آية: 22]، وقوله:{وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [سورة الزمر آية: 67] ، وغير ذلك في القرآن، ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم:" قلب المؤمن بين أصبعين، من أصابع الرحمن "1، وكذلك النفس، وقوله:"إن ربكم ليضحك "، وقوله:" حتى يضع رجله فيها، فتقول: قط قط "2، وغير ذلك مما لا يحصره هذا القرطاس، على ما تحملون هذه الآيات، وهذه الأحاديث في الصفات؟

فأجابوا بما نصه:

الحمد لله رب العالمين، قولنا فيها: ما قال الله ورسوله، وما أجمع عليه سلف الأمة، وأئمتها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن اتبعهم بإحسان، وهو: الإقرار بذلك. والإيمان من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، كما قال الإمام مالك، لما سئل عن قوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] كيف استوى؟ فأطرق مالك، وعلته الرحضاء، يعني: العرق، وانتظر القوم ما يجيء منه فيه ; فرفع رأسه إليه وقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة ; وأحسبك رجل سوء، وأمر به فأخرج ; ومن أَوّل الاستواء بالاستيلاء، فقد أجاب بغير ما أجاب به مالك، وسلك غير سبيله.

وهذا الجواب من مالك في الاستواء، شاف كاف، في جميع الصفات، مثل: النّزول، والمجيء، واليد،

1 الترمذي: القدر (2140)، وابن ماجه: الدعاء (3834) .

2 البخاري: تفسير القرآن (4850)، ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2846 ،2847) ، وأحمد (2/276 ،2/314 ،2/507) .

ص: 13

والوجه، وغيرها، فيقال في النّزول: النّزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وهذا يقال في سائر الصفات الواردة في الكتاب والسنة. وثبت عن محمد بن الحسن، صاحب أبي حنيفة، أنه قال: اتفق الفقهاء كلهم، من الشرق إلى الغرب، على الإيمان بالقرآن، والأحاديث التي جاء بها الثقات، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تفسير، ولا تشبيه؛ فمن فسر شيئا من ذلك، فقد خرج عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة؛ فإنهم لم يشبهوا، ولم يفسروا، ولكن آمنوا بما في الكتاب والسنة، فمن قال بقول جهم فارق الجماعة. انتهى كلامه.

وقد قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [سورة النساء آية: 115] الآية، وهذا أمر قد اتفق عليه السلف والأئمة رضي الله عنهم؛ ولكن الذين في قلوبهم زيغ، من أهل الأهواء والبدع، كالجهمية والمعتزلة، ومن اتبعهم من المتأخرين، لا يفهمون من صفات الله الواردة في الكتاب والسنة، إلا التأويلات المستكرهة ; ويجحدون ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله.

وما أحسن ما قال نعيم بن حماد، شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه، فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيها ; وقد قال الله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}

ص: 14

[سورة الشورى آية: 11]

فقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] رد على المشبهة، وقوله:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] رد على المعطلة؛ والكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات؛ فكما أن المؤمنين يقولون في ذات الله: لا تشبه الذوات ; فكذلك يقولون في صفات الله: لا تشبه الصفات.

[فصل في القرآن: صفة لله غير مخلوق]

وأما القرآن، فهو صفة لله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة من هذه الأمة، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، والله سبحانه وتعالى هو الذي تكلم به، وسمعه جبرائيل من الله، وبلغه جبرائيل إلى محمد ; وبلغه محمد صلى الله عليه وسلم إلى أمته. فالكلام كلام الباري، والصوت صوت القاري ; وهذا أمر مفهوم معقول عند من لم تغير فطرته التي فطره الله عليها، كما يقال:"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى "1 هذا كلام رسول الله، وأما الصوت والنغمة والحركة، فهو: صوت المبلغ ونغمته وحركته، وقد قال تعالى:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [سورة هود آية: 1]، وقوله تعالى:{حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [سورة الزمر آية: 1]، وقوله تعالى:{تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [سورة فصلت آية: 1-2]، وقوله تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 6] .

وأما قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ

1 البخاري: بدء الوحي (1)، ومسلم: الإمارة (1907)، والترمذي: فضائل الجهاد (1647)، والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794)، وأبو داود: الطلاق (2201)، وابن ماجه: الزهد (4227) ، وأحمد (1/25 ،1/43) .

ص: 15

ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [سورة التكوير آية: 19-21] الآية فقال العلماء رحمهم الله: أضافه سبحانه إلى جبرائيل إضافة تبليغ، لأنه هو الذي بلغه إلى محمد صلى الله عليه وسلم ردا على المشركين الذين يقولون: إنه تعلمه من الشيطان، أو من البشر، كما أضافه إلى محمد صلى الله عليه وسلم كآية الحاقة، إضافة تبليغ، لا إضافة إنشاء، قال تعالى:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة آية: 40-41-42-43] . فتارة يضيفه سبحانه إلى الرسول الملكي، كما في سُوَرٍ ; وتارة يضيفه إلى الرسول البشري، كما في الحاقة؛ وأما الذي تكلم به ابتداء، وإنشاء، فهو الله سبحانه وتعالى.

[فصل في صفات الله قديمة أذلية لا ابتداء لها]

فصل: واعلم أن صفة الكلام لله تعالى قديمة أزلية، لا ابتداء لها، كسائر صفات الله تعالى، من الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، وسائر الصفات ; لأنه تبارك وتعالى هو الأول فليس قبله شيء، بجميع صفاته، لم تتجدد بوصفه، كما يقوله بعض أهل الأهواء والبدع، من الكرامية ومن سلك سبيلهم.

وأما أهل السنة والجماعة، فمجمعون على ما ذكرنا، من أن الله تعالى قديم بجميع صفاته، الكلام وغيره، قال الإمام أحمد رحمه الله في كتاب: الرد على الزنادقة

ص: 16

والجهمية: لم يزل الله تعالى متكلما إذا شاء، ومتى شاء، ولا نقول: إنه كان لا يتكلم حتى خلقه ; ولا نقول: إنه قد كان لا يعلم، حتى خلق علما يعلم، ولا نقول: إنه قد كان ولا قدرة، حتى خلق لنفسه قدرة، ولا نقول: إنه قد كان ولا نور له، حتى خلق لنفسه نورا، ولا نقول: إنه قد كان ولا عظمة، حتى خلق لنفسه عظمة، انتهى كلامه.

وهذا الذي قاله إمام السنة والجماعة هو الصواب الذي لا يجوز غيره، والقرآن تكلم به سبحانه بمشيئته وقدرته، وذلك أن أهل السنة والجماعة يثبتون الأفعال الاختيارية، من الكلام وغيره من الصفات، كما أنه سبحانه كلم موسى بمشيئته وقدرته ; ويكلم من شاء من خلقه بمشيئته وقدرته، إذا شاء، ومتى شاء، بلا كيف. والله أعلم.

المسألة الثانية: أن الإمام الغزالي من أئمة السنة، ومن أكابر المصنفين، وصنف إحياء علوم الدين، فهل تنقمون على هذا الكتاب شيئا مخالفا لما جاء به الكتاب؟ الجواب: أبو حامد، رحمه الله، كما قال فيه بعض أئمة الإسلام: تجد أبا حامد، مع ما له من العلم، والفقه، والتصوف، والكلام، والأصول، وغير ذلك، ومع الزهد، والعبادة، وحسن القصد، وتبحره في العلوم الإسلامية، يذكر في كتاب الأربعين ونحوه، ككتاب: "المظنون به على غير

ص: 17

أهله ". فإذا طلبت ذلك الكتاب، وجدته قول الصابئة المتفلسفة بعينه، قد غيرت عباراته، إلى أن قال: فإن أبا حامد كثيرا ما يحيل على ذلك النور الإلهي، وعلى ما يعتقد أنه يوجد للصوفية والعباد، برياضتهم وديانتهم، من إدراك الحقائق، وكشفها لهم، حتى يزنوا بذلك ما ورد به الشرع، وسبب ذلك: أنه قد علم بذكائه، وصدق طلبه، ما في طريق المتكلمين والمتفلسفة، من الاضطراب

إلى أن قال: ولهذا كان كثير الذم لهذه الحوائل، وإنما ذلك لعلمه الذي سلكه، والذي حجب به عن حقيقة المتابعة للرسالة، وليس هو بعلم، قال أبو يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق، ولهذا صار طائفة ممن يرى فضيلته وديانته، يدفعون وجود هذه الكتب عنه.

وأما أهل الخبرة به وبحاله، فيعلمون أن هذا كله كلامه، لعلمهم بمراد كلامه، ومشابهة بعضه بعضا، ولكن كان هو وأمثاله كما قدمت، مضطربين لا يثبتون على قول ثابت، لأنه ليس عندهم من الذكاء والطلب، ما يتعرفون به إلى طريق خاصة هذه الأمة، من الذين ورثوا من الرسول العلم والإيمان، وهم أهل حقائق الإيمان والقرآن، وهم أهل الفهم لكتاب الله، والفهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولهذا: كان أبو عمرو بن الصلاح يقول فيما رأيت بخطه: أبو حامد كثر القول فيه، ومنه ; فأما هذه الكتب - يعني المخالفة للحق - فلا يلتفت إليها، وأما الرجل فيسكت

ص: 18

عنه، ويفوض أمره إلى الله، ومقصوده أنه لا يذكر بسوء، لأن عفو الله عن الناسي، والمخطئ، وتوبة المذنب، تأتي على كل ذنب، ولأن مغفرة الله بالحساب منه، ومن غيره، وتكفيره الذنوب بالمصائب، تأتي على محقق الذنوب ; فلا يقدم الإنسان على انتفاء ذلك في حق معين، إلا ببصيرة، لا سيما مع كثرة الإحسان، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، والقصد الحسن.

وهو رحمه الله يميل إلى الفلسفة، لكنه أظهره في قالب التصوف، والعبارات الإسلامية، ولهذا رد عليه علماء المسلمين، حتى أخص أصحابه أبو بكر ابن العربي المالكي، قال فيه: أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر. ورد عليه أبو عبد الله المازري، وأبو بكر الطرطوشي، وأبو الحسن المرغيناني، رفيقه، والشيخ أبو البيان، والشيخ أبو عمرو بن الصلاح، وحذر من كلامه في ذلك، وأبو زكريا النواوي، وابن عقيل، وابن الجوزي، وأبو محمد المقدسي، وغيرهم.

وأما كتابه الإحياء، فمنه ما هو مردود عليه، ومنه ما هو مقبول، ومنه ما هو متنازع فيه، وفيه فوائد كثيرة، لكن فيه موارد مذمومة؛ فإن فيه موارد فاسدة، من كلام الفلاسفة، تتعلق بالتوحيد، والنبوة، والمعاد، فإذا ذكرت معارف الصوفية، كان بمنْزلة من أخذ عدوا للمسلمين، فألبسه ثياب المسلمين، وقد أنكر أئمة الدين، على أبي حامد هذا في كتبه، وقالوا:

ص: 19

أمرضه الشفاء، وفيه أحاديث وآثار موضوعة، وفيه أشياء من أغاليط الصوفية، وفيه أشياء من كلام العارفين المستقيمين، وفيه من أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة ما هو أكثر مما يرد منه، فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس، انتهى ملخصا.

وفيما ذكرنا يتبين لك حال هذا الرجل، وحال كتابه في إحياء علوم الدين، وهذا غاية ما نعتقده فيه، لا نرفعه فوق منزلته فعل الغالين، ولا نضعه من درجته كما وضعه بعض المقصرين، فإن من الناس من يغلو فيه وفي كلامه الغلو العظيم، ومنهم من يذمه ويهدر محاسنه، ويرى تحريق كتابه؛ وسمعنا أن منهم من يقول: ليس هذا إحياء علوم الدين، بل إماتة علوم الدين؛ والصراط المستقيم: حسنة بين سيئتين، وهدى بين ضلالتين.

وورد عليهم سؤال، هذا نصه:

بلغنا: أنكم تكفرون أناسا من العلماء المتقدمين، مثل ابن الفارض، وغيره، وهو مشهور بالعلم، من أهل السنة.

فأجابوا: ما ذكرت أنا نكفر ناسا من المتقدمين، وغيرهم، فهذا من البهتان الذي أشاعه عنا أعداؤنا، ليجتالوا به الناس عن الصراط المستقيم، كما نسبوا إلينا غير ذلك من البهتان أشياء كثيرة، وجوابنا عليها أن نقول:{سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [سورة النور آية: 16] ؛ ونحن لا نكفر إلا رجلا عرف

ص: 20

الحق وأنكره، بعدما قامت عليه الحجة، ودعي إليه فلم يقبل، وتمرد وعاند، وما ذكر عنا من أنا نكفر غير من هذا حاله، فهو كذب علينا.

وأما ابن الفارض وأمثاله من الاتحادية، فليسوا من أهل السنة بل لهم مقالات شنع بها عليهم أهل السنة، وذكروا أن هذه الأقوال المنسوبة إليه كفريات، منها قول ابن الفارض في التائية، شعرا:

وإن خر للأصنام في البيد عاكف

فلا تعني بالإنكار للعصبية

وإن عبد النار المجوس فما انطفت

كما جاء في الأخبار من ألف حجة

فما عبدوا غيري وما كان قصدهم

سواي وإن لم يضمروا عقد نية

فمن أهل العلم من أساء به الظن، بهذه الألفاظ وأمثالها، ومنهم من تأول ألفاظه، وحملها على غير ظاهرها، وأحسن فيه الظن. ومن أهل العلم والدين من أجرى ما صدر منه على ظاهره، وقال: هذه الأشعار ونحوها، تتضمن مذهب أهل الاتحاد من القائلين بوحدة الوجود والحلول، كقصيدته المسماة: نظم السلوك، ومثل كثير من شعر ابن إسرائيل، وابن عربي، وابن سبعين، والتلمساني، وما يوافقها من النثر الموافق لمعناها.

فهذه الأشعار من فهمها، علم أنها كفر وإلحاد، وأنها مناقضة للعقل والدين، ومن لم يفهمها وعظم أهلها، كان بمنْزلة من سمع كلاما لا يفهمه، وعظمه، وكان ذلك من دين

ص: 21

اليهود والنصارى والمشركين، وإن أراد أن يحرفها ويبدل مقصودهم بها، كان من الكذابين البهاتين المحرفين لكلم هؤلاء عن مواضعه؛ فلا يعظم هؤلاء وكلامهم، إلا أحد رجلين: جاهل ضال، أو زنديق منافق ; وإلا فمن كان مؤمنا بالله ورسوله، عالما بمعاني كلامهم، لا يقع منه إلا بغض هذا الكلام وإنكاره، والتحذير منه، وهذا كقول ابن الفارض:

لها صلواتي في المقام أقيمها

وأشهد فيها أنها لي صَلَّت

كلانا مصل واحد ساجد إلى

حقيقته بالجمع في كل سجدة

وما كان لي صلى سواي ولم تكن

صلاتي لغيري في أداء كل ركعة

وما زلت إياها وإياي لم تزل

ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت

إلي رسولا كنت مني مرسلا

وذاتي بآياتي علي استدلت

وقد رفعت تاء المخاطب بيننا

وفي فرقها عن فرقة الفرق رفعت

فإن دُعِيت كنتُ المجيب، وإن أكن

منادى أجابت من دعاني ولبّت

وإن نال بالتنْزيل محراب مسجد

فما نال بالإنجيل هيكل بعثت

إن خر للأصنام

إلخ، البيت السابق، وذكر أبياتا لابن إسرائيل وغيره، ثم قال: وحقيقة قول هؤلاء أنهم قالوا في مجموع الوجود أعظم مما قالته النصارى في المسيح، فإن النصارى ادعوا أن اللاهوت الذي هو الله، اتحد مع الناسوت، وهو ناسوت المسيح، أو حَلّ فيه، مع كفرهم الذي أخبر الله به، كما قال:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [سورة المائدة آية: 17] ، فهم مع هذا الكفر، يقرون أن الله خلق السماوات والأرض، وأنه مغاير للسماوات

ص: 22

والأرض، ويقولون: إنه قد حلّ في المسيح، واتحد به، وهؤلاء يقولون بالحلول والاتحاد في جميع العالم، ولا يقرون أن للعالم صانعا مباينا له، بل يقولون: وجود المخلوق هو وجود الخالق، ويقولون في جميع المخلوقات نظير قول النصارى في المسيح، لكن النصارى يثبتون خالقا كان مباينا للمسيح، وهؤلاء لا يثبتون خالقا مباينا للمخلوقات، فقولهم أعظم حلولا واتحادا، وأكبر فسادا وإلحادا من قول النصارى انتهى.

فتأمل كونه رحمه الله أطلق على هذا القول أنه كفر، ولم يتعرض لتكفير قائله، فافهم الفرق، لأن إطلاق الكفر على المعين الذي لم تقم عليه الحجة، لا يجوز، وأظن هذا الإمام الذي قال فيهم هذا الكلام رحمه الله، ظن أن الحجة لم تقم على قائل هذا الكلام، وأن ابن الفارض وأمثاله، لجهالتهم، لا يعلمون ما في كلامهم، ومذهبهم من الكفر، ومن أحسن فيهم الظن من العلماء، كما قدمنا، حمل كلامهم على محامل غير هذه، وأولها تأويلا حسنا، على غير ظاهرها.

وقال السائل أيضا: السنوسي المغربي، مصنف السنوسية، هو من أئمة أهل السنة والجماعة، وتكلم بالسنوسية المعروفة بعلم الصفات، فهل تنقمون عليه شيئا من ذلك؟ إلخ.

الجواب: السنوسي ليس من أئمة السنة والجماعة، فإن

ص: 23

أهل السنة والجماعة هم الذين نعتهم النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر " أن بني إسرائيل افترقت على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " والسنوسي المذكور، صنف كتابه: أم البراهين، على مذهب الأشاعرة، وفيها أشياء كثيرة مخالفة ما عليه أهل السنة، فإن الأشاعرة قد خالفوا ما عليه السلف الصالح في مسائل؛ منها: مسألة العلو، ومسألة الصفات، ومسألة الحرف والصوت.

فالسلف والأئمة يصفون الله بما وصف به نفسه، في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل، بل يثبتون ما أثبت لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات العلى، ويعلمون أنه ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله؛ فإنه كما أن ذاته ليست كالذوات المخلوقات، فصفاته ليست كالصفات المخلوقات، بل هو سبحانه موصوف بصفات الكمال، منَزه عن كل نقص وعيب. فهم متفقون على أن الله فوق سمواته، على عرشه، بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته.

وقد قال مالك بن أنس: إن الله في السماء، وعلمه في كل مكان، وقالوا لعبد الله بن المبارك:"بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه". وقال

ص: 24

أحمد بن حنبل كما قال هذا، وهذا ; وقال الشافعي:"خلافة أبي بكر حق، قضاها الله فوق سماواته، وجمع عليها قلوب أوليائه"، وقال الأوزاعي:"كنا والتابعون متوافرون، نقول بأن الله فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته".

والسنوسي قد خالف أئمة السنة في هذه المسألة ; وعبارته في أم البراهين قال: ومما تستحيل في صفته تعالى عشرون صفة، فذكر منها: وأن يكون في جهة ; قال الشارح لها، وهو محمد بن عمر التلمساني: هذا أيضا من أنواع المماثلة المستحيلة، وهي كونه تعالى في جهة، فلا يقال: إنه تعالى فوق العرش ; فقد تبين لك مخالفته السلف الصالح، ومنها: مسألة الصفات، فإن السنوسي أثبت الصفات السبع فقط.

وأما أهل السنة والجماعة فيصفون الله بجميع ما وصف به نفسه، كما يليق بجلاله وعظمته، فيثبتون النّزول، كما وردت بذلك السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" ينْزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل "1 إلخ، ويثبتون صفة اليدين، كما يليق بجلاله وعظمته، وكذلك صفة الوجه الكريم، كما يليق بجلاله وعظمته، وكذلك الضحك الذي وردت به السنة، والتعجب، والغضب، والرضى، والقبضتان، والأصابع، فيصفون الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، ولا يفهمون من جميع ذلك إلا ما يليق بالله وعظمته، لا ما يليق بالمخلوقات من

1 البخاري: الجمعة (1145) والتوحيد (7494)، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758)، والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498)، وأبو داود: الصلاة (1315)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) ، وأحمد (2/258 ،2/264 ،2/267 ،2/282 ،2/419 ،2/487 ،2/504 ،2/521)، ومالك: النداء للصلاة (496)، والدارمي: الصلاة (1478 ،1479) .

ص: 25

الأعضاء والجوارح، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

فيحصل بذلك: إثبات ما وصف به نفسه في كتابه، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ويحصل أيضا نفي التشبيه والتكييف في صفاته، ويحصل أيضا ترك التأويل، والتحريف، المؤدي إلى التعطيل، ويحصل أيضا إثبات الصفات على ما يليق بجلال الله وعظمته، لا على ما نعقله نحن من صفات المخلوقين، وأما الأشاعرة فيؤلون النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله، فيؤلون الاستواء بالاستيلاء، والنّزول بنُزول الأمر، واليدين بالقدرتين والنعمتين، والقدم بقدم صدق، وأمثال ذلك.

وأما أهل السنة والجماعة فيصفون الله بهذه الصفات، وغيرها، مما وصف به نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يكيفون، ولا يشبهون; والكلام عندهم في الصفات فرع على الكلام في الذات، فكما أن ذاته لا تشبه ذوات خلقه، فكذلك صفاته لا تشبه صفات خلقه، فإذا ثبت وصفه تعالى بالصفات السبع، على ما يليق بجلاله، فكذلك باقي الصفات.

وأما مسألة الحرف والصوت، فتساق هذا المساق، فإن الله تعالى: قد تكلم بالقرآن المجيد، وبجميع حروفه، فقال:"الم"، وقال:"المص"، وقال:" ق "؛ وكذلك جاء في الحديث: " فينادي يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب "1، وفي الحديث: " لا أقول الم حرف، ولكن

1 أحمد (3/495) .

ص: 26

ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف"1 فهؤلاء، أي الأشاعرة، ما فهموا من كلام الله، إلا ما فهموا من كلام المخلوقين، فقالوا: إذا قلنا بالحرف، أدى ذلك إلى القول بالجوارح واللهوات ; وكذلك: إذا قلنا بالصوت، أدى ذلك إلى الحلق والحنجرة، عملوا في هذا من التخبيط، كما عملوا فيما تقدم من الصفات.

والتحقيق هو أن الله تكلم بالحروف، كما يليق بجلاله وعظمته ; فإنه قادر لا يحتاج إلى جوارح، ولا إلى لهوات؛ وكذلك له صوت كما يليق به، يسمع، ولا يفتقر ذلك الصوت المقدس إلى الحلق والحنجرة ; كلام الله يليق به، وصوته كما يليق به ; ولا ننفي الحروف والصوت عن كلامه، لافتقارهما هنا إلى الجوارح واللهوات، فإنهما في جناب الحق لا يفتقران إلى ذلك، وهذا ينشرح الصدر له، ويستريح الإنسان به من التعسف والتكلف ; لا قوله: هذا عبارة عن ذلك.

فإن قيل: هذا الذي يقرأ القارئ، هو عين قراءة الله، وعين تكلمه به هو؟

قلنا: لا، بل القارئ يؤدي كلام الله، والكلام إنما ينسب إلى من قاله مبتديا، لا إلى من قاله مؤديا مبلغا، ولفظ القاري في غير القرآن مخلوق، وفي غير القرآن لا يتميز اللفظ المؤدي عن الكلام المؤدى عنه، ولهذا منع

1 الترمذي: فضائل القرآن (2910) .

ص: 27

السلف عن قول: لفظي بالقرآن مخلوق لأنه يتميز، كما منعوا عن قول: لفظي بالقرآن غير مخلوق ; فإن لفظ العبد في غير التلاوة مخلوق، وفي التلاوة مسكوت عنه، لئلا يؤدي الكلام في ذلك إلى القول بخلق القرآن، وأما ما أمر السلف بالسكوت عنه، فيجب السكوت عنه. انتهى من قول بعض مشايخ الإسلام.

[جواب أبناء الشيخ ابن عبد الوهاب عن رؤية الله تعالى ورؤية النبي ربه في الدنيا]

وسئل أيضا أبناء الشيخ، وحمد بن ناصر، عن الرؤية:

فأجابوا: وأما رؤية الله تعالى يوم القيامة، فهي ثابتة عندنا، وأجمع عليها أهل السنة والجماعة، والدليل على ذلك الكتاب والسنة، والإجماع; أما الكتاب، فقوله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [سورة آية: 22-23] وقال المفسرون المعنى: أنها تنظر إلى الله عز وجل كرامة لهم من الله، ومن أعظم ما يتنعم به أهل الجنة يوم القيامة، كما ورد ذلك في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [سورة المطففين آية: 15] ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله أخبر أن الكفار يحجبون عن الله، فدل ذلك على أن ذلك خاص بهم، وأن المؤمنين ليسوا كذلك، بل يرون الله يوم القيامة، والدليل الذي من القرآن قوله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [سورة يونس آية: 26] ثبت في صحيح مسلم من حديث صهيب

ص: 28

رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك هو النظر إلى وجه الله.

وأما قوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [سورة الأنعام آية: 103] فمن أحسن الأجوبة فيها: جواب حبر الأمة، وترجمان القرآن، عبد الله بن عباس - لما قال: إن محمدا رأى ربه - فقال له السائل: أليس الله يقول: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [سورة الأنعام آية: 103] فقال: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [سورة الأنعام آية: 103] أي: لا تحيط به، ألست ترى السماء؟ قال: بلى، قال: أفتدركها كلها؟ قال: لا، أو كما قال.

وأما قوله تبارك وتعالى لموسى: {لَنْ تَرَانِي} الآية فذكر العلماء أن المراد لن تراني في الدنيا، وأيضا: الآية دليل واضح على جوازها، وإمكانها، لأن موسى عليه السلام أعلم بالله من أن يسأله ما لا يجوز عليه، أو يستحيل، خصوصا ما يقتضي الجهل، ولذلك رد بقوله تعالى:{لَنْ تَرَانِي} دون لن أرى، ولن أريك، ولن تنظر إلي ; فبذلك تبين لك، أنها دالة على مذهب أهل السنة والجماعة، القائلين بإثبات رؤية الله يوم القيامة ; ورادة لمذهب الجهمية والمعتزلة، ومن تبعهم من أهل الأهواء والبدع.

وأما السنة: فثبت في الصحيحين، والسنن، والمسانيد، من حديث جرير بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما سأله: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: " إنكم سترون

ص: 29

ربكم، كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته "1.

وكذلك ثبت ذلك في أحاديث متعددة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الإجماع، فقد أجمع أهل السنة والجماعة على ذلك، وقد حكى الإجماع غير واحد من العلماء؛ والخلاف الذي وقع بين الصحابة في رؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه، إنما ذلك رؤيته في الدنيا، فابن عباس وغيره أثبتها، وعائشة تنفيها، والله أعلم.

[جواب الشيخ عبد الله عن رجلين تنازعا في تكليم الله لموسى]

سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله، عن رجلين تنازعا، فقال أحدهما: إن الله كلم موسى تكليما، وسمعته أذناه، ووعاه قلبه، وإن الله كتب التوراة بيده، وناولها من يده إلى يده، وقال الآخر: إن الله كلم موسى بواسطة، وإن الله لم يكتب التوراة بيده، ولم يناولها من يده إلى يده.

فأجاب: القائل إن الله كلم موسى تكليما، كما أخبر في كتابه، فمصيب؛ وأما الذي قال: كلم موسى بواسطة، فهذا ضال مخطئ، بل نص الأئمة على أن من قال ذلك فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، فإن هذا إنكار لما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام، ولما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [سورة الشورى آية: 51] الآية ففرق بين تكليمه من وراء حجاب كما كلم موسى، وبين تكليمه بواسطة كما أوحى إلى غير موسى، قال تعالى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة النساء آية: 163]، إلى قوله:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [سورة النساء آية: 164] .

1 البخاري: الأذان (806) والرقاق (6574)، ومسلم: الإيمان (182) والزهد والرقائق (2968)، والترمذي: صفة الجنة (2554)، وأبو داود: السنة (4730)، وابن ماجه: المقدمة (178) ، وأحمد (2/275 ،2/389 ،2/533)، والدارمي: الرقاق (2801) .

ص: 30

والأحاديث بذلك كثيرة في الصحيحين، والسنن، وفي الحديث المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم " التقى آدم وموسى، قال آدم: أنت موسى، الذي كلمك الله تكليما، لم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه "1، وسلف الأمة وأئمتها كفروا الجهمية الذين قالوا: إن الله خلق كلاما، في بعض الأجسام، سمعه موسى ; وفسروا التكليم بذلك.

وأما قوله: "إن الله كتب التوراة بيده" فهذا قد روي في الصحيحين، فمن أنكر ذلك فهو مخطئ ضال، وإذا أنكره بعد معرفته بالحديث الصحيح، فإنه يستحق العقوبة، وأما قوله ناولها من يده إلى يده ; فهذا مأثور عن طائفة من التابعين، وهو كذلك عند أهل الكتاب، لكن لا أعلم هذا اللفظ مأثورا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالمتكلم به إن أراد ما يخالف ذلك، فقد أخطأ، والله أعلم.

[الأخذ بالإجماع السكوتي عن الصحابة]

وسئل أيضا الشيخ عبد الله بن الشيخ، رحمهما الله: هل يتأكد الأخذ بالإجماع السكوتي عن الصحابة رضي الله عنهم

إلخ؟

فأجاب: الذي عليه أكثر الفقهاء، من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، أن الأمر إذا اشتهر بين الصحابة رضي الله عنهم، فلم ينكره منهم أحد، كان إجماعا، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد خيرهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فاختارهم

1 أبو داود: السنة (4702) .

ص: 31

لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن". انتهى.

وباتباع السلف الصالح، والأخذ بهديهم وسلوك طريقتهم، والسكوت عما سكتوا عنه، يزول عن المؤمن شبهات كثيرة، وبدع وضلالات شهيرة، أحدثها المتأخرون بعدهم، كالكلام في تأويل آيات الصفات وأحاديثها، بالتأويلات المستكرهة التي لم تعهد عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فإنهم سكتوا عن تفسير ذلك بالتأويلات الباطلة ; وقالوا: أمروها كما جاءت.

وقال بعضهم في صفة الاستواء، لما سأله سائل عن قوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] كيف استوى؟ قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، كما تواتر ذلك عن الإمام مالك رحمه الله، وما أجاب به مالك رحمه الله في هذه المسألة، هو جواب أهل السنة والجماعة في آيات الصفات وأحاديثها، فيقال في النّزول: النّزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وهكذا يقال في سائر الصفات، مثل المجيء، واليد والوجه، والمحبة، والغضب والرضى، وغير ذلك من الصفات الواردة في الكتاب والسنة.

وما أحسن ما جاء عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي

ص: 32

سلمة الماجشون، أنه قال: عليك بلزوم السنة، فإنها لك بإذن الله عصمة، فإن السنة إنما جعلت ليستن بها، ويقتصر عليها، وإن سنة من قدم قد علم ما في خلافها من الزلل، والخطأ، والحمق، والتعمق ; فارض لنفسك ما رضوا به، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر ناقد كفوا، ولهم كانوا على كشفها أقوى، وبتفصيلها أحرى، وإنهم لهم السابقون، وقد بلغهم عن نبيهم ما يجري من الاختلاف، فلئن كان الهدى ما أنتم عليه، لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، واختار ما نحته فكره على ما تلقوه من نبيهم، وتلقاه عنهم من اتبعهم بإحسان، ولقد وصفوا منه ما يكفي، وتكلموا فيه بما يشفي، فمن دونهم مقصر، ومن فوقهم مفرط، ولقد قصر دونهم أناس فجفوا، وطمح آخرون فغلوا، إنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم.

[بحث في آيات الصفات وأحاديثها]

وله: أيضا قدس الله روحه، ونور ضريحه:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، الجواب - وبالله التوفيق - عن المبحث الأول عن آيات الصفات وأحاديثها التي اختلف فيها علماء الإسلام، فنقول: الذي نعتقد وندين الله به، هو مذهب سلف الأمة وأئمتها، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، من الأئمة الأربعة وأصحابهم، رضي الله عنهم

ص: 33

أجمعين، وهو: الإيمان بذلك، والإقرار به، وإمراره كما جاء، من غير تشبيه، ولا تمثيل، ولا تعطيل، قال الله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] .

وقد شهد الله تعالى لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان بالإيمان، فعلم قطعا أنهم المراد بالآية الكريمة، فقال تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} [سورة التوبة آية: 100] الآية، وقال تعالى:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الفتح آية: 18] الآية.

فثبت بالكتاب لهم أن من اتبع سبيلهم فهو على الحق، ومن خالفهم فهو على الباطل، فمن سبيلهم في الاعتقاد: الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه التي وصف بها نفسه، وسمى بها نفسه في كتابه وتنْزيله، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة عليها، ولا نقصان منها، ولا تجاوز لها، ولا تفسير، ولا تأويل لها بما يخالف ظاهرها، ولا تشبيه بصفات المخلوقين، ولا سمات المحدثين؛ بل أقروها كما جاءت، وردوا علمها إلى قائلها، ومعناها إلى المتكلم بها، صادق لا شك في صدقه فصدقوه، ولم يعلموا حقيقة معناها، فسكتوا عما لم يعلموه، وأخذ ذلك الآخر عن الأول، ووصى بعضهم بعضا بحسن الاتباع، والوقوف حيث

ص: 34

وقف أولهم، وحذروا من التجاوز لها والعدول عن طريقهم، وبينوا لنا سبيلهم ومذهبهم، وحذرونا من اتباع طريق أهل البدع والاختلاف والمحدثات الذين قال الله فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 159]، {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة آل عمران آية: 105] . ونرجوا أن يجعلنا الله تعالى ممن يقتدي بهم، في بيان ما بينوه، وسلوك الطريق الذي سلكوه.

والدليل على أن مذهبهم ما ذكرنا أنهم نقلوا إلينا القرآن العظيم، وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم نقل مصدق لها مؤمن بها، قابل لها غير مرتاب فيها، ولا شاك في صدق قائلها، ولم يفسروا ما يتعلق بالصفات منها، ولا تأولوه، ولا شبهوه بصفات المخلوقين، إذ لو فعلوا شيئا من ذلك لنقل عنهم، بل بلغ من مبالغتهم في السكوت عن هذا أنهم كانوا إذا رأوا من يسأل عن المتشابه بالغوا في كفه وتأديبه، تارة بالقول العنيف، وتارة بالضرب، وتارة بالإعراض الدال على شدة الكراهة لمسألته.

ولما سئل مالك بن أنس عن الاستواء كيف هو؟ فقيل له: يا أبا عبد الرحمن {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] كيف استوى؟ فأطرق مالك رحمه الله، وعلاه الرحضاء - يعني العرق - وانتظر القوم ما يجيء منه، فرفع رأسه إليه، فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان

ص: 35

به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأحسبك رجل سوء، وأمر به فأخرج. ومن أول الاستواء بالاستيلاء، فقد أجاب بغير ما أجاب به مالك، وسلك غير سبيله.

وهذا الجواب من مالك رضي الله عنه في الاستواء شاف كاف في جميع الصفات، مثل النّزول، والمجيء، واليد، والوجه، وغيرها، فيقال في النّزول: النّزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وهكذا يقال في سائر الصفات، إذ هي بمثابة الاستواء الوارد به الكتاب والسنة.

وثبت عن الربيع بن سليمان قال: سألت الشافعي رضي الله عنه عن صفات الله تعالى، فقال: حرام على العقول أن تمثل الله تعالى، وعلى الأوهام أن تحده، وعلى الظنون أن تقطع، وعلى النفوس أن تفكر، وعلى الضمائر أن تعمق، وعلى الخواطر أن تحيط، وعلى العقول أن تعقل، إلا ما وصف به نفسه على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام.

وثبت عن إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني أنه قال: إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة، يصفون ربهم تبارك وتعالى بصفاته التي نطق بها كتابه وتنْزيله، وشهد له بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت به الأخبار الصحاح، ونقله العدول الثقات، ولا يعتقدون به تشبيها بصفات خلقه، ولا يكيفونها تكييف المشبهة، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه،

ص: 36

تحريف المعتزلة والجهمية، وقد أعاذ الله أهل السنة من التحريف والتكييف، ومن عليهم بالتفهيم والتعريف، حتى سلكوا سبيل التوحيد، والتنْزيه ; وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه، واكتفوا في نفي النقائص بقوله عز وجل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] ، وبقوله:{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 3-4] .

وثبت عن الحميدي شيخ البخاري، وغيره من أئمة الحديث، أنه قال: أصول السنة، فذكر أشياء، وقال: ما نطق به القرآن والحديث، مثل:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [سورة المائدة آية: 64]، ومثل:{وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [سورة الزمر آية: 67] ، وما أشبه هذا من القرآن والحديث، لا نرده، ولا نفسره ; ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة، ونقول:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، ومن زعم غير هذا فهو جهمي.

فمذهب السلف رحمة الله عليهم: إثبات الصفات وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها، لأن الكلام في الصفات، فرع على الكلام في الذات، يحتذي فيه حذوه؛ كما أن إثبات الذات، إثبات وجود، لا إثبات كيفية، ولا تشبيه، فكذلك الصفات؛ وعلى هذا مضى السلف كلهم، ولو ذهبنا نذكر ما اطلعنا عليه من كلام السلف في ذلك، لطال الكلام جدا؛ فمن كان قصده الحق، وإظهار الصواب،

ص: 37

اكتفى بما قدمناه، ومن كان قصده الجدال والقيل والقال، لم يزده التطويل إلا الخروج عن سواء السبيل، والله الموفق.

وقد بعث الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وشهد له بأنه بعثه داعيا إليه بإذنه وسراجا منيرا، وأمره أن يقول:{هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [سورة يوسف آية: 108] ، ومن المحال في العقل والدين، أن يكون السراج المنير، الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله، وإلى سبيله، بإذن ربه على بصيرة، وقد أخبر الله بأنه قد أكمل له ولأمته دينهم، وأتم عليهم نعمته، محال مع هذا وغيره، أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبسا مشتبها، ولم يميز ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العلى، وما يجوز عليه، وما يمتنع عليه؛ فإن معرفة هذا أصل الدين، وأساس الهداية، وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب، وحصلته النفوس، وأدركته العقول، فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول، وأفضل خلق الله بعد النبيين، لم يحكموا هذا الباب اعتقادا، وقولا؟!

ومن المحال أيضا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته

ص: 38

كل شيء حتى الخراءة، وقال:" تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك "1، وقال فيما صح عنه أيضا:" ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم "2، وقال أبو ذر:"لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء، إلا ذكر لنا منه علما"، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما، فذكر به بدء الخلق، حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم؛ حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه" رواه البخاري، محال مع هذا أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم وقلوبهم، في ربهم ومعبودهم رب العالمين، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب؛ بل هذا خلاصة الدعوة النبوية، وزبدة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة أو يظن أنه قد وقع من الرسول صلوات الله وسلامه عليه إخلال بهذا؟! ثم إذا كان قد وقع ذلك منه، فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها، قصروا في هذا الباب، زائدين فيه أو ناقصين عنه.

ثم من المحال أن تكون القرون الفاضلة، القرن الذي بعث فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كانوا غير عالمين، وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين،

1 ابن ماجه: المقدمة (44) ، وأحمد (4/126) .

2 مسلم: الإمارة (1844)، والنسائي: البيعة (4191)، وابن ماجه: الفتن (3956) ، وأحمد (2/191) .

ص: 39

لأن ضد ذلك إما لعَدَم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق، وكلاهما ممتنع ; أما الأول: فلأن من في قلبه أدنى حياة في طلب العلم، أو همة في العبادة، يكون البحث عن هذا الباب، والسؤال عنه، ومعرفة الحق فيه، أكبر مقاصده، وأعظم مطالبه، وليست النفوس الزكية إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الباب، وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدية، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضي، الذي هو أقوى المقتضيات، أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة، في مجموع عصورهم؟ هذا، لا يكاد يقع في أبلد الخلق، وأشدهم إعراضا عن الله، وأعظمهم إكبابا على الدنيا، وغفلة عن ذكر الله ; فكيف يقع في أولئك الفضلاء، والسادة النجباء؟!

وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق، أو قائلينه، فهذا لا يعتقده مسلم، عرف حال القوم، ولا يجوز أيضا أن يكون الخالفون أعلم من السابقين، كما قد يقوله بعض الأغبياء، ممن لم يعرف قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله، والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها، من أن طريقة الخلف أعلم وأحكم، وطريقة السلف أسلم; فإن هؤلاء المبتدعة الذين يفضلون طريقة الخلف على طريقة السلف، إنما أُتُوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث، من غير فقه لذلك، بمنْزلة الأميين الذين قال الله فيهم: {ومِنهم أمّيّونَ

ص: 40

لايَعلَمونَ الكِتابَ إلاّ أمَانيّ وإنْ هُم إلاّ يَظنّون} .

وأن طريقة الخلف هي استخراج معانى النصوص المصروفة عن حقائقها، بأنواع المجازات وغرائب اللغات.

فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف، وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص، بالشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها أهل الجهل والضلال، من الجهمية والمعتزلة والرافضة، ومن سلك سبيلهم من الضالين، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لا بد للنصوص من معنى، بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى، وهي التي يسمونها طريقة السلف، وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف؛ وصار هذا الباطل مركبا من فساد العقل والكفر بالسمع؛ فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية، ظنوها بينات وبراهين قاطعات، وهي شبهات وضلالات متناقضات، والسمع حرفوا فيه الكلم عن مواضعه.

فلما انبنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكاذبتين الكفريتين، كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان، واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قوما

ص: 41

أميين، بمنْزلة الصالحين من العامة، لم يتبحروا في حقائق العلم، ولم يتفطنوا لدقيق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله، وهذا القول إذا تدبره الإنسان، وجده في نهاية الجهالة، بل في غاية الضلالة، كيف يكون هؤلاء المتأخرون، لا سيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين، الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهايات إقدامهم، بما انتهى إليه من مرامهم، حيث يقول:

لعمري لقد طفت المعاهد كلها

وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعا كف حائر

على ذقن أو قارعا سن نادم

وأقروا على أنفسهم بما قالوه متمثلين به، أو منشئين له، فيما صنفوه من كتبهم، كقول بعض رؤسائهم، حيث يقول:

نهاية إقدام العقول عقال

وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [سورة فاطر آية: 10] ، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ

ص: 42

اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] .

وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11]{وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [سورة طه آية: 110] . قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي. ويقول الآخر منهم: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته، فالويل لفلان، وها أنا أموت على عقيدة أمي. ويقول الآخر منهم: أكثر الناس شكا عند الموت، أرباب الكلام.

كيف يكون هؤلاء أعلم بالله وآياته، من السابقين الأولين؟ !

ومن تأمل ما ذكرنا علم أن الضلال والتهوك، إنما استولى على كثير من المتأخرين، بسبب نبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإعراضهم عما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى، وتركهم البحث عن طريق السابقين والتابعين لهم بإحسان، والتماسهم علم معرفة الله ممن لم يعرف الله، بإقراره على نفسه، وشهادة الأمة على ذلك ; وإذا كان كذلك، فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم عامة كلام سائر الأمة مملوء بما هو إما نص، وإما ظاهر، في أن الله هو العلي الأعلى، وهو فوق كل شيء، وهو عال على كل شيء، وأنه فوق العرش وأنه فوق السماء.

وقد فطر الله على ذلك جميع الأمم، عربهم،

ص: 43

وعجمهم، في الجاهلية والإسلام، إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته، ثم عن السلف في ذلك من الأقوال، ما لو جمع لبلغ مئين أو ألوفا؛ ثم ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من سلف الأمة، لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان، حرف واحد يخالف ذلك، لا نص، ولا ظاهر؛ ولم يقل أحد منهم: إن الله ليس في السماء، ولا أنه ليس على العرش، ولا أنه بذاته في كل مكان، ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل، ولا أنه لا تجوز إليه الإشارة الحسية.

بل قد ثبت في الصحيح، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يقول:" ألا هل بلغت؟ فيقولون: نعم، فيرفع إصبعه إلى السماء، وينكتها إليهم، ويقول: اللهم اشهد، غير مرة "1. فإن كان الحق فيما يقوله هؤلاء السالبون، النافون للصفات الثابتة في الكتاب والسنة دون ما يفهم من الكتاب والسنة، إما نصا، وإما ظاهرا، لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير، بل كان وجود الكتاب والسنة، ضررا محضا في أصل الدين، فكيف يجوز على الله، ثم على رسوله، ثم على الأمة أنهم يتكلمون دائما بما هو نص، أو ظاهر في خلاف الحق؟!

ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به، ولا

1 البخاري: الحج (1741)، ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، وأحمد (5/37 ،5/39 ،5/49) .

ص: 44

يدلون عليه، حتى يجيء أنباط الفرس، وفروخ الفلاسفة، فيبينون للأمة العقيدة الصحيحة، التي يجب على كل مكلف أو فاضل اعتقادها! وهم مع ذلك أحيلوا في معرفتها على مجرد عقولهم، وأن يدفعوا بمقتضى قياس عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة، نصا أو ظاهرا; يا سبحان الله! كيف لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم يوما من الدهر، ولا أحد من سلف الأمة: هذه الأحاديث والآيات، لا تعتقدوا ما دلت عليه، لكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم، فإنه الحق، وما خالفه فلا تعتقدوا ظاهره، وانظروا فيها، فما وافق قياس عقولكم فاعتقدوه، وما لا فتوقفوا فيه، أو انفوه!

ثم الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أمته ستفترق ثلاثا وسبعين فرقة، فقد علم ما سيكون في أمته من الاختلاف، ثم قال:" إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله "1، وروي أنه قال في صفة الفرقة الناجية " هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي "2، فهلا قال: من تمسك بالقرآن، أو بدلالة القرآن، أو بمفهوم القرآن، أو بظاهر القرآن، في باب الاعتقاد فهو ضال، وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم، وما يحدثه المتكلفون منكم بعد القرون الثلاثة؟ !

ثم أصل مقالة التعطيل للصفات إنما أخذت عن تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين ; فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام: الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها، فنسبت مقالة

1 الترمذي: المناقب (3788) ، وأحمد (3/17 ،3/26 ،3/59) .

2 الترمذي: الإيمان (2641) .

ص: 45

الجهمية إليه ; وقيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كان أصل هذه المقالة، مقالة التعطيل والتأويل، مأخوذة من تلامذة المشركين والصابئين واليهود، فكيف تطيب نفس مؤمن، بل نفس عاقل أن يسلك سبيل هؤلاء المغضوب عليهم والضالين، ويدع سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والشهداء والصالحين؟ !

وجماع الأمر: أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام، كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة، قسمان يقولون: تجرى على ظواهرها، وقسمان يقولون: هي على خلاف ظواهرها، وقسمان يسكتون. أما الأولون فقسمان، أحدهما: من يجريها على ظاهرها، من جنس صفات المخلوقين، فهؤلاء المشبهة، وإليهم توجه الرد بالحق ; والثاني: من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله تعالى، كما يجري اسم الله: العليم، والقدير، والرب، والموجود، والذات، على ظاهرها اللائق بجلال الله. فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوقين إما جوهر محدث، وإما عرض قائم، كالعلم، والقدرة، والكلام، والمشيئة، والرحمة، والرضى، والغضب، ونحو ذلك، في حق العبد أعراض؛ والوجه، واليد والعين في حقه أجسام.

ص: 46

فإذا كان الله موصوفا عند عامة أهل الإثبات بأن له علما، وقدرة، وكلاما، ومشيئة، وإن لم تكن أعراضا يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين، جاز أن يكون وجه الله، ويداه، ليست أجساما يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين ; وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف، وعليه يدل كلام جمهورهم ; وكلام الباقين لا يخالفه، وهو أمر واضح لمن هداه الله، فإن الصفات كالذات. فكما أن ذات الله ثابتة حقيقية، من غير أن تكون من جنس المخلوقات، فصفاته ثابتة حقيقية، من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقين، فمن قال: لا أعقل علما ويدا إلا من جنس العلم واليد المعهودة، قيل له: فكيف تعقل ذاتا من غير جنس ذوات المخلوقين؟

ومن المعلوم: أن صفات كل موصوف تناسب ذاته، وتلائم حقيقته، فمن لم يفهم من صفات الرب الذي:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] إلا ما يناسب المخلوقين، فقد ضل في عقله ودينه. وما أحسن ما قال بعضهم: إذا قال لك الجهمي: كيف استوى؟ أو كيف ينْزل إلى سماء الدنيا؟ أو كيف يداه؟ ونحو ذلك، فقل له: كيف هو في نفسه؟ فإذا قال: لا يعلم ما هو إلا هو، وكنه الباري غير معقول للبشر، فقل له: فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف، فكيف يمكن أن يعلم كيفية صفة لموصوف لم تعلم كيفيته؟ وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة، على الوجه الذي

ص: 47

ينبغي؛ بل هذه المخلوقات في الجنة، قد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال:"ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء"، وقد أخبر الله سبحانه أنه {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [سورة السجدة آية: 17] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "يقول الله عز وجل أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر "1.

فإذا كان نعيم الجنة، وهو خلق من خلق الله تعالى، كذلك، فما الظن بالخالق سبحانه وتعالى؟ وهذه الروح التي في بني آدم، قد علم العاقل اضطراب الناس فيها، وإمساك النصوص عن بيان كيفيتها، أفلا يعتبر العاقل بها عن الكلام في كيفيته تعالى؟ مع أنا نقطع أن الروح في البدن، وأنها تخرج منه، وتعرج إلى السماء، وأنها تسل منه وقت النّزع كما نطقت بذلك النصوص الصحيحة.

وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرها، أعني الذين يقولون: ليس لها في الباطن مدلول هو صفة لله تعالى، وأن الله تعالى لا صفة له ثبوتية، بل صفاته إما سلبية، وإما إضافية، وإما مركبة منهما، ويثبتون بعض الصفات، وهي السبع، أو الثمان، أو الخمس عشرة، على ما قد عرف من مذاهب المتكلمين من الأشعرية وغيرهم، فهؤلاء قسمان: قسم يتأولونها، ويعينون المراد، مثل قولهم: استوى بمعنى: استولى، أو بمعنى: علو المكانة والقدر، أو بمعنى: طهور نوره للعرش، أو بمعنى: انتهاء الخلق إليه، إلى غير

1 البخاري: بدء الخلق (3244)، ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2824)، والترمذي: تفسير القرآن (3197)، وابن ماجه: الزهد (4328) ، وأحمد (2/313 ،2/438 ،2/466 ،2/495)، والدارمي: الرقاق (2828) .

ص: 48

ذلك من معاني المتكلمين، وقسم يقولون: الله أعلم بما أراد بها، لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجة عما علمناه.

وأما القسمان الواقفان، فقسم يقولون: يجوز أن يكون المراد بظاهرها اللائق بالله، ويجوز أن لا يكون المراد صفة الله، ونحو ذلك ; وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم. وقسم يمسكون عن هذا كله، ولا يزيدون على تلاوة القرآن، وتلاوة الحديث، معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات كلها ; فهذه الأقسام الستة، لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها.

والصواب في ذلك: القطع بالطريقة السلفية، وهي: اعتقاد الشافعي، ومالك، والثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وهي: اعتقاد المشايخ المقتدى بهم، كالفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، وسهل بن عبد الله التستري، وغيرهم؛ فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة نزاع في أصول الدين، وكذلك أبو حنيفة رحمه الله. واعتقاد هؤلاء، هو ما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وهو: ما نطق به الكتاب والسنة، في التوحيد، والقدر، وغير ذلك.

قال الشافعي رحمه الله، في أول خطبة الرسالة: الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه، فبين رحمه الله، أن الله تعالى يوصف بما وصف به نفسه في

ص: 49

كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك قال أحمد بن حنبل: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجارية:" أين الله؟ قالت: في السماء ; قال: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة "1 وهذا الحديث رواه الشافعي، ومالك، وأحمد بن حنبل، ومسلم في صحيحه، وغيرهم.

وأهل السنة يعلمون أن ليس معنى ذلك، أن الله في جوف السماء، وأن السماوات تحصره وتحويه ; فإن هذا لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هم متفقون على أن الله فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وقد قال مالك بن أنس: إن الله في السماء، وعلمه في كل مكان. وقالوا لعبد الله بن المبارك: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه. وقال أحمد بن حنبل كما قال هذا وهذا.

وقال الأوزاعي: كنا، والتابعون متوافرون، نقر بأن الله فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته.

فمن اعتقد أن الله في جوف السماء، محصور محاط به، أو أنه مفتقر إلى العرش، أو غير العرش من المخلوقات، أو أن استواءه على عرشه كاستواء المخلوق على سريره، فهو ضال

1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (537)، والنسائي: السهو (1218)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3282) .

ص: 50

مبتدع جاهل، ومن اعتقد أنه ليس فوق السماوات إله يعبد، ولا على العرش رب يصلى له ويسجد، فهو معطل فرعوني، ضال مبتدع.

فإن فرعون كذب موسى في أن ربه فوق السماوات، وقال:{يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [سورة آية: 36] ومحمد صلى الله عليه وسلم صدق موسى في أن ربه فوق السماوات، فإنه لما كان ليلة المعراج وعرج به إلى السماء، وفرض عليه ربه خمسين صلاة، ذكر أنه رجع إلى موسى وقال له: ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فإن أمتك لا تطيق ذلك، فرجع إلى ربه فخفف عنه عشرا، ثم رجع إلى موسى فأخبره بذلك، فقال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، وهذا الحديث في الصحاح، فمن وافق فرعون وخالف موسى ومحمدا صلى الله عليه وسلم فهو ضال، ومن مثل الله بخلقه فهو ضال مشبه. قال نعيم بن حماد: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه، ولا رسوله تشبيها، انتهى.

ومن تكلم في الله وأسمائه وصفاته بما يخالف الكتاب والسنة، فهو من الخائضين في آيات الله بالباطل، وقد قال تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [سورة الأنعام آية: 68] .

ص: 51

واعلم أن كثيرا من المصنفين ينسب إلى أئمة الإسلام ما لم يقولوه، فينسبون إلى الشافعي، ومالك، وأحمد، وأبي حنيفة، من الاعتقادات الباطلة ما لم يقولوه، ويقولون لمن تبعهم: هذا الذي نقوله اعتقاد الإمام الفلاني، فإذا طولبوا بالنقل الصحيح عن الأئمة، تبين كذبهم في ذلك، كما تبين كذب كثير من الناس فيما ينقلونه عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويضيفونه إلى سنته، من البدع، والأقوال الباطلة.

ومنهم من إذا طولب بتحقيق نقله يقول: هذا القول قاله العقلاء، والإمام الفلاني لا يخالف العقلاء، ويكون أولئك العقلاء من أهل الكلام الذين ذمهم الأئمة؛ فقد قال الشافعي رحمه الله: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام. فإذا كان هذا حكمه فيمن أعرض عنهما، فكيف حكمه فيمن عارضهما بغيرهما؟ وقال أبو يوسف، صاحب أبي حنيفة: من طلب الدين بالكلام تزندق. وقال أحمد بن حنبل: ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح ; وقال: علماء الكلام زنادقة ; وكثير من هؤلاء، قرؤوا كتبا من كتب الكلام فيها شبهات أضلتهم، ولم يهتدوا لجوابها، فإنهم يجدون في تلك الكتب: أن الله لو كان فوق الخلق لزم التجسيم، والتحيز، والجهة، وهم لا يعلمون حقائق هذه الألفاظ، وما أراد بها أصحابها.

ومن اشتبه عليه ذلك أو غيره، فليدع بما رواه مسلم

ص: 52

في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل، يصلي يقول:" اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك، فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم "1، فإذا افتقر العبد إلى الله ودعاه، وأدمن النظر في كلام الله، وكلام رسوله، وكلام الصحابة، والتابعين، وأئمة المسلمين، انفتح له الباب، وتبين له الصواب، بمشيئة الملك الوهاب، وصلى الله على محمد.

[جواب الشيخ حمد بن معمر عن آيات الصفات والأحاديث الواردة في ذلك]

سئل الشيخ: حمد بن ناصر بن معمر، رحمه الله تعالى: ما قولكم أدام الله النفع بعلومكم، في آيات الصفات، والأحاديث الواردة في ذلك، مثل قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5]، ومثل قوله:{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [سورة الفتح آية: 10] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ينْزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا " 2 وقوله صلى الله عليه وسلم: "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن"، إلى غير ذلك مما ظاهره يوهم التشبيه؟ فأفيدونا عن اعتقاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، في ذلك؟ وكيف مذهبه؟ ومذهبكم من بعده؟ هل تمرون ما ورد من ذلك على ظاهره، مع التنْزيه؟ أم تؤولون؟ وابسطوا الكلام على ذلك، وأجيبوا جوابا شافيا، تغنموا أجرا وافيا.

1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770)، والترمذي: الدعوات (3420)، والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1625)، وأبو داود: الصلاة (767)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) ، وأحمد (6/156) .

2 البخاري: الجمعة (1145) والتوحيد (7494)، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758)، والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498)، وأبو داود: الصلاة (1315)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) ، وأحمد (2/258 ،2/264 ،2/267 ،2/282 ،2/419 ،2/487 ،2/504 ،2/521)، ومالك: النداء للصلاة (496)، والدارمي: الصلاة (1478 ،1479) .

ص: 53

فأجاب بما نصه:

الحمد لله رب العالمين، قولنا في آيات الصفات، والأحاديث الواردة في ذلك، ما قاله الله ورسوله، وما قاله سلف الأمة وأئمتها، من الصحابة، والتابعين، والأئمة الأربعة، وغيرهم من علماء المسلمين، فنصف الله تعالى بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل ; بل نؤمن بأن الله سبحانه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] فلا ننفي عنه ما وصف به نفسه، ولا نحرف الكلم عن مواضعه، ولا نلحد في أسماء الله وآياته، ولا نكيف، ولا نمثل صفاته بصفات خلقه ; لأنه سبحانه لا سمي له، ولا كفو له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه؛ سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ; فهو فسبحانه ليس كمثله شيء في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، بل يوصف بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، من غير تكييف ولا تمثيل خلافا للمشبهة، ومن غير تحريف ولا تعطيل خلافا للمعطلة.

فمذهبنا مذهب السلف: إثبات بلا تشبيه، وتنْزيه بلا تعطيل، وهو مذهب أئمة الإسلام، كمالك، والشافعي، والثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، والإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، وهو اعتقاد المشايخ المقتدى بهم،

ص: 54

كالفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، وسهل بن عبد الله التستري، وغيرهم، فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة نزاع في أصول الدين، وكذلك أبو حنيفة رضي الله عنه، فإن الاعتقاد الثابت عنه موافق لاعتقاد هؤلاء، وهو الذي نطق به الكتاب والسنة، قال الإمام أحمد رحمه الله: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز القرآن، والحديث؛ وهكذا مذهب سائرهم، كما سننقل عباراتهم بألفاظها إن شاء الله تعالى.

ومذهب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، هو ما ذهب إليه هؤلاء الأئمة المذكورون، فإنه يصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يتجاوز القرآن والحديث، ويتبع في ذلك سبيل السلف الماضين، الذين هم أعلم هذه الأمة بهذا الشأن، نفيا وإثباتا ; وهم أشد تعظيما لله، وتنْزيها له، عما لا يليق بجلاله، فإن المعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات، فيكون ردها من باب تحريف الكلم عن مواضعه.

ولا يقال: هي ألفاظ لا تعقل معانيها، ولا يعرف المراد منها، فيكون ذلك مشابهة للذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، بل هي آيات بينات دالة على أشرف المعاني وأجلها، قائمة حقائقها في صدور الذين أوتوا العلم والإيمان، إثباتا بلا تشبيه، وتنْزيها بلا تعطيل، كما قامت حقائق سائر صفات الكمال في قلوبهم كذلك.

ص: 55

فكان الباب عندهم بابا واحدا، قد اطمأنت به قلوبهم، وسكنت إليه نفوسهم، فأنسوا من صفات كماله ونعوت جلاله بما استوحش منه الجاهلون المعطلون، وسكنت قلوبهم إلى ما نفر منه الجاحدون، وعلموا أن الصفات حكمها حكم الذات؛ فكما أن ذاته سبحانه لا تشبه الذوات، فصفاته لا تشبه الصفات، فما جاءهم من الصفات عن المعصوم تلقوه بالقبول، وقابلوه بالمعرفة والإيمان والإقرار، لعلمهم بأنه سبحانه لا شبيه لذاته ولا لصفاته.

قال الإمام أحمد لما سئل عن التشبيه: هو أن يقول: يد كيدي، ووجه كوجهي، فأما إثبات يد ليست كالأيدي، ووجه ليس كالوجوه، فهو كإثبات ذات ليست كالذوات، وحياة ليست كغيرها من الحياة، وسمع وبصر ليسا كالأسماع والأبصار؛ وهو سبحانه موصوف بصفات الكمال، منَزه عن كل نقص وعيب، وهو سبحانه في صفات الكمال لا يماثله شيء، فهو حي قيوم، سميع بصير، عليم خبير، رؤوف رحيم {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الفرقان آية: 59] ، وكلم موسى تكليما، وتجلى للجبل فجعله دكا.

لا يماثله شيء من الأشياء في شيء من صفاته، فليس كعلمه علم أحد، ولا كقدرته قدرة أحد، ولا كرحمته رحمة أحد، ولا كاستوائه استواء أحد، ولا كسمعه وبصره سمع أحد ولا بصره، ولا كتكليمه تكليم أحد، ولا كتَجَلِّيه تجلّي

ص: 56

أحد، بل نعتقد أن الله جل اسمه في عظمته وكبريائه، وحسن أسمائه، وعلو صفاته، ولا يشبه به شيء من مخلوقاته، وأن ما جاء من الصفات مما أطلقه الشرع على الخالق وعلى المخلوق، فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقي، إذ صفات القديم بخلاف صفات المخلوق، فكما أن ذاته لا تشبه الذوات فكذلك صفاته لا تشبه الصفات، وليس بين صفاته وصفات خلقه إلا موافقة اللفظ.

والله سبحانه قد أخبر أن في الجنة لحما، ولبنا، وعسلا، وماء، وحريرا، وذهبا، وقد قال ابن عباس:"ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء"، فإذا كانت المخلوقات الغائبة ليست مثل هذه الموجودة مع اتفاقها في الأسماء، فالخالق جل وعلا أعظم علوا ومباينة لخلقه، من مباينة المخلوق للمخلوق، وإن اتفقت الأسماء.

وأيضا فإن الله سبحانه قد سمي نفسه، حيا، عليما، سميعا، بصيرا، ملكا رؤوفا، رحيما ; وقد سمى بعض مخلوقاته حيا، وبعضها عليما، وبعضها سميعا بصيرا، وبعضها رؤوفا رحيما، وليس الحي كالحي، ولا العليم كالعليم. ولا السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير، ولا الرءوف كالرءوف، ولا الرحيم كالرحيم.

قال الله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [سورة البقرة آية: 255]، وقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ

ص: 57

وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [سورة يونس آية: 31] ،

وقال: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [سورة التحريم آية: 2]، وقال:{وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [سورة الذاريات آية: 28]، وقال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [سورة النساء آية: 58]، وقال:{إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [سورة الإنسان آية: 2]، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [سورة البقرة آية: 143]، وقال تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [سورة التوبة آية: 128] ، وليس بين صفة الخالق والمخلوق مشابهة، إلا في اتفاق الاسم.

وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها، على أن الله سبحانه فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه، والعرش وما سواه فقير إليه، وهو غني عن كل شيء، لا يحتاج إلى العرش ولا إلى غيره، ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. فمن قال: إن الله ليس له علم، ولا قدرة، ولا كلام، ولا يرضى، ولا يغضب، ولا استوى على العرش، فهو معطل ملعون، ومن قال: علمه كعلمي، أو قدرته كقدرتي، أو كلامه مثل كلامي، أو استواؤه كاستوائي، ونزوله كنُزولي، فإنه ممثل ملعون، ومن قال هذا فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، باتفاق أئمة الدين.

فالممثل يعبد صنما ; والمعطل يعبد عدما؛ والكتاب والسنة فيهما الهدى والسداد، وطريق الرشاد، فمن اعتصم بهما هدي، ومن تركهما ضل. وهذا كتاب الله من أوله إلى

ص: 58

آخره، وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كلام الصحابة والتابعين وسائر الأئمة، قد دل ذلك بما هو نص، أو ظاهر، في أن الله سبحانه فوق العرش، مستو على عرشه، ونحن نذكر من ذلك بعضه، قال الله سبحانه وتعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة السجدة آية: 4] .

وقد أخبر سبحانه باستوائه على عرشه، في سبعة مواضع من كتابه، فذكر في سورة الأعراف، ويونس، والرعد، وطه، والفرقان، وتنْزيل السجدة، والحديد، وقال تعالى:{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [سورة آل عمران آية: 55]، وقال:{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [سورة النساء آية: 158]، وقال:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [سورة فاطر آية: 10]، وقال:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [سورة الملك آية: 16] .

وأخبر عن فرعون أنه قال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [سورة غافر آية: 36]، ففرعون كذب موسى في قوله: إن الله في السماء، وقال تعالى:{تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت آية: 42]، وقال:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [سورة النحل آية: 102] .

ص: 59

وتأمل قوله تعالى في سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4]، فقوله:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [سورة هود آية: 7] ، يتضمن إبطال قول الملاحدة، القائلين بقدم العالم، وأنه لم يزل، وأنه لم يخلقه بقدرته ومشيئته، ومن أثبت منهم وجود الرب، جعله لازما لذاته، أزلا وأبدا، غير مخلوق، كما هو قول ابن سينا، وأتباعه الملاحدة.

وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] يتضمن إبطال قول المعطلة الذين يقولون: ليس على العرش سوى العدم، وأن الله ليس مستويا على العرش، ولا ترفع إليه الأيدي، ولا تجوز الإشارة إليه بالأصابع إلى فوق، كما أشار النبي صلى الله عليه وسلم في أعظم مجامعه، وجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكبها إلى الناس، ويقول:"اللهم اشهد"، وسيأتي الحديث إن شاء الله تعالى ; فأخبر في هذه الآية الكريمة أنه على عرشه، وأنه:{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سورة سبأ آية: 2]، ثم قال:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] ، فأخبر أنه مع علوه على خلقه، وارتفاعه، ومباينته لهم، معهم بعلمه أينما كانوا.

قال الإمام مالك: الله في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو منه شيء. وقال نعيم بن حماد لما سئل عن

ص: 60

معنى هذه الآية: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] معناه: أنه لا يخفى عليه خافية بعلمه، وسيأتي هذا مع ما يشابهه من كلام الإمام أحمد، وأبي زرعة، وغيرهما، وليس معنى قوله تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] أنه: مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آية من آيات الله، من أصغر مخلوقاته، هو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان.

وهو سبحانه فوق العرش، رقيب على خلقه، مهيمن عليهم، مطلع عليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته ; وأخبر تعالى أنه ذو المعارج تعرج الملائكة والروح إليه، وأنه القاهر فوق عباده، وأن ملائكته يخافون ربهم من فوقهم، فكل هذا الكلام الذي ذكره الله، من أنه فوق عباده، على عرشه، وأنه معنا، حق على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة.

وهو سبحانه، قد أخبر أنه قريب من خلقه، كقوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [سورة البقرة آية: 186] الآية، وقوله:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق آية: 16]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته "1، وقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ

1 أحمد (4/402) .

ص: 61

إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [سورة المجادلة آية: 7] .

وكل ما في الكتاب والسنة، من الأدلة الدالة على قربه ومعيته، لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته ; فإنه سبحانه علي في دنوه، قريب في علوه ; وقد أجمع سلف الأمة، على أن الله سبحانه وتعالى فوق سماواته، على عرشه، وهو مع خلقه بعلمه أينما كانوا، يعلم ما هم عاملون، وقال حنبل بن إسحاق: قيل لأبي عبد الله: ما معنى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] قال: علمه محيط بالكل، وربنا على العرش بلا حد ولا صفة، وسيأتي الكلام مع زيادة عليه من كلام الإمام أحمد، وغيره إن شاء الله تعالى.

وأما الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، فكثيرة جدا، منها ما رواه مسلم في صحيحه، وأبو داود، والنسائي، وغيرهم، عن معاوية بن الحكم السلمي، قال:" لطمت جارية لي، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعظم ذلك علي، فقلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: بلى، ائتني بها. قال: فجئت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: أين الله؟ فقالت: في السماء، فقال: فمن أنا؟ قالت: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعتقها فإنها مؤمنة "1 وفي الحديث مسألتان، إحداهما: قول الرجل لغيره: أين الله؟ وثانيهما: قول المسئول: في السماء، فمن أنكر هاتين المسألتين، فإنما ينكر على الرسول صلى الله عليه وسلم.

وفي صحيح البخاري، عن أنس بن مالك رضي الله

1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (537)، والنسائي: السهو (1218)، وأبو داود: الصلاة (930) .

ص: 62

عنه، قال:" كانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات" 1، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما خلق الله الخلق، كتب كتابا، فهو عنده فوق العرش، إن رحمتي تغلب غضبي "2، وفي لفظ آخر:" كتب في كتابه على نفسه، فهو موضوع عنده، إن رحمتي تغلب غضبي "3، وفي لفظ:"فهو مكتوب عنده فوق العرش "4، وهذه الألفاظ كلها في صحيح البخاري.

وفي صحيح مسلم عن أبي موسى، قال:" قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرق سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه "5.

وفي الصحيحين، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر، وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم الرب وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون "6.

وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من

1 الترمذي: تفسير القرآن (3213) .

2 البخاري: بدء الخلق (3194)، ومسلم: التوبة (2751)، والترمذي: الدعوات (3543)، وابن ماجه: المقدمة (189) والزهد (4295) ، وأحمد (2/259) .

3 البخاري: بدء الخلق (3194) والتوحيد (7404 ،7422 ،7453 ،7553 ،7554)، ومسلم: التوبة (2751)، والترمذي: الدعوات (3543)، وابن ماجه: المقدمة (189) والزهد (4295) ، وأحمد (2/257 ،2/259 ،2/313 ،2/358 ،2/381 ،2/397 ،2/433 ،2/466) .

4 البخاري: بدء الخلق (3194)، ومسلم: التوبة (2751) ، وأحمد (2/257 ،2/259 ،2/313 ،2/358 ،2/381) .

5 مسلم: الإيمان (179) ، وأحمد (4/405) .

6 البخاري: مواقيت الصلاة (555)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (632)، والنسائي: الصلاة (485) ، وأحمد (2/257 ،2/312 ،2/486)، ومالك: النداء للصلاة (413) .

ص: 63

اشتكى منكم أو اشتكى أخ له، فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض؛ كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض، واغفر لنا ذنوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفاك، على هذا الوجع فيبرأ "1 أخرجه أبو داود.

وفي الصحيحين في قصة المعراج، وهي متواترة:"وتجاوز النبي صلى الله عليه وسلم السماوات سماء سماء، حتى انتهى إلى ربه تعالى، فقربه وأدناه، وفرض عليه خمسين صلاة، فلم يزل يتردد بين موسى وبين ربه، ينْزل من عند ربه إلى موسى، فيسأله: كم فرض عليك؟ فيخبره، فيقول: ارجع إلى ربك فسله التخفيف".

وذكر البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه، حديث أنس، حديث الإسراء، وقال فيه:" ثم علا به جبريل فوق ذلك، بما لا يعلم إلا الله، حتى جاوز سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة، فتدلى حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إليه فيما أوحى خمسين صلاة كل يوم وليلة، ثم هبط حتى بلغ موسى، فاحتبسه موسى، فقال: يا محمد، ماذا عهد إليك ربك؟ قال عهد إلي خمسين صلاة كل يوم وليلة، قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك، فارجع، فليخفف عنك ربك، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره، فأشار عليه جبريل: أن نعم إن شئت، فعلا به إلى الجبار تبارك وتعالى، فقال وهو في مكانه: يا رب خفف عنا "2 وذكر الحديث.

1 أبو داود: الطب (3892) .

2 البخاري: التوحيد (7517)، ومسلم: الإيمان (162)، والنسائي: الصلاة (449) .

ص: 64

ولما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة، بأن تقتل مقاتلهم، وتسبى ذريتهم، وتغنم أموالهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:" لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبعة أرقعة "، وفي لفظ:" من فوق سبع سماوات "، وأصل القصة في الصحيحين، وهذا السياق لمحمد بن إسحاق في المغازي. وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد قال: بعث علي بن أبي طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة في أديم مقروض، لم تحصل من ترابها، قال: فقسمها بين أربعة: بين عيينة بن حصن بن بدر، والأقرع بن حابس، وزيد الخيل، والرابع إما علقمة، وإما عامر بن الطفيل، فقال رجل من أصحابه: كنا أحق بهذا من هؤلاء، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟ يأتيني خبر السماء صباحا ومساء "1.

وفي سنن أبي داود من حديث جبير بن مطعم، قال:"جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك، وبك على الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! سبحان الله! ! فما زال يسبح، حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، فقال: ويحك! أتدري ما الله؟ إن شأنه أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه، إنه لفوق سماواته على عرشه، وإنه عليه لهكذا، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب"، وقد ساق الذهبي هذا الحديث في كتاب العلو، من رواية محمد بن إسحاق، ثم قال: هذا

1 البخاري: المغازي (4351)، ومسلم: الزكاة (1064)، والنسائي: تحريم الدم (4101)، وأبو داود: السنة (4764) ، وأحمد (3/4 ،3/68 ،3/73) .

ص: 65

حديث غريب جدا ; وابن إسحاق حجة في المغازي، إذا أسند ; وله مناكير، وعجائب، فالله أعلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا، أم لا؟

والله عز وجل ليس كمثله شيء، جل جلاله، وتقدست أسماؤه، ولا إله غيره ; والأطيط الواقع بذات العرش، من جنس الأطيط الحاصل في الرحل، فذاك صفة للرحل وللعرش، ومعاذ الله أن نعده صفة الله عز وجل، ثم لفظ الأطيط لم يأت به نص ثابت، وقولنا في هذه الأحاديث: إنا نؤمن بما صح منها، وبما اتفق السلف على إمراره وإقراره، فأما ما في إسناده مقال، واختلف العلماء في قبوله وتأويله، فإنا لا نتعرض له بتقرير، بل نرويه في الجملة، ونبين حاله، وهذا الحديث إنما سقناه لما فيه مما تواتر، من علو الله على عرشه، مما يوافق آيات الكتاب.

وفي سنن أبي داود، ومسند الإمام أحمد، من حديث العباس بن عبد المطلب، قال: " كنت جالسا بالبطحاء، في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرت سحابة، فنظر إليها، فقال: ما تسمون هذه؟ قالوا: السحاب، قال: والمزن. قالوا؟ والمزن، قال: والعنان قالوا: والعنان. قال: هل تدرون بُعْد ما بين السماء والأرض؟ قالوا: لا ندري، قال: إن بُعْدَ ما بينهما إما واحدة وإما اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة، ثم السماء فوقها كذلك، حتى عد سبع سماوات، ثم فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين السماء إلى

ص: 66

السماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال، بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهم العرش، أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم الله عز وجل فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم "1.

وفي مسند الإمام أحمد، من حديث أبي هريرة:" أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء أعجمية، فقال: يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ فأشارت بأصبعها السبابة إلى السماء، فقال لها: من أنا؟ فأشارت بأصبعها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى السماء، أي: أنت رسول الله، فقال: أعتقها فإنها مؤمنة "2.

وفي جامع الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء "3 قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وفي جامع الترمذي أيضا عن عمران بن حصين، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه حصين: " كم تعبد اليوم إلها قال: سبعة، ستة في الأرض، وواحد في السماء، قال: فمن الذي تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال الذي في السماء، قال: يا حصين أما إنك لو أسلمت، علمتك كلمتين ينفعانك. قال: فلما أسلم حصين، قال: يا رسول الله، علمني الكلمتين اللتين وعدتني، قال: قل اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي "4 وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة

1 الترمذي: تفسير القرآن (3320)، وأبو داود: السنة (4723)، وابن ماجه: المقدمة (193) .

2 أبو داود: الأيمان والنذور (3284) ، وأحمد (2/291) .

3 الترمذي: البر والصلة (1924)، وأبو داود: الأدب (4941) .

4 الترمذي: الدعوات (3483) .

ص: 67

رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده، ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه، فتأبى عليه، إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها، حتى يرضى عنها "1. وفي حديث الشفاعة، الطويل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فأدخل على ربي تبارك وتعالى وهو على عرشه "، وذكر الحديث، وفي بعض ألفاظ البخاري: " فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه "2 وصح عن أبي هريرة، بإسناد مسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لله ملائكة سيارة، يتتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلس ذكر جلسوا معهم، فإذا تفرقوا صعدوا إلى ربهم "3 وأصل الحديث في صحيح مسلم، ولفظه: " فإذا تفرقوا صعدوا إلى السماء، فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم بهم، من أين جئتم؟ "4 الحديث.

والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا، لا يتسع هذا الجواب لبسطها، وفيما ذكرنا كفاية لمن هداه الله، وألهمه رشده ; وأما من أراد الله فتنته، فلا حيلة فيه، بل لا تزيده كثرة الأدلة إلا حيرة وضلالا، كما قال تعالى:{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} [سورة المائدة آية: 64] وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [سورة الإسراء آية: 82]، وقال جل ذكره:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ} [سورة البقرة آية: 26]، وقال تبارك وتعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً

1 مسلم: النكاح (1736) .

2 البخاري: التوحيد (7410)، ومسلم: الإيمان (193)، وابن ماجه: الزهد (4312) ، وأحمد (3/244) .

3 البخاري: الدعوات (6408)، ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2689)، والترمذي: الدعوات (3600) ، وأحمد (2/251 ،2/358 ،2/382) .

4 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2689) ، وأحمد (2/382) .

ص: 68

إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [سورة التوبة آية: 125]، وقال سبحانه وتعالى:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سورة فصلت: 44] .

والمقصود: أن نصوص الكتاب والسنة قد نطقت; بل قد تواترت بإثبات علو الله على خلقه، وأنه فوق سماواته، مستو على عرشه استواء يليق بجلاله، لا يعلم كيفيته إلا هو؛ فإن قال السائل: كيف استوى على عرشه؟ قيل له: كما قال ربيعة ومالك وغيرهما: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة، وكذلك إذا قال: كيف ينْزل ربنا؟ قيل له: كيف هو؟ فإذا قال: أنا لا أعلم كيفيته، قيل: ونحن لا نعلم كيف نزوله، إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له، فكيف تطالبني بكيفية استوائه على عرشه، وتكليمه، ونزوله، وأنت لا تعلم كيفية ذاته؟

وإذا كنت تقر بأن له ذاتا حقيقة، ثابتة في نفس الأمر، مستوجبة لصفات الكمال، لا يماثلها شيء، فاستواؤه ونزوله وكلامه ثابت في نفس الأمر، ولا يشابهه فيها استواء المخلوقين وكلامهم ونزولهم، فإنه ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله؛ فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات

ص: 69

حقيقة لا تماثل سائر الصفات، فإن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، فإذا كانت ذاته لا تشبه ذوات المخلوقين، فصفات الخالق لا تشبه صفات المخلوقين.

وكثير من الناس يتوهم في كثير من الصفات أو أكثرها، أو كلها، أنها تماثل صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فهمه، فيقع في محاذير، منها: أنه مثّل ما فهم من النصوص بصفات المخلوقين، وظن أن مدلول النصوص هو التمثيل ; ومنها: أن ينفي تلك الصفات عن الله بلا علم، فيكون معطلا لما يستحقه الرب من صفات الكمال، ونعوت الجلال، فيكون قد عطل ما أثبته الله ورسوله، من صفات الإلهية اللائق بجلال الله وعظمته.

ومنها: أن يصف الرب بنقيض تلك الصفات، من صفات الجمادات، وصفات المعدومات، فيكون قد عطل صفات الكمال التي يستحقها الرب، ومثله بالنقوصات والمعدومات، وعطل النصوص عما دلت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فجمع في الله وفي كلام الله من التعطيل والتمثيل، فيكون ملحدا في أسمائه وآياته؛ ومثال ذلك: أن النصوص كلها قد دلت على وصف الإله تبارك وتعالى بالفوقية، وعلوه على المخلوقات، واستوائه على عرشه، وليس في كتاب الله والسنة، وصف له بأنه لا داخل العالم، ولا خارجا عنه، ولا مباينه، ولا مداخله.

ص: 70

فيظن المتوهم أنه إذا وصف الله تعالى بالاستواء على العرش، كان الاستواء كاستواء الإنسان على ظهر الفلك والأنعام، كقوله:{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ} [سورة الزخرف آية: 12-13] ، فيخيل لهذا الجاهل بالله وصفاته، أنه إذا كان مستويا على العرش كان محتاجا إليه، كحاجة المستوي على الفلك والأنعام، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، بل هو غني عن العرش وغيره، وكل ما سواه مفتقر إليه، فكيف يتوهم أنه إذا كان مستويا على العرش كان محتاجا إليه، تعالى الله عن ذلك وتقدس.

وأيضا فقد علم أن الله تعالى خلق العالم بعضه فوق بعض، ولم يجعل عاليه مفتقراً إلى سافله، فالهواء فوق الأرض، وليس مفتقرا إلى أن تحمله الأرض، والسحاب أيضا فوق الأرض، وليس مفتقرا إلى أن تحمله، والسماوات فوق الأرض، وليست مفتقرة إلى حمل الأرض لها، فالعلي الأعلى رب كل شيء ومليكه، إذا كان فوق جميع خلقه، كيف يجب أن يكون محتاجا إلى عرشه أو خلقه؟ أو كيف يستلزم علوه على خلقه هذا الافتقار؟ وهو ليس يستلزم في المخلوقات ; وكذلك قوله:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [سورة الملك آية: 16] وقول النبي صلى الله عليه وسلم " ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء "1؟ وقوله في رقية المريض: "ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك "2، فمن توهم من هذه

1 البخاري: المغازي (4351)، ومسلم: الزكاة (1064)، والنسائي: تحريم الدم (4101)، وأبو داود: السنة (4764) ، وأحمد (3/4 ،3/68 ،3/73) .

2 أبو داود: الطب (3892) .

ص: 71

النصوص أن الله في داخل السماوات، فهو جاهل ضال، باتفاق العلماء.

فلو قال القائل: العرش في السماء أو في الأرض؟ لقيل: في السماء، ولو قيل: الجنة في السماء، أم في الأرض؟ لقيل: في السماء، ولم يلزم من ذلك أن يكون العرش داخل السماوات، بل ولا الجنة، فإن السماء يراد به العلو، سواء كان فوق الأفلاك أو تحتها، قال تعالى:{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [سورة الحج آية: 15]، وقال:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [سورة الفرقان آية: 48] . ولما كان قد استقر في نفوس المخاطبين أن الله هو العلي الأعلى، كان المفهوم من قوله: في السماء أنه في العلو، وأنه كان فوق كل شيء؛ وكذا الجارية، لما قال لها:"أين الله؟ قالت: في السماء "1 إنما أرادت العلو، مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة وحلوله فيها.

وإذ قيل: العلو، فإنه يتناول ما فوق المخلوقات كلها، فما فوقها كلها هو في السماء، ولا يقتضي هذا أن يكون هناك ظرف وجودي يحيط بها، إذ ليس فوق العالم إلا الله، كما لو قيل: العرش في السماء، كان المراد أنه عليها، كما قال تعالى:{فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [سورة آل عمران آية: 137]، وكما قال:{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} [سورة التوبة آية: 2]، وقال عن فرعون:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [سورة طه آية: 71] .

1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (537)، والنسائي: السهو (1218)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3282) .

ص: 72

وبالجملة، فمن قال: إن الله في السماء، وأراد أنه في جوف السماء، بحيث تحصره وتحيط به، فقد أخطأ، وضل ضلالا بعيدا؛ وإن أراد بذلك أن الله فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه فقد أصاب، وهذا اعتقاد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، وهو الذي نطق به الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها.

ومن لم يعتقد ذلك، كان مكذبا الرسل، متبعا غير سبيل المؤمنين، بل يكون في الحقيقة معطلا لربه، نافيا له، ولا يكون له في الحقيقة إله يعبده، ولا رب يقصده ويسأله؛ وهذا قول الجهمية.

والله تعالى قد فطر العباد، عربهم وعجمهم، على أنهم إذا دعوا الله توجهت قلوبهم إلى العلو، ولهذا قال بعض العارفين: ما قال عارف قط: يا الله، إلا وجد في قلبه قبل أن يتحرك لسانه، معنى طلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، بل قد فطر الله على ذلك جميع الأمم، في الجاهلية والإسلام،; إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته، قال ابن قتيبة: ما زالت الأمم عربها وعجمها، في جاهليتها وإسلامها، معترفة بأن الله في السماء، أي على السماء.

فهو سبحانه قد أخبر في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه استوى على عرشه، استواء يليق بجلاله، ويناسب

ص: 73

كبرياءه، وهو غني عن العرش، وعن حملة العرش، والاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، كما قالت أم سلمة، وربيعة، ومالك؛ وهذا مذهب أئمة المسلمين، وهو الظاهر من لفظ (استوى) ، عند عامة المسلمين الباقين على الفطرة السليمة التي لم تنحرف إلى تعطيل، ولا إلى تمثيل.

وهذا هو الذي أراده يزيد بن هارون الواسطى، المتفق على إمامته وجلالته وفضله، وهو من أتباع التابعين، حيث قال: من زعم، أن الرحمن على العرش استوى، خلاف ما يقر في نفوس العامة، فهو جهمي، فإن الذي أقره الله في فطر عباده وجبلهم عليه: أن ربهم فوق سماواته.

وقد جمع العلماء في هذا الباب مصنفات كبارا وصغارا، وسنذكر بعض ألفاظهم في آخر هذه الفتوى إن شاء الله تعالى وليس في كتاب الله، ولا سنة رسول الله، ولا عن أحد من سلف الأمة لا من الصحابة ولا من التابعين ولا عن أئمة الدين، حرف واحد يخالف ذلك؛ ولم يقل أحد منهم قط: إن الله ليس في السماء، ولا أنه ليس على العرش، ولا أنه في كل مكان، ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل، ولا أنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع ونحوها؛ بل قد ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما

ص: 74

خطب خطبته العظيمة، يوم عرفات، في أعظم مجمع حضره رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يقول:" اللهم هل بلغت فيقولون: نعم، فيرفع أصبعه إلى السماء وينكبها إليهم ويقول: اللهم اشهد " وقد تقدمت الإشارة إلى هذا الحديث.

واعلم أن كثيرا من المتأخرين يقولون: هذا مذهب السلف في آيات الصفات وأحاديثها، إقرارها على ما جاءت، مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد، وهذا لفظ مجمل، فإن قول القائل: ظاهرها غير مراد، يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين، وصفات المحدثين، فلا شك أن هذا غير مراد، ومن قال هذا فقد أصاب، لكن أخطأ في إطلاق القول أن هذا ظاهر النصوص، فإن هذا ليس هو الظاهر، فإن إيماننا بما ثبت من نعوته كإيماننا بالذات المقدسة، إذ الصفات تابعة للموصوف، فنعقل وجود الباري، وننَزه ذاته المقدسة عن الأشباه، من غير أن نتعقل الماهية، فكذلك القول في صفاته: نؤمن بها، ونعقل وجودها، ونعلمها في الجملة، من غير أن نتعقلها، أو نشبهها أو نكيفها، أو نمثلها بصفات خلقه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

فلا نقول: إن معنى اليد القدرة، ولا أن معنى الاستواء الاستيلاء، ولا معنى نزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا نزول رحمته، ونحو ذلك؛ بل نؤمن بأنها صفات

ص: 75

حقيقة، والكلام فيها كالكلام في الذات، يحتذي فيه حذوه؛ فإذا كانت الذات تثبت إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية.

ومن ظن أن نصوص الصفات لا يُعقَل معناها ولا يدري ما أراد الله ورسوله منها، ولكن يقرؤها ألفاظا لا معاني لها، ويعلم أن لها تأويلا لا يعلمه إلا الله، وأنها بمنْزلة (كهيعص، حم، عسق، المص) وظن أن هذه طريقة السلف، وأنهم لم يكونوا يعرفون حقائق الأسماء والصفات، ولا يعلمون حقيقة قوله:{وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [سورة الزمر آية: 67]، وقوله:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75]، وقوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، ونحو ذلك، فهذا الظان من أجهل الناس بعقيدة السلف.

وهذا الظن يتضمن استجهال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة، وأنهم كانوا يقرؤون هذه الآيات ويروون حديث النّزول وأمثاله ولا يعرفون معنى ذلك، ولا ما أريد به، ولازم هذا الظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بذلك ولا يعرف معناه، فمن ظن أن هذه عقيدة السلف، فقد أخطأ في ذلك خطأ بينا ; بل السلف رضي الله عنهم أثبتوا لله حقائق الأسماء والصفات، ونفوا عنه مماثلة المخلوقات؛ فكان مذهبهم مذهبا بين مذهبين وهدى بين ضلالين، خرج من مذهب المعطلين والمشبهين، كما

ص: 76

خرج اللبن: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} [سورة النحل آية: 66] .

وقالوا: نصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل، بل طريقتنا إثبات حقائق الأسماء والصفات، ونفي مشابهة المخلوقات، فلا نعطل، ولا نمثل، ولا نؤول، ولا نقول: ليس لله يدان ولا وجه ولا سمع ولا بصر، ولا نقول: له يد كأيدي المخلوقين، ولا أن له وجها كوجوههم، ولا سمعا وبصرا كأسماعهم وأبصارهم، بل نقول: له ذات حقيقة ليست كالذوات، وله صفات حقيقة لا مجازا، ليست كصفات المخلوقين، فكذلك قولنا في وجهه ويديه وكلامه واستوائه.

وهو سبحانه قد وصف نفسه بصفات الكمال ونعوت الجلال، وسمى نفسه بأسماء، وأخبر عن نفسه بأفعال، فسمى نفسه بـ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [سورة الفاتحة آية: 3] ، {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [سورة الحشر آية: 23] ، إلى سائر ما ذكر من أسمائه الحسنى ; ووصف نفسه بما ذكره من الصفات، كسورة الإخلاص، وأول الحديد، وأول طه، وغير ذلك، ووصف نفسه، بأنه يحب ويكره، ويمقت، ويرضى، ويغضب، ويأسف، ويسخط، ويجيء، ويأتي، وأنه استوى على عرشه، وأن له علما وحياة، وقدرة، وإرادة، وسمعا، وبصرا، ووجها، ويدا، وأن له يدين، وأنه فوق عباده، وأن

ص: 77

الملائكة تعرج إليه، وتنزل بالأمر من عنده، وأنه قريب، وأنه مع المحسنين، ومع الصابرين، ومع المتقين، وأن السماوات مطويات بيمينه.

ووصفه رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه ينْزل إلى السماء الدنيا، وأنه يفرح، ويضحك، وأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابعه، وغير ذلك، مما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وكل هذه الصفات تساق مساقا واحدا، وقولنا فيها، كقولنا في صفة العلو والاستواء، فيجب علينا الإيمان بكل ما نطق به الكتاب والسنة من صفات الرب جل وعلا، ونعلم أنها صفات حقيقة لا تشبه صفات المخلوقين، فكما أن ذاته لا تشبه الذوات فصفاته لا تشبه الصفات؛ فلا نمثل ولا نعطل. وكل ما أخبر الله به وأخبر به رسوله، فيجب الإيمان به سواء عرفنا معناه أو لم نعرفه، وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة، وأئمتها، مع أن عامته منصوص عليه في الكتاب والسنة.

وأما ما تنازع فيه المتأخرون نفيا وإثباتا، فليس على أحد، بل ولا له أن يوافق أحدا على إثبات لفظ أو نفيه حتى يعرف مراده، فإن أراد حقا قبل منه، وإن أراد باطلا رد عليه، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يقبل مطلقا ولم يرد جميع معناه، بل يوقف اللفظ ويفسر المعنى؛ كما تنازع الناس في الجهة والتحيز وغير ذلك، فيقول بعض الناس: ليس في جهة، ويقول آخر: بل هو في

ص: 78

جهة، فإن هذه الألفاظ مبتدعة في النفي والإثبات، وليس على أحدهما دليل من الكتاب ولا من السنة، ولا من كلام الصحابة والتابعين ولا أئمة الإسلام؛ فإن هؤلاء لم يقل أحد منهم: إن الله سبحانه وتعالى في جهة، ولا قال: إن الله ليس في جهة، ولا قال: هو متحيز، ولا قال: ليس بمتحيز.

والناطقون بهذه الألفاظ يريدون معنى صحيحا، وقد يريدون معنى فاسدا، فإذا قال: إن الله في جهة ; قيل له: ما تريد بذلك؟ أتريد أنها تحصره وتحيط به؟ أم تريد أمرا عدميا، وهو ما فوق العالم؟ فإنه ليس فوق العالم شيء من المخلوقات ; فإن أردت الجهة الوجودية، وجعلت الله محصورا في المخلوقات، فهذا باطل ; وإن أردت أن الله تعالى فوق المخلوقات، بائن عنها، فهذا حق، وليس في ذلك أن شيئا من المخلوقات حصره، ولا أحاط به، ولا علا عليه ; بل هو العالي عليها، المحيط بها.

وقد قال تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة الزمر آية: 67]، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله يقبض الأرض يوم القيامة، ويطوي السماوات بيمينه ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ "1، فمن تكون جميع المخلوقات بالنسبة إلى قبضته تعالى في هذا الصغر والحقار كيف تحيط به وتحصره؟ ومن قال: إن الله ليس في جهة ; قيل له: ما تريد بذلك؟ فإن أراد بذلك: أنه ليس فوق

1 مسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2787)، والدارمي: الرقاق (2799) .

ص: 79

السماوات رب يعبد، ولا على العرش إله يصلى له ويسجد، ومحمد لم يعرج بذاته إليه، فهذا معطل؛ وإن قال: مرادي بنفي الجهة، أنه لا تحيط به المخلوقات، فقد أصاب، ونحن نقول به.

وكذلك من قال: إن الله متحيز، إن أراد أن المخلوقات تحوزه وتحيط به، فقد أخطأ، وإن أراد أنه محتاز عن المخلوقات، بائن عنها، عال عليها، فقد أصاب ; ومن قال: إنه ليس بمتحيز، إن أراد أن المخلوقات لا تحوزه، فقد أصاب، وإن أراد بذلك أنه ليس ببائن عنها، بل هو لا داخل العالم ولا خارجه، فقد أخطأ ; فإن الأدلة كلها متفقة على أن الله فوق مخلوقاته، عال عليها، فقد فطر الله على ذلك الأعراب والصبيان، كما فطرهم على الإقرار بالخالق تعالى، ولهذا قال عمر بن عبد العزيز: عليك بدين الأعراب، والصبيان ; أي: عليك بما فطرهم الله عليه، فإن الله فطر عباده على الحق، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:" كل مولود يولد على الفطرة "1 الحديث.

[فصل في قوله تعالى يد الله فوق أيديهم]

فصل: وأما قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [سورة الفتح آية: 10]، فاعلم أن لفظ اليد جاء في القرآن على ثلاثة أنواع: مفرد كهذه وكقوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ، وجاء مثنى كقوله:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64]، وكقوله: {مَا

1 البخاري: الجنائز (1385)، ومسلم: القدر (2658)، والترمذي: القدر (2138)، وأبو داود: السنة (4714) ، وأحمد (2/233 ،2/253 ،2/275 ،2/282 ،2/315 ،2/346 ،2/393 ،2/410 ،2/481)، ومالك: الجنائز (569) .

ص: 80

مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75] .

وجاء مجموعا كقوله: {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} . فحيث ذكر اليد مثناة، أضاف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد، وعدى الفعل بالباء إليها، فقال:{خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} . وحيث ذكرها مجموعة، أضاف العمل إليها ولم يعد الفعل بالباء؛ فلا يحتمل {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75] من المجاز ما يحتمله {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ، فإن كل أحد يفهم من قوله: عملت أيدينا، ما يفهمه من قوله: عملنا، وخلقنا، كما يفهم من قوله:{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [سورة الشورى آية: 30] .

وأما قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فلو كان المراد منه مجرد الفعل، لم يكن لذكر اليد - بعد نسبة الفعل إلى الفاعل - معنى، فكيف وقد دخلت الباء، فالفعل قد يضاف إلى يد ذي اليد، والمراد الإضافة إليه، كقوله:{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [سورة الشورى آية: 30] ، وأما إذا أضيف إليه الفعل، ثم عدي بالباء إلى يده مفردة، أو مثناة، فهو ما باشرته يده. ولهذا قال عبد الله بن عمرو بن العاص:"إن الله لم يخلق بيده إلا ثلاثا: خلق آدم بيده، وغرس جنة الفردوس بيده، وكتب التوراة بيده" فلو كانت اليد هي القدرة، لم يكن لها اختصاص بذلك، ولا كانت لآدم فضيلة بذلك على شيء مما خلق بالقدرة.

وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: " أن أهل الموقف يأتون آدم، فيقولون: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من

ص: 81

روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء "1، فذكروا أربعة أشياء كلها خصائص، وكذلك قال آدم لموسى عليهما السلام، في محاجته له: " اصطفاك الله بكلامه، وخط لك الألواح بيده" 2، وفي لفظ آخر: " كتب الله لك التوراة بيده " 3، وهو من أصح الأحاديث، وكذلك في الحديث المشهور "إن الملائكة قالوا: يا رب، خلقت بني آدم يأكلون، ويشربون، وينكحون، ويركبون، فاجعل لهم الدنيا، ولنا الآخرة، فقال الله: لا أجعل صالح من خلقت بيدي، ونفخت فيه من روحي، كمن قلت له كن فكان".

وأيضا فإنه لو كان قوله {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} مثل قوله: {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} لكان آدم والأنعام سواء، وأهل الموقف قالوا:"أنت أبو البشر، خلقك الله بيده"4 يعلمون لآدم تخصيصا وتفضيلا، بكونه مخلوقا باليدين، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:" يقبض الله سماواته بيده اليمنى، والأرض بيده الأخرى "5 وقال صلى الله عليه وسلم: " يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة "6 الحديث، وفي صحيح مسلم في أعلى أهل الجنة منْزلة " أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها "7 وقال عبد الله بن الحارث: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " خلق الله ثلاثة أشياء بيده: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده، ثم قال: وعزتي لا يسكنها مدمن الخمر، ولا ديوث ".

وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: " تكون الأرض يوم القيامة خبزة

1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3340) .

2 البخاري: القدر (6614)، ومسلم: القدر (2652)، والترمذي: القدر (2134)، وأبو داود: السنة (4701)، وابن ماجه: المقدمة (80) ، وأحمد (2/248 ،2/264 ،2/268 ،2/287 ،2/314 ،2/392 ،2/398 ،2/448 ،2/464)، ومالك: الجامع (1660) .

3 مسلم: القدر (2652)، وأبو داود: السنة (4701)، وابن ماجه: المقدمة (80) .

4 البخاري: أحاديث الأنبياء (3340)، ومسلم: الإيمان (194)، والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2434) .

5 البخاري: التوحيد (7413)، ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2788)، وابن ماجه: المقدمة (198) والزهد (4275) ، وأحمد (2/87) .

6 البخاري: التوحيد (7419)، ومسلم: الزكاة (993)، والترمذي: تفسير القرآن (3045)، وابن ماجه: المقدمة (197) ، وأحمد (2/242 ،2/313 ،2/500) .

7 مسلم: الإيمان (189) .

ص: 82

واحدة، يتكفاها الجبار، كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر، نزلا لأهل الجنة "1، وفي الصحيح مرفوعا: " إن الله يبسط يده بالليل، ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل "2، وفي الصحيح أيضا مرفوعا: " المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين "3، وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " خلق الله آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، ثم استخرج ذريته منه، قال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون "4 الحديث، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما تصدق أحد بصدقة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا طيبا - إلا أخذها الرحمن بيمينه، فتربو في كف الرحمن، حتى تكون أعظم من الجبل "5 متفق على صحته.

وقال نافع: عن ابن عمر: سألت ابن أبي مليكة6 عن يد الله، أواحدة؟ أم اثنتان؟ فقال، اثنتان، وقال عبد الله بن عباس:" ما السماوات السبع، والأرضون السبع، وما فيهما في يد الله، إلا كخردلة في يد أحدكم "، وقال ابن عمر، وابن عباس:"أول شيء خلق الله القلم، فأخذه بيمينه، وكلتا يديه يمنى، فكانت الدنيا وما فيها من عمل معمول، في بر، وبحر، ورطب، ويابس، فأحصاه عنده"، وقال ابن وهب عن أسامة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على المنبر:{وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}

1 البخاري: الرقاق (6520) .

2 مسلم: التوبة (2759) ، وأحمد (4/395 ،4/404) .

3 مسلم: الإمارة (1827)، والنسائي: آداب القضاة (5379) ، وأحمد (2/160) .

4 الترمذي: تفسير القرآن (3075)، وأبو داود: السنة (4703) ، وأحمد (1/44)، ومالك: الجامع (1661) .

5 مسلم: الزكاة (1014)، والنسائي: الزكاة (2525)، وابن ماجه: الزكاة (1842) ، وأحمد (2/538) .

6 الصواب (نافع بن عمر الجمحي سالت ابن أبي مليكة) كما في كتاب النقض للدارميص 286، وابن أبي مليكة تلميذ لابن عمر رضي الله عنهما (انظر التهذيب لابن حجر 5/307) وليس العكس.

ص: 83

[سورة الزمر آية: 67] ،

قال: "مطوية في كفه يرمي بها، كما يرمي الغلام بالكرة" وهذه النصوص التي ذكرنا هي غيض من فيض، وفيما ذكرنا كفاية لمن هداه الله "ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} .

فصل في ذكر بعض ما ورد عن الصحابة، والتابعين، وأتباع التابعين

في مسألة علو الرب تبارك وتعالى على خلقه،

وأنه على عرشه المجيد، فوق سماواته:

روى ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: "يا أيها الناس إن كان محمد إلهكم الذي تعبدون، فإن إلهكم قد مات، وإن كان إلهكم الذي في السماء، فإن إلهكم لم يمت، ثم تلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [سورة آل عمران آية: 144] الآية. وروى البخاري في تاريخه، عن ابن عمر، أن أبا بكر قال: "من كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله في السماء حي لا يموت" وروى ابن أبي شيبة عن قيس قال: لما قدم عمر الشام، استقبله الناس، وهو على بعير، فقالوا:"يا أمير المؤمنين، لو ركبت برذونا يلقاك عظماء الناس، ووجوههم، فقال عمر رضي الله عنه: ألا أراكم ههنا؟ إنما الأمر من ههنا، وأشار بيده إلى السماء".

ص: 84

وروى عثمان بن سعيد الدارمي أن امرأة لقيت عمر بن الخطاب وهو يسير مع الناس، فاستوقفته، فوقف لها ودنا منها، وأصغى لها، حتى انصرفت، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، حبست رجالا من قريش، على هذه العجوز، قال:"ويلك! أتدري من هذه؟ قال: لا، قال: هذه امرأة، سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف مني إلى الليل ما انصرفت، حتى تقضي حاجتها، إلا أن تحضرني صلاة، فأصليها ثم أرجع إليها حتى تقضي حاجتها" وقال ابن عبد البر في كتاب الاستيعاب، روينا من وجوه صحيحة: أن "عبد الله بن رواحة، رضي الله تعالى عنه، مشى إلى أمة له، فنالها، فرأته امرأته، فجحدها، فقالت: إن كنت صادقا فاقرأ القرآن، فإن الجنب لا يقرأ القرآن، فقال:

شهدت بأن وعد الله حق

وأن النار مثوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طاف

وفوق العرش رب العالمينا

وتحمله ملائكة شداد

ملائكة الإله مسومينا

فقالت: آمنت بالله، وكذبت عيني، وكانت لا تحفظ القرآن" وروى الدارمي بإسناده عن ابن مسعود، قال: "العرش فوق الماء والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم"، قال الحافظ الذهبي: رواه عبد الله بن الإمام أحمد، وابن المنذر، والطبراني، وأبو الشيخ واللالكائي

ص: 85

والبيهقي، وابن عبد البر، وإسناده صحيح.

وروى الأعمش عن خيثمة عن عبد الله إن العبد ليهم بالأمر من التجارة، حتى إذا استيسرت له، نظر الله إليه من فوق سبع سماوات، فيقول للملَك: اصرفه عنه، فيصرفه عنه. وقال عبد الله بن عباس:"تفكروا في كل شيء، ولا تفكروا في ذات الله، فإن بين السماوات السبع إلى كرسيه سبعة أنوار، والله فوق ذلك" ورواه عبد الله بن الإمام أحمد، وروى الدارمي: أن ابن عباس قال لعائشة، حين استأذن عليها، وهي تموت:"وأنزل الله براءتك من فوق سبع سماوات"، وروى الدارمي عن نافع قال: قالت عائشة: "وأيم الله لو كنت أحب قتله لقتلته - يعني عثمان - وقد علم الله فوق عرشه أني لا أحب قتله".

وفي الصحيحين: أن زينب كانت تفتخر على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول: "زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات"، وقد تقدم ذلك، وفي لفظ لغيرها كانت تقول:"زوجني الرحمن من فوق عرشه كان جبرائيل السفير بذلك، وأنا ابنة عمتك".

وقال علي بن الأقمر: كان مسروق إذا حدثته عائشة، قال:"حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله المبرأة من فوق سبع سماوات"، وقال قتادة: قالت بنوا

ص: 86

إسرائيل: "يا رب أنت في السماء، ونحن في الأرض، فكيف لنا أن نعرف رضاك، وغضبك؟ قال: "إذا رضيت عليكم استعملت عليكم خياركم، وإذا غضبت استعملت عليكم أشراركم "" رواه الدارمي.

وقال سليمان التيمي: لو سئلت أين الله؟ لقلت في السماء ; وقال كعب الأحبار، قال الله عز وجل في التوراة:"أنا الله فوق عبادي، وعرشي فوق جميع خلقي، وأنا على عرشي، أدبر أمور عبادي، لا يخفى علي شيء من أعمالهم"، وقال مقاتل في قوله تعالى:{وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [سورة المجادلة آية: 7]، قال: بعلمه، يعلم نجواهم، ويسمع كلامهم، وهو فوق عرشه، وعلمه معهم ; وقال الضحاك في الآية: هو الله على العرش، وعلمه معهم. وقال عبيد بن عمير:" ينْزل الرب شطر الليل إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ حتى إذا كان الفجر، صعد الرب عز وجل "1 أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد، وقال الحسن:"ليس شيء عند ربك من الخلق أقرب من إسرافيل، وبينه وبينه سبعة حجب، كل حجاب منها مسيرة خمسمائة عام، وإسرافيل دون هؤلاء، ورأسه من تحت العرش ورجلاه في تخوم السابعة".

وروى البيهقي بإسناد صحيح إلى الأوزاعي قال: "كنا والتابعون متوافرون، نقول: إن الله تعالى جل ذكره فوق

1 أحمد (4/81) .

ص: 87

عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته". وقال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد: علماء الصحابة الذين حمل عنهم التأويل، قالوا في تأويل قوله تعالى:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] الآية هو: على العرش وعلمه في كل مكان ; وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله.

وروى أبو بكر الخلال، في كتاب السنة، عن الأوزاعي، قال: سئل مكحول والزهري، عن تفسير الأحاديث، فقالا:"أمروها كما جاءت" ; وروي أيضا: عن الوليد بن مسلم، قال سألت الأوزاعي، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، عن الأخبار التي جاءت في الصفات، فقالوا: أمروها كما جاءت، وفي رواية، فقالوا:"أمروها كما جاءت بلا كيف".

فقولهم رضي الله عنهم: أمروها كما جاءت، رد على المعطلة، وقولهم: بلا كيف، رد على الممثلة؛ والزهري ومكحول، هما أعلم التابعين في زمانهم، والأربعة الباقون، هم أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين ; فمالك إمام الحجاز، والأوزاعي إمام أهل الشام، والليث إمام أهل مصر، وسفيان الثوري إمام أهل العراق.

وقال الأوزاعي: "عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول"، وقال

ص: 88

سفيان الثوري في قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] قال: "علمه؟ ?" وروى الخلال بإسناد كل رجاله أئمة، عن سفيان بن عيينة، قال سئل ربيعة بن عبد الرحمن، عن قوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] كيف استوى؟ قال "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق" ; وهذا الكلام مروي عن مالك، تلميذ ربيعة، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

وقال عبد الرحمن بن مهدي: إن الجهمية أرادوا أن ينفوا أن الله كلم موسى، وأن يكون على العرش، أرى أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا ضربتم أعناقهم. وابن مهدي هذا، هو الذي قال فيه علي بن المديني:"لو حلِّفت بين الركن والمقام، إني ما رأيت أعلم منه لحلفت" وروى ابن أبي حاتم، عن سعيد ابن عامر الضبعي، أنه ذكر عنده الجهمية، فقال: هم أشر قولا من اليهود والنصارى وقد أجمع أهل الأديان، مع المسلمين، على أن الله على العرش، وقالوا هم: ليس على العرش شيء.

وقال عباد بن العوام - أحد أئمة الحديث بواسط - كلمت بشرا المريسي وأصحابه، فرأيت آخر كلامهم: ليس على العرش شيء. أرى والله أن لا يناكحوا، ولا يوارثوا. وقال: علي بن عاصم، شيخ الإمام أحمد: احذروا من

ص: 89

المريسي وأصحابه، فإن كلامهم الزندقة، وأنا كلمت أستاذهم فلم يثبت أن في السماء إلها، وقال حماد بن زيد: الجهمية إنما يحاولون أن يقولوا: ليس في السماء شيء؛ وكان من أشد الناس على الجهمية، وقال وهب بن جرير: إياكم ورأي جهم وأصحابه، فإنهم يحاولون أن ليس في السماء شيء ; وما هو إلا من وحي إبليس، وما هو إلا الكفر.

وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني، صاحب الشافعي، له كتاب في الرد على الجهمية، قال فيه: باب قول الجهمي في قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] . زعمت الجهمية أن معنى استوى استولى ; قال: فيقال له: هل يكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس بمستول عليه؟ فإذا قال: لا، قيل له: فمن زعم ذلك فهو كافر ; ويقال له: يلزمك أن تقول: إن العرش أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه، وذلك لأنه أخبر سبحانه وتعالى أنه خلق العرش قبل السماوات والأرض، ثم استوى عليه بعد خلقهن، فيلزمك أن تقول: المدة التي كان العرش قبل خلق السماوات والأرض ليس الله بمستول عليه فيها، ثم ذكر كلاما طويلا في تقرير العلو، والاحتجاج عليه.

وقال عبد الله، بن الزبير الحميدي شيخ البخاري: وما نطق به القرآن والحديث، مثل قوله:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64]، ومثل قوله:{وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}

ص: 90

[سورة الزمر آية: 67] ،

وما أشبه هذا، من القرآن والحديث، لا نزيد فيه، ولا نفسره، ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة ; ونقول:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، ومن زعم غير هذا فهو مبطل جهمي.

وروى ابن أبي حاتم، قال: جاء بشر بن الوليد، إلى أبي يوسف، فقال: تنهاني عن الكلام، وبشر المريسي، وعلي الأحول، وفلان يتكلمون؟ فقال: وما يقولون؟ قال: يقولون: إن الله في كل مكان ; فبعث أبو يوسف، وقال: عليّ بهم، فانتهوا إليهم، وقد قام بشر، فجيء بعلي الأحول، والشيخ الآخر، فنظر: أبو يوسف إلى الشيخ، فقال: لو أن فيك موضع أدب لأوجعتك؟ وأمر به إلى الحبس، وضرب عليا الأحول، وطوف به، وقد استتاب أبو يوسف بشرا المريسي لما أنكر أن يكون الله فوق عرشه. وهي قصة مشهورة، ذكرها ابن أبي حاتم وغيره، وأصحاب أبي حنيفة المتقدمون على هذا.

وقال محمد بن الحسن: اتفق الفقهاء كلهم، من المشرق إلى المغرب، على الإيمان بالقرآن، والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل، من غير تفسير، ولا وصف ولا تشبيه؛ فمن فسر شيئا من ذلك، فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة كلهم ; فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن آمنوا

ص: 91

بما في الكتاب والسنة، ثم سكتوا. فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة؛ لأنه وصفه بصفة لا شيء.

وقال محمد أيضا في الأحاديث التي جاءت: "إن الله يهبط إلي السماء الدنيا" ونحو هذه الأحاديث، قد رواها الثقات، فنحن نؤمن بها، ولا نفسرها، ذكر ذلك عنه أبو القاسم اللالكائي، وقال سفيان بن عيينة وقد سئل عن حديث:" إن الله يحمل السماوات على أصبع " وحديث: " القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن "1 فقال سفيان: هي كما جاءت نقر بها، ونحدث بها بلا كيف، وذكر ابن أبي حاتم بإسناده عن الأصمعي قال: قدمت امرأة جهم، فقال رجل عندها: الله على عرشه، فقالت: محدود على محدود، فقال الأصمعي: هذه كافرة بهذه المقالة. أما هذا الرجل وامرأته فما أولاهما بأن: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [سورة المسد آية: 3-4] وقال إسحاق بن راهويه إمام أهل المشرق، نظير أحمد، وقيل له: ما تقول في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7]، قال: حيث ما كنت فهو أقرب إليك من حبل الوريد، وهو بائن من خلقه، ثم قال: وأعلى شيء في ذلك وأثبته قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] وروى الخلال في كتاب السنة، قال: قال إسحاق بن راهويه، قال الله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] : إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى، ويعلم كل شيء أسفل الأرض السابعة، في

1 سنن الترمذي: كتاب القدر (2140) وكتاب الدعوات (3522) ، ومسند أحمد (3/112 ،4/182 ،6/91 ،6/301 ،6/315) .

ص: 92

قعور البحار، وفي كل موضع، كما يعلم ما في السماوات السبع، وما دون العرش، أحاط بكل شيء علما.

وقال قتيبة بن سعيد: هذا قول أئمة الإسلام والسنة والجماعة: نعرف ربنا بأنه في السماء السابعة على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] . وقتيبة هذا أحد أئمة الإسلام، وحفاظ الحديث ; وقال عبد الوهاب الورّاق: من زعم أن الله هاهنا، فهو جهمي خبيث، إن الله فوق العرش، وعلمه محيط بالدنيا والآخرة، صح ذلك عنه ; وهو الذي قال فيه الإمام أحمد، وقد قيل له: من نسأل بعدك؟ فقال: عبد الوهاب، وقال خارجة بن مصعب: الجهمية كفار، أبلغ نساءهم أنهن طوالق لا يحللن لهم، ثم تلا " طه " إلى قوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] .

وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي، وأبا زرعة، عن مذهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدون من ذلك؟ فقال: أدركنا العلماء في جميع الأمصار، حجازا وعراقا، ومصرا وشاما، ويمنا، فكان مذهبهم: أن الله تبارك وتعالى على عرشه، بائن من خلقه، كما وصف نفسه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بلا كيف، وأحاط بكل شيء علما.

وقال أبو زرعة أيضا: هو على العرش استوى، وعلمه في كل مكان. من قال غير هذا فعليه لعنة الله. وقال

ص: 93

علي بن المديني الذي سماه البخاري: سيد المسلمين، وقيل: ما تقول الجماعة في الاعتقاد؟ فقال: يثبتون الكلام، والرؤية، ويقولون: إن الله على العرش استوى. فقيل له: ما تقول في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] فقال: اقرأ أول الآية، يعني: بالعلم، لأن أول الآية:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} [سورة المجادلة آية: 7] .

وقال عبد الله بن المبارك: "نعرف ربنا، بأنه فوق سبع سماوات، على العرش استوى بائن من خلقه، لا نقول كما قالت الجهمية" رواه عنه الدارمي، والحاكم، والبيهقي، بأصح إسناد وصح عن ابن المبارك أيضا أنه قال:"إنا لنستطيع أن نحكي كلام اليهود، والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية". وقال نعيم بن حماد الخزاعي الحافظ في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] معناه: أنه لا يخفى عليه خافية بعلمه، ثم تلا قوله تعالى:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] الآية وقال محمد بن إسماعيل - البخاري -: سمعت نعيم بن حماد يقول: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف به نفسه ولا رسوله تشبيها.

ص: 94

فصل في ذكر أقوال الأئمة الأربعة رضي الله عنهم

[في علو الرب واستوائه فوق العرش]

ذكر قول الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه: روى البيهقي في كتاب الصفات عن نعيم بن حماد، قال: سمعت نوح بن أبي مريم يقول: كنت عند أبي حنيفة، أول ما ظهر، إذ جاءته امرأة من ترمذ، كانت تجالس جهما فدخلت الكوفة، فأظنني أقل ما رأيت عليها عشرة آلاف نفس، فقيل لها: إن ههنا رجلا قد نظر في المعقول يقال له أبو حنيفة، فأتته فقالت: أنت الذي تعلم الناس المسائل، وقد تركت دينك، أين إلهك الذي تعبد؟ فسكت عنها. ثم مكث سبعة أيام لا يجيبها. ثم خرج إلينا وقد وضع كتابا: إن الله عز وجل في السماء دون الأرض. فقال له رجل: أرأيت قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] ؟ قال هو كما تكتب إلى الرجل، إني معك، وأنت غائب. عنه ثم قال البيهقي: لقد أصاب أبو حنيفة رحمه الله، فيما نفى عن الله عز وجل من الكون في الأرض، وأصاب فيما ذكر من تأويل الآية، واتبع مطلق السمع، بأن الله تعالى في السماء.

وفي كتاب الفقه الأكبر المشهور، المروي بالأسانيد،

ص: 95

عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي قال: سألت أبا حنيفة، عمن يقول: لا أعرف ربي، في السماء أو الأرض؟ قال: قد كفر. إن الله تعالى يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وعرشه فوق سماواته، فقلت: إنه يقول: أقول: إنه على العرش، ولكنه قال: لا أدري العرش في السماء، أم في الأرض؟ قال إذا أنكر أنه في السماء، فقد كفر، لأن الله تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل. وفي لفظ: سألت أبا حنيفة عمن يقول: لا أعرف ربي، في السماء أو في الأرض؟ قال: قد كفر، لأن الله تعالى يقول:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وعرشه فوق سماواته، روى هذا شيخ الإسلام، أبو إسماعيل الأنصاري في كتاب: الفاروق ; وقال الإمام: أبو محمد موفق الدين بن قدامة: بلغني عن أبي حنيفة رحمه الله، أنه قال: من أنكر أن الله عز وجل في السماء، فقد كفر.

فتأمل هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة عند أصحابه، أنه كفّر الواقف، الذي يقول: لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض; فكيف يكون حكم الجاحد النافي، الذي يقول: ليس في السماء، ولا في الأرض؟ واحتج أبو حنيفة على كفره، بقوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، بين أن الله فوق السماوات، فوق العرش، فقال: وعرشه فوق سماواته، وبين بهذا أن قوله:{عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] فوق العرش، ثم أردف ذلك بكفر

ص: 96

من توقف في كون العرش في السماء أو في الأرض، قال: لأنه أنكر أن يكون الله في السماء، وأن الله في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى، لا من أسفل.

وذكر أصحاب أبي حنيفة من بعده، كأبي يوسف، ومحمد، كما قدمنا، ما روينا عنهم، وكذلك هشام بن عبد الله، كما روى ابن أبي حاتم وشيخ الإسلام بإسنادهما أن هشام بن عبيد الله، صاحب محمد بن الحسن، قاضي الري، حبس رجلا في التجهّم، فتاب، فجيء به ليمتحنه، فقال: الحمد لله على التوبة؛ فامتحنه هشام، فقال: أتشهد أن الله على عرشه، بائن من خلقه؟ فقال: أشهد أن الله على عرشه، ولا أدري ما بائن من خلقه؟ فقال ردوه إلى الحبس، فإنه لم يتب، وسيأتي كلام الطحاوي، إن شاء الله تعالى.

وفي الفقه الأكبر أيضا، عن أبي حنيفة: لا يوصف الله بصفات المخلوقين، ولا يقال إن يده قدرته، ولا نعمته، لأن فيه إبطال الصفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفته بلا كيف ; وقال في الفقه الأكبر {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [سورة طه آية: 5] ليست كأيدي خلقه، وهو خالق الأيدي جل وعلا، ووجهه ليس كوجوه خلقه، وهو خالق كل الوجوه، ونفسه ليست كنفوس خلقه، وهو خالق النفوس {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية:11] . وقال في الفقه الأكبر أيضا: وله تعالى يد، ووجه، ونفس، بلا كيف،

ص: 97

ذكرها الله تعالى في القرآن، وغضبه ورضاه، وقضاه وقدرته، من صفاته تعالى، بلا كيف، ولا يقال: غضبه عقابه، ولا رضاه ثوابه، انتهى.

ذكر قول الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، رضي الله عنه قال عبد الله بن نافع: قال مالك بن أنس: الله في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو منه شيء، رواه عبد الله، بن الإمام أحمد. وروى أبو الشيخ الأصبهاني، وأبو بكر البيهقي، عن يحيى بن يحيى، قال: كنا عند مالك بن أنس، فجاءه رجل، فقال يا أبا عبد الله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ولا أراك إلا مبتدعا، فأمر به أن يخرج. وتقدم عن شيخه ربيعة، مثل هذا الكلام.

فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، موافق لقول الباقين: أمروها كما جاءت بلا كيف؛ فإنما نفوا الكيفية، ولم ينفوا حقيقة الصفة، ولو كان القوم آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه، على ما يليق بالله، لما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ولما قالوا أمروها بلا كيف، فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوما، بل مجهولا بمنْزلة حروف المعجم، وأيضا: فإنه لا يحتاج إلى نفي الكيفية إذا لم يفهم من اللفظ معنى،

ص: 98

وإنما يحتاج إلى نفي الكيفية إذا أثبتت الصفات ; وأيضا فإن من ينفي الصفات لا يحتاج أن يقول بلا كيف، فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا بلا كيف ; فمن قال: إن الله ليس على العرش، لا يحتاج أن يقول بلا كيف.

وأيضا فقولهم: أمّروها كما جاءت، يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظا دالة على معان، فلو كانت دلالتها منفية لكان الواجب أن يقال: أمروا لفظها، مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو يقال: أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت، ولا يقال حينئذ بلا كيف، إذ نفي الكيف عما ليس بثابت، لغو من القول.

قال الذهبي، بعد ما ذكر كلام مالك وربيعة الذي قدمناه: وهذا قول أهل السنة قاطبة، أن كيفية الاستواء لا نعقلها، بل نجهلها، وأن استواءه معلوم، كما أخبر به في كتابه، وأنه كما يليق به، ولا نتعمق، ولا نتحذلق، ولا نخوض في لوازم ذلك، نفيا، ولا إثباتا، بل نسكت، ونقف، كما قد وقف السلف، ونعلم أنه لو كان له تأويل لبادر إليه الصحابة والتابعون، ولما وسعهم إقراره، وإمراره، والسكوت عنه؛ ونعلم يقينا مع ذلك أن الله جل جلاله، لا مثل له في صفاته، ولا في استوائه، ولا في

ص: 99

نزوله، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ; وقد تقدم ما رواه الوليد بن مسلم عن مالك بما أغنى عن إعادته. وقال أبو حاتم الرازي: حدثني ميمون بن يحيى البكري قال: قال مالك: من قال القرآن مخلوق، يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه.

ذكر قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه.

روى شيخ الإسلام أبو الحسن الهكاري، عن أبي شعيب، وأبي ثور، كلاهما عن محمد بن إدريس، رحمه الله، قال: القول في السنة التي أنا عليها، ورأيت عليها الذين رأيتهم، مثل سفيان، ومالك، وغيرهما: الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن الله على عرشه في سمائه، يقرب من خلقه كيف شاء، وينْزل إلى السماء الدنيا كيف شاء، وذكر سائر الاعتقاد.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: سمعت الشافعي يقول: لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه أمته، لا يسع أحدا من خلق الله قامت عليه الحجة ردها، لأن القرآن نزل بها وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بها، فيما روى عنه العدول، فإن خالف أحد ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر، وأما قبل ثبوت الحجة عليه

ص: 100

فمعذور بالجهل، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل، ولا بالرؤية والفكر; ولا يكفر بالجهل بها أحد، إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها.

ونثبت هذه الصفات، وننفي عنها التشبيه، كما نفى سبحانه التشبيه عن نفسه، فقال:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] . وصح عن الشافعي أنه قال: خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه حق، قضاها الله في سمائه، وجمع عليها قلوب عباده; انتهى; ومعلوم أن المقضي في الأرض، والقضاء فعله سبحانه المتضمن لمشيئته وقدرته; وقال في خطبة رسالته: الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه.

ذكر قول الإمام: أحمد بن حنبل رضي الله عنه: قال الخلال في كتاب السنة: حدثنا يوسف بن موسى قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد، قلت لأبي: ربنا تبارك وتعالى فوق السماء السابعة على عرشه، بائن من خلقه، وقدرته وعلمه بكل مكان؟ قال: نعم، لا يخلو شيء من علمه. قال الخلال: وأخبرني الميموني قال: سألت أبا عبد الله، عمن قال: إن الله ليس على العرش فقال: كلامهم كله يدور على الكفر.

وقال حنبل: قيل لأبي عبد الله، ما معنى قوله:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7]

ص: 101

وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} ؟ قال: علمه محيط بالكل، وربنا على العرش بلا حد، ولا صفة {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [سورة البقرة آية: 255] . وقال أبو طالب: سألت أحمد عن رجل قال: إن الله معنا، وتلا:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7]، قال: يأخذون بآخر الآية، ويدعون أولها، هلا قرأت عليه:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} [سورة المجادلة آية: 7] بالعلم معهم، وقال في سورة (ق) :{وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق آية: 16] وقال المروذي: قلت لأبي عبد الله: إن رجلا يقول: أقول كما قال الله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] أقول هذا، ولا أجاوزه إلى غيره; فقال أبو عبد الله: هذا كلام الجهمية، قلت: فكيف تقول: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] ؟ قال: علمه في كل مكان، وعلمه معهم، وقال: أول الآية يدل على أنه علمه. وقال في موضع آخر: وأن الله عز وجل على عرشه فوق السماء السابعة، يعلم ما تحت الأرض السفلى، وأنه غير مختلط بشيء من خلقه هو تبارك وتعالى بائن من خلقه، وخلقه بائنون منه.

وقال في كتاب الرد على الجهمية الذي رواه الخلال وقال: كتب هذا الكتاب من خط عبد الله بن الإمام أحمد، وكتبه عبد الله من خط أبيه، قال فيه: باب بيان ما أنكرت الجهمية، أن يكون الله على العرش; وقد قال:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] . قلنا لهم: ما أنكرتم أن يكون الله على

ص: 102

العرش؟ فقالوا: هو تحت الأرض السابعة، كما هو تحت العرش، وفي السماوات، وفي الأرض; قال أحمد: فقلنا: قد عرف المسلمون أماكن كثيرة، ليس فيها من عظمة الرب شيء: أجسامكم، وأجوافكم، والحشوش، والأماكن القذرة، ليس فيها شيء من عظمته، وقد أخبرنا الله عز وجل أنه في السماء، فقال:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [سورة الملك آية: 16]، الآيتين وقال:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [سورة فاطر آية: 10]، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [سورة آل عمران آية: 55] ، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [سورة النساء آية: 158] .

وقال أيضا في الكتاب المذكور:، ومما أنكرت الجهمية الضلال أن الله على العرش، وقد قال تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5]، وقال:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] . ثم ساق أدلة القرآن، ثم قال: ومعنى قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [سورة الأنعام آية: 3]، يقول: هو إله من في السماوات، وإله من في الأرض، وهو على العرش، وقد أحاط علمه بما دون العرش، لا يخلو من علمه مكان، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان، وذلك لقوله تعالى:{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [سورة الطلاق آية: 12] .

قال الإمام أحمد: ومن الاعتبار في ذلك، لو أن رجلا

ص: 103

كان في يده، قدح من قوارير وفيه شيء، كان ابن آدم قد أحاط بالقدح، من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله سبحانه - وله المثل الأعلى - قد أحاط بجميع ما خلق علما، من غير أن يكون في شيء مما خلق; قال: مما تأولت الجهمية من قول الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] فقالوا: إن الله معنا، وفينا; فقلنا لهم: قطعتم الخبر من أوله، لأن الله افتتح الخبر بعلمه، وختمه بعلمه.

قال أحمد: وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أنه في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان; فقل له: أليس شيئا؟ فيقول: نعم; فقل له: فحين خلق الشيء، خلقه في نفسه أو خارجا عن نفسه؟ فإنه يصير إلى أحد ثلاثة أقاويل: إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه كفر، حين زعم أن الجن والإنس، والشياطين، وإبليس في نفسه; وإن قال: خلقهم خارجا عن نفسه، ثم دخل فيهم، كفر أيضا، حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش وقذر; وإن قال: خلقهم خارجا عن نفسه، ثم لم يدخل فيهم، رجع عن قوله أجمع، وهو قول أهل السنة.

قال أحمد: وقلنا للجهمية: حين زعمتم أن الله في كل مكان، أخبرونا عن قول الله عز وجل:{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} [سورة الأعراف آية: 143] أكان في الجبل بزعمكم؟ فلو كان فيه كما تزعمون لم يكن تجلى له; بل كان سبحانه على العرش، فتجلى لشيء لم يكن فيه، ورأى

ص: 104

الجبل شيئا ما رآه قط قبل ذلك. انتهى كلام الإمام أحمد، الذي نقلناه من كتاب الرد على الجهمية.

وروى الخلال عن حنبل، قال: قال أبو عبد الله - يعني أحمد -: نؤمن أن الله على العرش بلا كيف، بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده حاد; وصفات الله له ومنه، وهو كما وصف نفسه، لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية.

وقال حنبل أيضا: سألت أبا عبد الله، عن الأحاديث التي تروى:" إن الله سبحانه ينْزل إلى السماء الدنيا "1 و " إن الله يُرى في الآخرة " و " إن الله يضع قدمه " وأشباه هذه الأحاديث; فقال أبو عبد الله: نؤمن بها، ونصدق، ولا نرد منها شيئا، ونعلم: أن ما جاء به الرسول حق، ولا نرد على الله قوله، ولا يوصف بأكثر مما وصف به نفسه، بلا حد ولا غاية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] .

وقال حنبل في موضع آخر، عن أحمد: ليس كمثله شيء في ذاته، كما وصف نفسه; قد أجمل الله الصفة لنفسه، فحد لنفسه صفة، ليس يشبه شيئا; وصفاته غير محدودة، ولا معلومة، إلا بما وصف به نفسه، قال: فهو سَمِيعٌ بَصِيرٌ بلا حد، ولا تقدير، ولا يبلغ الواصفون صفته، ولا نتعدى القرآن والحديث،

1 البخاري: الجمعة (1145) والدعوات (6321)، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758)، وأبو داود: الصلاة (1315) ، وأحمد (2/258 ،2/419)، ومالك: النداء للصلاة (496)، والدارمي: الصلاة (1478 ،1479) .

ص: 105

فنقول كما قال، ونصفه بما وصف نفسه، ولا نتعدى ذلك، ونؤمن بالقرآن كله، محكمه ومتشابهه، ولا نزيل صفة من صفاته لشناعة شنعت، وما وصف به نفسه، من كلام، ونزول، وخلوة بعبده يوم القيامة، ووضع كنفه عليه، فهذا كله يدل على أن الله سبحانه يرى في الآخرة، والتحديد في هذا كله بدعة، والتسليم فيه بغير صفة ولا حد إلا بما وصف به نفسه، سميع، بصير، لم يزل متكلما، عليم، غفور {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [سورة الأنعام آية: 73] {عَلَاّمُ الْغُيُوبِ} .

فهذه صفات وصف بها نفسه، لا تدفع، ولا ترد، وهو على العرش بلا حد، كما قال تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54]، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] وهو {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 102] وهو: سميع بصير بلا حد ولا تقدير; ولا نتعدى القرآن والحديث، تعالى الله عما تقول الجهمية والمشبهة; قلت له: المشبهة ما تقول؟ قال: من قال بصر كبصري، ويد كيدي وقدم كقدمي فقد شبه الله بخلقه. انتهى. وكلام الإمام أحمد رحمه الله في هذا كثير، فإنه امتحن بالجهمية رضي الله عنه وعن إخوانه من أئمة الدين.

ص: 106

فصل:

[الشيخ محمد وأتباعه يصفون الله بما وصف به نفسه]

قد بينا فيما تقدم عقيدة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، أسكنه الله الفردوس يوم المآب، وبينا عقيدته هو وأتباعه، عقيدة السلف الماضين، من الصحابة والتابعين، وسائر أئمة الدين، الذين رفع الله منارهم في العالمين، وجعل لهم لسان صدق في الآخرين.

فشيخنا رحمه الله وأتباعه يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يتجاوزون القرآن والحديث، لأنهم متبعون لا مبتدعون، ولا يكيفون ولا يشبهون ولا يعطلون، بل يثبتون جميع ما نطق به الكتاب من الصفات، وما وردت به السنة مما رواه الثقات، يعتقدون أنها صفات حقيقة منَزّهة عن التشبيه والتعطيل، كما أنه سبحانه له ذات حقيقة، منَزّهة عن التشبيه والتعطيل؛ فالقول عندهم في الصفات، كالقول في الذات; فكما أن ذاته ذات حقيقة لا تشبه الذوات، فصفاته صفات حقيقة لا تشبه الصفات; وهذا هو اعتقاد سلف الأمة وأئمة الدين; وهو مخالف لاعتقاد المشبهين، واعتقاد المعطلين، فهو كالخارج:{مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} [سورة النحل آية: 66] ، فهو وسط بين طرفين، وهدى بين ضلالتين، وحق بين باطلين.

ص: 107

فلما قررنا عقيدتنا، في أول الجواب، وأوردنا على ذلك الأدلة، من الكتاب والسنة، أتبعنا ذلك بفصل ذكرنا فيه بعض ما ورد، عن الصحابة، والتابعين وتابعيهم، يؤيد ما ذكرناه، ويحقق ما قلناه، لأنهم مصابيح الدين، وقدوة العالمين; وهم أهل اللغة الفصحاء، واللسان العربي; فإن الصحابة رضي الله عنهم قد شاهدوا نزول القرآن، ونقلوه إلينا وفسروه; فهم قد تلقوا ذلك عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وتلقاه عنهم التابعون; فتعلموا من الصحابة ألفاظ القرآن ومعانيه; فنقلوا عنهم تأويله كما نقلوا تنْزيله; ونقلوا الأحاديث الواردة في الصفات، ولم يتأولوها كما تأولها النفاة، بل أثبتوها صفات حقيقة لرب العالمين، منَزّهة عن تعطيل المعطلين، وتشبيه المشبهين; فإن الصحابة رضي الله عنهم أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا; وهم سادات الأمة، وكاشفو الغمة; فالمسلمون بهديهم يهتدون، وعلى منهاجهم يسلكون.

[فصل ما قاله العلماء في علو الله سبحانه واستوائه]

ثم إنا لما نقلنا كلام الصحابة، والتابعين، وتابعيهم، أتبعناه بفصل ذكرنا فيه كلام الأئمة الأربعة، أئمة المذاهب المتبعة، ليتبين صحة ما قلناه، وما إليهم نسبناه، ويعلم من كان قصده الحق أن الأئمة على عقيدة واحدة مجمعون، وللسلف الصالح متبعون.

ص: 108

فلما تبين ما قلناه، واتضح ما قررناه: أحببت أن أختم هذا الجواب بفصل أذكر فيه بعض ما قاله العلماء بعدهم، ليعلم الواقف على هذا الجواب أن هذا الاعتقاد الذي ذكرناه، هو اعتقاد أهل السنة والجماعة قاطبة، متقدميهم ومتأخريهم، لأن إجماعهم حجة قاطعة، لا تجوز مخالفته، فكيف وقد شهدت له النصوص القرآنية والسنة النبوية؟ وقد قال تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] .

فصل: قال الإمام حافظ الشرق، وشيخ الإسلام: عثمان بن سعيد الدارمي، في كتاب النقض على بشر المريسي، قال الذهبي: وهو مجلد سمعناه من أبي حفص القواس قال فيه: وقد اتفقت الكلمة من المسلمين، على أن الله فوق عرشه فوق سماواته، لا ينْزل قبل يوم القيامة إلى الأرض، ولم يشُكّوا أنه ينْزل يوم القيامة، ليفصل بين عباده ويحاسبهم، وتشقق السماوات لنُزوله، فلما لم يشك المسلمون أن الله لا ينْزل إلى الأرض قبل يوم القيامة لشيء من أمور الدنيا، علموا يقينا أن ما يأتي الناس من العقوبات، إنما هو أمره وعذابه، كقوله:{فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [سورة النحل آية: 26] وإنما هو: أمره وعذابه، انتهى من هذا الكتاب.

ص: 109

قال وقد ذكر الحلول وحكى هذا المذهب، إنزاه لله من السوء عن مذهب من يقول به هو بكماله وجماله، وعظمته وبهائه، فوق عرشه، فوق سماواته، فوق جميع الخلائق، في أعلى مكان وأظهر مكان، حيث لا خلق هناك ولا إنس، ولا جان، أي الحزبين أعلم بالله؟ وأشد تعظيما وإجلالا له؟ وقال في هذا الكتاب: علمه بهم محيط، وبصره فيهم نافذ، وهو بكماله فوق عرشه، ومع بعد المسافة بينه وبين الأرض، يعلم ما في الأرض.

وقال في موضع آخر: والقرآن كلام الله، وصفة من صفاته خرج منه كما شاء أن يخرج، والله بكلامه، وعلمه، وقدرته، وسلطانه، وجميع صفاته غير مخلوق; وهو بكماله على عرشه. وقال في موضع آخر، وقد ذكر حديث البراء بن عازب الطويل، في شأن الروح، وقبضها، وفيه:"فتصعد روحه، حتى تنتهي إلى السماء السابعة" وذكر الحديث، ثم قال: وفي قوله: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [سورة الأعراف آية: 40] دلالة ظاهرة أن الله فوق السماء، لأنه لو لم يكن فوق السماء، لما عرج بالأرواح والأعمال، ولما أغلقت أبواب السماء عن قوم، وفتحت لآخرين. وقال في موضع آخر: ولكنا نقول: رب عظيم، وملك كبير، نور السماوات والأرض، وإله السماوات والأرض، على عرش مخلوق عظيم، فوق السماء السابعة، دون ما سواها من الأماكن; من لم يعرفه بذلك، كان كافرا به وبعرشه.

ص: 110

قال: وقد اتفقت كلمة المسلمين والكافرين، على أن الله في السماء، وعرفوه بذلك، إلا المريسي وأصحابه، حتى الصبيان، الذين لم يبلغوا الحنث; وساق حديث حصين:" كم تعبد؟ قال: ستة في الأرض، وواحدا في السماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من الذي تعده لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء "1 وقال أيضا في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للجارية: " أين الله؟ " فيه تكذيب لمن يقول: هو في كل مكان، وإن الله لا يوصف بـ (أين) بل يستحيل أن يقال: أين هو؟ والله فوق سماواته، بائن من خلقه; فمن لم يعرفه بذلك، لم يعرف إلهه الذي يعبده; هذا كله كلام عثمان بن سعيد في كتابه المذكور; وهو قال فيه أبو الفضل القراب: ما رأيت مثل عثمان بن سعيد، ولا رأى عثمان مثل نفسه; أخذ الأدب عن ابن الأعرابي، والفقه عن البويطي، والحديث عن يحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأثنى عليه أهل العلم.

وقال الإمام الحافظ أبو عيسى الترمذي في جامعه، لما روى حديث أبي هريرة، وهو حديث منكر، قاله الذهبي:" لو أدلى أحدكم بحبل، لهبط على الله "2 قال معناه: لهبط على علم الله، قال: وعلم الله، وقدرته، وسلطانه، في كل مكان، وهو على العرش، كما وصف نفسه في كتابه، وقال في حديث أبي هريرة:" إن الله يقبل الصدقة، ويأخذها بيمينه "3 قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما

1 الترمذي: الدعوات (3483) .

2 الترمذي: تفسير القرآن (3298) .

3 الترمذي: الزكاة (662) ، وأحمد (2/404) .

ص: 111

يشبهه من الصفات، ونزول الرب تبارك وتعالى، إلى سماء الدنيا، قالوا: ثبتت الروايات في هذا، ونؤمن به، ولا نتوهم، ولا نقول كيف; هكذا روي عن مالك، وابن عيينة، وابن المبارك; قالوا في هذه الأحاديث: أمروها بلا كيف; وهكذا قول أهل العلم، من أهل السنة والجماعة.

وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات; وقالوا: هذا تشبيه، وفسروها على غير ما فسرها أهل العلم; وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده، وإن معنى اليد ههنا النعمة; وقال إسحاق بن راهويه: إنما يكون التشبيه، إذا قال: يد كيدي، أو مثل يدي، أو سمع كسمعي، فهذا التشبيه; وأما إذا قال كما قال الله: يد، وسمع، وبصر، ولا يقول: كيف; ولا يقول: مثل سمع، وكسمع، فهذا لا يكون تشبيها; قال الله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] هذا كله كلام الترمذي.

وقال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، في كتاب صريح السنة: وحسب امرئ أن يعلم أن ربه هو الذي على العرش استوى، فمن تجاوز إلى غير ذلك فقد خاب وخسر. وقال في تفسيره الكبير في قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] قال: علا وارتفع; وقال في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [سورة البقرة آية: 29] عن الربيع بن أنس، أنه يعني: ارتفع; وقال في قوله

ص: 112

عز وجل

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً سورة آية: 36-37] يقول: وإني لأظن موسى كاذبا فيما يقول، ويدعي أن له ربا في السماء، أرسله إلينا; وتفسيره هذا مشحون بأقوال السلف على الإثبات.

وقال في كتاب التبصير في معالم الدين: القول فيما أدرك علمه من الصفات خبرا، وذلك نحو إخباره أنه سميع بصير، وأن له يدين بقوله:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64]، وأن له وجها بقوله:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [سورة الرحمن آية: 27] ، وأن له قدما بقول النبي صلى الله عليه وسلم " حتى يضع رب العزة فيها قدمه "1، وأنه يضحك بقوله:"لقي الله وهو يضحك إليه "، وأنه يهبط إلى سماء الدنيا، بخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأن له أصبعا بقوله صلى الله عليه وسلم:" ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن "2 فإن هذه المعاني، التي وصفت ونظائرها، مما وصف الله به نفسه ورسوله، مما لا يثبت حقيقة علمه بالفكر والروية، لا نكفر بالجهل بها أحدا إلا بعد انتهائها. ذكر هذا الكلام عنه أبو يعلى في كتاب: إبطال التأويل. ومن أراد معرفة أقوال السلف التي حكاها عنهم في تفسيره فليطالع كلامه عند تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [سورة الأعراف آية: 143]، وقوله:{اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54]، وقوله:{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} [سورة الشورى آية: 5] .

1 البخاري: الأيمان والنذور (6661)، ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2848)، والترمذي: تفسير القرآن (3272) ، وأحمد (3/234) .

2 ابن ماجه: المقدمة (199) ، وأحمد (4/182) .

ص: 113

وقال إمام الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة: من لم يقر بأن الله على عرشه استوى، فوق سبع سماوات، بائن من خلقه، فهو كافر يستتاب؛ فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وألقي على مزبلة، لئلا يتأذى بريحه أهل القبلة وأهل الذمة.

ذكر قول إمام الشافعية في وقته: أبو العباس بن سريج رضي الله عنه: ذكر أبو القاسم سعد بن علي بن محمد الزنجاني، في جوابات المسائل التي سئل عنها بمكة، فقال: الحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، وعلى كل حال، وصلى الله على محمد المصطفى، وعلى الأخيار الطيبين من الأصحاب والآل. سألت - أيدك الله بتوفيقه - بيان ما صح لدي من مذهب السلف، وصالحي الخلف، في الصفات الواردة في الكتاب، والسنة؟ فاستخرت الله، وأجبت عنه بجواب بعض الأئمة الفقهاء، وهو: أبو العباس بن سريج، رحمه الله، وقد سئل مثل هذا السؤال.

فقال: أقول وبالله التوفيق: حرام على العقول أن تمثل الله، وعلى الأوهام أن تحده، وعلى الظنون أن تقع، وعلى الضمائر أن تعمق، وعلى النفوس أن تفكر، وعلى الأفكار أن تحيط، وعلى الألباب أن تصف، إلا بما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد صح وتقرر واتضح عند جميع أهل الديانة، والسنة والجماعة، من السلف الماضين، والصحابة والتابعين، من الأئمة المهديين الراشدين، المشهورين إلى زماننا هذا، أن جميع الآي

ص: 114

الواردة عن الله في ذاته وصفاته، والأخبار الصادقة الصادرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفاته، التي صححها أهل النقل: يجب على المرء المسلم، الإيمان بكل واحد منه كما ورد، وتسليم أمره إلى الله كما أمر، وذلك مثل قوله سبحانه:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [سورة البقرة آية: 210]، وقوله:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [سورة الفجر آية: 22]، وقوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5]، وقوله:{وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [سورة الزمر آية: 67] .

ونظائرها مما نطق به القرآن، كالفوقية، والنفس، واليدين، والسمع، والبصر، والكلام، والعين، والنظر، والإرادة، والرضى، والغضب، والمحبة، والكراهة، والعناية، والقرب، والبعد، والسخط، والاستحياء، والدنو كقاب قوسين أو أدنى، وصعود الكلام الطيب إليه، وعروج الملائكة والروح إليه، ونزول القرآن منه، وندائه الأنبياء، وقوله للملائكة، وقبضه، وبسطه، وعلمه، ووحدانيته، وقدرته، ومشيئته، وصمدانيته، وفردانيته، وأوليته، وآخريته، وظاهريته، وباطنيته، وحياته، وبقائه، وأزليته، ونوره، وتجليه، والوجه، وخلق آدم بيده، ونحو قوله:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16] وسماعه من غيره، وسماع غيره منه، وغير ذلك من صفاته المذكورة في كتابه المنزل.

ص: 115

وجميع ما لفظ به المصطفى من صفاته، كغرس جنة الفردوس بيده، وشجرة طوبى بيده، وخط التوراة بيده، والضحك، والتعجب، ووضعه القدم، وذكر الأصابع، والنّزول كل ليلة إلى سماء الدنيا، وكغيرته، وفرحه بتوبة العبد، وأنه ليس بأعور، وأنه يعرض عما يكره ولا ينظر إليه، وأن كلتا يديه يمين، وحديث القبضتين، وله كل يوم كذا وكذا نظرة في اللوح المحفوظ، وأنه يوم القيامة يحثو ثلاث حثيات من حثياته، فيدخلهم الجنة.

وحديث القبضة، التي يخرج بها من النار قوما لم يعملوا خيرا قط، وحديث:" إن الله خلق آدم على صورته "1، وفي لفظ:" على صورة الرحمن "، وإثبات الكلام بالحرف والصوت، وكلامه للملائكة، ولآدم ولموسى ومحمد، وللشهداء وللمؤمنين عند الحساب وفي الجنة، ونزول القرآن إلى سماء الدنيا، وكون القرآن في المصاحف، وما أذن الله لشيء إذنه لنبي يتغنى بالقرآن، وصعود الأقوال والأعمال والأرواح إليه، وحديث معراج الرسول صلى الله عليه وسلم ببدنه ونفسه، وغير هذا مما صح عنه صلى الله عليه وسلم من الأخبار المتشابهة، الواردة في صفات الله سبحانه ما بلغنا وما لم يبلغنا، مما صح عنه، اعتقادنا فيه وفي الآي المتشابه في القرآن: أن نقبلها ولا نردها، ولا نتأولها بتأويل المخالفين، ولا نحملها على تشبيه المشبهين، ولا نزيد عليها، ولا ننقص منها، ولا نفسرها، ولا نكيفها، ولا نشير إليها بخواطر القلوب، بل

1 مسلم: البر والصلة والآداب (2612) ، وأحمد (2/251 ،2/434 ،2/463 ،2/519) .

ص: 116

نطلق ما أطلقه الله، ونفسر ما فسره النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون، والأئمة المرضيون، من السلف، المعروفين بالدين والأمانة.

ونجمع على ما أجمعوا عليه، ونمسك عما أمسكوا عنه، ونسلم الخبر لظاهره، والآية لظاهرها، لا نقول بتأويل المعتزلة، والأشعرية، والجهمية، والملحدة، والمجسمة، والمشبهة، والكرامية، والمكيفة; بل نقبلها بلا تأويل، ونؤمن بها بلا تمثيل، ونقول: الإيمان بها واجب، والقول سنة، وابتغاء تأويله بدعة; هذا آخر كلام أبي العباس بن سريج، الذي حكاه أبو القاسم الزنجاني في أجوبته.

ص: 117

ذكر قول الإمام الطحاوي، إمام الحنفية في وقته، في الحديث، والفقه، ومعرفة أقوال السلف

قال في عقيدته المعروفة عند الحنفية: ذكر بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة، على مذهب فقهاء الملة: أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، رضي الله عنهم.

نقول في توحيد الله، معتقدين بتوفيق الله: أن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ما زال بصفاته قديما قبل خلقه، وأن القرآن كلام الله، منه بدأ، بلا كيفية قولا، وأنزله على نبيه وحيا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا، وأيقنوا أنه كلام الله بالحقيقة، ليس بمخلوق، فمن سمعه، وزعم أنه كلام البشر، فقد كفر; والرؤية لأهل الجنة حق، بغير إحاطة ولا كيفية، وكل ما جاء في ذلك من الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا يثبت قدم الإسلام، إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام ما حضر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه خالص التوحيد، وصحيح الإيمان; ومن لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنْزيه

إلى أن قال: والعرش، والكرسي، حق، كما بين في كتابه، وهو مستغن عن العرش، وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، وذكر سائر الاعتقاد.

ص: 118

ذكر قول الإمام، أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، إمام الطائفة الكلابية، وكان من أعظم الناس إثباتا للصفات، والفوقية، وعلو الله على عرشه، منكرا لقول الجهمية؛ وهو أول من عرف عنه إنكار قيام الأفعال الاختيارية بذات الرب، وأن القرآن معنى قائم بالذات، وهو أربع معان; ونصر طريقته أبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري، وخالفه في بعض الأشياء، ولكنه على طريقه في إثبات الصفات، والفوقية، وعلو الله على عرشه كما سيأتي حكاية كلامه بألفاظه إن شاء الله تعالى.

حكى ابن فورك في كتابه المجرد، فيما جمعه من كلام ابن كلاب، أنه قال: وأخرج من النظر والخبر، قول من قال: لا هو في العالم، ولا خارجا منه; فنفاه نفيا مستويا، لأنه لو قيل له صفه بالعدم، لما قدر أن يقول أكثر من هذا; ورد أخبار الله أيضا، وقال في ذلك ما لا يجوز في نص ولا معقول، ثم قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صفوة الله من خلقه، وخيرته من بريته، أعلمهم بالأين واستصوب قول القائل: إنه في السماء، وشهد له بالإيمان عند ذلك، وجهم بن صفوان وأصحابه لا يجيزون: الأين ويحيلون القول به.

قال: ولو كان خطأ، لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالإنكار له، وكان ينبغي أن يقول لها: لا تقولي ذلك، فتوهمي أنه محدود، وأنه في مكان دون مكان، ولكن قولي إنه في كل

ص: 119

مكان، لأنه هو الصواب، دون ما قلت. كلا! فلقد أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمه بما فيه، وأنه من الإيمان، بل الأمر الذي يجب به الإيمان لقائله ومن أجله شهد لها بالإيمان حين قالته، وكيف يكون الحق في خلاف ذلك؟ ! والكتاب ناطق بذلك، وشاهد له.

وقد غرس في بنية الفطرة، ومعارف الآدميين من ذلك، ما لا شيء أبين منه، ولا أوكد، لأنك لا تسأل أحدا من الناس، عربيا ولا عجميا، ولا مؤمنا ولا كافرا، فتقول أين ربك؟ إلا قال: في السماء، أفصح، أو أومى بيده، أو أشار بطرفه، إن كان لا يفصح، ولا يشير إلى غير ذلك; ولا رأينا أحدا إذا عن له الدعاء، إلا رافعا يده إلى السماء، ولا وجدنا أحدا غير الجهمية يُسأل عن ربه فيقول: في كل مكان، كما يقولون، وهم يدعون أنهم أفضل الناس، فتاهت العقول، وسقطت الأخبار، واهتدى جهم، وخمسون رجلا معه، نعوذ بالله من مضلات الفتن، انتهى كلامه.

ذكر قول الإمام أبي الحسن الأشعري، صاحب التصانيف، إمام الطائفة الأشعرية: قال في كتابه الذي سماه اختلاف المصلين، ومقالات الإسلاميين لذكر فرق الخوارج، والروافض، والجهمية، وغيرهم

إلى أن قال: ذكر مقالة أهل السنة، وأصحاب الحديث، جملة قولهم: الإقرار بالله وملائكته، وكتبه ورسله وبما جاء عن الله

ص: 120

وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئا، وأن الله على عرشه كما قال:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5]، وأن له يدين بلا كيف كما قال:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75]، وكما قال:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64] ، وأن أسماء الله لا يقال إنها غير الله، كما قالت المعتزلة والخوارج.

وأقروا أن لله علما، ولم ينفوا ذلك عن الله، كما نفته المعتزلة، ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق؛ ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن الله ينْزل إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من مستغفر "1 كما جاء الحديث; ويُقرّون أن الله يجيء يوم القيامة، كما قال:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [سورة الفجر آية: 22] ، وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء

إلى أن قال: فهذا جملة ما يأمرون به، ويستعملونه، ويروونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله.

وذكر الاستواء في هذا الكتاب المذكور، في باب: هل الباري تعالى في مكان دون مكان؟ فقال: اختلفوا في ذلك على سبع عشرة مقالة، منها: قال أهل السنة، وأصحاب الحديث: إن الله ليس بجسم ولا يشبه الأشياء; وأنه على العرش استوى كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، ولا نتقدم بين يدي الله بالقول، بل نقول: استوى بلا كيف؛ وإن له يدين، كما قال:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75] ، وإنه يَنْزل إلى سماء

1 البخاري: الجمعة (1145) والدعوات (6321) والتوحيد (7494)، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758)، والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498)، وأبو داود: الصلاة (1315) والسنة (4733)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) ، وأحمد (2/264 ،2/267 ،2/282 ،2/433)، ومالك: النداء للصلاة (496)، والدارمي: الصلاة (1479) .

ص: 121

الدنيا كما جاء في الحديث، ثم قال: وقالت المعتزلة: استوى على عرشه، بمعنى: استولى، وتأولوا اليد بمعنى: النعمة; وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [سورة القمر آية: 14] أي: بعلمنا.

وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب جمل المقالات: هذه حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة، جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة: الإقرار بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وما جاء من الله، وما تلقاه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون شيئا من ذلك، وأن الله واحد أحد، فرد، صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأنه على عرشه كما قال:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وأن له يدين بلا كيف، كما قال:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75]، وكما قال:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64] ، وأن له عينين، بلا كيف، كما قال:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [سورة القمر آية: 14] وأن له وجها كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [سورة الرحمن آية: 27] .

وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، والكلام في الوقف واللفظ: من قال بالوقف أو باللفظ فهو مبتدع عندهم، لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال غير مخلوق، ويقولون: إن الله يُرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون لأنهم عن الله محجوبون؛ ثم ساق بقية قولهم.

وقال في هذا الكتاب: وقالت المعتزلة: إن الله استوى

ص: 122

على عرشه بمعنى: استولى، هذا نص كلامه; وقال في هذا الكتاب أيضا: وقالت المعتزلة في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] يعني: استولى. قال: وتأولت اليد بمعنى: النعمة، وقوله:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [سورة القمر آية: 14] أي: بعلمنا. فالأشعري رحمه الله، إنما حكى تأويل الاستواء بالاستيلاء عن المعتزلة والجهمية، وصرح بخلافه، وأنه خلاف قول أهل السنة.

وقال الأشعري أيضا: في كتابه: الإبانة، في أصول الديانة في باب الاستواء: فإن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول: إن الله مستو على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5]، وقال:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [سورة فاطر آية: 10]، وقال:{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [سورة النساء آية: 158]، وقال حكاية عن فرعون:{يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [سورة آية: 36-37] كذب موسى، في قوله: إن الله فوق السماوات، وقال عز وجل:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [سورة الملك آية: 16] ، فالسماوات فوقها العرش.

فلما كان العرش فوق السماوات قال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16] لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات، وكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات، وليس إذا قال:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16] يعني: جميع السماوات;

ص: 123

وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات; قال: ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله مستو على العرش، الذي هو فوق السماوات؛ فلولا أن الله على العرش، لم يرفعوا أيديهم نحو العرش; وقد قال قائلون - من المعتزلة، والجهمية، والحرورية - إن معنى استوى: استولى، وملك، وقهر، وأنه تعالى في كل مكان، وجحدوا أن يكون على عرشه، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة.

فلو كان كما قالوا، كان لا فرق بين العرش، وبين الأرض السابعة، لأنه قادر على كل شيء، وكذا لو كان مستويا على العرش بمعنى: الاستيلاء، لجاز أن يقال: هو مستو على الأشياء كلها; ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: إن الله مستو على الأخلية، والحشوش; فبطل أن يكون الاستواء على العرش: الاستيلاء، وذكر أدلة من الكتاب والسنة، والعقل، سوى ذلك; وكتاب الإبانة من أشهر تصانيف أبي الحسن، شهره الحافظ ابن عساكر، واعتمد عليه، ونسخه بخطه الإمام محي الدين النواوي.

فانظر - رحمك الله - إلى هذا الإمام، الذي ينتسب إليه الأشاعرة اليوم، لأنه إمام الطائفة المذكورة، كيف صرح بأن عقيدته في آيات الصفات وأحاديثها اعتقاد أهل السنة والجماعة، من الصحابة والتابعين وأئمة الدين; ولم يحك تأويل الاستواء بالاستيلاء، واليد بمعنى النعمة،

ص: 124

والعين بمعنى العلم، إلا عن المعتزلة والجهمية; وصرح أنه خلاف قوله، لأنه خلاف قول أهل السنة والجماعة.

ثم تجد المنتسبين إلى عقيدة الأشعري قد صرحوا في عقائدهم، ومصنفاتهم، من التفاسير وشروح الحديث، بالتأويل الذي أنكره إمامهم، وبين أنه قول المعتزلة والجهمية، وينسبون هذا الاعتقاد إلى الأشعري وهو قد أنكره ورده وأخبر أنه على غير عقيدة السلف من الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم; وأنه على عقيدة الإمام أحمد، كما سيأتي لفظه بحروفه إن شاء الله.

وأعجب من هذا: أنهم يذكرون في مصنفاتهم أن عقيدة السلف أسلم، وعقيدة الخلف أعلم وأحكم! فسبحان مقلب القلوب كيف يشاء، كيف يجتمع في قلب من له عقل ومعرفة، أن الصحابة أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما، وأنهم الذين شاهدوا التَنْزيل وعلموا التأويل، وأنهم أهل اللغة الفصحاء، واللسان العربي الذي نزل القرآن بلغتهم وأنهم الراسخون في العلم حقا، وأنهم متفقون على عقيدة واحدة، لم يختلف في ذلك اثنان.

ثم التابعون بعدهم سلكوا سبيلهم، واتبعوا طريقهم، ثم الأئمة الأربعة وغيرهم مثل الأوزاعي، والسفيانين، وابن المبارك، وإسحاق، وغيرهم من أئمة الدين الذين رفع الله قدرهم بين العالمين، وجعل لهم لسان صدق في الآخرين، كل هؤلاء على عقيدة واحدة مجمعون، ولكتاب

ص: 125

ربهم وسنة نبيهم متبعون.

ثم بعد معرفته لهذا وإقراره، يقوم في قلبه أن عقيدة الخلف أعلم وأحكم من طريقة السلف؟ ! فسبحان من يحول بين المرء وقلبه، فيهدي من يشاء بفضله ويضل من يشاء بعدله {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [سورة الأنبياء آية: 23] .

وكيف يكون الخالفون أعلم من السابقين؟ ! بل من زعم هذا فهو لم يعرف قدر السلف; بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين، حقيقة المعرفة المطلوبة; فإن هؤلاء الذين يفضلون طريقة الخلف، إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث، من غير فقه لذلك، بمنْزِلة الأميين الذين قال الله فيهم:{لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [سورة البقرة آية: 78] ، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها، بأنواع الاحتمالات، وغرائب اللغات; فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة، كما قدمناه; وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف. وكيف يكون الخلف أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكم في باب ذاته وآياته، من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، من أهل العلم والإيمان، الذين هم أعلام الهدى، ومصابيح الدجى؟! فنسأل الله أن لا

ص: 126

يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا ولإخواننا المسلمين من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب. وإنما ذكرنا هذا في أثناء كلام أبي الحسن الأشعري لأن أهل التأويل اليوم الذين أخذوا بطريقة الخلف، ينتسبون إلى عقيدة الأشاعرة، فيظن من لا علم عنده، أن هذا التأويل طريقة أبي الحسن الأشعري، وهو رضي الله عنه قد صرح بأنه على طريقة السلف، وأنكر على من تأول النصوص، كما هو مذهب الخلف; وذكر أن التأويل مذهب المعتزلة والجهمية.

قال الإمام الذهبي في كتاب العلو: قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: سمعت أبا علي الدقاق يقول: سمعت زاهر بن أحمد الفقيه يقول: مات الأشعري رحمه الله، ورأسه في حجري، فكان يقول شيئا في حال نزعه: لعن الله المعتزلة، موهوا ومخرقوا.

وقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر، في كتاب تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري: فإذا كان أبو الحسن رحمه الله كما ذكر عنه من حسن الاعتقاد، مستصوب المذهب عند أهل المعرفة والانتقاد، موافقه في أكثر ما يذهب إليه أكابر العباد، ولا يقدح في مذهبه غير أهل الجهل والعناد، فلا بد أن يحكى عنه معتقده على وجهه بالأمانة، ليعلم حاله في صحة عقيدته في الديانة.

فاسمع ما ذكره في كتابه الإبانة، فإنه قال: الحمد لله

ص: 127

الواحد العزيز، الماجد المتفرد بالتوحيد، المتمجد بالتمجيد، الذي لا تبلغه صفات العبيد، وليس له مثل ولا نديد، وساق خطبة رد فيها على المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، وبين فيها مخالفة المعتزلة لكتاب الله وسنة رسوله، وإجماع الصحابة

إلى أن قال: فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والحرورية، والرافضة، والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون؟

قيل له: قولنا الذي به نقول، وديانتنا التي بها ندين: التمسك بكتاب الله، وسنة نبيه صلى لله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة، والتابعين، وأئمة الحديث; ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد بن حنبل، نضر الله وجهه، قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين; فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وكبير مفهم، وعلى جميع أئمة المسلمين.

وجملة قولنا: أنا نقر بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نرد من ذلك شيئا، وأن الله إله واحد أحد، فرد صمد، لا إله غيره، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله; وأن الجنة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها،

ص: 128

وأن الله يبعث من في القبور; وأن الله تعالى مستو على عرشه، كما قال:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5]، وأن له وجها كما قال:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [سورة الرحمن آية: 27]، وأن له يدين كما قال:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64]، وأن له عينين بلا كيف كما قال:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [سورة القمر آية: 14] ، وأن من زعم أن اسم الله غيره كان ضالا، وأن لله علما كما قال:{أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [سورة النساء آية: 166] .

ونثبت لله قدرة، ونثبت له السمع، والبصر، ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة، والخوارج، والجهمية; ونقول: إن كلام الله عز وجل غير مخلوق، وأنه لا يكون شيء في الأرض، من خير، أو شر إلا ما شاء الله، وأن أعمال العباد مخلوقة لله، مقدرة له، كما قال:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [سورة الصافات آية: 96] وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره ونقول: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن من قال بخلق القرآن كان كافرا؛ وندين أن الله يرى بالأبصار يوم القيامة، كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون كما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقول: إن الكافرين - إذا رآه المؤمنون - هم عنه محجوبون، كما قال الله:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [سورة المطففين آية: 15] .

ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيمانا، وندين أن الله تعالى مقلب القلوب، وأن القلوب

ص: 129

بين أصبعين من أصابعه، وأنه يضع السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص; ونصدق جميع الروايات التي رواها أهل النقل، من النّزول إلى سماء الدنيا، وأن الرب يقول:" هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ "1، وسائر ما نقلوه وأثبتوه، خلافا لما قاله أهل الزيغ والتضليل; ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها، ولا نقول على الله ما لا نعلم.

ونقول: إن الله يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [سورة الفجر آية: 22]، وأن الله يقرب من عباده كيف شاء كما قال:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق آية: 16] وكما قال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [سورة النجم آية: 8-9]

إلى أن قال: ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة، ومجانبة أهل الأهواء، ونحتج لما ذكرناه من قولنا، وما بقي منه، بابا بابا، وشيئا شيئا.

ثم قال ابن عساكر: فتأملوا رحمكم الله هذا الاعتقاد، ما أوضحه وأبينه، واعترفوا بفضل هذا الإمام الذي شرحه وبينه. انتهى; قال شمس الدين الذهبي رحمه الله: فلو انتهى أصحابنا المتكلمون، إلى مقالة أبي الحسن ولزموها، لأحسنوا، ولكنهم خاضوا كخوض حكماء الأوائل في الأشياء، ومشوا خلف المنطق، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

ذكر قول أبي الحسن علي بن مهدي الطبراني

1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) ، وأحمد (2/433 ،3/94) .

ص: 130

المتكلم، تلميذ الأشعري: قال في كتاب مشكل الآيات له في باب قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] :

اعلم أن الله فوق السماء، فوق كل شيء، مستو على عرشه بمعنى أنه عال عليه، ومعنى الاستواء: الاعتلاء، كما تقول العرب: استويت على ظهر الدابة، واستويت على السطح، بمعنى علوته، واستوت الشمس على رأسي، واستوى الطير على قمة رأسي، بمعنى علا في الجو، فوجد فوق رأسي; فالقديم جل جلاله، عال على عرشه، يدلك على أنه في السماء، عال على عرشه، قوله:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16]، وقوله:{يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [سورة آل عمران آية: 55]، وزعم البلخي: أن استواء الله على العرش، هو الاستيلاء عليه مأخوذ من قول العرب: استوى بشر على العراق.... أي استولى عليها.

قال: ويدل على أن الاستواء - هاهنا - ليس بالاستيلاء، لأنه لو كان كذلك لم يكن ينبغي أن يخص العرش بالاستيلاء عليه دون سائر خلقه، إذ هو مستول على العرش وعلى الخلق، ليس للعرش مزية على ما وصفته; فبان بذلك فساد قوله; ثم يقال له أيضا: إن الاستواء ليس هو الاستيلاء الذي هو من قول العرب: استوى فلان، أي: استولى، إذا تمكن بعد أن لم يكن متمكنا، فلما كان الباري عز وجل لا يوصف بالتمكن بعد أن لم يكن متمكنا، لم يصرف معنى الاستواء إلى الاستيلاء.

ص: 131

ثم قال: فإن قيل: ما تقولون في قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16] ؟ قيل له: معنى ذلك أنه فوق السماء على العرش كما قال: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} [سورة التوبة آية: 2] بمعنى على الأرض، وقال:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [سورة طه آية: 71] . فإن قيل: ما تقولون في قول الله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [سورة الأنعام آية: 3] ؟ قيل له: إن بعض القراء يجعل الوقف في (السماوات) ثم يبتدئ: {وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} [سورة الأنعام آية: 3] ، وكيفما كان، فلو أن قائلا قال: فلان بالشام والعراق، ملك، لدل على أن ملكه بالشام والعراق، لا أن ذاته فيهما.

ذكر قول الإمام الزاهد: أبي عبد الله بن بطة، قال في كتاب الإبانة - وهو ثلاثة مجلدات -: باب الإيمان بأن الله على عرشه، بائن من خلقه، وعلمه محيط بخلقه.

أجمع المسلمون من الصحابة والتابعين، على أن الله على عرشه، فوق سماواته، بائن من خلقه; فأما قوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ} [سورة الحديد آية: 4] فهو كما قالت العلماء، واحتج الجهمي بقوله:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] فقال: معنا وفينا; وقد فسر العلماء أن ذلك علمه; ثم قال تعالى في آخرها: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة المجادلة آية: 7] .

ثم إن ابن بطة سرد بأسانيده أقوال من قال إنه علمه،

ص: 132

فذكره عن الضحاك، والثوري، ونعيم بن حماد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه.

وكان ابن بطة، من كبار الأئمة رضي الله عنه، سمع من البغوي وطبقته، وتوفي سنة سبع وثمانين وثلاثمائة.

ذكر قول الإمام أبي محمد بن أبي زيد القيرواني، شيخ المالكية في وقته، قال في أول رسالته المشهورة، في مذهب الإمام مالك: وأنه تعالى فوق عرشه المجيد، بذاته، وأنه في كل مكان بعلمه، قال الإمام أبو بكر محمد بن وهب المالكي، شارح رسالة ابن أبي زيد، لما ذكر قوله - وأنه فوق عرشه المجيد -: معنى (فوق) و (على) واحد عند جميع العرب; ثم ساق الآيات، والأحاديث - إلى أن قال -: وقد تأتي لفظة (في) في لغة العرب، بمعنى (فوق)، كقوله:{فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [سورة الملك آية: 15]{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16] قال أهل التأويل، يريد فوقها; وهو قول مالك مما فهمه عن التابعين، مما فهموه عن الصحابة، مما فهموه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله في السماء، يعني فوقها; فكذلك قال الشيخ أبو محمد، إنه فوق عرشه; ثم بين أن علوه فوق عرشه، إنما هو بذاته، بائن عن جميع خلقه، بلا كيف، وهو بكل مكان بعلمه، لا بذاته، فلا تحويه الأماكن، لأنه أعظم منها، انتهى كلام الشارح.

وذكر ابن أبي زيد في كتابه المفرد في السنة تقرير

ص: 133

العلو، واستواء الرب على العرش بذاته، وقرره أتم تقرير; وقال في مختصر المدونة: وأنه تعالى فوق عرشه بذاته، فوق سماواته دون أرضه.

قال الحافظ الذهبي، لما ذكر قول ابن أبي زيد: وأنه تعالى فوق عرشه المجيد بذاته، قد تقدم مثل هذه العبارة، عن أبي جعفر بن أبي شيبة، وعثمان بن سعيد الدارمي. وكذلك أطلقها يحيى بن عمار، واعظ سجستان في رسالته، والحافظ أبو نصر السجزي في كتاب الإبانة له، فإنه قال: وأئمتنا كالثوري، ومالك، والحمادين، وابن عيينة، وابن المبارك، والفضيل، وأحمد، وإسحاق، متفقون على أن الله فوق العرش بذاته، وأن علمه بكل مكان; وكذلك أطلقها ابن عبد البر، وكذا عبارة شيخ الإسلام: أبي إسماعيل الأنصاري، فإنه قال في أخبار شتى: إن الله في السماء السابعة، على العرش بنفسه، وكذا قال أبو الحسن الكرجي، الشافعي، تلك القصيدة:

عقائدهم أن الإله بذاته على عرشه مع علمه بالغوائب

وعلى هذه القصيدة مكتوب بخط العلامة تقي الدين ابن الصلاح: هذه عقيدة أهل السنة، وأصحاب الحديث وكذا أطلق هذه اللفظة: أحمد بن ثابت الطرقي الحافظ، والشيخ عبد القادر الجيلي، والفتى عبد العزيز القحيطي وطائفة، والله تعالى خالق كل شيء، ومدبر الخلائق بذاته، لا معين

ص: 134

ولا موازر وإنما أراد ابن أبي زيد وغيره التفرقة بين كونه معنا، وبين كونه فوق العرش، فهو معنا بالعلم، وهو على العرش، كما أعلمنا حيث يقول:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وقد تلفظ بالكلمة المذكورة جماعة من العلماء، كما قدمنا، وبلا ريب أن فضول الكلام تركه من حسن الإسلام; وكان ابن أبي زيد من العلماء العاملين بالمغرب، وكان يلقب بمالك الصغير، وكان غاية في معرفة الأصول، وقد نقموا عليه في قوله بذاته، فليته تركه، انتهى كلام الذهبي.

ذكر قول القاضي أبي بكر ابن الطيب الباقلاني، الأشعري:

قال في كتابه التمهيد في أصول الدين - وهو من أشهر كتبه -:فإن قال قائل: فهل تقولون إن الله في كل مكان؟ قلنا: معاذ الله، بل هو مستو على عرشه كما أخبر في كتابه، فقال:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [سورة الملك آية: 16] ، ولو كان في كل مكان لكان في جوف الإنسان، وفي فمه، وفي الحشوش، والمواضع القذرة، التي يرغب عن ذكرها، تعالى الله عن ذلك.

ثم قال في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [سورة الزخرف آية: 84]، المراد: أنه إله عند أهل السماء، وإله عند أهل الأرض، كما تقول العرب: فلان

ص: 135

نبيل، مطاع في المصرين; أي: عند أهلهما، وليس يعنون أن ذات المذكور، بالحجاز والعراق موجودة; وقوله:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [سورة النحل آية: 128] يعني: بالحفظ، والنصر، والتأييد; ولم يرد أن ذاته معهم، تعالى; وقوله:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [سورة طه آية: 46] محمول على هذا التأويل; وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] يعني أنه عالم بهم، وبما خفي من سرهم ونجواهم.

وهذا إنما يستعمل كما ورد به القرآن، فلذلك لا يجوز أن يقال، قياسا على هذا: إن الله بالقيروان، ومدينة السلام، ودمشق، وإنه مع الثور، والحمار، وإنه مع الفساق، ومع المصعدين إلى حلوان، قياسا على قوله:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [سورة النحل آية: 128] فوجب: التأويل على ما وصفنا أولا، ولا يجوز أن يكون معنى استوائه على العرش هو استيلاؤه، كما قال الشاعر:

قد استوى بشر على العراق

..................

لأن الاستيلاء هو القدرة والقهر; والله تعالى لم يزل قادرا قاهرا; وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى} يقتضي: استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن، فبطل ما قالوه.

ثم قال: باب فإن قال قائل: ففصلوا لنا صفات ذاته من صفات أفعاله، لنعرف ذلك; قيل له: صفات

ص: 136

ذاته هي التي لم يزل، ولا يزال موصوفا بها، وهي: الحياة، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، والبقاء، والوجه، واليدان، والعينان، والغضب، والرضاء; وصفات فعله، هي: الخلق، والرزق، والعدل، والإحسان، والتفضل، والإنعام، والثواب، والعقاب، والحشر، والنشر; وكل صفة كان موجودا قبل فعله لها; ثم ساق الكلام في الصفات.

وقال في كتاب الذب عن أبي الحسن الأشعري: كذلك في قولنا، في جميع المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفات الله; إذ صح من إثبات اليدين، والوجه، والعينين، ونقول: إن الله يأتي يوم القيامة في ظلل من الغمام وإنه يَنْزل إلى السماء الدنيا كما في الحديث، وإنه مستو على عرشه

إلى أن قال: وقد بينا دين الأئمة وأهل السنة أن هذه الصفات تمر كما جاءت بغير تكييف ولا تحديد ولا تجنيس، ولا تصوير، كما روي عن الزهري، عن مالك في الاستواء، فمن تجاوز هذا، فقد تعدى، وابتدع، وضل. انتهى.

قال الحافظ شمس الدين الذهبي - لما ذكر كلامه هذا - فهذا: نص هذا الإمام، وأين مثله في تبحره، وذكائه، وتبصره بالملل والنحل؟ فلقد امتلأ الوجود بقوم لا يدرون ما السلف، ولا يعرفون إلا السلب، ونفي الصفات وردها،

ص: 137

صم، بكم، غتم، عجم، يدعون إلى العقل، ولا يكونون على النقل; فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ذكر قول الإمام أبي عمر: محمد بن عبد الله الأندلسي الطلمنكي المالكي:

قال في كتاب الأصول - وهو مجلدان -: أجمع المسلمون من أهل السنة أن الله استوى على عرشه بذاته. وقال في هذا الكتاب أيضا: أجمع أهل السنة أن الله على العرش على الحقيقة، لا على المجاز; ثم ساق بسنده عن مالك، قوله: الله في السماء، وعلمه في كل مكان; ثم قال في هذا الكتاب: وأجمع المسلمون من أهل السنه، على أن معنى قوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] ونحو ذلك من القرآن، أن ذلك علمه، فإن الله فوق السماوات بذاته، مستو على عرشه كيف شاء، هذا لفظه في كتابه.

فانظر إلى حكاية إجماع المسلمين من أهل السنة، على أن الله استوى على عرشه بذاته، وأطلق هذه اللفظة غير واحد من أئمة السنة، وحكاها كثير من العلماء عن الأئمة الكبار، كما تقدم عن الحافظ أبي نصر السجزي وغيره; فكيف نقموها على ابن أبي زيد وحده لما ذكرها في رسالته؟ ! كما ذكره الذهبي; وكان الطلمنكي هذا من كبار الحفاظ، وأئمة القراء بالأندلس، عاش بضعا وثمانين سنة، وتوفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة.

ص: 138

ذكر قول شيخ الإسلام أبي عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن النيسابوري الصابوني: قال في رسالته في السنة:

ويعتقد أصحاب الحديث ويشهدون أن الله فوق سبع سماواته، على عرشه، كما نطق به كتابه، وعلماء الأمة، وأعيان الأئمة من السلف، لم يختلفوا أن الله على عرشه، وعرشه فوق سماواته، وإمامنا الشافعي احتج في المبسوط، في مسألة إعتاق الرقبة المؤمنة في الكفارة بخبر معاوية بن الحكم:"فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة السوداء، ليعرف أمؤمنة أم لا، فقال لها: أين ربك؟ فأشارت إلى السماء، إذ كانت أعجمية، فقال: أعتقها فإنها مؤمنة "، حكم بإيمانها لما أقرت بأن ربها في السماء، وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية.

كان الصابوني هذا: فقيها محدثا، وصوفيا واعظا، كان شيخ نيسابور في زمانه، له تصانيف حسنة، سمع من أصحاب ابن خزيمة، والسراج، وتوفي سنة تسع وأربعين وأربعمائة.

ذكر قول الإمام، العالم العلامة، حافظ المغرب، إمام السنة في زمانه، أبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري الأندلسي، صاحب التمهيد والاستذكار، والتصانيف النفيسة.

قال في كتاب التمهيد في شرح الحديث الثامن لابن

ص: 139

شهاب: حديث النّزول هذا صحيح الإسناد لا يختلف أهل الحديث في صحته وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء، على العرش من فوق سبع سماوات كما قالت الجماعة، وهو حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم: إن الله في كل مكان وليس على العرش. والدليل على صحة ما قاله أهل الحق في ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5]، وقوله:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16]، ومعنى:{مَنْ فِي السَّمَاءِ} يعني على العرش، وقد تكون (في) بمعنى (على)، ألا ترى إلى قوله:{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} [سورة التوبة آية: 2] أي: على الأرض، وكذلك قوله:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [سورة طه آية: 71]، وهذا يعضده قوله:{تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [سورة المعارج آية: 4] وما كان مثله في الآيات، وهذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول المعتزلة.

وأما دعواهم المجاز في الاستواء، وقولهم في تأويل استوى: استولى، فلا معنى له، لأنه غير ظاهر في اللغة، ومعنى الاستيلاء في اللغة: المغالبة، والله لا يغلبه أحد، ومن حق الكلام أن يحمل على الحقيقة، حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك، ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع، ما ثبت شيء من العبادات، وجل الله أن يخاطب الأمة إلا بما تفهمه العرب، من معهود مخاطباتها، مما يصح معناه عند

ص: 140

السامعين.

والاستواء معلوم في اللغة مفهوم، وهو: العلو والارتفاع على الشيء، والاستقرار، والتمكن فيه، قال أبو عبيدة في قوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] قال: علا، وتقول العرب: استويت فوق الدابة، واستويت فوق البيت، وقال غيره: استوى أي: استقر، واحتج بقوله:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [سورة القصص آية: 14] أي: انتهى شبابه واستقر، فلم يكن في شبابه مزيد; قال ابن عبد البر: والاستواء الاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله عز وجل فقال:{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [سورة الزخرف آية: 13] الآية، وقال:{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [سورة المؤمنون آية: 28]، وقال:{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ} [سورة هود آية: 44] .

وأما من نزع منهم بحديث يرويه عبد الله بن داود الواسطي، عن إبراهيم بن عبد الصمد، عن عبد الله بن مجاهد عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] استولى على جميع بريته، فلا يخلو منه مكان.

فالجواب: أن هذا حديث منكر، ونقلته مجهولون، ضعفاء; فأما عبد الله بن داود الواسطي، وابن مجاهد، فضعيفان، وإبراهيم بن عبد الصمد مجهول لا يعرف; وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول، فكيف يسوغ لهم الاحتجاج بمثل

ص: 141

هذا الحديث لو عقلوا؟! أما سمعوا قول الله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [سورة آية: 36] فدل على أن موسى عليه السلام كان يقول: إلهي في السماء، وفرعون يظنه كاذبا.

فإن احتج بقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [سورة الزخرف آية: 84] وبقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [سورة الأنعام آية: 3]، وبقوله:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] ، زعموا أن الله في كل مكان بنفسه، وبذاته، تبارك اسمه وتعالى جده.

قيل لهم: لا خلاف بيننا وبينكم، وبين سائر الأمة أنه ليس في الأرض دون السماء بذاته، فوجب حمل هذه الآيات، على المعنى الصحيح المجمع عليه، وذلك: أنه في السماء إله معبود أهل السماء، وفي الأرض إله معبود أهل الأرض، وكذا قال أهل العلم بالتفسير، وظاهر التّنْزيل، يشهد أنه على العرش; فالاختلاف في ذلك ساقط، وأسعد الناس به من ساعده الظاهر; وأما قوله في الآية الأخرى:{وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [سورة الزخرف آية: 84] ، فالإجماع والاتفاق قد بين أن المراد بأنه معبود أهل الأرض، فتدبر هذا فإنه قاطع.

ومن الحجة أيضا: في أنه عز وجل على العرش، فوق السماوات السبع، أن الموحدين أجمعين، من العرب

ص: 142

والعجم، إذا كربهم أمر ونزلت بهم شدة، رفعوا وجوههم إلى السماء، ونصبوا أيديهم رافعين لها، مشيرين بها إلى السماء، يستغيثون الله ربهم تبارك وتعالى; هذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة، من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته; وقد " قال صلى الله عليه وسلم للأمة السوداء: أين الله؟ فأشارت إلى السماء، ثم قال لها: من أنا؟ قالت رسول الله، قال: فأعتقها، فإنها مؤمنة "1 فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها برفعها رأسها إلى السماء.

قال: وأما احتجاجهم بقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] ، فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية، قال: هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وذكر سنيد عن الضحاك في هذه الآية، قال: هو على العرش، وعلمه معهم أينما كانوا; قال: وبلغني عن سفيان الثوري مثله; وقال عبد الله بن مسعود: "ما بين السماء والأرض، مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء إلى أخرى مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام، وما بين الكرسي إلى الماء، مسيرة خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله تبارك وتعالى على العرش، يعلم أعمالكم" وقد ذكر هذا الكلام، أو قريبا منه، في كتاب الاستذكار.

وقال أبو عمر أيضا: أجمع علماء الصحابة والتابعين، الذين حمل عنهم التأويل، قالوا في تأويل قوله تعالى:

{مَا

1 أبو داود: الأيمان والنذور (3284) ، وأحمد (2/291) .

ص: 143

يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] هو على العرش، وعلمه في كل مكان; وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله، وقال أيضا: أهل السنة مجمعون، على الإقرار بالصفات، الواردة في الكتاب والسنة، وحملها على الحقيقة، لا على المجاز، إلا أنهم لم يكيفوا شيئا من ذلك.

وأما الجهمية، والمعتزلة، والخوارج، فكلهم ينكرها، ولا يحمل منها شيئا على الحقيقة; ويزعمون: أن من أقر بها مشبه; وهم عند من أقر بها نافون للمعبود; قال الحافظ الذهبي: صدق والله، فإن من تأول سائر الصفات، وحمل ما ورد منها على مجاز الكلام، أداه ذلك السلب إلى تعطيل الرب، وأن يشابه المعدوم ولقد كان أبو عمر بن عبد البر، من بحور العلم، ومن أئمة الأثر، قل أن ترى العيون مثله; واشتهر فضله في الأقطار، مات سنة ثلاث وستين وأربعمائة، عن ست وسبعين سنة.

ذكر قول الإمام أبي القاسم عبد الله بن خلف المقري الأندلسي:

قال في شرح الملخص - لما ذكر حديث النّزول -: وفي هذا الحديث دليل على أنه تعالى في السماء على العرش فوق سبع سماوات من غير مماسة1 ولا تكييف كما قال أهل العلم، ودليل قولهم قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5]، وقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}

1 لفظ المماسة مبتدع، لم يرد بنفيه ولا إثباته كتاب ولا سنة.

ص: 144

[سورة الأعراف آية: 54] ،

وقوله: {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} [سورة المعارج آية: 2-3] والعروج هو الصعود; قال مالك بن أنس: الله عز وجل في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو من علمه مكان; يريد بقوله: في السماء أي: على السماء - إلى أن قال -: وكل ما قدمت دليل واضح في إبطال قول من قال بالمجاز في الاستواء; وأن الاستواء بمعنى الاستيلاء; لأن الاستيلاء في اللغة بعد المغالبة، والله لا يغالبه أحد; ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته، حتى تتفق الأمة على أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك; وإنما يوجه كلام الله إلى الأشهر والأظهر من وجوهه، ما لم يمنع ادعاء ذلك ما يجب التسليم له; ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبادات، وجل الله أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطباتها، مما يصح معناه عند السامعين; والاستواء معلوم في اللغة، وهو العلو والارتفاع، والتمكن في الشيء.

فإن احتج أحد عليه وقال: لو كان كذلك لأشبه المخلوقات، لأن ما أحاطت به الأمكنة، واحتوت فهو مخلوق; قيل: لا يلزم ذلك، لأنه تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] ، ولأنه لا يقاس بخلقه، كان قبل الأمكنة; وقد صح في العقول وثبت بالدلائل أنه كان في الأزل، لا في مكان، وليس بمعدوم، فكيف يقاس على شيء من خلقه؟ ! أو يجري

ص: 145

بينه وبينهم تمثيل، أو تشبيه؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

فإن قال قائل: وصفنا ربنا بأنه كان في الأزل لا في مكان، ثم خلق الله الأماكن، فصار في مكان; وفي ذلك إقرار منا بالتغيير والانتقال، إذا زال عن صفته في الأزل، صار في مكان دون مكان، قيل له: وكذلك زعمت أنت أنه كان لا في مكان، ثم صار في كل مكان، فقد تغير عندك معبودك، وانتقل من لا مكان إلى كل مكان، فإن قال: إنه في الأزل في كل مكان كما هو الآن; فقد أوجد الأشياء والأماكن معه في أزليته، وهذا فاسد.

فإن قال: فهل يجوز عندك أن ينتقل من لا مكان في الأزل إلى مكان؟ ! قيل له: أما الانتقال وتغير الحال، فلا سبيل إلى إطلاق ذلك عليه، لأن كونه في الأزل لا يوجب مكانا، وكذلك نقلته لا توجب مكانا، وليس هو في ذلك كالخلق، ولكنا نقول: استوى من لا مكان، ولا نقول انتقل، وإن كان المعنى في ذلك واحد، كما نقول: له عرش، ولا نقول له سرير; ونقول: هو الحليم، ولا نقول هو العاقل; ونقول: خليل إبراهيم، ولا نقول صديق إبراهيم; لأنا لا نسميه، ولا نصفه، ولا نطلق عليه إلا ما سمى به نفسه، ولا ندفع ما وصف به نفسه، لأنه دفع للقرآن.

ص: 146

ذكر قول الحافظ: أبي بكر الخطيب رحمه الله تعالى

قال: أما الكلام في الصفات، فمذهب السلف: إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، والكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويحتذي في ذلك حذوه ومثاله; فإذا كان إثبات رب العالمين معلوما، فإنما هو إثبات وجود، لا إثبات تحديد وتكييف، فكذلك إثبات صفاته، إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف; فإذا قلنا: يد، وسمع، وبصر، فإنما هو إثبات صفات أثبتها الله لنفسه، ولا نقول إن معنى اليد: القدرة، ولا أن معنى، السمع، والبصر: العلم; ولا نقول: إنها جوارح وأدوات للفعل، ولا تشبه بالأيدي، والأسماع، والأبصار التي هي جوارح، ونقول: إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها، لقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11]، وقوله:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 4] . انتهى.

قال الحافظ الذهبي: المراد بظاهرها أي: لا باطن لألفاظ الكتاب والسنة، غير ما وضعت له; كما قال مالك وغيره: الاستواء معلوم; وكذلك القول في السمع، والبصر، والكلام، والإرادة، والوجه، ونحو ذلك، هذه الأشياء معلومة فلا تحتاج إلى بيان وتفسير، لكن الكيف في

ص: 147

جميعها مجهول عندنا; قال: والمتأخرون من أهل النظر قالوا مقالة مولدة، ما علمت أحدا سبقهم إليها; قالوا: هذه الصفات تمر كما جاءت ولا تؤول، مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد.

فتفرع من هذا أن الظاهر يعنى به أمران: أحدهما: أنه لا تأويل غير دلالة الخطاب، كما قال السلف: الاستواء معلوم; وكما قال سفيان، وغيره: قراءتها تفسيرها، يعني أنها بينة معروفة، واضحة في اللغة، لا يبتغى بها مضائق التأويل والتحريف، وهذا مذهب السلف، مع اتفاقهم أنها لا تشبه صفات البشر بوجه، إذ الباري لا مثل له في ذاته ولا في صفاته. الثاني: أن ظاهرها هو الذي يتشكل في الخيال من الصفة، كما يتشكل في الذهن من وصف البشر، فهذا غير مراد; فإن الله فرد صمد ليس له نظير، وإن تعددت صفاته فإنها حق، ولكنها ما لها مثل ولا نظير، فمن الذي عاينه ونعته لنا؟

والله إنا لعاجزون، كالون، حائرون، باهتون، في حد الروح التي فينا، وكيف تعرج كل ليلة، إذا توفاها باريها، وكيف يرسلها، وكيف تنتقل بعد الموت؟ وكيف حياة الشهيد المرزوق عند ربه بعد قتله؟ وكيف حياة النبيين الآن؟ وكيف شاهد النبي صلى الله عليه وسلم أخاه موسى يصلي في قبره؟ ثم رآه في السماء السادسة، وحاوره، وأشار إليه بمراجعة رب العالمين، وطلب التخفيف منه؟ وكيف ناظر موسى أباه آدم؟ وحجه آدم بالقدر

ص: 148

السابق؟ وبأن اللوم بعد التوبة وقبولها لا فائدة فيه؟

وكذلك نعجز عن وصف هيئاتنا في الجنة، ووصف الحور العين، فكيف بنا إذا انتقلنا إلى الملائكة وذواتهم، وكيفيتها، وأن بعضهم يمكنه أن يلتقم الدنيا في لقمة، مع رونقهم، وحسنهم، وصفاء جوهرهم النوراني؟ فالله أعلى وأعظم; وله المثل الأعلى، والكمال المطلق، ولا مثل له، وأصلا:{آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 52] . انتهى كلام الذهبي; توفي الخطيب سنة ثلاث وستين وأربعمائة، ولم يكن ببغداد مثله في معرفة هذا الشأن.

ذكر قول الإمام عالم المشرق أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني الشافعي.

قال في كتاب الرسالة النظامية: اختلف مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم: تأويلها والتزام ذلك في آي الكتاب، وما يصح من السنن; وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب عز وجل، والذي نرتضيه دينا، وندين الله به عقيدة: اتباع سلف الأمة، والدليل القاطع السمعي في ذلك، وأن إجماع الأمة حجة متبعة، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغا أو محتوما، لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة.

وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن

ص: 149

التأويل، كان ذلك هو الوجه المتبع، فلتجر آية الاستواء، وآية المجيء، وقوله:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75] على ذلك.

قال الإمام أبو الفتح محمد بن علي: دخلنا على الإمام أبي المعالي الجويني نعوده في مرض موته، فقال لنا: اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة قلتها أخالف فيها ما قال السلف الصالح، وإني أموت على ما تموت عليه عجائز نيسابور; توفي إمام الحرمين سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، وله ستون سنة، وكان من بحور العلم في الأصول والفروع، يتوقد ذكاء.

ذكر قول الإمام الحافظ أبي القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الإصبهاني مصنف كتاب: الترغيب والترهيب:

قال في كتاب الحجة: قال علماء السنة: إن الله عز وجل على عرشه، بائن من خلقه وقالت المعتزلة: هو بذاته في كل مكان. قال: وروي عن ابن عباس، في تفسير قوله:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] قال: هو على عرشه، وعلمه في كل مكان، ثم ساق الآثار; قال: وزعم هؤلاء، أن معنى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] أي ملكه، وأنه لا اختصاص له بالعرش أكثر مما له بالأمكنة، وهذا إلغاء لتخصيص العرش وتشريفه.

ص: 150

قال أهل السنة: استوى على العرش، بعد خلق السماوات والأرض، على ما ورد به النص، وليس معناه: المماسة، بل هو مستو على عرشه بلا كيف، كما أخبر عن نفسه; قال: وزعم هؤلاء، أنه لا يجوز الإشارة إلى الله بالرؤوس، والأصابع، فإن ذلك يوجب التحديد؛ وأجمع المسلمون على أن الله هو العلي الأعلى، ونطق بذلك القرآن، فزعم هؤلاء، أن ذلك بمعنى: علو الغلبة، لا علو الذات; وعند المسلمين إن لله علو الغلبة، والعلو من سائر وجوه العلو; لأن العلو صفة مدح، فثبت أن لله تعالى علو الذات، وعلو الصفات، وعلو القهر والغلبة.

وفي منعهم الإشارة إلى الله تعالى من جهة الفوق، خلاف لسائر الملل لأن جماهير المسلمين وقع منهم الإجماع على الإشارة إلى الله من جهة الفوق في الدعاء والسؤال واتفاقهم بأجمعهم على ذلك حجة وقد أخبر عن فرعون أنه قال:{يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [سورة آية: 36-37] فكان فرعون قد فهم عن موسى أنه يثبت إلها فوق السماء، حتى رام بصرحه أن يطلع إليه; واتهم موسى بالكذب في ذلك; والجهمية لا تعلم أن الله فوقها بوجود ذاته، فهم أعجز فهما من فرعون، بل وأضل; وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حكم بإيمان الجارية حين قالت: إن الله في السماء، وحكم الجهمي بكفر من يقول ذلك. انتهى كلام أبي

ص: 151

القاسم رحمه الله، توفي سنة خمس وثلاثين وخمسمائة.

ذكر كلام الإمام العالم العلامة أبي عبد الله القرطبي، صاحب التفسير الكبير.

قال في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] : هذه مسألة: قد بينا فيها كلام العلماء في كتاب الأسني في شرح الأسماء الحسنى، وذكرنا فيها أربعة عشر قولا

إلى أن قال: وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على العرش حقيقة، وخص عرشه بذلك لأنه أعظم المخلوقات، وإنما جهلوا كيفية الاستواء، فإنه لا تعلم حقيقته، كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم - يعني في اللغة - والكيف مجهول، والسؤال عن ذلك بدعة.

قال الحافظ الذهبي: وقال القرطبي أيضا في الاستواء: الأكثر من المتقدمين، والمتأخرين المتكلمين يقولون: إذا وجب تنْزيه الباري جل جلاله عن الجهة والتحيز فمن ضرورة ذلك ولواحقه اللازمة أنه متى اختص بجهة، أن يكون في مكان وحيز، ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون للتحيز والتغير والحدوث; هذا قول المتكلمين.

ثم قال الذهبي: قلت: نعم، هذا ما اعتمده نفاة

ص: 152

الرب عز وجل، أعرضوا عن الكتاب والسنة وأقوال السلف، وفطر الخلائق; وإنما يلزم ما ذكروه في حق الأجسام، والله تعالى لا مثل له، ولازم صرائح النصوص حق، ولكنا لا نطلق عبارة إلا بأثر.

ثم نقول: لا نسلم أن كون الباري على عرشه فوق السماوات يلزم منه أنه في حيز وجهة، إذ ما دون العرش يقال فيه حيز وجهات، وما فوقه فليس هو كذلك، والله فوق عرشه كما أجمع عليه الصدر الأول، ونقله عنهم الأئمة، وقالوا ذلك رادين على الجهمية القائلين بأنه في كل مكان، محتجين بقوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ} [سورة الحديد آية: 4] ؛ فهذان القولان هما اللذان كانا في زمن التابعين وتابعيهم.

فأما القول الثالث المتولد بآخره بأنه تعالى ليس في الأمكنة، ولا خارجا عنها، ولا فوق عرشه، ولا هو متصل بالخلق، ولا بمنفصل عنهم، ولا ذاته المقدسة متميزة، ولا بائنةعن مخلوقاته، ولا في الجهات، ولا خارجا عن الجهات، ولا، ولا، فهذا شيء لا يعقل ولا يفهم، مع ما فيه من مخالفات الآيات والأخبار؛ ففر بدينك، وإياك وآراء المتكلمين؛ وآمن بالله وما جاء عن الله على مراد الله، وفوض أمرك إلى الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. انتهى كلام الذهبي.

ص: 153

ذكر قول الإمام محيي السنة: أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي، صاحب معالم التنْزيل، قال عند قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] : قال الكلبي ومقاتل: استقر; وقال أبو عبيدة: صعد; وأولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء; وأما أهل السنة فيقولون: الاستواء على العرش صفة الله بلا كيف يجب الإيمان به، وقال في قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [سورة البقرة آية: 29] : قال ابن عباس وأكثر المفسرين من السلف: ارتفع إلى السماء وقال في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [سورة البقرة آية: 210] : الأولى في هذه الآية وما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها، ويكل علمها إلى الله ويعتقد أن الله منَزّه عن سمات الحدوث؛ على ذلك مضت أئمة السلف وعلماء السنة. وقال في قوله:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] : بالعلم. كان محيي السنة من كبار أئمة مذهب الشافعي، زاهدا ورعا، توفي سنة عشر وخمسمائة، وقد قارب الثمانين.

قال الحافظ الذهبي - لما ذكر قول الكلبي، ومقاتل المتقدم -: لا يعجبني قوله: استقر; بل أقول كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم. انتهى كلامه رحمه الله. وهذا الذي

ص: 154

حكاه البغوي عن الكلبي ومقاتل، ذكره ابن جرير، في قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] قال: ارتفع وعلا، وقال الشيخ أبو العباس بن تيمية رحمه الله: وقد علم أن بين مسمى الاستواء، والاستقرار، والقعود، فروقا معروفة.

ذكر قول الإمام، العالم العلامة، الحافظ عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير: قال في تفسيره في سورة الأعراف: وأما قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] ، فللناس في ذلك المقام مقالات كثيرة جدا، ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم من أئمة المسلمين، قديما وحديثا، وهو: إمرارها كما جاءت، من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا تعطيل; والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه; و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] .

بل الأمر كما قال الأئمة، منهم نعيم بن حماد الخزاعي، شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها; فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى، ونفى عن الله النقائص، فقد سلك سبيل الهدى. انتهى كلام الحافظ ابن كثير، وفيما نقلناه من كلام الأئمة خير كثير. ولو تتبعنا كلام العلماء في

ص: 155

هذا الباب، لحصل منه مجلد كبير.

وقد أضربنا عن كلام الحنابلة صفحا، فلم ننقل منه إلا اليسير، لأنه قد اشتهر عنهم إثبات الصفات، ونفي التكييفات; فمذهبهم بين الناس مشهور، وفي كتبهم مسطور، وكلامهم في هذا الباب أشهر من أن يذكر، وأكثر من أن يسطر، ولهذا كان أهل البدع يسمونهم الحشوية، لأنهم قد أبطلوا التأويل، واتبعوا ظاهر التَنْزيل، وخالفوا أهل البدع والتأويل. وأما غيرهم من أهل المذاهب، فكثير منهم قد خالفوا طريقة السلف، وسلكوا مسلك الخلف; فلهذا نقلنا كلام أئمة الحنفية، والمالكية، والشافعية، وأئمة أهل الكلام، كابن كلاب، والأشعري، وأبي الحسن بن مهدي، والباقلاني، ليعلم الواقف على ذلك، أن هؤلاء الأئمة متبعون للسلف، يثبتون لله الصفات، وينفون عنه مشابهة المخلوقات، ويعرف أن هذا الاعتقاد الذي حكيناه عن شيخنا محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، هو الاعتقاد الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة، وكلام الصحابة وسائر الأمة.

فنحن لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله; لا نتجاوز القرآن والحديث؛ وما تأوله السابقون الأولون تأولناه، وما أمسكوا عنه أمسكنا عنه; ونعلم أن الله سبحانه ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فكما نتيقن أن الله سبحانه له ذات حقيقة، وله

ص: 156

أفعال حقيقة، فكذلك له صفات حقيقة، وليس كمثله شيء، وكل ما أوجب نقصا أو حدوثا، فإن الله منَزّه عنه حقيقة; فإنه سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه، ويمتنع الحدوث لامتناع العدم عليه; فلا نمثل صفات الله بصفات الخلق، كما أنا لا نمثل ذاته بذات الخلق، ولا ننفي عنه ما وصف به نفسه، ولا نعطل أسماءه الحسنى وصفاته العلى; بخلاف ما عليه أهل التعطيل والتمثيل.

فالمعطلون لم يفهموا من صفات الله إلا ما هو اللائق بالمخلوق، فشرعوا في نفي تلك المفهومات بأنواع التأويل، فعطلوا حقائق الأسماء والصفات، وشبهوا الرب تبارك وتعالى بالجمادات العارية عن صفات الكمال ونعوت الجلال; فجمعوا بين التعطيل والتمثيل; عطلوا أولا، ومثلوا آخرا; والممثلون عطلوا حقيقة ما وصف الله به نفسه من صفات الكمال ونعوت الجلال; وشبهوا صفاته بصفات خلقه; فمثلوا أولا، وعطلوا آخرا.

فمن فهم من نصوص الكتاب والسنة في صفات الرب جل وعلا ما يفهمه من صفات المخلوقين، فقد ضل في عقله ودينه، وشبه الله بخلقه، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] . ومن نفى ظاهر النصوص، وزعم أنه ليس لها في الباطن مدلول، هو صفة لله، وأن الله لا صفة له ثبوتية، أو يثبت بعض الصفات كالصفات السبع، ويؤول ما عداها، كقوله:

ص: 157

استوى بمعنى استولى، أو بمعنى علو المكانة والقدر، وكقوله:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [سورة المائدة آية: 64] أي: نعمتاه، نعمة الدنيا، ونعمة الآخرة، ونحو ذلك مما قد عرف من مذهب المتكلمين، فهؤلاء نفاة الصفات.

ومذهبهم مأخوذ عن جهم بن صفوان؛ فإن أول من حفظ عنه إنكار الصفات هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها، فنسبت مقالة الجهمية إليه; والجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت عن لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم. وكان انتشار مقالة الجهمية في المائة الثانية بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته; وكلام الأئمة، مثل مالك، وسفيان بن عيينة، وأبي يوسف، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم، في ذمه وتضليله كثير جدا.

وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس، هي بعينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسي في كتابه، وتلقاها عنه الخلف، ونصروها، وقرروها; وكثير منهم يحكي القولين، فيذكر مذهب السلف ومذهب الخلف; ثم يقول: مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم، فصدق في قوله: مذهب السلف أسلم; وكذب وافترى في قوله: ومذهب الخلف أعلم وأحكم; بل مذهب السلف أسلم، وأعلم، وأحكم، كما تقدم تقريره.

ص: 158

فنسأل الله أن يهدينا وإخواننا إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين; وأن يجنبنا طريق المنحرفين عن المنهج القويم، من المغضوب عليهم والضالين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.

[جواب الشيخ عبد الرحمن بن حسن في الصفات]

سئل الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى، عما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال ونعوت الجلال، هل يقال في جميعها: صفات قائمة بالذات فقط؟ أو يقال ذلك في بعضها؟ ويقال في بعضها: صفات أفعال؟ فأجاب:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، يظهر بذكر ما كان عليه السلف الصالح، رضي الله عنهم، ومتبوعيهم من أهل السنة والجماعة، وذكر اختلاف مَنْ بعد السلف في الأفعال الاختيارية، فنقول: اعلم أن السلف رضي الله عنهم، من الصحابة والتابعين وأتباعهم، لا يرون توسعة الكلام في ذلك، لما قام في قلوبهم من معرفة الله بأسمائه وصفاته; ولم يكونوا يتحاشون عن إثبات ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بالله سبحانه، تمسكا بالقرآن والأثر; فلا يشبهون الله بخلقه، ولا يحرفون معاني أسمائه

ص: 159

وصفاته بلا علم.

وعلى هذا أئمة الإسلام بعدهم، كالأئمة الأربعة ومن في طبقتهم، ومن بعدهم من أئمة الحديث وغيرهم ممن سلك سبيلهم في العلم والدين، كما ينقله العلماء رحمهم الله ويروونه، كالأثرم صاحب الإمام أحمد، في كتاب السنة، وأبي بكر الخلال في كتاب السنة، بالسند المتصل عن الفضيل بن عياض رحمه الله، أنه كان يقول: ليس لنا أن نتوهم في الله كيف وكيف، لأن الله وصف نفسه فأبلغ، فقال:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْوَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [سورة آية: 1-2-3-4] . فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه

إلخ.

وقال أبو عثمان الصابوني، الملقب شيخ الإسلام، في رسالته المشهورة في السنة: ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، من غير تشبيه له بنُزول المخلوقين، ولا تمثيل، ولا تكييف; بل: يثبتون له ما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم وينتهون فيه إليه; وروى بإسناده عن إسحاق بن إبراهيم، قال: قال لي الأمير عبد الله بن طاهر: يا أبا يعقوب، هذا الحديث الذي ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا "1 كيف ينزل؟ قال: قلت: أعز الله الأمير، لا يقال لأمر الرب: كيف؟ إنما ينْزل بلا كيف. وبإسناده عن عبد الله بن المبارك، أنه سأله سائل عن النّزول ليلة النصف من شعبان؟ فقال

1 البخاري: التوحيد (7494)، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758)، والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498)، وأبو داود: الصلاة (1315) والسنة (4733)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) ، وأحمد (2/264 ،2/267 ،2/282 ،2/419 ،2/487 ،2/504)، ومالك: النداء للصلاة (496)، والدارمي: الصلاة (1478 ،1479) .

ص: 160

عبد الله: يا ضعيف! ليلة النصف! يَنْزل في كل ليلة، فقال الرجل: يا أبا عبد الرحمن، كيف يَنْزل؟ أليس يخلو ذلك المكان؟ فقال عبد الله بن المبارك: يَنْزل كيف شاء.

وقال أبو عثمان الصابوني: فلما صح خبر النّزول، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر به أهل السنة، وقبلوا الخبر، وأثبتوا النّزول، على ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعتقدوا تشبيها له بنُزول خلقه، وعلموا، وعرفوا، وتحققوا، واعتقدوا: أن صفات الرب تبارك وتعالى لا تشبه صفات الخلق، كما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق، تعالى الله عما تقوله المشبهة والمعطلة، علوا كبيرا، ولعنهم لعنا كبيرا; فقلت: قد صنف الناس من أهل الحديث أتباع السلف في هذا المعنى مصنفات كثيرة، كالإمام أحمد، وبعض أصحابه، وعثمان بن سعيد الدارمي، وإمام الأئمة محمد بن خزيمة، وأبي بكر الأثرم، واللالكائي، وأبي عثمان الصابوني، وغيرهم من أئمة الإسلام، وردوا على معتزلة الجهمية ونحوهم ما نفوه من قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى.

قال شيخ الإسلام، في كتاب العقل والنقل: أهل السنة والجماعة يثبتون ما يقوم بالله من الصفات والأفعال التي تتعلق بمشيئته وقدرته؛ والجهمية من المعتزلة وغيرهم تنكر هذا; وأثبت ابن كلاب قيام الصفات اللازمة به، ونفى أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها، ووافقه على هذا أبو العباس القلانسي، وأبو الحسن

ص: 161

الأشعري، وغيرهما. وأهل السنة والجماعة على إثبات النوعين; وهو الذي ذكره عنهم من نقل مذهبهم، كحرب الكرماني، وعثمان بن سعيد، وغيرهما.

ولما كان الإثبات هو المعروف عند أهل السنة والحديث، كالبخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم، ومحمد بن يحيى الذهلي، وغيرهم من العلماء الذين أدركهم محمد بن إسحاق بن خزيمة، كان المستقر عنده ما تلقاه عن أئمته من أن الله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء وهذه المسألة كانت المعتزلة تلقبها بمسألة حلول الحوادث; ويقولون: إن الله منَزّه عن الأعراض، والأبعاض، والحوادث، والحدود; ومقصودهم نفي الصفات، ونفي الأفعال، ونفي مباينته للخلق، وعلوه على العرش.

وكانوا يعبرون عن مذاهب أهل الإثبات، أهل السنة، بالعبارات المجملة التي تشعر الناس بفساد المذهب; فإنهم إذا قالوا: إن الله مُنَزه عن الأعراض، لم يكن في ظاهر هذه العبارة ما ينكر، لأن الناس يفهمون من ذلك أنه منَزّه عن الاستحالة والفساد كالأعراض التي تعرض لبني آدم من الأمراض والأسقام; ولا ريب أن الله مُنَزّه عن ذلك، ولكن مقصودهم أنه ليس له علم، ولا قدرة، ولا حياة، ولا كلام قائم به، ولا غير ذلك من الصفات التي يسمونها هم أعراضا.

ص: 162

وكذلك إذا قالوا: إن الله مُنَزّه عن الحدود، والأحياز، والجهات، أوهموا الناس أن مقصودهم بذلك أنه لا تحصره المخلوقات، ولا تحويه المصنوعات، وهذا المعنى صحيح; ومقصودهم أنه ليس مباينا للخلق، ولا منفصلا عنه، وأنه ليس فوق السماوات رب، ولا على العرش إله، وأن محمدا لم يعرج به إليه، ولم يَنْزل منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا يتقرب إليه بشيء، ولا ترفع الأيدي إليه في الدعاء ولا غيره، ونحو ذلك من معاني الجهمية.

وإذا قالوا: إنه ليس بجسم، أوهموا الناس أنه ليس من جنس المخلوقات، ولا مثل أبدان الخلق; وهذا المعنى صحيح; ولكن مقصودهم بذلك أنه لا يرى، ولا يتكلم بنفسه، ولا يقوم به صفة، ولا هو مباين للخلق، وأمثال ذلك; وإذا قالوا: لا تحله الحوادث، أوهموا الناس أن مرادهم أنه لا يكون محلا للتغيرات والاستحالات، ونحو ذلك من الأحداث التي تحدث للمخلوقين، فتحيلهم وتفسدهم، وهذا معنى صحيح؛ ولكن مقصودهم بذلك أنه ليس له فعل اختياري يقوم بنفسه، ولا له كلام، ولا فعل يقوم به يتعلق بمشيئته وقدرته، وأنه لا يقدر على استواء، أو نزول، أو إتيان، أو مجيء، وأن المخلوقات التي خلقها، لم يكن منه عند خلقها فعل أصلا; بل عين المخلوقات هي الفعل، ليس هناك فعل

ص: 163

ومفعول، وخلق ومخلوق، بل المخلوق عين الخلق، والمفعول عين الفعل، ونحو ذلك، وابن كلاب ومن اتبعه وافقوهم على هذا، وخالفوهم في إثبات الصفات; وكان ابن كلاب، والحارث المحاسبي، وأبو العباس القلانسي، وغيرهم يثبتون مباينة الخالق للمخلوق، وعلوه بنفسه فوق المخلوقات.

والأشعري وأئمة أصحابه، كأبي الحسن الطبري، وأبي عبد الله بن مجاهد الباهلي، والقاضي أبي بكر متفقون على إثبات الصفات الخبرية التي ذكرت في القرآن، كالاستواء، والوجه، واليدين، وإبطال تأويلها، ليس لهم في ذلك قولان أصلا; ولم يذكر أحد عن الأشعري في ذلك قولين أصلا، بل جميع من يحكي المقالات من أتباعه وغيرهم، يذكر أن ذلك قوله.

وأما مسألة: قيام الصفات الاختيارية، فإن ابن كلاب، والأشعري، وغيرهما ينفونها، وعلى ذلك بنوا قولهم في مسألة القرآن وبسبب ذلك وغيره تكلم الناس فيهم، بما هو معروف في كتب أهل العلم، ونسبوهم إلى البدعة وبقايا بعض الاعتزال فيهم، وشاع النّزاع في ذلك بين عامة المنتسبين إلى السنة من أصحاب أحمد وغيرهم.

وممن كان يوافق على نفي ما يقوم به من الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته: القاضي أبو يعلى، وأتباعه كابن

ص: 164

عقيل، وأبي الحسن بن الزاغوني، وأمثالهم، وإن كان في كلام القاضي ما يوافق هذا تارة، وهذا تارة; وممن يخالفهم في ذلك: أبو عبد الله بن حامد، وأبو بكر عبد العزيز، وأبو عبد الله بن بطة، وأبو عبد الله بن مندة، وأبو نصر السجزي، ويحيى بن عمار السجستاني، وأبو إسماعيل الأنصاري، وأبو عمر بن عبد البر، وأمثالهم; وقد ذكر أبو عبد الله الرازي عن بعض المتفلسفة أن إثبات ذلك يلزم جميع الطوائف، وإن أنكروه، وقرر ذلك.

وكلام السلف والأئمة ومن نقل مذهبهم في هذا الأصل كثير، يوجد في كتب التفسير والأصول; قال إسحاق بن راهويه: حدثنا بشر بن عمر، سمعت غير واحد من المفسرين يقول:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] أي: ارتفع; وقال البخاري في صحيحه: قال أبو العالية: استوى إلى السماء: ارتفع; قال: وقال مجاهد: استوى: علا على العرش; قال الحسين بن مسعود البغوي في تفسيره المشهور: قال ابن عباس، وأكثر مفسري السلف:"اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ارتفع إلى السماء"، وكذلك قال الخليل بن أحمد; وروى البيهقي في كتاب الصفات: قال الفراء: {ثُمَّ اسْتَوَى} أي: صعد، قاله ابن عباس، وهو كقولك للرجل: كان قاعدا، فاستوى قائما; وروى الشافعي في مسنده عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن يوم الجمعة:" وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش ".

ص: 165

والتفاسير المأثورة، عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، مثل تفسير محمد بن جرير الطبري، وتفسير عبد الرحمن بن إبراهيم المعروف بدحيم، وتفسير عبد الرحمن بن أبي حاتم، وتفسير ابن المنذر، وتفسير أبي بكر عبد العزيز، وتفسير أبي بكر بن مردويه; وما قبل هؤلاء من التفاسير، مثل تفسير أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، وبقي بن مخلد، وغيرهم، ومن قبلهم، مثل تفسير عبد بن حميد، وتفسير عبد الرزاق، وتفسير سنيد، ووكيع بن الجراح، فيها من هذا الباب والموافق لقول المثبتين ما لا يكاد يحصى; وكذلك الكتب المصنفة في السنة، التي فيها آثار النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، والتابعين.

وقال أبو محمد حرب بن إسماعيل الكرماني، في مسائله المعروفة، التي نقلها عن أحمد وإسحاق، وغيرهما، وذكر معهما من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، وغيرهم، ما ذكر، وهو كتاب كبير صنفه على طريقة الموطأ ونحوه من المصنفات، قال في آخره في الجامع، باب القول في المذهب: هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها; وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق، والحجاز، والشام، وغيرهم عليها؛ فمن خالف شيئا من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها، فهو مبتدع، خارج من الجماعة، زائل عن منهج السنة، وسبيل الحق; وهو مذهب

ص: 166

أحمد، وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وغيرهم، ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم.

وذكر الكلام في الإيمان، والقدر، والوعيد، والإمامة، وما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، وأمر البرزخ، والقيامة، وغير ذلك - إلى أن قال -: وهو سبحانه بائن من خلقه، لا يخلو من علمه مكان، ولله عرش، وللعرش حملة يحملونه، وله حد، والله أعلم بحده; والله على عرشه عز ذكره، وتعالى جده، ولا إله غيره؛ والله تعالى سميع لا يشك، بصير لا يرتاب، عليم لا يجهل، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حفيظ لا ينسى، يقظان لا يسهو، رقيب لا يغفل، يتكلم، ويتحرك، ويسمع، ويبصر، وينظر، ويقبض، ويبسط، ويفرح، ويحب، ويكره، ويبغض، ويرضى، ويسخط ويغضب، ويرحم ويعفو، ويغفر ويعطي، ويمنع وينْزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء وكما شاء، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11]

إلى أن قال: ولم يزل الله متكلما عالما {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [سورة المؤمنون آية: 14] .

قال البخاري: وقال الفضيل بن عياض: "إذا قال لك الجهمي: أنا كافر برب يزول عن مكانه فقل: أنا أومن برب يفعل ما يشاء" قال البخاري: وحديث يزيد بن

ص: 167

هارون عن الجهمية، فقال: من زعم أن {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] على خلاف ما تقرر في قلوب العامة، فهو جهمي.

وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات، لما ذكر مقالة أهل السنة وأهل الحديث، فقال: ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله ينْزل إلى سماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر

"1 كما جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] ، ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين، وأن لا يحدثوا في دينهم ما لم يأذن به الله; ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [سورة الفجر آية: 22] وأن الله يقرب من خلقه كيف يشاء كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق آية: 16] قال الأشعري: وبكل ما ذكرناه من قولهم نقول، وإليه نذهب.

وقال أبو بكر الخلال في كتاب السنة: أخبرني يوسف بن موسى أن أبا عبد الله أحمد بن حنبل قيل له: أهل الجنة ينظرون إلى ربهم عز وجل؟ ويكلمونه؟ ويكلمهم؟ قال: نعم ينظر إليهم وينظرون إليه، ويكلمهم ويكلمونه، كيف شاء وإذا شاء. قال: وأخبرني عبد الله بن حنبل، أخبرني أبي حنبل بن إسحاق قال: قال عمي: نحن نؤمن بأن الله على العرش كيف شاء، وكما شاء، بلا

1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758) .

ص: 168

حد ولا صفة يبلغها واصف، أو يحده حاد; فصفات الله له ومنه; وهو كما وصف نفسه، لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية، وهو يدرك الأبصار; وهو عالم الغيب والشهادة وعلام الغيوب ولا يدركه وصف واصف; وهو كما وصف نفسه، وليس من الله شيء محدود، ولا يبلغ علم قدرته أحد، غلب الأشياء كلها بعلمه وقدرته، وسلطانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] . وكان الله قبل أن يكون شيء، والله هو الأول، وهو الآخر، ولا يبلغ أحد حد صفاته.

قال: وأخبرني علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم، قال: سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى أن الله تبارك وتعالى: " ينْزل إلى السماء الدنيا "" وأن الله يضع قدمه " 2، أو ما أشبه هذه الأحاديث، فقال أبو عبد الله: نؤمن بها، ونصدق بها، ولا كيف، ولا معنى، أي: لا نكيفها، ولا نحرفها بالتأويل، فنقول معناها كذا، ولا نرد منها شيئا، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق، إذا كان بأسانيد صحاح، ولا نرد على الله قوله، ولا يوصف الله بأكثر مما وصف به نفسه، بلا حد ولا غاية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] .

وقال حنبل في موضع آخر، عن أحمد قال:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] في ذاته، كما وصف به نفسه، قد أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه، فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء، فنتعبد الله بصفاته، غير محدودة، ولا معلومة، إلا بما وصف

1 البخاري: الجمعة (1145)، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758)، والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498)، وأبو داود: الصلاة (1315) والسنة (4733) ، وأحمد (2/264 ،2/267 ،2/282 ،2/419 ،2/487 ،2/504)، ومالك: النداء للصلاة (496)، والدارمي: الصلاة (1479) .

2 البخاري: تفسير القرآن (4848) .

ص: 169

به نفسه; قال: فهو سميع بصير، بلا حد ولا تقدير، ولا يبلغ الواصفون صفته، وصفاته منه وله، ولا نتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال، ونصفه كما وصف نفسه، ولا نتعدى ذلك، ولا تبلغه صفة الواصفين; نؤمن بالقرآن كله، محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته، لشناعة شنعت; وما وصف به نفسه، من كلام، ونزول، وخلوة بعبده يوم القيامة، ووضع كنفه عليه، هذا كله يدل على أن الله تبارك وتعالى يرى في الآخرة، والتحديد في هذا كله بدعة. والتسليم لله بأمره، بغير صفة ولا حد، إلا ما وصف به نفسه، سميع، بصير، لم يزل متكلما، عليما، غفورا، عالم الغيب والشهادة، علام الغيوب; فهذه صفات، وصف بها نفسه، لا تدفع ولا ترد.

وهو على العرش بلا حد، كما قال تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] كيف شاء، المشيئة إليه عز وجل، والاستطاعة له {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] وهو: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 102] ، وهو كما وصف نفسه سميع بصير، بلا حد ولا تقدير، قال إبراهيم لأبيه:{يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [سورة مريم آية: 42] فنثبت: أن الله سميع بصير، صفاته منه، لا نتعدى القرآن والحديث، والخبر " يضحك الله "1 ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وبتثبيت القرآن، لا يصفه الواصفون، ولا يحده أحد تعالى الله عما تقول الجهمية والمشبهة; قلت له: والمشبهة ما يقولون؟

1 البخاري: الجهاد والسير (2826)، ومسلم: الإمارة (1890)، والنسائي: الجهاد (3166)، وابن ماجه: المقدمة (191) ، وأحمد (2/318 ،2/463 ،2/511)، ومالك: الجهاد (1000) .

ص: 170

قال: من قال بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي، فقد شبه الله بخلقه، وهذا كلام سوء، وهذا محدود، والكلام في هذا لا أحبه.

فقول أحمد: إنه ينظر إليهم كيف شاء، وإذا شاء، وقوله: هو على العرش كيف شاء، وكما شاء، وقوله: هو على العرش بلا حد كما قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] كيف شاء، المشيئة إليه، والاستطاعة له، ليس كمثله شيء، يبين أن نظره، وتكليمه، وعلوه على العرش، واستواءه على العرش، مما يتعلق بمشيئته، واستطاعته; وقوله: بلا حد ولا صفة يبلغها واصف، أو يحده حاد، نفى به إحاطة علم الخلق به، وأن يحدوه، أو يصفوه، على ما هو عليه، إلا بما أخبر به عن نفسه، ليبين أن عقول الخلق لا تحيط بصفاته، كما قال الشافعي في خطبة الرسالة: الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه; ولهذا قال أحمد: لا تدركه الأبصار بحد، ولا غاية، فنفى أن يدرك له حد أو غاية، وهذا أصح القولين، في تفسير الإدراك.

وذكر الخلال أيضا: قال المروذي: قال: وأخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، قال الله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] : إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى، ويعلم كل شيء، في أسفل الأرض السابعة، وفي قعور البحار، ورؤوس الآكام، وبطون الأودية، وفي كل

ص: 171

موضع، كما يعلم ما في السماوات السبع، وما فوق العرش، أحاط بكل شيء علما، فلا تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات البر والبحر إلا قد عرف ذلك كله، وأحصاه، فلا يعجزه معرفة شيء، عن معرفة غيره؛ فهذا وأمثاله مما نقل عن الأئمة، كما قد بسط في غير هذا الموضع، بينوا أن ما أثبتوه له من الحد لا يعلمه غيره، كما قال مالك، وربيعة، وغيرهما: الاستواء معلوم، والكيف مجهول; فبين أن كيفية استوائه مجهولة للعباد، فلم ينفوا ثبوت ذلك في نفس الأمر، ولكن نفوا علم الخلق به، وكذلك مثل هذا في كلام عبد العزيز بن عبد الله الماجشون، وغير واحد من السلف والأئمة ينفون علم الخلق بقدره، وكيفيته.

وبنحو ذلك قال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون في كلامه المعروف، وقد ذكره ابن بطة في الإبانة، وأبو عمر الطلمنكي في كتابه في الأصول; ورواه أبو بكر الأثرم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، أنه قال: أما بعد، فقد فهمت ما سألت عنه، فيما تتابعت فيه الجهمية ومن خالفها، في صفة الرب العظيم، الذي فاقت عظمته الوصف والتقدير، وكَلّت الألسن عن تفسير صفته، وانحسرت العقول عن معرفة قدره

إلى أن قال: فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو، وكيف يُعرَف قدر من لا يموت ولا يبلي، وكيف يكون لصفة

ص: 172

شيء منه حد أو منتهى يعرفه عارف، أو يحد قدره واصف؟ !

والدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته، عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه

إلى أن قال: اعرف رحمك الله غناك عن تكلف صفة ما لا يصف الرب من نفسه، بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها; إذا لم تعرف قدر ما وصف، فما تكلفك علم ما لم يصف؟ هل تستدل بشيء من ذلك على شيء من طاعته؟ أو تَنْزجر به عن شيء من معصيته؟ وذكر كلاما طويلا - إلى أن قال: -

فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه، تعمقا وتكلفا قد:{اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ} [سورة الأنعام آية: 71] ، فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب، وسمى من نفسه، بأن قال: لا بد إن كان له كذا، من أن يكون له كذا; فعمي عن البين بالخفي، فجحد ما سمى الرب من نفسه، ووصف الرب بما لم يسم، فلم يزل يملي له الشيطان، حتى جحد قول الله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [سورة آية: 22-23] فقال: لا يراه أحد يوم القيامة; فجحد - والله - أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة، من النظر إلى وجهه {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [سورة القمر آية: 55] قد قضى أنهم لا يموتون، فهم بالنظر إليه ينظرون; وذكر كلاما طويلا، كتب في غير هذا الموضع.

ص: 173

وقال الخلال في السنة: أخبرني علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم قال: سمعت أبا عبد الله يقول: من زعم أن الله لم يكلم موسى فقد كفر بالله، وكذب القرآن، ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، يستتاب في هذه المقالة، فإن تاب وإلا ضربت عنقه. قال: وسمعت أبا عبد الله قال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى} [سورة النساء آية: 164] ، فأثبت الكلام لموسى، كرامة منه لموسى ثم قال تعالى بعد كلامه: تكليما. قلت لأبي عبد الله: الله عز وجل يكلم عبده يوم القيامة؟ قال: نعم; فمن يقضي بين الخلائق إلا الله عز وجل، يكلم عبده ويسأله، الله متكلم، لم يزل الله يأمر بما شاء ويحكم، وليس له عدل ولا مثل، كيف شاء، وإذا شاء. قال الخلال: أخبرنا محمد بن علي بن بحر، أن يعقوب بن بختان حدثهم، أن أبا عبد الله سئل: عمن زعم أن الله لم يتكلم. قال: بلى، تكلم بصوت; وهذه الأحاديث كما جاءت، نرويها، لكل حديث وجه; يريدون أن يموهوا على الناس; من زعم أن الله لم يكلم موسى، فهو كافر; حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبد الله، يعني ابن مسعود، قال:"إذا تكلم الله بالوحي، سمع صوته أهل السماء، فيخرون سجدا، حتى إذا فزع عن قلوبهم، قال: سكن عن قلوبهم، نادى أهل السماء: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، قال: كذا، وكذا".

ص: 174

قال الخلال: وحدثنا أبو بكر المروذي قال: سمعت أبا عبد الله، وقيل له: إن عبد الوهاب قد تكلم، وقال: من زعم أن الله كلم موسى بلا صوت، فهو جهمي، عدو لله، وعدو للإسلام; فتبسم أبو عبد الله، وقال: ما أحسن ما قال! عافاه الله.

وقال عبد الله بن أحمد، سألت أبي، عن قوم يقولون: لما كلم الله موسى، لم يتكلم بصوت; فقال أبي: بل تكلم تبارك وتعالى بصوت، وهذه الأحاديث نرويها كما جاءت; وحديث ابن مسعود: إذا تكلم الله بالوحي، سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان ; قال أبي: الجهمية تنكره; قال أبي: وهؤلاء كفار، يريدون أن يموهوا على الناس، من زعم أن الله لم يتكلم، فهو كافر; إنما نروي هذه الأحاديث كما جاءت.

قلت: وهذا الصوت الذي تكلم الله به، ليس هو الصوت المسموع من العبد; بل ذلك صوته، كما هو معلوم لعامة الناس; وقد نص على ذلك الأئمة، أحمد وغيره; فالكلام المسموع منه هو كلام الله، لا كلام غيره، كما قال تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 6]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" ألا رجل يحملني إلى قومه، لأبلغ كلام ربي؟ فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي "1 رواه أبو داود وغيره.

وقال البخاري في كتاب خلق الأفعال: يذكر عن

1 الترمذي: فضائل القرآن (2925)، وأبو داود: السنة (4734)، وابن ماجه: المقدمة (201) ، وأحمد (3/390)، والدارمي: فضائل القرآن (3354) .

ص: 175

النبي صلى الله عليه وسلم: " أن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب "1، وليس هذا لغير الله عز وجل، قال أبو عبد الله البخاري: وفي هذا دليل على أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق، لأن صوت الله يسمع من بعد، كما يسمع من قرب، وأن الملائكة يصعقون من صوته، فإذاً ينادى الملائكة، ثم يصعقون قال:{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [سورة البقرة آية: 22] فليس لصفة الله ند ولا مثل، ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين.

ثم روى بإسناده حديث عبد الله بن أنيس، الذي استشهد به في غير موضع من الصحيح، تارة يجزم به، وتارة يقول: ويذكر عن عبد الله بن أنيس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الله العباد، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان; لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة " وذكر الحديث الذي رواه في صحيحه، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك، وسعديك; فينادى بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار; قال: يا رب، وما بعث النار؟ قال: من كل ألف - أراه قال - تسعمائة وتسعة وتسعين، فحينئذ تضع الحامل حملها {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} "2.

وروى أبو جعفر بن جرير في تفسيره، عن ابن

1 أحمد (3/495) .

2 البخاري: تفسير القرآن (4741) .

ص: 176

عباس، في قوله:{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سورة سبأ آية: 23] الآية قال:?"لما أوحى الله تعالى ذكره إلى محمد صلى الله عليه وسلم ودعا الرسول من الملائكة، فبعث بالوحي، سمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي، فلما كشف عن قلوبهم، سألوا عما قال الله، فقالوا: الحق، وعلموا أن الله لا يقول إلا حقا، وأنه منجز ما وعد، قال ابن عباس: وصوت الوحي، كصوت الحديد على الصفا، فلما سمعوه خروا سجدا، فلما رفعوا رؤوسهم {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سورة سبأ آية: 23] ".

وقال الحافظ أبو نصر السجزي، في رسالته المعروفة إلى أهل زبيد في الواجب من القول في القرآن: اعلموا، أرشدنا الله وإياكم، أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم، من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب، والقلانسي، والأشعري، وأقرانهم، الذين تظاهروا بالرد على المعتزلة، وهم معهم بل أحسن حالا منهم في الباطن من أن الكلام لا يكون إلا حرفا وصوتا ذا تأليف واتساق وإن اختلفت به اللغات.

وعبر عن هذا المعنى الأوائل، الذين تكلموا في العقليات، وقالوا: الكلام حروف متسقة، وأصوات مقطعة; وقالت - يعني علماء العربية-: الكلام، اسم، وفعل، وحرف جاء لمعنى; فالاسم، مثل: زيد وعمرو; والفعل، مثل: جاء، وذهب؛ والحرف: الذي يجيء لمعنى، مثل: هل، وبل، وقد، وما شاكل ذلك; فالإجماع منعقد بين

ص: 177

العقلاء، على كون الكلام حرفا وصوتا.

فلما نبغ ابن كلاب وأضرابه، وحاولوا الرد على المعتزلة من طريق مجرد العقل، وهم لا يجيزون أصول أهل السنة، ولا ما كان السلف عليه، ولا يحتجون بالأخبار الواردة في ذلك زعما منهم أنها أخبار أحاد، وهي لا توجب علما، وألزمتهم المعتزلة الاتفاق على أن الاتفاق حاصل على أن الكلام: حرف وصوت، ويدخله التعاقب والتأليف، وذلك لا يوجد في الشاهد إلا بحركة وسكون، ولا بد له من أن يكون ذا أجزاء وأبعاض; وما كان بهذه المثابة، لا يجوز أن يكون من صفات الله تعالى، لأن ذات الحق لا توصف بالاجتماع والافتراق، والكل والبعض، والحركة والسكون، وحكم الصفة الذاتية حكم الذات; قالوا: فعلم بهذه الجملة أن الكلام المضاف إلى الله تعالى، خلق له، أحدثه وأضافه إلى نفسه، كما تقول: خلق الله، وعبد الله، وفعل الله.

قال: فضاق بابن كلاب وأضرابه النفس عند هذا الإلزام، لقلة معرفتهم بالسنن، وتركهم قبولها، وتسليمهم العنان إلى مجرد العقل، فالتزموا ما قالته المعتزلة، وركبوا مكابرة العيان، وخرقوا الإجماع المنعقد بين الكافة، المسلم والكافر; وقالوا للمعتزلة: الذي ذكرتموه ليس بحقيقة، وإنما سمي ذلك كلاما على المجاز، لكونه حكاية وعبارة عنه، وحقيقة الكلام: معنى قائم بذات المتكلم; فمنهم من اقتصر

ص: 178

على هذا القول، ومنهم من احترز عما علم دخوله على هذا الحد، فزاد فيه: تنافي السكوت والخرس، والآفات المانعة من الكلام; ثم خرجوا من هذا إلى أن إثبات الحرف والصوت في كلام الله تجسيم، وإثبات اللغة فيه تشبيه. وتعلقوا بشبه، منها قول الأخطل:

إن البيان من الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا

فغيروه وقالوا: إن الكلام من الفؤاد، وزعموا أن لهم حجة على مقالتهم، في قول الله تعالى:{وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [سورة المجادلة آية: 8]، وفي قول الله عز وجل {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} [سورة يوسف آية: 77] ، واحتجوا بقول العرب: أرى في نفسك كلاما، وفي وجهك كلاما; فألجأهم الضيق مما دخل عليهم في مقالتهم إلى أن قالوا: الأخرس متكلم، وكذلك الساكت، والنائم; ولهم في حال الخرس، والسكوت، والنوم، كلام هم متكلمون به، ثم أفصحوا بأن الخرس والسكوت والآفات المانعة من النطق ليست بأضداد الكلام; وهذه مقالة تبين فضيحة قائلها في ظاهرها، من غير رد عليه; ومن علم منه خرق إجماع الكافة، ومخالفة كل عقلي وسمعي قبله، لم يناظر، بل يجاب ويقمع.

وقال أيضا أبو نصر: خاطبني بعض الأشعرية يوما في هذا الفصل، فقال: التجزؤ على القديم غير جائز، فقلت له: أتقر بأن الله أسمع موسى كلامه، على الحقيقة بلا

ص: 179

ترجمان؟ فقال: نعم، وهم يطلقون ذلك، ويموهون على من لا يخبر مذهبهم، وحقيقة سماع كلام الله من ذاته، على أصل الأشعري محال، لأن سماع الخلق على ما جبلوا عليه من البينة، وأجروا عليه من العادة، لا يكون البتة، إلا لما هو صوت، أو في معنى الصوت; وإذا لم يكن كذلك، كان الواصل إلى معرفة من العلم والفهم، وهما يقومان في وقت مقام السماع، لحصول العلم بهما، كما يحصل بالسماع، وربما سمي ذلك سماعا على التجوز، لقربه من معناه; فأما حقيقة السماع لما يخالف الصوت، فلا يتأتى للخلق في العرف الجاري.

قال: فقلت لمخاطبي الأشعري: قد علمنا جميعا أن حقيقة السماع لكلام الله منه، على أصلكم، محال، وليس هاهنا من تتقيه وتخشى تشنيعه، وإنما مذهبك أن الله يفهم من شاء كلامه، بلطيفة منه، حتى يصير عالما متيقنا بأن الذي فهمه كلام الله; والذي أريد: أن ألزمك، وارد على الفهم وروده على السماع، فدع التمويه، ودع المصانعة; ما تقول في موسى عليه السلام، حيث كلمه الله، أفهم كلام الله مطلقا؟ أم مقيدا؟ فتلكأ قليلا، ثم قال: ما تريد بهذا؟

فقلت: دع إرادتي، وأجب بما عندك، فأبى، وقال: ما تريد بهذا؟ فقلت أريد: أنك إن قلت، إنه عليه السلام فهم كلام الله مطلقا، اقتضى أن لا يكون لله كلام، من الأزل إلى

ص: 180

الأبد، إلا وقد فهمه موسى; وهذا يؤول إلى الكفر; فإن الله تعالى يقول:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [سورة البقرة آية: 255] ، ولو جاز ذلك لصار من فهم كلام الله عالما بالغيب، وبما يقول الله تعالى; وقد نفى الله تعالى ذلك بما أخبر به عن عيسى عليه السلام، أنه يقول:{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [سورة المائدة آية: 116] . وإذا لم يجز إطلاقه، وألجئت إلى أن تقول: أفهمه الله ما شاء من كلامه، دخلت في التبعيض الذي هربت منه، وكفرت من قال به، ويكون مخالفك أسعد منك، لأنه قال بما اقتضاه النص الوارد من قبل الله، ومن قبل رسول الله; وأنت أبيت ألا تقبل ذلك، وادعيت أن الواجب المصير إلى حكم العقل في هذا الباب، وقد ردك العقلاء إلى موافقة النص خاسرا، فقال: هذا يحتاج إلى تأمل، وقطع الكلام.

وقال الشيخ أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي الشافعي، في كتابه الذي سماه: الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول، وذكر اثني عشر إماما: الشافعي، ومالكا، والثوري، وأحمد، وابن عيينة، وابن المبارك والأوزاعي والليث بن سعد، وإسحاق بن راهويه والبخاري، وأبا زرعة، وأبا حاتم، ثم قال فيه: سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول: سمعت الشيخ أبا حامد الإسفرائيني يقول: مذهبي، ومذهب الشافعي، وفقهاء

ص: 181

الأمصار: أن القرآن كلام الله، غير مخلوق ومن قال: مخلوق، فهو كافر.

والقرآن حمله جبرائيل مسموعا من الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبرائيل، والصحابة سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا، وفيما بين الدفتين وفي صدورنا، مسموعا، ومكتوبا، ومحفوظا، ومنقوشا، وكل حرف منه، كالألف، والباء، كله كلام الله غير مخلوق؛ ومن قال: مخلوق، فهو كافر، عليه لعائن الله والملائكة، والناس أجمعين.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأبو إسحاق الشيرازي، وغير واحد، بينوا مخالفة الشافعي، وغيره من الأئمة، لقول ابن كلاب والأشعري، في مسألة الكلام، التي امتاز بها ابن كلاب والأشعري عن غيرهما، وإلا فسائر المسائل ليس لابن كلاب والأشعري بها اختصاص، بل ما قالاه قاله غيرهما، إما من أهل السنة وإما من غيرهم، بخلاف ما قاله ابن كلاب، في مسألة الكلام، واتبعه عليه الأشعري، فإنه لم يسبق ابن كلاب إلى ذلك أحد، ولا وافقه عليه أحد من رؤوس الطوائف.

وأصله في ذلك هي: مسألة الصفات الاختيارية، ونحوها من الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته، هل تقوم بذاته؟ أم لا؟ وكان السلف والأئمة يثبتون ما يقوم بذاته من الصفات والأفعال مطلقا; والجهمية من المعتزلة وغيرهم

ص: 182

تنكر ذلك مطلقا، فوافق ابن كلاب السلف والأئمة في إثبات الصفات، ووافق الجهمية في نفي قيام الأفعال به، وما يتعلق بمشيئته وقدرته؛ ولهذا وغيره تكلم الناس فيمن اتبعه، كالقلانسي، والأشعري، ونحوهما، بأن في أقوالهم: بقايا من الاعتزال، وهذه البقايا، أصلها هو الاستدلال على حدوث العالم بطريقة الحركات، فإن هذا الأصل هو الذي أوقع المعتزلة في نفي الصفات والأفعال.

وقد ذكر الأشعري في رسالته، إلى أهل الثغر، بباب الأبواب: إنه طريق مبتدع في دين الرسول، محرم عندهم، وكذلك غير الأشعري، كالخطابي، وأمثاله، يذكرون ذلك، لكن مع هذا وافق ابن كلاب، لأنه يرى بطلان هذه الطريقة عقلا، وإن لم يقل أن الدين محتاج إليها، فلما رأى من رأى صحتها، لزمه إما قول ابن كلاب أو ما يضاهيه؛ ومنشأ اضطراب الفريقين اشتراكها في أنه: لا يقوم به ما يكون بإرادته وقدرته; فلزم هؤلاء إذا جعلوه يتكلم بقدرته واختياره، أن يكون كلامه مخلوقا منفصلا عنه; ولزم هؤلاء إذا جعلوه غير مخلوق أن لا يكون قادرا على الكلام، ولا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا يتكلم بما يشاء.

والمقصود هنا أن عبد الله بن سعيد بن كلاب وأتباعه، لما وافقوا سلف الأمة وسائر العقلاء، في أن كلام المتكلم لا بد أن يقوم به، فما لا يكون إلا بائنا عنه لا يكون كلامه، كما قال الأئمة كلام الله من الله، ليس ببائن

ص: 183

عنه; وقالوا: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدا وإليه يعود; فقالوا: منه بدا، ردا على الجهمية الذين يقولون: بدا من غيره، ومقصودهم أنه هو المتكلم به، كما قال تعالى:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [سورة الزمر آية: 1]، وقال تعالى:{وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [سورة السجدة آية: 13] ، وأمثال ذلك.

ثم إنهم مع موافقتهم للسلف والأئمة والجمهور على هذا، اعتقدوا هذا الأصل; وهو أنه لا يقوم به ما يكون مقدورا له، متعلقاً بمشيئته، بناء على هذا الأصل، الذي وافقوا فيه المعتزلة; فاحتاجوا حينئذ إلى أن يثبتوا ما لا يكون مقدورا مرادا; قالوا: والحروف المنظومة والأصوات لا تكون إلا مقدورة مرادة، فأثبتوا معنى واحدا، لم يمكنهم إثبات معان متعددة، خوفا من إثبات ما لا نهاية له; فاحتاجوا أن يقولوا معنى واحدا، فقالوا القول الذي لزمته تلك اللوازم التي عظم فيها نكير جمهور المسلمين، بل جمهور العقلاء عليهم.

وأنكر الناس عليهم أمورا: إثبات معنى واحد، هو الأمر والخبر; وجعل القرآن العزيز ليس من كلام الله الذي تكلم به، وأن الكلام المنَزّل ليس هو كلام الله، وأن التوراة، والإنجيل، والقرآن، إنما تختلف عباراتها; فإذا عبروا عن التوراة بالعربية كان هو القرآن، وأن الله لا يقدر أن يتكلم،

ص: 184

ولا يتكلم بمشيئته واختياره; وتكليمه لمن كلم من خلقه، كموسى وآدم، ليس إلا خلق إدراك ذلك المعنى لهم؛ فالتكلم هو خلق الإدراك فقط.

ثم منهم من يقول: السمع يتعلق بذلك المعنى وبكل موجود، فكل موجود يمكن أن يرى ويسمع، كما يقوله أبو الحسن. ومنهم من يقول: بل كلام الله لا يسمع بحال، لا منه ولا من غيره إذ هو معنى، والمعنى يفهم ولا يسمع، كما يقوله أبو بكر ونحوه. ومنهم من يقول: إنه يسمع ذلك المعنى من القارئ، مع صوته المسموع منه، كما يقول ذلك طائفة أخرى. وجمهور العقلاء يقولون: إن هذه الأقوال معلومة الفساد بالضرورة، وإنما ألجأ إليها القائلين بها ما تقدم من الأصول التي استلزمت هذه المحاذير; وإذا انتفى اللازم، انتفى الملزوم.

وكذلك من قال: لا يتكلم إلا بأصوات قديمة أزلية ليست متعاقبة، وهو لا يقدر على التكلم بها، ولا له في ذلك مشيئة ولا فعل، من أهل الحديث والفقهاء، وأهل الكلام، المنتسبين إلى السنة; فجمهور العقلاء يقولون: إن قول هؤلاء معلوم الفساد بالضرورة; وإنما ألجأهم إلى ذلك اعتقادهم أن الكلام لا يتعلق بمشيئة المتكلم وقدرته، مع علمهم بأن الكلام يتضمن حروفا منظومة، وصوتا مسموعا من المتكلم; وأما من قال: إن الصوت المسموع من القارئ

ص: 185

قديم، أو سمع منه صوت قديم، أو محدث، فهذا أظهر فسادا من أن يحتاج إلى الكلام عليه; وكلام السلف والأئمة والعلماء في هذا الأصل كثير منتشر، ليس هذا موضع استقصائه.

وأما دلالة الكتاب والسنة على هذا الأصل، فأكثر من أن تحصر; وقد ذكر منها الإمام أحمد وغيره من العلماء في الرد على الجهمية ما جمعوه، كما ذكر الخلال في كتاب السنة قال: أخبرنا المروذي قال: هذا ما احتج به أبو عبد الله على الجهمية من القرآن، وكتبه بخطه، وكتبته من كتابه، فذكر المروذي آيات كثيرة دون ما ذكر الخضر بن أحمد عن عبد الله بن أحمد، وقال فيه: سمعت أبا عبد الله يقول: في القرآن عليهم من الحجج في غير موضع، يعني الجهمية.

قال الخلال: وأنبأنا الخضر بن أحمد بن المثنى الكندي، سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: وجدت هذا الكتاب بخط أبي، فيما احتج به على الجهمية، وقد ألف الآيات إلى الآيات في السور، فذكر آيات كثيرة تدل على هذا الأصل، مثل قوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [سورة البقرة آية: 186]، وقوله تعالى:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}

ص: 186

سورة البقرة آية: 117] ،

وقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة آل عمران آية: 59]، وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ} [سورة آل عمران آية: 77] .

وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ} [سورة الأنعام آية: 73]، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [سورة النساء آية: 164] ، {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [سورة الأعراف آية: 143] ، {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [سورة هود آية: 110] ، {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [سورة يونس آية: 19] ، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [سورة هود آية: 119] ، {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [سورة يوسف آية: 3] ، وقوله تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [سورة الكهف آية: 109] .

وقال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [سورة طه آية: 11-14] إلى قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}

ص: 187

[سورة طه آية: 46] .

{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [سورة طه آية: 39]، {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً} [سورة طه آية: 129] ، {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [سورة آية: 83-84] .

وقوله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [سورة الأنبياء آية: 87-88-89-90]، وقوله:{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [سورة الفرقان آية: 59]، وقوله تعالى:{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [سورة القصص آية: 30]، وقوله:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة يس آية: 82] .

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة الصافات آية: 171-173]، وقوله:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة الزمر آية: 67]، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي

ص: 188

يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة غافر آية: 68]، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] ، {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [سورة الشورى آية: 14] ، {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [سورة الشورى آية: 51] ، وقوله:{فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [سورة الزخرف آية: 55]، وقوله:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [سورة المجادلة آية: 1] .

قال شيخ الإسلام: وفي القرآن مواضع كثيرة تدل على هذا الأصل، كقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 29]، وقوله تعالى:{أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [سورة فصلت آية: 9]، وقوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [سورة فصلت آية: 11]، وقوله:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [سورة البقرة آية: 210]، وقوله:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [سورة الأنعام آية: 158]، وقوله:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [سورة النحل آية: 33]، وقوله تعالى:

ص: 189

{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [سورة الفجر آية: 22]، وقوله تعالى:{وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [سورة التوبة آية: 94]، وقوله:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [سورة التوبة آية: 105]، وقوله:{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [سورة يونس آية: 14]، وقوله تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] ، في غير موضع من القرآن.

وقوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة النحل آية: 40]، وقوله تعالى:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [سورة الإسراء آية: 16]، وقوله:{وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [سورة الرعد آية: 11]، وقوله تعالى:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [سورة الرحمن آية: 29]، وقوله:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [سورة القصص آية: 62]، {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [سورة الشعراء آية: 10] ، {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [سورة الأعراف آية: 22] ، وقوله تعالى:{كَلَّا فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [سورة الشعراء آية: 15]، وقوله:{سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [سورة يس آية: 58]، وقوله تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [سورة الزمر آية: 23]، {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [سورة الجاثية آية: 6] ، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً}

ص: 190

[سورة النساء آية: 87] .

وأمثال ذلك كثير في كتاب الله تعالى بل يدخل في ذلك: عامة ما أخبر الله به من أفعاله، لا سيما المرتبة، كقوله تعالى:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [سورة الضحى آية: 5]، وقوله:{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [سورة الليل آية: 7]، وقوله:{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [سورة الليل آية: 10]، وقوله:{إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [سورة الغاشية آية: 25-26]، وقوله:{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [سورة القيامة آية: 17]، وقوله تعالى:{فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [سورة الانشقاق آية: 8]، {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً} [سورة الطلاق آية: 8] ، وقوله:{أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً} [سورة عبس آية: 25-26]، وقوله:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [سورة الروم آية: 27]، وقوله:{أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} [سورة المرسلات آية: 16-17] ، ونحو ذلك؛ لكن الاستدلال بمثل هذا مبني على أن الفعل ليس هو المفعول، والخلق ليس هو المخلوق، وهو قول جمهور الناس على اختلاف أصنافهم; وقد قرر هذا في غير هذا الموضع.

ثم هؤلاء على قولين: منهم من يقول: إن الفعل قديم، لازم للذات، لا يتعلق بمشيئته وقدرته. ومنهم من يقول: يتعلق بمشيئته، وقدرته، وإن قيل إن نوعه متقدم،

ص: 191

فهؤلاء يحتجون بما هو الظاهر المفهوم من النصوص، وإذا تأول من ينازعهم أن المتجدد إنما هو المفعول المخلوق فقط، من غير تجدد فعل، كان هذا بمنْزلة من يتأول نصوص الإرادة، والحب، والبغض، والسخط، على أن التجدد ليس أيضا إلا للمخلوقات التي تراد، وتحب، وتسخط; وكذلك نصوص القول، والكلام، والحديث، ونحو ذلك، على أن المتجدد ليس إلا إدراك الخلق، والإتيان، والمجيء، وليس إلا مخلوقا من المخلوقات; فهذه التأويلات كلها من نمط واحد، ولا نزاع بين الناس أنها خلاف المفهوم الظاهر الذي دل عليه القرآن والحديث.

ثم ملاحدة الباطنية يقولون: إن الرسل أرادوا إفهام الناس ما يتخيلونه، وإن لم يكن مطابقا للخارج، ويجعلون ذلك بمنْزلة ما يراه النائم، فتفسير القرآن عندهم يشبه تعبير الرؤيا التي لا يفهم تعبيرها من ظاهرها، كرؤيا يوسف، والملك، بخلاف الرؤيا التي يكون ظاهرها مطابقا لباطنها; وأما المسلمون من أهل الكلام، فهم وإن كانوا يكفرون من يقول بهذا، فإما أن يتأولوا تأويلات يعلم بالضرورة أن الرسول لم يردها، وإما أن يقولوا لا ندري ما أراد; فهم إما في جهل بسيط، أو مركب; ومدار هؤلاء كلهم، على أن العقل عارض ما دلت عليه النصوص; وقد بين أهل الإثبات: أن العقل مطابق موافق لما جاءت به النصوص، لا معارضا له، لكن المقصود هنا أن نبين أن القرآن

ص: 192

والسنة فيهما من الدلالة على هذا الأصل ما لا يكاد يحصر.

فمن له فهم في كتاب الله يستدل بما ذكر من النصوص على ما ترك، ومن عرف حقيقة قول النفاة، علم أن القرآن مناقض لذلك، مناقضة لا حيلة لهم فيها، وأن القرآن يثبت ما يقدر الله عليه ويشاؤه من أفعاله التي ليست هي نفس المخلوقات، وغير أفعاله; ولولا ما وقع في كلام الناس من الالتباس والإجمال، لما كان يحتاج أن يقال: الأفعال ليست هي نفس المخلوقات، فإن المعقول عند جميع الناس أن الفعل المتعدي إلى مفعول ليس هو نفس المفعول; لكن النفاة عندهم: إن المخلوقات هي نفس فعل الله، ليس له فعل عندهم إلا نفس المخلوقات; فلهذا احتيج إلى البيان.

ومما يدل على هذا الأصل ما علق بشرط، كقوله:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [سورة الطلاق آية: 2-3]، وقوله:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [سورة آل عمران آية: 31]، وقوله:{إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [سورة الأنفال آية: 29]، وقوله:{لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [سورة الطلاق آية: 1]، وقوله تعالى:{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [سورة الكهف آية: 23-24]، وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ

ص: 193

وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [سورة محمد آية: 28] .

وبالجملة: فهذا في كتاب الله أكثر من أن يحصر; وكذلك الأحاديث الصحيحة المتلقاة بالقبول، كقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه:" ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه" 1، وقوله:"أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ "2، وقوله في حديث الشفاعة:" إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله "3، وقوله:" إذا تكلم الله بالوحي، سمع أهل السماوات كجر السلسلة على الصفا "4، وقوله:" إن الله يحدث من أمره ما شاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة "5.

وقوله في حديث التجلي: " فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون "6، وقوله:" لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم أضل راحلته بأرض دوية مهلكة، عليها طعامه وشرابه، فطلبها فلم يجدها، فنام تحت شجرة ينتظر الموت، فلما استيقظ إذا هو بدابته عليها طعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته "7، وهذا الحديث: مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من غير وجه، من حديث ابن مسعود وأبي هريرة; وقوله:" يضحك الله لرجلين يقتل أحدهما صاحبه، كلاهما يدخل الجنة "، وفي حديث: آخِر من يدخل الجنة، قال:" فيضحك الله منه "، وقوله: " ما منكم من أحد إلا

1 البخاري: الرقاق (6502) .

2 البخاري: المغازي (4147)، ومسلم: الإيمان (71)، والنسائي: الاستسقاء (1525)، وأبو داود: الطب (3906) ، وأحمد (4/117)، ومالك: النداء للصلاة (451) .

3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3340)، ومسلم: الإيمان (194)، والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2434) .

4 أبو داود: السنة (4738) .

5 سنن أبي داود: كتاب الصلاة (924) ، ومسند أحمد (1/435) .

6 البخاري: الأذان (806)، ومسلم: الإيمان (182) .

7 مسلم: التوبة (2747) .

ص: 194

سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه حجاب، ولا ترجمان "1.

وفي حديث: " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين،. فإذا قال: العبد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الفاتحة آية: 2] ، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [سورة الفاتحة آية: 3] ، قال: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] ، قال: مجدني عبدي "، وقوله صلى الله عليه وسلم:" يقول الله تعالى: من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا" 2، وقوله صلى الله عليه وسلم "ينْزل الله تعالى إلى سماء الدنيا شطر الليل، أو ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فاغفر له؟ "3، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأنصاري الذي أضاف رجلا وآثره على نفسه وأهله، فلما أصبح الرجل، وغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" لقد ضحك الله الليلة، أو عجب من فعالكما "4، وأنزل الله تعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [سورة الحشر آية: 9] . وهذه الأحاديث كلها في الصحيحين.

وفي السنن: من حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الركوب على الدابة، قال:" فقلت؟ يا رسول الله، من أي شيء تضحك؟ قال: ربك يضحك إلى عبده إذا قال: رب اغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. قال: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري "، وفي لفظ: " إن ربك ليعجب من عبده إذا قال: رب اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا

1 البخاري: التوحيد (7443)، ومسلم: الزكاة (1016) ، وأحمد (4/256) .

2 البخاري: التوحيد (7405)، ومسلم: التوبة (2675)، والترمذي: الدعوات (3603)، وابن ماجه: الأدب (3822) ، وأحمد (2/251 ،2/413) .

3 البخاري: الجمعة (1145)، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (758)، والترمذي: الصلاة (446) والدعوات (3498)، وأبو داود: الصلاة (1315) والسنة (4733)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1366) ، وأحمد (2/258 ،2/264 ،2/267 ،2/282 ،2/383 ،2/419 ،2/487 ،2/504 ،2/521)، ومالك: النداء للصلاة (496)، والدارمي: الصلاة (1478 ،1479) .

4 البخاري: المناقب (3798)، ومسلم: الأشربة (2054)، والترمذي: تفسير القرآن (3304) .

ص: 195

يغفر الذنوب غيره"1، وفي حديث أبي رزين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ضحك ربنا من قنوط عباده، وقرب غيره، ينظر إليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك، يعلم أن فرجكم قريب فقال له أبو رزين، أو يضحك الرب؟ قال: نعم. فقال: لن نعدم من رب يضحك، خيرا "2.

وفي الصحيحين وغيرهما في حديث التجلي الطويل المشهور، الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة، فهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، وفي مسلم من حديث جابر، ورواه أحمد من حديث ابن مسعود، وغيره، قال في حديث أبي هريرة، قال:" أولست قد أعطيت العهود والمواثيق، أن لا تسأل غير الذي أعطيت؟ فيقول: يا رب لا تجعلني أشقى خلقك، فيضحك الله تبارك وتعالى منه، ثم يأذن له في دخول الجنة ".

وفي صحيح مسلم، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" فيقول الله يا ابن آدم، أترضى إن أعطيتك الدنيا، ومثلها معها؟ فيقول: أي رب أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ وضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تسألوني مم ضحكت؟ فقالوا: مم ضحكت يا رسول الله؟ قال: من ضحك رب العالمين، حين قال: أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ بك، ولكني على ما أشاء قادر "3 وفي الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يضحك الله إلى

1 الترمذي: الدعوات (3446)، وأبو داود: الجهاد (2602) .

2 ابن ماجه: المقدمة (181) ، وأحمد (4/11 ،4/12) .

3 مسلم: الإيمان (187) ، وأحمد (1/410) .

ص: 196

رجلين، يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: يقتل هذا فيلج الجنة، ثم يتوب الله على الآخر، فيهديه الله إلى الإسلام، ثم يجاهد في سبيل الله فيستشهد ".

وفي الصحيح أيضا عنه صلى الله عليه وسلم قال: " عجب الله من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل "1، وفي حديث معروف:" لا يتوضأ أحدكم فيحسن وضوءه، ويسبغه، ثم يأتي إلى المسجد لا يريد إلا الصلاة، إلا تبشبش الله له، كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته "2، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون "3، وفي لفظ:"مستخلفكم فيها، لينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء "4، وفي الصحيح أيضا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم "5.

وفي الصحيحين: عن أبي واقد الليثي، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قاعدا في أصحابه، إذ جاء ثلاثة نفر، فأما رجل فوجد فرجة في الحلقة فجلس; وأما رجل فجلس، يعني خلفهم; وأما رجل فانطلق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:. ألا أخبركم عن هؤلاء النفر؟ أما الرجل الذي جلس في الحلقة، فرجل آوى إلى الله، فآواه الله; وأما الرجل الذي جلس خلف الحلقة، فاستحيا، فاستحيا الله منه; وأما الرجل الذي انطلق، فأعرض، فأعرض الله عنه " وعن سلمان الفارسي موقوفا،

1 البخاري: الجهاد والسير (3010)، وأبو داود: الجهاد (2677) ، وأحمد (2/302 ،2/448) .

2 أحمد (2/340) .

3 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742)، والترمذي: الفتن (2191)، وابن ماجه: الفتن (4000) ، وأحمد (3/19 ،3/22) .

4 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742)، والترمذي: الفتن (2191)، وابن ماجه: الفتن (4000) ، وأحمد (3/19 ،3/22 ،3/61) .

5 مسلم: البر والصلة والآداب (2564) .

ص: 197

ومرفوعا، قال:" إن الله يستحي أن يبسط العبد يديه إليه، يسأله فيهما خيرا، فيردهما صفرا خائبتين "1.

وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: " لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي; ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه; وما ترددت عن شيء أنا فاعله، ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره إساءته، ولا بد له منه ". وفي الصحيح عن عبادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. فقالت عائشة: إنا نكره الموت، قال: ليس بذاك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، وإذا بشر بذلك أحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، إن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله وسخطه، وكره لقاء الله، وكره الله لقاءه "2.

وفي الصحيحين: عن البراء بن عازب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله "3 وفي الصحيحين: عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة; فيقولون: لبيك وسعديك; فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا

1 أحمد (5/438) .

2 البخاري: الرقاق (6507)، ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2683 ،2684)، والترمذي: الجنائز (1066) والزهد (2309)، والنسائي: الجنائز (1836 ،1837) ، وأحمد (5/316 ،5/321)، والدارمي: الرقاق (2756) .

3 البخاري: المناقب (3783)، ومسلم: الإيمان (75)، والترمذي: المناقب (3900)، وابن ماجه: المقدمة (163) ، وأحمد (4/283 ،4/292) .

ص: 198

نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك; فيقول عز وجل أنا أعطيكم أفضل من ذلك; قالوا: يا ربنا، وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا "1، وفي الصحيحين عن أنس قال: " نزل علينا، ثم كان من المنسوخ: أبلغوا قومنا، أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا، وأرضانا" 2 وفي حديث عمر بن مالك الرواسي، قال: " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن الرب ليرضى فيرضي، فارض عني، فرضي عني ".

وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حلف على يمين صبر، ليقتطع بها مال امرء مسلم - وهو فيها فاجر -، لقي الله وهو عليه غضبان "3 وفي الصحيحين: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اشتد غضب الله على قوم فعلوا هذا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حينئذ يشير إلى رباعيته، وقال: اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله "4. وفي صحيح مسلم: عن حذيفة بن أسيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث الله ملكا فصورها، وخلق الله سمعها، وبصرها، وجلدها، ولحمها، وعظامها، ثم قال: يا رب، ذكر أو أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك. ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك; فيقول: يا رب رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك الصحيفة في يده،

1 البخاري: الرقاق (6549)، ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2829)، والترمذي: صفة الجنة (2555) ، وأحمد (3/88) .

2 البخاري: المغازي (4091) ، وأحمد (3/210 ،3/288) .

3 البخاري: تفسير القرآن (4550)، ومسلم: الإيمان (138) ، وأحمد (1/442) .

4 مسلم: الجهاد والسير (1793) ، وأحمد (2/317) .

ص: 199

ولا يزيد على ما أمر، ولا ينقص "1.

وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: " أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك "2. وفي حديث آخر: " أعوذ بكلمات الله التامة، من غضبه، وعقابه، وشر عباده "3، وفي الصحيحين: عن أنس في حديث الشفاعة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول لي: يا محمد، ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع. وذكر مثل هذه ثلاث مرات "4.

وفي الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم - وهو أعلم بهم -: كيف تركتم عبادي؟ قالوا: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون "5.

وفي الصحيحين أيضا: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن لله ملائكة، فضلا عن كتّاب الناس، سياحين في الأرض، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، قال: فيخرجون حتى يحفوا بهم إلى السماء الدنيا، قال: فيقول الله عز وجل أي شيء تركتم عبادي يصنعون؟ قال، فيقولون: تركناهم يحمدونك،

1 مسلم: القدر (2645) .

2 مسلم: الصلاة (486)، والترمذي: الدعوات (3493)، والنسائي: التطبيق (1100)، وأبو داود: الصلاة (879)، وابن ماجه: الدعاء (3841)، ومالك: النداء للصلاة (497) .

3 أحمد (4/57) .

4 البخاري: التوحيد (7410)، وابن ماجه: الزهد (4312) ، وأحمد (3/116) .

5 البخاري: مواقيت الصلاة (555)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (632)، والنسائي: الصلاة (485) ، وأحمد (2/257 ،2/312 ،2/486)، ومالك: النداء للصلاة (413) .

ص: 200

ويسبحونك، ويمجدونك، قال: فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا، قال: فيقول: كيف لو رأوني؟ قال: فيقولون: لو رأوك لكانوا أشد تمجيدا وأشد ذكرا، قال: فيقول: فأي شيء يطلبون؟ قالوا: يطلبون الجنة، قال: فيقول: هل رأوها؟ قال: فيقولون: لا، قال: فيقول: كيف لو رأوها؟ قال: فيقولون: لو رأوها لكانوا أشد عليها حرصا، وأشد لها طلبا; قال: فيقول: من أي شيء يتعوذون؟ قال: فيقولون: يتعوذون من النار; قال: فيقول: وهل رأوها؟ قال: فيقولون: لا; قال: فيقول: فكيف لو رأوها؟ قال: فيقولون: لو رأوها كانوا أشد منها تعوذا، وأشد منها هربا; قال: فيقول: إني أشهدكم أني قد غفرت لهم; قال: فيقولون: إن فيهم فلانا الخطاء، لم يردهم، إنما جاء لحاجة، قال: فيقول: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ".

وفي الصحيحين: عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله إذا أحب عبدا نادى جبرائيل: إني قد أحببت فلانا فأحبه، قال: فيحبه جبرائيل. ثم ينادي في السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض "1 وقال في البغض مثل ذلك; وفي الصحيحين: عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

" يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن

1 البخاري: بدء الخلق (3209)، ومسلم: البر والصلة والآداب (2637)، ومالك: الجامع (1778) .

ص: 201

اقترب إلي شبرا اقتربت إليه ذراعا، وإن اقترب إلي ذراعا اقتربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة "1.

وفي صحيح مسلم: عن أبي هريرة، وأبي سعيد، أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" ما جلس قوم مجلسا يذكرون الله، إلا حفت بهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده "2.

وفي الصحيحين: عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن رجلا أصاب ذنبا، فقال: رب إني أصبت ذنبا، فاغفره لي، فقال ربه: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي; ثم مكث ما شاء الله. ثم أذنب ذنبا آخر، فقال: أي رب، إني قد أذنبت ذنبا، فاغفره لي، فقال ربه: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي، فليفعل ما يشاء "3 وفي الصحيحين: عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ "4. وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه، وينظر أمامه، فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة، فليفعل، فإن لم يجد، فبكلمة طيبة "5.

وفي صحيح مسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن

1 البخاري: التوحيد (7405)، ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2675)، والترمذي: الدعوات (3603) .

2 أحمد (3/49) .

3 البخاري: التوحيد (7507)، ومسلم: التوبة (2758) ، وأحمد (2/405) .

4 البخاري: الرقاق (6519)، ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2787)، وابن ماجه: المقدمة (192) ، وأحمد (2/374)، والدارمي: الرقاق (2799) .

5 البخاري: التوحيد (7443)، ومسلم: الزكاة (1016) .

ص: 202

النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرؤية، قال فيه:" فيلقى العبد فيقول: أي فلان، ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل، والإبل، وأذرك ترأس، وتربع؟ فيقول: بلى يا رب; قال: فيقول: أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني; ثم يلقى الثاني فيقول: أي فلان، فذكر مثل ما قال الأول. وبلغ الثالث، فيقول: آمنت بك، وبكتابك، وبرسولك، وصليت، وصمت، وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، قال: فيقول: فهاهنا إذن. قال: ثم يقال: ألا نبعث شاهدا عليك؟ ففكر في نفسه، من الذي يشهد عليه؟ فيختم على فيه، ويقال لفخذه: انطقي، فتنطق فخذه، ولحمه، وعظامه، بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق " فذكر الحديث.

وفي صحيح مسلم، عن أنس رضي الله عنه قال:" كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، فقال: هل تدرون مم أضحك؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال: فيقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني، قال: فيقول: فكفى بنفسك عليك شهيدا، والكرام الكاتبين عليك شهودا، قال: فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله. قال: ثم يخلي بينه وبين الكلام، قال: فيقول: بعدا لكن، وسحقا، فعنكن كنت أناضل "1، وفي الصحيحين، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

1مسلم: الزهد والرقائق (2969) .

ص: 203

" يقول الله لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة: لو كان لك ما على الأرض من شيء، أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقول له: قد أردت منك ما هو أهون من هذا، وأنت في صلب آدم: أن لا تشرك بي، فأبيت إلا أن تشرك بي "1.

وفي الصحيحين، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" يدنو أحدكم من ربه، حتى يضع كنفه عليه، فيقول: عملت كذا وكذا، فيقول: نعم يا رب، فيقرره، ثم يقول: قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، قال: ثم يعطى كتاب حسناته، وهو قوله: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} وأما الكفار والمنافقون فينادون: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ".

وفي صحيح مسلم وغيره، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

" يقول الله يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، فيقول: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ قال: فيقول: يا ابن آدم، استسقيتك فلم تسقني، فيقول: أي رب، كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ فيقول تبارك وتعالى: أما علمت أن عبدي فلانا استسقاك فلم تسقه؟ أما إنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي، قال: ويقول: يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني، فيقول: أي رب، وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: فيقول: أما علمت أن

1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3334)، ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2805) ، وأحمد (3/129) .

ص: 204

عبدي فلانا استطعمك فلم تطعمه؟ أما إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي "1.

وفي الصحيحين، عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى يقول: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: يا ربنا، وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا "2، وهذا فيه ذكر المخاطبة، وذكر الرضوان جميعا; وفي الصحيحين: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " آخر أهل الجنة دخولا الجنة، وآخر أهل النار خروجا من النار: رجل يخرج حبوا، فيقول له ربه: ادخل الجنة; فيقول: إن الجنة ملأى; فيقول له ذلك ثلاث مرات، كل ذلك يعيد: الجنة ملأى; فيقول: إن لك مثل الدنيا عشر مرات "3.

وفي الصحيحين: عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولهم عذاب أليم: رجل حلف على يمين على مال امرئ مسلم، فاقتطعه، ورجل حلف على يمين بعد العصر أنه أعطي بسلعته أكثر مما أعطي وهو كاذب; ورجل منع فضل ماء؛ يقول الله: اليوم أمنعك من فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك "4 وفي صحيح مسلم: عن أبي ذر، عن

1 مسلم: البر والصلة والآداب (2569) ، وأحمد (2/404) .

2 البخاري: الرقاق (6549)، ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2829)، والترمذي: صفة الجنة (2555) ، وأحمد (3/88) .

3 البخاري: التوحيد (7511) .

4 البخاري: المساقاة (2369)، والنسائي: البيوع (4462)، وأبو داود: البيوع (3474)، وابن ماجه: التجارات (2207) والجهاد (2870) ، وأحمد (2/253 ،2/480) .

ص: 205

النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ث لاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم "1 قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال:" المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذبة "2، وهذان الحديثان: فيهما نفي التكليم والنظر عن بعض الناس، كما في القرآن مثل ذلك؛ وأما نفي التكليم وحده، ففي غير حديث، وهذا الباب فيه: أحاديث كثيرة جدا يتعذر استقصاؤها، ولكن نبهنا ببعضه على نوعه.

والأحاديث جاءت في هذا الباب، كما جاءت الآيات، مع زيادة تفسير في الحديث، كما أن أحاديث الأحكام، تجيء موافقة لكتاب الله، مع تفسيرها لمجمله، ومع ما فيها من الزيادة التي لا تعارض القرآن، فإن الله سبحانه وتعالى أنزل على نبيه الكتاب والحكمة، وأمر أزواج نبيه أن يذكرن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة، وامتن على المؤمنين بأن {بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [سورة آل عمران آية: 164] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا وإني أوتيت الكتاب، ومثله معه " 3: وفي رواية: "ألا وإنه مثل القرآن أو أكثر ".

فالحكمة التي أنزل الله عليه مع القرآن، وعلمها لأمته تتناول ما تكلم به في الدين من غير القرآن، من أنواع

1 البخاري: الشهادات (2672)، ومسلم: الإيمان (108)، والترمذي: السير (1595)، والنسائي: البيوع (4462)، وأبو داود: البيوع (3474)، وابن ماجه: التجارات (2207) والجهاد (2870) ، وأحمد (2/253 ،2/480) .

2 مسلم: الإيمان (106)، والترمذي: البيوع (1211)، والنسائي: الزكاة (2563 ،2564) والبيوع (4458 ،4459) والزينة (5333)، وأبو داود: اللباس (4087)، وابن ماجه: التجارات (2208) ، وأحمد (5/148 ،5/158 ،5/162 ،5/168 ،5/177)، والدارمي: البيوع (2605) .

3 أبو داود: السنة (4604) .

ص: 206

الخبر والأمر; فخبره موافق لخبر الله، وأمره فكأنه يأمر بما في الكتاب، وبما هو تفسير ما في الكتاب، وبما لم يذكر بعينه في الكتاب; فجاءت أخباره في هذا الباب يذكر فيها أفعال الرب، كخلقه، ورزقه، وعدله، وإحسانه، وإثابته، ومعاقبته، ويذكر فيها أنواع كلامه، وتكليمه لملائكته وأنبيائه وغيرهم من عباده، ويذكر فيها ما يذكره من رضاه، وسخطه، وحبه، وبغضه، وفرحه، وضحكه، وغير ذلك من الأمور، التي تدخل في هذا الباب.

وما أحسن ما قال العلامة ابن القيم في كافيته:

وهو المقدم والمؤخر ذانك الـ

صفتان للأفعال تابعتان

وهما صفات الذات أيضا إذ هما

بالذات لا بالغير قائمتان

ولذاك قد غلط المقسم حين ظـ

ـن صفاته نوعين مختلفان

إن لم يرد هذا ولكن قد أرا

د قيامها بالفعل ذي الإمكان

والفعل والمفعول شيء واحد

عند المقسم ما هما شيئان

فلذاك وصف الفعل ليس لديه إلا

نسبة عدمية ببيان

فجميع أسماء الفعال لديه ليـ

ست قط ثابتة ذوات معان

موجودة لكن أمور كلها

نسب ترى عدمية الوجدان

هذا هو التعطيل للأفعال كالتـ

عطيل للأوصاف بالميزان

فالحق أن الوصف ليس بمورد التـ

قسيم هذا مقتضى البرهان

بل مورد التقسيم ما قد قام بالذا

ت التي للواحد الرحمن

فهما إذا نوعان أوصاف وأفـ

عال فهذي قسمة التبيان

فالوصف بالأفعال يستدعي قيا

م الفعل بالموصوف بالبرهان

ص: 207

كالوصف بالمعنى سوى الأفعال ما

إن بين ذينك قط من فرقان

ومن العجائب أنهم ردوا على

من أثبت الأسماء دون معان

قامت بمن هي وصفه هذا محا

ل غير معقول لذي الأذهان

وأتوا إلى الأوصاف باسم الفعل قا

لوا لم تقم بالواحد الديان

فانظر إليهم بطلوا الأصل الذي

ردوا به أقوالهم بوزان

إن كان هذا ممكنا فكذاك قو

ل خصومكم أيضا فذو إمكان

[جواب الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن فرق الجهمية والرافضة والمعتزلة]

وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، عن الجهمية، والرافضة، والمعتزلة.

فأجاب: لا ريب أن هذه الفرق الثلاث، هي أصل ضلال من ضل من هذه الأمة، فأصل الرافضة خرجوا في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فلما اطلع على سوء معتقدهم خد الأخاديد، وجعل فيها الحطب، وأضرمها بالنار، فقذفهم فيها.

وهم الذين أحدثوا الشرك في صدر هذه الأمة، بنوا على القبور، وعمت بهم البلوى، ولهم قواعد سوء يطول ذكرها.

وأما المعتزلة، فأولهم نفاة القدر، جحدوا أصلا من أصول الإيمان، الذي في سؤال جبريل للنبي، قال:"فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، والقدر خيره وشره "1. وأنكر الصحابة رضي الله عنهم: ما أحدثوا من هذه البدعة، ولهم عقائد سوء، يقولون بتخليد أهل المعاصي في النار; ونفوا

1 مسلم: الإيمان (8)، وأبو داود: السنة (4695) .

ص: 208

صفات الرب تعالى، ووافقوا الجهمية.

فخرج أولهم في عصر التابعين; وأولهم الجعد بن درهم، أنكر الصفات، وزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، فضحى به خالد بن عبد الله القسري، أمير واسط، يوم الأضحى. وظهر بعده جهم بن صفوان الذي تنسب إليه الجهمية، وهذا المذهب الخبيث; وانتشرت مقالته في خلافة بني العباس، في خلافة المأمون بن الرشيد، فعطلوا الصفات، ونفوا الحكمة، وقالوا بالجبر.

فهذه الطوائف الثلاث هم أصل الشر في هذه الأمة، وصارت فتنة الجهمية أكثر انتشارا، ودخل فيها من يدعي أنه على السنة وليس كذلك، فخالف الكتاب والسنة، وسلف الأمة وأئمتها؛ وعم ضررهم، فجحدوا الصفات، وتوحيد الإلهية، الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه.

فهم خصوم أهل التوحيد والسنة إلى اليوم، فإياكم أن تغتروا بمن هذه حاله، ولو كان له صورة ودعوى في العلم، ممن امتلأ قلبه من فرث التعطيل، وحال بينه وبين فهم الأدلة الصحيحة الصريحة، شبهات التأويل.

قال الإمام أحمد رحمه الله: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس; فصنف المتأخرون من هؤلاء على مذهبهم الفاسد مصنفات، كالأرجوزة التي يسمونها: جوهرة

ص: 209

التوحيد; وهي إلحاد وتعطيل، لا يجوز النظر إليها، ولهم مصنفات أخر نفوا فيها علو الرب تعالى؛ وأكثر صفات كماله نفوها، ونفوا حكمة الرب تعالى.

والكتاب والسنة يرد بدعتهم، ويبطل مقالتهم; فإن الله تعالى أثبت استواءه على عرشه، في سبعة مواضع من كتابه، كقوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [سورة الفرقان آية: 59]، وقوله:{تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [سورة المعارج آية: 4]، وقوله:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [سورة النحل آية: 50]، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [سورة آل عمران آية: 55] ، {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 6] إلى غير ذلك من أدلة الصفات الصريحة في الكتاب والسنة، ولا تتسع هذه الرسالة لذكرها.

وهذه الطائفة التي تنتسب إلى أبي الحسن الأشعري وصفوا رب العالمين بصفات المعدوم والجماد؛ فلقد أعظموا الفرية على الله، وخالفوا أهل الحق من السلف والأئمة وأتباعهم; وخالفوا من ينتسبون إليه، فإن أبا الحسن الأشعري، صرح في كتابه الإبانة، والمقالات، بإثبات الصفات; فهذه الطائفة المنحرفة عن الحق قد تجردت شياطينهم لصد الناس عن سبيل الله، فجحدوا توحيد الله في الإلهية، وأجازوا الشرك الذي لا يغفره الله، فجوزوا أن يعبد غيره من دونه، وجحدوا توحيد صفاته بالتعطيل.

ص: 210

فالأئمة من أهل السنة وأتباعهم لهم المصنفات المعروفة في الرد على هذه الطائفة الكافرة المعاندة، كشفوا فيها كل شبهة لهم، وبينوا فيها الحق الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله، وما عليه سلف الأمة وأئمتها من كل إمام رواية ودراية.

ومن له نهمة في طلب الأدلة على الحق، ففي كتاب الله وسنة رسوله ما يكفي ويشفي; وهما سلاح كل موحد ومثبت; لكن كتب أهل السنة، تزيد الراغب، وتعينه على الفهم; وعندكم من مصنفات شيخنا رحمه الله، ما يكفي مع التأمل; فيجب عليكم هجر أهل البدع، والإنكار عليهم.

وأما الإفغانية الذين جاؤونا ووصلوا إلى جهتكم، فهم أهل تشديد وغلو، مع جهل كثيف، أشبهوا الخوارج الذين كفروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمروقهم، وأمر أصحابه بقتلهم، ولهم عبادة وزهد; لكنهم: أخطؤوا في فهم الكتاب والسنة، واستغنوا بجهلهم عن أن يأخذوا العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله:

ولهم نصوص قصروا في فهمها

فأتوا من التقصير في العرفان

وقد ناظر ابن عباس رضي الله عنه أهل النهروان، فرجع بعضهم إلى الحق، واستمر بعضهم على الباطل، حتى قتلهم علي رضي الله عنه بالنهروان; وفيهم المخدج الذي

ص: 211

أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا كانت هذه الطائفة قد خرجت في عهد الخلفاء الراشدين، فلا بد أن يكون لهم أشباه في هذه الأمة، فاحذروهم; وتأمل قوله تعالى في حق سادات الأمة، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة الحجرات آية: 7-8] ، فليس العجب ممن هلك، كيف هلك، إنما العجب ممن نجا، كيف نجا، والله أعلم.

[الجواب عن أسئلة من عمان صدرت من جهمي ضال]

وله أيضا رحمه الله:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد النبي الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما.

أما بعد: فقد وردت علينا أسئلة من عمان، صدرت من جهمي ضال، يستعجز بها بعض المسلمين، فينبغي أن نجيب عنها بما يفيد طالب العلم، وما لا فائدة فيه لا يحتاج إلى الاشتغال بالجواب عنه. فمما ينبغي أن نجيب عنه، قوله: إن الاسم مشتق من السمو، أو من السمة، واشتقاق الاسم من هذين، ذكره العلماء رحمهم الله تعالى في كتبهم، لكن يتعين أن نسأله عن كيفية هذا الاشتقاق؟ وما معنى الاشتقاق الذي يذكره

ص: 212

العلماء؟ فنطلب منه الجواب عن هذين الأمرين؟ وإن كانا مذكورين في كتب النحاة، وغيرهم; وقد ذكرته في فتح المجيد شرح كتاب التوحيد.

وأما سؤاله عن الفرق بين القضاء والقدر؟ فالقدر أصل من أصول الإيمان، كما في سؤال جبريل عليه السلام، وما أجابه به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله، قال:

" الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الأخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره "، وفي الحديث الصحيح:"إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة"1 أي: جرى بما يكون مما يعلم الله تعالى، فإنه تعالى يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن، لو كان كيف يكون {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سورة سبأ آية: 3] .

وأما القضاء: فيطلق في القرآن ويراد به إيجاد المقدر، كقوله:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [سورة فصلت آية: 12]، وقوله:{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ} [سورة سبأ آية: 14] ؛ ويطلق ويراد به: الإخبار بما سيقع مما قدر، كقوله:{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ} [سورة الإسراء آية: 4] أخبرهم في كتابهم أنهم يفسدون في الأرض مرتين؛ ويطلق ويراد به الأمر والوصية، كما قال:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}

1 الترمذي: تفسير القرآن (3319) ، وأحمد (5/317) .

ص: 213

[سورة الإسراء آية: 23] ،

أي: أمر ووصى؛ ويطلق ويراد به: الحكم، كقوله:{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} [سورة الزمر آية: 69] ؛ ويطلق ويراد به القدر، ونحو ذلك.

وأما ما زعمه من أن الأدلة الدالة على استوائه على عرشه، لا تمنع أن يكون مستويا على غيره.

فالجواب، أن نقول: قد أجمع أهل السنة والجماعة، قديما وحديثا، على أنه لا يجوز أن يوصف الله بما لم يصف به نفسه، ولا وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن وصفه بغير ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فهو جهمي، ضال مضل، يقول على الله بلا علم; وقد ذكر سبحانه استواءه على عرشه، في سبعة مواضع من كتابه: في سورة "الأعراف"، وفي سورة "يونس"، وفي سورة "الرعد"، وفي سورة "طه"، وفي سورة "الفرقان"، وفي سورة "السجدة"، وفي سورة "الحديد". ولم يذكر تعالى أنه استوى على غير العرش، ولا ذكره رسوله صلى الله عليه وسلم، فعلم أنه ليس من صفاته التي يجوز أن يوصف بها; فمن أدخل في صفات الله ما لم يذكر في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، فهو جهمي، يقول على الله ما لا يعلم.

وقد قال الله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [سورة المعارج آية: 4]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [سورة فاطر آية: 10] ، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [سورة النحل

ص: 214

آية: 50]

{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [سورة آل عمران آية: 55]، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [سورة النساء آية: 158] {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [سورة البقرة آية: 255]، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سورة سبأ آية: 23] علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات; لا يجوز أن يوصف إلا بذلك كله، لكماله تعالى في أوصافه؛ فله الكمال المطلق، في كل صفة وصف بها نفسه، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم وقال تعالى:

{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [سورة غافر آية: 15] ، فذكر العرش عند هذه الصفة، من أدلة فوقيته تعالى، كما هو صريح فيما تقدم من الآيات; وكقوله تعالى:{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [سورة الشورى آية: 5] الآية.

وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في معنى قول الله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [سورة الحديد آية: 3] الآية: " اللهم: أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء "1 فقوله: "فليس فوقك شيء" نص في أنه تعالى فوق جميع المخلوقات; وهو الذي ورد عن الصحابة، والتابعين من المفسرين وغيرهم، في معنى قوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] إن معنى استوى: استقر، وارتفع، وعلا، وكلها بمعنى واحد؛ لا ينكر هذا إلا جهمي زنديق، يحكم على الله وعلى أسمائه وصفاته بالتعطيل، قاتلهم الله أنى يؤفكون، والنصوص الدالة على

1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713)، والترمذي: الدعوات (3400 ،3481)، وأبو داود: الأدب (5051)، وابن ماجه: الدعاء (3831) ، وأحمد (2/381 ،2/404 ،2/536) .

ص: 215

إثبات الصفات، كثيرة جدا.

وقد صنف أهل السنة من المحدثين والعلماء، مصنفات كبارا، ومن ذلك: كتاب "السنة" لعبد الله بن الإمام أحمد، ذكر فيه أقوال الصحابة والتابعين والأئمة; وكتاب "التوحيد" لإمام الأئمة: محمد بن خزيمة; وكتاب "السنة" للأثرم صاحب الإمام أحمد، و "كتاب" عثمان بن سعيد الدارمي، في رده على المريسي; وكتاب "السنة" للخلال، وكتاب "العلو" للذهبي; وغير ذلك مما لا يحصى كثرة، ولله الحمد والمنة.

ونذكر بعض الأحاديث الصريحة في المعنى، فمن ذلك: ما رواه ابن أبي حاتم، عن النواس بن سمعان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر، تكلم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة، أو قال رعدة شديدة، خوفا من الله عز وجل. فإذا سمع ذلك أهل السماوات، صعقوا، وخروا لله سجدا. فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد. ثم يمر جبرائيل على الملائكة، كلما مر على سماء، سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبرائيل؟ فيقول جبرائيل: قال الحق، وهو العلي الكبير; فيقولون كلهم مثل ما قال جبرائيل، فينتهي جبرائيل بالوحي، إلى حيث أمره الله عز وجل ".

ففي هذا الحديث التصريح بأن جبرائيل ينْزل

ص: 216

بالوحي من فوق السماوات السبع، فيمر بها كلها نازلا إلى حيث أمره الله، وهذا صريح بأن الله تعالى فوق السماوات على عرشه، بائن من خلقه، كما قال عبد الله بن المبارك لما قيل له: بم نعرف ربنا؟ قال: "بأنه على عرشه، بائن من خلقه" وهذا قول أئمة الإسلام قاطبة، خلافا للجهمية الحلولية، والفلاسفة، وأهل الوحدة، وغيرهم من أهل البدع، فرحم الله أهل السنة والجماعة، المتمسكين بالوحيين.

وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:

" إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي سبقت غضبي، فهو عنده فوق العرش "1، وفي حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه الذي رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر سبع سماوات وما بينهما، ثم قال:" وفوق ذلك بحر، بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال، ما بين أظلافهن وركبهن كما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ظهورهن العرش، ما بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء، والله تعالى فوق ذلك "2.

وفي حديث ابن مسعود، الذي رواه عبد الرحمن بن مهدي، شيخ الإمام أحمد، عن حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله بن مسعود، قال: " بين السماء

1 البخاري: التوحيد (7554)، ومسلم: التوبة (2751)، وابن ماجه: الزهد (4295) ، وأحمد (2/259 ،2/313 ،2/358 ،2/381 ،2/397 ،2/433 ،2/466) .

2 الترمذي: تفسير القرآن (3320)، وأبو داود: السنة (4723)، وابن ماجه: المقدمة (193) ، وأحمد (1/206) .

ص: 217

الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء إلى سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله تعالى فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ". والجهمية جحدوا هذه النصوص، وعاندوا في التكذيب، فصاروا بذلك كفارا عند أكثر أهل السنة والجماعة.

وهذا القدر الذي ذكرنا كاف في بيان ما عليه أهل السنة والجماعة، من علو الله تعالى على جميع المخلوقات، واستوائه على عرشه؛ وقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة على ذلك; ولو ذهبنا نذكر ما ورد في ذلك، لاحتمل مجلدا، فالحمد لله الذي حفظ على الأمة دينها، في كتابه وسنة رسوله، وبنقل العلماء الذين هم في هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل، وهدانا إلى ذلك؛ فأبطل الله بالعلماء كل بدعة وضلالة، حدثت في هذه الأمة، فيا لها من نعمة، ما أجلها في حق من تلقى الحق بالقبول، وعرفه، ورضي به! نسأل الله أن يجعلنا شاكرين لنعمه، مثنين بها عليه، فله الحمد لا نحصى ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه خلقه.

فأهل السنة والجماعة عرفوا ربهم بما تعرف به إليهم من صفات كماله اللائقة بجلال الله، فأثبتوا له

ص: 218

تعالى ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله إثباتا بلا تمثيل، وتنْزيها بلا تعطيل، وعرفوه بأفعاله وعجائب مخلوقاته; وبما أظهره لهم من عظيم قدرته، وبما أسبغه عليهم من عظيم نعمه، فعبدوا ربا أحدا صمدا، إلها واحدا، وهو الله الذي الإلهية وصفه; فالخلق خلقه، والملك ملكه، لا شريك له في إلهيته، ولا في ربوبيته، ولا في ملكه، تعالى وتقدس، كما قال تعالى:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ?مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} [سورة الناس آية: 1-2] ، ونزهوه عما تنَزه عنه، وعن كل ما فيه عيب ونقص، وعن كل ما وصفته الجهمية وأهل البدع، مما لا يليق بجلاله وعظمته.

وأما الجهمية، فعطلوه من صفات الكمال، وصاروا إنما يعبدون عدما، لأنهم وصفوه بما ينافي الكمال، ويوقع في النقص العظيم، فشبهوه بالناقصات تارة، وبالمعدوم تارة، فهم أهل التشبيه، كما عرفت من حالهم وضلالهم ومحالهم.

وأما ما أورده هذا الجهمي الجاهل من آيات العلم، كقوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4]، وقوله:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] ، فلا منافاة بين استوائه على عرشه وإحاطة علمه بخلقه، والسياق يدل على ذلك: أما الآية الأولى، فهي مسبوقة بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي

ص: 219

سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سورة الحديد آية: 4] .

ذكر استواءه على عرشه، وذكر إحاطة علمه بما في الأرض والسماوات، ثم قال:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4] ، أي بعلمه المحيط بما كان وما يكون.

وأما الآية الثانية: فهي كذلك مسبوقة بالعلم، وختمها تعالى به، فقال:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [سورة المجادلة آية: 7] إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة المجادلة آية: 7]، فعلم أن المراد: علمه بخلقه، وأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، كما قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [سورة الطلاق آية: 12] ، وهذا المعنى الذي ذكرنا، هو الذي عليه المفسرون من الصحابة والتابعين والأئمة، وجميع أهل السنة والجماعة.

وأما الجهمية وأهل البدع، فحرموا معرفة الحق، لانحرافهم عنه، وجهلهم به، وبالقرآن والسنة، كما قال العلامة بن القيم، رحمه الله تعالى:

ثقل الكتاب عليهم لما رأوا تقييده بشرائع الإيمان.

ومن المعلوم أنه لا يقبل الحق إلا من طلبه، وأما أهل

ص: 220

البدع، فأشربوا في قلوبهم ما وقعوا فيه من البدع، والضلال، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، فأبى الله إلا أن يتم نوره، ولو كره الكافرون.

فإذا عرف ذلك، فيتعين أن نسأل هذا الجهمي وغيره من المبتدعة، عن أمور لا يسع مسلما أن يجهلها، لأن الإسلام يتوقف على معرفتها.

فمن ذلك، ما معنى كلمة الإخلاص، لا إله إلا الله؟ وما الإلهية المنفية بلا النافية للجنس؟ وما خبرها؟ وما معنى الإلهية التي ثبتت لله وحده، دون ما سواه؟ وما أنواع التوحيد؟ وألقابه؟ وأركانه؟ وما معنى الإخلاص، الذي أمر الله به عباده، وأخبرهم أنه له وحده؟ وما تعريف العبادة التي خلقوا لها؟ وما أقسام العلم النافع، الذي لا يسع أحدا جهله؟ وما معنى اسم الله تعالى، الذي لا يسمى بهذا الاسم غيره؟ وما صفة اشتقاقه من المصدر الذي هو معناه؟

فالجواب عن هذا مطلوب; والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على محمد سيد المرسلين، وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

ص: 221

[رسالة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى راشد بن مطر]

وله أيضا، قدس الله روحه:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وعلى آله وصحبه، ومن أحبه ووده; من عبد الرحمن بن حسن، إلى أخيه: راشد بن مطر، سلمه الله تعالى، وزاده علما وإيمانا، وتوفيقا، وتحقيقا، وإذعانا. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فقد وصل إلي خطك، وسرنا ما أشعر به من حسن الحال، من معرفة الإسلام، ومحبته، وقبوله، فتلك النعمة التي لا أشرف منها، ولا أنفع {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [سورة يونس آية: 58] ، ففضله: الإسلام والإيمان; وقيل: القرآن، وهما متلازمان; ورحمته: أن جعلكم من أهله، كما فسر الصحابي رضي الله عنه الآية بهذا.

وما ذكرت من قيام الجهمية، والرافضة، والمعتزلة، عليكم، فلا يخفاك أن هذه الفرق الثلاث، قد ابتلى بهم أهل السنة والجماعة، قديما وحديثا، وتشعبت هذه الأهواء شعبا;

ص: 222

وكل من أقامه الله بدينه والدعوة إليه، ناله منهم عناء ومشقة؛ فهم أعداء أهل الحق في كل زمان ومكان، حكمة بالغة يمتحن حزبه بحربه، كما جرى للرسل من أعدائهم في الدين، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [سورة الفرقان آية: 31] ليتميز الصادق بصدقه وصبره على دينه، وليتخلف من ليس كذلك ممن ليس له قدم راسخ في الإيمان {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [سورة العنكبوت آية: 3] .

وبعد الابتلاء والامتحان يحصل النصر والتمكين للمؤمنين الصادقين الصابرين، كما قال تعالى:{وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة الصافات آية: 173]{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [سورة محمد آية: 7] . فمن قامت عليه الحجة فلم يقبل وجادل بالباطل، وجبت عداوته والبراءة منه، ومفارقته بالقلب والبدن.

وأما قول الأشاعرة في نفي علو الله تعالى على عرشه فهو قول الجهمية، سواء بسواء; وذلك يرده ويبطله نصوص الكتاب والسنة، كقوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5]{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] في ستة مواضع، وكقوله:{تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [سورة المعارج آية: 4] والعروج إنما هو من أسفل إلى فوق; وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [سورة النحل آية: 50]، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [سورة آل عمران آية: 55] ، و {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}

ص: 223

[سورة الملك آية: 16]

الآيتين؛ وكل هذه الآيات نصوص في علو الله تعالى على خلقه، واستوائه على عرشه، على ما يليق بجلاله، بلا تكييف.

وقول هؤلاء الأشاعرة: إنه من الجهات الست خالي، قد وصفوه بما يوصف به المعدوم; وهو قد وصف نفسه بصفات الموجود، القائم على كل نفس بما كسبت; وفي الأحاديث من أدلة العلو ما لا يكاد يحصر إلا بكلفة، كقوله في حديث الرقية:"ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك "1 الحديث; وجوهرة السنوسي، ذكر فيها مذهب الأشاعرة، وأكثره مذهب الجهمية المعطلة، لكنهم تصرفوا فيه تصرفا لم يخرجهم عن كونهم جهمية.

ومذهبهم: أن القرآن عبارة عن كلام الله، لا أنه كلامه تكلم به; وخالفوا الكتاب والسنة; قال تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [سورة الفتح آية: 15]، {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 6] ، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [سورة النساء آية: 164] ، {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [سورة لقمان آية: 27] ، والأدلة على هذا كثيرة جدا; والأشعري له كتب في إثبات الصفات، وهذا المذهب الذي نسبه إليه هؤلاء، تبرأ منه في كتابه الإبانة، والمقالات، وغيرها.

1 أبو داود: الطب (3892) .

ص: 224

وكثير من أهل العلم يكفرون نفاة الصفات، لتركهم ما دل عليه الكتاب والسنة، وعدم إيمانهم بآيات الصفات; وأما من جحد توحيد الإلهية ودعا غير الله، فلا شك في كفره، وقد كفره القرآن; والسنوسي، وأمثاله من المتأخرين، ليسوا من السلف، ولا من الخلف المعروفين بالنظر والبحث، بل هو من جهلة المتأخرين المقلدين لأهل البدع، وهؤلاء ليسوا من أهل العلم.

والخلف فيهم من انحرف عن السنة إلى البدع، وفيهم من تمسك بالسنة، فلا يسب منهم إلا من ظهرت منه البدعة، وأما ابن حجر الهيتمي فهو من متأخري الشافعية، وعقيدته عقيدة الأشاعرة النفاة للصفات، ففي كلامه حق وباطل.

وأما الدعاء بعد المكتوبة ورفع الأيدي، فليس من السنة، وقد أنكره شيخ الإسلام لعدم وروده على هذا الوجه؛ وأما أهل البدع، فيجب هجرهم والإنكار عليهم، إذا ابتليتم بهم; وتأملوا مصنفات الشيخ، وتأملوا كلامه رحمه الله، تجدوا فيه البيان، والفرقان; وحديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي التي تمسكت بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

وأما الأفغانية، الذين جاؤونا، فبلغنا أنهم يرون رأي الخوارج، معهم غلو، وقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم في الغلو، وأخبر

ص: 225

عن الخوارج أنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، وأمر بقتلهم; وسبب غلوهم: الجهل بما دل عليه الكتاب والسنة، فأداهم جهلهم، وقصورهم في الفهم، إلى أن كفروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من السابقين الأولين.

فإذا كان قد جرى في عهد النبوة من يطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكفر أصحابه، فلا يبعد أن يجيء في آخر هذه الأمة من يقول بقولهم ويرى رأيهم; والذين هاجروا إلينا وبايعونا، ما ندري عن حقيقة أمرهم; وعلى كل حال، إذا عملتم بالتوحيد، وأنكرتم الشرك والضلال، وفارقتم البدع، فلا يلزمكم هجرة عن الوطن والمال، بل يجب عليكم الدعوة إلى الله، وطلب أدلة التوحيد في كتاب الله، وتأمل كلام الشيخ في مصنفاته؛ فإنه رحمه الله بين، وحقق، والسلام.

وأجاب أيضا: وأما قول أهل التأويل للصفات: إن الله تعالى منَزه عن الجهات، فهذه شبهة، أرادوا بها نفي علو الرب على خلقه، واستوائه على عرشه، وقد ذكر استواءه على عرشه في سبعة مواضع من كتابه، قال الله تعالى:{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [سورة البقرة آية: 255] في آية الكرسي وغيرها من القرآن; فأثبت لنفسه العلو بأنواعه الثلاثة: علو القهر والقدرة، وعلو الذات; ومن نفى علو الذات، فقد سلب الله تعالى وصفه، وقد قال

ص: 226

تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [سورة فاطر آية: 10]، وقال:{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [سورة النساء آية: 158]، وقال:{تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [سورة المعارج آية: 4] ، وحديث المعراج الذي تواترت به السنة يدل على علو الله على خلقه، وأنه على عرشه فوق سماواته، وهذا مذهب سلف الأمة، وأئمتها; ومن تبعهم من أهل السنة والجماعة يثبتون لله ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات كماله ونعوت جلاله، على ما يليق بجلال الله وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وتنْزيها بلا تعطيل، تعالى الله عما يقول المحرفون المنحرفون علوا كبيرا.

وقال أيضا على قول الشيخ ابن غنام رحمه الله، في كتابه "العقد الثمين" وقوله:"وكتبه" أي: أنها منَزلة من عنده، وأنها كلامه القديم، قال:

اعلم أن مذهب أهل السنة والجماعة أن الله تعالى يتكلم إذا شاء; وقوله: وأنها كلامه القديم، هذا قول الكرامية ; وأهل السنة لا يقولون هذا، بل يقولون: إنها وحيه أوحاه إلى جبريل، وسمع كلام الرب تعالى، وبلغه رسله، وكتب تعالى التوراة بيده، كما صح ذلك على ما يليق بجلاله، وهذا قول السلف؛ وجميع ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله، يثبتون ذلك إثباتا بلا تمثيل، وتنْزيها بلا تعطيل، فلا ينفون ما أثبته، ولا يثبتون ما نفاه،1 والله أعلم.

1 وتقدم في صفحة 339 ، 340 ج1.

ص: 227

[جواب الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن قول الخطيب الحمد لله الذي تحيرت العقول في مبدأ أنواره]

بسم الله الرحمن الرحيم

وسئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى عن قول الخطيب: الحمد لله الذي تحيرت العقول في مبدأ أنواره، وتاهت الألباب في صمديته، وكنه ذاته؟

فأجاب: هذه الألفاظ، ابتدعها من تمسك بقول أهل الكلام الحادث المذموم; فإنهم الذين تاهوا، وتحيروا في الإيمان الذي دعت إليه الرسل، ونزلت به الكتب، وإلا فطريقة القرآن حمد الله لنفسه بأسمائه وصفاته، وما يعرف به، ويوجب الإيمان به ومعرفته وإثبات ربوبيته وصفات كماله؛ فهذا هو توحيد المعرفة والإثبات الذي هو توحيد المرسلين، ودعوا به الأمم إلى توحيد الإرادة والقصد، الذي هو توحيد الإلهية; فإن الرب الذي أبدع لخلقه ما يشاهدونه من عظيم مخلوقاته، وتعرف إليهم بذلك، وبما دلهم عليه من كمال صفاته وتصرفه في مخلوقاته، هو الرب الذي لا يستحق العبادة غيره.

فالرسل وأتباع الرسل كمل الله إيمانهم بذلك العلم، والعمل; فقد قال تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [سورة الأنعام آية: 1] فحمد نفسه بما يوجب الإيمان به ومعرفته، من عظيم

ص: 228

مخلوقاته، واستدل بأدلة ربوبيته على ما يستلزمه من إلهيته، فقال:{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [سورة الأنعام آية: 1] فأنكر الشرك في حق من هذا وصفه، وإنكار الشرك يقتضي توحيد العبادة، بأن لا يراد غيره، ولا يقصد سواه، فانتظم ذلك نوعي التوحيد.

وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} [سورة الكهف آية: 1] فحمد نفسه على إنزال الكتاب الذي هو أعظم نعمة أنعمها على أهل الأرض، وهو يقتضي الإيمان بالكتب والرسل؛ وهو صراط الله المستقيم الذي لا تزيغ به الأهواء; فهذا وأمثاله هو طريقة القرآن; يحمد نفسه على ما يتعرف به إلى خلقه، ليعرفوه بذلك الذي أبدعه، وأوجده، وأنعم به، كقوله:{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة فاطر آية: 1] الآية، وأمثال هذا في القرآن.

وبتدبره والعلم به يحصل به كمال الإيمان، وتنتفي الحيرة، ويحصل كمال الهداية، ويعصم القلوب أن تتيه في ربها، وصفاته; فكل ما وصف به نفسه، فلا حيرة فيه عند أهل الإيمان الذين عرفوه بما تعرف به إليهم في كتابه، واطمأنت قلوبهم بالإيمان به، وجعلوه قصدهم ومرادهم.

وأما أهل الجدل من أهل الكلام، فهم الذين تحيروا وتاهوا، كما أخبر بذلك نفر من متقدميهم، كما هو معروف لديكم بحمد الله.

ص: 229

كتب بعض تلامذة الشيخ: عبد الرحمن بن حسن له كتابا، وقال في آخره:

إنه على ما يشاء قدير، فقال الشيخ عبد الرحمن: هذه كلمة اشتهرت على الألسن من غير قصد، وهو قول الكثير، إذا سأل الله شيئا قال: وهو القادر على ما يشاء، وهذه الكلمة يقصد بها أهل البدع شرا، وكل ما في القرآن:{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة المائدة آية: 120] وليس في القرآن والسنة، ما يخالف ذلك أصلا، لأن القدرة شاملة كاملة، وهي والعلم: صفتان شاملتان، يتعلقان بالموجودات والمعدومات; وإنما قصد أهل البدع بقولهم: وهو القادر على ما يشاء، أي: القدرة لا تتعلق إلا بما تعلقت المشيئة به.

وكتب إليه أيضا يهنيه بقدوم ابنه الشيخ عبد اللطيف من مصر، وتوسل إلى الله في دعائه بصفاته الكاملة التي لا يعلمها إلا هو.

فكتب إليه قال: وذكرت في وسيلة دعوتك، جزاك الله أحسن الجزاء عن تلك الدعوات، قلت: وأتوسل إليك بصفاتك الكاملة التي لا يعلمها إلا أنت; فاعلم: أن الذي لا يعلمها إلا هو كيفية الصفة; وأما الصفة فيعلمها أهل العلم بالله، كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ففرق هذا الإمام بين ما يعلم منه معنى الصفة، على ما يليق بالله، فيقال: استواء لا يشبه استواء المخلوق،

ص: 230

ومعناه ثابت لله، كما وصف به نفسه، وأما الكيف، فلا يعلمه إلا الله، فتنبه لمثل هذا، فالإمام مالك تكلم بلسان السلف.

[رسائل الشيخ أبي بطين]

قال الشيخ: عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد: فقد جرت مناظرة بيننا وبينكم في كلام الله تعالى، هل هو مخلوق، أم لا؟ فذكرت أن اختياركم الوقف: فلا تقولون مخلوق، ولا غير مخلوق; وزعمت أن الخلاف في ذلك لفظي.

فأما قولكم: إن الخلاف في ذلك لفظي، فليس الأمر كذلك; وإنما يقال: الخلاف لفظي بين المعتزلة والأشاعرة; لأن المعتزلة يقولون: كلام الله مخلوق; والأشاعرة يقولون: ليس بمخلوق; والكلام عندهم: المعنى; ويقولون: الحروف مخلوقة; فقالت المعتزلة: لا خلاف بيننا وبينكم، لأن الكلام هو الحروف، فإذا أقررتم بأن الحروف مخلوقة، ارتفع النّزاع، فيكون الخلاف بين الفريقين

ص: 231

لفظيا. وأما مذهب أهل السنة والجماعة، فهو مخالف للمذهبين خلافا معنويا، لأنهم يقولون: كلام الله غير مخلوق; والكلام عندهم: اسم للحروف والمعاني; فتبين بذلك غلط من قال: إن الخلاف في ذلك لفظي.

ومذهب أهل التوحيد والسنة: أن الله يتكلم بحرف وصوت ; وأن القرآن كلام الله: حروفه ومعانيه; وأن موسى سمع كلام الله منه بلا واسطة; والقرآن والسنة يدلان على ذلك دلالة صريحة، ولله الحمد والمنة، قال الله تعالى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة النساء آية: 163] إلى قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [سورة النساء آية: 164] ، ففرق بين الإيحاء المشترك، وبين التكليم الخاص.

وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [سورة الأعراف آية: 143]، وقال تعالى:{يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [سورة الأعراف آية: 144]، وقال تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [سورة الكهف آية: 109]، وقال تعالى:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [سورة لقمان آية: 27]، وقال:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [سورة الأنعام آية: 115]، وقال تعالى:{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} [سورة البقرة آية: 75]، وقال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ

ص: 232

كَلامَ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 6] .

والآيات في ذلك كثيرة.

وأما السنة فأكثر من أن تحصى; منها: أمره صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بكلمات الله، في عدة أحاديث، وقوله صلى الله عليه وسلم " ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان "1. فمن قال: إن الله لا يتكلم، فقد رد على الله ورسوله، وكفره ظاهر; وقد ذكرتم أن العرب يضيفون الفعل إلى غير الفاعل، فهذا لا ينكر، أعني وجود المجاز في لغة العرب.

وأما وقوع المجاز في القرآن، ففيه خلاف بين الفقهاء، حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية، وذكر أن أكثر الأئمة لم يقولوا: إن في القرآن مجازا؛ ورد القول بوجود ذلك في القرآن، واستدل بأدلة كثيرة؛ وعلى تقدير جواز وجوده في القرآن، فمن المعلوم أنه لا يجوز صرف الكلام عن حقيقته حتى تجمع الأمة على أنه أريد به المجاز، إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك؛ ولو ساغ ادعاء المجاز لكل أحد، ما ثبت شيء من العبادات، ولبطلت العقود كلها، كالأنكحة، والطلاق، والأقارير، وغيرها، وجل الله أن يخاطب الأمة إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين.

وأيضا فالكلام إذا قام الدليل على أن المتكلم به عالم ناصح مرشد، قصده البيان والهدي والدلالة، والإيضاح بكل طريق، وحسم مواد اللبس ومواقع الخطأ،

1 البخاري: التوحيد (7443)، ومسلم: الزكاة (1016) .

ص: 233

وأن هذا هو المعروف المألوف من خطابه، وأنه اللائق بحكمته، لم يشك السامع في أن مراده هو ما دل عليه ظاهر كلامه.

قال شيح الإسلام ابن تيمية، في أثناء كلام له: ومعلوم باتفاق العقلاء أن المخاطب المبين، إذا تكلم بمجاز، فلا بد أن يقرن بخطابه ما يدل على إرادة المعنى المجازي، فإذا كان الرسول المبلغ المبين، الذي بين للناس ما أنزل إليهم، يعلم أن المراد بالكلام خلاف مفهومه أو مقتضاه، كان عليه أن يقرن بخطابه ما يصرف القلوب عن فهم المعنى الذي لم يرده، لا سيما إذا كان لا يجوز اعتقاده في الله، فإنه عليه أن ينهاهم عن أن يعتقدوا في الله ما لا يجوز اعتقاده، وإذا كان ذلك مخوفا عليهم، ولو لم يخاطبهم بما يدل على ذلك، فكيف إذا كان خطابه هو الذي يدلهم على ذلك الاعتقاد الذي تقول النفاة هو اعتقاد باطل

إلى أن قال: وهذا كلام بين لا مخلص لأحد عنه، انتهى.

وأيضا فالأدلة الدالة على أن الله يتكلم حقيقة، أكثر من أن يمكن ذكرها ها هنا؛ فإن الله سبحانه فرق بين الإيحاء المشترك بين الأنبياء، وبين التكليم الخاص لموسى، فقال تعالى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة النساء آية: 163] إلى قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [سورة النساء آية: 164] ، فلو لم يكن موسى عليه السلام سمع كلام الله منه بلا واسطة، لم يكن له مزية على غيره من

ص: 234

الرسل، ولم يكن في تخصيصه بالتكليم فائدة، ولم يسم كليم الله; وقد قال تعالى:{يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [سورة الأعراف آية: 144] .

وأيضا، فقد قال الفراء: إن الكلام إذا أكد بالمصدر، ارتفع المجاز، وثبتت الحقيقة، وقد أكد الفعل بالمصدر، في قوله:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [سورة النساء آية: 164]، وقال تعالى:{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [سورة الشعراء آية: 10]، وقال:{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [سورة مريم آية: 52]، وقال:{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [سورة طه آية: 11-12]، وقال تعالى:{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ} [سورة القصص آية: 30] ، الآية، ففي هذا ونحوه، دلالة صريحة أن الله كلم موسى وناداه بنفسه بلا واسطة، وموسى سمع كلام الله ونداءه، لأنه لا يجوز لغير الله أن يقول:{إني أنا الله رب العالمين} .

وقد ذكر الإمام أحمد، رحمه الله، في كتاب: الرد على الجهمية، عن الزهري، قال: لما سمع موسى كلام الله قال: يا رب هذا الكلام الذي سمعته، هو كلامك؟ قال: نعم يا موسى، هو كلامي; وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان; ولي قوة الألسن كلها، وأنا أقوى من ذلك، وإنما كلمتك بقدر ما يطيق بدنك، ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت. فلما رجع موسى إلى قومه، قالوا: صف لنا كلام ربك; فقال: سبحان الله، وهل أستطيع أن أصفه لكم؟!

ص: 235

قالوا: فشبهه; قال: هل سمعتم أصوات الصواعق، التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها؟ فكأنه مثله; وروى عبد الله بن أحمد، في كتاب: السنة قال: حدثني محمد بن بكار قال: أخبرنا أبو معشر، عن محمد بن كعب، قال: قال بنو إسرائيل لموسى: بم شبهت صوت ربك، حين كلمك من هذا الخلق؟ قال: شبهت صوته، بصوت الرعد حين لا يترجع.

وأيضا في الصحيحين عن عدي بن حاتم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئا قدمه، ثم ينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه، ثم ينظر تلقاء وجهه فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يقي وجهه النار ولو بشق تمرة، فليفعل "1، وروى جابر بن عبد الله، قال لما قتل عبد الله بن عمرو بن حرام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يا جابر ألا أخبرك ما قال الله لأبيك؟ قال: بلى، قال: وما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب، وكلم أباك كفاحا، قال يا عبد الله، تمن علي أعطك، قال: يا رب، تحييني فأقتل فيك ثانية، قال: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، قال: فأبلغ من ورائي، فأنزل الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} 2") رواه ابن ماجه وغيره; ففي هذين الحديثين ما يبطل دعوى مدعي المجاز، ويدحض

1 أحمد (4/377) .

2 الترمذي: تفسير القرآن (3010)، وابن ماجه: المقدمة (190) .

ص: 236

حجته، ويرغم أنفه.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه "1 يعني: القرآن، وقال خباب بن الأرت: يا هنتاه تقرب إلى الله بما استطعت، فلن تتقرب إليه بشيء أحب إليه مما خرج منه، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما قرأ عليه قرآن مسيلمة الكذاب، فقال: إن هذا كلام لم يخرج من إل، يعني: رب; فوضح بما ذكرناه: أن الله يتكلم حقيقة، وأن من ادعى المجاز بعد هذا البيان، فقد شاق الله ورسوله، {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] .

[فصل ما استدل به بعض المعتزلة على أن كلام الله مخلوق]

فصل: وقد ذكرتم ما استدل به بعض المعتزلة على أن كلام الله مخلوق، وهو قوله تعالى:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [سورة الحديد آية: 3] ، ولا يشك من له عقل أن من دل الخلق على أن كلام الله مخلوق، بقوله:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [سورة الحديد آية: 3] لقد أبعد النجعة; وهو إما ملغز، وإما مدلس، لم يخاطبهم بلسان عربي مبين، وقد قال تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [سورة آل عمران آية: 7]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" وإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم "2، مع أنه ليس في هذه الآية شبهة لمن احتج بها، فلله الحمد والمنة; ولا يشبه بها على رعاع الناس إلا من أزاغ الله قلبه، نسأل الله العافية.

1 الترمذي: فضائل القرآن (2911) ، وأحمد (5/268) .

2 البخاري: تفسير القرآن (4547)، ومسلم: العلم (2665)، والترمذي: تفسير القرآن (2994)، وأبو داود: السنة (4598)، وابن ماجه: المقدمة (47) ، وأحمد (6/48 ،6/124 ،6/132 ،6/256)، والدارمي: المقدمة (145) .

ص: 237

وقلتم: الحروف يلزمها التعاقب، ويتقدم بعضها بعضا، فيلزم أن تكون مخلوقة، قلنا: إنما يلزم التعاقب في حق من يتكلم من المخارج; والله سبحانه وتعالى غير موصوف بذلك.

وأيضا: فواجب على كل مكلف التسليم لما جاء في الكتاب والسنة، ولا يعارض بزخارف المبطلين وهذيان الملحدين، قال تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] ؛ فمن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم.

[فصل في القول بأن القرآن غير مخلوق لم يقله السلف]

فصل: وقلتم: إن القول بأن القرآن غير مخلوق، لم يقله السلف، وإن عدم القول بذلك هو الصواب، وأنه هو اعتقادكم، فلا تقولون مخلوقا ولا غير مخلوق. فأما قولكم: إن هذا القول لم يقله السلف; فلا ندري، من يعني بالسلف عندكم؟ فإن كان يعني بالسلف عندكم: جعد، وجهم، وابن أبي دؤاد، وأتباعهم، كأبي علي الجبائي، وأبي هاشم، وأتباعهم من الجهمية والمعتزلة، فصدقتم بأن هؤلاء لم يقولوا هذه المقالة، وإنما قالوا: القرآن مخلوق، وبعدا لمن كان هؤلاء سلفه، واستبدل سبيلهم بسبيل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته.

وما عوض لنا منهاج جهم

بمنهاج ابن آمنة الأمين

ص: 238

وإن كان يعني بالسلف عندكم: الصحابة، والتابعون، وأئمة الإسلام، الذين لهم لسان صدق في الأمة، الذين رفع الله قدرهم وأعلى منْزلتهم، الذين هم سلف الأمة حقا، فأخطأتم في نسبة عدم القول بذلك إليهم; فإنهم كلهم مجمعون على أن القرآن كلام الله غير مخلوق; قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في القرآن:"ليس بخالق، ولا مخلوق; ولكنه كلام الله، منه بدا وإليه يعود" ذكر هذا الكلام عن علي، الشيخ الحافظ عبد الغني المقدسي، وذكر أيضا عن عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أنهما قالا: القرآن كلام الله، منه بدا وإليه يعود.

فقولهم رضي الله عنهم: منه بدا، أي: هو المتكلم به، وهو الذي أنزله من لدنه; ليس هو كما تقوله الجهمية: أنه خلق في الهواء، أو غيره، أو بدا من غير الله.

وأما إليه يعود، فإنه يسرى به في آخر الزمان من المصاحف والصدور، فلا يبقى منه كلمة ولا في المصاحف منه حرف.

وقال سفيان بن عيينة: سمعت عمرو بن دينار يقول: أدركت مشايخنا، والناس، منذ سبعين سنة يقولون:"القرآن كلام الله، غير مخلوق، منه بدا، وإليه يعود" رواه محمد بن جرير، وهبة الله بن الحسن، الطبريان في كتاب السنة لهما، وقد أدرك عمرو بن دينار: أبا هريرة، وابن عباس، وابن عمر، وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا يدل على

ص: 239

شهرة القول بذلك في زمن الصحابة رضي الله عنهم، الذين أدركهم عمرو بن دينار، على شهرته عند التابعين، وأنهم كلهم على ذلك.

وقال البخاري: حدثنا سفيان ابن عيينة قال: "أدركت مشيختنا، منذ سبعين سنة، منهم عمرو بن دينار، يقولون: القرآن كلام الله، غير مخلوق". فعمرو بن دينار حكاه عن مشيخته والناس، وسفيان حكاه أيضا عن مشيخته; فهذا صريح في الدلالة على اشتهار هذا القول في القرون التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكلام أئمة الإسلام في ذلك أكثر من أن يمكن ذكره هنا; كأبي حنيفة، ومالك، والأوزاعي، والليث، والثوري، والشافعي، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، والبخاري، وغيرهم من أئمة الحديث، وكلهم على ذلك مجمعون، ولكتاب ربهم وسنة نبيهم متبعون، وحكى غير واحد الإجماع على ذلك.

قال الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء، في جميع الأمصار، حجازا، وعراقا، ومصرا، وشاما، ويمنا، فكان في مذاهبهم: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والقرآن كلام الله، غير مخلوق بجميع جهاته، والقدر خيره وشره من الله، وأن الله تعالى على عرشه، بائن من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله، بلا كيف {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} ،

ص: 240

{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] .

وقد ذكرتم: أن بعض السلف قال بخلق القرآن، كابن المديني; فلا شك أن ابن المديني وابن معين، وغيرهما من أئمة الحديث، أجابوا في المحنة كرها، واعتذروا بالإكراه، لما عاب عليهم الأئمة، وهجرهم الإمام أحمد، ولم يعذرهم، واحتج عليه ابن معين بعمار رضي الله عنه حين أكرهه أهل مكة على كلام الكفر; ورد عليه أحمد، بأن قال: إن عمارا ضرب، وأنتم قيل لكم نريد أن نضربكم، ومن المعلوم: أنه لم يثبت في المحنة إلا القليل، والأكثرون: أجابوا مكرهين; ومن نسب القول بذلك إلى ابن المديني أو غيره من أهل الحديث، بعد تصريحهم بأنهم إنما أجابوا كرها، فقد قال ما لا يعلم، ونسب إليهم ما هم براء منه.

وذكرتم أن ابن علية قال بذلك، فهذا لا ينكر; وابن علية معروف عند أهل السنة بالبدعة; وكلام الأئمة في ذمه كثير; والبخاري وإن روى عنه، فهو عنده من أهل البدع; وقد روى البخاري عن غيره من أهل البدع، لأن الرجل إذا عرف منه الصدق والإتقان لما روى، جازت الرواية عنه، ولا يخرجه ذلك عن كونه مبتدعا، قال البيهقي في مناقبه: ذكر الشافعي إبراهيم ابن علية، فقال: أنا مخالف له في كل شيء، وفي قول: لا إله إلا الله، لست أقول كما

ص: 241

يقول، أنا أقول: لا إله إلا الله، الذي كلم موسى من وراء حجاب، وذلك يقول: لا إله إلا الله الذي خلق كلاما، أسمعه موسى من وراء حجاب.

وأما قولكم: إن الصواب في هذه المسألة، الوقف، وإنه هو اعتقادكم، لا تقولون مخلوق، ولا غير مخلوق; فمضمون هذه المقالة: أن الله يحب منا أن نقف موقف الحيارى الشاكين، ونبقى في الجهل البسيط، لا نعرف الحق من الباطل، ولا الهدى من الضلال، مذبذبين بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وأن الله يحب عدم العلم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويحب منا الحيرة والشك.

ومن المعلوم أن الله لا يحب الجهل، ولا الشك، ولا الحيرة، ولا الضلال، وإنما يحب الدين، والعلم، واليقين; وقد ذم الله الحيرة، بقوله تعالى:{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ} [سورة الأنعام آية: 71] .

ومن المعلوم أنه لا بد أن يكون كلام الله في نفس الأمر، مخلوقا، أو غير مخلوق، لا غير، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتقد أحد الأمربن، لا غير; وإذا كان الأمر كذلك، فلابد أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد دل أمته على ما يعتقدونه من ذلك، قال صلى الله عليه وسلم:" تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك "1، وقال فيما صح عنه أيضا: " ما بعث الله من نبي، إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه

1 ابن ماجه: المقدمة (44) ، وأحمد (4/126) .

ص: 242

لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم "1، وقال أبو ذر رضي الله عنه: "لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء، إلا ذكر لنا منه علما"2؛ محال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين- وإن دقت- أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدونه بقلوبهم، في ربهم ومعبودهم، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة، أن لا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول صلى الله عليه وسلم على غاية التمام؟!.

وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، فقد علم ما سيكون، ثم قال:" إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله "3، فالرب سبحانه وتعالى عالم بما سيقع من التنازع، فقال:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] ، ومن المحال أن يأمرهم برد ما تنازعوا فيه إلى ما لا يفصل النّزاع، ويبين الحق من الباطل.

وقد أمرنا الله سبحانه، أن نقول:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [سورة الفاتحة آية: 6-7] وفي صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام من الليل يصلي: " اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه

1 مسلم: الإمارة (1844)، والنسائي: البيعة (4191)، وابن ماجه: الفتن (3956) ، وأحمد (2/191) .

2 أحمد (5/153) .

3 الترمذي: المناقب (3788) ، وأحمد (3/17 ،3/26 ،3/59) .

ص: 243

يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم "1، فهو: يسأل ربه أن يهديه لما اختلف فيه من الحق، فكيف يكون محبوب الله عدم الهدى في مسائل الخلاف؟! وقد قال الله له:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [سورة طه آية: 114] .

وأيضا فالشك والحيرة ليست محمودة في نفسها، باتفاق المسلمين، غاية ما في الباب أن من لم يكن عنده علم بالنفي ولا الإثبات، يسكت; فأما من علم الحق بدليله، الموافق لبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس للواقف الشاك الحائر أن ينكر على هذا العالم المتبع للرسول صلى الله عليه وسلم العالم بالمنقول والمعقول، قال الإمام أحمد رحمه الله: من لم يقل القرآن كلام الله، غير مخلوق، فهو يقول مخلوقا.

والأمر كما قال رحمه الله، فإنا نجد بعض من يقول بالوقف، يعيب على من ينفي الخلق عن كلام الله، ويحتج عليه بحجج القائلين بالخلق، كما أوردتم شيئا من ذلك، وعبتم على الإمام أحمد رحمه الله في كلامه في هذه المسألة; قلتم: إن أحمد جعل هذه المسألة عديلة التوحيد; قلتم ذلك اتباعا لمن استوفى نصيبه من الحمق والجهل، صاحب الكتاب، المسمى: بـ "العلم الشامخ" وقد عاب في كتابه ذلك على الإمام أحمد، ونسبه إلى التعصب، وطعن أيضا على غيره من أئمة الحديث وأهل السنة; ولقد أحسن القائل:

1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770)، والترمذي: الدعوات (3420)، والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1625)، وأبو داود: الصلاة (767)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) ، وأحمد (6/156) .

ص: 244

وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني فاضل.

فلو أن هذا المسكين أمسك لسانه عن تنقص أئمة الإسلام، لكان أستر له، وهو لم يضر إلا نفسه، لا يضرهم كلامه كما قيل:

وهل حط قدر البدر عند طلوعه كلاب إذا ما أنكرته فهرت.

وما أن يضر البحر إن قام أحمق على شطه يرمي إليه بصخرة.

والذي ينبغي لهذا وأمثاله، إذا هجمت بهم ذنوبهم عن استبانة الحق، أن يمسكوا ألسنتهم عن عيب أهل السنة، والطعن عليهم، ويلجؤوا إلى الله في سؤال الهداية; نسأل الله أن يهدينا وإخواننا المسلمين الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

[فصل في قول الجهمية إن موسى لم يسمع كلام الله منه]

وقد ذكرتم قول الجهمية إن موسى لم يسمع كلام الله منه، إنما سمعه من غيره، من الشجرة أو غيرها، لأن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم ولسان وشفتين.

فأما قولكم: إن موسى لم يسمع كلام الله منه حقيقة، وإنما سمعه من غيره، فهذا ظاهر البطلان لأنه لا يجوز لغير الله أن يقول:{يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [سورة القصص آية: 30] {يَا مُوسَى? إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى

ص: 245

إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [سورة طه آية: 11-12-13-14] .

فمن زعم ذلك، فقد زعم أن غير الله ادعى الربوبية والإلهية; ولو كان - كما زعم - القائل، المخاطب لموسى غير الله، كان يقول ذلك المخاطب: يا موسى إن الله رب العالمين، يا موسى الله ربك، لا يجوز له أن يقول:{إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [سورة القصص آية: 30]، {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [سورة طه آية: 12] ، وهذا مما احتج به الإمام أحمد على الجهمية، فيا له من بيان ما أوضحه! وحجة ما أقطعها للمنازع!

وأما قولكم: إن الكلام لا يكون إلا من جوف، وفم، ولسان، وشفتين، فهذا باطل لأن الله تعالى قال للسماوات والأرض:{ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [سورة فصلت آية: 11] أتراها قالت: بفم، ولسان، وشفتين؟ والجوارح إذا شهدت على الكافر، قالوا:{لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [سورة فصلت آية: 21] أتراها نطقت بلسان وأدوات؟ قال: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة يس آية: 65] أتراها: تكلمت بجوف، وفم، ولسان، وشفتين؟! ولكن الله أنطقها كيف شاء، فكذلك تكلم الله كيف شاء، من غير أن نقول بجوف، ولا فم، ولا لسان. ولا شفتين.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني لأعرف حجرا كان يسلم علي "1، وسبح الحصى في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكف أبي بكر،

1 مسلم: الفضائل (2277)، والترمذي: المناقب (3624) ، وأحمد (5/89 ،5/95 ،5/105)، والدارمي: المقدمة (20) .

ص: 246

وعمر، وعثمان. وقال ابن مسعود: كنا نسمع تسبيح الطعام، وهو يؤكل; وجاء: إن في آخر الزمان يكلم الرجل سوطه، ونحو ذلك كثير، ولا خلاف في أن الله قادر على أن ينطق الحجر الأصم، من غير مخارج، فبطل ما ادعوه من أن الحروف لا تكون إلا من مخارج.

ومن الدليل على اتصاف الله بالكلام حقيقة، قوله تعالى:{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} [سورة الأعراف آية: 148] ، نبه بهذا الدليل على أن من لا يكلم، ولا يهدي، لا يصلح أن يكون إلها؛ وكذلك قوله تعالى في الآية الأخرى، عن العجل:{أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [سورة طه آية: 89] ، فجعل امتناع صفة الكلام والتكلم، وعدم ملك الضر والنفع، دليلا على عدم الإلهية; وهذا دليل عقلي سمعي، على أن الإله لا بد أن يكلم، ويتكلم ويملك لعابده النفع والضر; وإلا لم يكن إلها.

ومما استدل به أحمد وغيره من الأئمة، على أن كلام الله غير مخلوق، قوله تعالى:{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [سورة الأعراف آية: 54] قالوا: فلما قال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ} لم يبق شيء مخلوق إلا كان داخلا في ذلك، ثم ذكر ما ليس بمخلوق فقال:{وَالْأَمْرُ} وأمره، هو: قوله تبارك وتعالى،

ص: 247

فلا يكون خلقا. واستدل الإمام أحمد على الجهمية لما قالوا: إن كلام الله مخلوق، فقال: وكذلك بنو آدم، كلامهم مخلوق; فشبهتم الله بخلقه، حين زعمتم أن كلامه مخلوق; ففي مذهبكم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم، حتى خلق التكلم فتكلم، وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما، فجمعتم بين كفر وتشبيه، فتعالى الله عن هذه الصفة.

ومما يبين أن السلف كانوا يعتقدون أن كلام الله غير مخلوق، أنهم أوجبوا الكفارة على من حلف بالقرآن إذا حنث في يمينه; قال بعض الصحابة: عليه بكل آية كفارة; سمع ابن مسعود رجلا يحلف بالقرآن، فقال: أتراه مكفرا؟ إن عليه بكل آية كفارة; وقد أجمعوا: على أنه لا يجوز الحلف بالمخلوق، ولا تنعقد به اليمين، فلو كان القرآن مخلوقا عندهم، لم يجز الحلف به، ولم يوجبوا على الحالف به إذا حنث كفارة، لأنه حلف بشيء مخلوق.

وأيضا: من زعم أن القرآن مخلوق، فقد زعم أن اسم الله في القرآن مخلوق، فيلزمه أن من حلف بالله الذي لا إله إلا هو، لا يحنث، لأنه حلف بشيء مخلوق; قال الإمام أحمد، في كتاب "الرد على الجهمية": وزعمت أن اسم الله في القرآن إنما هو اسم مخلوق، فقلنا: قبل أن يخلق هذا الاسم، ما كان اسمه؟ قالوا: لم يكن له اسم، فقلنا: قبل أن

ص: 248

يخلق العلم، أكان جاهلا لا يعلم، حتى خلق لنفسه علما؟ وكان لا نور له حتى خلق لنفسه نورا؟ وكان لا قدرة له حتى خلق لنفسه قدرة؟ فعلم الخبيث: أن الله قد فضحه، وأبدى عورته للناس، حين زعم أن "الله" سبحانه في القرآن، إنما هو اسم مخلوق.

فقلنا للجهمي: لو أن رجلا حلف بالله الذي لا إله إلا هو كاذبا، لا يحنث، لأنه حلف بشيء مخلوق ولم يحلف بالخالق، ففضحه الله في هذه. وقلنا للجهمي: أليس النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والخلفاء من بعدهم، والقضاة، والحكام، إنما كانوا يحلفون الناس بالله الذي لا إله إلا هو؟ وكانوا مخطئين في مذهبكم، إنما كان ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن بعده في مذهبكم أن يحلفوا بالذي اسمه الله، وإذا أرادوا أن يقولوا: لا إله إلا الله، قالوا: لا إله إلا الذي خلق الله، وإلا لم يصح توحيدهم، ففضحه الله لما ادعى على الله الكذب.

وأيضا: فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الإستعاذة بكلمات الله، وأرشد الأمة إلى ذلك، فقال فيما ثبت في صحيح مسلم، عن خولة بنت حكيم:"من نزل منْزلا، فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منْزله ذلك "1 ففي هذا دليل صريح على أن كلام الله غير مخلوق، لأن الإستعاذة بالمخلوق شرك، والنبى صلى الله عليه وسلم أبعد عن الشرك.

1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708)، والترمذي: الدعوات (3437) .

ص: 249

[فصل مذهب أهل السنة أن الله يتكلم بحرف وصوت]

فصل: وقد ذكرنا فيما تقدم، أن مذهب أهل السنة أن الله يتكلم بحرف وصوت، فيصفون الله تعالى بالصوت، والصوت هو ما يتأتى سماعه؛ والقرآن والسنة: يدلان على أن الله يتكلم بصوت، قال الله تعالى:{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ} [سورة القصص آية: 30] الآية، وقال تعالى:{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [سورة النمل آية: 8]، إلى قوله:{يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سورة النمل آية: 9]، وقال تعالى:{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [سورة طه آية: 11-12]، وقال تعالى:{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [سورة الشعراء آية: 10]، وقال تعالى:{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [سورة مريم آية: 52] ، والنداء لا يكون إلا بصوت.

فدل على أنه كلمه بصوت، وموسى لم يسمع إلا الحرف والصوت; هذا مما يعلم بالاضطرار، وقال تعالى:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [سورة القصص آية: 62]، {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [سورة القصص آية: 65] وقال: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [سورة الأعراف آية: 22] ، الآية والآيات في ذلك كثيرة.

وأما السنة: ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري

ص: 250

رضي الله عنه

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله تعالى يوم القيامة، يا آدم: فيقول لبيك وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تبعث بعثا إلى النار " الحديث. وروى عبد الله بن أنيس، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الله الناس يوم القيامة- وأشار بيده إلى الشام- عراة، غرلا، بهما. قال: قلت، ما بهما؟ قال: ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة، حتى أقصه منه قالوا: وكيف؟ وإنما نأتي الله عراة غرلا؟ قال: بالحسنات، والسيئات"1 رواه أحمد، وجماعة من الأئمة.

وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي فقلت: إن الجهمية يزعمون أن الله لا يتكلم بصوت، فقال:"كذبوا، إنما يدورون على التعطيل"، ثم قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، حدثنا سليمان بن مهران الأعمش، قال: حدثنا أبو الضحى، عن مسروق، عن عبد الله، قال:"إذا تكلم الله بالوحي، سمع صوته أهل السماء، فيخرون سجدا. حتى إذا فزع عن قلوبهم- قال سكن عن قلوبهم- نادى أهل السماء أهل السماء: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، قال: كذا، وكذا " ذكره عبد الله في كتاب السنة، بهذا الإسناد;

1 أحمد (3/495) .

ص: 251

ورواه أبو بكر الخلال، وروى ابن أبي حاتم في الرد على الجهمية، قال: أخبرنا أبو زرعة، أخبرنا عثمان ابن أبي شيبة، أخبرنا جرير، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله ابن الحارث، عن ابن عباس، قال:" إن الله تبارك وتعالى، إذا تكلم بالوحي، سمع أهل السماوات له صوتا كصوت الحديد، إذا وقع على الصفا، فيخرون له سجدا، فإذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير ".

وقد قدمنا ما حكاه الإمام أحمد عن الزهري، قال:"لما سمع موسى كلام الله، قال يا رب: هذا الكلام الذي سمعته، هو كلامك؟ قال: يا موسى، هو كلامي- إلى أن قال- فلما رجع موسى إلى قومه، قالوا: صف لنا كلام ربك; قال: سبحان الله! وهل: أستطيع أن أصفه لكم؟ قالوا: فشبهه، قال: هل سمعتم أصوات الصواعق، التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها؟ فكأنه مثله".

وتقدم أيضا ما رواه عبد الله بن أحمد، عن محمد بن كعب، قال: قال بنو إسرائيل لموسى، بم شبهت صوت ربك حين كلمك، من هذا الخلق؟ قال: شبهت صوته بصوت الرعد، حين لا يترجع. وفيما ذكرناه كفاية لمن أراد الله هدايته، ومن يضلل الله، فلن تجد له وليا مرشدا.

وذكر أبو الفرج عبد الرحمن بن الفقيه نجم الدين

ص: 252

الحنبلي، قال: كنت يوما عند القاضي، فتناظروا في مسألة القرآن، وعندنا "طرحان" الضرير، فقال لنا: اسمعوا مني حكاية، قلنا: هات; قال: تناظر أشعري وحنبلي، فقال الأشعري للحنبلي: أخبرني إذا أوقفك الله غدا بين يديه، فقال لك: من أين قلت إن كلامي بحرف وصوت؟ فماذا يكون في جوابك؟ فقال الحنبلي: أقول: يا رب هو ذا أنا أسمع كلامك، بحرف وصوت; قال: ثم سكت فلم يرد هذا شيئا، فبهت القاضي، ولم يدر ما يقول، وانقطع الكلام على هذا.

واحتج من ينفي الصوت، بأن قال: الصوت إنما هو أنين جُرمين، والله سبحانه متقدس عن ذلك.

والجواب أن يقال: فهذا قياس منكم على خلقه، وتشبيه له بعباده، والله تعالى لا يقاس على مخلوقاته، ولا يشبه بمصنوعاته {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] وأيضا فإنه يلزمهم سائر الصفات التي أثبتوها، فإن العلم في حقنا لا يكون إلا من قلب، والنظر لا يكون إلا من حدقة، والسمع لا يكون إلا من انخراق; والحياة لا تكون إلا في جسم، والله سبحانه وتعالى يوصف بهذه الصفات من غير أن يوصف بهذه الأدوات، فكذلك الصوت وإلا فما الفرق.

واتفق سلف الأمة وأئمتها على أن القرآن الذي يقرأه

ص: 253

المسلمون كلام الله تعالى، فالصوت المسموع صوت القارئ، والكلام كلام الباري، فهم يميزون ما قام بالعبد، وما قام بالرب تبارك وتعالى، ولم يقل أحد منهم: إن أصوات العباد، ولا مداد المصاحف قديم، مع اتفاقهم أن المثبت بين لوحي المصحف كلام الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" زينوا القرآن بأصواتكم "1، فالكلام الذي يقرأه المسلمون كلام الله، والأصوات التي يقرؤون بها أصواتهم، فالكلام شيء والصوت شيء آخر، هذا مما لا يخفى على من لم يرسخ التعطيل في قلبه.

ثم ليعلم أن معتقدنا في إثبات الصفات، على الكتاب والسنة، فمهما جاء فيها، فهو الحق والصدق، لا يجوز التعريج على ما سواه، ولا الالتفات إلى هذيان يخالفه، فإن الله تعالى أمرنا بالأخذ بكتابه والاقتداء برسوله، وأخبر عن رسوله أنه قال:{إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [سورة الأنعام آية: 50]، وقال:{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [سورة الزمر آية: 55]، وقال سبحانه وتعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [سورة الأعراف آية: 157] إلى قوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة الأعراف آية: 157]، وقال:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] .

وها نحن قد بينا أن قولنا في الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، فهاتوا أن في الكتاب، أو السنة، أو قول

1 النسائي: الافتتاح (1015)، وأبو داود: الصلاة (1468)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1342) ، وأحمد (4/283 ،4/285 ،4/296)، والدارمي: فضائل القرآن (3500) .

ص: 254

صحابي، أو إمام مرضي، أن الله لم يتكلم، أو أنه يتكلم مجازا، أو أن كلامه مخلوق، أو أنه لا يتكلم بحرف وصوت، ولن تجدوا إلى ذلك سبيلا؛ فرحم الله من عقل عن الله، ورجع عن المعقول الذي يخالف الكتاب والسنة، وقال بقول أهل السنة، وترك دين جهم وشيعته؛ جعلنا الله سبحانه ممن هدى إلى صراطه المستقيم، ووفقنا لاتباع رضى رب العالمين، والاقتداء بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والسلف الصالحين، والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

[قول شراح عقيدة الشيباني على قول الناظم وخص موسى ربنا بكلامه]

وسئل الشيخ: عبد الله أبا بطين، قدس الله روحه، عن قول بعض شراح عقيدة الشيباني على قول الناظم:

وخصص موسى ربنا بكلامه على الطور ناداه وأسمعه الندا

قال الشارح:

خص الله موسى بتكليمه على الطور، وأسمعه نداءه، إذ لم تكن لموسى جهة يسمع منها الكلام، ولا يرى منها النار، أو سمع في الوادي المقدس كلاما بلا حرف ولا صوت، ونارا لا في جهة محدودة، وإنما يعرف ذلك أهله، وأما غير أهله فلا يدري كيف ذلك.

وقال على قول الناظم: ومنه بدا قولا قديما، وإنه

إلخ. أي: وهو منه، أي: من الرحمن بدا، قولا، أي: قاله في القدم، حيث لا أكوان ولا أزمان، ويعود إليه كما بدأ منه، وهذه الحروف والأصوات التي تعبر عن

ص: 255

القرآن، ليس هي القرآن، لأن القرآن صفة الحق، والصفة لا تنفصل عن موصوفها، والحروف والأصوات تتصل وتنفصل، فهي صفات لا صفاته، لأنه بائن، أي: منفرد عن خلقه بذاته وصفاته، وبذلك اغتر من اغتر.

فأجاب:

ما ذكره هذا الشارح بناء على أصلين فاسدين للأشعرية: أحدهما: إنكار علو الرب سبحانه فوق سماواته واستوائه على عرشه; والثاني: إنكارهم تكلم الرب سبحانه وتعالى بالحرف والصوت; والكلام عندهم هو المعنى النفسي القائم بذات الرب سبحانه وتعالى; فلما رأى الشارح كلام المفسرين وقولهم: إن النار التي رأى موسى هي نور الرب تعالى، وأن القرآن يدل على أن ذلك النور في مكان، قالوا: يلزم من كون نور الرب في مكان جواز كون الله سبحانه في مكان، فيلزم إثبات علوه سبحانه فوق السماء، واستوائه على العرش، فقال: لم يكن لموسى جهة يسمع منها ولا يرى منها النار، وسمع كلاما بلا حرف ولا صوت، ونارا لا في جهة محدودة. قلت: القرآن صريح في أن موسى عليه السلام رأى نارا في موضع معين، قال تعالى:{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ} [سورة النمل آية: 8]، وقال تعالى:{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ} [سورة طه آية: 11]، فدل قوله:{أَتَاهَا} و {جَاءَهَا} أنها في موضع مخصوص، قال تعالى:{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [سورة مريم آية: 52]، وقال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ

ص: 256

الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [سورة القصص آية: 30] .

قال شيح الإسلام تقي الدين رحمه الله: وقوله: {مِنَ الشَّجَرَةِ} هو بدل من قوله: {شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ} [سورة القصص آية: 30] ، فالشجرة كانت فيه؛ فالنداء كان من الجانب الأيمن من الطور ومن الوادي، فإن شاطيء الوادي: جانبه، فذكر: أن النداء كان من موضع معين، وهو الوادي المقدس طوى، من شاطئه الأيمن، من جانب الطور الأيمن، من الشجرة. انتهى.

فالآيات تدل على أن النور كان في موضع معين، وأن النداء كان من موضع معين.

قال ابن عباس، في قوله تعالى:{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} [سورة النمل آية: 8] قال: الله تعالى في النور، ونودي من النور; وروى عطية عن ابن عباس:{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} [سورة النمل آية: 8] يعني: نفسه، قال: كان نور رب العالمين في الشجرة ومن حولها، وقال عكرمة:{أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} قال: "كان الله في نوره"، وقال سعيد بن جبير:{أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} قال: "ناداه وهو في النور"، وقال ابن ضمرة:{أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} قال: "إنها لم تكن نارا، ولكنه كان نور الله، وهو الذي كان في ذلك النور، وإنما كان ذلك النور منه، وموسى حوله" وقال ابن عباس، في قوله:{ومن حولها} قال: "الملائكة"، وروي عن عكرمة، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة: مثل ذلك.

ص: 257

وقول الشارح: وإنما يعرف ذلك أهله، لما كان قولهم هذا ظاهر البطلان، وأنه ليس لهم حجة شرعية على صحته، أراد التمويه بقوله ذلك، إشارة إلى أن لقولهم هذا وجها صحيحا، ومحملا يخفى على من لم ير رأيهم، وأما قوله: ومنه بدا، قولا قديما، وإنه

إلخ، فهذا ما عليه الأشاعرة المخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة; فقد أجمع أهل السنة والجماعة على ما دل عليه كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من أن الله يتكلم بحرف وصوت، وأن القرآن كلام الله، حروفه ومعانيه؛ وعند الأشعرية أن الكلام هو: المعنى النفسي، وأن الله لا يتكلم بحرف ولا صوت.

وقد صنف شيخ الإسلام، تقي الدين رحمه الله، مصنفا ذكر فيه تسعين وجها في بيان بطلان هذا القول، منها: أن الله سبحانه قال: كذا; يقول: كذا; ونادى; وينادي; والقول: إنما يكون حروفا، والنداء إنما هو بحرف وصوت، وكذلك الكلام، لا يكون إلا قولا، لا حديث نفس، قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله عفا لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم "1 فجعل الكلام غير حديث النفس؛ وأجمع العلماء على أن المصلي إذا تكلم في صلاته، عالما عامدا، لغير مصلحتها، أن صلاته فاسدة، مع إجماعهم أن حديث النفس لا يبطلها; ففي ذلك وما أشبهه دلالة صريحة على أن المعنى الذي يكون في النفس ليس بكلام.

1 البخاري: الطلاق (5269)، ومسلم: الإيمان (127) .

ص: 258

وعند الأشاعرة أن الله لم يكلم موسى، وإنما اضطره إلى معرفة المعنى القائم بالنفس، من غير أن يسمع منه كلمة، وما يقرأه القارئون ويتلوه التالون، فهو عبارة عن ذلك المعنى، وأن الحروف مخلوقة.

وفي حديث عبد الله بن أنيس المشهور: " فيناديهم بصوت، يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب، أنا الملك، أنا الديان "1 الحديث; وقال عبد الله بن الإمام أحمد: سألت أبي، فقلت: إن الجهمية يزعمون أن الله لا يتكلم بصوت، فقال: كذبوا، إنما يدورون على التعطيل; ثم قال: حدثنا عبد الله بن محمد المحاربي قال: حدثني الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله قال:"إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء".

وعند الأشاعرة أن المعنى النفسي، القائم بذات الرب الذي يسمونه كلاما، شيء واحد لا يتبعض، وأن معنى الأمر والنهي والخبر، واحد; وأن معنى القرآن، والتوراة، والإنجيل، واحد، إن عبر عنه بالعربية فهو القرآن، وإن عبر عنه بالعبرانية فهو التوراة; وإن عبر عنه بالسريانية فهو الإنجيل; فهذا مما يقطع ببطلانه.

وقول الشارح: وبذلك اغتر من اغتر، فقد قال الله تعالى:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [سورة فاطر آية: 8]، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [سورة النمل آية: 24] ، فنسأل الله أن

1 أحمد (3/495) .

ص: 259

يهدينا صراطه المستقيم.

[جواب الشيخ أبا بطين عن حديث خلق الله آدم بيده على صورته]

وسئل أيضا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، عن قوله: خلق الله آدم بيده على صورته، هل الكناية في قوله: على صورته، راجعة إلى آدم

إلخ؟

فأجاب: هذا الحديث المسؤول عنه، ثابت في صحيح البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعا "1 وفي بعض ألفاظ الحديث: " إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته "2، قال النووي: هذا الحديث من أحاديث الصفات، ومذهب السلف أنه لا يتكلم في معناه; بل يقولون: يجب علينا أن نؤمن بها، ونعتقد لها معنى يليق بجلال الله تعالى، مع اعتقادنا أنه ليس كمثله شيء. انتهى.

قال بعض أهل التأويل: الضمير في قوله: "صورته" راجع إلى آدم، وقال بعضهم: الضمير راجع على صورة الرجل المضروب، ورد هذا التأويل بأنه إذا كان الضمير عائدا على آدم فلا فائدة في ذلك، إذ ليس يشك أحد أن الله خالق كل شيء على صورته; وأنه خلق الأنعام والسباع على صورها; فأي فائدة في الحمل على ذلك؟ ورد تأويله بأن الضمير عائد على ابن آدم المضروب، بأنه لا فائدة فيه، إذ الخلق عالمون بأن آدم خلق على خلق ولده، وأن وجهه كوجوههم، فيرد هذا التأويل كله بالرواية

1 البخاري: الاستئذان (6227)، ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) ، وأحمد (2/315) .

2 أحمد (2/244) .

ص: 260

المشهورة: " لا تقبحوا الوجه، فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن ".

وقد نص الإمام أحمد على صحة الحديث، وإبطال هذه التأويلات; فقال في رواية إسحاق بن منصور:" لا تقبحوا الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته " صحيح، وقال في رواية أبي طالب: من قال: إن الله خلق آدم على صورة آدم، فهو جهمي، وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه؟! وعن عبد الله بن الإمام أحمد قال: قال رجل لأبي: إن فلانا يقول في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق آدم على صورته"، فقال: على صورة الرجل; فقال أبي: كذب، هذا قول الجهمية، وأي فائدة في هذا؟

وقال أحمد في رواية أخرى: فأين الذي يروي: "إن الله خلق آدم على صورة الرحمن"؟ وقيل لأحمد، عن رجل إنه يقول: على صورة الطين، فقال: هذا جهمي، وهذا كلام الجهمية.

واللفظ الذي فيه على صورة الرحمن، رواه الدارقطني، والطبراني، وغيرهما، بإسناد رجاله ثقات; قاله ابن حجر عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجها ابن أبي عاصم، عن أبي هريرة مرفوعا، قال:" من قاتل فليجتنب الوجه، فإن صورة وجه الإنسان، على صورة وجه الرحمن "1 وصحح إسحاق بن راهويه اللفظ فيه: على صورة الرحمن; وأما أحمد، فذكر أن بعض الرواة وقفه على ابن عمر، وكلاهما حجة; وروى ابن مندة، عن ابن راهويه، قال: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه

1 البخاري: العتق (2560)، ومسلم: البر والصلة والآداب (2612) ، وأحمد (2/244 ، 2/327 ،2/347 ،2/449 ،2/519) .

ص: 261

قال: " إن آدم خلق على صورة الرحمن " وإنما علينا أن ننطق به.

قال القاضي أبو يعلى، والوجه فيه أنه ليس في حمله على ظاهره ما يزيل صفاته، ولا يخرجها عما تستحقه، لأننا نطلق تسمية الصورة عليه، لا كالصور، كما أطلقنا تسمية: ذات، ونفس، لا كالذوات، والأنفس; وقد نص أحمد في رواية يعقوب بن بختان، قال:" خلق آدم على صورته "1 لا نفسره، كما جاء الحديث. وقال الحميدي لما حدث بحديث:" إن الله خلق آدم على صورته "2 قال: لا نقول غير هذا، على التسليم والرضى بما جاء به القرآن والحديث، ولا نستوحش أن نقول كما قال القرآن والحديث.

وقال ابن قتيبة: الذي عندي - والله أعلم - أن الصورة ليست بأعجب من اليدين والأصابع والعين، وإنما وقع الألف لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذا لأنها لم تأت في القرآن; ونحن نؤمن بالجميع، هذا كلام ابن قتيبة;

وقد ثبت في الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"فيأتيهم الله في صورة غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون "3 وفي لفظ آخر: " صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيعرفونه "4 الحديث; فالذي ينبغي في هذا ونحوه: إمرار الحديث كما جاء، على الرضى

1 البخاري: الاستئذان (6227)، ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) ، وأحمد (2/315 ،2/323) .

2 مسلم: البر والصلة والآداب (2612) ، وأحمد (2/251 ،2/434 ،2/463 ،2/519) .

3 البخاري: الرقاق (6574)، ومسلم: الإيمان (182) ، وأحمد (2/275) .

4 البخاري: التوحيد (7438)، ومسلم: الإيمان (182) ، وأحمد (2/275) .

ص: 262

والتسليم، مع اعتقاد أنه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] .

وأجاب أيضا:

وأما السؤال عن الحديث الصحيح: " إن الله خلق آدم على صورته "1 فقال إسحاق بن منصور: سئل أحمد بن حنبل، عن الحديث:"لا تقبحوا الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته" فقال: صحيح; وقال في رواية يعقوب ابن بختان: " خلق آدم على صورته "2 لا نفسره، كما جاء الحديث، وأنكر الإمام أحمد على من قال: إن "الهاء" في قوله "على صورته" عائدة على آدم; فقال في رواية أبي طالب، من قال: إن الله خلق آدم على صورة آدم، فهو جهمي; وأي صورة لآدم قبل أن يخلقه؟ وروى ابن مندة، عن عبد الله بن أحمد، قال: قال رجل لأبي، إن فلانا يقول في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:" خلق آدم على صورته "3 فقال: على صورة الرجل، قال أبي: كذب، هذا قول الجهمية، وأي فائدة في هذا؟

وقال في رواية أخرى، فأين الذي يروي:" أن الله خلق آدم على صورة الرحمن "؟ وقيل له عن رجل إنه يقول: خلقه على صورة الطين; فقال: هذا جهمي، وهذا كلام الجهمية; واللفظ الذي فيه:"على صورة الرحمن" رواه الدارقطني، والبخاري، وابن بطة، مرفوعا; وبعضهم وقفه

1 مسلم: البر والصلة والآداب (2612) ، وأحمد (2/251 ،2/434 ،2/463 ،2/519) .

2 البخاري: الاستئذان (6227)، ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) ، وأحمد (2/315 ،2/323) .

3 البخاري: الاستئذان (6227)، ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) ، وأحمد (2/315 ،2/323) .

ص: 263

على ابن عمر، هذا كلام القاضي أبي يعلى في كتاب إبطال التأويل.

قال: وروى ابن مندة عن إسحاق بن راهويه، قال: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن الله خلق آدم على صورة الرحمن" وإنما علينا أن ننطق به، ثم ذكر القاضي أن ابن قتيبة ذكره في مختلف الحديث، فقال: الذي عندي - والله أعلم - أن الصورة ليست بأعجب من اليدين، والأصابع والعين، وإنما وقع الألف لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأت في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع; هذا كله كلام ابن قتيبة والقاضي ملخصا; وقال بشر بن موسى: حدثنا الحميدي، وذكر الحديث:" أن الله خلق آدم على صورته "، فقال: لا نقول غير هذا، على التسليم والرضا، بما جاء في القرآن والحديث، ولا نستوحش أن نقول: كما قال القرآن والحديث.

[جواب أبا بطين عن قول السيوطي على قوله تعالى {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ]

سئل: أيضا الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله، عن قول السيوطي، على قوله:{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة المائدة آية: 120] في آخر سورة المائدة من الجلالين، قال: وخص العقل ذاته، فليس عليها بقادر.

فأجاب: الظاهر أن مراده أن الرب سبحانه وتعالى، يستحيل عليه ما يجوز على المخلوق، من العدم والعيب، والنقص، وغير ذلك من خصائص المخلوقين; فلكون ذلك

ص: 264

يستحيل على ذات الرب سبحانه وتعالى، عبر عنه بأنه لا يدخل تحت القدرة، وأنا ما رأيت هذه الكلمة لغيره، والنفس تنفر منها.

وقد روي عن ابن عباس، حكاية على غير هذا الوجه، وهي أن الشياطين، قالوا لإبليس: يا سيدنا، ما لنا نراك تفرح بموت العالم ما لا تفرح بموت العابد؟! والعالم لا نصيب منه، والعابد نصيب منه؟! قال: انطلقوا، فانطلقوا إلى عابد، فأتوه في عبادته، فقالوا: إنا نريد أن نسألك، فانصرف، فقال إبليس: هل يقدر ربك أن يخلق مثل نفسه؟ فقال: لا أدري; فقال: أترونه لم تنفعه عبادته مع جهله؟! فسألوا عالما عن ذلك؟ فقال: هذه المسألة محال، لأنه لو كان مثله، لم يكن مخلوقا، فكونه مخلوقا وهو مثل نفسه مستحيل، فإذا كان مخلوقا لم يكن مثله، بل كان عبدا من عبيده; فقال: أترون هذا يهدم في ساعة ما أبنيه في سنين؟! والله أعلم.

وقال أيضا: والذي ذكره السيوطى لفظة لم تأت في الكتاب ولا في السنة، ولا رأينا أحدا من أهل السنة ذكرها في عقائدهم; ولا ريب أن ترك فضول الكلام من حسن الإسلام; وهذه كلمة ما نعلم مراد قائلها; يحتمل أنه أراد بها معنى صحيحا، ويحتمل أن يراد بها باطل; فالواجب: اعتقاد ما نطق به القرآن من أن الله على كل شيء قدير، وأنه إذا

ص: 265

أراد شيئا قال له: كن، فيكون كما أراد; وأنه ليس كمثله شيء، ولا يكون شيء مثله، سبحانه وتعالى وتقدس; وجواب العالم الذي قال: لا يكون المخلوق مثل الخالق، جواب صحيح، لأنه الذي غاظ الشيطان، وهو نتيجة العلم; ويدل على أنه لو قال: قادرا، أو غير قادر، لم يكن جوابا صحيحا; وما ذكرنا من جواب هذا العالم، فيه مشابهة لكلام السيوطي، من بعض الوجوه.

واعلم أن طريقة أهل السنة أن كل لفظ لا يوجد في الكتاب، ولا في السنة، ولا في كلام أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين، لا نفيه ولا إثباته، لا يثبت، ولا ينفى، إلا بعد الاستفسار عن معناه; فإن وجد معناه مما أثبته الرب لنفسه، أثبت; وإن وجد مما نفاه الرب عن نفسه، نفى; وإن وجد اللفظ مجملا يراد به حق وباطل، فهذا اللفظ لا يطلق نفيه ولا إثباته; وذلك كلفظ: الجسم، والجوهر، والجهة، ونحوها; وكره السلف والأئمة الكلام المحدث، لاشتماله على كذب وباطل، وقول على الله بلا علم; وما ذكره السيوطي من هذا النوع; وضد القدرة العجز، وهل يسوغ أن يقال: إن الله عاجز عن كذا؟! وإنما يقال: إنه سبحانه يستحيل وصفه بما يتضمن النقص والعيب، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا; والله أعلم.

ص: 266

[رسالة أبي بطين إلى الشيخ عبد الرحمن بن حسن]

وله أيضا: قدس الله روحه.

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، إلى الأخ الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، وفقه الله للعمل الصالح، والقول الحسن، وثبتنا وإياه على خير الهدى، وأعدل السنن; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: فموجب الخط إبلاغ الشيخ السلام، والسؤال عن الحال، أصلح الله لنا وله الدين، والدنيا، والآخرة. وغير ذلك، ذكرت لي أن أكتب على كلام الدرويش الذي عندكم، بيان بعض ما فيه من العيب، والذي كتبتم عليه فيه كفاية.

لكن نذكر على بعض ألفاظه، بيان مخالفته للحق، منها: قول الحمد لله المتوحد بجميع الجهات ; فنقول: لا يشك من سمع هذا الكلام في أن المراد بالجهات الجهات الست التي يقول المعطل فيها: إن الرب سبحانه من الجهات الست خالي; والاتحادي، يقول: إنه سبحانه متحد بها; والحلولي يقول: إنه سبحانه حال فيها; تعالى الله عما يقول الجميع علوا كبيرا.

وأهل السنة والجماعة يقولون: إن الرب سبحانه مستو على عرشه، بائن من خلقه ; وظاهر قول هذا الرجل: المتوحد بجميع الجهات، يشبه قول الاتحادية; وإن حملت

ص: 267

الباء على الظرفية، أشبه قول الحلولية، وربما يظن أنه لعجميته، يعبر عبارات لا يعرف معناها; لكن سمعت أنه قد شرع في وضع حاشية على النونية، ولا يتنزل لذلك إلا من يدعي تمام المعرفة; وحكي عنه، أنه يقول: مرادي بالجهات جهات التوحيد الثلاث; وهي: توحيد الربوبية، والإلهية، والأسماء والصفات; وهذا بعيد من كلامه، لأن هذه تسمى أنواعا، لا جهات.

وبكل حال: فظاهر كلامه يخالف ما عليه أهل السنة والجماعة; لكن ينبغي: أولا إحضاره، ويبين له ما في كلامه مما ظاهره خلاف الحق، وتبين له الأدلة الشرعية على خلاف ما توهمه في كلامه; فإن اعترف فهو المطلوب، والحمد لله; وفي كلامه من العيب والركاكة كثير، كقوله: لا شريك له في الذات، ولا في الصفات; فنفى الشركة في الذات، ولم يقل أحد من بني آدم إن لله سبحانه شريكا في ذاته، حتى يحتاج إلى نفي ذلك; وإنما يقول أهل الحق: لا شبيه له في ذاته ولا في صفاته، ردا لقول المشبهة; فقوله: لا شريك له في ذاته، يدل على قلة معرفته في هذا الباب; وكذلك قوله: لا شريك له في الملك، فضلا عن الملكوت; فأشار بقوله: فضلا عن الملكوت إلى بعد ما بينهما; وقد ذكر العلماء: أن الملكوت هو الملك، وإنما زيدت التاء للمبالغة في التعظيم.

وكذلك قوله في إعراب: لا إله إلا الله، من قبيل

ص: 268

استثناء الجزء من الكل، فجَعْل استثناء الاسم الكريم، من نوع استثناء الجزئي، غلط; بل الجزئي مقابل الكلي وقسيمه، لا قسم منه; فالكلي ما اشترك في معناه كثيرون، كالإنسان والحيوان; والجزئي: يراد به أسماء الأعلام، كزيد وعمرو; والاسم الكريم، أعرف المعارف، كما قاله سيبويه وغيره; وكذلك قوله في إعراب: لا إله إلا الله، إنه كقولنا: لا شمس إلا الشمس; لأن قول القائل لا شمس إلا الشمس، لفظ لا فائدة فيه; وأيضا: فاسم الشمس من الألفاظ الكلية، لقولهم في تعريف الكلي: إن ما لا يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه، فهو الكلي، سواء وقعت فيه الشركة كالإنسان، أم لم تقع وأمكنت، كالشمس، أو استحالت كالإله، فإن استحالة ذلك للأدلة القاطعة عليه.

فجعله الاسم الكريم، الذي هو أرفع الأعلام، وأعرف المعارف، مثل الشمس التي هي من الألفاظ الكلية، غلط; بل الموافق لقولنا: لا شمس إلا الشمس، قول القائل: لا إله إلا الإله، وهذا اللفظ مع الإطلاق، لا يستفاد منه توحيد الإلهية لله رب العالمين; هذا وكثير من كلامه، كما يقال: جعجعة بلا طحن! نسأل الله: أن يهدينا وإياكم، وجميع المسلمين، صراطه المستقيم.

[جواب أبا بطين على قول من قال في قول الخضر لموسى: ما نقص علمي وعلمك من علم الله]

وسئل أيضا: الشيخ عبد الله أبا بطين عن قول من قال في قول الخضر لموسى: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر ; وقال: إن

ص: 269

المراد بعلم الله معلومه.

فأجاب:

هذا على طريق أهل التأويل في صفات الرب سبحانه، كما يقول: البيضاوي وأمثاله، في قوله سبحانه وتعالى:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [سورة البقرة آية: 255] أي: من معلومه; وأما مفسرو أهل السنة، كابن جرير، والبغوي، وابن كثير، فأقروه على ظاهره، فقالوا:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [سورة البقرة آية: 255] أي: لا يطلع أحد من علم الله على شيء، إلا بما علمه الله تعالى وأطلعه عليه; وقول الخضر يشهد له قول الله عز وجل:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [سورة الإسراء آية: 85]، وهل يسغ أن يقال: وما أوتيتم من المعلوم إلا قليلا؟! وقال تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [سورة النساء آية: 166] .

قال ابن كثير: أنزله بعلمه، أي فيه علمه، الذي أراد أن يطلع العباد عليه، من البينات، والهدى، والفرقان، وما يحبه الله، ويكرهه، وما فيه من العلم بالغيوب، وما فيه من ذكر صفاته المقدسة، كما قال تعالى:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [سورة البقرة آية: 255] . وقال الخضر لموسى: إني على علم من علم الله، لا تعلمه أنت; وأنت على علم من علم الله، علمك إياه، لا أعلمه; فهذا كله يبطل قول من تأول العلم بالمعلوم; وأي محذور في إجرائه على ظاهره؟!.

[جواب أبا بطين على قول الشيخ عثمان إن الصفة تعتبر من حيث هي هي]

وسئل: عن قول الشيخ عثمان، إن الصفة تعتبر من حيث هي هي، وتارة من حيث قيامها به تعالى، وتارة من

ص: 270

حيث قيامها بغيره; وليست الاعتبارات الثلاث متماثلة، إذ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] .

فأجاب: قول الشيخ عثمان: إن الصفة تعتبر من حيث هي هي; يعني: لها ثلاث اعتبارات، تارة تعتبر من حيث هي، هي; أي تعتبر: منفردة من غير تعلقها بمحل، مثال ذلك: البصر، فيقال: البصر من حيث هو، هو ما تدرك به المبصرات، ومن حيث تعلقه بمخلوق، فيقال: هو نور في شحمة، تسمى: إنسان العين، تحت سبع طبقات في حدقة، ينطبق عليها جفنان; وأما بالنسبة إلى الرب سبحانه، فنقول: هو سبحانه: سميع، يسمع; بصير، يبصر، ليس كسمع المخلوق، ولا كبصر المخلوق، وهكذا سائر الصفات.

[جواب أبا بطين على حديث الخوارج هل يوجد في ألفاظه على خير فرقة]

وسئل عن حديث الخوارج الذي أخرجه البخاري، عن أبي سعيد، فيه:" يخرجون على حين فرقة من الناس "1، هل في بعض ألفاظه:" على خير فرقة من الناس "

فأجاب: وأما حديث الخوارج، فلا نعلم فيه لفظة "خير"، والمعروف:"على حين فرقة من الناس " وربما وقع في بعض الألفاظ "خير"، والله أعلم.

وذكر النووي في شرح مسلم أن المشهور بالحاء والنون، وضم الفاء، أي: وقت افتراق; وقيل بالخاء، والراء، وكسر الفاء، وذكر الرواية " يقتلهم أولى الطائفتين بالحق "، والرواية الأخرى " أدنى الطائفتين إلى الحق "3.

1 البخاري: المناقب (3610)، ومسلم: الزكاة (1064)، والنسائي: تحريم الدم (4101)، وأبو داود: السنة (4764) ، وأحمد (3/4 ،3/73) .

2 البخاري: استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6933)، ومسلم: الزكاة (1064)، والنسائي: الزكاة (2578) ، وأحمد (3/56) .

3 مسلم: الزكاة (1065) ، وأحمد (3/82 ،3/97) .

ص: 271

سئل الشيخ: عبد الله أبا بطين، عن حديث:" لو أن أحدكم أدلى بحبل لهبط على الله "

فأجاب:

حديث: " لو أن أحدكم أدلى بحبل لهبط على الله "2 رواه الترمذي من رواية الحسن عن أبي هريرة. وللشيخ تقي الدين رحمه الله على هذا الحديث كلام طويل، قال: فإن كان ثابتا، فقوله:" لو أن أحدكم أدلى بحبل لهبط على الله "3 إنما هو تقدير مفروض، أي: لو وقع الإدلاء، لوقع عليه، لكنه لا يمكن أن يدلي أحد على الله سبحانه وتعالى شيئا، لأنه عال بالذات، وإذا هبط شيء إلى جهة الأرض، وقف في المركز من الجزء

إلى أن قال: فكما أن ما يهبط إلى جوف الأرض يمتنع صعوده إلى تلك الناحية لأنها عالية، فترد الهابط بعلوها، كما أن الجهة العليا من عندنا ترد ما يصعد إليها من الثقيل، فلا يصعد الثقيل إلا برافع يرفعه يدافع به ما في قوته من الهبوط، فكذلك ما يهبط من أعلى الأرض إلي أسفلها وهو المركز، لا يصعد من هناك إلى ذلك الوجه إلا برافع يرفعه، يدافع به ما في قوته من الهبوط إلى المركز؛ فإن قدر أن الرافع أقوى، كان صاعدا به إلى الفلك من تلك الناحية، وصعد به إلى الله.

وإنما يسمى هبوطا: باعتبار ما في أذهان المخاطبين، من أن ما يحاذي أرجلهم، يكون هابطا، ويسمى هبوطا، مع

1 الترمذي: تفسير القرآن (3298) .

2 الترمذي: تفسير القرآن (3298) .

3 الترمذي: تفسير القرآن (3298) .

ص: 272

تسمية إهباطه إدلاء، وهو إنما يكون إدلاء حقيقيا إلى المركز، ومن هناك إنما يكون مدا للحبل، والدلو لا إدلاء له، ولكن الجزاء والشرط مقدران، لا محققان; فإنه قال: لو أدلى لهبط; أي: لو فرض أن هناك إدلاء، لفرض أن هناك هبوطا، وهو يكون إدلاء وهبوطا، إذا قدر أن السماوات تحت الأرض، وهذا منتف، ولكن فائدته: بيان الإحاطة، والعلو من كل جانب.

وهذا المفروض ممتنع في حقنا لا نقدر عليه، فلا يتصور أن ندلي، فلا يتصور أن يهبط على الله شيء; لكن الله قادر، على أن يخرق من هناك بحبل، لكن لا يكون في حقه إدلاء، فلا يكون في حقه هبوطا عليه، كما لو خرق بحبل من القطب إلى القطب، أو من مشرق الشمس إلى مغربها، وقدرنا أن الحبل مر في وسط الأرض، فإن الله قادر على ذلك كله

إلى أن قال: فعلى كل تقدير قد خرق بالحبل من جانب المحيط إلى جانب الآخر، مع خرق المركز; وبتقدير إحاطة قبضته بالسماوات والأرض، فالحبل الذي قدر أنه خرق به العالم وصل إليه، ولا يسمى شيئا بالنسبة إليه، لا إدلاء، ولا هبوطا، وأما بالنسبة إلينا: فإنما تحت أرجلنا، تحت لنا; وما فوق رؤوسنا، فوق لنا; وما ندليه من ناحية رؤوسنا، إلى ناحية أرجلنا، نتخيل أنه هابط؛ فإذا قدر أن أحدنا أدلى بحبل، كان هابطا على ما هناك، لكن هذا التقدير ممتنع في حقنا; والمقصود به بيان

ص: 273

إحاطة الخالق تعالى، كما بين أنه يقبض السماوات، ويطوي الأرض، ونحو ذلك، مما فيه بيان إحاطته بالمخلوقات.

ولهذا قرأ في تمام هذا الحديث {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة الحديد آية: 3] ، وهذا كله كلام على تقدير صحته، فإن الترمذي لما رواه قال: وفسر بعض أهل العلم بأنه هبط على علم الله; ثم قال الشيخ: وتأويله بالعلم، تأويل ظاهر الفساد; قال: وبتقدير ثبوته، يكون دالا على الإحاطة، والإحاطة قد علم أن الله قادر عليها، وعلم أنها تكون يوم القيامة، بالكتاب والسنة; فليس في إثباتها في الجملة ما يخالف العقل ولا الشرع، لكن لا نتكلم إلا بما نعلمه، وما لا نعلم أمسكنا عنه.

[جواب أبا بطين على حديث إن لله تسعة وتسعين اسما]

وله أيضا، رحمه الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، إلى الإخوان: محمد آل عمر، وصالح آل عثمان، ومحمد آل إبراهيم، ثبتهم الله على الإسلام، ووفقهم للتمسك بسنة سيد الأنام، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: فموجب الخط إبلاغ السلام، والوصية بالتمسك بما من الله به عليكم من معرفة التوحيد الذي هو حق الله على العبيد؛ فاعرفوا حق هذه النعمة، وتواصوا بالصبر، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم، ممن إذا أنعم عليه شكر، وإذا ابتلي

ص: 274

صبر، إذا أذنب استغفر.

وما سألتم عنه من معنى، قوله صلى الله عليه وسلم:" إن لله تسعة وتسعين اسما، من أحصاها دخل الجنة "1، فقد ذكر ابن القيم رحمه الله، ما معناه: إن الإحصاء يتناول ثلاثة أمور: الأول: حفظها; الثاني: معرفة معانيها; الثالث: اعتقاد ما دلت عليه، والعمل بمقتضاه.

وأما معنى محاجة آدم موسى عليهما السلام، ولوم موسى لآدم، فذكر شيخ الإسلام وغيره أن لوم موسى لآدم إنما هو على المصيبة التي لحقت الذرية بسبب الذنب; وآدم إنما احتج بالقدر على المصيبة، لا على الذنب.

يوضح ذلك أنه لو جاز الاحتجاج بالقدر على الذنب، وأنه حجة صحيحة، لكان حجة لإبليس وجميع العصاة، وهذا باطل بدلائل الكتاب والسنة، بإجماع أهل الحق من الأمة، والله سبحانه أعلم.

[رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى ابن عون جوابا لأوراق وردت من عمان]

قال الشيخ عبد اللطيف، بن عبد الرحمن بن حسن، قدس الله روحه، ونور ضريحه، ما نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم: محمد بن عون، سلمه الله تعالى، وأعانه على ذكره وشكره، ووفقه للجهاد في سبيله، ومراغمة من تجهم، أو نافق، أو ارتد، من أهل دهره وعصره; سلام عليكم ورحمة الله وبركاته; وبعد: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو،

1 البخاري: الشروط (2736)، ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2677)، والترمذي: الدعوات (3508)، وابن ماجه: الدعاء (3860) ، وأحمد (2/258 ،2/267 ،2/427 ،2/499 ،2/503 ،2/516) .

ص: 275

على ما من به من سوابغ إنعامه، وجزيل فضله وإكرامه.

والواجب على المكلفين في كل زمان ومكان، الأخذ بما صح وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن يعدل عن ذلك إلى غيره، ومن عجز عن ذلك في شيء من أمر دينه فعليه بما كان عليه السلف الصالح والصدر الأول، فإن لم يدر شيئا من ذلك، وصح عنده عن أحد الأئمة الأربعة المقلدين الذين لهم لسان صدق في الأمة، فتقليدهم سائغ حينئذ; فإن كان المكلف أنزل قدرا، وأقل علما، وأنقص فهما، من أن يعرف شيئا من ذلك، فليتق الله ما استطاع، وليقلد الأعلم من أهل زمانه، أو من قبلهم، خصوصا من عرف بمتابعة السنة، وسلامة العقيدة، والبراءة من أهل البدع; فهؤلاء أحرى الناس وأقربهم إلى الصواب، وأن يلهموا الحكمة، وتنطق بها ألسنتهم; فاعرف هذا، فإنه مهم جدا.

ثم لا يخفاك أنه قد ألقي إلينا أوراق وردت من جهة عمان، كتبها بعض الضالين، ليلبس ويشوش بها على عوام المسلمين، ويتشبع بما لم يعط من معرفة الإيمان والدين؛ وبالوقوف على أوراقهم، يعرف المؤمن حقيقة حالهم، وبعد ضلالهم، وكثافة أفهامهم، وأنهم ملبوس عليهم، لم يعرفوا ما جاءت به الرسل، ولم يتصوروه، فضلا عن أن يدينوا به ويلتزموه; وأسئلتهم وقعت لا لطلب الفائدة والفهم، بل للتشكيك والتمويه، والتحلي بالرسم والوهم; ومن السنن

ص: 276

المأثورة عن سلف الأمة وأئمتها، وعن إمام السنة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، قدس الله روحه: التشديد في هجرهم، وإهمالهم، وترك جدالهم، واطراح كلامهم، والتباعد عنهم حسب الإمكان، والتقرب إلى الله بمقتهم، وذمهم، وعيبهم.

وقد ذكر الأئمة من ذلك جملة في كتب السنة، مثل: كتاب "السنة" لعبد الله بن الإمام أحمد، و "السنة" للخلال، و "السنة" لأبي بكر الأثرم، و"السنة" لأبي القاسم، اللالكائي، وأمثالهم; فالواجب نهي أهل الإسلام عن سماع كلامهم ومجادلتهم; لا سيما وقد أقفر ربع العلم في تلك البلاد، وانطمست أعلامه; قال في الكافية الشافية:

فانظر ترى لكن نرى لك تركها حذرا عليك مصائد الشيطان

فشباكها والله لم يعلق بها من ذي جناح قاصر الطيران

إلا رأيت الطير في شبك الردى يبكي له نوح على الأغصان

إذا عرف هذا، فإحدى الورقتين المشار إليهما ابتدأها الملحد الجاهل بسؤال يدل على إفلاسه من العلم، ويشهد بجهالته وضلالته; وهو قوله: الرؤية الثابتة عند أهل السنة والجماعة في الجنة، هل هي بصفات الجلال، أو الجمال، أو الكمال؟! ولم يشعر هذا الجاهل الضال أن الرؤية تقع على الذات المتصفة بكل وصف يليق بعظمته، وإلهيته، وربوبيته، من جلال، وجمال، وكمال;

ص: 277

وأن صفات الجلال ترجع إلى الملك، والمجد، والسلطان، والعزة; والجمال وصف ذاتي، كما أن الجلال كذلك، والكمال حاصل بكل صفة من صفاته العلى.

فله الجلال الكامل، والجمال الكامل، والمجد، والعزة التي لا تضاهى ولا تماثل; فهذه أوصاف ذاتية لا تنفك عنه في حال من الأحوال، وإنما يقال: تجلى بالجلال، والمجد، والعزة، والسلطان، إذا ظهرت آثار تلك الصفات; كما يقال تجلى بالرحمة، والكرم، والعفو، والإحسان، إذا ظهرت آثار تلك الصفات في العالم; ويستحيل أن يرى تعالى، وقد تخلو عنه صفة جلال، أو جمال، أو كمال.

ولو وقف هذا الغبي على ما جاء في الكتاب والسنة، من إثبات الرؤية، وتقريرها، ولم يتجاوز ذلك إلى تخليط صدر عمن لا يدري السبيل، ولم يقم بقلبه عظمة الرب الكبير الجليل، لكان أقرب إلى إيمانه وإسلامه.

وأما قوله: وما الفرق بين صفات المعاني، والمعنوية؟ فهذه الكلمة، لو فرضت صحتها، فالجهل بها لا يضر، ولم تأت الرسل بما يدل بحال أن من صفات الله ما هو من المعاني وما هو من الصفات المعنوية; وهذا التقسيم: يطالب به الأشعرية والكرامية ونحوهم; فلسنا منهم في شيء; والعلم آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة متبعة; وما ليس هكذا سبيله، فالواجب اطراحه وتركه;

ص: 278

والعلم كل العلم في الوقوف مع السنة، وترك ما أحدثه الناس من العبارات المبتدعة.

ومن الأصول المعتبرة والقواعد المقررة عند أهل السنة والجماعة أن الله تعالى لا يوصف إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز ذلك أهل العلم والإيمان، ولا يتكلفون علم ما لم يصف الرب تبارك وتعالى به نفسه، وما لم يصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ والله أكبر، وأجل، وأعظم، في صدور أوليائه وعباده المؤمنين، من أن يتكلموا في صفاته، بمجرد آرائهم، واصطلاحاتهم، وعبارات متكلميهم.

وأما قول السائل: وهل صفات المعاني ثابتة في ذات الله؟ فهذه عبارة نبطيه أعجمية، لأنه إن أريد بالإضافة إضافة الدال على المدلول، فكل صفاته تعالى لها معان ثابتة لذاته المقدسة، وأي وصف ينفك عن هذا، لو كانوا يعلمون؟ وإن أريد بالإضافة إضافة الصفة للموصوف، أي: المعاني الموصوفة، فالمعاني الموصوفة منها صفات أفعال، وصفات ذات.

وأما قوله: وما الاعتبارات الأربع؟ فهذه كلمة ملحونة أعجمية; والعرب تقول: الاعتبارات الأربعة، لا الأربع; والحكم معروف في باب العدد; وأما معناها، فهو إلى الألغاز والأحاجي أقرب منه إلى الكشف والإيضاح في

ص: 279

السؤال; فالحساب تجري فيه اعتبارات أربعة، من جهة لفظه، وإفراده، وجمعه، وتصحيحه، وكسره، وضربه، وطرحه; وتجري الاعتبارات الأربعة فما فوق في أبواب الفقه من كتب الفروع، من كتاب الطهارة، إلى أبواب العتق، والإقرار، وكثير من عباراته تختلف مفهوماتها، باختلاف عباراتها.

وكذلك المقدمات العقلية، والأدلة النظرية، والبديهيات الذهنية، والضروريات الحسية، لها اعتبارات، ولها حالات، ولها مراتب، ودرجات، يطلق عليها لفظ الاعتبارات.

وكذلك قوله: وما الوجود الأربع؟ عبارة ملحونة أعجمية، فقد يراد بها ما يوجد في الأعيان، والأذهان، واللسان، والبنان; وقد يراد بها غير ذلك، من مراتب وجود العلم، أو وجود الوحي، فإنه قسم هذا التقسيم باعتبار إدخال الإلهام في مسمى الوحي.

وكذلك الجهل، له مراتب أربع: فمنه الجهل المركب، ومنه البسيط، وكل منهما، إما في السمعيات، أو العقليات; وكذلك الأخبار قطعية وظنية، وبالجملة: فالاعتبارات الأربعة، والوجود، ونحو ذلك، تقع كل ما تناله العبارة، ويصدق عليه اللفظ في أي فن، وأي حكم.

فإن قال: المراد بالاعتبارات والوجود، باعتبار صفاته تعالى.

قلنا: تقسيم الاعتبارات والوجود، يختلف باختلاف

ص: 280

المقاصد، والإصلاح; وليس في كلام السلف ما يجيز الخوض في اصطلاحات المتكلمين والأشاعرة.

وأما الفرق بين الدليل والبرهان; فالدليل في اصطلاح الأصوليين والفقهاء: ما يستدل به على إثبات الحكم وصحته; والبرهان: ذكر الحجة بدليلها; وأما الفرق بين العهد والميثاق، فهو اعتباري، والمفهوم واحد، قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [سورة البقرة آية: 83] الآية، وقال تعالى:{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ} [سورة المائدة آية: 70]، وقال تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [سورة يس آية: 60]، وقال:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [سورة النحل آية: 91]، وقال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [سورة آل عمران آية: 81] إلى قوله: {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [سورة آل عمران آية: 81] ، وطالع عبارات المفسرين.

وأما العهود التي أخذها الله من عباده، فلا يسأل عن كميتها، إذ لا يعلمها إلا الله، قال تعالى:{وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [سورة النساء آية: 164] ، وكل رسول يؤخذ عليه، وعلى قومه العهد; فكيف يسأل عن كميتها؟ ومن ادعى علمها فهو كاذب; نعم، ما ذكر في القرآن من أخذ العهد على الأنبياء، وعلى الأمم كبني إسرائيل، وعلى بني آدم كافة، كما في آية "يس"، وأخذ العهد على الذرية، فهذا معروف

ص: 281

محصور.

وأما قوله: وما العهود التي عاهدها معهم؟ فهذه عبارة أعجمية، جاهلية; فالله عهد إليهم، ولم يعاهدهم هو، بل هم عاهدوه، كما قال تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [سورة التوبة آية: 75] ولم يقل عاهدهم الله أبدا، فالمعاهدون هم العباد، والله عهد إليهم، وعاهدوه هم، ولم يعاهدهم هو; فاعرف: جهل السائل وعجمته.

وأما قوله: وكم من تعلقات للقدرة، والإرادة، والعلم، والكلام؟ فاللفظ: أعوج ملحون، لا تأتي:"من" بعد "كم" الاستفهامية أبدا; والرجل غلبت عليه: العجمة في الفهم والتعبير; فإن أريد بالتعلق، كون الأشياء، بالقدرة، والإرادة، والعلم، والكلام; فأي فرد من أفراد الكائنات، يخرج عن هذا؟ ولا يتعلق به؟!

وأما قوله: وما علة نفي الحروف السبعة، من فاتحة الكتاب؟ فهذا: عدم، لا نفي، والعدم لا يعلل; فلا يقال: لم عدمت بقية حروف الهجاء من سورة الإخلاص؟ مثلا، أو من (بسم الله الرحمن الرحيم) ؟ لأن المعنى المراد حاصل بالحروف المذكورة، والتراكيب المسطورة، والعدم لا يعلل; وإن علل فعلته عدمية؛ والسائل رأى كلمات مسطورة فظنها داخلة في مسمى العلة ومذكورة; وإنما هي: جهالات، وضلالات، وخيالات {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ

ص: 282

يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} 1 [النور 39] .

[رسالة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى صالح الشثري، وتفسير السبحات]

وله أيضا قدس الله روحه، ونور ضريحه:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ: صالح بن محمد الشثري، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:

فأحمد إليك الله، الذي لا إله إلا هو، على سوابغ نعمه، ونهنيك بما هنيتنا به، جعلنا الله وإياك من الفائزين برضاه، والمسارعين إلى العمل بما يحبه ويرضاه، ومن علينا باغتنام الصحة والفراغ، وأعاذنا من الغبن في هاتين النعمتين، اللتين هما سفينة النجاة، ومركب أهل الصدق في المعاملات.

وتسأل عن تفسير السبحات بالنور، هل هو من التأويل المردود أو لا؟

فلا يخفاك أن التأويل بالمعنى الأعم، يدخل فيه مثل هذه، وقد حكاه جمع من أهل الإثبات; وأما التأويل بالمعنى الأخص، عند الجهمية ومن نحا نحوهم، فليس هذا منه; لأنهم أولوا "النور" الذي هو اسمه وصفته، بما يرجع إلى فعله وخلقه; وليس هذا منه; وقد فسرت "السبحات" بالعظم، لأن أصل السبحة، من التنْزيه والتقديس; وفسرت: بضوء الوجه المقدس; وفسرت: بمحاسنه، لأن من رأى

1 آخر ما وجد من هذه الرسالة.

ص: 283

الشيء الحسن، والوجه الحسن، سبح بارئه وخالقه; وقيل: هي باقية على أصلها، لأن التسبيح التنْزيه.

وقيل: "سبحات وجهه" في الحديث، جملة معترضة، يريد قائل هذا: إسناد الفعل إلى الوجه المنَزّه، حكاه ابن الأثير; وقال: الأقرب أن المعنى، لو انكشف من أنواره - التي تحجب العباد - شيء، لأهلك كل من وقع عليه ذلك النور، كما خر موسى صعقا وتقطع الجبل لما تجلى سبحانه; وهذا لا يبعد، إن أريد نور الذات، هذا ما ظهر لي، والسلام.

[رسالة الشيخ عبد اللطيف إلى محمد الجبري فيمن آمن بلفظ الاستواء ونازع في المعنى]

وله أيضا: رحمه الله تعالى، وعفا عنه:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ: محمد بن راشد الجابري، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته; وبعد: فنحمد إليكم الله، الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير; والسؤالات وصلت.

فأما: السؤال الأول، فيمن آمن بلفظ "الاستواء" الوارد في كتاب الله، لكن نازع في المعنى، وزعم أنه هو: الاستيلاء; فهذا جهمي، معطل، ضال، مخالف لنصوص الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة; وهذا القول هو المعروف عند السلف، عن جهم وشيعته الجهمية; فإنهم لم يصرحوا برد ألفاظ القرآن، كالاستواء، وغيره، من الصفات; وإنما خالفوا السلف في المعنى المراد.

ص: 284

وقولهم هذا لا يعرف في المسلمين إلا عن الجهم بن صفوان، تلميذ الجعد بن درهم; وكان الجعد قد سكن حران وخالط الصابئة واليهود، وأخذ عنهم من المقالات والمذاهب المكفرة ما أنكره عليه كافة أهل الإسلام، وكفروه بذلك، حتى إن خالد بن عبد الله القسري، أمير واسط في خلافة بني أمية، قتل الجعد وضحى به يوم العيد الأكبر، فقال وهو على المنبر: أيها الناس، ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما، ولم يتخذ إبراهيم خليلا; ثم نزل فذبحه. وشكره على هذا الفعل، وصوبه جميع أهل السنة; وإنما قال الجعد هذه المقالة لاعتقاده أن الخلة، والتكليم، والاستواء، ونحو ذلك من الصفات، لا تكون إلا من صفات المخلوقات، وخصائص المحدثات.

وهذا المذهب نشأ من سوء اعتقادهم وعدم فهمهم لما يراد، وما يليق من المعنى المختص بالله، فظنوا ظن السوء بالله وصفاته، ثم أخذوا في نفيها وتعطيلها، وتحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسمائه؛ ولو عرفوا أنما يثبت لله من الصفات لا يشبه صفات المخلوقات، بل هو بحسب الذات، وكل شيء صفاته بحسب ذاته، فكما أننا نثبت له ذاتا لا تشبه الذوات، فكذلك نثبت له صفات لا تشبه صفات المخلوقات; لو عرفوا هذا، لسلموا من التعطيل; وعلى قولهم ومذهبهم الخبيث لا يعبدون ربا

ص: 285

موصوفا بصفات الكمال، وصفات العظمة والجلال; وإنما يعبدون ذاتا مجردة عن الصفات؛ فهم كما قال بعض العلماء: لا يعبدون واحدا، أحدا، فردا صمدا، وإنما يعبدون خيالا عدما.

وهذا المذهب اشتهر بعد الجعد بن درهم عن تلميذه: جهم بن صفوان; ولذلك يسمى أهل هذا المذهب، عند السلف وأئمة الأمة: مذهب الجهمية، نسبة إلى جهم. ثم أعلن به وأظهره: بشر المريسي وأصحابه، في أوائل المائة الثالثة، لأنهم تمكنوا من بعض ملوك بني العباس، وصار لهم عنده جاه ومنْزلة، فقويت بذلك شوكة الجهمية، وكثر شرهم، وعظم على الإسلام وأهله كيدهم وضررهم، حتى امتحنوا من لم يوافقهم على بدعتهم وضلالتهم، فشردوا بعض أهل السنة عن أوطانهم، وحبسوا وضربوا، وقتلوا على هذا المذهب.

وجرى على إمام السنة الإمام أحمد بن حنبل من ذلك أشد امتحان وأعظم بلية، وضرب حتى أغشي عليه من الضرب، وإذا جادله منهم مجادل، قال: ائتوني بشيء من كلام الله، وكلام رسوله، حتى أجيبكم إليه، فيأبون ويعرضون، ويرجعون إلى شبه الفلاسفة واليونان، وهو مع ذلك يكشف لهم الشبه، ويبين بطلانها بأدلة الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، والأدلة العقلية الصريحة، وصنف في

ص: 286

ذلك كتابه المعروف في الرد على الزنادقة والجهمية، وهو كتاب جليل لا يستغني عنه طالب العلم.

والمقصود أن علماء الأمة أنكروا مذهب الجهمية أشد الإنكار، وصرحوا بأنه من مذاهب الضلال والكفار، ولم يخالف في ذلك أحد منهم، وقد جمع الإمام اللالكائي جملة من كلام السلف في تكفيرهم وتضليلهم، في كتابه الذي سماه:"كاشف الغمة عن معتقد أهل السنة". ومختصر كتابه موجود عندكم في الساحل، قدم به عبد الله بن معيذر، عام اثنين وسبعين، وهو وقف على طلبة العلم الشريف.

إذا عرف هذا، فأهل السنة متفقون في كل مصر وعصر على أن الله موصوف بصفات الكمال ونعوت الجلال، التي جاء بها الكتاب والسنة; يثبتون لله ما أثبته لنفسه المقدسة، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تمثيل، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تشبيه; لا يبتدعون لله وصفا لم يرد به كتاب ولا سنة، فإن الله تعالى: أعظم، وأجل، وأكبر في صدور أوليائه المؤمنين، من أن يتجاسروا على وصفه ونعته بمجرد عقولهم، وآرائهم، وخيالات أوهامهم; بل هم منتهون في ذلك إلى حيث انتهى بهم الكتاب والسنة، لا يتجاوزون ذلك بزيادة على ما وصف الرب به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم.

ص: 287

ولا يعطلون ما ورد في الكتاب والسنة من صفات الكمال ونعوت الجلال؛ وينكرون تعطيل معنى الاستواء، وتفسيره بالاستيلاء، ويتبرؤون من مذهب من قال ذلك، وعطل الصفات من الجهمية وأتباعهم; وقد وقع في هذا كثير ممن ينتسب إلى أبي الحسن الأشعري; وظنه بعض الناس من مذاهب عقيدة أهل السنة والجماعة ; وسبب ذلك: هو الجهل بالمقالات والمذاهب، وما كان عليه السلف; قال حذيفة رضي الله عنه:" كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة الوقوع فيه ".

فالواجب على من له نهمة في الخير وطلب العلم، أن يبحث عن مذاهب السلف وأقوالهم في هذا الأصل العظيم، الذي قد يكفر الإنسان بالغلط فيه، ويعرف مذاهب الناس في مثل ذلك، وأن يطلب العلم من معدنه ومشكاته، وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، وما كان عليه سلف الأمة; قال الله تعالى:{المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 1-2-3]، وقال تعالى:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [سورة الأنعام آية: 155] .

فإذا وفق العبد لهذا، وبحث عن تفاسير السلف وأئمة الهدى، ورزق مع ذلك معلما من أهل السنة، فقد

ص: 288

احتضنته السعادة، ونزلت به أسباب التوفيق والسيادة، وإن كان نظر العبد وميله، إلى كلام اليونان وأهل المنطق والكلام، ومشايخه من أهل البدعة والجدل، فقد احتوشته أسباب الشقاوة، ونزلت وحلت قريبا من داره موجبات الطرد عن مائدة الرب وكتابه; ومن عدم العلم فليبتهل إلى معلم إبراهيم، في أن يهديه صراطه المستقيم، وليتفطن لهذا الدعاء إذا دعا به في صلاته، ويعرف شدة فقره إليه وحاجته.

وأما من جحد لفظ الاستواء ولم يؤمن به، فهو أيضا كافر; وكفره أغلظ وأفحش من كفر من قبله، وهو كمن كفر بالقرآن كله; ولا نعلم أحدا قال هذا القول ممن يدعي الإسلام ويؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.

والجهمي يوافق على كفر هذا، ولا يشكل كفر هذا، على من عرف شيئا من الإسلام، قال الله تعالى:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [سورة هود آية: 17]، أي: بالقرآن.

وأما قول القائل: استوى من غير مماسة للعرش; فقد قدمنا: أن مذهب السلف وأئمة الإسلام عدم الزيادة والمجاوزة لما في الكتاب والسنة، وأنهم يقفون وينتهون حيث وقف الكتاب والسنة، وحيث انتهيا. قال الإمام أحمد، رحمه الله: لا يوصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله. انتهى; وذلك لعلمهم بالله وعظمته في

ص: 289

صدورهم، وشدة هيبتهم له، وعظيم إجلاله.

ولفظ: "المماسة " لفظ مخترع مبتدع، لم يقله أحد ممن يقتدى به ويتبع، وإن أريد به نفي ما دلت عليه النصوص، من الاستواء، والعلو، والارتفاع، والفوقية، فهو قول باطل، ضال قائله، مخالف للكتاب والسنة، ولإجماع سلف الأمة، مكابر للعقول الصحيحة، والنصوص الصريحة، وهو جهمي لا ريب، من جنس ما قبله; وإن لم يرد هذا المعنى، بل أثبت العلو، والفوقية، والارتفاع، الذي دل عليه لفظ الاستواء، فيقال فيه: هو مبتدع ضال، قال في الصفات قولا مشتبها موهما، فهذا اللفظ: لا يجوز نفيه، ولا إثباته، والواجب في هذا الباب: متابعة الكتاب والسنة، والتعبير بالعبارات السلفية الإيمانية، وترك المتشابه.

وأما من قال: إذا قلتم إن الله على العرش استوى، فأخبروني قبل أن يخلق العرش كيف كان؟ وأين كان؟ وفي أي مكان؟!.

وجوابه: أن يقال: أما كيف كان؟ فقد أجاب عنها: إمام دار الهجرة التي تضرب إليه أكباد الإبل في طلب العلم النبوي والميراث المحمدي، قال له السائل: يا أبا عبد الرحمن: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5]، كيف استوى؟ فقال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، وأمر بالسائل فأخرج عنه.

ص: 290

فأخبر رحمه الله: أن الكيف غير معلوم، لأنه لا يعلم إلا بعلم كيفية الذات، وقد حجب العباد عن معرفة ذلك لكمال عظمته، وعظيم جلاله؛ وعقول العباد، لا يمكنها إدراك ذلك، ولا تحمله، وإنما أمروا بالنظر والتفكر فيما خلق وقدر; وإنما يقال: كيف هو؟ لمن لم يكن ثم كان; فأما الذي لا يحول، ولا يزول، ولم يزل، وليس له نظير، ولا مثل، فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو; وكيف يعرف قدر من لم يبد، ولا يموت، ولا يبلى؟ وكيف يكون لصفة شيء منه حد ومنتهى، يعرفه عارف، أو يحد قدره واصف؟ لأنه الحق المبين، لا حق أحق منه، ولا شيء أبين منه; والعقول عاجزة قاصرة عن تحقيق صفة أصغر خلقه كالبعوض وهو لا يكاد يرى، ومع ذلك يحول، ويزول، ولا يرى له سمع ولا بصر، فما يتقلب به ويحتال من عقله، أخفى وأعضل، مما ظهر من سمعه وبصره، {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [سورة المؤمنون آية: 14] ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] .

وقد قال بعضهم، مخاطبا للزمخشري، منكرا عليه نفي الصفات، شعرا:

قل لمن يفهم عني ما أقول

قصر القول فذا شرح يطول

أنت لا تفهم إياك ولا

من أنت ولا كيف الوصول

لا ولا تدري خفايا ركبت

فيك حارت في خباياها العقول

أنت أكل الخبز لا تعرفه

كيف يجري منك أم كيف تبول

ص: 291

أين منك الروح في جوهرها

كيف تسري فيك أم كيف تجول

فإذا كانت طواياك التي

بين جنبيك كذا فيها ضلول

كيف تدري من على العرش استوى

لا تقل كيف استوى كيف النّزول

وبالجملة: فهذا السؤال سؤال مبتدع جاهل بربه; وكيف يقول: إذا قلتم: إن الله على العرش استوى؟ وهو يسمع إثبات الاستواء، في سبعة مواضع من القرآن.

وأما قوله: أين كان قبل أن يخلق العرش؟ فهذه المسألة: ليس فيها تكييف، ولا ابتداع، وقد خرج الترمذي جوابها، مرفوعا، من حديث: أبي رزين العقيلي، أنه قال:"يا رسول الله، أين كان ربنا، قبل أن يخلق الخلق؟ قال: في عماء، ما فوقه هواء، وما تحته هواء"1 انتهى الحديث، فهذا جواب مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد قبله الحفاظ، وصححوه; والعماء هو: السحاب الكثيف، قال يزيد بن هارون، إمام أهل اليمن، من أكابر الطبقة الثالثة، من طبقات التابعين ومن ساداتهم، معناه: ليس معه شيء.

وأما قول السائل: وفي زعم هذا القائل، إنه بذلك ينبغي حاجة الرب إلى العرش ; فيقال: ليس في إثبات الاستواء على العرش ما يوجب الحاجة إليه أو فقر الرب تعالى وتقدس إلى شيء من خلقه; فإنه سبحانه هو الغني بذاته عما سواه، وغناه من لوازم ذاته، والمخلوقات بأسرها - العرش فما دونه - فقيرة محتاجة إليه تعالى، في إيجادها

1 الترمذي: تفسير القرآن (3109)، وابن ماجه: المقدمة (182) ، وأحمد (4/11) .

ص: 292

وفي قيامها، لأنه لا قيام لها إلا بأمره، قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [سورة الروم آية: 25] والسماء: اسم لما علا وارتفع; فهو اسم جنس، يقع على العرش، قال تعالى:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16] الآية، وبحوله وقوته حمل العرش، وحمل حملة العرش; وهو الذي:{يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [سورة فاطر آية: 41] الآية، وجميع المخلوقات مشتركون في الفقر والحاجة، إلى بارئهم وفاطرهم.

وقد قرر سبحانه كمال غناه وفقر عباده إليه في مواضع من كتابه، واستدل بكمال غناه المستلزم لأحديته، في الرد على النصارى وإبطال ما قالوه من الإفك العظيم، والشرك الوخيم، قال تعالى:{قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} [سورة يونس آية: 68] الآية، وكمال غناه يستلزم نفي الصاحبة والولد، ونفي الحاجة إلى جميع المخلوقات.

ولا يظن أحد يعرف ربه أو شيئا من عظمته وغناه ومجده، أنه محتاج إلى العرش أو غيره; وإنما يتوهم هذا من هو في غاية الجهالة والضلالة، أو من لم يعرف شيئا من آثار النبوة والرسالة، أو من فسدت فطرته ومسخ عقله، بنظره في كلام الجهمية وأشباههم، حتى اجتالته الشياطين، فلم يبق معه أثارة من علم، ولا نصيب من فهم; بل استواؤه على عرشه صفة كمال، وعز، وسلطان; وهو من معنى اسمه (الظاهر)، ومعناه: الذي ليس فوقه شيء; والعلو علو

ص: 293

الذات، وعلو القدر، وعلو السلطان; كلها ثابتة لله، وهي صفات كمال تدل على غناه، وعلى فقر المخلوقات إليه.

والذي ينبغي لأمثالنا ترك الخوض مع هؤلاء المبتدعة الضلال، وترك مجالستهم، قال تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [سورة الأنعام آية: 68] . وأكثر المعطلة يزعمون أن تعطيلهم، تنْزيه للرب عما لا يليق به، فساء ظنهم، وغلظ حجابهم، حتى توهموا أن إثبات ما في الكتاب والسنة على ما فهمه سلف الأمة مما ينَزّه الرب، تبارك وتعالى عنه.

[رسالة الشيخ عبد اللطيف إلى ابن عون، وثناؤه عليه بجهاد أهل البدع]

وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ: محمد بن عون، سلمه الله تعالى، وأعانه، وبالعلم كمله وزانه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته; وبعد: فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، على نعمه، جعلنا الله وإياكم من عباده الشاكرين. وقد بلغني ما من الله به عليك، من جهادك أهل البدع، والإغلاظ في الإنكار على الجهمية المعطلة ومن والاهم; وهذا من أجل النعم وأشرف العطايا، وهو من أوجب الواجبات الدينية.

فإن الجهاد بالعلم والحجة مقدم على الجهاد باليد والقتال، وهو من أظهر شعائر السنة وآكدها، وإنما يختص

ص: 294

به في كل عصر ومصر أهل السنة، وعسكر القرآن، وأكابر أهل الدين والإيمان؛ فعليك بالجد والاجتهاد، واعتد به من أفضل الزاد للمعاد، قال تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [سورة غافر آية: 51-52] .

هذا وقد ألقى إلي ورقة جاءت من نحوكم، سودها بعض الجهمية المعطلة، مشتملة على إنكار علو الله على خلقه واستوائه على عرشه ; كما هو رأي جهم وأشياعه; محتجا صاحبها بشبهات كسراب بقيعة، من نظر إليها من أهل العلم والمعرفة تيقن أنه من الأدلة على أن قائله قد عدم العلم والإيمان، والحقيقة، وأنه أضل ممن:{ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 104] ؛ وقد أبداه قائله، ليتشبع بما لم يعط من العلم، ويتزيا بغير زيه، فكشف الله سوأته، وأبدى خزيته، وصار كلامه دليلا على جهله وعماه، وضلاله عن سبيل رشده وهداه.

فأول ما رسم في هذه الورقة المشار إليها قوله: وفقك الله لأقوم طريق، هل لكلمة التوحيد، وهي "لا إله إلا الله" شروط، وأركان، وآداب؟ فإن قلت: نعم، فما هي؟ هذا لفظه. وقد عرفت: أن هذا الرجل ليس من أهل هذا الفن، ولا يدري ما هنالك.

والتوحيد عند هذه الفرقة الجهمية، حقيقته تعطيل

ص: 295

الأسماء والصفات، لأن عندهم تعدد الصفات يقتضي تعدد الموصوف; والوحدة عندهم والتوحيد ينافي ذلك، فيثبتون ذاتا مجردة، وحقيقة مطلقة، غير موصوفة بصفة ثبوتية; ويفسرون الواحد بأنه الذي لا يقبل الانقسام، هذا كلام شيوخه وأسلافه من الجهمية الضالين، الذين ينكرون العلو والاستواء; ويزعمون أنه بذاته مستو في كل مكان; فما نزهوه عن شيء من الأماكن القذرة، التي ينَزه عنها آحاد خلقه، فما أجرأهم! وما أكفرهم! وما أضلهم عن سواء السبيل! ومنكر الاستواء هذا توحيده، وهذا رأيه.

وأما التوحيد الذي اشتملت عليه كلمة الإخلاص، فهو أجنبي عنه لا يدريه، وكيف يدري ذلك من أنكر أظهر الصفات التي بنيت عليها كلمة الإخلاص، واستحق بها الرب ما له من صفات الإلهية والربوبية، والكمال المطلق; فما للجهمية وهذا؟! وهم إنما يعبدون عدما; وإنما يبحث عن هذا ويدريه من يعبد إلها واحدا، فردا صمدا.

وشروط كلمة الإخلاص يعرفها بحمد الله صغار الطلبة من المسلمين، أهل الإثبات، ويتبين ذلك بتعريف الشرط، وهو أنه ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده الوجود لذاته; وإذا عرف هذا، فالعقل يلزم من عدمه العدم; والتمييز يلزم من عدمه العدم، والعلم يلزم من عدمه العدم; هذه شروط الصحة; وأما شروط القبول:

ص: 296

فالالتزام، والإيثار، والرضاء; وإذا اجتمعت هذه الشروط، حصل القول المنجي، والشهادة النافعة; ومصدر هذه الشروط عن علم القلب وعمله; وهناك يصدر التلفظ بها، عن يقين وصدق; والجهمية لم يتصفوا بشرط من هذه الشروط; وقد صرح أهل السنة بذلك، وحاجة معطلة الصفات إلى معرفة التوحيد في العبادات، كحاجة من عدم الرأس من الحيوانات إلى الرسن; قال أبو الطيب:

فقر الجهول بلا عقل إلى أدب فقر الحمار بلا رأس إلى رسن.

ولها أيضا: شروط; منها: معرفة الإله الحق بصفات كماله ونعوت جلاله، التي علوه، وارتفاعه، واستواؤه على عرشه، من أظهرها، وأوجبها; وكذلك معرفة أمره ونهيه، ودينه الذي شرعه، والوقوف مع أمر رسوله، وحدوده.

ومنها: كون الطبيعة لينة، منقادة، سلسة، قابلة; وهذه الشروط معدومة في السائل، قد اتصف بضدها; معبوده مسلوب الصفات، لا وجود له في الحقيقة، وأمره ونهيه منبوذ عند هذه الطائفة، لا يهتدون بكتابه، ولا يأتمرون بأمره، والمعول عندهم على شبهات منطقية، وخيالات كلامية، يسمونها: قواطع عقلية، ومقدمات يقينية؛ ونصوص الكتاب، والسنة، عندهم: ظواهر لفظيه، وأدلة ظنية.

وأما طبائعهم: فأقسى الخلق، وأعتاهم، وأعظمهم ردا

ص: 297

على الرسل، اعتمادا على أقوال الصابئة والفلاسفة، وأمثالهم من شيوخ القوم الذين لم يلتفتوا إلى ما جاءت به الرسل، ولم يرفعوا به رأسا، فضلا عن معرفته وقبوله، فما لهذا السائل وآداب كلمة الإخلاص؟!.

وأما الأركان فركناها: النفي، والإثبات; نفي استحقاق الإلهية عما سوى الله، وإثباتها لله وحده، على وجه الكمال; وأما الآداب، فالدين كله يدخل في مدلولها، وآدابها.

وأرفع مراتب الآداب وأعلاها: مرتبة الإحسان، وهي أعلى مقامات الدين; وبسطها يعلم من معرفة شعب الإيمان، وواجباته، ومستحباته; وعندهم: أن الإيمان مجرد التصديق، فلا يشترط عمل القلب وعمل الأركان، في حصول الحقيقة المميزة بين المسلم والكافر: هذا رأي الجهمية الجبرية; فالأعمال عندهم ليست من مسماه، والتصديق والإخلاص ليسا من أركانه; وهذا يعرفه صغار الطلبة، فكيف يترشح هذا الجهمي لما ليس من فنه، ولا من علمه; وفي المثل: ليس هذا عشك، فادرجي; والمقصود: إفادة مثلك; وأما السائل: فليس كفوا للرشاد إلى الهدى.

ثم قال الجهمي في ورقته: وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ما معناه: استواؤه مختص بالعرش أو به وبغيره، لأنه تعالى ما نفى استواءه عن غيره;

ص: 298

فإذا زعمت أن استواءه مختص بالعرش، فمن أي شيء علم ذلك؟ وهل أتى سبحانه بحرف الحصر؟ وحرف الاختصاص؟ وهل تعرف حروف الاختصاص؟ وحروف الحصر أم لا؟ وما هي؟ فإذا قلت، مثلا: زيد استوى على الدار، فهل علم منه: أنه لا يستوي على غيره؟ والعاقل: يعلم ذلك بأدنى تأمل.

وجوابه، أن يقال: قد ثبت من غير طريق، عن مالك بن أنس رحمه الله، وعن شيخه ربيعة بن عبد الرحمن، بل ويروى عن أم سلمة، أم المؤمنين، أنهم قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول; وفي بعض طرقه: والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة; وزاد مالك، فقال للسائل: وما أراك إلا رجل سوء، وأمر به فأخرج; وعلى هذا درج أهل العلم وأهل السنة، من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا، ولم يخالف في ذلك إلا الطائفة الضالة الملعونة الجهمية، وأشياخهم من غلاه الاتحادية، والحلولية.

وأما أهل السنة فعرفوا المراد وعقلوه، ومنعتهم الخشية، والهيبة، والإجلال، والتعظيم، من الخوض، والمراء، والجدال، والكلام الذي لم يؤثر، ولم ينقل; وقد عرفوا المراد من الاستواء، وصرح به أكابر المفسرين، وأهل اللغة; فثبت عنهم تفسيره بالعلو، والارتفاع، وبعض أكابرهم صرح بأنه صعد; ولكنهم أحجموا عن مجادلة

ص: 299

السفهاء الجهمية، تعظيما لله، وتنْزيها لرب البرية; وإذا أخبر - جل ذكره - أنه استوى على العرش، وعلا، وارتفع، وكل المخلوقات، وسائر الكائنات، تحت عرشه، وهو بذاته فوق ذلك; وفي الحديث:" وأنت الظاهر فليس فوقك شيء "1. فإذا عرف هذا، عرف معنى اختصاص العرش بالاستواء، وأن هذه الصفة، مختصة بالعرش.

وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال للرجل، الذي قال له: إنا نستشفع بك على الله، وبالله عليك; قال:" الله أكبر، الله أكبر، إن شأن الله أعظم من ذلك، ويحك! أتدري ما الله؟! إنه على عرشه - وأشار بيده كالقبة - وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد براكبه "2، وهذا الحديث لا يستطيع سماعه الجهمي، ولا يؤمن به إلا أهل السنة والجماعة الذين عرفوا الله بصفات كماله، وعرفوا عظمته، وأنه لا يليق به غير ما وصف به نفسه، من استوائه على عرشه، ونزهوه أن يستوي على ما لا يليق بكماله وقدسه، من سائر مخلوقاته.

ومن أصول أهل السنة والجماعة: أنه سبحانه لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، ولم يصف نفسه بأنه استوى على شيء غير العرش، وكذلك رسله، وأنبياؤه، وورثتهم، لم يصفوه إلا بما وصف به نفسه، فإنكار هذا الجهمي اختصاص الاستواء بالعرش، تكذيب لما جاءت به الرسل، ورد لما فطر الله عليه بني آدم، من التوجه إلى جهة العلو،

1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713)، والترمذي: الدعوات (3400 ،3481)، وأبو داود: الأدب (5051)، وابن ماجه: الدعاء (3831) ، وأحمد (2/381 ،2/404 ،2/536) .

2 أبو داود: السنة (4726) .

ص: 300

وطلب معبودهم وإلههم، فوق سائر الكائنات {فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [سورة المؤمنون آية: 41] .

وتخصيص العرش بالاستواء نص في أنه لم يستو على غيره، والسائل أعجمي، لا خبرة له بموضوع الكلام، ودلالته؟ قال الحسن في مثل هؤلاء: دهتهم العجمة; ونفي الاستواء عن غير العرش معلوم من السياق، مع دلالة النص، والإجماع، والفطرة، وكذلك دلالة الأسماء الحسنى، كالعلي، والأعلى، والظاهر، ونحو ذلك، ولفظ: العلو، والارتفاع، والصعود، يشعر بذلك. ويستحيل أن يستوي على شيء مما دون العرش، لوجوب العلو المطلق، والفوقية المطلقة.

وأما قوله: وهل أتى سبحانه بحرف الحصر والاختصاص؟ فدلالة الكلام على الحصر، والاختصاص، تارة تكون بالحروف، وتارة تكون بالتقديم والتأخير، وتارة تكون من السياق، وتارة تكون بالاقتصار على المذكور في الحكم، ولا يختص الاختصاص بالحروف، قال تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ، وهذا الضمير الظاهر ليس من حروف الحصر، وإنما عرف واستفيد من التقديم والتأخير، وتارة يستفاد من الحروف، كقوله:" إنما الأعمال بالنيات "1، وقوله تعالى:{أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [سورة الكهف آية: 110] ، وتارة من الاستثناء بإلا بعد النفي،

1 البخاري: بدء الوحي (1)، ومسلم: الإمارة (1907)، والترمذي: فضائل الجهاد (1647)، والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794)، وأبو داود: الطلاق (2201)، وابن ماجه: الزهد (4227) ، وأحمد (1/25 ،1/43) .

ص: 301

كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [سورة الأنبياء آية: 107]، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ سورة آل عمران آية: 144] ونحو ذلك.

والسائل حصرها، يظنها منحصرة في الحروف، وهذا من جهله، ثم يسأل هنا عن أقسام الحصر، كم هي؟ وما الفرق بين حصر الأفراد، وحصر القلب، والحصر الادعائي، ومقابله؟

ويسأل: هل دلالة الحصر، نصية أو ظاهرية؟ وهل هي: لفظية أو عقلية؟ وما أظنه يحسن شيئا من ذلك، وإذا أخبر تعالى: أنه استوى على العرش، فلا يجوز أن يقال: إنه استوى على غيره، لوجوه:

منها: أنه لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، والتجاسر على مقام الربوبية بوصفه بما لم يصف به نفسه، وزيادة نعت لم يعرف عنه، ولا عن رسله، قول على الله بغير علم، وهو فوق الشرك في عظم الذنب والإثم؛ وأكذب الخلق من كذب على الله، قال الله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [سورة الأعراف آية: 33] الآية.

الوجه الثاني: أن الله سبحانه وتعالى، يستحق من الصفات أعلاها، وأجلها، وأشرفها. والعرش: أعظم المخلوقات، وهو سقفها الأعلى، وقد وصفه الله تعالى بالعظم، فقال:{رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [سورة التوبة آية: 129]، وقال:{ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [سورة البروج آية: 15] ، ووصفه بالسعة، فقال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ

ص: 302

حِفْظُهُمَا} [سورة البقرة آية: 255]

الآية. فكيف يوصف بالاستواء على ما دونه، وقد تمدح، وأثنى على نفسه باستوائه عليه، ووصفه بما لم يصف به غيره من مخلوقاته؟

الوجه الثالث: أن تمثيله بقول القائل: زيد استوى على الدار، وأن ذلك لا يعلم منه أنه لا يستوي على غيرها، فهذا جهل عظيم، والكلام يختلف باختلاف حال الموصوف، وما يليق له من الصفات. وأصل ضلال هذه الطائفة أنهم فهموا من صفات الله الواردة، في الكتاب والسنة، ما يليق بالمخلوق ويختص به، فلذلك أخذوا في الإلحاد، تشبيه المخلوق بالخالق.

الوجه الرابع: أن هذا التمثيل الذي أبداه السائل، قد نص القرآن على إبطاله، قال تعالى:{فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 74] ؛ وأصل الشرك والتعطيل، شبهوا أولا، وعطلوا ثانيا.

فصل: قال الجهمي في ورقته: وإذا أقررت لله مكانا معينا، فما معنى قوله تعالى {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ، وقال:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق آية: 16]، وقال: إنه قريب، وقال صلى الله عليه وسلم:" حيثما كنتم فإنه معكم " فإذا قلت: هذه الآيات مؤولة، وأقررت بالتأويل، فالآية الأولى أولى به، لأنها بلا تأويل تخالف الإجماع،

ص: 303

وتعارض الآيات والأحاديث، أم آيات الأخيرة، فقد قيل في الأولى: لأنها ليست من المتشابهات، لأن الاستواء معلوم، والكيف مجهول، وما نفى الاستواء عن غير العرش.

هذا كلامه بحروفه، نقلناه على ما فيه من التحريف، واللحن، ليعتبر الناظر، ويعرف المؤمن المثبت، حال هؤلاء الجهال، الضلال، الحيارى.

فأما قوله: إذا أقررت لله مكانا معينا، فاعلم: أن أهل السنة والجماعة، ورثة الرسل وأعلام الهدى، لا يصفون الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقص، ينتهون حيث انتهى بهم، تعظيما للموصوف، وخشية، وهيبة، وإجلالا.

وأما أهل البدع، فيخوضون في ذلك، ويصفونه بما لم يصف به نفسه، ويلحدون فيما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يتحاشون من الكلام في ذلك بالبدع التي لا تعرف؟ وقد ذم الله هذا الصنف في كتابه، ووصفهم بالخوض بما لم يأتهم عنه ولا عن رسله، وذكر الله عن أصحاب النار أنهم قالوا، لما قيل لهم:{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [سورة المدثر آية: 42-43-44-45] ، فوصفهم بالعتو عن طاعته، وعدم الانقياد لعبادته، بقوله:{لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [سورة المدثر آية: 43]، ووصفهم بعدم الإحسان والمعروف بقوله: {وَلَمْ

ص: 304

نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [سورة المدثر آية: 44] ، ووصفهم بالخوض في شأن دينهم وما جاءت به رسلهم، وعدم وقوفهم مع ما أمروا به، وتعديهم إلى ما يرونه ويهوونه، بقوله:{وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [سورة المدثر آية: 45] .

وهذا حال أهل البدع والضلالات، الذين لم يؤسسوا دينهم على ما جاءت به الرسل؛ إذا عرف ذلك، فلفظ المكان لم يرد، لا نفيا، ولا إثباتا، وقد يراد به معنى صحيحا، كالعلو، والاستواء، والظهور; وقد يراد به غير ذلك من الأماكن المحصورة; فالواجب ترك المشتبه، والوقوف مع نصوص الكتاب والسنة.

فيقال لهذا الجهمي: نحن لا نقر لله من الصفات، إلا ما نطق به الكتاب العزيز، وصحت به السنة النبوية; ولا يلزم من أثبت ذلك شيء من البدعيات والأوضاع المختلقة; وأما قوله:{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 115] فسياق الآية الكريمة يدل على أنها في شأن القبلة، قال ابن عباس:"خرج نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، قبل تحويل القبلة، فأصابهم الضباب، وحضرت الصلاة، وصلوا، وتحروا القبلة، فلما ذهب الضباب، استبان لهم أنهم لم يصيبوا، فلما قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنَزلت هذه الآية". وقال ابن عمر: "نزلت في المسافر، يصلي التطوع، حيثما توجهت به راحلته".

وقال عكرمة: نزلت في تحويل القبلة. وقال أبو

ص: 305

العالية: عيرت اليهود المؤمنين، لما صرفت القبلة، فنَزلت هذه الآية. وقال مجاهد والحسن: نزلت في الداعي، يستقبل أي جهة كان، لأنهم قالوا لما نزلت {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سورة غافر آية: 60] : أين ندعوه؟ قال الكلبي: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 115] فثم الله يعلم ويرى، والوجه صلة، كقوله تعالى:{هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ} [سورة القصص آية: 88] أي: إلا هو، وقال الحسن، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل بن حيان: فثم قبلة الله، والوجه، والوجهة، والجهة: القبلة.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 115] ختم هذه الآية، بهذين الاسمين الشريفين، يشعر بما قاله الكلبي، من أنه يعلم ويرى، ومن كان له أدنى شعور بعظمة الله وجلاله عرف صغر المخلوقات بأجمعها، في جنب ما له تعالى، من الصفات المقدسة، ولم يختلج في قلبه ريب ولا شك في الإيمان بهذه النصوص كلها، وعرف الجمع بينها وبين ما تقدم. فسبحان من جلت صفاته وعظمت أن يحاط بشيء منها.

وأما قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق آية: 16] ، فهذا القرب لا ينافي علوه على خلقه، واستواءه على عرشه، وفي الحديث:" وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء "1، ولا يعرف هذا من ضاق نطاقه عن الإيمان بما جاءت به الرسل؛ وإنما يعرفه رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين، ومن أسمائه: العلي الأعلى، ومن

1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713)، والترمذي: الدعوات (3400 ،3481)، وأبو داود: الأدب (5051)، وابن ماجه: الدعاء (3831) ، وأحمد (2/381 ،2/404 ،2/536) .

ص: 306

أسمائه: القريب المجيب، ومن أسمائه: الظاهر الباطن.

وكذلك قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [سورة البقرة آية: 186] ، وقد حرف هذا السائل هذه الآية، وقال: إنه قريب، وهذا قرب خاص بداعيه; وفي الحديث:" أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد "1 لأن حال السجود غاية في العبودية والخضوع، ولذلك صار له قرب خاص لا يشبهه سواه، وهذا مما يبين لك بطلان قول الجهمي: إنه بذاته في كل مكان، ولو كان الأمر كما قال الضال، لم يكن للمصلي والداعي خصوصية بالقرب، ولكان المصلي وعابد الصنم سواء في القرب إليه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: المعية نوعان: عامة، وهي: معية العلم، والإحاطة، كقوله تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [سورة الحديد آية: 4]، وقوله:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [سورة المجادلة آية: 7] ، وخاصة، وهي: معية القرب، كقوله:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [سورة النحل آية: 128]، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سورة البقرة آية: 153] ، {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة العنكبوت آية: 69] . فهذه معية قرب، تتضمن الموالاة، والنصر، والحفظ، وكلا المعيتين مصاحبة منه للعبد، لكن هذه مصاحبة اطلاع وإحاطة، وهذه مصاحبة موالاة ونصر

1 مسلم: الصلاة (482)، والنسائي: التطبيق (1137)، وأبو داود: الصلاة (875) ، وأحمد (2/421) .

ص: 307

وإعانة؛ فـ "مع" في لغة العرب، للصحبة اللائقة، لا تشعر بامتزاج، ولا اختلاط، ولا مجاورة، ولا مجانبة، فمن ظن شيئا من هذا، فمن سوء فهمه أتى.

وأما القرب فلم يقع في القرآن إلا خاصا، وهو: نوعان; قربه من داعيه بالإجابة، وقربه من عابده بالإثابة.

فالأول: كقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [سورة البقرة آية: 186] ولهذا نزلت جوابا للصحابة رضي الله عنهم، وقد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ربنا قريب فنناجيه؟ أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية".

والثاني: كقوله صلى الله عليه وسلم: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" 1 "وأقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل"، فهذا قربه من أهل طاعته.

وفي الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه قال: " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فارتفعت أصواتنا بالتكبير، فقال: يا أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إن الذي تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته "2 فهذا قرب خاص بالداعي، دعاء العبادة، والثناء، والحمد; وهذا القرب لا ينافي كمال مباينة الرب لخلقه، واستواءه على عرشه، بل يجامعه ويلازمه، فإنه ليس كقرب الأجسام بعضها من بعض، تعالى الله علوا كبيرا، ولكنه نوع آخر، والعبد في الشاهد يجد روحه قريبة جدا من محبوب بينه وبينه مفاوز، تنقطع فيها أعناق المطي، ويجده

1 مسلم: الصلاة (482)، والنسائي: التطبيق (1137)، وأبو داود: الصلاة (875) ، وأحمد (2/421) .

2 البخاري: القدر (6610)، ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2704)، وأبو داود: الصلاة (1526) ، وأحمد (4/402) .

ص: 308

أقرب إليه من جليسه، كما قيل:

ألا رب من يدنو ويزعم أنه يحبك والنائي أحب وأقرب

وأهل السنة أولياء رسول الله صلى الله عليه وسلم وورثته وأحباؤه، الذي هو عندهم أولى بهم من أنفسهم وأحب إليهم منها، يجدون نفوسهم أقرب إليه، وهم في الأقطار النائية عنه، من جيران حجرته في المدينة، والمحبون المشتاقون للكعبة البيت الحرام، يجدون قلوبهم وأرواحهم أقرب إليها من جيرانها ومن حولها، هذا مع عدم تأتي القرب منها; فكيف بمن يقرب من خلقه كيف يشاء وهو مستو على عرشه؟ وأهل الذوق لا يلتفتون في ذلك، إلى شبهة مبطل بعيد من الله، خلا من محبته ومعرفته. والقصد: أن هذا القرب يدعو صاحبه إلى ركوب المحبة، وكلما ازداد حبا ازداد قربا، فالمحبة بين قربين: قرب قبلها، وقرب بعدها، وبين معرفتين: معرفة قبلها حملت عليها، ودعت إليها، ودلت عليها، ومعرفة بعدها هي من نتائجها وآثارها.

[جواب الشيخ عبد اللطيف على من يرى أن أحاديث الصفات تجري على ظاهرها، ويسكت ويتستر بالتفويض]

وسئل الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن، رحمه الله، عمن يرى أن أحاديث الصفات تجري على ظاهرها، ويسكت، ومعناه من غير اعتماد حقيقة، ويتستر بالتفويض

إلخ.

فأجاب:

اعلم أرشدك الله، أنه لا بد من الإيمان، بأن الله مستو على عرشه، بائن من خلقه، قاهر فوق عباده، ليس

ص: 309

في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، كما دلت على هذه الكتب السماوية والنصوص النبوية، والقواطع العقلية، وأجمعت عليه الأمم التي تؤمن بوجود الله وبربوبيته العامة؛ ولكن لما خاض بعض الناس في علم الكلام، وعربت كتب اليونان وقدماء الفلاسفة الذين هم من أجهل خلق الله وأضلهم في النظريات والضروريات، فضلا عن السمعيات مما جاءت به النبوات، حدث بسبب ذلك من الخوض والجدال في صفات الله ونعوت جلاله، التي جاءت بها الكتب، وأخبرت بها الرسل، ما أوجب لكثير من الناس تعطيل وجود ذاته وربوبيته، كما جرى للاتحادية والحلولية. فمن باب الكلام والمنطق، دخلوا في هذا الكفر الشنيع، والإفك الفظيع.

ومنهم من عطل صفات كماله ونعوت جلاله التي وصف بها نفسه، ووصفته بها رسله، وتمدح بها، وأثنى عليه بها صفوة خلقه وخلاصة بريته، حتى آل هذا القول والتعطيل بأهله، إلى أن شبهوه بالعدم المحض، فلم يصفوه إلا بصفات سلبية، ولم يثبتوا له من صفات كماله ونعوت جلاله ما هو عين الكمال والتعظيم، والإيمان والإجلال.

واختلف أهل هذا القسم اختلافا كثيرا، في أصول المقالات وفروعها. فمنهم من طرد الباب في جميع الصفات، ومنهم من أثبت بعضها، زعما منه أن العقل لا يثبت سواها، ونفى ما عداها من الصفات، كما هو

ص: 310

المعروف عمن ينتسب إلى الأشعري والكرامي; ثم هؤلاء قد يقولون في آيات الصفات وأحاديثها: تجرى على ظاهرها، يريدون أنها تتلى، ولا يتعرض لإثبات ما دلت عليه من المعنى المراد والحقيقة المقصودة; بل يصرحون برد ذلك ونفيه; ومقصود السلف بقولهم: أمروها كما جاءت، وقول من قال: تجرى على ظاهرها، إثبات ما دلت عليه من الحقيقة، وما يليق بجلال الله وعظمته، وكبريائه، ومجده، وقيوميته وحده، كما ذكر الوليد بن مسلم، عن مالك، والليث، وسفيان الثوري، والأوزاعي، أنهم قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف.

فقولهم: أمروها كما جاءت، رد على المعطلة الذين لا يرون ما دلت عليه وجاءت به من الحقيقة المقصودة والمعنى المراد، وقولهم: بلا كيف، رد على الممثلة الذين يعتقدون أن ظاهرها فيه تمثيل وتكييف، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا؛ ومذهب السلف: إثبات ما دلت عليه الآيات والأحاديث، على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته، وكبريائه، ومجده.

ومن قال: تجرى على ظاهرها، وأنكر المعنى المراد، كمن يقول في قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] إنه بمعنى: استولى، وفي قوله:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية: 75] إنه بمعنى: القدرة، ومع ذلك

ص: 311

يقول: تجرى على ظاهرها، فهذا جاهل متناقض، لم يفهم ما أريد من قولهم: تجرى على ظاهرها. ولم يفهم أن الظاهر هو ما دلت عليه نصا أو ظاهرا في معناه المراد، ولا يكفي في الإيمان الإتيان بقول ظاهر، يوافق ما كان عليه السلف وأهل العلم، مع اعتقاد نقيضه في الباطن؛ بل هذا عين النفاق، وهو من أفحش الكفر في نصوص الكتاب والسنة.

وأهل السنة وأهل العلم والفتوى لا يكتفون بمجرد الإيمان بألفاظ الكتاب والسنة في الصفات، من غير اعتقاد لحقيقتها وما دلت عليه من المعنى; بل لا بد من الإيمان بذلك، وكذا الاستواء على العرش، العلو، والارتفاع; وحديث الجارية: نص في أن اعتقاد العلو والفوقية، لا بد منه في الإيمان، وكما دلت عليه النصوص المتظاهرة من الكتاب والسنة، كقوله تعالى:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [سورة الأنعام آية: 18]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [سورة فاطر آية: 10] ، {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [سورة المعارج آية: 4] ، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [سورة غافر آية: 2] ، وحديث الأوعال، وحديث الرقية، وحديث الاستسقاء، وغير ذلك مما لا يكاد يحصى.

قال أبو مطيع: قال أبو حنيفة في الفقه الأكبر: من قال لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض، فقد كفر، لأن الله يقول:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، وعرشه فوق

ص: 312

السماوات، قلت: فإن قال إنه على العرش استوى، ولكن لا أدري، العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر، لأنه أنكر أن يكون الله في السماء، لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل؛ وهذا يدل على أن من آمن بنفس اللفظ، ونفى ما يدل عليه من العلو، فهو كافر عنده؛ وغيره من الأئمة لا يخالفه. وقال مالك رحمه الله: الله في السماء، وعلمه في كل مكان.

وقد بسط اللالكائي رحمه الله أقوال الأئمة من السلف ومن بعدهم، على تكفير هذا الضرب من الناس. وقد حبس هشام بن عبد الله الرازي، قاضي الري، رجلا في التجهم، فأظهر التوبة، فأحضر عنده، فقال: الحمد لله على التوبة، فقال هشام: أتشهد أن الله على عرشه، بائن من خلقه؟ فقال: أشهد أن الله على عرشه، ولا أدري ما بائن من خلقه، فقال: ردوه، فإنه لم يتب.

وذكر الحاكم بإسناد صحيح، عن محمد بن إسحاق بن خزيمة، رحمه الله، أنه قال:"من لم يقل إن الله فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه، ثم ألقي في مزبلة، لئلا يتأذى بنتن ريحه، أهل القبلة وأهل الذمة".

وبهذا تعلم أن التفويض عند السلف، إنما هو في العلم بالكيفية، لا فيما دلت عليه النصوص من إثبات

ص: 313

صفات الكمال، كالعلو، والارتفاع، والفوقية، فإن هذا لا بد من اعتقاده، والإيمان به; وقال ابن أبي زيد، القيرواني، في قوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] أي: بذاته وقد أنكر عليه من لا علم له، ولا اطلاع على مذهب السلف، والأئمة المقلدين، رضي الله عنهم أجمعين; وخبط في هذا المقام، بما لا طائل تحته، من فضول الكلام، الدال على فساد القصد، وعدم رسوخ الأفهام؟ فنعوذ بالله من معرة الجهل، والأوهام، ونستجير به، من مزلة الأقدام.

[جواب الشيخ عبد اللطيف على تفسير النور في حديث أعوذ بنور وجهك]

وقال أيضا: الشيخ عبد اللطيف، رحمه الله تعالى: وأما السؤال عن قوله صلى الله عليه وسلم: " أعوذ بنور وجهك " وقوله في حديث أبي موسى: " حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه، ما انتهى إليه بصره من خلقه "1، وقول السائل: هل يفسر هذا النور، أو لا؟

فالجواب:

أن النور يضاف إلى الله إضافة الصفة إلى الموصوف، ويضاف إليه إضافة المفعول إلى فاعله، كما أشار إليه العلامة ابن القيم رحمه الله، في نونيته; وما في دعائه صلى الله عليه وسلم مخرجه من الطائف، من الأول بلا ريب، فهو صفة ذات; وكذلك تسمى تعالى وتقدس بهذا الاسم الأنفس; وأما ما في حديث أبي موسى من ذكر السبحات المضافة إلى وجه الله تعالى، فهي من إضافة الصفة إلى الموصوف، على ما يأتي تفسيره.

1 مسلم: الإيمان (179) ، وأحمد (4/400 ،4/405) .

ص: 314

وأما قوله: حجابه النور فقد ذكر السيوطي وغيره في الحجب آثارا عن السلف، تدل على أن الله احتجب بحجب من نور، مخلوقة له، وكلام صاحب الكافية الشافية يشير إليه، لأنه عطفه في الذكر على ما تقدم، من أوصاف الذات; والأصل في العطف أن يكون للمغايرة; وقال في الجيوش الإسلامية: والله سبحانه سمى نفسه نورا، وجعل كتابه نورا، ورسوله صلى الله عليه وسلم نورا، ودينه نورا، واحتجب من خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه نورا; قال تعالى:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة النور آية: 35] الآية، وقد فسر بكونه: منور السماوات والأرض، وهذا إنما هو فعل، وإلا فالنور الذي هو من أوصافه قائم به، ومنه اشتق له اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى.

فالنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين: إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة فعل إلى فاعله، فالأول، كقوله:{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} [سورة الزمر آية: 69] ، إذا جاء لفصل القضاء، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور:" أعوذ بنور وجهك الكريم، أن تضلني، لا إله إلا أنت " وفي الأثر الآخر: " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات " فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الظلمات أشرقت بنور وجهه; كما أخبر تعالى: أن الأرض تشرق يوم القيامة بنوره.

وفي معجم الطبراني، والسنة له، وكتاب عثمان

ص: 315

الدارمي، وغيرهما، عن ابن مسعود رضي الله عنه:" ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السماوات والأرض من نور وجهه "، وهذا الذي قاله ابن مسعود، رضي الله عنه أقرب إلى تفسير الآية، من قول من فسرها: إنه هادي أهل السماوات والأرض; وأما من فسرها بأنه: منور السماوات والأرض، فلا تنافي بينه، وبين قول ابن مسعود، والحق أنه نور السماوات والأرض، بهذه الاعتبارات كلها.

وفي صحيح مسلم وغيره، من حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه قال:"قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام"1 فذكرها، وفي صحيح مسلم، عن أبي ذر رضي الله عنه قال:" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه "2، قال شيخ الإسلام: معناه: كان ثم نور، أو حال دون رؤيته نور، وأنى أراه; قال ويدل عليه: أن في بعض الألفاظ الصحيحة: هل رأيت ربك؟ قال: "رأيت نورا" وذكر الكلام في الرؤية، ثم قال: ويدل على صحته، ما قال شيخنا، في معنى حديث أبي ذر رضي الله عنه.

قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "حجابه النور": فهذا النور - والله أعلم - هو النور المذكور في حديث أبي ذر: " رأيت نورا "3 وأما السبحات، فهي نور الذات المقدسة العلية، وهي: النور الذي استعاذ به صلى الله عليه وسلم، وكلامه فيه إيماء إلى أنه

1 مسلم: الإيمان (179)، وابن ماجه: المقدمة (195) ، وأحمد (4/405) .

2 مسلم: الإيمان (178)، والترمذي: تفسير القرآن (3282) ، وأحمد (5/157 ،5/170 ،5/175) .

3 مسلم: الإيمان (178) .

ص: 316

تعالى احتجب بهذا النور المذكور، وهو الذي حجبه صلى الله عليه وسلم عن رؤية البارئ تعالى وتقدس، وهذا النور، الذي رآه صلى الله عليه وسلم كما تقدم في حديث أبي ذر:" رأيت نورا " وقد احتجب سبحانه وتعالى بحجب عن خلقه، من نور ومن غيره، كما ذكر في آثار مروية عن السلف، جمع كثيرا منها السيوطي، في كتاب الهيئة السنية؛ فإذا فسرت السبحات بنور وجهه الكريم، جازت الاستعاذة بها، لأنها وصف ذات.

ويؤيد ما إليه أومأ ابن القيم، رحمه الله تعالى، قول ابن الأثير: سبحات الله جل جلاله، عظمته; وهي في الأصل: جمع سبحة، وقيل: ضوء وجهه، وقيل: سبحات وجهه، محاسنه; وقيل معناه: تنْزيهه له; أي: سبحان وجهه; وقيل: إن سبحات الوجه، كلام معترض، بين الفعل والمفعول، أي: لو كشفها، لأحرقت كل شيء أبصرت.

قلت: يريد أن السبحات هي النور الذي احتجب به ولذلك، قال: لو كشفها; قال: وأقرب من هذا، أن المعنى: لو انكشف من أنوار الله تعالى - التي تحجب العباد - شيء، لأهلك كل من وقع عليه ذلك النور، كما خر موسى صعقا وتقطع الجبل دكا، لما تجلى الله سبحانه وتعالى؛ ففي كلام ابن الأثير: ما يدل على أن الحجاب نفس أنوار الذات، فتأمله. وذكر ابن الأثير وغيره، أن جبرائيل، "قال: لله دون العرش سبعون حجابا، لو دنونا من

ص: 317

أحدها، لأحرقتنا سبحات وجهه". انتهى.

ومقتضى ما قال القرطبي، في حديث أبي موسى:" حجابه النور، أو النار ": أن هذا حجاب منفصل عن أنوار الذات، لكنه يجري في هذه المباحث على طريق المتكلمين، فيما جاء في هذا الباب من صفات الكمال، ونعوت الجلال.

[الاشتغال بكتاب الإحياء للغزالي وكلام الأئمة فيه]

وله أيضا: قدس الله روحه، ونور ضريحه، ما نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، صلاة دائمة مستمرة إلى يوم الدين.

وبعد: فإني رأيت بعض أهل وقتنا يشتغل بكتاب الإحياء للغزالي، ويقرأ فيه عند العامة، وهو لا يحسن فهم معانيه، ولا يعرف ما تحت جمله ومبانيه، ليست له أهلية في تمييز الخبيث من الطيب، ولا دراية بما تحت ذلك البارق من ريح عاتية أو صيب; فكتبت إليه نصيحة وأرسلت إليه بعض أصحابه، وأرشدته إلى الدواوين الإسلامية المشتملة على الأحاديث النبوية والسير السلفية،

ص: 318

والرقائق الوعظية، فلم يقبل، واستمر على رأيه، وأعجب بنفسه، وأظهر ذلك لبعض من يجالسه، وحط من قدر الناهي له.

فكتبت إليه كتابا، فلم يصغ، ولم يلتفت، وزعم أنه على بصيرة; وأبدى من جهله الأعاجيب الكثيرة، فأحببت أن أذكر للطلبة والمستفيدين بعض ما قاله أئمة الإسلام والدين في هذا الكتاب، المسمى بالإحياء ليكون الطالب على بصيرة من أمره، ولئلا يلتبس عليه ما تحت عباراته من زخرف القول.

وصورة ما كتبت، أولا:

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ عبد الله، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فقد بلغني عنك ما يشغل كل من له حمية إسلامية، وغيرة دينية على الملة الحنيفية، وذلك أنك اشتغلت بالقراءة في كتاب الإحياء للغزالي، وجمعت عليه من لديك من الضعفاء والعامة الذين لا تمييز لهم بين مسائل الهداية والسعادة، ووسائل الكفر والشقاوة، وأسمعتهم ما في الإحياء من التحريفات الجائرة، والتأويلات الضالة الخاسرة، والشقاشق التي اشتملت على الداء الدفين، والفلسفة في أصل الدين.

وقد أمر الله تعالى وأوجب على عباده أن يتبعوا رسله، وأن يلتزموا سبيل المؤمنين، وحرم اتخاذ الولائج من

ص: 319

دون الله ورسوله، ومن دون عباده المؤمنين، وهذا الأصل المحكم، لا قوام للإسلام إلا به. وقد سلك في الإحياء طريق الفلاسفة والمتكلمين في كثير من مباحث الإلهيات وأصول الدين، وكسا الفلسفة لحاء الشريعة، حتى ظنها الأغمار والجهال بالحقائق من دين الله الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، ودخل به الناس في الإسلام; وهي في الحقيقة محض فلسفة منتنة، يعرفها أولو الأبصار، ويمجها من سلك سبيل أهل العلم كافة، في القرى والأمصار.

قد حذر أهل العلم والبصيرة عن النظر فيها، ومطالعة خافيها وباديها؛ بل أفتى بتحريقها علماء المغرب ممن عرف بالسنة، وسماها كثير منهم إماتة علوم الدين. وقام ابن عقيل أعظم قيام في الذم والتشنيع، وزيف ما فيه من التمويه والترقيع، وجزم بأن كثيرا من مباحثه زندقة خالصة، لا يقبل لصاحبها صرف ولا عدل.

قال شيخ الإسلام: ولكن أبو حامد دخل في أشياء من الفلسفة، وهي عند ابن عقيل زندقة، وقد رد عليه بعض ما دخل فيه من تأويلات الفلاسفة، ورد عليه شيخ الإسلام في السبعينية، وذكر قوله في العقول والنفوس، وأنه مذهب الفلاسفة، فأفاد وأجاد. ورد عليه غيره من علماء الدين، وقال فيه تلميذه بن العربي المالكي: شيخنا أبو حامد دخل في جوف الفلسفة، ثم أراد الخروج فلم يحسن; وكلام

ص: 320

أهل العلم معروف في هذا، لا يشكل إلا على من هو مزجى البضاعة، أجنبي من تلك الصناعة.

ومشايخنا - تغمدهم الله برحمته- مضوا على هذا السبيل والسنن، وقطعوا الوسائل إلى الزندقه والفلسفة والفتن، وأدبوا على ما هو دون ذلك، وأرشدوا الطالب إلى أوضح المناهج والمسالك، وشكرهم على ذلك كل صاحب سنة وممارسة للعلم النبوي.

وأنت قد خالفت سبيلهم، وخرجت عن مناهجهم، وضللت المحجة، وخالفت مقتضى البرهان والحجة، واستغنيت برأيك، وانفردت بنفسك، عن المتوسمين بطلب العلم، المنتسبين إلى السنة: ما أقبح الحور بعد الكور! وما أوحش زوال النعم، وحلول النقم! إذا سمعت بعض عباراته المزخرفة، قلت: كيف ينهانا عن هذا فلان، أو يأمر بالإعراض عن هذا الشأن.

كأنك سقطت على الدرة المفقودة، والضالة المنشودة، وقد يكون ما أطربك، وهز أعطافك وحركك، فلسفة منتنة، وزندقة مبهمة، أخرجت في قالب الأحاديث النبوية، والعبارات السلفية، فرحم الله عبدا عرف نفسه، ولم يغتر بجاهه، وأناب إلى الله، وخاف الطرد عن بابه، والإبعاد عن جنابه.

وينبغي للإمام، أيده الله، أن ينْزع هذا الكتاب من

ص: 321

أيديكم; ويلزمكم بكتب السنة، من الأمهات الست وغيرها، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.

ثم جمعت بعض أقوال أهل العلم، وما أفتوا به في هذا الكتاب، وتحذيرهم للطالب والمسترشد; فمن ذلك: قول الذهبي - في ترجمته للغزالي -: وأخذ في تأليف الأصول، والفقه، والكلام، والحكمة، وأدخله سيلان ذهنه، في مضائق الكلام، ومزال الأقدام، ولله سر في خلقه، وساق الكلام - إلى أن قال -: ذكر هذا عبد الغافر - إلى أن قال -: ثم حكى عنه أنه راجع العلوم، وخاض في الفنون الدقيقة، والتقى بأربابها، حتى تفتحت له أبوابها، وبقي مدة، وفتح عليه باب من الخوف، بحيث شغله عن كل شيء - إلى أن قال - ومما كان يعترض عليه به، وقوع خلل من جهة النحو، في أثناء كلامه، وروجع فيه، فأنصف واعترف بأنه ما مارسه.

ومما نقم عليه، ما ذكر من الألفاظ المستبشعة بالفارسية في كيمياء السعادة والعلوم، وشرح بعض الصور والمسائل، بحيث لا يوافق مراسم الشرع، وظواهر ما عليه قواعد الملة. وكان الأولى به، والحق أحق ما يقال: ترك ذلك التصنيف، والإعراض عن الشرح له. فإن العوام ربما لا يحكمون أصول القواعد بالبراهين والحجج، فإذا سمعوا شيئا من ذلك، تخيلوا منه ما هو أضر بعقائدهم، وينسبون ذلك إلى بيان مذهب الأوائل.

ص: 322

قال الذهبي: ما نقله عبد الغافر على أبي حامد في الكيمياء، فله أمثاله في غضون تواليفه، حتى قال أبو بكر بن العربي: شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة، وأراد أن يتقيأهم فما استطاع. انتهى.

ومن معجم أبي علي الصدفي، في تأليف القاضي عياض له، قال الشيخ: أبو حامد، ذو الأنباء الشنيعة، والتصانيف العظيمة، غلا في طريق التصوف، وتجرد لنصر مذهبهم، وصار داهية في ذلك، وألف فيه تآليفه المشهورة؛ أخذ عليه فيها مواضع، وساءت به ظنون أمة، والله أعلم بسره، ونفذ أمر السلطان عندنا بالمغرب، وفتوى الفقهاء بإحراقها، والبعد عنها، فامتثل ذلك. انتهى.

ونقل أبو المظفر يوسف، سبط ابن الجوزي، المتهم بالتشيع، في كتابه: رياض الأفهام قال: ذكر أبو حامد في كتابه: سر العالمين، وكشف ما في الدارين، وقال في حديث:" من كنت مولاه فعلي مولاه " إن عمر قال: بخ، بخ، أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة، قال أبو حامد: وهذا تسليم ورضى، ثم بعد هذا غلب عليه الهوى، حبا للرياسة، وعقد البنود، وأمر الخلافة، ونهيها، فحملهم على الخلاف {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [سورة آل عمران آية: 187] ، وسرد كثيرا من هذا الكلام الفسل الذي تزعمه الإمامية.

ص: 323

قال الذهبي: وما أدري ما عذره في هذا، الظاهر أنه رجع عنه، وتبع الحق. قلت: هذا إن لم يكن من وضع هذا، وما ذاك ببعيد، ففي هذا التأليف بلايا لا تستطاب، قلت: ما ذكره الذهبي ممكن، والغرض: أن ما ينسب إلى هذا الرجل، لا يغتر به، ويجب هجره واطراحه، لما في كتبه من الداء العضال، والعثرات التي لا تقال.

قال الذهبي: قد ألف الرجل في ذم الفلاسفة كتاب التهافت، وكشف عوراتهم، ووافقهم في مواضع، ظنا منه أن ذلك حق، أو موافق للملة، ولم يكن له علم بالآثار، ولا خبرة بالسنن النبوية، القاضية على العقل، وحبب إليه إدمان النظر في كتاب رسائل إخوان الصفا، وهو داء عضال، وجرب مردئ، وسم قاتل، ولولا أن أبا حامد من الأذكياء وخيار المخلصين، لتلف.

فالحذر، الحذر، من هذه الكتب! واهربوا بدينكم من شبه الأوائل، وإلا وقعتم في الحيرة، فمن رام النجاة والفوز، فليلزم العبودية، وليكثر الاستغاثة بالله، وليبتهل إلى مولاه، في الثبات على الإسلام، وأن يتوفى على إيمان الصحابة وسادة التابعين، والله الموفق، فبحسن قصد العالم، يغفر له، وينجو إن شاء الله تعالى.

وقال أبو عمر بن الصلاح: فصل في بيان أشياء مهمة أنكرت على أبي حامد; ففي تواليفه أشياء لم يرتضها

ص: 324

أهل مذهبه من الشذوذ. منها قوله في المنطق: هو مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط به فلا ثقة له بمعلوم أصلا، قال: فهذا مردود، إذ كل صحيح الذهن منطقي بالطبع، وكم من إمام ما رفع بالمنطق رأسا.

فأما كتاب: المضنون به على غير أهله; فمعاذ الله أن يكون له، شاهدت على نسخة منه بخط القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري، أنه موضوع على الغزالي، وأنه مخترع من كتاب: مقاصد الفلاسفة، وقد نقضه الرجل بكتاب: التهافت.

وقال أحمد بن صالح الجبلي في تاريخه: وقد رأيت كتاب: الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء، للمازري: الحمد لله الذي أنار الحق وأداله، وأباد الباطل وأزاله

ثم أورد المازري أشياء مما انتقده على أبي حامد، يقول: ولقد أعجب من قوم مالكية، يرون الإمام مالكا يهرب من التحديد، وإيجاب أن يرسم رسما، وإن كان فيه أثر ما، أو قياس ما، تورعا وتحفظا من الفتوى، فيما يحمل الناس عليه، ثم يستحسنون من الرجل فتاوى مبناها على ما لا حقيقة له، وفيه كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم لفق منه الثابت، بغير الثابت.

وكذا ما أورد عن السلف، لا يمكن ثبوته كله، وأورد من نزعات الأولياء، ونفثات الأصفياء، ما يجل موقعه، لكن

ص: 325

مزج فيه النافع بالضار، كإطلاقات يحكيها عن بعضهم، لا يجوز إطلاقها لشناعتها، وإن أخذت معانيها على ظواهرها كانت كالرموز لقدح الملحدين، ولا تنصرف معانيها إلى الحق إلا بتعسف، على أن اللفظ مما لا يتكلف العلماء مثله، إلا في كلام صاحب الشرع الذي اضطرت المعجزات الدالة على صدقه، - المانعة من جهله.

وكذبه إلى طلب التأويل1 كقوله: " إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن "2 " وإن السماوات على أصبع " وكقوله: " لأحرقت سبحات وجهه "3 وكقوله: " يضحك الله " إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة، ظاهرها مما أحاله العقل4 - إلى أن قال - فإذا كانت العصمة غير مقطوع بها في حق الولي، فلا وجه لإضافة ما لا يجوز إطلاقه إليه، إلا أن يثبت، وتدعو ضرورة إلى نقله، فيتأول

إلى أن قال: ألا ترى: لو أن منصفا أخذ يحكي عن بعض الحشوية، مذهبه في قدم الصوت والحرف، وقدم الورق، لما حسن به أن يقول: قال بعض المحققين: إن القارئ، إذا قرأ كتاب الله، عاد القارئ في نفسه قديما بعد أن كان محدثا; وقال

1 قوله: إلى طلب التأويل

إلخ، مردود على قائله، والذي عليه السلف: أن هذه الأحاديث، ونحوها، تجري على ظواهرها، مع اعتقاد ما دلت عليه.

2 الترمذي: القدر (2140)، وابن ماجه: الدعاء (3834) .

3 مسلم: الإيمان (179) ، وأحمد (4/400 ،4/405) .

4 لا تحيله العقول السليمة، فإنها حق على حقيقتها.

ص: 326

بعض الحذاق: إن الله محل للحوادث، إذا أخذ في حكاية مذاهب الكرامية.

وقال قاضي الجماعة أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي: إن بعض من يعظ، ممن كان ينتحل رسم الفقه، ثم تبرأ منه شغفا بالشريعة الغزالية، والنحلة الصوفية، أنشأ كراسة تشتمل على معنى التعصب لكتاب أبي حامد، إمام بدعتهم، فأين هو من تشنيع مناكيره؟ وتضليل أساطيره المباينة للدين، وزعم: أن هذا من علم المعاملة، المفضي إلى علم المكاشفة، الواقع بهم على سر الربوبية، الذي لا يسفر عن قناعه ولا يفوز باطلاعه، إلا من تمطى إلى شيخ ضلالته، التي رفع لهم أعلامها، وشرع أحكامها.

قال أبو حامد: وأدنى من هذا العلم التصديق به، وأقل عقوبته أن لا يرزق المنكر منه شيئا فأعرض من قوله، على قوله: ولا يشتغل بقراءة قرآن، ولا بكتب حديث، لأن ذلك يقطعه عن الوصول إلى إدخال رأسه في كم جيبه، والتدثر بكسائه، فيسمع نداء الحق، فهو يقول: ذروا ما كان السلف عليه، وبادروا إلى ما أمركم به، ثم إن القاضي أقذع، وسب، وكفر.

وقال أبو حامد: وصدور الأحرار قبور الأسرار، ومن أفشى سر الربوبية كفر، ورأى مثل قتل الحلاج خيرا من إحياء عشرة، لإطلاقه ألفاظا، ونقل عن بعضهم قال: للربوبية

ص: 327

سر لو ظهر لبطلت النبوة; وللنبوة سر لو كشف لبطل العلم; وللعلم سر لو كشف لبطلت الأحكام; قلت: سر العلم قد كشف بصوفية أشقياء، فانحل النظام، وبطل لديهم الحلال والحرام.

قال ابن أحمد: ثم قال الغزالي، القائل بهذا إن لم يرد إبطال النبوة في حق الضعفاء، فما قال ليس بحق; فإن الصحيح لا يتناقض، وإن الكامل لا يطفئ نور معرفته نور ورعه، وقال الغزالي: العارف، يتجلى له أنوار الحق، وتنكشف له العلوم المرموزة المحجوبة عن الخلق، فيعرف معنى النبوة، وجميع ما وردت به ألفاظ الشريعة، التي لحن منها على ظاهرها، قال عن بعضهم: إذا رأيته في البداية قلت صدّيقا، وإذا رأيته في النهاية قلت زنديقا، ثم فسره الغزالي، فقال: إذا رأيتم الزنديق لا يلصق إلا بمعطل الفرائض، لا بمعطل النوافل، وقال: وذهبت الصوفية إلى العلوم الإلهامية دون التعليمية; فيجلس فارغ القلب، مجموع الهم، فيقول: الله، الله، الله، على الدوام; فيتفرغ قلبه، ولا يشتغل بتلاوة، ولا كتب حديث; فإذا بلغ هذا الحد، التزم الخلوة ببيت مظلم، ويتدثر بكسائه، فحينئذ يسمع نداء الحق:{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [سورة المزمل آية: 1]، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [سورة المدثر آية: 1] .

قلت: إنما سمع شيطانا، أو سمع شيئا لا حقيقة له،

ص: 328

من طيش دماغه، والتوفيق في الاعتصام بالكتاب، والسنة، والإجماع.

قال أبو بكر الطرطوشي: شحن أبو حامد كتاب الإحياء بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما على بسيط الأرض أكثر كذبا منه، شبكه بمذاهب الفلاسفة، ومعاني رسائل إخوان الصفاء، وهم قوم يرون النبوة مكتسبة; وزعموا أن المعجزات حيل ومخاريق. قال ابن عساكر: حج أبو حامد، وأقام بالشام نحوا من عشرين سنة، وصنف، وأخذ نفسه بالمجاهدة، وكان مقامه بدمشق، في المنارة الغربية من الجامع، سمع صحيح البخاري، من أبي سهل الحمصي، وقدم دمشق في سنة تسع وثمانين.

وقال ابن خلكان: بعثه النظام على مدرسته ببغداد، في سنة أربع وثمانين، وتركها في سنة ثمان وثمانين، وزهد، وحج، وأقام بدمشق مدة بالزاوية الغربية. ثم انتقل إلى بيت المقدس يتعبد، ثم قصد مصر، وأقام مدة بالإسكندرية، فقيل: عزم على المضي إلى يوسف بن تاشفين، سلطان مراكش، فبلغه نعيه. ثم عاد إلى طوس، وصنف: البسيط، والوسيط، والوجيز، والخلاصة، والإحياء، وألف المستصفى في أصول الفقه، والمنخول، واللباب، والمنتحل في الجدل، وتهافت الفلاسفة، ومحك النظر، ومعيار العلم، وشرح الأسماء الحسنى، ومشكاة الأنوار، والمنقذ من الضلال، وحقيقة القولين، وأشياء أخرى. انتهى.

ص: 329

قال عبد الله بن علي الأثيري: سمعت عبد المؤمن بن علي القيسي، سمعت عبد الله بن تومرت، يقول: أبو حامد الغزالي قرع الباب، وفتح لنا. قال أبو محمد العثماني وغيره: سمعنا محمد بن يحيى العذري المؤدب يقول: رأيت بالإسكندرية، سنة خمسمائة، كأن الشمس طلعت من مغربها، فعبرها لي عابر، ببدعة تحدث فيهم، فبعد أيام وصل الخبر بإحراق كتب الغزالي من البريد.

قال أبو بكر بن العربي، في شرح الأسماء الحسنى: قال شيخنا أبو حامد قولا عظيما، انتقده عليه العلماء، وقال: وليس في قدرة الله أبدع من هذا العالم، في الإتقان والحكمة، ولو كان في القدرة أبدع أو أحكم منه ولم يفعله، لكان ذلك قضاء للجور، وذلك محال. ثم قال: والجواب: أنه باعد في اعتقاد عموم القدرة ونفي النهاية عن تقدير المقدرات المتعلقة بها، ولكن في تفصيل هذا العلم المخلوق، لا في سواه; وهذا رأي فلسفي، قصدت به الفلاسفة قلب الحقائق، ونسبة الإتقان إلى الحياة مثلا; والوجود إلى السمع والبصر، حتى لا يبقى في القلوب سبيل إلى الصواب؛ واجتمعت الأمة على خلاف هذا الاعتقاد، وقالت عن بكرة أبيها: إن المقدورات لا نهاية لها بكل مقدور الوجود، لا بكل حاصل الوجود، إذ القدرة صالحة. ثم قال: هذه وهلة لألعابها، ومزلة لا تماسك فيها، ونحن وإن كنا نقطة من بحره، فإنا لا نرد عليه إلا بقوله.

ص: 330

ومما أخذ عليه، قوله: إن للقدر سرا نهينا عن إفشائه; فأي سر للقدر؟! فإن كان مدركا بالنظر وصل إليه ولا بد، وإن كان مدركا بالخبر فما ثبت فيه شيء، وإن كان يدرك بالحيل والعرفان فهذه دعوى محضة، فلعله عنى بإفشائه: أن تعمق في القدر وبحث فيه.

قال الذهبي: أنبأنا محمد بن عبد الكريم، أنبأنا أبو الحسن السخاوي، أنبأنا خطاب بن قمرية الصوفي، أنبأنا سعد بن أحمد الإسفرائيني بقراءتي، أنبأنا أبو حامد محمد بن محمد الطوسي، قال: اعلم أن الدين شطران: أحدهما ترك المناهي، والآخر فعل الطاعات؛ وترك المناهي هو الأشد، والطاعات يقدر عليه كل أحد، وترك الشهوات لا يقدر عليه إلا الصديقون، ولذلك قال أبو عامر العبدي: سمعت أبا نصر أحمد بن محمد بن عبد القاهر الطوسي يحلف بالله أنه أبصر في نومه، كأنه ينظر في كتب الغزالي، فإذا هي كلها تصاوير.

وقال ابن الوليد الطرطوشي في رسالته إلى ابن المظفر: فأما ما ذكرت من أبي حامد، فقد رأيته وكلمته، ورأيته جليلا من أهل العلم، واجتمع فيه العقل والفهم، ومارس العلوم طول عمره، وكان على ذلك معظم زمانه، ثم بدا له عن طريقة العلماء، ودخل في غمار العمال، ثم تصوف، وهجر العلوم، وأهلها، ودخل في علوم الخواطر، وأرباب القلوب، ووساوس الشيطان، ثم شابها بآراء

ص: 331

الفلاسفة، ورموز الحلاج، وجعل يطعن على الفقهاء والمتكلمين؛ ولقد كاد أن ينسلخ من الدين، فلما عمل الإحياء عمد يتكلم في علوم الأحوال، ومرامز الصوفية، وكان غير أنيس بها، ولا خبير بمعرفتها، فسقط على أم رأسه، وشحن كتابه بالموضوعات.

قال الذهبي، بعد أن ساق كلام ابن الوليد الطرطوشي، قلت: أما الإحياء ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير، لولا ما فيه من آداب ورسوم، وزهد من طرائق الحكماء ومنحرف الصوفية، نسأل الله علما نافعا; تدري ما العلم النافع؟ هو ما نزل به القرآن، وفسره رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا، وفعلا، ولم يأت نهي عنه، قال عليه السلام:" من رغب عن سنتي فليس مني "1. فعليك يا أخي بتدبر كتاب الله، وبإدمان النظر في الصحيحين، وسنن النسائي، ورياض النووي، وأذكاره، تفلح وتنجح، وإياك وآراء عباد الفلاسفة، ووظائف أهل الرياضات، وجوع الرهبان، وخطاب طيش رؤوس أصحاب الخلوات; فكل الخير في متابعة الحنيفية السمحة، فواغوثاه بالله! اللهم اهدنا الصراط المستقيم. انتهى.

ولمحمد بن علي المازني الصقيلي، كلام على الإحياء، قال فيه: قد تكررت مكاتبتكم في استعلام مذهبنا في الكتاب المترجم بإحياء علوم الدين، وذكرتم أن آراء الناس فيه قد اختلفت، فطائفة انتصرت وتعصبت لإشهاره، وطائفة حذرت منه ونفرت، وطائفة لكتبه أحرقت. وكاتبني

1 البخاري: النكاح (5063)، ومسلم: النكاح (1401)، والنسائي: النكاح (3217) ، وأحمد (3/241 ،3/259 ،3/285) .

ص: 332

أهل المشرق أيضا يسألوني، ولم يتقدم لي قراءة هذا الكتاب، سوى نبذة منه، فإن نفس الله في العمر، مددت منه الأنفاس، وأزلت عن القلوب الالتباس، اعلموا: أن هذا الرجل، رأيت تلامذته، فكل منهم حكى لي نوعا من حاله، ما قام مقام العيان، فأنا أقتصر على ذكر حاله، وحال كتابه، وأذكر جملا من مذاهب الموحدين، والمتصوفة، وأصحاب الإشارات، والفلاسفة، فإن كتابه متردد بين هذه الطوائف.

ثم قال: وأما علم الكلام الذي هو أصل الدين، فإنه صنف فيه، وليس بالمتبحر فيها، ولقد فطنت لعدم استبحاره فيها، وذلك أنه قرأ علوم الفلسفة قبل استبحاره في فن الأصول، فأكسبته الفلسفة جراءة على المعاني، وتسهيلا للهجوم على الحقائق، لأن الفلاسفة تمر مع خواطرها لا يزعها شرع; وعرفني صاحب له أنه كان له عكوف على رسائل إخوان الصفا، وهي إحدى وخمسون رسالة; ألفها من قد خاض في علم الشرع، والنقل، وفي الحكمة; فمزج بين العلمين، وقد كان رجل يعرف بابن سينا، ملأ الدنيا تصانيف، أدته قوته في الفلسفة إلى أن حاول رد أصول العقائد إلى علم الفلسفة، وتلطف جهده حتى تم له ما لم يتم لغيره.

ص: 333

[رسالة الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن]

قال الشيخ: إسحاق بن عبد الرحمن، بن حسن رحمه الله:

بسم الله الرحمن الرحيم

من إسحاق بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وموجب الكتاب: النصيحة لله، التي هي من ألزم اللوازم، وفي الحديث: "الدين النصيحة

"1 إلخ.

وبعد حمد الله الذي هو للحمد أهل، فالذي أوصيك به: تقوى الله تعالى، واتباع كتابه الذي جعله للناس نورا وروحا، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة الشورى آية: 52] ، فكما أن الروح حياة البدن، فالقرآن حياة القلوب; فإذا عرف الإنسان، أن القلب يموت بفقد القرآن، كما يموت البدن بفقد الروح، عرف قدر القرآن، وأن طلب الهدى من غيره ضلال وهوان، فالروح للحياة، والنور للهداية.

وأما قوله {نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [سورة الشورى آية: 52] ففيه خوف

1 مسلم: الإيمان (55)، والنسائي: البيعة (4197 ،4198)، وأبو داود: الأدب (4944) ، وأحمد (4/102) .

ص: 334

المؤمن على نفسه أن لا يوفق لذلك; وفيه بيان التوكل على الله في كل الأمور، خصوصا في هداية القلوب وغفران الذنوب، فما قدر الله حق قدره من استعان بغيره في حاجاته; وفيه الفرق بين هداية الإرشاد، وهداية التوفيق، كما في قوله:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [سورة القصص آية: 56] .

إذا تقرر ذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم جعله الله إماما للناس، فكما أنزل عليه القرآن، أنزل عليه السنة، موافقة للقرآن مبينة له; فما وافق هديه فهو الصراط المستقيم، وما خالفه فهو البدعة والضلال الوخيم، وكل بدعة ضلالة، إذ لا طريق إلى الحق إلا من طريقه، ولا شرب إلا من حوضه ورحيقه، وجميع الطرق مسدودة، وجميع الآراء مردودة، إلا ما وافق الكتاب والسنة. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله يقول:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [سورة النور آية: 63] الآية، فانظر إلى إنكاره على من وافق رأي سفيان، فكيف بمن اتبع رأي فلان وفلتان، وترك النظر في السنة والقرآن؟ !

وقد حضر إلى الواثق في أيام المحنة، رجل من البادية، فقال: هل علم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الرأي الذي دعوتم إليه الناس، ولم يدع الأمة إليه، أو هو لم يعلمه؟ فقال القاضي: بل علمه، فقال: وكيف وسعه أن يترك الناس ولم

ص: 335

يدعهم إليه، وأنتم لا يسعكم؟ فترك الواثق المحنة.

والمقصود: أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة الاتباع، وطاعة الغير سائغة الاتباع، وقد عكس الناس القضية، بآراء غير مرضية. قال بعض العلماء: مات أبو بكر، وعمر، ولم يعرفا الجوهر والعرض ولا لفظ الجهة، ولا الحيز؛ بل درجا على ما عليه صاحبهما درج، وتركا ما فيه الضيق والحرج.

وقد سد السلف رضوان الله عليهم باب الخوض والكلام فيما لم يكن على عهد السلف الكرام، لأنهم أعرف بالله، وبأسمائه، وصفاته، ولم يتكلموا فيها بما يحيلها عن ظاهرها المراد اللائق بالله لا بالعباد، وهم أزكى الأمة عقولا، وأوفرها علوما، وأرسخها إيمانا، أثبتوا لله ما أثبته لنفسه وما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم وكانوا أشد الناس في ذلك، وفي سد تلك الطرق والمسالك المفضية إلى المهالك. روى عثمان بن سعيد الدارمي قال: حدثنا الحسن بن الصباح قال: حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، عن ابن المبارك، قيل له:"كيف نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق السماء السابعة، بائن من خلقه".

قال الواسطي رحمه الله، واعلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث بأفصح اللغات، وأبين الألسنة والعبارات، وقد صرح ببيان صفات الله، مخبرا بها عن ربه، واصفا له بها؛ وكان

ص: 336

يحضر مجلسه الشريف العالم، والجاهل، والذكي، والبليد، والأعرابي الجافي; وقد أوجب عليهم أن يتدبروا ذلك الكتاب، ويعتقدوا موجب ذلك الخطاب، ليزدادوا به معرفة، مع الفطرة السليمة.

فهل يتصور عاقل أن هناك دليلا خفيا لا يستنبطه إلا أفراد الناس؟ ويدع الأمة في حيرة والتباس، ويترك تبليغه الأمة، ويدعهم في جهالة وضلالة وغمة، حتى إذا انقرض عصر الصحابة والتابعين، ظفر ببيانه من أخذ عن اليونان والصابئين، كجهم وبشر وغيرهما من المبتدعين؟! هذا والله نقيض البيان، وضد الهدى والبرهان، كيف يتكلم هو، وهم، بكلام يريدون به خلاف ظاهره المراد، المخالف لما يتوهمه أهل الفساد، ويندرجون على خلاف هذا الاعتقاد، وأن صرفه إلى التأويلات المحدثة هو المراد؟ !.

من لم يكن يكفيه ذان فلا كفاه الله شر حوادث الأزمان

بل السلف رضوان الله عليهم أنصح للأمة، وأبين للسنة، وقد فهموا: أن بعض العلم جهالة، قال صلى الله عليه وسلم:" إن من العلم جهلا "1 وقال في دعائه: " أعوذ بالله من علم لا ينفع "2، وقال علي:"حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله"

وقد علم أن ما كان في الكتاب والسنة، لا يخالف ظاهره باطنه، فقد عرفوا دليله، ووضحوا سبيله، إما بأن

1 أبو داود: الأدب (5012) .

2 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2722)، والنسائي: الاستعاذة (5458 ،5538) .

3 البخاري: العلم (127) .

ص: 337

يكون عقليا ظاهرا، مثل قوله تعالى:{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة النمل آية: 23] فإن كل أحد يعلم من عقله أن المراد وأوتيت من جنس ما يؤتاه مثلها، وكذلك قوله تعالى:{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 102] فإنه قد علم بالضرورة أن الخالق لا يدخل في هذا العموم، أو سمعيا ظاهرا، مثل الدلالات في الكتاب والسنة، التي تصرف عن الظاهر، كالمعية الخاصة، والعامة; فإن الإجماع من الصحابة والتابعين انعقد على أن المراد به العلم، لأن الله بدأها بالعلم وختمها به.

وقد أجمع العقلاء أنه لا بد من دليل سمعي أو عقلي، يوجب الصرف عن الحقيقة إلى المجاز، وإن ادعى ظهور الدليل، فلا بد من دليل مرجح لحمله على ذلك. ومن الموانع: الاشتراك في اللفظ، ومن أراد هذا وجده في مظانه؛ ومن جعل السنة معياره أدرك المأمول، وعرف جنايات المجازات والعقول، على صريح المنقول.

ومن تغذى بكلام المتأخرين من غير إشراف على كتب أهل السنة المشتهرين، ككتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد، وكتاب السنة للخلال، وكتاب السنة للالكائي، والدارمي، وغيرهم، بقي في حيرة وضلال؛ وسأذكر لك طرفا من كلام العلماء، في بيان الاستواء.

قال الواسطي: ظن القوم أن إثبات الجهة في حق

ص: 338

الباري وجودية، تحيط به وتحوطه، إحاطة الظرف بالمظروف; وهو سبحانه أعظم من ذلك وأكبر {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [سورة طه آية: 110] ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى آية: 11] ، لا طريق إلى العلم بذلك، ولا نتجاوز ما علمناه في كتابه وما قاله رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من كونه فوق عرشه هذا المعنى؛ وإثبات جهة الفوقية لا محيد عنه {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [سورة الروم آية: 30] ، وهو بحسب الكون وحدوثه، لا بحسب المكون، تعالى وتقدس.

وتكون الإشارة إلى السماء إشارة حقيقية، وهي واقفة على أعلى جزء من الكون، وتقع على عظمة الإله على ما يليق به، وإنكاركم للجهة التي المقصود بها مباينة الخالق للمخلوق، وعلوه على خلقه، واستواؤه على عرشه، إنكار باطل، وتسميته جهة اصطلاح منكم نفرتم به الجهال، وسوغتم به الضلال، ونفيتم به صفات الكمال.

قال بعض العلماء: وقد توصل الجهمية إلى نفي ما دل عليه العقل والنقل، فسموا ما فوق العالم جهة وقالوا: منَزّه عن الجهة، وسموا العرش حيزا وقالوا: منَزّه عن التحيز; وسموا الصفات أعراضا وقالوا: منَزّه عن قيام الأعراض؛ وسموا حكمته غرضا وقالوا: منَزّه عن الأغراض؛ وسموا كلامه، ونزوله إلى السماء، ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء، ومشيئته، وإرادته، وغير ذلك حوادث، وقالوا:

ص: 339

منَزّه عن الحوادث; وحقيقة هذا التنْزيه، أنه منَزه عن الوجود، وعن الربوبية، وعن الملك، وعن كونه فعالا لما يريد، إذ لا حرج ولا عار في الإقرار بما في كتابه العزيز وصحيح الأخبار.

فانظر ما تحت تنْزيه المعطلة، وما تحت تشبيه المجسمة، من عزل الكتاب والسنة، وسلب الصفات، أو جعلها كصفات المخلوقات، تجد الحق وسطا بين طرفين، وهدى بين ضلالتين; ومن خبيث صنيعهم أنهم لما علموا أن النصوص قاضية عليهم، قالوا: هي ظنية، والعقول قطعية، وقد علم كل من وفقه الله أن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح.

ولكن على تلك القلوب أكنة فليست وإن أصغت تجيب المناديا

والحاصل: أنه ما من اسم يسمى الله به، إلا والظاهر الذي يستحقه المخلوق غير مراد، وأنه سبحانه منَزه عن كل ما يلزم منه حدوثه أو نقصه، فكما أن علمنا، وقدرتنا، وإرادتنا، وحياتنا، وكلامنا، ونحوها من الصفات أعراض تدل على حدوثنا، امتنع أن يوصف الله سبحانه بمثلها، فنعوذ بالله من تأويل يفضي إلى تعطيل، ومن تكييف يفضي إلى تمثيل.

وقد أطلق غير واحد ممن حكى إجماع السلف كالخطابي، أن الصفات تجرى على ظاهرها، مع نفي

ص: 340

الكيفية والتشبيه، وذلك أن الكلام في الصفات كالكلام في الذات، لأنه فرع عنه، يحتذى فيه حذوه، ويتبع فيه مثاله؛ فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فنقول: إن له يدا، وسمعا، وبصرا، ولا نقول: إن معنى اليد القدرة، ومعنى السمع العلم، والسلام.

ص: 341

[جواب الشيخ محمد بن عبد اللطيف في إطلاق لفظة تبارك على غير الله]

بسم الله الرحمن الرحيم

سئل الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن: هل يجوز إطلاق لفظة (تبارك) على غير الله؟ مثل من يقول: تبارك علينا فلان، أو تباركت الدابة، ونحو ذلك؟ وهل هو دعاء، أو إخبار، فلا يمنع منه؟ أو صفة من الصفات، فلا تطلق إلا على الله؟

فأجاب:

الحمد لله، هذه المسألة قد كفانا جوابها شمس الدين ابن القيم، رحمه الله تعالى، في بدائع الفوائد، بأوضح عبارة وأبينها، لمن أراد الإنصاف، وسلم من التعصب والاعتساف، وصرف المعاني عن حقائقها إلى ما لا تدل عليه، ولا تفهم منه.

قال رحمه الله: فصل: وأما البركة، فهي نوعان:

أحدهما: بركة هي فعله تبارك وتعالى، والفاعل منه مبارك يتعدى بنفسه تارة، وبأداة (على) تارة، وبأداة (في) تارة، والمفعول منها مبارك وهو ما جعله كذلك، فكان مباركا يجعله تعالى; والنوع الثاني: بركة تضاف إليه تعالى، إضافة الرحمة، والعزة، والفعل منها (تبارك) ولهذا لا يقال لغيره ذلك، ولا يصلح إلا له عز وجل؛ فهو سبحانه المتبارك، وعبده، ورسوله المبارك، كما قال المسيح: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً

ص: 342

أَيْنَ مَا كُنْتُ} [سورة مريم آية: 31] فمن بارك الله فيه، وعليه، فهو: المبارك.

وأما صيغة (تبارك) فمختصة به تعالى، كما أطلقها على نفسه، بقوله:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [سورة المؤمنون آية: 14]، {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [سورة الزخرف آية: 85] ، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [سورة الفرقان آية: 1] ، {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ} [سورة الفرقان آية: 10] ، {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} [سورة الفرقان آية: 61] ، أفلا تراها، كيف اطردت في القرآن، جارية عليه، مختصة به لا تطلق على غيره؛ وجاءت على بناء السعة والمبالغة، كتعالى، وتعاظم، ونحوها; فجاء بناء تبارك على بناء تعالى الذي هو دال على كمال العلو ونهايته، فكذلك تبارك دال على كمال بركته، وعظمها وسعتها، وهذا معنى قول من قال من السلف: تبارك: تعاظم; وقال آخر: إن معناه: مجيء البركات من قِبَله، فالبركة كلها منه; وقال غيره: كثرة خيره وإحسانه إلى خلقه; وقيل: اتسعت رأفته ورحمته بهم، وقيل: تزايد على كل شيء، وتعالى عنه في صفاته وأفعاله، ومن هنا قيل معناه: تعالى، وتعاظم.

وقيل: تبارك: تقدس، والقدس الطهارة، وقيل: تبارك أي: باسمه يبارك في كل شيء، وقيل: تبارك: ارتفع،

ص: 343

والمبارك المرتفع، ذكره البغوي، وقيل: تبارك، أي: البركة تكتسب وتنال بذكره; وقال ابن عباس: حاز كل بركة; وحقيقة اللفظة: أن البركة كثرة الخير ودوامه، ولا أحق بذلك وصفا، وفعلا، منه تبارك وتعالى، وتفسير السلف، يدور على هذين المعنيين، وهما متلازمان، لكن الأليق باللفظ، معنى الوصف لا الفعل; فإنه فعل لازم، مثل: تعالى، وتقدس، وتعاظم; ومثل هذه الألفاظ، لا يصح أن يكون معناها، أنه جعل غيره عاليا، ولا قدوسا، ولا عظيما; وهذا مما لا يحتمله اللفظ بوجه، وإنما معناها في نفس من نسبت إليه.

وهو: المتعالي، المتقدس في نفسه، فكذلك: تبارك، لا يصح أن يكون معناها، بارك في غيره، وأين أحدهما من الآخر، لفظا ومعنى، هذا لازم، وهذا متعد، فعلمت: أن من فسر تبارك، بمعنى: ألقى البركة، وبارك في غيره، لم يصب معناها، وإن كان هذا من لوازم كونه تعالى متباركا، فتبارك، من باب مجد والمجد: كثرة صفات الجلال، والكمال، والسعة، والفضل، وبارك من باب أعطى وأنعم.

ولما كان المتعدي في ذلك، يستلزم اللازم، من غير عكس، فسر من فسر من السلف اللفظة بالمتعدي، لينتظم المعنيان، فقال: مجيء البركة كلها من عنده، أو البركة كلها

ص: 344

من قِبَله، وهذا فرع على تباركه في نفسه، وتدبر قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ثوبان الذي رواه مسلم في صحيحه، عند انصرافه من الصلاة:" اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام" 1 فتأمل هذه الألفاظ الكريمة، كيف جمعت نوعي الثناء، أعني: ثناء التنْزيه والتسبيح، وثناء الحمد، والتمجيد، بأبلغ لفظ وأوجزه، وأتمه معنى; فأخبر أنه السلام، ومنه السلام، فالسلام له وصفا وملكا، وقد تقدم بيان هذا في وصفه تعالى بالسلام، وأن صفات كماله، ونعوت جلاله، وأفعاله، وأسمائه، كلها سلام؛ وكذلك الحمد، كله له وصفا، وملكا؛ فهو المحمود في ذاته، وهو الذي يجعل من يشاء من عباده محمودا؛ وكذلك العزة، كلها له وصفا، وملكا؛ وهو العزيز الذي لا شيء أعز منه، ومن عز من عباده، فبإعزازه له; وكذلك الرحمة، كلها له وصفا وملكا؛ وكذلك البركة، فهو المتبارك في ذاته، والذي يبارك فيمن يشاء من خلقه، وعليه، فيصير بذلك مباركا {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأعراف آية: 54] ، {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [سورة الزخرف آية: 85] .

وهذا بساط، وإنما غاية معارف العلماء الدنو من أول حواشيه، وأطرافه; وأما ما وراء ذلك، فكما قال أعلم الخلق، وأقربهم إلى الله، وأعظمهم عنده جاها:" لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك "2. وقال في حديث

1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (591)، والترمذي: الصلاة (300)، وأبو داود: الصلاة (1512)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (928) ، وأحمد (5/279)، والدارمي: الصلاة (1348) .

2 مسلم: الصلاة (486)، والترمذي: الدعوات (3493)، والنسائي: التطبيق (1100 ،1130)، وأبو داود: الصلاة (879)، وابن ماجه: الدعاء (3841) ، وأحمد (6/58)، ومالك: النداء للصلاة (497) .

ص: 345

الشفاعة الطويل: " فأخر ساجدا لربي، فيفتح علي من محامده بما لا أحسنه الآن "1، وفي دعاء الهم والغم:" أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك "2، فدل على أن لله سبحانه أسماء وصفات استأثر بها في غيبه دون خلقه، لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل؛ وحسبنا الإقرار بالعجز، والوقوف عندما أذن لنا فيه من ذلك، فلا نغلو فيه، ولا نجفو عنه.

[رسالة الشيخ حمد بن عتيق في الفرق المبين]

وقال الشيخ: حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى:3.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على إعانته وتسديده، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة من عادى كل مشرك، ودان بإبطال تنديده; وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، خير خلقه وأفضل عبيده، المبعوث بالدعوة إلى دين ربه وبيان توحيده.

أما بعد: فإنه قد وصل إلينا رسالة من بعض الإخوان من أهل القصيم، ذكر أنه ألقى إليه ما فيها بعض الملحدين، أن الإمام أحمد، ومالكاً، والشافعي، وأبا

1 البخاري: تفسير القرآن (4712)، ومسلم: الإيمان (194)، والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2434) .

2 أحمد (1/452) .

3 وقد سمى هذه الرسالة "الفرق المبين، بين مذهب السلف، وابن سبعين، وإخوانه الاتحادية الملحدين".

ص: 346

حنيفة، والعلماء مثلهم، تكلموا في الصفات، كابن عربي، وابن الفارض، وابن سبعين، والتلمساني، كلهم خاضوا في الصفات: فالأئمة الأربعة، قالوا: سميع، بصير، غفور، رحيم، عليم، حليم، وأن كلامهم مشابه لكلام ابن عربي، وإخوانه; لأنهم يقولون ذلك; وكلهم، أطلقوا أن لله صفات مشابهة لصفات العبد; لأن العبد يسمى سميعا، بصيرا، حليما، عليما.

فإذا قلتم: إنهم في القول سواء، فكيف وجه تبديعهم وتضليلهم وتكفيرهم؟ وقد وصفوا الله بما وصف به نفسه؟ ! فإن ابن عربي، والإمام أحمد، كلهم مسلمون، يقتدى بهؤلاء، مثلما يقتدى بهؤلاء; وما الحكم في هذا القائل؟ والحديث الذي يروى عن أبي هريرة:"أن الله لما خلق الخلق، أخذ الرحم بحقوه، فقال: مه. فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة "1 وهل صح أنه قال: " خلق الله آدم على صورته " 2؟ وهل يفسر العجب بالرضى؟

فنقول: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [سورة البقرة آية: 32] .

مورد هذا السؤال: إما يكون من أبله الناس وأشدهم بلادة، فكأنه لا شعور له بالمحسوسات; فإن الفرق بين ما عليه الصحابة والتابعون، وأتباعهم، والأئمة الأربعة وإخوانهم، وما عليه ابن عربي، وابن الفارض، والتلمساني،

1 البخاري: تفسير القرآن (4832) .

2 البخاري: الاستئذان (6227)، ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) ، وأحمد (2/315) .

ص: 347

وابن سبعين، وأتباعهم: أمر معلوم عند من قرأ القرآن، ودخل في قلبه الإيمان; فإما أن يكون هذا المورد من جنس الأنعام السارحة، أو يكون من أتباع ابن عربي، وإخوانه، من أهل وحدة الوجود، وأراد التلبيس على خفافيش البصائر، فينبغي بيان ما عليه الطائفتان.

فاعلم أن الذي عليه الصحابة، والتابعون، وأتباعهم، والأئمة الأربعة، وجميع أهل السنة والجماعة، في جميع الأعصار، والأقطار، أنهم يعتقدون ما دل عليه الكتاب والسنة من أسماء الرب تعالى وصفاته، وأفعاله، ويثبتونه لله على ما يليق بجلاله، مع اعتقادهم: أنه دال على معان كاملة، ثابتة في نفس الأمر، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يعتقدون أن الله لا يشبهه شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله; فمن شبه الله بخلقه فقد كفر; ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم تشبيها; ويعتقدون أن الله مستو على عرشه، بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وأن العرش فوق جميع المخلوقات.

ويؤمنون بعموم مشيئة الرب، وسبق قضائه وقدره، وأن جميع ما في الكون من خير وشر، كله بقضاء الله وقدره، وداخل تحت مشيئته الكونية القدرية، وأنه أمر بالإيمان به

ص: 348

وطاعته وطاعة رسوله، ويحب الإيمان والمؤمنين، ويحب المتقين، ويحب الصابرين، ونحو ذلك، ويبغض الكفر والمعاصي، وينهى عنها; ورتب على ذلك الثواب والعقاب; هذا حاصل معتقد أهل السنة والجماعة; وهم: الفرقة الناجية; وهم: أهل الصراط المستقيم; وأما من خالفهم من أهل البدع والضلالات، فلهم أهواء مختلفة وآراء متشتتة; وهي التي قال الله فيها:{وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [سورة الأنعام آية: 153] .

والكلام الآن فيما عليه أهل وحدة الوجود ابن عربي، وابن الفارض، والتلمساني، وإخوانهم، لأنه الذي تضمنه السؤال; فنقول:

مذهب هذه الطائفة الملعونة أن الرب تعالى وتقدس هو عين الوجود، ويصرحون في كتبهم: أن وجود الرب هو عين وجود السماوات، والأرض، والجبال، والبحار، وجميع الموجودات هي عين الرب، عندهم! فليس عندهم رب وعبد! ولا خالق ومخلوق! !

وقد قال العلامة: ابن القيم، رحمه الله تعالى آمين:

فالقوم ما صانوه عن إنس ولا

جن ولا شجر ولا حيوان

لكنه المطعوم والملبوس والـ

مشموم والمسموع بالآذان

وكذلك قالوا إنه المنكوح والـ

مذبوح بل عين الغوي الزاني

والكفر عندهم هدى ولو أنه

دين المجوس وعابدي الأوثان

ص: 349

قالوا وما عبدوا سواه وإنما

ضلوا بما خصوا من الأعيان

ولو أنهم عَمّوا وقالوا: كلها

معبودة ما كان من كفران

قالوا: ولم يك كافرا في قوله

أنا ربكم فرعون ذو الطغيان

بل كان حقا قوله إذ كان عـ

ين الحق مضطلعا بهذا الشأن

قالوا: ولم يك منكرا موسى لما

عبدوه من عجل لذي الخوران

إلا على من كان ليس بعابد

معهم وأصبح ضيق الأعطان

ولقد رأى إبليس عارفهم فأهـ

وى بالسجود هوي ذي خضعان

قالوا له: ماذا صنعت؟ فقال:

هل غير الإله وأنتم عميان

ما ثَمّ غيرٌ فاسجدوا إن شئتم

للشمس والشيطان والأصنام

فالكل عين الله عند محقق

والكل معبود لذي العرفان

هذا هو المعبود عندهم فقل

سبحانك اللهم ذا السبحان

وقال أيضا:

واحتج يوما بالقرآن عليهم شخص فقالوا: الشرك في القرآن

فلينظر اللبيب إلى ما قاله هؤلاء من الكفر العظيم، من كونهم يقولون: إن ربهم هو المطعوم، والملبوس، والمشموم، والمنكوح، والمذبوح، ونحو ذلك، تعالى الله وتقدس، وأن الكفر هو الهدى، وأن المجوس إنما عبدوا الله، وإنما ضل من ضل بتخصيصه عبادته ببعض المخلوقات، ولا يكون موحدا عندهم إلا من عبد جميع الموجودات. ومن قولهم: إن فرعون صادق في قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [سورة النازعات آية: 24] وأن موسى إنما أنكر على من ترك عبادة العجل، وأنكر

ص: 350

على هارون إنكاره عليهم، وكذلك لما سجد بعض أعيانهم للشيطان، وقال له بعضهم: كيف تسجد له؟ أجابه: بأنه عين الإله، وأن من سجد للشمس، والأوثان، والشيطان، فقد سجد لله! ! ويقولون: إن جميع ما في الوجود من الكلام هو عين كلام الله، فجميع الأغاني، والأشعار، والسباب، كله كلام الله، كما قال بعضهم:

وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه

ويقولون: إن القرآن كله شرك، لأنه يفرق بين الخالق والمخلوق، والعابد والمعبود، فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

وإذا تبين ذلك، فمن لم يعرف الفرق بين هؤلاء وما ذهبوا إليه، وما يقولونه في رب العزة والجلال، وبين ما يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم، فلا حيلة فيه.

فقول هذا الملبس: ابن عربي وأتباعه مسلمون; والإمام أحمد وأتباعه مسلمون، يقتدى بهؤلاء مثلما يقتدى بهؤلاء، من أعظم الزور وأقبح الفجور، فإن الفرق بين الطائفتين والمقالتين أبعد مما بين المشرق والمغرب.

وقد قال الله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [سورة ص آية: 28]، وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ

ص: 351

مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [سورة القلم آية: 35-36]، وقال:{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [سورة السجدة آية: 18]، وقال تعالى:{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ} [سورة غافر آية: 58] ، ونحو ذلك في القرآن كثير.

وأما قول هذا الزايغ: إن الأئمة الأربعة خاضوا في الصفات، فقد كذب في ذلك، وافترى، فإن الله: قد ذم الخوض وأهله، كما قال تعالى:{وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [سورة التوبة آية: 69]، وقال عن الكفار:{وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [سورة المدثر آية: 45]، وقال:{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} [سورة الزخرف آية: 83]، وقال:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} [سورة الأنعام آية: 68] الآية، في مواضع من كتابه.

والأئمة الأربعة إنما تكلموا في صفات الرب، بإثباتها وإمرارها كما جاءت، واعتقاد دلالة النصوص على معاني عظيمة، تليق بجلال الرب وعظمته، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل؛ فمن سمى هذا خوضا فهو من أعظم الملبسين، ومن أكبر المفترين. وقول هذا المفتري: إن كلام الأئمة يشبه كلام ابن عربي، كذب ظاهر، يعرفه كل مؤمن.

وأما قوله: إنهم أطلقوا أن لله صفات مشابهة لصفات

ص: 352

العبد لأن الله سمى نفسه: سميعا، بصيرا، رحيما، عليما، حليما، وسمى بعض خلقه بذلك، فهذا من أعظم التلبيس، لوجهين:

الأول: أنه كذب على السلف والأئمة، فإنهم لم يقولوا: إن أسماء الرب تشبه أسماء الخلق.

والثاني: أنه إذا قيل: إن الله سميع، بصير، عليم، حليم، وقيل في بعض المخلوقين مثل ذلك، لم يلزم أن يكون الرب مشابها لخلقه، ولا أن أسماءه، وصفاته مشابهة لأسماء خلقه وصفاتهم.

فليس الرحيم كالرحيم، ولا الحليم كالحليم، ولا السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير، كذلك ليس العلم كالعلم، ولا السمع كالسمع، ولا الحلم كالحلم; ولا البصر كالبصر، فمن قال: إن علم الرب، وحلمه، وسمعه، وبصره، كعلم العبد، وحلمه، وسمعه، وبصره، فهو كافر بالله العظيم، بلا ريب؛ بل علم الرب تعالى، وحلمه، وسمعه، وبصره، وجميع صفاته، كاملة، مبرأة من جميع العيوب والنقائص، منَزهة عن ذلك، ولا يعلم كيف هي إلا هو؛ وعلم الكيفية ممتنع على جميع الخلق، كما قال أعلم خلقه به:" سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك "1.

1 مسلم: الصلاة (486)، والترمذي: الدعوات (3493)، والنسائي: التطبيق (1100 ،1130)، وأبو داود: الصلاة (879)، وابن ماجه: الدعاء (3841) ، وأحمد (6/58)، ومالك: النداء للصلاة (497) .

ص: 353

وأما المخلوق فهو ناقص، ذاته وصفاته وأفعاله، كلها ناقصة، ويتطرق إليها الخلل، ويجوز عليها العدم، بخلاف صفات الرب سبحانه وبحمده، ولا يلزم من الاتفاق في التسمية الاتفاق في الحقيقة والمسمى؛ وهذا هو الفرقان المبين بين أهل السنة والجماعة، وأهل البدعة والضلالة، فإن أهل البدع لما لم يفهموا من أسماء الرب وصفاته إلا ما يليق بالمخلوق، وظنوا أنهم إذا أثبتوا لله سمعا، وبصرا، وقدرة، وحلما، أن ذلك يلزم منه التشابه بين الخالق والمخلوق - تعالى الله وتقدس -، فعند ذلك ذهبوا إلى تحريف النصوص وتأويلها، ونفي ما دلت عليه مما يليق بالرب تعالى; فأول مذهبهم: تشبيه وتمثيل; وآخره: تحريف وتعطيل.

وأما أهل السنة والجماعة فقالوا: نثبت لله ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله، مع اعتقادهم أن ما يثبت لله لا يشبه ما يثبت لخلقه، لأنهم عرفوا كيفية المخلوق فعرفوا كيفية صفاته; والرب يتعالى ويتقدس عن أن يعلم أحد كيفية ذاته أو صفاته، ولهذا قال الإمام مالك، وقبله ربيعة، ويروى عن أم سلمة: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.

وأما قوله: إذا قلتم: إنهم في القول سواء، فما وجه تبديعهم؟ وتكفيرهم؟ وتضليلهم؟

ص: 354

فنقول: معاذ الله أن نقول: إنهم سواء، بل بينهم من الفرق، أبعد مما بين السماء والأرض، كما قال ابن القيم رحمه الله:

والله ما استويا ولن يتلاقيا

حتى تشيب مفارق الغربان

ولا يقول: إن قول أهل السنة والجماعة كقول ابن عربي وأصحابه - أهل وحدة الوجود - إلا من يقول: إن قول موسى عليه السلام وقول فرعون اللعين سواء; وما عليه أبو جهل وإخوانه نظير ما عليه الرسول وأصحابه، سبحانك هذا بهتان عظيم.

وأما قوله: ما وجه تبديعهم، وتكفيرهم؟

فنقول: قال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [سورة المائدة آية: 17] في موضعين، وقال تعالى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [سورة المائدة آية: 73] وقال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] .

فإذا كان الله قد كفّر من قال: إن الله هو المسيح ابن مريم، ومن قال: إن الله ثالث ثلاثة، ومن اتخذ الملائكة والنبيين أربابا; فكيف لا يكفر من جعل جميع الخلق أربابا، وقال: إن كل مخلوق هو الله، حتى يسجد للشمس،

ص: 355

ويقول: إن المشركين إنما عبدوا الله، ويقول: إن المخلوقات التي يستحيا من ذكرها هي الله! يا لله العجب!

ولقد أحسن من قال من السلف: إن كفر هؤلاء أغلظ من كفر اليهود والنصارى، وقد قال ابن القيم: رحمه الله تعالى:

حاشا النصارى أن يكونوا مثلهم وهم الحمير، أئمة الكفران

هم خصصوه بالمسيح، وأمه وأُلاءِ ما صانوه عن حيوان

وأما الحديث الذي فيه: " أن الله لما خلق الخلق، قامت الرحم "1 إلخ، وقوله:" خلق الله آدم على صورته "2 فهذه الأحاديث ثابتة، ليس فيها - ولله الحمد - إشكال عند أهل السنة والجماعة; وقد قال:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [سورة آل عمران آية: 7] . وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم "3.

وقد كان السلف يكرهون كثرة البحث عن مثل هذا، ويقولون: آمنا بالله، وما جاء عن الله، على مراد الله; وآمنا برسول الله، وما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله; وقال الراسخون في العلم:{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [سورة آل عمران آية: 7] .

1 البخاري: تفسير القرآن (4832) والتوحيد (7502)، ومسلم: البر والصلة والآداب (2554) ، وأحمد (2/330) .

2 البخاري: الاستئذان (6227)، ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) ، وأحمد (2/315 ،2/323) .

3 البخاري: تفسير القرآن (4547)، ومسلم: العلم (2665)، والترمذي: تفسير القرآن (2994)، وأبو داود: السنة (4598) ، وأحمد (6/256)، والدارمي: المقدمة (145) .

ص: 356

فالنصوص الصريحة في إثبات صفات الرب، على ما يليق بجلاله وكماله، واستوائه على عرشه، وأنه فوق جميع مخلوقاته.

ونفي النقائص والعيوب عنه وعن صفاته، معلومة مقررة، وما أشكل من بعضها على بعض الناس يكفيه الإيمان به، مع القطع بأنه لا يخالف ما ظهر له، ولا يناقضه؛ وليحذر طالب الحق من كتب أهل البدع، كالأشاعرة، والمعتزلة، ونحوهم، فإن فيها من التشكيك، والإيهام، ومخالفة نصوص الكتاب والسنة ما أخرج كثيرا من الناس عن الصراط المستقيم، نعوذ بالله من الخذلان.

وأما هذا الذي ألقى هذه الشبهة إليكم، فيجب تعريفه، وإقامة الحجة عليه، بكلام الله تعالى وكلام رسوله، وكلام أئمة الدين; فإن اعترف بالحق وببطلان ما عليه أهل البدع من الاتحادية وغيرهم، فهو المطلوب، والحمد لله؛ وإن لم يفعل، وجب هجره ومفارقته، إن لم يتيسر قتله وإلقاؤه على مزبلة، لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل الإسلام.

وأما قوله: هل يفسر العجب بالرضى؟

جوابه: أن يقال: ما جاء إطلاقه على الرب سبحانه، من العجب، والرضى، والغضب، والسخط، ونحو ذلك، فما يتعلق بمشيئته وإرادته يجب إثباته على ما يليق بالله

ص: 357

تعالى، مع نفي التشبيه والتمثيل; وإبطال التحريف والتعطيل؛ وأهل البدع: قابلوا ذلك، بالتأويل، كما فعلوا بالأسماء والصفات؛ والباب باب واحد عند أهل السنة والجماعة، لا يحرفون ولا يشبهون، ولا يعطلون ولا يكيفون؛ فعليك بطريقهم، فإنها الصراط المستقيم الذي من سلكه فاز بالنعيم المقيم، ومن أعرض عنه فهو من أصحاب الجحيم.

فهذا بعض ما حضرني في هذه المسألة، مع قلة العلم وعدم المساعد، وكثرة الاشتغال، والمحل يقتضي مجلدا أو أكثر، لشدة الحاجة، وظهور الجهل، وغربة السنة ومن يعرفها، والله المستعان.

وليعلم الناظر إليه أن فيه مواضع قد يقال: إن فيها نوع تكرير، والحامل عليه: خفاء الحق، وقلة الاهتداء إلى الصواب، ونسأل الله لنا ولكم التوفيق، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.

[جواب الشيخ سعد بن حمد على قول السفاريني وليس ربنا بجوهر]

سئل الشيخ: سعد بن حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى، عن قول السفاريني:

وليس ربنا بجوهر ولا جسم ولاعرض تعالى ذو العلا

فأجاب: إطلاق لفظ الجوهر والعرض والجسم على الرب سبحانه وتعالى إثباتا أو نفيا ليس

ص: 358

من عبارات السلف الصالح المقتدى بهم، في باب أسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته، ومثل ذلك لفظ: الجهة والحيز، وغير ذلك من الألفاظ المجملة التي تحتمل حقا وباطلا، لا يوجد شيء من ذلك في كلام السلف الصالح؛ ومن نسب ذلك وما شابهه إلى السلف، فهو مخطئ في ذلك، لأن الطريقة المعلومة من السلف الصالح، والجادة المسلوكة المعتبرة عندهم في باب أسماء الرب تعالى وصفاته، أنهم لا يتكلمون في ذلك إلا بما تكلم الله به، أو تكلم به رسوله، كما قال الإمام أحمد رحمه الله: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يتجاوز القرآن والحديث.

ولفظ: الجوهر، والعرض، والجسم، فيما يتعلق بذات الرب سبحانه وتعالى، وأسمائه، وصفاته، إثباتا أو نفيا، سجية مذمومة، وقد نص جماعة من أهل السنة على أن إطلاق مثل هذه الألفاظ في هذا الباب أمر مبتدع، وكلام مخترع، لا يجوز للمنتسب إلى السنة إطلاقه على الرب سبحانه وتعالى، إثباتا أو نفيا; ولا يجوز نسبته إلى السلف الصالح.

ونحن نقتصر على ما وجدنا من كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ونذكره مختصرا، مقتصرين على المقصود منه، قال رحمه الله: وأما ما لا يوجد عن الله ورسوله، إثباته ونفيه، مثل: الجوهر، والجسم، والجهة،

ص: 359

وغير ذلك، لا يثبتونه ولا ينفونه، فمن نفاه فهو عند أحمد والسلف مبتدع، ومن أثبته فهو عندهم مبتدع، والواجب عندهم السكوت عن هذا النوع، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، هذا معنى كلام الإمام أحمد

إلى أن قال: وأنا أذكر لك كلام الحنابلة في هذه المسألة.

قال الشيخ تقي الدين، بعد كلام له في الرد على من قال: إنه ليس بجسم، ولا جوهر، ولا عرض، قال رحمه الله: فهذه الألفاظ، لا يطلق إثباتها ولا نفيها، كلفظ الجوهر، والجسم، والحيز، ونحو ذلك من الألفاظ

إلى أن قال - شيخ الإسلام: والمقصود أن الأئمة كأحمد وغيره، ذكر لهم أهل البدع الألفاظ المجملة، كلفظ: الجسم، والجوهر، والحيز، ولم يوافقوهم لا على إطلاق الإثبات، ولا على إطلاق النفي. انتهى كلام الشيخ تقي الدين.

وهذا آخر ما نقلنا من رسالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ومن كلام أبي الوفا ابن عقيل، قال: وأنا أقطع أن أبا بكر وعمر ماتا ما عرفا الجوهر والعرض. انتهى. وفي هذا كفاية لمن أراد الله هدايته، والله أعلم.

ص: 360

[رسالة الشيخ سليمان بن سحمان لعلي بن عيسى]

قال الشيخ: سليمان بن سحمان، رحمه الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم.

من سليمان بن سحمان، إلى الشيخ: علي بن عبد الله بن عيسى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فقد وقفت على الورقة التي كتبتها في الاعتراض على ما نظمته في الرد على دحلان، إمام الكفر والطغيان، وسنح لي أولا: أن اعتراضك على النظم، من جهة أنه لا يجوز التعبير عن كلام الله عز وجل بأنه صفة قول; فسألتك عن وجه الاعتراض، ما هو؟ مع أنه ورد ذلك في نصوص الكتاب والسنة، وأقوال سلف الأمة، وأئمتها، فأجبتني بهذا الجواب، فعلمت أنك لم تتصور كلامي على ما هو عليه، وما أردته به، وما قصدته بالرد على أعداء الله ورسوله، فبادرت بالاعتراض قبل أن تسأل عن المراد، وقبل تأمل موضوع الكلام، وما هكذا يا سعد تورد الإبل.

بل الواجب أولا: تأمل ما يراد من الكلام وموضوعه; وثانيا: سؤال أخيك عن وجه ما أشكل عليك من كلامه، وما أراد به، فإن كان حقا صوابا أثنيت به عليه، وإن كان خطأ أرشدته إلى الحق ودللته عليه، فإن الحق ضالة

ص: 361

المؤمن، أينما وجده أخذه، وليس في الرجوع إلى الحق غضاضة على مريد الحق والإنصاف; وهذا نص كلامي، لتعلم أنك ما فهمت مرامي، فقلت على ما أورده من جواز التوسل بحق الأنبياء والأولياء والسؤال بهم، لما استدل على جواز ذلك، بحديث أبي سعيد، بقوله:" اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا "1 الحديث.

فمعناه إن صح الحديث فإنه

على غير ما قد لاح في وهم ذي اللد

فحق العباد السائلين إذا دعوا

بغير اعتداء باذلي الجد والجهد

إجابتهم منّا وفضلا ورحمة

وجودا وإحسانا من المنعم المسدي

وحق المشاة الطائفين لربهم

إثابتهم والله ذو الفضل والمد

إذا صح هذا فالتوسل لم يكن

بغير صفات الله يا فاقد الرشد

هما صفتا قول وفعل لربنا

فسبحانه من ماجد واحد فرد

ولم يك من باب التوسل بالورى

كما قلته يا فاسد الرأي والقصد

وطاعته سبحانه وسؤاله

هما سببا تحصيل ذلك للعبد

إجابته للسائلين وكونه

يثيب المشاة الطائعين ذوي الرشد

فلم يبق في نص الحديث دلالة

تدل على ما قال من رأيه المردي

ومرادي بهذا الكلام: إبطال ما استدل به، على جواز التوسل بحق الأنبياء والأولياء، والسؤال بهم، وذلك أن موضوع الكلام فيه، وفي جوازه، وليس الكلام معه في تقرير إثبات الصفات، أو تقسيمها إلى قولية وفعلية، وذكر ما يقابل الفعلية، من الصفات الذاتية اللازمة، كالحياة، والعلم، والسمع، والبصر، ونحو ذلك; ولا بيان صفات الأفعال

1 ابن ماجه: المساجد والجماعات (778) ، وأحمد (3/21) .

ص: 362

الاختيارية المتعلقة بالمشيئة والقدرة، فإن ذلك كله ليس من موضوع الكلام، ولا له ذكر في كلام الملحد، حتى أذكر ذلك، أو ما يرد علي مما يلزمني به الخصم، وليس فيه ذكر أقوال أهل البدع والأهواء، المخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة، كالاتحادية، والكلابية، والأشعرية، والكرامية، وغيرهم، فإن في ذكر ذلك إذ كان، لم يكن من مقصودنا خروجا عن المقصود، ينافي مطابقة الكلام الواقع لمقتضى الحال.

وأما ما سنح لك من الاعتراض، مما هو خارج عن موضوع الكلام، من أني جعلت صفات الباري - جل ثناؤه - قسمين: فعلية، وقولية; وأنه يلزمني على ذلك أن تكون الصفة القولية مغايرة للصفات الفعلية، قسيمة لها، مباينة لها، فهذا لم يخطر مني على بال، ولا قصدت ذلك، ولا أردته بكلامي، كما تقدم بيان ذلك، وإنما نظمت ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، على حديث أبي سعيد، وقد ذكرته لك، فأعرضت عنه، وعن مقتضى كلامه.

وهذا نص كلامه، ليتبين لك أني لم أقل من عندي شيئا، يناقض كلام شيخ الإسلام، أو يخالفه، قال رحمه الله: وأما قوله في حديث أبي سعيد " أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا "1 فهذا الحديث رواه عطية العوفي، وفيه ضعف، لكن بتقدير ثبوته هو من هذا الباب، فحق السائلين عليه سبحانه أن يجيبهم; وحق المطيعين له أن

1 ابن ماجه: المساجد والجماعات (778) ، وأحمد (3/21) .

ص: 363

يثيبهم، فالسؤال له والطاعة له سبب لحصول إجابته وإثابته، فهو من التوسل به، والتوجه به، والتسبب به، ولو قدر أنه قسم، لكان قسما بما هو من صفاته، فإن إجابته وإثابته، من أفعاله وأقواله، فصار هذا: كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك "1 إلخ كلامه رحمه الله.

فتأمل رحمك الله قولي: وهما صفتا فعل وقول لربنا; هل بينه، وبين قول شيخ الإسلام - ولو قدر أنه قسم، لكان قسما بما هو من صفاته، فإن إجابته، وإثابته، من أقواله، وأفعاله - فرق؟ وأن هاتين الصفتين: ليستا من أقواله وأفعاله، بل يقال: إنها صفة واحدة، فبينه لي، فإن كان الواو من قولي: هما صفتا قول وفعل، يقتضي المغايرة، وأنها بذلك تكون قسيمة لها مباينة، فما وجه كلام شيخ الإسلام؟ ! وقد قال ذلك، كما هو في كلام غيره من أئمة الإسلام.

فتبين أني لم أقل من عند نفسي شيئا اخترعته، أو قولا افترعته، حتى يعترض علي، بأني جعلتها قسيمة لها؛ وإذا تبين هذا وعرف، فليس هذا المبحث من موضوع كلامي، وإنما موضوعه في إبطال دعوى من ادعى أنه يجوز التوسل بحق الأنبياء والأولياء، والسؤال بهم; فإن شيخ الإسلام ذكر أنه لا يعرف قائلا بذلك، ولا يجوز القسم

1 مسلم: الصلاة (486)، والترمذي: الدعوات (3493)، والنسائي: التطبيق (1100 ،1130) والاستعاذة (5534)، وأبو داود: الصلاة (879)، وابن ماجه: الدعاء (3841) ، وأحمد (6/58)، ومالك: النداء للصلاة (497) .

ص: 364

بنبينا صلى الله عليه وسلم إلا ما يذكر عن العز بن عبد السلام، على تقدير صحة الحديث وثبوته، ولا يصح، فأما ما كان قسما بما هو من صفاته، فلا محذور فيه، ولا مانع من ذلك; فأين هذا من هذا، لو كان هناك تصور لما يراد من الكلام؟ !

وأما ما ذكرته من كلام ابن القيم رحمه الله، وأن الإمام أحمد جعل كلام الله صفات فعل، قائم بالذات، فهو الحق الذي لا مرية فيه، لكن لا ينافي ذلك أن يوصف الله تعالى بهاتين الصفتين معا، كما ذكر ذلك ابن القيم بعد هذا، بنحو من ثمانية وعشرين سطرا، حيث قال:

والله عاب المشركين بأنهم

عبدوا الحجارة في رضى الشيطان

ونعى عليهم كونها ليست بخا

لقة وليست ذات نطق بيان

فأبان أن الفعل والتكليم من

أوثانهم لا شك مفقودان

وإذا هما فقدا فما مسلوبها

بإله حق وهو ذو بطلان

والله فهو إله حق دائما

أفعنه ذا الوصفان مسلوبان

إلى أن قال:

وكذاك أيضا لم يزل متكلما

بل فاعلا ما شاء ذو الإحسان

فذكر رحمه الله أن الفعل والتكليم من أوثانهم مفقودان، وأنهما وصفان للإله الحق، غير مسلوبان عنه، فتأمله.

ص: 365

[رسالة سليمان بن سمحان إلى عبد العزيز العلجي]

وله أيضا رحمه الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

من سليمان بن سحمان، إلى عبد العزيز العلجي، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فقد بلغني أنك استدركت علي فيما تزعم، كلمات في أبيات، وذلك في قولي:

على السيد المعصوم والآل كلهم وأصحابه مع تابعي نهجهم بعد

فزعمت أنا ننكر ونشدد على من قال: سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن هذا مذهبنا، أهل نجد، وهذا كذب وافتراء علينا، ما أنكر ذلك منا أحد، ولا كان ذلك مذهبنا، بل إنما ينقل ذلك عن إمام مذهبك: مالك رحمه الله، فإن كان ذلك خطأ وعيبا، فعلى إمامك، وعلى نفسها تجني براقش.

وأما نحن: فلا ننكر ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم " أنا سيد ولد آدم ولا فخر "1، وقوله:" إن ابني هذا سيد "2، وقوله للأنصار:" قوموا إلى سيدكم " 3، وقوله:"من سيدكم يا بني سلمة فقالوا له: الجد بن قيس، على أنا نبخله فينا، ثم قال صلى الله عليه وسلم بل سيدكم عمرو بن الجموح"؛ إذا فهمت هذا، فمن أين لك أنا ننكر ذلك ونشدد فيه؟ ومن حدثك بهذا؟ أو نقل عنا؟ وفي أي كتاب وجدت ذلك؟ وقد كان لي عدة رسائل ومناظيم، وكل ذلك قد ذكرته فيها، فإذا تحققت هذا، وعلمت أن هذا

1 الترمذي: تفسير القرآن (3148)، وابن ماجه: الزهد (4308) .

2 البخاري: الصلح (2704)، والترمذي: المناقب (3773)، والنسائي: الجمعة (1410)، وأبو داود: السنة (4662) ، وأحمد (5/37 ،5/44 ،5/51) .

3 البخاري: الجهاد والسير (3043)، ومسلم: الجهاد والسير (1768)، وأبو داود: الأدب (5215) ، وأحمد (3/22 ،3/71) .

ص: 366

من سوء فهمك، واختلاج وهمك، وقصور باعك، وعدم اطلاعك، فاعلم: أن العلماء قد اختلفوا في ذلك.

قال العلامة ابن القيم في بدائع الفوائد: اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على البشر، فمنعه قوم، ونقل عن مالك، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: يا سيدنا، قال:" السيد الله تبارك وتعالى "1، وجوزه قوم، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:" قوموا إلى سيدكم "2، وهذا أصح من الحديث الأول; قال هؤلاء: السيد أحد ما يضاف إليه; فلا يقال للتميمي: سيد كنده، ولا يقال للملك: سيد البشر; قال: وعلى هذا، فلا يجوز أن يطلق على الله هذا الاسم، وفي هذا نظر، فإن السيد، إذا أطلق عليه تعالى، فهو في منْزلة المالك، والمولى، والرب; لا بمعنى الذي يطلق على المخلوق. انتهى.

وفي هذه المسألة بحث، ليس هذا موضع ذكره، إذ الغرض من ذكر هذا، نفي ما نسبه إلينا من لا معرفة له بحقيقة ما لدينا، وليس عندهم إلا الظن {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [سورة النجم آية: 28] بل الذي ينبغي أن ينكر، وأن ينشر: خزي قائله في الخافقين، ويذكر قول القائل منكم:

ومذهبنا: تفويض آي صفاته وتحريمنا ما ثم أن نتكلما

وغير ذلك من الأوهام، مما قد نبهنا عليه في الجواب، ومذهب أهل التفويض، من أشر المذاهب، وأخبثها، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، لأن مذهب

1 أبو داود: الأدب (4806) .

2 البخاري: الجهاد والسير (3043)، ومسلم: الجهاد والسير (1768)، وأبو داود: الأدب (5215) ، وأحمد (3/22 ،3/71) .

ص: 367

هؤلاء يتضمن تجهيل الرسول، وأنه لا يعلم معاني ما أنزل الله عليه، من ذكر أسمائه، وصفاته، ونعوت جلاله؛ وحقيقة ما يقوله هؤلاء: يا معشر العباد، لا تطلبوا معرفة الله، ولا ما يستحقه من الصفات، نفيا وإثباتا، لا من الكتاب ولا من السنة، ولا من طريق سلف الأمة، ولكن انظروا أنتم فيما وجدتموه مستحقا له من الصفات فصفوه به، سواء كان موجودا في الكتاب والسنة، أو لم يكن، وما لم تجدوه مستحقا له في عقولكم فلا تصفوه به.

ثم هم هنا فريقان: أكثرهم يقول: ما لم تثبته عقولكم فانفوه; ومنهم من يقول: بل توقفوا فيه، وما نفاه قياس عقولكم، الذي أنتم فيه مختلفون، ومضطربون اختلافا أكثر من جميع اختلاف على وجه الأرض، فانفوه، وإليه عند التنازع فارجعوا، فإنه الحق الذي تعبدتم به، وما كان مذكورا في الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا، ويثبت ما لم تدركه عقولكم، على طريقة أكثرهم، فاعلموا أنما امتحنتم بتنْزيله، لا لتأخذوا الهدى منه، لكن اجتهدوا في تخريجه على شواذ اللغة، ووحشي الألفاظ، وغرائب الكلام، أو أن تسكتوا عنه مفوضين علمه.

هذا حقيقة الأمر على رأي المتكلمين الذين كثر في باب معرفة الله اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وإلا فقد كان من المعلوم أنه لم ينقل عن أحد من سلف الأمة، ولا من الأئمة، لا أحمد بن حنبل ولا غيره، أنه

ص: 368

أدخل أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، أو اعتقد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله، ولا نفى أحد منهم أن يعلم أحد معناه، ولا جعل أسماء الله وصفاته بمنْزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، ولا قالوا: إن الله ينْزل كلاما لا يفهم أحد معناه، وإنما قالوا: كلمات لها معان صحيحة. قالوا في أحاديث الصفات: تمر كما جاءت، ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها، التي مضمونها: تعطيل النصوص عما دلت عليه.

ونصوص أحمد والأئمة قبله، بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية، ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد، والوعيد، والفضائل، وغير ذلك; وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات: تمر كما جاءت في أحاديث الوعيد، مثل قوله:" من غشنا فليس منا "1، وأحاديث الفضائل، ومقصودهم في ذلك: أن الحديث لا يحرف كلمه عن مواضعه، كما يفعله من يحرفه، ويسمي تحريفه تأويلا بالعرف المتأخر.

وعلى هذا فما بقي للتفويض معنى يصار إليه، على قول الناظم إلا تعطيل النصوص عما دلت عليه من المعاني اللائقة بجلال الله وعظمته، لأن ذلك عنده من المتشابه، أو

1 ابن ماجه: التجارات (2225) .

ص: 369

مما استأثر الله بعلم تأويله، فهذا الذي ينبغي أن يعترض على صاحبه ويزجر، وينشر خطؤه في العالمين ويذكر; والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد.

جواب أبيات، أرسل بها التلمساني

وله أيضا: جواب أبيات أرسل بها التلمساني، وقد أجاب عنها شيخ الإسلام بنثر، ولكن أراد المشاركة مع علماء أهل السنة، فقال:

يا طالبا مني جوابا

يشفي عليلا قد دهاه الفاتن

إن الجواب عن السؤال محرر

ومقرر وهو الجواب الضامن

وهو الصواب فرد معينا صافيا

ما ماؤه نزر ولا هو آسن

قد قاله حبر إمام عالم

بحر خضم زاخر لا آجن

أعني تقي الدين من يكنى أبا الـ

عباس من في الدين ليس يداهن

فخذ الجواب مفصلا عن قوله

وجوابه والحق منه بائن

لكنما قول النفاة مخالف

للحق حقا فهو قول واهن

والحق حتما أنه سبحانه

عن كل مخلوق تعالى بائن

من فوق عرش فوق سبع قد علا

هذا هو الحق الصواب الكائن

هو أول هو آخر سبحانه

هو ظاهر سبحانه هو باطن

ما فوق عرش فوق سبع خالق

غير الإله الحق يا ذا الفاتن

إن الجهات جميعها عدمية

في حقه والله عنها بائن1

1 مراده رحمه الله الجهات الوجودية.

ص: 370

ما ثم غير الله موجود ولا

رب سواه معاون أو كائن

لكن نفاة صفاته وعلوه

في كل أمر باطل قد شاحنوا

ويقدرون لوازما هي كلها

ما قالها في الله إلا مائن

كالجسم والأحياز والجهة التي

ينفونها ذاك الفريق الفاتن

ألفاظها بدعية يعنى بها

معنى صحيح وهو فيها كامن

إذ أوهمونا أنما مقصودهم

بالنفي عنها أنه لا ساكن

أو تحصر الخلاق مخلوقاته

بل لا تحيط به وفيها قاطن

كلا ولا تحويه فيما أظهروا

للناس تنْزيها وهذا البائن

لكنهم قد أبطنوا معنى سوى

ما أظهروا والقصد منهم واهن

أن ليس فوق العرش رب قد علا

بالذات فوق الخلق عنهم بائن

بل ليس تعرج نحوه أملاكه

والروح لم يعرج ولا ذا كائن

والمصطفى المعصوم لم يعرج به

نحو السماء كما يقول المائن

كلا ولا كلم إليه صاعد

حقا وما منهم بهذا دائن

والرب لم ينْزل وما هو نازل

فيما لديهم وهو أمر واهن

فالقول بالتجسيم أمر محدث

كالقول في جهة وفيها ساكن

وكذا التحيز والحدود فإنها

ليست لها في الشرع أصل كائن

كالقول بالأعراض والأغراض

والأبعاض في ذا كله قد باينوا

أهل الهدى والدين في أديانهم

في الله مما قد نماه الآفن

لسنا نقول بنفيها حتما ولا

إثباتها فالشر فيها كامن

والحق قد يعنى بها أيضا فما

ندري بما يعني المهين الفاتن

ص: 371

لكننا إن قال هذا قائل

واضطرنا عنه الجواب الصائن

للحق عما قيل باستفسارهم

عن قصدهم حتى يبين الباطن

إن فسروا معنى صحيحا واضحا

قلنا لهم هذاك حق كائن

واللفظ والإطلاق بدعي ولا

نرضى بما قال الجهول الماجن

أو فسروا معنى خبيثا واهيا

في ضمنه التعطيل حقا كامن

قلنا لهم هذاك أمر سيئ

إنكاره الحق المبين البائن

والكفر لا ندعوا به من قالها

بدءا وجهلا حين يدهى المائن

إلا إذا قامت عليه حجة

فالكفر والتعطيل منه كائن

هذا الذي أدى إليه علمنا

وبه لذي العرش المهيمن دائن

والقول بالتفصيل فيما قاله

شيخ الهدى والحق منه بائن

فانظر إلى تبيينه ما موهوا

من قيلهم والكل منهم آفن

حتى اغتدى نهج الهدى كالشمس لا

يخفيه قول من مريب شائن

فاشكر له في رده أقوالهم

لما نفاها وارتضاها الماجن

بالعلم والتحقيق لا ما قاله

أضداده والكل منهم مائن

هم في طريق بالدعاوى والهوى

والحق والتحقيق عنهم ظاعن

والقوم بالتضليل دأبا دائما

ذا شأنهم والكل منهم طاعن

والحمد لله الذي ما زاغنا

عن منهح فيه المجاري آمن

ص: 372

[رسالة الشيخ سليمان بن سحمان للشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري]

وكتب الشيخ: سليمان بن سحمان، للشيخ: عبد الله بن عبد العزيز العنقري:

بسم الله الرحمن الرحيم

اعلم: أنه جرى بيننا البحث فيما ذكره ابن القيم في سفر الهجرتين على قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء "1 قال: فقوله صلى الله عليه وسلم الظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، يدلان العبد على معرفة إحاطة الرب سبحانه بالعالم، وعظمته، وأن العوالم كلها في قبضته، وأن السماوات السبع والأرضين السبع في يده كخردلة في يد العبد، قال تعالى:{وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [سورة الإسراء آية: 60]، وقال:{وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [سورة البروج آية: 20] ، ولهذا يقرن سبحانه بين هذين الاسمين، الدالين على هذين المعنيين، اسم العلو الدال على أنه الظاهر، وأنه لا شيء فوقه، واسم العظمة الدال على الإحاطة، وأنه لا شيء دونه، كما قال تعالى:{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سورة آية: 23]، وقال:{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة آية: 115] .

وهو تبارك وتعالى، كما أنه العالي على خلقه بذاته

1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713)، والترمذي: الدعوات (3400)، وأبو داود: الأدب (5051)، وابن ماجه: الدعاء (3831) ، وأحمد (2/381 ،2/536) .

ص: 373

فليس فوقه شيء، فهو الباطن بذاته فليس دونه شيء، بل ظهر على كل شيء فكان فوقه، وبطن فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه، وهو محيط به حيث لا يحيط الشيء بنفسه، وكل شيء في قبضته، وليس في قبضة نفسه، فهذا قرب الإحاطة العامة. انتهى.

وقد ذكرت لي أني إذا ظفرت بشيء يبين حقيقة ما ذكره الشيخ، ويوضحه، أني أذكر لك ذلك، فاعلم: أني تأملت كلامه، ووضح لي مقصوده ومرامه، ورأيت ما يوضح ذلك في كتابه الصواعق المرسلة في بحث الإحاطة، وأحببت أن أكتب إليك بذلك.

قوله: " الظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء " يدلان العبد على معرفة إحاطة الرب سبحانه بالعالم وعظمته، وأن العوالم كلها في قبضته، وأن السماوات السبع والأرضين السبع في يده كخردلة في يد العبد، فإذا كان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام وضرورة العقل أنه الأول بذاته قبل كل شيء، وأنه الآخر بذاته بعد كل شيء، والظاهر بذاته فوق كل شيء، فكذلك هو الباطن بذاته دون كل شيء، ولا نفرق بين أسمائه بآرائنا القاصرة وأفهامنا الباردة، لأنه لم يقل في الحديث: والباطن الذي هو تحت كل شيء، لأن ذلك ينافي قوله:"والظاهر الذي ليس فوقه شيء "1، بل قال:" والباطن الذي ليس دونه شيء "2 لأنه لا تواري منه سماء سماء، ولا أرض أرضا، ولا

1 صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1476) وكتاب أحاديث الأنبياء (3364) وكتاب الذبائح والصيد (5478 ،5488 ،5496) وكتاب الأدب (6099) وكتاب التمني (7228)، وصحيح مسلم: كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1930) وكتاب الفضائل (2354) وكتاب التوبة (2762)، وسنن الترمذي: كتاب الزكاة (669) وكتاب الحج (858) وكتاب فضائل الجهاد (1669) وكتاب البر والصلة (1988) وكتاب الأدب (2840) وكتاب فضائل القرآن (2913) وكتاب تفسير القرآن (3364) وكتاب الدعوات (3370 ،3455)، وسنن النسائي: كتاب الصيد والذبائح (4266) وكتاب الاستعاذة (5491)، وسنن أبي داود: كتاب الصيد (2849 ،2855) وكتاب الأشربة (3730)، وسنن ابن ماجه: كتاب الصيد (3207) وكتاب الدعاء (3829) وكتاب الزهد (4266) ، ومسند أحمد (1/160 ،1/217 ،1/223 ،1/225 ،1/332 ،2/260 ،2/362 ،2/457 ،3/6 ،3/310 ،3/470 ،4/80 ،4/84 ،4/193 ،4/195 ،5/367 ،6/351 ،6/448)، وموطأ مالك: كتاب الجامع (1775)، وسنن الدارمي: كتاب الزكاة (1615) وكتاب الرقاق (2775) وكتاب فضائل القرآن (3306 ،3307) .

2 صحيح البخاري: كتاب الأذان (806) وكتاب الزكاة (1476) وكتاب أحاديث الأنبياء (3364) وكتاب الذبائح والصيد (5478 ،5488 ،5496) وكتاب الأدب (6099) وكتاب الرقاق (6574) وكتاب التمني (7228)، وصحيح مسلم: كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1930) وكتاب الفضائل (2354) وكتاب التوبة (2762)، وسنن الترمذي: كتاب الزكاة (669) وكتاب الحج (858) وكتاب فضائل الجهاد (1669) وكتاب البر والصلة (1988) وكتاب الأدب (2840) وكتاب فضائل القرآن (2913) وكتاب تفسير القرآن (3364) وكتاب الدعوات (3370 ،3455)، وسنن النسائي: كتاب الصيد والذبائح (4266) وكتاب الاستعاذة (5491)، وسنن أبي داود: كتاب الصيد (2849 ،2855) وكتاب الأشربة (3730)، وسنن ابن ماجه: كتاب الصيد (3207) وكتاب الدعاء (3829) وكتاب الزهد (4266) ، ومسند أحمد (1/160 ،1/217 ،1/223 ،1/225 ،1/332 ،2/260 ،2/275 ،2/333 ،2/362 ،2/457 ،2/533 ،3/6 ،3/16 ،3/310 ،3/470 ،4/80 ،4/84 ،4/193 ،4/195 ،5/367 ،6/351 ،6/448)، وموطأ مالك: كتاب الجامع (1775)، وسنن الدارمي: كتاب الزكاة (1615) وكتاب الرقاق (2775 ،2801) وكتاب فضائل القرآن (3306 ،3307) .

ص: 374

يحجب عنه ظاهر باطنا، بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده شهادة، والبعيد منه قريب، والسر عنده علانية.

وقد بين رحمه الله معنى البطون بقوله: وبطن فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه، وهو محيط به حيث لا يحيط الشيء بنفسه، وكل شيء في قبضته، وليس في قبضة نفسه; فهذا قرب الإحاطة العامة; فبين رحمه الله معنى قوله:" وأنت الباطن فليس دونك شيء "1 بقوله: وبطن فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه، وهو محيط به، حيث لا يحيط الشيء بنفسه، وكل شيء في قبضته، وليس في قبضة نفسه، يوضح ذلك، قوله: وأن العوالم كلها في قبضته، وأن السماوات السبع والأرضين السبع في يده، كخردلة في يد العبد، فكانت جميع العوالم والسماوات والأرض في قبضته كخردلة في يد العبد.

وقال الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، وفقه الله:

قال شيخ الإسلام في المنهاج في رده على الرازي، وكذلك إذا تكلم في المطر - يعني: الرازي - يذكر قول أولئك الذين يجعلونه حاصلا عن مجرد البخار المتصاعد، والمنعقد في الجو; وقول من يقول: إنه أحدثه الفاعل المختار بلا سبب، ويذكر قول من يقول: إنه نزل من الأفلاك، وقد يرجح هذا القول في تفسيره، ويجزم بفساده في موضع آخر، وهذا القول، لم يقله أحد من الصحابة ولا

1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713)، والترمذي: الدعوات (3400 ،3481)، وأبو داود: الأدب (5051)، وابن ماجه: الدعاء (3831) ، وأحمد (2/381 ،2/404 ،2/536) .

ص: 375

التابعين لهم بإحسان، ولا أئمة المسلمين، بل سائر أهل العلم من المسلمين من السلف والخلف يقولون: إن المطر نزل من السماء.

ولفظ السماء في اللغة والقرآن، اسم: لكل ما علا، فهو: اسم جنس للعالي، لا يتعين في شيء إلا بما يضاف إلى ذلك، وقد قال:{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [سورة الحج آية: 15]، وقال:{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [سورة الرعد آية: 17] وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [سورة الملك آية: 16] والمراد بالجميع: العلو، ثم يتعين هنا بالسقف ونحوه، وهناك: بالسحاب; وهناك: بما فوق العالم كله، فقوله:{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ} [سورة الرعد آية: 17] أي: من العلو، مع قطع النظر عن جسم معين، لكن قد صرح في مواضع أخر، بنُزوله من السحاب، كما في قوله تعالى:{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [سورة الواقعة آية: 68-69]، والمزن: السحاب، وقال:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} [سورة النور آية: 43] الآية، والودق: المطر، وقال:{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} [سورة الروم آية: 48] إلى قوله: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [سورة آية: 43] .

فأخبر سبحانه أنه يبسط السحاب في السماء، وهذا مما يبين أنه لم يرد بالسماء هنا الأفلاك، فإن السحاب لا يبسط في الأفلاك، بل الناس يشاهدون السحاب يبسط في الجو، وقد يكون الرجل في موضع عال، إما على جبل، أو

ص: 376

على غيره; والسحاب يبسط أسفل منه، وينْزل منه المطر، والشمس فوقه

إلى أن قال: وكذلك المطر، معروف عند السلف والخلف، أن الله تبارك وتعالى يخلقه من الهواء، ومن البخار المتصاعد، لكن خلقه للمطر من هذا، كخلق الإنسان من نطفة، وخلقه للشجر والزرع من الحب والنوى، فهذا معرفته بالمادة التي خلق منها.

ونفس المادة لا توجب ما خلق منها، باتفاق العقلاء; بل لا بد من ما به يخلق تلك الصورة على ذلك الوجه; وهذا هو الدليل على القادر المختار الحكيم

إلى أن قال: على قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} [سورة السجدة آية: 27] فهذه الآية يستدل بها على علم الخالق، وقدرته، ومشيئته، وحكمته، وإثبات المادة التي خلق منها المطر، والشجر، والإنسان، والحيوان، مما يدل على حكمته، ونحن لا نعرف شيئا قط خلق إلا من مادة، ولا أخبر الله في كتابه بمخلوق، إلا من مادة. انتهى كلامه.

قال في الصواعق: الوجه الثامن: أن الله سبحانه ذكر الإنزال على ثلاث درجات: إنزال مطلق، كقوله:{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} فأطلق الإنزال، ولم يذكر مبدأه، وقوله:{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [سورة الزمر آية: 6] الثانية: الإنزال من السماء، كقوله:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [سورة الفرقان آية: 48] الثالثة: إنزال منه سبحانه، كقوله:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [سورة الزمر آية: 1] .

ص: 377

وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} [سورة النحل آية: 102] الآية، وقال:{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [سورة الأنعام آية: 114] .

فأخبر: أن القرآن منزل منه، والمطر نزل من السماء، والحديد والأنعام، منزلان نزولا مطلقا، وبهذا يظهر تلبيس المعطلة، والجهمية، والمعتزلة، حيث قالوا: إن كون القرآن منزلا، لا يمنع أن يكون مخلوقا، كالماء، والحديد، والأنعام، حتى غلا بعضهم، فاحتج على كونه مخلوقا بكونه منزلا، وقال: الإنزال بمعنى الخلق، وجوابه: أن الله سبحانه فرق بين النّزول منه، والنّزول من السماء، فجعل القرآن منزلا منه، والمطر منزلا من السماء، وحكم المجرور بمن في هذا الباب حكم المضاف.

والمضاف إليه سبحانه نوعان: أحدهما: أعيان قائمة بأنفسها، كبيت الله، وناقة الله، وروح الله، وعبده، فهذا إضافة مخلوق إلى خالقه، وهي إضافة اختصاص وتشريف، الثاني: إضافة صفة إلى موصوفها، كسمعه، وبصره، وحياته، وعلمه، وقدرته، وكلامه، ووجهه، ويده

إلخ. وإنما أطلنا النقل، لأنك قد تفهم منه شيئا لم يظهر لنا.

وراجعنا حاشية على المصابيح قوله: "حديث عهد بربه" أي: قريب العهد من عند ربه، لم يخالطه ما يغسل به الأيدي الظالمة، والأكف العادية.

ص: 378

وقال في الهدى، بعد قوله:" هذا حديث عهد بربه "1 قال الشافعي: أخبرني من لا أتهم عن يزيد بن الهاد، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سال السيل، قال:" اخرجوا بنا إلى هذا الذي جعله الله طهورا، فنتطهر منه، ونحمد الله عليه " وأخبرنا من لا أتهم، عن إسحاق بن عبد الله:"أن عمر كان إذا سال السيل، ذهب بأصحابه إليه، وقال: ما كان ليجيء من مجيئه أحد، إلا تمسحنا به". انتهى من هديه صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء.

والذي نفهم: أن الإنزال، والخلق، من صفات الأفعال من غير إشكال، فإن كان مقصود النووي: تأويل صفات الأفعال، فلا شك في بطلانه، وإن كان مقصوده: بيان أن المطر جديد الخلق، مع قطع النظر عن التعرض لصفات الرب، فلم يظهر لنا في ذلك منع; والذي فهمنا من كلامكم: أن النووي متعرض لتأويل صفات الأفعال، وهذا لا شك في بطلانه; وصلى الله على محمد، وآله وصحبه وسلم.

تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع: كتاب العبادات

1 مسلم: صلاة الاستسقاء (898)، وأبو داود: الأدب (5100) ، وأحمد (3/133 ،3/267) .

ص: 379