الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذل والانكسار للعزيز الجبار
بسم الله الرحمن الرحيم
(وبه نستعين والحمد لله رب العالين)(*)
قال الحافظ العلامة زين الدين ابن الشيخ أبو العباس أحمد بن رجب أمر الله في عمره البركة: هذه رسالة عملناها في الخشوع وانكسار القلب للرب.
الحمدُ لله جابر قلوب المنكسرة قلوبهم من أجله، وغافر ذنوب (المستغفرين)(**) بفضله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا شيء كمثله، وأشهد أن مُحَمَّدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره عَلَى الدين كله، وخَيَّرَهُ بين أن يكون (ملكًا نبيًّا) (
…
) أو عبدًا رسولاً (1)، فاختار مقام العبودية مع (الرسالة)(****).
(وكان)(*****) يقول: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ المَسَاكِينِ» (2)(تنويهًا بشرف)(******) هذا المقام وفضله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، والمستمسكين من بعدهم بحبله.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى مدح في كتابه المخبتين له، والمنكسرين لعظمته، والخاضعين والخاشعين لها.
فَقَالَ الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (3).
(*) رب يسر وأعن يا كريم: "نسخة".
(**) المستغفرة لذنوبهم: "نسخة".
(
…
) نبيًّا ملكًا: "نسخة".
(1)
أخرجه أحمد (2/ 231).
(****) رسله: "نسخة".
(*****) فكان: "نسخة".
(2)
أخرجه الترمذي (2352)، وابن ماجه (4126) قال الترمذي: حديث غريب.
(******) لشرف: "نسخة".
(3)
الأنبياء: 90.
وقال تعالى: {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} إِلَى قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (1).
ووصف المؤمنين بالخشوع له في أشرف عباداتهم التي هم عليها يحافظون، فَقَالَ:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (2).
ووصف الذين أوتوا العِلْم بالخشوع حيث يكون كلامه لهم مسموعًا، فَقَالَ:{إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (3).
وأصل الخشوع هو: لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه وانكساره وحرقته فَإِذَا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء؛ لأنها تابعة له، كما قال صلى الله عليه وسلم:"أَلَا إِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ"(4).
فَإِذَا خشع القلب خشع السمع والبصر والرأس والوجه، وسائر الأعضاء وما ينشأ منها حتى الكلام. لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه في الصلاة:"خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي" وفي رواية: "وَمَا اسْتَقَلَّ بِهِ قَدَمِي"(5).
ورأى بعض السلف رجلاً يعبث بيده في "الصلاة) (*) فَقَالَ: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.
(1) الأحزاب: 35.
(2)
المؤمنون: 1 - 2.
(3)
الإسراء: 107 - 109.
(4)
البخاري (52، 205)، ومسلم (1599).
(5)
أخرجه مسلم (771).
(*) صلاته: "نسخة".
وروي ذلك عن حذيفة (1) رضي الله عنه وسعيد بن المسيب (2). ويروى مرفوعًا (3) لكن بإسناد لا يصح.
قال المسعودي عن أبي سنان عمن حديثه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (4) قال: هو الخشوع في القلب، وأن تُلِيّن كَنَفَكَ للمرء المسلم، وأن لا تلتفت في صلاتك (5).
وقال عطاء بن السائب عن رجل عن علي رضي الله عنه: الخشوع خشوع القلب، وأن لا (تلتفت)(*) يمينًا ولا شمالاً.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (4) قال: خائفون ساكنون (6).
وقال ابن شوذب عن الحسن رحمه الله تعالى: كان الخشوع في قلوبهم فغضوا له البصر وخفضوا له الجناح.
وقال منصور عن مجاهد: (أصل)(**) الخشوع في القلب، والسكون في الصلاة.
(1) أخرجه ابن نصر في "تعظيم قدر الصلاة"(150) وضعفه شيخنا محمد عمرو في "تكميل النفع"(21).
(2)
أخرجه ابن المبارك في "الزهد"(213) وضعفه الألباني في "الضعيفة"(1/ 114).
(3)
قال الشيخ محمد عمرو في تخريجه لرسالة "الذل والإنكسار"(ص33): الحديث موضوع مرفوعًا، في سنده سليمان بن عمرو
…
ذكره ابن حبان في "المجروحين"(1/ 329) ونقل عن عبد الجبار بن محمد: أنه كان أطول الناس قيامًا بليل وأكثرهم صيامًا بنهار، وكان يضع الحديث وضعًا.
(4)
المؤمنون: 2.
(5)
رواه وكيع في "الزهد"(328)، وابن المبارك في "الزهد" (1148) وغيرهما. وقال الشيخ محمد عمرو: إسناده ضعيف مداره عَلَى رجل مبهم.
(*) يلتفت: "نسخة".
(6)
رواه الطبري في "تفسيره"(18/ 3).
(*) هو: "نسخة".
وقال ليث عن مجاهد: من ذلك خفض الجناح وغض البصر، وكان المسلمون إذا قام أحدهم إِلَى الصلاة خاف ربه أن يلتفت عن يمينه أو شماله.
وقال عطاء الخراساني: الخشوع خشوع القلب والطرف.
وقال الزهري: هو سكون العبد في صلاته.
وعن قتادة قال: الخشوع في القلب هو الخوف وغض البصر في الصلاة.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (1) قال: متواضعين وقد وصف الله تعالى في كتابه الأرض بالخشوع فَقَالَ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} (2)، فاهتزازها وربوها -وهو ارتفاعها- مزيل لخشوعها، فدل عَلَى أن الخشوع الَّذِي كانت عليه هو سكونها وانخفاضها، (فكذلك)(*) القلب (إِن)(**) خشع فإنه تسكن خواطره وإراداته الرديئة، التي تنشأ (من) (
…
) اتباع الهوى وينكسر ويخضع لله عز وجل. فيزول بذلك ما كان فيه من النأو (3) والتزفع والتكبر والتعاظم، ومتى سكن ذلك في القلب خشعت الأعضاء والجوارح والحركات كلها حتى الصوت، وقد وصف الله تعالى الأصوات بالخشوع في قوله:{وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاً تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} (4)، وخشوع الأصوات هو سكونها وانخفاضها بعد ارتفاعها.
وكذلك وصف وجوه الكفار وأبصارهم في يوم القيامة بالخشوع، فدل ذلك عَلَى فى دخول الخشوع في هذه الأعضاء كلها، ومتى تكلف الإنسان تعاطي الخشوع في جوارحه وأطرافه -مع فراغ قلبه من الخشوع وخلوه منه- كان ذلك خشوع نفاق، وهو الَّذِي كان السلف يستعيذون منه كما قال بعضهم:
(1) الأنبياء: 90.
(2)
فصلت: 39.
(*) وكذا: "نسخة".
(**) إذا: "نسخة".
(
…
) عن: "نسخة".
(3)
النأو، لغة في:"النأي"، وهو البعد.
(4)
طه: 108.
"استعيذوا بالله من خشوع النفاق. قالوا: وما خشوع النفاق؟ قال: أن (ترى) (*) الجسد خاشعًا والقلب ليس بخاشع".
ونظر عمر رضي الله عنه إِلَى شاب قد نكس رأسه فَقَالَ له: يا هذا، ارفع رأسك، فإن الخشوع لا يزيد عَلَى ما في القلب.
فمن أظهر للناس خشوعًا فوق ما في قلبه، فإنما هو نفاق عَلَى نفاق.
وأصل الخشوع الحاصل في القلب، إِنَّمَا هو من معرفة الله، ومعرفة عظمته وجلاله وكماله، فمن كان بالله أعرف (فهو)(**) له أخشع.
وتتفاوت القلوب في الخشوع بحسب تفاوت معرفتها لمن خشعت له، وبحسب تفاوت مشاهدة القلوب للصفات المقتضية للخشوع، فمن خاشع لقوة مطالعته (لقرب) (
…
) الله من عبده، واطلاعه عَلَى سره وضميره المقتضي الاستحياء من الله تعالى ومراقبته في الحركات والسكنات، ومن خاشع لمطالعته لجلال الله وعظمته وكبريائه، المقتضي لهيبته وإجلاله، ومن خاشع لمطالعته لكماله وجماله المقتضي للاستغراق في محبته، والشوق إِلَى لقائه ورؤيته، ومن خاشع لمطالعة شدة بطشه وانتقامه، وعقابه المقتضي للخوف منه وهو سبحانه وتعالى جابر القلوب المنكسرة لأجله، فهو سبحانه وتعالى يتقرب من القلوب الخاشعة له كما يتقرب ممن هو قائم يناجيه في الصلاة وممن يعفر له وجهه في التراب بالسجود، وكما يتقرب من وفده وزوار بيته (الوافدين)(****) بين يديه، المتضرعين إِلَيْهِ في الوقف بعرفة، ويدنو ويباهي بهم الملائكة وكما يتقرب من عباده (الداعين)(*****) له، السائلين له، المستغفرين من ذنوبهم بالأسحار، ويجيب دعاءهم، ويعطيهم (سؤلهم)(******)، ولا جبر لانكسار العبد أعظم من القرب والإجابة.
(*) يُرى: "نسخة".
(**) كان: "نسخة".
(
…
) قرب: "نسخة".
(****) الواقفين: "نسخة".
(*****) الدائبين: "نسخة".
(******) سؤالهم: "نسخة".
وروى الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتابه "الزهد"(1) بإسناده عن عمران القصير قال: "قال موسى بن عمران: أي رب، أين أبغيك؟ قال: ابغني عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، إني أدنو منهم كل يوم باعًا، ولولا ذلك لانهدموا".
وروى إبراهيم بن الجنيد رحمه الله تعالى في كتاب "المحبة" بإسناده عن جعفر بن سليمان: سمعت مالك بن دينار (قال)(*): قال موسى عليه السلام: "إلهي أين أبغيك؛ فأوحى الله عز وجل إِلَيْهِ: أن يا موسى ابغني عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، فإني أدنو منهم في كل يوم وليلة باعًا ولولا ذلك لانهدموا"، قال جعفر: قلت لمالك بن دينار: كيف المنكسرة قلوبهم؟ فَقَالَ: سألت الَّذِي قرأ في الكتب فَقَالَ: سألت الَّذِي سأل عبد الله بن سلام فَقَالَ: سألت عبد الله بن سلام عن المنكسرة قلوبهم، ما يعنى؟ قال: المنكسرة قلوبهم بحب الله عز وجل عن حب غيره".
وقد جاء في السنة الصحيحة ما يشهد (بقرب)(**) الله من القلب المنكسر ببلائه الصابر عَلَى قضائه أو الراضي بذلك كما في "صحيح مسلم"(2) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللهَ عز وجل يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ".
وروى أبو نعيم (3) من طريق ضمرة عن ابن شوذب قال: "أوحى الله تعالى إِلَى موسى عليه السلام: أتدري لأي شيء اصطفيتك عَلَى الناس برسالاتي وكلامي؟ قال: لا يا رب! قال: لأنّه لم يتواضع لي أحد قط تواضعك".
(1)(ص 75).
(*) لقرب: "نسخة".
(**) يقول: "نسخة".
(2)
برقم (2569).
(3)
في "الحلية"(6/ 130).
(وتواضعه هذا هو الخشوع، وهو)(*) العِلْم النافع، وهو أول ما يرفع من العِلْم، فخرج النسائي (1) من حديث جبير بن نفير رضي الله عنه، عن عوف بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إِلَى السماء يومًا (فَقَالَ) (**):«هَذَا أَوَانٌ يُرْفَعُ فِيهِ الْعِلْمُ» فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، يُقَالُ لَهُ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يُرْفَعُ الْعِلْمُ وَقَدْ أُثْبِتَ وَوَعَتْهُ الْقُلُوبُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنْ كُنْتُ لَأَحْسَبُكَ مِنْ أَفْقَهِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ» وَذَكَرَ لَهُ ضَلَالَةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عز وجل. قَالَ: فَلَقِيتُ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ فَحَدَّتْتُهُ بِحَدِيثِ عَوْفٍ بْنِ مَالِكٍ فَقَالَ: صَدَقَ عَوْفُ أَلاً أُخْبِرُكَ بِأَوَّلِ ذَلِكَ يُرْفَعُ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: الْخُشُوعُ حَتَّى لاً تَرَى خَاشِعًا».
وخرجه الترمذي (2) من حديث جبير بن نفير عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه وفي آخره: قال جبير فلقيت عبادة بن الصامت فقلت: ألا تسمع إِلَى ما يقول أخوك أبو الدرداء: وأخبرته بالذي قال أبو الدرداء، قال: صدق أبو الدرداء، لو شئت لحدثتك بأول علم يرفع من الناس: الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد الجامع، فلا ترى فيه رجلاً خاشعًا.
وقد قيل: إِنَّ رواية النسائي أرجح.
وقد روى سعيد بن بشير عن قتادة، عن الحسن رحمه الله تعالى، عن شداد ابن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أَوَّلَ مَا يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الْخُشُوعُ"(3) فذكره.
(*) فصل: وهذا الخشوع هو: "نسخة".
(1)
أخرجه النسائي في " الكبرى"(3/ 456).
(*) وقال: "نسخة".
(2)
برقم (2653) قال الترمذي: حسن غريب.
(3)
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(7/ 7183) من طريق عمران القطان عن قتادة به بمثله.
قال الشيخ محمد عمرو في تخريجه "للذل والإنكسار"(ص44): وفي شعيب بن بيان الصفار، وعمران القطان: مختلف فيهما، والمهلب بن العلاء: مجهول لا تعرف له ترجمة.
ورواه ابن عدي (2/ 840)، وأبو الشيخ في "الطبقات"(3/ 164 - 165) عن حسام بن مصك عنه، وحسام متروك، والراجح الصحيح رواية جبير بن نفير عن شداد بن أوس موقوفًا عليه من قوله.
ورواه أبو بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حبيب مُرسلاً (1).
وروي نحوه عن حذيفة من قوله (2).
فالعلم النافع هو ما باشر القلوب فأوجب لها السكينة والخشية، والإخباب لله والتواضع والانكسار له، وإذا لم يباشر القلوب ذلك من العِلْم، وإنما كان عَلَى اللسان، فهو حجة الله عَلَى ابن آدم، تقوم عَلَى صاحبه وغيره، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه:"إِنَّ أَقْوَامًا يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ صَاحِبُهُ". خرجه مسلم (3).
وقال الحسن رحمه الله تعالى: العِلْم علمان: علم باللسان وعلم بالقلب، فعلم القلب هو العِلْم النافع، وعلم اللسان هو حجة الله عَلَى ابن آدم.
وروي عن الحسن رحمه الله تعالى مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي عنه عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا، وعنه عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا، ولا يصحُّ وصله.
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن العِلْم الَّذِي عند أهل الكتابين من قبلنا موجود بأيديهم ولا ينتفعون بشيء منه لما فقدوا المقصود منه، وهو وصوله إلى قلوبهم حتى يجدوا حلاوة الإيمان به، ومنفعته بحصول الخشية والإنابة لقلوبهم، وإنما هو عَلَى ألسنتهم تقوم به الحجة عليهم.
ولهذا المعنى وصف الله سبحانه في كتابه العُلَمَاء بالخشية كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (4).
(1) رواه ابن المبارك في "الزهد"(72) ومن طريقه أحمد في "الزهد"(ص395).
(2)
أخرجه ابن أبي شيية في "المصنف"(13/ 381) ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية"(1/ 281)، والحاكم (4/ 469).
(3)
برقم (822).
(4)
فاطر: 28.
ووصف العُلَمَاء من أهل الكتاب قبلنا بالخشوع كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} الآية (2).
وقوله تعالى فى وصف هؤلاء الذين أوتوا العِلْمَ ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعًا مدح لمن أوجب له سماع كتاب الله الخشوع في قلبه، وقال تعالى:{فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (3).
ولين القلوب هو زوال (قساوتها)(*) لحدوث الخشوع فيها والرقة.
وقد (قبح)(**) الله من لا يخشع قلبه لسماع (كتابه)(**) وتدبره، قال تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاً يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (4) قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين خرجه مسلم (5)، وخرجه غيره (6) وزاد فيه: فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضًا.
(1) الزمر: 9.
(2)
الإسراء: 107 - 109.
(3)
الزمر: 22 - 23.
(*) قسوتها: "نسخة".
(**) وبخ: "نسخة".
(
…
) كلامه: "نسخة".
(4)
الحديد: 16.
(5)
برقم (3027).
(6)
أخرجه النسائي في "الكبرى" في التفسير - كما في "تحفة الأشراف"(7/ 70).
وخرج ابن ماجه (1) من حديث ابن الزبير رضي الله عنه قال: "لَمْ يَكُنْ بَيْنَ إِسْلَامِهِمْ وَبَيْنَ أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يُعَاتِبُهُمُ اللَّهُ بِهَا إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ".
وقد سمع كثير من الصالحين هذه الآية تتلى، فأثرت فيهم آثارًا متعددة، فمنهم من مات عند ذلك لانصداع قلبه بها، ومنهم من تاب عند ذلك وخرج عما كان فيه.
وقد ذكرنا أخبارهم في كتاب "الاستغناء بالقرآن".
وقال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (2) الآية.
قال أبو عمران الجوني: والله لقد صرف إلينا ربنا في هذا القرآن ما لو صرفه إِلَى الجبال لحتها و (حناها). (*).
وكان مالك بن دينار رحمه الله يقرأ هذه الآية ثم يقول: أقسم لكم، لا يؤمن عبد بهذا القرآن إلا صدع قلبه.
وروي عن الحسن رحمه الله تعالى قال: يا ابن آدم إذا وسوس لك الشيطان بخطيئة أو حدثت بها نفسك فاذكر عند ذلك ما حملك الله من كتابه مما لو حملته الجبال الرواسي لخشعت وتصدعت أما سمعته يقول: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (2).
فإنما ضرب لك الأمثال لتتفكر فيها، وتعتبر بها وتزدجر عن معاصي الله عز وجل، وأنت يا ابن آدم أحق أن تخشع لذكر الله، وما حملك من كتابه وآتاك من حكمة، لأنّ عليك الحساب ولك الجنة أو النار.
(1) برقم (4192).
(2)
الحشر: 21.
(*) جباها: "نسخة".
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من قلب لا يخشع، كما في "صحيح مسلم" (1) عن زيد بن أرقم "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:"اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاً يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لاً يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لاً تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لاً يُسْتَجَابُ لَهَا".
وقد روي نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة.
ويروى عن كعب الأحبار قال: "مكتوب في الإنجيل: يا عيسى، قلب لا يخشع عمله لا ينفع، وصوته لا يسمع، ودعاؤه لا يرفع".
قال أسد بن موسى في كتاب "الورع": ثنا مبارك بن فضالة قال: كان الحسن رحمه الله تعالى يقول إِنَّ المؤمنين لما جاءتهم هذه الدعوة من الله صدقوا بها، وأفضى يقينها إِلَى قلوبهم، وخشعت لذلك قلوبهم وأبدانهم وأبصارهم، وكنت والله إذا رأيتهم رأيت قومًا كأنهم رأي عين، فوالله ما كانوا بأهل جدل ولا باطل، ولا اطمأنوا إلا إِلَى كتاب الله، ولا أظهروا ما ليس في قلوبهم، ولكن جاءهم عن الله أمر فصدقوا به، فنعتهم الله تعالى في القرآن أحسن نعت فقال:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} (2) قال الحسن: الهون في كلام العرب: اللين والسكينة والوقار. قال: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (3) قال: حلماء لا يجهلون، وإذا جهل عليهم حلموا، يصاحبون عباد الله نهارهم بما يسمعون، ثم ذكر ليلهم خير ليل فَقَالَ:{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} (3) ينتصبون لله عَلَى أقدامهم، ويفترشون وجوههم لربهم سجدًا، تجري دموعهم عَلَى خدودهم فرقًا من ربهم.
قال الحسن رحمه الله تعالى: لأمر ما أسهروا له ليلهم، ولأمر ما خشعوا له نهارهم، ثم قال:{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} (4). قال: وكل شيء يُصيب ابن آدم ثم يزول عنه فليس بغرام،
(1) برقم (2722).
(2)
الفرقان: 63.
(3)
الفرقان: 64.
(4)
الفرقان: 65.
إِنَّمَا الغرام الملازم له ما دامت السموات والأرض، قال: صدق القوم، والله الَّذِي لا إله إلا هو فعملوا ولم يتمنوا فإياكم -رحمكم الله- وهذه الأماني فإن الله لم يعط عبدًا (بأمنيته)(*) خيرًا قط في الدُّنْيَا والآخرة، وكان يقول: يا لها موعظة لو وافقت من القلوب حياة لوعتها.
وقد شرع الله تعالى لعباده من أنواع العبادات ما يظهر فيه خشوع الأبدان، الناشئ عن خشوع القلب وذله وانكساره، ومن أعظم ما يظهر فيه خشوع الأبدان لله تعالى من العبادات الصلاة، وقد مدح الله تعالى الخاشعين فيها بقوله عز وجل:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (1) وقد سبق بعض ما قاله السلف في تفسير الخشوع في الصلاة.
وقال ابن لهيعة عن عطاء بن دينار رحمه الله تعالى عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (1) يعني: متواضعين لا يعرف من عن يمينه ولا من عن شماله، ولا يلتفت من الخشوع لله عز وجل.
وقال ابن المبارك عن أبي جعفر عن ليث عن مجاهد: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (2) قال: القنوت: الركون والخشوع، وغض البصر وخفض الجناح من رهبة الله عز وجل.
قال: وكان العُلَمَاء إذا قام أحدهم في الصلاة هاب الرحمن عز وجل أن يشذ نظره، أو يلتفت أو يقلب الحصى، أو يعبث بشيء أو يحدث -يعني- نفسه بشيء من الدُّنْيَا إلا ناسيًا ما دام في صلاته.
وقال منصور عن مجاهد رحمه الله تعالى، في قوله تعالى:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (3) قال: الخشوع في الصلاة.
(*) بالأمنية: "نسخة".
(1)
المؤمنون: 1 - 2.
(2)
البقرة: 238.
(3)
الفتح: 29.
وخرج الإمام أحمد (1) والنسائي (2) والترمذي (3) من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصَّلَاةُ مَثْنَى مَثْنَى، تَشَهَّدُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَتَخَشَّعُ وَتَضَرَّعُ، وَتَمَسْكَنُ وَتُقْنِعُ يَدَيْكَ" يَقُولُ: تَرْفَعُهُمَا إِلَى رَبِّكَ عز وجل وَتَقُولُ، يَا رَبِّ يَا رَبِّ يَا رَبِّ ثَلاّثًا فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهِيَ خِدَاجٌ! وفي "صحيح مسلم"(4) عن عثمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" «مَا مِنَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ؛ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ، مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ".
(ومما)(*) يظهر فيه الخشوع والذل والانكسار من أفعال الصلاة: وضع اليدين إحداهما عَلَى الأخرى في حال القيام، وقد روي عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سئل عن المراد بذلك فَقَالَ: هو ذل بين يدي عزيز.
قال علي بن محمد المصري الواعظ رحمه الله تعالى: ما سمعت في العِلْم بأحسن من هذا.
وروي عن بشر الحافي رحمه الله تعالى أنه قال: أشتهي منذ أربعين سنة أن أضع يدًا عَلَى يد فى الصلاة ما يمنعني من ذلك إلا أن أكون قد أظهرت من الخشوع ما ليس في قلبي مثله.
وروى محمد بن نصر المروزي رحمه الله تعالى بإسناده عن أبي هريرة (5) رضي الله عنه قال: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ صَنِيعِهِمْ فِي الصَّلَاةِ» .
وفسره بعض رواته بقبض شماله بيمينه وانحنى هكذا.
(1) في "المسند"(1/ 11)، (4/ 167).
(2)
في "الكبرى"(1/ 212، 450).
(3)
برقم (385). ونقل الترمذي قول البخاري: حديث صحيح.
(4)
برقم (228).
(*) فمما: "نسخة".
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة (13/ 543).
وبإسناده عن أبي صالح السمان رحمه الله تعالى قال: يبعث الناس يوم القيامة هكذا ووضع إحدى يديه عَلَى الأخرى.
وملاحظة هذا المعنى في الصلاة يوجب للمصلي أن يتذكر وقوفه بين يدي الله تعالى للحساب.
وكان ذو النون وحمه الله تعالى يقول في وصف العباد: لو رأيت أحدهم وقد قام إِلَى صلاته فلما وقف في محرابه واستفتح كلام سيده، خطر على قلبه أن ذلك المقام هو المقام الَّذِي يقوم الناس فيه لرب العالمين فانخلع قلبه وذهل عقله، خرجه أبو نعيم رحمه الله تعالى.
ومن ذلك إقباله عَلَى الله عز وجل وعدم التفاته إِلَى غيره، وهو نوعان:
أحدهما: عدم التفات قلبه إِلَى غير ما هو مناج له، وتفريغ القلب للرب عز وجل.
وفي "صحيح مسلم"(1) عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر فضل الوضوء وثوابه: ثم قال: "فَإِنْ هُوَ قَامَ وَصَلَّى فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ أَهْلَهُ، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِلَّهِ إِلَّا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ".
والثاني: عدم الالتفات بالبصر يمينًا وشمالاً، وقصر النظر عَلَى موضع السجود وهو من لوازم خشوع القلب وعدم التفاته، ولهذا رأى بعض السلف مصليًا يعبث في صلاته فَقَالَ: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه، وقد سبق ذكره.
وخرج الطبراني (2) من حديث ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كَانَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَلْتَفِتْ فِي صَلَاتِهِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ ثُمَّ أَنْزَل اللهُ عز وجل:
(1) برقم (832).
(2)
ذكره الهيثمي في "المجمع"(2/ 80) وقال: رواه الطبراني في "الأوسط"، وقال: تفرد به حبرة بن نجم الإسكندراني، ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله ثقات.
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (1) فخشع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن يلتفت يمنة ولا يسرة.
ورواه غيره عن ابن سيرين رحمه الله تعالى مرسلاً (2) وهو أصح.
وخرج ابن ماجه (3) من حديث أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: «كَانَ النَّاسُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ أَحَدُهُمْ يُصَلِّي لَمْ يَعْدُ بَصَرُهُ مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ النَّاسُ إِذَا قَامَ أَحَدُهُمْ يُصَلِّي لَمْ يَعْدُ بَصَرُهُ مَوْضِعَ (جَبِينِهِ) (*)، فَتُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ فَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه فَكَانَ النَّاسُ إِذَا قَامَ أَحَدُهُمْ يَلِي لَمْ يَعْدُ بَصَرُ أَحَدِهِمْ مَوْضِعَ الْقِبْلَةِ، وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه، فَكَانَتِ الْفِتْنَةُ فَتَلَفَّتَ النَّاسُ يَمِينًا وَشِمَالًا» .
وفي "صحيح البخاري"(4) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: «هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ العَبْدِ» .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي (5) من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَزَالُ اللَّهُ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَ عَنْهُ» .
وخرج الإمام أحمد والترمذي (6) من حديث الحارث الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهِنَّ وَيَأْمُرَ بني إسرائيل أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ" فذكر منها: "وَآمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا".
(1) المؤمنون: 1 - 2.
(2)
أخرجه أبو داود فى "المراسيل"(ص8).
(3)
برقم (1634).
(*) جبهته: "نسخة".
(4)
برقم (751، 3291).
(5)
أخرجه أحمد (5/ 172)، وأبو داود (909)، والنسائي فى "الصغرى"(3/ 8)، وفى "الكبرى"(1/ 356).
(6)
أخرجه أحمد (4/ 130، 202)، والترمذي (2863، 2864). قال الترمذي: حسن صحيح
غريب.
وفي المعنى أحاديث أُخر متعددة.
وقال عطاء: سمعت أبا هريرة يقول: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلَا يَلْتَفِتْ، فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ إِنَّ رَبَّهُ أَمَامَهُ، وَإِنَّهُ يُنَاجِيهِ فَلَا يَلْتَفِتْ» .
قال عطاء رحمه الله تعالى: وبلغنا أن الرب عز وجل يقول: "يَا ابْنَ آدَمَ إِلَى مَنْ تَلْتَفِتُ، أَنَا خَيْرٌ لَكَ مِمَّنْ تَلْتَفِتُ إِلَيْهِ". وخرجه البزار وغيره مرفوعًا، والموقوف أصح.
وقال أبو عمران الجوني رحمه الله تعالى: أوحى الله عز وجل إِلَى موسى عليه السلام: يا موسى إذا قمت بين يدي فقم مقام العبد الحقير الذليل، وذم نفسك فهي أولى بالذم، وناجي بقلب وجل، ولسان صادق.
ومن ذلك الركوع وهو ذل بظاهر الجسد؛ ولهذا كانت العرب تأنف منه ولا تفعله حتى بايع بعضهم النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى أن لا يخر إلا قائمًا يعني أن يسجد من غير ركوع، كذلك فسره الإمام أحمد رحمه الله تعالى والمحققون من العُلَمَاء.
وقال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} (1) وتمام الخضوع في الركوع: أن يخضع القلب لله ويذل له فيتم بذلك خضوع العبد بباطنه وظاهره لله عز وجل، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه:"خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعِظَامِي وَمَا اسْتَقَلَّ بِهِ قَدَمِي"(2)، إشارة إِلَى أن خشوعه في ركوعه قد حصل بجميع جوارحه، ومن أعظمها القلب الَّذِي هو ملك الأعضاء والجوارح، فَإِذَا خشع خشعت الجوارح، والأعضاء كلها تبعًا لخشوعه.
ومن ذلك السجود وهو أعظم ما يظهر فيه ذل العبد لربه عز وجل، حيث جعل العبد أشرف ما له من الأعضاء، وأعزها عليه وأعلاها حقيقة أوضع ما يمكنه، فيضعه في التراب متعفرًا ويتبع ذلك انكسار القلب وتواضعه وخشوعه لله عز وجل.
(1) المرسلات: 48.
(2)
تقدم تخريجه.
ولهذا كان جزاء المؤمن إذا فعل ذلك أن يقربه الله عز وجل إِلَيْهِ فإن: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» (1) كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (2).
والسجود أيضاً مما كان يأنف منه المشركون المستكبرون عن عبادة الله عز وجل، وكان بعضهم يقول: أكره ان أسجد فتعلوني استي، وكان بعضهم يأخذ كفًّا من حصى، فيرفعه إِلَى جبهته ويكتفي بذلك عن السجود.
وإبليس إِنَّمَا طرده الله لما استكبر عن السجود لمن أمره الله بالسجود له.
ولهذا يبكي إذا سجد المؤمن ويقول: أمر ابن آدم بالسجود ففعل فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار (3).
ومن تمام خشوع العبد لله عز وجل وتواضعه له في ركوعه وسجوده، أنه إذا ذل لربه بالركوع والسجود وصف رَبَّه حينئذ بصفات العز والكبرياء والعظمة والعلو، فكأنه يقول: الذل والتواضع وصفي، والعلو والعظمة والكبرياء وصفك، فلهذا شرع للعبد في ركوعه أن يقول: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده سبحان ربي الأعلى (4).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا يقول في سجوده: «سُبْحَانَ ذِي الْمَلَكُوتِ وَالْجَبَرُوتِ، وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ» (5).
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ليلة في سجوده: "أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي دَاوُدُ عليه السلام: أُعَفِّرُ وَجْهِي فِي التُّرَابِ لِسَيِّدِي، وَحَقٌّ لِسَيِّدِي أَنْ تُعَفَّرَ الْوُجُوهُ لِوَجْهِهِ"(6).
(1) أخرجه مسلم (482).
(2)
العلق: 19.
(3)
أخرجه مسلم (81).
(4)
أخرجه مسلم (772).
(5)
أخرجه أحمد (6/ 24)، وأبو داود (873)، والنسائي (2/ 191، 223).
(6)
أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(3556).
قال الحسن رحمه الله تعالى: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَقُمْ قَانِتًا كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ، وَإِيَّاكَ وَالسَّهْوَ وَالِالْتِفَاتَ، إِيَّاكَ أَنْ يَنْظُرَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَتَنْظُرَ إِلَى غَيْرِهِ، وَتَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَتَعَوَّذُ بِهِ مِنَ النَّارِ، وَقَلْبُكَ سَاهٍ وَلَا تَدْرِي مَا تَقُولُ بِلِسَانِكَ» ، خرجه محمد بن نصر المروزي (1) رحمه الله تعالى.
وروي بإسناده (2) عن عثمان بن أبي دهرش قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
صَلَّى صَلَاةً جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: "هَلْ أَسْقَطْتُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِي شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا نَدْرِي، قَالَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: نَعَمْ آيَةَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا بَالُ أَقْوَامٍ، يُتْلَى عَلَيْهِمْ كِتَابُ اللَّهِ فَلَا يَدْرُونَ مَا يُتْلَى مِنْهُ مِمَّا تُرِكَ، هَكَذَا خَرَجَتْ عَظَمَةُ اللَّهِ مِنْ قُلُوبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَشَهِدَتْ أَبْدَانُهُمْ وَغَابَتْ قُلُوبُهُمْ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ عَبْدٍ عَمَلًا حَتَّى يَشْهَدَ بِقَلْبِهِ مَعَ بَدَنِهِ» .
والآثار في هذا المعنى كثيرة جدًّا.
ومر عصام بن يوسف رحمه الله تعالى بحاتم الأصم وهو يتكلم في مجلسه فَقَالَ: يا حاتم تحسن تصلي؟ قال: نعم! قال: كيف تصلي؟ قال حاتم: أقوم بالأمر وأمشي بالخشية، وأدخل بالنية، وأكبر بالعظمة، وأقرأ بالترتيل والتفكر، وأركع بالخشوع، وأسجد بالتواضع، وأجلس للتشهد بالتمام، وأسلم بالسبيل والسنة، وأسلمها بالإخلاص إِلَى الله عز وجل، وأرجع عَلَى نفسي بالخوف، أخاف أن لا يقبل مني، وأحفظه بالجهد إِلَى الموت، قال: تكلم فأنت تحسن تصلي.
ومن أنواع العبادات التي يظهر فيها الذل والخشوع لله عز وجل: الدعاء، قال الله تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (3) وقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (4).
فمما يظهر فيه الذل من الدعاء رفع اليدين.
(1) في "تعظيم قدر الصلاة"(1/ 189 رقم 140).
(2)
المصدر السابق (1/ 198 رقم 157).
(3)
الأعراف: 55.
(4)
الأنبياء: 90.
وقد صح (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رفع يديه في الدعاء في مواطن كثيرة، وأعظمها في الاستسقاء فإنه كان يرفع فيه يديه حتى يرى بياض إبطيه، وكذلك كان يجتهد في الرفع عشية عرفة بعرفة، وخرج الطبراني (2) رحمه الله تعالى من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:"رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بعرفة ويداه إِلَى صدره كاستطعام المسكين".
وقد كان بعض الخائفين يجلس بالليل ساكنًا مطرقًا برأسه، ويمد يديه كحال السائل، وهذا من أبلغ صفات الذل وإظهار المسكنة والافتقار.
ومن ذلك أيضاً افتقار القلب في الدعاء، وانكساره لله عز وجل، واستشعاره شدة الفاقة إِلَيْهِ والحاجة لديه، وعلى قدر هذه الحرقة والفاقة تكون إجابة الدعاء.
وفي "المسند" والترمذي (3) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ".
ومن ذلك إظهار الذل باللسان في نفس السؤال والدعاء والإلحاح فيه، قال الأوزاعي رحمه الله تعالى: كان يقال: أفضل الدعاء الإلحاح عَلَى الله والتضرع إِلَيْهِ.
وفي "الطبراني"(4) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا يوم عرفة فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَرَى مَكَانِي وَتَسْمَعُ كَلَامِي لاً يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ
(1) أخرجه البخاري (1031)، وسلم (895).
(2)
في "الأوسط"(2892). قال الهيثمي في "المجمع"(10/ 168): وفيه الحسين بن عبد الله بن عبيد الله، وهو ضعيف.
(3)
أخرجه أحمد (2/ 177)، والترمذي (3479). قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
(4)
في "المعجم الكبير"(11/ 11405)، وفي "المعجم الصغير" (696) وقال: لم يروه عن عطاء إلا إسماعيل، ولا عنه إلا يحيى، تفرد به ابن بكير.
قال الهيثمي في "المجمع"(3/ 252): فيه يحيى بن صالح الأبلي.
قال العقيلي: روى عنه يحيى بن بكير مناكير، وبقية رجاله رجال الصحيح.
أَمْرِي، أَنَا الْبَائِسُ الْفَقِيرُ الْمُسْتَغِيثُ الْمُسْتَجِيرُ الْوَجِلُ الْمُشْفِقُ، الْمُقِرُّ الْمُعْتَرِفُ بِذَنَبِهِ، أَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْمِسْكِينِ وَأَبْتَهِلُ إِلَيْكَ ابْتِهَالَ الْمُذْنِبِ الذَّلِيلِ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الْخَائِفِ الضَّرِيرِ، دُعَاءَ مَنْ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبَتُهُ، وَذَلَّ جَسَدُهُ، وَرَغِمَ لَكَ أَنْفُهُ، اللَّهُمَّ لاً تَجْعَلْنِي بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا، وَكُنْ بِي بَارًّا رَءُوفًا رَحِيمًا، يَا خَيْرَ الْمَسْئُولِينَ، وَيَا خَيْرَ الْمُعْطِينَ»، وكان بعضهم يقول في دعائه:(بعزتكم)(*) وذلي، (وبغناك)(**) وفقري.
وقال طاوس رحمه الله تعالى: دخل علي بن الحسين رحمه الله تعالى ذات ليلة الحجرة (فصلى) (
…
)، فسمعت يقول في سجوده:(عبدك)(****) بِفِنَائِكَ، مسكينك بِفِنَائِكَ، فقيرك بِفِنَائِكَ، سألك بِفِنَائِكَ. قال طاوس: فحفظتهن، فما دعوت بهن في كرب إلا فرج عني. خرج ابن أبي الدُّنْيَا.
وروى ابن باكويه الصوفي رحمه الله تعالى بإسناد له، أن بعض العباد حج ثمانين حجة عَلَى قدميه، فبينما هو فى الطواف وهو يقول: يا حبيبي يا حبيبي، وإذا بهاتف يهتف به: ليس ترضى أن تكون مسكينًا حتى تكون حبيبًا؟ قال: فغشي عليه، ثم كنت بعد ذلك أقول: مسكينك مسكينك، وأنا تائب عن قولي: حبيبي.
خرج ابن ماجه (1) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ المَسَاكِينِ» .
وخرج الترمذي (2) من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، وزاد: فَقَالَتْ عَائِشَةُ: رضي الله عنها: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ
(*) بعزك: "نسخة".
(**) وغناك: "نسخة".
(
…
) يصلي: "نسخة".
(****) عبيدك: "نسخة".
(1)
برقم (4126) وسبق تخريجه.
(2)
برقم (2352) وقال: هذا حديث غريب، وسبق تخريجه.
الجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا، يَا عَائِشَةُ لَا تَرُدِّي المِسْكِينَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، يَا عَائِشَةُ أَحِبِّي المَسَاكِينَ وَقَرِّبِيهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ يُقَرِّبُكِ يَوْمَ القِيَامَةِ».
وقال أبو ذر: "أَوْصَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أُحِبَّ الْمَسَاكِينَ وَأَنْ أَدْنُوَا مِنْهُمْ". خرجه الإمام أحمد (1) وغيره.
وفي حديث معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قصة المنام: "أَسْأَلُكَ فِعْلَ الخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ المُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ المَسَاكِينِ" وذكر الحديث (2).
والمراد بالمساكين في هذه الأحاديث ونحوها: من كان قلبه مستكنًّا لله خاضعًا له خاشعًا، وظاهره كذلك.
وأكثر ما يوجد ذلك مع الفقر من المال؛ لأنّ المال يطغي.
وحديث أنس رضي الله عنه يشهد بهذا إلا أن إسناده ضعيف.
وخرج النسائي (3) من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الفقر فقر النفس، والغنى غنى القلب".
وفي "الصحيح"(4) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّمَا الغِنَى غِنَى النَّفْسِ".
ولهذا قال الإمام أحمد وابن عيينة وابن وهب وجماعة من الأئمة: إِنَّ الفقر الَّذِي استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم هو فقر النفس، فمن استكان قلبه لله عز وجل وخشع له، فهو مسكين وإن كان غنيًّا من المال؛ لأنّ استكانة القلب لا تنفك عن استكانة الجوارح، ومن خشع ظاهره واستكان وقلبه ليس بخاشع ولا مستكين فهو جبار.
(1) أخرجه أحمد (5/ 159، 173)، والنسائي في "الكبرى"(6/ 96).
(2)
أخرجه أحمد (5/ 243)، والترمذي (3235) من حديث معاذ بن جبل. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(3)
في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف"(9/ 157).
(4)
البخاري (6446)، ومسلم (1051).
وفي الحديث الَّذِي خرجه النسائي (1) وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم مر في طريق وفيه امرأة سوداء، فَقَالَ لها رجل: هاء الطريق فقالت: إِن شاء أخذ يمنة وإن شاء أخذ يسرة، فَقَالَ رسول الله:"دَعُوهَا فَإِنَّهَا جَبَّارَةٌ" فقالوا: يا رسول الله إنها تعني إنها مسكينة، فَقَالَ:"إِنَّ ذلك في قلبها".
وقال الحسن رحمه الله تعالى: إِنَّ قومًا جعلوا التواضع في لباسهم، والكبر في قلوبهم، ولبسوا مدارع (2) الصوف، والله لأحدهم أشد كبرًا بمدرعته من صاحب السرير بسريره، وصاحب المطرف (3) بمطرفه.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أنكر أن يكون لبس الثوب الحسن والنعل الحسن كبرًا، وقال:"الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ"(4) وهذا تصريح بأن حسن اللباس ليس بكبر الكبر إِنَّمَا هو في القلب وهو عدم الانقياد للحق تكبرًا عليه، وغمط الناس هو: احتقارهم وازدراؤهم، فمن كان في نفسه عظيمًا بحيث يحقر الناس لاستعظام نفسه، ويأنف من الانقياد للحق تكبرًا عليه فهو المتكبر، وإن كان ثوبه ليس بحسن، ونعله ليس بحسن، ومن ترك اللباس الحسن تواضعًا لله وخشية أن يقع في نفسه شيء من الكبر فقد أحسن فيما فعل، وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يفعل ذلك. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الأنبجانية التي لبسها:"إِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلَاتِي"(5) يدل عَلَى ذلك. (فعل النبي صلى الله عليه وسلم)(*).
ومما اختاره النبي صلى الله عليه وسلم مقام العبودية عَلَى مقام الملك، وقام بين يديه صلى الله عليه وسلم رجل يوم الفتح فارتعد فَقَالَ له:«هَوِّنْ عَلَيْكَ، إِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ» (6).
(1) في "الكبرى"(6/ 143) قال النسائي: عافيه بن يزيد ثقة، وسليمان الهاشمي لا أعرفه.
(2)
المدرعة: ثوب لا يكون إلا من صوف. "القاموس المحيط" مادة: (درع).
(3)
المُطرّف: رداء من خزٍّ مربع ذو أعلام. "القاموس المحيط" مادة: (طرف).
(4)
أخرجه مسلم (91).
(5)
أخرجه البخاري (1/ 406)، ومسلم (556).
(*) كذا بالأصل، والمعنى يستقيم بدونها.
(6)
أخرجه ابن ماجه (3312).
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» (1).
قال الإمام أحمد (2) رحمه الله تعالى: حدثنا محمد بن فُضيل، عن عمارة، عن أبي زرعة قال: لا أعلمه إلا عن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: "جَلَسَ جِبْرِيلُ عليه السلام إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا مَلَكٌ (مهول)(*)، فَقَالَ جِبْرِيلُ عليه السلام: إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَ قَبْلَ السَّاعَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ أَفَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُكَ أَوْ عَبْدًا رَسُولًا؟ قَالَ جِبْرِيلُ: تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ: «بَلْ عَبْدًا رَسُولًا» .
ومن "مراسيل يحيى بن أبي كثير" رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ» خرجه ابن سعد في "طبقاته"(3).
وخرجه أيضاً (4) من رواية أبي معشر، عن المقبري، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَتَانِي مَلَكٌ فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ: إِنْ شِئْتَ نَبِيًّا مَلَكًا، وَإِنْ شِئْتَ عَبْدًا رَسُولاً فَأَشَارَ إِلَى جِبْرِيلَ عليه السلام: أَنْ ضَعْ نَفْسَكَ. فَقُلْتُ: نَبِيًّا عَبْدًا. قَالَتْ: فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ لاً يَأْكُلُ مُتَّكِئًا يَقُولُ: «آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ» .
ومن "مراسيل الزهري"(5) رحمه الله تعالى قال: بلغنا أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ملك لم يأته قبلها، ومعه جبريل عليه السلام، فَقَالَ الملك -وجبريل عليه السلام صامت-: إِنَّ رَبَّكَ يُخَيِّرُكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ [نَبِيًّا](6) مَلِكًا أَوْ نَبِيًّا عَبْدًا،
(1) أخرجه البخاري (3446).
(2)
(2/ 231).
(*) ينزل: "نسخة".
(3)
"الطبقات الكبرى"(1/ 371) طبعة دار صادر.
(4)
"الطبقات الكبرى"(1/ 381).
(5)
أخرجه ابن سعد أيضًا في "الطبقات الكبرى"(1/ 381).
(6)
من "الطبقات الكبرى".
فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام (كالمستشير)(*)، فأشار إِلَيْهِ أن تواضع، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نبيًّا عبدًا".
قال الزهري: فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأكل منذ قالها متكئًا حتى فارق الدُّنْيَا.
وفي "المسند" و"كتاب الترمذي"(1) عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي عز وجل لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا فَقُلْتُ: لَا يَا رَبِّ، وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا" وَقَالَ ثَلَاثًا أَوْ نَحْوَ هَذَا: "فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمِدْتُكَ".
قال بعض العارفين: من ادعى العبودية وله مراد باق فيه، فهو كاذب في دعواه، إنما تصح العبودية لمن أفنى مراداته، وقام بمراد سيده، يكون اسمه ما سُمِّيَ به، ونعته ما (خلي)(**) به، إذا دُعِيَ باسمه أجاب عن العبودية، فلا اسم له ولا رسم، ولا يجيب إلا لمن يدعوه بعبودية سيده، وأنشد يقول:
يا عمرو ثاري عند زهرائي
…
يعرفه السامع والرائي
لا تدعني إلا بيا عبدها
…
فإنه أصدق أسمائي
تمت والحمد لله وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
…
(*) كالمستأمر له: "نسخة".
(1)
أخرجه أحمد (5/ 254)، والترمذي (2347) وقال الترمذى: هذا حديث حسن.
(**) حلي:"نسخة".