المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ من الفطرة قص الشارب، وإعفاء اللحية» - الرد على من أجاز تهذيب اللحية

[حمود بن عبد الله التويجري]

الفصل: ‌ من الفطرة قص الشارب، وإعفاء اللحية»

عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عشر‌

‌ من الفطرة قص الشارب، وإعفاء اللحية»

الحديث.

قال الخطابي: فسر أكثر العلماء الفطرة في هذا الحديث بالسنة، وتأويله أن هذه الخصال من سنن الأنبياء الذين أمرنا أن نقتدي بهم لقوله سبحانه:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} ، وفي سنن النسائي عن طلق بن حبيب قال:«عشر من السنة» ، وذكر منها قص الشارب، وتوفير اللحية، وروى ابن إسحاق، وابن جرير عن يزيد بن أبي حبيب أن رجلين من المجوس دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حلقا لحاهما، وأعفيا شواربهما، فكره النظرة إليهما، وقال:«ويلكما، من أمركما بهذا؟» قال: أمرنا ربنا - يعنيان كسرى - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي، وقص شاربي» .

وقد جاء في أحاديث كثيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان كثّ اللحية» ، وفي بعضها أنه «كان ضخم اللحية» ، وفي بعضها أنه «كان عظيم اللحية» ، وفي بعضها «أن لحيته قد ملأت نحره» . وفي هذه الأحاديث، وما تقدم قبلها من الأحاديث الصحيحة أبلغ رد على من زعم أن اللحية رمز عربي وليست من الإسلام في شيء. وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ

ص: 5

كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ}، وقال تعالى:{وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، وقال تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

وإذا علم إن إعفاء اللحية ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله وأنه من هديه الذي هو خير الهدي، فليعلم أيضًا أن إعفاءها من سنن الأنبياء والمرسلين وهديهم، وقد قال الله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} ، والأمر في هذه الآية الكريمة عام لجميع الأمة؛ لأنهم تبع لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أنا أشبه ولد إبراهيم به» متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي الصحيحين، وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم» ، وفي رواية لأحمد:«نظرت إلى إبراهيم، فلم أنظر إلى أرب منه إلا نظرت إليه مني، حتى كأنه صاحبكم» ، وهذا يدل على أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان ذا لحية عظيمة تشبه لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} ، وقال تعالى:{قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ

ص: 6

عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}، وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن من رغب عن إعفاء اللحية ففيه من سفه النفس بقدر ما رغب عنه من ملة إبراهيم.

وقد روى البيهقي في «دلائل النبوة» عن هشام بن العاص الأموي قال: بعثت أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام - فذكر القصة بطولها وفيها أن هرقل أراهم صور الأنبياء في خرق من حرير، فذكر في صفة نوح عليه الصلاة والسلام أنه كان حسن اللحية. وفي صفة إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه كان أبيض اللحية. وفي صفحة إسحاق عليه الصلاة والسلام أنه كان خفيف العارضين. وفي صفة يعقوب عليه الصلاة والسلام أنه كان يشبه أباه إسحاق، وفي صفة عيسى عليه الصلاة والسلام أنه كان شديد سواد اللحية، قال ابن كثير: إسناده لا بأس به. وقد رواه أبو نعيم الأصبهاني في «دلائل النبوة» من طريق أخرى، وقال في صفة موسى عليه الصلاة والسلام: إنه كث اللحية. وقال في صفة هارون عليه الصلاة والسلام: إنه كان يشبه موسى. وقد جاء في بعض الروايات في حديث الإسراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى هارون في السماء الخامسة، وقال في نعته: نصف لحيته بيضاء ونصفها سوداء تكاد لحيته تصيب سرته من

ص: 7

طولها، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما والبيهقي في «دلائل النبوة» من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وقد أخبر الله تعالى عن هارون أنه قال لأخيه موسى:{يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} فدلت الآية الكريمة على أنه كان ذا لحية طويلة يتمكن موسى من الأخذ بها. وفي هذه الآية الكريمة وما ذكر قبلها من صفات الأنبياء المتقدمين أبلغ رد على من زعم أن اللحية رمز عربي وليست من الإسلام في شيء. والأنبياء كلهم على دين الإسلام وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم.

وقد كان أهل الكتابين في زمن الجاهلية يعفون لحاهم متابعة لما كان عليه الأنبياء المتقدمون، وكذلك كان العرب في زمن الجاهلية، فإنهم كانوا يعفون لحاهم، وذلك مما تمسكوا به من ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع أشياء تمسكوا بها من أفعال الحج وغيره، ولم يكن حلق اللحى معروفًا في زمن الجاهلية إلا عن المجوس، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بمخالفتهم، ونهاهم عن التشبه بهم والتزيي بزيهم.

والمقصود هنا بيان أن إعفاء اللحية ليس رمزًا عربيًا كما زعم ذلك صاحب المقال الباطل، وإنما هو سنة من سنن الأنبياء والمرسلين، وصفة من صفات المتمسكين بالسنة من المسلمين، وأما حلق اللحية وقصها فهو رمز للمجوس ولمن يتشبه بهم من المسلمين

ص: 8

وغير المسلمين، ولا يضر المسلمين كون الهندوس وغيرهم من الكفار يبالغون في إعفاء اللحى، فإن ذلك معدود من تشبههم بالمسلمين إما قصدًا وإما اتفاقًا، وهم في هذه الحالة أحسن من المجوس الذين يحلقون اللحى ويمثلون بها ويخالفون هدي الأنبياء المرسلين.

ص: 9