المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثاني الرسالات السماوية - الرسل والرسالات

[عمر سليمان الأشقر]

الفصل: ‌الباب الثاني الرسالات السماوية

‌الباب الثاني الرسالات السماوية

الإيمان بالرسالات:

الإيمان بالرّسالات

وجوب الإيمان بالرّسالات كلهَا

من أصول الإيمان التصديق الجازم بالرسالات التي أنزلها الله إلى عباده بواسطة رسله وأنبيائه، والتصديق بأنهم بلَّغوها للناس، قال تعالى لموسى عليه السلام:(يا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي)[الأعراف: 144] .

وقد أثنى الله على رسله الذين يبلغون رسالاته ولا تأخذهم في الله لومة لائم (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ)[الأحزاب: 39] .

وقد كان هلاك الأمم بسبب التكذيب برسالات الله، انظر إلى موقف صالح بعد حلّ الهلاك بقومه:(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لَاّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)[الأعراف: 79] وموقف شعيب بعد هلاك قومه (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ)[الأعراف: 93] .

والذي أوحاه الله لرسله قد يكون نزل من السماء مكتوباً كالتوراة التي أنزلت على موسى، قال تعالى:(وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا)[الأعراف: 145] .

ص: 229

وقد يكون كتاباً ولكنه أنزل إلى الرسول بالتلاوة والمشافهة كالقرآن (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً)[الإسراء: 106] .

والمنزل من السماء قد يجمعه كتاب كصحف إبراهيم والكتب المنزلة على موسى وداود وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم، وقد يكون وحياً يلقى إلى الرسول أو النبي، وليس بكتاب، وذلك كالوحي المنزل إلى إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط والموحى به إلى نبينا من غير القرآن.

ويجب الإيمان بالوحي المنزل كله (قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)[البقرة: 136] .

وقال الله لرسوله: (وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ)[الشورى: 15] وقال للمؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ)[النساء: 136] . فما أعلمنا الله به تفصيلاً كالكتب التي ذكرها، وهي صحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى والقرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وكتكليم الله لموسى، وإيحاء الله إلى صالح وهود وشعيب، ووحي الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من غير القرآن، وقد تضمنته كتب السنة - نؤمن به تفصيلاً كما أخبر الله تعالى، ونؤمن بأن هناك كتباً ووحياً غير ذلك لم يعلمنا الله سبحانه بها.

كيف يكون الإيمان بالرّسالات

المطلب الأول

كيف يكون الإيمان بالرسالات السابقة

ونحن نؤمن بما جاء في الكتب السماوية السابقة، وأن الانقياد لها، والحكم بها كان واجباً على الأمم التي نزلت إليها الكتب، ونؤمن بأن الكتب السماوية يصدق بعضها بعضاً، ولا يكذّب بعضها بعضاً، فالإنجيل مصدق للتوراة، قال الله في الإنجيل:(مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ)[المائدة: 46] .

ومن أنكر شيئاً مما أنزله الله فهو كافر (وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ

ص: 230

وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيدًا) [النساء: 136] وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)[الأعراف: 40] .

ونصدق بنسخ الشريعة اللاحقة للشريعة السابقة كلياً أو جزئياً، فقد أحل الله لآدم تزويج بناته من بنيه ثم نسخ هذا، ومما كان مباحاً ليعقوب أن يجمع الرجل بين أختين في الزواج وفعله يعقوب، ثمَّ نسخ، والإنجيل أحلّ بعض ما حرّم في التوراة (وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) [آل عمران: 50] .

والقرآن نسخ الكثير مما في التوراة والإنجيل (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)[الأعراف: 157] .

المطلب الثاني

كيف يكون الإيمان بالرسالة الخاتمة

الإيمان بالكتب السماوية السابقة تصديق جازم بها، ومجرد التصديق لا يكفي في القرآن، فلا بدّ مع التصديق من الأخذ به والعمل بما أمر به وترك ما نهى عنه (المص - كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ - اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ) [الأعراف: 1-3] .

فالقرآن هو الكتاب السماوي الوحيد الذي يصلنا بالله بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم مخاطباً أصحابه:" أبشروا، فإنّ هذا القرآن بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنّكم لن تهلكوا، ولن تضلّوا بعده أبداً" رواه الطبراني في الكبير (1) .

(1) حديث صحيح، صحيح الجامع:(1/66) .

ص: 231

فالقرآن هو العصمة من الضلال والهلاك لمن تمسك به، وقد أكثر الرسول صلى الله عليه وسلم من حثّ الأمّة على التمسك بهذا الكتاب، ففي إحدى خطبه قال:" أما بعد، ألا أيها الناس! فإنما أنا بشر، يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، من استمسك به وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ظلّ، فخذوا بكتاب الله تعالى، واستمسكوا به، وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي "(1) .

والفتن التي تمرُّ بالمسلم وتعصف بالأمة لا سبيل للخلاص منها إلا بالأخذ بهذا الكتاب، وما أجمل هذا الوصف لكتاب الله! " كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضلّه الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا تنقضي عجائبه، ولا تشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم "(2) .

(1) صحيح مسلم: 2408.

(2)

هذا حديث رواه الترمذي وغيره قال الشيخ ناصر فيه (شرح الطحاوية ص 68) : هذا حديث جميل المعنى. ولكن إسناده ضعيف، فيه الحارث الأعور، وهو لين، بل اتهمه بعض الأئمة بالكذب، ولعل أصله موقوف على علي فأخطأ الحارث فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 232

مقارنة بين الرّسَالات

ستكون المقارنة بين الرسالات السماوية من جوانب عدة، وهذا المبحث مبحث طويل يصلح أن يكون رسالة علمية، وسنأتي فيه على جملة تجمع أطرافه بحول الله، ولكنها لا تستقصى كل جوانبه.

المبحث الأول

مَصدرهَا والغَاية مِنها

الكتب السماوية مصدرها واحد (الم - اللهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ - نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ - مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ)[آل عمران: 1-4] والكتب السماوية كلها أنزلت لغاية واحدة وهدف واحد، أنزلت لتكون منهج حياة للبشر الذين يعيشون في هذه الأرض. تقودهم بما فيها من تعاليم وتوجيهات وهداية، أنزلت لتكون روحاً ونوراً تحيي نفوسهم وتنيرها، وتكشف ظلماتها وظلمات الحياة.

وقد بيّن القرآن الكريم في موضع واحد الهدف الذي أنزل الله من أجله التوراة والإنجيل والقرآن، وهي أعظم الكتب المنزلة من عند الله، قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلَا تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ - وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ - وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ - وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ - وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا

ص: 235

عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا

فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ - وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ - أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 44-50] .

يقول سيد قطب رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآيات الكريمة (1) : " لقد جاء كلّ دين من عند الله ليكون منهج حياة، منهج حياة واقعية، جاء الدين ليتولى قيادة الحياة البشرية، وتنظيمها، وتوجيهها، وصيانتها، ولم يجئ دين من عند الله ليكون مجرد عقيدة في الضمير، ولا ليكون مجرد شعائر تعبدية تؤدى في الهيكل والمحراب. فهذه وتلك - على ضرورتهما للحياة البشرية وأهميتها في تربية الضمير البشري - لا يكفيان وحدهما لقيادة الحياة وتنظيمها وتوجيهها وصيانتها، ما لم يقم على أساسها منهج ونظام وشريعة تطبق عملياً في حياة الناس، ويؤخذ بها بحكم القانون والسلطان، ويؤاخذ الناس على مخالفتها، ويؤخذون بالعقوبات.

والحياة البشرية لا تستقيم إلا إذا تلقت العقيدة والشعائر والشرائع من مصدر واحد يملك السلطان على الضمائر والسرائر، كما يملك السلطان على الحركة والسلوك، ويجزي الناس وفق شرائعه في الحياة الدنيا، كما يجزيهم وفق حسابه في الحياة الآخرة.

فأما حين تتوزع السلطة، وتتعدد مصادر التلقي.. حين تكون السلطة لله في الضمائر والشعائر بينما السلطات لغيره في الأنظمة والشرائع..، وحين تكون السلطة لله في جزاء الآخرة بينما السلطة لغيره في عقوبات الدنيا..، حينئذ تتمزق النفس البشرية بين سلطتين مختلفتين، وبين اتجاهين مختلفين، وبين منهجين

(1) انظر الجزء السادس من ظلال القرآن: ص895.

ص: 236

مختلفين..، وحينئذ تفسد الحياة البشرية ذلك الفساد الذي تشير إليه آيات القرآن في مناسبات شتى:(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)[الأنبياء: 22](وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ)[المؤمنون: 71] . (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)[الجاثية: 18] .

من أجل هذا جاء كل دين من عند الله ليكون منهج حياة، وسواء جاء هذا الدين لقرية من القرى، أو لأمة من الأمم، أو للبشرية كافة في جميع أجيالها، فقد جاء ومعه شريعة معينة لحكم واقع الحياة، إلى جانب العقيدة التي تنشئ التصور الصحيح للحياة، إلى جانب الشعائر التعبدية التي تربط القلوب بالله..، وكانت هذه الجوانب الثلاثة هي قوام دين الله، حيثما جاء دين من عند الله، لأنّ الحياة البشرية لا تصلح ولا تستقيم إلا حين يكون دين الله هو منهج الحياة.

وفي القرآن الكريم شواهد شتى على احتواء الديانات الأولى، التي ربما جاءت لقرية من القرى، أو لقبيلة من القبائل على هذا التكامل، في الصورة المناسبة للمرحلة التي تمر بها القرية أو القبيلة..، وهنا يعرض هذا التكامل في الديانات الثلاث الكبرى.. اليهودية، والنصرانية، والإسلام..

ويبدأ بالتوراة في هذه الآيات التي نحن بصددها في هذه الفقرة:

(إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى) :

فالتوراة - كما أنزلها الله - كتاب الله الذي جاء لهداية بني إسرائيل، وإنارة طريقهم إلى الله، وطريقهم في الحياة..، وقد جاءت تحمل عقيدة التوحيد. وتحمل شعائر تعبدية شتى، وتحمل كذلك شريعة:

(يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء) .

أنزل الله التوراة لا لتكون هدى ونوراً للضمائر والقلوب بما فيها من عقيدة وعبادات فحسب، ولكن كذلك لتكون هدى ونوراً بما فيها من شريعة تحكم

ص: 237

الحياة الواقعية وفق منهج الله، وتحفظ هذه الحياة في إطار هذا المنهج. ويحكم بها النبيون الذين أسلموا أنفسهم لله فليس لهم في أنفسهم شيء إنما هي كلها لله، وليست لهم مشيئة ولا سلطة ولا دعوى في خصيصة من خصائص الألوهية - وهذا هو الإسلام في معناه الأصيل - يحكمون بها للذين هادوا - فهي شريعتهم الخاصة نزلت لهم في حدودهم هذه وبصفتهم هذه - كما يحكم بها لهم الربانيون والأحبار، وهم قضاتهم وعلماؤهم، وذلك بما أنهم قد كلفوا المحافظة على كتاب الله، وكلفوا أن يكونوا عليه شهداء، فيؤدوا له الشهادة في أنفسهم، بصياغة حياتهم الخاصة وفق توجيهاته، كما يؤدوا له الشهادة في قومهم بإقامة شريعته بينهم.. ".

وبدون الرسالة السماوية سيبقى البشر مختلفون تائهون لا يتفقون على سبيل، (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ) [البقرة: 213] .

ص: 238

الرّسَالة العَامّة والرّسَالة الخاصّة

الرسالات السماوية السابقة أنزلت لأقوام بأعيانهم، والرسالة الخاتمة التي أنزلت على خاتم الأنبياء والرسل رسالة عامة للبشرية كلها بل عامة للإنس والجن، وهذا يقتضي أن تمتاز هذه الرسالة عن غيرها من الرسالات بما يجعلها صالحة لكل زمان ومكان، وقد جعلها الله كذلك، وأنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة: 3] .

وقد بيّن سيد قطب رحمه الله هذا المعنى وجلاه في تفسيره لهذه الآية، قال: " إن المؤمن يقف أمام إكمال هذا الدين، يستعرض موكب الإيمان، وموكب الرسالات، وموكب الرسل، منذ فجر البشرية، ومنذ أوّل رسول - آدم عليه السلام إلى هذه الرسالة الأخيرة، رسالة النبي الأمّي إلى البشر أجمعين.

فماذا يرى؟ يرى هذا الموكب المتطاول المتواصل موكب الهدى والنور، ويرى معالم الطريق على طول الطريق، ولكنه يجد كل رسول - قبل خاتم النبيين - إنما أرسل إلى قومه، ويرى كلّ رسالة، قبل الرسالة الأخيرة - إنما جاءَت لمرحلة من الزمان..، رسالة خاصة، لمجموعة خاصة، في بيئة خاصة..، ومن ثمّ كانت تلك الرسالات محكومة بظروفها هذه، متكيفة بهذه الظروف، كلّها تدعو إلى إله واحد - فهذا هو التوحيد - وكلها تدعو إلى عبودية واحدة لهذا الإله الواحد - فهذا هو الإسلام - ولكن لكلٍّ منها شريعة للحياة الواقعية تناسب حالة الجماعة وحالة البيئة وحالة الزمان والظروف.

حتى إذا أراد الله أن يختم رسالته إلى البشر أرسل إلى الناس كافة رسولاً خاتم

ص: 239

النبيين برسالة ((للإنسان)) لا لمجموعة من الأناس في بيئة خاصة، في زمان خاص، في ظروف خاصة..، رسالة تخاطب ((الإنسان)) من وراء الظروف والبيئات والأزمنة، لأنها تخاطب فطرة الإنسان التي لا تتبدل، ولا تتحور، ولا ينالها التغيير (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [الروم: 30] ، وفصّل في هذه الرسالة شريعة تتناول حياة ((الإنسان)) من جميع أطرافها، وفي كل جوانب نشاطها، وتضع لها المبادئ الكلية والقواعد الأساسية فيما يتطور فيها ويتحور بتغير الزمان والمكان، وتضع لها الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية فيما لا يتطور ولا يتحور بتغير الزمان والمكان..، وكذلك كانت الشريعة بمبادئها الكلية، وبأحكامها التفصيلية، محتوية كل ما تحتاج إليه حياة ((الإنسان)) منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان، من ضوابط وتوجيهات وتشريعات وتنظيمات، لكي تستمر، وتنمو، وتتطور، وتتجدد، حول هذا المحور وداخل هذا الإطار " (1) .

وهذا المعنى - وهو كمال الرسالة وشمولها - أشار إليه القرآن في غير موضع كقوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ)[النحل: 89] وقال جلّ وعلا: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ)[الأنعام: 38] .

لقد جمعت الشريعة الخاتمة محاسن الرسالات السابقة، وفاقتها كمالاً وجلالاً، يقول الحسن البصري رضي الله عنه:" أنزل الله مائة وأربعة كتب، أودع علومها أربعة: التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان (القرآن) ثمّ أودع علوم الثلاثة الفرقان "(2) .

(1) في ظلال القرآن: 6/482.

(2)

الإكليل للسيوطي: (أضواء البيان: 3/336) .

ص: 240

حِفظ الرّسَالات

لما كانت الرسالات السابقة مرهونة بوقت وزمان فإنها لا تخلد ولا تبقى، ولم يتكفل الله بحفظها، وقد وكل حفظها إلى علماء تلك الأمة التي أنزلت عليها، فالتوراة وكل حفظها إلى الربانيين والأحبار، (وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء) [المائدة: 44] .

ولم يطق الربانيون والأحبار حفظ كتابهم، وخان بعضهم الأمانة فغيروا وبدلوا وحرفوا، وحسبك أن تطالع التوراة لترى ما حلّ فيها من تغيير وتبديل، لا في الفروع، بل في الأصول، فقد نسبوا إلى الله ما يقشعر الجلد لسماعه، ونسبوا إلى الرسل ما يترفع الرعاع عن نسبته إليهم (1) .

أمّا هذه الرسالة الخاتمة فقد تكفل هو بحفظها، ولم يكل حفظها إلى البشر،

(1) بينا شيئاً من افتراءات اليهود على الله في (العقيدة في الله) ، وبينا شيئاً من افتراءاتهم على الرسل في (الرسل والأنبياء) وسأورد هنا مثالاً واحداً من تحريف اليهود، وهذا التحريف جعل التوراة متناقضة، النص الأصلي في التوراة هو (خذ ابنك وحيدك الذي تحبه واذبحه) ، هذا الابن هو إسماعيل، ولكن اليهود كبر عليهم أن يذهب إسماعيل وأبناؤه وهم العرب بهذا الفضل، فأقحموا في النص كلمة (إسحاق) لينسبوا الفضل لأنفسهم، فأصبح النص في التوراة - المحرفة - التي بين أيديهم اليوم (خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق واذبحه) سفر التكوين، الإصحاح الثاني، فقرة (2) . ولكن هذا الذي حرف النص هنا لم ينتبه إلى التناقض الذي أوجده مع نصوص أخرى في التوراة، فقد ورد في التوراة أن إسماعيل ولد لإبراهيم وعمر إبراهيم ست وثمانون سنة، انظر الإصحاح السادس عشر من سفر التكوين، وعلى ذلك يكون إسماعيل هو ولده وحيده، أما إسحاق فتقول التوراة إنه ولد (وكان إبراهيم ابن مائة سنة حين ولد له إسحاق) الإصحاح الحادي والعشرين من سفر التكوين فقرة (5) . أرأيت كيف فضح الله مكرهم وكيدهم وأظهر تحريفهم وتبديلهم، وقد ذكرت شيئاً من هذا التحريف في أدلة صدق الرسل (البشارات) .

ص: 241

قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر: 9] .

وانظر اليوم في هذا العالم شرقه وغربه لترى العدد الهائل الذي يحفظ القرآن عن ظهر قلب (1) ، بحيث لو شاء ملحد أو يهودي أو صليبي تغيير حرف منه فإنّ صبياً صغيراً، أو ربة بيت، أو عجوزاً لا يبصر طريقه - يستطيعون الردّ عليه وبيان خطئه، وافترائه، ناهيك عن العلماء الذين حفظه وفقهوا معانيه، وتشبعوا بعلومه..

وانظر إلى تاريخ هذا الكتاب وكم نال من عناية ورعاية في تدوينه وتفسيره وإعرابه وقصصه وأخباره وأحكامه.

ما كان ذلك ليكون لولا ذلك الحفظ الإلهي الرباني، وسيبقى هذا الكتاب إلى أن يأذن الله بزوال هذا الكون ودماره.

(1) كان من الأسباب هذا الحفظ تيسير الله لتلاوة القرآن وحفظه (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ)[القمر: 22] .

ص: 242

مَواضِع الاتفاق والاختلاف في الرّسَالات السّماويّة

المطلب الأول

مواضع الاتفاق

1-

الدين الواحد:

الرسالات التي جاء بها الأنبياء جميعاً منزلة من عند الله العليم الحكيم الخبير، ولذلك فإنها تمثل صراطاً واحداً يسلكه السابق واللاحق، ومن خلال استعراضنا لدعوة الرسل التي أشار إليها القرآن نجد أنّ الدِّين الذي دعت إليه الرسل جميعاً واحد هو الإسلام، (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلَامُ) [آل عمران: 19] ، والإسلام في لغة القرآن ليس اسماً لدين خاص، وإنما هو اسم للدّين المشترك الذي هتف به كل الأنبياء، فنوح يقول لقومه:(وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[يونس: 72]، والإسلام هو الدين الذي أمر الله به أبا الأنبياء إبراهيم (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [البقرة: 131] ويوصي كل من إبراهيم ويعقوب أبناءه قائلاً: (فَلَا تَمُوتُنَّ إَلَاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[البقرة: 132] وأبناء يعقوب يجيبون أباهم: (نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)[البقرة: 133] وموسى يقول لقومه: (يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ)[يونس: 84] والحواريون يقولون لعيسى: (آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 52] وحين سمع فريق من أهل الكتاب القرآن (قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ)[القصص: 53] .

فالإسلام شعار عام كان يدور على ألسنة الأنبياء وأتباعهم منذ أقدم العصور التاريخية إلى عصر النبوة المحمدية.

ص: 243

كيف يتحقق الإسلام:

الإسلام هو الطاعة والانقياد والاستسلام لله تعالى، بفعل ما يأمر به، وترك ما ينهى عنه، ولذلك فإنّ الإسلام في عهد نوح يكون باتباع ما جاء به نوح، والإسلام في عهد موسى يكون باتباع شريعة موسى، والإسلام في عهد عيسى يكون باتباع الإنجيل، والإسلام في عهد محمد صلى الله عليه وسلم يكون بالتزام ما جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

لبُّ دعوات الرسل:

ولبُّ دعوات الرسل وجوهر الرسالات السماوية هو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونبذ ما يُعبد من دونه، وقد عرض القرآن هذه القضية وأكدها في مواضع متعددة، مرة يذكر دعوة الرسل فنوح يقول لقومه:(يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)[الأعراف: 59]، وإبراهيم قال لقومه:(وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)[العنكبوت: 16] وهود قال لقومه: (اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)[الأعراف: 65] وصالح قال لقومه: (اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)[الأعراف: 73] .

ومرة ينص على أنّه أرسل الرسل جميعاً بهذه المهمة الواحدة: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء: 25] . ومرة يسرد سيرة الأنبياء وأتباعهم ينظمهم في سلك واحد، ويجعل منهم أمة واحدة لها إله واحد (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 92] ، ومرة يجعل الاستجابة لله وتحقيق العبودية له هي الدين والملة، ويجعل مَن رفضَها يحكم على نفسه بالسفه والضلال، (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَاّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ) [البقرة: 130] ، وملة إبراهيم عليه السلام حددها بقوله:(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[الأنعام: 79] .

ومرة يبين أنها وصية الرسل والأنبياء لمن بعدهم (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ

ص: 244

يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا..) [البقرة: 133](1) .

ومرة ينص على وحدة الدين الذي شرعه للرسل العظام: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)[الشورى: 13] .

الرسالات السابقة تبين الأسباب الموجبة لعبادة الله:

ولم تكتف الرسالات السابقة بالدعوة إلى عبادة الله وحده، بل بينت الأسباب التي تجعل هذه الدعوى هي الحق الذي لا محيص عنه، وذلك بذكر خصائص الألوهية، وبالحديث عن نعم الله تعالى التي أنعم بها على عباده، وبتوجيه الأنظار والعقول للنظر في ملكوت السماوات والأرض، فنوح يقول لقومه:(مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا - وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا - أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا - وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا - وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا - ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا - وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا- لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا)[نوح: 13-20]

وهذا المعنى يتردد في صحف إبراهيم وموسى، وقد ورد فيهما كما أخبرنا القرآن (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى - وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى - وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا - وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى - مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى - وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى - وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى - وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى - وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى - وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى - وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى) [النجم: 42-52] .

(1) ثبت في السنة أن نوحاً أوصى ولده بمثل ذلك، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن نبي الله نوحاً صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة، قال لابنه: إني قاص عليك الوصية: آمرك باثنتين، وأنهاك عن اثنتين، آمرك بلا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهنّ لا إله إلا الله، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة (مغلقة) ، قصمتهن (كسرتهن) لا إله إلا الله، وسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق الخلق، وأنهاك عن الشرك والكبر " رواه البخاري في الأدب المفرد: ص548، وأحمد 2/169، 170، 225، والبيهقي في الأسماء:(79 هندية)(انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة: حديث رقم: 134) .

ص: 245

2-

المبادئ الخالدة: مسائل العقيدة:

وليست الدعوة إلى عبادة الله وحده هي القضية الوحيدة التي اتفقت فيها الرسالات، فأماكن الاتفاق كثيرة، فمن ذلك أمور الاعتقاد التي تشكل تصوراً واحداً وأساساً واحداً لدى جميع الرسل وأتباعهم، فأول الرسل نوح ذكَّر قومه بالبعث والنشور فمما قاله لقومه:(وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا - ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا)[نوح: 17-18] .

وأعلمهم بالملائكة والجنّ، ولذلك قال الكفار من قومه:(مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ - إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ)[المؤمنون: 24-25] .

والإيمان باليوم الآخر واضح في دعوة إبراهيم (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)[البقرة: 126] ، وفي دعوة موسى أشدُّ وضوحاً، ولذلك نرى السحرة عندما يخرون سجدّاً يقولون لفرعون:(إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى - إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى - وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى - جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى)[طه: 73-76] .

وجاء في صحف إبراهيم وموسى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[الأعلى: 16-17] وكل الرسل والأنبياء أنذروا أممهم

ص: 246

المسيح الدجال، ففي الحديث الصحيح عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال، فقال:" إني أنذركموه، وما من نبي إلا قد أنذره قومه، لقد أنذره نوح قومه، ولكن سأقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه، تعلمون أنه أعور، وأن الله ليس بأعور "(1) .

3-

القواعد العامة:

والكتب السماوية تقرر القواعد العامة التي لا بدّ أن تعيها البشرية في مختلف العصور كقاعدة الثواب والعقاب، وهي أنّ الإنسان يحاسب بعمله، فيعاقب بذنوبه وأوزاره، ولا يؤاخذ بجريرة غيره، ويثاب بسعيه، وليس له سعى غيره (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى - وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى - أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى - وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى - وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى - ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى) [النجم: 36-41] .

ومن ذلك أن الفلاح الحقيقي يتحقق بتزكية النفس بمنهج الله والعبودية له، وإيثار الآجل على العاجل:(قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى - وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى - بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى - إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى - صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى)[الأعلى: 14-19] .

ومن ذلك أنّ الذي يستحق وراثة الأرض هم الصالحون (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)[الأنبياء: 105] .

وقد سأل أبو ذر رضي الله عنه الرسول صلى الله عليه وسلم عن محتويات صحف إبراهيم وصحف موسى ففي الحديث الذي يرويه ابن حبان والحاكم عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله ما كانت صحف إبراهيم؟

قال: كانت أمثالاً كلّها: أيها المسلط (أي: الحاكم النافذ السلطان) المبتلى (المختبر) المغرور، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض،

(1) صحيح البخاري: 3057.

ص: 247

ولكني بعثتك لتردّ عني دعوة المظلوم، فإني لا أردها وإن كانت من كافر.

وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفكر فيها في صنع الله عز وجل، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب.

وعلى العاقل ألا يكون ظاعناً (مرتحلاً) إلا لثلاث: تزود لمعاد، أو لمعاش، أو لذة في غير محرم.

وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شانه، حافظاً للسانه، ومن حسب كلامه من عمله، قل كلامه إلاّ فيما يعنيه.

قلت: يا رسول الله: فما كانت صحف موسى؟

قال: كانت عبراً (عظات) كلّها:

عجبت لمن أيقن بالموت ثمّ هو يفرح، عجبت لمن أيقن بالنار، ثمّ هو يضحك، عجبت لمن أيقن بالقدر، ثمّ هو ينصب، عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها، ثمّ اطمأن إليها، عجبت لمن أيقن بالحساب غداً ثم لا يعمل ".

والقرآن يخبرنا أنّ الرسل جميعاً حملوا ميزان العدل والقسط (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطٌِ)[الحديد: 25] وأنهم أمروا بأن يكسبوا رزقهم بالحلال (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا)[المؤمنون: 51] وكثير من العبادات التي نقوم بها كانت معروفة عند الرسل السابقين وأتباعهم (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ)[الأنبياء: 73] . وإسماعيل عليه السلام (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ..)[مريم: 55] وقال الله لموسى عليه السلام: (فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)[طه: 14]، وقال عيسى:(وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا)[مريم: 31] . والصوم مفروض على من قبلنا كما هو مفروض علينا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 183] .

والحج فرضه إبراهيم عليه السلام، فقد أمره الله بعد بناء الكعبة فنادى

ص: 248

بالحج، (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا

) [الحج: 29](1)، وقد كان لكل أمة مناسكها وعبادتها (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَام) [الحج: 3] (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ)[الحج: 67] .

ومما اتفقت فيه الرسالات أنها بينت المنكر والباطل ودعت إلى محاربته وإزالته، سواءً أكان عبادة أوثان، أو استعلاء في الأرض، أو انحرافاً عن الفطرة كفعل قوم لوط، أو عدواناً على البشر وأحوالهم بقطع الطريق والتطفيف بالميزان.

(1) كان من هدى الأنبياء بعد ذلك الحج إلى البيت العتيق فقد حج البيت موسى ويونس، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس قال سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة، فمررنا بواد، فقال:" أيُّ واد هذا؟ " فقالوا: وادي الأزرق. قال: " كأني أنظر إلى موسى " فذكر من لونه وشعره شيئاً، " واضعاً أصبعيه في أذنيه، له جؤار إلى الله بالتلبية، ماراً بهذا الوادي ". قال: ثم سرنا حتى أتينا على ثنية (الثنية: الطريق بين الجبلين) . فقال: " أي ثنية هذه؟ " فقالوا: هرش أو لفت - فقال: " كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراء عليه جبة صوف، خطام ناقته خلبة (الخطاب الزمام، والخلبة: ليفة نخل) ماراً بهذا الوادي ملبياً ". (انظر مشكاة المصابيح 3/116) .

ص: 249

المطلب الثاني

اختلاف الشرائع

إذا كان الدين الذي جاءت به الرسل واحداً وهو الإسلام فإن شرائع الأنبياء مختلفة، فشريعة عيسى تخالف شريعة موسى في بعض الأمور، وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم تخالف شريعة موسى وعيسى في أمور، قال تعالى:(لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)[المائدة: 48] والشرعة هي الشريعة وهي السنة، والمنهاج: الطريق والسبيل.

وليس معنى ذلك أن الشرائع تختلف اختلافاً كلياً، فالناظر في الشرائع يجد أنها متفقة في المسائل الأساسية، وقد سبق ذكر النصوص التي تتحدث عن تشريع الله للأمم السابقة الصلاة والزكاة والحج، وأخذ الطعام من حلّه وغير ذلك، والاختلاف بينها إنّما يكون في بعض التفاصيل.

فأعداد الصلوات وشروطها وأركانها ومقادير الزكاة ومواضع النسك ونحو ذلك قد تختلف من شريعة إلى شريعة، وقد يحلّ الله أمراً في شريعة لحكمة، ويحرمه في شريعة أخرى لحكمة.

ونضرب لهذا ثلاثة أمثلة:

الأول: الصوم: فقد كان الصائم يفطر بغروب الشمس، ويباح له الطعام والشراب والنكاح إلى طلوع الفجر ما لم ينم، فإن نام قبل الفجر حرم عليه ذلك كله إلى غروب الشمس من اليوم الثاني، فخفَّف الله عن هذه الأمة وأحله من الغروب إلى الفجر سواءً أنام أم لم ينم. قال تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ

ص: 250

أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ..) [البقرة: 187] .

الثاني: ستر العورة حال الاغتسال لم يكن واجباً عند بني إسرائيل ففي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة، ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده "(1) .

الثالث: " الأمور المحرمة، فمما أحلّه الله لآدم تزويج بناته من بنيه، ثمّ حرّم الله هذا بعد ذلك، وكان التسري على الزوجة مباحاً في شريعة إبراهيم، وقد فعله إبراهيم في هاجر لما تسرى بها على سارة، وقد حرّم الله مثل هذا في التوراة على بني إسرائيل، وكذلك كان الجمع بين الأختين سائغاً، وقد فعله يعقوب عليه السلام جمع بين الأختين، ثمّ حرم عليهم في التوراة، وحرّم يعقوب على نفسه لحوم الإبل وألبان الإبل "(2) .

والسبب في ذلك كما ثبت في الحديث " إن إسرائيل (يعقوب) مرض مرضاً شديداً، وطال سقمه، فنذر لله لئن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها "(3)، وهذا الذي حرمه إسرائيل حرّمه الله على بني إسرائيل وحُرّم في التوراة (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَاّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ) [آل عمران: 93] .

ومما حرّمه الله على اليهود ما قصه علينا في سورة الأنعام (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَاّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ)[الأنعام: 146] .

فقد حرّم الله عليهم كلّ ذي ظفر وهو البهائم والطير ما لم يكن مشقوق

(1) صحيح البخاري: 278. وصحيح مسلم: 339.

(2)

تفسير ابن كثير: 2/73.

(3)

رواه أحمد في مسنده: (تفسير ابن كثير: 2/71) .

ص: 251

الأصابع كالإبل والنعام والوز والبط، وحرّم عليهم شحوم البقر والغنم إلاّ الشحم الذي على ظهور البقر والغنم، أو ما حملت الحوايا وهو ما تحوَّى في البطن وهي المباعر والمرابض، أو ما اختلط بعظم.

وهذا التحريم لم يكن سببه خبث المحرّم إنما سببه التزام من أبيهم يعقوب في بعض المحرمات، فألزم أبناءه من بعده بمثل ذلك، وبعض المحرمات سببه ظلم بني إسرائيل (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ) [الأنعام: 146] وقال: (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا)[النساء: 160] .

ثمّ جاء عيسى فأحلّ لبني إسرائيل بعض ما حرّم عليهم (وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ)[آل عمران: 50] ، وجاءت الشريعة الخاتمة لتكون القاعدة إحلال الطيبات وتحريم الخبائث.

الأنبياء إخوة لعلاّت:

وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً لاتفاق الرسل في الدين الواحد واختلافهم في الشرائع، فقال:" الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتّى، ودينهم واحد "(1) .

قال ابن حجر: " الأنبياء أولاد علاّت، وفي رواية عبد الرحمن المذكورة " أي في صحيح البخاري ": " والأنبياء إخوة لعلات " والعلات بفتح المهملة: الضرائر، وأولاد العلات الإخوة من الأب، وأمهاتهم شتى، ومعنى الحديث: أنّ أصل دينهم واحد وهو التوحيد وإن اختلفت فروع الشرائع "(2) .

(1) رواه البخاري: 3443، ومسلم:2365. واللفظ للبخاري.

(2)

فتح الباري: 6/489.

ص: 252

الطّول والقصر ووقت النزول

القرآن الكريم أطول الكتب السماوية وأشملها ففي الحديث: " أعطيت مكان التوراة السبع الطوال، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضّلت بالمفصّل " رواه الطبراني في الكبير (1) .

والكتب السماوية المعروفة لنا كلّها أنزلت في شهر رمضان، فقد جاء في الحديث:" أنزلت صحف إبراهيم أولّ ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين - من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة مضت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان " رواه الطبراني (2) .

(1) صحيح الجامع الصغير: (1/350) وقال الألباني فيه: إسناده صحيح.

(2)

صحيح الجامع الصغير: 2/28 وقال الشيخ ناصر الدين الألباني: إسناده حسن.

ص: 253

موقف الرّسالة الخاتمة من الرّسالات السّابقة

بين الله هذا في جزء من آية في كتابه، قال تعالى:(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيهِ)[المائدة: 48] .

وكون القرآن مصدقاً لما بين يديه من الكتاب تحقق من وجوه:

الأول: أن الكتب السماوية المتقدمة تضمنت ذكر هذا القرآن ومدحه، والإخبار بأنّ الله سينزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فكان نزوله على الصفة التي أخبرت بها الكتب السابقة تصديقاً لتلك الكتب، مما زادها صدقاً عند حامليها من ذوي البصائر الذين انقادوا لأمر الله واتبعوا شرائع الله، وصدقوا رسل الله، كما قال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا - وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً)[الإسراء: 107-108] أي إن كان ما وعدنا الله في كتبه المتقدمة وعلى ألسنة رسله من إنزال القرآن وبعثة محمد لمفعولاً، أي: لكائناً لا محالة ولا بدّ " (1) .

الثاني: أن القرآن جاء بأمور صدق فيها الكتب السماوية السابقة، بموافقته لها (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا) [المدثر: 31] واستيقان الذين أتوا الكتاب إنما يكون بسبب علمهم بهذا من كتبهم.

(1) تفسير ابن كثير: 2/586 بشيء من التصرف.

ص: 254

الثالث: أن القرآن أخبر بإنزال الكتب السماوية، وأنّها من عند الله، وأمر بالإيمان بها كما سبق بيانه.

والمهيمن في لغة العرب تطلق ويراد بها القائم على الشيء (1) ، وهو اسم من أسماء الله تعالى، ذلك أنّ الله تعالى قائم على شؤون خلقه، تصريفاً وتدبيراً ورعاية.

والقرآن قائم على الكتب السماوية التي أنزلت من قبل يأمر بالإيمان بها، ويبين ما فيها من حق، وينفي التحريف والتغيير الذي طرأ عليها، وهو حاكم على تلك الكتب لأنّه الرسالة الإلهية الأخيرة التي يجب المصير إليها، والرجوع إليها، والتحاكم إليها، وكل ما خالفها مما جاء في الرسالات السابقة فهو إمّا محّرف مغيَّر، وإمّا منسوخ.

يقول ابن كثيرة -رحمه الله تعالى- - بعد أن ذكر أقوال السلف في معنى كلمة مهيمن: " وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى، فإنّ اسم المهيمن يتضمن هذا كلّه، فهو أمين وشاهد وحاكم على كلّ كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها أشملها وأعظمها وأكملها حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهداً وأميناً وحاكماً عليها كلها (2) .

وهذا يقتضي أن يجعل هذا الكتاب هو المرجع الأول والأخير في التعرف على الدين الذي يريده الله تعالى، ولا يجوز أن نحاكم القرآن إلى الكتب السماوية السابقة كما يفعل الضالون من اليهود والنصارى (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ - لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 41-42] .

عدم حاجة الشريعة الخاتمة إلى غيرها:

الشريعة الإلهية الخاتمة لا تحتاج إلى شريعة سابقة عليها، ولا إلى شريعة

(1) لسان العرب: (3/833) مادة (همن) .

(2)

تفسير ابن كثير: 2/587.

ص: 255

لاحقة لها، بخلاف شريعة المسيح فقد أحال المسيح أتباعه في أكثر الشريعة على التوراة، وشريعة الإنجيل مكلمة لشريعة التوراة، ولهذا كان النصارى محتاجين إلى كتب النبوات المتقدمة على المسيح كالتوراة والزبور، وكان الأمم من قبلنا محتاجين إلى محدَّثين، بخلاف أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنَّ الله أغناهم به، فلم يحتاجوا معه إلى نبي ولا محدّث (1) .

(1) راجع في هذا البحث مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمة: 11/224.

ص: 256