المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(مسألة) * (وإن كان ممن لا يصلح نقض أحكامه وإن وافقت الصحيح ويحتمل أن لا ينقض الصواب منها) - الشرح الكبير على المقنع - ط المنار - جـ ١١

[ابن أبي عمر]

الفصل: ‌(مسألة) * (وإن كان ممن لا يصلح نقض أحكامه وإن وافقت الصحيح ويحتمل أن لا ينقض الصواب منها)

لأنه إذا حكم به فقد حكم بما يعتقد أنه باطل وهذا كما قلنا فيمن تغير اجتهاده في القبلة بعدما صلى لا يعيد وإن كان قبل أن يصلي صلى إلى الجهة التي تغير اجتهاده إليها وكذلك إذا بان فسق الشهود قبل الحكم بشهادتهم لم يحكم بها ولو بان بعد الحكم لم ينقضه * ‌

(مسألة) * (وإن كان ممن لا يصلح نقض أحكامه وإن وافقت الصحيح ويحتمل أن لا ينقض الصواب منها)

أما إذا كان القاضي قبله لا يصلح للقضاء نقض قضاياه كلها ما أخطأ فيها وما أصاب ذكره أبو الخطاب وهو مذهب الشافعي لأن وجود قضائه كعدمه، قال شيخنا تنقض قضاياه المخالفة للصواب كلها سواء كانت مما يسوغ فيه الاجتهاد أو لا يسوغ لأن حكمه غير صحيح وقضاؤه كلا قضاء لعدم شرط القضاء فيه وليس في نقض قضاياه نقض الاجتهاد بالاجتهاد، لأن الأول ليس باجتهاد ولا ينقض ما وافق الصواب لعدم الفائدة في نقضه فإن الحق وصل إلى مستحقه ولو وصل الحق إلى مستحقه بطريق القهر من غير حكم لم يغير ذلك فكذلك إذا كان بقضاء وجوده كعدمه * (مسألة) * (وإن استعداه أحد على خصم له أحضره وعنه لا يحضره حتى يعلم أن لما ادعاه أصلا) هذه المسألة فيها روايتان (إحداهما) أنه يلزم القاضي أن يعديه ويستدعي خصمه سواء عما بينهما معاملة أو لم يعلم وسواء كان المستعدي ممن يعامل المستعدى عليه أو لا يعامله كالفقير يدعي على ذي ثروة وهيئة نص على هذا في رواية الأثرم في الرجل يستعدي على الحاكم أنه يحضره ويستحلفه، وهذا اختيار أبي بكر ومذهب

ص: 415

أبي حنيفة والشافعي لأن في تركه تضييعاً للحقوق وإقراراً للظلم فإنه قد يثبت له الحق على من هو أرفع منه بغصب أو يشتري منه شيئاً ولا يوفيه أو يودعه شيئاً أو يعيره إياه فلا يرده ولا تعلم بينهما معاملة فإذا لم يعد عليه سقط حقه وهذا أعظم ضرراً من حضور مجلس الحاكم فإنه لا يقبضه وقد حضر عمر وأبي عند زيد وحضر هو وآخر عند شريح وحضر المنصور عند رجل من ولد طلحة بن عبيد الله (والثانية) لا يستعديه إلا أن تعلم بينهما معاملة ويبين أن لما أعاده أصلا روى ذلك عن علي رضي الله عنه هو مذهب مالك لأن في أعدائه على كل احد بتذيل أهل المروءات وإهانة ذوى الهيآت فإنه

لا يشاء أحد أن يتبذلهم عند الحاكم إلا فعل وربما فعل هذا من لا حق له ليفتدي المدعى عليه من حضوره وشر خصمه بطائفة من ماله والأولى أولى لأن ضرر تضييع الحق أعظم من هذا وللمستعدى عليه أن يوكل من يقوم مقامه إن كره الحضور.

* (مسألة) * (وإن استعداه على القاضي قبله سأله عما يدعيه فإن قال لي عليه دين من معاملة أو رشوة راسلة بذلك، فإن اعترف أمره بالخروج منه وإن أنكر وقال إنما يريد تبذيلي فإن عرف أن لما ادعاه أصلاً أحضره وإلا فهل يحضره؟ على روايتين) وجملة ذلك أنه إذا استعدي على الحاكم المعزول لم يعده حتى يعرف ما يدعيه فيسأله عنه صيانة للقاضي عن الامتهان فإن ذكر أنه يدعي عليه حقاً من دين أو غصب اعداه عليه وحكم بينهما كغير القاضي وكذلك إن ادعى أنه أخذ منه رشوة على الحكم لأن أخذ الرشوة عليه لا يجوز فهي كالغصب وإن ادعى عليه الجور في الحكم وكان المدعي بينة أحضره وحكم بالبينة وإن لم تكن معه بينة ففيه

ص: 416

وجهان (أحدهما) لا يحضره لأن في إحضاره وسؤاله امتهاناً له وأعداء القاضي كثير وإذا فعل هذا معه لم يؤمن أن لا يدخل في القضاء أحد خوفاً من عاقبته (والثاني) يحضره لجواز أن يعترف فإن حضر واعترف حكم عليه وإن أنكر فالقول قوله من غير يمين لأن قول القاضي مقبول بعد العزل كما تقبل ولايته، وإن ادعى عليه أنه قتل ابنه ظلماً فهل يستحضره من غير بينة؟ فيه وجهان فإن أحضره فاعترف حكم عليه وإلا فالقول قوله، وإن ادعى أنه أخرج عيناً من يده بغير حق فالقول قول الحاكم من غير يمين ويقبل قوله للمحكوم له على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

* (مسألة) * (وإن قال حكم علي بشهادة فاسقين فالقول قوله بغير يمين) لأن القول قوله في حكمه فلو قال حكمت على فلان بكذا قبل قوله بغير يمين فكذا في هذه المسألة لأنه شاهد على فعل نفسه أشبه المرضعة إذا شهدت بالرضاع لم يلزمها يمين وكذلك القاسم إذا شهد بالقسمة لأن الشاهد لا يمين عليه.

* (مسألة) * (وإن قال الحاكم المعزول كنت حكمت في ولايتي لفلان على لفلان بحق قبل قوله

وبه قال إسحاق ويحتمل أن لا يقبل قوله) .

ذكره أبو الخطاب قال شيخنا وقول القاضي في فروع هذه المسألة يقتضي أن لا يقبل قوله ههنا وهو قول أكثر الفقهاء لأن من لا يملك الحكم لا يملك الإقرار به كمن أقر بعتق عبد بعد بيعه، ثم اختلفوا فقال الأوزاعي وابن أبي ليلى هو بمنزلة الشاهد إذا كان معه شاهد آخر قبل

ص: 417

وقال أصحاب الرأي لا يقبل إلا شاهدان سواه يشهدان بذلك، وهو ظاهر مذهب الشافعي لأن شهادته على نفسه لا تقبل.

ولنا أنه لو كتب إلى غيره ثم عزل ووصل الكتاب بعد عزله لزم المكتوب إليه قبول كتابه فكذلك هذا ولأنه أخبر بما حكم به وهو غير متهم فيجب قبوله كحال ولايته.

(فصل) فأما إن قال في ولايته كنت حكمت لفلان بكذا قبل قوله سواء قال قضيت عليه بشاهدين عدلين أو قال سمعت بينته وعرفت عدالتهم أو قال قضيت عليه بنكوله أو قال أقر فلان عندي لفلان بحق فحكمت به، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأبو يوسف، وحكي عن محمد بن الحسن أنه لا يقبل حتى يشهد معه رجل عدل، لأنه إخبار بحق على غيره فلم يقبل فيه قول واحد كالشهادة.

ولنا أنه يملك الحكم فملك الإقرار به كالزوج إذا أخبر بالطلاق والسيد إذا أخبر بالعتق ولأنه لو أخبر أنه رأى كذا وكذا فحكم به قبل كذا ههنا وفارق الشهادة فإن الشاهد لا يملك إثبات ما أخبر به فأما إن قال حكمت بعلمي أو بالنكول أو بشاهدين ويمين في الأموال فإنه يقبل أيضاً وقال الشافعي لا يقبل قوله في القضاء بالنكول وينبني قوله حكمت عليه بعلمي على القولين في جواز القضاء بعلمه لأنه لا يملك الحكم بذلك فلا يملك الإقرار به.

ولنا أنه أخبر بحكمه فيما لو حكم به لنفذ حكمه فوجب قبوله كالصور التي تقدمت ولأنه حاكم أخبر يحكمه في ولايته فوجب قبوله كالذي سلمه ولأن الحاكم إذا حكم في مسألة يسوغ فيها الاجتهاد لم يسغ

ص: 418

نقض حكمه ولزم غيره امضاؤه والعمل به فصار بمنزلة الحكم بالبينة العادة ولا نسلم ما ذكره وإن قال حكمت لفلان على فلان بكذا ولم يضف حكمه إلى بينة ولا غيرها وجب قبوله وهو ظاهر ما ذكره شيخنا في الكتاب المشروع وظاهر قول الخرقي لأنه لم يذكر ما ثبت به الحكم وذلك لأن الحاكم متى ما حكم بحكم يسوغ فيه الاجتهاد وجب قبوله وصار بمنزلة ما اجتمع عليه.

(فصل) فإن أخبر القاضي بحكمه في غير موضع ولايته قبل وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه إذا قبل قوله بحكمه بعد العزل وزوال ولايته بالكلية فلأن يقبل مع بقائها في غير موضع ولايته أولى وقال القاضي لا يقبل قوله وقال لو اجتمع قاضيان في غير ولايتهما كقاضي دمشق وقاضي مصر اجتمعا في بيت المقدس فأخبر أحدهما الآخر بحكم حكم به أو شهادة ثبتت عنده لم يقبل أحدهما قول صاحبه ويكونان كشاهدين أخبر أحدهما صاحبه بما عنده وليس له أن يحكم به إذا رجع إلى عمله لأنه خبر من ليس بقاض في موضعه، وإن كانا جميعاً في عمل أحدهما كأنهما اجتمعا في دمشق فإن قاضي دمشق لا يعمل بما يخبره به قاضي مصر لأنه يخبره في غير عمله وهل يعمل قاضي مصر بما أخبره به قاضي دمشق إذا رجع إلى مصر؟ فيه وجهان بناء على القاضي هل له أن يحكم بعلمه؟ على روايتين لأن قاضي دمشق اخبره به في عمله ومذهب الشافعي في هذا كقول القاضي ههنا.

* (مسألة) * (فإن ادعى على أمراة غير برزة لم يحضرها وامرها بالتوكيل فإن وجبت عليها اليمين أرسل إليها من يحلفها) .

إذا كان المدعى عليه امرأة فإن كانت برزة وهي التي تبرز لقضاء حوائجها امرت بالتوكيل فإن

ص: 419

توجهت اليمين عليها بعث الحاكم أميناً معه شاهدان فيستحلفها بحضرتهما، فإن أقرت شهدا عليها، وذكر القاضي أن الحاكم يبعث من يقضي بينها وبين خصمها في دارها وهو مذهب الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " واغد يا أنيس الى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها " فبعث إليها ولم يستدعها، وإن أحضروا عندها كان بينهم وبينها ستر تتكلم من ورائه فإن اعترفت للمدعي أنها خصمه حكم بينهما وإن أنكرت ذلك جئ بشاهدين من ذوي رحمها يشهدان أنها المدعى عليها

ثم يحكم بينهما وإن لم تكن بينة التحفت بجلبابها وأخرجت من وراء الستر لموضع الحاجة وما ذكرناه أولى إن شاء الله لأنه أستر لها وإذا كانت خفرة منعها الحياء من النطق بحجتها والتعبير عن نفسها سيما مع جهلها بالحجة وقلة معرفتها بالشرع وحججه * (مسألة) * (وإن ادعى على غائب عن البلد في موضع لا حاكم فيه كتب إلى ثقات من أهل ذلك البلد ليتوسطوا بينهما فإن لم يقبلوا قيل للخصم حقق ما تدعيه ثم يحضره وإن بعدت المسافة) إذا استعدى على غائب وكان الغائب في غير ولاية القاضي لم يكن له أن يعدي عليه فإن كان في ولايتة وله في بلده خليفة فإن كانت له بينة ثبت الحق عنده وكتب إلى خليفته ولم يحضره وإن لم تكن بينة حاضرة نفذ إلى خصمه ليحاكمه عند خليفته وإن لم يكن له فيه خليفة وكان فيه من يصلح للقضاء قيل له حرر دعواك لأنه يجوز أن يكون ما يدعيه ليس بحق عنده كالشفعة للجار وقيمة الكلب أو خمر الذمي فلا يكلف الحضور لما لا يقضي عليه به مع المشقة فيه بخلاف الحاضر فإنه لا مشقة في

ص: 420

حضوره فإذا تحررت بعث فأحضر خصمه بعدت المسافة أو قربت وبهذا قال الشافعي وقال أبو يوسف إن كان يمكنه أن يحضر ويعود فيأوي إلى موضعه أحضره وإلا لم يحضره ويوجه من يحكم بينهما، وقيل إن كانت المسافة دون مسافة القصر أحضره وإلا فلا ولنا أنه لابد من فصل الخصومة بين المتخاصمين فإذا لم تمكن إلا بمشقة فعل ذلك كما لو امتنع من الحضور فإنه يؤدب ولأن الحاق المشقة به أولى من إلحاقها بمن ينفذه الحاكم ليحكم بينهما وإن كانت امراة برزة لم يشترط في سفره هذا محرم نص عليه أحمد لأنه حق آدمي وحق الآدمي مبني على الشح والضيق (باب طريق الحكم وصفته) إذا جلس إليه خصمان فله أن يقول من المدعي منكما؟ وله أن يسكت حتى يبتدئا ويستحب أن يجلس الخصمان بين يدي الحاكم لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن يجلس الخصمان بين يدي الحاكم رواه أبو داود وروى سعيد بإسناده عن الشعبي قال كان بين عمر بن الخطاب وأبي بن كعب مداراة

في شئ فجعلا بينهما زيد بن ثابت فاتياه في منزله فقال له عمر أتيناك لتحكم بيننا في بينة تؤتي الحكم فوسع له زيد عن صدر فراشه فقال ههنا يا أمير المؤمنين فقال له عمر جرت في أول القضاء لكن أجلس مع خصمي فجلسا بين يديه فادعى أبي فأنكر عمر فقال زيد لأبي أعف أمير المؤمنين

ص: 421

من اليمين فحلف عمر ثم أقسم لا يدرك زيد باب القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء وقال علي رضي الله عنه حين خاصم اليهودي على درعه إلى شريح لو أن خصمي مسلم لجلست معه بين يديك ولأن ذلك أمكن للحاكم في العدل بينهما والإقبال عليهما والنظر في خصومتهما (فصل) فإذا جلسا بين يديه فإن شاء قال من المدعي منكما؟ لأنهما حضرا لذلك، وإن شاء سكت ويقول القائم على رأسه من المدعي منكما؟ إن سكتا جميعا ولا يقول الحاكم ولا صاحبه لأحدهما تكلم لأن في إفراده بذلك تفضيلاً له وتركا للانصاف قال عمرو بن قيس شهدت شريحا إذا جلس إليه الخصمان ورجل قائم على رأسه يقول أيكما المدعي فليتكلم؟ فإن ذهب الآخر يشغب نهره حتى يفرغ المدعي ثم يقول تكلم فإن بدأ أحدهما فادعى فقال خصمه أنا المدعي لم يلفت إليه وقال أجب عن دعواه ثم ادع بما شئت فإن ادعيا معاً فقياس المذهب أن يقرع بينهما وهو قياس قول الشافعي لأن أحدهما ليس بأولى من الآخر وقد تعذر الجمع بينهما فيقرع بينهما كالمرأتين إذا زفتا في ليلة واحدة واستحسن ابن المنذر أن يسمع منهما جميعا وقيل يرجئ أمرهما حتى يتبين من المدعي منها؟ وما ذكرناه أولى لأنه لا يمكن الجمع بين الحكم في القضيتين معاً وارجاء أمرهما إضرار بهما وفيما ذكرناه دفع للضرر بحسب الإمكان وله نظير في مواضع من الشرع فكان أولى * (مسألة) * (ثم يقول للخصم ما تقول فيما ادعاه) لأن شاهد الحال يدل على طلب المطالبة لأن إحضاره والدعوى إنما يراد ليسأل الحاكم المدعى عليه فقد أغنى ذلك عن سؤاله ويحتمل ألا يملك سؤاله عن ذلك لأنه حق المدعي فلا يتصرف فيه بغير إذنه كالحكم له * (مسألة) * (وإن أقر لم يحكم له حتى يطالبه المدعي بالحكم) إذا أقر المدعي عليه لزمه ما ادعي عليه وليس للحاكم أن يحكم عليه إلا بمسألة المقر له لأن الحكم

ص: 422

عليه حق له فلا يستوفيه إلا بمسألة مستحقة هكذا ذكره أصحابنا قال شيخنا: ويحتمل أن يجوز له الحكم قبل مسألة المدعي لأن الحال تدل على إرادته ذلك فاكتفى بها كما اكتفى في مسألة المدعى عليه الجواب ولأن كثيراً من الناس لا يعرف مطالبة الحاكم بذلك فيترك مطالبته به لجهله فيضيع حقه فعلى هذا يجوز له الحكم قبل مسألته، وعلى القول الأول أن سأله الخصم الحكم له حكم على المقر والحكم أن يقول ألزمتك ذلك أو قضيت عليك له أو يقول اخرج إليه منه فمتى قال له أحد هذه الثلاثة كان حكما بالحق * (مسألة) * (وإن أنكر مثل أن يقول المدعي أقرضته ألفاً أو بعته فيقول ما أقرضني ولا باعني أو ما يستحق على ما ادعاه ولا شيئاً منه أو لا حق له علي صح الجواب) * (مسألة) * (وللمدعي أن يقول لي بينة؟ وهذا موضع البينة فإن لم يقل قال الحاكم ألك بينة؟ لما روى أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم حضرمي وكندي فقال الحضرمي يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض لي فقال الكندي هي أرضي في يدي ليس له فيها حق فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي " ألك بينة؟ - قال لا قال - فلك يمينه " وهو حديث حسن صحيح وإن كان المدعي عارفاً بأنه موضع البينة فالحاكم مخير بين أن يقول ألك بينة؟ وبين أن يسكت فإذا قال لي بينة حاضرة أمره بإحضارها ذكره شيخنا في الكتاب المشروح وذكر في كتاب المغني أن المدعي إذا قال لي بينة لم يقل له الحاكم أحضرها لأن ذلك حق له فله أن يفعل ما يرى فإذا أحضرها لم يسألها الحاكم عما عندها حتى يسأله المدعي ذلك لأنه حق له فلا يتصرف فيه

ص: 423

من غير إذنه فإذا سأله المدعي سؤالها قال من كانت عنده شهادة فليذكر إن شاء ولا يقول لهما اشهدا لأنه أمر وكان شريح يقول للشاهدين ما أنا دعوتكما ولا أنهاكما أن ترجعا وما يقضي على هذا المسلم غيركما وإني بكما أقضي اليوم وبكما أتقي يوم القيامة * (مسألة) * (وإذا سمع الحاكم الشهادة وكانت صحيحة حكم بها إذا سأله المدعي)

فيقول للمدعي عليه قد شهدا عليك فإن كان عندك ما يقدح في شهادتهم فبينه عندي فإن لم يظهر ما يقدح فيهما حكم عليه إذا سأل الحاكم لأن الحكم بالبينة حق له فلا يستوفيه إلا بمسألة مستحقة * (مسألة) * (ولا خلاف في أنه يجوز له الحكم بالإقرار والبينة في مجلسه إذا سمعه معه شاهدان فإن لم يسمعه معه أحد أو سمعه معه شاهد واحد فله الحكم نص عليه) لأن الإقرار أحد البيتين فجاز الحكم به في مجلسه كالشهادة وقال القاضي لا يحكم به حتى يسمعه معه شاهدان لأنه إذا لم يسمعه معه أحد كان حكما بعلمه * (مسألة) * (وليس له الحكم بعلمه فيما رآه أو سمعه في غير مجلسه نص عليه وهو اختيار الأصحاب وعنه ما يدل على جواز ذلك سواء كان في حد أو غيره) ظاهر المذهب أن الحاكم لا يحكم بعلمه في حد ولا غيره وسواء في ذلك ما علمه قبل الولاية أو بعدها وهذا قول شريح والشعبي ومالك وأسحاق وأبي عبيد ومحمد بن الحسن وهو أحد قولي الشافعي وعن أحمد رواية أخرى يجوز له ذلك وهو قول أبي يوسف وأبي ثور وهو القول للشافعي واختيار المزني لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قالت له هند أن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من

ص: 424

النفقة ما يكفيني وولدي قال " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " فحكم لها من غير بينة ولا إقرار لعلمه بصدقها وروى ابن عبد البر في كتابه إن عروة ومجاهد رويا أن رجلا من بني مخزوم استعدى عمر ابن الخطاب على أبي سفيان بن حرب أنه ظلمه حداً في موضع كذا وكذا فقال عمر إني لأعلم الناس بذلك وربما لعبت أنا وأنت فيه ونحن غلمان فاتي بأبي سفيان فأتاه به فقال عمر يا أبا سفيان انهض بنا إلى موضع كذا وكذا فنهضوا ونظر عمر فقال يا أبا سفيان خذ هذا الحجر من ههنا فضعه ههنا فقال والله لا أفعل فقال والله لتفعلن فقال والله لا أفعل فعلاه بالدرة وقال خذه لا أم لك فضعه ههنا فإنك ما علمت قدم الظلم فأخذ أبو سفيان الحجر فوضعه حيث قال عمر ثم أن عمر استقبل القبلة فقال اللهم لك الحمد حيث لم تمتني حتى غلبت أبا سفيان على رأيه وأذللته لي بالإسلام فاستقبل القبلة أبو سفيان وقال اللهم لك الحمد حيث لم تمتني حتى جعلت في قلبي من الإسلام ما أذل به لعمر قال فحكم بعلمه ولأن

الحاكم يحكم بالشاهدين لأنهما يغلبان على الظن فما تحققه وقطع به كان أولى ولأنه يحكم في تعديل الشهود وجرحهم فكذلك في ثبوت الحق قياساً عليه وقال أبو حنيفة ما كان من حقوق الله تعالى لا يحكم فيه بعلمه لأن حقوق الله تعالى مبينة على المساهلة والمسامحة وأما حقوق الآدميين فما علمه قبل ولايته لم يحكم به، وما علمه في ولايته حكم به لأن ما علمه قبل ولايته بمنزلة ما سمعه من الشهود قبل ولايته، وما علمه في ولايته بمنزلة ما سمعه من الشهود في ولايته ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه " فدل على أنه لم يقضي بما يسمع لا بما يعلم وقال النبي

ص: 425

صلى الله عليه وسلم في قضية الحضرمي والكندي " شاهداك أو يمينه ليس لك منه إلا ذاك " وروي عن عمر رضي الله عنه أنه تداعى عنده رجلان فقال له احدهما انت شاهدي فقال أن شئتما شهدت ولم أحكم أو أحكم ولا أشهد وذكر ابن عبد البر عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم على على الصدقة فلاحاه رجل في فريضة فوقع بينهما شجاج فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاهم الأرش ثم قال " إني خاطب الناس ومخبرهم أنكم قد رضيتم أرضيتم؟ قالوا نعم فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر القصة وقال - أرضيتم؟ - قالوا لا وهم بهم المهاجرون فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم صعد فخطب الناس فقال - أرضيتم؟ " قالوا نعم وهذا يبين أنه لم يأخذ بعلمه وروي عن أبي بكر رضي الله عنه قال لو رأيت حداً على رجل لم آخذه حتى تقوم البينة ولأن تجويز القضاء بعلمه يفضي إلى تهمته والحكم بما اشتهى ويحيله على علمه فأما حديث أبي سفيان فلا حجة فيه لأنه فتيا لا حكم بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أفتى في حكم أبي سفيان من غير حضوره ولو كان حكما عليه لم يحكم عليه في غيبته وحديث عمر الذي رووه كان إنكارا لمنكر رآه لا حكم بدليل أنه ما وجدت منهم دعوى ولا إنكار بشروطهما ودليل ذلك ما رويناه عنه ثم لو كان حكما كان معارضاً بما رويناه عنه ويفارق الحكم بالشهادة فإنه لا يفضي إلى تهمة بخلاف مسئلتنا، وأما الجرج والتعديل فإنه يحكم فيه بعلمه بغير خلاف لأنه لو لم يحكم فيه بعلمه لتسلسل فإن المزكيين يحتاج إلى معرفة عدالتهما وجرحهما فإذا لم يعمل بعلمه احتاج كل واحد منهما إلى

مزكيين ثم كل واحد منهما يحتاج إلى مزكيين فيتسلسل وما نحن فيه بخلافه * (مسألة) * (وإن قال المدعي مالي بينة فالقول قول المنكر مع يمينه فيعلمه أن له اليمين على خصمه فإن سأله إحلافه أحلفه)

ص: 426

لأن الحق له فإذا أحلفه خلى سبيله وليس له استحلافه قبل مسألة المدعي لأن اليمين حق له فلم يجز استيفاؤها قبل مطالبة مستحقها كنفس الحق وسقطت الدعوى لما روى وائل بن حجر أن رجلا من حضرموت ورجلاً من كندة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي إن هذا غلبني على أرض لي ورثتها من أبي وقال الكندي أرضي وفي يدي لا حق له فيها فقال النبي صلى الله عليه وسلم " شاهداك أو يمينه " قال إنه لا يتورع من شئ قال " ليس لك إلا ذلك " رواه مسلم بمعناه * (مسألة) * (وإن أحلفه أو حلف من غير سؤال المدعي لم يعتد بيمينه) لأنه أتي بها في غير وقتها فإن سألها المدعي أعادها له لأن الأولى لم تكن يمينه وإن أمسك المدعي عن إحلاف خصمه الدعي عليه ثم اراد إحلافه بالدعوى المتقدمة جاز لأنه لم يسقط حقه منها وإنما أخرها وإن قال أبرأتك من هذه اليمين سقط حقه منها في هذه الدعوى أوله أن يستأنف الدعوى لأن حقه لا يسقط بالإبراء من اليمين وإن استأنف الدعوى وأنكر المدعى عليه فله أن يحلفه لأن هذه الدعوى غير الدعوى التي أبرأه بها من اليمين فإن حلف سقطت الدعوى ولم يكن للمدعي أن يحلفه يمينا أخرى لا في هذا المجلس ولا في غيره * (مسألة) * (وإن نكل قضي عليه بالنكول) نص عليه واختاره عامة شيوخنا فيقول له أن حلفت وإلا قضيت عليك ثلاثاً فإن لم يحلف قضى عليه إذا سأل المدعي ذلك لما روى أحمد أن ابن عمر باع زيد بن ثابت عبداً فادعى عليه زيد انه باعه إياه عالما بعيبه فأنكره ابن عمر فتحاكما إلى عثمان رضي الله عنه فقال عثمان احلف بانك ما علمت به عيباً فأبى ابن عمر أن يحلف فرد عليه العبد ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " اليمين على المدعي عليه "

ص: 427

فحصرها في جنبته فلم تشرع لغيره وهذا مذهب أبي حنيفة واختار أبو الخطاب أنه لا يحكم بالنكول ولكن يرد اليمين على خصمه وقال قد صوبه أحمد وقال ما هو ببعيد يحلف ويستحق فيقول الحاكم لخصمه لك رد اليمين على المدعي فإن ردها حلف المدعي وحكم له لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على صاحب الحق رواه الدارقطني وروي أن المقداد اقترض من عثمان مالا فقال عثمان هو سبعة آلاف وقال المقداد هو أربعة آلاف فقال المقداد لعثمان احلف أنه سبعة آلاف فقال له عمر انصفك فإن حلف حكم له * (مسألة) * (فإن نكل أيضاً صرفهما) إذا نكل المدعي سئل عن سبب نكوله لأنه لا يجب بنكوله لغيره حق بخلاف المدعى عليه فإن قال امتنعت لأن لي بينة أقيمها أو حساباً أنظر فيه فهو على حقه من اليمين ولا يضيق عليه في اليمين لأنه لا يتأخر بتركه إلا حقه بخلاف المدعى عليه وإن قال لا أريد أن أحلف فهونا كل فإن عاد أحدهما فبذل اليمين لم يسمعها في ذلك المجلس لأنه اسقط حقه منها حتى يحتكما في مجلس آخر فإذا استأنف الدعوى أعيد الحكم بينهما كالأول * (مسألة) * (وإن قال المدعي لي بينة بعد قوله مالي ببينة لم يسمع ذكره الخرقي) لأنه أكذب بينته لكونه أقر أنه لا يشهد له أحد فإن شهد له إنسان كان تكذيباً له ويحتمل أن يقبل لأنه يجوز أن ينسى ويكون الشاهدان سمعا منه وصاحب الحق لا يعلمه فلا يثبت ذلك أنه كذب نفسه * (مسألة) * (وإن قال لا أعلم لي بينة ثم قال علمت لي بينة سمعت) لأنه يجوز أن تكون له بينة لم يعلمها ثم علمها

ص: 428

* (مسألة) * (وإن قال شاهدان نحن نشهد لك فقال هذان بينتي سمعت) قاله أبو الخطاب لما ذكرنا * (مسألة) * (وإن قال ما أريد أن تشهد الي لم يكلف إقامة البينة) لأنه أسقط حقه منها * (مسألة) * (وإن قال لي بينة وأريد يمينه فإن كانت غائبة فله إحلافه وإن كانت حاضرة فهل له ذلك؟ على وجهين)

إذا قال المدعي لي بينة غائبة قال الحاكم لك يمينه فإن شئت فاستحلفه وإن شئت أخرته إلى أن تحضر بينتك وليس لك مطالبته بكفيل ولا ملازمته حتى تحضر البينة نص عليه أحمد وهو مذهب الشافعي لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك " فإن أحلفه ثم حضرت بينته حكم بها ولم تكن اليمين مزيلة للحق لأن اليمين إنما يصار إليها عند عدم البينة فادا وجدت البينة بطلت اليمين وتبين كذبها، فإن قال لي بينة حاضرة وأريد يمينه ثم أقيم بينتي لم يملك ذلك في أحد الوجهين وفي الآخر له إحلافه وهو قول أبي يوسف كما لو كانت البينة غائبة ولنا قوله عليه الصلاة والسلام " شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك " وأو للتخيير بين شيئين فلا يكون الجمع بينهما لأنه أمكن فصل الخصومة بالبينة فلم يشرع غيرها معها مع إرادة المدعي إقامتها وحضورها كما لو يطلب يمينه ولأن اليمين بدل فلم يجب الجمع بينها وبين مبدلها كسائر الأبدال مع مبدلاتها وإن قال المدعي لا أريد إقامتها وإنما أريد يمينه اكتفي بها واستحلف لأن البينة حقه فإذا رضي بإسقاطها وترك إقامتها فله ذلك كنفس الحق فإن حلف المدعى عليه ثم أراد المدعي إقامة

ص: 429

بينة لم يملك ذلك في أحد الوجهين لأنه قد اسقط حقه من إقامتها ولأن تجويز إقامتها يفتح باب الحيلة لأنه يقول لا أريد إقامتها ليحلف خصمه ثم يقيمها (والثاني) له ذلك لأن البينة لا تبطل بالاستحلاف كما لو كانت غائبة فإن كان له شاهد واحد في المال عرفه الحاكم أن له أن يحلف مع شاهده ويستحق فإن قال لا أحلف أنا وأرضى بيمينه استحلف فإذا حلف سقط الحق عنه فإن عاد المدعي بعدها وقال أنا أحلف مع شاهدي لم يستحلف ولم يسمع منه ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأن اليمين فعله وهو قادر عليها فأمكنه أن يسقطها بخلاف البينة وإن عاد قبل أن يحلف المدعي عليه فبذل اليمين لم يكن له ذلك في هذا المجلس وكل موضع قلنا يستحلف المدعى عليه فإن الحاكم يقول له أن حلفت وإلا جعلتك ناكلاً وقضيت عليك ثلاثاً فإن حلف وإلا حكم عليه بنكوله إذا سأله المدعي ذلك * (مسألة) * (فإن سكت عن جواب المدعي فلم يقر ولم ينكر حبسه الحاكم حتى يجيب ولا يجعله بذلك ناكلا)

ذكره القاضي في المحرر وقال أبو الخطاب يقول له الحاكم إن أجبت وإلا جعلناك ناكلا وحكمت عليك ويكرر ذلك ثلاثا فإن أجاب وإلا جعله ناكلا وحكم عليه لأنه ناكل عما توجه الجواب فيه فيحكم عليه بالنكول عنه باليمين * (مسألة) * (وإن حلف المنكر ثم أحضر المدعي بينة حكم بها ولم تكن اليمين مزيلة للحق) وجملة ذلك أن المدعي إذا ذكر أن له بينة بعيدة ولا يمكنة إحضارها أو لا يريد إقامتها فطلب اليمين من المدعى عليه احلف له فإذا حلف ثم أحضر المدعي بينة حكم له وبهذا قال شريح والشعبي ومالك والثوري والليث والشافعي وابو حنيفة وأبو يوسف وإسحاق وحكي عن ابن أبي ليلى وداود

ص: 430

أن بينته لا تسمع لأن اليمين حجة المدعى عليه فلا تسمع بعدها حجة المدعي كما لا تسمع يمين المدعى عليه بعد بينة المدعي ولنا قول عمر رضي الله عنه البينة الصادقة أحب إلي من اليمين الفاجرة، وظاهر هذه البينة الصدق ويلزم من صدقها فجوز اليمين المتقدمة فتكون أولى ولأن كل حالة يجب عليه الحق فيها بإقراره يجب عليه بالبينة كما قبل اليمين وما ذكراه لا يصح لأن البينة الأصل واليمين بدل عنها ولهذا لا تشرع إلا عند تعذرها والبدل يبطل بالقدرة على المبدل كبطلان التيمم بالقدرة على الماء ولا يبطل الأصل بالقدرة على البدل ويدل على الفرق بينهما أنهما حال اجتماعهما وإمكان سماعهما تسمع البينة ويحكم بها ولا تسمع اليمين ولا يسأل عنها (فصل) فإن طلب المدعي حبس المدعى عليه واقامة كقيل به إلى إقامة ببيته البعيدة لم يقبل منه ولم تكن له ملازمة خصمه نص عليه أحمد لأنه لم يثبت له قبله حق يحبس به ولا يقيم به كفيلاً ولأن الحبس عذاب فلا يلزم معصوماً لم يتوجه عليه حق ولو جاز ذلك لتمكن كل ظالم من حبس من شاء من الناس بغير حق وإن كانت ببيته قريبة فله ملازمته حتى يحضرها لأن ذلك من ضرورة إقامتها فإنه لو لم يتمكن من ملازمته لذهب من مجلس الحاكم ولا تمكن إقامتها إلا بحضرته ولأنه لما تمكن من إحضاره مجلس الحكم حتى يقيم فيه البينة تمكن من ملازمته فيه حتى تحضر البينة ويفارق البينة البعيدة

ومن لا يمكن حضورها فإن إلزامه الإقامة إلى حين حضورها يحتاج إلى حبس أو ما يقوم مقامه ولا سبيل إليه (فصل) ولو أقام المدعي شاهداً واحداً ولم يحلف معه وطلب يمين المدعي عليه احلف له ثم أن أحضر شاهداً آخر بعد ذلك كملت بينته وقضي بها لما ذكرنا في التي قبلها والله أعلم

ص: 431

* (مسألة) * (وإن قال لي مخرج مما ادعاه لم يكن مجيباً) لأن الجواب أحد أمرين إقرار أو إنكار وليس هذا واحداً منهما * (مسألة) * (وإن قال لي حساب أريد أن أنظر فيه لم يلزم المدعي إنظاره) لأن حق الجواب يثبت له حالا فلم يلزمه أنظاره كما لو ثبت عليه الدين وذكر شيخنا في كتاب الكافي أنه ينظر ثلاثا ولا يهمل أكثر منها لأنه كثير وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لأنه يحتاج إلى ذلك لمعرفة قدر دينه أو يعلم أهل عليه شئ اولا والثلاث مدة يسيرة * (مسألة) * (وإن قال قضيته أو ابرأني ولي ببينة بالقضاء أو الإبراء وسأل الأنظار أنظر ثلاثا) لأنها قريبة وللمدعي ملازمته لئلا يهرب أو يتغيب ولا يؤخر الحق عن المدة التي انظر فيها فإن عجز عن إقامة البينة حلف المدعي على نفي ما ادعاه واستحق لأنه يصير منكراً واليمين على المنكر (فصل) فإن شهدت البينة للمدعي فقال المدعى عليه احلفوه أنه يستحق ما شهدت به البينة لم يحلف لأن في ذلك طعنا على البينة * (مسألة) * (وإن ادعى عليه عيناً في يده فاقربها لغيره جعل الخصم فيها وهل يحلف المدعى عليه على وجهين فإن كان المقر له حاضراً مكلفاً سئل فإن ادعاها لنفسه ولم تكن بينة وأخذها وإن أقر بها للمدعي سلمت إليه وإن قال ليست لي ولا أعلم لمن هي؟ سلمت إلى المدعي في أحد الوجهين في الآخر لا تسلم إليه إلا ببينة ويجعلها الحاكم عند أمين، وإن أقر بها لغائب أو صبي أو مجنون سقطت عنه الدعوى، ثم إن كان للمدعي بينة سلمت إليه وهل يحلف؟ على وجهين وإن لم تكن له بينة حلف المدعى عليه أنه لا يلزمه

ص: 432

تسليمها إليه وأقرت في يده إلا أن يقيم بينة أنها لمن سمى فلا يحلف

وجملة ذلك أن الإنسان إذا ادعى داراً في يد غيره فقال الذي هي في يده ليست لي إنما هي لفلان وكان المقر بها له حاضراً سئل عن ذلك فإن صدقه صار الخصم فيها وكان صاحب اليد لأن من هي في يده اعترف أن يده بائنة عن يده وإقرار الإنسان بما في يده إقرار صحيح فيصير خصماً للمدعي فإن كانت للمدعي بينة حكم له بها، وإن لم تكن له بينة فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، وإن قال المدعي احلفوا المقر الذي كانت العين في يده أنه لا يعلم أنها لي فعليه اليمين لأنه لو أقر بها لزم الغرم كما لو قال هذه العين لزيد ثم قال هي لعمرو فانها تدفع إلى زيد ويغرم قيمتها لعمرو ومن لزمه الغرم مع الإقرار لزمته اليمين مع الإنكار، وفيه وجه أنه لا يحلف لأنه أقام المقر له مقام نفسه فيقوم مقامه في اليمين وتجزئ اليمين عنهما فإن رد المقر له الإقرار فقال ليست لي وإنما هي للمدعي حكم له بها، وإن لم تكن له بينة ففيه وجهان (أحدهما) تدفع إلى المدعي لأنه يدعيها ولا منازع له فيها ولأن من هي في يده لو ادعاها ثم نكل قضينا له بها فمع عدم ادعائه لها أولى (والثاني) لا تدفع اليه لأنه لم يثبت لها مستحق لأن المدعي لا يد له ولا بينة وصاحب اليد معترف أنها ليست له فيأخذها الإمام فيحفظها لصاحبها وهذا الوجه الذي ذكره القاضي والأول أصح لما ذكرنا من دليله ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين ووجه ثالث أن المدعي يحلف أنها له وتسلم إليه ويتخرج لنا مثله

ص: 433

بناء على القول برد اليمين إذا نكل المدعى عليه وإن قال المقر له هي لثالث انتقلت الخصومة اليه وصار بمنزلة صاحب اليد لأنه أقر له بها من له اليد حكما * (مسألة) * (وإن أقر بها الغائب أو لغير مكلف معين كالصبي والمجنون صارت الدعوى عليه فإن لم تكن للمدعي بينة لم يقض له بها) لأن الحاضر يعترف أنها ليست له، ولا يقضى على الغائب بمجرد الدعوى ويقف الأمر حتى يقدم الغائب ويصير غير المكلف مكلفاً وتكون الخصومة معه، فإن قال المدعي احلفو الى المدعى عليه أحلفناه لما تقدم، وإن أقر بها للمدعي لم تسلم اليه لأنه اعترف أنها لغيره ويلزمه أن يغرم له قيمتها لأنه فوتها عليه بإقراره بها لغيره، وإن كان مع المدعي بينة سمعها الحاكم وقضى بها وكان الغائب على

خصومته متى خطر له أن يقدح في بينة المدعي وإن يقيم بينة تشهد بانتقال الملك اليه من المدعي، وإن أقام بينة أنها ملكه فهل يقضي به؟ على وجهين بناء على تقديم بينة الداخل والخارج فإن قلنا تقدم بينة الخارج فأقام الغائب بينة تشهد له بالملك والنتاج أو لسبب من أسباب الملك فهل تسمع بينته ويقضي بها؟ على وجهين فإن كان مع المقر بينة تشهد بها للغائب سمعها الحاكم ولم يقض بها لأن البينة للغائب والغائب لم يدعها هو ولا وكيله وإنما سمعها الحاكم لما فيها من الفائدة وهو زوال التهمة عن الحاضر وسقوط اليمين عنه إذا ادعى عليه أنك تعلم أنها لي ويتخرج أن يقضى بها إذا قلنا بتقديم بينة الداخل وان للمودع المحاكمة في الوديعة اذا غصبت لانها بينة مسموعة فيقضى بها كبينة المدعي اذا لم تعارضها بينة أخرى فإن ادعى من هي في يده أنها معه بإجارة أو عارية وأقام بينة بالملك للغائب لم يقض بها لوجهين (أحدهما) أن ثبوت الإجارة والعارية يترتب على ثبوت الملك للمؤجر ولا يمكن ثبوت الملك

ص: 434

للمؤجر بهذه البينة فلا تثبت الإجارة المترتبة عليها (والثاني) أن بينة الخارج مرتبة على بينة الداخل ويتخرج القضاء بها على تقديم بينة الداخل وكون الحاضر له فيها حق ومتى عاد المقر بها لغيره فأعادها لنفسه لم تسمع دعواه لأنه أقر بأنه لا يملكها فلا يسمع منه الرجوع عن إقراره والحكم في غير المكلف كالحكم في الغائب على ما ذكرناه.

* (مسألة) * (وإن أقر بها لمجهول قيل له إما إن تعرفه وإما أن نجعلك ناكلا وقضينا عليك فإن أصر قضي عليه بالنكول) .

لأنه لا تمكن الدعوى على مجهول فيضيع الحق بإقراره هذا فيجب ان لا يقبل كما لو يسكت.

* (فصل) * قال رحمه الله (ولا تصح الدعوى إلا محررة تحريراً يعلم به المدعي إلا في الوصية والإقرار فإنه يصح بالمجهول) أما في غير ذلك فلا يصح لأن الحاكم يسأل المدعى عليه عما ادعاه المدعي فإن اعترف به لزمه ولا يمكن أن يلزمه مجهولا ويفارق الاقرار فإن الحق عليه فلا يسقط بتركه اثباته وإنما صحت الدعوى في الوصية مجهولة فإنها تصح مجهولة فإنه لو وصى له بشئ أو سهم صح فلا يمكنه أن يدعيها إلا مجهولة

كما يثبت وكذلك الاقرار لما صح أن يقر بمجهول صح لخصمه ان يدعى عليه أنه أقر له بمجهول.

إذا ثبت هذا فإن كان المدعى أثمانا فلابد من ذكر ثلاثة أشياء الجنس والنوع والقدر فيقول عشرة دنانير مصرية وإن اختلفت بالصحاح والمكسرة.

* (مسألة) * (فإن كان المدعى عيناً حاضرة عينها بالإشارة لأنها تعلم بذلك وإن كانت غائبة ذكر صفاتها إن كانت تنضبط بها وإلا ذكر قيمتها) لإنها لا تتميز ولا تصير معلومة إلا بذلك فإن تعذر ذلك رجعنا إلى القيمة كما لو تلفت العين.

ص: 435

* (مسألة) * (وإن كانت تالفة من ذوات الأمثال ذكر قدرها وجنسها وصفتها) .

لأن المثل واجب في ذوات الأمثال فوجبت فيه هذه الصفات لأنه لا يتحقق المثل بدونها وإن ذكر قيمتها كان أولى لأنه أحصر، وإن كان مما لا مثل له كالنبات والحيوان ذكر قيمته لأنها تجب بتلفه وكذلك إن كان جوهراً تعين ذكر قيمته لأنها تجب بتلفه لأنها لا تنضبط إلا بذلك فإن كان المدعى دارا فلابد من بيان موضعها وحدودها فيدعي إن هذا بحدودها وحقوقها لي وأنها في يده ظلماً وأنا أطالبه بردها وإن ادعى عليه أن هذه الدار لي وأنه يمنعني منها صحت الدعوى وإن لم يقل أنها في يده لأنه يجوز أن ينازعه ويمنعه وإن لم تكن في يده وإن ادعى جراحة فيها أرش معلومة كالموضحة من الحر لم يحتج إلى ذكر أرشها لأنه معلوم وان كانت من عبد أو كانت من حر لا مقدر فيها فلابد من ذكر أرشها وإن ادعى على ابيه ديناً لم تسمع الدعوى حتى يدعي أن أباه مات وترك في يده مالا لأن الولد لا يلزمه قضاء دين والده ما لم يكن كذلك ويحتاج أن يذكر تركة أبيه ويحررها ويذكر قدرها كما يصنع في قدر الدين هكذا ذكره القاضي، قال شيخنا والصحيح أنه يحتاج إلى ذكر ثلاثة أشياء قدر دينه وموت أبيه وأنه وصل إليه من تركة أبيه ما فيه وفاء لدينه إن قال ما فيه وفاء لبعض دينه احتاج أن يذكر ذلك القدر والقول قول المدعي عليه في نفي تركة الأب مع يمينه وكذلك أن أنكر موت أبيه ويكفيه أن يحلف على نفي العلم لأنه على نفي فعل الغير وقد يموت ولا يعلم به ابنه، ويكفيه أن يحلف أنه ما وصل إليه من تركة أبيه شئ ولا يلزمه أن يحلف أن أباه لم يخلف شيئاً لأنه قد يخلف تركة لا تصل

إليه فلا يلزمه الايفاء منه.

ص: 436

* (مسألة) * (وإن ادعى نكاحا فلابد من ذكر المرأة بعينها إن حضرت وإلا ذكر اسمها ونسبها وذكر شروط النكاح وأنه تزوجها بولي مرشد وشاهدي عدل ورضاها في الصحيح من المذهب إن كانت ممن يعتبر رضاها) .

وهذا منصوص الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك لا يحتاج إلى ذكر شرائطه لأنه نوع ملك فأشبه ملك العبد إلا أنه لا يحتاج أن يقول وليست معتدة ولا مرتدة.

ولنا أن الناس اختلفوا في شرائط النكاح فمنهم من يشترط الولي والشهود ومنهم من لا يشترط إذن البكر البالغ لأبيها في تزويجها ومنهم من يشترطه وقد يدعي نكاحاً يعتقده صحيحاً والحاكم لا يرى صحته ولا ينبغي أن يحكم بصحته مع جهله بها ولا يعلمها ما لم يذكر الشروط وتقوم البينة بها ويفارق المال فإن أسبابه لا تنحصر وقد يخفى على المدعي سبب ثبوت حقه والعقود تكثر شروطها ولذلك اشترطنا لصحة البيع شروطاً سبعة فربما لا يحسن المدعي عددها ولا يعرفها والأموال مما يتساهل فيها ولذلك افترقا في اشتراط الولي والشهود في عقوده فافترقا في الدعوى وأما الردة والعدة فالأصل عدمهما ولا يختلف الناس فيه ولا تخ؟ لف به الأغراض فإن كانت المرأة أمة والزوج حراً فقياس ما ذكرناه أنه يحتاج إلى عدم الطول وخوف العنت لأنهما من شرائط صحة نكاحهما فأما ان ادعى استدامة الزوجية ولم يدع العقد لم يحتج إلى ذكر شروطه في أحد الوجهين لأنه يثبت بالإستفاضة ولو اشترط ذكر الشروط لاشترطت الشهادة به ولا يلزم ذلك في شهادة الاستفاضة وفي الثاني يحتاج إلى ذكر الشروط لأنه دعوى نكاح أشبه دعوى العقد.

ص: 437

* (مسألة) * (وإذا ادعى بيعاً أو عقداً سواه فهل يشترط ذكر شروطه؟ يحتمل وجهين) أما سائر العقود من البيع والإجارة والصلح وغيرها فلا يفتقر إلى الكشف وذكر الشروط في أصح الوجهين لأنه لا يحتاط لها ولا يفتقر إلى الولي والشهود فلم يفتقر إلى الكشف كدعوى العين

وسواء كان المبيع حارية أو غيرها لأنها مبيع فأشبهت العبد وكذلك إذا كان المدعى عبداً أو ديناً لم يحتج إلى ذكر السبب لأن أسباب ذلك تكثر ولا تنحصر وربما خفي على المستحق سبب استحقاقه فلا يكلف بيانه ويكفيه أن يقول استحق هذه العين التي في يده وأستحق كذا وكذا في ذمته ويقول في البيع إني اشتريت هذه الجارية بألف درهم أو بعتها منه بذلك ولا يحتاج أن يقول وهي ملكه أو وهي ملكي ونحن جائز الأمر وتفرقنا عن تراض، وذكر أبو الخطاب في العقود وجهاً آخر أنه يشترط ذكر شروطها قياساً على النكاح وذكر أصحاب الشافعي هذين الوجهين ووجهاً ثالثاً إن كان المبيع جارية اشترط ذكر شروط البيع لأنه عقد يستباح به الوطئ أشبه النكاح، وإن كان المبيع غيرهما لم يشترط لعدم ذلك والأول أولى لأنها دعوى فيما لا يشترط فيه الولي والشهود أشبه دعوى العين وما لزم ذكره في الدعوى فلم يذكر سأله الحاكم عنه لتصير الدعوى معلومة فيمكن الحاكم الحكم بها.

* (مسألة) * (وإن ادعت المرأة نكاحاً على رجل وادعت معها نفقة أو مهراً سمعت دعواها وإن لم تدع سوى النكاح فهل تسمع دعواها؟ على وجهين) إذا ذكرت المرأة مع دعوى الزوجية حقاً من حقوق النكاح كالمهر والنفقة ونحوها فإن دعواها تسمع بغير خلاف نعلمه لأنها تدعي حقا لها تضيفه إلى سببه فتسمع دعواها كما لو ادعت اضافته إلى الشراء

ص: 438

وإن افردت دعوى النكاح فقال القاضي تسمع دعواها أيضاً لأنه سبب لحقوق لها فتسمع دعواها كالبيع وقال أبو الخطاب فيه وجه آخر أنه لا تسمع دعواها لأن النكاح حق للزوج عليها فلا تسمع دعواها حقاً لغيرها وإن قلنا بالأول سئل الزوج فإن أنكر ولم تكن بينة فالقول قوله بغير يمين لأنه إذا لم تستحلف المرأة والحق عليها فلألا لا يستحلف من الحق له وهو ينكره أولى ويحتمل أن يستحلف لأن دعواها إنما سمعت لتضمنها دعوى حقوق مالية تشرع فيها اليمين وإن أقامت البينة بالنكاح ثبت لها ما تضمنه النكاح من حقوقها وأما إباحتها فتبنى على باطن الأمر فإن علم أنها امرأته حلت له لأن إنكاره النكاح ليس بطلاق ولا نوى به الطلاق وإن علم أنها ليست امرأته إما العدم العقد أو

لبينونتها لم تحل له وهل يمكن منها في الظاهر؟ يحتمل وجهين (احدهما) يمكن منها لأن الحاكم قد حكم بالزوجية (والثاني) لا يمكن منها لإقراره على نفسه بتحريمها عليه فيقبل قوله في حق نفسه دون ما عليه كما لو تزوج امرأة ثم قال هي أختي من الرضاعة فإذا ثبت هذا فإن دعواها النكاح كدعوى الزوج فيما ذكرناه من الكشف عن سبب النكاح وشرائط العقد ومذهب الشافعي قريب مما ذكرنا في هذا الفصل * (مسألة) * (وإن ادعى قتل موروثه ذكر القاتل وأنه انفرد به أو شاركه فيه غيره وأنه قتله عمداً أو خطأ أو شبه عمد ويصفه) ويذكر صفة العمد لأنه قد يعتقد ما ليس بعد عمداً فلا يؤمن أن يقتص ممن لا يجب له القصاص عليه وهو مما لا يمكن تلافيه فوجب الاحتياط فيه

ص: 439

* (مسألة) * (وإن ادعى الإرث ذكر سببه) لأن أسبابه تختلف ولابد في الشهادة من ان تكون على سبب معين فكذلك في الدعوى * (مسألة) * (وإن ادعى سيفاً محلى يذهب قومه بغير جنس حليته وإن كان محلى يذهب وفضة قومه بما شاء منهما للحاجة) * (فل) * قال الشيخ رحمه الله (وتعتبر في البينة العدالة ظاهراً وبالنا في اختيار الخرقي والقاضي وعنه نقبل شهادة كل مسلم لم يظهر منه ريبة اختارها أبو بكر فإن جهل إسلامه رجع إلى قوله والمذهب الأول) وجملة ذلك أن الحاكم إذا شهد عنده شاهدان فإن عرف عدالتهما حكم بشهادتهما وإن عرف فسقهما لم يقبل قولهما وإن لم يعرف حالهما سأل عنهما لأن معرفة العدالة شرط في جميع الحقوق وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وعن أحمد رواية أخرى يحكم بشهادتهما إذا عرف إسلامهما بظاهر الحال إلا أن يقول الخصم هما فاسقان وهذا قول الحسن والمال والحد في ذلك سواء لأن الظاهر من المسلمين العدالة ولهذا قال عمر رضي الله عنه المسلمون عدول بعضهم على بعض وروي أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهد برؤية الهلال فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أتشهد أن لا إله إلا الله؟ " قال نعم فصام

وأمر الناس بالصيام، ولأن العدالة أمر خفي سببها الخوف من الله عزوجل ودليل ذلك الإسلام فإذا وجد فليكتف به ما لم يقم على طلاقه دليل وقال أبو حنيفة في الحدود والقصاص كالرواية الأولى وفي سائر الحقوق كالثانية لأن الحدود والقصاص مما يحتاط لهما وتندرئ بالشبهات بخلاف غيرها

ص: 440

ولنا أن العدالة شرط فوجب العلم بها كالاسلام وكما لو طعن الخصم فيهما فأما الإعرابي المسلم فإنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبتت عدالتهم بثناء الله تعالى عليهم فإن من ترك دينه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إيثار الدين الإسلام وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت عدالته وأما قول عمر فالمراد به الظاهر العدالة ولا يمنع ذلك وجوب البحث ومعرفة حقيقة العدالة فقد روي عنه أنه أتي بشاهدين فقال لست أعرفكما ولا يضركما إن لم أعرفكما جيئا بمن يعرفكما فأتيا برجل فقال له عمر تعرفهما؟ فقال نعم فقال عمر صحبتهما في السفر الذي تبين فيه جواهر الناس؟ قال لا قال عاملتهما في الدراهم والدنانير التي تقطع فيها الرحم؟ قال لا قال كنت جاراً لهما تعرف صباحهما ومساءهما؟ قال لا قال يا ابن أخي لست تعرفهما جيئا بمن يعرفكما وهذا بحث يدل على أنه لا يكتفي بدونه.

إذا ثبت هذا فإن الشاهد يعتبر فيه أربعة شروط الإسلام والبلوغ والعقل والعدالة وليس فيها ما يحفى ويحتاج إلى البحث إلا العدالة فيحتاج إلى البحث عنها لقول الله تعالى (ممن ترضون من الشهداء) ولا يعلم أنه مرضي حتى يعرفه أو يخبر عنه فيأمر الحاكم بكتب اسمائهم وكناهم ونسبهم ويرفع فيها ما يتميزون به عن غيرهم ويكتب صنائعهم ومعائشهم وموضع مساكنهم وصلاتهم ليسأل عنهم جيرانهم وأهل سوقهم ومسجدهم ومحلتهم ويحكيهم فيكتب اسودا وأبيض أو انزع أو أغم أو أشهل أو أكحل أقنى الأنف أو أفطس رقيق الشفتين أو غليظهما طويل أو قصير أو ربعة ونحو هذا التمييز ولا يقع اسم على اسم ويكتب اسم المشهود له وقدر الحق ويكتب ذلك كله لأصحاب مسائله لكل واحد رقعة وإنما ذكرنا المشهود له لئلا يكون بينة وبين الشاهد عدواة وذكرنا قدر الحق لأنه ربما كان ممن يرون قبوله في اليسير دون الكثير فتطيب نفس المزكي به إذا كان يسيراً ولا تطيب إذا كان كثيراً

ص: 441

وينبغي للقاضي أن يخفي عن كل واد من أصحاب مسائلة ما يعطي الآخر من الرقاع لئلا يتواطئوا، وإن

شاء الحاكم عين لصاحب مسائله من يسأله ممن يعرفه من جيران الشاهد وأهل الخبرة به وإن شاء أطلق ولم يعين المسئول ويكون السؤال سراً لئلا يكون فيه هتك المسئول عنه وربما يخاف المسؤل من الشاهد والمشهود له والمشهود عليه أن يخبر بما عنده أو يستحي وينبغي أن يكون أصحاب مسائله غير معروفين لئلا يقصدوا بهدية أو رشوة وأن يكونوا أصحاب عفاف في الطعمة والأنفس ذوي عقول وافرة ايرياء من الشحناء والبغضة لئلا يطعنوا في الشهود ويسألوا عن الشاهد عدوه فيطعن فيه فيضيع حق المشهود له ولا يكونوا من أهل الأهواء والعصبية يميلون إلى من وافقهم على من خالفهم ويكونون أمناء ثقات لأن هذا موضع أمانة وإذا رجع أصحاب مسائله فأخبر اثنان بالعدالة قبلت شهادته وإن أخبر بالجرح رد شهادته وإن أخبر أحدهما بالجرح والآخر بالتعديل بعث آخرين فإن عادا فأخبرا با التعديل تمت بينة التعديل وسقط الجرح لأن بينته لم تتم وإن أخبرا بالجرح ثبت ورد الشهادة وإن أخبر أحدهما بالجرح والآخر بالتعديل لم تتم البينتان ويقدم الجرح ولا يقبل الجرح والتعديل إلا من اثنين ويقبل قول أصحاب المسائل وقيل لا تقبل شهادة المسؤولين ويكلف اثنين منهم أن يشهدوا بالتزكية والجرح عنده على شرط الشهادة واللفظ وغيره ولا يقبل من صاحب المسألة لأن ذلك شهادة على شهادة مع حضور شهود الأصل ووجه القول الأول إن شهادة أصحاب المسائل شهادة استفاضة لا شهادة على شهادة فيكتفى بمن يشهد بها كسائر شهادات الاستفاضة ولأنه موضع حاجة فإنه لا يلزم المزكي الحضور للتزكية وليس للحاكم إجباره عليها فصار كالمرض والغيبة في سائر الشهادات ولأننا لو لم نكتف بشهادة أصحاب المسائل لتعذرت التزكية لأنه قد لا يكون في جيران الشاهد من يعرفه للحاكم فلا يعرفه الحاكم فيفوت الجرح والتعديل (فصل) ولا بد للحاكم من معرفة إسلام الشاهد قاله القاضي ويحصل ذلك بأحد أمور أربعة

ص: 442

(أحدها) إخباره عن نفسه أنه مسلم وإتيانه بكلمة الإسلام وهي شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لأنه لو لم يكن مسلماً صار بذلك مسلماً (الثاني) إعتراف المشهود عليه بإسلامه لأنه حق عليه (الثالث) خبرة الحاكم لإننا اكتفينا بذلك في عدالته فكذلك في إسلامه (الرابع) أن تقوم به بينة ولا بد من معرفة الحرية في موضع تعتبر فيه ويكفي في ذلك أحد أمور ثلاثة البينة أو إعتراف

المشهود عليه أو خبرة الحاكم ولا يكفي إعتراف الشاهد لأنه لا يملك أن يصير حراً فلا يملك الإقرار به (فصل) إذا شهد عند الحاكم مجهول الحال فقال المشهود عليه هو عدل ففيه وجهان (احداهما) يلزم الحاكم بشهادتة لأن البحث عن عدالته لحق المشهود عليه وقد إعترف بها ولأنه إذا أقر بعدالته فقد أقر بما يوجب الحكم لخصمه عليه فيؤخذ اقراره كسائر أقاريره (والثاني) لا يجوز الحكم بشهادته لأن الحكم بها تعديل فلا يثبت بقول واحد ولأن اعتبار العدالة في الشاهد حق لله تعالى ولهذا لو رضي الخصم بأن يحكم عيه بقول فاسق لم يجز الحكم به لأنه لا يخلوا أما أن يحكم عليه مع تعديله أو مع انتفائه، لا يجوز أن يقال مع تعديله لأن التعديل لا يثبت بقول الواحد ولا يجوز مع انتفاء تعديله لأن الحكم بشهادة غير العدل لا يجوز بدليل شهادة من ظهر فسقه ومذهب الشافعي مثل هذا فإن قلنا بالأول فلا يثبت تعديله في غير المشهد عليه لأنه لم يوجد منه التعديل وإنما حكم عليه لإقراره بوجود شرط الحكم، وإقراره يثبت في حقه دون غيره * (مسألة) * (وإن علم الحاكم عدالتهما عمل بعلمه وحكم بشهادتهما) لا نعلم فيه خلافاً وإذا عرف عدالة الشهود قال للمشهود قد شهدا عليك فإن كان عندك ما يقدح

ص: 443

في شهادتهم فبينه عندي فإن لم يقدح في شهادتهم حكم عليه لأن الحق قد صح على وجه لا إشكال فيه * (مسألة) * (إلا أن يرتاب بهما فيفرقهما ويسأل كل واحد منهما كيف تحملت الشهادة؟ ومتى؟ وفي أي موضع؟ وهل كنت وحدك أو أنت وصاحبك؟ فإن اختلفا لم يحكم بشهادتهما وإن اتفقا وعظهما وخوفهما فإن ثبتا حكم بها إذا سأله المدعي) وجملة ذلك أن الحاكم إذا ارتاب بشهادة الشهود احتاج إلى البحث عنهم لقول الله تعالى (ممن ترضون من الشهداء) ولا نعلم أنه مرضي حتى نعرفه أو نخبر عنه فيفرقهما ليظهر له حالهما فيفرقهم ويسأل كل واحد عن شهادته وصفتها فيقول كنت أول من شهد أو كتب أو لم يكتب وفي أي مكان شهدت؟ وفي أي شهر؟ وأي يوم؟ وهل كنت وحدك أو مع غيرك؟ فإن اختلفوا سقطت شهادتهم لأنه قد ظهر له ما يمنع قبولها ويقال أول من فعل هذا دانيال وقيل سليمان عليهما السلام وهو صغير

وروي عن علي رضي الله عنه أن سبعة نفر خرجوا فقد واحد منهم فأتت زوجته علياً تدعي على الستة فسألهم علي فأنكروا وفرقهم وأقام كل واحد منهم عند سارية ووكل به من يحفظه فدعا واحداً منهم فسأله فأنكر فقال الله أكبر فظن الباقون أنه قد اعترف فدعاهم فاعترفوا فقال للأول قد شهدوا عليك وأنا قاتلك فاعترف فقلتهم * (مسألة) * (وإن اتفقوا وعظهم وخوفهم كما روي عن شريح أنه كان يقول للشاهدين إذا حضرا يا هذان ألا تريان؟ إني لم أدعكما ولست أمنعكما إن ترجعا وإنما يقضي على هذا أنتما وأنا متق بكما فاتقيا وفي لفظ فإني بكما أقضي وبكما أتقي يوم القيامة)

ص: 444

وروى أبو حنيفة قال كنت عند محارب بن دثار وهو قاضي الكوفة فجاء رجل فادعى على رجل حقا فأنكره فأحضر المدعي شاهدين فشهدا له فقال المشهود عليه والذي تقوم به السماء والأرض لقد كذبا علي في الشهادة وكان محارب بن دثار متكئاً فاستوى جالساً وقال سمعت ابن عمر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الطير لتخفق بأجنحتها وترمي ما في حواصلها من هول يوم القيامة وإن شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار " فإن صدقتما فاثبتا وإن كذبتما فغطيا رؤوسكما وانصرفا * (فصل) * قال رحمه الله (ينبغي للقاضي أن يسأل عن شهوده كل قليل لأن الرجل ينتقل من حال إلى حال وهل هذا مستحب أو واجب؟ فيه وجهان)(أحدهما) مستحب لأن الأصل بقاء ما كان فلا يزول حتى يثبت الجرح (والثاني) يجب البحث كلما مضت مدة يتغير الحال فيها لأن العيب يحدث وذلك على ما يراه الحاكم، ولأصحاب الشافعي وجهان مثل هذين * (مسألة) * (وليس للحاكم أن يرتب شهودا لا يقبل غيرهم) لأن الله تعالى قال (وأشهدوا ذوي عدل منكم) ولأن فيه اضراراً بالناس وتضيبقا عليهم لأن كثيراً من الوقائع التي يحتاج إلى البينة فيها تقع عند غير المرتبين فمتى ادعى إنسان شهادة غير المرتبين وجب على الحاكم سماع بينته والنظر في عدالة شاهديه ولا يجوز ردهما بكونهما من غير المرتبين

ص: 445

لأن ذلك يخالف الكتاب والسنة والإجماع لكن له أن يرتب شهود اشهدهم الناس فيستغنون بإشهادهم عن تعديلهم ويستغني الحاكم عن الكشف عن أحوالهم فيكون فيه تخفيف من وجه ويكونون أيضاً يزكون من عرفوا عدالته من غيرهم إذا شهد * (مسألة) * (فإن ثبتا حكم بشهادتهما لأن الظاهر صدقهما ولا يحكم حتى يسأله المدعي لان الحق وقد ذكرناه)(فصل) إذا اتصلت به الحادثة واستنارت به الحجة لأحد الخصمين حكم إذا سأله لما بينا وإن كان فيها لبس أمرهما بالصلح فإن أبيا أخرهما إلى البيان فان عجلها قبل البيان لم يصح حكمه، وممن رأى الإصلاح بين الخصوم شريح وعبد الله بن عتبة وأبو حنيفة والشعبي والعنبري وروي عن عمر أنه قال ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فان فصل القضاء يحدث بين القوم الضغئن قال أبو عبيد إنما يسعه الصلح في الأمور المشكلة، أما إذا استنارت الحجة لأحد الخصمين وتبين له موضع الظلم فليس له أن يحمله على الصلح ونحوه قول عطاء واستحسنه ابن المنذر، وروي عن شريح أنه ما أصلح بين متحاكمين إلا مرة واحدة (فصل) وإذا حدثت حادثة نظر في كتاب الله وإلا نظر في سنة رسول الله فإن لم يجدها نظر في القياس فألحقها بأشبه الأشياء بها لما روى عمرو بن الحارث بن أخي المغيرة بن شعبة عن رجل من أصحاب معاذ من أهل حمص عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن " بم تحكم؟ - قال بكتاب الله قال - فإن لم تجد - قال بسنة رسول الله قال - فإن لم تجد؟ - قال أجتهد رأيي ولا آلو قال - الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله " فإن قيل عمرو بن

ص: 446

أخي المغيرة والرجال مجهولون قلنا قد رواه عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ ثم أنه حديث مشهور في كتب أهل العلم رواه سعيد بن منصور والإمام أحمد وغيرهما وتلقاه العلماء بالقبول وجاء عن الصحابة من قولهم ما يوافقه فروى سعيد أن عمر قال لشريح انظر ما تبين لك في كتاب الله

فاتبع فيه السنة وما لم يتبين ذلك في السنة فاجتهد فيه رأيك وعن ابن مسعود مثل ذلك * (مسألة) * (وإن جرحهما المشهود عليه كلف البينة بالجرح فإن سأل الانظار وانظر ثلاثاً ليجرحهما) لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال في كتابه إلى أبي موسى: واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أمداً ينتهي إليه، فإن أحضر بينة أخذت له حقه وإلا استحللت القضية عليه فإنه انفى للشك وأجلى للعمى * (مسألة) * وللمدعي ملازمته إلا أن يقيم بينة بالجرح) لأن الحق قد ثبت في الظاهر فإذا لم يقم بينة بالجرح حكم عليه لظهور الحق * (مسألة) * (ولا يسمع الجرح إلا مفسراً بما يقدح في العدالة ويعتبر فيه اللفظ فيقول أشهد أني رأيته يشرب الخمر أو سمعته يقذف أو رأيته يظلم الناس بأخذ أموالهم أو ضربهم أو يعامل بالربا أو يعلم ذلك بالاستفاضة في الناس ولا بد من ذكر السبب وتعيينه) وبهذا قال الشافعي وسوار وعنه يكفي أن يشهد أنه فاسق وليس بعدل وبه قال أبو حنيفة لأن التعديل يسمع مطلقاً وكذلك الجرح لأن التصريح بالسبب يجعل الجارح فاسقاً يوجب عليه الحد في بعض الحالات وهو أن يشهد عليه بالزنا فيفضي الجرح إلى جرح الجارح وتبطل شهادته ولا يتجرح بها المجروح

ص: 447

ولنا أن الناس يختلفون في أسباب الجرح كاختلافهم في شارب يسير النبيذ فوجب أن لا يقبل بمجرد الجرح لئلا يجرحه بما لا يراه القاضي جرحاً ولأن الجرح ينقل عن الأصل فإن الأصل في المسلمين العدالة والجرح ينقل عنها فلا بد أن يعرف الناقل لئلا يعتقد نقله بما لا يراه الحاكم ناقلا وقولهم إنه يفضي إلى جرح الجارح وإيجاب الحد عليه قلنا ليس كذلك لأنه يمكنه التعريض من غير تصريح فإن قيل ففي بيان السبب هتك المجروح قنا لا بد من هتكه فإن الشهادة عليه بالفسق هتك ولكن جاز ذلك للحاجة الداعية إليه كما جازت الشهادة عليه به لإقامة الحد عليه بل ههنا أولى فإن فيه دفع الظلم عن المشهود عليه وهو حق آدمي فكان أولى بالجواز لأن هتك عرضه بسببه لأنه تعرض للشهادة مع ارتكابه ما يوجب جرحه فكان هو الهاتك لنفسه إذ كان فعله المحوج للناس إلى جرحه

فإن صرح الجارح بقذفه بالزنا فعليه الحد إن لم يأت بتمام أربعة شهداء وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا حد عليه إذا كان بلفظ الشهادة لأنه لم يقصد إدخال المعرة عليه ولنا قول الله سبحانه (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) ولأن أبا بكرة ورفيقه شهدوا على المعيرة بالزنا ولم يكمل زياد شهادته فجلدهم عمر حد القذف بمحضر من الصحابة ولم ينكره منكر فكان إجماعاً ويبطل ما ذكروه بما شهدوا عليه لإقامة الحد عليه (فصل) فإن اقام المدعي بينة أن هذين الشاهدين شهدا بذا الحق عند حاكم فردت شهادتهما لفسقهما بطلت شهادتهما لأن الشهادة إذا ردت لفسق لم تقبل مرة ثانية (فصل) ولا يقبل الجرح والتعديل من النساء وقال أبو حنيفة يقبل لأنه لا يعتبر فيه لفظ الشهادة فاشبه الرواية وأخبار الديانات

ص: 448

ولنا انها شهادة فيما ليس بمال ولا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال فأشبه الشهادة في القصاص وما ذكروه ممنوع (فصل) ولا يقبل الجرح من الخصم بلا خلاف بين العلماء فلو قال المشهود عليه هذان فاسقان أو عدوان او أبا المشهود له لم يقبل قوله لأنه متهم في قوله ويشهد بما يجر إلى نفسه نفعاً فأشبه الشهادة لنفسه ولأننا لو قبلنا قوله لم يشأ أحد أن يبطل شهادة من شهد عليه إلا أبطلها فتضيع الحقوق وتذهب حكمة البينة (فصل) ولا تقبل شهادة المتوسمين، وذلك إذ حضر مسافران فشهدا عند حاكم لا يعرفهما لم تقبل شهادتهما، وقال مالك يقبلهما إذا رأى منها سيما الخير لأنه لا سبيل إلى معرفة عدالتهما ففي التوقف عن قولهما تضييع الحقوق فوجب الرجوع فيهما إلى السيماء الجميلة ولنا أن عدالتهما مجهولة فلم يجز الحكم بشهادتهما كشاهدي الخضر وما ذكروه معارض بأن قبول شهادتهما يفضي إلى القضاء بشهادتهما في دفع الحق إلى غير مستحقه * (مسألة) * (وإن شهد عنده فاسق يعرف حاله قال للمدعي زدني شهودا)

ولا يقبل قوله لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا) ويقول للمدعي زدني شهوداً لئلا يفضحه

ص: 449

* (مسألة) * (وإن جهل حاله طالب المدعي بتزكيته) لأنه روي عن عمر رضي الله عنه انه أتي بشاهدين فقال لهما إني لا أعرفكما ولا يضركما إن لم أعرفكما جيئا بمن يعرفكما ولأن العدالة شرط في قبول الشهادة على ما ذكرنا فإذا شك في وجودها كانت كعدمها كشروط الصلاة * (مسألة) * (ويكفي في التزكية شاهدان يشهدان أنه عدل رضي ولا يحتاج في التزكية أن يقول علي ولي) وهذا قول أكثر أهل العلم وبه يقول شريح وأهل العراق ومالك وبعض الشافعية وقال أكثرهم لا يكفيه إلا أن يقول علي ولي واختلفوا في تعليله فقال بعضهم لئلا تكون بينهم عداوة أو قرابة وقال بعضهم لئلا يكون عدلا في شئ دون شئ ولنا قوله تعالى (وأشهدوا ذوي عدل منكم) فإن شهدا أنه عدل ثبت ذلك بشهادتهما فيدخل في عموم الآية ولأنه إذا كان عدلا لزم أن يكون له وعليه وفي حق سائر الناس وفي كل شئ فلا يحتاج إلى ذكره ولا يصح ما ذكروه فإن الإنسان لا يكون عدلا في شئ دون شي؟ ء ولا في حق شخص دون شخص فإنها لا توصف بهذا ولا تنتفي ايضاً بقوله علي ولي فإن من ثبتت عدالته لم تزل بقرابة ولا عداوة وإنما ترد شهادته للتهمة مع كونه عدلا ثم أن هذا إذا كان معلوماً انتفاؤه بينهما لم يحتج إلى ذكره ولا نفيه عن نفسه ولأن العداوة لا تمنع من شهادته له بالتزكية وإنما تمنع الشهادة عليه وهذا شاهد له بالتزكية والعدالة فلا حاجة إلى نفي العداوة (فصل) ولا يكفي أن يقول ما أعلم منه إلا الخير وهذا مذهب الشافعي وقال أبو يوسف يكفي لأنه إذا كان من أهل الخبرة به ولا يعلم منه إلا الخير فهو عدل

ص: 450

ولنا أنه لم يصرح بالتعديل فلم يكن تعديلاً كما لو قال أعلم منه خيراً وما ذكروه لا يصح لأن

الجاهل بحال أهل الفسق لا يعلم منهم إلا الخير لأنه يعلم إسلامهم وهو لا يعلم منهم غير ذلك وهم غير عدول، قال أصحابنا ولا يقبل التعديل إلا من أهل الخبرة الباطنة والمعرفة المتقادمة وهو مذهب الشافعي لخبر عمر الذي قدمناه، ولأن عادة الناس إظهار الطاعات وإسرار المعاصي فإن لم يكن ذا خبرة باطنة فربما اغتر بحسن ظاهره وهو فاسق في الباطن وهذا يحتمل أن يريد الأصحاب بما ذكروه أن الحاكم إذا علم أن المعدل لا خبرة له لم تقبل شهادته بالتعديل كما فعل عمر رضي الله عنه ويحتمل أنهم أرادوا أنه لا تجوز للمعدل الشهادة بالعدالة إلا أن تكون له خبرة باطنة، فأما الحكم إذا شهد عنده العدل بالتعديل ولم يعرف حقيقة الحال فله أن يقبل الشهادة من غير كشف، وإن استكشف الحال كما فعل عمر رضي الله عنه فحسن * (مسألة) * (وإن عدله اثنان وجرحه اثنان فالجرح أولى) وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك ينظرا أيهما أعدل الذان جرحاه أو الذان عدلاه؟ فيؤخذ بقول أعدلهما ولنا أن الجارح معه زيادة علم خفيت على المعدل فوجب تقديمه لأن التعديل متضمن ترك الريب والجارح مثبت لوجود ذلك والإثبات مقدم على النفي ولأن الجارح يقول رأيته يفعل والمعدل مستنده أنه لم يره يفعل ويمكن صدقهما والجمع بين قوليهما بإن يراه الجارح يفعل المعصية ولا يراه المعدل فيكون مجروحاً

ص: 451

* (مسألة) * (وإن سأل المدعي حبس المشهود عليه حتى يزكي شهوده فهل يحبس؟ على وجهين)(أحدهما) يحبس لأن الظاهر العدالة وعدم السبق ولأن الذي على الغريم قد أتى به وإنما بقي ما كان على الحاكم وهو الكشف عن عدالة الشهود (والثاني) لا يحبس لأن الأصل براءة الذمة وقيل يحبس في المال فقط * (مسألة) * (وإن أقام شاهداً وسأل حبسه حتى يقيم الآخر حبسه إن كان في المال) لأن الشاهد حجة فيه وإنما اليمين معونة له، وإن كان في غيره لم يحبس لأنه لا يكون حجة في

إثباته أشبه ما لو لم يقم شاهداً وفيه وجه آخر أنه يحبس كالتي قبلها والأول أولى لأنه إن حبس ليقيم شاهداً آخر لتتم بهما البينة فهو كالحق الذي لا يثبت إلا بشاهدين، وإن حبس ليحلف معه فلا حاجة إليه لأن الحلف ممكن في الحال، فإن حلف ثبت حقه وإلا لم يجب شئ، ويحتمل أن يقال إن كان المدعى بازلا لليمين والتوقف لإثبات عدالة الشاهدين حبس كما ذكرنا في التي قبلها، وإن كان التوقف عن الحكم لغير ذلك لم يحبس لما ذكرناه قال القاضي وكل موضع حبس فيه بشاهدين دام الحبس حتى تثبت عدالة الشهود أو فسقهم، وكل موضع حبس لشاهد واحد فإنه يقال للمشهود له إن جئت بشاهد آخر إلى بكيت وإلا أطلقناه، وإن أقام شاهدين فحبس حتى يزكي شهوده فقيل يمهل ثلاثة أيام ايضاً كالتي قبلها وهو أولى إن شاء الله تعالى لأن الحبس عقوبة فإذا قلنا يحبس حتى يزكي شهوده فكل من أراد حبس خصمه أقام شاهدين مجهولين لا يعرفهما الحاكم ويبقى خصمه في الحبس دائماً وهذا ضرر كثير مع أن الأصل براءة الذمة فأما الثلاثة أيام فهي يسيرة

ص: 452

(فصل) إذا ادعى العبد أن سيده أعتقه وأقام شاهدين لم يعدلا فسأل الحاكم أن يحول بينه وبين سيده إلى أن يبحث الحاكم عن عدالة الشهود فعل الحاكم ذلك ويؤجره من ثقة ينفق عليه من كسبه ويحبس الباقي فإن عدل الشاهدان ان أسلم إليه الباقي من كسبه وإن فسقا رد إلى سيده وإنما حلنا بينهما لما ذكرناه في الفصل الذي قبل هذا، ولأننا لو لم نحل بينهما أفضى إلى أن تكون أمة يطؤها وإن أقام شاهداً واحداً وسأل أن يحال بينهما ففيه وجهان (فصل) وإن أقامت المرأة شاهدين يشهدان بطلاقها ولم تعرف عدالة الشهود حيل بينه وبينها وإن أقامت شاهداً واحداً لم يحل بينهما لأن البينة لم تتم وهذا مما لا يثبت إلا بشاهدين * (مسألة) * (وإن حاكم إليه من لا يعرف لسانه ترجم له من يعرف لسانه) إذا تحاكم إلى القاضي العربي أعجميان أو أعجمي وعربي فلا بد من مترجم عنهما * (مسألة) * (ولا يقبل في الترجمة والجرح والتعديل والتعريف والرسالة إلا قول عدلين) وبهذا قال الشافعي وعن أحمد أنه يقبل واحد وهذا اختيار أبي بكر عبد العزيز وابن المنذر

وقول أبي حنيفة قال ابن المنذر في حديث زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم كتاب يهود قال فكنت أكتب له إذا كتب إليهم وأقرأ له إذا كتبوا ولأنها مما لا تفتقر إلى لفظ الشهادة فأجزأ فيها الواحد كإخبار الديانات ولأنه نقل ما خفي عن الحاكم إليه فيما يتعلق بالمتحاكمين فوجب فيه العدد كالشهادة ولأن ما لا يفهمه الحاكم وجوده عنده كغيبته فإذا ترجم له كان كنقل الإقرار اليه من غير مجلسه ولا يقبل ذلك إلا من شاهدين كذا ههنا فعلى هذه الرواية تكون الترجمة شهادة تفتقر إلى العدد

ص: 453

والعدالة ويعتبر فيها من الشروط ما يعتبر في الشهادة على الإقرار بذلك الحق فإن كان مما يتعلق بالحدود والقصاص اعتبر فيه الحرية ولم يكف إلا شاهدان ذكران إن كان مما لا يكفي فيه ترجمة رجل وامرأتين ولم تعتبر الحرية فيه وإن كان في حد زنا خرج في الترجمة وجهان (أحدهما) لا يكفي فيه أقل من أربعة رجال احرار عدول (والثاني) يكفي فيه اثنان بناء على الروايتين في الشهادة على الإقرار بالزنا ويعتبر فيه لفظ الشهادة لأنه شهادة وإن قلنا يكفي فيه واحد فلا بد من عدالته ولا يقبل من كافر ولا فاسق ويقبل من العبد لأنه من أهل الشهادة ولرواية وقال أبو حنيفة لا يقبل من العبد لكونه ليس من أهل الشهادة ولنا أنه خبر يكفي فيه قول الواحد فيقبل فيه خبر العبد كإخبار الديانات ولا نسلم أن هذه شهادة ولأن العبد ليس من أهل الشهادة ولا يعتبر فيه لفظ الشهادة كالرواية وعلى هذا الأصل ينبغي أن يقبل فيه ترجمة المرأة إذا كانت من أهل العدالة لأن روايتها مقبولة، فأما الجرح والتعديل فلا يكون إلا من إثنين وبهذا قال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن وابن المنذر وعن أحمد يقبل ذلك من واحد وهو اختيار أبي بكر وقول أبي حنيفة لأنه خبر ولا يعتبره فيه لفظ الشهادة فيقبل من واحد كالرواية ولنا أنه إثبات صفة من يبني الحاكم حكمة على صفته فأعتبر العدد كالحضانة وفارق الرواية فإنها على المساهلة ولا نسلم أنها لا تفتقر إلى لفظ الشهادة (فصل) والحكم في التعريف والرسالة كالحكم في الترجمة وفيها من الخلاف ما فيها، ذكره شيخنا في الكتاب المشروح وذكره الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب

ص: 454

* (مسألة) * (ومن ثبتت عدالته مرة فهل يحتاج إلى تجديد البحث عن عدالته مرة أخرى؟ على وجهين) وجملة ذلك أن من ثبتت، عدالته ثم شهد عند الحاكم بعد ذلك بزمن قريب حكم بشهادتة وعدالته لأن عدالته ثبتت وإن كان بعده بزمن طويل ففيه وجهان (أحدهما) لا يحتاج إلى ذلك (والثاني) يحتاج لأن من طول الزمان تتغير الأحوال * (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (وإن ادعى على غائب أو مستتر في البلد أو ميت أو صبي أو مجنون وله بينة سمعها الحاكم وحكم بها) من ادعى حقاً على غائب في بلد آخر وطلب من الحاكم سماع البينة والحكم بها عليه فعلى الحاكم إجابته إذا كملت الشروط وبهذا قال ابن شبرمة ومالك والشافعي والاوزاعي والليث وسوار وأبو عبيد وإسحاق وابن المنذر وكان شريح لا يرى القضاء على الغائب وعن أحمد مثله وبه قال ابن أبي ليلى والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وروي ذلك عن القاسم والشعبي إلا أن أبا حنيفة قال إذا كان له خصم حاضر من وكيل أو شفيع جاز الحكم عليه واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعل " إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر فإنك تدري بما تقضي " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ولأنه قضاء لأحد الخصمين وحده فلم يجز كما لو كان الآخر في البلد ولأنه يجوز أن يكون الغائب مما يبطل البينة ويقدح فيها فلم يجز الحكم عليه

ص: 455

ولنا أن هنداً قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي قال " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " متفق عليه ففضى عليه لها ولم يكن حاضراً، ولأن هذا بينة مسموعة وعادلة فجاز الحكم بها كما لو كان الخصم حاضراً يقدم عليه إذا كان غائباً كسماع البينة وأما حديثهم فنقول به إذا تقاضى إليه رجلان لم يجز الحكم قبل سماع كلامهما وهذا يقتضي أن يكونا حاضرين ويفارق الحاضر الغائب فإن البينة لا تسمع على حاضر إلا بحضرته والغائب بخلافه، وقد ناقض أبو حنيفة

أصله فقال إذا جاءت امرأة فادعت أن لها زوجاً غائباً وله مال في يد رجل وتحتاج إلى النفقة فاعترف لها بذلك فإن الحاكم يقضي عليه بالنفقة، ولو ادعى على حاضر أنه اشترى من غائب ما فيه شفعة وأقام بينة بذلك حكم بالبيع والأخذ بالشفعة ولو مات المدعى عليه فحضر بعض ورثته أو حضر وكيل الغائب وأقام المدعي بينة حكم له بما ادعاه، والغيبة المعتبرة إلى مسافة القصر لأنها التي تبنى عليها الأحكام (فصل) وكذلك الحكم في المستتر في البلد لأنه تعذر حضوره أشبه الغائب بل أولى فإن الغائب معذور ولا عذر للمستتر نص عليه أحمد في رواية حرب وروى حرب بإسناده عن أبي موسى قال كان الخصمان إذا اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتعدا الموعد فوفى أحدهما ولم يوف الآخر قضى للذي وفى ولأنه لو لم يحكم عليه لجعل الاستتار وسيلة إلى تضييع الحقوق * (مسألة) * (والميت المدعى عليه كالغائب بل أولى) لأن الغائب قد يحضر بخلاف الميت

ص: 456

قال الشاعر: وكل ذي غيبة يؤوب * وغائب الموت لا يؤوب وكذلك الصبي والمجنون المدعى عليهما يجوز سماع البينة عليهما والحكم عليهما لأنه لا يعبر عن نفسه فهو كالغائب وفي المستتر قول آخر يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

* (مسألة) * (وهل يحلف المدعى عليه إذا لم يبرأ إليه منه ولا من شئ منه؟ على روايتين) وجملة ذلك أن البينة إذا قامت على غائب أو غير مكلف كالصبي والمجنون لم يستحلف المدعي مع يمينه في أشهر الروايتين لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه " ولأنها بينة عادلة فلم تجب اليمين معها كما لو كانت على حاضرة والثانية يستحلف معها وقول الشافعي لأنه يجوز أن يكون استوفى ما قامت به البينة أو ملكه العين التي قامت بها البينة، ولو كان حاضراً فادعى ذلك لوجبت اليمين فإذا تعذر ذلك منه لغيبته أو عدم تكليفه يجب أن يقوم الحاكم مقامه فيما يمكن دعواه ولأن الحاكم مأمور بالاحتياط في حق الصبي والمجنون والغائب لأن كل ولاحد منهم لا يعبر عن نفسه وهذا من الاحتياط والأولى ظاهر المذهب * (مسألة) * (ثم إذا قدم الغائب أو بلغ الصبي أو أفاق المجنون فهو على حجته)

أما إذا قدم الغائب عن الحكم فإن الحكم يقف على حضوره وإن جرح الشهود لم يحكم عليه وإن استنظر الحاكم أجله ثلاثاً فإن أقام البينة بجرحهم وإلا حكم عليه وإن ادعى القضاء أو الإبراء وكانت له بينة به برئ وإلا حلف المدعي وحكم، له وإن قدم بعد الحكم فجرح الشهود بأمر كان قبل الشهادة

ص: 457

بطل الحكم لفوات شرطه، وإن جرحهم بأمر بعد أداء الشهادة أو مطلقاً لم يبطل الحكم ولم يقبله الحاكم لجواز أن يكون بعد الحكم فلا يقدح فيه (فصل) ولا يقضى على الغائب إلا في حقوق الآدميين فأما في الحدود التي لله تعالى فلا يقضي بها عليه لأن مبناها على المساهلة والاسقاط فإن قامت بينة على غائب بسرقة مال حكم بالمال دون القطع (فصل) ظاهر كلام أحمد أنه إذا قضى على الغائب بعين سلمت الى المدعي وإن قضى عليه بدين ووجد له مال احذ منه فإنه قال في رواية حرب في رجل أقام بينة أن له سهماً من ضيعة في أيدي قوم فتواروا عنه يقسم عليهم شهدوا أو غابوا ويدفع إلى هذا حقه ولأنه ثبت حقه بالبينة فيسلم إليه كما لو كان خصمه حاضراً ويحتمل ألا يدفع إليه شئ حتى يقيم كفيلاً أنه متى حضر خصمه وأبطل دعواه فعليه ضمان ما أخذه لئلا يأخذ المدعي ما حكم له به ثم يأتي خصمه فيبطل حجته أو يقيم بينة بالقضاء والإبراء أو يملك العين التي قامت بها البينة بعد ذهاب المدعي أو موته فيضيع مال المدعى عليه، وظاهر كلام أحمد الأول فإنه قال في رجل عنده دابة مسروقة فقال هي عندي وديعة إذا أقيمت البينة أنها له تدفع إلى الذي أقام البينة حتى يجئ صاحب الوديعة فيثبت.

* (مسألة) * (وإن كان الخصم في البلد غائباً عن المجلس لم تسمع البينة حتى يحضر فإن امتنع من الحضور سمعت البينة وحكم بها في إحدى الروايتين، وفي الأخرى لا تسمع حتى يحضر فإن أبى بعث إلى صاحب الشرطة ليحضره فإن تكرر منه الاستتار أقعد على بابه من يضيق عليه في دخوله وخروجه حتى يحضر) .

وجملة ذلك أن الحاضر في البلد أو قريباً منه إذا لم يمتنع من الحضر لم يحكم عليه قبل

ص: 458

حضوره في قول أكثر أهل العلم ولأصحاب الشافعي وجه أنه يقضي عليه في غيبته لأنه غائب أشبه الغائب البعيد.

ولنا أنه أمكن سؤاله فإن امتنع من الحضور أو توارى فظاهر كلام أحمد جواز القضاء عليه لما ذكرنا عنه في رواية حرب وروى عنه أبو طالب في رجل وجد غلامه عند رجل فأقام البينة أنه غلامه فقال الذي عنده الغلام أودعني هذا رجل فقال أحمد أهل المدينة يقضون على الغائب ويقولون أنه لهذا الذي أقام البينة وهو مذهب حسن وأهل البصرة يقضون على غائب يسمونه الأعذار وهو إذا ادعى على رجل ألفاً وأقام بينة فاختفى المدعى عليه يرسل إلى بابه فينادي الرسول ثلاثاً فإن جاء وإلا فقد أعذروا اليه فهذا يقوي قول أهل المدينة وهو مذهب حسن، قد ذكر الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب انه يقضى عى الغائب الممنع وهو مذهب الشافعي لأنه تعذر حضوره وسؤاله فجاز القضاء عليه كالغائب البعيد بل هو أولى لأن البعيد معذور وهذا لا عذر له وعلى القول الآخر إذا امتنع من الحضور بعث إلى صاحب الشرطة ليحضره فإن تكرر منه الاستتار أقعد على بابه من يضيق عليه في دخوله وخروجه حتى يحضر لأن ذلك طريق إلى حضوره وتخليص الحق منه.

* (مسألة) * (وإن ادعى أن أباه مات عنه وعن اخ له غائب وله مال في يد فلان أو دين عليه فأقر المدعى عليه أو ثبتت بينته سلم إلى المدعي نصيبه وأخذ الحاكم نصيب الغائب فحفظ له ويحتمل أنه إذا كان المال ديناً أن يترك نصيب الغائب في ذمة الغريم حتى يقدم) .

وجملة ذلك أن من ادعى أن أباه مات وخلفه وأخاً غائبا لا وارث له سواهما وترك في يد إنسان

ص: 459

داراً أو عيناً منقولة فأقر له صاحب اليد أو أنكر فثبت ما ادعاه ثبت ما في يد المدعي للميت وانتزع من يد المنكر فدفع نصفها إلى المدعي وجعل النصف الآخر في يد أمين للغائب تكرمة له إن كان يمكن كراؤه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ان كان مما لا ينقل ولا يحول ومما ينحفظ ولا يخاف هلاكه لم ينزع نصيب الغائب من يد المدعي عليه لأن الغائب لم يدعه هو ولا وكيله فلم ينزع من يد من هو فيه كما لو ادعى أحد الشريكين داراً مشتركة بينه وبين أجنبي فإنه يسلم إلى المدعي نصيبه

ولا ينزع نصيب الغائب كذا ههنا.

ولنا أنها تركة ميت ثبتت ببينة فوجب أن ينزع نصيب الغائب كالنقول وكما لو كان أخوه صغيراً أو مجنوناً ولأن في بقائه له ضرراً لانه قد يتعزر على الغائب إقامة البينة وقد يموت الشاهدان أو يغيبا أو تزول عدالتهما ويعزل الحاكم فيضيع حقه فوجب أن يحفظ بانتزاعه كالمنقول ويفارق الشريك للأجنبي إجمالاً وتفصيلاً، أما الإجمال فإن المنقول ينتزع نصيب شريكه في الميراث ولا ينزع نصيب الأجنبي وأما التفصيل فإن البينة ثبت بها الحق للميت بدليل أنه تقضى منه ديونه وتنفذ منه وصاياه ولأن الأخ يشاركه فيما أخذه إذا تعذر عليه أخذ الباقي فأما إن كان ديناً في ذمة إنسان فهل يقبض الحاكم نصيب الغائب؟ فيه وجهان.

(أحدهما) يقبضه كما يقبض العين (والثاني) لا يقبضه لأنه إذا كان في ذمة من هو عليه كان أحوط من أن يكون أمانة في يد الأمين لأنه لا يؤمن عليه التلف إذا قبضه والأول أولى لأن في الذمة يعرض التلف بالفلس والموت وعزل الحاكم وتعذر البينة إذا ثبت هذا فإننا إذا دفعنا إلى الحاضر نصف العين أو الدين لم نطالبه بضمين لأننا دفعناه بقول الشهود والمطالبة بالضمين طعن عليهم قال أصحابنا سواء كان الشاهدان من أهل الخبرة الباطنة أو لم يكونا، ويحتمل أن لا تقبل شهادتهما في نفي وارث آخر حتى يكونا من أهل الخبرة الباطنة والمعرفة المتقادمة لأنه ليس من أهل المعرفة لأن جهله بالوارث دليل على عدمه فلا يكتفى به وهذا قول الشافعي فعلى هذا تكون الدار موقوفة فلا يسلم إلى الحاضر نصفها حتى يسأل الحاكم ويكشف عن المواضع التي كان يطرقها وينادي منادياً ينادي أن فلاناً مات فإن كان له وارث فليأت فإذا غلب على ظنه أنه لو كان له وارث ظهر دفع إلى الحاضر نصيبه وهل يطلب منه ضمين يحتمل وجهين وكذلك الحكم اذا كانا من أهل الخبرة الباطنة لكن لم يقولا ولا نعلم له وارثاً سواه.

ص: 460

(فصل) فإن كان مع الابن ذو فرض فعلى ظاهر المذهب يعطى فرضه كاملاً وعلى هذا التخريج يعطى اليقين فإن كانت له زوجة أعطيت ربع الثمن عائلاً فيكون ربع التسع لجواز أن يكون

له أربع زوجات وإن كانت له جدة ولم يثبت موت أمه لم يعط شيئاً وإن علم موتها أعطيت ثلث السدس لجواز أن يكون له ثلاث جدات وتعطاه عائلاً فيكون ثلث العشر ولا يعطى العصبة شيئاً لجواز أن يكون وارث يحجبه وإن كان زوجاً أعطي الربع عائلاً وهو الخمس لجواز أن تكون المسألة عائلة فيعطى اليقين فإذا كشف الحاكم أعطى الزوج نصيبه وكمل لذوي الفروض فروضهم.

(فصل) إذا اختلفا في دار في يد أحدهما فأقام المدعي بينة أن الدار كانت ليست ملكه أو منذ شهر فهل تسمع البينة ويقضي بها على وجهين.

(أحدهما) تسمع ويحكم بها لأنها تثبت الملك في الماضي وإذا ثبت استديم حتى يعلم زواله (والثاني) لا تسمع، قال القاضي هو الصحيح لأن الدعوى لا تسمع ما لم يدعي المدعي الملك في الحال فلم يسمع ما لم يدعه لكن إن انضم إلى شهادتهما بيان سبب يد الثاني وتعريف تعديها فقالا نشهد أنها كانت ملكه أمس فغصبها هذا منه أو سرقها أو ضلت منه فالتقطها هذا ونحو ذلك سمعت وقضي بها لأنه إذا لم يتبين السبب فاليد دليل الملك ولا تنافي بين ما شهدت به البينة وبين دلالة اليد لجواز أن يكون ملكه أمس ثم ينتقل إلى صاحب اليد فإذا ثبت أن سبب اليد عدوان خرجت عن كونها دليلاً فوجب القضاء باستدامة الملك السابق، فإن أقر المدعي عليه أنها كانت للمدعي أمس أو فيما مضى سمع إقراره في الصحيح وحكم به لأنه حينئذ يحتاج إلى سبب انتقالها إليه فيصير هو المدعي فيحتاج إلى بينة ويفارق البينة من وجهين.

(أحدهما) أنه أقوى من البينة لكونها شهادة الإنسان على نفسه ويزول به النزاع بخلاف البينة (الثاني) أن البينة لا تسمع إلا على ما ادعاه والدعوى يجب أن تكون معلقة بالحال والإقرار يسمع ابتداء، فإن شهدت البينة أنها كانت في يده أمس ففي سماعها وجهان، وإن أقر المدعي عليه بذلك فالصحيح أنها تسمع ويقضي بها لما ذكرنا.

* (مسألة) * (وإن ادعى إنسان أن الحاكم حكم له بحق فصدقه قبل قول الحاكم وحده) وإن لم يذكر الحاكم ذلك فشهد عدلان أنه حكم له به قبل شهادتهما وأمضى القضاء وكذلك

ص: 461

إن شهدا أن فلاناً وفلاناً شهدا عندك بكذا قبل شهادتهما) إذا ادعى إنسان على الحاكم أنك حكمت لي بهذا الحق على خصمي فذكر الحاكم حكمه أمضاه وألزم خصمه ما حكم به عليه وليس هذا حكما بالعلم إنما هو امضاء لحكمه السابق وإن لم يذكره القاضي فشهد عنده شاهدان على حكمه لزمه قبولهما وامضاء القضاء وبه، قال ابن ابي ليلى ومحمد بن الحسن قال القاضي هذا قياس قول أحمد لأنه قال يرجع الإمام إلى قول اثنين فصاعدا من المأمومين وقال أبو حنيفة وابو يوسف والشافعي لا يقبل لأنه لا يمكنه الرجوع إلى الإحاطة والعلم فلا يرجع إلى الظن كالشاهد إذا نسي شهادته نشهد عنده شاهدان أنه شهد لم يكن له أن يشهد.

ولنا أنهما لو شهدا عنده بحكم غيره قبل فكذلك إذا شهدا عنده بحكمه فإنهما شهدا بحكم حاكم وما ذكروه لا يصح لأن ذكر ما نسيه اليه ويخالف الشاهد لأن الحاكم يمضي ما حكم به إذا ثبت عنده والشاهد لا يقدر على إمضاء شهادته وإنما يمضيها الحاكم وكذلك إن شهدا أن فلاناً وفلاناً شهدا عندك بكذا قبل شهادتهما على الشاهدين كما يقبل شهادتهما على الحق نفسه * (مسألة) * (وإن لم يشهد به أحد لكن وجده في قمطره في صحيفة تحت ختمه بخطه فهل ينفذه؟ على روايتين)(إحداهما) لا ينفذه إلا أن يذكره نص عليه أحمد في الشهادة قاله بعض أصحابنا وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي ومحمد بن الحسن (والثانية) أنه يحكم به وبه قال ابن ابي ليلى قال شيخنا وهذا الذي رأيته عن أحمد في الشهادة لأنه إذا كان في قمطره تحت ختمه لم يحتمل أن يكون إلا صحيحاً ووجه الأولى أنه حكم حاكم لم يعلمه فلم يجز انفاذه إلا ببينة كحكم غيره ولأنه يجوز أن يزور عليه وعلى خطه وختمه والخط يشبه الخط فإن قيل فلو وجد في دفتر أبيه حقاً على إنسان جاز له أن يدعيه ويحلف عليه فلنا هذا يخالف الحكم والشهادة بدليل الإجماع على أنه لو وجد خط أبيه بشهادة لم يجز أن يحكم بها ولا يشهد بها ولو وجد حكم أبيه مكتوباً بخطه لم يجز له انفاذه ولأنه يمكنه الرجوع فيما حكم به إلى نفسه لأنه فعله فروعي ذلك، وأما ما كتبه أبوه فلا يمكنه الرجوع فيه إلى نفسه فكفى فيه الظن

* (مسألة) * (وكذلك الشاهد إذا وجد خطه بشهادة في كتاب ولم يذكرها فهل له أن يشهد بها؟ على روايتين)

ص: 462

(إحداهما) له أن يشهد بها لأن الظاهر أنه خطه (والثانية) لا يشهد بها إلا أن يذكرها لأنها قد تتزور على خطه وقد وجد ذلك (فصل) قال الشيخ رحمه الله ومن كان له على إنسان حق ولم يمكنه أخذه بالحاكم وقدر له على مال لم يجز أن يأخذ قدر حقه نص عليه أحمد واختاره عامة شيوخنا وجملة ذلك أنه إذا كان لرجل على غيره حق وهو مقر به باذل له لم يكن له أن يأخذ من ماله إلا ما يعطيه بلا خلاف بين أهل العلم فإن أخذ من ماله شيئاً بغير إذنه لزمه رده إليه وإن كان قد حقه لأنه لا يجوز أن يملك عليه عيناً من أعيان ماله بغير اختياره لغير ضرورة وان كانت من جنس حقه لأنه قد يكون للإنسان غرض في العين فإن أتلفها أو تلفت فصارت ديناً في ذمته وكان الثابت في ذمته من جنس حقه تقاصا في قياس المذهب والمشهور من مذهب الشافعي وإن كان مانعاً له لأمر يبيح المنع كالتأجيل والإعسار لم يجز أخذ شئ من ماله بغير خلاف، وإن أخذ شيئاً لزمه رده ما كان باقياً أو عوضه إن كان تالفاً ولا يحصل التقاص ههنا لأن الدين الذي له لا يستحق أخذه في الحال بخلاف التي قبلها، وإن كان ماله بغير حق وقدر على استخلاصه بالحاكم والسلطان لم يجز له الأخذ أيضاً بغير خلاف لأنه قدر على استيفاء حقه ممن يقوم مقامه فأشبه ما لو قدر على استيفائه من وكيله، وإن لم يقدر على ذلك لكونه جاحداً له ولا بينة به ولكونه لا يجيبه إلى المحاكمة ولا يمكنه إجباره على ذلك أو نحو هذا فالمشهور في المذهب أنه ليس له أخذ قدر حقه وهو إحدى الروايتين عن مالك قال ابن عقيل قد جعل أصحابنا المحدثون بجواز الأخذ وجها في المذهب أخذاً من حديث هند حين قال لها النبي صلى الله عليه وسلم " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " وقال أبو الخطاب ويتخرج لنا جواز الأخذ فإن كان المقدور عليه قدر حقه من جنسه أخذه وإن كان من غير جنسه تحرى واجتهد في تقويمه لما ذكرنا من حديث هند، ومن قوله الرهن يركب

ويحلب بقدر ما ينفق والمرأة تأخذ مؤنتها، وبائع السلعة يأخذها من مال المفلس بغير رضاه وقال الشافعي إن لم يقدر على استخلاص حقه ببينة فله أخذ قدر حقه من جنسه أو من غير جنسه وإن كان له بينة وقدر على استخلاصه ففيه وجهان والمشهور من مذهب مالك أنه إن لم يكن لغيره عليه دين فله أن يأخذ بقدر حقه وإن كان عليه دين لم يجز لأنهما يتحاصان في ماله إذا أفلس وقال أبو حنيفة له ان يأخذ بقدر حقه إن كان عيناً أو ورقاً أو من جنس حقه، وإن كان المال عرضاً لم يجز لأن أخذ العرض عن حقه اعتياض ولا تجوز المعاوضة إلا برضاء من المتعاوضين قال الله

ص: 463

تعالى (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) واحتج من أجاز الأخذ بحديث هند حين جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله أن أبا سفيان رجل صحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي فقال " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " متفق عليه وإذا جاز لها أن تأخذ من مالها ما يكفيها بغير إذنه جاز للرجل الذي له الحق على الرجل ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك " رواه الترمذي وقال حديث حسن ومتى أخذ منه قدر حقه من ماله بغير إذنه فقد خانه فيدخل في عموم الخبر وقال عليه الصلاة والسلام " لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه " ولأنه إن أخذ من غير جنسه كان معاوضة بغير تراض، وإن أخذ من جنس حقه فليس له تعيين الحق بغير رضاء صاحبه فإن التعيين إليه ألا ترى أنه لا يجوز له أن يقول لا آخذ حقي إلا من هذا الكيس دون هذا ولأن كل ما لا يجوز له تملكه إذا لم يكن له دين لا يجوز له أخذه إذا كان له دين كما لو كان باذلا له فأما حديث هند فإن أحمد اعتذر عنه بأن حقها واجب عليه في كل وقت وهذا إشارة منه إلى الفرق بالمشقة في المحاكمة في كل وقت والمخاصمة كل يوم تجب فيه النفقة بخلاف الدين، وفرق أبو بكر بينهما بفرق آخر وهو أن قيام الزوجية كقيام البينة فكأن الحق صار معلوماً بعلم قيام مقتضيه وبينهما فرقان آخران (احداهما) أن للمرأة من البسط في ماله بحكم العادة ما يؤثر في إباحة أخذ الحق وبذل اليد فيه بالمعروف بخلاف الأجنبي

(الثاني) أن النفقة تراد لاحياء النفس وابقاء المهجة وهذا مما لا يصبر عنه ولا سبيل إلى تركه فجاز أخذ ما تندفع به هذه الحاجة بخلاف الدين حتى يقول لو صارت النفقة ماضية لم يكن لها أخذها ولو وجب لها عليه دين آخر لم يكن لها أخذه فعلى هذا إن أخذ شيئاً لزمه رده إن كان باقيا وإن كان تالفاً وجب مثله إن كان مثلياً أو قيمته أن كان متقوماً فإن كان من جنس دينه تقاصا وتساقطا في قياس المذهب وإن كان من غير جنسه غرمه، ومن جوز من أصحابنا الأخذ فإنه إن وجد جنس حقه جاز له الأخذ بقدر حقه من غير زيادة وليس له الأخذ من غير جنسه مع قدرته على جنس حقه، وإن لم يجد إلا من جنس غير حقه فيحتمل أن لا يجوز له تملكه لأنه لا يجوز له أن يبيعه من نفسه وهذا يبيعه من نفسه وتلحقه فيه تهمة، ويحتمل أن يجوز له ذلك كما قالوا الرهن ينفق عليه إذا كان محلوباً أو مركوباً

ص: 464

يحلب ويركب بقدر النفقة وهي من غير الجنس.

واختلف أصحاب الشافعي في هذا فمنهم من جوزه له ومنهم من قال: يواطئ رجلاً يدعي عليه عند الحاكم ديناً فيقر له بملك الشي المأخوذ الذي أخذه فيمتنع من عليه الدعوى من قضاء الدين ليبيع الحاكم الشئ المأخوذ ويدفعه إليه * (مسألة) * (وحكم الحاكم لا يزيل الشئ عن صفته في الباطن وذكر ابن أبي موسى عنه رواية أخرى أنه يزيل العقود والفسوخ) ذهب جمهور العلماء إلى أن حكم الحاكم لا يزيل الشئ عن صفته في الباطن منهم مالك والاوزاعي والشافعي واحمد وإسحاق وابو ثور وداود ومحمد بن الحسن وقال أبو حنيفة إذا حكم بعقد أو فسخ أو طلاق نفذ حكمه ظاهراً وباطناً، فلو أن رجلين تعمدا الشهادة على رجل أنه طلق امرأته فقبلهما القاضي بظاهر عدالتهما ففرق بين الزوجين لجاز لأحد الشاهدين نكاحها بعد قضاء عدتها وهو عالم بتعمد الكذب، ولو أن رجلاً ادعى نكاح امرأة وهو يعلم أنه كاذب وأقام شاهدي زور فحكم الحاكم حلت له بذلك وصارت زوجته قال إبن المنذر وتفرد أبو حنيفة فقال لو استأجرت امرأة شاهدين شهدا لها بطلاق زوجها وهما يعلمان كذبها وتزويرها فحكم الحاكم بطلاقها يحل لها أن تتزوج وحل لأحد الشاهدين نكاحها، واحتج بما روي عن علي رضي الله عنه ان رجلاً ادعى على امرأة نكاحا فرفعها إلى علي رضي الله عنه فشهد له شاهدان بذلك

فقضى بينها وبالزوجية فقالت والله ما تزوجني يا أمير المؤمنين اعقد بيننا عقداً حتى أحل له فقال شاهداك زوجاك فدل على أن النكاح ثبت بحكمه ولأن اللعان يفسخ به النكاح وإن كان أحدهما كاذباً فالحكم أولى ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئاً فإنما أقطع له قطعة من النار " متفق عليه وهذا يدخل فيه ما إذا دعى أنه اشترى منه شيئاً فحكم له ولأنه

ص: 465

حكم له بشهادة زور فلا يحل له ما كان محرما عليه كالمال المطلق، وأما الخبر عن علي أن صح فلا حجة لهم فيه لأنه أضاف التزويج إلى الشاهدين لا إلى حكمه ولم يجبها إلى التزويج لأن فيه طعنا على الشهود فأما اللعان فإنما حصلت الفرقة به لا بصدق الزوج ولهذا لو قامت البينة به لم ينفسخ النكاح.

إذا ثبب هذا فإذا شهد على امرأة بنكاح وحكم به الحاكم ولم تكن زوجته فإنها لا تحل له ويلزمها في الظاهر وعليها أن تمتنع منه ما أمكنها فإن أكرهها فالإثم عليه دونها، وإن وطئها الرجل فقال أصحابنا وبعض الشافعية عليه الحد لأنه وطئها وهو يعلم أنها أجنبية، وقيل لاحد عليه لانه وطئ مختلف في حكمه فيكون شبهة وليس لها أن تتزوج غيره وقال أصحاب الشافعي تحل لزوج ثان غير أنها ممنوعة منه في الحكم وقال القاضي يصح النكاح ولنا أن هذا يفضي إلى الجمع بين الوطئ للمرأة من اثنين أحدهما يطؤها بحكم الظاهر والآخر بحكم الباطن وهذا فساد فلا يشرع ولأنها منكوحة لهذا الذي قامت به البينة في قول بعض الأئمة فلم يجز تزويجها لغيره كالمنكوحة بغير ولي، وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى مثل مذهب أبي حنيفة كما حكى ابن أبي موسى في أن حكم الحاكم يزيل العقود والفسوخ والأول هو المذهب (فصل) قال ابن المنذر ويكره للقاضي أن يفتي في الأحكام كان شريح، يقول أنا أقضي ولا أفتي أما الفتيا في الطهارة وسائر ما لا يحكم في مثله فلا بأس بالفتيا فيه.

ص: 466

باب حكم كتاب القاضي إلى القاضي الأصل في كتاب القاضي والامير إلى الامير الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله

تعالى (إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم أن لا تعلوا علي وأئتوني مسلمين) وأما السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي وإلى ملوك الأطراف وكان يكتب إلى ولاته وعماله وسعاته وكان في كتابه إلى قيصر " بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى قيصر عظيم الروم أما بعد فأسلم تسلم واسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن توليت فإن عليك أثم الأريسيين ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم " وروى الضحاك بن سفيان قال كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها وأجمعت الأمة على كتاب القاضي إلى القاضي ولأن الحاجة إلى قبوله داعية فإن من له حق في بلد غير بلده لا يمكنه إثباته والمطالبة به إلا بكتاب القاضي فوجب قبوله * (مسألة) * (يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في المال وما يقصد به المال كالقرض والغصب والبيع والرهن والصلح والوصية له والجناية الموجبة للمال ولا يقبل في حد لله تعالى وهل يقبل فيما عدا ذلك مثل القصاص والنكاح والطلاق والخلع والعتق والنسب والكتابة والتوكيل والوصية إليه؟ على روايتين فأما حد القذف فان قلنا هو حق لله تعالى فلا يقبل فيه وإن قلنا هو حق آدمي فهو كالقصاص)

ص: 467

وجملة ذلك أن كتاب القاضي إلى القاضي يقبل في المال بغير خلاف علمناه ولا يقبل في الحدود كحق الله تعالى وهل يقبل فيما عدا هذا؟ على وجهين وبهذا قال أصحاب الرأي وقال الشافعي يقبل كل حق لآدمي من الجراح وغيرها وهل يقبل في الحدود التي لله تعالى؟ على قولين (أحدهما) يقبل وهو قول مالك وأبي ثور وحد القذف ينبني على الخلاف فيه على ما ذكرنا ولنا على أنها لا تقبل في الحدود أنها مبنية على الستر والدرء بالشبهات والإسقاط بالرجوع عن الإقرار وكتاب القاضي إلى القاضي شهادة وفيه شبهة فإنه يتطرق إليه احتمال الغلط أو السهو في شهود الفرع مع احتمال ذلك في شهود الأصل وهذا احتمال زائد لا يوجد في شهادة الأصل وهو معتبر بدليل أنها لا تقبل مع القدرة على شهود الأصل فوجب أن لا تقبل فيما يندرئ بالشهبات ولأن كتاب القاضي إلى القاضي إنما يقبل للحاجة ولا حاجة الى ذلك في الحد لأن ستر صاحبه أولى من الشهادة عليه ولأنه لا نص في ذلك ولا يصح قياسه على

الأموال لما بينهما من الفرق والتساهل وظاهر كلام أحمد رحمه الله أن كتاب القاضي إلى القاضي لا يقبل في القصاص أيضاً ولا حد القذف لأنه قال إنما يجوز في الحقوق أما الدماء والحد فلا وهذا قول أبي حنيفة، وظاهر كلام الخرقي أنه يقبل وهو قول مالك والشافعي وأبي ثور ولأنه حق آدمي لا يسقط بالرجوع عن الإقرار به أشبه الأموال وذكر أصحابنا عن أحمد هذا رواية لأنه قال شهادة رجل في

ص: 468

الطلاق جائزة قال أحمد ما أحسن ما قال فجعله أصحابنا رواية في القصاص قال شيخنا وليس هذا برواية فإن الطلاق لا يشبه القصاص والمذهب أنها لا تقبل فيه لأنه عقوبة بدنية تدرأ بالشبهاب وتبنى على الإسقاط فأشبهت الحد فأما ما عدا الحدود ولاموال كالنكاح والطلاق وسائر ما لا يثبت إلا بشاهدين فنص أحمد على قبولها في الطلاق والحقوق فدل على جميعها في قبول هذا الحقوق وهو قول الخرقي وقال ابن حامد لا يقبل في النكاح ونحوه قول أبي بكر فعلى قولهما لا تقبل الشهادة على الشهادة إلا في المال وما يقصد به وهو قول أبي عبيد لأنه حق لا يثبت إلا بشاهدين فأشبه حد القذف ووجه الأول أنه حق لا يدرأ بالشبهات فيثبت بالشهادة على الشهادة كالمال وبهذا فارق الحدود وكتابة القاضي إلى القاضي حكمها حكم الشهادة على الشهادة لأنه شهادة على شهادة * (مسألة) * (ويجوز كتاب القاضي فيما حكم به لينفذه في المسافة القريبة ومسافة القصر ويجوز فيما ثبت عنده ليحكم به في المسافة البعيدة دون القريبة) وجملة ذلك أن كتاب القاضي على ضربين (أحدهما) أن يكتب بما حكم به وذلك مثل أن يحكم على رجل بحق فيتغيب قبل وفائه أو يدعي حقاً على غائب ويقيم به بينة ويسأل الحاكم الحكم عليه فيحكم عليه ويسأله أن يكتب له كتاباً بحكمه إلى قاضي البلد الذي فيه الغائب فيكتب اليه أو تقوم البينة على حاضر فيهرب قبل الحكم عليه فيسأل صاحب الحكم الحاكم الحكم عليه وأن يكتب له كتاباً بحكمه ففي هذه

ص: 469

الصور الثلاث تلزم الحاكم إجابته إلى الكتابة ويلزم المكتوب اليه قوله سواء كان بينهما مسافة قريبة أو بعيدة حتى لو كانا في جانبي البلد أو مجلس الحاكم لزمه قبوله وامضاؤه وسواء كان حكما على حاضر أو غائب لا نعلم

في هذا خلافاً لأن حكم الحاكم يجب امضاؤه على كل حاكم (الضرب الثاني) أن يكتب بعلمه شهادة شاهدين عنده بحق لفلان مثل أن تقوم البينة عنده بحق لرجل على آخر ولم يحكم به فيسأل صاحب الحق ان يكتب له كتاباً بما حصل عنده فإنه يكتب له أيضاً، قال القاضي ويكون في كتابه شهد عندي فلان وفلان بكذا ليكون المكتوب اليه هو الذي يقضي به ولا يكتب ثبت عندي لأن قوله ثبت عندي حكم بشهادتهما فهذا لا يقبله المكتوب اليه الا في المسافة البعيدة التي هي مسافة القصر ولا يقبله فيما دونها لأنه نقل شهادة فاعتبر فيه ما يعتبر في الشهادة على الشهادة ونحو هذا قول الشافعي وقال أبو يوسف ومحمد يجوز أن يقبله في بلده وحكي عن أبي حنيفة مثل هذا وقال بعض المتأخيرين من أصحابه الذي يقتضيه مذهبه أنه لا يجوز كما لا يجوز ذلك في الشهادة على الشهادة واحتج من أجازه لأنه كتاب الحاكم بما ثبت عنده فجاز قبوله مع القرب ككتابة حكمه ولنا أن ذلك نقل الشهادة إلى المكتوب اليه فلم يجز مع القرب كالشهادة على الشهادة ويفارق كتابه بالحكم فليس هو نقل إنما هو خبر

ص: 470

(فصل) ويقبل الكتاب من قاضي مصر إلى قاضي مصر وإلى قاضي قرية ومن قاضي قرية إلى قاضي قرية وإلى قاضي مصر * (مسألة) * (ويجوز أن يكتب إلى قاض معين وإلى من يصل إليه كتابي هذا من قضاة المسلمين وحكامهم من غير تعيين ويلزم من وصله قبوله) وبهذا قال أبو ثور واستحسنه ابو يوسف وقال أبو حنيفة لا يجوز أن يكتب إلى غير معين ولنا أنه كتاب حاكم من ولايته وصل إلى حاكم فلزم قبوله كما لو كان الكتاب اليه بعينه * (مسألة) * (ولا يقبل الكتاب إلا أن يشهد به شاهدان يحضرهما القاضي الكاتب فيقرؤه عليهما ثم يقول أشهدكما أن هذا كتابي إلى فلان بن فلان ويدفعه إليهما فإذا وصلا إلى المكتوب إليه دفعا إليه الكتاب وقالا نشهد أن هذا كتاب فلان إليك كتبه من عمله وأشهدنا عليه، والاحتياط

أن يشهد عليه بما فيه ويختمه ولا يشترط ختمه وإن كتب كتاباً وأدرجه وختمه وقال هذا كتابي إلى فلان اشهدا علي بما فيه لم يصح لأن أحمد قال فيمن كتب وصيته وختمها ثم أشهد على ما فيها فلا حتى يعلمه ما فيها ويتخرج الجواز لقوله إذا وجدت وصية الرجل مكتوبة عند رأسه من غير أن يكون أشهد

ص: 471

أو أعلم أحداً بها عند موته وعرف خطه وكان مشهورا فإنه ينفذ ما فيها فعلى هذا عرف المكتوب إليه أنه خط القاضي الكاتب وختمه جاز قبوله والعمل على الأول) وجملته أنه يشترط لقبول كتاب القاضي شروط ثلاثة (أحدها) أن يشهد به شاهدان عدلان ولا يكفي معرفة المكتوب اليه خط الكاتب وختمه ولا يجوز له قبوله بذلك في قول الجمهور وحكي عن الحسن وسوار العنبري أنهم قالوا إذا كان يعرف خطه وختمه قبله وهو قول أبي ثور والاصطخري ويتخرج لنا مثل ذلك لأنه تحصل به غلبة الظن فأشبه شهادة الشاهدين ولنا أن ما أمكن أثباته بالشهادة لم يجز الاقتصار على الظاهر كإثبات العقود ولان الخط يشبه الخط والختم يمكن التزوير عليه ويمكن الرجوع إلى الشهادة فلم يعول على الخط كالشاهد لا يعول في الشهادة على الخط وفي هذا انفصال عما ذكروه.

إذا اثبت هذا فإن القاضي إذا كتب الكتاب دعا رجلين يخرجان إلى البلد الذي فيه القاضي المكتوب إليه فيقرأ عليهما الكتاب أو يقرؤه غيره عليهما والأحوط أن ينظرا معه فيما يقرؤه فإن لم ينظرا جاز لأنه لا يستقرأ إلا ثقة فإذا قرأ عليهما قال اشهدا على أن هذا كتابي إلى فلان وإن قال اشهدا علي بما فيه كان أولى فان اقتصر على قوله هذا كتابي إلى فلان فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجزئ لانه يحملها الشهادة فاعتبر أن يقول اشهدا علي كالشهادة

ص: 472

على الشهادة وقال القاضي يجزئ وهو مذهب الشافعي ثم إن كان ما في الكتاب قليلاً اعتمدا على حفظه وإن كان كثيراً فلم يقدرا على حفظه كتب كل واحد منهما مضمونه وقابل بها لتكون معه يذكر بهاما يشهد به ويقبضان الكتاب قبل أن يغيبا لئلا يدفع اليهما غيره فإذا وصل الكتاب معهما اليه قرأه الحاكم أو غيره عليهما فإذا سمعاه قالا نشهد أن هذا كتاب فلان لأنها أداء شهادة

فلا بد فيها من لفظ الشهادة، ويجب أن يقولا من عمله لأن الكتاب لا يقبل إلا إذا وصل من مجلس عمله وسواء وصل الكتاب مختوماً أو غير مختوم مقبولاً أو غير مقبول لأن الاعتماد على شهادتهما لا على الخط والختم فإن امتحى الكتاب وكانا يحفظان ما فيه جاز لهما أن يشهدا بذلك، وإن لم يحفظاه لم يمكنهما الشهادة، وقال أبو حنيفة وابو ثور لا يقبل الكتاب حتى يشهد شاهدان على ختم القاضي ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاباً إلى قيصر ولم يختمه فقيل له أنه لا يقرأ كتاباً غير مختوم فاتخذ الخاتم واقتصاره على الكتاب دون الختم دليل على أن الختم ليس بشرط في القبول وإنما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ليقرءوا كتابه ولأنهما لو شهدا بما في الكتاب وعرفا ما فيه لوجب قبوله كما لو وصل مختوماً وشهدا بالختم.

إذا ثبت هذا فانه انما يعتبر ضبطهما لمعنى الكتاب وما يتعلق به الحكم قال الأثرم سمعت أبا

ص: 473

عبد الله يسأل عن قوم شهدوا على صحيفة وبعضهم ينظر فيها وبعضهم لا ينظر قال إذا حفظ فليشهد قيل كيف وهو كلام كثير؟ قال يحفظ ما كان عليه الكلام والوضع قلت يحفظ المعنى؟ قال نعم قيل له والحدود والثمن وأشباه ذلك؟ قال نعم * (مسألة) * (ولو أدرج الكتاب وختمه وقال هذا خطي اشهدا علي بما فيه أو قد أشهدتكما على نفسي بما فيه لم يصح هذا التحمل) وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وقال أبو يوسف إذا ختمه بختمه وعنونه جاز أن يتحملا الشهادة عليه مدرجاً فإذا وصل الكتاب شهدا عنه أنه كتاب فلان ويتخرج لنا مثل هذا فإنهما شهدا بما في الكتاب فجاز، وإن لم يعلما تفصيله كما لو شهدا بما في هذا الكيس من الدراهم جازت شهادتهما وإن لم يعرفا قدرها ولنا انهما شهدا بمجهول لا يعلمانه فلم تصح شهادتهما كما لو شهد أن لفلان على فلان مالا، وفارق

ص: 474

ما ذكره فإن تعيينه الدراهم التي في الكيس أغنى عن معرفة قدرها، وههنا الشهادة على ما في الكتاب

دون الكتاب وهما لا يعرفانه (الشرط الثاني) أن يكتبه القاضي من موضع عمله وولايته فإن كتبه من غير ولايته لم يسغ قبوله لأنه لا يسوغ له في غير ولايته حكم فهو فيه كالعامي (الشرط الثالث) أن يصل الكتاب إلى المكتوب اليه في موضع ولايته فإن وصله في غيره لم يكن له قبوله حتى يصير إلى موضع ولايته، ولو ترافع اليه خصمان في غير محل ولايته لم يكن له الحكم بينهما بحكم ولايته إلا إذا تراضيا عليه فيكون حكمه حكم غير القاضي إذا تراضيا به، وسواء كان الخصمان من أهل عمله أو لم يكونا، ولو ترافع اليه خصمان وهو في موضع ولايته من غير أهل ولايته كان له الحكم بينهما لأن الاعتبار بموضعهما إلا أن يأذن الإمام لقاض أن يحكم بين أهل ولايته حيث كانوا ويمنعه من الحكم بين غير أهل ولايته حيثما كان فيكون الأمر على ما أذن فيه ومنع منه لأن الولاية بتوليته فيكون الحكم على وفقها * (مسألة) * (وإذا وصل الكتاب فأحضر المكتوب إليه الخصم المحكوم عليه في الكتاب فقال لست فلان بن فلان فالقول قوله مع يمينه إلا أن تقوم به بينة فإن ثبت أنه فلان من فلان ببينة أو إقرار فقال: المحكوم عليه غيري لم يقبل الا ببينة تشهد أن في البلد من يساويه فيما سمي ووصف به فيتوقف حتى يعلم المحكوم عليه منهما) وجملة ذلك أنه إن أنكر وقف الحاكم ويكتب إلى الحاكم الكاتب يعلمه الحال وما وقع من الإشكال حتى يحضر الشاهدين فيشهدا عنه بما يتميز به المشهود عليه منهما فإن ادعى المسمى أنه كان في البلد من

ص: 475

يشاركه في الاسم والصفة وقد مات نظر فإن كان موته قبل وقوع المعاملة التي وقع الحكم بها أو كان ممن لم يعاصره المحكوم عليه أو المحكوم له لم يقع إشكال وكان وجوده كعدمه، وإن كان موته بعد الحكم أو بعد المعاملة وكان ممن أمكن أن تجري بينه وبين المحكوم له معاملة فقد وقع الإشكال كما لو كان حياً لجواز أن يكون الحق على الذي مات (فصل) وإذا كتب بثبوت بينة أو إقرار بدين جاز وحكم به المكتوب اليه وأخذ المحكوم عليه

وإن كان ذلك عيناً كنقار محدود أو عيناً مشهورة لا تشتبه بغيرها كعبد معروف مشهورا ودابة كذلك حكم المكتوب اليه أيضاً والزم تسليمه إلى المحكوم له به، وإن كان عينا لا تتميز إلا بالصفة كعبد غير مشهور أو غيره من الأعيان التي لا تتميز إلا بالوصف ففيه وجهان (أحدهما) لا يقبل كتابه به وهو قول أبي حنيفة وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن الوصف لا يكفي بدليل أنه لا يجوز أن يشهد لرجل بالوصف والتحلية كذلك المشهود به (والثاني) يجوز لأنه يثبت في الذمة بالعقد على هذه الصفة فأشبه الدين ويخالف المشهود له فإنه لا حاجة إلى ذلك فيه فإن الشهادة له لا تثبت إلا بعد دعواه ولأن المشهود عليه يثبت بالصفة والتحلية فكذلك المشهود به فعلى هذا الوجه ينفذ العين مختومة وإن كان عبداً أو أمة ختم في عنقه وبعثه إلى القاضي الكاتب ليشهد الشاهدان على عينه فإن شهدا عليه دفع إلى المشهود له به وإن لم يشهدا على عينه وقالا: المشهود به غير هذا وجب على آخذه رده إلى صاحبه ويكون حكمه حكم المغصوب

ص: 476

في ضمانه وضمان نقصه ومنفعته فلزمه أجره إن كان له أجر من يوم أخذه إلى أن يصل الى صاحبه لأنه أخذه من صاحبه قهراً بغير حق (فصل) وإن تغيرت حال القاضي الكاتب بعزل أو موت لم يقدح في كتابه، وإن تغيرت بفسق لم يقدح فيما حكم به، وبطل فيما ثبت عنده ليحكم به، وإن تغيرت حال المكتوب إليه فلمن قام مقامه قبول الكتاب والعمل به وجملة ذلك أنه لا يخلو من أن تتغير حال القاضي الكاتب أو المكتوب اليه أو حالهما معاً فإن تغيرت حال الكاتب بموت أو عزل بعد أن كتب الكتاب وأشهد على نفسه لم يقدح في كتابه وكان على من وصله الكتاب قبوله والعمل به سواء تغيرت حاله قبل خروج الكتاب من بلده أو بعده وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يعمل به في الحالين.

وقال أبو يوسف إن مات قبل خروجه من يده لم يعمل به، وإن مات بعد خروجه من يده عمل به لأن كتاب الحاكم بمنزلة الشهادة على الشهادة لأنه ينقل شهادة شاهدي الأصل فإذا مات قبل وصول الكتاب صار بمنزلة موت شاهدي الفرع قبلي أداء شهادتهما ولنا أن المعول في الكتاب على الشاهدين اللذين يشهدان على الحاكم وهما حيان فيجب أن ينقل

كتابه كما لو لم يمت ولأن كتابه إن كان فيما حكم به فحكمه لا يبطل بموته وعزله وإن كان فيما ثبت عنده بشهادة فهو أصل واللذان شهدا عليه فرع ولا تبطل شهادة الفرع بموت شاهدي الأصل وما ذكروه

ص: 477

حجة عليهم لأن الحاكم قد اشهد على نفسه وإنما يشهد عند المكتوب اليه شاهدان عليه وهما حيان وهما شاهدا الفرع وليس موته مانعاً من شهادتهما فلا يمنع قبولها كموت شاهدي الأصل وإن تغيرت بفسق قبل الحكم بكتابه لم يحكم به لأن حكمه لا يصح فكذلك لا يجوز الحكم بكتابه ولأن بقاء عدالة شاهدي الأصل شرط في الحكم بشاهدي الفرع فكذلك بقاء عدالة الحاكم لأنه بمنزلة شاهدي الأصل وإن فسق بعد الحكم بكتابه لم يتغير كما لو حكم بشئ ثم بان فسقه فإنه لا ينقض ما مضى من أحكامه كذا ههنا وأما إن تغيرت حال المكتوب إليه بأي حال كان من موت أو عزل أو فسق فلمن وصل اليه الكتاب ممن قام مقامه قبول الكتاب والعمل به وبه قال الحسن حكي عنه أن قاضي الكوفة كتب إلى إياس ابن معاوية قاضي البصرة كتابا فوصل وقد عزل وولي ألحسن فعمل به وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يعمل به لأن كتاب القاضي بمنزلة الشهادة على الشهادة عند المكتوب اليه وإذا شهد شاهدان عند قاض لم يحكم بشهادتهما غيره.

ولنا أن المعول على شهادة الشاهدين بحكم الأصل أو ثبوت الشهادة عنده وقد شهدا عند الثاني فوجب أن يقبل كالأول وقولهم إنها شهادة عند الذي مات ليس بصحيح فإن الحاكم الكاتب ليس

ص: 478

بفرع وقد أديا الشهادة عند المحدود ولو ضاع الكتاب فشهدا بذلك عند الحاكم المكتوب اليه قبل فدل ذلك على أن الاعتبار بشهادتهما دون الكتاب، وقياس ما ذكرناه إن الشاهدين إذا حملا الكتاب إلى غير المكتوب اليه في حال حياته وشهدا عنده عمل به لما بيناه فإن كان المكتوب اليه خليفة المكاتب فمات الكالب أو عزل انعزل المكتوب اليه لأنه نائب عنه فينعزل بعزله وموته كوكلائه، وقال بعض أصحاب الشافعي لا ينعزل خليفته كما لا ينعزل القاض الأصلي بموت الإمام ولا عزله.

ولنا ما ذكرناه ويفارق الإمام فإن الإمام يعقد القضاء والإمارة للمسلمين فلم يبطل ما عقده لغيره كولاية النكاح فإذا مات الولي لم يبطل النكاح بخلاف نائب الحكم فإنه تنعقد ولايته لنفسه نائباً عنه فيملك عزله ولأن القاضي لو انعزل بموت الإمام لدخل الضرر على المسلمين لأنه يفضي إلى عزل القضاة في جميع بلاد الإسلام وتتعطل الأحكام، وإذا ثبت أنه ينعزل فليس له قبول الكتاب لانه حنيئذ ليس بقاض.

* (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (وإذا حكم عليه فقال اكتب لي إلى الحاكم الكاتب أنك حكمت علي حتى لا يحكم علي ثانياً لم يلزمه ذلك ولكنه يكتب له محضراً بالقضية

ص: 479

لأن المحكوم عليه إذا استوفى الحق منه فقال للحاكم اكتب لي محضراً بما جرى لئلا يلقاني خصمي في موضع آخر فيطالبني ثانياً ففيه وجهان.

(أحدهما) تلزمه اجابه ليتخلص من المحذور الذي يخافه (والثاني) لا تلزمه لأن الحاكم إنما يكتب بما ثبت عنده أو حكم به فأما استئناف ابتداء فيكفي فيه الأشهاد فيطالبه أن يشهد على نفسه بقبض الحق لأن الحق ثبت عليه بالبينة.

* (مسألة) * (وكل من ثبت له عند حاكم حق أو ثبتت براءته مثل أن أنكر وحلفه الحاكم أن يكتب له محضراً بما جرى ليثبت حقه أو براءته لزمته إجابته) أما إذا ثبت له حق بإقرار فسأله المقر له أن يشهد على نفسه شاهدين لزمه ذلك لأن الحاكم لا يحكم بعلمه فربما جحد المقر لا يمكنه الحكم عليه ولو قلنا يحكم بعلمه احتمل ان ينسى فإن الإنسان عرضة النسيان فلا يمكنه الحكم بإقراره وإن ثبت عليه حق بنكول المدعى عليه أو بيمين المدعي بعد النكول فسأله المدعي أن يشهد على نفسه لزمه ذلك لأنه لا حجة للمدعي سواء الاشهاد فأما إن ثبت عنده ببينة فلا يجب جعل بينة أخرى (والثاني) يجب لأن في الاشهاد فائدة جديدة وهي إثبات تعديل بينته وإلزام خصمه وإن حلف المنكر وسأل الحاكم الأشهاد على براءته لزمه ليكون حجة له

ص: 480

في سقوط المطالبة مرة أخرى وفي جميع ذلك إذا سأله أن يكتب له محضراً بما جرى ففيه وجهان (أحدهما) يلزمه ذلك لأنه وثيقة له فهو كالاشهاد لأن الشاهدين ربما نسيا الشهادة أو نسيا الخصمين فلا يذكرهما إلا رؤية خطهما (والثاني) لا يلزمه لأن الأشهاد يكفيه والأول أصح لأن الشهود تكثر عليهم الشهادات ويطول عليهم الأمد فالظاهر أنهما لا يتحققان الشهادة تحققاً يحصل به اداؤها فلا يفيد إلا بالكتاب.

* (مسألة) * (وإن سأل من ثبت محضره عند الحاكم أن يسجل به فعل ذلك وجعله نسختين نسخة يدفعها إليه ونسخة يحبسها عنده والورق من بيت المال فإن لم يكن فمن مال المكتوب له) .

ينبغي أن يجعل من بيت المال شئ برسم الكاغد الذي يكتب فيه المحاضر والسجلات لأنه من المصالح فإنه يحفظ به الوثائق ويذكر الحاكم حكمه والشاهد شهادته ويرجع بالدرك على من يرجع عليه فإن أعوز ذلك لم يلزم الحاكم ذلك ويقول لصاحب الحق إن شئت جئت بكاغد أكتب لك فيه فإنه حجة لك ولست أكرهك عليه فإن اختار أن يكتب له محضراً فصفته: بسم الله الرحمن الرحيم حضر القاضي فلان بن فلان قاضي عبد الله الإمام فلان على كذا وكذا وإن كان خليفة القاضي قال خليفة القاضي فلان بن فلان الفلاني قاضي الإمام بمجلس حكمه وقضائه بكذا فإن كان يعرف المدعي والمدعى عليه بأسمائهما وانسابهما قال فلان بن فن؟ الوللافلاني حضر معه فلان بن فلان الفلاني ويرفع في نسبهما

ص: 481

ويذكر حليتهما لأن الاعتماد عليها فربما استعار النسب فادعى عليه كذا وكذا فأقر له ولا يحتاج أن يقول بمجلس حكمه لأن الإقرار يصح في غير مجلس الحكم وإن كتب أنه يشهد على إقراره شاهدان كان آكد ويكتب الحاكم على رأس المحضر: الحمد لله رب العالمين أو ما أحب فأما أن أنكر المدعى عليه وشهدت عليه بينة قال: فادعى عليه كذا وكذا فأنكر فسأل الحاكم المدعي ألك بينة؟ فأحضرها وسأل الحاكم سماعها ففعل وسأله أن يكتب له محضراً بما جرى فأجابه اليه وذلك في وقت كذا ويحتاج ههنا أن يذكر مجلس حكمه وقضائه بخلاف الإقرار لأن البينة لا تسمع إلى في مجلس الحكم والإقرار بخلافه، ويكتب الحاكم في آخر المحضر شهدا عندي بذلك ويكتب علامته في رأس

المحضر وإن اقتصر على ذلك دون المحضر جاز لئلا يحلف ثانياً وكتب له مثل ما تقدم إلا أنه يقول فأنكر فسأل الحاكم المدعي ألك بينة؟ قال لا قال فلك يمينه وسأل إحلافه فاحلفه في مجلس حكمه وقضائه في وقت كذا وكذا ولابد من ذكر تحليفه لأن الاستحلاف لا يكون إلا بمجلس الحكم ويعلم في أوله خاصة ويعلم في الإقرار والأحلاف على رأس المحضر جرى الأمر على ذلك فإن نكل المدعى عليه عن اليمين قال فعرض اليمين على المدعي عليه فنكل عنها فسأل خصمه الحاكم أن يقضي عليه بالحق في وقت كذا وإن رد اليمين على المدعى فحلف وحكم له بذلك ذكره، ويعلم في آخره ويذكر أن ذلك في مجلس حكمه وقضائه وهذه صفة المحضر وأما السجل.

فهو لا نفاذ ما ثبت عنده والحكم به وصفته بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أشهد

ص: 482

عليه القاضي فلان بن فلان ويذكر ما تقدم في أول المحضر ومن حضره من الشهود أشهدهم أنه ثبت عنده بشهاة فلان وفلان وقد عرفهما بما رأى معه قبول شهادتهما بمحضر من خصمين ويذكرهما إن كانا معروفين وإلا قال مدع ومدعى عليه عليه جاز حضورهما وسماع الدعوى من أحدهما على الآخر معرفة فلان بن فلان ويذكر المشهود عليه وإقراره طوعاً في صحة منه وجواز أمر الجميع ما سمي ووصف به في كتاب نسخته وينسح الكتاب المثبت ألو المحضر جميعه حرفا بحرف فإذا فرغ منه قال وإن القاضي امضاه وحكم به على ما هو الواجب في مثله بعد أن سأله ذلك والأشهاد به الخصم المدعي ويذكر اسمه ونسبه ولم يدفعه الخصم الحاضر بحجة وجعل كل ذي حجة حجته على واشهد القاضي فلان على أنفاسه وحكمه من حضره من الشهود في مجلس حكمه في اليوم المؤرخ في أعلاه وأمر يكتب هذا السجل نسختين متساويتين تخلد نسخة منهما في ديوان الحكم والأخرى تدفع إلى من كتبها له ولك واحد منهما حجة وثيقة فيما أنفذه منهما وهذا يذكر ليخرج من الخلاف ولو

ص: 483

قال إنه ثبت عنده بشهادة فلان وفلان ما في كتاب نسخته كذا ولم يذكر الاعاء عليه جاز وساغ لجواز القضاء على الغائب وما يجتمع عنده من المحاضر والسجلات في كل أسبوع أو شهر بضم بعضها إلى بعض ويكتب عليه محاضر وقت كذا في سنة كذا.

* (فصل في صفة الكتاب لى القاضي) * بسم الله الرحمن الرحيم سبب هذه المكاتبة أطال الله بقاء من يصل إليه من قضاء المسلمين وحكامهم أنه ثبت عندي في مجلس حكمي وقضائي الذي أتولاه بمكان كذا وإن كان نائباً قال

ص: 484

الذي أنوب فيه عن القاضي فلان بمحضر من خصمين مدع ومدعى عليه جاز سماع الدعوى بينهما وقبول البينة من أحدهما على الآخر بشهادة فلان وفلان وهما من الشهود المعدلين عندي عرفتهما وقبلت شهادتهما بما رأيت معه قبولها معرفة فلان بن فلان الفلاني بعينه واسمه ونسبه فان كان في إثبات أسر أسير قال وإن الفرنج خذلهم الله اسروه من مكان كذا في وقت كذا وحملوه إلى مكان كذا وهو مقيم تحت حوطتهم أبادهم الله وإنه فقير من فقراء المسلمين ليس له شئ من الدنيا لا يقدر على فكاك نفسه ولا شئ منه وإنه مستحق للصدقة على ما يقتضيه كتاب المحضر المشار اليه المتصل أوله بآخر كتابي المؤرخ بكذا وإن كان في إثبات دين قال وأنه يستحق في ذمة فلان بن فلان الفلاني ويرفع

ص: 485

في نسبه ويصفه بما يتميز به من الدين كذا وكذا ديناً عليه حالاً وحقاً واجباً لازماً وإنه يستحق مطالبته واستيفاءه منه وإن كان في إثبات عين كتب: وأنه مالك لما في أيدي فلان من الشئ الفلاني ويصفه صفة يتميز بها، مستحق لأخذه وتسلمه على ما يقتضيه كتاب المحضر المتصل بآخر كتابي المؤرخ بتاريخ كذا وقال الشاهدان المذكوران أنهما بما شهدا به عالمان وله محققان وأنهما لا يعلمان خلاف ما شهدا به إلى حين أقاما الشهادة عندي فأمضيت ما ثبت عندي من ذلك وحكمت بموجبه بسؤال من جازت مسألته وسألني من جاز سؤاله وسوغت الشريعة المطهرة إجابته المكاتبة إلى القضاة والحكام فأجبته إلى ملتمسه لجوازه شرعاً وتقدمت بهذا فكتب وبالصاق المحضر المشار اليه فألصق فمن وقف عليه منهم وتأمل ما ذكرته وتصفح ما سطرته واعتمد في انفاذه والعمل بموجبه ما وجبه الشرع المطهر أحرز من الاجر أجز له وكتب في مجلس الحكم المحروس من مكان كذا في وقت كذا ولا يشترط أن يذكر القاضي اسمه في العنوان ولا ذكر المكتوب اليه في باطنه وبهذا قال

ص: 486

الشافعي وقال أبو حنيفة إذا لم يذكر اسمه فلا يقبله لأن الكتاب ليس اليه ولا يكفي ذكر اسمه في العنوان دون باطنه لأن ذلك لم يقع على وجه المخاطبة ولنا أن المعول فيه على شهادة الشاهدين على الحاكم الكاتب بالحكم ولا يقدح ولو ضاع الكتاب وامتحى سمعت شهادتهما وحكم بها

ص: 487

* (باب القسمة) * قسمة الأملاك جائزة والأصل في القسمة قول الله تعالى (ونيتهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر) وقوله تعالى (وإذا حضر القسمة أولوا القربى) الآية وقول النبي صلى الله عليه وسلم " الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة " وقسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر وكان يقسم الغنائم وأجمعت الأمة على جواز القسمة ولأن بالناس؟ حاجة إلى القسمة ليتمكن كل واحد من الشركاء من التصرف على إيثاره ويتخلص من سوء المشاركة وكثرة الأيدي * (مسألة) * (وهو نوعان قسمة تراض وهي ما فيها ضرر ورد عوض من أحدهما كالدور الصغار والحمام والعضائد المتلاصعة اللاتي لا يمكن قسمة كل عين منفردة والأرض التي في بعضها بئر أو بناء ونحوه لا يمكن قسمته بلاجزا والتعديل إذا رضوا بقسمتها أعياناً بالقيمة جاز لأن الحق لهم لا يخرج عنهم وقد رضوا بقسمته وهذا جارية مجرى البيع لا يجبر عليها الممتنع لا يجوز فيها إلا ما يجوز في البيع) وجملة ذلك أن الشريكين والشركاء في شئ ربعاً كان أو غيره والربع هو العقار من الدور ونحوها إذا طلبها من الحاكم أن يقسمه بينهما اجابهما إليه وإن لم يثبت عنده ملكهما وبهذا قال أبو

ص: 488

يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة ان كان عقاراً نسبوه إلى ميراث لم يقسمه حتى يثبت الموت والورثة لأن الميراث باق على حكم ملك الميت فلا يقسمه احتياطاً للميت وما عدا العقار يقسمه وإن كان ميراثاً لأنه يثوى ويهلك وقسمته تحفظه وكذلك العقار الذي لا ينسب إلى الميراث وظاهر قول الشافعي

أنه لا يقسم عقاراً كان أو غيره ما لم يثبت ملكهما لأن قسمه بقولهم لو دفع بعد ذلك إلى حاكم آخر سهل أن يجعله حكماً لهم ولعله أن يكون لغيرهم ولنا ان اليد تدل على الملك ولا منازع لهم فيثبت لهم من طريق الظاهر ولهذا يجوز لهم التصرف فيه ويجوز شراؤه منهم واتهابه واستئجاره وما ذكره الشافعي يندفع إذا ثبت في القصة إني قسمته بينهم بإقرارهم لا عن بينة شهدت لهم انه ملكهم وكل ذي حجة على حجته وما ذكره أبو حنيفة لا يصح لأن الظاهر تملكهم ولا حق للميت فيه إلا أن يكون عليه دين وما ظهر والأصل عدمه ولهذا اكتفينا به في غير العقار وفيما لم ينسبوه إلى الميراث * (مسألة) * (وهذه القسمة جارية مجرى البيع لما فيها من الرد وبهذا يصير بيعا) لأن صاحب الرد بذل المال عوضاً عما حصل له من حق شريكه وهذا هو البيع ولا يجبر عليها الممتنع منها لما روى مالك في موطئه عن عمر بن يحيى المازني عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال

ص: 489

" لا ضرر ولا ضرار " ولأنه لا يجير على بيع ملكه فلا يجبر على قسمته لأنها بيع ولا يجوز فيها إلا ما يجوز في البيع كذلك (فصل) وهل تلزم قسمة التراضي بالقرعة إذا قسمها الحاكم أو رضوا بقاسم يقسم بينهم؟ فيه وجهان (أحدهما) تلزم كقسمة الاجبار لأن القاسم كالحاكم وقرعته كحكمه (والثاني) لا تلزم الا في البيع والبيع لا يلزم الا بالتراضي لا بالقرعة وإنما القرعة فيه لتعريف البائع من المشتري، فأما أن تراضيا على أن يأخذ كل واحد منهما من السهمين بغير قرعة فإنه يجوز لأن الحق لهما لا يخرج عنهما وكذلك لو خير أحدهما صاحبه فأختار ويلزم ههنا بالتراضي والتفرق كما يلزم البيع.

* (مسألة) * (والضرر المانع من القسمة هو نقص القيمة بالقسم في ظاهر كلام أحمد ولا ينتفعان به مقسوما في ظاهر كلام الخرقي) اختلفت الرواية في الضرر المانع من القسمة ففي قول الخرقي هو ما لا يمكن أحدهما معه

الإنتفاع بنصيبه مفرداً فيما كان ينتفع به مع الشركة مثل أن تكون بينهما دار صغيرة إذا قسمت أصاب كل واحد منهما موضعاً ضيقاً لا ينتفع به ولو امكن أن ينتفع به في شئ غير الدار لم يجبر على القسمة أيضاً لأنه ضرر يجرى مجرى الإتلاف

ص: 490

(والرواية الأخرى) أن المانع من القسمة هو أن ينقص قيمة نصيب أحدهما بالقسمة عن حال الشركة سواء انتفعوا به مقسوماً أو لم ينتفعوا.

قال القاضي هذا ظاهر كلام أحمد لأنه قال في رواية الميموني إذا قال بعضهم يقسم وبعضهم لا يقسم فإن كان فيه نقصان من ثمنه بيع وأعطي الثمن فأعتبر نقصان الثمن وهذا الظاهر من كلام الشافعي لأن نقص قيمته ضرر والضرر منفي شرعاً وقال مالك يجبر الممتنع وإن استضر قياساً على ما لا ضرر فيه ولا يصح لقوله عليه السلام " لا ضرر ولا ضرار " من المسند ولأن في قسمته ضرراً فلم يجبر عليه كقسمة الجوهرة بكسرها ولأن في قسمته إضاعة المال وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال ولا يصح القياس على ما لا ضرر فيه لما بينهما من الفرق * (مسألة) * (وإن كان الضرر على أحدهما دون الآخر كرجلين لأحدهما الثلثان وللآخر الثلث ينتفع صاحب الثلثين بقسمها ويتضرر الآخر فطلب من لا يتضرر القسم لم يجبر الآخر عليه وإن طلبه الآخر أجبر الأول وقال القاضي إن طلبه الأول أجبر الآخر وإن طلبه المضرور لم يجبر الآخر) أما إذا طلب القسمة من لا يتضرر لم يجبر الآخر ذكره أبو الخطاب وهو ظاهر كلام أحمد في رواية حنبل قال كل قسمة فيها ضرر لا أرى قسمها وهذا قول ابن أبي ليلى وأبي ثور وقال القاضي يجبر

ص: 491

الآخر عليها وهو قول الشافعي وأهل العراق لأنه طلب إفراد نصيبه الذي لا يستضر بتميزه فوجبت اجابته إليه كما لو كانا لا يستضران بالقسمة ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار " ولأنها قسمة يضر بها صاحبه فلم يجبره عليها كما لو استضرا معاً ولأن فيه إضاعة المال وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعته وإذا حرم عليه إضاعة ماله فإضاعة مال غيره أولى وقد روى عمرو بن جميع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تعصبة على أهل الميراث

الا ما حصل القسم " قال أبو عبيدة هو أن يخلف شيئاً إذا قسم كان فيه ضرر على بعضهم أو على جميعهم ولأننا اتفقنا على أن الضرر مانع من القسمة وإن الضرر في حق أحدهما مانع ولا يجوز أن يكون المانع هو ضرر الطالب لأنه مرضي به من جهته فلا يجوز كونه مانعاً كما لو تراضيا عليها مع ضررهما أو ضرر أحدهما فتعين الضرر من المانع في جهة المطلوب ولأنه ضرر غير مرضي به من جهة صاحبه فمنع القسمة كما لو استضرا معاً، فأما إذا طلب القسمة المستضر بها كصاحب الثلث في المسألة المفروضة أجبر الآخر عليها هذا مذهب أبي حنيفة ومالك لأنه طلب دفع ضرر الشركة عنه بأمر لا ضرر على صاحبه فيه فأجبر عليه كما لا ضرر فيه يحققه إن ضرر الطالب مرضي به من جهته فسقط حكمه والآخر لا ضرر عليه فصارت كما لا ضرر فيه، وذكر أصحابنا أن المذهب أنه لا يجبر الممتنع عن القسمة لنهي

ص: 492

النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال ولأن طلب القسمة من المستضر سفه فلا تجب إجابته إلى السفه قال الشريف متى كان أحدهما يستضر لم تجب القسمة، وقال أبو حنيفة متى كان أحدهما ينتفع بها وجبت وإن استضر بها الغالب فعل وجهين وقال مالك تجب على كل حال (فصل) ولو كانت دار بين ثلاثة لأحدهم نصفها وللآخرين نصفها لكل واحد منهما ربعها فإذا قسمت استضر كل واحد منهما ولا يستضر صاحب النصف فطلب صاحب النصف القسمة وجبت إجابته لأنه يمكن قسمتها نصفين من غير ضرر فيصير حقهما لهما داراً وله النصف فلا يستضر واحد منهما ويحتمل ألا تجب عليهما الإجابة لأن كل واحد منهما يستضر بإفراد نصيبه وإن طلبا المقاسمة فامتنع صاحب النصف أجبر لأنه لا ضرر على واحد منهم، وإن طلبا إفراد نصيب كل واحد منهما أو طلب أحدهما أفراد نصيبه لم تجب القسمة على قياس المذهب لأنه إضرار بالطالب وسفه وعلى الوجه الذي ذكرناه تجب القسمة لأن المطلوب منه لا ضرر عليه * (مسألة) * (وإن كان بينهما عبيد أو بهائم أو ثياب ونحوها فطلب أحدهما قسمها أعياناً بالقيمة لم يجبر الآخر عليه وقال القاضي يجبر) أما إذا اتفقا على القسمة جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الغنائم يوم بدر ويوم خيبر ويوم حنين وهي

تشتمل على أجناس المال وسواء اتفقا على قسمة كل جنس بينهما أو اتفقا على قسمتها أعياناً بالقيمة وإن

ص: 493

طلب أحدهما قسمة كل نوع على حدته إن أمكن وإن طلب أحدهما القسمة وأبى الآخر وكان مما لا تمكن قسمته إلا بأخذ عوض من غير جنسه أو قطع ثوب في قطعه نقص أو كسر أناء أو رد عوض لم يجبر الممتنع وإن أمكن قسمة كل نوع على حدته من غير ضرر ولا رد عوض فقال القاضي يجبر الممتنع وهو ظاهر مذهب الشافعي وقال أبو الخطاب لا أعرف في هذا عن إمامنا رحمه الله رواية ويحتمل أن لا يجبر الممتنع عليه وهو قول بن خيران من أصحاب الشافعي لأن هذا إنما يقسم أعياناً بالقيمة فلم يجبر الممتنع عليه كما لا يجبر على قسمة الدور بأن يأخذ هذا دارا وهذا داراً كالجنسين المختلفين ووجه الأول أن الجنس الواحد كالدار الواحدة وليس اختلاف الجنس أو احد في القيمة بأكثر من اختلاف قيمة الدار الكبيرة والقرية العظيمة فإن أرض القرية تختلف لا سيما إذا كانت ذات أشجار مختلفة وأرض متنوعة والدار ذات بيوت واسعة وضيقة وحديثة وقديمة ثم هذا الاختلاف لا يمنع الإجبار على القسمة كذلك الجنس الواحد وفارق الدور فإنه أمكن قسمة كل دار على حدتها وههنا لا يمكن قسمة كل ثوب منها أثواباً على حدته فإن كانت الثياب أنواعاً كالحرير والقطن والكتان فهي كالأجناس فكذلك سائر المال والحيوان كغيره من الأموال ويقسم النوع الواحد

ص: 494

منه وبه قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة لا يقسم الرقيق قسم إجبار لأن منافعه تختلف ويقصد منه العقل والدين والفطنة وذلك لا يقع فيه التعديل ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم جزأ العبيد الذين أعتقهم الأنصاري في مرضه ثلاثة أجزاء ولأنه نوع حيوان يدخله التقويم فجازت قسمته كسائر الحيوان وما ذكروه غير صحيح لأن القيمة تجمع ذلك وتعدله كسائر الأشياء المختلفة * (مسألة) * (وإن كان بينهما حائط لم يجبر الممتنع من قسمته وإن استهدم لم يجبر على قسم عرصته وقال أصحابنا إن طلب قسمته طولاً بحيث يكون له نصف الطول في كمال العرض أجبر الممتنع

وإن طلب قسمه عرضاً وكانت تسع حائطين أجبر الا فلا) وجملة ذلك أن الشريكين إذا كان بينهما حائط لم يجبر الممتنع من قسمه لأن قسمه إفراد حق أحد الشريكين من حق الآخر على وجه يمكن كل واحد منهما الانتفاع بحقه مفرداً ولا يمكن ذلك في الحائط لأنه إن طلب قسمته طولاً في كمال العرض فقطع الحائط ففيه إتلاف فإن لم يقطعه أفضى إلى الضرر لأن في ذلك تحميل أحدهما ثقلاً على نصيب صاحبه وإن طلب قسمته عرضا في كمال الطول لم يجبر الممتنع لأن فيه إفسادا وفيه وجه آخر أنه يجبر لأنه لا ضرر في قسمته وان اسهدم لم يجبر على قسم عرصته وقال أصحابنا إن طلب قسمه عرضاً ليحصل لكل واحد منهما نصف الطول في كمال

ص: 495

العرض أجبر الممتنع لأنه لا ضرر ويحتمل أن لا يجبر لأنه يفضي إلى الا يبقى ملكه الذي يلي نصيب صاحبه بغير حائط وإن طلب قسمه عرضاً ليحصل لكل واحد نصف العرض في كمال الطول وكان يحصل لكل واحد منهما ما لا يمكن أن يبني فيه حائطاً لم يجبر الممتنع لأنه يتضرر بذلك وإن حصل له ما يمكن بناء حائط فيه أجبر الممتنع لأنه ملك مشترك يمكن كل واحد منهما الانتفاع به مقسوماً ويحتمل ألا يجبر لأنه لا تدخله القرعة خوفاً من أن يحصل لكل واحد منهما ما يلي ملك الآخر * (مسألة) * (وإن كان بينهما دار لها علو وسفل فطلب أحدهما قسمها لأحدهما العلو وللآخر السفل أو كان بينهما منافع لم يجبر الممتنع من قسمها وإن تراضيا على قسمها كذلك وعلى قسم المنافع بالمهايأة جاز) إذا كانت دار بين اثنين سفلها وعلوها فطلبا قسمها نظرت فإن طلب أحدهما قسمة السفل والعلو بينهما ولا ضرر في ذلك أجبر الآخر عليه لأن البناء في الأرض يجري مجرى الغرس يتبعها في البيع والشفعة ولو طلب قسمة أرض فيها غراس أجبر شريكه عليه كذلك البناء وإن طلب أحدهما جعل السفل لأحدهما والعلو للآخر ويقرع بينهما لم يجبر عليه الآخر لثلاثة معان (احدهما) أن العلو تبع السفل ولهذا إذا بيعا ثبتت الشفعة فيهما وإذا افرد العلو بالبيع لم تثبت الشفعة فيه وإذا كان تبعا له لم يجعل المتبوع بينهما والتبع بينهما فيصير التبع أصلاً (الثاني) إن السفل والعلو يجريان مجرى

ص: 496

الدارين المتلاصقتين لأن كل واحد منهما يسكن منفرداً ولو كان بينهما دارن لم يكن لأحدهما المطالبة يجعل كل دار نصيباً كذلك ههنا (الثالث) إن صاحب القرار يملك قرارها وهواءها فإذا جعل السفل نصيبا للفرد صاحبه بالهواء وليست هذه قسمة عادلة وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يقسم الحاكم فيجعل ذراعاً من السفل بذراعين من العلو وقال أبو يوسف ذراع بذراع.

وقال محمد يقسمها بالقيمة واحتجوا بأنها دار واحدة فإذا قسمها على ما يراه جاز كالتي لا علو لها ولنا ما ذكرناه من المعاني الثلاثة وفيها رد ما ذكروه وما يذكرونه من كيفية القسمة تحكم وبعضه يرد بعضاً، وإن طلب أحدهما قسمة العلو وحده أو السفل وحده لم يجب إليه لأن القسمة تراد للتمييز ومع بقاء الإشاعة لا يحصل التمييز، وإن طلب أحدهما قسمة العلو منفرداً والسفل منفرداً لم يجب إليه لأنه قد يحصل لكل واحد منهما علو سفل الآخر فيستضر كل واحد منهما ولا يتميز الحقان (فصل) وإن كان بينهما منافع فطلب أحدهما قسمها بالمهايأة لم يجبر الآخر لأن قسمة المنافع إنما تكون بقسمة الزمان والزمان إنما يقسم بأن يأخذ أحدهما قبل الآخر وهذا لا تسوية فيه فإن الآخر يتأخر حقه فلا يجبر على ذلك فأما أن تراضيا على قسمه العلو لاحدهما والسفل للآخر أو تراضيا على

ص: 497

قسمة المنافع بالمهايأة جاز لأن الحق لا يخرج عنهما فيجوز تراضيهما، وذكر ابن البناء في كتاب الخصال أن الشركاء إذا اختلفوا في منافع دار بينهما أن الحاكم يجبرهم على قسمها بالمهايأة أو يؤجرها عليهم * (مسألة) * (وإن كان بينهما أرض ذات زرع فطلب أحدهما قسمتها دون الزرع قسمت لأنه لا ضرر في قسمها ويجبر الممتنع) لأن الزرع في الأرض كالقماش في الدار فلم يمنع القسمة وسواء خرج الزرع أو كان بذراً لم يخرج فإذا قسماها بقي الزرع بينهما مشتركاً كما لو باعا الأرض لغيرهما، وإن طلب أحدهما قسمة الزرع منفرداً لم يجبر الآخر عليه لأن القسمة لا بد فيها من تعديل المقسوم وتعديل الزرع بالسهام لا يمكن لأنه يشترط بقاؤه في الأرض المشتركة * (مسألة) * (وإن طلب قسمتها مع الزرع لم يجبر الآخر)

هكذا ذكره في الكتاب المشروح وهو قول الشافعي، وذكر في كتابه المغني والكافي أنه يجبر إذا كان الزرع قد خرج لأن الزرع كالشجر في الأرض والقسمة إفراز حق وليست بيعاً وإن قلنا هي بيع لم يجز إذا اشتد الحب لأنه يتضمن بيع السنبل بعضه ببعض، ويحتمل الجواز لأن السنبل ههنا داخل تبعاً للأرض، وليس بمقصود فأشبه بيع النخلة المثمرة بمثلها، وقال الشافعي لا يجبر الممتنع من قسمها مع الزرع لأن الزرع مودع في الأرض للنقل عنها فلم تجب قسمته معها كالقماش فيها

ص: 498

ولنا أنه ثابت فيها للنماء والنفع فأشبه الغراس وفارق القماش فإنه غير متصل بالدار ولا ضرر في نقله * (مسألة) * (وإن تراضوا عليه والزرع قصيل أو قطن جاز) لأن الحق لهم لا يخرج عنهم، وإن كان بذراً أو سنابل قد اشتد حبها ففيه وجهان (أحدهما) لا يجوز في البذر لجهالته وكونه لا يمكن إفرازه وهذا مذهب الشافعي (والثاني) يجوز لأنه يدخل تبعاً للأرض فأشبه أساسات الحيطان وكذلك القول فيما اذا اشتد حبه فيه الوجهان (أحدهما) لا يجوز لافضائه إلى بيع السنبل بعضه ببعض (والثاني) يجوز لأنه يدخل تبعاً وقال القاضي يجوز في السنابل ولا يجوز في البذر لجهالته ووجه الجواز أنه يدخل تبعاً فلا يكون مانعاً من الصحة كما لو اشترى أرضاً فيها زرع واشترطه فإنه يملكه بالشرط، وإن كان بذراً مجهولاً * (مسألة) * (وإن كان بينهما نهر أو قناة أو عين ينبع ماؤها فالماء بينهما على ما اشترطا عند استخراج ذلك) لقول النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمنون على شروطهم) فإن اتفقا على قسمة بالمهايأة جاز لأن الحق لهما لا يخرج عنهما، ولأن المنافع ملكهما فجاز قسمها كالأعيان والمهاياة أن يكون في يد كل واحد منهما مدة معلومة على قدر حقه من ذلك)

ص: 499

* (مسألة) * (وإن أراد قسم ذلك بنصب خشبة أو حجر في مصدم الماء فيه ثقبان على قدر حق كل واحد منهما جاز ويسمى المرار) لأن ذلك طريق إلى التسوية بينهما فجاز كقسم الأرض بالتعديل، وإن أراد أحدهما أن يسقى

بنصيبه أرضاً ليس لها رسم شرب من هذا النهر جاز لأنه من نصيبه فجاز التصرف فيه كيف شاء كسائر ماله وكما لو لم يكن له شريك، ويحتمل أن لا يجوز لأنه إذا جعل لهذه الأرض حقاً في الشرب من هذا النهر المشترك فربما أفضى إلى أن يجعل لها حقاً في نصيب شريكه لأنه إذا طال الزمان يظن أن لهذه الأرض حقاً من السقي من النهر المشترك فيأخذ لذلك أكثر من حقه ويجئ على أصلنا أن الماء لا يملك وينتفع بها كل واحد منهما على قدر حاجته * (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (النوع الثاني قسمة الإجبار وهي ما لا ضرر فيها ولا رد عوض كالأرض الواسعة والقرى والبساتين والدور الكبار والدكاكين الواسعة والمكيلات والموزونات من جنس واحد سواء كان مما مسته النار كالدبس وخل التمر أو لم تمسه كخل العنب والألبان والأدهان فإذا طلب أحدهما قسمها وأبى الآخر أجبر عليه) أما المكيلات والموزونات من المطعومات وغيرها فيجوز قسمها لأن جواز قسم الأرض مع اختلافها يدل على جواز ما لا يختلف بطريق التنبيه وسواء في ذلك الحبوب والثمار والنورة والأشنان

ص: 500

والحديد والرصاص ونحوها من الجامدات والعصير والخل واللبن والعسل والسمن والدبس والزيت والرب ونحوها من المائعات وسواء قلنا أن القسمة بيع أو إفراز حق لأن بيعه جائز وإفرازه جائز فإن كان فيها أنواع كحنطة وشعير وتمر وزبيب فطلب أحدهما قسمها كل نوع على حدته أجبر الممتنع وإن طلب قسمها أعياناً لم يجبر الممتنع لأن هذا بيع نوع بنوع آخر، وليس بقسمة فلم يجبر عليه كغير الشريك فإن تراضيا عليه جاز وكان بيعاً يعتبر له التقابض قبل التفرق فيما يعتبر التقابض فيه، وسائر شروط البيع (فصل) إذا طلب أحد الشركاء القسمة وامتنع بعض الشركاء في الأرض والدور ونحوهما مما ذكرنا أجبر الممتنع على القسمة بثلاثة شروط (أحدها) أن يثبت عند الحاكم ملكهم ببينة لأن في الإجبار عليها حكما على الممتنع منها فلا يثبت إلا بما يثبت به الملك لخصمه بخلاف حالة الرضاء فإنه لا يحكم على أحدهما إنما يقسم بقولهما ورضاهما

(الشرط الثاني) ألا يكون فيها ضرر فإن كان فيها ضرر لم يجبر الممتنع لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار " رواه ابن ماجه، وفي لفظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى ألا ضرر ولا ضرار (الشرط الثالث) أن يمكن تعديل السهام من غير شئ يجعل معها فإن لم يكن ذلك لم يجبر الممتنع لأنها تصير بيعاً والبيع لا يجبر عليه أحد المتبايعين، ومثال ذلك ارض قيمتها مائة فيها شجرة

ص: 501

وبئر يساوي مائتين فإذا جعلت الأرض سهماً كانت الثلث فيحتاج أن يجعل معها خمسون يردها عليه من لم تخرج له البئر أو الشجرة ليكونا نصفين متساويين فهذه فيها بيع.

الا ترى أن آخذ الأرض قد باع نصيبه من الشجرة والبئر بالثمن الذي أخذه.

والبيع لا يجبر عليه لقول الله تعالى (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) فإذا اجتمعت الشروط الثلاثة أجبر الممتنع من القسمة عليها لأنها تتضمن إزالة ضرر الشركة عنهما وحصول النفع لهما لأن نصيب كل واحد منهما إذا تميز كان له أن يتصرف فيه بحسب اختياره ويتمكن من إحداث الغراس والبناء فيه والإجارة والعارية، ولا يمكنه ذلك مع الاشتراك فوجب أن لا يجبر الآخر عليه لقوله عليه السلام " لا ضرر ولا ضرار " وقد اختلف في الضرر المانع من القسمة وقد ذكرناه * (مسألة) * (وهذه القسمة إفراز حق (أحدهما) من الآخر وليست بيعاً) وهذا أحد قولي الشافعي وفي الآخر هي بيع وحكي ذلك عن أبي عبد الله بن بطة لأنه يبدل نصيبه من أحد السهمين بنصيب صاحبه من السهم الآخر وهذا حقيقة البيع ولنا أنها لا تفتقر إلى لفظ التمليك ولا يجب فيها شفعة ويلزم بإخراج القرعة ويتقدر أحد النصيبين بقدر الآخر والبيع لا يجوز فيه شئ من ذلك ولأنها تنفرد عن البيع باسمها وأحكامه فلم تكن بيعاً كسائر العقود وفائدة الخلاف أنها إذا لم تكن بيعاً جازت قسمة الثمار خرصا والمكيل وزنا

ص: 502

والموزون كيلا والتفرق قبل القبض فيما يشترط فيه القبض في البيع إذا حلف لا يبيع فقسم لم يحنث وإذا كان العقار أو بعضه وقفاً جازت قسمته وإن قلنا هي بيع انعكست هذه الأحكام، هذا إذا خلت

من الرد فإن كان فيها رد عوض فهي بيع لأن صاحب الرد يبدل المال عوضاً عما حصل له من مال شريكه وهذا هو البيع فإن فعلا ذلك في وقف لم يجز لأن بيعه غير جائز وإن كان بعضه طلقا وبعضه وقفا والرد من صاحب الطلق لم يجز لأنه يشتري بعض الوقف، وإن كان من أهل الوقف جاز لأنهم يشترون بعض الطلق وذلك جائز * (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (ويجوز للشركاء أن ينصبوا قاسماً يقسم بينهم وأن يسألوا الحاكم نصب قاسم فإن نصب الحاكم قاسماً فمن شرطه أن يكون عدلا عالماً بالحساب ليوصل إلى ذي حق حقه كما يلزم أن يكون الحاكم عالماً بالحكم ليحكم بالحق) وهذا قول الشافعي إلا أنه يشترط أن يكون حراً وإن نصبوا قاسماً بينهم فكان على صفة قاسم الحاكم في العدالة والمعرفة فهو كقاسم الحاكم في لزوم قسمته بالقرعة وإن كان كافراً أو فاسقاً أو جاهلاً بالقسمة لم تلزم قسمته إلا بتراضيهم بها ويكون وجوده فيما يرجع إلى لزوم القسمة كعدمه * (مسألة) * (فمتى عدلت السهام وأخرجت القرعة لزمت القسمة) لأنها كالحكم من الحاكم ويحتمل أن لا تلزم فيما فيه رد بخروج القرعة حتى يرضيا بذلك لأن

ص: 503

ما فيه رد بيع حقيقة لأن صاحب الرد يبدل عوضاً لما حصل له من حق شريكه وهذا هو البيع والبيع لا يلزم بالقرعة * (مسألة) * (وإذا كان في القسمة تقويم لم يجز أقل من قاسمين لأنها شهادة بالقيمة فلم يقبل فيها أقل من اثنين كسائر الشهادات وإن لم يكن فيها تقويم أجزأ قاسم واحد) لأن القاسم يجتهد في التقويم وهو يعمل باجتهاده؟ أشبه الحاكم ومتى اقتسما بأنفسهما واقترعا لم تلزم القسمة إلا بتراضيهما * (مسألة) * (وإذا سألوا الحاكم قسمة عقار لم يثبت عنده أنه لهم قسمه وذكر في كتاب القسمة أنه قسمة بمجرد دعواهم لا عن بينة شهدت لهم بملكهم) لأن اليد دليل الملك وقال الشافعي لا يقسمه حتى يثبت عنده ملكهم وفي ذلك اختلاف ذكرناه في أول باب القسمة ولا يجب عليه أن يقسم بينهم في هذه الحال بل يجوز له ذلك وقد ذكرناه

* (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (ويعدل القاسم السهام بالأجزاء إن كانت متساوية وبالقيمة إن كانت مختلفة وبالرد إن كانت تقتضيه) القسمة على ضربين قسمة إجبار وقسمة تراض وقسمة الإجبار ما أمكن التعديل فيها من غير رد

ص: 504

ولا تخلو من أربعة أقسام: (أحدهما) أن تكون السهام متساوية وقيمة الأجزاء متساوية (الثاني) أن تكون السهام متساوية وقيمة الأجزاء مختلفة (الثالث) أن تكون السهام مختلفة وقيمة الاجزاء مستاوية (الرابع) أن تكون السهام مختلفة والقيمة مختلفة فأما الأول فمثل أرض بين ستة لكل واحد منهم سدسها وقيمة أجزاء الأرض متساوية فهذه تعدلها بالمساحة ستة أجزاء متساوية لأنه يلزم من تعديلها بالمساحة تعديلها بالقيمة لتساوي أجزائها في القيمة ثم يقرع بينهم وكيفما أقرع بينهم جاز في ظاهر كلام أحمد فإنه قال في رواية أبي داود إن شاء رقاعاً وإن شاء خواتيم يطرح ذلك في حجر من لم يحضر ويكون لكل واحد خاتم معين ثم يقال أخرج خاتماً على هذا السهم فمن خرج خاتمه فهو له وعلى هذا لو أقرع بالحصى أو غيرها جاز واختار أصحابنا في القرعة أن يكتب رقاعاً متساوية بعدد السهام وهو ههنا مخير بين أن يخرج السهام على الأسماء أو يخرج الأسماء على السهام فإن أخرج الأسماء على السهام كتب في كل رقعة اسم واحد من الشركاء وتترك في بنادق شمع أو طين متساوية القدر والوزن وتترك في حجر رجل لم يحضر القسمة ويقال له اخرج بندقة على هذا السهم فإذا أخرجها كان ذلك السهم لمن خرج اسمه في البندقة ثم يخرج على سهم آخر كذلك حتى يبقى الأخير فيتعين لمن بقي وإن اختار إخراج السهام على الأسماء في الرقاع أسماء السهام فيكتب في رقعة الأول مما يلي جهة كذا وفي الآخر الثاني حتى يكتب الستة ثم يخرج القرعة على واحد بعينه فيكون له السهم الذي في الرقعة ويفعل ذلك حتى يبقى الأخير فيتعين لمن بقي وذكر

ص: 505

أبو بكر إن البنادق تجعل طيناً وتطرح في ماء ويعين واحداً فأي البنادق انحل الطين عنها وخرجت رقعتها على الماء فهي له وكذلك الثاني والثالث وما بعده فإن خرج اثنان معاً أعيد الإقراع والأول

أولى واسهل (القسم الثاني) أن تكون السهام متفقة والقيمة مختلفة فإن الأرض تعدل بالقيمة وتجعل ستة أسهم متساوية القيمة ويفعل في إخراج السهام مثل الذي قبله سواء لا فرق بينهما إلا أن التعديل ثم بالسهام وههنا بالقيمة (القسم الثالث) أن تكون القيمة متساوية والسهام مختلفة كأرض بين ثلاثة لأحدهم النصف وللآخر الثلث وللثالث السدس وأجزاؤها متساوية القيم فإنها تجعل سهاما بقدر أقلها وهو السدس فيجعل ستة أسهم ويعدل بالأجزاء ويكتب ثلاث رقاع باسمائهم وبخرج رقعة على السهم الأول فإن خرجت لصاحب السدس أخذه ثم يخرج أخرى على الثاني فإن خرجت لصاحب الثلث أخذ الثاني والثالث وكانت الثلاثة الباقية لصاحب النصف بغير قرعة وإن خرجت القرعة الثانية لصاحب النصف أخذ الثاني والثالث والرابع وكان الخامس والسادس لصاحب الثلث وإن خرجت القرعة الأولى لصاحب النصف أخذ الثلاثة الأول وتخرج الثانية على الرابع فإن خرجت لصحاب الثلث أخذه والذي يليه وكان السادس لصاحب السدس وإن خرجت الثانية لصاحالب السدس أخذه وأخذ الآخر الخامس والسادس وإن خرجت الأولى لصاحب الثلث أخذ الأول والثاني ثم تخرج الثانية على الثالث فإن خرجت لصاحب النصف أخذ الثالث والرابع والخامس وأخذ الآخر السادس فإن

ص: 506

خرجت الثانية لصاحب السدس أخذه وأخذ صاحب النصف ما بقي وقيل يكيب ست رقاع باسم صاحب النصف ثلاث وباسم صاحب الثلث اثنان وباسم صاحب السدس واحدة وهذا لا فائدة فيه فإن المقصود خروج اسم صاحب النصف وإذا كتب ثلاث رقاع حصل المقصود فاغنى ولا يصح إن كتب رقاعاً باسماء السهام ويخرجها على أسماء الملاك لأنه إذا أخرج واحدة فيها السهم الثاني لصاحب افيسدس ثم اخرج أخرى لصاحب النصف والثلث فيها السهم الأول احتاج أن يأخذ نصيبه متفرقا الستضر بذلك (القسم الرابع) إذا اختلفت السهام والقيمة فإن القاسم يعدل السهام بالقيمة ويجعلها ستة أسهم متساوية القيم ثم يخرج الرقاع فيها الأسماء على السهام كما ذكرنا في القسم الثالث سواء لا فضل بينهما إلا أن التعديل ههنا بالقيم وفي التي قبلها بالمساحة (فصل) إذا كان بينهما دار أو خان كبير فطلب أحدهما قسمة ذلك ولا ضرر في قسمته أجبر

الممتنع على القسمة وتفرد بعض المساكن عن بعض وإن كثرت المساكن وإن كان بينهما داران أو خانان أو أكثر فطلب أحدهما أن يجمع نصيبه في إحدى الدارين ويجعل الباقي نصيباً للآخر لم يجبر الممتنع وبهذا قال الشافعي وقال أبو يوسف ومحمد يجبر إذا رأى الحاكم ذلك فله فعله سواء تقاربتا أو تفرقتا لأنه انفع وأعدل وقال مالك وان كانت متجاورتين أجبر الممتنع من ذلك عليه لأن

ص: 507

المتجاورتين تتفاوت منفعتهما بخلاف المتباعدتين وقال أبو حنيفة ان كانت إحداهما احجزة الأخرى أجبر وإلا فلا لانهما يجريان مجرى الدار الواحدة ولنا أنه نقل حقه من عين إلى عين أخرى فلم يجبر عليه كالمتفرقتين عند مالك وكما لو لم تكن حجزتها عند ابي حنيفة وكما لو كانتا داراً أو دكاناً مع أبي يوسف ومحمد الحكم في الدكاكين كالحكم في الدور ولو كانت لهما عضائد صغار لا يمكن قسمة كل واحدة منهما منفردة لم يجبر الممتنع من قسمتها عليها (فصل) وإن كان أرض واحدة تمكن قسمتها ويؤخذ فيها الشروط التي ذكرناها أجبر الممتنع على قسمتها سواء كانت فارغة أو ذات شجر وبناء فإن كان فيها نخل وكرم وشجر مختلف وبناء فطلب أحدهما قسمة كل عين على حدتها وطلب الآخر قسمة الجميع بالتعديل بالقيمة فقال أبو الخطاب تقسم كل عين على حدتها وهو ظاهر كلام شيخنا في الكتاب المشروح وكذلك كل مقسوم إذا أمكنت التسوية بين الشريكين في جيده ورديئه كان أولى ونحو هذا قال أصحاب الشافعي فمنهم قالوا إذا أمكنت التسوية بين الشريكين في جيده ورديئه بأن يكون الجيد في مقدمها والردئ في مؤخرها فإذا قسمناها صار لكل واحد من الجيد والردئ مثل ما للآخر وجبت القسمة وأجبر الممتنع عليها وإن لم تمكن القسمة بأن تكون العمارة والشجر والجيد لا يمكن قسمته وحده وأمكن التعديل بالقيمة

ص: 508

عدلت بالقيمة وأجبر الممتنع من القسمة عليها وقال الشافعي في أحد القولين لا الممتنع من القسم عليها وقالوا إذا كانت الأرض ثلاثين جزءاً قيمة عشرة منها كقيمة عشرين لم تجبر الممتنع من القسمة عليها لتعذر التساوي في الذرع ولأنه لو كان حقلان متجاوران لم يجبر الممتنع من القسمة إلا بأن يجعل

كل واحد منهما سهما كذا ههنا.

ولنا أنه مكان واحد أمكنت قسمته وتعديله من غير ضرر ولا دعوض فوجبت قسمته كالدور ولأن ما ذكروه يفضي إلى منع وجوب القسمة في البساتين كلها والدور فإنه لا يمكن تساوي الشجر وبناء الدور ومساكنها إلا بالقيمة ولأنه مكان لو بيع بعضه وجبت فيه الشفعة لشريك البائع فوجبت قسمته كما لو أمكنت التسوية فأما إن كان بستانان لكل واحد منهما طريق أو حقلان أو داران أو دكانان متجاوران أو متباعدان فطلب أحد الشريكين قسمته بجعل كل واحد منهما سهما لم يجبر الآخر على هذا سواء كانا متساويين أو مختلفين وهذا ظاهر مذهب الشافعي لأنهما شيئان متميزان لو بيع أحدهما لم تجب الشفعة فيه لمالك الآخر بخلاف البستان الواحد والأرض الواحدة وإن عظمت فإنها إذا بيع بعضها وجبت الشفعة لمالك البعض الباقي والشفعة كالقسمة لأن كل واحد منهما يراد لازالة ضرر الشركة ونقصان التصرف فما لا تجب قسمته لا تجب الشفعة فيه فكذلك ما لا شفعة فيه لا تجب

ص: 509

قسمته وعكس هذا ما تجب قسمته يجب فيه الشفعة وما تجب الشفعة فيه تجب قسمته ولأنه لو بدأ الصلاح في بعض البستان كان صلاحاً لباقيه إن كان كثيراً ولم يكن صلاحا لما جاوزه وإن كان صغيراً.

(فصل) إذا كان بينهما ارض قيمتها مائة في أحد جانبيها بئر قيمتها مائة وفي الآخر شجرة قيمتها مائة عدلت بالقيمة وجعلت البئر مع نصف الأرض نصيباً والشجرة مع النصف نصيباً، فإن كانت بين ثلاثة أو أكثر نظرت في الأرض، فإن كانت قيمتها مائة أو أقل لم تجب القسمة لأنها إذا كانت أقل لم يمكن التعديل إلا بقسمة البئر أو الشجرة وذلك مما لا تجب قسمته وإن كانت قيمتها مائة فجعلناها سهماً والشجرة سهماً لم يحصل مع البئر والشجرة شئ من الأرض فتصير هذه كقسمة الشجر وحده وقسمة ذلك وحده ليست قسمة إجبار، وإن كانت الأرض كثيرة القيمة بحيث يأخذ بعض الشركاء سهامهم منها ويبقي منها شئ مع البئر والشجرة وجبت القسمة ومثاله أن تكون قيمة الأرض مائتين وخمسين فتجعل مائة وخمسين سهما ويصير إلى البئر ما قيمته خمسون وإلى الشجرة مثل ذلك فتصير ثلاثة سهام متساوية وفي كل سهم جزء من أجزاء الأرض فتجب القسمة حينئذ، وكذلك لو كانوا

أربعة وقيمة الأرض أربعمائة وجبت القسمة لأننا نجعل ثلثمائة منها سهمين ومائة مع البئر والشجرة سهمين فتعدلت السهام ولو كانت الأرض لاثنين فأرادا قسمة البئر والشجر دون الأرض لم تكن قسمة إجبار ولو قسماها بشجرها كانت قسمة إجبار لأن الشجر يدخل تبعاً للأرض فيصير الجميع كالشئ الواحد ولهذا تجب فيه الشفعة إذا بيع شئ من الأرض بشجرة وإذا قسم ذلك

ص: 510

دون الأرض صار أصلا في القسمة ليس بتابع لشئ واحد فيصير كأعيان مفردة من الدور والدكاكين المفرقة ولهذا لا تجب فيه الشفعة.

(فصل) وعلى الإمام أن يرزق القاسم من بيت المال لأن هذا من المصالح، وقد روي أن علياً رضي الله عنه اتخذ قاسماً وجعل له رزقا من بيت المال، فان لم يرزقه الإمام قال الحاكم للمتقاسمين ادفعا إلى قاسم أجرة ليقسم بينكما، فإن استأجره كل منهما بأجر معلوم ليقسم نصيبه جاز، وإن استأجروه جميعا أجارة واحدة ليقسم بينهم بأجر واحد معلوم لزم كل واحد منهم من الأجر بقدر نصيبه من المقسوم وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يكون عليهم على عدد رؤوسهم لأن عمله في نصيب أحدهما مثل عمله في نصيب الآخر، وسواء تساوت سهامهم أو اختلفت فكان الأجر بينهم سواء.

ولنا أن أجر القسمة يتعلق بالملك فكان بينهم على قدر الأملاك كنفقة العبد، وما ذكروه لا يصح لأن العمل في أكبر النصيبين أكثر الا ترى أن المقسم إذا كان مكيلا أو موزونا كان كيل الكثير أكثر عملا من كيل القليل وكذلك الوزن والذرع، وعلى أنه يبطل بالحافظ فإن حفظ القليل والكثير سواء ويختلف أجره باختلاف المال.

(فصل) وأجرة القسمة بينهما وإن كان أحدهما الطالب لها، وبهذا قال أبو يوسف ومحمد والشافعي وقال أبو حنيفة هي على الطالب للقسمة لأنها حق له ولنا أن الأجرة تجب بإفراز الأنصباء وهم سواء فيها فكانت الأجرة عليهما كما لو تراضوا عليها * (فصل) * قال الشيخ رحمه الله (إذا ادعى بعضهم غلطا فيما تقاسموه بأنفسهم وأشهدوا على

يراضيهم به لم يلتفت إليه، وإن كان فيما قسمه قاسم الحاكم فعلى المدعي البينة وإلا فالقول قول المنكر

ص: 511

مع يمينه وإن كان فيما قسمه حاكمهم الذي نصبوه وكان فيما اعتبرنا فيه الرضى بعد القرعة لم تسمع دعواه وإلا فهو كقاسم الحاكم.

وجملة ذلك أنه إذا ادعى بعض المتقاسمين غلطاً في القسمة وأنه أعطي دون حقه وكانت قسمة تلزم بالقرعة من غير تراض منهم فالقول قول المدعى عليه مع يمينه ولا يقبل قول المدعي إلا ببينة، فإن أقام شاهدين عدليل نقضت القسمة وأعيدت، وإن لم تقم بينة عادلة وطلب يمين شريكه أنه لا فضل معه أحلف له، وإنما قدمنا قول المدعى عليه لأن الظاهر صحة القسمة وأداء الأمانة فيها، وإن كان مما لا يلزم الا بالتراضي كالذي قسماها بأنفسهما ونحوه لم تسمع دعوى ادعاء الغلط وهو الذي ذكره الأصحاب وهو مذهب الشافعي لأنه قد رضي بذلك ورضاؤه بالزيادة في نصيب شريكه يلزمه، قال شيخنا والصحيح عندي أن هذه كالتي قبلها وأنه متى أقام البينة بالغلط نقضت القسمة لأن ما ادعاه محتمل ثبت ببينة عادلة فأشبه ما لو أشهد على نفسه بقبض الثمن أو المسلم فيه ثم ادعى غلطا في كيله، وقولهم أن حقه في الزيادة سقط برضائه ممنوع فإنه إنما يسقط إذا علمه، أما إذا ظن أعطي حقه فرضي بناء على هذا ثم بان له الغلط فلا يسقط به حق كالثمن والمسلم فيه فإنه لو قبض المسلم فيه بناء على أنه عشرة أقفزة راضيا بذلك ثم تعين له ثمانية وادعى المسلم اليه أنه غلط فأعطاه اثني عشر وثبت ذلك ببينة لم يسقط حق واحد منهما بالرضا به ولا يمتنع سماع دعواه وبينته ولأن المدعى عليه في مسئلتنا لو فرط بالغلط لنقضت القسمة ولو سقط حق المدعي بالرضا لما نقضت القسمة باقراره كما لو وهبه الزائد وقد ذكر أصحابنا وغيرهم فيمن باع داراً على أنها عشرة أذرع فبانت تسعة أو أحد عشر أن البيع باطل في أحد الوجهين، وفي الآخر تكون الزيادة للبائع والنقص عليه والبيع إنما يلزم بالتراضي فلو كان التراضي يسقط حقه من الزيادة لسقط حق البائع من الزيادة وحق المشتري من النقص، ولأن من رضي بشئ بناء على ظن تبين خلافه لم يسقط به حقه كما لو اقتسما شيئاً وتراضيا به ثم بان نصيب أحدهما مستحقاً

ص: 512

فإن قيل فلم لم يعط المظلوم حقه في هاتين المسئلتين ولا تنقض القسمة كما لو تبين الغلط في الثمن أو المسلم؟ قلنا لأن الغلط ههنا في نفس القسمة بتفويت شرط من شروطها وهو تعديل السهام فتبطل لفوات شرطها وفي المسلم والثمن الغلط في القبض دون العقد فإن العقد قديم بشروطه فلا يؤثر الغلط في قبض عوضه في صحته بخلاف مسئلتنا.

* (مسألة) * (وإن تقاسموا ثم استحق من حصة أحدهم شئ معين بطلت القسمة وإن كان شائعاً فيهما فعلى وجهين) إذا اقتسم الشريكان شيئاً فبان بعضه مستحقاً وكان معيناً في نصيب أحدهما بطلت القسمة، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا تبطل بل يخير من ظهر المستحق في نصيبه بين الفسخ والرجوع بما بقي من حقه كما لو وجد عيبا فيما أخذه ولنا أنها قسمة لم تعدل فيها السهام فكانت باطلة كما لو فعلا ذلك مع علمهما بالحال، وأما إذا بان عيب نصيب أحدهما فيحتمل أن تمنع المسألة ونقول بطلان القسمة لعدم التعديل بالقيمة ويحتمل ان أن يفرق بينهما فإن العيب لا يمكن التحرز منه فلم يؤثر في البطلان كالبيع وإن كان المستحق في نصيبهما على السواء لم تبطل القسمة لأن ما يبقى لكل واحد منهما بعد المستحق قدر حقه ولأن القسمة إفراز حق أحدهما من الآخر وقد أفرز كل واحد منهما حقه إلا أن يكون ضرر المستحق في نصيب أحدهما أكثر مثل ان يسد طريقه أو مجرى مائه أو ضوئه ونحو هذا فتبطل القسمة لأن هذا

ص: 513