الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد الثالث
الفصل الرابع والعشرون في ذكر الطواغيت الأربع التي هدم بها أصحاب التأويل الباطل معاقل الدين وانتهكوا بها حرمة القرآن ومحوا بها رسوم الإيمان (تابع)
الطاغوت الثاني: إذا تعارض العقل ونصوص الوحي أخذنا بالعقل ولم نلتفت إلى الوحي
…
فصل
فهذا الطاغوت الأول وهو قولهم إن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين فإن قيل فقد دل القرآن على أن فيه محكما ومتشابها ومعلوم أن المتشابه هو الذي يشبه المراد به بغيره وهو آيات الصفات فلو أفادت اليقين لم تكن متشابهة.
قيل هذا السؤال مبني على ثلاث مقدمات
أحدها: أن القرآن متضمن للمتشابه
الثانية: أن المتشابه هو آيات الصفات
الثالثة: أن المتشابه لا يمكن حصول العلم واليقين بمعناه.
وسنفرد الكلام على هذا بفصل مستقل بعد كسر الطواغيت الأربعة التي نصبوها لهدم معاقل الدين ونبين معنى المحكم بمعناه ونبين أن آيات الصفات محكمة فإنها من أبين الكتاب إحكاما وإن ما تضمنته من الإحكام أعظم مما تضمنه ما عداها بعون الله وتوفيقه.
فصل
في الطاغوت الثاني: وهو قولهم إن تعارض العقل والنقل وجب تقديم العقل لأنه لا يمكن الجمع بينهما ولا إبطالهما ولا تقديم النقل لأن العقل أصل النقل فلو قدمنا عليه النقل لبطل العقل وهو أصل النقل فلزم بطلان النقل فيلزم من تقديم النقل بطلان العقل والنقل فتعين القسم الرابع وهو تقديم العقل فهذا الطاغوت آخو ذلك القانون فهو مبني على ثلاث مقدمات
الأولى: ثبوت التعارض بين العقل والنقل
الثانية: انحصار التقسيم في الأقسام الأربعة التي ذكرت فيه.
الثالثة: بطلان الأقسام الثلاثة ليتعين ثبوت الرابع.
وقد أشفى شيخ الإسلام في هذا الباب بما لا مزيد عليه وبين بطلان هذه الشبهة وكسر هذا الطاغوت في
كتابه الكبير ونحن نشير إلى كلمات يسيرة هي قطرة من بحره يتضمن كسره ودحضه وذلك يظهر من وجوه
الوجه الأول: إن هذا التقسيم باطل من أصله والتقسيم الصحيح أن يقال إذا تعارض دليلان سمعيان أو عقليان أو سمعي وعقلي فإما أن يكونا قطعيين وإما أن يكونا ظنيين وإما أن يكون أحدهما قطعيا والآخر ظنيا.
فأما القطعيان فلا يمكن تعارضهما في الأقسام الثلاثة لأن الدليل القطعي هو الذي يستلزم مدلوله قطعا فلو تعارضا لزم الجمع بين النقيضين وهذا لا يشك فيه أحد من العقلاء.
وإن كان أحدهما قطعيا والآخر ظنيا تعين تقديم القطعي سواء كان جمعيا ظنين صرنا إلى الترجيح ووجب تقديم الراجح منهما سمعيا كان أو عقليا.
فهذا تقسيم واضح متفق على مضمونه بين العقلاء.
فأما إثبات التعارض بين الدليل العقلي والسمعي والجزم بتقديم العقلي مطلقا فخطأ واضح معلوم الفساد عند العقلاء. الوجه الثاني: إن قوله إذا تعارض العقل والنقل فإما أن يريد به القطعيين فلا نسلم إمكان التعارض وإما أن يريد به الظنيين فالتقديم للراجح مطلقا وإما أن يريد ما يكون أحدهما قطعيا والآخر ظنيا فالقطعي هو المقدم مطلقا فإذا قدر أن العقلي هو القطعي كان تقديمه لأنه قطعي لا لأنه عقلي فعلم أن تقديم العقلي مطلقا خطأ وأن جعل جهة الترجيح كونه عقليا خطأ وأن جعل سبب التأخير والاطراح كونه نقليا خطأ.
الوجه الثالث: إنا لا نسلم انحصار القسمة فيما ذكره من الأقسام الأربعة إذ من الممكن أن يقال تقدم العقلي تارة والسمعي تارة فأيهما كان قطعيا قدم فدعواه أنه لا بد من تقديم العقل مطلقا أو السمع مطلقا أو اعتبار الدليلين معا أو إلغائهما معا دعوى كاذبة بل ههنا قسم غير هذه الأقسام وهو الحق وهو ما ذكرناه.
الوجه الرابع: قوله: إن قدمنا النقل لزم الطعن فحاصله ممنوع فإن قوله العقل أصل النقل إما أن يريد به أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر أو أصل في علمنا بصحته فالأول لا يقوله عاقل فإن ما هو ثابت في نفس الأمر ليس موقوفا على علمنا به فعدم علمنا بالحقائق لا ينفي ثبوتها في نفس الأمر.
فما أخبر به الصادق المصدوق هو ثابت في نفسه سواء علمناه بعقولنا أو لم نعلمه وسواء صدقه الناس أو لم يصدقوه كما أن رسول الله حق وإن كذبه من كذبه كما أن وجود الرب تعالى وثبوت أسمائه وصفاته حق سواء علمناه بعقولنا أو لم نعلمه.
فلا يتوقف ذلك على وجودنا فضلا عن علومنا وعقولنا فالشرع المنزل من عند الله مستغن في نفسه عن علمنا وعقلنا ولكن نحن محتاجون إليه وإلى أن نعلمه بعقولنا فإذا علم العقل ذلك حصل له كمال لم يكن قبل ذلك وإذا فقده كان ناقصا جاهلا.
وأما إن أراد أن العقل أصل في معرفتنا بالسمع ودليل على صحته وهذا هو مراده.
فيقال له أتعني بالعقل هنا القوة والغريزة التي فينا أم العلوم المستفادة بتلك الغريزة؟
فالأول: لم ترده وتمتنع إرادته بأن تلك الغريزة ليست علما يمكن معارضته للنقل وإن كانت شرطا في كل علم عقلي أو سمعي وما كان شرطا في الشيء امتنع أن يكون منافيا له.
وإن أردت العلم والمعرفة الحاصل بالعقل.
قيل لك ليس كل ما يعرف بالعقل يكون أصلا للسمع ودليلا على صحته فإن المعارف العقلية أكثر من أن تحصر والعلم بصحة السمع غايته أن يتوقف على ما به يعلم صدق الرسول من العقليات وليس كل العلوم العقلية يعلم بها صدق الرسول بل ذلك يعلم بالآيات والبراهين الدالة على صدقه.
فعلم أن جميع المعقولات ليس أصلا للنقل لا بمعنى توقف العلم بالسمع عليها ولا بمعنى توقف ثبوته في نفس الأمر عليها لا سيما وأكثر متكلمي أهل الإثبات كالأشعري في أحد قوليه وأكثر أصحابه يقولون إن
العلم بصدق الرسول عند ظهور المعجزات الحادثة التي تجري مجرى تصديق الرسول بالقول علم ضروري فحينئذ فما يتوقف عليه العلم بصدق الرسول من العلم العقلي سهل يسير مع أن العلم بصدقه له طرق كثيرة متنوعة.
وحينئذ فإذا كان المعارض للسمع من المعقولات مالا يتوقف العلم بصحة السمع عليه لم يكن القدح فيه قدحا في أصل السمع وهذا بحمد الله بين واضح وليس القدح في بعض العقليات قدحا في جميعها كما أنه ليس القدح في بعض السمعيات قدحا في جميعها فلا يلزم من صحة المعقولات التي يبنى عليها معرفتنا بالسمع صحة غيرها من المعقولات ولا من فساد هذه فساد تلك فلا يلزم من تقديم السمع على ما يقال إنه معقول في الجملة القدح في أصله
الوجه الخامس: أن يقال العقل إما أن يكون عالما يصدق الرسول وثبوت ما أخبر به في نفس الأمر وإما أن لا يكون عالما بذلك وإن لم يكن عالما امتنع التعارض عنه لأن المعقول إن كان معلوما له لم يتعارض معلوم ومجهول وإن لم يكن معلوما لم يتعارض مجهولان وإن كان عالما بصدق الرسول امتنع أن لا يعلم ثبوت ما أخبر به في نفس الأمر إذا علم أنه أخبر به وهو عالم بصدقه لزم ضرورة أن يكون عالما بثبوت مخبره وإن كان كذلك استحال أن يقع عنده دليل يعارض ما أخبر به ويكون ذلك المعارض واجب التقديم.
إذ مضمون ذلك أن يقال لا تعتقد ثبوت ما علمت أنه أخبر به لأن هذا الاعتقاد ينافي ما علمت به أن المخبر صادق وحقيقة ذلك لا تصدقه في هذا الخبر لأن تصديقه يستلزم عدم تصديقه فيقول وعدم تصديقي له فيه هو عين اللازم المحذور.
فإذا قيل لي لا تصدقه لئلا يلزم عدم تصديقه كان كما لو قيل كذبه لئلا يلزم تكذيبه فهكذا حال من أمر الناس أن لا يصدقوا الرسول فيما علموا أنه أخبر به بعد علمهم أنه رسول لئلا يفضي تصديقهم إلى عدم تصديقه يوضحه
الوجه السادس: وهو أن المنهي عنه من قبول هذا الخبر وتصديقه فيه هو عين المحذور فيكون واقعا في المنهي عنه سواء أطاع أو عصى ويكون تاركا للمأمور به سواء أطاع أو عصى ويكون وقوعه في المخوف المحذور على تقدير الطاعة أعجل وأسبق منه على تقدير المعصية والمنهي عنه على هذا التقدير هو التصديق والمأمور به هو التكذيب وحينئذ فلا يجوز النهي عنه سواء كان محذورا أو لم يكن فإن لم يكن محذورا لم يجز أن ينهى عنه وإن كان محذورا فلا بد منه على التقديرين فلا فائدة في النهي عنه.
الوجه السابع: إنه إذا قيل له لا تصدقه في هذا كان أمرا له بما يناقض ما علم به صدقه وكان أمرا له بما يوجب ألا يثق بشيء من خبره فإنه متى جوز كذبه أو غلطه في خبر جوز ذلك في غيره ولهذا آل الأمر بمن سلك هذه الطريق إلى أنهم لا يستفيدون من جهة الرسول شيئا من الأمور الخبرية المتعلقة بصفات الله سبحانه وأفعاله بل وباليوم الآخر عند بعضهم لاعتقادهم أن هذه الأخبار على ثلاثة أنواع:
نوع يجب رده وتكذيبه ونوع يجب تأويله وإخراجه عن حقيقته ونوع يقر.
وليس لهم في ذلك أصل يرجعون إليه بل هذا يقول ما أثبته عقلك فأثبته وما نفاه عقلك فانفه وهذا يقول ما أثبته كشفك فأثبته وما لا فلا.
ووجود الرسول عندهم كعدمه في المطالب الإلهية ومعرفة الربوبية بل على قولهم وأصولهم وجوده أضر من عدمه لأنهم لم يستفيدوا من جهته علما بهذا الشأن واحتاجوا إلى دفع ما جاء به إما بتكذيب وإما بتأويل وإما بإعراض وتفويض.
فإن قيل لا يمكن أن يعلم أنه أخبر بما ينافي العقل فإنه منزه عن ذلك وهو ممتنع عليه.
قيل هذا إقرار باستحالة معارضة العقل للسمع واستحالة المسألة وعلم أن جميع أخباره لا يناقض العقل فيها شيء.
فغدا النقل سالما من مناف
…
واسترحنا من الصداع جميعا
فإن قيل بل المعارضة ثابتة بين العقل وبين ما يفهم بظاهر اللفظ وليست ثابتة بين العقل وبين نفس ما أخبر به الرسول فالمعارضة ثابتة بين العقل وبين ما يظهر أنه دليل
وليس بدليل وأن يكون دليلا ظنيا لتطرق الظن إلى بعض مقدماته إسنادا أو متنا.
قيل وهذا يرفع صورة المسألة ويحيلها بالكلية وتصير صورتها هكذا إذا تعارض الدليل العقلي وما ليس بدليل صحيح وجب تقديم العقلي.
وهذا كلام لا فائدة فيه ولا حاصل له وكل عاقل يعلم أن الدليل لا يترك لما ليس بدليل ثم يقال إذا فسرتم الدليل السمعي بما ليس بدليل في نفس الأمر بل اعتقاد دلالته جهل أو بما يظن أنه دليل وليس بدليل فإن كان السمعي في نفس الأمر كذلك لكونه خبرا مكذوبا أو صحيحا وليس فيه ما يدل على معارضة القول بوجه وأثبتم التعارض والتقديم بين هذين النوعين فساعدناكم عليه وكنا بذلك منكم فإنا أشد نفيا للأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشد إبطالا لما تحمله من المعاني الباطلة وأولى بذلك منكم.
وإن كان الدليل السمعي صحيحا في نفسه ظاهر الدلالة بنفسه على المراد لم يكن ما عارضه من العقليات إلا خيالات فاسدة ومقدمات كاذبة إذا تأملها العاقل حق التأمل ومشى إلى آخرها وجدها مخالفة لصريح المعقول وهذا ثابت في كل دليل عقلي خالف دليلا سمعيا صحيح
الدلالة وحينئذ فإذا عارض هذا المسمى دليلا عقليا السمع وجب إطراحه لفساده وبطلانه.
ولبيان العلم ببطلانه طريقان كلي وجزئي.
أما الكلي فنقطع بأن كل دليل عقلي خالف السمعي الصريح الصحيح فهو باطل في نفسه مخالف للعقل قبل أن ينظر في مقدماته.
أما الجزئي فإنك إذا تأملت جميع ما يدعوك به معارض السمع وجدته ينتهي إلى مقدمات باطلة بصريح العقل لكن تلقاها معود عن معود فظنوها عقليات وهي في التحقيق جهل مركب وحينئذ فالواجب تقديم الدليل السمعي للعلم بصحته وما عارضه فإما معلوم البطلان وإما غير معلوم الصحة وذلك أحسن أحواله.
الوجه الثامن: إنه إذا اعتقد في الدليل السمعي أنه ليس بدليل في نفس الأمر بل اعتقاد دلالته على مخالف ما زعمتوه من العقل جهل أمكن اتباع الرسل المصدقين بما جاءوا به أن يعتقدوا في أدلتكم العقلية أنها ليست بأدلة في نفس الأمر وأن اعتقاد دلالتها جهل ويرمون أدلتكم بما رميتم به
الأدلة السمعية ثم الترجيح من جانبهم من وجوه متعددة وكانوا في هذا الرمي أحسن حالا منكم وأعذر.
فإن معهم من البراهين الدالة على صحة ما أخبر به السمع إجمالا وتفصيلا من المعقول أصح مما معكم ولا تذكرون معقولا يعارض ما ورد به الوحي إلا ومعهم معقول أصح منه يصدقه ويؤيده
الوجه التاسع: أن يقال لو قدر تعارض الشرع والعقل لوجب تقديم الشرع لأن العقل قد صدق الشرع ومن ضرورة تصديقه له قبول خبره والشرع لم يصدق العقل في كل ما أخبر به ولا العلم بصدق الشرع موقوف على كل ما يخبر به العقل ومعلوم أن هذا المسلك إذا سلك أصح من مسلكهم كما قال بعض أهل الإيمان يكفيك من العقل أن يعرفك صدق الرسول ومعاني كلامه ثم يخلي بينك وبينه.
وقال آخر العقل سلطان ولى الرسول ثم عزل نفسه ولأن العقل دل على أن الرسول يجب تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر ولأن العقل يدل على صدق الرسول دلالة عامة مطلقة ولا يدل على صدق قضايا نفسه دلالة عامة ولأن العقل يغلط كما يغلط الحس وأكثر من غلطه بكثير فإذا كان حكم الحس من أقوى الأحكام ويعرض فيه من الغلط ما يعرض فما الظن بالعقل؟
الوجه العاشر: إن العقل مع الوحي كالعامي المقلد مع المفتي العالم بل ودون ذلك بمراتب كثيرة لا تحصى فإن المقلد يمكنه أن يصير عالما ولا يمكن للعالم أن يصير نبيا رسولا فإذا عرف المقلد عالما فدل عليه مقلدا آخر ثم اختلف المفتي والدال فإن المستفتي يجب عليه قبول قول المفتي دون المقلد الذي دله وعرفه بالمفتي.
فلوا قال له الدال الصواب معي دون المفتي لأني أنا الأصل في علمك بأنه مفت فإذا قدمت قوله على قولي قدحت في الأصل الذي به عرفت أنه مفت فلزم القدح في فرعه فيقول له المستفتي أنت لما شهدت بأنه مفت ودللت على ذلك شهدت بوجوب تقليده دون تقليدك كما شهد به دليلك وموافقتي لك في هذا العلم المعين لا تستلزم موافقتك في كل مسألة وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت وأنت إذا علمت أنه مفت باجتهاد واستدلال ثم خالفته باجتهاد واستدلال كنت مخطئا الاجتهاد
والاستدلال الذي خالفت به من يجب عليك تقليده واتباع قوله وإن أصبت في الاجتهاد والاستدلال الذي به علمت أنه مفت مجتهد يجب عليك تقليده هذا مع علمه بأن المفتي يجوز عليه الخطأ والعقل يعلم أن الرسول معصوم في خبره عن الله ولا يجوز عليه الخطأ.
الوجه الحادي عشر: إن الدليل الدال على صحة الشيء أو ثبوته أو عدالته أو قبول قوله لا يجب أن يكون أصلا له بحيث إذا قدم قول المشهود له والمدلول عليه على قوله يلزم إبطاله وهذا لا يقوله من يدري ما يقول غاية ما يقال إن العلم بالدليل أصل للعلم بالمدلول فإذا حصل العلم بالمدلول لم يلزم من ذلك تقديم الدليل عليه في كل شيء فإذا شهد الناس لرجل بأنه خبير بالطب أو التقويم أو العيافة دونهم ثم تنازع الشهود والمشهود له في ذلك وجب تقديم قول المشهود له فلو قال نحن شهدنا لكم وزكيناكم وبشهادتنا ثبتت أهليتكم فتقديم قولكم علينا والرجوع إليكم دوننا يقدح في الأصل الذي ثبت به قولكم.
قالوا لهم أنتم شهدتم بما علمتم أنا أهل لذلك دونكم وأن أقوالنا فيه مقبولة دون أقوالكم فلو قدمنا
قولكم على أقوالنا فيما اختلفنا فيه لكان ذلك قدحا في شهادتكم وعلمكم بأنا أعلم منكم وحينئذ فهذا
وجه ثاني عشر: مستقل بكسر هذا الطاغوت وهو أن تقديم العقل على الشرع يتضمن القدح في العقل والشرع لأن العقل قد شهد للوحي بأنه أعلم منه وأنه لا نسبة له إليه وأن نسبة علومه ومعارفه إلى الوحي أقل من خردلة بالإضافة إلى جبل أو تلك التي تعلق بالأصبع بالنسبة إلى البحر فلو قدم حكم العقل عليه لكان ذلك قدحا في شهادته وإذا بطلت شهادته بطل قبول قوله فتقديم العقل على الوحي يتضمن القدح فيه وفي الشرع وهذا ظاهر لا خفاء به يوضحه
الوجه الثالث عشر: وهو أن الشرع مأخوذ عن الله بواسطة الرسولين الملكي والبشري بينه وبين عباده مؤيدا بشهادة الآيات وظهور البراهين على ما يوجبه العقل ويقتضيه تارة ويستحسنه تارة ويجوزه تارة ويكع عن دركه تارة ولا سبيل له إلى
الإحاطة به ولا بد له من التسليم والانقياد لحكمه والإذعان والقبول وهناك يسقط لم ويبطل كيف ويزول هلا ويذهب لو وليت في الريح لأن هذه المواد عن الوحي محبوسة واعتراض المعترض عليه مردود واقتراح المقترح ما يظن أنه أولى منه سفه وجهل فالشريعة مشتملة على أعلى أنواع الحكمة علما وعملا التي لو جمعت حكم جميع الأمم ونسبت إليها لم يكنى لها إليها نسبة وهي متضمنة لأعلى المطالب بأقرب الطرق وأتم البيان فهي متكفلة بتعريف الخليقة ربها وفاطرها المحسن إليها بأنواع الإحسان بأسمائه وصفاته وأفعاله وتعريف الطريق الموصل إلى رضاه وكرامته والداعي لديه وتعريف حال السالكين بعد الوصول إليه ويقابل هذه الثلاثة تعريفهم حال الداعي إلى الباطل والطرق الموصلة إليه وحال السالكين تلك الطرق وإلى أين تنتهي بهم ولهذا تقبلها العقول الكاملة أحسن تقبل وقابلتها بالتسليم والإذعان واستدارت حولها بحماية حوزتها والذب عن سلطانها.
فبين ناصر باللغة السائغة وحام بالعقل الصريح
وذاب عنه بالبراهين ومجاهد بالسيف والرمح والسنان ومتفقه في الحلال والحرام ومعني بتفسير القرآن وحافظ لمتون السنة وأسانيدها ومفتش عن أحوال رواتها وناقد لصحتها من سقيمها ومعلولها من سليمها فهي الشريعة ابتداؤها من الله وانتهاؤها إليه فمنه بدأت وإليه تعود ليس فيها حديث المنجم في تأثيرات الكواكب وحركات الأفلاك وهيآتها ومقادير الأجرام ولا حديث التربيع والتثليث والتسديس والمقارنة ولا حديث صاحب الطبيعة الناظر في آثارها واشتباك الاستقصات وامتزاجها وقواها وما يتعلق بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة
وما الفاعل منها وما المنفعل وكم درجاتها وإلى أين تسري قواها ولا فيها حديث المهندس الباحث عن مقادير الأشياء ونقطها وخطوطها وسطوحها وأجسامها وأضلاعها وزواياها ومعاطفها وما الكرة وما الدائرة وما الخط المستقيم والمنحني ولا فيها هذيان المنطقيين وتحذلقهم في النوع والجنس والفصل والخاصة والعرض العام
والمقولات العشر
والمختلطات والموجهات الصادرة عن رجل مشرك من يونان كان يعبد الأوثان ولا يعرف الرحمن ولا يصدق بمعاد الأبدان ولا أن الله يرسل رسولا بكلامه إلى نوع الإنسان فجعل هؤلاء المعارضين بين العقل والنقل عقل هذا الرجل عيارا على كتب الله المنزلة وما أرسل به رسله فما زكاه منطقه وآلته وقانونه الذي وضعه بعقله قبلوه وما لم يزكه تركوه ولو كانت هذه الأدلة التي أفسدت عقول هؤلاء وأتباعهم صحيحة لكان صاحب
الشريعة يقوم شريعته بها ويكملها باستعمالها وكان الله سبحانه يثيبه عليها ويحض على التمسك بها ويتقدم إلى عباده بالتمسك بها وبعلمها وتعليمها ويفرض عليهم القيام بها.
فيا للعقول التي لم يخسف بها أين الدين من الفلسفة? وأين كلام رب العالمين إلى آراء اليونان والمجوس وعباد الأصنام والصابئين وأين المعقولات المؤيدة بنور النبوة إلى المعقولات المتلقاة عن أرسطو وأفلاطون والفارابي وابن سينا وأتباع هؤلاء ممن لا يؤمن بالله ولا صفاته ولا أفعاله ولا ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر? وأين العلم المأخوذ عن الوحي النازل من عند رب العالمين من الشبه المأخوذة عن آراء المتهوكين والمتحيرين? فإن أدلوا بالعقل فلا عقل أكمل من عقول ورثة الأنبياء وإن أدلوا برؤسائهم وأئمتهم كفرعون ونمرود
وبطليموس وأرسطاطاليس ومقلدتهم وأتباعهم فلم يزل أعداء الرسل يعارضونهم فهؤلاء وأمثالهم يقدمون عقولهم على ما جاءوا به ويالله العجب كيف يعرض قول الرسول بقول الفيلسوف وعلى الفيلسوف أن يتبع الرسل وليس على الرسل أن تتبع الفيلسوف فالرسول مبعوث والفيلسوف مبعوث إليه والوحي حاكم والعقل محكوم عليه ولو كان العقل يكتفي به لم يكن للوحي فائدة ولا غنى على أن منازل الخلق متفاوتة في العقل أعظم تفاوت وأبصارهم مختلفة وليس العقل بأسره في واحد من الناس أو طائفة معينة حتى يكون تقديم عقولهم على ما جاءت به الرسل بل لكل طائفة معقول مخالف معقول الأخرى فمن أظلم وأشد عداوة للرسل ممن جوز لكل طائفة من طوائف العقلاء أن يقدم عقولها على ما جاءت به الرسل فإن قالوا
إنما نقدم العقل الصريح الذي لم يختلف فيه اثنان على نصوص الأنبياء فقد رموا الأنبياء بما هم أبعد الخلق منه وهو أنهم جاءوا بما يخالف العقل الصريح الذي لا يختلف فيه اثنان وهذا وقد شهد الله وكفى به شهيدا وشهد بشهادته الملائكة وأولو العلم أن طريقة الرسل هي الطريقة البرهانية المتضمنة للحكمة كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء174] وقال {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [113] قالطريقة البرهانية هي الواردة بالوحي الناطقة بالرشد الداعية إلى الخير الواعدة بحسن المآب المبينة لحقائق الأنبياء المعرفة بصفات رب الأرض والسماء وأن التقليدية التخمينية الخرصية هي المأخوذة من المقدمتين والنتيجة والدعوى التي ليس مع أصحابها إلا الرجوع إلى رجل من يونان كان يعبد الأوثان ويجحد الرحمن
فوضع بعقله قانونا يصحح به بزعمه علوم الخلائق وعقولهم فلم يستفد به عاقل تصحيح مسألة واحدة في شيء من علوم بني آدم بل ما وزن به علم إلا أفسده وما برع فيه أحد إلا انسلخ من حقائق الإيمان كانسلاخ القميص عن الإنسان فما استفيد بهذا العقل العائل إلا تعطيل الصانع عن صفات كماله ونعوت جلاله وعن أفعاله والكفر بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ومن العجب أن هؤلاء الأوقاح جعلوا نصوص الأنبياء من باب الظنون وهي من الوحي وجعلوا كلمات المنطقيين وقواعد الفلاسفة والجهمية من باب اليقين ثم عارضوا بينهما وقدموا هذا على نصوص الأنبياء فالشريعة ظهرت من الله على لسان أكمل الخلق عقلا وأعظمهم معرفة وأتمهم يقينا وعقلياتكم ظهرت من جهة رجال فكروا وقدروا وظنوا وخرصوا وتعبوا وما أغنوا ونصبوا وما أخذوا وحاموا وما وردوا ونسجوا فهلهلوا ومشطوا ففلفلوا.
سافروا في درك المطالب العالية على غير الطريق فما
ربحوا إلا أذى السفر وبعثوا في البلاد بغير دليل فلم يقفوا للمطلوب على عين ولا أثر.
رضوا بالدعاوى وابتلوا بخيالهم
…
وخاضوا بحار الفكر والقوم ما ابتلوا
فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم
…
وما ظعنوا في السير عنه وقد كلوا
لهم كل وقت حيرة بعد حيرة
…
وجهل على جهل فلا بورك الجهل
الوجه الرابع عشر: إن الأمة اختلفت ضروبا من الاختلاف في الأصول والفروع وتنازعوا فنونا من التنازع في المشكل من الأحكام والحلال والحرام والتفسير والتأويل والأخبار وتفرقت في آرائها ومذاهبها ومقالاتها فصارت أصنافا وفرقا كالخوارج والشيعة والمرجئة والمعتزلة فما فزعت طائفة من طوائف الأمة في اختلافها إلى منطق ولا فيلسوف ولا إلى عقل يخالف صريح النقل ولا قالت طائفة من هذه الطوائف عقولنا مقدمة على ما جاء به الرسول وإن أشقوا مذاهبهم بالتأويل بما جاء به فلم تقدم طائفة منهم على ما أقدمت عليه هذه الفرقة وقالوا العقل أولى بالاتباع مما جاء به
الرسول ولا قالت فرقة من هذه الفرق لأصحاب هذه المعقولات أعينونا بما عندكم وأشهدوا لنا وعلينا بما قبلكم ولا حققت مقالتها بشهادتهم ولا استعانت بطريقتهم ولا وجدت عندها علما ومعرفة لم تجده في كتاب ربها وسنة نبيها وكما لم تجد أحدا من فرق هذه الأمة يفزع إلى أرباب هذه العقول في شيء من دينها فلذلك كانت أمة موسى وعيسى لم تعول على هؤلاء في شيء من أمر دينها بل ما زال أهل الملل يحذرون من هؤلاء أشد التحذير وينفرون منهم أشد التنفير علما بأنهم سوس الملل وأعداء الرسل وأنت إذا تأملت أصول الفرق الإسلامية كلها وجدتها متفقة على تقديم الوحي على العقل ولم يؤسسوا مقالاتهم على ما أسسها عليه هؤلاء من تقديم آرائهم وعقولهم على نصوص الوحي فإن هذا أساس طريقة أعداء الرسل فهم متفقون على هذا الأصل ومنهم أخذ وعنهم تلقي كما حكى الله سبحانه عنهم في كتابه أنهم عارضوا شرعه ودينه بآرائهم وعقولهم ولكن الفرق بينهم وبين هؤلاء أن أولئك جاهروا بتكذيب الرسل ومعاداتهم وهؤلاء أقروا برسالاتهم وانتسبوا في الظاهر إليهم ثم نقضوا ما أقروا به وقالوا يجب تقديم عقولنا وآرائنا على ما جاءوا به فهم أعظم ضررا على الإسلام وأهله من أولئك لأنهم انتسبوا إليه وأخذوا في هدم قواعده وقلع أساسه وهم يتوهمون ويوهمون أنهم ينصرونه.
الوجه الخامس عشر: إن التفاوت الذي بين الرسل وبين أرباب هذه المعقولات أعظم بكثير من التفاوت الذي بين هؤلاء وبين أجهل الناس على إلإطلاق فإن هذا الجاهل يمكنه مع الطلب والتعليم أن يصير عالما بما عند هؤلاء ولا يمكن أشد هؤلاء حرصا وذكاء وقوة وفراغا أن يصير نبيا فإن النبوة خاصة من الله يختص بها من يشاء من عباده لا تنال بكسب ولا باجتهاد فإذا علم الإنسان بعقله أن هذا الرسول وعلم أنه أخبر بشيء ووجد في عقله ما ينافي خبره كان الواجب عليه أن يسلم لما أخبر به الصادق الذي هو أعلم منه وينقاد له ويتهم عقله ويعلم أن عقله بالنسبة إليه أقل من عقل أجهل الخلق بالنسبة إليه هو وأن التفاوت الذي بينهما في العلم والمعرفة بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله ودينه أعظم بكثير كثير من التفاوت الذي بين من لا خبرة له بصناعة الطب ومن هو أعلم أهل زمانه بها فيا لله العجب إذا كان عقله يوجب عليه أن ينقاد لطبيب يهودي فيما يخبر به من قوى الأدوية والأغذية والأشربة والأضمدة والمسهلات وصفاتها وكمياتها ودرجاتها مع ما عليه في ذلك من الكلفة والألم ومقاساة المكروهات لظنه أن هذا اليهودي أعلم بهذا الشأن منه وأنه إذا صدقه كان في تصديقه حصول الشفاء والعافية
مع علمه بأنه يخطىء كثيرا وأن كثيرا من الناس لا يشفى بما يصفه الطبيب بل يكون استعماله لما يصفه سببا من أسباب هلاكه وأن أسباب الموت أغلاط الأطباء فكم لهم من قتيل أسكنوه المقابر بغلطهم وخطئهم وإن كان خطأ الطبيب إصابة المقادير وكيف لا يسلك هذا المسلك مع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وهم الصادقون المصدقون ولا يجوز أن يكون خبرهم على خلاف ما أخبروا به والذين عارضوا أقوالهم بعقولهم عندهم من الجهل والضلال المركب والبسيط ما لا يحصيه إلإ من هو بكل شيء محيط.
الوجه السادس عشر: أن يقال تقديم العقول على الأدلة الشرعية ممتنع متناقض وأما تقديم الأدلة الشرعية فهو ممكن مؤتلف فوجب الثاني وامتنع الأول بيانه أن يكون الشيء معلوما بالعقل أو غير معلوم بالعقل ليس هو صفة لازمة لشيء من الأشياء بل هو من الأمور النسبية الإضافية فإن زيدا قد يعلم بعقله مالا يعلمه بكر بعقله وقد يعلم الأنسان في حال تعقله ما يجهله في وقت آخر والمسائل التي يقال قد تعارض فيها العقل والشرع جميعا قد اضطرب فيها أرباب العقل ولم يتفقوا فيها على أمر واحد بل كل منهم يقول إن العقل أثبت أو أوجب أو سوغ ما يقول الآخر أن العقل نفاه
أو أحاله أو منع منه بل قد آل الأمر بينهم إلى التنازع فيما يقولون إنه من العلوم الضرورية فيقول هذا نحن نعلم بالضرورة العقلية ما يقول الآخر إنه غير معلوم بالضرورة العقلية وأبلغ من هذا أن يدعي بعضهم أن هذا محال بضرورة العقل فيدعي الآخر أنه ممكن بضرورة العقل فأكثر العقلاء يقولون نحن نعلم بضرورة العقل امتناع رؤيا مرئي من غير معاينة ومقابلة ويقول آخرون من المنتسبين إلى المعقولات بل ذلك ممكن لا يحيله العقل.
ويقول أكثر العقلاء نحن نعلم أن حدوث حادث بلا سبب حادث ممتنع ويقول آخرون بل ذلك ممكن.
ويقول أكثر العقلاء إن كون العالم عالما بلا علم وحيا بلا حياة ومريدا بلا إرادة وسميعا بصيرا بلا سمع ولا بصر محال بضرورة العقل وآخرون يقولون بل هو ممكن غير مستحيل بل هو الواجب في حق الله عز وجل.
ويقول جمهور العقلاء أن يكون المعنى الواحد أمرا ونهيا وخبرا واستخبارا ممتنع في ضرورة العقل.
وآخرون يقولون هو ممكن واقع.
وجمهور العقلاء يقولون إن إثبات موجودين قائمين بأنفسهما ليس أحدهما مباينا للآخر ولا محايثا له ولا داخلا
فيه ولا خارجا عنه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه مكابرة لصريح العقل وآخرون يقولون بل هو ممكن واجب في العقل.
وجمهور العقلاء يقولون إن إثبات كون المريد مريدا بإرادة لا في محل ممتنع في ضرورة العقل وآخرون ينازعونهم في ذلك وجمهور العقلاء يقولون إن الحروف والأصوات من المتكلم الواحد مقترنة بعضها ببعض في آن واحد محال بضرورة العقل.
وآخرون يقولون بل هو ممكن بل واجب في حق القديم إلى أضعاف أضعاف ما ذكرنا فلو قيل بتقديم العقل على نصوص الوحي وهذا شأن العقل لزم المحال واجتماع النقيضين أو أحيل الناس على شيء لا سبيل لهم إلى ثبوته ومعرفته.
وأما الوحي فهو قول الصادق وهو صفة لازمة لا تختلف باختلاف أحوال الناس والعلم بذلك ممكن ورد الناس إليه ممكن ولهذا جاء الوحي من الله سبحانه برد الناس عند التنازع إلى كتابه وسنة رسوله كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء59]
فأمر المؤمنين عند التنازع بالرد إلى كتابه وسنة رسوله وهذا نص في تقديم السمع. قال هؤلاء بل الواجب الرد إلى العقل ورد السمع إن عارضه ولو رد الناس الأمر عند النزاع إلى عقول الرجال وآرائهم ومقاييسهم لم يزدهم هذا الرد إلا اختلافا واضطرابا وشكا وارتيابا فلا يمكن الحكم بين الناس في موارد النزاع والاختلاف على الإطلاق إلا بكتاب منزل من السماء يرجع الجميع إلى حكمه وإلا فكل واحد من أرباب المعقولات يقول عقلي أولى بالثقة به من عقل منازعي وهذا يدلي بمعقول وهذا يدلي بمعقول.
الوجه السابع عشر: إن الله سبحانه قد تمم الدين بنبيه وأكمله به ولم يحوجه ولا أمته بعده إلى عقل ولا نقل سواه ولا رأي ولا منام ولا كشوف قال تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة3] وأنكر على من لم يكتف بالوحي عن غيره فقال {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت51]
ذكر هذا جوابا لطلبهم آية تدل على صدقه فأخبر أنه يكفيهم من كل آية فلو كان ما تضمنه من الإخبار عنه وعن صفاته وأفعاله واليوم الآخر يناقض العقل لم يكن دليلا على صدقه فضلا عن أن يكون كافيا وسيأتي في الوجه الذي بعد هذا بيان أن تقديم العقل على النقل يبطل كون القرآن آية وبرهانا على صحة النبوة والمقصود ان الله سبحانه تمم الدين وأكمله بنبيه وما بعثه به فلم يحوج أمته إلى سواه فلو عارضه العقل وكان أولى بالتقديم منه لم يكن كافيا للأمة ولا كان تاما في نفسه في مراسيل أبي داود أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة فيها شيء من التوراة فقال: "كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتابا غير كتابهم أنزل على نبي غير نبيهم" فأنزل الله عز وجل {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت51]
وقال سبحانه {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء65] فأقسم سبحانه بنفسه أنا لا نؤمن حتى نحكم رسوله في جميع ما شجر بيننا وتتسع صدورنا بحكمه فلا يبقى منها حرج ونسلم لحكمه تسليما فلا نعارضه بعقل ولا رأي ولا هوى ولا غيره فقد أقسم الرب سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن هؤلاء الذين يقدمون العقل على ما جاء به الرسول وقد شهدوا هم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بمعناه وإن آمنوا بلفظه وقال تعالى {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى10] وهذا نص صريح في أن حكم جميع ما تنازعنا فيه مردود إلى الله وحده وهو الحاكم فيه على لسان رسوله فلو قدم حكم العقل على حكمه لم يكن هو الحاكم بوحيه وكتابه وقال تعالى {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف3]
فأمر باتباع الوحي المنزل وحده ونهى عن اتباع ما خالفه وأخبر سبحانه أن كتابه بينة وشفاء وهدى ورحمة ونور وفضل وبرهان وحجة وبيان فلو كان في العقل ما يعارضه ويجب تقديمه على القرآن لم يكن فيه شيء من ذلك بل كانت هذه الصفات للعقل دونه وكان عنها بمعزل فكيف يشفي ويهدي ويبين ويفصل ما يعارضه صريح العقل.
الوجه الثامن عشر: إن ما علم بصريح العقل الذي لا يختلف فيه العقلاء لايتصور أن يعارضه الشرع البتة ولا يأتي بخلافه ومن تأمل ذلك في ما ينازع العقلاء فيه من المسائل الكبار وجد ما خالفت النصوص الصحيحة الصريحة شبهات فاسدة يعلم بالعقل بطلانها بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للنقل فتأمل ذلك في مسائل التوحيد والصفات ومسائل القدر والنبوات والمعاد تجد ما يدل عليه صريح العقل لم يخالفه سمع قط بل السمع الذي يخالفه إما أن يكون حديثا موضوعا أو لا تكون دلالته مخالفة لما دل عليه العقل.
ونحن نعلم قطعا أن الرسل لا يخبرون بمحال العقول
وإن أخبروا بمحارات العقول فلا يخبرون بما يحيله العقل وإن أخبروا بما يحار فيه العقل ولا يستقل بمعرفته ومن تأمل أدلة نفاة الصفات والأفعال والقدر والحكمة والمعاد وأعطاها حقها من النظر العقلي علم بالعقل فسادها وثبوت نقيضها ولله الحمد.
الوجه التاسع عشر: إن المسائل التي يقال إنه قد تعارض فيها العقل والسمع من المسائل المعلومة بصريح العقل كمسائل الحساب والهندسة والطبيعيات اليقينية.
فلم يجىء في القرآن ولا في السنة حرف واحد يخالف العقل في هذا الباب وما جاء من ذلك فهو مكذوب ومفترى كحديث إن الله لما أراد أن يخلق نفسه خلق خيلا فأجراها فعرقت فخلق نفسه من ذلك العرق وحديث نزوله
عشية عرفة على جمل أورق يصافح الركبان ويعانق المشاة.
وكقول اليهود إنه سبحانه بكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة وإنه ندم على ذلك حتى عض أصابعه وإنه تبدى لإسرائيل وصارعه.
وكقول النصارى إنه اتخذ مريم زوجة وأولدها عيسى فهي صاحبته وعيسى ابنه تعالى الله عما يقول أعداؤه فيه علوا كبيرا وكقولهم إنه نزل عن كرسي عظمته ودخل في فرج مريم والتحم بناسوت المسيح.
وقول مشركي العرب إنه صاهر الجن فولدت له الملائكة وأمثال ذلك من الأقوال المخالفة لصريح
العقل فكيف يجعل ما أثبته الله لنفسه في كتابه من صفاته وأفعاله وما صح عن رسوله أنه أثبته له من علوه فوق سماواته على عرشه واستوائه عليه وتكلمه وتكليمه وثبوت علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره ووجهه الأعلى ورحمته وغضبه ورضاه وفرحه وضحكه ويديه التي يمسك بإحداهما السماوات السبع وبالأخرى الأرضين السبع ثم يهزهن ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا ونحو ذلك من صفات كماله ونعوت جلاله كيف يجعل هذا بمنزلة ذاك في مخالفة كل منهما لصريح العقل؟ ويجعل إثبات هذا كإثبات ذلك ووصفه بهذا كوصفه بذاك كما صرح به النفاة وقالوا إن هذا تشبيه وتجسيم فلا فرق بينه وبين ذاك التشبيه والتجسيم فليبك على عقله وما أصيب به من سوى بين الأمرين أحسن الله عزاءه في عقله ولا بورك له في علم هذه غايته التي لا يرضاها أعظم الناس انغماسا في جهله.
الوجه العشرون: إنه لا يعلم آية من كتاب الله ولا نص صحيح عن رسول الله في باب أصول الدين اجتمعت الأمة على خلافه وغاية ما يقدر اختلاف الأمة في القول بموجبه ومن له خبرة بمذاهب الناس وأقوال السلف يعلم قطعا أن الأمة اجتمعت على القول به قبل ظهور المخالف كما اجتمعت بأن الله مستو على عرشه فوق سماواته وأن المؤمنين يرونه عيانا بالأبصار من فوقهم في الجنة وأنه سبحانه كلم نبيه موسى منه إليه بلا واسطة تكليما سمع به كلامه ولم يشك أنه هو الذي كان يكلمه.
وأنه كتب مقادير الخلائق وقدرها قبل أن يخلقهم وأنه علم ما هم عاملوه قبل أن يعملوه وأنه يحب ويبغض ويرضى ويغضب ويضحك ويفرح وأن له وجها ويدين.
فهذا إجماع معلوم متيقن عند جميع أهل السنة والحديث فالعقل الذي يعارض هذا لم تجمع عليه الأمة ولم يعرف عن رجل واحد من السلف والأئمة أنه قاله وغايته أ ، يكون عقل فرقة من الفرق اشتقت لأنفسها مذهبا وادعت له معقولا فلما صالت عليها نصوص الوحي التجأت إلى العقل وادعت أنه يخالفها وصدقت وكذبت.
أما صدقها فإن نصوص الوحي تخالف معقولها هي وذلك من أدل دليل على فساده في نفسه إذ شهدت له نصوص الوحي بالبطلان.
وأما كذبها فزعمها أن نصوص الوحي تخالف العقل المتفق عليه بين العقلاء فهذا لم يقع ولا يقع ما دامت السماء سماء والأرض أرضا بل تزول السماء والأرض وهذا لا يكون فأي ذنب للنصوص إذا خالفت عقول بعض الناس فقد وافقت عقول أصح الناس عقلا {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام89]
الوجه الحادي العشرون: إن الأدلة السمعية هي الكتاب والسنة والإجماع وهو إنما يصار إليه عند تعذر الوصول إليهما فهو في المرتبة الأخيرة ولهذا أخره عمر في كتابه إلى أبي موسى حيث كتب إليه اقض بما في كتاب الله فإن لم يكن في كتاب الله فبما في سنة رسول الله فإن لم يكن في السنة فبما قضى به الصالحون قبلك وهذا السلوك
هو كان سلوك الصحابة والتابعين ومن درج على آثارهم من الأئمة أول ما يطلبون النازلة من القرآن فإن أصابوا حكمها فيه لم يعدوه إلى غيره وإن لم يصيبوها فيه طلبوها من سنة رسول الله فإن أصابوها لم يعدوها إلى غيرها وإن لم يصيبوها طلبوها من اتفاق العلماء وقد صان الله الأمة أن تجمع على خطأ أو على ما يعلم بطلانه بصريح العقل فإذا كان الإجماع معصوما أن ينعقد على ما يخالف العقل الصريح بل إذا وجدنا معقولا يخالفه الإجماع علمنا قطعا أنه معقول فاسد فلأن يصان كتاب الله وسنة رسوله عن مخالفة العقل الصريح أولى وأحرى.
الوجه الثاني والعشرون: إنه إذا قدر تعارض العقل والكتاب فرد العقل الذي لم تضمن لنا عصمته إلى الكتاب المعلوم العصمة هو الواجب.
الوجه الثالث والعشرون: إن هؤلاء الخائضين في صفات الرب وأفعاله وما يجوز عليه ومالا يجوز بآرائهم وعقولهم تراهم مختلفين متنازعين حيارى متهوكين وحاصل ما مع أكثرهم حسن
الظن بإمامه الذي سلك طريقته وتقليده في أصوله وهو يرى بعقله خلافها ويستشكلها ويقر بأنها مشكلة جدا ثم ينكس على رأسه ويقول هو أعلم بالمعقول مني.
فنجد أتباع أرسطو الملحد المشرك عابد الأوثان يتبعونه فيما وضعه لهم من قواعد المنطق الطبيعي والإلهي.
وكثير منهم يرى بعقله نقيض ما قاله ولكن لحسن ظنه به يتوقف في مخالفته وينسب التقصير إلى فهمه والنقص إلى عقله لعظمة أرسطو في نفسه ولعلمه بأنه أعقل منه وهكذا شأن جميع أرباب المقالات والمذاهب يرى أحدهم في كلام متبوعه ومن يقلده ما هو باطل وهو يتوقف في رد ذلك لاعتقاده أن إمامه وشيخه أكمل منه علما وأوفر عقلا هذا مع علمه وعلم العقلاء أن متبوعه وشيخه ليس بمعصوم من الخطأ فهلا سلكوا هذا المسلك مع نبيهم ورسولهم المضمون له العصمة المعلوم صدقه في كل ما يخبر به وهلا قالوا عقله أوفر من عقولنا وعلمه أصح من علومنا فنحن ننكر كل معقول يخالفه ونرده ولا نقبله كما فعلوه مع شيوخهم ومتبوعيهم ولكن
الوجه الرابع والعشرون: إن كل من أعرض عن السمع لظنه أن العقل يخالفه إذ لكون أدلته لا تفيد اليقين أو لأنه خاطب الخلق خطابا جمهوريا تخييليا لا خطابا برهانيا تجد بينهم من النزاع والتفرق والشهادة من بعضهم على بعض بالضلالة بحسب إعراضهم عن السمع وكل من كان عنه أبعد كان قوله أفسد واختلاف طائفته أشد.
فالمعتزلة أكثر اختلافا من متكلمة أهل الإثبات وبين البصريين والبغداديين منهم من النزاع ما يطول ذكره والبصريون أقرب إلى الإثبات والسنة من البغداديين فالبصريون يثبتون كونه سبحانه سميعا بصيرا حيا عالما قديرا ويثبتون له الإرادة ولا يوجبون عليه الأصلح في الدنيا ويثبتون خبر الواحد والقياس ولا يؤثمون المجتهدين ثم بين المشايخية والحسينية من النزاع ما هو معروف.
وأما الشيعة فأعظم تفرقا واختلافا من المعتزلة حتى قيل إنهم يبلغون ثنتين وسبعين فرقة وذلك لأنهم أبعد طوائف الملة عن السنة.
وأما الفلاسفة فلا يجمعهم جامع فتلاعب بالنبوات ولا تقف مع حدودها وقل بعقلك ما شئت وقد صرت فيلسوفا حكيما وهم أعظم اختلافا من جميع طوائف المسلمين واليهود والنصارى والفلسفة التي ذهب إليها الفارابي وابن سينا هي فلسفة المشائين أتباع أرسطو صاحب المنطق وبينه وبين سلفه من النزاع ما يطول ذكره ثم بين أتباعه من الخلاف ما يطول وصفه.
وأما سائر طوائف الفلاسفة فلو حكى لك اختلافهم في علم الهيئة وحده لرأيت العجب العجاب هذا
والهيئة علم رياضي حسابي هو من أصح علومهم فكيف باختلافهم في الطبيعيات فكيف بالإلهيات.
واعتبر هذا بما ذكره أرباب المقالات عنهم في العلوم الرياضية والطبيعية كما نقله الأشعري في كتاب مقالات غير الإسلاميين وابن الباقلاني في كتاب الدقائق وفي هذين الكتابين من الاختلاف بينهم أضعاف ما ذكره الشهرستاني وابن الخطيب والكتاب الذي اتفق عليه جمهورهم وهو المجسطي لبطليموس فيه قضايا كثيرة لا يقوم عليها دليل صحيح وقضايا ينازعه فيها غيره وقضايا مبنية على أرصاد منقولة عن غيره تقبل الغلط والكذب وفيه قضايا برهانية صادقة وهذا من أجود علومهم وأصحها.
وأما الطبيعيات ففيها من الاضطراب والاختلاف ما ما لا يكاد يحصى وهو أكثر من أن يذكر هذا وهو أقرب إلى الحس من العلم الإلهي.
وأما الإلهيات فإذا شئت مثالا يقرب إليك حالهم فمثلهم كمثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض في ليلة ظلماء فهجم عليهم العدو فقاموا في الظلمة هاربين على وجوههم في كل ناحية ولا إله إلا الله كم لهم فيه من خبط وخرص وتخمين وليسوا متفقين فيه على شيء أصلا وأساطينهم قد صرحوا بأنهم لا يصلون فيه إلى اليقين وإنما يتكلمون فيه بالأولى والأخلق ولهذا ظهر في السالكين خلفهم من الحيرة والتوقف والاعتراف بأنهم لم يصلوا إلى شيء ما فيه عبرة لأهل الوحي اتباع الرسل المقدمين لما نزل به الوحي على عقول هؤلاء وأشباههم وقد تقدم إقرار الشهرستاني وابن الخطيب وابن أبي الحديد والخونجي والجويني وغيرهم على أنفسهم بذلك وقد
قال ابن رشد وهو من أعلم الناس بمذاهب الفلاسفة ومقالاتهم في كتابه تهافت التهافت ومن الذي قال في الإلهيات شيئا يعتد به وهذا أفضل المتأخرين في زمانه أبو الحسن الآمدي واقف في المسائل الكبار يذكر حجج الطوائف ويبقى واقفا حائرا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} [النساء88] وهذا صاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها من
فرط ذكائه ومعرفته بالفلسفة والكلام ينتهي وقت الموت في هذه المسائل إلى الوقف والحيرة ثم أعرض عن تلك الطرق واقبل على طريقة أهل الحديث وأقبل على صحيح البخاري فمات وهو على صدره وحدثني شيخ الإسلام قال حكى لي بعض الأذكياء وكان قد قرأ على أفضل أهل زمانه في الكلام والفلسفة وهو ابن واصل الحموي أنه قال له الشيخ أضطجع على فراشي وأضع الملحفة على وجهي وأقابل بين أدلة هؤلاء وأدلة هؤلاء حتى يطلع الفجر ولم يترجح عندي شيء ولهذا ذهب طائفة من أهل الكلام إلى القول بتكافؤ الأدلة ومعناه أنها قد تكافأت وتعارضت فلم يعرف الحق من الباطل وصدقوا وكذبوا. أما صدقهم فإن أدلتهم وطرقهم قد تكافأت وتصادمت حتى قال شاعرهم:
ونظيري في العلم مثلي أعمى
…
فترانا في حندس نتصادم
ولقد صدق هذا الأعمى البصر والبصيرة ووصف حال القوم فأحسن والله الفقه وعبر عن حالهم بأشد عبارة مطابقة بزمرة عميان قاموا في ليلة مظلمة يتهاوشون ويتصادمون.
وأما كذبهم فإن أدلة الحق وشبه الباطل لا تتكافأ حتى يتكافأ الضوء والظلام والبياض والسواد والمسك وأنتن الجيف فسبحان من أعمى عن الحق بصائر من شاء من خلقه كما أعمى عن الشمس أبصار من شاء منهم فالذنب لكلل البصائر لا للحق كما أن الحجاب في تلك العيون لا في الشمس ولقد أحسن القائل في وصف هؤلاء وبصائرهم أنها بمنزلة أبصار الخفاش تعجز عن ضوء النهار ولا تفتح أعينها فيه ويلائمها ظلام الليل فتذهب فيه وتجيء ولهذا تجد أكثر هؤلاء لما لم يتبين له الهدى في شيء من تلك الطرق نكص على عقبيه وخلع العذار
ونزع قيد الشريعة من قلبه وأقبل على شهوات الغي في بطنه وفرجه أو رياسته وماله فأقبل على اللذات وسماع المطربات ومعاشرة الصور المستحسنات وذلك لخلو قلبه عن حقائق العلم والإيمان الذي بعث الله به رسوله فلم يصل إليه ولا وصل من طرق أصحابه إلا إلى الشك والحيرة فهؤلاء هم الذين عناهم الله سبحانه بقوله: {نْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم23] فعلومهم ظنون {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [النجم28] وإرادتهم هوى نفوسهم وعلومهم تدعو إلى إرادتهم وإرادتهم تدعو إلى علومهم فإن اتباع الهوى يصد عن الحق ويضل عن سبيل الله فتولوا عن القرآن وآثروا عاجل الدنيا وهؤلاء الذين أمر الله رسوله بالإعراض عنهم بعد إقامة الحجة عليهم فقال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَاّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم29] .
الوجه الخامس والعشرون: إن الله سبحانه لما أهبط الأبوين من الجنة عهد إليهما عهدا تناولهما وتناول ذريتهما إلى يوم القيامة وضمن لمن تمسك بعهده أنه لا يضل ولا يشقى ولمن أعرض عنه الضلال والشقاء فقال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه126 ، 123] قال ابن عباس تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ هذه الآية وقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} [طه124] .
يتناول الذكر الذي أنزله وهو الهدى الذي جاءت به الرسل ويدل عليه سياق الكلام وهو قوله {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} [طه126] فهذا هو الإعراض عن ذكره فإذا كان هذا حال المعرض عنه فكيف حال المعارض له بعقله أو عقل من قلده وأحسن الظن به فكما أنه لا يكون مؤمنا إلا من قبله وانقاد له فمن أعرض عنه وعارضه من أبعد الناس عن الإيمان به.
الوجه السادس والعشرون: إن طالب الهدى في غير القرآن والسنة قد شهد الله ورسوله له بالضلال فكيف يكون عقل الذي قد أضله الله مقدما على كتاب الله وسنة رسوله قال تعالى في أرباب العقول التي عارضوا بها وحيه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية23] وقال {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام153] .
وقال فيمن قدم عقله على ما جاء به {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم23] والقرآن مملوء بوصف من قدم عقله على ما جاء به بالضلال وروى الترمذي وغيره من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله يقول إنها ستكون فتنة قلت فما المخرج منها يا رسول الله قال كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم
وهو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن2 ، 1] من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعى إليه هدي إلى صراط مستقيم
الوجه السابع والعشرون: إن ما عارض به هؤلاء نصوص الأنبياء من المعقولات قد شهدوا على أنفسهم بالحيرة والشك فيها وأنهم لم يجزموا فيها بشيء ولم يظفروا منها بعلم ولا يقين كما تقدم ذكر
اليسير منه عن أفاضلهم وشهد به عليهم تناقضهم واضطرابهم واختلافهم فإن ما كان من عند غير الله لا بد أن يقع فيه الاختلاف الكثير وشهد عليهم بذلك أتباع الرسول وشهد به عليهم من هو على كل شيء شهيد وسيشهد به عليهم يوم القيامة من أنزل عليه: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء41] وشهد به عليهم نصوص الكتاب والسنة وشهد به عليهم أدلة العقول الصريحة الموافقة للنصوص فهل عندهم مثل هؤلاء الشهود على صحة العقل الذي عارضوا به نصوص الأنبياء نعم شهودهم أرسطو وأفلاطون وفيثاغورس وابن سينا والفارابي وجهم بن صفوان وأبو الهذيل العلاف والنظام وأوقاح الجهمية والمعتزلة
وأفراخ الصابئين والمجوس ومن تعارضت عنده هذه البينات فلا ننكر أن يتعارض عنده العقل والنقل وأن يقدم العقل على النقل.
الوجه الثامن والعشرون: إن أصحاب القرآن والإيمان قد شهد الله لهم وكفى به شهيدا بالعلم واليقين والهدى وأنهم على بصيرة وبينة من ربهم وأنهم هم أولو العقل والألباب والبصائر وأن لهم نورا على نور وأنهم المهتدون المفلحون.
قال تعالى في حق الذين يؤمنون بالغيب ولا يعارضونه بعقولهم وآرائهم {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة5 ، 1] وقال {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ6] .
وهذا دليل ظاهر أن الذي نراه معارضا للنقل ويقدم العقل عليه ليس من الذين أوتوا العلم في قبيل ولا دبير ولا قليل ولا كثير.
وقال {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد19] وهذه شهادة من الله على عمى هؤلاء وهي موافقة لشهادتهم على أنفسهم بالحيرة والشك وشهادة المؤمنين عليهم.
فأخبر سبحانه عن مثل نور الإيمان به وبأسمائه وصفاته وأفعاله وصدق رسله في قلوب عباده وموافقة
ذلك لنور عقولهم وفطرهم التي أبصروا بها نور الإيمان بهذا المثل المتضمن لأعلى أنواع النور المشهود وأنه نور على نور. نور الوحي ونور العقل نور الشرعة ونور الفطرة نور الأدلة السمعية ونور الأدلة العقلية.
وقال تعالى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى52] وقال تعالى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام122] . وقال تعالى {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف157] وقال تعالى:
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة257] ثم أخبر سبحانه عن حال المعرضين عن هذا النور المعارضين للوحي بالعقل بمثلين يتضمن أحدهما وصفهم بالجهل المركب والآخر بالجهل البسيط لأنهم بين ناظر وباحث ومقدر ومفكر وبين مقلد يحسن الظن بهم فقال في الطائفتين: {بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور40 ، 39]
الوجه التاسع والعشرون: أن يقال إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين
وإبطالهما معا إبطال للنقيضين وتقديم العقل ممتنع لأن العقل قد دل على صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل وإذا بطلت دلالته لم يصلح أن يكون معارضا للنقل لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة الدليل فكان تقديم العقل موجبا لعدم تقديمه فلا يجوز تقديمه وهذا بين جدا فإن العقل هو الذي دل على صدق السمع وصحته وأن خبره مطابق لمخبره فإما أن تكون هذه الدلالة صحيحة أو باطلة فإن كانت صحيحة امتنع أن يكون في العقل ما يبطلها وإن كانت باطلة لزم أن لا يكون العقل دليلا صحيحا وإذا لم يكن دليلا صحيحا لم يتبع بحال فضلا عن أن يقدم على الدليل السمعي الصحيح فصار تقديم العقل على النقل قدحا في العقل بانتفاء لوازمه ومدلوله وإذا كان تقديمه على النقل يستلزم القدح فيه والقدح فيه يمنع دلالته وذلك يمنع معارضته استحال تقديمه عند المعارضة لأن تقديمه عند المعارضة يبطل المعارضة وذلك يحيل المسألة من أصلها يوضحه:
الوجه الثلاثون: وهو أن يقال معارضة العقل لما دل العقل على أنه حق دليل على تناقض دلالته وذلك يوجب فسادها وأما السمع فلم يعلم فساد دلالته ولا تعارضها وتناقضها في نفسها وإن قدر أنه لم يعلم صحتها.
وإذا تعارض دليلان أحدهما علمنا فساده والآخر لم نعلم فساده كان تقديم مالم يعلم فساده أقرب إلى الصواب من تقديم ما يعلم فساده وهذا كالشاهد إذا علم كذبه وفسقه لم يجز تقديم شهادته على شاهد مجهول لم يعلم كذبه فكيف إذا كان الشاهد الكاذب هو الذي شهد بأنه قد كذب في بعض شهاداته والعقل إذا صدق السمع في كل ما يخبر به ثم قال إنه أخبر بخلاف الحق قد شهد للسمع بأنه يجب قبول قوله وشهد له بأنه لا يجوز قبول قوله وشهد بأن ما أخبر به ليس بحق وشهد له بأن ما أخبر به حق وهذا قدح في شهادته مطلقا وفي تزكيته ولا تقبل شهادته الأولى ولا الثانية يوضحه:
الوجه الحادي والثلاثون: إن الآيات والبراهين اليقينية والأدلة القطعية قد دلت على صدق الرسل وأنهم لا يخبرون عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه إلا بالحق المحض فهم صادقون فيما يبلغونه عن الله في الطلب والخبر وهذا أول درجات
الإيمان فمتى علم المؤمن بالرسول أنه أخبر بشيء من ذلك جزم جزما لا يحتمل النقيضين أنه حق وأنه لا يجوز أن يكون في الباطن بخلاف ما أخبر به وأنه يمتنع أن يعارضه دليل قطعي لا عقلي ولا سمعي فإن كل ما يظن أنه يعارضه من ذلك فهي حجج داحضة وشبه فاسدة من جنس شبه السفسطة والقرمطة وإذا كان العقل العالم بصدق الرسول قد شهد له بذلك وأنه ممتنع أن يعارض خبره دليلا صحيحا كان هذا العقل شاهدا بأن كل ما عارض ما أخبر به الرسول فهو باطل فيكون هذا العقل الصحيح والسمع قد شهدا ببطلان العقل المخالف للسمع.
الوجه الثاني والثلاثون: إن الشبهات القادحة في نبوات الأنبياء ووجود الرب ومعاد الأبدان التي يسميها أصحابها حججا عقلية هي كلها معارضة للنقل وهي أقوى من الشبه التي يدعي النفاة للصفات أنها معقولات خالفت النقل أو من جنسها أو قريبة منها كما قيل:
دع الخمر يشربها الغواة فإنني
…
رأيت أخاها مغنيا بمكانها
فإن لا يكنها أو تكنه فإنه
…
أخوها غذته أمه بلبانها
فقد أورد على القدح في النبوات ثمانون شبهة أو أكثر وهي كلها عقلية وأورد على إثبات الصانع سبحانه نحو أربعين شبهة كلها عقلية وأورد على المعاد نحو ذلك والله يعلم أن هذه الشبه من شبه جنس نفاة الصفات وعلو الله على خلقه وتكلمه وتكليمه ورؤيته بالأبصار عيانا في الآخرة لكن نفقت هذه الشبهة بجاه نسبة أربابها إلى الرسول والإسلام وأنهم يذبون عن دينه وينزهون الرب عما لا يليق به وإلا فعند التحقيق يسفر القاع عن فخ
كله ولا فرق بين الشبه المعارضة لأصل نبوة الرسول والشبه المعارضة لما أخبر به الرسول. ومن تأمل هذا وهذا تبين له حقيقة الحال وربما وجد الشبه القادحة في أصل النبوة أكثر من الشبه القادحة فيما أخبرت به الرسل فيقال لمن قدم المعقول المعارض لما أخبر به الرسول هل تقدم المعقول المعارض لأصل الرسالة والنبوة وأنت قد أوردته وأجبت عنه بما يعلم أن صدرك لم يثلج له فإن تلك الأجوبة مبنية على قواعد قد اضطرب فيها قولك فمرة تثبتها ومرة تنفيها ومرة تقف فيها أم تطرح تلك المعقولات وتهدرها وتشهد بفسادها فحينئذ فهلا سلكت في المعقولات المعارضة لخبر الرسول ما سلكت في تلك وكانت السبيل واحدة.
والطريق في ردها واضحة وأنت من أنصار الله ورسوله محام عن أصل الرسالة وعما جاء به الرسول جازم له بعقلك لا تعارض خبره بعقلك وهذا في غاية الظهور بحمد الله ولولا خشية الإطالة لذكرنا ما ذكره من الشبه العقلية القادحة في إثبات الصانع ورسالة رسله وفي اليوم الآخر وفي الشبه القادحة في علوه على خلقه وصفاته
وكلامه ورؤيته وعرضنا عليك الجميع ثم إليك الوزن يوضحه:
الوجه الثالث والثلاثون: وهو أن أرباب تلك الشبه إنما استطالوا على النفاة والجهمية بما ساعدوهم عليه من تلك الشبه وقالوا كيف يكون رسولا صادقا من يخبر بما يخالف صريح العقل وأنتم قد سلمتم لنا ذلك وساعدتمونا على أن خالق العالم لا يختص بمكان ولا يتكملم ولا يرى ولا يشار إليه ولا ينتقل من مكان إلى مكان ولا تحله الحوادث ولا له وجه ولا يد ولا إصبع ولا سمع ولا بصر ولا علم ولا حياة ولا قدرة زائدة على مجرد ذاته ومن أصولنا وأصولكم أنه لم يقم بذاته فعل ولا وصف ولا حركة ولا استواء ولا نزول ولا غضب في الحقيقة ولا رضا فضلا عن الفرح والضحك.
ونحن وأنتم متفقون في نفس الأمر على أنه لم يتكلم بهذا القرآن ولا بالتوراة ولا بالإنجيل وإنما ذلك كلام الشيء عنه بإذنه عندكم وبواسطة العقل الفعال عندنا ونحن وأنت متفقون على أنه لم يتكلم به ولم يسمع منه ونحن وأنتم متفقون على أنه لم يره ولا يراه ولم يسمع كلامه
ولا يسمعه أحد وأن هذا محال فهو عندنا وعندكم بمنزلة كونه يأكل ويشرب وينام. فعند التحقيق نحن وأنتم متفقون على الأصول والقواعد التي نفت هذه الأمور وهي بعينها تنفي صحة نبوة من أخبر بها فكيف يمكن أن يصدق من جاء بها وقد اعترفتم معنا بأن العقل يدفع خبره ويرده فما للحرب بيننا وبينكم وجه وكما تساعدنا نحن وأنتم على إبطال هذه الأخبار التي عارضت صريح العقل فساعدونا على إبطال الأصل بنفس ما اتفقنا عليه جميعا في إبطال الأدلة النقلية.
فانظر هذا الإخاء ما ألصقه والنسب ما أقربه وإذا أردت أن تعرف حقيقة الحال فانظر حالهم مع هؤلاء الزنادقة في ردهم عليهم وبحوثهم معهم وخضوعهم لهم فيها ومقاومة أعداء الرسل لهم واستطالتهم عليهم ومقاتلتهم لهم بأسلحتهم التي استعاروها منهم.
فإن قلت كيف أصيب القوم مع عقولهم وبحثهم ونظرهم واجتهادهم قلت أصاب عقولهم ما أصاب عقول كفار قريش وغيرهم من الأمم الذين كذبوا الرسل مع تلك الأحلام
والعقول ولكن كادها باريها عبرة لكل ذي عقل صحيح إلى يوم القيامة وهذا جزاء من لم يرض بوحي الله وما وهب لأنبيائه من العقول التي نسبتها إلى عقول العالمين كنسبتهم إليهم يوضحه:
الوجه الرابع والثلاثون: وهو أن الله سبحانه اقتضت حكمته وعدله أن يفسد على العبد عقله الذي خالف به رسله ولم يجعله منقادا لهم مسلما لما جاءوا به مذعنا له بحيث يكون مع الرسول كمملوكه المنقاد من جميع الوجوه للمالك المتصرف فيه ليس له معه تصرف بوجه من الوجوه فأول ما أفسد سبحانه عقل شيخهم القديم إبليس حيث لم ينقد به لأمره وعارض النص بالعقل وذكر وجه المعارضة فأفسد عليه عقله غاية الإفساد حتى آل الأمر إلى أن صار إمام المبطلين وقدوة الملحدين وشيخ الكفار والمنافقين ثم تأمل كيف أفسد عقول من أعرض عن رسله وعارض ما أرسلوا به فآل بهم فساد تلك العقول إلى ما قصه الله عنهم في كتابه ومن فساد تلك العقول أنهم لم يرضوا بنبي من النبيين ورضوا بإله من الحجر ومن فساد تلك العقول أنهم استحبوا
العمى على الهدى وآثروا عقوبة الدنيا والآخرة على سعادتهما وبدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار.
وأفسد عقول أهل الكتابين بكفرهم بالرسول حتى آل أمرهم إلى مقالات الفلاسفة التي قدموها على ما جاءت به الرسل حتى قالوا ما أضحكوا به كافة العقلاء وإن كانوا أصحاب صنائع وأفكار واستنبطوها بعقولهم لعجز غيرهم عنها لكن أفسد عليهم العقل الذي ينال به سعادة الأبد حتى قالوا في فرية سلسلة الموجودات عن واجب الوجود ما هو بسلسلة المجانين أشبه منه بكلام عقلاء الآدميين.
وجعلوا العالم الذي شهدت عليه شواهد الصنعة والاحتياج والافتقار من كون غالبه مسخرا مدبرا مقهورا على حركة لا يمكنه الخروج منها وعلى مكان لا يمكنه مفارقته وعلى وضع لا يمكنه أن يزول عنه وعلى ترتيب شهد العقل والفطرة أن غيره رتبه هذا الترتيب ووضعه في هذا الموضع وقهره على هذه الحركة.
وكون سافله منفعلا غير فاعل متأثرا غير مؤثر كل وقت في مبدأ ومعاد وشواهد الفقر والحاجة والحدوث
ظاهرة على أجزائه وأنواعه فجعلوه قديما غير مخلوق ولا مصنوع فعطلوه عن صانعه وخالقه ثم عطلوا الرب الذي فطر السماوات والأرض عن صفات كماله ونعوت جلاله وأفعاله فلم يثبتوا له ذاتا ولا صفة ولا فعلا ولا تصرفا باختياره في ملكه ولا عالما بشيء مما في العالم العلوي والسفلي وعاجزا من أنشأ النشأة الأولى أن يعيدها مرة ثانية.
وفي الحقيقة لم يثبتوا ربا أنشأ شيئا ولا ينشئه ولا أثبتوا لله ملائكة ولا رسلا ولا كلاما ولا إلهية ولا ربوبية.
وأما الاتحادية فأفسد عقولهم فلم يثبتوا ربا وظنوا أن في الخارج إنسانا كليا وحيوانا كليا وجعلوا وجود الرب وجودا مطلقا مجردا عن الماهيات وقالوا لا وجود للمطلق في الخارج.
وبالجملة فلم يصيبوا في الإلهيات في مسألة واحدة بل قالوا في جميعها ما أضحكوا عليهم العقلاء.
وأما متكلموا الجهمية والمعتزلة فأفسد عقولهم عليهم حتى قالوا ما يسخر العقلاء من قائله كما تقدم التنبيه على اليسير منه وقالوا يتكلم الرب بغير كلام يقوم به وخالق بلا خلق يقوم به وسميع بلا سمع وبصير بلا بصر وحي بلا حياة وقدير بلا قدرة ومريد بلا إرادة وفعال لما يريد ولا فعل له ولا إرادة وقالوا الرب موجود قائم بنفسه ليس في العالم ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولا فوقه ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره وقالوا إنه لم يزل معطلا عن الفعل والفعل ممتنع ثم انقلب من الامتناع إلى الإمكان بغير تجدد سبب أصلا وقالوا إن الأعراض لا تبقى زمانين وأنكروا القوى والطبائع والغرائز والأسباب والحكم وجعلوا الأجسام كلها متماثلة وأثبتوا أحوالا لا موجودة ولا معدومة وأثبتوا مصنوعا بلا صانع ومخلوقا بلا خالق إلى أضعاف ذلك مما يسخر منه العقلاء.
وكلما كان الرجل عن الرسول أبعد كان عقله أقل وأفسد فأكمل الناس عقولا أتباع الرسل وأفسدهم عقولا المعرض عنهم وعما جاءوا به ولهذا كان أهل السنة والحديث أعقل الأمة وهم في الطوائف كالصحابة في الناس
وهذه القاعدة مطردة في كل شيء عصي الرب سبحانه به فإنه يفسده على صاحبه فمن عصاه بماله أفسده عليه ومن عصاه بجاهه أفسده عليه ومن عصاه بلسانه أو قلبه أو عضو من أعضائه أفسده عليه وإن لم يشعر بفساده فأي فساد أعظم من فساد قلب خرب من محبة الله وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه والطمأنينة بذكره والأنس به والفرح بالإقبال عليه وهل هذا القلب إلا قلب قد استحكم فساده والمصاب لا يشعر وأي فساد أعظم من فساد لسان تعطل عن ذكره وما جاء به وتلاوة كلامه ونصيحة عباده وإرشادهم ودعوتهم إلى الله وأي فساد أعظم من فساد جوارح عطلت عن عبودية فاطرها وخالقها وخدمته والمبادرة إلى مرضاته. وبالجملة فما عصي الله بشيء إلا أفسده على صاحبه ومن أعظم معصية العقل إعراضه عن كتابه ووحيه الذي هدى به رسوله وأتباعه والمعارضة بينه وبين كلام غيره فأي فساد أعظم من فساد هذا العقل وقد أرى الله سبحانه أتباع رسوله من فساد عقل هؤلاء ما هو من أقوى أسباب زيادة إيمانهم بالرسول وبما جاء به وموجبا لشدة تمسكهم به ولقد أحسن القائل:
وإذا نظرت إلى أميري زادني
…
نظري له حبا إلى الأمراء
الوجه الخامس والثلاثون: هذه القاعدة التي أسسها من عارض بين العقل والنقل تقتضي أن لا ينتفع بخبر الأنبياء في باب الصفات والأفعال أحد من الخاصة والعامة. أما الخاصة فهم مصرحون بأن علم ذلك ومعرفته موكول إلى العقول فما دلت عليه وشهدت به قبل وما خالفها من السمع وجب رده فلم يستفيدوا من جهة الخبر شيئا وإنما استفادوا الحق من جهة العقل المعارض لما أخبرت به الرسل.
وأما العامة فإنهم اعتقدوا ما دل عليه الخبر وهو باطل في نفس الأمر فلم يستفيدوا منه معرفة الحق بل إنما حصلوا على اعتقاد الباطل فأي معاداة لما جاء به الرسول أعظم من هذه
الوجه السادس والثلاثون: إن الرجل إما أن يكون مقرا بالرسل أو جاحدا لرسالتهم فإن كان منكرا فالكلام معه في تثبيت النبوة فلا وجه للكلام معه في تعارض العقل والنقل فإن تعارضهما فرع الإقرار بصحة كل واحد منهما لو تجرد عن
المعارض فمن لم يقر بالدليل العقلي لم يخاطب في تعارض الدليل العقلي والشرعي.
وكذلك من لم يقر بالدليل الشرعي لم يخاطب في هذا التعارض فمن لم يقر بالأنبياء لم يستفد من خبرهم دليلا شرعيا فهذا يتكلم معه في إثبات النبوات أولا وإن كان مقرا بالرسالة فالكلام معه في مقامات:
أحدها: صدق الرسول فيما أخبر به فإن أنكر ذلك أنكر الرسالة والنبوة وإن زعم أنه مقر بهما وأن الرسل خاطبوا الجمهور بخلاف الحق تقريبا إلى أفهامهم ومضمون هذا أنهم كذبوا للمصلحة وهذا حقيقة قول هؤلاء وهو عندهم كذب حسن وإن أقر بأنه صادق فيما أخبر به فالكلام معه في:
المقام الثاني: وهو هل يقر بأنه أخبر بهذا أو لا يقر به فإن لم يقر به جهلا عرف ذلك بما يعرف به أنه ظهر ودعا إلى الله وحارب أعداءه فإن أصر على إنكاره ذلك فقد خرج من جملة العقلاء وأنكر الأمور الضرورية كوجود بغداد ومكة والهند وغيرها وإن أقر بأنه أخبر بذلك فالكلام معه في:
المقام الثالث: وهو أنه هل أراد ما دل عليه كلامه
ولفظه أو أراد خلافه فإن ادعى أنه أراده فالكلام معه في:
المقام الرابع: وهو أن هذا المراد حق في نفسه أم باطل فإن كان حقا لم يتصور أن يعارضه دليل عقلي البتة وإن كان باطلا انتقلنا معه إلى:
مقام خامس: وهو أنه هل كان يعلم الحق في نفس الأمر أو لا يعلمه فإن قال لم يكن عالما به فقد نسبه إلى الجهل وإن قال كان عالما به انتقلنا معه إلى:
مقام سادس: وهو أنه هل كان يمكنه التعبير والإفصاح عن الحق كما فعلتم أنتم بزعمكم أو لم يكن ذلك ممكنا له فإن لم يكن ذلك ممكنا له كان تعجيزا له ولمرسله عن أمر قدر عليه أفراخ الفلاسفة وتلامذة اليهود وأوقاح المعتزلة والجهمية وإن كان ممكنا له ولم يفعله كان ذلك غشا للأمة وتوريطا لها في الجهل بالله وأسمائه وصفاته واعتقاد مالا يليق بعظمته فيه وأن الجهمية والمعتزلة وأفراخ اليونان وورثة الصابئين والمجوس هم الذين نزهوا الله سبحانه عما لا يليق به ووصفوه بما يليق به وتكلموا بالحلق الذي كتمه الرسول
وهذا أمر لا محيد لكم عنه فاختاروا أي قسم شئتم من هذه الأقسام.
والظاهر أنكم متنازعون في الاختيار وأن عقلاءكم مختارون أن الرسول كان يدري الحق في خلاف ما أخبر به وإن كان قادرا على التعبير عنه ولكن ترك ذلك خشية التنفير فخاطب الناس خطابا جمهوريا يناسب عقولهم بما الأمر بخلافه وهذا أحسن أقوالكم إذا آمنتم بالرسول وأقررتم بما جاء به.
الوجه السابع والثلاثون: إنه إذا جوز أن يكون في العقل ما يعارض ما أخبر به الرسول كان الإيمان الجازم موقوفا على العلم بانتفاء ذلك المعارض ومشروطا به والمشروط بالشيء يعدم عند عدمه ومعلوم أن ما يستخرجه الناس بعقولهم أمر لا غاية له سواء كان حقا أو باطلا فإذا جوز المجوز أن يكون في المعقولات ما يناقض خبر الرسول لم يمكنه أن يثق بشيء من أخبار الرسول لجواز أن يكون في المعقولات
التي لم تظهر له بعد ما يناقض خبره فإن قال أنا أقر من السمعيات بما لم ينفه العقل وأثبت من الصفات مالم يخالفه العقل لم يكن لقوله ضابط فإنه وقف التصديق بالسمع على أمر لا ضابط له وما كان مشروطا بعدم أمر لا ينضبط لم ينضبط فلا يبقى مع هذا الأصل إيمان جازم البتة.
ولهذا تجد من تعود معارضة الشرع بالرأي لا يستقر في قلبه إيمان أبدا ولا يكون الرجل مؤمنا حتى يؤمن بالرسول إيمانا جازما ليس مشروطا بعدم معارض فإذا قال أنا أؤمن بخبره مالم يظهر له معارض يدفعه لم يكن مؤمنا به كما لو قال أنا أشهد أن لا إله إلا الله إلا أن يكون في العقل دليل يدل على إثبات إله آخر أو يقول أنا أؤمن بالمعاد إلا أن يكون في العقل دليل ينفيه أو يقول أنا أؤمن بالرسول إلا أن يكون في العقل ما يبطل رسالته فهذا وأمثاله ليس بمؤمن جازم بإيمانه وأحسن أحواله أن يكون شاكا.
الوجه الثامن والثلاثون: إن طرق العلم الحس والعقل والمركب منهما فالمعلومات ثلاثة أقسام:
أحدهما: ما يعلم بالعقل
والثاني: ما يعلم بالسمع
والثالث: ما يعلم بالعقل والسمع
وكل منهما ينقسم إلى ضروري ونظري وإلى معلوم ومظنون وموهوم فليس كل ما يحكم به العقل علما بل قد يكون ظنا وقد يكون وهما كاذبا كما أن ما يدركه السمع والبصر كذلك.
فلا بد من حكم يفصل بين هذه الأنواع ويميز بين معلومها ومظنونها وموهومها فإذا اتفق العقل والسمع والعقل والحس على قضية كانت معلومة يقينية وإن انفرد بها الحس عن العقل كانت وهمية كما ذكر من أغلاط الحس في رؤية المتحرك أشد الحركة وأسرعها ساكنا والساكن متحركا والواحد اثنين والإثنين واحدا والعظيم الجرم صغيرا والصغير كبيرا والنقطة دائرة وأمثال ذلك.
فهذه الأمور يجزم بغلطها تفرد الحس بها عن العقل وكذلك حكم السمع قد يكون كاذبا وقد يكون صادقا ضرورة ونظرا وقد يكون ظنيا فإذا قارنه العقل كان حكمه علما ضروريا أو نظريا كالعلم بمجرد الأخبار المتواترة فإنه حصل بواسطة السمع والعقل فإن السمع أدى إلى العقل ما سمعه من ذلك والعقل حكم بأن المخبرين لا يمكن تواطؤهم على الكذب فأفاده علما ضروريا أو نظريا على الاختلاف في ذلك بوجود المخبر به والنزاع في كونه ضروريا أو نظريا لفظي لا فائدة فيه.
وكذلك الوهم يدرك أمورا لا يدري صحيحة هي
إم باطلة فيردها إلى العقل الصريح فما صححه منها قبله وما حكم ببطلانه رده فهذا أصل يجب الاعتناء به ومراعاته وبه يعلم الصحيح من الباطل فإذا عرف هذا فمعلوم أن السمع الذي دل العقل على صحته أصح من السمع الذي لم يشهد له عقل ولهذا كان الخبر المتواتر أعرف عند العقل من الآحاد وما ذاك إلا لأن دلالة العقل قد قامت على أن المخبرين لا يتواطؤن على الكذب وإن كان الذي أخبروا به مخالفا لما اعتاده المخبر وألفه وعرفه فلا تجد محيدا عن تصديقهم فالأدلة العقلية البرهانية على صدق الرسل وتثبيت نبوتهم أضعاف الأدلة الدالة على صدق المخبرين خبر التواتر فإن أولئك لم يقم على صدق كل واحد منهم دليل وإنما أفاد اجتماعهم على الخبر دليلا على صدقهم والرسل صلاة الله وسلامه عليهم قد قامت البراهين اليقينية على صدق كل فرد منهم وقد اتفقت كلمتهم وتواطأ خبرهم على إثبات العلو والفوقية لله وأنه على عرشه فوق سمواته بائن من خلقه وأنه مكلم متكلم آمر ناه يرضى ويغضب ويثيب ويعاقب ويحب ويبغض.
فإفادة خبرهم العلم لمخبره أعظم من إفادة الأخبار المتواترة لمخبرها فإن الأخبار المتواترة مستندة إلى حس قد
يغلط وأخبار الأنبياء مستندة إلى وحي لا يغلط فالقدح فيها بالعقل من جنس شبه السوفسطائية القادحة في الحس والعقل ولو التفتنا إلى كل شبهة يعارض بها الدليل القطعي لم يبق لنا وثوق بشيء نعلمه بحس أو عقل أو بهما يوضحه
الوجه التاسع والثلاثون: إن المعلومات الغائبة التي لا تدرك إلا بالخبر أضعاف أضعاف المعلومات التي تدرك بالحس والعقل بل لا نسبة بينهما بوجه من الوجوه ولهذا كان إدراك السمع أعم وأشمل من إدراك البصر فإنه يدرك الأمور المعدومة والموجودة والحاضرة والغائبة والعلوم التي لا تدرك بالحس وهذه حجة من فضل السمع على البصر من النظار وغيرهم وخالفهم آخرون فرجحوا البصر على السمع لقوة إدراكه وجزمه بما يدركه وبعده من الغلط وبين الفريقين مباحثات يطول ذكرها قد ذكرها ابن قتيبة وأبو المعالي الجويني وغيرهما.
وفصل النزاع بينهما أن ما يدرك بالسمع أعم وأشمل وما يدرك بالبصر أتم وأكمل فهذا له القوة والتمام وذاك له العموم والإحاطة والمقصود أن الأمور الغائبة عن الحس نسبه المحسوس إليها كقطر في بحر ولا سبيل إلى العلم بها إلا بخبر الصادق وقد اصطفى الله من خلقه أنبياء نبأهم من هذا الغيب بما يشاء وأطلعهم منه على ما لم يطلع عليه غيرهم كما قال تعالى {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران179] وقال تعالى {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [الجن26 ، 27] وقال تعالى {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج75] فهو سبحانه يصطفي من يطلعه من أنباء الغيب على ما لم يطلع عليه غيره ولذلك سمي نبيا من الإنباء
وهو الإخبار لأنه مخبر من جهة الله ومخبر عنه فهو منبأ ومنبىء وليس كل ما أخبر به الأنبياء يمكن معرفته بدون خبرهم بل ولا أكثره ولهذا كان أكمل الأمم علما أتباع الرسل وإن كان غيرهم أحذق منهم في علم الرمل والنجوم والهندسة والسفسطة وعلم الكم المتصل والمنفصل وعلم النبض والقارورة والأبوال ومعرفة قوامها وطعومها ورائحتها ونحوها من العلوم التي لما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بها وآثروها على علوم الرسل وما جاءوا به وهي كما قال الواقف على نهاياتها الواصل إلى غاياتها وهي بين ظنون كاذبة وإن بعض الظن إثم وبين علوم غير نافعة نعوذ بالله من علم
لا ينفع وإن نفعت فنفعها بالنسبة إلى علوم الأنبياء كنفع العيش العاجل بالنسبة إلى الآخرة ودوامها.
فليس العلم في الحقيقة إلا ما أخبرت به الرسل عن الله عز وجل طلبا وخبرا فهو العلم المزكي للنفوس المكمل للفطر المصحح للعقول الذي خصه الله باسم العلم وسمى ما عارض ظنا لا يغني من الحق شيئا وخرصا وكذبا فقال تعالى {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [آل عمران61] وشهد لأهله أنهم أولو العلم فقال تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} [الروم56] وقال {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران18] والمراد أولو العلم بما أنزله على رسله ليس إلا وليس المراد أولو العلم بالمنطق والفلسفة وفروعهما.
وقال تعالى {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه114] فالعلم الذي أمره باستزادته هو علم الوحي لا علم الكلام والفلسفة والمنطق. وقال تعالى {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء166] أي أنزله وفيه علم لا يعلمه البشر. فالباء للمصاحبة مثل قوله {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود14] أي أنزل وفيه علم الله وذلك من أعظم البراهين على صحة نبوة من جاء به. ولم يصنع شيئا من قال إن المعنى أنزله وهو يعلمه وهذا وأن كان حقا فإن الله يعلم كل شيء فليس في ذلك دليل وبرهان على صحة الدعوى فإن البله يعلم الحق والباطل بخلاف ما إذا كان المعنى أنزله متضمنا لعلمه الذي لا يعلمه غيره إلا من أطلعه عليه وأعلمه به
فإن هذا من أعظم أعلام النبوة والرسالة وقال فيما عارضه من الشبه الفاسدة التي يسميها أربابها قواطع عقلية {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [النجم28] وقال {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [148] وقال لمن أنكر المعاد بعقله {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَاّ يَظُنُّونَ} [الجاثية24] والظن الذي أثبته سبحانه للمعارضين نصوص الوحي بعقولهم ليس هو الاعتقاد الراجح بل هو أكذب الحديث.
وقال {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} [الذاريات10 ، 11] وأنت إذا تأملت ما عند هؤلاء المعارضين لنصوص الأنبياء بعقولهم رأيته كله خرصا وعلمت أنهم هم الخراصون.
وإن العلم في الحقيقة ما نزل به الوحي على الأنبياء والمرسلين وهو الذي أقام الله به حجته وهدى به أنبياءه ورسله وأتباعهم به وأمتن عليه فقال {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [151البقرة ، 152] وقال {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء113] وقال {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران164] وقال {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة2]
فهذه النعمة والمنة والتزكية إنما هي لمن عرف أن ما جاء به الرسول وأخبر به عن الله وصفاته وأفعاله هو الحق كما أخبر به لا كمن زعم أن ذلك مخالف لصريح العقل وأن العقول مقدمة عليه والله المستعان.
الوجه الأربعون: إن علم الأنبياء وما جاءوا به عن الله لا يمكن أن يدرك بالعقل ولا يكتسب وإنما هو وحي أوحاه الله إليهم بواسطة الملك أو كلام يكلم به رسوله منه إليه بغير واسطة كما كلم موسى وهذا متفق عليه بين جميع أهل الملل المقرين بالنبوة والمصدقين بالرسل وإنما خالفهم في ذلك جهلة الفلاسفة وسفلتهم الذين يقولون إن الأنبياء يعلمون ما يعلمونه بقوة عقلية وهم أكمل من غيرهم في قوة الحدس ويسمونها القوة القدسية قالوا ويتميز النبي عن غيره بقون التخيل والتخييل فيتخيل الأمور للعقول في الصور المحسوسة ويخيلها إلى الناس في قوالب تلك الصور ويتميز أيضا بقوة النفس فيتصرف بقوتها في مواد العلم وعناصره بقلب بعضها إلى بعض فهذه عندهم خواص النبوة فالأنبياء عندهم من جنس غيرهم من البشر
ونبواتهم من جنس صنائع الناس وسياساتهم ورياضاتهم حتى قال أقرب هؤلاء إلى الإسلام اعلم أن أصول الصناعات أربعة صنعة التجارة والحدادة والنساجة والسياسة وأصعبها صنعة السياسة وأصعب هذه الصناعة صناعة النبوة هذا كلامه بعينه في كتابه.
فلما كانت النبوة عندهم في هذه المرتبة كانت علومها وأعمالها من جنس علوم البشر وأعمالهم فالعقل مشترك بينهم وبين كافة العقلاء فلما جاءت الرسل بما لا تدركه عقولهم وليس في قواعدهم ونظرهم ومنطقهم ما يدل عليه قابلوه بالإنكار وقالوا قد تعارض العقل وما جئتم به وإذا تعارض العقل وخبركم فلا سبيل إلى تقديم أخباركم على العقل لأن ذلك يتضمن القدح فيه فهؤلاء هم الذين عارضوا أولا بين العقل والوحي وهم الذين أسسوا هذه القاعدة ووضعوا هذا البناء إذ كانت علوم الأنبياء وعقولهم عندهم من جنس علومهم وعقولهم وربما رجحوا علم الفيلسوف وعقله وبعضهم يرجح النبي من وجه والفيلسوف من وجه فهؤلاء إذا عارضوا بين العقل والنقل ثم قدموا العقل على النقل عملوا بمقتضى أصولهم وقواعدهم أما من عرف الرسل وأمرهم وعلم أن الله أرسلهم وأوحى إليهم من غيبه ما لم يطلع عليه سواهم وأن
نسبة عقول العالمين وعلومهم إليهم أقل بكثير من نسبة عقول صبيان المكاتب إلى عقول العقلاء وأن بين ما جاءوا به من عند الله وبين ما عند هؤلاء كما يدخل الرجل أصبعه في اليم والأمر فوق ذلك يوضحه
الوجه الحادي والأربعون: وهو أن يقال لهؤلاء المعارضين بين العقل ونصوص الوحي أخبرونا عن خلق هذا النوع الإنساني من قبضة تراب وعن رجل دعا على قومه أن لا يدع الله منهم على الأرض ديارا فأرسل السماء عليهم وأنبع الماء من تحتهم حتى علا الماء فوق رؤوس شواهق الجبال علوا عظيما ثم ابتلعته الأرض شيئا فشيئا حتى عادت يبسا.
وعن رجل دعا على قومه وهم أعظم الناس أجساما وأشدهم قوة فأرسلت عليهم بدعوته ريح عاصف جعلت تحملهم بين السماء والأرض ثم تدق أعناقهم.
وعن أمة كذبت نبيها وسألوه آية فانفلقت صخرة بمحضر لهم وتمخضت عن ناقة من أعظم النوق قائمة وشكلا وهيئة فلما تمادوا على تكذيبه سمعوا صيحة من
السماء قطعت أكبادهم وقلوبهم في أجوافهم فماتوا موتة رجل واحد.
وعن نار عظيمة أوقدت برهة من الدهر حتى كان الطير يمر عليها من عال فيقع مشويا ألقي فيها رجل مكتوفا فصارت عليه بردا وسلاما وعادت روضة خضرا وماء جاريا وعن رجل ألقى عصا في يده فعادت ثعبانا عظيما ابتلع ما بحضرته من حبال وعصي لا يحصيها إلا الله ثم عادت عصا كما كانت وعن يد أدخلها صاحب هذه العصا إلى جيبه ثم أخرجها فإذا لها شعاع كشعاع الشمس وعن ماء انقلب دما في آنيته ومواضعه وعن كثيب عظيم ضربه بعصاه فاستحال قملا كله سلط على أهل بلد عظيم وعن بحر ضربه بعصاه فانفلق إثني عشر طريقا ثم أرسلت عليه الريح والشمس فأيبسته في ساعة وقام الماء بين تلك الطرق كالحياض فلما جاوزه وسلكه آخرون ضربه بعصاه فالتأم عليهم فلم يفلت منهم إنسان وعن جبل قلع من مكانه على قدر عسكر عظيم
حتى رفع فوق رؤوسهم وقيل لهم إن تقبلوا ما أمرتم به وإلا أطبق عليكم ثم رد إلى مكانه وعن قوم أمسوا وهم في صور بني آدم فأصبحوا وهم في صور القردة والخنازير.
وعن مدن قلعت من أصولها ثم رفعت في الهواء ثم أفلت بأهلها وجعل عاليها سافلها وأتبعت بمطر من الحجارة وعن رجل ولد من غير أب وامرأة خرجت من غير أم ورجل يمسح على عين الذي ولد أكمه ويدعو الله فإذا به يبصر بعينين كالصحيح ويمسح الأبرص ليبرأ كأن لم يكن به بأس وينفخ في كبة من الطير فينقلب طائرا له لحم ودم وريش وجماعة ينامون في غار ثلثمائة وتسع سنين لم تأكل الأرض لحومهم ثم ينتبهون من نومهم قياما ينظرون وعن رجل أدركه الموت هو وحماره فمكثا مائة عام ثم قام الرجل حيا وشاهد عظام حماره وهي تكسى اللحم ويتصل بعضها ببعض حتى قام الحمار حيا وشاهد طعامه لم يتغير بل هو على حاله وعن قتيل قتل بين ظهراني قوم فأمرهم نبيهم أن يذبحوا البقرة ويضربوه ببعضها ففعلوا فقام القتيل حيا ناطقا وقال فلان قتلني.
وعن رسول سأله قومه آية فأومأ إلى القمر فانشق فلقتين وهم يشاهدونهما ثم عاد فالتأم وقدم السفر فأخبروا برؤية ذلك عيانا.
وأنه قبض قبضة من تراب ثم رمى بها في وجوه عسكر لا يلتقي طرفاه فلم يبق منهم أحد إلا ملأت عينه وأنه وضع يده في ماء لا يواريها فعاد الماء حتى ملأوا منه كل قربة وكل وعاء في العسكر الجرار وأن جماعة كثيرة
شبعت من برمة بقدر جسم القطا وأن جذعا حن حنين الناقة العشار إلى ولدها إليه وأن الحصى كان يسبح في كفه وكف بعض أصحابه تسبيحا يسمعه الحاضرون وأن الحجر كان يسلم عليه سلاما يسمعه بأذنه وأن بطنه شق من ثغرة نحره إلى أسفله ثم استخرج قلبه فغسل ثم أعيد وهو حي ينظر وأن
شجرتين دعا بهما فأقبلتا تجران الأرض حتى قامتا بين يديه فالتزقتا ثم رجعت كل واحدة منها إلى مكانها وأن ذيبا تكلم وأن بقرة
تكلمت وأن نبيا كان يأمر بعسكره فيقعد على بساط فرسخ في فرسخ فيأمر الريح فترتفع به بين السماء والأرض فتحمل العسكر على متنها مسيرة شهر مقبلة ومسيرة شهر مدبرة في كل يوم واحد وأنه أمر بسرير عظيم لملكة فشق الأرض وصار بين يديه في اسرع من رد الطرف إلى أضعاف أضعاف ما ذكرنا مما يشاهده الناس بأبصارهم عيانا.
فهل مخالفة الأدلة القطعية لما أخبرت به الأنبياء عن الله أعظم من مخالفتها لهذه الأمور والشبه العقلية التي تذكر على استحالة هذه الأمور أكثر واقوى من الشبه التي يذكرونها في معارضة نصوص الوحي بل لا نسبة بينهما فإذا تعارضت أدلة العقول بزعمكم وهذه الأمور ماذا تصنعون؟
أتقدمونها على أدلة العقول فتدخلون في المؤمنين بالله ورسله أم تكذبون بذلك وتقولون العقل يناقض ذلك ويبطله ومعارضة العقل عندكم لهذه الآيات من جنس معارضته لخبر الأنبياء لا فرق بينهما البتة بل الشبه التي يقيمها أعداء الرسل من العقل على بطلان هذه الآيات أقوى من الشبه التي ذكرها الجهمية والنفاة على بطلان ما أخبرت به الرسل من صفات الله وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه وكلامه وتكليمه وقيام أفعاله به.
فعلم أن من قدم ما يظنه من العقل على نصوص الوحي لم يبق معه من الإيمان بالرسل عين ولا أثر ولا حس ولا خبر.
وإذا كان هذا حالهم في الأمور التي قد وقعت وشاهدها الناس بأبصارهم فكيف حالهم في الإيمان ببشر ينزل من السماء بين ملكين واضعا يديه على مناكبهما والناس يرونه عيانا وكيف حالهم في الإيمان بأن الشمس تطلع من
مغربها والناس يرونها عيانا وكيف بحالهم إلى غير ذلك مما أخبر به الصادق كدابة تنشق عنها الأرض فتخرج تكلم الناس وتخاطبهم إلى غير ذلك مما يقيمون بعقولهم شبها يسمونها أدلة عقلية تحيل ذلك فمن قدم العقل على الوحي لم يمكنه أن يجزم بصدق شيء من ذلك والله المستعان.
الوجه الثاني والأربعون: إن هؤلاء عكسوا شرعة الله وحكمته وضادوه في أمره فإن الله سبحانه جعل الوحي إماما والعقل مؤتما به وجعله حاكما والعقل محكوما عليه ورسولا والعقل مرسلا إليه وميزانا والعقل موزونا به وقائدا والعقل منقادا له فصاحب الوحي مبعوث وصاحب العقل مبعوث إليه
والآتي بالشرع مخصوص بوحي من الله وصاحب العقل مخصوص ببحث عن رأي وفكرة وصاحب الوحي ملقى وصاحب العقل كادح طالب هذا يقول أمرت ونهيت وأوحى إلي وقيل لي وما أقول شيئا من تلقاء نفسي ولا من قبل عقلي ولا من جهة فكري ونظري وذاك المتخلف يقول نظرت ورأيت وفكرت وقدرت واستحسنت واستنتجت والمتخلف يقول معي آلة المنطق والكليات الخمس والمقولات العشر والمختلطات والموجهات أهتدي بها والرسول يقول معي كتاب الله وكلامه ووحيه والمتخلف يقول معي العقل والرسول يقول معي نور خالق العقل به أهدي وأهتدي والرسول يقول قال الله كذا قال جبريل عن الله كذا والمتخلف يقول قال أفلاطون قال بقراط قال أرسطو
كذا قال ابن سينا قال الفارابي.
فيسمع من الرسول ظاهر التنزيل وصحيح التأويل وشرع سنة وأمر بمعروف ونهي عن منكر وخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وخبر عن السماء والملائكة واليوم الاخر ويسمع من الآخر الهيولى والصورة والطبيعة والاستقص والذاتي والعرض والجنس والنوع والفصل والخاصة والأيس والليس وعكس النقيض
والعكس المستوي وما شاكل هذا مما لا يسمع من مسلم ولا يهودي ولا نصراني ولا مجوسي إلا من رضي لنفسه بما يرضى به هؤلاء المتخلفون لأنفسهم ورغب فيما رغبوا فيه وبالجملة فهما طريقان متباينان فمن أراد أن يتمعقل بعقول هؤلاء فليعزل نظره عن الوحي ويخلي بينه وبين أهله ومن أحب أن يكون من أهل العقل والوحي فليعتصم بالوحي ويستمسك بغرز من جاء به ويسلم إليه أعظم من تسليم الصبي لأستاذه ومعلمه بكثير فإن
التباين الذي بين النبي وبين صاحب المعقول أضعاف أضعاف التباين الذي بين الصبي والأستاذ.
ومن العجب أن هؤلاء المقدمين عقولهم على الوحي خاضعون لأئمتهم وسلفهم مستسلمون لهم في أمور كثيرة يقولون هم أعلم بها منا وعقولهم أكمل من عقولنا فليس لنا أن نعترض عليهم فكيف يعترض على الوحي بعقله من نسبته إليه أدق وأقل من نسبة عقل الطفل إلى عقله وجماع الأمر أن قضايا المعقول مشتملة على العلم والظن والوهم وقضايا الوحي كلها حق فأين قضايا مأخوذة عن عقل قاصر عاجز عرضة للخطأ من قضايا مأخوذة عن خالق العقول وواهبها هي كلامه وصفاته
الوجه الثالث والأربعون: إن العقل تحت حجر الشرع فيما يطلبه ويأمر به وفيما يحكم به ويخبر عنه فهو محجور عليه في الطلب والخبر وكما أن من عارض أمر الرسل بعقله لم يؤمن بهم وبما جاءوا به فكذلك من عارض خبرهم بعقله ولا فرق بين الأمرين أصلا يوضحه أن الله سبحانه وتعالى حكى عن الكفار معارضة أمره بعقولهم كما حكى عنهم معارضة خبره بعقولهم.
أما الأول: ففي قوله تعالى {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة275] فعارضوا تحريمه للربا بعقولهم التي سوت بين الربا والبيع فهذا معارضة النص بالرأي ونظير ذلك مما عارضوا به تحريم الميتة بقياسها على المذكي وقالوا تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون مما قتل الله وفي ذلك أنزل الله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام121] .
وعارضوا أمره بتحويل القبلة بعقولهم وقالوا إن كانت القبلة الأولى حقا فقد تركت الحق وإن كانت باطلا فقد كنت على باطل وإمام هؤلاء شيخ الطريقة إبليس عدو الله فإنه أول من عارض أمر الله بعقله وزعم أن العقل يقتضي خلافه.
وأما الثاني وهو معارضة خبره بالعقل فكما حكى سبحانه عن منكري المعاد أنهم عارضوا ما أخبر به عنه بعقولهم فقال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس78] وأخبر سبحانه أنهم عارضوا ما أخبر به من التوحيد بعقولهم وعارضوا أخباره عن النبوات بعقولهم وعارضوا بعض الأمثال التي ضربها بعقولهم وعارضوا أدلة نبوة رسوله بمعارضة عقلية وهي قولهم:
{لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف31] . وأنت إذا صغت هذه المعارضة صوغا مزخرفا وجدتها من جنس معارضة المعقول بالمنقول وعارضوا آيات نبوته بمعارضة عقلية أخرى وهي قولهم: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان8 ، 7] أي لو كان رسولا لخالق السموات والأرض لما أحوجه أن يمشي بيننا في الأسواق في طلب المعيشة ولأغناه عن أكل الطعام ولأرسل معه ملكا من الملائكة ولألقى إليه كنزا يغنيه عن طلب الكسب وعارضوا شرعه سبحانه ودينه الذي شرعه لهم على لسان رسوله وتوحيده بمعارضة عقلية استندوا فيها على القدر فقال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام149 ، 148] .
وحكى مثل هذه المعارضة عنهم في سورة النحل وفي الزخرف وإذا تأملتها حق التأمل رأيتها أقوى بكثير من معارضه النفاة آيات الصفات وأخبارهم بعقولهم فإن إخوانهم عارضوا بمشيئة الله الكائنات والمشيئة ثابتة في نفس الأمر والنفاة عارضوا بأصول فاسدة وهم وضعوها من تلقاء أنفسهم أو تلقوها عن أعداء الرسل من الصابئة والمجوس والفلاسفة وهي خيالات فاسدة ووهميات ظنوها قضايا عقلية وبالجملة فمعارضة أمر الرسل وخبرهم بالمعقولات إنما هي طريقة الكفار فهم سلف للخلف بعدهم فبئس السلف وبئس الخلف ومن تأمل معارضة المشركين والكفار للرسل بالعقول وجدها أقوى من معارضة الجهمية والنفاة لخبرهم عن الله وصفاته وعلوه على خلقه وتكليمه لملائكته ورسله بعقولهم فإن كانت تلك المعارضة باطلة فهذه أبطل وإن صحت هذه المعارضة فتلك أولى بالصحة منها وهذا لا محيد لهم عنه يوضحه
الوجه الرابع والأربعون: إن القرآن مملوء من ذكر الصفات والعلو على الخلق والاستواء على العرش وتكلم الله وتكليمه للرسل وإثبات الوجه واليدين والسمع والبصر والحياة والمحبة والغضب
والرضى للرب سبحانه وهذا عند النفاة بمنزلة وصفه بالأكل والشرب والجوع والعطش والنوم والموت كل ذلك مستحيل عليه ومعلوم أن أخبار الرسول عنه سبحانه بما هو مستحيل عليه من أعظم المنفرات عنه ومعارضته فيه أسهل من معارضته فيما عداه ولم يعارضه أعداؤه في حرف واحد من هذا الباب ولا أنكروا عليه كلمة واحدة منه مع حرصهم على معارضته بكل ما يقدرون عليه فهلا عارضوه بما عارضته به الجهمية والنفاة وقالوا قد أخبرتنا بما يخالف العقل الصريح فكيف يمكننا تصديقك بل كان القوم على شركهم وضلالهم أعرف بالله وصفاته من النفاة الجهمية وأقرب إلى إثبات الأسماء والصفات والقدر والمشيئة والفعل من شيوخ هؤلاء الفلاسفة وأتباعهم من السيناوية والفارابية والطوسية الذين ليس للعالم عندهم رب يعبد ولا رسول يطاع ولا معاد للخليقة ولا يزيل الله هذا العالم ويأتي بعالم آخر فهذه الأصول قد اشتركت فيها أعداء الرسل وامتازت كفار قريش بإثباتهم الربوبية والصفات والملائكة وخلق العالم وكون الرب فاعلا
بمشيئته وقدرته ولهذا لم يعارضوا الرسول في شيء من ذلك.
الوجه الخامس والأربعون: أنه لو جاز أن يكون في العقول ما يناقض خبر الرسول لم يتصور الإيمان به البتة لوجهين:
أحدهما: أنه لا سبيل إلى العلم بانتفاء جميع المعارض وما علق على الممتنع فهو ممتنع.
الثاني: أن تصديقهم والإيمان بهم يكون موقوفا على الشرط والإيمان لا يصح تعليقه بالشرط فلو قال آمنت بالرسول إن أذن لي أبي أو إن أعطيتموني كذا أو إن جعل لي الأمر من بعده ونحو ذلك لم يكن مؤمنا بالاتفاق كما قال مسيلمة إن جعل محمد الأمر لي من بعده آمنت به فلم يصر مؤمنا بذلك وكان من أكفر الكفار فهكذا إذا قال آمنت بما أخبر به إلا ان يعارضه دليل عقلي وهذا حقيقة قول هؤلاء فإن هذا لم يؤمن به باتفاق الأمة وهذا كما أنه كفر في الشرع فهو فاسد في العقل فالواجب على الخلق الإيمان بالرسول إيمانا مطلقا جازما غير معلق على شرط ومن قال أصدق بما صدق عقلي به وأرد ما رده عقلي أو عقل من هو أعقل مني أو مثلي فهو كافر باتفاق الأمة فاسد العقل وهو نظير طائفة من اليهود يقولون نصدق أنه رسول الله حقا ولكن لم يبعث إلينا وإنما بعث إلى العرب فهذا في إنكار عموم رسالته في المرسل إليهم نظير إنكار
عموم رسالته في المرسل به فتأمله وهؤلاء شر من الذين قال الله فيهم {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام124] فأولئك وقفوا الإيمان على أن يؤتوا نظير ما جاءت به الرسل وهؤلاء وقفوه على ما يناقض ما جاءت به الرسل.
الوجه السادس والأربعون: إن هذه المعارضة ميراث بالتعصيب من الذين ذمهم الله في كتابه بجدالهم في آياته بغير سلطان وبغير علم وأخبر أن مصدر تلك المجادلة كبر واستكبار عن قبول الحق ممن يرون أنهم أعلم منهم كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر83] وهذا شأن النفوس الجاهلة الظالمة إذا كان عندها شيء من علم قد تميزت به عمن هو أجهل منها وحصل لها به نوع رياسة ومال فإذا جاءها من
هو أعلم منها بحيث تمحى رسوم علومها ومعارفها في علمه ومعرفته عارضته بما عندها من العلم وطعنت فيما عنده بأنواع المطاعن قال تعالى {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر35 ، 34] وقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَاّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر56] والسلطان هو الكتاب المنزل من السماء وقال تعالى {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقّ} [غافر5] وقال تعالى {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَاّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً} [الكهف56] وهذا كثير في القرآن يذم به سبحانه الذين عارضوا كتبه
ورسله بما عندهم من الرأي والمعقول والبدع والكلام الباطل مشتق من الكفر فمن عارض الوحي بآراء الرجال كان قوله مشتقا من أقوال هؤلاء الضلال قال مالك أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى النبي لجدله ومن وقف على أصول هؤلاء المعارضين ومصدرها تبين له أنها نشأت من أصلين:
من كبر عن اتباع الحق وهوى معمي للبصيرة وصادمته شبهات كالليل المظلم فكيف لا يعارض من هذا وصفه خبر الأنبياء بعقله وعقل من يحسن به الظن ثم دخلت تلك الشبهات في قلوب قوم لهم دين وعندهم إيمان وخير فعجزوا عن دفعها فاتخذوها دينا وظنوها تحقيقا لما بعث الله به رسوله فحاربوا عليها واستحلوا ممن خالفهم فيها ما حرمه الله ورسوله وهم بين جاهل مقلد ومجتهد مخطىء حسن القصد وظالم معتد متعصب والقيامة موعد الجميع والأمر يومئذ لله.
الوجه السابع والأربعون: إن دلالة السمع على مدلوله متفق عليها بين العقلاء وإن اختلفوا في جهتها هل هي قطعية أو ظنية وهل أرادت الرسل إفهام مدلولها واعتقاد ثبوته أم أرادت إفهام غيره وتأويل تلك الأدلة وصرفها عن ظاهرها فلا نزاع بين العقلاء في دلالتها على مدلولها ثم قال أتباع الرسل مدلولها ثابت في نفس الأمر وفي الإرادة وقالت النفاة أصحاب التأويل مدلولها منتف في نفس الأمر وفي الإرادة وقال أصحاب التخييل مدلولها ثابت في الإرادة منتف في نفس الأمر وأما دلالة ما عارضها من العقليات على مدلوله فلم يتفق أربابها على دليل واحد منها بل كل طائفة منهم تقول في أدلة خصومها إن العقل يدل على فسادها لا على صحتها وأهل السمع مع كل طائفة تخالفه في دلالة العقل على فساد قول تلك الطائفة المخالفة للسمع فكل طائفة تدعي فساد قول خصومها بالعقل يصدقهم أهل السمع على ذلك ولكن يكذبونهم في دعواهم صحة قولهم بالعقل فقد تضمنت دعوى الطوائف فسادها بفهم من العقل بشهادة بعضهم على بعض وشهادة أهل الوحي والسمع معهم ولا يقال هذا ينقلب عليكم باتفاق شهادة
الفرق كلها على بطلان ما دل عليه السمع وإن اختلفوا في أنفسهم لأن المطلوب أنهم كلهم متفقون على أن السمع دل على الإثبات ولم يتفقوا على أن العقل دل على نقيضه فيمتنع تقديم الدلالة التي لم يتفق عليها على الدلالة المتفق عليها وهو المطلوب.
الوجه الخمسون1: أن يقال كل ما عارض السمع من العقليات ففساده معلوم بالعقل وإن لم يعارض السمع فلسنا متوقفين في إبطاله والعلم بفساده على كونه عارض السمع بل هو باطل في نفسه وفي معارضة السمع له دليل سمعي على بطلانه فقد اتفق على فساده وبطلانه دليل العقل والسمع وما كان هكذا لم يصلح أن يعارض به عقل ولا سمع وتفصيل هذه الجملة ببيان شبهة المخالفين للسمع وبيان فسادها ومخالفتها لصريح العقل وهذا الأمر بحمد الله لم يزل أنصار الرسول يقومون به ويتكفلون ببيانه وهم فيه درجات عند الله على منازلهم من العلم والإيمان والبيان.
1 كذا في ظ، م وكتب في هامشهما هكذا في الأصل، فقد ذكر الوجه السابع والأربعين وأتبعه بالوجه الخمسين ولم يذذكر الوجه الثامن والأربعين أو التاسع والأربعين فلعله سقط أو خطأ من الناسخ.
ولا ترى مسألة واحدة عورض بها الرسول إلا وقد ردها أنصاره وحزبه وبينوا فسادها وسخافة عقل أربابها المعارضين بها في كل نوع من أنواع العلم وقد أجرى الله سنته وعادته أن يكشف عن عورة المعارض ويفضحه ويخذله في عقله حتى يقول ما يضحك منه الإنسان كما خذل المعارض بكلامه حتى أضحك عليه الناس فيما عارضه به وهذا من إتمام أدلة النبوة وبراهين صحة الوحي أن تجد المعارض له يأتي بما يضحك منه العقلاء فلعل قائلا يقول ما جاءت به الرسل قد يكون له معارض صحيح فإذا وقف على المعارض وسخفه وتحقق بطلانه زاده قوة في إيمانه ويقينه وصار ذلك بمثابة رجل ادعى أن معه طيبا ليس مع أحد مثله ولا مثل ريحه فعارضه آخر بأن معه مثله أو أفضل منه فلما أخرجه إذ هو أنتن شيء وأخبثه ريحا ولكن هناك عقول جعلية نشأت في النتن والحشوش فلا تألف غير ما نشأت فيه.
الوجه الحادي والخمسون: إن الأمور السمعية التي يقال إن العقل عارضها كإثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه وتكلمه ورؤية العباد له في الآخرة وإثبات الصفات له هي ما علم بالاضطرار أن الرسول جاء بها وعلم بالاضطرار صحة نبوته
ورسالته وما علم بالاضطرار امتنع أن يقوم على بطلانه دليل وامتنع أن يكون له معارض صحيح إذ لو جاز أن يكون له معارض صحيح لم يبق لنا وثوق بمعلوم أصلا لا حسي ولا عقلي وهذا يبطل حقيقة الإنسانية بل حقيقة الحيوانية المشتركة بين الحيوانات فإن لها تميزا وإدراكا للحقائق بحسبها وهذا الوجه في غاية الظهور غني بنفسه عن التأمل وهو مبني على مقدمتين قطعيتين إحداهما أن الرسول أخبر عن الله بذلك والثانية أنه صادق ففي أي المقدمتين يقدح المعارض بين العقل والنقل.
الوجه الثاني والخمسون: إن دليل العقل هو إخباره عن الذي خلقه وفطره أنه وضع فيه ذلك وعلمه إياه وأرشده إليه.
ودليل السمع هو الخبر عن الله أنه قال ذلك وتكلم به وأوحاه وعرف به الرسول وأمره أن يعرف الأمة ويخبرهم به ولا يكون أحدهما صحيحا حتى يكون الآخر مطابقا لمخبره وأن الأمر كما أخبر به وحينئذ فقد شهد العقل لخبر الرسول بأنه صدق وحق فعلمنا مطابقته لمخبره بمجموع الأمرين بخبر الرسول به وشهادة العقل الصريح بأنه لا يكذب في خبره وأما خبر العقل عن الله بما يضاد ذلك بأن الله وضع فيه ذلك وعلمه إياه فلم يشهد
له الرسول بصحة هذا الخبر بل شهد ببطلانه فليس معه إلا شهادته لنفسه بأنه صادق فيما أخبر به فكيف يقبل شهادته لنفسه مع عدم شهادة الرسول له فكيف مع تكذيبه إياه فكيف مع تكذيب العقل الصريح المؤيد بنور الوحي له فكيف مع تهاتر أصحابه وتكاذبهم وتناقضهم يزيده إيضاحا:
الوجه الثالث والخمسون: وهو أن الأدلة السمعية نوعان نوع دل بطريق التنبيه والإرشاد على الدليل العقلي فهو عقلي سمعي ومن هذا غالب أدلة النبوة والمعاد والصفات والتوحيد ما تقدم التنبيه على اليسير جدا منه وإذا تدبرت القرآن رأيت هذا أغلب النوعين عليه وهذا النوع يمتنع أن يقوم دليل صحيح على معارضته لاستلزامه مدلوله وانتقال الذهن فيه من الدليل إلى المدلول ضروري وهو أصل للنوع الثاني الدال بمجرد الخبر فالقدح في النوعين بالعقل ممتنع بالضرورة أما الأول فلما تقدم وأما الثاني فلإستلزام القدح فيه القدح في العقل الذي أثبته
وإذا بطل العقل الذي أثبت السمع بطل ما عارضه من العقليات كما تقدم تقريره يوضحه:
الوجه الرابع والخمسون: إنه ليس في القرآن صفة إلا وقد دل العقل الصريح على إثباتها لله فقد تواطأ عليها دليل العقل ودليل السمع فلا يمكن أن يعارض بثبوتها دليل صحيح البتة لا عقلي ولا سمعي بل إن كان المعارض سمعيا كان كذبا مفترى أو مما أخطأ المعارض في فهمه وإن كان عقليا فهو شبه خيالية وهمية لا دليل عقلي برهاني وأعلم أن هذه دعوى عظيمة ينكرها كل جهمي وناف وفيلسوف وقرمطي وباطني ويعرفها من نور الله قلبه بنور الإيمان وباشر قلبه معرفة الذي دعت إليه الرسل وأقرت به الفطر وشهدت به العقول الصحيحة المستقيمة لا المنكوسة الموكوسة التي نكست قلوب أصحابها فرأت الحق باطلا والباطل حقا والهدى ضلالة والضلالة هدى وقد نبه الله سبحانه في كتابه على ذلك وأرشد إليه ودل عليه في غير موضع منه وبين أن ما وصف به نفسه هو الكمال الذي لا يستحقه سواه فجاحده جاحد لكمال الرب فإنه يمدح بكل صفة وصف بها نفسه وأثنى بها على نفسه ومجد بها نفسه وحمد بها نفسه فذكرها سبحانه على وجه المدحة له والتعظيم
والتمجيد وتعرف بها إلى عباده ليعرفوا كماله وعظمته ومجده وجلاله وكثيرا ما يذكرها عند ذكر آلهتهم التي عبدوها من دونه وجعلوها شركاء له فيذكر سبحانه من صفات كماله وعلوه على عرشه وتكلمه وتكليمه وإحاطة علمه ونفوذ مشيئته ما هو منتف عن آلهتهم فيكون ذلك من أدل الدليل على بطلان آلهيتها وفساد عبادتها من دونه ويذكر ذلك عند دعوته عباده إلى ذكره وشكره وعبادته.
فيذكر لهم من أوصاف كماله ونعوت جلاله ما يجذب قلوبهم إلى المبادرة إلى دعوته والمسارعة إلى طاعته والتنافس في القرب منه ويذكر صفاته أيضا عند ترغيبه لهم وترهيبه وتخويفه ليعرف القلوب من تخافه وترجوه وترغب إليه وترهب منه ويذكر صفاته أيضا عند أحكامه وأوامره ونواهيه فقل أن تجد آية حكم من أحكام المكلفين إلا وهي مختتمة بصفة من صفاته أو صفتين وقد يذكر الصفة في أول الآية ووسطها وآخرها كقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة1] فيذكر صفاته عند سؤال عباده لرسوله عنه ويذكرها
عند سؤالهم له عن أحكامه حتى إن الصلاة لا تنعقد إلا بذكر أسمائه وصفاته فذكر أسمائه وصفاته روحها وسرها يصحبها من أولها إلى آخرها وإنما أمر بإقامتها ليذكر بأسمائه وصفاته وأمر عباده أن يسألوه بأسمائه وصفاته ففتح لهم باب الدعاء رغبا ورهبا ليذكره الداعي بأسمائه وصفاته فيتوسل إليه بها ولهذا كان أفضل الدعاء وأجوبه ما توسل فيه الداعي إليه بأسمائه وصفاته قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف180] وكان اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين آية الكرسي وفاتحة آل عمران لاشتمالهما على صفة الحياة
المصححة لجميع الصفات وصفة القيومية المتضمنة لجميع الأفعال ولهذا كانت سيدة آي القرآن وأفضلها ولهذا كانت سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن لأنها أخلصت للخبر عن الرب تعالى وصفاته دون خلقه وأحكامه وثوابه وعقابه وسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو "اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض ياذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم " وسمع آخر يدعو "اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي
لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد" فقال لأحدهما "لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى " وقال للآخر "سل تعطه" وذلك لما تضمنه هذا الدعاء من أسماء الرب وصفاته وأحب ما دعاه الداعي به أسماؤه وصفاته وفي الحديث الصحيح عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم: " ما أصاب عبدا قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحا" قالوا أفلا نتعلمهن يا رسول الله قال "بلى ينبغي لمن
يسمعهن أن يتعلمهن".
وقد نبه سبحانه على إثبات صفاته وأفعاله بطريق المعقول فاستيقظت لتنبيهه العقول الحية واستمرت على رقدتها العقول الميتة فقال الله تعالى في صفة العلم {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك14] فتأمل صحة هذا الدليل مع غاية إيجاز لفظه واختصاره وقال سبحانه {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل17] فما أصح هذا الدليل وما أوجزه وقال تعالى في صفة الكلام {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} [الأعراف148] نبه بهذا الدليل على أن من لا يكلم ولا يهدي لا يصلح أن يكون آلها وكذلك قوله في الآية الأخرى عن العجل:
{أَفَلا يَرَوْنَ أَلَاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [طه89] فجعل امتناع صفة الكلام والتكليم وعدم ملك الضر والنفع دليلا على عدم الإلهية وهذا دليل عقلي سمعي على أن الإله لا بد أن يكلم ويتكلم ويملك لعابده الضر والنفع وإلا لم يكن إلها وقال: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد10 ، 8] نبهك بهذا الدليل العقلي القاطع أن الذي جعلك تبصر وتتكلم وتعلم أولى أن يكون بصيرا متكلما عالما فأي دليل عقلي قطعي أقوى من هذا وأبين وأقرب إلى المعقول وقال تعالى في آلهة المشركين المعطلين: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف195] فجعل سبحانه عدم البطش والمشي والسمع والبصر دليلا على عدم إلهية من عدمت فيه هذه الصفات فالبطش والمشي من أنواع الأفعال والسمع والبصر من أنواع الصفات.
وقد وصف نفسه سبحانه بضد صفة أربابهم وبضد ما وصفه به المعطلة والجهمية فوصف نفسه بالسمع والبصر والفعل باليدين والمجيء والإتيان وذلك ضد صفات الأصنام التي جعل امتناع هذه الصفات عليها منافيا لإلهيتها فتأمل آيات التوحيد والصفات في القرآن على كثرتها وتفننها واتساعها وتنوعها كيف تجدها كلها قد أثبتت الكمال للموصوف بها وأنه المتفرد بذلك الكمال فليس له فيه شبه ولا مثال وأي دليل في العقل أوضح من إثبات الكمال المطلق لخالق هذا العالم ومدبره وملك السموات والأرض وقيومها فإذا لم يكن في العقل إثبات جميع أنواع الكمال له فأي قضية تصح في العقل بعد هذا ومن شك في أن صفة السمع والبصر والكلام والحياة والإرادة والقدرة والغضب والرضا والفرح والرحمة والرأفة كمال فهو ممن سلب خاصة الإنسانية وانسلخ من العقل بل من شك أن إثبات الوجه واليدين وما أثبته لنفسه معهما كمال فهو مؤوف مصاب في عقله ومن شك أن كونه يفعل باختياره ما يشاء ويتكلم إذا شاء وينزل إلى حيث شاء ويجيء إلى حيث شاء كمال فهو جاهل بالكمال والجامد عنده أكمل من الحي الذي تقوم به الأفعال الاختيارية كما أن عند شقيقه الجهمي
أن الفاقد لصفات الكمال أكمل من الموصوف بها كما أن عند أستاذهما وشيخهما الفيلسوف أن من لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا له حياة ولا قدرة ولا إرادة ولا فعل ولا كلام ولا يرسل رسولا ولا ينزل كتابا ولا يتصرف في هذا العالم بتحويل وتغيير وإزالة ونقل وإماتة وإحياء أكمل ممن يتصف بذلك فهؤلاء كلهم قد خالفوا صريح المعقول وسلبوا الكمال عمن هو أحق بالكمال من كل ما سواه ولم يكفهم ذلك حتى جعلوا الكمال نقصا وعدمه كمالا فعكسوا الأمر وقلبوا الفطر وأفسدوا العقول فتأمل شبههم الباطلة وخيالاتهم الفاسدة التي عارضوا بها الوحي هل تقاوم هذا الدليل الدال على إثبات الصفات والأفعال للرب سبحانه ثم اختر لنفسك بعد ما شئت.
وهذا قطرة من بحر نبهنا به تنبيها يعلم به اللبيب ما وراءه وإلا فلو أعطينا هذا الموضع حقه وهيهات أن يصل إلى ذلك علمنا أو قدرتنا لكتبنا فيه عدة أسفار وكذا كل وجه من هذه الوجوه فإنه لو بسط وفصل لاحتمل سفرا أو أكثر والله المستعان وبه التوفيق.
الوجه الخامس والخمسون: إن غاية ما ينتهي إليه من ادعى معارضة العقل للوحي أحد أمور أربعة لا بد له منها إما تكذيبها وجحدها وإما اعتقاد أن الرسل خاطبوا الخلق بها خطابا جمهوريا
لا حقيقة له وإنما أرادوا منهم التخييل وضرب الأمثال وإما اعتقاد أن المراد تأويلها وصرفها عن حقائقها وما تدل عليه إلى المجازات والاستعارات وإما الإعراض عنها وعن فهمها وتدبرها واعتقاد أنه لا يعلم ما أريد بها إلا الله فهذه أربع مقامات وقد ذهب إلى كل مقام منها طوائف من بني آدم.
المقام الأول: مقام التكذيب والجحد وهؤلاء استراحوا من كلفة النصوص والوقوع في التجسيم والتشبيه وخلعوا ربقة الإيمان من أعناقهم وقالوا لسائر الطوائف منكم إلى هذه النصوص وأما نحن فلسنا منها في شيء لأن عقولنا لما عارضتها دفعناها في صدر من جاء بها وقابلناه بالتكذيب.
المقام الثاني: مقام أهل التخييل قالوا إن الرسل لم يمكنهم مخاطبة الخلق بالحق في نفس الأمر فخاطبوهم بما يخيل إليهم وضربوا لهم الأمثال وعبروا عن المعاني المعقولة بالأمور القريبة من الحس وسلكوا ذلك في باب الإخبار عن الله وأسمائه وصفاته واليوم الاخر وأقروا باب الطلب على حقيقته ومنهم من سلك هذا المسلك في الطلب أيضا وجعل الأمر والنهي أمثالا وإشارات ورموزا فهم ثلاث فرق هذه إحداها.
والثانية: سلكت ذلك في الخبر دون الأمر
والثالثة: سلكت ذلك في الخبر عن الله وصفاته دون المعاد والجنة والنار وذلك كله إلحاد في أسماء الرب وصفاته ودينه واليوم الاخر والملحد لا يتمكن من الرد على الملحد وقد وافقه في الأصل وإن خالفه في فروعه فلهذا استطال على هؤلاء الملاحدة كابن سينا وأتباعه غاية الاستطالة وقالوا القول في نصوص المعاد كالقول في نصوص الصفات.
قالوا بل الأمر فيها أسهل من نصوص الصفات لكثرتها وتنوعها وتعدد طرقها وإثباتها على وجه يتعذر معه التأويل فإذا كان الخطاب بها خطابا جمهوريا فنصوص المعاد أولى قال فإن قلتم نصوص الصفات قد عارضها ما يدل على انتفائها من العقل قلنا ونصوص المعاد قد عارضها من العقل ما يدل على انتفائها ثم ذكر العقليات المعارضة للمعاد بما يعلم به العاقل أن العقليات المعارضة للصفات من جنسها أو أضعف منها.
المقام الثالث: مقام أهل التأويل قالوا لم يرد منا اعتقاد حقائقها وإنما أريد منا تأويلها بما يخرجها عن ظاهرها وحقيقتها فتكلفوا لها وجوه التأويلات المستكرهة والمجازات
المستنكرة التي يعلم العقلاء أنها أبعد شيء عن احتمال ألفاظ النصوص لها وأنها بالتحريف أشبه منها بالتفسير.
والطائفتان اتفقتا على أن الرسول لم يبين الحق للأمة في خطابه لهم ولا أوضحه بل خاطبهم بما ظاهره باطل ومحال ثم اختلفوا فقال أصحاب التخييل أراد منهم اعتقاد خلاف الحق والصواب وإن كان في ذلك مفسدة فالمصلحة المترتبة عليه أعظم من المفسدة التي فيه وقال أصحاب التأويل بل أراد منا أن نعتقد خلاف ظاهره وحقيقته ولم يبين لنا المراد تعريضا لنا إلى حصول الثواب بالاجتهاد والبحث والنظر وإعمال الفكر في معرفة الحق بعقولنا وصرف تلك الألفاظ عن حقائقها وظواهرها لننال ثواب الاجتهاد والسعي في ذلك فالطائفتان متفقتان على أن ظاهر خطاب الرسول ضلال وكفر وباطل وأنه لم يبين الحق ولا هدى إليه الخلق.
المقام الرابع: مقام اللاأدرية الذين يقولون لا ندري معاني هذه الألفاظ ولا ما أريد منها ولا ما دلت عليه وهؤلاء ينسبون طريقتهم إلى السلف وهي التي يقول المتأولون إنها أسلم ويحتجون عليها بقوله تعالى:
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَاّ اللَّهُ} [آل عمران7] ويقولون هذا هو الوقف التام عند جمهور السلف وهو قول أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وغيرهم من السلف والخلف وعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ولا الصحابة والتابعون لهم بإحسان بل يقرأون كلاما لا يعقلون معناه ثم هم متناقضون أفحش تناقض فإنهم يقولون تجري على ظاهرها وتأويلها باطل ثم يقولون لها تأويل لا يعلمه إلا الله وقول هؤلاء أيضا باطل فإن الله سبحانه أمر بتدبر كتابه وتفهمه وتعقله وأخبر أنه بيان وهدى وشفاء لما في الصدور وحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ومن أعظم الاختلاف اختلافهم في باب الصفات والقدر والأفعال واللفظ الذي لا يعلم ما أراد به المتكلم لا يحصل به حكم ولا هدى ولا شفاء ولا بيان وهؤلاء طرقوا لأهل الإلحاد والزندقة والبدع أن يستنبطوا الحق من عقولهم وآرائهم فإن النفوس طالبة لمعرفة هذا الأمر أعظم طلب والمقتضى التام لذلك فيها موجود فإذا قيل لها إن ألفاظ القرآن والسنة في ذلك لها تأويل لا يعلمه إلا الله
ولا يعلم أحد معناها وما أريد بها وما دلت عليه فروا إلى عقولهم ونظرهم وآرائهم فسد هؤلاء باب الهدى والرشاد وفتح أولئك باب الزندقة والبدعة والإلحاد وقالوا قد أقررتم بأن ما جاءت به الرسل في هذا الباب لا يحصل منه علم بالحق ولا يهدي إليه فهو في طريقتنا لا في طريقة الأنبياء فإنا نحن نعلم ما نقوله ونثبته بالأدلة العقلية والأنبياء لم يعلموا تأويل ما قالوه ولا بينوا مراد المتكلم به وأصاب هؤلاء من الغلط على السمع ما أصاب أولئك من الخطأ في العقل وهؤلاء لم يفهموا مراد السلف بقولهم لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله فإن التأويل في عرف السلف المراد به التأويل في مثل قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف53] وقوله تعالى {لِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء59] وقول يوسف {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} [يوسف100] وقول يعقوب {ويعلمك من تأويل الأحاديث} [يوسف6] وكذلك
{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف45] وقال يوسف {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَاّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} [يوسف37] فتأويل الكلام الطلبي هو نفس فعل المأمور به والمنهي عنه كما قال ابن عيينة السنة تأويل الأمر والنهي وقالت عائشة كان رسول الله يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك يتأول القرآن وأما تأويل ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فهو نفس الحقيقة التي أخبر الله عنها وذلك في حق الله هو كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره ولهذا قال مالك وربيعة الاستواء معلوم والكيف مجهول
وكذلك قال ابن الماجشون والإمام أحمد وغيرهما من السلف إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه وإن كنا نعلم تفسيره ومعناه وقد فسر الإمام أحمد الآيات التي احتج بها الجهمية من المتشابه وقال إنهم تأولوها على غير تأويلها وبين معناها وكذلك الصحابة والتابعون فسروا القرآن وعلموا المراد بآيات الصفات كما علموا المراد من آيات الأمر والنهي وإن لم يعلموا الكيفية كما علموا معاني ما أخبر الله به في الجنة والنار وإن لم يعلموا حقيقة كنهه وكيفيته فمن قال من السلف إن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله بهذا المعنى فهو حق وأما من قال إن التأويل الذي هو تفسيره وبيان المراد منه لا يعلمه إلا الله فهذا غلط والصحابة والتابعون وجمهور الأمة على خلافه قال مجاهد عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عنها وقال عبد الله بن مسعود ما في كتاب الله آية إلا وأنا أعلم فيما أنزلت وقال الحسن البصري ما أنزل الله آية إلا
وهو يحب أن يعلم ما أراد بها وقال مسروق ما نسأل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن ولكن علمنا قصر عنه وقال الشعبي ما ابتدع قوم بدعة إلا وفي كتاب الله بيانها والمقصود أن من ادعى معارضة العقل للسمع لا بد له أن يسلك أحد هذه المسالك الأربعة الباطلة وأسلمها هذا المسلك الرابع وقد علمت بطلانه وإنما كان أقل بطلانا لأنه لا يتضمن الخبر الكاذب على الله ورسوله فإن صاحبه يقول لا أفهم من هذه النصوص شيئا ولا أعرف المراد بها وأصحاب تلك المسالك تتضمن أقوالهم تكذيب الله ورسوله أو الإخبار عن النصوص بالتكذيب وبالله التوفيق.
الوجه السادس والخمسون: إن هؤلاء المعارضين للكتاب والسنة بعقلياتهم التي هي في الحقيقة جهليات إنما يبنون أمرهم في ذلك على أقوال مشتبهة محتملة تحتمل معاني متعددة ويكون ما فيها من الاشتباه في المعنى والإجمال في اللفظ يوجب تناولها
بحق وباطل فبما فيها من الحق يقبل من لم يحط بها علما ما فيها من الباطل لأجل الاشتباه والالتباس ثم يعارضون بما فيها من الباطل نصوص الأنبياء وهذا منشأ ضلال من ضل من الأمم قبلنا وهو منشأ البدع كلها فإن البدعة لو كانت باطلا محضا لما قبلت ولبادر كل أحد إلى ردها وإنكارها ولو كانت حقا محضا لم تكن بدعة وكانت موافقة للسنة ولكنها تشتمل على حق وباطل ويلتبس فيها الحق بالباطل كما قال تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة42] فنهى عن لبس الحق بالباطل وكتمانه ولبسه به خلطه به حتى يلتبس أحدهما بالآخر ومنه التلبيس وهو التدليس والغش الذي يكون باطنه خلاف ظاهره فكذلك الحق إذا لبس بالباطل يكون فاعله قد أظهر الباطل في صورة الحق وتكلم بلفظ له معنيان معنى صحيح ومعنى باطل فيتوهم السامع أنه أراد المعنى الصحيح ومراده الباطل فهذا من الإجمال في اللفظ.
وأما الاشتباه في المعنى فيكون له وجهان هو حق من أحدهما وباطل من الآخر فيوهم إرادة الوجه
الصحيح ويكون مراده الباطل فأصل ضلال بني آدم من الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة ولا سيما إذا صادفت أذهانا مخبطة فكيف إذا انضاف إلى ذلك هوى وتعصب فسل مثبت القلوب أن يثبت قلبك على دينه وأن لا يوقعك في هذه الظلمات قال الإمام أحمد في خطبة كتابه في الرد على الجهمية الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بكتاب الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من تائه ضال قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون
للكتاب متفقون على مخالفة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين وهذه الخطبة تلقاها الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب أو وافقه فيها فقد ذكرها محمد بن وضاح في أول كتابه في الحوادث والبدع فقال حدثنا أسد ثنا رجل يقال له يوسف ثقة عن أبي عبد الله الواسطي رفعه إلى عمر بن الخطاب أنه قال الحمد لله الذي امتن على العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله أهل العمى كم من قتيل لإبليس قد أحيوه وضال تائه قد هدوه بذلوا دماءهم وأموالهم دون هلكة العباد فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم وما نسيهم ربك وما كان ربك نسيا جعل قصصهم هدى
وأخبر عن حسن مقالاتهم فلا تقصر عنهم فإنهم في منزلة رفيعة وإن أصابتهم الوضيعة اه.
فقوله يتكلمون بالمتشابه من الكلام هو الذي له وجهان يخدعون به جهال الناس كما ينفق أهل الزغل النقد المغشوش الذي له وجهان يخدعون به من لم يعرفه من الناس فلا إله إلا الله كم قد ضل بذلك طوائف من بني آدم لا يحصيهم إلا الله واعتبر ذلك بأظهر الألفاظ والمعاني في القرآن والسنة وهو التوحيد الذي حقيقته إثبات صفات الكمال لله وتنزيهه عن أضدادها وعبادته وحده لا شريك له فاصطلح أهل الباطل على وضعه للتعطيل المحض ثم دعوا الناس إلى التوحيد فخدعوا به من لم يعرف معناه في اصطلاحهم وظن أن ذلك التوحيد هو الذي دعت إليه الرسل والتوحيد اسم لستة معان توحيد الفلاسفة وتوحيد الجهمية وتوحيد القدرية الجبرية وتوحيد الاتحادية فهذه الأربعة أنواع من التوحيد جاءت الرسل بإبطالها ودل على بطلانها العقل والنقل فأما توحيد الفلاسفة فهو إنكار ماهية الرب
الزائدة على وجوده وإنكار صفات كماله وأنه لا سمع له ولا بصر ولا قدرة ولا حياة ولا إرادة ولا كلام ولا وجه ولا يدين وليس فيه معنيان متميز أحدهما عن الآخر البتة قالوا لأنه لو كان كذلك لكان مركبا وكان جسما مؤلفا ولم يكن واحدا من كل وجه فجعلوه من جنس الجوهر الفرد الذي لا يحس ولا يرى ولا يتميز منه جانب عن جانب بل الجوهر الفرد يمكن وجوده.
وهذا الواحد الذي جعلوه حقيقة رب العالمين يستحيل وجوده فلما اصطلحوا على هذا المعنى في التوحيد وسمعوا قوله {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة163] وقوله {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَاّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة73]
نزلوا لفظ القرآن على هذا المعنى الاصطلاحي وقالوا لو كان له صفة أو كلام أو مشيئة أو علم أو حياة أو قدرة أو سمع أو بصر لم يكن واحدا وكان مركبا مؤلفا فسموا أعظم التعطيل بأحسن الأسماء وهو التوحيد وكسوه ثوبه وسموا أصح الأشياء وأحقها بالثبوت وهو صفات الرب ونعوت كماله بأقبح الأسماء وهو التركيب والتأليف فتولد من بين هذه التسمية
المنكرة للمعنى الصحيح وتلك التسمية الصحيحة للمعنى الباطل جحد حقائق أسماء الرب وصفاته بل وجحد ماهيته وذاته وتكذيب رسله ونشأ من نشأ على اصطلاحهم من إعراضه عن استفادة الهدى والحق من الوحي فلم يعرف سوى الباطل الذي اصطلحوا عليه فجعله أصلا لدينه فلما رأى ما جاءت به الرسل يعارضه قال إذا تعارض العقل والنقل قدم العقل.
التوحيد الثاني: توحيد الجهمية وهو مشتق من توحيد الفلاسفة وهو نفي صفات الرب كعلمه وكلامه وسمعه وبصره وحياته وعلوه على عرشه ونفي وجهه ويديه وقطب رحى هذا التوحيد جحد حقائق أسمائه وصفاته.
التوحيد الثالث: توحيد القدرية الجبرية وهو إخراج أفعال العباد أن تكون فعلا لهم وأن تكون واقعة بكسبهم أو إرادتهم بل هي نفس فعل الله فهو الفاعل لها دونهم فنسبتها إليهم وأنهم فعلوها مناف للتوحيد عندهم.
التوحيد الرابع: توحيد القائلين بوحدة الوجود وأن الوجود عندهم واحد ليس عندهم وجودان قديم وحادث وخالق ومخلوق وواجب وممكن بل الوجود
عندهم واحد بالعين والذي يقال له الخلق المشبه هو الحق المنزه والكل من عين واحدة بل هو العين الواحدة.
فهذه الأنواع الأربعة سماها أهل الباطل توحيدا فاعتصموا بالاسم من إنكار المسلمين عليهم وقالوا نحن الموحدون ودعوا الناس إلى الباطل باسم التوحيد فجعلوه جنة وترسا ووقاية وسموا التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنبياءه تركيبا وتجسيما وتشبيها وجعلوا هذه الألقاب له سهاما وسلاحا يقاتلون بها أهله فتترسوا بما عند أهل الحق من الأسماء الصحيحة وقاتلوهم بالأسماء الباطلة التي سموا بها ما بعث الله به رسوله فقاتلوهم باسم التركيب والتجسيم والتشبيه وتترسوا منهم باسم التوحيد والتنزيه وقد قال جابر في الحديث الصحيح في حجة الوداع فأهل رسول الله بالتوحيد لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك فهذا توحيد الرسول المتضمن لإثبات صفات الكمال التي يستحق عليها الحمد ولإثبات الأفعال التي استحق بها أن يكون منعما ولإثبات القدرة والمشيئة والإرادة والتصرف والغضب والرضا والغنى والجود الذي هو حقيقة ملكه وعند
الفلاسفة والجهمية والمعطلة لا حمد له في الحقيقة ولا نعمة ولا ملك والله يعلم أنا لم نجازف في نسبة ذلك إليهم بل هو حقيقة قولهم فأي حمد لمن لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا يتكلم ولا يفعل ولا هو في هذا العالم ولا خارج عنه ولا متصل به ولا منفصل عنه ولا فوقه ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يسرته وأي نعمة لمن لا يقوم به فعل البتة وأي ملك لمن لا وصف له ولا فعل فانظر إلى توحيد الرسل وتوحيد من خالفهم ومن العجب أنهم سموا توحيد الرسل شركا وتجسيما وتشبيها مع أنه غاية الكمال وسموا تعطيلهم واتحادهم ونفيهم توحيدا وهو غاية النقص ثم نسبوا اتباع الرسل إلى نقص الرب وقد سلبوه كل كمال وزعموا أنهم أثبتوا له الكمال وقد نزهوه عنه فهذا توحيد الملاحدة والجهمية والمعطلة.
وأما توحيد الرسل: فهو إثبات صفات الكمال له سبحانه وإثبات كونه فاعلا بمشيئته وقدرته واختياره وأن له فعلا حقيقة وأنه وحده الذي يستحق أن يعبد ويخاف ويرجى ويتوكل عليه فهو المستحق لغاية الحب بغاية الذل وليس لخلقه من دونه وكيل ولا ولي ولا شفيع ولا واسطة بينه وبينهم في رفع حوائجهم إليه وفي تفريج كرباتهم وإغاثة لهفاتهم وإجابة دعواتهم وبينه
وبينهم واسطة في تبليغ أمره ونهيه وخبره إليهم فلا يعرفون ما يحبه ويرضاه ويبغضه ويسخطه ولا حقائق أسمائه وتفصيل ما يجب له ويمتنع عليه ويوصف به إلا من جهة هذه الواسطة فجاء هؤلاء الملاحدة فعكسوا الأمر وقلبوا الحقائق فنفوا كون الرسل وسائط في ذلك وقالوا تلقى بواسطة العقل ونفوا حقائق أسمائه وصفاته وقالوا هذا التوحيد.
فهذا توحيدهم وهذا إيمانهم بالرسل ويقولون نحن ننزهه عن الأعراض والأغراض والأبعاض والحدود والجهات وحلول الحوادث فيسمع الغر المخدوع هذه الألفاظ فيتوهم منها أنهم ينزهون الله عما يفهم من معانيها عند الإطلاق من العيوب والنقائص والحاجة فلا يشك أنهم يمجدونه ويعظمونه ويكشف الناقد البصير ما تحت هذه الألفاظ فيرى تحتها الإلحاد وتكذيب الرسل وتعطيل الرب تعالى عما يستحقه من كماله فتنزيهه عن الأعراض هو جحد صفاته كسمعه وبصره وحياته وعلمه وكلامه وإرادته فإن هذه أعراض لا تقوم إلا بجسم فلو كان متصفا بها لكان جسما وكانت أعراضا له وهو منزه عن الأعراض وأما الأغراض فهي الغاية والحكمة التي لأجلها يفعل ويخلق ويأمر وينهى
ويثيب ويعاقب وهي الغايات المحمودة المطلوبة له من أمره ونهيه وفعله فيسمونها عللا وأغراضا ثم ينزهونه عنها.
وأما الأبعاض: فمرادهم بتنزيهه عنها أنه ليس له وجه ولا يدان ولا يمسك السموات على أصبع والأرض على أصبع والشجر على أصبع والماء على أصبع فإن ذلك كله أبعاض والله منزه عن الأبعاض وأما الحدود والجهات فمرادهم بتنزيهه عنها أنه ليس فوق السماوات رب ولا على العرش إله ولا يشار إليه بالأصابع إلى فوق كما أشار إليه أعلم الخلق به ولا ينزل منه شيء ولا يصعد إليه شيء ولا تعرج الملائكة والروح إليه ولا رفع المسيح إليه ولا عرج برسوله محمد إليه إذ لو كان ذلك للزم إثبات الحدود والجهات له وهو منزه عن ذلك وأما حلول الحوادث فيريدون به أنه لا يتكلم بقدرته وميشئته ولا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ولا يأتي يوم القيامة ولا يجيء ولا يغضب بعد أن كان راضيا ولا يرضى بعد أن كان غضبان ولا يقوم به فعل البتة ولا أمر مجدد بعد أن لم يكن ولا يريد شيئا بعد أن لم يكن مريدا له ولا يقول له كن حقيقة ولا استوى على
عرشه بعد أن لم يكن مستويا عليه ولا يغضب يوم القيامة غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ولا ينادي عباده يوم القيامة بعد أن لم يكن مناديا لهم ولا يقول للمصلي إذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة2] حمدني عبدي فإذا قال {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة3] قال أثنى علي عبدي وإذا قال {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة4] قال مجدني عبدي فإن هذه كلها حوادث وهو منزه عن حلول الحوادث وبعضهم يختصر العبارة ويقول أنا أنزهه عن التعدد والتحدد والتجدد فيتوهم السامع الجاهل بمراده أنه ينزهه عن تعدد الآلهة وعن تحدد محيط به حدود وجودية تحصره وتحويه كتحدد البيت ونحوه وعن تجدد إلهيته وربوبيته ومراده بالتعدد الذي ينزه عنه تعدد أسمائه وصفاته وأنه لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئا ولا يتكلم ومراده بالتحدد أنه ليس فوق
خلقه ولا هو مستو على عرشه ولا فوق العرش إله يعبد وليس فوق العرش إلا العدم.
ومراده بالتجدد أنه لا يقوم به فعل ولا إرادة ولا كلام بمشيئته وقدرته وبعضهم يقتصر على حرفين فيقول نحن ننزهه عن التكثر والتغير فيتوهم السامع تكثر الآلهة وتغيره سبحانه واستحالته من حال إلى حال وحقيقة هذا التنزيه أنه لا صفة له ولا فعل.
وكذلك قول الجهمية: نحن نثبت قديما واحدا ومثبتو الصفات يثبتون عدة قدماء قال والنصارى أثبتوا ثلاثة قدماء مع الله بفكرهم فكيف من أثبت سبعة قدماء أو أكثر فانظر إلى هذا التلبيس والتدليس الذي يوهم السامع أنهم أثبتوا قدماء مع الله وإنما أثبتوا قديما واحدا بصفاته وصفاته داخلة في مسمى اسمه.
إنما أثبتوا إلها واحدا ولم يجعلوا كل صفة من صفاته إلها بل هو الإله الواحد بجميع أسمائه وصفاته وهذا بعينه متلقى عن عباد الأصنام المشركين بالله المكذبين لرسوله حيث قالوا يدعو محمد إلى إله واحد ثم يقول يا الله يا رحمن يا سميع يا بصير فيدعو آلهة متعددة فأنزل الله عز وجل:
{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء110] أي إنكم إنما تدعون إلها واحدا له الأسماء الحسنى فأي اسم دعوتموه فإنما دعوتم المسمى بذلك الاسم فأخبر سبحانه أنه إله واحد وإن تعددت أسماؤه الحسنى المشتقة من صفاته ولهذا كانت حسنى وإلا فلو كانت كما يقول الجاحدون لكماله أسماء محضة فارغة من المعاني ليس لها حقائق لم تكن حسنى ولكانت أسماء الموصوفين بالصفات والأفعال أحسن منها فنزلت الآية على توحيد الذات وكثرة النعوت والصفات ومن ذلك قول هؤلاء المعطلة أخص صفات الإله القديم فإذا أثبتم معه صفات قديمة لزم أن تكون آلهة فلا يكون الإله واحدا بل يكون لكم آلهة متعددة فيقال لهؤلاء المدلسين الملبسين على أمثالهم من أشباه الأنعام المحذور الذي نفاه العقل والشرع والفطرة وأجمعت الأنبياء من أولهم إلى آخرهم على بطلانه أن يكون مع الله آلهة أخرى لا أن يكون إله العالمين الواحد القهار حيا قيوما سميعا بصيرا متكلما آمرا ناهيا فوق عرشه له الأسماء الحسنى والصفات العلى فلم ينف العقل والشرع والفطرة أن يكون للإله الواحد صفات كمال ونعوت جلال يختص بها لذاته فلبستم على المخدوعين
المغرورين وأوهمتموهم أنه لو كان فوق عرشه موصوفا بصفات الكمال يرى بالأبصار عيانا يوم القيامة لم يكن إلها واحدا وكان هناك آلهة متعددة وقدماء متغايرة وأعراض وأبعاض وحدود وجهات وتكثر وتغير وتحدد وتجرد وتجسم وتشبيه وتركيب وأكثر الناس إذا سمعوا هذه الألفاظ نفرت عقولهم من مسماها ونبت أسماعهم عنها وقد علم المؤمنون المصدقون للرسول العارفون بالله وصفاته وأسمائه أنكم توسلتم بها إلى نفي صفاته وأفعاله وحقائق أسمائه فلم ترفعوا بها رأسا ولم تروا لها حرمة ولم ترقبوا فيها ذمة وغرت ضعاف العقول الجاهلين بحقائق الإيمان فضلوا بها وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.
فلفط الجسم لم ينطق به الوحي إثباتا فتكون له حرمة الإثبات ولا نفيا فيكون له إلغاء النفي فمن أطلقه نفيا أو إثباتا سئل عما أراد به فإن قال أردت الجسم معناه في لغة العرب وهو البدن الكثيف الذي لا يسمى في اللغة جسم سواه ولا يقال للهواء جسم لغة ولا للنار ولا للماء فهذه اللغة وكتبها بين أظهرنا فهذا المعنى منفي عن الله عقلا وسمعا وإن أردتم به المركب من المادة والصورة أو المركب من الجواهر الفردة فهذا منفي عن الله قطعا
والصواب نفيه عن الممكنات أيضا فليس الجسم المخلوق مركبا من هذا ولا من هذا.
وإن أردتم بالجسم ما يوصف بالصفات ويرى بالأبصار ويتكلم ويكلم ويسمع ويبصر ويرضى ويغضب فهذه المعاني ثابتة للرب تعالى وهو موصوف بها فلا ننفيها عنه بتسميتكم للموصوف بها جسما كما أنا لا نسب الصحابة لأجل تسمية الروافض لمن يحبهم ويواليهم نواصب ولا ننفي قدر الرب ونكذب به لأجل تسمية القدرية لمن أثبته جبريا ولا نرد ما أخبر به الصادق عن الله وأسمائه وصفاته وأفاله لتسمية أعداء الحديث لنا حشوية.
ولا نجحد صفات خالقنا وعلوه على خلقه واستواءه على عرشه لتسمية الفرعونية المعطلة لمن أثبت ذلك مجسما مشبها.
فإن كان تجسيما ثبوت استوائه
…
على عرشه إني إذا لمجسم
وإن كان تشبيها ثبوت صفاته
…
فمن ذلك التشبيه لا أتكتم
وإن كان تنزيها جحود استوائه
…
وأوصافه أو كونه يتكلم
فعن ذلك التنزيه نزهت ربنا
…
بتوفيقه والله أعلى وأعلم
ورضي الله عن الشافعي حيث فتح للناس هذا الباب في قوله
يا راكبا قف بالمحصب من منى
…
واهتف بقاعد خيفها والناهض
إن كان رفضا حب آل محمد
…
فليشهد الثقلان أني رافض
ورضي الله عن شيخنا إذ يقول
فإن كان نصبا ولاء الصحاب
…
فإني كما زعموا ناصبي
وإن كان رفضا ولاء آله
…
فلا برح الرفض من جانبي
هذا كله كأنه مأخوذ من قول الأول
وعيرني الواشون أني أحبها
…
وذلك ذنب لست منه أتوب
وقول الآخر
فإن كان ذنبي حبكم وولاءكم
…
فإني مصر ما بقيت على الذنب
وإن أردتم بالجسم ما يشار إليه إشارة حسية فقد أشار إليه أعرف الخلق به بأصبعه رافعا لها إلى السماء يشهد
الجمع الأعظم مشيرا له أو أردتم بالجسم ما يقال أين هو فقد سأل أعلم الخلق به عنه بأين منبها على علوه على عرشه وسمع السؤال بأين وأجاب عنه ولم يقل هذا السؤال إنما يكون عن المجسم.
وإن أردتم بالجسم ما يلحقه من وإلى فقد نزل جبريل من عنده ونزل كلامه من عنده وعرج برسوله إليه وإليه يصعد الكلم الطيب وعنده المسيح رفع إليه.
وإن أردتم بالجسم ما يتميز منه أمر عن أمر فهو سبحانه موصوف بصفات الكمال جميعها من السمع والبصر والعلم والقدرة والحياة وهذه صفات متميزة متغايرة ومن قال إنها صفة واحدة فهو بالمجانين أشبه منه بالعقلاء وقد قال أعلم الخلق به أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك والمستعاذ به غير المستعاذ منه وأما استعاذته به منه فباعتبارين مختلفين فإن الصفة المستعاذ بها والصفة المستعاذ منها صفتان لموصوف واحد ورب واحد فالمستعيذ
بإحدى الصفتين من الأخرى مستعيذ بالموصوف بهما منه.
وإن أردتم بالجسم ما له وجه ويدان وسمع وبصر فنحن نؤمن بوجه ربنا الأعلى وبيديه وبسمعه وبصره وغير ذلك من صفاته التي أطلقها على نفسه.
وإن أردتم بالجسم ما يكون فوق غيره ومستويا على غيره فهو سبحانه فوق عباده مستو على عرشه وكذلك إن أردتم بالتشبيه والتركيب هذه المعاني التي دل عليها الوحي والعقل فنفيكم لها بهذه الألقاب المنكرة خطأ في اللفظ والمعنى وجناية على ألفاظ الوحي والعقل وحقائق صفات الرب أما الخطأ اللفظي فتسميتكم الموصوف بذلك جسما مركبا مؤلفا مشبها لغيره وتسميتكم هذه الصفات تجسيما وتركيبا وتشبيها فكذبتم على القرآن وعلى الرسول وعلى اللغة ووضعتم لصفاته ألفاظا منكم بدأت وإليكم تعود وأما خطأكم في المعنى فنفيكم وتعطيلكم لصفات كماله بواسطة هذه التسمية والألقاب فنفيتم المعنى الحق وسميتموه بالاسم المنكر وكنتم في ذلك بمنزلة من سمع أن في العسل شفاء ولم يره فسأل عنه فقيل له مائع رقيق أصفر يشبه العذرة تتقيأه الزنابير ومن لم يعرف العسل ينفر عنه بهذا التعريف ومن عرفه وذاقه لم يزده هذا التعريف عنده إلا محبة له ورغبة فيه وما أحسن ما قال القائل:
تقول هذا جني النحل تمدحه
…
وإن تشاء قلت ذا قيء الزنابير
مدحا وذما وما جاوزت وصفهما
…
والحق قد يعتريه سوء تعبير
وأشد ما حاول أعداء الرسول من التنفير عنه سوء التعبير عما جاء به وضرب الأمثال القبيحة له والتعبير عن تلك المعاني التي لا أحسن منها بألفاظ منكرة ألقوها في مسامع المغترين المخدوعين فوصلت إلى قلوبهم فنفرت منه وهذا شأن كل مبطل وكل من يكيد الحق وأهله هذه طريقه ومسلكه وأكثر العقول كما عهدت تقبل القول بعبارة وترده بعينه بعبارة أخرى وكذلك إذا قال الفرعوني لو كان فوق السموات رب أو على العرش إله لكان مركبا قيل له لفظ المركب في اللغة هو الذي ركبه غيره في محله كقوله تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار8] وقولهم ركبت الخشبة والباب أو ما تركب من أخلاط وأجزاء بحيث كانت أجزاؤه متفرقة فاجتمعت وركبت حتى صار شيئا واحدا كقولهم:
ركبت الدواء وركبت الطعام من كذا وكذا فإن أردتم بقولكم لو كان فوق العرش كان مركبا هذا التركيب المعهود أو أنه كان متفرقا فاجتمع فهو كذب وفرية وبهت على الله وعلى الشرع وعلى العقل.
وإن أردتم أنه لو كان فوق عرشه لكان عاليا على خلقه بائنا منهم مستويا على عرشه ليس فوقه شيء فهذا المعنى حق وكأنك قلت لو كان فوق العرش لكان فوق العرش فنفيت الشيء بتغيير العبارة عنه وقلبها إلى عبارة أخرى وهذا شأنكم في أكثر مطالبكم.
وإن أردت بقولك كان مركبا أنه يتميز منه شيء عن شيء فقد وصفته أنت بصفات يتميز بعضها عن بعض فهل كان هذا عندك تركيبا فإن قلت هذا لا يقال لي وإنما يقال لمن أثبت شيئا من الصفات وأما أنا فلا أثبت له صفة واحدة فرارا من التركيب قيل لك العقل لم يدل على نفي المعنى الذي سميته أنت تركيبا وهبك سميته تركيبا وقد دل العقل والوحي والفطر على ثبوته أفتنفيه لمجرد تسميتك الباطلة فإن التركيب يطلق ويراد به خمس معاني: تركيب الذات من الوجود والماهية عند من يجعل وجودها زائدا على ماهيتها فإذا نفيت هذا التركيب جعلته
وجودا مطلقا إنما هو في الأذهان لا وجود له في الأعيان.
الثاني: تركيب الماهية من الذات والصفات فإذا نفيت هذا التركيب جعلته ذاتا مجردة عن كل وصف لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا يقدر ولا يريد ولا له حياة ولا مشيئة ولا صفة أصلا فكل ذات في المخلوقات أكمل من هذه الذات فاستفدت بنفيك هذا التركيب كفرك بالله وجحدك لذاته وصفاته وأفعاله فكان اسم التركيب ملقيا لك في أعظم الكفر وموجبا لك أشد التعذيب.
الثالث: تركيب الماهية الجسمية من الهيولى والصورة كما يقوله الفلاسفة
الرابع: تركيبها من الجواهر الفردة كما يقوله كثير من أهل الكلام
الخامس: تركيب الماهية من أجزاء كانت متفرقة فاجتمعت وتركبت
فإن أردت بقولك لو كان فوق العرش لكان مركبا ما تدعيه الفلاسفة والمتكلمون قيل لك جمهور العقلاء عندهم أن الأجسام المحدثة المخلوقة ليست مركبة لا من هذا
ولا من هذا فلو كان فوق العرش جسم مخلوق محدث لم يلزم أن يكون مركبا بهذا الاعتبار فكيف يلزم ذلك في حق خالق المفرد والمركب الذي يجمع المتفرق ويفرق المجتمع ويؤلف بين الأجزاء فيركبها كما يشاء والعقل إنما دل على إثبات إله واحد ورب واحد لا شريك له ولا شبيه له ولم يدل على أن ذلك الرب الواحد لا اسم له ولا صفة له ولا وجه ولا يدين ولا هو فوق خلقه ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء فدعوى ذلك على العقل كذب صريح عليه كما هي كذب صريح على الوحي وكذلك قولهم ننزهه عن الجهة إن أردتم أنه منزه عن جهة وجودية تحيط به وتحويه وتحصره إحاطة الظرف للمظروف وحصره له فنعم هو أعظم من ذلك وأكبر وأعلى ولكن لا يلزم من كونه فوق عرشه هذا المعنى. وإن أردتم بالجهة أمرا يوجب مباينة الخالق للمخلوق وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه فنفيكم لهذا المعنى باطل وتسميتكم له جهة اصطلاح منكم توسلتم به إلى نفي ما دل عليه العقل والنقل والفطرة فسميتم ما فوق العالم جهة وقلتم منزه عن الجهات وسميتم العرش حيزا وقلتم الرب ليس بمتحيز وسميتم الصفات
أعراضا وقلتم الرب منزه عن قيام الأعراض به وسميتم حكمته غرضا وقلتم إنه منزه عن الأغراض وسميتم كلامه بمشيئته ونزوله إلى سماء الدنيا ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء وإرادته ومشيئته المقارنة لمراده وإدراكه المقارن لوجود المدرك وغضبه إذا عصى ورضاه إذا أطيع وفرحه إذا تاب إليه العباد ونداءه لموسى حين أتى إلى الشجرة ونداءه للأبوين حين أكلا من الشجرة في الجنة ونداءه لعباده يوم القيامة ومحبته لمن كان يبغضه في حال كفره ثم صار يحبه بعد إيمانه وسميتم شؤون ربوبيته التي هو كل يوم في شأن منها حوادث وقلتم الرب منزه عن حلول الحوادث وحقيقة هذا التنزيه أنه منزه عن الوجود وعن الإلهية وعن الربوبية وعن الملك وعن كونه فعالا لما يريد بل عن الحياة والقيومية ولا يتقرر كونه ربا للعالمين وإلها للعباد إلا بالتنزيه عن هذا التنزيه والإجلال عن هذا الإجلال فانظر ماذا تحت تنزيه المعطلة النفاة بقولهم ليس بجسم ولا جوهر ولا مركب ولا تقوم به الأعراض ولا يوصف بالأبعاض ولا يفعل الأغراض ولا تحله الحوادث ولا تحيط به الجهات ولا يقال في حقه أين.
وليس بمتحيز كيف كسوا حقائق أسمائه وصفاته وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه وتكليمه لعباده ورؤيتهم له بالأبصار في دار كرامته هذه الألفاظ ثم توصلوا إلى نفيها
بواسطتها وكفروا وضللوا من أثبتها واستحلوا منه مالم يستحلوه من أعداء الله من اليهود والنصارى فالله الموعد وإليه التحاكم وبين يديه التخاصم.
ونحن وإياهم نموت
…
ولا أفلح عند الحساب من ندما
فصل
ومن ذلك لفظ العدل جعلته القدرية اسما لإنكار قدرة الرب على أفعال عباده وخلقه لها ومشيئته فجعلوا إخراجها عن قدرته ومشيئته وخلقه هو العدل وجعل سلفهم إخراجها عن تقدم علمه وكتابته من العدل وسموا أنفسهم بالعدلية وعمدوا إلى إثبات عموم قدرته على كل شيء من الأعيان والأفعال وخلقه لكل شيء وشمول مشيئته له فسموه حيزا ثم نفوا هذا المعنى الصحيح وعبروا عنه بهذا الاسم المنكر واثبتوا ذلك المعنى الباطل وعبروا عنه بالاسم المعروف ثم سموا أنفسهم أهل العدل والتوحيد وسموا من أثبت صفات الرب وأثبت قدره وقضاءه أهل التشبيه والجبر.
وكذلك فعل الرافضة سواء سموا موالاة
الصحابة نصبا ومعاداتهم موالاة لأهل بيت رسول الله وكذلك المرجئة سموا من قال في الإيمان بقول الصحابة والتابعين واستثنى فيه فقال أنا مؤمن إن شاء الله شكاكا.
وهكذا شأن كل مبتدع وملحد وهذا ميراث من تسمية كفار قريش لرسول الله وأصحابه الصبأة وصار هذا ميراثا منهم لكل مبطل وملحد ومبتدع يلقب الحق وأهله بالألقاب الشنيعة المنفرة فإذا أطلقوا لفظ الجسم صوروا في ذهن السامع جثة من الجثث الكثيفة أو بدنا له حامل يحمله وإذا قالوا مركبا صوروا في ذهنه أجزاء كانت متفرقة فركبها مركب وهذا حقيقة المركب لغة وعرفا فإذا قالوا يلزم أن تحله الحوادث صوروا في ذهنه ذاتا تعتور عليها الآفات وحوادث الزمان وإذا قالوا لا تقوم به الأعراض صوروا في الذهن ذاتا تنزل بها الأعراض النازلة بالمخلوقين كما مثل النبي ابن آدم وأمله
وأجله والأعراض إلى جانبه إن أخطأه هذا أصابه هذا.
وإذا قالوا يقولون بالحيز والجهة صوروا في الذهن موجودا محصورا بالأحياز وإذا قالوا لزم الجبر صوروا في الذهن قادرا ظالما يجبر الخلق على ما لا يريدون ويعاقبهم على ما لا يفعلون وإذا قالوا أنتم نواصب صوروا في الذهن قوما نصبوا العداوة لآل رسول الله وأهل بيته واستحلوا حرماتهم وإذا قالوا لمن قال أنا مؤمن إن شاء الله شكاكا صوروا في الذهن قوما يشكون في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه لا يجزمون بذلك وإذا قالوا لمن أثبت الصفات إنه مشبه صوروا في الذهن قوما يقولون إن الله مثلهم وله وجه كوجوههم وسمع كأسماعهم وبصر كأبصارهم ويدان كأيديهم ونزول كنزولهم واستواء كاستوائهم وفرح كفرحهم. وإذا قالوا حشوية صوروا في ذهن السامع قوما قد حشوا في الدين ما ليس منه وأدخلوه فيه وهو حشو
لا أصل له فتنفر القلوب من هذه الألقاب وأهلها ولو ذكروا حقيقة قولهم لما قبلت العقول السليمة والفطر المستقيمة سواه والله يعلم وملائكته ورسله وهم أيضا أنهم براء من هذه المعاني الباطلة وأنهم أبعد الخلق منها وأن خصومهم جمعوا بين أذى الله ورسوله بتعطيل صفاته وبين أذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقعدوا تحت قوله {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب57 ، 58] أفيظن الجاهلون أنا نجحد صفات ربنا وعلوه على خلقه واستواءه على عرشه وتكلمه بالقرآن العربي وتكليمه لموسى حقيقة كلاما أسمعه إياه بغير واسطة وننكر سمعه وبصره وعلمه وقدرته وحياته وإرادته ووجهه الكريم ويديه كلتا يديه يمين اللتين يقبض سماواته بإحداهما والأرض بالأخرى ورؤية وجهه
الكريم في جنات عدن ومحبته ورضاه وفرحه بتوبة التائبين ونزوله إلى سماء الدنيا حين يمضي شطر الليل ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين الخلائق لأسماء سموها هم وسلفهم ما أنزل الله بها من سلطان وألقاب وضعوها من تلقاء أنفسهم لم يأت بها سنة ولا قرآن وشبهات قذفت بها قلوب ما استنارت بنور الوحي ولا خالطتها بشاشة الإيمان وخيالات هي بتخييلات الممرورين وأصحاب الهوس أشبه منها بقضايا العقل والبرهان ووهميات نسبتها إلى العقل الصحيح كنسبة السراب إلى الإبصار في القيعان وألفاظ مجملة ومعان مشتبهة قد لبس فيها الحق بالباطل فصار داحضا وكتمان فدعونا من هذه الدعاوي الباطلة التي لا تفيد إلا إتعاب الإنسان وكثرة الهذيان وحاكمونا إلى الوحي والميزان لا إلى منطق يونان ولا إلى قول فلان ورأي فلان فهذا كتاب الله ليس فوق بيانه مرتبة في البيان وهذه سنة رسوله مطابقة له أعظم من مطابقة البنان للبنان وهذه أقوال أعقل الأمم بعده والتابعين لهم بإحسان لا يختلف منهم في هذا الباب إثنان ولا يوجد عنهم فيه قولان
متنافيان بل قد تتابعوا كلهم على إثبات الصفات وعلو الله على خلقه واستوائه على عرشه وإثبات تكلمه وتكليمه وسائر ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله كتابع الأسنان وقالوا للأمة هذا عهد نبينا إلينا وهو عهدنا إليكم وإلى من بعدكم إلى آخر الزمان وهذا هو الذي نادى به المنادي وأذن به على رؤوس الملأ في السر والإعلان فحي على الصلاة وراء هذا الإمام يا أهل الإيمان وحي على الفلاح بمتابعته يا أهل القرآن والصلاة خير من النوم في ظلمة ليلة الشكوك والإفك والكفران فلا تصح القدوة بمن أقر على نفسه وصدقه المؤمنون بأنه تائه في بيداء الآراء والمذاهب حيران وأنه لم يصل إلى اليقين بشيء منها لا هو ولا من قبله من أمثاله على تطاول الأزمان وأن غاية ما وصلوا إليه الشك والتشكيك والحيرة ولقلقة اللسان فالحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وخصهم بكمال العقول وصحة الفطر ونور البرهان وجعلهم هداة مهتدين مستبصرين مبصرين أئمة للمتقين يهدون بأمره ويبصرون بنوره ويدعون إلى داره ويحاربون كل مفتن فتان فحي على خير العمل بمتابعةالمبعوث بالفرقان وتحكيمه وتلقي حكمه
بالتسليم والقبول والإذعان ومقابلة ما خالف حكمه بالإنكار والرد والهوان ومطاعنة المعارضين له بعقولهم بالسيف والسنان وإلا فبالقلم واللسان فالعقول السليمة والفطر المستقيمة لنصوص الوحي يسجدان ويصدقان بما شهدت به ولا يكذبان ويقران أن لها عليهما أعظم السلطان وأنهما إن خرجا عنها غلبا ولا ينتصران وإن لم يخرجا عنها ظفرا بالهدى والعلم.
الوجه السابع والخمسون: إن المعارضة بين العقل ونصوص الوحي لا تتأتى على قواعد المسلمين المؤمنين بالنبوة حقا ولا على أصول أحد من أهل الملل المصدقين بحقيقة النبوة وليست هذه المعارضه من الإيمان بالنبوة في شيء وإنما تتأتى هذه المعارضة ممن يقر بالنبوة على قواعد الفلسفة ويجربها على أوضاعهم وأن الإيمان بالنبوة عندهم هو الاعتراف بموجود حكيم له طالع مخصوص يقتضي طالعه أن يكون متبوعا فإذا أخبرهم بما لا تدركه عقولهم عارضوا خبره بعقولهم وقدموها على خبره فهؤلاء هم الذين عارضوا بين العقل ونصوص الأنبياء فعارضوا نصوص الأنبياء في باب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر في هذه الأصول الخمس بعقولهم فلم يصدقوا بشيء منها على
طريقة الرسل ثم سرت معارضتهم في المنتسبين إلى الرسل فتقاسموها تقاسم الوارث لتركة مورثهم فكل طائفة كان الوحي على خلاف مذهبهم وقول من قلدوه لجأوا إلى هذه المعارضة واعتصموا بها دون نصوص الوحي ومعلوم أن هذا يناقض الإيمان بالنبوة وإن تناقض القائل به فغايته أن يثبت كون النبي رسولا للعمليات دون العلميات أو في بعض العلميات التي أخبر بها دون البعض وهذا أسوأ حالا ممن جعله رسولا إلى بعض الناس دون بعض فإن القائل بهذا يجعله رسولا في العلميات والعمليات ولا يعارض بين خبره وبين العقل وإن تناقض في جحده عموم رسالته بالنسبة إلى كل مكلف فهذا جحد عموم رسالته إلى المدعوين وذاك جحد عموم رسالته في المدعو إليه المخبر به ولم يؤمن في الحقيقة برسالته لا هذا ولا هذا فإنه يقال لهذا إن كان رسول الله إلى هؤلاءحقا فهو رسوله إلى الآخرين قطعا لأنه أخبر بذلك ومن ضرورة تصديقه الإيمان بعموم رسالته ويقال للآخر إن كان رسول الله في العمليات وإنها حق من عند الله فهو رسوله في العلميات فإنه أخبر عنه بهذا وهذا.
الوجه الثامن والخمسون: إن أمر النبوة وما يخبر به الرسول عن الله به طور آخر وراء مدارك الحس والعقل والخيال والوهم والمنام والكشف والعقل معزول عما يدرك بنور النبوة وطرق الوحي كعزل السمع عن إدراك الأكوان والبصر عن إدراك الأصوات وسائر الحواس عن إدراك المعقولات فكما أن العقل طور من أطوار الآدمي يحصل فيه عين يبصر بها أنواعا من المعقولات والحواس معزولة عنها فالنبوة طور آخر يحصل فيه عين لها نور يظهر في نورها أمور لا يدركها العقل بل هو معزول عنها كعزل الحواس عن مدارك العقول فتكذيب ما يدرك بنور النبوة يعجز العقل عن إدراكه وكونه معزولا عنه كتكذيب ما يدركه العقل لعجز الحواس عن إدراكه وكونها معزولة عنه فإن الإنسان كما قال الله عز وجل {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} [النحل78] فهو في أصل الخلقة خلق خاليا ساذجا لا علم له بشيء من المعقولات ولا المحسوسات البتة فأول ما يخلق فيه حاسة اللمس فيدرك بها أجناسا من الموجودات كالحرارة والرطوبة واليبوسة واللين والخشونة وغيرها فاللمس قاصر عن الألوان والأصوات بل هي كالمعدومة بالنسبة إليه ثم يخلق له البصر فيدرك به الألوان والأشكال والقرب والبعد والصغر والكبر والطول والقصر والحركة والسكون وغير ذلك
ثم ينفتح له السمع فيسمع الأصوات الساذجة والنغمات ثم يترقى في مدارك هذه الحاسة على التدريج حتى يسمع من البعد مالم يكن يسمعه قبل ذلك ويتفاوت الناس في قوة هذين الإدراكين وضعفهما تفاوتا بينا حتى يدرك الواحد ما يجزم الآخر بكذبه فيه والمدرك مشاهد له لا يمكنه تكذيب نفسه فيه وذنبه عند المكذب له أنه اختص بإدراكه دونه ثم يخلق له الذوق فيدرك به تفاضل الطعوم من الحلاوة والحموضة والمرارة وما بين ذلك مالم يكن له به شعور قبل ذلك وكذلك الشم هو أكمله وليس عنده من المعقولات عين ولا أثر ولا حس ولا خبر ثم يخلق فيه التمييز وهو طور آخر من أطوار وجوده فيدرك في هذا الطور أمورا أخر زائدة على المحسوسات لم يكن يدركها قبل ذلك ثم يترقى إلى طور آخر يدرك به الواجب والجائز والمستحيل وأن حكم الشيء حكم مثله والضد لا يجتمع مع ضده والنقيضان إذا صدق أحدهما كذب الآخر ونحو ذلك من أوائل العلوم الضرورية ثم يترقى إلى طور آخر يستنتج فيه العلوم النظرية من تلك الضروريات التي تقدم علمه بها ثم يترقى في هذا الطور من أمر إلى أمر فوقه وأغمض منه نسبة ما قبله إليه كنسبة الحس إلى العقل ثم وراء ذلك كله طور آخر نسبة ما قبله إليه كنسبة أطوار
الإنسان إلى طور العقل أو دون هذه النسبة ينفتح فيه عين يبصر بها الغيب وما سيكون في المستقبل وأمور العقل معزول عنها كعزل الحس عن مدركات العقل وهذا هو طور النبوة الذي نسبة نور العقل المجرد إليه دون نسبة ضوء السراج إلى الشمس فإنكار العقل لما يخبر به النبي عين الجهل ولا مستند له في إنكاره إلا أنه لم يبلغه ولم يصل إليه فيظن أنه غير ثابت في نفسه يوضحه:
الوجه التاسع والخمسون: وهو أنك إذا جعلت العقل ميزانا ووضعت في أحد كفتيه كثيرا من الأمور المشاهدة المحسوسة التي ينالها العيان ووضعت في الكفة الأخرى الأمور التي أخبرت بها الرسل عن الله وأسمائه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجدت ترجيحه لهذه الكفة وتصديقه بها فوق ترجيحه للتي قبلها وتصديقه بها أقوى ولولا الحس والمشاهدة تمنعه من إنكار ذلك لأنكره وهذه دعوى نعلم أنك تتعجب ممن يدعيها وتنسبه إلى المجازفة وقلة التحصيل والخطابة التي تليق بالعامة ولعمر الله إن مدعيها ليعجب من إنكارك لها وتوقفك فيها بعد البيان فنقول وبالله التوفيق انسب إلى
العقل حيوانا يرى ويسمع ويحس ويتكلم ويعمل فغشيه أمر ألقي له كأنه خشبة لا روح فيها وزال إحساسه وإدراكه وتوارى عنه سمعه وبصره وعقله بحيث لا يعلم شيئا فأدرك في هذه الحال من العلوم العجيبة والأمور الغائبة مالم يدركه حال حضور ذهنه واجتماع حواسه ووفور عقله وعلم من أمور الغيب المستقبلة مالم يكن له دليل ولا طريق إلى العلم به وأنسب إليه أيضا حيوانا خرج من إحليله مجة ماء مستحيلة عن حصول الطعام والشراب كالمخطة فامتزجت بمثلها في مكان ضيق فأقامت هناك برهة من الدهر فانقلبت دما قد تغير لونها وشلكها وصفاتها فأقامت كذلك مدة ثم انقلبت قطعة لحم فأقامت كذلك مدة ثم انقلبت عظاما وأعصابا وعروقا وأظفارا مختلفة الأشكال والأوضاع وهي جماد لا إحساس لها ثم عادت حيوانا يتحرك ويتغذى وينقلب ثم أقام ذلك الحيوان مدة طويلة في مكان لا يجد فيه متنفسا وهو داخل أوعية بعضها فوق بعض ثم انفتح له باب ضيق عن مسلك الذكر فلا يسلكه إلا بضغطه وعصره فوسع له ذلك الباب حتى خرج منه وانسب إليه أيضا شيئا بقدر الحبة ترسله في مدينة عظيمة من أعظم المدن فيأكل المدينة وكل من فيها ثم يقبل على نفسه فيأكلها
وهو النار وأنسب إليه أيضا شيئا بقدر بزر الخشخاش يحمله الإنسان بين ثيابه مدة فينقلب حيوانا يتغذى بورق الشجر برهة ثم إنه يبني على نفسه قبابا مختلفة الألوان من أبيض وأصفر وأحمر بناء محكما متقنا فيقيم في ذلك البناء مدة من الزمان لا يتغذى بشيء البتة فينقلب في القبة طائرا له أجنحة يطير بها بعد أن كان دودا يمشي على بطنه فيفتح على نفسه باب القبة ويطير وذلك دود القز إلى أضعاف أضعاف ما ذكرنا مما يشاهد بالعيان مما لو جلي لمن لم يره لعجب من عقل من حكاه له وقال وهل يصدق بهذا عاقل وضرورة العقل تدفع هذا وأقام الأدلة العقلية على استحالته فقام في النائم مثلا القوى الحساسة أسباب لإدراك الأمور الوجودية وآلة لها فمن لا يدرك الشيء مع وجودها واستجماعها ووفورها فأن يتعذر عليه إدراكه مع وجودها وبطلان أفعالها أولى وأحرى وهذا قياس أنت تجده أقوى من الأقيسة التي يعارض بها خبر الأنبياء والحس والعيان يدفعه ومن له خبرة بمواد الأدلة وترتيب مقدماتها وله أدنى بيان يمكن أن ينظم أدلة عقلية على استحالة كثير من الأمور المشاهدة المحسوسة وتكون مقدمات تلك الأدلة من جنس مقدمات الأدلة التي تعارض بها النصوص أو اصح منها وأنسب إلى العقل وجود ما أخبرت به الرسل عن الله
وصفاته وأفعاله وملائكته وعن اليوم الآخر وثبوت هذه الأمور التي ذكرنا اليسير منها ومالم نذكره ولم يخطر لنا ببال أعجب من ذلك بكثير نجد تصديق العقل بما أخبرت به الرسل أقرب إليه من تصديقه بهذه الأمور ولولا المشاهدة لكذب بها فيالله العجب كيف يستجيز العقل إنكار ما أخبرت به الرسل بعد أن رأى وعاين وسمع ما لولا الحس لأنكره غاية الإنكار ومن هاهنا قال من صح عقله وإيمانه إن نسبة العقل إلى الوحي أدق وأقل بكثير من نسبة منادى سن التمييز إلى العقل.
الوجه الستون: إن هؤلاء المعارضين بين العقل والوحي لا يمكنهم إثبات الصانع بل نفيه بالكلية لازم قولهم لزوما بينا ولا أن العالم مخلوق له ولا يمكنهم إقامة الدليل على استحالة إلهين ولا يمكنهم إقامة دليل واحد على استحالة كون الصانع جسما ولا يمكنهم إثبات كونه عالما ولا قادرا ولا ربا فهم عاجزون عن إثبات وجود الصانع فضلا عن تنزيهه ونقتصر من هذه الجملة على بيان عجزهم عن إثبات وجوده سبحانه فضلا عن تنزيهه عن صفات كماله فنقول المعارضون بين الوحي والعقل في الأصل هم الزنادقة المنكرون للنبوات وحدوث العالم والمعاد ووافقهم في هذا الأصل الجهمية والمعطلة لصفات الرب وأفعاله
والطائفتان لم تثبت للعالم صانعا البتة فإن الصانع الذي أثبتوه وجوده مستحيل فضلا عن كونه واجب الوجود قديما.
أما زنادقة الفلاسفة فإنهم أثبتوا للعالم صانعا لفظا لا معنى ثم لبسوا على الناس وقالوا إن العالم صنعه وفعله وخلقه وهو في الحقيقة عندهم غير مصنوع ولا مخلوق ولا مفعول ولا يمكن على أصلهم أن يكون العالم مخلوقا ولا مفعولا قال أبو حامد وذلك لثلاثة أوجه:
وجه في الفاعل ووجه في الفعل ووجه في نسبة مشتركة بين الفعل والفاعل أما الذي في الفاعل فهو أنه لا بد أن يكون مريدا مختارا عالما بما يريده حتى يكون فاعلا لما يريده والله تعالى عندهم ليس مريدا بل لا صنعة له أصلا وما يصدر عنه فيلزم لزوما ضروريا.
والثاني: أن العالم قديم عندهم والفعل هو الحادث
والثالث: أن الله تعالى عندهم واحد من كل وجه
والواحد لا يصدر عنه عندهم إلا واحد والعالم مركب من مختلفات فكيف يصدر عنه قال ولنحقق وجه كل واحد من هذه الوجوه الثلاثة مع جدالهم في دفعه فنقول الفاعل عبارة عمن يصدر عنه الفعل مع الإرادة للفعل على سبيل الاختيار ومع العلم بالمراد وعندهم أن العالم مع الله كالمعلول مع العلة يلزم لزوما ضروريا لا يتصور من الله دفعه كلزوم الظل للشخص والنور للشمس وليس هذا من الفعل في شيء بل من قال إن السراج يفعل الضوء والشخص يفعل الظل فقد تجوز وتوسع في التجوز توسعا خارجا عن الحد واستعار اللفظ اكتفاء بوقوع المشاركة بين المستعار له والمستعار منه في وصف واحد وهو أن الفاعل سبب على الجملة والسراج سبب للضوء والشمس سبب
للنور والفاعل لم يسم فاعلا صانعا بمجرد كونه سببا بل بكونه سببا على وجه الإرادة والاختيار حتى لو قال قائل الجدار ليس بفاعل والحجر ليس بفاعل والجماد ليس بفاعل وإنما الفعل للحيوان لم ينكر ذلك ولم يكن قوله كذبا وللحجر فعل عندهم وهو الهوي إلى السفل والميل إلى المركز كما أن للنار فعلا وهو التسخين وللحائط فعلا وهو الميل إلى المركز ووقوع الظل لأن ذلك صادر عنه وهذا محال.
قال فإن قيل كل موجود ليس بواجب الوجود لذاته بل هو موجود بغيره فإنا نسمي ذلك الشيء
مفعولا ونسمي سببه فاعلا ولا نبالي كان المسبب فاعلا بالطبع أو بالإرادة كما أنكم لا تبالون أنه كان فاعلا بآلة أو بغير آلة بل الفعل جنس ينقسم إلى ما يقع بآلة وإلى ما يقع بغير آلة فكذلك هو جنس ينقسم إلى ما يقع بالطبع وإلى ما يقع بالاختيار بدليل أنا إذا قلنا فعل بالطبع لم يكن قولنا بالطبع ضدا لقولنا فعل ولا دفعا ولا نقضا له بل كان بيانا لنوع الفعل كما أنا إذا قلنا فعل مباشرة بغير آله لم يكن نقضا بل كان تنويعا وبيانا وإذا قلنا فعل بالاختيار لم يكن تكرارا بل كان بيانا لنوع الفعل كقولنا فعل بآلة ولو كان قولنا فعل يتضمن الإرادة وكانت الإرادة ذاتية للفعل من حيث إنه فعل لكان قولنا فعل بالطبع متناقضا كقولنا فعل وما فعل.
قلنا هذه التسمية فاسدة لا يجوز أن يسمى كل سبب
بأي وجه كان فاعلا ولا كل سبب مفعولا ولو كان ذلك ما صح أن يقال الجماد لا فعل له وإنما الفعل للحيوان وهذه من الكليات المشهورة الصادقة فإن سمي الجماد فاعلا فبالإستعارة كما يسمى طالبا مريدا على سبيل المجاز إذ يقال الحجر يهوي لأنه يريد المركز ويطلبه والطلب والأمر حقيقة لا يتصور إلا مع العلم بالمراد المطلوب فلا يتصور إلا مع الحيوان.
وأما قولكم إن قولنا فعل عام وينقسم إلى ما هو بالطبع وإلى ما هو بالإرادة غير مسلم وهو كقول القائل قولنا أراد عام وينقسم إلى من يريد مع العلم بالمراد وإلى من يريد ولا يعلم ما يريد وهو فاسد إذ الإرادة تتضمن العلم بالضرورة وكذلك الفعل يتضمن الإرادة بالضرورة.
وأما قولكم إن قولنا فعل بالطبع ليس بنقض
للأول فليس كذلك فإنه نقض له من حيث الحقيقة ولكنه لا يسبق إلى الفهم التناقض ولا يشتد نفور الطبع عنه فإنه لما أن كان سببا بوجه ما والفاعل أيضا سبب سمي فعلا مجازا.
وإذا قال فعل بالاختيار فهو تكرير على التحقيق كقوله أراد وهو عالم بما أراد إلا أنه لما تصور أن يقال فعل وهو مجاز ويقال فعل وهو حقيقة لم تنفر النفس عن قوله فعل بالاختيار وكان معناه فعل فعلا حقيقيا لا مجازيا كقول القائل تكلم بلسانه ونظر بعينه فإنه لما جاز أن يستعمل النظر في القلب مجازا أو الكلام في تحريك الرأس واليد مجازا لم يستقبح أن يقال قال بلسانه ونظر بعينه ويكون معناه نفي احتمال المجاز فهذه مزلة القدم.
فإن قيل تسمية الفاعل إنما تعرف من اللغة وإلا فقد ظهر في العقل أن ما يكون سببا للشيء ينقسم إلى ما يكون مريدا وإلى مالا يكون فوقع النزاع في أن اسم الفاعل على كلا القسمين حقيقة أم لا.
إذ العرب تقول النار تحرق والثلج يبرد والسيف يقطع والخبز يشبع والماء يروي فقولنا يقطع معناه يفعل القطع وقولنا تحرق معناه تفعل الإحراق فإن قلتم إن ذلك مجاز فأنتم متحكمون من غير مستند قال والجواب أن ذلك بطريق المجاز وإنما الفعل الحقيقي ما يكون بالإرادة والدليل عليه أنا لو فرضنا حادثا توقف حصوله على أمرين أحدهما إرادي والآخر غير إرادي أضاف العقل الفعل إلى الإرادي فكذا اللغة فإن من ألقى إنسانا في نار فمات فيقال هو القاتل دون النار حتى إذا قيل ما قتله إلا فلان كان صادقا فإن كان اسم
الفاعل على المريد وعلى غير المريد على وجه واحد لا بطريق كون أحدهما أصلا والأخر مستعارا فلم يضاف القتل إلى المريد لغة وعرفا وعقلا مع أن النار هي العلة القريبة في القتل وكأن الملقي لم يتعاط إلا الجمع بينه وبين النار ولكن لما كان الجمع بالإرادة وتأثير النار بغير إرادة سمي قاتلا ولم تسم النار قاتلة إلا بمعنى استعارة فعلم أن الفاعل من يصدر الفعل عن إرادته وإذا لم يكن الله مريدا عندهم ولا مختارا لفعل العالم لم يكن صانعا ولا فاعلا إلا مجازا فإن قيل نحن نعني بكون الله فاعلا أنه سبب لوجود كل موجود سواه وأن العالم قوامه به ولولا وجود الباري لما تصور وجود العالم ولو قدر عدم الباري لانعدم العالم كما لو قدر عدم الشمس لانعدم الضوء فهذا ما نعنيه بكونه فاعلا فإن كان الخصم يأبى أن يسمي هذا المعنى فعلا فلا مشاحة في الأسامي
بعد ظهور المعنى قلنا غرضنا أن نبين أن هذا المعنى لا يسمى فعلا وصنعا وإنما يسمى بالفعل والصنع ما يصدر عن الإرادة حقيقة وقد نفيتم حقيقة معنى الفعل ونطقتم بلفظه تجملا بالإسلاميين ولا يتم الدين بإطلاق الألفاظ الفارغة عن المعاني فصرحوا بأن الله لا فعل له حتى يتضح أن معتقدكم مخالف لدين المسلمين ولا تلبسوا بقولكم إن الله صانع العالم وإن العالم صنعه فإن هذه لفظة أطلقتموها ونفيتم حقيقتها ومقصود هذه المسألة الكشف عن هذا التلبيس فقط ثم ساق الكلام إلى آخر المسألة قلت ولا ريب أن أصولهم التي عارضوا بها الوحي تنفي وجود الصانع فضلا عن كونه صانعا للعالم بل تجعله ممتنع الوجود فضلا عن كونه واجب الوجود لأن الصفات التي وصفوه بها صفات معدوم ممتنع في العقل والخارج فلا العقل يتصور إلا على سبيل الفرض الممتنع كما يفرض المستحيلات ولا يمكن في الخارج وجوده فإن ذاتا هي وجود مطلق لا ماهية لها سوى الوجود المطلق المجرد على
كل ماهية ولا صفة لها البتة ولا فيها معنيان متغايران في المفهوم ولا هي هذا العالم ولا صفة من صفاته ولا داخلة فيه ولا خارجة عنه ولا متصلة به ولا منفصلة عنه ولا مجانبة له ولا مباينة ولا فوقه ولا تحته ولا يمينه ولا يسرته ولا ترى ولا يمكن أن ترى ولا تدرك شيئا ولا تدرك هي بشيء من الحواس ولا هي متحركة ولا ساكنة ولا توصف بغير السلوب والإضافات العدمية ولا نعتت بشيء من الأمور الثبوتية هي بامتناع الوجود أحق منها بإمكان الوجود فضلا عن وجوبه وتكليف العقل بالإعتراق بوجود هذه الذات ووجوبها كتكليفه الجمع بين النقيضين ومعلوم أن مثل هذه الذات لا تصلح لفعل ولا ربوبية ولا إلهية وأي ذات فرضت في الوجود فهي أكمل منها فالذي جعلوه واجب الوجود هو أعظم استحالة من كل ما يقدر مستحيلا فلا يكثر عليهم بعد هذا إنكارهم لصفاته كعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره ولا إنكارهم لكلامه وتكليمه فضلا عن استوائه على عرشه ونزوله إلى سماء الدنيا ومجيئه وإتيانه وفرحه وحبه وغضبه ورضاه فمن هدم قواعد البيت من أصلها هان عليه هدم السقف والجدران ولهذا كان
حقيقة قول هؤلاء القول بالدهر وإنكار الخالق بالكلية وقولهم {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية24] وإنما صانعوا المسلمين بألفاظ لا حقيقة لها واشتق إخوانهم الجهمية النفي والتعطيل من أصولهم فسدوا على أنفسهم طريق العلم بإثبات الخالق وتوحيده بمشاركتهم لهم في الأصل المذكور وإن باينوهم في بعض لوازمهم كإثباتهم كون الرب تعالى قادرا مريدا فاعلا بالاختيار وإثباتهم معاد الأبدان والنبوة ولكن لم يثبتوا ذلك على الوجه الذي جاءت به الرسل ولا نفوه نفي إخوانهم الملاحدة بل اشتقوا مذهبا بين المذهبين وسلكوا طريقا بين الطريقين لا للملاحدة فيه وافقوا ولا للرسل اتبعوا ولهذا عظمت بهم البلية على الإسلام وأهله بانتسابهم إليه وظهورهم في مظهر ينصرون به الإسلام ويردون به على الملاحدة فلا للإسلام نصروا ولا لأعدائه كسروا بل أتباع الرسل كفروهم وضللوهم وصاحوا بهم من أقطار الأرض امتازوا من المسلمين أيها المعطلون وانحازوا إلى إخوانكم من الملاحدة الذين هم بربهم يعدلون وخلوا عن نصوص الوحي فكم بها تتلاعبون فمرة تقولون هي أدلة لفظية معزولة عن إفادة العلم واليقين ومرة تقولون هي مجازات واستعارات لا حقيقة لها عند العارفين ومرة تقولون:
لا سبيل إلى تحكيمها والالتفات إليها وقد عارضها المعقول وقواطع البراهين ومرة تقولون أخبار أحاد فلا يحتج بها في المسائل القطعية التي يطلب منها اليقين فأرضيتم بذلك إخوانكم من الملاحدة أعداء الدين وكنتم بذلك لهم موافقين فصالوا عليكم به فيما أثبتموه وكنتم به من الإسلام وأهله متقربين وصال عليكم المسلمون بما وافقتم فيه إخوانكم من الضلال المبين فتدافعكم الفريقان تدافع الكرة بين الضاربين فدعونا من التلبيس والمصانعة بالله هل أثبتم للعالم ربا بائنا عنه وهل عندكم فوق العرش إله يعبد ويصلى له ويسجد أم ليس فوق العرش إلا العدم الذي لا شيء هو وهل أثبتم لصانع العالم سبحانه صفة ثبوتية تقوم به فهل أثبتم له علما حقيقة وسمعا وبصرا وحياة ومشيئة وإرادة حقيقية وهل تعتقدون أنه تكلم أو كلم أحدا حقيقة أو أمر أو نهي أو قال أو يقول أو نادى أو ينادي أو أخبر أو نبأ أو أنبأ أو عهد أو وصى أو خاطب أو ناجى أو أثنى على نفسه أو على أحد من خلقه أو قال قط {إنني أنا الله لا إله إلا أنا} [طه14] أو نزل من عنده شيء أو صعد إليه شيء أو قام به
فعل البتة يجب أن يكون به فاعلا أو قام به حب أو بغض أو رضى أو سخط أو له وجه أعلى أو خلق آدم بيديه أو غرس جنة عدن بيده أو كتب التوراة بيده أو يقبض سمواته السبع بيده والأرضين السبع بيده أو كتب بيده كتابا فهو عنده موضوع على العرش إن رحمته سبقت غضبه أو يراه أنبياؤه ورسله والمؤمنون في دار الجزاء فضلا عن أن يتجلى لهم من فوقهم يضحك إليهم ويسلم عليهم فبالله هل لهذا كله عندكم حقيقة أم إذا تجملتم وأجملتم قلتم كل ذلك مجازات واستعارت ليس له حقيقة فاسألوا بالله إذن إخوانكم من أرباب المعقولات هل يصدق أحد منكم أن إنسانا خلق من تراب وأنه يعود حيا بعدما صار إلى التراب وأن عصا انقلبت فصارت حية عظيمة أكلت ما مرت عليه
ثم انقلبت فصارت عصا كما كانت وأن يدا خرجت بيضاء لها ضوء مثل ضوء الشمس وأن بحرا من بحار العالم انفلق بعسكر عظيم اثني عشر طريقا وصار الماء بين الطرق كالحيطان وأن جبلا قلع من موضعه على قدر عسكر عظيم ووقف على رؤوسهم بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه عيانا ثم عاد إلى مكانه وأن حجرا مربعا يحمل مع قوم يضرب بعصا فينفجر منه اثنا عشر نهرا كل نهر لطائفة عظيمة يختصون بمشربه لا يشركهم فيه الآخرون وأن قتيلا ضرب بعضو من بقرة مذبوحة فقام القتيل حيا وأن إنسانا رمي به في نار تأجج فلم تحرق منه شيئا وعادت خضراء وروضة وأن مدائن قلعت من أصولها كما يقلع الشجر ثم رفعت في الهواء ثم قلبت بمن فيها فماتوا موتة رجل واحد وأن صخرة تمخضت وتحركت ثم انفلقت عن ناقة كأحسن النوق وأن قمرا انشق في السماء شقتين ثم عاد فالتأم كما كان وأن يدا وضعت في ماء لا يغمرها فتفجر
الماء من بين أصابعها وثار كأمثال العيون حتى روي منه عسكر عظيم جرار وملئوا منه كل قربة وكل إناء معهم وأن رجلا ولد من غير أب وأن امرأة ولدت من غير أم وأن رجلا حمل من مكة إلى بيت المقدس ثم رفع حتى جاوز السموات السبع ثم عاد إلى فراشه في ليلته وأن عسكرا عظيما قاموا بدوابهم وخدمهم وعددهم على بساط واحد بين السماء والأرض عل متن الريح مسيرة شهر في مقدار غدوة من النهار ثم يرجعون في مقدار ذلك ولا تمس ركابهم الأرض فبالله يا أرباب المعقولات ويا أهل الذاتي والعرضي وأهل المقولات العشر والكليات الخمس ويا أهل المختلطات والموجهات والقضايا المسورات والمهملات ويا أهل الشكل الأول والثاني والثالث
والرابع وأصحاب القياس الحملي والشرطي وأهل العقول المقدمة بزعم أربابها على الوحي هل تصدقون بشيء من هذا وهل يصدق أفراخكم وتلامذتكم بشيء مما ذكرنا من شأن الربوبية أم التكذيب بها وهذا ثمرة عقولكم وحاصل معقولكم.
فعلى عقولكم العفاء فإنكم
…
عاديتم المعقول والمنقولا
وطلبتم أمرا محالا وهو إدراك
…
الهدى لا تبتغون رسولا
وزعمتم أن العقول كفيلة
…
بالحق أين العقل كان كفيلا
وهو الذي يقضي فينقض حكمه
…
عقل ترون كليهما معقولا
وتراه يجزم بالقضاء وبعد ذا
…
يلفى لديه باطلا معلولا
لا يستقل العقل دون هداية
…
بالوحي تأصيلا ولا تفصيلا
كالطرف دون النور ليس بمدرك
…
حتى يراه بكرة وأصيلا
وإذا الظلام تلاطمت أمواجه
…
وطمعت بالإبصار كنت محيلا
فإذا النبوة لم ينلك ضياؤها
…
فالعقل لا يهديك قط سبيلا
نور النبوة مثل نور الشمس
…
للعين البصيرة فاتخذه دليلا
طرق الهدى مسدودة إلا على
…
من أم هذا الوحي والتنزيلا
فإذا عدلت عن الطريق تعمدا
…
فاعلم بأنك ما أردت وصولا
يا طالبا درك الهدى بالعقل
…
دون النقل لن تلق لذاك دليلا
كم رام قبلك ذاك من متلذذ
…
حيران عاش مدى الزمان جهولا
ما زالت الشبهات تغزو قلبه
…
حتى تشحط بينهن قتيلا
فتراه بالكلي والجزئي والذاتي
…
والعرضي طول زمانه مشغولا
فإذا أتاه الوحي لم يأذن له
…
ويقوم بين عداه مثيلا
ويقول تلك أدلة لفظية
…
معزولة عن أن تكون دليلا
وإذا تمر عليه قال لها إذهبي
…
نحو المجسم أو خذي التأويلا
وإذا أبت إلا النزول عليه كان
…
لها القرى التحريف والتبديلا
فيحل بالأعداء ما تلقاه من
…
كيد يكون لحقها تعطيلا
واضرب لهم مثلا بعميان خلوا
…
في ظلمة لا يهتدون سبيلا
فتصادموا بأكفهم وعصيهم
…
ضربا يدير رحا القتال طويلا
حتى إذا ملوا القتال رأيتهم
…
مشجوجا أو مفجوجا أو مقتولا
وتسامع العميان حتى أقبلوا
…
للصلح فازداد الصياح عويلا
الوجه الحادي والستون: وهو أن الطرق التي سلكها هؤلاء المعارضون بين الوحي والعقل في إثبات الصانع هي بعينها تنفي وجوده فإنها متضمنة لنفي صفاته وأفعاله صريحا وهي تنفي وجوده لزوما فإن هؤلاء المعارضين صنفان الفلاسفة والجهمية:
أما الفلاسفة فأثبتوا وجود الصانع بطريق التركيب وهو أن الأجسام مركبة والمركب يفتقر إلى أجزائه وكل مفتقر ممكن والممكن لا بد له من وجود واجب وتستحيل الكثرة في ذات الواجب بوجه من الوجوه إذ يلزم
تركيبه وافتقاره وذلك ينافي وجوبه وهذا هو غاية توحيدهم وبه أثبتوا الخالق على زعمهم ومعلوم أن هذا من أعظم الأدلة على نفي الخالق فإنه ينفي قدرته ومشيئته وعلمه وحياته إذ لو ثبتت له هذه الصفات بزعمهم لكان مركبا والمركب مفتقر إلى غيره فلا يكون واجبا بنفسه وفي هذه الشبهة من التلبيس والتدليس والألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة ما يطول وصفه وقد انتدب لإفسادها جنود الإسلام على اختلاف مذاهبهم فإن المركب لفظ مجمل يراد به ما ركبه غيره وما كان متفرقا فاجتمعت أجزاؤه وما يمكن تفريق بعضه عن بعض والله سبحانه منزه عن هذه التراكيب ويراد به في اصطلاح هؤلاء ماله ماهية خاصة يتميز بها عن سائر الماهيات وما له ذات وصفات بحيث يتميز بعض صفاته عن بعض وهذا ثابت له سبحانه وإن سماه هؤلاء تركيبا كما تقدم وكذلك لفظ الافتقار لفظ مجمل يراد به فقر الماهية إلى موجد غيرها بتحقيق وجودها به والله سبحانه غني عن هذا الافتقار ويراد به أن الماهية مفتقرة في ذاتها إلى ذاتها ولا قوام لذاتها إلا بذاتها وأن الصفة لا تقوم بنفسها وإنما تقوم بالموصوف وهذا المعنى حق وإن سماه هؤلاء الملبسون فقرا وكذلك لفظ الغير فيه إجمال يراد بالغيرين ما مفارقة أحدهما للآخر ذاتا أو مكانا أو زمانا فصفات القديم
سبحانه ليست غيرا له بهذا الاعتبار ويراد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر وهذا المعنى حق في ذاته وصفاته سبحانه وإن سماها هؤلاء أغيارا.
فإن المخلوق يعلم من الخالق صفة بعد صفة وقد قال أعلم الخلق به: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" وهذا لكثرة أسمائه وصفات كماله ونعوت جلاله وقال: "أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك" والمستعاذ به غير المستعاذ منه والمقصود أن تسمية هذا تركيبا وافتقارا وغيرا وضع وضعه هؤلاء وليس الشأن في الألفاظ إنما الشأن في المعاني وقولهم إنه مفتقر إلى جزئية تلبيس فإن القديم الموصوف بالصفات اللازمة له تمتنع أن تفارقه صفاته وليست له حقيقة غير الذات الموصوفة حتى يقال إن تلك الحقيقة مفتقرة إلى غيرها وإن سميت تلك الصفة غيرا فالذات والصفات متلازمان لا يوجد أحدهما إلا مع
الآخر وهذا التلازم لا يقتضي حاجة الذات والصفات إلى موجد أوجدها وفاعل فعلها والواجب بنفسه يمتنع أن يكون مفتقرا إلى ما هو خارج عن نفسه فإما أن لا يكون له صفة ولا ذات ولا يتميز منه أمر عن أمر فلا يلزم ذلك من وجوبه وكونه غنيا بنفسه عن كل ما سواه فقول الملبس إنه مفتقر إلى ذلك كقوله لو كان له ماهية لكان مفتقرا إلى ماهيته والله سبحانه اسم للذات المتصفة بكمال العلم والقدرة والحياة والمشيئة وسائر صفات الكمال ليس اسما لذات مجردة عن الأوصاف والنعوت فكل ذات أكمل من هذه الذات تعالى الله عن قول الملحدين في أسمائه وصفاته علوا كبيرا والمقصود أن هذه الطريق التي سلكها هؤلاء في إثبات الصانع هي أعظم الطرق في نفيه وإنكار وجوده وكذلك كان سالكوها لا يؤمنون بالله ولا بملائكته وكتبه ولا رسله ولا باليوم الآخر وإن صانع من صانع منهم لأهل الملل بألفاظ لا حاصل لها.
فصل
وأما المتكلمون فلما رأوا بطلان هذه الطريق عدلوا عنها إلى طريق الحركة والسكون والاجتماع
والافتراق وتماثل الأجسام وتركبها من الجواهر المفردة وأنها قابلة للحوادث وما يقبل الحوادث فهو حادث فالأجسام كلها حادثة فإذا يجب أن يكون لها محدث ليس بجسم فنفوا العلم بإثبات الصانع على حدوث الأجسام واستدلوا على حدوثها بأنها مستلزمة للحركة والسكون والاجتماع والافتراق ثم قالوا إن تلك أعراض والأعراض حادثة ومالا يخلو عن الحوادث فهو حادث فاحتاجوا في هذه الطريق إلى إثبات الأعراض أولا ثم إثبات لزومها للجسم ثانيا ثم إبطال حوادث لا أول لها ثالثا ثم التزام بطلان حوادث لا نهاية لها رابعا عند فريق منكم وإلزام الفرق عند فريق آخر ثم إثبات الجوهر الفرد خامسا ثم إلزام كون العرض لا يبقى زمانين سادسا فيلزم حدوثه والجسم لا يخلو منه ومالا يخلو عن الحوادث فهو حادث ثم إثبات تماثل الأجسام سابعا فيصح على بعضها ما يصح على جميعها فعلمهم بإثبات الخالق سبحانه مبني على هذه الأمور الشنيعة فلزمهم من سلوك هذه الطريق إنكار كون الرب تعالى فاعلا في الحقيقة وإن سموه فاعلا بألسنتهم فإنه لا يقوم به عندهم فعل وفاعل بلا فعل كقائم بلا قيام وضارب بلا ضرب وعالم بلا علم وضم الجهمية إلى ذلك أنه لو قام به صفة لكان جسما ولو كان جسما لكان حادثا
فيلزم من إثبات صفاته إنكار ذاته فعطلوا صفاته وأفعاله بالطريق الذي أثبتوا بها وجوده فكانت أبلغ الطرق في تعطيل صفاته وأفعاله وعن هذه الطريق أنكروا علوه على عرشه وتكلمه بالقرآن وتكليمه لموسى ورؤيته بالأبصار في الآخرة ونزوله إلى سماء الدنيا كل ليلة ومجيئه لفصل القضاء بين الخلائق وغضبه ذلك اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وجميع ما وصف به نفسه من وصف ذاتي أو معنوي أو فعلي فأنكروا وجهه الأعلى وأنكروا أن له يدين وأن له سمعا وبصرا وحياة وأنه يفعل ما شاء حقيقة وإن سمي فاعلا فلم يستحق ذلك الفعل الذي قام به بل فعله هو عين مفعوله.
وكذلك الطريق التي سلكوها في إثبات النبوة لم يثبتوا بها نبوة في الحقيقة فإنهم بنوها على مجرد خرق العادة وهو مشترك بين النبي وغيره وحاروا في الفرق فلم يأتوا فيه بما يثلج له الصدر ولا يحصل به برد اليقين مع أن النبوة التي أثبتوها لا ترجع إلى وصف وجودي بل هي تعلق الخطاب الأزلي بالنبي والتعلق عندهم أمر عدمي فعادت النبوة عندهم إلى أمر عدمي وقد صرحوا بأنها لا ترجع إلى صفة ثبوتية قائمة بالنبي وأيضا فحقيقة النبوة والرسالة إنباء الله سبحانه وتعالى لرسوله وأمره بتبليغ كلامه إلى عباده وعندهم أن الله لا يتكلم ولا يقوم به كلام.
وأما اليوم الآخر فإن جمهورهم بنوه على إثبات الجوهر الفرد وقالوا لا يتأتى التصديق بالمعاد إلا بإثباته وهو في الحقيقة باطل لا أصل له والمثبتون له يعترفون بأن القول به في غاية الإشكال وأدلته متعارضة وكثير منهم له قولان في إثباته ونفيه وسلكوا في تقرير المعاد ما خالفوا فيه جمهور العقلاء ولم يوافقوا ما جاءت به الأنبياء فقالوا إن الله سبحانه يعدم أجزاء العالم كلها حتى تصير عدما محضا ثم يعيد المعدوم ويقلبه وجودا حتى إن يعيد زمنه
بعينه وينشئوه لا من مادة كما قالوا في المبدأ فجنوا على العقل والشرع وأغروا أعداء الشرع به وحالوا بينهم وبين تصديق الرسل.
وأما المبدأ فإنهم قالوا كان الله سبحانه معطلا في الأزل والفعل غير ممكن مع قولهم كان قادرا عليه ثم صار فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا من غير تجدد أمر أصلا وانقلب الفعل من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي وذات الفاعل قبل الفعل ومع الفعل وبعد الفعل واحدة فهذا غاية عقولهم التي عارضوا بها بين الوحي والعقل وهذه طرقهم العقلية التي لم يثبتوا بها ربا ولا رسالة ولا مبدأ ولا معادا ونحن إنما أشرنا إلى ذلك أدنى إشارة وإلا فبسط ذلك في غير هذا الموضع وقد بسطه شيخنا في عامة كتبه المطولات والمبسوطات وبينه بيانا شافيا فمن أحب الوقوف عليه وجده في مظانه وبالله التوفيق.
الوجه الثاني والستون: إن هؤلاء المعارضين للوحي بعقولهم ارتكبوا أربع عظائم إحداها ردهم لنصوص الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم الثانية إساءة الظن به وجعله منافيا للعقل مناقضا له الثالثة جنايتهم على العقل بردهم
ما يوافق النصوص من المعقول فإن موافقة العقل للنصوص التي زعموا أن العقل يردها أظهر للعقل من معارضته لها الرابعة تكفيرهم أو تبديعهم وتضليلهم لمن خالفهم في أصولهم التي اخترعوها وأقوالهم التي ابتدعوها مع أنها مخالفة للعقل والنقل فصوبوا رأي من تمسك بالقول المخالف للعقل والنقل وخطأوا من تمسك بما يوافقهما وراج ذلك على من لم يجعل الله له نورا ولم يشرق على قلبه نور النبوة.
الوجه الثالث والستون: أن من عارض بين الوحي والعقل فقد قال بتكافؤ الأدلة لأن العقل الصحيح لا يكذب والوحي أصدق منه وهما دليلان صادقان فإذا تعارضا تكافآ فإن لم يقدم أحدهما بقي في الحيرة والشك وإن قدم أحدهما على الآخر أبطل موجب الدليل الصحيح وأخرجه عن كونه دليلا فيبقى حائرا بين أمرين لا بد له من أحدهما إما أن يسيء الظن بالوحي أو بالعقل والعقل عنده أصل الوحي فلا يمكنه أن يسيء الظن به فيسطو على الوحي تارة بالتحريف والتأويل وتارة بالتخييل وتارة بالدفع والتكذيب إن أمكن وذلك في نصوص السنة
وتارة يدعي ذلك في نصوص القرآن كما يدعيه غلاة الرافضة وكثير من القرامطة وأشباههم وهذا كله إنما نشأ من ظنونهم الفاسدة أن العقل الصحيح يعارض الوحي الصريح وأما أهل العلم والإيمان أهل السمع والنقل فعندهم أن فرض هذه المسألة محال وأن فرضها كفرض مسألة إذا تعارض العقل وأدلة ثبوت النبوة والرسالة وإذا تعارض العقل وأدلة ثبوت الخالق وتوحيده والمعارضة بين العقل والوحي كالمعارضة بين العقل وإثبات الصانع وتوحيده ورسالة رسله ولهذا طردوا منع هذه القاعدة في ذلك الأصل وقالوا الباب كله واحد.
الوجه الرابع والستون: إن هؤلاء المعارضين للوحي بالعقل بنوا أمرهم على أصل فاسد وهو أنهم جعلوا أقوالهم التي ابتدعوها وجعلوها أصول دينهم ومعتقدهم في رب العالمين هي المحكمة وجعلوا قول الله ورسوله هو المتشابه الذي لا يستفاد منه علم ولا يقين فجعلوا المتشابه من كلامهم هو المحكم والمحكم من كلام الله ورسوله هو المتشابه ثم ردوا تشابه الوحي إلى محكم كلامهم وقواعدهم وهذا كما جعلوا ما أحدثوه من الأصول التي نفوا بها صفات الرب
جل جلاله ونعوت كماله ونفوا بها كلامه وتكليمه وعلوه على عرشه ورؤيته في الدار الآخرة محكما وجعلوا النصوص الدالة على خلاف تلك القواعد والأصول متشابهة يقضي بتلك القواعد عليها وترد النصوص إليها فتارة يحرفون النصوص عن مواضعها ويسمون ذلك التحريف تأويلا في اللفظ وتنزيها في المعنى وتارة يقول من تجمل منهم فأحسن أراد الله ورسوله من هذه النصوص أمورا لا نعرفها ولا ندري ما أراد وتارة يقولون قصد خطاب الجمهور فأفهمهم الأمر على خلاف حقيقته لأن مصلحتهم في ذلك وتارة يفسرون صفة بصفة كما يفسرون الحب والبغض والغضب والرضا والرحمة بالإرادة والسمع والبصر والكلام بالعلم ثم يجعلون ذلك نفس الذات ومنهم من يجعل العلم نفس المعلوم كما قاله أفضل متأخريهم عندهم وأجهلهم بالله وأكفرهم نصير الكفر والشرك الطوسي فأما أهل العلم والإيمان فطريقهم عكس هذه الطريقة من كل وجه يجعلون كلام الله ورسوله هو الأصل الذي يعتمد عليه ويرد ما يتنازع الناس فيه إليه فما وافقه كان حقا وما خالفه كان باطلا وإذا ورد عليهم لفظ مشتبه ليس في القرآن ولا في السنة لم يتلقوه بالقبول ولم يردوه بالإنكار حتى يستفصلوا قائله عن مراده فإن كان حقا موافقا للعقل
والنقل قبلوه وإن كان باطلا مخالفا للعقل والنقل ردوه ونصوص الوحي عندهم أعظم وأكبر في صدورهم من أن يقدموا عليها ألفاظا مجملة لها معان مشتبهة وبنوا أصولهم على أربع قواعد
أحدها: بيان أن ما جاء به الوحي هو الهدى والحق واليقين
الثانية: بيان أن ما يقدر من الاحتمالات المعارضة لظاهره وحقيقته باطل لغة
الثالثة: بيان أن ما يدعى أنه معارض لذلك من العقل فهو باطل
الرابعة: بيان أن العقل موافق له معاضد لا معارض مناقض فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون
الوجه الخامس والستون: إن هؤلاء المعارضين بين العقل والنقل قد فارقوا العقل والنقل فلا عقل ولا نقل وهم الذين يقولون {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك10] أما النقل فإنهم قد سمحوا بمفارقته وهان عليهم أمره وأما العقل فلو تدبروا أقوالهم ومعقولهم الذي عارضوا به النقل لاستحيوا من أهل العقل الذين هم أهله فإن هؤلاء يجعلون الاثنين واحدا والواحد اثنين
والمستحيل واجبا والواجب ممتنعا والكلي جزءا من المعين الجزئي والمعدوم موجودا والموجود معدوما والثابت منتفيا والمنتفي ثابتا ويفرقون بين الشيء ونظيره في الحكم ويحملون على الشيء بحكم ضده ونقيضه وينفون النقيضين تارة ويثبتونهما تارة ويثبتون الشيء وينفون لازمه البين للزوم اللازم ويثبتون ملزومه فيجعلون الصفة هي عين الصفة الأخرى ثم يجعلونها هي نفس الموصوف كما يقولون العلم هو القدرة والقدرة هي الإرادة والسمع هو البصر ثم يقولون إن ذلك هو نفس العالم القادر المريد ويجعلون تارة العلم هو المعلوم وتار يجعلون الفعل هو عين المفعول ويجعلون الصفة التي لا تقوم إلا بمحل قائمة بنفسها كما يقولون الرب تعالى مريد بإرادة قديمة لا في محل ويجعلون الأمر هو عين النهي وهما عين الخبر وهو عين الاستفهام ويجعلون وجود الرب تعالى وجودا مطلقا بشرط الإطلاق أو بلا شرط ثم يصرحون بأن المطلق لا وجود له في الخارج ويجعلون الشيء المعين لهذا الإنسان مثلا عدة جواهر حيوانا
وناطقا وحساسا ويجعلون كلا من هذه الجواهر عين الآخر ومعلوم أنه جوهر واحد له صفات متعددة ويفرقون بين المادة والصورة ويجعلونها جوهرين عقليين قائمين بأنفسهما والمعقول قيام الصفات بالموصوفات والأعراض بالجواهر ويجعلون الصور الذهنية ثابتة في الخارج كقولهم في المجردات المفارقات المادة وليس معهم ما يثبت أنه مفارق إلا النفس الناطقة إذا فارقت البدن بالموت والمجردات هي الكليات التي تجردها النفس من الأعيان المشخصة فيرجع الأمر إلى النفس وما يقوم بها ويجعلون المعدوم الممتنع الذي لا يتصور وجوده هو الواجب الذي يمتنع عدمه كما أثبتوا لصانع العالم وجودا مطلقا مقيدا بسلب الأمور الثبوتية ليس له ماهية غير ذلك الوجود ويثبتون كونه حيا بلا حياة وعالما بلا علم وقادرا بلا قدرة إلى أضعاف أضعاف ذلك من ضلالهم في عقلياتهم التي جعلوها معارضة للوحي وقدموها عليه وكلما تدبر العاقل الذكي المنصف أحوال هؤلاء ومن وافقهم على بعضها تبين له أن القوم لا عقل ولا نقل وتفصيل هذا يستدعي بسطا طويلا والله المستعان.
الوجه السادس والستون: إن هؤلاء في معارضتهم للوحي سلكوا طريقا سحروا بها عقول ضعفاء الناس وبصائرهم فشبهت عليهم وخيل إليهم أنها حق فأصابهم في ذلك مثل ما أصاب السحرة حين عارضوا عصى موسى بما خيل إلى أبصار الناظرين أنه حق فإن هؤلاء عمدوا إلى ألفاظ مجملة تحتها معاني مشتبهة تحتمل في لغات الأمم معاني متعددة وأدخلوا فيها من المعاني غير المفهوم منها في لغات الأمم ثم ركبوها وألفوها تأليفا طويلا بنوا بعضه على بعض ففكروا فيه وقدروا وأطالوا التفكير والتقدير ثم عظموا قولهم وهولوه في نفوس من لم يفهمه ولا ريب أن فيه دقة وغموضا لما فيه من الألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة فإذا دخل معهم الطالب وسمع منهم ما تنفر عنه فطرته فأخذ يعترض عليهم قالوا له أنت لا تفهم هذا وهذا لا يصلح لك وهذا أمر قد صقلته الأذهان على تطاول الأزمان وتلقته العقول بالقبول والتسليم وفزعت إليه عند التخاصم والتحاكم فيبقى ما في النفوس من الحمية والإلفة يحملها على تسليم تلك الأمور قبل تحقيقها وعلى ترك الاعتراض عليها خشية أن ينسبوه إلى نقص العلم والعقل فيأخذها مسلمة فإذا جاءت لوازمها لم يجد بدا من التزامها ويرى أن التزام
تلك اللوازم أهون عليه من القدح في تلك القواعد وإبطالها فهذا أصل ضلال من ضل من أهل النظر والبحث في المعقولات وأما الأعمى المقلد فليس معه أكثر من هكذا قال العقلاء وهذا القدر الذي وقع من ضلال هؤلاء لم يقصده عقلاؤهم ابتداء بل كان قصدهم تحصيل العلوم والمعارف ولكن أخطأوا بطلبها من غير طريقها فضلوا وأضلوا وقد سئل شيخنا رضي الله عنه عن بعض رؤساء هؤلاء ممن له علم وعقل وسلوك وقصد ثم أخطأ الصواب فقال طلب الأمور العلية من غير الطرق النبوية فقادته قسرا إلى المناهج الفلسفية وما أحسن ما قال فإن من طلب أمرا عاليا من غير طريقه لم يحصل إلا على ضده فالواجب على من يريد كشف ضلال هؤلاء وامثالهم أن لا يوافقهم على لفظ مجمل حتى يتبين معناه ويعرف مقصوده فيكون الكلام في معنى معقول يتوارد النفي والإثبات فيه على محل واحد لا في لفظ مجمل مشتبه المعنى وهذا نافع في الشرع والعقل والدين والدنيا وبالله التوفيق.
السابع والستون: إن الله سبحانه نهى المؤمنين أن يتقدموا بين يدي رسوله وأن يرفعوا أصواتهم فوق صوته وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض وحذرهم من حبوط أعمالهم بذلك فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات21] .
فإذا كان سبحانه قد نهى عن التقديم بين يديه فأي تقدم أبلغ من تقديم عقله على ما جاء به قال غير واحد من السلف ولا تقولوا حتى يقول ولا تفعلوا حتى يأمر ومعلوم قطعا أن من قدم عقله أو عقل غيره على ما جاء به فهو أعصى الناس لهذا النبي وأشدهم تقدما بين يديه وإذا كان سبحانه قد نهاهم أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته فكيف برفع معقولاتهم فوق كلامه وما جاء به ومن المعلوم قطعا أنه لم يكن يفعل هذا في عهده إلا الكفار والمنافقون فهم الذين حكى الله سبحانه عنهم معارضة ما جاء به بعقولهم وآرائهم وصارت تلك المعارضة ميراثا في أشباههم كما حكى الله عن المشركين معارضة شرعه وأمره بقضائه وقدره وورثهم في هذه المعارضة طائفتان إحداهما إخوانهم المباحية الذين خلعوا ربقة الشريعة من أعناقهم ودانوا بالقدر.
والثانية: الذين عارضوا قضاءه وقدره بأمره وقالوا
لا يمكن الجمع بينهما فأبطلوا القدر بالأمر وأولئك أقعد بالميراث من هؤلاء وقد ذكر سبحانه الأمثال العقلية التي عارض المشركون بها الوحي لتكون عبرة للمؤمنين ومثلا للمعارضين: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال42]
الوجه الثامن والستون: إن معارضة الوحي بالعقل ميراث عن الشيخ أبي مرة فهو أول من عارض السمع بالعقل وقدمه عليه فإن الله سبحانه لما أمره بالسجود لآدم عارض أمره بقياس عقلي مركب من مقدمتين حمليتين:
إحداهما: قوله {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} فهذه هي
الصغرى والكبرى محذوفة تقديرها والفاضل لا يسجد للمفضول وذكر مستند المقدمة الأولى وهو أيضا قياس حملي حذف إحدى مقدمتيه فقال {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} .
والمقدمة الثانية: كأنها معلومة أي ومن خلق من نار أفضل ممن خلق من طين فهما قياسان متداخلان وهذه يسميها المنطقيون الأقيسة المتداخلة فالقياس الأول هكذا أنا خير منه وخير المخلوقين لا يسجد لمن هو دونه وهذا من الشكل الأول والقياس الثاني هكذا خلقتني من نار وخلقته من طين والمخلوق من النار خير من المخلوق من الطين فنتيجة هذا القياس العقلي أنا خير منه ونتيجة الأول ولا ينبغي لي أن أسجد له.
وأنت إذا تأملت مادة هذا القياس وصورته رأيته أقوى من كثير من قياساتهم التي عارضوا بها الوحي وقدموها عليه والكل باطل وقد اعتذر أتباع الشيخ له بأعذار: ومنها أنه لما تعارض عنده العقل والنقل قدم العقل
ومنها أن الخطاب بصيغة الضمير في قوله اسجدوا لا عموم له فإن الضمائر ليست من صيغ العموم
ومنها أنه وإن كان اللفظ عاما فإنه خصه بالقياس
المذكور ومنها أنه لم يعتقد أن الأمر للوجوب بل حمله على الاستحباب لأنه المتيقن أو على الرجحان دفعا للاشتراك والمجاز.
ومنها أنه حمله على التراخي ولم يحمله على الفور
ومنها أنه صان جناب الرب أن يسجد لغيره ورأى أنه لا يليق به السجود لسواه فبالله تأمل هذه التأويلات وقابل بينها وبين كثير من التأويلات التي يذكرها كثير من الناس والمعارضات التي عارض بها النصوص وفي بني آدم من يصوب رأي إبليس وقياسه ويقول الصواب معه ولهم في ذلك تصانيف وكان بشار بن برد الأعمى الشاعر على هذا المذهب يقول في قصيدته الرائية:
الأرض مظلمة سوداء مقتمة
…
والنار معبودة مذ كانت النار
ولما علم الشيخ أنه قد أصيب من معارضة الوحي بالعقل وعلم أنه لا شيء أبلغ في مناقضة الوحي والشرع وإبطاله من معارضته بالعقول أوحى إلى تلامذته وإخوانه من الشبهات الخيالية ما يعارض به الوحي وأوهم أصحابه وتلاميذه أنها قواطع عقلية وقال إن قدمتم الوحي عليها فسدت عقولكم قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام121]
ومن المعلوم أن وحيهم إنما هو شبه عقلية وقال تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ
مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام117 ، 112] .
الوجه التاسع والستون: في بيان فساد معقول الشيخ الذي عارض به الوحي وذلك من وجوه: أحدها إنه قياس في مقابلة النص والقياس إذا صادم النص وقابله كان قياسا باطلا ويسمى قياسا إبليسيا فإنه يتضمن معارضة الحق بالباطل وتقديمه عليه ولهذا كانت عقوبته أن أفسد عليه عقله ودنياه وآخرته وقد بينا فيما تقدم أنه ما عارض أحد الوحي بعقله إلا أفسد الله عليه عقله حتى يقول ما يضحك منه العقلاء.
الثاني: إن قوله أنا خير منه كذب ومستنده في ذلك باطل فإنه لا يلزم من تفضيل مادة على مادة تفضيل المخلوق منها على المخلوق من الأخرى فإن الله سبحانه يخلق من المادة المفضولة ما هو أفضل من المخلوق من غيرها وهذا من كمال قدرته سبحانه ولهذا كان محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح والرسل أفضل من الملائكة ومذهب أهل السنة أن صالحي البشر أفضل من الملائكة وإن كانت
مادتهم نورا ومادة البشر ترابا فالتفضيل ليس بالمواد والأصول ولهذا كان العبيد والموالي الذين آمنوا بالله ورسوله خيرا وأفضل عند الله ممن ليس مثلهم من قريش وبني هاشم وهذه المعارضة الإبليسية صارت ميراثا في أتباعه في التقديم بالأصول والأنساب على الإيمان والتقوى وهي التي أبطلها الله عز وجل بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات13] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء الناس مؤمن تقي وفاجر شقي" وقال صلى الله عليه وسلم: "لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي ولا لأبيض على أسود
ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى الناس من آدم وآدم من تراب" فانظر إلى سريان هذه النكتة الإبليسية في نفوس أكثر الناس من تفضيلهم بمجرد الأصول والأنساب.
الثالث: إن ظنه أن النار خير من التراب باطل مستنده ما فيها من الإضاءة والخفة وما في التراب من الثقل والظلمة ونسي الشيخ ما في النار من الطيش والخفة وطلب العلو والإفساد بالطبع حتى لو وقع منها شواظ بقدر الحبة في مدينة عظيمة لأفسدها كلها ومن فيها بل التراب خير من النار وأفضل من وجوه متعددة.
منها أن طبعه السكون والرزانة والنار بخلافه
ومنها أنه مادة الحيوان والنبات والأقوات والنار بخلافه
ومنها أنه لا يمكن أحدا العيش بدونه ودون ما خلق منه البتة ويمكنه أن يعيش برهة بلا نار قالت عائشة يمر بنا الشهر والشهران ما نوقد في بيوتنا نارا أو ما نرى نارا قال لها عروة فما كان قوتكم قالت الأسودان التمر والماء.
ومنها أن الأرض تؤدي إليك بما فيها من البركة
أضعاف أضعاف ما تودعه من الحب والنوى وتربيه لك وتغذيه وتنميه والنار تفسده عليك وتمحق بركته
ومنها أن الأرض مهبط وحي الله ومسكن رسله وأنبيائه وأوليائه وكفاتهم أحياء وأمواتا والنار مسكن أعدائه ومأواهم
ومنها أن في الأرض بيته الذي جعله إماما للناس وقياما لهم وجعل حجه محطا لأوزارهم ومكفرا لسيئاتهم وجالبا لهم مصالح معاشهم ومعادهم.
ومنها أن النار طبعها العلو والفساد وأن الله لا يحب المستكبرين ولا يحب المفسدين والأرض طبعها الخشوع والإخبات والله يحب المخبتين الخاشعين وقد ظهر هذا بخلق إبراهيم ومحمد وموسى وعيسى والرسل من المادة الأرضية وخلق إبليس وجنوده من المادة النارية نعم وخلق من المادة الأرضية الكفار والمشركين ومن المادة النارية صالحي الجن ولكن ليس في هؤلاء مثل إبليس وليس
في أولئك مثل الرسل والأنبياء فمعلم الخير من المادة الأرضية ومعلم الشر من المادة النارية.
ومنها أن النار لا تقوم بنفسها بل لا بد لها من محل تقوم به لا تستغني عنه وهي محتاجة إلى المادة الترابية في قوامها وتأثيرها والأرض قائمة بنفسها لا تحتاج إلى محل تقوم به ولا يفتقر قوامها ونفعها إلى النار.
ومنها أن التراب يفسد صورة النار ويبطلها ويقهرها وإن علت عليه
ومنها أن الرحمة تنزل على الأرض فتقبلها وتحي بها وتخرج زينتها وأقواتها وتشكر ربها وتنزل على النار فتأباها وتطفيها وتمحوها وتذهب بها فبينها وبين الرحمة معاداة وبين الأرض وبين الرحمة موالاة وإخاء.
ومنها أن النار تطفأ عند التكبير فتضمحل عند ذكر كبرياء الرب ولهذا يهرب المخلوق منها عند الأذان حتى لا يسمعه والأرض تبتهج بذلك وتفرح
به وتشهد به لصاحبه يوم القيامة ويكفي في فضل المخلوق من الأرض على المخلوق من النار أن الله سبحانه خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء فهل حصل للمخلوق من النار واحدة من هذه فقد تبين لك حال هذه المعارضة العقلية للسمع وفسادها من هذه الوجوه وأكثر منها وهي من شيخ القوم ورئيسهم ومعلمهم الأول فما الظن بمعارضة التلامذة ونحن نقول قولا نقدم بين يديه مشيئة الله وحوله والاعتراف بمنته علينا وفضله لدينا وأنه محض منته وجوده وفضله فهو المحمود أولا وآخرا على توفيقنا له وتعليمنا إياه إن كل شبهة من شبه أرباب المعقولات عارضوا بها الوحي فعندنا ما يبطلها بأكثر من
الوجوه التي أبطلنا بها معارضة شيخ القوم وإن مد الله في الأجل أفردنا في ذلك كتابا كبيرا ولو نعلم أن في الأرض من يقول ذلك ويقوم به تبلغ إليه أكباد الإبل لاقتدينا بالمسير إليه بموسى في سفره إلى الخضر وبجابر بن عبد الله في سفره إلى عبد الله بن أنيس لسماع حديث واحد ولكن أزهد الناس في العالم قومه وقد قام قبلنا بهذا الأمر من برز به على أهل الأرض في عصره وفي الأعصار قبله فأدرك من قبله وحيدا وسبق من بعده سبقا بعيدا واستنقذ النصوص من أيدي الملحدين ونفى عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وجعل ملوك أرباب المعقولات المعارضين لها أسرى في أيدي المسلمين وأخذ عليهم بمجامع الطرق حتى لم يبق لهم مدد ولا كمين فجرى عليه من تلامذة هذا الشيخ وأتباعه من الجاهلين والمعاندين والمعطلين ما جرى على من قام مقامه على مر السنين.
مضوا ومضى ثم التقوا عند ربهم
…
فأخرهم للحكم يوم التخاصم
الوجه السبعون: إن العقل الذي عارض به هؤلاء السمع هو النفي والذي دل عليه السمع هو الإثبات فإن السمع دل على إثبات الصفات والكلام والتكليم وعلو الرب على خلقه واستوائه على عرشه ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا ومجيئه وإتيانه وإثبات وجهه الأعلى ويديه اللتين كلتاهما يمين وغير ذلك والعقل عندهم دل على نفي ذلك كله فالمعارضة التي ادعوها هي معارضة بين النفي والإثبات فالرسل جاءوا بالإثبات المفصل للأسماء والصفات والأفعال فجاء أرباب هذا العقل بالنفي المفصل لها وادعوا التعارض بين دليل هذا الإثبات ودليل النفي ثم قدموا دليل النفي فيقال الكلام معكم في مقامين:
أحدهما: أن العقل لم يدل على ثبوتها
والثاني: أنه دل على انتفائها فإن أردتم بدلالة العقل المقام الأول فنفيها خطأ فإنه لونفى كل مالم يدل عليه عقل أو حس نفيت أكثر الموجودات التي لا ندركها بعقولنا ولا حواسنا وهذا هو حاصل ما عند القوم عند التحقيق ومن تدبر أدلتهم حق التدبر علم أنه ليس فيها دليل واحد يدل على النفي ومعلوم أن الشيء لا ينعنى لانتفاء دليل يدل عليه وإن انتفى العلم به فنفي العلم لا يستلزم نفي المعلوم فكيف والعقل الصريح قد دل على ثبوتها كما نبهنا
عليه وسنذكره وإن أردتم الثاني وهو أن العقل دل على انتفائها فيقال العقل إنما يدل على نفي الشيء إذا علم ثبوت نقيضه فيعلم حينئذ أن النقيض الآخر منتف فأين في العقل المقطوع بحكمه أو المظنون ما يدل على نقيض ما أخبرت به الرسل بوجه من وجوه الأدلة الصحيحة فالمسلمون يقولون قد دل العقل والوحي معا على إثبات علم الرب تعالى آمرا ناهيا وعلى كونه فوق العالم كله وعلى كونه يفعل بقدرته ومشيئته وعلى أنه يرضى ويغضب ويثيب ويعاقب ويحب ويبغض فقد شهد بذلك العقل والنقل أما النقل فلا يمكنكم المكابرة فيه وأما العقل فلأن ذات الرب أكمل من كل ذات على الإطلاق بل ليس الكمال المطلق التام من كل وجه إلا له وحده فيستحيل وصفه بما يضاد كماله وكل ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله فهو صفة كمال ثبوتها له أكمل من نفيها عنه وقد اتفقت الأمم على أن الله سبحانه موصوف بالكمال منزه عن أضداده وإن تنازعوا في كون الصفة المعينة والفعل المعين كمالا أو ليس بكمال والذين نفوه تخيلوا أن إثباته يستلزم النقص والحدوث وأن الكمال في نفيه وإن كان كثير من طوائف بني آدم يستجيزون وصفه بالنقائص والعيوب مع علمهم بأنها عيوب ونقائص كما
صرحت به اليهود من قولهم وإنه فقير وإنه تعب لما خلق العالم وأنه بكى على الطوفان حتى رمدت عيناه وعادته الملائكة وإنه ندم على خلق آدم وذريته ندما عظيما حتى عض أنامله ويقولون في صلاتهم يا إلهنا انتبه من رقدتك كم تنام ونحو ذلك والنصارى لا يخفى على أحد منهم أن نزوله عن عرشه ودخوله في رحم امرأة وإقامته هناك تسعة أشهر بين الحيض والبول ثم خروجه طفلا صغيرا يرضع ويبكي ويأكل ويشرب ويبول وينام ويألم ثم تمكن أعدائه منه وصفعه وتسمير يديه ورجليه وصلبه بين نصبين وعلى رأسه تاج من الشوك أن هذا غاية التنقص المنافي لكماله والاتحادية مصرحون بأنه موصوف بكل صفة مذمومة عقلا وعرفا وشرعا ومعلوم أن هذه النقائص هي التي دل العقل الصريح واتفاق المرسلين من أولهم إلى آخرهم على نفيها عن الله وتنزيهه عنها فمن جعل دلالته على نفي علمه وسمعه وبصره وقوته وقدرته وحياته وإرادته وكماله وتكليمه وعلوه على عرشه ووجهه الأعلى ويديه وغضبه ورضاه كدلالته على نفي تلك العيوب والنقائص
وإثباتها له كإثبات تلك العيوب والنقائص وإن العقل يوجب نفي هذا وهذا فهو من أسخف الناس عقلا وأعظمهم جهلا وأفسدهم فطرة وكان الذين وصفوه سبحانه بتلك العيوب والنقائص أقرب إلى العقل منه فإنهم وصفوه بالكمال والنقص وهؤلاء نزهوه عن الكمال وهو يستلزم وصفه بالنقص فقط ومعلوم أن ذاتا موصوفة بالكمال والنقائص أكمل من ذات لا توصف بشيء من الكمالات البتة وتوصف بأضدادها وأيضا فإن تلك الذات يمكن وجودها وهذه الذات يمتنع وجودها والمقصود أنه قد دل العقل مع السمع على إثبات ما يقول هؤلاء إن العقل عارضه وغاية ما معهم أن عقولهم لم تدل على إثباته وقد بينا أنه يستحيل دلالة العقل على نفيه فإن العقل إنما يدل على نفي ما علم ثبوت نقيضه بالعقل والعقل لم يعلم به ثبوت نقيض الصفات العلى والأسماء الحسنى واستواء الرب على عرشه وتكلمه ورؤية أوليائه له في الآخرة عيانا بالأبصار فوق رؤوسهم حتى يكون نفي ذلك معلوما بالعقل فإن قيل نحن ما نفينا ذلك إلا لدلالة العقل على نفيه فإنه لو كان فوق العرش أو كان يرى بالأبصار أو كان مكلما متكلما أو كان له وجه ويد وسمع وبصر لزم أن يكون جسما ويلزم من كونه جسما أن يكون مركبا من الجواهر المفردة أو من المادة
والصورة وإن قلنا بتماثل الأجسام لزم أن يكون مماثلا لكل جسم ويلزم من كونه مركبا أن يكون مفتقرا إلى أجزائه وأجزاء المركب غيره ويلزم من افتقاره إلى غيره أن يكون مخلوقا مصنوعا فهذا الدليل العقلي الذي أوجب لنا أن ننفي ما نفيناه لنثبت آلهيته وربوبيته وقدمه وأما أنتم فلما أثبتم له هذه الصفات لزمكم نفي قدمه ونفي ربوبيته قيل هذا الدليل هو الذي خرب دياركم وقلع الإيمان بشروشه من قلوبكم وسهل عليكم الإلحاد في أسماء الرب وصفاته وتعطيله عن كل كمال وسلبه عنه وهو في الحقيقة مستلزم لجحد وجود الخالق سبحانه وإنكار أن يكون للعالم صانع على الحقيقة ففررتم من إثبات الكمالات له سبحانه لظنكم أنها تستلزم افتقاره وحدوثه فوقعتم في شر من ذلك وهو تعطيل العالم عن رب يدبره فعطلتم الصانع عن كماله وعطلتم العالم عن صانعه ولقد أقامت الدهرية والمعطلة أربعين شبهة التي ذكرتموها واحدة من تلك الأربعين فقالوا لو كان للعالم
رب أو صانع أو خالق لكان إما جسما وإما عرضا ودليل هذا الحصر أنه إما أن يكون قائما بنفسه وهو الذي يعني بالجسم وأما أن يكون قائما بغيره وهو الذي يعني بالعرض فلا يجوز أن يكون عرضا لأنه لا يقوم بنفسه فهو مفتقر إلى محل يقوم به ولا يجوز أن يكون جسما لما ذكرتم من الدليل المتقدم بعينه وكل ما تجيبون به إخوانكم في الأصل عن هذه الشبهة فهو جواب أهل السمع والعقل لكم بعينه فإن قلتم بل هو قائم بنفسه وليس بجسم قال لكم أهل السمع والعقل فقولوا هو فوق عرشه موصوف بصفات كماله ونعوت جلاله وحقائق أسمائه وليس بجسم فإن قلتم هذا لا يعقل قيل لكم فكيف عقلتم ذاتا قائمة بنفسها فاعلة بغيرها ليست بجسم فإن قلتم دل الدليل على انتهاء الممكنات والمصنوعات إلى ذات هذا شأنها فأثبتناها بالدليل قيل لكم ودل الدليل على انتهاء المخلوقات والمصنوعات إلى ذات موصوفة بالصفات التي يؤثر بها في المخلوقات ومقاديرها وصفاتها وأشكالها وهيآتها وإعدامها بعد إيجادها وإيجادها وإيجاد بدل منها ودلالته على ذات هذا شأنها أعظم من دلالته على ذات مجردة لا فعل لها ولا صفة ولا قدرة ولا مشيئة ولا إرادة فإن قلتم يلزم من ثبوت صفاتها حدوثها ولا يلزم من تجردها عنها حدوثها قيل
لكم بل يلزم من تجردها عنها عدمها وامتناع وجودها فلو لزم من ثبوت صفاتها ما لزم كان خيرا من جحدها ونفيها بالكلية كيف وتلك اللوازم التي ركبتم بعضها على بعض فيها من التلبيس والتدليس والإجمال اللفظي والاشتباه المعنوي ما إذا كشف أمره تبين أنها زغل ومحال وأشد شيء منافاة للعقل والسمع وكل مقدماتها دعاو كاذبة باطلة بصريح العقل والسمع فلا يلزم من كونه فوق سمواته على عرشه يسمع ويرى ويأمر وينهى ويتكلم ويكلم أن يكون مركبا من جواهر فردة ولا من مادة وصورة ولا ان يكون مماثلا لخلقه فدعوى هذا اللزوم عين البهت والكذب الصراح بل العرش خلق من خلقه ولا يلزم من كونه فوق السموات كلها أن يكون مركبا من الجواهر الفردة ولا من المادة والصورة ولا مماثلا لغيره من الأجسام وكذلك جبريل مخلوق من مخلوقاته وهو ذو قوة وحياة وسمع وبصر وأجنحة ويصعد وينزل ويرى بالأبصار ولا يلزم من وصفه بذلك أن يكون مركبا من الجواهر الفردة ولا من المادة والصورة ولا أن يكون جسمه مماثلا لأجسام الشياطين فدعونا من هذا الفشر والهذيان والدعاوي الكاذبة والتفاوت الذي بين الله وخلقه أعظم من التفاوت الذي بين جسم العرش وجسم الثرى والهواء
والماء وأعظم من التفاوت الذي بين أجسام الملائكة وأجسام الشياطين والعاقل إذا أطلق على جسم صفة من صفاته وعنده من كل وجه موصوف بتلك الصفة لم يلزم من ذلك تماثلها أطلق على الرجيع الذي قد بلغ غاية الخبث أنه جسم قائم بنفسه ذو رائحة ولون وأطلق ذلك على المسك لم يقل ذو حس سليم ولا عقل مستقيم إنهما متماثلان وأين التفاوت الذي بينهما من التفاوت الذي بين الله وخلقه فكم تلبسون وكم تدلسون وتموهون فاشتراك الذاتين في معنى من المعاني لا يستلزم تماثلهما عند أحد من العقلاء وإن المختلفات والمتضادات تشترك في أشياء متعددة فمشاركة الماء للنار في مسمى بالجسمية والحركة وإدراك الحس لهما لا يوجب تماثلهما وليس معكم دليل واحد صحيح يدل على تركب الأجسام كما ذكرتم فكيف ولو أقمتم الدليل على ذلك لم يلزم منه تركب خالق الأجسام وجواهرها وأعراضها مما تركبت منه الأجسام بوجه من الوجوه سوى الدعوى الكاذبة وهو أنه لو كان فوق عرشه أو موصوفا بالصفات أو يرى بالأبصار لزم أن يكون مركبا وليس العجب من عقول رضيت لنفسها بمثل هذا الهذيان حتى اعتقدته غاية الغايات العقلية ونهايات المعارف الإلهية والمباحث الحكمية ثم قدمته على نصوص الوحي فإن هذا في الأصل وضع من قصد معارضة الأنبياء ورد ما جاءوا به بل العجب من قوم صدقوا الأنبياء وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات وعلموا أنه الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى:
{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم4] ثم ولج هذا الهذيان في آذانهم فسمعوه ودخل إلى قلوبهم فقبلوه وعظموا أصحابه وسموهم المحققين وقدموا أقوالهم على نصوص الوحي المبين فضلا عن تقديمه على كلام الصحابة والتابعين ولقد أحسن القائل فيهم وإن قصد سواهم:
خفافيش أعشاها الظلام بضوئه
…
ولاءمها قطع من الليل مظلم
وهذه الحجة الداحضة باطلة من أكثر من سبعين وجها تذكر في غير هذا الموضع فلا يلزم من استوائه على عرشه وثبوت صفات كماله وتكلمه وتكليمه ورؤيته بالأبصار أن يكون جسما بالمعنى الذي اصطلحوا عليه ولو لزم أن يكون جسما لم يلزم أن يكون مركبا بالاعتبار الذي ذكروه ولو لزم أن يكون مركبا لم يلزم أن يكون مفتقرا إلى مركب ركبه ولا محتاجا إلى غيره بوجه من الوجوه ولو لزم أن يكون جسما مركبا لم يلزم أن يكون مماثلا للأجسام بوجه من الوجوه فشيء من ذلك غير لازم لعلوه على عرشه وثبوت صفاته لا عقلا ولا سمعا إلا بالدعاوي الكاذبة حتى لو قدر لزوم ذلك كله لكان التزامه أسهل من تعطيل علوه على عرشه وتعطيل كلامه وإبطال أمره ونهيه وتعطيل صفاته وأفعاله وجعله بمنزلة المعدوم الممتنع الذي لا هو داخل العالم ولا خارجه ولا له
فعل يقوم به ولا صفة كمال يتصف بها فلا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا يقدر ولا يريد ولا يفعل شيئا فأي ذات من الذوات المخلوقة المتصفة بذلك فرضت فهي أكمل من هذه الذات وقد تقدم أن الدليل العقلي الصحيح إنما دل على انتهاء المخلوقات إلى خالق واحد قديم غير مخلوق ولا مصنوع ولا محتاج إلى سواه بوجه من الوجوه وكل ما عداه محتاج إليه من جميع الوجوه ولم يدل على أن هذا الواحد سبحانه معطل عن الأفعال والصفات وحقائق الأسماء الحسنى وأن الدليل العقلي إنما دل على خلاف ذلك وأنه أحق بكل صفة كمال من غيره وأن كل كمال ثبت للمخلوق لا نقص فيه فلا يستلزم نقصا فمعطيه وموجده أحق به وأولى فكيف يكون المخلوق يتكلم وخالقه لا يتكلم وكيف يكون سميعا بصيرا وخالقه لا يسمع ولا يبصر وكيف يكون حيا عليما قديرا حكيما وخالقه ليس كذلك وكيف يكون ملكا آمرا ناهيا مرسلا مثيبا معاقبا وخالقه ليس كذلك وكيف يكون فاعلا باختياره ومشيئته وخالقه ليس كذلك وكيف يكون قويا وخالقه ليس له قوة وكيف يكون رحيما وخالقه لم تقم به صفة رحمة ولا رأفة وكيف يكون كريما حليما جوادا ماجدا وخالقه ليس كذلك هذا ومن المعلوم بالضرورة أن ما يرى أكمل ممن لا يمكن أن يرى فإنه إما معدوم وإما عرض والمرئي أكمل منهما وما يتكلم أكمل من لا يتكلم فإنه
إما جماد وإما عرض وإما معدوم والمتكلم أكمل من ذلك وما له سمع وبصر ووجه ويدان أكمل من الفاقد لذلك بالضرورة وهكذا سائر الصفات فلا أحسن الله في تلك العقول عن أصحابها إذا أحسن عن الصابئين ولا حياها بما حيا به عباده المرسلين ولا زكاها بما زكى به أتباعهم من المؤمنين ونسأله أن لا يبتلينا بما ابتلاهم به من مفارقة المنقول والمعقول وتلقي العلم واليقين من غير مشكاة الرسول وأن لا يجعلنا من أتباع قوم ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.
الوجه الحادي والسبعون: أنه سبحانه وصف نفسه بأنه ليس كمثله شيء وأنه لا سمي له ولا كفؤ له وهذا يستلزم وصفه بصفات الكمال التي فات بها شبه المخلوقين واستحق بقيامها به أن يكون {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وهكذا كونه ليس له سمي أي مثيل يساميه في صفاته وأفعاله ولا من يكافيه فيها ولو كان مسلوب الصفات والأفعال والكلام والاستواء والوجه واليدين ومنفيا عنه مباينة العالم ومحايثته واتصاله به وانفصاله عنه وعلوه عليه وكونه
يمنته أو يسرته وأمامه أو وراءه لكان كل عدم مثلا له في ذلك فيكون قد نفى عن نفسه مشابهة الموجودات وأثبت لها مماثلة المعدومات فهذا النفي واقع على أكمل الموجودات وعلى العدم المحض فإن العدم المحض لا مثل له ولا كفؤ ولا سمي فلو كان المراد بهذا نفي صفاته وأفعاله واستوائه على عرشه وتكلمه بالوحي وتكليمه لمن يشاء من خلقه لكان ذلك وصفا له بغاية العدم فهذا النفي واقع على العدم المحض وعلى من كثرت أوصاف كماله ونعوت جلاله وأسماؤه الحسنى حتى تفرد بذلك الكمال فلم يكن له شبه في كماله ولا سمي ولا كفوء فإذا أبطلتم هذا المعنى الصحيح تعين ذلك المعنى الباطل قطعا وصار المعنى أنه لا يوصف بصفة أصلا ولا يفعل فعلا ولا له وجه ولا يد ولا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا يقدر تحقيقا لمعنى ليس كمثله شيء وقال إخوانكم من الملاحدة ليس له ذات أصلا تحقيقا لهذا النفي وقال غلاتهم ولا وجود له تحقيقا لهذا النفي وأما الرسل وأتباعهم فقالوا إنه حي وله حياة وليس كمثله شيء في حياته وهو قوي وله القوة وليس مثله شيء في قوته وهو سميع بصير له السمع والبصر يسمع ويبصر وليس كمثله شيء في سمعه وبصره ومتكلم ومكلم وليس كمثله شيء في كلامه وتكليمه وله وجه ويدان وليس كمثله شيء وهو مستو على عرشه وليس كمثله شيء وهذا النفي لا يتحقق إلا بإثبات صفات الكمال فإنه مدح له وثناء
أثنى به على نفسه والعدم المحض لا يمدح به أحد ولا يثني به عليه ولا يكون كمالا له بل هو أنقص النقص وإنما يكون كمالا إذا تضمن الإثبات كقوله تعالى {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة255] .
لكمال حياته وقيوميته وقوله {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} [البقرة255] لكما غناه وملكه وربوبيته وقوله {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت46]{وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف49]{وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} [غافر31] لكمال عدله وغناه ورحمته وقوله {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق38] لكمال قدرته وقوله {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [يونس61]{وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم38] ونظائر ذلك لكمال علمه وقوله
{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام103] لعظمته وإحاطته بما سواه وأنه أكبر من كل شيء وأنه واسع فيرى ولكن لا يحاط به إدراكا كما يعلم ولا يحاط به علما فيرى ولا يحاط به رؤية فهكذا ليس كمثله شيء هو متضمن لإثبات جميع صفات الكمال على وجه الإجمال وهذا هو المعقول في نظر الناس وعقولهم وإذا قالوا فلان عديم المثل أو قد أصبح ولا مثل له في الناس أو ما له شبيه ولا له من يكافيه إنما يريدون بذلك أنه تفرد من الصفات والأفعال والمجد بما لم يلحقه فيه غيره فصار واحدا من الجنس لا مثيل له ولو أطلقوا ذلك عليه باعتبار نفي صفاته وأفعاله ومجده لكان ذلك عندهم غاية الذم والتنقص له فإذا أطلق ذلك في سياق المدح والثناء لم يشك عاقل في أنه إنما أراد كثرة أوصافه وأفعاله وأسمائه التي لها حقائق تحمل عليها فهل يقول عاقل لمن لا علم له ولا قدرة ولا سمع ولا بصر ولا يتصرف بنفسه ولا يفعل شيئا ولا يتكلم ولا له وجه ولا يد ولا قوة ولا فضيلة من الفضائل إنه لا شبيه له ولا مثل له وإنه وحيد دهره وفريد عصره ونسيج وحده وهل فطر الله
الأمم وأطلق ألسنتهم ولغاتهم إلا على ضد ذلك وهل كان رب العالمين أهل الثناء والمجد إلا بأوصاف كماله ونعوت جلاله وأفعاله وأسمائه الحسنى وإلا فبماذا يثني عليه المثنون وبماذا يثني على نفسه أعظم مما يثني به عليه جميع خلقه ولأي شيء يقول أعرف خلقه به "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" ومعلوم أن هذا الثناء الذي أخبر أنه لا يحصيه لو كان بالنفي لكان هؤلاء أعلم به منه وأشد إحصاء له فإنهم نفوا عنه حقائق الأسماء والصفات نفيا مفصلا وذلك مما يحصيه المحصي بلا كلفة ولا تعب وقد فصله النفاة وأحصوه وحصروه.
الوجه الثاني والسبعون: أن الله سبحانه إنما نفى عن نفسه ما يناقض الإثبات ويضاد ثبوت الصفات والأفعال فلم ينف إلا أمرا عدميا أو ما يستلزم العدم فنفى السنة والنوم المستلزم لعدم كمال الحياة والقيومية ونفى العزوب والخفاء المستلزم لنفي كمال العلم ونفي اللغوب المستلزم نفي كمال القدرة ونفي الظلم المستلزم لنفي كمال الغنى والعدل ونفي العبث المستلزم لنفي كمال الحكمة والعلم ونفي
الصاحبة والولد المستلزمين لعدم كمال الغنى وكذلك نفي الشريك والظهير والشفيع المقدم بالشفاعة المستلزم لعدم كمال الغنى والقهر والملك ونفي الشبيه والمثيل والكفؤ المستلزم لعدم التفرد بالكمال المطلق ونفي إدراك الأبصار له وإحاطة العلم به المستلزمين لعدم كمال عظمته وكبريائه وسعته وإحاطته وكذلك نفي الحاجة والأكل والشرب عنه سبحانه لاستلزام ذلك عدم غناه الكامل وإذا كان إنما نفى عن نفسه العدم أو ما يستلزم العدم علم أنه أحق بكل وجود وثبوت وكل أمر وجودي لا يستلزم عدما ولا نقصا ولا عيبا وهذا هو الذي دل عليه صريح العقل فإنه سبحانه له الوجود الدائم القديم الواجب لنفسه الذي لم يستفده من غيره ووجود كل موجود مفتقر إليه ومتوقف في تحقيقه عليه والكمال وجود كله والعدم نقص كله فإن العدم كاسمه لا شيء فعاد النفي الصحيح إلى نفي النقائص والعيوب ونفي المماثلة في الكمال وعاد الأمران إلى نفي النقص وحقيقة ذلك نفي العدم وما يستلزم العدم فتأمل هل نفى القرآن والسنة عنه سبحانه سوى ذلك وتأمل هل ينفي العقل الصحيح الذي لم يفسد بشبه هؤلاء الضلال الحيارى غير ذلك فالرسل جاءوا بإثبات ما يضاده وهو سبحانه أخبر أنه لم يكن له كفوا أحد بعد وصفه نفسه بأنه الصمد والصمد السيد الذي
كمل في سؤدده ولهذا كانت العرب تسمي أشرافها بهذا الاسم لكثرة الصفات المحمودة في المسمى به قال شاعرهم:
ألا بكر الناعي بخير بني أسد
…
بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
فإن الصمد من تصمد نحوه القلوب بالرغبة والرهبة وذلك لكثرة خصال الخير فيه وكثرة الأوصاف الحميدة له ولهذا قال جمهور السلف منهم عبد الله بن عباس الصمد السيد الذي كمل سؤدده فهو العالم الذي كمل علمه القادر الذي كملت قدرته الحكيم الذي كمل حكمه الرحيم الذي كملت رحمته الجواد الذي كمل جوده ومن قال إنه الذي لا جوف له فقوله لا يناقض
هذا التفسير فإن اللفظ من الاجتماع فهو الذي
اجتمعت فيه صفات الكمال ولا جوف له فإنما لم يكن أحد كفوا له لما كان صمدا كاملا في صمديته فلو لم تكن صفات كمال ونعوت جلال ولم يكن له علم ولا قدرة ولا حياة ولا إرادة ولا كلام ولا وجه ولا يد ولا سمع ولا بصر ولا فعل يقوم به ولا يفعل شيئا البتة ولا هو داخل العالم ولا خارجه ولا فوق عرشه ولا يرضى ولا يغضب ولا يحب ولا يبغض ولا هو فعال لما يريد ولا يرى ولا يمكن أن يرى ولا يشار إليه ولا يمكن أن يشار إليه لكان العدم المحض كفوا فإن هذه الصفات منطبقة على المعدوم فلو كان ما يقوله المعطلون هو الحق لم يكن صمدا وكان العدم كفوا له وكذلك قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم65] .
فأخبر أنه لا سمي له عقيب قول العارفين به {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم65 ، 64] .
فهذا الرب الذي له هذا الجند العظيم ولا ينزلون إلا بأمره وهو المالك ما بين أيديهم وما خلفهم وما بين ذلك فهو الذي قد كملت قدرته وسلطانه وملكه وكمل علمه فلا ينسى شيئا أبدا وهو القائم بتدبير أمر السموات والأرض وما بينهما كما هو الخالق لذلك كله وهو ربه ومليكه فهذا الرب هو الذي لا سمي له لتفرده بكمال هذه الصفات والأفعال فأما من لا صفة له ولا فعل ولا حقائق لأسمائه إن هي إلا ألفاظ فارغة من المعاني فالعدم سمي له وكذلك قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى11] فإنه سبحانه ذكر ذلك بعد ذكر نعوت كماله وأوصافه فقال {حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الشورى6-1] إلى قوله {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى11] .
فهذا الموصوف بهذه الصفات والنعوت والأفعال والعلو والعظمة والحفظ والعزة والحكمة والملك والحمد والمغفرة والرحمة والكلام والمشيئة والولاية وإحياء الموتى والقدرة التامة الشاملة والحكم بين عباده وكونه فاطر السموات والأرض وهو السميع البصير فهذا هو الذي ليس كمثله شيء لكثرة نعوته وأوصافه وأسمائه وأفعاله وثبوتها له على وجه الكمال الذي لا يماثله فيه شيء فالمثبت للصفات والعلو والكلام والأفعال وحقائق الأسماء هو الذي يصفه سبحانه بأنه ليس كمثله شيء.
وأما المعطل النافي لصفاته وحقائق أسمائه فإن وصفه له بأنه ليس كمثله شيء مجاز لا حقيقة كما يقول في سائر أوصافه وأسمائه ولهذا قال من قال من السلف إن النفاة
جمعوا بين التشبيه والتعطيل فسموا تعطيلهم تنزيها وسموا ما وصف به نفسه تشبيها وجعلوا ما يدل على ثبوت صفات الكمال وكثرتها دليلا على نفيها وتعطيلها وراج ذلك على من لم يجعل الله له نورا واغتر به من شاء الله وهدى الله من اعتصم بالوحي والعقل والفطرة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الوجه التاسع والسبعون: أنه سبحانه وصف نفسه بأن له المثل الأعلى فقال تعالى {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل60] وقال تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم27] فجعل مثل السوء المتضمن للعيوب والنقائص وسلب الكمال للمشركين وأربابهم وأخبر أن المثل الأعلى المتضمن لإثبات الكمالات كلها له وحده ولهذا كان المثل الأعلى وهو أفعل تفضيل أي أعلى من غيره
فكيف يكون أعلى وهو عدم محض ونفي صرف وأي مثل أدنى من هذا تعالى الله عن قول المعطلين علوا كبيرا.
فمثل السوء لعادم صفات الكمال ولهذا جعله مثل الجاحدين لتوحيده وكلامه وحكمته لأنهم فقدوا الصفات التي من اتصف بها كان كاملا وهي الإيمان والعلم والمعرفة واليقين والعبادة لله والتوكل عليه والإنابة إليه والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والصبر والرضا والشكر وغير ذلك من الصفات التي اتصف بها من آمن بالآخرة فلما سلبت تلك الصفات عنهم وهي صفات كمال صار لهم مثل السوء فمن سلب صفات الكمال عن الله وعلوه على خلقه وكلامه وعلمه وقدرته ومشيئته وحياته وسائر ما وصف به نفسه فقد جعل له مثل السوء ونزهه عن المثل الأعلى فإن مثل السوء هو العدم وما يستلزمه وضده المثل الأعلى وهو الكمال المطلق المتضمن للأمور الوجودية والمعاني الثبوتية التي كلما كانت أكثر في الموصوف وأكمل كان أعلى من غيره ولما كان الرب تعالى هو الأعلى ووجهه الأعلى وكلامه الأعلى وسمعه الأعلى وبصره وسائر صفاته عليا كان له المثل الأعلى وكان أحق به من كل ما سواه بل يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى اثنان لأنهما
إن تكافآ لم يكن أحدهما أعلى من الآخر وإن لم يتكافآفالموصوف بالمثل الأعلى أحدهما وحده يستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى مثل أو نظير وهذا برهان قاطع من إثبات صفات الكمال على استحالة التمثيل والتشبيه فتأمله فإنه في غاية الظهور والقوة ونظير هذا القهر المطلق مع الوحدة فإنهما متلازمان فلا يكون القهار إلا واحدا إذ لو كان معه كفؤ له فإن لم يقهره لم يكن قهارا على الإطلاق وإن قهره لم يكن كفؤا وكان القهار واحدا فتأمل كيف كان قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى11] وقوله {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [الروم27] من أعظم الأدلة على ثبوت صفات كماله سبحانه فإن قلت قد فهمت هذا وعرفته فما حقيقة المثل الأعلى قلت قد أشكل هذا على جماعة من المفسرين واستشكلوا قول السلف فيه فإن ابن عباس وغيره قالوا {مَثَلُ السَّوْءِ} العذاب والنار {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} شهادة أن لا إله إلا الله وقال قتادة هو الإخلاص والتوحيد
وقال الواحدي هذا قول المفسرين في هذه الآية ولا أدري لم قيل للعذاب مثل السوء وللإخلاص المثل الأعلى قال وقال قوم المثل السوء الصفة السوء من احتياجهم إلى الولد وكراهتهم للإناث خوف العيلة والعار ولله المثل الأعلى الصفة العليا من تنزهه وبراءته عن الولد قال وهذا قول صحيح فالمثل كثيرا ما يرد بمعنى الصفة قاله جماعة من المتقدمين وقال ابن كيسان مثل السوء ما ضرب الله للأصنام وعبدتها من الأمثال والمثل الأعلى نحو قوله {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} [النور35] وقال ابن جرير {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} نحو قوله هو الأطيب والأفضل والأحسن والأجمل وذلك التوحيد والإذعان له بأنه لا إله غيره.
قلت المثل الأعلى يتضمن الصفة العليا وعلم العالمين بها ووجودها العلمي والخبر عنها وذكرها وعبادة الرب سبحانه بواسطة العلم والمعرفة القائمة بقلوب عابديه وذاكريه فهاهنا أربعة أمور ثبوت الصفات العليا لله سبحانه في نفس الأمر علمها العباد أو جهلوها وهذا معنى قول من فسره بالصفة.
الثاني: وجودها في العلم والتصور وهذا معنى قول من قال من السلف والخلف إنه ما في قلوب عابديه وذاكريه من معرفته وذكره ومحبته وإجلاله وتعظيمه وهذا الذي في قلوبهم من المثل الأعلى لا يشترك فيه غيره معه بل يختص به في قلوبهم كما اختص في ذاته وهذا معنى قول من قال من المفسرين أهل السماء يعظمونه ويحبونه ويعبدونه وأهل الأرض يعظمونه ويجلونه وإن أشرك به من أشرك وعصاه من عصاه وجحد صفاته من جحدها فكل أهل الأرض معظمون له مجلون له خاضعون لعظمته مستكينون لعزته وجبروته قال تعالى: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة116] فلست تجد أحدا من أوليائه وأعدائه إلا والله أكبر في صدره وأكمل وأعظم من كل سواه.
الثالث: ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها عن النقائص والعيوب والتمثيل
الرابع: محبة الموصوف بها وتوحيده والإخلاص له والتوكل عليه والإنابة إليه وكلما كان الإيمان بالصفات أكمل كان هذا الحب والإخلاص أقوى فعبارات السلف تدور حول هذه المعاني الأربعة لا تتجاوزها وقد ضرب الله سبحانه مثل السوء للأصنام بأنها لا تخلق شيئا وهي مخلوقة ولا تملك لأنفسها ولا لعابديها ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا وقال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل75] . {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل76] .
فهذان مثلان ضربهما لنفسه وللأصنام فللأصنام مثل السوء وله المثل الأعلى وقال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج74 ، 73] .
فهذا المثل الأعلى الذي له سبحانه. والأول مثل السوء للصنم وعابديه وقد ضرب سبحانه للمعارضين بين الوحي وعقولهم مثل السوء بالكلب تارة وبالحمر تارة وبالأنعام تارة وبأهل القبور تارة وبالعمي الصم تارة وغير ذلك من الأمثال السوء التي ضربها لهم ولأوثانهم وأخبر عن مثله الأعلى بما ذكره من أسمائه وصفاته وأفعاله وضرب لأوليائه وعابديه أحسن الأمثال ومن تدبر القرآن فهم المراد بالمثل الأعلى ومثل السوء وبالله التوفيق.
الوجه الثمانون: إن كل من عارض بين الوحي والعقل ورد نصوص الكتاب والسنة بالرأي الذي يسميه عقلا لا بد أن ينقض تلك النصوص المخالفة لعقله ويعاديها ويود أنها لم تكن جاءت وإذا سمعها وجد لها على قلبه من الثقل والكراهة
بحسب حاله واشمأز لها قلبه والله يعلم ذلك من قلوبهم وهم يعلمونه أيضا حتى حمل جهما الإنكار والبغض لقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه5] على أن قال لو أمكنني كشطها من المصحف كشطتها وحمل آخربغض قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء164] على أن حرفها وقرأها بالنصب وكلم الله موسى تكليما أي أن موسى هو الذي كلم الله وخاطبه والله لم يكلمه فقال له أبو عمرو ابن العلاء فكيف تصنع بقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف143] فبهت المعطل وجرى بيني وبين بعض رؤساء هؤلاء مناظرة في مسألة الكلام فقال نحن وسائر الأمة نقول القرآن كلام الله لا ينازع في هذه الإضافة أحد ولكن
لا يلزم منها أن يكون الله بنفسه متكلما ولا أنه يتكلم فمن أين لكم ذلك فقال له بعض من كان معي من أصحابنا قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا تكلم الله بالوحي" وقالت عائشة ولشأني كان أحقر من أن يتكلم الله في بوحي يتلى فرأيت الجهمي قد عبس وبسر وكلح وزوى وجهه عنه كالذي شم رائحة كريهة أعرض عنها بوجهه أو ذاق طعاما كريها مرا مذاقه وهذا أمر لم يزل عليه كل مبطل إذا واجهته بالحق المخالف له وصدمته به وقل من يتبصر منهم عند الصدمة الأولى ولهذا قال بعض السلف ما ابتدع أحد بدعة إلا خرجت حلاوة الحديث من قلبه وقال بعض رؤساء الجهمية إما بشر المريسي أو غيره ليس شيء أبغض لقولنا من القرآن فأقروا به ثم أولوه وقال بشر أيضا إذا احتجوا عليكم بالقرآن فغالطوهم بالتأويل وإذا احتجوا بالأخبار فادفعوها
بالتكذيب وقال الإمام أحمد قل من نظر في الكلام إلا وفي قلبه غل على الإسلام.
وجاء أفضل متأخريهم فنصب على حصون الوحي أربعة مجانيق.
الأول: أنها أدلة لفظية لا تفيد اليقين
الثاني: أنها مجازات واستعارات لا حقيقة لها
الثالث: أن العقل عارضها فيجب تقديمه عليها
الرابع: أنها أخبار آحاد وهذه المسائل علمية فلا يجوز أن يحتج فيها بالأخبار ولهذا تجد كثيرا من هؤلاء لا يحب تبليغ النصوص النبوية أو إظهارها وإشاعتها وقد يشترطون في أماكن يقفونها أن لا يقرأ فيها أحاديث الصفات وكان بعض متأخريهم وهو أفضلهم عندهم كلف بإعدام
كتب السنة المصنفة في الصفات وكتمانها وإخفائها وبلغني عن كثير منهم أنه كان يهم بالقيام والانصراف عند ختم صحيح البخاري وما فيه من التوحيد والرد على الجهمية وسمع منه الطعن في محمد بن إسماعيل وما ذنب البخاري وقد بلغ ما قاله رسول الله وقال آخر من هؤلاء لقد شان البخاري صحيحه بهذا الذي أتى به في آخره ومعلوم أن هذه مضادة صريحة لما يحبه الله ورسوله من التبليغ عنه حيث يقول: " ليبلغ الشاهد الغائب".
وقال: "بلغوا عني ولو آية" وقال: "نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" وقد ذم الله في
كتابه الذين يكتمون ما أنزله من البينات والهدى وهؤلاء يختارون كتمان ما أنزل الله لأنه يخالف ما يقولونه ويعارض ما حكمت به عقولهم وآراؤهم وهؤلاء الذين قال فيهم عمر إنهم أعداء السنن يوضحه.
الوجه الحادي والثمانون: أن كل من أبغض شيئا من نصوص الوحي ففيه من عداوة الله ورسوله بحسب ذلك ومن أحب نصوص الوحي ففيه من ولاية الله ورسوله بحسب ذلك وأصل العداوة والبغض كما أن أصل الولاية الحب قال عبد الله بن مسعود لا يسأل أحدكم عن نفسه غير القرآن فإن كان يحب القرآن فهو يحب الله وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله ومن تأمل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام112] .
وجده منطبقا على هؤلاء أتم انطباق فإنهم يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا والزخرف هو الكلام المزين كما يزين الشيء بالزخرف وهو الذهب وهو الغرور لأنه يغر المستمع والشبهات المعارضة للوحي هي كلام زخرف يغر المستمع: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام113] . فانظر إلى إصغاء المستجيبين لهؤلاء ورضاهم بذلك واقترافهم المترتب عليه فتأمل
الوجه الثاني والثمانون: وهو قوله تعالى {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [الأنعام114] وهذا يبين أن الحكم بين الناس هو الله عز وجل وحده بما أنزله من الكتاب المفصل كما قال في الآية الأخرى {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى10] وقال تعالى
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة213] وقال تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء105] وقال {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء65] فقوله {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} [الأنعام114] استفهام إنكار يقول كيف أطلب حكما غير الله وقد أنزل كتابا مفصلا فإن قوله {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} جملة في موضع الحال وقوله {مُفَصَّلاً} يبين أن الكتاب الحاكم مفصل بين ضد ما يصفه به من يزعم أن عقول الرجال وآراءهم تعارض بعض نصوصه وإن نصوصه خيلت وأفهمت خلاف الحق لمصلحة المخاطب وإن لها معان لا تفهم ولا يعلم المراد منها أو أن لها تأويلات باطلة خلاف ما دلت عليه ظواهرها
فهؤلاء كلهم ليس الكتاب عندهم مفصلا بل مجمل ما دل أو لا يعلم المراد منه خلاف ظاهره أو إفهام خلاف الحق ثم قال {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام114] وذلك أن الكتاب الأول مصدق للقرآن فمن نظر فيه علم علما يقينا أن هذا وهذا من مشكاة واحدة لا سيما في باب التوحيد والأسماء والصفات فإن التوراة مطابقة للقرآن في ذلك موافقة له وهذا يدل على أن ما في التوراة من ذلك ليس هو من المبدل المحرف الذي أنكره الله عليهم بل هو من الحق الذي شهد للقرآن وصدقه ولهذا لم ينكر النبي عليهم ما في التوراة من الصفات ولا عابهم به ولا جعله تشبيها وتجسيما وتمثيلا كما فعل كثير من النفاة وقالوا اليهود أمة التشبيه والتجسيم ولا ذنب لهم في ذلك فإنهم فسروا ما في التوراة فالذي عابهم الله به من تأويل التحريف والتبديل لم يعبهم به المعطلة النفاة بل شاركوهم فيه والذي استشهد الله سبحانه على نبوة رسوله به من موافقة
ما عندهم من التوحيد والصفات عابوهم به ونسبوهم فيه إلى التجسيم والتشبيه وهذا ضد ما كان عليه الرسول وأصحابه فإنهم كانوا إذا ذكروا له شيئا من هذا الذي تسميه المعطلة تجسيما وتشبيها صدقهم عليه أو أقرهم ولم ينكره كما صدقهم في خبر الحبر المتفق على صحته من حديث عبد الله بن مسعود وضحك تعجبا وتصديقا له وفي غير ذلك ثم قال: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام115] فقرر أن ما أخبر به فهو صدق وما أمر به فهو عدل وهذا يبين أن ما في النصوص من الخبر فهو صدق علينا أن نصدق به لا نعرض عنه ولا نعارضه ومن دفعه أو عارضه بعقله لم يصدق به ولو صدقه تصديقا
مجملا ولم يصدقه تصديقا مفصلا في أعيان ما أخبر به لم يكن مؤمنا ولو أقر بلفظه مع جحد معناه أو حرفه إلى معان أخر غير ما أريد به لم يكن مصدقا بل هو إلى التكذيب أقرب.
الوجه الثالث والثمانون: أنه سبحانه أخبر أن كل حكم خالف حكمه الذي أنزله على رسوله فهو من أحكام الهوى لا من أحكام العقل وهو من أحكام الجاهلية لا من حكم العلم والهدى فقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة50 ، 49] فأخبر سبحانه وتعالى أنه ليس وراء ما أنزله إلا اتباع الهوى الذي يضل عن سبيله وليس وراء حكمه إلا حكم الجاهلية وكل هذه الآراء والمعقولات المخالفة لما جاء به الرسول هي من قضايا الهوى وأحكام الجاهلية وإن سماها أربابها بالقواطع العقلية والبراهين اليقينية كتسمية المشركين أوثانهم وأصنامهم آلهة وتسمية المنافقين السعي في الأرض بالفساد وصد القلوب عن الإيمان إصلاحا وإحسانا وتوفيقا وقال تعالى:
{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص50] . وقال {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة120] وقال {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة145] وقال {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [الشورى15] وقال {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام150] وهؤلاء وإن أقروا بألفاظ الوحي فقد كذبوا بمعاني آياته وجحدوا حقائقها ولهذا اتفق السلف على تسميتهم
أهل الأهواء وأخبروا أن سبب ظهورهم خفاء السنن كما قال عبد الله بن المبارك إذا خفيت السنة ظهرت الأهواء وإذا قل العلم ظهر الجفاء بل أهل الأهواء أحسن حالا من المعارضين للوحي بعقولهم فإنهم عند السلف إنما سموا أهل الأهواء لأنهم تأولوا النصوص على تأويلات نزلوها على أهوائهم وهؤلاء عارضوا بينها وبين معقولاتهم.
الوجه الرابع والثمانون: أن من عارض نصوص الوحي بالعقل لزمه لازم من خمسة لا محيد له البتة إما تكذيبها أو كتمانها وإما تحريفها وإما تخييلها وإما تجهيلها وهو نسبة المصدقين لها إلى الجهل إما البسيط وإما المركب وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم.
وبيان الملازمة أنه إذا اعتقد أن العقل يخالف ظاهرها فقد اعتقد أن ظاهرها باطل ومحال فإما أن يقر بلفظها وأن الرسول جاء به أو لا فإن لم يقر بذلك فهو مكذب وإن أقر بألفاظها فإما أن يقر بأنه أراد معانيها وحقائقها أم لا فإن أقر بذلك لزمه اعتقاد التخييل فيها والخطاب الجمهوري وإن لم يقر بأنه أراد حقائقها وما دلت عليه فإما أن يقول إنه أراد خلاف ظواهرها وحقائقها أو لا فإن قال أراد خلاف حقائقها وظواهرها لزمه التحريف والتأويل
الباطل وإن قال لم يرد ذلك فإما أن يقول لم يرد بها معنى أصلا بل هي بمنزلة الألفاظ المهملة التي لا معنى لها أو يقول أراد بها معنى لا يفهمه ولا يعرفه وهذا هو التجيهل وقد ذهب إلى كل تقدير من هذه التقادير طائفة من الناس وقد ذم الله سبحانه الجميع قال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَاّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَظُنُّونَ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة79-75] .
فذم سبحانه وتعالى المحرفين لكتابه والأميين الذين لا يعلمون منه إلا مجرد التلاوة وهي الأماني والذين يكتبون فيكتبون الباطل ويقولون هذا حق وهو من عند الله وذم في عدة مواضع الذين يكتمون ما أنزله من الكتاب والبينات والهدى وهذه الأنواع الأربعة المذمومة موجودة في هؤلاء المعرضين عن نصوص الوحي المعارضين لها بآرائهم
وعقولهم وأهوائهم فإنهم تارة يكتمون الأحاديث والآيات المخالفة لأقوالهم ومنهم طوائف تضع أحاديث على وفق مذاهبهم وأهوائهم في الأصول والفروع ويقولون هذا من عند الله وتارة يضعون كتبا بآرائهم وعقولهم وأذواقهم وخيالاتهم ويدعون أنها الدين الذي يجب اتباعه ويقدمونها على نصوص الوحي.
وأما تحريفهم للنصوص بأنواع التأويلات الفاسدة التي يحرفون بها الكلم عن مواضعه فأكثر وأشهر من أن تذكر كتأويلات القرامطة والباطنية والفلاسفة والرافضة والجهمية والقدرية.
وأما التخييل فكثير منهم يصرحون بأن الرسل قصدت من النصوص إفهام خلاف الحق للمصلحة الجمهورية.
وأما التجهيل فكثير منهم يصرحون بأن هذه النصوص لا معنى لها وإنما هي ألفاظ مجردة ومن أحسن منهم وأجمل يقول لها معان استأثر الله بعلمها ولم يجعل لنا سبيلا إلى العلم بها وأكثر هذه الطوائف لا يعرف الحديث
ولا يسمعه وكثير منهم لا يصدق به إذا سمعه ثم إذا صدقوا به فإن تحريفهم له وإعراضهم عن معانيه أعظم من تحريف القرآن والإعراض عنه ولهذا يقر بعض هؤلاء بما في القرآن من الصفات دون ما في الحديث وحده.
الوجه الخامس والثمانون: إن المعارضين للوحي ب آرائهم خمس طوائف:
طائفة عارضته بعقولهم في الخبريات وقدمت عليه العقل فقالوا لأصحاب الوحي لنا العقل ولكم النقل.
وطائفة عارضته بآرائهم وقياساتهم فقالوا لأهل الحديث لكم الحديث ولنا الرأي والقياس.
وطائفة عارضته بحقائقهم وأذواقهم وقالوا لكم الشريعة ولنا الحقيقة.
وطائفة عارضته بسياساتهم وتدبيرهم فقالوا أنتم أصحاب الشريعة ونحن أصحاب السياسة.
وطائفة عارضته بالتأويل الباطن فقالوا أنتم أصحاب الظاهر ونحن أصحاب الباطن.
ثم إن كل طائفة من هذه الطوائف لا ضابط لما تأتي به من ذلك بل ما تأتي به تبع لأهوائها كما قال تعالى:
{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص50] وقال {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة49] فما هو إلا الهوى أو الوحي كما قال تعالى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم4 ، 3] فجعل النطق نوعين نطقا عن الوحي ونطقا عن الهوى ثم إذا رد على كل من هؤلاء باطله رجع إلى طاغوته وقال في العقل مالا يقتضيه النقل وقال الآخر في الرأي والقياس مالا يجيزه الحديث وقال الآخر في الذوق والحقيقة مالا تسوغه الشريعة وقال الآخر في السياسة ما تمنع منه الشريعة وقال الآخر في الباطن ما يكذبه الظاهر فباطل هؤلاء كلهم لا ضابط له بخلاف الوحي فإنه أمر مضبوط مطابق لما عليه الأمر في نفسه تلقاه الصادق المصدوق من لدن حكيم عليم.
الوجه السادس والثمانون: أن الصحابة كانوا يستشكلون بعض النصوص فيه فيوردون إشكالاتهم على النبي فيجيبهم عنها وكانوا يسألونه عن الجمع بين النصوص التي
يوهم ظاهرها التعارض ولم يكن أحد منهم يورد عليه معقولا يعارض النص البتة ولا عرف فيهم أحد وهم أكمل الأمم عقولا عارض نصا بعقله يوما من الدهر وإنما حكى الله سبحانه ذلك عن الكفار كما تقدم وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من نوقش الحساب عذب" فقالت عائشة يا رسول الله أليس الله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق8 ، 7] فقال: "بلى ولكن ذلك العرض ومن نوقش الحساب عذب" فأشكل عليها الجمع بين النصين حتى بين لها أنه لا تعارض بينهما وأن الحساب اليسير هو العرض الذي لا بد أن يبين الله فيه لكل عامل عمله كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة18] حتى إذا ظن أنه لن ينجو نجاه الله تعالى بعفوه ومغفرته ورحمته فإذا ناقشه الحساب عذبه ولا بد ولما قال لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة قالت له حفصة أليس الله يقول:
{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَاّ وَارِدُهَا} [مريم71] قال ألم تسمعي قوله تعالى {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم72] فأشكل عليها الجمع بين النصين وظنت الورود دخولها كما يقال ورد المدينة إذا دخلها فأجاب النبي بأن ورود المتقين غير ورود الظالمين فإن
المتقين يردونها ورودا ينجون به من عذابها والظالمين يردونها ورودا يصيرون جثيا فيها به فليس الورود كالورود وقال عمر يوم الحديبية ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به فقال: "هل قلت لك إنك تدخله العام" قال لا قال: " فإنك آتيه ومطوف به " فأشكل على عمر رجوعهم عام الحديبية ولم يدخلوا المسجد الحرام ولا طافوا بالبيت وظن أن الدخول والطواف الذي بشرهم به ووعدهم النبي بذلك العام فبين له أن اللفظ مطلق لا دليل فيه على ذلك العام بعينه فتنزيله على ذلك العام غلط فرجع عمر وعلم أنه غلط في فهمه ولما أنزل الله عز وجل: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء123] قال أبو بكر الصديق يا رسول الله جاءت قاصمة الظهر وأينا لم يعمل سوءا فقال: "يا أبا بكر ألست
تنصب ألست تحزن أليست تصيبك اللأواء قال بلى قال فذلك مما تجزون به" فأشكل على الصديق أمر النجاة مع هذه الآية وظن أن الجزاء في الآخرة ولا بد فأخبره النبي أن جزاءه وجزاء المؤمنين بما يعملونه من السوء في الدنيا بما يصيبهم من النصب والحزن والمشقة واللأواء فيكون ذلك كفارة لسيئاتهم ولا يعاقبون عليها في الآخرة وهذا مثل قوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى30] ومثل قوله {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء79]
وقوله {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران165] وإن كان قوله {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء123] أعم لأنه يتناول الجزاء في الدنيا والآخرة ولما نزل قوله تعالى {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام82] قال الصحابة وأينا يا رسول الله لم يلبس إيمانه بظلم قال ذلك الشرك ألم تسمعوا قول العبد الصالح {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان13] فلما أشكل عليهم المراد بالظلم وظنوا أن ظلم النفس داخل فيه وأن من ظلم نفسه أي ظلم كان لا يكون آمنا أجابهم بأن الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك وهذا والله الجواب الذي يشفي العليل ويروي الغليل فإن الظلم المطلق التام هو الشرك الذي هو وضع العبادة في غير موضعها
والأمن والهدى المطلق هو الأمن في الدنيا والآخرة والهدى إلى الصراط المستقيم فالظلم المطلق التام مانع من الأمن والهدى المطلق ولا يمنع ذلك أن يكون مطلق الظلم مانعا من مطلق الأمن ومطلق الهدى فتأمله.
فالمطلق للمطلق والحصة للحصة ولما أنزل الله سبحانه قوله {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة284] أشكل ذلك على بعض الصحابة وظنوا أن ذلك من تكليفهم مالا يطيقونه فأمرهم النبي أن يقابلوا النص بالقبول لا بالعصيان فبين الله سبحانه وتعالى بعد ذلك أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها وأنه لا يؤاخذهم بما نسوه وأخطأوا فيه وأنه لا يحمل عليهم إصرا كما حمله على الذين من قبلهم وأنه لا يحملهم مالا طاقة لهم به وأنهم إن قصروا في بعض ما أمروا به أو نهوا عنه ثم استعفوه واستغفروه عفى عنهم وغفر لهم ورحمهم فانظر ماذا أعطاهم الله لما قابلوا خبره بالرضا
والتسليم والقبول والانقياد دون المعارضة والرد ومن ذلك أن عائشة لما سمعت قوله إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه عارضته بقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام164] ولم تعارضه بالعقل بل غلطت الراوي والصواب عدم المعارضة وتصويب الرواة فإنهم ممن لا يتهم وهم عمر وابنه والمغيرة بن شعبة وغيرهم والعذاب الحاصل للميت ببكاء أهله عليه وهو تألمه وتأذيه ببكائهم عليه والوزر المنفي حمل غير صاحبه له هو عقوبة البريء وأخذه بجريمة غيره وهذا لا ينفي تأذي البريء السليم بمصيبة غيره فالقوم لم يكونوا يعارضون النصوص بعقولهم وآرائهم وإن كانوا يطلبون الجمع بين نصين يوهم ظاهرهما التعارض ولهذا لما عارض بلال بن عبد الله قوله صلى
الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " برأيه وعقله وقال والله لنمنعهن أقبل عليه أبوه عبد الله فسبه سبا ما سبه مثله وقال أحدثك عن رسول الله وتقول والله لنمنعهن ولما حدث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن الحياء خير كله" فعارضه معارض بقوله إن منه وقارا ومنه ضعفا فاشتد غضب عمران بن حصين وقال أحدثك عن رسول الله وتقول منه كذا ومنه كذا وظن أن المعارض زنديق
فقيل له يا عبد الله لا بأس به ولما حدث عبادة بن الصامت بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الفضة بالفضة ربا إلا هاء وهاء" الحديث قال معاوية ما أرى بهذا بأسا يعني بيع آنية الفضة بالفضة متفاضلا غضب عبادة وقال تراني أقول قال رسول الله وتقول ما أرى بهذا بأسا لا أساكنك بأرض أنت بها أبدا ومعاوية لم يعارض النص بالرأي وكان أتقى لله من ذلك وإنما خصص عمومه وقيد مطلقه بهذه الصورة وما شابهها ورأى أن التفاضل في مقابل أثر الصنعة لم يدخل في الحديث وهذا مما يسوغ فيه الاجتهاد وإنما أنكر عليه عبادة مقابلته لما رواه بهذا الرأي ولو قال له نعم حديث رسول الله على الرأس والعين ولا يجوز مخالفته بوجه ولكن هذه الصورة لا تدخل في لفظه فإنه إنما قال: "الفضة بالفضة مثلا بمثل وزنا بوزن" وهذه الزيادة ليست في مقابلة الفضة وإنما هي في مقابلة الصنعة ولا تذهب الصنعة هدرا لما أنكر عليه عبادة فإن هذا من تمام فهم النصوص وبيان ما أريد بها كما أنه هو
ومعاذ بن جبل وغيرهما من الصحابة لما ورثوا المسلم من الكافر ولم يورثوا الكافر من المسلم لم يعارضوا قوله: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" بآرائهم وعقولهم بل قيدوا مطلق هذا اللفظ أو خصوا عمومه وظنوا أن المراد به الحربي كا فعل ذلك بعض الفقهاء بقوله لا يقتل مسلم بكافر حيث حملوه على الحربي دون الذمي والمعاهد والصحابة في ذلك التقييد والتخصيص أعذر من هؤلاء من وجوه كثيرة ليس هذا موضعها وقد كان السلف يشتد عليهم معارضة النصوص بآراء الرجال ولا يقرون المعارض على ذلك وكان
عبد الله بن عباس يحتج في مسألة متعة الحج بسنة رسول الله وأمره لأصحابه بها فيقولون له إن أبا بكر وعمر أفردا الحج ولم يتمتعا فلما أكثروا عليه قال يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول لكم قال رسول الله وتقولون قال أبو بكر وعمر فرحم الله ابن عباس كيف لو رأى أقواما يعارضون قول الله ورسوله بقول أرسطو وأفلاطون وابن سينا والفارابي وجهم بن صفوان وبشر المريسي وأبي الهذيل العلاف وأضرابهم.
ولقد سئل عبد الله بن عمر عن متعة الحج فأمر بها فقيل له إن أباك نهى عنها فقال إن أبي لم يرد ما تقولون فلما أكثروا عليه قال أفرسول الله أحق أن تتبعوا أم عمر ولما حدث حماد عن ثابت عن أنس
عن النبي في تفسير قوله {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف143] قال وضع إصبعه على طرف خنصره فساخ الجبل أنكر عليه بعض الحاضرين وقال أتحدث بهذا فضرب حماد في صدره وقال أحدثك عن ثابت عن أنس عن النبي وتقول أتحدث بهذا وهذا
كثير جدا لا يتسع له هذا الموضع فكانت نصوص رسول الله أجل في صدورهم وأعظم في قلوبهم من أن يعارضوها بقول أحد من الناس كائنا من كان ولا يثبت قدم الإيمان إلا على ذلك وفتح باب هذه المعارضة الباطلة سد لباب الإيمان والله المستعان.
الوجه السابع والثمانون: إن حقيقة قول المعارضين بين النصوص الإلهية النبوية وآراء الرجال وتقديم الآراء عليها أن لا يحتج بالقرآن والسنة على شيء من المسائل العلمية بل ولا يستفاد التصديق الجازم بشيء من أخبار الله ورسوله البتة فإذا جاز أن يكون فيما أخبر الله به ورسوله في الكتاب والسنة أخبار يعارضها صريح العقل ويجب تقديم العقل عليها من غير بيان من الله ورسوله للحق الذي يطابق مدلول العقل ولا لمعاني تلك الأخبار المناقضة لصريح العقل فالإنسان لا يخلو من حالين:
فإنه إذا سمع النصوص التي أخبر الله ورسوله فيها عما لا يدركه عقله فإما أن يقدر أن له رأيا مخالفا للنص أو ليس له رأي يخالفه فإن كان عنده معقول بزعمه يناقض خبر الله ورسوله قدم معقوله وألقى خبر الله ورسوله وحينئذ فكل من اقتضى عقله مناقضة خبر من أخبار الله ورسوله قدم عقله ولم يستفد بخبر الرسول العلم بثبوت مخبره ولم يستفد منه فائدة علمية بل غايته أن يستفيد إتعاب قلبه وإعمال فكره فيما يحتمله ذلك اللفظ من المعاني التي لا يدل عليها الخطاب ليصرف دلالة الخطاب إليها ومعلوم أن المقصود من الخطاب الإفهام وهذا لم يستفد من الخطاب الإفهام ولا الصواب فإن الحق إنما استفاده من عقله والمعنى الذي دل عليه الخطاب الدلالة المألوفة لم يقصد بالخطاب إفهامه والمعنى البعيد الذي صرف اللفظ إليه وحمله عليه وهو عالم بثبوته بدون الخطاب فلم يكن في خطاب الله ورسوله عند هؤلاء فائدة علمية البتة ولقد صرحوا بهذا وقالوا المقصود تعريض متأوليه للثواب ومضمون هذا أن نصوص الوحي إنما أفادت تضليل الإنسان وإتعاب الأذهان والتفريق بين أهل الإيمان وإلقاء العداوة بينهم والشنآن وتمكين أهل الإلحاد من الطعن في القرآن والإيمان
هذا إن كان في عقله معارض لخبر الله ورسوله وإن لم يكن عنده معقول يعارض النصوص لم يجزم بأنه ليس في عقول جميع الناس ما يعارض ذلك الخبر وعدم العلم بالمعارض لا يستلزم العلم بعدمه فهو يجوز أن يكون ثم معارض ولا علم له به وهذا يمنع الجزم بالتصديق قطعا كما تقدم التنبيه عليه فظهر أن هذه الطريقة تمنع التصديق الجازم فيما أخبر به الرسول من الغيب وتحول بين القلب وبين الإيمان.
وسر المسألة أنه متى جوز أن يكون في العقل ما يناقض خبر الله ورسوله امتنع منه الإيمان الجازم.
والإيمان اليقيني الجازم وهذا التجويز لا يجتمعان أبدا يوضحه.
الوجه الثامن والثمانون: أن المعقولات ليس لها ضابط يضبطها ولا هي منحصرة في نوع معين فإنه ما من أمة من الأمم إلا ولهم عقليات يختصون بها فللفرس عقليات وللهند عقليات ولليونان عقليات وللمجوس عقليات وللصابئة عقليات بل كل طائفة من هذه الطوائف ليسوا متفقين على العقليات بل بينهم فيها من الاختلاف والتباين ما هو معروف عند المعتنين به ونحن نعفيكم من المعقولات
واضطرابها ونحاكمكم إلى المعقولات التي في هذه الأمة فإنه ما من مدة من المدد وإلا وقد ابتدعت فيها بدع يزعم أربابها أن العقل دل عليها ونحن نسوق لك الأمر من أوله إلى أن يصل إليك بعون الله وحسن توفيقه فنقول لما أظلمت الأرض وبعد عهد أهلها بنور الوحي وتفرقوا في الباطل فرقا وأحزابا لا يجمعهم جامع ولا يحصيهم إلا الذي خلقهم فإنهم فقدوا نور النبوة ورجعوا إلى مجرد العقول فكانوا كما قال النبي فيما يروي عن ربه أنه قال إني خلقت عبادي حنفاء وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب فكان أهل العقول كلهم في مقته إلا بقايا متمسكين بالوحي فلم يستفيدوا بعقولهم حين فقدوا نور الوحي إلا عبادة الأوثان أو الصلبان أو النيران أو الكواكب والشمس والقمر أو الحيرة والشك أو السحر أو تعطيل الصانع والكفر به فاستفادوا بها مقت الرب سبحانه لهم وإعراضه عنهم فأطلع الله شمس الرسالة في تلك الظلم سراجا منيرا وأنعم بها على أهل الأرض في عقولهم وقلوبهم
ومعاشهم ومعادهم نعمة لا يستطيعون لها شكورا فأبصروا بنور الوحي مالم يكونوا بعقولهم يبصرونه ورأوا في ضوء الرسالة لما لم يكونوا بآرائهم يرونه فكانوا كما قال الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة257] وقال {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم1] وقال {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى52] وقال {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام122] فمضى الرعيل الأول في ضوء ذلك النور لم تطفئه عواصف الأهواء ولم تلتبس به ظلم الآراء وأوصوا من بعدهم أن لا يفارقوا النور الذي اقتبسوه منهم وأن لا يخرجوا عن طريقهم فلما كان في أواخر عصرهم حدثت
الشيعة والخوارج والقدرية والمرجئة فبعدوا عن النور الذي كان عليه أوائل الأمة ومع هذا فلم يفارقوه بالكلية بل كانوا للنصوص معظمين وبها مستدلين ولها على العقول والآراء مقدمين ولم يدع أحد منهم أن عنده عقليات تعارض النصوص وإنما أتوا من سوء الفهم فيها والاستبداد بما ظهر لهم منها دون من قبلهم ورأوا أنهم إن اقتفوا أثرهم كانوا مقلدين لهم فصاح بهم من أدركهم من الصحابة وكبار التابعين من كل قطر ورموهم بالعظائم وتبرأوا منهم وحذروا من سبيلهم أشد التحذير ولا يرون السلام عليهم ولا مجالستهم وكلامهم فيهم معروف في كتب السنة وهو أكثر من أن يذكر هاهنا فلما كثرت الجهمية في أواخر عصر التابعين كانوا هم أول من عارض الوحي بالرأي ومع هذا كانوا قليلين أولا مقموعين مذمومين عند الأئمة وأولهم
شيخهم الجعد بن درهم وإنما نفق عند الناس بعض الشيء لأنه كان معلم مروان بن محمد وشيخه ولهذا كان يسمى مروان الجعدي وعلى رأسه سلب الله بني أمية الملك والخلافة وشتتهم في البلاد ومزقهم كل ممزق ببركة شيخ المعطلة النفاة فلما اشتهر أمره في المسلمين طلبه خالد بن عبد الله القسري وكان أميرا على العراق حتى ظفر به فخطب الناس في يوم الأضحى وكان آخر ما قال في خطبته أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما ولم يتخذ إبراهيم خليلا تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه في أصل المنبر فكان ضحية
ثم طفئت تلك البدعة فكانت كأنها حصاة رمي بها والناس إذ ذاك عنق واحد أن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه موصوف بصفات الكمال ونعوت الجلال وأنه كلم عبده ورسوله موسى تكليما وتجلى للجبل فجعله دكا هشيما إلى أن جاء أول المائة الثالثة وولي على الناس عبد الله المأمون وكان يحب أنواع العلوم وكان مجلسه عامرا بأنواع المتكلمين في العلوم فغلب عليه حب المعقولات فأمر بتعريب كتب يونان وأقدم لها المترجمين من البلاد فعربت له واشتغل بها الناس والملك سوق ما سوق فيه جلب إليه فغلب على مجلسه جماعة ممن الجهمية مما كان أبوه الرشيد قد أقصاهم وتبعهم بالحبس والقتل فحشوا بدعة التجهم في أذنه وقلبه فقبلها واستحسنها ودعا الناس إليها وعاقبهم عليها فلم تطل مدته فصار الأمر بعده إلى المعتصم وهو الذي ضرب الإمام أحمد بن حنبل فقام بالدعوة بعده والجهمية تصوب فعله وتدعوه إليه وتخبره أن ذلك هو تنزيه الرب عن التشبيه والتمثيل والتجسيم وهم الذين قد غلبوا على قربه ومجلسه والقضاة والولاة منهم فإنهم تبع لملوكهم ومع هذا فلم يكونوا يتجاسرون
على إلغاء النصوص وتقديم الآراء والعقول عليها فإن الإسلام كان في ظهور وقوة وسوق الحديث نافقة ورؤوس السنة على ظهر الأرض ولكن كانوا على ذلك يحومون وحوله يدندنون وأخذوا الناس بالرغبة والرهبة فمن بين أعمى مستجيب ومن بين مكره مقيد نفسه منهم بإعطاء ما سألوه وقلبه مطمئن بالإيمان وثبت الله أقواما جعل قلوبهم في نصر دينه أقوى من الصخر وأشد من الحديد وأقامهم لنصر دينه وجعلهم أئمة يقتدي بهم المؤمنون لما صبروا وكانوا بآياته يوقنون فإنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة24] .
فصبروا من الجهمية على الأذى الشديد ولم يتركوا سنة رسول الله لما أرغبوهم به من الوعد وما تهددوهم به من الوعيد ثم أطفأ الله برحمته تلك الفتنة وأخمد تلك الكلمة ونصر السنة نصرا عزيزا وفتح لأهلها فتحا مبينا حتى خرج بها على رؤوس المنابر ودعي إليها في كل باد وحاضر وصنف ذلك الزمان في
السنة مالا يحصيه إلا الله ثم انقضى ذلك العصر وأهله وقام بعدهم ذريتهم يدعون إلى كتاب الله وسنة رسوله على بصيرة إلى أن جاء ما لا قبل لأحد به وهم جنود إبليس حقا المعارضون لما جاءت به الرسل بعقولهم وآرائهم من القرامطة والباطنية والملاحدة ودعوتهم إلى العقل المجرد وأن أمور الرسل تعارض المعقول فهم القائمون بهذه الطريقة حق القيام بالقول والفعل فجرى على الإسلام وأهله منهم ما جرى وكسروا عسكر الخليفة مرارا عديدة وقتلوا الحاج قتلا ذريعا وانتهوا إلى مكة فقتلوا بها من وصل من الحاج إليها وقلعوا الحجر الأسود من مكانه وقويت شوكتهم واستفحل أمرهم وعظمت بهم الرزية واشتدت بهم البلية وأصل طريقهم أن الذي أخبرت به الرسل قد عارضه العقل وإذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل قالوا فنحن أنصار العقل الداعون إليه المخاصمون به المحاكمون إليه وفي زمانهم استولى الكفار على كثير من بلاد الإسلام في الشرق والغرب وكاد الإسلام أن ينهد ركنه لولا دفاع الذي ضمن حفظه إلى أن يرث الأرض ومن عليها ثم خمدت دعوة هؤلاء في
المشرق وظهرت من المغرب قليلا قليلا حتى استفحلت وتمكنت واستولى أهلها على كثير من بلاد المغرب ثم أخذوا يطوون البلاد حتى وصلوا إلى بلاد مصر فملكوها وبنوا بها القاهرة وأقاموا على هذه الدعوة مصرحين بها غير متحاشين منها هم وولاتهم وقضاتهم وأتباعهم وفي زمانهم صنفت رسائل إخوان الصفا والإشارات والشفا وكتب ابن سينا فإنه قال كان أبي من أهل الدعوة الحاكمية وعطلت في زمانهم السنة وكتبها والآثار جملة إلا في الخفية بحيث يكون قارؤها وذاكرها وكاتبها على أعظم خطر وشعار هذه الدعوة تقديم العقل على الوحي واستولوا على بلاد المغرب ومصر والشام والحجاز واستولوا على العراق سنة وأهل السنة فيهم كأهل الذمة بين المسلمين بل كان لأهل الذمة من الأمان والجاه والعز عندهم مالا يصل إليه أحد من أهل السنة ولا يطمع فيه فكم أغمدت سيوفهم في أعناق العلماء وكم مات في
سجونهم من ورثة الأنبياء وكم ماتت بهم سنة وقامت بهم بدعة وضلالة حتى استنقذ الله الأمة والملة من أيديهم في أيام نور الدين وابن أخيه صلاح الدين فأبل الإسلام من علته بعدما وطن المسلمون أنفسهم على العراء وانتعش بعد طول الخمول حتى استبشر أهل الأرض والسماء وأبدر هلاله بعد أن دخل في المحاق وثابت إليه روحه بعدما بلغت التراقي وقيل من راق واستنقذ الله سبحانه بعبده وجنوده بيت المقدس من أيدي عبدة الصليب وأخذ كل من أنصار الله ورسوله من نصرة دينه بنصيب وعلت كلمة الإسلام والسنة وأذن بها على رؤوس
الأشهاد ونادى المنادي يا أنصار الله لا تنكلوا عن الجهاد فإنه أبلغ الزاد ليوم المعاد فعاش الناس في ذلك النور مدة حتى استولت الظلمة على بلاد الشرق وطغى نور النبوة والوحي وقدموا العقول والآراء والسياسة والأذواق والرأي على الوحي فظهرت فيهم الفلسفة والمنطق وتوابعها فبعث الله عليهم عبادا له أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وعاثوا في القرى والأمصار وكاد الإسلام أن يذهب اسمه وينمحي رسمه وكان مشار هذه الفرقة وعالمها الذي يرجعون إليه زعيمها الذي يعولون عليه شيخ شيوخ المعارضين بين الوحي والعقل وإمامهم في وقته نصير الكفر والشرك الطوسي فلم يعلم في عصره أحد عارض بين العقل والنقل معارضته فرام إبطال السمع بالكلية وإقامة الدعوة الفلسفية وجعل الإشارات بدلا عن السور والآيات وقال هذه عقليات قطعية برهانية قد عارضت تلك النقليات الخطابية واستعرض علماء الإسلام وأهل القرآن والسنة على السيف فلم يبق منهم إلا من أعجزه قصدا لإبطال الدعوة الإسلامية وجعل مدارس المسلمين وأوقافهم للنجسة السحرة والمنجمين والفلاسفة
والملاحدة والمنطقيين ورام إبطال الآذان وتحويل الصلاة إلى القطب الشمالي فحال بينه وبين ذلك من تكفل بحفظ الإسلام ونصره وهذا كله من ثمرة المعارضين بين الوحي والعقل وتقديم العقل على السمع ولتكن قصة شيخ هؤلاء القديم منك على ذكر كل وقت فإنه أول من عارض بين العقل والنقل وقدم العقل فكان من أمره ما قص الله عليك وورث هذا الشيخ تلامذته هذه المعارضة فلم يزل يجري على الأنبياء وأتباعهم منها كل محنة وبلية وأصل كل بلية في العالم كما قال محمد الشهرستاني من معارضة النص بالرأي وتقديم الهوى على الشرع والناس إلى اليوم في شرور هذه المعارضة وشؤم عاقبتها فإلى الله المشتكى وبه المستعان ثم إنه خرج مع هذا الشيخ المتأخر المعارض بين العقل والنقل أشياء لم تكن تعرف قبله جست العميدي وحقائق ابن
عربي وتشكيكات الرازي وقام سوق الفلسفة والمنطق وعلوم أعداءالرسل التي فرحوا بها لما جاءتهم رسلهم بالبينات وصارت الدولة والدعوة لأرباب هذه العلوم ثم نظر الله إلى عباده وانتصر لكتابه ودينه وأقام جندا تغزوا ملوك هؤلاء بالسيف والسنان وجندا تغزوا علماءهم بالحجة والبرهان ثم نابغة طائفة منهم في رأس القرن الثامن فأقام الله لدينه شيخ الإسلام أبا العباس ابن تيمية قدس الله روحه فأقام على غزوهم مدة حياته باليد والقلب واللسان وكشف للناس باطلهم وبين تلبيسهم وتدليسهم وقابلهم بصريح المعقول وصحيح المنقول وشفى واشتفى وبين مناقضتهم ومفارقتهم لحكم العقل الذي به يدلون وإليه يدعون وإنهم أترك الناس لأحكامه وقضاياه فلا وحي
ولا عقل فأرداهم في حفرهم ورشقهم بسهامهم وبين أن صحيح معقولاتهم خدم لنصوص الأنبياء شاهدة لها بالصحة وتفصيل هذه الجملة موجودة في كتبه فمن نصح نفسه ورغب عن قوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف23] يتبين له حقيقة الأمر {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور40] والمقصود أن كل بلية طرقت العالم عامة أو خاصة فأصلها من معارضة الوحي بالعقل وتقديم الهوى على الأمر والمعصوم من عصمه الله.
الوجه التاسع والثمانون: إنه قد ثبت بالعقل الصريح والنقل الصحيح ثبوت صفات الكمال للرب سبحانه وأنه أحق بالكمال من كل ما سواه وأنه يجب أن تكون القوة كلها له والعزة كلها له والعلم كله له والقدرة كلها له والجمال كله له وكذلك سائر صفات الكمال وقام البرهان السمعي والعقلي على أنه يمتنع أن يشترك في الكمال التام اثنان وأن الكمال التام لا يكون إلا لواحد وهاتان مقدمتان يقينتان معلومتان بصريح العقل وجاءت نصوص الأنبياء مفصلة لما في صريح
العقل إدراكه قطعا فاتفق على ذلك العقل والنقل قال تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [البقرة165] وقد اختلف في تعلق قوله {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} بماذا فقالت طائفة هو مفعول يرى أي ولو يرون أن القوة لله جميعا لما عصوه ولما كذبوا رسله وقدموا عقولهم على وحيه وقالت طائفة بل المعنى لأن القوة لله جميعا وجواب لو محذوف على التقديرين أي لو يرى هؤلاء حالهم وما أعد الله لهم إذ يرون العذاب لرأوا أمرا عظيما ثم قال {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} وهو متضمن للتهديد الشديد والوعيد وقال تعالى: {بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً} [الرعد31] وقال {إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران154] وقال النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستفتاح: "لبيك وسعديك والخير كله بيديك" وفي الأثر الآخر "اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله
وإليك يرجع الأمر كله" فلله سبحانه كل صفة كمال وهو موصوف بتلك الصفات كلها ونذكر من ذلك صفة واحدة تعتبر بها سائر الصفات وهو أنك لو فرضت جمال الخلق كلهم من أولهم إلى آخرهم اجتمع لشخص واحد منهم ثم كان الخلق كلهم على جمال ذلك الشخص لكان نسبته إلى جمال الرب تبارك وتعالى دون نسبة سراج ضعيف إلى جرم الشمس وكذلك قوته سبحانه وعلمه وسمعه وبصره وكلامه وقدرته ورحمته وحكمته وجوده وسائر صفاته وهذا مما دلت عليه آياته الكونية السمعية وأخبرت به رسله عنه كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" فإذا كانت سبحات وجهه الأعلى لا يقوم لها شيء من خلقه ولو كشف حجاب النور عن تلك السبحات
لاحترق العالم العلوي والسفلي فما الظن بجلال ذلك الوجه الكريم وعظمته وكبريائه وكماله وجلاله وإذا كانت السموات مع عظمتها وسعتها يجعلها على أصبع من أصابعه والأرض على أصبع والجبال على أصبع والبحار على أصبع فما الظن باليد الكريمة التي هي صفة من صفات ذاته وإذا كان يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات في أقطار الأرض والسموات فلا يشتبه عليه ولا يختلط ولا يلتبس ولا يغلطه سمع ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء تحت أطابق الأرض في الليلة الظلماء ويعلم ما تسره القلوب وأخفى منه وهو مالم يخطر لها أنه سبحانه سيخطر لها ولو كان البحر المحيط بالعالم مدادا ويحيط به من بعده سبعة أبحر كلها مداد وجميع أشجار الأرض وهو كل نبت قام على ساق مما يحصد ومما لا يحصد أقلام يكتب بها نفدت البحار والأقلام ولم ينفد كلامه وهذا وغيره بعض ما تعرف به إلى عباده من كلامه وإلا فلا يمكن أحدا قط أن يحصي ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه فكل الثناء وكل الحمد وكل المجد وكل الكمال له سبحانه هذا الذي وصلت إليه عقول أهل الإثبات وتلقوه عن الرسول ولا يحتاجون في ثبوت علمهم وجزمهم بذلك إلى الجواب عن الشبه القادحة في ذلك وإذا وردت عليهم لم تقدح
فيما علموه وعوفوه ضرورة من كون ربهم تبارك وتعالى كذلك وفوق ذلك فلو قال لهم قائل هذا الذي علمتموه لا يثبت إلا بجواب عما عارضه من العقليات قالوا لقائل هذه المقالة هذا كذب وبهت فإن الأمور الحسية والعقلية واليقينية قد وقع فيها شبهات كثيرة تعارض ما علم بالحس والعقل فلو توقف علمنا بذلك على الجواب عنها وحلها لم يثبت لها ولا لأحد علم بشيء من الأشياء ولا نهاية لما تقذف به النفوس من الشبه وهي من جنس الوساوس والخطرات والخيالات التي لا تزال تحدث في النفوس شيئا فشيئا بل إذا جزمنا بثبوت الشيء جزمنا ببطلان ما يناقض ثبوته ولم يكن ما يقدر من الشبه الخيالية على نقيضه مانعا من جزمنا به ولو كانت الشبه ما كانت فما من موجود يدركه الحس إلا ويمكن كثيرا من الناس أن يقيم على عدمه شبها كثيرة يعجز السامع عن حلها ولو شئنا لذكرنا لك طرفا منها تعلم أنه أقوى من شبه الجهمية النفاة لعلو الرب على خلقه وكلامه وصفاته وقد رأيت أو سمعت ما أقامه كثير من المتكلمين من الشبه على أن الإنسان تبدل نفسه الناطقة في الساعة الواحدة أكثر من ألف وكل لحظة تذهب روحه وتفارق وتحدث له روح أخرى غيرها وهكذا أبدا وما أقاموه من الشبه على أن السموات والأرض والجبال والبحار تتبدل كل لحظة ويخلفها غيرها وما أقاموه من الشبه على أن روح
الإنسان ليست فيه ولا خارجة عنه وزعموا أن هذا أصح المذاهب في الروح وما أقاموه من الشبه على أن الإنسان إذا انتقل من مكان إلى مكان لم يمر على تلك الأجزاء التي بين مبدأحركته ونهايتها ولا قطعها ولا حاذاها وهي مسألة طفرة النظام وأضعاف أضعاف ذلك وهؤلاء طائفة الملاحدة من الاتحادية كلهم يقول إن ذات الخالق هي عين ذات المخلوق لا فرق بينهما البتة وأن الاثنين واحد وإنما الحس والوهم يغلط في التعدد ويقيمون على ذلك شبها كثيرة وقد نظمها ابن الفارض في قصيدته
وذكرها صاحب الفتوحات في فصوصه وغيرهما وهذه الشبهة كلها من واد واحد ومشكاة واحدة وخزانة واحدة وهي مشكاة الوساوس وخزانة الخيال فلو لم يجزم بما علمناه إلا بعد التعرض لتلك الشبهة على التفصيل وحلها والجواب عنها لم يثبت لنا علم بشيء أبدا فالعاقل إذا علم أن هذا الخبر صادق علم أن كل ما عارضه فهو كذب ولم يحتج أن يعرف أعيان الأخبار المعارضة له ولا وجوهها وبالله المستعان.
الوجه التسعون: إن هؤلاء المعارضين لنصوص الوحي بعقولهم ليس عندهم علم ولا هدى ولا كتاب مبين فمعارضتهم باطلة وهم فيها أتباع كل {شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير} [الحج4 ، 3] فهذه حال كل من عارض آيات الله بمعقوله ليس عنده إلا الجهل والضلال ورتب سبحانه هذه الأمور الثلاثة أحسن ترتيب فبدأبالأعم وهو العلم وأخبر أنه لا علم عند المعارض لآياته بعقله ثم انتقل منه إلى
ما هو أخص وهو الهدى ثم انتقل إلى ما هو أخص وهو الكتاب المبين فإن العلم أعم مما يدرك بالعقل والسمع والفطرة وأخص منه الهدى الذي لا يدرك إلا من جهة الرسل وأخص منه الكتاب الذي أنزله الله على رسوله فإن الهدى قد يكون كتابا وقد يكون سنة وهذه الثلاثة منتفية عن هؤلاء قطعا أما الكتاب والهدى المأخوذ عن الرسل فقد قالوا إنه لايفيد علما ولا يقينا والمعقول يعارضه فقد أقروا أنهم ليس معهم كتاب ولا سنة وبقي العلم فهم يدعونه والله تعالى قد نفاه عنهم وقد قام البرهان والدليل العقلي المستلزم لمدلوله على صدق الرب في خبره فعلم قطعا أن هذا الذي عارضوا به الوحي ليس بعلم إذ لو كان علما لبطل دليل العقل الدال على صدق الرب تعالى في خبره فهذا يكفي في العلم بفساد كون ما عارضوا به علما فكيف وقد قام الدليل العقلي الصحيح المقدمات على فساد تلك المعارضة وأنها تخص الجهل المركب فكيف وقد اتفق على فساد تلك المعارضة العقل والنقل ونحن نطالب هؤلاء المعارضين بواحدة من ثلاث إما كتاب منزل أو أثارة من علم يؤثر عن نبي من الأنبياء أو معقول صحيح المقدمات وقد اتفق العقلاء على صحة مقدماته.
وهم يعلمون والله شهيد عليهم بأنهم عاجزون عن
هذا وهذا فترك ما علمناه من كتاب ربنا وسنة نبينا وما نزل به جبريل من رب العالمين على قلب رسوله الأمين بلسان عربي مبين لوحي الشياطين وشبه الملحدين وتأويلات المعطلين.
فإن قيل فما الفرق بين الصنف الأول الذي يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد والصنف الثاني الذي يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير كما ذكرهم سبحانه صنفين قيل قد ذكر سبحانه ثلاثة أصناف صنفا يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد مكتوبا عليه إضلال من تولاه وهذه حال المتبع لأهل الضلال وصنفا يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيله وهذه حال المتبوع المستكبر الصاد عن سبيل الله فالأول حال الأتباع والثاني حال المتبوعين ثم ذكر حال من يعبد الله على حرف وهذه حال المتبع لهواه الذي إن حصل له ما يهواه من الدنيا عبد الله وإن أصابه ما يمتحن به في دنياه ارتد عن دينه وهذه حال من كان مريضا في إرادته وقصدة وهي حال أهل الشهوات والأهواء ولهذا ذكر ذلك في العبادة فأصلها القصد والإرادة وأما الأولان
فحال الضال والمضل وذلك مرض في العلم والمعرفة وهي حال أهل الشبهات والنظر الفاسد والجدال بالباطل والله سبحانه يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات ولا صلاح للعبد إلا بمعرفة الحق وقصده كما قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة7 ، 6] فمن لم يعرف الحق كان ضالا ومن عرفه ولم يتبعه كان مغضوبا عليه ومن عرفه واتبعه فقد هدي إلى الصراط المستقيم وأول الشر الضلال ومنتهاه الغضب كما أن أول الخير الهدى ومنتهاه الرحمة والرضوان فذكر سبحانه في آيات الحج ما يعرض في العلم من الضلال والإضلال وما يعرض في الإرادة والعمل من اتباع الأهواء كما جمع بينهما في قوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم23] فقال أولا {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج3] .
وهذا يتضمن الجدال فيه بغير هدى ولا كتاب منير فإن من جادل بغير ذلك فقد جادل بغير علم فنفي العلم يقتضي نفي كل ما يكون علما بأي طريقة حصل وذلك ينفي أن يكون مجادلا بهدى أو كتاب منير هذه حال الضال المتبع لمن يضله فلم يحتج إلى تفصيل فبين أنه يجادل بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب على ذلك الشيطان أن من اتبعه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير وهذه حال مقلدة أئمة الضلال من الكفار وأهل الأهواء والبدع.
ثم ذكر حال المتبوع الذي يثني عطفه تكبرا كما قال: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [لقمان7] وذكر التفصيل في مجادلة المتبوع الداعي وأنها في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير واكتفى في ذكر التابع بنفي العلم المستلزم لنفي هذه الثلاثة فإن مجادلة المتبوع أصل وهو أقعد بها من مجادلة التابع ومصدرها كبر ومصدر مجادلة التابع ضلال وتقليد فذكر حال المتبوع على
التفصيل ولهذا ذكر فساد قصده وعلمه وذكر من عقوبته أشد مما ذكر من عقوبة التابع وهذا وأمثاله من أسرار القرآن التي حرمها الله على من عارض بينه وبين العقل وقدم العقل عليه.
الوجه الحادي والتسعون: إن العقل ملزوم لعلمنا بالشرع ولازم له ومعلوم أنه إذا كان اللزوم من أحد الطرفين لزم من وجود الملزوم وجود اللازم ومن نفي اللازم نفي الملزوم فكيف إذا كان التلازم من الجانبين فإن هذا التلازم يستلزم أربع نتائج إذ يلزم من ثبوت هذا الملزوم ثبوت لازمه ومن ثبوت لازمه المساوي ثبوته ومن نفي اللازم نفي ملزومه ومن نفي ملزومه المساوي نفيه وهذا شأن كل شيئين بينهما تلازم من الطرفين وبيان ذلك هاهنا أنه إذا كان العقل هو الأصل الذي به عرف صحة السمع كما تقدم وقد بينا أن العقل ليس أصلا للسمع في ثبوته في نفس الأمر بل هو أصل في ثبوت علمنا أي دليل لنا على صحته وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن الدليل يجب طرده وهو ملزوم للمدلول عليه فيلزم من ثبوت الدليل ثبوت المدلول عليه
ولا يجب عكسه فلا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول فإن المخلوقات آيات ودلائل على الخالق سبحانه يلزم من ثبوتها ثبوته ولا يلزم من عدمها عدمه ولا من وجوده وجودها.
وكذلك الآيات الدالة على نبوة رسله هذا إذا لم يكن الدليل لازما للمدلول عليه فإن كان لازما أمكن أن يكون مدلولا له إذ المتلازمان يمكن أن يستدل لكل منهما على الاخر مثل الحكم الشرعي الذي لا يثبت إلا بدليل شرعي فإنه يلزم من عدم دليله عدمه وكذلك ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله إذا لم ينقل فإنه يلزم من عدم نقله عدمه وإذا كان من المعقول ما هو دليل على صحة الشرع لزم من ثبوت ذلك المعقول ثبوت الشرع ولم يلزم من ثبوت الشرع ثبوته في نفس الأمر.
لكن نحن إذا لم يكن لنا طريق إلى العلم بصحة الشرع إلا ذلك العقل لزم من علمنا بالشرع علمنا بدليله العقلي الدال عليه ولزم من علمنا بذلك الدليل العقلي علمنا به فإن العلم بالدليل يستلزم العلم بالمدلول عليه فإذا كان صحة الشرع لا تعلم إلا بدليل عقلي فإنه يلزم من علمنا بصحة الشرع علمنا بالدليل العقلي الدال عليه ويلزم من علمنا بذلك الدليل العقلي علمنا بصحة الشرع ويلزم أيضا من ثبوت ذلك الدليل المعقول في نفس الأمر ثبوت الشرع ولا يلزم من ثبوت الشرع ثبوت ذلك الدليل وإذا كان العلم بصحة الشرع لازما للعلم بالمعقول الدال عليه
وملزوما له فمن الممتنع تناقض اللازم والملزوم فضلا عن تعارض المتلازمين.
فإن المتعارضين هما المتنافيان اللذان يلزم من ثبوت أحدهما انتفاء الآخر كالضدين والنقيضين.
والمتلازمين يلزم من ثبوت كل منهما ثبوت الآخر ومن انتفائه انتفاؤه فكيف يكون المتلازمان متعارضين متنافيين متناقضين أو متضادين فهؤلاء عمدوا إلى المتلازمين المتصادقين فأبطلوا أحدهما بالآخر ولزم من بطلانه بطلانهما جميعا كما تقدم بيانه وقد تبين أن الدليل العقلي الذي به يعلم صحة الشرع مستلزم للعلم بصحة الشرع ومستلزم لثبوت الشرع في نفس الأمر وعلمنا بالشرع يستلزم العلم بالدليل العقلي الذي قيل إنه أصل الشرع والعلم بصحة الشرع موقوف عليه وليس ثبوت الشرع في نفسه مستلزما لثبوت ذلك الدليل العقلي فعلم أن ثبوت الشرع في نفس الأمر أقوى من ثبوت دليله العقلي في نفس الأمر فإن ثبوت الشرع في علمنا أقوى من ثبوت دليله العقلي إن قيل إنه يمكن أن يعلم صحته بغير ذلك الدليل وإلا كان العلم بهذا والعلم بهذا متلازمين وإذا كان كذلك كان القدح في الشرع قدحا في دليله العقلي الدال على صحته بخلاف العكس وكان القدح في الشرع قدحا في هذا العقلي.
وليس القدح في الشرع قدحا في هذا العقلي وليس
القدح في هذا العقلي مستلزما للقدح في الشرع مطلقا وأما ما سوى المعقول الدال على صحة الشرع فذلك لا يلزم من بطلانه بطلان الشرع كما لا يلزم من صحته صحة الشرع.
الوجه الثاني والتسعون: إن هؤلاء المعارضين بين العقل والوحي هم في الأصل فرقتان الفلاسفة وجهمية المتكلمين وهؤلاء لهم طريق قد سلكوها وأولئك لهم طريقة أخرى وكل من الفريقين ينقض حجج الفريق الآخر ويبين فساد طريقته ثم كل فرقة منهما تنقض بعضهم حجج بعض واعتبر هذا بالرازي والآمدي فإنهما جمعا خلاصة ما ذكره النفاة من أهل الفلسفة والكلام ثم إنهما أفسدا عامة تلك الطرق التي سلكوها فكل طائفة تبطل الطريقة العقلية التي اعتمدت عليها الأخرى بما يظهر به بطلانها بالعقل الصريح وليسوا متفقين على طريقة واحدة وهذا يبين خطأهم كلهم من وجهين.
من جهة العقل الصريح الذي يبين به كل قوم فساد ما قاله الآخرون ومن جهة أنه ليس معهم معقول اشتركوا فيه فضلا عن أن يكون من صريح المعقول بل المقدمة التي تدعي طائفة من النظار صحتها تقول الأخرى هي باطلة وهذا بخلاف مقدمات أهل الإثبات الموافقة لما جاء به الرسول فإنها من
العقليات التي تقبلها فطر العقلاء السليمة بل الفطر التي لم تفسد متفقة عليها ولا ينازع فيها إلا من تلقى تعلما من غيره لا من موجب فطرته فإنما يقدح فيها مقدمة تقليدية وهو يدعي أنها عقلية فطرية ومن تدبر ما عند المعارضين ولم يقلدهم فيه تبين له أن جميع المقدمات التي ترجع إليها أدلة المعارضين إنما ترجع إلى تقليد منهم لأسلافهم لا إلى ما يعلم بضرورة العقل ولا نظره فهم يعارضون ما قامت الأدلة العقلية على ثبوت تصديقه وسلامته من الخطأ بما قامت الأدلة العقلية على أنه لا يجب تصديقه بل قد علم جواز الخطأعليه وعلم وقوع الخطأ فيه فيما هو دون الإلهيات فضلا عن الإلهيات التي تيقن خطأ من خالف الرسل فيها بالأدلة المجملة والمفصلة بل يعارضون ما يجب تصديقه بما يعلم بصريح العقل أنه خطأ بل يعارضون السمعيات التي يعلم أن العقل الصريح موافق لها بما يعلم العقل الصريح أنه باطل والمقصود أن الطرق التي سلكها الفلاسفة في إبطال الصفات والأفعال قد أفسدها عليهم المتكلمون وبينوا خطأهم فيها بصريح العقل كما هو موجود في كتب هؤلاء وهؤلاء فانظر ما فعل أبو علي وأبو هاشم والقاضي عبد الجبار والأشعري
وأبو بكر ابن الباقلاني وأبو الحسين البصري والجويني والغزالي وأمثالهم بطريقة الفلاسفة. وانظر ما فعل ابن سينا وابن رشد والطوسي وأمثالهم بطرق المتكلمين فإنك تجد ذلك من أعظم النصرة للنصوص النبوية والمثال المنطبق عليهم بعسكر الإسلام خرج عليه عسكر كثيف يغزونهم فخرج على ذلك العدد من ورائهم فأقبلوا إليهم واشتغلوا بهم فيصادم بعضهم بعضا ويكسر بعضهم سلاح بعض وعسكر الإسلام في حصن من الطائفتين ولكن إذا اصطلح العسكران فإنهما يصطلحون على المسلمين ومن علم ما في الوجود تبين له مطابقة هذا المثال وبالله التوفيق.
الوجه الثالث والتسعون: إن الطريقة التي سلكها نفاة الصفات والعلو والتكليم من معارضة النصوص الإلهية بآرائهم وما يسمونه معقولا هي بعينها الطريقة التي سلكها إخوانهم من الملاحدة في معارضة نصوص المعاد بآرائهم وعقولهم ومقدماتهم ثم نقلوها بعينها إلى ما أمروا به من الأعمال كالصلوات الخمس والزكاة والحج والصيام فجعلوها للعامة دون الخاصة فآل بهم الأمر إلى أن ألحدوا في الأصول الثلاثة التي اتفق عليها جميع الملل وجاءت بها جميع الرسل وهي الإيمان بالله واليوم الآخر والأعمال الصالحة قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة62] .
فهؤلاء الملاحدة يحتجون على نفاة الصفات بما وافقوهم عليه من الإعراض عن نصوص الوحي ونفي الصفات كما ذكر ابن سينا في الرسالة الأضحوية فإنه قال فيها لما ذكر حجة من أثبت معاد البدن وأن الداعي لهم إلى ذلك ما ورد به الشرع من بعث الأموات فقال وأما أمر الشرع فينبغي أن يعلم فيه قانون واحد وهو أن الشرع والملة الآتية على لسان نبي من الأنبياء يرام بها خطاب الجمهور كافة.
ثم من المعلوم الواضح أن التحقيق الذي ينبغي أن يرجع إليه في صحة التوحيد من الإقرار بالصانع موحدا مقدسا عن الكم والكيف والأين والمتى والوضع والتغير حتى يصير الاعتقاد به أنه ذات واحدة لا يمكن أن يكون لها شريك في النوع أو يكون لها جزء وجودي كمي أو معنوي ولا يمكن أن تكون خارجة عن العالم ولا داخلة فيه ولا حيث تصح الإشارة إليه بأنه هنا أو هناك ممتنع إلقاؤه إلى الجمهور ولو ألقى هذا على هذه الصورة إلى العرب العاربة أو العبرانيين الأجلاف
لسارعوا إلى العناد واتفقوا على أن الإيمان المدعو إليه إيمان بمعدوم لا وجود له أصلا ولهذا ورد ما في التوراة تشبيها كله ثم أنه لم يرد في الفرقان من الإشارة إلى هذا الأمر الأهم شيء ولا أتى بصريح ما يحتاج إليه في التوحيد بيان مفصل بل أتى بعضه على سبيل التشبيه في الظاهر وبعضه جاء تنزيها مطلقا عاما جدا لا تخصيص ولا تفسير له.
وأما الأخبار التشبيهية فأكثر من أن تحصى ولكن لقوم أن لا يقبلوه فإذا كان الأمر في التوحيد هكذا فكيف بما هو بعده من الأمور الاعتقادية ولبعض الناس أن يقولوا
إن للعرب توسعا في الكلام ومجازا وإن الألفاظ التشبيهية مثل الوجه واليد والإتيان في ظلل من الغمام والمجيء والذهاب والضحك والحياء والغضب صحيحة ولكن هي مستعملة استعارة ومجازا قال ويدل على استعمالها غير مجازية ولا مستعارة بل محققةأن المواضع التي يوردونها حجة في أن العرب تستعمل هذه المعاني بالاستعارات والمجاز على غير معانيها الظاهرة مواضع في مثلها يصلح أن تستعمل على غير هذا الوجه ولا يقع فيها تلبيس ولا تدليس.
وأما قوله {اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام 158] على القسمة المذكورة وما جرى مجراه فليس تذهب الأوهام فيه البتة إلى أن العبارة مستعارة أو مجازية
فإن كان أريد فيها ذلك إضمارا فقد رضي بوقوع الغلط والتشبيه والاعتقاد المعوج بالإيمان بظاهرها تصريحا. وأما قوله {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح10] وقوله {مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر56] فهو موضع الاستعارة والمجاز والتوسع في الكلام ولا يشك في ذلك إثنان من فصحاء العرب ولا يلتبس على ذي معرفة في لغتهم كما يلتبس في تلك الأمثلة فإن هذه الأمثلة لا تقع شبهة في أنها استعارة مجازية كذلك في تلك لا تقع شبهة في أنها ليست استعارية ولا مرادا فيها شيء غير الظاهر. ثم هب أن هذه كلها موجودة على الاستعارة فأين التوحيد
والعبارة المشيرة بالتصريح إلى التوحيد المحض الذي تدعو إليه حقيقة هذا الدين المعترف بجلالته على لسان حكماء العالم قاطبة ثم قال في ضمن كلامه إن الشريعة الجائية على لسان نبينا جاءتأفضل ما يمكن ان تجيء عليه الشرائع وأكمله.
ولهذا صلحت أن تكون خاتمة للشرائع وآخر الملل قال وأين الإشارة إلى الدقيق من المعاني المشيرة إلى علم التوحيد مثل إنه عالم بالذات أو عالم بعلم قادر بالذات أو قادر بقدرة واحد بالذات على كثرة الأوصاف أو قابل للكثرة تعالى عنها بوجه من الوجوه متحيز بالذات أو منزه عن الجهات فإنه لا يخلو إما أن تكون هذه المعاني واجبا تحققها وإتقان المذهب الحق فيها أو يسع
الصدوف عنها وإغفال البحث والرؤية فيها فإن كان البحث عنها معفوا عنه وغلط الاعتقاد الواقع فيها غير مؤاخذ به فجل مذهب هؤلاء القوم المخاطبين بهذه الجملة تكلف وعنه غنية وإن كان فرضا محكما فواجب أن يكون مما صرح به في الشريعة وليس التصريح المعمى أو الملتبس أو المقتصر فيه بالإشارة والإيماء بل التصريح المستقصى فيه والمنبه عليه والموفى حق البيان والإيضاح والتعريف لمعانيه فإن المبرزين المنفقين أيامهم ولياليهم وساعات عمرهم على تمرين أذهانهم وتزكية أفهامهم وترسيخ نفوسهم لسرعة الوقوف على المعاني الغامضة يحتاجون في فهم هذه المعاني إلى فضل بيان وشرح عبارة فكيف غتم العبرانيين وأهل الوبر من العرب.
لعمري لو كلف الله رسولا من الرسل أن يلقي حقائق هذه الأمور إلى الجمهور من العامة الغليظة طباعهم المتعلقة بالمحسوسات الصرفة أوهامهم ثم سامه أن يتنجز منهم الإيمان والإجابة غير متمهل فيه وسامه أن يتولى رياضة نفوس الناس قاطبة حتى يستعد الوقوف عليها لكلفه شططا وأن يفعل ما ليس في قوة البشر.
اللهم إلا أن تدركه خاصة إلهية وقوة علوية وإلهام سماوي فتكون حينئذ وساطة الرسول مستغنى عنها وتبليغه غير محتاج إليه.
ثم هب أن الكتاب العربي جاء على لغة العرب وعبارة لسانهم في الاستعارة والمجاز فما قولهم في الكتاب العبراني وكله من أوله إلى آخره تشبيه صرف وليس
لقائل أن يقول إن ذلك الكتاب محرف كله وأنى يحرف كلية كتاب منتشر في أمم لا يطاق تعديدهم وبلادهم متباينة وأوهامهم متباينة منهم يهودي ونصراني وهم أمتان متعاديتان فظاهر من هذا كله أن الشرائع واردة بخطاب الجمهور بما يفهمون مقربا مالا يفهمون إلى أفهامهم بالتمثيل والتشبيه ولو كان غير ذلك لما أغنت الشرائع البتة قال فكيف يكون ظاهر الشرائع حجة في هذا الباب يعني أمر المعاد ولو فرضنا الأمور الأخروية روحانية غير مجسمة بعيدة عن إدراك بدائة الأذهان تحقيقها لم يكن سبيل الشرائع إلى الدعوة إليها أو التحذير عنها إلا بالتعبير عنها بوجوه من التمثيلات المقربة إلى الأفهام فكيف يكون وجود شيء حجة على وجود شيء آخر لو لم يكن الشيء الآخر على الحالة المفروضة لكان الشيء الأول على حالته فهذا كله هو الكلام على تعريف من طلب أن يكون خاصا من الناس لا عاما
إن ظاهر الشرائع غير محتج به في مثل هذه الأبواب فتأمل كلام هذا الملحد بل رأس ملاحدة الملة ودخوله إلى الإلحاد من باب نفي الصفات وتسلطه في إلحاده على المعطلة النفاة بما وافقوه عليه من النفي وإلزامه لهم أن يكون الخطاب بالمعاد جمهوريا أو مجازا أو استعارة كما قالوا في نصوص الصفات التي اشترك هو وهم في تسميتها تشبيها وتجسيما مع أنها أكثر تنوعا وأظهر معنى وأبين دلالة من نصوص المعاد فإذا ساغ لكم أن تصرفوها عن ظاهرها بما لا تحتمله اللغة فصرف هذه عن ظواهرها أسهل ثم زاد هذا الملحد عليهم باعترافه أن نصوص الصفات لا يمكن حملها كلها على المجاز والاستعارة وأن يقال إن المراد غير ظاهرها وإن لذلك الاستعمال مواضع تليق به بحيث تكون دعوى ذلك في غيرها غلطا محضا كما في مثل قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام158] فمع هذا التقسيم والتنويع يمتنع المجاز والاستعارة فإنما أريد ما دل اللفظ عليه ظاهرا ومع هذا فقد ساعدهم على
امتناعه لقيام الدليل العقلي عليه فهكذا نفعل نحن في نصوص المعاد سواء فهذا حاصل كلامه وإلزامه ودخوله إلى الإلحاد من باب نفي الصفات والتجهم وطريق الرد المستقيم بإبطال قوله وقول المعطلة جميعا والمقصود أن هؤلاء الجهمية والمعتزلة لما وافقوا هذا الملحد على نفي الصفات وأن هذا النفي هو التوحويد الحق احتج عليهم بهذه الموافقة على أن الرسل لم يثبتوا ما هو الحق في نفسه في معرفة توحيد الله ومعرفة اليوم الآخر ولم يذكروا ما هو الذي يصلح لخاصة بني آدم وأولى العقول بينهم أن يفهموه ويعقلوه من هذا الباب وأن نصوص الوحي من كتب الله المنزلة وكلام رسله لا يحتج بها في باب الإيمان بالله ولا في اليوم الآخر لا في الخلق ولا في البعث لا المبدأ ولا المعاد وأن الكتب الإلهية إنما أفادت تخييلا ينتفع به العامة لا تحقيقا يفيد العلم والمعرفة وأن أعظم العلوم وأجلها وأشرفها هو العلم بالله لم تثبته الرسل ولم تنطق به ولم يهد إليه الخلق فلم يتبين معرفة الله ولا معرفة المبدأ ولا المعاد بل نطقت فيه بخلاف الصواب فاشتركت المعطلة الجهمية والملاحدة في نسبة الرسول إلى ذلك في باب الصفات وامتازت عليها الملاحدة بأن الرسول أراد إفهام ظاهرها وقالت المعطلة أراد إتعاب الأذهان في إفهام خلاف ظاهرها وعرض الأمة إلى الباطل في اعتقاده ظاهرها.
الوجه الرابع والتسعون: أن يقال لا يخلو إما أن يكون الرسول يعرف ما دل عليه العقل بزعمكم من إنكار علو الله على خلقه واستوائه على عرشه وتكليمه لرسله وملائكته أو لم يكن يعرف ذلك فإن قلتم لم يكن يعرفه كانت الجهمية والمعطلة والملاحدة والمعتزلة والقرامطة الباطنية والنصيرية والإسماعيلية وأمثالهم وأفراخهم وتلامذتهم أعلم بالله وأسمائه وصفاته وما يجب له ويمتنع عليه من رسله وأتباعه.
وإن كان يعرفه امتنع أن لا يتكلم به يوما من الدهر مع أحد من خاصته والمطلعين على سره ومن المعلوم قطعا أن الرسول لم يتكلم مع أحد بما يناقض ما أظهره للناس ولا كان خواص أصحابه يعتقدون فيه نقيض ما أظهره للناس بل كل من كان به أخص وبحاله أعرف كان أعظم موافقة له وتصديقا له على ما أظهره وبينه وأخبر به فلو كان الحق في الباطن خلاف ما أظهره لزم أحد الأمرين إما أن يكون جاهلا به أو كاتما له عن الخاصة والعامة ومظهرا خلافه للخاصة والعامة وهذا من أعظم الأمور امتناعا ومدعيه في غاية الوقاحة والبهت ولهذا لما علم هؤلاء أنه يستحيل كتمان ذلك عن خواصه وضعوا أحاديث بينوا فيها أنه كان له خطاب مع خاصته غير الخطاب العامي مثل الحديث المختلق المفترى
عن عمر أنه قال كان رسول الله يتحدث مع أبي بكر وكنت كالزنجي بينهما ومثل ما تدعيه الرافضة أنه كان عند علي علم خاص باطن يخالف هذا الظاهر ولما علم أنه سبحانه أن ذلك يدعى في علي وفق من سأله هل عندكم من رسول الله شيء خصكم به دون الناس فقال لا والذي خلق الحبة وبرأ النسمة ما أسر إلينا رسول الله شيئا كتمه عن غيرنا إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه وما في هذه الصحيفة وكان فيها العقول الديات وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر وهذا الحديث متفق على صحته وفي لفظ في الصحيح عهد إليك رسول الله شيئا لم يعهده إلى الناس فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة.
الوجه الخامس والتسعون: إن الله سبحانه أنزل كتبه حاكمة بين الناس فيما اختلفوا فيه قال الله تعالى:
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة213] وقال تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء105] وقال تعالى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء59] فكيف يحكم بين الناس في مواطن الخلاف والنزاع كلام وخطاب ليس فيه علم ولا هدى ينتفع به أولوا الألباب كما زعم هؤلاء أن الكتب الإلهية لا يحتج بها في مثل هذه الأبواب فكيف تكون حاكمة بين الناس فيما اختلفوا فيه وأي اختلاف أعظم من الاختلاف في أجل الأمور وهو معرفة الله تعالى واليوم الآخر والخلاف الحقيقي إنما يكون في الأمور العلمية والقضايا الخبرية التي لا تقبل النسخ والتغيير فأما العمليات التي تقبل النسخ فتلك تنوع في الشريعة الواحدة فكيف بالشرائع المتنوعة وما جاز تنوعه لم يكن الخلاف فيه حقيقيا فإنهما إن كانا مشروعين في وقتين أو برسولين فكلاهما حق وإن كان الخلاف في المشروع منهما أيهما هو فهذا يعلم بالخبر المنقول عن الصادق وحينئذ فنقول في.
الوجه السادس والتسعين: ما ذكره ابن سينا وأمثاله في أنه لم يرد في القرآن من الإشارة إلى توحيدهم شيئ فكلام صحيح وهذا دليل على أنه باطل لا حقيقة له وأن من وافقهم عليه فهو جاهل ضال وكذلك ما ذكره أن من المواضع التي ذكرت فيها الصفات مالا يحتمل اللفظ فيها إلا معنى واحدا لا يحتمل ما يدعيه أهل التأويل من الاستعارة والمجاز كما ذكره في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة210] وقوله {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام158] وهذا حجة على من نفى حقيقة ذلك ومدلوله من المعطلة نفاة الصفات وهو حجة عليه وعليهم جميعا وموافقتهم له على التعطيل لا ينفعه فإن ذلك حجة جدلية لا علمية إذ تسليمهم له ذلك لا يوجب على غيرهم أن يسلم ذلك له فإذا تبين بالعقل الصريح ما يوافق النقل الصحيح دل ذلك على فساد قوله وقولهم جميعا وكذلك قوله هب إن هذه كلها موجودة على الاستعارة فأين التوحيد والدلالة بالتصريح على التوحيد المحض الذي يدعو
إليه حقيقة هذا الدين القيم المعترف بجلالته على لسان حكماء العالم قاطبة كلام صحيح لو كان ما قاله النفاة حقا فإنه على قولهم لا يكون هذا الدين القيم قد بين التوحيد الحق أصلا وحينئذ فنقول في.
الوجه السابع والتسعين: إن التوحيد الذي دعى إليه هؤلاء الملاحدة وذكروا أنه التوحيد الحق هو من أعظم الإلحاد في أسماء الرب وصفاته وأفعاله وهو حقيقة الكفر به وتعطيل العالم عن صانعه وتعطيل الصانع الذي أثبتوه عن صفات كماله فشرك عباد الأصنام والأوثان والكواكب والشمس والقمر خير من توحيد هؤلاء بكثير فإنه شرك في الإلهية مع إثبات صانع العالم وصفاته وأفعاله وقدرته ومشيئته وعلمه بالكليات والجزئيات وتوحيد هؤلاء تعطيل الربوبية والإلهية وسائر صفاته وهذا التوحيد ملازم لأعظم أنواع الشرك ولهذا كلما كان الرجل أعظم تعطيلا كان أعظم شركا ولا تجد معطلا نافيا إلا وفيه من الشرك بقدر ما فيه من التعطيل وتوحيد الجهمية والفلاسفة مناقض لتوحيد الرسل من كل وجه فإن مضمون توحيد الجهمية إنكار حياة الرب وعلمه وقدرته وسمعه وبصره وكلامه واستوائه على عرشه ورؤية المؤمنين له
بأبصارهم عيانا من فوقهم يوم القيامة وإنكار وجهه الأعلى ويديه ومجيئه وإتيانه ومحبته ورضاه وغضبه وضحكه وسائر ما أخبر به الرسول عنه ومعلوم أن هذا التوحيد هو نفس تكذيب الرسول فيما أخبر به عن الله وجحده فاستعار له أصحابه اسم التوحيد وقالوا نحن الموحدون كما استعار المنكرون للقدر اسم العدل بجحده ودفعه وقالوا نحن أهل التوحيد والعدل فهذا توحيدهم وهذا عدلهم والعدل والتوحيد الذي جاء به الرسول خلاف هذا وهذا قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} [آل عمران19 ، 18]
الوجه الثامن والتسعون: أنه لو كان الحق فيما يقوله هؤلاء النفاة المعطلون وإخوانهم من الملاحدة لكان قبول الفطر له أعظم من قبولها للإثبات الذي هو ضلال وباطل عندهم فإن الله سبحانه نصب على الحق الأدلة والأعلام الفارقة بين الحق والباطل والنور والظلام وجعل فطر عباده مستعدة لإدراك الحقائق ومعرفتها ولولا ما في القلوب من الاستعداد لمعرفة
الحقائق لم يمكن النظر والاستدلال والخطاب والكلام والفهم والإفهام وكما أنه سبحانه جعل الأبدان مستعدة للاغتذاء بالطعام والشراب ولولا ذاك لما أمكن تغذيتها وتربيتها وكما أن في الأبدان قوة تفرق بين الغذاء الملائم والمنافي ففي القلوب قوة تفرق بين الحق والباطل أعظم من ذلك فخاصة العقل التفريق بين الحق والباطل وتمييز هذا من هذا كما أن خاصة السمع التمييز بين الأصوات حسنها وقبيحها وخاصة الشم التمييز بين أنواع الروائح طيبها وخبيثها وكذلك خاصة الذوق في الطعوم فإذا ادعيتم على العقول أنها لا تقبل الحق وأنها لو صرح لها به لأنكرته ولم تذعن إلى الإيمان فقد سلبتم العقول خاصتها وقلبتم الحقيقة التي خلقها الله وفطرها عليه وكان نفس ما ذكرتم أن الرسل لو خاطبت به الناس لنفروا عن الإيمان من أعظم الحجج عليكم وأنه مخالف للعقل والفطرة كما هو مخالف للسمع والوحي فتأمل هذا الوجه فإنه كاف في إبطال قولهم ولهذا لو أراد أهله أن يدعوا الناس إليه ويقبلوه منهم وطأوا له توطئات وقدموا له مقدمات بنوها في القلب
درجة بعد درجة ولا يصرحون به أولا حتى إذا أحكموا ذلك البناء استعاروا له ألفاظا مزخرفة واستعاروا لما خالفه ألفاظا شنيعة فتجتمع تلك المقدمات التي قدموها وتلك الألفاظ التي زخرفوها وتلك الشناعات التي على من خالفهم شنعوها فهناك إن لم يمسك الإيمان من يمسك السموات والأرض أن تزولا وإلا ترحل عن القلب ترحل الغيث استدبرته الريح يوضحه.
الوجه التاسع والتسعون: إنا نعرض على الفطر السليمة والعقول التي لم تفسد بتلقي المقالات الفاسدة وتلقيها عن المعلمين خصمين اختصموا في ربهم فقال أحدهما هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه حي له الحياة قدير له صفة القدرة مريد له صفة الإرادة كلم موسى تكليما وتجلى للجبل فجعله دكا هشيما فوق سماواته مستو على عرشه بائن من خلقه يرى من فوق سبع سماوات ويسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في غياهب
الظلمات لا تتحرك ذرة إلا بإذنه ولا تسقط ورقة إلا بعلمه ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض والسموات ترفع إليه الحاجات وتصعد إليه الكلمات الطيبات وينزل من عنده الأمر بتدبير المخلوقات له القوة كلها والعز كله والجمال كله والعلم كله والكمال كله وهو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم موصوف بكل جمال منزه عن كل نقص وعيب لا تضرب له الأمثال ولا يشبه بالمخلوقات فعال لما يريد لوجهه سبحات الجلال وهو الجميل الذي له كل الجمال إحدى يديه للجود والفضل والأخرى للقسط والعدل يقبض سماواته السبع بإحدى يديه والأرضين السبع باليد الأخرى ثم يهزهن ثم يقول أنا الملك لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه قريب مجيد رحيم ودود لطيف خبير.
فصل
وقال الآخر بل هو موصوف بالسلوب والإضافات فلا سمع له ولا بصر ولا حياة ولا إرادة ولا يتكلم ولا يكلم أحدا من خلقه ولا هو داخل العالم ولا خارجه
ولا فوق العرش ولا تحته ولا يمينه ولا يساره ولا خلفه ولا أمامه ولا له وجه ولا يد ولا يرضى ولا يغضب ولا يسخط ولا يضحك ولا يفرح بتوبة تائب ولا استوى على عرشه ولا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ولا يأتي يوم القيامة ولا يجيء لفصل القضاء ولا يراه المؤمنون بأبصارهم ولا يستمعون كلامه ولا يقوم به فعل البتة ولا وصف ولا له حقيقة وماهية غير وجود مطلق وهو وجه كله وسمع كله وبصر كله ويد كله علمه ذاته وسمعه وبصره علمه ليس له يد غير القدرة خلق بها آدم وكتب بها التوراة وغرس بها جنة عدن يقبض بها السموات وليس له وجه يراه المؤمنون بأبصارهم ليس بجوهر ولا جسم ولا متحيز ولا متحرك ولا ساكن ولا ينزل من عنده شيء ولا يصعد إليه شيء ولا يقرب منه شيء ولا يحبه أحد ولا يحب أحدا إلى أمثال ذلك من النفي فاعرض أقوال هذين الخصمين على الفطرة الصحيحة والعقل واجلس مجلس الحكومة بينهما ثم تحيز إلى أي الفئتين شئت فما ثم إلا الإثبات من كل وجه لما أثبته الله لنفسه وأثبته رسوله أو التعطيل الصرف والنفي المحض فاختر لنفسك إحدى الخطتين واجعلها مع إحدى الفئتين فالمرء مع من أحب وحينئذ فنقول في:
الوجه المائة: إن الأعمال الصالحة والفاسدة نتائج الاعتقادات الصحيحة والباطلة فانظر رؤوس المثبتة والنفاة وملوكهم وأتباعهم يبين لك حقيقةالأمر فرؤوس المثبتة آدم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب وإبراهيم الخليل وسائر الأنبياء من ذريته وموسى الكليم وعيسى وجاء خاتمهم وآخرهم وأعلمهم بالله سيد ولد آدم محمد بن عبد الله عبد الله ورسوله فجاء بالإثبات المفصل الذي لم يأت رسول بمثله فصرح من إثبات الصفات والأفعال بما لم يصرح به نبي قبله وذلك لكمال عقول أمته وكمال تصديقهم وصحة أذهانهم فرسول الله حامل لواء الإثبات وتحت ذلك اللواء آدم وجميع الأنبياء وأتباعهم ثم المهاجرون والأنصار وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان وسائر الصحابة ثم التابعون لهم بإحسان ممن لا يحصيهم إلا الله ثم أتباع التابعين ثم أئمة الفقه في الأعصار والأمصار منهم الأئمة الأربعة ثم أهل الحديث قاطبة وأئمة التفسير والتصوف والزهد والعبادة المقبولون عند الأمة ممن لا يحصي عددهم إلا الله فهل سمع في الأولين والآخرين بمثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والعشرة المشهود لهم بالجنة وسائر المهاجرين والأنصار وهل سمع بقوم أتم عقولا وأصح أذهانا وأكمل علما ومعرفة وأزكى
قلوبا من هؤلاء الذين قال الله فيهم {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قال غير واحد من السلف هم أصحاب محمد قال فيهم عبد الله بن مسعود من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدي المستقيم فهؤلاء أمراء هذا الشأن وأما الجند والعساكر فالتابعون كلهم ثم الذين يلونهم مثل مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وسفيان الثوري وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وعبد الله بن المبارك والليث بن سعد وإسحاق بن راهويه والإمام أحمد والشافعي
وعلي بن المديني ويحيى بن معين والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي ومحمد بن أسلم الطوسي وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين وأمثالهم.
وأما عامتهم فأهل الدين والصدق والورع والزهد والعبادة والإخلاص واجتناب المحارم وتوقي المآثم.
وأما رؤوس النفاة والمعطلين ففرعون إذ يقول {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أسباب أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر37 ، 36] وجنوده كلهم ونمرود بن كنعان هذا خصم إبراهيم الخليل وذاك خصم موسى الكليم وأرسطاطاليس وبقراطيس وأضرابهما وطمطم وتنكلوسا وابن وخشيه وأضرابهم وابن سينا والفارابي وكل فيلسوف لا يؤمن بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا لقائه.
وأما عوامهم فاعتبر عوام النصيرية والإسماعيلية
والدرزية والحاكمية والطرقية والعرباء وعبادهم البخشية والطوسية وعلماؤهم السحرة وعساكرهم المشركون والقرامطة الذين هم أعظم الأمم إفسادا للدنيا والدين فليعتبر العاقل خواص هؤلاء وهؤلاء وعوام هؤلاء وهؤلاء وليقابل بين الطائفتين وحينئذ يتبين له أنه ما كان ولا يكون ولي لله إلا من أهل الإثبات وما كان ولا يكون ولي للشيطان إلا من أهل النفي والتعطيل إما تعطيل الصانع عن صفات كماله ونعوت جلاله وإما تعطيل القلب عن توحيده وعبوديته وإخلاص الدين له واعتبر ذلك بإمام النفاة في زمانه وما جرى على أهل السنة منه ابن أبي دؤاد وأصحابه الذين سعوا في ضرب الإمام
أحمد وقتل كثير من أهل السنة وحبسهم وتشتيتهم في البلاد وقطع أرزاقهم ثم إمامهم في زمانه نصير الكفر والشرك الطوسي وما جرى على المسلمين منه من قتل خليفتهم وعلمائهم وعبادهم وإذا اعتبرت أحوال القوم رأيت عوام اليهود والنصارى أقل فسادا في الدين والدنيا من أئمة هؤلاء المعارضين لنصوص الأنبياء بعقولهم وغاية الواحد من هؤلاء إذا أراد الجاه أن يتقرب إلى الملوك الجهلة الظلمة بما يناسبهم من السحر فيصنف لهم فيه ويتقرب به إليهم فهؤلاء علماؤهم وملوكهم وعوامهم فكيف يكون هؤلاء أحظى بالعقل وأسعد به من الرسل وأتباعهم.
وسيرة هؤلاء وهؤلاء معلومة في العالم وأعمالهم وعلومهم ومعارفهم وآثارهم دالة لمن له أدنى عقل على حقيقة الحال والله أعلم.
الوجه الحادي والمائة: إن تجويز معارضة العقل للوحي يوجب وصف الوحي بضد ما وصفه الله به فإن الله سبحانه وصفه بكونه هدى في غير موضع وأخبر أنه يهدي للتي هي أقوم الطرق وهي أقربها إلى الحق فإن الطريق المستقيم هو أقرب خط موصل بين
نقطتين وكلما تعوج بعد وأخبر سبحانه أنه شفاء لما في الصدور وهذا يتضمن أنه يشفي ما فيها من الجهل والشك والحيرة والريب كما أن الهدى يتضمن أنه موصل إلى المقصود فالهدى يوصلها إلى الحق المقصود من أقرب الطرق والشفاء يزيل عنها أمراضها المانعة لها من معرفة الحق وطلبه فهذا الجهل المقتضي وهذا يزيل المانع ومن المحال أن تكون هذه صفة كلام مخالف للعقل ومعارض له وكذلك أخبر أنه نور كما قال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف157] وقال {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى52] فهو نور البصائر من العمى كما هو شفاء الصدور من الجهل والشك ومحال أن تتنور البصائر بما يخالف صريح العقل فإنما يخالف العقل موجب الظلمة وأخبر سبحانه أنه برهان فقال:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} [النساء174] ومحال أن يكون ما يخالف صريح العقل برهانا وأخبر سبحانه أنه علم كما قال {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [آل عمران61] وما يخالف العقل الصريح لا يكون علما وأخبر أنه حق والعقل الصريح لا يخالف الحق فقال تعالى {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران3-1] وقال {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [النساء105] وقال {لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [يونس94] وقال {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} [آل عمران62] وحينئذ فكونه حقا يدل على أن ما خالفه مما يسمى
معقولا باطل فإن كان ما خالفه حقا لزم أن يكون باطلا وإن كان هو الحق فما خالفه باطل قطعا وأخبر أنه آيات بينات وما يخالف صريح العقل لا يكون كذلك وأخبر أنه أحسن القصص وأحسن الحديث ولو خالف صريح العقل لكان موصوفا بضد ذلك وأخبر أنه أصدق الكلام فقال: {مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء122]{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء87] ولو خالف العقل لم يكن كذلك وكان كلام هؤلاء الضالين المضلين أصدق منه وأخبر أن القلوب تطمئن به أي تسكن إليه من قلق الجهل والريب والشك كما يطمئن القلب إلى الصدق ويرتاب بالكذب فقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد28] وجعل هذا من أعظم الآيات على صدقه وأنه حق من عنده ولهذا ذكره جوابا لقول الكفار {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} فقال {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} أي بكتابه الذي أنزله وهو ذكره وكلامه ولو كان في العقل الصريح ما يخالفه لم تطمئن به قلوب العقلاء والعاقل اللبيب إذا تدبر القرآن وتدبر كلام هؤلاء المعارضين له تبين أن الريبة كلها في كلامهم والطمأنينة في كلام الله ورسوله وأخبر سبحانه أن
التوراة التي هو أكمل وأجل منها إمام للناس فقال تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً} [الأحقاف12] والإمام هو القدوة الذي يؤتم به وكيف يقتدي بكلام يخالف صريح العقل وسماه سبحانه فرقانا لأنه فرق بين الحق والباطل فلو خالف صريح العقل لم يكن فرقانا ولكان الفرقان كلام هؤلاء الضالين المضلين وأخبر أنه كتاب مبارك والمبارك الكثير البركة والخير والهدى والرحمة وهذا لا يكون فيما يرده العقل ويقضي بخلافه وأخبر أن الباطل لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه ولو كان العقل يخالفه لأتاه الباطل من كل جهة وأخبر أنه كتاب أحكمت آياته وأنه حكيم وأنه فصل وما يخالفه العقل لا يوصف بشيء من ذلك وأخبر أنه مهيمن على كل كتاب أي أمين عليه وحاكم وشاهد وقيم ولو خالفه العقل لكان مهيمنا عليه وكانت معقولات هؤلاء الضالين المضلين هي المهيمنة عليه ولم يكن هو المهيمن عليها وأخبر أنه لا عوج فيه وأنه قيم فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} [الكهف2 ، 1] .
وأي عوج أعظم من مخالفة صريح العقل له وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر28] . ومن تدبره وتدبر ما خالفه عرف أن القدح كله فيما خالفه.
وعلمه بتعوج ما خالفه يعرف من طريقتين من جهة الكلام في نفسه وأنه باطل ومن جهة مخالفته للقرآن وجعله سبحانه حجة على خلقه كما قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} [الأنعام157-155] . وقال تعالى {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء165] وكيف تقوم الحجة بكلام يخالف صريح العقل وحينئذ فنقول في:
الوجه الثاني والمائة: إن الله سبحانه ضمن الهدى والفلاح لمن اتبع القرآن والضلال والشقي لن أعرض عنه فكيف بمن عارضه بمعقول أو رأي أو حقيقة باطلة أو سياسة ظالمة أو قياس إبليسي أو خيال فلسفي ونحو ذلك قال تعالى {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه126 ، 123] فضمن سبحانه لمن اتبع هداه وهو كلامه الهدى في الدنيا والآخرة والسعادة في الدنيا والآخرة فهاهنا أمران:
طريقة وغاية فالطريقة الهدى والغاية السعادة والفلاح فمن لم يسلك هذه الطريقة لم يصل إلى هذه الغاية والله سبحانه قد أخبر أن كتابه الذي أنزله هو الهدى والطريق فلو كان العقل الصريح يخالفه لما كان طريقا إلى الفلاح والرشد وقد أخبر سبحانه أن الذين اتبعوا النور الذي أنزل مع رسوله هم المفلحون لا غيرهم وقال تعالى:
{الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة5-1] . وكما جعل سبحانه الهدى والفلاح لمن اتبع كتابه وآمن به وقدمه على غيره جعل الضلال والشقاء لمن أعرض عنه واتبع غيره وعارضه برأيه ومعقوله وقياسه قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة257] وقال {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [القمر47] وقال {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه124] فوصفه بالعمى الذي هو ضد الهدى وبالمعيشة الضنك التي هي ضد السعادة فكتاب الله أوله هداية وآخره سعادة وكلام المعارضين له بمعقولهم أوله ضلال وآخره شقاوة.
الوجه الثالث بعد المائة: أن الله سبحانه ذم المجادلين في آياته بالباطل في غير آية من كتابه فقال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر35] .
وقال {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَاّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر56] .
وقال {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ لَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} إلى قوله {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [غافر76-69] .
وأنت إذا تأملت أقوال هؤلاء وسيرتهم رأيت هذه الآيات منطبقة عليهم وهم المرادون بها ومن أعظم الجدال في آيات الله جدال من يعارض النقل بالعقل ثم يقدمه عليه فإن جداله يتضمن أربع مقامات أحدها أنه تبين أن الأدلة النقلية من الكتاب والسنة لا تفيد علما ولا يقينا.
الثاني: أن ظاهرها يدل على الباطل والتشبيه والتمثيل
الثالث أن صريح العقل يخالفها
الرابع: أنه يتعين تقديمه عليها ولا يصل إلى هذه المقامات إلا بأعظم الجدال.
فهو مراد بهذه الآيات قطعا وأعمالهم شاهدة عليهم لمن لم يطلع على حقيقة أقوالهم وهي التكبر والتجبر والفرح في الأرض بغير الحق والمرح وطلب العلو في الأرض والفساد ولا تجد من يعارض الوحي بالعقل ويقدمه عليه إلا بهذه المنزلة فهذه علومهم وعقائدهم وهذه إرادتهم وأعمالهم.
الوجه الرابع والمائة: إن الله سبحانه وصف المعرضين عن الوحي المعارضين له بعقولهم وآرائهم بالجهل والضلال والحيرة والشك والعمى والريب فلا يجوز وصفهم بالعلم والعقل والهدى ومنشأ ضلال هؤلاء من شيئين:
أحدهما: الإعراض عما جاء به الرسول
والثاني: معارضته بما يناقضه فمن ذلك نشأت الاعتقادات المخالفة للكتاب والسنة فكل من أخبر بخلاف ما أخبر به الرسول عن شيء من أمر الإيمان بالله وأسمائه
وصفاته وأفعاله واليوم الآخر أو غير ذلك فقد ناقضه وعارضه سواء اعتقد ذلك بجنانه أو قاله بلسانه أو كتبه ببنانه وهذا حال أهل الجهل المركب ومن أعرض عما جاء به الرسول ولم يعرفه ولم يتبينه ولا عارضه بمعقول أو رأي فهو من أهل الجهل البسيط وهو أصل المركب فإن القلب إذا كان خاليا من معرفة الحق واعتقاده والتصديق به ومحبته كان معرضا لاعتقاد نقيضه والتصديق به لا سيما في الأمور الإلهية التي هي غاية مطالب البرية وهي أفضل العلوم وأعلاها وأشرفها وأسماها وهي الغاية التي شمر إليها المشمرون وتنافس فيها المتنافسون وجرى إليها المتسابقون فإلى نحوها تمتد الأعناق وإليها تتجه القلوب الصحيحة بالأشواق فالصادقون فيها أهل الإثبات أئمة الهدى كإبراهيم خليل الرحمن وأهل بيته والكاذبون فيها أهل النفي والتعطيل كفرعون وقومه وقال تعالى في أئمة الهدى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء73] .
وقال في أئمة الضلال {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ} [القصص41] .
فمن لم يكن فيها على طريق أئمة الهدى كان على طريق أئمة الضلال إذ كان ثغر قلبه مفسوحا لهم يلقون فيه أنواع الضلال ويصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون ومصداق هذا أن ما وقع في هذه الأمة من البدع والضلال كان من أسبابه التقصير في إظهار السنة والهدى فإن الجهل المركب الذي وقع فيه أهل التعطيل والنفي في توحيد الله وأسمائه وصفاته كان من أعظم أسبابه التقصير في إثبات ما جاء به الرسول عن الله وفي معرفة معاني أسمائه وآياته حتى إن كثيرا من المنتسبين إلى السنة يعتقدون أن طريقة السلف هي الإيمان بألفاظ النصوص والإعراض عن تدبر معانيها وتفقهها وتعقلها فلما أفهموا النفاة والمعطلة أن هذه طريقة السلف قال من قال منهم طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم لأنه اعتقد أن طريقة الخلف متضمنة لطلب معاني نصوص الإثبات ولنفي حقائقها وظواهرها الذي هو باطل عنده فكانت متضمنة للعلم والتنزيه وكان فيها علم بمعقول وتأويل لمنقول ومذهب السلف عنده عدم النظر في النصوص وفهم المراد منها دون النظر إلى التعارض والاحتمالات وهذا
عنده أسلم لأنه إذا كان اللفظ يحتمل عدة معاني فحمله على بعضها دون بعض مخاطرة وفي الإعراض عن ذلك سلامة من هذه المخاطرة فلو تبين لهذا البائس وأمثاله أن طريقة السلف إنما هي إثبات ما دلت عليه النصوص من الصفات وفهمها وتدبرها وتعقل معانيها وتنزيه الرب عن تشبيهه فيها بخلقه كما ينزهونه عن العيوب والنقائص وإبطال طريقة النفاة المعطلة وبيان مخالفتها لصريح المعقول كما هي مخالفة لصحيح المنقول علم أن طريقة السلف أعلم وأحكم وأسلم وأهدى إلى الطريق الأقوم وأنها تتضمن تصديق الرسول فيما أخبر وفهم ذلك ومعرفته ولا يناقض ذلك إلا ما هو باطل وكذب وخيال ومن جعل طريقة السلف عدم العلم بمعاني الكتاب والسنة وعدم إثبات ما تضمناه من الصفات فقد أخطأ خطأ فاحشا على السلف كما أن من قال على الرسول أنه لم يبعث بالإثبات وإنما بعث بالنفي كان من أعظم الناس افتراء عليه فهؤلاء المعطلة مفترون على الله ورسوله وعلى سلف الأمة وعلى العقول والفطر وما نصبه الله من الأدلة العقلية والبراهين اليقينية والكذب قرين الشرك كما قرن الله بينهما في غير موضع كقوله تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج31 ، 30] .
وقال {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَبذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف152] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عدلت شهادة الزور الإشراك بالله مرتين أو ثلاثا".
الوجه الخامس والمائة: أن هؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم ومعقولاتهم لا يمكنهم أن يقولوا كل واحد من الدليلين المتعارضين يقيني وأنهما قد تعارضا على وجه لا يمكن الجمع بينهما فإن هذا لا يقوله من يفهم ما يقول ولكن نهاية ما يقولون إن الأدلة الشرعية لا تفيد اليقين وأن ما ناقضها من الأدلة البدعية التي يسمونها هم العقليات تفيد اليقين فينفون إفادة اليقين عن كلام الله ورسوله ويثبتونه لما ناقضه من أدلتهم المبتدعة التي يدعون أنها براهين قطعية ولهذا كان لازم قولهم لا محالة الإلحاد والنفاق والإعراض عما جاء به الرسول وهذه حال الذين ذكرهم الله في قوله {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر5] . وقوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام112] .
فجنس هؤلاء هم المكذبون للرسل ولا يحتج عليهم بما هم مكذبون به ولا بما يزعمون أن العقل الصريح عارضه ولكن المقصود تعريف حال هؤلاء وأن طريقتهم مشتقة من طريقة المكذبين للرسل وأما طريق الرد عليهم فلأتباع الرسول وأنصاره فيه مسالك:
الأول: بيان فساد ما ادعوه معارضا للنصوص من عقلياتهم
الثاني: بيان أن ما جاء به الرسول من الإثبات معلوم بالضرورة من دينه كما هو معلوم بالأدلة اليقينية فلا يمكن مع تصديق الرسول مخالفة ذلك
الثالث: بيان أن المعقول الصريح يوافق ما جاء به الرسول لا يعارضه وبيان أن ذلك معلوم بضرورة العقل تارة وبنظره تارة وهذا أقطع لحجة المعارضين للوحي فإنهم يدلون بالعقل والعقل الصحيح من أقوى الأدلة على بطلان قولهم.
الوجه السادس والمائة: أن هذه المعقولات التي عارضوا بها الوحي لها معقولات تعارضها هي أقوى منها ومقدماتها أصح من مقدماتها فيجب تقديمها عليها لو قدر تعارضهما ولا يمكن هؤلاء أن يدفعوا كون النصوص من جانب هذه
المعقولات وحينئذ فمعقول تشهد له النصوص أولى بالصحة والقبول من معقول تدفعه النصوص فنحن ندفع معقولاتهم بهذه المعقولات تارة وبالنصوص تارة وبهما تارة ولا يمكنهم القدح في هذه المعقولات إلا بمقدمات يردها النص وهذا العقل فكيف ترد هذه المعقولات والنصوص بتلك وهذا قاطع لمن تدبره واعتبر ذلك بالمعقولات التي أقامها المعطلة على نفي علو الله على خلقه ومباينته للعالم والمعقولات التي أقامها أهل الإثبات على ضد قولهم يتبين لك ما بينهما من التفاوت وتسلم نصوص الوحي عن المعارض ونحن نعلم أن المعطلة تقدح في مقدمات هذه المعقولات الدالة على الإثبات ولكن القدح فيها من جنس القدح في الضروريات والبديهيات ولا ينفعهم كون طائفة من العقلاء منكرين لها والضروريات لا ينكرها أحد فإن هذا ينتقض عليهم فكل طائفة من طوائف بني آدم قالوا ما يخالف ضرورة العقل مع كونهم أكثر من هؤلاء النفاة وكل طائفة تشهد على الأخرى أنها خالفت ضرورة العقل فيشهد أصحاب العقل والسمع على النفاة أنهم كما خالفوا صحيح النقل خالفوا صريح العقل وسيشهدون على ذلك:
{إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات10 ، 9] . وقال المعارضون للوحي {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك10] .
الوجه السابع المائة: أن كل عاقل يعلم بالضرورة أن من خاطب الناس في علم من أنواع العلوم من الطب أو الحساب أو النحو أو الهيئة أو غير ذلك بكلام ذكر أنه بين لهم فيه حقيقة ذلك العلم وأوضح مشكلاته وبين غوامضه ولم يحوجهم بعده إلى كتاب سواه ولم يكن في ذلك الكتاب بيان ذلك العلم ولا معرفة ذلك المطلوب بل كانت دلالة الكتاب على نقيض ذلك العلم أكمل وعلى خلافه أدل أو كان العقل الصريح يدل على خلاف ما دل عليه ذلك الكتاب كان هذا المصنف مفرطا في الجهل والضلال أو في المكر والاحتيال أو في الكذب والمحال فكيف بكتاب لم ينزل من السماء كتاب أهدى منه خضعت له الرقاب وسجدت له عقول ذوي الألباب وشهدت العقول والفطر بأن مثله ليس من كلام البشر وأن فضله على كل كلام كفضل المتكلم به على الأنام وأنه نور البصائر من عماها وجلاء القلوب من صداها وشفاء الصدور من أدوائها وجواها فهو حياها الذي
به حباها ونورها الذي انقشعت به عنها ظلماؤها وغذاؤها الذي به قوام قوتها ودواؤها الذي به حفظ صحتها وهو البرهان الذي زاد على برهان الشمس ضياء ونورا فلو: {
…
اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء88] .
فيه نبأ ما كان قبلنا وخبر ما يكون بعدنا وحكم ما بيننا وهو الجد ليس باللعب والفصل ليس بالهزل وهو حبل الله المتين ونوره المبين والذكر الحكيم والصراط المستقيم والنبأ العظيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يعوج فيقوم ولا يزيغ فيتشعب ولا تخلق بهجته على كثرة الترداد بل لا يزداد على تتابع التلاوة إلا بهجة وطلاوة وحلاوة من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ومن أعرض عنه أو عارضه بعقله أو رأيه أو سياسته أو خياله فالضلال منتهاه والنار منقلبه ومثواه والخذلان قرينه
والشقاء صاحبه وخدينه من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن حاكم به أفلح ومن خاصم به استظهر بأقوى الحجج ومن استنصر به فهو مؤيد ومنصور ومن عدل عنه فهو مخذول ومثبور فبغاه هؤلاء النفاة المعطلة عوجا وجعلوا دون الاهتداء به بابا مرتجا وعزلوه عن إفادة العلم واليقين وقالوا قد عارض ما أثبتته العقول والبراهين وقالوا لم يدل على الحق في الأمور الإلهية ولا أفاد علما ولا يقينا في هذه المطالب العلية بل دلالته ظاهرة في نقيض الصواب مفهمة لنقيض ما يقوله أولو العقول والألباب فالواجب أن نحترمه بالإمساك والتفويض أو نسلط عليه التأويل إن أفهم الخلاف والضد والنقيض فإن عجزنا عن ذلك أتينا بالقانون المشهور بيننا والمقبول أنه إذا تعارض العقل والنقل قدمنا المعقول
على المنقول فهذا حقيقة قول هؤلاء النفاة المعطلين في كلام رب العالمين وكلام رسوله الأمين.
الوجه الثامن والمائة: أن هذا يتضمن الصد عن آيات الله وبغيها عوجا وقد ذم الله سبحانه من فعل ذلك وتوعده بأليم العقاب فقال {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [إبراهيم3-1] . وقال {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [هود19 ، 18] .
وهؤلاء المعارضون للوحي بعقولهم جمعوا بين الأمور الثلاثة الكذب على الله والصد عن سبيل الله وبغيها عوجا أما الكذب على الله فإنهم نفوا عنه ما أثبته لنفسه من صفات الكمال ووصفوه بما لم يصف به نفسه وأما صدهم عن سبيله وبغيها عوجا فإنهم أفهموا الناس بل
صرحوا لهم بأن كلام الله ورسوله ظواهر لفظية لا تفيد علما ولا يقينا وأن العقول عارضتها فيجب تقديم العقول عليها وأي عوج أعظم من عوج مخالفة العقل الصريح وقد وصف الله كتابه بأنه غير ذي عوج ولا ريب أن الله هو الصادق في ذلك وأنهم هم الكاذبون.
فإن قلت يبغونها متعدي إلى مفعول واحد فما وجه انتصاب عوجا قيل فيه وجوه
أحدها: أنه نصب على الحال أي يطلبونها ذات عوج لا يطلبونها مستقيمة والمعنى يطلبون لها العوج.
الثاني: أن عوجا مفعول يبغونها على تقدير حذف اللام أي يطلبون لها عوجا يرمونها به ويصفونها به وأحسن منهما أن تضمن يبغونها إما معنى يعوجونها فيكون عوجا منصوبا على المصدر ودل فعل البغي على طلب ذلك وابتغائه.
وأما معنى يسومونها ويؤولونها وعلى كل تقدير فسبيل الله هداه وكتابه الهادي للطريق الأقوم والسبيل الأقصد فمن زعم أن في العقل ما يعارضه فقد بغاه عوجا ودعا إلى الصد عنه ومن له خبرة بالمعقول الصحيح يعلم أن العوج في كلام هؤلاء المعوجين الذين هم عن الصراط ناكبون وعن سبيل الرشد حائدون وعن آيات الله بعيدون وبالباطل
والقضايا الكاذبة يصدقون وفي ضلالهم يعمهون وفي ريبهم يترددون وهم للعقل الصريح والسمع الصحيح مخالفون: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة15-11] .
الوجه التاسع والمائة: أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يسكتوا عن الكلام في هذا الباب بل تكلموا فيه بغاية الإثبات المناقض لما عليه الجهمية المعطلة وعند الجهمية أن الساكت عنه خير من المتكلم فيه بالإثبات المناقض لتعطيلهم والمتكلم فيه بالنفي والتعطيل الذي يسمونه تنزيها خير من الساكت عنه فجعلوا المتكلم فيه بالإثبات آخر المراتب وهو أحسنها ولا ريب أن هذا يستلزم غاية القدح في الرسل والتنقص لهم ونسبتهم إلى القبيح ووصفهم بخلاف ما وصفهم الله به ومضمون هذا أنهم لم يهدوا الخلق ولم يعلموهم الحق بل لبسوا عليهم ودلسوا وأضلوهم وعرضوهم للجهل المركب ولو تركوهم في جهلهم البسيط لكان خيرا
لهم بل تركوهم في حيرة مذبذبين لا يعرفون الحق من الباطل ولا الهدى من الضلال فعند هؤلاء الضالين كلام الأنبياء لا يشفي عليلا ولا يروي غليلا ولا يبين الحق من الباطل ولا الهدى من الضلال بل يكون كلام من تسفسط في العقليات وتقرمط في السمعيات وهو كخيط السحار والمشعوذ يخرجه تارة أحمر وتارة أبيض وتارة أسود أهدى سبيلا من نصوص الوحي فإن نصوص الوحي عند هؤلاء أضلت الخلق وأفسدت عقولهم وعرضتهم لاعتقاد الباطل ومن راعى حرمة النصوص منهم قال فائدة إنزالها اجتهاد أهل العلم في صرفها عن مقتضاها وحقائقها بالأدلة المعارضة لها حتى تنال النفوس كل الاجتهاد وتنهض إلى التفكر والاستدلال بالأدلة العقلية المعارضة لها الموصلة إلى الحق فحقيقة الأمر عند المعطلة أن الرسل خاطبوا الخلق بما لا يبين الحق ولا ينال منه الهدى بل ظاهره يدل على الباطل ويفهم منه الضلال ليكون انتفاع الخلق بخطاب الرسول اجتهادهم في رد
ما أظهرته الرسل وأفهمته الخلق ليصلوا برده إلى معرفة الحق الذي استنبطوه بعقولهم ولم يحتاجوا فيه إلى الرسل بل احتاجوا فيه إلى رد ما جاءوا به بالقانون العقلي أو رد معناه بالتأويل اللفظي وحينئذ فنقول في
الوجه العاشر بعد المائة: إن مثل ما جاءت به الرسل عند النفاة والمعطلة مثل من ارسل مع الحاج أدلاء يدلونهم في طريق مكة وأوصى الأدلاء بأن يخاطبوهم بخطاب يدلهم على غير الطريق ليكون ذلك الخطاب سببا لنظرهم واستدلالهم حتى يعرفوا الطريق بنظرهم واستدلالهم لا بأولئك الأدلة وحينئذ يردون ما فهموا من كلام الأدلة وخطابهم ويجتهدون في نفي دلالته وإبطال مفهومه ومقتضاه ومن المعلوم أن خلقا كثيرا لا يتبعون إلا الأدلاء الذين يدعون أنهم أخبر بالطريق منهم وأن ولاة الأمور قلدوهم دلالة الحاج وتعريفهم الطريق وإن درك ذلك عليهم والطائفة التي ظنت أن الأدلاء لم يريدوا بكلامهم الدلالة والإرشاد إلى
سبيل الرشاد صار كل منهم يستدل بنظره واجتهاده فاختلفوا في الطرق وتشتتوا فمنهم من سلك طرقا أخرى غير طرق مكة فأفضت بهم إلى مفاوز معطشه وأودية مهلكة وأرض مسبعبه فأهلكتهم وطائفة أخرى شكوا وحاروا فلا مع الأدلاء سلكوا فأدركوا المقصود ولا لطرق المخالفين للأدلاء اتبعوا بل وقفوا مواقف التائهين الحائرين حتى هلكوا في أمكنتهم أيضا جوعا وعطشا كما هلك أرباب تلك الطرق فلم ينجوا من المكروه ولم يظفروا بالمطلوب وآخرون اختصموا فيما بينهم فصاروا حزبين حزبا يقولون الصواب مع الأدلاء فإنهم أهل هذا الشأن الذي نصبوا له دون غيرهم وحزبا يقولون بل الصواب مع هؤلاء الذين يقولون إنهم أخبر وأصدق وكلامهم في الأدلة أبين وأصدق فاقتتل الفريقان وطال بينهم الخصام والجدال وانتشر القيل والقال وشهد آخرون الوقعة فوقفوا بين هؤلاء وهؤلاء وخذلوا الفريقين ولم يتحيزوا إلى واحدة من الطائفتين فهلك الحجيج وكثر الضجيج وعظم البكاء والنشيج واضطربت الآراء وعصفت الأهواء وصار حالهم كحال قوم سفر نزلوا في ليلة ظلماء فهجم عليهم عدو وهم نيام فقاموا في ظلمة
الليل على وجوههم هاربين لا يهتدون سبيلا ولا يتبعون دليلا وهذا كله إنما نشأ من قول السلطان للأدلاء خاطبوا الناس بما يدلهم على غير الطريق ليجتهدوا بعقولهم ونظرهم في معرفة الطريق فهل يكون من فعل هذا بالحجيج قد هداهم السبيل أو أرشدهم إلى اتباع الدليل أو أراد بهم ما يريده الراعي المشفق على رعيته الناصح لهم وهل هذا مطابق لقول الدليل {يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم} [الأعراف93] وقوله {رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف62] وقوله {رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف68] فأين النصح والأمانة على قول المعطلين النفاة فإذا قال هذا الدليل إنما قصدت بذلك أن يجتهد الحاج في معرفة الطريق بعقولهم وبحثهم ونظرهم ولا يستدلوا بكلامي فهل يكون هذا دليلا أم قاطع طريق فهذا مثال ما يقوله هؤلاء
المعطلة النفاة في رسل الله الذين أرسلهم الله سبحانه إلى الخلق ليعلموهم ويهدوهم ويدعوهم إلى الله وإلى السبيل الموصلة إليه فجعل هؤلاء المعطلة الجهاد في إفساد سبيل الله جهادا في سبيله والاجتهاد في رد ما جاءت به رسله اجتهادا في الإيمان به والسعي في إطفاء نور الله سعيا في إظهار نوره والحرص على أن لا يصدق كلامه ولا تقبل شهادته ولا تتبع دلالته حرصا على أن تكون كلمة الحق هي العليا والمبالغة في طريق أهل الإشراك والتعطيل مبالغة في طريق التوحيد الموصلة إلى سواء السبيل فقلبوا الحقائق وأفسدوا الطرائق وأضلوا الخلائق وعطلوا الخالق وإنما يعرف حقيقة هذا المثل ومطابقته للواقع من ضرب في الكتاب والسنة بسهم وحصل منها على نصيب وافر واطلع على حقيقة أقوال المعطلين النفاة في دلائلهم ومسائلهم ونظر إلى غايتها من خلال كلماتهم ومن البلية العظمى أن كثيرا ممن لهم علم وفقه وعبادة وزهد ولسان صدق في العامة وقد ضرب في العلم والدين بسهم قد التبس عليه كثير من كلامهم فقبله معتقدا أنه حق وأن أصحابه محققون فسمع كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل العلم والإيمان وكلام هؤلاء وغيرهم من أهل الإلحاد فيؤمن بهذا وهذا إيمانا مجملا ويصدق الطائفتين ولا يدخل في تحقيق طريق هؤلاء ولا هؤلاء فإذا سمع القرآن والحديث قال هذا كلام الله
وكلام رسوله وإذا سمع كلام الملاحدة والمعطلة الذين حسن ظنه بهم قال هذا كلام العارفين المحققين والنظار أصحاب العقول والبراهين وإذا سمع كلام الاتحادية الملاحدة الذين هم أكفر طوائف بني آدم قال هذا كلام أولياء الله أو كلام خاتم الأولياء ومرتبتنا تقصر عن فهمه فضلا عن الاعتراض عليه وبالجملة فلرسول الله أتباع خاصة وعامة ولمسيلمة الكذاب أتباع خاصة وعامة والله تعالى جعل للهدى أئمة وأتباعا إلى آخر الدهر وللضلال أئمة وأتباعا إلى آخر الدهر.
الوجه الحادي عشر بعد المائة: إن لوازم هذا القول معلومة البطلان بالضرورة من دين الإسلام وهي من أعظم الكفر والإلحاد وبطلان اللازم يستلزم بطلان ملزومه فإن من لوازمه أن لا يستفاد من خبر الرسول عن الله في هذا الباب علم ولا هدى ولا بيان للحق في نفسه.
ومن لوازمه أن يكون كلامه مضمونا لضد ذلك ظاهره وحقيقته.
ومن لوازمه القدح في علمه ومعرفته أو في فصاحته وبيانه أو في نصحه وإرادته كما تقدم تقريره مرارا.
ومن لوازمه أن يكون المعطلة النفاة أعلم بالله منه أو أفصح أو انصح. ومن لوازمه أن يكون أشرف الكتب وأشرف الرسل قد
قصر في هذا الباب غاية التقصير بل أفرط في التجسيم والتشبيه غاية الإفراط وتنوع فيه غاية التنوع فمرة يقول أين ومرة يقر عليها لمن سأله ولا ينكرها ومرة يشير بإصبعه ومرة يضع يده على عينه وأذنه حين يخبر عن سمع الرب وبصره ومرة يصفه بالنزول والمجيء والإتيان والانطلاق والمشي والهرولة ومرة يثبت له الوجه والعين واليد والإصبع والقدم والرجل والضحك والفرح والرضى والغضب والكلام والتكليم والنداء بالصوت والمناجاة ورؤية أهل الجنة له مواجهة عيانا بالأبصار من فوقهم ومحاضرته لهم محاضرة ورفع الحجب بينه وبينهم وتجليه لهم واستدعائهم لزيارته وسلامه عليهم سلاما حقيقيا قولا من رب رحيم واستماعه وأذنه لحسن الصوت إذا تلا كلامه وخلقه ما شاء بيده وكتابة كلامه بيده ويصفه بالإرادة والمشيئة والقوة والقدرة
والحياة والحياء وقبض السماوات وطيها بيده والأرض بيده الأخرى ووضعه السماوات على إصبع والأرض على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع وأضعاف ذلك مما إذا سمعه المعطلة سبحوا الله ونزهوه جحودا وإنكارا لا إيمانا وتصديقا فما ضحك منه رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا وتصديقا لقائله يعبس منه هؤلاء إنكارا وتكذيبا وما شهد لقائله ببالإيمان شهد هؤلاء له بالكفر والضلال وما أوحى بتبليغه إلى الأمة وإظهاره يوصي هؤلاء بكتمانه وإخفائه وما أطلقه على ربه لئلا يطلق عليه ضده ونقيضه يطلق هؤلاء عليه ضده ونقيضه لئلا يطلق هو عليه وما نزه ربه عنه من العيوب النقائض يمسكون عن تنزيهه عنه وإن اعتقدوا أنه منزه عنه ويبالغون في تنزيهه عن ما وصف به نفسه فتراهم يبالغون أعظم المبالغة في تنزيهه عن علوه على خلقه واستوائه على عرشه وتكلمه بالقرآن حقيقة وإثبات الوجه واليد والعين له مالا يبالغون مثله ولا قريبا منه في تنزيهه عن الظلم والعيب والفعل لا لحكمة والتكلم بما ظاهره ضلال ومحال وتراهم إذا أثبتوا أثبتوا مجملا لا تعرفه القلوب ولا تميز بينه وبين العدم وإذا نفوا نفوا مفصلا نفيا يتضمن تعطيل ما أثبته الرسول حقيقة فهذا وأضعافه وأضعاف أضعافه من لوازم قول المعطلة ومن لوازمه أن القلوب لا تحبه ولا تريده ولا تبتهج به
ولا تشتاق إليه ولا تلتذ بالنظر إلى وجهه الكريم في دار النعيم كما صرحوا بذلك وقالوا هذا كله إنما يصح تعلقه بالمحدث لا بالقديم قالوا وإرادته ومحبته محال لأن الإرادة إنما تتعلق بالمعدوم لا بالموجود والمحبة إنما تكون لمناسبة بين المحب والمحبوب ولا مناسبة بين القديم والمحدث. ومن لوازمه أعظم العقوق لأبيهم آدم فإن من خصائصه أن الله خلقه بيده فقالوا إنما خلقه بقدرته فلم يجعلوا له مزية على إبليس في خلقه.
ومن لوازمه بل صرحوا به جحدهم حقيقة خلة إبراهيم وقالوا هي حاجته وفاقته وفقره إلى الله فلم يثبتوا له بذلك مزية على أحد من الخلق إذ كل أحد فقير إليه في كل نفس وطرفة عين.
ومن لوازمه بل صرحوا به أن الله لم يكلم موسى تكليما وإنما خلق كلاما في الهواء أسمعه إياه فكلمه في الريح لا أنه أسمعه كلامه الذي هو صفة من صفاته قائم بذاته لا يصدق الجهمي بهذا أبدا.
ومن لوازمه بل صرحوا به أن الرسول لم يعرج به إلى الله حقيقة ولم يدن من ربه حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى ولم يرفع من عند موسى إلى عند ربه مرارا يسأل التخفيف لأمته فإن من وإلى عندهم في حق الله محال فإنها تستلزم المكان ابتداء وانتهاء.
ومن لوازمه أن الله سبحانه لم يفعل شيئا ولا يفعل شيئا
البتة فإن الفعل عندهم عين المفعول وهو غير قائم بالرب تعالى فلم يقم به عندهم فعل أصلا وسموه فاعلا من غير فعل يقوم به كما سموه مريدا من غير إرادة تقوم به وسموه متكلما من غير كلام يقوم به وسماه زعيمهم المستأخر عند الله وعند عباده عالما من غير علم يقوم به حيث قال العلم هو المعلوم كما قالوا الفعل هو المفعول.
ومن لوازمه أنه لا يسمع ولا يبصر ولا يرضى ولا يغضب ولا يحب ولا يبغض فإن ذلك من مقولة أن ينفعل وهذه المقولة لا تتعلق به وهي في حقه محال كما نفوا علوه على خلقه واستواءه على عرشه لكون ذلك من مقولة الأين وهي عليه محال ونفوا كلامه وحياته وقدرته ومشيئته وإرادته وسائر صفاته لأنها من مقولة العرض وهي ممتنعة عليه كما نفوا استوائه على عرشه لأنه من مقولة الوضع المستحيل ثبوتها له ولوازم قولهم أضعاف أضعاف ما ذكرناه وإنما أشرنا إلى بعضها إشارة يتفطن بها اللبيب لما وراءها وبالله التوفيق.
الوجه الثاني عشر بعد المائة: أن الرسول إذا لم يبين للناس أصول إيمانهم ولا عرفهم علما يهتدون به في أعظم أمور الدين وأصل مقاصد الدعوة النبوية وأجل ما خلق الخلق له وأفضل ما أدركوه
وحصلوه وظفروا به وهو معرفة الله ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله وما يجب له ويمتنع عليه بل إنما يبين لهم الأمور العملية كانت رسالته مقصورة على أدنى المقصودين فإن الرسالة لها مقصودان عظيمان
أحدهما: تعريف العباد ربهم ومعبودهم بما هو عليه من الأسماء والصفات.
والثاني: محبته وطاعته والتقرب إليه فإذا لم يكن الرسول قد بين للأمة أجل المقصودين وأفضلهما كانت رسالته قاصرة جدا فكيف إذا أخبرهم فيه بما تحيله عقولهم وأذهانهم وإذا كان النفاة المعطلة قد بينوا ذلك بيانا مفصلا يجب على كل أحد اعتقاده فحينئذ ما أتوا به أفضل مما جاء به الرسول في القسمين فإن النفي عندهم هو الحق والإثبات باطل فما جاؤوا به من ذلك خير عندهم مما جاء به الرسول من هذا الوجه ومن جهة أن العلم أشرف من العمل ومن المعلوم أن النفاة المعطلة ليس فيهم أحد من أئمة الإسلام ومن لهم في الأمة لسان صدق وإنما أئمتهم الكبار القرامطة والباطنية والإسماعيلية والنصيرية وأمثالهم من ملاحدة الفلاسفة كابن سينا والفارابي وأمثالهما وملاحدة المتصوفة القائلين بوحدة الوجود
كابن سبعين وصاحب الفصوص وصاحب نظم السلوك وأمثالهم ثم من أئمتهم من هو أمثل من هؤلاء كأئمة الجهمية كالجهم ابن صفوان والجعد بن درهم وأبي الهذيل العلاف وإبراهيم النظام وبشر المريسي وثمامة بن أشرس وأمثال هؤلاء ممن هم من أجهل الخلق بما بعث الله به رسوله فيا للعقول ويا للعجب أيكون ما أتى به هؤلاء من التعطيل والنفي أكمل مما أتى به موسى بن عمران ومحمد بن عبد الله خاتم الرسل وإخوانهما من المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم فإن الرسل عند النفاة لم يبينوا أفضل العلم والمعرفة وإنما هم الذين بينوا ذلك ودلائله تأصيلا وتفصيلا وقد صرح ملاحدة هؤلاء بأن الرسل راموا إفادة
ما بينوا هؤلاء الملاحدة كما قال ابن سبعين في خطبة كتابه أما بعد فإني قد عزمت على إفشاء السر الذي رمز إليه هرامسة الدهور الأولية ورامت إفادته الهداية النبوية ويقول صاحب الفصوص أن الرسل يستفيدون معرفة ذلك من مشكاة خاتم الأولياء وأن هذا الخاتم يأخذ العلم من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول فهو أعلى إسنادا من الرسول وأقرب تلقيا على قوله وطائفة من الفلاسفة تقول إن الفيلسوف أفضل من النبي وأكمل منه بناء على هذا الأصل الملعون ومن لم يصل إلى هذا الذي هو غاية تحقيقهم من أهل التعطيل والتجهيم ومبتدعة المتصوفين فقد شاركهم في الأصل وقاسمهم في الربح والثمرة والله الموفق.
الوجه الثالث عشر بعد المائة: إن أقوال هؤلاء النفاة المعطلة متناقضة مختلفة وذلك يدل على بطلانها وأنها ليست من عند الله وما جاء به الرسول متسق متفق يصدق بعضه بعضا ويوافق بعضه بعضا وهذا يدل على أنه حق في نفسه قال تعالى {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء 82] .
وأنت إذا تأملت مقالات القوم ومعقولاتهم وجدتها أعظم شيء تناقضا ولا تجد أحدا من فضلائهم ورؤسائهم أصلا إلا وهو يقول الشيء ويقول ما يخالفه ويناقضه تارة في المسألة الواحدة وتارة يقول القول ثم ينقضه في مسألة أخرى من ذلك الكتاب بعينه.
وأما قوله الشيء وقول نقيضه في الكتاب الآخر فمن له فهم واطلاع على كتب القوم يعلم ذلك وأما الجاهل المقلد فلا تعبأ به ولا يسوءك سبه وتكفيره وتضليله فإنه كنباح الكلب فلا تجعل للكلب عندك قدرا أن ترد عليه كلما نبح عليك ودعه يفرح بنابحه وأفرح أنت بما فضلت به عليه من العلم والإيمان والهدى واجعل الإعراض عنه من بعض شكر نعمة الله التي ساقها إليك وأنعم بها عليك.
ولولا خشية الإطالة لذكرنا في هذا الموضع من تناقضهم في مسائلهم ودلائلهم في كل مسألة ما يتعجب منه العاقل
ويتنبه به الغافل وأما مناقضة بعضهم بعضا ومعارضة بعضهم بعضا في الأدلة والأحكام فأمر لا خفاء به فالواحد منهم متناقض مع نفسه وأصحابه متناقضون فيما بينهم وهم وخصومهم في هذا الباب أشد تناقضا ومناقضتهم لنصوص الوحي معلومة وهم متناقضون لما تعلم صحته بصريح العقل فهم في {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور40] ولكن لا يرى هذه الظلمات إلا من هو في نور السمع والعقل {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور40]
الوجه الرابع عشر بعد المائة: أن هؤلاء المعارضين بين الوحي والعقل يستلزم قولهم ثلاث مقدمات تناقض دعواهم غاية المناقضة
المقدمة الأولى: ثبوت الرسالة في نفس الأمر على قاعدة أهل الملل وأن الرسول جاء من عند الله برسالة ليس
مقدورا لبشر نيلها باكتساب ولا رياضة ولا صناعة من الصنائع.
الثانية: أنه جاء بهذا الكلام الذي ادعوا أن العقل عارضه.
الثالثة: أنه أراد به حقيقته وظاهره فلا تتم دعوى المعارضة إلا بهذه الأمور وحينئذ فإما أن يقر المعارض بها أو ينكرها فإن أقر بها ثم ادعى المعارضة كان قوله في غاية وحالة القدح في المرسل والرسول وإن أنكرها كان الكلام معه في أصل ثبوت الرسالة واحتج عليه بما يحتج على منكري النبوات وإن أقر بالنبوة على طريقة ملاحدة الفلاسفة ومن سلك سبيلهم أنها مكتسبة وأن خاصة النبي قوة ينال بها العلم وقوة يتصرف فيها في المعقولات فيشكلها في نفسه خيالات ترى وتسمع وهي المسماة بالملائكة كما يقوله شيوخ هؤلاء كابن سينا وأتباعه ولم يمكنه أن يجزم بأن النبي عالم بما يقول معصوم عن الخطأ فيه فكيف وهو يقول إن النبي قد يقول ما يعلم خلافه فهو لا يستفيد بخبر النبي حقا البتة فكيف يتكلم في المعارضة التي هي فرع الاعتراف بصحة الدليل ولكن قد
عارضه غيره فيكون مقام هذا مقام منع لا مقام معارضة فإما أن يمنع كون النبي عالما بما يقول أو كونه جازما معصوما فيه أو كونه جاء بذلك أو كونه أراد به خلاف ما دل العقل بزعمه عليه وإلا فمع إقراره بذلك تستحيل المعارضة أن ترجع حقيقتها إلى أن ما جاء به حق وأنه باطل وهذا جمع بين النقيضين فثبت أن هذه الطريقة طريقة ممانعة لا طريقة معارضة وأن دعوى المعارض تستلزم الجمع بين النقيضين فمن لم يعلم أن الرسول معصوم صادق فيما يخبر به كيف تمكنه المعارضة ومن لم يعلم أنه جاء بكذا لم تمكنه المعارضة ومن لم يعلم أنه أراده بكلامه لم تمكنه المعارضة ومن علم هذه الأمور الثلاثة وأقر بها لم يمكنه المعارضة فبطلت دعوى المعارضة على التقريرين وبالله التوفيق يوضحه
الوجه الخامس عشر بعد المائة: إن من عرف بطلان هذه المعقولات التي يعارض هؤلاء بها السمع امتنع عنده أن يحصل بها المعارضة لامتناع ثبوت المعارضة بين الحق والباطل ومن اعتقد صحتها فاعتقاد صحتها عنده ملزوم لبطلان السمع فيلزم من صحتها بطلانه وتمتنع المعارضة أيضا فالمعارضة ممتنعة على تقدير صحتها وفسادها.
الوجه السادس عشر بعد المائة: إن تجويز التعارض بين السمع والعقل والإيمان بالله ورسوله لا يمكن اجتماعها البتة فإن صحت المعارضة امتنع الإيمان وإن صح الإيمان امتنعت المعارضة فإن الإيمان مبناه على أن الرسول صادق فيما يخبر به عن الله معصوم في خبره وعلى أنه جاء بهذا الكتاب وعلى أنه أراد من الأمة أن يثبتوا حقائقه ويفهموه ويتدبروه ولا ينفوا حقائق ما أخبر به ويقروا بلفظه فلا يمكن وجود الأيمان بالرسول إلا بهذه الأصول الثلاثة فإذا جوزنا معارضة العقل الصريح لما جاء له لزم القدح والطعن فيها أو في بعضها والطعن في الأمرين الأولين مناقض للإيمان بالذات والطعن في الثالث يستلزم الطعن فيهما إذ غايته الاعتراف بأنه جاء بهذه الألفاظ ولم يجيء بحقائقها ومعانيها وهذا جحد لما أرسل به حقيقة فثبت أن الإيمان وهذه المعارضة لا يجتمعان أبدا يوضحه
الوجه السابع عشر بعد المائة: وهو أن يقال لهؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم إما أن تردوا هذه النصوص وتكذبوها وإما أن تصدقوها وتقبلوها والأول إلحاد وكفر ظاهر وإن قبلتموها فإما أن تعتقدوا أن الرسول أراد حقائقها ومعانيها المفهومة منها أولا فإن اعتقدتم أنه اراد حقائقها فإما أن تعتقدوا ثبوت تلك
الحقائق في نفس الأمر وانتفائها أو تشكون في الأمر ولا ريب أنه مع اعتقاد ثبوت تلك الحقائق تمتنع المعارضة وأنه مع الشك تمتنع المعارضة فلا تمكن المعارضة إلا على تقدير العلم بانتفاء تلك الحقائق في نفس الأمر وحينئذ فإذا أراد إفهامها فقد أراد إفهام خلاف الحق فإما أن توافقوه في مراده وتمنعوا تأويلها بما يخالف حقائقها لأنه مناقضة لمراده وإما أن توجبوا تأويلها بما يخرجها عن حقائقها ومعانيها المفهومة منها والأول يستلزم الإقرار على الباطل وإفهام أقبح الكذب وهو الكذب على الله واسمائه وصفاته وهذا يرجع على أصل الرسالة ومقصودها بالإبطال فلم يبق إلا التأويل ولا يمكنكم سلوك طريقه لأنكم تناقضون فيه أقبح التناقض.
فإنكم إما تتأولوا الجميع وليس في المنتسبين إلى القبلة من يجوز ذلك ولا يمكنه وإما تتأولوا البعض دون البعض فيقال لكم ما الفرق بين ما جوزتم تأويله فصرفتموه عن حقيقته ومعناه الظاهر منه وبين ما أقررتموه على حقيقته? فإن قلتم ما يقوله جمهوركم أن ما عارضه عقلي قاطع تأولناه وما لم يعارضه عقلي قاطع أقررناه.
قيل لكم فحينئذ لا يمكنكم نفي التأويل عن شيء فإنكم لا يمكنكم نفي جميع المعارضات العقلية
كما تقدم إذ غاية ما معكم نفي العلم بها وعدم العلم لا يستلزم عدم المعلوم وأيضا فمعقولات الناس ليست على حد واحد فهب أن معقولاتكم ليست تعارض ما أقررتموه فقد ادعى غيركم أن مقدماتكم التي عارضتم بها ما تأولتموه ومثلها وأيضا فعدم العلم بالمعارض العقلي القطعي لا يوجب الجزم بمدلول الدليل السمعي فإنكم إذا جوزتم على الرسول أن يقول قولا له معنى وهو لا يريده لأن في العقليات الدقيقة التي لا تخطر ببال أكثر الناس أو لا تخطر ببال الخلق في قرون كثيرة ما يخالف ذلك جاز أن يريد بما أقررتموه ما يخالف مقتضاه وعدم العلم بما يعارضه من العقليات لا يستلزم عدم المعارض في نفس الأمر وهذا مما لا جواب لكم عنه.
فإن قلتم نتأول ما لا يعلم بالاضطرار أنه جاء به وأراده وما علم بالاضطرار أنه جاء به وأراد معناه أقررناه.
قيل لكم فخصومكم من أهل الباطل يقولون لكم فيما أقررتموه نحن لم نعلم أنه جاء بهذا ولا أراد معناه كما قلتم أنتم فيما تأولتموه سواء فدعواكم من جنس دعواهم لا فرق بينهما فما الذي جعل قولكم أولى بالصواب من قولهم واتباع الرسول وحزبه العالمون بما جاء به الذين هم خاصته يعلمون بالاضطرار من دينه أنه جاء بما يخالف تأويلاتكم وتأويلات إخوانكم وتعلمون بالضرورة أنها مناقضة لما جاء به مناقضة ظاهرة ولا يدعون عليكم أنكم
تعلمون ذلك فإنكم لا علم لكم بما جاء به وأنتم من أبعد الناس عنه فإذا قلتم لا نعلم أنه جاء به صدقوكم في ذلك ولكن جهلكم بما جاء به وإعراضكم عنه لا يوجب مشاركتهم لكم في هذا الجهل فالمثبتون لعلو الله على خلقه واستوائه على عرشه وتكلمه بالقرآن حقيقة وتكليمه لعبده موسى حقيقة منه إليه بلا واسطة كلاما أسمعه إياه وتكليم عباده في الآخرة وتكليمه ملائكته وإثبات صفاته ورؤية المؤمنين له في الجنة من فوقهم عيانا جهرة بأبصارهم يعلمون أن نبيهم جاء بذلك ضرورة كما أنه جاء بالوضوء والغسل من الجنابة والصلاة وصوم رمضان والحج والزكاة وتحريم الظلم والفواحش فكيف تنكرون ذلك لعدم علمكم ولما علم أئمة هؤلاء وفضلاؤهم أن هذا لازم لا محالة صرحوا بأنه لا يستفاد من السمعيات علم ولا يقين إذ هي موقوفة على أمور عشرة ومنها نفي المعارض العقلي ولا سبيل إلى العلم بانتفائه وهذا أتم ما يكون من عزل الرسول عن موجب رسالته وبالله التوفيق.
الوجه الثامن عشر بعد المائة: أن هؤلاء المعرضين عن الأدلة السمعية المعارضين لها إذا فعلوا ذلك لم يبق لهم إلا طريقان إما طريق النظار وهي الأدلة القياسية العقلية وإما طريق الكشف وما بدرك بالرياضة وصفاء الباطن وكل من هاتين
الطريقتين باطلة أضعاف حقه وفيها من التناقض والاضطراب والفساد مالا يحصيه إلا رب العباد ولهذا تجد غاية من سلك الطريق الأولى الحيرة والشك وغاية من سلك الطريق الثانية الشطح فغاية أولئك عدم التصديق بالحق وغاية هؤلاء التصديق بالباطل وحال أولئك تشبه حال المغضوب عليهم وحال هؤلاء تشبه حال الضالين ونهاية أولئك التعطيل والنفي ونهاية هؤلاء الإلحاد والقول بالوحدة والاتحاد ولهذا لما وصل حذاقهم في طريقة النظر إلى آخرها ورأوا غوائلها وآفاتها ورأوها لا توصل إلى المطلوب الصحيح رجعوا إلى طريقة الوحي والآثار النبوية كما صرح به الرازي وابن أبي الحديد وأبو حامد وأبو المعالي وغيرهم واعترفوا في آخر الأمر أن الطرق كلها مسدودة إلا طريق الوحي والأثر.
الوجه التاسع عشر بعد المائة: أن يقال لمن جوز مجيء الرسول بما يخالف صريح العقل ما تقول إذا سمعت كلامه قبل أن تعلم هل في العقل ما يخالفه أم لا? هل تبادر إلى رده وإنكاره? أم إلى قبوله واعتقاده? أم تتوقف فيه ولا تصدقه ولا تكذبه ولا تقبله ولا ترده? أم تعلق تصديقه والإقرار به على الشرط وتقول أنا أعتقد موجبه إن لم يكن في العقل ما يرده? فلا بد لك من واحد من هذه الأمور الأربعة فالأول والثالث والرابع مناقض للإيمان بالرسول مناقضة صريحة والثاني
لا سبيل لك إليه لأنك قد جوزت أن يكون في صريح العقل ما يناقض ما أخبر به فكيف تجزم مع ذلك بصحته فالقسم الإيماني قد سددت طريقه على نفسك والأقسام الثلاثة مستلزمة لعدم الإيمان وهذا إنما نشأ من تجويز أن يكون في العقل الصريح ما يناقض ما أخبر به يوضحه
الوجه العشرون بعد المائة: أن كل من لم يقر بما جاء به الرسول إلا بعد أن يقوم على صحته عنده دليل منفصل من عقل أو كشف أو منام أو إلهام لم يكن مؤمنا به قطعا وكان من جنس الذين قال الله فيهم {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام124] بل قد يكون هؤلاء خيرا منهم من وجه فإنهم علقوا الإيمان بأن يؤتوا سمعا مثل ما أوتيه الرسل وهؤلاء علقوا الإيمان على قيام دليل عقلي على صحة ما أخبروا به وإذا كان من فعل هذا ليس بمؤمن بالرسل فكيف من عارض ما جاءوا به بمعقوله ثم قدمه عليه
الوجه الحادي والعشرون بعد المائة: إن حال هؤلاء المعارضين بين الوحي والعقل ضد حال أهل الإيمان من كل وجه فإن الله سبحانه أخبر عن أهل
الإيمان بأنهم كلما سمعوا نصوص الوحي زادتهم إيمانا وفرحا واستبشارا وأن الذين في قلوبهم مرض وريب يزيدهم رجسا إلى رجسهم ويودون أنها لم تنزل قال الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة125 ، 124] . وإذا أردت أن تعرف حقيقة الحال فانظر إلى وجوه القوم وشمائلهم عند استماع آيات الصفات وأخبارها كيف تجدهم ورثة الذين قال الله فيهم: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة127] .
وقال تعالى {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [الرعد36] .
وهؤلاء يسوءهم ما يخالف قواعدهم الباطلة مما أنزل إليه.
وقال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات15] .
وهؤلاء في أعظم الريب في أشرف ما جاء به الرسول ومن جوز أن يكون فيما أخبر به ما يعارضه صريح المعقول لم يزل في ريب من ثبوت ما أخبر به ولا يزال بنيانهم لتلك القواعد التي بنوها مما يعارض ما جاء به الرسول {رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَاّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد19] .
وهؤلاء يرون أن أشرف ما أنزل إليه يخالفه صريح العقل وقال تعالى {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ6] .
وهؤلاء يرون أن أشرف ما أنزل إليه وأجله يخالف المعقول ويهدي إلى التشبيه والتجسيم والضلال.
الوجه الثاني والعشرون بعد المائة: إن هؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم جعلوا كلام الله ورسوله من الطرق الضعيفة المزيفة التي لا يتمسك فيها في العلم واليقين ولعلك تقول إنا حكينا ذلك عنهم بلازم قولهم فاسمع حكاية ألفاظهم قال الرازي في نهايته:
فصل
في تزييف الطرق الضعيفة وهي أربع فذكر نفي الشيء لانتفاء دليله وذكر القياس وذكر الإلزامات ثم قال والرابع هو التمسك بالسمعيات.
وهذا تصريح بأن التمسك بكلام الله ورسوله من الطرق الضعيفة المزيفة وأخذ في تقرير ذلك فقال المطالب على أقسام ثلاثة: منها ما يستحيل حصول العلم بها بواسطة السمع ومنها ما يستحيل حصول العلم بها إلا من السمع
ومنها ما يصح حصول العلم بها من السمع تارة ومن العقل أخرى
قال أما القسم الأول فكل ما يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بصحته استحال تصحيحه بالسمع مثل العلم بوجود الصانع وكونه مختارا وعالما بكل المعلومات وصدق الرسول.
قال وإما القسم الثاني فهو ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر إذا لم يجده الإنسان من نفسه ولم يدركه بشيء من حواسه فإن جلوس غراب على قلة جبل قاف إذا كان جائز الوجود والعدم مطلقا وليس هناك ما يقتضي وجوب أحد طرفيه أصلا وهو غائب عن الحس والنفس استحال العلم بوجوده إلا من قول الصادق.
وأما القسم الثالث وهو معرفة وجوب الواجبات أو إمكان الممكنات أو اسحتالة المستحيلات التي لا يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بوجوبها وإمكانها واستحالتها مثل مسألة الرؤية والصفات والوحدانية وغيرها ثم عدد أمثلة.
ثم قال إذا عرفت ذلك فنقول إما أن الأدلة السمعية لا يجوز استعمالها في الأصول في القسم الأول فهو ظاهر وإلا وقع الدور وإما أنه يجب استعمالها في القسم الثاني فهو ظاهر كما سلف.
وأما القسم الثالث ففي جواز استعمال الأدلة السمعية فيه إشكال وذلك لأنا لو قدرنا قيام الدليل القاطع العقلي على خلاف ما أشعر به ظاهر الدليل السمعي فلا خلاف بين أهل التحقيق بأنه يجب تأويل الدليل السمعي لأنه إذا لم يمكن الجمع بين ظاهر النقل وبين مقتضى الدليل العقلي فإما أن نكذب بالعقل وإما أن
يأول النقل فإن كذبنا العقل مع أن النقل لا يمكن إثباته إلا بالعقل فإن الطريق إلى إثبات الصانع ومعرفة النبوة ليس إلا بالعقل فحينئذ تكون صحة النقل متفرعة على ما يجوز فساده وبطلانه فإذا لا يكون العقل مقطوع الصحة فإذا تصحيح النقل برد العقل يتضمن القدح في النقل وما أدى ثبوته إلى انتفائه كان باطلا وتعين تأويل النقل.
فإذا الدليل السمعي لا يفيد اليقين بوجود مدلوله إلا بشرط أن لا يوجد دليل عقلي على خلاف ظاهره فحينئذ لا يكون الدليل النقلي مفيدا للمطلوب إلا إذا أثبتنا أنه ليس في العقل ما يقتضي خلاف ظاهره ولا طريق لنا إلى إثبات ذلك إلا من وجهين إما أن نقيم دلالة عقلية على صحة ما أشعر به ظاهر الدليل النقلي وحينئذ يصير الاستدلال بالنقل فضلا غير محتاج إليه.
وإما بأن نزيف أدلة المنكرين لما دل عليه ظاهر النقل
وذلك ضعيف لما بينا من أنه لا يلزم من فساد ما ذكروه أن لا يكون هناك معارض أصلا إلا أن نقول إنه لا دليل على هذه المعارضات فوجب نفيه ولو كنا زيفنا هذه الطريقة يعني انتفاء الشيء لانتفاء دليله أو نقيم دلالة قاطعة على أن المقدمة الفلانية غير معارضة لهذا النص ولا المقدمة الأخرى وحينئذ نحتاج إلى إقامة الدليل على أن كل واحدة من هذه المقدمات التي لا نهاية لها غير معارضة لهذا الظاهر.
فثبت أنه لا يمكن حصول اليقين لعدم ما يقتضي خلاف الدليل النقلي وثبت أن الدليل النقلي تتوقف إفادته لليقين على ذلك فإذا الدليل النقلي تتوقف إفادته اليقين على مقدمة غير يقينية وهي عدم دليل عقلي وكل ما يبتنى صحته على مالا يكون يقينا لا يكون هو أيضا يقينا
فثبت أن ذلك الدليل النقلي من هذا القسم لا يكون مفيدا لليقين.
قال وهذا بخلاف الأدلة العقلية فإنها مركبة من مقدمات لا يكتفي فيها بأن لا يعلم فسادها بل لا بد وأن يعلم بالبديهة صحتها أو يعلم بالبديهة لزومها مما علم صحته بالبديهة ومتى كان كذلك استحال أن يوجد ما يعارضه لاستحالة التعارض في العلوم البديهية.
ثم قال فإن قيل إن الله سبحانه لما أسمع المكلف الكلام الذي يشعر ظاهره بشيء كان في العقل ما يدل على بطلان ذلك الشيء وجب عليه سبحانه أن يخطر ببال المكلف ذلك الدليل وإلا كان ذلك تلبيسا من الله تعالى وإنه غير جائز.
قلنا هذا بناء على قاعدة الحسن والقبح وأنه يجب على الله سبحانه شيء ونحن لا نقول بذلك ثم إن
سلمنا ذلك فلم قلتم إنه يجب على الله أن يخطر ببال المكلف ذلك الدليل العقلي وبيانه أن الله تعالى إنما يكون ملبسا على المكلف لو أسمعه كلاما يمتنع عقلا أن يريد به إلا ما أشعر به ظاهره وليس الأمر كذلك لأن المكلف إذا سمع ذلك الظاهر فبتقدير أن يكون الأمر كذلك لم يكن مراد الله من ذلك الكلام ما أشعر به الظاهر فعلى هذا إذا أسمع الله تعالى المكلف ذلك الكلام فلو قطع المكلف بحمله على ظاهره مع قيام الاحتمال الذي ذكرنا كان ذلك التقدير تقصيرا واقعا من المكلف لا من قبل الله تعالى حيث قطع لا في موضع القطع فثبت أنه لا يلزم من عدم إخطار الله تعالى ببال المكلف ذلك الدليل العقلي المعارض للدليل السمعي أن يكون ملبسا.
قال فخرج ما ذكرنا أن الأدلة النقلية لا يجوز التمسك بها في باب المسائل العقلية نعم يجوز التمسك
بها في المسائل النقلية تارة لإفادة اليقين كما في مسألة الإجماع وخبر الواحد وتارة لإفادة الظن كما في الأحكام الشرعية انتهى.
فليتدبر المؤمن هذا الكلام وليرد أوله على آخره وآخره على أوله ليتبين له ما ذكرنا عنهم من العزل التام للقرآن والسنة عن أن يستفاد منهما علم أو يقين في باب معرفة الله وما يجب له وما يمتنع عليه وأنه لا يجوز أن يحتج بكلام الله ورسوله في شيء من هذه المسائل وأن الله تعالى يجوز عليه التلبيس والتدليس على الخلق وتوريطهم في طرق الضلال وتعريضهم لاعتقاد الباطل والمحال وأن العباد مقصرون غاية التقصير إذا حملوا كلام الله ورسوله على حقيقته وقطعوا بمضمون ما أخبر به حيث لم يشكوا في ذلك إذ قد يكون في العقل ما يعارضه ويناقضه فإن غاية ما يمكن أن يحتج بكلام الله ورسوله عليه من الجزئيات ما كان مثل الإخبار بأن على قلة جبل قاف غرابا صنعته كيت وكيت أو على مسألة الإجماع وخبر الواحد وأن مقدمات أدلة القرآن والسنة غير معلومة ولا متيقنة الصحة ومقدمات أدلة أرسطو صاحب المنطق والفارابي وابن سينا وإخوانهم قطعية معلومة الصحة وأنه لا طريق لنا إلى العلم بصحة الأدلة السمعية في باب الإيمان بالله وأسمائه وصفاته
البتة لتوقفها على انتفاء مالا طريق لنا إلى العلم بانتفائه وأن الاستدلال بكلام الله ورسوله في ذلك فضلة لا يحتاج إليها بل هو مستغن عنه إذا كان موافقا للعقل.
فتأمل هذا البنيان الذي بنوه والأصل الذي أصلوه هل في قواعد الإلحاد أعظم هدما منه لقواعد الدين وأشد مناقضة منه لوحي رب العالمين وبطلان هذا الأصل معلوم بالاضطرار من دين جميع الرسل وعند جميع أهل الملل.
وهذه الوجوه المتقدمة التي ذكرناها هي قليل من كثير مما يدل على بطلانه ومقصودنا من ذكره اعترافهم به بألسنتهم لا بإلزامنا لهم به وتمام إبطاله أن نبين فساد كل مقدمة من مقدمات الدليل الذي عارضوا به النقل وأنها مخالفة للعقل كما هي مناقضة للوحي والله يعلم أنا عازمون على ذلك وبيانه على التفصيل في جميع أدلتهم إن ساعد التوفيق ويجب على كل مؤمن بالله ورسوله أن يعتقد ذلك جملة وإن لم يحط به تفصيلا ولا يضع قدمه في أول درجة من درجات الإيمان إلا بذلك والمقصود أن مناقضة هذا الأصل الإيمان بالله ورسوله كمناقضة أحد الضدين للآخر وبالله التوفيق.
الوجه الثالث والعشرون بعد المائة: أن يقال كل ما أخبر به الرسول عن الله سبحانه إثباتا ونفيا فهو واجب عليه وممتنع عليه أو ما أثبته له فهو كمال والكمال كله واجب له وما نفاه عنه فهو نقص والنقائص كلها ممتنعة عليه وقد صرح هؤلاء بأن ما يجب لله ويمتنع عليه لا تمكن استفادته من الرسول لأنه إن أخبر بما يخالفه العقل من ذلك لم يجز إثباته ولم يلتفت إلى خبره فيه وإن أخبر بما يدل عليه العقل كان الاستدلال بخبره فضلة غير محتاج إليها لا سيما وقد صرحوا بأنه ليس في حق الرب ما يمكن أن يوصف به ومالا يمكن بل إما واجب وإما محال والعلم بوجوب الواجبات واستحالة المحالات لا يتوقف على السمع ولا يحتاج إليه فيه وهذا تصريح بأنه لا يحتج بكلام الله ورسوله على شيء من هذه المسائل.
ولا يصدق بشيء من خبر الرسول في ذلك لكونه أخبر به بل لكون العقل دل عليه وذلك يستلزم الكفر والإلحاد والزندقة وهذا لازم لكل من سلك هذه الطريق لأنه إذا جوز المجوز أن يكون في الأدلة العقلية التي يجب اتباعها ما يناقض ما أخبر الله به ورسوله من ذكر صفاته سبحانه وصفات ملائكته وعرشه والجنة والنار والمعاد والعقوبات التي أخبر بها عن الأمم والمعجزات التي أيد بها أنبياءه ورسله لم يمكنه أن يعرف ثبوت شيء كما أخبر
به الرسول إذا لم يعلم انتفاء المعارض ولا طريق له إلى ذلك إلا أن يحيط علما بكل ما يخطر ببال بني آدم في كل وقت مما يظن أنه دليل عقلي وهذا أمر لا ينضبط وليس له حد فلا تزال الشبه العقلية تتولد في نفوسهم تولد الوساوس والخطرات وحديث النفس وقد اعترف هؤلاء بأنه لا سبيل إلى العلم بانتفاء المعارض على التفصيل وحينئذ فلا يمكن الجزم بانتفاء المعارض أبدا فلا يمكن الجزم بشيء مما أخبر به الرسول أبدا إن لم يكن في العقل الصريح ما يقتضي ثبوته وحقيقة هذا سلب الإيمان برسالة الرسول وعدم تصديقه.
فهذا الأصل الباطل الجائر الظالم مستلزم للزندقة والإلحاد فمن طرده أداه إلى الكفر والنفاق والزندقة ومن لم يطرده تناقض وفارق المعقول الصريح ومن هذا دخلت الملاحدة والقرامطة والباطنية على كل فرقة من الطوائف الذين وافقوهم على هذا الأصل أو على بعض شعبه حتى إن من استجاب لهم إلى بعضه دعوه إلى طرده إن أمكنهم وإلا رضوا منه بما وافقهم فيه.
الوجه الرابع والعشرون بعد المائة: أن هؤلاء يعيبون أهل السنة والحديث المتمسكين بها التاركين لما خالفها بالتقليد وإنما يأخذون ما يعتقدونه
مسلما من غير قيام برهان عقلي على اعتقاده فإن كان تمسكهم بكلام المعصوم تقليدا واقتداؤهم بآثار أصحابه تقليدا فهم لا ينكرون هذا التقليد ولا ينفرون عن عيبهم به ولكن العيب كل العيب تقليد المشركين وعباد الأصنام والمجوس والهند والصابئين عبدة الكواكب والملاحدة الذين لا يؤمنون بالله ولا رسله ولا كتبه ولا ملائكته ولا باليوم الآخر فإن مقدمات هذه الأدلة العقلية التي عارضوا بها النصوص وقدموها عليها متلقاة عن هؤلاء فخلفهم مقلدون لسلفهم إذا حاققتهم عليها وطلبت منهم البرهان على صحتها قال هكذا قال العقلاء أرباب المعقولات وسلفهم ليسوا فيها على بصيرة بل على خرص وحدس وتخمين فالسلف خراصون والخلف عمي مقلدون وإذا تأملها اللبيب العاقل الفطن وجدها مبنية على ألفاظ مجملة ومعاني مشتبهة حتى إذا استفسرتهم عن معانيها وفصلت مجملها تجدها دعاوى كاذبة تتضمن الجمع بين المختلفات والتفريق بين المتماثلات فيجمعون بين الشيئين اللذين هما في غاية التباين لاشتراكهما في بعض الصفات ويفرقون بين المثلين من كل وجه بالدعاوى الكاذبات ويثبتون الشيء وينفون لازمه وينفون الشيء ويثبتون ملزومه ويقدحون في الضروريات بالقضايا
الوهميات ويجعلون الذهني خارجا ويصفون الوجود الخارجي بما ينافي وجوده وواجب الوجود بما يجعله ممتنع الوجود ويجردون الماهية عن صفاتها التي لا تحقق إلا بها ثم يجعلون الصفة هي الذات ويجعلون العاقل والمعقول والعقل شيئا واحدا ويجعلون العلم هو نفس المعلوم والفعل هو عين المفعول وواجب الوجود الذي يمتنع عدمه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق أو بغير شرط الذي يمتنع وجوده إلى أضعاف أضعاف ذلك من مقالاتهم التي هي عند من فهمها وعرف مضمونها ضحكة للعاقل تارة وأعجوبة له تارة ومغضبة له تارة.
ومثل هذه المعقولات لو تصرف بها الرجل في تجارة أو صناعة من الصناعات لأفسدت التجارة والصناعة فكيف يتصرف بها في الأمور الإلهية وفي صفات رب البرية ثم يعارض بها كلام الله الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه وإنما عظمت الشبهة بذلك بأن أقواما لهم نوع ذكاء يميزون به في أنواع من العلوم ولم تكن لهم خبرة بالأمور الإلهية كخبرتهم بتلك العلوم فخاضوا فيها بعقولهم وظنوا أنهم يبرزون فيها كما برزوا في تلك العلوم وظن المقلدون لهم ذلك أيضا فركب من ظنهم وظن مقلدهم اعتقادها والدعوة إليها وإساءة الظن بما خالفها ثم إنهم رأوا النصوص واقفة في طريقها فقاموا لها وقعدوا وجدوا في
دفعها واجتهدوا فتارة سطوا عليها بالتأويل وتارة نسبوا من تكلم بها إلى قصد التخييل ووقفوا بجهدهم في الصدور منها والأعجاز وقالوا لا مقام لك عندنا ولا عبور لك علينا وإن كان لا بد فعلى سبيل المجاز وتارة قالوا هذه أخبار آحاد والمسألة من المسائل العلمية.
وإن كان قرآنا أو خبرا متواترا قالوا تلك أدلة لفظية معزولة عن إفادة العلم واليقين وغايتها إفادة الظن والتخمين وإن أعجزهم ذلك أو طال عليهم طريقه لجأوا إلى القانون المجتث لقواعد الإيمان الكفيل بالإلحاد والكذب والبهتان الذي جعلوه أصلا لتقديم آرائهم الباطلة على السنة والقرآن وقالوا قد تعارض العقل والنقل ولا سبيل إلى الجمع وتقديم النقل قدح في العقل فتعين تقديم العقل بهذا البرهان والمقصود أنك إذا حققت الأمر على هؤلاء المعارضين لم يكن عندهم إلا رجوع إلى تقليد أسلافهم الماضين.
وقولهم هذه أمور عقلية قد صقلتها الأذهان منذ دهر وزمان وإذا دعوتهم إلى كتاب الله وسنة رسوله دعوك إلى قول أرسطو عابد الأوثان وإلى ما أصله من منطق اليونان وإن أحسنوا دعوك إلى أصول جهم بن صفوان وقول الجعد بن درهم معلم مروان الذي ضحى به خالد بن عبد الله
القسري يوم ذبائح القربان وإن زادوا في الإحسان دعوك إلى قول أبي الهذيل العلاف ويعقوب الشحام وإبراهيم النظام وأبي علي وأبي هاشم الجبائيين فإنهم تلقوا كلمات هؤلاء يدرسونها لا كدرس القرآن ويحاربون بها أهل العلم والإيمان ويحرفون بها التنزيل عن مواضعه إذا عجزوا عن اللي والكتمان وآخر أمرهم أن يصلوا إلى هكذا قال فلان وهكذا قال فلان فإذا ذكرت لهم الحجة الصحيحة التي يقبلها العقل وفطرة الإنسان قالوا كيف يظن بأرسطو وابن سينا وأبي الهذيل وأبي علي وابنه وأمثالهم أن يخفى عليهم مثل هذا وهم أهل العقل والحجة والبرهان هذا وهم يرون تعصبا وجهلا تقليد من {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى} ومن قام الدليل على عصمته وعلمه ومعرفته وصدق اللهجة منه
واللسان فما أشبههم بإبليس أبي الجان حين استكبر عن السجود لآدم ورضي أن يكون قوادا لأهل الفسوق والعصيان وما أشبههم بأعداء الرسول إذ أنفوا أن ينقادوا لرسول من نوع الإنسان ثم رضوا بعبادة الشيطان والأوثان والصلبان والنيران وسلكوا سبيل هؤلاء في تنزيه الرب تعالى عن صفات كماله خشية التجسيم والتشبيه المستلزم عندهم للنقصان ثم شبهوه بالناقصات بل بالمعدومات بل بالممتنعات التي لا تدخل تحت قضايا الإمكان فنزهوه خشية الحصر عن استوائه على عرشه الذي هو فوق جميع الأكوان ثم قالوا هو في كل مكان فيا للعقول أي الأمكنة أشرف وأجل أعرش الوحي أم الآبار والأنجاس والمواطن التي يرغب عن ذكرها كل إنسان فاسأل مقلب القلوب أن يثبت قلبك على دينه الذي أرسل به رسوله وأنزل به الفرقان وأن لا يزيغه بعد أن هداه عن سبيل الهدى والإيمان وقل اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان.
الوجه الخامس والعشرون بعد المائة: أن الدين تصديق الرسول فيما أخبر وطاعته فيما أمر وكل منهما نوعان مطلق ومقيد.
فالمقيد مثل أن يقول لا أصدقه إلا فيما علمت صحته بعقلي أو فيما يخالف عقلي أو وافقه فيه شيخي وإمامي وأصحاب مذهبي والمقيد من طاعة الأمر أن يطيعه فيما وافق حظه وهواه فإن جاء أمره بخلاف ذلك قدم حظه وهواه عليه فهذا غير مطيع للرسول في الحقيقة بل هو متبع لهواه كما أن ذاك غير مصدق له في الحقيقة بل إن وافق قوله عقله أو قول شيخه وإمامه ومتبوعه قبله لا لكونه قاله كما أن مطيعه فيما وافق هواه إنما هو متبع لما يحبه ويهواه فإن جاء الأمر بما يهواه فعله وإلا لم يفعله وهذا حال أكثر الناس وأحسن أحوال هؤلاء أن يكونوا من الذين قال الله فيهم: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم} [الحجرات14] .
ثم ذكر وصف أهل الإيمان فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات15] .
فالتصديق والطاعة لا يكون إيمانا حتى يكون مطلقا فإذا تقيد فأعلى أحواله إن سلم من الشك أن يكون إسلاما ويكون صاحبه من عوام المسلمين لا من خواص المؤمنين.
الوجه السادس والعشرون بعد المائة: أن السمع حجة الله على خلقه وكذلك العقل فهو سبحانه أقام عليهم حجته بما ركب فيهم من العقل وبما أنزل إليهم من السمع والعقل الصريح لا يتناقض في نفسه كما أن السمع الصحيح لا يتناقض في نفسه وكذلك العقل مع السمع فحجج الله وبيناته لا تتناقض ولا تتعارض ولكن تتوافق وتتعاضد وأنت لا تجد سمعا صحيحا عارضه معقول مقبول عند كافة العقلاء أو أكثرهم ولا تجده ما دام الحق حقا والباطل باطلا بل العقل الصريح يدفع المعقول المعارض للسمع الصحيح ويشهد ببطلانه وهذا يظهر بالامتحان في كل مسألة عورض فيها السمع بالمعقول ونحن نذكر من ذلك مثالا واحدا يعلم به ما عداه.
فنقول قالت الفرقة الجامعة بين التجهم ونفي القدر معطلة الصفات المكذبة بالقدر صدق الرسول موقوف على قيام المعجزة الدالة على صدقه وقيام المعجزة موقوف على العلم بأن الله لا يؤيد الكذاب بالمعجزة والعلم بذلك موقوف على الصحة بقبحه وعلى أن الله لا يفعل القبيح وتنزيهه عن فعل القبيح موقوف على العلم بأنه غني عنه عالم بقبحه والغني عن القبيح العالم بقبحه لا يفعله وغناه عنه موقوف على أنه ليس بجسم وكونه ليس بجسم موقوف على عدم قيام الأعراض والحوادث به وهي الصفات والأفعال ونفي ذلك موقوف على ما دل على حدوث
الأجسام والذي دلنا على حدوث الأجسام أنها لا تخلو عن الحوادث ومالا يخلو عن الحوادث لا يسبقها ومالا يسبق الحوادث فهو حادث وأيضا فإنها لا تخلو عن الأعراض والأعراض لا تبقى زمانين فهي حادثة فإذا لم تخل الأجسام عنها لزم حدوثها وأيضا فإن الأجسام مركبة من الجواهر الفردة والمركب مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره وما افتقر إلى غيره لم يكن إلا حادثا مخلوقا.
وأيضا فالأجسام متماثلة كل ما صح على بعضها صح على جميعها وقد صح على بعضها التحليل والتركيب والاجتماع والافتراق فيجب أن يصح على جميعها قالوا وبهذا الطريق أثبتنا حدوث العالم ونفي كون الصانع جسما وإمكان المعاد فلو بطل الدليل على حدوث الجسم بطل الدليل الدال على إثبات الصانع وصدق الرسول فصار العلم بإثبات الصانع وصدق الرسول وحدوث العالم وإمكان المعاد موقوف على نفي الصفات والأفعال فإذا جاء في السمع ما يدل على إثبات الصفات والأفعال لم يمكن القول بموجبه ويعلم أن الرسول لم يرد إثبات ذلك لأن إرادته لإثباته تنافي تصديقه ثم إما أن يكذب الناقل وإما أن يتأول المنقول وإما أن يعرض عن ذلك جملة كافة ويقول لا نعلم المراد.
فهذا أصل ما بنى عليه القوم دينهم وإيمانهم ولم يقيض
لهم من يبين لهم فساد هذا الأصل وبطلانه ومخالفته لصريح العقل بل قيض لهم من المنتسبين إلى السنة من وافقهم عليه ثم أخذ يشنع عليهم القول بنفي الصفات والأفعال وتكليم الرب لخلقه ورؤيته في الدار الآخرة وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه ونزوله إلى سماء الدنيا فأضحكهم عليه وأغراهم به ونسبوه إلى ضعف العقل والحشو والبله والمصيبة مركبة من عدوان هؤلاء وبغيهم وظلمهم وتقصير أولئك وموافقتهم لهم في الأصل ثم تكفيرهم وتبديعهم في القول بفروعه ولوازمه.
وهذه الطريق من الناس من يظنها من لوازم الإيمان وأن الإيمان لا يتم إلا بها ومن لم يعرف ربه بهذه الطريق لم يكن مؤمنا به ولا بما جاء به رسوله وهذا يقوله الجهمية والمعتزلة ومتأخرو الأشعرية بل أكثرهم وكثير من المنتسبين إلى الأئمة الأربعة وكثير من أهل الحديث والصوفية ومن
الناس من يقول ليس الإيمان موقوفا عليها ولا هي من لوازمه وليست طريقة الرسل ويحرم سلوكها لما فيها من الخطر والتطويل وإن لم يعتقد بطلانها وهذا قول أبي الحسن الأشعري نفسه فإنه صرح بذلك في رسالته إلى أهل الثغر وبين أنها طريقة خطرة مذمومة محرمة وإن كانت غير باطلة.
ووافقه على هذا جماعة من أصحابه من أتباع الأئمة وقالت طائفة أخرى بل هي طريق في نفسها متناقضة مستلزمة لتكذيب الرسول لا يتم سلوكها إلا بنفي ما أثبته وهي مستلزمة لنفي الصانع بالكلية كما هي مستلزمة لنفي صفاته ونفي أفعاله وهي مستلزمة لنفي المبدأ والمعاد فإن هذه الطريقة لا تتم إلا بنفي سمع الرب وبصره وقدرته وحياته وإرادته وكلامه فضلا عن نفي علوه على خلقه ونفي الصفات الخبرية من أولها إلى آخرها ولا تتم إلا بنفي أفعاله جملة وأنه لا يفعل شيئا البتة
إذ لم يقم به فعل وفاعل بلا فعل محال في بدائه العقول فلو صحت هذه الطريق نفت الصانع وصفاته وأفعاله وكلامه وخلقه للعالم وتدبيره له وما يثبته أصحاب هذه الطريقة من ذلك لا حقيقة له بل هو لفظ لا معنى له فأنتم تثبتون ذلك وتصرحون بنفي لوازمه البينة التي لا ريب في لزومها فتثبتون مالا حقيقة له بل ما يخالف العقل الصريح كما تنفون ما دل العقل الصريح على إثباته فهي مستلزمة لإنكار جميع الصفات والأفعال والعلو والكلام وذلك يستلزم نفي الرسالة فحقيقتها جحد الرسالة والمرسل ولوازمها الباطلة اكثر من مائة لازم لا تحصى إلا بكلفة فأول لوازمها نفي الصفات ونفي الأفعال ونفي العلو ونفي الكلام ونفي الرؤية.
ومن لوازمها القول بخلق القرآن وبهذه الطريق استجيز ضرب الإمام أحمد لما قال بما يخالفها من إثبات الصفات وتكلم الله بالقرآن ورؤيته في الدار الآخرة وكان أرباب هذه الطريقة هم المستولين على الخليفة فقالوا له اضرب عنقه فإنه كافر مشبه مجسم فقيل له إنك إن قتلته ثارت عليك العامة ولم تأمن معرتهم فأمسكوا عن قتله لذلك بعد الضرب الشديد.
ومن لوازمه أن الرب تعالى كان معطلا عن الفعل من الأزل والفعل ممتنع عليه ثم انتقل من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بغير موجب في ذلك الوقت دون ما قبله وهذا مما اعترى الفلاسفة بالقول بقدم العالم ورأوا أنه خير من القول بذلك بل حقيقة هذا القول أن الفعل لم يزل ممتنعا منه أزلا وأبدا إذ يستيحل قيامه به وعن هذه الطريق قال جهم ومن وافقه بفناء الجنة وفناء أهلها وعدمهم عدما محضا وعنها قال أبو الهذيل العلاف بفناء حركاتهم دون ذواتهم فإذا رفع أحدهم اللقمة إلى فيه وفنيت الحركات بقيت يده ممدودة لا تتحرك وتبقى كذلك أبد الآبدين وإذا جامع الحوراء وفنيت الحركات يبقيان كذلك في تلك الحال أبد الآبدين فيبقون في سكون الأحجار وعن هذه الطريق قالت الجهمية إن الله في كل مكان بذاته وقال إخوانهم ليس في العالم ولا خارج العالم ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولا مباينا له ولا محادثا له ولا فوقه ولا خلفه
ولا أمامه ولا وراءه وعنها قال من قال إن ما شاهده من الأعراض الثابتة كالأكوان والمقادير والأشكال تتبدل في كل نفس ولحظة ويخلفها غيرها حتى قال من قال إن الروح عرض وإن الإنسان يستحدث في كل ساعة عدة أرواح تذهب له روح وتجيء غيرها.
وعنها قال من قال إن جسم أنتن الرجيع وأخبثه مماثل لجسم أطيب الطيب في الحد والحقيقة لا فرق بينهما إلا بأمر عرض وإن جسم النار مساو لجسم الماء في الحد والحقيقة.
وعنها قالوا إن الروائح والأصوات والمعارف والعلوم تؤكل وتشرب وترى وتسمع وتلمس وإن الحواس الخمس تتعلق بكل موجود وعنها قالوا إن الله سبحانه لم يكلم موسى تكليما ولا اتخذ إبراهيم خليلا ولا تجلى للجبل ولا يتجلى لعباده يوم القيامة وقالوا ليس له وجه يراه المؤمنون ولا يد خلق بها آدم وكتب بها التوراة وغرس بها جنة عدن ويقبض بها السماوات والأرض بيد أخرى ليس بشيء من ذلك حقيقة إن هو إلا مجازات واستعارات وتخيلات وعنها قالوا إن الله لا يحب ولا يحب ولا يغضب ولا يرضى ولا يضحك
ولا يفرح ولا له رحمة ولا رأفة في الحقيقة بل ذلك كله إرادة محضة أو ثواب منفصل مخلوق سمي بهذه الأسماء وعنها قالوا إن الكلام معنى واحد باعلين لا ينقسم ولا يتبعض ولا له جزء ولا كل وهو الأمر بكل مأمور والنهي عن كل منهي والخبر عن كل مخبر عنه والاستخبار عن كل مستخبر عنه كل ذلك حقيقة واحدة بالعين وكذلك قالوا في العلم إنه أمر واحد فالعلم بوجود الشيء هو عين العلم بعدمه لا فرق بينهما البتة وإنما يتعدد التعلق وكذلك قالوا إن إرادة إيجاد الشيء هو نفس إرادة إعدامه ليس هنا إرادات وكذلك رؤية زيد هي نفس رؤية عمرو ومعلوم أن هذا لا يعقل بل هو مخالف لصريح العقل وهذا كله وأمثاله نشأ عن هذه الطريق واعتقاد صحتها.
ومن العجب أنهم لم يثبتوا بها في الحقيقة صانعا ولا صفة من صفاته ولا فعلا من أفعاله ولا نبوة ولا مبدأ ولا معادا ولا حكمة بل هي مستلزمة لنفي ذلك كله صريحا أو لزوما بينا أو متوسطا فالطريق التي جعلوها أصلا للدين هي أصل المناقضة للدين وتكذيب الرسول. وجاء آخرون فراموا إثبات الصفات والأفعال
وموافقتهم في هذه الطريق فتجشموا أمرا ممتنعا واشتقوا طريقة لم يمكنهم الوفاء بها فجاءوا بطريقة بين النفي والإثبات لم يوافقوا فيها المعطلة النفاة ولم يسلكوا فيها مسلك أهل الإثبات فجاءت طريقا بين الطريقتين ومقالة بين المقالتين لم يكونوا فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء وظنوا أنهم بذلك يجمعون بين المعقول والمنقول ويصلون في هذه الطريق إلى تصديق الرسول وصار كثير من الناس يحب النظر والبحث والمعقول وهو مع ذلك يريد أن يخرج عما جاء به الرسول ويرى أن هذا المسلك أصح من مسلك أولئك النفاة وأنه لا طريق غير الطريقين وتلك لا سبيل إلى المصير إليها فتعين المصير إلى هذه الطريق ولما أصل هؤلاء هذا الأصل وجاءوا إلى تفصيله ظهر سر تاصيلهم في تفصيلهم ودل بطلان تفصيلهم على فساد تأصيلهم فإنهم أصلوا تأصيلا مستلزما لبطلان التفصيل ثم فصلوا تفصيلا دل على بطلان الأصل وفساده فصاروا حائرين بين التأصيل والتفصيل وصار من طرد منهم هذا الأصل خرج عن العقل والسمع بالكلية وبالغ في التعطيل والإلحاد ومن لم يطرده تناقض واضطربت أقواله وقد سلك الناس في إثبات الصانع وحدوث العالم طرقا متعددة سهلة قريبة موصلة إلى المقصود لم يتعرضوا فيها لطريقة هؤلاء بوجه وذموا هذه
الطريقة قال الخطابي وإنما سلك المتكلمون في الاستدلال بالأعراض مذهب الفلاسفة وأخذوه عنهم وفي الأعراض اختلاف كثير منهم من ينكرها ولا يثبتها رأسا ومنهم من لا يفرق بينها وبين الجواهر في أنها قائمة بأنفسها كالجواهر قلت ومنهم من يقول بكمونها وظهورها ومنهم من يقول بعدم بقائها ثم سلك طرقا في إثبات الصانع منها الاستدلال بأحوال الإنسان من مبدئه إلى غايته والاستدلال بأحوال الحيوان والنبات والأجرام العلوية وغير ذلك ثم قال والاستدلال بطريق الأعراض لا يصح إلا بعد استبراء هذه الشبه وطريقنا الذي سلكناه بريء من هذه الآفات سليم من هذه الريب قال وقد سلك بعض مشايخنا في هذا طريق الاستدلال بمقدمات النبوة ومعجزات الرسالة التي دلائلها مأخوذة من طرق الحس لمن شاهدها
ومن طريق استفاضة الخبر لمن غاب عنها فلما ثبتت النبوة صارت أصلا في وجوب قبول ما دعى إليه النبي قال وهذا النوع مقنع في الاستدلال لمن لم يتسع فهمه لإدراك وجوه الأدلة ولم يتبين معاني تعلق الأدلة بمدلولاتها ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها قلت وهذه الطريق من أقوى الطرق وأصحها وأدلها على الصانع وصفاته وأفعاله وارتباط أدلة هذه الطريق بمدلولاتها أقوى من ارتباط الأدلة العقلية الصريحة بمدلولاتها فإنها جمعت بين دلالة الحس والعقل ودلالتها ضرورية بنفسها ولهذا يسميها الله سبحانه آيات بينات وليس في طرق الأدلة أوثق ولا أقوى منها فإن انقلاب عصا تقلها اليد ثعبانا عظيما يبتلع ما يمر به ثم يعود عصا كما كانت من أدل الدليل على وجود الصانع وحياته وقدرته وإرادته وعلمه بالكليات والجزئيات وعلى رسالة الرسول وعلى المبدأ والمعاد فكل قواعد الدين في هذه العصا وكذلك اليد وفلق البحر طرقا والماء قائم بينهما كالحيطان ونتق الجبل من موضعه ورفعه على قدر العسكر العظيم
فوق رؤوسهم وضرب حجر مربع بعصا فتسيل منه إثنتا عشرة عينا تكفي أمة عظيمة وكذلك سائر آيات الأنبياء فإخراج ناقة عظيمة من صخرة تمخضت بها ثم انصدعت عنها والناس حولها ينظرون وكذلك تصوير طائر من طين ثم ينفخ فيه النبي فينقلب طائرا ذا لحم ودم وريش وأجنحة يطير بمشهد من الناس وكذلك إيماء الرسول إلى القمر فينشق نصفين بحيث يراه الحاضر والغائب فيخبر به كما رآه الحاضرون وأمثال ذلك مما هو من أعظم الأدلة على الصانع وصفاته وأفعاله وصدق رسله واليوم الآخر وهذه من طرق القرآن التي أرشد إليها عباده ودلهم بها كما دلهم بما يشاهدونه من أحوال الحيوان والنبات والمطر والسحاب والحوادث التي في الجو وفي الأرض وأحوال المعلومات من السماء والشمس والقمر والنجوم وأحوال النطفة وتقلبها طبقا بعد طبق حتى صارت إنسانا سميعا بصيرا حيا متكلما عالما قادرا يفعل الأفعال العجيبة ويعلم العلوم العظيمة فكل طريق من هذه الطرق أصح وأقرب وأسهل وأوصل من طرق المتكلمين التي لو صحت لكان فيها من التطويل والتعقيد والتعسير ما يمنع الحكمة الإلهية والرحمة الربانية أن يدل بها عباده عليه وعلى صدق رسله وعلى اليوم الآخر
فأين هذه الطريق الطويلة العسرة الباطلة المستلزمة لتعطيل الرب عن صفاته وأفعاله وكلامه وعلوه على خلقه وإنكار وجهه الأعلى ويديه الكريمتين ورؤيته في الدار الآخرة وسائر ما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله إلى طرق القرآن التي هي ضد هذه الطريق من كل وجه وكل طريق منها كافية شافية هادية وإن صرفها الله لعباده ونوعها: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال42] .
هذا وإن القرآن وحده لمن جعل الله له نورا أعظم آية ودليل وبرهان على هذه المطالب وليس في الأدلة أقوى ولا أظهر ولا أصح دلالة منه من وجوه متعددة جدا كيف وقد أرشد ذوي العقول والألباب فيه إلى أدلة هي للعقل مثل ضوء الشمس للبصر لا يلحقها إشكال ولا يغير في وجه دلالتها إجمال ولا يعارضها تجويز واحتمال تلج الأسماع بلا استئذان وتحل من العقول محل الماء الزلال من الصادي الظمآن فضلها على أدلة أهل العقول والكلام كفضل الله على الأنام لا يمكن أحدا أن يقدح فيها قدحا يوقع في اللبس إلا إن أمكنه أن يقدح بالظهيرة صحوا في طلوع الشمس ومن عجيب شأنها أنها تستلزم المدلول استلزاما
بينا وتنبه على جواب المعترض تنبيها لطيفا ففيها إقامة الدلالة والجواب عن المعارضة والشبهة وهذا الأمر إنما هو لمن نور الله بصيرته وفتح عين قلبه لأدلة القرآن وآتاه فهما في كتابه فلا يعجب من منكر أو معترض أو معارض.
وقل للعيون العمي للشمس أعين
…
سواك تراها في مغيب ومطلع
وسامح نفوسا أطفأ الله نورها
…
بأهوائها لا تستفيق ولا تعي
فأي دليل على الله سبحانه أصح من الأدلة التي تضمنها كتابه كقوله: {أفي الله شك فاطر السموات والأرض} [إبراهيم10] وقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة28] .
وقوله {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد2] . {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد4 ، 3] .
وقوله {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم20 -25] . وقوله {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ
كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف9-14] . وقوله {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل59 ، 64] .
وقوله {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف54] . وقوله {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف57] . وقوله {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَاّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} [يس33 -44] .
وقوله {فَلْيَنْظُرِ الأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق7-5] .
وقوله {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً جَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} [النبأ16-6] إلى أضعاف أضعاف ذلك كما ذكر في سورة ق والذاريات والطور والرحمن والمرسلات وسورة إبراهيم والحجر والنحل فتأمل أدلة سورة النحل من أولها إلى قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل83] .
وما ذكر في سورة لقمان والسجدة و {هَلْ أَتَى عَلَى
الأِنْسَانِ} وآخر الغاشية وسورة البلد والشمس وضحاها وما ذكر في سورة الأنعام وسورة الصافات وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والفرقان من الأدلة التي هي للبصائر كالشمس للأبصار فأبى المتكلمون إلا دليل الجواهر والأعراض والحركة والسكون والاجتماع والافتراق ولعمر الله لم يزل إيمان الخلق صحيحا حتى حدثت هذه الأدلة المبتدعة الباطلة فأوقعت الأمة في العناء الطويل وفرقت الكلمة وعارضت بين العقل والوحي وألقت بينهم العداوة والتباغض والتلاعن حتى استحل بعضهم من بعض ما لم يستحل مثلها المحاربون للإسلام وأهله وحتى فتح على النصوص باب التحريف والتأويل ورميت بأنها أدلة لفظية لا تفيد اليقين وساءت ظنون أتباع هؤلاء بوحي رب العالمين وهذا كله ببركة هذه الطريق المخالفة للسمع والعقل فالله سبحانه نهج لعباده الطريق الموصلة إلى معرفته والإقرار بأسمائه وصفاته وأفعاله فأعرض عنها هؤلاء واشتقوا طريقا موصلة إلى تعطيل الخالق ونفي أسمائه وصفاته وأفعاله وقالوا للناس لا يتم إيمانكم ومعرفتكم بالصانع إلا بهذه الطريق فلما سلكها من سلكها أدت به إلى ما أسره الحيرة والشك والتأويل والتجهيل والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
انتهى الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع وأوله الوجه السابع والعشرون بعد المائة