المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الطاغوت الثاني: إذا تعارض العقل ونصوص الوحي أخذنا بالعقل ولم نلتفت إلى الوحي (تابع) - الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة - ط العاصمة - جـ ٤

[ابن القيم]

الفصل: ‌الطاغوت الثاني: إذا تعارض العقل ونصوص الوحي أخذنا بالعقل ولم نلتفت إلى الوحي (تابع)

‌المجلد الرابع

‌الفصل الرابع والعشرون في ذكر الطواغيت الأربع التي هدم بها أصحاب التأويل الباطل معاقل الدين وانتهكوا بها حرمة القرآن ومحوا بها رسوم الإيمان (تابع)

‌الطاغوت الثاني: إذا تعارض العقل ونصوص الوحي أخذنا بالعقل ولم نلتفت إلى الوحي (تابع)

الوجه السابع والعشرون بعد المائة: إن هذه المعارضة بين الوحي والعقل نتيجة جهلين عظيمين جهل بالوحي وجهل بالعقل.

أما الجهل بالوحي فإن المعارض لم يفهم مضمونه وما دل عليه بل فهم منه خلاف الحق الذي دل عليه وأريد به ثم عارض ما دل عليه بالرأي والمعقول ونحن ننزل معه درجة ونبين أن المعقول الذي ذكره لا يصلح لمعارضة المعنى الباطل الذي فهمه من الوحي فضلا عن المعنى الصحيح الذي دل عليه الوحي فإنه يستحيل أن يعارض معارضة صحيحة البتة بل هو الحق الذي ليس بعده إلا الضلال والله تعالى هو الحق وكلامه حق ورسوله حق ودينه حق ووحيه حق وما خالف ذلك فهو الباطل المحض الذي لا يقوم على صحته دليل بل الأدلة الصحيحة التي تنتهي مقدماتها إلى الضروريات تدل على بطلانه.

وأما الجهل بالعقل فإنه لا يتصور أن يعارض العقل الصحيح الوحي أبدا ولكن الجاهل يظن أن تلك الشبهة عقلية وهي جهلية خيالية من جنس شبه السوفسطائية فالحاصل أنه إن عارض ما فهمه من النص بما هو الباطل كان جاهلا بالوحي ومدلوله وإن عارض مدلوله وحقيقته

ص: 1207

التي دل عليها فهو جاهل بالعقل فلا يتصور أن يجتمع لهذا المعارض علم بالوحي والعقل أصلا بل إما أن يكون جاهلا بهما وهو الأغلب على هؤلاء أو بأحدهما ولسنا ندفع معرفتهم ببعض العقليات المشتركة بين المسلمين واليهود والنصارى والمجوس وعباد الأصنام بل ولا ندفع تبريزهم فيها وحذقهم بها وإنما نبين بالبراهين الواضحة أنهم من أجهل الناس بالعقليات المتعلقة بأسماء الرب وصفاته وأفعاله كما هم جهال بوحيه وبما جاءت به رسله وقد نفى الله سبحانه السمع والعقل عمن أعرض عن رسله فكيف بمن عارض ما جاءوا به وأخبر سبحانه أنه لا بد أن يظهر لهم في معادهم أنهم لم يكونوا من أهل السمع ولا من أهل العقل.

الوجه الثامن والعشرون بعد المائة: أن هؤلاء المعارضين كما تقدم هم صنفان ملاحدة دهرية ومعطلة جهمية والملاحدة الدهرية أصل معارضتهم تكذيب الرسل والطعن فميا جاءوا به فهم خصوم الرسل في الأصل وهؤلاء الجهمية المعطلة قولهم مأخوذ من قول أولئك بعينه وطريقتهم مشتقة من طريقتهم بل كلماتهم واحدة ولكن أولئك سلكوا المعارضة بين العقل ونفس الرسالة وهؤلاء سلكوا المعارضة بين العقل وبين أشرف ما جاءت به الرسل وأفضله وأجله فتأمل موافقة الجهمية لفرعون خصم موسى وعدوه فإنه

ص: 1208

أنكر الصانع وهؤلاء وافقوه على إنكار صفاته وأقروا بصانع لا صفة له ولا فعل ولهذا قال بعض الأئمة كان فرعون أعقل من هؤلاء فإنهم اشتركوا في مخالفة صريح العقل وتناقضت الجهمية فقالوا هو صانع للعالم من غير صنع يقوم به ولا وصف ولا مباينة للعالم ولا دخول فيه وجحد فرعون أن يكون الله فوق سماواته على عرشه وكذب موسى في ذلك ووافقته الجهمية على هذا النفي وبهذا احتج عليهم الأشعري في كتبه كلها والقاضي أبو بكر وأبو عمر بن عبد البر وجمهور أئمة السنة وأنكر فرعون أن يكون الله كلم موسى ووافقه الجهمية على ذلك وأنكر أعداء الرسل من المشركين عباد الأصنام والكواكب والفلاسفة وغيرهم معاد الأبدان وخراب العالم وحقيقة الجنة والنار ووافقهم ابن سينا وأتباعه على ذلك وأخذ الجهمية بعض هذا الإنكار فقالوا تفنى الجنة والنار وهذا قول شيخهم جهم وكلهم أنكروا أشرف ما في الجنة وأجل نعيمها وأفضله على الإطلاق الذي ما طابت الجنة إلا به وهو النظر إلى وجه الرب تبارك وتعالى من فوقهم وسماع كلامه وتسليمه عليهم وخطابه لهم بل هذا حقيقة الجنة ورأس نعيمها فنفوه وكذبوا به وأثبتوا أكلا وشربا وجماعا ثم قالوا بنفاده وانقطاعه وهذا باب إذا

ص: 1209

تتبعه من يعلم ما عند القوم وما جاءت به الرسل ويعتبر هذا بهذا يجد أقوالهم مشتقة من أقوال أعداء الرسل.

فإن لا يكنها أو تكنه فإنه

أخوها غذته أمه بلبانها

الوجه التاسع والعشرون بعد المائة: أن الكلام في الدين نوعان أمر وخبر فما عارض الأمر كان من باب الهوى الذي يأمر به الشيطان والنفس وما عارض الخبر كان من باب الظن والخرص الذي هو أكذب الحديث وهؤلاء لا تجدهم إلا وقد جمعوا بين الأمرين فهم في الإرادات تابعون لأهوائهم وفي الاعتقادات تابعون لظنونهم قال الله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم23] .

وقال تعالى {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُو} [التوبة69] .

ص: 1210

فالاستمتاع بالخلاق اتباع الهوى والشهوات والخوض اتباع الباطل والشبهات وقد نزه سبحانه رسوله عن طريقة هؤلاء فقال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم2 ، 1] .

فنزهه عن الضلال الذي هو نقيض الهدى وعن الغي الذي هو نقيض الرسد وقال النبي صلى الله عليه وسلم في خلفائه: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" والمقصود أن ما ناقض خبر الرسل كان كذبا وضلالا وقولا على الله غير الحق وقد نهى الله سبحانه

ص: 1211

أن يقال عليه غير الحق وأخذ الميثاق على اتباع الرسل بذلك فقال: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَاّ الْحَقّ} [الأعراف169] وقال {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَاّ الْحَقَّ} [النساء171] وأخبر سبحانه أنه لا بد أن ينال المفترين غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وأعظم الافتراء الفرية عليه سبحانه في أسمائه وصفاته وأفعاله وقد ضمن سبحانه أنه لا بد أن يخيب أهل الافتراء ولا يهديهم وأنه يستحتهم بعذابه أي يستأصلهم قال تعالى إخبارا عن كليمه موسى أنه قال لرؤوس المعطله وأئمتهم: {وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه62] وهذه الأصول التي عارضوا بها الكتاب والسنة تشتمل على الكذب والفرية في مسائلها ودلائلها كأصول الملاحدة من الفلاسفة والدهرية النافين لما أخبر الله به من

ص: 1212

أصول الإيمان الخمسة وأصول الجهمية المناقضة لما أخبر به من اسمائه وصفاته وأفعاله وأصول القدرية المعارضة لما أخبر به من عموم قدرته ومشيئته وأصول الملاحدة الاتحادية التي رفعت العقل والنقل والحس وأبطلت الخلق والأمر والنبوة والرسالة الثواب والعقاب وأصول هؤلاء كلهم أصول الزندقة والاتحاد المناقضة للعقل والدين.

الوجه الثلاثون بعد المائة: إن هؤلاء المعارضين لا يتم لهم ما ادعوه من المعارضة إلا بأربعة أمور يستلزمها قولهم لبس الحق بالباطل فهذه أربعة مقامات تتضمنها أصولهم بل هذه الأربعة هي قواعدهم التي يبنون عليها أما لبس الحق بالباطل فأنتم تسمون ما أثبته الله لنفسه من الصفات والكلام والعلو والاستواء تركيبا وتجسيما وتشبيها وتسمون عرشه حيزا واستواءه عليه تحيزا وتسمون صفاته أعراضا وتنزهونه عنها وأفعاله حوادث وتنفونها عنه وحكمته أغراضا وتبطلونها ووجهه الكريم ويديه حوارح وينكرونها ويسمون نفيهم وتعطيلهم تنزيها وتقديسا وتوحيدا فيلتبس الحق بالباطل على من لم يعرف مرادهم من هذا التنزيه والتوحيد

ص: 1213

والتقديس ولا من ذلك التجسيم والتشبيه والتمثيل فإذا وقعوا في هذا اللبس والتلبيس ترتب عليه ضرورة كتمان الحق والتكذيب به والتصديق بالباطل ولهذا جعل سبحانه كل اثنين من هذه الأربعة فريقين أما لأولان فقال تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة42] وقد اختلف في قوله {وَتَكْتُمُوا} هل هو منصوب أو مجزوم على قولين مبنيين على الواو هل هي واو عطف أو واو صرف فمن جعلها واو عطف قال النهي تعلق بكل واحد من الأمرين على انفراده ولو كانت واو صرف لكان المنهي عنه جمعهما لا أفرادهما ومن جعلها واو صرف قال لبس الحق بالباطل مستلزم لكتمانه كما يكتم الحق من لبسه بما يستره ويغشيه فهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر فالنهي عن أحدهما نهي عن الآخر بطريق اللزوم ففي كون الواو واو جمع إفادة هذا المعنى وإن كتمان الحق ملازم للبسه بالباطل لا ينفك عنه ولا يمكن إيقاع أحدهما إلا بالآخر وهذا شأن كل متلازمين وهذا القول أميز من الأول وأعرب وأما القرينان الآخران فقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت52] .

ص: 1214

وقال تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت68] .

وقال {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} [الزمر32] .

وهذان أيضا متلازمان فكل من صدق بالباطل كذب بضده وهو الحق وإذا عرف هذا فما أثبته الله لنفسه من صفاته وكلامه وتكليمه واستوائه على عرشه وعلوه على خلقه هو الحق عقلا وسمعا وما خالفه هو الباطل والله سبحانه قد فصل لنا هذا من هذا ولم يدعه ملتبسا. {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال42] .

فلبس النفاة المعطلة هذا بهذا فاضطرهم اللبس إلى كتمان الحق والتكذيب به والتصديق بضده وإذا أردت معرفة هذا فامتحنه في مسائلهم ودلائلهم وكلماتهم المجملة الألفاظ المشتبهة المعاني وبالله التوفيق يوضحه:

ص: 1215

الوجه الحادي والثلاثون بعد المائة: أنه ما من حق وباطل إلا وبينهما اشتراك من بعض الوجوه ولو في أصل الوجود أو في أصل الإخبار أو في مجرد المعلومية بأن يكون هذا معلوما مذكورا وهذا معلوما مذكورا ولكل واحد منهما خصائص يتميز بها عن الآخر فأحظى الناس بالحق وأسعدهم به الذي يقع على الخصائص المميزة الفارقة ويلغي القدر المشترك فيحكم بالقدر الفارق على القدر المشترك ويفصله به وأبعدهم عن الحق والهدى من عكس هذا السير وسلك ضد هذه الطريق فألغى الخصائص الفارقة وأخذ القدر المشترك وحكم به على القدر الفارق وأضل منه من أخذ خصائص كل من النوعين فأعطاها للنوع الآخر فهذان طريقا أهل الضلالة اللتان يرجع إليهما جميع شعب ضلالهم وباطلهم مثال ذلك أن أعداء الرسل المكذبين لهم الجاحدين لما جاءوا به من الحق لما أرادوا تلبيس الحق الذي جاءوا به بالباطل أخذوا بينه وبين الباطل قدرا مشتركا ثم ألغوا القدر الفارق وما اختص به أحد النوعين فقالوا هذا الرسول شاعر وكاهن ومجنون وطالب ملك ورياسة وصيت في العالم فأخذوا قدرا مشتركا بين الشعر وبين كلامه الذي جاء به من الترغيب والترهيب وحسن التعبير عن المعاني باللفظ الذي يروق المسامع ويهز القلوب ويحرك النفوس فقالوا هو شاعر وهذا شعر وضربوا عن الخصائص الفارقة صفحا وقالوا هو كاهن لأن الكاهن كان عندهم معروفا بالإخبار عن الأمور الغائبة التي لا يخبر بها غيره وكذلك

ص: 1216

هذا المدعي لذلك مثله وقالوا مجنون لأن المجنون يقول ويفعل خلاف ما اعتاده الناس وقالوا ساحر لأن الساحر يأخذ بالقلوب والعيون ويحبب تارة وينفر أخرى ولهذا قال لهم الوليد بن المغيرة وقد سألوه ماذا يقولون للناس في أمر محمد ففكر وقدر ورأى أن أقرب ما يقولون هو ساحر لأنه يفرق بين المرء وزوجه ومحمد يفعل ذلك فإن المرأة إذا أسلمت دون زوجها أو اسلم زوجها دونها وقعت الفرقة بينهما والعداوة.

وكذلك قولهم عن القرآن أساطير الأولين أخذوا قدرا مشتركا بينهما وهو جنس الإخبار عما أخبر عنه الأولون وهكذا قولهم هو طالب ملك ورياسة وصيت والمقصود أن كل مبطل فإنه يتوصل إلى باطله بهذه الطريق ثم يلبس ما يدعو إليه خصائص الحق وما ينفر عنه خصائص الباطل وهذا شأن الساحر فكلامه يخرج الحق في صورة الباطل فينفر عنه والباطل في صورة الحق فيرغب فيه إذا عرف هذا فهؤلاء أخذوا قدرا مشتركا بين ما أثبته الله لنفسه من الصفات والأفعال وبين ما للمخلوقين من ذلك وحكموا بذلك القدر المشترك على خصائص الرب سبحانه ثم ألغوا حكم تلك الخصائص واعتبارها ثم جعلوا

ص: 1217

حكمها حكم خصائص المخلوقين فأخطأوا من أربعة أوجه مثاله أنهم أخذوا قدرا مشتركا بين اليد القديمة والحادثة ثم حكموا بما فهموه من ذلك القدر المشترك على القديمة ثم ألغوا القدر الفارق بين اليد واليد ثم جعلوا خصائص أحدهما هي خصائص الأخرى واعتبر هذا منهم في كل صفة يريدون نفيها يوضحه:

الوجه الثاني والثلاثون بعد المائة: إنك إذا أخذت لوازم المشترك والمميز وميزت هذا من هذا صح نظرك ومناظرتك وزال عنك اللبس والتلبيس وذلك أن الصفة يلزمها لوازم من حيث هي هي فهذه اللوازم يجب إثباتها ولا يصح نفيها إذ نفيها ملزوم كنفي الصفة مثاله الفعل والإدراك للحياة فإن كل حي فعال مدرك وإدراك المسموعات بصفة السمع وإدراك المبصرات بصفة البصر وكشف المعلومات بصفة العلم والتمييز لهذه الصفات فهذه اللوازم ينتفي رفعها عن الصفة فإنها ذاتية لها ولا يرتفع إلا برفع الصفة ويلزمها لوازم من حيث كونها صفة للقديم مثل كونها واجبة قديمة عامة

ص: 1218

التعلق فإن صفة العلم واجبة لله قديمة غير حادثة متعلقة بكل معلوم على التفصيل وهذه اللوازم منتفية عن العلم الذي هو صفة للمخلوق ويلزمها لوازم من حيث كونها صفة له مثل كونها ممكنة حادثة بعد أن لم تكن مخلوقة غير صالحة للعموم مفارقة له فهذه اللوازم يستحيل إضافتها إلى القديم واجعل هذا التفصيل ميزانا لك في جميع الصفات والأفعال واعتصم به في نفي التشبيه والتمثيل وفي بطلان النفي والتعطيل واعتبره في العلو والاستواء تجد هذه الصفة يلزمها كون العالي فوق السافل في القديم والحديث فهذا اللازم حق لا يجوز نفيه ويلزمها كون السافل حاويا للأعلى محيطا به حاملا له والأعلى مفتقر إليه وهذا في بعض المخلوقات لا في كلها بل بعضها لا يفتقر فيه الأعلى إلى الأسفل ولا يحويه الأسفل ولا يحيط به ولا يحمله كالسماء مع الأرض فالرب تعالى أجل شأنا وأعظم أن يلزم من علوه ذلك بل لوازم علوه من خصائصه وهي حمله

ص: 1219

للسافل وفقر السافل إليه وغناه سبحانه عنه وإحاطته عز وجل به فهو فوق العرش مع حمله العرش وحملته وغناه عن العرش وفقر العرش إليه وإحاطته بالعرش وعدم إحاطة العرش به وحصره للعرش وعدم حصر العرش له وهذه اللوازم منتفية عن المخلوق وأصحاب التلبيس واللبس لا يميزون هذا التمييز ولا يفصلون هذا التفصيل ولو ميزوا وفصلوا لهدوا إلى سواء السبيل وعلموا مطابقة العقل الصريح للتنزيل ولسلكوا خلف الدليل ولكن فارقوا الدليل وضلوا عن سواء السبيل.

الوجه الثالث والثلاثون بعد المائة: إن الأصل الذي قادهم إلى النفي والتعطيل واعتقاد المعارضة بين العقل والوحي أصل واحد هو منشأ ضلال بني آدم وهو الفرار من تعدد صفات الواحد وتكثر أسمائه الدالة على صفاته وقيام الأمور المتجددة به وهذا لا محذور فيه وهو الحق الذي لا يثبت كونه سبحانه ربا وإلها وخالقا إلا به ونفيه جحد للصانع بالكلية وإنكار له وهذا القدر لازم لجميع طوائف أهل الأرض على اختلاف مللهم ونحلهم حتى لمن جحد الصانع بالكلية وأنكره رأسا فإنه يضطر إلى الإقرار بذلك وإن قام عنده ألف شبهة

ص: 1220

أو أكثر على خلافه أما من أقر بالصانع فإنه مضطر إلى أن يقر بكونه حيا عالما قادرا مريدا حليما فعالا ومع إقراه بهذا فقد اضطر إلى القول بتعدد صفات الواحد وتكثر أسمائه وأفعاله فلو تكثرت بعد ما تكثرت لم يلزم من تكثرها وتعددها محذور بوجه من الوجوه وإن قال أنا أنفيها جملة ولا أثبت تعددها بوجه فقيل له فهل تثبته موجودا أم لا فإن قال أثبته موجودا قيل له فهو هذه الموجودات أم غيرها فإن قال غيرها قيل له فهل هو خالقها أم لا فإن قال هو خالقها قيل له فهل هو قادر عليها عالم بها مريد لها أم لا فإن قال نعم هو كذلك اضطر إلى تكثر صفاته وتعددها وإن نفى ذلك كان جاحدا للصانع بالكلية نافيا له فيستدل عليه بما يستدل على الزنادقة الدهرية المنكرين لربهم تعالى ويقال له ما قالت الرسل لأممهم {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم10] .

وهل يستدل عليه بدليل هو أظهر للعقول من إقرارها به وبربوبيته

وليس يصح في الأذهان شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل

ص: 1221

وإن قال أنا أثبته موجودا واجب الوجود لا صفة له قيل له بل زعمت أنه معدوم ممتنع الوجود وكل موجود محقق أو مقدر أكمل منه على هذا التقدير فضلال اليهود والنصارى وعباد الأصنام أعرف به منك وأقرب إلى الحق والصواب منك وأما فرارك من قيام الأمور المتجددة به ففررت من أمر لا يثبت كونه إلها وربا وخالقا إلا به ولا يتقدر كونه صانعا لهذا العالم مع نفيه أبدا وهو لازم لجميع طوائف أهل الأرض على اختلافهم حتى للفلاسفة الذين هم أبعد الخلق من إثبات الصفات والأفعال هو لازم لهم لزوما لا انفكاك لهم عنه ولهذا قال بعض عقلاء الفلاسفة إنه لا يتقرر كونه ربا للعالمين إلا بإثبات ذلك ثم قال والإجلال من هذا الإجلال واجب والتنزيه من هذا التنزيه متعين قال بعض أهل العلم وهذه المسألة تقوم عليها رتب من ألف دليل عقلي وسمعي والكتب الإلهية والنصوص النبوية ناطقة بذلك وإنكاره لما علم بالضرورة من دين الرسل أنهم جاءوا به ونحن نقول إن كل سورة من سور القرآن تتضمن إثبات هذه المسألة وفيها أنواع من الأدلة عليها فأدلتها تزيد على عشرة آلاف دليل.

فأول سورة من القرآن تدل عليها من وجوه كثيرة وهي سورة أم الكتاب فإن قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ} يدل عليها فإنه

ص: 1222

سبحانه يحمد على أفعاله كما حمد نفسه عليها في كتابه وحمده عليها رسله وملائكته والمؤمنون من عباده فمن لا فعل له البتة كيف يحمد على ذلك فالأفعال هي المقتضية للحمد ولهذا نجده مقرونا بها كقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام1]{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف43]{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف1]{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر1]

الثاني: قوله {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وربوبيته للعالم تتضمن تصرفه فيه وتدبيره له ونفاذ أمره كل وقت فيه وكونه معه كل ساعة في شأن يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويخفض ويرفع ويعطي ويمنع ويعز ويذل ويصرف الأمور بمشيئته وإرادته وإنكار ذلك إنكار لربوبيته وإلهيته وملكه.

الثالث: قوله {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وهو الذي يرحم بقدرته ومشيئته من لم يكن راحما له قبل ذلك.

الرابع: قوله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} والملك هو المتصرف فيما هو ملك عليه ومالك له من لا تصرف

ص: 1223

له ولا يقوم به فعل البتة لا يعقل له ثبوت ملك ولا مالك.

الخامس: قوله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فهذا سؤال لفعل يفعله بهم لم يكن موجودا قبل ذلك وهو الهداية التي هي فعله فيترتب عليها الاهتداء الذي هو مطاوع وهو فعلهم.

السادس: قوله {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ونعمته عليهم وفعله القائم به وهو الإنعام فلو لم يقم به فعل الإنعام لم يكن للنعمة وجود البتة.

السابع: قوله {عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وهم الذين غضب الله عليهم بعدما أوجدهم وقام بهم سبب الغضب فالغضب على المعدوم محال وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن العبد إذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يقول الله: حمدني عبدي فإذا قال {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يقول الله: أثنى علي عبدي فإذا قال {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله مجدني عبدي فإذا قال {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال الله: هذه بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي فإذا قال {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخرها قال الله: هذا

ص: 1224

لعبدي ولعبدي ما سأل" فهذه أدلة من الفاتحة وحدها فتأمل أدلة الكتاب العزيز بعد على هذا الأصل تجدها فوق عد العادين وإحصاء المحصين حتى أنك تجد في الآية الواحدة على اختصار لفظها عدة أدلة كقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس82] ففي هذه الآية عدة أدلة:

أحدها: قوله {إِنَّمَا أَمْرُهُ} وهذا أمر التكوين الذي لا يتأخر عنه أمر الكون بل يعقبه

الثاني: قوله {إِذَا أَرَادَ شَيْئاً} وإذا تخلص الفعل للاستقبال

الثالث: قوله {أَنْ يَقُولَ لَهُ} وإن تخلص المضارع للاستقبال

الرابع: أن يقول فعل مضارع إما للحال وإما للاستقبال

الخامس: قوله {كُنْ} وهما حرفان سبق أحدهما الآخر ويتعقبه الثاني

ص: 1225

السادس: قوله {فَيَكُونُ} والفاء للتعقيب يدل على أنه يكون عقيب قوله له كن سواء لا يتأخر عنه السابع أن قوله {كُنْ} تكوين قائم به سبحانه والكون قد تعقبه ولم ينزح عنه وقوله تعالى {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف143] فهو سبحانه إنما كلمه ذلك الوقت وقوله {وَنَادَيْنَاهُ} [مريم52]{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ} [القصص62] وقوله {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف22] فالنداء إنما حصل ذلك الوقت وقوله {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة210]{وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر22]{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف54]{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء16]{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج16]{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة185]{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء28]

ص: 1226

{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء27]{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص6 ، 5]{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب4]{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة1]{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه46]{بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء15]{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن29] وهذا عند النفاة لا حقيقة له بل الشؤون للمفعولات وأما هو فله شأن واحد قديم فهذه الأدلة السمعية وأضعاف أضعافها مما يشهد بها صريح العقل وشهد ببطلان ما خالفها.

فإنكار ذلك وإنكار تكثر الصفات وتعدد الأسماء هو الذي أفسد العقل والنقل وفتح باب المعارضة

ص: 1227

بينهما وتفصيل أدلة هذه المسألة وبيان بطلان الشبه المعارضة لها يستدعي مجلدا كبيرا ولعلنا إن ساعد القدر أن نكتبه والله المستعان.

الوجه الرابع والثلاثون بعد المائة: إن من أئمة هؤلاء المعرضين من يقول إنه ليس في العقل ما يوجب تنزيه الرب سبحانه وتعالى عن النقائص ولم يقم على ذلك دليل عقلي أصلا كما صرح به الرازي وتلقاه عن الجويني وأمثاله قالوا وإنما نفينا النقائص عنه بالإجماع وقد قدح الرازي وغيره من النفاة في دلالة الإجماع وبينوا أنها ظنية لا قطعية فالقوم ليسوا قاطعين بتنزيه الله عن النقائص بل غاية ما عندهم في ذلك الظن فيا للعقلاء ويا لأولي الألباب كيف تقوم الأدلة القطعية على نفي صفات كماله ونعوت جلاله وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه وتكلمه بالقرآن حقيقة وتكليمه لموسى حقيقة بكلامه القائم به ورؤية المؤمنين له بأبصارهم عيانا من فوقهم في الجنة حتى تدعي أن الأدلة السمعية الدالة على ذلك قد عارضها صريح العقل وأما تنزيهه عن العيوب والنقائص فلم يقم عليه دليل عقلي ولكن علمناه بالإجماع وقد قلتم دلالته ظنية فوالله لو قال المشبه المجسم بزعمكم ما قال ما رضي لنفسه بهذا ولكان رب العالمين وقيوم السماوات والأرض أكبر في صدره

ص: 1228

وأجل في قلبه من أن لا يكون في عقله دليل ينزهه عن النقائص ولعل جاهلا أن يقول إنا قلنا عليهم ما لم يقولوا أو استجزنا ما يستجيزونه هم من حكاية مذاهب الناس عنهم فما يعتقدونه هم لازم لأقوالهم فيكذبون عليهم كذبا صريحا يقولون مذهب الحنابلة إن الله يجوز أن يتكلم بشيء ولا يعني به شيئا ومذهبهم أن الله لا يجوز أن يرى وأمثال ذلك مما هو كذب صريح وفرية مستندهم فيها ما فهموه من لازم قولهم فنحن لا نستجيز ذلك على أحد من الناس ولكن هذه كتب القوم فراجعها ولا تقلد الحاكي عنهم ويكفيك من فساد عقل يعارض الوحي أنه لم يقم عنده دليل عقلي ينزه ربه وخالقه عن العيوب والنقائص فلقد كشف لك صاحب هذا العقل عن حقيقة معقوله وأقر على نفسه وعقله أنه أقل وأحقر شأنا أن يعارض الوحي ونصوص الأنبياء ثم يتقدم عليها وبالله التوفيق.

الوجه الخامس والثلاثون بعد المائة: أن يقال لهؤلاء المعارضين للوحي بعقولهم لا يمكنكم تنزيه الرب سبحانه عن النقائص والعيوب إلا أن يتحيزوا إلى أهل السنة ويصيروا أضيافا لهم ويستضيئوا بنورهم وإلا فلا يمكنكم على أصولكم تنزيه الرب عن العيوب البتة فإنكم نزهتموه عن صفات كماله وزعمتم

ص: 1229

أنها تستلزم التجسيم وهو يستلزم الحدوث فبذلك نفيتم صفاته وأفعاله فلما قال لكم أهل الإثبات نفيكم لهذه الصفات يستلزم ثبوت ضدها له وهو نقص وهو محال على من له الكمال كله أجبتموه بأن هذا إنما يلزم في القابل للشيء وضده وأما الرب سبحانه فإنه لا يقبل هذه الصفات ولا أضدادها فلا يلزم من سلبها عنه ثبوت أضدادها كما لا يلزم من سلب الكلام والسمع والبصر والحياة عن الحجر وصفه بالخرس والطرش والعمى والموت فقال لكم أهل الإثبات لو جعلتموه قابلا لصفات الكمال وسلبتموها عنه لكان أكمل ممن لا يقبل صفات الكمال البتة فالأعمى والأخرس والأصم والعاجز أكمل من الحجر والتراب فنزلتم درجة أخرى وشبهتموه بأنقص الناقصات وهو مالا يقبل الكمال بوجه فلو أثبتم له صفات الكمال كلها على وجه التشبيه والتمثيل بخلقه لكان خيرا من تشبيهكم له بأنقص الناقصات من الجمادات التي لا تقبل الكمال فإن الحيوان الذي يقبل أن يتعاقب عليه العدم والملكة فيكون تارة سميعا وتارة أصم أكمل من الجماد

ص: 1230

الذي لا يقبل هذا ولا هذا بل الحيوان الموصوف بهذه النقائص مع إمكان اتصافه بهذا الكمال أكمل من الجماد الذي لا يقبل ذلك فإذا قلتم إن الرب لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال مع أن المتصف بالنقائص يمكنه الاتصاف بها جعلتموه أنقص من الحيوانات وكان من وصفه بهذه النقائص خيرا منكم وهم يشنعون بما يحكي عن ضلال اليهود والنصارى أن الله ندم على الطوفان حتى عض أصبعه وجرى الدم وبكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة وأمثال ذلك وهؤلاء مع كفرهم وضلالهم أحسن قولا فيه ممن يقول إنه لا يقبل الاتصاف بصفات الكمال بل من جعله يأكل ويشرب وينام ويألم خير ممن جعله بمنزلة الأحجار والجامدات التي لا تقبل هذه الصفات فالمشبهة المحضة خير منكم وأحسن قولا في ربهم وخالقهم وأما خصومكم من أهل السنة والحديث فهم لا يقولون بتشبيهكم ولا بتشبيه إخوانكم وإن كان تشبيهكم شرا من تشبيههم وإنما يصفون الله بصفات كماله ونعوت جلاله ويثبتون أفعاله حقيقة لا مجازا كما يثبتون ذاته وصفاته ولا يشبهون الله بخلقه ولا يمثلونه بهم والله سبحانه أجل في صدورهم وأعظم في قلوبهم من أن يشبهوه بخلقه أو ينفوا عنه صفات كماله وأفعاله فيشبهونه بالجامدات العادمة للكمال وقبوله يوضحه:

ص: 1231

الوجه السادس والثلاثون بعد المائة: وهو أن الله سبحانه عاب آلهة المشركين بنفس ما وصفتم الإله الحق سبحانه به فعابها بأنها لا تتكلم ولا تكلم عابديها وقلتم إن هذا من خصائص الربوبية وعابها بأنها لا تسمع ولا تبصر وقلتم إن إثبات السمع والبصر للرب يقتضي التشبيه والتجسيم وعابها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تهدي السبيل فنفى عنها هذه الأفعال وقلتم ليس للقديم فعل يقوم به البتة فإنه لو قامت به الأفعال لكان محلا للحوادث وعابها بأنها لا يد لها تبطش بها ولا رجل تمشي بها ولا عين تبصر بها وقلتم بأن الرب سبحانه كذلك فإنا لو وصفناه بذلك وصفناه بالجوارح والأبعاض وجميع ما عابها به إنما هو نفي وسلب لم يعبها بصفة ثبوتية البتة وعندكم أعظم التنزيه السلب والنفي الذي هو جماع ما عاب به آلهة المشركين.

الوجه السابع والثلاثون بعد المائة: إن الطوائف كلها اتفقت على إثبات موجود واجب بنفسه قديم أزلي لا يجوز عليه العدم ثم تنازعوا فيما يجب له ويمتنع عليه تنازعا لا يحصيه إلا رب العباد ولم تختلف مقالات أهل الأرض في شيء كاختلافهم في ربهم تعالى

ص: 1232

وأحدث الأمم عهدا هذه الأمة وهذه مقالاتهم قد فاتت الحصر وقد حكى منها أهل المقالات ما بلغهم وأعظم من استوعبها الأشعري في مقالاته وقد حدث بعده مقالات لم يحكها ولم يودعها كتابه وكل يدعي أن العقل دله على تلك المقالة وصحتها وإذا جاء السمع بخلافها لجأ إلى طاغوت من هذه الطواغيت الأربعة ومقالة النفاة المعطلة شر مقالات أهل الأرض على الإطلاق وأشدها مناقضة للمعقول والمنقول فإنهم يصفونه بصفات المعدوم الصرف بل بصفات الممتنع الوجود يعني بصفات المعدوم والممتنع ما يخبر به عنه ويحكم به عليه وإلا فليس هناك صفة ولا موصوف فيقولون ليس هو فوق خلقه ولا هو مستو على عرشه ولا هو داخل العالم ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولا مباينا له ولا محايثا ولا مجاورا ولا فوق ولا تحت ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل من عنده ولا تعرج الملائكة والروح إليه ولا رفع المسيح إليه ولا عرج برسول إليه ودنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى ولا يقرب منه شيء ولا يقرب من شيء ولا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ولا يأتي يوم القيامة في ظلل من الغمام ولا يجيء للفصل بين عباده ولا ترفع إليه الأيدي ولا يشار إليه بالأصابع ولا يمكن

ص: 1233

رؤيته البتة ولا قال ولا يقول ولا يكلم ولا يتكلم ولا نادى ولا ينادي ولا له علم ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر ولا إرادة ولا وجه ولا يد ولا عين ولا إصبع وغلاتهم يقولون لا يسمى حيا عالما قادرا إلا بطريق المجاز ويقولون لو أثبتنا هذه الصفات لزم أن يكون جسما والجسم مركب والمركب ممكن والممكن محدث فإثبات هذه الصفات تنافي قدمه ووجوب وجوده وأما أهل الإثبات فيقولون الموصوف بهذه الصفات السلبية المنفي عنه الصفات الثبوتية لا يكون إلا ممتنعا والامتناع ينافي الوجود فضلا عن وجوبه والذين وصفوه بهذه السلوب وصفوه بما لا يتصف به إلا ما يمتنع وجوده ومن وصف ما يجب وجوده بما يمتنع وجوده فقد جعله دون المعدوم الممكن الوجود ويقولون للمعطلة النفاة أنتم فررتم من وصفه بما يستلزم الإنكار بزعمكم فوصفتموه بما يستلزم الامتناع من وصفه ومن وصف بما يستلزم الحدوث على ظنكم فوصفتموه بما يستلزم العدم والأجسام الجامدة خير من المسلوب عنه هذه الصفات فضلا عن الأجسام الحية الناقصة فضلا عن الأجسام الحية الكاملة قالوا ومن المعلوم أنه إذا دار الأمر بين وجود حي كامل وبين معدوم أو ممتنع كان الموجود خيرا من المعدوم يوضحه.

الوجه الثامن والثلاثون بعد المائة: أن اللوازم التي تلزم المعطلة النفاة شر من اللوازم التي تلزم المشبهة المحضة دع المثبتة لحقائق الأسماء والصفات المنزهين الله عن شبه المخلوقات فإنهم يلزمهم عشرة لوازم

ص: 1234

أحدها: جحد الصانع ونفيه

الثاني: سلب كماله عنه

الثالث: وصفه بالنقائص والعيوب

الرابع: تشبيهه بالجمادات الناقصة

الخامس: تشبيهه بالمعدومات بل بالممتنعات

السادس: الطعن فيما أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله

السابع: القدح في علم الرسول أو بيانه أو نصحه أو الجمع

الثامن: إفساد الفطر والعقول وتغييرها عما فطرت عليه كإفساد الشياطين لها بالشرك واتباع الغي

التاسع: إلقاء العداوة بين الوحي والعقل ودعوى تناقضهما وتعارضهما

العاشر: القدح في شهادة العقل فإنهم إذا جوزوا معارضته ومناقضته لكلام الله ورسوله فقد قدحوا فيه أعظم القدح وجرحوه أبين الجرح ويكفي في جرحه والطعن في شهادته إقرارهم بأنه مضاد مناقض لما بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه وحينئذ فنقول في:

ص: 1235

الوجه التاسع والثلاثين بعد المائة: إنكم أسأتم القول في العقل غاية الإساءة وقدحتم فيه أعظم القدح فإن الله سبحانه ركب العقول في عباده ليعرفوا بها صدقه وصدق رسله ويعرفوه بها ويعرفوا كماله وصفاته وعظمته وجلاله وربوبيته وتوحيده وأنه الإله الحق وما سواه باطل فهذا هو الذي أعطاهم العقل لأجله بالذات والقصد الأول وهداهم به إلى مصالح معاشهم التي تكون عونا لهم على ما خلقوا لأجله وأعطوا العقول له فأعظم ثمرة العقل معرفته لخالقه وفاطره ومعرفة صفات كماله ونعوت جلاله وأفعاله وصدق رسله والخضوع والذل والتعبد له فإذا أقررتم على العقل بأنه لا يدرك ذلك ولا يصدق ذلك به بل يعارضه ويكذبه ويرده فقد نسبتموه إلى أقبح الجهل وأعظم شهادة الزور وما كان هكذا فلا تقبل له شهادة في شيء فضلا عن تقديم شهادته على ما شهد الله به لنفسه وشهدت له به رسله من أولهم إلى آخرهم وحينئذ فنقول في:

الوجه الأربعين بعد المائة: أن الشهادة تعتمد على الشاهد وصدقه فإنها خبر ولا بد أن يكون المخبر به عالما صادقا وقد علم كذب العقل المعارض لما جاءت به الرسل قطعا وجملة فإنه لا يجتمع

ص: 1236

صدقه وصدق الرسل ولا صحة ما أخبر به وصحة ما أخبرت به الرسل لاستحالة الجمع بين النقيضين وحينئذ فيلزم من قبول شهادته تكذيب شهادة الرسل هذا لو لم يعلم كذبه فيما شهد به إلا بمجرد مخالفته لما شهدت به الرسل فكيف إذا علم كذبه بشهادة عقل آخر أصح منه وأذكى وأصدق كيف وقد علم كذب العقل الشاهد بخلاف ما جاءت به الرسل بوجوه كثيرة من مناقضته واضطرابه وإثباته للشيء ثم نفيه للوازمه ونفيه للوازمه ثم إثباته لملزوماتها وتفريقه بين المتساويين وجمعه بين المختلفين فقد علم كذبه وجهله من هذه الوجوه الثلاثة فلا يصلح أن يستشهد به على مخالفة السمع بوجه من الوجوه يوضحه.

الوجه الحادي والأربعون بعد المائة: وهو أن هؤلاء المعارضين ردوا حكم العقل الصريح المبني على المقدمات الضرورية الفطرية ونسبوه إلى البطلان وحينئذ فلا يمكنهم أن يقيموا معقولا صحيحا على خلاف ما دل عليه السمع البتة لأن حكم العقل الذي ردوه وأبطلوه أظهر وأبين وأصدق من حكم العقل الذي قدموه على كلام الله ورسوله بما لا نسبة بينهما فصاروا في ذلك بمثابة حاكم فاسق ظالم رد شهادة العدول المبرزين في العدالة وقبل شهادة المجهولين والمعروفين بالكذب والزور والفسق ثم لم يكفه ذلك حتى عارض شهادة أولئك العدول الصادقين بشهادة هؤلاء الفسقة الكاذبين ثم قدمها عليها

ص: 1237

وطعن في أولئك العدول فارتكب أنواعا من الجهل والظلم جمع فيها بين إبطال الحق وتحقيق الباطل وتزكية شهود الزور والطعن في شهادة العدول فتوهوا العقول الصحيحة والنصوص الصريحة وضيقوها واستدعوا العقول الفاسدة والأقوال الكاذبة فولوها مكانها واستعملوها كما قال أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب إمام الأشعري وأصحابه في كتاب الصفات مما نقله عنه أبو بكر بن فورك فقال في الكتاب المذكور في باب القول في الاستواء وهذا لفظه ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صفوة الله من خلقه وخيرته من بريته وأعلمهم جميعا به يجيز السؤال بأين وبقوله ويستصوب قول القائل إنه في السماء ويشهد له بالإيمان عند ذلك.

وجهم بن صفوان وأصحابه لا يجيزون الأين

ص: 1238

زعموا ويحيلون القول به ولو كان خطأكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالإنكار له وكان ينبغي أن يقول لها لا تقولي ذلك فهو قسمان إنه عز وجل محدود في مكان دون مكان ولكن قولي إنه في كل مكان لأنه الصواب دون ما قلت كلا لقد أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علمه بما فيه وأنه أصوب الأقاويل والأمر الذي يجب به الإيمان لقائله ومن أجله شهد لها بالإيمان حين قالته وكيف يكون الحق في خلاف ذلك والكتاب ناطق به وشاهد له قال ولو لم يشهد بصحة مذهب الجماعة في هذا الفن خاصة إلا ما ذكرنا من هذه الأمور لكان فيه ما يكفي كيف وقد غرس الله في الفطرة ومعارف الآدميين من ذلك مالا شيء أبين منه ولا أوكد لا بل لا تسأل أحدا من الناس عنه عربيا ولا عجميا ولا مؤمنا ولا كافرا فتقول أين ربك إلا قال في السماء إن أفصح أو أومأ بيده وأشار بطرفه إن كان لا يفصح لا يشير إلى غير ذلك من أرض ولا سهل ولا جبل ولا رأينا أحدا داعيا إلا رافعا يديه إلى السماء ولا وجدنا أحدا غير الجهمية يسأل عن ربه فيقول في كل مكان كما يقولون وهم يزعمون أنهم أفضل الخلق كلهم فتاهت العقول وسقطت الأخبار واهتدى جهم وحده وخمسون

ص: 1239

رجلا معه نعوذ بالله من الخذلان ومعضلات الفتن ثم ألزمهم ابن كلاب بمذهب الدهرية الملاحدة وأن يكونوا وهم بمنزلة واحدة فقال في هذا الكتاب يقال للجهمية أليست الدهرية كفارا ملحدين في قولهم إن الدهر هو واحد إلا أنه لا ينفك عن العالم ولا ينفك العالم عنه ولا يباين العالم ولا يباينه ولا يماس العالم ولا يماسه ولا يداخل شيئا من العالم ولا يداخله لأنه واحد والعالم غير مفارق له فإذا قالوا نعم قيل لهم صدقتم فلم أثبتم المعبود بمعنى الدهر وأكفرتم من قال بمثل مقالتكم هل تجدون بينكم وبينه فرقا أكثر من أن سميتموه بغير ما سموه به وقد قلتم إنه غير مفارق العالم ولا العالم مفارق له ولا هو داخل في العالم ولا العالم داخل فيه ولا مماس للعالم ولا العالم مماس له ولم رجعتم على من خالفكم بالتكفير وزعمتم أنهم كفروا لأنهم قالوا واحد منفرد بأين فلم لا كنتم أولى بالكفر والتشبيهة منهم إذا زعمتم مثل زعم الملحدين وقلتم مثل مقالة الضالين وخرجتم من توحيد رب العالمين وقال في موضع آخر من هذا الكتاب وأخرج من

ص: 1240

العقل والخبر من قال إنه سبحانه لا داخل العالم ولا خارجه لأنه نفاه نفيا مستويا وألزم الجهمية في موضع آخر منه مفارقة صريح المعقول حيث زعموا بأنه سبحانه فعل الأشياء لا بائنة عنه ولا قائمة به حالة فيه وهذا لا يثبته عقل عاقل وأخذ هذا من حجة الإمام أحمد وأئمة السنة على هؤلاء المعطلة الجهمية.

قال الإمام أحمد في كتابه الذي خرجه في الرد على الزنادقة والجهمية وذكره الخلال في الجامع والقاضي أبو يعلى وسائر أصحاب أحمد قال في باب ما أنكرت الجهمية الضلال أن يكون الله على العرش وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أنه في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان فقل له أليس الله كان ولا شيء فيقول نعم فقل له حين خلق الخلق خلقه في نفسه أو خارجا من نفسه فإنه يصير إلى ثلاثة أقوال إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه فقد كفر حين زعم أنه خلق الجن والشياطين في نفسه وإن قال خلقهم خارجا

ص: 1241

من نفسه ثم دخل فيهم كان هذا أيضا كفرا حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش قذر رديء فإن قال خلقهم خارجا من نفسه ولم يدخل فيهم رجع عن قوله كله أجمع.

فقد بين الإمام أحمد ما هو معلوم بصريح العقل وبديهته من أنه لا بد إذا خلق الخلق من أن يخلقه مباينا له أو محايثا له ومع المحايثة إما أن يكون هو في العالم وإما أن يكون العالم فيه لأنه سبحانه قائم بنفسه إذا كان محايثا لغيره فلا بد أن يكون أحدهما حالا في الآخر بخلاف ما لا يقوم بنفسه كالصفات فإنها تكون قائمة بغيرها فهذا القسم لم يحتج أن يذكره لظهور فساده وكذلك قول من يقول لا هو مباين ولا محايث لما كان صريح العقل يدل على بطلانه لم يدخله في التقسيم والمقصود أن أئمة الكلام وأئمة السنة متفقون على ان قول الجهمية مخالف لصريح العقل والنقل وفطرة الله التي فطر عليها عباده وأنه لا يمكن أحدا أن يقول بقولهم حتى يتوه العقل والسمع ويفارق حكمهما.

ص: 1242

الوجه الثاني والأربعون بعد المائة: أن فحول الكلام وأئمة النظر والبحث الذين سبروا المقالات وتبحروا في المعقولات قد شهدوا لطريقة النفاة المعطلة بمناقضتها للسمع والعقل وأن السمع والعقل إنما يقتضيان الإثبات وعلو الرب على جميع المخلوقات واستواءه على عرشه فوق سبع سماوات.

قال أبو الحسن الأشعري في كتاب الإبانة والموجز والمقالات وهذا لفظه في كتاب الموجز إذ هو من أجل كتبه المتوسطات إن قال قائل ما تقولون في الاستواء قيل له نقول إن الله عز وجل مستو على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه5] وقد قال {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر10] وقال {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء158]

ص: 1243

وقال {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة5] وقال حكاية عن فرعون {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر37 ، 36] كذب موسى في قوله أن الله عز وجل فوق السماوات وقال عز وجل {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك16] والسماوات فوقها العرش الذي هو فوق السماوات وكل ما علا فهو سماء فالعرش أعلى السماوات وليس إذا قال أأمنتم من في السماء يعني جميع السماء وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات ألا ترى أن الله سبحانه ذكر السماوات فقال {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} [نوح16] ولم يرد أن القمر ملأهن جميعا وأنه فيهن جميعا ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله

ص: 1244

عز وجل مستو على العرش الذي هو فوق السماوات فلولا أن الله عز وجل مستو على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش كما لا يحطونها إذا دعوا نحو الأرض قال وقال قائلون من الجهمية والمعتزلة والحرورية إن معنى قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه5] إنه استولى وملك وقهر وأن الله في كل مكان وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء إلى القدرة قال ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة لأن الله قادر على كل شيء والأرض فالله قادر عليها وعلى كل ما في العالم فلو كان الله مستو على العرش بمعنى الاستيلاء وهو سبحانه مستول على الأشياء كلها كان مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار لأنه قادر على الأشياء ومستول عليها وإذا كان قادرا على الأشياء كلها ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول إن الله مستو على الحشوش والأخلية لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون الأشياء كلها قال وزعمت المعتزلة والحرورية والجهمية أن الله في

ص: 1245

كل مكان فلزمهم أنه في بطن مريم والحشوش والأخلية وهذا خلاف الدين تعالى عن قولهم ثم قال ودليل آخر وهو قوله سبحانه {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى51] فقد خصت الآية البشر دون غيرهم ممن ليس هو من جنس البشر ولو كانت الآية عامة للبشر وغيرهم كان أبعد من الشبهة وإدخال الشك على من يسمع الآية أن يقول وما كان لأحد أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب فيرتفع الشك والحيرة من أن يقول ما كان لجنس من الأجناس أن يكمله الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ويترك أجناسا لم يعمهم بالآية فدل ما ذكرنا على أنه خص البشر دون غيرهم.

ومقصود الأشعري بهذا الكلام أنه على قول النفاة لا فرق بين البشر وغيرهم فإنه عندهم لا يحجب الله تعالى أحدا بحجاب منفصل عنه بل هو محتجب من جميع الخلق بمعنى أنه لا يمكن أحدا أن يراه فاحتجابه عن بعضهم دون بعض دليل على نقيض قولهم وذلك أن نفاة المباينة

ص: 1246

يفسرون الاحتجاب بمعنى عدم الرؤية لامتناع قبول الذات لها لا لمانع منفصل يمنعها من حجاب منفصل عن المحجوب وإذا كانت الذات غير قابلة للرؤية بل حجابها عدم قبولها لتعلق الرؤية بها كان هذا الحجاب إلى جميع المخلوقات واحدا ولم يختص به البشر دون غيرهم فلما أخبر أنه يكلم البشر من وراء حجاب دل على أنه قد يكلم غيرهم مع رفع ذلك الحجاب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر بن عبد الله: "إن الله ما كلم أحدا إلا من وراء حجاب وإنه أحيا أباك وكلمه كفاحا" وكما في

ص: 1247

الحديث "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه حجاب يحجبه ولا ترجمان" فلا يناقض هذا ما دلت عليه الآية فإن هذا في الدنيا وما دلت عليه السنة في دار الآخرة وتكليم عبد الله بن حرام والد جابر كان بعد الموت لم يكن في الدنيا قال الأشعري دليل آخر قال الله عز وجل {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام62] وقال تعالى {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} [الأنعام30] وقال {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [السجدة12] وقال تعالى {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً} [الكهف48] قال كل ذلك يدل على أنه ليس في خلقه ولا خلقه فيه وأنه مستو على عرشه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا الذين لم يثبتوا له في وصفهم حقيقة ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية إذ كلامهم يؤول إلى التعطيل وجميع أوصافهم تدل على النفي يريدون بذلك زعموا التنزيه ونفي التشبيه فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي والتعطيل.

ص: 1248

ووجه استدلاله بهذه النصوص أنها صريحة في المباينة والمقابلة والوقوف بين يديه ولو كان غير داخل في العالم ولا خارجه لم يصح شيء من ذلك فهذه النصوص صريحة في مباينة العالم ومقابلته للواقف بين يديه حتى يكون ناكس الرأس قدامه فلو لم يكن فوق العرش بطلت هذه النصوص جملة.

قال الأشعري وروت العلماء عن ابن عباس أنه قال تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله فإن بين كرسيه إلى السماء ألف عام والله عز وجل فوق ذلك.

وهذا الحديث قد رواه أبو أحمد العسال في كتاب المعرفة من حديث عبد الوهاب الوراق ثنا علي بن عاصم عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس" تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله فإن ما بين كرسيه إلى السماء السابعة سبعة آلاف نور وهو فوق" ذلك ثم قال عبد الوهاب الرجل الصالح العالم الذي سئل الإمام

ص: 1249

أحمد من يسأل بعدك؟ فقال سلوا عبد الوهاب الوراق.

قال من زعم أن الله هاهنا فهو جهمي خبيث إن الله فوق العرش وعلمه محيط بالدنيا والآخرة.

قال الأشعري ومما يؤكد أن الله مستو على عرشه دون الأشياء كلها ما نقله أهل الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث النزول كقوله ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فأغفر له هل من داع فأستجيب له حتى يطلع الفجر. قال ودليل آخر قال تعالى {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل50] وقال تعالى {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج4] وقال {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت11]

ص: 1250

وقال {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} وأجمعت الأمة على أن الله رفع عيسى إلى السماء. قال الأشعري ومن دعاء أهل الإسلام جميعا إذا هم رغبوا إلى الله عز وجل في الأمر النازل بهم أن يقولوا جميعا يا ساكن العرش لا والذي احتجب بسبع سماوات.

فقد حكى أبو الحسن الأشعري إجماع المسلمين على أن الله فوق العرش وأن خلقه محجوبون عنه بالسماوات وهذا مناقض لقول من يقول إنه لا داخل العالم ولا خارجه فإن هؤلاء يقولون ليس للعرش به اختصاص وليس شيء من المخلوقات يحجب عنه شيئا وقال لسان المتكلمين القاضي أبو بكر بن الباقلاني في كتاب الإبانة والتمهيد وغيرهما فإن قال قائل أتقولون إنه في كل

ص: 1252

مكان قيل معاذ الله بل هو مستو على عرشه كما أخبر في كتابه فقال {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه5] وقال {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر10] وقال {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك16] ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان

ص: 1253

وفي المواضع التي يرغب عن ذكرها ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها مالم يكن وينقص بنقصانها إذا أبطل منها ما كان ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى خلفنا وعن أيماننا وشمائلنا وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله.

وقد ذكرنا في كتاب اجتماع العساكر الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية أضعاف أضعاف هذه النقول عن الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة الأربعة نصا صريحا عنهم نقله أصحابهم وغيرهم وأئمة التفسير وأئمة اللغة وأئمة النحو وأئمة الفقه وسادات الصوفية وشعراء الجاهلية والإسلام مما في بعضه كفاية لمن أراد الله هدايته ومن طبع الله على قلبه فإن آيات الله تتلى عليه وكلام رسوله ولا يزيده ذلك إلا مرضا على مرضه والله الموفق للصواب لا إله غيره ولا رب سواه.

الوجه الثالث والأربعون بعد المائة: إن هؤلاء لم يكفهم أن سدوا على أنفسهم باب الرد على أعداء الإسلام بما وافقوهم فيه من النفي والتعطيل حتى

ص: 1254

فتحوا لهم الباب وطرقوا لهم الطريق إلى محاربة القرآن والسنة فلما دخلوا من بابهم وسلكوا من طريقهم تحيزوا معهم وصاروا جميعا حربا للوحي وادعوا أن العقل يخالفه ولا يمكن الرد على أهل الباطل إلا مع أتباع السنة من كل وجه وإلا فإذا وافقها الرجل من وجه وخالفها من وجه طمع فيه خصومه من الوجه الذي خالفها فيه واحتجوا عليه بما وافقهم فيه من تلك المقدمات المخالفة للسنة ومن تدبر عامة ما يحتج به أهل الباطل على من هو أقرب إلى الحق منهم وجد حجتهم إنما تقوى على من ترك شيئا من الحق الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه فيكون ما تركه من الحق أعظم حجة للمبطل عليهم ويجد كثيرا من أهل الكلام يوافقون خصومهم على الباطل تارة ويخالفونهم في الحق تارة فيتسلطون عليهم بما وافقوهم فيه من الباطل وبما خالفوهم من الحق وليس لمبطل بحمد الله حجة ولا سبيل بوجه من الوجوه على من وافق السنة ولم يخرج عنها حتى إذا خرج عنها قدر أنملة تسلط عليه المبطل بحسب القدر الذي خرج به عن السنة فالسنة حصن الله الحصين الذي من دخله كان من الآمنين وصراطه المستقيم الذي من سلكه كان إليه من الواصلين وبرهانه المبين الذي من استضاء به كان من المهتدين فمن وافق مبطلا على شيء من باطله جره بما وافقه منه إلى نفي باطله.

وقد ضرب بعض أهل العلم لذلك مثلا مطابقا فقال

ص: 1255

مثل الحق مثل طريق مستقيم واسع وعلى جنبيه قطاع ولصوص وعندهم خواطئ قد ألبسوهن الحلي والحلل وزينوهن للناظرين فيمر الرجل بالطريق فيتعرضن له فإن التفت إليهن طمعن في حديثه فألقين إليه الكلام فإن راجعهن وأجابهن دعينه إلى الذبح فإذا دخل عرين الموت صار في قبضتهن أسيرا أو قتيلا فكيف يحارب قوما من هو أسير في قبضتهم قتيل سلاحهم بل يصير هذا عونا من أعوانهم قاطعا من قطاع الطريق ولا يعرف حقيقة هذا المثل إلا من عرف الطريق المستقيم وقطاع الطريق ومكرهم وحيلهم وبالله التوفيق وهو المستعان.

وقد نصب الله سبحانه الجسر الذي يمر الناس من فوقه إلى الجنة ونصب بجانبيه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم فهكذا كلاليب الباطل من تشبيهات الضلال وشهوات الغي تمنع صاحبها من الاستقامة على طريق الحق وسلوكه والمعصوم من عصمه الله.

الوجه الرابع والأربعون بعد المائة: أن يقال لهذه الفرقة المعارضة بين النقل والعقل أتدعون هذه المعارضة بين العقل وجميع النقل أو بعضه والأول

ص: 1256

لا يقوله مسلم بل ولا عاقل ولا أحد من بني آدم فلا حاجة إلى الكلام على تقريره وإذا ادعيتم أن التعارض واقع بين العقل وبين بعض المنقول قيل لكم المنقول أنواع متعددة نوع يتعلق بالأمر والنهي والإباحة ونوع يتعلق بمبدأ الخليقة وتخليق العالم ومادته ومبدئه ونوع يتعلق بالمعاد وحشر الأجساد وطي العالم وخرابه وإنشاء الخلق نشأة أخرى ونوع يتعلق بالإخبار عن الأمم السالفة والقرون الماضية وأحوالهم وما أصابهم من نعمة ونقمة ونوع يتعلق بالإخبار عن عجائب المخلوقات وبدائع الآيات في الأرض والسماء ونوع يتعلق بأسماء الرب وصفاته وأفعاله وما يجب له ويمتنع عليه فأي هذه الأنواع تدعون معارضة العقل لها حتى يقع الكلام معكم فيه ومعلوم أنه ما من نوع من هذه الأنواع إلا وقد عارضه طائفة من شياطين الإنس بآرائهم وعقولهم وقد قدمنا معارضة شيخ القوم للأمر بمعقوله وأن العقل يقتضي أن لا يسجد الفاضل للمفضول وبينا سريان تلك المعارضة في

ص: 1257

تلامذته وأتباعه حتى إن منهم من عارض الأمر كله بعقله وذكروا وجوها عقلية تدفع الأمر والنهي والله يعلم أن الوجوه العقلية التي ذكرها المعطلة النفاة لدفع علو الرب واستوائه على عرشه وصفات كماله أوهى منها أو من جنسها وطائفة أخرى عارضت نصوص المبدأ والمعاد بمعقولات هي من جنس معقولات نفاة الصفاة فهل يوافقون هؤلاء في صحة هذه المعارضة أم يخالفونهم وفي أي الأنواع تدعون المعارضة فإن قصرتموه على نوع الأسماء والصفات قيل لكم فالمعارضة ثابتة بين العقل وبين سائر هذا النوع أم بينه وبين بعضه ولا ضابط لفرقة منكم في دعوى هذه المناقضة أصلا بل كل من نفى شيئا مما أثبته الرسول قال قد عارضه صريح العقل فإمامكم الذي تقدمون نصوص إشاراته على نصوص القرآن والسنة عنده إن صريح العقل معارض لنصوص المعاد وحدوث العالم وإثبات الصفات والقدرية المجوسية عندهم أن صريح العقل معارض للنصوص المثبتة للقدر والجهمية المعطلة عندهم أن العقل الصريح معارض لنصوص الرؤية والعلو والاستواء على العرش وصفة التكلم والتكليم وغير ذلك من الصفات فمع من أنتم من أرباب هذه المعارضات وأهل هذه المعقولات هل تصوبون جميعهم أم بعضهم ومن

ص: 1258

البعض المصيب ومن المخطئ وفي أي شيء اصاب هؤلاء وأخطأ هؤلاء ولقد صدق القائل إنكم لا ترجعون في الحقيقة إلى شيء وإن منتهاكم الشك والحيرة وبالله التوفيق. وحينئذ فنقول في

الوجه الخامس والأربعين بعد المائة: إن نهاية أمر هؤلاء المعارضين لنصوص الوحي بالرأي انتهاؤهم إلى الشك والتشكيك والحيرة في أمرهم فتجدهم يشكون في أوضح الواضحات وفيما يجزم عوام الناس به ويتعجبون ممن يشك فيه ولا تعطيك كتبهم وبحوثهم إلا الشك والتشكيك والحيرة والإشكالات وكلما ازددت فيها إمعانا ازددت حيرة وشكا حتى يؤول بك الأمر إلى الشك في الواضحات واعتبر هذا بإمام الشك والتشكيك أفضل متأخريهم وكتبه تجده شاكا في الزمان والمكان لم يعرف حقيقته وماهيته وشاكا في وجود الرب تعالى هل هو عين ماهيته أو زائد عليها وهل الوجود مقول على الواجب والممكن بالتواطؤ أو بالاشتراك اللفظي وهل

ص: 1259

الوجود الواجب وجود محض لا يقارن شيئا من الماهيات أم وجود مقارن لماهية غير معلومة للبشر وشاكا في الرب سبحانه هل كان معطلا في الأزل والفعل ممتنع عليه ثم انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بلا تجدد أمر حصل في الفاعل كما يقوله المتكلمون أو لم يزل فعله مقارنا له كما يقوله الفلاسفة وهو حائر بين هذين القولين معارض أدلة كل منهما بأدلة الآخر وتارة يرجح أدلة المتكلمين في كتبه الكلامية وتارة يرجح أدلة الفلاسفة في كتبه الفلسفية وتارة يصف الجيشين ويلقي الحرب بينهما ولا يتحيز إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما في كتبه الجامعة بين الطريقتين.

وشاكا في الجوهر الفرد فمرة يثبته ويوقف الإيمان بالمبدأ والمعاد عليه وتارة ينفيه ويبطله.

وشاكا في تماثل الأجسام فتارة يثبته ويحتج عليه وتارة ينفيه.

وشاكا في مسألة حلول الحوادث فتارة ينفيها وتارة يقول بها ويقوي أمرها ويلزمها جميع الطوائف.

ص: 1260

وشاكا في النبوات هل هي ثابتة على طريق الفلاسفة أو على طريق المعتزلة أم على طريق الأشعرية.

وشاكا في مسألة التحسين والتقبيح فتارة يسلك فيها مسلك النفاة وتارة مسلك المثبتين.

وشاكا في إثبات الصفات ففي كتبه الفلسفية ينفيها وفي الكتب الكلامية يثبتها إثباتا لا حقيقة له بل هو لفظ بلا معنى.

وشاكا في الإنسان هل هو هذا البدن المشهود أم أمر آخر وراءه وهو الروح أم مجموع الأمرين

وشاكا في الروح وحقيقتها وماهيتها وهل هي جسم أو جوهر مجرد لا داخل العالم ولا خارجه أو عرض من أعراض البدن

وشاكا في مسألة الكلام والرؤية فمرة يقوي فيها قول المعتزلة ومرة قول الأشعرية إلى أضعاف ما ذكرنا من المسائل ولهذا تجد أتباعه أكثر الناس شكا وتشكيكا.

والفاضل عندهم الشاك وكلما كان الرجل أعظم شكا كان عندهم أفضل فهذا شكهم في الدنيا وأما عند الموت

ص: 1261

فقد قال العارف بحقيقة أمرهم أكثر الناس شكا عند الموت أرباب الكلام.

وقد أقروا على أنفسهم بالشك وعدم اليقين في كتبهم وعند موتهم كما تقدم حكاية ذلك عن أفاضلهم ورؤوسهم حتى قال بعضهم عند موته والله ما أدري على ماذا أموت عليه ثم قال اشهدوا على أني على عقيدة أمي وقال الآخر اشهدوا علي أني أموت وما عرفت إلا مسألة واحدة وهي أن الممكن مفتقر إلى الواجب ثم قال الافتقار أمر عدمي بل أموت وما عرفت شيئا.

وقال الآخر أضع الإزار على وجهي ثم أقابل بين أقوال هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ولا يتبين لي منها شيء.

ويقول الآخر لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه5]{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر10]

ص: 1262

واقرأ في النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى11]{وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه110] ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي وقد حكينا كلامه فيما تقدم.

وقال الآخر لعمري

لقد طفت في تلك المعاهد كلها

وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعا كف حائر

على ذقن أو قارعا سن نادم

وهذا باب طويل من أراد الوقوف عليه فليطالع أخبار القوم وسيرتهم وما أقروا به على أنفسهم وحينئذ فنقول في

الوجه السادس والأربعين بعد المائة: إن أئمة الإسلام وملوك السنة لما عرفوا أن طرق المتكلمين إنما تنتهي إلى هذا وما هو شر منه تنوعوا في ذمها والطعن فيها وعيب أهلها والحكم بعقوبتهم وإشهارهم والتحذير منهم.

ص: 1263

قال أبو القاسم بن عساكر وقد حفظ عن غير واحد من علماء الإسلام عيب المتكلمين وذم أهل الكلام ولو لم يذمهم غير الشافعي لكفى فإنه قد بالغ في ذمهم وأوضح حالهم وشفى ثم ذكر بإسناده إلى الفريابي حدثني بشر بن الوليد قال سمعت أبا يوسف يقول من طلب الدين بالكلام تزندق ومن طلب غرائب الحديث كذب ومن طلب المال بالكيمياء أفلس قال البيهقي وروي هذا الكلام عن مالك بن أنس ثم ذكر ابن عساكر عن الشافعي أنه قال لئن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه سوى الشرك خير له من أن يبتلى بالكلام ولقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت أن مسلما يقوله.

ص: 1264

وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن أصرم المزني قال قال أبو ثور سمعت الشافعي يقول ما تردى أحد بالكلام فأفلح وقال حدثنا الربيع قال رأيت الشافعي وهو نازل من الدرجة وقوم في المجلس يتكلمون بشيء من الكلام فصاح فقال إما أن تجاورونا بخير وإما أن تقوموا عنا.

وذكر أيضا عن ابن عبد الحكم قال سمعت الشافعي يقول لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه كما يفرون من الأسد.

وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول جئت الشافعي بعدما كلم حفصا الفرد فقال غبت عنا يا أبا موسى لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما توهمته قط ولأن يبتلى المرء بكل

ص: 1265

ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله خير له من أن يبتلى بالكلام. وقال الإمام أحمد علماء الكلام زنادقة.

قال شيخنا والكلام الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه وذم أصحابه والنهي عنه وتجهيل أربابه وتبديعهم وتضليلهم وهو هذه الطرق الباطلة التي بنوا عليها نفي الصفات والعلو والاستواء على العرش وجعلوا بها القرآن مخلوقا ونفوا بها رؤية الله في الدار الآخرة وتكلمه بالقرآن وتكليمه لعباده ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده فإنهم سلكوا فيه طرقا غير مستقيمة واستدلوا

ص: 1266

بقضايا متضمنة للكذب فلزمهم بها مسائل خالفوا بها نصوص الكتاب والسنة وصريح المعقول وكانوا جاهلين كاذبين ظالمين في كثير من مسائلهم ورسائلهم وأحكامهم ودلائلهم.

وكلام السلف والأئمة في ذلك مشهور وما من أحد قد شدا طرفا من العلم إلا وقد بلغه من ذلك بعضه لكن كثيرا من الناس لم يحيطوا علما بكثير من أقوال السلف والأئمة وقد أفرد الناس في ذلك مصنفات مثل أبي عبد الرحمن السلمي ومثل شيخ الإسلام أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري وسمى كتابه ذم الكلام وأهله وممن ذكر اتفاق السلف على ذلك

ص: 1267

أبو حامد الغزالي في أجل كتبه الذي سماه إحياء علوم الدين قال فيه فإن قلت فعلم الكلام والجدل مذموم كعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب إليه فاعلم أن الناس في هذا غلوا وإسرافا في الطرفين فمن قائل إنه بدعة وحرام وإن العبد أن يلقى الله بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام ومن قائل إنه واجب فرض إما على الكفاية أو على الأعيان وإنه أجل الأعمال وأعلى القربات وإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال عن دين الله. قال وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن

ص: 1268

حنبل وسفيان وجميع أهل الحديث من السلف ثم ذكر بعض نصوص الشافعي التي تقدمت. قال وقال أحمد بن حنبل لا يفلح صاحب الكلام أبدا ولا تكاد ترى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل قال وبالغ فيه حتى هجر الحارث المحاسبي قال وقال الإمام أحمد أيضا علماء الكلام زنادقة.

قال وقال مالك أرأيت إن جاء رجل أجدل من

ص: 1269

رجل يدع الرجل دينه كل يوم لدين جديد قال وقال مالك لا تجوز شهادة أهل الأهواء والبدع قال بعض أصحابه أراد بأهل الأهواء أهل الكلام على أي مذهب كانوا وهذا الذي حكى عنه أبو حامد تأويل قول مالك هو محمد بن خويز منداد البصري المالكي.

قال إن أهل الأهواء عند مالك وأصحابه الذين ترد شهادتهم هم أهل الكلام قال وكل متكلم هو من أهل الأهواء والبدع عند مالك وأصحابه أشعريا كان أو غير أشعري هكذا ذكره عنه أبو عمر بن عبد البر في كتاب فضل العلم ثم ذكر أبو حامد كلام أبي يوسف من طلب العلم بالكلام تزندق قال وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا ولا ينحصر عنهم ما نقل من التشديدات فيه وقالوا ما سكت عنه الصحابة رضي الله عنهم مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح في ترتيب الألفاظ من غيرهم إلا لعلمهم بما يتولد عنه ولذلك قال النبي صلى الله

ص: 1270

عليه وسلم: "هلك المتنطعون هلك المتنطعون " أي المتعمقون في البحث والاستقصاء.

قال واحتجوا بأن ذلك لو كان من الدين لكان أهم ما يأمر به النبي ويعلم طريقه ويثني على أربابه فقد علمهم الاستنجاء وندبهم إلى حفظ الفرائض ونهاهم عن الكلام في القدر وعلى هذا استمر الصحابة فالزيادة على الأستاذ طغيان وظلم وهم الأستاذون والقدوة ونحن الأتباع والتلامذة إلى أن قال وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه وهيهات فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوى ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى درجة المتكلمين وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخرى سوى نوع الكلام وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود.

ص: 1271

قال ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور ولكن على سبيل الندور في أمور جليلة تكاد تفهم قبل التعمق في صناعة الكلام قل بل منفعته شيء واحد وهو حراسة العقيدة وحفظها عن تشويشات المبتدعة بأنواع الجدل فإن العامي يستفزه جدل المبتدع وإن كان فاسدا ومعارضة الفاسد بالفاسد نافعة ثم قال وإذا وقعت الإحاطة بضرره ومنفعته فينبغي أن يكون صاحبه كالطبيب الحاذق في استعمال الدواء الخطر أن لا يضعه إلا في موضعه وعلى قدر الحاجة وقال إن فيه من المضرة من إثارة الشبهات وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم وفيه مضرة في تأكيد اعتقاد المبتدعة وتثبيته في صدورهم بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه ويمكن هذا الإصرار بواسطة التعصب الذي يثور عن الجهل.

فهذا كلام أبي حامد مع معرفته بالكلام والفلسفة

ص: 1272

وتعمقه في ذلك يذكر اتفاق سلف أهل السنة على ذم الكلام ويذكر أنه ليس فيه فائدة إلا الذب عن هذه العقائد الشرعية التي أخبر بها الرسول أمته وإذا لم يكن فيه فائدة إلا إلا الذب عن هذه العقائد امتنع أن يكون معارضا لها فضلا عن أن يكون مقدما عليها فامتنع أن يكون الكلام العقلي المقبول معارضا للكتاب والسنة وما كان معارضا لهما فهو من الكلام الباطل المردود المرذول الذي لا ينازع في ذمه أحد من أهل الإسلام لا من السلف ولا من أتباعهم من الخلف هذا مع أن السلف والأئمة يذمون ما كان من العقليات والجدل والكلام مبتدعا وإن قصد به نصر السنة فكيف ذمهم لمن عارض السنة بالبدعة والوحي بالرأي وجادل في آيات الله بالباطل ليدحض به الحق وهذا الذم من أبي حامد للكلام وأهله ذم متوسط بحسب ما اطلع عليه من غوائله وآفاته وبحسب ما بلغه من السلف ولم يكن جزمه بأقوال السلف وحقيقة ما جاء به الرسول كجزمه بما سلكه من طريق الكلام والفلسفة فلذلك لم يكن في كلامه من هذا الجانب من العلم والخبرة ما فيه من الجانب الذي هو به أخبر من غيره فإن ما ذكره من أن مضرته في إثارة الشبهات في العلم وإثارة التعصب في الإرادة إنما يقال إذا كان الكلام في نفسه حقا بأن تكون قضاياه ومقدماته صادقة بل معلوماته فإذا كان مع ذلك قد يورث النظر فيه شبها وعداوة قيل فيه ذلك.

ص: 1273

وأما السلف فلم يكن ذمهم للكلام لمجرد ذلك ولا لمجرد اشتماله على ألفاظ اصطلاحية إذا كانت معانيها صحيحة ولا حرموا معرفة الدليل على الخالق وصفاته وأفعاله بل كانوا أعلم الناس بذلك ولا حرموا نظرا صحيحا في دليل صحيح يفضي إلى علم نافع ولا مناظرة في ذلك إما لهدى مسترشد وأما لقطع مبطل بل هم أكمل الناس نظرا واستدلالا واعتبارا وهم نظروا في أصح الأدلة وأقومها فإن القوم كان نظرهم في خير الكلام وأفضله وأصدقه وأدله على الحق وأوصله إلى المقصود بأقرب الطرق وهو كلام الله وكانوا ينظرون في آيات الله تعالى الأفقية والنفسية فيرون منها من الأدلة ما يبين أن القرآن حق فيتطابق عندهم السمع والعقل ويتصادق الوحي والفطرة كما قال تعالى {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت53] وقال {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقّ} [سبأ6] والإنسان له حالتان إما أن يكون ناظرا وإما أن يكون

ص: 1274

مناظرا والناظر له حالتان أحدهما يحمد فيها والثانية يذم فيها والمناظر له حالتان أيضا قال تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ46] فأشار بقيامهم إثنين إثنين إلى المناظرة وفرادى إلى النظر والتفكر. وكل منهما ينقسم إلى محمود ومذموم فالنظر المحمود النظر في الطريق الصحيح ليتوصل به إلى معرفة الحق والنظر المذموم نوعان

أحدهما: النظر في الطريق الباطل وإن قصد به التوصل إلى الحق فإن الطريق الباطل لا يفضي إلى الحق.

والثاني: النظر والفكر الذي يقصد به رد قول خصمه مطلقا حقا كان أو باطلا فهو ينظر نظرا يرد به قول من يبغضه ويعاديه بأي وجه كان.

فأما المناظرة فتقسم إلى محمودة ومذمومة والمحمودة نوعان والمذمومة نوعان وبيان ذلك أن المناظر إما أن يكون عالما بالحق وإما أن يكون طالبا له وإما أن لا يكون عالما به ولا طالبا له وهذا الثالث هو المذموم وأما الأولان فمن كان عالما بالحق فمناظرته التي تحمد أن يبين لغيره الحجة التي

ص: 1275

تهديه إن كان مسترشدا طالبا للحق أو تقطعه أو تكسره إن كان معاندا غير طالب للحق ولا متبع له أو توقفه وتبعثه على النظر في أدلة الحق إن كان يظن أنه على الحق وقصده الحق.

قال تعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل125] فذكر سبحانه مراتب الدعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب حال المدعو فإنه إما أن يكون طالبا للحق راغبا فيه محبا له مؤثرا له على غيره إذا عرفه فهذا يدعى بالحكمة ولا يحتاج إلى موعظة ولا جدال وإما أن يكون معرضا مشتغلا بضد الحق ولكن لو عرفه عرفه وآثره واتبعه فهذا يحتاج مع الحكمة إلى الموعظة بالترغيب والترهيب وإما أن يكون معاندا معارضا فهذا يجادل بالتي هي أحسن فإن رجع إلى الحق وإلا انتقل معه من الجدال إلى الجلاد إن أمكن فلمناظرة المبطل فائدتان

أحدهما: أن يرد عن باطله ويرجع إلى الحق

الثانية: أن ينكف شره وعداوته ويتبين للناس أن الذي معه باطل وهذه الوجوه كلها لا يمكن أن تنال بأحسن من حجج القرآن ومناظرته للطوائف فإنه كفيل بذلك على أتم الوجوه لمن تأمله وتدبره ورزق فهما فيه وحججه مع أنها في أعلى مراتب الحجج وهي طريقة أخرى غير طريقة المتكلمين وأرباب الجدل والمعقولات فهي أقرب شيء تناولا وأوضح دلالة وأقوى برهانا وأبعد من كل شبهة وتشكيك.

ص: 1276

وأما طريق المتكلمين وأرباب الجدل فهي كما قال الخبير بها

حجج تهافت كالزجاج تخالها

حقا وكل كاسر مكسور

وأخص أوصافها أنها تعطيك مناقضة الخصوم واضطراب أقوالهم وأما أن تعطيك علما وهدى

فإذا بعثت إلىالسباخ برائد

تبغي الرياض فقد ظلمت الرائدا

وإذا كان هذا حالها وهي خير من طريق الفلاسفة وأقرب إلى الحق فكيف يعارض الوحي بهذه الطرق وهذه ثم تقدم عليه.

الوجه السابع والأربعون بعد المائة: أن الله سبحانه منح عباده فطرة فطرهم عليها لا تقبل سوى الحق ولا تؤثر عليه غيره لو تركت وأيدها بعقول تفرق بين الحق والباطل وكملها بشرعة تفصل لها ما هو مستقر في الفطرة وأدركه العقل مجملا فالفطرة قابلة

ص: 1277

والعقل مزك والشرع مبصر مفصل لما هو مركوز في الفطرة مشهود أصله دون تفاصيله بالعقل فاتفقت فطرة الله المستقيمة والعقل الصريح والوحي المبصر المكمل على الإقرار بموجود فطر هذا العالم بجميع ما فيه عاليه وسافله وما بينهما وشهدت الفطر والعقول والشرائع المنزلة كلها بأنه ليس من جنس العالم ولا مماثلا له وأنه مباين له غير ممتزج به ولا متحد به ولا حال فيه وأنه فوق جميع العالم عال عليه بجميع أنواع العلو ذاتا وقهرا وعظمة وأنه موصوف بجميع الكمال المقدس من لوازم ذاته فتوهم رفعه عنه كتوهم عدم ذاته ومن لم يكن هذا الأصل معلوما عنده علما لا يشك فيه ولا يرتاب بل هو لقلبه كالمشاهدات لبصره وإلا اضطرب عليه باب معرفة الله ووحدانيته وتصديق رسله فلا يجوز أن يقدح في مقدمات هذا الأصل التي هي في أعلى مراتب الضروريات بمقدمات يدعي أربابها أنها نظريات ومن خالفهم فيها يقول إنها غير صحيحة بل معلومة الفساد إما بضرورة العقل أو بالنظر الصحيح المفضي إلى الضرورة.

ومن أبين ما شهدت به الفطر والعقول والشرائع علوه سبحانه فوق جميع العالم فإن الله فطر على هذا الخليقة حتى الحيوان البهيم ومن أنكر هذا فهو في جانب والفطر السليمة والعقول المستقيمة وجميع الكتب السماوية ومن أرسل بها في جانب.

ص: 1278

قال الشيخ عبد القادر الكيلاني المتفق على كراماته وآياته وولايته المقبول عند جميع الفرق أن كون الله سبحانه فوق سماواته على عرشه في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل وصدق قدس الله روحه فإن الرسل من أولهم إلى آخرهم ليس بينهم اختلاف في أسماء الرب وصفاته وأفعاله وإن تنوعت شرائعهم العملية بحسب المصلحة فلم يختلف منهم اثنان في باب الأسماء والصفات وإن كان في الكتابين اللذين لم ينزل من السماء كتاب أهدى منهما من ذلك ما ليس في غيرهما حتى زعمت أئمة المعطلة أنهما كتابا تشبيه ومن جاء بهما إماما المشبهة وقال بعض من تتبع النصوص النبوية في ذلك والآثار السلفية إنه وجدها تزيد على ألف وقال غيره إنها تزيد على مائة ألف ولا تنافي بينهما فإن الأول أراد ما يدل على نصوص العلو والاستواء والثاني أراد ما يدل على المباينة وأن الله سبحانه بائن من خلقه.

وأما تقرير ذلك بالأدلة العقلية الصريحة فمن طرق كثيرة جدا منها

ص: 1279

الطريق الأول (وهو الوجه الثامن والأربعون بعد المائة1) : أنه إذا ثبت بضرورة العقل أنه سبحانه مبائن للمخلوقات وثبت أن العالم كرى كما اعترف به النفاة المعطلة وجعلوه عمدتهم في جحد علوه سبحانه لزم أن يكون الرب تعالى في العلو ضرورة وذلك لأن العالم إذا كان مستديرا فله جهتان حقيقيتان العلو والسفل فقط فإذا كان الرب تعالى مباينا للعالم امتنع أن يكون في السفل فوجب قطعا أن يكون في العلو فإذا كان العالم كريا وقد ثبت بالضرورة أنه إما مداخل له وإما مباين له وليس بمداخل قطعا ثبت أنه مباين قطعا وإذا كان مباينا فإما أن يكون تحته أو فوقه قطعا وليس تحته بالضرورة وجب أن يكون فوقه بالضرورة ولا جواب عن هذا البتة إلا بنفي النقيضين وهو أنه لا مباين ولا مداخل وهذا حقيقة العدم المحض ونفيهما بطريقي العدم والحدوث عنه وأن يقال ليس بقديم ولا حادث فإن القدم والحدوث من مقولة متى وهي ممتنعة عليه كما أن المباينة والمداخلة من مقولة أين وهي ممتنعة عليه فالشبه والأدلة التي تنفي وجود الصانع من جنس الشبه التي تنفي مباينته للعالم وعلوه عليه لا فرق بينهما البتة.

1 ذكر ابن القيم رحمه الله ثلاثين طريقا ثم قال بعد بعد نهاية الطريق الثلاثين ص 1340: " فهذه ثلاثون طريقا مضافة الى الوجه السابع والاربعون بعد المائة في بيان عدم معارضة العقل للنقل" ثم ذكر بعد ذلك الطريق الثامن والسبعون بعد المائة.

وعلى هذا يكون الطريق الأول هو الوجه الثامن والاربعون بعد المائة.

ص: 1280

الطريق الثاني (الوجه التاسع والأربعون بعد المائة) : أن يقال علوه سبحانه على العالم وأنه فوق السماوات كلها وأنه فوق عرشه أمر مستقر في فطر العباد معلوم لهم بالضرورة كما اتفق عليه جميع الأمم إقرارا بذلك وتصديقا من غير تواطؤ منهم على ذلك ولا تشاعر وهم يخبرون عن أنفسهم أنهم يجدون ذلك بالضرورة وجميع الطوائف تنكر قول المعطلة إلا من تلقاه منهم وأما العامة من جميع الأمم ففطرهم جميعهم مقرة بأن الله فوق العالم وإذا قيل لهم لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا مباين له ولا محايث ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء ولا يقرب إليه شيء ولا يقرب هو من شيء ولا يحجب العباد عنه حجاب منفصل ولا ترفع إليه الأيدي ولا تتوجه إليه القلوب نحو العلو أنكرت فطرهم ذلك غاية الإنكار ودفعته غاية الدفع.

قال أبو الحسن الأشعري في كتبه ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله عز وجل مستو على العرش الذي هو فوق السماوات فلولا أن الله عز وجل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو السماء كما لا يحطونها إذا دعوا نحو الأرض هذا لفظه في أجل كتبه وأكبرها وهو الموجز وفي أشهرها وهو الإبانة التي اعتمد عليها أبصر الناس له وأعظمهم ذبا عنه من أهل الحديث أبو القاسم ابن عساكر فإنه اعتمد على هذا الكتاب وجعله

ص: 1281

من أعظم مناقبه في كتاب تبيين كذب المفتري ثم قال في كتابه ومن دعاء أهل الإسلام جميعا إذا هم رغبوا إلى الله عز وجل في الأمر النازل بهم يقولون يا ساكن العرش ويقولون لا والذي احتجب بسبع سماوات.

وقال أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب في كتاب الصفات وقد ذكر مسألة الاستواء وقد تقدم حكاية لفظه قال ولو لم يشهد بصحة مذهب الجماعة في هذا إلا ما ذكرنا من هذه الأمور لكان فيه ما يكفي كيف وقد غرس في بنية الفطرة ومعارف الآدميين من ذلك ما لا شيء أبين منه ولا أوكد لأنك لا تسأل أحدا عنه عربيا ولا عجميا ولا مؤمنا ولا كافرا فتقول أين ربك إلا قال في السماء إن أفصح أو أومأ بيده أو اشار بطرفه إن كان لا يفصح لا يشير إلى غير ذلك من أرض ولا سهل ولا جبل ولا رأينا أحدا داعيا إلا رافعا يديه إلى السماء وقال ابن عبد البر إمام أهل السنة ببلاد المغرب في التمهيد لما تكلم على حديث النزول قال هذا حديث ثابت من جهة النقل صحيح الإسناد لا يختلف أهل الحديث في صحته وهو منقول من طرق سوى هذه من أخبار

ص: 1282

العدول عن النبي وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش فوق سبع سماوات كما قال الجماعة وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم إن الله بكل مكان قال والدليل على صحة قول أهل الحق قوله تعالى وذكر عدة آيات إلى أن قال وهذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم وهذا قليل من كثير من كلام من ذكر أن مسألة العلو فطرية ضرورية وأما من نقل إجماع الأنبياء والرسل والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين فأكثر من أن يذكر ولكن ننبه على اليسير منه.

قال الشيخ أبو نصر السجزي في كتاب الإبانة له وأئمتنا كسفيان الثوري ومالك بن أنس وسفيان بن

ص: 1283

عيينة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وعبد الله بن المبارك وفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش وأن علمه بكل مكان وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش وأنه ينزل إلى سماء الدنيا وأنه يغضب ويرضى ويتكلم بما شاء فمن خالف شيئا من ذلك فهو منهم بريء وهم منه براء وأبو نصر هذا كان مقيما بمكة في أثناء المائة الخامسة وقال قبله الشيخ أبو عمر الطلمنكي المالكي أحد أئمة وقته بالأندلس في كتاب الوصول إلى معرفة الأصول قال وأجمع المسلمون من أهل السنة على معنى قوله {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد4] ونحو ذلك من القرآن أن ذلك علمه وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء وقال أيضا قال أهل السنة في قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} إن الاستواء من الله على عرشه المجيد على الحقيقة لا على المجاز.

ص: 1284

وقال الشيخ نصر المقدسي الشافعي الشيخ المشهور في كتابه الحجة له إن قال قائل قد ذكرت ما يجب على أهل الإسلام من اتباع كتاب الله وسنة رسوله وما أجمع عليه الأئمة والعلماء والأخذ بما عليه أهل السنة والجماعة فاذكر مذاهبهم وما أجمعوا عليه من اعتقادهم وما يلزمنا من المصير إليه من إجماعهم فالجواب أن الذي أدركت عليه أهل العلم ومن لقيتهم وأخذت عنهم ومن بلغني قوله من غيرهم فذكر جل اعتقاد أهل السنة وفيه أن الله مستو على عرشه بائن من خلقه كما قال في كتابه {أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق12]{وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} [الجن28] وقال قبله الحافظ أبو نعيم الأصبهاني المشهور

ص: 1285

صاحب التصانيف المشهورة كحلية الأولياء وغيرها في عقيدته المشهورة عنه طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة فما اعتقدوه اعتقدناه فمما اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت عن النبي في العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم وهو مستو على عرشه في سماواته من دون أرضه.

وقال الشيخ أبو أحمد الكرجي الإمام المشهور في أثناء المائة الرابعة في العقيدة التي ذكر أنها اعتقاد أهل السنة والجماعة وهي العقيدة التي كتبها للخليفة القادر بالله وقرأها على الناس وجمع الناس عليها وأقر بها طوائف أهل السنة وكان قد استتاب من خرج عن السنة من المعتزلة

ص: 1286

والرافضة ونحوهم سنة ثلاث عشرة وأربعمائة وكان حينئذ قد تحرك ولاة الأمور لإظهار السنة لما كان الحاكم المصري وأمثاله من الملاحدة قد انتشر أمرهم فكان أهل ابن سينا وأمثالهم من أهل دعوتهم وأظهر السلطان محمود بن سبكتكين لعنة أهل البدع على المنابر وأظهر السنة وتناظر عنده ابن الهيضم وابن فورك في مسألة العلو فرأى قوة كلام ابن الهيضم فرجح ذلك ويقال إنه قال لابن فورك فلو أردت أن تصف المعدوم كيف كنت تصفه بأكثر من هذا وقال فرق لي بين هذا الرب الذي تصفه وبين المعدوم وأن ابن فورك كتب إلى أبي إسحاق الإسفراييني يطلب الجواب عن ذلك فلم يكن الجواب إلا أنه لو كان فوق العرش للزم أن يكون جسما ومن الناس من يقول إن السلطان لما ظهر له فساد قول ابن فورك سقاه السم حتى قتله وتناظر عنده فقهاء الحديث من أصحاب الشافعي وغيرهم

ص: 1287

وفقهاء الرأي فرأى قوة مذهب أهل الحديث فرجحه وغزا المشركين بالهند وهذه العقيدة مشهورة وفيها كان ربنا وحده ولا شيء معه ولا مكان يحويه خلق كل شيء بقدرته وخلق العرش لا لحاجة إليه فاستوى عليه استواء استقرار كيف شاء وأراد لا استواء راحة كما يستريح الخلق وهو يدبر السماوات والأرض ويدبر ما فيهما ومن في البر والبحر لا مدبر غيره ولا حافظ سواه يرزقهم ويمرضهم ويعافيهم ويميتهم والخلق كلهم عاجزون والملائكة والنبيون والمرسلون وسائر الخلق أجمعين والقادر بقدرة والعالم بعلم أزلي غير مستفاد وهو السميع بسمع والبصير ببصر يعرف صفتهما من نفسه ولا يبلغ كنههما أحد من خلقه متكلم بكلام يخرج منه لا بآلة مخلوقة كآلة المخلوقين لا يوصف إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به نبيه وكل صفة وصف بها نفسه أو وصفه بها نبيه فهي صفة حقيقية لا صفة مجاز.

وقال أبو عمر أيضا أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله تعالى:

ص: 1288

{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة7] هو على العرش وعلمه في كل مكان وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله.

وقال أيضا أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يجدون فيه صفة محصورة.

وأما أهل البدع الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئا على الحقيقة ويزعم أن من أقر بها مثبتة وهم عند من أقر بها نافون للمعبود يلاشون أي يقولون لا شيء والحق فيها ما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أئمة الجماعة.

وقال الشيخ العارف معمر بن أحمد الأصفهاني

ص: 1289

أحد شيوخ الصوفية في أواخر المائة الرابعة أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة وموعظة من الحكمة.

وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين قال فيها وإن الله مستو على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل والاستواء معقول والكيف مجهول وإنه عز وجل مستو على عرشه بائن من خلقه والخلق منه بائنون بلا حلول ولا ممازجة ولا اختلاط ولا ملاصقة لأنه الفرد البائن من الخلق الواحد الغني عن الخلق وإن الله سميع بصير عليم خبير يتكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكا وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء فيقول هل من داع فأستجيب له هل من مستغفر فأغفر له هل من تائب فأتوب عليه حتى يطلع الفجر.

ونزول الرب إلى سماء الدنيا بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال.

وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة يعني في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار حجازا وعراقا ومصرا وشاما ويمنا وكان من مذاهبهم أن الإيمان قول

ص: 1290

وعمل يزيد وينقص والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته إلى أن قالوا إن الله على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بلا كيف أحاط بكل شيء علما.

وقال الشيخ الإمام المتفق على إمامته وعلمه وصلاحه وكراماته أبو محمد موفق الدين بن قدامة المقدسي إن الله وصف نفسه بالعلو في السماء ووصفه بذلك رسوله خاتم الأنبياء وأجمع على ذلك جميع العلماء من الصحابة الأتقياء والأئمة من الفقهاء وتواترت الأخبار بذلك على وجه حصل به اليقين وجمع الله عليه قلوب المسلمين وجعله مغروزا في طباع الخلق أجمعين فتراهم عند نزول الكرب يلحظون السماء بأعينهم ويرفعون نحوها للدعاء أيديهم وينظرون مجيء الفرج من ربهم وينطقون بذلك بألسنتهم ولا ينكر ذلك إلا مبتدع غال في بدعته أو مفتون بتقليده واتباعه على ضلالته.

ص: 1291

قال وأنا ذاكر في هذا الجزء ما بلغني في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته والأئمة المقتدين بسنته على وجه يحصل القطع واليقين بصحة ذلك عنهم ويعلم تواتر الرواية بوجوده منهم ليزداد من وقف عليه من المؤمنين إيمانا ويثبته من خفي عليه ذلك حتى يصير كالمشاهد له عيانا.

وقال أبو عبد الله القرطبي المالكي في شرح الأسماء الحسنى لما ذكر اختلاف الناس في تفسير الاستواء قال وأظهر الأقوال في ذلك ما تظاهرت عليه الآي والأخبار وقاله الفضلاء الأخيار أن الله على عرشه كما أخبر في كتابه وعلى لسان نبيه بلا كيف بائن من خلقه هذا مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات.

ص: 1292

وقال أيضا في كتابه في التفسير لما تكلم على آية الاستواء قال هذه مسألة الاستواء وللعلماء فيها كلام وقد بينا أقوال العلماء في شرح الأسماء الحسنى وذكرنا فيها أربعة عشر قولا وذكر قول النفاة المعطلين فقال وإنهم يقولون إذا وجب تنزيه الرب عن الجهة والحيز فمن ضرورة ذلك ولواحقه تنزيه الرب عن الجهة فليس بجهة فوق عندهم لأنه يلزم من ذلك عندهم متى اختص بجهة أن يكون في مكان أو حيز ويلزم على المكان والحيز الحركة والسكون ويلزم من ذلك التغير والحدوث قال وكان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه مستو على عرشه حقيقة وإنما جهلوا كيفية الاستواء.

ص: 1293

وقال أبو بكر النقاش حدثنا أبو العباس السراج قال سمعت قتيبة بن سعيد يقول هذا قول الأئمة في الإسلام والسنة والجماعة نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه كما قال {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقال الخلال في كتاب السنة أخبرنا المروزي حدثنا محمد بن الصباح النيسابوري حدثنا سليمان بن داود الخفاف قال قال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه قال الله تبارك وتعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فهو فوق سماواته على عرشه ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة وفي

ص: 1294

قعر البحار وفي رؤوس الأكام وبطون الأودية وفي كل موضع كما يعلم علم ما في السموات السبع وما دون العرش أحاط بكل شيء علما فلا تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب قد عرف ذلك وأحصاه ولا يعجزه معرفة شيء عن معرفة غيره.

وفي كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد وكتاب الرد على الجهمية لعبد الرحمن ابن أبي حاتم عن سعيد بن عامر الضبعي إمام أهل البصرة علما ودينا من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد وإسحاق أنه ذكر عنده الجهمية فقال هم شر قولا من اليهود والنصارى قد أجمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله فوق العرش وقالوا هم ليس عليه شيء. ورويا أيضا في هذين الكتابين عن عبد الرحمن بن مهدي الإمام المشهور قال أصحاب جهم يريدون أن يقولوا إن الله لم يكلم موسى ويريدون أن يقولوا ليس في

ص: 1295

السماء شيء وأن الله ليس على العرش أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا.

وروى عبد الله بن أحمد في كتاب السنة عن عباد بن العوام الواسطي من طبقة عبد الرحمن بن مهدي وذويه قال كلمت بشر المريسي وأصحاب بشر فرأيت آخر كلامهم ينتهي إلى أن يقولوا ليس في السماء شيء.

وقال علي بن عاصم شيخ البخاري ناظرت جهميا فتبين من كلامه أنه لا يرى أن في السماء ربا ذكره عبد الله بن أحمد وابن أبي حاتم.

وروى عبد الله بن أحمد عن سليمان بن حرب قال سمعت حماد بن زيد وذكر هؤلاء الجهمية فقال إنما يجادلون أن يقولوا ليس في السماء شيء وروى عن أبيه

ص: 1296

حدثنا شريح بن النعمان قال سمعت عبد الله بن نافع الصانع قال سمعت مالك بن أنس يقول الله في السماء وعلمه في كل مكان.

وروى البيهقي بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال كنا نحن والتابعون متوافرون نقول إن الله تعالى فوق عرشه نؤمن بما وردت به السنة من صفاته فقد ذكر الأوزاعي وهو أحد الأئمة في عصر تابعي التابعين الذين كان فيهم مالك وابن الماجشون وابن أبي ذئب ونحوهم من أئمة أهل الحجاز والليث بن سعد ونحوه من أئمة مصر والثوري وابن أبي ليلى وأبو حنيفة ونحوهم من أئمة أهل الكوفة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن عيينة ونحوهم من أئمة أهل البصرة فهؤلاء وأمثالهم أئمة الإسلام شرقا وغربا في ذلك الزمان وقد حكى الأوزاعي شهرة القول بأن الله فوق عرشه في زمن التابعين وقال أبو حنيفة من قال لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقد كفر لأن الله يقول {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وعرشه فوق سبع

ص: 1297

سماوات قال أبو مطيع قلت فإن قال إنه على العرش وقال لا أدري العرش في السماء أم في الأرض قال هو كافر لأنه أنكر أن يكون الله في السماء لأنه تعالى في أعلى عليين وهو يدعي من أعلى لا من أسفل وفي لفظ آخر قال أبو مطيع سألت أبا حنيفة عمن قال لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض قال قد كفر لأن الله يقول {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وعرشه فوق سبع سماوات قال فإنه يقول على العرش استوى ولكنه لا يدري العرش في الأرض أم في السماء قال إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر ذكره البيهقي وغيره.

وروى عبد الله بن أحمد وغيره عن عبد الله بن المبارك بأسانيد صحيحة بأنه سئل بماذا نعرف ربنا قال بأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه ولا نقول كما تقول الجهمية بأنه هاهنا في الأرض وهكذا قال الإمام أحمد فيما حكاه الخلال عنه في الجامع قال في رواية ابنه عبد الله باب ما أنكرت الجهمية الضلال أن يكون الله على العرش قلنا لم أنكرتم أن الله على العرش وقد قال جل ثناؤه

ص: 1298

وقال {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة255] وقد أخبر الله أنه في السماء ووجدنا كل شيء أسفل مذموما يقول جل ثناؤه {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء145] إلى أن قال ومعنى قول الله عز وجل {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام3] يقول هو إله من في السموات وإله من في الأرض وهو الله على العرش وقد أحاط علمه بما دون العرش لا يخلو من علم الله مكان ونصوص أحمد في ذلك كثيرة جدا مذكورة في غير هذا الموضع.

وأما الشافعي فقد صرح في خطبة الرسالة بأن الله سبحانه لا يوصف إلا بما وصف به نفسه وصرح بأن خلافة الصديق حق قضاها الله فوق سماواته وجمع عليها قلوب عباده وصرح في باب الكفارة في حديث الجارية وقول النبي لها أين الله قال الشافعي

ص: 1300

فلما وصفت الإيمان قال أعتقها فإنها مؤمنة فجعل إقرارها بأن الله في السماء إيمانا.

وذكر البخاري في كتاب خلق الأفعال عن وهب بن جرير أحد أئمة الإسلام قال الجهمية الزنادقة إنما يريدون أنه ليس على العرش استوى وعن حماد بن زيد القرآن كلام الله نزل به جبريل ما يجادلون إلا أنه ليس في السماء إله.

وقال ابن المبارك لا نقول كما قالت الجهمية إنه في الأرض هاهنا بل على العرش استوى وقيل له كيف نعرف ربنا قال فوق سمواته على عرشه وقال لرجل من الجهمية أبطنك خال منه فبهت الآخر.

وذكر البخاري في هذا الكتاب أيضا قول سعيد بن عامر وقد تقدم وقال عن شيخه علي بن عاصم

ص: 1301

احذر من المريسي وأصحابه فإن كلامهم أبوجاد الزندقة وأنا كلمت أستاذهم جهما فلم يثبت أن في السماء إلها وقال يزيد بن هارون من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما تقرر في قلوب العامة فهو جهمي وقال صدقة سمعت سليمان التيمي يقول لو سئلت أين الله تعالى لقلت في السماء فإن قال فأين كان عرشه قبل السماء لقلت على الماء فإن قال فأين كان عرشه قبل الماء لقلت لا أعلم.

وفي مسائل جرت لأحمد وإسحاق إن الله سبحانه وصف نفسه في كتابه بصفات استغنى الخلق أن يصفوه بغيرها فمما وصف به نفسه من ذلك قوله تعالى {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة210]

ص: 1302

وقوله: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر75] وآيات مثلها تصف العرش وقد ثبتت الروايات في العرش وأعلى شيء فيه وأثبته قول الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه5] وذكر عن خارجة بن مصعب قال الجهمية كفار لا تنكحوا إليهم ولا تنكحوهم ولا تعودوا مرضاهم ولا تشهدوا جنائزهم وبلغوا نساءهم أنهن طوالق وأنهن لا يبحن لأزواجهن وقرأ طه إلى قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه5] ثم قال وهل يكون الاستواء إلا الجلوس وقال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة من لم يقل بأن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بنتن ريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة ذكره عنه أبو عبد الله الحاكم في كتاب علوم الحديث له وفي كتاب تاريخ نيسابور وذكره أبو عثمان النيسابوري في رسالته المشهورة وروى

ص: 1303

الخلال بإسناد كلهم ثقات عن سفيان بن عيينة قال سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فقال الاستواء معلوم والكيف غير معقول ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التصديق. وقد روي هذا الكلام عن الإمام مالك من وجوه متعددة وروى ابن أبي حاتم عن هشام بن عبيد الله الرازي أنه حبس رجلا في التجهم فجيء به إلى هشام ليمتحنه فقال أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه قال لا أدري ما بائن من خلقه فقال ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب.

وروي أيضا عن عبد الله بن أبي جعفر الرازي أنه جعل يضرب قرابة له بالنعل على رأسه يرى رأي جهم قال لا حتى يقول الرحمن على العرش استوى بائن من خلقه.

وروي أيضا عن جرير بن عبد الحميد الرازي أنه قال كلام الجهمية أوله عسل وآخره سم وإنما يجادلون أن يقولوا ليس في السماء إله.

وقال أبو الوليد بن رشد في كتاب مناهج الأدلة

ص: 1304

القول في الجهة وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة في أول الأمر يثبتونها لله حتى نفتها المعتزلة وتبعهم على ذلك متأخرو الأشعرية وساق أدلة القرآن عليها إلى أن قال والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء وأن منها تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين وأن من السماء نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي حتى قرب من سدرة المنتهى قال وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك ثم قرر ذلك بالدليل العقلي وبين بطلان شبهة المعطلة وهذه النقول التي حكيناها قليل من كثير وقد ذكرنا أضعاف أضعافها في كتاب اجتماع العساكر الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية وهي تبين كذب من قال إنه لم يقل بذلك إلا الكرامية والحنبلية وفريته وجهله والمقصود بأن علو

ص: 1305

الخالق على المخلوقات كلها وكونه فوق العالم أمر مستقر في فطر العباد معلوم بالضرورة كما اتفق عليه جميع الأمم من غير تواطؤ وتشاعر بخلاف النفي والتعطيل فإنه يتلقاه بعضهم عن بعض كسائر المقالات الباطلة المخالفة لصريح العقل والنقل.

فصل

ومما ينصرف إلى ذلك أن العباد كلهم مضطرون إلى دعاء الرب سبحانه وسؤاله وقصده والافتقار إليه كما قال الله تعالى {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن29] وهم مضطرون إلى توجيه قلوبهم إلى العلو كما أنهم مضطرون إلى دعائه وقصده وسؤاله كما أنهم يضطرون إلى الإقرار به وأنه ربهم وخالقهم ومليكهم ولا يجدون فرقا بين هذا الاضطرار وهذا فكما لا تتوجه قلوبهم غلى رب غيره ولا إلى إله سواه فكذلك لا يجدون في قلوبهم توجها إلى جهة أخرى غير العلو بل يجدون قلوبهم مضطرة إلى قصد جهة العلو دون سائر الجهات وهذا يتضمن اضطرارهم إلى قصده سبحانه في العلو وإقرارهم وإيمانهم بذلك.

ص: 1306

فصل: الطريق الثالث (الوجه الخمسون بعد المائة) : إنه قد ثبت بصريح العقل أن الأمرين المتقابلين إذا كان أحدهما صفة كمال والآخر صفة نقص فإن الله سبحانه يوصف بالكمال منهما دون النقص ولهذا لما تقابل الموت والحياة وصف بالحياة دون الموت ولما تقابل العلم والجهل وصف بالعلم دون الجهل وكذلك العجز والقدرة والكلام والخرس والبصر والعمى والسمع والصمم والغنى والفقر ولما تقابلت المباينة للعالم والمداخلة له وصف بالمباينة دون المداخلة وإذا كانت المباينة تستلزم علوه على العالم أو سفوله عنه وتقابل العلو والسفول وصف بالعلو دون السفول وإذا كان مباينا للعالم كان من لوازم مباينته أن يكون فوق العالم ولما كان العلو صفة كمال كان ذلك من لوازم ذاته فلا يكون مع وجود العالم إلا عاليا عليه ضرورة ولا يكون سبحانه إلا فوق المخلوقات كلها ولا تكون المخلوقات محيطة به أصلا وإذا قابلت بين هذه المقدمات ومقدمات شبه المعطلة ظهر لك الحق من الباطل.

ص: 1307

فصل: الطريق الرابع (الوجه الحادي والخمسون بعد المائة) : إنه إذا كان سبحانه مباينا للعالم فإما أن يكون محيطا به أو لا يكون محيطا به فإن كان محيطا به لزم علوه عليه قطعا ضرورة علو المحيط على المحاط به ولهذا لما كانت السماء محيطة بالأرض كانت عالية عليها ولما كان الكرسي محيطا بالسماوات كان عاليا عليها ولما كان العرش محيطا بالكرسي كان عاليا فما كان محيطا بجميع ذلك كان عاليا عليه ضرورة ولا يستلزم ذلك محايثته لشيء مما هو محيط به ولا مماثلته ومشابهته له فإذا كانت السماء محيطة بالأرض وليست مماثلة لها فالتفاوت الذي بين العالم ورب العالم أعظم من التفاوت الذي بين الأرض والسماء وإن لم يكن محيطا بالعالم بأن لا يكون العالم كريا بل تكون السماوات كالسقف المستوي فهذا وإن كان خلاف الإجماع وخلاف ما دل عليه العقل والحس فلو قال به قائل لزم أيضا أن يكون الرب تعالى عاليا على العالم لأنه إذا كان مباينا وقدر أنه غير محيط فالمباينة تقتضي ضرورة أن يكون في العلو أو في جهة غيره ومن المعلوم بالضرورة أن العلو أشرف بالذات من سائر الجهات فوجب ضرورة اختصاص الرب بأشرف الأمرين وأعلاهما والمعطلة تقول هذه القضية خطابية لا برهانية ولعمر الله إنك لو سألت كل صحيح التمييز والفطرة عن ذلك لوجدت في فطرته أن الرب تعالى

ص: 1308

أولى وأحق بهذه القضية التي يسميها هؤلاء خطابية وليس في المعقول أصح من هذه المقدمة وتسميتها خطابية لا تقتضي جحد العقول الصحيحة لها وإنكارها للرب سبحانه.

فصل: الطريق الخامس (الوجه الثاني والخمسون بعد المائة) : ما احتج به الإمام أحمد نفسه على الجهمية فقال وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله فقل له أليس الله كان ولا شيء فيقول نعم فقل له فحين خلق الخلق خلقه في نفسه أو خارجا من نفسه فإنه يصير إلى ثلاثة أقوال لا بد له من واحد منها إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه فقد كفر حين زعم أنه خلق الجن والشياطين في نفسه وإن قال خلقهم خارجا من نفسه ثم دخل فيهم كان هذا أيضا كفرا حين زعم أنه دخل في كل مكان وحش قذر رديء وإن قال خلقهم خارجا من نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع قوله كله أجمع وهو قول أهل السنة وبقي هاهنا قسمان سكت الإمام أحمد عن التعرض لإبطالهما لأن بطلانهما معلوم بالضرورة فإن أحدهما يتضمن إثبات النقيضين والآخر يتضمن رفعهما.

فالأول: يكون خلقهم خارجا عن نفسه وداخلا في نفسه.

ص: 1309

والثاني أن يكون غير خارج عنهم ولا داخل فيهم أو يكونوا غير خارجين عنه ولا داخلين فيه فإن نفي هذا كنفي أن يكون قائما بنفسه وقائما بغيره وأن يكون قديما ومحدثا ونحو ذلك مما ينفي فيه النقيضان ولا يغني الجهمي في هذا المقام اعتذاره بأنه غير قابل للدخول والخروج والمباينة والمحايثة لثلاثة أوجه

أحدها: أن يقال له وهكذا قال أخوك معطل الذات سواء إنه غير قابل للقدم والحدوث فما كان جوابك له فهو جواب أهل الإثبات لك.

الثاني: أن هذا التقسيم يتناول كل موجود ولا يخرج عنه إلا العدم المحض فإنه تقسيم حاصر ولا واسطة بين نفيه وإثباته البتة بل هذا حكم كل موجودين بالضرورة فإنه إما أن يكون أحدهما مباينا للآخر أو غير مبائن له كما يقال إما أن يكون أحدهما قائما بالآخر أو غير قائم به وإن كان هذا مكابرة صريحة للعقل وكذلك إما أن يكون متقدما عليه أو مقارنا له فقولكم إن هذا فيما هو قابل كلام باطل يتضمن رفع النقيضين والخلو منهما.

الثالث: أن يقال لا يتصور العقل شيئا غير قابل لذلك إلا العدم المحض والنفي الصرف ودعواكم على العقل أنه يثبت قسما آخر غير قابل للنقيضين كذب على العقل وفرية.

ص: 1310

فصل: يوضحه الطريق السادس (الوجه الثالث والخمسون بعد المائة) : أن يقال كل موجودين فإما أن يكون أحدهما قائما بنفسه أو قائما بالآخر فإن كان قائما بالآخر امتنع قيام الآخر به ضرورة وإن كان قائما بنفسه فحقيقته خارجة عن حقيقة الآخر ضرورة وإلا لزم اتحادهما وإذا كانت حقيقته خارجة عن حقيقة الآخر كان مباينا له بالضرورة وهذا برهان ضروري لا يقدح فيه إلا ما يقدح في سائر الضروريات.

فصل: الطريق السابع (الوجه الرابع والخمسون بعد المائة) : أن يقال الرب سبحانه إما أن يكون موجودا خارج الأذهان موجودا في الأعيان أو لا يكون له وجود خارجي فإن قلتم ليس له وجود خارجي وهو حقيقة قولكم كان خيالا ذهنيا لا حقيقة له وإن قلتم بل هو موجود خارج الذهن في الأعيان منفصلا عن الأذهان مباينا لها فقد أقررتم بأنه قابل للخروج والانفصال والمباينة فهلا جعلتم جملة العالم كالذهني وقلتم بأنه خارج عنه منفصل مباين له وكيف صح بل وجب أن يكون خارج الأذهان مباينا لها منفصلا عنها ولم يلزم من ذلك محال وامتنع أن يكون خارج العالم مباينا له ولزم من ذلك المحال فمن هاهنا قيل إنكم فارقتم حكم العقل والسمع وكان أتباع الرسل أسعد بالمعقول والمنقول منكم.

ص: 1311

فصل: الطريق الثامن (الوجه الخامس والخمسون بعد المائة) : إذا ثبت له سبحانه وجود خارج الأذهان فإما أن يكون هو العالم المشهود أو صفة من صفاته وعرضا من أعراضه أو غيره.

فإن قلتم بالأول فهو حقيقة قول الاتحادية الملاحدة الذين لا يثبتون خالقا ومخلوقا وصانعا ومصنوعا بل حقيقة الرب عندهم هي هذا الوجود بعينه وإن قلتم هو عرض من أعراض العالم وصفة من صفاته فهو من أمحل المحال لا يقوله أحد من بني آدم فتعين أن يكون غير هذا العالم وحينئذ يلزم مباينته له ضرورة إذ الغيران اللذان لا يكون أحدهما صفة للآخر ولا أحدهما قائما بالآخر لا بد أن يتباينا إذ لو لم يتباينا لزم اتحاد أحدهما بالآخر أو حلوله فيه حلول الصفة في الموصوف أو حلول الحال في المحل ولا ينفعكم قولكم إن هذا إنما يلزم فيما هو قابل لذلك لما تقدم بيانه.

فصل: الطريق التاسع (الوجه السادس والخمسون بعد المائة) : أنا إذا عرضنا على العقل الصريح الذي لم يفسد بتلقي الآراء والمذاهب الباطلة التصديق بموجودين قائمين

ص: 1312

بأنفسهما وأحدهما مباين للآخر مع كونه غير مماثل له ولا هو من جنسه وعرضنا عليه التصديق بموجودين قائمين بأنفسهما ليس أحدهما مباينا للآخر ولا مداخلا له ولا فوقه ولا تحته ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولا محايثا له ولا مباينا علمنا بالضرورة تصديقه بالأول ودفعه الثاني وإنكاره وكل شبهة تقدح في هذا فهي قادحة في الضروريات وكل شبهة تقام على الثاني فهي من الشبهة التي تقام على إمكان الممتنعات.

فصل: الطريق العاشر (الوجه السابع والخمسون بعد المائة) : أنه عند المعطلة النفاة كون الله سبحانه فوق العالم مستو على عرشه بمنزلة كونه يأكل ويشرب وينام بل هو بمنزلة إثبات الزوجة والولد له في كون هذا منافيا لإلهيته وربوبيته وقدمه وكون علوه على خلقه واستوائه على عرشه منافيا لذلك وهذا من أعظم القدح في العقول والفطر والشرائع والنبوات والكتب المنزلة فإنها فرقت بين الأمرين تفرقة معلومة بالاضطرار لكل من له أدنى مسكة من عقل فمن سوى بين الأمرين وجعل تنزيه الرب عنها من لوازم الإقرار به فليبك على عقله وإيمانه.

ص: 1313

فصل: الطريق الحادي عشر (الوجه الثامن والخمسون بعد المائة) : أن يقال للمعطلة تنزيهكم له سبحانه عن كونه مباينا لخلقه تنزيه له عن غناه ووجوده وتنزيهكم له عن استوائه على عرشه تنزيه له عن كماله والمثبت لو شبهه بخلقه بافترائكم وكذبكم عليه تعالى الله عن ذلك لكان قد أثبت موجودا قائما بنفسه مباينا لخلقه له الكمال المطلق مع نوع تشبيه وهذا خير من تنزيهكم وأقرب إلى العقول والفطر فكيف وهو مع ذلك يثبت أنه لا يماثل خلقه ولا يشابههم وأنه لا يلزم من علوه على خلقه واستوائه على عرشه أن يكون من جنسهم مماثلا لهم يوضحه.

الطريق الثاني عشر (الوجه التاسع والخمسون بعد المائة) : إن الله سبحانه جعل بعض مخلوقاته عاليا على بعض ولم يلزم من ذلك مماثلة العالي للسافل ومشابهته له فهذا الماء فوق الأرض والهواء فوق الماء والنار فوق الهواء والأفلاك فوق ذلك وليس عاليها مماثلا لسافلها والتفاوت الذي بين الخالق والمخلوق أعظم من التفاوت الذي بين المخلوقات فكيف يلزم من علوه تشبيهه بخلقه.

فإن قلتم وإن لم يلزم التشبيه لكن يلزم التجسيم

ص: 1314

قيل انفصلوا أولا عن قول معطلة الصفات لكم لو كان له سمع أو بصر أو حياة أو علم أو قدرة أو كلام لزم التجسيم فإذا انفصلتم عنهم وتخلصتم من أسرهم لكم عاد عليكم أهل السنة بالرأفة والرحمة وجبروكم وخلصوكم من هذا الوثاق الذي شدكم به الملاحدة المعطلة فإن أبيتم إلا الجواب قيل لكم ما تعنون بالتجسيم أتعنون به العلو على العالم والاستواء على العرش وهذا حاصل قولكم وحينئذ فما زدتم على إبطال ذلك بمجرد الدعوى التي اتحد فيها اللازم والملزوم بتغيير العبارة وكأنكم قلتم لو كان فوق العالم مستويا على عرشه لكان فوق العالم ولكنكم لبستم وأوهمتم وإن عنيتم بالجسم المركب من الجواهر الفردة فجمهور العقلاء ينازعونكم في إثبات الجوهر الفرد فضلا عن تركب الأجسام الحادثة منه فالملازمة باطلة كاذبة وإن عنيتم به المركب من الهيولى والصورة فأنتم قد قررتم بطلان تركب الأجسام من ذلك فأنتم أبطلتم هذا التركيب الذي يدعيه الفلاسفة وهم أبطلوا التركيب الذي تدعونه من الجواهر الفردة وجمهور العقلاء أبطلوا هذا وهذا فإذا كان هذا غير لازم في الأجسام المحسوسة المشاهدة بل هو باطل فكيف يدعى لزومه فيمن ليس كمثله شيء وإن عنيتم بالتجسيم تميز شيء منه عن شيء قيل لكم انفصلوا أولا عن قول نفاة الصفات لو كان له سمع وبصر وحياة وقدرة لزم أن يتميز منه شيء عن شيء وذلك عين

ص: 1315

التجسيم فإذا انفصلتم منهم أجبناكم بما تجيبونهم به فإن أبيتم إلا الجواب منا قلنا إنما قام الدليل على إثبات إله قديم غني بنفسه عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه كل أحد يحتاج إليه وليس محتاجا إلى أحد ووجود كل شيء مستفاد منه ووجوده ليس مستفادا من غيره ولم يقم الدليل على استحالة تكثر أوصاف كماله وتعدد أسمائه الدالة على صفاته وأفعاله بل هو إله واحد ورب واحد وإن تكثرت صفاته وتعددت أسماؤه فلا إله غيره ولا رب سواه.

فصل: الطريق الثالث عشر (الوجه الستون بعد المائة) : أن يقال أخبر الناس بمقالات الفلاسفة قد حكى اتفاق الحكماء على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت على ذلك الشرائع وقرر ذلك بطريق عقلي من جنس تقرير ابن كلاب والحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي وأبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر

ص: 1316

ابن الباقلاني وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم ممن يقول إن الله فوق العرش وليس بجسم قال هؤلاء وإثبات صفة العلو والفوقية له سبحانه لا يوجب الجسمية بل ولا إثبات المكان وبنى الفلاسفة ذلك على ما ذكره ابن رشد إن المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي الملاقي للسطح الظاهر من الجسم المحوي فكان الإنسان عندهم هو باطن الهواء المحيط به وكل سطح باطن فهو مكان للسطح الظاهر فيما يلاقيه ومعلوم أنه ليس وراء الأجسام سطح جسم باطن يحوي شيئا فلا مكان هناك إذ لو كان هناك مكان حاو لسطح الجسم لكان الحاوي جسما ولهذا قال فإذا قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة فواجب أن يكون غير جسم فالذي يمتنع وجوده هناك هو وجود جسم لا وجود ما ليس بجسم وقرر إمكان ذلك كما قرر إثباته بما ذكر من أنه لا بد من نسبة بينه وبين العالم المحسوس فيجب أن يكون في جهة العلو والذي يمكن منازعيه من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة أن يقولوا لا يمكن أن يوجد هناك شيء لا جسم ولا غير جسم أما الجسم فلما ذكر وأما غير الجسم فلأن كونه مشارا إليه بأنه

ص: 1317

هناك يستلزم أن يكون جسما وحينئذ فيقول هؤلاء المثبتون لمن نازعهم في ذلك وجود موجود قائم بنفسه ليس وراء أجسام العالم ولا داخلا في العالم إما أن يكون ممكنا أو لا يكون فإن لم يكن ممكنا بطل قولكم وإن كان ممكنا فوجود موجود وراء أجسام العالم وليس بجسم أولى بالجواز يوضحه

فصل: الطريق الرابع عشر (الوجه الحادي والستون بعد المائة) : وهو أنا إذا عرضنا على العقل وجود موجود قائم بنفسه لا في العالم ولا خارجا عنه ولا يشار إليه وعرضنا عليه وجود موجود يشار إليه فوق العالم ليس بجسم كان إنكار العقل للأول أعظم وامتناعه فيه أظهر من إنكاره للثاني وامتناعه فيه فإن كان حكم العقل في الأول مقبولا وجب قبول الثاني وإن كان الثاني مردودا وجب رد الأول ولا يمكن العقل الصريح أن يقبل الأول ويرد الثاني أبدا.

فصل: الطريق الخامس عشر (الوجه الثاني والستون بعد المائة) : أنه سبحانه لو لم يقبل الإشارة الحسية إليه كا أشار إليه النبي حسا بإصبعه بمشهد الجمع الأعظم وقبل ممن شهد لها بالإيمان الإشارة الحسية

ص: 1318

إليه فإما أن يقال إنه يقبل الإشارة المعنوية فقط أولا يقبلها أيضا كما لا يقبل الحسية فإن لم يقبل هذه ولا هذه فهو عدم محض بل العدم المقيد المضاف يقبل الإشارة المعنوية وإن قيل يقبل الإشارة المعنوية دون الحسية لزم أن يكون معنى من المعاني لا ذاتا خارجية وهذا مما لا حيلة في دفعه فمن أنكر جواز الإشارة الحسية إليه فلا بد له من أحد أمرين إما أن يجعله معدوما أو معنى من المعاني لا ذاتا قائمة بنفسها.

فصل: الطريق السادس عشر (الوجه الثالث والستون بعد المائة) : إن من أعجب العجب أن هؤلاء الذين فروا من القول بعلو الله فوق المخلوقات واستوائه على عرشه خشية التشبيه والتجسيم قد اعترفوا بأنهم لا يمكنهم إثبات الصانع إلا بنوع من التشبيه والتمثيل ونحن لا نحيلك على عدم بل نحكي ألفاظهم بعينها معزوة إلى مكانها قال الآمدي في مسألة حدوث الأجسام لما ذكر حجة القائلين بالعدم الوجه

ص: 1319

العاشر لو كان العالم محدثا فمحدثه إما أن يكون مساويا له من كل وجه أو مخالفا له من كل وجه أو مماثلا له من وجه ومخالفا له من وجه فإن كان الأول فهو حادث والكلام فيه كالكلام في الأول ويلزم التسلسل الممتنع وإن كان الثاني فالمحدث له ليس بموجود وإلا لما كان مخالفا له من كل وجه وهو خلاف العرض وإذا لم يكن موجودا امتنع أن يكون موجدا للموجود وإن كان الثالث فمن جهة ما هو مماثل للحادث يجب أن يكون حادثا والكلام فيه كالأول وهو تسلسل محال وهذه المحالات إنما نشأت من القول بكونه محدثا للعالم قال والجواب عن هذه الشبهة أن المختار من أقسامها إنما هو القسم الأخير ولا يلزم من كون القديم مماثلا للحوادث من وجهة أن يكون مماثلا للحادث من جهة كونه حادثا بل لا مانع من الاختلاف بينهما في صفة القدم والحدوث وإنما تماثلا بأمر آخر وهذا

ص: 1320

كالسواد والبياض يختلفان من وجه دون وجه لاستحالة اختلافهما من كل وجه وإلا لما اشتركا في العرضية والكونية والحدوث واستحالة تماثلهما من كل وجه وإلا كان السواد بياضا ومع ذلك فما لزم من مماثلة السواد للبياض من وجه أن يكون مماثلا له في صفة البياضية فيقال يالله العجب هلا طردتم هذا الجواب وسلكتم هذا الطريق في إثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه وإثبات صفات كماله كلها وإثبات الصفات الخبرية كلها وأجبتم بهذا الجواب لمن قال لكم من المعطلة النفاة لو كان له صفات لزم مماثلته للمخلوقات وهلا تقنعون من أهل السنة المثبتين لصفات كماله ونعوت جلاله وعلوه على مخلوقاته واستوائه على عرشه بمثل هذا الجواب الذي أجبتم به من أنكر حدوث العالم بل إذا أجابوكم به قلبتم لهم ظهر المجن وصرحتم بتكفيرهم وتبديعهم وإذا أجبتم أنتم به بعينه كنتم موحدين ناصرين لله ورسوله.

فصل: الطريق السابع عشر (الوجه الرابع والستون بعد المائة) : أن يقال هل للرب تعالى ماهية متميزة على سائر الماهيات يختص بها لذاته أم تقولون لا ماهية له فإن قلتم بالثاني كان هذا إنكارا له سبحانه وجحودا وجعله وجودا

ص: 1321

مطلقا لا ماهية له وإن قلتم بل له ذات مخصوصة وماهية متميزة عن سائر الماهيات قيل لكم ماهيته وذاته سبحانه غير متناهية بل ذاهبه في الأبعاد إلى غير نهاية أم متناهية فإن قلتم بالأول لزم منه محالات غير واحدة وإن قلتم بالثاني بطل قولكم ولزم إثبات المباينة والجهة وهذا لا محيد عنه وإن قلتم لا نقول له ماهية ولا ليست له ماهية قيل لا يليق بالعقول المخالفة لما جاءت به الرسل إلا هذا المحال والباطل وإن قلتم بل له ذات مخصوصة وماهية متميزة عن سائر الماهيات ولا نقول إنها متناهية ولا غير متناهية لأنها لا تقبل واحدا من الأمرين قلنا التناهي وعدم التناهي يتقابلان تقابل السلب والإيجاب فلا واسطة بينهما كما لا واسطة بين الوجود والعدم والقدم والحدوث والسبق والمقارنة والقيام بالنفس والقيام بالغير وتقدير قسم آخر لا يقبل واحدا من الأمرين تقدير ذهني يفرضه الذهن كما يفرض سائر المحالات ولا يدل ذلك على وجوده في الخارج ولا إمكانه ألا ترى أن قائلا لو قال التقسيم يقتضي المعلوم إما قديم وإما حادث وإما قديم حادث وإما لا قديم ولا حادث وكذلك إما أن يكون متناهيا أو غير متناه أو متناهيا ولا غير متناه أو قائما بنفسه أو بغيره أو بنفسه وبغيره أولا بنفسه ولا بغيره أو داخلا في العالم أو خارجا عنه أو داخلا خارجا أو لا داخلا ولا خارجا كان ذلك كله بمنزلة واحدة وكان التقسم تقسيما ذهنيا لا خارجيا وإن سلب النقيضين في ذلك كله في الإحالة كإثبات النقيضين.

ص: 1322

فصل: الطريق الثامن عشر (الوجه الخامس والستون بعد المائة) : أن يقال ذاته سبحانه إما أن تكون قابلة للعلو على العالم أو لا تكون قابلة فإن كانت قابلة وجب وجود المقبول لأنه صفة كمال وإلا لم يقبله ولأن قبولها لذلك هو من لوازمها لقبول الذات للعلم والحياة والقدرة والسمع والبصر فوجود هذه لازم للذات ضرورة ولأنها إذا قبلته فلو لم تتصف به لاتصفت بضده وهو نقص يتعالى ويتقدس عنه وإن لم تكن قابلة للعلو لزم أن يكون قابل العلو أكمل منها لأن ما يقبل أن يكون عاليا وإن لم يكن عاليا أكمل ممن لا يقبل العلو وما قبله وكان عاليا أكمل ممن قبله ولم يكن عاليا فالمراتب ثلاث أدناها مالا يقبل العلو وأعلاها ما قبله واتصف به والذي يوضح ذلك أن مالا يقبل أن يكون فوق غيره إما أن يكون عرضا من الأعراض لا يقوم بنفسه ولا يقبل أن يكون عاليا على غيره وإما أن يكون أمرا عدميا لا يقبل ذلك وإما إثبات ذات قائمة بنفسها متصفة بالسمع والبصر والقدرة والحياة والإرادة والعلم والفعل ومع ذلك لا تقبل أن تكون عالية على غيرها فهذا يطالب بإمكان

ص: 1323

تصوره قبل التصديق بوجوده وليس مع من ادعى إمكانه إلا الكليات والمجردات وكلاهما وجوده ذهني لا وجود له في الخارج وإلا فما له وجود خارجي وهو قائم بنفسه له ذات يختص بها عن سائر الذوات موصوف بصفات الحي الفعال لا يمكن إلحاقه بالكليات والمجردات التي هي خيالات ذهنية لا أمور خارجية وقد اعترف المتكلمون بأن وجود الكليات والمجردات إنما هو في الأذهان لا في الأعيان.

فصل: الطريق التاسع عشر (الوجه السادس والستون بعد المائة) : إن الجهمية المعطلة معترفون بوصفه تعالى بعلو القهر وعلو القدر وإن ذلك كمال لا نقص فإنه من لوازم ذاته فيقال ما أثبتم به هذين النوعين من العلو والفوقية هو بعينه حجة خصومكم عليكم في إثبات علو الذات له سبحانه وما نفيتم به علو الذات يلزمكم أن تنفوا به ذينك الوجهين من العلو فأحد الأمرين لازم لكم ولا بد إما أن تثبتوا له سبحانه العلو المطلق من كل جهة ذاتا وقهرا وقدرا وإما أن

ص: 1324

تنفوا ذلك كله فإنكم إذا نفيتم علو ذاته سبحانه بناء على لزوم التجسيم وهو لازم لكم فيما أثبتموه من وجهي العلو فإن الذات القاهرة لغيرها التي هي أعلى قدرا من غيرها إن لم يعقل كونها غير جسم لزمكم التجسيم وإن عقل كونها غير جسم فكيف لا يعقل أن تكون الذات العالية على سائر الذوات غير جسم وكيف لزم التجسيم من هذا العلو ولم يلزم من ذلك العلو فإن قلتم لأن هذا العلو يستلزم تميز شيء عن شيء منه قيل لكم في العلم أو في الخارج فإن قلتم في الخارج كذبتم وافتريتم وأضحكتم عليكم المجانين فضلا عن العقلاء وإن قلتم في الذهن فهذا لازم لكل من أثبت للعالم ربا خالقا ولا خلاص من ذلك إلا بإنكار وجوده رأسا يوضحه.

فصل: الطريق العشرون (الوجه السابع والستون بعد المائة) : إن الفلاسفة لما أوردوا عليكم هذه الحجة بعينها في نفي الصفات أجبتم عنها بأن قلتم واللفظ للرازي في نهايته فقال قوله يلزم من إثبات الصفات وقوع الكثرة في الحقيقة الإلهية فتكون تلك الحقيقة ممكنة قلنا إن عنيتم به احتياج تلك الحقيقة إلى سبب خارجي فلا يلزم لاحتمال استناد

ص: 1325

تلك الصفات إلى الذات الواجبة لذاتها وإن عنيتم به توقف الصفات في ثبوتها على تلك الذات المخصوصة فذلك مما يلزمه فأين المحال قال وأيضا فعندكم الإضافات صفات وجودية في الخارج فيلزمكم ما ألزمتمونا في الصفات في الصور المرتسمة في ذاته من المعقولات تلك ومما يحقق فساد قول الفلاسفة أنهم قالوا إن الله عالم بالكليات وقالوا إن العلم بالشيء عبارة عن حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم وقالوا إن صورة المعلومات موجودة في ذات الله تعالى حتى ابن سينا قال إن تلك الصفة إذا كانت غير داخلة في الذات كانت من لوازم الذات ومن كان هذا مذهبا

ص: 1326

له كيف يمكنه أن ينكر الصفات قال وبالجملة فلا فرق بين الصفاتية وبين الفلاسفة إلا أن الصفاتية يقولون إن الصفات قائمة بالذات والفلاسفة يقولون هذه الصور العقلية عوارض متقومة بالذات والذي تسميه الصفاتية صفة يسميه الفلسفي عارضا والذي يسميه الصفاتي قياما يسميه الفيلسوف قواما ومقوما فلا فرق إلا بالعبارات وإلا فلا فرق في المعنى هذا لفظه فيقول له مثبتوا العلو هلا قنعت منا بهذا الجواب بعينه حين قلت يلزم من علوه أن يتميز منه شيء عن شيء ويلزم وقوع الكثرة في الحقيقة الإلهية وتكون قد وافقت الشرع ونصوص الأنبياء وكتب الله كلها وأدلة العقول والفطر الصحيحة وإجماع أهل السنة قاطبة.

ص: 1327

فصل: الطريق الحادي والعشرون (الوجه الثامن والستون بعد المائة) : إن هذه الحجة العقلية القطعية وهي الاحتجاج بكون الرب قائما بنفسه على كونه مباينا للعالم وذلك ملزوم لكونه فوقه عاليا عليه بالذات لما كانت حجة صحيحة لا يمكن مدافعتها وكانت مما ناظر بها الكرامية لأبي إسحاق الإسفرائيني فر أبو إسحاق إلى كون الرب قائما بنفسه بالمعنى المعقول وقال لا نسلم أنه قائم بنفسه إلا بمعنى أنه غني عن المحل فجعل قيامه بنفسه وصفا عدميا لا ثبوتيا وهذا لازم لسائر المعطلة النفاة لعلوه ومن المعلوم أن كون الشيء قائما بنفسه أبلغ من كونه قائما بغيره وإذا كان قيام العرض بغيره يمتنع أن يكون عدميا فقيام الشيء بنفسه أحق أن لا يكون أمرا عدميا بل وجوديا وإذا كان قيام المخلوق بنفسه صفة كمال وهو مفتقر بالذات إلى غيره فقيام الغني بذاته بنفسه أحق وأولى.

فصل: الطريق الثاني والعشرون (الوجه التاسع والستون بعد المائة) : وهو أن القيام بالنفس صفة كمال فالقائم بنفسه أكمل ممن لا يقوم بنفسه ومن كان غناه من لوازم ذاته فقيامه بنفسه

ص: 1328

من لوازم ذاته وهذه حقيقة قيوميته سبحانه وهو الحي القيوم فالقيوم القائم بنفسه المقيم لغيره فمن أنكر قيامه بنفسه بالمعنى المعقول فقد أنكر قيوميته وأثبت له قياما بالنفس يشاركه فيه العدم المحض بل جعل قيوميته أمرا عدميا لا وصفا ثبوتيا وهي عدم الحاجة إلى المحل ومعلوم أن العدم لا يحتاج إلى محل وأيضا فإنه يقال له ما تعني بعدم الحاجة إلى المحل تعني به الأمر المعقول من قيام الشيء بنفسه الذي يفارق به العرض القائم بغيره أم تعني به أمرا آخر فإن عنيت الأول فهو المعنى المعقول والدليل قائم والإلزام صحيح وإن عنيت به أمرا آخر فإما أن يكون وجوديا أو عدميا فإن كان عدميا فالعدم لا شيء كاسمه فتعود قيوميته تعالى إلى لا شيء وإن عنيت به أمرا وجوديا غير المعنى المعقول الذي يعقله الخاصة والعامة فلا بد من بيانه لينظر فيه هل يستلزم المباينة أم لا.

فصل: الطريق الثالث والعشرون (الوجه السبعون بعد المائة) : إن كل من أقر بوجود رب خالق للعالم مدبر له لزمه الإقرار بمباينته لخلقه وعلوه عليهم وكل من أنكر مباينته وعلوه لزمه إنكاره وتعطيله فهاتان دعوتان في جانب النفي والإثبات أما الدعوى الأولى فإنه إذا أقر بالرب فإما أن

ص: 1329

يقر بأن له ذاتا وماهية مخصوصة أو لا فإن لم يقر بذلك لم يقر بالرب فإن ربا لا ذات له ولا ماهية سواء والعدم وإن أقر بأن له ذاتا مخصوصة وماهية فإما أن يقر بتعينها أو يقول إنها غير معينة فإن لم يقر بأنها معينة كانت خيالا في الذهن لا موجودا في الخارج فإنه لا يوجد في الخارج إلا معين لا سيما وتعين تلك الذات أولى من تعين كل متعين فإنه يستحيل وقوع الشركة فيها وأن يوجد لها نظير فتعين ذاته سبحانه واجب وإذا أقر بأنها معينة لا كلية والعالم المشهود معين لا كلي لزم قطعا مباينة أحد المعنيين للآخر إذ لو لم يباينه لم يعقل تميزه عنه وتعينه فإن قيل هو يتعين بكونه لا داخلا فيه ولا خارجا عنه قيل هذا والله حقيقة قولكم وهو عين المحال وهو تصريح منكم بأنه لا ذات له ولا ماهية تخصه فإنه لو كان له ماهية يختص بها لكان تعينه لماهيته وذاته المخصوصة وأنتم إنما جعلتم تعنيه بأمر عدمي محض ونفي صرف وهو كونه لا داخل العالم ولا خارجا عنه وهذا التعيين لا يقتضي وجوده فإنه يصح على العدم المحض وأيضا فالعدم المحض لا يعين المتعين فإنه لا شيء وإما تعيينه ذاته المخصوصة وصفاته فلزم قطعا من إثبات ذاته تعين تلك الذات بعينها ومن تعينها مباينتها للمخلوقات ومن المباينة العلو عليها لما تقدم تقريره وصح مقتضى العقل والنقل والفطرة ولزم من صحة هذه الدعوى صحة

ص: 1330

الدعوى الثانية وهي أن من أنكر مباينته للعالم وعلوه عليه لزمه إنكار ربوبيته وكونه إلها للعالم.

فصل: الطريق الرابع والعشرون (الوجه الحادي والسبعون بعد المائة) : أنه قد دل البرهان الضروري والعقل الصريح على استغنائه سبحانه بنفسه وأنه الغني بذاته عن كل ما سواه فغناه من لوازم ذاته ولا يكون غنيا على الإطلاق إلا إذا كان قائما بنفسه إذ القيام بالغير يستلزم فقر القائم إلى ما قام به وعدم القيام بالنفس وبالغير يستلزم العدم فصح ضرورة وجوب قيامه بنفسه وهذا حقيقة المباينة ونفي المباينة والمداخلة كنفي القيام بالنفس وبالغير ولا تتصور العقول قط قائما بنفسه مع قائم بنفسه إلا إذا كان مباينا له أو محايثا والفرق بين هذا الوجه وبين الاستدلال بقيامه بنفسه أن ذاك استدلال بالقيام بالنفس وهذا استدلال بغناه المستلزم للأمرين.

فصل: الطريق الخامس والعشرون (الوجه الثاني والسبعون بعد المائة) : أنه قد ثبت بالعقل إمكان رؤيته سبحانه وبالشرع وقوعها في الدار الآخرة فاتفق العقل والشرع على إمكان

ص: 1331

الرؤية ووقوعها وقد ذكرنا في كتاب صفة الجنة أربعين دليلا على مسألة الرؤية من الكتاب والسنة والعقل الصريح شاهد بذلك فإن الرؤية أمر وجودي لا يتعلق إلا بموجود وما كان أكمل وجودا كان أحق بأن يرى فالباري سبحانه أحق بأن يرى من كل ما سواه لأن وجوده أكمل من وجود كل ما سواه يوضحه أن تعذر الرؤية إما لخفاء المرئي وإما لآفة وضعف في الرائي والرب سبحانه أظهر من كل موجود وإنما تعذرت رؤيته في الدنيا لضعف القوة الباصرة عن النظر إليه فإذا كان الرائي في دار البقاء كانت قوة الباصرة في غاية القوة لأنها دائمة فقويت على رؤيته تعالى وإذا جاز أن يرى سبحانه فالرؤية المعقولة عند جميع بني آدم عربهم وعجمهم وتركهم وسائر طوائفهم أن يكون المرئي مقابلا للرائي مواجها له مباينا عنه لا تعقل الأمم رؤية غير ذلك وإذا كانت الرؤية مستلزمة لمواجهة الرائي ومباينته للمرئي لزم ضرورة أن يكون مرئيا له من فوقه أو من تحته أو عن يمينه أو عن شماله أو خلفه أو أمامه وقد دل النقل الصريح على أنهم إنما يرونه سبحانه من فوقهم لا من تحتهم كما قال بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الجبار جل جلاله

ص: 1332

قد أشرف عليهم من فوقهم فقال يا أهل الجنة سلام عليكم ثم قرأ قوله {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس58] ثم يتوارى عنهم وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم فلا يجتمع الإقرار بالرؤية وإنكار الفوقية والمباينة لهذا ولهذا الجهمية المغل تنكر علوه على خلقه ورؤية المؤمنين له في الآخرة ومخانيثهم يقرون بالرؤية وينكرون العلو وقد ضحك جمهور العقلاء من القائلين بأن الرؤية تحصل من غير مواجهة للمرئي ومباينة له وقالوا هذا رد لما هو مركوز في أوائل العقول قال المنكرون الإنسان يرى صورته في المرآة وليست صورته في جهة منه قال العقلاء هذا تلبيس فإنه إنما يرى خيال صورته وهو عرض منطبع في الجسم الصقيل وهو في جهة منه ولا يرى حقيقة صورته القائمة به والذين قالوا يرى من غير مقابلة ولا مباينة قالوا مصحح الرؤية الوجود وكل موجود يصح أن يرى فالتزموا جواز رؤية

ص: 1333

الأصوات والروائح والعلوم والإرادات والمعاني كلها وجواز أكلها وشربها وشمها ولمسها فهذا منتهى عقلهم الذي عارضوا به الكتاب والسنة ثم قدموه عليهما وتقرير هذه المسألة له موضع آخر

فصل: الطريق السادس والعشرون (الوجه الثالث والسبعون بعد المائة) : أنه قد ثبت بالعقل والنقل والفطرة أن الله سبحانه سميع بصير وهو سبحانه يرى كل المرئيات لا يخفى عليه منها شيء ورؤيته لخلقه تستلزم مباينته لهم ضرورة كما تقدم في الوجه الذي قبله فذاك استدلال بكونه مرئيا وهذا استدلال بكونه رائيا ولا يعقل واحد من الأمرين إلا مع مباينته لخلقه ولهذا لما علم منكرو العلو والفوقية أن هذا يلزمهم ولا بد قالوا لا يرى بالأبصار وإنما الحاصل في الآخرة مزيد علم ومعرفة به تسمى رؤية وطرد الجهمية هذا في رؤيته لخلقه فقالوا بصره ورؤيته هي علمه لا أن هناك بصرا حقيقة ورؤية حقيقة وأما مخانيثهم فتناقضوا فقالوا بل يبصر ويرى من غير مباينة للمرئي المبصر ولا مقابلة له فكانت فحولهم أقرب إلى العقل من هؤلاء وهؤلاء وإن تناقضوا تناقضا بينا فهم أقرب إلى الوحي بما أثبتوه من الرؤية

ص: 1334

وأبعد عنه مما نفوه من المباينة والعلو والطائفتان خارجتان عن حكم الوحي والعقل.

فصل: الطريق السابع والعشرون (الوجه الرابع والسبعون بعد المائة) : إن كل من أثبت الصفات أو شيئا منها لزمه إثبات المباينة وإلا تناقض غاية التناقض فإن الصفات نوعان أحدهما ما له تعلق بالمخلوق كالقدرة والمشيئة والرحمة والعلم والسمع والبصر والثاني ما لا يتعلق به كالصفات اللازمة كالحياة والجمال وإثبات النوعين يستلزم المباينة أما النوع الأول فلأن تعلق تلك الصفات بمتعلقاتها لا تعقل إلا مع ثبوت المباينة بينهما وبين تلك المتعلقات كمباينة العلم للمعلوم والقدرة للمقدور والسمع للمسموع فلو قيل صفة السمع ليست مباينة للمسموع كان مكابرة وردا لأوائل العقول وبدائهها وإذا لزم من تحقق الصفة وإمكان تعلقها بمتعلقها مباينتها له فهذه المباينة تابعة لمباينة الذات فإن الصفة لا تقوم بنفسها فإذا باين العلم والسمع والبصر والقدرة والإرادة لمتعلقاتها بمعنى انفصالها عنه فمباينة الذات أولى وهذا لا محيص عنه ويلزم من ثبوت هذه المباينة ثبوتها بين النوع الاخر وبين المخلوق بطريق الأولى.

ص: 1335

فصل: الطريق الثامن والعشرون (الوجه الخامس والسبعون بعد المائة) : أنهم إذا اعترفوا بقيام الصفات بالذات وأنها زائدة على الذات المجردة ولم يكن ذلك تجسيما ولا تركيبا يستلزم الحدوث بطلت كل شبهة لهم تمنع العلو والاستواء على العرش فإن مدارها على أن ذلك يستلزم التركيب والتجسيم وهو يستلزم الافتقار والحدوث وقد صرحوا هم بالتزام هذا القدر ولم ينكروه لأجل تسمية المعطلة له تركيبا وتجسيما وقالوا لخصومهم من نفاة الصفات التركيب خمسة أنواع أحدها تركيب الموجود من الوجود والماهية والثاني تركيب الحقيقة من الوجود والوجوب.

والثالث: تركيب الذات الموصوفة من الذات والصفات قالوا وهذه الأقسام الثلاثة لا تنافي وجوب الوجود ولا يتحاشى من إلقائها والدليل لا يدل على بطلانها لأن الدليل إنما دل على انتهاء الممكنات إلى واجب بذاته لا علة له ولم يدل على أنه لا ماهية له ولا صفة له.

والرابع: من التركيب تركب الجسم من الجواهر الفردة.

والخامس: تركبه من المادة والصورة عند من يقول بهذا وهذا ولا ريب أنه يمتنع وجود موجود قائم بنفسه بدون ثبوت

ص: 1336

الأقسام الثلاثة الأولى وتسميتهم لذلك تركيبا خطأوكذب على اللغة وإن قالوا نحن اصطلحنا على تسميته تركيبا قيل فلا ترتفع بسبب اصطلاحكم المتضمن للتلبيس والإيهام الحقائق الموجودة والمعاني العقلية ولا تنكر بتشبيه علم الرب وحياته وقوته وسمعه وبصره وكلامه وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه فإنه ليس في العقل ما ينفي ذلك بل العقل الصريح يصدق السمع الدال على إثبات صفات الرب سبحانه ومباينته لمخلوقاته والعقل أثبت موجودا واجبا بنفسه غنيا عما سواه وأما كون ذلك الموجود مجردا عن الصفات الثبوتية لا يوصف إلا بالسلوب والإضافات العدمية فالعقل لا يدل على ذلك بل يدل على خلافه كما يدل السمع.

فصل: الطريق التاسع والعشرون (الوجه السادس والسبعون بعد المائة) : أن يقال ما أثبته هؤلاء المعطلة من المباينة لا يبطل الحلول والاتحاد فإنهم أثبتوا مباينة في المفهوم كمباينة طعم التفاحة للونها وريحها وشكلها ومعلوم أن هذه المباينة لا تقتضي انفصال كل من المتباينين من الآخر بل هي ثابتة مع قيام هذه الصفات كلها بمحل واحد وهذه المباينة معناها أن هذا غير هذا وهذا القدر الذي أثبته النفاة من المباينة

ص: 1337

لا ينافي كونه حالا في غيره ولا حلول غيره فيه ولا تقتضي قيامه بنفسه ولا انفصال ذاته عن ذات خلقه بل ولا يقتضي تنزيهه عن التشبيه والتمثيل وأما المباينة التي دل عليها العقل والنقل والفطرة فأعظم من ذلك فإنها مباينة تستلزم تفرده بصفات كماله ونعوت جلاله وكونه أعظم من كل شيء وفوق كل شيء وعاليا على كل شيء وأن يكون هو الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء والظاهر الذي ليس فوقه شيء والباطن الذي ليس دونه شيء فباين خلقه بذاته وصفاته وأفعاله وأوليته وآخريته ووجوب وجوده وامتناع عدمه وكثرة أوصافه التي ليس كمثله فيها شيء فهو العليم الذي ليس كمثله شيء في علمه البصير الذي ليس كمثله شيء في بصره القدير الذي ليس كمثله شيء في قدرته الحي القيوم الذي ليس كمثله شيء في حياته وقيوميته العلي الذي ليس كمثله شيء في علوه بل هو منفرد بذاته وصفاته عن مماثلة مخلوقاته فله أعظم المباينة وأجلها وأكملها كما له من كل صفة كمال أعظمها وأكملها فهذه هي المباينة التي لا يليق به غيرها فأثبت له النفاة المعطلة مباينة لا حقيقة لها ولا ترجع إلى أمر وجودي بل المباينة التي أثبتوها من جنس مباينة العدم للوجود والمباينة التي أثبتها لنفسه مباينة فوق كل مباينة.

ص: 1338

فصل: الطريق الثلاثون (الوجه السابع والسبعون بعد المائة) : إنه لو لم يكن مباينا للعالم لزم أحد أمور ثلاثة قد قال بكل منها قائل أحدها أن يكون هو هذا العالم كما قال أهل وحدة الوجود والذي قادهم إلى هذا القول هو نفي المباينة كأن قلوبهم وفطرهم طلبت معبودا فلما اعتقدوا أنه غير مباين للعالم وتيقنوا أنه موجود قائم بنفسه قالوا فهو هذا العالم بعينه الثاني قول من يقول بل هو حال في العالم وهو قول الحلولية الثالث قول من يقول لا هو العالم ولا هو حال فيه ولا بائن عنه ولا متصل به ولا منفصل عنه وهو قول الجهمية ومعلوم أنه إذا عرض على العقول الصحيحة هذه الأقوال الأربعة علمت أن الصواب منها القول بأنه سبحانه بائن من خلقه وإذا كان القولان الآخران مخالفين لصريح العقل فالقول الثالث أشد مخالفة لصريح العقل منهما لأنه يتضمن نفي النقيضين وإن كان ممكنا في العقل فالقولان أقرب إلى الإمكان منه

ص: 1339

فإما أن يكون واجبا والقولان مخالفان للعقل فهذا تحكم باطل.

فهذه ثلاثون طريقا مضافة إلى الوجه السابع والأربعين بعد المائة في بيان عدم معارضة العقل للنقل وبيان موافقتهما وتطابقهما وحينئذ فنقول في

الوجه الثامن والسبعين بعد المائة: أن هؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم وعقولهم تتضمن معارضتهم الفرية على الوحي والعقل واللغة والفطرة وإفسادها.

أما فريتهم على الوحي فإنهم متى اعتقدوا معارضة العقل له لزمهم أحد أمرين باطلين إما أن يقولوا إن الرسل أرادوا من الناس اعتقاد الباطل وخلاف الصواب أو أنهم أتعبوهم غاية التعب وكلفوهم أعظم الحرج وهو اعتقاد خلاف ما دلت عليه النصوص ومعرفة الحق بعقولهم وفطرهم والاجتهاد في صرف ألفاظ الوحي عن حقائقها وظواهرها المفهومة منها وبيان ذلك أنهم إما أن يريدوا منهم اعتقاد الظاهر أو يريدوا منهم خلافه فإن أرادوا الأول وهو باطل عند النفاة فقد أرادوا منهم اعتقاد الباطل وإن أرادوا الثاني لزمت تلك المفاسد العظيمة وعلى التقديرين فلا يكونون قد بينوا الحق ولا هدوا الخلق.

ص: 1340

وأما فريتهم على العقل فإنهم جاءوا إلى المقدمات الفطرية التي فطر الله عليها عباده فجعلوها من حكم الوهم والخيال وجاءوا إلى المقدمات الباطلة فجعلوها من أ ; كام العقل فافتروا على العقل في النفي والإثبات.

وأما فريتهم على الفطرة فإن الله فطر عباده على الإقرار بعلوه كما فطرهم على الإقرار بأنه ربهم وخالقهم فغيروا الفطرة وأفسدوها بإنكار ذلك.

وأما فريتهم على اللغة فإنهم أزالوا دلالة الألفاظ الدالة على ذلك دلالة صريحة لا يحتمل غير معناها عن مواضعها وأنشأوا لها معاني أخر حملوها عليها لقطع من له إلف بتلك اللغة أن المتكلم لم يرد بتلك الألفاظ ما ذكروه من المعاني كما حملوا قوله {يخافون ربهم من فوقهم} [النحل50] على معنى قول القائل الذهب فوق الفضة والمسك فوق العنبر أي في القيمة والقدر ومعلوم أن هذا التركيب الخاص لا يحتمل هذا المعنى في لغة أمة من الأمم ولا يجوز أن يراد باللفظ وكذلك قوله: "إنكم ترون ربكم عيانا كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب وكما ترون الشمس في الظهيرة صحوا ليس دونها سحاب" فمثل هذا اللفظ إذا حمل على

ص: 1341

غير معناه الظاهر لكل أحد كان فرية على اللغة كما هو فرية على المتكلم به وعامة تأويلات النفاة المعطلة من هذا الباب لمن تدبرها ورزق هداية وإنصافا وأما الأعمى المتبع هواه فكما قال الله عز وجل {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور40]

الوجه التاسع والسبعون بعد المائة: إن المعارضين للوحي بعقولهم في الأصل هم أعداء الرسل المكذبون لهم كما تقدم ودونهم طوائف الجهمية المعطلة وملاحدة الصوفية وزنادقة الباطنية وخونة الولاة وظلمتهم فالجهمي يقول قال لي عقلي وملاحدة المتصوفة يقول قائلهم قال لي قلبي وزنادقة الباطنية يقولون لكل شيء تأويل وباطن يعلمه أهل الباطن وينكره أهل الظاهر وخونة الولاة يقولون لا تستقيم أمور الرعية إلا بهذه السياسة ولو وكلناهم إلى الشريعة لفسدت أمورهم ولقد وقعت على فصل من كلام أبي الوفاء بن عقيل في ذلك قال المتكلمون دققوا النظر بأدلة العقول فتفلسفوا والصوفية اهتموا بالمتوهمات على واقعهم فتكهنوا لأن الفلاسفة اعتمدوا على كشف حقائق الأشياء بزعمهم والكهان اعتمدوا على ما يلقى إليهم من الاطلاع وهم جميعا خوارج على الشرائع هذا يتجاسر أن يتكلم في المسائل التي

ص: 1342

فيها صريح نقل بما يخالف ذلك المنقول بمقتضى ما يزعم أنه حكم العقل وهذا يقول قال لي قلبي عن ربي فلا على هؤلاء أصبحت ولا على هؤلاء أمسيت لا كان مذهب جاء على غير طريق السفراء والرسل ولا نفق فقد طبع على غير السكة النبوية هل يعلم للصوفية عمل في إباحة دم أو فرج أو تحريم معاملة أو فتوى معمول بها في عبادة أو معاقدة أو للمتكلمين بحكم الكلام حاكم ينفذ حكمه في بلد أو رستاق أو تصيب للمتوهمة فتاوي وأحكاما إنما أهل الدولة الإسلامية والشريعة المحمدية المحدثون والفقهاء هؤلاء يروون أحاديث الشرع وينفون الكذب عن النقل ويحمون النقل عن الاختلاف والغلط وهؤلاء ينفون عن الأخبار تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وهؤلاء هم الذين عدلهم النبي بقوله يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله فهم العدول على

ص: 1343

سائر الطوائف فقبل قولهم على الناس ولا يقبل قول الناس عليهم والخارج عن هؤلاء وإن خفقت بنوده وكثرت جموعه وسعى حتى ضرب له الدرهم والدينار وخطب باسمه على رؤوس المنابر لا تكون أموره إلا على المغالطة والمجالسة لأنه كالخارج على الملك الذي دانت له الرعايا ونفذ حكمه في البلاد فالخارج عليه لا يزال خائفا مستوحشا يخشى من أن يقابله الملك بقتال أو يصافه بحرب لأن في نفس الخارجي بقية من الحماس الباطل والملك وإن قلت جموعه فعنده صولة الحق وهيبة الملك ولذلك الغريب المداوي للناس بزعمه مع الطبيب المقيم هذا مجتاز يطلب من الأدوية ما يسكن الألم في الحال ويضع على الأمراض الأدوية الحارة العاملة بسرعة فيأخذ الخلعة والعطية لسكون الألم وإزالة المرض ويصبح على أرض أخرى ومنزل بعيد فطبه مجازفة لأنه يأمن المعاتبة والمواقعة والأطباء المقيمون يلامون على تطويل العلاج وإنما سلكوا الملاطفة بالأدوية المركبة دون الحارة لأن الحارة من الأدوية وإن عجلت سكون الآلام فإنها غير مأمونة الغوائل ولا سليمة العواقب لأن ما يعطي الأدوية الحارة من السكون إنما هو لغلبة المرض وحينما غلبت الأمراض أوهشت قوى المحل الذي حلت به فهو كما قيل الدواء للبدن كالصابون

ص: 1344

للثوب ينقيه ويبليه كذلك كلما أحد الصابون وجاد أخلق الثوب فكذلك الفقهاء والمحدثون يقصرون عن الاستقصاء في إزالة الشبهة لأنهم عن النقل يتكلمون وللخوف على قلوب العوام من الشكوك يقصرون القول ويحققون فهم حال الأجوبة ينظرون في العواقب والمبتدعة والمتوهمة يهجمون فعلومهم فرح ساعة ليس لها ثبات فإن اشتبه على قوم ما دله جهال الصوفية عليهم من الأخذ بقوله في أمتي محدثون وملهمون وعمر منهم قيل لو نطق عمر برأيه ما نطق ولم يصدقه الوحي لم يلتفت إلى واقعاته وما يحدث به ولا يبني الشرع والأحكام على فراسته ألا ترى إلى قول من هو خير منه أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي سبحان الله العظيم يقول الصديق هذا

ص: 1345

وأسلم اليوم لشيخ رباط يخلو بأمرد على شمعة ويأكل من الحرام شبعة ويسمع الغناء في مجالس المردان من النساء الأجانب والصبيان تهزه الأشعار الخماريات وتثقل عليه الايات البينات يرقص على ذكر المليح والمليحة طلبا ورغبا ويتواجد على المواصيل والألحان طربا قد اتخذ دينه لهوا ولعبا تقرب أولياء الله إليه بالقرآن وتقرب هو باستماع المعازف والألحان مفتون في نفسه فاتن لأشباهه وبني جنسه فإذا لمت أحدهم قال أنا خير أم الشيخ فلان وذاك لعمرو الله من أولياء الشيطان قد نصبه شبكة يصطاد به جهلة العوام ويحتج به على أشباه الأنعام فما أعظم على الناس فتنته وما أشد على الدين محنته يقول أتباعه المفتونون وحزبه المغرورون نسلم إلى الشيخ طريقته وأي طريقة مع الشرع هل أبقت الشريعة لقائل مقالا أو لمتصرف بعدها مجالا وهل جاءت إلا بهدم العوائد ونقض الطرائق ما على الشريعة أضر من مبتدعة المتكلمين وجهلة المتصوفين هؤلاء يفسدون العقول بتوهمات وشبهات تشبه المعقول وهؤلاء يفسدون الأعمال ويهدمون قوانين الأزمان يحبون البطالات والاجتماعات على اللذات وسماع أصوات المشوشات للمعايش والطاعات أولئك يجرئون الشباب والأحداث على البحث وكثرة السؤال والاعتراضات وتتبع الشرع

ص: 1346

بالمعارضات والمناقضات وما عرفنا للسلف الصالح أحوال أولئك البطالين أصحاب الشهوات ولا أحوال هؤلاء المتكلمين أرباب الشبهات بل كانوا عبيد إيمان وتسليم عن معرفة تامة وبصيرة نافذة وجد وتشمير في الطاعات فنصيحتي لإخواني من المؤمنين الموحدين أن لا يقرع أبصار قلوبهم كلام المتكلمين ولا تصغي مسامعهم إلى خرافات المتصوفين بل الشغل بالمعائش أولى من بطالة المتصوفة والوقوف على النصوص أولى من شبهات المتخيلة المتوهمة وقد خبرت طريق الفريقين غاية هؤلاء الشك وغاية هؤلاء الشطح قال والمتكلمون عندي خير من المتصوفة لأن المتكلمين مؤداهم مع التحقيق مزيد الشكوك في حق بعض الأشخاص ومؤدي المتصوفة إلى توهم الإشكال والتشبيه وهو الغاية في الإبطال بل هو حقيقة المحال.

ما يسقط المشايخ من عيني وإن نبلوا عند الناس أقدارا وأنسابا وعلوما وأخطارا إلا قول العاقل منهم إذا خوطب بمقتضى الشرع عادتنا كذا يشير إلى طريقة قد قننوها لأنفهسم تخرج عن سمت الشرع قد اختلقوا طريقة واستحدثوا رسوما وكل مختلق مستحدث فبدعة

ص: 1347

والاستمرار على ترك السنن خذلان قال أحمد رضي الله عنه وقد سئل عن رجل استمر على ترك الوتر هذا رجل سوء إياك أن تتبع شيخا يقتدي بنفسه ولا يكون له إمام يعزى إليه ما يدعوك إليه ويتصل ذلك بشيخ إلى شيخ إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم الله الثقة بالأشخاص ضلال والركون إلى الآراء ابتداع اللين والانطباع في الطريقة مع السنة أحب إلي من الخشونة والانقباض مع البدعة لا تتقرب إلى الله تعالى بالامتناع مما لم يمنع منه كما لا تتقرب إليه بعمل مالم يأذن فيه.

أصحاب الحديث رسل السفير إلينا والفقهاء تراجم لمعاني كلامه ولا يتم اتباع إلا بمنقول ولا فهم منقول إلا بترجمان وما عداهما تكلف لا يفيد إلا التعب والعناء وإلى هذين القسمين انقسم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلة وفقهاء ولا يعرف فيهم ثالث إلا أصحاب المعاش والتجارات لا مشايخ ربط ولا مناخات البطالات ولا أصحاب زوايا ينتظرون الفتوحات ولا رقاصون على الغناء والأصوات المطربات ولا متكلمون بالتخيلات والشبهات ولا بالشطحات والتوهمات ولا بالكلمات الخمس والمقولات العشر

ص: 1348

والموجهات والمختلطات بل كانا بحبل الوحي معتصمين وبكتاب ربهم وسنة نبيهم متمسكين وهو في قلوبهم أجل من أن تضرب له الأمثال أو تتقدم إليه آراء الرجال.

يا أصحاب المخالطات والمعاملات عليكم بالورع ويا أصحاب الزوايا والانقطاع عليكم بحسم مواد الطمع ويا أرباب العلم والنظر إياكم واستحسان طرائق أهل العلم والخدع ليست السنة بحب معاوية ويزيد ولا بمجرد حب أبي بكر وعمر ولا بإزعاج أعضائك بالصلاة على السفر ولا بالاكتحال يوم عاشوراء والتوسعة على العيال السنة تتبع طريق الرسول واقتفاء آثاره والوقوف عند مراسمه وحدوده من غير تقصير ولا غلو وأن لا يتقدم بين يديه ولا تختار لنفسك قولا لم يتبين لك أنه جاء به فالسنة مقابلة أوامره بالامتثال ونواهيه بالانكفاف وأخباره بالتصديق ومجانبة الشبه والآراء وكل ما خالف النقل وإن كانت له حلاوة في السمع وقبول في القلب ليست القلوب والعقول والآراء معيارا على الشرع ليس لله طائفة أجل من قوم حدثوا عنه وعن رسوله وما أحدثوا وعولوا على ما رووا لا على ما رأوا الوقوف مع النقل مقام الصديقين وورثة النبيين والمرسلين هذه نصيحتي لنفس ولإخواني من المؤمنين فهذا كلام من دخل مع

ص: 1349

المتكلمين إلى غايتهم ووقف على نهايتهم وخبر الكلام وقلاه وعرف مداه ومنتهاه وقد تقدم حكاية كلام معاصره ومناظره أبي حامد الغزالي في ذم الكلام وهما من أعلم أهل عصرهما بمذاهب المتكلمين.

الوجه الثمانون بعد المائة: إنه من المعلوم عند جميع العقلاء أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم هم أعقل الخلق وعقولهم أكمل العقول ولهذا كان ما جاءوا به فوق عقول البشر ولهذا حصل على أيديهم من الخير مالم يحصل على أيدي سواهم وصلح من أحوال النفوس والقلوب وعمارتها بالخير وتزكيتها بالعلم والعمل مالم يحصل لأحد غيرهم فعمارة القلوب والدنيا والآخرة على أيديهم وكل فساد في العالم عاما وخاصا فإنما سببه العدول عما جاءوا به ومخالفتهم فإذا استقريت جميع الشرور التي في العالم جزئياتها وكلياتها وكل فتنة وبلية ورزية رأيت سببها معصيتهم وكل خير ونعمة في الدنيا والآخرة فسببه طاعتهم واستقر هذا من زمن نوح إلى ساعتك التي أنت فيها وما عذبت به الأمم من أنواع العذاب وما جرى على هذه الأمة حتى ما أصيب به المسلمون مع نبيهم يوم أحد كان سببه معصية أمره وللعاقل البصير عبرة في نفسه وأحواله خاصة فهذا شأن هذه العقول الزاكية الكاملة وشأن من خلقهم بمعقوله وإذا كان هذا التفاوت بين عقولهم

ص: 1350

وعقول الناس في الأمور المتعلقة بالإرادات والأعمال والحب والبغض فما الظن بالتفاوت الذي بين عقولهم وعقول الناس في العلوم والمعارف فما الظن بما يتعلق بمعرفة الرب تعالى وأسمائه وصفاته وشأنه ويالله العجب كيف يقدم قول من يقول قال لي عقلي عن ابن سينا والفارابي وارسطاطاليس وأشباههم أو عن أبي الهذيل العلاف والشحام والنظام وأضرابهم أو عمن تلقى عن هؤلاء على قول من يقول قال لي جبريل عن رب العالمين فالرسول يقول قال لي ربي وهذا المعارض يقول قال لي عقلي أو قال أرسطاطاليس ونحوه

الوجه الحادي والثمانون بعد المائة: لو عورض ما جاء به خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه بموسى وعيسى كانت هذه المعارضة ضلالا وانسلاخا من الدين بالكلية كما صرح به وقد رأى بيد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورقة من التوراة فقال أمتهوكون يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو كان موسى حيا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم فإذا كان اتباع موسى مع وجود محمد ضلالا فكيف باتباع أرسطو وابن سينا ورؤوس الجهمية والمعطلة وفي بعض ألفاظ هذا الحديث كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتابا غير

ص: 1351

كتابهم أنزل على نبي غير نبيهم فأنزل الله تعالى {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [العنكبوت51] فكيف بضلالة قوم اتبعوا كتابا أوحاه الشيطان إلى رؤوس المشركين وأهل الضلال لم ينزله الله على نبي من أنبيائه فلا نزل به وحي ولا نطق به نبي كما قال تعالى عن هؤلاء المعارضين للوحي {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام121] وقال تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام113 ، 112] يوضحه

الوجه الثاني والثمانون بعد المائة: وهو أن الله سبحانه أنكر على من لم يكتف بكتابه فقال {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت51] ومن المحال أن يكون الكتاب الذي يخالفه صريح

ص: 1352

العقل كافيا وإنما يكون كافيا لمن قدمه على كل معقول ورأي وقياس وذوق وحقيقة وسياسة فهذا الكتاب في حقه كاف له كما أنه إنما يكون رحمة وذكرى له دون غيره وأما من أعرض عنه أو عارضه بآراء الرجال فليس بكاف له ولا هو في حقه هدى ولا رحمة بل هو من الذين آمنو بالباطل وكفروا بالله يوضحه

الوجه الثالث والثمانون بعد المائة: أن هؤلاء الذين لم يكتفوا بكتابه حتى سلكوا بزعمهم طريقة العقل وعارضوه به وقدموه عليه من جنس الذين لم يكتفوا به سبحانه إلها حتى جعلوا له أندادا يعبدونهم كما يعبدون الله بل أولئك لم يقدموا أندادهم على الله فهؤلاء جعلوا لله ندا يطيعونه ويعظمونه ويعبدونه كما يعظمون الله ويعبدونه وهؤلاء جعلوا لكتابه ندا يتحاكمون إليه ويقبلون حكمه ويقدمونه على حكم كتابه بل الأمران متلازمان فمن لم يكتف بكتابه لم يكتف به فمتى جعل لكتابه ندا فقد جعل له ندا لا يكون غير ذلك البتة. فلا ترى من عارض الوحي برأيه وجعله ندا له إلا مشركا بالله قد اتخذ من دون الله أندادا ولهذا كان مرض التعطيل ومرض الشرك أخوين متصاحبين لا ينفك أحدهما عن صاحبه فإن المعطل قد جعل آراء الرجال وعقولهم ندا لكتاب الله والمشرك قد جعل ما يعبده من الأوثان ندا له ومما يبين تلازم التعطيل والشرك أن القلوب

ص: 1353

خلقت متحركة طالبة للتأله والمحبة فهي لا تسكن إلا بمحبوب تطمئن إليه وتسكن عنده يكون هو غاية محبوبها ومطلوبها ولا قرار لها ولا طمأنينة ولا سكون بدون هذا المطلوب والظفر به والوصول إليه ولو ظفرت بما ظفرت به سواه لم يزدها ذلك إلا فاقة وفقرا وحاجة وقلقا واضطرابا.

فطلب هذا المراد المطلوب كامن مستقر فيها وإن أعرضت عنه واشتغلت بغيره ولم تشعر به فوجود الشيء لا يستلزم الشعور به بل وجوده شيء والشعور به شيء وهذا الطلب والإرادة هو بحسب الشعور والمعرفة بالمطلوب المراد وصفات كماله ونعوت جلاله وجماله فكيف إذا انضاف إلى ذلك معرفته بشدة الحاجة إليه والفاقة والضرورة وأنه لا حياة له في الحقيقة ولا فلاح ولا لذة ولا سرور ولا نعيم إلا بقربه والإنس به والتنعم بذكره وأن منزلة ذلك من الروح منزلة الروح من البدن فإذا فقدته الروح كانت كالبدن الفاقد لروحه بل القلب مضطر إليه فقير إليه أعظم من ضرورة البدن إلى روحه إذ غاية ما يقدر بفوات الروح موت البدن وقد يعقبه راحة العبد وأما إذا فات الروح والقلب هذا المطلوب المحبوب ماتت موتا يتضمن كل ألم وهم وغم وحزن وخوف واضطراب فلو أن ما يحصل للقلب من الموت مثل موت البدن لكان في الموت راحة ولكنه موت يتجرع صاحبه كاسات الآلام من الهموم والغموم والحسرات

ص: 1354

{وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم17] وهذا أمر لا يصدق به إلا من باشر قلبه هذا وهذا وإذا كانت الروح مفطورة على تأله فاطرها وخالقها وهي فقيرة إليه أعظم الافتقار من جهة كونه ربها وخالقها وممسكها وحافظها ومغذيها وطبيها ومداويها ومن جهة كونه إلهها ومحبوبها ومطلوبها وغاية مناها فهي إلى معرفة هذا المطلوب ومعرفة كماله وجماله وأوصاف جلاله أشد شيء ضرورة وكلما كانت معرفتها بذلك أوفر كانت محبتها له أقوى مالم يعقها عائق ويمنعها مانع من مرض يتعطل به أو تضعف عن نهوضها بالجد في طلب هذا المحبوب.

وهذا العائق شيئان إما جهل بهذا المطلوب وكونه لم يقدره حق قدره ولم تهتد من معرفة كماله وجماله وجلاله إلى ما يدعوها إلى طلبه وإيثاره على غيره وإما فساد في إرادتها لماتعلقت بغيره وآثرته عليه ففسدت فطرتها التي فطرت عليها فانتقلت بفسادها عنه إلى غيره وهذه مقدمات فطرية ضرورية لا ينازع فيها سليم العقل والفطرة وإذا عرف هذا فالرسل جاءوا بكمال الأمرين على أتم الوجوه فإنهم ذكروا من صفات هذا الرب الذي تألهه القلوب

ص: 1355

وتطمئن إليه الأرواح ما يكون داعيا إلى محبته وأمروا الناس من توحيده وعبادته وحده لا شريك له بما إذا فعلوه أحبهم عليه فجاءت النفاة المعارضون للوحي بعقولهم وآرائهم فوقفوا في طريق الرسل وأتوا بما يضاد دعوتهم فنفوا صفاته التي تعرف بها إلى عباده وجعلوا إثباتها تجسيما وتشبيها ووصفوه من السلوب والنفي بما حال بين القلوب وبين معرفته وأكدوا ذلك بأنه لا يحب ولا يحب ولا له وجه يراه العابدون المحبون له يوم القيامة فضلا عن أن يحصل لهم لذة هناك بالنظر إليه ولا يكلمهم ولا يخاطبهم ولا يسلم عليهم من فوقهم فلما استقر هذا النفي في قلوبهم تعلقت بغيره من أصناف المحبوبات فأشركت به في المحبة ولا بد وكان أعظم الأسباب الحاملة لها على الشرك هو التعطيل فانظر إلى تلازم الشرك والتعطيل وتصادقهما وكونهما

رضيعي لبان ثدي أم تقاسما

بأسحم داج عوض لا نتفرق

الوجه الرابع والثمانون بعد المائة: إن هؤلاء المعطلة النفاة المعارضين للوحي بآرائهم ومعقولاتهم من الظانين بالله وكتابه ورسوله ظن السوء ولم يجيء في القرآن وعيد أعظم من وعيد من ظن به ظن السوء قال تعالى:

ص: 1356

{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [الفتح6 ، 5] وقال تعالى {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت23 ، 22] فهؤلاء ظنوا أنه لا يعلم بعض الجزئيات فكيف بم ظن أنه لا علم له ولا سمع ولا بصر ولا تكلم ولا يتكلم ولا استوى على عرشه ولا له فعل حقيقة يدبر به الأمر ولا له حكمة يفعل ما يفعل لأجلها وأولئك جوزوا عليه أن لا ينصر رسوله وأن يجعل الدائرة عليه وعلى المؤمنين.

ومنكرو الحكمة والتعليل يجوزون عليه أن يعذب أنبياءه ورسله قالوا ولا نعلم تنزيهه عن ذلك بالعقل وإنما نعلم بالخبر ومن أعظم ظن السوء به وبكتابه أن يظن أن العقل الصريح مخالف له وأي نقص وعيب أبلغ من نقص كلام مخالف لصريح المعقول وأي إساءة ظن أعظم من هذه الإساءة يوضحه.

ص: 1357

الوجه الخامس والثمانون بعد المائة: إن هذا نسبة له إلى كونه كذبا في نفسه فإنه إذا خالف صريح العقل لم يكن مطابقا لمخبره فيكون المتكلم به قد أخبر بخبر لم يطابق مخبره وهذا حقيقة الكذب بل هو من أقبح الكذب فإن الكذب نوعان أحدهما: كذب يجوز أن يكون متعلقه واقعا كمن يقول مات فلان أو تزوج أو ولد له ولم يكن ذلك والثاني: كذب لا يجوز أن يقع متعلقه وهو ما يحيله العقل وهذا أقبح نوعي الكذب فكيف يجوز على أصدق الكلام وأهداه وأفضله أن يكون فيه أقبح نوعي الكذب

الوجه السادس والثمانون بعد المائة: إن من ادعى معارضة العقل لما جاءت به الرسل من صفاته وأفعاله وحقائق أسمائه لم يقدره حق قدره وقد ذم الله تعالى من لم يقدره حق قدره في ثلاثة مواضع من كتابه: أحدها قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام91]

الثاني: قوله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ

ص: 1358

الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج74 ، 73]

الثالث: قوله {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر67] فأخبر أنه لم يقدره حق قدره من أنكر إرساله للرسل وإنزال كتبه عليهم وهذا حقيقة قول من قال إنه لا يتكلم ولم ينزل له إلى الأرض كلام ولا كلم موسى تكليما ومعلوم أن هذا إنكار لكمال ربوبيته وحقيقة إلهيته ولحكمته ولم يقدره حق قدره من عبد من دونه إلها غيره ولم يقدره حق قدره من جحد صفات كماله ونعوت جلاله وقد وصف سبحانه نفسه بأنه العلي العظيم وحقيقة قول المعطلة النفاة أنه ليس بعلي ولا عظيم فإنهم يردون علوه وعظمته إلى مجرد أمر معنوي كما يقال الذهب أعلى وأعظم من الفضة والبر أعلى وأعظم من الشعير وقد صرحوا بذلك فقالوا معناه علي القدر وعظيم القدر قال شيخنا فيقال لهم أتريدون أنه في نفسه علي الذات عظيم القدر وإن له في نفسه قدرا عظيما أم تريدون أن عظمته

ص: 1359

وقدره في النفوس فقط فإن أردتم الأول فهو الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة والعقل فإذا كان في نفسه عظيم القدرفهو في قلوب الخلق كذلك ومع ذلك فلا يحصي أحد ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه ولا يقدر أحد قدره ولا يعلم عظم قدره إلا هو وتلك صفة يمتاز بها وبختص بها عن خلقه إذ هي من لوازم ماهيته وذاته التي اختص بها عن خلقه كما قال الإمام أحمد لما قالت الجهمية إنه في المخلوقات نحن نعلم مخلوقات كثيرة ليس فيها من عظم الرب شيء وإن أعدتم ذلك إلى مجرد تعظيم القلوب له من غير أن يكون هنانك صفات ثبوتية وقدر عظيم يختص به فذاك اعتقاد لا حقيقة له وصاحبه قد عظمه بأن اعتقد فيه عظمةلا حقيقة لها وذلك يضاهي اعتقاد المشركين في آلهتهم.

وإن قالوا بل يزيد معنى ثالثا لا هذا ولا هذا وهو أن له في نفسه قدرا يستحقه لكنه قدر معنوي قيل لهم أتريدون أن له حقيقة عظيمة يختص بها عن غيره وصفات عظيمة يتميز بها وذاتا عظيمة تمتاز عن الذوات وماهية عظيمة

ص: 1360

أعظم من كل ماهية ونحو ذلك من المعاني المعقولة فذلك أمر وجودي محقق وإذا أضيف ذلك إلى الرب كان بحسب ما يليق به ولا يشركه فيه المخلوق كما أنه إذا أضيف إلى المخلوق كان بحسب ما يليق به ولا يشركه فيه الخالق فهو في حق الخالق تعالى قدر يليق بعظمته وجلاله وفي حق المخلوق قدر يناسبه كما قال تعالى {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق3] فما من مخلوق إلا وقد جعل الله له قدرا يخصه والقدر يكون علميا ويكون عينيا فالأول هو التقدير العلمي وهو تقدير الشيء في العلم واللفظ والكتاب كما يقدر العبد في نفسه ما يريد أن يقوله ويكتبه ويفعله فيجعل له قدرا ومن هذا تقدير الله سبحانه لمقادير الخلائق في علمه وكتابه قبل تكوينها ثم كونها على ذلك القدر الذي علمه وكتبه.

فالقدر الإلهي نوعان:

أحدهما: في العلم والكتابة

والثاني: خلقها وبرأها وتصويرها بقدرته التي بها يخلق الأشياء والخلق يتضمن الإبداع والتقدير جميعا والمقصود أن كل موجد فله قدر والعباد لا يقدرون الخالق قدره والكفار منهم لا يقدرونه حق قدره ولهذا لم يذكر ذلك سبحانه إلا في حقهم قال تعالى:

ص: 1361

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام91] وهذا إنما وصف به الذين لا يؤمنون بجميع كتبه المنزلة من المشركين واليهود وغيرهم وقال تعالى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ولم يقل وما قدروا الله قدره فإن حق قدره هو الحق الذي لقدره فهو حق عليهم لقدره سبحانه فجحدوا ذلك الحق وأنكروه وما قاموا بذلك الحق معرفة ولا إقرارا ولا عبودية وذلك جحود وإنكار لبعض قدره من صفات كماله وأفعاله لجحودهم أن يتكلم أو يعلم الجزئيات أو يقدر على إحداث فعل فشبهات منكري الرسالة ترجع إلى ذلك أما إنكار علمه تعالى أو إنكار قدرته أو إنكار كلامه فمن أقر بما أرسل به رسله وأنه عالم به متكلم بكتبه التي أنزلها عليهم قادر على الإرسال لا يليق بحكمته تركه فقد قدره حق قدره من هذا الوجه إن لم يقدره حق قدره مطلقا وكذلك ذكر الآية الأخرى في سياق خطابه للمشركين ولمنكري آياته كقوله {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر54] إلى قوله {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر59 إلى قوله:

ص: 1362

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر67] فكان هذا ردا على المشركين والمعطلين الجاحدين لتوحيده ولصفاته كما كان ذلك ردا على منكري كتبه ورسله وهذان أصلا الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الذي وصف به نفسه هاهنا يتضمن من اقتداره على تغيير العالم وتبديله ما يبطل قول أعدائه الملاحدة المكذبين بالمبدأ والمعاد أئمة هؤلاء المعارضين للوحي بالعقل والرأي وقال تعالى في آية الحج {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج75 ، 73] فما قدره من عبد من دونه من لا يخلق ذبابا واحدا وإن سلبه الذباب شيئا مما عليه من خلوق وغيره لم يقدر على استنقاذه منه ولا يكون أضعف من هذا الإله وعابده

ص: 1363

فكيف يعبد من دون من له القوة كلها والعزة كلها ولما كان هذا من جهلهم بالله وترك تعظيمه الذي ينبغي له قال كثير من المفسرين في معنى ذلك ما عظموه حق عظمته وقال بعضهم ما عرفوه حق معرفته وقال بعضهم ما عبدوه حق عبادته وقال آخرون ما وصفوه حق صفته ولما كان أهل العلم والإيمان قد قاموا من ذلك بحسب قدرتهم وطاقتهم التي أعانهم بها ووفقهم بها لمعرفته وعبادته وتعظيمه لم يتناولهم هذا الوصف فإن التعظيم له سبحانه والمعرفة والعبادة ووصفه بما وصف به نفسه قد أمر به عباده وأعانهم عليه ورضي منهم بمقدورهم من ذلك وإن كانوا لا يقدرونه قدره ولا يقدر أحد من العباد قدره فإنه إذا كانت السماوات السبع في يده كالخردلة في يد أحدنا والأرضون السبع في يده الأخرى كذلك فكيف يقدره حق قدره من أنكر أن يكون له يدان فضلا عن أن يقبض بهما شيئا فلا يد عند المعطلة ولا قبض في الحقيقة وإنما ذلك مجاز لا حقيقة له وللجهمية والمعطلة نفاة الصفات من هذا الذم أوفر نصيب وللمتفلسفة وأفراخهم وأتباعهم ذنوب مثل ذنوب أصحابهم وأكثر.

وقد شرع الله سبحانه لعباده ذكر هذين الاسمين

ص: 1364

العلي العظيم في الركوع والسجود كما ثبت في الصحيح أنه لما نزلت {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال النبي اجعلوها في ركوعكم فلما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} قال اجعلوها في سجودكم وهو سبحانه كثيرا ما يقرن في وصفه بين هذين الاسمين كقوله {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة255] وقوله {هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج62] وقوله {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد9] يثبت بذلك علوه على المخلوقات وعظمته فالعلو رفعته والعظمة عظمة قدره ذاتا ووصفا.

وعند الجهمية ليس له علو ولا عظمة إلا ما في النفوس من اعتقاد كونه أفضل من غيره.

ص: 1365

فصل: الوجه السابع والثمانون بعد المائة: إن هؤلاء المعارضين بين الوحي والعقل من الجهمية المعطلة والفلاسفة الملاحدة ومن اتبع سبلهم هم دائما يدلون بنفي التشبيه والتمثيل ويجعلونه جنة لتعطيلهم ونفيهم فجحدوا علوه على خلقه ومباينته لهم وتكلمه بالقرآن والتوراة والإنجيل وسائر كتبه وتكليمه لموسى واستوائه على عرشه ورؤية المؤمنين له بأبصارهم من فوقهم في الجنة وسلامه عليهم وتجليه لهم ضاحكا وغير ذلك مما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله وتترسوا بنفي التشبيه واتخذوه جنة يصدون به القلوب عن الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته وكل من نفى شيئا مما وصف به نفسه جعل نفي التشبيه له كالوقاية في الفعل حتى آل ذلك ببعضهم إلى أن نفى ذاته وماهيته خشية التشبيه فقال هو وجود محض لا ماهية له ونفى آخرون وجوده بالكلية خشية التشبيه وقالوا يلزمنا في الوجود ما لزم مثبتي الصفات والكلام والعلو في ذلك فنحن نسد الباب بالكلية.

ص: 1366

ولا ريب أن المشبهة المحضة خير من هؤلاء وأحسن قولا في ربهم وأحسن ثناء عليه منهم.

والطائفة المعطلة بمنزلة من قدح في ملك الملك وسلطانه ونفى قدرته وعلمه وتدبيره لمملكته وسائر صفات الملك.

والطائفة الثانية بمنزلة من شبهه بملك غيره موصوف بأكمل الصفات وأحسن النعوت فينبغي أن تعلم في هذا قاعدة نافعة جدا وهي أن نفي الشبه والمثل والنظير ليس في نفسه صفة مدح ولا كمال ولا يحمد به المنفي عنه ذلك بمجرده فإن العدم المحض الذي هو أخس المعلومات وأنقصها ينفي عنه الشبه والمثل والنظير ولا يكون ذلك كمالا ومدحا إلا إذا تضمن كون من نفى عنه ذلك قد اختص من صفات الكمال ونعوت الجلال بأوصاف باين بها غيره وخرج بها عن أن يكون له نظير أو شبه فهو لتفرده بها عن غيره صح أن ينفي عنه الشبه والمثل والنظير والكفؤ فلا يقال لمن لا سمع له ولا بصر ولا حياة ولا علم ولا كلام ولا فعل ليس له شبه ولا مثل ولا نظير اللهم إلا في باب الذم والعيب أي قد سلب صفات الكمال كلها بحيث صار لا شبه له في النقص هذا الذي عليه فطر الناس وعقولهم واستعمالهم في المدح والذم كما قال شاعر القوم

ص: 1367

ليس كمثل الفتى زهير

خلق يساويه في الفضائل

وقال الآخر

ما أن كمثلهم في الناس من أحد

وقال الفرزدق

فما مثله في الناس إلا مملكا

أبو أمه حي أبوه يقاربه

أي ما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك هو خاله.

وقال الآخر

فما مثله فيهم ولا هو كائن

وليس يكون الدهر ما دام يذبل

نفى أن يكون له مثل في الحال والماضي والمستقبل.

وقال الآخر

ولم أقل مثلك أعني به

سواك يا فردا بلا شبه

ومنه قولهم فلان نسيج وحده شبهه بثوب لم ينسج له نظير في حسنه وصفاته فعكس المعطلة المعنى وقلبوا

ص: 1368

الحقائق وأزالوا دلالة اللفظ عن موضعها وجعلوا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى11] جنة وترسا لنفي علوه سبحانه على عرشه وتكليمه لرسله وإثبات صفات كماله ومما ينبغي أن يعلم أن كل سلب ونفي لا يتضمن إثباتا فإن الله لا يوصف به لأنه عدم محض ونفي صرف لا يقتضي مدحا ولا كمالا ولا تعظيما ولهذا كان تسبيحه وتقديسه سبحانه متضمنا لعظمته ومستلزما لصفات كماله ونعوت جلاله وإلا فالمدح بالعدم المحض كلا مدح والعدم في نفسه ليس بشيء يمدح به ويحمد عليه ولا يكسب القلب علما بالمذكور ولا محبة وقصدا له ولهذا كان عدم السنة والنوم مدحا وكمالا في حقه سبحانه لتضمنه واستلزامه كمال حياته وقيوميته ونفي اللغوب عنه كمال لاستلزامه كمال قدرته وقوته ونفي النسيان عنه كمال لتضمنه كمال علمه وكذلك نفي عزوب شيء عنه ونفي الصاحبة والولد كمال لتضمنه كمال غناه وتفرده بالربوبية وأن من في السماوات والأرض عبيد له وكذلك نفي الكفؤ والسمي والمثل عنه كمال لأنه يستلزم ثبوت جميع صفات الكمال له على أكمل الوجوه واستحالة وجود مشارك له فيها فالذين يصفونه

ص: 1369

بالسلوب فقط من الجهمية والفلاسفة لم يعرفوه من الوجه الذي عرفته به الرسل وعرفوه إلى الخلق وهو الوجه الذي يحمده به ويثني عليه ويمجد وتعرف به عظمته وجلاله وإنما عرفوه من الوجه الذي يقودهم إلى تعطيل العلم والمعرفة والإيمان به بعدم اعتقادهم الحق واعتقادهم خلاف الحق وحقيقة أمرهم أنهم لم يثبتوا لله عظمة إلا ما تخيلوه في نفوسهم من السلوب والنفي الذي لا عظمة فيه ولا مدح فضلا عن أن يكون كمالا بل ما أثبتوه مستلزم لنفي ذاته رأسا.

وأما الصفاتية الذين يؤمنون ببعض ويجحدون بعضا فإذا أثبتوا علما وقدرة وإرادة وغيرها تضمن ذلك إثبات ذات تقوم بها هذه الصفات وتتميز بحقيقتها وماهيتها سواء سموه قدرا أو لم يسموه فإن لم يثبتوا ذاتا متميزة بحقيقتها وماهيتها كانوا قد أثبتوا صفات بلا ذات كما أثبت إخوانهم ذاتا بلا صفات وأثبتوا أسماء بلا معان ولا حقائق وذلك كله مخالفة لصريح المعقول وهم يدعون أنهم أرباب عقليات فلا بد من إثبات ذات محققة لها الأسماء الحسنى التي لا تكون حسنى إلا إذا كانت دالة على صفات كمال وإلا فالأسماء فارغة لا معنى لها

ص: 1370

لا توصف بحسن فضلا عن كونها أحسن من غيرها يوضح ذلك.

الوجه الثامن والثمانون بعد المائة: أنه سبحانه فرق بين هذين الاسمين الدالين على علوه وعظمته في آخر آية الكرسي وفي سورة الشورى وفي سورة الرعد وفي سورة سبأ في قوله {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ23] ففي آية الكرسي ذكر الحياة التي هي أصل جميع الصفات وذكر معها قيوميته المقتضية لذاته وبقائه وانتفاء الآفات جميعها عنه من النوم والسنة والعجز وغيرها ثم ذكر كمال ملكه ثم عقبه بذكر وحدانيته في ملكه وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ثم ذكر سعة علمه وإحاطته ثم عقبه بأنه لا سبيل للخلق إلى علم شيء من الأشياء إلا بعد مشيئته لهم أن يعلموه ثم ذكر سعة كرسيه منبها به على سعته سبحانه وعظمته وعلوه وذلك توطئة بين يدي ذكر علوه وعظمته ثم أخبر عن كمال اقتداره وحفظه للعالم العلوي والسفلي من غير اكتراث ولا مشقة ولا تعب ثم ختم الآية بهذين الاسمين الجليلين الدالين على علو ذاته وعظمته في نفسه وقال في سورة طه

ص: 1371

{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه110] وقد اختلف في تفسير الضمير في به فقيل هو الله سبحانه أي ولا يحيطون بالله علما وقيل هو ما بين أيديهم وما خلفهم فعلى الأول يرجع إلى العالم وعلى الثاني يرجع إلى المعلوم وهذا القول يستلزم الأول من غير عكس لأنهم إذا لم يحيطوا ببعض معلوماته المتعلقة بهم فأن لا يحيطوا علما به سبحانه أولى وكذلك الضمير في قوله {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة255] يجوز أن يرجع إلى الله ويجوز أن يرجع إلى {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي ولا يحيطون بشيء من علم ذلك إلا بما شاء فعلى الأول يكون المصدر مضافا إلى الفاعل وعلى الثاني يكون مضافا إلى المفعول والمقصود أنه لو كان {الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} إنما يراد به اتصافه بالعلم والقدرة والملك وتوابع ذلك كان تكريرا بل دون التكرير فإن ذكر ذلك مفصلا أبلغ من الدلالة عليه بما لا يفهم إلا بكلفة وكذلك إذا قيل إن علوه وعظمته مجرد كونه أعظم من مخلوقاته وأفضل منها فهذا هضم عظيم لهاتين الصفتين العظيمتين وهذا لا يليق ولا يحسن أن يذكر ويخبر به عنه إلا في معرض الرد لمن سوى بينه وبين غيره في العبادة والتأله كقوله {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل59] .

ص: 1372

وقول يوسف الصديق {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف39] وقوله تعالى عن السحرة إنهم قالوا لفرعون {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه73] .

فهذا السياق يقال في مثله إن الله خير مما سواه من الآلهة الباطلة وأما بعد أ ، يذكر أنه مالك الكائنات ويقال مع ذلك هو أفضل من مخلوقاته وأعظم من مصنوعاته فهذا ينزه عنه كلام الله وإنما يليق هذا بهؤلاء الذين يجعلون له مثل السوء في كلامه ويجعلون ظاهره كفرا تارة وضلالة تارة وتشبيها وتجسيما تارة ومخالفا لصريح العقل تارة ويحرفونه بالتحريفات الباطلة ويقولون فيه مالا يرضى أحدهم أن يقال مثله في كلامه فيجعلون لكلامه مثل السوء كما جعلوا له سبحانه مثل السوء بإنكارهم صفات كماله وحقائق أسمائه الحسنى ولو تأول أحد كلامهم أو كلام من يعظمونه على ما يتأولون عليه كلام الله ورسوله لقامت قيامة أحدهم وإذا حقق الأمر عليهم تبين أن ما يتأولون عليه كلام الله ورسوله من التأويلات الفاسدة لا يليق حمل كلام آحاد فضلاء بني آدم عليها ولهذا

ص: 1373

سقطت حرمة الإيمان والقرآن والرسول من قلوبهم ولهذا يصرحون بأن القرآن والسنة لا تفيدان علما ولا يقينا في هذا الباب ويقولون إن الطريقة البرهانية ليست في القرآن وإنها في منطق اليونان يوضحه

الوجه التاسع والثمانون بعد المائة: أن العظيم يوصف به الأعيان والكلام والصفات والمعاني أما الأعيان فكقوله تعالى {وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [المؤمنون6] وقوله {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل23] وأما المعاني فكقوله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم4] وقوله {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور16] فيوصف بالذوات وصفاتها وأفعالها وكل موصوف فصفته بحسبه فعظم الذات شيء وعظم صفاتها شيء وعظم القول شيء وعظم الفعل شيء والرب تعالى له العظمة بكل اعتبار وكل وجه بذاته والمعطلة تنكر عظمة ذاته ولا يثبتون إلا عظمة معنوية لا يثبتون عظمة الذات كما يقولون مثل ذلك في العلو أنه علو

ص: 1374

معنوي لا أن ذاته عالية على كل المخلوقات فليس عندهم عليا ولا عظيما إلا باعتبار معنوي فقط كعلو قيمة الجوهر على قيمة الخزف وأهل السنة أثبتوا له العلو والعظمةة بكل اعتبار ومثل هذا وصفه سبحانه بأنه الكبير المتعالي فالكبير يوصف به الذات وصفاتها القائمة بها فيقال هذا أكبر من هذا حسا ومعنى وسنا وكذلك الطول يقال هو أطول يدا منه صورة ومعنى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: لنسائه: "أسرعكن لحاقا بي أطولكن يدا" فكلهن يمددن أيديهن أيهن أطول وكانت زينب أولهن موتا وكانت أطولهن يدا بالخير والصدقة وكذلك السعة والبسطة تكون في الذوات والمعاني كما قال تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة247] فكبر قدره في باطنه بالعلم وفي ظاهره باشتداد الجسم

ص: 1375

فكمل ظاهره وباطنه ومعناه وصورته وهذا أكمل من أن يكمل معناه وفكره دون ذاته وصورته وهذا شأنه سبحانه فيما يريد تكميله من خلقه فإنه يكمله ذاتا ومعنى ظاهرا وباطنا كما قال تعالى في أهل الجنة {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الإنسان11] فكمل ظواهرهم بالنضرة وبواطنهم بالمسرة وقال تعالى {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان21] فهذا زينة ظواهرهم وهذا زينة بواطنهم وقال {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة23-22] فكمل ظواهرهم بالنضرة وبواطنهم بالنظر إليه وقال تعالى {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف26] وأنعم على عباده بزينتين ولباسين زينة تجمل ظواهرهم وزينة من التقوى تجمل بواطنهم وقال تعالى

ص: 1376

{فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن70] قال المفسرون خيرات الأخلاق حسان الوجوه وقد روي هذا التفسير مسندا إلى النبي في حديث أم سلمة وهو في معجم الطبراني وغيره وقال تعالى {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات7 ، 6] فجعل المصابيح زينة لظاهرها ولباطنها بالحراسة من الشياطين فهي زينة الظاهر والباطن وقال تعالى {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم6 ، 5] وهو جبريل عليه الصلاة والسلام والمرة المنظر البهي الجميل فأعطاه كمال القوة في باطنه وجمال المنظر في ظاهره وهذان الكمالان هما اللذان أرتهما امرأة العزيز النسوة اللاتي لمنها في محبة يوسف فإنها أجلستهن في البيت.

ص: 1377

{وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَاّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف31] فأخبرتهن أن باطنه أحسن وأجمل. {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف32] فأرتهن جماله الظاهر وأخبرتهن بجماله الباطن والمقصود أن أهل السنة يثبتون لله سبحانه العلو الذاتي والمعنوي والعظمة الذاتية والمعنوية والجمال والجلال الذاتي والمعنوي ومن هذا قول المسلمين الله أكبر فإنه افعل تفضيل يقتضي كونه أكبر من كل شيء بجميع الاعتبارات وبهذا فسره النبي في الحديث الذي رواه أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث عدي بن حاتم في قصة إسلامه حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا عدي ما يفرك

ص: 1378

أيضرك أن يقال لا إله إلا الله فهل تعلم من إله سوى الله" ثم قال: "يا عدي ما يفرك أيفرك أن يقال الله أكبر فهل تعلم شيئا أكبر من الله" فالله سبحانه أكبر من كل شيء ذاتا وقدرا ومعنى وعزة وجلالة فهو أكبر من كل شيء في ذاته وصفاته وأفعاله كما هو فوق كل شيء وعال على كل شيء وأعظم من كل شيء وأجل من كل شيء في ذاته وصفاته وأفعاله يوضحه.

الوجه التسعون بعد المائة: إن تعطيل ذاته المقدسة عن وصفها بذلك وجعل ذلك مجرد أمر معنوي يقتضي سلب ذلك عنه بالكلية ولا سيما عند الجهمية النفاة لصفاته وأفعاله فإنه عندهم لا تقوم به صفة ثبوتية يستحق بها أن يكون أعظم من غيره وأكبر منه وفوقه وأعلى منه فإنهم لا يجعلون ذلك عائدا إلى ذاته لأنه يلزم منه عندهم التجسيم فليست ذاته عندهم موصوفة بكبر ولا عظمة ولا علو ولا فوقية وليس له عندهم صفة ثبوتية تكون عظمته وفوقيته وعلوه لأجلها فإن إثبات الصفات عندهم يستلزم التركيب ولا له فعل يقوم به يكون به أعظم وأكبر من غيره فإن ذلك يستلزم عندهم حلول الحوادث وقيامها به فلا حقيقة عندهم لكونه أكبر وأعظم وأجل من غيره إلا ما يرجع إلى مجرد السلب والنفي والعدم مثل كونه لا داخل العالم ولا خارجه ولا تحله الحوادث

ص: 1379

ولا يفعل لحكمة ولا مصلحة ولا له وجه ولا يدان ولا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ولا هو مستو على عرشه ولا يأتي يوم القيامة لفصل القضاء ولا يراه المؤمنون في الجنة ولا يكلمهم ولا كلم موسى في الدنيا ولا أحدا من الخلق ولا يشار إليه بالأصابع ولا يرفع إليه الكلم الطيب ولا تعرج الملائكة والروح إليه ولا عرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ولا دنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى ونحو ذلك من النفي والسلب الذي يفرون عنه بنفي التشبيه والتجسيم والتركيب فيوهمون السامع أن إثبات ذلك تشبيه وتجسيم ثم ينفونه عنه وحقيقة ذلك نفي ذاته وصفاته وأفعاله فهذا حقيقة كونه أكبر من كل شيء وأعظم منه وفوقه وعاليا عليه عندهم وحقيقة ذلك نفي هذا عنه وجعل كل شيء أكبر منه لأن ما لا ذات له ولا صفة ولا فعل فكل ذات لها صفة أكبر منه فالقوم كبروه وعظموه ونزهوه في الحقيقة عن وجوده فضلا عن صفات كماله وأفعاله يوضحه

الوجه الحادي والتسعون بعد المائة: وهو أنه قد علم بالاضطرار أن الله سبحانه له ذات مخصوصة يقال ذات الله كما قال خبيب

ص: 1380

وذلك في ذات الإله وإن يشأ

يبارك على أوصال شلو ممزع

ولفظ ذات في الأصل تأنيث ذو أي ذات كذا وذو كذا والذي يضاف إليه ذو نوعان وصف ويضاف إليه إضافة الموصوف إلى صفته كقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات58] وقوله {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [يونس60] فالفضل وصفه وفعله وكان النبي يقول في ركوعه وسجوده سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة. والثاني إضافته إلى مخلوق منفصل كقوله تعالى

ص: 1381

{وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج15 ، 14] فإذا أطلقوا لفظ الذات من غير تقييدها بإضافة معين دلت على ماهية لها صفات تقوم بها فكأنهم قالوا صاحبة الصفات المخصوصة القائمة بتلك الماهية فدلوا بلفظ الذات على الحقيقة وصفاتها القائمة بها ومحال أن يصح وجود ذات لا صفات لها ولا قدر وإن فرضها الذهن فرضا لا وجود لمتعلقه في الخارج إلا كما يفرض سائر الممتنعات فالذات هي قابلة للصفات والموصوفة بالصفات القائمة بها ومنه ذات الصدور أي ما فيها من خير وشر. وقال ابن الأنباري معناه عليم بحقيقة القلوب من المضمرات فتأنيث ذات لهذا المعنى كما قال {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال7] فأنث لمعنى الطائفة كما يقال لقيته ذات يوم لأن

ص: 1382

قصدهم لقيته مرة في يوم.

وقال الواحدي ذات الصدور يحتمل معنيين

أحدهما أن يكون نفس الصدور لأن ذات الشيء نفسه وعينه يقال فهمت ذات كلامك كما يقال فهمت كلامك.

قال تطوف بذات البيت والحر طاهر.

وقال وفيه معنى التأكيد فيكون المعنى والله عليم بالصدور.

والثاني أن ذات الصدور الأشياء التي في الصدور وهي الأسرار والضمائر وهي ذات الصدور لأنها فيها تحلها وتصاحبها وصاحب الشيء ذوه وصاحبته ذاته قلت أكثر استعمالهم ذات الشيء بمعنى السبيل والطريق الموصلةإليه كقول خبيب وذلك في ذات الإله وكذلك الجنب كقوله {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر56] فليست الذات والجنب هنا هي نفس الحقيقة ومنه قوله {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} [العنكبوت10] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولقد أوذيت في الله وما يؤذي أحد".

ص: 1383

وأما استعمالهم ذات الشيء بمعنى عينه ونفسه فلا يكاد يظفر به وكذلك قوله {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ليس المراد به عليما بمجرد الصدور فإن هذا ليس فيه كبير أمر وهو بمنزلة أن يقال عليم بالرؤوس والظهور والأيدي والأرجل وإنما المراد به عليم بما تضمره الصدور من خير وشر أي بالأسرار التي في الصدور وصاحبة الصدور فأضافها إليها بلفظ يعم جميع ما في الصدور من خير وشر.

وأما استعمال لفظ ذات في حقيقة الشيء الخارجية فأظنه استعمالا مولدا وهو من العربية المولدة لا العربية العرباء ولما ولدوا هذا الاستعمال أدخلوا عليها الألف واللام وهو من العربية المولدة أيضا فقالوا الذات والعرب لا تستعملها إلا مضافة وقد تنازع فيها أهل العربية فكثير منهم يغلط أصحاب هذا الاستعمال ويقول هو خلاف لغة العرب وبعضهم يجعله قياس اللغة وإن لم ينطقوا به والصواب أنه من العربية المولدة كما قالوا الكل والبعض والكافة والعرب لا تستعملها إلا مضافة.

وقريب من هذا لفظ الماهية والكمية والكيفية والآنية

ص: 1384

ونحوها فإن العرب لم تنطق بها فهي عربية مولدة ويشبه هذا قولهم الدمعزة والطلبقة لقولهم دام عزك وطال بقاؤك وهذا لم ينطق به العرب وإن نطقت بنظيره كالبسملة والحوقلة والحيعلة ولما استعملوا الذات بمعنى النفس قالوا جاء بذاته ومنه قول أهل السنة استوى على عرشه بذاته أي ذاته فوق العرش عالية عليه وقد غلط بعضهم من قال جاء بذاته وجاء بنفسه وقال الصواب جاء زيد ذاته ونفسه ونازعهم في ذلك آخرون وجوزوا هذا الاستعمال والمقصود أن إثبات الذات ونفي قدرها وصفاتها جمع بين النقيضين فإنه إثبات للشيء ونفي لما يستلزم نفيه فإن أبين لوازم الذات تمييزها بحقيقتها وماهيتها عن غيرها ومباينتها له ولو بالتعيين فمن أنكر مباينة الرب لخلقه وصفاته التي وصف بها نفسه فقد جحد ذاته وأنكرها وإن أقر بها لفظا.

الوجه الثاني والتسعون بعد المائة: إن كل من عارض الوحي بالرأي والعقل فهو من خصماء الله لأنه قد خاصم الله في الوحي الذي أنزله على رسوله واحتج على بطلانه ويكفي العبد خذلانا وجهلا وعمى أن يكون خصم ربه تبارك وتعالى ولهذا أخبر تعالى عن هؤلاء المعارضين للكتاب بعقولهم بذلك قال تعالى {أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس77] .

ص: 1385

ثم ذكر سبحانه مخاصمته لربه فيما ضربه من المثل قال {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس78] وفي الصحيح قال كان المشركون يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر49 ، 48] فهؤلاء إنما كانت خصومتهم خصومة معارضة للوحي بعقولهم وآرائهم كخصومة من خاصم في المعاد وكذلك مجادلتهم في الله وآياته كذا كانت جدال معارضة للوحي بالرأي والعقل فهؤلاء خصماء الله حقيقة وفي الاثر ينادي مناد يوم القيامة ألا ليقم خصماء الله فيذهب بهم إلى النار فخصماء الله حقيقة هم المعارضون لكتابه وما بعث به رسله بعقولهم وآرائهم وإن لم يكن هؤلاء خصماء الله فمن هم خصماؤه غيرهم وقد حكم الله سبحانه بين خصمائه وبين من خاصمهم فيه أحسن الحكومة وأعدلها وهي حكومة يحمده عليها الفريقان كما يحمده عليها أهل السماوات والأرض فقال تعالى:

ص: 1386

{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج22 ، 19] ثم حكم لخصومهم الذين خاصموا به وله فقال {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} [الحج24 ، 23 ولا يستوي من خاصم بكتاب الله وحاكم إليه وعول فيما يثبته لله وينفيه عنه عليه كمن خاصم كتاب الله وحاكم إلى منطق يونان وكلام أرسطو وابن سينا والجهم بن صفوان وشيعتهم وعول فيما يثبته وينفيه على أقوالهم وآرائهم وكان النبي يقول في استفتاح صلاة الليل اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فالرسل

ص: 1387

إنما خاصموا قومهم بالوحي وإليه حاكموهم به كانت لهم عليهم الحجة البالغة وكيف يعارض من يقول قال لي ربي كذا وكذا بقول من يقول قال لي عقلي أو قلبي أو قال فلان فهذا هو المخصوم الداحضة حجته في الدنيا والآخرة الذي لا يمكنه تنفيذ ضلاله وباطله إلا بالعقوبة والتهديد والوعيد أو بالرغبة العاجلة في الدنيا وزخرفها كما فعل المنافقون بنو عبيد حين أظهروا دعوتهم فإنهم استولوا على النفوس الصغيرة الجاهلة المبطلةبالرغبة والرهبة العاجلة من نوع شبهة وإذا انضاف الهوى إلى الشبهة ترحل العقل والإيمان وتمكن الهوى والشيطان والنفس موكلة بحب العاجل بدون شبهة تدعوها إليه فكيف إذا قويت الشبهة وأظلم ليلها وغابت شمس الهدى والإيمان وحيل بين القلوب وبين حقائق القرآن بتلك الطواغيت التي عزلوه بها عن إفادة الإيقان يوضحه.

ص: 1388

الوجه الثالث والتسعون بعد المائة: إن هؤلاء النفاة المعطلة إذا غلبوا مع أهل الإثبات وقامت حجتهم عليهم عدلوا إلى عقوبتهم وإلزامهم بالأخذ بأقوالهم ومذاهبهم بالضرب والحبس والقتل وتارة يأخذونهم بالرغبة في الدنيا ومناصبها وزينتها فلا تقبل أقوالهم إلا برغبة أو رهبة والناس إلا القليل منهم عبيد رغبة أو رهبة وبهذه الطريقة أخذ إمام المعطلة فرعون قومه حين قال للسحرة لما ظهرت حجة موسى عليه وصحت دعوته وصحت نبوته وألقى السحرة ساجدين إيمانا بالله وتصديقا برسوله {فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه71] ولما تمكن الإيمان من قلوبهم علموا أن عقوبة الدنيا أسهل من عقوبة الآخرة وأقل بقاء وأن ما يحصل لهم في الآخرة من ثواب الإيمان أعظم وأنفع وأكثر بقاء.

فهذه العقول التي قدموا بها خير الآخرة على خير الدنيا وعقوبة الدنيا وألمها المنقضي على عقوبة الآخرة وألمها الدائم هي العقول التي أثبتوا بها صانع العالم وصفاته وعلوه على عرشه وتكليمه لموسى وغضبه ورضاه ومحبته ورحمته وسمعه وبصره ومجيئه وإتيانه وأفعاله وأما إمام المعطلة النفاة

ص: 1389

وقومه فإنهم بالعقول التي قدموا بها عاجل الدنيا وزينتها وزخرفها على آجل الآخرة وباعوا بها الذهب الباقي بالخزف الفاني وآثروا بها خسران الدنيا والآخرة على العبودية والانقياد لموسى والإيمان بالله وحده هي العقول التي نفوا بها مباينة الله لخلقه واستوائه على عرشه وتكليمه لموسى ونفوا بها صفات كماله من السمع والبصر والقدرة والحياة والإرادة بل نفى بها شيخهم وإمامهم نفس الذات فقال {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص38] فهذه العقول التي دلتهم في النفي والتعطيل هي تلك العقول التي آثروا بها الدنيا على الآخرة ففاتتهم الدنيا والآخرة بل آثروا بها العقوبة العاجلة وأسبابها على العافية والنعمة فمن الذي يتخير بعد ذلك تقديم ما حكمت به هذه العقول السخيفة من التعطيل والنفي على ما جاءت به الرسل من الإثبات المفصل.

والمقصود أن هؤلاء إنما يأخذون الناس بالرغبة والرهبة لا بالحجة والبيان ولهذا لما علم إمامهم فرعون أنه لا يقاوم بها موسى عدل معه إلى الوعيد بالسجن فقال {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء29] .

ص: 1390

وكذلك فعل أصحاب الأخدود مع المؤمنين وكان ذنبهم عند ربهم أن آمنوا بالله وصفاته ورسله وكتبه ولقائه وكذلك فعلت الجهمية بأولياء رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه في أمته أهل السنة والحديث والنقل من الضرب والحبس ما فعلوه بأحمد بن حنبل وأمثاله وكان ذنبهم عند ربهم أن أثبتوا لله صفات كماله ونعوت جلاله ووصفوه بما وصف به نفسه وبما وصفه رسوله من غير تجاوز ولا تقصير ولما لم يقم لهم عليهم حجة نقلية ولا عقلية وفي المحال أن تقوم حجة صحيحة على نقيض ما أخبرت به الرسل عن الله عدلوا معهم إلى العقوبة وتوصلوا بالتدليس والتلبيس على أولياء الأمر والجهال فأوقعوا في نفوسهم أن هؤلاء مشبهة مجسمة و {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة64]{وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة32]

الوجه الرابع والتسعون بعد المائة: إن هؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم وعقولهم في الأصل صنفان صنف مباينون للرسل محادون لهم مكذبون لهم في أصل الرسالة كالفلاسفة الصابئين والمجوس وعباد الأوثان والسحرة وأتباعهم وصنف منتسبون إلى الرسل في الأصل غير مكذبين لهم في أصل الرسالة وهم الجهمية والمعطلةلهم في أصل الرسالة وهم الجهمية والمعطلة

ص: 1391

ومن سلك سبيلهم ووافقهم على بعض باطلهم وخالفهم في بعضه وقد تقدم أن الصنف الأول يستطيلون على الصنف الثاني بما وافقوهم فيه من التعطيل ويجرونهم به إلى موافقتهم في القدر الذي خالفوهم فيه والجهمية المغل يستطيلون على الجهمية المخانيث بما وافقوهم فيه من النفي ويجرونهم به إلى موافقتهم في القدر الذي خالفوهم فيه وهؤلاء المخانيث يستطيلون على أهل السنة والحديث أيضا بالقدر الذي وافقوهم فيه ويدعونهم به إلى موافقتهم في الباقي فلم يستطل المبطل على المحق من حيث خالفه وإنما استطال عليه من حيث وافقه فما أصيب المحق إلا بطاعته للمبطل في بعض أمره وأصول هؤلاء يكرهون ما أنزل الله مما هو بخلاف عقولهم وآرائهم وقواعدهم فمن أطاعهم في بعض أمرهم كان من الذين قال الله عز وجل فيهم {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد26 ، 25] ولهذا تجد هؤلاء المبطلين إنما يصولون على من وافقهم في بعض باطلهم فيعلقون له برهانا يطالبونه وأما أتباع الرسل المصدقون لهم في كل ما جاءوا به المثبتون لحقائقه لست أعني المقرين بمجرد ألفاظه مع اعتقادهم فيها التخييل

ص: 1392

والتحريف والتأويل أو التجهيل فليس للمبطلين عليهم سبيل البتة لكن بالافتراء والتلبيس والكذب والألقاب الذين هم أحق بها وأهلها دونهم وما رتبوا على ذلك من الأذى الذي يبلغونه منهم وذلك مما يحقق ميراثهم من إمامهم ومتبوعهم الذي أوذي في الله هو وأصحابه وقال له ورقة بن نوفل لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي فكل من دعا إلى نفس ما جاء به الرسول فهو من أتباعه فلا بد أن يناله من الأذى من أتباع الشيطان بحسب حاله وحالهم والله المستعان والمقصود أن المبطلين لا سبيل لهم على أتباع الرسول البتة قال تعالى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [السناء141] قيل بالحجة والبرهان فإن حجتهم داحضة عند ربهم وقيل هذا في الآخرة وأما في الدنيا فقد يتسلطون عليهم بالضرر لهم والأذى وقيل لا يجعل لهم عليهم سبيلا مستقرة بل وإن نصروا عليهم في وقت فإن الدائرة تكون عليهم ويستقر النصر لأتباع الرسول وقيل بل الآية على ظاهرها وعمومها ولا إشكال فيها بحمد الله فإن الله

ص: 1393

سبحانه ضمن أن لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا فحيث كانت لهم سبيل ما عليهم فهم الذين جعلوها بتسببهم ترك بعض ما أقروا به أو ارتكاب بعض ما نهوا عنه فهم جعلوا لهم السبيل عليهم بخروجهم عن طاعة الله ورسوله في ما أوجب تسلط عدوهم عليهم من هذه الثغرة التي أخلوها كما أخلى الصحابة يوم أحد الثغرة التي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزومها وحفظها فوجد العدو منها طريقا إليهم فدخلوا منها قال تعالى {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران165] فذكر السبب الذي أصيبوا به وذكر القدرة التي هي مناط الجزاء فذكر عدله فيهم بما ارتكبوه من السبب وقدرته عليهم بما نالهم به من المكروه وقال تعالى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى30] وفي الحديث الصحيح الإلهي "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".

ص: 1394

الوجه الخامس والتسعون بعد المائة: إنه كيف يكون النفاة المعطلة من الجهمية ومن تبعهم أولى بالصواب والحق في معرفة الله وأسمائه وصفاته وما يجب له ويمتنع عليه وشهداء الله في أرضه من جميع أقطار الأرض يشهدون عليهم بالضلالة والحيرة والكذب على الله ورسوله وكتابه ويرمونهم بالعظائم ويشهدون عليهم بالكفر والإلحاد في أسماء الله وصفاته وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتم شهداء الله في الأرض فمن أثنيتم عليه بخير وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه بشر وجبت له النار" فكيف إذا كان الشهداء على هؤلاء قد شهد لهم بأنهم أولو العلم وعدلهم من جعله الله شهيدا عليهم وهو رسوله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم معدلا لهؤلاء الشهود: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين" فاسمع الآن بعض شهادات هؤلاء العدول على أهل النفي والتعطيل قال إمام أهل السنة والحديث محمد بن إسماعيل البخاري في كتاب خلق الأفعال حدثنا

ص: 1395

أبو نعيم سليمان الفارسي سمعت سفيان الثوري قال قال لي حماد بن أبي سليمان أبلغ أبا فلان المشرك أني بريء من دينه وكان يقول إن القرآن مخلوق وذكر عن خالد بن عبد الله القسري أنه خطبهم بواسط في يوم أضحى وقال ارجعوا فضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما ولم يتخذ إبراهيم خليلا تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه أخبرنا محمد بن عبد الله أبو جعفر البغدادي قال سمعت أبا زكريا يحيى بن يوسف قال كنت عند عبد الله بن إدريس فجاء رجل فقال يا أبا محمد ما تقول في قوم يقولون القرآن مخلوق قال أمن اليهود قال لا قال أفمن النصارى قال لا قال أفمن المجوس قال لا قال فممن قال من أهل التوحيد قال ليس هؤلاء من أهل التوحيد هؤلاء الزنادقة من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن الله مخلوق يقول الله عز وجل {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فالله لا يكون مخلوقا والرحمن لا يكون مخلوقا والرحيم لا يكون مخلوقا فهذا أصل الزندقة من قال هذا فعليه لعنة الله

ص: 1396

لا تجالسوهم ولا تناكحوهم قال البخاري وقال وهب بن جرير الجهمية زنادقة إنما يريدون أنه ليس على العرش استوى قال البخاري وحلف يزيد بن هارون بالله الذي لا إله إلا هو من قال القرآن مخلوق زنديق يستتاب فإن تاب وإلا قتل قال وقيل لأبي بكر بن عياش إن قوما ببغداد يقولون إنه مخلوق فقال ويلك من قال هذا على من قال إن القرآن مخلوق لعنة الله وهو كافر زنديق لا تجالسوهم قال وقال الثوري من قال القرآن مخلوق فهو كافر وقال حماد بن زيد القرآن كلام الله نزل به جبريل ما يحاولون إلا أن ليس في السماء إله قال وقال ابن مقاتل سمعت ابن المبارك يقول من قال {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} مخلوق فقد كفر ولا ينبغي لمخلوق أن يقول ذلك وقال ابن المبارك

ولا أقول بقول الجهم إن له

قولا يضارع أهل الشرك أحيانا

ص: 1397

ولا أقول تخلى عن بريته

رب العباد وولي الأمر شيطانا

ما قال فرعون هذا في تجبره

فرعون موسى ولا فرعون هامانا

ومن شعره أيضا فيه ولم يذكره البخاري

عجبت لشيطان دعى الناس جهرة

إلى النار واشتق اسمه من جهنم

قال البخاري قال ابن المبارك لا نقول كما قالت الجهمية أنه في الأرض هاهنا بل على العرش استوى وقيل له كيف نعرف ربنا قال فوق سماواته على عرشه وقال رجل لرجل منهم أبطنك خال منه فبهت الآخر وقال من قال {لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا} مخلوق فهو كافر وإنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية قال وقال سعيد بن عامر

ص: 1398

للجهمية أشر قولا من اليهود والنصارى قد أجمعت اليهود والنصارى وأهل الأديان أن الله تبارك وتعالى على العرش وقالوا هم ليس على العرش قال وقال ضمرة عن ابن شوذب ترك جهم الصلاة أربعين يوما على وجه الشك خاصمه بعض السمنية فأقام أربعين يوما لا يصلي قال ضمرة وقد رآه ابن شوذب قال البخاري وقال عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون كلام جهم صفة بلا معنى بناء بلا أساس ولم يعد قط من أهل العلم قال ولقد سئل جهم عن رجل طلق امرأته قبل الدخول فقال عليها العدة قال وقال علي بن عاصم ما الذين قالوا إن لله ولدا بأكفر من الذين قالوا إن الله لا يتكلم وقال

ص: 1399

احذر من المريسي وأصحابه فإن كلامهم أبوجاد الزنادقة وأنا كلمت أستاذهم جهما فلم يثبت أن في السماء إلها قال البخاري وكان إسماعيل ابن أبي أويس يسميهم زنادقة العراق وقيل له سمعت أحدا يقول القرآن مخلوق فقال هؤلاء الزنادقة والله لقد فررت إلى اليمن حين تكلم أبو العباس ببغداد بنحو هذا فرارا من هذا الكلام قال وقال علي بن الحسن سمعت أبا مصعب يقول كفرت الجهمية في غير موضع من كتاب الله وقال أبلغوا الجهمية أنهم كفار وأن نساءهم طوالق قال وقال عفان من قال {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مخلوق فهو كافر.

قال وقال علي بن عبد الله القرآن كلام الله من قال إنه مخلوق فهو كافر لا يصلى خلفه قال وقال وكيع من كذب بحديث إسماعيل عن قيس عن جرير عن النبي فهو جهمي فاحذروه قلت يريد حديث الرؤية قال وقال أبو الوليد هو الطيالسي من قال القرآن مخلوق فهو كافر ومن لم يعقد قلبه على أن القرآن ليس بمخلوق فهو كافر خارج عن الإسلام وقال أبو عبيد نظرت في كلام اليهود

ص: 1400

والنصارى والمجوس فما رأيت قوما أضل في كفرهم من الجهمية وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم قال وقال عبد الرحمن بن عفان سمعت سفيان بن عيينة يقول ويحكم القرآن كلام الله قد صحبت الناس وأدركتهم هذا عمرو بن دينار وهذا ابن المنكدر حى ذكر منصورا والأعمش ومسعر بن كدام فما يعرف القرآن إلا كلام الله فمن قال غير ذلك فعليه لعنة الله ما أشبه هذا القول بقول النصارى لا تجالسوهم ولا تسمعوا منهم.

قال البخاري وحدثني الحكم بن محمد الطبري كتبت عنه بمكة حدثنا سفيان بن عيينة قال أدركت مشيختنا منذ سبعين سنة منهم عمرو بن دينار يقولون القرآن كلام الله ليس بمخلوق قال وقال الحميدي حدثنا سفيان ثنا حصين عن مسلم بن صبيح عن بشر بن شكل عن عبد الله قال ما خلق الله من أرض ولا سماء ولا جنة ولا نار أعظم من

ص: 1401

{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة255] قال سفيان تفسيره أن كل شيء مخلوق والقرآن ليس بمخلوق وكلامه أعظم من خلقه لأنه إنما يقول للشيء كن فيكون فلا يكون شيء أعظم مما يكون به الخلق والقرآن كلام الله قال وقال زهير السجستاني سمعت سلام بن أبي مطيع يقول الجهمية كفار.

وقال جرير بن عبد الحميد جهم كافر بالله العظيم وقال وقال وكيع أحدث هؤلاء المرجئة الجهمية والجهمية كفار والمريسي جهمي وعلمهم كيف كفروا قال يكفيك المعرفة وهذا كفر والمرجئة يقولون الإيمان قول بلا عمل وهذا بدعة ومن قال القرآن مخلوق فهو كافر بما أنزل على محمد يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه وقال وكيع على المريسي لعنه الله يهودي أو نصراني فقال له رجل كان أبوه أو جده يهوديا أو نصرانيا قال وكيع وعلى أصحابه لعنة الله القرآن كلام الله وضرب وكيع إحدى يديه على الأخرى فقال

ص: 1402

هو ببغداد يقال له المريسي يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه.

قال البخاري وقال يزيد بن هارون لقد حرضت أهل بغداد على قتله جهدي ولقد أخبرت من كلامه بشيء وجدت وجعه في صلبي بعد ثلاث وقال علي بن عبد الله إنما كان غايته أن يدخل الناس في كفره وقال عبيد الله بن عائشة لا يصلى خلف من قال القرآن مخلوق ولا كرامة له وقال سليمان بن داود الهاشمي وسهل بن مزاحم من صلى خلف من يقول القرآن مخلوق أعاد الصلاة وقال ابن أبي الأسود سمعت ابن مهدي يقول ليحيى بن سعيد لو أن جهميا بيني وبينه قرابة ما استحللت من ميراثه شيئا وقال ابن مهدي لو رأيت رجلا على الجسر وبيدي سيف يقول القرآن مخلوق لضربت عنقه وقال يزيد بن هارون المريسي أضر من سحالي قال أبو عبد الله البخاري ما أبالي أصليت خلف الجهمي

ص: 1403

أو الرافضي أم صليت خلف اليهودي والنصراني ولا يسلم عليهم ولا يعادون ولا يناكحون ولا يشهدون ولا تؤكل ذبائحهم وقال عبد الرحمن بن مهدي هما ملتان الجهمية والرافضة قال شيخ الإسلام وهذا الكلام الذي قاله الإمام عبد الرحمن بن مهدي قد قاله غيره وهو كلام عظيم فإن هاتين الفرقتين هما أعظم الفرق فسادا في الدين وأصلهما من الزنادقة المنافقين ليستا من ابتداع المتأولين مثل قول الخوارج والمرجئة والقدرية فإن هذه الآراء ابتدعها قوم مسلمون بجهلهم قصدوا بها طاعة الله فوقعوا في معصيته ولم يقصدوا بها مخالفة الرسول ولا محادته بخلاف الرفض والتجهم فإن مبدأهما من قوم منافقين مكذبين لما جاء به الرسول مبغضين له لكن التبس أمر كثير منهم على كثير من المسلمين الذين ليسوا بمنافقين ولا زنادقة فدخلوا في أشياء من الأقوال والأفعال التي ابتدعها الزنادقة والمنافقون ولبسوا الحق بالباطل وفي المسلمين سماعون للمنافقين كما قال الله تعالى {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة47] أي قابلون مستجيبون لهم فإذا كان جيل القرآن كان بينهم منافقون وفيهم سماعون لهم فما الظن بمن

ص: 1404

بعدهم فلا يزال المنافقون في الأرض ولا يزال في المؤمنين سماعون لهم لجهلهم بحقيقة أمرهم وعدم معرفتهم بغور كلامهم وأما الرفض فإن الذي ابتدعه زنديق منافق وهو عبد الله بن سبأ الذي أظهر الإسلام وكان يبطن الكفر وقصده فساد الإسلام والتجهم مأخوذ في الأصل عن الصابئين والمشركين وهم أعظم من الرفض ولهذا تأخر دخوله في الأمة فهاتان الملتان يناقضان أصلي الإسلام وهما شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم أما التجهم فإنه نقض التوحيد وإن سمى أصحابه أنفسهم موحدين ولهذا كان السلف يترجمون الرد على الجهمية بالتوحيد والرد على الزنادقة والجهمية كما ترجم البخاري آخر كتاب الجامع بكتاب التوحيد والرد على الجهمية والزنادقة وكذلك ابن خزيمة سمى كتابه التوحيد وهو في الرد على الجهمية وأما الرافضة فقدحهم وطعنهم في الأصل الثاني وهو شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانوا يظهرون موالاة أهل بيت الرسول ومحبتهم قال طائفة من أهل العلم منهم مالك بن أنس وغيره هؤلاء قوم أرادوا الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يمكنهم ذلك فطعنوا في الصحابة ليقول القائل رجل سوء كان له أصحاب سوء ولو كان رجلا صالحا لكان أصحابه صالحين والرافضة

ص: 1405

المتقدمون لم يكونوا جهمية معطلة وأما المتأخرون منهم من حدود أواخر المائة الثالثة فضموا إلى بدعة الرفض التجهم والقدر فتغلظ أمرهم وظهر منهم حينئذ القرامطة والباطنية واشتهرت الزندقة الغليظة والنفاق الأعظم في أمرائهم وعلمائهم وعامتهم وأخذوا من دين المجوس والصابئة والمشركين ما خلطوه في الإسلام وهم أعظم الطوائف نفورا عن سنة النبي وحديثه وآثار أصحابه لمضادة ذلك لبدعتهم كنفور الجهمية عن آيات الصفات وأخبارها قال البخاري وقيل لأبي عبيد القاسم بن سلام إن المريسي سئل عن ابتداء خلق الأشياء وقول الله {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل40] فقال هذا كلام صلة أي هو مثل قوله قالت السماء وقال الجدار يعني أن الله لم يتكلم قال أبو عبيد أما تشبيهه قول الله {إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} بقالت السماء وقال الجدار وبين

ص: 1406

بطلان قوله ثم قال ومن قال هذا فليس شيء من الكفر إلا وهو دونه ومن قال هذا فقد قال على الله مالم يقله اليهودي والنصراني ومذهبه التعطيل للخالق قال البخاري قال علي وسمعت بشر بن المفضل وذكر بعض الجهمية بالبصرة فقال هو كافر وسئل وكيع عن مثنى الأنماطي فقال هو كافر وقال عبد الله بن داود لو كان لي على مثنى الأنماطي سبيل لنزعت لسانه من قفاه وكان جهميا وقال سليمان بن داود الهاشمي من قال القرآن مخلوق فهو كافر قال وقال الفضيل بن عياض إذا قال لك الجهمي أنا أكفر برب يزول من مكانه فقل أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء قال وقال ابن علية ومعاذ بن معاذ وحجاج بن محمد ويزيد بن هارون وهاشم بن القاسم

ص: 1407

والربيع بن نافع الحلبي ومحمد بن يوسف وعاصم بن علي ويحيى بن يحيى وأهل العلم من قال القرآن مخلوق فهو كافر ومن زعم أن الله لم يكلم موسى فهو كافر وقال محمد بن يوسف من قال إن الله ليس على عرشه فهو كافر قال وقيل لأحمد بن يونس أدركت الناس فهل سمعت أحدا يقول القرآن مخلوق فقال الشيطان تكلم بهذا.

فمن تكلم بهذا فهو جهمي والجهمي كافر وذكر عن وكيع قال لا تستخفوا بقولهم القرآن مخلوق فإنه من شر قولهم إنما يذهبون إلى التعطيل قال وحدثني أبو جعفر سمعت الحسن بن يونس الأشيب وذكر الجهمية فنال منهم ثم قال أدخل رأس من رؤساء الزنادقة يقال له شمعلة على المهدي فقال دلني على أصحابك فقال أصحابي أكثر من ذلك فقال دلني عليهم فقال صنفان ممن ينتحل القبلة الجهمية والقدرية الجهمي إذا غلا قال ليس ثم شيء وأشار الأشيب إلى السماء والقدري إذا غلا قال هما اثنان خالق خير وخالق شر فضرب عنقه

ص: 1408

وصلبه قال وحدثني أبو جعفر حدثني يحيى بن أيوب قال سمعت أبا نعيم شجاعا البلخي يقول كان رجل من أهل مرو صديقا لجهم ثم قطعه وجفاه فقيل له لم جفوته قال جاء منه مالا يحتمل قرأت يوما آية كذا وكذا نسيها يحيى فقال ما كان أظرف محمدا حين قالها واحتملتها ثم قرأ سورة طه فلما بلغ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال أما والله لو وجدت سبيلا إلى حكها لحككتها من المصحف فاحتملتها ثم قرأ سورة القصص فلما انتهى إلى ذكر موسى قال ما هذا ذكر قصة في موضع فلم يتمها ثم ذكرها هنا فلم يتمها ثم رمى المصحف من حجره برجليه فوثبت عليه حدثني أبو جعفر سمعت يحيى بن أيوب قال كنا ذات يوم عند مروان بن معاوية الفزاري فسأله رجل عن حديث الرؤية فلم يحدثه فقال إن لم تحدثني به فأنت جهمي فقال مروان يقول لي جهمي وجهم مكث أربعين ليلة لا يعرف ربه حدثني أبو جعفر حدثني هارون بن معروف ويحيى بن أيوب قائلا قال ابن المبارك كل قوم يعرفون من

ص: 1409

يعبدون إلا الجهمية حدثنا أبو جعفر سمعت يزيد بن هارون حدثنا حديث إسماعيل عن قيس عن جرير عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنكم ترون ربكم" قال يزيد من كذب بهذا فقد برئ من الله ورسوله حدثنا أبو جعفر حدثنا أحمد بن خلاد سمعت يزيد بن هارون ذكر أبا بكر الأصم والمريسي فقال هما والله زنديقان كافران بالرحمن حلالا الدم وقال عبد الرحمن بن مهدي من زعم أن الله لم يكلم موسى فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل وقال يزيد بن هارون والله الذي لا إله إلا هو ما هم إلا زنادقة أو قال مشركون وسئل عبد الله بن إدريس عن الصلاة خلف أهل البدع فقال لم يزل في الناس إذا كان فيهم مرض أو عدل فصل خلفه قلت فالجهمية قال لا هذه من المقاتل هؤلاء لا يصلى خلفهم ولا يناكحون وعليهم التوبة وسئل حفص بن غياث فقال فيهم ما قال ابن إدريس قيل فالجهمية قال لا أعرفهم قيل له قوم يقولون القرآن مخلوق قال لا جزاك الله خيرا أوردت على قلبي مالم يسمع به قط

ص: 1410

قلت فإنهم يقولونه قال هؤلاء لا يناكحون ولا تجوز شهادتهم وسئل ابن عيينة فقال نحو ذلك قال فأتيت وكيعا فوجدته من أعلمهم بهم فقال يكفرون من وجه كذا ويكفرون من وجه كذا حتى أكفرهم من كذا وكذا وجها وقال وكيع الرافضة شر من القدرية والحرورية شر منهما والجهمية شر هذه الأصناف قال الله تعالى {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء164] ويقولون لم يكلمه ويقولون الإيمان بالقلب قال البخاري يقال سلم ابن أحوز الذي قتل جهما.

فصل

قال البخاري حدثنا محمد بن كثير حدثنا إسرائيل ثنا عثمان بن المغيرة عن سالم عن جابر قال كان النبي

ص: 1411

صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه بالموقف فقال: "ألا رجل يحملني إلى قومه فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي ".

وقال أنس بن مالك لما أسري بالنبي من مسجد الكعبة فإذا موسى في السماء السابعة بتفضيل كلام الله عز وجل وقال أبو ذر قال النبي صلى الله عليه وسلم: " قال الله عز وجل عطائي كلام وعذابي كلام إذا أردت شيئا فإنما أقول له كن فيكون".

قال وقال عبد الله بن أنيس سمعت

ص: 1412

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يحشر العباد يوم القيامة فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة".

وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان

ص: 1413

{إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ23] وقال خباب بن الأرت تقرب إلى الله ما استطعت فإنك لن تتقرب إلى الله بشيء أحب إليه من كلامه.

وقال نيار بن مكرم الأسلمي لما نزلت {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ} [الروم3-1] خرج أبو بكر يصيح كلام ربي كلام ربي وكانت أسماء بنت أبي بكر إذا سمعت القراءة قالت كلام ربي.

وقال أبو عبد الرحمن السلمي فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الرب على خلقه.

ص: 1414

وقال أبو ذر قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول الأنبياء قال "آدم قلت إنه لنبي قال نعم مكلم".

وقال ابن عباس لما كلم الله موسى كان النداء في السماء وكان الله في السماء ثم ذكر حديث عبد الله.

قال ابن مسعود أصدق الحديث كلام الله. قال وقال أبو بكر عن النبي وذكر الشفاعة قال يقول نوح انطلقوا إلى موسى فإن الله كلمه تكليما وقال أبو هريرة وابن عمر عن النبي

ص: 1415

صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى موسى بكلامه ورسالته".

وقال عدي بن حاتم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان فينظر عن يمينه فلا يرى إلا ما قدم من عمله فينظر عن يساره فلا يرى إلا ما قدم من عمله وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة ولو بكلمة طيبة".

وقال جابر بن عبد الله قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أبشرك بما لقي الله به أباك إن الله كلم أباك من غير حجاب فقال له عبدي سلني قال يا رب ردني إلى الدنيا حتى أقتل فيك قال إني قد قضيت عليهم أن لا يرجعون قال فأبلغهم عنا فأنزل الله {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران169] .

ص: 1416

قال أبو عبد الله وهو عبد الله بن عمرو بن حرام قتل يوم أحد شهيدا وقال جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل على عرشه فوق سماواته وسمواته فوق أراضيه مثل القبة".

وقال ابن مسعود في قوله {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف54] قال العرش على الماء والله فوق العرش وهويعلم ما أنتم عليه.

وقال قتادة في قوله {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف84] .

ص: 1417

قال يعبد في السماء ويعبد في الأرض.

وقال ابن عباس في قوله {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة5] قال من أيام السنة وقال تعالى {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك17] وقال عمران بن حصين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي: "كم تعبد اليوم قال سبعة آلهة ستة في الأرض وواحد في السماء قال فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك قال الذي في السماء قال أما إنك لو أسلمت علمتك كلمتين ينفعانك فلما أسلم الحصين قال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم علمني الكلمتين اللتين وعدتني قال قل اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي".

قال البخاري وقال بعض أهل العلم إن الجهمية هم المشبهة لأنهم شبهوا ربهم بالصنم والأصم والأبكم

ص: 1418

الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم ولا يخلق وقالت الجهمية كذلك لا يتكلم ولا يبصر وقالوا إن اسم الله مخلوق.

ولقد اختصم يهودي ومسلم إلى بعض معطلتهم فقضى باليمين على المسلم فقال اليهودي حلفه فقال المخاصم له احلف بالله الذي لا إله إلا هو فقال اليهودي حلفه بالخالق لا بالمخلوق فإن هذا من القرآن وزعمت أن القرآن مخلوق فحلفه بالخالق فبهت الآخر وقال قوما حتى أنظر في أمركما وخسر هنالك المبطلون.

وفي تاريخ الخطيب في ترجمة بشر المريسي عن إسحاق بن أحمد بن منيع قال كان بشر المريسي يقول صنف من الزنادقة سماهم صنف كذا وكذا يقولون ليس بشيء وذكر فيه عن علي بن عاصم

ص: 1419

قال كنت عند أبي فاستأذن عليه بشر المريسي فقلت يا أبت يدخل عليك مثل هذا فقال يا بني فما قال قلت إنه يقول إن القرآن مخلوق وإن الله عز وجل معه في الأرض وإن الجنة والنار لم يخلقا وإن منكرا ونكيرا باطل وإن الصراط باطل وإن الميزان باطل وإن الشفاعة باطلة مع كلام كثير قال فأدخله علي قال فأدخلته عليه قال فقال يا بشر ادن ويلك يا بشر ادن مرتين أو ثلاثا فلم يزل يدنيه حتى قرب منه قال ويلك يا بشر من تعبد وأين ربك قال فقال وما ذاك يا أبا الحسن قال أخبرت عنك أنك تقول إن القرآن مخلوق وإن الله معك في الأرض مع كلام كثير ولم أر شيئا أشد على أبي من قول القرآن مخلوق وإن الله معه في الأرض فقال يا أبا الحسن لم أجئ لهذا وإنما جئت في كتاب خالد لتقرأه علي فقال له ولا كرامة حتى أعلم ما أنت عليه أين ربك ويلك قال أو تعفيني قال ما كنت لأعفيك قال أما إذا أبيت فإن ربي نور في نور قال فجعل يزحف إليه ويقول ويحكم اقتلوه فإنه والله زنديق وقد كلمت هذا الصنف بخراسان.

وذكر فيه أيضا عن أبي يوسف القاضي أنه قال

ص: 1420

لبشر المريسي طلب العلم بالكلام هو الجهل والجهل بالكلام هو العلم وإذا صار رأسا في الكلام قيل زنديق أو يرمى بالزندقة يا بشر بلغني أنك تتكلم في القرآن إن أقررت أن لله علما خصمت وإن جحدت العلم كفرت.

وذكر عبد الله بن أحمد وابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال ليس في أصحاب الأهواء أشر من أصحاب جهم يريدون أن يقولوا إن الله لم يكلم موسى ويريدون أن يقولوا ليس في السماء شيء وإن الله ليس على العرش أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا.

وذكر أيضا عن سعيد بن عامر الضبعي أنه ذكر عنده الجهمية فقال هم شر قولا من اليهود والنصارى قد أجمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش وهم قالوا ليس عليه شيء.

فهذا وأضعافه قليل من كثير من شهادة شهداء الله في أرضه الذين استشهدهم على توحيده وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته وعدلهم رسوله صلى الله عليه

ص: 1421

وسلم بقوله: " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله"، وهؤلاء شهداء الله على الناس يوم القيامة كما قال تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة143] فإنهم قاموا بشروط الشهادة وهي العلم والعدل فإن الشاهد لا يكون مقبولا حتى يكون عالما بما يشهد له عدلا في نفسه ولم يكن الله سبحانه ليجمع شهادة هؤلاء الذين هم ورثة رسوله وأنصار دينه ولهم لسان الصدق في الأمة على باطل وزور وتكون شهادة اتباع أهل الفلسفة الصابئين والمشركين وشهادة الجهمية الجاحدين لصفات رب العالمين وكلامه وعلوه على خلقه وأوقاح المعتزلة وأفراخ المجوس وأمثالهم هي المقبولة عند الله وهي شهادة الحق بل هؤلاء هم المشهود عليهم بين يدي الله فإنهم خصماؤه وخصماء وحيه ورسوله حيث نسبوا كلامه وكلام رسوله إلى ما لا يليق به وظنوا به أسوأ الظن واعتقدوا أن ظاهره باطل ومحال وتشبيه وضلال فكيف يقبل أحكم الحاكمين وأعدل العادلين شهادة هؤلاء المتهوكين المتجبرين على حزبه وأنصاره وأنصار كتابه وسنة رسوله الذين قدموا كتابه وسنة رسوله على كل ما خالفهما ولم يقدموا ما خالفهما عليهما

ص: 1422

وتركوا الآراء الباطلة والمعقولات السخيفة لهما ولم يتركوهما لأجلها وقرروا بالعقل الصريح صحة ما جاء به الرسول ولم يقروا بالعقل الفاسد بطلان ما جاء به وأنه مخالف للعقل الصريح ورأوا أن اليقين كل اليقين مستفاد من كلام الله ورسوله ولم يقولوا إنه لا يستفاد منه علم ولا يقين ورأوا أن ما أخبر به عن أسمائه وصفاته وأفعاله حقيقة ولم يقولوا إنه مجاز لا حقيقة له فأي الفريقين أحق بالعلم والعدالة وقبول الشهادة عند الله وعند ملائكته وعند جميع المؤمنين وأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون.

الوجه السادس والتسعون بعد المائة: إن هؤلاء أصلوا أصولا جعلوها أساسا لبنائهم وسموها قواطع عقلية وسموا أدلتها براهين يقينية فجاءت فروع تلك الأصول ولوازمها والبناء الذي ارتفع عليها من أبطل الفروع وأفسد اللوازم وأضعف البناء وأوهاه وذلك بين لكل ذي عقل سليم وفطرة صحيحة لم تفسد بالتقليد ولم تعم بالهوى والتعصب عن فساد تلك الأصول ومناقضتها للمعقول والمنقول وهذا موضع يستدعي عدة

ص: 1423

أسفار لكن نذكر منه أدنى تنبيه على طريق الاختصار يكون منبها على ما وراءه مثال ذلك أن المتفلسفة لما أصلوا أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد بني على ذلك من اللوازم الباطلة في المصدر والصادر ما هو متضمن لأعظم أنواع الباطل.

أما المصدر فإنهم التزموا أن لا يكون فيه معنيان متغايران أصلا فنفوا عنه جميع الصفات إذ لو ثبت له صفة وجودية لم يكن عندهم واحدا وقد فرضوه واحدا من كل وجه فنفوا علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره وكلامه واختياره ومشيئته وأن يكون فاعلا باختياره لشيء من العالم ونفوا علوه على خلقه ومباينته للعالم واستواءه على عرشه ولو ثبت له ذلك لكان جسما والأجسام مركبة فلم يكن واحدا من كل جهة.

ولزمهم من ذلك نفي ماهيته وذاته وأن يقولوا إنه لا ماهية له سوى الوجود المطلق إما بغير شرط أو بشرط الإطلاق ومن المعلوم أن المطلق لا وجود له في الخارج ولا سيما إذا أخذ بشرط الإطلاق.

فلزمهم من هذا الأصل نفي وجود الخالق سبحانه في الخارج وأن يكون وجوده ذهنيا لا خارجيا.

ولزمهم عنه لو صح لهم إثباته أنه لا يخلق ولا يرزق ولا يميت ولا يحيي ولا يعلم شيئا ولا يرسل رسولا ولا يأمر ولا ينهى ولا يبعث من في القبور.

ص: 1424

ولزمهم منه أن يكون هذا العالم قد وجد من غير خالق أو أنه لم يزل موجودا قديما أزليا ولما كان اللازم الأول أشنع وأظهر فسادا لكل عاقل التزموا الثاني.

وأما الباطل الذي لزمهم في جانب الصادر فهو أن يكون واحدا من كل وجه ولا يكون فيه كثرة بوجه ما ليس مصدره واحد كذلك فالصادر عنه أيضا يجب أن يكون كذلك وهلم جرا والحس يكذبه ولا ينفعهم الجواب بأن الصادر له وجوه واعتبارات لأجلها تعدد الصادر عنه فإن تلك الوجوه إن كانت وجودية لزم صدور الكثرة عن الوحدة وبطل أصلهم وإن كانت عدمية لم يكن مصدرا للموجود وهذا قاطع.

فصل

ولما أصلوا هم وأتباعهم من الجهمية أن المختص بصفة أو حقيقة أو قدر لا بد له من تخصيص منفصل لزمهم من هذا الأصل إنكار حقيقته وذاته وصفاته إذ لو أثبتوا له ذلك بزعمهم لزم أن يكون له مخصص غيره خصصه بتلك الماهية والصفات والقدر فلزم أيضا من هذا الأصل الباطل ما لزم من الأصل الذي قبله وهم طردوا هذا الأصل وجحدوا حقيقة الرب وصفاته وإخوانهم من الجهمية لما لم يمكنهم أن يصرحوا به بين أظهر المسلمين

ص: 1425

صرحوا بالأصل وبما أمكنهم أن يصرحوا به من اللوازم كنفي الصفات ونفي العلو والمباينة والكلام والوجه واليدين والاستواء والنزول ولما أصلوا ذلك لزمهم القول بأنه في كل مكان بذاته وأنه تعالى في الأجواف والأمكنة التي يتعالى عنها فلما صاح عليهم أهل العلم والإيمان من كل قطر من أقطار الأرض قالوا نقول إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق العرش ولا تحته فلما رأى عبادهم ومتصوفوهم أن الإرادة والعبادة والطلب لا تعلق بمعبود هذا شأنه وأن القلوب لا تعرفه والألسنة لا تعرفه فروا إلى أن قالوا فهو عين هذا العالم لا غيره وكل هذه اللوازم أسست على ذلك الأصل الفاسد.

ولما أصلوا أن الصفات أعراض لا تقوم إلا بأجسام لزمهم إنكارها رأسا ومن أثبت منهم صفة ونفى غيرها أضحك أهل العقل والنقل على عقله ولما أصلوا هذا الأصل لزمهم عنه أن الله لم يتكلم ولا يكلم أحدا من خلقه ولم ينزل له إلى الأرض كلام تكلم به وإنما خلق أصواتا وحروفا في الريح سميت كلامه مجازا لا حقيقة فلما فهم سفهاؤهم هذا وأنه ليس لله في الأرض كلام وأنه ليس في المصحف إلا صفة المخلوقين ومدادهم وما عملت أيديهم صار فيهم من يكتب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}

ص: 1426

بما يستحي من ذكره ومنهم من يلقي المصحف في المكان الذي يرغب عن ذكره ويقول إنما ألقيت كاغدا ومدادا ومنهم من يجعله كرسيا له يضعه تحت رجليه ويرقى عليه ويتناول به حاجته ومنهم من يكون له وعاء يضع فيه المصحف ونعله وغيره ومنهم من يتوسده إلى غير ذلك من الأنواع التي فيها من الاستخفاف بالمصحف والإهانة له ما يدل على براءة فاعله من الله ورسوله وكتابه ودينه.

وأما إطلاقهم العبارات القبيحة الدالة على الاستهانة فهم لا يتحاشون منها بل يصرحون بقولهم أي شيء في المصحف سوى المداد والورق ويقولون ليس في المصحف كلام الله ولم ينزل إلى الأرض لله كلام وهذا الذي يقرأه المسلمون ليس بكلام الله حقيقة وقد رأينا نحن وغيرنا هؤلاء مشاهدة وسمعنا بعض أقوالهم التي حكيناها وهذه الفروع واللوازم فروع ذلك الأصل الباطل.

كما أنهم لما أصلوا تعطيل الرب من صفة العلو وتعطيل العرش من استواء ربه عليه لزمهم التكذيب بما لا يحصى من الآيات والأحاديث وإن أقروا بألفاظها ولزمهم الطعن في خيار الأمة وساداتها وأئمة الإسلام وأهل

ص: 1427

السنة الحديث ولزمهم إنكار نزوله إلى سماء الدنيا كل ليلة وإنكار مجيئه وإتيانه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده وإن أقروا بذلك أقروا به مجازا لا حقيقة ولزمهم من ذلك التكذيب بمعراج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه ودنوه منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى وتردده بين موسى وبين ربه مرارا كل ذلك لا حقيقة له عندهم كما صرح به أفضل متأخريهم وملك مناظريهم في كلامه على المعراج وجعله خيالا لا حقيقة له.

ولما أصلوا أنه سبحانه لا تقوم به الأفعال الاختيارية وسموا ذلك حلول الحوادث لزمهم عنه أنه لا يفعل شيئا البتة فإنه لا يتكلم بمشيئته وأن يكون بمنزلة الجمادات التي لا تفعل شيئا فإنهم جعلوا المفعول عين الفعل ومن المعلوم أن مفعولا بلا فعل أبلغ في الاستحالة والبطلان من مفعول بلا فاعل أو هما سواء فلزمهم من هذا الأصل مخالفة صريح المعقول والمنقول والفطرة والتكذيب بما لا يحصى من النصوص.

ولما أصلت القدرية أن الله سبحانه لو شاء أفعال عباده وقدر عليها وخلقها ثم كلفهم بها وعاقبهم عليها لكان ذلك ظلما ينافي العدل.

لزمهم عن هذا الأصل لوازم مخالفة للعقل والشرع منها التكذيب بقدر الله وتكذيب غلاتهم بعلمه السابق وإنكار كمال قدرته ونسبته إلى أن يكون في ملكه

ص: 1428

ما لا يشاء ويشاء مالا يكون وإخراج أشرف ما في ملكه عن أن يكون قادرا عليه أو خالقا له وهو طاعات أنبيائه ورسله وملائكته وأوليائه وأن تكون أفعالهم حدثت من غير خالق محدث أو يكونوا هم الخالقين المحدثين لها وأن تكون إرادتهم مشيآت حادثة بلا محدث ولزمهم تكذيبهم بنصوص القدر كله والطعن في نقلة أخبارها وتحريفها عن مواضعها بالتأويلات التي هي كذب على اللغة وعلى الله وعلى رسوله إلى أضعاف ذلك من اللوازم الباطلة ولزم هؤلاء كلهم أن الكتاب والسنة جاءا بما يخالف العقل الصريح وأنه إذا تعارض العقل والنقل قدم العقل وأطرح النقل فهذه الأصول الرديئة الخبيثة تولدت عنها هذه الأولاد المناسبة لها ومن أشبه أباه فما ظلم فإذا قابلت بين أصول أهل الإثبات وما تولد عنها وبين أصول المعطلة النفاة وما تولد عنها تبين لك الفرق بين هذه الأصول وفروعها وهذه الأصول وفروعها والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

الوجه السابع والتسعون بعد المائة: إن من تأمل أقوال هؤلاء المعارضين للوحي بعقولهم وآرائهم وجدها قد جمعت أمرين كل منهما يدل على بطلانها.

أحدهما اختلافها في نفسها واضطرابها وتهافتها وهذا يدل على أنها ليست من عند الله كما قال تعالى

ص: 1429

{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء82] فيكفيك من فساد القول اختلافه واضطرابه وتناقضه.

الثاني أن مصدرها الخرص والظن والتخمين ليست صادرة عن وحي علمت عصمته ولا عن فطرة وعقل اشترك العقلاء فيما أثبته ونفاه.

وقد أخبر سبحانه عن حقيقة أقوال المخالفين لكتابه وسنة رسوله بهذين الأمرين في قوله {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً فَالْحَامِلاتِ وِقْراً فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} [الذاريات11-1] فأقسم سبحانه بمخلوقاته طبقا بعد طبق فأقسم أولا بالرياح الذاريات ثم بما فوقها وهي السحاب الحاملات وقرا ثم بما فوقها وهي النجوم الجاريات يسرا ثم بما فوقها وهي الملائكة المقسمات أمرا ثم أقسم بالسماء ذات الحبك وهي الطرائق التي هي كطرائق الماء حين تحركه الرياح ومنه في وصف الدجال شعره حبك

ص: 1430

أي فيه تجعد وتثن ومنه قوله في السماء موج مكفوف وهذا يتضمن حسنها وبهجتها وكمال خلقها.

فأقسم بذلك على أن الرادين لما بعث به رسوله المعارضين له بعقولهم في قول مختلف ولهذا نجدهم دائما في قول مختلف لا يثبت لهم قدم على شيء يعولون عليه فتأمل أي مسألة أردت من مسائلهم ودلائلهم تجدهم مختلفين فيها غاية الاختلاف يقول هذا قولا وينقضه الآخر فيجيء الثالث فيقول قولا غير ذينك القولين وينقضهما ويبطل أدلتهما ولا تجد لهم مسألة واحدة إلا وقد اضطربوا فيها حكما ودليلا فهم أعظم الناس اختلافا حتى تجد الواحد منهم يقول القول ويدعي أنه قطعي ثم يقول خلافه ويبطله ويدعي أنه قطعي ثم أخبر سبحانه أن ذلك القول المختلف يؤفك عنه من أفك أي يصرف بشبه عن الحق من صرف فلما كان انصرافه عن الحق بشبه صار كأنه منفصل عنه وإفكه صادر عنه ثم قال تعالى {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات10] وأصل الخرص القول بلا علم بل بالظن والتخمين والقذف بالكلام من غير برهان على صحته ومنه سمي الكاذب خارصا وصاحب الظن والتخمين خارصا وهذا الوصف منطبق على هؤلاء أتم انطباق فليس معهم

ص: 1431

إلا الخرص واتباع الظن كما قال تعالى في وصف سلفهم المعارضين لشرعه بالقدر {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ} [الأنعام116] وهذا بخلاف متبع الوحي فإنه يتبع قولا يصدق بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض لا اختلاف فيه ولا اضطراب متصلا برب العالمين قوله ووحيه الذي نزله على رسوله قمصدره منه سبحانه ومظهره على لسان رسوله فعليه سبحانه البيان وعلى رسوله البلاغ وعلينا التسليم وقد فعل سبحانه ما عليه وفعل رسوله ما عليه فماذا نشأ بعد ذلك إلا أن نأتي بما علينا وبالله التوفيق.

الوجه الثامن والتسعون بعد المائة: إن هؤلاء النفاة المعطلة لا بد لهم من أصل يقررون به قولهم الذي ابتدعوه وأصل ينفون به ما أخبرت به الرسل وهذا حال كل من وضع رأيا أو نصب مذهبا لا بد له من أصل يقرر به رأيه وأصل يبطل به قول مخالفه.

وعلى هذين الأصلين بنوا مذاهبهم الفاسدة فكلامهم كله يدور على هاتين القاعدتين فإذا تكلموا في توحيدهم الذي هو غاية الإلحاد والتعطيل والتشبيه بالأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم كما قال حافظ الإسلام محمد بن إسماعيل البخاري في كتاب خلق الأفعال

ص: 1432

وهو من أجل كتبه الصغار وهذا لفظه وقال بعض أهل العلم إن الجهمية هم المشبهة لأنهم شبهوا ربهم بالصنم والأصم والأبكم الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم ولا يخلق وقالت الجهمية كذلك لا يتكلم لا يبصر نفسه والمقصود أن توحيدهم غاية التعطيل والتشبيه فإذا تكلموا فيه قرروه بالأصل الأول فإذا جاءوا إلى الكتاب والسنة قرروا نفي دلالتهما بوجوه أحدها: أن النصوص أدلة لفظية لا تفيد علما ولا يقينا.

والثاني: أن الأخبار أخبار آحاد لا تفيد العلم وهذه المسائل علمية.

الثالث: أن العقل إذا عارض النقل وجب تقديم العقل عليه.

الرابع: استعمال التأويلات وأنواع الاستعارات والمجازات في نصوص الصفات وقد أوصاهم سلفهم بكلمتين يتداولونها عنهم آخر عن أول قالوا إذا احتج عليكم أهل الحديث بالقرآن فغالطوهم بالتأويل وإذا احتجوا بالأخبار فقابلوها بالتكذيب.

وإذا مهدوا هذين الأصلين انبنى لهم عليهما أصلان آخران أدهى منهما وأمر التكذيب بالحق الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب وإساءة الظن به وتسليط التحريف عليه والتصديق بالباطل الذي يسمونه قواطع

ص: 1433

عقلية وصدقوا وكذبوا فهي قواطع ولكن عن الإيمان بالله ورسوله وأسماء الرب وصفاته وهي خيالات جهلية شبهت عليهم فظنوها قواطع عقلية.

وترتب لهم على هذين الأصلين أصلان آخران تلقيب الحق المنزل وأصحابه بالألقاب الشنيعة المنفرة كتلقيبه بالتجسيم والتشبيه والتمثيل والتركيب.

وتلقيب الآخذين به بالمشبهة والمجسمة والحشوية وتلقيب الكفر والضلال والإلحاد بالألقاب المستحسنة كالتوحيد والتنزيه والعدل وتلقيب أصحابه بالموحدين أهل العدل والتوحيد والتنزيه.

فرتب لهم على ذلك أصلان آخران الإعراض عن القرآن والسنة جملة ومعارضتهما بآراء الرجال وعقولهم الفاسدة المتهافتة المتناقضة.

ثم ترتب لهم على ذلك أصلان آخران معاداة أهل الحق وموالاة أهل الباطل وبقي أمران آخران إنما يظهران إذا بعث ما في القبور وحصل ما في الصدور هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون.

الوجه التاسع والتسعون بعد المائة: إن هؤلاء المعطلة النفاة من الجهمية ومن اتبعهم لا يمكن على أصولهم التي أصلوها وقواعدهم التي أسسوها محبة الله ولا مدحه ولا حمده وتمجيده والثناء عليه

ص: 1434

ولا الرضى به ولا الابتهاج بقربه ولا الفرح به ولا اللذة العظمى برؤية وجهه ولا لذة الآذان والأرواح بسماع كلامه بل ولا الشوق إليه ولا الأمان ولا الطمأنينة به وإليه ولا الأمن من عذابه لهم بغير جرم أصلا ومن إبطاله أعمالهم الصالحة بغير سبب بل أعظم من ذلك أنهم سدوا على أنفسهم طريق العلم بإثباته وإثبات ربوبيته إلا بما ينافي صفاته وأفعاله فليس لهم طريق إلى إثبات ذاته إلا بما يستلزم نفي ذاته وصفاته وأفعاله وسدوا علىأنفسهم طريق العلم بصدق رسله بتجويزهم عليه كل شيء حتى إنه يجوز عليه تأييد الكاذب المفتري عليه بأعظم المعجزات وليس في العقل ما يحيل ذلك عندهم وسدوا على أنفسهم طريق العلم بالمعاد لأنهم بنوه على إثبات الجوهر الفرد ولا حقيقة له وهذه جملة إنما يظهر تفصيلها عند الكلام على مسائلهم ودلائلهم.

أما محبة الرب سبحانه فإنهم صرحوا بأنه لا يحب ولا يحب واستدلوا على ذلك بما هو مناقض للفطرة والعقل والشرائع كما سنذكره إن شاء الله وأصل الدين هو كونه سبحانه يحب ولا يحب فإن الشرائع مبناها على شهادة أن لا إله إلا الله والإله هو المستحق لكمال الحب بكمال التعظيم والإجلال والذل له والخضوع له فإنكار المحبة

ص: 1435

إنكار لنفس الإلهية وأما فروعها فمبناها على كونه سبحانه يحب أقوالا وأعمالا ويمدح فاعليها ويثني عليهم ويقربهم منه ويبغض أقوالا وأعمالا ويذم فاعليها ويبغضهم ويبعدهم منه وعنده أنه لا يحب ولا يبغض بل كل ما شاءه فهو محبوب له ومالم يشأه فهو مبغوض فإن محبته عندهم هي إرادته ولهذا قالوا لا يحبه أحد لأن المحبة نوع من الإرادة والقديم لا يمكن أن يراد وأما أنه لا يمدح ولا يحمد فلما قرروا أن المدح هو مجرد الإخبار عن استحقاق الممدوح ما يلتذ به ويفرح به واللذة والألم عليه محال كما سنذكر ألفاظهم بعد هذا الوجه والكلام عليها.

وأما الرضا به والابتهاج والسرور بقربه فذلك من توابع المحبة وعندهم أنه لا يمكن تعلق المحبة به بوجه وأما اللذة برؤية وجهه وسماع كلامه فليس له عندهم وجه ولا يرى بحال ولا يكلم ولا يمكن أن يتكلم وأما الإنابة إليه فأصل الإنابة محبة القلب وخضوعه وذله للمحبوب المراد فمن لا يحب لا يمكن الإنابة إليه وكذلك الفرح والسرور بقربه عندهم أنه أمر محال. وأما الطمأنينة به والأمن من عذابه بغير جرم فلا طريق لهم إلى ذلك لأنهم يجوزون عليه أن يعذب أعظم أهل طاعته وينعم أكفر الخلق به وكلاهما بالنسبة إليه سواء عندهم وإنما يعلم ضد ذلك بخبر صادق والأدلة اللفظية عندهم لا تفيد اليقين وكثير منهم يشك في العموم أو ينكره والقدرة صالحة ولا حسن ولا قبح هناك البتة.

ص: 1436

وأما طريق العلم بإثباته فإنهم إنما أثبتوه بطريق الجواهر والأعراض والحركة والسكون وأن ما قامت به الأعراض والحوادث يجب أن يكون حادثا فلزمهم نفي جميع صفاته وأفعاله إذ لو أثبتوها بزعمهم لأفسد عليهم طريق إثباته والعلم به ولزمهم إنكار علوه على خلقه واستوائه على عرشه وتكلمه وأن يكون له كلام يسمع منه فضلا أن ينزل إلى الأرض ومن استهجن منهم هذا ارتكب التناقض وأثبت بعضها ونفى بعضا ولم يوف ما أثبته حقه بل نفى حقيقته وأثبت لفظه أو أثبته من وجه ونفاه من غيره أو أثبت منه مالا يعقل فهم سلكوا في طريق إثبات وجوده أعظم الطرق المنافية لوجوده فضلا عن ثبوت صفات كماله وأفعاله.

وأما طريق العلم بالنبوة فإنهم أصلوا أنه سبحانه يجوز عليه كل ممكن وأنه يجوز عليه تأييد الكذابين بأنواع المعجزات وأنه لا فرق بالنسبة إليه سبحانه بين ذلك وبين تأييد الصادقين بها فإن العقل لا يقبل ذلك ولا يحسن هذا وليس إلا مجرد القدرة والمشيئة فلما أورد عليهم العقلاء أن هذا يسد طريق العلم بالنبوة عدلوا إلى نوع من المعارضة لخصومهم من المعتزلة وقالوا هذا يلزمنا ويلزمكم فإن وجوب النظر في المعجزة عندكم وإن وجب بالعقل لكن وجوبه نظري فالمكلف يقول لا أنظر حتى يجب علي ولا يجب علي حتى أنظر فسددتم على أنفسكم

ص: 1437

طريق إثبات النبوة فانظر كيف آل أمر الفريقين إلى الاعتراف بأن العلم بإثبات النبوة طريقه مسدودة عليهم وماذا يفيدكم مشاركة خصومكم لكم في هذا الضلال المبين والكفر المستبين فأبعد الله أصولا وقواعد هذا حاصلها ورأس مال أصحابها أفلا يستحي من هذا حاصل معقوله وعلمه ومنتهى معرفته أن يذكر أنصار الله ورسوله وحزبه بما لا يليق أو ينسبهم إلى ما هو أولى به منهم من الجهل ومخالفة المعقول والمنقول وهذا موضع المثل الساير رمتني بدائها وانسلت وقد تقدم ما ذكره إمام أهل السنة محمد بن إسماعيل البخاري عن بعض أهل العلم أن الجهمية هم المشبهة لأنهم شبهوا الله سبحانه بالأصنام والموات ومما يوضح الأمر

الوجه الموفي مائتين وجها: وهو أن هؤلاء كما وضعوا قانونا أصلوه لنفي كلامه وسمعه وبصره ومباينته لخلقه واستوائه على عرشه ومجيئه لفصل القضاء بين عباده ورؤية أنبيائه وأوليائه له في دار الكرامة بأن ذلك يستلزم التجسيم والتشبيه والتمثيل والتركيب وحلول الحوادث وضعوا قانونا آخر يتضمن نفي ما وصف به نفسه من الرأفة والرحمة والمحبة والمودة والحنان والغضب والرضى والفرح والضحك والتعجب قالوا

ص: 1438

لأن هذه الأمور مضتمنة للألم واللذة والله سبحانه منزه عن ذلك قالوا ولأنها تستلزم الشهوة والنفرة وهو سبحانه منزه عنهما.

فانظر كيف توصلوا إلى نفي ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله من هذه الأمور بهذه الألفاظ المجملة المتشابهة المتضمنة للحق والباطل فهي ذات وجهين حق وباطل فتقبل من الوجه الحق وترد من الوجه الباطل فلفظ الشهوة واللذة والألم والنفرة من الألفاظ التي فيها إجمال وإبهام فكثير من الناس إنما يطلقها بإزاء شهوة الحيوان من الأكل والشرب والنكاح والله تعالى قد جعل الباعث على إتيان الذكور الشهوة المجردة لا الحاجة إلى ذلك فإن الله لم يحرم على عباده ما يحتاج العباد إليه ويطلق الشهوة بإزاء ما هو أعم من ذلك كشهوة الجاه والمال والعز والنصر والعلم قال الإمام أحمد محمد بن إسحاق صاحب حديث يشتهى حديثه وقد قال تعالى في الجنة {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف71] وهذا يعم كل ما تشتهيه الأنفس من مأكول ومشروب ومسموع ومرئي وغيره.

وتطلق الشهوة على الإرادة نفسها فيقال لمن له إرادة

ص: 1439

في الشيء ومحبة له هو يشتهيه كما يقال فلان يشتهي لقاء فلان ويشتهي قربه ويشتهي الحج بل يقال لمن يريد ما تكره نفسه لمصلحة أنه يشتهيه كما يقال فلان يشتهي الشهادة في سبيل الله ويشتهي شرب الدواء.

فنقول أتعنون بالشهدة التي نفيتموها عن الله الشهوة الحيوانية أم الشهوة التي هي أعم أم الإرادة والمحبة فإن أردتم الأول فنفيه حق ودعواكم لزومه من ما أثبته لنفسه من الفرح والرضى والضحك ونحوها باطلة تتضمن الكذب والتلبيس.

وإن أردتم الثالث فنفيه باطل وتوسلكم إلى نفيه بتسميته شهوة تلبيس وتدليس ونفي للمعنى الحق الثابت بتسميته بالاسم المستهجن في حق من وصف به.

وإن أردتم الثاني استفصلناكم عن مرادكم فإن فسرتموه بما يمتنع وصفه به قبلناه وإن فسرتموه بما وصف به نفسه قابلناه بالإنكار والرد وإن فسرتموه بأمر مجمل محتمل استفصلناه فقبلنا حقه ورددنا باطله.

وهؤلاء النفاة تجدهم دائما يعتمدون هذه الطريقة المتضمنة للتلبيس والتدليس وينفون بها حقائق ما أخبر الله به عن نفسه فيأتون إلى ألفاظ معناها في اللغة الغربية أخص من معناها في اصطلاحهم فينفون معناها العام الذي اصطلحوا عليه ويوهمون الناس أنهم إنما نفوا معناها

ص: 1440

المعروف في اللغة والناس أول ما يسمعون تلك الألفاظ إنما يفهمون منها معناها اللغوي فيوافقونهم على النفي تعظيما لله وتنزيها له ومرادهم نفي المعنى العام الذي اصطلحوا عليه وقد جمعوا في ذلك تحريف لغة العرب عن مواضعها وتحريف كلام الله ورسوله عن مواضعه ولبس الحق بالباطل في النفي والإثبات.

فمعرفة مراد هؤلاء وكلامهم من تمام مقاصد الدين ليتمكن أهل السنة والحديث من رد باطلهم وتبيين إفكهم وقد أمر النبي زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود فكان يكتب له كتبهم ويقرأ له كتبهم وسأل رجل عبد الله بن عمر عن

ص: 1441

الأنبذة وقال أخبرني عنها بلغتكم وفسرها لي بلغتنا فإن لكم لغة ولنا لغة فذكرها ابن عمر باللفظ الذي قاله النبي ثم فسرها بلغة السائل.

فنقول أنتم في هذا المقام إنما نظركم في المعاني العقلية لا في إطلاق الألفاظ فإن أهل السنة والحديث أعلم بذلك منكم وأولى بمراعاة الألفاظ الشرعية وهم أبعد عن أن يصفوا الله إلا بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله منكم فما مقصودكم من نفي الشهوة والنفرة واللذة والألم عنه إن عنيتم به ما هو من خصائص المخلوقين فلا ريب في انتفائه عنه سبحانه لأن كماله المقدس ينفيه فإثباته نقص وعيب وأنتم قد اعترفتم أنه لم يقم دليل عقلي على تنزيهه عن العيوب والنقائص وإنما استندتم فيه إلى الإجماع واعترفتم بأن دلالته ظنية وهذا موجود في إرشادكم

ص: 1442

ونهايتكم وغيرها ونحن نقرر نفي ذلك بالأدلة القطعية والبراهين اليقينية فإنه سبحانه لا يجوز أن يماثل خلقه في شيء من صفاتهم وأفعالهم فهو منزه عن أن يطلب ما يقبح طلبه أو يريد ما لا يحسن إرادته أو يطلب ويكره ويحب ما لا يصلح طلبه وكراهته ومحبته إلا للمخلوق وكل ما ينزه سبحانه عنه من العيوب والنقائص فهو داخل فيما نزه نفسه عنه وفيما يسبح به ويقدس ويحمد ويمجد وداخل في معاني أسمائه الحسنى وبذلك كانت حسنى أي أحسن من غيرها فهي أفعل تفضيل معرفة باللام أي لا أحسن منها بوجه من الوجوه بل لها الحسن الكامل التام المطلق وأسماؤه الحسنى وآياته البينات متضمنة لذلك ناطقة به صريحة فيه وإن ألحد فيها الملحدون وزاغ عنها الزائغون.

وقد بينا فيما تقدم أن كل ما ينزه الرب عنه إن لم يكن متضمنا لإثبات كماله ومستلزما لأمر ثبوتي يوصف به لم يكن في تنزيهه عنه مدح ولا حمد ولا تمجيد ولا تسبيح إذ العدم المحض كاسمه لا حمد فيه ولا مدح وإنما يمدح سبحانه بنفي أمور تستلزم أمورا هي حق ثابت موجود يستحق الحمد عليها وذلك الحق الموجود ينافي ذلك الباطل المنفي فيستدل برفع أحدهما على ثبوت الآخر فتارة يستدل بثبوت تلك المحامد والكمالات على نفي النقائص

ص: 1443

التي تنافيها وتارة يستدل بنفي تلك النقائص على ثبوت الكمالات التي تنافيها فهو سبحانه القدوس السلام كما قال {تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة255] لكمال حياته وقيوميته و {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سبأ3] لكمال علمه {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق38] لكمال قدرته {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف49] لكمال عدله وغناه ورحمته و {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه52] لكمال علمه وحفظه {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة255] لكمال قدرته وقوته {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام14] و {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص3] لكمال صمديته {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص4] لتفرده بالكمال المطلق الذي لا يشاركه فيه غيره {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلّ} [الإسراء111] لكمال عزته وسلطانه {وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس15]

ص: 1444

فنفى عن نفسه خوف عاقبة ما فعله من إهلاك أعدائه بخلاف المخلوق فإنه إذا انتقم من عدوه يخاف عاقبة ذلك إما من الله وإما من المنتصرين لعدوه وذلك على الله محال والخوف يتضمن نقصان العلم والقدرة والإرادة فإن العالم بأن الشيء لا يكون لا يخافه والعالم بأنه يكون ولا بد قد يئس من النجاة منه فلا يخاف وإن خاف فخوفه دون خوف الراجي وأما نقص القدرة فلأن الخائف من الشيء هو الذي لا يمكنه دفعه عن نفسه فإذا تيقن أنه قادر على دفعه لم يخفه.

وأما نقص الإرادة فلأن الخائف يحصل له الخوف بدون مشيئته واختياره وذلك محال في حق من هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير ومن لا يكون شيء إلا بمشيئته وإرادته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهذا لا ينافي كراهته سبحانه وبغضه وغضبه فإن هذه الصفات لا تستلزم نقصا لا في علمه ولا في قدرته ولا في إرادته بل هي كمال لأن سببها العلم بقبح المكروه المبغوض المغضوب عليه وكلما كان العلم بحاله أهم كانت كراهته وبغضه أقوى ولهذا يشتد غضبه سبحانه على من قتل نبيه أو قتله نبيه.

فصل

وإن قال أعني بذلك ما هو أعم من شهوة الحيوان وألمه ولذته ونفرته قيل له الشهوة والنفرة جنسهما الحب

ص: 1445

والبغض فكل مشته لشيء فهو محب له وكل نافر عن شيء فهو مبغض له وإن كان في المحبة والبغض ما لا يسمى في لغة القوم شهوة ونفرة كمحبتنا لله ورسوله وإذا كان كذلك فمعلوم أن الله سبحانه قد وصف نفسه بالمحبة والبغض في غير موضع من كتابه وسنة رسوله وهو موصوف بالإرادة والكراهة المتضمنة للحب والبغض والشهوة والنفرة أيضا تتضمن معنى الإرادة والكراهة فإن المشتهي فيه نوع إرادة والنافر فيه نوع كراهة والإرادة والكراهة من لوازم الحياة فكل حي مريد كاره والشهة والنفرة من لوازم الحيوان فإنه يشتهي ما يتضمن بقاء ذاته ويلائمه وينفر من ضد ذلك.

وهذه الأسماء قد تتنوع إما بحسب صفاتها في أنفسها وإما بحسب متعلقها وهو المحبوب المكروه لما في لغة العرب من التفريق بين اللفظين لأدنى فرق بين المعنيين لقوة التمييز في عقولهم وألسنتهم بخلاف الأمم الذين يضعف فيهم التمييز فإنهم يغلب عليهم الاقتصار على القدر المشترك في العقل واللسان وثبوت تلك الفروق اللفظية في المعاني والألفاظ لا يمنع ثبوت القدر المشترك بينها والذي تدركه سائر الأمم فيجب إثبات القدر المشترك والقدر المميز.

وإذا كان بين الشهوة والمحبة والإرادة والرضى والفرح قدر مشترك وبين النفرة والبغض والكراهة والسخط

ص: 1446

ونحوها قدر مشترك فمن نفى مسمى أحد هذه الألفاظ فإن عنى به نفي جميع مسماه لزم نفي القدر المشترك الثابت في البواقي وإن نفى ما يختص به مما هو من خصائص المخلوقين فقد أصاب والله سبحانه منزه في جميع ذلك إن أثبت له وإن نفي عنه شيء من ذلك مما هو مختص به لأجل ما يظنه مستلزما لنقص فذلك لازم له في جميع ما يوصف به فإنه سبحانه إنما يوصف من كل نوع بأكمل ذلك النوع على وجه لا يستلزم نقصا ولا تمثيلا.

فصل

يبين ذلك أن الحب والبغض من لوازم الحياة فلا يكون حي إلا محب مبغض كما لا يكون حي إلا وله علم وإرادة وفعل بل حب الله سبحانه لما يحبه وبغضه لما يبغضه وإرادته لما يريده وكراهته لما يكرهه أكمل الحب والبغض والإرادة والكراهة كما قال تعالى {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [غافر10] وقال تعالى {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً} [النساء84] وهذا تابع لشدة غضبه ومقته وقال تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت15] وكذلك هو أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأعلم العالمين فهو أكبر في كل صفة من صفاته كما هو أكبر في جميع صفاته وذاته وأفعاله.

ص: 1447

فصل

وقد ذكر أفضل متأخريهم أدلتهم على امتناع هذه الأمور على الله وأبطلها كلها فكفانا مؤنتها ثم اختار لنفسه مسلكا هو أبطل منها فقال والمعتمد أن نقول لو صحت اللذة على الله تعالى لكان خلقه للملتذ به إما أن يكون في الأزل أو لا يكون والقسمان باطلان فالقول بصحة اللذة على الله محال وإنما قلنا إنه لا يصح خلقه للملتذ به في الأزل لأن الفعل الأزلي محال وإنما قلنا يستحيل أن يكون حادثا لأنه إذا كان حادثا كان ممكنا قبل كونه وإلا كان ممتنعا ثم انقلب إلى الإمكان وهو محال وإذا كان ممكنا فالله قادر على إيجاده قبل ذلك وإلا كان منتقلا من القدرة إلى العجز وهو محال وإذا ثبت ذلك.

فنقول كل من صحت عليه اللذة إذا كان عالما بقدرته على تحصيل الملتذ به وكان الملتذ به في نفسه ممكنا فإنه يكون كالملجأ إلى إيجاد الملتذ به وإذا كان كذلك لزم كونه تعالى فاعلا للملتذ به قبل فعله وذلك محال فثبت أن القول بصحة اللذة على الله محال لأنه يفضي إلى المحال وما أفضى إلى المحال محال ومضمون هذه الحجة بعد تطويل مقدماتها أن جواز ذلك عليه مستلزم لكون الملتذ به حادثا وكونه متقدما على حدوثه وكون الشيء

ص: 1448

متقدما على وجوده محال وفسادها بين من وجوه

أحدها (الوجه الواحد والمائتان) النقض والمعارضة بالإرادة والمحبة والرحمة والرضى بأن يقال لو صحت على الله الإرادة والمحبة والرضى لكان فعله للمراد المحبوب المرضي إما في الأزل وهو محال وإما في مالم يزل وهو محال لما ذكره بعينه من مقدمات دليله.

الوجه الثاني والمائتان: أن لفظ اللذة والألم من الألفاظ التي فيها إجمال واشتباه كلفظ الجسم والحيز والتركيب وغيرها وليس لها ذكر في الكتاب والسنة بنفي ولا إثبات بل جاء في القرآن والسنة وصفه بالمحبة والرضى والفرح والضحك ووصفه بأنه يصبر على ما يؤذيه وإن كان العباد لا يبلغون نفعه فينفعونه ولا ضره فيضرونه والذي نفاه هؤلاء يدرجون تحته ما وصف به نفسه وهو إبطال لما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب ولما خلق الخلق لأجله فإن الله سبحانه أرسل رسله وأنزل كتبه ليدعو الخلق إلى ما يحبه ويرضاه وينهوهم عما يبغضه ويسخطه وقد أخبر رسوله عنه من محبته ورضاه وفرحه وضحكه وتسليته لأوليائه وأحبائه وأهل طاعته وعن غضبه وسخطه وبغضه ومقته وكراهته لأعدائه

ص: 1449

وأهل مخالفته مما يضيق هذا المكان عن استقصائه وعلى هذا الأصل تنشأ مسألة التحسين والتقبيح وقد ذكرناها مستوفاة في كتاب المفتاح وذكرنا على صحتها فوق الخمسين دليلا وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار" وقال: "لا احد أصبر على أذى يسمعه من الله يجعلون له الولد وهو يرزقهم ويعافيهم" وقال حاكيا عن ربه: "شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك" وقد فرق الله بين أذاه وأذى رسوله وأذى المؤمنين والمؤمنات فقال {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ

ص: 1450

بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب58 ، 57] وليس أذاه سبحانه من جنس الأذى الحاصل للمخلوقين كما أن سخطه وغضبه وكراهته ليست من جنس ما للمخلوقين.

الوجه الثالث والمائتان: إن ما وصف الله سبحانه به نفسه من المحبة والرضى والفرح والغضب والبغض والسخط من أعظم صفات الكمال إذ في العقول أنا إذا فرضنا ذاتين إحداهما لا تحب شيئا ولا تبغضه ولا ترضاه ولا تفرح به ولا تبغض شيئا ولا تغضب منه ولا تكرهه ولا تمقته.

والذات الأخرى تحب كل جميل من الأقوال والأفعال والأخلاق والشيم وتفرح به وترضى به وتبغض كل قبيح يسمى وتكرهه وتمقته وتمقت أهله وتصبر على الأذى ولا تجزع منه ولا تتضرر به كانت هذه الذات أكمل من تلك الموصوفة بصفات العدم والموات والجهل الفاقدة للحس فإن هذه الصفات لا تسلب إلا عن الموات أو عمن فقد حسه أو بلغ في النهاية والضعف والعجز والجهل إلى الغاية التي لم تدع له حبا ولا بغضا ولا غضبا ولا رضى بل اليهود الذين وصفوه بالغم والحزن والبكاء والندم أحسن حالا من الذين سلبوه هذا الكمال كما أن المشبهة المحضة

ص: 1451

خير من المعطلة النفاة لصفات كماله وحقائق أسمائه الحسنى وأهل الحق أنصار الله ورسوله وكتبه والسنة براء من الفريقين.

الوجه الرابع والمائتان: أنه لا كمال في مجرد سلب ذلك عنه كما قدمنا أن السلب إن لم يتضمن إثباتا وإلا لم يكن مدحا ولا كمالا فليس له من مجرد كونه لا يحب ولا يرضى ولا يفرح ولا يضحك ولا يغضب حمد ولا كمال فإنه نفي صرف وعدم محض فلا يحمد به وهذا بخلاف نفي الغم والهم والحزن والندم عنه فإنه يتضمن ثبوتا وهو كمال قدرته وعلمه فإن أسباب هذه الأمور إما عجز مناف للقدرة وإما جهل مناف للعلم وكمال قدرته وعلمه يناقض وصفه بذلك وهذا وغيره مما يبين أن النفاة والمعطلة أقل الناس تحميدا وتمجيدا وتسبيحا وثناء على الله وأن أهل الإثبات أعظم تسبيحا وتحميدا وثناء على الله كما سنقرره فيما بعد إن شاء الله.

الوجه الخامس والمائتان: أن يقال ما المانع من أن يكون رضاه ومحبته وفرحه من كماله في نفسه وما هو عليه من الجلال والجمال ولا يحتاج في ذلك إلى شيء مخلوق بل يكفي في حصوله جماله وجلاله وحينئذ فيقال قولك لو صح الرضى والفرح

ص: 1452

الذي تسميه أنت لذة عليه لكان خلق المفروح المرضي به إما في الأزل أو بعده إنما يجب ذلك إذا امتنع أن تكون محبته لنفسه ورضاه بنفسه وفرحه بنفسه سبحانه وحينئذ فلا ينتفي ينتفي المعنى الذي سميته لذة إلا إذا امتنع هذا وأنت لم تقم دليلا على امتناعه بل أنت في نفي هذاأضعف حجة ممن نفى التذاذ أوليائه بالنظر إلى وجهه فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين كلهم وأهل السنة كلهم متفقون على إثبات رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة ولكن زعم بعض أهل الكلام أنه لا يحصل لهم بذلك لذة كما زعم أبو المعالي الجويني في رسالته النظامية أن نفس النظر إليه سبحانه لا لذة فيه إذ اللذة إنما تكون بالمناسب ولا مناسبة بين القديم والمحدث وزعم أن هذا من أسرار التوحيد وكذلك أبو الوفا بن عقيل سمع قائلا يقول أسألك لذة النظر إلى وجهك فقال يا هذا هب أن له وجها أفتلتذ بالنظر إليه وهذه نزعة اعتزالية وإلا فأهل المعرفة بالله وخاصة أولياء الله ليس عندهم شيء ألذ من النظر إلى وجهه الكريم وليس بين هذه اللذة ولذة الأكل والشرب والنعيم المنفصل نسبة أصلا كما لا نسبة بين

ص: 1453

الرب جل جلاله وبين شيء من مخلوقاته فالنسبة بين اللذتين لا تدرك أصلا قال شيخنا وعلى ذلك جميع أهل السنة وسلف الأمة وأئمة الإسلام قال الحسن البصري شيخ الإسلام في زمن التابعين لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابت نفوسهم في الدنيا شوقا إليه.

وقال الشافعي رحمه الله لو علم محمد بن إدريس أنه لا يرى ربه في الآخرة لما عبده في الدنيا وقال أنا أخالف ابن علية في كل شيء حتى في قول لا إله إلا الله فإني أقول لا إله إلا الله الذي يرى في الآخرة وهو يقول لا إله إلا الله الذي لا يرى في الآخرة وكذلك جاءت السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى مسلم في صحيحه عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 1454

قال: "إذا أدخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون وما هو ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة وينجنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وهي الزيادة" فأخبر الصادق المصدوق أن نظرهم إليه أحب إليهم من كل ما أعطاهموه وكذلك ما رواه الإمام أحمد وأهل السنن وابن حبان في صحيحه من حديث عمار بن ياسر أنه سمع النبي يدعو: " اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى وأسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت وأسألك نعيما لا ينفد وقرة عين لا تنقطع وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين" يوضحه

الوجه السادس والمائتان: وهو أن اللذة والفرح تابعة للمحبة في الكمال والقوة والمحبة تابعة لمعرفة المحب بصفات المحبوب وجماله فكلما كان العلم به أكمل كانت محبته أقوى وكلما كانت المحبة

ص: 1455

أقوى كانت اللذة والفرح به أكمل وأتم وإذا ثبت هذا فإذا كان العباد يحصل لهم بمعرفته وذكره ورؤيته واستماع كلامه منه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وهو سبحانه أعلم بنفسه من غيره وكذلك كان حمده لنفسه وثناؤه على نفسه أعظم من حمد الحامدين له وثناء المثنين عليه فإن الحمد والثناء تابع للمعفرة والعلم بصفات المحمود ولهذا كان النبي أعظم الناس حمدا لربه وثناء عليه لما كان أعلم الخلق به فثناء الرب سبحانه على نفسه وحمده لنفسه وتمجيده لنفسه ومحبته لنفسه ورضاه عن نفسه فوق ما يخطر ببال الخلق أو يدور في قلوبهم أو تجري به ألسنتهم كما قال النبي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك يوضحه.

الوجه السابع والمائتان: أنه سبحانه إذا كان يحب بعض ما خلقه ويرضى عنه ويفرح به لما أعطاه من صفات الكمال فمحبته لنفسه ورضاه عن نفسه أولى وأحرى وأعظم من محبته لمخلوقه وأنه إذا أحب أهل العلم وأهل الرحمة وأحب المحسنين وأحب الصابرين وأحب الشاكرين وأثنى عليهم وهو الذي أعطاهم هذه الصفات وأحبهم لأجلها فما الظن بمحبته لنفسه وثنائه عليها ومن المعلوم أن محبته لهم وثناءه عليهم تبع لمحبته لنفسه وثنائه على نفسه.

ص: 1456

الوجه الثامن والمائتان: إن الجهمي أبطل هذا بقوله إن اللذة إدراك الملائم فيلزم أن يقال ذات الله ملائمة لذاته وذلك غير معقول لأن الملائمة لا تتقرر إلا بين شيئين وهذا الذي قرره باطل من وجوه

أحدها: أن اللذة ليست نفس إدراك الملائم كما زعم بل هي حالة تنشأ عن الإدراك فالإدراك سببها لا نفسها فهاهنا ثلاثة أشياء ملائم وإدراكه وما ينشأ عن الإدراك من الالتذاذ والفرح والسرور وكذلك الألم ليس هو نفس إدراك المنافي بل حالة تنشأ عن إدراكه وعلى هذا فإدراك الذات ملائم والفرح والرضى الذي سميته لذة مترتب على إدراك الذات وهذا أمر معقول لكل عاقل فإن المخلوق يدرك من ذاته كما لا يلتذ بإدراكه ويسر ويفرح به مع كون ذلك الكمال ناقصا بين عدمين وهو من غيره ليس منه فكيف بمن له الكمال المطلق الواجب السرمد وهو لم يستنفده من غيره وهو أعلم بكماله وكل ما سواه

الثاني: قولك الملائمة لا تتقرر إلا بين اثنين جوابه أن مثل هذا يكون في الذات الواحدة باعتبارين كما قال تعالى {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات40] وقال {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف51] وقال آدم {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف23] .

ص: 1457

فالنفس واحدة وهي الناهية المنهية والأمارة المأمورة والظالمة المظلومة كما تكون هي العاقلة المعقولة والإنسان يحب نفسه فيكون المحب المحبوب فإذا كان هذا أمرا معقولا في المخلوق غير ممتنع فكيف يمتنع في حق الخالق

الثالث: أنه سبحانه يحب صفاته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنك عفو تحب العفو" وقال: "إن الله جميل يحب الجمال"، "وإن الله نظيف يحب النظافة"، "وإن الله وتر يحب الوتر"، "وإن الله

ص: 1458

طيب لا يقبل إلا طيبا" وروي " إني عليم أحب كل عليم " وإذا كان يحب صفاته وهي قائمة بذاته فكيف بمحبته لذاته

الوجه التاسع والمائتان: أن يقال ما المانع أن يحب ويرضى ويفرح ويضحك بما يكون من الأمور الحادثة الموافقة لمحبته ورضاه كما في الأحاديث المستفيضة المتواترة مثلما في صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي"، "وأنا معه حيث يذكرني والله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته في الفلاة"

ص: 1459

"ومن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا وإذا أقبل يمشي أقبلت إليه أهرول ".

وفي الصحيح عن البراء بن عازب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف تقول بفرح عبد إذا انفلتت منه راحلته تجر زمامها بأرض قفر ليس فيها طعام ولا شراب وعليها له طعام وشراب فطلبها حتى شق عليه ثم مرت بجذل شجرة فتعلق زمامها فوجدها متعلقة به قلنا شديد يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما والله لله أشد فرحا بتوبة عبده من الرجل براحلته" وفي الصحيح عن أنس أن

ص: 1460

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم إذا سقط على بعيره قد أضله بأرض فلاة " وفي كتاب العلل للدارقطني " لله أفرح بتوبة عبده من العقيم الوالد والمضل الواجد والظمآن الوارد " هذا أو نحوه ولو كان في المفروح به أعلى من هذا المثال لذكره فتأمل سائرا وحده بأرض مفازة معطشة لا ماء بها ولا زاد ضلت راحلته فيها فاشتد جوعه وظمأه فأيس من الحياة فاضطجع في أصل شجرة ينتظر الموت ثم استيقظ فإذا الراحلة قائمة على رأسه وعليها طعامه وشرابه كما جاء ذلك مصرحا به في بعض طرق هذا الحديث فهل في الفرح قط أعظم من هذا ولهذا الفرح بتوبة العبد سر أكثر الخلق محجوبون عنه لا تبلغه عقولهم وبه يعرف سر تقدير ما يثاب منه على العبد لأنه يترتب عليه ما هو أحب إلى الرب سبحانه من عدمه فلو لم يكن في تقدير الذنب من الحكم

ص: 1461

إلا هذه وحدها لكانت كافية فكيف وفيه من الحكم ما لا يحصيه إلا الله مما ليس هذا موضعه

الوجه العاشر والمائتان: إن الجهمي احتج على امتناع ذلك عليه بأن هذا انفعال وتاثير عن العبد والمخلوق لا يؤثر في الخالق فلو أغضبه أو فعل ما يفرح به لكان المحدث قد أثر في القديم تلك الكيفيات وهذا محال وهذه الشبهة من جنس شبههم التي تدهش السامع أول ما تطرق وتأخذ منه وتروعه كالسحر الذي يدهش الناظر أول ما يراه ويأخذ ببصره وكصولة المبطل الجبان الذي يحمل أول أمره علىخصمه وهكذا شبه القوم كلها هي كحبال السحرة وعصيهم التي خيل إلى موسى أنها تسعى {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه69-67] فهكذا الحجة الحق تبطل جميع الشبه الباطلة التي هي للعقول كحبال السحرة وعصيهم للأبصار وجواب هذه الشبهة من وجوه

أحدها: أن الله سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه وكل ما في الكون من أعيان وأفعال وحوادث فهو بمشيئته وتكوينه فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن

ص: 1462

قضيتان لا تخصيص فيهما بوجه من الوجوه وكل ما يشاؤه فإنما يشاؤه بحكمة اقتضاها حمده ومجده فحكمته البالغة أوجبت كل ما في الكون من الأسباب والمشيئات فهو سبحانه خالق الأسباب التي ترضيه وتغضبه وتسخطه ويفرح بها والأشياء التي يحبها ويكرهها هو سبحانه خالق ذلك كله فالمخلوق أعجز وأضعف أن يؤثر فيه سبحانه بل هو الذي خلق ذلك كله على علمه بأنه يحب هذا ويرضى به ويبغض هذا ويسخط ويفرح بهذا فما أثر غيره فيه بوجه.

الثاني: أن التأثير لفظ فيه اشتباه وإجمال أتريد أن غيره يعطيه كمالا لم يكن له ولا وجد فيه صفة كان فاقدها فهذا معلوم بالضرورة أنه يريد به أن غيره لا يسخطه ولا يبغضه ولا يفعل ما يفرح به أو يحبه أو يكرهه أو نحو ذلك فهذا غير ممتنع وهو أول المسألة وليس معك في نفيه إلا نفس الدعوى بتسمية ذلك تأثيرا في الخالق وليس الشأن في الأسماء إنما الشأن في المعاني والحقائق وقد قال تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} [محمد28] وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في أهل الصفة: "إن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك" فما الدليل العقلي أو النقلي على استحالة هذا

ص: 1463

الثالث: أن هذا يبطل محبته لطاعات المؤمنين وبغضه لمعاصي المخالفين وكراهته لظلم الظالمين إذا فعلوا ذلك وهذا معلوم البطلان بالضرورة والعقل والفطرة الإنسانية واتفاق أهل الأديان كلهم وإطباق الرسل بل هذا حقيقة دعوة الرسل بعد التوحيد.

الرابع: أن هذا ينتقض بإجابة دعواتهم وإغاثة لهفاتهم وسماع أصواتهم ورؤية حركاتهم وأفعالهم فإن هذه كلها أمور متعلقة بأفعالهم فما كان جوابك عنها في محل الإلزام فهو جواب منازعيك لك في هذا المقام.

فصل

الوجه الحادي عشر والمائتان: إن قولك يستحيل أن يخلق الملتذ به في الأزل وأن لا يخلقه في الأزل إلى آخره مبني الحجة على مقدمتين

إحداهما: إنكار وجود الملتذ به قبل وجوده

والثانية: وجوب حصوله إذا كان كذلك ونحن نتكلم عن المقدمتين فنقول لا نسلم وجوب وجود الملتذ به والحالة هذه ولا أنه يكون كالملجأ إليه فإن قلت داعية اللذة إذا تحققت خالية عن الموانع وكان الملتذ به ممكن الحصول فالعلم الضروري حاصل بوجوب حصوله فالجواب أن الداعي الجازم مع القدرة التامة توجب وجود المقدور بلا ريب والداعي هو إما الإرادة الحادثة أو العلم المقتضي للإرادة أو مجموعهما وإما مجرد كون الشيء سببا للذة فهذا لا يوجب الإرادة

ص: 1464

الحادثة بل العلم الضروري الحاصل بضد ذلك فقد يحصل للإنسان نوع ما من أنواع الالتذاذ بالشيء مع قدرته عليه ولا يفعله وذلك أن اللذة تتبع المحبة وقد لا تتم محبة الملتذ به وإرادته فلا يوجد لضعف المحبة والإرادة المتعلقة به أو لاستلزامه فوات ما هو أحب إليه منه أو لحصول ما هو أكره إليه والمعهود في بني آدم أن الإرادة الجارية لا يجب حصولها منهم إلا للذة التي يوجب فقدها ألما فمتى استلزم عدم اللذة بالعرض وقد يتعلق القصد الذاتي بالأمرين وقد يغيب بشعوره بأحدهما عن الآخر لاستيلاء سلطانه على الآخر أما إذا لم يكن أحدهم متألما بعدم اللذة ولكن في وجود الملتذ به زيادة لذة فقط وليس في فقده ألم فهذا ليس الواقع وجوب تعلق الإرادة به بل قد يريد ذلك وقد لا يريده استغناء بما عنده من اللذة عن تلك الزيادة فلا يجب فيه حصول الداعي التام وهذا أمر محسوس.

الوجه الثاني عشر والمائتان: إنا لو فرضنا في حقنا أنه يجب تحصيل المفروح به مع القدرة عليه فلم قلت إنه في حق الرب تعالى كذلك? وليس معك إلا مجرد القياس التمثيلي الذي يتضمن تمثيل الله بخلقه والقضية الكلية التي ادعيتها ممنوعة والعلم الضروري إذا سلم فإنما هو في حق المخلوق فأما في حق

ص: 1465

الخالق فيس هناك إلا مجرد القياس وهو منتقض بسائر الأمور الفارقة بين الله وبين خلقه ومن جملتها الإرادة والمحبة والرضى فإن الإنسان إذا أراد الفعل وهو قادر عليه وجب وجوده منه والله تعالى مريد لجميع الكائنات وهو قادر عليها ومع هذا فلا توجد إلا في مواقيتها لا توجد قبل ذلك والعبد يقع مراده حين قدرته عليه والله تعالى متأخر مراده مع دوام قدرته عليه.

الوجه الثالث عشر والمائتان: أن العبد إنما يجب مع قدرته وداعية حصول مراده ولذته لأنه يتضرر بعدم حصوله فإن كماله وصلاحه بحصول ما يحبه ويريده ويلتذ به وبعدمه يكون متضررا ناقصا والله سبحانه لا يلحقه الضرر بوجه ما.

الوجه الرابع عشر والمائتان: لم قلت بأن كل ما يحبه الرب سبحانه ويرضاه ويفرح به يمكن وجوده في وقت واحد? فإن ذلك قد يستلزم الجمع بين النقيضين فإن الحوادث المتعاقبة يستحيل اجتماعها في آن واحد فإذا كان يحب ما يمتنع حصوله كله في آن واحد كانت محبته ورضاه وفرحه به متعلقا به وقت وجوده

ص: 1466

وحصوله ووجوده قبل ذلك محال والمحال لاتتعلق به المحبة والفرح يوضحه.

الوجه الخامس عشروالمائتان: إنه سبحانه إذا كان يحب أمورا وتلك الأمور المحبوبة لها لوازم يمتنع وجودها بدونها كان وجود تلك الأمور مستلزما للوازمها التي لا توجد بدونها مثاله محبته للعفو والمغفرة والتوبة وهذه المحبوبات تستلزم وجود ما يعفو عنه ويغفره ويتوب إليه العبد منه ووجود الملزوم بدون لازمه محال فلا يمكن حصول محبوباته سبحانه من التوبة والمغفرة والعفو بدون الذي يتاب منه ويغفره ويعفو عن صاحبه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم" وهذا هو الذي وردت الأحاديث الصحيحة بالفرح به وهذا المفروح به يمتنع وجوده قبل الذنب فضلا عن أن يكون قديما فهذا المفروح به يحب تأخره قطعا ومثل هذا ما روي "أن آدم لما رأى

ص: 1467

بنيه ورأى تفاوتهم قال يا رب هلا سويت بين عبادك قال إني أحببت أن أشكر" ومعلوم أن محبته للشكر على ما فضل به بعضهم على بعض يوجب تفضيل بعضهم على بعض ولا يحصل ذلك مع التسوية بينهم فإن الجمع بين التسوية والتفضيل جمع بين النقيضين وذلك محال.

الوجه السادس عشر والمائتان: أن يقال اللذة التي هي الفرح والرضى والسرور ونحوها يجب وجودها من القادر إذا كان مستغنيا عنها بلذة أخرى أكمل منها أم مطلقا إن قلتم بالثاني فهو ممنوع وإن قلتم بالأول قيل فإن الله سبحانه مستغن عن أن يحدث كل ما يقدر عليه من هذه الأمور في وقت واحد بل إذا كان العبد مستغنيا عن فعل اهو من جنس اللذات مع قدرته على ذلك فالله أجل وأعظم فإن قال إذا كان غنيا عنها لم تكن لذة قيل غن صح هذا فهو حجة عليكم ومبطل لحجتكم.

الوجه السابع عشر والمائتان: أن يقال هو لا يحدثها إلا إذا أحبها ورضيها ونضمنت فرحه بها وحيث لا يكون ذلك لا تكون محبوبة ولا مرضية له ولا مفروحا بها فالأمور التي يحبها الله ويرضاها ويفرح بها لها صفات ومقادير تقتضي أن تكون محبوبة مرضية مفروحا بها في وقت دون وقت كما تقتضي أن يكون مراده في وقت دون وقت ما فإن قلت هذا يقتضي حلول الحوادث

ص: 1468

به قيل هذا لا يمتنع على أصول الطائفتين فمن قال بهذه المسألة من المتكلمين والصوفية والفقهاء وجمهور أهل الحديث وأكثر الفلاسفة لم يرد هذا عليه ومن منع ذلك فإنه يقول فيه ما يقوله في محبته ورضاه أنه قديم أزلي لم يزل محبا راضيا مواليا لمن أحبه ورضيه وولاه ولم يزل غضبان مبغضا لمن غضب عليه وأبغضه وعاداه ويقول إن المتجدد هو التعلق فقط وهذا قول ابن كلاب والأشعري ومن وافقه من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين.

الوجه الثامن عشر والمائتان: أن يقال لو صح ما ذكرته كان مستلزما أن لا يخلق الرب تعالى شيئا أو يخلق كل شيء قبل خلقه إياه وهو من جنس شبه الدهرية الفلاسفة في قدم العالم قالوا المقتضي لوجود العالم إن كان تاما في الأزل وجب وجوده وإن لم يكن تاما لزم أن لا يوجد وهذا منقوض بما يوجد من الحوادث اليومية ووجه الإلزام أن يقال لو صح عليه الخلق والإبداع والإرادة لكان إما خالقا لمراده في الأزل وهو محال وإما أن لا يخلقه في الأزل وهو محال لأنه ممكن مقدور وكل من صحت عليه الإرادة والخلق والإبداع إذا كان عالما بقدرته على تحصيل مراده وهو ممكن مقدور فإنه يكون كالملجأ إلى إيجاد مراده فإن قلت الإرادة من شأنها أن تخصص وتميز والله سبحانه أراد وجود كل شيء في وقته على صفة

ص: 1469

ومقدار وجعل لك شيء قدرا قلت هذا حق في نفسه ولكن هو حجة عليك لا لك فإنه سبحانه كما أراد وجود كل شيء في وقته على صفة ومقدار يختص به فهكذا محبته ورضاه لما يرضى به وفرحه بما يفرح به سواء.

الوجه التاسع عشر والمائتان: إنا متى رجعنا إلى الموجود فمتى علمنا أن أحدنا إذا كانت إرادته جازمة وقدرته تامة وجب وجود الفعل منه مقترنا بإرادته وقدرته ولا يتأخر الفعل إلا لعدم كمال القدرة أو لعدم كمال الإرادة وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه وهذا النافي لا ينازع في ذلك ويقر به ويقرره فإذا كان هذا حالنا فيما نريده ونقدر عليه فإذا كان الله عندك قادرا مريدا إرادة جازمة وجب وجود جميع مراده في الأزل وذلك محال ووجب أن لا يكون في الأزل لأنه متعاقب وهو محال لوجود القدرة التامة والإرادة الجازمة وما أفضى إلى المحال فهو محال فيلزم انتفاء القدرة والإرادة كما ذكرت في انتفاء المحبة والفرح والرضى الذي أدخلته في قسم اللذة سواء بسواء ومهما أجيب به عن هذا فهو بعينه جوابنا لك إن قلت إن إرادة الله لا تقاس بإرادة خلقه قيل لك وفرحه ورضاه لا يقاس بفرحهم ورضاهم وإن قلت إرادة الله تخصيص الأشياء بخواصها قيل لك هذا بعينه موجود في محبته ورضاه فإنه مستلزم للإرادة أو نوع منها وذلك مستلزم لما نفيته من لوازمه وهو للفلاسفة

ص: 1470

ألزم فإن كل كائن له ما يختص به صفة وقدرا وللحوادث أوقات يختص بها فذاته سبحانه إن كانت مقتضية لوجود كل موجود وجب وجود كل ممكن مقارنا لوجوده وإن لم تكن مقتضية للوجود لزم أن لا يوجد عنه شيء فإذا قالوا لا يمكن للأمر إلا كذا كان هذا جوابنا بعينه في هذا المقام.

الوجه العشرون والمائتان: إنهم فسروا في مسألة التحسين والتقبيح الحمد والذم بما يستلزم اللذة والألم كما فعل ابن الخطيب وغيره لما ناظروا القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين قال بعد مطالبته لهم بحقيقة المدح والذم فإن قيل فما حقيقة المدح والذم عندكم? قلنا المدح هو الإخبار عن كون الممدوح مستحقا لأن يفعل به ما يفرح به أو يلتذ به والذم هو الإخبار عن كونه مستحقا لأن يفعل به ما يحزن به قال ولكن إذا فسرنا مستحق المدح والذم بذلك استحال تصوره في حق الله لاستحالة الفرح والغم عليه قال وقد حكينا أن توجه هذا السؤال ابتداء على سبيل المطالبة من غير التزام لنقسيم خاص فنقول معنى الاتضاع والاتفاع الأمر الذي يسوءه ويحزن به

ص: 1471

والذي يسره ويفرح به أو أمر آخر وراء ذلك فإن كان الأول لم يتقرر معناه في حق الله تعالى لاستحالة الفرح والحزن عليه وإن كان الثاني فبينوه فإنا بعد الإنصاف جربنا أنفسنا فلم نجد للمدح والذم حاصلا وراء الفعل المؤدي إلى الفرح والحزن فليتدبر العاقل هذا الكلام حتى التدبر وما يلزم منه فإنه إذا كان حقيقة المدح هو الخبر الذي يتضمن فرح الممدوح ولذته والذم حبر يتضمن ألم المذموم فلا يتصور مدح ولا ذم عنده إلا مع اللذة والألم وقد علم بالاضطرار من دين المسلمين كلهم بل ومن دين جميع الرسل أن الله سبحانه يحمد ويمدح ويثنى عليه وأنه يحب ذلك ويرضاه ويأمر به بل حمده والثناء عليه من أعظم الطاعات وأجل القربات.

وفي المسند من حديث الأسود بن سريع قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إني قد حمدت ربي تبارك وتعالى بمحامد ومدح وإياك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إن ربك تعالى يحب المدح هات ما امتدحت به ربك فقال فجعلت أنشده" وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود قال

ص: 1472

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أحد أغير من الله ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من الله ولذلك مدح نفسه" ولمسلم "وليس أحد أحب إليه العذر من الله ولذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب ومن محبته سبحانه الثناء عليه صدق المثني عليه بأوصاف كماله" كما في النسائي والترمذي وابن ماجة من حديث الأغر أبي مسلم أنه شهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قال العبد لا إله إلا الله والله أكبر قال يقول تبارك وتعالى لا إله إلا أنا وأنا الله أكبر وإذا قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له قال صدق عبدي لا إله إلا أنا ولا شريك لي وإذا قال

ص: 1473

ولا إله إلا الله له الملك وله الحمد قال صدق عبدي لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد وإذا قال لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله قال صدق عبدي لا إله إلا أنا ولا حول ولا قوة إلا بي" فمن محبته للثناء عليه صسدق المثني عليه ووافقه في ثنائه عليه.

ونظير هذا ما في الصحيح من حديث أبي هريرة عنه "يقول الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله حمدني عبدي فإذا قال {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله أثنى علي عبدي فإذا قال {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله مجدني عبدي فإذا قال {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال هذه بيني وبين عبدي فإذا قال {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل".

ولما كان حمده والثناء عليه وتمجيده هو مقصود الصلاة التي هي عماد اإسلام ورأس الطاعات شرع في أولها ووسططها وآخرها وجميع أركانها ففي دعاء الاستفتاح يحمد

ص: 1474

ويثنى عليه ويمجد وفي ركن القراءة يحمد ويثنى عليه ويمجد وفي الركوع يثنى عليه بالتسبيح والتعظيم وبعد رفع الرأس منه يحمد ويثنى عليه ويمجد كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد" وفي السجود يثنى عليه بالتسبيح المتضمن لكماله المقدس والعلو المتضمن لمباينته لخلقه وفي التشهد يثنى عليه بأطيب الثناء من التحيات ويختم ذلك بذكر حمده ومجده.

فصل

ومن محبته للثناء عليه شرعه للداعي قبل سؤاله ودعائه ليكون وسيلة له بين يدي حاجته كالمتقرب إلى المسؤول بما يحبه ويسأله بين يدي مطلوبه كما في السنن والمسند من

ص: 1475

حديث فضالة بن عبيد قال جاء رجل فصلى فقال اللهم اغفر لي وارحمني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عجلت أيها المصلي إذا صليت ففرغت فاحمد الله ما هو أهله ثم صل على النبي ثم ادعه" قال ثم صلى رجل آخر بعد ذلك " فحمد الله وصلى على النبي فقال له النبي أيها المصلي ادع تجب" وفي السنن عن ابن مسعود قال كنت أصلي فلما جلست بدأت بالثناء على الله ثم الصلاة على النبي ثم دعوت لنفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سل تعطه سل تعطه".

وهكذا في أحاديث الشفاعة الثابتة في الصحاح لما يأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشفع لهم فقال: "فأقول أنا لها فأستأذن على ربي فيؤذن لي فيلهمني محامد فأحمده بها لا تحضرني الآن فأحمده بتلك المحامد وأخر له ساجدا فيقول يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع" وفي لفظ فأثني على ربي بثناء وتمجيد يعلمنيه فمن محبته سبحانه للثناء عليه ألهم رسوله منه في ذلك المقام ما يكون وسيلة بين يدي شفاعته.

ص: 1476

وفي الصحيح عنه أنه كان يقول في سجوده: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك". وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك وعد الجنة" وقد تقدم ذلك من حديث ابن مسعود وفي الدعاء المأثور " اللهم لك الحمد حمدا يشرق له وجهك " وفي الأثر الآخر " اللهم لك الحمد حتى ترضى" وفي الحديث الآخر " سبحان الله عدد خلقه ورضى نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته" أي تسبيح يبلغ رضى نفسه.

ص: 1477

فصل

ومن محبته لحمده والثناء عليه أنه جعل حمده مفتاح كل كلام ذي بال وخاتمة كل أمر وافتتح كتابه بحمده ختم آخره بحمده وافتتح خلقه بحمده وجعل حمده خاتمة الفصل بينهم فقال تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر1] وقال {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام1] وقال {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر75] فافتتح خلقه وأمره بحمده وختمهما بحمده.

وفي المسند والسنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم" ولهذا كانت سنة المسلمين في

ص: 1478

صلاتهم وخطبهم كلها افتتاحها بالحمد حتى خطبة الحاجة ولقد كان أول من يدعى إلى الجنة الحامدون والنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة بيده لواء الحمد وآدم ومن دونه تحت ذلك اللواء فخص اللواء بالحمد لأنه أحب شيء إلى الله واشتق لأحب خلقه إليه وألزمهم عليه من الحمد اسمين يتضمنان كثرة حمده وفضله وهما محمد وأحمد وسمى أمته الحامدين وأخبر النبي أن أفضل الدعاء الحمد.

ص: 1479

فصل

ومن محبته للثناء عليه بأوصاف كماله ونعوت جلاله أنه أمر من ذكره بما لم يأمر به في غيره فقال تعالى {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الجمعة10] فعلق الفلاح بكثرة ذكره وقال {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران191] فعم بذكره أحوال العباد كلها لأن العبد إما أن يكون قائما أو قاعدا أو مضطجعا فأراد منه ذكره في هذه الأحوال كلها وأخبر أنه من ألهاه ماله وولده عن ذكره فهو خاسر فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون9] وأمر بذكره في أعظم المواطن التي يذهل الإنسان فيها عن نفسه وهي حاله عند ملاقاة عدوه فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال45] وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه

ص: 1480

وسلم أنه قال: "إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه". وجعل سبحانه ذكره سببا لصلاته على عبده وذكره له فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب 41 ، 43] وقال تعالى {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة 152] وجعل ترك ذكره والثناء عليه سببا لنسيانه لعبده وإنسائه نفسه فلا يلهمه مصالحه ولا يوفقه لإرادتها وطلبها فقال تعالى {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة 67] وقال تعالة {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر 19] فلما نسوا ذكره والثناء عليه وتحميده وتمجيده نسيهم من رحمته وأنساهم مصالح نفوسهم فلم يعرفوها ولم يطلبوها بل تركوها مهملة معطلة مع نقصها وعيوبها.

ص: 1481

فصل

ومن محبته للثناء عليه وتحميده وتمجيده أنه وعد عليه بما لم يعد به على غيره كما في الصحيح من حديث أبي هريرة عن النبي أنه قال: "من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مجالس الذكر رياض الجنة كما في السنن والمسند من حديث جابر قال خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس إن لله سرايا من الملائكة تحل وتقف على مجالس الذكر في الأرض فارتعوا في رياض الجنة قالوا وأين رياض الجنة? قال مجالس الذكر فاغدوا وروحوا في ذكر الله وذكروه أنفسكم من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده فإن الله ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه"

ص: 1482

وفي الترمذي وصحيح الحاكم عن عبد الله بن بسر أن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأنبئني بشيء أتشبث به فقال: "لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله". وفي السنن وصحيح الحاكم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبق المفردون قالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما المفردون? قال الذين يهمزون في ذكر الله" وفي لفظ " وضع الذكر عنهم أثقالهم فوردوا القيامة خفافا".

ص: 1483

وفيهما عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه" وفيهما عنه أيضا "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخيرا لكم من إعطاء الذهب والورق وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا وما ذاك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم?قال ذكر الله" وقال معاذ بن جبل ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله وفيهما أيضا من

ص: 1484

حديث النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذين يذكرون من جلال الله التحميد والتسبيح والتكبير والتهليل ينعطفن حول عرش الرحمن لهن دوي كدوي النحل يذكرن بصاحبهن أفلا يحب أحدكم أن يكون له عند الرحمن شيء يذكر به" وفي صحيح الحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قال في يوم مائة مرة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لم يسبقه أحد كان قبله ولا يدركه أحد كان بعده إلا من عمل عملا أفضل من عمله".

ص: 1485

وفيه أيضا عن خالد أن النبي قال: "من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة" وفي الترمذي وصحيح الحاكم أيضا عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما على الأرض رجل يقول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله إلا كفرت عنه ذنوبه وإن كانت أكثر من زبد البحر" وفي صحيح الحاكم أيضا عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله أنا عند ظن عبدي بي وأنا

ص: 1486

معك إذا ذكرتني وفي صحيح الحاكم ابن حبان عن أنس قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حلقة ورجل قائم يصلي فلما ركع وسجد تشهد ودعا فقال اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى" وفيهما أيضا عن بريدة أن النبي سمع رجلا يقول اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب" فأخبر أن هذا هو الاسم الأعظم لما تضمنه من الحمد والثناء والمجد والتوحيد ولمحبة الرب تعالى لذلك أجاب من دعا به وهذا باب يطول تتبعه جدا.

والمقصود أنه إذا كان لا معنى للمدح إلا الإخبار المتضمن فرح الممدوح وليس أحد أحب إليه المدح من الله وحمده والثناء عليه وذلك عنده بالمنزلة التي لا يمكن وصفها ولا يحيط بها البشر كان المنكر لفرحه وما يستلزمه فرحه منكر لحقيقة حمده ومدحه والثناء عليه وتمجيده وحينئذ فنقول في

ص: 1487

الوجه الحادي والعشرين والمائتان: إن هؤلاء الجهمية يقرون بظاهر من القول وينكرون حقيقته ويصدون عن سبيل الله ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل وينفرون من أحب الأشياء إلى الله وأكرمها عليه وأعظمها عنده وهو ذكره بأسمائه وصفات كماله ونعوت جلاله والثناء عليه ومدحه بها وحمده عليها بل يكفرون من يثني عليه بها وينسبونه إلى التشبيه والتجسيم ويستحلون منه مالا يستحله المحاربون من أعدائهم وذلك عين العداوة لله ولرسوله كما قال الإمام أحمد حدثنا إبراهيم بن إسحاق أنا ابن المبارك عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال ما عادى عبد ربه أشد عليه من أن يكره ذكره وذكر من يذكره ومن المعلوم أن ذكره سبحانه إنما يتم بإثبات حقائق أسمائه وصفات كماله ونعوت جلاله لا بألفاظ مجردة لا حقيقة لها.

فهؤلاء المعطلة النفاة أبعد شيء عن حقيقة ذكر الله كما هم أبعد شيء عن محبته كما أقروا بذلك على أنفسهم من أنه لا يحبه أحد ولا يحب أحدا فهم لا يحبونه ولا يذكرونه وإن ذكروه فإنما يذكرونه بالسلب والعدم الذي هو أنقص النقص وإن أحبوه فإنما يحبون ثوابه المنفصل لا ذاته ولا صفاته ولا يثبتون ألذ ما في الجنة وأطيب ما فيها وأعظم نعيمها وهو النظر إلى وجهه وسماع كلامه فهم

ص: 1488

عمدوا إلى لب الدين وقلبه فنبذوه وأبطلوه ووقفوا في طريق الرسل وعارضوهم في دعوتهم وبيانه

بالوجه الثاني والعشرين والمائتان: وهو أن دعون الرسل تدور على ثلاثة أمور: تعريف الرب المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله.

الأصل الثاني: معرفة الطريق الموصلة إليه وهي ذكره وشكره وعبادته التي تجمع كمال حبه وكمال الذل له.

الأصل الثالث: تعريفهم ما لهم بعد الوصول إليه في دار كرامته من النعيم الذي أفضله وأجله رضاه عنهم وتجليه لهم ورؤيتهم وجهه الأعلى وسلامه عليهم وتكليمه إياهم ومحاضرتهم في مجالسهم.

فيثبت الأصل الأول بذكر أوصاف الرب تعالى ونعوت جلاله على التفصيل وإثبات حقائق أسمائه على وجه التفصيل ونفوا عنه ما يتضمن هذا الإثبات ويستلزمه كالنسيان واللغوب والظلم والسنة والنوم والمثل والكفوء والند والصاحبة والولد والسمي والجهمية عكسوا الأمر فسلبوا صفاته على التفصيل وأثبتوا له ما يتضمن نفي ذاته وصفاته.

وأما الأصل الثاني فإن الرسل أمرت الأمم بإدامة ذكره وشكره وحسن عبادته فصدت النفاة القلوب والألسنة عن

ص: 1489

ذكره بإنكار صفاته وهم في الحقيقة لا يشكرونه لأن الشكر إنما يكون على الأفعال وعندهم لا يقوم به فعل لأنه يستلزم حلول الحوادث به فلا يشكر على فعل يقوم به وإن شكروه فإنما يشكرونه على مفعولاته وهي منفصلة عنه فلم يشكر على أمر يقوم به عندهم.

وأيضا فإن رأس الشكر الثناء والحمد وقد اعترفوا بأنه لا حقيقة له إلا ما يقتضي فرح المحمود المثنى عليه وذلك في حقه محال عندهم كما تقدم حكاية لفظهم.

وكذلك هم منكرون لحقيقة عبادته وإن قاموا بصورها وظواهرها فإن حقيقة العبودية كمال محبته وكمال الذل له وهم قد أقروا بأنه لا يحبه أحد ولا يمكن أن يحب واحتجوا على ذلك بأن المحبة تستلزم المناسبة بين المحب والمحبوب ولا مناسبة بين الخالق والمخلوق وهذا إنكار لحقيقة لا إله إلا الله فأن الإله هو المألوه المستحق لغاية الحب بغاية التعظيم فنفوا هذا المعنى بتسميته مناسبة كما نفوا محبته ورضاه وفرحه وغضبه وسخطه وكرامته ورأفته ورحمته وضحكه وتعجبه بتسميتها كيفيان محسوسة ونفوا حياته وسمعه وبصره وقدرته وكلامه وعلمه بتسميتها أعراضا ونفوا أفعاله بتسميتها حوادث ونفوا علوه على خلقه

ص: 1490

واستوائه على عرشه والمعراج برسوله إليه بتسمية ذلك تجسيما وتركيبا.

وأما الأصل الثالث: وهو تعريف الأمم حالهم بعد الوصول إليه فإنهم أنكروا أجل ما فيه وأشرفه وأفضله وهو رؤية وجهه وسماع كلامه وإنما أثبتوا أمورا منفصلة يتنعم بها من الأكل والشرب والنكاح ونحوها ومما يوضح ذلك

الوجه الثالث والعشرون والمائتان: وهو ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذر قال: قيل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه قال تلك عاجل بشرى المؤمن" فأخبر أن حمد الناس للمؤمن بشارة معجلة في الدنيا كالرؤية الصالحة كما في الصحيح عن

ص: 1491

عبادة بن الصامت أنه سأل النبي عن قوله تعالى {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس 64] قال هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له فجعل حمد الناس له في اليقظة والرؤيا الصالحة في المنام بشارة له في الدنيا والبشارة نوع من الخبر وهو الخبر بما يسر فالحمد هو الخبر بما يسر المحمود ويفرحه فإنكار فرحه ولوازم فرحه إنكار للحمد في الحقيقة.

وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي لما بعثه ومعاذا إلى اليمن قال لهما: " بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا" وعند مسلم كان

ص: 1492

إذا بعث أحدا من الصحابة قال بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا وذلك أن الكلام نوعان إنشاء وإخبار فأمرهم في الإإخبار ألأن يبشروا ولا ينفروا وفي الإنشاء أن ييسروا ولا يعسروا فمن جعل المحمود والممدوح يحمد ويمدح بما لا يحبه ولا يفرح به فقد عطل حقيقة حمده ومدحه التي تعطيلها تعطيل لحقيقة الدين ومما يوضح ذلك

الوجه الرابع والعشرون والمائتان: وهو أن الحسن والقبح سواء عرف بالشرع أو بالعقل إنما يعود إلى الملائم والمنافي.

والملائم يعود إلى الفرح ولوازمه والمنافي يعود إلى الغضب ولوازمه والمثبتون للحسن والقبح العقليين رأوا ما يعلمه العبد بضرورته وفطرته من حسن بعض الأعمال وقبح بعضها وأن ذلك من لوازم الفطرة فأثبتوه ولكن أخطأوا في موضعين.

أحدهما قياس الخالق على المخلوق في ذلك وأن ما حسن وقبح منهم حسن وقبح منه وكذلك كانوا مشبهة لأفعال معطلة الصفات.

الموضع الثاني: نفيهم لوازم ذلك من الفرح والرضى والمحبة وتسميتهم ذلك لذة وألما وكيفيات نفسانية.

وأما النفاة فأصابوا في الفرق بين الله وبين الخلق وأن لا يقاس بخلقه ولا يلزم أن ما حسن وقبح منهم يقبح

ص: 1493

ويحسن منه وأصابت أيسضا في رد ذلك إلى الملائمة والمنافرة وأخطأت في موضعين: أحدهما سلب الأفعال صفاتها التي باعتبارها كانت حسنة وقبيحة وجعلهم ذلك مجرد نسب وإضافات عدمية.

والموضع الثاني نفيهم لوازم ذلك عن الرب تعالى من محبته ورضاه وفرحه وغضبه وسخطه وكراهته ومقته بتسميتها ذلك لذة وألما والفريقان جميا لم يهتدوا في تحقيق المسألة إلى أن كل حسن وقبح ثبت بشرع أو عقل أو عرف أو فطرة فإنما يعود إلى الملائمة والمنافرة ولم يهتدوا أيضا إلى ثبوت الحسن في أفعال الله بمعنى محبته ورضاه وفرحه وأنه لا يفعل إلا ما يمدح على فعله ويحمد عليه وحمده ومدحه خبر بما يرضى به ويفرح به ويحبه وأنه منزه عن أن يفعل ما يذم عليه والذم هو الخبر المتضمن لما يؤذي المذموم ويؤلمه وإن كان أعداؤه من المشركين يؤذونه ويشتمونه كما في الحديث الصحيح لا أحد أصبر على أذى من الله يجعلون له ولدا وشريكا وهو يعافيهم ويرزقهم في الصحيح أيضا يقول الله شتمني عبدي ابن آدم وما ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك فأما شتمه إياي فزعم أني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته ومن ذلك قول أعدائه إنه فقير وإن يده مغلولة وإنه اتخذ صاحبة

ص: 1494

وولدا تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا وحينئذ فنقول في

الوجه الخامس والعشرين والمائتان: إنه سبحانه كما يبغض هذا الإفك والباطل الذي قاله فيه أعداؤه ويشتد غضبه منه ويؤذيه ذلك إذ لا ينقصه كما أخبر به عن نفسه بقوله "يؤذيني ابن آدم" فهو سبحانه يفرح بثناء المثني عليه بأوصاف كماله ونعوت جلاله أعظم فرح ويرضى به ويحبه وإذا كان يفرح بتوبة التائب أعظم فرح يقدر فكيف فرحه سبحانه بالثناء عليه وحمده ومدحه وتمجيده بما يصفه به أعداؤه مما لا يليق بكماله مما يتضمن فرحه ومحبته ورضاه أعظم من ذلك فإن محبته تغلب غضبه وفضله أوسع من عدله وهو سبحانه كما أنه موصوف بكل كمال فهو منزه عن كل نقص وعيب فكما أنه موصوف في أفعاله بكل حمد وحكمة وغاية محمودة فهو منزه فيها عن كل عيب وظلم وقبيح وبهذا استحق أن يكون محمودا على كل حال وأن يكون محمودا على المكاره كما هو محمود على المحاب كما في صحيح الحاكم وغيره من حديث عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الأمر يسره قال: "الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات" وإذا أتاه الأمر يكرهه قال: "الحمد لله على كل حال". واللفظ العام إذا ورد على سبب وجب دخول السبب فيه

ص: 1495

فيوجب هذا الحمد أنه محمود على هذا الأمر المكروه لأنه حسن منه وحكمة وصواب فيستحق أن يحمد عليه وممايوضح ذلك

الوجه السادس والعشرون والمائتان: وهو أن النبي جمع بين محبة الرب سبحانه للمدح ومحبته للعذر كما في حديث المغيرة بن شعبة "لا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين ولا أحد أحب إليه المدحة من الله من أجل ذلك وعد الجنة" وكذلك جمع بينهما في حديث ابن مسعود فهو سبحانه شديد المحبة لأن يحمد وأن يعذر ومن محبته للعذر إرسال رسله وإنزال كتبه ومن محبته للحمد ثناؤه على نفسه فهو يحب أن يعذر على عقاب المجرمين المخالفين لكتبه ورسله ولا يلام على ذلك ولا يذم عليه ولا ينسب فيه إلى جور ولا ظلم كما يحب أن يحمد على إحسانه وإنعامه وأياديه عند أوليائه وأهل كرامته وحمده متضمن هذا وهذا فهو محمود على عدله في أعدائه وإحسانه إلى أوليائه كما قال تعالى {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر75] فأخبر عن حمد الكون أجمعه له عقيب قضائه بالحق بين الخلائق وإدخال هؤلاء إلى جنته وهؤلاء إلى ناره وحذف

ص: 1496

فاعل الحمد إرادة لعمومه وإطلاقه حتى لا يسمع إلا حامد له من أوليائه وأعدائه كما قال الحسن البصري لقد دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه حجة ولا سبيلا وهو سبحانه قد أعذر إلى عباده وأقام عليهم الحجة وجمع صلى الله عليه وسلم في الحديث بين ما يحبه ويبغضه فإنه قال فيه: "لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وما أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه" فإن الغيرة تتضمن البغض والكراهة فأخبر أنه لا أحد أغير منه وأن من غيرته حرم الفواحش ولا أحد أحب إليه المدحة منه والغيرة عند المعطلة النفاة من الكيفيات النفسية كالحياء والفرح والغضب والسخط والمقت والكراهية فيستحيل وصفه عندهم بذلك ومعلوم أن هذه الصفات من صفات الكمال المحمودة عقلا وشرعا وعرفا وفطرة وأضدادها مذمومة عقلا وشرعا وعرفا وفطرة فإن الذي لا يغار بل تستوي عنده الفاحشة وتركها مذموم غاية الذم مستحق للذم القبيح وهؤلاء المعطلة النفاة لحقيقة محبته ورضاه وغضبه عندهم الأمران سواء بالنسبة إليه وأن ما وجد من ذلك فهو يحبه ويرضاه وما لم يوجد من طاعاته وامتثال أوامره فهو يبغضه ويسخطه بناء على أصلهم الفاسد أن

ص: 1497

المحبة هي عين الإرادة والمشيئة فكل ما شاءه فقد أحبه ورضيه وإذا جاء هؤلاء إلى النصوص الدالة علىلا أنه لا يرضى بها ولا يحبها ولا يريدها ألوها بميعنى أنه لا يشرعها ولا يأمر بها ولا يحبها ولا يرضاها دينا وهو التأويل الأول بتغيير العبارة وحينئذ فنقول في

الوجه السابع والعشرين والمائتان: إنه سبحانه عما يقول الجاهلون به إذا كان لا يفرح ولا يرضى بمدحه وحمده الثناء عليه ولا يغضب ولا يسخط ويبغض شتمه وما قال فيه أعداؤه بل نسبة الأمرين إلى ذاته وصفاته بنسبة واحدة إذ لو حصل فيه سبحانه فرح ورضى ومحبة من ذلك وغضب وسخط وكراهة من هذا للحقته الكيفيات النفسية كان لا فرق عنده بين الحسن والقبيح والمدح والذم وهذا غاية النقص والعيب شرعا وعقلا وفطرة وعادة ومن كلام الشافعي من استرضي ولم يرض فهو جبار ومن استغضب ولم يغضب فهو حمار وهذا يدل على موت القلب وبطلان الحسن وفقد الحياة ولهذا كان أكمل الناس حياة أشدهم حياء وكان

ص: 1498

رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها لكمال حياة قلبه والله سبحانه الحي القيوم وقد وصف نفسه بالحياء ووصفه سوله فهو الحيي الكريم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا" وقالت أم سليم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لا يستحي من الحق وأقرها على ذلك وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن".

ص: 1499

والحياء عند هؤلاء من الكيفايات النفسانية فلا يجوز عندهم وصف القديم بها ولمقصود أنه كلما كانت صفات الكمال في الحي كان فرحه ومحبته ورضاه وغضبه ومقته أكمل ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غضب لم يقم لغضبه شيء وفي الأثر إن موسى كان إذا غضب اشتعلت قلنسوته وكان أشد بني إسرائيل حياء حتى أنه لا يغتسل إلا وحده من شدة حيائه.

وذا كانت هذه صفات كمال فلا يجوز سلبها عمن هو أحق بالكمال المطلق من كل أحد بمجرد تسميتها كيفيات نفسية وأعراضا وانفعالات ونحو ذلك فإن هذا من اللبس والتلبيس وتسمية المعاني الصحيحةالثابتة بالأسماء القبيحة المنفرة وتلك طريقة للنفاة مألوفة وسجية معروفة وإذا عرف هذا تبين أن هؤلاء المعطلة النفاة أضاعوا

ص: 1500

حق الله الذي يستحقه لنفسه والذي بعث به رسله وأنزل به كتبه والذي هو أصل دينه ومنتهى عبادته بما هم متناقضون فيه.

وقد سبق لك أنهم معترفون بما فطر الله عليه خلقه أن المدح يتضمن فرح الممدوح ولوازمه ولهذا لزمهم القول بخلاف ما يعلم بالضرورة من دين الرسل من أولهم إلى آخرهم إن الله لا يفرح بمدحه وحمده وتمجيده والثناء عليه ولا يرضى نفسه بذلك ولا يكون محبوبا له على الحقيقة وهذا هم معترفون به لا يتحاشون منه ولا يستكنفون من إطلاقه وإنما العجب تصريحهم بأنه لا يمدح بمدح والمدح هو أصل الثناء والحمد.

وقد صرحوا باستحالة ذلك في حقه كما قالوا المدح هو الإخبار عن كونه مستحقا لأن يفعل به ما يفرح به ويلتذ به والذم هو الإخبار عن كونه مستحقا لأن يفعل به ما يحزن به ويتألم به قالوا وإذا فسرنا المدح والذم بذلك استحال تصورهما في حق الله تعالى لاستحالة الفرح والغم عليه وقد أبطل فأضلهم طرق الناس وعول على هذه الطريقة كما تقدم حكاية لفظه وهذا اعتراف منه

ص: 1501

بأنه ليس للمدح والذم حاصل إلا ما لا يتصور في حق الله فلا يتصور عنده أن يكون الله محمودا ممدوحا بحال ومعلوم أن فساد هذا في دين الرسل كلهم وجميع فطر بني آدم من أوضح الواضحات وحينئذ فنقول في

الوجه الثامن والعشرين والمائتان: قولكم إن المدح يستحيل تصوره في حق الله من أوضح الكفر وأقبح المعاداة لله والمناقضة لكتبه ورسله واستدلالكم على ذلك بأن الفرح يستحيل عليه أبطل وأبطل بل قد علم بالاضطرار عقلا وفطرة وشرعا أن المستحق لغاية المدح الكامل المطلق هو الرب سبحانه فهذا أحق الحق ولازمه حق فإنه لا يلزم من الأحق إلا حق فإن كان الفرح لازما لهذا المدح فهو حق وقد أثبته له سبحانه أعلم خلقه وأعرفهم وبصفاته وما يجب له ويمتنع عليه وقرب فرحه سبحانه إلى الأذهان بما هو أعظم من أنواع الفرح وهو فرحه بتوبة التائب إليه فكيف بما هو أعظم من ذلك من حمد الحامدين له ومدحهم له وثنائهم عليه فإذا كان المدح مستلزما للفرح وقد علم أنه يستحق المدح أجمع علم أنه يفرح بمدحه وإثبات الملزوم ونفي لازمه محال ولهذا لما تفطن هؤلاء لذلك علموا أنه لا يمكن إثبات الملزوم ونفي لازمه صرحوا بنفي اللازم والملزوم وقالوا يستحيل ثبوت المدح والفرح في حقه فنقول في

ص: 1502

الوجه التاسع والعشرين والمائتان: إنه من المعلوم أن كونه سبحانه يستحق المدح والمحامد أبين في الشرع والعقل والفطرة من كونه لا يفرح والواجب أن يستدل بالمعلوم على المجهول وبالواضح على الخفي أما أن يستدل بانتفاء الفرح على انتفاء كونه مستحقا للمدح فهذا من أبطل الباطل وهو خروج عن مقتضى السمع والعقل وهو من فعل أهل التلبيس والتدليس وإذا تبين ذلك عرف أن هؤلاء الجهمية المعطلة الذي يذكرون ما وصف الله به نفسه من الرضى والفرح يلزم لزوما بينا أن يجحدوا حمده سبحانه ومدحه والثناء عليه واستحقاقه لذلك بموجب هذه القضية الكاذبة الباطلة التي قرروها وهذا شأن جميع قضاياهم الكاذبة التي تتضمن تعطيل ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله فإنها تستلزم إثبات الباطل وإبطال الحق ويأبى الله إلا أن يقيم لدينه من يذب عنه والحمد لله رب العالمين.

الوجه الثلاثون والمائتان: أن يقال قولكم إن المدح والذم لا معنى لهما إلا بمجرد الخبر عن استحقاق ما يفرح ويؤلم ليس كذلك والتحقيق أن فيهما معنى زائدا على الخبر المجرد سواء دل اللفظ على ذلك المعنى الزائد بالتضمن أو باللزوم فإن الحامد المادح يقترن بحمده ومدحه محبة المحمود والرضى عنه وتعظيمه وكذلك

ص: 1503

الذام يقترن بذمه بغض المذموم وتنقصه وقلاه ولهذا فسر كثير من الناس الحمد بالرضى واختاره الآمدي في ابكاره وغيره فالآمدي فسره بالرضى وهو من باب الإرادات والرازي فسره بالخبر وهو من باب الاعتقادات والتحقيق أن الحمد والذم يتمضن الأمرين جميعا فالمادح يعتقد أن في الممدوح والمحمود ما يحبه ويرضى به ويفرح به ويكون مع هذا الاعتقاد والخبر في قلبه من محبته والرضا به والفرح ما استحق به أن يكون حامدا له ومادحا وهذا أمر يجده الحامد المادح من نفسه إذا كان مادحا بحق وصدق بخلاف المدح بالباطل فإنه كذب لا يستلزم شيئا من ذلك فالمدح والحمد أصلهما الخبر ويتبعه الحب والرضا والذم أصله الخبر ويتبعه البغض والسخط والصلاة على من يصلى عليه أصلها الطلب والإرادة ويتبعها الخبر ولعنة من يلعن أصلها طلب إهانته وإقصائه ويتبعها الخبر وهذان النوعان من الخبر وهما الإخبار عن الشيء بالخبر السيء وطلب السوء له والإخبار عنه بالخبر الحسن وطلب الخير له الأول أصل اللعن والثاني أصل الصلاة وهو سبحانه يلعن أعداءه ومن يفعل ما يبغضه ويسخطه ويصلي على أوليائه وأهل طاعته وذكره وفي صحيح مسلم

ص: 1504

عنه صلى الله عليه وسلم: "لا يكون الطعانون واللعانون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة" فإن الشهادة من باب الخبر والشفاعة من باب الطلب ومن يكون كثير الطعن على الناس وهو الشهادة عليهم بالسوء وكثير اللعن لهم وهو طلب السوء لهم لا يكون شهيدا عليهم ولا شفيعا لهم لأن الشهادة مبناها على الصدق وذلك لا يكون فيمن يكثر الطعن فيهم ولا سيما فيمن هو أولى بالله ورسوله منه والشفاعة مبناها على الرحمة وطلب الخير وذلك لا يكون ممن يكثر اللعن لهم ويترك الصلاة عليهم ومن أعظم أسباب سعادة العبد أن يكون موافقا لربه سبحانه في صلاته على من صلى عليه ولعنته لمن لعنه كما في مسند الإمام أحمد وصحيح الحاكم من حديث زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه وأمره أن يتعاهد أهله في كل صباح لبيك اللهم لبيك وسعديك والخير في يديك ومنك وإليك اللهم فما قلت من قول أو حلفت من حلف أو نذرت من نذر فمشيئتك بين يدي ذلك كله ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن ولا حول ولا قوة إلا بك إنك على كل شيء قدير اللهم ما صليت من صلاة فعلى من صليت وما لعنت من لعنة فعلى من لعنت أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ولذة

ص: 1505

النظر إلى وجهك وشوقا إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة وأعوذ بك فأن أظلم أو أظلم أو أعتدي أو يعتدى علي أو أكسب خطيئة أو ذنبا لا تغفره اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ذا الجلال والإكرام فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا وأشهدك وكفى بك شهيدا أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك لك الملك ولك الحمد وأنت على كل شيء قدير وأشهد أن محمدا عبدك ورسولك وأشهد أن وعدك حق ولقاءك حق والساعة آتية لا ريب فيها وأنك تبعث من في القبور وأنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضعف وعورة وذنب وخطيئة وإني لا أثق إلا برحمتك فاغفر لي ذنوبي كلها إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وتب علي إنك أنت التواب الرحيم" فهذه ثلاثون وجها مضافة إلى المائتين فصارت مائتين وثلاثين وجها تبطل معارضتهم للنصوص بالتوهمات والظنون الكاذبة التي يسمونها عقليات.

الوجه الحادي والثلاثون بعد المائتين: أن نقول إذا عارضتم بين المعقول والمنقول فإما أن تكذبوا المنقول وإما أن تصدقوه فإن كذبتموه ألحقتم بأعداء الرسل المكذبين لهم وانسلختم من العقل والدين كانسلاخ الشعرة من العجين وإن صدقتم المنقول فإما أن تعتقدوا أن له معنى أو تقولوا لا معنى له ولا يمكنكم أن تقولوا بالثاني إذ تستحيل المعارضة على هذا التقدير وتبطل المسألة التي

ص: 1506

أصلتموها من أصلها وإن قلتم بل للمنقول معان قصدها المتكلم وأراد من العباد اعتقادها والإقرار بها فإما أن يدل اللفظ عليها أو لا يدل فإن لم يدل اللفظ عليها كان ذلك متضمنا للمحال والعبث والقدح في الرب تعالى ورسله وكلامه من وجوه متعددة فكيف إليهم أن يخاطبهم بكلام يريد منهم أن يفهموا منه مالا يدل عليه بوجه ما وهو سبحانه قد أكذب هذا الظن الكاذب الجائر بقوله {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم4] وقوله {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت44] فخطابهم بذلك من جنس خطاب كل أمة بلغة لا تفهمها البتة بل أبعد منه لأنها يمكنها التوصل إلى معرفة المراد بهذا الخطاب بالترجمة كما يترجم التراجم بين الرسل والملوك وأما الخطاب بما لا يدل على المعنى المراد بوجه في لغة من اللغات وإرادة اعتقاد ذلك المعنى منه فلا يفعله عاقل ويصان عنه عقلاء البشر فضلا عن أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأعدل العادلين وهذا لو كان المراد منه معاني لا يناقضها الكلام ولا يدل عليها بنفي ولا إثبات فكيف إذا كان الكلام المخاطب به له معان تناقض تلك المعاني التي أراد منهم فهمها ومخالفتها فهذا أبلغ في

ص: 1507

الإحالة وإن قلتم بل له معان ظاهرة مفهومة أراد من العباد اعتقادها والإقرار بها فإما أن تقولوا هي في نفسها حق مطابق للواقع أو تقولوا ليس لها وجود بل هي منتفية في نفس الأمر فإن قلتم بالأول صدقتم ورجعتم إلى موجب العقل والنقل وإن قلتم بالثاني لزمكم أن يكون الله ورسوله أراد من العباد اعتقاد الباطل والضلال والتشبيه والتجسيم وهذا غاية المشقة والقدح في الحكمة والرحمة وإن قلتم له معان ظاهرة مفهومة أراد من العباد نفيها وإنكارها وعدم اعتقادها وهذا هو حقيقة قولكم لزمكم نسبة الله ورسوله إلى ما لا يليق بآحاد العقلاء فضلا عن رب الأرض والسماء وخاتم الرسل وسيد الأنبياء فإنه يكون قد خاطبهم بإثبات ما أراد منهم نفيه وتحقيق ما أراد منهم إبطاله وعرضهم لأنواع الكفر والضلال والتشبيه وكان بمنزلة من أراد أن يصف لعليل دواء يستشفي به فوصف له دواء قاتلا وأخبره أن فيه الشفاء والعافية وأراد منه أن يأخذ من ألفاظ ذلك الدواء ما لا يدل عليه بل على خلافه فهل يكون هذا المداوي إلا من أجهل الناس وأعظمهم تلبيسا وتدليسا فلا بد لكم من أحد هذه الأقسام المذكورة فإن كان ها هنا قسم آخر فبينوه وبينوا صحته يوضحه.

الوجه الثاني والثلاثون بعد المائتين: وهو أن الأدلة العقلية التي زعمتم أنها تعارض النقل وتنفي موجبه هي بعينها تنفي المعاني التي تأولتم النقل عليها وحرفتم معناه إليها فإنكم لا يمكنكم تعطيل دلالة

ص: 1508

النصوص بالكلية وجعلها بمنزلة الكلام المهمل الذي لم يستعمله العقلاء بل لا بد لكم من حملها على معاني أخر غير حقائقها التي دلت عليها وحينئذ فالأدلة العقلية التي نفيتم بها حقائق النصوص تنفي تلك المعاني التي تأولتموها عليها بعينها مثاله أنكم تأولتم الرحمة والرأفة بالإرادة وزعمتم أن الدليل العقلي يقتضي نفي الرحمة والرأفة حقيقة وهو إما دليل الإعراض وإما دليل التركيب وإما الدليل الذي نفي التجسيم والتشبيه وإما دليل التوحيد الذي ينفي ثبوت شيء من الصفات وإما دليل امتناع الكيفيات النفسانية عليه وإما دليل امتناع الاختصاص بغير مخصص أو غير ذلك فجميع هذه الشبه الباطلة تنفي كل معنى حملتم عليه النصوص ويلزمكم فيما أثبتموه نظير ما لزمكم فيما نفيتموه وإذا كان الإلزام ثابتا على التقديرين لم تستفيدوا بتأويل النصوص وحملها على خلاف حقائقها إلا تحريف الكلم عن مواضعه والقول على الله بلا علم والجناية على الكتاب والسنة فلو أنكم تخلصتم بالتحريف مما فررتم منه من التشبيه والتجسيم كنتم قد صنعتم شيئا ولكن أصابكم في ذلك ما أصاب القائل.

وأفقرني فيمن أحب وما استغنى

فهذان وجهان يعمان كل ما ينفون من الصفات الإلهية ويتأولونه على غير تأويله من النصوص النبوية ويعتمدون عليه من الأقيسة العقلية.

ص: 1509

الوجه الثالث والثلاثون بعد المائتين: إن لازم هذا القول بل حقيقته أن أسماء الرب تعالى إنما تطلق عليه مجازا لا حقيقة فإنه إذا قام الدليل العقلي على انتفاء حقائقها صار إطلاقها بطريق المجاز والاستعارة لا بطيق الحقيقة فيكون إطلاقها على المخلوق بطريق الحقيقة إذ لا يمكن أن يكون مجازا في الشاهد والغائب وقد نفيتم أن يكون حقيقة في حق الرب سبحانه فتكون حقيقة في المخلوق مجازا في الخالق فيكون المخلوق أحسن حالا فيها من الخالق وتكون حسنى في حقه دون حق الرب تعالى لأنها إنما كانت حسنى باعتبار معانيها وحقائقها لا بمجرد ألفاظها فمن له حقائقها فهي في حقه حسنى دون من انتفت عنه حقائقها وكفى بهذا خروجا عن العقل والسمع وإلحادا في أسمائه سبحانه قال تعالى {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف180] فإن قلتم حقائقها بالنسبة إليه ما يليق به وهو ما تأولناها عليه وحينئذ فتكون حسنى بذلك الاعتبار وتكون حقيقة لا مجازا قيل فهلا حملتموها على حقائقها المفهومة منها على وجه يليق به ولا يماثله في خلقه كما فعلتم بحملها على تلك المعاني التي صرفتموها إليها فإن قلتم حملها على ذلك يستلزم محذورا من تلك المحاذير قيل

ص: 1510

فكيف لم يستلزمه فيما أثبتموه من تلك المعاني واستلزمه فيما نفيتموه وإذا كنتم قد أثبتم تلك على وجه يختص به ولا يماثل خلقه فيه فأثبتوا له حقائقها على هذا الوجه وتكونون للعقل والنقل موافقين وللكتاب والسنة مصدقين ولسلف الأمة وأعلمها بالله وصفاته وأسمائه موافقين وعن سبيل أهل الإلحاد والتعطيل عادلين.

الوجه الرابع والثلاثون بعد المائتين: إن الناس في هذه الأسماء التي تقال على الرب وعلى العبد مختلفون على أقوال فقالت غلاة المعطلة من الجهمية إنها مجاز في حق الخالق حقيقة في حق المخلوق وإنها استعيرت له من أسمائهم وهذا كما قيل خر عليهم السقف من تحتهم لا عقل ولا قرآن فكيف استعار للقديم الخالق سبحانه أسماء من المحدث المخلوق وكيف يستقرض للغني الواجد من الفقير المعدم أترى لم يكن في الممكن أن يكون للرب سبحانه من الأسماء إلا ما استعير له من أسماء خلقه ولما رأت طائفة من العقلاء شناعة هذا المذهب وبطلانه قابلوا قائليه وقالوا بل هي حقيقة في الرب مجاز في العبد وهذا قول أبي العباس الهاشمي وقد وافقه عليه طائفة ويلزم أصحاب هذا القول صحة نفيها عن المخلوق كما يلزم أصحاب القول الأول صحة نفيها عن الخالق والقولان باطلان مع أن أصحاب هذا القول وإن

ص: 1511

كانوا خيرا من أولئك فهم متناقضون فإنهم إن أثبتوا للرب تعالى حقائقها المفهومة منها فجعلها مجازا في المخلوق ممتنع فإن المعنى الذي كانت به حقيقة في الغائب موجود في الشاهد وإن كان غير مماثل بل للرب منه ما يختص به ولا يماثله فيه المخلوق وللمخلوق منه ما يختص به ولا يماثله فيه الخالق وهذا لا يوجب أن تكون مجازا في حق المخلوق كالوجود والشيء والذات وإن أثبتوها على غير حقائقها المفهومة منها بل جعلوا معناها ما تأولوها عليه فقلبوا الحقائق وعكسوا اللغة وأفسدوها وجعلوا المجاز حقيقة والحقيقة مجازا هذا وهم أعذر من أولئك وأقل خطأ فإنهم جعلوها مجازا في حق من هو أولى بها من خلقه.

وأولى من تثبت له على أتم الوجوه وأكملها أزلا وأبدا ووجوبا وبراءة عن كل ما ينافي ذلك وجعلوها حقيقة في حق من استعيرت له على وجه الحدوث والضعف والنقص فهؤلاء أعظم قلبا للحقائق ومخالفة للمعقول من أولئك وقالت طائفة ثالثة بل هي حقيقة في الغائب والشاهد كالوجود والشيء والذات وإن لم تماثل الحقيقة الحقيقة ثم اختلف هؤلاء فقالت طائفة هي مقولة عليها بالاشتراك اللفظي لتباين الحقيقتين من كل وجه وهذا من أفسد الأقوال فإن كل عاقل يفرق بين لفظي العين ولفظ المشتري ولفظ العين ونحوها وبين لفظ السميع والبصير

ص: 1512

والحي والعليم والقدير ويفهم المعنى من هذه الألفاظ عند إطلاقها دون تلك فلو كانت مشتركة لم يفهم منها شيء عند الإطلاق.

وقالت طائفة أخرى بل يقال على القديم والحادث بطريق التواطئ وهي موضوعة للقدر المشترك والخصائص لا تدخل في مسمى اللفظ قالوا ولهذا يصح تقسيم معانيها إلى واجب وممكن وقديم ومحدث ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام.

وقالت طائفة بل يقال على الرب والعبد بطريق التشكيك لأنها في الرب أولى وأتم وأكمل ولا ريب أن المتواطئ يعم ما تساوت أفراده فيه وما تفاوتت فالمشكك نوع من المتواطئ وإذا عرف هذا فمن نفى حقائقها عن الرب سبحانه جعلها مجازا في حقه حقيقة في المخلوق يوضحه.

الوجه الخامس والثلاثون بعد المائتين: إنه قد علم أن المعنى المستعار يكون في المستعار منه أكمل منه في المستعار وأن المعنى الذي دل عليه اللفظ بطريق الحقيقة أكمل من المعنى الذي دل عليه بطريق المجاز وإنما يستعار لتكميل معنى المجاز مثل الأسد فإن شجاعته لما كانت أكمل من شجاعة ابن آدم والبحر لما كان أوسع من

ص: 1513

ابن آدم والشمس والقمر لما كانا أبهى وأحسن استعيرت أسماؤها لما دونها فإذا قيل إن هذه الأسماء مجاز في حق الرب حقيقة في حق العبد كانت في العبد أكمل وأتم منها في الرب وكانت تسمية الرب سبحانه بها تقريبا وتمثيلا لما هو حقيقة في العبد وهل في الباطل والضلال والكفر والمحال فوق هذا والظاهر والله أعلم أن أكثر هؤلاء النفاة المعطلة جهال لا يتصورون حقيقة أقوالهم ولوازمها وإلا فمن آمن بالله وكان له في قلبه جلالة وعظمة ووقار لا يرضى بذلك ولا يعتقده وإن كان كثير من الناس لا يتحاشى من ذلك ولا يأنف منه لقلة وقار الله في قلبه وبعده عن معرفته وإساءة ظنه بأهل الإثبات وإحسان ظنه بطائفته وأهل نحلته وضلال بني آدم لا يحيط به إلا من هو بكل شيء محيط.

الوجه السادس والثلاثون بعد المائتين: إن أعقل الخلق على الإطلاق الرسل وأتباعهم بعدهم أعقل الأمم وأهل الكتاب والشرائع الكبار أعقلهم وأعقل هؤلاء المسلمون وأعقل المسلمين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم بإحسان وأهل السنة والحديث أعقل الأمة بعدهم على الإطلاق والبرهان القاطع على هذا أنه قد ظهر على أيدي الرسل من العلم النافع والعمل الصالح ومصالح الدنيا والآخرة

ص: 1514

ما لم يظهر مثله ولا قريب منه ولا ماله البتة نسبة بوجه من الوجوه على أيدي غيرهم من العقلاء ومن تدبر سيرتهم في أنفسهم وفي خاصتهم وفي العامة وصبرهم وزهدهم في الدنيا ورغبتهم في الله وما عنده واشتمالهم من الأخلاق على أزكاها ومن الشيم على أرضاها وأنهم أصدق الخلق وأبرهم قلوبا وأزكاهم نفوسا وأعظمهم أمانة وأكرمهم عشرة وأعفهم ضمائر وأطهرهم سريرة لم يشك أنهم أعقل خلق الله على الإطلاق ولا ريب أن كل من كان إليهم أقرب كان حظه من العقل أوفر والعلوم والأعمال والسيرة والدلائل على ذلك وأما أعدائهم وخصومهم فقد ظهر من نقصان عقولهم ما كان الحيوان البهيم أحسن به حالا منهم فإنه لا يقدم على هلاكه وخصماء الرسل وخصماء أتباعهم متهافتون في أسباب هلاكهم تهافت الفراش في النار وظهر نقصان هذه العقول في علومهم ومعارفهم مثل ظهوره في أعمالهم أو أعظم فإن كل من له نور وبصيرة إذا عرض على العقل الصحيح والفطرة السليمة ما جاءت به الرسل وما قالته النفاة المعطلة في الله جل جلاله تبين له الذي بينهما من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق ومن أعظم المحال أن يكون أعقل الخلق

ص: 1515

وأعقل الأمم مطيعين على الانقياد لكتاب قد خالفه صريح العقل ويكون ذلك الكتاب متضمنا لخلاف الصواب في أعظم مطالب الدعوة الإلهية وظاهره ضلال ومحال ويطبق عليه أعقل بني آدم ويتلقونه بالقبول وتشهد عقولهم وفطرهم أنه الحق والصواب وأن ما خالفه فهو الباطل والإفك والمحال وتصح به قلوبهم وتطمئن به وتسكن إليه وتزكوا به النفوس أعظم زكا وهذا من المحال أن يحصل بما يخالف صريح العقل ويكون الصواب في خلاف ما دل عليه فإن القلوب الصحيحة والفطر السليمة والعقول المستقيمة لا تطمئن بباطل أبدا بل يكون أهله كما قال الله سبحانه {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق5] وقال تعالى {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات9 ، 8] وقال {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} [الإسراء48] ووصف سبحانه المصدقين به الذين لا يقدمون عليه غيره بطمأنينتهم به وجعل ذلك من أعظم آيات صدقه في أنه لو كان باطلا مخالفا للعقول لم تطمئن به القلوب بل كانت ترتاب به أعظم ريب فإن الكذب في الأمور الجزئية

ص: 1516

ريبة فكيف بالكذب في باب أسماء الرب وصفاته وشأنه والصدق في الأمور الجزئية طمأنينة فكيف بالصدق في هذا الباب قال تعالى {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة2 ، 1] وقال تعالى {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس37] وقال تعالى {الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة2 ، 1] فجعل سبحانه من أعظم أدلة صدقه نفي الريب عنه في مثل هذه المطالب التي هي أصل مطالب بني آدم وأجل معارفهم وعلومهم على الإطلاق فلو كان فيه ما يخالف صريح العقل لكان فيه أعظم الريب ولما اطمأنت به القلوب ولا ثلجت به الصدور وقد قال تعالى {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد28] وذكره ها هنا هو كناية وهو الذكر الحكيم فكيف يجوز على أعقل الأمم وأفضلها أن تطمئن قلوبهم بما يخالف العقل الصريح وهل هذا إلا قدح في عقولهم كما هو قدح في نبيهم وفي كتابهم ومن تكلم به وجعله هدى وشفاء ورحمة وعصمة ونورا وروحا والله ورسوله وملائكته وأولو العلم

ص: 1517

يعلمون أن كلام هؤلاء المعطلة النفاة المعارضين للوحي بعقولهم وآرائهم فيه أعظم الريب وأبعد شيء عن طمأنينة القلوب به وسكونها إليه وأشد شيء مخالفة للمعقول الصريح وهذه سنة الله في خلقه أن أنقص الناس عقولا وأعظمهم سفها يرمون أعقل الخلق وأفضلهم بنقصان العقول ولا تنسى قول أعداء الرسل في الرسل أنهم مجانين لا عقول لهم فهكذا ورثتهم يرمون ورثة الرسل بدائهم إلى يوم القيامة يوضحه

الوجه السابع والثلاثون بعد المائتين: إنه لو كان ظاهر الكتاب مخالفا لصريح المعقول لكان في الصدور أعظم حرج منه وضيق وهذا خلاف المشهود بالباطن لكل ذي عقل سليم فإنه كلما كان الرجل أتم عقلا كان الحرج بالكتاب أبعد منه قال تعالى لرسوله {المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} [الأعراف2 ، 1] والله تعالى رفع الحرج عن الصدور بكتابه وكانت قبل إنزال الكتاب في أعظم الحرج والضيق فلما أنزل كتابه ارتفع به عنها ذلك الحرج وبقي الحرج والضيق على من لم يؤمن به كما قال تعالى {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام125] ومن آمن به من وجه دون وجه ارتفع عنه الحرج والضيق من الوجه الذي آمن به دون ذلك الوجه فمن أقر

ص: 1518

أنه منزل من عند الله أنزله على رسوله ولم يقر بأنه كلامه الذي تكلم به بل جعله مخلوقا من جملة مخلوقاته كان في صدره من الضيق والحرج ما يناسب ذلك ومن أقر بأنه تكلم بشطره وهو المعاني دون شطره الآخر وهو حروفه كان في صدره من الحرج منه ما يناسب ذلك ومن زعم أنه غير كاف في معرفة الحق وأن العباد يحتاجون معه إلى معقولات وآراء ومقاييس وقواعد منطقية ومباحث عقلية ففي صدره منه أعظم حرج وأعظم حرجا منه من اعتقد أن فيه ما يناقض العقل الصريح ويشهد العقل بخلافه وكذلك من زعم أن آياته لا يستفاد منها علم ولا يقين ففي صدره منه من الحرج ما الله به عليم ومن زعم أن الخطاب به خطاب جمهوري يخيل للعامة ما ينتفعون به مما ليس له حقيقة في نفس الأمر ففي صدره منه أعظم حرج ومن زعم أن أجل ما فيه وأشرفه وأفضله وهو قسم التوحيد المتضمن للأسماء والصفات مجازات واستعارات وتشبيهات لا حقائق ففي صدره منه أعظم حرج فكل هذه الطوائف في صدورهم منه حرج وريب وليس في حقهم هدى ولا شفاء ولا رحمة ولا هو كاف لهم بشهادتهم على أنفسهم وشهادة الله وملائكته والشهداء من عباده عليهم وبالله التوفيق.

ص: 1519

وقد أقسم سبحانه بنفسه المقدسة أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم ولا يكفي ذلك في حصول الإيمان حتى يزول الحرج من نفوسهم بما حكم به في ذلك أيضا حتى يحصل منهم الرضا والتسليم فقال تعالى {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء65] فأكد ذلك بضروب من التأكيد

أحدها: تصدير الجملة المقسم عليها بحرف النفي المتضمن لتأكيد النفي المقسم عليه وهو في ذلك كتصدير الجملة المثبتة بإن.

الثاني: القسم بنفسه سبحانه.

الثالث: أنه أتى بالمقسم عليه بصيغة الفعل الدالة على الحدوث أي لا يقع منهم إيمان ما حتى يحكموك.

الرابع: أنه أتى في الغاية بحتى دون إلا المشعرة بأنه لا يوجد الإيمان إلا بعد حصول التحكيم لأن ما بعد حتى يدخل فيما قبلها.

الخامس: أنه أتى المحكم فيه بصيغة الموصول الدالة على العموم وهو قوله {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} أي في جميع ما تنازعوا فيه من الدقيقة والجليلة.

ص: 1520

السادس أنه ضم إلى ذلك انتفاء الحرج وهو الضيق من حكمه.

السابع: أنه أتى به نكرة في سياق النفي أي لا يجدون نوعا من أنواع الحرج البتة.

الثامن: أنه أتى بذكر ما قضى به بصيغة العموم فإنها إما مصدرية أي من قضائك أو موصولة أي من الذي قضيته وهذا يتناول كل فرد من أفراد قضائه.

التاسع: أنه لم يكتف منهم بذلك حتى يضيفوا إليه التسليم وهو قدر زائد على التحكيم وانتفاء الحرج فما كل من حكم انتفى عنه الحرج ولا كل من انتفى عنه الحرج يكون مسلما منقادا فإن التسليم يتضمن الرضا بحكمه والانقياد له.

العاشر: أنه أكد فعل التسليم بالمصدر المؤكد ونحن نناشد هؤلاء الجهمية بالله الذي لا إله إلا هو هل يجدون في أنفسهم هذا التسليم والانقياد والتحكيم للنصوص وهل هم مع الرسول وما جاء به بهذه المنزلة فوالله إن قلوبهم وألسنتهم وكتبهم لتشهد عليهم بضد ذلك كما يشهد به عليهم المؤمنون والملائكة وأولو العلم والله سبحانه وكفى بالله شهيدا.

ص: 1521

الوجه الثامن والثلاثون بعد المائتين: إن جماع ما يرد به المبطلون ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمور العلمية الخبرية والأمور العملية الطلبية نوعان

أحدهما: منع دلالة ما جاء به على تلك المسألة.

والثاني: معارضة الدلالة بما يمنع اتباعها فردهم نوعان منع ومعارضة فوضعوا لهذين النوعين قانونين فوضعوا لمنع الدلالة قانون التحريف والتأويل الفاسد ووضعوا للمعارضة قانون تعارض العقل والسمع وتقديم العقل فيتضمن هذان القانونان أن لا يستفاد من القرآن والسنة في باب الأسماء والصفات علم ولا يقين.

وأما الطلبيات فإما أن يكون في المسألة إجماع أولا فإن كان فيها إجماع استغني به عن النظر في الكتاب والسنة وإن لم يكن فيها إجماع ففرضه التقليد لبعض الأئمة لأن النصوص فيها الناسخ والمنسوخ وفيها ما قد ترك العمل به وفيها الخاص والعام وغير ذلك وقد كفانا الأئمة مؤنة النظر والاستدلال وكلفة الاجتهاد فيتعين المصير إلى أقوالهم وليس لنا أن نستدرك عليهم ولا نخالفهم فهم قد كفونا مؤنة الفروع وشيوخنا المتكلمون قد كفونا مؤنة الأصول فلا يفيدنا النظر في الكتاب والسنة إلا التعب

ص: 1522

والعناء وغايتنا أن نصل إلى ما وصلوا إليه إن أصبنا وإن خالفناهم كنا نحن المخطئين وهم المصيبون فالأولى بنا أن نتلقى الأصول عن المتكلمين والفروع عن مشايخنا الذين هذبوا لنا مذاهب الأئمة وضبطوا قواعدها وأصولها فيقال هذا إخبار منكم بحالكم وما يليق بكم وما أنتم أهله.

وأما من رفع له علم الكتاب والسنة فشمر إليه وآنس من مشكاتهما نور الهداية فطله وحرص عليه وكان كتاب الله وسنة رسوله أجل في صدره وأعظم في نفسه وأوقر في قلبه من أن يجعل لهما عيارا يعيرهما به وميزانا يزنهما به وندا يحاكم إليه ويخاصم به دونهما فهذا كتاب الله بين أظهرنا كما أنزل محضا لم يشب وهذه سنة رسوله هل يسوغ لنا الإعراض عنها إلى ما ذكرتم وهل يوجد فيهما دليل واحد على هذه الطريق التي سلكتم وهل تجدون فيهما الحوالة على غيرهما بوجه من الوجوه وهل تجدون فيهما ما يتضمن ذلك أو يدل عليه أو يشير إليه أو يسوغه وكأنكم تتمسكون بقوله {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف3] وبقوله

ص: 1523

{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء65] وبقوله {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى10] وبقوله {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام155] وبقوله {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف158] وبقوله {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى21] وبقوله {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف33]

ص: 1524

وبقوله {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء36] وبقوله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة104] وبقوله {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة16] أي وليجة ممن اتخذ رجلا بعينه عيارا على كلام الله ورسوله وكلام سائر علماء الأمة يزن القرآن والسنة وكلام سائر العلماء على قوله فما خالفه رده وما وافقه قبله وبقوله {فَبَشِّرْ عِبَادِ لَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر18 ، 17] والقول ها هنا ما قاله الله ورسوله واتباع أحسنه هو الاقتداء به فهذا أحسن من قول كل قائل عداه وبقوله

ص: 1525

{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران31] وبقوله {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام153] وبقوله {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه124 ، 123] وذكره هو كتابه الذي أنزله فمن أعرض عنه مكتفيا بقول واحد من بني آدم عنه فقد أتى بحقيقة الإعراض وبقوله {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص50] فقسم الناس إلى مستجيبين للرسول ومتبع هواه فمن ترك استجابته إذا ظهرت له سنة وعدل عنها إلى خلافها فقد اتبع هواه وهذا أكثر من أن يذكر والمقصود أن الواجب على الخلق بعد وفاته هو الواجب عليهم في حياته سواء ففرض من سمع كلامه أن يأخذ به ومن خفي عليه قوله سأل من يعرفه فإذا سمعه ففرض عليه أن يأخذ به

ص: 1526

فإن خفي عليه فغاية قول غيره أن يسوغ له الأخذ به فيكون سائغ الاتباع بعد خفاء السنة لا واجب الاتباع ولا سيما مع ظهور السنة وبالله التوفيق.

الوجه التاسع والثلاثون بعد المائتين: إن كل واحد من هذين الأمرين أعني المنع والمعارضة ينقسم إلى درجات متعددة فأما المنع فهو على ثلاث درجات أحدها منع كون الرسول جاء بذلك أو قاله الدرجة الثانية منع دلالته على ذلك المعنى وهذه الدرجة بعد التنزل إلى الاعتراف بكونه قاله الدرجة الثالثة منع كون قوله حجة في هذه المسائل.

والدرجات الثلاث قد استعملها المعطلة النفاة فأما الأولى فاستعملوها في الأحاديث المخالفة لأقوالهم وقواعدهم ونسبوا رواتها إلى الكذب والغلط والخطأ في السمع واعتقاد أن كثيرا منها من كلام الكفار والمشركين كان النبي يحكيه عنهم فربما أدركه الواحد في أثناء كلامه بعد تصديره بالحكاية فيسمع المحكي فيعتقده قائلا له لا حاكيا فيقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قاله بعضهم في حديث قتادة بن النعمان في الاستلقاء قال يحتمل أن يكون النبي حدث به عن بعض أهل الكتاب على طريق الإنكار عليهم فلم يفهم عنه قتادة بن

ص: 1527

النعمان إنكاره فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعضد هذا الاحتمال بما رواه من حديث ابن أبي أويس حدثني ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن عبد الله بن عروة بن الزبير أن الزبير بن العوام سمع رجلا يحدث حدثنا عن النبي فاستمع الزبير له حتى إذا قضى الرجل حديثه قال له الزبير أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له الرجل نعم قال هذا وأشباهه مما يمنعنا أن نتحدث عن النبي قد لعمري سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا يومئذ حاضر ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأ هذا الحديث فحدثنا عن رجل من أهل الكتاب حدثه إياه فجئت أنت يومئذ بعد أن قضى صدر الحديث وذكر الرجل الذي من أهل الكتاب فظننت أنه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا فلهذا الاحتمال تركنا الاحتجاج بأخبار الآحاد في صفات الله عز وجل فتأمل ما في هذا الوجه من الأمر العظيم أن يشتبه على أعلم الناس بالله وصفاته وكلامه وكلام رسوله كلام الرسول الحق الذي قاله مدحا وثناء على الله بكلام الكفار المشركين الذي هو تنقص وعيب فلا تميز بين هذا وهذا ويقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما

ص: 1528

يكون من كلام ذلك المشرك الكافر فأي نسبة جهل واستجهال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق هذا أنه لا يميز أحدهم بين كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام الكفار والمشركين ويميز بينهما أفراخ الجهمية والمعطلة وكيف يستجيز من للصحابة في قلبه وقار وحرمة أن ينسب إليهم مثل ذلك ويا لله العجب هل بلغ بهم الجهل المفرط إلى أن لا يفرقوا بين الكلام الذي يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم حاكيا عن المشركين والكفار والذي يقوله حاكيا له عن جبريل عن رب العالمين ولا بين الوصف بما هو مدح وثناء وتمجيد لله ووصفه بما هو ضد ذلك فتأمل جناية هذه المعرفة على النصوص ومن تأمل أحاديث الصفات وطرقها وتعدد مخارجها ومن رواها من الصحابة علم بالضرورة بطلان هذا الاحتمال وأنه من أبين الكذب والمحال فوالله لو قاله صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند نفسه لكان أولى بقبوله واعتقاده من قول الجهمي المعطل النافي فكيف إذا نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمقصود أن هذه الدرجات الثلاث قد وضعت الجهمية أرجلهم فيها فهذه درجة منه كون الرسول قاله وأكدوا أمر هذه الدرجة بأن أخبار الآحاد يتطرق إليها الكذب

ص: 1529

والخطأ والغلط فلا يجوز أن يحتج بها في باب معرفة الله وما يجب له ويمتنع عليه وسيمر بك إن شاء الله تعالى ما يقلع هذه الدرجة من أصلها.

الدرجة الثانية منع الدلالة وهذه الدرجة المسماة بأن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين وقد تقدم فسادها من خمسة وسبعين وجها فيما مضى وبينا أن هذا القول لا يجامع دين الإسلام بل مناقضته للدين معلومة بالضرورة بعد التأمل لحقيقته ولازمه.

الدرجة الثالثة تسليم دلالته على ذلك ولكن يمنع كون قول الرسول حجة في ذلك وهذه الدرجة ينزلها طائفتان أحدهما من يجوز على الرسول أن يخاطب الأمة بخلاف ما هو في نفس الأمر لمصلحتهم.

الطائفة الثانية من يعتقد أن لكلامه باطنا يخالف ظاهره وتأويلا يخالف حقيقته فالطريقة الأولى للمتفلسفة ومن يتلمذ لهم والطريقة الثانية للجهمية ومن اقتفى آثارهم وكثير من المتأخرين يجمع بين الطريقتين فيتفلسف تارة ويتجهم تارة ويجمع بين الإدامين تارة فهذه درجات المنع وأما درجات المعارضة فثلاثة أيضا

ص: 1530

إحداها أن يعارض المنقول بمثله ويسقط دلالتهما أو يرجح دلالة المعارض كما عارض الجهمي قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه5] بقوله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص1] وزعم أنه لو كان على العرش لم يكن أحدا وعارضه بقوله {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد4] وزعم أنه لو كان على عرشه لم يكن معنا وعارضه بقوله {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر7] وهذه معارضة الزمخشري في كشافه قال وفيها التنبيه على أن الأمر لو كان كما يقوله المجسمة كان حملة العرش ومن حوله مشاهدين معاينين ولما وصفوا بالإيمان لأنه إنما يوصف بالإيمان الغائب ولما وصفوا به على سبيل الثناء عليهم علم أن إيمانهم وإيمان من في الأرض

ص: 1531

وكل من غاب عن ذلك المقام سواء في إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير وأنه لا طريق إلى معرفته إلا هذا وأنه منزه عن صفات الأجرام فلو كان المجسم بزعمك جسما حقيقة لما رضي لنفسه ولمن يخاطبه بمثل هذا الكلام الذي هو من أقبح الكلام وأبطله ولشح على زمانه وأوراقه أن يضيعه بمثله ولمنعه وقار القرآن وعظمته في صدره أن يفسره بمثل هذا الكلام الذي هو كما قيل مثل حجارة الكنيف ترجع وتنجس فقد صرح قائله بأن إيمان محمد بن عبد الله وإبراهيم الخليل وموسى الكليم وجميع الأنبياء والمرسلين إنما هو عن نظر واستدلال وهم بسعادتهم قد سدوا جميع طرق الإيمان والمعرفة إلا طريق الجواهر والأعراض والاجتماع والافتراق وإبطال حوادث لا أول لها وزعموا أن من لم يعرف ربه من تلك الطريق مات ولم يعرف له ربا ولم يقر بأن له إلها وخالقا وزادوا في الافتراء والكذب والبهت فزعموا أن إيمان جبريل وميكائيل والملائكة المقربين وجميع المرسلين مبني على هذه الطريقة وأن إيمانهم كلهم سواء وأنهم لا طريق لهم إلى معرفته إلا هذا النظر والاستدلال الذي وضعه لهم شيوخ الجهمية ومبتدعة المتكلمين وضلال أهل الاعتزال فها هنا يسجد المجسم بزعمكم شكرا لله إذ عافاه الله من مثل هذا البلاء العظيم وهذا القول أقل وأحقر من أن يتكلف للوجوه التي تدل على بطلانه بأكثر من حكايته ومن هذا

ص: 1532

معارضة غيره لنصوص الاستواء والعلو بقوله لا تفضلوني على يونس بن متى قال قائل هذا دليل على أن الله ليس فوق العالم ولا مستويا على العرش قال لأن يونس نزل إلى قرار البحر ومحمد رفع إلى فوق السموات فكانا في القرب من الله على حد سواء لا يفضل أحدهما على الآخر في القرب منه سبحانه فلو أن المجسم نزل إلى الأرض السابعة لم يرض لنفسه ولمعرفته ولفهمه عن نبيه بمثل هذا ومن هذا معارضة نصوص الاستواء والعلو بقوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى11] فلبسوا على الجهال بإيهامهم أن من أثبت كونه سبحانه فوق سمواته على عرشه فقد جعل له مثلا ومن هذا معارضة بعضهم الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تكلم فيها النبي بأين الله وسمع السؤال بأين الله واقر السائل عليه ولم ينكره كما كفره هؤلاء فعارضوها كلها بحديث مكذوب موضوع في إسناده من لا يدري من أي الدواب هو كشيخه الذي لا ذكر له في شيء من كتب الحديث ولعل بعض الوضاعين نسبه إلى هذا الشيخ والحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 1533

قال وقد سئل أين الله فقال " لا يقال أين لمن أين الأين" فعارض هذا الأحاديث الصحيحة المستفيضة التي نطق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأين وأقر على إطلاقها بهذا الحديث الوثيل الذي يستحي من التكلم به آحاد الناس فضلا عن سيد ولد آدم وأقبح من هذا معارضة الأحاديث المتواترة التي تزيد على مائتي طريق وأصلها نحو الثلاثين في رؤية الرب تعالى في الآخرة بقوله تعالى {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام103] فيا للعقول نحن إنما تلقينا هذه الأحاديث عمن أنزلت عليه الآية فهو الذي جاء بهذا وهذا فكيف يستجيز مسلم أن يعارض كلامه بما فهمه من ظاهر القرآن فهما فاسدا ولو فهمه كما ينبغي لعلم أن القرآن موافق للسنة لا مناقض لها كما تقدم تقريره.

فصل

الدرجة الثانية من المعارضة معارضة النص بالرأي وهذه المعارضة في الأصل هي من فعل المشركين أعداء الرسل وتلقاها ورثتهم من بعدهم كما تقدم بيانه.

ص: 1534

الدرجة الثالثة المعارضة بالتقليد واتباع الآباء والمشائخ والمعظمين في النفوس وإذا تأملت الغالب على بني آدم وجدته من هذا النوع واعلم أنه لا يستقر للعبد قدم في الإسلام حتى يبرأ من هذه الممانعة والمعارضة فحينئذ يدخل في دائرة الإسلام ولا يمكن تحكيم الرسول وانتفاء الحرج ووقوع التسليم حتى تنتفي هذه الممانعة والمعارضة من كل وجه وبالله التوفيق يوضحه.

الوجه الأربعون بعد المائتين: وهو أنه مع التصديق الجازم يمتنع وقوع المعارضة والممانعة وحيث وجد ذلك فهو ملزوم لانتفاء التصديق ووجود الملزوم بدون لازمه محال فها هنا أمران تصديق جازم يلزمه انتفاء المنع والمعارضة ومنع ومعارضة يلزمه انتفاء التصديق الجازم فيستدل بوجود الملزوم منهما على وجود لازمة وبانتفاء اللازم على انتفاء ملزومه وهذا أمر قطعي لكنه موقوف على صحة اللزوم فنقول متى حصل الإقرار بأن المتكلم عالم بما أخبر به صادق في خبره يستحيل عليه الجهل والكذب عمدا أو خطأ امتنع والحالة هذه أن يقوم بقلب من اعتقد ذلك منع لخبره أو معارضة له.

ووجوه المنع والمعارضة وهذا الإقرار والتصديق لا يجتمعان وإذا ثبت اللزوم المذكور لزم من وجود الملزوم وجود لازمه ومن انتفاء اللازم انتفاء ملزومه والعجب أن

ص: 1535

هؤلاء من شدة تمسكهم بالعقليات واعتنائهم بها حين عارضوا بينها وبين الوحي يجمعون بين النقيضين ويثبتون الشيء وينفون لازمه وينفون اللازم ويثبتون ملزومه وذلك مخالفة لصريح العقل فإنهم يدعون الإيمان بما جاء به الرسول وينفون لازمه وإذا نفوا اللازم انتفى الملزوم ولكن من حكمة أحكم الحاكمين أن يسلب هؤلاء خاصة عقولهم وحال بينهم وبينها وكشف لأهل العقل والسمع أنهم من أبعد الناس عن العقل والسمع وهذا كما ظهر لأتباع الرسل في الدنيا فإنه سيظهر لأولئك حين يقول المعارضون للرسل بعقولهم {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك10]

الوجه الحادي والأربعون بعد المائتين: إن الله سبحانه أنزل على عبده ورسوله في أفضل الأيام وأفضل الشهور وأفضل الأماكن ومعه أفضل الخلق {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [المائدة3] وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث

ص: 1536

طارق بن شهاب قال جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين آية تقرأونها في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت فعلم اليوم الذي نزلت فيه لاتخذناه عيدا فقال عمر أية آية هي قال {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [المائدة3] فقال عمر إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية الجمعة ونحن معه بعرفة وفي مسند علي للحافظ مطين حدثنا يحيى الحماني حدثنا قيس عن إسماعيل بن سليمان عن أبي عمر البزار عن ابن الحنفية عن علي قال نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف عشية عرفة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} .

ص: 1537

وقال عبد بن حميد أخبرنا يزيد بن هارون ثنا حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار قال قرأ ابن عباس {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وعنده يهودي فقال لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدا فقال ابن عباس نزلت في يوم عيدين يوم جمعة ويوم عرفة.

وقال وحدثنا أبو نعيم عن إسرائيل عن جابر عن عامر قال نزلت على النبي وهو بعرفة.

قال كما نقل عنه إني سلمت أن الباري إلهي وإله الخلق عالم قادر ولا يسأل عن قدرته ومشيئته وإذا أراد شيئا قال له {كُنْ فَيَكُونُ} وهو حكيم إلا أنه يتوجه على مساق حكمته أسئلة سبعة

أولها قد علم قبل خلقي أي شيء يصدر عني ويحصل فلم خلقني أولا وما الحكمة في خلقه إياي

ص: 1538

الثاني إذ خلقني على مقتضى إرادته ومشيئته فلم كلفني بمعرفته وطاعته وما الحكمة في التكليف بعد ألا ينتفع بطاعته ولا يتضرر بمعصيته

الثالث إذ خلقني وكلفني فالتزمت تكليفه بالمعرفة والطاعة فعرفت وأطعت فلم كلفني بطاعة آدم والسجود له وما الحكمة في هذا التكليف على الخصوص بعد أن لا يزيد ذلك في طاعتي ومعرفتي

والرابع إذ خلقني وكلفني على الإطلاق وكلفني هذا التكليف على الخصوص فإذا لم أسجد لعنني وأخرجني من الجنة ما الحكمة في ذلك بعد إذ لم أرتكب قبيحا إلا قولي لا أسجد إلا لك

الخامس إذ خلقني وكلفني مطلقا وخصوصا ولم أطع فلعنني وطردني فلم طرقني إلى آدم حتى دخلت الجنة ثانيا وغررته بوسوستي فأكل من الشجرة المنهي عنها وأخرجه من الجنة معي وما الحكمة في ذلك بعد أن لو منعني من دخول الجنة استراح مني آدم وبقي خالدا في الجنة.

والسادس إذ خلقني وكلفني عموما وخصوصا

ص: 1539

ولعنني ثم طرقني إلى الجنة وكانت الخصومة بيني وبين آدم فلم سلطني على أولاده حتى أراهم من حيث لا يرونني وتؤثر فيهم وسوستي ولا يؤثر في حولهم وقوتهم وقدرتهم واستطاعتهم وما الحكمة في ذلك بعد أن لو خلقهم على الفطرة دون من يجتالهم عنها فيعيشوا طاهرين سامعين مطيعين كان أحرى وأليق بالحكمة.

والسابع سلمت هذا كله خلقني وكلفني مطلقا ومقيدا وحيث لم أطع لعنني وطردني ومكنني من دخول الجنة وطرقني وإذ عملت عملي أخرجني ثم سلطني على بني آدم فلم إذ استمهلته أمهلني فقلت {فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [ص79] فقال {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [ص81 ، 80] وما الحكمة في ذلك بعد أن لو أهلكني في الحال استراح الخلق مني وما بقي شر في العالم أليس بقاء العالم على نظام الخير خيرا من امتزاجه بالشر قال فهذه حجتي على ما ادعيته في كل مسألة.

ص: 1540

قال شارح الإنجيل فأوحى الله إلى الملائكة قولوا له فإنك في مسألتك الأولى أني إلهك وإله الخلق غير صادق ولا مخلص إذ لو صدقت أني رب العالمين ما احتكمت علي بلم فأنا الله الذي لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل والخلق مسؤولون قال هذا مذكور في التوراة ومسطور في الإنجيل على الوجه الذي ذكرته وكنت برهة من الزمان أتفكر وأقول من المعلوم الذي لا مرية فيه أن كل شبهة وقعت لبني آدم فإنما وقعت من إضلال الشيطان ووساوسه ونشأت من شبهاته وإذا كانت الشبهات محصورة في سبع عادت كبار البدع والضلال إلى سبع ولا يجوز أن تعدو شبهات فرق أهل الزيغ والكفر هذه الشبهات وإن اختلفت العبارات وتباينت الطرق فإنها بالنسبة إلى أنواع الضلالات كالبذر وترجع جملتها إلى إنكار الأمر بعد الاعتراف بالحق وإلى الجنوح إلى الهوى والرأي في مقابلة النص والذين جادلوا نوحا وهودا وصالحا وإبراهيم ولوطا وشعيبا

ص: 1541

وموسى وعيسى ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهم كلهم نسجوا على منوال اللعين الأول في إظهار شبهاته.

وحاصلها يرجع إلى دفع التكليف عن أنفسهم وجحد أصحاب التكاليف والشرائع بأسرهم إذ لا فرق بين قولهم {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن6] وبين قوله {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء61] وعن هذا صار مفصل الخلاف ومحز الإشكال والافتراق كما هو في قوله {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَاّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} [الإسراء94] فبين أن المانع من الإيمان هو هذا المعنى كما قال للمتقدم الأول {مَا مَنَعَكَ أَلَاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف12] .

ص: 1542

وقال المتأخر من ذريته كما قال المتقدم {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف52] وكذلك لو تعقبنا أحوال المتقدمين منهم وجدناها مطابقة لأقوال المتأخرين {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة118]{فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} [يونس74] فاللعين الأول لما حكم العقل على من لا يحكم عليه العقل أجرى حكم الخالق في الخلق وحكم الخلق في الخالق والأول غلو والثاني تقصير فثار من الشبهة الأولى مذاهب الحلولية والتناسخية والمشبهة

ص: 1543

والغلاة من الرافضة حيث غلوا في حق شخص من الأشخاص حتى وصفوه بأوصاف الإله وثار من الشبهة الثانية مذاهب القدرية والجبرية والمجسمة حيث قصروا من وصفه تعالى بصفات المخلوقين والمعتزلة مشبهة الأفعال والمشبهة مشبهة الصفات وكل منهما أعور فإن من قال يحسن منه ما يحسن منا ويقبح منه ما يقبح منا فقد شبه الخالق بالخلق ومن قال يوصف الباري بما يوصف به الخلق أو يوصف الخلق بما يوصف به الخالق فقد اعتزل عن الحق وسنخ القدرية طلب العلة في كل شيء وذلك من سنخ اللعين الأول إذ طلب العلة في الخلق أولا والحكمة في التكليف ثانيا والفائدة في تكليف السجود لآدم ثالثا ثم ذكر الخوارج والمعتزلة

ص: 1544

والروافض وقال رأيت بدء شبهاتهم كلها نشأت من شبهات اللعين الأول وتلك في الأول مصدرها وهذه في الآخر مظهرها وإليه أشار التنزيل بقوله {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة68] وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لتسلكن سبل الأمم قبلكم حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" فهذه القصة والمناظرة هي من نقل أهل الكتاب ونحن لا نصدقها ولا نكذبها وكأنها والله أعلم مناظرة وضعت على لسان إبليس وعلى كل حال فلا بد من الجواب عنها سواء صدرت منه أو قيلت على لسانه فلا ريب أنها من كيده وقد أخبر الله سبحانه {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء76] فهذه الأسئلة والشبهات من أضعف الأسئلة عند أهل العلم والإيمان وإن صعب موقعها عند من أصل أصولا فاسدة

ص: 1545

فاسدة كانت سدا بينه وبين ردها وأما من لم يؤصل غير كتاب الله وسنة رسوله فهذه الأسئلة عنده من جنس أسئلة تلامذته وأصحابه التي يوردونها على الرسل وما جاؤا به وهي أسئلة فاسدة مبنية على أصول فاسدة وقد افترقت طرق الناس في الأجوبة عنها أشد افتراق وسلكوا في إبطالها كل طريق يخطر بالبال ونحن نذكر طرقهم.

فقال المنجمون وزنادقة الطبيعيين والفلاسفة: لا حقيقة لآدم ولا لإبليس ولا لشيء من ذلك بل لم يزل الوجود هكذا ولا يزال نسلا بعد نسل وأمة بعد أمة وإنما ذلك أمثال مضروبة لانفعال القوى النفسانية الصالحة لهذا البشر وهذه القوى هي المسماة في الشرائع بالملائكة واستعصاء القوى الغضبية والشهوانية عليه هي المسماة بالشياطين فعبر عن خضوع القوى الفاضلة بالسجود وعبر عن إباء القوى الشريرة الفاسدة بالإباء والاستكبار وترك السجود قالوا والحكمة الإلهية اقتضت تركيب الإنسان على هذا الوجه وإسكان هذه القوى فيه وانقياد بعضها له وإباء بعضها فهذا شأن الإنسان ولو كان على غير هذا التركيب لم يكن إنسانا قالوا وبهذا تندفع الأسئلة كلها ويظهر بطلانها وأنها بمنزلة أن يقال لم أحوج الإنسان

ص: 1546

إلى الأكل والشرب واللباس ولما أحوجه إليه فلم جعله يبول ويتغوط ويتمخط ولم جعله يمرض ويهرم ويموت فإن هذه الأمور من لوازم النشأة الإنسانية التي لو قدر ارتفاعها لارتفعت هذه النشأة فهذه الطائفة رفعت القواعد من أصلها وأبطلت آدم وإبليس والملائكة وردت الأمر إلى مجرد قوى نفسانية وأمور معنوية.

وقالت الجبرية ومنكرو الحكم والتعليل: هذه الأسئلة إنما ترد على من يفعل لعلة أو لغرض أو لغاية فأما من لا علة لفعله ولا غاية ولا غرض بل يفعل ما يفعله بلا سبب ولا غاية وإنما مصدر مفعولاته محض مشيئة وغايتها مطابقتها لعلمه وإرادته فجاء فعله على وفق إرادته وعلمه وعلى هذا فهذه الأسئلة فاسدة كلها إذ مبناها على أصل واحد وهو تعليل أفعال من لا تعلل أفعاله ولا يوصف بحسن ولا قبح عقليين بل الحسن ما فعله وما فعله فكله حسن لا يسأل عما يفعل وهم يسألون قالوا والقبح والظلم هو تصرف الإنسان في ملك غيره بغير إذنه فأما تصرف المالك الحق في ملكه من غير أن يكون تحت حجر حاجر أو أمر آمر أو نهي ناه فإنه لا يكون ظلما ولا قبيحا فرفع هؤلاء الأسئلة من أصلها وسدوا على أنفسهم طريق استماعها والجواب عنها والتزموا لوازم هذا الأصل من إبطال الحكم والتعليل والأسباب والتحسين والتقبيح

ص: 1547

والتقبيح ووجوب شكر المنعم عقلا ومنعت لأجله أن يجب على الله شيء أو يحرم عليه شيء أو يقبح منه ممكن بل كل ممكن فهو جائز عليه لا يقبح منه.

وقالت القدرية: هذا لا يرد على أصولنا وإنما يرد على أصول الجبرية القائلين بأن الله خالق أفعال العباد طاعاتهم ومعاصيهم وإيمانهم وكفرهم وأنه قدر ذلك عليهم قبل أن يخلقهم وعلمه منهم وخلقهم له فخلق أهل الكفر للكفر وأهل الفسوق للفسوق وقدر ذلك عليهم وشاءه منهم وخلقه فيهم فهذه الأسئلة واردة عليهم.

وأما نحن فعندنا أن الله سبحانه عرضهم للطاعة والإيمان وأقدرهم عليه ومكنهم منه ورضيه لهم وأحبه ولكن هم اختاروا لأنفسهم الكفر والعصيان وآثروه على الإيمان والطاعة والله سبحانه لم يكرههم على ذلك ولم يلجئهم إليه ولا شاءه منهم ولا كتبه عليهم ولا قدره ولا خلقهم له ولا خلقه فيهم ولكنها أعمال هم لها عاملون وشرورهم لها فاعلون فإنما خلق إبليس لطاعته وعبادته ولم يخلقه لمعصيته والكفر به وصرح قدماء هذه الفرقة بأنه سبحانه لم يكن يعلم من إبليس حين خلقه أن يصدر منه ما صدر ولو علم ذلك لم يخلقه وأبى متأخروهم ذلك وقالوا بل كان سبحانه عالما به وبشأنه وخلقه امتحانا لعباده ليظهر المطيع له من العاصي والمؤمن من الكافر وليثيب عباده على معاداته ومحاربته

ص: 1548

ومعصيته أفضل الثواب قالوا هذه الحكمة اقتضت بقاءه حتى تنقضي الدنيا وأهلها قالوا وأمره بالسجود ليطيع فيثيبه ويقر به ويكرمه فاختار لنفسه المعصية والكفر من غير إكراه للرب تعالى ولا ألجأه إلى ذلك ولا حال بينه وبين السجود ولا منعه ولا سلطه على آدم وذريته قهرا وإكراها لهم وقد اعترف عدو الله بذلك حيث يقول {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم22] وقال تعالى {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [سبأ21] قالوا فاندفعت تلك الأسئلة وبطلت وظهر أنها ترد على أصول الجبرية لا على أصولنا.

وقالت الفرقة الناجية حزب الرسول وأنصاره وبنك الإسلام وعصابة الإيمان الذين لم يتحيزوا إلى فئة غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذهبوا إلى مقالة غير ما دلت عليه سنته ولم ينتسبوا إلى غيره بوجه من الوجوه كيف يطمع في الرد على عدو الله وإبطال قوله من قد شاركه في أصله أو في بعض شعبه فإن عدو الله أصل معارضة النص بالرأي فترتب على تأصيله هذه الأسئلة وأمثالها فمن عارض العقل بالنقل في أمر من الأمور

ص: 1549

فهو شريكه من هذا الوجه فلا يتمكن من الرد التام عليه ولهذا لما شاركه زنادقة الفلاسفة والمنجمين والطبائعيين في هذا الأصل أنكروا وجوده ووجود آدم والملائكة فضلا عن قصة أمره بالسجود وإبائه وما ترتب عليها.

ولما أنكرت الجبرية الحكمة والتعليل والأسباب وأبطلت هذا الأصل بعقولها وآرائها عجزوا عن جواب أسئلته وسدوا على نفوسهم باب استماعها والجواب عنها وفتحوا باب مكابرة العقول الصريحة وإنكار تحسين العقل وتقبيحه وإنكار الأسباب والقوى والطبائع والحكم والغايات المحمودة التي لأجلها يفعل الرب ما يفعله ويأمر بما يأمر به وجوزوا عليه أن يفعل كل شيء وأن يأمر بجميع ما نهى عنه وينهى عن كل ما أمر به ولا فرق عنده البتة بين المأمور والمحظور والكل سواء في نفس الأمر ولكن هذا صار حسنا بأمره لا أنه في نفسه وذاته حسن وهذا صار قبيحا بنهيه لا أنه في نفسه وذاته قبيح.

ولما أصلت القدرية إنكار عموم قدرة الله سبحانه ومشيئته لجميع الكائنات وأخرجت أفعال عباده خيرها وشرها عن قدرته ومشيئته وخلقه وأثبتت لله سبحانه شريعة بعقولهم حكمة عليه بها واستحسنت منه ما استحسنته من أنفسها واستقبحت منه ما استقبحته من نفوسها

ص: 1550

وعارضت بين الأدلة السمعية الدالة على خلاف ما أصلوه وبين العقل ثم راموا الرد على عدو الله فعجزوا عن الرد التام عليه وأجابت كل فرقة من هذه الفرق من الرد عليه بحسب ما وافقت فيه السمع والعقل.

وإنما يتمكن من الرد عليه كل الرد من تلقى أصوله عن مشكاة الوحي ونور النبوة ولم يؤصل أصلا برأيه وعقله وآراء الرجال وعقولهم ولم يخرج من مشكاة الوحي ولم يظهر من معدنه بل تلقى أصوله كلها عن قول من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.

فأول ذلك أنه علم أن هذه الأسئلة ليست من كلام الله الذي أنزله على موسى وعيسى مخبرا بها عن عدوه كما أخبر عنه في القرآن بكثير من أقواله وأفعاله وإدخال بعض أهل الكتاب لها في تفسير التوراة والإنجيل هو كما تجد في المسلمين وما بالعهد من قدم من يدخل في تفسير القرآن كثيرا من الأحاديث والأخبار التي لا أصل لها والقصص المعلوم كذبها وإذا كان هذا في هذه الأمة التي هي أكمل الأمم علوما ومعارف وعقولا فما الظن بأهل الكتاب

فصل

الوجه الثاني: أن نقول لعدو الله قد ناقضت في أسئلتك ما اعترفت به وسلمته غاية المناقضة وجعلت ما أسلفته من التسليم

ص: 1551

والاعتراف مبطلا لجميع أسئلتك متضمنا للجواب عنها قبل ذكرها وذلك أنك قلت {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر39] وقلت {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف12] وقلت {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص82 ، 83] فاعترفت بأنه ربك وخالقك ومالكك وأنك مخلوق له مربوب تحت أوامره ونواهيه إنما شأنك أن تتصرف في نفسك تصرف العبد المأمور المنهي المستعد لأوامر سيده ونواهيه وهذه هي الغاية التي خلقت لها وهي غاية الخلق وكمال سعادتهم وصلاحهم وهذا الاعتراف منك بربوبيته وقدرته وعزته يتضمن إقرارك بكمال علمه وحكمته وغناه وأنه في كل ما أمر به عليم حكيم لم يأمر عبده لحاجة منه إلى أمره به ولم ينهه بخلا عليه بما نهاه عنه بل أمره رحمة منه به وإحسانا إليه بما فيه صلاحه في معاشه ومعاده وما لا صلاح له إلا به ونهاه عما في ارتكابه فساده في معاشه ومعاده فكانت نعمته عليه بأمره ونهيه أعظم من نعمته عليه بمأكله ومشربه ولباسه وصحة بدنه بما لا نسبة بينهما كما قال سبحانه في آخر قصتك مع الأبوين {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ

ص: 1552

التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف26] فأخبر سبحانه أن لباس التقوى وزينتها خير من المال والرياش والجمال الظاهر فالله سبحانه خلق عباده وجمل ظواهرهم بأحسن تقويم وجمل بواطنهم بهدايتهم إلى الصراط المستقيم.

ولهذا كانت صورتك قبل معصية ربك وإيثارك معاداته على طاعته وموالاته من أحسن الصور وأنت مع الملائكة الأكرمين فلما وقع ما وقع جعل قبح صورتك وبشاعة منظرك مثلا يضرب لكل قبيح كما قال تعالى {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات65] فهذه أول فقرة تعجلتها من معصيته ولا ريب أنك تعلم أنه أحكم الحاكمين وأعلم العالمين وأغنى الأغنياء وأرحم الراحمين وأنه لم يأمر العباد إلا بما فعله خير لهم وأصلح وأنفع وأحسن تأويلا وأعظم عائدة من تركه كما أنه لم يرزقهم إلا ما تناوله أنفع لهم من تركه فأمره لهم بما أمرهم به كرزقه لهم ما رزقهم إياه فالسعداء استعملوا أمره وشرعه لحفظ صحة قلوبهم وكمالها وصلاحها بمنزلة استعمالهم رزقه لحفظ صحة أجسامهم وصلاحها وتيقنوا أنه كما لا بقاء للبدن ولا صحة ولا صلاح إلا بتناول غذائه الذي جعل له فلذلك لا صلاح للقلب والروح ولا فلاح ولا نعيم إلا بتناول غذائه الذي جعل له هذا وإن ألقيت إلى طائفة من الناس أنه لا مصلحة

ص: 1553

للمكلفين فيما أمروا به ونهوا عنه ولا منفعة لهم فيه ولا خير ولا فرق في نفس الأمر بين فعل هذا وترك هذا ولكن أمروا ونهوا لمجرد الامتحان والاختبار ولا فرق في نفس الأمر بين ما أمروا به ونهوا عنه فلم يؤمروا بحسن ولم ينهوا عن قبيح بل ليس في نفس الأمر لا حسن ولا قبيح.

ومن عجيب أمرك وأمرهم أنك أوحيت إليهم هذا فردوا به عليك وجعلوه عصمتهم في جواب أسئلتك فدفعوها كلها وقالوا إنما تتوجه هذه الأسئلة في حق من يفعل لغرض أو لعلة وأما من فعله بريئا من العلل والأغراض فلا يتوجه عليه سؤال واحد من هذه الأسئلة فإن كانت هذه القاعدة حقا فقد اندفعت أسئلتك كلها وإن كانت باطلا والحق في خلافها فقد بطلت أسئلتك أيضا لما تقدم فقد بطلت أسئلتك على التقديرين يوضحه.

الوجه الثالث: أن نقول لعدو الله إما أن تسلم حكمة الله في خلقه وأمره وإما أن تجحدها وتنكرها فإن سلمتها وأنه سبحانه حكيم في خلقك حكيم في أمرك بالسجود بطلت الأسئلة وكنت معترفا بأنك أوردتها على من تميز حكمته العقول ولم تجعل أحدا من خلقه شريكا له في ما فعل بحكمته فإنه لا يشرك في حكمه أحدا كما لم يشركهم في علمه

ص: 1554

وقدرته وملكه وربوبيته وحينئذ فتسليمك هذه الحكمة التي لا سبيل للمخلوقين لمشاركة الخالق فيها البتة قد عادت على أسئلتك الفاسدة بالنقض والإبطال.

وإن رجعت عن الإقرار له سبحانه بالحكمة وقلت إنه لا يفعل لحكمة البتة بل لا يسأل عما يفعل وهم يسألون فما وجه إيراد هذه الأسئلة على من لم يفعل بحكمة ولا يسأل عما يفعل فقد أوردت الأسئلة على من لا يسأل عما يفعل وطعنت في حكمة من كل أفعاله حكمة ومصلحة وعدل وخير بمعقولك الفاسد وعقلك الصغير الذي آثرت به داعي الكبر والكفر على داعي العبودية والإيمان يوضحه.

الوجه الرابع: وهو أنك قد كشفت للخلائق عن محصول علمك ومعرفتك وقدر عقلك الذي صرت به ضحكة لهم وسخرية على ألسنتهم فإنك انتصرت لنفسك ورياستك ودلك عقلك على أن عزك في معصيتك ورياستك في إبائك من السجود وكان هذا أعظم أسباب ذلك وخيبتك ويأسك من روح الله وبعدك من رحمته وطردك من جنته ومبائتك بلغنته فأضعت عزك وأخملت شرفك ووضعت قدرك من حيث زعمت أنك تحفظه فكنت كآكل السم الذي فيه تلفه ليحفظ به قوته وصحته ثم رضيت لنفسك أن صرت خادما وقوادا لكل فاسق وفاجر وخبيث فمن هذا قدر

ص: 1555

عقله ونهاية معرفته وعلمه ألا يستحي من إيراد هذه الأسئلة اللائقة به على من ملأت حكمته الوجود وبهرت العقول حتى صارت للبصائر أظهر من نور الشمس للأبصار يوضحه

الوجه الخامس: إن غاية معقولك وحاصل عقلك هو القياس الذي عارضت به النص وقدمته عليه وقد بان فساده للعقلاء من أكثر من ثلاثين وجها قد تقدم ذكرها فلا حاجة إلى إعادتها فإذا كان هذا شأن أقوى أسئلتك التي أوردتها على ربك وسائر أسئلتك مبنية عليه ومردودة إليه فما الظن بفروع هذا أصلها فمن نادى على مقدار عقله ومحصول معرفته على رؤوس الملأ من الملائكة بقوله {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف12] واستجاز معارضة الأمر المتضمن لغاية الحكمة والمصلحة بهذا الرأي الفاسد والسفه البارد كيف يتوجه له سؤال على الحكيم العليم.

الوجه السادس: أن هذه الأسئلة يرجع حاصلها كلها إلى القدح والطعن في علم الرب سبحانه أو حكمته أو قدرته أو اثنين منها أو كلها إذ حاصلها أنه سبحانه إما أن يكون عالما بما يحصل مني وما يكون من أمري أو لا يكون عالما فإن لم يكن عالما لزم القدح في علمه وإن كان عالما فإما أن يكون قادرا على

ص: 1556

منعي من هذا الفساد والضرر الواقع ببني آدم مني أو لا يكون قادرا فإن لم يكن قادرا لزم القدح في قدرته وإن كان قادرا ولم يمنعني بل مكنني وأبقاني وسلطني لزم القدح في حكمته فهذا غاية ما عند تلامذة عدو الله وأصحابه وهو الذي أوحاه إليهم وألقاه على ألسنتهم وجعله دائرا بينهم وحينئذ فيقال له هذا إنكار منك لما علم بالضرورة التي هي فوق كل ضرورة من وجود رب العالمين وإله من في السماء والأرض الذي هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وهو أحكم الحاكمين فإنكار علمه وحكمته وقدرته جحود وإنكار له ونفي أن يكون لك أو للعالمين رب عليم مدبر حكيم فإن الجاهل العاجز السفيه لا يكون ربا ولا إلها فلا تتم لك هذه الأسئلة إلا بقول أخيك وشقيقك فرعون {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء23] وقوله {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص38] فإن عدو الله علم أنه إن اقر بوجود فاطر السموات والأرض وبصفاته وعلوه فوق العالم وتكليمه لموسى

ص: 1557

أوجب عليه هذا الإقرار الانقياد والعبودية والإيمان بموسى فلم يجد بدا من إنكار الرب وعدم الإقرار به وهكذا هذه الأسئلة لا تتوجه إلا مع إنكاره سبحانه وجحوده وإلا فمع الإقرار بأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه أحكم الحاكمين فلا تتوجه البتة وهذا حقيقة الرب وحينئذ فنقول في

الوجه السابع: إن مثل هذا النمط من الاعتراضات والأسئلة فاسد عند جميع أهل الأرض فإنه يتضمن اعتراض الجاهل على أحذق الناس بصناعة قد أحكم آلاتها وأسبابها وقدرها على أكمل الوجوه وأحسنها وأوفقها لما يقصد منها فجاء رجل جاهل لا مناسبة بينه وبين ذلك الحاذق بوجه ما فأخذ يعترض عليه في أجزاء تلك الصناعة وآلاتها وأشكالها ومقاديرها ويقول هلا كان هذا أكبر مما هو أو أصغر أو على شكل آخر أو كان كذا في موضع كذا أو عمل هذا في وقت كذا ونحو هذا مما يسخر منه العقلاء ويعدون صاحبه في زمرة السفهاء مع أنه يمكن المعترض مشاركة ذلك الأستاذ الحاذق في صناعته ومساواته فيها وتقدمه عليها فيها فإذا كان اعتراضه عليه مدفوعا عند كل عاقل فما الظن بالاعتراض على من لا شريك له في حكمته ولا شبيه له فيها والتفاوت

ص: 1558

الذي بينه وبين المعترض في حكمته كالتفاوت الذي بينه وبينه في العلم والقدرة والغنى وسائر الصفات أفلا يستحي من يرى الاعتراض على مخلوق مثله قد فاقه في صناعة وعلم قبيحا لا يجد عليه إلا تعريضه نفسه للذم ومبادلته عليها بالجهل من إيراد مثل هذه الأسئلة على الحكيم العليم.

الوجه الثامن: أن يقال لعدو الله إيرادك هذه الأسئلة إما أن تكون على وجه الظن في الرب تعالى وأنه فعل مالا ينبغي له فعله أو على وجه الاسترشاد وطلب الهداية فإن كان على وجه الطعن والقدح فكيف تجامع اعترافك بربوبيته ومكله وخلقه وإقرارك بعزته وحكمته ثم تقدح فيه وإن كان على وجه الاسترشاد وطلب الحكمة فذلك فرع عن التسليم لأمره والإذعان لعبوديته والانقياد لحكمته فلا يجتمع مع تصريحك بالعداوة والكفر والاستكبار عن طاعته فإن معصيتك له وقد أمرك منه إليك بلا واسطة أعظم من استكبار من استكبر عن طاعته التي أمر بها على ألسنة رسله فإذا آثرت الكفر والاستكبار والعداوة فكيف سألت مسائل المسترشد المهتدي فالسؤال نوعان إما سؤال جاهل بالحكمة في طلب معرفتها وإما سؤال قادح في الحكمة بما يبطلها وينقضها وحينئذ فنقول في

ص: 1559

الوجه التاسع: لا تتوجه هذه الأسئلة على واحدة من الطريقتين إما على الطريقة الأولى فلأن الاستعداد والقبول لمعرفة تفاصيل الحكمة يكون شرطا في قبول الأسئلة والجواب عنها والقوى البشرية ليست مستعدة للعلم بتفاصيل حكمة الله في خلقه وأمره وحينئذ فيكون بيان تفاصيل الحكم عبثا ضائعا وهو مناف للحكمة وإما على الطريقة الثانية فلأن أسئلته تتضمن قدح العبد في الرب والمخلوق في الخالق والجاهل في العالم والسفيه في الحكيم فهي من أبطل الأسئلة ولا يحتاج في بيان بطلانها إلى أكثر من ذلك يوضحه.

الوجه العاشر: إن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت نبيها وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه وبلغها عن ربها ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها بل انقادت وسلمت وأذعنت وما عرفت من الحكمة عرفته وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وإيمانها واستسلامها على معرفته ولا جعلت طلبه من شأنها وكان رسولها أعظم في صدورها من سؤالها عن

ص: 1560

ذلك كما في الإنجيل يا بني إسرائيل لا تقولوا لم أمر ربنا ولكن قولوا بم أمر ربنا ولهذا كانت هذه الأمة التي هي أكمل الأمم عقولا ومعارف وعلوما لا تسأل نبيها لم أمر الله بذلك ولم نهى عن كذا ولم قدر كذا ولم فعل كذا لعلمهم أ ، ذلك مضاد للإيمان والاستسلام وأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم وذلك يوجب تعظيم الرب تعالى وأمره ونهيه فلا يتم الإيمان إلا بتعظيمه ولا يتم تعظيمه إلا بتعظيم أمره ونهيه فعلى قدر تعظيم العبد لله سبحانه يكون تعظيمه لأمره ونهيه وتعظيم الأمر دليل على تعظيم الآمر وأول مراتب تعظيم الأمر التصديق به ثم العزم الجازم على امتثاله ثم المسارعة إليه والمبادرة به رغم القواطع والموانع ثم بذل الجهد والنصح في الإتيان به على أكمل الوجوه ثم فعله لكونه مأمورا به بحيث يتوقف الإنسان على معرفة حكمته فإن ظهرت له فعله وإلا عطله فهذا من عدم عظمته في صدره بل يسلم لأمر الله وحكمته ممتثلا ما أمر به سواء ظهرت له حكمته أو لم تظهر فإن ورد الشرع بذكر حكمة الأمر أو فقهها العقل كانت زيادة في البصيرة والداعية في الامتثال وإن لم تظهر له حكمته لم يوهن ذلك انقياده ولم يقدح في امتثاله فالمعظم لأمر الله يجري الأوامر والنواهي على ما

ص: 1561

جاءت لا يعللها بعلل توهنها وتخدش في وجه حسنها فضلا عن أن يعارضها بعلل تقتضي خلافها فهذا حال ورثة إبليس والتسليم والانقياد والقبول حال ورثة الأنبياء.

الوجه الحادي عشر: إن المعترضين على الرب سبحانه قسمان قسم اعترضوا عليه في أمره ونهيه وقسم اعترضوا عليه في قضائه وقدره وربما اجتمع النوعان في حق المعترض وقد ينفرد أحدهما وإبليس ممن جمع النعين فاعترض أولا عليه في أمره له بالسجود لآدم وزعم أنه مخالف للحكمة وأن الحكمة إنما تقتضي خضوع المفضول للفاضل لا ضد ذلك وزعم أنه أفضل وخير من آدم ثم اعترض بعد ذلك على القضاء والقدر بهذه الأسولة فجمع بين الاعتراض على أمره وقدره وبث هذين النوعين في أصحابه وتلامذته وأخرجها لهم في كل قالب وصورة يقبلونها فيها وآخر ذلك أوحى إليهم أن يعترضوا على خيره عن نفسه وخبر رسله عنه بالعقل فعارض عدو الله أمره بأنه خلاف الحكمة وقدره بأنه خلاف العدل وخبره بأنه خلاف العقل وسرت هذه المعارضات الثلاث في أتباعه فهم خلفاؤه ونوابه فهم على قدر أنصابهم منها ومعلوم أن هذه الأنواع الثلاثة مضادة له ومجاهرة بالعداوة ومن التلبيس إخراج المعترض لها في صورة العلم والحب والمعرفة

ص: 1562

بألفاظ مزخرفة تغر السامع وتصغي إليها أفئدة أشباه الأنعام وتنفعل عنها قلوبهم بالرضى بها وألسنتهم بالتكلم بها وجوارحهم بالعمل بمقتضاها.

الوجه الثاني عشر: إن أعداءه المشركين اعترضوا على أمره وشرعه بقضائه وقدره فجعلهم سبحانه بذلك كاذبين جاهلين مشركين وهذه الأسولة الإبليسية تتضمن الاعتراض على قضائه وقدره بحكمته وأن الحكمة تعارض ما قضاه وقدره كما أن اعتراض المشركين يتضمن أن القضاء والقدر يعارض ما شرعه وأمر به وهذه المعارضات كلها من مشكاة واحدة فإذا كان الاعتراض على دينه وشرعه بقضائه وقدره باطلا فكذلك الاعتراض على قضائه وقدره بحكمته يوضحه.

الوجه الثالث عشر: إن الأمر والقدر تفصيل للحكمة ومظهرها فإنها خفية فلا بد لظهورها من شرع يأمر به وقدر يقضيه ويكونه فتظهر حكمته سبحانه في هذا وهذا فكيف يكون تفصيل الشيء وما يظهره مناقضا له منافيا بل يمتنع أن يكون إلا مصدقا موافقا فإن التفصيل متى ناقض الأصل وضاده كان دليلا على بطلانه يوضحه.

الوجه الرابع عشر: وهو أن الرب سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى وأسماؤه متضمنة لصفات كماله وأفعاله ناشئة عن صفاته

ص: 1563

فإنه سبحانه لم يستفد كمالا بأفعاله بل له الكمال التام المطلق وفعاله عن كماله والمخلوق كماله عن فعاله فإنه فعل فكمل بفعله وأسماؤه الحسنى تقتضي آثارها وتستلزمها استلزام المقتضى الموجب لموجبه ومقتضاه فلا بد من ظهور آثارها في الوجود فإن من أسمائه الخلاق المقتضي لوجود الخلق ومن أسمائه الرزاق المقتضي لوجود الرزق والمرزوق وكذلك الغفار والتواب والحكيم والعفو وكذلك الرحمن الرحيم وكذلك الحكم العدل إلى سائر الأسماء ومنها الحكيم المستلزم لظهور حكمته في الوجود والوجود متضمن لخلقه وأمره {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف54] فخلقه وأمره صدرا عن حكمته وعلمه وحكمته وعلمه اقتضيا ظهور خلقه وأمره فمصدر الخلق والأمر عن هذين المتضمنين لهاتين الصفتين ولهذا يقرن سبحانه بينهما عند ذكر إنزال كتابه وعند ذكر ملكه وربوبيته إذ هما مصدر الخلق والأمر ولما كان سبحانه كاملا في جميع أوصافه ومن أجلها حكمته كانت عامة التعلق بكل مقدور كما أن علمه عام التعلق بكل معلوم ومشيئته عامة التعلق بكل موجود وسمعه وبصره عام التعلق بكل مسموع ومرئي فهذا من لوازم صفاته فلا بد أن تكون حكمته عامة

ص: 1564

التعلق بكل ما خلقه وقدره وأمر به ونهى عنه وهذا أمر ذاتي للصفة يمتنع تخلفه وانفكاكه عنها كما يمتنع تخلف الصفة نفسها وانفكاكها عنه وهذا وحده برهان كاف شاف في إبطال تلك الأسولة كلها وأنه يكفي في إبطالها إثبات عموم تعلق صفاته وذلك يستلزم إثبات الصفات وهي تستلزم إثبات الذات فإثبات ذات الرب تعالى كاف في بطلان الأسولة الإبليسية.

نعم الجهمي المعطل وأصحابه يعجزون عن الجواب عنها على هذه الطريق وإن أجابوا عنها على غيرها لم يشفوا عليلا ولم يرووا غليلا إذ هي أجوبة مبنية على أصول باطلة والمبنية على الباطل لا تكون صحيحة من كل وجه وقد قدمنا مجامع طرق الناس في الأجوبة وبان أن الأصول الفاسدة خذلتهم عن الجواب الصحيح الشافي.

الوجه الخامس عشر: إن الله سبحانه وتعالى فطر عباده حتى الحيوان البهيم على استحسان وضع الشيء في موضعه والإتيان به في وقته وحصوله على الوجه المطلوب منه وعلى استقباح ضد ذلك وخلافه وأن الأول دال على كمال فاعله وعلمه وقدرته وخبرته وضده دال على نقصه وعلى نقص علمه وقدرته وخبرته وهذه فطرة لا يمكنهم الخروج عن موجبها ومعلوم أن الذي فطرهم على ذلك وجعله فيهم أولى به منهم

ص: 1565

فهو سبحانه يضع الأشياء في مواضعها التي لا يليق بها سواها ويخصها من الصفات والأشكال والهيئات والمقادير بما هو أعلم بها من غيره ويبرزها في أوقاتها وأزمنتها المناسبة لها التي لا يليق بها سواها ومن له نظر صحيح وفكر مستقيم وأعطى التأمل حقه شهد بذلك فيما رآه وعلمه واستدل بما شاهده على ما خفي عنه فإن الكل صنع الحكيم العليم ويكفي في هذا ما يعلمه من حكمة خلق الحيوان وأعضائه وصفاته وهيئاته ومنافعه واشتماله على الحكمة المطلوبة منه أتم اشتمال وقد ندب سبحانه عباده إلى ذلك فقال {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات21] وقال {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية17] إلى آخرها وكذلك جميع ما يشاهد من مخلوقاته عاليها وسافلها وما بين ذلك إذا تأملها صحيح التأمل والنظر وجدها مؤسسة على غاية الحكمة مغشاة بالحكمة فقرأ سطور الحكمة على صفحاتها وينادي عليها هذا صنع

ص: 1566

العليم الحكيم وتقدير العزيز العليم فإن وجدت العقول أوفق من هذا فلتقترحه أو رأت أحسن منه فلتبده ولتوضحه ذلك صنع {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك4 ، 3] ومن نظر في هذاالعالم وتأمل أمره حق التأمل علم قطعا أن خالقه أتقنه وأحكمه غاية الإتقان والإحكام فإنه إذا تأمله وجده كالبيت المبني المعد فيه جميع عتاده فالسماء مرفوعة كالسقف والأرض ممدودة كالبساط والنجوم منضودة كالمصابيح والمنافع مخزونة كالذخائر كل شيء منها لأمر يصلح له والإنسان كالمالك المخول فيه وضروب النبات مهيأة لمآربه وصنوف الحيوان مصرفة في مصالحه فمنها ما هو للدر والنسل والغذاء فقط ومنها ما هو للركوب والحمولة فقط ومنها ما هو للجمال والزينة ومنها ما يجمع ذلك كله كالإبل وجعل أجوافها خزائن لما هو شراب وغذاء ودواء وشفاء ففيها عبرة للناظرين وآيات للمتوسمين وفي الطير واختلاف أنواعها وأشكالها وألوانها ومقاديرها ومنافعها وأصواتها صافات وقابضات وغاديات ورائحات ومقيمات وظاعنات أعظم عبرة وأبين دلالة على حكمة الخلاق العليم وكل ما أوجده الناس وأولوه بالا بالأفكار الطويلة

ص: 1567

والتجارب المتعددة من أصناف الآلات والمصانع وغيرها إذا فكر فيها المتفكر وجدها مشتقة من الخلقة مستنبطة من الصنع الإلهي مثال ذلك القبان مستنبطة من خلقة البعير كأنهم لما رأوه ينهض بحمله وينوء به يمد عنقه ويوازن حمله برأسه استنبطوا القبان من ذلك وجعلوا طول حديدته في مقابلة طول العنق ورمانة القبان في مقابلة رأس البعير فتم لهم ما استنبطوه وكذلك استنبطوا بناء الأقباء من ظهره فإنهم وجدوه يحمل ما لا يحمله غيره فتأملوا ظهره فإذا هو كالقبو فعلموا أن القبو يحمل ما لا يحمله السطح وكذلك ما استنبطه الحذاق لمن كل بصره أن يديم النظر إلى إجانة مملوءة خضر ماء استنباطا من حكمة الخلاق العليم في لون السماء فإن لونها أشد الألوان موافقة للبصر وتقويته فجعل أديمها بهذا اللون

ص: 1568

لتمسك الأبصار ولا تنكأ فيها بطول مباشرتها لها ومن هذا استنبط الأطباء لمن أصابه سوء في بصره إدمان النظر إلى الخضرة وإذا فكرت في طلوع الشمس وغروبها لإقامة دولتي الليل والنهار ولولا طلوعها لبطل أمر هذا العالم فكم في طلوعها من الحكم والمصالح وكيف كان حال الحيوان لو أمسكت عنهم وجعل الليل عليهم سرمدا والدنيا مظلمة عليهم فبأي نور كانوا يتصرفون وينقلبون وكيف كانت تنضج ثمارهم وتكمل أقواتهم وتعتدل صورهم وأبدانهم فالحكم في طلوعها أعظم من أن تخفى أو تحصى ولكن تأمل الحكمة في غروبها فلولا غروبها لم يكن للحيوان هدوء ولا قرار مع شدة حاجتهم إلى الهدوء لراحة أبدانهم وإجمام حواسهم وأيضا لو دامت على الأرض لاشتد حموها بدوام طلوعها عليها فأحرق كل ما عليها من حيوان ونبات فاقتضت حكمة الخلاق العليم والعزيز الحكيم أن جعلها تطلع عليهم في وقت وتغيب في وقت بمنزلة سراج يرفع لأهل الدار مليا ليقضوا مآربهم ثم يغيب عنهم مثل ذلك ليقروا ويهدوا وصار ضياء النهار وحرارته وظلام الليل وبرده على تضادهما وما فيهما متظاهرين متعاونين على

ص: 1569

ما فيه صلاح العالم وقوامه ومنافع أهله ثم اقتضت حكمته أن جعل للشمس ارتفاعا وانحطاطا لإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة وما فيها من قيام الحيوان والنبات ففي زمن الشتاء تغور الحرارة في الشجر والنبات فيتولد فيها مواد اثمار ويغلظ الهواء بسبب البرد فتصير مادة للسحاب فيرسل العزيز الحكيم الريح المثيرة فيثيره فزعا ثم يرسل عليه الريح المؤلفة فتؤلف بينه حتى يصير طبقا واحدا ثم يرسل عليه الريح اللاقحة التي فيها مادة الماء فيلقحه كما يلقح الذكر الأنثى فيحمل الماء من وقته فإذا كان بروز الحمل وانفصاله أرسل عليه الريح الذارية فتذروه وتفرقه في الهواء لئلا يقع صبة واحدة فيهلك ما أصابه ويقل الانتفاع به فإذا سقى ما أمر بسقيه وفرغت حاجتهم منها أرسل عليه الرياح السائقة فتسوقه وتزيحه إلى قوم آخرين وأرض أخرى محتاجة إليه فإذا جاء الربيع تحركت الطبائع وظهرت المواد الكامنة في الشتاء فخرج النبات وأخذت الأرض زخرفها وازينت وأنبتت من كل زوج بهيج فإذا جاء الصيف سخن الهواء فنضجت الثمار ويبست الحبوب فصلحت للحفظ والخزن وتحللت فضلات الأبدان فإذا جاء الخريف كسر ذلك السموم والحرور وصفا الهواء واعتدل وأخذت الأرض والشجر في الراحة والجموم والاستعداد للحمل الآخر واقتضت حكمته سبحانه أن أنزل الشمس والقمر في

ص: 1570

البروج وقدر لهما المنازل ليعلم العباد عدد السنين والحساب من الشهور والأعوام قسم بذلك مصالحهم ويعلم آجال معاملاتهم ومواقيت حجهم وعباداتهم ومدد أعمارهم وغير ذلك من مصالح حسابهم فالزمان مقدار الحركة ألا ترى أن السنة الشمسية مقدار مسير الشمس من الحمل إلى الحمل واليوم مقدار مسيرها من الشرق إلى الغرب وبحركة الشمس والقمر كان الزمان من حين خلقا إلى أن يجمع الله بينهما ويعزلهما عن سلطانهما ويرى عابديهما أنهم عبدوا الباطل من دونه وأن سلطان معبودهم قد بطل واضمحل وأن سلطان الحق والملك الحق لله الواحد القهار قال تعالى {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَاّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس5] وقال تعالى {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء12] ففي القمر وتقدير منازله آيات وحكم لا تخفى على الناظرين واقتضت حكمته سبحانه في تدبيره أن فاوت

ص: 1571

بين مقادير الليل والنهار فلم يجعلهما دائما على حد سواء ولا أطول مما هما عليه ولا أقصر بل جاء استواؤهما وأخذ أحدهما من الآخر على وفق الحكمة حتى إن المكان الذي يقصر أحدهما فيه جدا لا يكون فيه حيوان ونبات كالمكان الذي لا تطلع عليه الشمس ولا تغرب عنه فلو كان النهار مقدار مائة ساعة أو أكثر أو كان الليل كذلك لتعطلت المصالح التي نظمها الله بهذا المقدار من الليل والنهار ثم تأمل الحكمة في إنارة القمر والكواكب في ظلمة الليل فإنه مع الحاجة إلى الظلمة لهدوء الحيوان وبرد الهواء لم تقتض المصلحة أن يكون الليل ظلمة واحدة داجية لا ضياء فيها فلا يمكن فيه شيء من العمل وربما احتاج الناس إلى العمل بالليل لضيق الوقت عليهم في النهار ولإفراط الحر فيه فاحتاجوا إلى العمل في الليل في نور القمر من حرث الأرض وقطع الزرع وغير ذلك فجعل ضوء القمر في الليل معونة للناس على هذه الأعمال وجعل في الكواكب جزءا يسيرا من النور لتسد مسد القمر إذا لم يكن وجعلت زينة السماء ومعالم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ودلالات واضحات على الخلاق العليم وغير ذلك من الحكم التي بها انتظام هذا العالم وجعلت الشمس على حالة واحدة لا تقبل الزيادة والنقصان لئلا تتعطل

ص: 1572

الحكمة المقصودة منها وجعل القمر على حالة تقبل الزيادة والنقصان لئلا تتعطل الحكمة المقصودة من جعله كذلك وكان في نوره من التبريد والتصليب ما يقابل ما في ضوء الشمس من التسخين والتحليل فتنتظم المصلحة وتتم الحكمة من هذا التسخين والتبريد وتأمل اللفظ والحكمة الإلهية في جعل الكواكب السيارة ومنازلها تظهر في بعض السنين وتحتجب في بعضها لأنها لو ظهرت دائما أو احتجبت دائما لذابت الحكمة المطلوبة منها وكما اقتضت الحكمة أن يظهر بعضها ويحتجب بعضها فلا تظهر كلها دفعة واحدة ولا تحتجب دفعة واحدة بل ينوب ظاهرها عن خفيها في الدلالة وجعل بعضها ظاهرا لا يحتجب أصلا بمنزلة الأعلام المنصوبة التي يهتدي بها الناس في الطرق المجهولة في البر والبحر فهم ينظرون إليها متى أرادوا ويهتدون بها حيث شاءوا فجاء الأمران على وفق الحكمة ثم تأمل حال النجوم واختلاف مسيرها ففرقة منها لا تريم مراكزها من الفلك ولا تسير إلا مجتمعة كالجيش الواحد وفرقة منها مطلقة تنتقل في البروج وتفترق في مسيرها فكل واحد منها يسير سيرين مختلفين أحدهما عام مع الفلك نحو الغرب والآخر خاص لنفسه نحو الشرق فله حركتان مختلفتان على وفق الحكمة وذلك من أعظم الدلالة على

ص: 1573

الفاعل المختار العليم الحكيم وعلى كمال علمه وقدرته وحكمته وتأمل كيف صار هذا الفلك بشمسه وقمره ونجومه وبروجه يدور على هذا العالم هذا الدوران العظيم السريع المستمر بتقدير محكم لا يزيد ولا ينقص ولا يختل عن نظامه بل هو تقدير العزيز العليم كما أشار تعالى إلى أن ذلك التقدير صادر عن كمال عزته وعلمه فقال تعالى {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس38] وقال تعالى {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى قوله {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت12-9] وقال تعالى {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام96] .

ص: 1574

فذكر سبحانه أن هذا التقدير لمسير الشمس والقمر والليل والنهار وحركات النجوم في مطالعها ومغاربها تقدير ناشئ عن عزته وعلمه وذلك متضمن وقوعه على وجه الحكمة الغائية ولتسخير الشمس والقمر والكواكب وتذليلها لعزته وجار على وفق حكمته فجاءت على وفق ما قدرها له فهل يخفى على ذي لب أن ذلك تقدير مقدر قادر عزيز حكيم وحسبنا الله ونعم الوكيل

ص: 1575