الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومع ذلك، لم أكن أواصل العمل، وربما يمضي الشهر وأكثر لا أنشط لكتابة شيء، وأنا إلى الآن لم أكمل قسم العقائد. هذا هو الواقع، أحوجني الأستاذ إلى شرحه، وإن كان لا تتعلق به فائدة» اهـ.
فهذا فيه دلالة واضحة على أنه بدأ به في أواخر شهر ربيع الثاني سنة 1366 هـ، وأرسل «الطليعة» للطبع سنة 1368 هـ وطبعت في تلك السنة، وكان قد أتمّ الكتابَ إلا القسم الأخير منه المتعلق بالعقائد بقيت فيه بقية.
وهذا يدلّنا على الوقت الذي استغرقه في تأليف الكتاب، إذ يكون أقل من سنتين، مع عمله الوظيفي في دائرة المعارف، والانقطاعات التي أشار إليها التي قد تمتد إلى أكثر من شهر.
وفي هذا دليل على قوة المؤلف العلمية واكتمال ملَكَة الاجتهاد لديه في العلوم المختلفة، وقُدرته على البحث والمطالعة والجَلَد عليهما.
*
أقسام الكتاب، ومنهج المؤلف فيها
ذكر المؤلف في مقدمة الكتاب أنه قسمه إلى أربعة أقسام، هي:
القسم الأول: القواعد.
القسم الثاني: التراجم.
القسم الثالث: الفقهيات (البحث مع الحنفية في سبع عشرة قضيّة).
القسم الرابع: العقائد (القائد إلى تصحيح العقائد).
وسنتكلم على كل قسم منها، ومنهج المؤلف فيه فنقول:
قدّم المؤلف خمسة فصول قبل أن يشرع في القسم الأول من الكتاب، وهي أشبه بالتوطئة والتمهيد للكتاب؛ ذكر في الفصل الأول الغرضَ الأهمَّ من تأليف كتاب التنكيل، وهو ردّ المطاعن الباطلة عن أئمة السنة ورواتها، ثم شرح الأمر الذي اضطرّه إلى ذلك وخطورة هذا الأمر على السّنة.
وفي الفصل الثاني تكلم على الغلوّ في الأفاضل، وأنه هو الذي جرّ الكوثريَّ إلى الطعن في غيره، واتهامهم جميعًا بمعاداة أبي حنيفة. ثم تكلم على كلام العلماء بعضهم في بعض، وما يقع أحيانًا من الشدة في كلامهم، وتخريج ذلك على معنى لطيف، مع عدة أمثلة تشهد لما ذهب إليه المؤلف من المعنى.
وفي الفصل الثالث تكلم على محاولة الكوثري التبرّؤ مما نُسِب إليه من الطعن في أنس بن مالك رضي الله عنه، وفي هشام بن عروة بن الزبير.
وفي الرابع بحَثَ معه في العُذر الذي ذكره الكوثري في أثَر مسألة القول بخلق القرآن، وأنها هي السبب الذي أوغر صدور المحدّثين على أبي حنيفة، باعتبار أن من قام فيها ينتسبون لمذهب أبي حنيفة. وقد أجاب المؤلف عن ذلك بخمسة أمور.
وفي الخامس تكلم المؤلف عن ميول الكوثري المذهبية والثقافية وكيف أثّرت على كتاباته، فهو من أهل الرأي ومن غُلاة المقلّدين في الفقه، ومن مقلّدي المتكلمين، ومن المجارين لكُتّاب العصر، ثم تكلم على كل صفة من هذه الصفات وكيف أثرت على الكوثري فكرًا وسلوكًا.
ثم شرع في القسم الأول من الكتاب، وهو قسم القواعد، فذكر تحته
تسع قواعد تتعلق بعلم الجرح والتعديل والكلام على الرواة، نذكر عنواناتها هنا:
1 -
رمي الراوي بالكذب في غير الحديث النبوي.
2 -
التهمة بالكذب.
3 -
رواية المبتدع.
4 -
قدح الساخط ومدح المحبّ ونحو ذلك.
5 -
هل يشترط تفسير الجرح؟
6 -
كيف البحث عن أحوال الرواة؟
7 -
إذا اجتمع جرح وتعديل فبأيهما يعمل؟
8 -
قولهم: من ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح إلا
…
9 -
مباحث في الاتصال والانقطاع.
وهذه القواعد صدّر بها المؤلف الكتاب لغرضين:
الأول: لأن الكوثري خلّط فيها في مواضع عديدة من كتابه، فأراد المؤلف أن يجمع الكلام فيها في مكان واحد، ويتكلم عليه على وجه التحرير والتحقيق.
الثاني: لكيلا يضطر المؤلف لإعادة الكلام في هذه المسائل في كل موضع يجيء مقتضى الكلام عليها، فنرى المؤلف يحيل في استيفاء الكلام على هذه القواعد كلّما احتاج إلى ذلك.
والسبب الذي اقتضى من المؤلف الكلام على هذه القواعد التسع دون غيرها من قواعد الجرح والتعديل ومعرفة الرجال هو أن الكوثري في كلامه على الرواة في كتابه موضوع النقد= قد أكثر من الاعتماد على مجموع هذه القواعد؛ إما على خلاف الراجح المعروف عند أهل الحديث والنقد، أو على وجهٍ فيه تَعْمِية وتلبيس على القارئ غير الممارس، أو بإلحاق راوٍ بما لا يناسبه من هذه القواعد، أو بتنزيل قاعدة على راوٍ لا يصح أن تنزّل عليه، وهكذا. وقد لخَّص المؤلف كل هذه التصرّفات من الكوثري بـ «التخليط في القواعد» .
وقد جرى المؤلف في هذه القواعد على طريقته المعهودة من التأصيل والتحرير والمناقشة والترجيح، وصارت هذه القواعد مصدرًا ثرًّا لمن كتب فيها بعد ذلك من الدارسين.
ثم شرع في القسم الثاني من الكتاب، وهو قسم التراجم. وقد صدّره ببيان أن هؤلاء الرواة هم الذين تكلم عليهم الكوثري في كتابه، وقد يذكر غيرهم لاقتضاء الحال، وأن ما لم ينسبه من الأقوال في الرواة فهو من «تهذيب التهذيب» أو «اللسان» ، وما كان من غيرهما فإنه يسمي الكتاب والجزء والصفحة غالبًا. وهذا القسم هو أكبر أقسام الكتاب، وهو الغرض الأساسي والأهم من تأليف «التنكيل» كما سلف.
ويمكننا أن نلخص طريقة المؤلف في هذا القسم في عدة نقاط:
1 -
عدد التراجم المذكورة في هذا القسم ثلاث وسبعون ومِئَتا ترجمة.
2 -
رتبهم المؤلف على حروف المعجم، مع رقم تسلسلي لكل ترجمة.
3 -
طريقته في سياق الترجمة: أنه يذكر أولًا اسم الراوي، ثم عبارة الخطيب من «تاريخ بغداد» ــ بالجزء والصفحة ــ التي انتقدها الكوثري وورد فيها اسم الراوي، ثم ينقل كلام الكوثري من كتابه «التأنيب» بالصفحة قائلًا:«قال الأستاذ» ، ثم يبدأ بتعقّبه ومناقشته والردّ عليه. هذه طريقته في جميع تراجم الكتاب.
4 -
لم يقتصر المؤلف على مقصود التعقّب، بل حرَص أن يكون الكتاب جامعًا لفوائد عزيزة في علوم السنة مما يعين على التبحّر والتحقيق فيها، كما صرّح بذلك في «الطليعة» (ص 4).
5 -
حرَص أيضًا على توخّي الحق والعدل واستعمال لغة العلم بعيدًا عن الأسلوب العنيف الذي انتهجه الكوثري في كتابه، غير أن إفراط الكوثري في إساءة القول في الأئمة جرّأه على التصريح ببعض ما يقتضيه صنيعه، كما نص على ذلك أيضًا.
6 -
كانت تعقّبات المؤلف تختلف من ترجمة إلى أخرى طولًا وقصرًا وبحثًا ونظرًا بحسب ما يقع من الكوثري من الوهم أو الإيهام، وقد لخص المؤلف أوجه النقد الموجّهة إلى الكوثري في كتابه هذا في ثمانية من صور التغيير والمغالطات والمجازفات، وهي كما لخّصها في «طليعة التنكيل»:
أأوابده في تبديل الرواة.
ب عوامده في جعل ما لا علاقة له بالجرح جرحًا.
ت عجائبه في اهتبال التصحيف أو الغلط الواقع في بعض الكتب إذا ما وافق هواه.
ث غرائبه في تحريف نصوص أئمة الجرح والتعديل.
ج فواقره في تقطيع نصوص أئمة الجرح والتعديل.
ح عواقره في الاحتجاج بجرح لم يثبت وحكايته بصيغة الجزم.
خ تجاهله ومجازفاته.
د أعاجيبه في اختلاق صيَغ الجرح من غير بيّنة.
هذه الأنواع الثمانية التقط منها المؤلف نماذج، ولخّصها في «الطليعة» ثم ذكر في «الطليعة» (ص 87) أنه بقيت ستة فروع أخرى ذكرها بالتفصيل في «التنكيل» ، وهي:
ذ أنه قد يكون في الرجل كلام يسير لا يضرُّ، فيزعمُه الأستاذُ جرحًا تُردّ به الرواية.
ر أن الأستاذ قد يحكي كلامًا في الرجل مع أنه لا يضره بالنسبة إلى الموضع الذي يتكلّم عليه.
ز تكلّفه الكلام في أسانيد بعض الكتب بالصحة والثبوت بما لا يقدح في ثبوت الكتاب.
س أن الأستاذ يعمد إلى كلامٍ قد ردّه الأئمة، فيتجاهل الأستاذ ردَّهم ويحتج بذلك الكلام.
ش أنه يعمد إلى ما يعلم أنه لا يُعدّ جرحًا البتة، فيعتدّ به ويهوِّل.
ص أنه يتهم بعض الحفاظ الثقات بتُهَم لا أصل لها، كما قاله في الحميدي وغيره.
فهذه الأنواع من المغالطات والمجازفات هي أغلب ما ناقش المؤلف الكوثريَّ فيه، وبيَّن تهافتَ كتابه، وسقوطَ حججه أمام التحقيق والبرهان، وأظهر بجلاء أن صياغة الكوثري المُحْكمة لكتابه ما هي إلا ستر خفيف للتغطية على بناء مهلهل من الداخل.
7 -
جرى المؤلف في كتابه على نمطٍ صعب من التحلّي بأدب النقاش، وجمال العبارة، ومنهاج ثابت من الخلق الحسن والإنصاف للخصم. فقد جرى في طول الكتاب وعرضه على وصف الكوثري بـ (الأستاذ)، وكان عفيف العبارة لم يجرح ولم يبكّت ولم يُجار الكوثريَّ حتى فيما يمكن مجاراته فيه من باب {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. غير أنه قد يشتد في مواضع نادرة جرّأه عليها إساءةُ الأستاذ القول في أئمة السنة، كما قال في «الطليعة» (ص 4)، وكما هو واقع في «التنكيل» في التراجم ذوات الأرقام (23 و 98 و 189 و 191).
8 -
صرّح المؤلف في ترجمة البخاري رقم (191) أنه سلك في هذا الكتاب سبيل المجاملة، قال:«وليس هذا موضع استيفاء الحق» ، وأنه قد أعدّ لاستيفاء الحق عدّته إن لزم الأمر.
أما القسم الثالث الخاص بالفقه، فقد بحث فيه سبع عشرة مسألة، وكان سبب الكلام عليها تعقب الأستاذ الكوثري في كتابه «التأنيب» على الخطيب البغدادي لإيراده أحاديث في ترجمة الإمام أبي حنيفة من «تاريخ بغداد» ، ونقل إنكار بعض المتقدمين على الإمام بسبب ترك العمل بها وردّها.
والمسائل الواردة في الكتاب كما يلي:
1 -
إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس.
2 -
رفع اليدين في الصلاة.
3 -
أفطر الحاجم والمحجوم.
4 -
إشعار الهدي.
5 -
المحرم لا يجد إزارًا أو نعلين يلبس السراويل والخف ولا فدية عليه.
6 -
درهم وجوزة بدرهمين.
7 -
خيار المجلس.
8 -
رجل خلا بأجنبية ثم قالا: نحن زوجان.
9 -
الطلاق قبل النكاح.
10 -
العقيقة مشروعة.
11 -
سهام الخيل من الغنيمة.
12 -
القتل بالمثقّل.
13 -
لا تعقل العاقلة عبدًا.
14 -
تقطع اليد في ربع دينار.
15 -
القضاء بشاهد ويمين.
16 -
نكاح الشاهد امرأة شهد بطلاقها زورًا.
17 -
القرعة.
ومنهج الشيخ في بحث كل مسألة: أنه ينقل أولًا ما في «تاريخ بغداد» ،
ثم يذكر كلام الكوثري، ثم يعقب عليه بما له وما عليه. وقد فصل الكلام حول بعض المسائل، مثل قطع اليد في ربع دينار (رقم 14) ، والقضاء بشاهد ويمين (رقم 15) ، ومسألة رفع اليدين (رقم 2) ، وإذا بلغ الماء قلتين لم ينجس (رقم 1) ، وخيار المجلس (رقم 7) ، والقتل بالمثقل (رقم 12). وأطال في نقد الأحاديث الواردة في الباب وبيان فقهها ومذاهب العلماء فيها، وناقش الكوثري وبين ما في كلامه من التعسف ومجانبة الحق والصواب، ورد على تضعيفه للأحاديث الصحيحة وتأويلها. كل ذلك بأسلوب علمي هادئ رصين يقنع الباحث المنصف، وينبغي أن يقتدى به في بحث المسائل الفقهية دون همز أو لمز أو جناية على الآخرين.
وقد نظر المؤلف في الأحاديث والآثار التي احتج بها الأستاذ الكوثري ومَن سبقه، وبين درجتها من الصحة والضعف، وتكلم على أسانيدها ومتونها وما يستنبط منها، وذكر وجوه التوفيق بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض، ورد على دعوى الاختلاف والاضطراب فيها. ونثر في أثنائها فوائد حديثية ودقائق علمية قد لا توجد في المطوَّلات.
أما القسم الرابع من التنكيل فهو «القائد إلى تصحيح العقائد» ، ألفه الشيخ ردًّا على الكوثري عند ما تعرض في كتابه «تأنيب الخطيب» للطعن في عقيدة أهل الحديث، ونبزهم بالمجسمة والمشبهة والحشوية، ورماهم بالجهل والبدعة والزيغ والضلالة، وخاض في بعض المسائل الاعتقادية كمسألة الكلام والإرجاء، فتعقبه الشيخ في هذا كما تعقبه في غيره.
ويتكون الكتاب من مقدمة وأربعة أبواب وخاتمة، أما المقدمة فقد بدأها بذكر أن الله غني عن العالمين، وقد خلق الخلق لعبادته وطاعته بامتثال
ما أمر به واجتناب ما نهى عنه، وجعل مدار كمال المخلوق على حب الحق وكراهية الباطل، فخلق الله الناس مفطورين على ذلك، وقدَّر لهم ما يؤكد تلك الفطرة وما يدعوهم إلى خلافها، ليكون عليهم في اختيار الكمال مشقة وتعب، ولهم في خلاف ذلك شهوة وهوى. والمقصود أن يتبين حال الإنسان، فيفوز مَنْ صبر على تحمل المشاق، ويخسر من يلجأ إلى الباطل فرارًا من تلك المشاق أو من شدتها، فمدار الفوز أو الخسران على إيثار الحق أو الباطل.
وعقد فصلًا ذكر فيه أن الدين على درجات: كفٌّ عما نهي عنه، وعمل بما أمر به، واعتراف بالحق، واعتقاد له وعلم به. وبيَّن كيف يكون مخالفة الهوى للحق في هذه الأمور، ولم يجعل الله جميع حجج الحق مكشوفة قاهرة لا تشتبه على أحد، لأنها لو كانت كذلك لكان الناس مجبورين على اعتقاد الحق، فلا يستحقون عليه حمدًا ولا كمالًا ولا ثوابًا، وكذلك اقتضت الحكمة أن لا تكون الشبهات غالبة حتى لا توقع الناس كلهم في الكفر، بل اقتضت أن تكون هناك بينات وشبهات، فمن جرى مع فطرته وآثر مقتضاها وتفقد مسالك الهوى فاحترس منها تتجلى له البينات وتتضاءل عنده الشبهات، ومن اتبع الهوى وآثر الحياة الدنيا تبرقعت دونه البينات واستهوته الشبهات.
ثم عقد فصلًا ذكر فيه أن المطالب على ثلاثة أضرب: الأول: العقائد التي يُطلَب الجزم بها ولا يسع جهلها. الثاني: بقية العقائد. الثالث: الأحكام.
فأما الضرب الأول فالنظر فيه ميسر لكل أحد، والنظر العقلي المتعمق فيه لا حاجة إليه، بل هو مثار الشبهات.
وأما الضرب الثاني فمن كان قائلًا بشيء منه عن حجة صحيحة فإن الاستجابة لا تزيد تلك الحجة إلا وضوحًا مع الخلاص عن الهوى. وإلا فالجهل بهذا الضرب خير من القول فيه بغير حجة.
وأما الضرب الثالث فالمتواتر منه والمجمع عليه لا يختلف حكمه، وما عداه قضايا اجتهادية يكفي فيها بذل الوسع لتعرف الراجح أو الأرجح أو الأحوط، فيؤخذ به.
وفي الفصل الخامس الأخير من المقدمة ذكر عشرة أمور ينبغي للإنسان أن يقدم التفكر فيها ويجعلها نصب عينيه. عليه أن يفكر في شرف الحق وضعة الباطل، ويفكر في نسبة نعيم الدنيا إلى رضوان رب العالمين ونعيم الآخرة، ويفكر في حاله بالنظر إلى أعماله من الطاعة والمعصية، ويفكر في حاله مع الهوى، ويستحضر أنه على فرض أن يكون فيما نشأ عليه باطل، لا يخلو من أن يكون قد سلف منه تقصير أو لا، فعلى الأول إن استمر على ذلك كان مستمرًّا على النقص ومصرًّا عليه، وذلك هو هلاك الأبد، وإن نظر فتبين له الحق فرجع إليه حاز الكمال. ويستحضر أن الذي يهمه ويسأل عنه هو حاله في نفسه، فلا يضره عند الله ولا عند أهل العلم والدين والعقل أن يكون معلمه أو أسلافه أو أشياخه على نقص. ويتدبر ما يرجى لمؤثر الحق من رضوان الله والفوز العظيم الدائم في الآخرة، وما يستحقه متبع الهوى من سخطه والمقت في الدنيا والعذاب الأليم الخالد في الآخرة.
ويأخذ نفسه بخلاف هواها فيما يتبين له، فلا يسامحها في ترك واجب ولا في ارتكاب معصية ولا في هجوم على مشتبه، ويروضها على التثبت والخضوع للحق. ويأخذ نفسه بالاحتياط فيما يخالف ما نشأ عليه، فإذا كان فيما نشأ عليه أشياء يقول أهل العلم: إنها شرك أو بدعة أو حرام، فليأخذ نفسه بتركها، حتى يتبين له بالحجج الواضحة صحة ما نشأ عليه. والأمر الأخير أن يسعى في التمييز بين معدن الحجج ومعدن الشبهات، فإنه إذا تم له ذلك هان عليه الخطب.
والباب الأول في الفرق بين معدن الحق ومعدن الشبهات، وبيان مآخذ العقائد الإسلامية ومراتبها. ذكر فيه أن مآخذ العقائد أربعة: سلفيان وهما الفطرة والشرع، وخلفيان وهما النظر العقلي المتعمَّق فيه والكشف الصوفي. وفصّل الكلام عليها، وبين أن الله فطر الناس على الهيئة التي ترشحهم لمعرفة الحق، والشرع هو كلام الله وكلام رسوله، لا يخشى فيه جهل ولا خطأ، ولا كذب ولا تلبيس، ولا تقصير في البيان، فهل يقول مسلم بعد هذا: إن المأخذين السلفيين غير كافيين في معرفة الحق في العقائد، وأن ما يؤخذ من علم الكلام والفلسفة مقدم على المأخذين السلفيين ومهيمن عليهما؟ !
أما المأخذ الخلفي الأول (وهو النظر العقلي المتعمَّق فيه) فلا حاجة إليه في معرفة العقائد في الإسلام، وهو مثار للشبهات والتشكيك، ولذا وجب التنفير عنه والتحذير منه. وقد كشف المؤلف عواره وهتك أستاره بسلاح أهل الكلام والفلسفة، فنقل كلامهم وبين اختلافهم، وقدح بعضهم في الحسيات والبديهيات وجواب بعضهم عنه وتناقضهم في ذلك. ثم
تطرق المؤلف إلى ذكر القادحين في إفادة النظر العلم، والوجوه التي تمسكوا بها وما أجيب به عنها. وذكر في آخر هذا الفصل بعض أئمة المتكلمين الذين رجعوا قبل وفاتهم إلى تمني الحال التي عليها عامة المسلمين، مثل الشيخ أبي الحسن الأشعري، والجويني، والغزالي، والفخر الرازي. فرجوع هؤلاء الأكابر وقضاؤهم على النظر المتعمَّق فيه بعد أن أفنوا فيه أعمارهم من أوضح الحجج على من دونهم.
ثم تكلم المؤلف عن المأخذ الخلفي الثاني وهو الكشف الصوفي، فذكر أن أول من مزج التصوف بالكلام الحارث المحاسبي، ثم اشتد الأمر في الذين أخذوا عنه فمن بعدهم، حتى جاء ابن عربي وابن سبعين والتلمساني، ومقالاتهم معروفة، ومن تتبع ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وأئمة التابعين، وما يصرح به الكتاب والسنة وآثار السلف، وأنعم النظر في ذلك، ثم قارن ذلك بمقالات هؤلاء القوم، علم يقينًا أنه لا يمكنه أن يصدق الشرع ويصدقهم معًا. والشرع يقضي بأن الكشف ليس مما يصلح الاستناد إليه في الدين، ونجد في كلام المتصوفة أن الكشف قد يكون حقًّا، وقد يكون من الشيطان، وقد يكون تخيلًا موافقًا لحديث النفس، وصرحوا بأنه كثيرًا ما يُكْشَف للرجل بما يوافق رأيه حقًّا كان أو باطلًا، فالكشف إذن تبع للهوى، فغايته أن يؤيد الهوى ويرسخه في النفس ويحول بين صاحبه وبين الاعتبار والاستبصار، فكأن الساعي في أن يحصل له الكشف إنما يسعى في أن يضلَّه الله عز وجل. وما يزعمه بعض غلاتهم من أن لهم علامات يميزون بها بين ما هو حق من الكشف وما هو باطل، دعوى فارغة.
وختم المؤلف كلامه على المأخذين الخلفيين بقوله: «مهما يكن في المأخذين الخلفيين من الوهن فإننا لا نمنع أن يُستَند إليهما فيما ليس من الدين ولا يدفعه الدين، وكذلك لا نرى كبير حرج في الاستئناس بما يوافق المأخذين السلفيين بعد الاعتراف بأنهما كافيان شافيان، وإنما الممنوع الباطل هو زعم أنهما غير وافيين ببيان الحق في الدين» .
أما الباب الثاني فقد عقده لبيان تنزيه الله ورسله عن الكذب، قصد به الرد على طوائف المتكلمين الذين يردون نصوص الكتاب والسنة في العقائد، فمنهم من ردها مع تصريحه بأن كثيرًا منها لا يحمل إلا المعاني التي يزعم أنها باطلة، ويزعم أن الشرع أتى بها مجاراةً لعقول الجمهور. ومنهم من زعم أنها غير صالحة للحجة في العقائد مطلقًا. ومنهم من لم يصرح بذلك، ولكنه قدّم غيرها عليها وتعسّف في تأويلها تعسفًا مخرجًا عن قانون الكلام. فتحصل من كلامهم حملهم تلك النصوص على الكذب.
وقد فصَّل الكلام على تنزيه الله والأنبياء عن الكذب، وبين معنى حديث ثلاث كذبات وغيره مما يورَد على هذا الأصل، وللمؤلف رسالة مستقلة بعنوان «إرشاد العامِه إلى الكذب وأحكامه» ، شرح فيها حقيقة الكذب والفرق بينه وبين المجاز، وما هي المعاريض؟ وما هو الذي يصح الترخيص فيه؟ وغير ذلك، وهي مطبوعة ضمن رسائل الأصول في هذه الموسوعة. وقد أشار إليها الشيخ في آخر هذا المبحث.
والباب الثالث في الاحتجاج بالنصوص الشرعية في العقائد، وهو أطول أبواب الكتاب، ذكر فيه أن التعمق في النظر العقلي أدى إلى ترك الاحتجاج بالنصوص وردّها أو تأويلها، وصرح بعضهم بأن أخبار الآحاد إذا
خالفت المعقول يجب تأويلها أو ردُّها، ثم نشأ المتوغِّلون في الفلسفة كالفارابي وابن سينا، وكان مما خالفوه من العقائد الإسلامية أمر المعاد، فاحتج عليهم المتكلمون بالنصوص، فغافصهم ابن سينا مغافصة شديدة. وقد نقل المؤلف بعض عباراته، ولخص المقصود منها في عشرة مقاصد، ثم عقد مجلسًا للنظر في هذه المقاصد، حضره متكلم وسلفي وناقد، وأجرى الحوار على لسانهم في هذه الموضوعات، ليبين الحق والصواب فيها ويرد على ابن سينا وأتباعه في إنكار الاحتجاج بالنصوص الشرعية. وتطرق في أثنائها إلى أبحاث وتحقيقات، مثل الكلام على معنى آية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، وبيان معنى اسم الله تعالى الواحد والرد على تفسير ابن سينا له، والرد عليه في زعمه أن ذات الله ليست منفصلة عن العالم ولا متصلة به، وبيان أن حاصل كلامه نسبة الكذب إلى الله والرسول، والموازنة بين كذبات إبراهيم عليه السلام وبين النصوص التي زعم بطلان معانيها من وجوه. وختم المؤلف كلامه في الرد على ابن سينا بمبحث في حشر الأجساد هل هو بجميع أجزائها المتفرقة أم بإنشاء أجساد أخرى؟
بعد الرد على ابن سينا انتقل إلى كلام الفخر الرازي في الاحتجاج بالنصوص الشرعية، ولخصه في ثلاثة مطالب:
الأول: ما يتوقف ثبوت الشرع على ثبوته (كوجود الله وعلمه بالمعلومات كلها، وصدق الرسول) ، فهذا يستحيل أن يعلم بإخبار الشارع.
الثاني: ثبوت أو انتفاء ما يقطع العقل بإمكان ثبوته وإمكان انتفائه، إذا لم يجده الإنسان من نفسه ولا أدركه بحسه، استحال العلم به إلا من جهة الشرع.
الثالث: وجوب الواجبات وإمكان الممكنات واستحالة المستحيلات يُعلَم من طريق العقل، فأما العلم به بإخبار الشارع فمشكل، لأن خبر الشارع في هذا المطلب إن وافقه عليه العقل فالاعتماد على العقل، وخبر الشارع فضل، وإن خالفه العقل وجب تقديم العقل وتأويل الخبر، وإن لم يعلم موافقة العقل الخبر ولا مخالفته له كان محتملًا أن يكون العقل مخالفًا له فيجب تأويله، ومع هذا الاحتمال لا يفيد العلم.
ناقش المؤلف رأي الرازي، ورد عليه بتفصيل في منعه الاحتجاج بالنصوص في العقائد، وألزمه بإلزامات لا مفرَّ منها، وذكر أن كثيرًا من النصوص التي ينكر المتعمقون ظواهرها كانت عقول المخاطبين الأولين تقطع بوجوب ما دل عليه بعضها وجواز ما دل عليه الباقي.
ثم ذكر المؤلف كلام العضد وغيره في هذه المسألة، ورد عليه وعلى الشريف الجرجاني والسعد التفتازاني في قولهم: إن الأدلة النقلية لا تفيد اليقين، وتَوصَّل في النهاية إلى أن من تدبر القرآن والسنة وآثار السلف لم يَخْفَ عليه الحق في كثير منها، وأنه لا يمنعه من القطع والاستيقان ــ إن منعه ــ إلا الشبهات المحدثة المبنية على التعمق، فأما من يقوى إيمانه ولا يبالي بتلك الشبهات، فإنه يقطع بدلالة كثير من تلك النصوص ويؤمن بها، وأما من لا إيمان له وهو مفتون بالشبهات فإنه لا يقطع بتلك الدلالة ويكفر بها.
وفي آخر الباب الثالث بحث نفيس عن المحكم والمتشابه، تطرق إليه المؤلف لأن كثيرًا من المتكلمين يسترون تكذيبهم للنصوص بدعوى أن ما يخالفونه منها هو من المتشابه المنهي عن اتباعه. ذكر المؤلف في معنى المحكم والمتشابه قولين عن السلف:
الأول: أن المحكم كل آية بينة بنفسها، والمتشابهات ما تحتاج إلى أن يبينها غيرها، كالمنسوخ والمجمل.
الثاني: أن المحكمات كل آية يتهيأ للسامع (مع معرفة معناها الذي سيقت لبيانه) أن يعرف ما تتوق إليه نفسه مما يتعلق بما اشتملت عليه، والمتشابهات ما عدا ذلك.
شرح المؤلف ذلك بالأمثلة، وذكر أن القولين يمكن تطبيقهما على سياق الآية، وبين وجه تسمية بعض الآيات متشابهات، وتكلم على جواز الوقوف على قوله تعالى:{إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] وتركه، وتحدث عن معنى التأويل مع ذكر أمثلة من القرآن، ورد على المتكلمين في تعلُّقهم بهذه الآية.
أما الباب الرابع الأخير فهو في بيان عقيدة السلف والكلام على عدة مسائل منها. ذكر فيه أن السلف لم يكن لهم مأخذ لعقائدهم غير المأخذين السلفيين الفطرة والشرع، وأنهم كانوا يقطعون بما يفيدان فيه القطع، وأن كلمة العقل فيها تدليس، فهناك العقل الفطري الصريح الذي لا التباس فيه، وهو الذي كان حاصلًا للأمم التي بعث الله فيها رسله وأنزل فيها كتبه، وهو الذي كان حاصلًا للصحابة ومن بعدهم من السلف، فهذا هو الذي يسوغ أن يقال: إن ما أثبته قطعًا فهو حق. وهناك نظر متعمَّق فيه، مبني على تدقيق وتخرُّص ومقاييس يلتبس فيها الأمر في الإلهيات ويشتبه، ويكثر الخطأ واللغط، فهذا هو الذي اعتمده المتكلمون مع اعترافهم بوهنه ورجوع بعض أكابرهم عنه.
ثم درس المؤلف بعض المسائل من عقيدة السلف التي انتقدها الكوثري،