المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تفسير سورة الأنفال - العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير - جـ ٤

[محمد الأمين الشنقيطي]

الفصل: ‌تفسير سورة الأنفال

‌تفسير سورة الأنفال

[1/أ] /

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6)} [الأنفال: الآيات 1 - 6].

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (1)} [الأنفال: الآية 1].

الجماهير من العلماء

(1)

على أن سبب نزول هذه الآية الكريمة أنها نزلت في غنائم بدر، لما اصطف المسلمون لقتال المشركين

(1)

انظر: ابن جرير (13/ 327)، القرطبي (7/ 360)، ابن كثير (2/ 283)، الأضواء (2/ 342).

ص: 467

كانت المشيخة رِدْءًا لهم، وكان الشباب تلقّى العدو، وكان قوم يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بُني له العريش يوم بدر. فلما هزم الله المشركين، وأخذ المسلمون غنائمهم، وقع خلاف ومشاجرة بين الصحابة، قال الذين أخذوا الغنيمة: نحن الذين احتويناها وحُزناها فليس لغيرنا نصيب فيها!

وقال المشيخة: نحن كنا رِدْءًا لكم فلو انهزمتم لانحزتم إلينا، فلستم أحق منا!

وقال الآخرون: نحن ليس بنا جبن ولا بخل، وإنما خفنا أن ينال العدو غِرَّة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا نُحدِق بنبي الله نحرسه من العدو، فلستم بأحق منا! فوقع هذا الخلاف والتنازع، وهذا سبب نزول هذه الآية الكريمة كما عليه جماهير العلماء، وحديث عبادة بن الصامت فيه رضي الله عنه عند أحمد وأصحاب السنن مشهور

(1)

، قال: فينا معاشر المسلمين نزلت، لما أخذنا غنائم بدر ساءت أخلاقنا وتنازعنا فأنزل الله الآية، وبيّن أن الأمر فيها إلى الله وإلى رسوله، ففعل فيها رسول الله ما أرضى الله، وما أصلح به ذات البين بين الجميع، وما حصل به تقوى الله، كما يأتي إيضاحه، وهذا القول -أنها نزلت في غنائم بدر جميعها- هو المعروف عند جماهير العلماء.

(1)

أحمد (5/ 324)، والحاكم (2/ 135، 136، 326). وقال: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي، والبيهقي (6/ 292)، والواحدي في أسباب النزول ص232، وابن جرير (13/ 370، 371).

وقال الهيثمي في المجمع (6/ 92): «ورجال أحمد ثقات» اهـ وانظر أيضًا: (7/ 26) منه.

ص: 468

وفي سبب نزولها أربعة أقوال أُخر معروفة عند العلماء.

قال بعض العلماء: (

)

(1)

خاصة دون بعض، والذين قالوا هذا القول استدلوا بحديث سعد بن أبي وقاص عند أحمد وغيره قال سعد: لما قُتِلَ أخي عمير يوم بدر -لأن عمير بن أبي وقاص من شهداء بدر كانوا يقولون: إنه قتله عمرو بن عبد ود

(2)

فكان أخوه سعد رضي الله عنه أصابه من قتل أخيه أمر عظيم، وحمل على الكفار وقتل سعيد بن العاص، وأخذ سيفه، وكان يسمى (ذو الكتيفة) قال: فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أعطنيه يا رسول الله، فقال:«لَيْسَ لِي وَلَا لَكَ فَاطْرَحْهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ، وَاجْعَلْهُ فِي القَبَضِ» - يعني محل غنائم المسلمين- قال: فخرجت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سَلَبي. قال: ثم رجعت إليه فقلت: أعطنيه؟ فرفع لي صوته: «اطْرَحْهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ» ، إلى الثالثة، قال: فذهبت به فأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ} قال: فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إِنَّكَ سَأَلْتَنِي السَّيْفَ وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَيْسَ لِي، وَالآنَ صَارَ لِي فَخُذْهُ»

(3)

. فأعطاه إياه.

فاستدلوا بهذا

(1)

في هذا الموضع انقطاع في التسجيل. والمراد: أنها نزلت في الشيء الخاص يُسأل من الغنيمة قبل أن تُقسم. انظر ابن جرير (13/ 371).

(2)

في البداية والنهاية (3/ 327) أن الذي قتله: العاص بن سعيد. وقال الحافظ في الإصابة (3/ 35): «يقال: وقتله عمرو بن عبد ود العامري الذي قتله علي يوم الخندق» اهـ وقال في آخر الترجمة (3/ 36): «وأخرج البغوي من طريق محمد بن عبد الله الثقفي عن سعد قال: لما كان يوم بدر قُتل أخي عمير، وقتلت أنا سعيد بن العاص، كذا فيه، والصواب: العاص بن سعيد بن العاص» اهـ.

(3)

الحديث أصله في مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، حديث رقم:(1748)(4/ 1877)، وفي الجهاد والسير، باب الأنفال، حديث رقم:(1748)، (3/ 1367). وهو في مسند الإمام أحمد (1/ 178، 181، 186). وللتوسع في تخريجه راجع الطبعة المحققة من المسند (1534، 1567، 1614).

ص: 469

على أن الأنفال المسئول عنها: الشيء الخاص، كهذا السيف ينفله النبي صلى الله عليه وسلم أو الإمام لبعض الناس.

وقال بعض العلماء: هي نزلت في خُمس الغنيمة

(1)

.

وقال بعض العلماء: نزلت في خُمس الخمس خاصة.

كل هذا قال به جماعة من العلماء.

وقال عطاء وغيره

(2)

: نزلت فيما يشذُّ إلى المسلمين من الكافرين من غير قتال، كالفرس يأتي المسلمين من الكفار بلا قتال.

هذه الأقوال جاءت في سبب نزول هذه الآية الكريمة، والذي عليه جماهير المفسرين: أن نزولها في غنائم بدر كما بينّا، لما اختلف الصحابة فيهم، وقال قوم: لا نصيب فيها لغيرنا؛ لأنا نحن الذين احتويناها. وقال الآخرون: كنا رِدْءًا لكم فلو انهزمتم لانحزتم إلينا، فلستم أحق منّا، وقال الآخرون: نحن كنا نشتغل بحراسة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلستم أحق منا. ولذا لما اختصموا هذا الخصام كأن الله لامهم وقال لهم: لا تصرف لكم فيها، فالأمر فيها إلى الله وإلى رسوله. فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم على السواء، وكان بعض العلماء يقول: إنه لما التقى الجيشان رغّب وقال: مَنْ أَسرَ أسيرًا فله

(1)

انظر: ابن جرير (13/ 365).

(2)

المصدر السابق (13/ 363).

ص: 470

كذا، ومن قتل قتيلاً فله كذا. فقال له بعض أصحابه: لو وفيت لهم بهذا لم يَبْقَ للآخرين شيء!! ووقع بعض الخصام

(1)

.

وقال بعض العلماء: كان الخصام بسبب النفر الثمانية الذين قسم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في غنائم بدر ولم يشهدوا بدرًا. والحق أن هذا -وإن ذَكَرَهُ الأخباريون وأصحاب المغازي- أنه لم يُنْزل الخلاف، ومعروف عند أصحاب المغازي أن ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الأنصار ضرب لهم النبي صلى الله عليه وسلم بسهامهم في مغانم بدر ولم يشهدوها

(2)

، أما ثلاثة المهاجرين فهم: عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى بدر الكبرى كانت ابنته رقية رضي الله عنها مريضة، وكانت إذ ذاك زوجة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأمره أن يبقى يمرضها، وتوفيت يوم مجيء زيد بن حارثة بالبشارة بما فتح الله على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر، فقسم له في المغنم. قال بعضهم: والأجر، والآخران من المهاجرين: طلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد، أرسلهما النبي صلى الله عليه وسلم يتجسسان على عير أبي سفيان قبل وصولها لبدر إلى جهة الشام، ففاتت بدرٌ ولم يحضرا، فقسم لهما، وأما خمسة [الأنصار]

(3)

: فمنهم: أبو لبابة بن عبد المنذر كان النبي صلى الله عليه وسلم خلّفه على المدينة، ومنهم

(1)

أخرجه عبد الرزاق من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما. رقم: (9483)(5/ 239). وهذا الإسناد لا يصح. وقد عزاه في الدر (3/ 160) لعبد بن حميد وابن مردويه. وهو عند ابن أبي شيبة في كتاب المغازي المفرد (128) ص178 مختصرًا دون ذكر قول بعض الصحابة هذا. ورجال إسناده ثقات.

(2)

انظر: البداية والنهاية (3/ 327).

(3)

في الأصل: «المهاجرين» وهو سبق لسان.

ص: 471

الحارث بن الصمة، وخوَّات بن جبير (رضي الله عن الجميع) أصابهما مرض فردهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم الحارث بن حاطب رده النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء ليكون على بَنِي عمرو بن عوف حتى يرجع صلى الله عليه وسلم، وعاصم بن عدي العجْلاني خلّفه النبيّ صلى الله عليه وسلم على العوالي.

والتحقيق الذي عليه الجمهور: أنها نزلت في اختلاف الصحابة في غنائم بدر؛ ولذا قال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ} [الأنفال: الآية 1] الأنفال: جمع نَفَل -بفتحتين- وأصل النفل الزيادة، فكل زائد يُسمى نَفَلاً، ومنه قيل للزائد على الواجبات: نفل. وإنما سُميت المغانم أنفالاً؛ لأن الله زادها من الحلال لهذه الأمة، لم تكن تحل لمن قبلها. والنَّفَل: المغنم، والأنفال: المغانم. وهذا معروف في كلام العرب

(1)

، وقد نزل به القرآن، ومن إطلاق النَفَل على المغنم قول لبيد بن ربيعة

(2)

:

إِنَّ تَقْوى ربِّنَا خَيْرُ نَفَلْ

وَبِإِذْنِ اللهِ رَيْثِي وعَجَلْ

يعني: تقوى الله خير غنيمة يغتنمها الإنسان في حياته، ومن إطلاق الأنفال على المغانم قول عنترة

(3)

:

إِنَّا إِذَا احْمَرَّ الوَغَى نُروي القَنا

ونَعفّ عند تَقَاسُمِ الأنْفَالِ

أي: قسم المغانم كما هو معروف. قل لهم يا نبي الله مجيبًا عن سؤالهم: الأنفال -الغنائم- أي: وعلى الأخص غنائم بدر هذه {لِلَّهِ} ؛ لأنه هو مالكها الذي أقْدَرَكُمْ على أخْذِهَا، المتصرف فيها

(1)

انظر: ابن جرير (13/ 361)، القرطبي (7/ 361).

(2)

البيت في ابن جرير (13/ 366)، الكامل للمبرد (3/ 1351).

(3)

ديوانه ص107.

ص: 472

كيف يشاء {وَالرَّسُولِ} ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه جعل أمْرَهَا إليه وفَوَّضَه إليه، ليس لأحد فيها كلام؛ لينقطع خصامهم، ويضْمَحِلّ نِزَاعُهُمْ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم على السوية قسمة عدل على أحسن ما يكون، والتحقيق: أن النبي صلى الله عليه وسلم خَمَّسَ غنائم بدر -أخرج منها الخُمس- كما يدل عليه الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قصة الشارفين من الإبل اللتين ذبحهما حمزة بن عبد المطلب لما كان به سُكْر قبل تحريم الخمر. قال: إن أحدهما مِنْ سَهْمِه يوم بدر، وإن الشارف الثانية أعطاها له رسول الله صلى الله عليه وسلم من خُمْس الغنيمة يوم بدر

(1)

. فدلّ ذلك على أنه خَمَّسَها.

وفي هذه الآية الكريمة سؤال مَعْرُوف، وهو أن يقول طالب العلم: إذا قَرَّرْتُمْ أن سَبَبَ نزول الآية في المغانم جميعها لا في خصوص الذي يشذ من الكفار إلى المسلمين، ولا في خصوص الذي يُنفّله الإمام لبعض الجيش، ولا في تنفيل الإمام لبعض السرايا التي يرسلها، ولا في خصوص الخُمس، ولا في خصوص خُمس الخُمس، فكيف تكون لا حق فيها للغانمين؟ والله يقول:{وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شيء فَأَنَّ لله خُمُسَهُ} [الأنفال: الآية 41]. وهذه الآية من هذه السورة الكريمة نص في أن أرباع الغنيمة أنها ملك للغانمين استحقوها، وأن الخارج عنهم منها هو الخمس؟ هذا سؤال

(1)

أخرجه البخاري في البيوع، باب ما يُكره من الحلف في البيع، حديث رقم:(2089)، (4/ 316) وأطرافه في (2375، 3091، 4003، 5793)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر، حديث رقم:(1979)(3/ 1568).

ص: 473

معروف وقد أجاب العلماء عنه بجوابين

(1)

:

أحدهما: ما ذكره أبو عبيدة وعزاه القرطبي لجمهور العلماء أن آية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لله وَالرَّسُولِ} [الأنفال: الآية 1] منسوخة بآية {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شيء فَأَنَّ لله خُمُسَهُ} الآية [الأنفال: الآية 41].

القول الثاني -وليس ببعيد-: أن معنى أنها لله: أنه هو المتصرف فيها، وأن نسبتها للرسول صلى الله عليه وسلم من حيث أنه القاسم، الذي يقسمها على ما يرضي الله (جل وعلا)، فلا ينافي أن لهم حقوقًا فيها، كما قسمها صلى الله عليه وسلم عليهمِ بالسواء، وسيأتي لهذا زيادة إيضاح كثيرة في تفسير قوله:{وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شيء فَأَنَّ لله خُمُسَهُ} الآية [الأنفال: الآية 41] إن شاء الله، وهذا معنى قوله:{قُلِ الأَنفَالُ لله وَالرَّسُولِ} .

{فَاتَّقُواْ اللَّهَ} أي: اتقوا الله بامتثال أمره واجتناب نهيه، ولا تتخاصموا هذا الخصام بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعرض من الدنيا.

{فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} معنى: {ذَاتَ بِيْنِكُمْ} أي: الأحوال الكائنة فيما بينكم مما يستوجب المحبة والوئام، وما يستوجب النُفرة والوحشة والفراق، هذه الأحوال التي تكون فيما بينكم أصلحوها لتكون جارية على ما ينبغي وعلى ما يرضي الله، وقد اشتهر في كلام العرب إطلاق (إصلاح ذات البين) على أن يصلح ما بين هذا وهذا من الأحوال حتى يكون الشيء الذي بينهما على الحالة التي تنبغي، خاليًا من النزاع والخصام والنفرة وغير ذلك.

(1)

انظر: ابن جرير (13/ 380)، القرطبي (8/ 2)، الأضواء (2/ 345).

ص: 474

{وَأَطِيعُواْ اللَّهَ} طاعة الله (جل وعلا) هي: امتثال أمره واجتناب نهيه، ومن ذلك أن لا تختصموا في عَرَضٍ من الدنيا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأطيعوا رسوله صلى الله عليه وسلم واقبلوا وارضوا بما يفعله بينكم من قَسْم هذه الغنائم.

قوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} هذه أصلها تُشكل على بعض أهل العلم؛ لأن المعروف في كلام العرب أنَّ (إنْ) الشرطية تدل على الشك في الشرط، وهم مؤمنون لا شك في إيمانهم، فكيف يتقيّد إيمانهم بالشرط مع أنهم مؤمنون؟!

(إنْ) هذه أصلها من مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين

(1)

، فعلماء الكوفيين يقولون: إنَّ (إنْ) هنا بمعنى (إذ) التعليلية {واتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مؤْمِنينَ} قالوا: واتقوا الله إذ كنتم مؤمنين، أي: لأجل كونكم مؤمنين فاتقوا الله؛ لأن إيمانكم سبب يحملكم على تقوى الله، قالوا: وإتيان (إنْ) بمعنى (إذ) أسلوب عربي معروف، قالوا: ومنه قول الفرزدق وهو عربي فصيح

(2)

:

أَتَغْضَبُ إِنْ أُذْنَا قُتَيبةَ حُزَّتَا

جِهَارًا ولم تَغضَبْ لقَتْل ابنِ خَازِمِ

معناها: أتغضب لأجل حزّ أذني قتيبة.

والبصريون يقولون: إنَّ (إنْ) هذه تستعمل استعمالين:

أحدهما: يراد به التهييج والحض على الفعل، وأن ذلك أسلوب عربي معروف، كما تقول للرجل الكريم: (إن كنت

(1)

انظر: الحروف العاملة في القرآن الكريم 639، 647، 704 - 711، وراجع ما سبق عند تفسير الآية (118) من سورة الأنعام.

(2)

مضى عند تفسير الآية (118) من سورة الأنعام.

ص: 475

ابن الكرام فاقض حاجتي) وأنت تعلم أنه ابن الكرام، إلا أنك تهيجه بهذا الكلام وتستثيره وتحمله على الامتثال، والاستثارة بأداة الشرط في هذا المعنى أسلوب عربي معروف، العرب تقول:(إن لم أفعل كذا فلست ابن فلان)، و (إن كنت ابن فلان فافعل كذا) تهيجه على الفعل وتحضه عليه. فعلى هذا فالمراد بقوله:{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} تهييجهم وتحريضهم إلى امتثال أمر الله جل وعلا.

الثاني: في بعض الأشياء التي لا يُحتمل فيها هذا كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: الآية 27] وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث زيارة القبور: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ»

(1)

. فإنهم لاحقون قطعًا، وداخلون المسجد قطعًا، قال بعض العلماء: جيء بـ (إنْ) في مثل هذا ليُعلِّم الناس أنهم لا يتحدثون عن المستقبل إلا معلقين بمشيئة الله، كما قال تعالى:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشيء إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَاّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: الآية 24] فلما كانت المشيئة يُعلق بها في الشيء الواقع لا محالة فما بالك بغيره؟! هكذا قالوا، وهذا معنى قوله:{وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأنفال: الآية 1].

ثم بيّنَ صِفَات المؤمنين الذين هم مؤمنون حقًّا بمعنى الكلمة قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [الأنفال: الآية 2](إنما) أداة حصر كما بينَّا؛ أي: إنما المؤمنون الكامِلُون في إيمانهم كمالاً كما ينبغي {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ} أي: إذا سَمِعُوا ذِكْرَ الله {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الوجل في لغة العرب معناه: الخوف؛ أي: خافت قلوبهم عند ذكر الله

(1)

مضى عند تفسير الآية (118) من سورة الأنعام.

ص: 476

إعظامًا لله (جل وعلا) وإجلالاً له، وخوفًا من بأسه وبَطْشِهِ، فالمُؤْمِنُ الحَقِيقِيُّ إذا سَمِعَ ذكر الله وجل قَلْبُهُ، أي: خَافَ قَلْبُهُ استعظامًا لرب العالمين، وإجلالاً له، وخوفًا من عقابه، وهذا معنى قوله:{إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} والعرب تقول: وَجِلَ من الأمر، يَوجَل، وجلاً: إذا خاف منه، ومنه قول إبراهيم للملائكة لما لم يرَ أيديهم تصل إلى العجل الذي قربه إليهم:{قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُواْ لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53)} [الحجر: الآيتان 52، 53] فالوجل الخوف.

{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ}

(1)

أي: قُرئت عليهم آياته، والياء في {تُلِيَتْ} أصلها مُبدلة من واو؛ لأن مادة التلاوة من الناقص الذي لامه واو

(2)

، وأصل التلاوة مصدر سيال، والعرب تقول: تلاه يتلوه: إذا تبعه، تقول العرب: هذا يتلو هذا؛ أي: يتبعه، ومنه قيل للجمل الذي يتبع النوق لضرابها:(التالي)؛ لأنه يتبع إناث الإبل كما هو معروف، ومنه قول غيلان ذي الرمة

(3)

:

إذا الجَافِر التالي تَنَاسَيْنَ عهده

وعارضْنَ أنفاسَ الرياحِ الجَنَائِبِ

وإنما قيل للقراءة (تلاوة) لأن القراءة مصدر سيال لا بد من حرف يتلوه حرف، يتلوه حرف، يتلوه حرف، حتى يتجمع من هذا المتلو: المقروء {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ} أي: قُرئت عليهم آياته {زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} أي: تصديقًا بالله إلى تصديقهم، وإيمانًا إلى إيمانهم.

(1)

مضى عند تفسير الآية (151) من سورة الأنعام.

(2)

انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص339.

(3)

مضى عند تفسير الآية (151) من سورة الأنعام.

ص: 477

وهذه الآية وأمثالها في القرآن نصوص صريحة على أن الإيمان يزيد كما أنه ينقص

(1)

؛ لأن الآيات الدالة على أن الإيمان يزيد متعددة في كتاب الله، كقوله هنا:{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} وقوله: {فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} إلى قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: الآية 124]{لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: الآية 4]{وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: الآية 31] ونحو ذلك من الآيات، وهذه الآيات المصرحة بزيادة الإيمان تدل بدلالة الالتزام على أن الإيمان ينقص بنقص الأعمال، وقد جاء مصرحًا بذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم في أحاديث الشفاعة المتواترة:«يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ»

(2)

ونحو ذلك من الآيات، فالذي ليس في قلبه إلا وزن حبة أو شعيرة من إيمان فلا شك أن إيمانه ناقص، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بزيادة الأعمال الصالحة، وينقص بنقصانها، كما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقول المتكلمين:

(1)

انظر: الإيمان لأبي عبيد ص24، الإيمان للعدني ص94، الإيمان لابن منده (1/ 345)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (5/ 890)، الشريعة للآجري ص111، أصول السنة لابن أبي زمنين (رياض الجنة ص211)، تعظيم قدر الصلاة (1/ 356) الإيمان لابن تيمية ص211، تفسير ابن كثير (2/ 285، 402)، (3/ 74)، شرح الطحاوية ص466، زيادة الإيمان ونقصانه لعبد الرزاق البدر، الأضواء (2/ 346).

(2)

البخاري في الإيمان، باب زيادة الإيمان ونقصانه. حديث رقم:(44)(1/ 103) وأطرافه: (4476، 6565، 7410، 7440، 7509، 7510، 7516). ومسلم في الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، حديث رقم:(193)(1/ 182) ..

ص: 478

«إنه لا يزيد ولا ينقص، وإنما ذلك بحسب التعلقات» قول لا يخفى بطلانه على متأمل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى قوله:{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} .

{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} التوكل على الله هو: الثقة به (جل وعلا) وتفويض جميع الأمور إليه، فهنا ذكر من صفات المؤمنين أولاً: الخوف من الله (جل وعلا)، والثانية: زيادة الإيمان، والثالثة: تفويض الأمر إلى الله والتوكل عليه في كل شيء.

وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقول طالب العلم: إن الله (جل وعلا) ذكر في هذه الآية الكريمة من صفات المؤمنين أنهم إذا سمعوا ذكر الله {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: خافت قلوبهم، مع أنه ذكر في موضع آخر أن ذكر الله يكون سببًا لطمأنينة القلوب، كما قال تعالى:{وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: الآية 28] قالوا كيف جمع بين الوجل والطمأنينة عند ذكر الله؟!

والجواب عن هذا

(1)

مشهور عند العلماء لا إشكال فيه، وهو أن الطمأنينة إنما تعتري قلوبهم إذا سمعوا ذكر الله لما انشرحت له صدورهم من معرفة الحق وتيقُّنه، فقلوبهم مطمئنة غاية الطمأنينة إلى معرفة الحق، عالمون أنه حق لا يخالجهم شك، ومع هذا يخافون من الله أن لا يتقبل منهم أعمالهم ونحو ذلك، وهذه صفة المؤمنين يطمئنون باليقين ويخافون ربهم (جل وعلا). وهذا معنى قوله:{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: الآية 2].

(1)

انظر: تفسير القاسمي (8/ 9).

ص: 479

ثم قال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [الأنفال: الآية 3] إقامة الصلاة: وهو الإتيان بها على الوجه الأكمل المطلوب، كالمحافظة على شروطها، وأوقاتها، وصلاتها في الجماعات، وإعطائها حقها في السجود والركوع ونحو ذلك من الأركان.

وقوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} قال بعض العلماء: يعني الزكاة؛ لأنها رديفة للصلاة في القرآن، والأظهر أنه أعم من الزكاة، أنهم ينفقون مما رزقهم الله النفقة الواجبة وغيرها من النفقات المستحبات المرغب فيها من مواساة الفقراء، وصِلَات الأرحام، ونحو ذلك

(1)

، وهذا معنى قوله:{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} .

{أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: الآية 4] أولئك الذين هذه صفاتهم هم المؤمنون حقًّا، قال بعض العلماء: قوله: {حَقًّا} نعت لمصدر محذوف، أي: المؤمنون إيمانًا حقًّا، والتحقيق المعروف عند علماء العربية: أن (حقًّا) هنا من نوع المصدر المُؤَكِّد لعامله، وهو الجملة قبله؛ لأن قوله:{حَقًّا} مُؤكِّد للإسناد الخبريّ في قوله: {هُمُ الْمُؤْمِنُونَ} أُحِقُّ ذلك حقًّا، وأُؤكِّد ذلك الإيمان توكيدًا

(2)

.

{لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ} الدرجات: جمع درجة. قال بعض العلماء

(3)

: هي درجات الجنات يوم القيامة؛ لأن الناس لهم درجات

(1)

انظر: ابن جرير (13/ 388).

(2)

انظر: الدر المصون (5/ 558 - 559).

(3)

انظر: ابن جرير (13/ 389).

ص: 480

يوم القيامة في الجنة بحسب أعمالهم {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف: الآية 19] وقد يكون بعض الناس يتراءى أصحاب الغُرف كالكوكب الدُّري ينظره أهل الأرض لمباعدة ما بينهم، {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء: الآية 21].

وقال بعض العلماء: الدرجات: المقامات، والأول أظْهَرُ، {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ} (مَفْعِلَة) من غفران الذنوب. وأصله ستر الذنوب وتغطيتها بحلم الله حتى لا يظهر لها أثر يتضرر به صاحبها

(1)

.

{وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} هو رزق الجنة؛ من مآكلها ومشاربها، كما جاء مبينًا في مواضع من كتاب الله، وهذا معنى قوله لهم:{وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} .

{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6)} [الأنفال: الآيتان 5، 6].

الكاف في قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} اختلفت فيها عبارات المفسرين إلى خمسة عشر قولاً

(2)

، كثير منها لا يظهر، بل يظهر سقوطه لعدم الدليل عليه، وعدم تمشّيه مع لغة العرب، فهي من الآيات التي كثر فيها غلط المفسرين حتى اختلفوا فيها إلى خمسة عشر طريقًا معروفة في كتب التفسير، والآية في الجملة دلت على تشبيه شيء بشيء بناء على الصحيح من أن الكاف للتشبيه.

(1)

مضى عند تفسير الآية (155) من سورة الأعراف.

(2)

انظر: ابن جرير (13/ 391)، القرطبي (7/ 367)، الدر المصون (5/ 559).

ص: 481

وأظهر الأقوال وأقربها: أن الله شبه فيها قصة بقصة؛ لأنه وقع في أول غزوة بدر قصتان:

إحداهما: أن الله تبارك وتعالى لما هَزَمَ المُشْرِكِينَ ونَفَّلَ المُسْلِمِينَ غَنَائِمَهُمْ، وحصلت عند المسلمين غنائم اختلفوا فيها، فجعل الله الأمر فيها إلى رسوله فقسمها رسوله صلى الله عليه وسلم وبعضهم في نفسه غير راغب في تلك القسمة؛ لأنه كان يرى أنه أولى من غيره، فقد قضى الله عليهم شيئًا ليس هو رغبتهم لكنه هو المصلحة لهم في دينهم ودنياهم، هذه المسألة المشبّهة.

والمسألة المشبه بها: أن الله أخرج نبيه من بيته في المدينة -هنا

(1)

- أخرجه إلى غزوة بدر الكبرى، فقد كان صلى الله عليه وسلم خرج لحكمة الله (جل وعلا)، خرج وكأنه يقصد عير أبي سفيان ليأخذ المال ليس دونه قتال، فلما خرج صلى الله عليه وسلم يريد أخذ مال لا قتال دونه في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً من أصحابه، وشاء الله أن أبا سفيان سَاحَلَ بِعِيْرِه إلى جهة ساحل البحر، وأرسل إلى قريش ضمضم بن عمرو الغفَاري ليبادروا عِيرهم، قال: لا يأخذها محمد صلى الله عليه وسلم كما فعل بعِير ابن الحضرمي بنخلة، وجاء النفير، وأُخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن نفير قريش جاءهم جيش عرمرم في عَدده وعُدده، والله تبارك وتعالى أراد أن يُخرجهم إلى عِير ليسهل عليهم الخروج ويجعلهم ليسوا مستعدين للقتال ليُجَرِّئ عليهم نفير قريش.

ليقضي الله أمره -كما سيأتي تفاصيله- وسنذكر في هذه السورة الكريمة -إن شاء الله- حاصل غزوة بدر وما فيها من المهمات؛ لأنها مذكورة في هذه السورة

(1)

معلوم أن الشيخ رحمه الله كان يلقي هذه الدروس في المسجد النبوي.

ص: 482

الكريمة -أعني غزوة بدر- والحاصل أنهما قصتان كان إحداهما شُبّهت بالأخرى، كما أن الله وكل قسم الغنائم إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وبعضهم لا يرغب في هذا؛ لأنه يرى أنه أحق من غيره، كذلك أخرج رسوله إلى أخذ مال من عِير فجاءها نفير، فصار بعض الصحابة يكره ملاقاة النفير ويقول: ما خرجنا مستعدِّين لقتال الرجال الذين هم في عَددهم وعُددهم، إنما خرجنا لأخذ عِير لا قتال دونها ولا سلاح، فهم كرهوا ملاقاة النفير -جيش قريش- مع أن ملاقاته فيها لهم المصلحة، فالذي كرهوه من قَسْم غنائم بدر هو الذي لهم فيه مصلحة الدنيا والآخرة، والذي كرهوه من خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم الذي آل إلى قتال جيش قريش كرهوه وهو أيضًا خير لهم في دينهم ودنياهم، فالله تبارك وتعالى كأنه أشار بالتشبيه على هذا القول إلى أنه أعلم بمصالحهم من خلقه، وأن خلقه يكرهون شيئًا والمصلحة لهم فيما يختاره لهم ربهم كما قال جل وعلا:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شيئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: آية 216] هذا أقرب الأقوال، وكثير من الأقوال ساقط سقوطًا بيّنًا، وهذا أقربها، واختاره غير واحد.

وقال بعض العلماء: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} كما أن إخراج ربك إياك حق لا شك فيه.

وقال بعض العلماء: هي التي تدل على المجازاة والتعليل، كما تقول لِعَبْدِكَ:(كما أحسنتُ إليك فأطعني). وتقول لمن ترسله إلى مهمة: (كما قطعت عِللك ووفرت لك جميع الأسباب فافعل ما ينبغي). وأنه على هذا كأنه يقول: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وغشاكم النعاس، وثبتكم بالملائكة، وأنزل عليكم ماء

ص: 483

السماء ليطهركم به، وليربط على قلوبكم {فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: الآية 12] ولا يخلو هذا من بُعد، وأقربها هو ما ذكرنا من أنهما مسألتان كلاهما أراد الصحابة فيها غير الأصلح، وكره بعضهم ما هو الأصلح لهم فيها، فبيّن الله لهم أنهم في المسألتين كرهوا ما هو الأصلح لهم، وأن الله (جل وعلا) فعل بهم ما هو الأصلح {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شيئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: الآية 216].

قوله: {أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ} التحقيق أن المراد به خروجه من بيته في المدينة إلى عِير أبي سفيان، وقد تَمَخَّضَ هذا الخروج عن قتال جيش قريش في بدر الكبرى. هذا هو التحقيق، خلافًا لقوم زعموا أن معنى:{أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} أي: مِنْ مَسْقَطِ رأسك مكة أخرجك ربك بسبب معاداة قومك لك {بِالْحَقِّ} وهذا خلاف التحقيق، والأول هو الصحيح

(1)

.

{وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} لكارهون للخروج لما علموا أن القتال قتال النفير، وأن الأمر ليس أمر العير، وذلك كما سيأتي شرحه وإيضاحه أن عير أبي سفيان وفيها أموال قريش، فيها أموال كثيرة، وقد ذهبت إلى الشام في رحلة الصيف، كما في قوله:{رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ} [قريش: الآية 2] وقد سمع بها صلى الله عليه وسلم أنها ذهبت إلى الشام، فتلقّاها وهي واردة إلى الشام حتى بلغ العُشيرة -وهي غزوة العُشيرة- ففاته أبو سفيان ولم يدركه، ثم كان يترقب قفول العير ليعترض لها فيستعين بما فيها من الأموال، فلما حان قُفول

(1)

انظر: ابن جرير (13/ 394).

ص: 484

العير استنهض صلى الله عليه وسلم مَنْ خَفَّ من أصحابه، وكانوا لا يرون أنه قتال؛ ولذا راحوا في قلة من العَدد والعُدد، خرج معه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً يريدون عير أبي سفيان [1/ب] وسيأتي /شرح هذه القصة، وغزوة بدر

(1)

، وعلى كل حال أنه لما خرج صلى الله عليه وسلم وقرُب من بدر أرسل بسبس

(2)

بن عمرو الجهني وعدي بن أبي الزغباء ينتظرون خبر القوم

(3)

، ثم راح هو وأبو بكر وجاءوا إلى شيخ من بني غفار

(4)

؛

لأن بدرًا أصله ماء لبني غفار سُمِّي برجل من غفار يُسمى (بدرًا) هو الذي حفر بئر بدر، فقال له صلى الله عليه وسلم:«أَخْبِرْنِي عَنْ أَبِي سُفْيَانَ؟» قال له: لا أخبرك حتى تخبرني، قال له صلى الله عليه وسلم:«إن أخبرتنا أخبرناك» ، فقال له الشيخ: ذاك بذاك؟! قال: «نعم» ، قال: أُخبرت أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خرج في تاريخ كذا وإن كان المخبر صادقًا فهو الآن في محل كذا -وهو نفس المحل الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه- وأن أبا سفيان خرج بعِيْرِه بتاريخ كذا، وإن كان المخبر صادقًا فإنه يكون في محل كذا -للمحل الذي فيه أبو سفيان، فلما أعطاهم الخبر قال: أنجزوا لي الوعد، فأخبروني؟ فقال له صلى الله عليه وسلم:«نحْنُ مِنْ مَاءٍ» . وصار الشيخ يقول: من ماء؟ من ماء العراق؟ لا يدري ما يقصده

(1)

انظر تفاصيل الغزوة في السيرة لابن هشام (2/ 643) فما بعدها.

(2)

في صحيح مسلم (1901): «بُسَيْسَة» . قال النووي في شرح مسلم (13/ 47): «هكذا هو في جميع النسخ» اهـ ونقل عن القاضي قوله: «والمعروف في كتب السيرة: بسبس

وهو بسبس بن عمرو» وعقبه النووي بقوله: «يجوز أن يكون أحد اللفظين اسمًا له والآخر لقبًا» اهـ. وانظر: إكمال المُعلم (6/ 322).

(3)

انظر: السيرة ص653.

(4)

وهو سفيان الضمري كما في ابن هشام ..

ص: 485

رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

. فبعد أن ذهب رسول الله وأبو بكر جاء أبو سفيان أمام عِيره يتجسّس الخبر، فقصّ عليه الغفاري قصة ما جرى له مع النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

،

فقال: هل أناخ بعيره؟ قال: نعم، فأراه الموضع الذي أناخ فيه رسول الله، فجاء فوجد بعر البعير ففتته فإذا فيه النوى، قال: هذه والله علائف يثرب؛ لأنهم يعلفون مواشيهم النوى، وآجر في ذلك الوقت ضمضم بن عمرو الغفاري يقرن بين مشي الليل والنهار لينذر قريشًا أن عِيرَهُم تعرضها محمد صلى الله عليه وسلم، وذهب هو بالعِير وسَاحَل بها إلى جهة ساحل البحر، وأبعد بها عن بدر، ولم يلبث الغفاري أن جاء قريشًا فاستنفروا بسرعة وجاءوا، فلما جاءوا علم بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الجيش أتى، وأن العِير سلمت، وكان الصحابة يكرهون هذا، وكان الله -جل وعلا- وعد نبيه بأنه يعطيه إحدى الطائفتين إما العير وإما النفير، وكان أصحابه رضي الله عنهم يرغبون في أن يكون الوعد بالعِير لا بالنفير كما سيأتي في قوله:{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال: الآية 7] فلما علموا أنه النفير وعلم صلى الله عليه وسلم بجيش قريش أنه أقبل يريده، وقص خبره على أصحابه، كره جماعة منهم ملاقاته غاية الكراهة، حتى قال تعالى: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ

(1)

ابن هشام ص654، والبداية والنهاية (3/ 264).

(2)

المعروف أن بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء أتيا بدرًا فأناخا إلى تل قريب من الماء، وكان مجدي بن عمرو الجهني على الماء

ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم

وأقبل أبو سفيان حتى ورد الماء، فقال لمجدي: هل أحسست أحدًا؟ فقال: ما رأيت أحدًا أُنكره إلا أنني قد رأيت راكبَيْنِ قد أناخَا إلى هذا التل

إلخ. كما في سيرة ابن هشام ص655 ..

ص: 486

وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال: الآية 6] من شدة خوفهم وكراهتهم؛ ولذا قال لنبيه: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} [الأنفال: الآية 6] الحق تبين أن الله أمرك بالخروج ووعدك إحدى الطائفتين: إما أن يمكنك من العير، وإما أن ينصرك ويظفرك بالنفير.

وهذا حق ووعد من الله لا شك فيه، وهم يجادلون في هذا الحق بعد ما أوضحه الله لرسوله فيقولوا: نحن ما استعددنا أولاً لقتال النفير، إنما خرجنا لنأخذ عيرًا ولم نستعد للقتال فدعْنا نرجع حتى نستعد للقتال. وهذا إخراجه من بيته الذي كرهوه وكان خيرًا لهم؛ ولذا قال:{أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} [الأنفال: الآية 5] وهذا الحق الذي أخرجه من بيته متلبسًا به هو نصرة دينه، وإعزاز كلمته، وإعلاء كلمة الله (جل وعلا) لأن أول وقعة عظُمت فيها قوة الإسلام، وارتفعت فيها كلمة الله وعلت، وعزّ بها المسلمون وانتصروا هي غزوة بدر الكبرى هذه، وسنُلم بتفاصيلها -إن شاء الله- في هذه الآيات المقبلة؛ لأن الله ذكر في هذه الآيات الآتية من سورة الأنفال غزوة بدر الكبرى؛ ولذا قال هنا:{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} الذين هم معك {لَكَارِهُونَ} لذلك الخروج لما علموا أنه آيل إلى قتال الجيش لا إلى العير {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ} [الأنفال: الآية 6] وهو أن الله (جل وعلا) أمرك أن تخرج خروجًا متلبسًا بالحق، ووعدك إحدى الطائفتين: إما العير وإما النفير، فأنت ظافر لا محالة، فخروجك خروج حق مصحوب بالوعد من الله بالنصر والظفر إما بالعِير وإما بالنفير، ومع هذا يخاصمون ويجادلون في الحق بعد ظهوره فيقولون: نحن ما كنا مستعدين للقتال، فما خرجنا إلا لنأخذ عيرًا لا حرب دونها.

ص: 487

وهذا معنى قوله: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} من شدة كراهتهم لقتال العدو {وَهُمْ يَنظُرُونَ} لأن من يساق إلى الموت وهو يرى وينظر هذا أعظم شيء عليه، وهذا في بعضهم لا في كلهم، كما قد أشرنا إليه سابقًا من أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما سمع بأنهم استنفروا النفير وأنه آتيهم، قال بعض العلماء: كان الذي أرسله له سرًّا بذلك عمه العباس بن عبد المطلب -والله تعالى أعلم- فلما أخبر قومه به جادل قوم في الحق، وقالوا: ما خرجنا للقتال، وإنما خرجنا للعير، فدعنا نرجع فنستعد للقتال، وتكلم أبو بكر وعمر فأحسنا، وتكلم المقداد بن عمرو -وهو المقداد بن الأسود، وهو المقداد بن عمرو رضي الله عنه - وقال كلامه المشهور: والله لو سرت بنا إلى بَرْكِ الغِمَاد لجالدنا من دونه معك، لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى:{فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: الآية 24] إلى آخر كلامه

(1)

. وأنه لما أعاد الكلام مرارًا، قال له سعد بن معاذ: كأنك تريدنا معشر الأنصار؟ قال: نعم، وقال له كلامه العظيم الذي يقول في جملته: لقد بايعناك على الحق، وعلمنا أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنا لقوم صُبُرٌ في الحرب، صُدقٌ في اللقاء

(2)

.

[وهذا يدل على أن الصحابة تباينت مواقفهم فما]

(3)

كرهوا كلهم هذا الخروج بل بعضهم رغب فيه وحبَّذه وصرح بالإعانة عليه،

(1)

مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة.

(2)

السابق.

(3)

في هذا الموضع انقطاع في التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

ص: 488

خلافًا للبعض الآخر. وهذا معنى قوله: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال: الآية 6] لشدة كراهتهم لقتال ذلك الجيش.

قال تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَاّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ (11)} [الأنفال: الآيات 7 - 11].

يقول الله جل وعلا: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)} [الأنفال: الآيات 7، 8].

المراد بالطائفتين هنا كما أطبق عليه عامة المفسرين: هما العِير والنفير. العِير: الإبل تحمل المتاع، والنفير: الجيش في سلاحه وعدده وعُدده.

وقد ذكرنا فيما مضى أن بدرًا (الكبرى) هذه؛ لأن بدرًا ثلاث غزوات كلها تسمى بدرًا، وهي: بدر الأولى، وبدر الكبرى -هي هذه التي يُقال لها بدر العظمى- وبدر الأخيرة بعد أُحد في العام القادم كما تقدم إيضاحه في تفسير سورة آل عمران، وقد ذكرنا فيما تقدم أن أبا سفيان خرج إلى الشام في الرحلة إلى الشام معه عير فيها كثير من أموال قريش، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم بذهابها إلى الشام فتلقّاها

ص: 489

وهي ذاهبة إلى الشام ليأخذ المال الذي يشترون به مِنَ الشام ففاتته العير، وبلغ (العُشيرة) ورجع منها إلى المدينة، وهي غزوة العُشيرة، ثم بعد ذلك صار يترقب رجوع عِير أبي سفيان، فلما حان وقت قفولها وعلم أنها راجعة استنفر من خفَّ من أصحابه وتلقاها وقال لهم:«اخْرُجُوا إِلَيْهَا لَعَلَّ اللهَ يُنَفِّلكُمُوهَا» ؛ ليستعينوا بها على أمور دينهم ودنياهم؛ لأنهم في ذلك الوقت ينقص عليهم المال، فاستنفر صلى الله عليه وسلم من كان ظهره حاضرًا من القوم ولم يخرجوا معدّين للقتال، لكن خرجوا يتلقّون عِيْرًا، والمؤرخون يقولون: إن العِير فيها أربعون رجلاً أو ثلاثون رجلاً من قريش، فيهم رئيسهم أبو سفيان بن حرب، وفيهم عمرو بن العاص، ومخرمة بن نوفل، وغيرهم من قريش

(1)

. فسار إلى العِير في ثلاثماثة وثلاثة عشر رجلاً من أصحابه ليس عندهم من السيوف إلا ثمانية سيوف، ولا من الخيل إلا فرسان. يقولون: إن إحداهما تحت المقداد بن عمرو، والثانية تحت الزبير بن العوام، وذكر بعض أصحاب المغازي أن إحداهما عند مصعب بن عمير رضي الله عنهم أجمعين)، والأول هو المشهور عند أصحاب المغازي. عندهم ثمانية سيوف -فيما يقولون- وفرسان، ونحو من سبعين بعيرًا يعتقبون عليها، كل ثلاثة يعتقبون على بعير، وذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون على بعير

(2)

،

وكانت إذا جاءت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: «اركب حتى نمشي عنك» فلم يرض إلا أن يمشي كما يمشون، ويقول لهم:

(1)

انظر: السيرة لابن هشام ص643.

(2)

المصدر السابق ص651 ..

ص: 490

«لَسْتُمْ بِأَقْوَى مِنِّي، وَلَسْتُ بِأَغْنَى عَنِ الأَجْرِ مِنْكُمَا»

(1)

. وما ذكره بعض المؤرخين وأصحاب المغازي من أن اللَّذَين كانا يعتقبان مع النبي صلى الله عليه وسلم هما: علي وأبو لبابة بن عبد المنذر لا ينافي ما عليه الأكثرون من أن الثالث هو مرثد بن أبي مرثد الغنوي؛ لأنّا قدمنا أن أبا لبابة بن عبد المنذر ردّه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الروحاء وخلفه على المدينة، ردّه إليها من الروحاء، فلعل مُعاقبة أبي لبابة كانت قبل رجوعه، وبعد أن ردّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة صار مكانه مرثد بن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه

(2)

.

ثم إنهم ذهبوا في طريقهم ذلك حتى قربوا من بدر، وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك طلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد يتجسسان أخبار عِير أبي سفيان إلى جهة الشام، وقد انتهت الوقعة قبل رجوعهما، وأرسل أيضًا بسبس بن عمرو الجهني -حليف بني ساعدة- وعدي بن أبي الزغباء رضي الله عنهما يتجسسان الخبر، وقد جاءاه ببعض الخبر لأنهم لما جاءا بئر بدر وأناخا بعيريهما سمعا -عدي بن أبي الزغباء هذا، وبسبس بن عمرو رضي الله عنهما - سمعا جاريتين تُداين إحداهما الأخرى، والتي تُطالَبُ تقول لها: إن عِير أبي سفيان ستنزل هنا غدًا فأشتغل عندهم وأقضيك من ذلك،

(1)

أحمد (1/ 418، 422)، والنسائي (في الكبرى) في السير، باب الاعتقاب في الدابة، حديث رقم:(8807)(5/ 250)، والحاكم (3/ 20)، والبيهقي في الدلائل (3/ 39)، والبزار (كشف الأستار)(2/ 310)، وذكره الهيثمي في المجمع (6/ 69) وعقبه بقوله:«وفيه عاصم بن بهدلة وحديثه حسن، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح» اهـ.

(2)

انظر: البداية والنهاية (3/ 261).

ص: 491

وعلى الماء رجل من بني غفار

(1)

، فقال للجارية الطالبة: صدقت فسترد العير وستقضيك إذا اشتغلت عندها، فأخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك

(2)

. وقد جاء رسول الله ومعه أبو بكر وسأل الشيخ الغفاري الذي كان على الماء واسمه سفيان

(3)

كما ذكرنا. وأخبرهما عن موقع النبي صلى الله عليه وسلم وعن موضع أبي سفيان، وقد قال له النبي:«نحن من ماء» كما ذكرنا.

وذكر الأخباريون

(4)

أن أبا سفيان جاء وفَتَّت بعض أبعار النواضح، بعضهم يقول: فتت بعر بعير بسبس وعدي بن أبي الزغباء فوجد في بعر البعير النوى فقال: هذه علائف يثرب. ولم يشك في أنها من النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فرجع مسرعًا وردّ العِير عن بدر أصلاً وسَاحَل بها إلى جهة البحر، وأسرع بها هناك، وآجر ضمضم بن عمرو الغفاري على أن يسير سيرًا مسرعًا إلى قريش ويخبرهم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم تعرض لعِيرِهم فيها أموالهم، والمؤرخون يقولون: إن هذه العير فيها ألف بعير كلها تحمل الأموال، وفيها أربعون أو ثلاثون رجلاً من قريش، وهي تحمل مالاً كثيرًا، فأسرع ضمضم بن عمرو الغفاري إلى قريش بمشي سريع وجاءهم بسرعة، ولما قرُب منهم جدع أُذني البعير الذي هو عليه. وحوَّل الرحل، وشق القميص، وصاح بصوت مزعج: يا معشر قريش اللطيمة

(1)

الذي على الماء: مجدي بن عمرو الجهني، كما في ابن هشام ص656.

(2)

المصدر السابق.

(3)

اسمه: سفيان الضمري. (ابن هشام ص654) والبداية والنهاية (3/ 264). وهو آخر غير الجهني الذي جاءه بسبس وصاحبه.

(4)

ابن هشام ص656، والبداية والنهاية (3/ 265).

ص: 492

اللطيمة. واللطيمة: الإبل تحمل المتاع، كما قال نابغة ذبيان

(1)

:

..........................

يَطُوفُ بها وَسْطَ اللَّطِيمَةِ بَائِعُ

إن محمدًا تعرض لعِيرِكم يريد أن يأخذها كما أخذ عِير ابن الحضرمي. وبعضهم يقول: إن بين وقعة بدر وبين قضية عِير ابن الحضرمي شهرين فقط، والله تعالى أعلم.

وقبل مجيء ضمضم بن عمرو الغفاري بثلاث ليالٍ رأت عاتكة بنت عبد المطلب رضي الله عنها رؤيا هائلة عجيبة أَسَرَّت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، قالت له: إني رأيت في منامي رؤيا عجيبة أخاف أن يصل إلى قومك منها شر. قال: وما هي؟ قالت: رأيت راكبًا على بعير له، لما جاء بالأبطح رفع صوته ونادى: ألا انفروا إلى مصارعكم في ثلاث. قالت: وأناخ بعيره على ظهر الكعبة فيما ترى في نومها وصرخ بهم مرات: ألا انفروا إلى مصارعكم في ثلاث، وفعل كذلك على جبل أبي قبيس، وأرسل صخرة عظيمة من أبي قبيس فلما جاءت إلى أسفل الجبل ارفَضَّت - أي انكسرت وتفرقت شظاياها - فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا دخله منها شيء. كانت أسرّت هذه الرؤيا إلى العباس أخيها واستكتمته عليها، فأَسَرَّها العباس إلى بعض أصدقائه من بني ربيعة، فأَسَرَّها ذلك إلى غيره حتى فشى الخبر وتناقلها الناس، فأتى العباس البيت ليطوف وإذا أبو جهل في نفر من قريش، فقال له أبو جهل: إذا

(1)

هذا الشطر الأخير من بيت أوله: «على ظهر مبناه جديد سيورُها» وهو في ديوانه ص53.

ص: 493

انتهيت من طوافك فأتنا. فلما أتاهم قال له أبو جهل: يا أبا الفضل متى حَدَثَتْ فيكم هذه النبية الجديدة؟! أما كفاكم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم! هي قالت: إنّا ننفر إلى مصارعنا في ثلاث، فسننتظر هذه الثلاث، وإن انقضت ولم يكن فيها شيء كتبنا عليكم أنكم أكذب بيت من العرب، فالعباس في ذلك الوقت لم يغضب ولم يقل شيئًا إلا أنه أنكر وجحد أن أخته رأت شيئًا، فلما كان بالليل ورجع إلى أهله وجد نساء بني عبد المطلب كلهن في شدة الغضب، وقلن له: هذا الفاسق يسب رجالنا ثم شرع يسب نساءنا وأنت لا تغيّر شيئًا؟! فأوغرن صدره عليه، وغضب العباس وندم على ما فات منه، وأصبح ينوي التعرض لأبي جهل لإن عاد إلى ذلك لينتقمن منه، وكان ذلك هو اليوم الثالث من أيام الرؤيا، فجاءه في المسجد يتعرض إليه وأبو جهل مشغول؛ لأنه يسمع صوت ضمضم بن عمرو والعباس لا يسمعه، كان أبو جهل حديد السمع، فرآه مشغولاً حتى وثب إلى باب المسجد فإذا ضمضم على بعيره يقول:«اللطيمة، اللطيمة» . إلى آخر ما ذكرنا

(1)

،

فاشتغلوا وتجهزوا سراعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يظن محمد أنها كعِير ابن الحضرمي!! لا والله ليكونن غير ذلك، ثم إنهم تجهزوا مسرعين ولم يبق من أشراف قريش أحد.

وتخلف من أشرافهم: أبو لهب بن عبد المطلب -قبحه الله- واستأجر العاص بن هشام بن المغيرة لِدَيْنٍ كان له عليه، أنه يذهب مكانه وبدله إلى بدر-قبحه الله- ثم إنهم لما تهيؤوا للسفر قالوا: إن بينكم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة حربًا، إن خرجتم عن

(1)

ابن هشام 644 - 647 ..

ص: 494

دياركم لعل بني بكر أن تأتي بلدكم بعدكم وتأخذ نساءكم وصبيانكم وأموالكم ليس دونهم رجال، وكان بين قريش وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة حرب

(1)

سببها أن رجلاً من بني عامر بن لؤي وهو ابن لحفص - رجلٌ من بني عامر بن لؤي، أخو مكرز بن حفص رضي الله عنه الصحابي المشهور- كان قتله رجل من بني بكر بن كنانة، فأخذ مكرز بن حفص بثأره فقتل الكناني، فصارت بين قريش وبين كنانة قاتل ومقتول، وصارت بينهم حرب، فلما خافوا كنانة جاءهم إبليس اللعين علنًا متمثلاً لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم رضي الله عنه، وهو الذي ساخت به قوائم فرسه لما تبع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر الهجرة، وهو سراقة بن مالك بن جعشم رضي الله عنه صار من أصحاب رسول الله - أسلم - وهو سيد بني مدلج من بني بكر بن كنانة، جاء الشيطان في صورته، وهم يعرفون سراقة، كأنه سراقة لا ينكرون منه شيئًا، وهو الشيطان متمثل في صورة ذلك الرجل، وقال لهم: أنا سراقة بن مالك بن جعشم، إني جار لكم من كنانة، لا يمكن أن يصلوا إليكم بسوء.

كما سيأتي تفاصيل هذا في هذه السورة الكريمة؛ لأنه قال: {لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} [الأنفال: الآية 48] هو الشيطان لما تمثل لهم بصورة سراقة بن مالك رضي الله عنه، ولم يزل معهم يَقِيلُ معهم حيث قالوا، ويبيت معهم حيث باتوا، حتى تراءى الجمعان يوم بدر، ورأى الشيطَان الملائكة ينزلون من السماء -لنصر دين الله- لما رأى الملائكة خاف القبيح وقال لهم:{إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} نكص على

(1)

المصدر السابق ص648.

ص: 495

عقبيه وقال: {إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}

(1)

[الأنفال: الآية 48]، وبعد ذلك تقول قريش: خذلنا سراقة وهرب عنا. ولم يعلموا أنه الشيطان حتى أسلموا وسمعوا قصته تُتلى في سورة الأنفال هذه

(2)

،

فلما قال لهم الشيطان: إني جار لكم من بني بكر، وخرجوا، وكان أمية بن خلف -من سادات قريش - هَمَّ أن لا يخرج؛ لأنه كان صديقًا لسعد بن معاذ رضي الله عنه في الجاهلية، وكان أمية إذا مر بالمدينة نزل عند سعد، وكان سعد إذا مر

(1)

انظر: البداية والنهاية (3/ 259، 283).

(2)

خبر مجيء الشيطان يوم بدر على صورة سراقة بن مالك رضي الله عنه جاء في روايات عدة عن جماعة، منهم:

1 -

ابن عباس. عند ابن جرير (14/ 7)(من طريق ابن أبي طلحة)، وابن أبي حاتم (5/ 1715)، والبيهقي في الدلائل (3/ 79). وعزاه في الدر (3/ 190) لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والواقدي.

2 -

رفاعة بن رافع الأنصاري. وقد ذكره الهيثمي في المجمع (6/ 77) وعزاه للطبراني، وقال:«وفيه عبد العزيز بن عمران وهو ضعيف» اهـ وعزاه في الدر (3/ 190) للطبراني وأبي نعيم في الدلائل.

3 -

السدي. عند ابن جرير (14/ 8).

4 -

عروة بن الزبير. عند ابن جرير (14/ 8).

5 -

ابن إسحاق عند ابن جرير (14/ 8).

6 -

محمد بن كعب عند ابن جرير (14/ 11).

7 -

يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد. عند ابن أبي حاتم (5/ 1715). وقد ذكر ابن كثير (2/ 317) بعض هذه الروايات، وأورد غيرها من طريق الواقدي وابن إسحاق.

ص: 496

بمكة أو جاء معتمرًا نزل عند أمية، وكان سعد رضي الله عنه بعد أن وصل إليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في هجرته ذهب معتمرًا إلى مكة ونزل عند أمية بن خلف، فقال له: انظر لي وقتًا يكون البيت ليس عنده أحد لأطوف. فراح به منتصف النهار ليطوف ببيت الله الحرام، فرآه أبو جهل يطوف فقال: من هذا؟ قال: أنا سعد بن معاذ. قال: تطوف بالبيت آمنًا وأنتم آويتم محمدًا وأصحابه؟! فقال له سعد: والله إن منعتني من مكة لأمنعنك مُتَّجرك إلى الشام!! ورفع صوته، وقال له أُمية بن خلف: يا سعد لا ترفع عليه صوتك!! هذا سيد أهل الوادي، فغضب سعد وقال لأمية: لقد سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إنهُمْ قَاتِلُوكَ» ، فجزع أمية جزعًا شديدًا لعلمه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقًّا، ورجع إلى امرأته فقال: يا أم صفوان أما سمعتِ ما قال أخي اليثربي؟! قالت: ماذا قال؟ قال: إنه سمع محمدًا صلى الله عليه وسلم يقول: إنه قاتلي، فقالت: والله ما يكذب محمد صلى الله عليه وسلم. هم مع كفرهم وعنادهم يعلمون أنه لا يكذب!! فلما تهيؤوا للنفير أراد أمية أن يتخلَّف، فجاءه أبو جهل وقال: يا أبا صفوان أنت من سادة أهل الوادي إذا تخلفت تخلف الناس، فلا بد أن تذهب، فلم يزل به حتى ذهب

(1)

.

وقال بعضهم

(2)

: جاءه عقبة بن أبي معيط بطيب ومجمر فقال له: تَبَخَّرْ بهذا فإنما أنت من النساء! فلم يزالوا به حتى خرج، وخرجوا مُوعِدِين للحرب، لم يبق من سادات قريش وقادتها أحد إلا

(1)

البخاري، كتاب المغازي، باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من يُقتل ببدر. حديث رقم:(3950)(7/ 282). وطرفه في (3632).

(2)

البداية والنهاية (3/ 258).

ص: 497

ما ذكرنا عن أبي لهب - قبحه الله - وذكر أصحاب المغازي المطعمين منهم

(1)

فقالوا: عندما خرجوا من مكة نحر لهم أبو جهل عمرو بن هشام -قبحه الله- عشرًا من الإبل، ثم من الغد نحر لهم أمية بن خلف بعسفان تسعًا من الإبل؛ لأنهم يومًا ينحرون عشرًا ويومًا تسعًا، ثم نحر لهم بقديد سهيل بن عمرو عشرًا من الإبل، ثم من قُديد ذهبوا إلى المياه إلى جهة ساحل البحر فأقاموا هناك يومًا، فنحر لهم شيبة بن ربيعة تسعًا من الإبل، ثم أصبحوا بالجحفة فنحر لهم عتبة بن ربيعة عشرًا من الإبل، ثم أصبحوا بالأبواء فنحر لهم منبه ونبيه ابنا الحجاج السهميان عشرًا من الإبل، ثم نحر لهم العباس عشرًا من الإبل، ونحر لهم أبو البختري بن هشام على ماء بدر عشرًا من الأبل، وأرسل لهم إيماء بن رحفة الغفاري عشرًا من الإبل. وغير ذلك كانوا يأكلون من أزوادهم، فلما نجى أبو سفيان أرسل إلى قريش: أن ارجعوا فإنكم كنتم تريدون أن تمنعوا أموالكم وعيركم وقد نجاها الله فارجعوا فلا حاجة لكم بقتال محمد وأصحابه. فقال اللعين أبو جهل: والله لا نرجع حتى نَرِدَ بدرًا، وتعزف علينا القيان، ونشرب الخمور، وتسمع العرب بنا فتهابنا. وكانت بدر موسمًا من مواسم العرب في الزمن القديم، وكان الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة، فلما سلمت العير ونجت وكان فيها رجل واحد من بني زهرة، بعضهم يقول: هو مخرمة بن نوفل، فقال الأخنس بن شريق: والله لترجعن يا بني زهرة، وهذا ابن بنتكم إن غلب الناس كُلاً فَعِزُّهُ وشرفه لكم، وإن غلبته العرب كفتكم إياه. فرجع ببني زهرة ولم يشهدها زهري أبدًا، ولم يخرج من مكة فيها عدوي أبدًا، فبنو عديّ وبنو زهرة

(1)

ابن هشام ص707.

ص: 498

لم يشهد بدرًا أحد منهم مع الكفار

(1)

.

بعد ذلك كان للأخنس بن شريق شرف في بني زهرة، وهو حليف لهم، أصله من بني ثقيف، وابنه أبو الحكم بن الأخنس هو الذي قتل عبد الله بن جحش المُجَدَّع يوم أُحد كما تقدم في تفسير سورة آل عمران، وعندما جاءوا ونزلوا وراء الكثيب وراء العقنقل بالعدوة القصوى من بدر كان النبي صلى الله عليه وسلم نزل بواد فيه دهس ورمل تسوخ فيه الأقدام من وراء عدوة بدر الدنيا التي تلي المدينة، وكان أولئك نزلوا وراء العقنقل -الكثيب الكبير- فأرسل الله مطرًا تلك الليلة التي وقعة بدر من صبيحتها، وكانت ليلة الجمعة، وهي الليلة السابعة عشرة من رمضان عام اثنين من الهجرة، فكان المطر الذي نزل على رسول الله وأصحابه واقعًا موقعه؛ لأن المحل الذي كانوا فيه كان الوادي فيه دهس؛ يعني: رمل تسوخ فيه الأقدام، وكانوا في عطش، وناموا تلك الليلة؛ لأن الله سلط عليهم النعاس كما هو أحد التفسيرين على ما سيأتي في قوله:{إِذْ يُغَشيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ} [الأنفال: الآية 11] فجاءهم الشيطان ووسوس لهم وسوسة ثقلت على بعض الصحابة ثِقلاً شديدًا، فقال لهم: أنتم تقولون إنكم على الحق -هذه وسوسة إبليس التي أثر عليهم بها- أنتم تقولون إنكم على الحق، وفيكم نبيُّ الله، وأنتم في عطَش، وعليكم الجنابة لا تجدون ماء تغتسلون به، فسيجهدكم العطش حتى إذا علم القوم أن العطش قطع أعناقكم جاءوكم فقتلوا من شاءوا، وأخذوا مَنْ شاءوا، فأرسل الله المطر حتى سال الوادي فاغتسلوا من الجنابة، وتطهروا وشربوا وسقوا دوابهم، وثَبَّتَ لهم المطر الأرض الدهسة، حتى صار المشي عليها

(1)

المصدر السابق ص657.

ص: 499

ليس فيه كلفة عليهم، وكانت العدوة القصوى التي بها الكفار لما جاءها المطر كان بها وحل -أي طين- تسوخ به الأقدام، فلم يقدروا على الرحيل منها في ذلك الوقت، ثم بعد ذلك لما خرجوا وجاءوهم متصوبين من الكثيب الكبير العقنقل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أول الليلة التي من صبيحتها بدر أرسل طائفة من أصحابه فيهم علي، والزبير بن العوام رضي الله عنهم فوجدوا واردة لقريش، منهم غلام لمنبه ونبيه ابني الحجاج من بني سهم وغيرهم فأخذوهم فجاءوا بهم والنبي يصلي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم كانوا

يحبون أن تكون الراوية الواردة لأبي سفيان؛ لأنهم يحبون العير ويكرهون النفير، كما قال تعالى:{وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال: الآية 7] فإذا قالوا لهم: أين أبو سفيان؟ قالوا: لا علم لنا بأبي سفيان، ولكنا مع قريش: فلان بن فلان .. ، ويعدّون لهم سادات قريش: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، ومنبه ونبيه ابني الحجاج، وغير ذلك من صناديد قريش، فإذا قالوا لهم هذا ضربوهم، فإذا ضربوهم تخلصوا منهم وقالوا: نحن واردة أبي سفيان. فإذا قالوا ذلك تركوهم! حتى انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته وقال: «إذَا صَدَقُوكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمْ، وإذا كَذَبُوكُمْ تَرَكْتُمُوهُمْ؟! واللهِ إنَّهُمْ لَوَارِدَةُ الجَيْشِ» ، وسألهم النبي صلى الله عليه وسلم:«كم عددهُم» ؟! فقالوا: كثير ولا ندري عددهم. فقال: «كم يَنْحَرُون؟» قالوا: يومًا عشرًا من الإبل، ويومًا تسعًا، قال:«القَوْمُ ما بين التِّسْعِمِائَةِ والأَلْفِ» وهو كما قال صلى الله عليه وسلم. قال: «مَنْ فِيهم؟» فعدّوا صناديد قريش وأشرافها فذكروا أبا جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وحكيم بن

ص: 500

حزام، وزمعة بن الأسود، وأبا البختري، وعمرو بن عبد وُدٍّ، وذكروا جميع سادة قريش وقادتها، وقال لهم صلى الله عليه وسلم:«هَذِهِ مَكَّةُ رَمَتْكُمْ بِأَفْلَاذِ كَبِدِهَا»

(1)

.

وقد أرسل القوم عمير بن وهب الجمحي رضي الله عنه وهو في ذلك الوقت كافر مع الكفار، وقالوا له: اذهب فاحزر لنا القوم، فجاءهم عمير وقال لهم: حزرت القوم فوجدتهم ثلاثمائة يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، ولكن أنظروني أنظر هل للقوم كمين؟ فركب فرسه وجال في الوادي حتى أبعد ورجع إلى قومه فقال: والله ما لهم كمين، وقال لهم: والله لا يُقتل رجل منهم حتى يَقْتُل رجلاً منكم، والله لقد رأيت نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، رأيت البلايا تحمل المنايا، فالرأي عندي أن ترجعوا عن هؤلاء. فسمع كلامه حكيم بن حزام بن خويلد رضي الله عنه فجاء إلى عتبة وقال له: قريش لا تطلب عند محمد صلى الله عليه وسلم شيئًا إلا ثأر عمرو بن الحضرمي -الذي قُتل في سرية نخلة- وهو حليفك، فتول أمره وارجع بقريش، فقال عتبة بن ربيعة: هو حليفي، وعليَّ جبنها وعَقْلُ حليفي عليَّ، وارجعوا من هنا، ولا حاجة لكم بقتال محمد وأصحابه، فاتفق رأي حكيم، وعمير بن وهب، وعتبة بن ربيعة على رجوع القوم. فقال عتبة بن ربيعة لحكيم: الصواب أنه نرجع ولكن انظر إلى ابن الحنظلية -يعني أبا جهل- فلما جاءه من عند عتبة وقال له: إن عتبة يقول لك إنه حمل عقل صاحبه، وحمل جبنها، فارجع بالناس فقال أبو جهل: انتفخ سَحَرُ عتبة من الجبن -والسَّحَر: الرئة، هم يقولون: إن الإنسان إذا اشتد خوفه انتفخت رئته في صدره فملأت

(1)

المصدر السابق ص654 - 655.

ص: 501

صدره، كذا قال- فغضب عند ذلك عتبة وقال: سيعلم مصفر استك غدًا من الجبان! وأمر أبو جهل -قبحه الله- عامر بن الحضرمي أخا عمرو بن الحضرمي أن ينشد ثأره، فقام عامر بن الحضرمي وقال: واثأراه، واعَمْرَاه، فاحتدم الناس للقتال، وأفسد أبو جهل كل ما أراد عتبة وحكيم وعمير أن يصلحوه

(1)

، فلما وقع ذلك قال بعض المؤرخين

(2)

:

أول قتيل قُتل من الكفار قبل المبارزة: الأسود بن عبد الأسد، جاء وأراد أن يقتحم الحوض الذي بناه صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه سبقوا إلى بدر، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم عند أول قليب فجاءه الحُباب بن المنذر بن الجموح رضي الله عنه وقال له: يا نبي الله إن كان هذا وحيًا من الله فلا ينبغي لنا أن نتقدمه ولا أن نتأخر عنه، وإن كان الرأي والحرب والمكيدة فلنا منه حول. فقال:«بَلْ هُوَ الرَّأْيُ والحَرْبُ والمَكِيدَةُ» . قال: الأصلح في ذلك أن نذهب إلى أقرب قليب من القوم ونُغَوِّر جميع القُلُب، ونترك ذلك القليب ونبني عليه حوضًا، ونلقي فيه الأواني، فإن غلبنا القوم: شربنا ومنعناهم من الماء، وإن غلبونا قدرنا على أن نشرب

(3)

.

فذلك الحوض لم يشرب منه أحد إلا مات، إلا حكيم بن حزام جاء الأسود هذا ليشرب منه فقتله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ثم إنه لما احتدم القتال جاء صلى الله عليه وسلم وصف أصحابه للقتال، وبُني له

(1)

دلائل النبوة للبيهقي (3/ 64)، وانظر المصدر السابق ص661 - 663.

(2)

انظر: السيرة لابن هشام ص663 ..

(3)

رواه الحاكم (3/ 126، 127)، وأورده ابن هشام في السيرة.

وكذا الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 267). وضعفه الألباني في تعليقه على فقه السيرة ص240.

ص: 502

عريش (صلوات الله وسلامه عليه)، وكان في العريش هو وأبو بكر، وسعد بن معاذ متوشحًا سيفه في قوم من الأنصار يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وصف الصفوف ورجع للعريش يهتف بربه ويناديه:«رَبِّ أَنْجِزْ مَا وَعَدْتَنِي، رَبِّ أَنْجِزْ مَا وَعَدْتَنِي» ، فلما نظر إلى قريش مُتَصَوِّبَة من كثيب بدر من العقنقل الكبير فإذا هم ألف مقاتل، وإلى أصحابه فإذا هم نيف وثلاثمائة رجل هتف [صلى الله عليه وسلم]

(1)

بربه، وألح في مسألة رَبِّهِ والاستغاثة به كما يأتي في تفسير قوله:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} [الأنفال: آية 9] فصف صلى الله عليه وسلم الصفوف فلما جاء القوم برز عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة بن ربيعة، وولده الوليد بن عتبة بن ربيعة -وربيعة: ابن عبد شمس بن عبد مناف- برزوا للقتال، فبرز لهم نفر من الأنصار، وقالوا إنهم: معاذ ومعوذ ابنا الحارث، وهما المعروفان بـ (ابني عفراء)، أمهما (عفراء) اشتهرا بها؛ لأن أولاد الحارث الثلاثة -وهم: عوف، ومعوذ، ومعاذ- اشتهروا بالنسبة إلى أمهم عفراء (رضي الله عن الجميع) قال بعض المؤرخين: قال العبشميون للأنصار: لا حاجة لنا بقتالكم إنما نريد بَنِي عَمِّنَا مِنْ قريش. وقال بعض المؤرخين: قالوا: أكفاء كرام، ولكنا نريد بني عمنا. فطلبوا مبارزين من بني عمهم، فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف -وهو أسن أهل بدر جميعًا، وقد شهد بدرًا أخواه، وهما: الحصين والطفيل، شهدها من بني الحارث بن المطلب ثلاثة: عبيدة بن الحارث أحد المبارزين، وأخواه: الطفيل والحصين- قال: قم يا عبيدة بن

(1)

في الأصل: (جل وعلا). وهو سبق لسان.

ص: 503

الحارث، ويا حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب.

فجاءوهم فقالوا: مَنْ أَنْتُم؟ لأنهم لا يعرفونهم؛ لأن القوم مقنعون في الحديد، فانتسب كل واحد منهم. فقال عبيدة: أنا عبيدة بن الحارث بن المطلب. وقال حمزة: أنا حمزة ابن عبد المطلب. فلما انتسبوا لهم قالوا: أكفاء كرام. فكانت المبارزة بين عبيدة وعتبة، وبين حمزة وشيبة، وبين الوليد وعلي، أما علي رضي الله عنه فلم يلبث أن قتل الوليد، وأما حمزة رضي الله عنه فلم يلبث أن قتل شيبة، وأما عبيدة وعتبة فاختلفا ضربتين فأثبت كل واحد منهما صاحبه، وكان عتبة قطع قدم عبيدة بنصف ساقه، فَذَفَّفَ عليه عليّ وحمزة فقتلا عتبة، وحملا صاحبهما عبيدة حتى وضعاه عند النبي صلى الله عليه وسلم ورجله تشخب دَمًا، سقطت قدمه بنصف ساقه، وعند ذلك قال: يا رسول الله لو كان أبو طالب حيًّا لعلم أنا أحق منه بقوله

(1)

:

وَنَمْنَعُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ

وَنَذْهَلُ عَنْ أَبْنَائِنَا والحَلَائِلِ

وحملوه ومات بالصفراء، وهم قافلون من بدر.

فلما وقع هذا الْتَحَمَ القِتَالُ، واخْتَلط الحابل بالنابل، واشتدت مناجاته صلى الله عليه وسلم واستغاثته بربه، فأنزل الله الملائكة مددًا، فقال هنا:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ} [الأنفال: آية 9] وقد قدمنا في سورة آل عمران أن مددهم إلى خمسة آلاف كما تقدم في قوله: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ (124) بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ

(1)

البيت في البداية والنهاية (3/ 274).

ص: 504

رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)} [آل عمران: الآيتان 124 - 125] وبعض العلماء يقول: هذه الخمسة الآلاف التي ذُكرت في آل عمران دلت عليها آية الأنفال هذه؛

[2/أ] لأنه في قراءة الجمهور (

)

(1)

/ نافع من السبعة: {بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: الآية 9] بصيغة المفعول

(2)

.

واختلف العلماء: هل باشرت الملائكة القتال أو لم تباشره؟ فكثير من المؤرخين -وقد جاء في بعض الآثار وبعض الأحاديث- أن الملائكة باشرت القتال يوم بدر، وأن بعض الصحابة يتبع رجلاً حتى يسقط أمامه لا يدري مَنْ قَتَلَهُ؟ قال بعضهم: كنت أتبع رجلاً من الكفار فسمعت صوت سوط ضربه، فإذا وجهه منشق، وجميع وجهه قد اخضرّ ومات

(3)

، وبعضهم قال: أردت أن أمدّ سيفي إلى رجل فسقط رأسه قبل أن يصل إليه سيفي

(4)

. لأن الملائكة تقتلهم، وأظهر القولين: أن الملائكة في ذلك اليوم قاتلت، خلافًا لمن قال: إنها للتثبيت والعدد والمدد، وأنها لم تباشر القتال. والذين قالوا: لم

(1)

في هذا الموضع وُجد انقطاع في التسجيل.

(2)

ستأتي القراءات عند تفسير الآية.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، حديث رقم:(1763)(3/ 1383).

(4)

أورد السيوطي نحوه في الدر (3/ 173) عن أبي داود المازني رضي الله عنه، وعزاه لعبد بن حميد وابن مردويه. وقد أخرجه ابن جرير (7/ 175 - 176)، وذكره ابن هشام في السيرة ص672.

وأخرج البيهقي في الدلائل (3/ 56) بهذا المعنى عن سهل بن حنيف رضي الله عنه. وعند البيهقي في الدلائل (3/ 56)، وابن إسحاق عن أبي واقد الليثي، كما نقل ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 281).

ص: 505

تباشر القتال قالوا: لأن مَلَكًا واحدًا لو شاء أن يفني ما على وجه الأرض لما أتعبه ذلك، فإن جبريل لما صاح بثمود أهلكهم مرة واحدة، ولما رفع قرى قوم لوط أهلكهم مرة واحدة، لو أراد أن يمسحهم بريشة من جناحة لما ترك لهم أثرًا.

وقال بعض العلماء: لا مانع من قتال الملائكة، ولم يُنسب الأمر إلى الملائكة ليجعلهم عددًا ومددًا، فيكون الفتح والظفر والنصر كأنه على أيدي الصحابة؛ إذ لو كان المَلَك أهلكهم لما كان للصحابة في هذه الوقعة العظيمة مزية، فلما اختلطوا يعني صاروا يقتلونهم فأنزل الله المدد من السماء، وثبَّت قلوب المؤمنين، وألقى الرعب في قلوب الكافرين، كما سيأتي في قوله:{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)} [الأنفال: الآية 12].

وقد نهى صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم عن قتل بعض الناس

(1)

، نهى عن قتل العباس بن عبد المطلب عمه رضي الله عنه. وقد بدرت من أبي حذيفة بن عتبة رضي الله عنه تلك البادرة التي ندم عليها، وصار في خوف دائمًا، حتى استشهد فيمن استشهد من الصحابة في اليمامة أيام قتال مسيلمة؛ لأن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة رضي الله عنه - أعني أبا حذيفة - لما نهى صلى الله عليه وسلم عن قتل العباس قال: أنقتل أبناءنا وإخواننا ونترك العباس؟ والله إن لقيته لألجمنه السيف

(2)

. ولما قالها ندم وجزع منها وصار خائفًا منها دائمًا حتى

(1)

السيرة لابن هشام ص668، البداية والنهاية (3/ 284).

(2)

البيهقي في الدلائل (3/ 140)، السيرة لابن هاشم ص668، البداية والنهاية (3/ 284).

ص: 506

استشهد، وكذلك لما جُرّ قتلى قريش إلى القليب، وكان أبوه عتبة يُجرّ إلى القليب، رُؤيت الكراهة في وجهه فاعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن الكراهية التي ظهرت في وجهي ليست انتصارًا لكافر، ولكن عتبة هذا كنت أعهد فيه عقلاً وحزمًا وحلمًا، كنت أظن أن عقله وحِجَاه يمنعه من ميتة السوء هذه، وأنه يؤمن بالله!! فاعتذر بهذا

(1)

.

وممن نهى عنه صلى الله علي وسلم ذلك اليوم: أبو البختري بن هشام الذي كان من أحسن الناس معاملة لرسول الله وبني هاشم، لم يؤذهم قط، وأيام حصار قريش لهم في الشِّعب كان معهم، وهو من النفر الذين سعوا في نقض الصحيفة التي كتبوا فيها مقاطعتهم، فلم يؤذهم قط، فلم يجدوا منه إلا الإحسان، فنهى صلى الله عليه وسلم عن قتله، فالتقى به الْمجذَّر بن زياد البلوي رضي الله عنه حليف الأنصار، فقال له: يا أبا البختري: إن نبينا صلى الله عليه وسلم نهانا عن قتلك فلا نتعرض لك. وكان مع أبي البختري زميل يُسمى جنادة بن مليحة، فقال له أبو البختري: والزميل؟ قال: لم ينهنا صلى الله عليه وسلم عن قتل الزميل. قال: أما أنا فلا يُقتل زميلي حتى أُقتل دونه، وذكر رجزه المشهور:

لا يُسْلِمُ ابنُ حُرةٍ زَميلَه

حَتى يَمُوتَ أو يَرَى سَبيلَه

ولا يفارق جزعًا أكِيلَهُ

(2)

ولذا صار يقاتل المُجَذَّرَ دون ذلك الزميل فقتله المُجَذَّر رضي الله عنه وكان المُجَذَّر بن زياد البلوي رضي الله عنه يرتجز

(1)

السيرة لابن هشام 680، البداية والنهاية (3/ 294).

(2)

السيرة لابن هشام ص669.

ص: 507

في ذلك رواجز، ومن جملة ما يقول فيها

(1)

:

أَنَا الذي أزعمُ أَصْلي من بَلِي

أَضْرِبُ بالحَرْبَةِ حَتَّى تَنْثَني

ويروى عنه: «بالصَّعْدَةِ حتى تنثني» فجاء واعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قَتْلِهِ بأنه ما تعرض له حتى قاتله دون زميله

(2)

.

فمنح الله المسلمين أكتاف الكافرين، فقتلوا سبعين من خيارهم، وأسروا سبعين، وكان ممن قُتل في ذلك اليوم: أبو جهل بن هشام -لعنه الله- وقد صح عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه لما صف النبي صلى الله عليه وسلم الصفوف كان بجنب عبد الرحمن -وكان رجلاً له قامة- كان بجنبه رجلان صغيران في القدر، وهما: معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن الحارث المشهور: بمعاذ بن عفراء، فكأن عبد الرحمن بن عوف استنقصهما وظن أن اللَّذَيْن بجانبيه ليسا رجالاً يمنعانه؛ لأن الرجل إذا كان في صف القتال بجنبه الرجال كانوا يمنعونه ويشدون أزره، فهو استنقص هذين واستحقرهما لصغر قدرهما، فإذا أحدهما يكلمه خفية من صاحبه ويقول: يا عم أرني أبا جهل. قال: ما حاجتك به؟! قال: سمعت عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله إن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا. ولم يلبث إذ الآخر يُسائله سرًّا من صاحبه ويقول له مثل ما قال صاحبه. قال: فعلمت أن اللذَيْن بجنبي أنهما رجال، ورأيت أبا جهل يدور في قريش كالحَرَجَة -والحرجة: الشجرة الكبيرة في الغابة يحتف بها الشجر من جميع جوانبها-

(1)

السابق، ولفظ البيت هناك:

أنا الذي يُقال أصْلِي مِنْ بَلِي

أطْعَنُ بالصّعْدَةِ حتَّى تَنْثَنِي

(2)

السابق ص669.

ص: 508

وقريش يحتفون به ويقولون: أبو الحكم لا يُخلص إليه، وهو -قبحه الله - يرتجز ويقول

(1)

:

ما تَنْقِمُ الحربُ العَوَانُ مني

بَازِلُ عَامينِ حديثٌ سِنِّي

لمثلِ هذا ولَدَتْني أُمّي

فقلت لهما: هذا صاحبكما. فابتدراه بِسَيْفَيْهِمَا فأطارا رِجْلَهُ بنصف ساقه، كأنها نواة طائرة من تحت مرضخة من شدة الضربة، فسقط صريعًا وبقي -قبحه الله- في المعركة حتى انهزم عنه قومه، فجاءه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ووجده في آخر رَمَقٍ فاحْتَزَّ رَأْسَهُ. قالوا: لما أخذ لحْيَتَهُ وأراد أن يقطع رأسه قال له: ارتقيت صعبًا يا رويعي الغنم!! وقال له: أخبرني لمن الدائرة؟ قال: لله ولرسوله

(2)

. فجيء صلى الله عليه وسلم برأس أبي جهل وهو في العريش (صلوات الله وسلامه عليه)

(3)

، وهزم الله الكفار، وقُتل من أشرافهم سبعون، وقتلاهم مشهورون

(4)

، ممن قُتل منهم: أبو جهل، وأمية بن خلف، وزمعة بن الحارث بن الأسود، ومنبه ونبيه ابني الحجاج،

(1)

هذا الرجز ذكره ابن هشام في السيرة ص673.

(2)

السابق ص 673 - 675. وأما خبر قتل أبي جهل فهو ثابت في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف وأنس بن مالك، وعند البخاري من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

(3)

خبر قطع ابن مسعود رأس أبي جهل أخرجه البيهقي في الدلائل (3/ 86، 88)، والبزار (كشف الأستار)(2/ 317) وذكره الهيثمي في المجمع (6/ 79) وعزاه للطبراني والبزار، وقال:«وفيه أبو بكر الهذلي وهو ضعيف» اهـ. وذكره ابن كثير في تاريخه (3/ 288) وعزاه لابن إسحاق. كما ذكره الحافظ في الفتح (7/ 295) وعزاه لابن إسحاق والحاكم.

(4)

السيرة لابن هشام ص 747.

ص: 509

وممن قُتل في ذلك اليوم: النفر الذين قالوا: إنا كنا مستضعفين في الأرض، وهم علي بن أمية، والحارث بن زمعة بن الأسود، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة بن عبد الله ابن عمرو بن مخزوم، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة ابن عمه، والعاص

(1)

.

هؤلاء النفر كانوا أسلموا وآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وادعوا أنهم عجزوا عن الهجرة، وخرجوا يوم بدر مع قريش فقُتلوا جميعهم -والعياذ بالله- وأنزل الله فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ}

(2)

[النساء: الآية 97]- والعياذ بالله - فقُتل هذا من أشراف قريش، وأُسر من أشرافهم سبعون. وممن أُسر منهم: العباس بن عبد المطلب، وابنا أخيه وهما: عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه، وممن أُسر: سهيل بن عمرو رضي الله عنه كان أسره مالك بن الدخشم، وكان يقول

(3)

:

أسرتُ سُهيلاً فلا أبتغي

أسيرًا به من جميع الأُمم

وخِنْدفُ تعلمُ أن الفتى

سهيلاً فتاها إذ يُظَّلَمْ

فمنح الله المسلمين أكتاف الكفار يقتلون ويأسرون، وكسر الله شوكة الكفر، وأعلى كلمته، وأيَّد دينه.

(1)

هو العاص بن منبه بن الحجاج.

(2)

السيرة لابن هشام ص 681، البداية والنهاية (3/ 296).

وأصل الحديث في الصحيح من غير تسميتهم، كتاب التفسير، باب {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ}. حديث رقم:(4596)(8/ 262).

(3)

السيرة لابن هشام ص690.

ص: 510

ولما جمع النبيّ صلى الله عليه وسلم الأسارى مكث في عرصة بدر ثلاثة أيام، ثم في اليوم الثالث أمر بناقته فرُحِّلت، فتبعه أصحابه وقالوا: ما ذهب إلا لشأن!! فأمر بأربعة وعشرين من صناديد قريش، ثم ناداهم بأسمائهم:«يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، يَا فُلانَ بْنَ فُلانٍ، إِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟!» ولما قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ماذا تخاطب من أجساد لا أرواح لها؟ قال له: «مَا أنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ لِمَا أَقُولُ، وَلَكِنْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُجِيبُوا»

(1)

. أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

ولما اجتمعت عنده الأُسارى، وهزم الله الكافرين، وقتل سبعين من خيارهم، وأُسر من أشرافهم سبعون، استشار أصحابه فيما يفعل بالأُسارى؟ مع أن سعد بن معاذ رضي الله عنه كان متوشحًا بسيفه على عريش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رأى النبي في وجهه الكراهة، فقال:«ما بالُك؟» قال: رأيت شيئًا أكرهه، رأيت الناس يأسرون الرجال، وهذا أول مشهد في الإسلام، وكان الإثخان في القتل أحب إليَّ مِنْ أسر الرجال واستبقائهم

(2)

. فلما استشارهم اختلفوا له، فكان أبو بكر رضي الله عنه يقول: هم بنو عمك فاستبق منهم؛ لعل الله أن يهديهم أو يهدي من أصلابهم، وتستعينوا بفدائهم على أمر الحرب. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اقتلهم جميعًا، أعط العباس لعلي فليقتله،

(1)

مضى عند تفسير الآية (79) من سورة الأعراف، وانظر السيرة لابن هشام ص 678.

(2)

السيرة لابن هشام ص667، البداية والنهاية (3/ 284).

ص: 511

وأعط كل رجل لقريبه فليقتله؛ ليعلم الله أن لا هوادة بيننا وبين الكفار. قال بعضهم: وقال عبد الله بن رواحة: إنك في واد كثير الحطب فأضرم عليهم نارًا. قالوا: والنبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكره المؤرخون قال: «إن أبَا بَكْرٍ قالَ كَمَا قال عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة: الآية 118]، وإنَّ عُمَرَ قَالَ كَمَا قَالَ مُوسَى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس: الآية 88] وَإِنَّ ابْنَ رَوَاحَةَ قالَ كَمَا قَالَ نُوحٌ: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ (26) إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} [نوح: الآيتان 26، 27]» فاستقر أمره على أنهم يأخذونهم ليستعينوا بفدائهم على الحرب؛ لأنهم كانوا يحتاجون إلى المال

(1)

.

وقال بعض المؤرخين: إن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: خَيِّر أصحابك أن يقتلوهم أو يفدوهم ويستعينوا بالمال على أن يُقتل منهم قدر الأُسارى في العام القادم. وأنهم قالوا: نستعين بالمال الآن وينال الشهادة منا هذا العدد في العام القادم

(2)

. فكر بعضهم هذا، وأنه قُتل

(1)

أحمد (1/ 383) وابن أبي شيبة (5/ 417)، وعبد الرزاق (5/ 208)، والترمذي في الجهاد، باب ما جاء في المشورة، حديث رقم:(1714)(4/ 213)، وأخرجه في موضع آخر، انظر الحديث رقم:(3084)، والحاكم (3/ 21)، وابن أبي حاتم (5/ 1731)، والبيهقي في الدلائل (3/ 139) .. وذكره السيوطي في الدر (3/ 201) وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه.

(2)

أخرجه الترمذي في السير، باب ما جاء في قتل الأُسارى والفداء. حديث رقم:(1567)(4/ 135)، والنسائي في الكبرى، كتاب السير، باب قتل الأسرى. حديث رقم:(8662)(5/ 200)، والبيهقي في السنن (9/ 68)، وفي الدلائل (3/ 139)، والحاكم (2/ 140) وقال:«صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» اهـ. ووافقه الذهبي. وابن حبان (الإحسان 7/ 143) عن علي رضي الله عنه. وقال ابن كثير (3/ 298)«غريب جدًّا» اهـ.

وأخرجه عبد الرزاق (5/ 210)، وابن سعد (2/ 14) عن عبيدة مرسلاً.

ص: 512

منهم سبعون يوم أحد لما أسروا السبعين هذه. هكذا قاله بعض المؤرخين، والذي جاء به القرآن أن الذين رأوا أن يقتلهم ويضعفوا شوكة الكفر بقتلهم أن رأيهم كان هو الصواب، وأن الله تعالى تجاوز لأهل بدر ولو ارتكبوا غير ذلك، كما قال تعالى:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: الآية 67] ومعنى: {يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} أي: يوجع فيها قتلاً ليضعف شوكة الكفر بقتل الرجال وقتل الصناديد والرؤوس، ثم قال:{لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} [الأنفال: الآية 68] ثم بعد ذلك قال: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيِّبًا} [الأنفال: الآية 69].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: «افْدِ نَفْسَكَ وَابْنَيْ أَخَوَيْكَ: عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَنَوْفلَ بْنَ الحَارِثِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ» . فقال: لا مال عندي. قال له صلى الله عليه وسلم: «عِنْدَما أَرَدْت الخُروج أَخَذْتَ المَالَ الفُلَانِيَّ ودَفَنْتَهُ فِي محلِّ كَذا وقُلْتَ لأُمِّ الفَضْلِ: إِنْ لَمْ أَرْجِعْ فَاسْتَعِينُوا بِهَذا» . فقال: والله لا يعلم هذا غيري وغير أم الفضل، وأشهد أنك رسول الله. وفدى نفسه وابني أخويه وحليفًا له

(1)

.

(1)

أخرجه الحاكم (3/ 81) وقال: «صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه» اهـ ووافقه الذهبي. والبيهقي في الدلائل (3/ 143)، وفي السنن (6/ 322)، وأبو نعيم في الدلائل (2/ 271)، والواحدي في أسباب النزول ص 241. وذكره الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 299) وعزاه لابن إسحاق. وذكره السيوطي في الدر (3/ 204).

ص: 513

وأنزل الله فيه -مع أنها في الأُسارى كلهم، إلا أن المفسرين يجعلونها في العباس؛ لأنه من أشهر من نزلت فيه-:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: الآية 70]

(1)

فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم مال البحرين وجاء العباس وقال: يا نبي الله فاديت نفسي وعقيلاً. فقال له: «خُذْ مِنْ هَذَا الذَّهَبِ» . فهال منه العباس في ثوبه حتى أراد أن يقوم فَنَاءَ به ولم يقدر أن يقوم، فطلب أحدًا يساعده، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:«لَا يُسَاعِدُكَ أَحَدٌ، وَلَا تَحْمِلْ مِنْهُ إِلَاّ قَدْرَ مَا تَقْدِرُ عَلَى حَمْلِهِ» . فهال منه عن ثوبه حتى قدر على حمله

(2)

ثم قال: «أما أحد الأمرين فقد عايناه، وهو: {إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} فقد آتانا خيرًا مما أُخذ منا، وأما الثانية وهي قوله: {يَغْفِرْ لَكُم} فإنا نرجوها من الله جل وعلا»

(3)

.

وفي ذلك اليوم استُشهد وقُتل من أصحاب رسول الله شهيدًا يوم بدر أربعة عشر رجلاً

(4)

، ستة من المهاجرين، والبقية من الأنصار، ستة منها من الخزرج، واثنان من الأوس. فشهداء بدر:

(1)

جاء ذلك صريحًا في سياق الرواية المخرجة في الهامش السابق. وقد أورد ابن جرير (14/ 72 - 75) جملة من الروايات في هذا المعنى، وكذا ابن كثير (2/ 327)، والسيوطي في الدر (3/ 204 - 205).

(2)

خبر مجيء المال من البحرين وأخذ العباس منه أخرجه البخاري في الصلاة، باب القسمة وتعليق القنو في المسجد. حديث رقم:(421)(1/ 516) .. وأخرجه في موضعين آخرين، انظر الأحاديث رقم:(3049، 3165).

(3)

مضى تخريجه قريبًا.

(4)

السيرة لابن هشام ص 746.

ص: 514

ستة منهم من المهاجرين، وستة منهم من الخزرج، واثنان منهم من الأوس؛ لأن الأوس في ذلك اليوم أقل من الخزرج؛ لأن ديار الخزرج في داخل المدينة قرب رسول الله، وديار الأوس في العوالي وقباء، كديار بني عمرو بن عوف، فالذين في داخل المدينة أكثرهم من الخزرج؛ ولذا كانوا هم الحاضرين فتمكنوا من الخروج، والنبي لم ينتظر الغائبين

(1)

.

والستة الذين استُشهدوا من المهاجرين هم: عبيدة بن الحارث بن المطلب الذي ذكرنا أن قدمه بنصف ساقه قطعها عتبة بن ربيعة في المبارزة، ومنهم: عمير بن أبي وقاص رضي الله عنه أخو سعد بن أبي وقاص، قتله عمرو بن عبد ود، وقد كان أخوه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قتل ذلك اليوم العاص بن هشام، ومن الذين استُشهدوا - أول من قُتل من المسلمين في ذلك اليوم - مِهْجَع مولى عمر بن الخطاب

(2)

، ومِهْجَع هذا أصله رجل من بني عك، أصابه سباء فأعتقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكان مولاه، ويقال له مهجع عمر، وهو أول قتيل من المسلمين استشهد يوم بدر، ومات بعده من المسلمين رجل من الخزرج يُسَمَّى حارثة بن سراقة رضي الله عنه

(3)

، وهو الذي سألت أمّه النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

قال ابن هشام في السيرة (ص732): «فجميع من شهد بدرًا من الأوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ضرب له بسهمه وأجره: واحد وستون رجلاً» اهـ. ونقل عن ابن إسحاق (ص745): «فجميع من شهد بدرًا من الخزرج مائة وسبعون رجلاً» اهـ.

(2)

السابق ص666.

(3)

انظر: البداية والنهاية (3/ 274).

ص: 515

عنه فقال لها: «إِنَّهُ أَصَابَ جَنَّةَ الفِرْدَوْسِ»

(1)

.

والحاصل أن الستة الذين ماتوا شهداء من المهاجرين يوم بدر هم: عبيدة بن الحارث بن المطلب، وعمير بن أبي وقاص، وعاقل بن البُكَير، وصفوان بن وهب المعروف بصفوان بن بيضاء، وذو الشمالين، واسمه: عمير بن عَبْد

(2)

. هؤلاء الستة هم الذين استشهدوا من المهاجرين: عبيدة بن الحارث بن المطلب، وعمير بن أبي وقاص، ومهجع مولى عمر، وذو الشمالين، وصفوان بن وهب، وعاقل بن البُكَير. هؤلاء ستة من المهاجرين

(3)

.

والاثنان اللذان ماتا في سبيل الله يوم بدر من الأوس هم

(4)

مبشر بن عبد المنذر -أخو أبي لبابة بن عبد المنذر- وسعد بن خيثمة رضي الله عنه، فإن سعدًا هذا قُتل شهيدًا يوم بدر، وأبوه خيثمة قُتل شهيدًا يوم أحد.

والستة الذين استشهدوا من الخزرج -ماتوا شهداء- منهم

(5)

: يزيد بن الحارث بن قيس بن مالك بن أحمر الخزرجي

(1)

البخاري في الجهاد، باب من أتاه سهم غرب، حديث رقم:(3982)(6/ 25)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث:(3982، 6550، 6567).

(2)

المثبت في ابن هشام ص746، والتمهيد (1/ 363 - 364)، والاستذكار (2/ 233)، ونظم الفرائد للعلائي ص61 - 70، والبداية والنهاية (3/ 327): ذو الشمالين بن عبد عمرو.

(3)

السيرة لابن هشام ص746.

(4)

السابق ص747.

(5)

السابق.

ص: 516

(رضي الله عنه، وعوف ومُعَوِّذ ابنا عفراء، أولاد الحارث بن عفراء، وهما أخوان ماتا ذلك اليوم، ورافع بن المعلى، وعمير بن الحمام رضي الله عنه، عمير بن الحمام بن الجموح، كان يأكل تمرات فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«أيها المسلمون قُومُوا إلى جنَّة عَرْضُهَا السماواتُ والأرْضُ، واللهِ لَنْ يَقْتُلَ هؤلاء رجلاً مِنْكُمْ مُقْبلاً غيرَ مُدْبِرٍ إلا أدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ» . فقال له عمير بن الحمام رضي الله عنه: أما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟ قال: «نعَم» ، فلفظ التمرات من فِيه وقال: إني إن أكلت هذه التمرات إنها لحياة طويلة، ثم أخذ سيفه رضي الله عنه فقاتل القوم حتى قتلوه

(1)

.

هذه أربعة عشر رجلاً، ستة من المهاجرين وستة من الخزرج، واثنان من الأوس قُتلوا شهداء يوم بدر رضي الله عنهم وأرضاهم).

وكانت في بدر أشعار كثيرة ومداولات بين المشركين وغيرهم، تكلم فيها كثير من شعراء المسلمين والكفار، فيها من شعر حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وحسان بن ثابت، وغيرهما، وفيها من شعر الكفار: شعر ضرار بن الخطاب الفهري وغيره من شعراء قريش، وذلك باب إذا ذكرناه يطول بنا المقام، فنذكر منه قليلاً: فحسان رضي الله عنه شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أشهر ما كان من

(1)

مسلم في الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، حديث رقم:(1901)(3/ 1509) وفيه التصريح أن ذلك يوم بدر، وأخرج البخاري نحوه في المغازي، باب غزوة أُحد، حديث رقم:(4046)(7/ 354) وليس فيه تسمية صاحب القصة، وفيه التصريح أن ذلك يوم أحد، وقد ذهب الحافظ إلى أنهما قصتان. الفتح (7/ 354).

ص: 517

المداولات في بدر ما كان بين حسان وبين الحارث بن هشام رضي الله عنه أخي أبي جهل بن هشام؛ لأن حسان دائمًا يُعيِّر الحارث بن هشام بفراره يوم بدر، وقتل إخوانه، وبقاء أخيه طريحًا في الملحمة -أعني أبا جهل قبحه الله- وكان حسان رضي الله عنه ذكر تَمَثُّل إبليس لهم في أبيات قال -يعني تمثل إبليس في صورة سراقة بن مالك- قال في ذلك

(1)

:

سِرْنَا وسَارُوا إلى بدر لِحينِهمُ

لو يَعْلَمُونَ يَقينَ الأَمْرِ ما سَارُوا

دَلَاّهُمُ بغرورٍ ثم أَسْلَمَهُم

إن الخَبِيثَ لمن والاهُ غَرَّارُ

وقال إني لكم جَارٌ فَأَوْرَدَهُم

شَرَّ المَوَاردِ فيه الخِزْيُ والعَارُ

وكان حسان رضي الله عنه يذكر في أشعاره بدرًا، له فيها قصائد، وفيها لحمزة بن عبد المطلب وغيرهم من الصحابة، وفيها لجماعة من قريش، منهم ابن الزبعرى، ومنهم ضرار بن الخطاب الفهري وغير ذلك، وكان حسان رضي الله عنه قال

(2)

:

لَقَدْ عَلِمَتْ قُريشٌ يومَ بدرٍ

غَداةَ الأَسْرِ والقَتْلِ الشَّدِيدِ

بأنَّا حينَ تشْتَجِرُ العَوَالي

حُمَاةُ الحرب يومَ أبي الوليدِ

قَتَلنا ابني ربيعةَ يومَ سارُوا

إلينا في مضاعَفَةِ الحديدِ

ومرَّ بها حكيمٌ يومَ جَالَتْ

بنُو النجارِ تخطرُ كالأُسودِ

وَوَلَّتْ عند ذاكَ جموعُ فِهْرٍ

وأَسْلَمَها الحويرثُ من بعيدِ

الحويرث: يعني الحارث بن هشام؛ لأنه ينكد عليه في شعره دائمًا، كقوله هنا:

وأَسْلَمَهَا الحويرثُ من بعيد

(1)

الأبيات في السيرة لابن هشام ص706.

(2)

ديوانه ص87 - 88.

ص: 518

وكتعييره له في ميميته المشهورة التي هي من أشهر ما قيل في بدر

(1)

:

تَبَلَتْ فُؤادَكَ في المَنَامِ خريدةٌ

تَسْقِي الضَّجيعَ بِبَارِدِ بَسَّامِ

كالمِسْكِ تَخْلِطُهُ بماءِ سَحَابَةٍ

أو عَاتِقٍ كَدَمِ الذَّبيحِ مُدَامِ

نُفُجُ الحَقِيبَةِ بَوْصُهَا مُتَنَصِّدٌ

بَلْهَاءُ غَيْرُ وشِيكةِ الأَقْسَامِ

(2)

أما النهارُ فلا أُفَتِّرُ ذِكْرَهَا

والليلُ تُوزِعُني بها أَحْلَامي

(3)

يا مَن لِعَاذِلَةٍ تلوم سفاهة

ولقد عصيتُ على الهوى لُوَّامي

(4)

إن كنتِ كاذبةَ الذي حَدَّثْتِني

فَنَجوتِ مَنْجى الحارِثِ بن هشَامِ

تَرَكَ الأَحِبَّةَ أَنْ يُقَاتِلَ دُونَهُم

ونَجَا برأسِ طِمِرَّةٍ ولِجَامِ

وأجابه الحارث بن هشام رضي الله عنه، وكان المؤرخون يقولون: أحسن اعتذار اعتذر به معتذر عن جواب: اعتذار المَخْزُومِيَّيْن، أعني: اعتذار الحارث بن هشام يخاطب حسان لما قال له:

إن كنتِ كاذبةَ الذي حَدَّثْتِني

فنجوتِ مَنْجَى الحارِثِ بن هشامِ

تَرَكَ الأحَبَّةَ أَنْ يُقَاتِلَ دُونَهُم

ونَجَا برأسِ طِمِرَّةٍ ولِجَامِ

أجابه الحارث يعتذر عن فراره قال

(5)

:

(1)

ديوانه ص213 - 214.

(2)

بعد هذا البيت بيتان أسقطهما الشيخ رحمه الله.

(3)

بعد هذا البيت بيت أسقطه الشيخ رحمه الله.

(4)

بعد هذا البيت بيتان أسقطهما الشيخ رحمه الله.

(5)

الأبيات في ديوان حسان رضي الله عنه ص216 وهي أربعة أبيات أسقط الشيخ رحمه الله البيت الثاني منها. وفي السيرة ص773 ثلاثة أبيات.

ص: 519

اللهُ يعلمُ ما تركتُ قتالَهُم

حتى رموا فَرسي بأَشْقَرَ مُزْبد

وعَلمتُ أني إنْ أُقَاتِلْ واحدًا

أُقْتَلْ ولا يَضْرُرْ عَدُوي مَشْهدي

فَصَدَدْتُ عنهم والأَحِبَّةُ فيهم

طمعًا لهم بقتال يوم مُرْصِدِ

هذا هو المخزومي الأول، والمخزومي الثاني: هبيرة بن أبي وهب، زوج أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة عام ثمان هرب هبيرة بن أبي وهب المخزومي إلى نجران ومات بها كافرًا - والعياذ بالله - وكان يعتذر عن فراره من رسول الله وأصحابه يوم الفتح، ويخاطب زوجه أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها:

لَعَمْرُكِ مَا وَلَّيْتُ ظَهْرِي مُحَمَّدًا

وَأَصْحَابَهُ جُبْنًا وَلَا خِيفَةَ القَتْلِ

وَلَكِنَّنِي قَلَّبْتُ أَمْرِي فَلَمْ أَجِدْ

لِسَيْفِي غَنَاءً إِنْ ضَرَبْتُ وَلَا نَبْلِي

وَقَفْتُ فَلَمَّا خِفْتُ ضَيْعَةَ مَوْقِفِي

رَجَعْتُ لِعَوْد كالهِزَبْرِ أَبِي الشِّبْلِ

(1)

فهذا اعتذاره كاعتذار الحارث بن هشام.

ولما أخذ صلى الله عليه وسلم الغنائم، ومكث في عرصة بدر ثلاثة أيام، ورجع قافلاً إلى المدينة، وأرسل ابن رواحة إلى العوالي يبشرهم، وزيد بن حارثة إلى أهل المدينة يبشرهم بما فتح الله على نبيه

(2)

، لما نزل وادي الصفراء راجعًا قدَّم النضر بن الحارث للقتل

(3)

-النضر بن الحارث بن كلدة العبدري، وكان من بني عبد الدار، وكان شديد

(1)

مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأعراف، ولفظ البيت الثالث عند ابن هشام:

وقفتُ فلما لم أجد لي مُقدَّمًا

صدرتُ كضرغَامِ هِزَبرٍ أبي شِبلِ

(2)

السيرة لابن هشام ص682.

(3)

السابق ص684.

ص: 520

العداوة لرسول الله، له قينتان تغنيانه بهجاء رسول الله- قدمه للقتل فقُتِلَ صَبْرًا، ولم يُقتل من الكفار في وقعة بدر صبرًا إلا رجلان: النضر بن الحارث هذا، وعقبة بن أبي معيط، قتل أولاً النضر بن الحارث في قُفوله في وادي الصفراء؛ فلما بلغ موضعًا آخر بعده يقولون: إن اسمه عرق الظبية قدم عقبة بن أبي معيط فقتله أيضًا

(1)

، ولما قَتَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم النَّضْرَ بن الحارث بن كلدة العبدري -قبحه الله- الذي سيأتي خبره في قوله في هذه السورة الكريمة:{وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ} [الانفال: آية 32] يأتي خبره في هذه السورة، وفي سورة الروم، وفي سورة المعارج -سورة (سأل سائل) - لما قتله صلى الله عليه وسلم صبرًا وبلغ مقتله إياه بلغ أخته قتيلة بنت الحارث العَبْدَرِيَّة وقد أسلمت بعد ذلك وصارت صحابية رضي الله عنها أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم شعرها المشهور، الذي لما قُرئ عليه صلى الله عليه وسلم بكى حتى أَخْضَلَ الدمع لحيته لشدة رحمته وشفقته، وذكروا أنه قال: لو بلغني شعرها قبل أن أقتله لعفوت عنه

(2)

.

لأنه رؤوف رحيم (صلوات الله وسلامه عليه)، وكان شعرها الذي أرسلت إليه به الذي أبكاه صلى الله عليه وسلم وقال: لو بلغه قبل أن يقتله لعفى عنه. هو قولها

(3)

:

يا راكبًا إن الأُثَيْلَ مَظِنَّةٌ

من صُبحِ خامسةٍ وأَنْتَ موفَّقُ

أبلغْ بها مَيْتًا بأن تحيةً

ما إن تزالُ بها النجائبُ تَخْفِقُ

مني إليكَ وعبرةً مسفُوحةً

جَادَتْ بِوَاكِفِهَا وأُخْرى تخنُقُ

(1)

السابق.

(2)

ذكره ابن هشام في السيرة ص803.

(3)

السابق ص 802 - 803.

ص: 521

هل يسمعنَّ النضرُ إن ناديتُه

أم كيف يسمعُ ميتٌ لا ينطقُ

أمحمدٌ يا خيرَ ضَيْءِ كريمة

في قومِهَا والفَحْلُ فحلٌ مُعْرِقُ

ما كان ضَرَّكَ لو مَنَنْتَ ورُبَّما

مَنَّ الفَتى وهو المغيظُ المُحْنَقُ

(1)

فالنَّضْرُ أقربُ مَنْ أَسَرْتَ قرابةً

وأحقُّهم إن كانَ عِتْقٌ يُعْتَقُ

ظَلَّتْ سيوفُ بني أبيهِ تَنُوشُه

للهِ أرحامٌ هُنَاكَ تُشَقَّقُ

صَبْرًا يُقادُ إلى المنيةِ مُتْعَبًا

رَسْفُ المُقَيَّدِ وهو عان مُوثَقُ

ولما أراد قتل عقبة بن أبي معيط قال: أَأُقتل بين قريش صبرًا؟ من للصبية؟ قال له صلى الله عليه وسلم: «لهُمُ النَّارُ»

(2)

. وذكر بعض المؤرخين أنه قال: أَأُقتل بين قريش صبرًا؟ قال: «إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ يَهُودِ صفوريّة»

(3)

.

كما ذكره بعضهم

(4)

.

وعقبة هذا كان شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروه أنه مرّ عليه يومًا ساجدًا فوضع رجله على عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد حتى آذاه -قبحه الله- فقتله الله وأراح المسلمين منه.

وهذا طرف من هذا المشهد العظيم والغزوة الكبيرة سنُلمّ في بعض أطرافه بعد هذا، وهذه السورة الكريمة كلها نازلة في هذه الغزوة، وسيُكرر بعض هذا ويأتي ما لم يذكر فيه في مناسبة قرآنية من

(1)

أسقط الشيخ رحمه الله بيتًا بعد هذا البيت.

(2)

أخرجه عبد الرزاق (5/ 205، 206)، وأبو داود في المراسيل ص231، والبيهقي (9/ 64 - 65) والحاكم (2/ 124). وقال:«صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» اهـ ووافقه الذهبي.

(3)

لم أقف على هذه الجملة الأخيرة إلا في «معجم ما استعجم» (3/ 837).

(4)

السيرة لابن هشام ص684. وفي البزار (كشف الأستار) (2/ 320): «بكفرك بالله وافترائك على رسول الله صلى الله عليه وسلم».

ص: 522

هذه السورة الكريمة.

قال الله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَاّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ (11)} [الأنفال: الآيات 7 - 11].

يقول الله جل وعلا: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)} [الأنفال: الآيتان 7، 8].

قد ذكرنا فيما سبق أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خرج من مدينته هذه -حرسها الله- يتلقى عِير أبي سفيان، وأن أبا سفيان سَاحَل بالعِير، أي: تيامن بها إلى جهة الساحل، وأرسل ابن عمرو الغفاري يستنفر جيش قريش، فاستنفر الجيش، وصار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما علموا بذلك يُحتمل عندهم أن يلتقوا بالجيش، وأن يلتقوا بالعِير، فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ووعده إحدى الطائفتين: إِما أن يعطيه العِير فيغتنمها، أو يسلطه على النفير فيهزمه. وهذا معنى قوله:{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ} حين يعدكم الله وعده الصادق {إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ} (وَعَدَ) من الأفعال التي تطلب مفعولين، فقوله {إِحْدَى} هو مفعولها الثاني.

ص: 523

وقوله: {أَنَّهَا لَكُمْ} بدل من (إحدى) أي: وعدكم الله إحدى الطائفتين أن الله جعلها لكم، إما أن يكون لكم العِير فتغتنموها، أو يكون لكم النفير فتهزموه وتنتصروا عليه. هذا معنى قوله {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال: الآية 7].

ولما بشر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بنصر الله، وأنه وعده إحدى الطائفتين، كان أصحاب رسول الله يتمنَّوْنَ أن تكون الطائفة التي هي لهم عير أبي سفيان؛ لأنه مالٌ كَثِيرٌ ليس دونه قتال، وهذا معنى قوله:{وَتَوَدُّونَ} خطاب للنبي وأصحابه {وَتَوَدُّونَ} والذي ودّها في الحقيقة إنما هو بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. والودادة معناه: التمني {وَتَوَدُّونَ} : تتمنون وتحبون أن تكون الطائفة التي سيحقق الله لكم إنجاز الوعد بها أن تكون الطائفة التي هي {غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ} ، يعني: العِير، أصل الشوكة: واحدة الشوك؛ لأن رأسها فيه حِدَّة، والعرب تطلقها على كل سلاح حديد تسميه (شوكة)، فتقول للرجل الحديدِ السلاح:«فلان شائك السلاح، وشاكي السلاح» . على القلب؛ لأن قولهم: «فلان شاكي السلاح» . أصله: شائك السلاح. قلبوه وأخَّروا الهمزة فابدلوها ياءً، همزة مبدلة من الواو، وهو معنى معروف في كلامهم، ومنه قوله

(1)

:

لَدَى أَسَدٍ شَاكِي السِّلَاحِ مُقَذَّفٍ

له لِبَدٌ أَظْفَارُهُ لم تُقَلَّمِ

تتمنون أن الطائفة الضعيفة التي لا حِدَّة عندها ولا سلاح -وهي العير- أنها هي التي يتحقق لكم فيها الوعد، وأن لا تجتمعوا بالنَّفِيرِ؛ لأنه جيش له شوكة وسلاح وَحِدَّة. وهذا معنى قوله:

(1)

البيت لزهير بن أبي سُلمى، وهو في ديوانه ص84.

ص: 524

{وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال: الآية 7] كأن الله يقول: الله يريد هنا غير ما تريدون، ويحب لكم غير ما تحبون لأنفسكم؛ لأن الله يعلم وأنتم لا تعلمون، كما قال تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شيئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شيئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: الآية 216] ويريد الله (جل وعلا) أن يجعل الطائفة الموعود بها -التي سينجز فيها وعده، ويحقق بها نصر نبيه- يريد أن يجعلها الطائفة ذات الشوكة، وهي: النفير، الجيش في عَدَدِه وَعُددِه؛ لأن الله يريد، {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} الحق هو في نفسه حق، الحق حق مهما كان، ومعنى {أَن يُحِقَّ الحَقَّ} أي: يظهره على الدين كله، ويجعله عاليًا غير سافل، ويجعل الكلمة والسلطة والقوة له. هذا معنى إحقاق الحق، أي: إِظهاره وإِعلاؤه، أما الحق فهو حق في نفسه مهما كان، هذا معنى قوله:{وَيُرِيدُ اللَّهُ} أن يحقق لكم الوعد في الطائفة ذات الشوكة؛ لأن الله يريد بذلك {أَن يُحِقَّ الحَقَّ} أي: يظهر دين الإسلام ويعليه، ويعلي كلمته، ويضعف الكفرة ويهزمهم، ويهزم دينهم. وهذا معنى قوله:{وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} معنى إحقاقه الحق بكلماته فيه أوجه متقاربة من التفسير لا يكذب بعضها بعضًا

(1)

.

قال بعض العلماء: المراد بكلماته التي يريد أن يحق بها حقه هي: كلمته التي أمر نبيه بها صلى الله عليه وسلم أن ينهض وأن يقاتل النفير إذا لم يكن إلا هو، فَأَمْرُهُ (جل وعلا) بقتالهم وإلزامهم ذلك بعد أن نجت العير وصار النفير، أمره بهذا القتال هي كلمته التي أراد أن يحق الحق بها،

(1)

انظر: ابن جرير (13/ 407).

ص: 525

أن يذل دين الكفر، ويقتل صناديده، ويعز دين الإسلام، ويعلي كلمته.

وقال بعض العلماء: كلماته التي يريد أن يحق بها حقه هي الكلمات التي وعد فيها بالنصر يوم بدر، والله (جل وعلا) وعد بالنصر يوم بدر في آيات من كتابه على ما قاله جماعة من المفسرين، منها في الدخان، ومنها في السجدة، ومنها في غير ذلك؛ لأن جماعة من أهل العلم قالوا: إن الله في سورة الدخان بشر بقصة بدر مع أن سورة الدخان مكية نازلة قبل الهجرة. قال غير واحد من كبار العلماء: قوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} هو بطشه بنفير قريش يوم بدر على أيدي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة {إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان: الآية 16] أي: من سادة الكفرة يوم بدر بما فعلنا بهم

(1)

. وقالت هؤلاء الجماعة: هو العذاب الأدنى في السجدة في قوله: {وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى} [السجدة: الآية 21] قالوا: هو عذاب النفير يوم بدر كما سلط الله عليهم رسوله وأصحابه فقتلوا منهم وأسروا

(2)

.

وقال بعض العلماء هو: اللزام؛ لأنه عذاب دنيوي يلازمه عذاب الآخرة في كونه لزامًا

(3)

.

ولا شك أن سورة القمر من القرآن النازل في مكة قبل وقعة بدر، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ما كان يعلم شيئًا عن معنى قوله:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)} ويقول: من هذا الجمع

(1)

انظر: ابن كثير (4/ 140).

(2)

المصدر السابق (3/ 462).

(3)

المصدر السابق (3/ 330).

ص: 526

المهزوم الذين يولون الدبر؟! ولم يفهم معنى الآية إلا يوم بدر لما كشف الله المشركين ونصر نبيه صلى الله عليه وسلم فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في درعه ويقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)}

(1)

[القمر: الآية 45] وعند ذلك عرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن آية {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)} وإن كانت من سورة القمر وهي من القرآن المكي النازل بمكة قبل الهجرة بلا خلاف أن الله وعد فيها في مكة نصر المؤمنين على الكفار يوم بدر، قالوا: فهذه كلمات الله التي وعد بها نبيه أن ينصره فحق الحق وأنجز وعده، كما قال هنا:{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} .

وقوله تعالى: {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} الدابر: الآخِر. وإذا كان جماعة يمشون فالذي يمشي وهو الآخر منهم تسميه العرب: دابرًا؛ لأنه يمشي عند دبر مَنْ قُدَّامه، والعرب تعبر به عن الآخر، ويقولون:«قطع الله دابرهم» . معناه: أهلكهم واسْتَأْصَلَهُم ولم يُبْقِ مِنْهُمْ أحَدًا، هذا معنى قطع الدابر وأصله لغة {وَيَقْطَعَ دَابِرَ

(1)

خبر وثوبه صلى الله عليه وسلم في الدرع وقراءته الآية ثابت في الصحيح، كتاب التفسير، باب:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} حديث رقم: (4875)(8/ 619). وأخرجه في مواضع أخرى، حديث رقم:(2915، 2953، 4877)، وأما أثر عمر فقد أخرجه ابن جرير (27/ 108) عن عكرمة، كما أخرجه ابن أبي شيبة (14/ 357)، وابن أبي حاتم (10/ 3321) عن عكرمة مرسلاً. وعزاه في الدر (6/ 137) لعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن راهويه، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. كما أخرجه الطبراني في الأوسط (9/ 58) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأورده السيوطي في الدر (6/ 136) وعزاه لابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، وابن مردويه. كما أخرجه الطبراني في الأوسط (4/ 145) من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 527

الْكَافِرِينَ} أي: يهلكهم ويستأصلهم إما بالموت، وإما بانقضاء دينهم وقهره حتى لا يبقى كافر، وكانت وقعة بدر هي أول عز الإسلام وظهوره، وهي أول وقعة ذل فيها الكفر وأهله؛ ولذا قال:{وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} .

{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)} [الأنفال: الآية 8] واختلف العلماء في متعلق اللام في قوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} اختلفوا في متعلقها

(1)

، قال بعض العلماء: تتعلق بما قبلها؛ ولذا قال تعالى: {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} قطع دابر الكافرين لأجل أن يحق الحق، بأن يظهر الحق بإضعاف الكافرين وقطع دابرهم، وذهب جماعة من العلماء إلى أن متعلق اللام محذوف، قالوا: ويقدر مؤخرًا ليدل على الحصر، قالوا: وإيضاح تقديره: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} فعل ذلك الذي فعل بالكفار، أي: ما فعل بهم ذلك إِلا لأجل أن يحق الحق ويبطل الباطل. والمراد بالحق هنا: دين الإِسلام. وأصل الحق في لغة العرب: الشيء الثابت الذي لا يزول ولا يضمحل، وكذلك دين الإسلام فهو ثابت، وأعماله ثابتة في الدنيا والآخرة، يجدها صاحبها ثابتة في الآخرة، جزاؤها عظيم، كما صرح الله بضرب المثل لذلك بالنخلة {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: الآية 24] أما الباطل فهو زائل مضمحل لا ثبوت له، كما ضرب له المثل بالشجرة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، فلا ثبوت لها، بل هي تضمحل وتزول، وكل زائل مضمحل تسميه العرب باطلاً،

(1)

انظر: الدر المصون (5/ 564).

ص: 528

ويجمعونه على أباطيل على غير قياس، ومنه قوله

(1)

:

كانت مواعيدُ عرقوبٍ لها مَثَلاً

وما مَوَاعيدُهَا إلا الأَباطِيلُ

هذا كعب بن زهير جمع الباطل على (أباطيل) على غير قياس، ويجوز جمعه على القياس، وجمع الباطل على القياس أن يقال في جمعه:(بواطل) كما هو معروف؛ لأن (الفاعل) إذا كان اسمًا أو وصفًا لغير عاقل اطَّرد جمعه على (فواعل) كما هو معروف في محله.

قوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال: الآية 8] يعني يفعل ذلك والحال لو كره المجرمون ذلك، والمجرمون

(2)

: جمع تصحيح للمجرم، والمجرم اسم فاعل الإجرام وهو مرتكب الجريمة، والجريمة: الذنب العظيم الذي يستحق صاحبه عليه النكال. وهذا معنى قوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)} [الأنفال: الآية 8].

قال الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَاّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} [الأنفال: الآيتان 9، 10].

{أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: الآية 9] قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير نافع وحده: {مُرْدِفِينَ} بكسر الدال، بصيغة اسم الفاعل. وقرأه نافع من السبعة وحده:

(1)

شرح قصيدة بانت سعاد للتبريزي ص17.

(2)

مضى عند تفسير الآية (55) من سورة الأنعام.

ص: 529

{مردَفين} بفتح الدال بصغية اسم المفعول

(1)

.

وقوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ} قال بعض العلماء (إذ) منصوب بـ (اذكر) مقدرًا، وقد ذكرنا أنه يكثر في القرآن نصب الظرف الذي هو (إذ) بلفظة (اذكر) كقوله:{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ} [الأحقاف: الآية 21]{وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً} [الأعراف: الآية 86]{وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: الآية 26] ونحو ذلك. قال بعض العلماء: (إذ) في قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ} بدل من (إِذ) في قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ} [الأنفال: الآية 7] و {تَسْتَغِيثُونَ} معناه: تطلبون الإغاثة من ربكم (جل وعلا). تقول العرب: استغاث يستغيث إذا طلب الغوث. وهذه الاستغاثة كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ثبت في الأحاديث الصحيحة، وعليه جمهور العلماء. خلافًا لمن قال: كانت من جميع الأفراد الذين شهدوا بدرًا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بُني له العريش يوم بدر وجلس فيه ورأى جيش قريش متصوبين من العقنقل -كثيب بدر- فإذا عددهم كبير، وهم حول ألف مقاتل، فنظر إلى أصحابه فإذا هم قليل -ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً- قام في ذلك الوقت وتوجه إلى القبلة وهتف بربه (جل وعلا) واستغاث بخالقه يسأله ويدعوه، وأَلَحَّ في المسألة أشد إلحاح، ورداؤه على منكبيه يناشد ربه؛ ربي أنجز ما وعدتني، اللهم عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه الطائفة لن تُعبد في الأرض. ويناجي ربه ويهتف به، ويلح عليه في المسألة، ويستغيث به (جل وعلا) حتى سقط رداؤه عن منكبيه (صلوات الله وسلامه عليه)،

(1)

انظر: المبسوط لابن مهران ص220.

انظر: الدر المصون (5/ 565).

ص: 530

فجاءه أبو بكر من خلفه وجعل رداءه على منكبيه وقال: «يَكْفِيكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّ رَبَّكَ مُنْجِزٌ لَكَ مَا وَعَدَكَ»

(1)

. هذا معنى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: الآية 9].

وهذه الآية وأمثالها في القرآن تُؤخذ منها أسرار ينبغي لنا معاشر المسلمين أن نسير عليها، هذا سيد الخلق محمد (صلوات الله وسلامه عليه) لما جاءه أعظم كرب يكون كربًا للأنبياء؛ لأن الكروب إنما تعظم على الأنبياء من جهة ضياع الدين؛ لأن الدنيا لا أهمية لهم فيها، وهذه الطائفة جزم صلى الله عليه وسلم أنها لو هلكت وقُتلت لانكسرت شوكة الإسلام، ولضاع الإسلام، ولم يُعبد الله في أرضه، وانتشر الكفر، وظهرت قوته، وطائفة الإسلام قليلة ضعيفة ليست بذات عددٍ ولا عُدد، وطائفة الكفر كثيرة قوية؛ هذا أعظم كرب دهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دهمته هذه الكروب جعل التجاءه الصادق إلى خالق السماوات والأرض. ومن ذلك يُعلم أن من دهمته الكروب وجاءته البلايا والزلازل أنه في ذلك الوقت إنما يكون الْتِجاؤه كما كان الْتِجَاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالق السماوات والأرض (جل وعلا)، فعلى كل مسلم أن يفهم هذا ويعقله، ويفهم أن العبد إذا دهمته الكروب، وجاءته البلايا والمحن والزلازل، أن التجاءه في ذلك الوقت يجب انصرافه إلى ما صرف إليه النبي صلى الله عليه وسلم التجاءه في ذلك الوقت، وهو الاستغاثة بخالق السماوات والأرض جل وعلا.

والله قد بين لنا معاشر المسلمين أن الإنسان إذا اضطر بأن دهمته الكروب، وأحدقت به النوائب والحوادث، أن الالتجاء في

(1)

أخرجه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، حديث رقم:(1763)(3/ 1383).

ص: 531

ذلك الوقت من خصائص خالق السماوات والأرض (جل وعلا)، فلا يجوز صرفه لغيره كائنًا من كان، وأوضح الله لنا هذا إيضاحًا شافيًا في آيات كثيرة من كتابه، من أوضح تلك الآيات: آيات سورة النمل، لأنه إيضاح لا لَبْسَ فيه كهذا النهار؛ لأن الله يقول:{ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا تُشْرِكُونَ} [النمل: الآية 59] وفي القراءة الأخرى: {أَمَّا يُشْرِكُونَ}

(1)

. ثم شرع تعالى يُعدد خصائص ربوبيته التي لا حق فيها لغيره ألبتة فقال: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} الجواب: لا {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} ثم ذكر خاصية أخرى من خصوص الربوبية فقال: {أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61)} الجواب: لا إله مع الله. ثم قال: وهو محل الشاهد: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} [النمل: الآيات 60 - 62] الجواب: لا والله، فهذه توضح ما وضَّحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعله أن مَنْ ألجأته الكروب واضطرته النوائب والزلازل أنه لا إله مع الله في ذلك الوقت يرفع إليه ذلك إلا خالق السماوات والأرض؛ ولذا كان صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت الضنك، والموقف الحرج، رفع ذلك الالتجاء إلى خالقه (جل

[2/ب] وعلا)، وأثنى الله عليه في ذلك، وأجابه بمدد السماء ملائكة منزلين [وهكذا شأن]

(2)

/ الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم)

(1)

انظر: المبسوط لابن مهران ص234.

(2)

في هذا الموضع مسح في التسجيل. وما بين المعقوفين [

] زيادة يتم بها الكلام.

ص: 532

يلتجئون إليه في تلك الظروف الحرجة والأوقات الضنكة. وكان الكفار -لأَن عندهم عقلاً معيشيًّا دنيويًّا- إذا نزلت بهم البلايا ودهمتهم الكروب أخلصوا في ذلك الوقت الدعاء لله، وأعطوا الحق لمن له الحق، حتى إذا أنقذهم الله من ذلك رجعوا إلى كفرهم.

والآيات الدالة على هذا لا تكاد تحصيها في المصحف الكريم {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ} أي: وخافوا من الموت من هيجان تلك الأمواج {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان: الآية 32]{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ} أي: ودهمتهم الأمواج، وعاينوا الهلاك {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: الآية 65] {وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس: الآيتان 22، 23]{وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)} [الإسراء: الآية 67 - 69] والآيات بهذا المعنى لا تكاد تحصيها في المصحف، والمعروف في التاريخ أن سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه أن النبي (صلوات الله وسلامه عليه) لما فتح مكة -وكان عكرمة شديد العداوة له صلى الله عليه وسلم هرب من مكة ذاهبًا إلى الحبشة، فركب في البحر الأحمر ذاهبًا إلى الحبشة، فلما لَجَّجُوا في البحر هاجت عليهم عواصف الريح، واضطربت عليهم الأمواج، فخافوا الهلاك وعاينوا الموت، فإذا كل

ص: 533

من في السفينة يتناذرون ويقول بعضهم لبعض: لا تدعوا في هذا الوقت غير الله؛ لئلا تغرقونا؛ لأن هذه الكروب لا ينجي منها إلا الله (جل وعلا) وحده.

ففهمها عكرمة وقال: والله إن كان لا ينجي في ظلمات البحر إلا هو فلا ينجي من كربات البر إلا هو. ثم قال: اللهم لك علي عهد إن أنْجَيْتَنِي من هذه لأضعن يدي في يد محمد صلى الله عليه وسلم فلأجدنه رؤوفًا رحيمًا

(1)

. وأمثال هذا في القرآن لا تحصى، فعلينا معاشر المسلمين أن نضع كل شيء في موضعه، ونمشي في نور القرآن العظيم، ونعلم أن الواحد منا إذا نزلت به البلايا ودهمته الكروب أن الالتجاء في ذلك الوقت من خصائص خالقه (جل وعلا)، فخصوص ذلك لخالقه (جل وعلا) مما يرضي الله، ويرضي رسوله، ويكفل له النجاح. وهذا سيد الخلق (صلوات الله وسلامه عليه) صرحت هذه الآية من سورة الأنفال أنه لما دهمه هذا الكرب العظيم صدق في ذلك الالتجاء، وصرفه إلى من له الحق في ذلك، وهو خالقه (جل وعلا). ومن حِكَم ذلك أن يعلم أمته الاقتداء به في ذلك، فعلينا معاشر المسلمين محبة لنبينا وتعظيمًا له ورغبة في اتباع ديننا أن نفعل كما كان يفعل نبيّنا صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: الآية 31] {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: الآية 80] ونصرف الحقوق لمستحقها، ولا نصرف حق خالقنا إلى بشر، ولا إلى ملك مقرب، ولا إِلى مخلوق كائنًا من كان؛ لأن إعطاء حقوق الله لله مما يرضي الله ويرضي رسول الله، وهو الذي يتَّبع صاحبه المرسلين (صلوات الله وسلامه عليهم). وهذا معنى قوله:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} الفاء سببية والإجابة

(1)

مضى عند تفسير الآية (40) من سورة الأنعام.

ص: 534

مسببة عن الاستغاثة بالله.

وهذا يدل على أنَّ مَنِ اسْتَغَاثَ بالله كانت استغاثته بالله سببًا للإجابة وإزالة المكروه عنه؛ ولأجل هذا الذي كنا نقرر لما أنزل الله مدد السماء من الملائكة علَّم أصحاب نبيه أن لا يعتمدوا عليهم فقال: {وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} [الأنفال: الآية 10] لا تظنوا أن النصر من الملائكة وإن نزلت عليكم الآلاف المؤلفة منهم، الذي بيده النصر وبيده كل شيء ويُفْزَعُ إِلَيْهِ في كل شيء، ويُطلب منه كل شيء، هو خالق الملائكة وخالق الرسل (جل وعلا) صلوات الله وسلامه عليهم.

{فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم} استجاب لهم بأنه ممدهم. وقوله: {مُمِدُّكُم} أي: جاعلها لكم مددًا يمدكم الله ويعينكم بها. وقد أوضح وجه هذا الإمداد وبينه في هذه الآيات في قوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)} [الأنفال: الآية 12] وهذا معنى قوله: {أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ} العرب تقول: أَمَدَّنَا الإمام بكذا، معناه: جاءنا بزيادة من الجيش مددًا؛ أي: زائدة على الأول، فقوله:{بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: الآية 9] قراءة الجمهور: {بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} قال بعض العلماء: كان الإمداد يوم بدر بألف واحدة بدليل آية الأنفال هذه.

وقوله: {مُرْدِفِينَ} معناه: متتابعين يتبع بعضهم بعضًا، ذكروا في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خفق في العريش خفقة -أصابته نعسة وغفوة خفيفة- فاستيقظ يتبسم وقال لأبي بكر: أبشر جاء نصر الله. فذكر له أنه رأى جبريل نازلاً وعلى ثناياه

ص: 535

النقع

(1)

، والنقع: الغبار الذي يكون على الثَّنِيَّتَيْن من أسنان الرجل فيكون عليها.

قال بعض العلماء: نزل جبريل في خمسمائة من الملائكة على الميمنة وفيهم أبو بكر، ونزل ميكائيل في خمسمائة من الملائكة على الميسرة وفيهم علي

(2)

. والأظهر أن المدد يوم بدر كان أكثر من ألف كما قدمناه في سورة آل عمران؛ لأن أصح القولين أن المدد من الملائكة المذكور إلى خمسة في آل عمران أنه في بدر، وأن قول من قال: إنه وُعد به في أُحد والصحابة لم يفوا بالشرط.

أن ذلك خلاف الظاهر وخلاف التحقيق؛ لأن الله قال في سورة آل عمران مشيرًا إلى وقعة بدر هذه التي بَسَطَهَا وشرحها في الأنفال مشيرًا إلى النصر بالملائكة والإمداد بهم: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: الآيتان 123، 124] والتحقيق: إذ تقول لهم يوم بدر لما أمدكم الله بالملائكة: {أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ (124) بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)} [آل عمران: الآيتان 124، 125] والقصة هذه المذكورة في آل عمران هي قصة بدر هذه المذكورة في الأنفال والسياق واحد كما ترى؛ لأنه قال في الأنفال: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَاّ

(1)

هذا الحديث أورده ابن هشام في السيرة ص666، وابن كثير في البداية والنهاية (3/ 276)، وقد أورده السيوطي في الدر (3/ 188) وعزاه لابن إسحاق وابن المنذر.

(2)

أورد ابن كثير في تفسيره (2/ 290) والبداية والنهاية (3/ 275) في هذا المعنى أثرًا عن ابن عباس رضي الله عنهما من طريق علي بن أبي طلحة.

ص: 536

بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)} [الأنفال: الآية 10] وقال في آل عمران: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَاّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)} [آل عمران: الآية 126] وقال هنا: {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: الآية 7] وقال في آل عمران: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ} [آل عمران: الآية 127] فالسياق هو السياق.

ولكن هنا سؤال، وهو أن يُقال: المدد الذي ذكرتم أنهم إلى خمسة آلاف، وأن ذلك في يوم بدر، فكيف يجمع به مع الاقتصار على ألفٍ واحدة هنا في الأنفال في قوله:{فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: الآية 9].

أُجيب عن هذا: بأنه لا تعارض؛ لأن آية الأنفال هذه أشارت إلى أن المدد من الملائكة لا يقتصر على الألف؛ لأن قوله: {مُرْدِفِينَ} على قراءة الجمهور معناه: يتبع بعضهم بعضًا، من أردف الرجل الرجل إذا كان وراءه رِدْفًا له، فدل على أنهم وراءهم شيء أُردفوا به، ويوضح هذا المعنى قراءة نافع:{مُرْدَفين} بصيغة اسم المفعول، معناه: مردَفين بغيرهم، أنهم متبوعون بغيرهم.

وقال بعض العلماء: الوعد بخمسة آلاف كان يوم أُحد، ولكن الله شرط عليهم شرطًا وقال:{بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ} [آل عمران: الآية 125] قالوا: ولم يصبروا ولم يتقوا ذلك اليوم؛ لأنهم زلت بهم أقدامهم كما نص الله عليه في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} [آل عمران: الآية 155] قال: ولما لم يثبتوا لم ينزل عليهم ملك واحد؛ لأنهم لم يفوا بالشرط. هذا قاله جماعة من أهل العلم.

ص: 537

والأول أظهر، والسياق واحد. وهذا مبنيٌّ على قوله:{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} فصرح تعالى أن ذلك ببدر والكلام متصل آخره بأوله {وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: الآية 123] إلى أن قال: {إِذْ تَقُولُ} في ذلك اليوم الذي نصركم الله فيه وأنتم أذلة {أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ} [آل عمران: الآية 124].

والحاصل أنه مختلف في المَدَدِ هَلْ هو ألف واحدة أو إلى خمسة آلاف؟ وأظهر القولين: أن المدد المذكور في آل عمران هو المذكور في الأنفال هذه، وأنه خمسة آلاف، ومما يؤيده: أنه لم يعلم أن الملائكة نزلت للقتال ظاهرًا إلا يوم بدر، وغير ذلك تنزل جنودًا لم يرها الناس كما جاء في حنين وغيرها والأحزاب؛ لأن الله بين أن الملائكة نزلت في الأحزاب وفي حنين حيث قال في الأحزاب:{إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: الآية 9] وقال في قصة حنين: {ثُمَّ أَنَزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} [التوبة: الآية 26] ولم يقل أحد من العلماء: إن جنود الملائكة التي نزلت في غزوة الأحزاب وفي غزوة حنين أنهم قاتلوا، وإنما اختلفوا في ذلك في [بدر]

(1)

، فذهب جماعة من أهل العلم وجاءت به آثار: أن الملائكة قاتلوا. وظاهر سياق آية الأنفال هذه تدل على أن الملائكة هم الذين أُمروا بالضرب فوق الأعناق وضرب البنان؛ لأنه قال: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ} فهذا السياق للملائكة {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: الآية 12] فهذا السياق ظاهر في الملائكة،

(1)

في الأصل: «أُحد» وهو سبق لسان.

ص: 538

وقد ذكرنا روايات عن بعض الصحابة أن بعضهم قال: بينما أنا أتبع رجلاً إذ سقط ميتًا أمامي، وسمعت ضربة سوط فوجدت وجهه مشقوقًا مخطومًا واخْضَرَّ محل الضربة كله

(1)

. وأن رجلاً قال: أردت أن أقتل رجلاً فَسَقَطَ رَأْسُهُ قبل أن أضربه

(2)

. وأنهم أَعْلَموا النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه قال:«ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ» .

والذين قالوا: إن الملائكة لم تقاتل يوم بدر لا حجة قوية معهم؛ لأنهم إنما استدلوا على ذلك بأن ملكًا واحدًا يقدر على إبادة جميع الناس، وأن جبريل رفع مدائن قوم لوط على ريشة من جناحه، ولا مانع من أن الله يجعل الملائكة مددًا وعونًا يَقْتُلُون معهم ليكون شرف الهزيمة لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الملك لو أهلكهم ما كان للصحابة في ذلك من فضل ولا من شرف، ولكن الله أعانهم ليكون النصر بأيديهم، وإهانة الكفار بأيديهم، كما قال تعالى:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14)} الآية [التوبة: الآية 14]، وهذا معنى قوله:{فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَاّ بُشْرَى} [الأنفال: الآيتان 9، 10] هذه الآية مما استدل بها من قال: إن الملائكة لم تقاتل؛ لأن الضمير في قوله: {وَمَا جَعَلَهُ} راجع إلى الإمداد بالملائكة الذين يتبع بعضهم بعضًا {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} أي: إمدادكم بالملائكة يقاتلون معكم {إِلَاّ بُشْرَى} أي: إلا بشارة لكم بالنصر، قالوا: فالله (جل وعلا) قصره على البشرى، ولم يقل: إن فيه قتالاً. وبعضهم يقول: لما قيل لهم: إنهم معكم، يقاتلون

(1)

تقدم تخريجه في بداية تفسير الآية.

(2)

تقدم تخريجه في بداية تفسير الآية.

ص: 539

معكم، كانت البشرى أعظم؛ لأنهم يعاونونهم في قتل عدوهم، وهذا معنى قوله:{إِلَاّ بُشْرَى} فالبشرى (فُعْلى) مؤنث بِأَلِف التأنيث اللفظية. والبشرى: هي الإخبار بما يسر، وقد قَدَّمْنَا مرارًا أن العرب تسمِّي الإخْبَار بما يسر (بشرى) و (بشارة)، وتقول:«بَشَّرَه وبَشَرَه» . إذا أخبره بما يسره، كما هو معروف. وقد قدمنا: أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن: إطلاق البشرى أيضًا على الإخبار بما يسوء، كأن تقول له: بشِّره بما يسوءُه، بشره بويل وعذاب.

كما قال تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)} [الجاثية: الآيتان 7، 8] ومعلوم أَنَّ العرب تطلق البشارة في لغتها على الإخبار بما يَسُرُّ أكْثَر، وربما أطلقتها على الإخبار بما يَسُوءُ. ومن إطلاق البشارة على الإخبار بما يسوء قول الشاعر

(1)

:

وَبَشَّرْتَنِي يَا سَعْدُ أَنَّ أَحِبَّتي

جَفَونِي وقَالُوا: الودُّ مَوْعِدُهُ الحشْرُ

وقول الآخر

(2)

:

يُبشرنُي الغرابُ ببينِ أَهْلي

فقلتُ لهُ ثَكِلْتُكَ مِنْ بَشِيرِ

وعلماء البلاغة يقولون: إن البشارة بما يسوء من نوع ما يسمونه (الاستعارة العنادية) ويقسمون الاستعارة العنادية إلى (تهكُّمِيَّة، وتلميحية) كما هو معروف في فن البيان عندهم

(3)

.

ونحن نقول: إن الذي يظهر أن هذه أساليب عربية، نطقت بها

(1)

مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام.

(2)

السابق.

(3)

السابق.

ص: 540

العرب، ونزل بها القرآن. وهذا معنى قوله:{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَاّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ} [آل عمران: الآية 126] أي: فعل الله ذلك لكم لأجل أن يبشركم؛ ولأجل أن تطمئن قلوبكم به. الطمأنينة معناها: السكون وعدم القلق والانزعاج. ومحل الطمأنينة والانزعاج: القلب؛ لأنه محل الإدراك؛ ولذا قال: {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ} لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عددهم قليلاً، فلما نزل المدد من السماء وثقوا من النصر، وسكنت قلوبهم، واطمأنت، وزال عنها الخوف والقلق والانزعاج، وهذا معنى قوله:{وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ} ثم إن الله بيّن أن الخير كله من قِبَله فكأنه يقول للمسلمين: لا تظنوا -وإن أنزلت عليكم ألفًا من ملائكة السماء- أن النصر بيد الملائكة! لا، النصر بيدي وحدي؛ ولذا قال:{وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} [الأنفال: الآية 10] هذا حصر بالنفي والإثبات، وهو أبلغ غايات الحصر. معناها: لا نصر يوجد ألبتة كائنًا من كان إِلا من عند الله (جل وعلا). وأصل النصر في لغة العرب: إعانة المظلوم {إِلَاّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ} جل وعلا {عَزِيزٌ حَكِيمٌ} العزيز في لغة العرب: هو الغالب. والعزة في لغة العرب: الغلبة {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون: الآية 8] أي: ولله الغلبة ولرسوله {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: الآية 23] غلبني في الخصام. والعرب تقول: (مَنْ عَزَّ بَزَّ)

(1)

يعنون: من غلب استلب. وقد قالت الخنساء في شعرها

(2)

:

كَأَنْ لم يكونُوا حِمىً يُخْتَشَى

إذِ النَّاسُ إذْ ذاكَ مَنْ عزَّ بَزّا

تعني: مَنْ غَلَبَ اسْتَلَبَ.

(1)

مضى عند تفسير الآية (96) من سورة الأنعام.

(2)

السابق.

ص: 541

قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} أي: غالب لا يغلبه شيء؛ ولذا قهر جند أبي جهل ورؤساء الكفر وقمعهم وقتلهم بعزته حيث كانت العزة له، وأعز عباده المؤمنين، كما قال:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: الآية 8].

وقوله: {حَكِيمٌ} الحكيم في الاصطلاح: هو مَنْ يَضَعُ الأمُورَ في مواضعها ويوقعها في مواقعها، ولا تتم الحكمة إلا بتمام العلم، فكل نقص في الحكمة إنما يتسبب عن نقص في العلم، فترى الرجل القُلَّب البصير الحاذق يفعل الأمر يظنه في غاية السداد ثم ينكشف الغيب عن أن فيه هلاكه ومضرة عظيمة عليه، فيندم وقد فات الأوان، ويقول: ليتني لم أفعل، لو فعلت لكان كذا!!

لَيْتَ شِعْري وَأَيْنَ مِنِّي لَيْت

إِنَّ ليتًا وإنَّ لوًّا عَنَاءُ

(1)

لأن: (ليتني فعلت)، و (لو فعلت كذا لكان أصوب!!) كل هذا في اختلال الحكمة من عدم العلم بعواقب الأمور.

أُلامُ عَلَى لوٍّ ولَوْ كُنْتُ عَالمًا

بِأَذْنَابِ لَوٍّ لم تَفُتْنِي أَوَائِلُه

(2)

الله (جل وعلا) وحده هو الذي لا يجري عليه: (لو فعلت كذا لكان أصوب)، أو:(ليتني لم أفعل)؛ لأنه عالم بعواقب الأمور وما تؤول إليه، فلا يضع أمرًا إلا في موضعه، ولا يوقعه إلا في موقعه؛ لإحاطة علمه (جل وعلا) بالخبايا والخفايا، وبما يكون وبما ينكشف عنه الغيب؛ ولذا قال جل وعلا:{إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: الآية 10].

(1)

مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام.

(2)

مضى عند تفسير الآية (83) من سورة الأنعام.

ص: 542

{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ (11)} [الأنفال: الآية 11].

{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ} في هذا الحرف ثلاث قراءات سبعيات

(1)

: قرأه ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي:{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ} مضارع غشَّاه يُغَشِّيه. ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)} [النجم: الآية 54]. وقرأه نافع وحده من السبعة: {إذ يُغْشِيكُم النعاس} مضارع أغشى يُغشي، من قوله:{فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: الآية 9]. وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو:{إذ يَغْشَاكم النعاسُ أمنة منه} .

فعلى قراءة نافع: (النعاس) منصوب مفعول: {يُغْشِيْكُم} وكذلك هو على قراءة ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي:{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ} هو مفعول {يُغَشِّيكُمُ} ولا فرق بين قراءتهم وبين قراءة نافع، إلا أن الفعل على قراءتهم مُعدّى بالتضعيف، وعلى قراءة نافع مُعدّى بالهمزة، والتعدية بالهمز والتضعيف معروفان متساويان، أما على قراءة ابن كثير، وأبي عمرو:{إذ يَغْشَاكم النعاسُ أَمَنَةً مِنْهُ} (النعاسُ) مرفوع، فاعل {يغشاكم}

(2)

وقد جاء النعاس فاعلاً -كقراءة أبي عمرو، وابن كثير هنا جاء ذلك- في سورة آل عمران في قوله:{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى} [آل عمران: الآية 154] أي: النعاس {طَآئِفَةً مِّنكُمْ} كما قال هنا: {إذ يَغْشَاكم النعاسُ أمنة منه} النعاس: معروف، وهو أوائل النوم.

(1)

انظر المبسوط لابن مهران ص220.

(2)

انظر حجة القراءات ص308.

ص: 543

وأجرى الله العادة أن النعاس لا يكون للخائف -أن الخائف يطير منه النعاس ويطير منه النوم فلا ينعس ولا ينام- وأن الذي يصيبه النعاس فينام هو الآمن؛ ولذا كانوا يقولون: (الأمن مُنيم، والخوف مُسهر)؛ لأن صاحب الأمن ينعس فينام، فترى الآمن ناعسًا ونائمًا، والخائف قلقًا لا يأتيه النعاس ولا النوم. وأجرى الله العادة أنه إذا أراد نصر حزبه ألقى عليهم النعاس؛ لأن النعاس لا يغشاهم إلا وقد زال من صدورهم الخوف وقلق الجزع والحزن، وهذا تأمين منه لهم، وتثبيت لهم، كما تقدم في قوله:{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ} [آل عمران: الآية 154] وقد قدمنا في تفسيرها في آل عمران عن أبي طلحة أنه ذكر أنه سقط منه سيفه ثلاث مرات وهو قائم في الصّف من شدة النعاس

(1)

، وأنهم يميدون تحت السلاح لشدة نعاسهم. وقد ذكر هنا أنه غشاهم النعاس في وقعة بدر.

وقوله: {أَمَنَةً مِّنْهُ} [الأنفال: الآية 11] مفعول من أجله. إذ يغشيكم (جل وعلا) النعاس لأجل الأَمَنَة منه. والأَمَنَة: مصدر أمِن يأمن أَمَنَةً وأمنًا وأمانًا. والأَمَنَة والأمان ضد الخوف؛ أي: لأجل أن تكونوا آمنين ليس في قلوبكم خوف ولا جزع ولا قلق، وهذا من تثبيت الله لعباده المؤمنين.

وقد اختلف العلماء في وقت هذا النعاس الذي صرّح الله أنه غشَّاه أهل بدر، فقال بعض العلماء: كان هذا النعاس غشاهم الله إياه

(1)

البخاري، كتاب المغازي، باب:{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا} حديث رقم: (4068)(7/ 365)، وأخرجه في موضع آخر، حديث رقم:(4562).

ص: 544

في الليلة التي في صبيحتها وقعة بدر، وكانت ليلة الجمعة، وهي السابعة عشرة من شهر رمضان، في عام اثنين من الهجرة. المفروض أنهم كانوا يكونون في خوف وقلق؛ لأنهم غدًا يتلاقون مع عدوهم، وهو جيش عرمرم قوي، فالعادة أن من هو إذا أصبح يلاقي جيشًا عرمرمًا، وينتظر الموت أنه يبيت والنعاس طائر عنه، والنوم طائر من عينيه لما يصيبه من خوف الموت والفزع والقلق، إلا أن الله خرق العادة لحزبه هنا، وغشاهم النعاس. قالوا: ففي تلك الليلة ناموا ملء عيونهم نومًا مستغرقًا كنوم الآمنين في غاية الأمن حتى احتلموا وأصبح كثير منهم جُنبًا من الاحتلام!! والغالب أن الرجل لا يحتلم إلا إذا كان نومه مستغرقًا، والنوم لا يكون ثقيلاً مستغرقًا إلا للآمن الذي لا يخالجه خوف؛ لأن الخائف والقلق ولو قدرنا أنه أصابته غفوة فعن قليل يستقظ فزِعًا مرعوبًا، فهم في تلك الليلة غشاهم الله النعاس فباتوا في أمن ونوم عميق نائمين، وأجنبوا تلك الليلة. قالوا: ومن حكمة ذلك أن النوم الثقيل العميق تستريح منه الأعضاء من التعب، فأصبحوا مستريحين قادرين على كفاح العدو، قال المفسرون: أُخبر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن نفير قريش سبقهم إلى الماء، وكانوا في العدوة الدنيا من بدر، وكان الوادي الذي هم فيه فيه رمال دهسة، يصعب المشي فيها؛ لأن الأقدام تسوخ فيها، وأجنبوا وعطشوا، فجاءهم إبليس برِجْزِه فوسوس لهم وسوسة عظيمة ثقلت على بعض الصحابة، وقال: تزعمون أنكم على الحق وأنتم في عطش، والقوم قد سبقوكم إلى الماء وغلبوكم عليه، فإذا أجهدكم العطش جاءوكم فقتلوا من شاءوا، وأسروا من شاءوا، وأنتم تُصلّون بالجنابة في عطش، وأرجلكم تسوخ في الرمل، والعدو بخلاف

ص: 545

هذا

(1)

!!

فأنزل الله مطرًا من السماء، وسلط عليهم النوم، فسال الوادي، فاغتسلوا من الجنابة، وشربوا، وسقوا دوابهم، ولبَّد لهم الأرض حتى صارت الخُطا تثبت عليها، والأقدام تثبت عليها ولا تسيخ فيها؛ لأن الرمل المتهائل إذا ضربه المطر اشتد وصار الإنسان يمشي عليه ولا تسوخ قدمه فيه، وإن كان يابسًا صعُب المشي فيه؛ لأن الرِّجْل تسوخ فيه.

وقال بعض العلماء: النعاس الذي غشاهم إياه: بعد أن التحم القتال أصاب المسلمين نعاس يوم بدر كما أصابهم يوم أحد. والله تعالى أعلم

(2)

. {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ} [الأنفال: الآية 11] لأجل الأمن، سواء قلنا: إنه في الليل، أو إنه في النهار وقت التحام الصفين، هذا معنى قوله:{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً} هو هذا المطر الذي كنا نذكر خبره الآن.

وقرأه السبعة غير ابن كثير وأبي عمرو: {وَيُنَزِّلُ} بتشديد الزاي وفتح النون. مضارع نَزَّله يُنَزِّله. وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو:{ويُنْزِلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ}

(3)

أي: من الجنابة كما طهر باطنكم طَهّر لكم ظاهركم من الجنابة.

{وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} أي: وسوسة الشيطان الذي أثقل عليكم بها: أنكم تصلون بالجنابة، وأنكم عطاش يهلككم العطش فيأخذكم العدو. أذهب عنكم بنزول ذلك الماء. أنزل ذلك المطر

(1)

انظر: البداية والنهاية (3/ 282) ..

(2)

انظر: الأضواء (2/ 346).

(3)

انظر: الإتحاف (2/ 77).

ص: 546

ليطهركم من الجنابة، وكل حدث أصغر وأكبر. {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} أي: وسوسته التي كان يوسوس لكم بها.

{وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} حيث أزال عنكم وسوسة الشيطان: أن العطش يُضعفكم، وأن القوم يأخذونكم حيث شربتم من ذلك المطر وتقويتم {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} معناه: يشدها ويقويها حيث أزال وساوس الشيطان التي أثقل عليكم بها.

{وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} يعني: يثبت بالمطر أقدامكم على دهس الرملة؛ لأنها قبل المطر كانت تسوخ فيها الأقدام. وعلى هذا القول أكثر المفسرين. وقال بعض العلماء

(1)

: الربط على القلوب وتثبيت الأقدام هنا: الربط على القلوب: هو تثبيت الجأش والشجاعة. وتثبيت الأقدام: هو تثبيتها في الميدان، وأن السبب المُسَبِّب لهذا هو الإمداد بالملائكة. وهذا يبعد من ظاهر القرآن، والذي عليه الجمهور: هو ما ذكرنا أن تثبيت الأقدام هنا تثبيت حسي؛ لأن المطر لبَّد الأرض الدهسة فصارت الأقدام تثبت عليها ولا تسوخ فيها. وهذا معنى قوله: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} .

قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ (15) وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَاّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)} [الأنفال: الآيات 12 - 17].

(1)

انظر هذا القول والرد عليه في ابن جرير (13/ 427 - 428).

ص: 547

يقول الله جل وعلا: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)} [الأنفال: الآية 12].

قال بعض العلماء: قوله: (إذ) بدل من (إذ) قبله. قالوا: قوله: {إِذْ يُغَشيكُمُ النُّعَاسَ} [الأنفال: الآية 11] بدل من قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ} [الأنفال: الآية 7] وقوله: {إِذْ يُوحِي} بدل من قوله: {يُغَشيكُمُ النُّعَاسَ} . وقال بعض العلماء: العامل في (إذ){إِذْ يُوحِي} هو العامل في (إذ) المتكررة قبلها. وقال بعض العلماء: العامل فيه: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} [الأنفال: الآية 11] حين يوحي إلى الملائكة. وقال بعضهم: منصوب بقوله: {وَيُثَبِّتَ بِهِ} [الأنفال: الآية 11] أي: يثبتهم حين أوحى إلى الملائكة أن ثبتوا الذين آمنوا

(1)

.

{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ} [الأنفال: الآية 12] يمكن أن يكون وحي إلهام، وأن يكون وحي إعلام، كل ذلك جائز للملائكة (صلوات الله وسلامه عليهم). يوحي إليهم الله:{أَنِّي مَعَكُمْ} معيّة نصر وإعانة {فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ} يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر. وتثبيت الملائكة لهم كان من جهات متعددة

(2)

: منها: أن الملائكة يلقون في قلوبهم الأمن والطمأنينة، كما يلقي الله الرعب في قلوب الكفرة. ومنها: أنهم يثبتونهم بالقتال معهم وإعانتهم؛ لأنهم بذلك يوقنون بالنصر فتقوى قلوبهم وتثبت أقدامهم. وقال بعض العلماء: كانوا يثبتونهم بغير ذلك، كان الملك يتمثل للناس بصفة رجل يعرفونه ويمشي بين الصفوف ويقول: أبشروا فإن الله ناصركم عليهم ومظهركم عليهم، وكان الملك

(1)

انظر: الدر المصون (5/ 577).

(2)

انظر: ابن جرير (13/ 428)، القرطبي (7/ 378)، ابن كثير (2/ 292).

ص: 548

يتمثل في صورة الرجل يعرفونه - كما قال به بعض العلماء - ثم يقول للمسلمين: أبشروا فإِني سمعتهم يخافون منكم ويقولون: إنكم إن حملتم عليهم انكشفوا هاربين عنكم؛ لتقوى قلوب المؤمنين وتثبت، ويستحقرون الكفرة. هذا معنى قوله:{فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ} كان بعض من شهد بدرًا كافرًا أسلم بعد ذلك، وكان الناس يسألونه ويقولون له: صِفْ لنا الرعب الذي ألقى الله في قلوبكم يوم بدر، فيأخذ حصاة ويضربها على طشت من الحديد فيُسمع لها دويّ عظيم، فيقول: كنا نسمع مثل هذا في أجوافنا من شدة الخوف

(1)

، وهذا معنى قوله:{سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ} .

قرأ هذا الحرف من السبعة: نافع، وابن كثير، وعاصم، وحمزة - كل هؤلاء الأربعة - من السبعة قرؤوا:{سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ} بإسكان العين من قوله: {الرُّعْبَ} وقرأه ابن عامر، وحمزة

(2)

، والكسائي:{سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعُبَ} بضمتين. فالذي قرأ: (الرُّعُب) بضم العين: هو ابن عامر، وحمزة

(3)

، والكسائي. والذي قرأ (الرُّعْب) بسكون العين: نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم

(4)

، هؤلاء الأربعة قرؤوا:(الرعْب) بسكون العين، وأولئك الثلاثة قرءوا:(الرُّعُب) بضمتين

(5)

. وهما لغتان فصيحتان وقراءتان صحيحتان.

والرعب شدة الخوف في قلوب الذين كفروا؛ لأن القلب هو محل الإدراك، وهو الذي يكون فيه الأمن ويكون فيه الخوف، وهذا معنى قوله:{سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ} .

(1)

ابن جرير (14/ 88)، البيهقي في الدلائل (3/ 80)، (5/ 145)، البداية والنهاية (4/ 333).

(2)

ذِكْر حمزة هنا وهم، وإنما قراءته بإسكان العين كما ذكر الشيخ قبل ذلك.

(3)

ذِكْر حمزة هنا وهم، وإنما قراءته بإسكان العين كما ذكر الشيخ قبل ذلك.

(4)

ومعهم حمزة.

(5)

انظر: السبعة ص217، المبسوط لابن مهران ص170.

ص: 549

وقوله: {فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ} المأمور بالضرب في قوله: {فَاضْرِبُواْ} أصله فيه وجهان معروفان

(1)

:

أحدهما: أن المأمور به الملائكة، قال بعض العلماء: ما كان الملائكة يعرفون مَقَاتِلَ الضرب حتى علمهم الله ذلك يوم بدر فقال: {فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} وكون هذا الخطاب للملائكة (صلوات الله وسلامه عليهم) هو أظهر القولين؛ لأن ظاهر السياق يقتضيه؛ لأن هذا في الظاهر من جملة ما أوحي إلى الملائكة.

والقول الثاني: أن المأمور بقوله: {فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ} المسلمون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

وقوله: {فَوْقَ الأَعْنَاقِ} المراد بالفوقية هنا فيه أوجه معروفة للعلماء لا يكذب بعضها بعضًا

(2)

: أما الذين قالوا: إن لفظة (فوق) زائدة، وأن المراد: فاضربوا الأعناق، واستدلوا بقوله:{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: الآية 4] فهذا القول لا يجوز أن يقال به في القرآن؛ لأن لفظًا جاء في القرآن لا ينبغي لأحد أن يحكم عليه بأنه زائد لا معنى له.

وقال بعض العلماء: (فوق) هنا بمعنى (على) العرب تقول: ضربته على عنقه، وضربته فوق عنقه، وعلى هذا القول فمفعول الضرب محذوف، أي: فاضربوهم فوق الأعناق، أي: فاضربوهم على الرقاب، وهذا قول ليس ببعيد.

وقال بعض العلماء: المراد بما فوق الأعناق: الرؤوس؛ لأن

(1)

انظر: القرطبي (7/ 378).

(2)

انظر: ابن جرير (13/ 429)، القرطبي (7/ 378).

ص: 550

الرأس فوق العنق، قال: ومعناه فاضربوا رؤوسهم، والعرب معلوم أنها في الحرب تبادر لضرب الرؤوس، ويمدحون الرجال بضرب الرؤوس وفلق الهام، وهو معنى مشهور، كثير في كلام العرب وفي أشعارها، قال الشاعر

(1)

:

غَشَّيْتُه وهو في جَأْوَاءَ باسلةٍ

عَضْبًا أَصَابَ سَواءَ الرأسِ فانْفلقا

يفتخر بضرب الهام. ومنه قول عمرو بن الإطنابة

(2)

:

أَبَتْ لي هِمَّتي وأَبَى إِبَائي

وأَخْذِيْ المَجْدَ بالثمنِ الرَّبيحِ

وإقداميِ على المَكْروهِ نفْسي

وضَربي هَامةَ البطلِ المُشيحِ

والآخر قال

(3)

:

نُفَلِّقُ هَامًا من رجالٍ أَعِزَّةٍ

علينا وهُم كانُوا أَعَقّ وأَظْلَمَا

وضرب الهام مشهور في كلام العرب وفخرها وأشعارها، ومن مدح الرجل للفارس: هذا يضرب القوانس، وهذا يضرب القونس. والقوانس: جمع القونس، والقونس: هو مقدم البيضة من الحديد على رأس الفارس. وقال بعض العلماء: القونس على البيضة، وضرب القوانس: كناية عن ضرب الهام، وهي فوق الرقاب. ومن هذا المعنى قول امرئ القيس بن عابس الكندي

(4)

:

(1)

البيت لبلعاء بن قيس، وهو في البحر (4/ 470)، الدر المصون (5/ 579).

(2)

البيتان في وفيات الأعيان (5/ 241)، سير أعلام النبلاء (3/ 142) مع اختلاف في بعض الألفاظ والبيت الثاني في اللسان (2/ 390)، الدر المصون (5/ 579).

(3)

البيت في ابن كثير (2/ 293).

(4)

مضى عند تفسير الآية (165) من سورة الأعراف.

ص: 551

كلَاهُما كان رَئِيسًا بَيْئَسَا

يضربَ في يوم الهياج القَونسَا

ومنه شعر العباس بن مرداس -المشهور- السلمي

(1)

:

فَلَمْ أَرَ مثل الحي حيًّا مُصَبَّحًا

ولا مثلنا يوم التقَيْنَا فوارسَا

أكرّ وأَحْمَى للحقيقةِ مِنْهُمُ

وأضْرَب مِنَّا بالسُّيُوفِ القوانسَا

هذا قال به بعض العلماء، أن المراد بما فوق الأعناق: الرؤوس؛ لأن الرأس فوق العنق، أي: فاضربوا رؤوسهم وفَلِّقُوا هامهم. وأظهر الأقوال وأقربها للصواب ما قاله بعض العلماء: أن الله علّم الملائكة أو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حز الرؤوس، وبين لهم مفصل الرأس الذي يُطير الرأس عن الجثة، وأنه فوق الأعناق؛ لأن الرقبة المحل الذي تركب منه في الرأس هو مفصل للحز إذا ضَرَبَه الإنسان طار الرأس بسرعة، وكان ذلك أهْوَن لإِبَانَةِ الرأس؛ ولذا كانت العرب تَفْتَخِرُ بِضَرْبِ القَمَاحِدِ، والقَمَاحِدُ جمع قُمْحُدَة وهو العَظْم الذي خلف الأذن؛ لأنه تحت عظم الرأس وفوق عظم الرقبة، وذلك وهو مفصل الرقبة وموضع حزها الذي يسهل به إطارة الرأس وإبانته عن الجثة كما هو معروف وَمِنْ هذا المعنى قَوْلُ الشاعر يمدح خالد بن الوليد رضي الله عنه

(2)

:

رَأَيْتُ رِجَالاً مِنْ قُرَيْشٍ كَثِيرَةً

وَلَمْ أرَ في القوم القيام كَخَالِدِ

كَسَاكَ الوَلِيدُ بن المغيرة مَجْدَهُ

وعلَّمَكَ الشَّيْخَانِ ضَرْبَ القَمَاحِدِ

والقَماحِد جمع القُمْحُدَة، وهي العظم الذي خلف الأذن؛ لأنه

(1)

مضى هذان البيتان عند تفسير الآية (117) من سورة الأنعام.

(2)

البيت لحزن بن أبي وهب المخزومي. وهو في الإصابة (1/ 325) مع اختلاف يسير في لفظ صدر البيت الأول، وبين البيتين بيت آخر.

ص: 552

نازل عن عظم الرأس، مرتفع عن عظم الرقبة، محلّه من جوانب الرقبة محل المذبح، تسهل منه إبانة الرأس وإطارته عن الجثة، وهذا معنى قوله:{فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: الآية 12].

قال بعض العلماء: واحد البنان بنانة. والتحقيق أن البنان أطراف الأصابع، كما هو معناه المشهور في كلام العرب، والعرب يعرفون ضرب البنان؛ لأن الرجل إذا ضرِبَ أطراف يده -أصابعِهِ- بالسيف لا يقدر أن يحمل سيفًا ولا رُمْحًا، فبَقِيَ لا بأْسَ فيه ولا نكاية عنده، من جاءه قدر على قتله، فالضرب الذي عُلِّمُوه على نوعين: إصابة المقاتل، وإصابة الشَّوَى، وهي الأطراف التي تمنع صاحبها من أن يفعل شيئًا، وكانت العرب تعرف هذا، ومنه قول عنترة بن شداد

(1)

:

وكانَ فتى الهيجاءِ يَحْمي ذِمَارَهَا

ويضربُ عند الكربِ كلَّ بَنَانِ

والعرب تسمي أطراف الأصابع: بنانًا، ومنه قول عنترة أيضًا

(2)

:

وإِنَّ الموتَ طوعُ يدي إذا ما

وصَلْتُ بنانها بالهندُواني

وما زعمه بعض علماء العربية من أن المراد بالبنان هنا يصدق بجميع المفاصل وبالوجه والعينين، هو خلاف التحقيق المعروف من اللغة؛ لأن المعروف في اللغة: أن البنان أطراف الأصابع، بعضهم يقول: أطراف أصابع اليد. وبعضهم يقول: تدخل فيه

(1)

البيت في القرطبي (7/ 379)، الدر المصون (5/ 580).

(2)

ديوانه ص148.

ص: 553

أطراف أصابع الرِّجْل، والإطلاق المشهور: إطلاق البنان على أطراف أصابع اليد. والعرب تقول: بنانٌ مُطَرَّف، ومُطَرَّفَة: إذا خضبت المرأة أطراف أصابعها بالحناء، وهذا هو المعنى المشهور المتعارف في كلام العرب، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي

(1)

:

بَدَا ليَ منها مِعْصَمٌ يَوْمَ جَمَّرَتْ

وكَفٌّ خَضيبٌ زُيِّنَت بِبَنَانِ

فوالله ما أدري وإني لحاسبٌ

بسبع رميتُ الجَمْرَ أمْ بثَمَانِ

فقوله: «كف خضيب زُيِّنَتْ ببنان» أي: بأصابع. والبنان مؤنثة، وربما ذكَّرتها العرب نادرًا، ومن تذكيرها النادر قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي أيضًا

(2)

:

وأَرْسَلَت فَجَاءني

بنانُها المُطرَّف

ولم يقل: المُطَرَّفَة، والمُطَرَّفُ: هو الذي خُضب أعاليه بالحناء، وهذا معنى قوله:{فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: الآية 12].

{ذَلِكَ} العذاب الذي ذاقوه من ضرب الأعناق، وضرب البنان، وتسليط الله عليهم أصحاب رسوله وملائكته، ذلك كله واقع بسبب أنهم {شَآقُّواْ اللَّهَ}. شاقوه: معناه خالفوه ولم يتبعوا أمره، بل كذبوا رسوله وتمردوا على أوامره، وعبدوا معه الأصنام، وجعلوا له الأولاد والأنداد، فالمشاقة في لغة العرب: المخالفة. وفلان وفلان في شقاق، أي: في خلاف. وقد تقدم إيضاحه في تفسير قوله:

(1)

تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (76) من سورة الأنعام.

(2)

البيت في ديوانه ص252.

ص: 554

{فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة: آية 137] أي: في خلاف، ومن المعنى قوله الشاعر

(1)

:

وإلَاّ فاعلْموا أَنَّا وأنتُم

بغاةٌ ما بقينا في شِقَاقِ

قال بعض العلماء: أصل اشتقاق الشقاق من الشِّق؛ لأن المُتَخَالِفَين المُتَعَادِيَيْن كل منهما يكون في الشق الذي ليس فيه الآخر. فقيل: هو من شقِّ العصا بمعنى الاختلاف، وقيل: هو من المشقة؛ لأن كلاً من المُتَخَالِفَين المُتَعَانِدَين يطلب لصاحبه الإيقاع في المشقات. فمعنى مشاققتهم لله: مخالفتهم لأوامره ونهيه وتكذيبهم رسله، وجعلهم له الأنداد والشركاء. وهذا معنى قوله:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ} [الأنفال: الآية 13] وشاقوا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، ثم قال:{وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ} الظاهر أن جواب الشرط في قوله: {وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ} محذوف، دل عليه قوله:{فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} والتقدير: من يشاقق الله يعاقبه، فإن الله شديد العقاب لمن عاقب، والشدة: ضد اللين. والعقاب: هو التنكيل على الجريمة. قال بعض العلماء: سُمِّيَ عقابًا؛ لأنه يأتي عقب الذنب من أجله. وهو معروف في كلام العرب، يقولون: عَاقِب هذا عقابًا ومعاقبة؛ أي: نَكِّل به؛ لأنه عصاك أو أَجْرَمَ إليك. وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول نابغة ذبيان يخاطب النعمان بن المنذر

(2)

:

ومن عصاكَ فعاقِبْهُ مُعَاقَبَةً

تَنْهى الظلومَ ولا تَقعُد على ضَمِدِ

(1)

البيت لبشر بن أبي خازم، وهو في الدر المصون (4/ 276).

(2)

مضى هذا الشاهد عند تفسير الآية (167) من سورة الأعراف.

ص: 555

والله (جل وعلا) هو شديد العقاب وحده، ولا عقاب هو العقاب الشديد إِلا عقاب الله (جل وعلا)، فعلى المسلمين أن يحذروا عقاب الله، ولا يتعرَّضوا لسخط الله الموجب لعقابه؛ لأن الله لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد؛ لأن أعظم جبار من ملوك الدنيا ليس في وسعه من التعذيب والتنكيل إلا قدر ما يستوجب الموت مرة واحدة، فإن شدد التعذيب على المُعَذَّب إلى قدر يقتل صاحبه عادةً مات وانتهى ذلك العقاب، أما خالق السماوات والأرض شديد العقاب فإنه ينكل المذنب بآلاف التنكيل المستوجبة للموت وصاحبه لا يموت. فهذا هو العقاب الذي لا ينقطع ولا ينجي منه موت، فهو الذي يجب أن يُحذر ويُخاف منه، وتتجنب أسبابه في دار الدنيا وقت إمكان الفرصة، والله (جل وعلا) يقول:{وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: الآية 17] ويقول تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ} [النساء: الآية 56] هذا هو العذاب الذي يُخشى، والعقاب الذي يجب على (

)

(1)

.

[3/أ] (

) / لأن الأمر كله بيد الله؛ ولأجل فهم النبي صلى الله عليه وسلم لهذا كان يكثر في دعائه: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»

(2)

.

اعلموا كُلاّ أيها الناس أن قلوبكم بيد خالقكم (جل وعلا) يُصرفها كيف شاء، يوفق من شاء، ويضل من شاء {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَاّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: الآية 88] وعلينا معاشر المسلمين أن نتفهم في هذه الآية، وأن نبتهل ونتضرع إلى ربنا أن يُثبتنا، وأن

(1)

في هذا الموضع انقطع التسجيل. وما بعده متعلق بتفسير الآية (24).

(2)

مضى عند تفسير الآية (110) من سورة الأنعام.

ص: 556

لا يزيغنا، وأن لا يُحوِّل قلوبنا إلا لما يرضيه (جل وعلا)؛ لأن هذه الآية يخافها العاقل جدًّا، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن كل إنسان قلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن (جل وعلا) يصرفه كيف يشاء

(1)

. فيا مقلب القلوب، مثبت من شاء، ومضل من شاء، وهادي من شاء، ومضل من شاء؛ [ثبت قلوبنا على دينك]

(2)

ولذا أثنى (جل وعلا) على عباده الراسخين في العلم بأنهم يقولون: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ} [آل عمران: الآية 7] إلى أن قال عنهم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} [آل عمران: الآية 8].

ومعنى: {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: الآية 24] إنما عبر بالقلب؛ لأن القلب محل العقل الذي به الإدراك، لا كما يقوله الملاحدة: إن محله الدماغ

(3)

. يحول بينه وبين قلبه فيصرف قلبه حيث شاء، وكيف شاء، يصرفه من هُدى إلى ضلالة، ومن ضلالة إلى هدى، قال بعض العلماء

(4)

: وكذلك يصرفه من أمنٍ إلى خوف، ومن خوف إلى أمن، كما نقل قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الخوف إلى الأمن، وقلوب الكفرة من الأمن إلى الرعب والخوف الذي ألقاه في قلوبهم، والأول هو الصحيح في معنى الآية؛ لأن هذه الآية تدل على أن الأمور كلها بيد الله، وأنه يصرف القلوب كيف يشاء، فيهدي من يشاء هداه، ويضل من يريد إضلاله.

وما يزعمه المعتزلة من أن الله لا يريد الشر، وأن العبد يخلق

(1)

السابق.

(2)

ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق.

(3)

مضى عند تفسير الآية (75) من سورة البقرة.

(4)

انظر: القرطبي (7/ 391).

ص: 557

معاصيه باستقلال مشيئة العبد وقدرته مذهب لا يخفى سقوطه على عاقل، فإن خالق السماوات والأرض لا يمكن أن يكون في ملكه شيء إلا بمشيئته وقدرته جل وعلا.

{وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: الآية 24]{وَأَنَّهُ} أي: الله {إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} وحده. الحشر في لغة العرب معناه: الجمع. تقول: حشر الإمامُ العلماءَ أي: جمعهم، وحشر الناس أي: جمعهم. ومنه قوله: {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ} [الأعراف: الآية 111] أي: جامعين يجمعون لك السحرة. فالحشر في لغة العرب: الجمع. والناس كلهم يُجمعون يوم القيامة إلى رب السماوات والأرض كما قال: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: الآية 47] وقد بين في سورة الأنعام أنه يحشر جميع الدواب والطير وجميع ذلك كله، يحشرهم ويجمعهم يوم القيامة، كما تقدم في قوله:{وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شيء ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام: الآية 38] فكما أنه يحشر الناس كذلك يحشر الدواب والطير وغير ذلك. وهذا معنى قوله: {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (

)

(1)

.

وهذه الآية جاءت ناهية عن ذلك، مبينة أن الناس إذا رأوا المنكر يُرتكب علنًا ولم يغيروه وهم قادرون على أن يغيروه أن الله يعم الجميع بعذاب من عنده، ولا يصيب ذلك خصوص الذين

(1)

في هذا الموضع انقطع التسجيل والكلام الآتي يتعلق بقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} .

ص: 558

ظلموا وارتكبوا المعاصي، بل يصيب الجميع، هؤلاء بمعصيتهم، وهؤلاء بسكوتهم على المعصية وعدم نهيهم عنها. هذا الذي عليه جمهور المفسرين.

{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً} [الأنفال: الآية 25] قد قدمنا في هذه الدروس مرارًا أن الفتنة أُطلقت في القرآن إطلاقات متعددة

(1)

:

أطلقت الفتنة بمعنى الابتلاء. وهذا أكثر إطلاقها، ومنه قوله:{وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: الآية 35] أي: ابتلاء، {لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا} [الجن: الآية 16] أي: لنختبرهم، {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: الآية 15] أي: امتحان وابتلاء واختبار.

وأصل الفتنة في لغة العرب

(2)

: هي الوضع في النار، تقول العرب: فتنت الذهب: إذا وضعته في النار وأذبته فيها ليظهر أخالص هو أم زائف. ولذا كان أحد إطلاقات الفتنة: هي الإحراق بالنار، ومنه بهذا المعنى قوله:{يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)} [الذاريات: الآية 13] أي: يُجعلون فيها ويحرقون فيها، ومنه على أصح التفسيرين:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: الآية 10] أي: أحرقوهم بنار الأُخدود.

وتُطلق الفتنة على نتيجة الاختبار إن كانت سيئة خاصة، ومن هنا أُطلقت الفتنة على الكفر وعلى المعاصي، كما قال:

(1)

مضى عند تفسير الآية (53) من سورة الأنعام.

(2)

السابق.

ص: 559

{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: الآية 13] أي: لا يبقى شرك على وجه الأرض، كما يدل له قوله صلى الله عليه وسلم:«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ»

(1)

. وجاء في سورة الأنعام إطلاق الفتنة على الحجة في قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتَهُمْ} [الأنعام: الآية 23] وفي القراءة الأخرى: {فِتْنَتُهُمْ}

(2)

(

)

(3)

وهذا معنى قوله: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} . ودخول نون التوكيد على {لَاّ تُصِيبَنَّ} [مع أنه في غير قسم، ولا طلب، ولا شرط، فيه سؤال معروف،]

(4)

واختلف علماء العربية في توجيهه

(5)

، والذي يظهر أنه يُفهم من هذا أن نون التوكيد تدخل في مثل هذا الأُسلوب؛ إذ لا حاجة إلى التعسفات التي يرتكبها من يريد الجواب عن هذا، مع أن القرآن في أعلى درجات الإعجاز.

و {الَّذِينَ ظَلَمُواْ} معناه: ارتكبوا المعاصي فظلموا أنفسهم.

{خَآصَّةً} أي: في حال كونها خاصة بهم لا تتعداهم إلى غيرهم؛ بل هي تتعداهم إلى غيرهم، أي: لا تصيب خصوصهم بلِ تعمّ وتصيب الجميع. وهذا معنى قوله: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} .

(1)

مضى تخريجه في الموضع السابق.

(2)

مضت عند تفسير الآية (155) من سورة الأعراف.

(3)

في هذا الموضع انقطع التسجيل.

(4)

في هذا الموضع انقطع التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

(5)

انظر: الدر المصون (5/ 589 - 593).

ص: 560

{وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} العقاب: هو النكال على الذنب، قيل: سُمي عقابًا لأنه يأتي عَقِبَه من أجله.

فعلينا معاشر المسلمين أن نتفهم هذه الآية، وأنّا إذا رأينا السفهاء ومن لا يطيعون الله يتعالنون بمعاصي الله أن نغيرها بحسب استطاعتنا؛ لئلا يعُمنا الله بعذاب من عنده، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مراتب تغيير المنكر فقال:«مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَهُوَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ»

(1)

.

فمن قدر منا أن يُغير بيده فليغير بيده، ومن لم يقدر على التغيير باليد فباللسان، ومن عجز عن ذلك كله فبالقلب، وهو أضعف الإيمان. ويوشك أن المعاصي إذا لم تزل تُرتكب ولا ينهى عنها أحد أن ينزل عذاب من الله عَامّ يعم الصالح والطالح، والعاجز حقيقة يبعثه الله على نيته، ولا يناله شيء من إثم أولئك الآثمين، إلا أن العذاب وقت نزوله يعم الجميع كما جاءت الأحاديث بذلك. وهذا معنى قوله:{وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)} [الأنفال: الآية 25] كونه شديد العقاب فيه تحذير شديد وتخويف لمن يُقصر في امتثال أمره واجتناب نهيه، فليس للمسلم أن يُقصر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما وجد إلى ذلك سبيلاً.

{وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ

(1)

مسلم في الإيمان، باب (بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص .. ) حديث رقم: (49)(1/ 69).

ص: 561

النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)} [الأنفال: الآية 26].

[أي: واذكروا حين كان]

(1)

عددكم قليل جدًّا مستضعفون في الأرض، أي: يستضعفكم أعداؤكم، يرونكم ضعفاء، ويعاملونكم معاملة القوي للضعيف، وهذا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا في [مكة]

(2)

قبل الهجرة عددهم قليل، والكفار يستضعفونهم، ويضربونهم، ويعذبون بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا مختفين في دار الأرقم بن أبي الأرقم قبل إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان لهم بعض عزة نسبيًّا بإسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما. واذكروا نعمة الله وتذكروا ما نقلكم به من حال الضعف إلى حال القوة، ومن حال القلة إلى حالة الكثرة، وتذكروا هذا الإنعام لتشكروا لمن أنعم عليكم به، وهذا معنى قوله:{وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ} القليل: ضد الكثير، والمستضعف: الذي يراه غيره ضعيفًا ويعامله معاملة القوي للضعيف.

{فِي الأَرْضِ} هي: أرض مكة التي كانوا فيها قبل الهجرة.

{تَخَافُونَ} الخوف في لغة العرب: هو الغم من أمر مستقبل. والحزن في لغة العرب: الغم من أمر فائت

(3)

-أعاذنا الله منهما- وربما وضعت العرب الخوف في معنى الحزن، والحزن في معنى الخوف.

(1)

في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

(2)

في الأصل: «المدينة» وهو سبق لسان.

(3)

مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام.

ص: 562

{تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} [الأنفال: الآية 26] التخطف: هو أن يَقَعَ منهم الخطف مرة بعد مرة. والخطف في لغة العرب معناه: الأخذ بسرعة، فكل ما أخَذْتَهُ بِسُرْعَة شديدة فقد خَطَفْتَهُ {أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} لقلتكم وضعفكم ليست لكم مناعة بكثرة ولا بقوة، فالناس قادرون على أن يتخطفوكم ويأخذوكم بسرعة واحدًا واحدًا فيقتلوكم.

{فَآوَاكُمْ} جل وعلا، أي: ضَمَّكُمْ إِلَى عِزَّةٍ ومَنَعَةٍ بأن ضمكم إلى هذه المدينة -حرسها الله- وقَوَّاكُمْ بالأنصار، هداهم فأسْلَمُوا، وكان لكم محل مأوى وقوة.

{وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} العرب تقول: «أَيَّدَهُ» إذا قَوَّاه. و «رجل أيِّدٌ» . معناه: قوي، و (الأَيْد) في اللغة و (الآد) معناه: القوة

(1)

، ومنه:{وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: الآية 47] أي: بقوة، فليست من آيات الصفات. ووزن (أَيْد):(فَعْل)

(2)

، أما (الأيدي) التي هي جمع (يَد) فوزنها بالميزان الصرفي (أفْعُل)

(3)

، فوزن قوله:{وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} أَيْد معناه: (فَعْل) من (أَيَدَ) بمعنى: القوة، والعرب تقول:«فلان أيِّد» أي: قوي، و «رجل ذو أيْد وآد» أي: ذو قوة {وَأَيَّدَكُم} قواكم بنصره.

والنصر في لغة العرب: إعانة المظلوم. نصرهم الله بالأنصار، وقواهم بكثرة المؤمنين وقوة شوكتهم، وبما أوقع بالكفار يوم بدر،

(1)

انظر: القاموس (مادة آد) ص41.

(2)

انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص41.

(3)

السابق ص294.

ص: 563

وبإنزال الملائكة تثبتهم، وتلقي الرعب في قلوب عدوهم. وهذا معنى قوله:{فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} كأن في الكلام محذوفًا دل المقام عليه {وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ} فقراء لا أموال لكم {فَآوَاكُمْ} الله وقواكم بنصره وجعل لكم الأموال {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} كما رزقكم بغنائم يوم بدر، وهو مال طيب أطابه الله لهم بعد أن لامهم عليه لومًا شديدًا، وقال:{لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} [الأنفال: الآية 68]، ثم قال بعد ذلك:{فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيِّبًا} [الأنفال: الآية 69] وهي الطيبات التي رزقهم {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: الآية 26] لله نعمه.

وقد قدمنا في هذه الدروس مرارًا

(1)

أن الشكر في القرآن يُطلق من الرب لعبده، ويُطلق من العبد لربه.

فإطلاق الشكر من الرب لعبده كقوله: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: الآية 34]{وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: الآية 158].

وإطلاقه من العبد لربه: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: الآية 13]{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: الآية 185].

فشكر الرب لعبده معناه: أن يُثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل.

وشكر العبد لربه قال بعض العلماء: ضابطه المنطبق على جزئياته: هو أن يستعمل جميع نعم الله فيما يرضي الله، فهذه العيون

(1)

راجع ما سبق عند تفسير الآية (53) من سورة البقرة.

ص: 564

التي فتحها في أوجهكم تبصرون بها، نعم عظمى منه إليكم، فشكرها: أن لا تستعملوها إلا في طاعة الله، ولا تنظروا بها إلا فيما يرضي من خلقها ومنّ عليكم بها، وهكذا الأيدي والأرجل وسائر النعم. أما العبد المسكين الضعيف الذي يُنعم عليه خالق السماوات والأرض بنعمه ثم يصرف نعمه فيما يسخطه ويغضبه فهذا مجنون. وهذا معنى قوله:{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: لأجل أن تشكروا على ذلك الإنعام.

ثم قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: آية 27] قال جماعة من المفسرين

(1)

: نزلت هذه الآية الكريمة في أبي لبابة بن عبد المنذر الأوسي الأنصاري رضي الله عنه، كان بنو قريظة حلفاء الأوس من الأنصار، وكان أبو لبابة صديقًا لهم، وكان في بني قريظة أمواله وأهله، فلما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة وأرادوا أن يُحكّموا فيهم سعد بن معاذ رضي الله عنه قال بنو قريظة -أرسلوا- للنبي أن يرسل إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه، وكان مناصحًا لقريظة يثقون فيه أشد الثقة، فلما جاءهم استشاروه: هل ينزلون على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار بيده إلى حلقه، يعني: أنه الذبح إذا نزلتم على حكمه. قال أبو لبابة رضي الله عنه: والله ما برحت قدماي مكانهما حتى علمت أني خنت الله ورسوله وخنت أمانته. فندم أبو لبابة رضي الله عنه ندمًا شديدًا، ولم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع من قريظة إلى هذا المسجد الشريف -مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فربط نفسه في سارية من سواري هذا المسجد، وحلف بالله أن لا يأكل ولا يشرب حتى يموت

(1)

انظر: القرطبي (7/ 394)، ابن كثير (2/ 300).

ص: 565

أو يتوب الله عليه، فمكث سبعة أيام لا يأكل ولا يشرب حتى خرّ مغشيًا عليه، فأنزل الله التوبة عليه، وقيل له:«تِيبَ علَيْكَ فحُل عنك الرّباط» فقال: «واللهِ لَا أحِلّه ولا يُحله عني غَيْرُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم» فجاء فحله عنه

(1)

.

وكان بعض العلماء يقول: إن الآية التي تاب الله عليه فيها هي التي بعد هذه وهي قوله: {إن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [الأنفال: الآية 29] فهو قد اتقى الله بالندم على ما فات منه، ونية أن لا يعود، وتأنيبه نفسه على الزلة التي صدرت منه بالعطش والجوع حتى خَرَّ مغْشِيًّا عليه، واعترافه بما وقع منه، وجعل الله له فرقانًا أي: مخْرَجًا من ذلك بأن تاب عليه كما يأتي في شرحها. وهذا معنى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَخُونُواْ اللَّهَ} [الأنفال: الآية 27] خيانة الله: هي تقصيرهم في امتثال أوامره واجتناب نواهيه، وخيانة الرسول: هي التقصير في طاعته كهذا الصحابي الذي أفشى سِرَّهُ إلى يهود بني قريظة، فقد خان الله ورسوله ثم تاب الله عليه.

{وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ} لأن جميع التكاليف كلها أمانات عند

(1)

روى هذا الحديث جماعة منهم:

1 -

الزهري. عند ابن جرير (13/ 481)، وعزاه في الدر (3/ 178) لسنيد.

2 -

عبد الله بن أبي قتادة مرسلاً (مختصرًا). عند ابن جرير (13/ 482)، وابن أبي حاتم (5/ 1684)، وعزاه في الدر (3/ 178) لسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.

3 -

الكلبي. وعزاه في الدر (3/ 178) لعبد بن حميد.

4 -

السدي. وعزاه في الدر (3/ 178) لأبي الشيخ.

وذكره الواحدي في أسباب النزول ص235 من غير تعيين راويهِ.

ص: 566

المكلفين كما سيأتي إيضاحه في قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب: الآية 72].

وكان بعض العلماء يقول

(1)

: الأمانات: أوامر الله ونواهيه التي لا يطّلع عليها أحد ولا يعلمها إلا هو؛ لأن الإنسان في بيته قد تكون عليه الجنابة لا يعلم بها الناس، وقد يكون عليه الحدث، وقد يجيء المسجد ولم يغتسل ولم يصل، وقد يغتسل وقد يصلي. هذه أمانات أمَّنَها الله عند هذا لا يعلمها إلا هو، فليس عليه أن يخونها.

والتحقيق: أن الأمانة تشمل جميع التكاليف.

[3/ب] / [وقوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)} [الأنفال: الآية 28].

نزلت هذه الآية في أبي لبابة رضي الله عنه حين قالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار]

(2)

بيده إلى حلقه أنه الذبح إن نزلتم على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه. كان سبب ذلك أن أولاده وماله في بني قريظة فأشفق على أولاده وماله، فأنزل الله:{وَاعْلَمُواْ} أيها الناس {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}

(3)

أي: ابتلاء واختبار كما أوقع الأموالُ والأولادُ - الإشفاقُ عليهم - أوقع أبا لبابة في الزلة {وَأَنَّ اللَّهَ} جل وعلا {عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أجر الله أعظم من

(1)

انظر: ابن جرير (13/ 485).

(2)

في هذا الموضع انقطع التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

(3)

في الروايات التي وقفت عليها أن الآية النازلة فيه هي الآية قبلها، وهي قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَخُونُواْ اللَّهَ} وذلك أنه كان حليفًا لهم، فلما قدم إليهم قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرقَّ لهم

إلخ.

ص: 567

الأموال والأولاد، فما عند الله خير من غيره، وهذا معنى قوله:{وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: الآية 28].

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَاّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُواْ اللهمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} [الأنفال: الآيات 29 - 33].

يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)} [الأنفال: الآية 29] نادى الله المؤمنين في هذه الآية الكريمة باسم الإيمان، وبين لهم أنهم إن اتقوا الله فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه أنه يجعل لهم بسبب ذلك فرقانًا فيغفر لهم الذنوب ويكفر عنهم السيئات {إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ} أيها المؤمنون بامتثال أمره واجتناب نهيه {يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} روى ابن وهب وابن القاسم عن مالك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله أنه سُئل عن قوله:{إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} قال: معناه يجعل لكم مخرجًا. وتلا قوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا}

(1)

[الطلاق: الآية 2] والعرب تسمي المخرج من الشيء: فرقانًا. كأنه مصدر زيدت فيه الألف والنون؛ لأن من كان في

(1)

انظر: القرطبي (7/ 396).

ص: 568

كرب من كروب الدنيا أو الآخرة وقد فارقه ووجد منه مخرجًا كأنه وجد فارقًا يفرق بينه وبينه ويفصل بينه وبينه. وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومن إطلاق الفرقان بمعنى المخرج قول الراجز

(1)

:

ما لَكَ مِنْ طُولِ الأَسَى فُرْقَانُ

بَعْدَ قَطِينٍ رَحَلُوا وَبَانُوا

أي: ما لك من طول الأسى مخرج، ومنه قول الآخر

(2)

:

وكيف أُرَجِّي الخُلد والموتُ طالبي

وَمَا لِيَ مِنْ كَأْسِ المَنِيَّةِ فُرْقَانُ

أي: ما لي من الموت مخرج ولا بد.

وقال بعض العلماء: {فُرْقَانًا} : نصرًا وتأييدًا؛ لأن الله سمى يوم بدر: (يوم الفرقان) في قوله: {إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال: الآية 41] لأنه يوم نصر فَرَقَ الله به بين الحق والباطل بأن نصر الفئة المؤمنة القليلة على الفئة الكافرة الكثيرة.

قال بعض العلماء: فرقانًا: فَتْحًا.

وقال بعض العلماء: يجعل الله لكم بسبب تقوى الله فُرْقَانًا، أي: علمًا تُفَرِّقُون به بين الحق والباطل، والحسن والقبيح. والأقوال متقاربة

(3)

. وتقوى الله (جل وعلا) كفيلة بكل خير من خيري الدنيا والآخرة {وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [الأنفال: الآية 29] مادة الكاف والفاء والراء في لغة العرب أصل معناها: الستر والتغطية

(4)

. فمعنى:

(1)

البيت في السابق.

(2)

المصدر السابق.

(3)

انظر: الأضواء (2/ 349).

(4)

مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأعراف.

ص: 569

{وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي: يسترها ويغطيها بحلمه وعفوه حتى لا يظهر لها أثر تتضررون به {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} كذلك الغفران معناه أيضًا: الستر والتغطية؛ لأنه (جل وعلا) يغفر الذنوب، أي: يَسْتُرها ويغطيها

(1)

. فالتعبير بالتكفير والغفران كلاهما معناه ستر الذنوب وتغطيتها حتى لا يظهر لها أثر. وفي ذلك التوكيد من الترغيب في التقوى ما لا يخفى، {وَاللَّهُ} جل وعلا {ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ففضله عظيم، ومن فضله ما تَفَضَّلَ عليكم به، وما نصركم به يوم بدر، وغير ذلك من فضله وإنعامه العظيم. قال بعض علماء التفسير: هذه الآية الكريمة من سورة الأنفال هي التي نزلت فيها توبة الله على أبي لبابة لما قال ما قال لِبَنِي قُرَيْظَةَ، وجاء تائبًا إلى الله نادمًا، وربط نفسه في سارية من سواري هذا المسجد الكريم، وحلف أن لا يأكل ولا يشرب حتى يموت أو يتوب الله عليه، وأُغشي عليه بعد سبع فتاب الله عليه، قالوا: هذه فيها توبته؛ لأنه اتقَى الله بالندم على ما فات، والإقلاع، وربطه نفسه، واعترافه بالزلة، فجعل الله له من زلته في بني قريظة فرقانًا، أي: مخرجًا أخرجه به من مَأْزق الذَّنْب، وتاب عليه (جل وعلا)، هكذا قاله بعض العلماء، والله تعالى أعلم، وهذا معنى قوله:{إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: الآية 29] فضله عظيم على خلقه إذ يتفضل عليهم بخيرات الدنيا والآخرة.

{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال: الآية 30].

(1)

مضى عند تفسير الآية (155) من سورة الأعراف.

ص: 570

قال بعض العلماء: هذه الآية من سورة الأنفال مكية

(1)

، مع أن الأنفال مدنية. والأظهر أن هذه الآية كغيرها من سورة الأنفال مدنية؛ وذلك أن الله لما فتح على نبيه، ونصره يوم بدر، وأنزل سورة الأنفال في وقعة بدر، ذكَّر نبيه بنعمه الماضية عليه في مكة قبل هجرته منها، وعرَّفه إنعامه عليه حيث أنجاه من مكر أعدائه {وإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [الأنفال: الآية 30]. واذكر يا محمد -صلوات الله وسلامه عليه- أيام كنت في مكة بعد أن مات عمك الذي كان ينصرك ويحوطك، وهو أبو طالب، وتمكنت قريش من أن يؤذوك ويخرجوك، ودبروا لك ذلك المكر العظيم، اذكر إنعامي حيث مكرتُ بهم وجعتلها عليهم لا لهم. واذكر إذ {يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} المكر: المكيدة، وهو إخفاء الكيد ليوصل الشر إلى الممكور به في خفاء.

{الَّذِينَ كَفَرُواْ} كفار مكة؛ وذلك أن أشراف قريش اجتمعوا في دار الندوة يتشاورون في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وجاءهم شيخ في صفة شيخ جليل، فقالوا له: ممن أنت؟ فقال: أنا شيخ من أهل نجد، وهو الشيطان، تمثل لهم في صورة ذلك الشيخ، قال لهم: لست من أهل تهامة وإنما أنا من أهل نجد -وكان أهل نجد في ذلك الوقت كفارًا، وقريش يثقون فيهم لكفرهم، وأن الجميع على ملة واحدة- قال لهم إبليس في صفة ذلك الشيخ اللعين: سمعت أنكم تجتمعون لتتشاوروا في رأي هذا الرجل فجئتكم، ولا تعدمون مني رأيًا حسنًا في هذا الأمر.

فقال بعض قريش - فقالوا: ممن قاله: أبو البختري -: خلونا

(1)

انظر: ابن جرير (13/ 502).

ص: 571

نكبله بالحديد، ونسجنه في دار، ونقفل بابها، ولا تترك إلاّ كوة ندخل إليه منها الطعام والشراب ونتربص به الدوائر حتى يموت كما مات من قبله من الشعراء، زهير والنابغة وأمثالهم من الشعراء، وفي ذلك يقول الله:{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30)} [الطور: الآية 30] وهذا الرأي هو المراد بقوله: {لِيُثْبِتُوكَ} [الأنفال: الآية 30] أي: يكبلوك بالحديد ويسجنوك ويتربصوا بك الدوائر حتى تموت.

وقال بعضهم: ويروى أن ممن قاله هشام بن عمرو: اطردوه عنا، نجعله على بعير ونبعده من أرضنا وما علينا ما فعل.

فلما قال أبو البختري الرأي الأول قال له ذلك الشيخ الذي في صورته الشيطان: بئس الرأي رأيك، هذا ليس برأي؛ لأنكم إن أثبتموه بقيود الحديد وأغلقتم عليه الأبواب جاء قومه فأخرجوه وقاتلوكم عليه حتى يخرجوه، وهذا ليس برأي.

فلما قال الثاني: نبعده ونطرده من بلادنا وما علينا فيما فعله هو وسائر العرب. فقال ذلك اللعين: بئس الرأي الذي رأيت، أنتم تعلمون حلاوة لسانه، واستجلابه لقلوب الناس، فإذا خرج عنكم فلا يأمن أن يأخذ بقلوب الناس حتى يكونوا تبعًا له، ثم يغزوكم في بلادكم.

فقال اللعين عمرو بن هشام بن المغيرة المعروف بأبي جهل: الرأي عندي الذي لا رأي غيره: أن تأخذوا من كل قبيلة من قريش شابًّا، وتعطوه سيفًا صارمًا، فيأتيه ذلك الشباب من جميع قبائل قريش فيبتدرونه فيضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في قبائل

ص: 572

قريش، ولا أرى هذا الحي من بني هاشم يقدرون على محاربة جميع قريش، فعند ذلك سيرضون بالدِّية، فإذا رضوا بديته دفعنا لهم عقله واسترحنا منه.

فقال ذلك اللعين: هذا هو الرأي الذي لا رأي غيره، أما هذا الفتى فهو أجودكم رأيًا. وهذا معنى قوله:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ} أي: بالسجن وقفل الأبواب عليك {أَوْ يُخْرِجُوكَ} إلى غير مكة من البلاد {أَوْ يَقْتُلُوكَ} قتلة رجل واحد حتى يتفرق دمك في قبائل قريش. {وَيَمْكُرُونَ} هذا المكر ليوصلوا إليك الشر في خفية. {وَاللَّهُ} جل وعلا {خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: الآية 30]- مكر لك بهم، وأخرجك، ونجاك، وأظفرك بهم يوم بدر حتى قتلتهم وأسرتهم، هذا مكرهم وهذا مكر الله.

ولما أجمعوا على هذا الرأي، واتفقت عليه كلمة الجميع، جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بجميع ما قالوا، وقال له:«لا تَبِت الليلة في موضع مبيتك» فنادى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأمره أن ينام في المحل الذي كان ينام فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج رسول الله، وقريش محدقون بمنزله، ينتظرون أن يخرج فيقتلوه القتلة التي أشار عليهم بها أبو جهل وإبليس، فأعمى الله عيونهم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ أوائل سورة (يس) وفي يده تراب، فَذَرَّ التراب على رؤوسهم ويقرأ إلى قوله:{فَأَغْشينَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}

(1)

[يس: الآية 9] وأذن له في ذلك الوقت في الهجرة

(1)

مصنف عبد الرزاق (5/ 389)، الطبقات لابن سعد (1/ 153)، تاريخ الطبري (2/ 242)، تفسير الطبري (13/ 294، 498)، السيرة لابن هشام ص502.

ص: 573

فخرج هو وصاحبه إلى الغار، فانتظرت قريش حتى الصبح، فوثبوا عليه ليقتلوه، فوجدوا المكان فيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري! فاقتصوا أثره حتى جاءوا الجبل الذي فيه الغار فخفي عليهم أثره، وجاءوا الغار، قال بعض علماء السير: فوجدوا على الغار نسج العنكبوت

(1)

،

فقالوا: لو دخل هنا لما كان على الغار نسج العنكبوت، ومكث هو وصاحبه في الغار ثلاث ليال -كما قاله بعضهم- واتفقوا مع عبد الله بن الأريقط من بني دئل من كنانة، وأعطوه مراكبهم، وجاءهم في الوعد؛ لأنهم في ذلك الوقت محتاجون إلى دليل خبير بالأرض فيما بين مكة والمدينة؛ لأن الطرق السابلة المعروفة عليها العيون والرصد؛ لأن قريشًا جعلت الجعائل والأموال الطائلة لمن يأتيها بمحمد صلى الله عليه وسلم، فصار يحتاج إلى أن يمشي في طرق غير معهودة، وسبل غير معروفة، فآجر لذلك عبد الله بن الأريقط الدئلي، فلما كان بالموعد وأيس قريش من أن يجدوه ورجعوا جاءه فركبوا، وأخذ بهم طرقًا غير الطرق المعهودة فلم يطلع عليهم أحدٌ من العرب، حتى مروا ببلاد بني مدلج بن بكر بن كنانة، ذكرهم أحد فقال: أخاف أن يكون هو الرجل الذي يطلبه قريش. فقال له سراقة بن مالك بن جعشم رضي الله عنه:

(1)

قصة نسج العنكبوت هذه أخرجها أحمد (1/ 348)، وعبد الرزاق (5/ 389)، وابن سعد (1/ 154)، وابن جرير في التفسير (13/ 497). وقد حسنها الحافظان: ابن كثير وابن حجر. انظر: البداية والنهاية (3/ 181) وقال: «هذا إسناد حسن، وهو من أجود ما رُوي في قصة نسج العنكبوت على فم الغار» اهـ. يعني إسناد الإمام أحمد. وانظر الفتح (7/ 236)، أحاديث الهجرة ص138 - 140 ..

ص: 574

ليس هو. يريد أن يستأثر بأخذه؛ ليأخذ المال من قريش، فركب على فرسه في أثرهم، وقصته مشهورة، وعلماء التاريخ يقولون: إن فرسه ساخت به في الأرض، وكاد أن تبتلعه الأرض مرات، وأنه طلب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب له أمانًا

(1)

ورجع خائبًا لم ينل النبيَ صلى الله عليه وسلم بسوء. وسافر في الهجرة، ومر في سفره هذا بالجحفة، ونزلت عليه في الطريق في الجحفة آية:{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ}

(2)

[القصص: الآية 85] حتى جاء الأنصار رضي الله عنهم. وهذا معنى قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال: الآية 30].

وفي قصة الهجرة هذا دليل يبين للناس ويوضح لهم حقيقة أمر ضل فيه الآن أكثر الناس؛ لأن غالب الناس الآن -وإنا لله وإنا إليه راجعون- اجترفتهم التيارات، فذهبوا يقلدون كل ناعق من كفرة الإفرنج وملاحدتهم؛ لأنهم رأوا عندهم بعض القوة المادية وبعض الصنائع، ولو كانوا يقتفون أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلمون كيف كان يفعل لعرفوا ما يأخذون من ذلك وما يتركون؛ لأن المسلمين يجوز لهم أن يأخذوا من الكفار ما ينفعهم من علوم الكفار الدنيوية، وألاّ يتبعوهم في شيء مما يمس دينهم وطاعة ربهم -جل وعلا- وهذا

(1)

البخاري في فضائل الصحابة، باب مناقب المهاجرين وفضلهم، حديث رقم:(3652)(7/ 8)، وأخرجه في موضعين آخرين، انظر الحديثين رقم:(3906، 3908)، ومسلم في الزهد والرقائق، باب في حديث الهجرة، حديث رقم:(2009)(4/ 2309)، كما أخرجه في موضع آخر قبله (3/ 1592).

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك مرسلاً (9/ 3026)، وانظر ابن كثير (3/ 402 - 403).

ص: 575

النبي صلى الله عليه وسلم لمّا تكالبت عليه قوى الشر، واتفق الكفار وشيخهم إبليس على أن يمكروا به، واضطر إلى خبير له خبرة بالأرض، ووجد رجلاً كافرًا هو عبد الله بن الأُريقط لم يمنعه كفره من أن يستفيد من خبرته الدنيوية، فاستفاد من خبرته حتى أوصله المدينة بسلام، ومع ذلك لم يأخذ عنه من الكفر شيئًا، بل هو مرضٍ ربه. فعلى المسلمين أن يعتبروا بأمثال هذا، وينتفعوا من الكفار بخبرتهم الدنيوية، ولا يتبعوهم فيما يضر دينهم ويسخط ربهم. وأمثال هذا كثيرة، وسنضرب لكم بعض الأمثلة منها:

من ذلك ما يأتي في تفسير سورة الأحزاب من تفاصيل وقعة الخندق، وأن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يذكره الأخباريون لما سمع بمقدم أهل الأحزاب قال له سلمان الفارسي: كنّا إذا خفنا خَنْدَقْنَا

(1)

. والخندق هذا هو خطة عسكرية ابتدعتها أفكار الفرس، وهم قوم يعبدون النار، فالنبي صلى الله عليه وسلم لعلمه ومعرفته بالخير والشر لم يمنعه من هذه الخطة العسكرية أن الذين اخترعوها كفرة، بل انتفع بعلم الكفرة الدنيوي وخَنْدَق، مع أنه لا يقلدهم في شيء يضر بدينه صلوات الله وسلامه عليه.

ومن أمثلة ذلك ما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه هَمَّ أن يمنع وطء النساء المراضع؛ لأن العرب كانوا يزعمون أن الرجل إذا أتى امرأته في رضاعها أن ذلك يُضعف ولدها، ويضعف عظمه، وكانوا إذا ضرب الرجل ونبا سيفه عن الضريبة ولم يقطع قالوا: هذا وُطئت أمه وهو يرضع؛ لأن الغيلة تضعف الرجال،

(1)

مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

ص: 576

وكان شاعرهم يقول

(1)

:

فَوارسُ لم يُغالُوا في رَضَاعٍ

فَتَنْبُو في أكُفِّهم السُّيُوفُ

فأخبرته فارس والروم أنهم يفعلون ذلك ولا يضر أولادهم

(2)

. فأخذ هذه الخطة الطبية من فارس والروم وهم كفرة، وأخذ تلك الخطة العسكرية من الفرس وهم كفرة، وانتفع بخبرة ذلك الخبير الكافر وهو كافر.

وهذا يعلمنا أن نفرق بين حضارة الإفرنج -عليهم لعائن الله- ونفصل بين ضارها ونافعها، فننتفع بنافعها وهو منافعها الدنيوية، ونجتنب سمومها الفتاكة القاتلة، وهي ما تدعو إليه من سوء الأخلاق وضياع كل قيمة، والتمرد على خالق السماوات والأرض (جل وعلا). ففيها ماء زلال وسُمٌّ قاتل، فعلينا أن نجتنب السم، ونأخذ الماء الزلال كما كان صلى الله عليه وسلم يفعل كما مثلنا له

(3)

.

ومن المؤسف كل المؤسف أن الذين صار عندهم شيء من هذه القشور التي يعبرون عنها بالتقدم والحضارة وأمثال ذلك لا يأخذون عن الكفار إلا السم القاتل الفتاك، من الانحلال الخلقي، وضياع الأخلاق، والتمرد على نظام السماء، ومجاهرة رب العالمين بالمعاصي، والتزهيد في القرآن وفي الرسل، في الوقت الذي لا ينتفعون من مائها الزلال وقوتها المادية شيئًا!! فإنا لله وإنا إليه راجعون من عاقل يأخذ السم ويترك الماء، فهذا من طمس البصائر

(1)

مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

(2)

تقدم تخريجه في الموضع السابق.

(3)

السابق.

ص: 577

لا يعلمه إلا من رآه؛ ولذا قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال: الآية 30] مكرهم: هو ما أرادوا من قتل النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما أجمعوا عليه، وتفرّق دمه في قبائل قريش. ومكر الله: هو أن نَجَّاهُ مِنْهُمْ، وأنْقَذَهُ منهم، وأدْخَله في الغار لحكمة يعلمها (جل وعلا) مع أنه قادر على أن يهلكهم بالجنود، ومع أنه مختفٍ منهم في الغار، فجنود السماء حوله تحوطه لا يقدر أحدٌ أن يأتيه، كما سيأتي في براءة في قوله:{إِلَاّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} [التوبة: الآية 40] تلك الجنود يعلمها الله ويراها، والناس لا يرونها، فالكفار لا يقدرون على شيء معها، ولكن الله أمره بهذه الأسباب، مع أن جنود الملائكة تحوطه لحكمة يعلمها هو (جل وعلا)، وهذا معنى قوله:{وَاللَّهُ} جل وعلا {خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} لأن مكره بالغ من الجمال ما لا يخفى؛ لأنه لا يوصل الشر فيه إلا لمن يستحق الشر، ولا يدفع الشر فيه إلا عمن هو أهل أن يدفع عنه الشر كما لا يخفى.

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَاّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (31)} [الأنفال: الآية 31].

قال بعض العلماء

(1)

: نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث بن كلدة العبدري، كان ذهب في تجارته إلى بلاد فارس، وجاء الحيرة

(1)

انظر: ابن جرير (13/ 503)، تفسير ابن أبي حاتم (5/ 1689). ابن كثير (2/ 304).

ص: 578

وغيرها، واشترى كتبًا وفيها تاريخ رستم وإسفنديار، وكان إذا وجد النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن ويقص فيه أخبار الأمم الماضية. جلس هو يقرأ عليهم من تلك الأساطير من أخبار رستم وإسفنديار ويقول لهم: أنا آتي بمثل ما يأتي به محمد.

وقال بعض العلماء: إن قريشًا كذبوا فقالوا: نحن نقدر على أن نتكلم بمثل هذا القرآن، وهذا معنى قوله:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا} [الأنفال: الآية 31] سمعنا هذا الذي يتلوه لو نشاء معارضته بمثله لقلنا مثله، وقدرنا على الإتيان بمثله، وهذا كذب محض منهم، سواء قلنا: إن قائله النضر بن الحارث، وأنه يعارضه بأساطير الأولين مما أتى به من تاريخ فارس، أو قلنا: إنه قاله غيره من قريش، ومعلوم أن القرآن العظيم لا يقدر أحدٌ أن يأتي بمثله، وأن هذه الدعوى كاذبة، وأن صاحبها من أظلم الظالمين كما قدمنا إيضاحه في سورة الأنعام في تفسير قوله:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شيء وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ} [الأنعام: الآية 93] أي: لا أحد أظلم من هذا ولا هذا.

فقد ذكرنا مرارًا أن الله تبارك وتعالى تحدى الكفار بسورة من هذا القرآن العظيم، في سورة واحدة، في سورة البقرة وسورة يونس، قال في سورة البقرة:{وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)} [البقرة: الآية 23] ثم قال: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} [البقرة: الآية 24] فصرّح بأنهم لن يفعلوا أبدًا ولا يقدرون أبدًا، وتحداهم بسورة واحدة أيضًا في سورة يونس في قوله:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38)} [يونس: الآية 38] وتحداهم في سورة هود

ص: 579

بعشر سور، قال في هود:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (13)} [هود: الآية 13] ثم أوضح عجزهم وأنه منزل من رب العالمين حيث قال: {فَإلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} [هود: الآية 14] ثم تحداهم في سورة الطور بالقرآن كله، وذلك في قوله:{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ (34)} [بالطور: الآية 34]. ثم صرّح في سورة بني إسرائيل وهي سورة (سبحان الذي أسرى) أن جميع البشر من الإنس والجن لا يقدرون على معارضة هذا القرآن، ولا الإتيان بمثله حيث قال:{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: الآية 88] وبذلك يُعلم كذب النضر بن الحارث وغيره من قريش في قوله: {قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا} [الأنفال: الآية 31] مفعول (نشاء) محذوف- لو شئنا قولاً مثل هذا لقلناه. وقد قدمنا مرارًا

(1)

أن فعل المشيئة إذا عُلق بأداة الشرط يُحذف مفعوله؛ لأن جزاء الشرط يكفي عنه، وهو الغالب في القرآن وفي لغة العرب، وربما ذكر المفعول في القرآن، ولم أجده مذكورًا في كتاب الله إلا إن كان مصدرًا منسبكًا من (أن) وصلتها، كقوله:{لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ} [الأنبياء: الآية 17]{لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الزمر: الآية 4] وربما ذُكر مثل هذا في كلام العرب، ومنه قول الشاعر

(2)

:

وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِي دَمًا لَبَكَيْتُهُ

عَلَيْك وَلَكِنْ سَاحة الصَّبرِ أوسَعُ

(1)

مضى عند تفسير الآية (35) من سورة الأنعام ..

(2)

السابق.

ص: 580

وهذا معنى قوله: {لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَاّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} (إن) هذه هي النافية، والإشارة في (هذا) إلى القرآن المعبَّر عنه بالآيات التي تتلى في قوله:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} أي: تُلي عليهم هذا القرآن قالوا: كذا وكذا، وقالوا:{إِنْ هَذَا} ما هذا القرآن المعبَّر عنه بالآيات التي تتلى {إِلَاّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} الأساطير: جمع أسطورة أو إسطارة، وهي ما كتبته الأمم الماضية من تاريخ ونحوه

(1)

، كما كان النضر بن الحارث يأتي بالأساطير التي كانت مكتوبة عن فارس، وهذا معنى قولهم:{إِنْ هَذَا إِلَاّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} [الأنفال: الآية 31] يزعمون أن النبي استملاها من غيره، فأملاها عليه غيره فكتبها، كما قال في سورة الفرقان:{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5)} [الفرقان: الآية 5] قبحهم الله، ما أوضح كذبهم! وهذا معنى قوله:{إِنْ هَذَا إِلَاّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} [الأنفال: الآية 31].

ثم قال تعالى: {وَإِذْ قَالُواْ اللهمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} [الأنفال: الآيتان 32، 33] ثبت في صحيح مسلم والبخاري من حديث أنس بن مالك أن قائل هذه المقالة: أبو جهل -لعنه الله- عمرو بن هشام بن المغيرة

(2)

. والأكثرون من المفسرين

(1)

انظر: المفردات للراغب (مادة: سطر) ص409، المعجم الوسيط (مادة: سطر) (1/ 429).

(2)

البخاري في التفسير، باب:{وَإِذْ قَالُواْ اللهمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ} حديث رقم: (4648)(8/ 308). ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم، باب قوله تعالى:{وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} . حديث رقم: (2796)(4/ 2154).

ص: 581

يقولون

(1)

: إن قائل هذه المقالة: النضر بن الحارث، وهذا الدعاء هو العذاب الأليم المذكور في أول سورة المعارج سورة سأل سائل

(2)

{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ} أي: دعا داع {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرينَ} [المعارج: الآيتان 1، 2] قالوا: هو قوله: {اللهمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: الآية 32]. ولن يُعْقَل أحمق من قريش حيث قالوا: {إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً} . ولو كانوا في مرتبة أدنى العقلاء لقالوا: إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه!! زعم بعضهم

(3)

: أن يهوديًّا مر بابن عباس وقال له: أنت من قريش؟! قال: نعم.

قال: إن قومك من أجهل خلق الله حيث قالوا: {إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا} ولم يقولوا: فاهدنا إليه!! فقال له ابن عباس: وكذلك قومك أنت من أجهل خلق الله فإنهم وأرجلهم بها بلل البحر الذي أنقذهم الله منه وأهلك به عدوهم، قالوا في ذلك الوقت لنبيهم {اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} فقال نبيهم:{إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: الآية 138] فسكت

(1)

انظر: ابن جرير (13/ 505)، ابن كثير (2/ 304).

(2)

النسائي في التفسير (2/ 463)، والحاكم (2/ 502)، وابن أبي حاتم (5/ 1690)، والواحدي في أسباب النزول ص445، وعزاه في الدر (6/ 263) للفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.

(3)

نقله القرطبي (7/ 398) مُصَدِّرًا له بقوله: «حُكي عن ابن عباس

». ولم يعزه.

ص: 582

اليهودي مفحمًا. وعلى كل حال من يقول مقالة قريش هذا فهو من أجهل خلق الله، وأشدهم تمردًا وعتوًّا على الله.

وقوله: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ} ذكروا عن سفيان بن عيينة أنه ما جاء في القرآن العظيم المطر إلا بمعنى العذاب، أما الماء النازل قال: فإن العرب تقول له الغيث

(1)

. كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى: الآية 28] واستدرك عليه بعض العلماء

(2)

، قال: في سورة النساء كلمة أطلق فيها المطر على النازل من السماء وهي قوله: {إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى} [النساء: الآية 102].

ومعنى: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً} . معناه: أنزلها من السماء متتابعة كما ينزل المطر، وهي حجارة السجيل التي تنزل من السماء محماة بالنار في غاية الحرارة. والحجارة: جمع حجر، وجمع (فَعَل) على (فِعَالَة) موجود في أوزان قليلة، كحجر وحِجارة، وجَمَل وجِمَالة، وذَكَر وذِكَارَة. وهذا الجمع وجوده قليل، وهو من جموع الكثرة.

{مِّنَ السَّمَاءِ} تكون هذه الحجارة نازلة من السماء، وذلك مفهوم من قوله:{فَأَمْطِرْ} إلا أن هذا النوع من التوكيد أسلوب عربي معروف كثير في القرآن وفي كلام

(1)

أورده البخاري في التفسير، في ترجمة باب {وَإِذْ قَالُواْ اللهمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ

} الفتح (8/ 308).

(2)

انظر: فتح الباري (8/ 308)، فقه اللغة للثعالبي ص353، المفردات للراغب ص770، تفسير ابن عاشور (1/ 124).

ص: 583

العرب

(1)

، كقوله:{وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: الآية 38] ومعلوم أنه لا يطير إلا بجناحيه وقوله: {يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: الآية 79] ومعلوم أنه لا يكتبونه إلا بأيديهم. {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} [النساء: الآية 10] وهم لا يأكلون إلا في بطونهم. وكذلك قوله: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا} قوله: {مِّنَ السَّمَاءِ} مع أنه لا مطر إلا من السماء.

وهذا معنى قوله: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} قرأه بعضهم بتسهيل الهمزة الثانية، وبعضهم بتحقيقها، وبعضهم بإبدالها ياءً. وكلها قراءات معروفة

(2)

. وهذا معنى قوله: {أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: الآية 32] أي: مؤلم شديد الألم.

ثم إن الله قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} [الأنفال: الآية 33] هذه الآية الكريمة تُشكل كثيرًا على العلماء وعلى من يتعاطون التفسير

(3)

، ونحن -إن شاء الله- سنوضح ما فيها من الإشكال حتى يفهمها طالب العلم فهمًا واضحًا، حاصل هذا أنه أولاً جعل لهم أمانين من العذاب:

أحد الأمانين: وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، وهو قوله:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} لأن الله (جل وعلا) لم ينزل

(1)

مضى عند تفسير الآية (79) من سورة البقرة، والآية (48) من سورة الأنعام، وانظر: الدر المصون (5/ 597).

(2)

مضت عند تفسير الآية (77) من سورة الأعراف.

(3)

انظر: ابن جرير (13/ 509)، ابن كثير (2/ 305).

ص: 584

العذاب بأمة ونبيها موجود فيها، بل إذا أراد إنزال العذاب بهم أمر نبيهم أن يخرج عنهم فينزل عليهم العذاب بعد أن فارقهم.

الأمان الثاني هو المذكور في قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} .

ومع ذكر الأمانين قال بعده: {وَمَا لَهُمْ أَلَاّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} [الأنفال: آية 34] أيُّ شيء ثبت لهم يمنعهم من التعذيب {وَهُمْ يَصُدُّونَ} الناس {عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ، ويفعلون ويفعلون؟ فيقول طالب العلم: كيف يقول: إن لهم أمانين ويصرح بأنه لا شيء يمنعهم من العذاب؟ هذا محل الإشكال الذي أشكل على كثير من المنتسبين للعلم.

والجواب عن هذا من أربعة أوجه:

أحدها: أن المعنى: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فبقي المستغفرون.

واعلموا أن هذا الاستغفار فيه أقوال معروفة عند العلماء متقاربة لا يكذب بعضها بعضًا، كل واحد منها مروي عن جماعة من السلف من علماء التفسير

(1)

، قال بعض العلماء:{وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} هذا من إطلاق المجموع مُرادًا به بعضه، وأن المراد بالمستغفرين خصوص المؤمنين المستضعفين. الكائنين بين أظهرهم، ومن أساليب اللغة العربية: إطلاق المجموع مرادًا بعضه

(2)

. كما قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} [الشمس: الآية 14] والعاقر واحد،

(1)

المصدران السابقان.

(2)

مضى عند تفسير الآية (72) من سورة البقرة.

ص: 585

كما قال تعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29)} [القمر: الآية 29] ومما يوضح هذا قراءة حمزة والكسائي

(1)

: {فإن قتلوك فاقتلوهم} [البقرة: الآية 191] بالفعلين من القتل بالفعل المجرد؛ لأن المقتول لا يقتل قاتله، والمعنى: فإن قتلوكم، أُسند الفعل إلى مجموعهم الصادق ببعضهم وهو المقتولين، والمراد بالقتال: الذين بقوا ولم يُقتلوا منهم. وهذا أسلوب عربي معروف، ونظيره في القرآن بأن الله بين في سورة الحديبية أن وجود أولئك المستضعفين كان سببًا مانعًا من نزول العذاب الدنيوي بالكفار، كما سيأتي إيضاحه في تفسير قوله:{وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ} إلى قوله: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: الآية 25]{لَوْ تَزَيَّلُوا} أي: لو يتميز بعضهم عن بعض، فتميز المشركون عن ضعفاء المسلمين الكائنين فيهم لعذبناهم عذابًا شديدًا، فرفع الله عنهم العذاب لوجود ضعفاء المسلمين الكائنين بين أظهرهم. والذين قالوا هذا القول قالوا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فبقي لهم أمان، وهو استغفار المؤمنين الكائنين فيهم، منع الله به أن ينزل العذاب؛ لأنه إذا نزل عَمَّ الصالح والطالح.

فبعد ذلك خرج المؤمنون الذين كانوا يستغفرون فقال: {وَمَا لَهُمْ أَلَاّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} [الأنفال: الآية 34] وقد زال عنهم الأمانان بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخروج المستضعفين الذين كانوا يستغفرون.

واختار كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير رحمه الله

(2)

أنه جعل لهم أمانين: أحدهما على التعليق، والمعنى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ

(1)

السابق.

(2)

جامع البيان (13/ 517).

ص: 586

لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} [الأنفال: الآية 33] لو استغفروا. إلا أنك أنت خرجت وهم لم يستغفروا فانتفى الأمانان فحق عليهم العذاب؛ ولذا قال: {وَمَا لَهُمْ أَلَاّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الأنفال: الآية 34]. وهذا معنى معروف في كلام العرب؛ لأن المعنى: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون لو استغفروا، إلا أنهم لم يستغفروا فصار لا مانع من العذاب، كما قال تعالى:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)} [هود: الآية 117] أي: لو كانوا مصلحين لما نزل بهم العذاب، لكنهم لم يصلحوا فنزل بهم العذاب.

وقال بعض العلماء: المستغفرون هم المشركون، وذلك أنهم كانوا إذا لبوا تلبيتهم المعروفة وقالوا:«لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك» ابتهلوا بعد ذلك يستغفرون وقالوا: «غفرانك ربنا، غفرانك ربنا، غفرانك ربنا» قال بعض العلماء: هذا الاستغفار الدنيوي دفع لله عنهم به العذاب. وهذا أضعفها وأبعدها.

القول الثاني: أن معنى {يَسْتَغْفِرُونَ} : يتوبون إلى الله من كفرهم ويُسلمون؛ لأن الله علم بأن في أهل مكة وقت قولهم: {إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: الآية 32] علم بعلمه الأزلي أن فيهم ناسًا وطائفة سينيبون إلى الله ويستغفرونه ويؤمنون بالله كما آمنت خلائق منهم يوم الفتح وناس قبل ذلك. وعلى هذا القول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ} في علمه {يَسْتَغْفِرُونَ} ويتوبون من الكفر إلى الإيمان، فلذلك أخَّر عنهم العذاب.

ص: 587

وعلى هذا القول: فقوله: {وَمَا لَهُمْ أَلَاّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} في الذين علم في سابق علمه أنهم لا يسلمون ولا يتوبون، وهم الذين عذبهم الله وقتلهم يوم بدر، وجعل لهم عذاب الآخرة متصلاً بعذاب الدنيا والعياذ بالله.

وهذه هي الأوجه في قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: الآية 33]{وَمَا لَهُمْ أَلَاّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} أيُّ شيء ثبت لهم يمنعهم من تعذيب الله لهم {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الأنفال: الآية 34](يصدون) تستعمل استعمالين

(1)

: تستعمل متعدية ولازمة، فإذا استعملت متعدية فمصدرها (الصَّد) على القياس، ومضارعها (يصُد) بضم الصاد لا غير، وإذا استُعملت لازمة فمصدرها (الصدود) على الأغلب، وفعلها المضارع يجوز في عينه الكسر والضم، تقول: صَدَّ زيدٌ عَمْرًا يَصُدُّه صَدًّا، وَيصُد بالضم لا غير، وتقول: صَدَّ زيدٌ عن هذا الأمر إلى غيره، يَصِدُّ ويَصُدُّ صدودًا، وعلى ذلك القراءتان

(2)

في قوله: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: الآية 57]{إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصُدُّونَ} [الزخرف: الآية 57] والفعل هنا متعدٍّ، والمفعول محذوف، أي: يصدون الناس عن بيت الله الحرام، عن المسجد الحرام، كما صدوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزوة الحديبية، كما سيأتي في قوله:{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: الآية 25] وكما قال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [المائدة: الآية 2] وإخراجهم

(1)

انظر: المفردات (مادة: صدد) ص477.

(2)

مضت عند تفسير الآية (45) من سورة الأعراف.

ص: 588

النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة من صدهم عن المسجد الحرام.

وهذا معنى قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلَاّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الأنفال: الآية 34] وكانت قريش إذا صدوا بعض الناس عن المسجد الحرام قالوا: هذا البيت بيتنا، ونحن أولياؤه، فولايته لنا، فنترك من نشاء، ونصد من نشاء!! فبيّن الله كذبهم فقال:{وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلَاّ الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: الآية 34] ما أولياء هذا البيت ولاية حقيقية إلا الذين يؤمنون بالله ويتقون الله، أما الكفرة الفجرة فليسوا بأوليائه، وإن زعموا أنهم أولياؤه. فهذا معنى قوله:{وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلَاّ الْمُتَّقُونَ} .

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} قال بعض العلماء

(1)

: عبر هنا بالأكثر عن الجميع، والعرب تعبر بالأكثر عن الجميع، وبالقلة عن لا شيء، وهو أسلوب معروف.

وقال بعض العلماء: الأكثر على ظاهره؛ لأن بعضهم يعلم أن ولاية بيت الله لمن هو مطيع لله لا من هو عاصٍ له. وهذا معنى قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: الآية 34].

[4/أ] / {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَاّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)} [الأنفال: الآيات 35 - 37].

(1)

انظر: المحرر الوجيز (8/ 55)، البحر المحيط (4/ 491)، وراجع ما مضى عند تفسير الآية (36) من سورة الأنعام.

ص: 589

يقول الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَاّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (35)} [الأنفال: الآية 35].

بَيَّنَ اللهُ (جَلَّ وعلا) في هذه الآية أن كُفَّارَ مَكَّةَ الذين يزعمون أنهم أولياء البيت، ما كانوا يصلون عنده، ولا يعبدون الله عنده، يعني: ليس لهم من الصلاة فيه إلا شيء هو بعيد كل البعد عن الصلاة، يعني: ما كان صلاتهم عند البيت الذي هو أول بيت وضعه الله للناس ما كانت صلاتهم عنده إلا مكاء وتصدية والتحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه في معنى المكاء والتصدية

(1)

: أن المكاء هو: الصفير، والتصدية هي: التصفيق. كانت قريش يجتمعون ويطوفون بالبيت عراة، يصفرون ويصفقون، يزعمون أن هذا التصفير والتصفيق والعري عند بيت الله أنه عبادة، ومن أغراضهم بالتصفير والتصفيق: ألاّ يسمع الناس ما يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن التصفيق والتصفير أصله من إلغائهم ليمنعوا من سمع القرآن، الآتي في قوله:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)} [فصلت: الآية 26].

العرب تقول: مَكَا، يَمْكُو، مَكْوًا، ومُكًا، ومُكَاءً، إذا: صفر.

والصفير: هو الصوت الذي يخرجه الإنسان من فيه، المعروف، وهذا معنى معروف في كلام العرب، يُسمون التصفير: المكاء. وقد أطلقه عنترة في معلقته على صوت الطعنة العظيمة يشخب منها الدم ويُسمع لها صوت كالصفير في قوله

(2)

:

وَحَلِيل غَانيةٍ تركت مُجَدِّلاً

تَمكُو فريصتُه كَشِدْق الأعْلَمِ

قال بعض العلماء: أصله كصوت المُكَّاء. والمُكَّاء: طائر

(1)

انظر: ابن جرير (13/ 521)، ابن كثير (2/ 306)، الأضواء (2/ 351).

(2)

ديوانه ص123.

ص: 590

أبيض معروف يصوّت تصويتًا كالصفير، وهذا الطائر معروف في كلام العرب، وفيه يقول الشنفرى

(1)

:

ولا خَرِقٍ هَيْقٍ كَأَنَّ فُؤَادَهُ

يَظَلُّ بِهِ المُكَّاءُ يَعْفُو وَيَسْفُلُ

وقال بعضهم

(2)

:

إذا غَرَّدَ المُكَّاء في غَيْرِ رَوْضَةٍ

فَوَيلٌ لأهْلِ الشَّاءِ والحُمُراتِ

وقوله: {وَتَصْدِيَةً} التحقيق أنه مصدر (صدَّى، يُصدِّي، تصدية) إذا صفَّق. لأن التصفيق يرتفع به صدى الصوت، هذا هو الصحيح في المعنى خلافًا لمن قال: إن أصله: تَصْدِيدَة أُبْدلت الدال الأخيرة ياء، وأنها (تَفْعِلَة) من الصَّد؛ لأنهم يصدون الناس عن المسجد الحرام

(3)

. والأول هو الصحيح. والمعنى: أن هؤلاء الكفار الذين يزعمون أنهم أولياء البيت الحرام كيف يكونون أولياءه، وكيف يمتنعون من نزول العذاب ولا صلاة لهم عند البيت إلا الصفير والتصفيق؟ هذه صلاتهم عند البيت!! وإذا كانوا لا صلاة لهم عند البيت إلا الصفير والتصفيق فمعنى ذلك أنهم لا صلاة لهم أصلاً عنده ألبتة. وهذا أسلوب عربي معروف، تقول العرب:«لا له كذا إلا كذا» ويكون ذلك بعيدًا منه، فيدل على الانتفاء المطلق، وهذا

(1)

البيت في ديوانه ص57.

(2)

البيت في القرطبي (7/ 400)، الدر المصون (5/ 600).

(3)

قال في الدر المصون (5/ 601) ما ملخصه: والتصدية فيها قولان:

أحدهما: أنها من الصَّدى، وهو ما يُسمع من رجع الصوت في الأمكنة الخالية الصلبة. يُقال منه: صَدِي يَصْدَى تَصْدِيَة. وقيل: هي مأخوذة من التَّصْدِدَة وهي الضجيج والصياح والصفيق، فأُبدلت إحدى الدالين ياءً تخفيفًا.

والثاني: أنه من الصَّد، وهو المنع، والأصل:(تَصْدِدَة).

ص: 591

أسلوب عربي معروف يكثر في القرآن وفي كلام العرب، قال تعالى:{وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: الآية 29] إن كانوا لا يُغاثون إلا بهذا الماء الذي يشوي الوجوه فلا إغاثة لهم أبدًا، وهذا كثير في كلام العرب، ومنه قول بشر بن أبي حازم

(1)

:

غَضِبَتْ تَميمٌ أن تُقتَّل عامرٌ

يَوْمَ النسار فأُعْتِبُوا بالصَّيْلَمِ

معناه: أُرضوا بالسيف، فإن كانوا لا عُتْبَى لهم ولا رضا إلا السيف معناه: لا عُتْبى ولا رضًا لهم أصلاً، ومنه قول الآخر يصف ناقته

(2)

:

شَجْعَاءَ جرتها الذميل تلوكُه

أصلاً إذا راح المطي غراثا

يقول: إن ناقته ليس لها من الجِرَّة إلا الذميل. والذميل: ضرب من السَّيْر. والجِرَّة: هي أن الناقة -مثلاً- في النهار تأكل المرعى، فإذا كان الليل أخرجت ما في بطنها فمضغته لترققه، يعني: إن كانت لا جرة لها إلا جرر المشي فلا مأكل لها ولا جرة. وأمثال هذا كثيرة في كلام العرب، وهذا معنى قوله:{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَاّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ} أيها الكفرة الزاعمون كذبًا أنكم أولياء البيت وأنكم قُطَّان بيت الله الحرام، وأنكم أهدى من محمد صلى الله عليه وسلم {فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} الباء سببية، و (ما) مصدرية، أي: بسبب كفركم.

وهذه الآية الكريمة تدل على أن التصفيق والتصفير ليسا من العبادة في شيء، وبه يُعلم أن ما يفعله كثير من الجهلة المدعين

(1)

البيت في الدر المصون (9/ 56).

(2)

البيت لأبي تمام، وهو في ديوانه ص66.

ص: 592

للتصوف كذبًا من الرقص والتصفيق والصراخ، زاعمين أنه عبادة أن ذلك من الخذلان وتلبيس الشيطان، وأن ذلك لا يكون عبادة أبدًا، بل أول من رقص وصفق في شيء يظنه عبادة هم عبدة العجل، وكان ذلك من أفعال الكفار، فالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا في مجالسهم كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا رأيتم الذين يصفقون ويضربون بالمعازف، ويزعمون أن هذا دين وأحوال ووجدان، فهو غرور من الشيطان، فلا ينبغي أن يُغترَّ بهم، كما ظن قريش أن مكاءهم وتصديتهم عند بيت الله الحرام عبادة، فقد وبخهم الله على ذلك في قوله:{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَاّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (35)} [الأنفال: الآية 35].

ثم قال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: الآية 36] قال بعض العلماء

(1)

: نزلت هذه الآية في المطعمين في بدر الذين ينحرون عشرًا أو تسعًا، وقد ذكرناهم في ذكرنا لهذه الغزوة

(2)

، وبينّا أن المؤرخين يقولون: إن أول من نحر لهم: أبو جهل عشرًا من الإبل، ثم نحر لهم أمية بن خلف تسعًا بعسفان، ثم نحر لهم سهيل بن عمرو عشرًا بقديد، ثم ذهبوا إلى المياه من ناحية الساحل، وأقاموا هناك يومًا، فنحر لهم شيبة بن أبي ربيعة

(3)

ذلك القدر من الإبل، ثم أصبحوا بالجحفة، فنحر لهم أخوه عتبة، ثم

(1)

انظر: البحر المحيط (4/ 492).

(2)

مضى عند تفسير الآية (5) من سورة الأنفال.

(3)

هكذا في الأصل، والصواب: ابن ربيعة.

ص: 593

أصبحوا بالأبواء فنحر لهم منبه ونبيه ابنا الحجاج السهميان المشهوران الذين هم ممن قُتلوا يوم بدر، ثم نحر لهم العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، ونحر لهم أبو البختري بن هشام عشرًا على ماء بدر، فهذه الإبل التي ينحرون ينفقونها ليصدوا عن سبيل الله.

وقال بعض العلماء

(1)

: نزلت في أبي سفيان بن حرب، أنفق أربعين أوقية على جماعة من الأحابيش -والأحابيش: جمع أُحبوش، وهم جماعة متجمعون ساكنون في ظواهر مكة، أنفق عليهم- أربعين أُوقية ليذهب معه جماعة منهم إلى أُحُد.

والذي عليه جمهور العلماء من المفسرين وأصحاب المغازي والتاريخ: أن هذه الآية من سورة الأنفال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: الآية 36] نزلت في قضية قريش مع عير أبي سفيان؛ لأن عير أبي سفيان لما نجت وقُتل من قُتل من أشرافهم يوم بدر اجتمع أشراف قريش وطلبوا كل من كانت له تجارة في تلك العير أن يمنحهم ذلك المال ليستعينوا به ويستعدوا على حرب النبي صلى الله عليه وسلم طالبين منهم إدراك الثأر، فكانت إمكانيات أُحد هي من أموال تجارات تلك العير، وأن ذلك هو معنى إنفاقهم ليصدوا عن سبيل الله. هذا هو الأصوب إن شاء الله، وعليه جماهير العلماء.

{يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} كإنفاقهم أرباح تجارة عير أبي سفيان ليحاربوا بها النبي صلى الله عليه وسلم، ليصدوا الناس عن سبيل الله، في زعمهم أنهم يأخذون ثأرهم من محمد صلى الله عليه وسلم فَيُضْعِفُون الإسلام ويُقَوُّون الكفر.

(1)

انظر: ابن جرير (13/ 529)، ابن كثير (2/ 307).

ص: 594

هذا معنى صدهم عن سبيل الله.

وقد قدمنا مرارًا

(1)

أن لفظة (صد) تستعملها العرب استعمالين، تستعملها (صد) متعدية إلى المفعول ومضارع هذه (يصُد) بالضم على القياس لا غير، ويستعملون (صد) لازمة لا متعدية، ومضارع هذه فيه الضم والكسر، ومصدرها (الصدود)، تقول:«صد زيدٌ عَمْرًا، يصُده صَدًّا، وصد عمرو عن هذا الأمر، يَصِد ويصُد صدودًا» . هذا معروف في كلام العرب، ومن اللازمة ولُغَتَيْها: القراءتان

(2)

في قوله: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصُدُّونَ} [الزخرف: الآية 57] وهذه متعدية، والمفعول محذوف لدلالة المقام عليه، وحذف الفضلة إذا دل الدليل عليها مطرد شائع في القرآن وفي كلام العرب، أي: ليصدوا الناس عن سبيل الله، لإضعاف الإسلام في زعمهم وقوة شوكة الكفر، حتى يسيطر على الناس فلا يتركهم يسلمون. هذا معنى قوله:{لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} .

{فَسَيُنفِقُونَهَا} كأنه قال: إن الذين أرادوا ذلك سيفعلونه وينفذونه، ثم تكون العاقبة وخيمة {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} الحسرة: أشد الندامة، كما قال تعالى:{كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ} [البقرة: الآية 167] أي: ندامات شديدة {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس: الآية 30] أي: يا ندامتهم احضري فهذا وقتك، وهذا معنى قوله:{ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} أي: ندامة شديدة

(1)

مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأعراف.

(2)

مضت عند تفسير الآية (45) من سورة الأعراف.

ص: 595

حيث أضاعوها ولم تُجْدِ عنهم شيئًا، بل كانت الدائرة منتهاها عليهم، والغلبة عليهم، وهذا معنى قوله:{ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: الآية 36] ثم يكون المآل أن يُغلبوا ويُقهروا كما كان المآل أن قُتل هؤلاء وفُتحت مكة يوم فتح مكة، وصاروا الطلقاء، وضاعت تلك الأموال، ولم تُجْدِ عنهم شيئًا، ولم تغن لهم شيئًا.

وهذه الآية الكريمة أشارت إلى ركنٍ من ركني ما يسمى (الاقتصاد)؛ لأن القرآن العظيم تنزيل رب العالمين، يوضح الله به أصول جميع الأشياء التي يحتاج لها البشر، والنبي صلى الله عليه وسلم يبسط ذلك ويبينه، وهذا الذي يعبر الناس عنه اليوم في عرفهم بـ (الاقتصاد)، أشارت هذه الآية الكريمة إلى أحد ركنيه، وإيضاح ذلك أن ما يسمى بـ (الاقتصاد) أن جميع مسائله المتشعبة راجعة في الحقيقة إلى أصلين لا ثالث لهما:

أحد هذين الأصلين: هو حسن النظر في اكتساب المال، ومعرفة الوجوه التي يحصل بها ذلك.

والثاني منهما: حسن النظر في صرف المال في مصارفه، ولا بد لأحدهما من الآخر، فالاقتصاد إذن عمل مزدوج لا يصح أحد ركنيه دون الآخر؛ لأن الذي لا يقدر على اكتساب المال، ولا يعرف الطرق التي يكتسبه بها لا يكون صاحب اقتصاد، وكذلك الذي يعرف طرقه وهو ماهر في تحصيله، إذا كان لا يعرف صرفه بالحكمة فإنه لا يجديه شيئًا؛ لأن الإناء المخروق لو جعلت فيه البحر لما ملأه، فلا بد من حسن النظر في الاكتساب أولاً، ثم حسن النظر في الصرف ثانيًا. وهذه الآية الكريمة من سورة الأنفال أشارت إلى أحد الركنين،

ص: 596

وهو حسن النظر في الصرف في المصرف؛ لأن الصنيعة إذا لم تطابق مصرفها فلا فائدة فيها:

إن الصَّنيعة لا تُعَدّ صنيعةً

حتى يُصَاب بها طريق المَصْنَعِ

(1)

والبذل فيما لا يجدي ليس من الاقتصاد في شيء، وإنما هو تبذير، وقد ذم بعض الأدباء من يعطي ويمنع غير مركز ذلك على الحكمة فقال

(2)

:

لا تَمْدَحَنَّ ابنَ عباد وإن هَطَلتْ

يداهُ كالمُزنِ حتى تُخْجِل الدِّيَما

فإنها فلتات من وسَاوسه

يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرما

فقوله في هذه الآية: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [لأنفال: الآية 36] بينت أن الصرف فيما لا يرضي الله أنه ندامة وحسرة، وأنه إخلال بأحد ركني الاقتصاد، فلا بد أن يكون الصرف واقعًا موقعه فيما يرضي من خلق هذا الكون.

وهذا الأمر - الذي هو الاقتصاد - أمر عظيم؛ لأن المال شريان الحياة، ولا سيما في هذا الزمن التي كانت طرق الاقتصاد إنما مهّدها ومهد جميع الطرق إلى اكتساب الأموال كائنة ما كانت، مهدها كفرة فجرة لا يدينون لله، ولا يأتمرون بأمره، فجعلوا أسسها مبنية على الربا وعلى الحرام، وعلى الغرر وعلى جميع المعاملات التي لا ترضي الله، ومع الأسف كان المتسمون باسم الإسلام ذَنَبًا

(1)

البيت في تاريخ دمشق (27/ 294)، الكامل ص179 وذكره الشيخ رحمه الله في الأصول (1/ 47) وهو لعيسى بن يزيد البجلي، أو للهذيل الأشجعي.

(2)

البيتان لدعبل بن علي الخزاعي، وهما في ديوانه ص170.

ص: 597

لهم يرتكبون المحرمات في تلك المعاملات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ونحن نلم بشيء قد دلت عليه هذه الآية كأصول لهذا الأمر المهم؛ لأن هذه الآية والآيات غيرها من كتاب الله دلت على أن له أربعة أمور، إذا نظر الناس فيها وأتقنوها كان اقتصادهم على الوجه المطلوب؛ لأنا ذكرنا الآن أن جميع مسائل الاقتصاد وإن تشتتت وتشعبت راجعة في الحقيقة إلى أصلين لا ثالث لهما، هما: حسن النظر في اكتساب المال، وحسن النظر بعد أن يحصل المال في صرفه في مصارفه. وهذان الركنان لا بد لكل منهما من نظرتين مختلفتين، فتكون أربعًا من ضرب اثنين في اثنين، والنظرتان المختلفتان لا بد منهما لكل من الركنين.

أما أحدهما: فهو معرفة حكم الله (جل وعلا) في نوع ذلك الاكتساب، وفي نوع ذلك الصرف؛ لأن الله (جل وعلا) خلق الإنسان محتاجًا للنساء، ومفتقرًا للغذاء، وخلق له ما في الأرض جميعًا، ولم يتركه سدىً يتصرف فيه باختياره، بل التصرف لا بد أن يكون بإذن مالك الملك، خالق هذا الكون (جل وعلا)، فالنظرة الأولى إذا أردت أن تكتسب مالاً بوجه من أوجه الاكتساب، أو تصرف مالاً في وجه من أوجه الصرف أن تعرض هذا الاكتساب أو هذا الصرف على ضوء هذا المحكم المنزل، ونور هذا الوحي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فتنظر أيجيزه أو يمنعه؟ فإن عرفت أنه يمنعه تركته؛ لأن خالق هذا الكون المشرع لهم ما جعل عليهم تضييقًا في التشريع، وما شرع لهم إلا ما فيه السعة الكاملة لهم تكفيهم كل مهماتهم، وإذا نظرت في حكم الله، في طرق الاكتساب، وفي حكم الله في صرف المال؛ لأن

ص: 598

بعض المصارف التي يصرف فيها المال قد تكون على صاحبها حسرة ثم يغلب، كما قال هنا:{فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: الآية 36] وبهذه النظرة أن تنظر في وجه اكتساب المال وفي وجه صرفه في مصرفه إذا عرضتها على ضوء القرآن، وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كفاك هذا من الفِكَر الهدامة، والمذاهب المفقرة الخسيسة -عليها وعلى من جاء بها لعائن الله- كنظرة الماركسيين، واللينيّين، وأتباعهم -دمرهم الله جميعًا- فإن هذا إذا عرضته على كتاب الله وجدت ذلك الذي يدعون إليه ويبنون عليه نحلتهم لا يجيزه الله ولا يرضاه، فاكتفيت شره بالكلية.

ثم بعد ذلك إذا عرضت وجه الاكتساب ووجه الصرف على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وعرفت أنه جائز؛ فالنظرة الثانية: هي تحقيق المناط وتطبيق هذا، فقد يكون هذا الوجه الاكتساب به حلالاً إلا أنه ما كل الناس يقدر على تحصيل هذا الوجه والاكتساب بهذه الطريق، فيُنظر له من يعرف ذلك بالخبرة الدنيوية ليقدر على تحصيل المال به في ضوء الشرع الكريم، وكذلك الصرف في المصارف يحتاج إلى من يقدر عليه؛ لأن بعض المصارف لا يقدر كل الناس أن يقوم به، ولا سيما ما يسمونه (المشاريع العامة) فإنه ما كل الناس يقدر على تنفيذها، فإن المشروع العام الذي عُرف أن الشرع يجيزه، وأن فيه مصلحة لجميع المسلمين، وأن ولي أمر المسلمين إذا بذل فيه من مال المسلمين كان ذلك البذل جائزًا، لعظم المصلحة العائدة لعامة المسلمين منه، فإنه يحتاج إلى خبراء دنيويين يعرفون كيف ينفذون ذلك الصرف على الوجه المطلوب.

ص: 599

فهذه الأركان الأربعة أشارت إليها هذه الآية، وهي أصول الاقتصاد، ولو وفق الله المسلمين ونظروا في أصول الاقتصاد، وما جاء به من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لأمكنهم استغلال ثرواتهم، والانتفاع بها في ضوء كتاب الله على طريق يغمرهم فيها المال، ولا يزاولون ما يسخط ربهم (جل وعلا)؛ لذا قال تعالى:{فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} .

ثم قال جل وعلا: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: الآية 36]، {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ} [الأنفال: الآية 36] ومن جملتهم: الذين ينفقون المال ليصدوا بإنفاقه عن سبيل الله {إِلَى جَهَنَّمَ} أي: إلى النار، كما قال (جل وعلا)، في أصحاب جهنم:{لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ (44)} [الحجر: الآية 44] والعياذ بالله {إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} يُجمعون يوم القيامة، وقد بين الله كيفية جمعهم إليها في آيات كثيرة من كتابه، كما قال:{وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)} [مريم: الآية 86] وقال: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} الآية [الزمر: الآية 71] وهذا معنى قوله: {إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} وتقديم المعمول الذي هو الجار والمجرور يؤذن بالحصر؛ أي: لا يحشرون إلى شيء غير النار والعياذ بالله جل وعلا.

وقوله: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال: الآية 37] قال بعض العلماء

(1)

: اللام في قوله {لِيَمِيزَ} تتعلق بقوله:

(1)

انظر: البحر المحيط (4/ 493).

ص: 600

{إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال: الآية 36].

قرأه حمزة والكسائي: {ليُمَيِّزَ الله الخبيث من الطيب} وقرأ باقي السبعة: {لِيَمِيزَ} بفتح الياء وكسر الميم

(1)

.

كما أن حمزة والكسائي قرءا: {وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: الآية 35] بإشمام الصاد الزاي

(2)

. وقرأ غيرهم من السبعة: {وَتَصْدِيَةً} بالصاد الخالصة غير المشمة بالزاي.

وهذا معنى قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} حشرهم الله إلى جهنم ليميز بذلك - يزيِّل ويفرق - بين الخبيث والطيب، فالخبيث أهل النار، والطيب أهل الجنة، فالله حشر هؤلاء إلى شر دار، وحشر هؤلاء إلى خير دار ليميز ويفرق ويُزيّل بين الخبيث والطيب، وعلى هذا القول فالمَيْزُ بينهم في الآخرة، وقال بعض العلماء

(3)

: هي تتعلق بقوله: {يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: الآية 36] يعني: أقدر الله الكفار على عداوة الإسلام والصد عنه ومحاربته ليُميز للناس ويبين لهم الخبيث من الطيب. وهذا التفسير مثله قد جاء موضحًا في سورة آل عمران، حيث قال الله جل وعلا:{مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران: الآية 179] إلى آخر القصة. وهذا معنى قوله: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} أي: يجعل كل واحد منهما متميزًا عن الآخر، منفصلاً عنه لا لبس بينهما،

(1)

انظر: الإتحاف ص (2/ 79).

(2)

السابق.

(3)

انظر: ابن كثير (2/ 307).

ص: 601

{وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ} وهو الكفار، الكفر وأهله. قال بعضهم: ويدخل فيه المال المنفق ليصد به عن سبيل الله.

وعلى هذا القول فالمال الذي ينفقه الإنسان ليصد به عن سبيل الله، يركم معه في النار، كما قال جل وعلا:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} إلى قوله: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35)} [التوبة: الآيتان 34 - 35] فصرح في هذه الآية من براءة أن ذلك الذهب والفضة الذي كانوا يكتنِزونه يدخل معهم في النار ويكوون به فيها، فهذا يشابه هذا التفسير الذي قال: إن المال الخبيث الذي صرفه صاحبه في الدنيا للصد عن سبيل الله أنه يركم معه في جهنم، فيعذب به، وقد ثبتت الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم أن الذي كانت عنده ماشية ولا يزكيها تُجعل لها في ضحضاح من جهنم، فتدوسه بأرجلها

(1)

(والعياذ بالله)، هذا معنى قوله:{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ} من أهل الكفر وما كانوا ينفقونه ليصدوا به عن سبيل الله {بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا} ، العرب تقول: ركمه يركمه، إذا جعله ركامًا متراكمًا، أي: يركب بعضه بعضًا، ويعلو بعضه بعضًا، كما في قوله:{ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} [النور: الآية 43] فيجعله كله في النار {أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} هؤلاء الذين يُجمعون كلهم فيركمون في جهنم موصوفون بصفة الخبث هم الخاسرون الذين غُبنوا في حظوظهم من ربهم (جل وعلا)، وخسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.

(1)

مسلم في الزكاة، باب إثم مانع الزكاة. حديث رقم:(987)(2/ 680).

ص: 602