المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تفسير سورة التوبة - العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير - جـ ٥

[محمد الأمين الشنقيطي]

الفصل: ‌تفسير سورة التوبة

‌تفسير سورة التوبة

[1/أ] / يقول الله (جل وعلا): {بَرَاءةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَاّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)} [التوبة: الآيات 1 - 4].

نزلت هذه السورة الكريمة عام تسع، رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وكان بعض الصحابة يقول: آخر سورة نزلت بتمامها من القرآن براءة

(1)

.

واعلم أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكتبوا في المصاحف العثمانية سطر {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} قبل هذه السورة الكريمة، مع أنهم كتبوه في كل سورة من سور القرآن غير

(1)

البخاري عن البراء رضي الله عنه، كتاب التفسير، باب {بَرَاءةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ

} حديث رقم: (4654)(8/ 316).

ص: 241

سورة التوبة هذه، والعلماء لهم أقوال معروفة في سبب [عدم]

(1)

كتب {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}

(2)

.

قال بعض العلماء: كانت سورة براءة طويلة قدر سورة البقرة، فنسخ الله أولها، فلما سقط أولها وكانت فيه البسملة سقطت البسملة مع المنسوخ الساقط منها.

وقال بعض العلماء: البسملة رحمة وأمان، وبراءة نزلت بالسيف والقتال ونقض العهود؛ فلذا لم تكتب فيها {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} .

وقال بعض العلماء: لما أرادوا كتب المصاحف العثمانية اختلفوا في براءة، فقال بعضهم: هي والأنفال سورة واحدة، وقال بعضهم: كلتاهما سورة مستقلة، فلما اختلفوا جعلوا بياضاً بين السورتين ليدل على قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنهما سورتان، وتركوا سطر {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} ليدل على قول من قال: هما سورة واحدة، فرضي الفريقان، وقامت حجة كل منهما في المصحف الكريم.

وأظهر الأقوال هو ما روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه رواه بعض أصحاب السنن وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: سألت عثمان بن عفان رضي الله عنه لمَ عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} وجعلتموها في السبع الطوال؟!

(1)

ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق.

(2)

انظر: القرطبي (8/ 61)، ابن كثير (2/ 331)، الأضواء (2/ 426).

ص: 242

فأجابه عثمان رضي الله عنه بما معناه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه القرآن، تنزل عليه السور والآيات ذوات العدد فيأمر بعض من يكتب له ويقول: ضعوا هذا في السورة التي يُذكر فيها كذا، وضعوا كذا في محل كذا، وكانت [«الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة» وبراءة من آخر القرآن، فكانت قصتها شبيهة بقصتها، فقُبض رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبيّن لنا أنها منها، وظنت أنها منها

]

(1)

كأنهما سورة واحدة، فمن ثم واليت بينهما وجعلت بينهما فصلاً، ولم أكتب بينهما {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}

(2)

. وهذه السورة الكريمة نزلت عام تسع [وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث أبا بكر رضي الله عنه ليقيم للناس الحج]

(3)

وأرسل في أثره علي بن

(1)

في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام نقلتها من بعض روايات الحديث.

(2)

أخرجه أحمد (1/ 57،69)، وأبو عبيد في فضائل القرآن (2/ 100)، وفي غريب الحديث (3/ 147 - 148)، (4/ 104) وأبو داود في الصلاة، باب من جهر بها، رقم:(771)(2/ 495)، والترمذي في التفسير، باب ومن سورة براءة، رقم:(3086)(5/ 272)، وابن حبان (الإحسان 1/ 126)، والحاكم (2/ 221، 330)، والبيهقي في البكرى (2/ 42)، والدلائل (7/ 153)، وابن أبي داود في المصاحف ص39، وابن جرير (1/ 102)، والطحاوي في شرح المعاني (1/ 201 - 202)، وفي مشكل الآثار (1/ 38)، (2/ 151 - 156)، والنحاس في الناسخ والمنسوخ (2/ 396)، وأورده السيوطي في الدر (3/ 207) وعزاه لابن أبي شيبة والنسائي وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه. وضعفه أحمد شاكر في تعليقه على: المسند (1/ 329)، ابن جرير (1/ 102).

(3)

في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

ص: 243

أبي طالب رضي الله عنه على ناقته العضباء، وأمره أن يكون هو المتولي للأذان ببراءة في موسم الحج، وأن يقول للناس: لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. فكان علي بن أبي طالب ذهب في أثر أبي بكر فأدركه، قال بعض العلماء: أدركه بالجحفة، فقال له: أأمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور.

وأخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله بصدر هذه السورة الكريمة يُنادي به في الموسم

(1)

-في موسم الحج- عام تسع من الهجرة، فكان أبو بكر هو أمير الحج الذي يُقيم للناس حجهم، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يؤذن في الناس بأول هذه السورة الكريمة؟ بعضهم يقول: بأربعين آية منها.

(1)

بَعْثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلِيّاً رضي الله عنه في حَجِّةِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه رواه جماعة من الصحابة، منهم:

1 -

أبو هريرة رضي الله عنه، عند البخاري في الصلاة، باب ما يستر من العورة، حديث رقم:(369)(1/ 477) وأطرافه (1622، 3177، 4363، 4655، 4656، 4657)، ومسلم (من غير ذكر علي رضي الله عنه في الحج، باب: لا يحج البيت مشرك .. حديث رقم (1347)(2/ 982).

2 -

أنس رضي الله عنه، عند الترمذي في التفسير، باب: ومن سورة براءة، حديث رقم (3090)(5/ 275).

3 -

ابن عباس رضي الله عنه، عند الترمذي في التفسير، باب:(ومن سورة براءة) حديث رقم (3091)(5/ 275) وانظر: الإرواء (4/ 303).

4 -

زيد بن أُثَيْع أنه سأل عليّاً رضي الله عنه

عند أحمد (1/ 79)، والدارمي (1/ 394)، والحميدي (48) والترمذي في التفسير. باب (ومن سورة براءة) حديث رقم:(3092)(5/ 276) وانظر الإرواء (4/ 301).

وأخرجه أحمد (1/ 3) عن زيد بن أُثَيْع عن أبي بكر رضي الله عنه.

5 -

جابر رضي الله عنه، عند النسائي في الحج، باب الخطبة يوم التروية، حديث رقم (2993)(5/ 247).

ص: 244

وبعضهم ينقص، وبعضهم يزيد، والروايات متفقة على أنه أرسله بهذه السورة الكريمة، بشيء منها يؤذن بها في المواسم.

ومضمون ما كان يؤذن به عليٌّ رضي الله عنه راجع إلى أربع جمل: إحداها: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ومن كان له عهد فعهده إلى مُدَّتِهِ.

وكان يؤذن في الناس بهذا. فعلم الكفار أنه لا عهود بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، ومن العام القابل وهو عام عشر لم يحج البيت كافر، ولم يطف بعدها عريان، فحجّ النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى قوله:{بَرَاءةٌ} البراءة مصدر كالشناءة والدناءة. وإعرابه

(1)

: قال بعض العلماء: هو مبتدأ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ: هَذِهِ بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ.

وقال بعض العلماء: لا مانع من كون قوله: {بَرَاءةٌ} مبتدأ، وسوَّغَ الابتداء بالنكرة لأنها وُصفت بقوله:{مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} كما قال

(2)

:

...........................

ورَجُلٌ من الكِرَامِ عندنَا

وأن قوله: {إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم} خبر المبتدأ، والوجهان من الإعراب كلاهما صحيح، والمعنى: هذه براءة من الله. أو براءة من الله واصلة إلى الذين عاهدتم من المشركين. ولفظة (من) في قوله:

(1)

انظر: ابن جرير (14/ 95)، الدر المصون (6/ 5).

(2)

هذا هو الشطر الثاني من أحد أبيات الخلاصة ص17، وشطره الأول:

«وَهَلْ فَتًى فِيكُمْ فَمَا خِلٌّ لَنَا»

.......................................

ص: 245

{مِّنَ اللَّهِ} هي المعروفة بابتداء الغاية، أي: ابتداء هذه الغاية ومنشؤها كائن من الله. ومعنى براءة الله منهم: أنه (جلّ وعلا) برئت ذمته من عهودهم فلا يلتزم لهم عهداً ولا ذمة؛ لأنهم نقضوا العهود أو كادوا.

واعلم أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لما غَزَا غَزْوَةَ تبوك كان المنافقون يرجفون أراجيف كثيرة، فسمع بها الكفار فأرادوا نقض العهود وتَغَيَّرُوا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كانت بَيْنَهُ وبَيْنَ بَعْضِ القبائل عهود ومواثيق، مصالحات ومهادنات، فلما سمع الكفار بأراجيف المنافقين نقض بعضهم، وبعضهم خيف منه النقض، فأنزل الله براءته من جميع الكفار إلا ما سيأتي استثناؤه إن شاء الله.

واعلم أن الكفار أقسام

(1)

: منهم من كان له عهد مؤجل بأجل، وهؤلاء قسمان: من عهده أقل من أربعة أشهر، ومن عهده أكثر من أربعة أشهر. ومنهم من لا عهد له أصلاً، ومن له عهد مطلق لم يُقَيَّد بِزَمَنٍ مُعَيَّن، فهذه فرق الكفار، وهذه الآية تَضَمَّنَتْ نَقْضَ العهود في هذه كلها إلا في صورة واحدة على التحقيق.

أما من كان له عهد إلى مدة أقَلّ مِنْ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ فالتَّحْقِيقُ عند جمهور العلماء أنه يرفع عهده إلى أربعة أشهر ثم بعد الأربعة أشهر هو حرب لله ولرسوله، ومن كان له عهد مطلق فله أربعة أشهر يسيح فيها ويذهب في الأرض مقبلاً ومدبراً آمناً، ثم بعد انتهاء تلك الأربعة الأشهر هو حرب لله ولرسوله.

ومن لم يكن عنده عهد أصلاً فقال بعض العلماء: له هذه الأربعة الأشهر. وهذا أظهر القولين، بناء على أن قوله: {فَإِذَا انسَلَخَ

(1)

انظر: ابن جرير (14/ 96)، القرطبي (8/ 64)، الأضواء (2/ 428).

ص: 246

الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة: آية 5] أنها أشهر الإمهال هذه الأربعة، لا الأشهر الحُرُم الأربعة.

وقال بعض العلماء: هي الأشهر الحرم الأربعة، وعلى ذلك لم يبقَ من عهده إلا خمسون يوماً، عشرون من ذي الحجة، والشهر الذي بعده الذي هو المحرم، فتنقضي عهودهم على خمسين يوماً على هذا القول.

فقوله: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللَّهِ} هذه البراءة كائنة من الله {إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم} يعني النبي وأصحابه. وإنما خاطبهم جميعاً وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يتولى عقد العهود لأنهم أتباعه وأعوانه، وهم معه في كل شيء من حَلّ وعقد، فكل حلّ وعقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم فهم أصحابه وأعوانه وأتباعه، فهم معه فيه؛ ولذا قال:{إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} الكفار الذين يعبدون الأصنام ويشركون بالله (جل وعلا).

والتحقيق: أن هذه ما نزلت إلا في غزوة تبوك، وما زعمه ابن إسحاق ومقاتل وغيرهما من أن صدر هذه السورة نزل قبل عام الفتح، بعد نقض قريش وبني بكر لمعاهدة صلح الحديبية؛ فهو خلاف الظاهر، مع أنه قال به ابن إسحاق ومقاتل وغيرهما

(1)

. قالوا: كان أول هذه السورة نزل قبل هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما عقد صلح الحديبية بينه وبين كفار قريش بواسطة سهيل بن عمرو العامري رضي الله عنه كان خزاعة دخلوا في حلف النبي صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في حلف قريش، وكان ذلك الصلح دخلت فيه قبائل من بني

(1)

انظر: القرطبي (8/ 64 - 65).

ص: 247

كنانة منهم بنو الديل ابن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وبنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، وبنو مدلج بن بكر بن كنانة، وبنو ضمرة بن بكر بن كنانة، فهي أربع قبائل من كنانة دخلوا في ذلك الصلح مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قبل ذلك بين كنانة وخزاعة دم، وكان الدم في خصوص بني الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة من قبائل كنانة، فانتهزوا الفرصة وعدوا على خزاعة، وأعانهم قريش على خزاعة الإعانة المشهورة التي هي سبب غزوة الفتح؛ لأن بني الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة لما عدوا على خزاعة ونقضوا عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصلحه الذي أبرمه معهم في الحديبية، وأعانتهم قريش على ذلك بالسلاح، بل بعض رجال قريش دخل معهم في قتالهم، كما قاله بعض العلماء، وأرسل خزاعة عمرو بن سالم رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة يستنصره، وجاءه هنا في المدينة - حرسها الله - وأنشده رجزه المشهور

(1)

:

يا رَبِّ إني ناشِدٌ مُحَمَّدَا

حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الأَتْلَدَا

كُنْتَ لَنَا أَباً وَكُنَّا وَلَدَا

(2)

ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا

إِنَّ قُرَيْشاً أَخْلَفُوكَ المَوْعِدَا

وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ المُؤَكَّدَا

وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتَ تُنْجِي أَحَدَا

وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا

فَادْعُ عِبَادَ اللهِ يَأْتُوا مَدَدَا

فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدَا

أَبْيَض مِثْل الشَّمْسِ يَجري صُعدَا

في فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يجري مُزْبدا

(1)

مضى عند تفسير الآية (58) من سورة الأنفال، ووقع فيها هنا تقديم وتأخير كما وقع في الموضع السابق. وقد أثبتنا نص الأبيات هناك في الهامش فليراجع. وانظر: القرطبي (8/ 65).

(2)

في ابن هشام (1235): «قد كنتم وُلْداً وكنا والداً» .

ص: 248

إن سِيمَ خسْفاً وجْهُهُ تربَّدَا

هُمْ بَيَّتُونا بالوَتِيرِ هُجَّدَا

وقَتَلُونَا رُكَّعاً وَسُجَّدَا

فَانْصُرْ هَدَاكَ اللهُ نَصْراً أَيَّدَا

فقال صلى الله عليه وسلم: «لَا نُصِرْتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرْكُمْ»

(1)

.

وكان ذلك سبب غزوة [الفتح]

(2)

. هكذا قالوا إن هذا هو الذي جاءت فيه هذه الآيات، وأن قريشاً وبني الديل من بني بكر بن كنانة نقضوا وبَقِيَتْ قَبَائِل كِنَانَة الآخرين، وهم: بنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة، وبنو مُدْلِج، وبنو ضمرة لم ينقضوا العهود كما سيأتي في قوله:{إِلَاّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} [التوبة: آية 7] هكذا قالوا أنها نزلت قبل غزوة الفتح.

والتحقيق أنها ما نزلت إلا بعد غزوة تبوك، وأرسل النبي بها أبا بكر رضي الله عنه ينادي في الناس بها، ثم أتبعه علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ومعنى الآية الكريمة: هذه براءة من الله، أو براءة من الله إلى الذين عاهدتم من المشركين جميعاً. يعني: من كان له منهم عهد أقل من أربعة أشهر، ومن لا عهد له أصلاً، ومن كان له عهد مطلق، ومن له عهد مؤقت إلا أنه خيف منه أن ينقض؛ لأن المُعاهَد من المشركين إذا خيف منه النقض وظهرت منه علامات ذلك وبوادره وجب إعلامه بنبذ العهد إليه ونقض عهده، كما قدمناه في سورة الأنفال في قوله تعالى:{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الخَائِنِينَ (58)} [الأنفال: آية 58] فعرفنا أن قوله: {إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ

(1)

مضى عند تفسير الآية (58) من سورة الأنفال.

(2)

في الأصل: «بدر» وهو سبق لسان.

ص: 249

الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: آية 1] صادق بمن لهم عهد غير مؤقت، وعهد مؤقت بأقل من أربعة أشهر، وعهد مؤقت بأكثر منها إن خيفت منهم الخيانة، بقي قسم واحد هو الآتي استثناؤه مرتين وهو من كان له عهد مؤقت معين محدد بوقت معين أكثر من أربعة أشهر، وهو ثابت على عهده لم ينقض ولم يخف منه نقض لثبوته على عهده، فهؤلاء باقون على عهدهم على التحقيق الذي لا شك فيه. وما قاله بعض العلماء من نقض عهودهم جميعاً؛ خلاف التحقيق؛ لأن الله يقول:{إِلَاّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: آية 4] ويقول: {إِلَاّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ} [التوبة: آية 7] كما سيأتي إيضاحه؛ لأن المراد بالذين عاهدوه عند المسجد الحرام عند الحديبية وأُطلق عليها: «المسجد الحرام» قال بعض العلماء: لأن بعضها الذي وقعت فيه المعاهدة كان من الحرم، والمسجد يطلق غالباً على جميع الحرم، وسيأتي هناك -إن شاء الله- أن هؤلاء الذين عاهدوا دخل فيهم قبائل من كنانة مع قريش، وأن الذي غدر: بنو الديل من كنانة فقط وقريش، وبقية قبائل كنانة الأخرى ثابتة على عهدها. وهذا معنى قوله:{إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: آية 1].

ثم هنا التفات من الغيبة إلى الخطاب، أي فقولوا للذين عاهدتم من المشركين: سيحوا في الأرض أربعة أشهر (سيحوا في الأرض) معناه: اذهبوا في أرض الله مقبلين ومدبرين حيث ما أردتم، وأين أحببتم أن تتوجهوا، آمنين لا خوف عليكم، لا ينالكم منا سوء؛ لأنها أشهر أمان وإمهال لا ينالكم منا فيها سوء.

ص: 250

والحكمة في أن الله (جل وعلا) أجَّلهم هذه الأشهر الأربعة ليروا رأيهم، ويتأملوا في شأنهم لعل الله أن يهديهم إلى صوابهم. وهذا معنى قوله:{فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ} ؛ أي: اذهبوا في جوانب أرض الله مقبلين ومدبرين آمنين، لا خوف عليكم في مدة هذه الأشهر الأربعة.

ثم قال: {وَاعْلَمُواْ} أي: أيقنوا علماً يقيناً لا يتطرق إليه الشك {أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} {مُعْجِزِي} أصله: معجزين بالنون، فحذفت النون للإضافة. والمعجزون جمع المعجز، وهو اسم فاعل (أعْجَزه) العرب تقول:«أعجزه يُعجزه» إذا صار غير قادر عليه. أنكم لا تفوتونه ولا تتعذرون عليه، بل أنتم في قبضته وتحت سلطانه وقهره، هو قادر عليكم واعلموا أيضاً {أَنَّ اللَّهَ} جل وعلا {مُخْزِي الْكَافِرِينَ} [التوبة: آية 2] المخزي: اسم فاعل أخزى، ومعنى إخزائه للكافرين: أنه مذلهم ومهينهم، يذلهم في الدنيا بالقتل والأسر، ويهينهم بذلك وفي الآخرة بعذاب الله، كما سيأتي في قوله:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14)} الآية [التوبة: آية 14] وهذا معنى قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} [التوبة: آية 2].

ثم قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ} جملة معطوفة على جملة؛ لأن جملة: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ} [التوبة: آية 3] معطوفة على قوله: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1)} [التوبة: آية 1] ويجوز في قوله: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ} من

ص: 251

الإعراب الوجهان الجائزان في (براءة)

(1)

يجوز أن يكون (أذان) خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا أذان من الله. ويجوز أن يكون (أذان) مبتدأ سوغ الابتداء فيه بالنكرة كونها وُصفت بقوله: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} .

والأذان معناه: الإعلام، وهو اسم مصدر (أذَّن)(يؤذّن)(أذاناً)، (وآذن) (يوذن) (أذاناً) والعَرَب ربما جعلت (الفَعَال) قائماً مقام «التفعيل»؛ لأن العرب تقول: آذنته أعلمته، وأذنت أعلمت. ومعروف في علم التصريف أن (فعّل) بالتضعيف ينقاس مصدرها على (التفعيل)، ولكنه يُسمع كثيراً إتيان المصدر منها على (الفَعَال) كما قالوا: سلَّّم عليه سلاماً، أي: تسليماً. وكلّّمه كلاماً، أي: تكليماً. وطلَّقها طلاقاً، وبيَّنَهُ بياناً. إلى غير ذلك من الأوزان. وكذلك ربما جاء (الفعَال) في موضع (الإفعال) كقول العرب: آمنته أؤمِنه إيماناً: إذا جعلته في أمان. فإنهم يقولون: آمنه أماناً، وآذنه أذاناً، أي: أعْلَمَهُ إِعْلَاماً. والأذان في لغة العرب: الإعلام. قال بعض العلماء: هو الإعلام المقترن بنداء؛ لأن اشتقاقه من الأذن، لأن النداء يقع في الآذان فيحصل بذلك الفهم والإعلام، ومنه الأذان للصلاة؛ لأنه إعلام بها بنداء. وكون الأذان بمعنى الإعلام معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الحارث بن حِلّزة

(2)

:

آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ

رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ

يعني أَعْلَمَتْنَا بِبَيْنِهَا.

(1)

انظر: الدر المصون (6/ 6).

(2)

مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام.

ص: 252

{وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ} هذا الأذان كائن مبدؤه من الله ورسوله {إِلَى} جميع {النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة: آية 3] أصل الحج في لغة العرب جرى على ألسنة العلماء أنهم يقولون: الحج في اللغة القصد

(1)

. والحج في لغة العرب أخص من مطلق القصد؛ لأن الحج في اللغة لا يكاد تطلقه العرب إلا على قصد مُتَكَرِّر لأهمِّيَّة فِي المقْصُود. فَكُلّ حَجٍّ قَصْدٌ، ولَيْسَ كل قَصْدِ حَجّاً؛ لأن الحَجّ هو القَصْدُ المُتَكرر لأجل الأهمية الكائنة في المقصود. هذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول المخبَّل السعدي؛ حيث قال

(2)

:

ألَمْ تَعْلَمِي يَا أُمَّ أَسْعَدَ أَنَّمَا

تَخَطَّّاني ريْبُ المَنُونِ الأَكْبَرَا

وَأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولاً كَثِيرَةً

يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَان المُزَعْفَرا

«سِبَّه» يعني به عمامته، أي: يقصدون عمامته -عبر بها عن شَخْصِهِ- قَصْداً كثيراً متكرراً لأهمية ما يرونه عنده من النوال، هذا أصل الحج.

ومعروف أن الحج في اصْطِلَاح الشَّرْعِ

(3)

: هو الأفعال والأقوال التي تُقَالُ في المنسك المعروف.

قال بعض العلماء: وإنما قال له الأكبر؛ لأن العرب ربما كانوا

(1)

انظر: القاموس (مادة: الحج) 234، المفردات (مادة: حج) 218، المصباح المنير (مادة: حج) ص47.

(2)

البيتان في المشوف المعلم (1/ 231)، ولفظ البيت الأول فيه:

أَلَمْ تَعْلَمِي يَا أُمَّ عَمْرَةَ أَنَّنِي

تَخَطَّانِي رَيْبُ الزَّمَانِ الأَكْبَرَا

(3)

انظر: القاموس الفقهي ص (76 - 77).

ص: 253

يقولون: حج أصغر، وحج أكبر، يعنون بالأصغر: العمرة لنقصان أعمالها عن أعمال الحج

(1)

.

واختلف العلماء في يوم الحج الأكبر

(2)

فذهبت جماعة من العلماء إلى أن المراد به يوم عرفة. وعليه فَمَبْدَأُ النِّدَاءِ بالأربعة الأشهر كائن ابتداء تأجيله من يوم عَرَفَة. وقالت جماعة آخرون: هو يوم النحر. وخلاف العلماء في يوم الحج الأكبر هل هو يوم عرفة أو يوم النحر مشهور معروف، وكان بعض المحققين يختار أنه يوم النحر لأمور، منها: أنه جاءت بذلك روايات صحيحة، كرواية أبي هريرة في صحيح البخاري

(3)

. وقالوا: ولأن أكثر أفعال الحج إنما تكون يوم النحر؛ لأنه هو اليوم الذي يطاف فيه طواف الإفاضة، وينحر فيه، ويحلق فيه، ويقضى فيه التفث، وأن يوم عرفة لا يختص

(1)

انظر: التمهيد (1/ 125)، ابن جرير (14/ 129)، وابن أبي حاتم (6/ 1747)، والبغوي (2/ 268)، وابن عطية (8/ 128)، والمجموع (8/ 223)، وابن كثير (2/ 332)، والدر المنثور (3/ 211)، حصول الأجر في أحكام وفضل العمل في أيام العشر ص122.

(2)

انظر: سنن سعيد بن منصور (5/ 236 - 241)، التمهيد (1/ 125)، ابن جرير (14/ 131)، القرطبي (8/ 69)، المجموع (8/ 223)، تفسير البغوي (2/ 268)، تفسير ابن عطية (8/ 127)، تهذيب السنن لابن القيم (2/ 406)، زاد المعاد (1/ 54)، تفسير ابن كثير (2/ 332 - 335)، فتح الباري (8/ 321)، الدر المنثور (3/ 211)، حصول الأجر في أحكام وفضل العمل في أيام العشر ص116.

(3)

ولفظه: «بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين، بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى

» البخاري في التفسير، باب {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَربَعَة أَشهر وَاعلَموا

} حديث رقم: (4655)(8/ 317).

ص: 254

بشيء خاص من مناسك الحج؛ لأن الوقوف وإن كان ركناً من أركان الحج فنفس اليوم لا يختص به عن الليلة لإجماع العلماء على أن من وقف بعرفة ليلة النحر أن ذلك يجزئه، بعضهم يقول: يلزمه دم لفوات النهار، وبعضهم يقول: حجه كامل -كمالك وأصحابه- ولا دم عليه. وقولهم: «الحج عرفة» ، قالوا: لا يُرَدّ عَلَى هَذَا؛ لأن عَرَفَةَ شَامِلٌ للَّيْلِ والنَّهَارِ، فالوقوف الذي هو الركن الأعظم في الحج يكون في الليل، ولا يشترط أن يكون في النهار، والكلام في خصوص اليوم.

وقال بعض العلماء: يوم الحج الأكبر هو جميع أيام الحج، لأن العرب تقول: يوم صفين، ويوم الجمل، ويوم بُعَاث، وهو زمن يتناول أياماً معدودة متعددة، وأنه يشمل الجميع. وهذا أيضًا لا بأس به.

وجمهور العلماء على أن ابتداء تأجيل هذه الأشهر الأربعة هي من يوم النحر، وأن انقضاءها في العاشر من ربيع الثاني؛ لأن هذه الأشهر الأربعة عشرون منها من ذي الحجة من يوم الحج الأكبر، ثم منها المحرم كاملاً، وصفر كاملاً، وربيع الأول كاملاً، وعشر من ربيع الثاني، فتتم هنالك الأشهر الأربعة، وعلى هذا جماهير العلماء.

وقد اشتهر قول هنا عن الزهري لا شَكَّ فِي غَلَطِهِ، وإن كان قائله جَلِيلاً؛ لأنهم ذكروا عن الزهري رحمه الله أن أول هذه الأشهر الأربع أنه من ابتداء شوال، وأنها شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وتنتهي بانتهاء المحرم

(1)

. وهذا لا يتمشى مع أن ابتداء

(1)

أخرجه ابن جرير (14/ 101)، وابن أبي حاتم (6/ 1747)، والنحاس في الناسخ والمنسوخ (2/ 412)، وذكره السيوطي في الدر (3/ 211) وعزاه لعبد الرزاق وابن أبي حاتم.

ص: 255

الأذان صرح الله بأنه يوم الحج أكبر. فالتحقيق هو ما قاله الجمهور لا ما قاله الزهري رحمه الله، إن صح عنه فهو غلط منه. وهذا معنى قوله:{وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ} عامة {يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} هذا الإعلام هو إعلام بأن الله بريء من المشركين، ورسوله بريء منهم أيضاً، فالله بريء من المشركين بريء من ذمتهم وعهدهم، لا عهد لهم عليه يأمر به، ولم يلتزم لهم بشيء، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم.

ثم قال لهم: {فَإِن تُبْتُمْ} عن ذنوبكم وكفركم وشرككم {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} وصيغة التفضيل هنا ليست على بابها؛ لأن الكفر بالله لا خير فيه أصلاً، فلا معنى للتفضيل فيه {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أي: ثَبَتُّمْ على كفركم وما أنتم عليه من الشرك.

{فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} فسرناه الآن.

{وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} اعلم أن التحقيق أن (البشارة) في لغة العرب هي الإخبار بما يسر، والإخبار بما يسوء أيضاً. فمن أخبرته بما يسره فقد بشرته، ومن أخبرته بما يسوؤه فقد بشرته

(1)

؛ ولذا قال: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: آية 21] والقرآن في غاية الفصاحة والإعجاز، وإطلاق البشارة على الإخبار بما يسر معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر

(2)

:

أَبَشَّرْتَنِي يَا سَعْدُ أَنَّ أَحِبَّتِي

جَفَوْنِي وَقَالوا الْودُّ مَوْعِدُهُ الحَشْرُ

(1)

مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام.

(2)

السابق.

ص: 256

وقول الثاني

(1)

:

يُبَشِّرُنِي الغُرَابُ بِبَيْنِ أَهْلِي

فَقُلْتُ لَهُ ثَكِلْتُكَ مِنْ بَشِيرِ

هذا هو التحقيق أنها أساليب عربية، وأن البشارة تغلب للإخبار بما يسر، وأنها تطلق على الإخبار بما يسوء، هذا هو الظاهر، ومعلوم أن علماء البلاغة يقولون: إن البشارة حقيقة في الإخبار بما يسر، وأما البشارة بما يسوء فهي مما يسمونه الاستعارة (العِنَادِيَّة) المعروفة عندهم، وهي منقسمة إلى تهكُّمِيَّة وتمليحية كما هو معروف مُقَرَّر في علم البيان عند أهله

(2)

.

ونحن نقول دائماً: إن مثل هذا أساليب عربية نَطَقَت بها العرب، وكلها أسلوب عربي فصيح في محله، وهذا معنى قوله:{فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: آية 21] الظاهر أن تَنْكِيرَ العَذَابِ هنا للتفخيم والتعظيم، ومن المعاني التي يستجلب لها التنكير: التفخيم والتعظيم، ويدل على هذا قوله:{أَلِيمٍ} والأليم: (فَعِيل) بمعنى (مُفْعِل) أي: مؤلم. واعلم أن إتيان (الفَعِيل) بمعنى (المُفْعِل) واقع في القرآن وفي كلام العرب، فما ذكروا عن الأصمعي أن (الفعيل) لا يكون في اللغة بمعنى (المُفعل) فهو خلاف التحقيق

(3)

. فمعنى أليم: مؤلم، أي: شديد الألم، وإتيان (الفعيل) بمعنى:(المُفْعِل) أسلوب عربي معروف يكثر في كتاب الله وفي لُغَةِ العَرَبِ، ومِنْ إِتْيَانِهِ في القرآن قوله:{إِنْ هُوَ إِلَاّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: آية 46] وقوله: {نَذِيرٌ} أي: منذر فهو (فعيل)

(1)

السابق.

(2)

مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام.

(3)

مضى عد تفسير الآية (73) من سورة الأعراف.

ص: 257

بمعنى (مُفْعِل){أَلِيمٍ} . بمعنى مُؤلم. وقوله: ضرب وجيع. بمعنى: مُوجِع، وهذا معنى معروف في كلام العرب، وله أمثلة في القرآن كقوله:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ} [البقرة: آية 117] أي: مبدعهما {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ} أي: منذر، ومن نظائره من كلام العرب قول غيلان بن عقبة ذي الرمة

(1)

:

وَيَرْفَعُ مِنْ صَدْر شَمَرْدَلَاتٍ

يصُكُّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمُ

وقول عمرو بن معد يكرب الزبيدي رضي الله عنه

(2)

:

أَمِنْ ريحانةِ الدَّاعي السَّميعِ

يُؤَرِّقُني وأَصْحَابِي هُجُوعُ

فقوله: «السميع» يعني: المسمع. وقوله في قصيدته هذه

(3)

:

وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لهَا بِخَيْلٍ

تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ

أي: ضرب موجع. وهذا معنى قوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: آية 3].

وقوله تعالى: {إِلَاّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: آية 4].

قوله: {إِلَاّ الَّذِينَ} استثناء من قوله: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: الآيتان 1، 2] هذه البراءة والتأجيل بخصوص أربعة أشهر لجميع الكفار المعاهدين وغيرهم {إِلَاّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم} [التوبة: آية 4] ثم وفوا لكم بالعهود ولم

(1)

السابق.

(2)

مضى عند تفسير الآية (73) من سورة الأعراف.

(3)

السابق.

ص: 258

ينقصوكم شيئاً، وكان بعض العلماء يقولون

(1)

: هؤلاء أهل مكة، ومعلوم أن أهل مكة نقضوا. والتحقيق أنها في قبائل من كنانة بقوا على عهدهم ولم ينكثوا فأُمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يفي لهم بعهدهم حتى تنتهي مدتهم، ومعلوم أن صلح الحديبية قد عاهد النبيّ فيه قبائل من كنانة، ذكرنا أن منهم بني الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وبني ضمرة، وبني مدلج، وبني جذيمة بن عامر، وقد قَدَّمْنَا في تفسير سورة النساء في الكلام على قوله تعالى:{فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً (89) إِلَاّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ} [النساء: الآيتان 89، 90] إن هؤلاء القوم الذين بينكم وبينهم ميثاق الذين شرطوا أن من وصل إليهم فحكمه كحكمهم، منهم هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك بن جعشم حيث عقد العهد لبني مدلج مع النبي صلى الله عليه وسلم، وبنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة، فهؤلاء القبائل كانت أربع قبائل من كنانة، وكان غيرهم عقد ذلك، كبني أسلم عقد لهم الصلح هلال بن عويمر الأسلمي، فهؤلاء لم ينقضوا.

وجرى على ألسنة علماء التفسير

(2)

أنه في هذه الآية الكريمة وهي قوله: {إِلَاّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: آية 4] وفي الآية الآتية: {إِلَاّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ} [التوبة: آية 7] يقولون: هؤلاء الذين ثبتوا وأُمر النبي أن يفي لهم بعهدهم حتى تَنْقَضِيَ مدتهم هم خصوص بَنِي ضَمْرَة

(1)

انظر: ابن جرير (14/ 133).

(2)

انظر: القرطبي (8/ 71).

ص: 259

من قبائل بكر بن عبد مناة بن كنانة، ومنهم عمرو بن أمية الضمري المشهور. والتحقيق أن قبائل كنانة لم يُعرف أنه نقض منهم العهد إلا بنو الديل هم وقريش، أما قبائلهم الأخرى كَبَنِي جذيمة بن عامر وبني مدلج وبني ضمرة فلا يعلم أنهم نقضوا عَهْدَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وإن جرى على ألسنة العلماء أنها في خصوص بني ضمرة دون غيرهم من قبائل كنانة، ومعنى الآية الكريمة: هذا الحكم الذي ذكرنا من نقض العهود وتأجيلهم أربعة أشهر فقط، كل هذا في جميع المعاهدين {إِلَاّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} {لَمْ يَنقُصُوكُمْ} من الشروط التي اشترطتم عليهم شيئاً، ولم يخيسوا بشيء من عهدكم، ولم ينقصوكم مالاً ولا نفساً ولا دماً، بل ثَبَتُوا على عهدهم ولم ينقضوا، ولم يظاهروا عليكم أحداً، ولم يعينوا عليكم أحداً كقريش الذين أعانوا بني الديل بن بكر على خزاعة {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} ولا تعدوا عليهم حتى ينتهي عهدهم كاملاً إلى مدتهم التي اتفقتم أنتم وهم عليها أنها مدة الصلح والمهادنة بينكم حتى تنقضي.

قال بعض العلماء: كان وقت نزول هذه البراءة بقي من عهد هؤلاء تسعة أشهر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يفي لهم بها

(1)

. وهذا معنى قوله: {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: آية 4] ومن المتقين الذين يوفون بعهدهم ولا ينقضونه، فَدَلَّتِ الآيَةُ على أن الوفاء بالعهود وعدم النكث والنقض أنه من تقوى الله (جل وعلا) وهو كذلك.

(1)

انظر: البحر المحيط (5/ 8).

ص: 260

وقد قدمنا في هذه الدروس مراراً

(1)

أن المتقين جمع تصحيح للمتقي، وأن أصل هذه المادة من (وقى)، ففاء هذه المادة واو، وعينها قاف ولامها ياء. مادة التقوى فاؤها واو، وعينها قاف، ولامها ياء، فهي مما يسميه الصرفيون «اللفيف المفروق» هذا أصلها، إلا أنها دخلها تاء الافتعال كما تقول في قرب: اقترب، وفي كسب: اكتسب، وفي قطع: اقتطع، وفي «وقى» اوتقى.

والقاعدة المقرَّرَة في التصريف: أن كل فعل (مثال) -أعني معتل الفاء بالواو- إذا دخله تاء الافتعال وجب إبدال الواو تاء، وإدغام التاء في التاء، فقيل فيها:«اتقى» هكذا

(2)

.

وأصل الاتِّقَاء في لغة العرب

(3)

: هو أن تتخذ وقاية تكون بينك وبين ما تَكْرَهُهُ فَتَقِيكَ منه. تقول العرب: اتقيت الرمضاء بنعلي، واتقيت السيوف بمجني، ومنه قول نابغة ذبيان

(4)

:

سَقَطَ النَّصِيْفُ ولم تُرِدْ إسْقَاطَهُ

فَتَنَاولتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ

أي: جَعَلَتْ يَدَهَا وقايَةً بَيْنَنَا وبَيْنَ وَجْهِهَا. وتفسير من قال: (اتقتنا: استقبلتنا) تفسير بالمعنى الإجمالي لا بالحقيقة. وهذا أصله معنى التقوى.

وهي في اصطلاح الشَّرْعِ: أن يجعل العبد وقاية بينه وبين عذاب رَبِّه، هذه الوقاية مركبة من شيئين هما: امتثال أمر الله، واجتناب نهي الله

(5)

، والوفاء بالعهود من ذلك؛ لأن الوفاء بالعهود امتثال لأمر الله،

(1)

مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة.

(2)

السابق.

(3)

السابق.

(4)

السابق.

(5)

مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة.

ص: 261

وترك النقض انتهاء عما نهى الله عنه. وهذا معنى قوله: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: آية 4].

قال تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَاّ يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَاّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)} [التوبة: الآيات 5 - 8].

يقول الله (جل وعلا): {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)} [التوبة: آية 5].

اختلف العلماء في المراد بهذه الأشهر الحرم

(1)

: فقال بعض العلماء: المراد بها الأشهر الحرم المعروفة الآتي ذكرها في قوله في هذه السورة الكريمة: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: آية 36] وهذه الأشهر الأربعة الحرم ثلاثة منها سرد وواحد منها فرد،

(1)

انظر: ابن جرير (14/ 134) القرطبي (8/ 72)، الأضواء (2/ 430).

ص: 262

فثلاثتها المتتابعة هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وآخَر: رجب الفرد. هذه هي الأشهر الحرم.

وقال بعض العلماء: هذه هي المراد هنا في قوله: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} وعلى هذا القول فالباقي عن انسلاخ الأشهر الحرم من يوم النداء بهذه الآيات من أول براءة في موسم الحج عام تسع، الباقي منها خمسون يوماً فقط، وهي العشرون الباقية من ذي الحجة [1/ب] وتمام المحرم، فبانقضاء الخمسين تنتهي على هذا القول./ وهذا القول قاله بعض العلماء، وهو مبني على أن تحريم الأشهر الحرم لم ينسخ، ومعلوم أن العلماء مختلفون في تحريم الأشهر الأربعة المذكورة هل هو باق إلى الآن أو نسخ

(1)

؟ فكانت جماعة كثيرة من العلماء يقولون: إنه منسوخ. واستدلوا على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر ثقيفاً في غزوة الطائف في ذي القعدة من عام ثمان، وهذا ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم بعض الزمن الذي حاصر فيه ثقيفاً في غزوة الطائف كان من ذي القعدة

(2)

. قالوا: فلو لم ينسخ تحريم الأشهر الحرم لكف وانصرف عنهم بإهلال ذي القعدة. وكنا نرى هذا القول أَصْوَبَ، مكثنا كثيراً من الزمن ونحن ننصر هذا القول ونقرر أنه

(1)

انظر الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد ص206، الناسخ والمنسوخ للنحاس (1/ 535)، ابن جرير (4/ 313)، القرطبي (3/ 43)، (8/ 134)، ابن كثير (2/ 355).

(2)

البخاري في المغازي، باب غزوة الطائف في شوال، حديث رقم:(4325)(8/ 44). ومسلم في الجهاد والسير، باب غزوة الطائف، حديث رقم:(1778)(3/ 1402) وليس في رواية الصحيحين ما يدل على أن بعض الحصار وقع في ذي القعدة. ولكن أشار إلى ذلك الحافظ في الفتح (8/ 44).

ص: 263

الأصوب، ثم ظهر لنا بعد ذلك أن أصوب القولين وأولاهما بالصواب أن تَحْرِيم الأشهر الحرم باق لم ينسخ. ومن أصْرَحِ الأدِلَّة في ذلك: أنه دَلَّت عليه الأحاديث الصحاح في حجة الوداع في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن قوله (صلوات الله وسلامه عليه) في حجة الوداع قبل موته بنحو ثمانين يوماً قوله: «إن اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا»

(1)

نص دال على أَنَّ تَحْرِيمَ الأشهر الحُرُمِ بَاقٍ لم يُنْسَخْ، وهَذا هو الأظْهَر، والله أعلم.

(1)

رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم:

1 -

ابن عباس، عند البخاري في الحج، باب الخطبة أيام منى، حديت رقم:(1739)(3/ 573) وطرفه (7079).

2 -

أبو بكرة رضي الله عنه، عند البخاري في الحج، باب الخطبة أيام مِنًى، حديث رقم:(1741)(3/ 573) وأطرافه (67، 105، 3197، 4406، 5550، 7078، 7447) ومسلم في القَسَامَة والمحاربين والقصاص والديات، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، حديث رقم:(1679)(3/ 1305).

3 -

عبد الله بن عمرو، عند البخاري في الحدود، باب ظهر المؤمنِ حِمًى إِلا فِي حَدِّ أو حَقِّ، حديث رقم:(6785)(12/ 85) وأطرافه (1742، 4403، 6043، 6166، 6868، 7077) ومسلم في الإيمان، باب بيان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّاراً

» حديث رقم: (66)(1/ 82).

4 -

سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه. عند الترمذي في التفسير، باب: ومن سورة التوبة، حديث رقم:(3087)(5/ 273). وأخرجه في موضع آخر، حديث رقم:(2159). وقال: وفي الباب عن أبي بكرة وابن عباس وجابر وحُذيم بن عمرو السعدي.

ص: 264

القول الثاني في هذه الآية الكريمة: أن المراد بقوله: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} أنها أشهر الإمهال الأربعة التي قدمنا أن التحقيق أن أولها من يوم النحر من ذي الحجة عام تسع، وأنها تنقضي بالعشر من ربيع الثاني من ذلك العام، وإنما قيل لها «حُرُم» لأن الله حرّم فيها قتال المشركين، وقال لهم فيها: سيحوا في الأرض أربعة أشهر، أي: آمِنِينَ مُدْبِرِينَ ومقبلين، قتالكم والتَّعَرُّضُ لَكُمْ حَرَامٌ. وهذا أظهر القَوْلَيْنِ هنا؛ لأن اللام في قوله:{الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة: آية 5] الألف واللام فيها للعهد، والأشهر الحُرم المذكورة لم تكن معهودة هنا، والمعهود هنا هي الأربعة المذكورة في قوله:{فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: آية 2] وعلى هذا فانسلاخها هو ما قدمنا بعد انتهاء العشر الأول من ربيع الثاني كما لا يخفى. وقد بيّنا أن قول الزهري رحمه الله أن ابتداء أشهر الإمهال من شوال

(1)

[أنه إن صح عنه فهو غلط منه. والصحيح قول الجمهور، وهو أن ابتداء تأجيل هذه الأشهر الأربعة من يوم النحر، وتَنْقَضِي في اليوم العاشر من ربيع الثاني].

وانسلاخ الأشهر: معناه انْقِضَاء مُدَّتِهَا. تقول العَرَبُ: انْسَلَخَ الشَّهْرُ، وانْسَلَخَ العَامُ: إذا مَضَى زَمَانُهُ، وسلخته: إذا كنت في آخر يوم من أيامه وقد مضى علي. وهذا معروف في كلام العرب

(2)

، ومنه قول لبيد في مُعَلَّقَتِهِ

(3)

:

(1)

في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

(2)

انظر ابن جرير (14/ 133 - 134)، القرطبي (8/ 72)، الدر المصون (6/ 11).

(3)

شرح قصائد المشهورات (1/ 144).

ص: 265

حتى إذا سَلَخا جُمَادى ستَّةً

جُزْءاً فطَالَ صِيَامُهُ وصِيَامُهَا

والأَشْهُر: جمع شهر. و «الأفْعُل» جمع قِلّة؛ لأنها أرْبَعَةٌ.

والحُرُم: جَمْع حرام، وهو الصفة المشبهة من حَرُمَ الشيء فهو حَرَام.

وإنما قيل للواحد منها «حرام» لأَنَّ اللهَ حَرَّمَ فيه القتال

(1)

، وهذا معنى قوله:{فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} على القَوْلَيْنِ المذْكُورَيْنِ {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ} الذين يشركون بالله (جلّ وعلا)، اقتلوهم كلهم {حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} (حيث): كلمة تدل على المكان، كما تدل (حين) على الزمان، وربما ضُمِّنَتْ مَعْنَى الشَّرْطِ، ويجوز فيها لغةً لا قراءة إبدال يائها واواً وتثليث ثائها

(2)

.

ومعنى {حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} : في أي مكان من أمكنة الأرض وجدتموهم فاقتلوهم. وقال بعض العلماء: هذا ما لم يكونوا في الحرم

(3)

. وقال: عموم هذه الآية يخصصه عموم قوله تعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} [البقرة: آية 191]. وعلى هذا القول يكون القتال لا يجوز في الحرم إلا إذا بدؤوا بالقتال. بهذا قال جماعة من العلماء، وقال جماهير من أهل العلم: إنهم يُقْتَلُون في كل مكان، كما دَلَّ عليه عموم (حيث) هنا، وإن كانوا في الحَرَم. قالوا: أمَّا آيَة: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: آية 191] فإنها

(1)

انظر: ابن جرير (14/ 136)، القرطبي (8/ 72).

(2)

مضى عند تفسير الآية (58) من سورة البقرة.

(3)

انظر: القرطبي (2/ 351، 8/ 73).

ص: 266

كانت من مراحل تشريع القتال. وإيضاح هذا المعنى: أنه جَرَتِ الْعَادَة في كتاب الله أن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يُشرع أمراً عظيماً شاقّاً تشريعه على النفوس إنما يُشرِّعه على سبيل التدريج لا مَرَّة واحدة؛ لأنه حكيم عليم. وهذا أمثلته كثيرة، فمنها: أنه لمّا أراد تحريم الخمر وكانت -قبّحها الله- تَصْعب مفارقتها على مَنْ أَلِفَهَا وتَعَهَّدَهَا حَرَّمها تَدْرِيجاً، ذَمّها أَوَّلاً فقال:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: آية 219] فبدأ بعيبها، وأن فيها الإثم الكبير، وقال:{وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} لتبتدئ نفس المؤمن تشمئز منها، ثم بعد ذلك حَرَّمَهَا في أوقات الصلاة، يعني أنها حُرمت عليهم في بعض الأوقات دون بعض، فحرِّم عليهم شربها في الوقت التي تقرب فيه أوقات الصلاة، وكانوا إذاً لا يشربونها إلا من بعد صلاة الصبح؛ لأن مَنْ شَرِبَهَا بعد صَلاة الصبح يصحو قبل صلاة الظهر، وكذلك بعد صلاة العشاء؛ لأن مَن شربها بعد صلاة العشاء يصحو عادة قبل صلاة الصبح، أمّا غير هذا من الأوقات فحرِّم عليهم شربها، كما قال تعالى:{لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} [النساء: آية 43].

ثم لما أَنِست نفوسهم بتحريمها في الجملة، وعيبها أولاً، حرّمها تحريماً باتّاً في سورة المائدة بقوله:{رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: آية 90] وعَلَّقَ الْفَلَاح على اجْتِنَابِهِ، فكان هذا أسهل للتدريج الذي وقع في تحريمها.

وكذلك لمّا أَرَادَ تَشْرِيعَ الصوم -والصوم عبادة شاقّة على النفوس؛ لأن فيها منع البطون والفروج عن شهواتهما- شرّعها تدريجاً: كان أول ما بُدِئ: وجوب الصوم بثلاثة أيام من كل شهر

ص: 267

مثلاً، ثمّ لما فرِض رمضان فُرِض أولاً على سبيل الخيار بين الصوم وبين الإطعام كما تقدّم في قوله:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: آية 184] فلما أَنِسَتْ النفوس بالصوم في الجملة وتمرنتْ عليه أوجب الصوم إيجاباً تامّاً بقوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: آية 185].

وكذلك القتال -وهو محل الشاهد- لمّا كان عظيماً شاقّاً على النفوس؛ لما فيه من تعريض المُهَج والأموال للتلف أذِن فيه أولاً من غير أمْر به في قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} [الحج: آية 39] أَذِنَ فيه أولاً ثم بعد ذلك أوجبهُ في حال دون حال، فأوجب عليهم قتال من قاتلهم دون من لم يقاتلهم -وهو محل المشاهد- في قوله:{وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: آية 191] ثم لمّا استأنست النفوس بالقتال وتمرنت عليه أوجبه إيجاباً باتّاً عامّاً بقوله هنا: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: آية 5].

فهذه الآية الكريمة قوله: {الْمُشْرِكِينَ} هو صيغة عموم، فالألف واللام فيه تدل على العموم؛ لأن (المشركين): جمع (المشرك)، وهو اسم فاعل، والألف واللام الداخلتان على اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة -على أحد القولين- يقول علماء العربية: إنها موصولة، والموصولات من صيغ العموم كما تَقَرَّرَ في الأصول

(1)

. وعلى القول بأن هذا اللفظ قد تُتناسى وصفيته فتكون الصفة غير صريحة فيؤول إلى الأسماء -أسماء الأجناس الجامدة-

(1)

مضى عند تفسير الآية (131) من سورة الأنعام.

ص: 268

فيكون عموماً، فهو لفظ عام على كلا التَّقْدِيرَيْنِ يصدق بكل مشرك، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن تخصيص هذا اليوم بنهيه عن بعض مَنْ يَتَّصِفُ بالشرك، من ذلك: النساء والصبيان من الكفار فإنهم من المشركين، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن قتلهم، وكذلك الرهبان في الصوامع نهى عن قتلهم، وكذلك الشيوخ الفانية نهى عن قتلهم، إلا إذا كان الشيخ الفاني يُستعان برأيه فإنه يُقتل؛ لأن رأيه عظيم على المسلمين؛ ولأجل ذلك قتل الصحابة دُريد بن الصمة يوم حنين، وكان ذا شيبة أعمى للاستعانة برأيه؛ لأنه وضع لهم الرأي الحكيم السديد، وخالفه مالك بن عوف النصري كما سيأتي إيضاحه في غزوة حنين في هذه السورة الكريمة. وكذلك المُعاهدون.

وهذه الآية الكريمة قال بعض العلماء

(1)

: قد لا تتناول أهل الكتاب؛ لأن آيتهم مذكورة في هذه السورة؛ لأن الله يقول: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: آية 29] فالكتابي إذا أعطى الجزية يخرج من عموم هذه الآية.

واعلم أن بعض العلماء

(2)

قالوا: إن الكتابيّ لا يدخل في اسم المشركين. قالوا: لأن الله غاير بينهما في آيات كثيرة كقوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: آية 1] فعطف المشركين على أهل الكتاب، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ

(1)

انظر: القرطبي (8/ 72).

(2)

السابق.

ص: 269

وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: آية 6] وقال: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} [آل عمران: آية 186]. وقال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ} [المائدة: آية 82] فَدَلَّت هذه الآية على المغايرة بين المشركين وأهل الكتاب، والتحقيق أنَّ الكتابيين نوعٌ من المشركين، وقد أوضح الله في هذه السورة الكريمة أنَّ أهل الكتاب من المشركين حيث قال فيهم:{اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلَاّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: آية 31] فَصرّح تعالى بأنهم مُشْرِكُونَ إلا أنّهم نوعٌ خاصٌّ من المشركين، ربما أُدخِل في عمومهم، وربما أُفرد منهم، كأنَّه غيرُ داخلٍ فيهم؛ للفوارق التي بين الكتابيين وعبَدَة الأصنام كما هو معروف، وهذا معنى قوله:{فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: آية 5].

قال بعض العلماء: يؤخذ من عموم هذه الآية أنَّ المسلم لَوْ قدر على اغتيال الحربي لجاز له أن يغتاله.

وأخذ بعض العلماء من هذا قالوا: إذا لم يُقدر عليهم إلا بالقتل بالنار كالضرب بمنجنيق من بعيدٍ ونحو ذلك، أنَّ هذا يتناوله العُمُوم

(1)

. وبعض العلماء يقول: هذا مُثْلة، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن المُثلة

(2)

.

وهذا معنى قوله: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}

(1)

انظر: السابق (8/ 72).

(2)

أخرجه البخاري في الذبائح والصيد، باب ما يكره من المثلة والمصبورة والمُجثَّمة، حديث رقم:(5516)(9/ 643) من حديث عبد الله بن يزيد رضي الله عنه.

وأخرجه في المغازي (باب قصة عُكْل وعُرَيْنَة) عن قتادة -بلاغاً- «بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة ويَنْهَى عن المثْلة» . وقد وصله الحافظ رحمه الله في الْفَتْحِ (7/ 459).

وفي الباب أحاديث كثيرة رواها جماعة من الصحابة منهم: يعلى بن مرة، والمغيرة بن شعبة، وعمران بن حصين، والحكم بن عمير، وعابد بن قرط، وعليّ بن أبي طالب، وأبو أيوب الأنْصَارِيّ، وابن عمر، وزيد بن خالد، وأسماء بنت أبي بكر، وعمر بن الخطاب، وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين).

ص: 270

أي: في أي مكانٍ من أمكنةِ الأرض وجدتموهم.

وقوله: {وَخُذُوهُمْ} يعني: بالأَسْرِ، فمَعْنَى {وَخُذُوهُمْ}: ائسروهم.

وهذه الآية الكريمة من براءة -وهي من آخر ما نَزَلَ مِنَ القُرْآن- تدل على أنه يجوز قتل المشركين وأخذهم بالأسْر، وقال بعض العلماء: هذه الآية من سورة براءة نسخت قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} [محمد: آية 4] فليس هناك إلا القتل

(1)

. وقال بعض العلماء: بل آية القِتَال هِيَ الَّتِي نَسَخَتْ آيَةَ بَرَاءَة، فلا يقتل الأسير، إما أن يُمَنَّ عليه وإما أن يُفْدَى

(2)

.

والتحقيق: أنَّ كل هذه الآيات محكم، وأنها لا يُنْسَخُ بَعْضُها بعضاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم منذ قاتل الكفار، ربما قتل الأسير، وربما فدى الأسير، وربما مَنَّ على الأسير، كل هذا يفعله صلى الله عليه وسلم، فمعلومٌ أنَّه قتل بعض الأُسارى يوم بدر، قتل النضر بن الحارث يوم بدر أسيراً

(3)

،

(1)

انظر: القرطبي (8/ 72).

(2)

انظر: القرطبي (8/ 72).

(3)

راجع ما سبق عند تفسير الآية (12) من سورة الأنفال.

ص: 271

وقتل عقبة بن أبي معيط يوم بدرٍ أسيراً

(1)

، وقد دلت القصة التي ذكرناها في غزاة بدر في سورة الأنفال على أنَّ قَتْلَهُ للنَّضْرِ بن الحارث لم يكن عن وَحْي

(2)

، ولذا لما جاءه شعر أخته -أو ابنته- قُتيلة بنت الحارث -أو قُتيلة بنت النضر بن الحارث- لما أرسلت شعرها المشهور إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي أبكاه حتى أخضل الدمع لحيته، وقال فيه:«لو بَلَغَنِي شِعْرُهَا قَبْلَ أَنْ أَقْتُلَهُ لَعَفَوْتُ عَنْهُ»

(3)

فدلَّ على أنَّه لم يقتله بوحي من الله. وشعرها مشهورٌ قَدَّمْنَاه برمته في سورة الأنفال

(4)

، تقول فيه:

يَا راكبًا إنَّ الأُثَيْلَ مَظِنَّةٌ

مِنْ صُبحِ خَامِسَةٍ وأَنْتَ موفَّقُ

أَبْلِغْ بها مَيْتًا بأنَّ تَحِيَّةً

مَا إِنْ تَزَالُ بها النَّجَائِبُ تَخْفِقُ

مني إليكَ وعبرةً مسفُوحةً

جَادَتْ بِوَاكِفِهَا وأُخْرى تخنُقُ

هل يسمعنَّ النضرُ إن ناديتُه

أم كيف يسمعُ ميتٌ لا ينطقُ

أمحمدٌ يا خيرَ ضَيْءِ كريمة

في قومِهَا والفَحْلُ فحلٌ مُعْرِقُ

ما كان ضَرَّكَ لو مَنَنْتَ ورُبَّما

مَنَّ الفَتى وهو المغيظُ المُحْنَقُ

فالنَّضْرُ أقربُ مَنْ أَسَرْتَ قرابةً

وأحقُّهم إن كانَ عِتْقٌ يُعْتَقُ

ظَلَّتْ سيوفُ بني أبيهِ تَنُوشُه

للهِ أرحامٌ هُنَاكَ تُشَقَّقُ

صَبْرًا يُقادُ إلى المنيةِ مُتْعَبًا

رَسْفُ المُقَيَّدِ وهو عان مُوثَقُ

فهذا يدل على أنَّ الأمر في ذلك إلى الإمام، إن رأى المصلحة

(1)

السابق.

(2)

السابق.

(3)

السابق.

(4)

السابق. وقد سقط بعد البيت الخامس بيت من القصيدة، وهو قولها:

أوكنتَ قابلَ فديةٍ فَلَيُنْفِقَنْ

بِأَعَزَّ مَا يَغْلُو بِهِ مَا يُنْفَقُ

ص: 272

للمسلمين القَتْل قَتَل، وإن رأى أنها الفِدَاء فَدَى، وإِنْ رَأَى أنَّهَا المَنُّ مَنَّ، وهذا هو التحقيق -إن شاء الله- وأنَّ الآياتِ كلها محكمة لم ينسخ بعضها بعضاً، والنبي صلى الله عليه وسلم قد فعل كل ذلك، أطلق أبا عزةَ في غزاة بدر لما قال له: إنَّه ذو بَنات. ولما أمسكه بحمراء الأسد من صبيحة أُحد بعد أن اشترط عليه ألَاّ يعين عليه المشركين وقال له: يا محمد، عفوك مرةً أخرى. فقال له: لا والله، لا تحك عارضيك بين نساء مكة وتقول: غررت محمداً مرتين!! فقتله (صلوات الله وسلامه عليه)

(1)

. وهذا معنى قوله: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ} [التوبة: آية 5] بالأسر {وَاحْصُرُوهُمْ} معناه: ضَيِّقُوا عَلَيْهِمْ واحْصُروهُمْ في مَعَاقِلِهِمْ حتى لا يستطيعوا أن يخرجوا وينتشروا في الأرض، فضلاً عن أن يصلوا إليكم، فالمراد بالحصر هنا: حصرهم في أماكنهم وفي معاقلهم، والتضييق عليهم ومنعهم من الانتشار في الأرض. هذا معنى قوله:{وَاحْصُرُوهُمْ} .

{وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} : المراد بالمرصد هنا: اسم مكان، وقد تقرر في فن التصريف: أن جميع المصادر الميمية، وأسماء الأمكنة، وأسماء الأزمنة إذا لم تكن يعني: من واوي الفاء كانت كلها على (مَفْعَل)، إلا اسمُ الزمان والمكان خاصة إذا كان من (فَعَلَ) بالفتح (يَفْعِلُ) بالكسر

(2)

. والمرصد هنا القياس فيه:

(1)

أخرجه البيهقي في السنن (6/ 320)، (9/ 65)، وأورده الشافعي في الأم (4/ 238)، وابن سعد في الطبقات (2/ 30)، والطبري في تاريخه (3/ 10)، وابن هشام في سياقه لغزوة أُحد.

(2)

انظر: التوضيح والتكميل (2/ 83 - 84).

ص: 273

(المَفْعَل) وهو اسم مكان. معناه: مكان الرصد. والرصد: هو مراقبة الشيء ليُتَمَكَّنَ مِنْهُ في حَالَةِ غِرّته.

{وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} أي: في كل مكانٍ ترصدونهم وترقبونهم فيه، حتى يمروا عليكم فتأخذوهم، فكل شيء هو في طريق شيء مختفياً عنه لتمكنه غرته فهو رصد له. وهذا معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول عامر بن الطفيل

(1)

:

وَلَقَدْ عَلِمْتُ وَمَا إِخَالُكَ نَاسِياً

أَنَّ المَنِيَّةَ لِلْفَتَى بالمَرْصَدِ

ومن هذا قولُ الآخر، وهو عدي بن زيد حيث قال

(2)

:

أَعَاذِلَ إِنَّ الجَهْلَ مِنْ لَذَّةِ الفَتَى

وَإِنَّ المَنَايَا لِلنُّفُوسِ بِمَرْصَدِ

ومن هذا معنى قوله: {يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} [الجن: آية 9]{إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} [الفجر: آية 14] فمعنى: {وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} : اقعدوا لهم في جميع الطرق التي ترصدونهم فيها ليمروا عليكم في حال غرتهم فتتمكنوا منهم. والعرب تقول للإنسان الذي يختفي عند الماء لترد عليه الوَحْش في اللَّيْلِ فيرميها: هذا راصد لها، ومكانه الذي هو فيه: مرصدٌ لها، وهذا معنى معروف.

وقوله: {كُلَّ مَرْصَدٍ} : قال بعض العلماء: هو منصوبٌ على أنَّه ظرف، ولمّا قاله الزجاج

(3)

غلَّطهُ فيه أبو عليّ الفارسي

(4)

وقال: إنَّ مثل هذا لا ينصب على الظرف؛ لأنَّ الطريق مكانٌ محصور

(1)

البيت في القرطبي (8/ 73).

(2)

السابق.

(3)

معاني القرآن (2/ 431).

(4)

انظر: الدر المصون (6/ 11).

ص: 274

كالمسجد والبيت، فلا يكون ظرفاً، وإنما هو منصوبٌ بنزع الخافض، ويدل على أنه منصوبٌ بنزع الخافض: هو ما قَدَّمْنَا في سورة الأعراف في قوله: {وَلَا تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} [الأعراف: آية 86] فعدَّاهُ بِالْبَاءِ التي هي حَرْفُ الجر، ومعلومٌ عند علماء العربية أنَّ النَّصْبَ بنزع الخافض لا يكون على المشهور قِيَاساً مُطَّرِداً، يُحفظ ما سُمع منه ولا يقاس عليه، خِلافاً للأَخْفَشِ الصَّغِير وهو عَلِيّ بن سُلَيْمَان؛ لأنه يقول: إنَّ النزع بالخافض مطَّرِدٌ في كل ما أُمِنَ فيه اللَّبْس، وقد عقد مذهبه ابن مالكٍ في الكافية فقال

(1)

:

وابنُ سُليمانَ اطرادَه رَأَى

إِنْ لم يُخَفْ لَبْسٌ كـ (مَنْ زَيْداً نَأَى)

وعلى هذا فمعنى {وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} : اقعدوا لهم في كل طريق ترقبونهم وترصدونهم فيها حتى تأخذوهم في غرتهم، وعلى هذا فهو منصوبٌ بنزع الخافض. ونظيره من كلام العرب -في نصب الطريق، المرصد: هو الطريق، في نصبه وتقدير حرف الجر الذي هو منصوبٌ بنزعه- قول ساعدة بن جُؤَيَّة الهذلي في بيته المشهور الذي هو من شواهد سيبويه في كتابه

(2)

:

لَدْنٌ بِهَزِّ الكَفِّ يَعْسِل مَتْنُهُ

فِيهِ كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ

يعني: كما عسل -أي: جرى العَسَلَان- الثعلبُ في الطريق.

وقال بعضُ العلماء: اختار بعض المتأخرين أنَّه ظرف، وإن كان محصوراً

(3)

، وبذلك أعرب قوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ

(1)

شرح الكافية (2/ 633).

(2)

الكتاب (1/ 36، 214).

(3)

انظر: البحر (5/ 10)، الدر المصون (6/ 12).

ص: 275

الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: آية 16] وهذا معنى: {وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} : اقتلوهم أولاً، وأْسروهم، وحاصروهم في معاقلهم وأماكنهم، وخذوا عليهم الطرق، وارصدوا لهم فيها لتأخذوهم.

وهذه أوامرُ من الله بأنه يُبذل في التضييق على المشركين وقتلهم وأخذهم كل غاية المجهود. وهذا معنى قوله: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} .

{فَإِن تَابُواْ} من كُفْرِهِمْ وَرَجَعُوا عن شِرْكِهِمْ {وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ} أقاموا صلاة المسلمين {وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ} وهي الحقوق الواجبة عليهم في الأموال، فالصلاة والزكاة معروفتان، وإقامة الصلاة: هي الإتيان بها على وجهها الأكمل من مراعاة أركانها، وشروطها، وسننها، وصلاتها في الجماعات، وأوقاتها، إلى غير ذلك. وإقامة الزكاة: هي إعطاء الواجب من الأنْصِبَاء التي بيَّنَهَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم. إذا فعلوا هذا كله، بأن تابوا من شركهم، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} السبيل

(1)

في اللغة: الطريق. والتخلية: معناه الترك. فمعنى {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} اتركوا طريقهم لا تقعدوا عليها، والعرب تقول: خَلِّ سبيل فلان. أي: اترك له الطريق، ولا تقعد له في طريقه، ولا تتعرض له. فإذا خَلَّيت له طريقه يمر ويذهب بها كيف شاء، معناه: أنك لم تتعرض له، وهذا معروف في كلام العرب كثيرٌ مبتذل، يقولون: خَلِّ سبيله، أي: اتْرُكْه ولا تَتَعَرَّضْ لَهُ؛ لأن سبيله: طريقه الذي يمشي بها، فإذا لم تقعد له فيها ولم تتعرض له فقد تركته يذهب ويقبل ويدبر من غير أن تتعرض له،

(1)

مضى عند تفسير الآية (116) من سورة الأنعام.

ص: 276

وهو المعروف، ومن هذا المعنى قول ربيعة بن مكدم في رَجَزِهِ المشْهُور في قصته مع دريد بن الصَّمَّة وأصحابه

(1)

:

خَلِّ سَبِيلَ الحَرَّةِ المَنِيعَهْ

إِنَّكَ لَاقٍ دُونَهَا رَبِيعَهْ

فِي كَفِّهِ خَطِيَّةٌ مُطِيعَهْ

أَوْ لَا فَخُذْهَا طَعْنَةً سَرِيعَهْ

وَالطَّعْنُ مِنِّي فِي الوَرَى شَرِيعَهْ

معنى: «خَلِّ سبيلها» : لا تَتَعَرَّضْ لهَا واتْرُكْ طَرِيقَهَا تذهب فيها وتَتَوَجَّه كيف شاءت. ومن هذا المعنى قول كعب بن زهير

(2)

:

فقُلتُ خَلُّوا سَبِيلي لَا أَبَا لَكُمُ

فَكُلُّ مَا قَدَّرَ الرَّحْمَنُ مَفْعُولُ

وقوله: (خَلِّ سبيلها) من كنايات الطلاق المعْرُوفَة عند الفقهاء في المذاهب. هذا معروف في كلام العرب، فكُلُّ مَنْ تَرَكْتَهُ، وتَرَكْتَ لَهُ طَرِيقَهُ يَذْهَبُ مَعَهَا ويمر مُقْبِلاً ومُدْبِراً حيث شاء فقد خليت سبيله، أي: تركته ولم تَتَعَرَّضْ لَهُ، ومن هذا قول جرير يهجو عمر بن لجيءٍ التميمي

(3)

:

خَلِّ السَّبِيلَ لِمَنْ يَبْنِي المَنَارَ بِهِ

وَابْرُزْ بِبَرْزَةَ حَيْثُ اضْطَرَّكَ القَدَرُ

قَدْ خِفْتَ يَا ابْنَ الَّتِي مَاتَتْ مُنَافِقَةً

مِنْ خُبْثِ بَرْزَةَ أَنْ لَا يَنْزِلَ المَطَرُ

وهذا معنى: {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} .

(1)

هذا الرجز في الأمالي (2/ 271).

(2)

شرح قصيدة بانت سعاد للتبريزي ص (31).

(3)

البيتان في ديوانه ص (211)، شواهد الكشاف ص (47) وبين البيتين سبعة عشر بيتاً. ولفظ الشطر الأول من البيت الأول:

(خل الطريق

).

ص: 277

وهذه الآيةُ وأمثالها في القرآن هي التي تمسّك بها الصدِّيق أبو بكر رضي الله عنه في قتالِ أهل الردة، لما منعوا الزكاة، فإنَّ الصَّحَابَةَ أوَّلاً قالوا: كيف نُقَاتِلُهُمْ وَهُمْ يَشْهَدُون أن لا إله إلا الله وأنَّ محمَّداً رَسُول الله؟! ومن مثل هذه الآية استدلَّ أبو بكر رضي الله عنه لأن الله قال: {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} بعد ثلاثة شروط، وهي: توبتهم مِنَ الشِّرْك، وإقامتهم الصلاة، وإيتاؤهم الزكاة. وقد تَقَرَّرَ في علم الأصول، أنَّ الشرط المشروط بشروطٍ متعدِّدة لا يحصل المشروط إلا بجميعها. فلو قلت لِعَبْدِكَ: إن صام زيد، وصلى، وقام وقعد فأَعْطِهِ دِيناراً، فإنه لا يستحق الدينار إلا إذا فعل جميع الشروط كلها، ولذا تخلية سبيلهم مشروطةٌ بهذه الشروط كلها؛ لأنَّ ما عُلِّق على شرطين أو شروط لا يتحصل إلا بجميع تلك الشروط، كما هو مقرر في الأصول. وأخت هذه الآية آتية قريباً في قوله:{فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: آية 11] مفهومه: أنَّهم إن لَمْ يَتُوبُوا، أَوْ لم يُقِيمُوا الصلاة، أو لم يؤتوا الزكاة فلا تخلوا سبيلهم، وليسوا إخوانكم في الدين، أي: وهو كذلك.

وهذه الآية الكريمة قال بعض العلماء: يؤخذ منها أنَّ مَنْ قَالَ: «تُبْتُ» فقط لا يجتزئ بذلك حتى يفعل أفعالاً تدل على صحة ما يَقُولُ؛ لأنَّ إِقَامَةَ الصَّلَاةِ وإِيتَاءَ الزَّكَاةِ بَرَاهِين وأدلة على صدقه في توبته التي قال. وهذا معنى قوله: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: آية 5] كثير المغفرة والرحمة، ومن رحمته ومغفرته الكثيرة تَوْبته ورحمته للذين تابوا من شركهم، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، فهو كثير المغفرة والرحمة، يرحم هؤلاء ويغفر لهم؛ لأنَّ من تاب تابَ الله

ص: 278

عليه {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: آية 38].

{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَاّ يَعْلَمُونَ (6)} [التوبة: آية 6].

(إنْ) هي الشرطية. وقوله: {أَحَدٌ} : يقول علماء العربية: إنَّه مَرْفُوعٌ بفعل محذوف يفسره ما بعده. أي: وإن اسْتَجَارَكَ أحدٌ من المشركين؛ لأن {إن} أداة شرط لا تَتَولى إلا الجمل الفعلية، فلا تتولى الجمل الاسمية؛ ولذا يُقَدَّر فِعْلٌ بَعْدَهَا. فـ {أَحَدٌ} عند علماء العربية فاعلُ فعلٍ محذوف يفسرهُ ما بعده

(1)

.

والأحد معناه: الواحد، وأصل همزته مبدلة من واو، أصل الأحد:(وَحَد) بواو؛ لأنَّ هذه المادَّة أصلها واوية الفاء، وكثيراً ما تقول العرب في الوَحَدِ: الأحد، وربما نطقت بلفظ الوَحَد على أصله

(2)

. ومن ذلك قول نابغة ذبيان

(3)

:

كَأَنَّ رَحْلِيَ وَقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَا

بِذِي الجَلِيلِ عَلَى مُسْتَأنَسٍ وَحِدِ

وقوله: {اسْتَجَارَكَ} قَدْ قَدَّمنا أنَّ السين والتاء للطلب فمن معاني (استفعل) أنَّ السين والتاء للطلب، كقولهم:«اسْتَغْفر ربه» أي: طلبه المغفرة. و «استطعم» طلب الطعام، و «استسقى» طلب السقيا، و «استنجد» طلب النجدة. وهكذا. فقوله:{اسْتَجَارَكَ} طلب الإجارة منك. والإجارة: هي الأمان. أن تُجِيرَهُ وتُؤَمِّنَهُ من أذَى

(1)

انظر: القرطبي (8/ 77).

(2)

انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص275.

(3)

مضى عند تفسير الآية (71) من سورة البقرة.

ص: 279

قَوْمِكَ حتى يسمع ما أُنزل إليك. وهذا معنى قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} قال بعض العلماء: لما نادى علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الموسم بهذه الآية من سورة براءة، أتاه قوم فقالوا: إن انتهت هذه الأشهر الأربعة وانقضت أشهر الإِمْهَال، وكان الواحد منا يريد أن يسمع من محمدٍ ما يقول لينظر هل يتبعه أو لا، يُقتل؟! فقال لهم علي: لا يُقتل؛ لأنَّ الله يقول: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ}

(1)

.

معنى هذه الآية الكريمة بإيضاح: أنَّ بعض المشركين إذا أراد أن يسمع ما يقوله رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ليفهم معنى ما ينزل عليه ويعرف الأوامر التي يأمر بها، والنواهي التي ينهى عنها، والأشياء التي يدعو إليها، ليستيقن في قرارة نفسه أهو حقٌّ فيتبعه أو يعلم أنَّه ليس بحق فيصد عنه، وطلب أن يجار، أن يُؤَمَّن، وألا يصل إليه أذى حتى يسمع القرآن، ويفهم ما أنزل على النبي؛ ليكون على بصيرة مِنْ أَمْرِهِ في الأخْذِ والتَّرْكِ، فإنه يجب أن يعطى ذلك الأمان حتى يسمع ويُتلى عليه القرآن، ويُفَهَّم بما فيه من الزواجر والمواعظ، ثم بعد ذلك إن أسلم فبها ونعمت، وإن أصرَّ على كُفْرِهِ وَجَبَ أَنْ يُردَّ إِلَى مَأمنه وهو محل داره التي يأمن فيها. هذا معنى قوله:{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} طلبك أن تجيره وتؤمنه.

{حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} هو هذا القرآن العظيم. وهذه الآية الكريمة من سورة براءة نص صريح في أنَّ هذا الذي نقرؤه ونتلوه هو

(1)

هذا الأثر ذكره القرطبي في التفسير عن سعيد بن جبير مرسلاً (8/ 76) وأبو السعود (4/ 44)، والألوسي (10/ 53).

ص: 280

بعينه كلامُ الله، فالصوت صوت القارئ، والكلام كلام البارئ؛ لأن الله صرَّح بأن هذا المشرك المستجير يسمع كلام الله يتلوه عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم. فهذا المحفوظ في الصدور، المقروء في الألسنة، المكتوب في المصاحف، هو كلام الله (جَلّ وعلا) بمعانيه وألفاظه. ولا شَكَّ أن أصل الكلام صفة الله (جَلَّ وعلا).

ونحن لا نحب إكثار الخوض فيه؛ لأن هذه الصفة هي منشأ البلايا والمحن

(1)

، ولكن نقول: إن الكلام صفة الله التي لم يزل متصفاً بها، فلم يتجرد يوماً عن كونه متكلماً، فالكلام صفته المتَّصِف بها أزلاً لم يَتَجَرَّدْ، ومَعَ كَوْنِهِ مُتَكَلِّماً فهو في كل وقت يَتَكَلَّمُ بِمَا شاء كيف شاء، على الوجه اللائق بِكَمَالِهِ وجَلالِهِ، فَكَلامُهُ صفته ليس بمخلوق.

وقد أشرنا -مراراً- إلى المحنة التي ابْتَلَى اللهُ بِهَا المسْلِمِينَ في أيام الدولة العباسية بالامتحان بالقول بخلْقِ القُرْآنِ؛ لأَنَّ مِحْنَةَ القول بخلق القرآن نَشَأَتْ فِي أيَّامِ المَأْمُونِ، ولم تزل في أيام المأمون حتى مات، واستفحلت في أيام المعتصم واستحكمت، وفي أيامه ضُرِب سيد المسلمين في زمانه أحمد بن حنبل رضي الله عنه وأرضاه)، يُضرب حتى يُرفع من محل الضرب لا يعرف ليلاً من نهار، إذا أفاق قالوا له: قل: القرآن مخلوق. فيقول: لا، القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود. وكذلك مضى زمن الواثق والمحنة قائمة على ساق وقدم، وقد أزالها الله على يد المتوكل غفر الله له وعفا عنه؛ لأن محنة القول بخلق القرآن أزالها المتوكل على الله بعد

(1)

يريد رحمه الله ما نشأ بسبب الاختلاف في هذه الصفة، وإلا فهي صفة كمال من كل وجه.

ص: 281

أن مضت في زمن المأمون والمعتصم والواثق. وكان بعض المؤرخين يقولون: إنها في أخريات أيام الواثق أنها بردت وانكسرت شوكتها وضعف شرها وقد قدمنا في هذه الدروس السابقة

(1)

أن ذلك على يد ذلك الشيخ الشامي، صاحب القصة المشهورة، وأنه شيخ جيء به من الشام أيام الواثق بالله، جيء به مكبلاً بالحديد ليمتحن ويقتل في محنة القول بخلق القرآن، وجيء به، وجلس الواثق يوماً -والرواية رواها الخطيب البغدادي عن ابن الواثق محمد من طرق أسانيدها فيها ما يُنكر، ولكنها قصةٌ معناها صحيح، تَلَقَّاهَا العُلَمَاء بالقبول- وذلك أنّ الواثق لما أراد قتل ذلك الشيخ الشامي رحمه الله كان إذا أراد قتل أحد أحضر ولده محمداً -وهو الذي روى الخطيب هذه القصة من طريقه- فجيء بالرجل مُقَيَّداً بالحديد، فقال للواثق: السلام عليك يا أمير المؤمنين!! قال: لا سلَّمك الله. فقال الشيخ: بئس ما أدَّبك مؤدبك يا أمير المؤمنين!! الله يقول: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: آية 86] واللهِ ما حَيَّيت بأحسن منها ولا رَددتها.

فقال الواثق: ائذنوا لأبي عبد الله -يعني الخبيث أحمد بن أبي دؤاد، عامله الله بما هو أهله؛ لأنه سبب هذه البلايا والمحن- وأحضره، فقال له ابن أبي دؤاد: الرجل متكلم!! فقال الواثق لابن أبي دؤاد: ناظر هذا الرجل. فقال الشيخ الشامي: ابن أبي دؤاد أحقر من أن يناظرني -كما جاء في بعض روايات قصته- فقال له ابن أبي دؤاد: ما تقول في القرآن؟ فقال الشيخ: يا ابن أبي دؤاد: ما أنصفتني. يعني: أنَّ الذي يراد أن يُقَدَّمَ للقتل أحق بأن يكون هو السَّائِل. فقال له: سلْ. فقال: ما تقول يا ابن أبِي دُؤاد

(1)

مضى عند تفسير الآية (114) من سورة الأنعام.

ص: 282

في القرآن؟ قال: أقول إنَّه مخلوق. قال: مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها، وتأمرهم بها، ويفتن الخلفاء فيها يمتحنون فيها الناس بفتياك ورأيك، هل كان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون -أبو بكر وعمر وعثمان وعلي- هل كانوا عالمين بها أو لا؟ فقال ابن أبي دؤاد: ما كانوا عالمين بها. فقال الشيخ الشامي: ما شاء الله!! ما شاء الله!! جهلها رَسُول الله وخلفاؤه الراشدون وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعلمها ابن أبي دؤاد!!، فقال ابن أبي دؤاد: أقلني، والمناظرةُ على بابها. فقال له: ذلك لك. ثم قال له: ما تقول في القرآن؟ قال: مخلوق. قال: مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها هل كان رَسُول الله وخلفاؤه الراشدون عالمين بها أو لا؟ قال: كانوا عالمين بها، ولكنهم لم يدعو الناس إليها. فقال له الشيخ الشامي: يا ابن أبي دؤاد: ألم يسعك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما وسع رَسُول الله في أمته، ووسع خلفاءه الراشدين في رعاياهم؟! فَأَلْقَمَهُ حَجَراً وسكت، وقام الواثق وجلس في محل خلوته واضطجع، وجعل رجله على ركبته وقال: جهلها رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعلمها ابن أبي دؤاد؟ ما شاء الله!! ما شاء الله!! ثم قال: علمها رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون ولم يدعوا الناس إليها، ألم يسعك يا ابن أبي دؤاد ما وسع رَسُول الله وخلفاءه الراشدين في أمةِ محمد صلى الله عليه وسلم؟ ثم دعا بالحداد وقال له: اذهب وفكَّ قيد هذا الشيخ الشامي. وأعطاه أربعمائة دينار، وقال له: انصرف راشداً إلى أهلك.

وذكر الخطيب في بعض روايات هذه القصة بأسانيد ليست قائمة أنَّه بعد ذلك لم يمتحن أحداً. بل روى -أيضاً- عنه أن الواثق رجع عنها في أُخريات حياته.

ص: 283

وعلى كل حال فالقرآن كلام الله وصِفَته الأزَلِيَّة، ليس بمخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وهو صفته الأزلية لم يتجرد عن كونه متكلماً يوماً ما، وهو في كل يوم يتكلم بما شاء، كيف شاء، على الوجه اللائق بكماله وجلاله (جَلّ وعلا) من غير مشابهةٍ للخلق، ومن غير تعطيل له من صفته (جَلّ وعلا). وهذا معنى قوله:{فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} .

{ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: آية 6] أَبْلَغَهُ إِيَّاهُ: أَوصَلَهُ إِلَيْهِ. والمأمن هنا: اسم مكان -أيضاً- كالمرصد، فالمأمن والمرصد كلاهما اسم مكان، فالمرصد مكان الرصد، والمأمن: مكان الأمن، أي: أبلغه مكان أمنه، وهو داره الذي جاء منها، وأهله الذي جاء من قِبَلِهم. وهذا معنى قوله:{أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} ثم قال: {ذَلِكَ} المذكور من الأمر بإجارة المشرك المستجير حتى يسمع كلام الله ويَتَفَهَّمَهُ وَاقِع بسبب أنَّهُمْ {قَوْمٌ لَاّ يَعْلَمُونَ} لا يعلمون الْوَحْيَ، ولا يفهمون عن الله، فإذا طلبوا أن يعلموا ويتعلموا ويسمعوا ما جاء عن الله فلا تمنعوهم من ذلك، فأمِّنوهم حتى يسمعوا ويَتَفَهَّمُوا ويَعْرِفُوا الحَقَّ لَعَلَّ اللهَ يَهْدِيهم، وهذا معنى قوله:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَاّ يَعْلَمُونَ} .

قال تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَاّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ

ص: 284

الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)} [التوبة: الآيات 7 - 11].

{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَاّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)} [التوبة: آية 7].

لما أنزل الله أول هذه السورة {بَرَاءةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1)} [التوبة: آية 1] فنبذ العهد إلى كل المعاهدين، وأعلمهم بأنهم حرب بعد مضي أربعة أشهر، ولم يستثنِ من ذلك إلا القوم الذين ثبتوا على عهدهم ولم ينقضوه، ولم يظاهروا أحداً على المؤمنين، بَيَّن في هذه الآية الكريمة أنَّ ذلك الحكم المذكور في أول هذه السورة أنَّه حكم واقع في محله، وأنَّ نبذ العهود إلى المشركين أمرٌ في غاية الإحكام والصواب؛ لأنه قال:{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ} (كيف) هنا حرف يدل على الاستبعاد، يُستبعد جدّاً أن يكون للمشركين عهد يُحْفظون به ويأمنون به على أنفسهم وأموالهم، مع خبث ما يبطنونه من العَدَاوَةِ للمُسْلِمِينَ.

[2/أ] / والمعنى: أنَّ نبذ عهودهم إليهم حكم في غاية الصواب واقع في موقعه، موضوع في موضعه؛ لأنهم أهل خبثٍ وأهل عداوةٍ ومكْرٍ للإسلام، يستحقون بنبذ عهودهم إليهم، وأن يكونوا حَرباً، إلا الطائفة الذين ثبتوا. وهذا معنى قوله:{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} يأمنون به على أنفسهم وأموالهم {عِندَ اللَّهِ} يأمر نبيه بالوفاء به {وَعِندَ رَسُولِهِ} صلى الله عليه وسلم يعمل لهم بمقتضاه {إِلَاّ} الطائفة الثابتة التي لم يوجد منها غدر ولا مكر فهؤلاء مستثنون كما تقدم.

ص: 285

{إِلَاّ الَّذِينَ [عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} ]

(1)

[التوبة: آية 7] لأن صلح الحديبية الذي عقده النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش بواسطة سهيل بن عمرو العامري رضي الله عنه دخل في حلف قريش ودخل في صلحهم معهم قبائل من كنانة بن مدركة، منهم: بنو الديل، وبنو ضمرة، وبنو مدلج أولاد بكر بن عبد مناة بن كنانة، وبنو جذيمة بن عامر، عامر هو ابن عبد مناة بن كنانة أخو بكر. فهم أربع قبائل من كنانة، هؤلاء القبائل الأربع من كنانة بن مدركة كانوا أهل عهد مع النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش، ثم نقض العهد منهم بنو الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بأن عَدَوا على خُزَاعَةَ، ونقض معهم قريش حيث أعانوهم على الخزاعيين، وبَقِيَ بَنُو ضَمْرَةَ وبَنُو جذيمة بن عامر وبنو مدْلِج على عهدهم لم ينقضوا، وهم الذين استثناهم الله

(2)

.

وهذه المعاهدة وقع عَهْدُهَا في الحُدَيْبِيَةِ كما عليه جميع المؤرخين. والله (جلّ وعلا) ذكر أنها في المَسْجِدِ الحَرَام، والتحقيق أن الحديبية بعضها في الحلّ وبعضها في الحرم. وهذه الآية تدل على أن معاهدة الحديبية وقعت في الطَّرف منها الذي هو مِنَ الحَرَم؛ لأنه جرت العادة أن الله رُبَّمَا أطْلَقَ المسجد الحرام وأراد به جميع الحرم، فالمراد به هنا: إلا الذين عاهدتم في حرم الله عند الحديبية.

(1)

في هذا الموضع انقطع التسجيل، وقد أكملت بقية الآية وجعلت ذلك بين معقوفين.

(2)

مضى عند تفسير الآية (96) من سورة الأنعام.

ص: 286

وأطلق على اسم الحرم «المسجد الحرام» ؛ لأنَّهُ مِنْ أهم أجْزَائِهِ، وهو أسلوبٌ عربي معروف

(1)

، ومن إطلاق المسجد الحرام على جميع الحرم:{وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: آية 191] أي: لا تقاتلوهم في جميع الحرم؛ ولأجل هذه الإطلاقات سيأتيكم أن قوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: آية 28] أنَّ المراد به لا يقربوا الحرم كلَّه بعد هذا العام. وهذا معنى قوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَاّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ} في صلح الحديبية {عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} .

{فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ} (ما) مصدرية ظرفية، وهي منصوبة بـ «استقيموا»

(2)

، أي: استقيموا لهم وأوفوا لهم بالعهد إلى تمام مُدَّتِهِمْ في جميع المدة التي استقاموا فيها لكم، ولا تبدؤوهم بنقض العهد. وهذا معنى قوله:{فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ} كما تقدم في قوله: {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: آية 4] هذا معنى قوله: {فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ} . والذين قالوا: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي قُرَيْش

(3)

. يظهر أَنَّ قَوْلَهُمْ خِلاف التحقيق؛ لأن قريشاً نقضوا العهد وحاربهم النبي صلى الله عليه وسلم في فَتْحِ مَكَّةَ قَبْلَ نُزُولِ هذه الآيات مِنْ بَرَاءَة؛ لأنها نزلت عام تسع، وأرسل النبي بها عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه بعد أبي بكر ينادي بها في الموسم عام تسع. وفي ذلك الوقت أهل مكة قد نقضوا قبل هذا بزمان، وغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

سيأتي عند تفسير الآية (28) من هذه السورة.

(2)

انظر: الدر المصون (6/ 15).

(3)

انظر: ابن جرير (14/ 143).

ص: 287

وفتح مكة عنوة على التحقيق، وظفر بهم، وسمُّوا الطلقاء، وأعْطَى عَهْداً لمنْ أراد منهم أن يتربَّص كصفْوان بن أميَّة ومَنْ فِي مَعْنَاه. وهذا معنى قوله:{إِلَاّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ} .

{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} ويدخل في المتقين دخولاً أوَّلِيّاً: الذين لا ينقضون العهود ويوفون بالعهود؛ لأن الوفاء بالعهد وعدم نقضه ونكثه من تقوى الله (جلّ وعلا)، والمتصف بالتقوى يحبّه الله. وهذا معنى قوله:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .

{كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)} [التوبة: آية 8].

هذا تأكيدٌ بعد تأكيد؛ لأن حكم الله بنبذ العهود إلى الكفار أمرٌ في غاية الإحكام والصواب واقعٌ في موقعه، موضوعٌ في موضعه، والفعل هنا محذوف دلَّ ما قبله عليه

(1)

. أي: كيف يكون لهم عهدٌ عند الله وعند رسوله وحالهم أنهم {إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} أي: إن يغلبوكم ويقهروكم ويجدوا فرصة يهينونكم بها لا يراعون فيكم العهود ولا الذمم، ولا يراعون شيئاً، بل يقتلونكم، فمن كانوا بهذه المثابة مِنَ الغَدْرِ والمَكْرِ والخِيَانَةِ وسوء الطوايا والنيات، نَبْذ عُهُودِهِمْ إلَيْهِمْ هو أمْرٌ في غاية الحكمة والإصابة. وهذا معنى قوله:{كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا} كيف يكون لهم -للمشركين- عهد والحال أنهم إن يظهروا، وقد عُلِمَ من اللغة العربية أن العرب رُبَّما تحذف الفعل بعد (كيف) إذا تقدم ما يدلّ عليه؛ لأن (كيف) هنا حُذف بعدها

(1)

انظر: ابن جرير (14/ 145)، القرطبي (8/ 78).

ص: 288

قوله: {كَيْفَ} يكون لهم عهدٌ عند الله وعند رسوله والحال أنهم وغِرَةٌ صدورهم، حرب أضداد {وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً} ونظير هذا من كلام العرب في حذف الفعل بعد كيف إذا دَلَّ المَقَام عليه قول الشاعر

(1)

:

وَخَبَّرْتُمَاني أنَّمَا الموْتُ بالقُرَى

فَكَيْفَ وهَاتَا هَضْبَةٌ وقَلِيبُ

ويُروى: «فكيف وهاتا هضبة وكثيب» ، هذا قاله بدويّ أعرابي قال له قوم: إن القرى والمدن والحضر فيها الوباء، يموت الناس فيها غالباً. والصحة أجود في الصحاري؛ لأن أهلها أقلّ موتاً!! فخرج إلى الصحراء، فلما خرج إلى الصحراء فإذا قَبْرٌ في الصحراء بجنب كثيب وهضبة فقال:

وَخَبَّرْتُمَاني أنَّمَا الموتُ بالقُرى

فكيفَ وهَاتَا هَضْبَةٌ وقَلِيبُ

أي: فكيف مات هذا وهو في البادية وليس في القرى؟ وهذا معنى قوله: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} {يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} معناه: يغلبوكم وينتصروا عليكم، تقول العرب: ظهروا عليهم: إذا غلبوهم وانتصروا عليهم. ومنه قوله تعالى: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: آية 14] أي غالبين منتصرين؛ لأن أصل (ظَهَره): علاه فطلع على ظهره، والغالب كأنه يعلو المغلوب حتى يقف على ظهره، ومنه قوله:{فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ} أي: يعلوا ظهره

(2)

{وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً} [الكهف: آية 97]. كيف يكون

(1)

البيت لكعب بن سعد الغنوي، وهو في ابن جرير (14/ 145)، القرطبي (8/ 78).

(2)

انظر: القرطبي (8/ 78).

ص: 289

لهم عهد وهم بهذه المثابة من خبث النيّات والطويّات، وشدة العداوة، وغِرَةٌ صدورهم، والحال {إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} أي: يغلبوكم ويقهروكم وينتصروا عليكم {لَا يَرْقُبُواْ} أي: لا يراعوا فيكم.

{إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً} ولا يحفظوا لكم {إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً} اعلموا أن المراد بـ (الإلّ) هنا فيه لعلماء التفسير أقوالٌ متقاربة

(1)

:

قال بعض العلماء: (الإلُّ) اسم الله بالعبرانية. واستأنسوا لهذا ببعض القراءات الشاذة: (لا يرقبوا فيكم إِيْلاً ولا ذمة)

(2)

والإيل من أسماء الله بالعبرية. فجبرائيل معناه: عبد الله، وإسرافيل: عبد الله، وإسرائيل: عبد الله. وهذا القول قال به جماعة من العلماء، أن (الإيل والإلّ) تطلق على الله، ومعروفٌ في قصة أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لما جاءه قوم من أصحاب مسيلمة الكذَّاب وقال لهم: اقرؤوا علي مما يدّعي أنه ينزل عليه. فقرءوا عليه شيئاً مِنْ تُرَّهَاتٍ مسيلمة الكذَّاب، فقال: أنتم تعلمون أن هذا لم يخرج من إلّ، أن هذا كلام لم يصدر من الله. وعلى هذا القول فالمراد: إن يظهروا عليكم ويغلبوكم لا يراقبوا فيكم الله، ولا يراعوا فيكم الله، ولا العهود. هذا قال به قوم.

وقالت جماعات من العلماء: (الإلّ) هنا المراد به القرابة، أي: لا يراعون فيكم قرابة، بل يقتلونكم وإن كنتم من قراباتهم. وبهذا قال جماعات من علماء التفسير، وإطلاق الإلِّ على القرابة

(1)

انظر: أبن جرير (14/ 146 - 149)، القرطبي (8/ 79)، الدر المصون (6/ 17 - 20).

(2)

انظر: المحتسب (1/ 283).

ص: 290

معنى معروف في كلام العرب مشهور، ومنه قول تميم بن مقبل

(1)

:

أَفْسَدَ النَّاسَ خُلُوفٌ خَلَفُوا

قَطَّعُوا الإِلَّ وأَعْرَاقَ الرَّحِمْ

أي: قطعوا القرابات ولم يصلوها، ومنه بهذا المعنى قول حسان بن ثابت رضي الله عنه

(2)

:

لََعَمْرُكَ إنَّ إلَّكَ في قُرَيْشٍ

كَإِلِّ السَّقْبِ مِنْ رأْلِ النَّعَامِ

يعني: إنّ قرابتك في قريش كذب كقرابة السقب الذي هو الحوار -أعني ولد الناقة- من رألِ النعام، ولا قرابة بين أولاد الإبل وأولاد النعام، ومن هذا المعنى قول يزيد بن مفرغ الحميري في شعره الذي ينفي به نسب زياد بن أبيه عن قريش، ويعاتب معاوية في استلحاقه له؛ لما كان بينه وبين عبّاد بن زياد من العداوة، وما أهانه به عبّاد بن زياد كما هو معروف، قال يزيد بن مفرّغ الحميريُّ في ذلك أبياته المشهورة التي يقول فيها

(3)

:

ألَا أبْلِغْ معاويةَ بْنَ حَرْبٍ

مُغَلْغَلَة مِنَ الرَّجُلِ اليَمَانِي

أَتَغْضَب أن يُقالَ أَبُوكَ عَفٌّ

وَتَرْضَى أَنْ يُقَالَ أَبُوكَ زَانِي

إلى أن قال في ابن زياد:

فَأَشْهَدُ أَنَّ إِلَّكَ مِنْ قُرَيْشٍ

كَإِلِّ الجِلِّ مِنْ وَلَدِ الأَتَانِ

أَيْ: إِنَّ قَرَابَتَكَ فِي قُرَيْش، وهذا معنى معروف في كلام العرب، وعلى هذا القول {لَا يَرْقُبُواْ} أي: لا يُرَاعُون ولا يحْفَظُون

(1)

البيت في ابن جرير (14/ 148).

(2)

ديوانه ص (242) والسقب: ولد الناقة. والرَّأل: وَلَدُ النعام.

(3)

الأبيات في تاريخ دمشق (65/ 180 - 181) ولفظ البيت الثالث فيه:

فأشْهَد أنَّ رحمك مِنْ زياد

كرحم الفِيلِ من وَلَدِ الأَتَانِ

ص: 291

فيكم {إِلاًّ} أي: قرابة {وَلَا ذِمَّةً} أي: لا قرابة ولا عهداً، وقال بعض العلماء: الإلّ هو الحِلْفُ، فالعَرَبُ تقول: بَيْنِي وبين فلانٌ إِلٌّ: إذا كان بَيْنَكُمَا حِلْفٌ. قالوا: واشتقاق (الإِلُّ) أنهم كانوا إذا تَحَالَفُوا وتَمَاسَحُوا بالأَيْدِي عند الحلف رفعوا أصواتهم، والعرب تقول:«ألَّ، يَؤُلُّ» إِذَا صَرَخَ ورَفَعَ صوته، ومنه: أَلِيلُ المَرِيضِ؛ أي: أَنِينُ المَرِيضِ المُرْتَفِع، والعرب تقول:«دعت الجارية أَلَلَيْهَا» إذا وَلْوَلَتْ؛ لأن الأليل صراخٌ وصوت. ومنه قولهم: دَعَتِ الجارية ألليها: إذا وَلْوَلَتْ قَول الكميت

(1)

:

وأنتَ ما أنت في غَبْراءَ مُظْلمةٍ

إذا دَعَتْ أَلَلَيْها الكَاعِبُ الفُضُلُ

وقال قومٌ آخرون: إن (الإلّ) معناه العهد. وعلى هذا القول فهو شيءٌ معطوف على نفسه باختلاف اللفظين، وقد قدّمنا في هذه الدروس مراراً

(2)

أن عطف الشيء على نفسه بلفظين مختلفين أنه أسلوبٌ عربي معروف؛ لأن المغايرة في اللفظ ربما نزلتها العرب كمغايرة المعنى. وهذا الأسلوب في اللغة العربية وفي القرآن، فمن أشهر أمثلته في القرآن قوله تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4)} [الأعلى: الآيات 1 - 4] لأن (الذي) و (الذي) كلها واقعة على شيء واحد هو الله (جلّ وعلا)، إلا أنه لما اختلفت الألفاظ صار العطف بسبب اختلافها، وهو أسلوب معروف في العربية، ومن شواهده المشهورة قول الشاعر

(3)

:

(1)

البيت في اللسان (مادة: ألل)(1/ 86)، الدر المصون (6/ 20).

(2)

مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة.

(3)

السابق.

ص: 292

إلى المَلِكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمَامِ

ولَيْثِ الكَتِيبَةِ فِي المُزْدَحَم

وهو كثير في كلام العرب، ومما أنشده له صاحب اللسان قول الشاعر

(1)

:

إِنِّي لأعظم في صدر الكَميِّ على

ما كان في زَمَنِ التَّجْدِيرِ والقِصَرِ

وقول عنترة في معلقته

(2)

:

حُيِّيتَ من طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ

أَقْوَى وأَقْفَرَ بَعْدَ أُمّ الهَيْثَمِ

لأن (الإقواء) و (الإقفار) معناهما واحد. و (التجدير) و (القصر) معناهما واحد.

واختار كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله أن هذه المعاني كلها يجب حمل (الإلِّ) عليها؛ لأنه شاملٌ لِلْعَهْدِ والقرابة، والحلف

(3)

؛ أي: لا يُرَاعُونَ فِيكُمْ عَهْداً، ولا قرابة، ولا حلفاً، ولا يُرَاعُونَ اللهَ فِيكُمْ. وهَذَا الذي ذهب إليه هو مِنْ حَمْلِ المُشْتَركِ على مَعَانيه، وحمل المشترك على معنييه أو معانيه مما اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَماء الأصُول، والذي حَرَّرَهُ المحققون من أصوليي أصحاب المذاهب الأربعة هو جواز حمل المشترك على مَعْنَيَيْهِ أو معانيه

(4)

، فيجوز أن تقول مثلاً: عدا اللصوص البارحة على

(1)

البيت في اللسان (مادة: جدر)(1/ 417).

(2)

البيت في ديوانه ص 118.

(3)

تفسير ابن جرير (14/ 148).

(4)

انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 189 - 195)، البحر المحيط في أصول الفقه (2/ 126 - 148، 3/ 166 - 472)، مجموع الفتاوى (13/ 340 - 341)، زاد المعاد (5/ 606)، قواعد التفسير (2/ 819).

ص: 293

عين زيد. تعني: أنه عَوَّروا عَيْنَهُ الباصرة، وغَوَّروا عينه الجارية، وسَرقوا عينه التي هي ذهبه وفِضَّتُه فتحمله على الجميع إذا قَصَدْتَ ذَلِكَ، وكان في كلامه ما يَدُلُّ عَلَيْهِ، وهذا معنى قوله:{لَا يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً} .

{يَرْقُبُواْ} معناه: يَحْفَظُوا ويُرَاقِبُوا ويُرَاعُوا. والذمَّةُ: مَعْنَاهُ العَهْدُ، وكل ما تجب المحافظة عليه ويؤاخذ بِنَكْثِهِ تسميه العرب (ذِمَّة). وهو هنا: العَهْدُ، وهذا معنى قوله:{لَا يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً} {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ} يعني: يبذلون لكم الكلام الطيب الحلو باللسان دون ما في القلوب؛ لأن ما في قلوبهم من البغض وإضمار العداوة والشحناء لا يساعد وما تجري به ألسنتهم، فالألسنة تقول شيئاً وما تنطوي عليه الصدور شيءٌ آخر. وهذا معنى قوله:{يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} أي: تُوَافِقُ مَا يَنْطِقُونَ بِهِ بِأَفْوَاهِهِمْ لما هي منطوية عليه من الكفر والبغض وشدة العَدَاوَةِ لَكُمْ. وهذا معنى قوله: {وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} والقلوب هنا جمع قَلْب. وهذه الآيات وأمثالها تدلُّ على أن الذي يدرك ويقع فيه الإباء والانْقِيَاد وجميع أنواع الإدْرَاك كلّه القلب

(1)

. وذلك أمرٌ لا شك فيه؛ لأن الذي خلق العقل ومنَّ بالعَقْلِ أعْلَم حيث وَضَعَ العَقْل، فالله (جلّ وعلا) في آيات كتابه يبين دائماً أنه جعله في القلب كقوله:{لهُمْ قُلُوبٌ لَاّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَاّ يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف: آية 179] وقوله: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: آية 46] ولم يقل الله يوماً ما: ولكن تعمى الأدمغة التي في

(1)

مضى عند تفسير الآية (75) من سورة البقرة.

ص: 294

الرؤوس. ولم يقل: فإنها لا تعمى الأدمغة. أبداً؛ لأن العَقْلَ محلُّه القَلْب هذا جاء به الوحي الصحيح وكلام مَنْ خَلَقَ القَلْبَ وتَفَضَّلَ بالقَلْبِ، فلَمْ يَأْتِ فِي آيَةٍ واحِدَة ولا في حديثٍ واحد أن مَرْكَزَ العَقْلِ فِي الدِّمَاغِ أَبَداً، لم يقل الله: لهم أدمغة يفقهون بها. أبداً، ولكن يقول:{لَهُمْ قُلُوبٌ} ، و {وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} ولم يقل: وتأبى أدمغتهم.

أبداً، والذي خَلَقَ القَلْبَ وَمَنَّ به ووضعه لا شكّ أنه أعلم بالمحل الَّذِي وَضَعَ به مِنْ فَلْسَفَاتِ الكَفَرَةِ الفَجَرَةِ الجَهَلَةِ وأذْنَابِهِمْ، وهذا معنى قوله:{وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} الفسق: الخروج عن طاعة الله، فكل خارجٌ عن طاعة الله فَهُو فَاسِق، ومنه قوله:{إِلَاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: آية 50] أيْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ، والعَرَبُ تقول: فسق عن الطريق: إذا خرج منها. ومنه قول الرَّاجِزِ

(1)

:

يَهْوَينَ في نَجْدٍ وغَوْراً غَائِراً

فَوَاسِقاً عن قَصْدِهَا جَوَائِرَا

فواسقاً؛ أي: خارجات عن طريقهن.

والمراد بالفسق شرعاً: هو الخروج عن طاعة الله. والخروج عن طاعة الله قد يعظم، وقد يكون بعضه أعظم من بعض، فالخروج الأكبر هو الكفر بالله، والمعاصي والكبائر خروج دون خروج؛ ولذا سُمّي الكافر فاسقاً؛ لأنه خارج عن طاعة الله الخروج الأعظم، كقوله جل وعلا:{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَاّ الْفَاسِقِينَ} [البقرة: آية 26] وقد يطلق الفسق على خروج دون خروج، كالمرتكب لبعض الذنوب، كقوله:{إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} [الحجرات: آية 6].

(1)

مضى عند تفسير الآية (59) من سورة البقرة.

ص: 295

وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يُقال: لِمَ قال: {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} وهم جميعهم فاسقون، أكثرهم وأقلهم، كلهم فاسقون، فما وجه التعبير بقوله:{وَأَكْثَرُهُمْ} ؟

أجاب جماعة من العلماء عن هذا السؤال بأن المراد بالفسق هنا فسق خاص، وهو فسق نقض العهود وعدم الوفاء بها

(1)

، أي: وأكثرهم ناكثون، ناقضون للعهود، فاسقون هذا النوع الخاص من الفسق، وإن كان الجميع مشتركين في أنواع الفسق والكفر. وهذا معنى قوله:{وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} .

{اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (9)} [التوبة: آية 9].

{اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً} الاشتراء في لغة العرب التي نزل بها القرآن معناه: الاستبدال، فكل أحد استبدل شيئاً من شيء تقول العرب: اشتراه، فالاشتراء في لسانها يتناول كل استبدال كائناً ما كان، ومن هذا المعنى قول الراجز

(2)

:

بُدِّلْتُ بالجُمَّةِ رَأْساً أَزْعَرَا

وبالثَّنَايَا الواضِحَاتِ الدَّرْدَرَا

كَمَا اشْتَرى المُسْلمُ إذْ تَنَصَّرَا

أي: كما تبدل المسلم، إذا أخذ النصرانية بدل الدين.

والثمن في لغة العرب: تطلقه على كل عوض كائناً ما كان، تسميه العرب ثمناً. أما إطلاق (الشراء) على الثمن والمثمن، وتسمية المبيع (مُثمناً)، والمدفوع فيه (ثمناً) فهو اصطلاح خاص للفقهاء في

(1)

انظر ابن جرير (14/ 150)، البغوي (2/ 271)، القرطبي (8/ 80).

(2)

مضى عند تفسير الآية (79) من سورة البقرة.

ص: 296

البيوع. ومن إطلاق (الشراء) على الاستبدال و (الثمن) على كل عوض في اللغة العربية قول علقمة بن عَبَدَة التميمي

(1)

:

والحَمدُ لا يُشتَرى إلا له ثَمَنٌ

مما تَضِنُّ به النفوسُ مَعْلُومُ

ومن هذا المعنى قول ابن أبي ربيعة المخزومي

(2)

:

إن كنت حَاوَلْتَ دُنيا أو أَقَمْتَ لها

ماذا أَخَذْتَ بتركِ الحَجِّ من ثَمَنِ

أي: من عوض يخلفه لك. وهذا معنى {اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ} استبدلوا بآيات الله الشرعية -التي هي هذا القرآن العظيم- تركوها وتَعَوَّضُوا منها ثمناً قليلاً. واختلف العلماء بالمراد بهذا الثَّمَنِ القَلِيل

(3)

، فقال جماعة من العلماء: هي نزلت في قوم من الأعراب الذين كانوا عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم فدعاهم أبو سفيان بن حرب، وأطعمهم أُكْلَة، ونقضوا العهود بسبب ذلك. وهذا قاله جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ المفسرين في هذه الآية. وهو مستبعد جدّاً؛ لأن هذه الآية من براءة نزلت بعد إسلام أبي سفيان؛ لأنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَسْلَمَ عَامَ الفَتْحِ عَامَ ثَمَانٍ، وَهَذِهِ نَزَلَتْ عَامَ تِسْعٍ.

وقال بعض العلماء: هي في اليهود؛ لأنهم هم الذين تَبَدَّلُوا الرُّشَا من بيان الحق، وهو ضعيف أيضاً.

والتحقيق -إن شاء الله- أن المعنى: أن الكفار تبدلوا من آيات الله والعمل بما جاء عن الله ثمناً قليلاً من متاع الحياة الدنيا، وهو -مثلاً- عدم التقيد بالشرع، وبقاؤهم على ما كانوا عليه،

(1)

مضى عند تفسير الآية (79) من سورة البقرة.

(2)

السابق.

(3)

انظر: ابن جرير (14/ 150)، البغوي (2/ 271)، القرطبي (8/ 80).

ص: 297

واتباعهم أهواءهم، كما قال (جل وعلا):{بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللَّهُ} [البقرة: آية 90] فتعوضوا من هذا اتباعهم هواهم، وبقاءهم على ما كانوا عليه؛ لأنه أحب إليهم. وهذا شيء تافه تَعَوَّضُوا مِنْهُ سَعَادَةَ الدنيا والآخرة. وهذا معنى قوله:{اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} .

{فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ} الظاهر أن (صَدّ)

(1)

هنا هي المتعدية، والمفعول محذوف؛ أي: فصدوا الناس عن سبيله؛ لأن صدودهم في أنفسهم معلوم من قوله: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} لأَنَّ مَنِ اشْتَرَى بِآيَاتِ اللهِ ثَمَناً قليلاً فهو صَادٌّ عن سبيل الله، فبيَّنَ أنَّهُمْ ضُلَاّل بقوله:{اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} وبيّن أنهم مُضِلُّونَ بقوله: {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ} أي: صدوا غيرهم عن سبيل الله (جل وعلا).

والسبيل: معناه الطريق. وسبيل الله: دين الإسلام؛ لأنه طريق الله التي أمَرَ بِهَا وَوَعَدَ الجزاء الحسن لمن اتَّبَعَها؛ ولذا سُميت: (سبيل الله) أي: طريقه التي يدعو إليها، والتي تُوَصِّلُ إلى رضاه، وإلى نَيْلِ ما عنده مِنَ الكرامة.

وقد قدمنا أن (السبيل) تُذكَّر وتؤنث

(2)

، فمن تذكيرها في القرآن: قوله تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ} [الأعراف: آية 146] برجوع الضمير مذكراً على السبيل. ومن تأنيث السبيل: {هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف: آية 108]، ولم يقل:«هذا سبيلي أدعو إلى الله» .

(1)

مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأعراف.

(2)

مضى عند تفسير الآية (55، 116) من سورة الأنعام.

ص: 298

وهذا معنى قوله: {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [التوبة: آية 9].

{سَاء} : فعل جامد لإنشاء الذم. هو بمعنى (بئس)؛ لأن (ساء) بمعنى (بئس) وتعمل عمل (بئس) (

)

(1)

.

و (ما) إذا جاءت بعد (بئس) أو (نِعم) قال بعض العلماء: يجوز أن تكون نكرة مميزة للفاعل الذي هو الضمير المحذوف، ويجوز أن تكون هي فاعل (بئس) و (ساء) و (نِعم)

(2)

. وهذا معنى قوله: {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فعلى أنها مميّزة فالتقدير: (ساء هو) أي: بئس هو شيئاً كانوا يعملونه. وعلى أنها فاعل فالأمر واضح. وهذا معنى قوله: {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .

{لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ} [التوبة: آية 10] كائناً من كان {إِلاًّ وَلَا ذِمَّةً} أي: قرابة ولا عهداً. أو: لا يرقبون في مؤمنٍ اللهَ، لا يرقبون اللهَ ولَا يَخَافُونه في المؤمنين فيتَّقون الله فيهم.

ثم قال: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} المعتدي: (مُفْتَعِل) من العدوان، والعدوان: مجاوزة الحد. والمراد بالمعتدين: الذين يُجَاوِزُونَ مَا أحَلَّ اللهُ إِلَى ما حَرَّم. وهذا معنى قوله: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} .

ثم قال: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ} [التوبة: آية 11] فسَّرْناها.

{فَإِخْوَانُكُمْ} أي: فَهُمْ إخْوَانُكم في الدين. مفهومه: أنهم إن

(1)

في هذا الموضع كلمة غير واضحة.

(2)

انظر: التوضيح والتكميل (2/ 117).

ص: 299

لم يتوبوا من الشرك، أو لم يقيموا الصلاة، أو لم يؤتوا الزَّكَاة لا يكونون إخواننا في الدين. وهذا معنى قوله:{فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} .

ثم قال تعالى: {وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ} آيات هذا القرآن العظيم، نفصِّلُهَا معْنَاه: نُبَيِّنُهَا ونوضِّحُهَا، ولا نترك بها إجْمَالاً.

{لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} إنما خَصّ القَوْم الذين يعلمون؛ لأنهم هم المنتفعون بِهَا؛ لأن من لم يرزقهم اللهُ عِلْماً لا ينتفعون بها. وجرت العادة في القرآن أنه يخص بالشيء العام المنتفعين به دون غيرهم، كقَوْلِهِ:{إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (45)} [النازعات: آية 45] لأنه المنتفع بالإنذار، وإن كان منذراً للأَسْوَدِ والأحْمَرِ {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ} [يس: آية 11] لأنه المنتفع مع أنه منذر للأسود والأحمر {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: آية 45] لأنه هو المنتفع، وإن كان يُذكِّر جميع الخلق بالقرآن

(1)

. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى. ونرجو الله (جل وعلا) أن نكون ممَّنْ يَفْهَم عن الله تفصيله لآياته؛ لأن هذا القرآن العظيم فَصَّلَ اللهُ فِيهِ كلَّ شَيْء، وأوْضَحَ فِيهِ كُلَّ شَيْءٍ {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً

} الآية [الأعراف: آية 52].

{وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ

(1)

مضى عند تفسير الآية (51) من سورة الأنعام.

ص: 300

بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)} [التوبة: الآيات 12 - 16].

[هذه]

(1)

الآياتُ من سورة براءة يكاد المفسِّرون من الصحابة فمن بعدهم يُجمعون على أنها نازلة في نقض أهل مكة للعهد الذين عقدوه مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية

(2)

، وذلك يدل على أن بعض هذه الآيات من سورة براءة نزلت قبل التاريخ الذي كنا نقول؛ لأن هذا نازل قبل عام تسع على القول بأنها في أهل مكة، وعامة المفسرين يقولون: إنها فيهم، ولا نعلم أحداً ممن اشتهر عنهم أخذ العلم يقول في غيرهم إلا القول المروي عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن هذه في قوم لم يقاتَلوا بعدُ وقت نزولها

(3)

. وعلى هذا القول فلا تُحفظ تفاصيل لهذا النكث والنقض، بل الظاهر والسياق يقتضي أنها في أهل مكة؛ لأن قوله:{وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} [التوبة: آية 13] الذين هموا بإخراجه هم أهل مكة، وعلى هذا عامة المفسرين.

ومعنى الآية الكريمة: {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ} [التوبة: آية 12] النكث في لغة العرب: هو تفكيك طاقات الشيء المفتول، فالحبل المفتول -مثلاً- إذا فككتَ طاقاته، وجعلت كل واحدة منها على حدة فقد نكثته، وقد نقضته، كما في قوله:{كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً}

(1)

في هذا الموضع وُجد انقطاع يسير في التسجيل وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

(2)

انظر: ابن جرير (14/ 154)، القرطبي (8/ 84).

(3)

أخرجه ابن جرير (14/ 156)، وابن أبي حاتم (6/ 1761) وأورد البغوي (2/ 272) عن مجاهد قوله:«هم أهل فارس والروم» .

ص: 301

[النحل: آية 92] جمع نِكْث. وعلماء البلاغة يقولون: إن النكث والنقض حقيقة في الحسِّيَّاتِ، كل مفتول فككت بين طاقاته فقد نَقَضْته وقد نكثته، وأنها في المعنويات كالعهود مستعارة

(1)

. ونحن دائماً نقول: إنها أساليب عربية نطقت بها العرب منذ تكلمت بلغتها، ونزل بها القرآن، يطلق النكث على تفكيك طاقات الحبل، ويطلقه أيضاً على الإخلال بالعهود ونقضها وإبطالها.

{وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم} الأيمان: جمع يمين. قال بعض العلماء: هي العهود

(2)

. وقال بعض العلماء: هي الأيمان التي تؤكَّد بها العهود؛ لأنهم إذا أُخِذَت عليهم العهود أكدوها بالأيمان.

وقوله: {مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ} أي: من بعد العهد الذي عقدوه مع النبي صلى الله عليه وسلم.

{وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ} الطعن في الدين معناه: استنقاصه وثَلْبه بالمعايب. يقولون: إن دين الإسلام ليس بشيء، وأنهم يعيبونه إذا نقضوا العهد وعابوا الدين وثلبوه.

(1)

انظر: المفردات (مادة: نكث)(822) القرطبي (8/ 81)، فتح القدير (2/ 341)، التحرير والتنوير (9/ 73).

(2)

انظر: ابن جرير (14/ 156).

ص: 302

{فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} الأصل: فقاتلوهم، إلا أن هؤلاء الذين ينقضون العهود ويسبون الدين أجرى الله العادة أنهم الرؤساء المتبوعون؛ لأن الله أجرى عادته بأن الذين يناصبون الرسل بالعداوة هم القادة المتبوعون المُتْرَفُون، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا} [الزخرف: آية 23] المتنعمون الكبار منها. وهذه سنة الله في خلقه؛ ولذلك لما سأل هرقل أبا سفيان في حديثه الصحيح المشهور: أأشراف الناس يتبعونه أم ضعافهم؟ فقال: بل ضعافهم. قال: أولئك أتباع الأنبياء

(1)

. وهذه سنة الله في كونه؛ ولذا قال: {فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} .

قرأ هذا الحرف من السبعة نافع وابن كثير وابن عامر: {أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} بجعل الهمزة الأخيرة بين بين

(2)

، وقرأه عامة الباقين من السبعة:{أَئِمَّةَ} بتحقيق الهمزتين.

والأئمة جمع إمام، وأصله: أَأْمِمَة وزنه: (أَفْعِلَة) جمع (فِعَال) كمثال وأمثلة. توصِّلَ فيه إلى الإدغام بتسكين الميم الأولى، ونُقِلَت حركتها إلى الهمزة فقيل فيه:(أئمة)

(3)

والأئمة جمع الإمام، والإمام

(1)

مضى عند تفسير الآية (93) من سورة الأنعام.

(2)

قال ابن مجاهد في كتاب السبعة ص312: «قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع: (أَيْمَة) بهمز الألف وبعدها ياء ساكنة. غير أن نافعاً يُختلف عنه في ذلك

وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: (أَئِمة) بهمزتين» اهـ. وانظر: المبسوط لابن مهران ص225، النشر (1/ 378 - 379) وقد فصل في كيفية تسهيل الهمزة الثانية ونقل مذاهب القُرَّاء في ذلك.

(3)

انظر: القرطبي (8/ 84)، حجة القراءات ص315، الدر المصون (6/ 25)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص27.

ص: 303

هو: المقْتَدَى به. وللكفر أئمة يُقْتَدَى بِهِمْ فيه -والعياذ بالله- كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص: آية 41].

{فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} أي: رؤساء الكُفْر وعُظَمَاءَهُ الذين عابُوا دِينَكُمْ ونَقَضُوا عُهُودَكُمْ. والعادة أن الذي يَتَصَدَّى لِتَكْذِيبِ الرّسل وعنادهم وعداوتهم الرؤساء المتبوعون، شياطين الإنس. وما جرى على ألْسِنَة كثير من العلماء هنا أنهم: أبو جهل وأمية بن خلف وسهيل بن عمرو إلى أشراف المذكورين في غزوة بدر، فهو خلاف الظاهر

(1)

للإجماع على تأخر هذه الآيات كثيراً إلى عام تسع، أو إلى أنها نزلت قبل الفتح عام ثمان، وهذا معنى قوله:{إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} .

قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ابن عامر: {إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} بفتح الهمزة. وهو جمع يمين، وقَرَأَهُ ابْنُ عامر من السبعة:{إنهُمْ لا إِيمانَ لهُمْ لعَلَّهم يَنتَهون}

(2)

.

فعلى قراءة الجمهور

(3)

: {لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} جمع يمين، التحقيق فيها: أنَّ نَفْي أيمانهم على قراءة الجمهور إنما يراد به أنَّهُمْ لا يوفون بها وهي عندهم كَلَا أيْمَان؛ لأنهم ينقضونها، وهذا أسلوب عَرَبِي معروف؛ تقول العرب لمن يكذب وينقض العهود: لا تَغْتَرّ بِيَمِينِ هذا

(1)

انظر: ابن جرير (14/ 154)، ابن عطية (8/ 141)، القرطبي (8/ 84)، فتح القدير (2/ 341).

(2)

انظر: السبعة ص312، المبسوط لابن مهران ص 225.

(3)

في توجيه القراءتين انظر: ابن جرير (14/ 157)، القرطبي (8/ 85)، حجة القراءات ص 315، الدر المصون (6/ 25).

ص: 304

فلا يمين له، يعني: لا يَفِي بِهَا ولا يبرّها ولا يوفي بعهد، وهذا المعنى مشهور في كلام العرب، ومنه قول الحماسي

(1)

:

وَإِنْ حَلَفَت لَا يَنْقُضُ البَيْنُ عَهْدَهَا

فَلَيْسَ لِمَخْضُوبِ البَنَانِ يَمِينُ

يعني ليس للنساء أيْمَان؛ لأنهن ينقضنها غالباً. هذا مراده.

وقد تمسك الإمام أبو حنيفة رحمه الله بظاهر هذه الآية فقال: لا تُقبل يمين من كافر، ويمين الكافر كَلَا شَيْء، فلا يمين له؛ لأن الله يقول:{إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ}

(2)

.

وعلى قراءة ابن عامر: {إنهُمْ لَا إِيمَان لهُمْ لعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} ففي معنى الآية الكريمة وجهان واضحان معروفان من التفسير:

أحدهُمَا: أن المراد بالإيمانِ المنفِيِّ عنهم هو الإيمان الذي هو دين الإسلام، يعني: لا إسلام لهم ولا دين.

القول الثاني: -وهو أظهرهما- أنه مصدر: (آمَنَه يؤمِنُه إيماناً) إذا أمَّنه وجعله في مأمن. فالعرب تقول: آمنت فلاناً أومنه، معناه: أمّنته وجعلت له الأمان، وهو معنى مشهور في كلام العرب؛ منه قول الشاعر

(3)

:

أَيَّانَ نُؤْمِنْكَ تُؤْمَنْ غَيْرَنَا وَإِذَا

لَمْ تُدْرِكِ الأَمْنَ منَّا لم تَزَلْ حَذِرَا

وهذا أظهر القَوْلَيْنِ؛ لأَنَّ نفي الإيمان عن أئمة الكُفْر معروف واضح. وهذا معنى قوله: {إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} .

(1)

البيت في القرطبي (8/ 81)، الدر المصون (6/ 26) وفي القرطبي:«لا يَنْقُضُ النأيُ» وفي الدر المصون: «لا تَنْقُضُ الدهرَ» .

(2)

انظر: المبسوط للسرخسي (8/ 147).

(3)

البيت في البحر المحيط (4/ 419)، الدر المصون (5/ 529).

ص: 305

قوله: {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} متعلق بقوله: {فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} فقاتلوهم لأجل أن يكون قتالكم لهم رادعاً وسبباً لانتهائهم.

وقد قدمنا في هذه الدروس مراراً

(1)

أَنَّ مِنْ أَشْهَرِ مَعَانِي (لعل) في القرآن معنيان:

أحدهما: أنها على معناها الظاهر من التَّرَجِّي، والمعنى: قاتلوهم على رَجَائِكُمْ أنَّ ذَلِك القتال يكون موجباً لانتهائهم عن الكُفْر والطعن في الدين، وهذا بحسب ما يظهر للناس الذين يجهلون العواقب، أما الله (جلّ وعلا) فهو عالم بما كان وما يكون، وعلى هذا المعنى فقوله:{فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} [طه: آية 44] أي: على رجائكما بقدر علمكما أن يكون ذلك سبباً لأن يتذكر أو يخشى.

الوجه الثاني: هو ما قاله بعض علماء التفسير من أن كل (لعل) في القرآن فهي بمعنى: التعليل، إلا التي في الشعراء {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)} [الشعراء: آية 129] قالوا: هي بمعنى كأنَّكُمْ تَخْلدون. وإتيان «لعل» بمعنى التعليل معنىً معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر

(2)

:

فقُلتُم لنا كُفُّوا الحروبَ لعلَّنَا

نكفُّ ووثَّقْتُم لَنَا كلَّ موثقِ

فقوله: «كفوا الحروب لعلنا نكف» أي: كفوا لأجل أن نكف عنكم.

(1)

راجع ما سبق عند تفسير الآية (52) من سورة البقرة.

(2)

السابق.

ص: 306

وقوله: {يَنتَهُونَ} أي: يَرْتَدِعُونَ ويَكُفُّونَ وَيَنْزَجِرُونَ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ والطَّعْنِ في الدين.

وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة من سورة براءة: أن الذي يطعن في دين الإسلام بلسانه ويستخف به أنه يُقتل

(1)

، أما إذا كان ذِمِّيّاً عُقِدَت له ذِمَّةُ المسلمين فطعن في الإسلام أو سبّ النبي صلى الله عليه وسلم فالجمهور على أنه يُقتل

(2)

؛ لأن ذلك ينتقض به عهده ويبطل به عهده. وقال بعض العلماء: إنه لا يقتل ولكنه يُؤدَّب ويُعَزَّر؛ لأنَّهُ أُعْطِيَ له الأمان وهو على كفره. والأول أظْهَر. وهذا معنى قوله: {إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} أي: قاتلوهم لَعَلَّهُمْ يَنتَهُون عن كفرهم.

[2/ب] / قال تعالى: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ (13)} [التوبة: آية 13].

(ألا) هنا حرف تَحْضِيض، والتَّحْضِيض معناه الطلب بِحَثٍّ وشِدَّة. والمعنى: إن الله هنا طلب منهم بِحَثّ وشدة أن يقاتلوا هؤلاء الكفَرَة أئمة الكفر، وبيّن لهم أن قِتَالهُمْ إيَّاهُمْ الذي حضَّض عليهم فيه أن له أسباباً متعددة، كل واحد منها يستوجبه بانفراده، فكيف بها مجموعة؟!

الأول منها: أنهم نكثوا أيمانهم.

الثاني: أنهم هموا بإخراج الرسول (صلوات الله وسلامه عليه).

(1)

انظر: القرطبي (8/ 82).

(2)

السابق (8/ 83).

ص: 307

الثالث: أنهم بدءوكم بالقتال.

فهذه الأسباب حَرِيَّةٌ بأن يُقاتَل الذين اقترفوها وجاءوا بها. وهذا معنى قوله: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْماً} .

قد قَدَّمْنَا مِراراً

(1)

أن (القوم) اسم جمع لا واحد له من لفظه، وأنه في الوضع العربي يختص بالذكور دون الإناث، بدليل قوله:{لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ} ثم قال: {وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء} [الحجرات: آية 11] وأن المرأة ربما دَخَلَتْ فِي اسْمِ (القَوْم) بحكم التَّبَع إذا اقْتَرَنَ بما يدل عليه، كقوله:{وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)} [النمل: آية 43].

وقال بعض العلماء: سُمِّيَ قوم الرجل قوماً؛ لأنه لا قوام للإنسان إلا جماعة ينضم إليها ويدخل في جملتها. وهذا معنى قوله: {قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ} أي: نقضوا عهودهم، أو نقضوا العهود وأخلُّوا بالأيمان التي حلفوها تَوْكيداً للعهود.

{نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} [التوبة: آية 13] الجَمَاهِير على أنَّ هَؤُلَاءِ الذين هَمّوا بإخراج الرسول هُمْ كُفَّارُ مَكَّةَ

(2)

حين دَبَّرُوا لَهُ المَكِيدَة التي قَدَّمْنَاها مُوضَّحَة في سورة الأنفال

(3)

في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: آية 30] والله (جل وعلا) نص في بعض الآيات أنهُمْ أَخْرَجُوهُ بالفِعْل؛ لأنهم في الحقيقة اضطروه وألجئُوهُ (صلوات الله وسلامه عليه) إلى

(1)

مضى عند تفسير الآية (80) من سورة الأنعام.

(2)

انظر: القرطبي (8/ 86)، الأضواء (2/ 430).

(3)

مضى عند تفسير الآية (30) من سورة الأنفال.

ص: 308

الخروج؛ لأن عمه أبا طالب ما دام حيّاً كان يكفّهُمْ عنه، ويرْدَعُهم عنه، ولا يقدرون أن يبلغوا منه المبلغ الذي بلغوا بعد أن مات، وكان يقول له

(1)

:

واللهِ لنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بجَمْعِهِم

حَتَّى أُوسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفينَا

اصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَة

...............................

فلما توفي أبو طالب ضيّقوا عليه حتى خرج (صلوات الله وسلامه عليه) ودخل هو وصاحبه الصديق في الغار كما ستأتي قصة ذلك مُفَصَّلة في هذه السورة الكريمة -سورة براءة- حيث نصّ الله عليه فيها. وقد قال جل وعلا: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} [محمد: آية 13] فصرَّح بأنهم أخْرَجُوه. وقال (جلّ وعلا): {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} [الممتحنة: آية 1] وقال: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَاّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: آية 40] وقال تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا} [الإسراء: آية 76] إلى غير ذلك من الآيات.

والرسول هو سيدنا محمد (صلوات الله وسلامه عليه). وأصل الرسول (فَعُول) بمعنى (مُفْعَل) رَسُول بمعنى مُرْسَل. وأصل الرسول مصدر، إتيان المصادر على وزن (الفعول) مسموع بقلة، كرسول بمعنى الرسالة، وقبول، وولوع، في أوزان قليلة

(2)

. والتحقيق أن أصل الرسول مصدر، ومن إطلاقه مصدراً قول الشاعر

(3)

:

(1)

الأبيات في البداية والنهاية (3/ 42)، ولفظ البيت الثاني هناك:

فامض لأمرك ما عليك غضاضة

أَبْشرْ وقَرَّ بذاكَ منك عيونا

(2)

مضى عند تفسير الآية (130) من سورة الأنعام.

(3)

السابق.

ص: 309

لقد كَذَبَ الواشُونَ ما فُهْتُ عِنْدَهُمْ

بِقَوْلٍ وَلا أرسَلْتَهُم بِرَسُولِ

يعني: ما أرسلتهم برسالة. ومن فوائد كون أصل الرسول مصدراً؛ لأن هذا الأصل يُحل به بعض الإشكالات في القرآن؛ لأَنَّ مِنَ المُقَرَّرِ فِي عِلْمِ العَرَبِيَّة أن المصدر إذا نُعت به أُلزم الإفراد والتذكير، وربما تنوسي كونه مصدراً فجُمِع

(1)

، وقد جاء (الرسول) مجموعاً بلفظ المفرد، وقد جاء مُثَنى بلفظ المفرد؛ لأن الله قال في سورة طه:{إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا} [طه: آية 47] فثنّى، وقال في سورة الشعراء:{إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} بالإفراد. ووجه الإفراد في آية الشعراء: أن أصل الرسول مصدر، والمصادر إذا نُزِّلت منزلة الأوصاف أُفردت وذُكِّرَت، ويدل لهذا أنه سُمع في لغة العرب إطلاق الرسول مراداً به الجمع؛ لأن أصله مصدر، ومنه بذلك المعنى قول أبي ذؤيب الهذلي

(2)

:

أَلِكْنِي إليها وخَيرُ الرسولِ

أَعْلَمُهُم بنَوَاحي الخَبَر

يعني: وخير الرسل. وهذا معنى قوله: {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} .

ثم قال: {وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة: آية 13] حذف المتعلق لقوله: {بَدَؤُوكُمْ} والظاهر أن المعنى: بدؤوكم بالقتال والعدوان عليكم أول مرة، واختلف العلماء في وجه ذلك على قولين

(3)

:

(1)

مضى عند تفسير الآية (46) من سورة الأنعام.

(2)

مضى عند تفسير الآية (50) من سورة الأنعام.

(3)

انظر: القرطبي (8/ 86).

ص: 310

أحدهما: أن ابتداءهم لِلْقِتَالِ هُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ مُفَصَّلاً في سورة الأنفال في غزوة بدر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فِيهَا لِلْعِير خَاصَّةً ولم يخرج للقتال، فَلَمَّا سَاحَل أبو سفيان بالعير، ونجت العير، واستنفر النفير، وجاءهم الخَبَرُ أن عِيرَهُمْ قَدْ سلمت، كان مِنْ حَقِّهِمْ في ذلك الوقت أن يرجعوا، كما أشار عليهم به عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ وعُتْبَة بن ربيعة وحكيم بن حزام، ولكن الخبيث أبا جهل قال: والله لا نرجع حتى نرد بدراً -وكانت من مواسم العرب- وتعزف علينا الغواني، ونشرب الخمر. وفي بعض الروايات أنه قال: لا نَرْجِع حتى نستأصل محمداً وأصحابه

(1)

. فلما نجت عيرهم وجاءوا بعد ذلك إلى بَدْر مَعْنَاه أنهم يريدون الشَّرَّ، فكان هذا ابتداءهم بالشر.

وقال بعض العلماء: -وهو أظهرهما- أن معنى: {وَهُم بَدَؤُوكُمْ} أي: بدؤوكم بنقض العهود وقتْل مَنْ كان داخلاً في حِلْفِكُمْ كما وقع من قريش في إعانتهم لبني الديل بن بكر على خزاعة فقتلوهم، كما قال راجزهم

(2)

:

هم بَيَّتُونا بالوَتِيرِ هُجَّدَا

وقَتلُونَا رُكَّعاً وسُجَّدَا

فابتداء هذا القتل كأنهم بدءوا بالقتل ونقض العهود، وخزاعة في ذلك الوقت لهم حكم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لدخولهم في عهده. وهذا معنى قوله:{وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} كان في المرة الأولى ابتداء السوء حاصلاً منهم. وهذا معنى قوله: {وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة: آية 13].

(1)

مضى عند تفسير الآية (5) من سورة الأنفال.

(2)

مضى عند تفسير الآية (58) من سورة الأنفال.

ص: 311

ثم إن الله لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بقتال الكفار أنكر عليهم أن يخافوا الكفار، قال:{أَتَخْشَوْنَهُمْ} بِهَمْزَةِ الإِنْكَارِ. يعني: لا تخشوا هؤلاء أبداً فإنهم كفَرَة فَجَرَة، والله (جل وعلا) أحَقّ أَنْ تَخْشَوْهُ فتمتثلوا أمره، وتقاتلوا أئمة الكفر الذين همُّوا بإخْرَاجِ الرَّسُولِ، وبدءوا بالشر أول مرة. وهذا معنى قوله:{أَتَخْشَوْنَهُمْ} .

{فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ} (إن) في قوله: {إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ} تشكل دائماً على المتعلمين وبعض العلماء

(1)

، و (إن) هذه هي التي اختلف فيها البصريون والكوفيون، وهي كثيرة في القرآن، فالبصريون يقولون: إن (إن) هذه أنها صيغة شرط جيء بها مراداً بها التهييج وقوة الحمل على الامتثال، وهو أسلوب عربي معروف، أن العرب تنطق بأداة الشرط ولا تريد به حقيقة تعليق جزاء على شرط، وإنما تريد به التهييج والدعوة الصارمة إلى الامتثال، كما تقول للرجل:«إن كنت ابن فلان فافعل لي كذا» وأنت تعلم أنه ابن فلان، إلا أنك تستنهضه وتستحثه، ومن هذا المعنى قول واحد من أولاد الخنساء لما أوصتهم بالجهاد في سبيل الله

(2)

:

لستُ لخنساءَ ولا للأَخْرَمِ

ولا لعمرو ذي الثَّنَاءِ الأَقْدَمِ

إن لم أَرِدْ في الجَيْشِ جَيْش الأَعْجَمي

ماضٍ على الهولِ خِضَمّ خِضْرِمِ

يعني: إن لم أرد في الجيش فلست ابناً لأبي ولا لأمي. لا يقصد التعليق وإنما يقصد تحريض نفسه على هذا. هذا معناها عند البصريين فيما يصح فيه هذا وفيما لا يصح فيه هذا كقوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ} [الفتح: آية 27] وهم داخلوه قطعاً.

(1)

مضى عند تفسير الآية (118) من سورة الأنعام.

(2)

هذان البيتان سبق ذكرهما عند تفسير الآية (118) من سورة الأنعام.

ص: 312

وقوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث الزيارة: «وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ»

(1)

وهم لاحقون بهم قطعاً، قالوا: السر في هذا التعليق ليُعَلِّم الله خلقه أنهم لا يتكلمون عن مستقبل إلا بتعليقه على مشيئة من له المشيئة، ولو كان أمراً واقعاً لا محالة فكيف بغيره.

أما الكوفيون فإنهم يقولون: إن (إن) هذه بمعنى (إذ) وأنها تعليلية، ويقولون:«فالله أحق أن تخشوه إذ كنتم مؤمنين» أي: لأجل كونكم كنتم مؤمنين فذلك يستوجب منكم الخشية، وإطلاق (إن) بمعنى (إذ) رُبَّمَا سُمِع في كلام العرب، وأنشد له بعض علماء العربية قول الفرَزْدَق

(2)

:

أتَغْضَبُ إن أُذْنَا قُتيبة حُزَّتَا

جِهَاراً ولم تَغْضَب لِقَتْلِ ابْنِ خَازِمِ

يعني: أتغضب لأجل «إذ حُزَّتْ أُذُنَا قُتَيْبَةَ؛ لأجل أَنْ حُزَّتَا» وهذان الوجهان في قوله: {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ} [التوبة: آية 13].

قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)} [التوبة: الآيتان 14، 15].

[{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ]

(3)

وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ}.

(1)

السابق.

(2)

السابق.

(3)

أول الآية ذهب من التسجيل. وقد أثبتُّ أولها وجعلته بين معقوفين.

ص: 313

لما أَمَرَ اللهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمقاتلة أئمة الكفر وَعَدَهُمْ وَعْدَهُ الجَمِيل -وهو لا يخلف الميعاد- ليستَنْشِطَ هِمَمَهُمْ بهذا الوعد على امْتِثَال الأمر {قَاتِلُوهُمْ} أي: قاتلوا الكفَرَة وأئمة الكفر {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} «يعذب» فعل مضارع مجزوم بجزاء الطلب، وجماهير مِنْ عُلَمَاءِ العرَبِيَّة يقولون: إن جزم المضارع في جَزَاءِ الطَّلَبِ أن أصله مجزوم بشرط مُقَدَّر دل الأمر عليه، وتقديره: إن تقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم. وهو جائز

(1)

، فالجزم يجوز، ولو لم يجزم لكان جائزاً؛ لأن الجزم في جزاء الطلب لم يتعين. {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} هذا التعذيب الذي يعذبهم الله بأيديهم هو القتل بالضرب الوجيع الذي يصل به صاحبه إلى النار.

{وَيُخْزِهِمْ} أي: يذللهم ويهينهم بالأسر، فإن القتل تعذيب، والأسر خزي وإهانة وإذلال، وهذا معنى قوله:{يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ} .

{وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} أي: ويعنكم عليهم حتى تقتلوا منهم وتأسروا.

{وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} [التوبة: آية 14](يشف) معناه: يداوي داء قلوبهم؛ لأن المؤمن يكون وَغِر الصدر حانقه على الكافر، كأن قلبه مريض لما فيه من شدة الغضب، وكون صدره وَغِراً على الكفار لكفرهم بالله وقتلهم للمسلمين فإذا أمكنه الله منهم وقتلهم وأَسَرَهُمْ شَفَى ذَلِكَ صَدْرَهُ؛ لأَنَّ الغَيْظَ كأنه داء

(1)

مضى عند تفسير الآية (69) من سورة البقرة.

ص: 314

كامن في صدره، والتمكن من الأعداء والتسليط عليهم وقتلهم وأسرهم يشفي ذلك الداء الكامن في الصدر، فينشرح الصدر، ويزول ما كان فيه من كامن المرض الدَّفِين والحِقْد على الكفار. وهذا معنى معروف في كلام العرب مشهور مبتذل جدّاً، ومنه قول مهلهل بن ربيعة

(1)

:

ولكنَّا نَهَكْنَا الْقَوْمَ ضَرْباً

عَلَى الأَثْبَاجِ مِنْهُمْ وَالنّحُورِ

هتَكْتُ بِهِ بُيُوتَ بَنِي عُبَادٍ

وَبَعْضُ القَتْلِ أَشْفَى للصُّدُورِ

لأن طالب الثأر كأنه وَغِر الضمير حران، فإذا قتل صاحبه بردت غلته وشُفي ما في صدره. وهذا كثير معروف في كلام العرب مَشْهُور. وهذا معنى قوله:{وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} [التوبة: آية 14] قال جَمَاهِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِير: إن المراد بالقَوْمِ المؤمنين أنهم خزاعة

(2)

حيث تَمَالأَ عليهم البكريون وقريش وقتّلوهم في الحرم، واسْتَنْجَدُوا بالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لما أرسلوا عمرو بن سالم في قوم منهم بديل بن ورقاء، وقال عمرو رجزه الذي ذكرنا قبل هذا. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لَا نُصِرْتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرْ بَنِي كَعْبٍ»

(3)

يعني مِنْ خُزَاعَةَ، وقد كان ذلك سبباً لغزاة الفتح، وقد قتل جماعة من المشركين يوم الفتح، قال بعض المؤرخين: قتل منهم اثنا عشر رجلاً يوم فتح مكة، والأظهر كما قدمنا مراراً أن أهل مكة قُتلت منهم جماعات. وقد جاء في صحيح مسلم ما يدل على ذلك

(4)

، ويدل

(1)

مضى عند تفسير الآية (41) من سورة الأنفال.

(2)

انظر: ابن جرير (14/ 160)، القرطبي (8/ 87).

(3)

تقدم تخريجه عند تفسير (58) من سورة الأنفال.

(4)

تقدم تخريجه عند تفسير الآية (41) من سورة الأنفال.

ص: 315

على ذلك رجز حماس بن قيس المشهور الذي هو مشهور عند العلماء؛ لأن حماس بن قيس كان في مكة، وكان يقول لامرأته: لأُخدمنك نساء محمد صلى الله عليه وسلم، ولأجعلهن لك خدماً. وكان يقول لها: إذا جئتك منهزماً فأغلقي الباب دوني. فكان في ذلك اليوم في الطائفة التي وقع فيها القتل والقتال فجاءها مذعوراً منهزماً، وكان يقول قبل يوم الفتح

(1)

:

إنْ يُقْبِلُوا اليَوْمَ فَمَا لِي عِلَّةٌ

هَذَا سِلَاحٌ كَامِلٌ وأَلَّه

وذُو غِرَارَيْنِ سَرِيْعُ السَّلَّه

فلما جاء زَوْجَتَهُ ووجهه كأنه زَعْفَران مِنَ الخَوْفِ، وقال لها تفتح له الباب، فقالت له: أين الذي كنت تقول؟ فقال

(2)

:

إِنَّكِ لَوْ شَهِدْتِ يَوْمَ الخَنْدَمَهْ

إِذْ فَرَّ صَفْوانٌ وفَرَّ عِكْرِمَهْ

واسْتَقْبَلَتْنَا بالسّيوفِ المُسْلِمَهْ

لهُمْ نَهِيتٌ خَلْفَنَا وَهَمْهَمَهْ

يقْطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وجُمْجُمهْ

ضَرْباً فَلَا تَسْمعُ إِلَاّ غَمْغَمَهْ

لَمْ تَنْطِقِي بِاللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ

وهذا صريح في أنهم قاتلوا وقتلوا. وفي صحيح مسلم: أنهم لم يتعرض لهم ذلك اليوم أحد إلا أناموه

(3)

كما هو معروف. وقد ذكرناه مُفصلاً في سورة الأنفال

(4)

. فهذا القتل -قتل قريش وإذلالهم

(1)

تقدمت هذه الأبيات عند تفسير الآية (41) من سورة الأنفال، وقد أثبتنا نصها هناك من بعض المصادر.

(2)

تقدمت هذه الأبيات عند تفسير الآية (151) من سورة الأنعام، وقد أثبتنا نصها هناك من بعض المصادر.

(3)

مضى عند تفسير الآية (41) من سورة الأنفال.

(4)

السابق.

ص: 316

وقهرهم- شفى صدور الخزاعيين حيث أخذوا بثأرهم وأذل الله عدوهم. وهذا معنى قوله: {وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: الآيتان 14، 15] لِمَا نالوا من شفاء غليل صدورهم من قهر أعدائهم كما قال الشاعر

(1)

:

تعلَّمْ شِفَاءَ النَّفسِ قَهْرَ عَدُوِّهَا

فَبَالِغْ بِلُطْفٍ فِي التَّحَيُّلِ والمَكْرِ

وهذا معنى {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} .

{وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ} قراءة الجمهور: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ} لأنها ليست معطوفاً على الجزاء، والأفعال المعطوفة على الجزاء جُزمت، والقراءة هنا هي الجزم.

أما اللغة فيجوز في الأفعال المعطوفة على الشرط والجزاء معاً بعد أن تستكمل أداة الشرط شرطها وجزاءها، فالأفعال المعطوفة عليها معلوم أنها يجوز فيها ثلاث لغات: الجزم كما في قراءة هذه الآيات، والرفع، والنصب، وهو معنى معروف في كلامهم، وفي أوجه العربية الثلاثة يروى قول نابغة ذبيان

(2)

:

فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قابوسَ يَهلِكْ

رَبِيعُ النَّاسِ والشَّهْرُ الحَرَامُ

وَنَأْخُذَ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ

أجَبّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ

فيه: «ونأخذْ» ، «ونأخُذُ» ، «ونأخُذَ» بالجزم، والنصب، والفتح. وهذا معنى قوله:{وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ} بعد ذلك يتوب الله على من يشاء أن يتوب عليه، قد يوفق بعض المشركين فيتوبون

(1)

البيت في أوضح المسالك (1/ 295)، شذور الذهب ص362.

(2)

ديوان النابغة ص157.

ص: 317

إلى الله ويتوب عليهم. وتوبة الله على عبده هي أن يُقِيلَ عَثْرَتَهُ، ويقبل منه رجوعه حتى يكون الذي صَدَرَ مِنْه كَأَنّه لم يكن.

{عَلَى مَن يَشَاءُ} أن يَتُوبَ عَلَيْهِ، فمفعول المشيئة محذوف.

{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} كثير العلم يبالغ في علم نفسه لإحاطة علمه بكل شيء {حَكِيمٌ} لأنه حكيم في شرعه وفي أقواله وأفعاله وتدبيره وجزائه، فهو حكيم في كل شيء، وله الحكمة البالغة (جلّ وعلا).

قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَاّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)} [التوبة: الآيات 16 - 19].

يقول الله (جلّ وعلا): {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)} [التوبة: آية 16].

(أم) هنا هي المنقطعة. ومعنى (أم) المنقطعة عند علماء العربية: أنها تأتي بمعنى استفهام الإنكار، وبمعنى (بل) الإضرابية، وتأتي بمعناهما معاً، وهو أجودها

(1)

.

(1)

انظر: الكليات ص182، معجم الإعراب والإملاء ص78.

ص: 318

و (حسبتم) معناه ظننتم. والإنكار الذي في قوله: «أم» يتوجه إلى من ظن أنه يدخل الجنة من غير ابتلاء ولا امتحان. والمعنى: أحسبتم، أي: أظننتم أن الله يترككم من غير أن يختبركم بالمشاق التي يظهر بالاختبار بها المطيع من العاصي، والمحق من المبطل، والصادق من الكاذب؟ والمعنى: لا بد أن يبتليكم الله ويمتحنكم بأنواع الابتلاء، ومن أعظمها: الأمر بالجهاد في سبيل الله الذي فيه تعريض المُهَج والأمْوَال للتَّلَفِ والضياع؛ لأن ذلك يظهر به الزائف من الخالص، ويُتَبَيَّن به الصَّادِق مِنَ الكَاذِبِ، وهذا معنى قوله:{أَمْ حَسِبْتُمْ} يعني أظننتم؟ الحسبان معناه الظن {أَن تُتْرَكُواْ} أن يَتْرُككم الله من غير اختبار ولا امتحان ولا ابتلاء؟ لا. لا يكون ذلك أبداً {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} هي (لم) النافية دخلت عليها (ما) المزيدة لتوكيد النفي، وهي تدل على توقع حصول الأمر ولم يحصل بالفعل. وقوله:{وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} أي: يترككم الله ولم يختبركم اختباراً يُعلم به من هو الصادق منكم ومن هو الكاذب، ومن هو المخلص وغيره.

وهذه الآيات وأمثالها في القرآن التي ربما يفهم الجاهل منها أن الله يختبرهم ليطرأ له علم بذلك الاختبار، هذا لا يُراد؛ لأنَّ عَالِمَ الغيب والشهادة عالمٌ بِمَا كان وما سيكون وما يقع، وعالم بالمعدومات والموجودات والجائزات والمستحيلات، حتى إنه مِنْ إِحَاطَةِ علمه ليعلم المعدوم الذي سبق في علمه أنه لا يوجد وأنه لا يكون يعلم أن لو كان كيف يكون، كما أوضحناه مراراً

(1)

.

(1)

راجع ما سبق عند تفسير الآية (59) من سورة الأنعام.

ص: 319

وجرت العادة في القرآن أن الله تبارك وتعالى إذا جاء عنه بعض الآيات التي فيها شبه خفاء لا بد أن يبيّنه ويوضحه في بعض المواضع، وقد أوضح هذا في آية من سورة آل عمران قدمناها مراراً، أوضح فيها أنه يختبر ويبتلي ليُظهر للناس حقيقة الناس، ويعلموا المخلص من الزائف، والصادق من الكاذب، وتلك الآية هي قوله تعالى:{وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: آية 154] بيّن أن ما أوقع بهم يوم أحد من تسليط المشركين عليهم وقتل سبعين منهم أنه فعل ذلك لأجل أن يبتليهم ويختبرهم ويمحص ما في قلوبهم، فظهر المنافقون من الصادقين، ومع هذا قال بعد قوله:{وَلِيَبْتَلِيَ} قال: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: آية 154] ومن هو عالم بما يخطر في الضمائر لا يستفيد بالاختبار علماً سبحانه (جلّ وعلا) عن ذلك. فالمراد بـ {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} هنا إظهار مَعْلُومَهُ لِلنَّاسِ، أو العلم الذي يترتب عليه الثواب والجزاء؛ لأن الله عالم بأفعالهم قبل أن يفعلوها، وعلمه بها أولاً لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب، وعالم أيضاً بها وقت فعلها وذلك العلم الذي يترتب عليه الثواب والعقاب. وقال البغوي رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة:{وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ} يعني: أحسبتم أن يترككم الله ولم يرَ الله عملكم حتى يتبيّن للناس المخلص من غيره

(1)

.

وعلى هذا التفسير الذي فسرها به فالمعنى يشبه قوله: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: آية 105] وعلى كل حال فيجب على كل مسلم أن يعتقد أن علم الله محيط بكل شيء،

(1)

تفسير البغوي (2/ 273).

ص: 320

لا يخفى عليه شيء، يعلم ما كان، وما سيكون، وما سبق في علمه أنه لا يكون يعلم أن لو كان كيف يكون. وقد قدمنا في هذه الدروس مراراً

(1)

الآيات الكثيرة الدالة على إحاطة علمه حتى بالمعدومات الذي سبق في علمه أنها لا توجد، وأنه عالم بأنها لو وُجدت أنها لا تكون، وأنها لو كانت يعلم كيف تكون، دلت على هذا آيات كثيرة من كتاب الله، كقوله في سورة الأنعام:{فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: آية 27] إذا رأى الكفار الحقائق يوم القيامة نَدِمُوا عَلَى تَكْذِيب الرسل وتمنوا أن يُردوا إلى الدنيا مرة أخرى ليؤمنوا ويصدقوا الرسل، وهذا الرد الذي تمنوه الله عالم بأنه لا يكون، ومع ذلك فقد صرح بأن هذا الرد الذي لا يكون هو عالم أن لو كان كيف يكون، كما صرح به في قوله:{وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: آية 28] والمتخلفون عن غزوة تبوك لا يحضرونها أبداً؛ لأن الله ثبطهم عنها لحكمة وإرادة كما صرح به في قوله: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: آية 46] وخروجهم هذا الذي لا يكون صرح بعلمه أن لو كان كيف يكون حيث قال: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَاّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ

} الآية [التوبة: آية 47].

ونظائر هذا كثيرة في كتاب الله (جلّ وعلا) وهذا معنى قوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ} [التوبة: آية 16] يعني: يعلمهم علماً يظهرهم به للناس حتى يتميزوا به، أما هو فهو عالم بكل ما يصنعون وما يؤولون إليه، كما قال تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هُمْ

(1)

راجع ما سبق عند تفسير الآية (59) من سورة الأنعام.

ص: 321

لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: آية 63] يعلمها قبل أن يعملوها. وهذه الآية نصّ الله على ما دلت عليه هنا في آيات كثيرة كقوله: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)} [العنكبوت: الآيتان 1، 2] لا يكون ذلك {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} ومن نظائرها قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)} [آل عمران: آية 142] وقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ} [البقرة: آية 214]. وقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ} [آل عمران: الآيتان 166، 167] أي: يميز بينهم بما يعمله من الاختبار {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران: آية 179]{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)} [محمد: آية 31] إلى غير ذلك من الآيات القرآنية المصرحة بأنه قد اقتضت حكمة الله أن لا يترك خلقه من غير ابتلاء وامتحان، بل لا بد أن يمتحنهم ويبتليهم بالشدائد والعظائم ليظهر الذي هو على الحق من الذي هو على الباطل، ويتبين الصادق من الكاذب.

وهذا معنى قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة: آية 16].

{وَلَمْ يَتَّخِذُواْ} معطوف على فعل الصلة، والمعنى: ولما يعلم الله الذين جاهدوا ويعلم الذين لم يتخذوا من دون الله وليجة. والمعنى: لا بد أن يمتحنكم حتى يُعْلَم المجاهد في سبيل الله

ص: 322

والمخلص الذي لم يتخذ وليجة من دون الله ولا رسوله؛ لأن بعض الناس ظهر نفاقهم وبعضهم ظهر اتخاذهم الوليجة من دون الله.

واعلم أن الوليجة في لغة العرب: كل شيء أدخلته في شيء فهو وليجة

(1)

. والمراد بها هنا: بطانة السوء؛ لأنهم يدخلون في المسلمين وليسوا منهم؛ لأن كثيراً من غير المخلصين يتخذون أعداء الله أولياء، ويفشون إليهم أسرار المسلمين، ويطلعونهم على حقائقهم، وهم أعداء للمسلمين، كما كان عبد الله بن أُبيّ وأصحابه يفعلون، هم مع الكفار واليهود، والمعنى:{وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ} ولم يتخذوا من دون رَسُول الله، ولم يتخذوا من دون المؤمنين وليجة، أي: أولياء وبطانات سوء يوالونهم دون المسلمين؛ لأن الأعداء خارجون عن المسلمين، فإدخالهم فيهم كأنه وليجة لهم وإدخال لمن ليس منهم فيهم.

فالوليجة هنا: بطانة السوء، وأولياء السوء، يتخذُهم بعض غير الصادقين في إيمانهم أولياء، كما تقدم في قوله:{لَاّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: آية 28] فاتخاذ هؤلاء الأولياء هو الوليجة؛ لأن العدو الموالَى من المسلمين المُدْخَل فيهم وليجة فيهم وليس منهم، والعرب تقول للرجل في القوم ليس منهم: هو وليجة. يعني داخل فيهم وليس منهم. ووليجة الأمر: دخيلته، وهؤلاء وليجة فلان، معناه: أصحاب سره وداخله، وتطلق على المفرد والجمع. وهذا معنى {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة: آية 16] أي: دخيلة من الأعداء يتخذونهم

(1)

انظر: المقاييس في اللغة، كتاب الواو، باب الواو واللام وما يثلثهما، (مادة: ولج) ص1103.

ص: 323

أولياء، ويوالونهم، ويفشون إليهم أسرار المسلمين، كما كان يفعله المنافقون، وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول أبان بن تغلب:

فَبِئْسَ الْوَلِيجَةُ لِلْهَارِبِينَ

وَالمُعْتَدِينَ وَأَهْلِ الرِّيَب

(1)

وهذا معنى قوله: {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} أي: بطانة سوء وأولياء يدخلونهم ويولجونهم في المسلمين وليسوا من المسلمين، بل هم أعداء المسلمين، يفشون إليهم أسرار المسلمين، كما قال:{لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: آية 118].

{وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} يعني: الخبير أخص من العالم، والخبرة أخص من العلم؛ لأن العلم يطلق على كل علم، والخبرة لا تطلق في اللغة إلا على علم خاص، وهو علم الشيء الذي من شأنه أن يخفى، فالعرب تقول في الشيء الذي شأنه أن يخفى: على الخبير سقط، وأنا خبير بهذا. فلو قلت مثلاً: أنا عالم بأن الواحد نصف الاثنين، وأن الكل أكبر من الجزء، كان هذا كلاماً عربيّاً، ولو قلت: أنا خبير بأن الواحد نصف الاثنين، وأن الكل أكبر من الجزء، لما كان هذا كما ينبغي؛ لأن العرب لا تكاد تطلق الخبرة إلا على المعرفة بما من شأنه أن يخفى، كما قال الشاعر في العيافة

(2)

:

خَبِيرٌ بنُو لهْبٍ فَلَا تَكُ مُلْغِيَا

مَقَالةَ لهْبيِ إذا الطَّيْرُ مَرَّتِ

(1)

البيت في القرطبي (8/ 88).

(2)

مضى عند تفسير الآية (58) من سورة الأنعام.

ص: 324

ومعنى خِبْرَته (جلّ وعلا): أنه يعلم الخفايا والخبايا كما يعلم الظاهر، فلا تخفى عليه خافية. وهذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم الذي نوَّهْنَا عنه مراراً كثيرة ولا نزال ننوه عنه. وهذا معنى قوله:{وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} .

قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)} [التوبة: آية 17]{مَسَاجِدَ اللَّهِ} مساجدُ هنا ذُكِرَتْ مرتين: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} والثانية في قوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} .

أما الأُولى منهما وهي قولُه: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} فقد قرأه عامةُ السبعةِ غيرَ ابنِ كثيرٍ وأبي عمرو: {أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} بصيغةِ جمعِ التكسيرِ. وقرأه ابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو: {ما كان للمشركين أن يعمروا مسجدَ الله شاهدين على أنفسهم بالكفر}

(1)

.

أما مساجدُ الثانيةُ وهي قولُه: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} فقد أَجْمَعَ جميعُ القراءِ على قراءتِها بصيغةِ الجمعِ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} ولم يقرأها أحدٌ بالإفرادِ كما هو معروفٌ.

وقولُه: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} سببُ نزولِها أن كفارَ قريشٍ صَدُّوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن البيتِ الحرامِ، وقالوا: هو بيتُنا ونحن أولياؤه، وافتخروا بعمارةِ المسجدِ الحرامِ، كما يأتي. يفتخرونَ دائمًا ببيتِ اللَّهِ الحرامِ وأنهم عُمَّارُهُ وأهلُه، كما سيأتي في قولِه:{فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تُهْجِرُونَ (67)} [المؤمنون: الآيتان 66، 67]

(1)

انظر: المبسوط لابن مهران ص226.

ص: 325

وفي القراءة الأُخرى: {تَهْجُرُونَ}

(1)

. {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} أي: بالبيتِ، على أَظْهَرِ التفسيرين؛ لأنهم يتكبرون به بأنهم قُطَّانه وعُمَّاره وأولياؤه، فَرَدَّ اللَّهُ عليهم في هذه الآيةِ الكريمةِ. وقد قدمنا طرفًا من ذلك في سورةِ الأنفالِ في قولِه:{وَمَا لَهُمْ أَلَاّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَاّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)} [الأنفال: آية 34]. وقال هنا: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} ما يصح ولا ينبغي ولا يمكن هذا التناقضُ؛ لأن المساجدَ بيوتُ اللَّهِ، أُسِّسَتْ على طاعتِه والتقربِ إليه بما يرضيه، والمشركونَ كفَرَةٌ فجَرَةٌ، أعمالُهم في المساجدِ كلِّها كفرٌ وتمردٌ على الله وَعُدْوَانٌ، كيف يكونُ هذا يجتمعُ مع هذا؟! لأن المساجدَ إنما بُنِيَتْ لطاعةِ اللَّهِ، وتُؤَسَّسُ على ما يُرْضِي اللَّهَ (جلَّ وعلا) وهؤلاء كفَرَةٌ أعمالُهم كلُّها كفرٌ وصدٌّ عن سبيل الله، فهذا من الشيء الذي لا يمكنُ أن يجتمعَ؛ لأن فيه اجتماعَ النقيضين. وهذا معنَى قولِه:{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة: آية 17] وفي قراءةِ ابنِ كثيرٍ وأبِي عمرٍو: {يعمروا مسجدَ الله} هو المسجد الحرام، مسجد مكة حرسها الله.

وقولُه: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} هذا محلُّ التناقضِ؛ لأن عمارةَ المسجدِ الحرامِ فِعْلُ الْمُطِيعِينَ والمتقربين إلى اللَّهِ، كيف يفعلونَ هذا في وقتِ الحالِ التي هم شاهدونَ فيها على أنفسِهم بالكفرِ؟

وقولُه: {شَاهِدِينَ} حالٌ من واوِ الفاعلِ في قولِه: {يَعْمُرُوا} أي: يعمروها في حالِ كونِهم شاهدين على أنفسِهم بالكفرِ.

(1)

السابق ص313.

ص: 326

[3/أ] / قال بعضُ العلماءِ

(1)

: شهادتُهم على أنفسِهم بالكفرِ إنما هي بأفعالِهم؛ لأن مَنْ سَجَدَ ووضعَ جبهتَه للصنمِ فقد شَهِدَ على نفسِه، وَنَادَى بأعظمِ الكفرِ وأفظعِه. وعلى هذا فهي شهادةُ حَالٍ.

وقال بعضُ العلماءِ: هي شهادةُ مقالٍ أيضًا، فهم شاهدون بالحالِ والمقالِ. قالوا: يُرَادُ بذلك أنهم في تَلْبِيَتِهِمْ وطوافِهم بالبيتِ في المسجدِ الحرامِ يقولونَ: لَبَّيْكَ لا شريكَ لكَ، إلا شريكًا هو لَكَ، تملكُه وما مَلَكَ [وقال بعضُ العلماءِ: شهادتُهم على أنفسِهم بالكفرِ هو أن الكافرَ إذا قلتَ له: ما دِينُكَ؟ فيقول]

(2)

النصرانيُّ: نصرانيٌّ، والصابئ: صابئٌ، والمشركُ يقول: مشرك؛ لأنه يَعْبُدُ مع الله غيرَه. والله (جلَّ وعلا) ذَكَرَ مثلَ هذا من شهادتِهم على أنفسِهم في غيرِ هذا الموضعِ كقولِه: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)} [العاديات: الآيتان 6، 7] أي: الإنسان، وفيه الأقوالُ المذكورةُ هنا. وهذا معنَى قولِه:{شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} لأن عمارةَ مساجدِ اللَّهِ هي من القربةِ والطاعةِ لله لا تمكن من أحد هو في حال وقت فعله إيَّاها شاهدٌ على نفسه بأنه كافر.

وعمارةُ المسجدِ الحرامِ تشملُ أَمْرَيْنِ:

أحدُهما: العمارةُ الحسيةُ، وهي مَرَمَّتُهُ وبناؤُه وتزيينُ بنائه.

(1)

في معنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر. انظر ابن جرير (14/ 165)، القرطبي (8/ 89)، ابن كثير (2/ 340).

(2)

في هذا الموضع وُجد انقطاع في التسجيل. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

انظر: ابن جرير (14/ 165)، ابن أبي حاتم (6/ 1765)، القرطبي (8/ 90).

ص: 327

والثانيةُ: عمارتُه المعنويةُ، وهي عبادةُ اللَّهِ وطاعتُه فيه، واللائقُ بالكفارِ هنا هو الأولُ؛ لأنهم كانوا يَسْدِنُونَ البيتَ وقد بَنَوْهُ، كما قال زهيرٌ

(1)

:

وَأَقْسَمْتُ بِالْبَيْتِ الَّذِي طَافَ حَوْلَهُ

رِجَالٌ بَنَوْهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَجُرْهُمِ

وبناءُ قريشٍ له معروفٌ، حضره النبيُّ صلى الله عليه وسلم في صِغَرِهِ كما هو معروفٌ.

وهذا معنَى قولِه: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: آية 17].

{أُولَئِكَ} الكفرةُ الشاهدونَ على أنفسهم بالكفرِ {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} ومنها عمارتُهم للبيتِ الحرامِ؛ لأن الكفرَ يحبطُ جميعَ الأعمالِ. ومعنَى {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} اضْمَحَلَّتْ وكانت لا فائدةَ فيها؛ لأن أفعالَ الكفارِ تضمحلُّ ولا تنفعُهم يومَ القيامةِ؛ لأن اللَّهَ يقولُ: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنْثُورًا (23)} ويقول تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَاّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} [هود: الآيتان 15، 16] أما أفعالُ الكافرِ من قُرَبِهِ فإنها تنفعُه في الدنيا؛ لأن الكافرَ إذا أطاع اللَّهَ في الدنيا مُخْلِصًا في طَاعتِه لوجهِ اللَّهِ كَأَنْ يَبَرَّ وَالِدَيْهِ، ويصلَ الرحمَ، وَيُقْرِيَ الضيفَ، وَيُنَفِّسَ عن المكروبِ، ويعينَ [المظلوم]

(2)

، فإذا فَعَلَ الكافرُ هذه القربَ يقصدُ بها وجهَ اللَّهِ فإن اللَّهَ يعاوضه في الدنيا ويعطيه ثوابَه في الدنيا من الصحةِ والرزقِ

(1)

مضى عند تفسير الآية (72) من سورة الأعراف.

(2)

في الأصل: «الظالم» وهو سبق لسان.

ص: 328

والمالِ، ولا شيءَ له يومَ القيامةِ، كما دَلَّتْ على هذا آياتٌ من كتابِ اللَّهِ، كقولِه:{نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} ، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: آية 20]. وَثَبَتَ معناه في صحيحِ مسلمٍ من حديثِ أنسٍ رضي الله عنه

(1)

. وهذا معنى قولِه: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة: آية 17] النار- والعياذُ بالله - هي نارُ الْخِزْيِ التي أَعَدَّ اللَّهُ لأعدائه يومَ القيامةِ.

والألفُ التي بين النونِ والراءِ منقلبةٌ عن واوٍ، فأصلُها من مادةِ الأجوفِ واوي العين، أصلها (نَوِرْ) ولذا يقولون في النظرِ من بعيدٍ إلى النارِ: تَنَوَّرْتُهَا. فلو كانت يائيةَ العينِ لقالوا: تَنَيَّرْتُهَا. قالوا واشتقاقُها من: نَارَتِ الظبيةُ. إذا ارتفعت جافلةً؛ لأن طبيعةَ النارِ الارتفاعُ.

(2)

{وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} خلودُ الكفارِ في النارِ خلودٌ أبديٌّ سرمديٌّ لا انقطاعَ له، كما قال تعالى:{كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: آية 97]، {فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَاّ عَذَابًا (30)} [النبأ: آية 30]، {لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} [البقرة: آية 162].

ومعروفٌ في هذا إيرادٌ يُورِدُهُ الكفرةُ الملاحدةُ وأذنابُهم وَمَنْ تَعَلَّقَ بهم يقولونَ: إن الله (جلَّ وعلا) في غايةِ الحكمةِ والعدالةِ، وهو العدلُ الحكيمُ (جلَّ وعلا) والكافرُ إنما عَصَى في الدنيا أيامًا معدودةً، قالوا: فكيفَ يكونُ العملُ في أيامٍ معدودةٍ محدودةٍ والجزاءُ دائمٌ لَا ينقطعُ أبدًا؟ وأين الحكمةُ والإنصافُ في هذا؟ قَبَّحَ اللَّهُ مَنْ يقولُ

(1)

تَقَدَّمَ تخريجُه عند تفسير الآية (42) من سورة الأعراف.

(2)

مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام.

ص: 329

هذا!! وهذا يتمسك به الملاحدةُ وأذنابُ الكفرةِ

(1)

.

والجوابُ عن هذا أن الكافرَ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - خبثُه الذي ينطوي عليه الذي هو سببُ كُلِّ ما جاءه من البلايا هو دائمٌ أبدًا لا يزولُ ولا ينقطعُ، فكان جزاؤُه دائمًا لا يزولُ ولَا ينقطعُ، والله (جلَّ وعلا) يقول:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: آية 21](خيرًا) نكرةٌ في سياقِ الشرطِ وهي تَعُمُّ، فلا يكونُ في قلوبِهم خيرٌ أبدًا في وقتٍ ما كائنًا ما كَانَ. ومما يوضحُ ذلك: أنهم لَمَّا عاينوا النارَ، وشاهدوا الحقائقَ، وكشفَ اللَّهُ غطاءهم عنهم، وَعَايَنُوا كُلَّ شيءٍ، وَتَمَنَّوُا الردَّ إلى الدنيا مرةً أخرى، صرَّح اللَّهُ بأن ما طُبِعُوا عليه وما جُبِلُوا عليه من الكفرِ لا يزولُ أبدًا، وأنه لو رَدَّهُمْ إلى الدنيا لرجعوا إلى كفرهم؛ لأنهم مُنْطَوُونَ عليه لا يفارقُهم أبدًا، كما قال:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: آية 28] فهذا يدلُّ على أنهم لا يَنْفَكُّونَ عن كفرِهم، وأنهم دائمونَ عليه أبدًا، فكان جزاؤُه دائمًا عليهم أبدًا، جزاءً وفاقًا، ولله (جل وعلا) الحكمةُ في كل ما يفعلُه، وهو الحكمُ العدلُ اللطيفُ الخبيرُ. وهذا معنَى قولِه:{أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} .

{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَاّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} [التوبة: آية 18].

[المقررُ]

(2)

عند علماءِ العربيةِ أن (إنما) أداةُ حصرٍ وإثباتٍ.

(1)

راجع هذه الشبهة والجواب عنها، عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام.

(2)

في هذا الموضع انقطاع في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

ص: 330

يعنِي: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} العمارةُ المعنويةُ بالعباداتِ وَذِكْرِ اسمِ اللَّهِ فيها، والعمارةُ الحسيةُ، من بنائِها وترميمِها، هذا كُلُّهُ من شأنِ المؤمنينَ، لَا مِنْ شَأْنِ الكفارِ، وهذا قولُه:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} . (مَنْ) فاعل قولِه {يَعْمُرُ} الذي آمَنَ بالله هو الذي يَعْمُرُ مساجدَ اللَّهِ، لا الكافرُ الذي عملُه ضِدٌّ لِمَا بُنِيَتْ له المساجدُ، فهذا تناقضٌ لا يمكنُ أن يكونَ عَامِرًا للمساجدِ، وعملُه ضِدُّ ما بُنِيَتْ له المساجدُ، وهذا معنَى قولِه:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} أي: صَدَّقَ به (جلَّ وعلا) وبكلِّ ما يجبُ التصديقُ به.

{وَالْيَوْمِ الآخِرِ} هو يومُ القيامةِ. وجرتِ العادةُ أن اللَّهَ يذكرُ الإيمانَ باليومِ الآخرِ مع الإيمانِ به؛ لأَنَّ الكفرَ باليومِ الآخِرِ سببٌ لكلِّ البلايا وأنواعِ الكفرِ والجحودِ؛ لأن مطامعَ العقلاءِ محصورةٌ في أمرين: هما: جلبُ النفعِ، ودفعِ الضرِّ، والذي لا يصدقُ بيومِ القيامةِ لَا يرغبُ في خيرٍ في ذلك اليوم، ولا يخافُ من شَرٍّ في ذلك اليومِ، فلا يَنْزَجِرُ عن شيءٍ، ولا يَرْعَوِي عن شيءٍ؛ ولذا كان التكذيبُ بالبعثِ من أشنعِ أنواعِ الكفرِ بالله (جلَّ وعلا) وقد صرَّح اللَّهُ بأن المكذبين بالبعثِ والشاكِّين فيه من حَطَبِ جهنمَ في آياتٍ كثيرةٍ كقولِه:{وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} [الفرقان: آية 11] وقولُه في المنكرين للبعثِ: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} استفهامُ إنكارٍ منهم في الخلقِ الجديدِ بعد الموتةِ الأُولَى، قال اللَّهُ:{أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الرعد: آية 5]. وهذا معنى قولِه: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ} يعني: الصلواتِ المكتوباتِ الخمسَ. {وَآتَى الزَّكَاةَ}

ص: 331

الحقوقَ الواجبةَ في الأموالِ كما بَيَّنَّاهُ مِرَارًا.

{فَعَسَى أُولَئِكَ} جماهيرُ العلماءِ يقولونَ: (عسى) من اللَّهِ واجبةٌ

(1)

لأن اللَّهَ كريمٌ لَا يُطْمَعُ في شيءٍ إلا هو فاعلُه لشدةِ كَرَمِهِ (جلَّ وعلا) وفضلِه.

{أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} أي: السالكينَ طريقَ النجاةِ والصوابِ الْمُوصِلَةَ إلى الجنةِ، وقد جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من حديثِ أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) قال:«إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِيمَانِ»

(2)

لأن اللَّهَ يقولُ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [التوبة: آية 18] وقال أبو بكر بن العربي في الكلامِ على هذا الحديثِ في قولِه: «فَاشْهَدَوُا لَهُ بِالإِيمَانِ» اشْهَدُوا له شهادةً ظاهرةً؛ لأن فعلَه يدلُّ عليها، وتعاهد المساجد يدلُّ على إيمانِه ظاهرًا كما دَلَّ عليه قولُه:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} أما حقيقةُ الباطنِ فهي عندَ اللَّهِ جَلَّ وعلا. وهذا معنَى قولِه: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} .

(1)

مضى عند تفسير الآية (129) من سورة الأنعام.

(2)

أخرجه أحمد (3/ 68، 76)، والدارمي (1/ 222)، والترمذي في التفسير، باب: ومن سورة التوبة، حديث رقم:(3093)(5/ 277)، وابن ماجه في المساجد والجماعات، باب لزوم المساجد وانتظار الصلاة، حديث رقم:(802)(1/ 263)، والبيهقي (3/ 66)، والحاكم (1/ 212، 2/ 332)، وابن حبان (الإحسان3/ 110). وابن أبي حاتم في التفسير (6/ 1766)، وانظر: ضعيف ابن ماجه ص62، المشكاة (723)، ضعيف الجامع (1/ 184).

ص: 332

وقولُه: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَاّ اللَّهَ} لم يَخَفْ أحدًا إلا اللَّهَ. وفي هذه الآيةِ الكريمةِ وأمثالِها في القرآنِ سؤالٌ معروفٌ، وهو أن يقالَ: لَا يوجدُ أحدٌ إلا هو يَخْشَى من غيرِ اللَّهِ، ويخافُ من غيرِ اللَّهِ؛ لأن كل المخاوف والمحاذير جُبلت طبائعُ البشرِ على الخوفِ والخشيةِ منها، والذي لم يَخْشَ شيئًا من المخاوفِ والمحاذرِ هذا أمرٌ صَعْبٌ.

والعلماءُ يُجِيبُونَ عن هذا بِجَوَابَيْنِ

(1)

:

بعضُهم يقولُ: الخشيةُ التي هي شِرْكٌ بالله التي يحذِّر اللَّهُ منها هي خشيةُ الأصنامِ، والخوفُ من المعبوداتِ من دونِ اللَّهِ، وهذا النوعُ دَلَّتْ عليه آياتٌ كثيرةٌ؛ لأن عَبَدَةَ الأصنامِ يُخَوِّفُونَ مَنْ يَسُبُّ الأصنامَ بأن الأصنامَ ستفعلُ له وتفعلُ، كما قالوا لِنَبِيِّ اللَّهِ هودٍ:{إِن نَّقُولُ إِلَاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ} الآية [هود: الآيات 54 - 56] وكذلك لما خوَّفوا منها نبيَّ اللَّهِ إبراهيمَ (عليه وعلى نبينا الصلاةُ والسلامُ) وقالوا له: سوف تفعلُ بكَ أصنامُنا وتفعلُ، قال لهم:{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)} [الأنعام: آية 81] وخوَّفوا بها نَبِيَّ اللَّهِ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، كما نَصَّ اللَّهُ عليه في سورةِ الزمرِ في قولِه {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} ثم قال ردًّا عليهم:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: آية 36] وفي القراءةِ الأخرى

(2)

: {بكاف عباده} وهذا كثيرٌ في

(1)

انظر: القرطبي (8/ 90).

(2)

انظر: المبسوط لابن مهران ص384.

ص: 333

القرآنِ، فهذه الخشيةُ التي يخافُ صاحبُها من عاقبةِ الأصنامِ هذا كفرٌ بِاللَّهِ وشركٌ به.

وقال بعضُ العلماءِ: هي الخشيةُ الدنيويةُ من الناسِ إذا كانت تحملُ الإنسانَ على أن يعصيَ اللَّهَ، كالذي يَخْشَى من الكفارِ وَيَجْبُنُ عن الجهادِ في سبيلِ اللَّهِ، كما تقدَّم في قولِه:{أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُم مُّؤُمِنِينَ} [التوبة: آية 13] أما ما يعرض للإنسانِ من الخوفِ من الأشياءِ والمحاذيرِ بِجِبِلَّتِهِ فهذا أمرٌ لا مؤاخذةَ به؛ لأن اللَّهَ لَا يكلفُ نفسًا إلا وسعَها كما هو معلومٌ، وهذا معنى قولِه:{وَلَمْ يَخْشَ إِلَاّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: آية 18].

{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)} [التوبة: آية 19].

قال بعضُ العلماءِ: نزلت هذه الآيةُ الكريمةُ في العباسِ بنِ عبدِ المطلبِ، ذلك أنه لَمَّا أُسِرَ يومَ بدرٍ كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يلومُه ويشددُ عليه في قتالِه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابةُ يُعَيِّرُونَهُ وأصحابَه بالشركِ بالله، فقال لهم: تذكرونَ مساوئَنا ولَا تذكرونَ محاسنَنا!! فقال له عَلِيٌّ: أَلَكُمْ مَحَاسِنُ؟ قال: نعم، نحن نُعَمِّرُ بيتَ اللَّهِ الحرامَ، ونسقي الحاجَّ، ونفكَّ العانيَ، ونفعل ونفعل

(1)

.

(1)

أخرج نحوه ابن جرير (14/ 170)، وابن أبي حاتم (6/ 1768) وإسناده صحيح، والواحدي في أسباب النزول ص (244)، وأورده السيوطي في الدر (3/ 218) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. كما أورده عنه مختصرًا وعزاه لابن مردويه.

وقد جاء في هذا المعنى جملة من الآثار منها:

1 -

الشعبي: أخرجه ابن جرير (14/ 171)، وابن أبي حاتم (6/ 1768)، وأورده السيوطي في الدر (3/ 218) وعزاه لابن مردويه وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

2 -

عبد الله بن عبيدة: أورده السيوطي في الدر (3/ 218) وعزاه لابن أبي شيبة وابن مردويه وأبي الشيخ.

3 -

ابن سيرين: أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص 244، وعزاه في الدر (3/ 218) للفريابي.

4 -

الضحاك: أخرجه ابن جرير (14/ 172).

ص: 334

وقال بعضُ العلماءِ: نزلت في عثمانَ بنِ طلحةَ، أو شيبةَ بنِ طلحةَ، وَعَلِيِّ بنِ أبي طالبٍ، والعباسِ بنِ عبدِ المطلبِ. قال العباسُ: أنا صاحبُ السقايةِ. وقال صاحبُ بَنِي عبدِ الدارِ: أنا سادنُ البيتِ، عندي مفتاحُ الكعبةِ، لو أشاءُ لَبِتُّ فيها. وقال عَلِيُّ بنُ أبِي طالبٍ: صليتُ إلى القبلةِ قبلَ أن يصليَ الناسُ إليها، وذكرَ الجهادَ ونحوَ ذلك، فأنزل اللَّهُ:{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ}

(1)

.

(1)

أخرجه ابن جرير (14/ 171)، والواحدي في أسباب النزول ص 244 عن محمد بن كعب القرظي مرسلاً. وقد جاء بمعناه عدة آثار منها:

1 -

عن الحسن البصري: أخرجه الواحدي في أسباب النزول ص 244، وعزاه في الدر (3/ 219) لعبد الرزاق.

2 -

أنس بن مالك رضي الله عنه: أورده السيوطي في الدر (3/ 219) وعزاه لأبي نعيم في فضائل الصحابة، وابن عساكر.

3 -

السدي: أخرجه ابن جرير (14/ 172).

4 -

الشعبي: أخرجه ابن أبي حاتم (6/ 1767).

ص: 335

وأكثرُ المفسرين أن سببَ نزولِها هو افتخارُ الكفارِ بسقايتِهم الحاجَّ، وعمارتِهم المسجدَ الحرامَ، وَجَعْلِهِمْ ذلك مثلَ إيمانِ المؤمنين، وأن لهم من الأَجْرِ مثلَ ما للمؤمنين، فَأَنْكَرَ اللَّهُ عليهم.

وقد جاء في سببِ نزولِ هذه الآيةِ الكريمةِ حديثٌ مُشْكِلٌ، لأنه خرَّج جماعةٌ عن النعمانِ بنِ بشيرٍ رضي الله عنه، ومن جملةِ مَنْ خَرَّجَ حديثَه مسلمُ بنُ الحجاجِ رحمه الله في صحيحِه، أن سببَ نزولِها أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يومَ جمعةٍ وعندَ منبرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم رِجَالٌ، فقال واحدٌ منهم: لا أُبَالِي أن أفعلَ شيئًا بعدَ الإسلامِ إلَاّ أن أسقيَ الحاجَّ. وقال الثاني: لا أبالي أن أفعلَ شيئًا بعد الإسلامِ إلا أن أُعَمِّرَ المسجدَ الحرامَ. وقال الثالثُ: الجهادُ في سبيلِ اللَّهِ أفضلُ من هذا كلِّه. فزجرهما عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه وقال: لا تَرْفَعُوا أصواتَكم عندَ منبرِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وكان هذا يومَ جمعةٍ. فإذا صلى الجمعةَ استفتيتُ رسولَ الله فيم اختلفتُم فيه. وأنه استفتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} سببُ نزولِ هذه الآيةِ على هذا السياقِ أَخْرَجَهُ مسلمٌ في صحيحِه وجماعةٌ

(1)

، وهو مُشْكِلٌ جِدًّا؛ لأنا لو فَرَضْنَا أن نزولَها في المؤمنين لَا يناسبُ قولَه في آخِرِهَا:{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: آية 19] فَدَلَّ على أن الصحيح أنها في الكفارِ، وهذا الحديثُ أصلُه فيه إشكالٌ معروفٌ في سببِ نزولِ هذه الآيةِ الكريمةِ، وقد أَوْرَدَ أبو عبدِ اللَّهِ القرطبيُّ رحمه الله في تفسيرِ هذه الآيةِ إزالة هذا الإشكال

(2)

،

(1)

مسلم في الإمارة، باب: فضل الجهاد والخروج في سبيل الله. حديث رقم: (1879)(3/ 1499).

(2)

تفسير القرطبي (8/ 92) ..

ص: 336

وكلامُه فيه أجودُ ما وقفتُ عليه في إزالةِ إشكالِه، قال: إنهم لَمَّا اختلفوا وَذَكَرَ واحدٌ منهم عمارةَ المسجدِ، وَذَكَرَ الثاني سقايةَ الحجِّ، وَذَكَرَ الثالثُ الجهادَ، وسأل عمرُ بنُ الخطابِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، أن النبيَّ إنما قرأَ الآيةَ- وَكَانَتْ نازلةً قَبْلُ- مستدلاً بها لحكم ما اختلفوا فيه، وهي قولُه:{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} فظنَّ الراوي أن قراءةَ النبيِّ لها أن ذلك وقتُ نزولها، وذلك ليس بوقتِ نزولِها، فهي نازلةٌ قبلُ ولكنه ذَكَرَهَا استشهادًا واستدلالاً لِمَا اختلفوا فيه. وهذا هو الأظهرُ، والله تعالى أعلم.

وقولُه: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} الظاهرُ أن (جَعَلَ) هنا هي التي بمعنَى اعْتَقَدَ، وأنه أَنْكَرَ عليهم اعتقادَهم تساوي هذين الأمرين وهما بعيدٌ من المساواة، بينهما بَوْنٌ عظيمٌ، وبونٌ شاسعٌ.

وكان بعضُهم يقولُ: لَا يبعدُ أن تكونَ هي التي بمعنَى (صيَّر) أي: صيرتُم هذا كهذا وادعيتُم أنه مثلُه.

وقد ذَكَرْنَا في هذه الدروسِ مرارًا

(1)

أن لفظةَ (جعل) تأتِي في اللغةِ العربيةِ لأربعةِ مَعَانٍ، ثلاثةٌ منها موجودةٌ في كتابِ الله، ورابعها موجودٌ في اللغةِ العربيةِ ولم يوجد في كتابِ اللَّهِ، من هذه المعانِي الأربعةِ: كونُ (جعل) بمعنَى (اعتقد) وجعل التي بمعنَى اعتقدَ أصلُها تَنْصِبُ المبتدأَ والخبرَ مفعولين، ومنها قولُه:{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: آية 19] وفي القراءة الأخرى

(2)

: {الذين هم عند الرحمن إناثًا} والمعنَى: جَعَلُوا الملائكةَ إناثًا، أي:

(1)

مضى عند تفسير الآية (100، 112) من سورة الأنعام والآية (189) من سورة الأعراف.

(2)

مضت عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام.

ص: 337

اعْتَقَدُوهُمْ إناثًا؛ لأنهم لم يصيروهم إناثًا ولا يَقْدِرُونَ، فهي (جَعَلَ) بمعنَى (اعتقد).

والثانيةُ: (جَعَلَ) بمعنَى (صيَّر) ومنه قولُه: {جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: آية 15] أي: صَيَّرْنَاهُمْ. وهذه أيضًا تَنْصِبُ المبتدأَ والخبرَ مفعولين.

والثالثةُ: (جَعَلَ) بمعنَى (خَلَقَ) وهي تتعدى إلى مفعولٍ واحدٍ، ومن هذا قولُه في أولِ سورةِ الأنعامِ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: آية 1] أي: خلق الظلماتِ والنورَ، بدليلِ عطفِه على قولِه:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} .

هذه ثلاثةُ مَعَانٍ كُلُّهَا في القرآنِ: (جَعَلَ) بمعنى (اعْتَقَدَ)، (جعل) بمعنَى (صيَّر)، (جعل) بمعنى (خَلَقَ).

الرابعُ منها: (جَعَلَ) بمعنَى (شَرَعَ) جَعَلَ يفعلُ كذا إذا شَرَعَ فيه. وهذه ليست موجودةً في كتابِ اللَّهِ، وهي موجودةٌ في كلامِ العربِ بكثرةٍ، ومنه قولُ الشاعرِ

(1)

:

وَقَدْ جَعَلْتُ إِذَا مَا قُمْتُ يُثْقِلُنِي

ثَوْبِي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الشَّارِبِ السَّكِرِ

وهذا معنَى قولِه: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} [التوبة: آية 19].

والسقاية هي إحدى الوظائفِ؛ لأن قُصَيَّ بنَ كلابٍ - وهو مُجَمِّعٌ - لَمَّا جمَّع قريشًا وأخذ سدانةَ الكعبةِ من خزاعةَ، وجمَّع قريشًا وكان يُسِمَّى مُجَمِّعًا؛ لأنه جَمَعَ قبائلَ قريشٍ بمكةَ، وهو الذي يقولُ فيه ابنُ حذافةَ

(2)

:

(1)

مضى عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام.

(2)

تقدم هذا البيت في سبيل الهدى والرشاد (1/ 275).

ص: 338

أَبُوكُمْ قُصَيٌّ كَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا

بِهِ جَمَعَ اللَّهُ الْقَبَائِلَ مِنْ فِهْرِ

جَعَلَ الوظائفَ وهي السقايةُ والرفادةُ والندوةُ واللواءُ وحجابةُ البيتِ، هذه الوظائفُ كلُّها جعلها لعبدِ الدارِ بنِ قُصَيٍّ؛ لأن أولادَ قصي أربعةٌ: عبدُ بنُ قُصَيٍّ، وكان عبد الدارِ بنُ قُصَيٍّ، وعبد العزَّى بن قصي، وعبد منافِ بن قصي. وكان عبدُ الدارِ بنُ قصيٍّ أقلَّ أولادِه شرفًا وأكثرهم خمولاً، فأعطاه جميعَ الوظائفِ. وَجَعَلَ إلى عبدِ الدارِ السقايةَ والرفادةَ والحجابةَ ودارَ الندوةِ واللواءَ.

اللواءُ: هو حَمْلُ اللواءِ في الميدانِ عندَ التحامِ الحربِ.

ودارُ الندوةِ: هي الدارُ التي كانوا لَا يعقدونَ ولا يحلونَ إلا بها، اشتراها بعدَ ذلك حكيمُ بنُ حزامٍ وباعها وتصدقَ بثمنِها

(1)

. ولما قالوا له: يا أبا خالدٍ: بِعْتَ مأثرةَ قريشٍ!! قال لهم: الشرفُ بالدِّينِ لا بالديرِ.

والسقايةُ: كان قصيٌّ يجمعُ أموالاً على قريشٍ يجعلُ منها الرفادةَ والسقايةَ.

الرفادةُ: مالٌ يكونُ عندَهم يكونُ رفدًا لمن تَعَطَّلَ، إذا مات بعيرُ حَاجٍّ اشتروا له بعيرًا، وإذا افتقر أحدٌ أو انقطعت به النفقةُ زَوَّدُوهُ منه حتى يصلَ إلى أهلِه. كل هذا يفعلُه قصي ويأخذ هذا المالَ على قريش.

والسقايةُ: كانوا يأخذونَ النبيذَ والشرابَ الطيبَ ويجعلونَه في الموسمِ في الأماكنِ التي تَغْشَاهَا النَّاسُ، فيأتي الناسُ فيشربونَ

(1)

أخرجه الطبراني من طريقين (3/ 186 - 187) وقال في المجمع (9/ 384): «رواه الطبراني بإسنادين أحدهما حسن» اهـ.

ص: 339

مَجَّانًا. وعن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما أن أعرابيًّا جاء واستسقاهم من سقايتِهم فسقوه نبيذًا، فقال الأعرابيُّ: سبحان الله! إن الناس يسقونَ في سقايتهم اللبنَ والعسلَ وأنتم تسقونَ النبيذَ!! يعيبهم بأن سقايتَهم نبيذٌ. فأخبره ابنُ عباسٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مرَّ بهم وَسَقَوْهُ من نبيذِها، وأمرهم أن يسقوا الناسَ منه. قال: لا نزيدُ على ما أمرنا به رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

. ومعلومٌ أن هذا النبيذَ الذي أمر النبيُّ بِسَقْيِهِ على تقديرِ صحةِ هذا أنه نبيذٌ لا يُسْكِرُ كثيرُه؛ لأن النبيذَ الذي يُسْكِرُ كثيرُه لَا ينبغي أن يُقْدَمَ على شُرْبِهِ؛ لأنه ثَبَتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ»

(2)

كما هو معروفٌ. فهذه هي سقايةُ الحاجِّ.

والرفادةُ والحجابةُ التي هي سدانةُ البيتِ كانت كُلُّهَا لعبدِ الدارِ، وَلَمَّا شبَّ أولادُ عبدِ منافٍ وأرادوا نزعَ هذه الأشياءِ من بَنِي عبدِ الدارِ، ووقعت المخالفةُ بينَ قريشٍ، وتحالفوا للقتالِ الحلف الذي يقال فيه «حِلْفُ الْمُطَيِّبِينَ» و «حِلْفُ لَعَقَةِ الدَّمِ» كما هو معروفٌ، ثم اصطلحوا على أن تبقَى السقايةُ والرفادةُ أن تُرَدَّ لِبَنِي عبدِ منافٍ، ويبقى للعبدريين اللواءُ والندوةُ وحجابةُ البيتِ، أي: سدانة الكعبة حرسها اللَّهُ. فهذه السقايةُ كانوا يفتخرونَ بها ويقولونَ: نحن نَسْقِي الحجَّ ونعمر بيت الله!! ويجعلونَ هذا أفضلَ ممن يؤمنُ بالله، فأنكر اللَّهُ عليهم فقال:{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} [التوبة: آية 19] الحجاجُ يقدمونَ عليكم فتسقونَهم {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} كَتَرْمِيمِهِ وبنائِه.

(1)

أخرجه ابن سعد (2/ 131)، وأورده السيوطي في الدر (3/ 219) وعزاه لابن سعد.

(2)

مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

ص: 340

{كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} لَا بُدَّ أن يُقَدَّرَ مضافٌ في أحدِ الأَمْرَيْنِ

(1)

.

قال بعضُ العلماءِ: يقدرُ في الأولِ، والمعنَى: أجعلتُم أصحابَ سقايةِ الحاجِّ، أو أهلَ سقايةِ الحاجِّ وعمارةَ المسجدِ الحرامِ كمن آمَنَ، أي: كالذين آمنوا بالله؟

وقال بعضُ العلماءِ: يُقَدَّرُ المضافُ في الثانِي: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ} كعملِ مَنْ آمَنَ بالله. والأمرانِ جائزانِ، وأظهرُهما: تقديرُه في الأولِ، والمعنَى: أجعلتُم أهلَ سقايةِ الحاجِّ وأصحابَ عمارةِ المسجدِ كالذين آمنوا بالله، لا يكونون مثلَهم أبدًا. وَيُسْتَأْنَسُ لهذا بالقراءةِ الشاذةِ المرويةِ عن ابن الزبير وأُبَيِّ بنِ كعبٍ وأبي وجزةَ وغيرهم في قوله:«أجعلتُم سُقاةَ الحاجِّ وعَمَرة المسجدِ الحرامِ»

(2)

السُقاة: جمع الساقي، كقاضي وقضاة. والعَمَرَةُ: جمع عَامِرٍ، ككاتبٍ وكَتبَةٍ، وظالمٍ وَظَلَمَةٍ. فهي قراءةٌ شاذةٌ إلا أنها يُسْتَأْنَسُ بها للمعنَى.

والحاجُّ: اسمُ جنسٍ لكلِّ مَنْ يحجُّ بيتَ اللَّهِ الحرامِ، وسقايتُهم: كما كانوا يسقونَ النبيذَ والشرابَ الحلوَ في المواسمِ أيامَ الحجِّ.

{وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} كما بَنَاهُ قريشٌ في صِغَرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. جعلتُم واعتقدتُم هذا {كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} لَا يكون مثله.

ثم قال: {لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} لَا يستوي هؤلاء وهؤلاء، لأن

(1)

انظر: القرطبي (8/ 91)، الدر المصون (6/ 31).

(2)

ذكرها ابن جني في المحتسب (1/ 285)، والقرطبي (8/ 91)، وأبو حيان في البحر (5/ 20) ولم أجد من عزاها لأُبي بن كعب.

ص: 341

عملَ هؤلاء باطلٌ للكفرِ؛ لأن اللَّهَ قال: {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: آية 16] وقال (جلَّ وعلا): {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا (23)} [الفرقان: آية 23] وقال: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: آية 19] أي: ومنهم الكفرةُ الذين يفتخرونَ بسقايةِ الحاجِّ وعمارةِ المسجدِ الحرامِ، فَهُمْ قومٌ ظالمونَ لَا يهديهم اللَّهُ (جلَّ وعلا).

قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} [التوبة: الآيات 20 - 24].

يقول الله (جلَّ وعلا): {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)} [التوبة: الآيات 20 - 22].

لَمَّا قال أهلُ مكةَ مفتخرين بأنهم يسقونَ الحاجَّ، ويعمرونَ المسجدَ الحرامَ، ويفكونَ العانيَ - أي: الأسيرَ - وافتخروا بمثلِ هذه الخصالِ، وأنكر اللَّهُ عليهم تسويتَهم بين ذلك وبين الجهادِ والإيمانِ في قولِه الذي ذَكَرْنَا: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ

ص: 342

الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} الآية [التوبة: آية 19] صَرَّحَ هنا بأن الإيمانَ بِاللَّهِ والهجرةَ والجهادَ في سبيلِ اللَّهِ أعظمُ درجةً وأفضلُ مما يفتخرُ به أهلُ مكةَ. والظاهرُ أن صيغةَ التفضيلِ هنا لمطلقِ الوصفِ؛ لأن كفارَ أهلِ مكةَ لا درجةَ لهم في سقايةِ الحاجِّ ولا عمارةِ المسجدِ؛ لأن اللَّهَ يقولُ: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة: آية 17] ومعنَى الآيةِ الكريمةِ: {الَّذِينَ آمَنُوا} بالله وبكلِّ ما يجبُ به الإيمانُ {وَهَاجَرُوا} أوطانَهم وديارَهم وأموالَهم {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ولإعلاءِ كلمةِ اللَّهِ هؤلاء {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ} (درجةً): تمييزٌ محولٌ عن الفاعلِ، أي: أَرْفَعُ رتبةً ومكانةً {وَأُولَئِكَ} المذكورونَ {هُمُ الْفَائِزُونَ} الظافرونَ بالحظِّ الأكبرِ؛ لأن العربَ تقولُ: «فاز فلان» . إذا ظفر بما كان يتمنَّى، وظفر بأكبرِ مطلوبٍ، يقولونَ:«فاز» : نال الفوزَ، ومنه:{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: آية 185]. والإتيانُ بضميرِ الفصلِ بينَ المسندِ والمسندِ إليه في قولِه: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} يدلُّ على اختصاصِهم بالفوزِ دونَ الذين قالوا: نحنُ نسقي الحاجَّ وَنُعَمِّرُ المسجدَ الحرامَ. وهذا معنَى قولِه: {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} .

{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ} [التوبة: آية 21] قرأ هذا الحرفَ عامةُ السبعةِ غير حمزةَ {يُبَشِّرُهُمْ} مضارعُ يُبشَّره يُبشره. وقرأه حمزةُ من السبعةِ

(1)

: {يَبْشُرُهُمْ ربهم برحمة منه} الآية، فعلى قراءةِ حمزةَ:{يَبْشُرُهُم} مضارعُ (بَشَرَه) ثلاثيًّا مجردًا (يَبْشرُهُ) بالضمِّ. وعلى قراءةِ الجمهورِ: {يُبَشِّرُهُمْ} مضارعُ (بشَّره) بالتضعيفِ (يُبَشِّرُه، تبشيرًا).

(1)

انظر: الإتحاف (2/ 89).

ص: 343

وقد قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مرارًا

(1)

أن البشارةَ في لغةِ العربِ هي الإخبارُ بما يَسُرُّ، فكلُّ مَنْ أخبرَك بما يسركَ فقد بشَّرَكَ، وبَشَرَكَ على اللغةِ الأخرى، وأنه يُطْلَقُ أيضًا على البشارةِ بما يسوءُ، فالعربُ أيضًا تُسَمِّي الإخبارَ بما يسوءُ (بشارةً) إذا اقترنَ بما يدلُّ على ذلك، وهو كثيرٌ في القرآنِ، كقولِه:{فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: آية 34] وقد ذَكَرْنَا أنه أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ. تقول العربُ: «بَشَّره بكذا» . إذا أخبرَه بما يسوؤه، ومنه قولُ الشاعرِ

(2)

:

يُبَشِّرُنِي الْغُرَابُ بِبَيْنِ أَهْلِي

فَقُلْتُ لَهُ ثَكِلْتُكَ مِنْ بَشِيرْ

وبَيْنُ أَهْلِهِ مِمَّا يسوؤُه الإخبارُ به. وقولُ الآخَرِ

(3)

:

أَبَشَّرْتَنِي يَا سَعْدُ أَنَّ أَحِبَّتِي جَفَوْنِي

وَقَالُوا الْوُدُّ مَوْعِدُهُ الْحَشْرُ

فجفاءُ الأحبةِ إخبارٌ بما يسوءُ. ومعلومٌ أن الذين تَكَلَّمُوا في البلاغةِ والذين كانوا يُقَسِّمُونَ الكلامَ إلى حقيقةٍ ومجازٍ يقولونَ: إن البشارةَ حقيقةٌ في الإخبارِ بما يَسُرُّ، وهي في الإخبارِ بما يسوءُ استعارةٌ عندهم، ويجعلونَها من الاستعارةِ المسماةِ في اصطلاحِ البيانيين بالاستعارةِ العناديةِ، ويقسمونَها إلى تهكميةٍ وتمليحيةٍ كما هو معروفٌ في مَحَلِّهِ

(4)

. ونحن نقررُ دائمًا أنها أساليبُ عربيةٌ، كلها حقيقةٌ في مَحَلِّهِ، وقد وَضَعْنَا في ذلك رسالةً تُسمى (مَنْعُ جوازِ المجازِ في الْمُنَزَّلِ للتعبدِ والإعجازِ) وهذا معنَى قولِه:

(1)

مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام.

(2)

تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام.

(3)

السابق.

(4)

السابق.

ص: 344

{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ} [التوبة: آية 21] الرحمةُ: مصدرُ رَحِمَهُ، والرحمةُ من صفاتِ اللَّهِ (جلَّ وعلا)، ونحن معاشرَ المسلمين نَصِفُ اللَّهَ بما وَصَفَ به نفسَه، وبما وصفَه به رسولُه صلى الله عليه وسلم، وَنُثْبِتُ له ما أَثْبَتَ لنفسِه، مُنَزِّهِينَ خالقَ السماواتِ والأرضِ عن مشابهةِ الخلقِ، فلا نميلُ إلى التعطيلِ، ولا إلى التمثيلِ، بل نُقِرُّ بصفاتِ اللَّهِ ونؤمنُ بها على سبيلِ المخالفةِ لصفاتِ الخلقِ، كما عَلَّمَنَا اللَّهُ في قولِه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: آية 11] ومرارًا نوضحُ مذهبَ السلفِ في آياتِ الصفاتِ عندَ كُلِّ المناسباتِ.

ومعنَى قولِه: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ} [التوبة: آية 21] قرأ هذا الحرفَ عامةُ السبعةِ غير شعبةَ - أبي بكر - عن عاصمٍ: {وَرِضْوَانٍ} بكسرِ الراءِ. وقرأه شعبةُ عن عاصمٍ: {ورُضوان} بضمِّ الراءِ

(1)

وهما لغتانِ فصيحتانِ، وقراءتانِ صحيحتانِ؛ لأن العربَ تقولُ في مصدر (رضي) تقول: رَضِيَ يرضى رضاءً ورضوانًا. وتزيدُ فيه الألفَ والنونَ، والألفُ والنونُ تزادانِ في بعضِ المصادرِ كثيرًا كالكفرانِ والرجحانِ والغفرانِ والرضوانِ. والكسرُ والضمُّ لغتانِ فيه، ورضوانُ اللَّهِ: رِضَاهُ (جل وعلا)، والرضا أيضًا صفةٌ من صفاتِ الله (جلَّ وعلا) أَثْبَتَ لنفسه الاتصافَ بها إذا امتُثلت أوامرُه واجتُنبت نواهيه، كما قال تعالى:{رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: آية 8] ونحن دائمًا نُوصِي أنفسَنا وإخوانَنا وعامةَ المسلمين أن يعتقدوا في مذهبِ السلفِ المعتقدَ الواضحَ الذي هو في ضوءِ القرآنِ العظيمِ، الذي لَا إشكالَ فيه ولا قِيلَ ولا قَالَ، وصاحبُه يَلْقَى اللَّهَ

(1)

انظر: الإتحاف (2/ 89).

ص: 345

سَالِمًا من البلايا التي وَقَعَ فيها الناسُ الذين أَكْثَرُوا الخوضَ في ذلك بِقِيلٍ وَقَالَ.

وإيضاحُ مذهبِ السلفِ في آياتِ الصفاتِ كما بَيَّنَهُ القرآنُ وَأَوْضَحَهُ هذا المحكمُ المنزلُ أنه يتأسسُ على ثلاثةِ أصولٍ مَنْ جاء بها كاملةً لَقِيَ اللَّهَ سَالِمًا، وَمَنْ أَخَلَّ بواحدٍ منها أوقعَ نفسَه في بليةٍ فلا يدري هل يتخرجُ منها أو لا

(1)

؟

أَوَّلُ هذه الأسسِ: هو الأساسُ الأعظمُ للتوحيدِ، والحجرُ الأساسيُّ لمعرفةِ اللَّهِ على طريقٍ صحيحٍ، هذا الأساسُ الأعظمُ هو: أن يعتقدَ الإنسانُ أن خالقَ السماواتِ والأرضِ مُنَزَّهٌ عن مشابهةِ جميعِ خَلْقِهِ في جميعِ صفاتِهم وأفعالِهم وذواتِهم، فالخلقُ صنعةٌ، والخالقُ (جلَّ وعلا) صانعٌ {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: آية 88] والصنعةُ لَا تُشْبِهُ صانعَها، فَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ فَهْمَ هذا الأساسِ عن الله، وَعَلِمَ أن الخلائقَ صنعةٌ، وأن خالقَهم هو صانعُهم وَمُدَبِّرُهُمْ ومنشئُهم عَلِمَ أنه لَا مناسبةَ بينَ صفاتِه وصفاتِهم، وأنه مُنَزَّهٌ كُلَّ التنزيهِ، مقدسٌ كُلَّ التقديسِ عن مشابهةِ خَلْقِهِ، لا في ذواتِهم، ولا في صفاتِهم، ولا في أفعالِهم. هذا الأساسُ الأعظمُ، فَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ هذا الأساسَ، وَفَهِمَهُ عن اللَّهِ، وَطَهَّرَ قلبَه من أدرانِ التشبيهِ، وأقذارِ التمثيلِ، كان يهونُ عليه بعد ذلك أن يُصَدِّقَ اللَّهَ فيما وَصَفَ به نفسَه، ويؤمنَ بصفاتِ اللَّهِ على الوجهِ اللائقِ بكمالِه وجلالِه

(2)

.

(1)

راجع ما تقدم عند تفسير الآية (52) من سورة الأنعام.

(2)

وهذا هو الأساس، والأصل الثاني من الأصول الثلاثة المُشار إليها.

ص: 346

وهذا الذي أقولُه لكم ليس من تلقاءِ نَفْسِي بل هو من تعليمِ خالقِ السماواتِ والأرضِ في المحكمِ الْمُنَزَّلِ الذي هو أعظمُ كتابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ على أشرفِ رسولٍ؛ لأن اللَّهَ يقولُ فيه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: آية 11] فَوَضْعُ الأساسِ الأولِ الذي هو أساسُ التنزيهِ ومخالفةُ الخلقِ في ذواتِهم وصفاتِهم وأفعالِهم بقولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: آية 11] ثم وَضَعَ بعدَه الأساسَ الثانيَ وهو الإيمانُ بصفاتِ اللَّهِ على أساسِ ذلك التنزيهِ، لَا إيمانًا دَنِسًا وَسِخًا ذَاهِبًا إلى صفاتِ الخلقِ، لا .. لا .. لا، بل هو إيمانٌ مُنَزَّهٌ مَبْنِيٌّ على أساسِ التنزيهِ. وقولُه:{وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بَعْدَ قولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فيه سِرٌّ أَعْظَمُ، ومغزًى أكبرُ، وتعليمٌ عظيمٌ من رَبِّ العالمين، كأنه يقولُ لَكَ: تَعَقَّلْ يا عبدي وَتَفَهَّمْ، ولا تَنْفِ عَنِّي سمعي وبصري بدعوى أن المخلوقاتِ تسمعُ وَتُبْصِرُ، وأن إثباتَ ذلك فيه تشبيهٌ، لا .. لا .. ، رَاعِ في إثباتِ السمعِ والبصرِ أولَ الآية، وَابْنِهِ على نَفْيِ المماثلةِ والمخالفةِ، وَارْبِطْ أولَ الآيةِ بِآخِرِهَا، فأولُها تنزيهٌ، وآخرُها إيمانٌ بالصفاتِ على أساسِ ذلك التنزيهِ، فلا تَقْطَعْ أولَ الآيةِ من آخرِها، ولَا آخرَها من أولِها، بل ارْبِطْ بينَهما، ولا تَقُلْ: المخلوقاتُ تسمعُ وتبصرُ، وإثباتُ السمعِ والبصرِ لله تَشْبِيهٌ. لا، أَثْبِتِ السمعَ والبصرَ، ولكن إثباتًا مبنيًّا على {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لا إثباتًا وسخًا نَجِسًا قذرًا ذاهبًا إلى صفاتِ الخلقِ، لَا .. لَا، فأولُ الآيةِ تنزيهٌ بلا تعطيلٍ، وآخرُها إيمانٌ بالصفاتِ وإثباتٌ لها بِلَا تمثيلٍ.

ص: 347

الأصلُ [الثالثُ]

(1)

من هذه الأصولِ الثلاثةِ: هي أن يعلمَ الإنسانُ قَدْرَهُ، ويقفَ عند حَدِّهِ؛ لأن خالقَ السماواتِ والأرضِ أعظمُ وأجلُّ وأكبرُ من أن تحيطَ به العقولُ المخلوقةُ المسكينةُ، واللَّهُ يقولُ:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} [طه: آية 110] فَنَفَى الإحاطةَ للعلمِ البشريِّ عن خالقِ السماواتِ والأرضِ نَفْيًا بَاتًّا.

فَمَنْ لَقِيَ اللَّهَ وهو متمسكٌ بهذه الأسسِ الثلاثةِ في ضوءِ كتابِ اللَّهِ لَقِيَهُ في سلامةٍ وفي غيرِ ندامةٍ. ونحن الآنَ في طريقِنا في إسراعٍ وحثٍّ إلى الوقوفِ بين يَدَيِ اللَّهِ (جلَّ وعلا)؛ لأن هذه اللحظاتِ والدقائقَ والثوانيَ يظنُّ الجاهلُ أنها هادئةٌ، وأنها واقفةٌ، وهي تقطعُ بنا آلافَ الأميالِ إلى المحشرِ، فَعَنْ قريبٍ ونحن قائمونَ بين يَدَيِ اللَّهِ في صعيدٍ واحدٍ، ينفذنا البصرُ ويسمعنا الداعي، ويسألنا اللَّهُ، وَاللَّهُ يقولُ:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)} [الأعراف: آية 6]{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} [الحجر: الآيتان 92، 93] فَيُوشِكُ أن يقولَ لنا: ماذا كان موقفُكم من صفاتِي التي كنتُ أُثْنِي بها على نَفْسِي في كتابِي، ويثنِي بها عَلَيَّ رَسُولِي صلى الله عليه وسلم؟

[ولا يقولُ لكَ اللَّهُ: لِمَ نَزَّهْتَنِي عن مشابهةِ خَلْقِي؟ لَا وَاللَّهِ، لا يقولُ لكَ ذلك]

(2)

[3/ب] / أبدًا بل تنزيهُ رَبِّ السماواتِ عن مشابهةِ خَلْقِهِ في ذواتِهم وصفاتِهم وأفعالِهم طريقُ سلامةٍ محققةٍ لَا شَكَّ فيه، ولا

(1)

في الأصل: «الثاني» ، وهو سبق لسان.

(2)

في هذا الموضع وقع مسح في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها المعنى.

ص: 348

يقولُ لكَ اللَّهُ: لِمَ صَدَّقْتَنِي فيما مدحتُ به نفسِي، وأثنيتُ به على نفسِي، وأنزلتُه في كُتُبِي مُعَلِّمًا خَلْقِي أن يَمْدَحُونِي به؟! لا يقولُ لكَ: هذا أبدًا، ولا يقولُ لكَ: لِمَ تقفُ عند حَدِّكَ، وتقرُّ بما لا تَعْلَمُ؟ لأن اللَّهَ يقولُ:{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} بل هي كُلُّهَا طرقُ سلامةٍ محققةٍ.

وَاعْلَمُوا أيها الإخوانُ أن أولَ البلايا ومنشأَ الرزايا كُلِّهَا من أنجاسِ القلوبِ بسببِ التشبيهِ، كُلُّ البلايا منشؤُها الوحيدُ بسببِ أنجاسِ القلوبِ من أقذارِ التشبيهِ. هذا أصلُ البلاءِ والمحنِ والفتنِ الذي طَبَّقَتْ وَجَلَّلَتْ هذه المعمورةَ؛ لأَنَّ السلفيَّ - مثلاً - العاملَ بضوءِ القرآنِ، إذا سَمِعَ اللَّهَ يُثنِي على نفسِه بصفةٍ من الصفاتِ التي أَثْبَتَهَا لنفسِه، سواء كَانَتْ صفةَ ذاتٍ أو صفةَ فِعْلٍ، كقولِه:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان: آية 59] امتلأَ قَلْبُهُ إجلالاً وتعظيمًا وإكبارًا، وَعَلِمَ أن هذا الاستواءَ الذي أَثْنَى اللَّهُ به على نفسِه في سبعِ آياتٍ من كتابِه أنه بالغٌ من غاياتِ الكمالِ والجلالِ والتنزيهِ والتقديسِ والمباعدةِ عن صفاتِ المخلوقينَ ما يقطعُ جميعَ علائقِ أوهامِ المشابهةِ بينَه وبينَ صفاتِ المخلوقينَ. أما إذا كان قلبُ الإنسانِ فيه بعضُ أقذارِ التشبيهِ فأولُ ما يسبقُ إلى ذهنِه أن هذا الاستواءَ ظاهرُه استواءُ المخلوقاتِ - سبحانَ اللَّهِ وتعالى عَمَّا يقولُ الظالمونَ عُلُوًّا كبيرًا - فيخطرُ في ذهنِه أنه انتصابٌ كانتصابِ هذا، فَيَتَقَذَّرُ القلبُ من أقذارِ التنجيسِ والتشبيهِ، فعندَ ذلك تأتِي البلايا، وبعدَ ذلك إذا قال: ظاهرُ هذا هو مشابهةُ صفاتِ المخلوقينَ جاءت البلايا من هنا، ثم إنه دَعَاهُ شؤمُ هذا التشبيهِ إلى أن ينفيَ هذه الصفةَ عن اللَّهِ، وَمَنْ يَنْفِي عن اللَّهِ وَصْفًا أَثْبَتَهُ لنفسِه فهو «أَجْرَأُ من خَاصِي

ص: 349

الأَسَدِ»

(1)

. ثم إذا نَفَى هذه الصفةَ عنه ذَهَبَ يتلمسُ إلى وصفٍ في زَعْمِهِ مُلَائِمٍ، ثم يبدلُ الاستواءَ بالاستيلاءِ فيقولُ: اسْتَوَى معناه اسْتَوْلَى!! ويضربُ لهذا مثلاً بقولِ الراجزِ في بِشْرِ بْنِ مروانَ

(2)

:

قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ

مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ

فهذا غلطٌ شديدٌ كبيرٌ أيها الإخوانُ!! ونحن نرجو اللَّهَ أن الذين وَقَعُوا فيه من العلماءِ أن يعفوَ اللَّهُ عنهم ويغفرَ لهم لحسنِ نياتِهم، فَهُمْ كما قال الشافعيُّ رحمه الله

(3)

:

رَامَ نَفْعًا فَضَرَّ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ

وَمِنَ الْبِرِّ مَا يَكُونُ عُقُوقَا

ونرجو اللَّهَ ألا يكونوا كالذين قال الله فيهم: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)} [البقرة: آية 59]. وهذا الذي ذَهَبُوا إليه أعظمُ وأشرُّ وأضرُّ من الذي فَرُّوا منه؛ لأنا نقولُ: أيها الإنسانُ الذي ضَرَبْتَ مثلاً لاستيلاءِ اللَّهِ على عرشِه الذي فَسَّرْتَ به الاستواءَ من تلقاءِ نفسِك باستيلاءِ بشرِ بنِ مروانَ على العراقِ وضربتَ له المثلَ ببيتِ الرجزِ المذكورِ:

قَدِ اسْتَوى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ

مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ

أَمَا تَسْتَحِي من اللَّهِ؟ أما تخافُ اللَّهَ؟ وبأيِّ مبررٍ سَوَّغْتَ لنفسِك أن تشبهَ استيلاءَ اللَّهِ على عرشِه الذي زعمتَ باستيلاءِ بشرِ بنِ مروانَ على العراقِ؟ وهل يوجدُ في الدنيا تشبيهٌ أنتنُ وأخسُّ وأقبحُ من

(1)

انظر: الأمثال لأبي عبيد ص375.

(2)

مضى عند تفسير الآية (158) من سورة الأنعام.

(3)

مضى عند تفسير الآية (148) من سورة الأنعام.

ص: 350

هذا؟! شَبَّهْتَ العرشَ بالعراقِ، وربَّ السماواتِ والأرضِ ببشرِ بنِ مروانَ، وهذا يفتحُ بابًا إلى بحورٍ من أنواعِ التشبيهِ لَا ساحلَ لها أبدًا؛ لأنه فيه تشبيهُ استيلاءِ اللَّهِ على عرشِه المزعومِ بكلِّ مخلوقٍ قَهَرَ مخلوقًا فَغَلَبَهُ فَاسْتَوْلَى عليه!! فَمِنْ هنا يُضْطَرُّ هذا القائلُ أن يقولَ: الاستيلاءُ الذي فَسَّرْتَ به الاستواءَ استيلاءٌ مُنَزَّهٌ عن استيلاءِ المخلوقينَ. ونحن نقولُ: كيف تُنَزِّهُهُ وأنتَ تضربُ له المثلَ باستيلاءِ بشرِ بنِ مروانَ؟ ثم نقولُ: إذا لَزِمَنَا أن نُنَزِّهَ أحدَ الكلمتين: إما الاستواء الذي نَصَّ اللَّهُ عليه في كتابِه وَأَنْزَلَهُ في سبعِ آياتٍ من القرآنِ كتابًا يُتْلَى أو الاستيلاء الذي جئتَ به، أيهما أَحَقُّ بالتنزيهِ؟ والجوابُ: ولا شكَّ أن كلامَ ربِّ العالمينَ الذي أَنْزَلَهُ وَحْيًا يُتْلَى من فوقِ سبعِ سماواتٍ أحقُّ بالتنزيهِ من غيرِه. فمقصودُنا أن نُبَيِّنَ لإخوانِنا أن المدارَ على حفظِ القلبِ والمحافظةِ عليه من أقذارِ التشبيهِ، وأن يعلمَ الإنسانُ أن كُلَّ وصفٍ وَصَفَ اللَّهُ به نفسَه فهو بالغٌ من غايةِ الجلالِ والكمالِ والإعظامِ والإكبارِ والتقديسِ ما يقطعُ جميعَ علائقِ أوهامِ المشابهةِ بينَه وبينَ صفاتِ المخلوقينَ؛ فَيُحْمَلُ على أطهرِ المعانِي وأعظمِها وأقدسِها وأليقِها بِاللَّهِ (جلَّ وعلا) وأبعدِها عن مشابهةِ صفاتِ المخلوقينَ.

ولو قال قائلٌ: نحن لا نعقلُ استواءً تُدْرِكُهُ عقولُنا إلا مثلَ استواءِ المخلوقينَ. فنقولُ له: وهل عقلتَ كيفيةَ الذاتِ المقدسةِ المتصفةِ بهذا الاستواءِ؟ فلا بد أن يقولَ: لَا. فنقولُ: معرفةُ كيفيةِ الصفاتِ متوقفةٌ على معرفةِ كيفيةِ الذاتِ، وَاللَّهُ يقولُ:{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: آية 110] والأشياءُ تختلفُ بإضافاتِها، فالصفةُ المضافةُ وَالْمُسْنَدَةُ إلى اللَّهِ تخالفُ المضافةَ والمسندةَ إلى غيرِه

ص: 351

كمخالفةِ ذاتِ اللَّهِ لذواتِ خَلْقِهِ، فصفاتُ الخلقِ حَقٌّ، وصفاتُ اللَّهِ حَقٌّ، إلا أن صفاتِ اللَّهِ لائقةٌ بذاتِ اللَّهِ، منافيةٌ لصفاتِ المخلوقينَ كمنافاةِ [ذاتِ الخالقِ لذواتِ]

(1)

الْخَلْقِ، والإضافاتُ تتغيرُ بها المخلوقاتُ فكيفَ بِمَا بَيْنَ الخالقِ والمخلوقِ؟ فمثلاً - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى - كلمةُ (رَأْس) أعنِي: كلمةَ (الراءِ والهمزةِ والسينِ)(رأس) هذه الكلمةُ إذا أَضَفْتَهَا إلى الإنسانِ وقلتَ: رأسُ الإنسانِ. وأضفتَها إلى الوادِي فقلتَ: رأسُ الوادِي. وأضفتَها إلى المالِ فقلتَ: رأسُ المالِ. وأضفتَها إلى الجبلِ فقلتَ: رأسُ الجبلِ، أَلَيْسَتْ هذه الإضافاتُ مختلفةً في حقائقِها، متباينةً كُلَّ التباينِ؟ مع أنها مخلوقاتٌ حقيرةٌ ضعيفةٌ تَبَايَنَتْ وَتَخَالَفَتْ لاختلافِ إضافاتِها، فما بَالُكَ بالاختلافِ الواقعِ بينَ الخالقِ والمخلوقِ؟ لا مشابهةَ هناك ولا مناسبةَ بَيْنَ خالقٍ ومخلوقٍ. فَعَلَيْنَا أن نمشيَ على هذا النمطِ، وإذا سَمِعْنَا اللَّهَ يُثْنِي على نفسِه بصفةٍ أن نعتقدَ أنها صفةٌ بالغةٌ من غاياتِ التنزيهِ والكمالِ والإجلالِ ما يقطعُ علائقَ أوهامِ المشابهةِ بينَها وبينَ صفاتِ المخلوقينَ، ونؤمنَ بها على خصوصِ هذا الأساسِ من التنزيهِ، ولَا نؤمنَ بها إيمانًا وَسِخًا قَذِرًا ذَاهِبًا إلى المشابهةِ بصفاتِ الْخَلْقِ، لَا ..

لَا، ثم نقطعُ الطمعَ عن إدراكِ الكيفياتِ والإحاطةِ العلميةِ؛ لأن اللَّهَ نَفَاهَا نفيًا بَاتًّا في قولِه:{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: آية 110] فإننا إذًا نكونُ مُنَزِّهِينَ رَبَّنَا، مُصَدِّقِينَ لِرَبِّنَا، وَاقِفِينَ عندَ حَدِّنَا، وتنزيهُ اللَّهِ طريقٌ مأمونةٌ، وتصديقُ اللَّهِ ورسولِه طريقٌ مأمونةٌ، والوقوفُ عندَ الحدِّ طريقٌ مأمونةٌ. وسنبسط على هذا الكلامِ - إن شاء الله - في بعضِ المناسباتِ الآتيةِ. وهذا

(1)

في الأصل: «صفة الخالق لصفات» . وهو سبق لسان.

ص: 352

معنَى قولِه: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21)} [التوبة: آية 21].

الجناتُ: جمعُ تصحيحٍ للجنةِ، والجنةُ في لغةِ العربِ

(1)

: البستانُ، فإن العربَ تُسَمِّي كُلَّ بستانٍ جنةً، وسيأتِي قولُه:{كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم: آية 17] والبستانُ صاحبُ القصةِ المعروفةِ. وإطلاقُ الجنةِ على البستانِ إطلاقٌ معروفٌ مشهورٌ، ومنه قولُ زهيرِ بنِ أَبِي سُلْمَى

(2)

:

كَأَنَّ عَيْنَيَّ فِي غَرْبَيْ مُقَتَّلَةٍ

مِنَ النَّواضِحِ تَسْقِي جَنَّةً سُحُقَا

هذا أصلُ الجنةِ في لغةِ العربِ، وهي في اصطلاحِ الشرعِ: دارُ الكرامةِ التي أَعَدَّ اللَّهُ لأوليائِه يومَ القيامةِ، فهي شجرةٌ مثمرةٌ، ونخلةٌ مضطردةٌ، وغرفةٌ عاليةٌ، وزوجةٌ حسناءُ، نرجو اللَّهَ أن يرزقَنا الجنةَ وما قَرَّبَ إليها من قولٍ وعملٍ نحنُ وإخواننا المسلمينَ. وهذا معنَى قولِه:{لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} .

النعيمُ: خفضُ العيشِ ولينُه، وهو ضِدُّ البؤسِ كما هو معروفٌ.

وقولُه: {مُّقِيمٌ} أي دائمٌ أبدًا لا يزولُ، وهذا كمالُ النعمةِ؛ لأَنَّ كمالَ النعمةِ الإقامةُ فيها وعدمُ الانتقالِ عنها؛ لأَنَّ أعظمَ ما يُكَدِّرُ النعمَ والمسارَّ هو أن يُفَكِّرَ الإنسانُ في أنه يفارقُها. فترى الإنسانَ في لَذَّاتِهِ وَفِي نِعَمِهِ وترفِه، إذا فَكَّرَ في أنه غدًا يموتُ عنها، وَتُنْكَحُ نساؤُه، وَتُقْسَمُ أموالُه، ويذهبُ عنه كُلُّ شيءٍ فَزِعَ من ذلك،

(1)

مضى عند تفسير الآية (99) من سورة الأنعام.

(2)

السابق.

ص: 353

وَأَظْلَمَتِ الدنيا في عَيْنَيْهِ، ولم يَتَلَذَّذْ بما هو فيه، وقد صَدَقَ أبو الطيبِ حيث يقول

(1)

:

أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي شُرُورٍ

تَيقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالَا

وهذا معروفٌ عندهم، فكمالُ اللذةِ والنعمةِ إنما هو بالإقامةِ أبدًا، وَاللَّهُ (جلَّ وعلا) نَصَّ في آياتٍ من كتابِه على أن نعيمَ الجنةِ لَا ينقطعُ ولا يزولُ، كما قال تعالى في سورةِ هودٍ:{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} [هود: آية 108] فقولُه: {غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي: غيرُ مقطوعٍ أبدًا، وكذلك قولُه:{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: آية 96] أي: باقٍ لا نفادَ له أبدًا، والآياتُ الدالةُ على هذا متعددةٌ في كتابِ اللَّهِ، وهذا معنَى قولِه:{وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} .

{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [التوبة: الآية 22] على الدوامِ لا يَزُولُونَ، كما قال جلَّ وعلا:{لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} [الكهف: آية 108] لا يتحولونَ عنها إلى غيرِها.

{إِنَّ اللَّهَ} (جل وعلا){عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} الأجرُ في لغةِ العربِ: جزاءُ العملِ. ومعنَى {أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي: جزاء عملهم وهو الجنة، وَوَصَفَهُ باِلْعِظَمِ لِمَا في الجنةِ من عظيمِ الشأنِ؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ فيها:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: آية 17] ولأَجْلِ هذا وَصَفَ هذا الجزاءَ بالعِظَمِ. وقد جاء مُفَصَّلاً في القرآنِ جميعُ مَلَاذِّهِ، كالمناكحِ في النساءِ التي هُنَّ في غايةِ الجمالِ، والملابسِ التي هي في غايةِ الجمالِ،

(1)

مضى عند تفسير الآية (42) من سورة الأعراف.

ص: 354

والمشاربِ والأوانِي وَالْحُلِيِّ والولدانِ والغلمانِ إلى غيرِ ذلك من نعيمِ الجنةِ المفصلِ في آياتِ هذا القرآنِ العظيمِ، وهذا معنَى قولِه:{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)} [التوبة: آية 22].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)} [التوبة: آية 23].

سببُ نزولِ هذه الآيةِ الكريمةِ أنه كان رجالٌ من المسلمينَ يؤمنونَ بِاللَّهِ ويريدونَ الهجرةَ، فإذا أرادَ الواحدُ منهم أن يهاجرَ إلى رسولِ اللَّهِ ليشاركَ المسلمينَ فيما هُمْ فيه مِنَ الجهادِ في سبيلِ اللَّهِ والدعوةِ إلى اللَّهِ جاءته امرأتُه وأولادُه وأبوه وأخوه يناشدونَه بالله أَلَاّ يذهبَ عنهم، ويقولونَ له: إلى مَنْ تَكِلُنَا؟ وَيُثَبِّطُونَهُ، فبعضُهم يَمْكُثُ مِنْ أَجْلِ هذا. فنهاهم اللَّهُ عن هذا، وسيأتِي في سورةِ التغابنِ آيةُ التغابنِ النازلةُ في عوفِ بنِ مالكٍ الأشجعيِّ، وهي قولُه:{إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: آية 14] لأنها نَزَلَتْ في عوفِ بنِ مالكٍ، كان كُلَّمَا أرادَ الهجرةَ جاءت امرأتُه وأولادُه وَنَاشَدُوهُ بالله، وقالوا: إلى مَنْ تَكِلُنَا؟ فَيَتَثَبَّطُ، فَلَمَّا هاجرَ بعدَ ذلك وجدَ المسلمينَ سَبَقُوهُ بِكُلِّ خيرٍ، فَنَدِمَ وأرادَ أن يضربَ امرأتَه وأولادَه بسببِ تثبيطهم إياه. فَأَمَرَ اللَّهُ المسلمينَ أن يتحفظوا من الأولادِ والأزواجِ لئلا يُثَبِّطُوهُمْ عن الجهادِ في سبيلِ اللَّهِ، وأنهم إن وَقَعَ منهم شيءٌ أن لا يُؤَاخِذُوهُمْ، بل يَعْفُوا عنهم

ص: 355

وَيَصْفَحُوا

(1)

، كما قال في آيةِ التغابنِ:{إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: آية 14] ثم قال: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: اصْفَحُوا عنهم واغفروا لهم ولا تُؤَاخِذُوهُمْ. وهذا معنَى قولِه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ} [التوبة: آية 23] قالوا: لم يَذْكُرِ الأولادَ هنا وَذَكَرَهَا في غيرِ هذا الموضعِ، لَا تتخذوهم أولياءَ تُوَالُونَهُمْ إذا كانوا يريدونَ أن يقطعوكم عن الهجرةِ.

{إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ} قرأ الهمزةَ الثانيةَ من قولِه: {أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ} نافعٌ وابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو مسهلةً بَيْنَ بَيْنَ، والباقونَ بتحقيقِها كما هو مَعْلُومٌ

(2)

.

ومعنَى {اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ} معناه: اختارُوه وآثَرُوهُ على الإيمانِ، إن آثَرُوا الكفرَ واختارُوه على الإيمانِ لَا تَتَّخِذُوهُمْ أولياءَ، بل قَاطِعُوهُمْ وَهَاجِرُوا ولا تَرْكَنُوا إليهم. ويتعددُ في القرآنِ إطلاقُ (اسْتَحَبَّ) بمعنَى:(اخْتَارَ) و (آثَرَ) ومنه قولُه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: آية 17] أي: فاختارُوه وَآثَرُوهُ عليه. ومنه قولُه: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} [إبراهيم: آية 3] أي: يُؤْثِرُونَهَا ويقدمونَها عليها. وهذا معنَى قولِه: {إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ} [التوبة: آية 23] فيكونُ معهم فيما هُمْ فيه ويتركُ الهجرةَ {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .

(1)

الترمذي في التفسير، باب: ومن سورة التغابن، حديث رقم:(3317)(4/ 419)، والحاكم (2/ 490)، وابن جرير (28/ 125)، وانظر: صحيح الترمذي (3/ 121).

(2)

انظر: الإتحاف (2/ 89).

ص: 356

وقد قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا

(1)

أن أصلَ مادةِ (الظلمِ) مادةُ: (الظاء واللام والميم)(ظَلَم) أنها في لغةِ العربِ التي نَزَلَ بها القرآنُ أصلُها في الوضعِ العربيِّ: هو وضعُ الشيءِ في غيرِ مَحَلِّهِ. فَمَنْ وَضَعَ شيئًا في غيرِ مَحَلِّهِ تقولُ العربُ: إنه ظَلَمَ؛ لأنه وَضَعَ الشيءَ في غيرِ محله. ومنه قالوا للذي يَضْرِبُ لَبَنَهُ قبلَ أن يروبَ: «ظالم» . لأنه وَضَعَ الضربَ في غيرِ محلِّه؛ لأنه يُفْسِدُ زُبْدَهُ، ومنه قولُ الشاعرِ

(2)

:

وَقَائِلَةٍ ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي

وَهَلْ يَخْفَى عَلَى الْعَكَدِ الظَّلِيمُ

وقولُ الآخَرِ

(3)

:

وَصَاحِبِ صِدْقٍ لَمْ تَرِبنْيِ شَكَاتُهُ

ظَلَمْتُ وَفِي ظُلْمِي لَهُ عَامِدًا أَجْرُ

أصلُ الظلمِ هو وضعُ الشيءِ في غيرِ محلِّه، وجاءَ في القرآنِ في موضعٍ واحدٍ بمعنَى النقصِ، وهو:{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: آية 33] أي: ولم تَنْقُصْ منه شيئًا. وأصلُ الظلمِ: وضعُ الشيءِ في غيرِ محلِّه، وأعظمُ أنواعِ وضعِ الشيءِ في غيرِ محلِّه: الكفرُ بالله؛ لأنه وَضْعٌ للعبادةِ في غيرِ مَنْ خَلَقَ، فالذي يأكلُ رزقَ اللَّهِ، ويتقلبُ في نعيمِه، ويعبدُ غيرَه قد وَضَعَ عبادتَه في غَيْرِ موضعِها؛ فهو ظالمٌ، وهذا أكبرُ أنواعِ الظلمِ؛ ولأجلِ هذا يكثرُ في القرآنِ العظيمِ إطلاقُ الظلمِ على الكفرِ، كما قال تعالى:{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: آية 254] وقال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ

(1)

مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة.

(2)

السابق.

(3)

السابق.

ص: 357

مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (106)}، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: آية 13] وقد ثَبَتَ فِي صحيحِ البخاريِّ

(1)

أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَّرَ قولَه تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: آية 82] قال: بِشِرْكٍ. ثم تلَا آيةَ لقمانَ: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} هذا أصلُ الظلمِ. وقد يكونُ ظلمٌ دونَ ظُلْمٍ؛ لأن مَنْ أَطَاعَ الشيطانَ وَعَصَى رَبَّهُ بغيرِ ما يكفرُ به قد وضعَ الطاعةَ في غيرِ موضعِها، ووضع المعصية في غير موضعِها حيث عَصَى رَبَّهُ وأطاعَ عدوَّه. وَمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وضعَ العبادةَ في غيرِ موضعِها؛ ولذلك هنالك ظلمٌ هو كفرٌ، وهنالك ظُلْمٌ دونَ ظلمٍ هو خروجٌ عن طاعةِ اللَّهِ لَا يبلغُ بصاحبِه الكفرَ، وهذا معنَى قولِه:{فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لأنهم وَضَعُوا الأمرَ في غيرِ موضعِه فَاتَّخَذُوا مَنْ يَضُرُّهُمْ أولياءَ، وتركوا ما ينفعُهم من الهجرةِ والجهادِ في سبيلِ اللَّهِ. وهذا معنَى قولِه:{فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .

{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} [التوبة: آية 24].

سببُ نزولِها هو ما أَشَرْنَا له آنِفًا؛ لأَنَّ بعضَ الناسِ كان إذا أَسْلَمَ عَاقَتْهُ هذه العوائقُ عن الهجرةِ والجهادِ في سبيلِ اللَّهِ (جلَّ وعلا) بأن تُعَطِّلَهُ عن ذلك الأبناءُ والآباءُ والإخوانُ والعشائرُ والزوجاتُ والأموالُ المكتسَبةُ والتجاراتُ التي يُخاف أن تضيعَ بالكسادِ ويضيعَ

(1)

مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة.

ص: 358

رِبْحُهَا، إِن كان هذا كُلُّهَ أحبَّ إليكم من اللَّهِ وَمِنْ رَسُولِهِ ومن الجهادِ في سبيلِه {فَتَرَبَّصُوا} هو أمرُ تهديدٍ كما يَأْتِي.

وقولُه: {آبَاؤُكُمْ} اسمُ كَانَ. و {أَحَبَّ} خبرُها.

ومعنَى الآيةِ الكريمةِ: قُلْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لهؤلاء المتخلفينَ عن الهجرةِ في سبيلِ اللَّهِ بسببِ هذه العوائقِ الآتيةِ، قُلْ لَهُمْ: إن كانت هذه الأمورُ التي عَاقَتْكُمْ أَحَبَّ إليكم من اللَّهِ ومن رَسُولِهِ ومن جهادٍ في سبيلِه فانتظروا أمرًا يأتيكم مِنَ اللَّهِ. وهذا معنَى قولِه: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} .

الآباءُ جمع الأبِ، والعربُ تقولُ:«أَبٌ» إذا نَكَّرَتْهَا تعربُها على العينِ وتحذفُ لَامَهَا ولَا تُعَوِّضُ منه شيئًا، وهي من الأسماءِ التي تُعْرَبُ على العينِ عند التنكيرِ والتعريفِ. أما إذا أُضيفت فَإِنَّ لَامَهَا تَرْجِعُ لها

(1)

، وأصلُ لَامِ (الأب) واوٌ، أصلُه (أبوٌ) فلامُ الكلمةِ وَاوٌ، فإنها إذا أُضِيفَتْ - مثلاً - أُعْرِبَتْ بالواوِ والألفِ والياءِ، فَرَجَعَتْ لها لامُها كما هو معروفٌ. وإذا نُكِّرَتْ أو عُرِّفَتْ أُسْقِطَتْ لامُها وَأُعْرِبَتْ على العينِ

(2)

.

والإخوانُ جمعُ أخٍ. وأصلُ (أخٍ) أيضًا لَامُهُ المحذوفةُ واو؛ ولهذا رَجَعَتْ في جمعِ التكسيرِ في قولِه: {وَإِخْوَانُكُمْ} فالأخُ أصلُه (أخوٌ) بالواوِ، فلامُه المحذوفةُ واوٌ

(3)

، وهو كالأبِ في جميعِ ما كنا نَذْكُرُ. هذا معنَى قولِه:{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} . الأبناءُ جمعُ الابنِ وهو معروفٌ.

(1)

انظر: شرح قطر الندى ص46.

(2)

انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص7.

(3)

انظر: المصدر السابق ص17.

ص: 359

{وَأَزْوَاجُكُمْ} الأزواجُ جمعُ زوجٍ، وزوجُ الرجلِ امرأتُه، ومفردُه (زوج) بلا هاءٍ، وهذه هي اللغةُ الفصيحةُ. العربُ تقولُ: هذه زوجُه، أي: امرأتُه، وزعم بعضُ علماءِ العربيةِ أن قولَهم (زوجتُه) بالتاءِ أنها من لَحْنِ الفقهاءِ، وأنها لا أساسَ لها في العربيةِ. والتحقيقُ أن اللغةَ الفصحى في امرأةِ الرجلِ أنها (زوجُه) بلا تاءٍ، وأن التاءَ لغةٌ فيها مسموعةٌ وليست لَحْنًا كما يقولُه بعضُهم

(1)

. وَمِنْ إِطْلَاقِ الزوجةِ بالتاءِ على امرأةِ الرجلِ قولُ الفرزدقِ، هَمَّامِ بْنِ غَالِبٍ، وهو عربيٌّ قُحٌّ

(2)

:

وَإِنَّ الَّذِي يَسْعَى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي

كَسَاعٍ إِلَى أُسْدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلُهَا

ومنه قولُ الحماسيِّ

(3)

:

فَشَكَا بَنَاتِي شَجْوَهُنَّ وَزَوْجَتِي

وَالظَّاعِنُونَ إِلَيَّ ثُمَّ تَصَدَّعُوا

وفي صحيحِ مسلمٍ من حديثِ أَنَسٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في صفيةَ: إنها زوجتِي

(4)

. فالتحقيقُ أن الزوجةَ بالتاءِ لغةٌ لَا لَحْن، وأن اللغةَ الفصحى في امرأةِ الرجلِ أن يقال فيها:(زَوْجُهُ) بلا هاءٍ. وهذا معنَى {وَأَزْوَاجُكُمْ} أي: نِسَاؤُكُمْ.

{وَعَشِيرَتُكُمْ} قرأ هذا الحرفَ عامةُ السبعةِ - غير أبي بكرٍ عن عاصمٍ - (أعني بأبي بكر: شعبةَ) قرؤوه كلُّهم: {وَعَشِيرَتُكُمْ} بالإفرادِ.

(1)

راجع ما سبق عند تفسير الآية (189) من سورة الأعراف.

(2)

السابق.

(3)

السابق.

(4)

السابق.

ص: 360

وقرأه شعبةُ عن عاصمٍ: {وعشيراتكم}

(1)

بجمعِ التصحيحِ، جمع عشيرةٍ، وعشيرةُ الرجلِ ثَبَتَ في صحيحِ البخاريِّ وغيرِه ما يدلُّ على أنها تشملُ إلى الجدِّ العاشرِ؛ لأنه ثَبَتَ في الصحيحِ

(2)

أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نزلَ عليه قولُه تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: آية 214] أنه امْتَثَلَهَا فَنَادَى بني فِهْر، وفِهْرٌ هو جدُّه العاشرُ صلى الله عليه وسلم، فَدَلَّ هذا الحديثُ الصحيحُ على أن العشائرَ تشملُ إلى الجدِّ العاشرِ من الرجلِ، وهذا معنَى {وَعَشِيرَتُكُمْ} .

{وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} الاقترافُ في لغةِ العربِ معناه الاكتسابُ، أموالٌ اكْتَسَبْتُمُوهَا تخافونَ إن سَافَرْتُمْ عنها أن تضيعَ {وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} تخافونَ إذا هاجرتُم عنها أن تكسدَ ولا تَجِدَ رواجًا وربحًا، وكان بعضُ العلماءِ يقولُ: إن التجارةَ التي يخافُ كَسَادَهَا مَنْ عِنْدَهُ بناتٌ - مثلاً - إذا خرج كَسَدْنَ ولم يَجِدْنَ أزواجًا يتزوجونهن

(3)

. والأولُ هو ظاهرُ القرآنِ، وهو ظاهرُ اللغةِ، وإن كان الثانِي قال به جماعةٌ.

{وَمَسَاكِنُ} جَمْعُ الْمَسْكَنِ وهي الديارُ والقصورُ {تَرْضَوْنَهَا} يعنِي ترضونَها سَكَنًا وتحبونَ الإقامةَ وَالسُّكْنَى فيها، إن كان هذا كلُّه

(1)

انظر: المبسوط لابن مهران ص 226.

(2)

البخاري في التفسير، باب:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ (214)} حديث رقم: (4770)(8/ 501) وأخرجه في موضع آخر، انظر حديث رقم:(4971) ومسلم في الإيمان، باب في قوله تعالى {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} حديث رقم:(208)(1/ 193) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وقد جاء نحوه عن أبي هريرة وعائشة وغيرهما رضي الله عنهم أجمعين.

(3)

انظر: القرطبي (8/ 95).

ص: 361

أحبَّ إليكم من اللَّهِ ورسولِه وجهادٍ في سبيلِه {فَتَرَبَّصُوا} قد ثَبَتَ في الصحيح

(1)

عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه لا يُؤْمِنُ أحدٌ حتى يكونَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليه من أهلِه وولدِه بل وَمِنْ نفسِه التي بَيْنَ جَنْبَيْهِ، فلا يؤمنُ أحدٌ حتى يكونَ صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليه من نفسِه التي بين جَنْبَيْهِ وَمِنْ كُلِّ شيءٍ كائنًا ما كان. وكذلك محبةُ اللَّهِ (جلَّ وعلا)، فالمسلمُ يُحِبُّ اللَّهَ (جلَّ وعلا) ويحبُّ رسولَه صلى الله عليه وسلم. وَاعْلَمُوا أيها الإخوانُ أن العلامةَ الواضحةَ لمحبةِ اللَّهِ ورسولِه هي امتثالُ أَمْرِ اللَّهِ واجتنابُ نَهْيِ اللَّهِ فيما بَلَّغَهُ عنه رسولُه محمدٌ صلى الله عليه وسلم. هذا هو علامةُ المحبةِ.

وَاعْلَمُوا أن كُلَّ مَنْ يَدَّعِي محبةَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو يخالفُه أنه كذابٌ، كذابٌ، لا يحبُّ اللَّهَ ولَا رسولَه، وَمَنْ يُخَالِفُ اللَّهَ فالحبُّ منتقصٌ بقدرِ المخالفةِ، والمحبُّ جِدًّا لا يخالفُ محبوبَه، فعلامةُ حُبِّ اللَّهِ وَحُبِّ رسولِه الواضحةُ والشهادةُ به القاطعةُ هي اتباعُ ما جاء عن اللَّهِ على لسانِ رسولِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ومصداقُ هذا في كتابِ اللَّهِ:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: آية 31] فمحبةُ اللَّهِ ومحبةُ رسولِ اللَّهِ علامتُها القاطعةُ اتباعُ رسولِ اللَّهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدَّعِي أنه يحبُّ اللَّهَ ويحبُّ رسولَ اللَّهِ ويرتكبُ الأمورَ المخالفةَ لِمَا جاء به رسولُ اللَّهِ عن اللَّهِ فهو كَذَّابٌ، كذابٌ، كذابٌ في دَعْوَاهُ المحبةَ. وهذا أمرٌ معروفٌ عند

(1)

البخاري في الأيمان، باب: حب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان، حديث رقم:(15)(1/ 58)، ومسلم في الإيمان، باب: وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، حديث رقم:(44)(1/ 67)، من حديث أنس رضي الله عنه. وأخرجه البخاري في الموضع السابق (14) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقد ذكره الشيخ بمعناه، ولفظه:«لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» وفي بعض الألفاظ: «من أهله وماله والناس أجمعين» .

ص: 362

الناسِ؛ لأنه من الجبلةِ المعروفةِ عند العامةِ أن المحبةَ تقتضِي الاتباعَ:

لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لأَطَعْتَهُ

إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ

(1)

وقد صدق مَنْ قال

(2)

:

قَالَتْ وَقَدْ سَأَلَتْ عَنْ حَالِ عَاشِقِهَا

بِاللَّهِ صِفْهُ وَلَا تَنْقُصْ وَلَا تَزِدِ

فَقُلْتُ لَوْ كَانَ رَهْنَ الْمَوْتِ مِنْ ظَمَأٍ

وَقُلْتِ قِفْ عَنْ وُرُودِ الْمَاءِ لَمْ يَرِدِ

هذا في محبةِ مخلوقٍ على وَجْهٍ غيرِ لائقٍ فكيف بمحبةِ اللَّهِ ورسولِه؟ فَالْمُحِبُّ لِلَّهِ هو مطيعُ اللَّهِ، والمحبُّ لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هو متبعٌ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وقولُه: {فَتَرَبَّصُوا} التربصُ في لغةِ العربِ: الانتظارُ، ومنه:{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوَءٍ} [البقرة: آية 228].

تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهَا

تُطَلَّقُ يَوْمًا أَوْ يَمُوتَ حَلِيلُهَا

(3)

(1)

البيت في تاريخ دمشق (13/ 379) ونسبه للحسن بن محمد بن الحنفية.

(2)

البيتان في ديوان يزيد ص83، وهي أيضًا في (قرى الضيف) ص118، بالإسناد إلى أبي المطاع ذي القرنين بن ناصر الدولة أبي محمد من شعره. وذكرهما الأبشيهي في المستطرف (2/ 385)، وابن الجوزي في المدهش ص314، بدائع الفوائد (3/ 216) ولفظهما هناك:

قالت لطيف خيال زارها ومضى

بالله صفه ولا تنقص ولا تزد

فقال: خلفته لو مات من ظمأ

وقلتِ: قف عن ورود الماء لم يرد

قالت: صدقت الوفا في الحب شيمته

يا برد ذاك الذي قالت على كبدي

(3)

البيت في القرطبي (3/ 108)، واللسان (مادة: ربص) (1/ 1106)، والدر المنثور (6/ 120) وعزاه لابن الأنباري في الوقف والابتداء، وهو أيضًا في فتح القدير (1/ 232)(5/ 99).

ص: 363

قال بعضُ العلماءِ: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} الظاهرُ أنه واحدُ الأمورِ، ولَا شَكَّ أن في هذه الآيةِ تَهْدِيدًا وتخويفًا لِمَنْ دَامَ على إيثارِه هذه الأشياءَ على الله وعلى رسولِه صلى الله عليه وسلم {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ} جلَّ وعلا {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} .

مِثْلُ هذه الآياتِ فيه سؤالٌ معروفٌ للعلماءِ، كقولِه:{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} فَاللَّهُ (جلَّ وعلا) نَفَى هدايتَه للفاسقين، وَنَفَى هدايتَه للظالمين، مع أَنَّا نُشَاهِدُ بعضَ الفاسقينَ الظالمينَ يَهْدِيهِ اللَّهُ، وَكَمْ مِنْ كافرٍ شديدٍ في الكفرِ، ظالمٍ فاسقٍ يهديه اللَّهُ. هذا وجهُ الإشكالِ.

وأجابَ العلماءُ عن هذا بِجَوَابَيْنِ:

أحدُهما: أن قولَه: {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ، {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} من العامِّ المخصوصِ، وأن المرادَ بها الذين سَبَقَ في علمِ اللَّهِ أنهم لا يهتدونَ من الفسَقَةِ وَالظَّلَمَةِ الذين قال اللَّهُ فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} الآيةَ [يونس: الآيتان 96، 97].

وقال بعضُ العلماءِ: لا يهديهم ما زالوا مُتَّصِفِينَ بالظلمِ والفسقِ، فإذا نَزَعُوا عن ذلك برحمةِ اللَّهِ وهدايتِه زَالَ عنهم اسمُ الفسقِ والظلمِ، فلا مانعَ إذًا من هُدَاهُمْ. هكذا قَالَهُ بعضُ العلماءِ وَاللَّهُ تعالى أعلمُ. وهذا معنَى قولِه:{لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: آية 24].

{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ

ص: 364

جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (27)} [التوبة: الآيات 25 - 27].

{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ} اللامُ جوابُ قَسَمٍ محذوف، وَاللَّهِ لقد نصركم اللَّهُ. أي: أعانَكم على أعدائِكم {فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} أي: في مشاهدَ ومواضعَ كثيرةٍ، كما نصركم يومَ بدرٍ، ويومَ الأحزابِ، ويومَ فتحِ مكةَ، إلى غيرِ ذلك {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة: آية 25] بَيَّنَ اللَّهُ في هذه الآيةِ الكريمةِ أن النصرَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وحدَه، لا بكثرةِ العددِ ولا بكثرةِ العُددِ {كَم مِّنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: آية 249] لأن أكثرَ غزاةٍ قبلَ تبوك غزاها النبيُّ صلى الله عليه وسلم غزوةُ حُنَيْنٍ، كانوا اثْنَيْ عَشَرَ ألفًا، عشرة آلافِ مقاتلٍ فَتَحَ بهم مكةَ، وألفانِ من مَسْلَمَةِ الفتحِ من قريش وَمَنْ معهم وهم الطلقاءُ. وكان بعضُ العلماءِ يقول: إنه دَخَلَ مكةَ وَفَتَحَهَا بِاثْنَيْ عَشَرَ ألفًا. فيكون المجموعُ: أربعةَ عشرَ ألفًا. ذَكَرُوا أن الصحابةَ قالوا: لن نُغْلَبَ اليومَ من قِلَّةٍ. بعضُهم يقولُ: إن هذه قَالَهَا أبو بكر رضي الله عنه، وقيل: قَالَهَا رجلٌ آخَرُ. فَلَمَّا أَعْجَبَتْهُمُ الكثرةُ وأنهم كانوا اثني عشر ألفًا، أو أربعةَ عشرَ ألفًا، وقيل: ستةَ عشرَ ألفًا. وأكثرُ الرواياتِ أنهم كانوا اثْنَيْ عشرَ ألفًا، عشرةُ آلافٍ فَتَحَ بهم مكةَ، وألفانِ من أهلِ مكةَ أَسْلَمُوا وَغَزَوْا معه {فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ} هذه الكثرةُ {شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} وهذا نَصُّ اللَّهِ فيه على ما وَقَعَ بالمسلمينَ أولَ وقعةِ حُنَيْنٍ، يُبَيِّنُ لهم أن النصرَ من عنده (جلَّ وعلا) وحدَه لَا مِنْ كثرةِ العددِ والعُددِ.

ص: 365

ونحن دائمًا في هذه الدروسِ إنا جاءت غزوةٌ من مَغَازِي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في الآياتِ القرآنيةِ نُفَصِّلُهَا ونذكرُ تفاصيلَها لتمامِ الفائدةِ كما أَوْضَحْنَا فيما مَضَى غزوةَ أُحُدٍ في سورةِ آلِ عمرانَ، وغزوة [بدر]

(1)

في سورةِ [الأنفال]

(2)

، وسيأتِي في سورِ القرآنِ العظيمِ أكثرُ مغازيه صلى الله عليه وسلم.

وهذه الغزوةُ التي أَشَارَ لها اللَّهُ هنا وَبَيَّنَ أن الصحابةَ أَعْجَبََتْهُمْ كثرتُهم فيها، وأن كثرتَهم لم تُغْنِ عنهم شيئًا، وأنهم ضَاقَتْ عليهم الأرضُ بما رَحُبَتْ ثم وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، هي غزوةُ حُنَيْنٍ، وسنشيرُ الآنَ إلى هذه الغزوةِ ونذكرُ تفاصيلَها.

أما حنين فهو وَادٍ من أوديةِ تِهَامَةَ بينَ مكةَ والطائفِ غيرُ بعيدٍ من ذِي المجازِ، وأما الذين غَزَاهُمْ فَهُمْ هوازنُ، وهوازنُ قبيلةٌ من قبائلِ قيسِ عيلانَ بنِ مضر؛ لأن هوازنَ هو ابنُ منصورِ بنِ خصفةَ بنِ عكرمةَ

(3)

بنِ قيسِ عيلانَ بنِ مُضَرٍ.

قال بعضُ أصحابِ المغازي وَالسِّيَرِ

(4)

: لَمَّا سمع هوازنُ بخروجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من [المدينة]

(5)

ظَنُّوا أنه يقصدُهم في غزاةِ الفتحِ فتجمعوا، جَمَعَهُمْ رئيسُهم في ذلك الوقتِ، ورئيسُهم في ذلك الوقتِ مالكُ بنُ عوفٍ النصريُّ من بَنِي نصرِ بنِ بكرِ بنِ هوازنَ. ثُمَّ لَمَّا بَلَغَهُمْ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَتَحَ مكةَ جَمَعَهُمْ مالكُ بنُ عوفٍ وعزموا على مقاتلةِ

(1)

في الأصل: «الأنفال» . وهو سبق لسان.

(2)

في الأصل: «بدر» . وهو سبق لسان.

(3)

في ابن هشام (1/ 176) ابن عكرمة بن حصفة.

(4)

السابق ص1283.

(5)

في الأصل: «مكة» . وهو سبق لسان.

ص: 366

النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فسمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأخبارِهم فأرسلَ إليهم عبدَ اللَّهِ بنَ أبي حدردٍ الأسلميَّ رضي الله عنه عَيْنًا يعرفُ له أخبارَهم، فدخلَ في القومِ مُخْتَفِيًا وسمع أخبارَهم، وعرفَ أنهم عازمونَ على حربِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد فَتَحَ مكةَ في رمضانَ من سنةِ ثَمَانٍ.

قال بعضُ أصحابِ المغازي

(1)

: فَتَحَهَا لعشرينَ خَلَتْ من رمضانَ وعشرٍ بَقِيَتْ، وأنه أقامَ العشرَ الأواخرَ من رمضانَ بمكةَ بعدَ أن فَتَحَ مكةَ وخمسَ ليالٍ من شوالٍ، ثم غَزَا بعدَ خمسَ عشرةَ ليلةً من فَتْحِهِ مكةَ غَزَا هوازنَ بِاثْنَيْ عشرَ ألفًا من أصحابِه، عشرة آلاف الذين فَتَحَ بهم مكةَ، والألفانِ الذين أَسْلَمُوا وخرجوا غَازِينَ معه من الطلقاءِ أهلِ مكةَ، ثم إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ بأن هوازنَ تَجَمَّعُوا له في وادي حُنَيْنٍ فَقَصَدَهُمْ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) وقد صَلَّى (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) الصبحَ، وفي مخرجِه هذا من مكةَ إلى حنينٍ. مَرَّ بذاتِ أنواطٍ، وهي سدرةٌ خضراءُ كبيرةٌ كان المشركونَ يَأْتُونَهَا يومًا مِنَ السنةِ يذبحونَ عِنْدَهَا، ويعكفونَ عندها، ويعلقونَ عليها سلاحَهم تُسَمَّى «ذَاتَ أَنْوَاطٍ» وكان كثيرٌ مِمَّنْ معه حديثُ عهدٍ بالإسلامِ، فقالوا له: يا نَبِيَّ اللَّهِ اجْعَلْ لنا ذاتَ أنواطٍ كما لهم ذاتُ أنواطٍ. فقال (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه): "اللَّهُ أَكْبَرُ قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: {اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} "[الأعراف: آية 138]

(2)

وكان العباسُ بنُ مرداسٍ السلميُّ

(1)

السابق ص1282.

(2)

أخرجه أحمد (5/ 218)، وعبد الرزاق (20763)، وابن أبي عاصم في السنة (76)، والترمذي في الفتن، باب ما جاء «لتركبن سنن من كان قبلكم» حديث رقم:(2180)(4/ 475)، والحميدي (848)، والطيالسي (1346)، والطبراني في الكبير (3290، 3294)، وابن حبان (الإحسان 8/ 248)، وابن نصر في السنة ص16، 17، وابن جرير (13/ 81، 82).

ص: 367

قال: لَمَّا خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ مكةَ قاصدًا هوازنَ قال قصيدةً يَصِفُ فيها جيشَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وما يَعْزِمُ عليه من غزوِ هوازنَ منها أنه يقول

(1)

:

أَبْلِغْ هَوَازِنَ أَعْلَاهَا وأَسْفَلَهَا

عَنِّي رِسَالَةَ نُصْحٍ فِيهِ تِبْيَانُ

إِنِّي أَظُنُّ رَسُولَ اللَّهِ صَابِحَكُمْ

جَيْشًا لهُ فِي فَضَاءِ الأَرْضِ أَرْكَانُ

فِيهِمْ سُلَيْمٌ أَخُوكُمْ غَيْرَ تَارِكِكُمْ

وَالْمُسْلِمُونَ عِبَادُ اللَّهِ غَسَّانُ

وَفِي عِضَادَتِهِ الْيُمْنَى بَنُو أَسَدٍ

وَالأَجْرَبَانِ بَنُو عَبْسٍ وَذُبْيَانُ

تَكَادُ تَرْجُفُ مِنْهُ الأَرْضُ رَهْبَتَهُ

وَفِي مُقَدَّمِهِ أَوْسٌ وَعُثْمَانُ

يعني بـ (أوسٌ وعثمانُ) قَبِيلَتَيْ مُزَيْنَةَ من قبائلِ أُدِّ بنِ طابخةَ بنِ إلياس، ومزينةُ أُمُّهُمْ. فَتَوَجَّهَ إليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا كان قَرِيبًا منهم كان مالكُ بنُ عوفٍ جَمَعَ جميعَ مَنْ طَاوَعَهُ مِنْ هَوَازِنَ، وكانت خَرَجَتْ معه بنو نصرٍ كُلُّهَا (بَنُو نصرِ بنِ بكرِ بنِ هوازنَ)، وبنو جُشَمَ كُلُّهَا، (جُشَمُ بنُ بكرِ بنِ هوازنَ) وبنو سعدٍ كُلُّهُمْ، (سعدُ بنُ بكرِ بنِ هوازنَ)، ولم يخرج معه كثيرٌ من بَنِي عامرِ بنِ صعصعةَ من قبائلِ هوازنَ، تَخَلَّفَ عنه بَنُو ربيعةَ، وبنو كلابٍ، وجاء معه أوزاعٌ قليلةٌ من بَنِي هلالِ بنِ عامرِ بنِ صعصعةَ، وجماعةٌ من بني عمرِو بنِ عامرِ بنِ صعصعةَ، وَبَنِي عوفِ بنِ عامرِ بنِ صعصعةَ، وجاء معه ثقيفٌ كُلُّهَا، وكانت ثقيفٌ كُلُّهَا ترجع إلى قبيلتين، وثقيف أهل الطائف، وثقيف هو ابنُ بكرِ بنِ مُنَبِّهِ بنِ هوازنَ، هم من قبائلِ هوازنَ، وإن كان كثيرٌ من الناس يَظُنُّ أنهم مع هوازنَ، فَهُمْ من هوازنَ؛ لأن ثقيفَ بنَ مُنَبِّهِ بنِ بكرِ بنِ هوازنَ جاءت معه ثقيف كلها لم يَبْقَ منهم أَحَدٌ، وكان

(1)

القصيدة في سيرة ابن هشام ص1287.

ص: 368

رئيسُ الجميعِ مالكُ بنُ عوفٍ النصريُّ، وكان في ثقيف أهلِ الطائفِ رئيسانِ، رئيسُ الأحلافِ، ورئيسُ بَنِي مالكٍ؛ أما رئيسُ الأحلافِ ذلك اليومَ فهو قاربُ بنُ الأسودِ بنِ مسعودِ بنِ الْمُعَتِّبِ، ورئيسُ بَنِي مالكٍ هو ذُو الخمارِ، وهو سبيعُ بنُ الحارثِ، وأخوه أحمرُ بنُ الحارثِ. وجاء دريدُ بنُ الصمةِ من بَنِي جشمَ بنِ بكرٍ، وكان سَيِّدًا عظيمًا من ساداتِ هوازنَ، مُجَرِّبًا في الحروبِ، وكان في ذلك الوقتِ شَيْخًا فَانِيًا يرتعشُ، لا فائدةَ فيه إلا التيمنُ برأيه، جاء راكبًا في شِجَارٍ

(1)

له، وكان جماعُ الناسِ إلى مالكِ بنِ عوفٍ النصريِّ، فقال دريدٌ: هذا المحلُّ الذي أنتم فيه أَيُّ وادٍ أنتم فيه؟ قالوا: نحنُ الآنَ بوادِي أَوْطَاسٍ. قال: نِعْمَ مَجَالُ الخيلِ، لا حَزْنٌ ضَرْسٌ ولا سَهْلٌ دَهْسٌ.

ثم إنه قال: ما لي أَسْمَعُ بكاءَ الصغيرِ، ونهاقَ الحميرِ، ورغاءَ البعيرِ، ويعارَ الشاءِ؟ قالوا له: جَمَعَ مالكُ بنُ عوفٍ مع هوازنَ مواشيَهم وأموالَهم ونساءَهم وذراريَهم!! فقال: أين مالكٌ؟ فَدُعِيَ له مالكُ بنُ عوفٍ، فقال: يا مَالِكُ!! لقد أصبحتَ رئيسَ قومِك، وإن هذا يومٌ له ما بعدَه، فَمَا لِي أسمعُ رغاءَ البعيرِ، وبكاءَ الصغيرِ، ونهاقَ الحميرِ، ويعارَ الشاءِ؟ قال: سُقْتُ مع الناسِ أموالَهم ونساءَهم وأولادَهم. قال: وَلِمَ؟ قال: أريدُ أن يكونَ عند ظهرِ كُلِّ رجلٍ أهلُه ومالُه ليقاتلَ عنهم ولا يَفِرَّ. فقال دريدٌ يهزأُ بِمَالِكٍ (أَنْقَضَ به) - أي أَخْرَجَ من فمه صوتًا استهزاءً به - وقال: رَاعِي ضَأْنٍ وَاللَّهِ، هل يَرُدُّ المنهزمَ شيءٌ؟! هذا ليس برأيٍ؛ لأنها إن كانت عليكَ فُضِحْتَ في أَهْلِكَ وَمَالِكَ، فكانَ الأَوْلَى أن تردَّهم إلى متمنِّع بلادِهم وَعُلْيَا قومِهم، فإن كانت لكَ فإنه لا ينفعُك إلا رجلٌ بسيفِه وَرُمْحِهِ، وإن

(1)

الشجار: يشبه الهودج لكنه غير مُغطَّى من الأعلى.

ص: 369

كانت عليكَ أَلْفَاكَ ذلك وقد أحرزتَ أَهْلَكَ وَمَالَكَ. فقال مَالِكٌ: وَاللَّهِ لَا أفعلُ غيرَ هذا. ثم قال: يا معشرَ هوازنَ وَاللَّهِ لَتُطِيعُنَّنِي أَوْ لأَتَّكِئَنَّ على هذا السيفِ حتى يخرجَ من ظَهْرِي!! فقالوا: أَطَعْنَاكَ. فقال دريدٌ: هذا يومٌ لم أَشْهَدْهُ ولم يَفُتْنِي. ثم قال: هل حَضَرَ أحدٌ من بَنِي كَعْبٍ أَوْ كِلَابٍ؟ قالوا: ما حَضَرَهَا أحدٌ من بَنِي كعبٍ وَلَا كلابٍ. يعني كعبًا وكلابًا أولادَ عامرِ بنِ صعصعةَ. قال: غابَ الجدُّ والحدُّ

(1)

لو كان يومَ رفعةٍ وعلاءٍ لم يَغِبْ عنه كعبٌ وكلابٌ. قال: مَنْ حَضَرَهَا مِنْ عَامِرٍ؟ قالوا: بَنُو عوفِ بنِ عامرٍ، وَبَنُو عمرِو بنِ عامرٍ. قال: ذَانِكَ الجذعانِ من عامرٍ لا ينفعانِ ولا يضرانِ. ثم قال دريدٌ

(2)

:

[4/أ] يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ

/ أَخُبُّ فِيهَا وَأَضَعْ

أَقُودُ وَطْفَاءَ الزَّمَعْ

(3)

كَأَنَّهَا شَاةٌ صَدَعْ

(4)

ثم إن مالكَ بنَ عوفٍ أَمَرَهُمْ فَكَمِنُوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه في مضايقِ وَادِي حنينٍ وأحنائِه، كانوا في مضايقِ الوادِي بِجَنْبَتَيِ الوادِي كَامِنِينَ له.

وقال لهم ملكُهم - مالكُ بنُ عوفٍ النصريُّ: إذا أَقْبَلَ عليكم القومُ فَشُدُّوا عليهم شدةَ رجلٍ واحدٍ. فصلَّى النبي صلى الله عليه وسلم الصبحَ وسارَ بأصحابِه في الْغَلَسِ - يعني: بقية ظلامِ الليلِ مختلطةً بضياءِ

(1)

الحد: يعني الحدة والشجاعة.

(2)

ذكرهما ابن هشام في السيرة ص1285، مرويات غزوة حنين (1/ 234).

(3)

الوطفاء: طويلة الشعر.

الزمع: الشعر الذي فوق مربط قيد الدابة. فهو يذكر صفة فرس.

(4)

الشاة هنا: الوعل.

والصدع: الفتى القوي الشاب من الأوعال ونحوها.

ص: 370

الصبحِ - فَانْحَدَرُوا في وَادِي حنينٍ يَمْشُونَ، فلم يَشْعُرُوا بشيءٍ إلا وقد دَخَلُوا في مكمنِ القومِ، فَشَدُّوا عليهم شدةَ رجلٍ واحدٍ، وصارت الرماحُ والسهامُ كأنها رِجْلُ جرادٍ منتشرٍ عليهم، فَوَقَعَ مَا وَقَعَ، وَزَلَّ المسلمونَ، وَوَقَعَ ما قَالَ اللَّهُ:{فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} فَثَبَتَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو على بغلتِه البيضاءِ، وبعضُهم يقولُ: الشهباء؛ لأَنَّ لونَها بياضٌ فيه شُهبةٌ. والعباسُ بنُ عبدِ المطلبِ رضي الله عنه آخِذٌ بِزِمَامِهَا. وبعضُهم يقولُ: آخِذٌ بِرِكَابِهَا الأيمنِ، أو حَكَمَتِهَا، وَآخِذٌ بِرِكَابِهَا الثانِي أبو سفيانَ بنُ الحارثِ بنِ عبدِ المطلبِ، وكان مع النبيِّ جماعةٌ من آلِ بيتِه، منهم عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالبٍ رضي الله عنه، والعباسُ بنُ عبدِ المطلبِ، وَأَبُو سفيانَ بنُ الحارثِ، والفضلُ بنُ العباسِ بنِ عبدِ المطلبِ رضي الله عنهم، وربيعةُ بنُ الحارثِ بنِ عبدِ المطلبِ، وأسامةُ بنُ زيدٍ، وأيمنُ بنُ أُمِّ أيمنَ مولاةِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَثَبَتَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذلك الثباتَ العظيمَ، وكان يركضُ البغلةَ في نَحْرِ الْعَدُوِّ يسرعُ إليهم ويقولُ:

أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ

أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ

وهذا من الشجاعةِ منقطعُ النظيرِ

(1)

؛ لأنه على بغلةٍ لَا تُحْسِنُ الْكَرَّ وَلَا الْفَرَّ، لا تصلحُ لِكَرٍّ وَلَا لِفَرٍّ، وقد انكشفَ عنه أصحابُه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، وليس مَعَهُ إِلَاّ قومٌ قليلٌ، ومع هذا يركضُ في وجهِ العدوِّ وَيُنَوِّهُ بِاسْمِهِ ليعرفَه مَنْ لَمْ يكن يعرفه!! وقال للعباسِ بنِ عبدِ المطلبِ - وكان رَجُلاً ضَخْمًا قَوِيًّا جهيرَ الصوتِ جِدًّا - "نَادِ: يَا أَصْحَابَ السَّمُرَةِ" فنادَى العباسُ بأعلى صوتِه: يَا

(1)

مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأنعام.

ص: 371

أصحابَ السَّمُرَةِ. والسَّمُرَةُ هي شجرةُ الحديبيةِ التي وَقَعَتْ تحتَها بيعةُ الرضوانِ، وقد بَايَعُوهُ فيها على أن لا يَفِرُّوا عنه. وفي بعضِ المراتِ يقولُ: يا أصحابَ السمرةِ، يا أصحابَ سورةِ البقرةِ. يَدْعُوهُمْ. فَسَمِعُوا نداءَه فقالوا: يَا لَبَّيْكَ. وتراجعَ إليه المسلمونَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ، وقد أَعْجَزَهُمْ أن يَرُدُّوا الأباعرَ التي يَرْكَبُونَهَا؛ لأنها آلَمَهَا وَقْعُ السِّهَامِ، فلم يَقْدِرُوا على رَدِّهَا ولا عَطْفِهَا.

قال العباسُ بنُ عبدِ المطلبِ رضي الله عنه: فَوَاللَّهِ لَمَّا نَادَيْتُهُمْ فَسَمِعُوا صَوْتِي فكأنما عَطَفُوا عليه عطفةَ البقرِ على أولادِها. وكان (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) أَخَذَ قبضةً من ترابٍ فَرَمَى بها في أَوْجُهِ القومِ وقال: شَاهَتِ الوجوهُ. وَذَكَرَ ابنُ عبدِ البرِّ وغيرُ واحدٍ أنه رَوَى من طرقٍ كثيرةٍ عن أولادِ أولئك الجيشِ الذين أَسْلَمُوا بعدَ ذلك أنهم قالوا: لَقِينَا أصحابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَمَا لَبِثْنَا أَنْ هَزَمْنَاهُمْ وَاتَّبَعْنَاهُمْ حتى أَتَيْنَا على صاحبِ البغلةِ الشهباءِ فَزَجَرَنَا زَجْرًا قَوِيًّا، وَأَخَذَ قبضةً من ترابٍ وَحَصًى فرمى بها في أَوْجُهِنَا فلم تبقَ عينٌ ولا فَمٌ إلا امْتَلأَتْ من ذلك الْحَصَى. وَرَجَعُوا مُنْهَزِمِينَ، فَمِنْ ذلك الوقتِ الذي رَمَى تلك القبضةَ في أَوْجُهِهِمْ وكان حَدُّهُمْ كَلِيلاً وَأَمْرُهُمْ مُدْبِرًا. ثم إنه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) وكان العباسُ بنُ عبدِ المطلبِ رضي الله عنه في ذلك اليومِ شديدَ الشجاعةِ يُنوِّه بالنفرِ الذين بَقَوْا مَعَهُ، والذي يقولُه العباسُ في شعرِه أنهم عَشَرَةٌ فقط حيث يقول

(1)

:

(1)

البيت الأول أورده ابن عساكر في تاريخ دمشق (26/ 299) ويليه بيتان غير المذكورين هنا. والبيتان الأخيران ذكرهما ابن عبد البر في الاستيعاب (3/ 96)(مع بعض الاختلافات)، والقرطبي (8/ 98)، والحافظ في الفتح (8/ 30) دون الأول. وهما في مرويات غزوة حنين (1/ 183).

ص: 372

أَلَا هَلْ أَتَى عِرْسِي مُكَرِّي وَمَقْدَمِي

بِوَادِي حُنَيْنٍ وَالأَسِنَّةُ تُشْرَعُ

إلى أن قال:

نَصَرْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي الْحَرْبِ تِسْعَةٌ

وَقَدْ فَرَّ مَنْ قَدْ فَرَّ عَنْهُ فَأَقْشَعُوا

وَعَاشِرُنَا لَاقَى الْحِمَامَ بِنَفْسِهِ

لِمَا مَسَّهُ فِي اللَّهِ لَا يَتَوَجَّعُ

يعنِي بعاشرِهم الذي لَاقَى الحِمَامَ أي: الموتَ: أيمنَ بنَ أُمِّ أيمنَ رضي الله عنه، أُمُّهُ أُمُّ أيمنَ مولاةُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فرجع المسلمونَ لَمَّا سَمِعُوا نداءَ العباسِ، فاجتمعَ عليه من أوائلهم مئةُ رجلٍ، فَأَمَرَهُمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يَصْدُقُوا الحملةَ على القومِ، فَاجْتَلَدَ الناسُ اجْتِلَادًا شديدًا، فَنَظَرَ إليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فإذا هم يَجْتَلِدُونَ ويتقاتلونَ قتالاً شديدًا، فقال (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه):«الآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ»

(1)

. وكانت من الكلماتِ التي لم يُسْبَقْ قَبْلَهَا، قال بعضُ مَنْ رَوَى قِصَّةَ حنينٍ هذه: فوالله ما تَرَاجَعَ المسلمونَ إِلَاّ وَالأَسْرَى بجنبِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(2)

. وكان مِمَّنْ ثَبَتَ ذلك اليومَ ثَبَاتًا عظيمًا أُمُّ سليمٍ امرأةُ أَبِي طلحةَ، وهي حَامِلٌ في ذلك الوقتِ بعبدِ اللَّهِ بنِ أَبِي طَلْحَةَ، كانت تشدُّ وَسْطَهَا بِبُرْدٍ وفي يدِها خنجرٌ، وهي مُمْسِكَةٌ بعيرِ أَبِي طلحةَ، وَلَمَّا سَأَلُوهَا عن الخنجرِ قالت: إذا قَرُبَ مِنِّي بعضُ المشركين بَعَجْتُ به بَطْنَهُ

(3)

. فهي عظيمةٌ في الشجاعةِ والثباتِ، فرجعَ أصحابُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَكِبُوا أكتافَ العدوِّ يَقْتَلُونَهُمْ

(1)

أخرجه مسلم في الجهاد والسير، باب في غزوة حنين. حديث رقم:(1775)(3/ 1398 - 1399) بلفظ: «هذا حين حمي الوطيس» .

(2)

السيرة لابن هشام ص (1292).

(3)

مسلم في الجهاد باب غزوة النساء مع الرجال. حديث رقم: (1809)(3/ 1442).

ص: 373

وَيَأْسِرُونَهُمْ، ثم إنهم فَرُّوا وَانْهَزَمُوا، طائفةٌ منهم فيها سَيِّدُهُمْ مالكُ بنُ عوفٍ انْهَزَمُوا ورجعوا إلى حصنِ الطائفِ فَتَحَصَّنُوا به، وطائفةٌ عَسْكَرُوا في أوطاس.

وأوطاس محلٌّ هو وَحُنَيْنٌ يَجْمَعُهُمْ وَادٍ واحدٌ، إلا أنهم عَسْكَرُوا في محلٍّ بعيدٍ منه، فأرسلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في أَثَرِهِمْ سريةً أَمَّرَ عليها أبا عامرٍ الأشعريَّ رضي الله عنه، ومعه في تلك السريةِ ابنُ عَمِّهِ أبو موسَى الأشعريُّ، فَأَدْرَكَ أَبُو عَامِرٍ فَلَّهُمْ، وأخذَ ما عندهم من السَّبَايَا أيضًا، وَاسْتُشْهِدَ أبو عامرٍ، أَصَابَهُ سهمٌ في ركبتِه فماتَ، واسْتَحَرَّ القتلُ ذلك اليومَ في ثقيفٍ خاصةً، ثم في بَنِي مَالِكٍ فَقُتِلَ منهم سبعونَ رجلاً، أو أكثرَ، وقتلَ قومٌ من أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وكثيرٌ من هوازنَ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ تبارك وتعالى، وفي ذلك اليومِ قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ»

(1)

.

وكان أبو قتادةَ رضي الله عنه كما ثَبَتَ عنه رَأَى رَجُلاً عليه رَجُلٌ من المشركين يريدُ أن يقتلَه، فجاءَ فَضَرَبَ المشركَ من ورائِه على حَبْلِ عاتقِه فَقَطَعَ دِرْعَهُ وَقَطَعَ حبلَ عاتقِه، قال: فَرَجَعَ إِلَيَّ فضمني ضَمَّةً شممتُ منها ريحَ الموتِ، ثم أَدْرَكَهُ الموتُ فَأَرْسَلَنِي. ثم إنه بعدَ ذلك سَأَلَ عن درعِ ذلك الرجلِ لِيَأْخُذَهَا؛ لأَنَّهُ قاتِلُه، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ» فَنَادَى أبو قتادةَ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ فلم يَجِدْ أحدًا يشهدُ له، فَأَخْبَرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجلٌ من القومِ: هو عندي يا رسولَ اللَّهِ، فَأَرْضِهِ منه. قال له أبو بكر: لَاهَا اللَّهِ لَا يعمدُ إلى أسدٍ من أسودِ اللَّهِ يقاتلُ عن اللَّهِ ورسولِه فيعطيك سَلَبَهُ!! قال له صلى الله عليه وسلم: «صَدَقَ أَبُو بَكْرٍ»

(2)

.

(1)

مضى عند تفسير الآية (41) من سورة الأنفال.

(2)

السابق.

ص: 374

فهذه القصةُ أَوَّلاً انْهَزَمَ فيها المسلمونَ، وقد ثَبَتَ في الصحيحِ

(1)

عن البراءِ بنِ عازبٍ رضي الله عنه أنه سَأَلَهُ رجلٌ: أَفَرَرْتُمْ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يومَ حُنَيْنٍ؟ قال: لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفِرَّ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، وكان يقولُ: «أَقْبِلُوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.

أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ

أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ»

ثم إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ جميعَ سَبْيِ هوازنَ، وكان فيه آلافٌ عديدةٌ من السَّبَايَا من النساءِ وَالذَّرَارِي، ومن الأموالِ ما لا يُحْصِيهِ إِلَاّ اللَّهُ، من الإبلِ والشاءِ وجميعِ الأموالِ، وكان قد نَفَّلَ بعضَ أصحابِه، فَأَعْطَى عَلِيَّ بنَ أَبِي طالبٍ جاريةً تُسَمَّى ريطةَ بنتَ هلالٍ، وأعطى عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه جاريةً تُسَمَّى زينبَ بنتَ حيانَ، في أشياءٍ كثيرةٍ

(2)

. ثم إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم رَجَعَ بنفسِه يتبعُ فَلَّهُمْ إلى الطائفِ، فَحَاصَرَ أهلَ الطائفِ؛ لأَنَّ أهلَ الطائفِ - ثَقِيفًا - لَمَّا مَاتَ منهم ما مَاتَ في غزوةِ حنينٍ وَرَجَعُوا تَحَصَّنُوا بحصنِ الطائفِ، وَصَارُوا يُخْرِجُونَ السهامَ مِنْ كُوَى الحائطِ يُرامون بها أصحابَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَكَثَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَمَنًا يُحَاصِرُهُمْ، وَمَاتَ في حصارِهم جماعةٌ من أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُمْ مُتَحَصِّنُونَ لم يُؤْذَنْ له في فَتْحِهِمْ، فسأل عنهم معاويةَ بنَ نوفلٍ الديليَّ: ماذا تَرَى؟ قال: أَرَى أنَّ هؤلاء القومَ كالثعلبِ في جُحْرِهِ، إن أَطَلْتَ المقامَ على جُحْرِهِ أَخَذْتَهُ، وإن

(1)

البخاري في المغازي، باب قول الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ

} حديث رقم: (4315 - 4317)(8/ 27 - 28).

(2)

ذكره ابن هشام في السيرة ص1342.

ص: 375

ذَهَبْتَ عنه لَا يَضُرُّكَ بشيء

(1)

، فسألوا رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أن يدعوَ عليهم فَأَبَى أن يدعوَ عليهم، وقال:«اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا وَائْتِ بِهِمْ»

(2)

ثم بعدَ ذلك أَسْلَمُوا، وجاؤوا وَافِدِينِ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بالسبايا والمغانمِ فذهبَ بها رجلٌ أَمَّرَهُ عليها إلى الجعرانةِ وكانت هناك حتى رَجَعَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ حِصَارِهِ إلى الطائفِ، فَلَمَّا رَجَعَ جَاءَه وفدُ هوازنَ مُسْلِمِينَ، وقام خطيبُهم زهيرُ بنُ صردٍ أبو صرد أمامَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقال له: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّا أصلٌ وعشيرةٌ، وإنه قد وَقَعَ بنا ما ترى، وإنا تُبْنَا إلى اللَّهِ وَرَجِعْنَا مُسْلِمِينَ. ولو وَقَعَ ما وقع بنا وجئنا الحارثَ بنَ أَبِي شمر الغسانيَّ أو النعمانَ بنَ المنذرِ لَرَجَوْنَا عَائِدَتَهُ بالخيرِ وَعَطْفَهُ عَلَيْنَا، وأنتَ خيرُ مكفولٍ، وكذا وكذا، فَرُدَّ علينا أموالَنا ونساءَنا. قال لهم صلى الله عليه وسلم:«اخْتَارُوا أَيَّهُمَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ: أَسَبْيُكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ؟» فقالوا: خَيَّرْتَنَا بَيْنَ أَحْسَابِنَا وأموالِنا فنختارُ نساءَنا وأولادَنا. فقال لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ» فقال المهاجرونَ: ما كان لنا منها فهو لرسولِ اللَّهِ. وقال الأنصارُ: ما كان لنا فهو لرسولِ اللَّهِ. وقال الأقرعُ بنُ حابسٍ التميميُّ: أما أنا وبنو تميمٍ فَلَا، وقال عيينةُ بنُ حصنٍ الفزاريُّ: أَمَّا أَنَا وبنو فزارةَ فَلَا، وقال عباسُ بنُ مرداسٍ السلميُّ: أما أنا وبنو سليمٍ

(1)

ذكره ابن كثير في تاريخه (4/ 350) وعزاه للواقدي.

(2)

أخرجه أحمد (3/ 343)، والترمذي في المناقب، باب مناقب ثقيف وبني حنيفة. حديث رقم:(3942)(4/ 729)، والواقدي في المغازي (3/ 936 - 937)، وابن سعد في الطبقات (2/ 114) والطبري في التاريخ (3/ 133) وذكره ابن القيم في الهدي (3/ 497)، وابن كثير في التاريخ (4/ 350)، والحافظ في الفتح (8/ 45).

وانظر: ضعيف الترمذي ص527، مرويات غزوة حنين (1/ 336 - 337).

ص: 376

فَلَا. فَقَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ: ما كان لنا فهو لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقال لهم العباسُ: وَهَّنْتُمُونِي حيث لم تُجِيزُوا ما قلتُ عليكم. ثم إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ لوفدِ هوازنَ جميعَ سَبَايَاهُمْ، جميعَ نِسَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ

(1)

.

وَاخْتَلَفَتْ عباراتُ المؤرخينَ وأصحابِ المغازي هل كان رَدُّهُمْ لهم قَبْلَ أن تقسمَ الغنائمُ، أو بعدَ قَسْمِهَا

(2)

؟ وظاهرُ كلامِ ابنِ إسحاقَ وَمَنْ وَافَقَهُ أنه كان قبلَ قسمِ الغنائمِ، وموسى بنُ عقبةَ وغيرُه من أئمةِ المغازِي يقولونَ: إنه كان بعدَ أن قُسِّمَتْ غَنَائِمُهُمْ. قال ابنُ عمرَ رضي الله عنه. كانت الجاريةُ التي أعطانِي عمرُ بنُ الخطابِ أَرْسَلْتُهَا إلى أخوالِي مِنْ بَنِي جُمَحَ يُصْلِحُونَهَا وَيُزَيِّنُونَهَا لِي حتى أطوفَ بالبيتِ وأرجعَ فأدخلَ بها، فَلَمَّا رجعتُ أَنْوِي الدخولَ بها إذا أَصْلَحَها لِي أخوالِي فإذا الناسُ يَشْتَدُّونَ، قلتُ: ما بَالُكُمْ؟ قالوا: رَدَّ إلينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نساءَنا وأولادَنا، فقال: اذْهَبُوا إلى صاحبتِكم في بَنِي جُمَحَ فَخُذُوهَا

(3)

. ثم إن زهيرَ بنَ صُرد خطيبَ هوازنَ الذي خَطَبَ لهم رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْطَفَهُ بخطبةٍ نثريةٍ، وبشعرٍ أيضًا، فَمِنْ شِعْرِهِ الذي يَسْتَعْطِفُهُ به

(4)

:

(1)

أخرجه الطبري في تاريخه (3/ 135) من طريق ابن إسحاق، وذكره ابن هشام في السيرة ص1340، وابن كثير في تاريخه (4/ 352) وأصل قدومهم على النبي صلى الله عليه وسلم وتخييره لهم بين الأموال والذراري في البخاري، كتاب المغازي، باب قول الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ

}.حديث رقم: (4318)(8/ 32).

(2)

انظر: البداية والنهاية (4/ 354).

(3)

أخرجه أحمد (2/ 69)، وابن جرير في تاريخه (3/ 135)، وذكره ابن هشام في السيرة (1342)، وابن كثير في تاريخه (4/ 354).

(4)

أخرجه البيهقي في الدلائل (5/ 194)، والطبراني في الكبير (5/ 270، 271)، والأوسط (5/ 45)، والصغير (1/ 236)، والخطيب في تاريخه (7/ 106)، والطبري في تاريخه (3/ 134)، وابن عبد البر في الاستيعاب (1/ 576)، وذكرها الذهبي في الميزان، وابن كثير في تاريخه (4/ 353). وقد سقط هنا بعد البيت الثاني بيتان، وفي بعض الروايات ثلاثة أبيات. وأما البيتان الثالث والرابع هنا فهما بيت واحد ورد في بعض الروايات باللفظ الأول وفي بعضها باللفظ الثاني. وانظر: مرويات غزوة حنين (2/ 456 - 460). وقد حسنه الحافظ في اللسان (4/ 99 - 104)، والفتح (8/ 34)، وانظر: الإصابة (1/ 553).

ص: 377

امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَرَمٍ

فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَنْتَظِرُ

امْنُنْ عَلَى بَيْضَةٍ قَدْ عَاقَهَا قَدَرٌ

مُمَزَّقٌ شَمْلُهَا فِي دَهْرِهَا غِيَرُ

امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا

إِذْ فُوكَ تَمْلَؤُهُ مِنْ مَحْضِهَا الدُّرَرُ

امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا

وَإِذْ يَزِينُكَ مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ

وقد كان قال له في خُطْبَتِهِ: إنما وراءَ هذه الحضرةِ من نساءِ هوازنَ خالاتُك وحواضنُكَ

(1)

. ثم إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ عليهم جميعَ نسائِهم وأولادِهم، وكان عيينةُ بنُ حصنٍ قد أَخَذَ عَجُوزًا وقال: هذه العجوزُ لَهَا حَسَبٌ وَنَسَبٌ في قَوْمِهَا، فيكونُ فداؤُها شيئًا كثيرًا غاليًا. فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم خَيَّرَ: مَنْ أَرَادَ أن يعطيَ شيئًا من سبايا هوازنَ لِيُرَدَّ إلى أهلِه مَجَّانًا فَعَلَ، وَمَنْ أَرَادَ الْعِوَضَ عنه قال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:«سَنُعَوِّضُكَ عَنْهُ مِنْ أَوَّلِ مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا، وَمِنْ أَوَّلِ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْنَا سِتَّ فَرَائِضَ» .

والظاهرُ أن مرادَه بالفرائضِ رؤوسٌ مِنَ الإبلِ؛ لأَنَّ حِقَّةَ الزكاةِ تُسَمَّى (فريضةً) ثم إن عيينةَ بنَ حصنٍ قِيلَ له: خُذْ عن هذه سِتًّا. فقال: لَا. فَامْتَنَعَ وقال: لَا آخُذُ عنها شيئًا. يطمعُ في فداءٍ كثيرٍ!!

(1)

أخرجه الطبري في تاريخه (3/ 134)، وذكره ابن هشام ص1340، وابن كثير في تاريخه (4/ 352) وانظر المصادر في الهامش السابق.

ص: 378

فقال له زهيرُ بنُ صردٍ: وَاللَّهِ ما فُوهَا بِبَارِدٍ، ولا ثَدْيُهَا بِنَاهِدٍ، ولَا بَطْنُهَا بِوَالِدٍ، ولَا زَوْجُهَا بِوَاجِدٍ. فلما قال له هذا الكلامَ قَبِلَ معاوضتَها بما عُوِّضَ به بقايا السَّبْيِ

(1)

، ثم إن أهلَ الغزاةِ الذين حَضَرُوهَا من الأعرابِ وغيرِهم خافوا أن يردَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على هوازنَ الأموالَ أيضًا، فَضَيَّقُوا عليه فقالوا: يا نَبِيَّ اللَّهِ، اقْسِمْ علينا فَيْئَنَا، حتى أَلْجَؤُوهُ إلى سَمُرَةٍ فَخَطَفَتْ رِدَاءَهُ فقال:«رُدُّوا عَلَيَّ رِدائِي، فَوَاللَّهِ لَوْ كَانَ لَكُمْ مِنَ الْفَيْءِ مِثْلُ شَجَرِ تِهَامَةَ لَقَسَمْتُهُ كُلَّهُ عَلَيْكُمْ، وَلَا تَجِدُونِي جَبَانًا وَلَا كَذَّابًا وَلَا بَخِيلاً»

(2)

. (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) فَأَعْطَى ذلك اليومَ المؤلفةَ قلوبُهم، أعطى الأقرعَ بنَ حابسٍ مائةً من الإبلِ، وعيينةَ بنَ حصنٍ مائةً من الإبلِ، وأعطى أَبَا سفيانَ مائةً من الإبلِ، وابنَه معاويةَ مائةً من الإبلِ، وصفوانَ بنَ أميةَ مائةً من الإبلِ؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا عَزَمَ على غزاةِ حُنَيْنٍ استعارَ من صفوانَ بنِ أميةَ الجمحيَّ أَدْراعًا كانت له وَسِلَاحًا، فقال له: أَغَصْبًا يا مُحَمَّدُ؟ قال: «بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ»

(3)

وكانت تلك الأدرعُ قد فُقِدَ منها شيءٌ في

(1)

أخرجه الطبري في تاريخه (3/ 135)، وذكره ابن هشام (1342) وابن كثير في تاريخه (4/ 355).

(2)

البخاري في الجهاد باب: الشجاعة في الحرب والجبن. حديث رقم: (2821)(6/ 35) وأخرجه في موضع آخر، انظر: حديث رقم: (3148).

(3)

أخرجه أحمد (3/ 401)، (6/ 365)، وأبو داود في البيوع، باب في تضمين العارية. حديث رقم:(3545 - 3547)(9/ 476 - 478)، والحاكم (2/ 47)، والبيهقي (6/ 89) من حديث أمية بن صفوان عن أبيه .. وبعضهم يرويه عن أُناس من آل عبد الله بن صفوان، وبعضهم: عن ناس من آل صفوان، وللحديث شاهد من حديث جابر رضي الله عنه عند الحاكم (3/ 48 _ 49). وانظر: الإرواء (5/ 344).

ص: 379

القتالِ، فَلَمَّا أرادَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يعوضَه قال له: إِنَّ في قلبِي اليومَ ما لم يَكُ في قلبِي بالأمسِ، إني صرتُ أرغبُ في الإيمانِ. ولم يَأْخُذْ عِوَضَ أدراعه، قال بعضُ العلماءِ: لَمَّا أرادَ الخروجَ اسْتَسْلَفَ مِنْ ربيعةَ المخزوميِّ آلافًا كثيرةً يستعينُ بها، وَأَعْطَى المؤلفةَ قلوبُهم.

وَلَمَّا وقعَ بالمسلمينَ ما وقع أولاً وَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ كان بعضُ قريشٍ إيمانُهم في ذلك الوقتِ لم يكن قويًّا حتى ذَكَرُوا مثلَه عن أبِي سفيانَ بنِ حربٍ رضي الله عنه قالوا: كانَ في ذلك الوقتِ إيمانُه مدخولاً، فقال: هزيمتُهم لا يَرُدُّهَا البحرُ

(1)

. وكان مع صفوانَ بنِ أميةَ أخوه لأُمِّهِ - وصفوانُ بنُ أميةَ في ذلك الوقتِ على شِرْكِهِ، ومعه أخوه لأُمِّهِ - بعضُهم يقول: اسمُه كلدةُ بنُ الحنبلِ. فلما وَقَعَ بالمسلمينَ ما وَقَعَ أولاً وَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ قال: الآنَ بَطَلَ سحرُ محمدٍ. فقال له صفوانُ بنُ أميةَ وهو مُشْرِكٌ: اسْكُتْ فَضَّ اللَّهُ فَاكَ، وَاللَّهِ لأَنْ يَرُبَّنِي رجلٌ من قريشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ من أن يَرُبَّنِي رجلٌ من هوازنَ

(2)

.

وكان شيبةُ بنُ عثمانَ بنِ أبي طلحةَ قُتِلَ أبوه عثمانُ بنُ أبي طلحةَ يومَ أُحُدٍ في حَمَلَةِ اللواءِ من بَنِي عبدِ الدارِ، وَعَمُّهُ طلحةُ بنُ أبِي طلحةَ وغيرُه من أعمامِه، وكان حَنِقًا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجَ في غزاةِ حنينٍ وهو على كُفْرِهِ يريدُ أن يصادفَ غرةً من رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ليقتلَه ويأخذَ بثأرِه، فلما انْكَشَفَ المسلمونَ وَوَقَعَ ما

(1)

أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (5/ 128)، والطبري في تاريخه (3/ 128)، وذكره ابن هشام ص1290، وابن كثير في تاريخه (4/ 327) وانظر: مرويات غزوة حنين (1/ 163).

(2)

مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأنعام.

ص: 380

وَقَعَ قال شيبةُ: جئتُ من طرفِ بَغْلَتِهِ الأيمنِ فإذا عمُّه مُمْسِكٌ بِرِكَابِ بغلتِه، قلتُ: هذا عمُّه ولن يَخْذُلَهُ، فجئتُ من الطرفِ الثاني فإذا أبو سفيانَ بنُ الحارثِ بنِ عبدِ المطلبِ مُمْسِكٌ ركابَه من الجنبِ الآخَرِ، فقلتُ: وهذا ابنُ عَمِّهِ لن يَخْذُلَهُ، فجئتُ من ورائِه فَلَمَّا قَرُبْتُ منه وَأَرَدْتُ أن أساورَه بالسيفِ وقلتُ: الآنَ آخُذُ ثَأْرِي فأقتلُ محمدًا صلى الله عليه وسلم، في بعضِ الرواياتِ أنه قال: جَاءَنِي عنقٌ مِنْ نَارٍ كأنه برقٌ خاطفٌ فَصِرْتُ أرجعُ القهقرى خوفًا منه، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال:«ادْنُ يَا شَيْبَ!!» فَمَسَحَ صدرَه ودعا له اللَّهَ. قال: وَاللَّهِ ما رَفَعَ يدَه عَنِّي حتى صار أحبَّ إِلَيَّ من كُلِّ شيءٍ. وفي بعضِ رواياتِ هذه القصةِ عن شيبةَ بنِ عثمانَ بنِ أبِي طلحةَ رضي الله عنه، قال: لَمَّا أردتُ أن أضربَه وأقتلَه جُعِلَ في فؤادي شيءٌ لَا أَدْرِي ما هو مَنَعَنِي منه، فتيقنتُ أنه ممنوعٌ مِنِّي، ثم دَعَا لي فصارَ أحبَّ الناس إِلَيَّ

(1)

.

فصار شيبةُ بعدَ أن كان يريدُ قتلَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يقاتلُ معه في إخلاصٍ ونصحٍ.

ثم إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَسَّمَ غنائمَ حُنَيْنٍ أَعْطَى المؤلفةَ قلوبُهم،

(1)

أخرجه الطبري في تاريخه (3/ 128)، والطبراني في الكبير (7/ 299)، والبيهقي في الدلائل (5/ 128، 145)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (مختصر ابن منظور 11/ 9 - 10) وساق ابن هشام بعضه ص1290، كما ساق ابن كثير في تاريخه (4/ 333) رواية البيهقي وابن إسحاق. وكذا في التفسير (2/ 345)، وابن القيم في زاد المعاد (3/ 470)، وذكره الهيثمي في المجمع (6/ 184)، والحافظ في الإصابة (2/ 161)، والسيوطي في الخصائص (2/ 94 - 95) وعزاه لأبي القاسم البغوي وأبي نعيم وابن عساكر، وانظر: مرويات غزوة حنين (1/ 167 - 169) .. ولا يصح في سبب إسلامه شيء من الروايات.

ص: 381

فأعطى مائةً من الإبلِ، مائةً من الإبلِ، وأعطى ما مَلأَ بين جَبَلَيْنِ غَنَمًا لرجلٍ، وكان أعطى عيينةَ بنَ حصنٍ مائةً من الإبلِ، والأقرعَ بنَ حابسٍ مائةً من الإبلِ، ولم يُعْطِ العباسَ بنَ مرداسٍ السلميَّ. فغار العباسُ بنُ مرداسٍ السلميُّ وَعَاتَبَ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في شِعْرِهِ المشهورِ وقال له

(1)

:

أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْدِ

بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ

وَالعُبيدُ: فَرَسُهُ. قال:

أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْدِ

بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ

فَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ

يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ

وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا

وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ

كَانَتْ نِهَابًا تَلافَيْتُهَا

بِكَرِّي عَلَى الْمُهْرِ فِي الأَجْرَعِ

وَإِيقَاظِي الْحَيَّ أَنْ يَرْقُدُوا

إِذَا هَجَعَ النَّاسُ لَمْ أَهْجَعِ

وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَإٍ

فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ

إِلَاّ أَفَائِلَ أُعْطِيتُهَا

عَدِيدَ قَوَائِمِهَا الأَرْبَعِ

فقال صلى الله عليه وسلم: «اقْطَعُوا عَنِّي لِسَانَهُ، فَكَمَّلُوا لَهُ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ»

(2)

.

وَلَمَّا أَعْطَى قريشًا ورؤساءَ قبائلِ العربِ وَلَمْ يُعْطِ الأنصارَ شيئًا

(1)

تقدمت هذه الأبيات عند تفسير الآية (41) من سورة الأنفال. وقد وقع فيها شيء من التقديم والتأخير.

(2)

هذا الحديث أصله في صحيح مسلم من غير قوله: (اقطعوا عني لسانه) مسلم في الزكاة، باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه. حديث رقم: (1060)(2/ 737) وهو بالسياق الذي ذكره الشيخ رحمه الله في سيرة ابن هشام ص (1346). وقد ذكره ابن كثير في تاريخه (4/ 359) من طريق موسى بن عقبة وعروة بن الزبير وابن إسحاق.

ص: 382

وَجَدَ الأنصارُ في أنفسِهم موجدةً، وقالوا: يُعْطِي قريشًا الغنائمَ وسيوفُنا تقطرُ من دمائِهم!! فَسَمِعَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بمقالتِهم، فأرسلَ سعدَ بنَ عبادةَ رضي الله عنه يجمعُ له الأنصارَ، فَجَمَعَ له جميعَ الأنصارِ، فأخبرَه أن القومَ اجتمعوا، فجاءهم، قال:«مَا شَيْءٌ سَمِعْتُهُ عَنْكُمْ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ؟» قالوا: وما هو؟ قال: «سَمِعْتُ أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: يُعْطِي قُرَيْشًا وَلَا يُعْطِينَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ، أَوْ كَلَامٌ نَحْوَ هَذَا» فقالوا: قد قال هذا بعضُ سفهائِنا، وأما أهلُ الْحِلْمِ مِنَّا فلم يقولوه. فقال لهم:«يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَاّلاً فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَأَعْدَاءً فَألَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بِي؟» قالوا له: لِلَّهِ المنةُ ولرسولِه صلى الله عليه وسلم. قال: «أَوَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ؟» قالوا: ماذا نقول؟ قال: «لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ: أَلَمْ تَأْتِنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ؟ وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ؟ وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ؟» ثم قال: «يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَلَا يُرْضِيكُمْ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالْبَعِيرِ وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى بُيُوتِكُمْ؟ لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَالأَنْصَارُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَ الأَنْصَارِ» فبكى القومُ حتى أَخْضَلَ الدمعُ لِحَاهُمْ، وقالوا: رَضِينَا يا رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وكانت قِيلَتْ في حنينٍ أشعارٌ، ونحن لَا نريدُ الإكثارَ من إيرادِ الأشعارِ فيها، لكن نذكرُ طرفًا منها، ومن أَشْهَرِ ما قيل في غزوةِ حُنَيْنٍ: شعرُ العباسِ بنِ مرداس السلميِّ رضي الله عنه، يفخرُ بقومِه

(1)

البخاري في المغازي، باب: غزوة الطائف. حديث رقم: (4330)(8/ 47)، وأخرجه في موضع آخر، انظر حديث رقم:(7245)، ومسلم في الزكاة باب: إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه. حديث رقم: (1061)(2/ 738).

ص: 383

بني سُلَيْمٍ، ويذكرُ الفتحَ وَحُنَيْنًا في قصائدِه، ومن ذلك قولُه في رائيتِه المشهورةِ

(1)

:

مَا بَالُ عَيْنِكَ فِيهَا عَائِرٌ سَهِرٌ

مِثْلُ الْحَمَاطَةِ أَغْضَى فَوْقَهَا الشُّفُرُ

عَيْنٌ تَأَوَّبَهَا مِنْ شَجْوِهَا أَرَقٌ

فَالْمَاءُ يَغْمُرُهَا طَوْرًا وَينْحَدِرُ

كَأَنَّهُ نَظْمُ دُرٍّ عِنْدَ نَاظِمَةٍ

تَقَطَّعَ السِّلْكُ مِنْهُ فَهْوَ مُنْتَثِرُ

يَا بُعْدَ مَنْزِلِ مَنْ تَرْجُو مَوَدَّتَهُ

وَقَدْ أَتَى دُونَهُ الصَّمَّانُ فَالْحَفَرُ

دَعْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَهْدِ الشَّبَابِ فَقَدْ

وَلَّى الشَّبَابُ وَزَارَ الشَّيْبُ وَالزَّعَرُ

وَاذْكُرْ بَلَاءَ سُلَيْمٍ فِي مَوَاطِنِهَا

وَفِي سُلَيْمٍ لأَهْلِ الْفَخْرِ مُفْتَخَرُ

قَوْمٌ هُمُ نَصَرُوا الرَّحْمَنَ وَاتَّبَعُوا

دِينَ الرَّسُولِ وَأَمْرُ النَّاسِ مُشْتَجِرُ

لَا يَغْرِسُونَ فَسِيلَ النَّخْلِ وَسْطَهُمُ

وَلَا تَخَاوَرُ فِي مِشْتَاهُمُ الْبَقَرُ

إِلَاّ سَوَابِحَ كَالْعِقْبَانِ مُقْرَبَةً

فِي دَارَةٍ حَوْلَهَا الأَخْطَارُ وَالْعَكَرُ

تُدْعَى خُفَافٌ وَعَوْفٌ فِي جَوَانِبِهَا

وَحَيُّ ذِكْوَانَ لَا مِيلٌ وَلَا ضُجُرُ

الضَّارِبُونَ جُنُودَ الْكُفْرِ ضَاحِيَةً

بِبَطْنِ مَكَّةَ وَالأَرْوَاحُ تُبْتَدَرُ

حَتَّى رَفَعْنَا وَقَتْلَاهُمْ كَأَنَّهُمُ

نَخْلٌ بِظَاهِرَةِ الْبَطْحَاءِ مُنْقَعِرُ

وَنَحْنُ يَوْمَ حُنَيْنٍ كَانَ مَشْهَدُنَا

لِلدِّينِ عِزًّا وَعِنْدَ اللَّهِ مُدَّخَرُ

إِذْ نَرْكَبُ الْمَوْتَ مُخْضَرًّا بَطَائِنُهُ

وَالْخَيْلُ يَنْجَابُ عَنْهَا سَاطِعٌ كَدِرُ

تَحْتَ اللَّوَامِعِ وَالضَّحَاكُ يَقْدُمُنَا

كَمَا مَشَى اللَّيْثُ فِي غَابَاتِهِ الْخَدِرُ

فِي مَأْزِقٍ مِنْ مَجَرِّ الْحَرْبِ كَلْكَلُهَا

تَكَادُ تَأْفُلُ مِنْهُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ

وَقَدْ صَبَرْنَا بِأَوْطَاسٍ أَسِنَّتَنَا

لِلَّهِ نَنْصُرُ مَنْ شِئْنَا وَنَنْتَصِرُ

فَمَا تَرَى مَعْشَرًا قَلُّوا وَلَا كَثُرُوا

إِلَاّ وَأَصْبَحَ مِنَّا فِيهُمُ أَثَرُ

(1)

الأبيات في ابن هشام ص1317 - 1318، والبداية والنهاية (4/ 342 - 343).

ص: 384

وهو في شعره دائمًا يُنَوِّهُ بالضحاكِ بنِ سفيانَ رضي الله عنه، قالوا: لأَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَهُ بمائةِ رجلٍ، وكان عليه لواءُ سُلَيْمٍ، وكانت سُلَيْمٌ أَلْفَ مقاتلٍ، كما بَيَّنَهُ العباسُ بنُ مرداسٍ في شِعْرِهِ حيث يقولُ في عَيْنِيَّتِهِ المشهورةِ

(1)

:

عَفَا مِجْدَلٌ مِنْ أَهْلِهِ فَمُتَالِعُ

فَمَطْلَى أُرَيْكٍ قَدْ خَلَا فَالْمَصَانِعُ

دِيَارٌ لَنَا يَا جُمْلُ إِذْ جُلُّ عَيْشِنَا

رَخِيٌّ وَصَرْفُ الدَّارِ لِلْحَيِّ جَامِعُ

حُبَيِّبَةٌ أَلْوَتْ بِهَا غُرْبَةُ النَّوَى

لِبَيْنٍ فَهَلْ مَاضٍ مِنَ الْعَيْشِ رَاجِعُ

فَإِنْ تَبْتَغِي الْكُفَّارَ غَيْرَ مَلُومَةٍ

فَإِنِّي وَزِيرٌ لِلنَّبِيِّ وَتَابِعُ

دَعَانَا إِلَيْهِمْ خَيْرُ وَفْدٍ عَلَمْتُهُمْ

خُزَيْمَةُ وَالْمُرَّارُ مِنْهُمْ وَوَاسِعُ

فَجِئْنَا بِأَلْفٍ مِنْ سُلَيْمٍ عَلَيْهُمُ

لَبُوسٌ لَهُمْ مِنْ نَسْجِ دَاودَ رَائِعُ

فَجُسْنَا مَعَ الْمَهْدِيِّ مَكَّةَ عَنْوَةً

بِأَسْيَافِنَا وَالنَّقْعُ كَابٍ وَسَاطِعُ

عَلَانِيَةً وَالْخَيْلُ يَغْشَى مُتُونَهَا

حَمِيمٌ وَآنٍ مِنْ دَمِ الْجَوْفِ نَاقِعُ

وَيَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ سَارَتْ هَوَازِنٌ

إِلَيْنَا وَضَاقَتْ بِالنُّفُوسِ الأَضَالِعُ

صَبَرْنَا مَعَ الضَّحَّاكِ لَا يَسْتَفِزُّنَا

قِرَاعُ الأَعَادِي مِنْهُمْ وَالْوَقَائِعُ

أَمَامَ رَسُولِ اللَّهِ يَخْفِقُ فَوْقَنَا

لِوَاءٌ كَخُذْرُوفِ السَّحَابَةِ لَامِعُ

وَلَمْ نُرِدِ الإكثارَ من إيرادِ مَنْ تَكَلَّمَ فيها والذين قالوا شِعْرًا في حُنَيْنٍ غيرَ كثيرٍ.

وَلَمَّا قَسَّمَ صلى الله عليه وسلم غنائمَ حُنَيْنٍ، وَأَعْطَى هذا العطاءَ العظيمَ، وَأَرْضَى الأنصارَ بما أرضاهم به كان (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) خَلَّفَ

(1)

هذه القصيدة ذكرها ابن هشام ص1313 - 1314، ابن كثير في تاريخه (4/ 341) وقد أسقط الشيخ منها هنا - بعد البيت السادس - بيتًا نظرًا لما في معناه من الإيهام. والله أعلم.

ص: 385

على مكةَ عتَّابَ بنَ أَسِيدِ بنِ أَبِي العيصِ بنِ أميةَ رضي الله عنه

(1)

، وكان إِذْ ذاك ابنَ عشرين سنةً.

هذا طرفٌ أَشَرْنَا له من هذه الوقعةِ التي نَوَّهَ اللَّهُ (جلَّ وعلا) بها في كتابِه، ولم نُرِدِ الإطالةَ فيها كثيرًا، وسنرجعُ - إن شاء الله - في اليومِ الآتِي إلى معنَى الآيةِ ونفسرُها؛ لأنا الآن ما ذَكَرْنَا إلا بَسْطَ سببِ نزولِها الذي نَزَلَتْ فيه. وكان بعضُ العلماءِ يقولُ: هذه أولُ آيةٍ نَزَلَتْ من سورةِ براءة. فهذه الآيةُ نَزَلَتْ قَبْلَ أَوَّلِهَا.

يقولُ اللَّهُ جلَّ وعلا: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)} .

اللامُ توطئةُ قسمٍ محذوفٍ، أي: وَاللَّهِ {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ} أيْ: أَعَانَكُمْ على أعدائكم {فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} المواطنُ: جمعُ مَوْطِنٍ، وموطنُ الحربِ معناه مشهدُه وموقفُه، وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعر

(2)

:

وَكَمْ مَوْطِنٍ لَوْلَايَ طِحْتَ كَمَا أَرَى

بِأَجْرَامِهِ مِنْ قُلَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِي

(1)

أورده ابن هشام ص1286، وابن كثير في تاريخه (4/ 325).

(2)

البيت ليزيد بن أم الحكم، وهو في الكتاب (2/ 374)، البحر المحيط (5/ 23)، الدر المصون (6/ 37). وقوله:«طحت» أي: هلكت. والأجرام: جمع جِرْم وهو الجسد. والقُلَّة: ما استدار من رأس الجبل. والنِّيقِ: أعلى الجبل.

ص: 386

أي: كَمْ مَشْهَدِ حَرْبٍ. لقد أعانكم اللَّهُ على أعدائكم في مواقفَ ومشاهدَ عديدةٍ، كما نَصَرَكُمْ يومَ بدرٍ، ويومَ الخندقِ، ويومَ قريظةَ، ويومَ النضيرِ، ويومَ الحديبيةِ، ويومَ فتحِ مكةَ، إلى غيرِ ذلك من المواقفِ التي تَخْرُجُونَ منها وأنتم ظاهرونَ منصورون.

{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} قيل: التقديرُ: في أيام مواطن، ويوم حنين أيضًا، أي: ولقد نصركم يومَ حنينٍ {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} يومَ حنينٍ حِينَ الْتَقَوْا بهوازنَ، وكانوا كَمَنُوا لهم في مضايقِ وادِي حنينٍ ومخارمِه وأحنائِه، ثم شَدُّوا عليهم شدةَ رجلٍ واحدٍ، وكانوا في هذه الوقعةِ قبلَ ملاقاةِ العدوِّ كأن الصحابةَ أُعْجِبُوا بكثرتِهم لأنهم اجْتَمَعَ منهم ذلك اليومَ شيءٌ لم يَجْتَمِعْ مثلُه قَطُّ فيما مَضَى، وقالوا: لن نُغْلَبَ اليومَ مِنْ قِلَّةٍ. فَبَيَّنَ لهم اللَّهُ أن النصرَ من عندِه وحدَه، لا بالعددِ ولا بالعُددِ {وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: آية 126] {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} أُعْجِبْتُمْ بكثرةِ عددِكم وقلتُم: لَنْ نُغْلَبَ اليومَ مِنْ قِلَّةٍ {فَلَمْ تُغْنِ} هي، أي: الكثرةُ التي أَعْجَبَتْكُمْ لم تُغْنِ {عَنْكُمْ شَيْئًا} لم تُفِدْكُمْ ولم تُجْدِكُمْ قَبْلَ أن يُنَزِّلَ اللَّهُ عليكم سكينتَه وينصرَكم. وهذا امتحانٌ من اللَّهِ وابتلاءٌ وبيانٌ لِخَلْقِهِ أن النصرَ بيدِه وحدَه لَا بكثرةِ العددِ ولا بكثرةِ العُددِ؛ ولذا لَمَّا أَمَدَّهُمْ بالملائكةِ بَيَّنَ لهم مع ذلك أن النصرَ به وحدَه، قال:{وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: آية 126]{إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة: آية 25] فلم تَنْفَعْكُمْ ولم تُجْدِ عنكم شيئًا. والعربُ تقولُ: هذا لا يُغْنِي شيئًا، وما أَغْنَى عَنِّي هذا شيئًا. يَعْنُونَ: ما نَفَعَنِي وما أَجْدَانِي.

ص: 387

وقد قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا

(1)

أن أصلَه من الغَنَاءِ بالفتحِ والمدِّ، فالغَنَاءُ في لغةِ العربِ:- كَسَحَابٍ - معناه: النفعُ. ومعنَى (لا يغني عنه) أي: لا يَحْصُلُ له به غَنَاءٌ. أي: نَفْعٌ. وقد قَدَّمْنَا لغاتِ هذه المادةِ مِرَارًا في هذه الدروسِ، وَبَيَّنَّا أن الغَنَاءَ بالفتحِ والمدِّ - غَنَاءٌ كسحابٍ - أن معناه: النفعُ. ومنه قولُ بعضِ شعراءِ بَنِي أسدِ بنِ خزيمةَ

(2)

:

وَقَلَّ غَنَاءً عَنْكَ مَالٌ جَمَعْتَهُ

إِذَا صَارَ مِيرَاثًا وَوَارَاكَ لَاحِدُ

«قَلَّ غَنَاءً عَنْكَ» أي: قلَّ نفعًا لك. تمييزٌ مُحَوَّلٌ عن الفاعلِ.

وأن (الغَنَى) بالمدِّ والقصرِ أنه الإقامةُ في الموضعِ، فالعربُ تقولُ: غَنِيَ بالمكانِ يغنَى به غَنًى - على القياسِ - أي: أقام به. ومنه في هذا المعنَى قولُه تعالى: {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس: آية 24].

والغِنَاءُ - بكسرِ الغينِ والمدِّ إلى الهمزةِ، غِنَاء كَكِتَابٍ - معناه: الألحانُ الْمُطْرِبَةُ، قَبَّحَهَا اللَّهُ.

والغِنى بالكسرِ والقصرِ هو ضِدُّ الفقرِ، والغِنَى بالضمِّ والقصرِ جَمْعُ غُنْيَةٍ، وهو المالُ الذي يَقْتَنِيهِ الإنسانُ فيغتني به في حياتِه.

وَالْغُنَاءُ بضمٍّ فَمَدٍّ لَا أعرفُه في لغةِ العربِ. وهذا معنَى قولِه: {فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} .

{وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} الباءُ بمعنَى (مع)، و (ما) مصدريةٌ. والمعنَى: ضَاقَتْ عليكم الأرضُ مع سَعَتِهَا ورُحْبِهَا،

(1)

مضى عند تفسير الآية (48)، والآية (92) من سورة الأعراف.

(2)

البيت في ديوان الحماسة (2/ 51)، المزهر (2/ 306).

ص: 388

والرُّحْبُ بالضمِّ: هو الاتساعُ، والرَّحْبُ: وَصْفٌ، تقولُ: مكانٌ رَحْبٌ، يعنِي: وَسِيعٌ، وصدرٌ رَحْبٌ أي: وَسِيعٌ. والرُّحْبُ: معناه السعةُ، والرَّحْبُ بالفتحِ المصدرُ، فـ (الباءُ) بمعنى (مع) و (ما) مصدريةٌ. والمعنَى: ضَاقَتْ عليكم الأرضُ في حالِ كونِ ذلك مع سَعَتِهَا وَرُحْبِهَا متلبسةً بسعتها وَرُحْبِهَا. والجارُّ والمجرورُ في موضعِ الحالِ، كقولِك: زُرْتُهُ بثيابِي. أي مع ثيابِي. أي: في حالِ كَوْنِي مُتْلَبِسًا بها. والخائفُ يضيقُ عليه فضاءُ الأرضِ الواسعُ؛ لأن مَنِ اشْتَدَّ خوفُه ضَاقَتِ الأرضُ في عينه وإن كانت طويلةً عريضةً واسعةً، كما قال الشاعرُ

(1)

:

كَأَنَّ بِلَادَ اللَّهِ وَهْيَ عَرِيضَةٌ

عَلَى الْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ كِفَّةُ حَابِلِ

وهذا معنَى: {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} .

{ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} مُوَلِّينَ الأدبارَ مُنْهَزِمِينَ؛ لأنهم أولُ المرةِ في ذلك اليومِ انْهَزَمُوا. وعن سلمةَ بنِ الأكوعِ رضي الله عنه أنه انْهَزَمَ فيمن انْهَزَمَ، وكان لابسًا بُرْدَيْنِ مُتَّزِرًا بأحدِهما مُتْرَدِيًا بالآخَرِ، فلما اشْتَدَّ منهزمًا هاربًا انْحَلَّ الإزارُ الذي يَتَّزِرُ به وعجل عن أن يشده فصار جَامِعًا له بيديه، ومرَّ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذه الحالةِ والنبيُّ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) في غايةِ الثباتِ والطمأنينةِ، فالتفتَ إليه وقال:«رَأَى ابْنُ الأَكْوَعِ فَزَعًا»

(2)

وهو هَارِبٌ، فَرَجَعُوا مُدْبِرِينَ. هذا معنَى قولِه:{ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: آية 25]{مُّدْبِرِينَ} معناه: مُوَلِّينَ عدوَّكم بأدبارِكم، فَارِّينَ منه.

(1)

البيت في القرطبي (8/ 100).

(2)

أخرجه مسلم في الجهاد، باب في غزوة حنين. حديث رقم:(1777)(3/ 1402).

ص: 389

{ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} السكينةُ: فعيلةٌ من السكونِ، ومعناها: الطمأنينةُ والأَمَنَةُ المستوجبانِ لأكملِ الثباتِ {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} [التوبة: آية 26] أي: أَمَنَتَهُ من الخوفِ، وطمأنينتَه في القلوبِ المستوجبةِ لأكملِ الثباتِ على رسولِه محمد صلى الله عليه وسلم حيث كان على بغلتِه الشهباءِ (دُلْدُل) يركضُها إلى نحورِ العدوِّ ويقولُ: «أَقْبِلُوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ

«أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ

أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ»

(1)

{وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي: وَأَنْزَلَ سكينتَه أيضًا على المؤمنين. قال بعضُ العلماءِ: المرادُ بالمؤمنينَ الذين أنزل الله سكينتَه عليهم: مَنْ ثَبَتُوا معه صلى الله عليه وسلم. وقال بعضُ العلماءِ: يدخلُ فيهم الذين رَجَعُوا بعد الفرارِ والهزيمةِ وَقَاتَلُوا معه عَدُوَّهُ. والتحقيقُ: أن اللَّهَ أَنْزَلَ سكينتَه على الجميعِ، الذين بَقُوا معه ولم يَفِرُّوا والذين رجعوا إليه.

واختلف العلماءُ فيمن بَقِيَ معه ولم يَنْهَزِمْ

(2)

، وكان بعضُ العلماءِ يقولُ: عَشَرَةُ رجالٍ أو أحدَ عشرَ رجلاً، وقد ذَكَرْنَاهُمْ، ومن جُمْلَتِهِمْ: شيبةُ بنُ عثمانَ بنِ أبي طلحةَ كان يريدُ الغدرَ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم فَآمَنَ في ذلك الوقتِ، وكان من الثَّابِتِينَ الْمُقَاتِلِينَ مع رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وكثيرٌ من أصحابِ الْمَغَازِي يقولونَ: ثَبَتَ معه

(1)

مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأنعام.

(2)

انظر: ابن هشام ص (1289)، البداية والنهاية (4/ 326، 330)، فتح الباري (8/ 29)، مرويات غزوة حنين (1/ 169 - 184).

ص: 390

نحوٌ من مائةِ رجلٍ أو ثمانينَ. وبعضُ العلماءِ يُوَفِّقُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ يقولُ: أما العشرةُ أو الأحدَ عشرَ فلم يتحركوا، وأما المائةُ أو الثمانونَ فَهُمُ الذين رَجَعُوا بسرعةٍ وحملوا على عَدُوِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ذَكَرُوا أن عَلِيَّ بنَ أبِي طالبٍ رضي الله عنه قَتَلَ ذلك اليومَ أربعينَ رَجُلاً بيدِه، وَذَكَرُوا عن أبِي طلحةَ أنه لَمَّا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ»

(1)

أنه قَتَلَ عشرينَ رجلاً فأخذَ أسلابَهم، وكان عَلِيٌّ رضي الله عنه ذلك اليومَ هو الذي أَسْقَطَ الجملَ الذي عليه رايةُ هوازنَ؛ لأن رايتَهم كانت عند رَجُلٍ على رُمْحٍ طويلٍ راكبٍ على جَمَلٍ أحمرَ، يتقدمُ أمامَ الناسِ، فإذا أَدْرَكَ الناسَ طعنهم بالرمحِ، وإذا فَاتُوهُ رَفَعَ لواءَه على الرمحِ ليراه مَنْ بَعْدَهُ!! فَابْتَدَرَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه ورجلٌ من الأنصارِ فَضَرَبَ عَلِيٌّ الجملَ على عرقوبيه فسقطَ على عَجُزِهِ، فابتدرَ الأنصاريُّ الرجلَ فَأَطَنَّ رِجْلَهُ بنصفِ ساقِه وَانْجَعَفَ عن رَحْلِهِ

(2)

.

ثم إن اللَّهَ قال: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} هذه الجنودُ هي الملائكةُ لم يَرَهَا المؤمنونَ ولكن الكفارَ رَأَوْهَا، فذكر ابنُ عبدِ البرِّ أنه رُوِيَ من طرقٍ كثيرةٍ عن أولادِ أولئك الذين كانوا من الكفارِ شَهِدُوا حُنَيْنًا عن آبائِهم أنهم قالوا: لَقِينَا أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم فَمَا وَقَفُوا لنا حلبَ شاةٍ، فَهَزَمْنَاهُمْ وَاتَّبَعْنَاهُمْ، حتى إذا انْتَهَيْنَا إلى صاحبِ البغلةِ البيضاءِ أو البغلةِ

(1)

مضى قريبًا عند تفسير الآية (25) من هذه السورة.

(2)

أخرجه الواقدي (3/ 902)، والبيهقي في الدلائل (5/ 127)، والطبري في التاريخ (3/ 128)، وذكره ابن هشام ص1289، وابن كثير في تاريخه (4/ 326) وانظر: مرويات غزوة حنين (1/ 164).

ص: 391

الشهباءِ رَأَيْنَا رجالاً بِيضًا على خيلٍ بُلْقٍ وقالوا لنا: «ارْجِعُوا، شَاهَتِ الوجوهُ»

(1)

، وقد كان النبيُّ قال أيضًا هذه الكلمةَ:«شَاهَتِ الْوُجُوهُ، فانْهَزَمُوا» . وجاء من رواياتٍ أُخَرَ أن مالكَ بنَ عوفٍ النَّصْرِيَّ سيدَ هوازنَ أَرْسَلَ عيونًا يَتَجَسَّسُونَ له أخبار النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فجاؤوه وقد انْخَلَعَتْ أوصالُهم. أي: كان ما بينَ عظامِهم مُتَفَكِّكًا. فقالوا: رَأَيْنَا رجالاً بيضًا على خَيْلٍ بلقٍ فما تَمَالَكْنَا أن وَقَعَ بنا ما ترى

(2)

.

وَاللَّهُ (جلَّ وعلا) في هذا القرآنِ العظيمِ ذَكَرَ التأييدَ بجنودِ الملائكةِ في أربعِ سورٍ من كتابِه، في ثلاثةٍ منها يقولُ:{لَّمْ تَرَوْهَا} وفي الرابعةِ لم يَقُلْ: {لَّمْ تَرَوْهَا} .

أما الثلاثُ التي قال فيها: {لَّمْ تَرَوْهَا} فمنها: الملائكةُ الذين نَزَلُوا في غزوةِ الخندقِ - غزوةِ الأحزابِ - الآتِي ذِكْرُهُمْ في قولِه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: آية 9].

الثانيةُ: الملائكةُ الْمُنَزَّلُونَ في غزوةِ حنينٍ هذه، المذكورونَ في قولِه:{ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} [التوبة: آية 26].

(1)

أخرجه الطبري في التفسير (14/ 186، 188)، وذكره ابن عبد البر في الدرر في اختصار المغازي والسير ص168، وانظر: مرويات غزوة حنين (1/ 208 - 209).

(2)

أخرجه الواقدي في المغازي (3/ 892)، وابن سعد في الطبقات (2/ 108)، والطبري في التاريخ (3/ 127)، وذكره ابن هشام في السيرة، وابن القيم في الهدي (3/ 467)، وابن كثير في تاريخه (4/ 323)، وابن الأثير في الكامل (2/ 178).

ص: 392

الثالثةُ: الملائكةُ الذين نَزَلُوا بِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم يومَ دَخَلَ في الغارِ هو وصاحبُه، وسيأتِي بَسْطُ قِصَّتِهِمْ - إن شاء الله - في هذه السورةِ الكريمةِ سورةِ براءةٍ، وذلك في قولِه:{إِلَاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} [التوبة: آية 40] فَفِي هذه المواضعِ الثلاثةِ كُلِّهَا يقيدُ بـ (لَمْ تَرَوْهَا)، (لَمْ تَرَوْهَا) لأنه يُنْزِلُ ملائكةً لَا يراهم بنو آدمَ؛ لأنهم ليسوا من شَكْلِهِمْ ولا من جِنْسِهِمْ حتى يَرَوْهُمْ.

وفي الموضعِ الرابعِ لم يُقَيِّدْ بقولِه: (لَمْ تَرَوْهُمْ) وهو الملائكةُ النازلونَ يومَ بدرٍ، المذكورونَ في الأنفالِ وآلِ عمرانَ، حيث قال اللَّهُ في الأنفالِ:{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرَّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} الآية [الأنفال: آية 13]. وَذَكَرَهُمْ أيضًا في سورةِ آلِ عمرانَ في قولِه: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ

} إلى قولِه: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)} [آل عمران: الآيتان 123، 124] وقد قَدَّمْنَا في سورةِ الأنفالِ

(1)

أن أَظْهَرَ الأقوالِ أن الملائكةَ قَاتَلَتْ يومَ بدرٍ، وأنها لم تُقَاتِلْ في غيرِها بل تأتِي لِتَجْبِينِ الكفارِ وتقويةِ قلوبِ المؤمنينَ وَنُصْرَتِهِمْ، هذا هو الظاهرُ، وقد ذَكَرَ (جل وعلا) فَرْقًا شَاسِعًا بَيْنَ مَنْ يَفِرُّ في غزوةِ بدرٍ وَمَنْ فَرَّ في غيرِها؛ لأنه شَدَّدَ غايةَ التشديدِ فيمن يَفِرُّ فِي غزوةِ بَدْرٍ كما تَقَدَّمَ في قولِه:{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَاّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ} [الأنفال: آية 16] بهذا التشديدِ العظيمِ، ولم يَقُلْ مثلَ هذا فِيمَنِ انهزمَ من الصحابةِ يومَ

(1)

مضى عند تفسير الآية (9) من سورة الأنفال ..

ص: 393

أُحُدٍ، ولا فيمن انْهَزَمَ منهم يومَ حُنَيْنٍ؛ لأن بعضَ الصحابةِ انْهَزَمُوا يومَ أُحُدٍ، وبعضُهم لم يرجعوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} ثم قال: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: آية 155] ثم قال هنا: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة: آية 27] فَأَشَارَ إلى أنه تَابَ عليهم من هزيمتِهم.

وهذا معنَى قولِه: {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وهم هوازنُ، عَذَّبَهُمْ بأيدِي المؤمنينَ حيث قَتَلُوهُمْ قَتْلاً وَجِيعًا وَأَسَرُوهُمْ وَأَخَذُوا أولادَهم ونساءَهم وأموالَهم مِصْدَاقًا لقولِه:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14)} [التوبة: آية 14]{وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الذين كانوا يقاتلونَ النبيَّ وأصحابَه كهوازنَ {وَذَلِكَ} العذابُ {جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: آية 26] ثم اللَّهُ تعالى قال: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة: آية 27] قال بعضُ العلماءِ: {يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} يدخلُ فيه المنهزمونَ الذين انهزموا عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَنْ رَجَعَ منهم وَكَرَّ ومَنْ لَمْ يَرْجِعْ. قالوا: ويدخل فيه الكافرونَ الذين قال اللَّهُ: {وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: آية 26] لأَنَّ كثيرًا منهم تَابُوا فَتَابَ اللَّهُ عليهم. وقد كان رئيسُ هوازنَ مالكُ بنُ عوفٍ رضي الله عنه أَسْلَمَ وكان من أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لَمَّا انْهَزَمَتْ هوازنُ رَاحَ مع فَلِّ الطائفِ - والفَلُّ هو بقيةُ الْمُنْهَزِمِينَ - وَتَحَصَّنَ بحصنِ الطائفِ، فَأَرْسَلَ إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم سِرًّا: أنه إِنْ قَدِمَ إليه رَدَّ إليه أهلَه وولدَه وأعطاه. فَخَافَ إن أَعْلَمَ ثَقِيفًا بذلك أن يَمْنَعُوهُ، فأمر أن يُرْحَلَ جَمَلُهُ في مَحَلٍّ عَيَّنَهُ لهم،

ص: 394

ثم جاءه مُخْتَفِيًا، وَسَارَ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وجاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم مُسْلِمًا فَأَكْرَمَهُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَدَّ إليه أهلَه وولدَه، وأعطاه مائةً من الإبلِ كما أَعْطَى الْمُؤَلَّفِينَ.

وقد كان مالكُ بنُ عوفٍ سَيِّدُ هوازنَ مَدَحَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ببعضِ أشعارِه، ومن ذلك قولُه لَمَّا رَدَّ له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَا رَدَّ له وأعطاه مائةً من الإبلِ

(1)

:

مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ بِمِثْلِهِ

فِي النَّاسِ كُلِّهِمُ بِمِثْلِ مُحَمَّدِ

هذا يمدحُه به رئيسُ الذين كانوا أعداءَه بالأمسِ يقاتلونَه، رَجَعَ في هذا الزمنِ القريبِ إلى مَدْحِهِ والثناءِ عليه هذا الثناءَ الجميلَ:

مَا إِنْ رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ بِمِثْلِهِ

فِي النَّاسِ كُلِّهِمُ بِمِثْلِ مُحَمَّدِ

أَوْفَى وَأَعْطَى لِلْجَزِيلِ إِذَا اجْتُدِي

وَمَتَى تَشَأْ يُخْبِرْكَ عَمَّا فِي غَدِ

(2)

وَإِذَا الْكَتِيبَةُ عَرَّدَتْ أَنْيَابُهَا

بِالسَّمْهَرِيِّ وَضَرْبِ كُلِّ مُهَنَّدِ

فَكَأَنَّهُ لَيْثٌ عَلَى أَشْبَالِهِ

وَسْطَ الْهَبَاءَةِ خَادِرٌ فِي مَرْصَدِ

وهذا معنَى قولِه: {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: آية 26] فَقَسَّمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم غنائمَ هوازنَ بَعْدَ أن رَدَّ إليهم أولادَهم ونساءَهم، قَسَّمَ غنائمَهم بالجعرانةِ في ذي القعدة عامَ ثَمَانٍ - ثم إنه أَحْرَمَ بعد أن قَسَّمَهَا بعمرةٍ

(3)

- من الهجرةِ.

(1)

هذا الخبر مع الأبيات أخرجه البيهقي في الدلائل (5/ 198)، وأورده ابن هشام ص1343، وابن كثير في تاريخه (4/ 361). وانظر: مرويات غزوة حنين (2/ 469).

(2)

معلوم أنه لا يعلم ما في غد إلَاّ الله تعالى.

(3)

عمرته صلى الله عليه وسلم بعد قسم غنائم حنين خرَّج حديثها البخاري في صحيحه، كتاب العمرة باب: كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم؟ حديث رقم: (1778)(3/ 600)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث رقم:(1779، 1780، 3066، 4148)، ومسلم في الحج، باب بيان عدد عمر النبي صلى الله عليه وسلم وزمانهن. حديث رقم:(1253)(2/ 916) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

ص: 395

وكانت في السبايا التي جِيءَ بها رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الشيماءُ بنتُ الحارثِ بنِ عبدِ الْعُزَّى، أُمُّهَا حليمةُ السعديةُ، أختُ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم من الرضاعةِ، كانت تقولُ لهم: مَهْلاً عَلَيَّ لَا تُزْعِجُونِي فإني أختُ صاحبِكم من الرضاعةِ، فلما جاءت أَخْبَرَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهَا عن العلامةِ فقالت له: عَضَّةٌ عَضَضْتَنِيهَا فِي كَتِفِي وَأَنَا مُتَوَرِّكَتُكَ. فعرف صلى الله عليه وسلم العلامةَ فبسط لها رداءَه وأجلسَها عليه وأكرمَها غايةَ الإكرامِ، وَخَيَّرَهَا أن تبقَى معه محببةً مكرمةً أو أن يردَّها إلى أهلِها ويمتعَها. فاختارت الردَّ إلى أهلها فَمَتَّعَهَا. كانوا يقولونَ: من جملةِ ما أعطاها جَارِيَةٌ وَغُلَامٌ، زَوَّجَتِ الغلامَ من الجاريةِ، قالوا: وكان عقبهما فيهم لا يكادُ ينقطع

(1)

. وهذا من كرمِه ووفائِه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، فإن الإنسانَ إذا استعرضَ شيئًا من سِيرَتِهِ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) رأى العظمةَ الهائلةَ من الشجاعةِ الكاملةِ، والحلمِ الكاملِ، والكرمِ الكاملِ، والوفاءِ الكاملِ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه). وهذا معنَى قولِه:{ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة: آية 27] على مَنْ يشاءُ أن يتوبَ عليه، وهذه يُفْهَمُ منها أنه تعالى تَابَ على الذين انْهَزَمُوا وإن لم يُصَرِّحْ بها. أما الذين انْهَزَمُوا

(1)

أخرجه الواقدي (3/ 913)، والبيهقي في دلائل النبوة (5/ 199، 200)، والطبري في تاريخه (3/ 131)، وابن عبد البر في الاستيعاب (4/ 344)، وأورده ابن حزم في جوامع السيرة ص245، وابن هشام ص1306، وابن كثير في تاريخه (4/ 363) وابن الأثير في أُسد الغابة (5/ 257)، (7/ 167)، والكامل (2/ 180)، والحافظ في الإصابة (3/ 456)، (4/ 344)، وانظر: مرويات غزوة حنين (1/ 265).

ص: 396

يومَ أُحُدٍ فقد صَرَّحَ بأنه تابَ عليهم في قولِه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: آية 155].

وقولُه هنا: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} التوبةُ تُطْلَقُ من اللَّهِ على عبدِه، ومن العبدِ إلى رَبِّهِ، فإذا أُطْلِقَتِ التوبةُ من العبدِ إلى رَبِّهِ عُدِّيَتْ بـ (إلى) ولم تُعَدَّ بـ (على) تقولُ: تُبْتُ إلى اللَّهِ. ولا تقولُ: تُبْتُ على اللَّهِ. وإذا تَوَجَّهَتْ من الربِّ إلى عبدِه عُدِّيَتْ بـ (على) تقولُ: تَابَ اللَّهُ عليه. ولم تَقُلْ: تَابَ إليه. أما التوبةُ الواقعةُ من المخلوقينَ فإن الوصفَ منها يُطْلَقُ على (تَائِبٍ) وعلى (تَوَّابٍ) بصيغةِ المبالغةِ. أما توبةُ اللَّهِ على عَبْدِهِ فلم يَأْتِ الوصفُ منها إلا على (تَوَّابٍ).

وقد قَدَّمْنَا مِرَارًا

(1)

أن توبةَ العبدِ إلى رَبِّهِ المستوجبةِ لتوبةِ اللَّهِ على عَبْدِهِ أنها واجبةٌ فَوْرًا مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، وأن مَنْ أَخَّرَهَا كان ذلك ذَنْبًا تَجِبُ منه التوبةُ.

وقد قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا

(2)

أن في التوبةِ إلى اللَّهِ (جلَّ وعلا) إِشْكَالَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ عندَ العلماءِ:

أحدُهما: إِطْبَاقُ العلماءِ على أن توبةَ العبدِ إلى رَبِّهِ هي مُرَكَّبَةٌ من ثلاثةِ أركانٍ، وهي: إقلاعُه عن الذنبِ إن كان مُتَلَبِّسًا به، وَنَدَمُهُ على ما صَدَرَ منه، ونيتُه أن لا يعودَ. فهذه هي الأركانُ التي تتألفُ منها توبةُ العبدِ النصوحُ إلى رَبِّهِ، الذي إذا فَعَلَهَا جاءته توبةُ اللَّهِ؛ لأن

(1)

مضى عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام.

(2)

السابق.

ص: 397

اللَّهَ يتوبُ على مَنْ تَابَ عليه، كما قال (جلَّ وعلا):{تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [التحريم: آية 8] وهم يقولونَ: «عَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبَةٌ»

(1)

. هذا فيه إشكالانِ معروفانِ:

أحدُهما: أن التوبةَ واجبةٌ بإجماعِ العلماءِ فَوْرًا من كُلِّ ذَنْبٍ يُجْتَرَمُ. فعلينا جميعًا إذا صَدَرَ من الواحدِ مِنَّا ذنبٌ أن يرجعَ إلى اللَّهِ ويتوبَ إليه فورًا ولا يؤخرَ التوبةَ من ذلك، فإن أَخَّرَهَا كان تأخيرُها ذَنْبًا يحتاجُ إلى توبةٍ أخرى. والندمُ من أركانِها بالإجماعِ، وركنُ الواجبِ واجبٌ إجماعًا، فالندمُ على الذنبِ واجبٌ؛ لأنه من أركانِ التوبةِ، وركنُ الواجبِ واجبٌ، والإشكالُ هنا في الندمِ؛ لأن المعروفَ أن الندمَ من الانفعالاتِ النفسيةِ والتأثراتِ، لا من الأفعالِ الاختياريةِ كما هو مُشَاهَدٌ، والعلماءُ مُجْمِعُونَ على أنه لا تكليفَ إلا بفعلٍ اختياريٍّ، وأن الانفعالاتِ والتأثراتِ النفسانيةَ لا يَمْلُكُهَا أَحَدٌ، فكيف يُكَلَّفُ بالندمِ ويُوجِبُ عليه وهو انفعالٌ وتأثرٌ نَفْسَانِيٌّ ليسَ تحتَ طاقتِه، وأنتَ تُشَاهِدُ الإنسانَ يُجَاهِدُ نفسَه ليطردَ عنها الندمَ، كالبائعِ المغبونِ يتجلدُ وَيَتَقَوَّى ويريدُ أن لا يندمَ وهو يندمُ غَصْبَ أَنْفِهِ؛ لأنه انفعالٌ وتأثرٌ، كما أن بعضَ الناسِ يريدُ أن يَنْدَمَ ولا يندمُ إذا كان الذنبُ الذي وَقَعَ فيه - والعياذُ بالله - مِمَّا كان يَشْتَهِيهِ جِدًّا، كالذي يظفرُ بِقُبْلَةٍ من امرأةٍ يعشقُها، إذا أخطرَ ذلك على قلبِه يصعبُ عليه أن يندمَ عليه؛ لأنها أُمْنِيَتُهُ التي كان يرجوها فإذا كان الندمُ قد يريدُه الإنسانُ ولا يَجِدُهُ، وقد يدفعُه عنه ولا يندفعُ، وهو انفعالٌ وتأثرٌ نفسانيٌّ فكيف يكونُ ركنًا من أركانِ التوبةِ، ويكونُ واجبًا، ومعلومٌ إجماعُ العلماءِ على أن اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ إلا بِفِعْلٍ؟

(1)

مضى عند تفسير الآية (129) من سورة الأنعام.

ص: 398

هذا الإشكالُ أَجَابَ عنه العلماءُ بأن المرادَ بإيجابِ الندمِ هو إيجابُ الأخذِ في أسبابِه؛ لأن الإنسانَ إذا أَخَذَ بأسبابِ الندمِ أَخْذًا صحيحًا ولم يُحَابِ نفسَه لَا بد أن يندمَ، وَمَنْ كانت أسبابُه الموصلةُ إليه متيسرةً في طوعِ المكلفِ فكأنه مُتَيَسِّرٌ في طاقةِ المكلفِ؛ لأن الإنسانَ إذا أَخَذَ نفسَه أَخْذًا حَقِيقِيًّا وعرَّفها في داخلِ قرارةِ نفسِه أنه لا يوجدُ في الدنيا إنسانٌ يَبْلُغُ من الْبَلَهِ والتغفيلِ ما يستلذُّ به طعامًا أو شرابًا حُلْوًا وفيه سُمٌّ قَاتِلٌ؛ لأن عامةَ العقلاءِ لَا يحبونَ الطعامَ الحلوَ ولا الشرابَ الحلوَ ولو كان في غايةِ اللذاذةِ والحلاوةِ إذا كان في داخلِه سمٌّ فَتَّاكٌ قَاتِلٌ، هذا يعافُه جميعُ الناسِ ويكرهونَه، ولا شَكَّ أن حلاواتِ المعاصِي ولذاذاتِها عند الجَهَلَةِ، وإنما هي منطويةٌ عليه من السمِّ القاتلِ الفتاكِ، وهو سَخَطُ خالقِ السماواتِ والأرضِ وغضبُه، أن العاقلَ إذا تَأَمَّلَ في هذا تَأَمُّلاً حقيقيًّا ولم يُحَابِ نفسَه وأخذَها بالتحقيقِ لا بد أن يندمَ؛ لأن الإنسانَ لو نَالَ ما نَالَ من حلاوةِ الذنبِ فهو يعلمُ أن تلك الحلاوةَ منطويةٌ على أَشَدِّ السمومِ وَأَفْتَكِهَا وهو سخطُ خالقِ السماواتِ والأرضِ وغضبُه؛ لأنه قد يستوجبُ هلاكَه في الدنيا وعذابَه السرمديَّ في الآخرة، وهذا معروف؛ لأنه لا يأخذُ الإنسانَ في أسبابِ الندمِ أَخْذًا صحيحًا حَقِيقِيًّا ويعرفُ عواقبَ الذنبِ وسرعةَ انقضاءِ حلاوتِه.

فَلَا تَقْرَبِ الأَمْرَ الْحَرَامَ فَإِنَّمَا

حَلَاوَتُهُ تَفْنَى وَيَبْقَى مَرِيرُهَا

(1)

****

****

تَفْنَى اللَّذَاذَةُ مِمَّنْ نَالَ صَفْوَتَهَا

مِنَ الْمَعَاصِي وَيَبْقَى الإِثْمُ وَالْعَارُ

تَبْقَى عَوَاقِبُ سُوءٍ مِنْ مَغَبَّتِهَا

لَا خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا النَّارُ

(2)

(1)

البيت في تاريخ دمشق (14/ 334) ونسبه للحسين بن مطير.

(2)

البيتان في الآداب الشرعية (2/ 227)، شعر الدعوة الإسلامية في عهد النبوة والخلفاء الراشدين ص516، وقد نسبها بعضهم لعثمان بن عفان رضي الله عنه.

ص: 399

فَمَنْ عَرَفَ حقارةَ لذةِ المعصيةِ وشدةَ السمومِ الفتاكةِ المنطويةِ عليها، وَأَعْمَلَ عقلَه [إعمالاً]

(1)

صحيحًا لا بد أن يندمَ، فَلَمَّا كانت الأسبابُ الموصلةُ إلى الندمِ متيسرةً لَا يعجزُ عنها إلا مَنْ حَابَى نفسَه ولم يستعمل أسبابَ الندمِ صارَ الندمُ كأنه في طوقِ الإنسانِ.

الإشكالُ الثانِي: هو ما ذَكَرَهُ العلماءُ في الإقلاعِ؛ لأن الإقلاعَ عن الذنبِ والكفَّ عن شَرِّ الذنبِ، وعدمَ التمادِي فيه، هذا ركنٌ من أركانِ التوبةِ، فَلَا توبةَ مع عدمِ الإقلاعِ؛ لأَنَّ المتلبسَ بالذنبِ الذي لم يُقْلِعْ عنه لَا توبةَ له بإجماعِ العلماءِ، والإشكالُ في هذا أن بعضَ الناسِ يتوبُ مع تعذرِ الإقلاعِ عليه، كالذي كان ينشرُ بدعةً من البدعِ حتى طَارَتْ في أقطارِ الدنيا، وصار يُعْمَلُ بها في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها، ومعلومٌ أن مَنْ سَنَّ سُنَّةً سيئةً فَعَلَيْهِ وزرُها ووزرُ مَنْ عَمِلَ بها إلى يومِ القيامةِ، لَا ينقصُ ذلك من أوزارِهم شيئًا. ثم إنه نَدِمَ على بدعتِه وأرادَ الإقلاعَ والرجوعَ عنها، لَكِنَّ شَرَّهُ منتشرٌ مستطيرٌ في أقطارِ الدنيا؛ لأن البدعةَ التي بَثَّ وهي إلى الآن في أقطارِ الدنيا يَتَنَاقَلُهَا الناسُ بعضُهم عن بعضٍ، وَيُضِلُّونَ بها بعضَهم عن بعضٍ، فهل نقولُ: هذا مُقْلِعٌ؛ لأنه فَعَلَ غايةَ ما يستطيعُ، أو نقولُ: ليس بِمُقْلِعٍ؛ لأن فسادَه لم يَزَلْ فهو منتشرٌ في أقطارِ الدنيا الآنَ؟

وَمِنْ هذا القبيلِ: مَنْ غَصَبَ أرضًا، كأن غَصَبَ أرضًا مثلاً عشرينَ مِيلاً في عشرينَ ميلاً وهو جالسٌ في وسطِها، ثم إنه نَدِمَ على

(1)

في الأصل: تعميلاً.

ص: 400

الغصبِ وأرادَ أن يخرجَ من الأرضِ المغصوبةِ نَادِمًا، الزمنُ الذي يمكثُه قبلَ أن يخرجَ منها لو أدركَه الموتُ وهو فيها هل نقولُ: هل هذا تائبٌ؛ لأنه فَعَلَ غايةَ ما يستطيعُ؟ أو نقولُ: لَمْ يُقْلِعْ؛ لأنه إلى الآن لم يَتَخَلَّ عن الشيء الذي غَصَبَهُ، بل هو في حوزتِه إلى الآن؟ وهو يشغلُه بجسمِه؟ ومن هذا المعنَى: مَنْ رَمَى إنسانًا مِنْ بَعِيدٍ بسهمٍ ثُمَّ لَمَّا فَارَقَ السهمُ نَدِمَ والسهمُ في الهواءِ فتابَ إلى اللَّهِ (جلَّ وعلا) والسهمُ في الهواءِ، ثم بعدَ أن تَابَ أَصَابَ السهمُ في الرميةِ فَقَتَلَهُ، هل نقولُ: هو تائبٌ؛ لأنه فَعَلَ في ذلك الوقتِ ما يستطيعُ، أو نقولُ: ليسَ بِتَائِبٍ؛ لأن فسادَه منتشرٌ، وَأَثَرُ جريمتِه بَاقٍ لم يَنْقَطِعْ؟ هذه مسائلُ اختلفَ فيها علماءُ الأصولِ حولَ الإقلاعِ عن الذنبِ في التوبةِ

(1)

. والمحققونَ مِنْ علماءِ الأصولِ أن الإنسانَ إذا فَعَلَ غايةَ ما في وِسْعِهِ وَنَدِمَ على ما صَدَرَ منه أن اللَّهَ يغفرُ له بذلك ويتوبُ عليه؛ لأن اللَّهَ يقولُ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا} [البقرة: آية 286] وهذا معنَى قولِه: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} مفعولُ المشيئةِ محذوفٌ، أي: ويتوبُ اللَّهُ على مَنْ يشاءُ أن يتوبَ عليه {وَاللَّهُ} (جلَّ وعلا){غَفُورٌ رَّحِيمٌ} كثيرُ المغفرةِ والرحمةِ لعبادِه؛ لأَنَّ اللَّهَ غفورٌ رحيمٌ، فقد جاء في غزوةِ حُنَيْنٍ هذه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى امرأةً من السَّبْيِ تَصِيحُ تطلبُ ولدَها وهي في غايةِ التشويشِ إليه حتى وَجَدَتْهُ فَجَعَلَتْ تُقَبِّلُهُ وَتَضُمُّهُ إليها من شدةِ شَفَقَتِهَا عليه، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأصحابِه:«أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا هَذَا فِي النَّارِ؟» قالوا: لَا. قال: «ولِمَ؟» قالوا: لشفقتها عليه.

قال: «اللَّهُ أَرْحَمُ بِكُمْ مِنْ هَذِهِ

(1)

راجع ما سبق عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام.

ص: 401

بِوَلَدِهَا»

(1)

. فالله (جلَّ وعلا) أَرْحَمُ من كُلِّ شيءٍ:

فَلَوْ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا طَغَى

وَقَالَ عَلَى اللَّهِ إِفْكًا وَزُورَا

أَنَابَ إِلَى اللَّهِ مُسْتَغْفِرًا

لَمَا وَجَدَ اللَّهَ إِلَاّ غَفُورَا

(2)

الذين قالوا إن اللَّهَ ثالثُ ثلاثةٍ فجاؤوا بأشنعِ كُفْرٍ كيفَ يستعطفُهم اللَّهُ ويقولُ لهم: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (74)} [المائدة: آية 74] هذا الاستعطافُ والكلامُ اللَّيِّنُ العظيمُ في الاستعطافِ والوعدِ بالمغفرةِ للذين قالوا: إن اللَّهَ ثالثُ ثلاثةٍ يدلُّ على عظمةِ رحمةِ اللَّهِ وسعةِ مغفرتِه (جل وعلا): {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: آية 38] كائنًا ما كان من شدةِ رحمةِ اللَّهِ ومغفرتِه.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: الآيتان 28، 29].

يقول اللَّهُ جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)} [التوبة:

(1)

البخاري في الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، حديث رقم:(5999)(10/ 426)، ومسلم في التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى، وأنها سبقت غضبه، حديث رقم:(2754)(4/ 2109).

(2)

مضى عند تفسير الآية (67) من سورة الأنفال.

ص: 402

آية 28] هذه مِمَّا كان ينادي به عَلِيُّ بنُ أبِي طالبٍ رضي الله عنه في مواسمِ عامِ تِسْعٍ، ولم يَحُجَّ بعدها مُشْرِكٌ، ولم يَطُفْ بالبيتِ عُرْيَانٌ، خَاطَبَ اللَّهُ عبادَه في هذه الآيةِ الكريمةِ باسمِ الإيمانِ ليكونَ ذلك أَدْعَى وأبعثَ على الامتثالِ، آمِرًا لهم أن يُبْعِدُوا الكفارَ عن مسجدِه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} صَرَّحَ في هذه الآيةِ الكريمةِ بأن المشركينَ نَجَسٌ، والنجسُ أصلُه مصدرُ نَجِسَ الشيءُ ينجسُ نَجَسًا فهو نَجِسٌ بفتحٍ فكسرٍ، أصلُه مصدرٌ. وهذا من النعتِ بالمصدرِ، والمصدرُ إذا نُعِتَ به أُفْرِدَ وَذُكِّرَ، تقولُ: مشركٌ نَجَسٌ، ومشركة نَجَسٌ، ومشركانِ نَجَسٌ، ومشركاتٌ نَجَسٌ، ومشركونَ نَجَسٌ. تطلقُه بالإفرادِ على الواحدِ والاثنين والجمعِ من الذكورِ والإناثِ.

قال بعضُ العلماءِ: هي نجاسةٌ كالنجاسةِ الحسيةِ، ولذا قال بعضُ العلماءِ: ذَاتُ المشركِ نَجِسٌ كالكلبِ والخنزيرِ. وعن الحسنِ البصري رحمه الله: مَنْ صَافَحَ مُشْرِكًا فَلْيَتَوَضَّأْ

(1)

.

وجماهيرُ العلماءِ - وهو الصوابُ إن شاء اللَّهُ - على أن النجاسةَ في هذه الآيةِ الكريمةِ معنويةٌ، فهو نَجِسٌ مَعْنًى، والمعنَى أعظمُ من الحسِّ؛ لأن شِرْكَهُ بِاللَّهِ أنتنُ شيءٍ وأقذرُه وأنجسُه، وكان بعضُ العلماءِ يقولُ: نجاستُه أيضًا لأنه لم يَتَطَهَّرْ من جنابةٍ، ولم يَتَوَضَّأْ ولم يَجْتَنِبْ شيئًا من القاذوراتِ والأنجاسِ، فهو ملازمٌ للنجاسةِ. وأكثرُ العلماءِ على أن الكافرَ الذي لم يَتَلَبَّسْ بَدَنُهُ بنجاسةٍ أن نجاستَه معنويةٌ لَا حسية، وأنه لأَجْلِ هذه النجاسةِ المعنويةِ أَمَرَ اللَّهُ أن يُبْعَدَ عن المسجدِ الحرامِ ولَا يَقْرُبَ منه.

(1)

أخرجه ابن جرير (14/ 192).

ص: 403

قال عطاءٌ رحمه الله وغيرُ واحدٍ من العلماءِ: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: آية 28] المرادُ بالمسجدِ الحرامِ: الحرمُ كُلُّهُ

(1)

، أي: لَا يَقْرَبِ المشركونَ حَرَمَ اللَّهِ كُلَّهُ، بل يجبُ إبعادُهم عن الحرمِ وعدمُ قُرْبَانِهِمْ إياه. وهذا القولُ هو الحقُّ والصوابُ - إن شاء الله -

(1)

السابق.

ص: 404

لأنه دَلَّ استقراءُ القرآنِ العظيمِ على أن اللَّهَ يُطْلِقُ المسجدَ الحرامَ على جميعِ الحرمِ، وهذه الآيةُ من جملةِ الآياتِ التي أَطْلَقَ فيها المسجدَ الحرامَ وأرادَ الْحَرَمَ كُلَّهُ، كقولِه:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: آية 1] والصحيحُ أن الإسراءَ وَقَعَ به من بيتِ أُمِّ هَانِئٍ بنتِ أبي طالبٍ في مكةَ في الحرمِ لَا في نفسِ المسجدِ، وقد قَدَّمْنَا في الآياتِ الماضيةِ قولَه:{إِلَاّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة: آية 7] والمعاهدةُ في طرفِ الحرمِ من الحديبيةِ، فهذه الآياتُ دَلَّتْ على أن مَنْعَ الكفارِ والمشركينَ من القربانِ عَامٌّ لجميعِ الحرمِ لَا لخصوصِ المسجدِ وحدَه، خلافًا لمن قَامَ مَعَ اللفظِ.

والفاءُ في قولِه: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} دَلَّ مَسْلَكُ الإيماءِ والتنبيهِ مِنْ مَسَالِكِ العلةِ في الأصولِ على أنها أداةُ تعليلٍ، وكذلك قُرِّرَ في الأصولِ أن الفاءَ من حروفِ التعليلِ

(1)

، كقولِهم: سَهَى فَسَجَدَ. أي: لعلةِ سَهْوِهِ. وَسَرَقَ فَقُطِعَتْ يدُه. أي: لعلةِ سرقتِه. وأساءَ فَأُدِّبَ. أي: لعلةِ إساءتِه. {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: آية 28] لعلةِ نجاستِهم التي يجبُ أن تُبْعَدَ من المسجدِ ويُتَوَقَّى إياها. والحاصلُ أن الصحيحَ - إن شاء الله - أنه لَا يجوزُ أن يدخلَ جميعَ حرمِ مكةَ مُشْرِكٌ

(2)

. والصوابُ - إن شاء اللَّه - أنها لا يدخلُها الْكِتَابِيُّونَ من يهودٍ ولا نَصَارَى

(3)

، خِلَافًا لِمَا ذَهَبَ إليه جماعةٌ من العلماءِ، وهو مَرْوِيٌّ عن أبِي حنيفةَ رحمه الله أنه لا مانعَ من دخولِ اليهوديِّ والنصرانيِّ الذميِّ - مثلاً - الحرمَ، بل المسجد. قالوا: لأن اللَّهَ إنما مَنَعَ منه خصوصَ المشركينَ. قالوا: وأهلُ الكتابِ ليسوا من المشركينَ

(4)

.

واستدلوا بآياتٍ من كتابِ اللَّهِ ظاهرُها المغايرةُ بَيْنَ أهلِ الكتابِ والمشركينَ، كقولِه:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: آية 1] وقولِه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: آية 6] وقولِه: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [آل عمران: آية 186] وقولِه: {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: آية 105] وقولِه: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: آية 82] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ التي عَطَفَ اللَّهُ فيها أهلَ الكتابِ على المشركينَ، قالوا: والعطفُ يَقْتَضِي المغايرةَ، فَدَلَّ أنهم ليسوا من المشركينَ، والتحقيقُ الذي لا شكَّ فيه - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أن أهلَ الكتابِ من المشركينَ، وقد نَصَّ اللَّهُ على أنهم من المشركينَ في هذه الآيةِ الكريمةِ من سورةِ براءة؛ لأنه لَمَّا ذَكَرَ أهلَ الكتابِ وقال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ

(1)

مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة.

(2)

في هذه المسألة انظر: ابن جرير (14/ 191)، القرطبي (8/ 104)، إعلام الساجد للزركشي ص173.

(3)

انظر: المغني (13/ 245).

(4)

مضى عند تفسير الآية (5) من هذه السورة.

ص: 405

وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: آية 29] ثم صَرَّحَ بأن أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ من المشركينَ في قولِه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: الآيتان 30،31] فَصَرَّحَ بأنهم مشركونَ بعدَ أن صَرَّحَ بمنعِ المشركينَ من المسجدِ الحرامِ أَتْبَعَهُ بأن الْكِتَابِيِّينَ من

نفسِ المشركينَ، وهذا بُرْهَانٌ وَاضِحٌ.

وقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا

} [التوبة: آية 31] ومعلومٌ أن الذي اتَّخَذَ الأحبارَ والرهبانَ أربابًا من المشركينَ شِرْكُ رُبُوبِيَّةٍ كما لا يَخْفَى. وسيأتِي في هذه الآياتِ الكريمةِ من سورةِ براءة بيانُ أَنَّ كُلَّ مَنِ اتَّبَعَ تشريعَ أحدٍ ونظامَه واتبعَ تشريعَ الشيطانِ المخالفَ لتشريعِ اللَّهِ كُلٌّ مُتَّبِعٌ لتشريعِ الشيطانِ الذي يشرعه على ألسنةِ أوليائِه تاركًا تشريعَ اللَّهِ الذي شَرَعَهُ على ألسنةِ رُسُلِهِ كافرٌ مُشْرِكٌ بالله

(1)

، كما سَنُوَضِّحُهُ في هذه الآياتِ الآتيةِ. وَمِنْ أصرحِ الأدلةِ عليه أنه لَمَّا وَقَعَتْ تلك المناظرةُ المشهورةُ بينَ حزبِ الرحمنِ وحزبِ الشيطانِ في حُكْمٍ من أحكامِ الحلالِ والحرامِ، وحزبِ الشيطانِ يقولونَ: إن ذلك الحكمَ حلالٌ، ويستدلونَ بوحيٍ شيطانيٍّ، وحزبُ الرحمنِ يقولونَ: إن ذلك الحكمَ حرامٌ. ويستدلونَ بوحيٍ قرآنيٍّ، لَمَّا اخْتَصَمُوا وَأَدْلَى كُلٌّ بحجتِه تَوَلَّى اللَّهُ الفصلَ بينهم فأفتَى بينَهم فتوى سماويةً تُتْلَى قرآنًا في سورةِ الأنعامِ في قولِه:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} يعني الميتةَ؛ لأَنَّ الكفارَ أَوْحَى إليهم الشيطانُ: أن سَلُوا محمدًا عن الشاةِ تصبحُ ميتةً، مَنْ هو الذي قَتَلَهَا؟ فقال لهم:

(1)

مضى عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام.

ص: 406

اللَّهُ قَتَلَهَا. فقالوا: إِذَنْ ما ذَكَّيْتُمُوهُ وذبحتموه بأيديكم حلالٌ، وما ذَبَحَهُ اللَّهُ بيدِه الكريمةِ حرامٌ، فأنتم أحسنُ من اللَّهِ. فهؤلاءِ استدلوا بوحيٍ إبليسيٍّ!! ما ذبحتموه حلالٌ، وما ذَبَحَهُ اللَّهُ حرامٌ، فأنتم إِذَنْ أحسنُ من الله!!

والمسلمونَ استدلوا بوحيٍ قرآنيٍّ، وهو {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}. فلما أَدْلَى كُلٌّ بحجتِه فَصَلَ اللَّهُ بينهم فَأَفْتَى في قولِه:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} منه الميتةُ، أي: وإن زَعَمُوا أنها ذبيحةُ اللَّهِ. ثم قال: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: آية 121] أي: الأكلُ منها فِسْقٌ. ثم قال: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} يعني قولَهم: ما ذبحتموه حلالٌ، وما ذبحه اللَّهُ حرامٌ، فأنتم إِذَنْ أحسنُ من اللَّهِ.

ثم قال، وهو مَحَلُّ الفتيا السماويةِ من رَبِّ العالمينَ:{وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: آية 121] فَصَرَّحَ بأن مَنْ أَطَاعَ تشريعَ الشيطانِ في حِلِّ الميتةِ أنه مشركٌ بربِّ العالمينَ، ولَا شَكَّ أن اليهودَ والنصارى أَطَاعُوا الشيطانَ فيما هو أعظمُ من إباحةِ الميتةِ كما لا يَخْفَى، والشيطانُ عَالِمٌ بأن الذين يَتَّبِعُونَ نظامَه وقانونَه أنهم مشركونَ به، عَالِمٌ هذا في قرارةِ نفسِه، ولكنه في الدنيا يُدَلِّسُ لهم وَيَجْحَدُ، فإذا كان يومَ القيامة الذي تظهرُ فيه الدفائنُ، وَتَبْرُزُ فيه الحقائقُ أوضحَ لهم تَبَرُّؤَهُ من شِرْكِهِمْ به كما سيأتِي في سورةِ إبراهيمَ الخليلِ في الخطبةِ العظيمةِ التي ذَكَرَهَا اللَّهُ عن الشيطانِ، وهي قولُه:{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّنْ سُلْطَانٍ إِلَاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: آية 32] فصرَّح بأنهم كانوا مشركينَ به من قَبْلُ، ولَا شَكَّ أن اليهودَ والنصارى دَاخِلُونَ في

ص: 407

هذا دخولاً أوليًّا، وكذلك قولُه:{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [النحل: آية 100] واليهودُ والنصارى داخلونَ فيهم بلا شَكٍّ، وهذا الشركُ الشيطانيُّ باتباعِ نظامِه وشرعِه هو الذي وَبَّخَ اللَّهُ مرتكبَه في سورةِ (يس)، وَبَيَّنَ مصيرَه النهائيَّ في قولِه:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَاّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي} [يس: الآيتان 60، 61] إلى أن قال مُوَبِّخًا لهم نَاعِيًا عقولَهم: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)} [يس: آية 62] ثم بَيَّنَ مصيرَهم النهائيَّ الأخيرَ في قولِه: {هَذِهِ جَهَنَّمُ

الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ} [يس: الآيتان 63، 64] وهذا الشركُ الشيطانيُّ بالاتباعِ هو الذي نَهَى إبراهيمُ عنه أباه في قولِه: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [مريم: آية 44] وقال تعالى: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ: الآية41] وسيأتِي لهذا المبحثِ زيادةُ إيضاحٍ بالآياتِ القرآنيةِ قريبًا في الآياتِ الآتيةِ - إن شاء اللَّهُ - في الكلامِ على قولِه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: آية 31] فهذه النصوصُ ولا سيما آية براءة هذه التي صَرَّحَتْ أن خصوصَ أهلِ الكتابِ من المشركينَ تَدُلُّ على مَنْعِهِمْ من دخولِ الحرمِ، وما نُقِلَ عن بعضِ العلماءِ وَرُوِيَ عن الإمامِ أبي حنيفةَ من أنهم لا مانعَ من دخولِهم الحرمَ، فيه نَظَرٌ، والأصوبُ والأظهرُ أنهم يُمْنَعُونَ منه؛ لأنهم نَجَسٌ؛ ولأن اللَّهَ صَرَّحَ بأنهم مشركونَ. والتحقيقُ - إن شاء الله - أن المرادَ بالمسجدِ الحرامِ فيها الحرمُ كُلُّهُ، فلَا يجوزُ أن يدخلَ حَرَمَ مكةَ مُشْرِكٌ بِاللَّهِ ولَا كافرٌ، كِتَابِيًّا أو غيرَه، وما رُوِيَ عن جابرٍ رضي الله عنه من أنه خَصَّصَ هذه الآيةَ الكريمةَ وقال: لا يدخلُ فيها العبدُ والأَمَةُ، إذا كان للمسلمِ عَبْدٌ ذِمِّيٌّ أو أمةٌ ذميةٌ

ص: 408

مملوكانِ فلا مانعَ من دخولِهما المسجدِ

(1)

. وَرُوِيَ فيه حديثٌ مرفوعٌ، والتحقيقُ عند الْمُحَدِّثِينَ أن الموقوفَ على جابرٍ هو الأثبتُ الصحيحُ والمرفوعُ ليس بصحيحٍ

(2)

. وقولٌ قاله جابرٌ لا يمكنُ أن يُخَصَّصَ به النصُّ الصريحُ، ولا سيما النص المبني حكمُه على العلةِ؛ لأنه صَرَّحَ بأنهم نجسٌ، وأشار بالفاءِ إلى أن تلك النجاسةَ هي سببُ منعِهم من قربانِ المسجدِ.

وعلى كُلِّ حالٍ فالمشركونَ كعَبَدةِ الأوثانِ أَجْمَعَ جميعُ العلماءِ على مَنْعِهِمْ من دخولِ المسجدِ، واختلفوا في الكتابيِّ وفي غيرِ المسجدِ من سائرِ الْحَرَمِ، وقد بَيَّنَّا أن الصوابَ - إن شاء الله - مَنْعُهُمْ من ذلك كُلِّهِ.

ولو جاءت من المشركينَ رسالةٌ إلى سلطانِ المسلمينَ - وهو بمكةَ - لا يُدْخَلُ الرسولُ، بل يَخْرُجُ إليه خارجَ الحرمِ حتى يسمعَ منه ما يقولُ، ويعطيَه الرَّدَّ خارجَ الحرمِ، أو يرسلَ إليه مَنْ يَنُوبُ عنه في ذلك

(3)

.

قال بعضُ العلماءِ

(4)

- وبه قال جماعةٌ من المالكيةِ - إن الواحدَ منهم إن دَخَلَ مُخْتَفِيًا وماتَ وَدُفِنَ في الحرمِ واطُّلِعَ عليه أنه يُنْبَشُ قبرُه، وَتُخْرَجُ عظامُه من الحرمِ، ولا يُتْرَكُ في حرمِ اللَّهِ؛ لأنه نَجِسٌ قَذِرٌ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - فالتحقيقُ أنه لا يجوزُ أن يدخلَ حرمَ اللَّهِ

(1)

أخرجه ابن جرير (14/ 196) من طريق عبد الرزاق.

(2)

أخرجه أحمد (3/ 339، 392) وقال عنه ابن كثير: «تفرد به الإمام أحمد مرفوعًا، والموقوف أصح إسنادًا» اهـ. تفسير ابن كثير (2/ 346).

(3)

انظر: القرطبي (8/ 104).

(4)

السابق، وانظر: إعلام الساجد للزركشي ص175.

ص: 409

كافرٌ، وأن اللَّهَ نَهَى عن قربانِهم إياها، لا يقربوه فضلاً عن أن يدخلوه.

واختلف العلماءُ في غيرِ المسجدِ الحرامِ من المساجدِ هل يدخلُ الكفارُ المساجدَ غير المسجدِ الحرامِ

(1)

؟ اختلف العلماءُ في ذلك، فذهب مالكٌ رحمه الله وأكثرُ أصحابِه في طائفةٍ من العلماءِ إلى أنه لا يجوزُ أن يدخلَ كافرٌ مسجدًا من مساجدِ اللَّهِ كائنًا مَنْ كان في أي قُطْرٍ [5/أ] من أقطارِ الأرضِ في حَرَمٍ أو حِلٍّ. / واستدلَّ مالكٌ لهذا الحكمِ بأدلةٍ، قالوا: من تلك الأدلةِ أن اللَّهَ (جلَّ وعلا) صَرَّحَ بالعلةِ فقال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} وقد تقررَ في علمِ الأصولِ أن العلةَ تارةً تُعَمِّمُ معلولَها وتارةً تُخَصِّصُهُ

(2)

، وقد جاءت مواضعُ من كتابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رسولِه لَا خِلافَ فيها بَيَّنَ العلماءُ أن العلةَ تُعَمِّمُ معلولَها، قالوا: وَمِنْ أمثلةِ ما تُعَمِّمُ فيه العلةُ معلولَها قولُه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) في حديثِ أبِي بكرةَ الثابتِ في الصحيحِ: «لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ»

(3)

نَصَّ

(4)

النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديثِ الصحيحِ على مَنْعِ علةِ الحاكمِ الغضبانِ من الحكمِ؛ لأَنَّ الغضبَ يشوشُ فِكْرَهُ، فيمنعُه من تَقَصِّي فَهْمِ أقوالِ الخصومِ، وَفَهْمِ ما يحكمُ عليهم به. قالوا: إذا كان الحاكمُ في غايةِ الجوعِ والعطشِ الْمُفْرِطَيْنِ، أو في غايةِ الحزنِ والسرورِ الْمُفْرِطَيْنِ، أو في غايةِ الحقنِ والحقبِ المفرطينِ - والحقنُ: مدافعةُ البولِ. والحقبُ: مدافعةُ الغائطِ - إذا

(1)

انظر القرطبي (8/ 104)، إعلام الساجد ص318.

(2)

مضى عند تفسير الآية (46) من سورة الأنفال.

(3)

مضى تخريجه عند تفسير الآية (50) من سورة الأنعام.

(4)

في الأصل: «هذه الآية الكريمة نص فيها النبي

». وهو سبق لسان.

ص: 410

كان في أَمْرٍ من هذه الأمورِ يشوشُ الفكرَ تشويشًا عظيمًا مثلَ تشويشِ [الغضبِ]

(1)

أو أشدَّ لَا يجوزُ له أن يحكمَ، فتعليلُه بالغضبِ المستلزمِ لتشويشِ الفكرِ عِلَّةٌ عَمَّمَتْ هذا الحكمَ وَعَدَّتْهُ إلى كُلِّ شيءٍ يشوشُ فِكْرِ الإنسانِ.

قالوا: فكذلك قولُه: {نَجَسٌ} قذرٌ، ومعلومٌ أن المساجدَ بيوتُ اللَّهِ، وأن اللَّهَ قال:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: آية 36] وأن شيئًا صَرَّحَ اللَّهُ بأنه نَجَسٌ، ومعلومٌ قذارةُ النَّجَسِ، لا ينبغي أن يُدْخَلَ في بيوتِ اللَّهِ التي أُسِّسَتْ لعبادةِ اللَّهِ وعلى الطهارةِ وعلى تَجَنُّبِ الأقذارِ. هذا من أدلةِ مالكٍ، واستدلَّ الإمامُ مالكٌ أيضًا بما قَدَّمْنَا من آيةِ سورةِ البقرةِ، وهي قولُه تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَاّ خَائِفِينَ} [البقرة: آية 114] قال: معناه لَا يَدْخُلُونَهَا أبدًا إلا خائفينَ من المسلمينَ أن يَطَّلِعُوا عليهم فَيُنَكِّلُوا بهم. فَسَّرَ الآيةَ هذا التفسيرَ، واستدلَّ بعمومِها.

وَذَهَبَ آخرونَ من العلماءِ، منهم الأئمةُ الثلاثةُ إلى أن دخولَ الكافرِ لمسجدٍ غيرِ المسجدِ الحرامِ قالوا: لا مانعَ منه ولا يُمْنَعُ، وبعضُهم يُقَيِّدُ بقولِه: إن دَعَتْ إلى ذلك حاجةٌ، وبعضُهم يُطْلِقُ. واستدلوا على ذلك بأدلةٍ، منها: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم رَبَطَ ثمامةَ بنَ أُثال سيدَ بني حنيفةَ - لَمَّا أُخِذَ أسيرًا - رَبَطَهُ وهو كافرٌ في ساريةٍ من سَوَارِي مسجدِه هذا

(2)

قالوا: وَأَنْزَلَ وَفْدَ نجرانَ فِي المسجدِ وهم

(1)

في الأصل: «الفكر» . وهو سبق لسان.

(2)

البخاري في المساجد، باب الاغتسال إذا أسلم، وربط الأسير أيضًا في المسجد. حديث رقم:(462)(1/ 555) وأطرافه (469، 2422، 2423، 4372).

ص: 411

كفارٌ

(1)

، ومعلومٌ أن في هذا البحثِ مناقشةً، وأن مَنْ قال: يُمْنَعُ دخولُ الكفارِ المساجدَ، أجابوا عن كُلٍّ بجوابٍ، فقالوا في حديثِ ثمامةَ: إنه وَقَعَ قبلَ تحريمِ دخولِ المساجدِ. وجاؤوا بأدلةٍ احْتَجُّوا بها، وحاصلُ ما للعلماءِ فيها هو ما ذَكَرْنَا.

وكان بعضُ العلماءِ يقولُ

(2)

: إذا أَسْلَمَ الكافرُ لَزِمَهُ أن يتطهرَ؛ لأنه نَجَسٌ، وقال بعضُهم: يجبُ على الكافرِ الطهارةُ إذا أَسْلَمَ، قالوا: لأنه لا بد أن تكونَ كانت عليه جَنَابَةٌ. وهذا قال به جماعةٌ من العلماءِ، ويدلُّ له: أَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم ثمامةَ بنَ أُثالٍ الحنفيَّ لَمَّا أَسْلَمَ أن يغتسلَ

(3)

. قالوا: ذَهَبَ إلى حائطِ أبِي طلحةَ واغتسلَ فيه. وقالوا أيضًا: أَمَرَ قيسَ بنَ عاصمٍ لَمَّا أَسْلَمَ أن يغتسلَ بماءٍ وسدرٍ

(4)

. وكان

(1)

خبر قدوم وفد نجران على النبي صلى الله عليه وسلم أورده ابن سعد في الطبقات (1/ 2/84)، وابن هشام في السيرة ص610، وابن كثير في التفسير (1/ 368)، وابن القيم في الزاد (3/ 629). وليس في الخبر أنه أنزلهم المسجد، وإنما دخلوا عليه في المسجد، وأنهم صلوا فيه إلى المشرق.

(2)

انظر: المغني (1/ 274 - 276)، القرطبي (8/ 103).

(3)

أخرجه أحمد (2/ 304، 483)، وعبد الرزاق (6/ 9)، وابن خزيمة (1/ 125)، وابن حبان (2/ 269)، والبيهقي (1/ 171)، وابن الجارود (1/ 24) وأصله في الصحيحين كما في الحديث المتقدم قريبًا وفيه: أنه ربطه بسارية من سواري المسجد. وليس فيه أنه أمره بالاغتسال. وانظر: الإرواء (1/ 164).

(4)

أخرجه أحمد (5/ 61)، وعبد الرزاق (6/ 9)، وأبو داود في الطهارة، باب الرجل يُسْلِمُ فيؤمر بالغسل. حديث رقم:(351)(2/ 19)، والترمذي في الصلاة، باب ما ذكر في الاغتسال عندما يُسْلِمُ الرجل. حديث رقم:(605)(2/ 502)، والنسائي في الطهارة، باب غُسل الكافر إذا أَسْلَمَ. حديث رقم:(188)(1/ 109)، وابن الجارود (1/ 25)، وابن خزيمة (1/ 126)، وابن حبان (2/ 270)، والبيهقي (1/ 171) وانظر: الإرواء (1/ 163).

ص: 412

ابنُ وهبٍ من أصحابِ مالكٍ يقولُ: لَا يجبُ عليه إذا أَسْلَمَ غُسْلٌ؛ لأن الإسلامَ يَجُبُّ كُلَّ شيءٍ قَبْلَهُ، ويَجُبُّ الجناباتِ، وَيجُبُّ كُلَّ شَرٍّ وسوءٍ كان قبلَه. هذا معنَى قولِه:{فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} .

{بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} وعامُهم هذا هو عامُ تسعٍ على التحقيقِ، وَخَالَفَ قومٌ منهم قتادةُ

(1)

وأبو بكر بنُ العربيِّ

(2)

، قالوا: هو عَامُ عَشْرٍ. وقال أبو بكر بن العربيِّ المالكيُّ: عَجَبًا لعاقلٍ يقولُ: إن هذا العامَ عامُ تِسْعٍ!! ونحنُ نقولُ: العجبُ كُلُّ العجبِ من كلامِ ابنِ العربيِّ هذا!! والعامُ بلا شَكٍّ أنه عامُ تِسْعٍ، والإشارةُ بقولِه:{هَذَا} إلى العامِ الذي هُمْ فيه في ذلك الوقتِ الراهنِ، وهو عامُ تسعٍ بلَا نزاعٍ، والذي غَلِطَ في هذا من العلماءِ وقال: هو عامُ عَشْرٍ. الْتَبَسَ عليه ما بَيْنَ المضافِ والمضافِ إليه؛ لأن المضافَ هو لفظةُ (بعد)، والباء والعين والدال {بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} البعديةُ المضافةُ إلى عامِهم هذا، فعامُهم هذا هو عامُ تسعٍ يقينًا لا شَكَّ فيه، وما بعدَ عامِ تسعٍ أولُه عامُ عشرٍ؛ لأن الشيءَ إذا انتهى عامَ تسعٍ فالزمنُ الذي بعدَ انتهائِه يُسَمَّى أنه بَعْدَهُ. فالبعديةُ واقعةٌ بعامِ عَشْرٍ، أما العامُ المذكورُ في قولِه:{عَامِهِمْ هَذَا} المضافُ إليه البعديةُ، فهو عامُ تسعٍ بلا نزاعٍ كما لَا يَخْفَى.

(1)

الرواية التي نقلها ابن جرير (14/ 192) عن قتادة رحمه الله مصرحة بأنه عام تسع. ولعل الشيخ رحمه الله عزا ذلك لقتادة متابعة للقرطبي (8/ 106)، وابن العربي في أحكام القرآن (2/ 915).

(2)

أحكام القرآن (2/ 915).

ص: 413

ثم قال: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وهذه الآيةُ تَدُلُّ على أن الكفارَ يُمْنَعُونَ من الإتيانِ إلى الحرمِ لأن أهلَ مكةَ كانوا في الموسمِ تَحُجُّ إليهم قبائلُ العربِ من أقطارِ الدنيا فيأتونَ بالأموالِ والطعامِ يبيعونَها، فَلَمَّا مُنِعُوا من أن يَحُجُّوا، وَأُمِرَ المشركونَ بتجنبِ الحرمِ، قالوا: مِنْ أينَ نعيشُ؟ كنا نعيشُ مما يأتِي به هؤلاء في مواسمِهم فإنا سَنَفْتَقِرُ، ولن يبقَى لنا شيءٌ نعيشُ به إن مُنِعَ هؤلاء من القدومِ علينا؛ لأنا كنا نعيش بما يُورِدُونَهُ من الأطعمةِ والأموالِ ونحوِ ذلك. فقال لهم اللَّهُ:{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} {خِفْتُمْ} من الخوفِ. أصلُ {خِفْتُمْ} مِنْ خَافَ يَخَافُ.

هذه المادةُ فاؤُها خاءٌ، وعينها واوٌ، ولامُها فَاءٌ، وقد يُشْكِلُ على طالبِ العلمِ مِنْ أينَ جاءت هذه الكسرةُ التي كُسِرَ بها الخاءُ في قولِه:{خِفْتُمْ} مع أن المادةَ من الأجوفِ الواويِّ العينِ. فسببُ كسرِ الخاءِ من قولِه: {خِفْتُمْ} أن مَاضِيَ (خَافَ) أصلُه (خَوِف) بكسرِ الواوِ، قُلِبَتِ الواوُ أَلِفًا فقيلَ فيه:(خاف) والواوُ المبدلةُ من الألفِ أصلُها مكسورةٌ، فإذا بُنِيَ الفعلُ إلى ضميرِ الرفعِ كالتاءِ هنا سَقَطَتِ العينُ بالاعتلالِ وَجُعِلَتْ كسرةُ الواوِ الساقطة بالاعتلالِ نُقِلَتْ إلى الفاءِ ليدلَّ على أن العينَ كانت مكسورةً كما هو مُقَرَّرٌ معلومٌ في فنِّ التصريفِ

(1)

.

وقد ذَكَرْنَا

(2)

أن الخوفَ في لغةِ العربِ هو الغَمُّ من أمرٌ مُسْتَقْبَلٌ. وأن الحزنَ هو الغمُّ من أمرٍ فائتٍ. وربما أَطْلَقَتِ العربُ أحدَهما في موضعِ الآخَرِ كما هو مَعْرُوفٌ.

(1)

مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنفال.

(2)

مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام.

ص: 414

وقولُه: {عَيْلَةً} العيلةُ في لغةِ العربِ: معناها الفقرُ. تقولُ العربُ: عَالَ الرجلُ يَعِيلُ عيلةً. إذا افْتَقَرَ فَقْرًا. فـ (العيلةُ) من أجوفَ يائيِّ العينِ، عَالَ يعيلُ عيلةً إذا افْتَقَرَ. وعالَ يعولُ بالواوِ إذا جَارَ وعدلَ عن الحقِّ. وَذَكَرَ بعضُهم أنه مسموعٌ عن العربِ أيضًا: عَالَ يَعُولُ - بالواوِ - إذا افْتَقَرَ

(1)

. وهو غَرِيبٌ!!

أما (عيلةٌ) فمعناه فَقْرًا. وَعَالَ يعيلُ بمعنَى افْتَقَرَ، وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ أُحَيْحَةَ بنِ الجُلَاحِ الأنصاريِّ

(2)

:

وَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ

وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ

أي: لا يدري الْغَنِيُّ مَتَى يفتقرُ، ومنه بهذا المعنَى قولُ جَرِيرٍ

(3)

:

وَاللَّهُ نَزَّلَ فِي الْكِتَابِ فَرِيضَةً

لَابْنِ السَّبِيلِ وَلِلْفَقِيرِ الْعَائِلِ

وَصَفَهُ بنفسِه توكيدًا لاختلافِ اللفظينِ. فالمعنَى: إِنْ خِفْتُمْ فَقْرًا فسوف يُغْنِيكُمُ اللَّهُ من فضلِه، ولا شكَّ أن اللَّهَ أَغْنَاهُمْ من فضلِه. قال بعضُ العلماءِ: أَغْنَاهُمْ من فضلِه بما فَتَحَ من بابِ الجزيةِ. قالوا: والدليلُ عليه أن الآيةَ التي بعدَها آيةُ الجزيةِ، فَأَخَذَ المسلمونَ الجزيةَ من الكفارِ واستغنَى بها المسلمونَ. وقال بعضُ العلماءِ: أَغْنَاهُمْ بإنزالِ المطرِ، وَأَخْصَبَتِ الأرضُ، فَأَخْصَبَتْ بلادُ اليمنِ، وأخصبت تبالةُ وجُرش، وجلبوا لهم من الطعامِ والودكِ، وأسلمَ قبائلُ العربِ في اليمنِ وفي نَجْدٍ وفِي غيرِه، فكانوا يَحُجُّونَ كُلَّ سنةٍ ويأتونَهم بمثلِ

(1)

انظر: ابن جرير (14/ 193).

(2)

البيت في ابن جرير (14/ 192).

(3)

البيت في ديوانه ص313.

ص: 415

ما كانوا يأتونَهم به من الطعامِ والأموالِ فَأَغْنَاهُمُ اللَّهُ بذلك

(1)

. وهذا معنَى قولِه: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} .

قال بعضُ العلماءِ

(2)

: يُؤْخَذُ من هذه الآيةِ الكريمةِ حُكْمٌ، وهو أن تعلقَ القلبِ بأسبابِ الرزقِ والمعيشةِ لَا ينافِي التوكلَ ولا يقدحُ في توكلِ الإنسانِ؛ لأن هؤلاء القومَ لَمَّا تَخَيَّلَ لهم أن الطريقَ التي كانوا يعيشونَ منها أنها انْقَطَعَتْ بمنعِ المشركينَ من الحجِّ، وَخَافُوا الفقرَ من هذا الطريقِ ما عَنَّفَ اللَّهُ عليهم ولَا عَابَهُمْ بل قَرَّرَهُمْ على ذلك، فقال لهم: إِنْ خِفْتُمُ الفقرَ من هذا الطريقِ، ومن أن السببَ الذي كُنْتُمْ تعيشونَ به أنه انقطعَ فسوفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ بأسبابٍ أُخَرَ. وهذا معنًى معروفٌ، أن الأسبابَ لَا تُنَافِي التوكلَ، فالمسلمُ الذي يعلمُ ما جاءَ عن اللَّهِ يتسببُ ويتعاطَى جميعَ الأسبابِ لحياتِه، ويتسببُ فِي أسبابِ الرزقِ والمعيشةِ على الوجوهِ الشرعيةِ غيرِ الْمُزْرِيَةِ، ومع ذلك فهو مُتَوَكِّلٌ على اللَّهِ، والذي يتركُ جميعَ الأسبابِ ويقولُ: توكلتُ على الله!! هذا مُخَالِفٌ للشرع، مخالفٌ لِمَا جاء عن اللَّهِ، والذي يعتمدُ في كُلِّ شيءٍ على الأسبابِ ولا ينظرُ إلى رَبِّهِ هذا أيضًا ضَالٌّ مُضِلٌّ، والذي يستعملُ الأسبابَ كما شَرَعَهَا له رَبُّهُ، ويكونُ اعتمادُه في الحقيقةِ على رَبِّهِ فهذا هو المؤمنُ.

ألا تَرَوْنَ أن نَبِيَّ اللَّهِ يعقوبَ، وقد قال اللَّهُ فيه:{وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: آية 68] عَلَّمَ أولادَه السببَ في التحرزِ عن العينِ فقال لهم: {يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ} فهذا تَسَبُّبٌ في التحرزِ عن العينِ؛ لأنها تَضُرُّ، ثم صَرَّحَ مع ذلك بتوكلِه الكاملِ على

(1)

هذه المعاني ذكرها القرطبي (8/ 106).

(2)

السابق (8/ 107).

ص: 416

اللَّهِ حيث قَالَ: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: الآية 67] فالأخذُ بالأسبابِ لَا ينافِي التوكلَ كما هو معروفٌ، وقد قال اللَّهُ لمريمَ:{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: آية 25] ولا شَكَّ أنه لو أَرَادَ أن يتساقطَ عليها رُطَبُهَا من غيرِ سببٍ لَتَسَاقَطَ مِنْ غيرِ سببٍ، ولكنه أَجْرَى العادةَ بِأَنْ جَعَلَ للأرزاقِ والمعايشِ والأشياءِ أسبابًا، رَبَطَ بَيْنَ الأسبابِ ومسبباتِها بما شَاءَ بقدرتِه وحكمتِه:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِمَرْيَمَ

وَهُزِّي إِلَيْكِ الْجِذْعَ يَسَّاقَطِ الرُّطَبُ

وَلَوْ شَاءَ أَنْ تَجْنِيهِ مِنْ غَيْرِ هَزِّهِ

جَنَتْهُ وَلَكِنْ كُلُّ شَيْءٍ لَهُ سَبَبُ

(1)

فالأخذُ في الأسبابِ مع مراعاةِ الشرعِ، وتعلقُ القلبِ بِاللَّهِ، وَتَوَكُّلُهُ على اللَّهِ، هذه طريقةُ الأنبياءِ، وَاللَّهُ (جلَّ وعلا) يقولُ:{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ} [المائدة: آية 3] يعنِي: أن مَنِ اضْطُرَّ إلى أَكْلِ الميتةِ أَكَلَ الميتةَ وتسبَّب في إمساكِ رمقِه بأكلِ الميتةِ، ولم يَقُلْ له فَانْتَظِرْ وَتَوَكَّلْ على اللَّهِ حتى ينزلَ لك رزقٌ من السماءِ!! لَمْ يَقُلْ هذا تعليمًا للناسِ بالأخذِ بالأسبابِ، وتعلق قلوبهم بربهم، وتوكلهم عليه. وهذا معنَى قولِه:{فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} إن شاء أن يغنيَكم. فَعَلَّقَ الغِنَى بمشيئتِه، فَلَا يكونُ شيءٌ إلا بمشيئتِه (جلَّ وعلا)؛ لأن الأرزاقَ مقسومةٌ بمشيئتِه (جلَّ وعلا)، فهو الذي تَوَلَّى قسمَها بنفسِه وَلَمْ يَكِلْهُ إلى أَحَدٍ، كما سيأتِي في سورةِ الزخرفِ في الكلامِ على قولِه: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا

(1)

تقدم ذكرهما في الحاشية عند تفسير الآية (73) من سورة الأعراف، والبيتان في المستطرف (2/ 128، 548)، ثمار القلوب في المضاف والمنسوب (1/ 590).

ص: 417

وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: آية 32]{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ} [النحل: آية 71]. هذا معنَى قولِه: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} {إِنَّ اللَّهَ} (جلَّ وعلا){عَلِيمٌ} محيطٌ عِلْمُهُ بِكُلِّ شيءٍ {حَكِيمٌ} في كُلِّ ما يفعلُ، وكلِّ ما يقولُ، وكلِّ ما يَشْرَعُ، فأفعالُه كلُّها فِي غايةِ الحكمةِ، وأقوالُه وتشريعُه وجزاؤُه كلُّه في غايةِ الحكمةِ، هذا معنَى قولِه:{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: آية 28].

قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: الآيات 29 - 31].

يقول الله (جلَّ وعلا): {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} [التوبة: آية 29].

كان الصحابةُ رضي الله عنهم ينتظرونَ نزولَ هذه الآيةِ الكريمةِ بسببِ آيةٍ نَزَلَتْ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم هي من الْمُنْسَأِ الذي قَدَّمْنَاهُ في قولِه: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: آية 106] على

ص: 418

قراءةِ {نَنْسَأها}

(1)

يعني: نُؤَخِّرُهَا؛ لأن اللَّهَ يؤخرُ بعضَ الآياتِ إلى أمدٍ معلومٍ، ثم يأتِي ببدلها، تارةً يأتِي ببدلِها ناسخًا، وتارةً تكونُ مُنسأة لا منسوخةً؛ لأنها كانت مَعْلُومًا أنها مُغَيَّاةٌ بغايةٍ. وإيضاحُ هذا: أن اللَّهَ أَنْزَلَ آياتٍ في أهلِ الكتابِ تَدُلُّ على عدمِ قتالِهم، كقولِه في سورةِ البقرةِ:{وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: آية 109]. {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} أي: عن أهلِ الكتابِ {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} أي: حتى يأتيَكم الأمرُ الأخيرُ من الله. وكانت هذه الآيةُ من سورةِ براءة فيها الأمرُ الذي كانوا ينتظرونَه في آيةِ البقرةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: آية 29].

لأن أهلَ الكتابِ من يهودٍ وَنَصَارَى وإن قالوا: لا إله إلا الله وأقروا بالقيامةِ فَهُمْ كَمَنْ أَنْكَرَ وجودَ اللَّهِ وأنكرَ وجودَ القيامةِ؛ لأنهم لَمَّا اتخذوا الأربابَ معه وَأَشْرَكُوا به في الأربابِ وقالوا: إن عُزيرًا ابنُه، وإن المسيحَ ابنُه!! هذا قولُ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ولَا باليومِ الآخِرِ؛ لأن الكافرَ إذا كَفَرَ بِاللَّهِ من وجهٍ لا ينفعُه الإيمانُ به من وجهٍ آخَرَ، فَمَنْ قال: لَا إلهَ إِلَاّ اللَّهُ، وَادَّعَى لله ولدًا، أو شريكًا، أو رَبًّا معه، فهذا لا يؤمنُ بالله {وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} وهو يومُ القيامةِ، {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} بل يُحِلُّونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ ويحرمونَ ما أحلَّ الله، {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} ، الذي هو دينُ الإسلامِ.

(1)

انظر: المبسوط لابن مهران ص134.

ص: 419

وفي قولِه: {دِينَ الْحَقِّ} وجهانِ من التفسيرِ

(1)

:

أحدُهما: أن (الحقَّ) هو ضِدُّ الباطلِ، وأن دينَ الحقِّ من إضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه. أي: الدينُ الذي هو الحقُّ الذي هو دينُ الإسلامِ. {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: آية 85]. {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلَامُ} [آل عمران: آية 19].

الوجهُ الثانِي: أن الحقَّ هو اللَّهُ، فالحقُّ من أسماءِ اللَّهِ. {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} أي: دين الله الذي شَرَعَهُ على لسانِ نَبِيِّهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

وقولُه: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} بيانٌ للذين أُمِرُوا بقتالِهم الموصوفونَ بأنهم لَا يؤمنونَ بالله إلى آخِرِ ما ذكر.

{مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} مِنْ يَهُودٍ وَنَصَارَى.

وعندما نَزَلَتْ تَجَهَّزَ صلى الله عليه وسلم لقتالِ النصارى في غزوةِ تبوك كما ستأتِي تفاصيلُه في هذه السورةِ الكريمةِ.

{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} : (حتى) حرفُ غايةٍ، وَالْمُغَيَّا هنا {قَاتِلُوا} أي: قاتلوهم، وَأَمَدُ ذلك القتالِ إلى غايةٍ هي أن {يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} إِذْ لم يؤمنوا بالله، فإن آمَنُوا بالله فَذَلِكَ، وإلا فَلَا بُدَّ أن يُعْطُوا الجزيةَ.

الجزيةُ: (فِعْلةٌ) وقد تَقَرَّرَ في عِلْمِ العربيةِ أن (الفِعلةَ) بكسرِ الفاءِ تأتِي لبيانِ الهيئاتِ، من هيئاتِ المصدرِ. وأصلُها من جَزَى يجزي؛ لأن الكفارَ - أهلُ الكتابِ -: يُنْعِمُ عليهم المسلمونَ بحقنِ

(1)

انظر البحر المحيط (5/ 29).

ص: 420

دمائِهم وعدمِ قتلِهم. والمدافعةِ عنهم، وَمَنْعِ كُلِّ مَنْ أَرَادَ أن يظلمَهم، فهذا الإحسانُ يُجَازَوْنَهُ نوعًا من الجزاءِ عُبِّرَ عنه بالجزيةِ من (جزى يجزي) إذا كَافَأَ ما أُسْدِيَ إليه، تقولُ العربُ: أَحْسَنَ إِلَيَّ فَجَزَيْتُهُ، أي: كَافَأْتُهُ بما أَسْدَى، ومنه قولُ الشاعرِ

(1)

:

يَجْزِيكَ أَوْ يُثْنِي عَلَيْكَ وَإِنَّ مَنْ

أَثْنَى عَلَيْكَ بِمَا فَعَلْتَ كَمَنْ جَزَى

وقولُه في هذه الآيةِ الكريمةِ: {عَنْ يَدٍ} فيه أَوْجُهٌ من التفسيرِ معروفةٌ عندَ العلماءِ لَا يُكَذِّبُ بعضُها بعضًا

(2)

: قال بعضُ العلماءِ: {يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} : أي: عَنْ قهر وتحتَ ذُلٍّ وكلِّ ما أعطاه الإنسانُ مقهورًا ذليلاً تقولُ العربُ: أَعْطَاهُ عَنْ يَدٍ. وقال بعضُ العلماءِ: يُعْطِيهِ عن يدٍ معناه: يُسَلِّمُهُ بيدِه ولَا يُرْسِلُ به غيرَه، فالدافعُ واقفٌ والآخِذُ جالسٌ. وقال بعضُ العلماءِ:{عَنْ يَدٍ} أَيْ: نَقْدًا مُتسلمًا باليدِ لا نسيئةً. وقال بعضُ العلماءِ: {عَنْ يَدٍ} أي: عن اعترافِهم بنعمةِ المسلمينَ عليهم حيث قَبِلُوا منهم العوضَ ولم يقتلوهم. والحالُ في هذا {وَهُمْ صَاغِرُونَ} الصاغرونَ: المتصفونَ بالصَّغَارِ. والصَّغَارُ في لغةِ العربِ معناه: الذلُّ والحقارةُ والهوانُ. ومعنَى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي: حَقِيرُونَ ذَلِيلُونَ. وَسَنُبَيِّنُ هنا - إن شاء الله - بعضَ أحكامِ الجزيةِ:

اعْلَمُوا أَوَّلاً أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ عليه القرآنُ بجوازِ أَخْذِ الجزيةِ من أهلِ الكتابِ، ولكنه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) بَيَّنَ أنهم وإن أُخِذَتْ منهم الجزيةُ فلَا يجوزُ بحالٍ من الأحوالِ ولَا بِوَجْهٍ من الوجوهِ

(1)

البيت في القرطبي (8/ 114)، البحر المحيط (5/ 30).

(2)

انظر: القرطبي (8/ 115)، البحر المحيط (5/ 30).

ص: 421

أن يُتركوا يسكنونَ في جزيرةِ العربِ، فإقامةُ الكفارِ وَسُكْنَاهُمْ في جزيرةِ العربِ ممنوعٌ لَا يجوزُ بحالٍ، فيجبُ على المسلمينَ أن يُخْرِجُوهُمْ من جزيرةِ العربِ جميعِها ولَا يتركوا فيها كافرًا. وهذا من آخِرِ ما أَوْصَى به محمدٌ صلى الله عليه وسلم، وقد ثَبَتَ في الصحيحين من حديثِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قال: اشْتَدَّ برسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ يومَ الخميسِ، وَأَوْصَى عندَ موتِه بثلاثٍ، قال:«أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ» قال الراوي: ونسيتُ الثالثةَ

(1)

. فهذا حديثٌ صحيحٌ أَوْصَى به النبيُّ عند موتِه. وقد أخرجَ مسلمٌ وغيرُه أنه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) قال: «لأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا أَدَعُ فِيهَا إِلَاّ مُسْلِمًا»

(2)

. وروى الإمامُ أحمدُ وغيرُه عن عائشةَ رضي الله عنها أنها قالت: آخِرُ ما عَهِدَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أن قَالَ: «لَا يُتْرَكُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ»

(3)

.

وروى أحمدُ وغيرُه عن أبِي عبيدةَ بنِ الجراحِ رضي الله عنه قال: آخِرُ ما قالَه رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَخْرِجُوا يَهُودَ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ

(1)

البخاري في الجزية والموادعة، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب. حديث رقم:(3168)(6/ 270)، ومسلم في الوصية باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه. حديث رقم:(1637)(3/ 1257).

(2)

مسلم في الجهاد والسير، باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب. حديث رقم:(1767)(3/ 1388) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(3)

أخرجه أحمد (6/ 275) وقال الهيثمي في المجمع (5/ 325): «رواه أحمد والطبراني في الأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرح بالسماع» اهـ.

ص: 422

الْعَرَبِ»

(1)

.

فهذه الأحاديثُ وأمثالُها تَدُلُّ على أنه لَا يجوزُ أن يسكنُ كافرٌ بجزيرةِ العربِ كائنًا ما كَانَ، وأن على المسلمينَ إخراجُ الكفارِ من جزيرةِ العربِ، ولكنهم لا يمنعونَ من الإتيانِ إليها لتجارةٍ أو نحوِه من غيرِ إقامةٍ بها، وكان عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه إذا أَرَادَ بعضُ اليهودِ دخولَ الحجازِ لتجارةٍ أَذِنَ له وَأَجَّلَ لهم ثلاثةَ أيامٍ يبيعونَ فيها ويشترونَ ثم يذهبونَ

(2)

.

وَاعْلَمُوا أن الجزيةَ إذا أَسْلَمَ الكافرُ اختلف العلماءُ هل تسقطُ عنه الجزيةُ

(3)

؟ وَأَظْهَرُ القولينِ: أنه تسقطُ عنه الجزيةُ لِمَا جاءَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَا جِزْيَةَ عَلَى مُسْلِمٍ»

(4)

ولأنه لا تُؤْخَذُ منه وهو صَاغِرٌ؛ لأن المسلمَ لا يُحَقَّرُ ولَا يُهَانُ.

وقال الشافعيُّ في طائفةٍ من العلماءِ: إذا أَسْلَمَ لَمْ تسقط عنه

(1)

أخرجه أحمد (1/ 195، 196)، وأبو يعلى (1/ 872)، والحميدي (85)، والدارمي (2/ 151 - 152)، والطيالسي (229)، والبيهقي (9/ 208). وانظر: السلسلة الصحيحة (1132).

(2)

أخرجه البيهقي (9/ 209).

(3)

انظر: بدائع الصنائع (7/ 112)، المغني (13/ 221 - 222)، القرطبي (8/ 113 - 114).

(4)

أخرجه أحمد (1/ 223، 285)، وأبو عبيد في الأموال ص49، وأبو داود في الخراج والفيء، باب الذمي الذي يسلم في بعض السنة. حديث رقم:(3037)(8/ 305)، والترمذي في الزكاة، باب ما جاء: ليس على المسلم جزية. حديث رقم: (633)(3/ 18)، والبيهقي (9/ 199)، والدارقطني (4/ 156، 157)، وابن عدي (5/ 1845)، (6/ 2072)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 232). وانظر: الإرواء (5/ 99).

ص: 423

الجزيةُ؛ لأنها بقيت دَيْنًا فيه، فهي كسائرِ الديونِ، إلا أنه عند أدائِها يُؤَدِّيهَا غيرَ صاغرٍ ولا مُهَانٍ؛ لأَجْلِ إسلامِه، ولكنها تَقَرَّرَتْ في ذمتِه.

واختلف العلماءُ: في القَدْرِ الذي يُؤْخَذُ من أهلِ الجزيةِ

(1)

، وَمِمَّنْ تُؤْخَذُ الجزيةُ

(2)

؟ فقال جماعةٌ من العلماءِ: تُؤْخَذُ الجزيةُ من كُلِّ كتابيٍّ عَجَمِيًّا كان أو عَرَبِيًّا، والجزيةُ بالأديانِ لَا بالأنسابِ. وهذا القولُ هو الصحيحُ والأظهرُ.

وقال بعضُ العلماءِ: تُؤْخَذُ من مُشْرِكِي العجمِ ولا تُؤْخَذُ من مشركِي العربِ. وهو قولُ أبِي حنيفةَ رحمه الله

(3)

.

والحقُّ أن الجزيةَ تُؤْخَذُ من كُلِّ كتابيٍّ عربيًّا كان أو غيرَه، وقد أَمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مُعَاذًا لَمَّا أرسلَه إلى اليمنِ أن يأخذَ من كُلِّ حالمٍ من كفارِ أهلِ اليمنِ - أهلِ الكتابِ - الذين لم يُسْلِمُوا أن يأخذَ من كُلِّ حالمٍ دينارًا منهم

(4)

.

وبعثَ خالدَ بنَ الوليدِ إلى أُكَيْدَر فَأَخَذَ من أُكيدر

(1)

انظر: بدائع الصنائع (7/ 11 - 112)، المغني (13/ 211 - 212)، القرطبي (8/ 111)، أحكام أهل الذمة (1/ 26).

(2)

انظر: الأم (4/ 240، 281)، القرطبي (8/ 110)، المغني (13/ 202) فما بعدها، أحكام أهل الذمة (1/ 1) فما بعدها.

(3)

انظر: المدونة (2/ 46 - 47)، بدائع الصنائع (7/ 110 - 111)، المغني (13/ 206 - 207، 208).

(4)

أخرجه أحمد (5/ 230، 233، 240، 247)، وعبد الرزاق (4/ 21)، وابن أبي شيبة (3/ 126 - 127)، والترمذي في الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر. حديث رقم:(623)(3/ 11) وقال: «هذا حديث حسن. وروى بعضهم هذا الحديث عن سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق أن النبي

وهذا أصح» ا. هـ. وأبو داود في الزكاة، باب في زكاة السائمة. حديث رقم:(1561 - 1562)(4/ 457) وفي الإمارة، باب في أخذ الجزية. حديث رقم:(3022، 3023)(8/ 287)، وابن ماجه في الزكاة، باب صدقة البقر. حديث رقم:(1803)(1/ 576)، والنسائي في الزكاة باب زكاة البقر. حديث رقم:(2450 - 2452)(5/ 25 - 26)، والحاكم (1/ 398)، والبيهقي (4/ 98)، (9/ 193)، وابن خزيمة (4/ 19)، وابن حبان (الإحسان 7/ 195). وقال ابن عبد البر في التمهيد (2/ 275):«إسناده متصل صحيح ثابت» اهـ.

وانظر: التلخيص (2/ 152)، الإرواء (795)، صحيح أبي داود (2/ 589)، صحيح ابن ماجه (1/ 302).

ص: 424

الجزيةَ

(1)

. وأُكيدر دومة معلومٌ أنه عَرَبِيٌّ، أصلُه من كندةَ، كما قاله غيرُ واحدٍ.

وَأَخَذَ الجزيةَ من أهلِ نجرانَ

(2)

. وأكثرُ أهلِ نجرانَ نصارى عربٌ. وهذا هو التحقيقُ، فالحقُّ الذي لا شكَّ فيه أن الكتابيَّ الذي كان على دينِ أهلِ الكتابِ قبلَ أن يُبْعَثَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم تُؤْخَذُ منهم الجزيةُ بنصِّ هذه الآيةِ؛ ولأَنَّهَا لم تُفَصِّلْ.

وأما المجوسُ فقد ثَبَتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنهم تُؤْخَذُ منهم الجزيةُ، فقد رَوَى البخاريُّ في صحيحِه عن عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ الجزيةَ من مجوسِ هجرَ

(3)

. وقد

(1)

أخرجه أبو داود في الخراج والإمارة والفيء، باب في أخذ الجزية. حديث رقم:(3021)(8/ 286)، والبيهقي (9/ 186، 187). وانظر: صحيح أبي داود (2/ 589).

(2)

أخرجه أبو داود في الإمارة، باب في أخذ الجزية. حديث رقم:(3025)(8/ 291)، والبيهقي (9/ 187).

(3)

أخرجه البخاري في الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب. حديث رقم:(3157)(6/ 257).

ص: 425

أخذ الجزيةَ من أهلِ البحرينِ

(1)

وأكثرهم في ذلك الوقتِ كانوا مَجُوسًا.

فالحقُّ الذي لا شكَّ فيه أنها تُؤْخَذُ من المجوسِ لِمَا جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ»

(2)

وَثَبَتَ عن عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ أنه قال: أَشْهَدُ فقد أَخَذَ رسولُ اللَّهِ الجزيةَ من مجوسِ هجرَ. وكان عمرُ بنُ الخطابِ تَوَقَّفَ في أَخْذِ الجزيةِ من المجوسِ حتى شَهِدَ عندَه عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ رضي الله عنه

(3)

.

والشافعيُّ رحمه الله يقولُ: لَا تُؤْخَذُ إلا مِنَ الكتابيِّ عربيًّا كان أو عجميًّا، أو من المجوسيِّ بِالسُّنَّةِ. أما المشركونَ مِنْ عَبَدَةِ الأوثانِ وما جَرَى مجراهم

(4)

قال الشافعيُّ: لَا تُؤْخَذُ منهم الجزيةُ. وقال به

(1)

أخرجه البخاري في الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب. حديث رقم:(3158)(6/ 257)، وطرفه (4015، 6425)، ومسلم في الزهد والرقائق. حديث رقم:(2961)(4/ 2273) من حديث عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه.

وقد أخرجه الترمذي في السير، باب ما جاء في أخذ الجزية من المجوس، حديث رقم:(1588)(4/ 147) من حديث السائب بن يزيد. وعقبه بقوله: «وسألت محمدًا عن هذا فقال: هو مالك عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم» اهـ.

وقد أخرجه مالك ص187 عن الزهري بلاغًا.

(2)

أخرجه مالك في الموطأ ص188، والبيهقي (9/ 189) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. وقال ابن عبد البر في التمهيد (2/ 114):«هذا حديث منقطع» اهـ. وله شاهد من حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه. قال في المجمع (6/ 13): «رواه الطبراني وفيه من لم أعرفه» اهـ. وانظر: الإرواء (5/ 88).

(3)

مضى تخريجه قريبًا.

(4)

انظر: المدونة (2/ 46)، الأم (4/ 172 - 174)، المغني (13/ 203 - 204، 208).

ص: 426

جماعةٌ من العلماءِ. قالوا ووجهُه: أن اللَّهَ [مَا نَصَّ في المشركينَ]

(1)

إلا على القتلِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} [التوبة: آية 5] وفي أهلِ الكتابِ قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: آية 29] وفي المجوسِ ثَبَتَ أخذُ الجزيةِ منهم بالسنةِ. فالمشركونَ لهم السيفُ، وأهلُ الكتابِ لهم الجزيةُ بالقرآنِ، والمجوسُ لهم الجزيةُ بِالسُّنَّةِ، وبهذا قال جماعةٌ من العلماءِ منهم الشافعيُّ.

وقال مالكُ بنُ أنسٍ رحمه الله في جماعةٍ من العلماءِ: إنها تُؤْخَذُ من كُلِّ كافرٍ وَثَنِيًّا كان يعبدُ الأصنامَ أو مجوسيًّا، أو كتابيًّا، فتؤخذُ من جميعِ الكفارِ. هذا قولُ مالكٍ في طائفةٍ من العلماءِ.

وأقلُّ ما جاء في قَدْرِ الجزيةِ على الرجلِ من أهلِ الكتابِ دينارٌ

(2)

.

قال جمهورُ العلماءِ: لَا تُنْقَصُ الجزيةُ عن دينارٍ. وبعضُهم يقولُ: لَا حَدَّ لَهَا، فما صَالَحَ عليه الإمامُ هو الذي يُؤْخَذُ.

وكان عمرُ بنُ الخطابِ أَخَذَ الجزيةَ من أهلِ الشامِ

(3)

، وَأَخَذَهَا من أهلِ السوادِ

(4)

. وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ معاذًا أن يأخذَ الجزيةَ من أهلِ اليمنِ من كُلِّ حَالِمٍ دينارًا

(5)

.

والتحقيقُ أنها لَا تُؤْخَذُ من الصبيانِ والنساءِ، بل من الرجالِ المقاتلينَ، كما دَلَّ عليه حديثُ معاذٍ:«خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا»

(6)

.

(1)

في الأصل: أن الله في المشركين مانص

(2)

كما جاء في حديت معاذ رضي الله عنه لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارًا. وقد مضى تخريجه قريبًا.

(3)

سيأتي تخريجهما قريبًا.

(4)

سيأتي تخريجهما قريبًا.

(5)

مضى تخريجه قريبًا.

(6)

مضى تخريجه قريبًا.

ص: 427

يعنِي: لا صَبِيًّا، ولا امرأةً؛ ولأن الصبيانَ والنساءَ ليسوا من المقاتلينَ ولا يجوزُ قتلُهم. وَاللَّهُ يقولُ في الْمُقَاتِلِينَ:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} . فَدَلَّ أن الذي يُعْطِي الجزيةَ هم المقاتلونَ لَا غيرهم. كان عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه أَخَذَ الجزيةَ من أهلِ الشامِ على الواحدِ أربعةُ دنانيرَ

(1)

.

وعن ابنِ أبِي نُجيح أنه سألَ مجاهدًا رحمه الله: ما بالُ أهلِ اليمنِ أُخِذَ منهم في الجزيةِ دينارٌ، وأهلُ الشامِ أربعةُ دنانيرَ؟ قال: ذلك باعتبارِ الفقرِ وَالْيَسَارِ، وهؤلاءِ فقراءُ أُخِذَ منهم دينارٌ، وهؤلاءِ مُوسِرُونَ أُخِذَ منهم أربعةُ دنانيرَ

(2)

. وكان عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه أَخَذَ الجزيةَ من أهلِ السوادِ، فَأَخَذَ من الفقيرِ -والمرادُ به الفقيرُ الذي لَهُ حِرْفَةٌ وتَسَبُّبٌ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، ومن المتوسطِ أربعةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، ومن الغنيِّ ثمانيةً وأربعينَ درهمًا

(3)

.

وبعضُ العلماءِ يقولُ هذا، وبعضُهم يقولُ: أربعةُ دنانيرَ، وبعضُهم يقول: دينارٌ. وقد أَمَرَ النبي بدينارٍ، وأخذ عمرُ من أهلِ الشامِ أربعةَ دنانيرَ، ومن أهلِ السوادِ اثْنَيْ عَشَرَ [درهمًا]

(4)

للفقيرِ، وأربعةً وعشرينَ للمتوسطِ، وثمانيةً وأربعينَ للغنيِّ.

(1)

أخرجه البيهقي (9/ 195).

(2)

البخاري في الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب (6/ 257).

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة (12/ 241)، والبيهقي (9/ 196).

(4)

في الأصل: «دينارًا» . وهو سبق لسان.

ص: 428

والتحقيقُ - إن شاء الله - أن كُلَّ هذا واسعٌ بحسبِ ما يراهُ الإمامُ، إلا أنه لا ينبغي أن ينقصَ الجزيةَ عن دينار. وهذا معنَى قولِه:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: آية 29] لأَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى ما أَذِنَ في تركِهم إلا بهذا.

واختلفَ العلماءُ في الْعِوَضِ الذي أُعْطِيَتْ عنه الجزيةُ

(1)

: قال بعضُ العلماءِ: عِوَضُهَا حقنُ دمائِهم. وعلى هذا القولِ إذا أَسْلَمَ سقطت عنه الجزيةُ؛ لأن دمَه حَقَنَهُ الإسلامُ. وقال بعضُهم: عِوَضُهَا حَقْنُ دمائِهم، والمدافعةُ عنهم، وَمَنْعُ مَنْ أرادَ أن يَظْلِمَهُمْ. وعلى هذا تَبْقَى الجزيةُ فيه ولو أَسْلَمَ. هكذا قالَه بعضُ العلماءِ.

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: الآيتان 30، 31].

{ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: آية 30] قرأ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ السبعةِ غيرَ عاصمٍ والكسائيِّ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ} بلا تنوينٍ على الراءِ. وقرأه عاصمٌ والكسائيُّ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} بتنوينِ الراءِ

(2)

. وقرأ عامةُ السبعةِ غيرَ عاصمٍ: {يضاهُون قول الذين كفروا} بضم الهاء ليس بعدها همزةٌ.

(1)

انظر: المغني (13/ 202)، القرطبي (8/ 113)، أحكام أهل الذمة (1/ 25).

(2)

انظر: المبسوط لابن مهران ص 226.

ص: 429

وَقَرَأَ من السبعةِ عاصمٌ وحدَه: {يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} بكسرِ الهاءِ وهمزةٍ بعدَه

(1)

.

وفي الآيةِ التي قبلَ هذا أَمَرَ اللَّهُ (جلَّ وعلا) بعقوبةِ أهلِ الكتابِ بقولِه: {قَاتِلُوا} ثُمَّ بَيَّنَ موجبَ تلك العقوبةِ بقولِه: {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} ثم أَكَّدَ موجبَ عقوبتِه بقولِه هنا: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} يعني: هؤلاء الذين أَمَرْتُكُمْ بقتالِهم مرتكبونَ من الجرائمِ ما يستوجبُ قتالَهم {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: آية 29] فَأَوْجَبَ على أهلِ الكتابِ عقوباتٍ شديدةً، منها: قتالُهم حتى يدفعوا الجزيةَ {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} أَخِسَّاءُ أَذِلَاّءُ. وكذلك لحقارتِهم على اللَّهِ [5/ب] / بَيَّنَّا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْصَى بإخراجِهم من جزيرةِ العربِ [وتطهيرِها منهم]

(2)

. ومن آخِرِ ما أَوْصَى به النبيُّ صلى الله عليه وسلم تطهيرُ جزيرةِ العربِ من اليهودِ والنصارى وسائرِ المشركينَ

(3)

. ولَا شَكَّ أن هذا أَمْرٌ مُهِمٌّ، لو لم يكن مُهِمًّا لَمَا أَوْصَى به النبيُّ عند موتِه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، ولكنه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) عَلَّمَنَا في هذا الدينِ العظيمِ أن له عزائمَ وَرُخَصًا، فهذا الدينُ العظيمُ أنزلَه اللَّهُ مُنْقَسِمًا إلى عزائمَ ورخصٍ، فعزائمُه: تُسْتَعْمَلُ عندَ الأوقاتِ المناسبةِ لها، ورخصُه: تستعملُ عندَ الأوقاتِ المناسبةِ لها؛ لأن الدينَ السماويَّ لَا بُدَّ أن يكونَ مُشْتَمِلاً على مواجهةِ التطوراتِ والأحداثِ حيث ما كانت وأيًّا ما كانت، ففي كُلِّ حالٍ له فيها مواجهةٌ.

ونريدُ هنا أن نُبَيِّنَ بعضَ الأشياءِ التي يجوزُ أخذُها من الكفارِ

(1)

السابق ص226.

(2)

في الأصل: «وتطهيرهم منها» . وهو سبق لسان.

(3)

مضى تخريجه قريبًا.

ص: 430

والتي لا يجوزُ أخذُها؛ ليكونَ المسلمُ على بصيرةٍ من ذلك، ويعلمَ ما ينبغي وما لا ينبغي، وَيُفَرِّقَ بينَ ما يضرُّ وما لا يضرُّ. لَا شَكَّ أنه إن كانت القوةُ كاملةً للمسلمينَ من غيرِ حاجةٍ للكفارِ في شيءٍ أنهم يقومونَ بأنفسِهم ويقيمونَ عزائمَ اللَّهِ في المشركينَ مِنْ قَتْلٍ حتى يُعْطُوا الجزيةَ عن يدٍ وهم صاغرونَ، وتطهيرُ جزيرةِ العربِ منهم إلى غيرِ ذلك مِمَّا قَدَّمْنَا أنه لا بُدَّ منه في كُلِّ الأحوالِ وفي كُلِّ الظروفِ، أي: إذا كان محل العزائمِ والمسلمون في قوتِهم كما ينبغي، أما إذا كان المسلمونَ في ضَعْفٍ عن ذلك، أو في حاجةٍ ماسةٍ ضروريةٍ إلى الكفارِ فَلِكُلِّ حالٍ مقالٌ، وقد عَلَّمَنَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَخْرَجَ في جميعِ هذه الأشياءِ، فهو (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) لَمَا أَمْكَنَهُ أن يُجْلِيَ بني قَيْنُقَاعَ من غيرِ حاجةِ المسلمينَ ولا ضرورةٍ عليهم أجلاهم من المدينةِ إلى الشامِ، وَلَمَا أمكنَه بعد ذلك أن يُجْلِيَ بنِي النضيرِ أجلاهم من المدينةِ إلى أطرافِ الشامِ كما سيأتِي في قولِه: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا

} إلى آخِرِ الآياتِ [الحشر: آية 2]. وَلَمَّا كانت حاجةُ المسلمينَ ماسةً إلى عدمِ إجلاءِ خيبر لم يُجْلِهِمْ بل عَامَلَهُمْ ليتولوا القيامَ على نَخْلِ خيبرَ وأرضِها، وأعطاهم شَطْرَ ثمارِ نخلِ خيبرَ وما يخرجُ من أرضِها، وهو صلى الله عليه وسلم عازمٌ على إخراجِهم عندما أَمْكَنَتِ الفرصةُ، وصار وقتُ العزيمةِ، وانتهى وقتُ الرخصةِ؛ وَلِذَا ثَبَتَ في بعضِ الرواياتِ الصحيحةِ أنهم لَمَّا قالوا له: أَقِرَّنَا على الأرضِ نقومُ على نَخْلِهَا وزرعِها بشطرِها. قال لهم صلى الله عليه وسلم: «نُقِيمُكُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا شَئْنَا، وَإِنْ شِئْنَا أَنْ نُخْرِجَكُمْ أَخْرَجْنَاكُمْ»

(1)

لأنه عازمٌ على إخراجِهم

(1)

البخاري في الحرث والمزارعة، باب: إذا قال رب الأرض: أُقرك ما أقرك الله .. حديث رقم: (2338)(5/ 21)، ومسلم في المساقاة، باب: المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع. حديث رقم: (1551)(3/ 1187).

ص: 431

(صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، عندما تسنحُ الفرصةُ المواتيةُ لذلك، فالعزيمةُ لها وقتُها، وإنا كان الوقتُ للعزيمةِ لا يجوزُ أن تُهْمَلَ بحالٍ من الأحوالِ، فإذا كان الظرفُ مناسبًا للرخصِ أُعْمِلَتِ الرخصُ؛ لأن دينَ الإسلامِ دينٌ مرنٌ صالحٌ لمواجهةِ جميعِ التياراتِ والأحداثِ والتطوراتِ، وقد قَدَّمْنَا في سورةِ [آل عمران]

(1)

طَرَفًا جَيِّدًا من هذا في الكلامِ على قولِه: {لَاّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: آية 28] أي: إلا أن تخافوا منهم خوفًا فَلِذَلِكَ حَالٌ وَحُكْمٌ آخَرُ.

وَاعْلَمُوا - أيها الإخوانُ - أن المؤسفَ كل المؤسف هو أن الذي يجوزُ لنا أن نأخذَه من الكفارِ والذي يمتنعُ علينا أن نأخذَه منهم معكوسٌ في أقطارِ المعمورةِ الآنَ!! يأخذونَ منهم ما لا يَحِلُّ أَخْذُهُ، ويتركونَ ما لَا ينبغِي تَرْكُهُ، فيعكسونَ القضيةَ عَكْسًا تَامًّا!! وإيضاحُ هذا المعنَى أنه يجوزُ للمسلمينَ أن يَنْتَفِعُوا بأعمالِ الكفارِ التي هي أمورٌ دنيويةٌ بحتةٌ وَيَحْذَرُوا كُلَّ الحذرِ من أن يُقَلِّدُوهُمْ في شيءٍ من أوامرِ الدينِ. وسنذكرُ لكم أمثلةً من هذا يتضحُ بها المقامُ

(2)

: هذا سَيِّدُ الخلقِ محمدُ بنُ عبدِ اللَّهِ - صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه - لَمَّا تَوَاطَأَتْ عليه قُوَى الشَّرِّ وَاضْطَرُّوهُ أن يخرجَ مِنْ مَسْقَطِ رَأْسِهِ - كما قَدَّمْنَا في سورةِ الأنفالِ في الكلامِ على قولِه تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: آية 30] وَدَخَلَ هو وصاحبُه في غارٍ كما سيأتِي تفصيلُه في هذه السورةِ الكريمةِ إن شاء الله - وَجَدَ في ذلك الوقتِ

(1)

في الأصل: «النساء» . وهو سبق لسان.

(2)

راجع ما سبق عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

ص: 432

كافرًا مِنْ بَنِي دؤلِ بنِ كنانةَ يُسَمَّى عبدَ اللَّهِ بنَ الأُرَيْقِطِ، وكان في ذلك الوقتِ كافرًا من عبَدَةِ الأوثانِ، إلا أن عندَه خبرةٌ دنيويةٌ بالطرقِ من مكةَ إلى المدينةِ؛ لأنه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) في ذلك الوقتِ محتاجٌ إلى خبيرٍ بِالطُّرُقِ؛ لأن الطرقَ المعهودةَ السابلةَ أَمْسَكَهَا الكفارُ وجعلوا جعائلَ لكلِّ مَنْ أَتَى بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم أن يُعْطُوهُ الأموالَ الكثيرةَ، فصارَ لا يمكن أن يسيرَ في الطرقِ المعهودةِ والسبلِ السابلةِ، بل لا بُدَّ أن يذهبَ من بُنَيَّاتِ طرقٍ ليست هي المعهودةَ، وهذه تحتاجُ إلى خبرةٍ خاصةٍ ووجدَ هذه الخبرةَ عند كافرٍ من بَنِي دؤلِ بنِ كنانةَ يُسَمَّى عبدَ اللَّهِ بنَ الأريقط، فَأَوْدَعَهُ رواحلَه وأعطاه الموعدَ، وكان ذلك الكافرُ أَمِينًا معه، فجاءَه في الموعدِ وَذَهَبَ به وجاء به من طُرُقٍ غيرِ معهودةٍ حتى أَوْصَلَهُ المدينةَ بسلامٍ

(1)

.

فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم عندَ الحاجةِ انتفعَ بخبرةِ هذا الكافرِ ولم يَقُلْ: هذه خِبْرَةٌ نَجِسَةٌ قَذِرَةٌ لأنها من كَافِرٍ، بل انْتَفَعَ بها على حَدِّ قولِهم «اجْتَنِ الثِّمَارَ وَأَلْقِ الْخَشَبَةَ فِي النَّارِ». وكذلك لَمَّا سَمِعَ بالكفارِ في غزوةِ الأحزابِ قال له سلمانُ الفارسيُّ - كما هو مذكورٌ في الأخبارِ وَالسِّيَرِ -: كُنَّا إِذَا خِفْنَا خَنْدَقْنَا

(2)

. فأشارَ إليه بالخندقِ، وهو خطةٌ حربيةٌ عسكريةٌ، فقامَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وانتفعَ بهذه الخطةِ الحربيةِ العسكريةِ وإن كانت ابْتَدَعَتْهَا أذهانُ فارسَ الذين هُمْ كفَرَةٌ يعبدونَ النارَ، ولم يَقُلْ: هذه خطةٌ نَجِسَةٌ قذرةٌ؛ لأَنَّ أصلَها من الكفارِ!! بل انتفعَ بما ينفعُه في دنياه وهو محافظٌ على دِينِهِ. وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم هَمَّ أن يمنعَ الرجالَ من أن يطؤوا نساءَهم فِي حالةِ إرضاعِهن؛ لأن العربَ كانوا يَظُنُّونَ أن الرجلَ إذا أَتَى أَبُوهُ أُمَّهُ وهي

(1)

السابق.

(2)

السابق.

ص: 433

تُرْضِعُهُ أن ذلك يُضْعِفُ عظمَه ويتركُ فيه ضَعْفًا طَبِيعِيًّا!! كانوا إذا ضَرَبَ الرجلُ وَنَبَا سيفُه عن الضريبةِ قالوا: هذا من آثارِ الغيلةِ، وهي وطءُ الْمُرْضِعِ!! وكان شاعرُهم يقولُ

(1)

:

فَوَارِسُ لَمْ يُغَالُوا فِي رَضَاعٍ

فتَنْبُوا فِي أَكُفِّهُمُ السُّيُوفُ

فَأُخْبِرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن فَارِسَ والرومِ أنهم يفعلونَ ذلك ولا يضرُّ أولادَهم

(2)

، فَأَخَذَ هذه الخطةَ الطبيةَ من فارسَ والرومِ ولم يَمْنَعْهُ خبثُ مَنْ جاء بها عن أن يأخذَها. فهذا تعليمُ الصادقِ المصدوقِ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه).

وَمِمَّا هو واضحٌ أن ما جاء به الكفَرَةُ الفَجَرَةُ الخنازيرُ الذين يُسَمُّونَ أنفسَهم (أهلَ الحضارةِ) أنهم جاؤوا بماءٍ زُلَالٍ، وجاؤوا بِسُمٍّ فَتَّاكٍ قَتَّالٍ؛ لأن ما في الحضارةِ الغربيةِ من المنافعِ الدنيويةِ لا يحتاجُ أن يُنَوَّهَ عنه، فَهُمْ خَدَمُوا الإنسانَ - من حيث إنه جِسْمٌ - خدمةً هائلةً ما كانت تخطرُ على البالِ. ولَا يُحْتَاجُ أن يُنوَّهَ عنها، ولكنهم بالنسبةِ إلى الروحِ وإلى عنصرِ الإنسانِ من حيثُ كونه رُوحًا مُفْلِسُونَ كُلَّ الإفلاسِ. فعلى المسلمينَ أن يُمَيِّزُوا بَيْنَ ما يَضُرُّ وما لا يَضُرُّ، فيأخذوا منهم الأمورَ الدنيويةَ فينتفعوا بخبرتِهم في الأمورِ كما انتفعَ صلى الله عليه وسلم فِي الأمورِ الدنيويةِ من الكفارِ، أما أنهم يأخذونَ عنهم كُفْرَهُمْ وَتَمَرُّدَهُمْ على اللَّهِ وإفلاسَهم الروحيَّ النهائيَّ فهذا مِمَّا لا يجوزُ وَلَا كان ينبغِي لعاقلٍ أن يفعلَه.

ونحنُ دائمًا نُبَيِّنُ الموقفَ السليمَ فِي الأوضاعِ الراهنةِ للإسلامِ والمسلمينَ، وَنَعْرِضُهُ على الدليلِ العظيمِ المعروفِ عندَ علماءِ

(1)

السابق.

(2)

السابق.

ص: 434

الأصولِ بـ (السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ)، وعندَ علماءِ المنطقِ. بـ (الشَّرْطِيِّ الْمُنْفَصِلِ)، وعندَ علماءِ الجدلِ بـ (الترديدِ والتقسيمِ)

(1)

، فنقولُ: إن موقفَ المسلمينَ مِمَّا أَحْدَثَتْهُ الحضارةُ الغربيةُ التي صارت سببَ ضلالٍ ودمارٍ مع ما أُدْخِلَ في الثقافاتِ من البلايا والويلاتِ، نقولُ: وهو بالتقسيمِ الصحيحِ منحصرٌ في أربعةِ أقسامٍ حَصْرًا اسْتِقْرَائِيًّا

(2)

، وقد تَقَرَّرَ في علمِ البحثِ والمناظرةِ، وعلمِ الأصولِ أن للحصرِ طَرِيقَيْنِ: إما عَقْلٌ، وإما استقراءٌ، فهو محصورٌ في أربعةِ طرقٍ بطريقِ الاستقراءِ:

أَوَّلُهَا: أن نقولَ: يجبُ علينا أن نأخذَ جميعَ ما أَنْتَجَتْهُ الحضارةُ الغربيةُ من مائِها الزلالِ وَسُمِّهَا الفتَّاكِ القتَّالِ، فهذا قِسْمٌ وَاحِدٌ، أو نقولُ: نتركهما معًا، أو نأخذُ نافعَها ونتركُ ضارَّها، أو نأخذُ ضَارَّهَا ونتركُ نافعَها، فهي أربعةُ أقسامٍ بالحصرِ الاستقرائيِّ، فإذا رَجَعْنَا لهذه الأقسامِ الأربعةِ بِالسَّبْرِ الصحيحِ نَجِدُ ثلاثةً منها باطلةً، وواحدًا صحيحًا، وهذه فائدةُ السبرِ والتقسيمِ، التقسيمُ: يحصرُ الأوصافَ، والسبرُ: يُمَيِّزُ بَيْنَ خَبِيثِهَا وَطَيِّبِهَا وصالحِها وطالحِها. فلو قُلْنَا: نَأْخُذُ جميعَ ما أَنْتَجَتْهُ الحضارةُ الغربيةُ، فإن مَنْ أرادَ أن يأخذَ الماءَ الزلالَ مَمْزُوجًا بالسمِّ الفتاكِ القَتَّالِ لَا ينتفعُ بالماءِ، وَمَنْ أَرَادَ تَقَدُّمًا مِنَ الأمورِ الدنيويةِ التي عندهم مع ما فيها من الانحلالِ، وضياعِ الأخلاقِ، والتمردِ على نظامِ السماءِ، والإلحادِ والكفرِ بخالقِ السماواتِ والأرضِ، فهذا لا ينفعُ معه شيءٌ، إذا الدينُ لم يَكُنْ فَلَا كانت الدنيا. فهذا قِسْمٌ باطلٌ يَقِينًا، ولو قلنا: نتركهما جميعًا، فهذا القسمُ باطلٌ أيضًا؛ لأَنَّ تركَ الأخذِ بالقوةِ تَوَاكُلٌ وعجزٌ

(1)

مضى عند تفسير الآية (144) من سورة الأنعام.

(2)

مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

ص: 435

وتمردٌ على نظامِ السماءِ؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: آية 60].

فَتَرْكُ القوةِ والاستعدادِ للعدوِّ مخالفٌ للشرعِ الكريمِ، ومخالفٌ لِلْفِطَرِ السليمةِ، فالحياةُ بتطوراتِها الراهنةِ لَا يجوزُ للمسلمينَ أن يتركوا استعمالَ القوةِ وجميعَ أنواعِ الوسائلِ لتكونَ عندهم قوةٌ يدافعونَ بها عن أنفسِهم ودينِهم، فهذا القسمُ باطلٌ أيضًا.

القِسْمُ الثالثُ: وهو أن يُؤْخَذَ سُمُّهَا فقط، ويتركَ زُلَالُهَا، فَمَنْ وَجَدَ ماءً زُلالاً وَسُمًّا فَاتِكًا قَتَّالاً، واختار السمَّ على الماءِ فهذا مجنونٌ أَهْوَجُ!!

أما أن نأخذَ نافعَها ونتركَ ضَارَّهَا، فهذا هو اللائقُ بكلِّ عاقلٍ أن يأخذَ ما ينفعُه ويتركُ ما يضرُّه.

والمؤسفُ كُلُّ المؤسفِ أن الذين تَأَثَّرُوا بهذه الحضارةِ من الناسِ الذين أصلُهم مسلمونَ لم يأخذوا من هذه الحضارةِ إلا سُمَّهَا الْفَتَّاكَ الْقَتَّالَ، ولم ينتفعوا بمائِها الزلالِ، فتراهم يقلدونَهم في الإلحادِ والكفرِ بِاللَّهِ وَالْمَسْخَرَةِ من الدينِ، والاستهزاءِ بآياتِ اللَّهِ، في الوقتِ الذي لم يَأْخُذُوا عنهم شيئًا مما أَنْتَجُوهُ من الأمورِ النافعةِ في الدنيا.

مَا أَحْسَنَ الدِّينَ وَالدُّنْيَا إِذَا اجْتَمَعَا

وَأَقْبَحَ الْكُفْرَ وَالإِفْلَاسَ بِالرَّجُلِ

(1)

فَهُمْ يجمعونَ بَيْنَ الكفرِ والإفلاسِ - والعياذُ بالله - وهذا الشيءُ الذي طَبَّقَ المعمورةَ وانتشرَ في أقطارِ الدنيا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

(1)

تقدم هذا البيت عند تفسير الآية (155) من سورة الأنعام.

ص: 436

وعلى كُلِّ حالٍ فدينُ الإسلامِ هُوَ هُوَ، وصلتُه بالله هِيَ هِيَ، دينٌ عريقٌ عظيمٌ أُسُسُهُ قويمةٌ عظيمةٌ، لو لم يَكُنْ مَبْنِيًّا على أُسُسٍ عظيمةٍ، وكتابُه محفوظٌ لَطَمَسُوا أَثَرَهُ في قُرُونٍ!! ولكنه دِينٌ عَرِيقٌ ثابتُ الجذورِ لَا يتغيرُ ولا يتزعزعُ، وإنما تَنَكَّرَ له المنتسبونَ إليه فصاروا خفافيشَ تقودُهم الكفارُ إلى ما يشاؤون، فيقلدونَهم في كُلِّ كُفْرٍ وَكُلِّ إلحادٍ، وَكُلِّ انحطاطٍ خُلُقِيٍّ، وَكُلِّ تمردٍ على نظامِ السماءِ، وكفر بخالقِ السماواتِ والأرضِ، في الوقت الذي لا ينتفعونَ بالأمورِ [الدنيويةِ]

(1)

. وإنما حَكَيْنَا هذا أَسَفًا من واقعٍ نرجو اللَّهَ أن يزيلَ هذا عن المسلمينَ.

ولما كان جزاءُ الكفارِ وعقوبتُهم عظيمةً بَيَّنَ بعضَ أسبابِ ذلك فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: آية 30] قال بعضُ العلماءِ

(2)

: قَالَتْهُ جماعةٌ من اليهودِ، منهم: سَلَاّمُ بنُ مشكم، وشأسُ بنُ قيسٍ، ونعمانُ بنُ أَوْفَى، ومالكُ بنُ الصيفِ من اليهودِ - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - زعموا أن عُزيرًا ابنُ اللَّهِ.

وقال بعضُهم: قاله القدماءُ من اليهودِ فَاتَّبَعَهُمُ الآخَرون.

وقال بعضُهم: إن الذي قالَه قبلَ اليهودِ في زمنِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأن سببَ ذلك أنهم قَتَّلُوا الأنبياءَ فَرَفَعَ اللَّهُ التوراةَ وَمَسَخَهَا من قلوبِهم، أو أن "بختنصرَ" قَتَلَ علماءَهم، وَضَاعَتْ عليهم التوراةُ، وكان بعضُهم دَفَنَهَا في مَحَلٍّ، وكان عُزيرٌ قد قَدَّمْنَا قضيتَه أن الله أماتَه مائةَ عامٍ ثم بَعَثَهُ، وجاء وقد ضَاعَتِ التوراةُ عليهم، بَقُوا لم يحفظوا منها شيئًا، فَعَلَّمَهُ اللَّهُ إياها فقرأها عليهم لم يَخْرِمْ منها حَرْفًا، فقالوا: ما

(1)

في الأصل: «الدينية» . وهو سبق لسان.

(2)

انظر: ابن جرير (14/ 202).

ص: 437

عَلَّمَهُ اللَّهُ إياها إلا لأنه ابنُه!! ومما يَدُلُّ على أن هذه المقالةَ صَدَرَتْ من اليهودِ أن هذا القرآنَ يُتْلَى من قديمِ الزمانِ من نزولِ هذه الآيةِ ولم يُعْلَمْ أن يهوديًّا في زمانِها كَذَّبَ بذلك وقال: ما قُلْنَا هذا!! مع مسارعتِهم إلى التكذيبِ.

{وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ} [التوبة: آية 30] يعنِي عيسى بنَ مريمَ قالوا إنه ابنُ اللَّهِ.- قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - فَأَشْرَكُوا.

وقولُه: {يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: آية 30] على قراءةِ الجمهورِ، وهو مضارعُ:(ضَاهَاهُ يُضَاهِيهِ) إذا حَاكَاهُ وَشَابَهَهُ. وعلى قراءةِ عاصمٍ: {يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} فهو بمعناه؛ لأن (ضَاهَأَ) يقال فيها: (ضَاهَا) بلا هَمْزٍ، ويقال فيها:(ضَاهَأَ) بالهمزِ، وهما لغتانِ صحيحتانِ وقراءتانِ سبعيتانِ صحيحتانِ

(1)

.

ومعنَى المضاهاةِ والمضاهأةِ معناها: المحاكاةُ والمشابهةُ. يعني: يُحَاكُونَ ويشابهونَ قولَ الذين كَفَرُوا

(2)

مِنْ كُفَّارِ مكةَ الذين قالوا: الملائكةُ بناتُ اللَّهِ. وقال بعضُ العلماءِ: قالها المتأخرونَ من اليهودِ يُحَاكُونَ المتقدمينَ منهم. وقال بعضُ العلماءِ: قال النصارى: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} يُحَاكُونَ اليهودَ في قولِهم: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} وهذا كُلُّهُ لَا يُكَذِّبُ بعضُه بعضًا، وهذا معنَى قولِه:{يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ دَلَّ المقامُ عليه، أي: يُحَاكِيَ قولُهم قولَ الذين كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ.

{قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} قال بعضُ العلماءِ

(3)

معناه: لَعَنَهُمُ اللَّهُ.

(1)

انظر: المبسوط لابن مهران ص226.

(2)

انظر: ابن جرير (14/ 205)، القرطبي (8/ 118).

(3)

انظر: ابن جرير (14/ 207)، القرطبي (8/ 119).

ص: 438

وقال بعضُ العلماءِ: (قَاتَلَهُ اللَّهُ) كلمةُ تعجبٍ تقولُها العربُ إذا تَعَجَّبَتْ من شَيْءٍ يقولونَ: قَاتَلَ اللَّهُ فلانًا ما أَفْعَلَهُ لكذا. أو ما أَشَدَّ استحقاقَه لأن يُقْتَلَ، أو نحو ذلك.

قولُه: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} {يُؤْفَكُونَ} (يُفْعَلُونَ) من الإفكِ، والإفكُ: أسوأُ الكذبِ؛ لأن أصلَ مادةِ (أَفَكَهُ) إذا قَلَبَهُ. كُلُّ شيءٍ قَلَبْتَهُ فقد (أَفَكْتَهُ) ومنه قيل لِقُرَى قومِ لوطٍ: (المؤتفكات) لأن جبريلَ أَفكَها، أي: قَلَبَهَا فجعلَ عاليَها سافلَها. وإنما سُمِّيَ أسوأُ الكذبِ (إفكًا) لأنه صَرْفٌ للكلامِ في معناه الصحيحِ إلى معانِي أُخَرَ كاذبةٍ

(1)

. وهذا معنَى قولِه: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: آية 30].

قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} [التوبة: الآيات 31 - 33].

يقول اللَّهُ (جلَّ وعلا): {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} [التوبة: آية 31].

ذَكَرَ اللَّهُ (جلَّ وعلا) في هذه الآياتِ الكريماتِ من سورةِ براءة

(1)

مضى عند تفسير الآية (80) من سورة الأعراف.

ص: 439

جرائمَ اليهودِ والنصارى، فَعَدَّ منها أنهم نَسَبُوا له الأولادَ، وَأَتْبَعَ ذلك بقولِه:{قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: آية 30] كيف يُصْرَفُونَ عن الحقِّ مع وضوحِه، وَيَدَّعُونَ للواحدِ الأحدِ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، يَدَّعُونَ له الأولادَ فيقولونَ: عُزير ابنُ اللَّهِ، والمسيحُ ابنُ اللَّهِ؟ سبحانَه وتعالى عما يقولُ الظالمونَ عُلُوًّا كبيرًا.

ثم ذَكَرَ من معائبِهم وإجرامِهم بلايا أُخَرَ فقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: آية 31] أي: وَاتَّخَذُوا المسيحَ بنَ مريمَ رَبًّا من دونِ اللَّهِ أيضًا. وهذه الآيةُ جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه فَسَّرَهَا لِعَدِيِّ بنِ حاتمٍ رضي الله عنه لَمَّا سَأَلَهُ عنها، فقد أَخْرَجَ الترمذيُّ وغيرُه عن عديِّ بنِ حاتمٍ رضي الله عنه أنه أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وفي عُنُقِهِ صليبٌ من ذَهَبٍ، فقال له صلى الله عليه وسلم:«اطْرَحْ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ» وَسَمِعَهُ يقرأُ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ} - وكان عَدِيٌّ في الجاهليةِ نَصْرَانيًّا - فقال عَدِيٌّ: ما كُنَّا نعبدُهم من دونِ اللَّهِ. فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَلَمْ يُحِلُّوا لَكُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَيُحَرِّمُوا عَلَيْكُمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتَتَّبِعُوهُمْ؟» قال: بَلَى. قال: «ذَلِكَ عِبَادَتُهُمْ»

(1)

. وهو معنَى اتخاذِهم أربابًا. وهذا التفسيرُ النبويُّ المقتضِي أن كُلَّ مَنْ يَتَّبِعُ مُشَرِّعًا فيما أَحَلَّ وَحَرَّمَ مُخَالِفًا لتشريعِ اللَّهِ أنه عابدٌ له، متخذُه رَبًّا، مُشْرِكٌ به، كافرٌ بالله هو تفسيرٌ صحيحٌ لا شَكَّ في صحتِه، والآياتُ القرآنيةُ الشاهدةُ لصحتِه لَا تكادُ تُحْصِيهَا في المصحفِ الكريمِ، وَسَنُبَيِّنُ - إن شاء الله - طَرَفًا من ذلك:

(1)

مضى عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام.

ص: 440

اعْلَمُوا أيها الإخوانُ أن الإشراكَ بِاللَّهِ في حُكْمِهِ والإشراكَ به في عبادتِه كلاهما بمعنًى واحدٍ، لا فَرْقَ بينهما ألبتةَ، فالذي يَتْبَعُ نظامًا غيرَ نظامِ اللَّهِ، وتشريعًا غيرَ ما شَرَّعَهُ اللَّهُ، وقانونًا مُخَالِفًا لشرعِ اللَّهِ من وَضْعِ البشرِ، مُعْرِضًا عن نورِ السماءِ الذي أَنْزَلَهُ اللَّهُ على لسانِ رسولِه، مَنْ كان يفعلُ هذا هو وَمَنْ يعبدُ الصنمَ ويسجدُ للوثنِ لَا فرقَ بينَهما ألبتةَ بوجهٍ من الوجوهِ، فَهُمَا واحدٌ، فَكِلَاهُمَا مشركٌ بِاللَّهِ، هذا أَشْرَكَ به في عبادتِه، وهذا أَشْرَكَ به في حُكْمِهِ، والإشراكُ به في عبادتِه، والإشراكُ به في حُكْمِهِ كِلَاهُمَا سواءٌ، وقد قال اللَّهُ (جلَّ وعلا) في الإشراكِ به في عبادتِه:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: آية 110].

وقال في الإشراكِ به في حُكْمِهِ أيضًا: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: آية 26]. وَفِي قراءةِ ابنِ عامرٍ من السبعةِ: {ولا تُشْرِكْ في حكمه أحدا}

(1)

بصيغةِ النهي المطابقةِ لقولِه: {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: آية 110] فَكِلَاهُمَا إشراكٌ بِاللَّهِ؛ وَلِذَا بَيَّنَ النبيُّ لعديِّ بنِ حاتمٍ أنهم لَمَّا اتبعوا نظامَهم في التحليلِ والتحريمِ وَشَرْعِهِمُ المخالفِ لشرعِ اللَّهِ كانوا عبدةً لهم، مُتَّخِذِيهِمْ أربابًا، والآياتُ القرآنيةُ في المصحفِ الكريمِ المُصَرِّحةُ بهذا المعنَى لا تكادُ تُحْصِيهَا، ومن أَصْرَحِهَا: الْمُنَاظَرَةُ التي أَشَرْنَا لها، وَوَعَدْنَا بإيضاحِ مَبْحَثِهَا هنا، وهي المناظرةُ التي وَقَعَتْ بَيْنَ حزبِ الرحمنِ وحزبِ الشيطانِ في حُكْمِ تحليلِ لحمِ الميتةِ وتحريمِه، فحزبُ الشيطانِ يقولونَ: إن الميتةَ حلالٌ، ويستدلونَ

(1)

مضى عند تفسير الآية (106) من سورة الأنعام.

ص: 441

بِوَحْيٍ مِنْ وَحْيِ الشيطانِ، وهو أن الشيطانَ أَوْحَى إلى أصحابِه وتلامذتِه في مكةَ أَنِ اسْأَلُوا محمدًا عن الشاةِ تصبحُ ميتةً مَنْ هُوَ الذي قَتَلَهَا؟ فَلَمَّا قال: اللَّهُ قَتَلَهَا.

احْتَجُّوا على النبيِّ وأصحابِه في تحريمِهم الميتةَ بفلسفةٍ مِنْ وَحْيِ الشيطانِ وقالوا: ما ذَبَحْتُمُوهُ وَذَكَّيْتُمُوهُ بأيديكم حلالٌ، وما ذَبَحَهُ اللَّهُ بيدِه الكريمةِ بسكينٍ مِنْ ذَهَبٍ تقولونَ حرامٌ!! فَأَنْتُمْ أحسنُ مِنَ اللَّهِ إِذًا!! فهذا فلسفةُ الشيطانِ ووحيُ إبليسَ اسْتَدَلَّ بها كفارُ مكةَ على اتباعِ نظامِ الشيطانِ وتشريعِه وقانونِه بِدَعْوَى أن ما ذَبَحَهُ اللَّهُ أحلُّ مِمَّا ذَبَحَهُ الناسُ، وأن تذكيةَ اللَّهِ أطهرُ من تذكيةِ الخلقِ، وَاسْتَدَلَّ أصحابُ النبيِّ والنبيُّ صلى الله عليه وسلم على تحريمِ الميتةِ بوحيِ الرحمنِ في قولِه تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: آية 3]{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} [البقرة: آية 173] فَأَدْلَى هؤلاء بنصٍّ من نصوصِ السماءِ، وَأَدْلَى هؤلاء بفلسفةٍ من وحيِ الشيطانِ، وَوَقَعَ بينَهم جدالٌ وخصامٌ، فَتَوَلَّى رَبُّ السماواتِ والأرضِ الْفُتْيَا في ذلك بنفسِه فَأَنْزَلَهَا قُرْآنًا يُتْلَى في سورةِ الأنعامِ مُعَلِّمًا بها خلقَه، أن كُلَّ مَنْ يتبعُ نظامًا وتشريعًا وقانونًا مُخَالِفًا لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ على لسانِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فهو مشركٌ بِاللَّهِ كافرٌ مُتَّخِذٌ ذلك المتبوعَ رَبًّا، فأنزل اللَّهُ ذلك في قولِه:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} منه الميتةُ. أي: وإن قالوا: إنها ذَكَاةُ اللَّهِ، وأنها أَطْهَرُ. ثم قال:{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} أي: إن الأكلَ من الميتةِ لَفِسْقٌ. أي: لَخُرُوجٌ عَنْ طاعةِ الرحمنِ إلى طاعةِ الشيطانِ {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} من الْكَفَرَةِ ككفارِ مكةَ {لِيُجَادِلُوكُمْ} لأجلِ أن يجادلُوكم بِوَحْيِ الشيطانِ، ما ذبحتمُوه حلالٌ، وما ذَبَحَهُ اللَّهُ حرامٌ، فأنتم أحسنُ من اللَّهِ.

ثم قال - وهو مَحَلُّ الشاهدِ -: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} أي:

ص: 442

اتَّبَعْتُمُوهُمْ في ذلك النظامِ الذي وَضَعَهُ الشيطانُ لأَتْبَاعِهِ وَأَقَامَ دليلاً من وَحْيِهِ عليه {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} بِاللَّهِ، متخذونَ مَنِ اتَّبَعْتُمْ تشريعَه رَبًّا غيرَ اللَّهِ. وهذا الشركُ في قولِه:{إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} هو الشركُ الأكبرُ المخرجُ عن مِلَّةِ الإسلامِ بإجماعِ المسلمينَ، وهو الذي أَشَارَ اللَّهُ إليه في قولِه:{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)} [النحل: آية 100] وهو الذي صَرَّحَ به الشيطانُ في خطبتِه يومَ القيامةِ المذكورةِ في قولِه: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} إلى قولِه: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم: آية 22] وهو المرادُ على أَصَحِّ التفسيرين في قولِه: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ: آية 41] يعبدونَ الشياطينَ باتباعِهم أنظمتَهم وتشريعاتِهم على ألسنةِ الكفارِ، وهو الذي نَهَى عنه إبراهيمُ أَبَاهُ:{يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [مريم: آية 44] أي: بِاتِّبَاعِ ما يقررُ لَكَ من نظامِ الكفرِ والمعاصِي مُخَالِفًا لشرعِ اللَّهِ الذي أَنْزَلَهُ على رُسُلِهِ، وهذه العبادةُ بعينِها هي التي وَبَّخَ اللَّهُ مُرْتَكِبَهَا وَبَيَّنَ مصيرَه الأخيرَ في سورةِ "يس" في قولِه:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَاّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60)} [يس: آية 60] ما عَبَدُوهُ بسجودٍ ولَا ركوعٍ وإنما عَبَدُوهُ باتباعِ نظامٍ وتشريعٍ وقانونٍ شَرَعَ لهم أمورًا غيرَ ما شَرَعَهُ اللَّهُ فاتبعوه وتركوا ما شَرَعَ اللَّهُ فعبدوه بذلك واتخذوه رَبًّا كما بَيَّنَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لعديِّ بنِ حاتمٍ رضي الله عنه، فهذا أمرٌ لَا شَكَّ فيه، وهو المرادُ بقولِه:{وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَاّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا} [النساء: آية 117] يعني: ما يعبدونَ إلا شيطانًا مَرِيدًا،

أي: عبادةَ اتباعِ نظامٍ وتشريعٍ. وَاعْلَمْ أن قومًا زَعَمُوا أنهم يريدونَ أن يتحاكموا إلى شرعِ الشيطانِ والذي وَضَعَهُ، وَادَّعُوا مع ذلك أنهم

ص: 443

مؤمنونَ فعَجَّبَ اللَّهُ نَبِيَّهُ من دَعْوَاهُمُ الكاذبةِ الفاجرةِ التي لا يمكنُ أن تُصَدَّقَ في سورةِ النساءِ في قولِه (جلَّ وعلا): {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: آية60].

وَكُلُّ مَنْ تَحَاكَمَ إلى غيرِ ما أنزل اللَّهُ فهو متحاكمٌ إلى الطاغوتِ، وهؤلاء قومٌ أَرَادُوا التحاكمَ إلى الطاغوتِ وزعموا أنهم مؤمنونَ بالله فَعَجَّبَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مِنْ كَذِبِ هؤلاءِ وعدمِ حيائِهم في قولِه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} يُعَجِّبه منهم {يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ} الذي شَرَعَ لهم تلك النظمَ والأوضاعَ التي يسيرونَ عليها {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا} وَأَقْسَمَ اللَّهُ (جلَّ وعلا) إقسامًا سماويًّا من رَبِّ العالمينَ على أنه لا إيمانَ لِمَنْ لم يُحَكِّمْ رسولَ اللَّهِ فيما جاء به عن اللَّهِ خالصًا من قلبِه في باطنِه وَسِرِّهِ في قولِه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: آية 65] وَبَيَّنَ اللَّهُ (جلَّ وعلا) في آياتٍ كثيرةٍ من كتابِه أن الْحُكْمَ له وحدَه لَا شريكَ له في حُكْمِهِ، وكلما ذَكَرَ اختصاصَه بالحكمِ أَوْضَحَ العلاماتِ التي يُعَرِّفُ بها بَيْنَ مَنْ يستحقُّ أن يحكمَ ويأمرَ وَيَنْهَى وَيُشَرِّعَ ويحللَ ويحرمَ، وَبَيْنَ مَنْ ليس له شيءٌ من ذلك، قال تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ} [يوسف: آية 40]{لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ} [القصص: آية 70] وَسَنُبَيِّنُ لكم أمثلةً من ذلك، من ذلك قولُه في سورةِ الشورى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: آية 10] ثم إِنَّ اللَّهَ كأنه قال: هذا الذي يكونُ المرجعُ إليه،

ص: 444

والقولُ قولُه، والكلمةُ كلمتُه، حتى يُرَدَّ إليه كُلُّ شَيْءٍ، اخْتُلِفَ فيه ما صفاتُه التي يَتَمَيَّزُ بها عن غيرِه؟ قال:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}

ثم بَيَّنَ صفاتِ مَنْ يستحقُّ الحكمَ والتشريعَ والتحليلَ والتحريمَ والأمرَ والنهيَ فقال: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)} [الشورى: الآيات 10 - 12] هذه صفاتُ مَنْ له أن يحكمَ ويحللَ ويحرمَ ويأمرَ وينهى، أَفَتَرَوْنَ أيها الإخوانُ أن واحدًا من هؤلاءِ القردةِ الخنازيرِ الكلابِ أبناءِ الكلابِ الذين يضعونَ القوانينَ الوضعيةَ فيهم واحدٌ يستحقُّ هذه الصفاتِ التي هي صفاتُ مَنْ له أن يحكمَ ويحللَ ويحرمَ ويأمرَ وينهى؟!! ومن الآياتِ الدالةِ على هذا النوعِ قولُه تعالى في سورةِ القصصِ:{وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)} .

ثم بَيَّنَ صفاتِ مَنْ له أن يحكمَ فقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)} [القصص: الآيات 70 - 73] هل في الكفَرَةِ القردةِ الخنازيرِ الكلابِ أبناءِ الكلابِ الذين يضعونَ النظمَ ويزعمونَ أنهم يرتبونَ بها علاقاتِ الإنسانِ ويضبطونَ بها شؤونَه هل في هؤلاء من يستحقُّ أن يوصفَ بهذه الصفاتِ التي هي صفاتُ مَنْ له أن يحكمَ ويأمرَ وينهى ويحللَ

ص: 445

ويحرمَ؟! ومن ذلك قولُه تعالى في أخرياتِ القصصِ: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ

(1)

[إِلَاّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}][القصص: آية 88].

[6/أ] / والآياتُ القرآنيةُ في مثلِ هذا كثيرةٌ جِدًّا. والحاصلُ أن التشريعَ لا يكونُ إلا للأعلى الذي لا يمكنُ أن يكونَ فوقَه آمِرٌ ولَا نَاهٍ ولا مُتَصَرِّفٌ، فهو للسلطةِ العليا، أما المخلوقُ الجاهلُ الكافرُ المسكينُ فليس له أن يُحللَ ويحرِّمَ، والعجبُ كُلُّ العجبِ مِنْ قومٍ كان عندهم كتابُ اللَّهِ وَرِثُوا الإسلامَ عن آبائِهم، وعندَهم هذا القرآنُ العظيمُ، والنورُ المبينُ، وَسُنَّةُ خيرِ الخلقِ صلى الله عليه وسلم، يُبَيِّنُ اللَّهُ ورسولُه كُلَّ شيءٍ، ومع ذلك يعرضونَ عن هذا زاعمينَ أنه لا يَحْسُنُ القيامُ بشؤونِ الدنيا بعدَ تطوراتِها الراهنةِ، يطلبونَ الصوابَ في زبالاتِ أذهانِ كفرةٍ خنازيرَ، لَا يعلمونَ شيئًا!! هذا مِنْ طمسِ البصائرِ - والعياذُ بالله - لا يُصَدِّقُ به إلا مَنْ رآه، ولكن الخفافيشَ يعميها نورُ القرآنِ العظيمِ، فالقرآنُ العظيمُ نورٌ عظيمٌ، والخفاشُ لا يكادُ أن يرى النورَ:

خَفَافِيشُ أَعْمَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِهِ

فَوَافَقَهَا قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمُ

(2)

هذا القرآنُ العظيمُ ينصرفونَ عنه، وترى الواحدَ الذي هو مسؤولٌ عنهم يُعْلِنُ في غيرِ حياءٍ من اللَّهِ ولا حياءٍ من الناسِ بوجهٍ لا ماءَ فيه، بكلِّ وقاحةٍ أنه يُحَكِّمُ في نفسِه وفي الناسِ الذين هم رعيتُه الذين هو مسؤولٌ عنهم يحكمُ في أديانِهم، وفي أنفسِهم، وفي عقولِهم، وفي أنسابِهم، وفي أموالِهم، وفي أعراضِهم، قانونًا أَرْضِيًّا

(1)

في هذا الموضع انقطع التسجيل، وقد أكملت الآية وجعلت ذلك بين معقوفين.

(2)

مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام.

ص: 446

وضعَه خنازيرُ كفرةٌ جهلةٌ أنتنُ من الكلابِ والخنازيرِ، وأجهلُ خلقِ اللَّهِ، مُعْرِضًا عن نورِ السماءِ الذي وَضَعَهُ اللَّهُ (جلَّ وعلا) على لسانِ خَلْقِهِ، فهذا مِنْ طَمْسِ البصائرِ لَا يُصَدِّقُ به إلا مَنْ رَآهُ - والعياذُ بالله - اللَّهُمَّ لا تَطْمِسْ بصائرَنا ولا تُزِغْ قُلُوبَنَا بعدَ إِذْ هَدَيْتَنَا.

وَاعْلَمُوا - أيها الإخوانُ - أن كُلَّ مَنْ يَتَعَالَمُ أمامَ الخالقِ (جلَّ وعلا) بلا حياءٍ في وَجْهِهِ أنه يُعْرِضُ عمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم مُدَّعِيًا أنه لا يَقْدِرُ أن يقومَ بتنظيمِ علاقاتِ الدنيا يطلبُ النورَ وَالْهُدَى في زبالاتِ أذهانِ خنازيرَ كفرةٍ فجرةٍ جهلةٍ في غايةِ الجهلِ أنه هو وفرعونُ وهامانُ وقارونُ في الكفرِ سواءٌ، لأنه لا يُعْرِضُ عن اللَّهِ، وعن تشريعِ اللَّهِ، ويفضِّل عليه تشريعَ الشيطانِ، ونظامَ إبليسَ الذي شَرَعَهُ على ألسنةِ أوليائِه إلا مَنْ لَا نصيبَ له في الإيمانِ بوجهٍ مِنَ الوجوهِ، كما رأيتُم الآياتِ الكثيرةَ الدالةَ على ذلك، وَتَعْجِيبُ اللَّهِ نَبِيَّهُ مِنَ ادِّعَاءِ مِثْلِهِ الإيمانَ. فعلى المسلمينَ جميعًا أن يعلموا ويعتقدوا- ونحن نقولُ: لَا شَكَّ يجبُ على كُلِّ مسلمٍ كَائِنًا مَنْ كان أن يعلمَ- أنه لَا حلالَ إلا ما أَحَلَّهُ اللَّهُ، ولا حرامَ إلا ما حَرَّمَهُ اللَّهُ، ولا دينَ إلا ما شَرَّعَهُ اللَّهُ، فَمَنْ سِوَى اللَّهِ لَا تحليلَ له ولا تحريمَ؛ لأنه عَبْدٌ مسكينٌ ضعيفٌ مربوبٌ، عليه أن يعملَ بما يَأْمُرُ بِهِ رَبُّهُ، فيتبعُ ما يُشَرِّعُهُ رَبُّهُ. وهذا معنَى قولِه:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ} الأحبارُ: جَمْعُ حَبْرٍ بفتحِ الحاءِ وكسرِها. والتحقيقُ أنهما لغتانِ. والأحبارُ: العلماءُ. والرهبانُ: المتعبدونَ المنقطعونَ في الصوامعِ، وهو جمعُ راهبٍ، وشذَّ قومٌ فقالوا: إن الواحدَ منهم يقال له (رهبان) واستدلوا

ص: 447

بِقَوْلِ الراجز

(1)

:

لَوْ كَلَّمَتْ رُهْبَانَ دَيْرٍ فِي الْجَبَلْ

لأَقْبَلَ الرُّهْبَانُ يَهْوِي وَنَزَلْ

أنه واحدٌ. والتحقيقُ: أنه جمعُ راهبٍ.

{أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ} الأربابُ: جَمْعُ رَبٍّ، لأنهم عَبَدُوهُمْ، والعبادةُ من صفاتِ الرَّبِّ (جلَّ وعلا) وحدَه لَا يُعْبَدُ سواه.

{وَمَا أُمِرُوا} بِمَا أُمِرُوا به مِنَ الدِّينِ {إِلَاّ} لأَجْلِ أن يعبدوا اللَّهَ وَحْدَهُ {إِلَهًا وَاحِدًا} أي: معبودًا واحدًا {لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} لَا معبودَ بِحَقٍّ إلا هو وحدَه (جلَّ وعلا){سُبْحَانَهُ} أي: تَنْزِيهًا له أَتَمَّ تنزيهٍ عما يشركونَ به شركَ ربوبيةٍ وشركَ طاعةٍ وشركَ عبادةٍ.

وهذه الآيةُ من سورةِ براءةٍ بَيَّنَ اللَّهُ فيها أن النصارى واليهودَ مشركونَ كما أَشَرْنَا إليه سابقًا. وهذا معنَى قولِه: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: آية 31].

{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة: آية 32] قال بعضُ العلماءِ: نورُ اللَّهِ هو هذا القرآنُ العظيمُ، وقد سَمَّى اللَّهُ هذا القرآنَ نُورًا في آياتٍ كثيرةٍ كقولِه:{قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} [المائدة: آية 15]{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا} [النساء: آية 174]{وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ} [الشورى: آية 52]{وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِيَ أُنْزِلَ مَعَهُ} [الأعراف: آية 157]{وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التغابن: آية 8] هو نورٌ

(1)

البيت لعروة بن حزام، وهو في ديوانه ص31، فتح القدير (2/ 68) ولفظ الشطر الثاني:

«لزحف الرهبان يمشي وزحل»

ص: 448

أضاءَ اللَّهُ به كُلَّ شيءٍ، وَكُلُّ مَنْ لَا يَعْلَمُ أنه نورٌ وأنه حَقٌّ فإن ذلك إنما جَاءَهُ مِنْ قِبَلِ عَمَاهُ؛ لأنه خُفَّاشٌ أَعْمَى، والأَعْمَى لا يرى الشمسَ، وقد بَيَّنَ اللَّهُ هذا في سورةِ الرعدِ في قولِه:{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: آية 19] فَصَرَّحَ بأن الذي يَمْنَعُهُ من أن يعلمَ أنه الحقُّ إنما هو عَمَاهُ.

إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْءِ عَيْنٌ بَصِيرَةٌ

فَلَا غَرْوَ أَنْ يَرْتَابَ وَالصُّبْحُ مُسْفِرُ

(1)

وقولُه: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ} يعني: يُذْهِبُوا أدلةَ هذا القرآنِ العظيمِ وَيُبْطِلُوهَا ويمنعوا إقامةَ أدلتِه وإظهارَه للحقِّ وَالدِّينِ.

{بِأَفْوَاهِهِمْ} في قولِه: {بِأَفْوَاهِهِمْ} وَجْهَانِ

(2)

:

أحدُهما: أن المرادَ أن إطفاءَه بأفواهِهم هو تكذيبُهم به وقولُهم: إنه شِعْرٌ أو سِحْرٌ أو كهانةٌ أو أساطيرُ الأولينَ أو مكذوبٌ على اللَّهِ. فهذا إرادتُهم تكذيبُه وإبطالُه بأفواهِهم بالقولِ الكاذبِ.

وقال بعضُهم: شَبَّهَ فِعْلَهُمْ بِمَنْ رَأَى نورًا مستضيئًا مَلأَ أَقْطَارَ الدنيا وأرادَ أن ينفخَه ليطفئَه بنفخةٍ؛ لأَنَّ النفخَ يطفئُ النورَ الضعيفَ، ولا يقدرُ على النورِ العظيمِ القويِّ. كأنه شَبَّهَ إرادتَهم لإطفائِه بِمَنْ يريدُ أن ينفخَ في نورٍ عظيمٍ مَلأَ الأرضَ ليطفئَه بالنفخِ،

(1)

مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام.

(2)

انظر: ابن جرير (4/ 213 - 214)، ابن كثير (2/ 349)، البحر المحيط (5/ 33).

ص: 449

وهذا لا يمكنُ أبدًا {وَيَأْبَى اللَّهُ} (جلَّ وعلا){إِلَاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} للعلماءِ بحثٌ لغويٌّ في قولِه: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَاّ}

(1)

قالوا: لأَنَّ الاستثناءَ يكونُ مِنْ نَفْيٍ قَبْلَهُ، وهنا ليس فيه نَفْيٌ، والإثباتُ لَا يُسْتَثْنَى منه، فلا تقولُ: ضربتُ إلا زيدًا، وأكرمتُ إلا عَمْرًا.

وأجاب بعضُ العلماءِ عن هذا بأن الإباءَ فيه معنَى الامتناعِ، والامتناعُ مُضَمَّنٌ معنَى الجحدِ، هم يريدونَ كذا ولم يُرِدِ اللَّهُ إلا أن يُتِمَّ نورَه. فهو في معنَى النفيِ.

وقال بعضُ العلماءِ: هو متعلقٌ بمحذوفٍ: وَيَأْبَى اللَّهُ كُلَّ شيءٍ إلا إتمامَ نورِه، فهذا وحدَه لا بُدَّ أن يَقَعَ.

ثم قال: {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} فَلَوْ كَرِهَ الكافرونَ إتمامَه فهو مُتَمِّمُهُ مَهْمَا كان.

{هُوَ} أي: اللَّهُ {الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} [التوبة: آية 33] هو محمدٌ صلى الله عليه وسلم.

{بِالْهُدَى} قال بعضُ العلماءِ: الْهُدَى أيضًا هو هذا القرآنُ؛ لأن اللَّهَ يقولُ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: آية 185] قالوا: {بِالْهُدَى} أي: بالقرآنِ الفارقِ بينَ الحقِّ والباطلِ {وَدِينِ الْحَقِّ} هو دينُ الإسلامِ؛ الذي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ غيرَه {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلَامُ} [آل عمران: آية 19]{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: آية 85] وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: آية 3].

(1)

انظر: الدر المصون (6/ 40).

ص: 450

{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} الضميرُ فِي قولِه: {لِيُظْهِرَهُ} فيه وجهانِ للعلماءِ

(1)

: قال بعضُهم -وَهُوَ مَرْوِيٌّ عن ابنِ عَبَّاسٍ

(2)

-: الضميرُ عائدٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم. أي: أَرْسَلَهُ بهذا الْهُدَى {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} ليطلعَه على جميعِ الأديانِ فَيُبَيِّنُ لأهلِها حقيقَها من باطلِها، كما قَدَّمْنَاهُ في قولِه:{وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: آية 48]{يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة: آية 15]{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: آية 93] وغير ذلك من الآياتِ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ من كتابِ اللَّهِ ما جاء في جميعِ الكتبِ المتقدمةِ.

القولُ الثانِي: - وعليه الأكثرُ - أن الضميرَ لِلدِّينِ {لِيُظْهِرَهُ} أي: ليظهرَ دِينَ الإسلامِ، أي: يُعْلِيَهُ على جميعِ الأديانِ كُلِّهَا. وهذا الإعلاءُ يدخلُ فيه إظهارُه بالحجةِ والبرهانِ، فبراهينُه قاطعةٌ، وَحُجَجُهُ ساطعةٌ لَا شَكَّ فيه، وكتابُه محفوظٌ، فلا شيءَ يُوَازِيهِ ولَا يُشَابِهُهُ.

قال بعضُ العلماءِ: {لِيُظْهِرَهُ} أي: يَنْصُرَهُ ويُغَلِّبَهُ على جميعِ الأديانِ، وقد وَفَّى اللَّهُ بهذا فيما مَضَى، وَسَيَفِي به - أيضًا - في المستقبلِ؛ لأن الدينَ فيما مضى ظَهَرَ على جميعِ الأديانِ، وَأَذَلَّ الدولَ الكبارَ العظيمةَ المعروفةَ، كالدولةِ الكسرويةِ، والدولةِ القيصريةِ، لم يَبْقَ منهم إلا مَنْ هو يُعْطِي الجزيةَ عن يدٍ وهو صاغرٌ، أو مُسْلِمٌ، وَانْتَشَرَ في أقطارِ الدنيا من شَرْقِهَا وغربِها، وَظَهَرَ على كُلِّ الأديانِ، وَأَذَلَّ أهلَها، وسيأتِي ذلك في آخِرِ هذا الزمانِ أيضًا كما جاء في أحاديثَ صحيحةٍ كثيرةٍ أنه لا يَبْقَى في آخِرِ الزمانِ أحدٌ إلا كان

(1)

انظر: ابن جرير (14/ 215)، القرطبي (8/ 121)، ابن كثير (2/ 349).

(2)

أخرجه ابن جرير (14/ 215) من طريق علي بن أبي طلحة.

ص: 451

مُسْلِمًا

(1)

، ولم يكن في المعمورةِ غير دينِ الإسلامِ. وهذا معنَى قولِه:{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: آية 33] إظهارُه على الدِّينِ كُلِّهِ.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)} [التوبة: الآيات 34 - 36].

قال اللَّهُ (جلَّ وعلا): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)} [التوبة: الآيتان 34، 35] لَمَّا ذَكَرَ الله (جلَّ وعلا) أن اليهودَ والنصارى اتخذوا أحبارَهم ورهبانَهم أربابًا بَيَّنَ أن الرهبانَ والأحبارَ لا ينبغي اتخاذُهم أربابًا؛ لأن أكثرَهم فَجَرَةٌ غيرُ مستقيمينَ فقال: {إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ

(1)

ساق ابن كثير في تفسيره (2/ 349) كثيرًا من هذه الأحاديث المشار إليها.

ص: 452

بِالْبَاطِلِ} أي: فكيف تتخذونَ هؤلاء أربابًا مع أن الإنسانَ لو اتَّخَذَ أشرفَ الأنبياءِ رَبًّا أو أعظمَ الملائكةِ رَبًّا لكانَ مِنْ كبارِ المشركينَ، أَحْرَى مَنْ يتخذُ الفجَرَةَ أَرْبَابًا {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ (80)} [آل عمران: الآية 80] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ

} العلماء {وَالرُّهْبَانِ} : المتعبدينَ في صوامعِهم.

{لَيَأْكُلُونَ} هذه أصلُها لامُ الابتداءِ التي تُزَحْلِقُهَا (إِنَّ) المكسورة عن المبتدأِ إلى الخبرِ {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} قال بعضُ العلماءِ: يأخذونَ الرُّشَا. وقال بعضُ العلماءِ: يأخذونَ من أتباعِهم أموالاً باسمِ الدِّينِ ثم يأكلونَها، قال بعضُهم: يأخذونَ أموالاً باسمِ الكنيسةِ والبيعةِ ونحوِ ذلك مما يُخَيِّلُونَ لأتباعِهم أن أخذَه مِنَ الدِّينِ ومرادُهم الغرضُ الدنيويُّ

(1)

.

وقولُه: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} لأَنَّ مَنِ استشارَ الرهبانَ والأحبارَ مِنْ أتباعِهم: هَلْ يأخذُ دِينَ الإسلامِ يمنعونَهم من ذلك، وَيَصُدُّونَهُمْ عن سبيلِ اللَّهِ التي هي دِينُ الإسلامِ.

ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ

} العربُ تقولُ: «كَنَزْتُ الشيءَ» إذا جمعتَه وجعلتَ بعضَه إلى بعضٍ. وكثيرًا ما يُطْلَقُ على المالِ المجموعِ بعضُه إلى بعضٍ المدفونِ في الأرضِ، والكنزُ في اللغةِ يُطْلَقُ على كُلِّ مجموعٍ مضمومٍ بعضُه إلى بعضٍ، ومنه: ناقةٌ مكتنزةُ اللحمِ؛ لأن لَحْمَهَا بعضُه مُنْضَمٌّ إلى بعضٍ. سواء كان في باطنِ الأرضِ أو على ظاهرِها

(2)

.

(1)

انظر: القرطبي (8/ 122).

(2)

انظر: القرطبي (8/ 123)، الدر المصون (6/ 42).

ص: 453

قال بعضُ العلماءِ: هذه في أهلِ الكتابِ. قاله معاويةُ، واختلف معه أبو ذَرٍّ رحمه الله. كان أبو ذَرٍّ في الشامِ فشكاه معاويةُ إلى عثمانَ فَأَشْخَصَهُ عثمانُ إلى المدينةِ، وكان أبو ذرٍّ رضي الله عنه عندَه مذهبٌ معروفٌ مخالفٌ لجميعِ أقوالِ الصحابةِ يُضَيِّقُ في اقتناءِ المالِ، وكان رضي الله عنه يقولُ: إن الإنسانَ إذا ادَّخَرَ شيئًا زائدًا عن خَلَّتِه الضروريةِ فهو كَنْزٌ يُكْوَى به وجهُه وظهرُه وجنبُه، وكان يذكرُ هذا للناسِ، وَمِنْ أجلِ هذا أَمَرَهُ عثمانُ رضي الله عنه أيامَ خلافتِه أن يخرجَ إلى الربذةِ وَتُوُفِّيَ بها رضي الله عنه وأرضاه)

(1)

، وأبو ذَرٍّ معذورٌ؛ لأنه جاء النبيَّ في أولِ الإسلامِ، وكان المسلمونَ في أولِ الإسلامِ فقراءَ ليس عندهم شيءٌ، وكان التشديدُ في إمساكِ الذهبِ والفضةِ في ذلك الوقتِ عظيمًا، فَسَمِعَ من النبيِّ شيئًا ورجعَ إلى أهلِه بالباديةِ، ثم أَنْزَلَ اللَّهُ فريضةَ الزكاةِ، وَكَثُرَ المالُ واتسعَ الأمرُ، وَزَالَ التشديدُ، ولم يَعْلَمْ رضي الله عنه بشيءٍ من ذلك، فصارَ على التشديدِ الأولِ؛ لأنه سَمِعَهُ من رسولِ اللَّهِ ولم يَسْمَعْ ما طَرَأَ بَعْدَ ذلك. هذا قَالَهُ بعضُ الصحابةِ وهو الظاهرُ أنه الحقُّ

(2)

.

قولُه: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} رَدَّ الضميرَ هنا على الفضةِ ولم يَقُلْ: «ولَا ينفقونَهما» وللعلماءِ في توجيهِه في اللغةِ العربيةِ أقوالٌ

(3)

، والتحقيقُ أن من أساليبِ اللغةِ

(1)

أخرجه البخاري في الزكاة، باب: ما أُدي زكاته فليس بكنز، حديث رقم:(1406)(3/ 271) وأخرجه في موضع آخر، حديث رقم:(4660).

(2)

انظر: الأضواء (2/ 434).

(3)

انظر: الدر المصون (6/ 42).

ص: 454

العربيةِ التي نَزَلَ بها القرآنُ رجوعُ الضميرِ على أحدِ الْمُتَعَاطِفَيْنِ بـ (الواو) أو (الفاء) أو (أو)، وهو في (أو) أظهرُ اكتفاءً ببعضِهما؛ لأن الآخَرَ مفهومٌ منه، وهو كثيرٌ في القرآنِ وفي كلامِ العربِ

(1)

فَمِنْ أمثلتِه في القرآنِ: {يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا

} {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا} [البقرة: آية 45]{أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ} [الأنفال: الآية 20] ومن أمثلتِه بـ (أو): {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ} [النساء: آية 112]{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: آية 11] وَمِنْ رجوعِ الضميرِ إلى المتعاطفينِ بـ (أو) قَوْلُهُ: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: آية 135] ومثالُ إفرادِه في المتعاطفينِ بـ (الفاء): قولُ امرئِ القيسِ

(2)

:

فَتُوضِحَ فَالْمِقْرَاةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا

. . . . . . . . . . . . . . .

فَرَدَّهُ على أحدِهما. وهو في العطفِ بـ (الواو) كالآيةِ كثيرٌ جِدًّا في كلامِ العربِ، منه قولُ نابغةِ ذبيانَ

(3)

:

وَقَدْ أَرَانِي وَنُعْمًا لَاهِيَيْنِ بِهَا

وَالدَّهْرُ وَالْعَيْشُ لَمْ يَهْمِمْ بِإِمْرَارِ

ولم يقل: «وَلَمْ يَهْمِمَا» . ومنه قولُ حسانَ رضي الله عنه

(4)

:

إِنَّ شَرْخَ الشَّبَابِ وَالشَّعْرَ الأَ

سْوَدَ مَا لَمْ يُعَاصِ كَانَ جُنُونَا

وهو كثيرٌ في كلامِ العربِ.

(1)

مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة.

(2)

مضى عند تفسير الآية (46) من سورة الأنعام.

(3)

مضى عند تفسير الآية (45) من سورة البقرة.

(4)

السابق.

ص: 455

وقولُه: {يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} التحقيقُ - إن شاء الله - الذي هو الصوابُ؛ أن كنزَ الفضةِ والذهبِ الذي يُكْوَى به صاحبُه هو ما مَنَعَ فيه حَقَّ اللَّهِ من الزكاةِ

(1)

، أما ما أُدِّيَتْ زَكَاتُهُ، وَأُخْرِجَ حَقُّ اللَّهِ الواجبُ فيه، فالباقِي بعدَ هذا لا يُسَمَّى كَنْزًا، وإن كان تحتَ الأرضِ، ولا يُكْوَى به صاحبُه، هذا هو المذهبُ الحقُّ - إن شاء الله - وأدلتُه واضحةٌ، وبراهينُه ساطعةٌ لَا شَكَّ فيها؛ لأن اللَّهَ أَوْجَبَ في مالِ الإنسانِ من ذَهَبِهِ أو فضتِه أو مَاشِيَتِهِ أو ثمارِه وزروعِه، وَكُلُّ ذلك أَوْجَبَ فيه حَقًّا مُعَيَّنًا في أقدارٍ معينةٍ بَيَّنَهَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، بَيَّنَ أنها هي الحقُّ في مالِ الإنسانِ، وأن أَخْذَهَا يُطَهِّرُ الإنسانَ وَيُطَهِّرُ له مالَه، فإذا أَدَّى ما أوجبَه اللَّهُ عليه وَأَمَرَهُ به فقد طَهُرَ هو وَطَهُرَ مالُه، ولم يَبْقَ فيه شيءٌ عليه تَبَعَةٌ؛ لأن اللَّهَ لو كان يكوي به جنبَه ووجهَه وظهرَه فلا فائدةَ في دفعِ الزكاةِ إذا كان المالُ يَلْزَمُ أن ينفقَه كُلَّهُ، فلا وجهَ للزكاةِ ولا محلَّ للمواريثِ؛ لأن الفرائضَ والمواريثَ التي نَزَلَ بها كتابُ اللَّهِ إنما هي في أموالٍ تبقى بعد صاحبِها، فالتحقيقُ الذي لا شَكَّ فيه - إن شاء الله - أن الكنزَ الذي يُكْوَى به صاحبُه هو ما مَنَعَ فيه حَقَّ اللَّهِ ولم يُؤَدِّ زكاتَه، أما ما أَدَّى زكاتَه وأعطى حَقَّ اللَّهِ فيه فليس بكنزٍ ولا يُكْوَى به، فإن شَاءَ أكثرَ من التطوعِ، وإن شاء أَمْسَكَ لنفسِه، والقدرُ الواجبُ أَوْجَبَ اللَّهُ أَخْذَهُ مُعَيَّنًا بتحديدٍ من رسولِه صلى الله عليه وسلم، وَمِمَّا يوضحُ هذا قولُه [لرسولِه]

(2)

صلى الله عليه وسلم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: آية 103] وهي الزكاةُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ أَخْذَهَا يُطَهِّرُهُمْ ويزكيهم.

وفي حديثِ ضمام بنِ ثعلبةَ لَمَّا أَمَرَهُ النبيُّ بدعائمِ

(1)

انظر: الأضواء (2/ 431 - 434).

(2)

ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق.

ص: 456

الإسلامِ، وَذَكَرَ له فرضَ الزكاةِ، قال: هَلْ عَلَيَّ غيرُها؟ قال: «لَا إِلَاّ أَنْ تَطَوَّعَ»

(1)

. فهذا هو الحقُّ - إن شاء الله - أنّ ما أُدِّيَتْ زكاتُه فليس بكنزٍ ولو تحتَ الأرضِ، وما لم تُؤَدَّ زكاتُه فهو كنزٌ يُكْوَى به صاحبُه وإن كان ظاهرًا على وجهِ الأرضِ.

قال ابنُ خويز منداد من المالكيةِ: هذه الآيةُ من سورةِ براءةٍ تَضَمَّنَتْ زكاةَ العينِ

(2)

. يعنِي بالعينِ: النَّقْدَيْنِ، الذهبَ والفضةَ.

ونحن عادةً في هذه الدروسِ إذا مَرَرْنَا بآيةٍ من كتابِ اللَّهِ هي أصلُ بابٍ من أبوابِ الفقهِ نتعرضُ إلى مسائلِه الكبارِ، ونبينُ عيونَها ومسائلَها التي لها أهميةٌ، وهذه الآيةُ الكريمةُ على التحقيقِ فيها كأنها تشيرُ إلى الزكاةِ، وأن مَنْ لَمْ يُؤَدِّهَا أنه يُكْوَى بذلك المالِ الذي لم يُؤَدِّ زكاتَه كما سيأتِي في حديثِ مسلمٍ.

اعْلَمُوا أن المسلمينَ أَجْمَعُوا على وجوبِ زكاةِ الفضةِ والذهبِ، وأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لا خلافَ بَيْنَ العلماءِ مِنْ كافةِ المسلمينَ أنه - بَيَّنَ قَدْرَ نصابِ الفضةِ وقدرَ الواجبِ فيها، فَبَيَّنَ أن نصابَ الفضةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ شرعيٍّ، وأنها خمسةُ أواقٍ، والأوقيةُ: أربعونَ درهمًا، وأن قدرَ الواجبِ منها: ربعُ الْعُشْرِ

(3)

، هذا أمرٌ لا شَكَّ فيه، أن مِائَتَيْ درهمٍ ففيها زكاةٌ يخرج منها ربعُ عُشْرِهَا، وليس في أقلَّ من مِائَتَيْ درهم شرعي زكاة. والدرهمُ الشرعيُّ: قال علماءُ المالكيةِ بالتحديدِ: ينبغي أن يكونَ بوزنِ أهلِ مكةَ الأولِ المتعارفِ؛ لِمَا ثَبَتَ

(1)

مضى عند تفسير الآية (12) من سورة الأعراف.

(2)

نقله القرطبي (8/ 124)، والشيخ رحمه الله في الأضواء (2/ 434).

(3)

انظر المدونة (1/ 242 - 244)، بدائع الصنائع (2/ 16 - 18)، المغني (4/ 209 - 213)، الأضواء (2/ 434 - 435).

ص: 457

عَنِ ابنِ عمرَ عند النسائيِّ وأبي داودَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ»

(1)

فالخمسةُ الأوسقُ تُعْرَفُ بصاعِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في المدينةِ، ومائتا درهمٍ - نصابُ الفضةِ - تُعْرَفُ بالوزنِ الذي كان مَعْرُوفًا عِنْدَ أهلِ مكةَ.

وقد حَرَّرَ علماءُ المالكيةِ الأَمْرَيْنِ

(2)

وقالوا: إن الدرهمَ المكيَّ الشرعيَّ وزنُه خمسونَ وخُمسا حبةٍ من مطلقِ الشعيرِ. هكذا الذي يقولونَ، وزاد بعضُهم: سُبْعُ الحبةِ. والتحقيقُ عندَهم هو هذا، فإذا كان عندَ الإنسانِ مائتا درهمٍ شرعية فإنه يَجِبُ عليه زكاتُها وإخراجُ ربعِ عُشْرِهَا كما هو معلومٌ، وهذا لا نزاعَ فيه بين العلماءِ. وَكُلُّ درهمٍ ستةُ دوانقَ، وكلُّ عشرةِ دراهمَ سبعةُ مثاقيلَ، وأربعونَ درهمًا هي الأوقيةُ. وهذا معروفٌ لَا نِزَاعَ فيه.

(1)

أخرجه أبو داود في كتاب البيوع، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:«المكيال مكيال أهل المدينة» رقم (3324)(9/ 188)، والنسائي في كتاب الزكاة، باب كم الصاع، رقم (2520)(5/ 54)، في كتاب البيوع، باب الرجحان في الوزن. رقم (4594)(7/ 284)، والطبراني في الكبير (13449)، والبيهقي (6/ 31)، كلهم من طريق أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان عن حنظلة عن طاووس عن ابن عمر.

وأخرجه أبو عبيد في الأموال (1607)، ومن طريقه البغوي (2063) عن أبي المنذر إسماعيل بن عمر عن سفيان به. وأخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (2/ 99) من طريق الفريابي عن سفيان به.

وأخرجه ابن حبان (3283) من طريق أبي أحمد الزبيري عن سفيان فخالف من تقدم في متن الحديث وإسناده. انظر الإرواء (1342)(5/ 191).

(2)

مضى عند تفسير الآية (141) من سورة الأنعام.

ص: 458

وأكثرُ العلماءِ على أن الفضةَ لَا وَقْصَ فيها

(1)

، فإذا كانت عنده مائتا درهمٍ أَخْرَجَ ربعَ عُشْرِهَا، وَكُلُّ ما زَادَ فَبِحِسَابِهِ. وقال بعضُ العلماءِ: إذا زَادَ عن مِائَتَيْ دِرْهَمٍ لم يكن عليه شيءٌ حتى يبلغَ الأربعينَ درهمًا.

أما الذهبُ فقد ذَكَرَ بعضُ العلماءِ أنه لم يَثْبُتْ فيه تحديدٌ مِنَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لا فِي نصابِه ولا في الْمُخْرَجِ منه

(2)

، وهذا مرويٌّ عن الشافعيِّ، وقاله ابنُ عبدِ البرِّ، وَبَالَغَ ابنُ حزمٍ في نصرِه، أن النبيَّ لم يَثْبُتْ عنه شيءٌ في تحديدِ نصابِ الذهبِ ولَا في قدرِ الْمُخْرَجِ منه. والتحقيقُ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ثَبَتَ عنه قدرُ نصابِ الذهبِ وقدرُ الْمُخْرَجِ منه، وأن نصابَ الذهبِ عشرونَ دِينَارًا ليس فيما دُونَهَا صدقةٌ، وأن في الذهبِ مثلَ ما في الفضةِ ربع العشر.

اعْلَمُوا أولاً أن الكتابَ والسنةَ وإجماعَ المسلمينَ كُلُّ واحدٍ منها قَدْ دَلَّ على أن الزكاةَ تَجِبُ في الذهبِ، وقد دَلَّ عليه القرآنُ في قولِه: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ

} الآيةَ [التوبة: آية 34]. وَدَلَّتْ عليه السنةُ الصحيحةُ الثابتةُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، من ذلك ما ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ من حديثِ أبِي هريرةَ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُخْرِجُ مِنْهُمَا حَقَّهَا إِلَاّ إِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَظَهْرُهُ وَوَجْهُهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَ الْعِبَادِ فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا

(1)

انظر: الأضواء (2/ 436).

(2)

انظر: الأم للشافعي (4/ 40)، الاستذكار لابن عبد البر (9/ 34)، المحلى (6/ 66)، الأضواء (2/ 438).

ص: 459

إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ»

(1)

فهذا نَصٌّ صَحِيحٌ ثَابِتٌ في صحيحِ مسلمٍ أن الذهبَ تَجِبُ فيه الزكاةُ، وأن مَنْ لَمْ يُؤَدِّ زكاتَه يكوى به يومَ القيامةِ، وَيُصَفَّحُ له صفائحَ من نارٍ. إذا عرفتُم أن أصلَ زكاةِ الذهبِ واجبةٌ بالكتابِ والسنةِ والإجماعِ، فبيانُ تحديدِ النصابِ وقدرِ الْمُخْرَجِ منه كأنه بيانٌ لإجمالٍ من كتابِ الله، وقد جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما يُبَيِّنُ هذا الإجمالَ ويوضحُه، وَيُعَيِّنُ قَدْرَ نصابِ الذهبِ، وقدرَ الواجبِ إخراجُه فيه، وهو ما رَوَاهُ أبو داودَ في سُنَنِهِ من طريقِ أبِي إسحاقَ عن عاصمِ بنِ ضمرةَ السلوليِّ والحارثِ الأعورِ الهمذانيِّ عن عَلِيِّ بنِ أبِي طالبٍ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال ما معناه:«إِنَّ فِي عِشْرِينَ دِينَارًا مِنَ الذَّهَبِ نِصْفَ دِينَارٍ»

(2)

.

وهذا بِعَيْنِهِ تحديدُ النصابِ بعشرينَ دينارًا، وتحديدُ الواجبِ فيه بربعِ الْعُشْرِ، هذا الحديثُ رواه أبو داودَ وَسَكَتَ عنه. ومعروفٌ أن كثيرًا من العلماءِ نَاقَشُوا في هذا الحديثِ وَضَعَّفُوهُ بالحارثِ الأعورِ، وقالوا: وعاصمُ بنُ ضمرةَ السلوليُّ ضعيفٌ أيضًا، فَضَعَّفُوا هذا الحديثَ. ونحن نقول

(3)

: إن هذا الحديثَ عِنْدَ المناقشةِ الصادقةِ ليسَ بضعيفٍ، وأن الحارثَ الأعورَ وإن كان ضعيفًا عند قومٍ -وإن وَثَّقَهُ

(1)

تقدم تخريجه عند تفسير الآية (37) من سورة الأنفال.

(2)

أخرجه عبد الرزاق (4/ 89)، وأبو داود في الزكاة، باب في زكاة السائمة. حديث رقم:(1557، 1558)(4/ 444، 447) مع تردد بعض رواته - عند أبي داود - في رفعه.

وأخرجه ابن أبي شيبة (3/ 119)، وأبو عبيد في الأموال ص369 موقوفًا على علي رضي الله عنه.

وانظر: الاستذكار (9/ 21، 34)، التلخيص (2/ 173)، الإرواء (3/ 291).

(3)

انظر: الأضواء (2/ 438 - 442).

ص: 460

ابنُ المدينيِّ وغيرُه

(1)

- فقد ضَعَّفَهُ أكثرُ العلماءِ. أما عاصمُ بنُ ضمرةَ فالتحقيقُ أنه صدوقٌ أَثْنَى عليه غيرُ واحدٍ، وهو لا بأسَ به، فروايتُه

(1)

العبارة غير منضبطة من حيت المعنى كما ترى. ولعل الشيخ أراد أن يقول «وإن كذبه ابن المديني وغيره .. » فسبق لسانه إلى ذلك. لأن ابن المديني كذَّب الحارث الأعور كما نقل ذلك الذهبي في الميزان (1/ 435) ويدل على ذلك ما ذكره الشيخ رحمه الله في الأضواء (2/ 439). والحارث الأعور كذبه كذلك: الشعبي وأبو إسحاق السبيعي وأبو خيثمة وذكر إبراهيم النخعي أنه اتُّهِم، وقال أبو بكر بن عياش:«لم يكن الحارث بأرضاهم، كان غيره أرضى منه. قال: وكانوا يقولون: إنه صاحب كتب كذاب» اهـ وقال جرير: «كان الحارث الأعور زيفًا» اهـ. وعن مغيرة: «لم يكن الحارث يصدق عن علي في الحديث» اهـ. وقال ابن حبان: «كان الحارث غاليًا في التشيع واهيًا في الحديث» اهـ. وضعفه الدارقطني، وقال ابن عدي:«عامة ما يرويه غير محفوظ» اهـ. وترك الاحتجاج به أبو زرعة وأبو حاتم وابن مهدي، وابن معين ضعفه، ومرة قال:«ليس به بأس» اهـ. وقال مرة: «ما زال المحدثون يقبلون حديثه» اهـ. وقال مرة «ثقة» . وتعقبه عثمان الدارمي بقوله: «ليس يتابع يحيى على هذا» اهـ. وكذا النسائي قال مرة: «ليس بالقوي» وقال مرة: «ليس به بأس» وقال ابن سيرين: «أدركت الكوفة وهم يقدمون خمسة: من بدأ بالحارث الأعور ثَنَّى بعبيدة، ومن بدأ بعبيدة ثَنَّى بالحارث» اهـ. وقال: «كان أصحاب ابن مسعود خمسة يُؤخذ عنهم، أدركت منهم أربعة وفاتني الحارث فلم أره وكان يُفضل عليهم» اهـ. وعن سفيان: «كنا نعرف فضل حديث عاصم بن ضمرة على حديث الحارث» اهـ. وقال فيه الذهبي: «من كبار علماء التابعين على ضعف فيه» اهـ .. وقال: «والجمهور على تَوْهِينِ أمره مع روايتهم لحديثه في الأبواب» اهـ. وقد نقل الشيخ رحمه الله في الأضواء (2/ 56) قول بعض من رماه بالكذب ولم ينقل عن أحد توثيقه. فقول الشيخ رحمه الله هنا: «فقد ضعفه أكثر العلماء» اهـ. في محله، وإنما توسعت في هذا التعليق لأن عبارة الشيخ هذه أيضًا لربما توهم القارئ أنها من سبق اللسان وليست كذلك.

ص: 461

مُحْتَجٌّ بها وهي معتضدةٌ بأشياءٍ عديدةٍ تقومُ بها الروايةُ الضعيفةُ أَحْرَى التي هي غيرُ ضعيفةٍ؛ لأَنَّ روايتَه معتضدةٌ بروايةِ الحارثِ الأعورِ، وهو يُقْبلُ في المتابعاتِ والشواهدِ، ومعتضدةٌ بإجماعِ المسلمينَ على مقتضاه؛ لأن هذا الحديثَ أَجْمَعَ على مُقْتَضَاهُ عامةُ المسلمينَ ولم يخالف منهم أحدٌ إلا شيء يُرْوَى عن داودَ الظاهريِّ وبعضِ أتباعِه، أما فقهاءُ الأمصارِ والصحابةُ والأئمةُ الأربعةُ وأصحابُهم وكافةُ العلماءِ المعروفينَ لم يُخَالِفْ أحدٌ منهم في أن نصابَ الذهبِ عشرونَ دينارًا، وأن الواجبَ فيه ربعُ العُشْرِ كالفضةِ، ورُوي عن الحسنِ البصريِّ أن نصابَه أربعونَ

(1)

، وعن طاووسٍ أنه يقاسُ بالفضةِ، فَمَا بَلَغَ من الذهبِ قيمةَ مائتي درهمٍ كانت فيه الزكاةُ، وما دُونَ ذلك فَلَا. وهذا لا يكادُ يُلْتَفَتُ إليه

(2)

لكثرةِ مَنْ خَالَفَهُ من أَجِلَاّءِ العلماءِ من الصحابةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ.

فحديثُ عاصمِ بنِ ضمرةَ حجةٌ، وهو معتضدٌ بروايةِ الحارثِ الأعورِ، وبإجماعِ المسلمينَ، وهذا إنما هو بيانٌ لأمرٍ ثَبَتَ بالكتابِ والسنةِ والإجماعِ أنه واجبٌ، ومعلومٌ أن البيانَ إرشادٌ

(1)

أخرج عبد الرزاق في المصنف (4/ 89)، وابن أبي شيبة (3/ 118)، وابن عبد البر في الاستذكار (9/ 25) عن الحسن:«ما زاد على المائتين فلا يؤخذ منه شيء حتى يبلغ أربعين» وجاء عنه رواية ثانية نقلها النووي في المجموع (6/ 17) أنه لا زكاة فيما هو دون أربعين مثقالاً لا تساوي مائتي درهم.

(2)

أخرج عبد الرزاق (4/ 92)، وابن عبد البر في الاستذكار (9/ 24) عن طاووس قال:«إذا زادت الدراهم على مائتي درهم فلا شيء فيها حتى تبلغ أربعمائة درهم» . قال في المغني (4/ 212 - 213): «وقال عامة الفقهاء: نصاب الذهب عشرون مثقالاً من غير اعتبار حقيقتها، إلا ما حُكي عن عطاء وطاووس والزهري

أنهم قالوا: هو معتبر بالفضة، فما كان قيمته مائتي درهم ففيه الزكاة وإلا فلا؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تقدير في نصابه» اهـ.

ص: 462

ودلالةٌ، وهو يصحُّ في كُلِّ شيءٍ يَجْلُو الجهالةَ والإجمالَ.

وهذا هو التحقيقُ -إن شاء الله- أن نصابَ الذهبِ عشرونَ مِثْقَالاً، وأن الواجبَ فيها ربعُ العشرِ، وأنه لا وَقْصَ فيه فما زَادَ فَبِحِسَابِهِ.

فإن كان عندَه بعضُ النصابِ من الذهبِ وبعضُه من الفضةِ فهل يضمُّ الفضةَ للذهبِ

(1)

؟ ليس في ذلك نَصٌّ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وأنظارُ العلماءِ اختلفت فيه، فَذَهَبَ بعضُ العلماءِ إلى أنه لا يُضَمُّ الذهبُ إلى الفضةِ ولا الفضةُ إلى الذهبِ في الزكاةِ، وتوقفَ في هذا الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ في روايةِ الأثرمِ، وَقَطَعَ في روايةِ حنبلٍ أنه لَا يُضَمُّ أحدُهما إلى الآخَرِ

(2)

. فَمَنْ كانت عنده عشرةُ مثاقيلَ ومائةُ درهمٍ لا زكاةَ عليه على هذا، وبهذا قال الإمامُ الشافعيُّ وأكثرُ أصحابِه في طائفةٍ كثيرةٍ من العلماءِ. وقال مالكُ بنُ أنسٍ وأصحابُه: يُضَمُّ الذهبُ إلى الفضةِ فيكونُ النصابُ منهما معًا. وهو مَرْوِيٌّ عن أبي حنيفةَ (رحمة الله) على الجميعِ. وعلى هذا فلو كان عنده مائةُ درهمٍ وعشرةُ دنانيرَ وَجَبَتْ عليه الزكاةُ، فَأَخْرَجَ من الدنانيرِ ربعَ عُشْرِهَا، ومن الدراهمِ ربعَ عُشْرِهَا وهكذا.

وَاعْلَمُوا أن مِنْ توابعِ هذه المسألةِ أشياء اختلفَ فيها العلماءُ سنذكرُ طرفًا منها، من ذلك: إذا كان الذهبُ والفضةُ حُلِيًّا مَصُوغًا مُبَاحًا تتزينُ به النساءُ، هل تجبُ فيه الزكاةُ أو لا

(3)

؟ اختلف فيه

(1)

انظر: الاستذكار (9/ 40)، المبسوط (2/ 192)، المجموع (6/ 18)، المغني (4/ 210)، الأضواء (2/ 444).

(2)

انظر: المغني (4/ 210).

(3)

انظر: الاستذكار (9/ 66)، المبسوط (2/ 192)، المجموع (6/ 32)، المغني (4/ 220)، الأضواء (2/ 445).

ص: 463

العلماءُ وفقهاءُ الأمصارِ والصحابةُ فَمَنْ بعدَهم، فذهب كثيرٌ من العلماءِ إلى أنه لا زكاةَ في الْحُلِيِّ المباحِ، منهم مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ وأصحابُهما وَخَلْقٌ لَا يُحْصَى من الصحابةِ فَمَنْ بعدَهم. وذهب آخرونَ إلى أن الحليَّ المباحَ تجبُ فيه الزكاةُ، وبه قال أبو حنيفةَ وأصحابُه وخلقٌ من الصحابةِ فَمَنْ بعدَهم. واحتجَّ كُلٌّ بحججٍ، أما الذين قالوا: لا تَجِبُ فيه الزكاةُ فإنما احْتَجُّوا بحديثٍ جاء في ذلك وآثارٌ عن الصحابةِ، واحتجوا بوضعِ اللغةِ، أما الحديثُ الذي جاء في ذلك هو حديثٌ رواه البيهقيُّ في كتابِ معرفةِ السننِ والآثارِ، رواه من طريقِ عافيةَ بنِ أيوبَ عن الليثِ بنِ سعدٍ عن أبي الزبيرِ عن جابرِ بنِ عبدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«لَا زَكَاةَ فِي حُلِيٍّ»

(1)

.

هذا الحديثُ قال الآخرونَ: لا يجوزُ الاحتجاجُ به؛ لأن عافيةَ بنَ أيوبَ مجهولٌ، وَغَالَى البيهقيُّ رحمه الله فقال: إن العملَ بحديثِ عافيةَ هذا من جنسِ العملِ بأحاديثِ الكذابينَ.

ونحن نقول: إن هذه مغالاةٌ منه رحمه الله؛ لأن عافيةَ بنَ أيوبَ لم يَقُلْ فيه أحدٌ إنه كذَّابٌ، وغايةُ ما في البابِ أن البيهقيَّ ظَنَّ أنه مجهولٌ، وقد وَثَّقَهُ غيرُ البيهقيِّ، فقد نقل ابنُ أبي حاتمٍ في كتابِ

(1)

البيهقي في المعرفة (3/ 298) وقال: «لا أصل له مرفوعًا، إنما يُروى عن جابر من قوله غير مرفوع» اهـ. وقد رواه الشافعي في الأم (2/ 41)، وعبد الرزاق (4/ 82)، وأبو عبيد في الأموال ص399، والدارقطني (2/ 107)، والبيهقي في السنن (4/ 138) موقوفًا على جابر رضي الله عنه. وانظر: تنقيح التحقيق (2/ 1420)، نصب الراية (2/ 374)، الإرواء (3/ 294)، الأضواء (2/ 446).

ص: 464

الجرحِ والتعديلِ عن أبي زرعةَ أنه وَثَّقَ عافيةَ بنَ أيوبَ هذا وقال: لَا بأسَ به

(1)

. وقال ابن الجوزيِّ في جَرْحِهِ وتعديلِه: لَا أعلمُ فيه قادحًا ولا جرحًا

(2)

. فدعوى أنه من الكذابينَ ليس بصحيحٍ.

وَاحْتَجُّوا بآثارٍ من الصحابةِ كثيرةٍ؛ لأنه جاءت آثارٌ عن الصحابةِ أنهم لا يُخْرِجُونَ زكاةَ الْحُلِيِّ، وهو ثابتٌ عن عائشةَ

(3)

وابنِ عمرَ

(4)

وجماعةٍ من الصحابةِ رضي الله عنهم وَاحْتَجُّوا بالقياسِ، ومعلومٌ أن القياسَ يُسْتَعْمَلُ مع النصِّ إذا كان لتعضيدِ النصِّ لا لِيُخَالِفَهُ؛ لأن النصوصَ لَا مانعَ من اعتضادِ بعضِها بعضًا، وقد تَقَرَّرَ في الأصولِ

(5)

أن النصَّ الذي يُوَافِق

(6)

[القياسَ مُقَدَّمٌ في حالِ الترجيحِ].

النوعُ الثانِي من القياسِ: وهو المعروفُ عندَهم بـ (قياسِ العكسِ)، وقياسُ العكسِ قال جماعةٌ من الأصوليينَ: يُحْتَجُّ به،

(1)

الجرح والتعديل (7/ 44).

(2)

قال ابن الجوزي في كتاب التحقيق (2/ 43)، وهو في «تنقيح التحقيق» (1421):«ما عرفنا أحدًا طعن فيه» اهـ.

(3)

أخرجه البيهقي في المعرفة (3/ 293)، وفي السنن الكبرى (4/ 138).

(4)

أخرجه البيهقي في المعرفة (3/ 293)، وفي السنن الكبرى (4/ 138).

(5)

انظر: شرح الكوكب المنير (4/ 695)، الأضواء (2/ 450).

(6)

في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

قال في الأضواء (2/ 448): «وأما القياس فمن وجهين: الأول: أن الحلي لما كان لمجرد الاستعمال لا للتجارة والتنمية أُلحق بغيره من الأحجار النفيسة كاللؤلؤ والمرجان، بجامع أن كلاًّ مُعَدّ للاستعمال لا للتنمية. وقد أشار إلى هذا الإلحاق مالك رحمه الله في [الموطأ] بقوله: فأما الثبر والحلي المكسور الذي يريد أهله إصلاحه ولبسه فإنما هو بمنزلة المتاع الذي يكون عند أهله، فليس على أهله فيه زكاة. قال مالك: ليس في اللؤلؤ ولا في المسك والعنبر زكاة» .

ص: 465

وَأَبَى الاحتجاجَ به جماعةٌ آخرونَ

(1)

. وقياسُ العكسِ قد نَبَّهَ عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الثابتِ في صحيحِ مسلمٍ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَالَ: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ أَجْرٌ» قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، أيأتِي أحدُنا شهوتَه وله فيها أَجْرٌ؟ قال:«أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟»

(2)

فهذا قياسُ عكسٍ، وهو إعطاءُ حكمٍ عكسَ حكمٍ لتعاكسِهما في العلةِ

(3)

.

قالوا: وكذلك هنا في الْحُلِيِّ المباحِ، فإن العروضَ لا تجبُ الزكاةُ في عَيْنِهَا، فإذا كانت للتجارةِ وَجَبَتِ الزكاةُ في عينِها، عكسَ الذهبِ والفضةِ، فإن الزكاةَ في عينِها، فإذا انقطعَ عنها اسمُ النماءِ والتجارةِ صَارَتْ لَا زكاةَ فيها، من قياسِ العكسِ.

ومن أمثلةِ قياسِ العكسِ عندَ المالكيةِ مِمَّا اختلفوا مع غيرِهم في القيءِ: هل ينقضُ الوضوءَ أو لا؟ قالوا: لا ينقضُ الوضوءَ كثيرُ القيءِ، قياسًا على قليلِ القيءِ، عكسَ البولِ، فإنه لَمَّا انتفضَ الوضوءُ بقليلِه انتقضَ بكثيرِه. ومن أمثلةِ قياسِ العكسِ عندَ الحنفيةِ قولُهم: لَا قصاصَ في القتلِ بكبيرِ الْمُثَقَّلِ، كعمودِ الحديدِ والصخرةِ، قياسًا على صغيرِ الْمُثَقَّلِ، كالقضيبِ الذي لا قصاصَ في الضربِ به، عكسَ الْمُحَدَّدِ، فإنه لَمَّا وَجَبَ القصاصُ في قليلِه وجبَ في كثيرِه. هذا هو غالبُ حجةِ أهلِ هذا القولِ الذين قالوا: لا زكاةَ في الْحُلِيِّ.

(1)

انظر: شرح الكوكب المنير (4/ 219)، وانظر الكلام على هذا القياس مع الأمثلة والتطبيقات المذكورة في الأضواء (2/ 449 - 450).

(2)

مسلم في الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع معروف، حديت رقم:(1006)(2/ 697) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

(3)

انظر: الأضواء (2/ 449).

ص: 466

أما الذين قالوا: تجبُ في الحليِّ المباحِ زكاةٌ فاحتجوا أيضًا بأحاديثَ جاءت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبآثارٍ عن السلفِ، وبوضعِ اللغةِ، وبالقياسِ أيضًا

(1)

.

أما وضعُ اللغةِ مِنْ حجةِ الأولينَ فقولُهم: إنه صلى الله عليه وسلم قال: «وَفِي الرِّقَّةِ

(2)

رُبُعُ الْعُشْرِ»

(3)

وقال: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ»

(4)

. قالوا: والورقُ لا تُطْلَقُ إلا على الدراهمِ المنقوشةِ، ولا تطلقُ على الحليِّ. هذا من حجةِ الأولينَ بالوضعِ اللغويِّ.

وأما الذين قالوا: تجبُ الزكاةُ فيه فاحتجوا أيضًا بأحاديثَ جاءت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وآثارٍ عن السلفِ، وبالقياسِ، وبوضعِ اللغةِ أيضًا.

(1)

انظر: الأضواء (2/ 451).

(2)

قال في الأضواء (2/ 450): «قال أبو عبيدة: الرقة عند العرب: الورق المنقوشة ذات السكة السائرة بين الناس، ولا تطلقها العرب على المصوغ، وكذلك قيل في الأوقية. قال مقيده - عفا الله عنه -: ما قاله أبو عبيد هو المعروف في كلام العرب، قال الجوهري في صحاحه: الورق: الدراهم المضروبة، وكذلك الرقة، والهاء عوض عن الواو وفي القاموس. الورق - مثلثة، وككتف -: الدراهم المضروبة، وجمعه أوراق ووراق كالرقة» اهـ.

(3)

أخرجه البخاري في الزكاة، باب: زكاة الغنم. حديث رقم: (1454)(3/ 317 - 318).

(4)

أخرجه البخاري في الزكاة، باب: ليس فيما دون خمس ذود صدقة. حديث رقم: (1459)(3/ 322). وأخرجه في موضع آخر، انظر رقم:(1484). ومسلم في الزكاة، حديث رقم:(979)(2/ 673) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وأخرجه مسلم أيضًا من حديث جابر رضي الله عنه في الزكاة، حديث رقم:(980)(2/ 675).

ص: 467

ومن الأحاديثِ الدالةِ على ذلك: ما رواه أبو داودَ والنسائيُّ من طريقِ عمرِو بنِ شعيبٍ عن أبيه عن جَدِّهِ - وَجَدُّهُ: هو عبدُ اللَّهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ رضي الله عنهما - أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَتْ عليه امرأةٌ ومعها ابنتُها، وفي يدِ ابنتِها مَسَكَتَانِ غليظتانِ من ذهبٍ - يعني سِوَارَيْنِ من ذَهَبٍ - فقال لها:«أَتُؤَدِّينَ زَكَاةَ هَذَا؟» فقالت: لَا. فقال: «أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ؟!» فخلعتهما فقالت: هُمَا لِلَّهِ ولرسولِه

(1)

.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 153)، وعبد الرزاق (4/ 85 - 86)، وأحمد (2/ 178)، وأبو عبيد في الأموال ص397، وابن زنجويه في الأموال (3/ 973)، وأبو داود في الزكاة، باب: الكنز ما هو؟ وزكاة الحلي. حديث رقم: (1548)(4/ 425)، والترمذي في الزكاة، باب: ما جاء في زكاة الحلي. حديث رقم: (637)(3/ 20 - 21) وعقبه بقوله: «وهذا حديث قد رواه المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب نحو هذا، والمثنى بن الصباح وابن لهيعة يُضَعَّفَانِ في الحديث. ولا يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء» اهـ. وقال ص20: «وقد رُوي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى في الحلي زكاة. وفي هذا الحديث مقال» اهـ. والنسائي في الصغرى، في الزكاة، باب: زكاة الحلي. حديث رقم: (2479، 2480)(5/ 38) وفي الكبرى، في الزكاة، باب: زكاة الحلي. حديث رقم: (2258، 2259)(2/ 19). والبيهقي في الكبرى (4/ 140)، وابن حزم في المحلى (6/ 78) وأشار لضعفه. (بعضهم يرويه مرسلاً وبعضهم موصولاً) وقد ذكر له ابن الجوزي في التحقيق أربع طرق، وقد أعلها ابن عبد الهادي في التنقيح (2/ 1425) جميعًا. وقال الحافظ في الدراية (1/ 258):«صححه ابن القطان، وقال المنذري: لا علة له. قلت: أبدى له النسائي علة غير قادحة» اهـ. إلى أن قال: «وروى أحمد وابن أبي شيبة والترمذي من طريق المثنى بن الصباح وابن لهيعة وهما ضعيفان

» اهـ .. وانظر: نصب الراية (2/ 370 - 371)، وقال في الإرواء (3/ 296):«وإسناده إلى عمرو عند أبي داود والنسائي وأبي عبيد جيد» اهـ. وانظر: آداب الزفاف ص256، صحيح أبي داود (1/ 291)، صحيح النسائي (2/ 523).

ص: 468

هذا الحديثُ أخرجَه أبو داودَ والنسائيُّ من طريقِ عمرِو بنِ شعيبٍ عن أبيه عن جَدِّهِ. والتحقيقُ أن روايةَ عمرِو بنِ شعيبٍ عن أبيه عن جَدِّهِ - مع ما فيها من الكلامِ - أنها يصحُّ الاحتجاجُ بها، وأنها ليست بضعيفةٍ. وقال الترمذيُّ في هذا الحديثِ: لم يَرِدْ من طريقٍ صحيحةٍ

(1)

وَذَكَرَهُ من طُرُقٍ كلُّها ضعيفةٌ، ولم يَطَّلِعْ على روايةِ حسينٍ الْمُعَلِّمِ له.

والتحقيقُ أنه جاء من روايةٍ أَقَلُّ درجاتِها الحسنُ، فلا شَكَّ في الاحتجاجِ بهذا الحديثِ من حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ، وهذا روي أيضًا عن غيرها. وقد أخرج أبو داودَ في سُنَنِهِ أيضًا عن أُمِّ سَلَمَةَ زوجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنها كانت تَلْبَسُ أوضاحًا من ذَهَبٍ، فسألت رسولَ اللَّهِ فقالت: أَكَنْزٌ هو يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: «مَا بَلَغَ أَنْ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَأُدِّيَتْ زَكَاتُهُ لَيْسَ بِكَنْزٍ»

(2)

فهذا يدلُّ على أن الأوضاحَ التي تَتَزَيَّنُ بها

(1)

سنن الترمذي (3/ 20، 21).

(2)

أخرجه أبو داود في الزكاة، باب: الكنز ما هو؟ وزكاة الحلي. حديث رقم: (1549)(4/ 426) والدارقطني (2/ 105)، والبيهقي في الكبرى (4/ 140) وعقبه بقوله:«وهذا يتفرد به ثابت بن عجلان» اهـ. وفي الصغرى (1/ 325 - 326)، والحاكم (1/ 390) وقال:«صحيح على شرط البخاري» اهـ. ووافقه الذهبي. وأخرجه الطوسي في مستخرجه على الترمذي (3/ 228) وقال: «هذا حديث حسن» اهـ. وذكره ابن حزم في المحلى (6/ 79) وعقبه بقوله: «عتاب مجهول» اهـ. وانظر: تنقيح التحقيق (2/ 1423، 1426)، نصب الراية (2/ 371). وقد حسن الألباني أحد طرقه في التعليق على المشكاة (1/ 568)، وصحيح أبي داود (1/ 291).

ص: 469

من حُلِيِّهَا أن فيها الزكاةَ. ويعتضدُ هذا بحديثِ عائشةَ رضي الله عنها أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم دخل عليها وفي يدِها فَتَخَاتٌ من فضةٍ - والفتخاتُ: نوعٌ من الخواتمِ لا فصوصَ له، وقد يكونُ في أصابعِ اليدِ، وقد يُجْعَلُ في أصابعِ الرِّجْلِ- فقال:«مَا هَذِهِ؟» قالت: فقلتُ: شيءٌ صنعتُه لأَتَزَيَّنَ لكَ به! فقال: «أَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهَا؟» قالت: لَا، قال:«هُوَ حَسْبُكِ مِنَ النَّارِ»

(1)

.

واستدلوا أيضًا بحديثِ أسماءَ بنتِ يزيدَ بنِ السكنِ قالت: دخلتُ على رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنا وخالتي، وعلينا أساورُ من ذهبٍ، فقال:«أَتُؤَدِّيَانِ زَكَاةَ هَذَا؟» فقلنا: لا. فقال: «أَدِّيَا زَكَاتَهُ، أَيَسُرُّكُمَا أَنْ تُسَوَّرَا بِهِمَا سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟»

(2)

. فهذه أربعةٌ من

(1)

أخرجه أبو داود في الزكاة، باب: الكنز ما هو؟ وزكاة الحلي. حديث رقم: (1550، 1551)، والدارقطني (2/ 105) وقال:«محمد بن عطاء مجهول» اهـ. والبيهقي في الكبرى (4/ 139 - 140)، وفي الصغرى (1/ 326) وعقبه بقوله:«وهذا إسناد حسن» اهـ. والحاكم (1/ 389) وقال: «صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» اهـ .. وابن زنجويه في الأموال (3/ 973 - 974) وذكره ابن حزم في المحلى (6/ 79) وقال: «يحيى بن أيوب ضعيف» اهـ.

وقال الحافظ في التلخيص (2/ 178): «وإسناده على شرط الصحيح» اهـ. وصححه الألباني في الإرواء (3/ 297)، صحيح أبي داود (1/ 291).

وانظر الكلام على الحديث في تنقيح التحقيق (2/ 1423، 1427)، نصب الراية (2/ 371).

(2)

أخرجه أحمد (6/ 461)، والبيهقي (4/ 141). وقد أعله ابن عبد الهادي في التنقيح (2/ 1423، 1426) بشهر بن حوشب، وعبد الله بن عثمان بن خثيم، وعلي بن عاصم. وقال الحافظ في الدراية (1/ 259):«وفي إسناده مقال» اهـ. وانظر: نصب الراية (2/ 372).

ص: 470

أصحابِ رسولِ اللَّهِ يَرْوُونَ عنه وجوبَ الزكاةِ في الحليِّ: ابنُ عمرِو بنِ العاصِ، وَأُمُّ سلمةَ، وعائشةُ، وأسماءُ بنتُ يزيدَ، وَعَضَّدُوا هذا أيضًا بالقياسِ. وَوَرَدَ فيه آثارٌ عن الصحابةِ أيضًا، كان عبدُ اللَّهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ يأمرُ خازنَه أن يُخْرِجَ زكاةَ حُلِيِّ بناتِه

(1)

.

واستدلوا بالقياسِ، قالوا: تجبُ الزكاةُ في الذهبِ والفضةِ في المصوغِ منهما كما جَازَتْ في المسكوكِ والمسبوكِ، بجامعِ أن الكلَّ أصلُه من ذهبٍ وفضةٍ، أصلُه من عَيْنٍ وَجَبَتْ فيها الزكاةُ.

واحتجوا بوضعِ اللغةِ، قالوا: إن أصلَ الْحُلِيِّ المصوغِ أصلُه يقال له ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ، والصنعةُ لا تُذْهِبُ حكمَ الأصلِ، ولا تنقلُ اسمَه من كُلِّ الوجوهِ.

هذا حاصلُ ما احتجَّ به هؤلاءِ، وما احتجَّ به هؤلاء، ومعلومٌ أن العقولَ إذا ازْدَحَمَتْ في مثلِ هذا وتشابهتِ الأدلةُ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَلْقَى على مثل هذا أنوارًا نبويةً وأضواءً عظيمةً من ضوءِ النبوةِ تُبَيِّنُ المخرجَ الصحيحَ منه، وهو قولُه صلى الله عليه وسلم:«دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ»

(2)

،

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (3/ 154)، وعبد الرزاق (4/ 84)، وأبو عبيد في الأموال ص398، 445، والدارقطني (2/ 107)، والبيهقي في الكبرى (4/ 139)، وابن زنجويه في الأموال (3/ 975). وانظر: نصب الراية (2/ 374).

(2)

أخرجه عبد الرزاق (3/ 117 - 118)، والطيالسي ص163، والدارمي (2/ 161)، وأحمد (1/ 200)، والترمذي في أبواب صفة القيامة، باب (60). حديث رقم:(2518)(4/ 668)، والنسائي في الأشربة، باب: الحث على ترك الشبهات. حديث رقم: (5711)(8/ 327) والحاكم (2/ 13)(4/ 99)، وقال:«صحيح الإسناد ولم يخرجاه» اهـ. وابن حبان (الإحسان 2/ 52)، والطبراني (3/ 75 - 76)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 264)، وأبو يعلى (12/ 132). من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما. وصححه الألباني في الإرواء (7/ 155)، غاية المرام ص130 - 131، المشكاة (2/ 845)، صحيح الترمذي (2/ 309)، ظلال الجنة ص179.

وللحديث شاهد من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه عند أبي يعلى (13/ 476)، والطبراني (22/ 78) وقال في المجمع (10/ 294): «وفيه عبيد بن القاسم وهو متروك) اهـ. ومن حديث أنس رضي الله عنه (موقوفًا) عند أحمد (3/ 112، 153).

ومن حديث ابن عمر عند الطبراني في الصغير (1/ 102) وعقبه بقوله: «تفرد به عبد الله بن أبي رومان» اهـ. قال الألباني في الإرواء (7/ 156) وهو ضعيف، «وبقية رجاله ثقات» اهـ. وذكره الخطيب في التاريخ (2/ 220)، (6/ 386)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 352). وقال الألباني في ضعيف الجامع (2974): موضوع.

ص: 471

«فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ»

(1)

فلا ينبغِي للإنسانِ إلا أن يزكيَ حُلِيَّ امرأتِه وبناتِه للخروجِ من عهدةِ التكليفِ؛ لأن مَنْ زَكَّاهُ لَقِيَ اللَّهَ سَالِمًا منه بلا نزاعٍ، وَمَنْ [لم يُزَكِّهِ]

(2)

كان في قيلٍ وقال، جماعةٌ يقولونَ: لَا عليكَ، وجماعة يقولونَ: إن زكاةَ الحليِّ واجبٌ.

ومما يدخلُ تحتَ هذه المسألةِ: زكاةُ العروضِ الْمُعَدَّةِ للبيعِ والشراءِ

(3)

. أَجْمَعَ عامةُ علماءِ المسلمينَ على أن عروضَ التجارةِ

(1)

أخرجه البخاري في الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه. حديث رقم: (52)(1/ 126). وأخرجه في موضع آخر برقم: (2051)، ومسلم في المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات. حديث رقم: (1599)(3/ 1219).

(2)

في الأصل: «زكاة» . وهو سبق لسان.

(3)

انظر: المبسوط (2/ 190)، المحلى (6/ 114)، المجموع (6/ 47)، المغني (4/ 249 - 262)، الموسوعة الفقهية (23/ 268)، الأضواء (2/ 457).

ص: 472

تجبُ فيها الزكاةُ، وأنها تُزَكَّى مثلَ زكاةِ العينِ، تُقَوَّمُ عند الْحَوْلِ، ما يُشْتَرَى منها بالذهبِ يُقوَّمُ بالذهبِ، وما يُشْتَرَى بالفضةِ يُقوَّمُ بالفضةِ. قال هذا بعضُ العلماءِ، ثم يُخْرَجُ ربعُ عُشْرِهَا، وهذا لا نعلمُ خلافًا فيه إلا شيء يُروى عن داودَ الظاهريِّ وبعضِ أتباعِه

(1)

. وأما عامةُ الصحابةِ، وفقهاءُ الأمصارِ، ومنهم الأئمةُ الأربعةُ، وأتباعُهم، على وجوبِ الزكاةِ في عروضِ التجارةِ، واستدلوا لذلك بِأَدِلَّةٍ منها أحاديثُ جاءت بذلك عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم منها: ما أَخْرَجَهُ الحاكمُ بِإِسْنَادَيْنِ وقال: «كلاهما صحيحٌ على شرطِ الشيخينِ» وأخرجَه الدارقطنيُّ والبيهقيُّ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «فِي الإِبِلِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْبَقَرِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْبَزِّ صَدَقَتُهَا»

(2)

وَالْبَزُّ: يشملُ جميعَ ما يُلْبَسُ وهذه من

(1)

انظر: المحلى (6/ 114).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 213)، وأحمد (5/ 179)، والترمذي في العلل الكبرى (1/ 307) وعقبه بقوله:«سألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: ابن جريج لم يسمع من عمران بن أبي أنس. يقول: حُدّثت عن عمران بن أبي أنيس» اهـ. وابن زنجويه في الأموال (2/ 783)، والبزار (9/ 340)، والبيهقي (4/ 147)، والحاكم (1/ 388) وقال:«على شرط الشيخين ولم يخرجاه» اهـ. وتعقبه ابن عبد الهادي في التنقيح (2/ 1438) بقوله: «وفيه نظر» اهـ. وأخرجه الدارقطني (2/ 101 - 102). (بألفاظ متقاربة).

والحديث ضعفه ابن القطان في بيان الوهم والإيهام (2/ 388)، (5/ 55 - 56)، وذكر له الحافظ في التلخيص (2/ 179) أربعة طرق - وهي عند الدارقطني - فضعف - الحافظ - ثلاثة منها وقال عن الرابع:«وهذا إسناد لا بأس به» اهـ.

وقال عن الحديث في الدراية (1/ 260): «وإسناده حسن» اهـ.

وانظر في الكلام عليه في: تنقيح التحقيق (2/ 1436 - 1437)، إتحاف المهرة (14/ 181) نصب الراية (2/ 376)، أضواء البيان (2/ 458).

ص: 473

عروضِ التجارةِ. وهذا الحديثُ فيه مناقشاتٌ طويلةٌ عريضةٌ معروفةٌ يطولُ ذِكْرُهَا. وجميعُ هذه المسائلِ قد بَيَّنَّا مناقشاتِ العلماءِ فيها في الذهبِ والفضةِ، والتجاراتِ، والمعادنِ، والديونِ في كتابنا:(أضواء البيان) في الكلامِ على هذه الآيةِ الكريمةِ من سورةِ براءةٍ

(1)

.

والحاصلُ: أنه جاء عن أبي ذَرٍّ وعن سَمُرَةَ بنِ جندبٍ الفزاريِّ رضي الله عنه كِلَاهُمَا جاء عنه حديثٌ يدلُّ على زكاةِ عروضِ التجارةِ، أما حديثُ أبي ذَرٍّ فقد ذَكَرْنَاهُ. وأما حديثُ سمرةَ بنِ جندبٍ الذي رَوَاهُ عنه أبو داودَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يأمرُنا أن نُخْرِجَ الزكاةَ مِمَّا نُعِدُّ للبيعِ

(2)

.

وفي مناقشاتٍ طويلةٍ عريضةٍ، فَمِنْ مضعِّف

(1)

الأضواء (2/ 434) فما بعدها.

(2)

أخرجه أبو داود في الزكاة، باب: العروض إذا كانت للتجارة هل فيها من زكاة؟ حديث رقم: (1547)(4/ 424)، والدارقطني (2/ 127)، والبيهقي في الكبرى (4/ 146 - 147)، والصغرى (1/ 327)، والطبراني في الكبرى (7/ 253، 257)، وذكره ابن حزم في المحلى (5/ 234) وقال:«أما حديث سمرة فساقط؛ لأن جميع رواته ما بين سليمان بن موسى وسمرة رضي الله عنه مجهولون لا يُعرف من هم» اهـ. وقال الهيثمي في المجمع (3/ 69): «في إسناده ضعف» اهـ. وقال الذهبي في الميزان (1/ 408) عن سلسلة هذا الإسناد: «وبكل حال هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم» اهـ. وقال ابن عبد الهادي في التنقيح (2/ 1435): «انفرد أبو داود بإخراج هذا الحديث وإسناده حسن غريب» اهـ. والحديث سكت عنه أبو داود والمنذري، وحسنه ابن عبد البر، وضعفه الحافظ في التلخيص (2/ 179)، والدراية (1/ 260) والألباني في التعليق على المشكاة (1/ 568)، ضعيف أبي داود ص154.

وانظر: بيان الوهم والإيهام (5/ 139)، إتحاف المهرة (6/ 30)، تنقيح التحقيق (2/ 1435) التعليق المغني على الدارقطني (2/ 127 - 128)، أضواء البيان (2/ 459 - 460).

ص: 474

ومصحِّح، وجماعةٌ صَحَّحُوا حديثَ الحاكمِ، وصحَّحه الحاكمُ، وانتصرَ كثيرٌ لتصحيحِه، ولا شَكَّ أنه معتضدٌ بإجماعِ المسلمينَ في عهدِ الصحابةِ فَمَنْ بعدَهم على أن عروضَ التجارةِ تجبُ فيها الزكاةُ. وقد ثَبَتَ عن عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه أنه أَخَذَ زكاةَ الجلودِ من حِمَاس، فعن أبِي عمرِو بنِ حِمَاس أن أباه مَرَّ بعمرَ بنِ الخطابِ يحملُ جلودًا فقال: هل أديتَ زكاةَ هذا؟ - في جلودٍ يَتَّجِرُ بها - فقال: لَا، قال: هذا مالٌ، فحسبوه فوجدوا الزكاةَ قد وَجَبَتْ فيه، فأخذ منه زكاةَ الجلودِ

(1)

. فهذا ثابتٌ عن عمرَ بنِ الخطابِ ولم يُخَالِفْهُ أحدٌ من الصحابةِ، فالتحقيقُ الذي لا شَكَّ فيه وجوبُ الزكاةِ في عروضِ التجارةِ.

ما زكاةُ الديونِ، وهل تَمْنَعُ الديونُ الزكاةَ من المالِ أو لا

(2)

؟ فليس في ذلك شيءٌ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يَرِدْ عن رسولِ اللَّهِ شيءٌ في زكاةِ الدَّيْنِ، ولا هَلْ هو مُسْقِطٌ للزكاةِ أو لا؟ والعلماءُ مختلفونَ فيه، فاختلفوا في زكاةِ الدَّيْنِ، فكان مالكُ بنُ أنسٍ رحمه الله

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 183)، والشافعي (شفاء العي بتخريج وتحقيق مسند الشافعي (1/ 414)، وفي الأم (2/ 46)، وأبو عبيد في الأموال ص384، وعبد الرزاق (4/ 96)، والبيهقي (1/ 327)، وابن زنجويه في الأموال (3/ 941 - 942)، وذكره ابن حزم في المحلى (5/ 234 - 235) وقال:«وأما حديث عمر فلا يصح؛ لأنه عن أبي عمرو بن حماس عن أبيه، وهما مجهولان» اهـ. وانظر: تلخيص الحبير (2/ 180).

(2)

انظر: المبسوط (2/ 194)، المحلى (6/ 103)، المجموع (6/ 20)، المغني (4/ 269)، الموسوعة الفقهية (23/ 238).

ص: 475

يرى على التاجرِ المديرِ

(1)

أن يزكيَ دينَه، يزكي الحالَّ منه على الْمُوسِرِينَ بالعددِ، والمؤجلَ يزكيه بالقيمةِ؛ لأنه يُزَكِّي الدَّيْنَ مع عروضِ التجارةِ. وإذا كان الدَّيْنُ على حالٍّ مَلِيءٍ موسرٍ مُقِرٍّ وعليه بَيِّنَةٌ فَمَالِكٌ يقولُ: إن مثلَ هذا كمثلِ الشيءِ الذي في صندوقِه؛ لأَنَّ القدرةَ على التحصيلِ حصولٌ، فَيُزَكِّيهِ بالعددِ، وهذا مذهبُ الشافعيِّ. وقال آخرونَ: لَا يُزَكِّيهِ إلا إذا قَبَضَهُ. في تشاعيبَ وأقوالٍ معروفةٍ.

وهل يُسْقِطُ الدَّيْنُ الزكاةَ أو لا

(2)

؟ لا نَصَّ فيه عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، والعلماءُ مختلفونَ فيه، وأقوالُهم مع كثرتِها متشابهةٌ ترجِع إلى ثلاثةِ مذاهبَ: قومٌ قالوا: إن الدَّيْنَ لا يُسْقِطُ شيئًا من الزكاةِ، وقومٌ قالوا: يُسْقِطُهَا كُلَّهَا. وقومٌ فَرَّقُوا بينَ الأموالِ الظاهرةِ والباطنةِ، قالوا: يُسْقِطُ الدَّيْنُ الزكاةَ في الأموالِ الباطنةِ. والأموالُ الباطنةُ: هي الذهبُ، والفضةُ، وعروضُ التجارةِ، فهذه يُسْقِطُهَا الدَّيْنُ. والأموالُ الظاهرةُ: هي المواشِي والثمارُ والحبوبُ والمعادنُ، قالوا: زكاةُ هذه لا يُسْقِطُهَا الدَّيْنُ؛ لأنها ظاهرةٌ، والزكاةُ واجبةٌ في عَيْنِهَا في أقوالٍ معروفةٍ.

ومن المسائلِ التي اختلفوا فيها: زكاةُ المعادنِ

(3)

وَقَدْرُ

(1)

قال في الأضواء (2/ 457): «فالمدير: هو الذي يبيع ويشتري دائمًا، والمحتكر: هو الذي يشتري السلع ويتربص بها حتى يرتفع سعرها، وإن لم يرتفع سعرها لم يبعها ولو مكثت سنين» اهـ.

(2)

انظر: المبسوط (2/ 197)، المحلى (6/ 99، 101)، المغني (4/ 263)، الموسوعة الفقهية (23/ 245)، أضواء البيان (2/ 462).

(3)

انظر: المحلى (6/ 108)، المجموع (6/ 75)، القرطبي (3/ 323 - 324)، المغني (4/ 238)، الموسوعة الفقهية (38/ 197)، أضواء البيان (2/ 466).

ص: 476

الواجبِ فيها، فَذَهَبَ مالكٌ والشافعيُّ أنه: لا يَجِبُ في زكاةِ المعادنِ إلا في معدنِ الذهبِ والفضةِ خاصةً؛ لأن الذهبَ والفضةَ من [الأصناف التي فيها]

(1)

الزكاةُ، وجمهورُ العلماءِ منهم مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ على أن زكاةَ المعدنِ ربعُ العشرِ، وفي مذهبِ مالكٍ والشافعيِّ: أن المعدنَ إذا كان معدنَ ذهبٍ أو فضةٍ كل ما يخرج منه من ذهبٍ وفضةٍ أُدِّيَتْ منه زكاتُه حالاًّ ولم يُنتظر به الحولَ، وهي ربعُ العشرِ، ولا زكاةَ عندهما في معدنٍ إلا إذا كان ذَهَبًا أو فضةً. وكان الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ رحمه الله يقولُ: تجبُ الزكاةُ في جميعِ المعادنِ، سواء كانت من الذهبِ والفضةِ، أو من الحديدِ والنحاسِ والرصاصِ أو الزجاجِ والزرنيخِ وسائر المعادن، حتى المعادن السائلة كالقارِ والنفطِ فإنها تجبُ فيها الزكاةُ عندَه، فزكاتُها عندَه ربعُ العشرِ.

أما الإمامُ أبو حنيفةَ رحمه الله فإن الواجبَ عندَه من المعادنِ الْخُمْسُ؛ لأنه يرى الخُمسَ من الركازِ، وقد جاء في ذلك حديثٍ أنه صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن الركازِ؟ [6/ب] / وأنه قال:«الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ الْمَخْلُوقَانِ فِي الأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ»

(2)

، وهذا الحديثُ لَا يَصِحُّ.

(1)

في الأصل: من الذين فيهما الزكاة.

(2)

أصل الحديث (وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «في الركاز الخُمس») متفق عليه، والزيادة المذكورة عند البيهقي في الكبرى (4/ 152) وعقبه بقوله:«تفرد به عبد الله بن سعيد المقبري وهو ضعيف جِدًّا جرحه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وجماعة من أئمة الحديث. وقال الشافعي: في رواية أبي عبد الرحمن الشافعي البغدادي عنه: قد روى أبو سلمة وسعيد وابن سيرين ومحمد بن زياد وغيرهم عن أبي هريرة حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «في الركاز الخُمس» ولم يذكر أحد منهم شيئًا من الذي ذكر المقبري في حديثه، والذي روى ذلك شيخ ضعيف إنما رواه عبد الله بن سعيد المقبري، وعبد الله قد اتقى الناس حديثه فلا يُجعل خبر رجل قد اتقى الناس حديثه حجة» اهـ. وأخرجه أبو يعلى (6609) بنحوه. وذكره الهيثمي في المجمع (3/ 78) وقال:«فيه عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد وهو ضعيف» اهـ وذكره ابن عدي في الكامل (2/ 833) وقال: «هذا الحديث أخطأ إبراهيم بن راشد على الدولابي

والبلاء في هذا الحديث من إبراهيم بن راشد لا من الدولابي ولا من ابن حبان» اهـ. وذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 9) بلفظ أبي يعلى وقال: «قال الدارقطني: هذا وهم؛ لأن هذا ليس من حديث الأعمش ولا من حديث أبي صالح، إنما يرويه رجل مجهول عن آخر عن أبي هريرة» اهـ. وانظر: تلخيص الحبير (2/ 182)، نصب الراية (2/ 380).

ص: 477

ولا تجبُ الزكاةُ في المعادنِ عندَ أبِي حنيفةَ إلا فيما ينطبعُ منها كالذهبِ والفضةِ والحديدِ والنحاسِ والرصاصِ، وما جرى مجرَى ذلك. ومن ذلك قولٌ له وَجْهٌ من النظرِ قالت به جماعاتٌ من العلماءِ: أن المعدنَ إذا كان في استخراجِه كُلْفَةٌ ونفقاتٌ أن زكاتَه ربعُ العشرِ، وإذا كان يَخْرُجُ بِلَا كُلْفَةٍ ولا مَشَقَّةٍ أن زكاتَه الخمسُ.

وَأَجْمَعَ المسلمونَ على أن الركازَ فيه الخمسُ

(1)

، واشترط الشافعيُّ أن يكونَ الركازُ من ذهبٍ أو فضةٍ، وعامةُ العلماءِ على خِلَافِهِ، والركازُ عند غيرِ أبِي حنيفةَ: دَفْنٌ جَاهِلِيٌّ، وعندَ أبِي حنيفةَ يشملُ جميعَ المعادنِ. هذه أقوالُ العلماءِ ذَكَرْنَاهَا مُخْتَصَرَةً، وقد أَوْضَحْنَاهَا في كتابِنا الذي أَشَرْنَا إليه.

(1)

انظر: المجموع (6/ 75)، القرطبي (3/ 322 - 324)، المغني (4/ 231 - 238)، الموسوعة الفقهية (23/ 98)، أضواء البيان (2/ 469).

ص: 478

(

)

(1)

بهمزةٍ محققةٍ، وقرأه ورشٌ وحدَه عن نافعٍ:{إنما النسيُّ زيادة في الكفر} [التوبة: آية 37] بياءٍ مشددةٍ، وما زَعَمَهُ بعضُهم - وقال به ابنُ جريرٍ - من أن قراءةَ ورشٍ هذه عن نافعٍ غَلَطٌ

(2)

. خلافُ التحقيقِ، بل هي قراءةٌ سبعيةٌ صحيحةٌ لَا كلامَ فيها، قرأ بها ورشٌ عن نافعٍ {إنما النَّسِيُّ زيادةٌ في الكفرِ} أُبْدِلَتِ الهمزةُ ياءً، ثم أُدْغِمَتِ الياءُ في الياءِ كما يقرأ بعضُ القراءِ:{النبيء} بالهمزةِ وبعضُهم يقرأُ {النبيُّ}

(3)

بتشديدِ الياءِ

(4)

.

وقرأَ قولَه: {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} قرأه نافعٌ وابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو وابنُ عامرٍ وشعبةُ عن عاصمٍ: {يَضِلَّ به الذين كفروا} بفتحِ الياءِ وكسرِ الضادِ، مضارعُ (ضَلَّ يَضِلُّ) مُجَرَّدًا لَازِمًا، وقرأه حمزةُ والكسائيُّ وحفصٌ عن عاصمٍ:{يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} بِضَمِّ

(1)

ذهب جزء من التسجيل في هذا الموضع، ويمكن أن نستدرك بعض النقص فننقل القراءات الواردة في {النسيء} عن كتاب «السبعة» لابن مجاهد ص314، حيث يقول: "اتفقوا على همز {النَّسِيءُ} ومده وكسر سينه، إلا ما حدثني به محمد بن أحمد بن واصل، عن محمد بن سعدان، عن عبيد بن عقيل، عن شبل، عن ابن كثير أنه قرأ:{إنما النَّسْءُ زيادة} في وزن (النَّسْعُ). وحدثني ابن أبي خيثمة، وإدريس، عن خلف، عن عبيد، عن شبل، عن ابن كثير أنه قرأ:{إنما النَّسِيُّ} مشددة الياء غير مهموزة. وقد رُوي عن ابن كثير: {النَّسْيُ} بفتح النون وسكون السين وضم الياء مخففة. والذي قرأت به على قنبل: {النَّسِيءُ} بالمد والهمز مثل أبي عمرو. والذي عليه الناس بمكة، {النَّسِيءُ} ممدودة» اهـ.

(2)

تفسير ابن جرير (14/ 244).

(3)

تقدمت عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام.

(4)

انظر: البحر المحيط (5/ 39)، الدر المصون (6/ 46).

ص: 479

الياءِ وفتحِ الضادِ مَبْنِيًّا للمفعولِ

(1)

.

أما قراءةُ {يَضَلُّ به الذين كفروا} و {يُضِلُّ به الذين كفروا} فليستَا سَبْعِيَّتَيْنِ

(2)

.

وقرأ نافعٌ وابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو: {زُين لهم سُوءُ وَعْمالهم} بإبدالِ الهمزةِ الثانيةِ واوًا. وقرأه غيرُهم من السبعةِ: {سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} بتحقيقِ الهمزةِ الثانيةِ

(3)

. هذه هي القراءاتُ السبعيةُ في الآيةِ.

وسببُ نزولِ هذه الآيةِ الكريمةِ هو ما أَشَرْنَا إليه أن الكفارَ كانوا يتلاعبونَ في الأشهرِ الْحُرُمِ

(4)

، وبعضُهم يقولُ: في أشهرِ الحجِّ، فَيُحَرِّمُونَ منها ما لم يُحَرِّمْهُ اللَّهُ، ويحلونَ ما لم يُحَلِّلْهُ اللَّهُ

(5)

. فَبَيَّنَ (جلَّ وعلا) في هذه الآيةِ أن ذلك كفرٌ على كفرٍ، أنه كفرٌ ازْدَادُوا به كُفْرًا على كفرهم الأولِ.

والعلماءُ مختلفونَ في أولِ مَنْ سَنَّ هذه السنةَ السيئةَ الخبيثةَ، وهي سنةُ النسيءِ. فكان بعضُ العلماءِ يقولُ: أولُ مَنْ أَحْدَثَهُ الملعونُ عمرُو بنُ لحيِّ بنِ قمعةَ بنِ إلياسَ بنِ مضرَ، وهو الخبيثُ الذي هو أولُ مَنْ جاء بالأصنامِ إلى جزيرةِ العربِ، وهو أولُ مَنْ بَحَّرَ البحائرَ فيها، وَسَيَّبَ السوائبَ، وَغَيَّرَ معالمَ دينِ إبراهيمَ التي كانت في جزيرةِ

(1)

انظر: السبعة ص314.

(2)

انظر: المحتسب (1/ 288 - 289).

(3)

انظر: الإتحاف (2/ 91).

(4)

كما أخرج ذلك ابن جرير (14/ 245) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(5)

أخرج ذلك ابن جرير (14/ 248) عن مجاهد.

ص: 480

العربِ عليه لعائنُ اللَّهِ

(1)

.

وأكثرُ المؤرخينَ يقولونَ: إن أولَ مَنْ سَنَّ هذه السنةَ القبيحةَ قومٌ من بطنٍ من بَنِي كنانةَ يُسَمَّى بني فقيمٍ، وهم من أولادِ مالكِ بنِ كنانةَ، يزعمُ العربُ أنهم كانوا مُتَمَسِّكِينَ بدينِ إبراهيمَ، وكانوا يُشَرِّعُونَ لهم ما شاؤوا، ويتبعونَهم فيما شاؤوا، يقال: إن أولَ مَنْ فَعَلَ ذلك منهم رجلٌ يُسَمَّى نعيمَ بنَ ثعلبةَ

(2)

.

والذي قاله غيرُ واحدٍ من المؤرخينَ وأوضحَه ابنُ إسحاقَ في سيرتِه أن أولَ مَنْ فَعَلَ هذا منهم رجلٌ يُسَمَّى القَلَمَّسَ. والدليلُ على ذلك موجودٌ في أشعارِهم. واسمُ القَلَمَّسِ هذا حذيفةُ بنُ عبيدِ بنِ فقيمٍ، وبنو فقيمٍ بطنٌ من بني مالكِ بنِ كنانةَ. كان هذا الرجلُ الذي هو حذيفةُ المعروفُ بالقلمَّسِ يقولُ لهم: سأؤخرُ عنكم تحريمَ المحرَّم وأنسؤه إلى صَفَرٍ، فاذهبوا فَقَاتِلُوا في المحرَّم فإني حَوَّلْتُ حرمتَه إلى صفر. فَهُمْ يتبعونَه، ثم لَمَّا مَاتَ القَلَمَّسُ قام بهذا الأمرِ بعدَه ابنُه العبادُ بنُ القَلَمَّسِ، فكان يُحِلُّ لهم هذا التحليلَ وهذا التحريمَ، ثم لَمَّا مَاتَ العبادُ قام به بعدَه ابنُه قَلَعُ بنُ عبادٍ، ثم لَمَّا مَاتَ قام به بعدَه ابنُه أميةُ بنُ قَلَعِ بنِ عبادٍ، ثم لَمَّا مات قام به بعدَه ابنُه عوفُ بنُ أميةَ، ثم لَمَّا مات قام به بعدَه ابنُه جنادةُ بنُ عوفٍ المعروفُ بأبي ثمامةَ، كنيتُه ككنيةِ مسيلمةَ الكذابِ، وهو الذي قام عليه الإسلامُ وهو بهذه السُّنةِ السيئةِ الخبيثةِ. كانوا إذا انتهت أيامُ حَجِّهِمُ وَانْقَضَتْ أيامُ مِنَى ذهبوا إلى هذا الرجلِ الذي هو أبو ثمامةَ جنادةُ بنُ عوفِ بنِ أميةَ الكنانيُّ فيقولُ: أنا الذي لَا يُعَابُ ولا يُجَابُ،

(1)

انظر: القرطبي (8/ 138).

(2)

السابق.

ص: 481

ولا مَرَدَّ لِمَا أقولُ، أَخَّرْتُ عنكم تحريمَ المحرمِ إلى صفر

(1)

. فيتبعونَه، فجاء الإسلامُ بتغييرِ هذا وَرَدِّ كُلِّ شيءٍ إلى مَحَلِّهِ.

وقد ذَكَرْنَا أن العلماءَ اختلفوا في الأشهرِ الحرمِ هل حرمتُها باقيةٌ إلى الآن؟ ويكونُ مَنْ نَسَأَ النسيءَ الآنَ ازدادَ كفرًا وَفَعَلَ كفرًا. أو هي منسوخةٌ ولا تحريمَ في الأشهرِ الحرمِ، وأن قتالَ العدوِّ يجوزُ في جميعِ الأشهرِ

(2)

؟ وَذَكَرْنَا أن المشهورَ عند العلماءِ الذي عليه الأكثرُ أنه قد نُسِخَ تحريمُ الأشهرِ الحرمِ، واستدلوا على ذلك بظواهرِ آياتٍ ليست صريحةً في ذلك، وَمِنْ أصرحِ ما استدلوا به هو ما ذَكَرْنَا من أنه ثَبَتَ في الصحيحينِ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم حاصرَ ثَقِيفًا في غزوةِ الطائفِ بَعْضًا من ذِي القعدة

(3)

. وهذا ثابتٌ في الصحيحينِ ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فيه. قالوا: لم تنسخ لما حَاصَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ثقيفًا في ذي القعدةِ وهو شهرٌ حَرَامٌ. وقد ذَكَرْنَا أن الذي كان يظهرُ لنا وننصرُه أن تحريمَ الأشهرِ الحرمِ قد نُسِخَ، وأن الذي تَحَقَّقْنَاهُ بعدَ ذلك وَصِرْنَا نجزمُ به أنها باقيةُ التحريمِ إلى الآن، ولم يُنْسَخْ تحريمُها، كما كان يُقْسِمُ عليه عطاءُ بنُ أبي رباحٍ رحمه الله، كان يحلفُ أن حرمتَها باقيةٌ

(4)

. وَمِنْ أَصْرَحِ الأدلةِ في ذلك هو الحديثُ الذي أَشَرْنَا إليه؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ به يومَ النحرِ في حجةِ

(1)

أخرجه ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (14/ 245). وذكره ابن هشام في السيرة ص56.

(2)

مضى عند تفسير الآية (5) من سورة التوبة.

(3)

السابق.

(4)

أخرجه أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ ص 207، والنحاس في الناسخ والمنسوخ (1/ 535)، وابن جرير (4/ 314).

ص: 482

الوداعِ عامَ عَشْرٍ، ولم يَعِشْ بعد ذلك إلا نحوَ ثمانينَ يومًا، وقد صَرَّحَ فيه بأن ذلك الشهرَ حرامٌ، وذلك اليومَ حرامٌ، وذلك البلدَ حرامٌ

(1)

، ولم يَأْتِ بعدَ ذلك شيءٌ يَنْسَخُ هذا التحريمَ الثابتَ عنه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه).

وهذه الآيةُ الكريمةُ قبلَ أن نشرعَ في تفسيرِها نشيرُ إلى أن فيها حُكْمًا يجبُ على كُلِّ مسلمٍ أن يعتبرَ به وينظرَه؛ لأن هؤلاء القومَ كفارٌ، كانوا يسجدونَ للأصنامِ، فَلَمَّا أَحَلَّ لهم رَجُلٌ شيئًا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَحَرَّمَ عليهم شيئًا أَحَلَّهُ اللَّهُ، وهم يعلمونَ أن اللَّهَ حرَّم تلك الأشهرَ الحُرمَ، ولا يَشُكُّونَ في ذلك، وأن هذا الرجلَ الكنانيَّ أحلَّ لهم ما حرَّمه اللَّهُ، وحرَّم عليهم ما أحلَّه اللَّهُ، فاتبعوا تحريمَ هذا الإنسانِ، فَصَرَّحَ اللَّهُ بأن هذا كفرٌ جديدٌ ازْدَادُوهُ إلى كفرِهم الأولِ. فهذه الآيةُ الكريمةُ من سورةِ براءة مِنْ أَصْرَحِ النصوصِ القرآنيةِ في أن كُلَّ مَنِ اتَّبَعَ نظامًا غيرَ نظامِ اللَّهِ، وتشريعًا غيرَ تشريعِ اللَّهِ، وقانونًا غيرَ قانونِ اللَّهِ، أنه كافرٌ بالله، إن كان يزعمُ الإيمانَ فقد كَفَرَ، وإن كان كافرًا فقد ازْدَادَ كُفْرًا جديدًا إلى كفرِه الأولِ. والآياتُ الدالةُ على هذا المعنَى لَا تكادُ تُحْصِيهَا في هذا المصحفِ الكريمِ، الذي هو أعظمُ كتابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ من السماءِ إلى الأرضِ، وهو آخِرُ كتابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ على أكرمِ نَبِيٍّ، وآخِرُ نَبِيٍّ جَمَعَ فيه له علومُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ. وسنذكرُ لكم طرفًا من ذلك كما ذَكَرْنَاهُ قبلَ هذا مرارًا

(2)

نُبَيِّنُ به أن الحلالَ هو ما أحلَّه اللَّهُ، والحرامَ هو ما حَرَّمَهُ اللَّهُ، والدينَ هو ما شَرَعَهُ اللَّهُ، وأن كُلَّ مَنِ اتَّبَعَ نظامًا وتشريعًا وقانونًا - ولو سَمَّاهُ ما سَمَّاهُ - غيرَ ما أَنْزَلَهُ اللَّهُ

(1)

مضى عند تفسير الآية (5) من هذه السورة.

(2)

مضى عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام.

ص: 483

في وحيِه على نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم أنه كافرٌ بذلك، فإن كان كافرًا قَبْلَهُ ازْدَادَ كُفْرًا جديدًا إلى كفرِه الأولِ، وإن كان يزعمُ الإيمانَ فقد جاءَ بما يَكْفُرُ به. وَمِنْ أصرحِ الأدلةِ في هذا: المناظرةُ العظيمةُ المشهورةُ التي وَقَعَتْ بينَ الكفارِ والمسلمينَ في حُكْمٍ مِنْ أحكامِ الحلالِ والحرامِ، فالمسلمونَ يقولونَ: إن هذا الأمرَ حرامٌ. ويستدلونَ بنصٍّ من نصوصِ الوحيِ.

وحزبُ الشيطانِ وتلامذتُه وأتباعُه يقولونَ: إن هذا الحكمَ حلالٌ. ويستدلونَ على ذلك بفلسفةٍ من وَحْيِ الشيطانِ. ويأتِي كلٌّ منهم بدليلِه، فلما تَحَاجُّوا وتخاصموا وحصلَ الجدالُ بينَهم في ذلك أَفْتَى اللَّهُ تعالى بنفسِه فتوى سماويةً تُتْلَى علينا قُرْآنًا في سورةِ الأنعامِ، وإيضاحُ هذا: أن الشيطانَ - لعنَه اللَّهُ - جاء كفارُ قريشٍ وقال لهم: سَلُوا محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الشاةِ تُصْبِحُ ميتةً، مَنْ هُوَ الذي قَتَلَهَا؟ فأجابهم: اللَّهُ قَتَلَهَا. فقالوا: إِذَنْ ما ذبحتموه بأيديكم حلالٌ، وما ذَبَحَهُ اللَّهُ بيدِه الكريمةِ بسكينٍ من ذَهَبٍ تقولونَ: هو حرامٌ، فأنتم إِذَنْ أحسنُ من الله!! فأنزلَ اللَّهُ في ذلك بإجماعِ العلماءِ في سورةِ الأنعامِ هذه الفتوى السماويةَ بعد أن بَيَّنَ اللَّهُ خصامَ المتخاصمينَ فيها فقال:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الميتة. وإن زعم حزبُ الشيطانِ أنها ذبيحةُ اللَّهِ، وأن ما قَتَلَهُ اللَّهُ أحلُّ مما قتله الناسُ. ثم قال:{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} الضميرُ في قولِه: {إِنَّهُ} راجعٌ إلى المصدرِ الكامنِ في جوفِ الفعلِ الصناعيِّ في قولِه: {تَأْكُلُوا} أي: وإنه أي: الأكلُ من الميتةِ {لَفِسْقٌ} أي: خروجٌ عن طاعةِ اللَّهِ، وإن زَعَمَ حزبُ الشيطانِ أنها ذبيحةُ اللَّهِ، وأن ما قَتَلَهُ اللَّهُ أَحَلُّ وَأَطْهَرُ مما قَتَلَهُ الناسُ.

ثم قال: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} {لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} وحي الشيطانِ {لِيُجَادِلُوكُمْ} بالوحيِ

ص: 484

الشيطانيِّ، وهو قولُهم: ما ذبحتُموه حلالٌ، وما قتلَه اللَّهُ حرامٌ، فأنتم إذًا أحسنُ من اللَّهِ!! ثم أَفْتَى اللَّهُ الفتوى السماويةَ التي تَتَرَدَّدُ في آذانِ الخلقِ مساءً وصباحًا بقولِه:{وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: آية 121] وإن أطعتُم أتباعَ الشيطانِ في تحليلِ ما حرَّمه اللَّهُ {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} بالله شِرْكًا أكبرَ، كما قال في هؤلاءِ {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: آية 37] وهذا الشركُ شركٌ أكبرُ مُخْرِجٌ عن الملةِ؛ لأنه شركُ طاعةٍ، وشركُ الطاعةِ شركٌ في الْحُكْمِ، والشركُ في الحكمِ كالشركِ في العبادةِ لَا فرقَ بينهما الْبَتَّةَ؛ لأن اللَّهَ هو الملكُ الجبارُ العظيمُ الأعظمُ لَا يرضَى أن يكونَ معه شريكٌ في عبادتِه ولا أن يكونَ معه شريكٌ في حكمِه سبحانَه (جلَّ وعلا) أن يكونَ له شريكٌ في عبادتِه أو شريكٌ في حكمِه، وقد بَيَّنَ هذين الأمرين في سورةٍ واحدةٍ من كتابِه وهي سورةُ الكهفِ، فقال في الإشراكِ به في عبادتِه:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: آية 110] وقال في الإشراكِ به في حُكْمِهِ: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: آية 26] فَمَنِ اتَّخَذَ تشريعًا غيرَ تشريعِ اللَّهِ، واتبع نظامًا غيرَ نظامِ اللَّهِ، وقانونًا غيرَ ما شَرَعَهُ اللَّهُ - سواءً سَمَّاهُ نظامًا أو دستورًا، أو سَمَّاهُ ما سَمَّاهُ - هو كافرٌ بالله؛ لأنه يُقَدِّمُ ما شَرَعَهُ الشيطانُ على ألسنةِ أوليائِه مما جُمِعَ من زبالاتِ أذهانِ الكفرةِ على نورِ السماءِ الذي أَنْزَلَهُ اللَّهُ (جلَّ وعلا) على رُسُلِهِ لِيُسْتَضَاءَ به في أرضِه، وَتُنْشَرَ به عدالتُه وطمأنينتُه ورخاؤُه في الأرضِ.

وهذا مِمَّا لا نزاعَ فيه، وهذا الشركُ الذي هو شركُ اتباعٍ، اتباعِ

ص: 485

قانونٍ ونظامٍ وتشريعٍ هو الذي يُوَبِّخُ اللَّهُ مرتكبَه يومَ القيامةِ على رؤوسِ الأشهادِ في سورةِ يَس في قولِه تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَاّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ

} [يس: آية 60] ما عَبَدُوا الشيطانَ بأن سجدوا للشيطانِ، ولا ركعوا للشيطانِ، ولا صاموا له، ولا صلوا، وإنما عبادتُهم للشيطانِ هي اتباعُ مَا سَنَّ لهم من النظمِ والقوانين من الكفرِ بالله ومعاصِي اللَّهِ. ثم قال:{وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا} [يس: الآيتان 61، 62] أي: خلائقَ كثيرةً لَا تُحْصَى.

ثم وَبَّخَ عقولَهم فقال: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: آية 62] ثم ذَكَرَ المصيرَ النهائيَّ للذي كان يتبعُ نظامَ إبليسَ، وقانونَ الشيطانِ في دارِ الدنيا ذَكَرَ مصيرَه النهائيَّ في قولِه:{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)} الآيات

[يس: الآيتان 63، 64]. وهذا هو معنَى قولِ إبراهيمَ: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [مريم: آية 44] أي: لا تَتَّبِعْ ما شَرَعَ لكَ الشيطانُ وَسَنَّهُ من الكفرِ باللَّه، ومعاصِي اللَّهِ، وهو معنَى قولِه:{إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَاّ إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَاّ شَيْطَانًا} [النساء: آية 117] أي: ما يدعونَ إلا الشيطانَ، وهو دعاءُ عبادةٍ باتباعِ نظامِه وتشريعِه. وهو أصحُّ الْوَجْهَيْنِ في قولِه (جلَّ وعلا) في الملائكةِ:{أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ: آية 40] لأن الملائكةَ قالوا: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ: آية 41] أي: يتبعونَ الشياطينَ ويعبدونَهم باقتفاءِ ما يَسُنُّونَ لهم من القوانينَ والنظمِ، وهذا أَمْرٌ لَا نزاعَ فيه، فَكُلُّ مَنْ يتبعُ نظامَ أحدٍ وتشريعِ أحدٍ وقانونَه فهو متخذُه رَبًّا؛ ولذا جاء في الحديثِ المشهورِ عن عَدِيِّ بنِ حاتمٍ رضي الله عنه أنه لَمَّا جاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم وكان في

ص: 486

عنقِ عديٍّ صليبٌ فقال له النبيُّ: «يَا عَدِيُّ أَلْقِ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ» وصادفَه يقرأُ سورةَ براءة هذه، سَمِعَهُ يقولُ:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: آية 31] وكان عَدِيٌّ نَصْرَانِيًّا في الجاهليةِ فقال: ما كنا نتخذُهم أربابًا. فأجابَه النبيُّ بما معناه: أَلَمْ يَحِلُّوا لكم ما حَرَّمَ اللَّهُ ويحرِّموا عليكم ما أحلَّ اللَّهُ فتتبعوهم؟ قال: بلى. قال: تلك عبادتُهم، وبذلك اتخذتُموهم أربابًا

(1)

.

فهذه الآياتُ الكريمةُ تدلُّ على أن كُلَّ مَنْ يتبعُ نظامًا غيرَ نظامِ اللَّهِ وإن سَمَّاهُ قانونًا أو دستورًا أو سَمَّاهُ ما سَمَّاهُ فهو كافرٌ بالله، ولو كان كافرًا قبلَ ذلك وارتكبَ شيئًا يعلم أن اللَّهَ حَرَّمَهُ فَحَلَّلَ ما يعلمُ أن اللَّهَ حَرَّمَهُ، أو حَرَّمَ ما يعلمُ أن الله حَلَّلَهُ، فإنه ولو كان كافرًا قبلَ هذا يزدادُ بذلك كُفْرًا جديدًا إلى كُفْرِهِ الأولِ، كما قال هنا:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: آية 37] وهذا معروفٌ لا نزاعَ فيه بينَ العلماءِ، فالحلالُ هو ما أَحَلَّهُ اللَّهُ، والحرامُ هو ما حَرَّمَهُ اللَّهُ، والدينُ هو ما شَرَعَهُ اللَّهُ، ولا تشريعَ إلا لِلَّهِ؛ لأن التشريعَ والأمرَ والنهيَ لا يكونُ إلا للسلطةِ التي ليس فوقَها شيءٌ، وَاللَّهُ (جلَّ وعلا) هو خالقُ هذا الخلقِ، وخالقُ النِّعَمِ التي أَنْعَمَ بها عليه، فهو الْمَلِكُ فَلَا يَرْضَى أن يأمرَ فيه غيرُه وينهى، بل الأمرُ له وحدَه، والنهيُ له وحدَه، والتشريعُ له وحدَه، فَكُلُّ مُشَرِّعٍ دُونَهُ ضَالٌّ، وَكُلُّ مُتَّبِعٍ تشريعًا غيرَ تشريعِه فهو كافرٌ به - جلَّ وعلا - وقد بَيَّنَ اللَّهُ (جلَّ وعلا) في آياتٍ كثيرةٍ هذا المعنَى، فكانَ قومٌ في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَرَادُوا أن يَتَحَاكَمُوا إلى غيرِ شرعِ اللَّهِ، وَادَّعُوا أنهم مؤمنونَ فعجَّب اللَّهُ نَبِيَّهُ من كَذِبِ دعواهم، وأن دعواهم الإيمانَ لا تَصِحُّ بوجهٍ من الوجوهِ مع إرادتِهم

(1)

مضى عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام.

ص: 487

التحاكمَ إلى غيرِ اللَّهِ، وذلك في قولِه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيدًا (60)} [النساء: آية 60] فَعَجَّبَهُ من دعواهم الإيمانَ وهم يريدونَ التحاكمَ إلى غيرِ ما شَرَعَهُ اللَّهُ، وهذا لا يَخْفَى، وَأَقْسَمَ اللَّهُ (جل وعلا) في آيةٍ من كتابِه أنه لا يؤمنُ أحدٌ حتى يكونَ مُتَّبِعًا في قرارةِ نفسِه لِمَا جاءَ به

سيدُ الرسلِ محمدٌ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) وذلك بقولِه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: آية 65] هذا قسمٌ من اللَّهِ أَقْسَمَ به {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} فما ظَنُّكُمْ بالذين يُحَكِّمُونَ فيما شَجَرَ بينَهم قانونَ نابليونَ وما جرى بعدَه من زبالاتِ أذهانِ الكفَرَةِ؟ أَلَا تَرَوْنَ أن اللَّهَ أَقْسَمَ في هذه الآيةِ من سورةِ النساءِ أنهم لا يؤمنونَ؟ وَمَنْ أصدقُ من اللَّه قِيلاً؟ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حديثًا؟ فعلى كُلِّ مسلمٍ أن يعلمَ أن الحاكمَ هو اللَّهُ، وأن الحكمَ لله وحدَه، وأنه لا يُحلُّ إلا اللَّهُ، ولا يُحَرِّمُ إلا اللَّهُ، فلا حلالَ إلا ما أحلَّه اللَّهُ، ولا حرامَ إلا ما حَرَّمَهُ اللَّهُ على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، ولا دينَ إلا ما شَرَعَهُ اللَّهُ.

فما عَمَّتْ به البلوى من انصرافِ جُلِّ مَنْ في المعمورةِ عن نورِ السماءِ الذي أَنْزَلَهُ اللَّهُ على سيدِ خلقِه وأعظمِ رُسُلِهِ، موضحًا له في أعظمِ كتابٍ أَنْزَلَهُ من سمائه إلى أرضه، منصرفينَ عن هذا مع وضوحِ أدلتِه وقيامِ براهينِه وصيانتِه لمقوماتِ الناسِ؛ لأن القرآنَ العظيمَ والسنَّةَ النبويةَ المبينةَ له جاء فيهما غايةُ الحفاظِ على جميعِ مقوماتِ الإنسانِ في دارِ الدنيا والآخرةِ، ولا سِيَّمَا الجواهر الستة التي يدورُ عليها نظامُ العالَم في الدنيا ونظامُ العدالةِ

ص: 488

والجورُ فيه، وهذه الأمورُ الستةُ لا يوجدُ شيءٌ أشدُّ محافظةً عليها مما جاء به سيدُ الخلقِ محمدٌ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، ونعني بهذه الستةِ التي أَشَرْنَا إليها: المحافظةُ على الدينِ السماويِّ الذي هو الصلةُ بينَ السماءِ والأرضِ وبينَ اللَّهِ وَخَلْقِهِ، ثم المحافظةُ على الأنفسِ من القتلِ والإزهاقِ، ثم المحافظةُ على الأنسابِ من الضياعِ والاختلاطِ وتقذيرِ الفُرُشِ، ثم المحافظةُ على العقولِ من الضياعِ؛ لأن العقولَ إذا ضَاعَتْ صار المجتمعُ حيواناتٍ يضربُ بعضُه بعضًا، ثم المحافظةُ على الأموالِ، ثم المحافظةُ على الأعراضِ. فدينُ الإسلامِ جاء بأعظمِ حياطةٍ وصيانةٍ للدينِ، وحياطة وصيانة للنفسِ، وحياطة وصيانة للعقلِ، وحياطة وصيانة للنَّسَبِ، وحياطة وصيانة للمالِ، وحياطة وصيانة للعِرْضِ، وستأتِي هذه الأشياءُ في هذه الدروسِ كُلٌّ في محلِّه، وقد قَدَّمْنَا ما جاء منها.

فهذا دينُ الإسلامِ الذي بَيَّنَ اللَّهُ فيه كُلَّ شيءٍ، وَحَافَظَ فيه على جميعِ المقوماتِ، وَأَعْطَى فيه الأجسامَ حقوقَها، والأرواحَ حقوقَها، وَأَرْشَدَ الإنسانَ إلى عملٍ مزدوجٍ يقومُ به الإنسانُ معاونًا جسمُه روحَه، وروحُه جسمَه؛ لأن مَنْ أَخَلَّ بناحيةِ الجسمِ أَهْمَلَ، وَمَنْ أخلَّ بناحيةِ الروحِ فهو أضيعُ وأضيعُ. فعلينا جميعًا أن نعلمَ أنه لا بدَّ من اتباعِ شَرْعِ اللَّهِ ودينِ اللَّهِ، وأن مَنْ طَلَبَ تشريعًا وتحليلاً وتحريمًا في غيرِ ما شَرَعَهُ اللَّهُ فهو ليس على دينِ الإسلامِ، أَحْرَى أن يكونَ من المؤمنينَ الذين يقولونَ: إن اللَّهَ ينصرُهم وأنه معهم وهم أعداؤُه، وقد بَيَّنَ اللَّهُ في القرآنِ أن الذي له التحريمُ والتحليلُ، والأمرُ والنهيُ لَا يكونُ إلا له صفاتٌ ليست كصفاتِ خَلْقِهِ، بل صفاتُه مميزةٌ عظيمةٌ لائقةٌ به دالةٌ على أنه هو الذي يأمرُ وينهى ويحللُ ويحرِّم، كقولِه

ص: 489

تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} وكأنه قال: أتريدونَ أن تعرفوا صفاتِ مَنْ يكونُ له الحكمُ في الأشياءِ ولا يُصْدَرُ في حُكْمٍ إلا عنه ما هي؟ ثُمَّ بَيَّنَّهَا في قولِه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: آية 10] ثم بَيَّنَ صفاتِ مَنْ له الحكمُ {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الشورى: الآيات 10 - 12] هذه صفاتُ مَنْ لَهُ الحكمُ، أما الكفَرَةُ الفجَرَةُ الخنازيرُ أبناءُ الكلابِ فليس لهم أن يحكموا في بلادِ اللَّهِ، ولا في عبادِ اللَّهِ، ويحرموا ما شاؤوا ويحللوا ما شاؤوا، فَمُتَّبِعُهُمْ هو أَعْمَى الناسِ بصيرةً وَأَضَلُّهُمْ سَبِيلاً:

خَفَافِيشُ أَعْمَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِهِ

فَوَافَقَهَا قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمُ

(1)

وَاللَّهُ (جلَّ وعلا) يقولُ: {وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: آية 12] الذي له الحكمُ هو العليُّ الكبيرُ الذي عُلُوُّهُ وعظمتُه فوقَ كُلِّ شيءٍ، وهو أعظمُ مِنْ كُلِّ شيءٍ، وأكبرُ من كُلِّ شيءٍ. ويقولُ (جلَّ وعلا):{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: آية 88] فلا يكونُ الحكمُ إلا لِمَنْ لا يهلك، ولمن كُلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وجهَه، هذه صفاتُ مَنْ له الحكمُ، ويقولُ (جل وعلا):{لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: الآية 70] ثم بَيَّنَ صفاتِ مَنْ له الحكمُ فقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ

(1)

مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام.

ص: 490

إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71)} إلى آخِرِ الآياتِ [القصص: آية 71]. فالحكمُ لَا يكونُ إلا للعظيمِ الأعظمِ الذي هو الخالقُ لكلِّ شيءٍ، الرازقُ لكلِّ شيءٍ، الفاعلُ ما يشاءُ في كلِّ شيءٍ، هذا الذي يُتَّبَعُ تشريعُه ويُحَلُّ ما أَحَلَّ، ويحرَّم ما حَرَّمَ، أما القوانينُ والنظمُ الملتقطةُ من زبالاتِ أذهانِ الكفَرَةِ الفجَرَةِ فلَا يَتَّبِعُهَا ويعتقدُها وَيُحَكِّمُهَا في أموالِ المجتمعِ وعقولِه وأنسابِه وأديانِه وأعراضِه إلا مَنْ أَعْمَى اللَّهُ بصائرَهم، وَمَنْ أَعْمَى اللَّهُ بصيرتَه فَلَا حيلةَ له {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور: آية 40] {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى

} [الرعد: آية 19] لَا ليسَ كمثلِه.

ومعنى الآيةِ الكريمةِ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: آية 37] اختلفَ العلماءُ في تحقيقِ كلمةِ (النسيءِ) هنا

(1)

فقالَ بعضُهم: هو مِنْ (نسأ) الثلاثيةِ وهو (فَعِيلٌ) بمعنَى مفعولٍ، فالعربُ تقولُ: نساه ينسؤه نَسْئًا، إذا أَخَّرَهُ. والعربُ تأتِي بـ (الفعيل) مكانَ (المفعولِ) كما يقولونَ: قتيلٌ مكانَ مقتولٍ، وجريحٌ مكانَ مجروحٍ، ونسيءٌ مكانَ منسوءٍ، أي: مُؤَخَّرٌ. فَعَلَى هذا القولِ فالنسيءُ (فعيلٌ) بمعنَى (مفعولٍ) وكقتيلٍ بمعنَى مقتولٍ، وجريحٍ بمعنَى مجروحٍ. وعلى هذا فهو مِنْ (نَسَأَ) الثلاثيةِ.

والقولُ الثانِي: أن النسيءَ اسمُ مصدرِ (أَنْسَأَ) الرباعيةِ على وزنِ (أَفْعَل) لأَنَّ العربَ تقولُ: أَنْسَأَ الأمرَ يُنْسِئُهُ إِنْسَاءً وَنَسِيئَةً. فالإنساءُ مصدرٌ قياسيٌّ، والنسيءُ مصدرُ (أَنْسَأَ) مصدرًا سماعيًّا، كما جاء

(1)

انظر: ابن جرير (14/ 243)، القرطبي (8/ 136)، الدر المصون (6/ 46).

ص: 491

النذيرُ مصدرًا لأَنْذَرَ، والنكيرُ مصدرًا لأَنْكَرَ، والنسيءُ مصدرًا لأَنْسَأَ، بمعنَى: أَخَّرَ.

فعلى أن النسيءَ اسمُ مصدرٍ بمعنَى الإِنْسَاءِ فلا إشكالَ؛ لأن الإنساءَ فعلُ الفاعلِ، وعلى هذا فلا إشكالَ في قولِه:{زِيَادَةٌ} أي: لأَنَّ تأخيرَ الشهرِ الحرامِ وَإِنْسَاءَهُ من نقلِه من المحرمِ وتأخيرَه منه إلى صَفَرٍ. هذا التأخيرُ والإنساءُ زيادةٌ في الكفرِ، لأنه أَحَلَّ ما حَرَّمَ اللَّهُ وهو المحرَّم، وَحَرَّمَ ما أحلَّه اللَّهُ وهو صَفَرٌ.

أما على القولِ بأن (النسيءَ)(فعيل) بمعنَى (مفعولٍ) وأنه من (نَسَأَ) الثلاثيةِ، وأن النسيءَ بمعنَى الزمانِ الْمَنْسُوءِ، فيكونُ في قولِه:{زِيَادَةٌ} إشكالٌ؛ لأن نفسَ الشهرِ المنسوءِ الْمُؤَخَّرِ ليس هو عَيْنَ الزيادةِ؛ وَلِذَا لا بُدَّ فِي هذا المعنَى من تقديرِ مضافٍ، أي: إنما نَسْءُ النسيءِ زيادةٌ في الكفرِ. أو إنما النسيءُ ذُو زيادةٍ، أي صاحبُ زيادةٍ في الكفرِ حَاصِلَةٌ فيه. فَاتَّضَحَ من هذا أنه على أن النسيءَ اسمُ مصدرٍ من (أَنْسَأَ) فلا تقديرَ في قولِه:{زِيَادَةٌ} .

وعلى أنه (فعيلٌ) بمعنَى (مفعولٍ) مِنْ (نَسَأَ) الثلاثيةِ فلا بدَّ من تقديرِ مضافٍ إما قبلَ الزيادةِ أو قبلَ النسيءِ، فتقول: نَسْءُ المنسوءِ زيادةٌ، أي: تأخيرُ الشهرِ زيادةٌ في الكفرِ. أو تقولُ: المنسوءُ ذُو زيادةٍ، أي: صاحبُ زيادةٍ في الكفرِ لوقوعِها بسببِه. وهذا معنَى قولِه: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} لأنهم كانوا كفارًا، فلما أحلُّوا مُحَرَّمًا وهم يعلمونَ أن اللَّهَ حَرَّمَهُ، وحرموا صفرًا وهم يعلمونَ أن اللَّهَ ما حَرَّمَهُ، صاروا بهذا التشريعِ مُرْتَكِبِينَ كُفْرًا جديدًا كما بَيَّنَّا، ازْدَادُوا بهذا الكفرِ كُفْرًا جديدًا إلى كُفْرِهِم الأولِ.

{يَضِلُّ به الذين كفروا} و {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} معناه:

ص: 492

يضلهم الشيطانُ كما يأتِي في قولِه: {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} .

{يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} قد أَشَرْنَا أن هذه الآيةَ الكريمةَ من سورةِ براءة والحديثَ الذي جاء في مضمونِها: أَنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ .. الحديثَ

(1)

. غَلِطَ فيه خلقٌ من كبارِ المفسرينَ، وَمَنْ تَكَلَّمُوا على الحديثِ، وأن الصورةَ الحقيقيةَ التي قالت بها جماعةٌ من السلفِ

(2)

- والقرآنُ يشهدُ لصحةِ قولِهم - أنها التي كان يَعْمَلُهَا الكنانيون القَلَمَّس وَمَنْ بعدَه، وكان شاعرُهم يفتخرُ بذلك ويقولُ شاعرُهم وهو عميرُ بنُ قيسٍ المعروفُ بـ (جذل الطَّعان)

(3)

:

لَقَدْ عَلِمَتْ مَعَدٌّ أَنَّ قَوْمِي

كِرَامُ النَّاسِ أَنَّ لَهُمْ كِرَامَا

أَلَسْنَا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعَدٍّ

شُهُورَ الْحِلِّ نَجْعَلُهَا حَرَامَا

وَأَيُّ النَّاسِ لَمْ يُدْرَكْ بِوِتْرٍ

وَأَيُّ النَّاسِ لَمْ يُعْلَكْ لِجَامَا

أنهم كانوا يأتون جنادةَ بنَ عوفٍ إذا صَدَرُوا مِنْ مِنًى، فيقومُ ويقولُ: أنا الذي لَا أُجَابُ وَلَا أُعَابُ، ولا مردَّ لِمَا أقولُ، هذا العام قد

(1)

أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق باب: ما جاء في سبع أرضين .. ، رقم (3197) (6/ 293). وانظر الأحاديث:(67، 105، 741، 4406، 4662، 5550، 7078، 7447). وأخرجه مسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، رقم (1679)(3/ 1305). وهو جزء من حديث خطبة حجة الوداع.

(2)

انظر: ابن جرير (14/ 245)، القرطبي (8/ 137)، ابن كثير (2/ 354).

(3)

الأبيات ذكرها ابن هشام ص56، والبيت الثالث عند الشيخ جعله ابن هشام ثانيًا، ولفظه عنده:

فأي الناس فاتونا بوتر

وأي الناس لم نعلك لجاما

وقد مضى البيت الثاني منها عند تفسير الآية (3) من سورة الأعراف.

ص: 493

أخرتُ عنكم حرمةَ المحرمِ إلى صفرٍ فَقَاتِلُوا في المحرمِ، ثم حَرِّمُوا مكانَه صَفَرًا ويأتِي في العامِ القابلِ ويقولُ مثل مقالتِه: أنا الذي لَا أُجَابُ ولَا أُعَابُ، ولا مردَّ لِمَا أقولُ، قد حَرَّمْتُ هذا العامَ مُحَرَّمًا وَأَبَحْتُ صَفَرًا. كما هي العادةُ، فيحلُّ لهم المحرَّم عامًا ويحرِّم مكانَه صَفَرًا، ويحرِّم المحرَّم عامًا ويتركُ الأشهرَ على حَالِهَا

(1)

. وهذا مُوَافِقٌ لقولِه: {يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} وموافقٌ لقولِه: {لِّيُوَاطِؤُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: آية 37] أما الصورُ الأخرى فلا تتفقُ مع الآيةِ.

أما الذين زَعَمُوا أنه يقولُ لهم في بعضِ السنينَ: حللتُ لكم المحرمَ وَصَفَرًا معًا فَهُمَا صفرانِ، لا محرمَ في هذه السنةِ، وإنما فيها صفرانِ. فيحلُّ لهم المحرمَ ويتركُ صفرًا على حلالِه الأصليِّ، وفي السنةِ القابلةِ يقولُ: هُمَا مُحَرَّمَانِ، المحرمُ الذي كان حرامًا، وصفرٌ بدلَ المحرمِ الذي حَرَّمْنَاهُ في السنةِ القابلةِ. فهذا وإن قال به جماعةٌ كبيرةٌ من العلماءِ

(2)

فهو لَا يصحُّ؛ لأنهم على هذا القولِ في إحدى السَّنَتَيْنِ ما حرَّموا إلا ثلاثةَ أشهرٍ، والأشهرُ الحرمُ أربعةٌ، وفي السنةِ الثانيةِ حَرَّمُوا خمسةَ أشهرٍ، فلم يُوَاطِئُوا ما حَرَّمَ اللَّهُ لَا في السنةِ الأُولَى ولا في السنةِ الثانيةِ. وكذلك قولُ مَنْ قَالَ: إنهم كانوا يُسَمُّونَ صَفَرًا مُحَرَّمًا، ويسمونَ ما بعد صفرٍ صفرًا، وكلُّ شهرٍ يسمونَه باسمِ ما بعدَه، وَيَحُجُّونَ في كُلِّ شهرٍ عَامَيْنِ، وأن حَجَّةَ أبِي بكرٍ عامَ تسعٍ، وَافَقَتْ ذَا القعدةِ، وأن أبا بكر حَجَّ بالناسِ عامَ ذِي القعدةِ، وأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَجَّ بالناسِ حجَّة موافِقة ذَا الحجةِ، وأن هذا معنَى

(1)

تقدم عند تفسير الآية (3) من سورة الأعراف.

(2)

انظر: ابن جرير (14/ 249)، القرطبي (8/ 139)، ابن كثير (2/ 356).

ص: 494

استدارةِ الزمانِ كهيئتِه يومَ خَلَقَ السماواتِ والأرضَ

(1)

.

فهذا لَا شَكَّ في أنه فَاسِدٌ باطلٌ؛ لأن اللَّهَ صَرَّحَ في كتابِه بقولِه في حجةِ أبِي بكرٍ بالناسِ عامَ تِسْعٍ: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة: آية 3] وقد أذن ببراءة عَلِيٍّ رضي الله عنه وَمَنْ معَه يومَ الحجِّ الأكبرِ، ومعلومٌ أن اللَّهَ لَا يُنْزِلُ في كتابِه يومَ الحجِّ الأكبرِ يريدُ أنه مِنْ ذي القعدةِ! فهذا من الباطلِ الذي لَا شَكَّ فيه، فهذا كُلُّهُ لَا يصحُّ، فالتحقيقُ أن هذه الصورةَ التي نَزَلَ بها القرآنُ التي كان يفعلُ لهم الكنانيونَ أنهم سَنَةً يُحَرِّمُونَ صَفَرًا ويحلونَ المحرَّم مكانَه، وفي سَنَةٍ يُبْقُونَ الأمرَ على حالِه فيحلونَ المحرَّم سَنَةً ويحرِّمونه سنةً ويواطئوا بذلك - يوافقوا - عدةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ، وهي أربعةُ أشهرٍ من السنةِ. وهذا معنَى قولِه:{يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} .

العامُ: السنةُ، والألفُ التي في مكانِ عينِه منقلبةٌ عن واوٍ، فَيُكَسَّرُ على (أعوامٍ) فعينُه واوٌ.

{لِّيُوَاطِؤُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: آية 37] المواطأةُ: الموافقةُ، أي لِيُوَافِقُوا عدةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ؛ لأن اللَّهَ حَرَّمَ أربعةَ أشهرٍ من السنةِ فَهُمْ يُحَرِّمُونَ قدرَ ما حَرَّمَ اللَّهُ إلا أنهم يعصونَ اللَّهَ بتغييرِه عن محلِّه، فالعدةُ هي العدةُ وَلَكِنَّ عينَ الزمانِ ليست هي عينَ الزمانِ، فهم يصيبونَ في العدةِ ويخطئونَ في تعيينِ المعدودِ، ومن هنا كانوا عصاةً بذلك. هذا هو الصحيحُ في معنَى الآيةِ الذي لا إشكالَ فيه، والصورُ الأُخَرُ فيها نظرٌ، ليست بصوابٍ، وإن قال بها مَنْ قال بها من

(1)

انظر: ابن جرير (14/ 248)، القرطبي (8/ 137)، ابن كثير (2/ 356 - 357).

ص: 495

العلماءِ. هذا معنَى قولِه: {لِّيُوَاطِؤُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} .

{زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} زَيَّنَ لهم الشيطانُ سوءَ أعمالِهم الخبيئةِ. وهذا يدلُّ على أن مِنْ أسوأِ الأعمالِ وأخبثِها تحليلَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وتحريمَ ما أَحَلَّ اللَّهُ {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} .

{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة: آية 37] هذه الآيةُ وأمثالُها بالقرآنِ فيها سؤالٌ معروفٌ، وَإِشْكَالٌ مشهورٌ، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: هذه الآيةُ وأمثالُها صرَّح اللَّهُ فيها بأنه لا يهدِي الكافرينَ، مع أنَّا نشاهدُ اللَّهَ يهدي كثيرًا من الكافرينَ، فَاللَّهُ يهدي مَنْ يشاءُ من الكفارِ، ويضلُّ مَنْ يَشَاءُ، فما وَجْهُ تعميمِه في قولِه:{لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} هذا وجهُ السؤالِ.

وللعلماءِ عنه جوابانِ معروفانِ:

أحدُهما: أن هذه الآيةَ الكريمةَ وأمثالَها في القرآنِ من العامِّ المخصوصِ، أي: لا يهدِي القومَ الكافرينَ الذين سَبَقَ في عِلْمِهِ عدمُ هدايتِهم وشقاؤهم شقاءً أزليًّا، كقولِه:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: الآيتان 96، 97] وقولُه: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)} [يس: آية 7] ونحو ذلك من الآياتِ. وعلى أن هذه الآيةَ الكريمةَ من العامِّ المخصوصِ بآياتٍ أُخَرَ فلَا إشكالَ.

وقال بعضُ العلماءِ: {لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} ما دام اللَّهُ (جلَّ وعلا) مُرِيدًا منهم أن يكونوا كافرينَ، فإذا شَاءَ اللَّهُ أن [يهديَهم

ص: 496

هُدَاهُمْ. وقال بعضُ العلماءِ: لَا يهديهم ما داموا مُصِرِّينَ على كُفْرِهِمْ]

(1)

.

[7/أ] / نقولُ

(2)

: إِنَّ مِنْ عَادَتِنَا التي نَجْرِي عليها في هذه الدروسِ أن نتعرضَ لِمَا نَظُنُّ أنه يسألُ عنه طلبةُ العلمِ، وقد مَرَّ في الآيةِ الماضيةِ، سؤالٌ معروفٌ يتساءلُ عنه طَلَبَةُ أهلِ العلمِ، وَنَسِينَا أن نتكلمَ عليه، فَأَحْبَبْنَا أن نَسْتَدْرِكَهُ الآنَ تَتْمِيمًا للفائدةِ، ونعنِي بذلك: أنا ذَكَرْنَا، أن العلماءَ اختلفوا في نسخِ الأربعةِ الْحُرُمِ، وأن قومًا قالوا: نُسِخَتْ، فجازَ للمسلمينَ الجهادُ في كُلِّ السَّنَةِ، وأن جماعةً من العلماءِ قالوا: إن تحريمَها باقٍ لم يُنْسَخْ، وذكرنا أنَّا كُنَّا أولاً نعتقدُ صحةَ نَسْخِهَا، وَأَنَّا عَرَفْنَا بعدَ ذلك أن الصحيحَ عدمُ نَسْخِهَا، وَذَكَرْنَا أن من أصرحِ الأدلةِ على نسخِها ما ثَبَتَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم حاصرَ ثقيفًا بالطائفِ في بعضِ ذِي القعدةِ وهو شهرٌ حرامٌ، ولو لم يكن القتالُ فيها حلالاً لَمَّا حَاصَرَهُمْ فيها، فَعَلِمْنَا مِنْ هنا أن طالبَ العلمِ يقولُ: إذا قررتُم أن التحقيقَ عدمُ نسخِها فما وَجْهُ حصارِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لثقيفٍ في الشهرِ الحرامِ؟!

هذا هو السؤالُ الذي كُنَّا نَوَدُّ أن نتعرضَ للإجابةِ عنه، وهذا

(1)

انقطاع في التسجيل، ويمكن مراجعة جواب الشيخ رحمه الله على هذا الإشكال عند تفسير الآية (145) من سورة الأنعام. وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.

(2)

تنبيه: في تفسير الشيخ رحمه الله لهذه الآية بقي الجواب عن إشكال معروف وهو توجيه حصار النبي صلى الله عليه وسلم لثقيف في الشهر الحرام. وقد استدرك الشيخ رحمه الله هذه المسألة والجواب عنها في بداية الكلام على الآية التي بعدها، فألحقته في موضعه هنا، وجعلت الآيات (38، 39)، بعد جواب الشيخ عن هذا الإشكال.

ص: 497

السؤالُ أجابَ عنه جماعةٌ من العلماءِ بما مُلَخَّصُهُ في نُقْطَتَيْنِ وَهُمَا

(1)

:

أن حصارَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لثقيفٍ كان ابتداؤُه في شهرٍ حلالٍ، والدوامُ قد يغتفرُ فيه ما لا يغتفرُ في الابتداءِ؛ لأن مِنَ المسائلِ ما يُحَرَّمُ فيها الابتداءُ ولا يحرمُ فيها الدوامُ، ألا تَرَوْنَ أن الرجلَ الْمُحْرِمَ لا يجوزُ له أن يبتدئَ تزويجًا، ولو تزوجَ قبل إحرامِه ثم أَحْرَمَ لم يَنْفَسِخْ تزويجُه بهذا الإحرامِ الطارئِ على تزويجِه، وكذلك الإحرامُ يُمْنَعُ ابتداءُ الطِّيبِ فيه، فلو كان مُتَطَيِّبًا قبلَه، لَا يمنعُ الدوامَ على الطِّيبِ الأولِ الإحرامُ عندَ جماهيرِ العلماءِ، فالشاهدُ أن الدوامَ في بعضِ الصورِ قد يُغْتَفَرُ فيه ما لا يُغتفر في الابتداءِ، وفي هذه الصورةِ يتأكدُ بشيءٍ آخَرَ وهو ما قَدَّمْنَا في كلامِنا على غزوةِ حُنَيْنٍ

(2)

في تفسيرِ آيةِ: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة: آية 25] أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَتَحَ مكةَ في رمضانَ عامَ ثمانٍ، ولم يكن يريدُ أن يغزوَ هوازنَ، سَمِعَ أن مالكَ بنَ عوفٍ النصريَّ، سيدَ هوازنَ جَمَعَ مَنْ أَطَاعَهُ من هوازنَ وفيهم ثقيفٌ؛ لأن ثقيفًا من هوازنَ؛ لأن ثقيفَ بْنَ منبهِ بنِ بكرِ بنِ هوازنَ بنِ منصورٍ، وأنهم تَجَمَّعُوا له يريدونَ حربَه، فَهُمُ الذينَ بدؤوا بإرادةِ الحربِ، ولم يَكُنِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قَاصِدًا حربَهم في ذلك الوقتِ قبلَ ذلك، فَلَمَّا هَزَمَهُمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يومَ حنينٍ واستفاءَ أموالَهم، رَجَعَ فَلُّهُمْ (والفَلُّ بقيةُ المنهزمينَ) فَتَحَصَّنُوا بحصنِ الطائفِ.

فحصارُه صلى الله عليه وسلم للطائفِ ليستنزلَ الذين كانوا يقاتلونَه في غزوةِ حنينٍ من تمامِ غزوةِ حنينٍ، وكانوا هم

(1)

انظر: تفسير ابن كثير (2/ 356).

(2)

مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأنعام.

ص: 498

البادئين بالقتالِ، والأشهرُ الْحُرُمُ إذا بُدِئَ المسلمونَ فيها بالقتالِ قَاتَلُوا، كما تَقَدَّمَ في قولِه:{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: آية 194] وكما قَدَّمْنَاهُ في الكلامِ على قولِه تعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: آية 191] فهذا هو الذي أَجَابَ به العلماءُ عن حصارِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لثقيفٍ على القولِ ببقاءِ حرمةِ الأشهرِ الْحُرُمِ.

يقول اللَّهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَاّ قَلِيلٌ (38) إِلَاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [التوبة: الآيتان 38، 39].

وقولُه تعالى في هذه الآيةِ الكريمةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} [التوبة: آية 38].

أَجْمَعَ كافةُ العلماءِ، أن هذه الآيةَ الكريمةَ من سورة براءة نَزَلَتْ لما اسْتَنْفَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المسلمينَ إلى غزوِ الرومِ

(1)

، وفي غزوةِ تبوك، كان ذلك في ساعةِ العسرةِ، كما يأتِي منصوصًا في هذه السورةِ الكريمةِ، وكان وقتَ شدةِ الحرِّ، والأرضُ في غايةِ الجدبِ، وكان في المدينةِ النخيلُ حين أَزْهَتْ ثمرتُه، وطابت الظلالُ والمياهُ الباردةُ، فَرَكَنُوا إلى الدعةِ، وإلى نعيمِ الدنيا في

(1)

انظر: ابن جرير (14/ 251)، القرطبي (8/ 140)، ابن كثير (2/ 357).

ص: 499

الظلِّ والثمارِ والمياهِ والظلالِ الباردةِ، فَرَكَنُوا إلى هذا؛ لأن العدوَّ قَوِيٌّ وكثيرُ العددِ جِدًّا، والشقةُ بعيدةٌ، والزمانُ حَارٌّ؛ ولذا مَنْ تَكَاسَلُوا منهم وَبَّخَهُمُ اللَّهُ هذا التوبيخَ العظيمَ في هذه الآيةِ الكريمةِ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ} أي شيء ثبت لكم يقتضي نُكُولَكُمْ عن الغزوِ واختيارَكم للدعةِ والراحةِ على مرضاةِ اللَّهِ وإعلاءِ كلمةِ اللَّهِ؟ {مَا لَكُمْ} أي شيء ثبتَ لكم. {إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا} أي: إذا قال لكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه: {انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} انْفِرُوا معناه: تَهَيَّؤُوا خارجينَ متحركينَ لحربِ الرومِ {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لأَنَّ القتالَ والجهادَ في سبيلِ اللَّهِ هو أعظمُ أنواعِ سبيلِ اللَّهِ (جلَّ وعلا).

{اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} أصلُه: (تَثَاقَلْتُمْ) والمقررُ في علمِ العربيةِ: أن كُلَّ ماضٍ على وزنِ (تَفَاعَلَ) أو على وزن (تَفَعَّلَ) إذا تَقَارَبَتْ حروفُه الأُولَى، يكثرُ في اللغةِ العربيةِ إدغامُ بعضِها في بعضٍ واجتلابُ همزةِ الوصلِ لإمكانِ النطقِ بالساكنِ

(1)

، وهذا يكثرُ في القرآنِ في (تَفَاعَلَ) و (تَفَعَّلَ)، كقولِه هنا في (تفاعل):{اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} أصلُه: (تثاقلتم)، {فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة: آية 72] أصلُه: (تَدَارَأْتُمْ)، {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا} [الأعراف: آية 38] أصلُه: (تَدَارَكُوا)، {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ} [النمل: آية 66] أصلُه: (تَدَارَكَ علمُهم). وكذلك هو فِي (فَعَّلَ) كقولِه (جلَّ وعلا): {وَازَّيَّنَتْ} [يونس: آية 24] أصلُه: (تَزَيَّنَتْ) من (تَفَعَّلَ)، {قَالُوا اطَّيَّرْنَا} [النمل: آية 47] أصلُه: (تَطَيَّرْنَا). وهذا أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ،

(1)

مضى عند تفسير الآية (72) من سورة البقرة، وانظر: ابن جرير (14/ 252)، الدر المصون (6/ 49).

ص: 500

ومن شواهدِه العربيةِ المشهورةِ ما أَنْشَدَهُ الفراءُ من قولِ الشاعرِ

(1)

:

تُولِي الضَّجِيعَ إِذَا مَا اسْتَافَهَا خَصِرًا

عَذْبَ الْمَذَاقِ إِذَا مَا اتَّابَعَ الْقُبَلُ

يعني بقولِه «ما اتّابع» : تَتَابَعَ.

ومعنَى {اثَّاقَلْتُمْ} تَثَاقَلْتُمْ، أي: تَكَاسَلْتُمْ وتباطأتُم وتقاعستُم عن الخروجِ في سبيلِ اللَّهِ لغزوِ الكفارِ.

ثم إن اللَّهَ أَنْكَرَ عليهم إنكارًا قويًّا بأداةِ الإنكارِ التي هي الهمزةُ في قولِه: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} قد تَقَرَّرَ في عِلْمِ العربيةِ أن لفظةَ (مِنْ) تأتِي بمعنَى البدلِ

(2)

، كقولِه:{وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ} [الزخرف: آية 60] أي: لَجَعَلْنَا بَدَلَكُمْ ملائكةً في الأرضِ {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} أي: بدلَ الآخرةِ، وإتيانُ (مِنْ) بمعنَى البدلِ، أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ، ومنه قولُ الشاعرِ

(3)

:

فَلَيْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبةً

مُبَرَّدَةً باتَتْ عَلَى طَهَيَانِ

يعنِي ليس لنا شربةٌ باردةٌ مكانَ زمزمَ؛ لأنه يُؤْخَذُ حارًّا، ويُروَى:

فَلَيْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ حَمْنَانَ شَرْبةً

مُبَرَّدَةً بَاتَتْ عَلَى طَهَيَانِ

وَالطَّهَيَانُ: عُودٌ كانوا يجعلونَه مرتفعًا فِي جانبِ البيتِ متلقيًّا للهواءِ يعلقونَ عليه الماءَ ليبردَ

(4)

.

(1)

تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (72) من سورة البقرة.

(2)

انظر: ابن جرير (14/ 252)، القرطبي (8/ 141)، الدر المصون (6/ 50).

(3)

البيت ليعلى بن مسلم اليشكري، أو الأحول الكندي. وهو في القرطبي (8/ 141)، الدر المصون (6/ 50).

(4)

انظر: القرطبي (8/ 141).

ص: 501

وقولُه: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} الهمزةُ همزةُ إنكارٍ؛ لأَنَّ أَسْفَهَ الناسِ وأقلَّهم عقلاً هو مَنْ يرضى بالدنيا بدلاً من الآخرةِ؛ لأنه يعتاضُ القليلَ التافهَ من الكثيرِ الذي لا يُقَدِّرُ قدرَه إلا اللَّهُ، وفي هذا وَبَّخَهُمْ؛ لأنه نَقْضٌ ضِمْنِيٌّ للعقدِ الذي عَقَدَهُ معهم؛ لأن اللَّهَ (جلَّ وعلا) عقد عُقْدَةً بينَه وبينَ عبادِه المؤمنينَ وَأَبْرَمَهَا، وهو أنه اشْتَرَى منهم أنفسَهم وأموالَهم بالجهادِ، يشتري من المؤمنِ حياتَه الدنيويةَ وهي حياةٌ قصيرةٌ مُنغَّصَةٌ مشوشةٌ بالأمراضِ والمصائبِ والبلايا والمشاقِّ، يشتريها منه بحياةٍ أبديةٍ سرمديةٍ، لا شيبَ فيها ولا هرمَ ولا مرضَ ولا غضبَ ولا أَلَمَ ولا تشويشَ، ويشتري منه مالاً قليلاً وَعَرَضًا زائلاً من الدنيا بِالْحُورِ الْعِينِ والوِلْدانِ وغُرَفِ الجنةِ وأنهارِها وثمارِها، والنظرِ إلى وَجْهِ اللَّهِ الكريمِ. فهذا هو البيعُ الرابحُ، وَاللَّهُ يقولُ في هذه السورةِ الكريمةِ:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} [التوبة: آية 111] هذا هو البيعُ الرابحُ والمعاملةُ الراجحةُ، أما الذي يَنْقُضُهَا وينكثُها ويقدمُ للدنيا على الآخرةِ فهذا سَفِيهٌ يستحقُّ أشدَّ الإنكارِ؛ ولذا أَنْكَرَ اللَّهُ عليه بقولِه:{أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} فإنه لا يَقْنَعُ بِالدُّونِ إلا مَنْ هو في غايةِ الدونِ، وقد صَدَقَ مَنْ قال

(1)

:

إِذَا مَا عَلَا الْمَرْءُ رَامَ الْعُلَا

وَيَقْنَعُ بِالدُّونِ مَنْ كَانَ دُونَا

فلَا يقنعُ بالدونِ إلا مَنْ هو دُونَ كما لَا يَخْفَى، وهذا معنَى

(1)

مضى عند تفسير الآية (168) من سورة الأعراف.

ص: 502

قولِه: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} . قد قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا أن تسميةَ اللَّهِ (جلَّ وعلا) في كتابِه للدارِ الذي نَؤُولُ إليها تسميته إِيَّاهَا (الآخرة) ينبغي للمسلمِ أن ينظرَ فيه ويعتبرَ فيه، وقد أَوْجَبَ اللَّهُ على كلِّ إنسانٍ أن ينظرَ في مبدئِه، وإذا نَظَرَ في مبدئِه دَعَاهُ ذلك إلى النظرِ في انتهاءِ أَمْرِهِ الذي يَؤُولُ به إلى مُسَمَّى الآخرةِ، وإيضاحُ ذلك أن اللَّهَ قال بصيغةِ أَمْرٍ سَمَاوِيٍّ من اللَّهِ {فَلْيَنْظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5)} [الطارق: آية 5] لامُ الأمرِ في قولِه: {فَلْيَنْظُرِ} لامُ أمرٍ صادرةٌ مِنْ خَالِقِ السماواتِ والأرضِ، متوجهةً إلى مُسَمَّى الإنسانِ، يأمرُه اللَّهُ أن ينظرَ إلى الشيءِ الذي خُلِقَ منه ليعلمَ مبدأَ أمرِه وَمِنْ أينَ جَاءَ؟ وما سببُ وجودِه؟ وعلى أَيِّ طريقٍ جَاءَ؟ ثُمَّ ليَنْظُرْ بعدَ ذلك في مصيرِه، وإلى أين يُذْهَبُ به، وإلى أين يَصِيرُ، وإلى أين يكونُ آخِرُ أَمْرِهِ؟ وقد بَيَّنَ لنا هذا المحكمَ المنزلَ الذي جَمَعَ اللَّهُ به علومَ الأولينَ والآخرينَ، مبدأُ هذا الإنسانِ الضعيفِ ومنتهاه، ومصيرُه النهائيُّ الذي لا يحيدُ عنه إلى شيءٍ آخَرَ، فَبَيَّنَ أن أولَ الإنسانِ ترابٌ بَلَّهُ اللَّهُ بماءٍ، وهو قولُه:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّنْ تُرَابٍ} [الحج: آية 5] فمبدأُ رحلةِ الإنسانِ ومنشؤُه من الترابِ، بَلَّهُ اللَّهُ بالماءِ، فصارَ طِينًا، وهو قولُه تعالى:{أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: آية 61]{إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّنْ طِينٍ لَاّزِبٍ} [الصافات: آية 11] ثم جَعَلَ نسلَه من سلالةٍ من طِينٍ، ثم إن الله خَمَّرَ ذلك الطينَ حتى صَارَ حَمَأً مَسْنُونًا، ثم أَيْبَسَهُ حتى صَارَ صلصالاً كالفخارِ، ثم خَلَقَ منه آدمَ وجعلَه لَحْمًا وَدَمًا، ثم خَلَقَ منه زوجَه، كما قال:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ}

[النساء: آية 1] هي آدمُ {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يعني حواءَ. وَذَكَرَ ذلك في الأعرافِ وفي الزمرِ كما

ص: 503

هو معروفٌ، ثم بعدَ أن حَصَلَ رجلٌ وامرأةٌ صَارَ طريقةُ وجودِ الإنسانِ على طريقِ التناسلِ المعروفةِ، يكونُ أولاً من نطفةٍ أمشاجٍ من ماءِ الرجلِ وماءِ المرأةِ، ثم يخلقُ اللَّهُ تلك النطفةَ علقةً وهي الدمُ الجامدُ الذي إذا صُبَّ عليه الماءُ الحارُّ لم يَذُبْ، ثم يجعلُ اللَّهُ تلك العلقةَ مضغةً، ثم المضغةَ عِظَامًا، ثم يَكْسُو العظامَ لَحْمًا، ويخلقُ هذا البشرَ السويَّ الذي تنظرونَ إليه، الذي كُلُّ موضعِ إبرةٍ منه فيها من غرائبِ صُنْعِ اللَّهِ وعجائبِه ما يُبْهِرُ العقولَ، وقد ذَكَرْنَا مِرَارًا أن أعظمَ مَا فُتِنَ به ضعافُ العقولِ من المسلمينَ حِذْقُ الإفرنجِ، في حالةِ الدنيا، وَمِنْ أبرعِ ما بَرَعُوا فيه الطبُّ، وأنا أقولُ لكم: إنه لو اجتمعَ اليومَ جميعُ مَنْ في المعمورةِ مِنْ مهَرَةِ الأطباءِ يريدونَ أن يعملوا عمليةً في جَنِينٍ في رَحِمِ أُمِّهِ فإنهم لا يقدرونَ أن يعملوا العمليةَ حتى يَشُقُّوا بطنَها وَرَحِمَهَا والمشيمةَ التي على الولدِ، ثم يأتوا بالأشعةِ الكهربائيةِ ليمكنَهم أن يَرَوْا، ثم يعملوا، فقد تموتُ وهو الأغلبُ!! وهذا خالقُ السماواتِ والأرضِ (جلَّ وعلا)، ليس فِينَا ولا فيهم ولا في غيرِنا أحدٌ إلا وهو يعملُ فيه آلافَ العملياتِ الهائلةِ وهو في بطنِ أُمِّهِ، من غيرِ أن يحتاجَ إلى شَقِّ بطنِها، ولا إلى شَقِّ رَحِمِهَا، ولا إلى شَقِّ المشيمةِ التي على الولدِ {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر: الآية 6].

هذه الأعينُ قد فَتَحَهَا اللَّهُ (جلَّ وعلا) وأنتم في بطونِ أمهاتِكم، وَصَبَغَ بعضَها بصبغٍ أسودَ، وبعضَها بصبغٍ أبيضَ، وَأَنْبَتَ عليها هذا الشعرَ، وجعلَ لها هذا الوعاءَ من الجفونِ، وهذا الدماغَ خَلَقَهُ وجعلَه في هذا الوعاءِ، وَخَاطَ عليه هذه العظامَ هذه الخياطةَ الهائلةَ، وهذا

ص: 504

الأنفُ خلقَه وثقبَه، وهذا الفمُ خلقَه وثقبَه، وجعلَ اللسانَ، وَأَجْرَى في الفمِ عَيْنًا باردةً هي الريقُ، يبتلعُ بها الطعامَ، لو أَمْسَكَ عنه الريقَ لَمَا ابتلعَ الزبدَ الذائبَ، وَشَقَّ له مجاريَ البولِ، ومجاريَ الغائطِ، ومجاريَ العروقِ والشرايين للدورةِ الدمويةِ، ولو نُظِرَ إلى موضعِ عضوٍ واحدٍ من الإنسانِ لوُجِدَ فيه من غرائبِ صنعِ اللَّهِ وعجائبِه ما يُبْهِرُ العقولَ، ومع هذا كلِّه فخالقُ السماواتِ والأرضِ يجعلُ هذه العملياتِ الهائلةَ فيكم وأنتم في بطونِ أمهاتِكم، من غيرِ أن يحتاجَ إلى بِنْجٍ، بل بِنْجُ القدرةِ وعظمةِ الخالقِ، يُفْعَلُ للمرأةِ جميعُ هذا وهي تضحكُ وتفرحُ وتمرحُ وتعصِي خالقَ السماواتِ والأرضِ، لَا تشعرُ بشيءٍ، لعظمةِ وقدرةِ هذا الإلهِ الخالقِ العظيمِ (جلَّ وعلا)، ثم إن الله (جلَّ وعلا) يخلقُ هذا الإنسانَ بما فيه من الغرائبِ والعجائبِ الذي كُلُّ موضعِ إبرةٍ منه يبهرُ العقولَ بما أَوْدَعَ فيه اللَّهُ مِنْ بارعِ صنعِه وغرائبِ عجائبِه، ثم يخرجُه من بطنِ أُمِّهِ ويسهلُ له طريقَ الخروجِ من ذلك المكانِ الضيقِ كما يأتِي في قولِه:{ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)} [عبس: آية 20] ثم يُلْهِمُهُ أَخْذَ الثديِ وهو في ذلك الصغرِ، ويلطفُ به حتى يكبرَ ويعظمَ ويكونَ قويًّا يجادلُ في رَبِّهِ، وتلك المحطةُ هي التي نَحْنُ فيها الآنَ، فقد جَاوَزْنَا ما قبلَها من المحطاتِ، وهي التي نحنُ فيها الآنَ، وهذه المحطةُ التي نحنُ فيها هي المحطةُ التي يُؤْخَذُ منها الزادُ، والسفرُ أمامَها طويلٌ، وَالشُّقَّةُ هائلةٌ، فَكَأَنَّ الإنسانَ يُقال له: يا مسكينُ، أنتَ في رحلةٍ عظيمةٍ، وَآخِرُهَا أعظمُ من أَوَّلِهَا، أشدُّ مسافةً وأكبرُ خطرًا وأعظمُ غررًا، فَخُذْ أهبتَك في وقتِ الإمكانِ، وليس موضع يمكنكَ به أخذُها

إلا في هذا الزمنِ، الذي لا تَدْرِي في أَيِّ وقتٍ يقطعُك الموتُ فيه وَيَخْتَرِمُكَ، فعلى الإنسانِ أن يبادرَ بأعظمِ ما

ص: 505

يكونُ من السرعةِ ليأخذَ زَادَهُ ويستعدَّ عدتَه لبقيةِ هذا السفرِ العظيمِ الهائلِ الشاقِّ، ثم بعدَ هذه المرحلةِ ننتقلُ جميعًا إلى مرحلةٍ تُسَمَّى مرحلةَ القبورِ، نصيرُ جميعًا إلى القبورِ كما صَارَ إليها مَنْ قَبْلَنَا. وَذَكَرُوا أن أعرابيًّا بدويًّا سمع قارئًا يقرأُ {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)} [التكاثر: الآيتانِ 1، 2]. قال: انْصَرَفُوا وَاللَّهِ من المقابرِ إلى دارٍ أُخْرَى

(1)

. لأن الزائرَ مُنْصَرِفٌ لا محالةَ، ثم إنهم يومَ القيامةِ يُخْرَجُونَ من القبورِ إلى محطةٍ أخرى وهي محطةُ عرصاتِ الحشرِ، يجتمعونَ فيها جميعًا في صعيدٍ واحدٍ ينفذُهم البصرُ ويُسمعُهم الدَّاعِي، ثم يَقْضِي اللَّهُ بينَ خلقِه بالشفاعةِ الكبرى، شفاعةِ سيدِ الأنبياءِ محمدٍ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، فإذا انْقَضَى حسابُهم وَتَمَّتْ مجازاتُهم، عندَ ذلك صدورًا أشتاتًا {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} [الزلزلة: آية 6] فمذهوبٌ به ذاتَ اليمينِ إلى الجنةِ، ومذهوبٌ به ذاتَ الشمالِ إلى النارِ، ولَا يجتمعونَ بَعْدَ ذلك، وهذا قولُه تعالى:{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} ، وهذه الأشتاتُ قَدْ أَوْضَحَ اللَّهُ معناها في سورةِ الرومِ، في قولِه تعالى:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: الآيات 14 - 16].

فإذا دَخَلُوا أماكنَهم دَخَلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ، وأهلُ النارِ النارَ، وفي ذلك الوقتِ يُدْعَى بالموتِ في صورةِ كبشٍ أملحَ، في مَرْأَى كُلٍّ منهم ثم يُذْبَحُ، ويُقال: يا أهلَ الجنةِ خلودٌ فلَا موتَ، ويا أهلَ النارِ خلودٌ فلَا موتَ، وذلك هو معنَى قولِه:{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}

(1)

ذكره ابن كثير في التفسير (4/ 545).

ص: 506

[مريم: آية 39] إِذْ قُضي الأمرُ وَذُبِحَ الموتُ واستقرَّ كلٌّ في منزلِه استقرارًا أبديًّا، فهذا الاستقرارُ الذي لا تَحَوُّل بعدَه، من أجلِه قِيلَ للدارِ (الآخرة) لأنها ليس بعدَها محطةٌ أخرى ينتقلُ إليها، فهي آخِرُ المحطاتِ التي ينتقلُ إليها، لا يبغونَ عنها حِوَلاً في الجنةِ، ولا خروجَ لهم من النارِ، وهذا هو معنَى قولِه:(الآخرة).

قولُه تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ} أي: في جنبِها وبالنسبةِ والإضافةِ إليها {إِلَاّ قَلِيلٌ} جِدًّا، قد جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه ضَرَبَ لذلك مَثَلاً بِمَنْ وَضَعَ إصبعَه في البحرِ، فَلْيَنْظُرْ بماذا يخرجُ به أصبعُه من البحرِ

(1)

، فذلك بمثابةِ قلةِ الدنيا بجنبِ الآخرةِ، وهذا معنَى قولِه:{أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَاّ قَلِيلٌ} لأَنَّ الدنيا دارٌ قليلٌ ما فيها، وأهلُها الذين كانوا يتمتعونَ بها إذا بُعِثُوا يحلفونَ أنهم ما مَكَثُوا فيها إلا ساعةً كما قال تعالى:{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: آية 55] وَبَيَّنَ أن أقواهم عقلاً وأثبتَهم نظرًا يَدَّعِي أنهم مَكَثُوا يومًا أو بعضَ يومٍ، وهو قولُه في (طه):{إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَاّ يَوْمًا} [طه: آية 104] وهذا معنَى قولِه: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَاّ قَلِيلٌ} (الدنيا) تأنيثُ الأَدْنَى، وهي في غايةِ الدناءةِ والدنوِّ؛ لأنها قِيلَ من الدنوِّ بأنها عَرَضٌ عاجلٌ الآنَ، وقيل من الدناءةِ بالنسبةِ إلى الآخرةِ

(2)

.

(1)

أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: فناء الدنيا. حديث رقم: (2858)(4/ 2193).

(2)

مضى عند تفسير الآية (51) من سورة الأعراف.

ص: 507

{إِلَاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [التوبة: آية 39].

قولُه: {إِلَاّ تَنْفِرُوا} هي (إن) الشرطيةُ أُدْغِمَتْ في (إلا) يعنِي: إلا تَنْفِرُوا، إن لم تَمْتَثِلُوا أَمْرَ اللَّهِ وَتَنْفِرُوا لجهادِ أعداءِ اللَّهِ وإعلاءِ كلمتِه فإن ذلك ضررُه عليكم لا على اللَّهِ ولا على رسولِه.

وهذه الآيةُ فيها سِرٌّ عظيمٌ يَعْلَمُ به الإنسانُ أن كُلَّ ما يفعلُه إنما أثرُه راجعٌ إلى نفسِه، فإن كان شَرًّا فهو يَجْنِي شَرًّا على نفسه، وإن كان خيرًا فهو يجلبُ الخيرَ لنفسِه {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: آية 7]. فَعَلَى كُلِّ عاقلٍ في دارِ الدنيا أن يعتبرَ بمعنَى هذه الآيةِ وما في معناها من الآياتِ، وهو أن ما يفعلُه الإنسانُ لَا يَجْنِيهِ إلا هو، وأن حركاتِ الإنسانِ في دارِ الدنيا يَبْنِي بها مسكنَه الذي يصلُ إليه ويخلدُ فيه خلودًا أبديًّا يومَ القيامةِ، فهذه الحركاتُ والسكناتُ في دارِ الدنيا يظنُّ الجاهلُ أنها أمورٌ لَا طائلَ تحتَها، ولا يلزمُ الاحتياطُ والنظرُ الدقيقُ فيها، وهذا من أشنعِ الغلطِ؛ لأن حركاتِ الإنسانِ في دارِ الدنيا مُقْبِلاً ومدبرًا، ذاهبًا وجائيًا، متصرفًا هنا وهنا، كُلُّهُ يبني منزلَه ومقرَّه النهائيَّ، إما أن يَبْنِيَ بذلك غرفةً من غرفِ الجنةِ يخلدُ فيها، أو يبنيَ به سجنًا من سجونِ جهنمَ، هذا هو الواقعُ، فَعَلَى كُلِّ مسلمٍ أن ينظرَ في أقوالِه وأفعالِه، فيعلم أنه ينفعُ بالطيبِ منها نفسَه، ويضرُّ بالخبيثِ منها نفسَه، ليحاسبَ فيجتنبَ الخبيثَ ويجتلبَ الطَّيِّبَ، وهذا معنَى قولِه:{إِلَاّ تَنْفِرُوا} إلا تَمْتَثِلُوا أَمْرَ اللَّهِ ورسولِه بالنفرِ إلى الأعداءِ لجهادِ أعداءِ اللَّهِ، وإعلاءِ كلمةِ اللَّهِ، ونصرِ دينِ اللَّهِ {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أنتم الذين تنالون الضرَّ مِنْ ذلك.

{يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} الظاهرُ أن هذا العذابَ شاملٌ لعذابِ

ص: 508

الدنيا وعذابِ الآخرةِ، لأن التكاسلَ عن مقاومةِ الأعداءِ في دارِ الدنيا من أسبابِ عذابِ الدنيا؛ لأنه يُضْعِفُ المسلمينَ ويقوي أعداءَهم فيُهينونهم في قعرِ بيوتِهم كما هو واقعٌ الآنَ؛ لأن المسلمينَ، أو من يتسمونَ باسمِ المسلمينَ معذبونَ في أقطارِ الدنيا من جهةِ الكفرةِ، يضطهدونَهم، ويظلمونَهم، ويقتلونَهم، ويتحكمونَ في خيراتِ بلادِهم، وهذا كُلُّهُ من أنواعِ عذابِ الدنيا لتركِهم الجهادَ وإعلاءَ كلمةِ اللَّهِ (جلَّ وعلا).

وما ذكره غيرُ واحدٍ عن ابنِ عباسٍ من أنه قال: إن هذه الآيةَ نَزَلَتْ في بعضِ قبائلِ العربِ، اسْتَنْفَرَهُمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الغزوِ فَامْتَنَعُوا، فمنع اللَّهُ عنهم المطرَ، وأضرَّهم بالقحطِ

(1)

. هذا قد يدخلُ في الآيةِ في الجملةِ، ولا يمكنُ أن يكونَ معناها؛ لأن اللَّهَ يقولُ:{يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} . فهذا يدلُّ على أن المرادَ به ليس حبسَ المطرِ، وإن كان حبسُ المطرِ من أنواعِ العذابِ التي تُسَبِّبُهَا مخالفةُ اللَّهِ (جلَّ وعلا)؛ لأن مخالفةَ اللَّهِ وعدمَ القيامِ بأمرِه ونهيِه هي سببُ كُلِّ البلايا كما قال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: آية 30].

{يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} الأليمُ: معناه الْمُوجِعُ الذي يَجِدُ صاحبُه شدةَ أَلَمِهِ ووجعِه، والتحقيقُ هو ما قَدَّمْنَاهُ مرارًا

(2)

: أن الأليمَ بمعنَى المؤلمِ، وأن (الفعيل) يأتِي في لغةِ العربِ بمعنَى (الْمُفْعِلِ).

(1)

أخرجه أبو داود في الجهاد، باب: كراهية ترك الغزو، حديث رقم:(2489)(7/ 183)، والبيهقي (9/ 48)، والحاكم (2/ 118)، وابن جرير (14/ 254) وهو في ضعيف أبي داود ص246.

(2)

مضى عند تفسير الآية (73) من سورة الأعراف.

ص: 509

فما ذَكَرَهُ بعضُهم عن الأصمعيِّ من أن (الفعيل) لا يكونُ بمعنَى (المُفعل) وعليه أَرَادَ بعضُهم أن يفسرَ الأليمَ بأنه يُؤْلَمُ به أو يُحْصَلُ بسببِه أَلَمٌ، فَكُلُّهُ خلافُ التحقيقِ، والتحقيقُ أن من أساليبِ اللغةِ العربيةِ إطلاقَهم (الفعيلَ) وإرادةَ (المُفعِل) وهذا معروفٌ في كلامهم، ومنه {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ} [الأنعام: آية 101] أي: مبدعُها، {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ} [هود: آية 25] أي: منذرٌ لكم، ونظيرُه من كلامِ العربِ قولُ غيلانَ بنِ عقبةَ المعروفِ بذي الرُّمَّةِ

(1)

:

وَيَرْفَعُ مِنْ صُدُورِ شَمَرْدَلَاتٍ

يَصُكُّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمٌ

أَيْ: مُؤْلِمٌ، وقولُ عمرِو بنِ معدِ يكربَ الزبيديِّ

(2)

:

أَمِنْ رَيْحَانَةِ الدَّاعِي السَّمِيعُ

يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ

فقولُه: «الدَّاعِي السَّمِيعُ» يعني: الدَّاعِي الْمُسْمِعُ، وقول عمرِو بنِ معدِ يكربَ أيضًا

(3)

:

وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ

تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ

أَيْ: مُوجِعٌ. وهذا هو الصحيحُ.

{وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} أَكْثَرَ اللَّهُ (جلَّ وعلا) في القرآنِ مِنْ ذِكْرِهِ أن الموجودينَ إذا لم يُطِيعُوهُ وَيَمْتَثِلُوا أمرَه فهو غَنِيٌّ عنهم قادرٌ على إذهابِهم وإزالتِهم بالكليةِ والإتيانِ بِمَنْ يَخْلُفُهُمْ، بل مَنْ يكونُ خَيْرًا منهم، وقد قَدَّمْنَا هذا مِرَارًا وسيأتِي أيضًا، فَمِنَ الآياتِ التي بَيَّنَ بها هذا قولُه تعالى في سورةِ النساءِ: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ

(1)

السابق.

(2)

مضى عند تفسير الآية (73) من سورة الأعراف.

(3)

السابق.

ص: 510

وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)} [النساء: آية 133] وقولُه في الأنعامِ: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُم مِّنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)} [الأنعام: آية 133] وقولُه تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)} [إبراهيم: الآيتانِ 19، 20]. وقولُه في سورةِ القتالِ: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: آية 38]{مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: آية 54] أي: بدلاً من هؤلاء الْمُرْتَدِّينَ، وهذا معنَى قولِه:{وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [التوبة: آية 39] أي: يأتِي بقومٍ يجعلُهم بَدَلَكُمْ خَيْرًا منكم، إذا اسْتُنْفِرُوا نَفَرُوا، ولا يُؤْثِرُونَ الحياةَ الدنيا على الآخرةِ، كما دَلَّتْ عليه هذه الآياتُ المذكورةُ، وهذا معنَى قولِه:{يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} .

وقد ذَكَرْنَا مِرَارًا

(1)

، أن لفظةَ (القومِ) اسمُ جمعٍ لَا واحدَ له من لفظِه، يُطْلَقُ في اللغةِ العربيةِ الإطلاقَ الأولَ على الذكورِ خاصةً دونَ النساءِ؛ لأنه وُضِعَ للذكورِ خاصةً، وربما دَخَلَتْ فيه النساءُ بِحُكْمِ التبعِ إذا دَلَّ على ذلكِ قرينةٌ، أما الدليلُ على أن القومَ اسمُ جمعٍ خاصٌّ بالرجالِ، في أصلِ وضعِه: فقولُه تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ} [الحجرات: آية 11] ثم قال: {وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ} فعطفُه النساءَ على القومِ يدلُّ على عدمِ دخولِهن في اسمِ القومِ، ونظيرُه من كلامِ العربِ قولُ زهيرِ بنِ أبِي سُلْمَى

(2)

:

(1)

مضى عند تفسير الآية (80) من سورة الأنعام.

(2)

السابق.

ص: 511

وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي

أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ

فَعَطَفَ النساءَ على القومِ، وربما دَخَلَتِ النساءُ في اسمِ القومِ بحكمِ التبعِ إذا دَلَّتْ على ذلك قرينةٌ خارجيةٌ، ومنه قولُه تعالى في سورةِ النملِ:{وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)} [النمل: آية 43].

وقولُه: {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} قال بعضُ العلماءِ: الضميرُ المنصوبُ في «تَضُرُّوهُ» عائدٌ إلى اللَّهِ، أي: لَا تَضُرُّوا اللَّهَ شيئًا بعدمِ امتثالِكم أمرَه ولَا سعيِكم في إعلاءِ كلمتِه

(1)

. وهذا الوجهُ هو الذي يشهدُ له القرآنُ كقولِه (جلَّ وعلا): {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} [محمد: آية 32] وتدلُّ على هذا الآياتُ القرآنيةُ الكثيرةُ أن اللَّهَ غَنِيٌّ عن خَلْقِهِ الذين يدعوهم لطاعتِه، فإنما يَدْعُوهُمْ لنفعِهم، فامتثالُهم نَفْعُهُ لهم، وتمردُهم ضررُه عليهم، كما قال تعالى:{فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن: آية 6]، {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: آية 8]، {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: آية 7] إلى غيرِ ذلكَ من الآياتِ.

وقال بعضُ العلماءِ: الضميرُ المنصوبُ عائدٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم

(2)

، أَيْ: لَا

تَضُرُّوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لأَنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ له بنصرِه، كما يأتِي في قولِه: {إِلَاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ

} الآيةَ [التوبة: آية 40]

(1)

انظر: القرطبي (8/ 142)، ابن كثير (2/ 358).

(2)

انظر: القرطبي (8/ 142).

ص: 512

وقولُه تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: آية 39] معناه: أنه (جلَّ وعلا) قادرٌ على كُلِّ شيءٍ، فهو قادرٌ على ما شَاءَ، وقادرٌ أيضًا على ما لم يَشَأْ، فهو (جَلَّ وَعَلَا) قادرٌ على هدايةِ أبِي بكرٍ الصديقِ، وقادرٌ على هدايةِ أبِي لَهَبٍ، لَا شَكَّ أنه قادرٌ على الأَمْرَيْنِ، وقد أَرَادَ أحدَ الْمَقْدُورَيْنِ، وهو هدايةُ أبِي بكرٍ، وَلَمْ يُرِدِ المقدورَ الثانيَ وهو هدايةُ أبِي لهبٍ، فهو (جلَّ وعلا) قادرٌ على كُلِّ شيءٍ، لا يَتَعَاصَى عليه شيءٌ، يقولُ للشيءِ: كُنْ فَيَكُونُ، خَلْقُهُ لجميعِ البشرِ كخلقِه لنفسٍ واحدةٍ {مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَاّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: آية 28] لأنه (جلَّ وعلا) لا يَتَعَاصَى على قدرتِه شيءٌ سبحانَه (جل وعلا).

[7/ب] / يقولُ اللَّهُ جلَّ وعلا: {إِلَاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)} [التوبة: آية 40].

هذه الآيةُ يقولُ اللَّهُ (جلَّ وعلا) فيها للذين تَكَاسَلُوا عن غزوةِ تبوكَ وَتَثَاقَلُوا وَتَبَاطَؤُوا أن يَغْزُوا الرومَ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم: {إِلَاّ تَنْصُرُوهُ} (إن) هي الشرطيةُ مدغمةً في (لا) والضميرُ المنصوبُ في (تنصروه) عائدٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، يعني: إن تَتَقَاعَسُوا وَتَتَثَاقَلُوا عن نصرةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم في غزوةِ تبوكَ فإن الله نَاصِرُهُ لَا محالةَ، سواء تَثَاقَلْتُمْ أَمْ لَمْ تَتَثَاقَلُوا. وقد بَيَّنَ (جَلَّ وعلا) أنه نَصَرَهُ في حالةِ الضعفِ والقلةِ، في حالةِ كَانَ هو وصاحبُه دَاخِلَيْنِ في غارٍ مُخْتَفِيَيْنِ عن المشركينَ، فَلَمَّا نصره اللَّهُ في حالةِ الضعفِ والقلةِ فكيفَ لَا ينصرُه في حالةِ الكثرةِ والقوةِ؟ وهذا

ص: 513

معنَى قولِه: {إِلَاّ تَنْصُرُوهُ} فَاللَّهُ ناصرُه على كُلِّ حالٍ، ثم بَيَّنَ نَصْرَهُ له السابقَ في حالةِ الضعفِ والقلةِ {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} على أعدائِه حيث أَنْجَاهُ اللَّهُ منهم، وَخَيَّبَ مكرَهم وأبطلَه، ثم أظهرَه عليهم بَعْدَ ذلك. وهذا معنَى قولِه:{فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} .

{إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} حينَ أَخْرَجَهُ الذين كفروا وهم كفارُ مكةَ، ومعنَى إخراجِهم له أنهم اضْطَرُّوهُ وَأَلْجَؤُوهُ إلى أن يخرجَ؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان فِي حياةِ عَمِّهِ أبِي طالبٍ يدفعُ عنه مَكْرَ قريشٍ، وَيَحْمِيهِ منهم، ويقولُ له

(1)

:

وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ

حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينَا

فَلَمَّا مَاتَ أبو طالب وَجَدَ الأنصارَ وَبَايَعُوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعةَ العقبةِ خاف قريشٌ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَظُمَ عليهم أَمْرُهُ، وَهَالَهُمْ شأنُه، فقالوا: هذا الرجلُ صار له أتباعٌ في القبائلِ الأُخْرَى، فما نَأْمَنُ أن يَغْزُونَا بأتباعه فيحتلنا. واعتزموا على أن يقتلوه، وقد قَدَّمْنَا السببَ الذي أَلْجَأَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إلى الهجرةِ في سورةِ الأنفالِ، في الكلامِ على قولِه تعالى:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)}

(2)

[الأنفال: آية 30]. وذلك أن قريشًا لَمَّا هَالَهُمْ أمرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَظُمَ عليهم شأنُه، وخافوا أن تتبعَه قبائلُ العربِ فيغزوَهم بهم حاولوا أن يقتلوه، فاجتمعوا في دارِ الندوةِ، واجتمعَ جميعُ ساداتِ قبائلِ قريشٍ في ذلك الاجتماعِ، وجاءهم إبليسُ - عليه لعائنُ اللَّهِ - في صورةِ شيخٍ جليلٍ جَائيًا من

(1)

مضى عند تفسير الآية (13) من سورة التوبة.

(2)

مضى عند تفسير الآية (30) من سورة الأنفال.

ص: 514

بلادِ نَجْدٍ، وقال لهم: قد علمتُ بما اعتزمتُم عليه. وَأَرَادَ أن يجلسَ معهم ليتبادلَ معهم الرأيَ، أَدْخَلُوهُ معهم، فَتَشَاوَرُوا في أمرِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فقال قائلٌ منهم، يقال هو أبو البختريِّ: احْبِسُوهُ وَنَتْرُكُهُ مَحْبُوسًا حتى يموتَ. فقال ذلك الشيخُ الذي هو إبليسُ في صورةِ ذلك الشيخِ: ليس هذا لكم بِرَأْيٍ؛ لأنكم إن حبستموه جاء بَنُو عَمِّهِ وأتباعُه فَانْتَزَعُوهُ منكم، وَغَلَبُوكُمْ عليه. فقال آخَرُ: نرى أن نخرجَه من بلادِنا وأرضِنا ونصلحَ شأنَنا بعدَه إذا أَخْرَجْنَاهُ. فقال لهم إبليسُ اللعينُ في صورةِ ذلك الشيخِ: ليس هذا وَاللَّهِ بِرَأْيٍ؛ لأنكم إن أَخْرَجْتُمُوهُ فقد عرفتُم حلاوةَ منطقِه، وعذوبةَ لسانِه، فقد يَتْبَعُهُ الناسُ فيغزوكم في ديارِكم فيغلبَكم على أَمْرِكُمْ.

فقال أبو جهلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: إن عندي لَرَأْيًا ما أراكم ذَكَرْتُمُوهُ، خُذُوا من كُلِّ قبيلةٍ من قبائلِ قريشٍ شابًّا حدثًا قويًّا وَأَعْطُوهُ سَيْفًا وأْمُرُوهُمْ يضربوه ضربةَ رجلٍ واحدٍ فَيَتَفَرَّقُ دَمُهُ في قبائلِ قريشٍ، فلن يستطيعَ بَنُو عبدِ منافٍ أن يُحَارِبُوا جميعَ قريشٍ، فيقبلوا منا عقلَه، فنعقلَه ونعطيَهم دِيَتَهُ، ونستريحَ من شَأْنِهِ. فقال لهم إبليسُ اللعينُ: هذا وَاللَّهِ هو الرأيُ. فَأَجْمَعُوا رأيَهم على هذا وأنهم يقتلونَه، واجتمعوا لتنفيذِ ذلك عندَ بابِ الدارِ التي ينامُ فيها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وكان أَبْو بَكْرٍ رضي الله عنه قبلَ ذلك هَاجَرَ إلى الحبشةِ فِيمَنْ هَاجَرَ، فَلَقِيَهُ عمرُو بنُ الدغنةِ سيدُ بَنِي القارةِ، وهم بنو الهونِ بنِ خزيمةَ بنِ مدركةَ بنِ إلياسَ، فقال لأبِي بكرٍ: أنتَ لَا تذهبُ، وأنتَ فِي ذِمَّتِي. فرجع به في ذمتِه، وَأَعْطَاهُ قريشٌ ذمةَ ابنِ الدغنةِ على أن لا يُظْهِرَ قراءتَه ولا دِينَهُ، وأن يجعلَ دينَه سِرًّا في بيتِه، فلما طال ذلك على أبي بكرٍ رضي الله عنه صار يُظْهِرُ صلاتَه وقراءتَه، فَأَرْسَلَتْ قريشٌ إلى عمرِو بنِ الدغنةِ، الذي كان في ذمتِه

ص: 515

أبو بكرٍ رضي الله عنه، فقالوا: نَحْنُ لَا نحبُّ أن نخفرَ ذمتَك، وإن صاحبَك صَارَ يفعلُ ما لم يَحْصُلْ عليه الاتفاقُ، فكلم ابنُ الدغنةِ أَبَا بكرٍ رضي الله عنه فقال: إما أن تَفِيَ بالشرطِ الذي تَوَافَقْنَا عليه، وإما أن تَرُدَّ إِلَيَّ ذمتي. فقال له أبو بكر رضي الله عنه: رَدَدْتُ إليكَ ذمتَك، وأنا في ذمةِ اللَّهِ تعالى. وكان أبو بكر لَمَّا أرادَ أن يهاجرَ أشارَ له النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنه يطمعُ أن يُؤْذَنَ له في الهجرةِ، فقعد أبو بكر رضي الله عنه طَمَعًا في أن يُؤْذَنَ لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في الهجرةِ فيكون رفيقَه، واشترى رَاحِلَتَيْنِ، وكان يعلفُهما الْخَبَطَ، وهو ورقُ السمرِ، شجرٌ معروفٌ، علفهما إياه أشهرًا عديدةً، أربعةً، أو ستةً، أو غيرَ ذلك.

فلما اجتمعت قريشٌ لقتلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يأتِي بيتَ أبِي بكرٍ كُلَّ يومٍ إما أولَ النهارِ أو آخرَه، فبينما هُمْ ذاتَ يومٍ إِذْ قَدِمَ عليهم رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في حَرِّ الظهيرةِ، فقال أبو بكر: هذا وقتٌ ما جَاءَنَا به رسولُ الله، وَاللَّهِ ما جاء إلا لأَمْرٍ حَدَثَ. ثم لَمَّا دَخَلَ عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال لأبِي بكرٍ: أَقِمْ مَنْ عِنْدَكَ. فقال: هُمْ أَهْلُكَ يا رسولَ اللَّهِ، هُمُ ابْنَتَايَ - يعني عائشةَ وأسماءَ رضي الله عنهما - فأخبرَ النبيُّ أبا بكر رضي الله عنه أن اللَّهَ أَذِنَ له في الهجرةِ، فقال: الصحبةَ يا رسولَ اللَّهِ. فقال: الصحبة. قالت أسماءُ رضي الله عنها: ما رأيتُ أحدًا يبكي من الفرحِ قبلَ ذلك اليومِ، فأبو بكر يَبْكِي من الفرحِ. كذا قاله غيرُ واحدٍ من أهلِ الأخبارِ وَالسِّيَرِ، ثم إن قريشًا اجتمعوا لتنفيذِ الخطةِ وقتلِ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ جبريلُ فأخبرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَهُ بالخروجِ، فنادى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بنَ أبي طالبٍ رضي الله عنه وأمرَه أن يضطجعَ في مكانِه، وأن ينامَ في البُرْدِ الذي كان ينامُ فيه رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثم إن اللَّهَ أَخَذَ بأعينِهم فَمَرَّ بهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم

ص: 516

وقرأ عليهم آياتٍ من أولِ سورةِ (يس) حتى بَلَغَ {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: آية 9] وَوَضَعَ على رأسِ كُلِّ واحدٍ منهم الترابَ. ثم خرجَ هو وأبو بكرٍ رضي الله عنه.

قال بعضُهم: خرج من خوخةٍ في قَفَا دارِ أبي بكرٍ التي في بَنِي جُمَحَ، وذهب هو وأبو بكر إلى الغارِ، وهو غارٌ في جبلٍ من جبالِ مكةَ يُسَمَّى ثورًا، فدخل فيه هو والنبيُّ صلى الله عليه وسلم، وجاءَه ليلاً، ومكثوا فيه ثلاثَ ليالٍ بأيامِها حتى يرجعَ الطلبُ، وَآجَرُوا رجلاً من بَنِي دؤلِ بنِ كنانةَ يُسَمَّى عبدَ اللَّهِ بنَ الأريقطِ على دينِ كفرِ قريشٍ، يُقال: إن له خؤولةً في بَنِي سهمِ بنِ عمرِو بنِ هصيصِ بنِ كعبِ بنِ لؤيٍ، فَأَمَّنَهُ وَاسْتَأْجَرَهُ على راحلتيهما وواعدَه بعدَ ثلاثِ ليالٍ أن يأتيَهم بالراحلتين في غارِ ثورٍ، وكان كافرًا أمينًا، كَتَمَ سِرَّهُمَا وَحَفِظَ عليهما أمرَهما، وجاءهما في الموعدِ، وكان عبدُ اللَّهِ بنُ أبي بكرٍ رضي الله عنهما غلامًا ثَقِفًا شابًّا عاقلاً، كان يأتيهم بأخبارِ قريشٍ وَكُلِّ ما قالوا وَتَحَدَّثُوا به في شأنِهم في النهارِ يأتيهم به في الليلِ في الغارِ، وكانت أسماءُ رضي الله عنها تأتيهم بالطعامِ، وكان عامرُ بنُ فهيرةَ الطائيُّ رضي الله عنه مولَى أبي بكرٍ الصديقِ كان عبدًا مَمْلُوكًا لأولادِ أُمِّ رومانَ، وهي أُمُّ عائشةَ، كانت لها أولادٌ قبلَ أبِي بكرٍ، وكان عامرُ بنُ فهيرةَ هذا عَبْدًا لهم، فاشتراه أبو بكر رضي الله عنه فَأَعْتَقَهُ، فكان مولًى لأَبِي بكرٍ، كان يريحُ على النبيِّ وأبي بكر غَنَمًا لأبي بكر رضي الله عنه فيحلبُ لهم منها فيشربونَ بالليلِ، ثم إذا كان في آخِرِ الليلِ صَاحَ بها فأصبحَ مع رعاءِ قريشٍ، ولا يَدْرُونَ أنه كان معهم. فمكثوا فيها ثلاثَ ليالٍ، فجاءهم عبدُ اللَّهِ بنُ الأريقطِ الدؤليُّ - رفيقُهم - وَرَكِبَا، وكان خرِّيتًا ماهرًا، سار بهم في طرقٍ غيرِ معهودةٍ؛ لأَنَّ الطرقَ المعهودةَ عليها

ص: 517

الرصدُ والعيونُ، وكانت قريشٌ أَخَذُوا قائفًا خبيرًا بِقَصِّ الأثرِ يقال هو سراقةُ بنُ مالكِ بنِ جعشمَ، ويقال هو غيرُه، فَاقْتَصَّ بهم الأثرَ حتى بلغ الغارَ، وقال: مِنْ هَاهُنَا ضاعَ الأثرُ. ويقول أصحابُ الأخبارِ وَالسِّيَرِ: إن الله قَيَّضَ العنكبوتَ فَنَسَجَتْ على الغارِ

(1)

،

وَقَيَّضَ حَمَامَتَيْنِ وَحْشِيَّتَيْنِ فَبَاضَتَا على فَمِ الغارِ

(2)

، فلما جاء كفارُ مكةَ وَوَصَلُوا فَمَ الغارِ، قال أبو بكر لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَوْ أن أحدَهم نَظَرَ تحتَ قَدَمَيْهِ لَرَآنَا. فقال له رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا بَالُكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟»

(3)

فرجعوا خَائِبِينَ. فلما كان بعدَ ثلاثِ ليالٍ ورجعَ الطلبُ جاءهم عبدُ اللَّهِ بنُ الأُريقطِ براحلتيهما وَرَكِبَا ومعهما عامرُ بنُ فهيرةَ. وكان عامرُ بنُ فهيرةَ رديفَ أبِي بكرٍ والنبيُّ صلى الله عليه وسلم على إحدى الناقتين اللتينِ اشتراهما أبو بكر لهذا الْغَرَضِ، وهي ناقتُه العضباءُ المشهورةُ، وَلَمَّا عرضها عليه أبو بكر رضي الله عنه أَبَى أن يَقْبَلَهَا إلا بالثمنِ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، فخرجَ بهما في طريقٍ يُسَمَّى طريقَ الساحلِ، وجاء إلى طرقٍ غيرِ معهودةٍ، وابنُ إسحاقَ ذَكَرَ الْمَحَالَّ التي جاء منها

(4)

، تارةً يَصِلُونَ إلى الطريقِ المعهودةِ، وتارةً يخرجونَ عنها

(1)

مضى عند تفسير الآية (30) من سورة الأنفال ..

(2)

أخرجه ابن سعد (1/ 154)، والبزار (كشف الأستار 2/ 299) ولا يصح في بيض الحمامتين شيء. وانظر: أحاديث الهجرة ص 138.

(3)

أخرجه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم، منهم أبو بكر رقم (3653)(7/ 8). وانظر الأحاديث رقم (3922، 4663).

وأخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي بكر الصديق. رقم (2381)(4/ 1854).

(4)

نقله عنه ابن هشام ص514 - 516، وابن كثير في البداية والنهاية (3/ 189). وقد جاء ذلك في بعض الروايات عند الحاكم (3/ 8)، وابن سعد (1/ 1/157) وانظر مجمع الزوائد (6/ 55).

ص: 518

حتى وصلوا المدينةَ. ومن أشهرِ ما حَصَلَ في طريقِهم إلى المدينةِ قصةُ أُمِّ معبدٍ، وقصةُ سراقةَ بنِ مالكِ بنِ جعشمَ. وَمِمَّا نَزَلَ من القرآنِ في هذا السفرِ، نَزَلَتْ فيه آياتٌ من القرآنِ منها قولُه تعالى:{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: آية 85] قال بعضُ العلماءِ: نَزَلَتْ في الجحفةِ في سفرِ الهجرةِ هذا، وفي هذا السفرِ مَرَّ على ديارِ بَنِي مُدْلِجٍ، يقول بعضُهم: هي قريبٌ من قديدٍ فقال رَجُلٌ: رأيتُ أشخاصًا كأنهم القومُ الذين يطلبهم قريشٌ. فعلم سراقةُ بنُ مالكٍ أنهم هُمْ، ولكنه طَمِعَ بأن يأخذَهم أو يقتلَهم فينال الجعائلَ التي جَعَلَتْهَا قريشٌ. فقال: لَا، أولئك قومٌ خرجوا للكلأ. ثم بعدَ هنيهةٍ خَرَجَ وَأَمَرَ جاريتَه أن تُسْرِجَ فرسَه من وراءِ أَكَمَةٍ، ثم خرج مختفيًا فركب على فرسِه، فلما قاربَهما سَاخَتْ به قوائمُ فَرَسِهِ في الأرضِ، في القصةِ المشهورةِ، فطلب الأمانَ من رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

،

قال بعضُ أهلِ السيرِ والأخبارِ: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ له رقعةً، وصار يُثَبِّطُ الناسَ ويردُّهم عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَمِعَ بذلك الخبيثُ أبو جَهْلٍ، وأرسل إلى بَنِي مُدْلِجٍ يحذرُهم من نصرِ سراقةَ لِنَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ويقولُ أبو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ في ذلك أشعارًا في غايةِ الكفرِ، ويعيبُ على سراقةَ نصرَه لِنَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ومما يقولُ في ذلك

(2)

:

بَنِي مُدْلِجٍ إِنِّي أَخَافُ سَفِيهَكُمْ

سُرَاقَةَ مُسْتَغْوٍ لِنَصْرِ مُحَمَّدِ

(1)

خبر سراقة وما قبله مما يتعلق بالهجرة من روايات كل ذلك تقدم تخريجه في مواضع سابقة. منها عند تفسير الآية (30) من سورة الأنفال ..

(2)

البيتان في البداية والنهاية (3/ 186).

ص: 519

عَلَيْكُمْ بِهِ أَلَاّ يُفَرِّقَ شَمْلَكُمْ

فَيُصْبِحَ شَتَّى بَعْدَ عِزٍّ وَسُؤْدَدِ

فسمع بشعرِه سراقةُ بنُ مالكٍ وأرسلَ إليه بأبياتِه المشهورةِ التي ذَكَرَهَا غيرُ واحدٍ من المؤرخينَ وأصحابِ السيرِ وهو قولُه (وكان أَبُو جهلٍ يُكَنَّى أبا الحكم

(1)

:

أَبَا حَكَمٍ وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ شَاهِدًا

لأَمْرِ جَوَادِي إِذْ تَسُوخُ قَوَائِمُهْ

عَلِمْتَ وَلَمْ تَشْكُكْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا

رَسُولٌ بِبُرْهَانٍ فَمَنْ ذَا يُقَاوِمُهْ

عليكَ بكفّ القوم عنه فإنني

أرى أمره يومًا ستبدو معالمه

بِأَمْرٍ يَوَدُّ النَّاسُ فِيهِ بِأَسْرِهِمْ

بِأَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ طُرًّا يُسَالِمُهْ

وَمَرَّ في هذه الطريقِ بعاتكةَ بنتِ خالدٍ الخزاعيةِ المعروفةِ بِأُمِّ مَعْبَدٍ رضي الله عنها؛ لأنها أَسْلَمَتْ وقد رَوَيْتُ قصتَها عنها وعن أخيها حُبيشِ بنِ خالدٍ ويقال خنيس بن خالد وغيرهما

(2)

أنهم كانوا

(1)

الأبيات في دلائل النبوة للبيهقي (2/ 489)، البداية والنهاية (3/ 186) مع اختلافات يسيرة في الأبيات الثلاثة الأولى، أما البيت الأخير فنصه في البداية والنهاية:

بأمرٍ تودُّ النصرَ فيه فإنهم

وإنَّ جميعَ الناس طُرًّا مُسالِمُهْ

وفي الدلائل:

بأمر يود النصر فيه بإِلْبِهَا

لو أن جميع الناس طُرًّا تسالمه

(2)

أخرجه البيهقي في الدلائل (1/ 276)، (2/ 491)، والحاكم (3/ 9)، وابن سعد (1/ 1/155)، وابن عساكر (انظر: تهذيب تاريخ دمشق (1/ 326)، والآجري في الشريعة ص465.

وذكره الهيثمي في المجمع (6/ 55) من حديث جابر رضي الله عنه مختصرًا، وعزاه للبزار، وقال:«وفيه من لم أعرفه» اهـ وأورده من حديث حبيش بن خالد رضي الله عنه (6/ 55) وقال (6/ 58): «رواه الطبراني في إسناده جماعة لم أعرفهم» اهـ.

كما أورده من حديث قيس بن النعمان (6/ 58) وقال: «رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح» اهـ.

ص: 520

في شِدَّةٍ، وكانت أغنامُهم عازبةً، فَمَرَّ بها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعامرُ بنُ فهيرةَ وعبدُ اللَّهِ بنُ الأريقطِ، فسألوها هل عندها لحمٌ أو تَمْرٌ يُبَاعُ؟ فقالت: لا شيءَ عندها. وقالت: لو كان عندنا القِرَى ما أَعْوَزَكُمْ؛ لأن الْحَيَّ في شدةٍ، والأغنامُ عازبةٌ، فَنَظَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى شاةٍ في كسرِ خيمتِها فقال:«مَا بَالُ هَذِهِ الشَّاةِ؟» قالت: خَلَّفَهَا الجهدُ. قال: «أَتَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلُبَهَا؟» قالت: إن وجدتَ فيها حليبًا فاحلبها. فدعا بها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَسَحَ ضرعَها وسمى الله، فَتَفَاجَّتْ وَاجْتَرَّتْ، ودعا بإناءٍ عظيمٍ فحلب فيه حتى امتلأ، فسقاها هي وَمَنْ معها، ثم سَقَى قَوْمَهُ، وشرب صلى الله عليه وسلم وقال فيما يقولُ أهلُ الأخبارِ:«سَاقِي الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا»

(1)

ثم أخذَ الإناءَ وملأه مرةً أخرى وتركَه عندَها وخرجَ. فلم تَمْكُثْ إلا قليلاً أن جاء زوجُها أبو معبدٍ فوجدَ الإناءَ مملوءًا من اللبنِ، فعجب منه وقال: كيف هذا اللبنُ؟ ولا حلوبةَ في البيتِ؟ فقالت: جاءنا رجلٌ مباركٌ من صفتِه كيت وكيت، فقال: صِفِيهِ لِي يا أُمَّ مَعْبَدٍ. فَوَصَفَتْهُ وصفَها المشهورَ، فقالت له: رأيتُ رجلاً ظاهرَ الوَضَاءةِ، حَسَنَ الْخَلْقِ، مليحَ الوجهِ، لم تُعِبْهُ تُجْلَة

(2)

، ولم تُزْرِ به صُعْلَةٌ، قَسِيمٌ وَسِيمٌ، في عَيْنَيْهِ دَعَجٌ، وفي

(1)

أخرجه ابن سعد (1/ 1/155) في خبر الهجرة. وهذه الجملة «ساقي القوم آخرهم شربًا» سردت أيضًا في مناسبة غبر سفر الهجرة كما في حديت أبي قتادة رضي الله عنه عند مسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة رقم (681)(1/ 472).

(2)

المثبت في أكثر الروايات (تُجلة)، وفي بعضها:(تُحْلَة). والثُّجلة: عظم البطن، والنحلة: الدقة والنحول.

ص: 521

أشفارِه حَوَرٌ، وفي صوتِه صَحَلٌ، أكحلُ أقرنُ أزجُّ، في عنقه سَطَعٌ، وفي لحيتِه كثافةٌ.

إذا صمت فعليه الوقارُ، وإذا تكلم سَمَا وعليه البهاءُ، حُلْوُ المنطقِ، فَصْلٌ ليس بنزرٍ ولا هَذْرٍ، كأن منطقَه خَرَزَاتُ نَظْمٍ يتحدَّرْن أو يَنْحَدِرْنَ، أجملُ الناسِ وأبهاهم من بعيدٍ، وأحسنُهم من قريبٍ، رَبْعَةٌ لَا تَنسَؤهُ عينٌ لطولِه، ولا تَقْتَحِمُهُ عينٌ لقِصَرهِ، إلى آخِرِ ما ذَكَرَتْ من أوصافِه الكريمةِ الجليلةِ صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه

(1)

.

وهذه المعانِي الجليلةُ قد لا يَفْهَمُهَا كُلُّ الناسِ، سنُشيرُ إلى ما لا يُفْهَمُ منها: فقولُها: (لم تَعِبْهُ التُّجلَةُ)

(2)

: بِضَمِّ التاءِ والجيمِ معناه عِظَمُ البطنِ وكبرُها. وقيل: ارتفاعُ الْخَاصِرَتَيْنِ ونتؤوهما.

(وَلَمْ تزْرِ به صُعْلَةٌ): الصُّعلَةُ: صِغَرُ الرأسِ صغرًا مفرطًا. يعنِي: ليس ضخمَ البطنِ، ولا صغيرَ الرأسِ جِدًّا، بل هو ضامرُ البطنِ، رأسُه ليس بصغيرٍ صغرًا مزريًا.

وقولُها: (في عَيْنَيْهِ دَعَجٌ): الدَّعَجُ: سوادُ العينِ مع سعتِها.

وقولُها: (في أشفارِه وَطَفٌ): الوَطَفُ: هو كثرةُ شعرِ الجفنِ.

وقولُها (أَزَجّ) تعني: قليلُ شعرِ الحاجبِ.

وقولُها: (أقرنُ): تعني أن شعرَ حَاجِبَيْهِ يمتدُّ طرفُ هذا حتى يقربَ من هذا مع الزَّجَجِ فيه.

(1)

هذه الأوصاف وردت في بعض الروايات عند الحاكم (3/ 9)، والبيهقي في الدلائل (1/ 278 - 279)، وابن سعد (1/ 1/156)، وابن عساكر (تهذيب تاريخ دمشق 1/ 326 - 327).

(2)

راجع الحاشية قبل السابقة.

ص: 522

وقولُها: (في عنقه سَطَعٌ): أي طُولٌ؛ لأنه ليسَ قصيرَ العنقِ. إلى آخِرِ ما ذَكَرَتْهُ من أوصافِه الجميلةِ.

فلما جاء زوجُها قال: هذا وَاللَّهِ صاحبُ قريشٍ الذي يطلبونَه وَلأَجْهَدَنَّ في أن أصحبَه. وَذَكَرَ غيرُ واحدٍ أنه أَسْلَمَ بعدَ ذلك وَهَاجَرَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وفي صبيحةِ ذلك اليوم سَمِعَ قريشٌ هاتفًا من الجنِّ يسمعونَ صوتَه مرتفعًا، ولا يَرَوْنَ شخصَه، يُنْشِدُ ذلك الشعرَ المشهورَ الذي يقولُ فيه

(1)

:

جَزَى اللَّهُ رُبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ

رَفِيقَيْنِ حَلَاّ خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ

هُمَا نَزَلَا بِالْبِرِّ وَارْتَحَلَا بِهِ

فَأَصْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ

فَيَا لَقُصَيٍّ مَا زَوَى اللَّهُ عَنْكُمْ

بِهِ مِنْ فَعَالِ اللَّهِ جَاهًا وَسُؤْدَدِ

لِيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَكَانُ فَتَاتِهِمْ

وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْصَدِ

سَلُوا أُخْتَكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَائِهَا

فَإِنَّكُمْ إِنْ تَسْأَلُوا الشَّاةَ تَشْهَدِ

ولم يدرِ قريشٌ أين ذهبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى سَمِعُوا هاتفًا من الجنِّ على أبِي قُبَيْس ينشدُ هذا الشعرَ، يسمعونَ أيضًا صوتَه ولا يرونَ شَخْصَهُ:

فَإِنْ يُسْلِمِ السَّعْدَانُ يُصْبِحْ مُحَمَّدٌ

بِمَكَّةَ لَا يَخْشَى خِلَافَ الْمُخَالِفِ

فقال أبو جهل: ما هذانِ السعدانِ، سعد كذا أو سعد كذا

(2)

.

(1)

هذه الأبيات ضمن الرواية المفصلة في قصة أم معبد، وقد سبق تخريجها قريبًا.

(2)

القائل هو أبو سفيان. ومقالته: «من السعدان: أسعد بن بكر، أم سعد بن هُذَيم» ؟ وهما قبيلتان.

ص: 523

فسمِع بعد ذلك الهاتفَ يقول

(1)

:

أَيَا سَعْدُ سَعْدَ الأَوْسِ كُنْ أَنْتَ نَاصِرًا

وَيَا سَعْدُ سَعْدَ الْخَزْرَجَيْنِ الْغَطَارِفِ

أَجِيبَا إِلَى دَاعِي الْهُدَى وَتَمَنَّيَا

عَلَى اللَّهِ بِالْفِرْدَوْسِ مُنْيَةَ عَارِفِ

فَإِنَّ جَزَاءَ اللَّهِ لِلطَّالِبِ الْهُدَى

جِنَانٌ مِنَ الْفِرْدَوْسِ ذَاتِ رَفَارِفِ

ثم إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم استمرَّ في طريقِه ذاهبًا إلى هذه المدينةِ - حَرَسَهَا اللَّهُ - وكان الأنصارُ رضي الله عنهم سمعوا بخروجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكان النبيُّ في طريقِه، لَقِيَ الزبيرَ بنَ العوامِ كما ذَكَرَهُ البخاريُّ

(2)

في قومٍ مسلمينَ جاؤوا تجارًا من الشام، فكساهم ثيابًا بِيضًا وجاؤوا يلبسونَ ثيابًا بيضًا، وكان الأنصارُ كلما صَلَّوُا الصبحَ خرجوا إلى حرتِهم ينتظرونَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَرَحًا بقدومِه، فلم يزالوا ينتظرونَه حتى تَغْلِبَهُمْ الشمسُ على الظلالِ، والزمنُ زمنُ حَرٍّ في ذلك الوقتِ، ولم يزالوا كذلك حتى رَجَعُوا إلى بيوتِهم وقتَ شدةِ الحرِّ بعدَ أن غَلَبَتْهُمُ الشمسُ على الظلالِ، فصعد رجلٌ من يهودٍ على أطم من آطامِهم فأبصرَ برسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم والذين مَعَهُ في ثيابٍ بِيضٍ يزولُ بهم السرابُ، فلم يَتَمَالَكْ أن نادى بأعلى صوتِه: يا بني قَيْلَةَ هذا جدُّكُم الذي تنتظرونَ، فَثَارَ الأنصارُ في السلاحِ وَتَلَقَّوْهُ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)

(3)

.

وفي بعضِ الرواياتِ الثابتةِ

(4)

أنه لما قَرُبَ من المدينةِ

(1)

أخرجه البيهقي في الدلائل (2/ 428 - 429)، ونقله عنه ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 165).

(2)

مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة. حديث رقم: (3906)(7/ 238 - 239).

(3)

الكلام إلى هذا الموضع تابع لرواية البخاري.

(4)

أوردها ابن هشام (517 - 518)، وابن كثير في تاريخه (3/ 196).

ص: 524

جَلَسَ في ظِلِّ نخلةٍ، وأن الأنصارَ جاؤوه في السلاحِ، وكان كثيرٌ منهم لم يَرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ولم يَعْرِفْ هو أو أبو بكر جَلَسَ تحتَ ظِلِّ تلك الشجرةِ حتى تَحَوَّلَ الظلُّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقام أبو بكر فَظَلَّ عليه بردائِه، فَعَلِمُوا أنه هو. وجاء في بعضِ الرواياتِ أنه جاء المدينةَ في حرِّ الظهيرةِ

(1)

. وفي بعضها

(2)

أنه دَخَلَهَا في الليلِ. وقد وَفَّقَ بينَهما بعضُ العلماءِ

(3)

بأن أصلَ قدومِه وقتَ الظهيرةِ، وأنه جَلَسَ تحتَ تلك النخلةِ حتى صار آخِر النهارِ. فجاء بَنِي عمرِو بنِ عوفٍ في قباء، وَقَدِمَ أولاً على بَنِي عمرِو بن عوفٍ من الأوسِ في قباء وَمَكَثَ فيهم مدةً. واختلف العلماءُ في قَدْرِ المدةِ التي مَكَثَ فيهم

(4)

، فَثَبَتَ في صحيحِ البخاريِّ وغيرِه أنه مَكَثَ فيهم بضعَ عشرةَ يومًا

(5)

، وجاء عَلِيُّ بنُ أبِي طالبٍ رضي الله عنه وَأَدْرَكَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو في بني عمرِو بنِ عوفٍ بقباء؛ لأَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانت تدعوه قريشٌ (الأمينَ) وكان عنده كثيرٌ من الودائعِ يحفظُها لأمانتِه عندَهم، فَخَلَّفَ عليَّ بنَ أبِي طالبٍ رضي الله عنه بعد أن هاجر هو وأبو بكر حتى يَرُدَّ على الناس ودائعَهم، ثم يتبعه صلى الله عليه وسلم، فَلَحِقَ به وهو في بَنِي عمرِو بنِ عوفٍ بقباء.

كان ابنُ إسحاقَ يقولُ: قَدِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على بَنِي عمرِو بنِ عوفٍ بقباء يومَ الإثنينِ لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَضَتْ من ربيعٍ الأولِ، وَمَكَثَ فيهم

(1)

كما في رواية البخاري السابقة عن عروة.

(2)

كما في رواية مسلم من حديث الهجرة المخرج في الصحيحين من حديث البراء عن أبي بكر رضي الله عنهما، وقد تقدم تخريجه عند تفسير الآية (30) من سورة الأنفال.

(3)

انظر: البداية والنهاية (3/ 196)، فتح الباري (7/ 244).

(4)

انظر: تاريخ ابن كثير (3/ 198)، فتح الباري (7/ 244).

(5)

تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.

ص: 525

يومَ الإثنينِ ويومَ الثلاثاءِ والأربعاءَ والخميسَ

(1)

، ثم سار يومَ الجمعةِ إلى المدينةِ. وهذا قولُ ابنِ إسحاقَ. وروى البخاريُّ عن طريقِ الزهريِّ ما يقتضي أنه مَكَثَ في بَنِي عمرِو بنِ عوفٍ بضعَ عشرةَ ليلةً

(2)

. فَلَمَّا خَرَجَ من بَنِي عمرِو بنِ عوفٍ ذاهبًا إلى المدينةِ، قال ابنُ إسحاقَ وغيرُه

(3)

: وَافَتْهُ الجمعةُ حذاءَ مسجدِ بَنِي سالمِ بنِ عوفٍ، المسجدِ الذي في الوادِي بَيْنَ قباء والمدينة، فَصَلَّى فيه الجمعةَ. قالوا: وهي أولُ جمعةٍ صَلَاّهَا بالمدينةِ، فجاءه عتبانُ بنُ مالكٍ رضي الله عنه وعباسُ بنُ عبادةَ بنِ نضلةَ في رجالٍ من بَنِي سالمِ بنِ عوفٍ، وقالوا: يا نَبِيَّ الله: أَقِمْ عندنا في العزةِ والعددِ والمنعةِ. فقال يعني ناقتَه: «خَلُّوا سَبِيلَهَا إِنَّهَا مَأْمُورَةٌ» فخرجت ذاهبةً إلى المدينةِ، فَلَمَّا وَازَى دُورَ بَنِي بياضةَ تَلَقَّاهُ زيادُ بنُ لبيدٍ وفروةُ بنُ عمرٍو في رجالٍ من بَنِي بياضةَ فقالوا: يا نَبِيَّ اللَّهِ هَلُمَّ إلينا في العدةِ والعددِ والمنعةِ. قال: «خَلُّوا سَبِيلَهَا إِنَّهَا مَأْمُورَةٌ» فلما مَرَّتْ

(1)

نقله ابن هشام ص520.

(2)

تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.

(3)

نقله ابن هشام ص520.

ص: 526

بديارِ بَنِي ساعدةَ من الخزرجِ تلقاه سعدُ بنُ عبادةَ رضي الله عنه والمنذرُ بنُ عمرٍو رضي الله عنهم وقالوا: يا نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَلُمَّ إلينا في العدةِ والعددِ والمنعةِ. قال: «خَلُّوا سَبِيلَهَا إِنَّهَا مَأْمُورَةٌ» فلما مَرَّتْ ببني عديِّ بنِ النجارِ وهم أخوالُه الأقربونَ صلى الله عليه وسلم؛ لأَنَّ جدَّه عبدَ المطلبِ أُمُّهُ سلمى بنتُ عمرِو بنِ زيدٍ من بَنِي عديِّ بنِ النجارِ، تلقاه منهم رجالٌ منهم سليطُ بنُ قيسٍ وأبو سليطٍ. فقالوا: يا نَبِيَّ اللَّهِ هَلُمَّ إلى أخوالِك في العددِ والعدةِ والمنعةِ.

قال: «خَلُّوا سَبِيلَهَا إِنَّهَا مَأْمُورَةٌ» فلما مَرَّتْ بديارِ بَنِي الحارثِ بنِ الخزرجِ

(1)

تَلَقَّاهُ جماعةٌ منهم، منهم سعدُ بنُ الربيعِ، وعبدُ اللَّهِ بنُ رواحةَ، وخارجةُ بنُ زيدٍ رضي الله عنهم، في رجالٍ من بَنِي الحارثِ بنِ الخزرجِ، فقالوا: يا رسولَ اللَّهِ هَلُمَّ إلينا في العددِ والعدةِ والمنعةِ. قال: «خَلُّوا سَبِيلَهَا إِنَّهَا مَأْمُورَةٌ» حتى بَلَغَتْ ديارَ بني مالكِ بنِ النجارِ فَبَرَكَتْ بجنبِ هذا المسجدِ. وكان إذ ذلك الوقتِ مربدًا، والمربدُ موضعُ إصلاحِ التمرِ، وكان لِيَتِيمَيْنِ من بَنِي مالكِ بنِ النجارِ، هُمَا سهلٌ وسهيلٌ ابْنَا عمرٍو، وابنُ إسحاقَ يقول

(2)

: إنهما في حجرِ معاذِ بنِ عفراءَ. وجاء في صحيحِ البخاريِّ من طريقِ الزهريِّ ما يقتضي أنهما في حجرِ أسعدَ بنِ زرارةَ رضي الله عنه

(3)

. فبركت الناقةُ، فلما بركت قال ابنُ إسحاقَ

(4)

: لم ينزل عنها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى قَامَتْ وَمَشَتْ قليلاً ثم التفتت وَرَجَعَتْ إلى مبركِها الأولِ. وتحلحلت فيه ووضعت جِرَانَهَا في الأرضِ. والجرانُ: بَاطِنُ عنقِ البعيرِ، وكان أقربُ بيتٍ لذلك بيتُ أبِي أيوب الأنصاريِّ - خالدِ بنِ زيدٍ رضي الله عنه - فَأَخَذَ رحلَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى بيتِه، ولم يَزَلْ صلى الله عليه وسلم في بيتِ أبِي أيوب حتى بَنَى هذا المسجدَ، وَبَنَى مساكنَه وَحُجَرَهُ التي بجنبِه فانتقلَ إليها.

هذا ملخصٌ عَمَّا جاء في هذا السِّفْرِ المباركِ، سِفْرِ الهجرةِ، فيه بعضُ رواياتٍ ثابتةٍ في الصحيحِ، وفيه كثيرٌ منه في السيرةِ والأخبارِ،

(1)

كان مروره صلى الله عليه وسلم بديار بني الحارث بن الخزرج في مروره ببني عدي بن النجار كما في رواية ابن إسحاق.

(2)

نقله ابن هشام ص521.

(3)

تقدم تخريجها قريبًا.

(4)

وعنه ابن هشام ص521.

ص: 527

والسيرُ والأخبارُ تُحكى، وإنما يُحْتَاجُ إلى التصحيحِ فيها لِمَا يتوقفُ عليه بعضُ الأحكامِ الشرعيةِ، وهذه القصةُ ذَكَرَ بعضُ العلماءِ فيها أحكامًا مفيدةً كثيرةً منها:

أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَأْمَنَ كافرًا على سِرِّهِ وَأَمْنِهِ، وانتفعَ بخبرةِ كافرٍ، ومثل هذا يحتاجُ إلى التنبيهِ عليه اليومَ؛ لأن الناسَ اليومَ بين مُفْرِطٍ ومفرِّط في الانتفاعِ من الكفارِ، فبين مُفْرِطٍ يزعمُ أن تقليدَ الكفارِ يلزمُ في كُلِّ شيء، حتى ولو كان الانسلاخَ من دينِ اللَّهِ، ومنهم مُفَرِّطُونَ يقولونَ: لَا تأخذوا عنهم شيئًا ولو من أمورِ الدنيا البحتةِ. والتحقيقُ أنه يُؤْخَذُ عنهم ما يجوزُ أخذُه، ولا يؤخذُ عنهم ما لا يجوزُ أخذُه. والنبيُّ صلى الله عليه وسلم علَّم أُمَّتَهُ ذلك في وقائعَ كثيرةٍ، من ذلك أنه لَمَّا لم يَجِدْ إلا أمينًا كافرًا ائتمن هذا الأمينَ الكافرَ وعاملَه وانتفعَ بخبرتِه العظيمةِ في الطرقِ على حَدِّ قولهم:«اجْتَنِ الثمارَ وَأَلْقِ الخشبةَ في النارِ»

(1)

ولم يكن جامدًا، ولم يَقُلْ: هذا كافرٌ، والكافرُ خبيثٌ، والانتفاعُ بالخبيثِ خبيثٌ. بل تَبَرَّأَ منه. لا، بل انتفعَ بخبرتِه واستأجرَه؛ ولهذا نظائرُ كثيرةٌ، من ذلك: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سَمِعَ بقدومِ الأحزابِ مع كثرتِهم وقلةِ المؤمنينَ قال له سلمانُ الفارسيُّ: كُنَّا إذا خِفْنَا خَنْدَقْنَا

(2)

. فالخندقُ خطةٌ عسكريةٌ ابْتَدَعَتْهَا أذهانُ فارسَ، وهم كفارٌ يعبدونَ النارَ، فلم يَقُلِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: هذه خطةٌ نجسةٌ؛ لأَنَّ الكفارَ ابتدعوها. بل أخذ بها وانتفعَ بها وهو متمسكٌ بدينِه، وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ ما يقتضي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم هَمَّ بمنعِ الغيلةِ، وهي وطأُ المرضعِ؛ لأَنَّ العربَ كانوا يعتقدونَ أن المرأةَ إذا

(1)

مضى عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

(2)

السابق.

ص: 528

كانت تُرْضِعُ وَلَدَهَا إذا جَامَعَهَا زوجُها وهي ترضعُ ولدَها أن ذلك يُضْعِفُ ولدَها ويضعفُ عظمَه وَيَضُرُّهُ، وكانوا إذا ضَرَبَ الرجلُ فَنَبَا سيفُه عن الضريبةِ قالوا: هذا من آثارِ الغيلةِ عليه، وُطِئَتْ أُمُّهُ وهو يرضعُها حتى كان شاعرُهم يقول

(1)

:

فَوَارِسُ لَمْ يُغَالُوا فِي رَضَاعٍ

فَتَنبُوا فِي أَكُفِّهِمُ السُّيُوفُ

فَسَمِعَ صلى الله عليه وسلم عن الرومِ وفارسَ أنهم يفعلونَ هذا ولا يضرُّ أولادَهم فأخذ هذه الخطةَ الطبيةَ عن الرومِ وفارسَ

(2)

. وهذه الخطةُ العسكريةُ عن فارسَ والانتفاعِ بهذه الخبرةِ عن هذا الرجلِ الكافرِ الذي يعبدُ الوثنَ ليعلِّم أمتَه أنهم يأخذون من الكفارِ أمورَهم الدنيويةَ البحتةَ، ولا يُقَلِّدُوهُمْ في كفرِهم وضلالِهم، وهذا واضحٌ لا إشكالَ فيه.

ومعنَى الآيةِ الكريمةِ: أن اللَّهَ (جل وعلا) يقولُ: إلا تَنْصُرُوا نَبِيَّ اللَّهِ وتتقاعسوا وتتباطؤوا عنه في غزوةِ تبوكَ فالله يَكْفِيهِ ولا يحتاجُ إليكم وقد نَصَرَهُ في مواضعَ أعسرَ وأشدَّ من هذا، فقد نَصَرَهُ اللَّهُ حين أَخْرَجَهُ الذين كفروا بما ذَكَرْنَا من تواطئِهم عليه وإلجائِهم إلى الخروجِ. كان بعضُ العلماءِ يقولُ

(3)

: يُؤْخَذُ من هذه الآيةِ من سورةِ براءة بعضُ الأحكامِ الفقهيةِ، وأن الإنسانَ إذا أَكْرَهَ إنسانًا على الاعتداءِ، كَأَنْ أكرهَه على أن يقتلَ أو يتلفَ مالاً، أن المكرِه (بكسرِ الراءِ) أعنِي باسمِ الفاعلِ، يلزمُه غُرْمُ ذلك والقصاصُ فيه، لأَنَّ [الله]

(4)

نَسَبَ الإخراجَ إليهم؛ لأنهم أَلْجَؤُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم إليه. فَسَمَّى

(1)

السابق.

(2)

تقدم تخريجه عند تفسير الآية (115) من سورة الأنعام.

(3)

انظر: القرطبي (8/ 143).

(4)

في الأصل: «النبي» . وهو سبق لسان.

ص: 529

الْمُكْرِهَ فاعلاً، فهذا له وجهٌ من النظرِ ظاهرٌ. وهذا معنَى قولِه:{إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: آية 40] كقولِه: {وَكَأَيِّن مِّنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)} [محمد: آية 13]{وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} [التوبة: آية 13]{يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} [الممتحنة: آية 1].

وقولُه: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} حال {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} في حالِه {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} أي: واحدًا من اثنينِ ليس معه إلا رجلٌ واحدٌ {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} بدلٌ من قولِه: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فـ (إذْ) الثانيةُ بَدَلٌ من (إذ) الأُولَى، {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} الغارُ هو الثقبُ في الجبلِ، والمرادُ به الغارُ المذكورُ في جبلِ ثورٍ من جبالِ مكةَ {إِذْ يَقُولُ} النبيُّ صلى الله عليه وسلم {لِصَاحِبِهِ} وقد أَجْمَعَ جميعُ المسلمينَ أنه أبو بكرٍ رضي الله عنه. وفي هذه الآيةِ من سورةِ براءة أعظمُ منقبةٍ لأَبِي بكرٍ رضي الله عنه، فما يحاولُ به الإماميةُ وغيرُهم من الشيعةِ من الكلامِ في أبِي بكرٍ رضي الله عنه وتفنيدِ ما دَلَّتْ عليه هذه الآيةُ من فضلِه وعظمتِه، كُلُّهُ باطلٌ لَا يُلْتَفَتُ إليه، وقد قال بعضُ العلماءِ

(1)

: مَنْ أَنْكَرَ أن أبا بكر صاحبُ رسول الله كَفَرَ لتكذيبِه بهذه الآيةِ الكريمةِ.

{لَا تَحْزَنْ} الحزنُ في لغةِ العربِ

(2)

هو الغمُّ من أمرٍ فائتٍ، وربما تُطْلِقُهُ العربُ على الغمِّ مِنْ أَمْرٍ مستقبلٍ نادرًا، كما هنا. والخوفُ: الغمُّ من أمرٍ مستقبلٍ، وربما أَطْلَقَتْهُ العربُ على الغمِّ من أمرٍ فائتٍ، أي: لَا يُدَاخِلْكَ حزنٌ من الخوفِ.

(1)

انظر: القرطبي (8/ 146).

(2)

مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأنعام.

ص: 530

{إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: آية 40] وقد قال أبو بكر في قصةِ الغارِ قصيدتَه الرائيةَ المشهورةَ التي يُبَيِّنُ فيها قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم هذا له حيث يقول

(1)

:

قَالَ الرَّسُولُ وَلَمْ يَجْزَعْ يُوَقِّرُنِي

وَنَحْنُ فِي سُدْفَةٍ مِنْ ظُلْمَةِ الْغَارِ

لَا تَخْشَ شَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ ثَالِثُنَا

وَقَدْ تَكَفَّلَ لِي مِنْهُ بِإِظْهَارِ

إلى آخِرِ القصيدةِ المشهورةِ، وهذا معنَى قولِه:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} العربُ تقولُ: (حَزِن) بكسرِ الزاءِ (يحزَن) بفتحِها (حَزَنًا) على القياسِ و (حُزْنا) إذا أصابَه الحَزَنُ، وأكثرُ ما يُسْتَعْمَلُ الحزنُ في الغمِّ من أمرٍ فائتٍ، وقد يُطْلَقُ على الغمِّ من أمرٍ مستقبلٍ كما هنا.

{إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} هذه معيةٌ خاصةٌ، وَاللَّهُ (جلَّ وعلا) بَيَّنَ في كتابِه أن له مع خلقِه معيةً خاصةً ومعيةً عَامَّةً. أما المعيةُ الخاصةُ كقولِه هنا:{إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ، {كَلَاّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: آية 62]، {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: آية 46]، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا} ، فمعنَى هذه المعيةِ: أن اللَّهَ ناصرُهم وحافظُهم وكالئُهم وَمُعِينُهُمْ، هذه هي المعيةُ المذكورةُ هنا.

{فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} السكينةُ: (فعيلةٌ) من السكونِ، وهي الطمأنينةُ وثبوتُ الْجَأْشِ حتى لا يكونَ فيه خوفٌ ولا حَزَنٌ. {عَلَيْهِ} التحقيقُ أن الضميرَ عائدٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقال

(1)

البيتان ذكرهما ابن كثير في تاريخه (3/ 183) ولفظهما هناك:

قال النبي - ولم أجزع - يوقرني

ونحن في سُدُف من ظلمة الغار

لا تخش شيئًا فإن الله ثالثنا

وقد توكل لي منه بإظهار

ص: 531

بعضُهم: هو إلى أَبِي بكر

(1)

؛ لأنه هو الحزينُ الذي يتشوشُ ضميرُه {وَأَيَّدَهُ} [التوبة: آية 40] أي: أَيَّدَ نبيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أي: قَوَّاهُ {بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} ظاهرُ هذه الآيةِ الكريمةِ أن وقتَ إتيانِ الكفارِ إلى الغارِ أن اللَّهَ (جلَّ وعلا) جَعَلَ عِنْدَ النبيِّ في ذلك الوقتِ جنودًا من الملائكةِ لم يَرَهَا الناسُ، لو أَرَادَ الكفارُ أن يفعلوا به شيئًا لأَهْلَكُوهُمْ، وهذا هو ظاهرُ الآيةِ، وأكثرُ المفسرينَ يقولونَ: إن معنَى {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} يعني: مَا وَقَعَ من نزولِ الملائكةِ يومَ بدرٍ، ويومَ الأحزابِ، ويومَ حنينٍ كما تَقَدَّمَ إيضاحُه. وظاهرُ القرآنِ أن جنودَ الملائكةِ تحيطُ به في ذلك الوقتِ، وَاللَّهُ الذي هو أعظمُ معه بنصرِه وعزِّه وقوتِه في ذلك الوقتِ لَا يخافُ شيئًا، ولكن اللَّهَ (جلَّ وعلا) يُشَرِّعُ بأفعالِ رسلِه وأقوالِهم لخلقِه، فالله (جلَّ وعلا) مع عظمتِه وجلالِه وتصريحِ النبيِّ بأنه معه، وأن اللَّهَ أَيَّدَهُ بجنودِ الملائكةِ، مع هذا يدخلُ في غارٍ في ظلمةِ الليلِ، والغارُ فيه الحياتُ وخشاشُ الأرضِ؛ لِيَسُنَّ للناسِ ويشرعَ لهم حَمْلَ أعباءِ تبليغِ الرسالةِ والدعوةِ، وأن يتحملوا في شأنِ الدعوةِ إلى [8/أ] اللَّهِ كُلَّ البلايا والمشاقِّ، ويستهينوا فيها بكلِّ عظيمٍ، هذا هو السرُّ في ذلك، / وهذا معنَى قولِه:{فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} السفلى: تأنيثُ الأسفلِ، وهو الذي يَفْضُلُ غيرَه في السفالةِ والخساسةِ والانحطاطِ، كلمةُ الكفارِ جَعَلَهَا اللَّهُ هي السفلى، وكلمةُ الكفارِ هي كلمةُ الكفرِ، وعبادةُ الأصنامِ، وعبادةُ غيرِ اللَّهِ (جلَّ وعلا).

ومعنَى كونِها هي السفلى: اندحارُ أهلِها وقمعُهم وإظهارُ كلمةِ اللَّهِ.

(1)

انظر: هذه الأقوال في ابن جرير (14/ 261)، القرطبي (8/ 148).

ص: 532

{وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} كلمةُ اللَّهِ: لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وما تَضَمَّنَتْهُ، صارت هي العليا، وصار الْحُكْمُ لها، وصار صناديدُ الكفَرَةِ بينَ مقتولٍ ومأسورٍ وَمُسْلِمٍ، وصارت أحكامُ اللَّهِ هي التي تَنْفُذُ، وكلمتُه هي التي يُعْمَلُ بها في أرضِه، ودحض اللَّهُ الكفارَ وأهلَكهم. وهذا معنَى قولِه:{وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} .

{وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} العزيزُ: الغالبُ الذي لَا يغلبُه شيءٌ. والعزةُ: الغلبةُ، ومنه:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون: آية 8] أي: لله الغلبةُ ولرسولِه وللمؤمنينَ، {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: آية 23] أي: غَلَبَنِي في الخصامِ. ومن أمثالِ العربِ: «مَنْ عَزَّ بَزَّ»

(1)

يعنونَ مَنْ غَلَبَ اسْتَلَبَ. ومنه قولُ الخنساءِ بنتِ عمرِو بنِ الشريدِ السلميةِ الشاعرةِ

(2)

:

كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا حِمًى يُخْتَشَى

إِذِ النَّاسُ إِذْ ذَاكَ مَنْ عَزَّ بَزَّا

والحكيمُ

(3)

: هو مَنْ يضعُ الأمورَ في مواضعِها وَيُوقِعُهَا في مَوَاقِعِهَا. وهذانِ الاسمانِ من أسماءِ اللَّهِ (العزيزُ الحكيمُ) المتضمنانِ هاتينِ الصفتينِ من صفاتِ اللَّهِ، وهي عِزُّهُ وحكمتُه وحكمه هما أبلغُ شيءٍ في امتثالِ أمرِه وطاعتِه (جلَّ وعلا)؛ لأن عزتَه أَيْ غلبتَه وقوتَه وقهرَه وسلطانَه يجعلُك أيها المسكينُ العظيمُ تَخَافُهُ وتخضعُ لأمرِه ونهيِه، وكونُه (جلَّ وعلا) حكيمًا لا يأمرُك إلا بما فيه لكَ الخيرُ، ولا ينهاكَ إلا عَمَّا فيه لكَ الشرُّ، ذلك يقتضِي أيضًا أن تطيعَه وتخضعَ

(1)

مضى عند تفسير الآية (96) من سورة الأنعام.

(2)

السابق.

(3)

مضى عند تفسير الآية (83) من سورة الأنعام.

ص: 533

لأمرِه ونهيِه. وهذا معنَى قولِه: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: آية 40].

قال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاّتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)} [التوبة: الآيات 41 - 43].

يقول اللَّهُ (جلَّ وعلا): {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)} .

قال جماعةٌ من العلماءِ: هذه الآيةُ الكريمةُ هي أولُ آيةٍ نَزَلَتْ من سورة براءة. قالوا: أولُ ما نَزَلَ منها: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً} الآية

ثم بعدَ ذلك نَزَلَ أولُها وآخِرُها

(1)

.

وقولُه: {انْفِرُوا} أمرٌ بالنفرِ، والنفرُ المرادُ به هنا: التهيؤُ والحركةُ للجهادِ في سبيلِ اللَّهِ، وَكُلُّ متحركٍ بسرعةٍ لأَمْرٍ من الأمورِ تقولُ العربُ: نَفَرَ له، كقولِهم: النَّفْرُ غداةَ كذا. يعنونَ: تَفَرُّقَ الناسِ من مِنًى ذاهبينَ إلى أوطانِهم؛ لأنهم تَنْقَضِي مهمةُ حَجِّهِمْ فيسرعونَ الحركةَ متفرقينَ إلى أوطانِهم. كما قال ابنُ أبِي ربيعةَ

(2)

:

لَا نَلْتَقِي إِلَاّ ثَلَاثَ مِنًى

حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَنَا النَّفْرُ

(1)

ذكره ابن جرير بسنده عن أبي الضحى (14/ 269، 270) وعزاه القرطبي (8/ 149) لأبي مالك الغفاري.

(2)

البيت في ديوانه ص190.

ص: 534

فمعنَى قولِه: {انْفِرُوا} تَحَرَّكُوا مُسْرِعِينَ للجهادِ في سبيلِ اللَّهِ.

وقولُه: {خِفَافًا وَثِقَالاً} حالانِ، والخِفَافُ جمعُ خفيفٍ. والثقالُ: جمعُ ثقيلٍ. و «الفَعِيلُ» إذا كان وَصْفًا يَكْثُرُ جمعُه على (الفِعَالِ) جمعَ كثرةٍ كما هو معروفٌ في مَحَلِّهِ.

والمرادُ بقولِه: {خِفَافًا وَثِقَالاً} جاء فيه لأهلِ العلمِ ما يقرُب من خمسةَ عشرَ قولاً أو أكثرَ

(1)

، والمرادُ بها كُلِّهَا: إنما هو تمثيلُ الخفةِ والثقلِ. والمعنَى الجامعُ لذلك كلِّه: {انْفِرُوا} تَحَرَّكُوا مسرعينَ إلى جهادِ الرومِ إلى تبوكَ في حالِ كونِكم خفافًا أو ثقالاً.

والمرادُ بالخفافِ: الذين تَخِفُّ عليهم الحركةُ لتهيؤِ أسبابِ القوةِ والحركةِ عندَهم.

والثقالُ: الذين يثقلُ عليهم ذلك لسببٍ من الأسبابِ. وأقوالُ العلماءِ في هذا كالأمثلةِ لذلك، كقولِ مَنْ قال:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً} شبابًا وشيوخًا. وقولِ مَنْ قال: {خِفَافًا وَثِقَالاً} مراضًا وصحاحًا. وقولِ مَنْ قال: {خِفَافًا وَثِقَالاً} نشاطًا وغير نشاط. وقولِ مَنْ قال: {خِفَافًا وَثِقَالاً} أصحاب عيال وغير أصحاب عيال. وقولِ مَنْ قال: {خِفَافًا وَثِقَالاً} أي: أصحاب ضِياع وبساتينَ أو غير أصحابها. فهذه أقوالٌ كثيرةٌ. كقولِ مَنْ قال: {خِفَافًا وَثِقَالاً} مشاغيل وغير مشاغيل. إلى ذلك (

)

(2)

.

يقول اللَّهُ (جلَّ وعلا): {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ

(1)

انظر ابن جرير (14/ 262 - 269)، القرطبي (8/ 150).

(2)

في هذا الموضع انقطع التسجيل.

ص: 535

الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)} [التوبة: الآيتان 44، 45].

لَمَّا دَعَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم المسلمينَ إلى النفرِ في غزوةِ تبوكَ جاءَ رؤساءُ المنافقينَ كعبدِ اللَّهِ بنِ أُبَيِّ بنِ سَلُولَ، والجدُّ بنُ قيسٍ، وهؤلاء أعظمُ المنافقينَ، وَمَنْ سَارَ في ركابِهم، جاؤوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم يستأذنونَه في الجلوسِ والتخلفِ عن غزوةِ تبوكَ؛ لأنهم أعداءُ للإسلامِ في باطنِ أمرِهم، فَبَيَّنَ اللَّهُ أن ذلك الاستئذانَ رغبةٌ في التخلفِ ليس من فِعَالِ المسلمينَ، وأنه من فِعَالِ الذين لَا يؤمنونَ بِاللَّهِ ولَا باليومِ الآخِرِ. قال:{لَا يَسْتَئذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ .. } . الجمهورُ يقرؤون: {يَسْتَئذِنُكَ} والسوسيُّ: {يستاذنك} بإبدال الهمزةِ

(1)

.

{لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} يصدقون بالله (جلَّ وعلا)، وإيمانُهم بالله، الإيمانُ بالله إذا أُطْلِقَ شملَ الإيمانَ من الجهاتِ الثلاثِ، وهو تصديقُ القلبِ بالاعتقادِ، واللسانِ بالإقرارِ، والجوارحِ بالعملِ. فالمؤمنُ بمعنَى الإيمانِ الصحيحِ هو مَنْ آمَنَ قلبُه ولسانُه وجوارحُه. وهذا الاستئذانُ ليس من أفعالِ المسلمينَ {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الإيمانُ باليومِ الآخِرِ كثيرًا ما يجعلُه اللَّهُ مذكورًا مع الإيمانِ به؛ لأَنَّ مَنْ لَمْ يؤمن باليومِ الآخِرِ لَا يخافُ بَأْسًا يومَ القيامةِ ولا يطمعُ في خيرٍ، فهو يفعلُ ما يشاءُ، فالكفرُ باليومِ الآخِرِ رأسُ كُلِّ شَرٍّ، والإيمانُ به رأسُ كُلِّ خَيْرٍ.

(1)

انظر: الإقناع لابن الباذش (1/ 412)، النشر لابن الجزري (1/ 390).

ص: 536

{أَنْ يُجَاهِدُوا} (أنْ) هذه كلامُ العلماءِ فيها راجعٌ إلى قَوْلَيْنِ

(1)

:

أحدُهما: أنها هذه التي يُحْذَفُ قبلَها حرفُ الجرِّ. والمعنَى على هذا: «لَا يستأذنك الذين يؤمنون بِاللَّهِ في أَنْ يُجَاهِدُوا» أي: في الجهادِ وَتَرْكِ الجهادِ؛ لأن المؤمنينَ بالله مسارعون إلى مرضاةِ اللَّهِ، منقادونَ إلى الجهادِ، سائرونَ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

لَا يستأذنونَ لأَجْلِ أن يُؤْذَنَ لهم في التخلفِ، وقد تقررَ في علمِ العربيةِ أن حذفَ حرفِ الجرِّ قبلَ المصدرِ المنسبكِ من (أنَّ) وصلتِها و (أنْ) وصلتِها مطردٌ لا نزاعَ في اطرادِه

(2)

، ومحلُّ المصدرِ بعدَ حذفِ حرفِ الجرِّ أَكْثَرُ علماءِ العربيةِ يقولونَ منصوبٌ، وهو الذي عليه كبراؤهم. وقال قومٌ: هو مخفوضٌ. واستدلوا على خفضِه بقولِ الشاعرِ

(3)

:

فَمَا زُرْتُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ حَبِيبَةً

إِلَيَّ وَلَا دَيْنٍ بِهَا أَنَا طَالِبُهْ

قالوا: خَفَضَ «وَلَا دَيْنٍ» عطفًا على المصدرِ المنسبكِ من (أن) وصلتِها بعدَ حذفِ حرفِ الجرِّ. قالوا: والأصلُ: «وما زرتُ ليلى لكونِها حبيبةً، ولا لِدَيْنٍ» والمحققونَ منهم يقولونَ: محلُّه النصبُ. وهذا الذي عليه جمهورُهم، قالوا: ولا شاهدَ في البيتِ لأنه مِمَّا يُسَمَّى عند النحويين عطفَ التوهمِ. وحاصلُ عطفِ التوهمِ عند النحويينَ أنه تكونُ الكلمةُ يجوزُ فيها الخفضُ وليست بمخفوضةٍ،

(1)

انظر: الدر المصون (6/ 57).

(2)

مضى عند تفسير الآية (67) من سورة البقرة.

(3)

السابق.

ص: 537

فيعطفون عليها المخفوضِ نظرًا إلى جوازِ خفضِها، وإن كانت غيرَ مخفوضةٍ في الواقعِ

(1)

. ومن شواهدِه المشهورةِ قولُ زهيرِ بنِ أَبِي سُلْمَى

(2)

:

بَدَا لِيَ أَنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مَضَى

وَلَا سَابِقٍ شَيْئًا إِذَا كَانَ جَائِيَا

فقولُه: (ولا سابق) بالخفضِ في روايةِ بيتِ زهيرِ عطفًا على «مدرك» وهو منصوبٌ، إلا أنه يجوزُ جَرُّهُ بالباءِ، فيجوزُ: لستُ بِمُدْرِكٍ ولا سابقٍ. ونظيرُه قولُ الآخَرِ

(3)

:

مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً

وَلَا نَاعِبٍ إِلَاّ بِيَيْنٍ غُرَابُهَا

كما هو معلومٌ في محلِّه. ونحنُ نذكرُ هذه الأشياءَ العربيةَ وإن كان أكثرُ المستمعينَ لَا يفهمونَها لأنا نريدُ أن تكونَ هذه الدروسُ القرآنيةُ يستفيدُ منها كُلُّ الحاضرينَ على قَدْرِ استعداداتِهم، وَاللَّهُ يوفقُ الجميعَ للخيرِ.

الوجهُ الثانِي: أن (أن) هذه هي التي تُحْذَفُ قبلَها (لا) أو مضاف كقولِه: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: آية 176] ففي قولِه: {أَنْ تَضِلُّوا} ونحوِه وجهانِ. أي: يُبَيِّنُ اللَّهُ لكم لئلَاّ تضلوا، أو كراهةَ أن تضلوا. هذانِ الوجهانِ في (أن) في القرآنِ فيما يماثلُ هذا كقولِه:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} وقولِه: {فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا} [الحجرات: آية 6] أي: لئلَاّ تصيبوا، أو كراهةَ أن تصيبوا. وهذانِ الوجهانِ في قولِه: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ

(1)

راجع ما سبق عند تفسير الآية (67) من سورة البقرة.

(2)

تقدم هذا الشاهد في الوضع السابق.

(3)

تقدم هذا الشاهد في الوضع السابق.

ص: 538

الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)} [التوبة: الآية 44] بل إذا أَمَرْتَ بالجهادِ قاموا مُسْرِعِينَ ممتثلين أمرَ اللَّهِ، راغبينَ في غزوِ الكفرةِ لأن تكونَ كلمةُ اللَّهِ هي العليا. وهذه الآيةُ تَدُلُّ على أن المؤمنَ بمعنَى المؤمنِ الصحيحِ من صفاتِه الكاشفةِ أن يكونَ مُبَادِرًا للجهادِ في سبيلِ اللَّهِ مُضَحِّيًا بالنفيسِ والغالِي من نفسِه ومالِه للجهادِ في سبيلِ اللَّهِ لإعلاءِ كلمةِ اللَّهِ (جلَّ وعلا). وهذا معنَى قولِه:{لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)} [التوبة: آية 44] التقوى في قلوبِ الناسِ لَا تَخْفَى على اللَّهِ، فَاللَّهُ يعلمُ ما في قلوبِ الناسِ، لا يَخْفَى عليه بَرٌّ مِنْ فَاجِرٍ، ولا مُتَّقٍ من عَاصٍ.

{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: آية 235]{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} [ق: آية 16]{عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} لَا يَخْفَى عليه الْمُتَّقِي من العاصِي، فَمَنْ زَعَمَ للنبيِّ أنه معه، وأنه يحبُّ الإسلامَ والجهادَ، إلا أنه معذورٌ بكذا وكذا لأعذارٍ كاذبةٍ فَاللَّهُ عَالِمٌ بكذبِه، عَالِمٌ بِالْمُتَّقِي حقًّا وبغيرِه، لا يَخْفَى عليه شيءٌ من ذلك. وفي هذا تهديدٌ للمنافقينَ الذين يَدَّعُونَ التقوى ويضمرونَ غيرَها، ووعدٌ عظيمٌ للمؤمنينَ الذين تنطوي قلوبُهم على تَقْوَى اللَّهِ حَقًّا. وهذا معنَى قولِه:{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [التوبة: آية 44].

{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: آية 45] قد تَقَرَّرَ عندَ جماهيرِ العلماءِ أن (إنما) أداةُ حصرٍ، والصحيحُ أن (إنما) أداةُ حصرٍ كما حَرَّرَهُ علماءُ الأصولِ في مبحثِ (دليلِ الخطابِ) أعنِي (مفهومَ المخالفةِ) والبلاغيونَ في مبحثِ

ص: 539

(القصرِ)

(1)

فـ (إنما) أداةُ حَصْرٍ. يعنِي: لَا يستئذنك هذا الاستئذانَ الذي يُرَادُ به التخلف عن الجهادِ والقعودِ لأعذارٍ كاذبةٍ.

{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الذين لَا يُصَدِّقُونَ بالله ولا يؤمنون باليومِ الآخِرِ فلا يرغبون فيما عِنْدَ اللَّهِ، ولا يخافون عذابَ اللَّهِ.

وقولُه: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} شَكَّتْ قلوبُهم. فـ {وَارْتَابَتْ} معناه: شَكَّتْ. والتاءُ فيه تاءُ الافتعالِ. وأصلُ حروفِه الأصليةِ: الراءُ في محلِّ الفاءِ، والياءُ في مَحَلِّ العينِ، والباءُ في محلِّ اللامِ، أصلُ المادةِ (رَيَبَ) بـ (راءٍ) فـ (ياء) فـ (باء) والتاءُ تاءُ الافتعالِ، وأصلُها (وَارْتِيبَتْ قلوبُهم)

(2)

أي: دَاخَلَهَا الرَّيْبُ. أصلُ الريبِ في لغةِ العربِ معناه الإزعاجُ والإقلاقُ. هذا أصلُ معناه الأصليِّ، تقولُ العربُ: رَابَهُ الأمرُ. إذا أَزْعَجَهُ وَأَقْلَقَهُ. وهذا هو معناه الحقيقيُّ، ومنه قولُ توبةَ بنِ الْحُمَيِّرِ الخفاجيِّ

(3)

:

وَكُنْتُ إِذَا مَا زُرْتُ لَيْلَى تَبَرْقَعَتْ

وَقَدْ رَابَنِي مِنْهَا الْغَدَاةَ سُفُورُهَا

أي: أَزْعَجَنِي وَأَقْلَقَنِي، وكلما جاء الريبُ في القرآنِ والارتيابِ فمعناه الشكُّ على كُلِّ حالٍ. وإنما سُمِّيَ الشاكُّ مُرْتَابًا وَأُطْلِقَ اسمُ الريبِ على الشكِّ لأَنَّ الشاكَّ لَا تطمئنُّ نفسُه إلى طرفِ الإيجابِ، ولا إلى طرفِ السلبِ، فهو تارةً يميلُ إلى الإيجابِ، وتارةً يميلُ إلى السلبِ، فنفسُه مُنْزَعِجَةٌ قلقةٌ ليست مطمئنةً إلى الثبوتِ ولا إلى

(1)

مضى عند تفسير الآية (65) من سورة الأعراف.

(2)

انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص133، 391، 393.

(3)

مضى عند تفسير الآية (2) من سورة الأعراف.

ص: 540

النفيِ. ومعنَى {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} شَكَّتْ قلوبُهم والعياذُ بِاللَّهِ. وَأَسْنَدَ الارتيابَ إلى القلوبِ لأَنَّ القلبَ هو مَحَلُّ الإدراكِ الذي يكونُ فيه الشكُّ، ويكونُ فيه اليقينُ، ويكونُ فيه العلمُ والإدراكُ. وهذا الارتيابُ سَيُبَيِّنُهُ لهم المؤمنونَ يومَ القيامةِ كما يأتِي بيانُه في سورةِ الحديدِ؛ لأنه سيأتِي في سورةِ الحديدِ - إن شاء الله - أَنَّ كُلَّ مَنْ كان يقولُ: لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ في دارِ الدنيا يُعْطِيهِ اللَّهُ نورًا، فيكونُ عندَ المنافقينَ نُورٌ، وعندَ المؤمنينَ نورٌ، فإذا - مثلاً - اشْتَدَّ الأمرُ وصارَ الناسُ في فصلِ الخطابِ انْطَفَأَ نورُ المنافقينَ وَبَقُوا في ظلامٍ دامسٍ، وعند ذلك يقولُ المؤمنونَ:{رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم: آية 8] ويقولُ المنافقونَ للمؤمنينَ: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد: آية 13] فإذا ضُرِبَ ذلك السورُ بَيْنَ المنافقينَ والمؤمنينَ قال المنافقونَ للمؤمنينَ: {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} [الحديد: آية 14] أَلَمْ نكن معكم في دارِ الدنيا؟ وكنا نحضرُ معكم المساجدَ والغزواتِ، ونأتِي معكم المواطنَ؟ {قَالُوا بَلَى} كنتُم معنا {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ} وهذا محلُّ الشاهدِ. ذلك الارتيابُ الذي قال عنهم هنا:{وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: آية 45] هو من الأسبابِ التي تجعلُهم يومَ القيامةِ وراءَ السورِ، والعياذُ بالله.

وقولُه: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ} أي: فَهُمْ في شَكِّهِمْ {يَتَرَدَّدُونَ} أي: يذهبونَ حائرينَ تارةً يُقَدِّمُونَ رِجلاً ويؤخرونَ أخرى، يذهبون ويرجعون، يتوجهون إلى الإيمان مرة ويكفرون مرة (والعياذ بالله جل وعلا). وهذا معنَى قولِه:{وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} .

ص: 541

{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَاّ خَبَالاً ولأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)} [التوبة: الآيتان 46، 47].

{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} هؤلاء المنافقون الذين جاؤوا يستأذنون النبيَّ صلى الله عليه وسلم في القعودِ كعبدِ اللَّهِ بنِ أُبَيٍّ، والجدِّ بنِ قيسٍ، وأضرابِهم، قال الله لِنَبِيِّهِ إنهم يستأذنون ويعتذرون الأعذارَ الكاذبةَ وهم في باطنِ أمرِهم مُصِرُّونَ على القعودِ وعدمِ الخروجِ، وَبَيَّنَ دليلَ ذلك في قولِه:{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ} لو أراد هؤلاءِ المنافقون المستأذنون الخروجَ معكَ إلى غزوةِ تبوكَ {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ} معكَ {لأَعَدُّوا لَهُ} أي: للخروجِ {عُدَّةً} أي: لَتَأَهَّبُوا للخروجِ وتهيؤوا له؛ لأن مَنْ يعزمُ على الخروجِ إلى قتالِ العدوِّ يتهيأُ قبلَ ذلك ويستعدُّ لذلك بإحضارِ العدةِ اللازمةِ لذلك، ولكن هؤلاء لم يَعُدُّوا شيئًا، ولم يُبالوا بشيءٍ، فَدَلَّ على أنهم مصرونَ عازمونَ على التخلفِ. وهذا معنَى قولِه:{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ} [التوبة: آية 46] أي: للخروجِ {عُدَّةً} أي: لَتَأَهَّبُوا له أُهْبَتَهُ وتهيؤوا له بإعدادِ ما يَلْزَمُهُ.

{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} كَرِهَ اللَّهُ انبعاثَهم كَوْنًا وقدرًا؛ لأن اللَّهَ يعلمُ أنهم لو خرجوا مع رسولِه ما كان في خروجِهم له إلا الشرُّ، فلا يجدُ منهم إلا الضررَّ والشرَّ، فَثَبَّطَهُمْ عنه بحكمتِه لُطْفًا برسولِه صلى الله عليه وسلم {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} الانبعاثُ مصدرُ انبعثَ ينبعثُ إذا ذَهَبَ إلى الشيءِ. ومنه:{إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12)} [الشمس: آية 12] ومعنَى {انْبِعَاثَهُمْ} أي: خروجهم غَازِينَ معكَ إلى تبوكَ،

ص: 542

كَرِهَ اللَّهُ خروجَهم معكَ لضررِ ذلك عليكَ، {فَثَبَّطَهُمْ} عن ذلك الخروجِ مراعاةً لمصلحتكَ. والتثبيطُ: التبطئةُ والتعويقُ وعدمُ الخروجِ، فَثَبَّطَهُمْ عنكَ مراعاةً لمصلحتكَ ومصلحةِ مَنْ مَعَكَ مِنَ المسلمينَ، وهذا معنَى قولِه:{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} .

{قِيلَ} هنا مَبْنِيٌّ للمفعولِ حُذِفَ فاعلُه، واختلفَ العلماءُ في فاعلِه المحذوفِ

(1)

، فقال بعضُ العلماءِ: قال بعضُهم لبعضٍ في سِرِّهِمْ وباطنِ أمرِهم: {اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} وَاسْتَأْذِنُوهُ لتقعدوا. وقال بعضُهم: أَذِنَ لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: {اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} وعلى هذا القولِ فـ (اقعدوا) هو الإذنُ. وبعضُهم يقول: قولُه: {مَعَ الْقَاعِدِينَ} أَذِنَ لهم إِذْنًا صاحبُه لَا يرضى عنهم. والمرادُ بالقاعدينَ: الذين ليس من شأنِهم الحضورُ، كالصبيانِ والزَّمْنَى والنساءِ، ونحو ذلك ممن ليس من شأنِه الخروجُ للقتالِ.

وقال بعضُ العلماءِ: هو كَوْنِيٌّ قَدَرِيٌّ، الله يقولُ للشيءِ:«كُنْ فَيَكُونُ «، فقال: «اقْعُدُوا» . فكان قعودُهم، واختار هذا بعضُ العلماءِ.

ثم إن الله قال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَاّ خَبَالاً} [التوبة: آية 47] لو خرج فيكم رؤساءُ هؤلاء المنافقينَ الذين يحركونَهم ويرأسونَهم في الشرِّ كابْنِ أُبَيِّ بنِ سلولَ والجدِّ بنِ قيسٍ - قبحهما الله - وأمثالهم {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم} غازينَ إلى تبوكَ {مَّا زَادُوكُمْ إِلَاّ خَبَالاً} ما حصلتُم منهم على فائدة ولم يزيدوكم إلا خبالاً. والخبالُ معناه: الفسادُ. أي: ما زَادُوكُمْ إلا فَسَادًا؛ لأنهم يفسدونَ عليكم.

(1)

انظر: القرطبي (8/ 156)، البحر المحيط (5/ 48).

ص: 543

وقولُه: {ولأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} العربُ تقولُ: أَوْضَعَ يُوضِعُ إيضاعًا. إذا أَسْرَعَ في سيرِه. فالإيضاعُ: الإسراعُ في السيرِ. وَاسْمُ فاعلِه (موضِع) ومنه قولُ امرئِ القيسِ

(1)

:

أَرَانَا مُوْضِعِينَ لأَمْرِ غَيْبٍ

وَنُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ

و {خِلالَكُمْ} معناه: بينكَم، يعنِي: لَا يزيدونَكم إلا فسادًا على فسادٍ، ولأَسْرَعُوا فيما بينَكم بالمشيِ بالنميمةِ وإلقاءِ المخالفاتِ والأراجيفِ والأكاذيبِ التي تضرُّ المسلمينَ ولا تنفعُهم. وهذا معنَى قولِه:{لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَاّ خَبَالاً} لأن العدوَّ إذا كان في ثيابِ صديقٍ يفعلُ كُلَّ شَرٍّ ويضرُّ كُلَّ مضرةٍ من حيث لا يشعرُ به، فَهُمْ لَا يزيدونَكم إلا الفسادَ. أي: لا يزيدونَكم شيئًا كائنًا ما كان إلا الفسادَ والخبالَ، فإنهم يفسدون عليكم وكأنهم يفسدون وهم في المدينةِ، فإذا سافروا كان خبالُهم وفسادُهم أكثرَ؛ لأنهم يُلْقُونَ بينهم بالنمائمِ ويلقونَ الأراجيفَ والتخويفَ من المشركينَ وإلقاءِ التشاويشِ كي يخافَ المسلمونَ، ولتفسد ذاتُ بينهم، وهم أعداءُ - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - وهذا معنَى قولِه تعالى:{ولأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} معناه يطلبونَ لكم الفتنةَ. {الْفِتْنَةَ} هي ما يُوقِعُونَ بكم من الشرِّ، من المعاداةِ بينَكم بإلقاءِ النميمةِ والخوفِ من الأعداءِ بإلقاءِ الأراجيفِ الكاذبةِ ونحوِ ذلك.

وقولُه: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} في هذا الحرفِ وجهانِ من التفسيرِ للعلماءِ

(2)

:

(1)

ديوانه ص 43.

(2)

انظر: ابن جرير (14/ 281)، القرطبي (8/ 157)، ابن كثير (2/ 361).

ص: 544

قال بعضُ العلماءِ: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي: عيونٌ يسمعونَ الأخبارَ ويأتونَهم بها لِيَقْدِرُوا بذلك على ما شاؤوا من الفسادِ والخبالِ.

وقال بعضُ العلماءِ: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} هم ساداتٌ وأشرافٌ في قومِهم، وفيكم مَنْ يسمعُ لهم لمكانتِهم وشرفِهم في قبيلتِه كابنِ أُبَيٍّ والجدِّ بنِ قيسٍ وَمَنْ يكونُ له شرفٌ وسيادةٌ في قومِه يسمعونَ منه وَتُؤَثِّرُ دعايتُه السيئةُ عليهم بإلقاءِ الفتنِ والأراجيفِ. وهذا معنى قولِه:{وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} وهذه الآيةُ الكريمةُ نَصَّ اللَّهُ (جلَّ وعلا) فيها على إحاطةِ عِلْمِهِ، وأنه (جلَّ وعلا) من شدةِ إحاطةِ علمِه بالأشياءِ يعلمُ الأشياءَ الذي سَبَقَ في علمِه أنها لا تكونُ

(1)

،

هو يعلمُ أن لو كانت كيف تكونُ؛ لأن هؤلاء المتخلفينَ عن غزوةِ تبوكَ كالجدِّ بنِ قيسٍ وعبدِ اللَّهِ بنِ أُبَيِّ بنِ سلولَ لا يحضرونَها أبدًا؛ لأن اللَّهَ كَرِهَ انبعاثَهم فَثَبَّطَهُمْ عنها لحكمةٍ إلهيةٍ، ومصلحةً للمسلمينَ، فَهُمْ لا يحضرونَها أبدًا، وقد سَبَقَ في عِلْمِ اللَّهِ الأزليِّ أنهم لا يحضرونَها أبدًا، وأنهم لا يخرجونَ معه أبدًا، وخروجُهم هذا الذي سَبَقَ في سابقِ عِلْمِهِ أنه لا يكونُ صَرَّحَ بأنه عَالِمٌ أن لو كان كيف يكونُ، فَعَرِفْنَا من هذا أنه (جلَّ وعلا) يعلم الموجوداتِ والمستحيلاتِ والمعدوماتِ والجائزاتِ، حتى إنه من إحاطةِ علمِه ليعلمُ المعدومَ الذي سَبَقَ في سابقِ علمِه أنه لا يوجدُ يعلمُ أن لو وُجِدَ كيف يكونُ لشدةِ إحاطةِ علمِه بالأشياءِ، فخروجُ هؤلاءِ لا يكونُ، وهو عَالِمٌ ذلك الخروجَ الذي لا يكونُ أن لو كان كيف يكونُ، كما قال هنا:{لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَاّ خَبَالاً} الآيةَ [التوبة: آية 47] والآياتُ الدالةُ على

(1)

مضى عند تفسير الآية (96) من سورة الأنعام ..

ص: 545

هذا المعنَى كثيرةٌ جِدًّا، من ذلك ما قدَّمنا في سورةِ الأنعامِ من أن الكفارَ يومَ القيامةِ إذا رأوا القيامةَ وَعَايَنُوا الحقيقةَ تَمَنَّوْا أن يُرَدُّوا إلى الدنيا مرةً أخرى ليصدقوا الرسلَ ويؤمنوا بِاللَّهِ، وهذا الردُّ الذي تَمَنَّوْهُ عَلِمَ اللَّهُ أنه لا يكونُ، وقد صَرَّحَ بأنه عَالِمٌ أن لو كان كيف يكونُ، وذلك في قولِه:{وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)} [الأنعام: آية 27] هذا الردُّ الذي تَمَنَّوْهُ هو عَالِمٌ أنه لا يكونُ، وقد صرَّح بأنه عَالِمٌ أن لو كان كيفَ يكونُ حيثُ قال:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: آية 28] والآياتُ بمثلِ هذا كثيرةٌ في كتابِ اللَّهِ كقولِه: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّنْ ضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)} [المؤمنون: آية 75] وقولِه تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا

أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَاّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} [النساء: آية 66].

فهذه الآياتُ من كتابِ اللَّهِ دَلَّتْ على إحاطةِ عِلْمِ اللَّهِ (جلَّ وعلا) بِكُلِّ شيءٍ، حتى بالمعدوماتِ التي سَبَقَ في علمِه أنها لا توجدُ، فهو عَالِمٌ أن لو وُجِدَتْ كيف يكونُ، فهو عَالِمٌ بأن أبا لهب لن يُؤْمِنَ، وهو يعلمُ لو آمَنَ أبو لهبٍ أيكونُ إيمانُه تَامًّا أو نَاقِصًا، وهكذا. وهذا يدلُّ على أن المحيطَ بالعلمِ هو اللَّهُ (جلَّ وعلا) وحدَه، وَخَلْقُ اللَّهِ لا يعلمونَ من العلمِ إلا ما علَّمهم العليمُ الخبيرُ الأعظمُ كما دَلَّ عليه هذا القرآنُ في آياتٍ كثيرةٍ، وإيضاحُ ذلك أن أَعْلَمَ المخلوقينَ الملائكةُ والرسلُ - على جميعِهم صلواتُ اللَّهِ وسلامُه - فالملائكةُ لَمَّا قال لهم اللَّهُ:{فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا} [البقرة: الآيتان 31، 32] قولُهم: {لَا عِلْمَ لَنَا} (لا) فيه، هي (لا) التي لنفيِ

ص: 546

الجنسِ، فَنَفَوْا جنسَ العلمِ من أصلِه عن أنفسِهم إلا شيئًا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ إياه {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَاّ مَا عَلَّمْتَنَا} .

وكذلك الرسلُ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهم) مع علمِهم وفضلِهمٍ وجلالتِهم لَا يعلمونَ من أمرِ اللَّهِ إلا شيئًا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ إياه {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} [الإسراء: آية 85].

هذا سيدُ الرسلِ وأكملُ الخلقِ نَبِيُّنَا محمدٌ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) - وهو هو - رُمِيَتْ أحبُّ أزواجِه إليه بفريةٍ وإفكٍ، حيث رُمِيَتْ بصفوانَ بنِ المعطلِ السلميِّ في غزوةِ المريسيعِ، وهو لا يدرِي ما قيل عنها أَحَقٌّ أو كَذِبٌ، وكان يقولُ لها:«يَا عَائِشَةُ، إِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَتُوبِي، فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْكِ»

(1)

. ولم يَدْرِ هل ما قيل عنها حَقٌّ أو كَذِبٌ حتى أخبرَه العليمُ الخبيرُ (جلَّ وعلا) قال: {أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور: آية 26].

وهذا نَبِيُّ اللَّهِ إبراهيمُ إمامُ الأنبياءِ (صلواتُ اللَّهِ عليهم جميعًا) ذَبَحَ عِجْلَهُ وتعب هو وامرأتُه في إنضاجِ العجلِ يَظُنُّ أن الملائكةَ يأكلون، لا يدرِي مَنْ هُمْ، حتى إنه لَمَّا رآهم لم يأكلوا خَافَ منهم كما في قولِه:{فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} [هود: آية 70] وَصَرَّحَ لهم بأنه خائفٌ منهم حيث قال: {فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} [الحجر: آية 52] حتى ضَحِكَتِ امرأتُه، وَلَمَّا ارتحلوا عنه ونزلوا بنبيِّ اللَّهِ لوطٍ - وهو هو - ضَاقَ بهم ذَرْعًا وقال:{هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: آية 77] وَلَمْ يَدْرِ أنهم ملائكةٌ حتى قال كلامَه المحزنَ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: آية 80]

(1)

مضى عند تفسير الآية (59) من سورة الأنعام.

ص: 547

وما عَلِمَ أنهم ملائكةٌ حتى قالوا له: {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} الآيات [هود: آية 81].

وهذا نَبِيُّ اللَّهِ نوحٌ - وهو هو - يقولُ لربِّه: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود: آية 45] ولا يدرِي أن ذلك الولدَ الذي يطلبُ رَبَّهُ أن ينجيَه أنه كافرٌ ليس من أهلِه الموعودِ بنجاتِهم حتى قال له العليمُ الخبيرُ: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: آية 46] فما قال نوحٌ إلا أن قال: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَاّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: آية 47].

وهذا نَبِيُّ اللَّهِ يعقوبُ - وهو هو - قال الله فيه: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: آية 68] ابْيَضَّتْ عيناه من الحزنِ فهو كَظِيمٌ، وولدُه في مصرَ بينَه وبينَه مراحلُ لَا يدرِي ما شَأْنُهُ {اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ} الآيةَ [يوسف: آية 87].

وهذا نَبِيُّ اللَّهِ سليمانُ - وهو هو - أعطاه اللَّهُ الرياحَ غُدُوُّهَا شهرٌ ورواحُها شهرٌ، وَسَخَّرَ له مردةَ الشياطينِ والجنِّ، ما كان يدرِي عن مأرب وجماعةِ بلقيسَ حتى ذَهَبَ إليهم الضعيفُ المسكينُ الهدهدُ، وَلَمَّا تَوَعَّدَ الهدهدَ، وكان الهدهدُ حَصَّل منهم بعضَ عِلْمِ الجغرافيا والتاريخِ، وهذا العلمُ لم يكن عِنْدَ سليمانَ في ذلك الوقتِ، وكان سليمانُ يُهَدِّدُ الهدهدَ ويقولُ:{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (21)} [النمل: آية 21] فجاء الهدهدُ لَمَّا عرف بعضَ عِلْمِ جغرافيةِ اليمنِ وتاريخِها، وسليمانُ لا يدرِي عنه، أفادَه هذا العلمُ قوةً وَوَقَفَ أمامَ سليمانَ وقفَة الرجلِ الصامدِ،

ص: 548

وَنَسَبَ الإحاطةَ لنفسِه ونفاها عن سليمانَ وقال: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا} الآياتِ [النمل: الآيات 22 - 24]. فسليمانُ ما كان يدرِي عن هذا، ولم يَقُلْ له إلا أن قال:{سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)} وأمثالُ هذا كثيرٌ.

فَاللَّهُ (جلَّ وعلا) هو العليمُ الأعظمُ، والملائكةُ والرسلُ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهم) يعلمونَ من عِلْمِ اللَّهِ ما عَلَّمَهُمُ اللَّهُ من غيبِه وما لم يعلمهم لم يعلموه، وهو (جلَّ وعلا) وحدَه هو المحيطُ علمُه بكلِّ شيءٍ، العالِم بما كان وما يكون، وبالمعدومِ والموجودِ، والمعدومِ الذي لا يوجدُ أن لو وُجِدَ كيف يكونُ {قُل لَاّ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَاّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)} [النمل: آية 65] وهذا معنَى قولِه: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَاّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: آية 47].

وقولُه: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} كقولِه: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [التوبة: آية 44] فقال في الأُولَى: إن تقوَى المتقينَ لَا تَخْفَى عليه، وأن ظلمَ الظالمينَ لَا يَخْفَى عليه.

وقد قدَّمنا في هذه الدروسِ مرارًا

(1)

أن أصلَ معنَى الظلمِ في لغةِ العربِ هو: وَضْعُ الشيءِ في غيرِ محلِّه، مادةُ الظاءِ واللامِ والميمِ (ظَلَمَ) معناها: وضعُ الشيءِ في غيرِ محلِّه. هذا هو أصلُ معنَى هذه المادةِ، وأعظمُ أنواعِها هو الشركُ بِاللَّهِ؛ لأَنَّ الشركَ بالله وضعٌ للعبادةِ

(1)

مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة.

ص: 549

في غيرِ موضعِها؛ لأَنَّ مَنْ يأكلُ نِعَمَ اللَّهِ ويتقلبُ في رِزْقِهِ وعافيتِه إذا كان يعبدُ غيرَه فقد ظَلَمَ، أي: وَضَعَ العبادةَ في غيرِ موضعِها، كما قال تعالَى عن لقمانَ:{يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: آية 13] وقال: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: آية 254]{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (106)} [يونس: آية 106] ولأَجْلِ هذا كان الظلمُ في القرآنِ يُطْلَقُ على الشركِ وعلى غيرِه من المعاصِي والمخالفاتِ، وَثَبَتَ في صحيحِ البخاريِّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن قولَه:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: آية 82] قال: ولم يَلْبِسُوا إيمانَهم بِشِرْكٍ

(1)

. هذا أصلُ الظلم في لغةِ العربِ.

وهو في الشرعِ على نَوْعَيْنِ: ظلمٌ أكبرُ، وظلمٌ دونَ ظلمٍ، فالظلمُ الأكبرُ هو وضعُ العبادةِ في غيرِ موضعِها، وهو الشركُ بالله. وظلمٌ دونَ ظلمٍ وهو أن يُطِيعَ عدوَّه إبليسَ ويعصيَ رَبَّهُ، فالذي أَطَاعَ الشيطانَ وعصى اللَّهَ قد ظَلَمَ نفسَه؛ لأنه عَرَّضَهَا لسخطِ اللَّهِ وَوَضَعَ الطاعةَ في غيرِ موضعِها، والمعصيةَ في غيرِ موضعِها. وهذا معنَى قولِه:{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: آية 47] وهذا المعنَى مشهورٌ في كلامِ العربِ، أن الظلمَ هو وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعِه، ومنه قد تقولُ العربُ للذي يضربُ لَبَنَهُ قبلَ أن يَرُوبَ: هو ظَالِمٌ؛ لأنه وَضَعَ الضربَ في غيرِ موضعِه؛ لأن ضربَه قبل أن يروبَ يُضَيِّعُ زبدَه، وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ

(2)

:

وَقَائِلَةٍ ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي

وَهَلْ يَخْفَى عَلَى الْعَكَدِ الظَّلِيمُ

(1)

مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة.

(2)

السابق.

ص: 550

«ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي» تعنِي: ضربتُه لكم قبل أن يروبَ. والعَكَد: عصبُ اللسانِ. يعنِي: أن اللسانَ لَا يَخْفَى عليه الظليمُ وغيرُ الظليمِ، أي الذي ضُرِبَ قبل أن يروبَ وغيرُه، ومن هذا المعنَى قولُ الآخَرِ

(1)

:

وَصَاحِبِ صِدْقٍ لَمْ تَرِدْنِي شَكَاتُهُ

ظَلَمْتُ وَفِي ظُلْمِي لَهُ عَامِدًا أَجْرُ

ومن هنا قالت العربُ للأرضِ الذي حُفِرَ فيها وليست محلاًّ للحفرِ: «مظلومةٌ» ومنه قولُ نابغةِ ذبيانَ

(2)

:

إِلَاّ الأَوَارِيَّ لأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا

وَالنُّؤْيَ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ

وقالوا للترابِ المنزوعِ من القبرِ «ظليمٌ» لأن أصلَ القبرِ يُحْفَرُ في محلٍّ لم يُحْفَرْ قبلَ ذلك عادةً، فهو حَفْرٌ في محلٍّ ليس موضعًا للحفرِ، ومنه قولُ الشاعرِ

(3)

:

فَأَصْبَحَ فِي غَبْرَاءَ بَعْدَ إِشَاحَةٍ

مِنَ الْعَيْشِ مَرْدُودٌ عَلَيْهَا ظَلِيمُهَا

وجاء الظلمُ في القرآنِ الكريمِ بمعنَى النقصِ في آيةٍ واحدةٍ في سورةِ الكهفِ، وهي قولُه:{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: آية 33] أي: لم تَنْقُصْ منه شيئًا. هذه وحدَها في القرآنِ جاء فيها الظلمُ بمعنَى النقصِ. والعلماءُ يقولونَ: إن أصلَها من المادةِ التي ذَكَرْنَا؛ لأن صاحبَ البستانِ ينفقُ ويصرفُ عليه المالَ، فإذا جاء بِغَلَّةٍ وثمرةٍ طيبةٍ فكأنه جاء بشيءٍ في موضعِه حيث رَدَّ لصاحبِه المالَ ووجدَ منه رِبْحًا، أما إذا صَرَفَ فيه المالَ ولم يَأْتِ بشيءٍ فقد ضَاعَ

(1)

السابق.

(2)

السابق.

(3)

السابق.

ص: 551

المالُ المصروفُ فيه، ولم يأتِ شيءٌ بخلفٍ منه، فكأن هذا وَضْعٌ للشيءِ في غيرِ موضعِه للضياعِ والرزيةِ. وهذا معنَى قولِه:{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: آية 47].

قال تعالى: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُم مَّنْ يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَّهُمْ فَرِحُونَ (50) قُل لَّنْ يُصِيبَنَا إِلَاّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ (52)} [التوبة: الآيات 48 - 52].

يقول اللَّهُ (جلَّ وعلا): {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)} [التوبة: آية 48].

لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ (جلَّ وعلا) للنبيِّ والمسلمينَ أنه ثَبَّطَ عنهم عظماءَ المنافقينَ للمصلحةِ، وأنهم لو خَرَجُوا فيهم ما زادوهم إلا خبالاً، أي: فسادًا ومشيًا بالنميمةِ وتثبيطًا وإلقاءً للأراجيفِ، بَيَّنَ أن هذا الذي ينطوي عليه المنافقونَ من الشرِّ كان موجودًا فيهم قبلَ ذلك، قبل أن يُنْزِلَ القرآنَ في شأنِهم وأن تَطَّلِعُوا عليهم؛ لأن عظماءَ المنافقينَ بالمدينةِ كعبدِ اللَّهِ بنِ أُبَيِّ بنِ سلولَ، والجدِّ بنِ قيسٍ أخي بني سلمةَ، عندما جاء رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المدينةَ وَآمَنَ الأنصارُ شَقَّ ذلك عليهم وَعَظُمَ، وَأَبَوْا أن يؤمنوا، وصاروا يفكرونَ في الحالةِ التي

ص: 552

يبطلونَ بها دعوةَ دينِ الإسلامِ ويخرجوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم ويمنعونَ الناسَ من الإيمانِ، فلما جاءت غزوةُ بدرٍ عرفوا قوةَ المسلمينَ. قال لهم ابنُ أُبَيٍّ: هذا أَمْرٌ مُستَقبِلٌ فَآمِنُوا ظاهرًا

(1)

. وَهُمْ في الباطنِ يتربصونَ بهم الدوائرَ، يُجِيلُونَ أفكارَهم في الحالةِ التي يَضُرُّونَهُمْ بها.

{لَقَدِ ابْتَغَوُا} أي: طَلَبُوا الفتنةَ، طلبوا لكم الفتنةَ قبلَ هذا من رَدِّ الناسِ عن الدينِ، وإبطالِ الدينِ، وعدمِ اتباعِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والإفسادِ بينَ المسلمينَ.

{وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ} العربُ تقولُ: قَلَّبَ الأمورَ، وَقَلَّبَ الأمرَ. معناه: أن يتفكرَ بدقةٍ ويدبِّر في الأمور ويقلبَها وَجْهًا إلى ظَهْرٍ، وظهرًا إلى وجهٍ ليتأملَ في الحالةِ التي يحصِّل بها مقصودَه. فمعنَى قَلَّبُوا الأمورَ: أَجَالُوا الأفكارَ ونظروا في الدهرِ جنبًا إلى جنبٍ من هذا الأمر إلى هذا، واحتمال هذا وهذا لِيَصِلُوا بذلك إلى رَدِّ الناس عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، والقعودِ في وجهِ الدعوةِ إلى اللَّه (جلَّ وعلا)، وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، تقولُ العربُ: قَلَّبْتُ أمري، وَقَلَّبْتُ أموري، إذا أجلتُ فِكْرِي في المسائلِ ونظرتُ فيها وفي احتمالاتِها لنعلمَ أَيَّ الأمورِ هو الذي يُعِينِنُي على قصدِي. وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ مشهورٌ نَزَلَ به القرآنُ العظيمُ، منه قولُ هبيرةَ بنِ أبِي وهبٍ المخزوميِّ زوجِ أُمِّ هانئٍ بنتِ أبِي طالبٍ رضي الله عنها، فإن زوجَها هبيرةَ لَمَّا فَتَحَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكةَ فَرَّ كافرًا إلى نجرانَ، ولم يَزَلْ بها حتى مَاتَ - والعياذُ بالله - وقد أَرْسَلَ إلى

(1)

ذكره ابن كثير في تفسيره (2/ 361).

ص: 553

أُمِّ هانئٍ مِنْ هناك من نجرانَ هذه الأبياتِ - وفيها محلُّ الشاهدِ - وهو قولُه لها

(1)

:

لعَمْرُكِ مَا وَلَّيْتُ ظَهْرِي مُحَمَّدًا

وَأَصْحَابَهُ جَفْلاً وَلَا خِيفَةَ الْقَتْلِ

وَلَكِنَّنِي قَلَّبْتُ أَمْرِي فَلَمْ أَجِدْ

لِسَيْفِي غَنَاءٌ إِنْ ضَرَبْتُ وَلَا نَبْلِي

وَقَفْتُ فَلَمَّا خِفْتُ ضَيْعَةَ مَوْقِفِي

رَجَعْتُ لِعُودٍ كَالْهِزَبْرِ أَبَيِّ الشِّبْلِ

ومحلُّ الشاهدِ منه قولُه «قلَّبتُ أمري» أي: أَجَلْتُ فكري ونظرتُ وتأملتُ في الأمورِ فوجدتُ ثباتِي وعدمَ فرارِي يؤدِي إلى قتلي ولا نتيجةَ بعدَه. وهذا معنَى قولِه: {وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ} أي: أَجَالُوا أفكارَهم وَقَلَّبُوا الأمورَ ونظروا في احتمالاتِها لينالوا كيدًا يكيدونَك به من تثبيطٍ عن الدينِ، أو إلقاءِ شَرٍّ بينَ المسلمينَ، أو إعانة عدوٍّ عليكَ حتى يظفرَ بكَ، قبَّحهم اللَّهُ.

{حَتَّى جَاء الْحَقُّ} جاء الحقُّ وهو نصرُ اللَّهِ لنبيِّه بدينِ الإسلامِ، وقتلِ صناديدِ قريشٍ يومَ بَدْرٍ.

{وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} معناها: غَلَبَ دينُ اللَّهِ وظهرَ انتصارُه واستقبالُه، فعند ذلك أَسْلَمُوا إسلامًا غيرَ حقيقيٍّ، وهم يتربصونَ الدوائرَ بالمؤمنينَ في باطنِهم.

وقولُه: {وَهُمْ كَارِهُونَ} والحالُ هم كارهونَ - قبحهم اللَّهُ - لأن كُلَّ ما ينالُه المسلمونَ من نصرٍ وفتحٍ وخيرٍ يكرهونَه ويسوؤهم، وكلّ ما جاءهم من شَرٍّ يفرحونَ به، وهذه عادةُ الكفارِ، لَا يزالونَ يحاولونَ رَدَّ المؤمنينَ عن الدينِ حتى يُقَنِّّطَهُمُ اللَّهُ من ذلك، كما قال اللَّهُ في الكفارِ: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ

(1)

مضى عند تفسير الآية (48) من سورة الأعراف.

ص: 554

اسْتَطَاعُوا} [البقرة: آية 217] وَبَيَّنَ أنهم لم يستطيعوا في قولِه: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} [المائدة: آية 3] كذلك المنافقونَ كانوا يطمعونَ في ضياعِ الدعوةِ، وأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم يضمحلُ أمرُه حتى جاء الحقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارهونَ ذلك - قبحهم الله - وهذه من خسائسِ المنافقينَ يُظْهِرُهَا اللَّهُ لنبيه صلى الله عليه وسلم، وَمِنْ أسماءِ هذه السورةِ العظيمةِ:(الفاضحةُ) لأنها فَضَحَتْ أسرارَ المنافقينَ كما تَقَدَّمَ، وسيأتِي فيها كثيرًا. وهذا معنَى قولِه:{حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} .

[8/ب] / وقوله: {وَمِنْهُم مَّنْ يَقُولُ ائْذَن لِّي} [التوبة: آية 49] قَرَأَ هذا الحرفَ عامةُ السبعةِ غيرَ ورشٍ عن نافعٍ والسوسيِّ عن أَبِي عمرٍو: {وَمِنْهُم مَّنْ يَقُولُ ائْذَن لِّي} بهمزةٍ مُحَقَّقَةٍ، وقرأه ورشٌ والسوسيُّ بإبدالِ الهمزةِ واوًا مادةً للَاّمِ {ومنهم من يقول وذن لي} أما عندَ الوقفِ فقد أَجْمَعَ جميعُ القراءِ على أنك إن وقفتَ على {يَقُولُ} ابتدأتَ فقلتَ: (ايذن لي}

(1)

وهو الأمرُ مِنْ أَذِنَ له يأذنُ له. تقولُ العربُ: أذِن له يأذنُ له. وإذا جاء منها أَمْرٌ تقول: ائْذَنْ لِي. أصلُه: إئذن لي. ولكن القاعدةَ المقررةَ في العربيةِ: أن كُلَّ همزتين اجْتَمَعَتَا في كلمةٍ أُخْرَاهُمَا ساكنةٌ وَجَبَ إبدالُها حرفَ مَدٍّ مُجَانِسًا للشكلةِ التي قبلَها سواءً أكانت التي قبلَها همزةَ وصلٍ أو همزةَ قَطْعٍ، وهذا حكمٌ لا خِلَافَ فيه بَيْنَ القراءِ ولَا بَيْنَ علماءِ العربيةِ {وَمِنْهُم مَّنْ يَقُولُ ائْذَن لِّي} أي: ائْذَنْ لي في القعودِ ولا تُكَلِّفْنِي بالشخوصِ إلى غزوةِ تبوكَ. وهذه الآيةُ نَزَلَتْ في الجدِّ بنِ قيسٍ الخبيثِ المنافقِ أخِي بَنِي

(1)

انظر: الإتحاف (2/ 92).

ص: 555

سلمةَ، كان رجلاً سَيِّدًا فيهم، وَلَمَّا قَدِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قال لِبَنِي سلمةَ: مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سلمةَ؟ قالوا: الجدُّ بنُ قَيْسٍ على أَنَّا نُبَخِّلُهُ؛ لأنه بخيلٌ لا يجودُ بالمالِ. فقال: وَأَيُّ داءٍ أدوأُ من البخلِ؟ إنما سيدُكم هذا الشابُّ الأبيضُ الجعدُ

(1)

.

يعني بشرَ بنَ البراءِ بنِ معرورٍ. وكان حسانُ رضي الله عنه يمدحُ بشرَ بنَ البراءِ بتسويدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إياه ويقولُ

(2)

:

وَسُوِّدَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بِجُودِهِ

وَحُقَّ لِبِشْرِ بْنِ الْبَرَا أَنْ يُسَوَّدَا

فَتًى إِنْ أَتَاهُ الْوَفْدُ أَتْلَفَ مَالَهُ

وَقَالَ خُذُوهُ إِنَّنِي عَائِدٌ غَدَا

(1)

في بعض روايات الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك في عمرو بن الجموح رضي الله عنه، كما في الأدب المفرد رقم (297) من حديث جابر رضي الله عنه. وهو في صحيح الأدب المفرد رقم:(227). وأخرجه الحاكم (3/ 219) - وصححه ووافقه الذهبي- من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحو حديث جابر. وأورده الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب (1/ 146) وعزاه لابن إسحاق. كما أورده الحافظ في الإصابة (1/ 150)، وفي الفتح (5/ 178).

أما الرواية التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك في بشر بن البراء رضي الله عنه فقد ذكرها الواحدي في أسباب النزول ص247 _ 248، وأوردها الحافظ في الفتح (5/ 179) وعزاه للوليد بن أبان في كتاب الجود من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه. وقد صحح الحافظ هذه الرواية وجمع بينها وبين الرواية الأخرى. بيد أن الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب (1/ 146)، وابن الأثير في أسد الغابة (1/ 218) رجحا أنها في بشر بن البراء. والله أعلم.

(2)

البيتان عند الواحدي في أسباب النزول ص 248، القرطبي (8/ 159) ونص البيت الثاني هناك:

إذا ما أتاه الوفد أذهب ماله

وقال خذوه إنني عائد غدا

ص: 556

فنزلت هذه الآيةُ في الجدِّ بنِ قيسٍ على ما عليه جماعةُ المفسرينَ {وَمِنْهُم مَّنْ يَقُولُ ائْذَن لِّي} هو الجدُّ بنُ قيسٍ أخو بني سلمة. ذكر ابن إسحاق وغيره

(1)

أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم في وقتِ تجهيزِه لغزوةِ تبوكَ قال له: «يَا جَدُّ هَلْ لَكَ فِي جِلَادِ بَنِي الأَصْفَرِ؟» يعنِي الرومَ. فقال له الجَدُّ: يَا رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ائْذَنْ لِي في الجلوسِ فإنِّي رجلٌ قد عَلِمَ قومي أنني لا صبرَ لي عن النساءِ، وإن نساءَ بَنِي الأصفرِ فيهن جمالُ ووضاءةُ وجوهٍ أخافُ إن رأيتهن أن لا أصبرَ عنهن، فَائْذَنْ لِي ولا تفتنِّي بصباحةِ وجوهِهن إذا خَرَجْتُ إليهن. وهذا عذرٌ باردٌ وليس قصدُه إلا النفاقَ، فأنزل اللَّهُ فيه:{وَمِنْهُم مَّنْ يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي} أي: بصباحةِ وجوهِ نسائِهم على ما قاله غيرُ واحدٍ.

وقال بعضُ العلماءِ وأسندَه ابنُ جريرٍ

(2)

إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «يَا جَدُّ بْنَ قَيْسٍ هَلْ لَكَ فِي جِلَادِ بَنِي الأَصْفَرِ لِتَغْنَمَ مِنْهُمْ سَرَارِيَ وَوُصَفَاءَ؟» فقال: ائْذَنْ لِي ولا تَفْتِنِّي بالنساءِ. هذا منزعٌ آخَرُ ووجهٌ في الآيةِ.

وجمهورُ العلماءِ يقولون: هي في الجَدُّ بنُ قيسٍ، وهو عذرُ نفاقٍ لا شَكَّ فيه، وهو لَا عذرَ له، وإنما يتلمسُ الأعذارَ الكاذبةَ ليجلسَ، قَبَّحَهُ اللَّهُ.

(1)

أخرجه ابن جرير (14/ 287) من طريق ابن إسحاق. وأخرجه الطبراني في الكبير (12/ 122) وقال الهيثمي في المجمع (7/ 30): «فيه يحيى الحماني وهو ضعيف» اهـ وأورده أيضًا الواحدي في أسباب النزول ص247، ولم يذكر السند.

(2)

ابن جرير (14/ 288) عن ابن زيد مرسلاً.

ص: 557

ثم إن اللَّهَ قال: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} الفتنةُ التي يزعمُ أنه يَتَوَقَّاهَا وهي خوفُه أن يُفْتَتَنَ بجمالِ نساءِ بَنِي الأصفرِ هذه ليست هي الفتنة، ولكنَّ الفتنةَ العظيمةَ هذه التي سَقَطَ فيها ووقع فيها وهي تَخَلُّفُهُ عن الجهادِ واعتذارُه الكاذبُ لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ونفاقُه، هذه هي الفتنةُ والضلالُ. فالمعنَى: هذا الذي سقط فيه باعتذارِه هو عينُ الفتنةِ العظيمةِ لَا فتنةَ جمالٍ نسائِهم الذي يزعم أنه هو الذي يخافُ فتنتَه. وهذا معنَى قولِه: {وَلَا تَفْتِنِّي} .

{أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: آية 49] في هذه الآيةِ الكريمةِ وعيدٌ شديدٌ للمنافقين، وجهنمُ طبقةٌ من طبقاتِ النارِ، وَتُطْلَقُ على النارِ.

وقولُه: {لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} لأنها تُهْلِكُهُمْ وتغشاهم فتحتوي عليهم من جميعِ الجهاتِ، وتُغَلَّقُ أبوابُها عليهم، وُيضَيَّق عليهم فيها كما بَيَّنَ تعالى ذلك في آياتٍ كثيرةٍ، فَبَيَّنَ إحاطةَ النارِ بهم في قولِه في العنكبوتِ:{يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)} [العنكبوت: الآيتانِ 54، 55] وقولُه تعالى في الكهفِ: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ

} الآيةَ [الكهف: آية 29]. وقال تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ} [الأنبياء: آية 39]{لَهُم مِّنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: آية 41] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ الدالةِ على إحاطتِها بِهِمْ. وَبَيَّنَ (جلَّ وعلا) أنها تُطَبَّقُ عليهم وتغلَّق أبوابُها، وهو قولُه:{إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (9)} [الهمزة: الآيتانِ 8، 9] وأنها تُضَيَّقُ عليهم ضيقًا شديدًا كما قال تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا

ص: 558

مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)} [الفرقان: آية 13] أَعَاذَنَا اللَّهُ وإخوانَنا المؤمنينَ منها. وهذا معنَى قولِه: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: آية 49].

{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَّهُمْ فَرِحُونَ (50)} [التوبة: آية 50].

{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} هذا مِمَّا أبداه اللَّهُ لِنَبِيِّهِ من أسرارِ المنافقينَ القبيحةِ {إِنْ تُصِبْكَ} يا نَبِيَّ اللَّهِ {حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} المرادُ بالحسنةِ هنا: غلبةُ الأعداءِ والظفرُ والنصرُ. يعني: إن ظَفِرْتُمْ بأعدائِكم وغلبتموهم وَنَصَرَكُمُ اللَّهُ عليهم تسؤهم تلك الحسنةُ، ساءهم ذلك لأن العدوَّ الشديدَ العداوةِ يسوؤه ما ينال عدوَّه من الخيرِ، معناه: إن غَزَوْتُمْ وَنَصَرَكُمُ اللَّهُ وغلبتُم وظفرتُم ساءهم ذلك وحزنوا من أجلِه {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} كأن يُقْتَلَ قومُك، أو لا يُنْصَرُوا، أو يأتيَك شيءٌ يؤذيك ويؤذي قومَك {يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} إذا سَمِعُوا أن سريةً من السرايا أو جيشًا من الجيوشِ وَقَعَ فيهم قتلٌ أو جِرَاحٌ قالوا:{قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} نحن خِفْنَا من هذا وَأَخَذْنَا لأنفسِنا بالاحتياطِ فَاسْتَأْذَنَّا حتى جَلَسْنَا وَسَلِمْنَا من تلك البلايا التي نالتهم من القتلِ والجراحِ {وَتَوَلَّوا} عن دينِ اللَّهِ {وَّهُمْ فَرِحُونَ} مسرورونَ من جهتينِ: أنكم أصابكم ذلك السوءُ، وأنهم هم ما كانوا معكم - سَلِمُوا منه - كما تقدَّم إيضاحُ هذا المعنَى في سورةِ النساءِ؛ لأن اللَّهَ أَوْضَحَهُ فيها بقولِه:{وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا (72)} [النساء: آية 72] معنى قولِه: {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا} حاضرًا معهم فيصيبَني

ص: 559

ما أصابَهم من القتلِ والجراحِ، وهو السببُ الذي تَوَلَّوْا به وَهُمْ فَرِحُونَ الآنَ.

فالآيةُ معناها: {إِنْ تُصِبْكَ} يا نَبِيَّ اللَّهِ {حَسَنَةٌ} أي: يُعْطِكَ اللَّهُ ظفرًا ونصرًا {تَسُؤْهُمْ} تلك الحسنةُ {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} سيئةٌ كقتلِ قومِك وجراحِهم وإدالةِ الكفارِ منهم {يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا} أَخَذْنَا لأنفسِنا بالاحتياطِ وتخلفَنا عن هذا الذي وَقَعُوا فيه حذرًا مِنَّا واحتياطًا أن يصيبَنا مثلُ ما أصابَهم {وَيَتَوَلَّوا} عن دينِ الإسلامِ، ونصرةِ رسولِ اللَّهِ، أو يتولَى بعضُهم راجعًا إلى بعضٍ، والحالُ {وَّهُمْ فَرِحُونَ} مسرورونَ بالسوءِ الذي أصابَكم وسلامتِهم منه، وأنهم لم يَحْضُرُوهُ معكم. هذا معنَى قولِه:{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَّهُمْ فَرِحُونَ (50)} .

ثم إن اللَّهَ (جلَّ وعلا) أَمَرَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أن يقولَ لهم: {قُل لَّنْ يُصِيبَنَا إِلَاّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا} [التوبة: آية 51] لن يصيبَنا أَذًى من الأَذَى لا قتل ولا جراح ولا مصيبة كائنة ما كانت إلا ما كَتَبَهُ لنا ربُّنا في أَزَلِهِ. وقولُه: {مَوْلانَا} أي سَيِّدُنَا وناصرُنا. والمولَى: أصلُه (مَفْعَل) من الولايةِ. والمولَى في لغةِ العربِ يُطْلَقُ على كُلِّ مَنْ يَنْعَقِدُ بَيْنَكَ وبينَه معنًى تكونُ تواليه ويواليكَ به

(1)

؛ ولذا كَثُرَ إطلاقُ المولَى على ابنِ العمِّ؛ لأن بَنِي العمِّ يُوَالُونَكَ بعصبيةِ القرابةِ وَتُوَالِيهِمْ، ويُطلق على المعتِق؛ لأن العتقَ ولايةٌ حصلت بينَه وبينَ المعتَق، فهو يُطلق على المعتِق وعلى المعتَق. ويُطلق المولَى على الصديقِ، وعلى كُلِّ مَنْ بينَك وبينَه ولايةٌ كائنةٌ ما كانت

(2)

.

(1)

مضى عند تفسير الآية (51) من سورة الأنعام.

(2)

مضى عند تفسير الآية (40) من سورة الأنعام.

ص: 560

وقولُه تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} [النساء: آية 33] أي: عصبةً يرثونَ المالَ، كَبَنِي العمِّ ونحوِهم من العصباتِ، ومن هذا المعنَى قولُ الفضلِ بنِ العباسِ من أولادِ أبِي لَهَبٍ

(1)

:

مَهْلاً بَنِي عَمِّنَا مَهْلاً مَوَالِينَا

لَا تُظْهِرُوا لَنَا مَا كَانَ مَدْفُونَا

وإطلاقُ المولَى على ابنِ العمِّ مشهورٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ طرفةَ بنِ العبدِ

(2)

:

وأَعْلَمُ عِلْمًا لَيْسَ بِالظَّنِ أَنَّهُ

إِذَا ذَلَّ مَوْلَى الْمَرْءِ فَهْوَ ذَلِيلُ

واللَّهُ (جلَّ وعلا) مولَى المؤمنينَ؛ لأنه يُوَالِيهِمْ بالنصرِ والثوابِ والرحمةِ وهم مَوَالِيهِ؛ لأنهم يُوَالُونَهُ بالطاعةِ، حتى إن كُلَّ شيءٍ يوالِي شيئًا يقال له:(مولًى) ولذا جَعَلَ اللَّهُ النارَ مولَاهم كما قال: {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد: آية 15] لأنها تُوَالِيهِمْ لِمَا عَمِلُوا من الأعمالِ السيئةِ المؤديةِ لها. وهذا معنَى قولِه: {لَّنْ يُصِيبَنَا إِلَاّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: آية 51] في أَزَلِهِ {هُوَ مَوْلانَا} سَيِّدُنَا ومدبرُ شؤونِنا ونحنُ متوكلونَ عليه {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} تقديمُ المعمولِ هنا في قولِه: {وَعَلَى اللَّهِ} يدلُّ على الحصرِ، أي: لَا يُتوكَّلُ إلا على اللَّهِ وحدَه. والتوكلُ معناه: تفويضُ الأمورِ، وَكَّلْتُ الأمرَ إليه: فَوَّضْتُهَا إليه.

وعلى العبدِ أن يفوضَ أمورَه إلى ربه (جلَّ وعلا) ويعلم أن ما أصابَه لم يكن لِيُخْطِئَهُ، وما أخطأه لم يكن لِيُصِيبَهُ. والتوكلُ على اللَّهِ والتفويضُ عليه لا ينافِي الأسبابَ، فيجبُ على المسلمِ أن يأخذَ

(1)

السابق.

(2)

مضى عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام.

ص: 561

بالأسبابِ كما جاء به الشرعُ الكريمُ، ويكون في قرارةِ نفسِه متوكلاً على اللَّهِ، وهذا سيدُ المتوكلينَ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) مَرَّ عليكم أنه مع شدةِ توكلِه على الله وثقتِه بالله يتسببُ بالمحافظةِ من أعدائِه بأن يَدْخُلَ في غارٍ مظلمٍ في جبلِ ثورٍ لِيَسُنَّ لأُمَّتِهِ التوكلَ على اللَّهِ والأخذَ بالأسبابِ مع التوكلِ على ضوءِ الشرعِ الكريمِ، وهذا هو الحقُّ الذي لا شَكَّ فيه، فَتَرْكُ الأسبابِ من الضلالِ، والاعتمادُ بالكليةِ عليها من الضلالِ، والحقُّ هو أن يأخذَ الإنسانُ بالأسبابِ حسبَ ما جاء به الشرعُ الكريمُ متوكلاً قلبُه على اللَّهِ، مُفَوِّضًا أمرَه إليه، عَالِمًا بأن ما أَخْطَأَهُ لم يكن لِيُصِيبَهُ، وما أَصَابَهُ لم يكن لِيُخْطِئَهُ كما قال هنا:{قُل لَّنْ يُصِيبَنَا إِلَاّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)} [التوبة: آية 51] وقد أَوْضَحَ اللَّهُ لنا في سورةِ الحديدِ أن جميعَ المصائبِ وجميعَ الأمورِ لَا يصيبُ الإنسانَ منها إلا شيءٌ كان مُقَدَّرًا قبل أن يَخْلُقَ الخلقَ، وقبلَ أن توجدَ المصيبةُ، وربُّنا يقولُ لنا في آيةِ الحديدِ الآتيةِ ما معناه: بَيَّنْتُ لكم أن جميعَ الأمورِ كتبتُها وحسمتُها عندي لِتَتَحَصَّلُوا على أَمْرَيْنِ:

أحدُهما: أن لا تَفْرَحُوا بشيءٍ أَتَاكُمْ فإنه آتِيكُمْ لَا محالةَ، ولا تَحْزَنُوا على شيءٍ فَاتَكُمْ لأنه فائتٌ لا محالةَ، وهذا نَصَّ عليه تعالى بقولِه:{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مِّنْ قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} أي: أن نَخْلُقَهَا {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: آية 22] إنما بَيَّنَّا لكم هذا القَدَرَ السابقَ الأَزَلِيَّ {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد: آية 23] لَا تَحْزَنُوا على شيءٍ فاتكم فهو فائتٌ لا محالةَ؛ لأن اللَّهَ كَتَبَ ذلك وَقَدَّرَهُ {وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} فهو آتٍ لَا محالةَ. هذه الآياتُ القرآنيةُ إذا تَأَمَّلَهَا

ص: 562

المسلمُ وَتَدَبَّرَ معانيَها فَهِمَ عن اللَّهِ، وَهَانَتْ عليه أمورُ الدنيا فلم تَعْظُمْ في قلبِه، وهذا معنَى قولِه:{قُل لَّنْ يُصِيبَنَا إِلَاّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: آية 51].

{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ (52)} [التوبة: آية 52].

{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} كان المنافقونَ - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - في المدينةِ يَدًا مع الكفارِ واليهودِ على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه يُفْشُونَ إليهم أسرارَه، وَيُلْقُونَ الأراجيفَ في قلوبِ المؤمنينَ، فهم يدٌ مع الكفارِ والمنافقينَ على رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ وَلِذَا كان المنافقونَ والكفارُ واليهودُ كأنهم طائفةٌ واحدةٌ ضِدَّ الإسلامِ والمسلمينَ؛ ولذا قال هنا: أنتم أيها المنافقونَ المتعاونونَ مع إخوانِكم من الكفارِ واليهودِ الذين تتربصونَ الدوائرَ بنا.

التربصُ في لغةِ العربِ: الانتظارُ، العربُ تقولُ:«تَرَبَّصَ» : إذا انْتَظَرَ، وَتَرَبَّصَ بالسلعةِ إلى وقتِ الغلاءِ: انْتَظَرَ بها. وهذا معروفٌ، وهو مشهورٌ جِدًّا في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ

(1)

:

تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهَا

تُطَلَّقُ يَوْمًا أَوْ يَمُوتَ حَلِيلُهَا

فالتربصُ الانتظارُ. ومعنَى الآيةِ الكريمةِ: أنتم أيها المتربصونَ بنا عواقبَ الدهرِ ونوائبَه رَاجِينَ أن تدورَ علينا الدوائرُ فَتُهْلِكَنَا لَا تتربصونَ بنا إلا واحدةً من اثنتين كلتاهما أحسنُ من الأُخْرَى.

{هَلْ تَرَبَّصُونَ} أصلُه: (هل تَتَرَبَّصُونَ) حُذِفَتْ فيه إحدى التاءينِ.

(1)

مضى عند تفسير الآية (24) من سورة التوبة.

ص: 563

(هل) استفهامٌ بمعنَى النفيِ، ما تنتظرونَ بنا عاقبةً إلا عاقبةً هي إحدى الْحُسْنَيَيْنِ. الْحُسْنَى: تأنيثُ الأحسنِ، وَتُجْمَعُ على الحُسَنِ بِضَمٍّ فَفَتْحٍ، تقول: هذه الأُنْثَى هي الْحُسْنَى، أي: الأحسنُ من غيرِها. وَتَجْمَعُهَا على الحُسَنِ بضمٍّ فَفَتْحٍ كما هو معروفٌ في محلِّه. فَالْحُسْنَى صيغةُ تفضيلٍ، وَالْحُسْنَيَيْنِ تأنيثُ الْحُسْنَى، وهي صيغةُ تفضيلٍ. والمعنَى لَا تنتظرونَ بنا إلا إحدى خصلتينِ كلتاهما أحسنُ من غيرها:

إحداهما: أن نغلبَ أعداءَنا وينصرَنا اللَّهُ عليهم فَنَظْفَرَ بالنصرِ والغنيمةِ وَرِضَى اللَّهِ (جلَّ وعلا)، وهذه الخلةُ لا يوجدُ أحسنُ منها، فَعَاقِبَتُنَا إن صارت إليها عاقبةٌ كريمةٌ محمودةٌ.

والثانيةُ: أن يَقْتُلَنَا أعداؤُنا فنموتَ فننالَ الشهادةَ، والشهادةُ هي أعظمُ فوزٍ ينالُه المسلمُ في دارِ الدنيا، فهي أيضا حُسْنَى؛ لأنها أحسنُ مِنْ كُلِّ شيءٍ.

وهذه الآيةُ الكريمةُ من أعظمِ الآياتِ التي تجعلُ المسلمَ يشتاقُ إلى الجهادِ غايةَ الاشتياقِ؛ لأنك لا تجدُ في الدنيا رَجُلاً مآلُه إلى خيرٍ عظيمٍ على كُلِّ التقديراتِ إلا المجاهدَ في سبيلِ اللَّهِ؛ لأنه إن مَاتَ نَالَ أمنيةَ الدنيا والآخرةِ، وَنَالَ الفوزَ والحياةَ الأبديةَ، والكرامةُ التي لَا نظيرَ لها، وَإِنْ نَصَرَهُ اللَّهُ على عَدُوِّهِ فرجعَ ظَافِرًا غَانِمًا فائزًا فهذا أيضًا حَسَنٌ، وهذا لَا يكونُ لأحدٍ إلا للمجاهدِ في سبيلِ اللَّهِ، فَمَنْ تَأَمَّلَ معنَى هذه الآيةِ الكريمةِ اشتاقَ لَا محالةَ إلى الجهادِ في سبيلِ اللَّهِ. وقد ذَكَرَ أصحابُ المغازِي أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرَادَ الخروجَ إلى المشركينَ في غزوةِ أُحُدٍ كان جابرُ بنُ عبدِ اللَّهِ أَبُوهُ عبدُ اللَّهِ بنُ عمرِو بنِ حرامٍ له بناتٌ سبعٌ، فجابرٌ أخواتُه سبعٌ، ذَكَرُوا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم

ص: 564

أَشَارَ عليهم أن يَبْقَى مع البناتِ واحدٌ، الابنُ أو الأبُ لئلَاّ يموتَا فتبقَى الإناثُ لا قَيِّمَ عليهن، فقال الوالدُ وهو عبدُ اللَّهِ بنُ عمرِو بنِ حرامٍ رضي الله عنه وَأَرْضَاهُ): يا بُنَيَّ كُلُّ شيءٍ أُوثِرُكَ فيه على نفسِي إلا الشهادةَ في سبيلِ اللَّهِ، فَوَاللَّهِ لَا أُوثِرُ على نفسِي بها أَحَدًا، وَاسْتُشْهِدَ يومَ أُحُدٍ رضي الله عنه. ولا خلافَ بَيْنَ العلماءِ بأنه من الذين أنزلَ اللَّهُ فيهم:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} إلى آخِرِ الآياتِ [آل عمران: آية 169] وهذا معنَى قولِه: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا} [التوبة: آية 52] أي: ما تَتَرَبَّصُونَ وتنتظرونَ بنا إلا واحدةً من إحدى مَسْأَلَتَيْنِ كلتاهما أحسنُ من كُلِّ شيءٍ {إِلَاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} ظَفْرٌ ونصرٌ وفوزٌ بالظفرِ والنصرِ، أو شهادةٌ في سبيلِ اللَّهِ. وهذا كُلُّهُ خيرٌ، فَكُلُّ احتمالٍ صِرْنَا إليه هو احتمالٌ كريمٌ، وهو أحسنُ من غيرِه. وهذا معنَى قولِه:{إِلَاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} .

{وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} ننتظرُ بكم خلافَ ذلك: إحدى السَّوْأَيَيْنِ، نحن ننتظرُ بكم إحدى السوأيين، كلتاهما أسوأُ من الأُخْرَى: أحدُهما: أن يصيبَكم اللَّهُ بعذابٍ من عنده، كأن يُنْزِلَ عليكم عقوبةً فيهلككم لكفركم وتمردِكم وتصيرونَ إلى النارِ، أو يسلطنا عليكم ويأمرنا بقتلِكم فنقتلكم كما قال في إخوانِهم الكفارِ:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14)} [التوبة: آية 14] وهذا معنَى قولِه: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} إذا عرفتُم أنكم لا تتربصونَ بنا إلا الخيرَ ونحنُ لا نتربصُ بكم إلا الشرَّ إِذَنْ فتربصوا ونحنُ متربصونَ أيضًا، فَكُلُّنَا يصيرُ إلى ما يتربصُ به الآخَرُ إليه.

ص: 565

وهذا معنَى قولِه: {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} [التوبة: آية 52].

يقول اللَّهُ (جل وعلا): {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَاّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَاّ وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَاّ وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)} [التوبة: آية 53 - 57].

قَرَأَ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ السبعةِ غيرَ حمزةَ والكسائيِّ: {أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} بفتحِ الكافِ، وقرأ حمزةُ والكسائيُّ:{أَوْ كُرْهًا} بِضَمِّ الكافِ

(1)

.

وَقَرَأَ عامةُ السبعةِ أيضًا غيرَ حمزةَ والكسائيِّ: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ} بالتاءِ. وقرأ حمزةُ والكسائيُّ: {وما منعهم أن يُقْبَل منهم نفقاتهم} بالياء

(2)

.

وهذه الآيةُ الكريمةُ من الآياتِ النازلةِ في الجَدِّ بنِ قيسٍ أَخِي بَنِي سلمةَ؛ لأَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَعَاهُ إلى الخروجِ في غزوةِ تبوكَ واعتذرَ له أعذارَ المنافقينَ المتقدمةَ قال له: ائْذَنْ لِي في القعودِ، وهذا مَالِي أُعِينُكَ به، خُذْ مَالِي نفقةً مِنِّي في سبيلِ اللَّهِ وَاتْرُكْنِي أنا أَتَخَلَّفْ

(3)

. فأنزلَ اللَّهُ في إنفاقِه الذي عَرَضَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ}

(1)

انظر: الإتحاف (2/ 93).

(2)

انظر: السبعة ص314 - 315.

(3)

أخرجه ابن جرير (14/ 294)، والواحدي في أسباب النزول ص247 - 248.

ص: 566

يا نَبِيَّ الله لهؤلاءِ المنافقينَ {أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} أي: في كونِكم طائعينَ أو كارهينَ لَنْ يَقْبَلَ اللَّهُ منكم نفقةً؛ لأنه يعلمُ أنكم كفارٌ في الباطنِ، وصيغةُ الأمرِ في قولِه:{قُلْ أَنْفِقُوا} تقررَ في الأصولِ

(1)

أن مِنَ الصيغِ التي تَرِدُ لها (افعل) قَصْدَ التسويةِ بينَ الأَمْرَيْنِ، فَمِنْ أساليبِ اللغةِ أن تأتيَ بصيغةِ (افعل) تقصدُ بذلك أن تسويَ بين الأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ بعدَ ذلك، ونظيرُه في القرآنِ:{فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور: آية 16] يعني: صبرُكم وعدمُه سواء لا ينفعُكم ذلك.

{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: آية 80] يعني: استغفارُك وعدمُه سواءٌ، لَا ينفعُ استغفارُك ولَا عدمُه، كذلك قولُه هنا: أَنْفِقُوا طَائِعِينَ أو مُكْرَهِينَ لَا ينفعُكم ذلك الإنفاقُ؛ لأن اللَّهَ لَا يقبلُ أعمالَ الكفرةِ. وهذا معنَى قولِه: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [التوبة: آية 53] طوعًا أو كرهًا: مصدرانِ مُنَكَّرَانِ في موضعِ الحالِ. أي: في حالِ كونِكم طائعينَ أو مكرهينَ. وإتيانُ التسويةِ بين الأمرينِ بصيغةِ (افعل) معروفٌ في كلامِ العربِ، ذَكَرْنَا له أمثلةً في القرآنِ العظيمِ، ومن أمثلتِه في كلامِ العربِ قولُ كُثَيِّرِ عزةَ

(2)

:

أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُومَةً

لَدَيْنَا وَلَا مَقْليَّةً إِنْ تَقَلَّتِ

يعني: إن أَسَأْتِ أو أَحْسَنْتِ إلينا فَكُلُّ ذلك سواءٌ لَا يُغَيِّرُ وُدَّنَا القديمَ بالنسبةِ إليكِ.

وقولُه: {لَّنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ} لن يقبلَ اللَّهُ نفقتَكم. قال بعضُ

(1)

انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 27).

(2)

البيت في ابن حرير (14/ 293)، القرطبي (8/ 161).

ص: 567

العلماءِ: لم يَقْبَلْهَا رسولُ اللَّهِ فَرَدَّهَا عليهم. وقال بعضُهم: لا يَقْبَلُهَا اللَّهُ، أي: لا يُؤْتِيهِمْ عليها أَجْرًا؛ لأنها لَا يُرَادُ بها وَجْهُ اللَّهِ.

ثم قال: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} أي: خارجينَ عن طاعةِ اللَّهِ. والفسقُ في لغةِ العربِ

(1)

معناه الخروجُ. وفي اصطلاحِ الشرعِ

(2)

: الفسقُ: الخروجُ عن طاعةِ اللَّهِ. تارةً يَعْظُمُ ذلك الخروجُ فيكونُ كفرًا، وتارةً يكونُ خروجًا دونَ خروجٍ، وَفِسْقًا دونَ فِسْقٍ، فيكونُ بارتكابِ كبيرةٍ؛ ولأَجْلِ هذا كانَ الفسقُ يُطْلَقُ في القرآنِ على الكفرِ كقولِه:{وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: آية 20] وتارةً يُطْلَقُ على ارتكابِ المحرمِ الكبيرِ كقولِه: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: آية 6] وقولِه فِي القاذفينَ: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: آية 4].

وهذه الآيةُ معلومٌ تعلقُ المعتزلةِ بها في أن السيئاتِ تُبْطِلُ الحسناتِ، قالوا: لأن اللَّهَ صَرَّحَ بأن فسقَهم أَبْطَلَ نفقتَهم. وَمِنْ هنا زَعَمُوا أن كبائرَ الذنوبِ تُبْطِلُ الأعمالَ. وهذا مذهبٌ باطلٌ لا شَكَّ في بُطْلَانِهِ، وهذه الآيةُ التي تَعَلَّقُوا بها بَيَّنَ اللَّهُ (جلَّ وعلا) بُطْلَانَ حجتِهم منها في قولِه بعدَه - يليه -:{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَاّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا} فَصَرَّحَ بأن المبطلَ للأعمالِ هو صريحُ الكفرِ. وهذا معنَى قولِه: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ} .

(1)

راجع ما سبق عند تفسير الآية (59) من سورة البقرة.

(2)

راجع ما سبق عند تفسير الآية (59) من سورة البقرة.

ص: 568

والضميرُ في قولِه: {أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ} منصوبٌ في مَحَلِّ المفعولِ. أعنِي بقولِي: (الضمير) المصدرَ المنسبكَ من (أَنْ) وصلتِها في قولِه: {أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ} المصدرُ المنسبكُ من (أن) وصلتِها في قولِه: {أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ} في محلِّ نصبٍ مفعولٌ به لـ (منع) - أي ما مَنَعَهُمْ قبولَ نفقاتِهم - بناء على أن (مَنَعَ) تَتَعَدَّى للمفعولِ الثانِي بنفسِها، كَمَنَعْتُ زيدًا كذا وكذا. وهو الصحيحُ

(1)

.

وأما المصدرُ المنسبكُ من (أن) وصلتِها في قولِه: {إِلَاّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ} فالتحقيقُ فيه أنه في محلِّ رفعٍ، وهو فاعلُ (مَنَعَ) وتقريرُ المعنَى: ما منعَ قبولَ نفقاتِهم إلا أنهم كفروا، أي: إلا كفرُهم بالله. فإيضاحُ المعنَى: ما مَنَعَ قبولَ النفقاتِ منهم إلا كفرُهم بِاللَّهِ.

وقال بعضُ العلماءِ: إن فاعلَ (مَنَعَ) ليس المصدرَ المنسبكَ من (أن) وصلتِها، وأنه ضميرٌ يعودُ إلى اللَّهِ. أي: وما مَنَعَ اللَّهُ قبولَ نفقاتِهم إلا أنهم كَفَرُوا، إلا لأَجْلِ أنهم كَفَرُوا. والأولُ هو الأظهرُ

(2)

.

وقولُه: {إِلَاّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} لأن المنافقينَ وإن كانوا يُظْهِرُونَ الإيمانَ ظاهرًا فَهُمْ في باطنِ الأمرِ كفَرَةٌ فجَرَةٌ، فهم كافرونَ في باطنِ الأمرِ، والكافرُ لا يُقْبَلُ منه صرفٌ ولا عدلٌ، ولا خلافَ بين العلماءِ أن الكفرَ سيئةٌ لا تنفعُ معها حسنةٌ، فلا ينتفعُ الإنسانُ بعملٍ إلا إذا كان مَبْنِيًّا على أساسِ العقيدةِ الصحيحةِ.

(1)

انظر: الدر المصون (6/ 66).

(2)

انظر: المصدر السابق (6/ 66).

ص: 569

وقد قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا

(1)

أن العملَ الصالحَ الذي يُثَابُ به صاحبُه يومَ القيامةِ هو ما اسْتَكْمَلَ ثلاثةَ أمورٍ:

الأول: منهما أن يكونَ مُطَابِقًا لِمَا جاء به النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ لأَنَّ اللَّهَ لَا يقبلُ أن يُتَقَرَّبَ إليه إلا بما شَرَعَ على لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، فَمَنْ تَقَرَّبَ إليه بِمَا لَمْ يَشْرَعْهُ لم يَقْبَلْهُ منه {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى: آية 21].

الثانِي: أن يكونَ العبدُ فيما بينَه وبينَ اللَّهِ في نيتِه التي لا يعلمُها إلا اللَّهُ مُخْلِصًا في عملِه لله؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: {وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: آية 5]{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (11)} [الزمر: آية 11].

الثالثُ: هو هذا الذي نحنُ بصددِه: أن يكونَ العملُ مَبْنِيًّا على أساسِ الإيمانِ بِاللَّهِ والعقيدةِ الصحيحةِ؛ لأَنَّ العملَ كالسقفِ، والعقيدةُ الصحيحةُ والإيمانُ بِاللَّهِ كالأساسِ، والسقفُ لا يستقيمُ إلا على أساسٍ؛ وَلِذَا مَنْ عَمِلَ أعمالاً صالحةً ليست مَبْنِيَّةً على أساسِ الإيمانِ فَهِيَ باطلةٌ منهارةٌ لَا ينتفعُ بها، وَاللَّهُ (جلَّ وعلا) يقولُ:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء: آية 124] فَقُيِّدَ بقولِه: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وهذا لا نزاعَ فيه؛ لأَنَّ كُلَّ عملٍ يعملُه الكافرُ ولو كان مُطَابِقًا للشرعِ، والكافرُ مخلصٌ فيه لِلَّهِ، فإن بعضَ الكفارِ يَبَرُّ وَالِدَيْهِ، ويصلُ رَحِمَهُ، وَيُقْرِي الضيفَ، ويعينُ المظلومَ، وينفسُ عن المكروبِ، كُلُّ ذلك يقصدُ به وجهَ اللَّهِ، فهذه قُرَبٌ صحيحةٌ موافقةٌ للشرعِ هو مخلصٌ فيها لله، لا ينفعُه اللَّهُ بها يومَ

(1)

مضى عند تفسير الآية (54) من سورة الأنعام.

ص: 570

القيامةِ؛ لأن اللَّهَ يقولُ: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا (23)} [الفرقان: آية 23] وقال (جلَّ وعلا): {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَاّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)} [هود: آية 16] {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ

}

[النور: آية 39]{كَرَمَادٍ} [إبراهيم: الآية 18] ونحو ذلك من الآياتِ، وقد ثَبَتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ عَمَلَ الكافرِ الصالحِ - كأن يَبَرَّ وَالِدَيْهِ، وينفِّس عن المكروبِ، وَيُقْرِيَ الضيفَ، ويعينَ المظلومَ، ويصلَ الرحمَ - يَقْصِدُ بذلك وجهَ اللَّهِ، فمثلُ هذا من الأعمالِ الصالحةِ إذا فَعَلَهُ الكفارُ أَثَابَهُمُ اللَّهُ به في دارِ الدنيا فَأَعْطَاهُمْ عرضَ الدنيا من المالِ وَأَطْعَمَهُمْ وسقاهم ورزقَهم العافيةَ، ولا يكونُ لهم عِنْدَ اللَّهِ جزاءٌ، وقد ثَبَتَ هذا المعنَى من حديثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي رَوَاهُ عنه أنسٌ، ورواه مسلمٌ في صحيحِه من حديثِ أنسٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أن اللَّهَ يُطْعِمُ الكافرَ بعملِه الصالحِ في الدنيا، وَيُثِيبُهُ في الدنيا، فإذا جاء الآخرةَ لم يكن له عملٌ يُجَازَى عليه، أما المسلمُ فَاللَّهُ يُثِيبُهُ بعملِه في الدنيا وَيَدَّخِرُ له في الآخرةِ

(1)

.

والآياتُ الدالةُ على أن الكفارَ ينتفعونَ بأعمالِهم في الدنيا جاءت في القرآنِ، كقولِه:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ (20)} [الشورى آية: 20] وما دَلَّ عليه هذا الحديثُ الصحيحُ من أن الكافرَ يُجَازَى بِعَمَلِهِ في الدنيا ولا يُجَازَى به في الآخرةِ، وما دَلَّ عليه بعضُ

(1)

مسلم في صفات المنافقين وأحكامهم، باب: جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة، وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا. حديث رقم:(2808)(4/ 2162).

ص: 571

الآياتِ. وقال بعضُهم: إن منه قولَه تعالى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور: آية 39] قال بعضُ العلماءِ: وَفَّاهُ حسابَه فِي دارِ الدنيا بما رَزَقَهُ على عملِه الصالحِ من العافيةِ. وإن كان الوجهُ الآخَرُ أصحَّ في الآيةِ، كُلُّ هذا الذي هو إثابةُ الكافرِ من عَمَلِهِ فِي الدنيا لا شَكَّ مُقَيَّدٌ بمشيئةِ اللَّهِ؛ لأن ذلك دَلَّتْ عليه آيةُ سورةِ بَنِي إسرائيلَ، وهي قاضيةٌ على كُلِّ شيءٍ في هذا البابِ. أعنِي قولَه تعالى:{مَّنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18)} [الإسراء: آية 18] فقولُه: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ} قَيَّدَ بالمشيئةِ للجزاءِ الثابتِ في صحيحِ مسلمٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وهذا معنَى قولِه: {إِلَاّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة: آية 54].

قَدْ قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا

(1)

أن أصلَ مادةِ الكافِ والفاءِ والراءِ معناها التغطيةُ وَالسَّتْرُ، فَكُلُّ شيءٍ غَطَّيْتَهُ وَسَتَرْتَهُ فقد كَفَرْتَهُ، ومنه قيل لِلزُّرَّاعِ:(كُفَّارٌ)؛ لأنهم يكفرون البذرَ في بطنِ الأرضِ، وقيل لليلِ:(كَافِرٌ) والعربُ تُسَمِّي الليلَ كَافِرًا؛ لأنه يكفر الأجرامَ ويغطيها بظلامِه. وَكَفَرَ الشيءَ إذا غَطَّاهُ وَسَتَرَهُ، ومن هذا المعنَى قولُ لبيدِ بنِ ربيعةَ فِي معلقتِه

(2)

:

يَعْلُو طَرِيقَةَ مَتْنِهَا مُتَوَاتِرٌ

فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا

أَيْ: سَتَرَ النجومَ وَغَطَّاهَا غمامُ تلك الليلةِ. وقولُه أيضًا في معلقتِه هذه في تسميةِ الليلِ كافرًا

(3)

:

(1)

مضى عند تفسير الآية (45) من سورة الأعراف.

(2)

السابق.

(3)

السابق.

ص: 572

حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ

وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا

هذا أصلُ معنَى المادةِ في لغةِ العربِ، ومنه قِيلَ لتكفيرِ الذنوبِ تكفيرُ الذنوبِ؛ لأَنَّ اللَّهَ يسترُها وَيُغَطِّيهَا بِحِلْمِهِ حتى لا يظهرَ لها أَثَرٌ، مِنْ (كَفَرْتُهُ) إذا سَتَرْتَهُ.

والكافرُ يُغَطِّي أدلةَ التوحيدِ ويحاولُ جحدَها وتغطيتَها وهي كالشمسِ في رابعةِ النهارِ، أو يحاولُ تغطيةَ نِعَمِ اللَّهِ عليه بِأَكْلِهِ رزقَه وعبادتِه غيرَه.

قولُه: {إِلَاّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة: آية 54] هو محمدٌ صلى الله عليه وسلم، والرسولُ بِمَعْنَى مُرْسَلٍ، أي: بالإنسانِ الذي أَرْسَلَهُ اللَّهُ تبارك وتعالى، وهو نَبِيُّنَا. والرسولُ (فعول) بمعنَى (مُفْعَلٍ) وأصلُه مصدرٌ، وإتيانُ المصادرِ على وزنِ (فَعُول) بفتحِ الفاءِ نادرٌ موجودٌ في كلماتٍ معدودةٍ

(1)

كالقبولِ، والولوعِ، والرسولُ بمعنَى الإرسالِ والرسالةِ. والتحقيقُ أن أصلَ الرسولِ مصدرٌ، والعربُ تُطْلِقُ الرسولَ وتريدُ المصدرَ الذي هو الرسالةُ، ومنه قولُ الشاعرِ

(2)

:

لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا فُهْتُ عِنْدَهُمُ

بِقَوْلٍ وَلَا أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ

أي: وَلَا أَرْسَلْتُهُمْ بِرِسَالَةٍ، وقول الآخر

(3)

.

أَلَا أَبْلِغْ بَنِي عَمْرٍو رَسُولاً

بِأَنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ

أَبْلِغْ بَنِي عمرٍو رسالةً. وإنما قُلْنَا: إن الرسولَ أصلُه مصدرٌ لِنُبَيِّنَ بذلك أن في ذلك حَلاًّ لبعضِ الإشكالاتِ في القرآنِ العظيمِ؛

(1)

مضى عند تفسير الآية (130) من سورة الأنعام.

(2)

السابق.

(3)

مضى عند تفسير الآية (78) من سورة البقرة.

ص: 573

لأن الأشياءَ التي أصلُها مصادر إذا تُنُوسِيَتْ فيها المصدريةُ واستعملت استعمالَ الأوصافِ جَازَ أن يُرَاعَى فيها أصلُها وهو المصدرُ، والعربُ إذا نَعَتَتْ بالمصدرِ الْتَزَمَتِ الإفرادَ والتذكيرَ، ومن هنا كان الرسولُ يجوزُ إفرادُه مُرَادًا به الجمعُ أو التثنيةُ؛ لأَنَّ أصلَه مصدر؛ ولذلك جاء مُفْرَدًا في سورةِ الشعراءِ في قولِه:{إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: آية 16] نظرًا إلى أصلِ مصدريتِه. وجاء مُثَنًّى في سورةِ طه: {إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ} [طه: آية 47] اعتدادًا بالوصفيةِ العارضةِ وإلغاءً للمصدريةِ الأصليةِ؛ ولذلك كانت العربُ تُطْلِقُ الرسولَ وتريدُ به الجمعَ على عادتِها إذا نَعَتَتْ بالمصادرِ، ومنه قولُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ

(1)

:

أَلِكْنِي إِلَيْهَا وَخَيْرُ الرَّسُو

لِ أَعْلَمُهُمْ بِنَوَاحِي الْخَبَرْ

يعنِي: وخيرُ الرسلِ. وهذا معنَى قولِه: {إِلَاّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} محمد صلى الله عليه وسلم.

{وَلَا يَأْتُونَ الصَّلاةَ} هي هذه الصلاةُ المكتوبةُ، أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا {إِلَاّ وَهُمْ كُسَالَى} إلا والحالُ هم كُسَالَى، وَالْكُسَالَى جمعُ الكسلانِ: المتكاسلُ عنها الذي هي ثقيلةٌ عليه؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: آية 45] لأَنَّ الصلاةَ لَا تَخِفُّ إلا على مَنْ يريدُ جزاءَ اللَّهِ وثوابَه، أما المنافقونَ والذين لا إيمانَ لهم، فَهِيَ أثقلُ شيءٍ عليهم؛ وَلِذَا لا يأتونَها إلا متكاسلينَ في غايةِ الكسلِ يُرَاؤُونَ الناسَ ولو كانوا بانفرادِهم لَا يَطَّلِعُ عليهم الناسُ لَمَّا صَلَّوْهَا كما تَقَدَّمَ في قولِه تعالى في سورةِ النساءِ:

(1)

مضى عند تفسير الآية (50) من سورة الأنعام.

ص: 574

{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ} [النساء: آية 142] هذه حالةُ المنافقينَ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ.

{وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَاّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: آية 54] فقولُه: {وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَاّ وَهُمْ كَارِهُونَ} معناه: أن المنافقينَ لا يُخْرِجُونَ نفقةً طيبةً بها أنفسُهم، ولا يخرجونَها إلا كُرْهًا لئلا يطلعَ المسلمونَ على نِفَاقِهِمْ فَيُجْرُوا عليهم أحكامَ الكفرةِ - وبهذا تَعْلَمُ أن قولَه:{قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [التوبة: آية 53] أنهم كارهونَ على كُلِّ حالٍ، وأن المرادَ بالآيةِ تسويةُ جميعِ الحالاتِ، الحالةُ الواقعةُ وغيرُها أنهم لا فائدةَ لهم في ذلك. وهذا معنَى قولِه:{وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَاّ وَهُمْ كَارِهُونَ} أَيْ: كَارِهُونَ ذلك الإنفاقَ؛ لأنهم لا يطلبونَ ما عِنْدَ اللَّهِ ولَا يَرْجُونَ عاقبةً ولا جزاءً مِنَ اللَّهِ، فالإنفاقُ في سبيلِ اللَّهِ يَعُدُّونَهُ مَغْرَمًا ويكرهونَه غايةَ الْكُرْهِ كما سيأتِي في قولِه:{وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: آية 98].

{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُم مِّنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)} [التوبة: الآيتان 55، 56].

{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)} [التوبة: آية 55].

نَهَى اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم عن أن يستحسنَ ما أَعْطَى للمنافقينَ من متاعِ الدنيا من الأموالِ والأولادِ، لا يُعْجِبْكَ ما أَعْطَيْنَاهُمْ من الأموالِ والأولادِ فإنا أَعْطَيْنَاهُمْ إياه استدراجًا منا وعاقبتُه سيئةٌ ووخيمةٌ عليهم

ص: 575

في الدنيا والآخرةِ، لا تَسْتَحْسِنْ ذلك ولا تُعْجَبْ به؛ ولا تَمُدَّنْ إليه عَيْنَيْكَ كما قال:{وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} [طه: آية 131] وقال: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَاّ يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: الآيتان 55، 56]{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ: آية 37]{مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)} [المسد: آية 2] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ، لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ في هذه الآياتِ من سورةِ براءةٍ أن المنافقينَ لَا حَظَّ لهم من اللَّهِ في الآخرةِ بَيَّنَ أن ما أعطاهم من زينةِ الحياةِ الدنيا من متاعِها من الأموالِ والأولادِ أيضًا لا يَنْبَغِي أن يستحسنَ، ولا أن يعجبَ به؛ لأنه تَافِهٌ أُعْطُوهُ استدراجًا وعاقبتُه سيئةٌ عليهم {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: آية 178] هذا معنَى قولِه: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ} العربُ تقولُ: أَعْجَبَهُ الشيءُ يُعْجِبُهُ إذا اسْتَحْسَنَهُ استحسانًا يَسُرُّهُ، فكلُّ مَنِ اسْتَحْسَنَ الشيءَ استحسانًا يُسرُّ به تقولُ العربُ: أَعْجَبَهُ، أي: لا تَسْتَحْسِنْ ما أعطيناهم من متاعِ الدنيا استحسانَ سرورٍ {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} بإعطائِه إياهم ليعذبَهم، هذه اللامُ التي تأتِي في القرآنِ بكثرةٍ وفي كلامِ العربِ بعدَ فِعْلِ الإرادةِ فيها خلافٌ للعلماءِ؛ لأنه يكثرُ في القرآنِ وفي كلامِ العربِ إتيانُ هذه اللامِ بَعْدَ فِعْلِ الإرادةِ

كقولِه: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: آية 26]{يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ} [الصف: آية 8] ونحو ذلك من الآياتِ، وقولُه هنا:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة: آية 55] تَكْثُرُ هذه اللامُ بعدَ فعلِ الإرادةِ {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ} [الصف: آية 8]{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء:

ص: 576

آية 26] وهي موجودةٌ في كلامِ العربِ نحو هذا، ومنه قولُ الشاعرِ

(1)

:

أُرِيدُ لأَنْسَى ذِكْرَهَا فَكَأَنَّمَا

تَمَثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ سَبِيلِ

هذه اللامُ التي تأتِي في القرآنِ وفي كلامِ العربِ بعدَ فعلِ الإرادةِ اختلفَ العلماءُ في معناها، وأظهرُ أقوالِهم فيها قولانِ:

أحدُهما: أنها لامٌ نادرةُ المعنَى تأتِي بمعنَى (أن)، وأنها لامُ مصدريةٍ، وإن لم يكن علماءُ العربيةِ عَدُّوا حرفَ اللامِ من الموصولاتِ الحرفيةِ المصدريةِ، قالوا: فهذه اللامُ بمعنَى (أن) والدليلُ على هذا القولِ تعاقبُ هذه اللامِ و (أن) في قولِه {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ} [التوبة: آية 32]{يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ} [الصف: آية 8]{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} [التوبة: آية 55]{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ} في الآيةِ الآتيةِ. وعلى هذا القولِ فاللامُ المصدريةُ بمعنَى (أن)، وهو قولٌ يَقِلُّ مَنْ يقولُه من علماءِ العربيةِ.

القولُ الثانِي: أن المفعولَ محذوفٌ، واللامُ لامُ تعليلٍ لمحذوفٍ، والمعنَى على هذا القولِ: إنما يريدُ اللَّهُ إعطاءَهم ومتاعَهم بها لأَجْلِ أن يعذبَهم بها في الحياةِ الدنيا. وهذا معنَى قولِه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا} قال بعضُ العلماءِ: الضميرُ عائدٌ إلى الأموالِ.

وفي هذه الآيةِ وجهانِ معروفانِ من التفسيرِ عند العلماءِ

(2)

: قالت جماعةٌ من العلماءِ: فِي الآيةِ الكريمةِ تقديمٌ وتأخيرٌ، والمعنَى: فلَا تُعْجِبْكَ أموالُهم ولا أولادُهم في الحياةِ الدنيا إنما يريدُ اللَّهُ

(1)

البيت لكُثَيِّر عزة وهو في تاريخ دمشق (50/ 80).

(2)

انظر: القرطبي (8/ 164)، البحر المحيط (5/ 54)، الدر المصون (6/ 67).

ص: 577

ليعذبَهم بها - أي في الآخرةِ - وعلى أن في الآيةِ تقديمًا وتأخيرًا فَلَا إشكالَ في المعنَى. وهذا القولُ مَرْوِيٌّ عن ابنِ عباسٍ

(1)

وجماعةٍ مِنَ السلفِ.

وقال جماعةٌ من العلماءِ منهم الحسنُ البصريُّ وغيرُه

(2)

: إن الآيةَ لَا تقديمَ فيها ولَا تأخيرَ، وأن اللَّهَ يعذبُ المنافقينَ بالأموالِ في الحياةِ الدنيا. وعلى قولِهم فالضميرُ راجعٌ إلى الأموالِ فقط دونَ الأولادِ، ومعنَى كونِ اللَّهِ يعذبُهم بأموالِهم في الحياةِ الدنيا أن اللَّهَ يفرضُ عليهم فيها الزكاةَ ويفرضُ عليهم فيها الحقوقَ الواجبةَ فَتُؤْخَذُ قَهْرًا منهم رغم أنوفِهم، وأعظمُ ما يعظم على الإنسان إذا كان يُؤْخَذُ الشيءُ من تحتِ يدِه وهو مُحِبٌّ له كُرْهًا رغم أنفِه لا يريدُ به وجهَ اللَّهِ، وأن اللَّهَ أيضًا يسلطُ عليها المصائبَ والبلايا فتحزنُ قلوبُهم وتتعذبُ، ولأنه يُتْعِبُهُمْ في جَمْعِهَا أَوَّلاً فتأتيهم بمتاعبَ من جهاتٍ متعددةٍ، منها: تَعَبُهُمْ ونصبُهم في جَمْعِهَا أولاً وما ينزلُ بها مِنَ المصائبِ، وتكليفُهم دفعَ الزكاةِ فيها، وإنفاقُها في سبيلِ اللَّهِ للجهادِ ونحو ذلك، فهذا تعذيبٌ لهم؛ لأن أَشَدَّ ما يُؤْلِمُ المنافقَ أخذُ مالِه من تحتِ يدِه قَهْرًا لِعِزَّةِ المسلمينَ ونصرِ دينِ الإسلامِ، هذا أمرٌ يُؤْلِمُ قلوبَهم جِدًّا، وَكُلُّ ما يُؤْلِمُ الإنسانَ يُسَمَّى تعذيبًا له. وعلى هذا القولِ فلَا تقديمَ ولا تأخيرَ في الآيةِ {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: ويجمعَ لهم مع ذلك عذابَ الآخرةِ {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ} أي: يموتوا {وَهُمْ كَافِرُونَ} فيتصلُ لَهُمْ عذابُ الآخرةِ الذي لَا ينقطعُ بعذابِ الدنيا. وهذا معنَى قولِه: {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} .

(1)

أخرجه ابن جرير (14/ 296) من طريق علي بن أبي طلحة.

(2)

أورد هذه الروايات ابن جرير (14/ 296).

ص: 578

وقولُه: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} [التوبة: آية 56] هذه عادةُ المنافقينَ يتقونَ بِالأَيْمَانِ الكاذبةِ {وَيَحْلِفُونَ} للنبيِّ والمسلمينَ {بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} في الباطنِ والظاهرِ، وَاللَّهُ يقولُ:{وَمَا هُم مِّنْكُمْ} بل هم أعداؤُكم ولا عَاشَرُوكُمْ إلا مُرْغَمِينَ على ذلك لَا يجدونَ عنه مَفَرًّا، كما يأتِي في الآيةِ الآتيةِ بعدَ هذا {وَيَحْلِفُونَ} للنبيِّ وأصحابِه قائلينَ {إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَاللَّهُ يقولُ:{وَمَا هُم مِّنْكُمْ} هم كفرةٌ أعداءُ ليسوا منكم {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} يَفْرَقُونَ معناه: يَخَافُونَ. العربُ تقولُ: فَرِقَ الرجلُ بكسرِ الراءِ يَفْرَقُ بفتحِها على القياسِ فَرَقًا بفتحتينِ فهو فَرِقَ إذا كان خَائِفًا شديدَ الخوفِ

(1)

. وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ أبِي مِحْجَنٍ الهذليِّ في أبياتِه المشهورةِ

(2)

:

الْقَوْمُ أَعْلَمُ أَنِّي من سَرَاتِهِمُ

إِذَا تَطِيشُ يَدُ الرِّعْدِيدَةِ الْفَرِقِ

الذي يرتعدُ إذا أرادَ أن يرميَ فترتعدُ يدُه من الفرقِ وهو الخوفُ. أي: {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} أي: يخافونَ منكم فَيَتَوَدَّدُونَ ويحلفونَ لكم الأيمانَ الكاذبةَ أنهم منكم في الباطنِ وليسوا منكم في الباطنِ، بل هم أعداءُ كفَرَةٌ فَجَرَةٌ، هم أَعْدَى الناسِ لكم كما سيأتِي قريبًا. وهذا معنَى قولِه:{وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} ثم بَيَّنَ شدةَ عداوتِهم لهم فقال: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} [التوبة: آية 57] لو كانوا يَجِدُونَ مَلْجَأً يلجؤون إليه ويعتصمونَ به دونَكم للجؤوا إليه.

(1)

انظر: المفردات (مادة فرق)(634).

(2)

البيت لأبي محجن الثقفي. وهو في الشعر والشعراء لابن قتيبةص277، تاريخ دمشق (68/ 46، 47).

ص: 579

{أَوْ مَغَارَاتٍ} المغاراتُ جمع مغارةٍ، والمغارةُ: هي الغيرانُ في الجبالِ. المغارةُ: الغارُ في الجبلِ، وهو بفتحِ الميمِ. والتحقيقُ أن أصلَ أَلِفِهِ منقلبةٌ عن واوٍ؛ لأن المغارةَ من غَارَ يَغُورُ إذا انْحَدَرَ في أسفلَ، ومنه {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} [الملك: آية 30] أي: غَائِرًا. وَكُلُّ غائرٍ مُنْسَفِلٍ فهو غَوْرٌ. ومعنى مغارةٍ: أي: غارًا منسفلاً ينحدرونَ في أسفلِه ويختفونَ فيه عنكم.

{أَوْ مُدَّخَلاً} قراءةُ السبعةِ وجمهورِ القراءِ غيرِهم: {مُدَّخَلاً} والمُدَّخَلُ أصلُ وزنِه [مفتعلاً] من دَخَلَ، أصلُه {مُدْتَخَل} بِالتَّاءِ، أُبْدِلَتِ التاءُ دَالاً وَأُدْغِمَتِ الدالُ في الدالِ

(1)

. والمُدَّخَلُ هو المكانُ الذي يُدْخَلُ فيه كالسَّرَبِ والنفقِ في باطنِ الأرضِ. أي: لو يَجِدُونَ غيرانًا في الجبالِ أو أَنْفَاقًا وسروبًا في داخلِ الأرضِ يدخلونَ فيها، أو مَلْجَأً يعتصمونَ به لَوَلَّوْا [9/أ] رَاجِعِينَ إليه عنكم / {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} يجمحونَ مضارعُ جَمَحَ يجمحُ إذا أَسْرَعَ في سيرِه إِسْرَاعًا لَا يَرُدُّ وجهَه شيءٌ، ومنه: فَرَسٌ جموحٌ إذا كان اللجامُ لا يمسكُه ولا يردُّه عن وجهتِه شيءٌ، فَكُلُّ مسرعٍ في جَرْيِهِ لَا يَرُدُّهُ عن وجهه شيءٌ تُسَمِّيهِ العربُ جموحًا وجامحًا. أي: لو وَجَدُوا أَيَّ موضعٍ يذهبونَ فيه إليكم ولا يَصْحَبُونَكُمْ لَوَلَّوْا إليه في غايةِ الإسراعِ لا يردُّهم عنه شيءٌ، ولكنهم لا يجدونَ طريقًا أبدًا غيرَ معاشرتِكم فَهُمْ مُلْجَؤُونَ إليها يعاشرونَكم مُكْرَهِينَ لا مَفَرَّ ولَا ملجأَ لهم، ولو وَجَدُوا أي مَفَرٍّ للجؤوا إليه، وهذا غايةُ العداوةِ، بَيَّنَ اللَّهُ أسرارَهم وشدةَ عداوتِهم لِنَبِيِّهِ ليتحرزَ منهم؛ لأَنَّ العدوَّ إذا كان في ثيابِ صديقٍ هو أَشَدُّ الأعداءِ:

(1)

انظر: القرطبي (8/ 165)، الدر المصون (6/ 68 - 69)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص107.

ص: 580

احْذَرْ عَدُوَّكَ مَرَّةً

وَاحْذَرْ صَدِيقَكَ أَلْفَ مَرَّةْ

(1)

وهذا معنَى قولِه: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)} [التوبة: آية 57].

يقولُ اللَّهُ (جلَّ وعلا): {وَمِنْهُم مَّنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)} [التوبة: الآيات 58 - 60]، ذَكَرَ كثيرٌ من أهلِ العلمِ أن هذه الآيةَ نَزَلَتْ في حرقوصَ بنِ زهيرٍ ذِي الخويصرةِ التميميِّ رأسِ المنافقينَ. قالوا: وَجَدَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَسِّمُ مالاً فقال: يا نَبِيَّ اللَّهِ اعْدِلْ؛ فإنك لَمْ تَعْدِلْ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - وَقِصَّةُ ذِي الخويصرةِ معروفةٌ ثابتةٌ في الصحيحِ

(2)

، ولكن الذي يظهرُ أن هذه الآيةَ ليست نازلةً فيه، وإن زَعَمَ كثيرٌ من كبراءِ المفسرينَ أنها نازلةٌ في ذِي الخويصرةِ، وإنما قُلْنَا إن الأظهرَ أنها نازلةٌ في غيرِه أن المعروفَ أن القسمةَ التي قال فيها حرقوصُ بنُ زهيرٍ التميميُّ المعروفُ بذي الخويصرةِ أصلُ الخوارجِ - قَبَّحَهُ وَقَبَّحَهُمُ اللَّهُ - أن ذلك في قَسْمِ

(1)

نسبه في قرى الضيف (3/ 127) إلى ابن حجاج، وفي محاضرات الأدباء للراغب (3/ 21) نسبه إلى علي بن عيسى.

(2)

أخرجه البخاري في المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام. حديت رقم:(3610)(6/ 217) وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث (4351، 6931)، ومسلم في الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم. حديث رقم:(1064)(2/ 741) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 581

النبيِّ لغنائمِ حنينٍ، قال ذلك فيه، وهذه الآيةُ يُصَرِّحُ اللَّهُ فيها بأنهم لَمَزُوهُ في قسمِ الصدقاتِ وهي الزكواتُ والصدقاتُ غير الغنائم

(1)

،

فالأظهرُ أن الأصوبَ فيها هو ما قاله ابنُ جريجٍ رحمه الله وغيرُه أنها نَزَلَتْ في رجلٍ من الأنصارِ من المنافقينَ حَضَرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَسِّمُ مالاً من الصدقاتِ فقال: يا نَبِيَّ اللَّهِ، اعْدِلْ فإنك لم تَعْدِلْ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - فَنَزَلَتْ هذه الآيةُ فيه

(2)

.

وهذه الآياتُ من سورةِ براءة يُبَيِّنُ اللَّهُ فيها أصنافًا مِنَ المنافقينَ يقولُ: ومنهم مَنْ هو كذا، ومنهم مَنْ هو كذا، كما تَقَدَّمَ في قولِه:{وَمِنْهُم مَّنْ يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي} [التوبة: آية 49] وقال هنا: {وَمِنْهُم مَّنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} وسيأتِي قولُه: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ

(1)

الذي يظهر أنهما واقعتان متشابهتان:

الأولى: في قسم غنائم حنين، وذلك في الجعرانة حيث قال له رجل:«يا محمد اعدل» كما في حديث جابر رضي الله عنه عند البخاري (3138) ومسلم (1063).

الثانية: في قَسْمِ ذُهيبة بعث بها علي رضي الله عنه من اليمن والنبيُّ صلى الله عليه وسلم في المدينة. وقد قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر، فقال رجل: يا رسول الله: اتق الله

الحديث. كما في حديث أبي سعيد الذي تقدم تخريجه قريبًا. وقد جاء في بعض الروايات عند البخاري ومسلم التصريح باسمه وهو ذو الخويصرة التميمي. وكذا في رواية ابن جرير (14/ 303) والواحدي في أسباب النزول ص249، وفيهما أيضًا التصريح بأن هذه الحادثة كانت سبب نزول الآية.

قال الحافظ في الفتح (8/ 68): «تنبيه: هذه القصة غير القصة المتقدمة في غزوة حنين ووهم من خلطها بها» اهـ.

وقال في (12/ 293)«وقد ظهر أن المعترض في الموضعين واحد» اهـ.

(2)

أخرجه ابن جرير (14/ 302) وقد رواه ابن جريج عن داود بن أبي عاصم، ولا يخفى أن هذا له حكم الإرسال.

ص: 582

النَّبِيَّ} [التوبة: آية 61] هذه طوائفُ من المنافقينَ تعملُ قبائحَ مختلفةَ الأصنافِ بَيَّنَهَا اللَّهُ في هذه السورةِ {وَمِنْهُم} أي: مِنَ المنافقينَ {مَّنْ يَلْمِزُكَ} يا نَبِيَّ اللَّهِ، واللمزُ معناه: العيبُ والطعنُ. تقولُ العربُ: لَمَزَهُ. إذا عَابَهُ وَطَعَنَ فيه، ومنه قولُه:{يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: آية 79]{وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: آية 11] أي: لا يَعِبْ أحدُكم أخاه ويطعنُ فيه، ومنه:{وَيلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)} لأَنَّ اللُّمزةَ فُعَلة تدلُّ على المبالغةِ، أي: كثيرُ لَمْزِ الناسِ، أي: عيبهم والطعنِ فيهم. ومن هؤلاء المنافقينَ صنفٌ آخَرُ يلمزكَ يا نَبِيَّ اللَّهِ، يطعنُ عليكَ ويعيبكَ في قسمِ الصدقاتِ ويقولونَ: هذه قسمةٌ ما أُرِيدَ بها وجهُ اللَّهِ، ولم يُرَاعَ فيها العدلُ كما ينبغي.

ثم إن اللَّهَ بَيَّنَ قبائحَهم وَفَضَحَهُمْ بأن هذا القولَ الذي تَجَرَّؤُوا عليه ما حَمَلَهُمْ عليه إلا الطمعُ والشرهُ ومحبةُ شيءٍ يُعْطَوْنَهُ في خصوصِ أنفسِهم؛ وَلِذَا قال: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا} فإن أُعْطُوا من الصدقاتِ رَضُوا ذلك العطاءَ وَسَكَتُوا وَفَرِحُوا {وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا} (إذا) حرفُ مفاجأةٍ، وقد قَدَّمْنَا فِي هذه الدروسِ أن (إذا) الفجائيةَ فيها لعلماءِ العربيةِ ثلاثةَ أقوالٍ: قيل: هي حرفٌ، وقيل: ظرفُ مكانٍ، وقيل: ظرفُ زمانٍ، كما هو مُقَرَّرٌ في مَحَلِّهِ

(1)

. والمعنَى: إذا لم يُعْطَوْا من الصدقاتِ شيئًا فَاجَأَ ذلك سخطهم، أي: غضبهم وعدم رضاهم. فَبَيَّنَ اللَّهُ أن سخطهم ورضاهم منوطانِ بمصلحتِهم الخاصةِ إذا أُعْطُوا شيئًا رَضُوا وَفَرِحُوا، وإذا لم يُعْطَوْا شيئًا غَضِبُوا وَسَخِطُوا. وهذه ليست حالةَ مَنْ يريدُ وجهَ اللَّهِ ولَا المصلحةَ العامةَ؛ وَلِذَا قال:

(1)

مضى عند تفسير الآية (201) من سورة الأعراف.

ص: 583

{فإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} يسخطونَ مضارعُ (سَخِطَ الأمرَ) بكسرِ الخاءِ (يسخَطه) بفتحِها (سَخَطًا) على القياسِ، وسُخْطًا إذا كَرِهَهُ، وسَخِطَ الرجلُ بمعنَى غَضِبَ، ومنه:{لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المائدة: آية 80] أي: غَضِبَ عليهم، والعياذُ بالله-.

ثم إِنَّ اللَّهَ قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: آية 59] معروفٌ في عِلْمِ العربيةِ أن (لو) حرفُ شرطٍ في الْمَاضِي، وأن حروفَ الشرطِ إنما تَتَوَلَّى الجملَ الفعليةَ، ومعلومٌ أن (أن) في قولِه:{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا} في مَحَلِّ مصدرٍ، والمصدرُ الذي هي في محلِّه اسمٌ. والعلماءُ يُجِيبُونَ عن هذا بأن متعلقَ (لو) محذوفٌ

(1)

عاملٌ في قولِه: {أَنَّهُم} والمعنَى: ولو ثَبَتَ، أو لو وَقَعَ أنهم فَعَلُوا كذا لكان خيرًا لهم {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ} رَضُوا أصلُه:(رَضِيُوا) أصلُه (فِعْل) وأصلُ لامِه واوٌ؛ لأن أصلَ رضي (رَضِوَ) بالواوِ؛ لأنك تقولُ منها: الرضوانُ بالواوِ، ولا تقولُ: الرضيانُ بالياءِ. أصلُها (رَضِوَ)، بالواوِ فتطرفتِ الواوُ بعدَ كسرةٍ فوجبَ إبدالُها ياءً، فقيل فيها (رضي) بالياءِ مبدلةً من الواو

(2)

ومن المعروفِ في علمِ التصريفِ أن كُلَّ فعلٍ ناقصٍ - أَعْنِي معتلَّ الآخِرِ - إذا أُسْنِدَ إلى واوِ الجمعِ حُذِفَتْ لَامُهُ، أصلُه (رضيو) والياءُ مبدلةٌ من واوٍ، فَحُذِفَتِ اللامُ التي هي ياءٌ أصلُها واوٌ وجُعلت كسرتُها ضمةً لمجانسةِ الواوِ، فَلِذَا قيل فيه:(رضوا) وأصلُ وزنِ الكلمةِ بالميزانِ الصرفيِّ (فَعِلُوا) ووزنُها الحاضرُ الآنَ (فَعُوا) لأنها محذوفةُ اللامِ. وهذا معنَى

(1)

انظر: البحر المحيط (5/ 56)، الدر المصون (6/ 72).

(2)

انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص388 - 389.

ص: 584

قولِه: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا} شيئًا {إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} (إذا) الفجائيةُ تأتِي جوابًا للشرطِ كما هو معروفٌ في محلِّه.

ثم إن اللَّهَ قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ} لو رَضُوا بنصيبِ اللَّهِ الذي قَسَمَ لهم كما يُعْطَى لسائرِ المسلمينَ من الصدقاتِ وغيرِها {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} حَسْبُنَا معناه: يَكْفِينَا اللَّهُ (جلَّ وعلا)؛ لأَنَّ فِي اللَّهِ خَلَفًا مِنْ كُلِّ شيءٍ، وكفايةٌ مِنْ كُلِّ شيءٍ، فمعنَى {حَسْبُنَا اللَّهُ} يَكْفِينَا اللَّهُ {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ} سَيُعْطِينَا اللَّهُ من فَضْلِهِ، أي: مِنْ فضلِ اللَّهِ على يدِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، وَسَيُؤْتِينَا رسولُه ما أَمَرَهُ اللَّهُ به أن يُؤْتِينَا، لو حَسَّنُوا الظنَّ بِاللَّهِ، وتوكلوا على الله، ورغبوا فيما عند الله، وقالوا: إنا إلى ربنا راغبون. أي: رَغْبَتُنَا إليه، ورهبتُنا إليه؛ لأن طَمَعَنَا وَأَمَلَنَا كُلَّهُ فيه؛ لأن المؤمنَ بمعناه الصحيحِ رغبتُه إلى اللَّهِ؛ لأنه يطيعُ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ وَيَرْغَبُ فيما عند الله (جلَّ وعلا) من الخيرِ، كما قال تعالى مَادِحًا للأنبياءِ:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: آية 90] وقال لنبينا صلى الله عليه وسلم: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)} [الشرح: الآيتان 7، 8] لأن الرغباتِ كُلَّهَا إلى اللَّهِ (جلَّ وعلا)؛ لأنه هو الذي بيدِه الخيرُ، وَكُلُّ شيءٍ بيدِه، فرغبةُ المؤمنِ إليه (جلَّ وعلا) يستنزلُ رحماتِ اللَّهِ وَمَا يرجو من اللَّهِ بطاعةِ اللَّهِ (جلَّ وعلا) وَتَقْوَاهُ. وهذا معنَى قولِه:{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)} [التوبة: آية 59] جوابُ (لو) محذوفٌ دَلَّ المقامُ عليه، والتقديرُ: لو أنهم فَعَلُوا ذلك لكانَ خَيْرًا لهم.

وقد جاء في القرآنِ وَفِي كلامِ العربِ حذفُ جوابِ (لو) إذا دَلَّ المقامُ عليه، فهو كثيرٌ في القرآنِ وفي كلامِ العربِ فَمِنْ أمثلةِ حذفِ جوابِ (لو) في

ص: 585

القرآنِ مع دلالةِ المقامِ عليه قولُه تعالى: {كَلَاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)} [التكاثر: آية 5] أي: لو تعلمونَ علمَ اليقينِ لَمَا أَلْهَاكُمُ التكاثرُ حتى زُرْتُمُ المقابرَ، ومنه قولُه تعالى:{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: آية 31] فجوابُ (لو) محذوفٌ، واختلف العلماءُ في تقديرِه على قَوْلَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ

(1)

: قال بعضُهم: تقديرُ جوابِ (لو) في آيةِ الرعدِ هذه {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} لكان هذا القرآنُ على حَدِّ قولِه

(2)

:

وَلَوْ طَارَ ذُو حَافِرٍ قَبْلَهَا

لَطَارَتْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَطِرْ

وقال بعضُ العلماءِ: تقديرُه: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ} لَكَفَرُوا بالرحمنِ. ويدلُّ لهذا قولُه بعدَه: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} [الرعد: آية 30] وَمِنْ حَذْفِ جوابِ (لو) في كلامِ العربِ قولُ الشاعرِ

(3)

:

فَأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ

سِوَاكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعَا

يعني: لو شيءٌ أتانا رسولُه سواك لَدَفَعْنَاهُ. وهذا معنَى قولِه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ} إلى قولِه: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: آية 59].

{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)} [التوبة: آية 60].

(1)

مضى عند تفسير الآية (50) من سورة الأنفال وراجع ما تقدم عند تفسير الآية (109) من سورة الأنعام.

(2)

السابق.

(3)

مضى عند تفسير الآية (50) من سورة الأنفال.

ص: 586

لَمَّا كان من المنافقينَ طائفةٌ يلمزونَ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في قَسْمِ الصدقاتِ ويفترونَ عليه أنه لم يَعْدِلْ في قَسْمِهَا بَيَّنَ اللَّهُ لهم أن اللَّهَ تَوَلَّى قسمتَها وَبَيَّنَهَا وهو صلى الله عليه وسلم مُنَفِّذٌ لِمَا أَوْضَحَهُ اللَّهُ (جلَّ وعلا) فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} المرادُ بالصدقاتِ هنا: زكواتُ المالِ الواجبةُ، فَاللَّهُ (جل وعلا) بَيَّنَ في هذه الآيةِ من سورةِ براءة مصارفَ زكاةِ المالِ التي هي إحدى دعائمِ الإسلامِ الخمسِ، جَعَلَهَا ثمانيةً، وهي: الفقراءُ، والمساكينُ، والعاملونَ عليها، والمؤلفةُ قلوبُهم، وفي الرقابِ، والغارمونَ، وفي سبيلِ اللَّهِ، وابنُ السبيلِ، هي ثمانيةٌ، و (إنما): أداةُ حصرٍ وإثباتٍ، يعنِي: لَا يَثْبُتُ استحقاقُ الزكاةِ لشيءٍ غيرِ واحدٍ من هذه المصارفِ الثمانيةِ بإجماعِ العلماءِ.

{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الفقراءُ: جَمْعُ فقيرٍ، والفعيلُ إذا كان وَصْفًا ينقاسُ جمعُه جمعَ كثرةٍ على (فُعَلَاءَ) على العادةِ ما لم يكن معتلَّ اللامِ أو مُضَعَّفًا. وهذا معروفٌ

(1)

، كُلُّ (فعيلٍ) في القرآنِ وفي كلامِ العربِ بمعنَى (فاعلٍ) لم يكن معتلَّ اللامِ ولا مُضَعَّفًا ينقاسُ تكسيرُه جمعُ كثرةٍ على (فُعَلَاءَ) ككريمٍ وكرماءَ، وأديبٍ وأدباءَ، وشريفٍ وشرفاءَ، وعليمٍ وعلماءَ، وفقيرٍ وفقراءَ. أما إذا كان معتلَّ اللامِ أو مُضَعَّفًا فالقياسُ أن يُكَسَّرَ على (أَفْعِلَاءَ) فمثالُ معتلِّ اللامِ: كَتَقِيٍّ وأتقياءَ، وَسَخِيٍّ وأسخياءَ، وَنَبِيٍّ وأنبياءَ. وكذلك الْمُضَعَّفُ: كحبيبٍ وأحباءَ، وشديدٍ وأشداءَ. كما هو معلومٌ في محلِّه. فالفقراءُ جمعُ فقيرٍ، وهو جَمْعٌ على القياسِ. والمساكينُ: جَمْعُ مسكينٍ كذلك.

(1)

مضى عند تفسير الآية (3) من سورة الأعراف.

ص: 587

واختلفَ العلماءُ في الفقيرِ والمسكينِ أيهما أحوجُ وأسوأُ حالاً

(1)

؟! والقاعدةُ المقررةُ عند علماءِ التفسيرِ كما قَالَهَا غيرُ واحدٍ من المتأخرينَ ويكادونَ يُطْبِقُونَ عليها: أن الفقيرَ والمسكينَ إذا اجْتَمَعَا افْتَرَقَا، وإذا افْتَرَقَا اجْتَمَعَا. ومعنَى هذا الكلامِ: أنهما إذا افْتَرَقَا بأن جاءَ في آيةٍ من كتابِ اللَّهِ أو حديثٍ من سُنَّةِ رسولِ اللَّهِ اسمُ الفقيرِ وحدَه، أو المسكينِ وحدَه، شَمِلَهُمَا معًا، دخلَ الفقيرُ في المسكينِ، والمسكينُ في الفقيرِ؛ لأَنَّ كونَهما مُحْتَاجَيْنِ يشمل كُلاًّ منهما وإن كان أحدُهما أَشَدَّ فقرًا من الآخَرِ، وإن اجْتَمَعَا كما نُصَّ عليهما موجودينِ كقولِه هنا:{لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} فقد اجْتَمَعَا، فيلزمُ إذا اجتمعا أن يفترقَا، فيكونُ للفقيرِ معنًى خاصٌّ به، وللمسكينِ معنًى خاصٌّ به. والحاصلُ أنه إذا ذُكِرَ الفقيرُ وحدَه أو المسكينُ وحدَه دَخَلَ الفقيرُ في المسكينِ والمسكينُ في الفقيرِ، وإذا ذُكِرَا معًا في مَحَلٍّ واحدٍ كهذِه الآيةِ وَكَمَنْ أَوْصَى للفقراءِ والمساكينِ كان لكلٍّ منهما مَعْنًى يَخُصُّهُ.

والعلماءُ مختلفونَ في الفقيرِ والمسكينِ أيهما أسوأُ حالاً؟ فَذَهَبَ جماعةٌ من فقهاءِ الأمصارِ وأهلِ اللغةِ إلى أن الفقيرَ أسوأُ حالاً من المسكينِ، وهذا مذهبُ الشافعيِّ رحمه الله، وروايةٌ قويةٌ عن أحمدَ رحمه الله، وبه قال جماعةٌ من السلفِ، أن الفقيرَ أحوجُ من المسكينِ. وقالت طائفةٌ: إن المسكينَ أحوجُ من الفقيرِ، وهو مذهبُ مالكٍ وأصحابِه، ومذهبُ أبِي حنيفةَ رحمه الله. وَكُلٌّ منهما يُوَجِّهُ قولَه، أما مالكٌ فقال: إن المسكينَ أحوجُ من الفقيرِ لأَنَّ اللَّهَ قال: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)} [البلد: آية 16] فَوَصَفَ المسكينَ بأنه لاصقٌ

(1)

مضى عند تفسير الآية (41) من سورة الأنفال.

ص: 588

بالترابِ لَا شيءَ عندَه، والعربُ تُطْلِقُ الفقيرَ على مَنْ عندَه شيءٌ لَا يُغْنِيهِ، فعنده بُلْغَةٌ ولكنها لا تغنيه، قال: ويدلُّ لذلك قولُ راعِي نمير وهو عربيٌّ قُحٌّ

(1)

:

أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ

رَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ

فَسَمَّاهُ فقيرًا وعندَه حلوبةٌ قدرَ عيالِه. وأما الذين قالوا: الفقيرُ أحوجُ فإنهم قالوا: إن الفقيرَ مُشْتَقٌّ من فقراتِ الظهرِ؛ لأَنَّ الفاقةَ كأنها فَقَرَتْ ظَهْرَهُ، أي: قَصَمَتْهُ. وقالوا: المسكينُ: اللَّهُ قال في سفينةِ الخضرِ وموسى: {فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: آية 79] فَسَمَّى أهلَها مساكينَ مع أن عندَهم سفينةً عاملةً في البحرِ بالإيجارِ، فَدَلَّ على أن الفقيرَ أسوأُ حالاً. وهذا خلافٌ بَيْنَ أهلِ اللغةِ والعلماءِ معروفٌ، جماعةٌ يقولونَ: الفقيرُ أسوأُ حالاً، وجماعةٌ يعكسونَ. وهذا معنَى قولِه:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} .

{وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: آية 60] معناه: أن السهمَ [الثالث]

(2)

يُعْطَى للعاملينَ عليها، وهم الذين يَتْعَبُونَ في تحصيلِ الزكاةِ، كَالْجُبَاةِ الذين يُرْسِلُهُمُ الإمامُ ليجمعوا الزكاةَ من أقطارِ الناسِ وَيَأْتُوا بها ويذهبوا بها لِيُفَرِّقُوهَا. فالعاملونَ عليها كالجباةِ للزكاةِ من خارج، والمفرقينَ لها على الناس، فهؤلاء لهم سَهْمٌ في الزكواتِ وهو قَدْرُ أُجْرَتِهِمْ. وأظهرُ الأقوالِ أنه لا يتقدرُ فيه شيءٌ مُعَيَّنٌ إلا بقدرِ أجرتِهم، وكلُّ مَا يُعْطَى أحدٌ من هؤلاء فيه خلافٌ كثيرٌ

(3)

، وأظهرُها أنه كله يُوكَلُ إلى اجتهادِ الإمامِ، ونصيبُ العاملين عليها يكونُ بقدرِ أجرةِ مثلِهم بحسبِ ما عَانَوْهُ من التعبِ، يُعْطَوْنَ على قدرِ

(1)

السابق.

(2)

في الأصل: الثاني.

(3)

انظر: ابن جرير (14/ 311)، القرطبي (8/ 177).

ص: 589

ذلك، سواء كانوا فقراءَ أو أغنياءَ. وهذا معنَى قولِه:{وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} .

والسهمُ [الرابع]

(1)

للمؤلفةِ قلوبُهم، والمؤلفةُ قلوبُهم المرادُ بهم قومٌ كانوا في زَمَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عندَهم إيمانٌ إلا أن إيمانَهم ليس بقويٍّ ولهم مكانةٌ وشوكةٌ إذا حَسُنَ إسلامُهم اعْتَزَّ بهم الإسلامُ والمسلمونَ وَقَوِيَتْ شوكةُ المسلمينَ، أو ناسٌ لهم شَرَفٌ إذا كانوا في الإسلامِ تَابَعَهُمْ غيرُهم، فالمرادُ أنه يكونُ رجالٌ دخلوا في الإسلامِ لهم مكانةٌ وقوةٌ وفائدةٌ للإسلامِ فيهم، وإيمانُهم ليس بقويٍّ، فَتُجْبَرُ خواطرُهم وَتُؤَلَّفُ قلوبُهم بالمالِ ليستحسنوا الإيمانَ ويتمكنَ الإسلامُ من قلوبِهم فتكون في ذلك المصلحةُ العامةُ للإسلامِ والمسلمينَ، ومعلومٌ أن المؤلفةَ قلوبُهم يُقَسِّمُهُمْ كتبُ الفروعِ إلى أقسامٍ متعددةٍ

(2)

وقصدنا هناك أن نذكرَ ما يكونُ مُصَرَّفًا للزكاةِ، وهو الإنسانُ الذي يكونُ في إسلامِه خيرٌ للمؤمنينَ، والظاهرُ أنه لا بد أن يكونَ مُسْلِمًا؛ لأَنَّ الزكاةَ لَا تُدْفَعُ للكافرِ وهي قربةٌ لَا يستحقُّها إلا المسلمونَ، فَمَنْ قال: إنها تُدْفَعُ للكافرِ لِيُسْلِمَ فالظاهرُ أنه خلافُ الظاهرِ.

وَاعْلَمْ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان في زمنِه نصيبُ المؤلفةِ قلوبُهم، وَأَلْغَى عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه نصيبَ المؤلفةِ قلوبُهم، وَلَمْ يكن بعدَ ذلك مَعْرُوفًا فِي صدقاتِ المسلمينَ وزكواتِهم

(3)

. وهذه الفقرةُ دَخَلَ منها كثيرٌ من الذينَ ينتصرونَ للقوانينِ بِشَيْطَنَةٍ وخفيةٍ وراءَ الستارِ، ويزعمونَ أن الشرعَ يتغيرُ بتغيرِ الأوضاعِ، قالوا: لأَنَّ النبيَّ دَفَعَ نصيبَ المؤلفةِ قلوبُهم وعمرُ لَمَّا رَأَى المصلحةَ لَا تحتاجُ إلى

(1)

في الأصل: الثالث.

(2)

انظر: ابن كثير (2/ 365).

(3)

انظر: ابن جرير (14/ 315)، القرطبي (8/ 181)، ابن كثير (2/ 365).

ص: 590

ذلك لم يَدْفَعْهُ لهم؛ ليتصلوا بذلك إلى أن الشرعَ تابعٌ للمصالحِ، وأنه قَابِلٌ للتغييرِ في كُلِّ وقتٍ وزمانٍ تَبَعَ المصالحِ والتطوراتِ الراهنةِ، وهذا باطلٌ؛ لأن الشرعَ أَنْزَلَهُ الحكيمُ الخبيرُ العظيمُ الجليلُ الْعَالِمُ بِكُلِّ ما كان وما يكونُ، فَجَعَلَهُ شرعًا خالدًا إلى يومِ القيامةِ، مُسَايِرًا لجميعِ التطوراتِ، تَمْكُنُ مجابهتُه لكلِّ الأحداثِ مهما كانت، ولا إشكالَ في إلغاءِ عمرَ لنصيبِ المؤلفةِ قلوبُهم؛ لأن هذه الأصنافَ الثمانيةَ لَا يُعْطَى منها إلا شيءٌ موجودٌ فإذا عُدِمَ الشيءُ فإنما لم يُجْعَلْ له سهمٌ لعدمِه، فالإنسانُ إذا قُطِعَتْ يدُه مثلاً والله يقولُ في الوضوءِ:{فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: آية 6] لا نقولُ: هذا لم يَغْسِلْ يدَه لأن يدَه سَقَطَتْ!! فالإسلامُ لَمَّا عَزَّ وتمكنَ من قلوبِ المسلمينَ وقويت شوكةُ الإسلامِ لم يَبْقَ هنالك مؤلفٌ، فلما ذَهَبَ هذا الصنفُ ذهبَ نصيبُه بذهابِه، وقد أجمعَ العلماءُ أن كُلَّ ما ذَهَبَ من هذه الأصنافِ الثمانيةِ يذهبُ نصيبُه معه، إذا لم يوجد ابنُ السبيلِ فلا نصيبَ لابنِ السبيلِ، فكلُّ ما ذهب منها ذَهَبَ نصيبُه معه، فعدمُ إعطاءِ عمرَ نصيبَ المؤلفةِ نظرًا لعدمِ وجودِ المؤلفةِ بالكليةِ؛ لأن الإسلامَ قَوِيٌّ وَتَمَكَّنَتْ شوكتُه وصارَ لَا تأليفَ لأَحَدٍ. وهذا معنَى قولِه:{وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} .

وعلى كُلِّ حالٍ فالتحقيقُ في هذه المسألةِ أن حكمَ المؤلفةِ قلوبُهم بَاقٍ إذا وُجِدُوا وكان رجالٌ لهم مكانتُهم وقوتُهم في دينِ الإسلامِ، والإسلامُ محتاجٌ إليهم، والمسلمونَ محتاجونَ إليهم، فإنه يرجعُ نصيبُهم لِتَأَلُّفِهِمْ للمصلحةِ العامةِ كما فَعَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وجاء به القرآنُ العظيمُ، وإن كان لا تأليفَ هنالك، ولا حاجةَ ولا ضعفَ في الإسلامِ ولَا ضعفَ في الإيمانِ، بل المسلمونَ في قوةٍ

ص: 591

ونشاطٍ وفي عزةٍ وقوةٍ ومنعةٍ فالمؤلفةُ غيرُ موجودينَ فيسقطُ نصيبُهم لعدمِهم، وكذلك هذه الأصنافُ الثمانيةُ كُلُّ ما عُدِمَ منها سَقَطَ نصيبُه معه.

وَاعْلَمْ أن العلماءَ مختلفون في هذه الأصنافِ الثمانيةِ هل يجبُ أن تكون الزكاةُ موزعةً بينَها ثمانيةَ أجزاءٍ ولا يجوزُ أن يُحْرَمَ واحدٌ منها، أو يجوزُ أن تعطَى الزكاةُ لواحدٍ منها، أو لاثْنَيْنِ، أو ثلاثةٍ دونَ تعميمِ الآخَرِينَ

(1)

؟ هذا خلافٌ معروفٌ بينَ العلماءِ، فذهبت جماعةٌ من العلماءِ منهم مالكٌ وأبو حنيفةَ رحمه الله وجماعةٌ كثيرةٌ من فقهاءِ الأمصارِ إلى أنه لا يلزمُ تعميمُ هذه الأصنافِ، بل يجوزُ أن تُعْطَى الزكاةُ لصنفٍ واحدٍ منها، وأن كُلَّ ذلك موكولٌ إلى نظرِ الإمامِ يرى الأصلحَ فالأصلحَ فَيُؤْثِرُ أفقرَها وأحوجَها وأشدَّها مصلحةً للعامةِ. هذا قولُ مالكٍ وأبِي حنيفةَ وجماعةٍ كثيرةٍ من العلماءِ، قالوا: والآيةُ إنما بَيَّنَتِ المصارفَ الذي لا يجوزُ أن تُتَعَدَّى بها الزكاةُ إلى غيرِها، وصنفٌ واحدٌ منها يكفي. وكان بعضُ علماءِ المالكيةِ يقول: أكبرُ دليلٍ على عدمِ وجوبِ تعميمِ الأصنافِ أنا لو أَعْطَيْنَا الفقراءَ جزءًا فإنا لا يقولُ أحدٌ إننا نُعَمِّمُ جميعَ الفقراءِ، وإذا أَعْطَيْنَا المساكينَ جزءًا فلا يمكنُنا أن نعممَ جميعَ المساكينِ، فإذا كان الصنفُ الواحدُ لا يمكنُ تعميمُه فلا يلزمُ تعميمُ الأصنافِ جميعِها؛ لأنا لو مَشَيْنَا مع التعميمِ لَزِمَنَا أن نُعَمِّمَ نصيبَ الفقراءِ على جميعِ الفقراءِ ولا نتركَ فقيرًا واحدًا، ونصيبُ المساكينِ على جميعِ المساكينِ ولا نتركُ مسكينًا واحدًا. والحاصلُ أن هذا خلافٌ قديمٌ اخْتَلَفَتْ فيه أنظارُ العلماءِ، فمنهم مَنْ يقولُ: إن المرادَ بـ {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}

(1)

انظر: ابن جرير (14/ 322)، القرطبي (8/ 167)، المغني (4/ 127).

ص: 592

أنها لامُ التمليكِ، واستدلوا بحديثٍ جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن الله لم يَكِلْ قسمَها إلى نَبِيٍّ وإنما جَزَّأَهَا ثمانيةَ أجزاءٍ، قالوا: واللامُ للتمليكِ، فَهِيَ شركةٌ بَيْنَ هؤلاء الثمانيةِ، ومن حَرَمَ واحدًا من هؤلاء الثمانيةِ فقد ضَمِنَ له نصيبَه؛ لأنه حَرَمَهُ ما أعطاه اللَّهُ إياه.

وقالت جماعةٌ من العلماءِ: المرادُ بالآيةِ: أن هذه هي المصارفُ الذي لا يجوزُ تَعَدِّيهَا إلى غيرِها، ولم يلزم تعميمُها، بل يُوكَلُ إلى نظرِ الإمامِ، فما رآه الإمامُ أحسنَ للمصلحةِ العامةِ فَعَلَهُ للمسلمينَ، فلو اقتضى نظرُه أن يصرفَها لواحدٍ من هذه الثمانيةِ دونَ غيرِها لِيَفْعَلْ. هذا ملخصُ كلامِ العلماءِ في هذا الموضوعِ.

وقولُه: {وَالْغَارِمِينَ} الغارمونَ معناه: أصحابُ الديونِ الذين يُطْلَبُونَ بالدَّيْنِ، والغارمونَ عندَ العلماءِ فيهم تفصيلٌ

(1)

: منهم مَنْ يكونُ غارمًا لمصلحةٍ عامةٍ للمسلمينَ، كالذي يجدُ بعضَ القبائلِ بينها شحناءُ وفتنٌ وستقعُ بينها قتلى وبلايا ثم يتحملُ الدياتِ ويكون غارمًا لتلك الدياتِ للمصلحةِ العامةِ، فمثلُ هذا النوعِ لم يختلف العلماءُ في أنه يُعْطَى من زكاةِ المسلمينَ ويغرمُ عنه ما تَحَمَّلَ للمصلحةِ العامةِ للمسلمينَ من زكواتِ المسلمينَ ولو كان غَنِيًّا. وبعضُهم يقولُ: لَا يُعْطَى عنه إلا إذا كان فقيرًا. وأما إذا كان الإنسانُ تَحَمَّلَ الديونَ في خاصةِ نفسِه، كالذي يتحملُ لينفقَ [على]

(2)

أهلِه وأولادِه، وينفقَ في تجارتِه ثم يخسر، ونحو ذلك من الأمور فأكثرُ العلماءِ على أن هذا إذا كان لَمْ يَسْتَدِنْ في سَرَفٍ، ولم يَسْتَدِنْ في معصيةٍ، ولم يَبْدُرِ المالَ في المعاصِي أنه يدخلُ في الغارمينَ، وأنه يُقْضَى عنه قدرَ دَيْنِهِ من

(1)

انظر ابن جرير (14/ 317)، القرطبي (8/ 183)، ابن كثير (2/ 365).

(2)

ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق.

ص: 593

الزكاةِ، وبعضُ العلماءِ يقولُ: ولو عندَه مالٌ. وبعضُ العلماءِ يقولُ: لَا يُعْطَى هذا الغارمُ من الزكاةِ إلا إذا كان لا شيءَ عندَه، أو عندَه شيءٌ إذا أعطاه للغرماءِ بَقِيَ فقيرًا لا شيءَ عندَه. وأظهرُ القولينِ في هذا: أنه يُقْضَى عنه الدَّيْنُ إلا إذا كان مَلِيًّا يقدرُ على قضاءِ الدَّيْنِ ويبقى عندَه ما يكفيه. وبعضُ العلماءِ يقولُ: هو غارمٌ على كُلِّ حالٍ، يُقْضَى عنه سواء كان غَنِيًّا أو فقيرًا. والأولُ أظهرُ. وهذا معنَى قولِه:{وَالْغَارِمِينَ} {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ} .

قولُه: {وَفِي الرِّقَابِ} اختلفَ العلماءُ في المرادِ به

(1)

، فَذَهَبَتْ جماعةٌ من العلماءِ إلى أن المرادَ بالرقابِ: إعانةُ الْمُكَاتَبِينَ خاصةً. وذهب إلى هذا الشافعيُّ في طائفةٍ من العلماءِ، واستدلُّوا لهذا بقولِه تعالى في سورةِ النورِ:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: آية 33] قالوا: {مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} هو المذكورُ في قولِه هنا: {وَفِي الرِّقَابِ} وعلى هذا القولِ الذي قاله الشافعيُّ وجماعةٌ من فقهاءِ الأمصارِ إذا كان المكاتبُ عليه نجومٌ من كتابتِه فإنه يُعَانُ بما عَسُرَ عليه من نجومِ كتابتِه من زكاةِ المسلمينَ ليتخلصَ حُرًّا.

وذهبت جماعةٌ من العلماءِ منهم مالكُ بنُ أنسٍ وأصحابُه في طائفةٍ من فقهاءِ الأمصارِ إلى أن معنَى قولِه: {وَفِي الرِّقَابِ} أنه ليس معناه الْمُكَاتَبِينَ، قالوا: المكاتبونَ داخلونَ في قولِه: {وَالغَارِمِينَ} لأن المكاتبَ غارمٌ لسيدِه نجومَ كتابتِه. قالوا: أما معنَى قولِه: {وَفِي الرِّقَابِ} فهو أنه يُشْتَرَى من زكاةِ المسلمينَ عبيدٌ ويكونونَ

(1)

انظر ابن جرير (14/ 316)، القرطبي (8/ 182)، الأضواء (2/ 470).

ص: 594

أحرارًا ولاؤهم للمسلمينَ. قالوا: وهذا هو معنَى قولِه: {وَفِي الرِّقَابِ} . و {وَالغَارِمِينَ} تَكَلَّمْنَا الآنَ عليه.

وقولُه: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} لَا خلافَ بَيْنَ العلماءِ أن الغزاةَ الذين ليسوا في الديوانِ داخلينَ في سبيلِ اللَّهِ، وإيضاحُ هذا أن عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه لَمَّا جَعَلَ مسألةَ الديوانِ كَتَبَ أسماءَ الجندِ في ديوانٍ قَيَّدَ أسماءَهم فيه، وَكُلُّ قُطْرٍ من الأقطارِ عَدَّدَ ما فيه من المُقَاتِلَةِ وَكَتَبَهُمْ في ديوانٍ ليحفظوا الثغورَ وَيُعِينُوا على الجهادِ، وكانت لهم أرزاقٌ معروفةٌ في بيتِ مالِ المسلمينَ، وهؤلاء إذا قُتِلَ واحدٌ منهم عَقَلَ عنه الآخَرُونَ قبلَ عصبتِه، فهؤلاء قال العلماءُ: ليسوا هم المرادَ هنا؛ لأن لهم أرزاقًا من بيتِ مالِ المسلمينَ وهم مُدَوَّنُونَ مَعْرُوفُونَ، وأن المرادَ بهؤلاءِ الغزاةِ: هم الذين يتطوعونَ لِيُقَاتِلُوا وَيُسَدِّوا الثغورَ مع المسلمينَ، مع أنهم لم تكن لهم أرزاقٌ مكتوبةٌ، ولم يكونوا مكتوبينَ في الديوانِ، فهؤلاءِ يُعْطَوْنَ من زكاةِ المسلمينَ وإن كانوا أغنياءَ، وَيُعْطَوْنَ ما يشترون به السلاحَ والمراكبَ ليسدوا ثغورَ المسلمينَ فيجاهدوا في سبيلِ اللَّهِ، وكونُ المرادِ في سبيلِ اللَّهِ الغزاة هو قولُ الشافعيِّ رحمه الله في طائفةٍ من العلماءِ.

وقال الإمامُ مالكٌ وأصحابُه: إن المرادَ بسبيلِ اللَّهِ كُلُّ ما يتعلقُ بالغزوِ والرباطِ فيدخلُ فيه جميعُ ما يتعلقُ بالغزوِ كشراءِ السلاحِ والكراعِ، والرباطِ في سَدِّ الثغورِ المخوفةِ التي يُخْشَى أن تدخلَ منها الكفارُ للمسلمينَ، أن هذا كُلَّهُ يدخلُ في سَبِيلِ اللَّهِ.

وذهبت جماعةٌ من العلماءِ وهو مَرْوِيٌّ عن الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ أن (في سَبِيلِ اللَّهِ) الحُجاج والعُمَّار، أنه يُعْطَى من بيتِ مالِ المسلمينَ للعاجزِ عن الحجِّ والعمرةِ ما يحجُّ به ويعتمرُ. قالوا:

ص: 595

والحجُّ والعمرةُ في سبيلِ اللَّهِ. هذا ملخصُ عيونِ كلامِ العلماءِ في هذه المصارفِ. وهذا معنَى قولِه: {وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} .

{وَابْنِ السَّبِيلِ} السبيلُ في لغةِ العربِ

(1)

: الطريقُ. ومعنَى (ابنِ السبيلِ) ولدُ الطريقِ، وإنما قيل للمسافرِ الغريبِ:(ابنُ السبيلِ) لأحدِ أَمْرَيْنِ: قال بعضُ العلماءِ: لأنه مُلَازِمٌ للطريقِ لذهابِه معها، وَكُلُّ ملازمٍ لشيءٍ تقولُ له العربُ ابنُه، ومنه سَمَّتِ الطيرَ الملازمَ للماءِ (ابنَ الماءِ) كما هو معروفٌ، ومنه قولُ غيلانَ ذي الرمةِ

(2)

:

وَرَدْتُ اعْتِسَافًا وَالثُّرَيَّا كَأَنَّهَا

عَلَى قِمَّةِ الرَّأْسِ ابْنُ مَاءٍ مُحَلِّقُ

فسماه ابنَ الماءِ لملازمتِه للماءِ.

وقالت طائفةٌ من علماءِ العربيةِ: إنه إنما قيل له (ابنُ السبيلِ) لأن السبيلَ وهي الطريقُ كأنها تَمَخَّضَتْ لنا عنه وَرَمَتْنَا به كما ترمي النفساءُ الناسَ بولدِها، كان غَائِبًا في بطنِ الطريقِ فَرَمَتْنَا به، كما تكونُ النفساءُ ولدُها غائبٌ في بطنِها فترمينا به. وهذا المعنَى يوجدُ في كلامِهم، وقد أَوْضَحَهُ مسلمُ بنُ الوليدِ الأنصاريُّ - وإن كان كلامُه إنما يُذْكَرُ مثالاً لا استدلالاً، لأنه في زمنِ الدولةِ العباسيةِ، ولكنه أَوْضَحَ هذا المعنَى - بقولِه حيث يقولُ يذكرُ رجلاً سَافَرَ في فلاةٍ من الأرضِ شَهْرَيْنِ إلى أميرٍ ليمدحَه قال له

(3)

:

تَمَخَّضَتْ عَنْهُ تِمًّا بَعْدَ مَحْمَلِهِ

شَهْرَيْنِ بَيْدَاءُ لَمْ تُضْرَبْ وَلَمْ تَلِدِ

أَلْقَتْهُ كَالنَّصْلِ مَعْطُوفًا عَلَى هِمَمٍ

يَعْمِدْنَ مُنْتَجِعَاتٍ خَيْرَ مُعْتَمَدِ

(1)

مضى عند تفسير الآية (116) من سورة الأنعام.

(2)

مضى عند تفسير الآية (41) من سورة الأنفال.

(3)

هذان البيتان سبق ذكرهما في الموضع السابق.

ص: 596

فَصَرَّحَ بأن هذه الفلاةَ تَخَمَّضَتْ عن هذا وولدته وأنتجته، فكذلك الطريقُ كأنها تتمخضُ عنه وترميهم به. وأكثرُ العلماءِ يقولونَ: سُمِّيَ (ابنَ السبيلِ) لملازمتِه للطريقِ، وابنُ السبيلِ هو الإنسانُ الذي فَنِيَتْ نفقتُه وانقطعَ زادُه وهو متغربٌ عن أوطانِه يُعْطَى من زكاةِ المسلمينَ زَادًا وما يُبَلِّغُهُ إلى وطنِه ولو كان غَنِيًّا في محلِّه، ولا تتبع ذمتَه ولو كان غَنِيًّا في محلِّه؛ لأنه مصرفٌ للزكاةِ في ذلك الوقتِ وإن كان غَنِيًّا في بلدِه، وهذا من محاسنِ دينِ الإسلامِ وما فيه من مكارمِ الأخلاقِ. قال بعضُ العلماءِ: ويدخلُ في ابنِ السبيلِ ما لو كان له سَفَرٍ يُضْطَرُّ إليه، كما لو كانت له أولادٌ في دارِ حربٍ أو في ضيعةٍ وهو مُضْطَرٌّ إلى الإتيانِ بهم ولا مالَ عنده فإنه يُعْطَى ليذهبَ ويجيءَ ويكونَ داخلاً في ابنِ السبيلِ.

وقد أجمعَ العلماءُ على أن ابنَ السبيلِ إذا كان مُسَافِرًا في معصيةٍ لَا يجوزُ أن يُعْطَى من الزكاةِ شيئًا لأنه إعانةٌ له على معصيتِه، وَاللَّهُ يقولُ:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: آية 2] وإن كان سفرُه في قُرْبَةٍ فلا خلافَ في أنه يُعْطَى. وإن كان في مباحٍ فقد اختلفَ العلماءُ في ذلك، فقالوا: لا يُعْطَى؛ لأن المباحَ لا يلزمُ. وقال بعضُ العلماءِ: يُعْطَى؛ لأن السفرَ المباحَ فيه جميعُ التسهيلاتِ التي في السفرِ الواجبِ، فالسفرُ المباحُ تُقْصَرُ فيه الصلاةُ، وَيُفْطِرُ فيه المسافرُ، ويفعل فيه كلُّ الترخصاتِ، فكذلك يُعَانُ صاحبُه عليه. هكذا قال بعضُهم واللَّهُ تعالى أَعْلَمُ.

وقولُه تعالى: {فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ} مصدرٌ، أي: فَرَضَ اللَّهُ هذا فريضةً عليكم {وَاللَّهُ} جلَّ وعلا {عَلِيمٌ} لا يَخْفَى عليه شيءٌ {حَكِيمٌ} يضعُ الأمورَ في مواضعِها ويوقعُها في مواقعِها.

ص: 597

[9/ب] / يقولُ اللَّهُ (جلَّ وعلا): {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)} [التوبة: آية 61].

قرأ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ غيرَ نافعٍ: {يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} بياءٍ مشددةٍ، وقرأه نافعٌ وحدَه:{يُؤْذُونَ النَّبِئ} بهمزةٍ

(1)

. وأبدل ورشٌ وَمَنْ وَافَقَهُ همزةً {يُؤْذُونَ} فقرأَ: {يوذون} وقرأ عامةُ السبعةِ غيرَ نافعٍ وحدَه: {وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} بِضَمِّ الذالِ في الحرفينِ، وقرأه نافعٌ وحدَه:{أُذْن} بسكونِ الذالِ

(2)

.

وقرأ عامةُ السبعةِ غيرَ الكسائيِّ: {وَرَحْمَةٌ} بالرفعِ، وقرأ الكسائيُّ وحدَه {ورحمةٍ} بالخفضِ

(3)

.

فعلى قراءةِ الجمهورِ فهو عطفٌ على المضافِ في قولِه: (أذُنُ خيرٍ لكم ورحمةٌ) وعلى قراءة الكسائي

(4)

فهو عطف على المضاف إليه. أي: (أُذُنُ خيرٍ ورحمةٍ لكم)

(5)

.

(1)

مضى عند تفسير الآية (112) من سورة الأنعام، وانظر: الإتحاف (2/ 94).

(2)

انظر: السبعة ص315، المبسوط لابن مهران ص227.

(3)

قراءة الخفض إنما هي لحمزة وليست للكسائي. انظر: السبعة ص315، المبسوط لابن مهران ص227، وقد استدرك الشيخ ذلك فنبّه على الصواب كما سيأتي قريبًا.

(4)

الصواب: حمزة كما سبق.

(5)

انظر: حجة القراءات ص320، الدر المصون (6/ 74).

ص: 598

وقولُه: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} هذا صِنْفٌ آخَرُ من أصنافِ المنافقينَ؟ لأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ في هذه الآيةِ أصنافَ المنافقينَ، قال:{وَمِنْهُم مَّنْ يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي} [التوبة: آية 49]{وَمِنْهُم مَّنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: آية 58]{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} [التوبة: آية 61] كان في المنافقينَ طائفةٌ يبسطون ألسنتَهم إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بالكلامِ السيئِ فيعيبونَه ويقولونَ فيه ما لا ينبغِي، وهذا هو قولُه:{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} [التوبة: آية 61] أي: ومن المنافقينَ الطائفةُ الذين يُؤْذُونَ النبيَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم بالاستطالةِ في عَرْضِهِ.

{وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} معنَى هذا أنه إذا قيل لهم: كيف تقدحونَ في نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وتعيبونَه وهو إن علم بذلك فَعَلَ بكم وَفَعَلَ بكم؟ فيقولونَ: لَا يَهُمُّنَا ذلك، لأنه أُذُنٌ!! العربُ تقولُ: فلان أُذُنٌ. وَأُذْنٌ بالسكونِ لغةٌ فيه، إذا كان يسمعُ مِنْ كُلِّ مَنْ جاءه، فإذا كان الرجلُ كلما جاءَه أحدٌ وأخبرَه سَمِعَ منه وَصَدَّقَهُ قالت العربُ: هذا الرجلُ أُذُنٌ. يعنونَ: هو كلما جاءه أحدٌ بِخَبَرٍ صَدَّقَهُ، ونحنُ إن قيل عنا إننا آذَيْنَاهُ جئناه وكذبنا له وحلفنا له فيصدقنا، فنحن نُؤْذِيهِ ولا تَضُرُّنَا عاقبةُ ذلك؛ لأن مَآلَنَا أن نكذبَ الحديثَ ونحلفَ له عليه، وهو أُذُنٌ يُصَدِّقُ كُلَّ مَنْ جاءه بخبرٍ، فيصدقُنا ولا ينشأُ لنا من ذلك سوءٌ. وهذا معنَى قولِه:{يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} لَمَّا عابوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم آذَوْهُ وعابوه بأنه أُذُنٌ فِي زعمهم الباطلِ - قبَّحهم اللَّهُ - يعنونَ: يسمعُ مِنْ كُلِّ مَنْ حَدَّثَهُ، بَيَّنَ اللَّهُ أنه أُذُنٌ ولكنه أُذُنُ خيرٍ خاصةً، لا أذن شَرٍّ، فإذا جاءه الناسُ بالخيرِ وبالحقِّ صَدَّقَهُمْ في الخيرِ والشرِّ، أما الباطلُ فليس بأذنٍ فيه ولا بمصدقٍ أحدًا فيه، ولا ينفعُكم اعتذارُكم الباطلُ. وهذا معنَى قولِه:{قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} هو أُذُنُ خيرٍ لكم، أي: يسمعُ - هو سامعٌ - ولكنه سامعُ خيرٍ، سامعٌ مِنْ كُلِّ مَنْ جاءه بخيرٍ وبحقٍّ لَا من كُلِّ مَنْ جَاءَهُ بِشَرٍّ وبباطلٍ مثلكم فليس بِأُذُنٍ له. وهذا

ص: 599

معنَى قولِه: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} يُصَدِّقُ بِاللَّهِ (جلَّ وعلا) التصديقَ الكاملَ من الجهاتِ الثلاثِ، يؤمنُ بالله تصديقًا صحيحًا من قلبِه ولسانِه وجوارحِه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه){وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} يصدقُ المؤمنينَ العدولَ الأتقياءَ إذا جاؤوه بمقالةٍ، أما الكفَرَةُ الْكَذَبَةُ أمثالُكم فلا يُصَدِّقُهُمْ.

وجرت العادةُ باستقراءِ القرآنِ أن اللَّهَ تبارك وتعالى إذا كان الإيمانُ بِاللَّهِ عَدَّاهُ بالباءِ، كَأَنْ يقولَ:{ءَامَنُوا بِاللَّهِ} [الحجرات: آية 15، النساء: آية 136]{يُؤمِنُونَ باللَّهِ} [آل عمران: آية 114] وإذا كان الإيمانُ معناه تصديقَ مخلوقٍ فإنه يُعَدِّيهِ باللامِ دائمًا؛ وَلِذَا قال هنا: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} معناه: ويصدقُ المؤمنينَ. ولا يكادُ هذا التصديقُ المتعلقُ بالآدميينَ يوجدُ في القرآنِ إلا مجرورًا باللامِ، كقولِه:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: آية 26]{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} [يوسف: آية 17] وقولِه هنا: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: ويصدقُ المؤمنينَ الأتقياءَ في الخيرِ الذي جاءه به، ولكن ليس بأُذُنٍ للكفرةِ الفجرةِ أمثالِكم. فقولُه:{وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ} على قراءةِ الجمهورِ هو أُذُُنُ خيرٍ، وهو أيضًا رحمةٌ للمؤمنينَ، وقد أَرْسَلَهُ اللَّهُ رحمةً للعالمينَ.

وفي هذه الآيةِ سؤالٌ معروفٌ؛ لأن طالبَ العلمِ يقولُ: اللَّهُ قال في آيةِ براءة هذه: {وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا} فَقَيَّدَ كونَه رحمةً للذين آمنوا، وفي سورةِ الأنبياءِ قال:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: آية 107] فلم يُقَيِّدْ كونَه رحمةً بالإيمانِ، بل قال لجميعِ العالمينَ، وهذا وجهُ السؤالِ.

والجوابُ عنه: أن الله (جلَّ وعلا) أَرْسَلَهُ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)

ص: 600

رحمةً لجميعِ الخلائقِ، إلا أن بعضَهم قَبِلَ من اللَّهِ التفضلَ بتلك الرحمةِ فَحَازَهَا، فَخَصَّ في قولِه:{وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} وبعضُهم لم يَقْبَلْهَا ولم يَحُزْهَا، ولا يُنَافِي ذلك أن اللَّهَ أعطاه تلك الرحمةَ إلا أنه لم يَقْبَلْهَا ولم يَحُزْهَا. وَضَرَبَ العلماءُ لهذا مثلاً قالوا: لو أن سلطانَ البلدِ مثلاً - وَلِلَّهِ المثلُ الأَعْلَى - أَرْسَلَ لجميعِ سكانِ البلدِ إنعامًا كثيرًا كأن أَجْرَى لهم المياهَ تأتيهم، وأجرى عليهم الأرزاقَ وَالنِّعَمَ، وبعضُهم امتنعَ أن يأخذَ، وبعضُهم أَخَذَ فلا ينافِي أنه أَنْعَمَ على الجميعِ. فَاللَّهُ أَرْسَلَهُ رحمةً للعالمينَ، بعضُ الناسِ قَبِلَ من اللَّهِ فضلَه وبعضُهم لم يَقْبَلْ فضلَه، ولَا ينافِي ذلك أنه تفضلَ عليه ببعثِه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه).

وأما على قراءةِ حمزةَ الذي قَرَأَ: {ورحمةٍ} بالخفضِ - هو حمزةُ لا الكسائي

(1)

- أما على قراءةِ حمزةَ {ورحمةٍ للذين آمنوا} هو أُذُنُ خيرٍ ورحمةٍ. معطوفٌ على الخيرِ؛ لأَنَّ اللَّهَ (جل وعلا) جَعَلَ فيه الخيرَ والرحمةَ فإذا كان سَامِعًا من أحدٍ فهو سماعٌ لا يقودُ إلا إلى خيرٍ من خيرٍ ورحمةٍ لا سماع شَرٍّ. ولا يَخْفَى ما في قراءةِ حمزةَ من عدمِ ظهورِ المعنَى، وظهورُ المعنَى على قراءةِ الجمهورِ. وهذا معنَى قولِه:{قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} .

{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ} بالاستطالةِ في عرضِه بكلامِ السوءِ {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} من الله (جلَّ وعلا)، وقد بَيَّنَ في الأحزابِ أن ذلك العذابَ مصحوبٌ باللعنةِ أيضًا في قولِه: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ

(1)

سبق التنبيه على ذلك قريبًا.

ص: 601

لَعَنَهُمُ اللَّهُ} إلى آخِرِ الآيةِ [الأحزاب: آية 57]. وهذا معنَى قولِه: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)} [التوبة: آية 62] قال بعضُ العلماءِ: كانت جماعةٌ من المنافقينَ ومعهم غلامٌ حَدَثٌ من الأنصارِ يُسَمَّى عامرَ بنَ قيسٍ، فقال بعضُ المنافقينَ لبعضٍ: وَاللَّهِ إِنْ كان ما يقولُه محمدٌ صلى الله عليه وسلم حَقًّا لَنَحْنُ شَرٌّ من الحميرِ، فغضبَ ذلك الغلامُ وقال: أَتَشُكُّونَ في حَقِّ ما يقوله، وَاللَّهِ إِنَّ ما يقولُه لَحَقٌّ، وإنكم لشرٌّ من الحميرِ، ثم نَمَا الحديثُ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا سَأَلَهُمْ: ما حَمَلَكُمْ على أن تقولوا ما قلتُم، حلفوا بالله ما قُلْنَاهُ، قال مَنْ رَوَى هذه القصةَ في سببِ هذا النزولِ: وكان ذلك الغلامُ الأنصاريُّ يدعو اللَّهَ ويقولُ: اللهم بَيِّنِ الْمُحِقَّ منا مِنَ الكاذبِ، فأنزلَ اللَّهُ هذه الآيةَ من سورةِ براءةٍ تصديقًا لذلك الرجلِ وتكذيبًا لأولئك المنافقين

(1)

{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ} أنما قيل عنَّا لَكَذِبٌ، ولا نقول إلا خيرًا، ولا نظهر إلا الخيرَ {لِيُرْضُوكُمْ} بذلك {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} في باطنِ الأمرِ، ولم يكونوا منافقينَ، ولم يقعوا في نبيِه صلى الله عليه وسلم بما لا يَنْبَغِي.

(1)

أخرجه ابن جرير (14/ 329) وابن أبي حاتم (6/ 1828) عن قتادة مرسلاً، وليس فيه تسمية الذي نقل ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعزاه في الدر (3/ 253)، لابن المنذر وابن أبي حاتم.

وقد ساق رواية عند ابن أبي حاتم عن السدي مرسلاً وفيها تسمية الأنصاري. وفي المطبوع من ابن أبي حاتم رواية عن السدي تتعلق بتفسير الآية لكن لا علاقة لها بسبب النزول أو تسمية الأنصاري.

ص: 602

وقد رَدَّ الضميرَ هنا على الرسولِ وحدَه قال: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} مِنْ أن يُعِيبُوهُ. قال بعضُ العلماءِ

(1)

: إنما اكْتَفَى بالضميرِ الواحدِ لأَنَّ إرضاءَ اللَّهِ إرضاءٌ لرسولِه، وإرضاءُ الرسولِ إرضاءُ اللَّهِ {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: آية 80] فلما تَلَازَمَا صارا كأنهما شيءٌ واحدٌ.

وَذَهَبَ غيرُ واحدٍ من علماءِ العربيةِ وعلماءِ التفسيرِ

(2)

إلى أن رجوعَ الضميرِ على أحدِ المتعاطفينِ اكتفاءً به لأَنَّ الآخَرَ مفهومٌ منه أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ كثيرٌ في القرآنِ العظيمِ وفي كلامِ العربِ وهو كثيرٌ، أن العربَ ربما حَذَفَتْ بعضَ الأمرينِ وَاسْتَغْنَتْ عنه بالآخَرِ، سواء كان في ضميرٍ أو غيرِ ضميرٍ، فَمِنْ أمثلتِه في غيرِ الضميرِ قولُ قيسِ بنِ الخطيمِ

(3)

:

نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْدَكَ

رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ

فحذفَ «راضون» لدلالةِ «راضٍ» عليها، وقد أَنْشَدَ هذا لهذا المعنَى سيبويه في كتابِه، وأنشدَ سيبويه لهذا المعنَى أيضًا قولَ عمرِو بنِ أحمرَ الباهليِّ

(4)

:

رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي

بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِي

أَيْ: كنتُ بريئًا وكان والدِي بريئًا، فَحَذَفَ أحدَهما لدلالةِ الآخَرِ عليه، وأنشدَ له سيبويه في كتابِه أيضًا: قولَ ضابئِ بنِ

(1)

انظر: القرطبي (8/ 194)، الدر المصون (6/ 75).

(2)

مضى عند تفسير الآية (45) من سورة البقرة.

(3)

البيت في الكتاب لسيبويه (1/ 75).

(4)

السابق.

ص: 603

الحارثِ البرجميِّ

(1)

:

فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ

فَإِنِّي وَقَيَّارًا بِهَا لَغَرِيبُ

فإني لغريبٌ وقيارٌ لغريبٌ. هذا من أمثلتِه في غيرِ الضميرِ، وأمثلةُ حذفِ أحدِ الضميرينِ اكتفاءً عنه بالآخَرِ كثيرةٌ في كلامِ العربِ وفي القرآنِ العظيمِ، فَمِنْ أمثلتِها في القرآنِ في المتعاطفاتِ بالواوِ كما هنا: قولُه: {يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: آية 34]{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإنَّهَا} [البقرة: آية 45]{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} {أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ} [الأنفال: آية 20] وأمثالُ ذلك كثيرةٌ في القرآنِ. ومن أمثلتِه في كلامِ العربِ قولُ نابغة ذبيانَ وهو شاهدُه المشهورُ

(2)

:

وَقَدْ أَرَانِي وَنُعْمًا لَاهِيَيْنِ بِهَا

وَالدَّهْرُ وَالْعَيْشُ لَمْ يَهْمِمْ بِإِمْرَارِ

يعنِي: لم يَهْمِمَا. فَرَدَّ الضميرَ على واحدٍ من العيشِ أو الدهرِ؛ لأَنَّ الآخَرَ مفهومٌ منه، ومنه قولُ حسانَ رضي الله عنه

(3)

:

إِنَّ شَرْخَ الشَّبَابِ وَالشَّعَرَ الأَ

سْوَدَ مَا لَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونَا

فلم يَقُلْ: ما لم يُعَاصَيَا. وهو كثيرٌ.

وأما في المعطوفِ بـ (أو) فالقياسُ أن يرجعَ الضميرُ بالإفرادِ؛ لأن الضميرَ في المتعاطفاتِ بـ (أو) يرجع إلى الأحدِ الدائرِ بينها، وهو القياسُ كقولِه:{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ} [النساء: آية 112] وقد رَدَّهُ إلى أحدِهما بعينِه تعالى في قولِه:

(1)

الكتاب (1/ 75).

(2)

مضى عند تفسير الآية (45) من سورة البقرة.

(3)

السابق.

ص: 604

{وَإِذَا

(1)

[رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: آية 11].

وقد يرجع إلى أحدهما في المتعاطفاتِ بالفاءِ، ومن أمثلةِ رجوعِه إلى أحدِهما في المتعاطفينِ بالفاءِ قولُ امرئِ القيسِ في معلقتِه

(2)

:

فَتُوضَحَ فَالْمِقْرَاةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا

لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِ

فَرَدَّهُ لإحداهما. وعلى كُلِّ حالٍ فالمعنَى: يحلفونَ بِاللَّهِ لكم ليرضوكم وَاللَّهُ أحقُّ أن يرضوه ورسولُه أحقُّ أن يرضوه إن كانوا مؤمنينَ، ولكنهم لم يكونوا مؤمنينَ - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ. وهذا معنَى قولِه:{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة: آية 62].

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)} [التوبة: آية 63].

قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مرارًا

(3)

أن كُلَّ فعلٍ مضارعٍ مجزومٍ بـ (لم) إذا تَقَدَّمَتْهُ همزةُ استفهامٍ بأن قيل فيه (أَلَمْ) كل فعل مضارع مسبوق بـ (ألم) فيه لعلماءِ التفسيرِ وجهانِ في جميعِ القرآنِ:

أحدُهما: أن تصيرَ مُضَارَعَتُهُ ماضويةً، ويصيرَ نفيُه إثباتًا، فأصلُه مضارعٌ منفيٌّ بـ (لم) فتصيرُ حقيقةُ معناه أنه مَاضٍ مُثْبَتٌ فتنقلب المضارعةُ ماضويةً، وينقلبُ النفيُ إثباتًا، وهذا مطردٌ كقولِه:

(1)

في هذا الموضع انقطاع في التسجيل. وقد أَثْبَتُّ تمام الآية وجعلت ذلك بين معقوفين.

(2)

ديوانه ص110.

(3)

مضى عند تفسير الآية (130) من سورة الأنعام.

ص: 605

{أَلَمْ يَعْلَمُوا} معناه: عَلِمُوا أن مَنْ حَادَّ اللَّهَ {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8)} [البلد: آية 8] جَعَلْنَا له عَيْنَيْنِ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)} [الشرح: آية 1] شَرَحْنَا لكَ صدركَ. فإن قِيلَ: بأيِّ وجهٍ انقلبت المضارعةُ ماضويةً، وانقلب النفيُ إثباتًا، مع أن النفيَ والإثباتَ، نقيضانِ؟ فالجوابُ: أن انقلابَ المضارعةِ ماضويةً أَمْرٌ واضحٌ لَا إشكالَ فيه؛ لأن (لم) حرفُ قَلْبٍ، تقلبُ المضارعَ من معنَى الاستقبالِ إلى معنَى الماضِي، وهذا أمرٌ معروفٌ لا نزاعَ فيه ولَا إشكالَ، أما انقلابُ النفيِ إثباتًا فوجهُه أن همزةَ الاستفهامِ التي قبلَ حرفِ (لم) هي استفهامُ إنكارٍ، والإنكارُ مُضَمَّنُ معنَى النفيِ، فيتسلط النفيُ الكامنُ في الهمزةِ على النفيِ الصريحِ في (لم) فَيَنْفِيهِ، ونفيُ النفيِ إثباتٌ. هذا وجهُ مَنْ قال هذا القولَ.

القولُ الثانِي: أن كُلَّ فعلٍ مضارعٍ مسبوقٍ بـ (ألم) في جميعِ القرآنِ هو استفهامُ تقريرٍ، والمرادُ باستفهامِ التقريرِ هو حَمْلُ المخاطَب على أن يُقِرَّ فيقول: بَلَى، وليس المرادُ منه طلبَ فَهْمٍ ألبتةَ. فالمرادُ بهذا على هذا القولِ أن يقولوا: بَلَى نعلمُ أنه من يُحَادِدِ اللَّهَ ورسولَه فأن له نارَ جهنمَ {أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ} إنما فُكَّ الإدغامُ هاهنا لأن الفعلَ مجزومٌ، ومعلومٌ أن المضعَّفَ إذا جُزِمَ أو صار أمرًا جَازَ فيه الإدغامُ وفَكُّ الإدغامِ كما هو معروفٌ في محلِّه. ومعنَى قولِه:{مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ} أي: يُشَاقِّ اللَّهَ ويخالفه ويعاصيه. وأصلُ المحادَّةِ: من الحدِّ؛ لأن المحادَّ يكونُ في الحدِّ الذي ليس فيه من حاده، تقول: زيد مُحَادٌّ لعمرو. أي: مشاقٌّ له ومعادٍ له ومعاندٌ؛ لأنه في الحدِّ الذي ليس فيه، فهذا في الحدِّ الذي ليس فيه هذا وذلك بعكس ذلك أيضًا. وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، وأعظمُ

ص: 606

محادةٍ لله هي إيذاءُ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم والتجرؤُ على ذلك بالأيمانِ الباطلةِ الكاذبةِ.

{فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} إذا كانت (أَنَّ) مثلاً في جزاءِ الشرطِ بعد فاءٍ جَازَ فيها الفتحُ كما هنا وجاز فيها الخفضُ أيضًا، وهما لغتانِ عربيتانِ. وقراءةُ الجمهورِ منهم السبعةُ هنا:{فَأَنَّ لَهُ} بفتحِ الهمزةِ، ولو كُسِرَتْ لَجَازَ لغةً لا قراءةً؛ لأن القراءةَ الصحيحةَ بعكسِه {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} أضافَ النارَ إلى جهنمَ لأن جهنمَ طبقةٌ من طبقاتِها.

{خَالِدًا فِيهَا} في حالِ كونه خالدًا فيها، وهي حال مقدرة كما هو معلومٌ.

{ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} أي: الخلودُ في النار- عياذا بالله - بسببِ مُحَادَّةِ اللَّهِ ومشاقتِه، والخزيُ العظيمُ أي: الذلُّ الأكبرُ والهوانُ الأعظمُ. فالخزيُ في لغةِ العربِ: غايةُ الذلِّ والهوانِ والانسفالِ. وقد صَرَّحَ اللَّهُ (جلَّ وعلا) بأن مَنْ حَادَّ اللَّهَ في غايةِ الذلِّ والمهانةِ والسفالةِ كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ (20)} [المجادلة: آية 20] فقولُه: {أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} يُبَيِّنُ أن الخزيَ هنا - عياذًا بالله - يتضمنُ أعلى الذلِّ والحقارِ والصغارِ، وقال تعالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجادلة: آية 5] وذلك الكبتُ ملتزمٌ لأصنافِ الذلِّ والمهانةِ، وَاللَّهُ (جل وعلا) يقولُ:{رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: آية 192] أي: أَذْلَلْتَهُ وأهنتَه - والعياذُ بالله أَجَارَنَا اللَّهُ منها وإخوانَنا المسلمينَ - وهذا معنى قولِه: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الضميرُ ضميرُ الشأنِ، والجملةُ هي اسم (أن)، و (أن) الثانيةُ فيها

ص: 607

للعلماءِ أَوْجُهٌ

(1)

متعددةٌ أصحُّها وأقربُها للصوابِ أنها هي (أن) الأُولَى كُرِّرَتْ لَمَّا طال الفصلُ بينَهما، وتكريرُ (أن) إذا طالَ الفصلُ أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ كثيرٌ في كلامِ العربِ، ومنه هذه الآيةُ على الصحيحِ:{فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} .

{خَالِدًا فِيهَا} الخلودُ معناه: المكثُ الطويلُ، والمرادُ بخلودِ أهلِ النارِ خلودٌ لَا انقطاعَ فيه البتةَ؛ لأن اللَّهَ يقولُ:{كُلَّمَا خَبَتْ زِدنَهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: آية 97] فليس للنارِ خبوةٌ نهائيةٌ ليس بعدَها زيادةُ سعيرٍ، وقد قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ

(2)

أن جماعةً من العلماءِ زعموا أن النارَ تَفْنَى، وأنهم يخرجونَ منها، واستدلُّوا بقولِه:{لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} [النبأ: آية 23] وبقولِه: {إِلَاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} في سورة هود [هود: آية 107] وبقوله: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَاّ مَا شَاء اللَّهُ} [الأنعام: آية 128] وَبَيَّنَّا مرارًا أن التحقيقَ في خلودُ أهل الجنةِ وخلودُ أهلِ النارِ أنه خلودٌ أبديٌّ لَا انقطاعَ له أبدًا لا يزولُ ولا يحولُ فهو باقٍ بقاءً سرمديًّا لا انقطاعَ له، أما خلودُ أهلِ الجنةِ فقد صَرَّحَ الله به في آياتٍ من كتابِه كقولِه:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: آية 108]{إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ (54)} [ص: آية 54] وقولُه (جلَّ وعلا): {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: آية 96] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ، وأما خلودُ أهلِ النارِ فجاءت فيه آياتٌ كثيرةٌ كقولِه:{لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} [فاطر: آية 36] {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ

(1)

انظر: ابن جرير (14/ 330)، القرطبي (8/ 194)، الدر المصون (6/ 77).

(2)

مضى عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام، والآية (36) من سورة الأعراف.

ص: 608

فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [طه: آية 74]{وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} [فاطر: آية 36]{كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: آية 97] والحاصلُ أن مَنْ قال من السلفِ: «إن النار تَفْنَى ويبقى محلُّها لا أحدَ فيه» يجبُ حملُها كما صَرَّحَ به البغويُّ في تفسيرِه

(1)

على الطبقةِ التي كان فيها عصاةُ المسلمينَ؛ لأن اللَّهَ يخرجُهم بعد أن تطهرهم النارُ فيؤولون إلى الجنةِ فتبقى طبقتُهم التي كانوا فيها خاويةً، أما الكفارُ فهم باقونَ معذبونَ لا يموتونَ ولا يخففُ عنهم العذابُ ولا تفنى النارُ عنهم، وقد نفى اللَّهُ فناءَها بقولِه:{كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} فَمَنْ يَدَّعِي أن لها خبوةً نهائيةً ليس بعدَها زيادةُ سعيرٍ رُدَّ عليه بهذه الآيةِ الكريمةِ، وكذلك لا يخرجون منها؛ لأن اللَّهَ يقول:{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: آية 20]{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج: آية 22]{وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: آية 167]{وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة: الآية 37] وكذلك لا يموتونَ فيها كما قال: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم: آية 17]{لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} [فاطر: آية 36] إلى غير ذلك من الآيات كما أوضحناه في هذه الدروس.

[10/ب] /

(2)

[أما آيةُ النبأِ، وهي قولُه: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} [النبأ: آية 23] فقد بَيَّنَتْهَا غايةَ البيانِ آيةُ سورةِ (ص)، وإيضاح ذلك أن

(1)

تفسير البغوي (2/ 403) ..

(2)

في هذا الموضع انقطع التسجيل. وتم استيفاء النقص من كلام الشيخ رحمه الله على هذه المسألة عند تفسير الآية (36) من سورة الأعراف. وجعلت ذلك بين معقوفين.

ص: 609

المعنَى: {لَابِثِينَ فِيهَا} أي: في النار {أَحْقَابًا} في حالِ كونِهم في تلك الأحقابِ {لَاّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَاّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)} [النبأ: الآيتانِ: 24، 25] فإذا انقضت أحقابُ] الحميمِ والغسَّاق، عُذِّبُوا بأنواعٍ أُخَرَ من أنواعِ العذابِ لا نهايةَ لها ولا يعلمُها إلا اللَّهُ. وإنما قُلْنَا: إن هذه الأحقابَ، مختصةٌ بأحقابِ الحميمِ والغساقِ لأن اللَّهَ بَيَّنَ ذلك وَصَرَّحَ به في سورةِ (ص) وخيرُ ما يُفَسَّرُ به القرآنُ القرآنُ؛ لأن الله يقول في (ص):{هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)} [ص: الآيات 55 - 58] فَبَيَّنَ أن هنالك أصنافًا أُخَرَ وأشكالاً من أنواعِ العذابِ غير الحميمِ والغسَّاقِ. فَبَيَّنَتْ آيةُ (ص) هذه آيةَ النبأ، بيانًا واضحًا، وخيرُ ما يُفَسَّرُ به القرآنُ القرآنُ.

وذكرنا

(1)

أن بعضَ الملحدين يقولُ: أين الإنصافُ والحكمةُ في أن تكونَ أيامُ المعصيةِ في دارِ الدنيا وأيامُ الكفرِ مدةً محدودةً والجزاءُ في مدةٍ لَا تنقضي، فأين العدلُ والميزانُ، في عملٍ في مدةٍ معينةٍ مع جزاءٍ في مُدَدٍ لَا تنقضي ولا تنتهي؟!

والجوابُ عن هذا: أن خبثَ الكافرِ الذي عُذِّبَ بسببِه هو باقٍ دائمٌ لا يزولُ في جميعِ الْمُدَدِ، فكان العذابُ دائمًا لا يزولُ؛ لأن سببَه باقٍ لا يزولُ، والدليلُ على أن خبثَ الكفارِ باقٍ لا يزولُ أبدًا فكان جزاؤه دائمًا لا يزول أبدًا لأنهم لَمَّا رأوا النارَ وعاينوا الحقائقَ يومَ القيامةِ وَنَدِمُوا على تكذيبِ الرسلِ فتمنوا الردَّ إلى الدنيا ليتوبوا {فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: آية 27] قال اللَّهُ فيهم: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: آية 28]

(1)

راجع ما سبق عند تفسير الآية (128) من سورة الأنعام.

ص: 610

فصرَّح (جلَّ وعلا) بأنهم لو رُدُّوا إلى الدنيا بعد معاينةِ النارِ والعذابِ وبلايا القيامةِ لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عنه.

وهو تصريحٌ بأن خبثَهم الطبيعيَّ منطبعٌ فيهم دائمٌ لا يزولُ، فلذلك كان جزاؤه دائمًا لا يزولُ. والجزاءُ بحسبِ العملِ؛ ولذا قال تعالى:{جَزَاءً وِفَاقًا (26)} [النبأ: آية 26] موافقًا لأعمالِهم فخبثُهم لا يزولُ وجزاؤهم لَا يزولُ، وقد قال تعالى:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: آية 23] فـ (خيرًا) نكرةٌ في

(1)

سياقِ الشرطِ وهي تعمُّ، فعرفنا أن اللَّهَ لم يعلم فيهم خيرًا ما في وقتٍ ما كائنًا ما كان، وَلَمَّا كان الخيرُ منتفٍ عنهم أبدًا والشرُّ ملازمٌ لهم أبدًا، كان جزاؤهم لازمًا أبدًا. وهذا معنَى قولِه:{فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ} [التوبة: آية 63]- والعياذُ بالله - {الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} الهوانُ والخزيُ الكبيرُ. والعظيمُ صفةٌ مشبهةٌ مِنْ عَظُمَ الشيءُ يعظمُ فهو عظيمٌ، وهو معنًى معروفٌ لا خفاءَ به.

قال تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (68)} [التوبة: الآيات 64 - 68].

(1)

السابق.

ص: 611

يقول الله (جلَّ وعلا): {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64)} [التوبة: آية 64].

قرأ هذا الحرفَ عامةُ القرَّاءِ، غير ابن كثير وأبي عمرو:{أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ} بفتحِ النونِ وتشديدِ الزايِ، وقرأ ابنُ كثير وأبو عمرٍو:{أنْ تُنْزل عليهم سورة} ومعنَى القراءتين واحدٌ، فالله (جل وعلا) في هذه السورةِ الكريمةِ يفضحُ ما تنطوي عليه ضمائرُ المنافقينَ، فَبَيَّنَ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم في هذه الآيةِ الكريمةِ أن المنافقينَ في غايةِ الخوفِ والقلقِ والحذرِ من أن ينزلَ اللَّهُ على نَبِيِّهِ قرآنًا يكشفُ به أسرارَهم، ويوضحُ ما تنطوي عليه ضمائرُهم من الكفرِ والسوءِ فقال:{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ} مضارعُ حَذِرَ الأمرَ يَحْذَرُهُ إذا كان يخافُ وقوعَه خوفًا شديدًا.

قولُه: {أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ} التحقيقُ أن المصدرَ المنسبكَ من (أنْ) وصلتِها في محلِّ نصبٍ مفعولٌ به ليحذر

(1)

؛ لأنه (يحذر) تتعدى بنفسها دونَ حرفٍ، وأنشد سيبويه لتعدي (حذر) بنفسها قولَ الشاعر

(2)

:

حَذِرٌ أُمُورًا لَا تُضِيرُ وَآمِنٌ

مَا لَيْسَ يُنْجِيهِ مِنَ الأَقْدَارِ

فقولُه: «أمورًا» مفعولٌ به لـ (حَذِر) وهو الوصفُ من حَذِرَ يحذرُ فهو حَذِرٌ {أَنْ تُنَزَّلَ} يعني: يحذرُ المنافقونَ تنزيلَ سورةٍ من الله عليهم. أي: على النبيِّ وأصحابِه تفضحُ المنافقينَ، وقال بعضُ

(1)

انظر: الدر المصون (6/ 79).

(2)

الكتاب (1/ 113).

ص: 612

العلماءِ: {عَلَيْهِمْ} أي: على المنافقينَ؛ لأنها إذا نزلت في شأنهم مُبَيِّنَةً فضائحَهم وما تنطوي عليه أسرارُهم فكأنها نُزلت عليهم {قُلِ} لهم يا نَبِيَّ الله {اسْتَهْزِئُوا} صيغةُ الأمرِ هنا للتهديدِ، يعني: دُومُوا على ما أنتم عليه من الاستهزاءِ بآياتِ اللَّهِ وبالله وبرسولِه فَسَتَلْقَوْنَ جزاءَ ذلك {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ} أي: مظهرٌ لنبيه بما يُوحي إليه ما أنتم تُسِرُّونَهُ وَتُبْطِنُونَهُ، ذلك الذي تحذرون أن يفضحَكم الله فيه، إن الله مخرجُه ومظهرُه، وقد أَطْلَعَ اللَّهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم على حقائقِهم بعدَ أن لم يكن يعلمُها؛ لأن قولَه هنا:{إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} يدلُّ على أن النبيَّ في هذا الوقتِ لم يكن يعلمُه كما يأتِي في قولِه: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة: آية 101] وقد بَيَّنَ اللَّهُ لنبيِّه المنافقينَ، أشار له إلى معرفتَهم بقولِه:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} ثم قال: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: الآيتان 29، 30] وقد أَطْلَعَ اللَّهُ نبيَّه عليهم في غزوةِ تبوكَ، وأطلع النبيُّ حذيفةَ بنَ اليمانِ على جماعةٍ منهم بأسمائِها. وهذا معنَى قولِه:{قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} [التوبة: آية 64].

قولُه: {مَّا} في محلِّ المفعولِ به لاسمِ الفاعلِ الذي هو (مخرج) والسؤالُ الذي يتبادرُ في هذا جوابُه ظاهرٌ، لأن (مخرج) هنا قد وقع وتعلق بالماضِي، والمقررُ في علمِ العربيةِ أن اسمَ الفاعلِ إذا كان نكرةً لا يعملُ إلا بمسوِّغ، ولا يعملُ في الماضِي، وهنا كأنه عمل في الماضي. والجوابُ واضحٌ؛ لأن هذه الآيةَ تَحْكِي ما كان في ذلك الوقتِ مستقبلاً؛ لأن وقتَ نزولِ هذه الآيةِ يحكي اللَّهُ (جلَّ وعلا)

ص: 613

فيها أنه سيفعلُ ذلك في المستقبلِ، فإذًا لم يتعلق اسمُ الفاعلِ بأمرٍ ماضٍ كما لا يَخْفَى. وهذا معنَى قولِه:{إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} .

ثم قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: آية 65] نزلت هذه الآيةُ في غزوةِ تبوكَ بإطباقِ المفسرينَ في قومٍ استهزؤوا بالله وآياتِه ورسولِه. قال بعضُ العلماءِ: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يسيرُ في غزوةِ تبوكَ وأمامُه ركبٌ من المنافقينَ، فكان بعضُهم يقولُ لبعضٍ:«يَظُنُّ هذا أنه يفتحُ قصورَ الشامِ ويقدرُ على بلادِ بنِي الأصفرِ، هيهاتَ هيهاتَ" فَأَطْلَعَ اللَّهُ نبيَّه على ذلك فاستوقفهم فسألَهم: «لِمَ قُلْتُمْ هَذَا؟» قالوا: كنا نخوضُ ونلعبُ، لم نقل هذا عن طريقِ الجدِّ، وإنما قلناه عن طريقِ الهزلِ واللعبِ. فأجابهم اللَّهُ:{أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم}

(1)

[التوبة: آية 65].

وذكر بعضُ العلماءِ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ضَلَّتْ راحلتُه في غزوةِ تبوكَ فقال جماعةٌ من المنافقينَ: انْظُرُوا إلى هذا الرجلِ يَدَّعِي أنه يعلمُ علمَ الغيبِ، وأنه ينزلُ عليه الوحيُ وهو لا يدرِي أينَ ذَهَبَتْ ناقتُه!! وأن جبريلَ أتاه فأخبرَه بموضعِها، أَمْسَكَتْهَا شجرةُ كذا بِزِمَامِهَا، فناداهم وقال:«لِمَ قُلْتُمْ مَا قُلْتُمْ؟» قالوا: كنا نخوضُ ونلعبُ

(2)

.

وعلى كُلِّ حالٍ فلا خلافَ بين العلماءِ أن هذه الآيةَ من سورةِ براءة نَزَلَتْ في غزوةِ تبوكَ في قومٍ استهزؤوا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم واستَخَفُّوا به، فسألهم رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فأجابوا معتذرينَ اعتذارًا كاذبًا قالوا:{إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ} في الحديثِ {وَنَلْعَبُ} نهزأُ ونضحكُ فيما بينَنا لا نقولُ ذلك عن جِدٍّ وَقَصْدٍ. وهذا معنَى قولِه: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} .

(1)

أخرجه ابن جرير (14/ 334)، وابن أبي حاتم (6/ 1830)، والواحدي في أسباب النزول ص250، عن قتادة مرسلاً. وعزاه في الدر (3/ 254) لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(2)

أخرجه البيهقي في الدلائل (5/ 232)، وذكره ابن هشام في السيرة ص1375، من طريق ابن إسحاق. وانظر: الذهب المسبوك ص249، وليس للآية ذكر في الرواية التي وقفت عليها. وقد أخرج ابن أبي حاتم (6/ 1830) وكذا أورده السيوطي في الدر (3/ 254) عن مجاهد في قوله:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} قال رجل من المنافقين: يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا في يوم كذا وكذا وما يدريه بالغيب»؟! وعزاه السيوطي لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

ص: 614

{قُلْ} لهم يا نَبِيَّ اللَّهِ: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} يعني تستهزئونَ بالله وبرسوله وبآياته؟! فالاستهزاءُ بالله وبآياتِه وبرسولِه كفرٌ بواحٌ لَا عذرَ لصاحبِه البتَّة. قال بعضُ العلماء

(1)

: يؤخذُ من هذه الآيةِ الكريمةِ أن مَنِ استهزأَ بِاللَّهِ وبرسولِه وبآياتِه ولو كان هازلاً مازحًا أنه يكون كافرًا؛ لأنه لا هَزْلَ في الكفرِ، وقد جاء في الحديثِ أن بعضَ المسائلِ هَزْلُهَا كجدِّها، كالطلاقِ، والعتاقِ، وهي ثلاثُ مسائلَ معدودةٌ في الحديثِ:» ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ [جِدٌّ]

(2)

: الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ

» ونسيت الثالثة

(3)

مع أنها مختلفٌ فيها:

(1)

انظر: القرطبي (8/ 197).

(2)

في الأصل: «هزل» . وهذا سبق لسان، والصواب: جدهن جد وهزلهن جد.

(3)

الثلاث في أشهر الروايات هي: النكاح والطلاق والرجعة.

والحديث أخرجه أبو داود في الطلاق، باب: في الطلاق على الهزل، حديت رقم:(2180)(6/ 262)، والترمذي في الطلاق، باب ما جاء في الجد والهزل في الطلاق. حديث رقم:(1184)(3/ 481)، وابن ماجه في الطلاق، باب من طلّق أو نكح أو رجع لاعبًا. حديت رقم:(2039)(1/ 658)، والدارقطني (4/ 18، 19)، والحاكم (2/ 198)، وابن الجارود (3/ 44). وللوقوف على روايات الحديث وألفاظه انظر: التعليق المغني على الدارقطني (4/ 19)، إرواء الغليل (6/ 224).

ص: 615

هَلْ هي الرجعةُ أو غيرُها.

وهذا معنَى قولِه: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا} الاستهزاءُ: الاستخفافُ، ولا تعتذروا هذا الاعتذارَ الباردَ الكاذبَ، ليس مقبولاً منكم حتى تتوبوا توبةً نصوحًا:{قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} أي: بعدَ إظهارِكم الإيمانَ وإعلانِكم إياه.

ثم قال: {إِن نَّعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة: آية 66] قَرَأَ هذا الحرفَ عامَّةُ القراءِ السبعةِ، غيرَ عاصمٍ وحدَه:{إن يُعف عن طائفةٍ منكم تُعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين} بقولة: {يُعف} بالياءِ وبناءِ الفعلِ للمفعولِ، و {تُعذب} طائفةٌ بالتاءِ، وضم طائفة على أنه نائبُ الفاعلِ، وقرأ عاصمٌ وحدَه من السبعةِ:{إِن نَّعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً}

(1)

بنونِ العظمةِ ونصبِ طائفةٍ الثانيةِ. وفي نَظْمِ ابنِ المرحَّل

(2)

:

لِعَاصِمٍ قِرَاءَةْ

لِغَيْرِهَا مُخَالِفَةْ

إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةْ

مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةْ

فهذه قراءةُ عاصمٍ وحدَه، بروايةِ حفصٍ وشعبةَ عنه معًا.

(1)

مضت عند تفسير الآية (51) من سورة الأعراف.

(2)

السابق.

ص: 616

وهذا معنَى قولِه: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِّنْكُمْ} .

قال بعضُ العلماءِ

(1)

: هذا العفوُ نزل في [مَخْشِيِّ بن الحميّر] لأنه كان من الذين خَاضُوا في الاستهزاءِ. قال بعضُ العلماءِ

(2)

: كانوا ثلاثةَ نفرٍ اثنانِ استهزؤوا وواحدٌ ضَحِكَ لهما من كلامِهما، ثم إن الثالثَ الذي هو مخشي بن الحميرِ رضي الله عنه تَابَ إلى اللَّهِ، وَحَسُنَ إسلامُه، وعفى الله عنه، وأنزل الله فيه:{إِن نَّعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} .

وقال غيرُ واحدٍ إن مخشيًّا رضي الله عنه تابَ من نفاقِه، وحسُن إسلامُه، وأناب إلى الله، ودعا اللَّهَ أن يموتَ شهيدًا، وأن لا يطلعَ أحدٌ على قبرِه، وقال مَنْ قال هذا: قُتِلَ باليمامةِ شهيدًا. ولم يَطَّلِعْ عليه أحدٌ، ولم يُعْثَرْ عليه رضي الله عنه، هكذا قال بعضُهم

(3)

.

{إِن نَّعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِّنْكُمْ} تَابَتْ إلى اللَّهِ وَأَنَابَتْ إليه ورجعت عن النفاقِ إلى الإيمانِ الخالصِ والتوبةِ النصوحِ {نُعَذِّبْ طَائِفَةً} أخرى لم يتوبوا بل كانوا مُصِرِّينَ على النفاقِ والاستهزاءِ باللَّهِ وآياتِه ورسولِه بسبب أنهم {كَانُوا مُجْرِمِينَ} مُرْتَكِبِينَ الجريمةَ،

(1)

أخرجه ابن جرير (14/ 336) عن ابن إسحاق مرسلاً. وقد أخرج ابن أبي حاتم (6/ 1831) كما أورد السيوطي في الدر (3/ 254) شاهدًا له عن كعب بن مالك رضي الله عنه. وعزاه لابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم. وأورده أيضًا عن ابن عباس وعزاه لابن مردويه.

(2)

انظر: القرطبي (8/ 199).

(3)

جاء ذلك في أثر كعب بن مالك وابن عباس اللذين أشرنا إليهما قريبًا.

ص: 617

وهي الإصرارُ على الكفرِ والنفاقِ من غيرِ إقلاعٍ ولا توبةٍ عنه، والمجرمون

(1)

جَمْعُ المجرمِ، والمجرمُ مرتكبُ الجريمةِ، والجريمةُ هي الذنبُ العظيمُ الذي يستحقُّ صاحبُه النكالَ العظيمَ و (مجرمون) هنا اسمُ فاعلِ (أَجْرَمَ) بصيغةِ (أفعل) بالهمزةِ التي صار بها رُبَاعِيًّا، ويستعملُ هذا الفعلُ استعمالينِ: أَجْرَمَ رباعيًّا بصيغةِ (أفعل) وجرم ثلاثيًّا مجردًا. وما جاء مستعملاً في القرآنِ إلا بصيغةِ الرباعيِّ فقط (مجرمون). {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} [المطففين: آية 29] ولم يَأْتِ بصيغةِ الثلاثيِّ المجردِ في القرآنِ ولكنه جاء بذلك في لغةِ العربِ، ومن ذلك قولُ الشاعرِ:

وَنَنْصُرُ مَوْلَانَا وَنَعْلَمُ أَنَّهُ

كَمَا النَّاسُ مَجْرُومٌ عَلَيْهِ وَجَارِمُ

(2)

لأن المجرومَ اسمُ مفعولِ جَرَمَهُ الثلاثيِّ المجردِ بلا نزاعٍ، وهذا معنَى قولِه:{إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} .

{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (68)} [التوبة: الآيتان 67، 68].

{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ} [التوبة: آية 67] المنافقُ هو مَنْ يُظْهِرُ الإيمانَ، ويُسِرُّ الكفرَ، وهو المسمَّى في عرفِ

(1)

مضى عند تفسير الآية (55) من سورة الأنعام.

(2)

تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (55) من سورة الأنعام.

ص: 618

الفقهاءِ بالزنديقِ. قال بعضُ العلماءِ: اشتقاقُه من النافقاء وهي جحرُ اليربوعِ؛ لأَنَّ جحرَ اليربوعِ يكونُ له أبوابٌ مختلفةٌ يدخلُ من بابٍ ويخرجُ من آخَرَ، فالمنافقُ يخرجُ بغيرِ ما دخل به، هكذا قيل.

{الْمُنَافِقُونَ} الذكورُ {وَالْمُنَافِقَاتُ} الإناثُ، هذه الآيةُ الكريمةُ وأمثالُها في القرآنِ مما استدل به جماعةٌ من [أهلِ]

(1)

الأصولِ على مسألةٍ أصوليةٍ مختلفٍ فيها وإيضاحُها أن الصفاتِ التي يشتركُ فيها الذكورُ والإناثُ إذا جاءت في كتابِ اللَّهِ أو سنةِ رسولِه بصيغةٍ خاصةٍ بالذكورِ فهل يدخلُ فيها الإناثُ نَظَرًا إلى اشتراكِهن مع الذكورِ في أصلِ الوصفِ، أو يختصُّ بها الذكورُ لأن البناءَ مختصٌّ بالذكورِ؟! وإيضاحُ هذا، أن النفاقَ هو صفةٌ تتصفُ بها الأُنْثَى والذكرُ، ولكن قولَه:{الْمُنَافِقُونَ} اختصَّ بالذكورِ، فإذا جاء في كتابِ اللَّهِ جمعُ مذكرٍ سالمٌ أصلُ معناه يشتركُ فيه الذكورُ والإناثُ، هل يُحْكَمُ بدخولِ الإناثِ أو لا يُحْكَمُ بدخولهنَّ إلا بدليلٍ منفصلٍ؟! هذا خلافٌ مشهورٌ في الأصولِ

(2)

، قال أكثرُ أهلِ الأصولِ: إن الجموعَ المذكرةَ السالمةَ ونحوَها مما يختصُّ بجماعةِ الذكورِ، إذا وَرَدَ في كتابِ اللَّهِ أو سُنَّةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم لا يدخلُ فيه النساءُ إلا بدليلٍ خَاصٍّ، لاختصاصِ الصيغةِ بالذكورِ، وإن كان الوصفُ شاملاً للجميعِ، واستدلُّوا على أن النساءَ لَا يَدْخُلْنَ في الجموعِ المذكرةِ بمثلِ هذه الآيةِ في القرآنِ، قالوا: لو كانت المنافقاتُ الإناثُ يَدْخُلْنَ في اسمِ المنافقينَ بصيغةِ الجمعِ المذكرِ السالمِ لَكَفَى ذلك عن عطفِهن عليهم، قالوا: والعطفُ دليلُ المغايرةِ وعدمِ الدخولِ، واستدلوا لهذا بكثرةِ نَحْوِهِ في القرآنِ كقولِه:{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} [الأحزاب: آية 73] وقولِه:

(1)

ما بين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق.

(2)

انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 235).

ص: 619

{قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: آية 31] ثم قال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ} [النور: آية 31] فقالوا: فَعَطْفُ النساءِ على الذكورِ المجموعينَ بصيغةِ الجمعِ الْمُذَكَّرِ يدلُّ على عدمِ دخولِهن فيه لاختصاصِ الصيغةِ بالذكورِ، وإن كان الوصفُ شاملاً للجميعِ وكتابِه.

وذهبت طائفةٌ أخرى إلى أن النساءَ يدخلن في الجموعِ المذكرةِ وما جَرَى مَجْرَاهَا؛ لأن الجميعَ سواءٌ في التكاليفِ، واستدلوا بآياتٍ من كتابِ اللَّهِ جاء مصرَّحًا فيها بدخولِ الأُنْثَى في صيغةِ الجمعِ المذكرِ السالمِ، كقولِه تعالى في [بلقيس]

(1)

: {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)} [النمل: آية 43] فَأَدْخَلَ هذه المرأةَ في (الكافرينَ) وهو جمعُ مذكرٍ سَالِمٌ. وقولُه في مريمَ ابنةِ عمرانَ: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكِتَابِهِ} [التحريم: آية 12] وفي القراءةِ الأُخْرَى: {وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}

(2)

فَأَدْخَلَ مريمَ وهي امرأةٌ في اسمِ (القانتينَ) وهو جمعُ مذكرٍ سَالِمٌ، قالوا: ونظيرُه قولُه في امرأةِ العزيزِ: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)} [يوسف: آية 29] وهذا خلافٌ معروفٌ في الأصولِ. وأكثرُ الأُصُولِيِّينَ يقولونَ: إنهنَّ لا يدخلنَ. وأجمعَ العلماءُ على عدمِ دخولِ النساءِ في صيغةِ الذكورِ في قولِه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: الآيتانِ 5، 6] فلا يجوزُ للمرأةِ أن تتخذَ عبدَها وَتَتَسَرَّاهُ؛ لأن الإناثَ لم يَدْخُلْنَ في هذه الصيغةِ المختصةِ بالذكورِ، وعلى كُلِّ حالٍ فأظهرُ قَوْلَيِ الأصوليينَ - وعليه أكثرُهم - أن أصلَ اللغةِ يقتضي تغليبَ الذكورِ على الإناثِ، وهذا لا نزاعَ فيه، أمَّا التبادرُ عند

(1)

وقع في الأصل: «امرأة العزيز» ، وهو سبق لسان.

(2)

انظر: المبسوط لابن مهران ص440.

ص: 620

الإطلاقِ، فهل يتبادرُ دخولُ النساءِ في الجموعِ المذكرةِ أو لا؟ فالظاهرُ أنه ما دَخَلْنَ في جمعٍ مذكرٍ سَالِمٍ إلا بقرينةٍ زائدةٍ دالةٍ على ذلك، وأنه إذا تَجَرَّدَ من القرائنِ لم يَدْخُلْنَ فيه، وعلى هذا أكثرُ علماءِ الأصولِ.

وقولُه: {بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ} [التوبة: آية 67] هذه الآيةُ تَضَمَّنَتْ تكذيبَ المنافقينَ المذكورَ في قولِه: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} [التوبة: آية 56] وَصَدَّقَتْ قولَه: {وَمَا هُم مِّنْكُمْ} [التوبة: آية 56] كأن اللَّهَ يقول: المنافقونَ يحلفون بالله إنهم لَمِنْكُمْ وما هم منكم. الحقيقةُ هم ليسوا مِنْكُمْ ولكن بعضَهم من بعضٍ، وليسوا منكم ولستُم منهم، بل هم بعضُهم من بعضٍ؛ لأنهم هم المتشابهون في الأخلاقِ والأهدافِ، أخلاقُهم واحدةٌ وغرضٌهم واحدٌ، فبعضُهم مِنْ بعضٍ وبعضُهم أولياءُ بعضٍ، وليسوا منكم ولستُم منهم، فهذا معنَى قولِه:{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ} ثم بَيَّنَ صفاتِهم التي يجتمعون فيها وهي ضدُّ صفاتِ المؤمنينَ، على خَطٍّ مستقيمٍ، وهي قولُه:{يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ} والمؤمنون يأمرون بالمعروفِ {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} والمؤمنون ينهونَ عن المنكرِ.

وَالْمُنْكَرُ: اسمُ مفعولِ أَنْكَرَهُ، والمرادُ به كُلُّ ما أنكره الشرعُ ولم يَأْذَنْ فيه. والمعروفُ: اسمُ مفعولِ (عَرَفَهُ) وهو كُلُّ ما عَرَفَهُ الشرعُ ودعا إليه وَأَمَرَ به.

{يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} المرادُ بقبضِ اليدِ هنا كناية عن البخلِ وعدمِ مَدِّ الأيدي بما أَلْزَمَ اللَّهُ بإعطائِه، فَهُمْ لَا يُزَكُّونَ ولَا ينفقونَ، فالعربُ تقولُ: فلانٌ يَتَعَوَّدُ قبضَ اليدِ، ويدُه مقبوضةٌ، ويقبضُ يدَه يُكَنُّونَ بذلك عن

ص: 621

البخلِ. يعنونَ: لا يجودُ. فَبَسْطُ اليدِ معناه الجودُ، وقبضُ اليدِ معناه البخلُ، قال بعضُ العلماءِ: قَبْضُهُمْ أيديَهم: بخلُهم بما يلزمهم من الزكواتِ وسائرِ الإنفاقِ. وقال (

)

(1)

.

( .... ) وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ زهيرٍ

(2)

:

تَعَوَّدَ بَسْطَ الْكَفِّ حَتَّى لَوَ انَّهُ

دَعَاهَا لِقَْبضٍ لَمْ تُجِبْهُ أَنَامِلُهْ

وهذا معنَى قولِه: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} .

{نَسُوا اللَّهَ} المرادُ بالنسيانِ هنا: التركُ عمدًا، معناها: تَرَكُوا أوامرَ اللَّهِ وجعلوها وراءَ ظهورهم.

{فَنَسِيَهُمْ} اللَّهُ، تَرَكَهُمُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ خيرٍ ومن كلِّ ثوابٍ. والعربُ تُطْلِقُ النسيانَ على الترك عمدًا

(3)

، ومنه قولُه:{نسيهم} أي: الله تركَهم من كلِّ خيرٍ، ومن كلِّ ثوابٍ. وَاللَّهُ (جل وعلا) يستحيلُ في حقِّه النسيانُ الذي هو ذهابُ الشيءِ عن العلمِ، فمعنَى {نسيهم}: تَرَكَهُمْ عمدًا وإرادةً؛ لأن الله (جل وعلا) لا يَنْسَى كما قال تعالى: {لَاّ يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)} [طه: الآية 52]، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)} [مريم: الآية 64]، وهذا معنَى قولِه:{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} .

(1)

في هذا الموضع انقطع التسجيل، وهو آخر ما وُجد من دروس الشيخ رحمه الله في التفسير.

(2)

البيت لأبي تمام، وهو في ديوانه (3/ 29)، البحر المحيط (2/ 248)، الدر المصون (4/ 343).

(3)

تقدم عند تفسير الآية (42) من سورة الأنعام.

ص: 622

{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ} قَبَّحَهُمُ اللَّهُ {هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)} الخارجونَ عن طاعةِ اللَّهِ خروجًا عظيمًا وإن زعموا أنهم مؤمنون، وَحَلَفُوا للنبيِّ وأصحابِه على أنهم مؤمنون مطيعون لله ولرسولِه. وهذا معنَى قولِه:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)} [التوبة: الآية 67].

ثم قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ} [التوبة: الآية 68]، المرادُ بـ {الْمُنَافِقِينَ} مَنْ يُظهرون الإسلامَ ويُبطنون الكفرَ. {وَالْكُفَّارَ} أعلنوا كفرَهم فهم كُلُّهُمْ كفارٌ، والفرقُ بينَهم: أن بعضَهم يتظاهرُ بِكُفْرِهِ وبعضُهم يُخْفِي كفرَه، فهؤلاء الكفارُ جميعًا الْمُتَعالِنُونَ بكفرهم والجاحدونَ له وَعَدَهُمُ اللَّهُ جميعًا نارَ جهنمَ، كما تَقَدَّمَ في قولِه:{إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)} [النساء: الآية140]، وقال هنا:{وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ} .

{وَعَدَ} تأتِي بلا نزاعٍ في الخيرِ والشرِّ، إلَاّ أن مصدرَ ذاتِ الشرِّ:(وَعَدَهُ وَعِيدًا) ومصدرَ ذاتِ الخيرِ: (وَعَدَهُ وَعْدًا). وأما (أَوْعَدَ) بزيادةِ (الهمزةِ) فلا تكادُ العربُ تُطْلِقُهَا إلَاّ بالوعيدِ بالشرِّ خاصةً

(1)

. وهذا معنَى قولِه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ} .

{نَارَ جَهَنَّمَ} هو المفعولُ الثانِي لِوَعَدَ، ونارُ جهنمَ معروفةٌ، وجهنمُ طبقةٌ من طبقاتِها، وربما أُطلقت على جميعِ طبقاتِ النارِ

(2)

.

(1)

تقدم عند تفسير الآية (134) من سورة الأنعام.

(2)

تقدم عند تفسير الآية (179) من سورة الأعراف.

ص: 623

واختلف علماءُ العربيةِ في لفظةِ جهنمَ هل هي عربيةٌ أصلاً أو مُعَرَّبَةٌ

(1)

؟ والتحقيقُ أن القرآنَ العظيمَ ليس فيه عجميٌّ أصلاً

(2)

إلَاّ الأعلام، وإن كان بعضُ الكلماتِ معروفةً في كلامِ العجمِ، فبدلاً من أن نقولَ: إن العربَ أخذوها من العجمِ نقولُ: إن العجمَ أخذوها من العربِ؛ لأن اللَّهَ يقولُ في القرآنِ: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195)} [الشعراء: الآية 195]. ولا يمكنُ أن نحكمَ بأن شيئًا منه غيرُ عربيٍّ إلَاّ بدليلٍ قاطعٍ كالأعلامِ، فإن الأعلامَ تُذَكَّرُ في جميعِ اللغاتِ حسب ما وُضِعَتْ بوضعِها الأولِ.

وعلى أن {جَهَنَّمَ} أصلُها عربيةٌ وأصلُها من كلامِ العربِ لا معرَّبة: فأصلُ مادتِها (الجيم، والهاء، والميم) والنونُ المشددةُ فيها زائدةٌ - فعلى هذا القولِ يكونُ وزنُها بالميزانِ الصرفيِّ: (فعنَّل)

(3)

بزيادة النون المشددة بين العين واللام، وعليه فحروفُها الصحيحةُ هي:(الجيم) في محلِّ (الفاء)، و (الهاء) في محلِّ (العين) و (الميم) في محل (اللام) من (جَهَمَهُ يَجْهَمُه) إذا لقيه بوجهٍ عابسٍ مقطَّبٍ كَرِيهٍ؛ لأن أصحابَها إذا دخلوا فيها تَلَقَّتْهُمْ بوجهٍ عابسٍ كريهٍ وتقطَّبت وَعَبَسَتْ وجوهُهم فيها، والعربُ تقولُ:(جَهَمَه)(يَجْهَمُه) إذا تَلَقَّاهُ بوجهٍ عابسٍ كريهٍ، ومنه قولُ عمرِو بنِ الفضفاضِ الجهنيِّ

(4)

:

وَلَا تَجْهَمِينَا أُمَّ عَمْرٍو، فَإِنَّمَا

بنَِا دَاءُ ظَبْيٍ لَمْ تَخُنْهُ عَوَامِلُهْ

(1)

السابق.

(2)

السابق.

(3)

السابق.

(4)

السابق.

ص: 624

وقال بعضُ العلماءِ: هذه أصلُها فارسيةٌ مُعَرَّبةٌ، وزعم مَنْ قال هذا؛ أن في الفارسية القديمةِ (كَهَنَّام)

(1)

يطلقُ على النارِ، وأن العربَ عرَّبتها وأبدلت كافَها جيمًا فقالت فيها:(جهنم)

(2)

، والله تعالى أعلم.

وهذا معنَى قولِه: {نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أي [مَاكِثِينَ]

(3)

فيها على الدوامِ {خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ} ، أي: مقدِّرين الخلودَ فيها على الدوامِ {هِيَ حَسْبُهُمْ} أي: كفايتُهم من العقابِ. معناه: أن الجرائمَ التي ارتكبوها إذا جُوزُوا بالنارِ ففي النارِ كفايةٌ تامةٌ لجزاءِ ذلك السوءِ الذي ارْتَكَبُوهُ؛ لأنها جزاءٌ فظيعٌ {جَزَاءً وِفَاقًا (26)} [النبأ: الآية 26] فَمَنْ عُذِّبَ بالنارِ فقد جُوزِيَ جزاءً بالغًا وافيًا وهو حَسْبُهُ: أي يكفيه؛ لأنه لَا جزاءَ أعظم منه ولا أشد، وهذا معنَى قولِه:{هِيَ حَسْبُهُمْ} .

{وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ} أي: طَرَدَهُمْ وأبعدَهم عن رحمتِه. واللعنُ في لغةِ العربِ التي نَزَلَ بها القرآنُ: معناه الطردُ والإبعادُ

(4)

، فالرجلُ إذا كان صاحبَ جناياتٍ: قَتَلَ مِنْ هؤلاء، وَقَتَلَ مِنْ هؤلاء، وَخَافَ قومُه أن يَجُرَّ لهم حروبَ القبائلِ وذحولَ الدماءِ

(5)

، إذا تبرؤوا منه، وأعلنوا البراءةَ منه، وَطَرَدُوهُ وأبعدوه سُمِّيَ رَجُلاً لَعِينًا؛ لأن قومَه

(1)

وبعضهم يضبطها بكسر الكاف والهاء.

(2)

السابق.

(3)

في الأصل: "ماكثًا" وذلك أن الشيخ رحمه الله ذهب إلى قوله تعالى: {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا} فجرى التعديل.

(4)

تقدم في الأعراف عند تفسير الآية (44).

(5)

أي: ثارات الدماء. انظر: القاموس (فصل الذال من باب اللام) ص1294.

ص: 625

طَرَدُوهُ وَأَبْعَدُوهُ، ومن هذا المعنَى قولُ الشماخِ

(1)

:

ذَعَرْتُ بِهِ الْقَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ

مَقَامَ الذِّيبِ كَالرَّجُلِ اللَّعِين

واللعنةُ في اصطلاحِ الشرعِ

(2)

: هي الطردُ والإبعادُ عن رحمةِ اللَّهِ (جل وعلا) أعاذَنا اللَّهُ وإخوانَنا المؤمنينَ منها.

{وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (68)} أي: دائمٌ أبدًا لا يزولُ ولا يحولُ ولا ينقطعُ كما أَوْضَحْنَاهُ.

قال تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)} [التوبة: الآيتان 69_ 70].

يقول اللَّهُ (جل وعلا): {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)} [التوبة: الآية 69].

اعْلَمْ أولاً أن تفسيرَ هذه الآيةِ الإجماليَّ قبلَ أن نشرعَ في تحليلِ ألفاظِها أن مضمونَها أن الله يُهَدِّدُ الكفرةَ والمنافقينَ في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم

(1)

تقدم في الأعراف عند تفسير الآية (44).

(2)

السابق.

ص: 626

بأن الأُمَمَ التي كانت قبلَهم كانت أشدَّ منهم وأكثرَ قوةً وعتادًا وأموالاً وأولادًا لَمَّا عَتَوْا على اللَّهِ وَتَمَرَّدُوا وَكَذَّبُوا رسلَه أهلكهم اللَّهُ الإهلاكَ المستأصلَ، فكأنه يقول لهم: إذا كنا أهلكنا الأممَ قبلَكم التي هي أَقْوَى منكم وأشدُّ تَمَكُّنًا في الدنيا من جميعِ النواحِي، فعليكم أن تَخَافُوا، ولا تُكَذِّبُوا نَبِيَّنَا لئلا نُنْزِلَ بكم ما أَنْزَلْنَا بِمَنْ هو أقوى وأعظمُ منكم. والآياتُ القرآنيةُ في هذا المعنَى كثيرةٌ جِدًّا، كقولِه:{فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)} [الزخرف: الآية 8]، {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ} [الدخان: الآية 37] فكيف لَا يخافونَ أن نهلكهم؟ {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم: الآية 9]، يعني: إن كُنَّا أهلكنا هؤلاء الذين هُمْ أقوى منكم بأضعافٍ لَمَّا كذبوا رسلَنا فعليكم أن تَحْذَرُوا لئلَاّ ننزلَ بكم ما أَنْزَلْنَا بمن هو أقوى منكم. فهذا المعنَى الإجماليُّ للآيةِ الكريمةِ والآياتِ الموضحةِ في القرآنِ كثيرةٌ جِدًّا.

وَاعْلَمْ أن علماءَ التفسيرِ اختلفوا في محلِّ الكافِ من قولِه: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} هَلْ هِيَ في مَحَلِّ نَصْبٍ؟ أو مَحَلِّ رَفْعٍ

(1)

؟ قال بعضُهم: هي فِي مَحَلِّ نَصْبٍ. والذين قالوا: الكافُ في مَحَلِّ نصبٍ اختلفوا على قَوْلَيْنِ: قال بعضُهم: هو يتعلقُ بقولِه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة: الآية 68]، {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يعني: سَيَعِدُكُمُ اللَّهُ كما وَعَدَ الذين مِنْ قَبْلِكُمْ، وَاسْتَبْعَدَ بعضُهم هذا القولَ. وقال بعضُ العلماءِ: هو في

(1)

الدر المصون (6/ 82).

ص: 627

مَحَلِّ نصبٍ على أن المعنَى: فَعَلْتُمْ {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: كفعلِ الذين مِنْ قبلِكم فسينزلُ بكم من العقوباتِ مثلُ ما نَزَلَ بهم. واختارَ بعضُ الْمُحَقِّقِينَ من العلماءِ أن الكافَ في مَحَلِّ رفعٍ. والمعنَى: أنتم أيها الكفرةُ والمنافقونَ كالذين كانوا مِنْ قبلكم، أنتم مثلُهم، كقولِه:{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [آل عمران: الآية 11] أنتم كالذين مِنْ قبلكم كفروا وتمتعوا بخلاقِهم في الدنيا، وَآثَرُوا الدنيا على الآخرةِ، وَتَمَرَّدُوا على اللَّهِ وَكَذَّبُوا رسلَه، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بهم نِقَمَهُ في الدنيا، وَعَذَّبَهُمْ العذابَ الأبديَّ في الآخرةِ. {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وهؤلاء الذين مِنْ قبلهم سيأتِي إيضاحُ إجمالِهم في قولِه بعدَ هذا:{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} إلى آخِرِ المذكوراتِ الآتيةِ.

{كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} {قُوَّةً} تمييزٌ محولٌ عن الفاعلِ، ومعلومٌ أن فاعلَ صيغةِ التفضيلِ قد يكونُ تمييزًا كثيرًا محولاً عن الفاعلِ

(1)

، أي:{كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} لقوةِ أبدانِهم وعتادِهم وكثرةِ أموالِهم.

{وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً} منكم وأكثرَ أولادًا. {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ} وَكَذَّبُوا الرسلَ وَآثَرُوا الحياةَ الدنيا على الآخرةِ فأهلكناهم.

والخلاقُ في لغةِ العربِ: النصيبُ

(2)

. يعنِي: اسْتَمْتَعُوا بنصيبِهم في الدنيا مُؤْثِرِينَ الدنيا على الآخرةِ، مُغْتَرِّينَ بزخارفِ

(1)

انظر: التوضيح والتكميل (1/ 497).

(2)

انظر: المفردات (مادة: خلق) ص297.

ص: 628

الدنيا، مُعْرِضِينَ عن اللَّهِ، مكذبينَ رسلَه صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهم.

وقال بعضُ العلماءِ

(1)

: الخلاقُ: الدِّينُ، قالوا: لأن كُلَّ فرقةٍ تَنْتَحِلُ دِينًا وهي تفرحُ بذلك الدينِ وتتمتعُ به وتزعمُ أنها على هُدًى، وهو الْهُدَى الذي كان عليه آباؤها في زَعْمِهَا، كما ذَكَرْنَا مِرَارًا، وكما في قولِه:{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} أي: دينٍ وملةٍ {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23)} [الزخرف: الآية 23] وقال (جل وعلا) في أُخْرَيَاتِ سورةِ المؤمنِ: {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِّنَ الْعِلْمِ} وزعموا أنهم على دِينٍ {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (83)} [غافر: الآية 83].

فالحاصلُ أن الأظهرَ المعروفَ في اللغةِ أن معنَى: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ} تَمَتَّعُوا بنصيبِهم وحظِّهم الدنيويِّ الذي أعطاهم اللَّهُ إياه استدراجًا. وقال بعضٌ مِنَ الصحابةِ فَمَنْ بعدَهم: {بِخَلاقِهِمْ} أي: دينِهم كما بَيَّنَّا.

{فَاسْتَمْتَعتمُ} أيها الكفارُ والمنافقونَ (بخلاقِكم) أي: بنصيبِكم الدنيويِّ مُؤْثِرِينَ الدنيا على الآخرةِ، أو فَرِحِينَ بما عِنْدَكُمْ مِنَ الدينِ زَاعِمِينَ أن ما كان عليه آباؤُكم حَقٌّ، كما قالوا:{حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة: الآية 104].

{فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} وخضتُم في الباطلِ والكفرِ وتكذيبِ الرسلِ.

(1)

انظر: القرطبي (8/ 201).

ص: 629

{كَالَّذِي خَاضُوا} قال بعضُ العلماءِ

(1)

: (الذي) هنا حرفٌ مصدريٌّ، والمعنَى: كالخوضِ الذي خَاضُوهُ. وعلى هذا فَلَا إشكالَ في الآيةِ، وعليه فالتشبيهُ في نفسِ الخوضِ، لا بَيْنَ الخائضينَ والخائضينَ.

وقالت جماعةٌ من العلماءِ: التشبيهُ بَيْنَ الخائضينَ والخائضينَ، و (الذي) بمعنَى (الذين) أي: وخضتُم في الباطلِ والكفرِ وتكذيبِ الرسلِ كخوضِ الذين خَاضُوا في ذلك مِنْ قَبْلِكُمْ.

وقد تَقَرَّرَ عندَ العلماءِ

(2)

أن لفظةَ (الذي) تأتِي بمعنَى (الذين)، وإتيانُ (الذي) بمعنَى (الذين) أَمْرٌ لَا شَكَّ فيه، وهو كثيرٌ في القرآنِ.

وفي كلامِ العربِ، وإيضاحُه: أن لفظَ (الذي) مُفْرَدٌ، وأن معناها جَمْعٌ؛ لأنه اسمٌ موصولٌ، والموصولاتُ صيغُ عمومٍ. تَعُمُّ كلَّ ما تشملُه صلاتُها فقد يُرَاعَى لفظُ (الذي) فيفردُ، وقد يراعى معناه، وهو شاملٌ لِكُلِّ ما تشملُه صلتُه فيعم، ويكونُ بمعنَى الجمعِ. وإتيانُ (الذي) بمعنَى (الذين) في القرآنِ العظيمِ وفي كلامِ العربِ كثيرٌ جِدًّا، فَمِنْ أمثلتِه في القرآنِ العظيمِ {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ} [البقرة: الآية 17] أي: كمثلِ الذينَ اسْتَوْقَدُوا، بدليلِ قولِه بعدَه يَلِيهِ:{ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَاّ يُبْصِرُونَ (17)} [البقرة: الآية 17] وكقولِه تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)} [الزمر: الآية 33] لأَنَّ معناه: والذين جاؤوا بالصدقِ وَصَدَّقُوا به، بدليلِ قولِه بعدَه:{أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)} ، وكقولِه تعالى:

(1)

انظر: الدر المصون (6/ 83).

(2)

السابق (1/ 156) وراجع ما ذكره الشيخ رحمه الله في الأضواء (7/ 54، 387)، دفع إيهام الاضطراب ص11.

ص: 630

{كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: الآية 264] أي: كالذين ينفقون أموالَهم رئاءَ الناسِ بدليلِ قولِه في آخِرِ الآيةِ: {لَاّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا} [البقرة: الآية 264] فَدَلَّ قولُه: {لَاّ يَقْدِرُونَ} أن (الذي) بمعنَى (الذين) ونحو هذا من الآياتِ. وورودُ هذا في كلامِ العربِ معروفٌ، وأنشدَ له سيبويه قولَ الأشهبِ بنِ رميلةَ

(1)

:

وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ

هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِد

فقولُه: (الذي حَانَتْ) يعنِي: الذين حَانَتْ دماؤُهم. ومنه قولُ عديلِ بنِ الفرخِ العجليِّ

(2)

:

وَبِتُّ أُسَاقِي الْمَوْتَ إِخْوَتِي الَّذِي

غَوَايَتُهُمْ غَيِّي وَرُشْدُهُمْ رُشْدِي

وقولُ الراجزِ

(3)

:

يَا رَبِّ عَبْسٍ لَا تُبَارِكْ فِي أَحَدْ

فِي قَائِمٍ مِنْهُمْ وَلَا فِي مَنْ قَعَدْ

إِلَاّ الَّذِي قَامُوا بِأَطْرَافِ الْمَسَدْ

يعنِي: إلَاّ الذين قاموا.

(1)

البيت في الكتاب لسيبويه (1/ 187)، المحتسب (1/ 185)، رصف المباني ص341، دفع إيهام الاضطراب ص11، أضواء البيان (7/ 55، 388).

(2)

البيت في سر صناعة الإعراب (2/ 537)، المعجم المفصل في شواهد النحو الشعرية (1/ 259)، دفع إيهام الاضطراب ص12، أضواء البيان (7/ 55، 388).

(3)

رصف المباني ص270، اللسان (مادة: ذا)، المعجم المفصل في شواهد النحو الشعرية (3/ 1140)، مع شيء من المغايرة في اللفظ، وقد أثبته الشيخ رحمه الله كما هنا في الأضواء (7/ 55، 388)، دفع الإيهام ص11.

ص: 631

والخوضُ لا تكادُ العربُ تُطْلِقُهُ إلَاّ على الخوضِ في الباطلِ

(1)

. وأصلُه الخوضُ في الماءِ؛ لأن الخائضَ في الماءِ يتخبطُ فيه بغيرِ انتظامٍ، ليس كالماشِي على الأرضِ.

ثم قال: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أَيْ: بَطَلَتْ وَاضْمَحَلَّتْ في الدنيا حيثُ لم يكن مُعْتَدًّا بها عند الله، وكذلك هي باطلةٌ في الآخرةِ، وعكسُ هذا قولُه في إبراهيمَ:{وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)} [العنكبوت: الآية 27].

وقد قَدَّمْنَا انتفاعَ الكفارِ بأعمالِهم فِي الدنيا خاصةً

(2)

، وأن ذلك مُقَيَّدٌ بمشيئةِ اللَّهِ كما دَلَّ عليه قولُه:{مَّنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ} [الإسراء: الآية 18].

وقولُه: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أي: بَطَلَتْ وَاضْمَحَلَّتْ حتى لَا يظهرَ لها أثرٌ ينتفعون به يومَ القيامةِ. قال بعضُ العلماءِ: أصلُ اشتقاقِ {حَبِطَتْ} من الْحَبَطِ بفتحتينِ، وهو نَبْتٌ في الباديةِ إذا أَكَلَتْهُ الدوابُّ انتفخت بطونُها فماتت

(3)

، كانوا يقولون:«حبطت الماشيةُ» إذا أَكَلَتِ الحَبَطَ فَهَلَكَتْ، وصارت العربُ تستعملُه في الهلاكِ حتى كان أغلبُ استعمالِه في هلاكِ الأعمالِ واضمحلالِها وعدمِ الاعتدادِ بها.

(1)

انظر: المفردات (مادة: خوض) ص302.

(2)

راجع كلام الشيخ رحمه الله على هذه المسألة في الأضواء (3/ 493)، دفع إيهام الاضطراب ص151، معارج الصعود إلى تفسير سورة هود ص69.

(3)

انظر: المفردات (مادة: حبط) ص216، معارج الصعود إلى تفسير سورة هود ص71.

ص: 632

{وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)} أي: المغبونون حظوظُهم من الله (جل وعلا). وَمَنْ غُبِنَ في حظِّه مِنْ خالقِه فهو الذي خَسِرَ الخسرانَ المبينَ - والعياذُ بالله (جل وعلا) - وهذا الخسرانُ أَقْسَمَ اللَّهُ في آياتٍ من كتابِه أنه لا ينجو منه إنسان إلَاّ بالإيمانِ بالعملِ الصالحِ، والتواصِي بالحقِّ والتواصِي بالصبرِ، حيث قال تعالى:{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} {إِنَّ الْإِنْسَانَ} معناه: أن كُلَّ إنسانٍ كائنًا مَنْ كان لَفِي خُسْرٍ {إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: الآيات 1_ 3].

وقد قدَّمنا

(1)

أن بعضَ العلماءِ ضربوا لهذا الخسرانِ المذكورِ في القرآنِ بكثرةٍ، ضربوا له مَثَلَيْنِ:

أحدُهما: أنكم تعلمون أولاً أن الخسرانَ نقصانُ مالِ التاجرِ الذي يُحَرِّكُهُ لإرادةِ الربحِ، سواءً كان النقصُ في الربحِ أو في رأسِ المالِ، وَاللَّهُ (جل وعلا) أَعْطَى كُلَّ إنسانٍ كائنًا مَنْ كان أعطاه رأسَ مالٍ، وَأَمَرَهُ بالتجارةِ مع الله فيه، ورأسُ المالِ هذا هو الجواهرُ النفيسةُ التي لا مثيلَ لها في الدنيا يشبُهها ألبتةَ، ألا وهي ساعاتُ العمرِ، فالجواهرُ العظيمةُ هي أصلُ مالِ كُلِّ إنسانٍ هي دقائقُ عمرِه وثوانيه وساعاتُه، هذا رأسُ المالِ، أعطاه كُلَّ معمَّر، أعطاه عمرًا في الدنيا وَأَمَرَهُ أن يحركَ رأسَ هذا المالِ مع عظيمٍ كريمٍ شديدِ الوفاءِ، وَسَمَّى معاملةَ العبدِ لربِّه بالتجارةِ معه برأسِ هذا المالِ الذي هو ساعاتُ العمرِ وأيامُه سَمَّاهَا بَيْعًا، وَسَمَّاهَا شراءً، وسماها تجارةً، وسماها قَرْضًا، أما تسميتُها بيعًا وشراءً فقد نَصَّ اللَّهُ عليه في هذه السورةِ الكريمةِ

(1)

مضى عند تفسير الآية (9) من سورة الأعراف.

ص: 633

-سورةِ براءة - في قولِه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} إلى قولِه: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)} [التوبة: الآية111] وسماه تجارةً في قولِه: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ

} الآية [الصف: الآيتان10، 11]{يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّنْ تَبُورَ (29)} [فاطر: الآية 29]، وَسَمَّاهُ قَرْضًا في آياتٍ كثيرةٍ {مَّنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: الآية 245] ونحوها من الآيات.

فإذا كان الإنسانُ عاقلاً لَبِقًا كَيِّسًا، يفهمُ عن اللَّهِ استعملَ رأسَ هذا المالِ وَحَرَّكَهُ تحريكًا سديدًا بانتظامٍ على ضوءِ ما جاء به الرسولُ صلى الله عليه وسلم فإذا اتَّجَرَ مع اللَّهِ في ساعاتِ عمرِه وأيامِه ولياليه ودقائقِه وثوانيه، نَظَرَ في الأوقاتِ التي تتوجَّه إليه فيها أوامرُ من السماءِ من رَبِّ العالمينَ فاشترى نفسَه وما عند اللَّهِ من الجزاءِ بامتثالِ تلك الأوامرِ وتلك النواهِي، وَنَظَرَ في الأوقاتِ التي لم تَجِبْ فيها أوامرُ معينةٌ فاستكثرَ من الخيرِ بحسبِ استطاعتِه، وَكَفَّ أَذَاهُ وشرَّه، وَكَفَّ جوارحَه عن معاصِي اللَّهِ، فإذا حَرَّكَ رأسَ هذا المالِ وهي ساعاتُ هذا العمرِ وأيامُه تحريكًا سديدًا فيما يُرْضِي اللَّهَ ربح من رأسِ هذا المالِ مجاورةَ رَبٍّ غيرِ غضبانَ، والحورَ والجنان، ونعيمًا لا ينفدُ، ومجاورةَ ربٍّ غيرِ غضبانَ، والنظرَ إلى وجهِ اللَّهِ الكريمِ، فهذا هو الرابحُ حقًّا، فهي التجارةُ الرابحةُ، وإذا كان المسكينُ سَفِيهًا لا يدري ما قيمةُ رأسِ هذا المالِ الذي عندَه كالجاهلِ الذي يجدُ الياقوتةَ فَيُلْقِيهَا في المزبلةِ لَا يُلْقِي لَهَا بالاً، وَضَيَّعَ رأسَ هذا المالِ، وَضَيَّعَ أوقاتَه وقيل وقال، وألعاب وملاهي، وربما كان في معصيةِ اللَّهِ، حتى انتهى رأسُ المالِ والساعاتُ المقررةُ له، وَفَاتَتِ الفرصةُ، وَضَاعَ الأوانُ، جاء الندمُ حيث لا ينفعُ الندمُ، وجُرَّ إلى

ص: 634

القبرِ وقد ضَيَّعَ رأسَ المالِ، وَمَنْ ضَيَّعَ رأسَ المالِ فالتجارةُ أضيعُ، وهذا هو الخاسرُ الخسرانَ المبينَ تَمَامًا؛ لأن الآخرةَ دارٌ لا تصلحُ للفقراءِ ولا للمفاليسِ من الحسناتِ؛ لأنها دارٌ لا إرفاقَ فيها ولا خُلَّةَ ولا شفاعةَ ولا بيعَ، ليس للإنسانِ فيها إلَاّ ما قَدَّمَ، فالمضيعُ لرأسِ هذا المالِ - أيامَ الدنيا في إمكانِ الفرصةِ - هو الخاسرُ كُلَّ الخسرانِ - والعياذُ بالله - ولا سيما الذي يُضَيِّعُهَا ويفنيها في معاصِي اللَّهِ (جل وعلا) وفي محادَّة خالقِه، ويستعملُ نِعَمَهُ في ما يُسْخِطُهُ ويغضبه (جل وعلا).

هذا أحدُ الْمَثَلَيْنِ اللَّذَيْنِ ضَرَبَهُمَا العلماءُ للخسرانِ المذكورِ بالقرآنِ.

الثاني: قال بعضُ العلماءِ: إنه جاء حديثٌ

(1)

عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم [أن لكلِّ إنسانٍ]

(2)

منزلاً بالجنةِ ومنزلاً بالنارِ، فإذا دخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهلُ النارِ النارَ أَطْلَعَ أهلَ الجنةِ على مساكنِهم في النارِ لو كانوا كَفَرُوا وَعَصَوُا اللَّهَ ليزدادَ بذلك سرورُهم وغبطتُهم، وعند ذلك يقولُ الواحدُ منهم:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: الآية 43]. ويطلع الكفارُ على مساكنِهم في الجنةِ لو أنهم أَطَاعُوا اللَّهَ وآمنوا بالله ورسولِه لتزدادَ ندامتُهم وحسرتُهم - والعياذُ بِاللَّهِ - وبعدَ ذلك تصيرُ منازلُ أهلِ الجنةِ في النارِ لأهلِ النارِ، ومنازلُ أهلِ النارِ في الجنةِ لأهلِ الجنةِ، وَمَنِ اسْتُبْدِلَ منزلُه في الجنةِ بمنزلِ غيرِه في النارِ فصفقتُه خاسرةٌ كما ترى، قال هذا بعضُ العلماءِ. وهذا معنَى قولِه:{حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)} [التوبة: الآية 69].

(1)

مضى تخريجه عند تفسير الآية (9) من سورة الأعراف.

(2)

في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين زيادة يتم بها الكلام.

ص: 635

{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)} [التوبة: الآية 70]

لَمَّا قال (جل وعلا): {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا} وَبَيَّنَ أن الكفارَ بأنواعِهم في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَعَلُوا كما فَعَلَ كفارُ الأممِ الماضيةِ، وَهَدَّدَهُمْ أن يُنْزِلَ بهم مثلَ ما أنزلَ بهم ذَكَرَ بعضًا من تلك الأممِ الماضيةِ التي أُجْمِلَتْ في قولِه:{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ذَكَرَ منها أمثلةً يَكْثُرُ ذِكْرُهَا في القرآنِ العظيمِ؛ لأن الرسلَ كثيرٌ منها ذَكَرَهُ اللَّهُ وَقَصَّ خَبَرَهُ، وبعضُه لم يُذْكَرْ ولم يُقَصَّ خَبَرُهُ، وبعضُ الأممِ لا يعلمُ تاريخَه إلَاّ اللَّهُ وحدَه؛ لأن اللَّهَ يقولُ في الرسلِ:{مِنْهُم مَّنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: الآية 78]، ويقول في الأمم:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَاّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} الآية [إبراهيم: الآية 9].

{أَلَمْ يَأْتِهِمْ} قدَّمنا قريبًا الوجهينِ المذكورينِ في {أَلَمْ} إذا جاءت مع المضارعِ. ألم يأتِ هؤلاء الكفرةَ الفاعلينَ مثلَ ما فَعَلَتِ الأُممُ المتقدمةُ؟ ألم يَبْلُغْهُمْ ما فَعَلْنَا بهم من النكالِ والعذابِ المستأصلِ ليكونَ ذلك رَادِعًا لهم وزاجرًا عن أن يعملوا مثل عملِهم؟ {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} .

النَّبَأُ في لغةِ العربِ أخصُّ من الخبرِ، فكلُّ نبأٍ خبرٌ، وليس كُلُّ خبرٍ نبأً؛ لأن العربَ لَا تكادُ تُطْلِقُ في لغتِها النبأَ إلاِّ على الخبرِ

ص: 636

الذي له خَطْبٌ وشأنٌ

(1)

، فالنبأُ ليس كُلُّ خبرٍ يُسَمَّى نبأً، وإنما النبأُ الخبرُ الذي له أهميةٌ، وله خَطْبٌ وشأنٌ، فلو قلتَ:«جاءنا نبأُ الجيوشِ، وجاءنا نبأُ ما وَقَعَ من الزلازلِ والبلايا، أو كذا من الأمورِ العِظَامِ» ، لكان ذلك من لغةِ العربِ، ولو قلتَ:«جاءنا نبأٌ عن حمارِ الحجامِ» لَمَا كان هذا من كلامِ العربِ، لأَنَّ هذا لا أهميةَ له، أي: خبر {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} .

{قَوْمِ نُوحٍ} لم يُذكر في القرآنِ اسمُ قومِ نوحٍ إلَاّ بقولِه: {قَوْمِ نُوحٍ} وقد بَيَّنَ اللَّهُ قصةَ قومِ نوحٍ وَشَرَحَهَا في آياتٍ كثيرةٍ من كتابِه، ذَكَرَ طغيانَهم وتمردَهم، وشدةَ عصيانِهم لنبيِّ اللَّهِ، وطولَ مكثِه فيهم وَهُمْ لَا يزدادونَ إلا عُتُوًّا، فأهلكهم اللَّهُ هلاكًا مستأصِلاً، وهذا ذَكَرَهُ اللَّهُ في آياتٍ كثيرةٍ مشهورةٍ، كقولِه:{وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} [الفرقان: الآية 37]. وكقولِه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَاّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)} [العنكبوت: الآية 14]. وكقولِه: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)} [القمر: الآيات 10 _12]. والآيات بمثلِ ذلك كثيرةٌ، وقد بَيَّنَ تعالى في سورةِ نوحٍ شدةَ عنادِ قومِه، وشدةَ معالجتِه لهم وصبرِه عليهم في قولِه:{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَاّ فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)} [نوح: الآيات 5 - 7].

حتى دعا عليهم نبيُّ اللَّهِ نوحٌ،

(1)

مضى عند تفسير الآية (89) من سورة الأنعام.

ص: 637

وطلب ربَّه والتجأَ إليه في أهلاكِهم فَأَهْلَكَهُمْ {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)} [الصافات: الآية 75]، {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170)} [الشعراء: الآية 170] ونحوها من الآياتِ، وقد قال نوحٌ:{وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَاّ فَاجِرًا كَفَّارًا (27)} الآيات [نوح: الآيتان 26، 27]، وما دعا عليهم نوحٌ حتى أَوْحَى اللَّهُ إليه أنه لا يؤمنُ منهم أحدٌ، وأن الأملَ في الخيرِ منهم انقطعَ في قولِه:{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَاّ مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: الآية 36] فعندَ ذلك دعا عليهم.

{وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ} أُرْسِلَ إبراهيمُ إلى نمرود وقومِه في سوادِ العراقِ، وقد صَرَّحَ اللَّهُ بأنه أرسل إبراهيمَ كما صَرَّحَ بذلك في قولِه:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد: الآية 26]، وَذَكَرَ اللَّهُ تفاصيلَ قصتِه مع قومِه في آياتٍ كثيرةٍ، وَبَيَّنَ أنه جاء إلى قومٍ يدعوهم إلى التوحيدِ في سورةِ العنكبوتِ في قولِه مصحوبًا بقصةِ نوحٍ:{فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (15)} [العنكبوت: الآيتان 14، 15]، {وَإِبْرَاهِيمَ} أي: وَأَرْسَلْنَا إبراهيمَ {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} إلى قولِه: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَاّ أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} [العنكبوت: الآيات 16 - 24] وقد أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أن يتلوَ على هذه الأمةِ قصةَ إبراهيمَ مع قومِه في سورةِ الشعراءِ في قولِه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ

ص: 638

وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَاّ رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)} [الشعراء: الآيات 69 - 77] وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ

أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)

} إلى قولِه: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)} [الأنبياء: الآيات 51_70]، وهؤلاء قومُ إبراهيمَ كَذَّبُوهُ وأهلكهم اللَّهُ (جل وعلا) قال بعضُ العلماءِ: أشارَ اللَّهُ إلى إهلاكِهم في سورةِ النحلِ بقولِه: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)} [النحل: الآية 26] كما سيأتِي بيانِه في سورةِ النحلِ إن شاء الله تعالى.

وقولُه: {وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ} هُمْ قومُ شعيبٍ، وَاعْلَمْ أن العلماءَ اختلفوا في أصحابِ مدينَ: هَلْ هُمْ أصحابُ الأيكةِ؟ وعليه فشعيبٌ أُرْسِلَ لأمةٍ واحدةٍ، أو أصحاب مدينَ غير أصحابِ الظلةِ؟ فيكونُ شعيبٌ أُرْسِلَ إلى أُمَّتَيْنِ

(1)

.

{وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ} بَيَّنَ اللَّهُ تمردَهم وَكَذِبَهُمْ، ونقصَهم في المكيالِ والميزانِ، وتمردَهم على شعيبٍ، وقولُهم له:{لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: الآية 88] وَبَيَّنَ طغيانَهم وكفرَهم، وقطعَهم للطريقِ، ونقصَهم المكيالَ والميزانَ في آياتٍ كثيرةٍ من كتابِ اللَّهِ، وَبَيَّنَ مصيرَهم

(1)

مضى عند تفسير الآية (85) من سورة الأعراف.

ص: 639

في آياتٍ، كقولِه في سورةِ هودٍ فيهم:{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 94] وهم مدينُ بِلَا نزاعٍ {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)} [هود: الآيتان 94، 95] والآياتُ في مثلِ هذا معروفةٌ، وهذا معنَى قولِه:{وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ} .

{وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} المؤتفكاتُ: هي قُرَى قومِ لوطٍ، وهي المذكورةُ في قولِه:{وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم: الآية 53] وقد قدَّمنا

(1)

أن (الأفكَ) في لغةِ العربِ معناه قلبُ الشيءِ، وسُمِّيَ أسوأُ الكذبِ إِفْكًا لأنه قَلْبٌ للحقيقةِ عَنْ وَجْهِهَا الصحيحِ إلى وجهِها الباطلِ، وإنما قيل لِقُرَى قومِه {الْمُؤْتَفِكَاتِ} وَسُمِّيَتِ (المُؤْتَفَكَةَ) لأَنَّ جبريلَ عليه السلام أَفِكَهَا أي قَلَبَهَا حيث اقْتَلَعَهَا من الأرضِ وَرَفَعَهَا إلى السماءِ، وَجَعَلَ أعلاها أسفلَها، فمعنَى ائتفاكِها أَوْضَحَهُ اللَّهُ بقولِه:{فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [الحجر: الآية 74] فما جُعِلَ عاليه سافلَه فقد أُفِكَ {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} أي: المجعول أعلَاها أسفلَها؛ لأن الْمَلَكَ قَلَبَهَا، كما صَرَّحَ به بقولِه:{فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} وهذا معنَى قولِه: {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} .

{أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} ورسلُهم معروفون، فكذَّبوا الرسلَ فأهلكَهم اللَّهُ ودمرَهم بالإهلاكِ المستأصلِ، وعذبَّهم في الآخرةِ.

{فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} هذه اللامُ هي التي يُسَمِّيهَا علماءُ العربيةِ (لامَ الجحودِ)، وهي بعدَ الكونِ المنفيِّ خاصةً، والمضارعُ

(1)

راجع تفسير الآية (80، 117) من سورة الأعراف، والآية (54) من سورة الأنفال، والآية (30) من سورة التوبة.

ص: 640

بعدَها منصوبٌ بـ (أن) مضمرة

(1)

، يعني: ما كان اللَّهُ مُرِيدًا لأَنْ يَظْلِمَهُمْ، أو مُقَدِّرًا لأَنْ يَظْلِمَهُمْ، أو نحو ذلك.

{وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)} [التوبة: الآية 70] لأن اللَّهَ لَا يظلمُ مثقالَ ذرةٍ {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: الآية 40]، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)} [يونس: الآية 44]، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} وفي القراءةِ الأخرى

(2)

: {مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ} {أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)} [الأنبياء: الآية 47] وهذا معنَى قولِه: {وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)}

(3)

.

(1)

انظر: مغني اللبيب (1/ 177)، معجم مفردات الإعراب والإملاء ص 354.

(2)

انظر: المبسوط لابن مهران ص 302.

(3)

هذا آخر ما وُجد من دروس التفسير المسجلة، والحمد لله رب العالمين.

ص: 641