الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العرف الشذي شرح سنن الترمذي
محمد أنور شاه ابن معظم شاه الكشميري
الهندي
الطبعة الأولى
المحقق محمود أحمد شاكر
مقدمة الشرح
حمداً لمنعم الآلاء العظام ومالك زمام الأنام على ما وفقنا لشرح معاني الآثار، وحل مشكل الأخبار، وألهمنا اختيار ميزان الاعتدال، صادفين عما قيل أو قال وهدانا لما هو عمدة القاري ومشكاة الساري، وفي فيض فتح من الباري، ونور قلوبنا بنور الهداية، وشرح صدورنا بفيض نصّ الرسالة، والصلاة والسلام على من أرسله شافياً لجميع السقام، وسبباً للفوز والسعادة يوم القيام، وأطلعه على ما شاء من الأمور العظام، وعلى آله وأصحابه الغرر الكرام، الذين حازو النعم الجسام، وهم نجوم الاهتداء وسبب الفلاح، بأيهم أردنا الاقتداء سيما الخلفاء البررة والبركاة الذين هم كالأصول الأربعة وتبعهم إلى يوم الدين.
وبَعد: فيقول العبد المفتقر إلى رحمة الله المقتدر، وفقه الله لامتثال الأمر والانتهاء عن المنكر، المدعو بمحمد جراغ وقاه الله عما زاغ، حاكياً عن لسان الشيخ العلامة الحبر ألفهامة مولانا أُستاذنا سيدي محمد أنورشاه كان الله مولاه، أنا الشيخ محمود الدهر وفريد العصر مولانا محمود حسن، أنا الشيخ قاسم العلوم والخيرات مولانا محمد قاسم النانوتوي، أنا الشيخ الشاه عبد الغني الدهلوي طيب الله ثراه، أنا الشيخ المشتهر في الآفاق الشاه محمد إسحاق الدهلوي، وقال مولانا ومرشدنا محمود حسن مد ظله العالي حصل في الإجازة من مرشدنا مولانا رشيد أحمد گتگوهي المرحوم، أنا الشيخ الشاه عبد الغني الدهلوي رحمه الله، تعالى أنا الشيخ المشتهر في الآفاق الشاه محمد إسحاق، وأيضاً قال: حصل لي الإجازة من مولانا أحمد علي السهار نفوري ومولانا محمد مظهر النانوتوي رحمه الله ومولانا عبد الرحمن الپاني پتي وقال مولانا أحمد علي ومن بعده: أخبرنا الشيخ المشتهر في الآفاق الشاه محمد إسحاق رحمه الله تعالى، قال: حصل لي الإجازة والسماعة والقراءة من الشيخ الأجل والحبر الأبجل، الذي فاق بين الأقران بالتميز، أعني الشيخ عبد العزيز رحمه الله، وحصل له الإجازة والقراءة والسماعة عن والده الشيخ ولي الله بن الشاه عبد الرحيم الدهلوي، أنا الشيخ أبو الطاهر المدني، أنا الشيخ والدي إبراهيم الكروي عن الشيخ المزاحي عن الشهاب أحمد السبكي عن الشيخ النجم الغيطي عن الزين زكريا عن العز عبد الرحيم عن الشيخ معمر المراغي عن الفخر بن البخاري عن عمر بن طبرزد والبغدادي رحمه الله، أنا الشيخ أبو الفتح عبد الملك بن أبي القاسم. . إلخ، للسند وليعلم أن منا إلى صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم قطعات الأولى منا إلى الشاه محمد إسحاق وهي غير مذكورة في الكتاب، والثانية من الشاه محمد إسحاق إلى عمر بن طبرزد والبغدادي وهي مذكورة في
الكتاب قبل التسمية لكونها سائرة في بعض البلاد لا في بعض، والثالثة من البغدادي إلى الإمام
الترمذي وهي مذكورة في الكتاب بعد التسمية لاشتهارها في أكثر البلاد، والرابعة من المصنف إلى نص الرسالة صلى الله عليه وسلم ومتكفلها الإمام المصنف.
قوله حصل لي الإجازة والقراءة والسماعة
…
قوله: (حصل لي الإجازة والقراءة والسماعة إلخ) واعلم أن القراءة على قسمين: أحدهما: أن تقرأ على الشيخ وهو يسم، ع وثانيهما: أن يقرأ غيرك على الشيخ وأنت تسمع، ويقال في الثاني: قراءة عليه وأنا أسمع. والسماعة أيضاً على قسمين: السماعة على الشيخ وهي أن يقرأ التلميذ ويسمع الشيخ، ويعبر عنها بأخبرنا فلان إلخ، والسماعة من الشيخ، وهي أن يقرأ الشيخ ويسمع التلميذ، ويعبر عنها بحدثنا فلان إلخ، وأما الإجازة في هذا الزمان أن يقرأ التلميذ على شيخه كتاباً كاملاً ثم بعد الختم يطلب الإجازة بكتابة السند المتعارف فيما بيننا أو غيره، وأما في المتقدمين فكانت بأن يكتب التلميذ الأحاديث ويعرضها بحضرة شيخه أو يعرضها بحضرته بدون الكتابة فيجيزه الشيخ بالكتابة أو غيرها، وأما التحديث والإخبار فليس بينهما فرق لغة، وفرق المحدثون بينهما كما حررنا، وقيل إن الراوي مخير بين التعبير بحدثنا موضع أخبرنا وبالعكس لأنه إذا قرأ على الشيخ وأجازه به كان كأنه أخبره به كما إذا سمعت واقعة وعرضتها على أحد فأخبرك بها أيضاً حتى وثقت بها تقول بعد ذلك: أخبرني بها فلان، فهذا هو الوجه لمن خير بينهما، وقيل: إنه ليس بمخير بل يستعمل كل واحد منهما في موضعه مع تسليم الطائفتين التساوي في القبول والقوة، قال مسلم صاحب الصحيح ومن تبعه: إن التحديث أقوى من الإخبار، وقال مالك بن أنس بالعكس ويقولان بقبولهما في التمسك الاحتجاج، والفرق في المراتب.
قوله: (أبو الطاهر المدني) إذا كان منسوباً إلى مدينة الرسول، فيقال: مدني بلا ياء قبل النون، وإذا نسب إلى مدينة آخر كمدينة منصور (بغداد)، يقال: مديني بالياء قبل النون، والمنسوب عند النحاة كالمشتق في العمل والاشتمال على الذات والصفة.
قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم) شرع الإمام المصنف رحمه الله في كتابه بالتسمية ولم يذكر الحمد اقتداء بكتب النبي صلى الله عليه وسلم، وأما حديث (كل أمر ذي بال لم يبدء: إلخ) فمضطرب فإن في بعض ألفاظ (بحمد الله) وفي بعضها (بذكر الله) ، وفي بعضها (ببسم الله) وقال الشيخ تاج الدين السبكي إن الحديث يبلغ مرتبة الحسن وفي سنده قرة وهو مختلف فيه، وأما على تقدير ثبوته فيدل على الابتداء بذكر الله لا بخصوص الحمد الله، وأما ما قال المصنفون من الجمع بين بسم الله والحمد لله بالابتداء الحقيقي والمجازي فليس بمراد، وتدل أقاويلهم على تعدد الحديث، والحال أن الحديث واحد واختلفت الألفاظ.
قوله: (عبد الملك بن أبي القاسم إلخ) لفظ الابن إذا وقع بين العلمين المتناسقين يسقط التنوين من العلم الأول، ويسقط الهمزة من الابن في الكتابة أيضاً، ولا يكون الابن مضافاً إليه للعلم الأول، وأما إذا وقع في ابتداء السطر لا يسقط الهمزة.
قوله الهروي الكروخي
قوله: (الهروي الكروخي) صفته لأبي الفتح لضابطة إن الصفات والأحوال إنما تكون للراوي لا لأبيه أو جده إلا عند النقل، كما في يحيى بن سعيد القطان أن القطان صفة سعيد على قول.
قوله: (في العشر الأول) عادة العرب أنهم يعتبرون الليالي في التواريخ ولذلك، أتى بالعشر بدون التاء.
قوله: (الأزدي) نسبة إلى بني أزد ـ بسكون الزاي ـ المعجمة اسم قبيلة، وقد يبدل الزاي بالسين، فيقال بني أسد، فإذن يلتبس الأسدي المنسوب إلى هذه القبيلة بالمنسوب إلى بني أسد قبيلة أخرى، فقيل في رفع اللبس أن المنسوب إلى بني أزد يستعمل باللام، فيقال: بني أسد والمنسوب إلى بني أسد بلا لام، فيقال: بني أسد، أقول: هذا إذا لم يكن معه ياء نسبة وإن كانت فلا فرق بينهما، فلا يرتفع الالتباس إلا بأن المنسوب إلى بني أزد يقرأ أَسْدياً بسكون الوسط، والمنسوب إلى بني أسد يقرأ أسَدَيّاً بفتح الوسط، وبمعرفة أسماء الآباء والأجداد والتلامذة والمشايخ بالاستقراء.
قوله: (وأنا أسمع) وإنما زاد هذا لأنه لم يكن قارئاً بل القارىء غيره، وكان هذا سامياً فكان اسمه مكتوباً في الطبقة، والطبقة في إصطلاح المحدثين ثبت يكون فيه أسماء شركاء الجماعة، ويكتبه كل واحد من الشركاء ليكون سنداً عند التحديث بالأحاديث التي أخذها من ذلك الشيخ مع هؤلاء الشركاء.
قوله: (المروزي والمرزباني) قال علماء اللغة: إن مرو نسب إليه الشخص فيقال: مروزي بزيادة (ز) أو كما في النسبة إلى الرّي يقال: رازي، وأما إذا نسب إليه غير الشخص يقال: مروى، ومرزبان لفظ فارسي يقال له دهقان ومرز اسم بنت.
قوله: (فأقر به الشيخ الثقة) المراد بالشيخ هو المحبوبي كما في ثبت ابن عابدين، وهذه العبارة ليست في النسخ المعتبرة كما قال مولانا مد ظله العالي، وأما على تقدير وجودها في الكتاب فمرادها أن الشيخ المحبوبي نسخ الكتاب وكان علم من قبله بالصدور، فإذا صار العلم بالكتاب فاحتاج تلامذة الشيخ المحبوبي إلى أن يقر المحبوبي بكتابه وصحته، فلذا قال تلميذ المحبوبي: أقر الشيخ المحبوبي بهذا الكتاب لتوثيق الكتاب.
قوله: (قال أبو عيسى إلخ) قد ورد النهي عن التكني بهذه الكنية، ولعل المصنف رحمه الله حمله على خلاف الأولى، لكنه بعيد عن شأن المصنف، ولم يتعرض أحد إلى هذا، وعندي العذر من جانب المصنف أن مغيرة بن شعبة تكنى بأبي عيسى بإجازة النبي صلى الله عليه وسلم، واسم المصنف محمد بن عيسى الترمذي، وترمذ بلدة على ساحل جيحون وهو النهر الذي يضاف إليه ما وراء النهر، وأما النهران جيحان وسيحان ففي بلدة الشام، وعمر المصنف رحمه الله سبعون سنة، وارتحل إلى دار البقاء سنة 279 مائتين وتسعة وسبعين من الهجرة النبوية كما قيل:
~ الترمذي محمد ذو زين
…
عطر مداه وعمره في مين
وله مناقب غير عديدة، منها ما قال شيخه البخاري: استفدت منك ما لم تستفد مني، وأقول: لست احصل هذا القول، فإن الترمذي وإن كان من جبال الحديث ولكن البخاري كان شمس سماء هذا الفن، ولعله مراده أنه أخذ منه العلم مثل ما لم يأخذ غيره، فإن التلميذ كما يحتاج إلى الاستفادة من الشيخ كذلك يكون الشيخ محتاجاً إلى إفادته وإفشاءه علم الدين، ويحتاج إلى تلميذ ذكي والله أعلم، وله مناقب في الحفظ منها أنه سافر للحج فلقيه بعض المحدثين في الطريق والتمس منه التحديث، قال الشيخ: جيء بالقلم والدواة، فالتمس الترمذي فلم يجدهما فجلس بين يدي شيخه وجعل يجر أصبعه على القرطاس، وأخذ الشيخ في التحديث، وروى له قريب ستين حديثاً، فإذن وقع نظر الشيخ على القرطاس فوجده خالياً صافياً فغضب على الترمذي وأخذ يقول إنك تضيع أوقاتي، فقال الترمذي: حفظت الأحاديث فقرأ الأحاديث المسموعة عنه عنده، وله مناقب أخر وأما مرتبة كتاب المصنف رحمه الله، فأول مراتب الصحاح مرتبة البخاري، والثانية مرتبة مسلم، والثالث مرتبة أبي داود، والرابع مرتبة النسائي، والخامس مرتبة الترمذي، وهذا المذكور من الترتيب هو المشهور، وعندي أن مرتبة النسائي أي كتابه أعلى من كتاب أبي داود، فيكون النسائي في المرتبة الثالثة لما قال النسائي: ما أخرجت في الصغرى صحيح، وقال أبو داود ما أخرجت في كتابي صالح للعمل فيعم الحسن والصحيح، ومرتبة الترمذي في المرتبة الخامسة حتى قال الحافظ سراج الدين القزويني الحنفي: إن في الترمذي ثلاثة أحاديث موضوعة، لكن المحدثين لم يسلموا حكم وضعه، نعم قبلوا ضعفها أشد الضعف، ولو التفت إلى أن الترمذي يحكم على أكثر الأحاديث من الصحة والحسن والضعف فيكون أعلى من أبي داود، لكن أبا داود أعلى من الترمذي بحسب الإجمال وإن لم يحكم على كل واحد من الأحاديث، وأما ابن ماجه فقالت جماعة من المحدثين إن ابن ماجة ليس بداخل في
الصحاح لا شتماله على قريب من اثنين وعشرين حديثاً موضوعاً، فعلى هذا السادس من الصحاح الستة موطأ مالك بن أنس إلا أنه رأى مكتوباً على ابن ماجه صحيح ابن ماجه بقلم علاء الدين المغلطائي الحنفي وهو معاصر ابن تيمية ومن حفاظ الحديث.
واعلم أن المؤلفات على أنواع كما ذكر الشاه عبد العزيز رحمه الله في العجالة النافعة: الجامع الذي يحتوي على ثمانية أشياء وهي هذه سير وآداب وتفسير وعقائد وفتن وأحكام وأشراط ومناقب، والجامع هو الترمذي والبخاري، وأما صحيح مسلم فليس بجامع لقلة التفسير فيه،
والسنن هي التي فيها الأحكام فقط على ترتيب أبواب الفقه، والسنن أبو داود والنسائي وابن ماجه، ويسمى الترمذي أيضاً سنناً تغليباً، وكذلك إطلاق الصحاح الستة على هذه المعهودة لأن الصحيح صحيح البخاري ومسلم وباقيتها السنن، والمسند الذي يذكر فيها الأحاديث من الصحابة
بحسب رعاية ترتيبهم بدون الترتيب في أبواب الفقه، مثلاً يذكر أولاً الأحاديث المروية عن أبي بكر ثم عن عمر ثم عن عثمان وهكذا،
والمعجم الذي يذكر فيه أحاديث الشيوخ مرتبة كالترتيب في المسند.
والجزء الذي يحتوي على أحاديث مسألة واحدة معينة كجزء القراءة للبخاري، وجزء رفع اليدين له، والمفرد: الذي يحتوي على أحاديث شخص واحد مثل أحاديث أبي هريرة أو حذيفة، والغريبة: التي فيها تفردات تلميذ واحد من شيوخه ولم تكن مروية عن غيره من تلامذة ذلك الشيخ، وأنواع أخر، مثل المستخرج، والمستدرك.
أما شرط أرباب الصحاح فاشترط البخاري الإتقان وكثرة الملازمة للشيخ، واشترط مسلم الإتقان فقط، ولا يشترط ثبوت اللقاء أو كثرة الملازمة، بل يكتفي بالمعاصرة بين الراوي والمروي عنه، وهو مذهب الجمهور في التمسك.
واشترط أبو داود كثرة الملازمة فقط، ولم يشترط الترمذي شيئاً منهما، والمراد بهذه الشروط أنهم يكتفون بهذه الشروط ويأتون بما يكون بشرط أعلى من شرطه أيضاً، وبسبب اعتبار كثرة الملازمة وقلتها يقال: إن فلاناً ضعيف في حق فلان وإن كانا ثقتين في أنفسهما، فعلم أن الضعف على قسمين: ضعف في نفسه، وضعف في غيره.
وأما مذهب أرباب الستة الصحاح فقيل: إن البخاري شافعي لأنه تلميذ الحميدي وهو تلميذ الشافعي.
أقول: لو كان المراد على هذا لقيل: إنه حنفي لأنه تلميذ إسحاق بن راهويه، وأما غيره من شيوخه فمفيدون، وإسحاق من أساتذته الكبار، وإسحاق من خاصة تلامذة ابن المبارك، وهو من خاصة تلامذة أبي حنيفة، ولكن الحق أن البخاري مجتهد، وكثيراً ما يكون اجتهاده موافق الأحناف إلا أنه وافق في المسائل المشهورة بين أهل العصر الإمام الشافعي، مثل: القراءة خلف الإمام، ورفع اليدين، والجهر بآمين.
ويظهر هذا لمن يتتبع صحيحه، ولله در ما قال القاضي أبو زيد الدبوسي: ولمسألة يختلف فيها كبار الصحابة يعوذ فهمها ويصعب الخروج منها، وإن المسائل مختلفة فيما بين المجتهدين، وهي تحت الحديث ويساعده تعامل السلف ويكون السلف الصالح مختلفين فيها لا يمكن الاتفاق على أحدها إلى قيام القيام.
وأما مسلم فلا أعلم مذهبه بالتحقيق، وأما ابن ماجه فلعله شافعي، والترمذي شافعي، وأما أبو داود والنسائي والمشهور أنهما شافعيان، ولكن الحق أنهما حنبليان، وقد شحنت كتب الحنابلة بروايات أبي داود عن أحمد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
أبواب الطهارة
قال الحافظ بدر الدين العيني الحنفي: ومن مصطلحات أرباب الحديث التعبير بالكتاب إذا كانت تحته أحاديث أنواع مختلفة، ولك التعبير بالأبواب، وبالباب إذا كانت الأحاديث من نوع واحد، وقول الترمذي: أبواب الطهارة ترجمة، ويظهر فقه المحدث من ترجمته، كما قيل: فقه البخاري في تراجمه، وله محملان:
أحدهما: أن مسائل فقه المختارة عنده تظهر من تراجمه، وثانيهما: أن ذكاءه يظهر من تراجمه، والبخاري سابق الغايات في وضع التراجم، فإنه قد تحيرت العقلاء فيها، وسهل التراجم تراجم الترمذي، وتراجم أبي داود أعلى من تراجم الترمذي، واقتفى النسائي في تراجمه أثر شيخه البخاري، وبعض تراجمها متحدة حرفاً حرفاً، ومستبعد ـ والله أعلم ـ سيما إذا كان النسائي من تلامذة البخاري، وما وضع مسلم بنفسه التراجم.
قوله: (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلخ) كان المحدثون المتقدمون يخلطون بين المرفوعات والأثار، وأول من ميز بينهما الإمام أحمد بن حنبل وتبعه المتأخرون.
وقال الترمذي: عن رسول الله مشيراً إلى أن الورادة ههنا مرفوعات لا آثار.
والمرفوع: ما أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً أو قولاً أو تقريراً.
باب ما جاء لا تقبل صلاة بغير طهور
[1]
قوله: (ح وحدثنا الخ) ح يسمى تحويلاً، والاختلاف في القراءة فإن المغاربة يقرؤون تحويل والمشارقة يقرؤون ح بالمد أو القصر.
قال سيبويه: إن أسماء حروف التهجي إن كانت مركبة في الكلام فممدودة، كما قال محمد في قصيدة البردة:
~. . . . . . . . . . . . . . .
…
لولا التشهد كانت لاءه نعم
وإن كانت منفردة فمقصورة كما يقال في حين التعداد: با، تا، ثا.
أقول: إن هذه الضابطة ليست بأسماء حروف التهجي بل في ذلك كلمة ثنائية تكون في آخرها ألف. واعلم أن التحويل على قسمين: أحدهما: اجتماع الطرق المتعددة من الأسفل، ويسمى الراوي المشترك مداراً ومخرجاً، وهذا التحويل كثير، ثانيهما: افتراق الطريق الواحد من الأسفل إلى طرق كثيرة، والتحويل بكلا قسميه قد يكون بطريقين وقد يكون بأزيد منهما.
(فـ) ربما تجد في كتب الصحاح وغيرها أنهم يبدؤون السند من الأول أي الأعلى بالعنعنة ثم في الأسفل بالإخبار والتحديث؛ لأن التدليس لم يكن في السلف وحدث في المتأخرين فاحتاج المحدثون إلى التصريح بالسماع، ولا يقبل حديث المدلس إلا عند التصريح بالسماع أو ما يدل عليه.
والتدليس على أنواع:
أحدها: أن يسقط الراوي اسم شيخه لغرض من الأغراض ويروي عن شيخ شيخه بعن كي لا يكون كاذباً، وثانيهما: تدليس التسوية وهو حذف الرواة الضعفاء من بين السند ورواية الحديث بطريق ثقاته بالعنعنة كتدليس وليد بن مسلم عن الأوزاعي كما سيجيء. وثالثها: أن يذكر الراوي اسم شيخه إن كانت المشهورة كنيته، أو يذكر كنيته إن كان المشهور اسمه ولا يسقط بهذا عدالته ولا ضيق في هذا، وأما القسمان الأولان فقبيحان، وقال شعبة: إن التدليس حرام والمدلس ساقط العدالة، ومن ثم قالوا: السند الذي فيه شعبة بريء عن التدليس وإن كان بالعنعنة والجمهور إلى قبح التدليس، ولكنه لا يسقط به العدالة، وإذا صرح بالسماع أو ما حاذاه يقبل الحديث، ومن عادة المحدثين ضم المتن لأقرب الطرق المتعددة، ومن عادتهم أيضاً ضم متن الحديث للسند العالي، والمصنف راعى العادة الثانية كما يدل عليه قوله: قال هناد في حديثه: إلا بطهور إلخ، فعلم أن المذكور ليس متن هناد، وأما وجه اختياره العادة الثانية على الأولى فعلى ما قيل: سئل ابن المبارك: ما يشتهي قلبه؟ قال: سند عالٍ وبيت خالٍ.
قوله: (لا تقبل صلاة بغير طهور إلخ) القبول على قسمين: أحدهما: كون الشيء متجمعاً بجميع الأركان والشرائط.
وثانيهما: وقوعه في حيز مرضاة الله، وقال ابن دقيق العيد: إن القبول مشترك في المعنيين ولا قرينة على المعنى الأول، وأما الثاني فغير معلوم بغير الله تعالى فلا نعلم ما في حديث الباب، وأقول: إن المراد هو الأول بقرينة الإجماع على عدم صحة الصلاة بدون الطهور، وعدم القبول هو الرد سواء كان لذا أو لهذا، ونسب إلى مالك بن أنس عدم الإعادة على من صلى بلا وضوء، وليست هذه النسبة
صحيحة، ولعل وجه النسبة الاشتهار على الألسنة عدم اشتراط طهارة الثوب والمكان عند مالك رحمه الله فقاسوا عليهما طهور البدن أيضاً، واعلم أن قول: لا تقبل صلاة بالتنوين مثل لا رجل في الدار، بمعنى (نيست هيج مردي ورخانه) ومعنى لا رجل في الدار بالفتح (نيست مردوخانه) ومعنى ما من رجل في الدار (نيت هيج إزمري مردي وخانه) فعلى هذا معنى لا تقبل صلاة بلا طهور (قبول نمى شود سپح غازي بغير طهور وباكى) فعلم أن كل فرد صلاة موقوف على الطهور، واختلفوا في صلاة الجنازة وسجدة التلاوة في اشتراط الوضوء لهما فقال بعض: لا يشترط الوضوء لصلاة الجنازة، وأما الإمام الشافعي فليس بقائل بما قالوا، ولعل وجه ما قالوا: إن قال الشافعي بالجنازة على الغائب، ويقول: إنها دعاء كسائر الأدعية، فزعم أنها دعاء كسائر الأدعية في عدم وجوب التوضئ أيضاً، والإمام البخاري موافق لنا في اشتراط الوضوء للجنازة، وأما سجدة التلاوة فقال الشعبي والبخاري: لا يشترط التوضئ، كما أخرج البخاري عن ابن عمر:«أنه كان يسجد على غير وضوء» الخ وفي نسخة البخاري الأصيلي: «كان ابن عمر يسجد على وضوء» وقال خدام البخاري: إن الأول أصح وأما الأئمة الأربعة فقائلون بوجوب التوضئ في سجدة التلاوة لأنها ـ أي: السجدة ـ أخص مدارج الصلاة فيشترط لها كما اشترط لها، وأما فاقد الطهورين فرواية عن أبي حنيفة إنه يتشبه بالمصلين، أي يركع ويسجد بلا قراءة، قال مالك: لا يصلي الآن، وقال أحمد بن حنبل: يصلي الآن، ولا يقضي، وللشافعية وجوه أربعة، أحدها: القضاء فقط، وثانيها: الأداء فقط، وثالثها: الأداء في الحال ثم القضاء بعده، ورابعها: وجوب الأداء واستحباب القضاء.
(ف) من مصطلحات فقهاءنا التعبير بالقول عما قال المشائخ وبالرواية عما قال الأئمة، وعند الشافعية قول الإمام رواية وأقوال المشائخ وجوه، لنا في التشبه بالمصلين لفاقد الطهورين القياس المستنبط من الإجماعين، أحدهما: من أفسد الصوم أو حاضت المرأة في نهار رمضان أو طهرت أو بلغ الصبي يجب عليهم الإمساك في بقية النهار، وهل هذا إلا تشبه بالصائمين، والإجماع الثاني: أن من أفسد حجة يجب عليه المضي على الأركان ثم يقضي وليس المضي على الأركان إلا تشبه بالمصلين فلما ثبت التشبه في الصوم والحج نعديه إلى الصلاة، وكذا اِكتفاء بعض السلف بالتكبيرة في التحام القتال من هذا، واعترض الخصم علينا في قولنا: البناء على الصلاة لمن أحدث فيها بحديث الباب، فالجواب: أولاً: إن المشي في الصلاة ليس بصلاة كالإياب والذهاب في صلاة الخوف ليس بصلاة، بل فعل في الصلاة، وثانياً: بأن البناء روي مرفوعاً عن عائشة، ولكن الصواب عند أرباب الحديث الإرسال، والإرسال مقبول سيما إذا كان مؤيداً بفتيا الصحابة، فيكون حجة قطعاً، ومن الفتاوى استخلاف عمر وعلي رضوان الله عليهما.
قوله: (ولا صدقة من غلول الخ) الغلول في اللغة: سرقة الإبل، وفي اصطلاح الفقهاء: سرقة مال الغنيمة، ثم اتسع فيه فأطلق على كل مال خبيث، قال في الدر المختار: إن التصدق بالمال الحرام ثم رجاء الثواب منه حرام وكفر، وفرَّق البعض بين الحرام لعينه ولغيره، ومنهم العلامة التفتازاني،
أقول: ينبغي الفرق بين الحرام الظني والقطعي، لا في لعينه ولغيره، قال ابن قيم في بدائع الفوائد: من اجتمع عنده مال حرام فتصدق يثاب عليه، وفي الهداية: من اجتمع عنده مال حرام سبيله التصدق وقع التعارض بين الدر والهداية، أقول في دفع التعارض إن ها هنا شيئان:
أحدهما: ائتمار أمر الشارع والثواب عليه.
والثاني: التصدق بمال خبيث، والرجاء من نفس المال بدون لحاظ رجاء الثواب من امتثال الشارع، فالثواب إنما يكون على ائتمار الشارع، وأما رجاء الثواب من نفس المال فحرام، بل ينبغي لمتصدق الحرام أن يزعم بتصدق المال تخليص رقبته ولا يرجو الثواب منه، بل يرجوه من ائتمار أمر الشارع، وأخرج الدارقطني في أواخر الكتاب: أن أبا حنيفة رحمه الله سئل عن هذا فاستدل بما روى أبو داود من قصة الشاة والتصدق بها.
قوله: (هذا الحديث أصح) لا يلزم من قوله هذا أن يكون صحيحاً في نفسه، بل مراده بالأصح والأحسن أعلى الحديث في هذا الباب وإن لم يكن حسناً عند المحدثين، ومن عادة الترمذي إخراجه الأحاديث التي لم يخرجها غيره للاطلاع على ذخيرة الحديث، فمراده أنه أعلى الأحاديث التي لم يخرجها أرباب الصحاح، كذلك قال بعض حفاظ الحديث في عادة الترمذي هذه.
قوله: (وفي الباب عن ابن مليح رحمه الله الخ) المراد بذكره ههنا هو أبو أبي المليح لا أبو المليح نفسه، لأن الراوي أبوه، واعلم أن الترمذي مع كونه جامعاً ذخيرة الحديث فيه قليلة بخلاف غيره من أرباب الصحاح إلا أنه يكافئه يذكر: وفي الباب عن فلان وعن فلان الخ، وصنف ابن حجر العسقلاني في استخراج ما ذكر الترمذي في الباب وسماه:«اللباب فيما قال الترمذي وفي الباب» ولكنه غير مطبوع، والأسهل لاستخراج أحاديثه المراجعة إلى مسند أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.
باب ما جاء في فضل الطهور
[2]
لفظة «أو» قد يكون لشك الراوي، وقد يكون للتنويع، وإذا كان للشك من الراوي فيقرء بعده لفظ «قال» ، ويعرف ذلك بالذوق.
واعلم أن المصنف أخرج حديث الباب مختصراً، وفي غيره:«وإذا مسح الرأس خرجت كل خطيئته سمعها بأذنيه» الخ فدل على أن الأذنين في حكم الرأس، ودل على عدم ضرورة تجديد الماء لمسح الأذنين كما هو مذهب أبي حنيفة.
قوله: (يخرج نقياً من الذنوب الخ) قال المتأخرون: الحسنات مكفرات السيئات الصغائر، وقال المتقدمون: يفوض الأمر إلى الله بلا تقييد بالصغائر والكبائر، وتمسك المتأخرون بما سيأتي «ما لم يغش الكبائر» وأقول: التحقيق أن لا يقيد بالصغائر، ويتمشى على ألفاظ الأحاديث لغة، وفي اللغة: الذنوب العيوب والخطايا ما ليس بصواب، والمعصية (نافر ماني والسيئة برائي) ، فالمعاصي في أعلى مراتب الإثم ودونها السيئات ودونها الخطايا، ودونها الذنوب، وأشكل الحديث بأنه يدل على خروج الذنوب، والخروج يقتضي أن يكون الشيء الخارج ذا جرم، والذنوب أخواتها من المعاني، فالأصوب التفويض إلى الله تعالى، ومن أراد أن يقع في التكلفات، فيرجع إلى ما قال الصوفية بأن وراء هذا العالم المشاهد عالماً يسمى بعالم الأمثال، وراءه عالم الأدوات، وفي عالم الأمثال صور كل شيء في هذا العالم من الأجسام والمعاني، وفي عالم الأرواح أرواح كل شيء كما قالوا:
~ رأابري وآب ويگراست
…
آسمان وآفتاب ويگراست
وقالوا: إن عالم الأمثال متصرف في هذا العالم المشاهد وألطف منه، وعالم الأرواح متصرف في عالم الأمثال وألطف منه، وليس عالم الأمثال هو دار الآخرة بل موجود الآن، وقالوا: من يذهب في عالم الأَْمْثَالِ أو الأرواح لا يتميز بين أشياء عالم الشهادة وأشياء عالم الأمثال، وأما الروح فعند أهل الإسلام جسم لطيف على شكل كل ذي ذلك الروح واحتجوا على هذا أي جسمية الروح بما ورد في الأحاديث، كما في حديث البراء بن عازب «فينزعها كما ينزع السفود من الصوف المبلول» الخ أخرجه أحمد في مسنده، وصاحب المشكاة ص134، وفيه:«فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن» وأحاديث أخر دالة على جسمية الروح، ونقل قاضي زاده في تهافت الفلاسفة أن الغزالي قائل بتجرد الروح وكذلك نسب إلى القاضي أبي زيد الدبوسي الحنفي.
فأقول: أولاً: إن خلافهما لا يكفي، فإنا نتمسك بنصوص الشريعة من القرآن والحديث.
وثانياً: بأن نقل المذهب متعسر، فما لم أر عبارة القاضي أبي زيد لا أنسب إليه هذا الخلاف، وأما الغزالي فقال تلميذه أبو بكر بن العربي: إن الأستاذ غمس في الفلسفة، ثم ضرب بيده وسعى للخروج فلم يسعف بمرامه، والمتقدمون من علماء الإسلام يريدون بالتجرد عدم الكثافة يظهر ذلك من
تفسير سورة الإخلاص للحافظ ابن تيمية رحمه الله، ثم اختلف الصوفية بعد اتفاقهم على مادية الروح في أنه كالبدن للثياب، أو أعضاءه سارية في أعضاء الجسد المشاهد، وقال الشيخ الأكبر في الفصوص: الروح يتشكل بأشكال مختلفة، وقال الجهلاء الفلاسفة: إن الروح مجرد، وتشبثوا بأوهام بما هي أوهن من بيت العنكبوت، منها ما قال الفارابي: إن الروح محل التصور والتصديق وهما معنيان مجردان، ومحل المجرد مجرد، وهذا كما ترى لأنه لم لا يجوز أن يكون تعلق التصور والتصديق بالروح كتعلق النفس الناطقة بالبدن المادي؟
قوله: (هذا حديث حسن صحيح) الحسن والصحيح متقابلان في المشهور، لأن الصحيح ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله ويكون سالماً عن العلة والشذوذ والنكارة، والحسن الذي يكون رواته أقل اتفاقاً من رواة الصحيح وأقل ضبطاً من رواته، فكيف جمع المصنف بين المتنافيين فالأجوبة عديدة، منهاما قال الحافظ ابن حجر: بتقدير كلمته «أو» وعلى تقدير «أو» يكون الحاصل هذا الحديث حسن أو صحيح، أي تردد الترمذي في الحسن والصحة، أو يقال: بتقدير الواو أي حسن وصحيح، والحسن باعتبار طريق، والصحة باعتبار طريق آخر، لكنه ليس بشاف، فإن هذا التردد من الترمذي بعيد، وأما تقدير الواو فلا يجري في جميع المواضع، ومنها ما قال الحافظ عماد الدين ابن كثير: إن الحسن الصحيح مرتبة بين الحسن والصحيح، كالحلو الحامض لكنه أيضاً غير صحيح، لأنه يأتي بأحاديث الصحيحين ويحكم عليها بالحسن الصحيح، والحق ما قال ابن دقيق العيد في الاقتراح: بأنهما متبائنان مفهوماً، ومتصادقان مصداقاً، وبينهما عموم وخصوص مصداقاً كالظاهر والنص، وسيأتي بعض كلام على هذا عن قريب.
مقدمة
واعلم أن الصحيح عندي على أربعة أقسام:
أحدها: أن يكون رواته ثقات وعدولاً ويساعده تعامل السلف.
والثاني: أن يصححه إمام من أئمة الحديث بخصوصه.
والثالث: أن يخرجه من التزم الصحة في كتابه مثل صحيح ابن خزيمة، وصحيح ابن السكن، وصحيح ابن حبان، والنسائي، وإن لم يحكم عليه بخصوصه بالصّحة.
والرابع: أن يكون الرواة سالمين عن الجرح، ويكونون ثقات فعندي المرتبة الأولى أعلى مراتب الصحيح.
والتواتر عندي أيضاً على أربعة أقسام:
أحدها: تواتر الإسناد: وهو أن يروي الحديث جماعة يستحيل اجتماعهم على الكذب، وكذلك يكون في القرون الثلاثة وهذا التواتر تواتر المحدثين.
والثاني: تواتر الطبقة: وهو أن يأخذ طبقة عن طبقة بلا إسناد، والقرآن متواتر بهذا التواتر، وهذا تواتر الفقهاء.
الثالث: تواتر التعامل: وهو أن يعمل به أهل العمل بحيث يستحيل تكذيبهم، وهذا التواتر قريب من التواتر الثاني، ومثال هذا التواتر العمل برفع اليدين عند الركوع وتركه فإنه عمل به غير واحد في القرون الثلاثة.
الرابع: تواتر القدر المشترك: وهو أن يكون مضمون مذكوراً في كثير من الآحاد، كتواتر المعجزة، فإن مفرداتها وإن كانت آحاداً لكن القدر المشترك متواتر، وحكم الثلاثة الأول تكفير جاحده.
وأما الرابع: فإن كان ضرورياً فكذلك، وإن كان نظرياً فلا.
قوله: (وهو حديث مالك الخ) وإنما أعاده إشارة إلى تفرد مالك واشتهاره عنه، ولم يوجد له متابع بهذا الطريق عن أبي هريرة.
قوله: (وأبو هريرة اختلفوا الخ) في اسم أبي هريرة ففيه خمسة وثلاثون قولاً، قيل: عبد شمس، وقيل: عبد الله، وقيل: عبد شمس في الجاهلية، وعبد الله في الإسلام، واختلف في انصراف أبي هريرة وعدم انصرافه، فقال ملا علي القاري: سئل الحافظ ابن حجر عن انصرافه وعدمه، فقال: وجدناه غير منصرف، والقياس الانصراف، ولعله زعم أن من شروط عدم الانصرف كون هريرة غير منصرف وعلماً قبل إضافة أبي إليه، والحال إنه لا حاجة إلى هذا كما في أبي حمزة وأبي صفرة فعلى هذا يكون عدم الانصراف برواية ودراية، وأما وجه التسمية بأبي هريرة، قيل: كانت له هرة كان كلما يخرج من البيت يضعها في كمه، وكلما دخل يضعها بأصل شجرة والله أعلم.
قوله: (الصنابحي الخ) الصنابحي ثلاثة: أحدهم صنابحي بالياء صحابي، والثاني صنابحي بالياء
تابعي واسمه عبد الرحمن ويكنى بأبي عبد الله، ورجل آخر صنابح بلا ياء وهو صحابي، وقد يقال له: صنابحي للشرب ثانياً بالياء أيضاً.
باب ما جاء في مفتاح الصلاة الطهور
[3]
قوله: (عن سفيان) بعد سفيان تحويل، ولكنه غير مكتوب في الكتاب، وسفيان هذا قد أشكل على أرباب الحديث أنه سفيان بن عيينة أو سفيان الثوري، لأن المعرفة إنما يكون بذكر الآباء والأجداد أو التلامذة أو الشيوخ، والأب والجد غير مذكور، واكثر تلامذة سفيانين وشيوخهم متحدون، فتتبعت ووجدت في تخريج الهداية للطبراني أنه ثوري لا ابن عيينة.
قوله: (صدوق) صادق في لهجته وسيء في حفظه.
قوله: (وهو مقارب الحديث) اختلفوا في أنه توثيق للراوي أم تضعيفه، وأما في اللغة فلا يدل اللفظ على التليين، فإن معناه أنه متوسط، ولكنه لفظ التوثيق كما سيأتي في الترمذي في مواضع أنه ثقة ومقارب الحديث، منها ما في (ص200) : إن إسماعيل بن رافع ثقة وقوي ومقارب الحديث.
قوله: (مفتاح الصلاة الطهور) واعلم أن في هذه الجملة وقرينتيه قصراً لتعريف المبتدأ والخبر، كما قال صاحب التلخيص: وتعريف أحد الطرفين قد يفيد القصر، وقال العلامة: وإنما قال قد يفيد الخ لأن إفادة تعريف أحد الطرفين القصر ليس بضابطة كلية فإنه قد لا يفيده، وقال السيوطي: إن تعريف الطرفين يفيد القصر، وأقول: إن تعريف أحد الطرفين يفيد القصر إذا كان الطرف الآخر مشتملاً على معين القصر كاللام أو في أو غيرهما، مثل: الحمد لله، والكرم في العرب، ثم اعلم أنه
قلما يفيد تعريف أحد الطرفين القصر بلا معين أيضاً، كما في قصيدة بانت سعاد:
ذو إبل مسهن الأرض تحليل
أي تحلة قسم، ففي:(مسهن الأرض تحليل) قصر بلا معين، وقد لا يكون القصر مع تعريف الطرفين أيضاً، كما في: الكرم الخلق الحسن، ولذا قال مولانا مد ظله العالي: إن الضوابط عصا الأعمى. وقال الزمخشري في الفائق في حديث: (إن الله هو الدهر) : إن فيه قصر المُسنَد إليه على المُسنَد، والمعنى: إن الله هو جالب الحوادث لا غير الجالب، وقال العلامة: فيه قصر المسند على المسند إليه، وردَّ على الزمخشري، أقول: إن ردَّه ليس بذلك، لأن تعريف الطرفين يصلح لقصر المسند إليه على المسند ويصلح للعكس.
ثم اعلم أن اللام عند أهل المعاني قسمين: لام العهد الخارجي، ولام الحقيقة، والأول على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يكون المعهود مذكوراً سابقاً، ويسمى بالعهد الذكري.
والثاني: ما يكون حاضراً، ويسمى بالعهد الحضوري.
والثالث: ما يكون معلوماً بين المتكلم والمخاطب، ويسمى بالعهد العلمي.
ومثال العهد الحضوري: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3](الخ) .
والثاني: أيضاً على ثلاثة أقسام، لأنه إما أن يكون المراد من مدخوله نفس الحقيقة من حيث هي هي، ويسمى لام الجنس، أو من حيث وجودُها في حصة منتشرة، ويسمى لام العهد الذهني، أو من حيث وجودُها في ضمن جميع الأفراد التي يتناولها اللغة، فيسمى لام الاستغراق.
وأما عند النحاة فالقسم الثالث للعهد الخارجي عهد ذهني عندهم، ولام العهد الذهني، لأهل المعاني لام الجنس عند النحاة، والمختار عندي هو قول النحاة.
وبالجملة الحديث مشتمل على القصر، فقالت الشافعية وتبعهم بفرضية صيغة السلام، وصيغة (الله أكبر)، وقالوا: الحديث دال على عدم صحة الصلاة وعدم وجودها بدون السلام عليكم ورحمة الله وبدون الله أكبر، ويقول الأحناف بعدم فرضيتهما، ومدار الخلاف على أن المتكلم إذا تكلم ففي كلامه مفهوم ومنطوق، ثم المفهوم المخالف غير معتبر عندنا، ومعتبر عند الشافعية حتى
جعلوه دليلاً، أقول: إن الكلية غير صحيحة من الطرفين، بل يقال باعتبار المفهوم المخالف من غير جعله دليلاً فيحتاج إلى بيان نكات الشروط والقيود والصفات المذكورة في النصوص، ولا تدل نفيها على نفي الحكم، وقد بسطه أبو البقاء في كلياته، ثم قال الأحناف: إن المفهوم المخالف معتبر في عبارات كتب الفقه، والمحاورات فيما بيننا، لأن تحصيل مرادها سهل بخلاف نصوص الشارع، فإن تحصيل مراد كلامه متعسر، فقال الشافعي ومالك وأحمد بركنية السلام والله أكبر بعينهما، والفرض عند الأحناف كل ذكر مشعر بالتعظيم، والسنة الموكدة الله أكبر، وكذلك الخروج بصنع المصلي فرض، ولفظ السلام واجب، هذا هو المشهور منا، ثم اعترض علينا بمَ الفرق بين سنية الله أكبر ووجوب السلام مع أن الحديث لهما واحد، فإما أن يكون كل واحد منهما سنةً وإما أن يكون واجباً؟ فيقال: أن هناك قولاً بالسنية أيضاً، ذكره في البناية على الهداية عن المحيط، ومذهب الطحاوي ـ وهو أعلم الناس بمذهب أبي حنيفة ـ سنية السلام، وتمسك الطحاوي أن علياً رضي الله عنه راوي حديث الباب أفتى بتمامية صلاة من سبقه الحدث بعد التشهد، وأما تأويل كلام الطحاوي بأن المراد بالسنية ثبوته بالسنة وجعله موافقاً للقائلين بالوجوب يأبى عنه العقل السليم، فقال الشيخ الكمال بوجوب الله أكبر، وتمسّك بأن في الكافي أن تارك الله أكبر، آثم ومن المعلوم أن الإثم لا يكون إلا على ترك الواجب، أقول: إن صيغة الأمر من الشارع للوجوب
عند صاحب الفتح والبحر، وكذلك نكيره عليه الصلاة والسلام على الترك يدل على الوجوب، ومواظبة النبي صلى الله عليه وسلم مع الترك أحياناً يدل على السنية عندهما وأما مواظبته عليه الصلاة والسلام على أمر بلا تركه أحياناً فللوجوب عند ابن همام، وللسنية عند صاحب البحر، فمدار اختلافهم على هذا، وأما اختلافهم في إثم تارك السنة ـ بأن الشيخ يقول بعدم الإثم، وابن نجيم يقول بالإثم ـ مبني على الاختلاف الأول، لكن صاحب البحر يقول بإثمٍ أقل من الإثم على ترك الواجب، وقال المحقق ابن أمير الحاج: ترك السنة ليس بإثم إلا من اعتاد أو اعتقد عدم السنية، وقال ابن همام: من ترك رفع اليدين عند التحريمة مع التهاون يأثم والله أعلم، أقول: ترك السنة بقدر زائد على ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو من إثم فبالجملة اندفع الاعتراض الوارد علينا بناء على المشهور، ثم يرد علينا حديث الباب على وجوب لفظ السلام والله أكبر، وأجاب المدرسون عنه بأن المراد من التكبير كل ذكر ينبئ عن التعظيم، أقول: هذا التأويل يرده ذخيرة الحديث من تصريح لفظ (الله أكبر) أخرجه أرباب الصحيحين وغيرهما، وجرى تعامل السلف على الشروع في الصلاة بالله أكبر.
واعلم أن ههنا مرتبة الواجب التي قال بها الأحناف، مدارها على تمهيد مقدمة، وهي أن الخبر على ثلاثة أقسام: المتواتر، وهو المروي عن جماعة يستحيل اجتماعهم على الكذب، ويكون هذا الحال في القرون الثلاثة والمشهور هو الذي يكون خبر الواحد في القرون الأول واشتهر بعده، وخبر الواحد، الذي يكون واحداً في القرون الثلاثة، ثم قال الأحناف ـ أي العراقيون ـ بعدم جواز الزيادة
على القاطع بخبر الواحد، وقال الشافعية ومن تبعهم: بجواز الزيادة به على القاطع، أقول: يجوز الزيادة بخبر الواحد عندنا لكن لا في مرتبة الركن والشرط، فيثبت الوجوب والسنية بالخبر الواحد، ولا نهمل خبر الواحد عن الأصل كما زعمه بعض من لاحظّ له في العلم، وتصدى إلى الاعتراض علينا كالنواب المعزول، وليعلم أن الثابت بالظني يجوز إثبات ركنه وشرط بالظني وخبر الواحد، والكلام فيما ثبت بالقاطع، ونقول: إن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن، فعملنا به معاملة الظن، ولم تثبت به الركن والشرط، وأما الشافعية فعاملوا بالظني معاملة القاطع، فجوزوا زيادة ركن أو شرط بخبر الواحد، والأقرب إلى الضوابط مذهبنا، فإذا تمهد هذا فنقول: إن الشافعية قالوا بركنية ما ثبت بخبر الواحد، ونقول: لا يوجب الركنية لأنه ظني الثبوت فلا يثبت به إلا الوجوب تثبت مرتبة واجب الشيء من هذا المذكور وليعلم أن واجب الشيء لم أجده إلا في الصلاة والحج لا في المعاملات، ولم أجد فيها فرائض أيضاً، وإنما يذكرون لها شرائط وأركاناً لا واجبات وفرائض، بخلاف الشيء الواجب فهو عام، وقد قال الشافعية في الحج بواجب الشيء، أنكروه في الصلاة، وكذلك أنكر غير الشافعية أيضاً مرتبة الواجب، وأقول: قال ابن تيمية في منهاج السنة: إن الصلاة تتركب من الفرائض والواجبات والسنن عند الثلاثة، وعند الشافعي من الفرائض والسنن، فدل على قول الموالك والحنابلة بواجب الشيء فكيف ينكرون علينا إلا أن الواجب قسم من السنة عند الموالك، وأقول: أيضاً يقول الحنابلة بفرضية القعدة الأولى وانجبارها لو تركها بسجدة السهو، وهل هذا إلا مرتبة واجب الشيء، والاختلاف في الألقاب لا في الحكم، ولما وجدنا في الصلاة والحج أشياء أكيدة ثم جبر نقصانها وعدم فساد الصلاة والحج فقلنا بمرتبة الواجب، فالحاصل أن ثبوت مرتبة الواجب من ظنية الدليل، وكذلك يدل تعريف أرباب أصولنا الواجبَ
عليها، فعلى هذا قال ابن همام: ليس الواجب في حقه عليه الصلاة والسلام، فإنه ليس له ظن في شيء، وأقول: إن بحث أرباب الأصول في الواجب يكون من حيث صورة الدليل، ولا يتعرضون إلى حقيقة الواجب، تعرض إليها بعض الحذاق، فحقيقته أن الواجب يكون لاستكمال الفرض مثل السنن إلا أن الواجب آكد في الاستكمال، فإذا ثبت وتمهد ما ذكر نقول: إنّ {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] القاطع دل على فرضية ما يشعر بالتعظيم، والحديث الظني ثبوتاً دل على وجوب (الله أكبر) خاصة، وكذلك يقال في غيره، فأصل المناسبة ولكل ذكر مشعر بالتعظيم، وكمالها للفظ (الله أكبر) ، وهذا هو الجواب عما استشكل في التحرير من اعتبار جنس العلة في عين الحكم، فقال: إنه راجع إلى اعتبار العين، في العين وليس كذلك، فإن هناك
أصل وكمال على أن الجنس هناك بمعنى المجانس لا بمعنى الوصف الشامل، فعلم أن بحث الشيخ في (لا صلاة لمن لم يقرأ. . الخ) بأن (لا) لنفي الكمال، فيدل على وجوب الفاتحة ـ غير جيد، فإن مقتضاه ظنية الدليل في الدلالة مع كونه ظني الثبوت، وهو لا يوجب الواجب كما سيبدأ عن قريب، والأصوب البحث في ظنية الدليل في الثبوت، كما أشار إليه صاحب الهداية هو أيضاً الحديث ليس ظني الدلالة، بل هو قطعي الدلالة لتعامل السلف على ابتداء الصلاة (بالله أكبر)، وإن قيل: فعلى هذا التعامل وإجماع السلف يكون (الله أكبر) ركناً نقول: إن اجتماعهم وتعاملهم على الإتيان (بالله أكبر) لا على ركنيته، وبينهما بون بعيد، فمرتبة الواجب القائل بها الأحناف ثابتة بلا ريب، وتفصيل الأمر أن الأدلة على أربعة أنواع: الأول: الدليل قطعي الدلالة والثبوت. ويُفيد الفرضية في جانب الأمر، والحرمة في جانب النهي، والثاني: ظني الثبوت والدلالة، ويفيد الكراهة تنزيهاً في جانب النهي، والاستحباب في جانب الأمر، والثالث: ظني الثبوت وقطعي الدلالة، والرابع: بالعكس، وكلا القسمين يفيدان الوجوب أو السنية في جانب الأمر، والكراهة تحريماً في جانب النهي، فعلى هذا ظهر الفرق بين الفرض والواجب، فهذه نبذة من إثبات مرتبة الواجب والكلام المحول، وبعض كلام سيأتي في باب صفة الصلاة في صلاة مسيء الصلاة.
قال المحقق ابن أمير الحاج: إن الخروج بصنعه ليس بفرض، فإن الفرض يتأدى في ضمن القربات لا في ضمن المنكرات، وقد قلنا بأداء الخروج بصنعه تحت القهقهة والتكلم، وهما مكروهان في الصلاة، وزعم هذا المحقق أن هذا القائل قاسَ القهقهة وإخراج الريح والتكلم وغيرها على لفظ السلام بجامع الخروج بصنع المصلي والحال أنه لم يقس بل أبدى حكمه وحقق أمراً واقعياً، على وزان ما يقال: إن الصلاة للذكر، والصوم لقمع النفس عن الشهوات، فهو حكمة مجردة، وإن كان قياساً فمرسل ملائم.
واعلم أن ههنا ثلاثة أعمال: تحقيق المناط، وتنقيح المناط، وتخريج المناط، قال الشيخ الكمال بن همام: إن هذه الألقاب الثلاثة ألقاب عند الشافعية لا عندنا، ولكن العمل كذلك عند مشايخنا أيضاً، فأما تحقيق المناط فهو إجراء الأحكام النوعية أو الجنسية على أفرادها وأنواعها، ولا يختص بالمجتهد، بل كل مكلف يقدر عليه، مثل:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] الآية، فإجراء الآية على أفرادها ليس بمختص بالمجتهد، وأما تنقيح المناط فقال الشوكاني في (إرشاد الفحول في علم الأصول) : إن تنقيح المناط نوع من أنواع القياس، والفرق أن القياس هو إبداء لجامع، وتنقيح المناط إلغاء الفارق بين المقيس والمقيس عليه، وقال الأسنوي في شرح منهاج الأصول: إن التنقيح يجري في النصوص أيضاً، وقال: التنقيح حذف الأوصاف التي ليست بمؤثرة
وإبقاء المؤثرات كما في قصة الأعرابي الذي وقع على امرأته في نهار رمضان، فكانت فيها أوصاف، كونه عامداً، أو كونه صحابياً، أو رجلاً، أو كونه مفطر صومه في نهار رمضان عمداً، فقال أبو حنيفة: إن الوصفَ المؤثرَ إفسادُه صومَه في نهار رمضان عمداً، فيتعدى الكفارة إلى الأكل والشرب عمداً، وسائر الصفات غير مؤثرة، وقال الشافعي أن المؤثر جماعه في نهار رمضان فلا تكون الكفارة في الأكل والشرب فهذا التنقيح تنقيح في النصوص، فعلم أنه ليس بقياس يكون في غير المنصوص، فقول الشوكاني غير جيد، وتنقيح المناط مختص بالمجتهدين، وأما تخريج المناط فهو: ترجيح المجتهد وصفاً من الأوصاف لعلّية الحكم، وفي التنقيح حذف غير المؤثر وإبقاء المؤثر، وفي التخريج ترجيح وصف للعلية، ومثال التخريج: الأشياء الستة الواردة في حديث الربا، من الحنطة، والشعير. . ففي هذه الأشياء أوصاف عديدة من الكيل والوزن والادخار والطعم والثمنية وغيرها فقال أبو حنيفة: إن العلة القدر والجنس، وقال الشافعي: إن مشار النهي هو الطعم والثمنية، وقال مالك: إنه اقتيات وادخار، فهذا القسم أي التخريج قياس، لأن المجتهد لما قرر علة يبني عليها الأحكام والفروع، ثم إن القياس قد يكون مثل تشبيه أهل المعاني، فإن التشبيه عندهم بيان الجامع بين المشبه والمشبه به، يعمل المشبه على المشبه به ولعله هو قياس الشبه، وأما في القياس للعلة فيدعي المجتهد كون الوصف علة للحكم واقتضاءه الحكم، ولا يكفي الصحة المحضة، والفرق بين القياس وتنقيح المناط: للعلة في القياس تعدية الحكم الشرعي بعينه إلى المقيس، ويكون الالتفات إليه أولاً ثم يلحقونه بما أشبه من المنصوص، والتنقيح لتعرف حال المنصوص أولاً أو إن لزمه التعدية، آخراً ثم إن قيل: فأي شيء ألجأ إلى القول بالشيئين الفرض والواجب؟ يقال: إن في أخواته أيضاً فرضاً وواجباً فكذلك قلنا فيما نحن فيه، وأخواته
مثل (الله أكبر) واجب لحديث الباب، وذكر الله المشعر بالتعظيم فرض لآية، {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] وكذلك القراءة المطلقة فريضة لآية: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] الآية وتعيين الفاتحة مع ضم آية سورة واجب واعلم أنه لا يقال في الآية إن ما في عامة، والمراد منها أية سورة شاء من الفاتحة أو السورة بلا تعيين الفاتحة كما يقول أهل العصر، بل يقال: إن المراد مما في الآية هو الفاتحة وأية سورة شاء، إلا أن هذا المراد من هذه الآية ظني، فالظن في كون المراد مراداً له، لو قلنا ما قال أهل العصر لزم إدخال الكراهة التحريمية في أمر الشارع، ولا يقبله العاقل ذو عقل سليم، فإن الامتثال بهذا الأمر يوجب الثواب، والحمل والإتيان بما قالوا لا يوجب الثواب، فيراد بأمره ما يكون جامعاً للفرائض والواجبات والسنن الأكيدة، وكذلك أقول في حديث مسيء الصلاة:«ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن» ، ومن أخوات ما نحن فيه الركوع والسجود، فإن ما يصدق عليه الركوع والسجود فرض لآية:{ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] وأما المكث قدر تسبيحة أو ثلاث تسبيحات فثابت بالحديث ويكون واجباً، وأما فرضية القعدة فثبت بالإجماع فكذلك قلنا فيما نحن فيه، أي في فرضية الصنع بخروجه، ووجوب السلام، وفي مثل هذه
الأشياء يتأدى الفرض في ضمن الواجب ويكون المرئي ظاهر الواجب، وفي ضمنه الفرض، ولذا قال مولانا محمد قاسم النانوتوي: إن الفرض كالمادة، والواجب كالصورة.
باب ما يقول إذا دخل الخلاء
[5]
قيل: معناه حين دخوله، وقيل: إذا أراد الدخول، قال ابن هشام صاحب المغني: إنّ تقدير (أراد) بعد (إذا) في مثل هذا المقام مطّرد، وأقول: قد ورد في بعض ألفاظ الحديث: (إذا أراد الدخول)، وفي البحر: إذا كان بين بيت الخلاء وموضع الخلاء مسافة شيء فقيل: يدعو بهذا الدعاء عند الباب، وقيل: عند موضع الخلاء، وقال مالك: إن نسي وقت الدخول فليقل وقت الجلوس، خلاف الجمهور في هذه الحالة.
قوله: (من الخُبُث والخَبيث) هاهنا شك الراوي، وفي رواية أخرى:(من الخُبُث والخبائث) كما سيجيء، والخُبُث ذكور الشياطين، والخبائث إناث الشياطين، ويأمر الشارع بالأوراد نظراً لنا.
وأما الأول، أي (من الخبث والخبيث) إن كان الخبْث بسكون الوسط فمصدر، وإن كان بضمه فجمع خبيث، ويكون المراد من الخبيث: الفعل الخبيث، ومن الخُبُث بضم الوسط: ذكور الشياطين، وفي الحديث:(الحشوش محتضرة. . إلخ) أي مواقع النجاسة، وقصة سعد مشهورة أنه ذهب في المغتسل، فأبطأ عليهم، فذهب الناس فوجدوه ميتاً، وسمعوا من ظهر غيب:
~ قتلنا رئيس الخزرج سعد بن عبادة
…
رميناه بسهمين فلم نخط فؤاده
فعلم وجود الجنات والشياطين في الحشوش والمغتسل، ولهذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البول في الحجر.
قوله: (وفي إسناده اضطراب إلخ) الاضطراب قد يكون في المتن وهو اختلاف الألفاظ، وقد يكون في الإسناد، وهو اختلاف الرواة وقفاً ورفعاً ووصلاً وإرسالاً، والاضطراب ههنا من ثلاثة أوجه، لأن لقتادة أربعة تلامذة، اثنان في أول الكلام، وهو هشام وسعيد، واثنان في آخر الكلام، وهو معمر وشعبة، ثم اختلف الأولان فيما بينهما، ثم اختلف الآخران فيما بينهما، واختلاف الأوليين إنما رويا عن قتادة ثم قال سعيد: إن بعد قتادة قاسم بن عوف الشيباني، فأثبت الواسطة بين قتادة وزيد بن أرقم، ونفى هشام الواسطة، والراجح ما قال سعيد، وأما هشام فحذف الواسطة، وأما الآخران فرويا عن قتادة عن النضر بن أنس، ثم اختلفا، فقال شعبة: إن الراوي فوق النضر هو زيد بن أرقم، وقال معمر: إن الراوي فوقه هو أبوه، أي أنس، فصار الخلاف من ثلاثة أوجه:
الأول: إن الأوليين يرويان عن قتادة عن زيد بلا واسطة النضر، وقال، الآخر أن بواسطة النضر.
والثاني: بين الأوليين فقال أحدهما بواسطة قاسم بين قتادة وزيد، ونفاها الآخر، وأما الخلاف الواقع بين سعيد وبين شعبة ومعمر فدفعه الترمذي بقوله نقلاً عن البخاري، قال: يحتمل أن يكون قتادة روى عنهما، أي عن النضر وعن القاسم، ومرجع الضمير النضر والقاسم، لا ما هو مذكور فيما بين سطور الكتاب أن المرجع زيد والنضر.
والثالث: بين الآخرين، فقال أحدهما: أنس بعد النضر، الآخر قال: زيد، أقول: إن الصحيح عن النضر عن زيد، ومن قال عن النضر عن أبيه فقد وهم، ولقد نظمت فيما ذكرت:
~ هشام عن قتادة ثم زيد
…
سعيد عن قتادة فابن عوف
~ وقال البيهقي: أنس خطاء
…
وعن زيد قتادة غير صرف
وأخذت هذا المضمون من السنن الكبرى للبيهقي ولقد غلطا بعض الناظرين في هذا المقام.
وحكم الاضطراب أن يطلب الترجيح وإلا فيسقط الاحتجاج بالمضطرب.
باب ما يقول إذا خرج من الخلاء
قرر الشارع الأوراد والأذكار في الأحوال المتواردة، كدخول المسجد، والخروج عنه، والدخول في الخلاء، والخروج عنه، وفي حديث:(كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه)، فقيل: المراد به الذكر اللساني، فيرد عليهم أنه عليه الصلاة والسلام كان يشتغل بغيره من الأشغال، فكيف يذكر الله على كل أحيانه، وقيل: إن الذكر هو الذكر القلبي، كما في أشغال التصوف، وهذا أيضاً بعيد، فإن اللغة آبية عن هذا المعنى فإن الذكر في اللغة هو اللساني، وأقول: إن المراد من الأحوال هي الأحوال المتواردة لا الأحوال المتشابهة.
[7]
قوله: (غفرانك) في الحاشية: أي اغفر غفرانك، أو أسأل غفرانك، ويعني أنه مفعول مطلق أو مفعول به، وعندي أنه مفعول مطلق، كما ذكر الرضي ضابطة، وهي هذه: إذا كان فاعلُ عاملِ المفعول المطلق أو مفعولُه مذكوراً بعده بواسطة الإضافة أو حرف الجر يجب حذف العامل، كما في (سبحانك) وأشار إليه ابن حاجب مجملاً، وأما نكتة حذف العامل فمذكورة في كتاب سيبويه.
قال المغربي: رأيت في كتاب أن آدم لما هبط على الأرض وجد الريح النتنة من الغائط، فقال:(غفرانك) زعماً منه أنه بسبب ما عهده من أكل الحبة، فجرت هذه السنة في أولاده، والله أعلم.
قوله: (حسن غريب) في بعض المواضع يكون غريب حسن بتقديم الغريب، فقال أبو الفتح بن سيد الناس اليعمري:
إن الأقدم اتهم بشأنه، ثم جمع المصنف بين الحسن والغريب، وللغريب معان:
أحدها: ما فسرها الجمهور به، وهو ما حصل فيه التفرد في أي موضع كان، ولا تنافي بين الغريب والحسن عند الجمهور، لأن سند الحسن أيضاً قد يكون واحداً.
وثانيها: ما تفرد فيه الراوي بزيادة شيء وليس في المشهور تلك الزيادة.
وثالثها: أحد السندين الواصلين إلى شيخ معين يكون أحدها مشهوراً والآخر متفرداً فيه، فالثاني
يكون غريباً، لكن باعتبار قول الترمذي بين الحسن والغريب تناف، لأنه فسر الحسن في العلل الصغرى، واشترط فيه تعدد الطرق، وفي الغريب تكون وحدة الطريقة، فالأجوبة عديدة، إن مدار الحديث قد يكون واحداً والرواة عن المدار كثير، فيسمى الحديث بالنسبة إليه غريباً، وبالنسبة إلى ما تحته من الرواة حسناً، كما تشير إليه عبارة الترمذي في مواضع، لكن هذا الجواب لا يجري فيما قال الترمذي في الحسن من تعدد الطرق، وقال: ويروى من غير وجه نحو ذلك، وأجيب بأن تعريف الترمذي إنما يؤخذ به إذا كان غير مقرون بالغريب، وإذا كان مقروناً بالغريب لا يكون المراد ذلك الحسن، وقال ابن صلاح: إن تعريف الخطابي للحسن محمول على الحسن لذاته، وتعريف الترمذي له محمول على الحسن لغيره، ولكنه بعيد لأن الترمذي ربما يحكم بالحسن على أحاديث الصحيحين، ومن القطع أن أحاديث الصحيحين لا تنحط عن مرتبة الحسن لذاته، فكلام ابن صلاح بمراحل عن الصواب، ومنشأ زعمه عدم تقييده رواة الحسان بالإتقان، والحال أن القيد مراد له ومنوي، والجواب: إن تعدد الطرق في الحسن مشروط إذا كان التفرد تفرداً مضراً، وأما إذا لم يكن مضراً فلا يشترط التعدد، والتفرد المضر زيادة راوٍ في حديث عن شيخ لم يذكرها غيره من تلامذة ذلك الشيخ، وغير المضر الذي يروى راو حديثاً بتمامه عن شيخ لم يروه غيره من تلامذته عنه وتفرد الراوي المضر قد يكون مقبولاً عند المحدثين، وقد لا يقبل، وأما بعضهم فيقبلونه كلياً، وسبيل التفرد تتبع متابعٍ له أو شاهد، والمتابعة تكون في الرواة، والشهادة من الصحابي، ثم المتابعة قريبة وبعيدة.
(ف) وإذا أقول: لفظ الحجازيين فأريد به الشافعية والموالك، وإذا أقول: لفظ العراقيين أريد به الأحناف، ومذهب أحمد دائر بين العراقيين والحجازيين، ومن عادة الترمذي وأبي داود والنسائي إخراج أحاديث الحجازيين والعراقيين، وقد يأتي بهما مسلم وأما البخاري فيبوب على ما هو مختار عنده.
باب في النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول
[8]
في الاستقبال والاستدبار عند الخلاء سبعة مذاهب:
قال أبو حنيفة بكراهيتهما في الصحاري والبنيان.
وقال الشافعي بالجواز في البنيان لا في الصحاري.
وقال أحمد ابن حنبل بجواز الاستدبار لا الاستقبال، وفي رواية شاذة عن أبي حنيفة ـ كما في الهداية ـ وفاق أحمد، وينبغي الجمع بين الروايات عن الأئمة مهما أمكن، والاختيار في الأقوال عن المشائخ، وترجيح أحدها، والجمع في روايتي أبي حنيفة رحمه الله أن الاستدبار والاستقبال مكروه إلا أن كراهة الاستدبار أقل من كراهة الاستقبال، وقال الشاه ولي الله في ترجمة الموطأ: إن الاستدبار والاستقبال مكروهان تنزيهاً عند أبي حنيفة رحمه الله ، ولعله مما في البناية على الهداية وعن البناية في النهر، وذكر صدر الإسلام أبو اليسر الأخ الأكبر لفخر الإسلام أبي العسر: إن بين الكراهة تحريماً وتنزيهاً واسطة تسمى إساءة.
(ف) قال أشياخنا رحمهم الله أجمعين: إذا وردت الأحاديث المختلفة في المسألة فيأخذ الشافعي رحمه الله بأصح ما في الباب مرفوعاً، ويأخذ مالك رحمه الله بتعامل أهل المدينة وإن خالفه حديث مرفوع، ويأخذ أبو حنيفة رحمه الله بكل المرفوعات بالحمل على محمل واحد، وربما يأخذ بالقولي ويخرج المحامل في الوقائع المخالفة له، ويأخذ أحمد بن حنبل رحمه الله بالكل مع لحاظ أقوال الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، ولذا تجد عنه روايات في مسألة وإذا تعارض الحديثان ففي كتب الشافعية يعمل بالتطبيق ثم بالترجيح ثم بالنسخ ثم بالتساقط، وفي كتبنا يؤخذ أولاً بالنسخ ثم بالترجيح ثم بالتطبيق ثم بالتساقط، والمقدم عندنا هو النسخ الثابت بالنقل، وأما النسخ الاجتهادي فمرتبة بعد الترجيح وقبل التطبيق، وأما تقدم الترجيح قبل التطبيق فهو مقتضى القريحة السليمة فإن في الترجيح عملاً بالعلم، وفي التطبيق عملاً بعدمه، والعلم مقدم على عدمه.
قوله: (إذا أتيتم الغائط) هذا الأمر لأهل المدينة، والغائط الأرض المنخفضة المطمئنة، وقد يطلق على ما يخرج.
قوله: (لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها) استنبط الغزالي رحمه الله من حديث الباب أن الواجب في الصلاة إدراك جهة القبلة لا عينها، لأنه عليه الصلاة والسلام ذكر أربع جوانب، وإدراك الجهة يتحقق بإمكان الخط المستقيم بين بيت الله وصدر المصلي، ونقل ابن عابدين أن الاستقبال والاستدبار عند الخلاء معتبر باعتبار العضو المخصوص لا الوجه.
قوله: (فننحرف عنها. . الخ) مرجع الضمير إما الكعبة، فيكون المعنى: نتخلى في تلك المراحيض، وننحرف عن القبلة مهما أمكن، ونستغفر الله من عدم الانحراف الكامل، أو يكون المرجع المراحيض، فيكون الاستغفار من فعلهم الشنيع، أي فعل أهل الشام، والمراحيض: جمع مرحاض، من الرحض (صاف كرون) .
قوله: (هكذا قال إسحاق الخ) . . أي إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، وفي راهويه ونفطويه وسيبويه وأخواتهما نعقان قال المحدثون: يقرأ سيبوْيَة ونفطوْيَة وراهوْيَة، وقال النحاة ـ وهو المشهور على ألسنتنا: ويقرأ سيبوَيْه و. . . ونفطوَيْه، وكذلك في غيرها.
باب ما جاء من الرخصة في ذلك
[9]
حديث الباب تمسُّك الشافعي رحمه الله وتمسكنما ضابطة الشارع.
قوله: (محمد بن إسحاق) اختلف أهل الجرح والتعديل فيه ما لم يختلف في غيره حتى أن قال
مالك بن أنس: إن قمت بين الحجر الأسود وباب الكعبة لحلفت أنه دجال كذاب، وقال البخاري: إنه إمام الحديث، قال ابن الهمام: إنه ثقة (ثلاث مرات)، وقال حافظ الدنيا: إنه ثقة، وفي حفظه شيء وأما البيهقي فيتكلم فيه في كتابه الأسماء والصفات، واعتمد في كتاب القراءة خلف الإمام فالعجب، وعندي أنه من رواة الحسان كما في الميزان، ويمكن أن يكون في حفظه شيء.
قوله: (أبان بن صالح. . الخ) إن كان على وزن الفعل فغير منصرف، وإن كان على وزن فعال فمنصرف.
قوله: (ابن لهيعة ضعيف. . الخ) لأن كتبه احترقت فكان بعده يروي عن حفظه، فخلط الصحيح بالسقيم، وأما في علمه فلا ريب فيه، وقال السفيان الثوري: إني قصدت الحج لمحض زيارته حين سمعت أنه يريد الحج، وأما جواب حديث الباب من جانب الأحناف فهذه وقائع فخرج لها المحاصل، ونأخذ بالضابطة والحديث القولي، لأن حديثنا مشتمل على الحكم مع السبب والحكم النهي عن الاستقبال والاستدبار، والسبب إتيان الغائط، وأما حديث الشافعية فواقعة حال لا عموم لها، ولا نعلم سببها وحكمها، فيكون الأقدم حديثنا كما هو مقتضى الأصول، والمراد من السبب الذي يلزم من وجوده وجوب الحكم، وأما حديث ابن عمر فيحتمل احتمالات كثيرة موافقة لنا ومنافية لنا، قيل: إنه من خصوصيته عليه الصلاة والسلام لأن الحقيقة المحمدية أعلى من حقيقة الكعبة، ويمكن فيه لأحد أن الأفضلية في عالم التكوين والخلق لا في عالم التشريع والأحكام التكليفية، ويمكن لنا أن نقول بما في الطحاوي ونوادر الأصول أن ابن عمر لم ير إلا رأسه عليه الصلاة والسلام، وكان النبي عليه الصلاة والسلام محاطاً بلبنات، وفي الاستقبال والاستدبار اعتبار العضو المخصوص لا الرأس، فالتشبت بالتشريع الكلي، ولنا أثر أبي أيوب الأنصاري أيضاً، وراجع صفة مخرجه صلى الله عليه وسلم من الوفاء وبلغ فضلات الأنبياء من الخصائص، ومن مستدلات الشافعية رواية عراك عن عائشة، أخرجها الدارقطني وابن ماجه أنه لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إن الناس يكرهون أن يستقبلوا القبلة بغائط أو بول بفروجهم، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: «أو قد فعلوا ذلك استقبلوا بمقعدتي القبلة» وحسّن النووى سندها، وكذلك حسّن ابن الهمام، ولم يُجب من جانب الحنفية، وقال العيني نقلاً عن أحمد بن حنبل: إنه مرسل لأن عراكاً لم يسمع من عائشة، وقيل أخرج مسلم حديث مسكينة تحمل سكينتين دخلت على عائشة عن عراك عن عائشة، فنقول: أحمد بن حنبل أفضل وأعلى من مسلم، ثم المرسل عند الأحناف مقبول إلا أن الاعتبار لما قال الطحاوي من أن الأعلى هو المتصل لا المرسل، كما في فتح المغيث، لا ما في الحسامي من علو المرسل عن المتصل، وأما المرسل فقبله المالك وأبو حنيفة، وفي رواية عن أحمد، وقبله أبو داود، ولم يقبله البخاري رحمه الله والشافعي رحمه الله، إلا أنه اعتبر به الشافعي في ستة مواضع مذكورة في النخبة، وأكثر السلف موافق لأبي حنيفة في قبول المرسل، ونقول أيضاً: إن مسلماً نافٍ ـ أي للواسطة ـ وأحمد مثبت، والمثبت مقدم على النافي، وروى جعفر بن ربيعة ـ الذي هو أوثق تلامذة عراك حديث عراك ـ موقوفاً، وقد ذكره في الجوهر عن البخاري، وقال في الميزان: إن الحديث منكر، وقال عمر بن عبد العزيز خليفة العدل: ما استقبلت وما استدبرت مدة عمري، فروى عراك في مقابلة ذلك الحديث، فلم يعمل عمر بن عبد العزيز بذلك الحديث بعد السماع أيضاً، وكان يكره البصاق نحو القبلة، كما في الفتح، ونقول أيضاً: إن حديثنا أصح شيء في هذا الباب، ومشتمل على الوجه والحكم فيؤخذ به، ونظمت في هذه الضابطة:
~ يا من يؤمّل أن تكو
…
نَ له سِمات قَبولِهْ
~ خذ بالأصول ومِن نصو
…
ص نبيهِ ورسولِهْ
~ نصاً على سبب أتى
…
بالساكت المجهولِهْ
~ دع ما يفوتك وجهه
…
بالبيِّن المنقولِهْ
~ وخذِ الكلام بفوره
…
لا عرضه أو طوله
~ ليس الوقائع في شَرا
…
ئِعه كمثل أصولِهْ
~ كتَطرّقِ الأعذار في
…
فعل خِلافِ مقولِهْ
ومثل ما قلت قال ابن حزم، وقريب من هذا ما قال أبو بكر بن العربي في شرحه على الترمذي، وقال: إن الأقرب مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وقال ابن القيم في تهذيب السنن: الترجيح لمذهب أبي حنيفة رحمه الله، واستدل لمذهبنا بما روى حذيفة بن اليمان قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من بزق إلى القبلة يأتي يوم القيامة والبزاق على جبهته» ، قال الحافظ في الفتح: إن المصلي يناجي ربه، وتحول
رحمة الباري بينه وبين القبلة، فلا يبزقن نحو القبلة وقال العيني: إن الحكم عام في الصلاة والمسجد وغيرهما فإذا نهي عن البزاق يكون الاستقبال والاستدبار منهياً عنه بالأولى، أقول: لا يصح هذا دليلاً لنا، لأن في الكنز من (ص230) قيد المصلي في متن حديث حذيفة، وغفل عنه.
باب ما جاء في النهي عن البول قائما
يكره البول قائماً.
[12]
قوله: (كان يبول قائماً) قيل: إن الصديقة تنفي عادته من البول قائماً، أي لم يكن يعتاده، أو يقال: إنها تذكر علمها، أو نقول: إن رواية حُذيفة في حال العذر، وأيضاً البول قائماً جائز، وخلاف الأدب، ويكره تنزيهاً.
قوله: (أن من الجفاء) يدل على الكراهة تنزيهاً، والجفاء البلادة والأعرابية (گنوارپن) .
قوله: (عبد الكريم بن أبي المخارق الخ) قيل: إن مالكاً روى عن عبد الكريم بن أبي المخارق في موطأه، فيكون ثقة، فقال ابن عبد البر في التمهيد لما في الموطأ من الأسانيد: إن مالكاً اعتمد على سمته، وكان يقرأ الصبيان، وهو سيّء الحفظ.
باب ما جاء من الرخصة في ذلك
[13]
في حديث حذيفة ليس مسح الناصية، وفي حديث مغيرة ليس ذكر البول قائماً، كما في مسلم (ص134) ، وفي حديث مغيرة بن شعبة واقعة القُفول من غزوة تبوك وإمامة عبد الرحمن بن عوف كما في مسلم (ص134) ، واعترض علاء الدين المارديني على القدوري من جمعه بين رواية حذيفة ومغيرة، أقول: لا اعتراض على الإمام القدوري، لأن الجمع والاختلاط من الذين فوقه لا منه، نعم يلزم عليه عدم النقد والتنقيح.
ويستنبط من الحديث أن التقاط الحجر للاستنجاء من أرض الغير بلا نقصانه جائز، ويكفي الإجازة دلالة وعادة، وأيضاً يكفي الإجازة دلالة للبول في أرض الغير.
قوله: (فبال عليها قائماً) قيل: لبيان الجواز، لأنه مكروه تنزيهاً وجائز، وقيل: كان لعذر بوجع كان به صلى الله عليه وسلم، كما في السنن الكبرى للبيهقي: أنه بال قائماً بوجع بمأبضه، كما في النووي شرح مسلم (ص133) وسنده ضعيف، ولكنه يكفي للنكتة، وفي النووي (ص133) أنه استدناه ليستتر به عن أعين الناس وغيرهم من الناظرين، لكونها حالة يستحي بها ويستحى منها في العادة، فكانت الحاجة التي يقتضيها بولاً من قيام يؤمن معها خروج الحدث الآخر الرائحة الكريهة، ولذا استدناه. انتهى.
(ف) يجوز ارتكابه عليه الصلاة والسلام الكراهة تنزيهاً لا الكراهة تحريماً، قال: الشيخ جلال الدين السيوطي في حاشية النسائي: إن تثليث الوضوء سنة، وتركه مكروه تحريماً، وتركه عليه الصلاة والسلام يورث الثواب له، أقول: هذا ليس بمختار عندنا، لأنا نقول: إن ترك التثليث ليس بإثم بشرط عدم الاعتياد، وأقول: إن في البول قائماً رخصة، وينبغي الآن المنع عنه لأنه عمل غير أهل الإسلام، لأن الفتيا يختلف باختلاف الأزمنة والحالات، فإنه كان الاستنجاء بالماء كافياً ومجزأً، وأفتى الشيخ ابن الهمام بكون الجمع سنة، فإن السلف كانوا يأكلون قليلاً، وأناس العصر أكالون.
باب ما جاء في الاستتار عند الحاجة إلخ
[14]
الاستتار فرض، وكان عادته الإبعاد في الحاجة، وأما واقعة بوله على سباطة قوم فمن عذر، كما قال النووي في شرح مسلم (ص133) ، فقد ذكر القاضي عياض أن سببه إلخ.
قوله: (كان أبي حميل فورثه إلخ) مسروق تابعي جليل القدر، والحميل من أتى به من دار الحرب وهو صغير، والولاية على قسمين: ولاية الموالاة، وولاية العتاقة، والأولى صحيحة عندنا، لا عند الشافعية، وقوله: وهو مولى لهم يحتملهما، وعند أبي حنيفة لا يرث، كما ذكره محمد في موطئه، ولنا فتوى الفاروق الأعظم.
باب كراهية الاستنجاء بالحجارة
[15]
قال الشافعي رحمه الله: التثليث والإنقاء واجب، والإيتار مستحب، وفي رواية: الإيتار أيضاً
واجب، وعندنا التثليث مستحب والإنقاء واجب كما في الطحاوي والبحر، وأما ما ذكره صاحب الكنز من أنه ليس فيه عدد مسنون إنما يتناول فيه بنفي السنة المؤكدة، كما في البحر: أن تثليث الأحجار مستحب عندنا، والطحاوي أعلم بمذهب أبي حنيفة، وهو تلميذ الشافعي بواسطة واحدة، وتلميذ مالك بواسطتين، وتلميذ أبي حنيفة بثلاثة وسائط، وذكر في باب الحج إجازة عن أحمد بواسطة، والطحاوي إمام مجتهد ومجدد كما قال ابن أثير الجزري: إنه مجدد، أقول: إنه مجدد من حيث شرح الحديث وهو بيان محامل الحديث والأسئلة والأجوبة وغيرها، والمتقدمون كانوا يروون الحديث سنداً ومتناً لا بحثاً، وقال النووي في شرح المهذب: إنه إذا اضطر إلى الاستنجاء باليمين فله أن يأخذ الحجر باليسار أو بين العقبين ويمر عليه العضو المخصوص باليمين، فعلم أن في عهد السلف كان الإمرار في البول أيضاً ثلاثاً كما في الغائط، لا مثل هذا العصر، ولنا في استحباب التثليث ما أخرجه أبو داود في سننه:«من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج» ، وفي رواية أخرى:«من يذهب الخلاء ليستجمر بثلاثة أحجار فإنها مجزئة» ، فإن الكفاية تدل على عدم الوجوب إن لم نقل: إن إطلاق الإجزاء مختص بالوجوب، وأطلق هاهنا بالنسبة إلى أصل وجوب الإزالة، ونقح أبو حنيفة رحمه الله والشافعي رحمه الله أن الحجارة كل عين قالع للنجاسة غير محترم ولا مال، وقال أبو داود الظاهري: إنه منحصر في الحجارة بعينها.
واختلفوا في أبوال مأكول اللحم وأزباله، قال أبو حنيفة رحمه الله والشافعي رحمه الله: إنها نجسة، وقال مالك ومحمد: إنها طاهرة، وجوز أبو يوسف التداوي بها، واستدل أبو حنيفة رحمه الله والشافعي رحمه الله بحديث (لا برجيع أو عظم) حديث الباب، لأن النهي عن الاستنجاء برجيع لكونه نجساً، والنجس لا يزيل النجاسة، وأيضاً نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أداء الصلاة في المزبلة، وصححه ابن السكن وأيضاً سيأتي أنه أخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال «إنها ركس» ، فإن قيل: في بعض الروايات تصريح بأنه طعام دواب إخوانكم فلم يبق حجة، قلت: إن الركس بمعنى الرجيع فيقال في الاستدلال إن: الرجيع، مشتق، والحمل على المشتق يدل على علية المبدأ، ولفظ ركس علة بخلاف الرجس، فإنه حكم من ولاية شرعية لا علة حسية.
باب ما جاء في الاستنجاء بالحجرين
[17]
استدل بعض الحنيفة بحديث الباب على عدم وجوب التثليث والإيتار بأنه ألقى الروثة، واستنجى بالحجرين، ولكنه في رواية: أنه ألقى الروثة، وقال: ائتني بثالث.
قوله: (إنها ركس إلخ) استدل البعض بهذا على أن علة النهي في الروثة النجاسة، وهذا إنما يصح لو كان الركس بمعنى الرجيع حتى يكون وصفاً، ولو كان بمعنى الرجس يكون الاستدلال ضعيفاً لأنه حكم لا علة.
قوله: (قال أبو عيسى: هكذا روى) هذا بيان المتابع للحديث المذكور للتقوية، والمتابعة على قسمين: كامل، وناقص، لأنه إذا وجد التفرد عن راو عن شيخ تفحص متابع أو شاهد، فإن وجد المتابع عن ذلك الشيخ يكون كاملاً، وإن وجد عن شيخ شيخه فصاعداً فناقص، والتحقيق في النخبة، والظاهر عن كلامهم أن المتَابَع أو المتابع يجب أن يكونا قرينين، وقد يقال للعالي: متابعاً للنازل، وفي فتح الباري: إن أصل المتابعة أن يكونا في قرن، وقد يتَابِع العالي السافلَ، وإن لم يكونا في قرن واحد.
قوله: (عمرو بن عبد الله السبيعي الهمداني) هَمْدان، بفتح الأول، وسكون الثاني: قبيلة، وأكثر الرواة من هذا القبيل، وهَمَدان بفتح الثاني: خطة أرض، ولم يكن هذا من الرواة، ووصف راوٍ، ويسمى هذا الفن مؤتلفاً ومختلفاً، ويعرف به الفرق بين اللفظين المتقاربين في رسم الخط لا التلفظ، وفنون علم الحديث أربعة وثمانون فناً.
قوله: (أبو عبيدة بن عبد الله) الخ) إذا أطلق لفظ عبد الله في مرتبة الصحابي يراد به ابن مسعود، وإذا أطلق (حسن) في مرتبة الصحابي يراد به ابن علي، وإذا أطلق في مرتبة التابعي يراد به الحسن البصري.
قوله: (لم يسمع من أبيه ولا يعرف اسمه) أي اسم أبي عبيدة، إن قيل: كيف رجح الترمذي منقطعه على متصل البخاري؟ قلت كما في الطحاوي: إن الترجيح لعلم أبي عبيدة، لأنه وإن لم يسمع من أبيه لأنه كان سبعٍ حين رحلة أبيه، لكنه أعلم الناس بعلم أبيه، فلم يلاحظ ضابطة ترجيح المتصل على المنقطع، وعلى هذا قال الشاه ولي الله في حجة الله البالغة: إن العلم هو شرح الصدر، لا اتباع الضوابط المخرجة وليعلم أن الكلام في حق أحد من جانب المحدثين لا يوجب سوء ديانته عياذاً بالله بل تكلم من حيث الحفظ والضبط، كما قال ابن الجوزي: إذا وقع في الإسناد صوفي فاغسل يديك منه، فإنهم يقولون: ظنوا المؤمنين خيراً، ولا يطلبون حقيقة الحال، وقال ابن معين: نتكلم في الذين غرزوا خيامهم في الجنة قبلنا بمائتين.
قوله: (قال: عبد الرحمن بن مهدي فاتني الذي) ما نافية وعبد الرحمن من الأئمة، ومذهبه دائر بين العراقيين والحجازيين لأن مشائخه مختلفون.
قوله: (إطلاع) : سها الشوكاني هاهنا، فإنه روى رواية أنه عليه الصلاة والسلام ألقى الروثة، وفيها: فإنه روثة حمار، وزعمه مرفوعاً، والحال أنه قول ابن مسعود حين يروي لتلميذه، وليس بمرفوع.
باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به
[18]
تعرضوا إلى بيان طريق استعمال الجن العظام، فقيل: تلقى الروثة في أراضيهم، وعند البخاري:«لا يمرون على عظم إلا وجدوا عليه أوفر ما كان عليه من اللحم والروث زادُ دوابهم» ثم الروايات مختلفة فإن في بعضها أن اللحم يجدون على الذكية، وفي بعضها على الميتة والجمع بينهما بأن الأول للمسلمين، والثاني للكفار، لكن فيه أن الحديث واحد فاضطرب.
يدل الحديث على أن الجن تبع للإنسان، ويأكل الجن سوء الإنسان وكذلك يكون تابعاً
للإنسان، وعن أبي حنيفة أن المسلمين من الجنات لا يكون في الجنة ولا في النار، ولعل مراده عدم كونه أصالة، وفي رواية عنه لا أدري أين يكونون كما قال:
~ من قال لا أدري لما لا يدرِه
…
فقد اقتدى في الفقهِ بالنعمانِ
~ في الدهر والخنثى كذلك جوابه
…
ودخول أطفال ووقت ختان
ونقل أن أبا حنيفة رحمه الله ناظر مالكاً رحمه الله الكلام في مسألة الباب، فقرأ أبو حنيفة آية ثم قرأ مالك رحمه الله ثم قرأ أبو حنيفة فسكت مالك رحمه الله.
قوله: (عن عبد الله أنه كان) هذا يدل صراحة على كون عبد الله معه عليه الصلاة والسلام في ليلة الجن ويفيدنا في الوضوء بالنبيذ وأنكره الشافعية بقول ابن عبد الله لو كان أبي معه عليه الصلاة والسلام لعُد من مناقبنا، ونقول: لعل ابنه لم يعلم والأمر أنه أراد ليلة الجن الواردة في القرآن لا غيرها من الليالي.
باب ما جاء في الاستنجاء بالماء
[19]
الجمع بين الأحجار والماء أفضل، وفي زماننا أكيد، وفي الكنز: والجمع بينهما حسن، وعبارة الترمذي أيضاً يحتمل الجمع وعدمه، وأما في البول فلعله يضطر إلى القول بالجمع بسبب رواية مغيرة «أنه عليه الصلاة والسلام قضى حاجته وكنت قائماً بعيداً منه، فجاء وطلب الماء» ويدل هذا ضرورة على أنه، أتاه بدون الاستنجاء بالأحجار.
باب ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد الحاجة أبعد في المذهب
[20]
المذهب مصدر ميمى ومعنى بَعُدَ المجرد (دورهوا) وأبعد المزيد (دوري كي)، ولا يخلو من المبالغة ويقال لمثل هذا: إدخال المزيد على المجرد، وقال أرباب المعاني: إذا لم يتعلق الغرض بالمفعول ينزل الفعل المتعدي منزلة اللازم، فوضح الفرق بين أخذت اللجام وأخذت باللجام فإن معنى الأول (يس نى لگام پكرط ا) ومعنى الثاني (يس نى لگام كى ساته أخذ كافعل كيا) .
قوله: (يرتاد لبوله. . إلخ) الارتياد من الرود طلب الشيء.
قوله: (أبو سلمة عبد الله. . الخ) هذا تابعي فقيه من الفقهاء السبعة من التابعين، الذي قال الدميري: إذا كُتبت أسماؤهم ووُضِعت في الحبوب لا تأكله السوس والأسماء هذه:
~ ألا كل من لا يقتدي بأئمةٍ
…
فقسمته ضيزى عن الحقِّ خارجةْ
~ فخذهم: عبيدُ الله عروةُ قاسمُ
…
سعيدُ أبو بكرٍ سليمانُ خارجةْ
باب ما جاء في كراهية البول في المغتسل
[21]
قوله: (فإن عامة الوسواس منه) قيل: إن الوسواس من رشاش البول، وفي زهر الربى على النسائي (ص15) : أن الوسواس معناه حديث النفس والأفكار، والمصدر بالكسر، وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن أنس بن مالك أنه قال: إنما يكره البول في المغتسل مخافة اللمم، وذكر صاحب الصحاح وغيره أن اللمم طرف من الجنون، ويقال أيضاً: أصاب فلاناً لمَّةُ من الجن وهو المس انتهى، وفيه في تلك الصفحة أن المستَحَم أصله الموضع الذي يغتسل فيه بالحميم وهو الماء الحار، ثم قيل للاغتسال بأي موضع كان، ذَكَرَ ثعلب أن الحميم من الأضداد أي الماء الحار والبارد.
وعامة الشيء معظمة وجميعه انتهى، وقال النحاة: إن لفظ عامة لا يستعمل مضافاً بل حالاً، لكن التفتازاني ذكر في خطبة شرح المقاصد وقوعها في كتاب عمر مضافاً، أقول: لما وجد في كلام عمر فلا يعبأ بما قال النحاة، وقال بعضهم: إن تفسير عامة الوسواس أنه نسيان، فإنه يوجب النسيان مثل الأشياء الأخر السبعة، وتمسك بحديث لا ينبغي عليه إطلاق لفظ الحديث وإسناده منكر.
قوله: (ربنا الله لا شريك له) هذا القول يدل على أن ابن سيرين لم يبلغه الحديث وإلا فلم يقل مثل هذا القول، وليس في هذا القول أن المخاطب يعتقد الشرك ـ عياذ بالله ـ بل هذا من المحاورات؛ كما يقول أحد لأخيه المسلم لا ترح إلى بلدة فلان فإنها مطعونة، ويقول الآخر لا شريك لله.
باب ما جاء في السواك
[22]
اختلف في أن السواك من سنن الوضوء أو الصلاة، قال أبو حنيفة بالأول، وقال الشافعي رحمه الله بالثاني، والأحاديث من الطرفين، وتأول بعض في الروايات التي فيها لفظ الصلاة بأن المراد بالصلاة الوضوء، ويرد عليه ما أخرجه أحمد في مسنده:«لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، وعند كل وضوء» وقال في رد المحتار إن ثمرة الخلاف تظهر في رجل توضأ بالسواك وصلى الثانية والثالثة بالوضوء الأول فعندنا قد أدى السنة، وعند الشافعي رحمه الله لم يؤدها، أقول لا خلاف بيننا وبين الشافعي رحمه الله لما صرح الشيخ في فتح القدير استحباب السواك في مواضع عديدة منها القيام إلى الصلاة، فإن قيل: بين السنة والمستحب فرق، وقلنا بالاستحباب لا بالسنة، قلت: لا تدافع بين السنة والمستحب، فإن أحداً يقول باستحباب شيء، والثاني السنية، ولا يقول إنهما مخالفان ولهذا لم يذكر الطحاوي الخلاف بين مذهبين، وغاية ما في الباب اختلاف النظر لا العمل، أي هل هو سنة الوضوء أو سنة الصلاة؟ فالحنفية لمّا رأوه أليق بالتطهير ألحقوه بالوضوء ولنا على هذا ما أخرجه الطحاوي ط (3) أنه عليه الصلاة والسلام كان يتوضأ لكل صلاة ولو كان على وضوء، فأتاه جبريل فقال: يجزئك السواك عند كل صلاة، فدل على كون السواك من أجزاء الوضوء.
قوله: (لأمرتهم بالسواك) قال محي الدين النووي: يستفاد من هذا أن الأمر للوجوب فإن السنية باقية الآن أيضاً أقول: كان السواك صلى الله عليه وسلم واجباً، وقال:«لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم» أي لأجعله عليهم أيضاً واجباً.
قوله: (أما محمد فزعم إلخ) قال حافظ من الحفاظ:، إن الترمذي يأتي بالأحاديث الغير المشتهرة في الباب لعل غرضه الاطلاع على القاعدة الجديدة لأن البخاري شيخه قد أتى بها والترمذي يأتي بغيرها.
[23]
قوله: (ولأخرت العشاء) للأحناف فيه قولان، قيل: يستحب تأخير العشاء إلى ثلث الليل، وقيل: يستحب إلى نصف الليل، ووجه القولين مذكور في مبسوطات الفقه، وأما تأخير العشاء إلى طلوع الفجر فمكروه تحريماً أو تنزيهاً، واختار الطحاوي الثاني، وهو المختار عند المحقق ابن أمير حاج.
وأقول: يستثنى من هذا المسافر.
قوله: (ألا استن) الاستنان مأخوذ من السن وهو إمرار السواك على السن.
قوله: (وفي الباب إلخ) هذا يدل على أن حديث السواك متواتر إسناداً أما المتواتر عملاً فلا ريب فيه.
باب ما جاء إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها
[24]
قال النووي: قال الشافعي وغيره من العلماء: معناه إن أهل الحجاز كانوا يستنجون بالأحجار وبلادهم حارة، فإذا ناموا عرقوا فلا يأمن النائم أن يطوف يده على ذلك الموضع المخرج، وقال البيضاوي: عُلم بذلك أن الباعث على أمر بذلك احتمال النجاسة انتهى زهر الربى على المجتبى
ص (4) والمذاهب في مسألة الباب مذكورة بتفصيلها في الكتاب، ومن استنجى بالأحجار ثم أدخل يده في الماء لا يتنجس عندنا، وقيل: يتنجسُ، والمختار الأول، وبعض الأشياء يتنجس بعد التطهر إذا أصابه بلل عند بعضنا، منها موضع الاستنجاء ومنها الحوض النجس المتطهر بالجفاف إذا أصابه ماء ينجس ومنها الإهاب المدبوغ بالجفاف يتنجس إذا ابتل، والتفصيل في كتب الفقه، والله أعلم بالصواب وعلمه أتم.
مسألة: إذا أدخل الجنب يده شيء الماء ولم يغسلها وليس شيء من النجاسة على يده لا يفسد الماء بل لا يصير مستعملاً أيضاً إن كان للاغتراف وحديث الباب بظاهره يدل على تنجيس الماء وإن كانت قليلة وإن لم يتغير اللون أو الطعم أو الريح فيفيدنا في مسألة المياه، وأجاب ابن القيم في تهذيب السنن: بأن لليد ملامسة بالشيطان في النوم فغسل اليد قبل الغمس من أحكام الطهارة الروحانية لا الفقهية، فقيل له: إنه محض احتمال، وإنما جاء «يبيت الشيطان على الخياشيم لا اليد» ويرده ما أخرجه الدارقطني وابن خزيمة في صحيحه «فإنه لا يدري أين باتت يده منه» فلا تعلق للشيطان بسبب زيادة لفظ منه، أي من جسده، وقال الشيخ في فتح القدير: حديث الباب لا يصلح استدلالاً لنا على تنجس الماء القليل بدون تقييد بسبب الاحتمال المذكور، أقول: إسقاطه من المستدلات غير صحيح، وقال الشيخ: يمكن أن تكون علة المنع كراهة المسلم، أقول: الكراهة. لا يتحقق بدون احتمال النجاسة فإن الكراهة ليست بحكم مستقل عندنا، ولعله أراد كراهة الفعل.
قوله: (الوليد بن مسلم) هذا يدلس تدليس التسوية عن الأوزاعي وقيل: له لمَ تدلس؟ قال: لأجل الأوزاعي، وقيل: بل ضيعته لأن الأوزاعي ثقة وفي أسانيده إذا كانوا ضعفاء أسقطتهم يزعم المحدثون التدليس عن الأوزاعي أو يضعونه، أولم تسقطهم يحكمون بالضعف ليس بسبب الأوزاعي فلم يصغ الوليد إلى فلهذا أدنى الإصغاء.
قوله: (قال الشافعي! أحب. . لكل إلخ) كثر في موطأ محمد بن حسن لفظ أحب وينبغي، ومثلها عند المتقدمين قد يستعمل في الفريضة أيضاً.
باب ما جاء في التسمية عند الوضوء
[25]
نسب إلى داود الظاهري وجوب التسمية عند الوضوء وكذلك رواية عن أحمد بن حنبل، أقول: لم يرد الوجوب عن أحمد، وتفرد بالوجوب منا الشيخ ابن الهمام وجد على تفرده، وكذلك تفرد في بعض المسائل، وقال تلميذه العلامة قاسم بن قطلوبفا: لا تقبل تفردات شيخنا، وقال ابن الهمام: إن لفظة لا لنفي الكمال مجاز، ولنفي الأصل حقيقة، فهو ههنا على الحقيقة، وإنما قلنا بالوجوب كيلا يلزم الزيادة بخبر الواحد على القاطع، ثم قال تحت بحث الصلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب: إن لفظة لا مشتركة بين النفيين فبين كلاميه تناف، وأقول: إنها لنفي الأصل حقيقة، وإما لنفي الكمال فبإنزال الناقص منزلة المعدوم وهذا ليس بمجاز لأنه تغيير في المصداق لا في الدلالة، وأما التسمية فليس عليه تعامل كثير من السلف ليقال بالوجوب وأما الحديث فضعيف، وقال الإمام أحمد: ما وجدت في هذا حديثاً صحيحاً، فلا بد من كون التسمية مستحبة. وقيل: المراد من التسمية النية، ونسب هذا إلى ربيعة بن أبي عبد الرحمن، ولكن ذكر الاسم في أمثاله لإرادة التلفظ باللسان، وحسَّن الحديث ابن الهمام، وتمسك الطحاوي لعدم وجوب التسمية بحديث مهاجر بن قنفذ «أنه عليه الصلاة والسلام كان يتوضأ فسلَّم عليه أحد فرد عليه بعد الفراغ عن الوضوء، وقال: لم أرد عليك لأني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر» وقال صاحب البحر: إن تمسك الطحاوي ليس بصحيح لأنه ينبغي الاستحباب أيضاً ولا ننفيه، وإنما أراد الطحاوي ذلك الوضوء، وقد ذكر أيضاً في كتابه: إن الذكر كان ممنوعاً في الحدث ثم نسخ. ثم إن لفظ تسميته عليه الصلاة والسلام في الوضوء كما روى الطبراني في معجمه عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول في ابتداء الوضوء: «بسم الله والحمد الله» ، وحسن العيني إسناده والشيخ نور الدين الهيثمي أيضاً.
(ف) الأخبار الآحاد التي لم تبلغ مرتبة الضرورة موكولة إلى رأي المجتهد والتأويل في ضروريات الدين غير مسموع والمأوِّل فيها كافر كما في الخيالي وكما قال تقي الدين بن دقيق العيد،
وهو في فتح المغيث. (ف) في كتب الفقه: إن الرجوع عن التقليد بعد العمل غير جائز، مراده أن مسألة بتحققه عند أحد تتحقق فعل شيئاً على تلك المسألة والتحقيق ثم بدا له بعد العمل أن عمله لا يصح على تحقيقه فيقول: أختار تحقيقاً آخر فإنه ممنوع عنه، مثل: إن صلى حنفي ثم ظهر له بعد الصلاة أن جسده كان يسيل منه الدم، فيقول: أختار مذهب الشافعي، فهذا غير جائز، وحكي أن أبا يوسف رحمه الله صلى ثم بدا له أن في الماء فأرة، والماء كان أزيد من قلتين، فقال بعد صلاته واطلاعه على الفأره فيه: إنا لنعمل بقول إخوتنا أهل الحجاز، أقول: إنه لا يقدح فإن بعد تسليم هذه الواقعة يمكن أن يكون مراده أسلوب الحكيم، وغرضه أنا نحكم بنجاسة الماء عند العلم بالنجاسة كما هو مذهبه فصحت صلاته، وإنما كان الرجوع غير جائز لتوارث السلف لأنه لم يثبت عن أحد منهم مثل هذا الرجوع، نعم ثبت الرجوع عن تحقيق إلى تحقيق آخر وهو جائز كما أن الشافعي رحمه الله كان يقول أولاً بعدم وجوب القراءة خلف الإمام في الجهرية، ورجع عنه قبل موته بسنتين، وقال بوجوبها، ولم يقضي ما كان أدى على التحقيق الأول من الصلوات، وكذلك نظائر أخر لا تحصى.
وأما الاقتداء خلف مخالف في الفروع كاقتداء حنفي خلف شافعي، أو عكسه أو غيرهما، ففيه أقوال عديدة، قال صاحب الهداية في باب الوتر (ص125) بالجواز، ثم قال صاحب البحر: إن بعد الجواز قولين؛ قول: إن العبرة لرأي الإمام لا للمقتدي وقول أن العبرة لرأي المقتدي وقال نوح الأفندي محشى الدر الفرر: إن العبرة للإمام والمقتدي فإن راعى الإمام المسائل المختلفة فيها صحت الصلاة وإلا فلا، وقيل: إن المقتدي لو وجد وشاهد ما ينقض الوضوء على مذهبه لا تصح وإلا صحت ولا يجب عليه السؤال عن الإمام، مثل إن شاهد حنفي مقتدٍ سيلانَ الدم من إمامه الشافعي فتفسد صلاته وإلا صحت، ولا يجب عليه سؤال هل سال دمه أم لا؟ أقول: أن العبرة لرأي الإمام، والدليل هو: توارث السلف فإنهم كانوا يقتدون خلف كل واحد بلا نكير مع كونهم مختلفين في الفروع، ويتمشون على تحقيق إمامهم، وأما إذا صلوا منفردين في بيوتهم فيتمشون على تحقيقاتهم، وحج أبو حنيفة رحمه الله خمسين حجاً، وكان في مكة كثير من السلف مخالفين وله في الفروع لم يثبت منه النكير خلف أحد منهم.
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: إن الدم الكثير مفسد والقليل غير مفسد.
وقال مالك رحمه الله: كلاهما غير مفسد.
وقيل لأحمد: لو وجدت مالك بن حنبل أنس هل تقتدي خلفه؟ قال: لم لا أقتدي؟
وفي فتاوى الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى في المجلد الثاني: أن القاضي أبا يوسف رحمه الله اقتدى خلف هارون الرشيد الخليفة هو وكان الرشيد مفتصداً، والحال أن الدم مفسد للصلاةِ والوضوء عند أبي يوسف إلا أن مالكاً رحمه الله كان أفتى هارون الرشيد بعدم نقض الوضوء بالدم ولو سائلاً، فعُلم أن العبرة لرأي الإمام، ونقل ابن الهمام عن شيخه سراج الدين قارئ الهداية: أن نفي الاقتداء خلف المخالف من المتأخرين لا من المتقدمين، ثم أورد ابن الهمام عليه بمسألة الجامع الصغير، وعندي لا يرد على قارئ الهداية ما في الجامع الصغير، لأن القبلة من الحسيات لها سبيل إلى درك الواقع بخلاف أكثر المسائل الاجتهادية، ولو اقتدى حنفي شافعياً في الوتر، وسلَّم الشافعي على الشفعة ثم أتم الوتر كما هو مذهب الشوافع لا تفسد صلاة الحنفي كما قال ابن وهبان في منظومه:
~ ولو حنفي قام خلف مسلم
…
لشفع ولم يوتر وثم فموتر
ولا يتوهم أن في الاقتداء خلف المخالف خروجاً عن المذهب، فإنه غلط فإنا لو سئلنا مثلاً: إن صلاة الشافعي مع الدم هل هي صحيحة على رأيه أم لا؟ فلا بد من أن تقول بصحة صلاته. (واقعة) : مَرَّ الدامغاني عند مسجد أبي إسحاق الشيرازي الشافعي، فإذا كان وقت الصلاة قريباً فدخل الدامغاني الحنفي، فامر أبو إسحاق المؤذنَ أن لا يرجِّع، وقدم الدامغاني فصلى بهم الدامغاني صلاة الشوافع، (ف) : الحق في موضع الخلاف واحدُ ودائر وهو المشهور عند أرباب الأصول، وقيل: الحق متعدد ونسب هذا إلى المعتزلة وصرح في فتح الباري بأنه مروي عن الأئمة الأربعة، وهو مذهب الصاحبين ومختار الشاه ولي الله في عقد الجيد، وفي جمع الجوامع أنه قول الأشعري، ومع هذا لا
يجوز الخروج عن تحقيق نفسه، والمسألة طويلة الذيل وسيجئ بعض بحثه في الترمذي في حديث:«الحرام بيِّن والحلال بيِّن وبينهما متشابهات» الخ. وفي ذلك الحديث بحث طويل لكنه يليق بشأن المجتهد وذكر فيه الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد المالكي الشافعي شيئاً لطيفاً.
باب ما جاء في المضمضة والاستنشاق
[27]
المضمضة: تحريك الماء في الفم، والاستنشاق بالشين والقاف (كشيدن بادوربني)، والاستنثار بالثاء المثلثة والراء المهملة: إخراج الشيء من الأنف.
قوله: (فإذا استجمرت فأوتر) الاستجمار الاستنجاء بالحجر، ونسب إلى مالك بن أنس رحمه الله: تبخير الكفن وتجميره، وحكى الأصمعي عنه الأول كما في الديباج المذهب، تمسك الشافعية بحديث الباب على وجوب الإيتار، ولنا حديث: «مَن فعلَ فقد أحسن ومن لا فلا حرج، كما قيل في موضعه، وأما المضمضة والاستنشاق فقال الشافعية بالوصل، ونقول بالفصل، ودليلنا سيأتي من عمل عثمان وعلي: أنهما أفردا المضمضة عن الاستنشاق، أخرجه ابن السكن في صحيحه.
قوله: (يعيد في الجنابة الخ) هذا مذهبنا، وقلنا بأن آية:{فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] تدل على
المبالغة في التطهير، وإن التطهير في اللغة الغسل فقط، وأيضاً جواز القراءة للمحدث وعدم جوازها للجنب يدل على أن الجنابة حملت في فم الجنب.
باب ما جاء في المضمضة والاستنشاق بكف واحد
[28]
ذكر النووي للمضمضة والاستنشاق خمسة أوجه فإنهما؛ إما بغرفة واحدة، أو بغرفتين، أو بثلاث غرفات، أو بست غرفات، ثم في الغرفة الواحدة صورتان الوصل والفصل وفي الغرفتين الفصل فقط، وفي ثلاث غرفات الوصل فقط، وفي ست غرفات الفصل فقط، والأخيرة مختارة عند الأحناف، ورواها الترمذي عن الشافعي وفي كتب الشوافع اختيار ثلاث غرفات، ولكن الترمذي يروي عن الفقيه الزعفراني كثيراً ما هو موافق للأحناف، ثم السنة الكاملة عندنا ست غرفات ويتأدى أصل السنة بثلاث غرفات كما في رد المحتار وهو المختار لوفاقه للحديث كما هو دأب الشيخ ابن الهمام، وقول آخر في البحر، وهو عدم أداء أصل السنة وهو ظاهر عبارة الدر المختار، وجزم الشمني في شرح الوقاية بأداء أصل السنة آخذاً من الفتاوى الظهيرية، ورجعت إلى الفتاوى الظهيرية، ووجدت فيه: أنه لو مضمض قبل الاستنشاق لا يصير الماء مستعملاً، ولو عكس يصير مستعملاً، ولم يتعرض إلى ما قال الشمني، ورد ابن القيم في زاد المعاد على ما قال النووي في شرح مسلم وقال راداً: إن الوصل بغرفة واحدة عسير جداً، وقال: إن المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة في الوضوء مرة مرة فلا يكونان ثلاثاً ثلاثاً، وبغرفتين في الوضوء مرتين مرتين، وثبت بالصحيح وضوؤه عليه الصلاة والسلام بغسل بعض الأعضاء مرة والبعض مرتين والبعض ثلاثاً، وما قال ابن القيم صحيح عندي في بيان مراد الحديث، وأما دليل أن كمال السنة بست غرفات فما أخرجه ابن السكن في صحيحه، ونقله ابن الحجر في تلخيص الحبير، عمل علي وعثمان، وهو أصرح لنا مما في الترمذي ص (7) ، ويتعجب من عدم إخراج الزيلعي والعيني إياه، ولنا أيضاً ما أخرجه أبو داود ص (19) عن طلحة بن مصرف، وتكلم فيه أبو داود والمحدثون، وحسنه الحافظ أبو عمرو ابن الصلاح كما نقل الشوكاني في النيل الجراء، وحسنه ابن الهمام من جانب نفسه، ووجه تضعيفه عند
أكثر المحدثين وجود «ليث بن سليم» في سنده ولكون سند طلحة عن أبيه عن جده غير معروف.
قوله: (من كف واحد) قال ابن الهمام متأولاً أنه مراد الحديث إن استعمل بيده الواحدة في المضمضة والاستنشاق بخلاف باقي الوضوء فإنه استعمل فيه اليدين، وتأول ابن الملك بأنه من تنازع الفعلين، ولكن تأويل الشيخ يبعد وما في أبي داود ص (15) في عمل علي بماء واحد الخ، والأحسن قول: أداء أصل السنة به فلا نحتاج إلى التأويل، ولهذا قال العيني في شرح البخاري إن واقعة عبد الله بن زيد لبيان الجواز، وتتبعت طرق حديث علي فوجدت اضطراب الرواة من التحت في حديث واحد أدى بعضهم بكف واحد وبعضهم ثلاثاً ثلاثاً، فتأول الشوافع في الرواية الثانية، فإذن صار تأويل الشيخ توجيهاً فيمكن ذلك التوجيه في رواية أبي داود أيضاً، ووجدت عند النسائي وغيره أنها ـ أي رواية عبد الله بن زيد ـ واقعة حال، ولم يتعرض الحافظ في الفتح إلى ست غرفات، ويفهم من تلخيص الحبير أنه صالحٌ للبحث فإنه أخرج فيه ما في الترمذي ص (16) ولكن ما في ابن السكن أصرح لنا، وظني أن قلة الماء أيضاً مرعية فإن غسل اليدين إلى المرفقين أيضاً مرتين وكان الماء ثلثي مد كما في سنن أبي داود ص14 عن أم عمارة أم عبد الله بن زيد، والنسائي.
قوله: (حسن وغريب) حديث الباب حديث البخاري، وحسنه الترمذي وغرَّبه، فكيف يجري قول العراقي صاحب الألفية: إن حسن الترمذي حسن لغيره.
باب ما جاء في تخليل اللحية
[29]
قال الأحناف: يجب إيصال الماء البشرة لذي لحية خفيفة لا لذي لحية كثة، وفي المختلطة اعتبار الغالب، وتعجب صاحب البحر مما في الكنز فإنه ذكر المرجوع عنه عن أبي حنيفة، وهو مسحها ولم يذكر المرجوع إليه.
باب ما جاء في مسح الرأس أنه يبدأ بمقدم الرأس إلى مؤخره
[32]
ثبت مسح الرأس بصفات كثيرة، وفي الصحاح القوية الإقبال والإدبار وهذه مختارة عندنا، وصفة أخرى عن ربيع بنت المُعوذ في سنن أبي داود واختارها ابن الهمام، وصفة أخرى مروية عن أحمد بن حنبل عن ربيع بنت مُعَوذ، وقد يعبر الراوي هذه الصفة بالمسح ثلاث مرارٍ فإن فيها ثلاث حركات؛ فإنه يبدأ من وسط الرأس، ويمد بها إلى القفا ثم منه إلى الأمام ثم إلى وسط الرأس، وما ذكر الشيخ سديد الدين لكاشفري صاحب المنية: تجافى السبابة والوسطى عن بعض الكتب اعترضه ابن الهمام بأنه لو كان لخوف صيرورة الماء مستعملاً فغلط، فإنه ما دام على العضو لا يكون مستعملاً، وأقول: كيف اختار الشيخ ابن الهمام غيرها في عامة كتبنا والروايات الصحيحة من الإقبال والإدبار تدل عليه؟ وقد يعبر الراوي عن هذه الصفة بالمسح مرتين بسبب الحركتين وإلا فالمسح مرة والحركتان للاستيعاب، وزعم الشوافع المسح مرتين، وصفة أخرى للمسح إذا كان متعمماً أخرجها أبو داود في سننه ص19 عن أنس، ووقع في سنده أبو معقل، وقال في كنى التهذيب اسم هذا الراوي، وإني قد وجدت اسمه في الفتح (ص14) عبد الله بن معقل.
وتثليث المسح بماء واحد عن حسن عن أبي حنيفة أنه مستحب كما في الهداية، وأما تثليثه بمياه ففي بعض كتبنا أنه بدعه وفي فتاوى قاضي خان أنه ليس بسنة ولا بدعة.
قوله: (فأقبل بهما وأدبر الخ) ظاهره خلاف المُفَسِّر المُفَسَّر، وبعض العلماء ذهب إلى الظاهر فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه الخ. . والإقبال في اللغة «أكلي طرف أنا» والإدبار «پحصلي طرف آنا» والجمهور إلى أن الراوي لم يعتد بالترتيب في المفسر، وقيل: إن الواو لا تدل على الترتيب إنما قدم الإقبال، فإن طريق استعمال العرف هكذا كما قالت خنساء.
فإنما هي إقبال وإدبار.
وقال المتكلفون ـ ولست منهم ـ: أقبل على شيء: أي أقبل على القفا، أدبر من أي شيء أي أدبر من القفا، أقول: إن الإقبال في اللغة الإتيان إلى القدام، ولا يأتي في اللغة بما قيل لا سيما إذا
أقرن بالإدبار، وقال النووي في شرح مسلم: إن الرجل إذا كان ذا شعر فله والإقبال والإدبار، لا إذا كان محلوقاً فهو تكلف.
باب ما جاء أنه يبدأ بمؤخر الرأس
[33]
ذهب بعض أهل العلم إلى ظاهر حديث الباب وعندي حمله على ما قال الإمام أحمد عن ربيِّع.
قوله: (مرتين أي بالحركتين) لا الاستيعاب مرتين.
باب ما جاء أن مسح الرأس مرة
[34]
مختار الأحناف المسح مرة، ومختار الشوافع تثليثه، وفي سنن أبي داود أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على المسح مرة، وهذا يؤيد الأحناف.
قوله: (ابن عمرو) بالواو والصحيح بدونها، أخرج الدارقطني حديث بتثليث المسح بطريق أبي حنيفة ثم أنكر عليه بأن عمله يخالف روايته، والعجب من رده على الإمام أبي حنيفة رحمه الله مع أن المسألة عند الدارقطني هكذا.
باب ما جاء أنه يأخذ لرأسه ماءا جديدا
[35]
يجوز المسح عندنا ببلة باقية في اليدين أو بماء جديد، وعند الشافعية يمسح ببلة جديد وأما المسح ببلة مأخوذة من العضو المغسول فغير مجزيء، وأما مسح الأذنين فيسن بما بقي من مسح الرأس، وفي فتح القدير لو مسح الرأس ولم يبق ماء لمسح الأذنين يأخذ لهما ماءاً جديداً.
وحديث الباب للأحناف، وبسط الزيلعي طرقه وتلخص منه أن الحديث مرفوع.
قوله: (بماء غير فضل يديه) ظني أن هذا تصحيف، والصحيح بماء غير فضل يديه، والله أعلم.
باب الأذنان من الرأس
[37]
تأول الشوافع بعد تسليم صحة الحديث أن المراد: أن الأذنين ممسوحان كما أن الرأس ممسوح: كما في معالم السنن للخطابي، وأما تأويل أنه بيان الخِلقة فلا يليق بأن يُصغى إليه وأطنب الزيلعي الكلام، وأتى بسندين قويين دالين على أن الحديث «الأذنان من الرأس» مرفوع، ولنا حديث آخر:«بأنه إذا مسح رأسه يخرج ما سمع أذناه من المعصية» ، والذي أخرجه الترمذي أولاً غير تام، فظاهره مسح الأذنين بمائه.
باب ما جاء ويل للأعقاب من النار
[41]
قال سيبويه: يستعمل الويل فيمن هو مستحق للهلاك، والويح فيمن ليس بمستحق له، وفي الحديث ـ ضعيف السند ـ: أن «الويل واد بجهنم» وفي حديث الباب رد على الروافض الملاعنة، ونسب إلى ابن جرير الطبري أنه يقول بالجمع بين الغسل والمسح، وقال ابن القيم: إن ابن جرير الطبري رجلان رافضي وسني، والثاني هو المشهور وكلاهما صاحب التفسير، فلعل القائل بالجمع هو الشيعي، وأخطأ الناقلون واستدل الروافض بآية {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] جراً، ولنا خاصة أن نقول: إن القراءتين بمنزلة الآيتين فالجر حال التخفف والنصب حال عدمه، ومأخذ هذا الأصل ما في الترمذي:{الم*غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 1 ـ 2] معروفاً ومجهولاً ونحوه. . . . . .
واقعتان: ويجوز أن يقال: إن الجر على لغة من لغات العرب، فإنه إذا كانا فعلين متقاربين ولهما مفعولان فيذكر أحد الفعلين في تلك اللغة كما قال الشاعر:
~ علفتها تبناً وماءً بارداً
…
وحمل ابن الحاجب الآية على هذه اللغة في أماليه، وأما الطحاوي فأطنب الكلام وادّعى أن مسح الرجلين كان ثم نسخ وأتى بالرواية، ويمكن لأحد أن يتأول المسح بالغسل الخفيف وقد ثبت المسح بهذا المعنى، كما قال أبو زيد الأنصاري: تمسحنا وما توضئنا، ويجب ههنا رعاية أن مسح الرجلين ثبت في الوضوء، على الوضوء كما في كتاب الطحاوي عمل علي، وكذلك عمله في أبي داود وقال: هذا وضوء من لم يحدث.
(ف) اختلفوا في تكفير الروافض، وللأحناف قولان: قيل: إنهم كافرون، وقيل: لا، والمختار تكفيرهم، فإن مكفر جمهور الصحابة كافر وقصر الروافض، الإسلام على تسعة أصحاب أو سبعة أو
خمسة على اختلاف الأقوال وللروافض في القرآن العظيم أقوال، قيل: زاد فيه عثمان ونقص، وقيل: نقص ولم يزد، وقيل: إنه محفوظ، ولا يقولون بصحة أحاديث كتب أهل السنة، ولهم صحاح أربعة، وهي سقام ومفتريات.
باب ما جاء في الوضوء ثلاثا ثلاثا
[44]
السنة المستمرة تثليث الوضوء، ولو اكتفى بالمرة أو المرتين لا يأثم، كما في الهداية ص (6) وثبت وضوئه مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً، وهذه مستمرة وثبت جمعُ غسل مرة ومرتين وثلاثاً في وضوء واحد، ولم يذهب أحد إلى الزيادة على ثلاث مرار، نعم ثبتت إطالة الغرة والتحجيل.
باب ما جاء في الوضوء مرة ومرتين وثلاثا
[45]
ليس المراد من حديث الباب جمع الطرق الثلاثة في وضوء واحد، بل وقوع الصفات الثلاثة في الوقائع المختلفة، وغرض هذا الباب بيان أن الراوي جمع القطعات الثلاثة في حديث واحد.
قوله: (شريك كثير الغلط) ؛ شريك بن عبد الله النخعي، من رواة مسلم، ومن معلقات البخاري وليعلم أن السند المعلق في البخاري مستقيم إلى المعلق عنه، والسند فوقه يكون تحت البحث، وشريك آخر من رجال البخاري ثقة.
باب ما جاء فيمن توضأ بعض وضوئه مرتين وبعضه ثلاثا
[47]
ظني أن قلة الماء أيضاً كانت مرعية في واقعة الباب، فلا يرد علينا في الجمع بين المضمضة والاستنشاق، والقرينة أن غسل اليدين إلى المرفقين مرتين كما اتفق الرواة، وقال الحافظ أيضاً كذلك، وأما غسل اليدين قبل الوضوء فكان ثلاثاً، وأيضاً كان الماء ثلثي مد كما في سنن أبي داود ص (13) عن أم عبد الله بن عاصم أم عمارة، وكذلك أخرجه النسائي.
قوله: (فمسح برأسه) في الطرق الأُخر أنه مسح مرة.
باب ما جاء في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان
[48]
الغرض من هذا الباب تفصيل صفة وضوء النبي، حديث الباب حديث علي السابق،
وقال الحافظ في تلخيص الحبير: الظاهر أنه أفرد المضمضة والاستنشاق ثلاثاً ثلاثاً.
وقد سها مولانا عبد الحي رحمه الله في السعاية في حديث الباب، فإنه نقل السند عن البناية وبأن في البناية سهواً، لكاتب بأن كتب عن ابن سفيان بدل ابن سلمة، وهو أبو وائل شقيق بن سلمة كما في سنن أبي داود أخرج الزيلعي صفة وضوئه عليه الصلاة والسلام عن اثنين وعشرن صحابياً، ويمكن الزيادة عليهم، وأما وجه اعتناء عثمان وعلي ببيان صفة وضوئه عليه الصلاة والسلام، ففي رواية صفة عثمان أن الناس اختلفوا في صفة وضوئه عليه الصلاة والسلام فبين لهم عثمان، وليس ذكره في رواية صفة علي حين توضأ في رحبة كوفة.
باب ما جاء في النضح بعد الوضوء
[50]
في بعض كتب أرباب التصوف تسمية هذه المسألة ببل السراويل، وقالوا باستحبابه، وسِرُّه دفع الشبهات، ولم أجد هذه التسمية في كتب الفقه، وأما من ظن خروج القطرة فصلاته باطلة.
قوله: (أبو عبيد الله السِّلمي) مَن كان من بني سُليم يكون سُلمياً بضم السين، ومن يكون من بني سلمة يكون بفتح السين.
قوله: (حسن بن علي) ليس هذا حسن بن علي أمير المؤمنين، بل رجل آخر متأخر.
قيل: إن المراد من النضح الاستنجاء والله أعلم، وثبت النضح بعد الوضوء عن بعض السلف.
باب ما جاء في إسباغ الوضوء
[51]
الإسباغ على أنواع عديدة منها إكمال الوضوء بدون إسراف وتقتير ومنها إطالة الغرة والتحجيل، وهو مستحب عندنا وعند غيرنا، والشرط أن لا يقع الفساد في الاعتقاد ولا يزعمه فرضاً، والدليل على إطالته عمل أبي هريرة في صحيح مسلم، وذكر بعض العلماء من مستحبات الوضوء إلقاء الغرفة على وسط الرأس بحيث تقطر على الجبهة بعد الوضوء، كما في سنن أبي داود ص (16) وحاشية السيوطي، وقال الشوكاني في نيل الأوطار: إن المذكور في سنن أبي داود هو: إلقاء الغرفة بعد غسل الوجه لا بعد ختم الوضوء، أقول: لعلَّ الشوكاني لم يلتفت إلى ما نقل السيوطي من الرواية، ولعله يدخل في الإسباغ وإطالة الغرة، والله أعلم.
قوله: (كثرة الخُطا الخ) المراد التزام حضور المسجد لا تصغير الخطوات حين الذهاب إلى المسجد كما يفعله بعض.
قوله: (وانتظار الصلاة الخ) لم أجد شرحه، وقد ثبت من دأب السلف الخروج بعد الفراغ عن أداء المكتوبة في المسجد، فما وجدت ما يشفى الصدور إلا شطراً عن القاضي أبي الوليد الباجي المالكي شارح موطأ مالك من انتظار الصلاة الثانية، وقال بعض العلماء: إن الخارج من المسجد بعد أداء الصلاة وقلبه معلق بالمسجد كالمصلي، وأقول: إن قول هذا البعض يناسب حديث الصحيحين أن المعلق قلبه بالمسجد يكون تحت ظل العرش.
باب ما جاء في التمندل بعد الوضوء
[53]
المنديل من الندل وهو الوسخ، قال صاحب المنية: التمندل بعد الوضوء مستحب، وقال في قاضيخان: أنه مباح، وهذا معتمد عليه.
قوله: (رشدين) غير منصرف ولا سبب فيه إلا العلمية إلا على مذهب الأخفش فإن الياء والنون عنده كالألف والنون.
والحاصل أن المنديل ليس بسنة وفي صحيح البخاري عن ميمونة أعطته ثوباً للنشف بعد الغسل فلم يأخذه وينفض يديه هكذا.
قوله: (حدثنيه علي عني، الخ) أي حدثت علياً ثم نسيته فحدثنيه عني ويعبر هذا بالنسيان بعد الرواية، وهو معتبر، كما نسي أبو يوسف عدة من مسائل الجامع الصغير بعد روايته لمحمد بن حسن.
باب فيما يقال بعد الوضوء
[55]
الأذكار الثابتة بالمروايات القوية أربعة؛ ثلاثة منها مرفوعة والواحد موقوف على عمر بن الخطاب.
أولها في ابتداء الوضوء: «بسم الله والحمد الله» ، رواه في شرح الهداية للعيني عن أبي هريرة مرفوعاً.
وثانيها: ما في مسلم وحديث الباب، إلا أن الترمذي زاد «اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين.
وثالثها: ما في الحصن الحصين لابن الجزري رحمه الله تعالى قال: «اللهم اغفر لي ذنبي، ووسع لي في داري، وبارك لي في رزقي» مع كلمة الشهادة في الوضوء.
رابعها: ما هو موقوف على عمر بن الخطاب: (سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، أستغفرك وأتوب إليك) .
باب الوضوء بالمد
[56]
روي عن محمد بن حسن عين ما في حديث الباب، ويقول الشوافع، إن في الحديث تقريباً لا تحديداً قال صاحب القاموس: المد ما تسعه الكفان، ومذهب الحجازيين وأبي يوسف: أن المد
رطل وثلثه، وعند أبي حنيفة ومحمد بن الحسن المد رطلان، واتفقوا على أن الصاع أربعة أمداد.
أقول: إن صاعنا ما تسعه الكفان ست مرات، نقل البيهقي بسند قوي في السنن الكبرى: أن أبا يوسف رجع عن مد العراقيين حين وقع مناظرته مع مالك بن أنس في المدينة، وأتى بخمسين رجلاً من ولد الصحابة بأمدادهم فقدرت وكانت رطلاً وثلثه، وقال الأحناف: لم يذكر محمد خلاف أبي يوسف في كتبه، أقول: إن هذا لا يصلح رداً على ما نقل البيهقي، ووزن صاع العراقيين على تقدير علماء الهند فيه أقوال: منها أنه مئتان وسبعون تولجة، وأحسن ما صنف في صاعنا رسالة الشيخ المخدوم هاشم بن عبد الغفور السندي رحمه الله، وقال فيها: إن فلس السلطان (عالمگير) مساوٍ لمثقال شرعي:
~ صاع كوفي هست أي مرد فهيم
…
ووصد وهفتاد وتوله مستقيم
~ باز ويناريكه دار واعتبار
…
وزن آن أزماشه وأن نيم وهار
~ درهم شرعي أزين مسكين شنو
…
كان رماشه هست يك سرخه دوجو
~ سرخ سه جوهست ليكن پاؤكم
…
مشت سرتعه ماشه أي صاحب كرم
ولقد أخطأ مولانا عبد الحي رحمه الله في نصاب الفضة والذهب فإن حسابه غير مستقيم، واعتبر بأحمر الأطباء وهي أربعة شعيرات، وقال القاضي ثناء الله الباني پتي: إن نصاب الفضة اثنان وخمسون تولجة، ونصاب الذهب سبعة تولجات ونصفها، والقاضي المرحوم من حذاقنا، قال الحجازيون: إن الصاع العراقي لا أصل له، وأقول: إنه ثابت، وذخيرة الأدلة محفوظة منها ما في سنن أبي داود ص (13) :«أن الإناء الذي كان يتوضأ النبي الكريم منه رطلان» ، لكن فيه شريك وهو مختلف فيه.
ومنها ما أخرج الطحاوي ص (324) بسند صحيح: أن صاع عمر بن الخطاب ثمانية أرطال، وذكر فيه عن مالك أن عبد الملك تحرى صاع عمر فوجده خمسة أرطال وثلثه وقال الطحاوي: إنه تحريه، وقد بلغنا تقديره الحق أنه ثمانية أرطال، والعجب من حافظ الدنيا أنه لم يخبر أنه كان صاع عمر ثمانية أرطال، إلا أنه ذكر أن الصاع العمري أي صاع عمر بن عبد العزيز
ثمانية أرطال فنسبه إلى عمر بن عبد العزيز لا عمر بن الخطاب، وأقول: إن صاعنا وصاع الحجازيين كان في عهده عليه الصلاة والسلام وثبت برواية صحيحة دالة على أن الصيعان والأمداد وكانت عديدة، وأخرجها صاحب الهداية:«يا رسول الله مدنا أكبر الأمداد وصاعنا أصغر الصيعان» أخرجه الزيلعي عن صحيح ابن حبان، وظني أن مراد حديث الصحيحين:«اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم» البركة الحية ويمكن البركة المعنوية أيضاً، ومنها ما في النسائي ص46، وأخرجه في معاني الآثار ص324، وفي أحد أسانيده محمد بن شجاع الثلجي معطوفاً عليه غيره، ويقال: إنه من المشبهين وقال العيني: إن هذا القول ليس بسديد ـ إن مجاهداً قال: أخرجت عائشة صاعه فقدرته لم يكن أقل من ثمانية أرطال» وقال ابن التيمية: إن الصاع في مسألة الماء ثمانية أرطال، وفي غيرها خمسة أرطال وثلثه. ونقول: إن مقتضى الاحتياط أن يؤخذ ثمانية أرطال في جميع المسائل.
وهاهنا مرحلة فقهية وهي: أن الصاع لو فرضنا زيادته في عهد عمر على ما في عهده يسمى بالصاع إلى الآن فمدار الحكم اسم أو وزن، وهذا شبيه ما قال الشيخ في فتح القدير: إن درهم كل بلدة معتبر فيها في الزكاة بشرط أن لا ينقص مما كان في عهده عليه الصلاة والسلام.
ما جاء في باب كراهية الإسراف في الوضوء
[57]
قوله: (ولهان) مشتق من الوله، (سرگشتگي)، في موطأ مالك: أن رجلاً سأل سعيد بن المسيب: إني أتوسوس في الصلاة فقال سعيد لا تنصرف عن الصلاة، وإن سال على كعبك. وكذلك قال بعض السلف لا تنصرف وإن ضرطت، ومثلهما يحمل على المبالغة.
باب ما جاء في الوضوء لكل صلاة
[58]
يستحب تجديد الوضوء عندنا وعند بعض العلماء، واشترطنا اختلاف المجلس أو توسط العبادة بين الوضوئين، وإن وضوءه عليه الصلاة والسلام الثاني كان لما يدل ما في سنن أبي داود ص (7) : أنه كان مأموراً بالوضوء لكل صلاة ثم خفف عليه وأمر بالسواك لكل صلاة، وهذا دال على أن السواك من أجزاء الوضوء كما هو مذهبنا، وبدا لي من عمل السلف أن الوضوء بعد الوضوء قد يكون ناقصاً كما يدل عمل علي أخرجه أبو داود، وفي معاني الآثار ص (20) أن الوضوء الناقص قد يمسح فيه الرجلان، وكذلك رواه في موطأ مالك.
وليعلم أن الوضوء يطلق في الشريعة على معان، خلاف ما قال ابن التيمية منها: الوضوء المعروف، ومنها الوضوء الناقص، ومنها المضمضة، كما في المجلد الثاني من الترمذي بسند ضعيف، ولعل المسح على العمامة أيضاً كان في الوضوء الناقص.
باب ما جاء في وضوء الرجل والمرأة من إناء واحد
[62]
يجوز للمرأة فضل طهور المرأة، وللمرأة فضل طهور الرجل عند الكل، إلا إذا غابت المرأة بالماء عند أحمد بن حنبل، وقال الخطابي في معالم السنن: إن المراد بالفضل هو المتساقط من اليدين ولعله أراد به الماء الباقي في الإناء، نُهيَ عنه لمكان التقاطر فيه، ولا شك أن المراد بالفضل هو الباقي في الإناء، وهو الصواب.
ونَهيُ الرجلِ عن فضل طهور المرأة ثابت بأحاديث كثيرة، ونهي المرأة عن فضل طهور الرجل ثبت بحديث رجاله موثوقون، وهو في فضل غسل الرجل فقط لا الوضوء وعلله بعض المحدثين، وأكثر الفقهاء حملوا النهي على التنزه، وأما منشأ النهي فعندي هو الاستعمال وأن يتقاطر منها فيه، فإن الطبع لا يقبله، والنظافة في طبع النسوان قليلة، فاعتبر الشريعة بهذا الاستنكاف هكذا مفهوم صيغ الطحاوي، وإن قيل: إن هذا لا يجري في حديث نهي المرأة عن فضل طهور الرجل؟ أقول إن الغسل من الرجل لا يندر فيه التقاطر، فاعتبر الشريعة بطبعهن أيضاً وإن كان طبعهن خلاف الواقع، ويمكن لطالب الحكم والأسرار أن يقول: إن الغرض من الوضوء الطمأنينة ومقتضى الاستنكاف التوسوس فنهى الشارع عن فضل الطهور وفي سنن أبي داود أن السلف كانوا يتوضؤون مع نسوانهم جميعاً، وفي حاشية السيرافي على كتاب سيبويه: إن لفظ «جميعاً» قد يكون بمعنى كلهم، وقد يكون بمعنى المعية الزمانية، وأقول: إن المراد هاهنا المعنى الثاني، والقرينة اختلاف الأيدي في الإناء، وفي النسائي ص (47) . وليفترقا جميعاً، وفيه عن أم سلمة:«توضأت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم معاً» فما ذُكر دال على أن المدار هو ما ذكرنا، وإنَه عند الاغتراف معاً لا يصدق عليه اسم الفضل، وأما دليل أن الشريعة قد تعتد بطبع الناس: حديث نهي النفخ والبزاق في الماء.
(م) في خطر الدر المختار أن سؤر الأجنبية للأجنبي مكروه.
وتكلم عليه ابن عابدين قال السرخسي: سؤر الكافر مكروه.
وحديث الباب ظاهره يفيد مشائخ ما وراء النهر في أن الماء المستعمل نجس، وكذلك يفيدنا في مسلم عن أبي هريرة «لا يغتسل الجنب من الماء الدائم يتناول تناولاً» أقول: أنكر مشائخنا العراقيون رواية نجاسة الماء المستعمل عن الأئمة الثلاثة وتصدى مشائخ ما وراء النهر إلى إثباتها عن الأئمة، وأفتوا بما قال العراقيون بطهارته لا طهوريته، وعندي لوثبت رواية النجاسة عن الأئمة ينبغي أن يتأول فيها كما تأول ابن التيمية رحمه الله، في قول أحمد في رجل جنب أدخل يده في الماء فنجسه في فتاواه بأن المراد من النجاسة عدم صلاحه لإزالة الحدث.
لما فرغ المصنف عن هذا الباب بوب: باب الرخصة في فضل الطهور، فإن استعمال ذلك الماء خلاف الأولى، ولا نقول: إنه مكروه تنزيهاً فإن الكراهة التنزيهية تحتاج إلى الرواية عن الأئمة.
(ف) قال علماء المذاهب الثلاثة: إن العام ظنى في التناول فإنه ما من عام إلا وقد خص منه البعض، وللأحناف ثلاثة أقوال كما في تلويح العلامة، قال مشائخ العراق: إنه قطعي، وقال مشائخ ما وراء النهر بظنيته، وقال أبو منصور الماتريدي بالتوقف والعجب من ذكر علماء ما وراء النهر قول العراقيين في تصانيفهم والمختار الظنية، ولعل مراد العراقيين بالقطعية القطع عملاً لا علماً ومن فروع القطع عملاً عدم الزيادة بخبر الواحد على القاطع، وما قال الشيخ في التحرير، من أن العام قطعي في الدلالة لا في الإرادة عين ما قلت في قول العراقيين.
باب ما جاء أن الماء طهور لا ينجسه شيء
[66]
في بضاعة لغتان بصاد مهملة أو ضاد معجمة.
قوله: (قد جود أبو أسامة) قال ابن دقيق العيد: إن التجويد تدليس التسوية، ولكن المراد هاهنا الإتيان بسند جيد.
قوله: (عن ابن عباس) لعله المروي سابقاً من أن الماء لا يُجنب، واعلم أن المذاهب في مسألة المياه خمسة عشر لأهل المذاهب الخمسة رواية وأقوالاً والمؤقت في مسألة المياه الشافعي رحمه الله بأن الماء إن كان قلتين لا ينجس، ولو وقعت رطل نجاسة، ولو قل منه ولو برطل ينجس، والأجزاء المخلوطة بالنجاسة نجسة إجماعاً، والتوقيت خلاف القياس فإن القياس حكم النجاسة بقدر العلة.
وللموالك ثلاثة أقوال، المشهور أن العبرة للتغيير وعدمه فإذا تغير لوقوع النجاسة نجس وإلا فلا.
وقال أبو حنيفة: يحكم بالنجاسة إلى حد يظن خلوص النجاسة إليه، ثم مالك اعتبر الحس، وأبو حنيفة اعتبر العلم، والظاهر أن في أكثر الأنجاس عبرة العلم، وأما ما في كتبنا من العشر في العشر فعين توقيت وهو ليس بمروي عن أئمتنا الثلاثة، وقال الشيخ في الفتح: إن محمداً ليس بمؤقت، ولو سُلِّم فرجع عنه، وحكى أن محمداً سئل عن الماء الكثير فقال: نحو مسجدي هذا، فقدره تلامذته فوجدوه ثمانية في ثمانية من داخله، وعشراً في عشر من خارجه، وفي الفتح عن محمد: لا أوقت فيه، ونقل صاحب البحر عبارات أركان المذاهب على أن العشر في العشر ليس عن الأئمة، وأما ما في القدوري من تحرك الطرف بتحريك طرف آخر فهو علامة العلم بالخلوص، وأول من قال في العشر أبو سليمان الجوجزاني كما في الفتاوى الهندية.
قوله: (يلقي فيها الحيض) ليس المراد الإلقاء بأنفسهم بل كانوا لا يحرسون البير وعبره الراوي بالإلقاء، أي لا يعلم الملقى ولا وقوعها عند استعمالهم، بل المراد أنه قد يتفق ذلك.
قوله: (طهور لا ينجسه) استدل الموالك بظاهر حديث الباب، وقيل لهم: ليس ها هنا ذكر التغيير وعدمه، قالوا: إنه مستثنى للإجماع على النجاسة بالتغيير، وأجاب المتأولون منا ـ منهم ابن الهمام بأن لام الطهور لام العهد، أقول: إن القول بأنه لام العهد تأبى عنه المقدمة الممهدة من أن الماء طهور لا ينجسه شيء الأصل لام الجنس، وقال الطحاوي بالتصرف والتأول في الخبر «الماء طهور لا ينجسه شيء» كما زعمتم وأغير في التعبير شيئاً مع إبقاء المراد أي الماء طهور لا يبقى نجساً أبداً بحيث لا يكون لطهارته سبيل، فإن هذا التعبير أقرب إلى لفظ الحديث عربية، وادعى الطحاوي أن الإنجاس كانت تخرج، وقال: إن بير بضاعة كانت جارية وأن الآبار كانت جارية، ولم يدرك مراد جريانه بعضهم، فإن مراده بالجريان إخراج الماء لا أن الماء يخرج بنفسه، واحتج بما روي عن الواقدي، وقيل: إن الواقدي كذاب، وأنه ضعيف عند الكل، وفي ابتداء عيون الأثر لأبي الفتح بن سيد الناس اليعمري: إنه قوي والظاهر، أنه ليس بكذاب، نعم يأتي بالرطب واليابس في تصانيفه، وأنا احتج على الجريان المذكور بما في البخاري ص (923) وص (128) أن بير بضاعة ويسقى منها لما في البساتين، ثم أتى الطحاوي بالنظائر على ما حرر بأنه عليه الصلاة والسلام قال لأبي هريرة:«إن المسلم لا ينجس ـ أي كما زعمتم ـ وبأن الأرض لا ينجس» مرفوعاً، وأتى بنظائر غير ما في الطحاوي مثل ما في البخاري؛ وقال الأصحاب رضوان الله عليهم أجمعين: يا رسول الله يأتينا الأعراب بلحوم لا نعلم هل سموا عليها أم لا؟ فقال سموا عليها وكلوها ولا يقول أحد بحله لو لم يسموا عند الذبح. وكذلك ما في الترمذي ص20 عن أم سلمة «يطهره ما بعده» وكذلك روى في سنن ابن ماجه، وشرح الشافعي حديث أم سلمة في كتاب الأم مثل ما شرحت، وأنه إلزام المخاطب بما لا
يلتزمه، وقال الطحاوي: إن حديث بير بضاعة لا يصح حجة للموالك، فإن سقوط مثل ما ذكر من الحِيَض ولحوم الكلاب يوجب تغيير الماء قطعاً فيحتاجون إلى إخراج الأنجاس والماء حتى يطيب، ونحن أيضاً نقول بكذا، وأما تفصيل الدلاء من عشرين أو أربعين فيطلب أدلته من موضعه، فالحاصل أن الماء طهور بحسب طبعه وحيث يكون في معدنه، وأما نجاسة الماء الراكد فهو حكم النجاسة الواقعة، ونقول أيضاً: إن الناس هل شاهدوا سقوط الحيض ولحوم الكلاب في البير فجاؤوه وسألوه، أم غرضهم أنه قد يتفق أن يكون هكذا مثل حال آبار زماننا؟ ومقتضى العقل السليم أن السؤال على بناء الصورة الثانية فيكون جوابه بأسلوب الحكيم وعدم اعتبار الوساوس والأوهام، وأيضاً إذا كان معاملة النجاسة المرئية ولم تكن مشاهدة بالعين ولا إخبار الثقة فحكم النجاسة عندنا أيضاً بالتغير.
إن قيل: إن التراب وغيره أيضاً يطهّر، ويكون له سبيل طهارة فما وجه القصر بالماء؟ نقول. إن الماء مخلوق للطهورية لا غيره، وأما حديث «جعلت لي الأرض طهوراً» فمن خصائصه عليه الصلاة والسلام، وجعلت له طهوراً إلا أنه طبع الأرض فثبت القصر.
باب منه آخر
[67]
آخر حديث الباب استدل به الشوافع.
قوله: (ينوبه السباع الخ) أي قد يتفق هكذا إلا أنهم شاهدوا ورود السباع عليه.
قوله: (لا يحمل الخبث الخ) ما قال صاحب الهداية متأول في حديث الباب يرد عليه لفظ «لا ينجس» قوله: «قول أحمد» عن أحمد روايتان: رواية موافقة للشافعية، ورواية موافقة للموالك،
واختار ابن التيمية قوله الذي هو موافق للمالكية في فتاواه، ولم يعل حديث القلتين، ونقل ابن القيم في تهذيب السنن أن ابن التيمية أسقط حديث القلتين ونقله صاحب البحر أيضاً.
قوله: (قوله خمس قرب) هو في قول للشوافع خمسمائة رطل.
حديث الباب حسنه بعض الشوافع، وصححه بعضهم، وعلله أبو عُمَر والقاضي إسماعيل المالكيان، ونقل صاحب الهداية تعليله عن أبي داود، وقال المخرجون: ما وجدنا فلعله أبي داود فعلله استنبط من صنيعه في ص (9) وذكر الحافظ التصحيح عن الطحاوي، أقول: إني ما وجدته في معاني الآثار ومشكل الآثار لعله صححه في كتاب آخر أو استنبط من صنيعه، وبحث الغزالي عدة أبحاث على حديث القلتين، وبحث ابن القيم خمسة عشر بحثاً في تهذيب السنن في أوراق تزيد على العشرين منها أنه قول ابن عمر وليس بمرفوع، فإن تلامذته الكبار لا يروون مرفوعاً، وأيضاً لم يعمل به في الحجاز والعراق والشام واليمن، فلو كانت سنة ما اختفى عليهم فلعل الرفع وهم الراوي، وأما كلام ابن التيمية في شرح حديث الباب فمضطرب كما حررت، وأثبت أبو داود ص (9) الاضطراب رفعاً ووقفاً، وفي بعض الطرق:«إذا كان الماء قلتين أو ثلاثاً» ومرَّ عليه البيهقي فقال: إنه شك الراوي، وقال ابن القيم: إنه تنويع من صاحب الشريعة، فإن ستة رجال رووه من كامل بن طلحة، وإبراهيم بن حجاج وهدية بن خالد، ووكيع ويزيد بن هارون، وعفان، فإذن لم يكن في الحديث تحديد، وفي الدارقطني بسند صحيح فتوى عبد الله بن عمرو بن العاص: إذا كان الماء أربعين قلة، وفي بعض الكتب عبد الله بن عمر بلا واوٍ فاضطرب شديداً، ولكن ظني أنه بالواو أي ابن عمرو، وقال الأحناف: إن الحديث مضطرب سنداً ومتناً، أما سنداً فقال البعض: عن عبد الله المكبر، وقال البعض: عبيد الله مصغراً، وأيضاً قال بعضهم: عن محمد بن جعفر بن الزبير، وقال بعضهم: محمد بن عباد، وقال الشوافع أياً ما كان ثقة، وأما متنا: فما ذكرنا من قلتين أو ثلاثاً أو أربعين، وقال ابن التيمية في موضع في فتاواه: أن حديث الباب راجع إلى حديث بير بضاعة، أي الحكم دائر على حمل الخبث وعدمه بأن يتغير الماء أو لا، فالمراد بالحمل الحمل
الحسي، وزعم الشوافع أن الحكم دائر على القلتين، ونظير هذا حديث الترمذي في باب الوضوء من النوم:«فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله» ص (12) فإنه لم يقصر أحد حكم نقض الوضوء على الاضطجاع فقط بل مدار
الحكم عند الكل استرخاء المفاصل، وهذه الدقيقة قابلة القدر، وصوب ابن التيمية وابن القيم وأبو الحجاج المزي الشافعي رحمه الله كما في تهذيب السنن ـ وهاهنا دقيقة أخرى ـ وهي: أن الماء كان بين مكة والمدينة في الفلاة ماءً دائماً كالعيون وماءً ينسب إلى الأرض، ولذا قال في بعض الألفاظ: سئل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض، فهو إذن ماء دائم لا ماء راكد من الغدران وماء الأمطار، ومدار حكمه عليه الصلاة والسلام: أنه ماء لم نشاهد ورود السباع عليه، ولم يخبر به ثقة والنجاسة غير مرئية، والماء ماء دائم فلا يحكم عليه بالنجاسة بمحض الاحتمال، فالحاصل أن مثل هذا الماء طاهر عندنا وعند غيرنا فلا حجة علينا بل هذا الماء طاهر وإن كان أقل من القلتيين، ثم كانت ذكر القلتين ممكنة بأنه تقريب لا تحديد، ففي الحديث أسلوب الحكيم، وشأن جوابه ها هنا وشأن جوابه في بير بضاعة مفترق، فإن النجاسة ها هنا غير مرئية وثمة مرئية وفي كليهما أسلوب الحكيم.
باب ما جاء في كراهية البول في الماء الراكد
[68]
وقع في لفظ البخاري الماء الدائم الذي لا يجري، وقد ذكرنا الأقسام الثلاثة للماء مع أفراد الحكم، من أن الماء قدرةً على ثلاثة أقسام: الماء الجاري: وهو لا ينجس، والماء الراكد: وهو ينجس ولا سبيل لطهارته، وماء البير: هو ينجس، وله سبيل الطهارة، وأفرد أبو حنيفة رحمه الله لكل واحد حكماً، واعتبر الشافعي بالتوقيت وأهمل هذه الأقسام الثلاثة واعتبر مالك بالتغيير وعدمه، ولم يعتد بالأقسام الثلاثة.
شرح حديث الباب موقوف على بيان ما في مغني ابن هشام، ففيه: إن في جملة (ماتأتيني فتحدثني) برفع تحدثني ونصبه أربعة معانٍ، فإن للرفع معنيين:
أحدهما: نفي الفعل الأول والثاني، وثانيهما: نفي الأول وإثبات الثاني، ومعنى الأول (نه توميرى پاس آتاهى زباتين كرتاهى) ومعنى الوجه الثاني (تونهين آتاهى أورباتيس بناتار هشاهى) ، وفي النصب أيضاً وجهان.
أحدهما: نفي الأول لينتفي الثاني، ومعناه (توهمارى پاس نهي آتاله باتين كرتا)، وثانيهما: نفي الثاني فقط، وأقول: إن في الرفع وجهاً ثالثاً أي نفي الأول لينتفي الثاني كما يفهم من كتاب «سيبويه» في:
~ لم تدر ما جزع عليك فتجزع
…
وفي حديث الباب الوجه الثالث في الرفع، وفي الرواية لم يثبت إلا الرفع، وذكر النووي الرفع والنصب والجزم، وذكر شيئاً عن شيخه ابن مالك صاحب الألفية مع أن المروي الرفع فقط، وزعم البعض في حديث الباب الوجه الأول للرفع، وزعم أن الغرض نفي كليهما، واشتبه عليه الأمر، وزعم أنه منهي عن الجمع ويجوز أحد الأمرين، وقال: يجوز البول في الماء الراكد، وليس كذلك فإنه نفي الأول والثاني أولاً وثانياً لا نفي الجمع، وقال الطيبي في شرح المشكاة: إنّ (ثم يتوضأ) موقع الاستبعاد وهذا عندي لطيف شرحاً والعجب من نقل الحافظ عبارة القرطبي: شارح مسلم ثم الرد عليه، قال القرطبي: إنه إشارة إلى كمال الحال مثل حديث «لا يضرب أحدكم زوجته ضرب العبد ثم يضاجعها» فالنهي عن الأول والثاني موقع الاستبعاد.
حديث الباب حجة لنا، وأجاب ابن التيمية: مختار مذهب مالك بن أنس بأن الغرض النهي عن الاعتياد فإن الماء لا ينجس إلا بعد التغير، ولا ينجس في الحالة الراهنة وأتى بالنظائر منها نهى الشارع عن البول تحت الظّل وفي الشارع العام والمورد، فإن الغرض ثمة النهي عن الاعتياد، أقول: إنه من رأيه رآه، فإن في حديث الباب:«ثم يتوضأ منه» ، والمتبادر منه أنه يحتاج إلى التوضئ في الحالة الراهنة، وكذلك تدل طرق الحديث منها ما في معاني الآثار ص (8) عن عطاء بن ميناء عن أبي هريرة يغتسل منه ويشرب الخ، أخرجه البيهقي ومالك في مدونته، فإن العاقل يزعم أن الشرب في الحالة الراهنة لا بعد زمان كثير وتغيير الماء، وكذلك تدل فتوى أبي هريرة وهو راوي الحديث، أخرجه في معاني الآثار ص (10) : سئل عن رجل يمر على غدير أيبول فيه؟ قال: (لا، لعله أخوه المسلم يمر عليه فيغتسل منه أو يشرب) على أن المنع باعتبار التوضئ في الحالة الراهنة، قال ابن التيمية في موضع آخر: إن البول مائع وإذا اختلط بالماء فلا يتميز، فالنجاسة بسبب الاختلاط فلا يتعدى الحكم إلى الخثي والروثة اليابسة، فإنها إذا وقعت في الماء فلا يتنجس الماء إذا لم يختلط، وروي عن أحمد بن حنبل الفرق بين النجاسة الرطبة واليابسة أقول: إن مُدَّعانا أيضاً إثبات نجاسة الماء كما اعترفت، وأما القول بأن النجاسة بسبب الاختلاط وبالعرض وإلا فالماء طاهر والنجاسة المختلطة هي النجسة فتفلسف وأدلتنا في في مسألة المياه حديث المستيقظ من النوم، وحديث ولوغ الكلب، وحديث، الباب، وفي الثلاثة الأنجاس مما من أفعالنا واختيارنا، ونعلمها قطعاً، وفي الثلاثة الأنجاس غير مرئية، ولم يذكر الأنجاس المرئية فإن حكم النجاسة المرئية كافٍ في الحكم فإنا نحكم بنجاسة الماء إلى موضع سرى إليه أثر النجاسة.
(دقيقة) : لقد نهى الشريعة الغراء عن النفخ والبصاق في الماء، وعن إدخال اليد فيه بعد اليقظة، فكيف يجوز استعمال الماء الذي يقع فيه لحوم الكلاب والحِيَض والنتن على ما زعم الخصوم؟ والحاصل عندي أن الشريعة لم تحكم بنجاسة ماء بير بضاعة وماء الفلاة فإن الناس لم يشاهدوا النجاسة، وجرت فيها الأوهام والوساوس، وأما الموضع الذي ليس فيه طريق الوهم فليس شأنه هذا، فإن الشريعة تنهى عن استعمال الإناء الذي ولغ فيه الكلب قبل الغسل، وأيضاً أمرت بالغسل عن سؤر الهرة، وفي معاني الآثار ص (12) عن ابن عمر: النهي عن سؤر الحمار، وفي مجمع الزوائد: أن ابن عباس ردف النبي صلى الله عليه وسلم على الحمار فأمره بالاغتسال، وفي سنده راو مختلف فيه، ففي ما ذكر وأخواته مشاهدة سبب النهي عن استعمال الماء ولا مشاهدة في ماء الفلاة وماء بير بضاعة، فعومل فيها بأسلوب الحكيم، فالحاصل أن فيها مدخل الأوهام لا المشاهدة بخلاف غيرهما مما ذكرنا وأخواته فتفرق شأن الأجوبة في الطائفتين، نقل البيهقي في معرفة الآثار والسنن لفظ (ترِدُه السباع والكلاب) في حديث القلتين ثم علله البيهقي بأن الراوي متفرد، وأقول: إنه معلول في الواقع فإن ابن عمر راوي حديث القلتين يفتي بنجاسة سؤر الكلب كما في معاني الآثار ص (12) فلا يكون فيه لفظ الكلاب، وكذلك في الصحيحين: «أن الإناء الذي ولغ فيه الكلب يغسل سبع مرات، فعلم أن لفظ الكلاب ليس في حديث القلتين، ولو سلم ففي ماء الفلاة ليست المشاهدة بل فيه طريق الوهم، وفيما روينا طريق القطع واليقين فافترقا.
(اطلاع) : يقول الشوافع أسآر السباع طاهرة إلا الكلب والخنزير، ونقول: إن حديث القلتين دال على نجاسة أسآرها، فإنه عليه الصلاة والسلام لم يجب الصحابة بأن أسآرها طاهرة، بل أجاب بأن الماء إذا كان قلتين لم يحمل الخبث، وأيضاً دال على أن الماء إذا كان أقل من القلتين يتنجس بأسآر السباع فهذا إلزام على ما قال الشوافع فتدبر، ويقول الشوافع: إن من دأب الدواب السباع البول حين شرب الماء، ونقول: إنا نتمشى على ما ذكرنا في الحديث، وأماما في المشكاة:«لها ما أخذت في بطونها، ولنا ما بقي» ، فضعيف بجميع طرقه بإقرار البيهقي، وتصدى ابن الحجر المكي الشافعي إلى تحسينه بأن تعدد الطرق دال على أن له أصلاً، وأقول: إن فيه أيضاً أسلوب الحكيم فإنا لا نشاهد السباع يشربون الماء، فالمدار على الأوهام فلا يتنجس الماء بالشك وأما مذاهب السلف في الماء فالجزئيات المروية عنهم قريبة إلى قول أبي حنيفة، فإن أكثرهم يعتبر بالعلم وبعضهم يأخذ التغير، ونحن أيضاً، نحن نأخذ التغير في بعض الأحيان، أخرج في معاني الآثار ص (10) بسند
صحيح فتوى ابن الزبير وابن عباس: ينزح تمام ما في البير حين وقوع الغلام الحبشي فيها، وأيضاً إذا وقع حيوان في الماء يفتي أكثرهم بنزح الماء حتى يطيب الماء كما في معاني الآثار، قال الشوافع في قصة وقوع الحبشي في البير: إن سفيان بن عيينة قال: أقمت بمكة سبعين سنة ولم أسمع هذه القصة، وقال ابن الهمام: إن سفيان بعد عهد ابن الزبير فكيف يرى الواقعة، فعدم علمه ليست بحجة علينا، ثم أجاب الشوافع بأن الحبشي لعله سال دمه فتغير الماء وغلب على الماء، نقول: إن هذا الاحتمال بعيد وخلاف المشاهدة، ونقول: إن الكوفة لم تكن خالية عن الصحابة قال الأزرقي: كان خمسمائة وألف رجل من الصحابة في الكوفة، أقول: إن عمر اتخذ مجتمع العسكر بكوفة كما في مسلم، وكان آلاف من الصحابة في حروب القادسية، فلعل في قول الأزرقي قيداً، وكان ستمائة رجل منهم في قرية قرقية في حوالي كوفة، ثم أقول: إن عُمُر سفيان سبعون سنة وأقام خمسة وثلاثين سنة في كوفة فيتأول في كلامه بأنه حج سبعين مرة قال الشيخ ابن الهمام في الفتح: إن حديث البول في الماء الراكد، وحديث المستيقظ ليستا بحجتين لنا فإن فيهما كراهة نعم حديث ولوغ الكلب دليل لنا، فإن فيه لفظ (طهور إناء أحدكم. . الخ) أقول: لو كان الأمر كذلك فالطهور أيضاً يأتي بمعنى النظافة لما في الحديث: «إن السواك مطهرة للفم» فلا يكون حديث ولوغ الكلب أيضاً دليلنا ولكن الحق متجاوز عنه، وأقول أيضاً: إن الكراهة ليست حكماً مستقلاً في الماء بل من فروع النجاسة، فإن الموضع الذي يحتمل النجاسة نحكم فيه بالكراهة فرجع الأمر إلى النجاسة، فتكون الأحاديث الثلاثة أدلتنا، وأن مذهب أبي حنيفة في المياه راجح إن شاء الله تعالى.
باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور
[69]
أكثر أرباب اللغة أن البحر هو مالح، وقع في بعض الروايات أن السائل في هذا الحديث رجل من بني مدلج.
قوله: (هو الطهور ماءه) ماءه فاعل الصفة المشبهة، وكذلك في الحل ميتته، اللام في الطهور ليس للقصر بل لتعريف المبتدأ بحال الخبر، كما قال عبد القاهر الجرجاني: إن تعريف الخبر قد يكون ليعرف به المبتدأ مثل آية: «أولئك هم المفلحون» كذلك في:
~ وإن قَتَل الهوى رجلاً
…
فإني ذلك الرجل
تكلم العلماء في منشأ سؤال الصحابة: فقيل: إن منشأه حديث «إن تحت البحر ناراً» ، وفي الملل والنحل لابن حزم الأندلسي، قيل لعلي: إن فلاناً اليهودي يقول: إن جهنم في البحر، قال علي ما أراه إلا أن صدق.
ومراد هذا الحديث قيل: إن جهنم يوضع موضع البحر وإن ماءه يستعمل في جهنم، وقيل: إن منشأ السؤال موت الحيوانات في البحر، وأقوال أخر فيه.
قوله: (الحل ميتته) في حيوانات البحر أقوال للشوافع، في قول: إن جميع ما في البحر حلال، وفي قول: جميع ما فيه حلال إلا الضفدع والتمساح، وفي قول: حلال البر، حلال في البحر، وحرام البر حرام في البحر ومالا نظير له في البر أيضاً حلال.
ومذهب الأحناف: أن الحلال من حيواناته السمك فقط.
ثم لأهل المذهبين كلام في آية {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] قالوا: إن الصيد بمعنى المصيد، وقلنا: إنه مصدر على حاله، والقرينة أن القرآن يبحث عن الفعل من المُحرِم بأنه هل يوجب الجزاء أم لا؟ وأما الحديث فأحسن ما قيل في حديث الباب ما قال مولانا أستاذ الزمن محمود حسن مد ظله العالي على رؤوس المسترشدين: إن الحل بمعنى الطاهر وثبت الحل بمعنى الطهارة، كما في قصة صفية بنت حيي: حلت بالصهباء أي، طهرت من الحيض، وأيضاً حديث آخر دال على أن الحل قد يكون بمعنى الطاهر إلا أنه ضعيف السند، أخرجه الزيلعي والشيخ في الفتح ومعناه أن موت ما يعيش في الماء لا يفسده، ودليلنا «أحُل لنا ميتتان: السمك والجراد» أخرجه الحافظ في تلخيص الحبير مرفوعاً وموقوفاً وصحح سند الموقوف، وأيضاً لم يثبت من أحد من الصحابة أكل ما سوى السمك، قال الشوافع: أكل الصحابة العنبر وهو غير السمك، ونقول: إن العنبر غير السمك كما وقع في بعض الألفاظ لفظ الحوت على المنبر صراحة، فلا يصلح حجة لهم، والمراد بالميتة غير المذبوح فلا يدل على حل الطافي، والمراد في الآية بصيد البحر فعل الاصطياد وبطعامه هو السمك، فهو تخصيص، وأثر أبي بكر الصديق في الطافي مضطرب اللفظ.
باب ما جاء في التشديد في البول
غرض الباب ذكر الاستنزاه عن البول.
[70]
قوله: (وما يعذبان في كبير) في بعض الروايات نعم أي كبيران، فتعارض جزءا الكلام، فالدفع أنهما كبيران عقاباً وليسا بكبيرين فعلاً، فإن تركهما سهل.
قوله: (لا يستتر) في بعض الروايات (لا يستنزه) وفي بعضها: (لا يستبرئ) .
والنميمة نقل كلام الغير بقصد الإضرار.
قيل: إن الرشاش ليس بكبيرة فأجيب بأنه لعله يصلي بذلك الثوب الذي أصابه الرشاش فصارت كبيرة وقيل: إن الإصرار على الصغيرة كبيرة، قال حافظ الدنيا: إن واقعة الباب واقعة الرجلين المسلمين، وما في آخر صحيح مسلم واقعة الكافرين، فلا يختلط الأمر بسطح الحديثين، فإن معرفة اتحاد الواقعة وتعددها عسير جداً، أقول: قد صح أن عامة عذاب القبر من البول، وأما نكتة هذا فخفية لم تحصل لي، إلا أنه في الكفاية شرح الهداية: إن أوّل الفرائض بعد الإيمان وستر العورة الصلاة ومقدمتها الطهارة، والقبر أيضاً أول مراحل المحشر، فيليق المقدمة للمقدمة والله أعلم، ثم سخ أن الأثر للنجاسة، وهم كانوا يتهاونون في أمر البول فخصه بالذكر، وإلا فالأمر عام في النجاسات.
باب ما جاء في نضح بول الغلام إلخ
[71]
قال أتباع المذاهب الأربعة: إن بول الغلام نجس، والاختلاف في وجه التطهير؛ قلنا: إن في تطهيره تخفيفاً كما في موطأ محمد بن حسن ص (64) أن فيه رخصة أي تخفيفاً، وللشوافع وجهان:
في وجه: يجب تغليب الماء فقط، وفي وجه: يجب التقاطر أيضاً، ذكرها النووي في شرح مسلم، والوجه الأوّل مختار إمام الحرمين، وألزم بعض الموالك طهارة بول الغلام على الشوافع لذلك لم يشترطوا التقاطر في وجه فكيف الطهارة، وفي عارضة الأحوذي لأبي بكر بن العربي، والإحياء للغزالي، وكذلك قال ابن التيمية: إن الماء محيل أو مستهلك فإنه إذا غلب على البول يحيله إلى الطهارة، كما قال الأحناف: إن الحمار إذا وقع في الملح وصار ملحاً طهر، أقول: إن حكم الإحالة في الفور مستبعد بخلاف ما قلنا من طهارة الحمار، فإنه بَعد زمان بعيد.
تمشى الشوافع على ظاهر حديث نضح بول الغلام ونحن حملنا النضح على الغسل الخفيف، وهو صب الماء شيئاً فشيئاً، وقد ثبت كثير من الألفاظ في بول الغلام، منها الرش والنضح والصب وإتباع الماء، وقال النووي: إن الأحاديث الصحيحة ترد على أبي حنيفة ولعله لم يلتفت إلى ما بين يديه من روايات مسلم منها ما فيه: «أنه أتبعه الماء» ، ومنها «أنه لم يغسل غسلاً أي غسلاً شديداً، فإن المفعول المطلق يكون للتأكيد، وذكر ابن عصفور في حاشية كتاب سيبويه أن للتأكيد أنواعاً ومنها:
تأكيد الفعل، فإنه إذا قال: ضُرب زيدٌ، فيتوهم التجوز فيقول: ضُرب زيدُ ضَرباً للتأكيد، وقد ثبت النضح بمعنى الغسل الشديد أيضاً، فكيف الغسل الخفيف كما ثبت في الترمذي ص (17) باب في المذي يصيب الثوب، وكذلك نضح ثوب أصابه دم الحيضة كما في مسلم ص (141) ، وقد استعمل الرش في ثوب أصابه دم الحيض كما في الترمذي ص (20) باب غسل دم الحيض من الثوب، وكذلك في مسلم ص (140)، ثم قيل علينا: ما الفرق بين الصغيرة؟ والصغير فإن الحديث تعرض إلى بول الصغيرة والحال أنكم تقولون بغسل بولها، لأن الشوافع تقول: إن في بول الصغيرة لُزُوجة لا في بول الصغير وأيضاً يؤتى بالصغير، في المجالس لا الصغيرة، وأقوال أخر وأقول.
باب ما جاء في بول ما يؤكل لحمه
[72]
بول ما يؤكل لحمه طاهر عند مالك، وكذلك مذهب أحمد ومذهب محمد وزفر، ونجس عند أبي حنيفة والشافعي وأبي يوسف، وفي طهارة أزبال ما يوكل لحمه رواية شاذة عن محمد بن حسن، وهو مذهب مالك، ولابن التيمية كلام مطنب في فتاواه.
قوله: (من عرينة) في الروايات أن ثلاثة كانوا من عكل وأربعة من عرينة.
قوله: (راعي رسول الله) قيل: يسار مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: ابن أبي ذر الغفاري.
قوله: (سَمّروا أعينهم) قال الشوافع: إن هذه مماثلة في القصاص كما هو مذهب الشوافع إلا في عمل قوم لوط وفيمن أحرق وجوههم، وعند أبي حنيفة: لا قود إلا بالسيف، أخرجه في سنن ابن ماجه، وأكثر تفردات ابن ماجه ضعيفة، وتصدى الشيخ علاء الدين المارديني في الجوهر النقي إلى
تقوية حديث: (لاقود إلا بالسيف)، وأما حديث الباب ففي جوابه وجهان: إما حمله على السياسة، وإما حمله على أنه منسوخ، كما روى الترمذي عن ابن سيرين «أنه قبل أن تنزل الحدود، وكذلك في النسائي في المجلد الثاني ص (168) يقول الراوي: ما سمعت خطبة بعد هذا إلا نهى النبي الكريم عن المثلة، وحث على الصدقة، وقال الطحاوي: إن المنتهب في البلدة يقتل، وللشوافع فيه أقوال.
قوله: (ألقاهم بالحرة) وجه إلقائهم بالحرة ما في كتب السير: أن لقاحاً له عليه الصلاة والسلام كانت في تلك الإبل ويؤتى اللبن لأهل بيته، فلما ذهب بها العرنيون عطشوا فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم عطّش من عطّش آل محمد» وكذلك في النسائي المجلد الثاني ص (162) وجواب حديث الباب من حيث طهارة الأبوال فبأنه محمول على التداوي، وفي قانون ابن سينا: أن لبن الإبل يفيد الاستسقاء، وفي كلام بعض الأطباء: إن رائحة بول الإبل يفيد لمرض الاستسقاء، وحسَّن ابن حزم الأندلسي هذا الجواب، ذكره في عمدة القاريء، ويستدل عليه بأن مرض العرنيين وشفاءهم مروي في الروايات، فلم لا نقول بالتداوي؟ وهو عن النخعي عند الطحاوي، وعن الزهري عند البخاري فتحولت المسألة إلى التداوي بالمحرم، فقال الطحاوي وتبعه البيهقي: يجوز التداوي بغير المسكر لا به، ولم ينسبه الطحاوي إلى أحد من أئمتنا الثلاثة وأما أهل مذهبنا فمضطربون؛ ففي رضاع البحر: أن أصل مذهبنا عدم جواز التداوي بالمحرم، وجوزه مشائخنا بقيود، قال في الفتح: يجوز بالمسكر وغيره، ونقل في المصفى الجواز اتفاقاً، وأقول: إن قول البحر مجمل، فإنه روى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: من كان في أصبعه جرح وألقى فيه المرارة يجوز له، وروى الطحاوي عن أبي حنيفة جواز شد السن بالذهب، ويذكر في كتبنا جواز لبس الحرير للحكة، فلعل في أصل المذهب
تفصيلاً أخرجه المشائخ، وفي حديث مرفوع بسند قوي: أنه عليه الصلاة والسلام دخل بيت أم سلمة، وكان النبيذ يغلى فقال: ما في هذا؟ قالت: تتداوى به الجارية، قال:(إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم) فقصره الطحاوي والبيهقي على المسكر، والأقرب عندي إهمال الألفاظ عامة على حالها وتخصيص الوقت، أي لا يجوز به التداوي حالة الاختيار، وأن الشفاء يطلق في الأمور المباركة، وأما في غيرها فكقوله تعالى:{فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] ففي المحرم منفعة لا شفاء، وفي كلام ابن حزم: أن التداوي بالمحرم جائز حالة الاضطرار قطعاً فإن القرآن يجوِّز أكل الميتة والخنزير حالة الاضطرار، وأدلتنا في نجاسة الأبوال والأزبال محفوظة عندي، منها ما سيأتي في الترمذي نهى النبي الكريم عن ركوب الجلالة وألبانها وفي القاموس أن الجلة البعرة، فسبب النهي أكل البعرة، وفي الحديث:«من دخل المسجد فليميط الأذى عن نعليه» ، وقصره على عذرة الإنسان مستبعد جداً، ونقول أيضاً: إن واقعة العرنيين متقدمة، كما ادعى ابن حزم النسخ حين مر على ما روي عن ابن عمر: كنت أنام في المسجد وكانت الكلاب تدخل المسجد، فقال: إن هذا قبل نُزول حكم الأنجاس، ويمكن لأحد ادعاء أنه من قبيل:
~ علفتها تبناً وماءاً بارداً
…
فيدل على استعمال البول لا على شربه، وأيضاً في معاني الآثار ص (64) : قال حميد: يروينا قتادة لفظ الأبوال وما سمعنا عن شيخنا، وكذلك أخرج في النسائي ص (167) ، وفي طريق غير طريق أنس في النسائي ليس ذكر الأبوال أصلاً، واستدل الأصوليون بحديث:(استنزهوا من البول)، أقول: إن المتبادر منه بول البشر أولاً، ويلحق به سائر الأبوال ثانياً، وأما ما ذكر في حاشية نور الأنوار عن مستدرك الحاكم قصة معاذ أنه كان يرعى الشياه فسنده ضعيف فلا يصح حجة لنا.
قوله: (والجروح قصاص) هذا عندنا فيما يمكن فيه القصاص من الأطراف لا في النفس ويقول الشوافع: إنه في النفس أيضاً.
باب ما جاء في الوضوء من الريح
أي لزوم الوضوء من الريح.
[74]
قوله: (لا وضوء إلا من صوت أو ريح) كناية عن تيقن الحدث، فالكناية واسطة بين الحقيقة والمجاز عند صاحب التلخيص والعلامة التفتازاني، وعند الحذاق إنها عين الحقيقة والمجاز المتعارف عند الناس ينكره الحذاق.
واعلم أنه إذا استعمل اللفظ فله مدلول وغرض، والغرض قد يكون أعم من المدلول وقد يكون أخص وقد يكون مساوياً له، والحقيقة: استعمال اللفظ فيما وضع له، والغرض قد يكون من توابع المدلول وردائفه، والكناية تستعمل في مدلولها، والمكنى به مدلول اللفظ وغرض المتكلم مكنًى عنه، ففيما نحن فيه تيقن الحدث مكنًى عنه والصوت والريح مكنًى به، والبحث عن الغرض كان متهماً به، ولم يتعرض إليه إلا علماء المعاني حين ذكر المعاني الأُوَل، أي مدلولات الألفاظ، والمعاني الثواني، أي أغراض المتكلمين، وعلماء الأصول حين ذكروا عبارة النص وإشارته فما يكون مسوقاً له وعبارة
النص فهو غرض، وأما القصر المفهوم من حديث الباب فقصر إضافي، فإن أبا هريرة كان يذكر: أن انتظار الصلاة بعد الصلاة كالصلاة ما لم يحدث فقيل: ما الحدث؟ قال: صوت أو ريح، فإن المتحقق في المسجد حدثاً هو الصوت أو الريح وخرج الحديث مخرج المبالغة ورفع الوساوس وعدم اعتبارها.
باب ما جاء في الوضوء من النوم
[77]
أصل مذهبنا أن النوم الذي فيه تمكن المقعد على الأرض لا ينقض الوضوء وفي الذي فيه تجافي المقعد عن الأرض ينقض ثم فصل القدوري تبعاً للطحاوي من صورة الاتكاء والاستلقاء والاضطجاع وغيرها، قال ابن الهمام: يجب التفصيل فإن أهل الزمان أكّالون، ثم في كتبنا أن النوم في الصلاة غير ناقص، وفي بعض الكتب قيد أن النوم في الصلاة غير مفسد لو كان على الهيأة المسنونة، وأما ما ذكر من التمكن أو التجافي فهو في خارج الصلاة، حديث الباب أعلَّه بعض المحدثين مثل أبي داود ص (37) ، وصححه ابن جرير الطبري في تهذيب الآثار.
ووجه إعلالهم: أن سؤال ابن عباس كان عن نومه عليه الصلاة والسلام، وكان حق الجواب قول: إن نوم الأنبياء ليس بناقض، وأقول: إن هذا لا يصلح وجهاً لإسقاط الحديث فإنه اختار أحد وجوه الجواب، وأيضاً كان الأنسب جواباً لابن عباس ما ذكر في الحديث، فإن عدم نقض الوضوء بالنوم من خصائص الأنبياء، فبالجملة الحديث قوي.
باب ما جاء في الوضوء مما غيرت النار
[79]
قال الجمهور: إنه كان ثم نسخ، والآن قريب من الإجماع على أنه ليس بناقض، وروى مالك في موطأه عن الخلفاء الثلاثة عدم الوضوء، وقال بعض المتأخرين مثل الشاه ولي الله رحمه الله في ترجمة الموطأ: إنه باقٍ الآن، وأنه مستحب للخواص، ومستحب الخواص ليس وظيفة الفقهاء، وقال: قائل إن المراد منه تزكية النفس والتشبه بالملائكة، وكنت أزعم أن حديث الباب يفيد القصر فإن المسند إليه معرف، والمسند مشتمل على معين القصر فيشكل الأمر، وقال بعض المحشِّيين: إن القصر إضافي أي الوضوء مما دخل مما غيرت النار، وفي حديث:«الوضوء مما خرج، والفطر مما دخل» أخرجه في مسند أبي حنيفة، ومسند أبي يعلى، وأعلى مسانيد أبي حنيفة مسند أبي بكر بن المقري.
اطلاع: جمع أبو عَرُوبة الحراني أحاديث أبي يوسف، وأكثر أسانيد أبي يوسف معروفة. وظني أن القصر إنما يكون في الجملة الاسمية أصالة، وأما إذا كانت معدولة عن الفعلية فلا قصر، وجملة حديث الباب معدولة عن الفعلية والقرينة عليه بعض ألفاظ الحديث:«توضؤوا مما مست النار» بصيغة الأمر، ولم أجد النقل في هذا من أرباب اللغة، ويرد على قصر جملة (الحمد لله) اتفاقاً مع كونها معدولة من الفعلية، فأقول: إن المعدولة لو كانت فيها شائبة الفعلية فلا قصر وإلا ففيها قصر، وأيضاً (الحمد لله) لا يفيد القصر عند من يقول: إنها إنشائية، فإذن انحل الإشكال الذي عجز عنه الزمخشري من أن مقتضى الضابطة أن يكون جملة السَّلام عليكم ذات قصر، ولم يقل به أحد فإن هذه معدولة عن الفعلية وفيها شائبة الفعلية.
باب ما جاء في ترك الوضوء مما غيرت النار
[80]
واعلم أن لفظ الشاة والغنم عام يطلق على ذات الوبر والشعر مذكرة كانت أو مؤنثة، وأنه بمنزلة (گوسپند) في الفارسية، والمعْز يطلق على المذكر والمؤنث من ذات الشعر، ولفظ الضّأن يطلق على المذكر والمؤنث من ذات الوَبَر، والتاء في الشاة ونحوها ليست للتأنيث، وفي الكشاف والمدارك عن أبي حنيفة ما يدل على أن التاء للتأنيث في قصة نملة سليمان، فتتبعت الكتب فوجدت عن ابن السكيت والمبرد ما يوافق أبا حنيفة فإن في كامل المبرد أن مثل الشاة والنملة إذا نسب إليه الفعل يراعى فيها المورد والواقعة باعتبار تذكير الفعل وتأنيثه.
قوله: (كان آخر الأمرين) هذا اللفظ مروي عن جابر بن عبد الله فيكون مرفوعاً فعلاً وزعم الناس أن هذا حكم كلي، وضابطة، والحال أنها واقعةُ يوم، كما نبه عليه أبو داود ص28. ف واعلم أن النسخ عند المتقدمين يطلق على تخصيص العام أو تقييد المطلق أو تفسير المجمل أيضاً، ونسْخُ المتأخرين ما هو مذكور في كتب الأصول، والنسخ عند أبي جعفر الطحاوي ثبوت أمر بعد تعلم غيره، وإن كان الأمران باقيين على الحال ومحكمين، والأكثر عنه غافلون.
باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل
[81]
مذهب أحمد بن حنبل أن أكل لحم الإبل ناقض الوضوء، وقال أصحابه: ولو كان نياً: وقالوا: إن حديث نقض الوضوء من لحم الإبل مستقل ليس بمندرج تحت حديث الوضوء مما مست النار ليلزم نسخه، وقال أحمد: صح الحديثان في المسألة، وأطنب ابن التيمية، وقال: لا عذر لخصومنا.
وقال أهل المذاهب الثلاثة: إن المراد من الوضوء المضمضة، ولما كان في لحم الإبل دسومة خلاف الغنم ففرق الشارع بين الإبل والغنم قال ابن تيمية لم يثبت معنى الوضوء في عرف الحديث سوى وضوء الصلاة. أقول: إن للوضوء معان في عرف الشرع وقد يكون بمعنى المضمضة كما في الترمذي من الجزء الثاني ص (8) بسند ضعيف، وأخرجه أبو بشر الدولابي الحنفي في كتاب الأسماء والكنى، وفي الكنز ص (29) ، إلا أن يكون لبن الإبل إذا شربتموه فتمضمضوا بالماء طب، وأيضاً عن أبي أمامة، والأقرب عندي قول: إنه مستحب للخواص، وذكر الشاه ولي الله «في حجة الله البالغة» إن يعقوب حرم لحم الإبل على نفسه نذراً حين ابتلي بمرض عرق النساء فتركه بنوه ثم أنزل الله حرمته في التوراة، ثم أنزل الله حلته في شريعتنا، فلعل الاستحباب الخصوصي لحرمته في التوراة والله أعلم.
قوله (ذي الغرة) بالغين المعجمة والراء المهملة، قيل: إنه لقب البراء بن عازب، وقيل: اسمه يعيش.
باب الوضوء من مس الذكر
[82]
مذهب مالك رحمه الله والشافعي رحمه الله وأحمد رحمه الله نقض الوضوء بمس الذكر بكف اليد بدون حائل، وفي رواية عن مالك أن الوضوء من مس الذكر مستحب، ومذهب أبي حنيفة وسفيان الثوري وبعض السلف عدم الانتقاض به، وفي الباب حديثان قويان: أحدهما لنا، والثاني للحجازيين، وقلنا بأنه مستحب الخواص فلا رد علينا، وتصدى الحجازيون إلى إسقاط حديثنا، ولكنه لا يمكن إسقاطه، وقال ابن الهمام: إن المراد من مس الذكر البول كناية، ولعل الاختلاف مبني على اختلاف أصول نواقض الوضوء، قال الحجازيون: إن لنواقض الوضوء أصلين: الاتيان من الغائط، ونقحوا مناطه بأن المراد الخارج من السبيلين، والأصل الثاني: لمس النساء ومن لواحقه مس الذكر، لصحة الحديث وفي كليهما شهوة، وعند أبي حنيفة أصل واحد: وهو الاتيان من الغائط، وتنقيح مناطه خروج نجس من البدن والمراد من {لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] النساء الجماع فرجع إلى الأصل الأوّل، وأقول: إن أبا حنيفة أيضاً يقول بالأصلين والمراد من {لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] ما يعم الجماع ومس المرأة وهو المباشرة الفاحشة فلم يدخل تحت الاتيان من الغائط، وفي كليهما إن الحديث الأصغر والأكبر تيمم على صفة واحدة، وقال صاحب الهداية: إن في المباشرة الفاحشة مظنة الخروج فغرضه إدخاله تحت الأصل الأوّل وقال الشيخ ابن الهمام أن عبرة المظنة فيما لا يكون في المئنة، فرجح قول محمد بن حسن بأن النقض من المباشرة إذا خرج شيء وإلا فلا، وأقول: الترجيح
لما قال الشيخان، أي الناقض المباشرة الفاحشة خرج شيء أو لم يخرج وأنها داخلة في آية [النساء: 43] .
قوله: (أبو زرعة الرازي) شيخ مسلم صاحب الصحيح ومعاصر البخاري صاحب المناقب الكثيرة، غير أبي زرعة العراقي فإنه متأخر عنه.
باب ما جاء في ترك الوضوء من مس الذكر
[85]
هذا الحديث حديث العراقيين، والمذاهب مرت.
قوله: (محمد بن جابر وأيوب بن عتبة) هذان راويا الحديث في الطرق الأخر، نقل الطحاوي
ص (16) عن علي بن المديني: أن حديث قيس أقوى من حديث بُسْرة، وذكر القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي بسنده: أنه اتفق بين ابن المديني وابن معين عند أحمد بن حنبل في موسم الحج فتكلما في مسألة الباب فروى ابن المديني حديث ملازم، وروى ابن معين حديث بُسْرة، فقال أحمد: كلا الحديثان صحيحان، فتوجها إلى الآثار، فروى ابن معين أثر ابن عمر، وروى ابن المديني أثر ابن مسعود، فقال أحمد: الترجيح لأثر ابن مسعود.
باب ما جاء في ترك الوضوء من القبلة
[86]
مذهب مالك والشافعي وأحمد أن مس المرأة غير المحرمة بدون حائل ناقض وضوء اللامس، وفي نقض وضوء الملموس وجهان للشوافع.
قوله: (يحيى بن سعيد) حنفي مذهباً كما في تاريخ ابن خلكان، وهو أول من صنف في الجرح والتعديل كما ذكر الذهبي في الميزان، إلا أن تقليد السلف كان التقليد في الاجتهاديات التي لم يثبت فيها المرفوع والموقوف لا كتقليدنا وهذا ظني.
قوله: (وحبيب بن ثابت لم يسمع الخ) في السند كلام بأن حبيباً لم يسمع عن عروة بن الزبير، وسمع عن عروة المزني، وعروة المزني لم يسمع عن عائشة، وتكلم أبو داود ص (24) ، ولعل رجحانه إلى سماع حبيب عن ابن الزبير، فإنه قال: روى حبيب عن ابن الزبير حديثاً صحيحاً ولكنه لم يخرجه أبو داود، وأخرج الترمذي ذلك الحديث الصحيح ولكنه ضعفه في كتاب الدعوات، وظنى أن للحبيب سماعاً عن ابن الزبير فارتفع الإيرادان، وفي مسند أحمد وابن ماجه بسند صحيح تصريح عروة بن الزبير وابن أبو داود وروى عن عروة، أقول: عندي حديثان صحيحان لنا في عدم نقض الوضوء بمس الذكر ولا أقل من كونهما حسنين لذاتهما، وأقول أيضاً: إن قول: إن هي إلا أنت أيضاً قرينة أنه عروة بن الزبير.
(ف) ذكر السيوطي بالبسط والتفصيل أن إكثاره عليه الصلاة والسلام الأنكحة لم يكن لحظ
النفس بل لتعليم دين النسوان كما ذكر أن عائشة حصل عنها نصف الدين أو ثلثا الدين، ولم ينكح النبي الكريم إلى ثلاث وخمسين سنة إلا خديجة فإنه نكحها وهو ابن خمسة وعشرين، ونكاحه إياها أيضاً كان بإصرار أبي طالب كما في كتب السير.
باب ما جاء في الوضوء من الرّعاف والقيء
[87]
القيء ملأ الفم ناقض الوضوء عند أبي حنيفة، خلافاً للثلاثة، وعن أحمد: إذا كان الرعاف كثيراً فناقض الوضوء ويفيدنا ما روى الترمذي عن أحمد: أن القيء والرعاف ناقض الوضوء، وحديث الباب لنا، وتعرض الحجازيون إلى إسقاطه وأجاب الشافعي رحمه الله بأن المراد من الوضوء المضمضة وغسل الوجه، نقل العيني في شرح الهداية عن الخطابي: أن أكثر أهل العلم إلى أن الدم السائل الكثير ناقض الوضوء، ولنا حديث آخر رواه صاحب الهداية:«الوضوء من كل دم سائل» ، وأخرجه الزيلعي
من كامل بن عدي، وفي التخريج سهو الكاتب فإنه كتب محمد بن سليمان بدل عمر بن سليمان، ومحمد غير معروف وعمر معروف،. . . . وأكثر أسانيد التخريج مملوءة من سهو الكاتب، ولم يحكم الزيلعي على حديث (الوضوء من كل دم سائل) بشيء، والحديث عندي قوي إلا أن في سنده أحمد بن الفرج، وأخرج عنه أبو عوانة في صحيحه، وقد اشترط أن يخرج الصحاح في صحيحه وحديث الباب لم يحكم عليه المصنف بشيء وصححه ابن مندة الأصبهاني، وللشوافع وموافقيهم ما أخرجه أبو داود موصولاً والبخاري معلقاً، وسيأتي جوابه في صحيح البخاري.
باب ما جاء في الوضوء بالنّبيذ
[88]
النبيذ ما حلا وفيه حموضة، والنقيع ما حلا ولم يشتد شيئاً، إذا أسكر النبيذ لا يجوز الوضوء به
عند أحد، وإذا لم يصر حلواً فيجوز إجماعاً، وإذا حلا ولم يسكر فمختلف فيه؛ لا يجوز عند الحجازيين، وعن أبي حنيفة روايات: في رواية: الجمع بين الوضوء والتيمم، وأيهما قدم جاز، وفي رواية: يتوضأ ولا يتيمم، وفي رواية العكس، والثالثة جزم بها قاضي خان، واعتمد عليها صاحب البحر، واختارها الطحاوي، وربما ينقل رجوع الإمام إليها فلم يبق المحل لأن يطنب فيه ويبحث، ولكني أذكر نبذة شيء، واتفق أئمة الحديث، على تضعيف الحديث، وأبو زيد مجهول الحال لا مجهول العين، فإنه روى عنه التلميذان أبو فزارة راشد بن كيسان وأبو روق عطية بن الحارث، فصار معلوم العين بضابطة المحدثين.
قوله: (قال أبو عيسى) قوله هذا دال على أن الزيادة على القاطع بخبر الواحد غير جائز، وهو يخالف الشوافع، تعرض الشوافع إلى إنكار كون ابن مسعود معه عليه الصلاة والسلام ليلة الجن، وقد أثبته بما روى الترمذي، وأجبت عما يتمسك الشوافع بقول ابن مسعود تفصيلاً، وأخرج الزيلعي طرق حديث الباب، منها ما في مسند أحمد، وفي سنده علي بن زيد بن جدعان، وأخرج عنه مسلم مقروناً مع الغير، والمقرون مع الغير قد يكون مليّناً، ومع هذا علي بن زيد صدوق اتفاقاً، إلا أنه سيء الحفظ، وقد يحسن رواية مثل هذا، وقال ابن دقيق العيد: إنه أحسن من حديث أبي زيد، ولم أجد أحداً من الحفاظ والمحدثين يصحح حديثاً من أحاديث الوضوء بالنبيذ، وعندي رواية أخرجها الزيلعي ولم يحكم عليها بشيء، وأخرج الزيلعي عن الدارقطني، وفي كليهما سهو الكاتب، فبعد التصحيح يصير السند قوياً، وصورة الغلط أنه كتب هاشم بن خالد، والحال أنه هشام بن خالد من رواة أبي داود ص (344) ، وأيضاً في آخر السند عن ابن غيلان، وقال الدارقطني: إنه مجهول، ونقله الزيلعي كذلك، وقد أخرج الزيلعي صراحة عن عمرو بن غيلان بعد عدة أوراق، وفي إصابة ابن
حجر: إن عمرو بن غيلان صحابي صغير، وفي بعض طرقه عن عبد الله بن عمرو بن غيلان وهو من رجال ابن ماجه، وفي الكتب أنه كان مع معاوية ومن محاميه، ولم يذكر أنه ثقة أو ضعيف، إلا أنه لما مر في السنن الكبرى على مسألة المسح على الرجلين، فروى من العلماء من السلف غسل الرجلين وعده في العلماء فثبت كونه من العلماء، ولكن الصواب أنه عمرو بن غيلان فصح الحديث ولا أقل من الحسن لذاته، وأما قول: إنه يلزم الزيادة على القاطع بخبر الواحد بقول الوضوء بالنبيذ فالجواب: أنه وإن كان الماء المنبذ ماءً مقيداً في بادي النظر إلا أن العرب يستعملون النبيذ موضع الماء المطلق، وفي شرح البخاري لشمس الدين الكرماني وبلوغ الأرب أن هذا كان طريق جعل الماء المالح حلواً في العرب فلم يكن على طريق التفكه، بل يكون مثل الماء المخلوط بالثلج المستعمل في زماننا فإنه لا يقول أحد بأنه ماء مقيد، وروى عن علي وعكرمة وابن عباس الوضوء بالنبيذ وكذلك عن الأوزاعي، ومر ابن تيمية في منهاج السنة على هذه المسألة ولم يأت بما احتججت مما في التخريج والدارقطني الذي ذكرته، والله أعلم.
باب في المضمضة من اللبن
[89]
قد نص الشارع بالعلة بأن له دسماً، فتراعى العلة في المواضع والمواقع، والحديث عندي أنه من آداب الطعام، وما في مدونة مالك يدل على أنه من آداب الصلاة.
باب ما جاء في كراهية رد السلام غير متوضئ
[90]
في كتب الأحناف وغيرهم لا يسلم على من يبول، ولو سلم عليه لا يجب عليه الرد، وكذلك
لا يسلم على بعض الرجال، ولو سلم عليهم لا يجب الرد عليهم مثل القارئ وغيره، وأما حال أخذ الحجارة لجف القطرات كما هو معمول أهل زماننا فلم يثبت فيه من المتقدمين، وقال مولانا محمد مظهي باني المدرسة (مظاهر العلوم) الواقعة بسهارنبورتبرك الجواب. إذ ذاك، ومولانا رشيد أحمد الگنگوهي قدس سره برد السلام، وأما الحديث فإنه عليه الصلاة والسلام رد السلام بعد التيمم أو التوضئ كما ثبت بسند قوي، فالحاصل أنه لا يرد قبل الوضوء، ولو خاف ذهاب من سلم يرده قبل التيمم والوضوء.
قوله: (وهو يبول الخ) في الصحيحين: «أنه عليه الصلاة والسلام كان يأتي من ناحية بير الجمل فلقيه أبو الجهيم بن حارث بن الصمة فسلّم على النبي الكريم. . . الخ» فيدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان قد فرغ من البول، وأخرجه في معاني الآثار ص (51) أيضاً فليُطلب.
إن واقعة الباب وواقعة الصحيحين متحدة أو واقعتان فلو كانتا واحدة فيطلب التوفيق بين الحديثين، بأن وقع في حديث أبي الجهيم تقديم وتأخير في سرد القصة فذكر إتيانه صلى الله عليه وسلم مقدماً وهو مؤخر عن سلامه، واعلم أن في مسلم لفظ أبي جهم، وفي البخاري أبي الجهيم مصغراً، ورجح الحافظ لفظ البخاري، وواقعة أخرى لمهاجر بن قنفذ في أبي داود ومعاني الآثار ص (51) ، أنه سلّم على النبي الكريم وهو يتوضأ ولم يرد عليه إلا بعد الفراغ عن الوضوء، وقال «كرهت أن أذكر الله إلا على طهر» ، فحولت المسألة إلى الوضوء للأذكار، ففي أذان الهداية يستحب الوضوء لكل من الأذكار، ولا يقول أحد بوجوب الوضوء للأذكار، واحتج الطحاوي بحديث:«أني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر» ، على أن التسمية ليست بواجبة في ابتداء الوضوء، وقال صاحب البحر: إن قول الطحاوي يرفع الاستحباب أيضاً مع أنا أيضاً لا ننكر الاستحباب، أقول: إن صاحب البحر غفل عما في موضع آخر للطحاوي ص (53)، فإنه قال في باب آخر: إنه كان في زمان لا تجوز الأذكار فيه إلا بالتوضي، ثم نسخ، وأتى على هذا برواية ضعيفة السند ووافقه ابن الجوزي كما في شرح المواهب، ولي إشكالٌ آخر وهو أنه سيأتي في الترمذي عن علي:«أنه خرج من الخلاء ثم شرع في تلاوة القرآن، فقيل له؟ فقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه» أي لم يكن ممتنعاً من الذكر إلا القرآن كما سيأتي في
الترمذي، فتعارض بينه وبين حديث: إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر» فلو قيل فيه كما قال الطحاوي من النسخ فلا تدافع، وإلا فيفصل بالكراهة قبل الاستنجاء لا بعده أو غيره، والله أعلم، ولكني لم أجد النقل على هذا.
قوله: (الشفواء) الصحيح الغفواء هذه الرواية التي أخرجها الطحاوي ص (53) ، بأن وجوب الوضوء للأذكار كان ثم نسخ، وفي سنده جابر وهو ضعيف.
باب ما جاء في سؤر الكلب
[91]
قال الشافعي وأحمد: إن الإناء الذي ولغ فيه الكلب يغسل سبع مرات، وفي رواية عن أحمد ثمان مرات، ويستحب التتريب عند أهل المذهبين، ويكفي للتتريب كدرة الماء، ولا يجب الدلك، وفي وجه للشافعية أن التتريب مرة سابعة يعد منزلة المرة الثامنة، ومذهب مالك بن أنس: أن سؤر الكلب طاهر مثل سؤر الهرة عند الأحناف، ولهم فيه أقوال أخر، وقال مالك: لو كان في الإناء طعام يؤكل ويغسل الإناء سبع مرات فإن الطعام ذو قيمة، ولو كان فيه الماء يصبُ، ويرد عليه أنه لو لم يكن سؤره نجساً فكيف يأمر الشارع بالغسل سبع مرات، ولم يكتف بالمرة الواحدة؟ وفي مدونة مالك بن أنس: سأل ابن القاسم مالكاً أنه لما كان سؤر الكلب طاهراً كيف يأمر الشارع بالتسبيع؟ قال مالك: لا أعلم وجهه، وأما أتباع مالك فقال البعض: إن المراد من التسبيع تزكية النفس، وقال بعضهم: إن في سؤر الكلب سمية فأمرنا بالغسل لا لكون سؤره غير طاهر، ولكن الأقرب إلى الذوق أن الغسل بسبب النجاسة، ثم نقول بالغسل ثلاثاً، ويقول الشوافع بالغسل سبعاً، وجواب الحديث من جانبنا أن التسبيع مستحب عندنا كما صرح به فخر الدين الزيلعي الفقيه شارح الكنز، ثم وجدته مروياً عن أبي حنيفة: في تحرير ابن الهمام عن الوبري عن أبي حنيفة فإن أبا هريرة راوي الحديث أفتى بالغسل ثلاثاً كما في الطحاوي ص (13) ، عن عطاء عن أبي هريرة بسند قوي بإقرار ابن دقيق العيد، وفي فتوى أبي هريرة الآخر التسبيع، فقال الحافظ: المأخوذ من الفتوتين ما يوافق المرفوع، ونقول: لو كان الواجب التسبيع كيف اكتفى أبو هريرة بالتثليث؟ فالتثليث واجب والتسبيع مستحب، وفتوى التثليث مرفوعة في كامل ابن عدي عن الكرابيسي، وهو حسين بن علي تلميذ الشافعي، فقال
ابن عدي: إن الكرابيسي حافظ، فيه وأقول: إن الكرابيسي حافظ وإمام إلا أن أحمد بن حنبل كان غير راض عنه لإخلاص رقبته بالكلمة المؤولة في واقعة خلق القرآن ولا شيء سوى مذاهب الكلام فيه ومثل هذه الكلمة المؤولة ثابتة عن الشافعي في واقعة خلق القرآن فالحديث حسن أو صحيح.
قوله: (ابن سيرين الخ) قال العصام: إن سيرين غير منصرف فإن فيه علميةً وتأنيثاً معنوياً فإنه اسم امرأة، أقول: قَدْ سَها العصام فإنه اسم رجل كما في كتاب المكاتبة في البخاري، فعدم انصرافه على ما قال الأخفش من أن الياء والنون بمنزلة الألف والنون.
قوله: (إذا ولغت فيه الهرة) ظاهر الحديث أن هذا القول مرفوع، وقال الدارقطني: إنه موقوف على أبي هريرة ورواه البعض موقوفاً، وفي بعض الرواة شبيه المرفوع، ونسب إلى الطحاوي أنه قال: بكراهة سؤر الهرة تحريماً وقال الكرخي، بالكراهة تنزيهاً، وقال صاحب البحر: ولكن المتبادر من الجامع الصغير الكراهة تحريماً، فإنه أطلق الكراهة، والمطلق يكون مكروهاً تحريماً، أقول: قد صرح محمد في الموطأ وكتاب الآثار والمبسوط بالكراهة تنزيهاً وهو المشهور في الكتب، ثم الكراهة إما لنجاسة لحمها، وإما لعدم توقيهما من النجاسات، واختار ابن الهمام الثاني.
باب ما جاء في سؤر الهرة
[92]
قال ابن منده الأصبهاني: إن حميدة وكبشة غير معروفتين، وأما تصحيح الترمذي فلأن مالكاً روى عنها، وكبشة ليست بصحابية، وأثر الباب لا حجة علينا، فإنا أيضاً نتمسك بما مر من أبي هريرة مرفوعاً أو موقوفاً، والأصل في أقوال الصحابة اختيار أحدها، والخروج عنها بدعة، وأما مرفوع الباب فلا نعلم مورده وسببه، وقال الطحاوي جاعلاً حديث الباب نظير «أن الماء طهور لا ينجسه شيء» :
أن سؤر الهرة ليس نجس كما زعمتم من تحريم لحمها تحريم سؤرها، ثم قال الشافعية: إن طواف الهرة مثل طواف السباع فيتعدى إلى آسار السباع فتكون آسارها طاهرة، وقلنا: إن طوافها كطواف سواكن البيوت فيتعدى إلى آسار سواكن البيوت وكلا الشرحان لطيفان، والراجح شرحنا لما في سنن الدارقطني وابن خزيمة:(إنها من الطوافين والطوافات) ، وإنما هي كمتاع البيت، وفي سنن الدارقطني وابن خزيمة والسنن الكبرى:«أنه سكب لها الوضوء لتشرب» وفي سنده أبو يوسف، وقال البيهقي: إن شيخ أبي يوسف وتلميذه ثقة، أقول: ينسب إلى أبي يوسف: لابأس بسؤر الهرة، فلعله اعتمد على هذا المرفوع، وأقول قد يعمل بالمكروه تنزيهاً وهو ليس بإثم فيكون قوله عليه الصلاة والسلام لبيان الجواز، وقال ابن الهمام: لعله عليه الصلاة والسلام شاهد الهرة ووجدها صافية الفم فارتفع الكراهة أيضاً، فإنها كانت بسبب عدم توقيها من النجاسة.
(ف) يذكر في الفقه والأصول أن المكروه تنزيهاً يحتاج إلى خصوص الدليل، فلا يقال لمن يترك النقل: إنه مرتكب الكراهة، نعم يقال: إنه مرتكب خلاف الأولى.
باب في المسح على الخفين
[93]
النعل (جيلپي) وتنقيح المناط في الخف أن يلصق على القدم بدون أحد أو شيء، ولا يسْري فيه الماء، ويكون إلى الكعبين، وكان الخف يستعمل مقام النعل في العرب:
~ ودوية قفر تمشي نعامها
…
كمشي النصارى في خفاف الأرندج
وأما المستعمل في زماننا الذي يقال له: (جوتي) ليس له اسم في العرب، وذكر صاحب القاموس: المداس، وذكر المتأخرون اسمه المكعب، قال ابن عابدين: إن المسح على الخفين الذين يستقيمان على القدم، ولا شق فيهما، ولكنهما ولو استعملا بدون المداس لا يمكن تتابع المشي فيه لو استعملا في المداس يبقيان مدة طويلة، لا يجوز المسح عليهما، والناس عن هذا غافلون، وأما تتابع المشي فزعم الأكثر أن المراد المشي فرسخاً أو فرسخين مرة واحدة، والحال أن المراد إمكان تتابع المشي مدة المشي، وأما الجوربان المتخذان من القطن فيمسح عليهما بعض أهل العصر، إما متمسكين بما يأتي في الصفحة اللاحقة وسيأتي الكلام فيه، وإما متمسكين بقول الفقهاء وهم أيضاً
يشترطون كونهما ثخينين، وأما المنعل ففي عامة كتب الفقه أنه ما على أسفله الجلد، وزاد أخي يوسف لپي في حاشية شرح الوقاية: إنه ما عليه الجلد أسفل القدم مع موضع المسح عن أصابع الرجلين فيتأمل فيه، وهو أخي يوسف لپي تلميذ حسن لپي، قوله:(وفي الباب) عن أبي حنيفة: أخاف الكفر على منكر المسح على الخفين، وعنه: لم أقل بالمسح على الخفين حتى جاءني مثل ضوء الصبح، وقد ثبت المسح عن سبعين صحابياً كما قال المحدثون.
قوله: (مفسر) المشهور في عرف المحدثين مفسَّر بفتح السين، والقياس مفسِّر بالكسر.
باب المسح على الخفين للمسافر والمقيم
[95]
مدة المسح للمسافر ثلاثة أيام ولياليها، ويوم وليلة للمقيم عند الأئمة الثلاثة، وينسب إلى مالك بن أنس عدم توقيت المسح للمسافر، ومتمسكه رواية أبي داود:«ولو استزدناه لزادنا» الخ، ومختار الحافظ ابن تيمية أن مدة المسح ومسافة القصر ليستا بموقوتين، والمدار على العُرف، ومذهب أحمد والشافعي: أن مسافة القصر ثمانية وأربعون ميلاً، وكذا عند مالك: أن مدة القصر ثمانية وأربعون ميلاً، واستنبط شمس الأئمة السرخسي من حديث الباب توقيت مسافة القصر بأن في الحديث للمسافر ثلاث الخ، ولو كان مسافراً بسفر يوم وليلة في نظر الشريعة لما صح لام الجنس في قوله للمسافر ثلاث الخ، ولما استقام الكلية، وأورد عليه ابن الهمام نقوضاً.
قوله: (سفر) اسم جمع، والفرق بين الجمع: واسم الجمع أن للجمع أوزاناً مضبوطة، بخلاف اسم الجمع، وأن الحكم في الجمع على الأفراد، وفي اسم الجمع الحكم على المجموع من حيث المجموع، كما قال ابن صاحب الألفية.
قوله: (ولكن من غائط أو بول) هاهنا إشكال، وهو أن يكون للعطف بعد النفي وهاهنا بعد المثبت، وأقول: إن هذا من تغيير الراوي، فإنه وقع صحيحاً في النسائي فإنه أخرجه سنداً ومتناً، ولا يرد عليه هذا الإشكال.
باب ما جاء في المسح على الخفين أعلاه وأسفله
[97]
زعم الشيخ ابن الهمام أن المراد من المسح أسلفه مسح داخل الخف، ومعنى الحديث ظاهر ومسح الخف أعلاه وأسفله ليس بمستحب عندنا، ومستحب عند الشافعية، وفي الدر المختار: أنه مستحب عند بعض مشائخنا، ورد عليه ابن عابدين: بأنه ليس قول أحد من مشائخنا، منشأ غلط صاحب الدر عبارة البدائع.
قوله: (معلول) لم يثبت معنى المعلول المراد عند المحدثين في اللغة، فإن المعلول مشتق من العَلِّ، وهو الشرب مرة بعد مرة ويقال للشرب أولاً: النهل، وللشرب ثانياً: العَلُّ ولم يثبت أن معناه الذي أُعِل، وأما التعليل فمن العلة «يهانة» ومن العَلّ كما قال:
لا تبعديني من جناك المعلل
لا بمعنى بيان العلة، والإعلال من العلة بمعنى التغيير، فكان الأنسب لفظ المُعَلّ في معنى مراد المحدثين، أقول: أثبت ابن هشام في شرح قصيدة: (بانت سعاد) المعلول، ولا نقل سوى هذا.
قوله: (حُدِّثت) وجه الإعلال عند المصنف لفظ حُدِّثت، وعندي وجه آخر للإعلال وهو أن حديث الباب مروي عن المغيرة بن شعبة بستين طرقاً أو أزيد منه كما قال البزار في مسنده، ولا يروي أحد لفظ أسفله سوى هذا الراوي، فيكون معلولاً قطعاً.
باب ما جاء في المسح على الجوربين والنعلين
[99]
يذكر مذهب أبي حنيفة عدم جواز المسح على الجوربين إلا المجلدين والمنعلين، وجوازه عند صاحبيه إذا كانا ثخينين، وذكر بعض أرباب التصنيف منا رجوع أبي حنيفة إلى ما قال صاحباه قبل وفاته بثلاثة أيام: وقال: فعلت ما كنت نهيت عنه، أقول: إنه كان ينهى عن المسح على الجوربين لما رآهما غير ثخينين، ومسح عليهما حين وجدهما ثخينين فالأولى التفصيل في الروايتين، فالحاصل جواز المسح عليهما إذا كانا ثخينين عند أئمتنا الثلاثة، المتبادر من حديث الباب أنه عليه الصلاة والسلام مسح على الجوربين في واقعة، ومسح على النعلين في واقعة، ولم يقل أحد بالمسح على النعلين فتعرضوا إلى توجيه الحديث فقال الطحاوي بوحدة الواقعة وكان النبي صلى الله عليه وسلم لابس النعلين، على الخفين، فمسح على الخفين قصداً ومسح على النعلين تبعاً، وقال الزيلعي في التخريج: إن أحاديث المسح على النعلين في الوضوء على الوضوء، وروى رواية وقال ابن القيم بما ليس مذهب أحد: إن المتوضي على ثلاثة أحوال لأنه إما أن يكون متخففاً، وإما عارياً وإما لابس النعلين، وفي الأولى المسح، وفي الثانية الغسل، وفي الثالثة الرش، وتمسك بما في أبي داود، وأقول: إن هذا لم يثبت
تعامل السلف عليه، وقال المدرسون: إن المراد من النعلين المنعلين، أي مسح على الجوربين المنعلين، وليس مراد لحديث، وحُكي عن مسلم أن لفظ حديث الباب غلط، وقد أسقطه أيضاً بعض المحدثين قبل الترمذي، وأقول: إنه غلط قطعاً وبتاً، فإن الحديث مروي عن المغيرة بستين طرقاً، ولم يذكر أحد لفظ حديث الباب إلا هذا الراوي، وفي أبي داود ص (24) كان عبد الرحمن بن مهدي لا يروي هذا الحديث.
باب ما جاء في المسح على الجوربين والعمامة
[100]
قد بوب المصنف على لفظ الجوربين قبل أيضاً، وليس ذكر الجوربين في حديث الباب فلا أعلم وجه ذكر المصنف في الترجمة إياه.
مذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك: أن الفريضة لا يتأدى بالمسح على العمامة، وقال الشوافع: لو مسح بعض الرأس واستوعب الباقي على العمامة يجزي. وأما الأحناف: فلم أجد أداء سنة الاستيعاب بالمسح على العمامة في كتبهم، وفي شرح الترمذي للقاضي أبي بكر بن العربي: أن الاستيعاب يتأدى بالمسح على العمامة عند الأحناف ولكني لم أجده في كتبنا مع التتبع البليغ، وفي موطأ محمد: بلغنا أنه كان ثم نسخ فعلم عن الموطأ أن المسح على العمامة عندنا لا شيء، وأما الموالك ففي عارضة الأحوذي: أن أداء الاستيعاب ليس بمروي عن مالك، وفي كتب بعض الموالك أن الاستيعاب يتأدى به، ولعله ليس بمروى عن مالك، ومذهب أحمد بن حنبل: أداء الفريضة بالمسح على العمامة بشروط، منها: أن يكون محنكة، وأما السلف فلم يثبت المسح على العمامة من الجمهور، وينسب إلى بعض السلف جوازه، والله أعلم، والمتبادر من حديث الباب ما قال
الشافعية، وفي رواية البخاري عن عمرو بن أمية:(أنه مسح على العمامة) وليس ثمة ذكر الرأس، فظاهره للحنابلة، وأما الجواب من جانبنا من حديث الباب فقيل: إنه مسح على الرأس وسوّى عِمامته، فزعم الراوي أنه مسح عليها، ويلزم على هذا تغليط الصحابي وهم من أذكياء الأمة المرحومة، وهذا الجواب كان لأبي بكر بن العربي، وأصله أنه مسح على الرأس أصالةً ووقع على العمامة تبعاً، وكذلك زعمه الصحابي فليس فيه تغليط الصحابي، فلم يدرك الناقلون مراده، فقالوا ما قالوا، ويمكن لنا ما قال محمد أنه كان ثم نسخ، وهناك جواب له نفاذ لغة، وهو أنه مسح على الرأس متعمماً بدون نقضها، وفي سنن أبي داود:«أنه مسح على الناصية ولم ينقض العمامة» ، وهذا الجواب يستدعي تطريق كثير من الأحاديث فإنها واقعة واحدة، ويعبره بعض الرواة بأنه مسح على الرأس، وبعضهم بأنه مسح على العمامة، وبعضهم بأنه مسح على الرأس والعمامة، ولينظر أيضاً أنها واقعة الوضوء على الوضوء أو غيرها، وقد ثبت الوضوء على الوضوء ناقصاً كما في كتاب الطحاوي من عمل علي وقال علي هذا وضوء من لم يحدث، وأخرجه في صحيح ابن خزيمة من عمل علي، ثم رفعه علي، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولما ثبت مسح الرجلين في الوضوء الناقص فلعله يجوز فيه المسح على العمامة أيضاً، ثم هذه الواقعة مروية عن بلال أيضاً في مسلم ص (133)، وأداها راوي أبي داود ص (20) في شكل العادة: أنه كان يمسح على الخفين، ولكن الحق أنها واقعة واحدة كما هو مصرح في النسائي ص (30) : وأيضاً في مسلم وأبي داود: أنه مسح على العمامة وفي النسائي: أنه مسح على الرأس، فاختلف تعبير الرواة، وفي بعض نسخ النسائي لفظ «الأسواق» بدل «الأسواف» وذلك غلط، وفي المعجم للطبراني في واقعة مغيرة أنها كانت في المدينة، وهو في التخريج ص (86) . وفي أكثر الكتب أن واقعة المغيرة عند القفول
من تبوك فيطلب التوفيق أو الترجيح، ويرد على الحنابلة القائلين بجواز المسح على العمامة آية: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ) . . الخ [المائدة: 6] فقالوا: إن المسح على العمامة مسح على الرأس، ولكنه غير صحيح، ويمكن لهم الجمع بين القاطع وخبر الواحد، والبخاري لعله ليس بقائل بالمسح على العمامة فإنه أخرج الحديث ولم يبوب عليه، وقال أبو عمر في التمهيد: إن أحاديث المسح على العمامة كلها معلولة نقله الشيخ الأكبر في الفتوحات، ولكنه لما أخرج البخاري فيشكل قول التعليل.
قوله: (مسح على الخفين والعمامة) قال المتأولون: الخمار كان رقيقاً فيتقاطر الماء على الرأس،
والصحيح ما ذكرت أولاً، قال ابن الجزري: وجدت بخط النووي أن عمامته عليه الصلاة والسلام في أكثرالأوقات كانت ثلاثة أذرع بالذراع العرفي، وعمامته للصلوات الخمسة سبعة أذرع، وللجمعة والأعياد اثني عشر ذراعاً.
باب ما جاء في الغسل من الجنابة
[103]
قال القدوري: لو اغتسل في مجتمع الماء يؤخر غسل الرجلين، وإلا فيغسلهما حين التوضئ قبل الغسل، وقد ثبت تأخير غسلهما وتقديمه مرفوعاً فنحملهما على الحالتين.
قوله: (فأفاض على فرجه) قال صاحب البحر: ينبغي الاستنجاء قبل الغسل كيلا يبقى ما بين الأليتين يابساً.
قوله: (انغمس الجنب) هاهنا مسألة الماء الملاقي والملقى، وفرَّق بين طهوريتهما عبد البر بن الشحنة، وأما صاحب البحر، والعلامة قاسم بن قطلوبغا فلم يفرقا بينهما، والمختار مختارها.
(ف) في بعض كتبنا أن التيمم للقربة أو العبادة التي ليس الطهارة شرطاً لها مجزئ مع وجود الماء أيضاً، واختاره صاحب البحر ورده الشامي، والمختار ما قال صاحب البحر لنص الحديث، فإنه تيمم في واقعة أبي الجهيم في المدينة، وقال ابن عابدين: إن هذه المسألة ليست في الكتب المشهورة لنا.
باب ما جاء أن تحت كل شعرة جنابة
[106]
حديث الباب ساقط السند ولكن مسألة الباب صحيحة اتفاقاً، وأما الوضوء بعد الغسل فبدعة كما في الدر المختار وبوب عليه المصنف.
باب ما جاء إذا التقى الختانان وجب الغسل
[108]
المراد من التقاء الختانين غيبوبة الحشفة كناية، واتفق أهل المذاهب الأربعة على وجوب الغسل بغيبوبة الحشفة أنزل أو لم ينزل، وكان الصحابة مختلفين، ثم أجمع الصحابة في عهد عمر على وجوب الغسل بها، فيمكن القول بأنه مما أجمع عليه الأمة، وادَّعى البعض أن عدم وجوب الغسل بها كان ثم نسخ، ويساعده الروايات ووقعت عبارة البخاري موهمة إلى أن البخاري مخالف لجمهور الأمة، وأقول: إن البخاري موافق لهم.
باب ما جاء أن الماء من الماء
[110]
هذا الحديث منسوخ، وقال ابن عباس: إنه ليس بمنسوخ، وتأوله بحمله على حال النوم،
وأقول: يجب تأويل كلام ابن عباس، فإن جمهور الأمة على أنه منسوخ، وأتأوله بأنه ذكر المسألة الفقهية، أو قال: إن بعض جزئيات ذلك المنسوخ محكم الآن أيضاً، ويدل صراحة على نسخ حديث الباب قصة عتبان بن مالك في مسلم، وأكثر الطحاوي من الروايات الدالة على النسخ.
باب فيمن يستيقظ ويرى بللا ولا يذكر احتلاما
[113]
في مسألة الباب أربعة عشر صورة، ذكر صاحب البحر اثنى عشر صورة، وذكر الباقيتين الشرنبلالي في مراقي الفلاح، وضبط الصور بأنه إما أن يكون تيقن المني، أو المذي، أو الودي،
أوشك في الأوليين، والآخرين، أو الطرفين، أو الثلاثة، فصارت سبعة، ثم إما أن يتذكر الاحتلام أولا، ويجب الغسل في تيقن المني يتذكر الاحتلام أولا، وفي تيقن المذي مع تذكر الاحتلام، وفي الصور الأربعة المشكوكة مع تذكر الاحتلام، والصور التي يجب الغسل فيها قليلة عند الشافعي.
المني: ماء ثخين أبيض خاثر، يتولد، منه الولد وينكسر العضو بخروجه.
والمذي: ماء ثخين لا ينكسر العضو عند خروجه، ورائحة المني كرائحة العجين والطلع.
والودي: ماء دقيق مغروش في الإحليل يتقدم البول أو يعقبه.
باب ما جاء في المني والمذي
[114]
في بعض الروايات أن السائل علي رضي الله عنه وفي بعض الروايات إنه أمر مقداداً رضي الله عنه بالسؤال، وفي بعض الروايات أنه رضي الله عنه ابتدأ بنفسه، فتعرض العلماء إلى التوفيق، وعامة الفقهاء إلى أن الوضوء من المذي من أحكام الصلاة، فيجب عند القيام إليها، وينسب إلى أحمد أنه
من أحكام المذي، وهو الظاهر، ثم يذكر أن الواجب عند الثلاثة غسل الإحليل وما أصابه المذي، وقال أحمد: يغسل العضو والأنثيين وإن لم يصبه المذي.
باب ما جاء في المذي يصيب الثوب
[115]
المذي نجس إجماعاً. قوله: (حيث ترى أنه الخ) قال العلماء: إن معنى يُرَى المجهول الشك، ومعنى يَرَى معلوماً اليقين، ورأيت في فتح القدير أن المجهول من الرأي، والمعلوم من الرؤية، ولو كان لفظ الحديث مجهولاً فيكون بظاهره تمسك مالك بن أنس على أن النجاسة المشكوكة يكفي فيها النضح فقط، ومسألة المالكية مذكورة في مدونة مالك بن أنس.
باب ما جاء في المني يصيب الثوب
[116]
مذهب الشافعي وأحمد طهارة المني، ومذهب أبي حنيفة ومالك أنه نجس، وأطنب ابن تيمية في الطهارة في فتاواه، وقال الشافعي: إن الأنبياء أيضاً يتولدون من المني، فكيف يقال بالنجاسة؟ ويقال فيه: إن كل ولد أعم من الأنبياء وغيرهم يكون الدم غذاءه في بطن الأم ولا يقول أحد بطهارة الدم، ولنا آثار كثيرة، وثبت من التابعين أن المصلي في الثوب الذي أصابه المني يعيد الصلاة، وأما الحديث فثبت فيه الفرك والغسل، ونعمل بهما بأن الفرك في اليابس، والغسل في الرطب، وقال الشافعي: إن الفرك دال على طهارته، فإن في الفرك يبقى بعض الأجزاء، ونقول: إن الخف الذي أصابه النجاسة يكفي فيه الدلك مع بقاء بعض أجزائها، وأخرج الحافظ في الفتح راوية الفرك في الرطب عن صحيح ابن خزيمة، ومرَّ عليه الشيخ علاء الدين المارديني وأعلَّه.
قوله: (ضاف عائشة الخ) الضيف هو الراوي.
قوله: (قال ابن عباس) هذا أثر ابن عباس فلا حجة علينا، وأيضاً نقول: إن التشبيه في اللزوجية لا الطهارة.
قوله: (باذخر) في حاشية أبي داود: إن معنى الإذخر «مرجياگند» ، ومأخذه غياث اللغات وهو غلط، وربما يُغلط في معاني الأدوية، ويسميه أهل السند (كترن) .
باب ما جاء في الجنب ينام قبل أن يغتسل
[118]
يستحب الطهارة للجنب قبل النوم، كما روى عن الطرفين، وروى الطحاوي عن أبي يوسف. أنه لا بأس بتركه، أقول: لا بأس دال على أنه خلاف الأولى، فلا خلاف في هذه المسألة بين الثلاثة ولم يقل أحد بالوجوب إلا داود الظاهري، وفي المعجم للطبراني عن أبي هريرة:«من مات جنباً بدون طهارة لا تشترك الملائكة في جنازته» ، والمسألة جواز النوم للجنب قبل الطهارة وفي معاني الآثار، وموطأ مالك عن ابن عمر: أن الوضوء الذي يكون للجنب قبل النوم قد يكون ناقصاً أيضاً، وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه بسند قوي مرفوعاً: «إن الجنب لو لم يتوضأ قبل النوم يتيمم.
قوله: (ولا يمس ماء) أكثر أئمة الحديث إلى أن أبا إسحاق السبيعي وَهِمَ في حديث الباب فإنه عليه الصلاة والسلام لم يثبت نومه بدون الطهارة، وقال قائل: إن المراد من مس الماء في حديث الباب مس الماء للغسل، وأنه توضأ وإن لم يغتسل، وقال النووي: لعل نومه بدون الطهارة كان مرة أو مرتين لبيان الجواز، أقول: لما أعل المحدثون الحديث فلا حاجة إلى التوجيه، وأما صورة وَهْمِ عمرو بن عبد الله أبي إسحاق فذكرها الطحاوي بأنه اختصر الحديث المفصل:«أنه إذا أجنب أول الليل كان يتوضأ، ولو أجنب آخر الليل لا يتوضأ» فإن كان إبَّان الغسل فالنعاس لزمان قليل بدون الوضوء ثابت، وأخذت هذا مما في الروايات فالحاصل أني أنكرت نومه عليه الصلاة والسلام بدون الوضوء أو التيمم أول الليل بخلاف آخر الليل فإنه إبَّان الاغتسال، والحديث المفصل عن أبي إسحاق أخرجه مسلم ص (255) ، أيضاً وفي مسلم لفظ يخالف لفظ الطحاوي صراحة، والحال أنهما متحدان
سنداً ومتنًا، فإن في مسلم:«وإن لم يكن جنباً توضأ وضوء الرجل للصلاة» وفي معاني الآثار: «وإن كان جنباً توضأ وضوء الرجل للصلاة» ولم يتوجه إليه أحد من الحفاظ والمحدثين وإن أمكن الجمع بينهما، وأعل أبو داود ص (30) حديث الباب.
باب ما جاء في مصافحة الجنب
[121]
يجوز للجنب جميع المعاملات، ويمتنع عن دخول المسجد، والطواف وقراءة القرآن، وفي بعض الكتب زيادة:(إن المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً) ، في حديث الباب ولكن السند ضعيف، وغسالة المؤمن طاهر حياً كان أو ميتاً، وفي مبسوط محمد بن حسن: إن غسالة الميت نجسة، وحمله أرباب الفقه على أن فيه مظنة الألواث، وأما غسالة الكافر فنجسة، فإن حكمه حكم الميتة.
باب ما جاء في المرأة ترى مثل ما يرى الرّجل
[122]
ينسب إلى محمد بن حسن عدم الغسل من الاحتلام للمرأة، وحمله أرباب التصنيف على حالة لا يخرج المني إلى الفرج الخارج، ولو خرج المني إلى الفرج الخارج يجب الغسل والله أعلم، وأما الأطباء فمختلفون في وجود المني في المرأة بعد اتفاقهم على أن فيها ماء يصلح للولادة.
قوله: (إن الله لا يستحيي) قالوا: معناه أن الله لا يأمر بالاستحياء، فإنه تعالى ليس محل الحوادث، والاستحياء حادث، وقال الحافظ ابن تيمية: إن الله تعالى تقوم به الأفعال الاختيارية مع كونه قديماً، وسيأتي تفصيل البحث في ابتداء البخاري إن شاء الله تعالى.
باب ما جاء في التيمم للجنب إذا لم يجد الماء
[124]
ينسب إلى عمر الفاروق وابن مسعود أنهما لا يجوِّزان التيمم للجنب ولو إلى عشر سنين، وموهمه رواية البخاري وأقول: إن هذه النسبة غلط إليهم كما صرح بمراد هما في البخاري بأن غرضهما سد الذرائع كيلا يتيممون بعذر يسير غير مبيح للتيمم.
قوله: (الصعيد الطيب. . .) قال صاحب القاموس: إنه وجه الأرض، فاضطر هاهنا إلى هذا القول مع رعاية مذهبه في اللغة بأن يذكر ما يوافق مذهب الشافعي، وله اعتقاد في حق أبي حنيفة، وصنف الطبقات الحنفية المسماة بطبقات فيروزآبادي حديث الباب ساقط السند.
باب ما جاء في المستحاضة
[125]
باب المستحاضة باب طويل الذيل، والفرق بين الحيض والاستحاضة أن الحيض لأصْلِيِّ الفعل على العادة، والاستحاضة للزيادة على ذلك، وفي كتبنا: أن الأقل من أقل الطمث أو النفاس، والأكثر من أكثرهما، والأكثر على العادة بشرط الزيادة على الأكثر من عشرة أو أربعين استحاضة، وأكثر إطلاق الاستحاضة في الحديث على متعارف اللغة.
الحيض: دم يخرج من قعر الرحم بدون داء.
الاستحاضة دم: يخرج من فم الرحم من العاذل كما في الحديث، ثم للمستحاضة أنواع: المتبدأة، والمعتادة، والمتحيرة، ومذهبنا: أن عشرة أيام للمبتدأة حيض والباقي استحاضة، والمعتادة تمضي على عادتها المستقرة، والمتحيرة التي لم تستقر عادتها، ولم تكن مبتدأة، وأحكامها كثيرة لا توجد في المطبوعات، وقليل شيء منها مذكور في البحر، ولكن أغلاط الكاتب مانعة عن الاستفادة وبعض شيء منها مذكور في خلاصة الفتاوى، وقال صاحب البحر: إن في خلاصة الفتاوى أغلاط الناسخين، ومن أحكامها: أنها تتحرى وتعتبر بالظن الغالب، وأسميها متحيرة، والمتحيرة مذكورة في كتبنا وكتب الشوافع، وأنكر الحنابلة هذا النوع، ثم عند الشوافع نوع آخر يسمى بالمميزة، وتعتبر بالألوان إذا رأت الدم أسود فهو حيض وإلا فاستحاضة، ثم لهم وجهان:
أحدهما: أن تميز الألوان في حق غير المعتادة.
والثاني: أن تعتبر في حق المعتادة أيضاً.
وعندنا الاعتبار للألوان، ولنا ما روى عن عائشة:«حتى ترين القصة البيضاء» ، ولهم ما في أبي داود «فإنه دم أسود يعرف» وقال الطحاوي في مشكل الآثار: إنه مدرج من الراوي، وأشار النسائي إلى
إعلاله في الموضعين في الحيض، ونقل المارديني إعلاله عن أبي حاتم، وفي مسألة الباب أحاديث في بعضها عدة الأيام والليالي التي كانت تحيض، وهذا محمول على المعتادة، والحديث الذي فيه «إقبال الدم وإدباره» حملناه على المعتادة كما يدل ما في الطحاوي ص (61) ، وحمله الشافعية على المميزة، والحديث الذي فين «أيام أقرائها» الأقرب حمله على المعتادة، ويمكن أن يحمله الشافعي على المميزة، ثم في المسألة ثلاثة أحاديث حديث حمنة بنت جحش، وحديث أسماء، وحديث فاطمة بنت قيس، ومدار المسائل الفقهية على الثلاثة.
قوله: (فاطمة بنت أبي حبيش) اسم أبي حبيش قيس، وفاطمة هذه غير فاطمة التي شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم من نفقة زوجها رواية حديث الدجال.
قوله: (فلا أطهر) أي لا أطهر حساً، وليس غرضها نفي الطهارة الشرعية، وغرضها سؤال مسألة المعذورة.
قوله: (أفأدع الصلاة) أي إني ذات دم، وإن لم يكن ذلك حيضاً، وحملنا حديث الباب على المعتادة.
قوله: (فاغسلي عنك الدم) هذا الغسل ليس هو الغسل الواجب، وفي الروايات الأخر «فاغسلي عنك الدم واغتسلي» وفي الطحاوي ص (61) ، ما يدل على الغسل الواجب.
قوله: (توضئي) قال مالك بن أنس: إن العدة المبتلى فيه غير ناقض للوضوء، ولفظ «توضئي» في حديث الباب محمول على الاستحباب عنده، وحمله الثلاثة على الوجوب، وتصدى بعض الموالك لإسقاط لفظ توضئي، ولعل مسلماً أيضاً متردد فيه كما يدل قوله، وفي حديث حماد لفظ «تركناه» مسلم ص (151) ، وبحث فيه الحافظ وحاصله إثبات ذلك اللفظ، ورواه ابن سيد الناس اليعمري عن طريق أبي حنيفة، فقال: إنه مروي عن إمام من الأئمة فيكون صحيحاً، وأخرجه الطحاوي ص (41) ، عن أبي حنيفة وأخرج له المتابع.
باب ما جاء في المستحاضة أنها تجمع بين الصلاتين بغسل واحد
[128]
قال الطحاوي: إن الغسل للعلاج، وزعم الأكثرون أنه علاج طبي، والحال: أن المراد من العلاج الحيلة، وقال الطحاوي: إن حديث الباب في المتحيرة، وذكر لها مسائل يتعذر إدراكها، ويمكن حمله على المعتادة وتمشي على هذا فإنه سهل.
قوله: (واتخذي ثوباً) أي ثوباً يكون مهيأ للصلاة.
قوله: (أمرين) عامة المحشين على أن الأمر الأوّل الوضوء لكل صلاة، وهو في كتاب الأم، والأمر الثاني ثلاث غسلات لخمس صلوات، وأشار أبو داود ص (41) إلى أن الأمر الأول الغسل لكل صلاة، والآخر الغسل ثلاث مرار لخمس صلوات، وقال: إن خمس غسلات ثابت في بعض الطرق، أي في قصة حمنة بنت جحش، وأما الغسل خمس مرار في أحاديث غير بنت جحش فثابت بلا ريب، وروى الترمذي تحسين أحمد حديث الباب، وروى أبو داود التردد عنه، والفصل تحسينه.
قوله: (ستة أيام أو الخ) عندي لفظة (أو) للتنويع منه عليه الصلاة والسلام، وقيل: إنه شك الراوي.
قوله: (لميقات حيضهن الخ) هذا ظاهر الدلالة على أنها كانت معتادة، وهاهنا يرد علينا إشكال، وهو أنه لم يأمرها بالوضوء ثانياً في صورة الصلاتين بغسل واحد والحال أن خروج الوقت ناقض لوضوء المعذور، فقيل: إنه مسكوت عنه وليس هاهنا نفيه، فلعله يكون أمرها وأقول: إن الزيادة في الحديث القولي بعيدة، والجواب عندي موقوف على ذكر مقدمة وهي: أن المثل الثاني بعد فيء الزوال مشترك بين الظهر والعصر، والمثل الأول وقت مختص بالظهر، وبعد المثل الثاني مختص بالعصر، أو يعبر بأن المثل الأول وقت الاختيار، والمثل الثاني وقت الضرورة للظهر. وفي عمدة القاري، عن المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: إذا بلغ الظل أقلَّ من قامتين يخرج وقت الظهر، ولا يدخل وقت العصر حتى يصير مثلين، صححه الكرخي، وقال ابن عابدين: إن رواية المثلين ظاهر الرواية، ورواية المثل شاذة، والحال أن في البدائع تصريح أن آخر وقت الظهر ليس بمذكور في ظاهر الرواية، أقول: قد وجدت الجامعين والمبسوط والزيادات خالية من آخر وقت الظهر، نعم ذكر السرخسي في مبسوطه المثل والمثلين، فإذا مهدنا هذا فيقال: إنها تغتسل في المثل الثاني، وتصلي الظهر ثم العصر في المثل الثاني، فلم يتحقق خروج الوقت فإن الوقت المختص ووقت الاختيار للظهر خرج قبل المثل الثاني، وكذلك نقول في العشاء الأولى والآخرة، ولا يكون الوضوء إلا واحداً، وفي الوقاية رجوع أبي حنيفة إلى الشفق الأحمر عن الأبيض، ورد عليه ابن الهمام وصاحب البحر، أقول: لم يرجع أبو حنيفة إلا أن وقت الاختيار للمغرب إلى الشفق الأحمر، ووقت الضرورة إلى الشفق الأبيض، فتغتسل في الشفق الأبيض وفي الأشباه والنظائر يجوز للمسافر تأخير المغرب، فأقول: يجوز تأخيرها للمعذور بالطريق الأولى.
قوله: (قال الشافعي رحمه الله هذا المذكور حكم المبتدأة، وهكذا مذكور في كتب الشوافع وأخطأ بعض المحشيين في نقل مذهب الشافعي، قال العلماء: إن أقل مدة الحيض وأكثرها ليس فيه المرفوع لأحد من المذاهب، ولنا أثر أنس، وللشوافع أثر عطاء بن أبي رباح، ويمكن لنا التمسك في أقل الحيض بما رواه الترمذي في المجلد الثاني ص (86) عن أبي هريرة: «فتمكث أحداكن الثلاث أو الأربع» الخ، وللخصم فيه مجال التأويل، واستنبط أبو بكر الرازي تلميذ الكرخي: أن الأيام جمع
قلة فيؤخذ أقله، والليالي جمع الكثرة فيؤخذ أقلها، فيكون ثلثة أيام، وعشرة أيام أقول: إن هذا فيما له جمع قلة وجمع كثرة، ولفظ اليوم ليس له جمع كثرة، ولفظ الليل ليس. له جمع قلة، وأيضاً دخول اللام يخرج الجمع من الجمعية.
باب ما جاء في المستحاضة أنها تغتسل عند كل صلاة
[129]
قال الشوكاني: إن الغسل عند كل صلاةٌ. . . ليس له أصل من الشريعة، فإن التحير والتوقف ليس في الشريعة، أقول: إن الحافظ أثبت الغسل عند كل صلاة، وكذلك في أبي داود ص (46) ، وفي ابتداء الدارِمي سألت امرأة ابن عباس بكوفة وكانت متحيرة، وكانت سألت قبلُ علياً فأمرها بالغسل عند كل صلاة، فقال ابن عباس: اللهم لا أعلم إلا ما قال علي، فقيل لابن عباس: إنه مشقة لها، فقال: لو شاء الله تعالى لابتلاها في أشد منه.
وقد ثبت توقفه في قصة لعان بلال بن أمية، وفي بعض الصور يجب الغسل عند كل صلاة للمتحيرة عندنا وعند الشوافع.
باب ما جاء في الحائض أنها لا تقضي الصلاة
[130]
أجمع أهل السنة والجماعة على قضاء الصوم لها لا الصلاة، وأوجب الخوارج قضاء الصلاة أيضاً، ثم تكلم العلماء في حكمة عدم قضاء الصلاة والصوم، فقيل: لما هبطت حواء على الأرض حاضت فسألت آدم وسأل آدم الله تعالى فعفا الله عن الصلاة، ثم قاس آدم الصوم على الصلاة فعاتب الله تعالى، وأمر بالقضاء عتاباً، والله أعلم هذه القصة ثابتة أم لا وأقول: يمكن أن يقال: إن الطهارة شرط الصلاة لا الصوم، نعم عدم الطهارة مانعة من الصوم، وأيضاً في قضاء الصلوات مشقة لا في قضاء الصوم.
باب ما جاء في الجنب والحائض أنهما لا يقرآن القرآن
[131]
هذا مذهب الجمهور، وقال البخاري: يجوز قراءة القرآن وبوب عليه ولم يأت بالنص، ثم عندنا تفصيل في الجزئيات، قال الطحاوي: يجوز قراءة أقل من الآية، ويمنع الكرخي من الأقل منها والأكثر، والاحتياط فيما قال الكرخي، ولعل الطحاوي بنى على أن المعجز من القرآن الآية ولو قصيرة، وإذا قل منهما لعله خرج من القرآنية، وعندي أن الآية معجزة ولو قصيرة وهذا بديهي عندي أشد البداهة، وقيل: لم يدرك إعجاز القرآن إلا الأعرجان وهو عبد القاهر والزمخشري، وأخذت هذا مما قال أبو حنيفة رحمه الله: إن فرض القراءة الآية ولو قصيرة، ثم إن القراءة على نية الدعاء والثناء جائزة، ثم قيل: الشرط كون تلك الآية مشتملة على مضمون الدعاء والثناء، وقيل: لا يشترط.
قوله: (من بقية) إن بقيةَ مدلس، والبخاري صحح روايته في مواقيت الصلاة ذكره في التلخيص فإذا صرح بالسماع تقبل روايته، قيل: أحاديث بقيَّة ليست بنقيَّة فكن منها على تَقيَّة.
باب ما جاء في مباشرة الحائض
[132]
مذهب أبي حنيفة والشافعي عدم جواز الاستمتاع من السرة إلى الركبة، ومذهب أحمد ومحمد أنه يتقي موضع الدم، وحديث الباب للجمهور، ويجوز لهما حمله على الاستحباب ولهما ما في مسلم:«اصنعوا كل شيء إلا النكاح» وقيل: إن الرجحان لمذهبهما، وللجمهور عند أبي داود وبسند حسن: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالي من زوجتي إذا كانت حائضة؟ قال: (لك فوق الإزار)، وقيل: إن النهي عن استمتاع ما تحت الإزار مفهوم الحديث لا منطوقه، وقال الشيخ ابن الهمام: إنه وقع في جواب من سأل عن كل ما يحل له من زوجته، فيكون المعنى: لا يحل لك إلا ما فوق الإزار، أي لا يحل ما تحت الإزار فيكون منطوقاً، ونقول: إن ما في مسلم كناية عن نهي ما تحت الإزار.
(ف) ربما يوافق محمد بن حسن مالك بن أنس فإنه تلميذه، وأقام عنده ثلاثة سنين، وسمع محمد خمسمائة حديث من مالك وهذا من خصوصية محمد، وكان مالك لا يحدث من لفظه بل كان يقرأ عليه.
باب ما جاء في الحائض تتناول الشيء من المسجد
[134]
الاعتبار عندنا للرجلين لا للرأس واليدين، فيجوز لها إدخال اليدين أو الرأس لا الرجلين، وكذلك في صيد الحرم لو كان رجلاه في داخل الحرم ورأسه خارجه فصاده فعليه جزاء، ولو كان عكسه فلا جزاء.
قوله: (الخمرة) أكثر علماء اللغة على أن الخمرة ما يستر الوجه، فإذن يتمسك الروافض بهذا على عملهم الفاسد، وتعرض العلماء لتوجيههم، أقول: إن مراد علماء اللغة أن الغرض من الخمرة ستر الوجه وحفاظته وإن كانت كبيرة لما في الحديث: (إن الفأرة ألقت الفتيلة على خمرته عليه الصلاة والسلام فاحترقت وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس عليه.
(ف) من احتلم في المسجد فلنا فيها قولان: قيل يخرج بعد التيمم، وقيل لا حاجة إلى التيمم، والراجح الثاني، فإنه عليه الصلاة والسلام خرج من المسجد بدون التيمم حين أقيمت فتذكر أنه جنب، وأما قول: أنه لعله تيمم فادعاء بعيد، وللقائل بالأول أن يحمله على خصوصيته صلى الله عليه وسلم فإنه قد ثبت في الحديث النهي عن أن يطرق أحد المسجد جنباً إلا له صلى الله عليه وسلم ولعلي، وهذا كله في الخروج، وأما الدخول بلا تيمم فلا يجوز عندنا قولاً واحداً، ويجوز عند الشافعي الاجتياز دخولاً وخروجاً.
باب ما جاء في كراهية إتيان الحائض
[135]
يحرم الوطئ إجماعاً، وعبر المصنف بالكراهة، ومثل هذا التعبير يوجد في عبارات السلف.
قوله: (أو دبرها) نسب إلى ابن عمر أنه يجوز أن يأتي الرجل دبر زوجته، أقول: إن هذه النسبة إليه غلط، ومثل هذه تدع البلاد بلاقع، والبخاري حين روى (يأتيها في آه) لم يذكر مدخول كلمة (في) وكيف والحال أنه روى عن ابن عمر في معاني الآثار إنكاره صراحة أشدَّ التصريح؟ وأما ما يروى عنه الموهم لتلك النسبة فمراده أن يولج في القبل من جانب الدبر، وينبغي الاحتياط في مثل هذه النسبة.
قوله: (أو كاهناً) قال ابن خلدون في مقدمته: إن الكهانة كسْبيَة وطبيعية، وليعلم أن بعض حكايات الكهانة يكون صادقاً، ولكن لا ضابطة لها فلذا لم يعتبرها الشريعة الغراء.
قوله: (فقد كفر) أي فعل فعل الكافرين، وسيأتي تفصيل ما في البخاري على طريق المحدثين.
(ف) المشهور أن المتأول ليس بكافر، أقول: إن المتأول في ضروريات الدين كافر كما صرح به في آخر الخيالي على شرح العقائد، وصرح الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد المالكي الشافعي، وليعلم أن الجهل في ضروريات الدين ليس بمعتبر، وكذلك في الاعتقاديات، فالصلاة فرض وتحصيل علمها واعتقاد فرضيتها أيضاً فرض، والجهل عنها وكذلك الجحود كفر، والسواك سنة وكذلك تحصيل علمه، وأما الاعتقاد بسنيته ففرض والجحود كفر، والجهل ليس بموجب الإثم.
باب ما جاء في الكفارة في ذلك
[136]
الحديث الأول منقطع، والحديث الثاني لم يحسنه أحد من المحدثين وفي سنده عبد الكريم بن أبي المخارق ضعيف، وأما المسألة فالكفارة مستحبة كما في الدر المختار والفتاوى الهندية.
باب ما جاء في غسل دم الحيض من الثوب
[138]
قوله: (امرأة) قيل: هذه المرأة أسماء بنت أبي بكر، وقيل: امرأة أخرى.
مذهبنا: أن الصلاة في الثوب الذي أصابه الحيض أو غيره من النجس إن كان أقل من الدرهم فمكروهة تنزيهاً، وإن كان قدر درهم فمكروهة تحريمة، وإن كان أكثر منه فمفسدة.
قوله: (أحمد الخ) مذهب أحمد: أنه إذا علم أنه صلى في الثوب الذي أصابه المني أكثر من الدرهم صحت صلاته، وأما لو علم قبل ابتداء الصلاة فلا تصح الصلاة، فعبارة الترمذي قاصرة.
باب ما جاء في كم تمكث النفساء
؟
[139]
اتفق أهل المذاهب الأربعة على أن أكثر مدة النفاس أربعون يوماً.
قوله (بالورس) قال ابن سينا: إن الورس نبت يجلب من اليمن يشبه الزعفران السحيق، وفي كتبنا: أن نفخ الروح يكون بعد أربعة أشهر ثم يكون الدم غذاء الولد، فإذا وُلِدَ يخرج الدم المحتقن في الرحم، وكان المحتقن لأربعة أشهر وعشراً فصار أربعين يوماً بحساب العشرة في كل شهر.
باب ما جاء في رجل يطوف على نسائه بغسل واحد
[140]
أكثر عادته عليه الصلاة والسلام تكرار الجماع بتوسط الغسل، وأما لفظ في غسل واحد فالأكثر على أن المراد من الغسل هو الغسل في الآخر، ويمكن أن يكون المراد هو الغسل السابق على الجماع، وفي حديث الباب إشكال وهو: أن أقل القسمة يوم وليلة والتسوية في القسمة واجبة، فكيف طاف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في ليل؟ فقيل: إنه كان بعد ختم دور وابتداء دور آخر، وقيل: إنه كان برضاء أمهات المؤمنين، وقيل: إن القسمة ليست بواجبة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي: إن هذه واقعة حجة الوداع قبل الإحرام، وكان غرضه قضاء حاجتهن، وإن عبرها الراوي بطريق الاستمرار ولفظ العادة.
باب ماجاء إذا أقيمت الصلاة ووجد أحدكم الخلاء فليبدأ بالخلاء
[142]
قيل: إن الجماعة سنة، وقيل: واجبة، وقيل: فرض كفاية وقيل: فرض عين، وقيل: شرط صحة الصلاة، ولتركها أعذار عند الكل، ووجد أن الخلاء أيضاً عذر ويحول إلى رأي من ابتلي به، فإن كان يعلم أنه يصلي بدون أن يجد في نفسه شيئاً ولا يفسد الخشوع فيصلي، وإلا فلا إثم إن فاتته الجماعة، فيطلب الجماعة في مسجد آخر بدون وجوب، ورواية شاذة عن أبي يوسف: أنه لو ابتدأ في الصلاة ثم وجد الخلاء فيذهب ويدفعه ثم يأتي ويبني الصلاة،. . . . . وعن أبي حنيفة: لأن يكون أكلي كله صلاة أحب إلي من أن تكون صلاتي كلها أكلاً.
باب ما جاء في الوضوء من الموطئ
[143]
لم يقل أحد بطهارة الرجلين أو الثوب إذا مشى على الأرض اليابسة الطاهرة بعد أن مشى على
الرطبة النجسة، إلا ما روى الشافعي عن أحمد فقال: الأوسط في مراد الحديث أنه إذا مشى على الأرض اليابسة النجسة ثم مشى على اليابسة الطاهرة يطهر الرجل والثوب، فإن النجاسة اليابسة تسقط بمشيه على الأرض اليابسة، ومراد الحديث أنه إذا توضأ فذهب إلى المسجد حافياً بطريق لا نعلم حاله، ولا نشاهد النجاسة فيه فهل يجب غسل الرجلين أم لا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا غسل فيه) وفيه أسلوب الحكيم، وهذه المسألة اتفاقية، ولا خلاف فيها لأحد، وإلى مثل هذا الشرح أومأ الشافعي في «كتاب الأم» ، وليراجع ترجمة الموطأ للشيخ ولى الله رحمه الله.
قوله (المكان القذر) أي المستنكر طبعاً لا النجس شرعاً.
باب ما جاء في التيمم
[144]
فيه اختلافات منها أنه ضربة عند أحمد، وضربتان عندنا وعند الشافعي رحمه الله، ومنها أنه إلى الرسغين عند أحمد، وإلى المرفقين عندنا وعند الشافعية، وظاهر موطأ مالك الوجوب إلى المرفقين، وقال شارحوه من الزرقاني وغيره: إنه مستحب إلى المرفقين، واجب إلى الرسغين، وظاهر مدونة مالك أيضاً الوجوب إلى المرفقين، وقال المحدثون: إن الترجيح لمذهب أحمد بن حنبل فإنه أخذ بما هو أصح ما في الباب، وتمسك الأحناف والشوافع بالحسان، وقالوا: إن في حديث عمار المسح إلى الرسغين إشارة إلى المعهود.
واعلم أن الصفات الثابتة في الروايات خمسة: أحدها: المسح إلى الرسغين، وثانيها: المسح إلى نصف الساعد، وثالثها: إلى المرفق، والرابع: إلى نصف العضد، وخامسها: المسح إلى الآباط والمناكب، وقال الحافظ في الفتح: إن أحاديث المسح إلى النصفين ضعاف، وحديث المسح إلى الرسغين أصح ما في الباب، وحديث المسح إلى المرفقين حسن، وحديث المسح إلى الإبط قوي، أقول: إن لعمار واقعتين أحدهما واقعة نزول آية التيمم في قصة غزوة بني المصطلق حين فقدت قلادة عائشة، فإذا نزل {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [المائدة: 6] عمل كل أحد من الصحابة ما بدا له من المسح إلى الرسغين والمرفقين والإبطين ونصف الساعد ونصف العضد، فبلغ الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت صفة التيمم:{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] وإلى هذا أشار الطحاوي ص (66) ، وأتى برواية فيها ابن لهيعة، وقال الذهبي: إن رواية العبادلة الثلاثة عن ابن لهيعة معتدلة فإنهم أخذوا قبل حرق كتبه، وأيضاً هذه الرواية لابن لهيعة عن أبي الأسود وكان ابن لهيعة يروي من كتاب عنده، فروايته من الكتاب معتبرة، ثم واقعة ثانية لعمار بن ياسر حين كان عمر وعمار راعيين في السفر فأجنبا فتمعر عمار وصلى، وترك عمر الصلاة، فبلغ الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لعمار:«إنما يكفيك هكذا» ففي هذا إشارة إلى المعهود المبين صفة قبل، لا حكم المسح إلى الرسغين، ولم ينبه على تعدد الواقعتين إلا الطحاوي، وإليه يشير كلام الشافعي أن رواية عمار المسح إلى المرفقين قبل رواية المسح إلى الرسغين، فإذا ثبت تعدد الواقعتين فنقول: إن واقعة عمر وعمار بعد بيان صفة التيمم، وإشارة إلى المعهود من الصفة، فلا يقال بترجيح رواية الرسغين فإنها أيضاً إشارة إلى المرفقين، وإني تتبعت الكتب فلم أجد تاريخ
واقعة عمر وعمار، ولم أجد تعيين سفرهما، ولكنها بعد واقعة نزول صفة التيمم كما تدل القرائن، استدل لنا على المسح إلى المرفقين بما أخرجه الزيلعي عن مسند البزار والحافظ أيضاً في الدراية تلخيص نصب الراية وحسَّن إسناده.
(ف) لخص الحافظ نصب الراية للزيلعي وسماه الدراية، وكتب الناسخ أن اسمه أيضاً نصب الراية وهذا خطأ.
ومستدلنا الثاني: ما في سنن الدارقطني بسند حسن، ولينَّة الحافظ فإن في سنده أبا صالح،
وأقول: إنه من متابعات البخاري فيكون حسناً، ومستدلنا الثالث: ما في سنن الدارقطني عن جابر بن عبد الله بسند حسن ورجاله ثقات، وقال: والصواب أنه موقوف، وأخرجه الزيلعي عن سنن الدارقطني، ولم يذكر لفظ: والصواب أنه موقوف، وكنت متردداً في هذا إلى أن وجدت في تلخيص الحبير: قال الدارقطني: رجاله ثقات، وكتب في الحاشية: والصواب أنه موقوف، ونقل الزيلعي ما في حوض الكتاب ولم يذكر ما كان في الحواشي، ولعل الدارقطني أيضاً متردد في الوقف لكتابته في الحواشي، وقال جماعة من المحدثين: إن رواية جابر موقوفة، وقالت جماعة منهم: إنها مرفوعة، ووقفها الطحاوي، وعندي أنها مرفوعة، واختلط على الموقفين لفظ «أتاه» فإنهم زعموا أن مرجع الضمير المنصوب هو جابر بن عبد الله، والحال أن المرجع هو النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الحافظ العيني.
قوله: (سفيان الثوري) هذا مذهب الأحناف، وقلما يذكر المصنف مذهب العراقيين، فإنه لم يحصل له مذهبهم بالسند.
قوله (فأمره بالتيمم) هذا الحديث فعلي يقيناً، وعبره راوي حديث الباب بالحديث القولي فهذا مسامحة.
قوله (قال ابن عباس) : هذا قياس ابن عباس، ولنا أيضاً قياس: بأن التيمم أقرب إلى الوضوء من السرقة فألحقناه بالوضوء منه.
باب ما جاء في الرجل يقرأ القرآن على كل حال ما لم يكن جنبا
[146]
قيل: المراد بالذكر على كل حال الاستمرار، وهذا غلط بل المراد ذكر الله تعالى في الأحوال المتواردة لا في الأحوال المتشابهة، أي لم يكن ممتنعاً، وقيل: إن الذكر ذكر قلبي، أقول: إن اللغة ترده فإن الذكر القلبي هو الفكر في اللغة.
قوله: (ما لم يكن جنباً) هذا دليل الجمهور في خلاف البخاري، والتفصيل يطلب من الفقه.
(ف) وظيفة القرآن والحديث التبويب ولا يليق ذكر الجزئيات بشأن القرآن، والكمال في وضع الأبواب لا في ذكر الجزيئات كما هو مقتضى العقل السليم.
باب ما جاء في البول يصيب الأرض
[147]
الأرض تطهر باليبس والغسل عندنا، وقال الشوافع: إن في الحديث إلقاء الدلو على ذلك البول، نقول: إنه عمل بأحد طريقي التطهير، ثم قال الشوافع: إنا نفرق بين الماء الوارد على النجاسة بأنه طاهر، والمورد عليه النجاسة بأنه نجس فيحصل الفرق عندكم فأي فائدة في إلقاء الدلو؟ ونقول: إنه بال في ناحية المسجد كما في الروايات فيخرج الماء ويطهر، الأرض وأيضاً في العيني: إن الأرض غير الصلبة إذا تنجست فألقى عليه الماء طهر ظاهرها، وأما باطنها فبعد اليبس، وأيضاً في سنن أبي داود:«أن الأرض حفرت» فلعله كان لإزالة الرائحة الكريهة.
قوله: (أعرابي) قيل: إنه ذو الخويصرة، وفي الروايات أن ذا الخويصرة اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم حين قسم الغنيمة، وأنه أصل الخوارج، ثم في بعض الروايات:«أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة؟ فقال: ما أعددت لها؟ قال: حبك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت» ، فهذه منقبة له فكنت متحيراً في أنه ذكر المحدثون: اسم الرجل الأول أيضاً ذو الخويصرة، واسم الرجل الثاني أيضاً ذو الخويصرة، وحال الأول دال على خسارته، والثاني دال على المناقب حتى أن وجدت في بعض الكتب أن ذا الخويصرة اثنان تميميّ ويَماني، وصاحب المنقبة يَماني، ورأس الخوارج تميمي، هذا والله أعلم، وعلمه أتم.
أبواب الصلاة
باب ما جاء في مواقيت الصلاة عن النبي صلى الله عليه وسلم
-
[149]
ذكر لفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء على أن المذكور هاهنا مرفوع.
قوله: (أمَّني جبرائيل الخ) قيل: إن هذا دال على جواز اقتداء المفترض خلف المتنقل كما هو مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد، وأما مذهب أبي حنيفة ومالك بن أنس والرواية المشهورة عن أحمد: عدم جواز اقتداء المفترض خلف المتنفل، وقال أبو بكر بن العربي المالكي: إنه تعالى مجده لما أمر جبرائيل بتعليمه النبي صلى الله عليه وسلم صار جبرائيل مكلفاً، وصارت الصلاة عليه واجبة، ونقول أيضاً: إن هذه واقعة حال متقدمة لا عموم لها.
قوله: (فصلى الظهر) قيل: لم يأت جبرائيل عند صلاة الصبح فإنها أولى الصلوات الواجبة في تلك الليلة [ليلة] الإسراء، كما قال محمد بن إسحاق في سيرته: أنه أتى جبريل صبيحة ليلة الإسراء، فقيل: إنه عليه الصلاة والسلام نام عند صلاة الصبح فلم يوقظه جبرائيل، وهذا غلط، واختلط الأمر على هذا القائل، ووجه الاختلاط أنه عليه الصلاة والسلام نام عن صلاة صبح ليلة التعريس، وعبر بعض الرواة التعريس بليلة الإسراء، وأقول: إن صلاة الصبح والعصر كان يؤديها النبي صلى الله عليه وسلم قبل ليلة الإسراء فلا حاجة إلى تعليمها، وقد ذهب بعض العلماء إلى فرضية الفجر والعصر قبل ليلة الإسراء، وكثير من آيات القرآن دالة على هاتين الصلاتين، وفي الصحيحين: «أنه عليه الصلاة والسلام صلى
بالنخلة حين ذهب عامداً إلى عكاظ، واستمع له الجن وجهر بالقراءة» ، واتفق العلماء على أنه كان يصلي الفجر، والاختلاف في فرضيتهما ونفيتهما، فقال بعض العلماء بكونهما فرضين، والأكثرون على أنهما نفلان، وأقول: لما اتحد صفتاهما قبل ليلة الإسراء وبعدها؟ فما وجه الفرق بين النفلية قبلها والفرضية بعدها وعندي لا تردد فيه، وقال عماد الدين بن كثير: إنه عليه الصلاة والسلام صلى في بيت المقدس حين ذهب إلى السماء وحين رجع، وصلاته ذاهباً كانت تحية المسجد، وصلاته آيباً كانت صلاة الصبح، ووقع في بعض الرويات: مجيء جبرائيل عند صلاة الصبح» أخرجه الدارقطني، وعندي فيه وهم الراوي، واختلط عليه واقعة تعليم جبرائيل النبي صلى الله عليه وسلم، وواقعة تعليمه عليه الصلاة والسلام رجلاً في المدينة كما سيأتي في الصفحة اللاحقة، وتعليمه عليه الصلاة والسلام ذلك الرجل من الصبح.
قوله: (الشفق) ذهب الجمهور إلى أن الشفق هو الأحمر، ومذهب أبي حنيفة أنه الشفق الأبيض، وقال قائل: إن الشفق في اللغة بمعنى الحمرة، وقال الفراء: إن الشفق البياض، وللعلماء هنا كلام، وأقول: إن الشفق رقة الحمرة فيكون أمراً بين البياض والحمرة.
قوله: (كان الفيء) قال بعض غير المقلدين: إن استثناء الفيء من المثل والمثلين لا أصل له من الشريعة، ويلزمه جواز الظهر بل العصر أيضاً وقت الظهيرة في البلدة التي يكون في الزوال فيها مثل الرجل أو أكثر منه.
قوله: (لوقت العصر) ظاهر الحديث يخالف الشافعي، ومحمداً، وأبا يوسف، ومن وافقهم، فإن ظاهره أداء الظهر حين صار الظل مثلاً فتأولوا فيه، ومذهب: مالك أن المثل الأول وقدر أربع ركعات بعده وقت الظهر.
قوله: (هذا وقت الأنبياء) قيل: إن الصلوات من خصائص هذه الأمة، أقول: إن جميع الصلوات من خصائصنا، وإلا فهي متفرقة ثابتة عن الأنبياء السابقين كما يدل ما في معاني الآثار ص (104) ، وهذا حديث معاني الآثار لم أجده إلا في شرح مسند الشافعي لابن أثير الجزري.
قوله: (الوقت بين هذين الوقتين) ظاهره لا يستقيم على مذهب أحد، فقال الشوافع: والوقت
المستحب، وسيأتي تطبيقه على مذهبنا، وقيل أن المراد من الوقتين وقتا أمس مثلا ما بين الظهر والعصر، ولكنه لا يستقيم كليةً أيضاً، وأيضاً لا احتياج في هذا إلى مجيئ جبرائيل يومين.
واعلم أن جمهور الأمة إلى أن وقت الظهر إلى المثل، والعصر منه إلى قبيل الاصفرار، وعن أبي حنيفة روايات والمشهورة عنه ـ وذكرها أرباب المتون أن وقت الظهر عنده إلى المثلين وقال صاحب النهاية على الهداية: إنها ظاهر الرواية، وتبعه ابن عابدين، أقول: في البدائع تصريح بأن آخر وقت الظهر ليس بمذكور في ظاهر الرواية، ومرتبة البدائع أعلى وأرفع، وإني ما وجدت هذا في الجامعين والزيادات والمبسوط، وقد صرح السرخسي في مبسوطه أن محمداً لم يتعرض في مبسوطه لآخر وقت الظهر، ثم تعرض السرخسي وروى الروايتين.
(ف) يطلق لفظ المبسوط على مبسوط محمد وشروحه لعلها تبلغ عدة شروح، والتمييز بالإضافة إلى مصنفه، مثل أن يقال: مبسوط محمد ومبسوط السرخسي، وكذلك حال الجامع الصغير، وله شروح تبلغ خمسين شرحاً.
والرواية الثانية عن أبي حنيفة: أن وقت الظهر إلى المثل، وبعده وقت العصر، وفي عامة كتبنا أنها عن حسن بن زياد عن أبي حنيفة، وفي مبسوط السرخسي أنها عن محمد بن حسن عن أبي حنيفة.
والرواية الثالثة: أن وقت الظهر إلى المثل، ووقت العصر من المثل الثالث، والمثل الثاني مهمل، وهذه مروية بطريق أسد بن عمرو.
والرواية الرابعة في عمدة القاريء، وصححها الكرخي عن أبي حنيفة: أن وقت الظهر إلى أقل قامتين، ولا يدخل وقت العصر حتى يصير مثلين، وهذه الرواية مشتبهة أي مشتملة على زيادة الخبر، بخلاف غيرها فإنها نافية أي غير مشتملة على زيادة الخبر، وهذه الروايات عندي عبارات محتاجة إلى التفصيل، ومحصل الكل عندي: أن المثل الأول مختص بالظهر، والمثل الثالث مختص بالعصر، والمثل الثاني مشترك بين الظهر والعصر، واشتراك الوقت ثابت عن بعض السلف كما قال الطحاوي، وثابت عن الأئمة الثلاثة من أحمد والشافعي ومالك بن أنس، وقال الشافعي: من طهرت في آخر العصر يلزمها قضاء الظهر والعصر، ومن طهرت في آخر العشاء، يلزمها قضاء المغرب والعشاء فلا بد من أن يقول باشتراك الوقت، وإلا فكيف يوجب قضاء الوقتين؟ فأقول: إن حديث الباب لأبي حنيفة
خاصة، فإن الظاهر أنه صلى الظهر يوماً ثانياً بعد المثل الأول، وهو مذهب أبي حنيفة، وزعم الشارحون أن الحديث مخالف لأبي حنيفة، وحاصل حديث الباب الفصل بين الوقتين أي إذا صلى الظهر تعجيلاً صلى العصر تعجيلاً، وإذا صلى الظهر تأجيلاً، يصلي العصر تأجيلاً وبعد هذا فأقول: إن المراد من الوقت بين الوقتين الوقت المستحب، ولا يرد علينا وقت العصر فإن الظاهر من الحديث أنه صلى العصر بعد المثلين وقبل المثل الثالث، وهو المستحب عندنا فلا ضير وأفتى صاحب الدر المختار بأداء الظهر في المثل الأول، ورد عليه ابن عابدين بأن المثلين ظاهر الرواية، وأقول: إن الحق إلى صاحب الدر المختار، فإن المثل الثاني وقت الضرورة للظهر، وذكر الشيخ سيد أحمد الدحلاني الشافعي في رسالة رجوع أبي حنيفة إلى المثل الأول ناقلاً عن الفتاوى الظهيرية، وخزانة المفتين، والكتابان من المعتبرات، وأما خزانة الروايات فغير معتبر، وظني أن مراد أبي حنيفة بوقت الظهر إلى المثلين، أنه إلى أقل المثلين فإنه قال محمد في المبسوط والموطأ ص (44) إن وقت العصر لا يدخل عند أبي حنيفة إلا بعد المثلين، وذكر مذهبين مذهبه ومذهب أبي يوسف أن وقت الظهر إلى المثل وزيادة شيء، ولم يذكر آخر وقت الظهر عند أبي حنيفة فلعله لا يبلغ إلى المثلين، وإمامة جبرائيل مروية عن خمسة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عن جابر بن عبد الله، وابن عباس، أخرجهما الترمذي، وعن أبي هريرة عن الغساني، وعن ابن عمر عند الدارقطني بسند حسن، وعن أنس عند الدارقطني وفي سنده رجل متكلم فيه، وأخرج عند ابن السكن في صحيحه من رواة الحسان، وأما استدلالاتنا فذكرها صاحب البحر في رسالة:«إزالة الغشاء عن وقتي الظهر والعشاء» ومنها حديث: «أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم» وفيه نظر لأن الإبراد أمر إضافي يختلف باختلاف الفصول، ومنها حديث قوله في السفر:
أبردوا، أبردوا وقال الراوي: حتى تساوي فيء التلول، وقال النووي: إنه عليه الصلاة والسلام جمع بين الظهر والعصر وقتاً فلم يصح حجة لنا عليهم، ومنها حديث البخاري، حديث تمثيل هذه الأمة بالأمم السابقة، وأخرجه محمد في آخر موطأه ص (408) ، واحتج به على تأخير العصر كما هو مستحب عندنا، وأقول: إن الاحتجاج به على المثلين فيه نظر، وعلى استحباب تأخير العصر صحيح، ووجه استدلال المتأخرين على المثلين أن الوقت بعد العصر يجب أن يكون أقل من الوقت بعد نصف النهار إلى آخر الظهر، ولو كان الوقت إلى المثل يكون أقل مما بعده إلى غروب الشمس، وإلا فلا يتحقق فضل هذه الأمة على الأمم السابقة، أقول: إن الوقت مما بعد نصف النهار إلى المثل الأول بأكثر مما بعد المثل الأول إلى غروب الشمس، فلا يصح الاستدلال، وقد ضعف الاستدلال ابن حزم الأندلسي في المحلى، وقال: إن المثل الأول أزيد من جميع الأمثال الباقية، نعم الاستدلال بالتشبيه الأول المذكور في ( «إنما أجلكم فيما خلا من الأمم كما بين صلاة»
إلخ) بتأيد الحديث الآخر: «بعثت بين يدي الساعة كهاتين الإصبعين» (آه) وهو دال على وقت يسير، وأما وجه استدلال محمد على استحباب تأخير العصر فمذكور في الموطأ ص (408)، وقيل: أول من احتج بهذا الحديث على المثلين القاضي أبو زيد الدبوسي.
(الاطلاع) قيل: إن الوقت بعد العصر إلى الغروب سدس النهار على مذهب الأحناف، وربع النهار عند الشوافع، على بناء اختلاف وقت العصر المستحب.
باب منه
[151]
واعلم أن الشريعة أحالت أوقات الصلوات إلى العرف واللغة فالمذكور في الأحاديث تقريب لا تحديد.
قوله: (يغيب الأفق) ظاهره يؤيد مذهب أبي حنيفة، فإن غيبوبة الأفق بغيبوبة الشفق الأبيض، قال الخليل بن أحمد شيخ سيبويه: إن الشفق الأبيض يبقى إلى ثلث الليل بل إلى نصفها أيضاً في بعض الأحيان، أقول: إن الغوارب أربعة مثل الطوالع فإنها أيضاً أربعة، أما الطوالع: فالصبح الأول، والثاني الأبيض، ثم الأحمر، ثم طلوع الشمس، فكذلك يكون في الغوارب. غروب الشمس، ثم الحمرة ثم البياض، وشيء آخر بدل الصبح الكاذب والمتمادى إلى ثلث الليل، ونصفها هو هذا الشيء، واختلط الأمر على الخليل فإنه ليس هو البياض الذي يبقى فيه وقت المغرب عند أبي حنيفة، وليعلم أن الوقت بعد طلوع الفجر الصادق إلى الطلوع، مثل الوقت بعد الغروب إلى غيبوبة الشفق الأبيض لذلك اليوم.
قوله: (وأول وقت العشاء إلى ثلث الليل) مستحب، وإلى نصف الليل جائز وبعده مكروه تحريماً أو تنزيهاً، والثاني مختار الطحاوي والمحقق بن أمير الحاج.
قوله: (حين يطلع الفجر اه) قال علماء الرياضي: إن طلوع الفجر الكاذب على ثمانية عشر درجة، وطلوع الفجر الصادق خمسة عشر، ورد عليهم ابن حجر المكي الشافعي في تحفة المحتاج بأن الصبح قد يتقدم وقد يتأخر وكذلك قال الفقهاء، وذكر الشيخ في تفسيره روح المعاني قطعة تحفة المحتاج، أقول: إن قول ابن حجر صادق، وقال أرباب الرياضي الجديد ربما نشاهد قرص الشمس بالأعين مع أنها غير طالعة، وذكروا له مثال.
قوله: (رجل فسأله) قال الزرقاني لا أعلم هذا الرجل، والواقعة واقعة السفر، أقول: إن الواقعة واقعة داخل المدينة كما صرح البيهقي في بعض عباراته، وهو المتبادر من ألفاظ الحديث.
قوله: (والشمس بيضاء مرتفعة) قال الشوافع: إنه دليل لنا، وقال الطحاوي: لعله مفيد لنا بأن الراوي لم يقدر على بيان تأخير العصر إلا بهذا التعبير، أقول: إن في مسند أحمد بسند صحيح عن أنس: (والشمس محلقة) .
قوله: (الشفق) أصل اللغة أن الشفق هو بين الأحمر القاني والأبيض الناصع وفي بعض الألفاظ
حين يسود الأفق، وقد مر حين يغيب الشفق فيفيد أبا حنيفة.
القول القديم للشافعي: أن وقت المغرب قدر خمس ركعات، ويجوز إخراج الصلاة عن هذا القدر بإطالة القراءة بشرط أن يشرعها في الوقت، وأعجب من هذا ما في كتب الشافعية أنه يجوز إخراج كل صلاة عن وقتها بإطالة القراءة هكذا، في كتبنا أنه: لو شرع في العصر وأطال القراءة إلى داخل الاصفرار فمتحمل كما في الدر المختار عن القنية، وذكر هذه المسألة فخر الإسلام في أصول البزدوي فلا يمكن إسقاطها، واعتذروا بأن المصلي مستغرق فلا يدري دخول الاصفرار، والعذر بعيد ذو قَزَل، فإما أن يبين عذر آخر أو يقيد في هذا العذر قيد، فإن حديث «لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس» متواتر.
باب ما جاء في التغليس بالفجر
[153]
مذهب الشافعي ومالك وأحمد: استحباب التغليس بداية ونهاية، ومذهب أبي حنيفة وأبي يوسف وسفيان الثوري: أفضلية الإسفار بداية ونهاية، ومذهب محمد واختاره الطحاوي: البداية في الغلس والنهاية في الإسفار، وزعمت من كتاب الحج أن مذهب محمد هو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف، ثم وجدت في كتب أركان النقل أنه مذهب محمد فقط.
قوله: (متلفعات) التلفع إرخاء الثوب على الوجه كما قال البختري (*) :
متلفعاً ببروقه وعوده الخ.
نقول: إن المعرفة حال التلفف، والتلفع متعذرة حال طلوع الشمس أيضاً، وقال النووي: إن عدم المعرفة هو عدم التمييز بين الذكور والإناث، أقول: إن هذا بعيد جداً، وأما لفظ «من الغلس» ففي ابن ماجه:«تعني من الغلس» فيكون مدرجاً من الراوي، وكذلك في الطحاوي ص (104) ما يدل على الإدراج بسند صحيح.
قوله: (أبو بكر وعمر الخ) نقول: إن الإجمال في الغلس، غير كاف لكم فإن مذهبكم الابتداء والانتهاء في الغلس وفي معاني الآثار ص (102)«أن أبا بكر كان يطول صلاة الفجر حتى يخاف طلوع الشمس» عن أنس، وفي سنده سليمان وهو ابن قيس الكيساني، والسند صحيح وفيه ص (108) «كان عمر يطول الفجر حتى نخشى طلوع الشمس» وفي: سنده محمد بن يوسف وهو الفريابي، ووقت الفجر عندنا ثلاث حصص كما قال أرباب الفتوى: الأولى لأداء السنة، الثانية لأداء الفرض، والثالثة خالية ليقضي فيها لو بدا فساد الصلاة.
(الاطلاع) في باب تيمم مبسوط السرخسي يستحب الغلس وتعجيل الظهر إذا اجتمع الناس، ولكنه لم يذكره في باب المواقيت.
باب ما جاء في الإسفار بالفجر
[154]
قال بعض الأحناف: إن لفظ الإسفار يقتضي الزيادة، فإن المزيد للزيادة كما في القاموس وغيره.
قوله: (معنى الإسفار أن يصح) قال ابن الهمام: إن هذا بعيد جداً فإن الصلاة قبل تبين الفجر غير صحيحة فضلاً عن الفضل وزيادة الأجر، فإن مقتضى ظاهر الحديث صحة الصلاة لو صلى قبل الإسفار، وأيضاً في معاني الآثار ص (105) وابن حبان لفظ:«كلما أسفرتم» بأسانيد قوية ولم يجب أحد من الشوافع، ويمكن لهم قول: أن المراد من «كلما» كل يوم يوم لكن التبادر والظهور للإكثار في يوم واحد هو مراد الحديث، وتعرض السيوطي إلى أنه رواية بالمعنى كما في حواشيه على الستة، وفي شرح الإحياء عن السخاوي يقول شيخه الحافظ ابن حجر: إن مذهب الأحناف في الإسفار راجح، وللشوافع ما في أبي داود ص (56) . في قصة عمر بن عبد العزيز وأبي مسعود الأنصاري:«أنه صلى مرة بالغلس، وصلى مرة بالإسفار، ثم جرى عمله على التغليس حتى لقي الله تعالى» وقال أبو داود: إن الراوي في تفسير الحديث منفرد، وعندي محمله أنه غلس شديداً مرة وأسفر شديداً مرة ثم توسط أمره، وهذه واقعة تعليمه أوقات الصلاة لرجل في المدينة، ولنا حديث الصحيحن عن ابن مسعود:«أنه غلس في المزدلفة، وصلى قبل ميقاتها لا في غيرها» ونقول: إن المراد من قبل ميقاتها هي الميقات المعتاد، فإنه لا يقول أحد بصلاة الفجر في الليل قبل طلوع الفجر في المزدلفة، وقال الحافظ: لعله غلس شديداً، أقول: ما مراد التغليس الشديد الضعيف؟ فإن مذهبكم ابتداء الصلاة حين تحقق وتبين طلوع الفجر في الفور، وقال النووي: إنكم تقولون بالجمع بين المغرب والعشاء في عرفة، والحال أنه ليس بمذكور في حديث ابن مسعود، والحال أن جمع المغرب والعشاء في حديث ابن مسعود مذكور عند النسائي، ونقول: إن فعله مختلف من التغليس مرة والإسفار مرة، ولنا قوله، والحديث القولي مقدم أي: «
أسفروا بالفجر فإنه أعظم
للأجر» وأما ثبوت الغلسٍ فلا ننكره فإنه أيضاً جائز، فإن الخلاف في الأفضلية فصار الترجيح لمذهب الأحناف، وفي حديث مرفوع:«التغليس في الشتاء والإسفار في الصيف» وتتبعته فوجدته ساقط السند، فإن في سنده سيفاً صاحب كتاب الفتوح، وهو قريب من الاتفاق على ضعفه، ثم وجدت متنه في حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، وليس في سنده والله أعلم.
باب ما جاء في التعجيل بالظهر
[155]
يستحب تأخير الصلوات في الجملة إلا المغرب عندنا، ويستحب التعجيل في الجملة إلا العشاء عند الشوافع، وحديث الباب نحمله على الشتاء، أو على الابتداء، فإنه قد صرح المحدثون أن آخر عمله المستمر على الإبراد، وكذلك يروى عن بلال، وأيضاً نقول: إن له عليه الصلاة والسلام فعلاً وقولاً، وقوله مقدم، وهو في أيدينا حديث:«أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم» الخ، وأيضاً فعله مختلف.
قوله: (وخباب الخ) حديث خباب أخرجه في صحيح مسلم وفيه: «شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يشكنا» ومراد لم يشكنا: أي لم يدفع شكوتنا، وعجل بالظهر، وقال بعض: معنى «فلم يشكنا» لم يدع شكوتنا، بل أزالها وأبرد بالظهر، وعندي هذا التأويل بعيد غاية بعد، ومراده ما ذكرت أولاً.
قوله: (ولم ير يحيى بحديثه بأساً) هذا يحيى بن سعيد القطان، وما كتب المحشي من يحيى بن معين فهو غلط صريح.
باب ما جاء في تأخير الظهر في شدة الحر
[157]
قال الشافعي: إن كان المسجد قريباً تعجل، وإلا فيؤجل ولو كانوا في السفر مجتمعين يعجل وإن كان الحر شديداً، وفي سنن أبي داود عن ابن مسعود:«كان قدر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصيف من ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام، وفي الشتاء من خمسة أقدام إلى سبعة» .
قوله: (فأبردوا عن الصلاة) قال العلماء: إن الأفصح صلة الإبراد بالباء، أقول: إن كلمة (عن) سيفيد في الرد على من لا فهم له في الحديث من غير المقلدين، فقد رأيت لبعضهم أن المراد إبرادها بأداء الصلاة.
قوله: (من فيح جهنم) ها هنا سؤال عقلي هو: إن التجربة أن شدة الحر وضعفها بقرب الشمس وبعدها، فكيف إن شدة الحر من فيح جهنم؟ فنقول: لو كان السؤال على طريق اليونانيين فالجواب: إن قول: إن الشدة والضعف بسبب الشمس غير مستقيم على قولهم، فإن الأجرام الأثيرية خالية عن البرودة والحرارة، وأما شرَّاح قانون ابن سينا فتعرضوا إلى إثبات الحرارة والبرودة، فقال البعض: إن الحرارة بسبب تحرك الأشعة، فيقال: إنه قد صرح في الشفاء الذي هو مرض في الحقيقة أن الشعاع من مقولة الكيف فكيف توجد النقلة، وأما أرباب الفلسفة الجديدة من الأوروبيين فقالوا: إن حرّ الأشياء شمس فنجيب بما يفيد في مواضع عديدة، وهو للأشياء أسباب ظاهرة وباطنة والباطنة يذكرها الشريعة، وأما الظاهرة فلا تنفيها الشريعة الغراء فإنه أخبر بها المخبر الصادق، فكذلك يقال في الرعد والبرق والمطر ونهر جيحان وسيحان.
قوله: (شدة الحر) لنا قولان في إبراد الظهر، قيل: إن المدار على الحرارة، واختاره العيني وهو المختار لأنه أوفق بالحديث، وقيل: إن المدار على الصيف واختاره في البحر، وكذلك قولان في تبكير الجمعة، وفي الحديث:«إن لجهنم نفساً في الصيف، فيوجد حراً شديداً، ولها نفساً في الشتاء فيوجد البرد الشديد» ويرد على هذا اختلاف البرودة والحرارة في البلاد المختلفة في زمان واحد؟ فيجاب أنها إذا أدخلت النَفَس في جانب فتوجب البرودة أخرجتها إلى جانب آخر فتوجب الحرارة في زمان واحد.
قوله: (ينتاب) معناه الإتيان نوبة بعد نوبة وقد يكون بمعنى الإتيان متوالياً، أقول: إذا نسب إلى الجماعة يكون بالمعنى الأول، وإذا نسب إلى المفرد يكون بالمعنى الثاني كما قال:
~ وعجبت من ليلاك وانتيابها
…
من حيث زارتني ولم أدري بها
وسيفيدنا هذا في مسألة الجمعة له في القرى، وفي حديث الجمعة في لفظ من الافتعال وفي لفظ من التفاعل كما في البخاري.
قوله: (خلاف ما قال الشافعي) هذا هو الموضع الذي اعترض فيه الترمذي على الشافعي مع كونه مقلد الشافعي، ويمكن الجواب من جانب الشافعي بأن الأحوال تختلف في السفر أيضاً ربما
يجتمعون كلهم تحت شجرة واحدة، وربما يتفرقون تحت أشجار متفرقة.
قوله: (فيء التلول) في بعض الألفاظ ساوى فيء التلول، وفي هذا تأخير شديد فإن التلول مخروطية فتساوي الفيء يكون بعد زمان طويل، وحمله النووي على الجمع وقتاً، وزعم بعض المستغرقين في السفاهة والفكاهة مع أئمة الدين أن مراد الحديث إبراد نار جهنم بإداء صلاة الظهر عجلة لا تأخير الصلاة، وترد عليهم صرائح النصوص فإنه عليه الصلاة والسلام قال لبلال «أبرد أبرد» وقال الراوي: وساوى فيء التلول وأيضاً في الحديث: «أبردوا عن الصلاة» .
باب ما جاء في تعجيل العصر
[159]
يستحب عندنا تأخير كل صلاة في الجملة إلا المغرب ويستحب عند الشوافع تعجيل كل صلاة في الجملة إلا العشاء.
قالوا: إن الأفضل التبادر إلى العمل، الحديث:«أفضل الأعمال الصلاة لميقاتها» أخرجه أرباب الصحيحين، وفي حديث:«الصلاة لأول وقتها» أخرجه الترمذي، والحاكم بسند ساقط، وتعرض الحاكم إلى تصحيحه، ولكنه لا يمكن تصحيحه فإن الراوي متفرد ومر عليه الحافظ فلم يحكم عليه بشيء، وأما الأحناف فتركوا العمومات والإجمالات وأخذوا بالخصوصات فقد أثبتنا الإسفار بالفجر،
والإبراد بالظهر، ونثبت تأخير العصر، وأما تعجيل المغرب وتأخير العشاء فمسلم عند الخصوم أيضاً، وليتدبر الفهيم في نهج الاستدلالين من الاستدلال بالعموم والخصوص أيهما أوفق؟ وأما عمله عليه الصلاة والسلام في العصر فمختلف فيه، وكذلك قوله.
قوله: (والشمس الخ) الشمس قد يكون بمعنى ضياء الشمس، وقد يكون بمعنى قرصها كما قال الشاعر:
~ قامت تظللني ومن عجب
…
شمس تظللني من الشمس
الحجرة هو بناء غير مسقف، والبيت هو البناء المسقف، ذكر السيد السمهودي في «الوفاء بأخبار دور المصطفى: أنه عليه الصلاة والسلام بنى أولا المسجد النبوي ثم بيت سودة.
قوله: (لم يظهر الفيء) أي لم يعل على الجدار الشرقي، وهذا ثابت كما قال:
~. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها.
وقال الطحاوي: ينظر في جدران الحجرة إن كانت قصيرة فلا يظهر الفيء إلا بلبث، ونقول: إنه شرع في التهجد وهو في حجرة واقتدى أصحابه خارجاً، فلا بد من كون الجدران قصيرة، فإن معرفة انتقالات الإمام شرط لصحة الاقتداء، وهذه الواقعة غير واقعة اقتداء الصحابة خلفه عليه الصلاة والسلام وهو في الحجرة المتخذة من الحصير في المسجد فلا يختلط، قال الحافظ هاهنا: إنه قال الطحاوي: إن التغليس بالفجر كان بسبب الجدران، وكان في الواقع الإسفار، أقول: إن الطحاوي لم يقل بما نقل الحافظ فإن كلامه في الجدران في العصر لا الفجر.
قوله: (عن رافع) أخرجه الدارقطني بسند ساقط.
قوله: (على أنس بن مالك) وكان عهد الحجاج الثقفي مبير هذه الأمة وكان يميت الصلاة،
فكان السلف لا يصلون معه، وفي الآثار أن بعض التابعين صلوا الظهر في خطبة الحجاج الظالم في الجمعة بالإشارة، فإنه كان يطيل الخطبة إلى أن يدخل العصر، وكان السلف يخافون على أنفسهم فصلوا بالإشارة، فإذن تعجيل أنس لم يكن فيصلاً بين المذهبين، فإنه تعجيل من تأخير الحجاج الذي يميت الصلوات.
قوله: (يرقب الشمس الخ) أجمعوا على كراهية الصلاة تحريماً بعد الاصفرار، وأما حد الاصفرار، فقال قاضي خان: إنه تغير ضياء الشمس، وقيل: تغير قرص الشمس، والمختار قول قاضي خان.
قوله: (قرني الشيطان الخ) الصحيح شرحاً حمل الحديث على الظاهر، في الحديث:«يقوم الشيطان عند الشمس» ، وأما الشروح الأخر من الاستعارات والتمثيل فسقيمة عندي، والقرنان جانبا الرأس.
واعلم أن الأرض كروية اتفاقاً، فيكون طلوع الشمس وغروبها في جميع الأوقات، فقيل: إن الشياطين كثيرة، فيكون شيطان لبلدة وشيطان آخر لبلدة أخرى وهكذا، وعلى كروية الأرض تكون ليلة القدر مختلفة وكذلك يكون نزول الله تعالى أيضاً متعدداً وظني أن سجدة الشمس بعد الغروب تحت العرش المذكور في حديث أبي ذر في الترمذي والصحيحين لا تكون متعددة بل تكون بعد دورة واحدة لا حين كلٍ من الغوارب المختلفة بحسب تعدد البلاد، وعيَّن موضعها الشيخ الأكبر وكذا ابن كثير.
قوله: (فنقر أربعاً) هذا يدل على وجوب تعديل الأركان، فإن الشريعة عدت السجدات الثمانية الخالية عن الجلسة أربع سجدات، وعن أبي حنيفة: من ترك القومة أو الجلسة أخاف أن لا تجوز صلاته، وأيضاً ما يمكن لنا الاستدلال بحديث الباب على عدم فساد صلاة العصر بغروب الشمس، بخلاف صلاة الفجر عند طلوع الشمس، وأما حديث:«من أدرك ركعة من الصبح فقد أدرك الفجر، ومن أدرك ركعة» الخ فسيجيء شرحه، ووجه الاستدلال بحديث الباب أن الشريعة سماها صلاة مع كونها عند الغروب، وأما تقييد أنها صلاة المنافق فنقول أيضاً بكراهتها تحريماً مع بقاء وجودها.
باب ما جاء في تأخير صلاة العصر
[161]
حديث الباب ظاهره مبهم، والتأخير هاهنا إضافي، وإطلاق الألفاظ الإضافية ليست بفاصلة، نعم يخرج شيء لنا، ورجال حديث الباب ثقات، فلا أعلم وجه كف اللسان من المصنف عن تصحيحه، وأدلتنا كثيرة لا أستوعبها، ومنها ما في أبي داود عن علي:«أن وقت الإشراق من جانب الطلوع مثل بقاء الشمس بعد العصر» ومن المعلوم أن وقت الإشراق يكون بعد ذهاب وقت الكراهة، ولنا حديث آخر حسن عن جابر بن عبد الله أخرجه أبو داود في سننه ص (150)، وكذلك أخرجه الحافظ في الفتح:«أن الساعة المحمودة من الجمعة بعد العصر في الساعة الأخيرة» واليوم اثنا عشر ساعة، وفي فتح الباري في موضع أن ما بعد العصر ربع النهار، وفي موضع أنه خمس النهار، وفي رد المحتار لابن عابدين أن وقت ما بعد العصر إلى الغروب. قدر سدس النهار.
باب ما جاء في وقت المغرب
[164]
اتفقوا على تعجيل المغرب، وفي الدر المختار: أن التأخير إلى اشتباك النجوم مكروه، في حلية المحقق ابن أمير الحاج: أن التأخير إلى ما قبل الاشتباك مكروه تنزيهاً، والتأخير إليه مكروه تحريماً،
وأما الجمع فعلا بين المغرب والعشاء، ففي الأشباه والنظائر لصاحب البحر أنه مكروه للمسافر، وكذلك روي الجواز عن عيسى بن أبان تلميذ محمد.
باب ما جاء في وقت العشاء الآخرة
[165]
للعشاء ثلاث حصص، فإنه يستحب إلى ثلث الليل، وفي رواية إلى نصف الليل، ويجوز إلى نصف الليل ويكره إلى الصبح كراهة تحريم أو تنزيه على القولين.
قوله: (لثالثة) هذا يدل على زيادة التأخير، فإن القمر يتأخر كل ليلة قدر 6/7 ساعة فيكون جميع الوقت إلى سقوط القمر للثالثة ساعتين ونصفها أو ثلاث ساعات إلا ربعها.
باب ما جاء في كراهية النوم قبل العشاء والسمر بعدها
[168]
السمر هو ضياء القمر، ثم يطلق على المحادثة في ضياء القمر توسعاً، وفي حديث مرفوع جواز السمر لمصلي أو مسافر وأما النوم قبل العشاء فقال الفقهاء: من كان له من يوقظه عند قيام الجماعة يجوز له النوم قبل العشاء بلا كراهة، وثبت الاضطجاع في المسجد قبل العشاء عن عثمان.
(ف) في أصول الفقه أن تخصيص النص بالرأي ابتداء غير جائز، ورأيت في شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد تحت مسألة: متى يجوز تلقي الجلب ومتى لا يجوز؟ إن تخصيص النص بالرأي جائز إذا كان الوجه جلياً وهذا صحيح فيجب تقييد ما قال الأصوليون فإنا نجد تخصيص النصوص الواردة في الأخلاق من الشكر والصبر وغيرهما وكذلك قد يخصص نصوص المعاملات بالرأي أيضاً.
قوله: (وقال أحمد نا عباد بن الخ) هاهنا تحويل والمدار سيار.
قوله: (جميعاً عن عون) المراد من الجميع هو عون وعباد وإسماعيل.
باب ما جاء في الرخصة في السّمر بعد العشاء
[169]
المرخص من السمر ليس هو المنهي عنه، بل المذكور هاهنا من حوائج الدين، وهو ليس بسمر واستعمل لفظ السمر مشاكلة، واعلم أن الأمور قد تختلف باختلاف النيات. في فتح القدير يجوز قراءة الأشعار العربية بشرط أن لا يكون الممدوحة حاضرة، وتكون القراءة بنية معرفة العربية، وثبت أثر
إجازة الأشعار عن عمر، أقول: إن معرفة العربية فرض كفاية، وكذلك في رد المحتار لابن عابدين.
باب ما جاء في الوقت الأول من الفضل
[170]
قال الشوافع: إن المراد من الصلاة في أول الوقت هو أولى حصص الوقت، من ابتداء دخول الوقت والمراد عندنا من أول الوقت أول وقت كان معتاد النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ الشوافع بالعمومات ونزلنا على أخذ الخصوصات، وهو أقرب وحديث الباب ساقط سنداً، وكذلك أخرجه في مستدرك الحاكم، وهو أيضاً معمول وتعرض الحاكم إلى تصحيحه، ولا يمكن التصحيح، كيف وقد ورد الحديث في مواضع في الصحيحين:«وفيها الصلاة على ميقاتها» .
قوله: (والجنازة إذا حضرت) في قولنا لو حضرت الجنازة في الأوقات الثلاثة المكروهة تجوز الصلاة عليها في الوقت المكروه، ثم اختلف فقيل: الأفضل تأخيرها إلى خروج الوقت المكروه، وقيل: تعجيلها في ذلك الوقت، وأما لو حضرت قبلها فلا يجوز أدائها فيها فإن الوجوب كامل فيجب الأداء أيضاً كذلك، ومثل الجنازة حال سجدة التلاوة.
قوله: (أي العمل أفضل؟) اختلف الأحاديث في بيان أفضل الأعمال وجواباته عليه الصلاة والسلام متعددة بتعدد أسئلة السائلين، فقيل في التوفيق: إن الاختلاف بحسب أحوال السامعين، وقال ملك العلماء عز الدين بن عبد السلام: والشرط أن يكون السامع حاضراً، وأن يكون السؤال من باب الأعمال لا العقائد، وقيل: ينظر إلى خصوص ألفاظ جوابه، ومنهم الشيخ الأكبر، وقال: لا ترادف في الألفاظ أصلاً، فمعنى الأفضل والخير مغاير، وقال: لكل اسم من أسماء الله حضرة لا يدخل فيها غيره، والمختار مختار الشيخ الأكبر وابن تيمية من نفي الترادف، والأقرب جواباً ما قال الطحاوي في مشكل الآثار بما حاصله: أن يؤخذ كل الأحاديث، ويتتبع الطرق فيؤخذ كل أول أفضل الأعمال فيدرج تحت نوع واحد، فالأولوية نوعية، وكذلك يؤخذ كل ثاني الأحاديث الدالة على أفضل
الأعمال فيدرج تحت نوع آخر وهكذا، وأما أشكال اختلاف الأحاديث تقديماً وتأخيراً في بيان أفضل الأعمال فلم يجب عنه الطحاوي فإنه محتاج إلى تتبع طرق الأحاديث وخصوص المتون، ولا تحتوي عليه ضابطة.
قوله: (مرتين) قد ثبت التأخير مرتين، مرة في مكة حين إمامة جبرائيل، ومرة في المدينة حين تعليمه رجلاً مواقيت الصلاة، وأما قول عائشة فمبني على علمها فإنها لم تكن في واقعة إمامة جبرائيل في مكة عند النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (كانوا يصلون في أول وقت) هذا منظور فيه.
باب ما جاء في السهو عن وقت العصر
[175]
قرأ: {أهلَه ومالَه} منصوباً وقرأ مرفوعاً، والأفصح الأول، ويكون متعدياً إلى المفعولين، وفي القرآن:{وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35]، ثم في فوات العصر أقوال: قال الأوزاعي: فواتها بدخول الاصفرار، كما في أبي داود ص (60)، ولكنه مبني على قوله: إن وقت العصر إلى الاصفرار هو قول
الحسن بن زياد من الأحناف، والاصطخري الشافعي، وفي رواية: وفواتها أن تدخلها صفرة، وكنت أزعمه مرفوعاً حتى أن وجدت في علل أبي حاتم أنه موقوف، وقول نافع: وهذا الشرح كان لطيفاً لكنه غير مرفوع، أقول: يحمل الفوات على الظاهر، أي الفوات بغروب الشمس، ومحاورة وتر أهله وماله أن يقال في حق من قتل ولم يود ولم يقتص لوليه فوليه موتور الأهل والمال، وإن قيل: إن تخصيص العصر يدل على أن الفوات بدخول الاصفرار، أقول: إن حكم وتر الأهل والمال حكم الخمسة، وأما وجه التخصيص بالذكر فمذكور في مسلم (325)«أنها عرضت على الأمم السابقة فضيعوها، ولو أقمتموها فلكم الأجران» ولذا اهتم القرآن بشأن صلاة الوسطى، ولحديث الباب شرح آخر، وهو: أن الفوات فوات الصلاة بالجماعة، ذكر المهلب شارح البخاري ويؤيده ما في معرفة الصحابة لابن منده الأصبهاني مرفوعاً «الموتور أهله وماله من فاتته صلاة العصر بالجماعة» ، نقل الزرقاني متنه، وتتبعت الأسانيد في سنده ليث بن أبي سليم وهو من رواة مسلم مقروناً مع الغير، وقد يحسن حديثه فيكون من رواة الحسن.
مذهب الجمهور: أن الصلاة حالة اصفرار الشمس مكروهة تحريماً وتصح وربما تجتمع الصحة مع الكراهة مثل البيع حال أذان الجمعة، وقال ابن تيمية: لا يجتمعان، ويرد عليه جواز نكاح المخطوبة في العدة مع كون الخطبة في العدة منهياً عنه، وكذلك الصلاة في الأرض المغصوبة.
باب ما جاء في تعجيل الصلاة إذا أخرها الإمام
[176]
أي الإمام الجائر، واعلم أن هاهنا مسألتين لا يختلط بينهما:
إحداهما: أن يعلم أن إمام الجور يميت الصلاة.
والثانية: إن صلى في البيت العذر ثم دخل المسجد وأقيمت الصلاة، وللشوافع في المسألة
الأولى وجوه أربعة، والمختار عندهم أن يصلي في البيت صلاته، ثم يصلي خلف إمام الجور بنية ما صلى في البيت من الظهر والعصر وغيرهما، الحاصل أنه يعيد الصلاة وتقع نفلاً، ثم صرحوا بأنه يتبع الإمام، وإن ارتكب الكراهة تحريماً.
فالحاصل أنهم يقولون بالأداء في البيت وبالإعادة في الأوقات الخمسة وباتباع الكراهة تحريماً، وأما مذهب أبي حنيفة فليس بمذكور في مسألة إمام الجور، ومسألة أخرى يجوز تعديتها إلى هذه المسألة ويذكر في كتبنا أنه لو صلى في بيته منفرداً يعيدها الظهر والعشاء لا الثلاثة، ويذكر أن يعيدها متنفلاً وزعم البعض أنه ينوي النفل حتى أن صرح الشلبي في حاشية الزيلعي أنه ينوي النافلة، والحال أن مراد أرباب التصنيف أنها تقع نفلاً لا أن ينوي النافلة بل ينوي باسم ما صلى قبل وتقع نفلاً، كيف وقد صرح الطحاوي ص (223) بالإعادة في قوله، وممن قال بأنه لا يعاد من الصلاة إلا الظهر والعشاء أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وكذلك عبر محمد بالإعادة في موطأه ص (137) وكذلك عبر في كتاب الآثار والجامع الصغير والمبسوط.
وأما تفقه الشافعية فبأنه إذا أمات الإمام الصلوات فلا بد من أدائها صحيحة، وأيضاً يخاف جور الإمام فيدخل معه في الصلاة.
وأما شرح الحديث على مذهب الشوافع فمعنى فصل الصلاة لوقتها فإن صُلّيت لوقتها أي بعد أن صلى في بيته فيقولون بتكرار الصلاة في الشق الأول المذكور في الحديث، وشرحه عندنا فمعنى فصل الصلاة لوقتها أي يقرر في نفسه ويعود أنه يصلي الصلوات لوقتها، ثم إن صُلِّيت لوقتها أي مع الإمام قبل أن تصلي منفرداً فلا نقول بتكرار الصلاة في الشق الأول، وإن قيل: كيف يصح قول فإنها لك نافلة فإن هذه الصلاة فرض؟ نقول: قد يطلق النافلة على صلاة الفرض، ويكون معناه أنها زيادة أجر لك ويقع لك مجاناً كما في حديث المشكاة:«من توضأ فمشى فتنحط الخطيئات بخطوته اليمينة، وترفع درجته بخطوته اليسرى، وتكون صلاته نافلة» وكذلك ذهب بعض العلماء إلى أن صلاة التهجد واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأطلق في القرآن:{فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] والقرينة على شرحنا ما في المسلم ص (231) : «فصلِّ الصلاة لوقتها ثم اذهب لحاجتك، وإن أقيمت الصلاة وأنت في المسجد» الخ، فدل على عدم التكرار، وتصدَّى النووي إلى التأويل فيه وأما ما في مسلم ص (231) :«فلا تقل: إني صليت فلا أصلي» فمعناه لا تقل باللسان، أو يقال: لا يأتي عليك نوبة أن تقول: إني
صليت بل انتظر صلاة الإمام، فإن صُلِّيَت في الوقت فصل معهم، وأيضاً ظاهر شقي حديث الباب يخالف الشوافع فإن الصلاة في الحالين نافلة عندهم.
ما جاء في النوم عن الصلاة
[177]
مذهب الشافعي أن النائم إذا تنبه فذلك وقت صلاته، وإن استيقظ عند الأوقات المكروه فيها الصلاة، ويقولون: إن حديث الباب مخصص لحديث «لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس» وتفصيل هذه الضابطة سيأتي في موضع ما.
قوله: (نومهم عن الصلاة الخ) واقعة ليلة التعريس، والراجح عند المحدثين أنها حين القفول من غزوة خيبر، وأطنب الطحاوي في المسألة، ومذهبنا أنه لا يصلي في الوقت المكروه، وقال الطحاوي: إن فعله عليه الصلاة والسلام في هذه الواقعة، مفسر لقوله في هذه الواقعة فإنه أخَّر الصلاة حتى خرج وقت الكراهة، لما في البخاري:«حتى ابيضت الشمس» وفي الدارقطني: «حتى أمكنتنا الصلاة» . وقال الشافعية: تأخيره كان ليخرج من موضع الشيطان، ونقول: إن المكان والزمان مؤثران لما روينا آنفاً، وأقر الحافظ في الفتح بأن مذهب أبي بكرة رضي الله عنه، ومذهب كعب بن حجرة موافق لمذهب أبي حنيفة، وقال عبد العلي بحر العلوم في الأركان الأربعة: إن بناء اختلاف المذهبين على أن إذا ظرفية عند الحجازيين وشرطية عند العراقيين، كما قال أبو حنيفة فيمن قال إذا لم أطلقك فأنت طالق أن يقع الطلاق في آخر زمان الحياة، على أن إذا شرطية، وقال صاحباه: لو لم يطلق يقع في الحال، لأن إذا ظرفية، وليس البناء على ما قال بحر العلوم.
باب ما جاء في الرجل ينسى الصلاة
[178]
قوله: (علي بن أبي طالب) يمكن أن يقال: إن التعميم باعتبار وقت الأداء ووقت القضاء، لا باعتبار وقت الكراهة أو غيره.
قوله: (عن أبي بكرة) قصته أنه نام في بستانه عن صلاة العصر، وكان عنده أولاده فلم يوقظوه، فاستيقظ والشمس قربت أن تغرب فغضب عليهم، وجلس إلى أن غربت فصلى العصر أخرجه في مشكل الآثار في الحصة القلمية، وأبو بكر الطائفي اسمه نفيع بن حارث.
باب ما جاء في الرجل تفوته الصلوات فأيّهن يبتدىء
[179]
الترتيب في قضاء الفوائت واجب عند أبي حنيفة ومالك، ويستحب عند الشافعي وأحمد، وقد
ثبت ترتيبه في واقعة الباب غزوة الخندق، والخلاف في أنه باعتبار الوجوب أو الاستحباب، وقال مولانا عبد الحي: إن الرجحان لمذهب الحجازيين فإن فعله لا يورث الوجوب، أقول: إن ضابطته منقوضة في مواضع كثيرة.
قوله: (عبد الله) إذا أطلق عبد الله في مرتبة الصحابي فهو ابن مسعود.
إذا أطلق الحسن في مرتبة الصحابي فهو ابن علي وإذا أطلق في مرتبة التابعي فهو حسن البصري رحمه الله.
قوله: (أربع في البخاري) ذكر العصر فقط، فقال ابن سيد الناس اليعمري بتعدد الواقعتين، وأتى برواية الأربع بما في معاني الآثار بسند الشافعي وهو أجلُّ الأسانيد، ثم اختلف في وجه تركه عليه الصلاة والسلام الصلوات فقال الشوافع: إن صلاة الخوف لم تكن نازلة، وقال الموالك: إنه عليه الصلاة والسلام فرغ قبل المغرب ولكنه تأخر بسبب بطوء توضئ الصحابة، وهذا على رواية الصحيحين لا رواية السنن، وهذا المحمل مستبعد، ونقول: إن وجه الترك أن الصلاة حالة المسايفة غير صحيحة، وأما جواب أن عصر اليوم جائز عندكم عند الغروب أيضاً فنجيبه عنه إن شاء الله تعالى، ويصح لنا فعله عليه الصلاة والسلام المذكور في الصحيحين دليلاً على تأخير الصلاة من الوقت المكروه، وإني تتبعت كتباً كثيرة لمسألة هل الرجل مأمور بأداء عصر يومه عند الغروب؟ فما وجدته، بل يدل عبارة محمد في موطأه ص (125) على عدم المأمورية فلعل مسألة الحنفية في الصحة لا غير.
قوله: (ما كدت أن أصلي الخ) قيل: إن هذا يدل على أن عمر أدى الصلاة قبل الغروب، والمختار عند النحاة إن كاد مثل باقي الأفعال ثبت عند الإثبات، ومنفي عند النفي، وأما إذا علم وجود الفعل وثبوته في الواقع فيدل كاد المنفي على تحقق ذلك الفعل بالبطوء.
باب ما جاء في الصلاة الوسطى أنها العصر إلخ
[181]
في تفسير الصلاة الوسطى خمس وأربعون قولاً:
مذهب أبي حنيفة في ظاهر الرواية أنها العصر، وفي شرح النقاية لملا على القارئ رواية شاذة عن أبي حنيفة أن الصلاة الوسطى صلاة الظهر، وله ما في أبي داود ص (65) ، وعندي لا بد من توجيه الرواية الشاذة والحديث، وعندي أن ما في أبي داود ص (65) فهو من اجتهاد زيد بن ثابت، ولنا صحت المرفوعات.
وقال النووي: كان مذهب الشافعي رحمه الله أنها صلاة الفجر، إلا أنها صحت الأحاديث في أنها صلاة العصر وقال الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي، فيكون مذهبه أنها صلاة العصر.
(ف) في مدخل البيهقي عن أبي حنيفة: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وذكر البيهقي عن ابن المبارك عن أبي حنيفة: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وما جاء من الصحابة نختار منهم، وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال، أو قال: زاحمناهم.
ودليلنا في مسألة الباب ما في مسلم: «أن في مصحف حفصة: الصلاة الوسطى وصلاة العصر» ولا يقال: إن العطف يقتضي التغائر، فإنه قد صرح أنه إذا كان لموصوف واحد صفات يجوز إدخال حرف العطف فيها مثل:
~ إلى الملك القرم وابن الهما
…
م ليث الكتيبة في المزدحم
وقيل: إن الصلاة الوسطى صلاة الوتر، واختاره الشيخ علم الدين السخاوي الشافعي وصنف فيه كتاباً مستقلاً، وقال: إن الوتر ملحق بالخمسة، وإنها فريضة، وقال: إني أبلغ للأمة أن الوتر فرض، ذكره ابن عابدين.
قوله: (عن سمرة بن جندب الخ) قيل: سمع الحسن البصري عن سمرة كثيراً، وقيل: إنه لم يسمع منه شيئاً، وقيل: إنه سمع حديث العقيقة، واختلف في سماع الحسن عن علي بن أبي طالب.
باب ما جاء في كراهية الصلاة بعد العصر وبعد الفجر
[183]
قال أبو عمر في التمهيد: إن حديث «لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب» متواتر، وأما حديث:«نهي الصلاة عند الطلوع والغروب والاستواء» فصحيح أيضاً فالأوقات المنهية فيها الصلاة خمسة، وجعل أبو حنيفة طائفتين فقال: لا تحل الصلاة في وقت الغروب والطلوع والاستواء، ثم إن صُلِّيت فيها ففيه تقسيم البطلان وعدمه، فتبطل الفريضة وكل ما هو دين في الذمة ووجب كاملاً، وتصح النوافل مع الكراهة التحريمية.
وأما تفسير لعينه ولغيره فعندما هو ظاهر الهداية ص (81) من أن الواجب لعينه ما يكون مطلوباً بنفسه، والواجب لغيره ما يكون مطلوباً لغيره، وقال الشارحون عن الواجب لعينه: ما يكون من الله، والواجب لغيره ما يكون من جانب العبد، وأوهمهم لفظ الهداية من جهة، وأشكل عليهم ركعتا الطواف، فإنهما واجبتان للعين على ما قالوا، وأما على ما قلت فواجبتان للغير أي لختم الطواف، فظهر الفرق بين ركعتي الطواف وسجدة التلاوة، ولنا في نفي ركعتي الطواف أثر عمر بن الخطاب «فإنه طاف قبل طلوع الشمس، ولم يصل ركعتي الطواف حتى بلغ ذي طوى» أخرجه الطحاوي موصولاً، والبخاري معلقاً، ولنا معه أيضاً أمر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أم سلمة:«طوفي وراء الناس فطافت، ولم تصل حتى خرجت ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليها» .
وقال أبو حنيفة رحمه الله في الطائفة الثانية للأوقات المكروهة: تجوز فيها الفرائض والواجبات لعينها لا النوافل والواجبات لغيرها، ولم يفرق الشافعي بين الطائفتين، وقال: تصح الفرائض وذوات الأسباب من النوافل، مثل التحيتين والخوف لا غيرها، وتجوز السنن الآكدة أيضاً. وقال مالك: يجوز الفرائض لا النافلة، وتفقه الشافعي أن ذوات الأسباب سماوية، وغيرها في خيار العبد فيرد النهي عن ما في طوعه وقال صاحب الهداية: إن وقت بعد الفجر والعصر ينبغي أن يكون مشغولاً بالفرض، فالقبح ليس بسبب الوقت فتجوز الفرائض والواجبات لعينها، وقال ابن الهمام: هذا تخصيص بالرأي
ابتداءً فلم يجب عن الإيراد، وأخذ طريقاً آخر لإثبات المسألة، وقال الطحاوي في التفقه: إن النهي عن الصلاة بعد العصر والفجر صلاتهما صلى في الفور بعد دخول الوقت أو ببطوء فعلم أن التأثير للصلاتين فلا قبح في الوقت، وأقول فيما قال الشيخ صاحب الهداية بأنه تخصيص النص بالنص فإنه قد خص منه صلاة العصر والفجر، ونص آخر مستقل وهو قضاء الوتر أخرجه الترمذي ص (61) بسند فيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو متكلم فيه بخلاف أخيه عبد الله فإنه ثقة، وأخرجه أبو داود ص (202) وصححه العراقي، ولكنه غير واضح، والأوضح ما في سنن الدارقطني، وقال الشوافع: حديث الباب عام ويخصصه حديث التحية، فتحول إلى مسألة الأصول، فقال الشافعية: إذا تعارض العام والخاص فيراد من العام ما وراء الخاص، تقدم الخاص أو تأخر أو لم يعلم التاريخ، وقال الأحناف: لو علم التاريخ فالمتأخر ناسخ، وإلا فوقع التعارض فيحول إلى باب التعارض، وهذا يوهم الناظر، قال الشافعية: يؤخذ بالزائد فالزائد، وتعبيرهم هذا جيد مؤثر قوي مما قال الأحناف، فأقول: إن المراد من التعارض عندنا أنه يعامل فيه بمقاسمة الأصول فإنه، قد كثر تخصيص النوعيات بأحكام لا تكون في الجنسيات، وهذا من تعبيراتي فصار تعبيرنا أيضاً أجود وأقوى، وصارت ضابطتنا أشمل على ضابطتهم، ومقاسمة الأصول أن يكون جزئي واحد مثلاً يصلح للاندراج تحت العام، ويصلح للاندراج تحت الخاص فإدخاله تحت ما له زيادة استحقاق مقاسمة الأصول، فنجري الضابطة فيما نحن فيه بأن الشريعة تأمر بعدم حلة الصلاة، ثم ما كان ديناً عن الله من الفرائض والواجبات لعينها يجوز أداؤه، وما كان من التبرع من الواجب لغيره، والنافلة لا يجوز أداؤه، وبألفاظ آخر أن ما كان في ذمة من الله يجوز أداؤه، وإلا فلا، يفيد هذا الأصل فيما مر عن الصلاة منفرداً إذا أمات الإمام الجائر
الصلوات، فقال الشافعية: إن الشريعة أمرت بتكرار الصلوات فيكون في الصلوات الخمسة، ونقول: أمر الشارع بأداء الصلاة في وقتها لا بالتكرار كما هو مزعوم الخصم، ثم سأل سائل: أفأصلي معهم؟ قال: نعم لو شئت كما يدل على هذا صراحة ما في أبي داود ص (62) فلا تكون الإعادة إلا فيما تجوز منه فإذن انكسر سورة تكرار الصلاة في الأوقات الخمسة وليتدبر في هذا.
قوله: (لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس الخ) قيل: إن مصداق إنا هو المتكلم، وقيل: مصداقه هو النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تخرج المحامل في شرح الثاني فإن فضله عليه الصلاة والسلام ثابت على جميع الأنبياء السابقين بلا ريب.
قوله: (حديث علي) هو قول على كما في السنن الكبرى وليس بمرفوع، وأما ما قلنا من كراهة الصلاة في الأوقات الثلاثة مع الصحة فاجتماع الصحة ومع الكراهة ليس ببعيد، قال الشيخ ابن الهمام: إنهما يجتمعان في المعاملات لا العبادات، فإن في المعاملات طرفين طرف الدنيا وطرف الدين، بخلاف العبادات فإن الطرف فيها واحد هو طرف أخروي وأقول يلزم على هذا ارتفاع باب كراهة الصلاة، ويحتمل أن يقال: إن الكراهة الواقعة على نفس الصلاة لا تجتمع معها بخلاف الكراهة، في بعض أجزائها فيصح قول الشيخ بلا ارتفاع باب الكراهة وهذا يفيد الشافعية أيضاً في إشكالٍ أشكل عليهم حله، وهو عدم اجتماع الصحة مع الكراهة التنزيهية، وهو قول عندهم، والله أعلم وعلمه أتم.
باب ما جاء في الصلاة بعد العصر
[184]
في الصحيحين عن عائشة ثبوت الركعتين بعد العصر مواظبة في بيت عائشة، وفي السنن عن ابن عباس وأم سلمة:«أنه شغل عن سنتي الظهر فقضاهما بعد العصر، قال الشافعية بجواز الركعتين بعد العصر وعندنا من خصوصيته عليه الصلاة والسلام، وقال الشافعية: إن الخصوصية باعتبار المواظبة لا في أصل المشروعية، والسلف أيضاً مختلفون ولنا ما في البخاري ومعاني الآثار ص (180) «أن عمر كان يعزر من يصلي الركعتين بعد العصر» ، وهذا لا بد من كونه علانية، ولم ينكر
عليه أحد من الصحابة» ، فلنا أن نقول: إن قول جمهور الصحابة مع أبي حنيفة رحمه الله، وسئل الدارِمي فقال: أقول بقول عمر بن الخطاب، وحديث الباب لنا وقال الحافظ: إن عطاءً اختلط في آخر عمره، وأخذ عنه جرير بعد الاختلاط، ولنا ما في معاني الآثار ص (180) عن أم سلمة؛ قلت له: عليه الصلاة والسلام أفنقضيهما إذا فاتتا قال: (لا) اه. وسكت الحافظ عن الحكم على حديث الطحاوي، وقال رجل: إن سند عن يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة فيه شيء، فإن حماداً قلَّ حفظه في الآخر، وأقول: تتبعت مسلماً فاستخرجت منه سند يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة في مواضع كثيرة، فكيف حكم ذلك الرجل على ذلك السند؟ ومر عليه السيوطي في الخصائص الكبرى وصححه، والحديث موجود في مسند أحمد فالحاصل عندي أن حديث الطحاوي في أعلى مراتب الحسن لذاته ولنا ما في مسند أحمد وبعضه في البخاري:«أن معاوية رضي الله تعالى عنه دخل المدينة، وكان ابن الزبير يصلي الركعتين بعد العصر، فقال معاوية: ما تفعل فإني ما وجدته من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال ابن الزبير: علمته من عائشة، فأرسل معاوية رجلاً إلى عائشة فقالت: ما صلى في بيتي، وأرسلته إلى أم سلمة وقالت أم سلمة: إنه قضى الركعتين اللتين بعد الظهر، رحم الله عائشة قد كنت ذكرت لها، فاضطرب حديث الصحيحين عن عائشة، ولهذا لعله رجح الترمذي حديث ابن عباس على حديث البخاري، وقال حديث ابن عباس أصح، ولنا أيضاً ما في مصنف عبد الرزاق عن أبي سعيد: «نفعل ما أُمِرنا، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ما أُمر» ، فدل على أن يحملهما على خصوصيته عليه الصلاة والسلام كما قلنا.
قوله: (عنها عن أم سلمة) لعل عن أم سلمة ليس بصحيح فإن عائشة روت بدون الواسطة كما قال المصنف، وفي الباب عن عائشة إلا أن يراد ما في مسند أحمد في قصة معاوية وابن الزبير.
قوله: (إلا ما استثنى من ذلك) إسناد الاستثناء ضعيف.
باب ما جاء في الصلاة قبل المغرب
[185]
تسن الركعتان قبل المغرب عند الشافعي رحمه الله، وفي قول منه الإباحة، وقال أبو حنيفة ومالك: لا ينبغي، وقال ابن الهمام بالإباحة ونفى الاستحباب، وحديث الباب للشافعي، وأجيب بأن المراد المكث مقدار الصلاة بين الأذانين لا فعل الصلاة، ويرد على هذا الجواب ما في البخاري في الموضعين عن عبد الله بن مغفل:«صلوا قبل المغرب ركعتين» وإني تتبعت لأجد أنهما حديثان أو حديث واحد فلم أجد فيه شيئاً من المحدثين إلا أن بوب البخاري على الفصل بين الأذانين، وأتى فيه بحديث الباب، وبوب على الركعتين قبل المغرب، وأتى فيه بحديث:«صلوا قبل المغرب ركعتين» وفي مسند البزار «بين كل أذانين صلاة إلا المغرب» ، وأدرجه ابن الجوزي في الموضوعات، وقال السيوطي في اللآلئ المصنوعة: إنه ليس بموضوع، وقال: إن حيان بن عبيد الله مصغراً ثقة، وهو راوي الحديث، لاحيان بن عبد الله المكبر الذي كذبه فلاسٌ، وابن عبيد الله وثقة البزار، والزيلعي والحافظ نقلا قول ابن الجوزي والبزار ولم يخبرا بما قال السيوطي، وهذا عجب منهما، وأخرجه
الدارقطني أيضاً، وقال البيهقي في معرفة السنن والآثار: إنه وهم حيان وأدرجه من نفسه، وعندي قرائن من سنن الدارقطني على كونه مرويّاً من الفوق وليس من إدرج الراوي، ونقول بعد تسليم الإباحة كما قال ابن الهمام: إن الحديث لا يدل على الاستحباب لما في البخاري، وأبي داود ص (183) . «لمن شاء أن يصليهما خشية أن يتخذها الناس سنة» ، وأما الفرق بين السنة والاستحباب فبعيد في نصوص الشارع، ونقول أيضاً: إن البزار وابن شاهين في كتاب الناسخ والمنسوخ يقولان بالنسخ، والناسخ لفظ إلا المغرب، فدل هذا أنهما من الصحيحين لحديث:«إلا المغرب» .
قوله: (قد روى عن غير واحد الخ) لنا ما في أبي داود ص (183) . سئل ابن عمر: عن الركعتين قبل المغرب، قال ابن عمر رضي الله عنهما: ما رأيت أحداً يصليهما قبل المغرب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، بسند حسن، وقال النووي في شرح مسلم: إن الجمهور مع أبي حنيفة، ولكن الأحاديث ترد عليهم، وفي فتح الباري وعمدة القاري سئل أحمد عن الركعتين قبل المغرب فقال ما صليت إلا مرة واحدة ثم في العمدة حين بلغني الحديث، أي (ما صليت إلا مرة واحدة) حين بلغني الحديث، وهو دأب أحمد، وفي الفتح: حتى بلغني الحديث فظاهره أنه صلاهما مرة، ثم إذا بلغه الحديث استمر عمله من الإتيان بهما، ولكن الصحيح ما في العمدة بقرينة ما في مسند أحمد.
(اطلاع) ذكر الشيخ عبد الحق الدهلوي في الحاشية لحديث بريدة الأسلمي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر عمر لم يصلوهما» الخ، وهذا غلط فإن المروي عن بريدة استثناء «إلا المغرب» في مسند البزار، وأما ما رواه الشيخ فهو مروي عن إبراهيم النخعي مرسلاً في كتاب الآثار.
باب ما جاء فيمن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس
[186]
ومذهبنا أن طلوع الشمس في خلال الصلاة مفسد للصلاة، ثم قال الشيخان: تحولت الصلاة
إلى النافلة، وقال محمد: تبطل من الأصل ولا تبقى النافلة أيضاً، ورواية شاذة عن أبي يوسف في الفتح أنها لا تبطل وتبقى فريضة، ثم إذا طلعت فالسبيل عنده إذن أن يمكث المصلي على حاله ويؤدي الباقية بعد خروج وقت الكراهة، وأما إذا غربت الشمس فلا تفسد الصلاة، فحديث الباب يخالفنا إلا على الرواية الشاذة عن يعقوب، وقال الأئمة الثلاثة من الحجازيين: إن مصداق حديث الباب المعذور من النائم وغيره، والنهي عن الصلاة في هذا الأوقات لغير المعذور، والحال أنه لا إيماء في متن الحديث إلى المعذور، وقال الشافعية: من تعمد وأخر العصر صحت صلاته ويكون مرتكب الكبيرة، وألحقوا به اجتهاداً من صار أهل الوجوب من البالغ، والمُسلّم بأنه إذا صلى وغربت الشمس في خلالها لم تفسد صلاته بدون إثم.
وأما الأحناف فما أجاب أحد بما يشفي ما في الصدور، وقال الطحاوي ص (232) : إنه محمول على من صار أهل الوجوب بأنه تجب الصلاة عليه ثم يقضيها، ثم رد الطحاوي بأن رواية الصحيحين «فليضف إليها ركعة أخرى» يخالفه، ثم اختار الطحاوي بطلان الصلاة عند الطلوع والغروب، وجعل حديث الباب منسوخاً بكلا الجزئين، ونقله الحافظ ثم رده، من جانبه بما رد به الطحاوي والعجب من الحافظ أنه نقل جواب الطحاوي ولم ينقل رده وأخذ أرباب التصنيف مسألة الأصول كما ذكر شارح الوقاية، وسنح لي الجواب، وأذكره بمحض الدعوى، ومادته كثيرة لا يسعه المقام الضيق، فأقول: إن الحديث في حق الجماعة لا في حق الأوقات، فيكون المعنى: من أدرك ركعة مع الإمام فليضف إليها ركعة أخرى ولتكن الركعتان قبل الطلوع والغروب، وزعم الحجازيون أن المفهوم كون الركعة الثانية بعد الطلوع، ولا يخالفني رواية:«فليضف إليها ركعة أخرى» ولي في هذا الجواب قرائن منها: أن الحديث مروي في أربعة مواضع بألفاظ متقاربة، واتفقوا في المواضع الثلاثة على أنها في حق المسبوق، فيقال في هذا الموضع أيضاً: إنه في حق المسبوق، ومن تلك المواضع ما في مسلم ص (221) عن أبي هريرة «من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة» ، وفي مسلم في بعض الطرق:«من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام» الخ، فيكون نصاً في أنه في حق المسبوق، وأيضاً جمع مسلم حديث الباب، وحديث:«من أُدرك ركعة من الصلاة مع الإمام» في باب واحد، فيدل على أن مصداق الحديثين واحدٌ ومن تلك المواضع ما في أبي داود ص (129) :«من أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة» أي من أدرك الركوع، وغمض البخاري في سند حديث أبي داود في جزء القراءة، وقد
أخرجه ابن خزيمة فعلم صحته عند ابن خزيمة، ومن تلك المواضع ما في النسائي:«من أدرك ركعة من الجمعة» إلخ، فأقول: أن حديث الباب أيضاً في حق المسبوق، ولا أقول بأن الحديث واحد واختلاف الألفاظ من الرواة، بل أقول: إنه عليه الصلاة والسلام ذكر المسألة مراراً، وإن قيل طالباً للنكات: ما وجه تخصيص الصلاتين بالذكر؟ فيقال: لعل هذا حين وجوب الصلاتين، ولعل رواية أبي هريرة تكون بالواسطة، وإما أن يقال: إن آخر الوقت إجماعاً ليس إلا لهاتين الصلاتين، وإما أن يقال: إن آخر الوقت المعلوم حساً للكل ليس إلا لهاتين الصلاتين، وبهذا ينقح وجه ذكر: قبل أن تطلع الشمس وقبل أن تغرب، وأيضاً يقال: إنه مثل حديث فضالة في سنن أبي داود ص (61) قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حافظ على البردين أو العصرين» وحمله أهل التدريس على زيادة الاهتمام وغيره، وقال السيوطي: إنه من خصوصيته وليس عليه إلا صلاة العصرين، وينافى ما ذكرت من المراد ما في فتح الباري من السنن الكبرى:«من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس، وركعة بعد أن تطلع الشمس فقد تمت صلاته» فأقول: إن هذا الباب من السنن الكبرى موجود عندي، وما وجدت فيه ما حكى الحافظ، وذكر الشوكاني هذا الحديث من الفتح ولم يذكر السنن الكبرى، وقال في بعض الروايات: ولكن الإنصاف أن الرواية ثابتة، وأقول: قد سها الحافظ في فهم مراد الحديث، والحال أن الحديث في مسألة سنتي الفجر كما روى الترمذي ص (52)«من لم يصل ركعتي الفجر فليصليها بعدما تطلع الشمس» وهذا الحديث ثابت عندي من أزيد من عشرين طريقاً، خمس في مسند أحمد، وخمس في سنن الدارقطني، وثلاث في سنن البيهقي، واثنان في صحيح سنن ابن حبان، واثنان في المستدرك، وواحد في طبقات الذهبي، وواحد عند النسائي في الكبرى، وعند الطحاوي، ومدار الكل قتادة، ثم عبر بعض الرواة وهم خمس: «من أدرك
ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس وركعة بعدها» ، والمراد من الركعة الصلاة والصلاة قبل الطلوع، هي المكتوبة، والصلاة بعد الطلوع السنن ويعبر بعض الرواة بالمراد الواضح فكان ما في السنن الكبرى متعلقاً بالسنن بمراد ما ذكرت، وزعم الحافظ متعلقة بحديث الباب، ولقد بلغ الحافظ المراد الصحيح في التهذيب تحت ترجمة عزرة بن تميم، وقال: إنه متفرد بهذا المتن، وأحاله على النسائي الكبرى، ولم ينبه على هذا في الفتح، وأجزاء كل ما قلت على كلام الحافظ موجودة بالدلائل والقرائن، ومر العيني على حديث الباب، وأخرج بعض الطرق مشتملاً على وجدان ركعة بعد الطلوع والغروب، وأقول: إن هذا فتوى أبي هريرة وليس بمرفوع، ولم يميز الحافظ العيني بين الموقوف والمرفوع، والدليل على أنه فتوى أبي هريرة عبارة البيهقي في السنن الكبرى، وأقول أيضاً: إن ابن عباس راوي حديث الباب في مسلم وفتواه ببطلان
الصلاة لو طلعت الشمس بسند صحيح في مسند أبي داود الطيالسي، وأخرجه في النسائي ص (98) أيضاً إلا أن القطعة المفيدة لنا ليست بمذكورة فيه.
تتمة والجواب الذي ذكره الطحاوي ثم رده، مذكور في مدونة مالك عن ابن قاسم تلميذ مالك، ويمكن نفاذ ذلك الجواب في الجملة، فإن فخر الإسلام والسرخسي مختلفان فيمن طهرت أو أسلم أو بلغ، هل يجب عليه الأداء في الحال أو بعد طلوع الشمس؟ ويرد على ما قال الحجازيون فعله في غزوة الخندق كما في الصحيحين، وسيما على ما عند مسلم وفعله عليه الصلاة والسلام في ليلة التعريس، فبعد الفراغ من حديث الباب تحول مسألة جواز عصر يومه عند الغروب إما إلى الاجتهاد أو إلى الحديث السابق في الترمذي من صلاة المنافق، ولم يبق بحديث الباب التعلق بمسألة العصر والفجر المنازعتين فيهما.
باب ما جاء في الجمع بين الصلاتين في الحضر
[187]
إجمال مذهب مالك والشافعي وأحمد جواز جمع الصلاتين وقتاً باختلاف الروايات في السفر، والمطر، والمرض، ثم الجمع جمع تقديم وجمع تأخير، وأنكر البخاري جمع التقديم، وعن أبي داود: لم يصح حديث في جمع التقديم، ثم لجمع التقديم شروط؛ منها أن ينوي الجمع قبل تسليم الصلاة الأولى منها وأن لا يفصل بينهما، ولا يتطوع بينهما، ومنها الترتيب، ويشترط في جمع التأخير نية الجمع قبل فوت وقت يسع فيه الصلاة الأولى، وقال أبو حنيفة وأصحابه: بالجمع فعلاً والجمع فعلاً من تعبيري، وكذلك في البرهان، فإن تعبير الجمع الحقيقي والصوري يوهم الناظر القاصر، وأما تفصيل المسألة فسيأتي عن قريب وأما حديث الباب فقال النووي: إنه جمع في متن المدينة لعله لمرض، وأقول: إنه يخالف صراحة حديث الباب من غير خوف ولا مطر، وكيف مرض كل القوم؟ ثم قال النووي: ذهب بعض القدماء إلى الجمع الوقتي بدون سفر ومطر ومرض أحياناً بشرط أن لا يعتادوا، وأقول: إن في واقعة الباب جمع فعل بإقرار الحافظ في الفتح، وكذلك قال أبو الشعساء
وتلميذه كما في صحيح مسلم ص (246) ، وفي النسائي قول ابن عباس بأنه جمع فعلاً.
قوله: (وقد روي عن ابن عباس. . الخ) لعله أشار إلى ما في مسلم ص (246) عن ابن عباس ما يدل على أنها واقعة السفر، ويدل حديث الباب على أنها واقعة المدينة، ولم يتوجه أحد من المحدثين إلى أنه اختلاط الراوي أو غيره، والحال أن ألفاظ الحديثين متحدة متقاربة.
قوله: (من جمع بين الصلاتين بدون عذر. . الخ) لا يصح هذا حجة على الحجازيين، وهذا أصح موقوفاً على ابن الخطاب.
قوله: (حنش. . الخ) حنش اثنان حنش بن ربيعة تلميذ علي وهو ثقة، وأما حنش هاهنا فهو حنش بن قيس، وهو ضعيف، وصحح الحاكم حديثه، لكن تصحيح الحاكم وتضعيف ابن الجوزي لا يعتد به بدون موافقة أحد من المحدثين، وحسَّن ابن كثير في تفسيره رواية حنش بن قيس إلا أنه أيضاً متساهل في حق الرواة.
قوله: (وبه يقول أحمد الخ) نسب إلى أحمد بن حنبل رحمه الله ما ذكر النووي عن بعض الشوافع ولعل المصنف رحمه الله لم يعتمد على هذه فإنه قال في العلل الصغرى: ما أتيت في الترمذي برواية إلا عمل به بعض العلماء إلا حديث ابن عباس «أنه جمع بين الظهر والعصر بالمدينة الخ وحديث إذا شرب الخمر فاجلدوه وإن عاد في الرابعة فاقتلوه» وأقول: إن الحديثين معمول بهما عندنا، ونقول: إنه جمع فعلى.
قوله: (للمريض الخ) ما كان النبي صلى الله عليه وسلم مريضاً لنص حديث «بلا خوف ولا مطر» ولو سلم بتقدير المحال، فهل كان المقتدون كلهم مريضين أيضاً؟ ولا يقبل العاقل هذا الاحتمال الأعرج المريض.
باب ما جاء في بدء الأذان
[189]
بدأ الأذان في المدينة، وفي بعض الروايات الساقطة أن جبرائيل علمه عليه الصلاة والسلام الأذان في ليلة الإسراء، والأذان عندنا سنة، ونسب وجوبه إلى محمد رحمه الله، وأقول: لعله مأخوذ مما قال محمد: أن يقاتل الإمام بقوم اجتمعوا على ترك الأذان، ولا يخرج الوجوب من هذا، فإنه روي عنه مثل هذا في أهل قرية اجتمعوا على ترك الختنة، وعندي مدار القتال أنه ترك شعار الإسلام، ثم بين القتل والقتال بون بعيد، وضعف استدلال النووي بهذا البون على قتل تارك الصلاة بحديث:«أمرت أن أقاتل الناس» إلخ فإن المذكور في الحديث هو القتال لا القتل.
قوله: (خرج عمر يجر إزاره) في بعض الروايات: «أنه خرج عمر بعد عشرين يوماً» وظاهر حديث الباب أنه خرج في الحال وللحافظين فيه كلام طويل.
قوله: (يا بلال قم وناد الخ) اختار ابن حجر أن هذا النداء غير الأذان المعروف وذكر احتمال أن يكون هو الأذان المعروف، ويقدر العبارة لكنه رجح الأول، ورجح العيني الاحتمال الثاني، ولهما كلام مطنب، والمختار عندي مختار الحافظ ابن حجر، وفي روايتين قويتين مرسلتين أن النداء:«الصلاة جامعة، الصلاة جامعة» كان في زمان.
باب ما جاء في الترجيع في الأذان
[191]
قال مالك والشافعي بالترجيع، وعن أحمد جواز الأمرين، ومختار الحنابلة على ما نقل ابن الجوزي في كتابه التحقيق، ومذهب الأحناف عدم الترجيع، وفي الصحاح أن أذان بلال خال عن الترجيع، وكذلك أذان الملك المنزل من السماء، وثبت الترجيع في أذان أبي محذورة، وأما الإقامة ففي إقامة أبي محذورة التثنية، وفي إقامة بلال الإفراد أو التثنية، وأما الروايات الساقطات ففيها اختلاف، وكلمات الأذان عند الشافعي تسعة عشر كلمة، وعند مالك سبعة عشر كلمة، فإنه لا يقول بترجيع الله أكبر، وكذلك روي عن أبي يوسف رحمه الله في الدر المختار وعند أبي حنيفة رحمه الله خمسة عشر كلمة، وأما كلمات الإقامة فعند أبي حنيفة سبعة عشر كلمة، وعند الشافعي إحدى عشر
كلمة، وعند مالك عشر كلماتٍ، فإنه قال بإفراد «قد قامت الصلاة» ثم المأثور سكون أواخر الكلمات، وعن المبرد: الله أكبر بفتح راء الله أكبر، ولكن الرواية لا يساعده، ثم على كل كلمة أذان وقف اصطلاحي إلا أن الله أكبر مرتين بمنزلة كلمة، وهذا الوقف ترسل، وفي الإقامة الوقف على كل كلمتين ويسمى هذا حدراً في الإقامة ثم أن ترسل في الإقامة، أو حدر في الأذان ففي أكثر كتبنا لا يعيده ولا يعيدها، وفي قاضي خان إعادتهما، وإن رجع الحنفي في الأذان ففي البحر: إنه مباح ليس بسنة ولا مكروه، وعليه الاعتماد، وقال صاحب النهر بالكراهة تنزيهاً، فلا بد من التأويل في كلام النهر، بحمله على أنه مفضول مثل التأويل في كراهية صوم عاشوراء منفرداً، في الدر المختار فإن كل ما ذكر محمول على أنه مفضول، واستمر الترجيع بمكة إلى عهد الشافعي رحمه الله، وكان السلف يشهدون موسم الحج كل سنة ولم ينكر أحد، فلا يقال بالكراهة، وأما إيتار الإقامة فلم يجيء تصريح جوازه في كتبنا، ولا بد من القول بجوازه، وفي مواهب الرحمن: أنه لعله كان، ففي الجملة لا بد من القول بثبوت الترجيع وعدمه، وكذلك في إفراد الإقامة وتثنيتها، ويتكلم في الرجحان ثم قال أرباب التدريس: أخذ أبو حنيفة بأذان بلال وإقامة أبي محذورة، ولكن المؤثر تعبيراً ما في الهداية بأن مأخوذ أبي حنيفة أذان الملك النازل من السماء وإقامته، وأما ما في أبي داود من إيتار وإقامة الملك النازل من السماء، فيقال: إن تلك الرواية اختصاراً وإحالة على كلمات الأذان فإن الكلمات مشتركة، فيمكن أنه قرأ فرادى، وقال: اجعلها كالأذان كما في مسلم إجابة عمر الأذان فإنها مروية إفراداً، ويقول الكل: بأنه اختصار، وأما حديث الباب من الترجيع فأجاب عنه الطحاوي: بأن أبا محذورة لم يرفع صوته بالشهادتين على ما يبغي النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره ثانياً: «ارفع بهما
صوتك» وقال صاحب الهداية: إن التكرار بالشهادتين كان للتعليم، وقال ابن الجوزي في التحقيق: إن أهل مكة كانوا حديثي العهد بالإسلام فأمره عليه الصلاة والسلام بالترجيع ليرسخ الشهادة في قلوبهم، فالترجيع كان عارضياً والأشبه ما قال ابن الجوزي فإن الحق ثبوت الترجيع، ووجه الرجحان لنا في عدم الترجيع أن بلالاً استمر أمره بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم الترجيع قبل تعليمه الأذان أبا محذورة وبعده وفي تحقيق ابن الجوزي تواتر عدم الترجيع، وأما الإقامة فتصدى الشافعية إلى نفي التثنية في إقامة بلال، ولكن النفي غير
ممكن، ومذهبنا ثابت بدون ريب كما في الآثار والزيلعي، ونقل ابن الهمام تواتر التثنية عن الطحاوي وابن الجوزي، ولم أجده عنهما، نعم ادعى ابن الجوزي تواتر عدم الترجيع.
باب ما جاء في إفراد الإقامة
[193]
هذا الباب للحجازيين. قوله: (أمر بلال الخ) قال الأحناف: من الآمر؟ قال الحافظ في الفتح: إن الآمر هو النبي صلى الله عليه وسلم وأتى برواية على هذه الدعوى، وقد وجدت الرواية في علل أبي حاتم، وأنكرها أبو حاتم.
قوله: (يشفع الأذان الخ) استدل الموالك بهذا على أن «الله أكبر» مرتين، ونقول: إن أربع مرات منزلة المرتين عندنا أيضاً، كما قال أبو يوسف لمالك بن أنس.
قوله: (يوتر الإقامة) قال الأحناف: إنه إيتار في الصوت، ويخالفهم ما في الصحيحين (إلا الإقامة) وما توجهوا إليه، وأقول: إن الإقامة ليس باستثناء عن الإفراد والتشفيع، بل بيان الإقامة مثل الأذان إلا أن فيها زيادة «قد قامت الصلاة» .
(اطلاع) في مصنف أبي شيبة الله أكبر ثلاثاً عن ابن عمر وكنت أزعمه سهو الكاتب، حتى وجدت مثله في موطأ محمد ص (86) عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.
باب ما جاء في أن الإقامة مثنى مثنى
[194]
هذا الباب للعراقيين، وأجاب الحجازيون بأن لفظ الإقامة ليس بداخل تحت الشفعية، ورده تقي الدين بما في الحديث «أن الإقامة سبعة عشر كلمة» .
قوله: (وعبد الرحمن بن أبي ليلى) قيل: لم يسمع عبد الرحمن عن عبد الله بن زيد، وأجاب الزيلعي عن هذا، وأيضاً صحح ابن دقيق العيد حديث الباب، وأقول: قد رأى عبد الرحمن مائة وعشرين صحابياً، وفي بيوع الدارقطني: أن عبد الله بن زيد عاش إلى عهد ذي النورين، وأن عبد الرحمن وجد عهد عمر.
باب ما جاء في إدخال الأصبع في الأذن عند الأذان
[197]
يدخل الأصبعين في الأذنين ليرتفع الصوت، وأذان الباب كان في منى وفي كتب الفقه: أنه إذا أذن في الميذنة يخرج فاه إلى الطرفين، ولا يحول صدره عن القبلة.
قوله: (بطحاء) هذه هو محصب مكة وخيف بني كنانة.
قوله: (حلة حمراء) الحلة الرداء والإزار من جنس واحد، وأما لبس الثوب الأحمر للرجال فصنف الشرنبلالي رسالة في هذا، وفيه تسعة أقوال، فقيل: إن الأحمر القاني يستحب لبسه، وقيل: إنه حرام، وأقول: إن المعصفر والمزعفر مكروه تحريماً، وأما الأحمر القاني فيكره تنزيهاً، وأما ما فيه خطوط حمراء فلبسه جائز، ويمكن لأحد ادعاء استحبابه، وأما الحلة الحمراء المذكورة في حديث الباب، فقال ابن القيم: إن فيها خطوطاً حمراء، والقرينة على هذا لفظ الجرة فإنها ذات جداول حمراء تجلب من اليمن، ولأن في سنن أبي داود:«أن عبد الله بن عمرو شهد النبي صلى الله عليه وسلم لابساً الثوب الأحمر القاني، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحرقه عبد الله» .
وقد ذكروا تحويل الوجه يمنة ويسرة في الإقامة أيضاً.
باب ما جاء في التثويب في الفجر
[198]
التثويب هو الإعلام بعد الإعلام من الثوب، وكان العرب يحركون الثوب معلقاً على خشبةٍ قائماً على موضع مرتفع حين خوف الغنيم، ثم التثويب اثنان: أحدهما زيادة «الصلاة خير من النوم» في آذان الفجر، وهو ثابت مرفوعاً، وقول «حي على الصلاة» بعد الأذان قبل الإقامة، وتعرض له محمد في الموطأ، وكذا في التخريج خلافاً لما في الدر، ورد المحتار، والثاني حدث في عهد التابعين، وعن أبي يوسف جوازه للإمام، كما ثبت نداء بلال النبي صلى الله عليه وسلم.
باب ما جاء أن من أذن فهو يقيم
[199]
في كتبنا أن الأولى أن يقيم المؤذن، وجاز لغيره لو لم يشق على المؤذن، فوجه الأولوية: أن المؤذن أحرز ثواب الأذان الموعود، فينبغي له ثواب الإقامة أيضاً، وفي كتب الشافعية: أن الإقامة حق المؤذن فصار الأمر ضيقاً، وقد صح كثير من الأحاديث في فضل الأذان.
قوله: (زياد بن الحارث) في معاني الآثار «عبد الله بن حارث» وقال الحافظ في الإصابة ما وجدت عبد الله في غير كتاب الطحاوي، ثم تتبعت نسخ معاني الآثار كيلا يكون من سهو الكاتب، فوجدت عنده النسخ على هذا النمط فسكت الحافظ، والظاهر أنه من سهو الناسخين، والواقع أنه زياد فإن المذكور في الأحاديث واقعته.
قوله: (مقارب الحديث) تكلم المحدثون في أن لفظ: «مقارب الحديث» لفظ توثيق أو تليين، وقد قلت: إنه لفظ توثيق كما صرح هاهنا بأنه يقوي أمره، وفي علل أبي حاتم كثيراً ما يوجد لفظ: فلان على يدي عدل في حق الرواة، وقال الحافظ: قال الشيخ العراقي: إنه بإضافة يدي إلى ياء المتكلم، وأنه لفظ التوثيق وكنت تمشيت على قول شيخي العراقي، حتى أن وجدت أنه بإضافة يدي إلى عدل، وعدل لقب بواب محبس تبع ويكون المعنى «فلان شخص جيل خانه كي قابل هي» فعرفت أنه لفظ التليين ومأخذ هذا محاورة أهل اليمن.
باب ما جاء في كراهية الأذان بغير الوضوء
[200]
المشهور في مذهبنا إعادة أذان المحدث بالحدث الأكبر، ويجوز أذان المحدث بالحدث الأصغر فيكره إقامته، وعن أبي حنيفة كراهية أذان غير متوضئ، كما في الهداية ص (74) وهذه الرواية تحفظ، لأن الحديث يساعدها، لما في التخريج عن وائل بن حجر بسند صحيح:«لا يؤذن إلا وهو طاهر قائم» وقال الحافظ: إنه معلول لأن عبد الجبار بن وائل ليس له سماع عن أبيه وسأذكر سماعه في باب الجهر بآمين.
باب ما جاء أن الإمام أحق بالإقامة
[202]
أي لا يقام إلا عند خروج الإمام والخروج يكون بالقيام إن كان في الصف وبدخوله المسجد لو كان خارجه، وأما الأذان فالأحق به المؤذن ويؤذن بلا انتظار إمام.
باب ما جاء في الأذان بالليل
[203]
قال الحجازيون: يجوز الأذان بالليل للفجر، ثم قال النووي: يجوز التقديم إلى نصف الليل وقال غيره: بتقديمه إلى سدس الليل الآخر، وصححه تقي الدين السبكي الشافعي في شرح المنهاج ثم اختلفوا في إعادته بعد طلوع الفجر، قال تقي الدين السبكي: بوجوب الإعادة، وادعى الموالك توارث الأذانين من السلف في المدينة، وفي كتبنا أن أبا يوسف رحمه الله وقع مناظرته مع مالك رحمه الله في هذه المسألة، فأفتى أبو يوسف رحمه الله بجواز الأذان قبل الفجر حين رجع من المدينة، وعند الطرفين لو أذن بالليل يعيده.
قوله: (إن بلالاً يؤذن بليل إلخ) مفهوم حديث الباب أن أذان بلال كان في الليل، وأذان ابن أم
مكتوم بعد طلوع الفجر، ومفهوم حديث صحيح ابن خزيمة عكسه، وأجيب بما في فتح الباري بأن الأمرين في زمانين، فإنه كان بلال يؤذن بعد الفجر ثم لحق بصره شيء، فأخذ يقدم الأذان ويؤخره من الوقت وكان ابن أم مكتوم لا يؤذن إلا باطلاع الناس فانتقل أذان بلال إلى الليل وأذان ابن أم مكتوم إلى الفجر، وقيل: إن في صحيح ابن خزيمة قلباً، وفي معاني الآثار ص84 «فإن في بصره شيئاً» وفي بعض الروايات «أن في بصره سوءاً» ، وفي السنن الكبرى: قالت عائشة إن ما روى ابن عمر ضي الله عنه أن بلالاً كان يؤذن بليلٍ غير صحيح، مع أن رواية أذان بلال بليل عنها موجودة في البخاري، وفي عين الإصابة للسيوطي مثل ما في السنن الكبرى، فلا بد من ثبوت تلك الرواية عن عائشة، ووجه التوفيق أن أذان بلال كان قريب الفجر، كما في معاني الآثار ص85 أن فصل ما بين أذان بلال وأذان ابن أم مكتوم قدر ما يصعد ابن أم مكتوم وينزل بسند قوي، وفي سنده علي بن معبد بن نوح وهو ثقة وهو غير علي بن معبد بن شداد راوى الجامع الكبير، وشيخ البخاري، وأشكل على النووي هذا الفصل القصير، وقال: كان بلال يؤذن ثم يقعد على المنارة، ثم ينزل، فيصعد ابن أم مكتوم فيؤذن، وأجيب عن حديث الباب من جانب الأحناف بأن التكرار كان للتسحير كما في كتاب الحج، وهو المتبادر من ألفاظ الصحيحين «ليرجع قائمكم، وينتبه نائمكم» ولازمه أن يكون التكرار في رمضان، وصرح الحافظ عبد الملك بن قطان المغربي الفارسي الشافعي، والحافظ تقي الدين بن دقيق العيد: بأن التكرار كان في رمضان، وفي شرعة الإسلام استحباب الأذان للتسحير في رمضانِ والكتاب معتبر لأن المصنف هو شيخ صاحب الهداية، وأيضاً أقول: إن التكرار لم يكن مستمراً في السنة كلها وفي هذه الدعوى مادة كثيرة في معاني الآثار والزيلعي وروايات أُخر عندي، ولعله كان حين كان تحريم الطعام في رمضان بفعل اختياري، ويدل على هذا أي
التحريم بفعل اختياري ما في معاني الآثار ص63 عن نافع عن ابن عمر عن حفصة بسند قوي من أن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الركعتين بعد أذان الفجر، ثم يذهب يحرم الطعام، وكان لا يؤذن حتى يصبح، ولنا في ابتداء الصوم قولان: قيل: من ابتداء طلوع الفجر، وقيل: من حين انتظار الصبح وقال: الآخرون: إن حكم الأكل إلى ما بعد الصبح منسوخ، وحملوا فعل أبي بكر الصديق حين كان يأكل فأخبر بطلوع الفجر فقال: أغلق الباب، على النسخ، وفي فتح الباري روايات موقوفة ومرفوعة دالة على ختم السحر بالفعل الاختياري.
قوله: (أن مؤذناً لعمر) اسم هذا المؤذن مسروح، وغرض الترمذي تضعيف الحديث، وأخرج الحافظ الحديث الدال على أن الواقعة وقعت لبلال أيضاً بست طرق، كلها ضعاف، ثم قال الحافظ: إن تعدد الطرق دال على أن لها أصلاً.
قوله: (بحديث بلال معنى الخ) هذا اعتراض الترمذي معنوي، والجواب أن قول: إن بلالاً يؤذن بليل» إلخ في الزمان الذي كان فيه تكرار الأذان، وأما قول إلا أن العبد قد نام» إلخ في الزمان الذي لم يكن فيه تكرار الأذان، وأما قول علي بن المديني، فنقول له ما قال الحافظ: من أن تعدد الطرق دال على أن لهذا أصلاً.
باب ما جاء في كراهية الخروج من المسجد بعد الأذان
[204]
يكره الخروج بعد الأذان تحريماً لمن كان داخل المسجد، وهذا الحكم مقتصر على من كان داخل المسجد، وكذلك حكم كراهة الجماعة الثانية، وهذا دال على أن الحكم قد يختلف مع اتحاد الغرض، ويصلح هذا نظراً على ابن تيمية، فإنه قال: إذا اتحد الغرض فلا يختلف الحكم باختلاف الألفاظ والصور، ويرد عليه ما سيأتي من أن الصحابة أتو بالتمر الجيد وأخذوها بدل التمر الرديء ضِعفاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«بيعوا الرديء بالنقد، ثم اشتروا الجيد بتلك الدراهم» فاختلف الحكم مع اتحاد الغرض، وكذلك يجوز استقراض الدرهم ولا يجوز بيعها نسيئة، مع أن الغرض واحد، وفي البحر: يجوز الخروج بعد الأذان لمن أراد الرجوع بعد قضاء حاجته وأتى على هذا برواية معجم الطبراني، وفي كتبنا إذا أقيمت الصلاة فيكره الخروج تحريماً لمن قد صلى صلاته إلا الفجر والعصر والمغرب.
باب ما جاء في الأذان في السفر
يكره تركهما للمسافر، ولو تركه لا بأس كما قال الأحناف.
[205]
قوله: (فأذنا وأقيما. . إلخ) واعلم أن الجمع عند النحاة، وأرباب الأصول والمعاني، يشتمل على الحكم فرداً فرداً، وهو في حكم المتعاطفات وأنه عام، وأما اسم الجمع فالحكم فيه على المجموع، وقد يراد المجموع من حيث المجموع من الجمع أيضاً بقرينة المقام، وأما التثنية فعدوها من الخاص، وما ذكروا حكمه إلا أن في مفهوم تحرير الشيخ من قال لامرأتيه: إن دخلتما الدار فأنتما طالق، فدخلت إحداهما فقيل: يقع الطلاق، وقيل: لا، وكذلك في الطبقات الشافعية، فعلم أن العلماء مختلفون في التثنية، وعندي حكمها حكم الجمع أصلاً وقرينةً، ومراد حديث الباب أن أذان أحدكما كاف، وعليه أهل الإجماع، والعجب من النسائي بوب الترجمة على إقامة كل واحد بنفسه، مع أنه ليس مذهب أحد، فلا بد من التأويل في كلام النسائي، من أن غرضه أن أذان أحدهما بلا تعيين كاف.
قوله: (وقال بعضهم تجزي الخ) هو الشافعي رحمه الله ولم يصرِّح باسمه فإن الترمذي قال بأن الأصح خلافه.
باب ما جاء في فضل الأذان
[206]
قد صح كثير من الأحاديث الدالة على فضل الأذان، وقد أتى الترمذي بما هو ساقط، وقال بعض الحفاظ: إن الترمذي ربما يأتي بما لم يأت به المتقدمون، لعل غرضه الاطلاع على حديث لم يخرجه المتقدمون.
قوله: (لولا جابر الجعفي) هذا مختلف فيه كثيراً، في نسخة الترمذي للحماني هاهنا من أبي حنيفة ما وجدت أفضل في نفسي من عطاء بن أبي رباح، وما وجدت أكذب من جابر الجعفي، فإني ما أقول برأي إلا يأتي عليه بالحديث، وقال بعض الناس: إن قول وكيع هذا إنما هو لتضعيف جابر الجعفي، وهذا غلط فإن وكيعاً وسفيان الثوري وشعبة ممن يوثق الجعفي، وفي سنن الدارقطني عن أحمد: أن جابراً متهم في رأيه لا روايته، وقيل: إنه كذاب، وقال أبو محمد الجويني: إنه كفر وليس إلا أنه يخطئ، وقيل: كان يعرضه المرض من شدة الحرارة فكان يهذي فيه، وهكذا أقول في من قيل في حقه أنه كذاب، وظني أن أرباب الجرح يطلقون من أخطأ مرةً بالكاذب وعلى من أخطأ مراراً بالكذاب، وقد وقع هذا مضر للناظر، وأما وجه تضعيف جابر الجعفي، فقيل: إنه يقول عندي خمسون ألفا من الحديث ما ذكرته، وأقول: إنه لا يصلح للقول بالكذاب، فإن السلف كانوا حافظين لدفاتر من الأحاديث، كما قال المحدثون: إن أحمد بن حنبل حافظ ألف ألف حديث متناً وسنداً، وقيل: إنه قائل برجعة علي، وأقول: قد قال عمر حين توفي النبي صلى الله عليه وسلم: من قال إن النبي صلى الله عليه وسلم مات أضربه بالسيف، فخطب أبو بكر» . الخ كما في البخاري، وقيل: إنه ذو شعبذات فإنه كان يعطي الناس القثاء في غير الموسم، وهذا أيضاً لا يصلح حجة للجرح بل يمكن حمله على محمل.
باب ما جاء أن الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن
[207]
الحديث مشتمل على كثير من المسائل، قال الشافعية: ضمن من سمع راعي أي مراعاة عدد
الركعات، فيقولون: إن فساد صلاة الإمام لا يسري إلى فساد صلاة المقتدي، فإذا ظهر فساد صلاة الإمام لا يجب الإعادة على المقتدي فإنه تمت صلاته، حتى أنه قال بعضهم: أن المقتدي لو شاهد ترك الإمام الأركان تمت صلاة المقتدي كما في فتح الباري، ونقول: إن الضمانة التكفل فيسري فساد صلاة المقتدى، وقال بعض الأحناف: إن التكفل والنيابة إنما هو في القول، فإن الفعل يؤديه المقتدى بنفسه، ووجهوا الحديث إلى نفي القراءة خلف الإمام، وفي رواية: أن سهل بن سعد الساعدي كان لا يؤم بل يأتم، وكان يقول: إن الإمام ضامن، فزعم مراد الحديث ما قلنا، وظني أن هذه الرواية ثابتة، وتعرض المصنف رحمه الله إلى إسقاط حديث الباب، وقال ابن عبد الهادي في تنقيح التحقيق: إن مسلماً أخرج بسند الباب أربعة عشر حديثاً.
باب ما جاء ما يقول إذا أذن المؤذن
؟
[208]
ثبت أذكار في خلال الأذان وبعده، فثبت إجابة الأذان في السكتات، وفي الصحيحين: «أن
يجيب الحيعلتين بالحيعلتين، وفي رواية: أن يجيبهما بالحوقلتين، والعمل على الرواية الثانية، فإنها مفسِّر، وقيل: منهم ابن الهمام بالجمع بينهما، وأقول: إن الغرض اختيار أحدهما، في بعض الروايات جواب الشهادتين بأنا أشهد، وفي فتح الباري الاكتفاء على: وأنا فقط، اعتماداً على ظاهر البخاري لكن «أنا أشهد» مصرح في النسائي، ومن الأذكار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ، وقال ابن القيم في الزاد: إن المختار صلاة التشهد، ومن الأذكار دعوة الباب، وأما زيادة «والدرجة الرفيعة» فليس لها أصل، وزيادة إنك لا تخلف الميعاد» ثابتة في السنن الكبرى بسند قوي، وأما زيادة «وارزقنا شفاعته» فلا أصل لها، «والوسيلة» مرتبة في الجنة، وفي بيته شجرة وفروعها في بيت كل من أتباعه، وليسأل كل واحد من المسلمين ارتباطه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فالغرض فائدة المكلف لا فائدة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما جواب الأذان فالأحناف وغيرهم على استحبابه، ونسب إلى الحلواني وجوبه، وإن قيل: إن الأذان سنة، فكيف يكون الجواب واجباً؟ نقول: مثل سلام التحية، إنه سنة وجوابه فرض، وقيل: إن الجواب عنده الإجابة بالقَدَم، وأما من فاته جواب الأذان فبعد الفراغ هل يجب أم لا؟ فتردد النووي وصاحب البحر، فقيل: لو أجاب بعده بلا فصل يجزي، وإلا فلا.
باب ما جاء في كراهة أن يأخذ المؤذن على أذانه أجرا
[209]
نهى المتقدمون عن أخذ الأجرة على الأذان والإمامة والتعليم، وأجاز المتأخرون، وظاهر الهداية: أن القول بالجواز خروج عن المذهب، وأنه قيل به للضرورة، وقال: إن نشاء النهي أن
التعليم متفاوت بحسب أفهام المخاطبين فلا ينضبط، وفي قاضي خان: أن في الزمان القديم كانت الوظائف مقررة في بيت المال للعلماء والمؤذنين بخلاف هذا الزمان، فيجوز الأجرة فلا يلزم الخروج عن المذهب، والاعتماد على قاضي خان، فإن له مرتبة عالية كما صرح قاسم بن قطلوبغا، ولنا أثر سعد بن أبي وقاص حين أخذ القوس على قراءة القرآن. فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وتمسك الشافعية على الجواز بواقعة أبي سعيد أنه أخذ غنماً على تعويذ الفاتحة واستحسنه عليه الصلاة والسلام، ونقول: إن واقعة أبي سعيد في الرقية والرقية جائزة عليه الأجرة عندنا، وأما ختم القرآن والبخاري لأمور الدنيا فيجوز الأجرة عليه، لا الختم لأمور الدين من إيصال الثواب للميت وغيره فلا تجوز كما في رسالة ابن عابدين الشامي، إلا أن الثواب في الأذان والإقامة والتعليم حين أخذ الأجرة فيتلاشى كما صرح به قاضي خان.
باب ما جاء ما يقول الرجل إذا أذّن المؤذن من الدعاء
[210]
تردد النووي في محل هذا الدعاء أنه بدل الشهادتين، أو بعد الفراغ، وفي معاني الآثار تصريح بأنه بدل الشهادتين، وفيه (حين يسمع المؤذن يتشهد) .
(باب منه أيضاً) قال صاحب الكشاف: إن مقاماً محموداً اكتسب العلمية، فيصلح نعتاً له «الذي» وقيل: إن الذي بدل منه.
باب ما جاء أن الدعاء لا يردّ بين الأذان والإقامة
[212]
قال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة: إن الدعاء بحضرة الباري عز اسمه كالعرض في حضرة السلطان العادل فإنه يحكم فيه بحفظ النظام.
قوله: (زيد العمِّي) وجه التسمية بالعمِّي قيل: إنه إذا سئل عن المسألة كان يقول: لا أدري إلا بعد أن أسأل عمي، ولكن الصواب أن هذا بطن من القبائل.
باب ما جاء كم فرض الله على عباده من الصلوات
؟
[213]
قال العلماء: كانت خمسين صلاة ثم نسخت وبقيت خمس صلوات، وعندي لا نسخ فيها، والاختلاف بحسب اختلاف المَعلَمَين، والآن أيضاً خمسون ثواباً وأجرة، وخمس فعلاً بضابطة أن
الحسنة بعشرة أمثالها، ثم رأيته في الروض الأنف في مسلم «أنه» أعطى ضابطة:(الحسنة بعشرة أمثالها) في ليلة الإسراء.
والنسخ على ثلاثة أنواع: نسخ المتقدمين: وهو تقييد المطلق، وتخصيص العام، أو تأويل الظاهر، كما صرح به ابن تيمية، والسيوطي، وابن حزم الأندلسي، والنسخ في كلام الطحاوي: ظهور أمر خلاف ما كنا نعلمه وإن كانا باقيين حكماً، وكذلك مصرح في مواضع في الطحاوي، ولذلك قال: إن رفع اليدين منسوخ، ولذا قيل: إن الطحاوي يطلق النسخ كثيراً، وقال المتأخرون: إن النسخ ارتفاع حكم الأمر الفرعي بعد كونه مشروعاً، ثم اختلف، فقال. المعتزلة: لا بد للنسخ من العمل بالمنسوخ ولو مرة واحدة، وقال الأشاعرة: لا يجب العمل بل يكفي التبليغ إلى الأمة، ثم اتفقوا على أن وقوع النسخ ليس إلا بعد العمل بالمنسوخ، والنزاع في الإمكان لا في الوقوع فتكون المسألة من وظيفة أرباب الكلام، وتمسك المعتزلة بما في حديث الباب، وأما على ما نفيت من النسخ فلا ينهض احتجاجهم، ثم اختلف العلماء في التكليف بالناسخ، فقال الأحناف والحنابلة: من بعد تبليغ الناسخ إلى مكلف من المكلفين، وقيل: إن الشرط وصول الناسخ إلى النبي عليه الصلاة والسلام ولا يلزم تبليغه إلى مكلف، ويرد على هذا صلوات أهل مسجد قبا حين تحويل القبلة، فإنهم اطلعوا على تحويل القبلة في صلاة الفجر وما أمروا بالقضاء، فلا يصح على أحد من المذهبين، وظني أن النبي عليه الصلاة والسلام يحكم بما شاء في عهده، والعمل بالضابطة بعد عهده عليه الصلاة والسلام، ويدل على هذا كثير من النصوص، فإنه يقال: أن الجهل ليس بعذر، مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر عدي بن حاتم
بقضاء الصيام المارة قبل بيانه عليه الصلاة والسلام مسألة الصوم له، ولم يصرح بأمر القضاء في طريق من طرق الحديث صحة وضعفاً، وأيضاً كان النبي صلى الله عليه وسلم تصدى بنفسه لإرسال رسول إليهم بالخبر، فلزوم التكليف قبله عود على الموضوع بالنقض، ثم إن أورد علينا وجوب الوتر، فنقول: إن الصلوات خمسة والوتر واجب، وأيضاً الوتر تبع العشاء فإن وقته بعد العشاء إلى آخر وقت العشاء، وقيل: إن مراد الحديث خمس صلوات باعتبار خمسة أوقات، وقال البخاري: بوجوب الوتر كما سيأتي إن شاء الله تعالى في البخاري، وذكر محمد بن نصر المروزي في «قيام الليل» : أن رجلاً سأل أبا حنيفة رحمه الله كم فرض الصلوات؟ قال الإمام: خمسة، قال ما الوتر؟ قال: واجب ثم قال
ما الوتر؟ قال الإمام: واجب. فقال: كم صلوات مفروضة؟ قال الإمام: خمسة فذهب بسبيله ضاحكاً ويقول إنك لا تعلم الحساب، وأقول: إن إبا حنيفة أجابه مرتين، لكنه لم يدرك مراده لقلة العلم والفهم.
باب ما جاء في فضل الصلوات الخمس
[214]
ذكر كثير من فضائل الأعمال من الوضوء والصلاة والصوم وغيرها، ويرد أنه إذا كان الصوم مثلاً كفارة فيلغو الجمعة والوضوء وغيرهما، فيقال في الجواب: إن المذكور في هذا العالم مفردات، ثم يقابل في المحشر بين الأعمال والسيئات، مثل التذكرة وقرابا دين في الطب، وأي شيء يخلو عن العوارض والموانع، ومع هذا يحكم على الأشياء بأثارها وأحكامها، فإنهم يذكرون دواء وخواصه ثم إذا كف الدواء عن التأثير لعارض آخر لا يقول أحد بكذب صاحب الكتاب، فكذلك هاهنا للأعمال تأثيرات وعوارض وموانع.
قوله: (جمعة إلى جمعة) أي من صلاة جمعة إلى صلاة جمعة، ويوم جمعة، إلى يوم جمعة فإن في بعض الطرق «وزيادة ثلاثة أيام» بضابطة الحسنة بعشرة أمثالها، وعلى التقدير الثاني تصير الأيام أحد عشر، وعلى الأول عشرة.
قوله: (ما لم يغش الكبائر) في تفسير الكبيرة أقوال، وقيل: لا تقسيم إلى الصغيرة والكبيرة، نعم تفاوت بين المعاصي منهم ابن حزم الأندلسي، ثم تمسك المتأخرون بحديث الباب على تقييد الذنوب بالصغائر في جميع أحاديث الكفارة، والسلف يفوضون إلى الله، وأقول: لا يؤخذ القيد إلا فيما ذكر فيه، نعم ينظر إلى خصوص ألفاظ الأحاديث، فإن الذنوب والخطايا والمعاصي ليست بمترادفة، والحذاق على إنكار الترادف في اللغة، ثم قال الشاه ولي الله رحمه الله في شرح الموطأ: إن (ما لم يغش) غاية، وهو الظاهر، لأن «ما» وقتية، وقال النووي وإليه ذهب الجمهور:«إن (ما لم يغش) » إلخ استثناء فإن الغاية تسيق إلى الاعتزال، فإنهم يقولون: إن مرتكب الكبيرة خالد في جهنم وجوباً على الله، ومرتكب الصغائر فقط يجب عفوه على الله، ونقول: كل ذلك في مشيئته تعالى ويرد على المعتزلة القدر المشترك المتواتر الدال على خروج العصاة من جهنم، فأنكروا المتواتر بتواتر القدر المشترك، وأقول: إن قول الغاية في حديث الباب لا يسيق إلى الاعتزال، فإن الحديث تحت سياق
الوعد لا تحت المشيئة، وكذلك آية {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ} [النساء: 31] الخ تحت سياق الوعد، وليس في صدد بيان المشيئة، في الجامع الكبير: من قال لامرأته: لا تخرجي من الدار إلا أن أذن لك، أنها تحتاج إلى الإذن لكل خروج، بخلاف قوله: لا تخرجي حتى آذن لك، وأشكل وجه الفرق في المسألتين على الرازي في التفسير الكبير، والحال أن وجه الفرق ظاهر، فإن الاستثناء إخراج شيء من متعدد كالإخراج من البيت، والغاية انتهاء المسافة فينعدم الحكم بعد ذلك بنفسه.
باب ما جاء في فضل الجماعة
[215]
قوله: (بسبع وعشرين جزءاً) في رواية بخمس وعشرين درجة، والجمع بينهما قيل: بعدِّ خصال فضل الجماعة فتكون سبعة وعشرين في الجهرية، وخمسة وعشرين في السرية، وقيل بالاختلاف بحسب خلوص النية، قال سراج الدين بن ملقن الشافعي رحمه الله: إن أقل الجماعة ثلاثة رجال، وضابطه الأجر الحسنة بعشر أمثالها، فصار ثلاثين وأخرج، منه ثلاثة وهو أقل الثواب، وأصل الصواب مأخذ الفضل فيبقى سبعاً وعشرين، ولكنه لم يذكر وجه التوفيق فتضم إليه ضميمة أن كل صلاة لها ارتباطاً بالأربعة الباقية، لنص حديث:«من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا تخفر والله في ذمته فيحصل خمس وعشرون بضرب الخمس في الخمس ويؤخذ الارتباط من قول مالك وأبي حنيفة بوجوب الترتيب في قضاء الصلوات وليعلم أن قلة الجماعة وكثرتها مؤثرة في قلة الأجر وكثرته، ثم ليعلم أن «خمساً وعشرين» مراده صلاة، أي خمس وعشرين صلاة كما وجدته من الروايات.
باب فيمن سمع النداء فلا يجيب
[217]
المراد من الإجابة هي الفعلية، الجماعة واجبة في القول الراجح لنا فتاركها فاسق وفي قول: سنة مؤكدة، وعند الشافعية المختار سنيتها، وفي قول لهم فرض كفاية، وعند الحنابلة: فرض عين، شرط للصحة، أو غير شرط وقالوا على الثاني: لو صلى منفرداً تصح صلاته، ويكون مرتكب الحرام، وعند الظاهرية شرط لصحة الصلاة، ثم للجماعة أعذار عند كل من المذاهب الخمسة، وأقول: هاهنا نظر معنوي وهو أن أبا حنيفة حكم على الجماعة بدون ضم الأعذار ولحاظها معها، وحكم الشافعي عليها بالسنية مع لحاظ الأعذار، وكذلك حكم بسنية الوتر مع لحاظ التهجد معه، وحكم أبو حنيفة على الوتر فقط بالوجوب، وفي الاستقساء عكس هذا المذكور، والاستقاء على ثلاثة أنحاء: الدعاء بلا صلاة، والدعاء بعد الصلاة، والدعاء في المصلى، كما في النووي شرح مسلم، فحكم الشافعي بسنية الجماعة بدون لحاظ القسمين الأولين، وحكم أبو حنيفة بالاستحباب مع لحاظ الأقسام الثلاثة، وهذا النظر من مدارك الاجتهاد.
قوله: (على أقوام الخ) الحرق على القوم أعم من أن يكون القوم في البيوت أم لا؟ واستدل القائلون على عدم كراهة الجماعة الثانية بحديث الباب، فإنه لا بد من أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم بالجماعة بعد الرجوع عن الإحراق عليهم، وتمسك القائلون بالكراهة على الكراهة بحديث الباب؛ بأنه لو جازت الجماعة الثانية لأمكن لهم قول: إنا نجد الجماعة الثانية، ولكن الصواب أن حديث الباب لا يصح حجة لكلا الأمرين.
باب ما جاء في الرجل الذي يصلي وحده ثم يدرك الجماعة
[219]
قال الشافعي: من صلى منفرداً ثم وجد الجماعة يعيد الصلوات الخمسة، ثم تقع الأولى فرضاً والثانية نفلاً، وقيل بالعكس، وقيل: يفوض الأمر إلى الله تعالى، ولا يقول أحد بنية النافلة في المرة الثانية، وأما إعادة الخمسة عندهم فلأن هذه الصلاة من ذوات الأسباب عندهم، وقال مالك بن أنس لا يعيد المغرب والفجر، وقال أبو حنيفة: لا يعيد إلا الظهر والعشاء.
قوله: (مسجد الخيف) أي بمنى لا خيف بني كنانة، وأما الجواب عن حديث الباب فمن وجوه الطحاوي أنه يطلب الأوقات التي تصح فيها النافلة، ثم أن يقال: إنه يلزم تخصيص السبب من الحكم على مذهبكم، فإن الحديث ورد في صلاة الفجر، والحال أنه غير جائز كما في كتب الأصول، فنقول أولاً: إنه قال تقي الدين السبكي: إن النص الذي فيه الحكم طرداً أو عكساً يجوز فيه تخصيص المورد من النص كما في قصة ابن وليدة زمعة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الولد للفراش، للعاهر الحجر» هو إما
إثبات للملزوم أو نفي له على المذهبين، ونقول ثانياً: إن في حديث الباب انتقالاً إلى شيء آخر ورد ما زعموه وزعمهم مذكور في كتاب الآثار ص (22) كما فيما سبق من قصة النبي صلى الله عليه وسلم: وابن عباس فإنه إذا استرخت مفاصله الخ فإن المورد النبي وليس ذلك حكمه فإن فيه انتقالاً إلى شيء آخر، وأيضاً في كتاب الآثار، وأمالي أبي يوسف كما في البدائع، والمبسوط: أن الحديث في صلاة الظهر.
قوله: (وإذا صلى الرجل المغرب اه) في قول للشوافع: تصح النافلة وتراً، ولم يذهب أحد إلى هذا، ولا دليل لهم على هذا، كما صرح به أبو عمرو بن الصلاح في الطبقات الشافعية بأنه لا دليل للشافعية على هذا، وأقول في حديث الباب: إنه مضطرب، فإن في حديث الباب أنها واقعة الفجر، وفي بعض الروايات أنها واقعة الظهر، كما في كتاب الآثار لمحمد بن حسن ص (22) باب من صلى الفريضة، وأخرجه مرسلاً، وألفاظ حديث الباب، وحديث كتاب الآثار متقاربة، ومرسل كتاب الآثار وصله في مسند أبي حنيفة للحارثي بذكر جابر بن الأسود، وهو جابر بن يزيد الأسود، ولكن الحارثي متكلم فيه، وهو مع هذا حافظ كما صرح به ابن حجر، وهو شيخ الحافظ ابن منده الأصبهاني، وأقول: إن الحارثي حافظ بلا ريب، لكن تصانيفه غير منقودة، وقد استمر الحافظ ابن حجر في تهذيبه عن الحارثي في تعيين راوٍ مبهم، فالحاصل أنه عندي من رواة الحسان، ولنا ما في كتاب الآثار من أثر ابن عمر:«لا يعيد الفجر والمغرب» وأقول: يضم إليه العصر أيضاً، لما في سنن الدارقطني بسند قوي: أن ابن عمر دخل المسجد النبوي، ولم يدخل في جماعة العصر بل جلس على البلاط، فقيل له؟ فأجاب بما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تصلوا في يوم مرتين» وفي عقود الجواهر للزبيدي
أيضاً لفظ الظهر، وكذلك في البناية، وكذلك في البدائع عن أمالي أبي يوسف، وأقول أيضاً إن الحافظ أبا الحجاج المزي الشافعي قال في التهذيب: إن محجناً صاحب واقعة الفجر، وكذلك قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: إنها واقعة محجن بن أبي محجن الديلي واقعة الفجر، فهذه النقول تدل على أن صاحب الواقعة محجن بن أبي محجن الديلي، ويخالفه بعض الروايات فإن أبا داود ص (85) أخرج الروايتين رواية يزيد بن عامر وجعله صاحب الواقعة والرواية، وجعله قصة رجل واحد، ورواية يزيد بن الأسود، وفيها واقعة رجلين مع تقارب ألفاظهما، وفيه:«وهذه مكتوبة» أي الصلاة الأولى مكتوبة لا الثانية، وعندي نُقُولٌ كثيرة دالة على أن يزيد بن الأسود، ويزيد بن عامر واحد، منها أن الذهبي ذكر في التجريد يزيد بن الأسود، وذكر فيه قصة حنين، ثم ذكر يزيد بن عامر، وذكر تحته تلك القصة بعينها فدل كلامه على الوحدة وإن لم يصرح بالوحدة، وأيضاً ذكر ابن سعد أبا حاجز كنيته ابن الأسود، وذكر الحافظ في التهذيب أبا حاجز كنيته بن عامر، فعلمت الوحدة ثم ما في أبي داود مروي بسند نوح بن صعصعة، وتكلم فيه النووي في الخلاصة وضعفه، أقول: قد ذكره ابن حبان في كتاب الثقات، فلا بد من كونه من رواة الحسان، ورواية أبي داود أخرجها الدارقطني في السنن الكبرى سنداً ومتناً، وأيضاً عندي مروية بطرق أخر، فإذا ثبت وحدة يزيد بن عامر، ويزيد بن الأسود، فأقول: إن صاحب الواقعة هو محجن، ومعه رجل آخر لا يزيد بن عامر، ولي على هذه الدعوى قرائن منها أن في حديث الباب تصريح بأنه كان يصلي خلفه، وقد ثبت اتحادهما، وفي معاني الآثار ص (216) شك الراوي بين الفجر والظهر، وفي مسند أحمد بسند جيد جزم بواقعة الظهر، وأذكر بعض أوهام الكبار، منها: وذكر مجد الدين ابن تيمية جد الحافظ ابن تيمية في المنتقى محجن بن أدرع، وهذا غلط قطعاً، فإن ابن أدرع صحابي آخر،
وكذلك ذكر السيوطي في الجامع الكبير محجن بن أدرع وهو أيضاً غلط، وقال الحافظ في الإصابة: إن البخاري روى في الأدب المفرد عن محجن بن أبي محجن، وإني تتبعت الأدب المفرد فما وجدت فيه، نعم أخرج رواية ابن أدرع، هذا ما حصل لي الآن، في هذا الحديث كلاماً فالحديث صار مضطرباً.
ثم أقول: إن حكم الإعادة ليس إلا في ثلاثة أحاديث:
أحدها: حديث أئمة الجور السابق، وغرض الشارع فيه محافظة وقت الصلاة لا حكم الإعادة فلا يكون في الخمسة، كما ثبت من سنن أبي داود.
وثانيها: في حديث الباب، والغرض منه تحصيل الجماعة لنفسه لا حكم الإعادة.
وثالثها: حديث الباب اللاحق «أيكم يتجر على هذا» إلخ، والغرض منه تحصيل الجماعة للغير، فتقصر المواضع الثلاثة على مواردها وليعمل بالتشريع العام الكلي:«لا تصلوا صلاة في يوم مرتين» أخرجه الطحاوي، والنسائي، وأبو داود وابن السكن وغيرهم، وتمسك الشافعية بحديث معاذ، وأجابوا عن التشريع العام بأنه فيما ينوي الصلاتين فرضاً، أقول: إنه لا إيماء إليه في الحديث، وأيضاً
في قصة معاذ إعادة الصلاة المؤداة بالجماعة مرة بجماعة أخرى، ولا يقول أحد بهذا إلا الشوافع، ونقول: إن حديث «لا تصلوا صلاة اه» ينسخ حديث معاذ، وقال الحافظ: إن قصة الباب قصة حجة الوداع، وناسخة لحديث:«لا تصلوا صلاة» إلخ، أقول: إن مورد الباب وجدان الجماعة بعد ما صلى منفرداً، وتعذر الجواب على الشافعية عن حديث:«لا تصلوا صلاة» ، وأشكل عليهم.
باب ما جاء في الجماعة في مسجد قد صلي فيه مرة
[164]
من فاتته الجماعة في المسجد فيصلي ثمة منفرداً، أو يأتي بيته ويجمع، وإما يذهب إلى مسجد آخر، ويستحب هذا، ثم الجماعة الثانية بتكرار الأذان والإقامة تكره تحريماً، وأما بدون التكرار فعند أبي حنيفة تكره وهو ظاهر الرواية، كما في رد المختار، وفي رواية شاذة عن أبي يوسف: لابأس بتبديل الهيأة بتبديل المصلى، وعن أبي حنيفة: لا بأس إذا كان الرجال نحو ثلاثة وحمل مولانا رشيد أحمد رحمه الله ما روي عن أبي يوسف من: «لا بأس» على الكراهة تنزيهاً، ويكون لفظ:«لا بأس» دالاً على أنه خلاف الأولى، وقلما يدل على الاستحباب، وقريب من مذهب أبي حنيفة مذهب مالك كما في المدونة ومذهب الشافعي رحمه الله موافقنا على ما ذكر الترمذي مذهبه، وفي رد المحتار أن علماء المذاهب الأربعة أجمعوا على كراهة الجماعة الثانية، ولو بدون تكرار الأذان والإقامة في مكة سنة 551 خمسمائة وإحدى وخمسين، وليعلم أن حكم الكراهة منحصر على داخل المسجد لا خارجه ولو بذراع، وقد صنف مولانا الگنگوهي رحمه الله رسالة في مسألة الباب، وأتى فيه بحديث:«أنه عليه الصلاة والسلام دخل المسجد، وقد صلي فيه، فذهب إلى بيته وجمع أهله، وصلى بالجماعة» ولو كانت الجماعة الثانية جائزة بلا كراهة، لما ترك فضل المسجد النبوي، أخرجه في معجم الطبراني الأوسط والكبير، وقال الحافظ نور الدين الهيثمي: إن رجال السند ثقات محسنة، أقول: إن في سنده معاوية بن يحيى من رجال التهذيب، متكلم فيه، وتمسك القائلون بالجواز بأثر أنس بن مالك «أنه دخل المسجد فأذَّن وأقام وصلى بالجماعة الثانية» أقول: إن في مصنف ابن أبي شيبة تصريحاً بأن أنساً توسط في الصف كما يتوسط إمامُ النسوان، وهو مكروه اتفاقاً، وفي سند آخر في مصنف ابن أبي شيبة:«أنه تقدم في الصف» فتعارض الروايتان، وأما واقعة الباب فليست بحجة علينا، فإن المختلف فيه إذا كان الإمام
والمقتدي مفترضين، وفي حديث الباب كان المقتدي متنفلاً، ولنا حديث ابن عمر:«لا تصلوا صلاة في يوم مرتين» أخرجه الطحاوي، والنسائي وغيرهما.
قوله: (جاء رجل) هو أبو بكر الصديق.
قوله: (يتجر على هذا الخ) في رواية أي رجل يتصدق على هذا، وفي حديث الباب تضمين التصدق أي يتجر متصدقاً على هذا.
باب ما جاء فضل العشاء والفجر في جماعة
[221]
إن قيل: إن الثواب يزداد بازدياد المشقة، والمشقة في قيام الليل زائدة كما في نهاية ابن أثير حديث:«أفضل الأعمال أخمرها» أي أشقها، يقال: إن المأخوذ في الصلاة بالجماعة الثواب الأصلي والفضلي، وفي قيام الليل المأخوذ الثواب الأصلي، واعلم أن الثواب الأصلي ثواب العمل بقدره والفضلي هو الزائد بضابطة أن الحسنة بعشر أمثالها، والجواب المذكور ذكره القرطبي شارح مسلم، وسيأتي جواب آخر في فضل سورة الإخلاص على ما قال ابن تيمية، وأما القرينة على جواب القرطبي فهو أن صلاة الفجر والعشاء بالجماعة مأخوذة تحقيقاً، فيؤخذ الثواب الأصلي والفضلي، والمأخوذ في صلاة الليل مقدر فيؤخذ ثوابها الأصلي.
قوله: (فلا تخفروا الله. . الخ) فإن قيل: كيف يتحقق التخفير من العباد؟ ونقول: إن أفعال الباري وقدرته تُرى في دار الدنيا مستورة تحت الأسباب.
باب ما جاء في فضل الصف الأول
[224]
اختلفوا في تفسير الصف الأول، قيل: هم الأولون دخولاً المسجد، وقيل: الصف الأول هم المتصلون بالإمام، والمختار هو الثاني، وإن كان للأولين دخولاً أيضاً ثواباً، لكن مصداق الصف الأول هم المتصلون بالإمام، ثم اختلفوا في أن الصف الأول هو الصف التام، أو الصف الذي يكون في المقصورة والمحراب الكبير، والمختار هو الأول أي البالغ من جدار إلى جدار.
قوله: (وشرها آخرها) قال الأحناف: إن خير الصفوف في صلاة الجنازة آخرها، والغرض التحريض على صلاة الجنازة كيلا يتخلفون على أنها فرض كفاية، وأما علة حديث الباب من شرها آخرها أن النساء كن يحضرن المساجد، وأما الأحناف فجوزوا حضور العجائز ثم منعهن أرباب الفتيا لفساد الزمان.
باب ما جاء في إقامة الصفوف
[227]
تسوية الصفوف واجبة على الإمام كما في الدر المختار، وتركها مكروه تحريماً، وقال ابن حزم بفرضيتها، والاعتبار في التسوية الكعاب، وأما ما في البخاري من إلزاق الكعب بالكعب فزعمه بعض الناس أنه على الحقيقة، والحال أنه من مبالغة الراوي، والحق عدم التوقيت في هذا بل الأنسب ما يكون أقرب إلى الخشوع وفي النسائي:«أن رجلاً من السلف كان يصف بين قدميه» أي يلزق بين كعبيه، وفي السنن، وكذلك في الوفاء: قال أنس لرجل: أتعلم لم هذه الخشبة في الجدار؟ فإنه عليه الصلاة والسلام كان يضع عليها يده الشريفة ويسوى الصفوف، وكان رجل في عهد عمر وعثمان يمر في الصفوف، ويقول: سووا صفوفكم، وإن كان صف بعض معدل، وبعض غير معدل فظني أن رجال ذلك الصف والذين خلفه آثمون، فإنه كان عليهم الترصيص لا على الذين قدامهم، والله أعلم
وعلمه أتم، ومن رأى فرجة في الصف يجوز له الدخول فيها، ولو تحظى الرقاب كما هو مصرح في كتب الفقه.
قوله: (ليخالفن الله بين وجوهكم) قيل: المراد البغض، وقيل المراد: المسخ صورة، ثم قيل: إن المسخ مرفوع عن هذه الأمة المرحومة، فأجيب بأن المرفوع هو المسخ العام، ويجوز مسخ البعض.
قوله: (من تمام الصلاة اه) التمام يتعلق بالأجزاء، والكمال يتعلق بالصفات.
(ف) تسويةُ الصفوف مؤثرةٌ في رفع الحقد والشَّحناء من بينِ الصُّدور.
باب ما جاء ليليني منكم أولو الأحلام والنهى
[228]
الأحلام جمع حِلم بالكسر، أو جمع حُلُم بالضم، وقرينة الأول قرينة النهى أي العقول.
قوله: (فتختلف قلوبكم. . إلخ) هذا دال على أن المراد في الحديث السابق الحِقد.
قوله: (هيشات الأسواق اه) قيل: إنه كلام مستأنف، ونهى عن الذهاب إلى الأسواق بلا
ضرورة، وقيل: إن الكلام يتعلق بالسابق، والنهي عن رفع الصوت في المسجد، وقال الملا علي القارى: إن الجهر بالذكر في المسجد حرام. هكذا في المرقاة، وكذا ثبت النهي في أثر، وأما الكروري صاحب البزازية فأجاز رفع الصوت بالذكر، وكذا في الخيرية إلا أنهما لم يذكرا قيد المسجد، وفي المنع عن الكلام في المسجد حديث في الطريقة المحمدية، وأثر عن عمر.
باب ما جاء في كراهية الصف بين السواري
[229]
حكم القائم بين عضادتي المسجد حكم القائم بين الساريتين، وفي معراج الدراية لقوام الدين الكاكي عن أبي حنيفة: يكره للإمام أن يقوم بين الساريتين، وهذا صادق على من يقوم بين العضادتين أيضاً، وأما المقتدي فلم أرَ له في كتبنا إلا ما ذكر ابن سيد الناس اليعمري كما في نيل الأوطار نسبة كراهته إلى الأحناف، وأما المفرد فلا كراهة له عند أحد فإنه عليه الصلاة والسلام «صلّى في بيت الله بين العمودين» كما في البخاري، وفي مجمع الزوائد لنور الدين الهيثميب عن ابن مسعود:«إذا كان رجلاً أو ثلاثة بين الساريتين يجوز القيام بينهما فإنه صار كالصف» .
باب ما جاء في الصلاة خلف الصف وحده
[230]
مذهب أبي حنيفة رحمه الله والشافعي رحمه الله ومالك رحمه الله كراهة القيام خلف الصف وحده، وقال أحمد: ببطلان الصلاة، وسبيل هذا الرجل عندنا أن يجر رجلاً من الصف بالإشارة، وأفتى أرباب الفتوى بعدم الإشارة للجر لقلة العلم وفساد الزمان، وأما دليل أصل المذهب من الجَرّ فما رواه أبو داود في مراسيله، وقال الحافظ في فتح الباري: إن البخاري موافق لأحمد في جزء القراءة.
قوله: (أن يعيد الصلاة) الإعادة عند أحمد لبطلان الصلاة، وعندنا لأداء الصلاة بالكراهة تحريماً، ولا يقال: إن هذا إعادة الصلاة بل هذه الصلاة لتكميل الصلاة الأولى، حتى لا يجوز لأحد أن يقتدى بهذا الرجل، وأما إعادة الصلاة المقرونة بالكراهة التحريمية، فظاهر الهداية أن كل صلاة مؤداة على الكراهة تحريماً سبيلها الإعادة سواء كانت الكراهة داخلة أو خارجة، فإنه ذكر المسألة تحت الصلاة على التصاوير وهذه الكراهة خارجة، وتردد في هذا ابن عابدين بأن الجماعة واجبة، ومن صلى منفرداً لم أجد رواية أن يعيد في الجماعة، وأما إعادتها منفرداً فلا فائدة فيه، أقول: إن المنفرد لا يعيد بل يستغفر، ثم إعادة الصلاة المؤداة بالكراهة تحريماً قيل: واجبة، اختاره السرخسي، وصاحب الهداية، وابن الهمام، وقيل: إنها مستحبة، ثم اختلفوا في أن الوجوب والاستحباب داخل الوقت أو خارجه، فذهب ذاهب إلى هذا، وذاهب إلى ذاك، وقال صاحب البحر: تجب في داخل الوقت، ويستحب في خارجه، وقال ابن عابدين جمع صاحب البحر بين القولين، فإن القائلين بالوجوب قائلون به داخل الوقت وخارجه، وكذلك القائلون بالاستحباب.
قوله: (وروى) حديث حصين إلى قد أدرك وابصة هو أخذ زياد ابن أبي الجعد يد هلال وقيامه به على وابصة الشيخ، فاختلف أهل الحديث في هذا فقال بعضه حديث عمرو بن مرة عن هلال بن يساف عن عمر بن أرشد الآتي عن وابصة أصح، وقال بعضهم: حديث حصين عن هلال بن يساف عن زياد بن أبي الجعد عن وابصة أصح وهو المذكور سابقاً، قال أبو عيسى: هذا المذكور سابقاً أصح من حديث عمرو بن مرة، لأنه أي عمرو بن مرة قد روى من غير حديث هلال بن يساف عن زياد بن أبي الجعد عن وابصة متعلق بروى حدثنا محمد بن بشار إلى عن وابصة هذا حديث زياد بن أبي الجعد غير حديث هلال بن يساف عنه حدثنا محمد بن بشار إلى أن رجلاً هذا الحديث الذي صححه البعض الأول، وقال: إن حديث عمرو بن مرة إلخ، فحديث زياد بن أبي الجعد من طريقين عمرو بن مرة وطريق هلال بن يساف، وأما حديث عمرو بن راشد فمن طريق واحد وهو طريق عمرو بن مرة، فالحديث الذي بطريقين أصح من الذي بطريق واحد.
باب ما جاء في الرجل يصلي ومعه رجل
[232]
مذهب الشيخين أن يكون قدما المقتدي حذاء قدمي الإمام، وقال محمد: يتأخر المقتدي بشيء وعلى هذا العمل، حديث الباب طويل أخرجه البخاري في صحيحه، وفيه:«أن النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة كانا نائمين على طول الوسادة وابن عباس على عرضها، وكان ابن عباس غير محتلم» .
قوله: (ذات ليلة) في الرضي أن موصوف ذات مقدّر، أي مدة ذات إلخ، وفعله عليه الصلاة والسلام يدل على أن يدفع المكروه اللاحق في خلال الصلاة في خلالها، وفي كتبنا من سقطت عمامته يجوز له أن يضعها على رأسه بيد واحدة، وفي شرح ابن الملك أيضاً تصريح جواز دفع المكروه في الصلاة.
تنبيه واعلم أن الفتوى قد يكون على الأقوى دليلاً، وقد يكون على الأرفق بالناس، وقد يكون على الموافق بعرف بلدة، وقد يكون على الأوفق بالحديث، وقد يكون على الموافق لإمام من الأئمة المجتهدين.
باب ما جاء فى الرجل يصلي مع الرجلين
[233]
المرأة الواحدة لا تدخل في صف الرجال، ويدل حديث الباب على أن يدخل الصبي الواحد في
صف الرجال وهو مذهبنا، وإذا كانا اثنين فصاعداً فيطلب الحكم من حديث:«ليليني أولو الأحلام والنهى منكم» السابق، مذهب الطرفين أن الرجلين يتأخران عن الإمام، ونسب إلى أبي يوسف مثل ما في هذا الباب عن ابن مسعود، كما في الدر المختار: إذا كانا رجلين يكره لهما القيام مع الإمام تنزيهاً، وإذا كانوا ثلاثة فيكره تحريماً.
(ف) الحديث الساكت عن العذر لا يحمل على المعذور بدون ضيق.
قوله: (وقد روي عن ابن مسعود) قال بعض السفهاء: كما لم يبلغ ابن مسعود مسألة تأخير المقتدين، ومسألة نسخ التطبيق في الركوع، كذلك لعله لم يبلغه مسألة رفع اليدين لأنه كان قصير القد، أقول: إن هذا القول من غاية الجهل، ولا يصدر إلا ممن تم عليه الجهل، فإن رفع اليدين يعمل في يوم وليلة مائة مرة بل أزيد، فهل يقول العاقل بما قاله السفهاء؟ وأما ما في حديث الباب فيقع قليلاً ولعله تأسى فيه النبي صلى الله عليه وسلم في واقعة له قد مضت له معه صلى الله عليه وسلم ولا يجعله سنة، وأما التطبيق فمروي عن علي أيضاً بسند حسن بإقرار الحافظ، فلعلهما حملا النسخ على الرخصة في تلخيص الحبير:«إذا قام الرجل بالصلاة في الصحراء يقوم معه ملكان يميناً وشمالاً، وإذا أذن أيضاً فيصفون خلفه» .
قوله: (إسماعيل) هما اثنان عبدي وهو ثقة، ومكي وهو المذكور هاهنا وهو ساقط، وقد وثقه المصنف في موضع.
باب ما جاء في من أحق بالإمامة
[235]
الإمامة على قسمين صغرى وكبرى، والكبرى تولي أمور المسلمين أي الخلافة، واشترطوا لها أن يكون قرشياً، وعن أبي حنيفة كما في التحرير المختار، واختار إمام الحرمين عدم اشتراطه.
والإمامة الصغرى كون الرجل ضامناً لصلاة من يقتدى خلفه، وكان الإمام الصغير والكبير واحداً في السلف ثم افترقا آخر الزمان، وحديث الباب لم يخرجه البخاري إلا أنه أخذ المسألة، ومذهب أبي حنيفة: أن الأعلم مقدم، ثم الأقرأ، وعن أبي يوسف رواية عكس هذا، وعند الشوافع قولان، والمشهور عندهم تقديم الأقرأ على الأعلم بالسنة، واحتج صاحب الهداية بحديث الباب الظاهر أنا مجيبون عنه لا مستدلون به، وليعلم أن «أقرأ» الحديث غير «أقرأ» العرف فلا يكون حديث الباب وغيره متعلقاً بما في الفقه، والأقرء في عرف الحديث هو الحافظ المقدار الزائد للقرآن، وفي العرف هو عالم
التجويد، وفي حديث قصة بير معونة وغزوة يمامة استعمل لفظ القراء على ما قلت من عرف الحديث، وأورد ابن الهمام على صاحب الهداية إيرادين أحدهما: أنه لو كان إقراء السلف أعلم أيضاً كما قلت، يلزم تقديم من كان حافظاً لزيادة مقدار القرآن، ويعلم علم الكتاب، ولا يعلم الفقه إلا القدر الضروري على من هو متبحر في الفقه، وعالم قدر القرآن الضروري، والحال أنه خلاف تصريحات الفقهاء، أقول: إن إيراد الشيخ مندفع بالنظر إلى أحوال الصحابة، والإيراد الثاني على صاحب الهداية: إن قوله خلاف نص الحديث فإن نص الحديث بالفرق بين الأعلم والأقرأ، ويلزم التساوي بينهما على ما قلت، أقول: إن إيراد الشيخ مندفع فإنه مناقشة لفظية، فإنه مع التساوي في القراءة يكون أحدهم أعلم بالسنة ولم يدَّعِ صاحب الهداية انحصار العلم في الأقرأ، فإن السلف كانوا يتعلمون القرآن ومسائل الحديث أيضاً واستدل ابن الهمام على المسألة من تلقائه، وكنت متردداً فيه حتى أن وجدت إليه إيماء البخاري، والاستدلال بأنه عليه الصلاة والسلام أخبر «أقرؤكم أبي بن كعب» ومع ذلك جعل الصدِّيق الأكبر إماماً لكونه أعلمهم، لما روي عن أبي سعيد الخدري أنه عليه الصلاة والسلام خطب يوماً وقال:«إن الله خير عبداً بين الدنيا والآخرة فاختار العبد الآخرة» فبكى أبو بكر الصديق فتعجبنا من بكائه، ثم علمنا أن ذلك العبد هو النبي صلى الله عليه وسلم، فعلمنا أن أعلمنا أبو بكر الصديق، وأشار البخاري إلى هذا، ثم إن قيل: كيف اعتبر الفقهاء الحسن أيضاً مرجح التقديم للإمامة؟ نقول: إن الشريعة بوَّب على أن يُقدَّم ذو وقار والجميل أيضاً ذو وقار، فإنه عليه الصلاة والسلام كان يرسل دحية الكلبي إلى الملوك لأنه كان جميلاً وذا وقار.
قوله: (ولا يؤم الرجل في سلطانه) السلطان مصدر أو صيغة صفة، وهاهنا مصدر، قال الفقهاء: لو كان الزائر أحق بالإمامة فعلى إمام الحيِّ أن يقدمه، وأما الزائر فلا يتقدم بنفسه بدون الإذن، وشبيه هذا ما في الحديث:«لا تمنعو إماء الله من المساجد» وحث النساء على الصلوات في قعر البيت لا في المسجد، فإن مثل هذه الأمور يتقوم بالطرفين، فيأمر الشارع الطرفين بما يليق كل واحد منهما.
مسألة.
أقول: يجوز الاقتداء خلف المخالف من المذاهب الأربعة مطلقاً بدون كراهة وهو الظاهر، ونقل ابن الهمام عن شيخه الشيخ سراج الدين قارئ الهداية، أن عدم جواز الاقتداء خلف المخالف ليس بمروي عن المتقدمين، وكذا ذكره الشاه عبد العزيز في فتاواه، واعترض ابن الهمام بما في الجامع الصغير في مسألة تحري القبلة، أقول: إن مبنى ما في الجامع الصغير ليس على ما زعم الشيخ
ابن الهمام، فإنه خلاف المتابعة في داخل الصلاة، وأما الفتاوى ففي بعضها صحة الصلاة، وإن لم يتحرز الإمام عن الخلافيات، وفي بعضها صحة الصلاة بشرط أن يتجنب الخلافيات، وفي بعض كتب المذهبين عدم جواز الاقتداء بمشاهدة ما يرى المقتدى من نواقض الوضوء في الإمام، مثل أن يرى المقتدي الشافعي مس المرأة والذكر من الإمام الحنفي، وتصح الصلاة لو لم يشاهدها، ولا يكلف بالسؤال عن الإمام، أقول: قد اجتمع السلف عملاً على مسألة جواز الاقتداء بلا خلاف وتقييد فإنهم كانوا مختلفين في الفروع وكانوا يقتدون خلف كل منهم بلا نكير، وسؤال من أنك توافقني في الفروع أم لا؟ ثم قالت جماعة من أرباب الفتيا: إن العبرة في الخلافيات لرأي الإمام، وقيل: لرأي المقتدي، والمتحقق ما حررت آنفاً، وليس خروجاً عن المذهب بل هو المذهب.
قوله: (إلا بإذنه) قيل: إنه يتعلق بجملتين، وقيل بواحدة.
(واقعة) : في تاريخ ابن خلكان أن الدامغاني الحنفي مر بمسجد الأستاذ أبي إسحاق الشيرازي عند المغرب، فحان وقت الصلاة فدخل المسجد، فأشار الأستاذ إلى المؤذن أن لا يرجع في الأذان، فقدم الدامغاني على الصلاة فصلى بهم الدامغاني صلاة الشافعية.
باب ما جاء إذا أم أحدكم فليخفف
[236]
ظهور التخفيف إنما يكون في القراءة لا في الركوع والسجود، وتعديل الأركان كما هو معلوم من فعل صاحب الشريعة، وأما ختم القرآن مرة في رمضان فلا يترك وإن كسل القوم.
باب ماجاء في تحريم الصلاة وتحليلها
[238]
حديث الباب ليس بقوي، فإن أبا سفيان متكلم فيه ولو كان صحيحاً لأفادنا في وجوب ضم السورة، وأما ما مر من حديث علي فكان قوياً، ولكنه خال عن هذه القطعة، وأما ما في الهداية: من أحدث بعد التشهد فقد أجزأت صلاته، فالمراد صلاته مشتملة على أداء الأركان فإنه مصرح في كتبنا أن يتوضأ ويسلم واجباً، ربما يطلق لفظ الصحة على ما يكون مشتملاً على الكراهة تحريماً، وفي كتب المذاهب الأربعة أن الساجد قبل الإمام مرتكب الحرام، وصحت صلاته وأجزأت.
باب ما جاء في نشر الأصابع عند التكبير
[239]
ذكر الطحاوي السنة أن يمد أصابع يديه، ويستقبل بها القبلة، ويوجه الكف إلى القبلة، ولا يضم كل الضم، ولا يفرج كل التفريج، ثم قال الشافعي: يرفع يديه إلى أذنيه، وفي رواية أن يرفع يديه إلى منكبيه، وكلامه في مصر جامع لهما، وهو المختار عند الأحناف، أي يكون الكف حذاء المنكب والأصابع حذاء الأذنين.
باب ما جاء في فضل التكبيرة الأولى
[241]
عند أبي حنيفة واجد الركعة الأولى واجد فضل التحريمة، أي فضل التحريمة ممتد إلى الركوع، وقال علماء المذاهب الأربعة: من أدرك الركوع أدرك الركعة، خلاف الضُّبعي تلميذ ابن خزيمة، وتقي الدين السبكي، وقال الحافظ: ما نسب إلى ابن خزيمة ما وجدته في صحيحه، أقول: إنه كان منسوباً إلى تلميذه فاختلط على البعض، ونسبوه إلى ابن خزيمة أيضاً، وكان يقول الشوكاني أولاً مثل قول الضُّبعي، ثم رجع عنه في فتاواه.
قوله: (من صلى أربعين يوماً) اشتهر بين العوام: من صلى أربعين يوماً بالجماعة يعتاد الصلاة، لعلهم أخذوا من هذا الحديث ولكنه ضعيف.
قوله: (عن أنس موقوفاً) أقول: لا مدخل للعقل في ذكر البراءتين، فلا بد من كونه مرفوعاً حكماً.
باب ما يقول عند افتتاح الصلاة
[242]
قال الثلاثة باستحباب الذكر قبل الفاتحة، وقال مالك بن أنس بعدم استحبابه، وثبت كثير من صيغ الثناء يجوز كلها في المذاهب، واختار الشافعية ما في الصحيحين، ومختار الأحناف والحنابلة كما صرح به أحمد:«سبحانك اللهم وبحمدك» إلخ موقوفاً على عمر أخرجه مسلم ص (172) ، ولنا مرفوع أيضاً أخرجه في كتاب الدعوات، وأخرجه الزيلعي أيضاً بسند صحيح في كتاب، وفيه سؤال أهل كوفةٍ عمر فعلمهم بالفعل وأجهر به ليتعلموا، وأما المرفوع الذي أخرجه الزيلعي من كتاب الدعوات للطبراني ففي التخريج سهو الكاتب، فإنه كتب زحموية بالزاي المعجمة بدل رحموية بالراء المهملة، وثبت الأذكار منه عليه الصلاة والسلام في ستة مواضع عقب تكبيرة التحريمة، والركوع والاعتدال منه، والسجود، وبين السجدتين، وقبل السلام، كذا في المواهب، وكان يدعو أيضاً في القنوت، وإذا مر بآية رحمة وآية عذاب.
تنبيه ضروري: في الحلية للمحقق ابن أمير الحاج أن الأذكار الواردة في الأحاديث جائزة عندنا في النافلة والمكتوبة بشرط أن لا يثقل على الناس، وأما عامة مصنفينا أهملوها ويزعم الناظر عدم تعرض الأحناف إلى الأذكار، وأما ما ذكروا من الإتيان بالأذكار في النافلة فمداره على تثقيل القوم.
قوله: (سبحانك اللهم وبحمدك. . إلخ) عندي اختصار من الجملتين؛ أي من سبحت سبحانك، وحمدت الله حمداً فلا تكون واو (وبحمدك) زائدة وقال العلماء: إن بحمدك حال وسبحانك مصدر سبح مجرداً، لا كما قال بعض المناطقة فإنهم عارون عن اللغة.
قوله: (همزه الخ) همزه وسواسه، ونفخه كبره، ونفثه السحر أو الشعر، وليُعلم أن حسنَ الشعر وقبحَه بحسن ما فيه وقبحِه، ولكن أكثر الأشعار تكون قبيحة فذمته الشريعة، وثبت الأشعار عن
الشافعي، والشيخ عبد القادر القرشي نسب شعرين إلى أبي حنيفة، وكذلك إلى البخاري، وأما أحمد ومالك فلم أجد عنهما، وقد ثبت سماعه الأشعار مائة شعر من قصيدة أمية بن أبي الصلت.
قوله: (وقد تكلم في إسناد حديث أبي سعيد) أقول: يمكن تحسين حديث أبي سعيد فإن النسائي ص (143) أخرجه.
باب ما جاء في ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم
[244]
التسمية من القرآن عند أبي حنيفة وليست جزء سورة، وفي رواية عنه أنها جزء الفاتحة، وعند الشوافع جزء الفاتحة قطعاً، وفي جزئيتها لسائر السور قولان، وعند مالك إنما هي نازلة للفصل بين السورتين، وقال الأحناف: يخفي ببسم الله، وقال الشوافع: يجهر به، ومالك وأحمد موافقان لنا، وصنف الدارقطني رسالة في هذا، وحكي لما بلغ الدارقطني مصر استحلفه مالكي هل أتيت في الرسالة بحديث صحيح؟ قال الدارقطني: لا، كذا نقله ابن تيمية، وزعم البعض أن مدار الجهر وتركه جزئية الفاتحة وعدمها، أقول: إنه خطأ، فإن بعض القائلين بالجزئية قائلون بالإسرار، وقد ثبت الآثار في
جهر بسم الله ولم يصح مرفوع، وتعرض بعض المتأخرين إلى إثبات المرفوعات، مثل السيوطي في الإتقان، ولكن كلها معلولة، وقال الزيلعي: وجه إكثار الرويات في الجهر إدخال الروافض في المسألة وهم الملاعنة وضاعون، أقول: وإن لم يصح مرفوع سنداً ولكنه لا بد من ثبوته من صاحب الشريعة، وإلا فكيف قال به الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، نعم استمراره عليه الصلاة والسلام على الإخفاء، ونقول كان الجهر للتعليم أي تعليم ثبوت التسمية في الصلاة لا لتعليم الجهر بالتسمية كذا في الهداية، وفي كتاب الآثار أن عمر جهر بالتسمية لتعليم أهل كوفة، فنقول: إن جهره عليه الصلاة والسلام كان للتعليم كما قال الشافعي رحمه الله في حديث التكبير على ختم الصلاة أخرجه مسلم عن ابن عباس أنه للتعليم، ولم يقل أحد بسنية الجهر بالذكر بعد الصلاة إلا ابن حزم الأندلسي، وقد ثبت الجهر في مواضع للتعليم، مثل ما روى السيوطي أنه عليه الصلاة والسلام جهر بالقراءة في صلاة الظهر، وقال في آخرها:«إنما جهرت لتعلموا» ولكني لم أجد سنده، ولا يلزم سجدة السهو بجهر ما يخافت أو عكسه عند الشافعي رحمه الله، وله آثار في مصنف ابن أبي شيبة، ويلزم سجدة السهو عند أبي حنيفة وله أيضاً آثار، وكذلك ثبت جهر عمر بالثناء للتعليم كما في كتاب الآثار وقد ثبت جهر آية في الظهر والعصر للتعليم كما في مسلم، وأما تسبيح الركوع فلم تكن حاجة إلى الجهر فإنه لما نزل:«سبح اسم ربك العظيم» قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها في الركوع» وقد ثبت جهر الدعاء في القومة كما في سنن ابن ماجه ص (163) ، وما أتى الحافظ بدليل مذهبه مرفوعاً إلا ما في النسائي ص (144) عن أبي هريرة أنه فعل أشياء كثيرة وجهر ببسم الله أيضاً، وقال: إنا أشبه منكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقول ربما يعقل الصحابي أشياء كثيرة، ثم يقول:
هكذا وجدت من النبي صلى الله عليه وسلم مع أن بعض الأشياء لا تكون مرفوعة بل من اجتهاده.
قوله: (عن ابن عبد الله الخ) هاهنا راو مبهم استمد الحافظ في تعيينه بمسند الحارثي، وقال: إنه يزيد بن عبد الله بن مغفل، وأخرج النسائي ص (144) حديث ابن عبد الله وفيه أيضاً مبهم.
(واقعة) : في الأشباه والنظائر في النحو، أن العلماء كانوا مجتمعين في حضرة السلطان برسباتي لختم البخاري، فأخذوا في مسألة الباب، وقالوا: إن المثبت المشتمل على زيادة الجزء مقدم على
النافي المشتمل على قلة الجزء ونقصانه، وكان السلطان يستفتي ابن الهمام لتورعه، فاستفتاه فكتب الشيخ رسالة في الجواب قبل ختمههم البخاري، وأرسلها بحضرة السلطان.
مسألة: قراءة التسمية في ابتداء كل ركعة سنة عندنا، وفي رواية واجبة وقال ابن وهبان في نظمه:
~ ولو لم يبسمل ساهياً كل ركعة
…
فيسجد إذ إيجابها قال الأكثر
وعندي أن الأكثرين إلى السنية، ولعله أراد بالأكثر سائر الأئمة من الشافعي وأحمد ومالك، واختار الوجوب الشيخ السيد محمد الآلوسي في تفسيره روح المعاني، وفي رواية عن محمد استحباب التسمية بين السور والفاتحة، وقال الشيخان: بجوازها وإباحتها.
باب ما جاء في افتتاح القراءة بالحمد لله رب العالمين
[246]
ظاهر حديث الباب يؤيد الأحناف والحنابلة والموالك، وقال الإمام الشافعي رحمه الله: إن (الحمد لله رب العالمين) اسم سورة الفاتحة والتسمية جزء الفاتحة، فتدرج في الفاتحة، قال الزيلعي:
إن اسم السورة (الحمد الله رب العالمين)، ولنا ما في مسلم:«قسمت الصلاة بيني وبين عبدي» ، وفي سنن أبي داود:«كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يفرق بين السور، فنزلت التسمية» فعلم عدم كونها من الفاتحة، فإنها نزلت مؤخرة عن بعض القرآن، وقال شمس الدين الجزري: أنزل القرآن على سبعة أحرف، والتسمية جزء باعتبار بعض الأحرف، فيكون قوله جامعاً بين جميع المذاهب، وقد يختلف الحكم باختلاف الأحرف كما في الدر المختار: أن في قوله تعالى تشديداً وتخفيفاً اختلافاً في محل السجدة، وبالاختلاف يختلف الحكم، ولعله كذلك الاختلاف في وحدة السجدة في سورة الحج وتثنيتها، والله أعلم.
قوله: (وقال الشافعي الخ) أقول: كيف يقال بمثل هذا وقد وقع تصريح نفي الجهر ببسم الله في مسلم ص (172) والنسائي ص (144) في رواية الباب؟
(حكاية) : في بعض الكتب كالخيرات الحسان في مناقب أبي حنيفة النعمان رحمه الله: دخل الشافعي بغداد وصلى ركعتين عند قبر أبي حنيفة ولم يجهر بالتسمية، فقيل: ولم تركت؟ قال: أدباً لصاحب هذا القبر وقد صح هذا النقل، وقال الشافعية: لم يترك رفع اليدين، نقول: لعله كان عنده جهر التسمية غيرأكيد خلاف رفع اليدين.
باب ما جاء أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب
[247]
ههنا مسألتان: مسألة حكم الفاتحة فقال أبو حنيفة بوجوبها، وقال الثلاثة بركنيتها، وفي رواية للمالكية وجوب الفاتحة كما في العيني، ونقل الوزير ابن هبيرة الحنبلي رواية عدم ركنيتها في الأشراف، بمذاهب الأشراف، ورأيت مكتوباً عليه الإفصاح، ولكنه غلط الكاتب فإن الإفصاح عن معاني الصحاح كتاب آخر للوزير ابن هبيرة، ولابن منذر أيضاً إشراف.
والمسألة الثانية: قراءة الفاتحة خلف الإمام، والمذكورة هاهنا الأولى، وأما الثانية فمذهب أبي حنيفة وأحمد ومالك والجمهور نفي القراءة خلف الإمام في الجهرية، واختلفوا في السرية، قيل: سنة، وقيل: مستحبة، وقيل: مباحة، وقال الشافعي بوجوبها في السرية والجهرية، وكان قول الشافعي: القديم عدم وجوبها في الجهرية، وقوله الجديد وجوبها كما قال المزني في مختصره، بلغنا من بعض أصحابنا أن الشافعي قال كذا، وقال الشافعية: إن ذلك المبلغ هو ربيع بن سليمان تلميذ الشافعي، ولم يذكر الشافعي رحمه الله وجوبها في الجهرية في كتاب الأم، وأما المتقدمون مثل صاحب المذهب فيذكرون القولين، وأما المتأخرون فلا يذكرون إلا الجديد.
قوله: (لا صلاة لمن لم يقرأ) حديث الباب أخرجه أرباب الصحيحين لا القصة المذكورة، أقول: إن حديث الباب ليس في حق الجماعة، بل في حق الجماعة حديث:«من كان له إمام فقراءة الإمام قراءة له» وحديث «إذا قرأ فانصتوا» إلخ، وقال بعض الأحناف: إن النفي في «لا صلاة» نفي الكمال وعندي أنه مدخول فيه فإن الفاتحة واجبة عندنا، ويلزم على هذا نفي الوجوب، فإن ظني الدلالة والثبوت لا يوجب الوجوب كما صرح به الأصوليون، والحق أن يبحث في ظنية الثبوت لا الدلالة ولم يتعرض صاحب الهداية ص (97) إلى الدلالة أصلاً، وأقول: إن تقدير لا صلاة كاملة أيضاً غير فصيح عندي، قال حذاق النحاة: إنه يكفي في التقدير رائحة المقدر لا أن يقدر في العبارة والنظم، وقالوا: إن متعلق الجار، وكذلك عامل الحال المستنبط من الإشارة أو التنبيه عامل معنوي، وزعمه القاصرون، ذكره في نظم العبارة، وإني لا أقول بالتقدير فيما يتلفظ في نوعه، فلا أقول بالتقدير في الظرف المستقر، نعم أقول بتقدير المبتدأ والخبر، وقال الرضي: من قال: زيد كائن في الدار خرج من لغة العرب، فلا أقول بتقدير الكمال، نعم قد أقول بنفي الكمال إلا أنه بنفي الكمال في المصداق
أي تنزيل الناقص منزلة المعدوم، واستعمال ما هو للمعدوم في الناقص لا في الدلالة والكلام كما قال صحابي: ما أجزء منا أحد من أجزء فلان في قتل قزمان المشركين في غزوة خيبر كما في الصحيحين.
دقيقة: واعلم أن الباء الداخلة على «بفاتحة الكتاب» في حديث الباب ليست إلا للتعدية فإن القراءة ونحوها من المسح والوتر كان متعدياً بنفسه في اللغة، ثم إذا نقل إلى الشريعة صار لازماً، فعندي بالباء كما قال العلماء في {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] أنه إما لازم وإما متعدٍ، وكذلك أقول في باء {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] ولم ينبه الأصوليون على هذه الضابطة، ونبه عليها الزمخشري في المفصل، وكذلك أشار إليها في الكشاف في آية:{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَة} [مريم: 25] أي افعلي فعل الهز، وكذلك أشار سيبويه حين قال: إن المزيد يدخل على المجرد، مثل: قبرته وأقبرته، ومعنى أقبرته أدخلته في القبر، وكذلك أقول في أتتني صحيفة فلان فقرأت بها، خلافَ، ما قال ابن هشام في المغني، معناه قرأت تبركاً بها، وأقول: الباء عندي للتعدية، وقال الطيبي في شرح المشكاة بتضمين الابتداء في حديث الباب، أي لا صلاة لمن لم يبدأ بفاتحة الكتاب، وهذا يفيدنا في وجوب ضم السورة، وعن مالك رحمه الله أيضاً وجوب ضم السورة كما في الهداية ص (94) ، ولكني لم أرض بما قال الطيبي، وإن قيل: لقد تواتر العمل بقراءة الفاتحة فتكون فرضاً لثبوتها بالقطع، نقول: إن التواتر عملاً في الإتيان بها لا على كونها ركناً كما ثبت التواتر عملاً في بعض المستحبات.
باب ماجاء في التأمين
[248]
قال مالك: يؤمن المقتدي فقط سراً وهكذا مروي عن أبي حنيفة في موطأ محمد ص (105) ، والرواية الثانية عن أبي حنيفة وهو مختار صاحبيه أن يأتي به الإمام والمقتدى سراً، والقول الجديد للشافعي: أن يجهر الإمام ويسر القوم، وفي القديم جهرهما به، وبه قال أحمد بن حنبل، ولم أجد تصريح الجهر عن الموالك، بل صرح في المدونة بالإخفاء، وأما السلف الصالحون فإلى الطرفين،
والأكثر هو الإخفاء عند السلف، ذكره في الجوهر النقي ص (132 ج1) عن ابن جرير الطبري، فكان هو السنة، والجهر جائز غير سنة، قيل: المراد مد الألف لارفع الصوت، والحال أن رفع الصوت مصرح في الصحاح.
قوله: (وفي الباب الخ) رواية علي أخرجها ابن ماجه، ورواية أبي هريرة أخرجها الدارقطني في سننه وحسنها، وأخرجها في علله وأعلها، وأخرجها في النسائي ص (144) ، وحديث الباب لم يخرجه أرباب الصحيحين للتأثر عن اختلاف شعبة وسفيان، ورجح المحدثون حديث سفيان، وقالوا: أخطأ شعبة في مواضع منها، أنه قال أبو العنبس، وإنما هو ابن العنبس، فقال الأحناف: قد قال سفيان أيضاً أبو العنبس في أبي داود ص (141) ، فلعل العنبس اسم الجد والحفيد، وأما ما قيل عن ذكر أبي السكن فلعله أبو السكن أبو العنبس، وأما ما قيل من ذكر علقمة ففي مسند أبي داود الطيالسي، قال شعبة: سمعت الحديث عن علقمة عن وائل، ثم سمعت من وائل بلا واسطة علقمة فلم يبق البحث إلا في رفع الصوت وخفضه، وقال ابن الهمام جامعاً بين الحديثين: إن الرفع كان في ذاته والخفض بالنسبة، وهذا عين مذهب الشافعي، وزعم البعض أن الشيخ يجعل الحديث للأحناف، والحال أن تلميذه المحقق بن أمير الحاج صرح بأنه جمع بما يوافق الشافعية، وفي مجمع الزوائد لنور الدين الهيثمي، وظاهر يؤيد الشافعية، وهو:«أن اليهود ما حسدوا مثل حسدهم على ثلاثة أشياء، رد السلام، وآمين، وإقامة الصفوف» وهذا الحديث في واقعة بيت عائشة من مسند معاذ، وهو عن عائشة أيضاً مع اضطراب، وفيه علي بن عاصم متكلم فيه، ونقول: إن في السنن الكبرى: «أن اليهود يسجدون على قول ربنا لك الحمد» والحال أنه لا يقول أحد بجهره، فما هو جوابكم هاهنا فهو جوابنا ثمة فما دل على الجهر، وأيضاً نقول: وقع في الخصائص الكبرى للسيوطي بطريق حارث بن أبي أسامة «أعطى أمتي آمين، ولم يعط من قبلهم إلا موسى عليه الصلاة والسلام حين دعا وأمَّن أخوه هارون» ، فلعل اليهود علموا من الجهر، في خارج الصلاة مثل تأمين هارون فلا يثبت الجهر به
في داخل الصلاة، وأيضاً نقول: إن جهره عليه الصلاة والسلام كان للتعليم لما في أبي داود ص (142) : (حتى يسمع من يليه من الصف الأول) بطريق بشر بن رافع، وهو متكلم فيه، وقد ثبت الجهر بالأدعية للتعليم لما روينا في ما سبق، كيف لا وقد صرح وائل بنفسه:(ما أراه إلا ليعلمنا) إلخ، أخرجه أبو بشر الدولابي في كتاب الأسماء والكنى بسند يحيى بن سلمة بن كهيل، وهو مختلف فيه، وثقه الحاكم في المستدرك، ولكنه متساهل في حق الرواة في مستدركه، ووثقه ابن حبان فإنه ذكره في كتاب الثقات، ولكنه ذكره في كتاب الضعفاء أيضاً، فتحيرت من هذا وربما يذكر راوياً في الكتابين، فقيل: إنه يسهو عن ذكره في الكتاب الأول، وإني رأيت في كتاب الضعفاء تحت ترجمة إبراهيم بن طهمان أن هذا له دخل في الضعاف والثقات، فذكرته في الكتابين فذهب ما أبرئ قلبي، ما وقع عند ابن خزيمة، فإنه لما تكلم على مسألة وضع الركبتين بعد اليدين على الأرض نقل حديث تقديم الركبتين بسند جيد ثم ذكر ناسخه، وقال: إن الأول منسوخ، وقد وقع يحيى بن مسلمة بن كهيل في سند الناسخ، وضعف حديث سفيان بن قطان المغربي، ذكره الزيلعي في التخريج، ولكن الجمهور يصححون حديث سفيان ويضعفون حديث شعبة، وقد صححهما القاضي عياض، وقد نقل العيني تصحيح بعض أئمة الحديث، ولكنه لم يسمّهم، وقال ابن جرير الطبري في تهذيب الآثار: إن الحديثين صحيحان، واختار الإخفاء، فإن جمهور السلف إلى الإخفاء وأما بعد تسليم المحدثين فكيف الجمع بينهما؟ ولعله يكون مثل ما قال الشيخ ابن الهمام، ويؤيدنا ما في أبي داود من مجيء وائل بحضرته مرتين فلعله جهر للتعليم، ويدل على التعليم ما في معجم الطبراني عن وائل أنه عليه الصلاة والسلام أمَّن ثلاث مرات، وقال الحافظ كما في شرح المواهب: تثليث آمين بتثليث الواقعة لا أنه أمَّن ثلاثاً في واقعة واحدة، كما زعمه بعض الناس الجاهلون، فدل على
التعليم، وفي معجم الطبراني زيادة:(اللهم اغفر لي) قبل آمين والله أعلم، وفي سنن الدارقطني قال عبد الرحمن بن مهدي: أشد شيء في حديث سفيان أن رجلاً وجه سفيان إلى نفسه، وتكلم معه في أثناء الحديث فما أدركت ما قال سفيان كل الإدراك، ولنا أن مذهب سفيان إخفاء آمين مع أنه يروي جهره، ومر ابن تيمية وابن القيم على مسألة الباب فقالا: إن الاختلاف في اختيار المباح ورجحا الجهر في بعض المواضع، فعلم أن الخلاف ليس بشديد.
قوله: (حديث سفيان) في هذا أصح ما أتوا بالمتابعات لسفيان: مع أنه موجود في النسائي
ص (147) وفي مسنده عبد الجبار بن وائل، لكنه لم يسمع من أبيه، نعم صحيح للمتابعة بلا ريب فإنه سمع عن أخيه علقمة فإنه يروي عن أخيه علقمة لرفع اليدين، ووضع اليدين عند الصدور واعتمدوا عليه.
قوله: (العلاء بن صالح) هذا ضعيف، وذكر بعض الناقلين علي بن صالح وهو ثقة، ولكن الصحيح علاء بن صالح، ولنا ما روى ابن جرير الطبري عمل جمهور الصحابة، ولنا ما في معاني الآثار ص120 عمل علي وعمر، وفي سنده أبو سعيد بن مرزبان البقال، وهو متكلم فيه، وفي البعض أبو سعد بدل أبو سعيد وما في الطحاوي أخرجه ابن جرير الطبري وصححه وحسن الترمذي أبا سعيد في بعض المواضع، وأخذ عنه في دية الذمى ص (68)، وقال في العلل الكبرى: قال البخاري: إنه متقارب الحديث فعلم توثيقه من البخاري، ويذكر جرح البخاري أيضاً، في كتب الجرح والتعديل، والأكثرون يجرحون والبعض يوثقونه، وقد ثبت الإخفاء عن ابن مسعود وبسند صحيح والظاهر عندي من جانب الأحناف تسليم صحة حديث سفيان، وتوفيق لفظ شعبة معه، والتمسك في المسألة بعمل جمهور الصحابة، وحمل حديث سفيان على التعليم.
باب ما جاء في فضل التأمين
[250]
حديث الباب أخرجه مسلم والبخاري، وتمسك البخاري بحديث الباب على جهر آمين، ووجه التمسك أن الشريعة أحالت تأمين المقتدي على تأمين الإمام فلا يعلم تأمين الإمام إلا بجهره، ويكون التأمينان مشاكلتين، نقول: في الصفحة اللاحقة في البخاري: (إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد ولا يقول أحد بجهر: (ربنا ولك الحمد) ، فلا يجب التشاكل، ولا يستنبط جهر الإمام أيضاً فإن تأمينه يعلم بقوله:«ولا الضالين» كما في الحديث: (إذا قال الإمام «ولا الضالين» فقولوا: آمين)، وأجاب الموالك عن حديث الباب بأن معنى:«إذا أمن الإمام» إلخ إذا بلغ آمين، كما يقال: أنْجَدَ أي بلغ النجد، وأشأم أي بلغ الشام، وأعرق أي بلغ العراق، وظني أن اختلاف
الروايتين عن أبي حنيفة في تأمين الإمام للاختلاف في لفظ الحديثين، ولنا حديث السكتتين فإن السكتة بعد «ولا الضالين» لقول: آمين، فعلم إخفاء تأمين الإمام، وأقر في حجة الله البالغة: بأن حديث السكتتين لعله على ما قيل من إخفاء آمين، وحمل الشافعية حديث:«إذا قال الإمام: «ولا الضالين» ، فقولوا: آمين» على حديث الباب، وحمل الموالك حديث الباب على ذلك الحديث، وظني أن الحديثين محمولان على ظاهرهما، فحديث:«إذا أمَّن الإمام» في ذكر نفس فضيلة التأمين لا في بيان صفة الجهر أو الإخفاء، وحديث:«وإذا قال: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) في بيان المسألة الفقهية، وتعليم الصفة، وكذلك روي عن أبي حنيفة من اختلاف الروايتين، وفي معجم الطبراني عن سمرة بن جندب: «إذا قال الإمام: «ولا الضالين» قولوا: آمين يجبكم الله» .
قوله: (إذا أمن الإمام) قيل: إن الحديث عبارة في تأمين المأموم، وإشارة في تأمين الإمام، واختلفوا في عبارة النص وإشارته، قال صدر الشريعة: إن العبارة ما سيق له الكلام، والإشارة غيره، وقال ابن الهمام: المنطوق في العبارة كله عبارة النص سبق له أو لا.
(ف) استنبط أبو عمر بن عبد البر نفي القراءة خلف الإمام من حديث الباب، بأن حديث يدل على أن المقتدي منتظر لتأمين الإمام والمنتظر لا يكون إلا صامتاً، ولا يكون قارئاً، وأقول: يؤيده ما في بعض الروايات: «إذا أمَّن القارئ فأمنوا» أخرجه مسلم والبخاري في كتاب الدعوات، ويشكل على الشوافع من سُبق ولَحِق في خلال فاتحة الإمام، فإذا قرأ المقتدي فإما أن يؤمن مع الإمام ثم يأتي بباقي الفاتحة فيكون عكس الموضوع، فإن الوضع أن يكون آمين خاتم الفاتحة، لما في أبي داود «أن آمين طابع الفاتحة» . وإما أن يؤمن حين ختمه فيلزم خلاف حد الباب، فإنه يدل على أن الفضل في المعية أي توافق آمين المقتدي والإمام والملائكة، والاحتمال الأول مذكور في المنهاج، أي يؤمن مع الإمام ثم يأتي بباقي الفاتحة، وقال الغزالي: يأتي المقتدى بالفاتحة حين يثني الإمام، والحال أن نص الحديث دال على أن الثناء للإمام والمقتدي والمنفرد وأما أصل مذهبهم فهو أن يأتي بها إذا سكت الإمام بعد «ولا الضالين» قبل آمين، وينتظر الإمام فاتحة المقتدى ثم يؤمِّنوا جميعاً، والحال أن هذه السكتة الطويلة لا أصل لها من الشريعة الغراء، فإن السكتة قصيرة بحيث إن اختلف الصحابيان في وجودها، وأيضاً نص الحديث أن هذه السكتة كانت ليتراد وإليه نَفَسُه، ويقولون: إنها لفاتحة المقتدى،
وغاية المسألة لهم ما في أبي داود ص (126) من أثر مكحول وسعيد بن جبير ولكنه تطرق فيه اجتهاد ابن جبير والسكتات عند الشافعية أربعة، وأومأ عماد الدين بن كثير في تفسيره أن «آمين» قائم مقام فاتحة الإمام، فدل على نفي الفاتحة للمقتدي ويلزم على ما قال ابن كثير وجوب آمين للمقتدي لكونه مقام الفاتحة، ولكنه لم يقل أحد بوجوب آمين إلا الظاهري، فالحاصل أن قول القراءة خلف الإمام في الجهرية يوجب إشكالات كثيرة.
(ف) آمين قيل: عربي، وقيل: عبراني، ومعناه: استجب أو افعل، وفي كافي النسفي: أن آمين معرب همين الفارسي، والله أعلم وعلمه أتم.
باب ما جاء في السكتتين في الصلاة
[251]
اختلف الصحابيان في السكتة الثانية لقصرها، السكتات في كتب الحنفية ثلاثة: بعد التحريمة، وبعد (ولا الضّالين) ، وبعد ختم القراءة، وعند الشافعية أربعة: بعد التحريمة، وبعد (ولا الضالين) . وبعد آمين، قبل ضم السورة، وبعد ختم القراءة، والحق أن الثالثة لا يليق بأن يعتد بها، وإلا لزم كثير من السكتات في حديث أم سلمة.
قوله: (إذا قرأ: ولا الضالين) قيل: هذا تفسير لما قبله، وقيل: سكتة ثالثة، قال البيهقي: إن الإنصات في آية {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] إلخ بمعنى الإخفاء، فلا تنفي الآية القراءة مثل السكتة هاهنا فإن السكتة بمعنى الإخفاء فإنه يسكن ويقرأ في نفسه في سكتة الثناء، أقول: بين السكتة والإنصات فرق لا سيما إذا اجتمع الاستماع والإنصات وسيأتي التفصيل.
باب ما جاء في وضع اليمين على الشمال في الصلاة
[252]
خلافاً لمالك فإنه يقول بإرسال اليدين خلاف الثلاثة، ومذهب أبي حنيفة في وضع اليدين وضعهما تحت السرة، ومذهب الشافعي تحت الصدر فوق السرة، وخيّر أحمد في الوضع بأنه يضعهما حيث شاء من تحت الصدر أو عند الصدر أو تحت السرة، وكذلك خير ابن المنذر، وقال: لا نص في المسألة، وأما الأحاديث ففي حديث وائل في صحيح ابن خزيمة:«فوق الصدر» وفي مسند البزار: «عند الصدر» ، وفي مصنف ابن أبي شيبة:«تحت السرة» فالحديث واحد، واختلف الألفاظ، وأما في تحت السرة فلنا أثر علي في سنن أبي داود بسند ضعيف، وفي نسخة لأبي داود مرفوع أيضاً، وأما في ابن خزيمة ففي سنده مؤمل بن إسماعيل، واختلط في آخر عمره، وصححه الحافظ في بلوغ المرام، والعجب من عدم التفاته إلى اختلاطه في الآخرة واختلاف الألفاظ، وأيضاً في سند:(فوق السرة) عاصم بن كليب وضعفوه في حديث: «ترك رفع اليدين» ، ووثقوه في حديث «فوق السرة» وأقول: إني رأيت نسختين؛ مصنف ابن أبي شيبة فما وجدت لفظ تحت السرة فيهما، وقال الشيخ حيات السَّنْدهي: ما وجدته في مصنف ابن أبي شيبة قال الشيخ قائم السَّنْدهي وجدته في النسختين، وقال أبو الطيب السَّنْدهي: وجدته في نسخة في خزانة كتب الشيخ عبد القادر، وأول من نبّه على كونه في مصنف ابن أبي شيبة هو العلامة قاسم بن قطلوبغا فلا بد من ثبوته في مصنف ابن أبي شيبة فإن العلامة حافظ الحديث، وله خدمة في علم الحديث فإنه رتب إرشاد أبي يعلى، وذكر الثقات الذين سوى رواة الستة، وأفرد زوائد الدارقطني وحكم عليها، وخرّج على مسند أبي حنيفة للمقري، وكتب التخريج على الاختيار في الفقه وغيرها من الخدمات، والصحيح أن فوق السرة وتحتها وعند الصدر ألفاظ متقاربة وليس ببون بعيد.
باب ما جاء في التكبير عند الركوع والسجود
[253]
ويفهم من الطحاوي التكبير عند الرفع من الركوع، وكذلك في الكنز على جر الرفع في تكبير الركوع والرفع منه، وعندي لا بد من أن يكون في المذهب لكونه في الطحاوي، وتأول البعض في كلام الطحاوي، والظاهر عندي حمله وإبقاءه على الظاهر، ولعل غرض المصنف من هذا الباب الرد على ما ارتكبه أمراء بني أمية فإنهم تركوا تكبير الخفض، كما قال ابن تيمية: إنهم تركوه، ويدل على تركه ما في أبي داود ص (129) ، وضعفه الحافظ في تلخيص الحبير، وحسنه في الإصابة، وقيل: مراده أن لا يطول التكبير ولا يمده إلى أن يبلغ التكبير إلى السجود، وذكر في النهاية أن لفظ الحديث «فكان لا يتم» بالتاء وأخرجه الطحاوي ص (130) أيضاً، وقيل: إنه خلاف مشاهير الأحاديث الواردة في صفة الصلاة والله أعلم.
باب ما جاء في رفع اليدين عند الركوع
[255]
قال الشافعي رحمه الله وأحمد رحمه الله برفع اليدين، وقال أبو حنيفة بالترك، وعن مالك الترك واختاره الموالك، وفي رواية الرفع، وأما الحديث فقد ثبت فيه رفع اليدين بين السجدتين، أيضاً كما في النسائي ص (177) ، ولم يختره الشافعي، وصح الرفع عند القيام إلى الثالثة أيضاً وما قالوا، وفي سنن النسائي ص (177) ، ما يدل على الرفع عند الرفع من الركوع والانحناء إلى السجود، ولم يتوجه إليه أحد وظني أن المراد منه أنه يرفع اليدين مرة عند الانتصاب من الركوع، ومرة عند الهُوي إلى السجود لا أن يجمع، وله أصل من الأحاديث أيضاً، وفي الترمذي ص (40) أنه عليه الصلاة والسلام رفع اليدين بعد السجدتين، وزعمه الخطابي على ظاهره، والجمهور على أن المراد من السجدتين الركعتان، ورد النووي في الخلاصة على الخطابي بأنه مصرح في بعض الطرق بعد الركعتين، فلو أخذ قول الخطابي في رواية النسائي ص (177) أيصح إلا أنه ليس مذهب أحد وقال ابن رشد في بداية المجتهد ونهاية المقتصد: إن الإمام مالكاً رجح الترك لأنه جرى عليه تعامل السلف من أهل المدينة، وروى أبو عمر في التمهيد روايتين عن مالك، ونقل علاء الدين عبارة أبي عمر في الجوهر النقي ص (136) اختار الترك على رواية ابن القاسم، وإني في هذا متردد فإنه ذكر الحافظ عبارة أبي عمر في الفتح ص (182) وهو خلاف ما في الجوهر النقي، وذكر الزرقاني شارح الموطأ عن أبي عمر عن ابن عبد الحكم لم أجد الترك عن مالك، إلا ما روى ابن قاسم عنه وأخذ الرفع، وظاهر الزرقاني أن اختيار الرفع عن ابن عبد الحكم مخالفهما ما في الزرقاني، وذكر الزبيدي في شرح الإحياء أيضاً خلاف ما في الجوهر. والفتح، والله أعلم.
واعلم أن رفع اليدين غير مأخوذ به، وعندنا لم يصرح بالكراهة إلا بعضهم، وقد ثبت الرفع والترك تواتراً، لا يمكن لأحد إنكار أحدهما، ولكن تواتر العمل لا تواتر الإسناد، وأما ما قال الطحاوي من النسخ فليس هو النسخ المتعارف عنده الذي ذكرته سابقاً، فإذا ثبت الترك والرفع متواتراً عملاً فالاحتمالات ثلاثة، ترجيح الرفع أو الترك أو التخيير وذهب ذاهب إلى الأول، وذاهب إلى الثاني، وذاهب إلى الثالث، وأما المرفوعات ففي بعضها ذكر الرفع، وفي بعضها ذكر الترك، وبعضها ساكتة، فإذا تمسكنا بما فيه ذكر الترك، فيقل عدد أحاديثنا، ويكثر عدد أحاديثهم وإذا تمسكنا بالساكتات أيضاً، فإنهم يذكرون جميع صفة الصلاة مع المستحبات ولا يذكرون رفع اليدين إلا في الاستفتاح فتبادر تلك الأحاديث لنا فيكثر عدد أحاديثنا من عدد أحاديثهم، وأكثر الناس عن هذا غافلون.
(ف) إذا قال الترمذي وبه عمل غير واحد من السلف فلا حاجة لنا إلى إثبات السند بشرط أن يكون ذلك الأمر بحيث لا يخفى عند الناس، ويكون كثير الوقوع، والرفع والترك يعمل بهما في يوم وليلة أكثر من مائة مرة، فكيف يخفى على أحد الناس؟
قوله: (حتى يحاذى منكبيه) إلخ عندنا يجعل اليدين حذاء المنكبين، والأصابع إلى الأذنين، وكلام الشافعي في مصر موافق لنا.
قوله: (كان لا يرفع بين السجدتين) كيف يقال وقد ثبت رفع اليدين بين السجدتين في النسائي ص (177) ومر عليه الحافظ وقال: أصح ما وقفت على الرفع بين السجدتين رواية النسائي؟ والحافظ صنيعه على النقد في كتاب النسائي جزئياً جزئياً، وقد صرح ابن عدي الجرجاني وابن منده وغيرهما بأن النسائي كله صحيح فلا يحتاج إلى النقد.
قوله: (وفي الباب عن علي الخ) ثبت عن علي وعمر ترك رفع اليدين، ولعل المصنف أخذ ما روي في مسلم عن علي صلاة الليل، وأما عن عمر فلعله أوحى إلى ما في تخريج الزيلعي عن ابن عمر عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وأعله المحدثون، وقالوا: الصحيح عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا شيء عن عمر سوى هذا، وصح عن أنس موقوفاً في الدارقطني، وصح عن أبي هريرة وعمله
الرفع مرة والترك مرة، ولينظر إلى ما في موطأ ص (90) عن أبي هريرة فإنه دال على أنه لم يرفع إلا المرة الأولى، ورواية أبي موسى رواها البخاري في جزء رفع اليدين تعليقاً وهي صحيحة، ورواية جابر بن عبد الله غير محفوظة، ورواية عمير الليثي لا تصلح أن تعرض لكونها قريبة إلى الموضوعات.
قوله: (ولم يثبت حديث ابن مسعود الخ) قال ابن دقيق العيد: إن عدم قبول ابن المبارك لا يقدح لثبوته عند غيره من المحدثين، وصححه ابن قطان المغربي في «كتاب الوهم والإيهام» وكذلك صححه ابن حزم الأندلسي، ونقل الحافظ تصحيح الدارقطني حديث الترك في الدراية، وذكر تعليله في تلخيص الحبير، فكنت متردداً في هذا، حتى رأيت في البدر المنير لبدر الدين الزركشي أن الدارقطني صححه في موضع، وأعله في موضع ونقل الزركشي تصحيح ثلاثة المذكورين وقال ابن دقيق العيد: كيف يعلل ابن المبارك حديث ابن مسعود والحال أنه يدور على عاصم بن كليب وهو من رواة مسلم؟ وقال حنفي فاضل: إن حديث ابن مسعود مروي بالمضمونين الرفع الفعلي والرفع القولي، وتغليط ابن المبارك للمضمون الثاني، والمضمونان رواهما الطحاوي ص (132) بسند صحيح، وقال ذلك الفاضل: كيف وقد روى ابن المبارك فعل ابن مسعود؟ أي المضمون الأول في النسائي ص (168) ، وتعرض البخاري إلى تعليل حديث الترك في جزء رفع اليدين، ولكنه علل قطعة لم يرفع يديه إلا في أول مرة، وأقول لا يمكن تعليله، ولعل منشأه أن سفيان بن عيينة يقول: إني سمعت حديث براء بن عازب عن يزيد بن أبي زياد مرة، ولم يذكر لفظ: ولم يعد ثم أتيته فسمعته مرة أخرى، وقال: ولم يعد، وفي غير نسخة اللؤلؤي لأبي داود، وقال ابن عينية: لعل يزيد لقن فقيل والتلقين: أن يروي الشيخ، ويقول الآخر: هذا اللفظ أيضاً في روايتك، فيقول الشيخ نعم، والتلقين علامة الضعف فسرى إلى الأذهان أن لفظ (لم يعد) في رواية ابن مسعود أيضاً خطأ، ورواية ابن مسعود في بعض طرقها (ولم يعد) في بعضها:(لم يرفع يديه إلا في أول مرة) .
قوله: (حدثنا هناد الخ) هذا هو الذي تعرض البخاري إلى الكلام فيه، والحال أنه على شرط مسلم، وصححه الثلاثة المذكورون، والسيوطي في اللآلي المصنوعة، ولم يقل الحافظ بشيء ولكنه يلزم الحافظ تصحيحه، فإنه رد في تلك الصفحة على من قال بوجوب الرفع بحديث ابن مسعود ولنا ما في الطحاوي ص (134) بسند قوي عن ابن أبي داود عن أحمد بن يونس عن أبي بكر بن عياش إلخ قال: ما رأيت فقيهاً قط يرفع يديه في غير تكبير التحريمة، ولنا كبار الصحابة مثل علي وعمر أخرجه في معاني الآثار ص (134) وحسن الحافظ إسناده في الدراية، وعمل ابن مسعود ولم يثبت منه إلا الترك كما في الطحاوي ص (133) ، وعمل ابن عمر وهو راوي الرفع رواه في معاني الآثار ص (133) بسند قوي، وقيل في مسنده أبو بكر بن عياش، واختلط في آخر عمره، ونقول: إنه من رجال الصحيحين، وأخذ عنه أحمد بن يونس قبل الاختلاط، وأخرج عنه البخاري في أكثر من عشرين موضعاً، ولنا عمل ابن عباس أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه بسند حسن، وعمل أبي هريرة الرفع مرة والترك أخرى ذكره في استذكار أبي عمر، وعمل التابعين وتبعهم أخرجه الطحاوي ص (134) ، ولنا حديث آخر مرفوع عن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام لا يرفع يديه إلا في أول مرة في خلافيات البيهقي، ونقله الزيلعي في التخريج، وقال الحاكم: إنه موضوع، وأقول رجاله المذكورون في التخريج ثقات، ولم أطلع على أول إسناده لكن عادتهم أنهم يأخذون في التعليق من الذي هو مخرج فلعل إسناده قوي، ولو كان فيه ضعيف لما أخذ منه لأن المشهور عن ابن عمر الرفع، ولما ثبت فعل ابن عمر الترك فلا يمكن تعليله أيضاً، ولنا حديث آخر مرسل عن عباد بن عبد الله بن الزبير وعباد تابعي، قال: لم يرفع النبي صلى الله عليه وسلم إلا في أول مرة، ومر عليه الحافظ في الدراية، وقال: ولينظر في إسناده، وإني رأيت السند وبدا لي أن في نصب
الراية سهو الكاتب، فإنه كتب محمد أبي يحيى وهو غير مشهور، والحق أنه محمد بن أبي يحيى، وهو ثقة فصار السند صحيحاً، ووجوه كونه سهو الكاتب محفوظة عندي أخذتها من كتب الرجال، والمسألة لم تكن لأن يطول فيها، وذكرت ببعض الطول لفساد الناس والقاصرين كما قال علي: العلم نكتة كثر الجاهلون.
قوله: (وفي الباب عن براء بن عازب الخ) أخرجه أبو داود، وتكلم فيه، وقال الحافظ: أعل أبو داود حديث ابن مسعود وكذا صاحب المشكاة، والحال أن أبا داود تكلم في حديث البراء لا حديث ابن مسعود، وقد ذكر نحو ما قال أبو عمر في التمهيد فلينظر.
باب ما جاء في وضع اليدين على الركبتين في الركوع
[258]
كان أولاً حكم التطبيق في الركوع، ثم أمر بوضع اليدين على الركبتين، والتطبيق قيل: هو وضع اليدين وهما مضمومتان بين الركبتين مع التشبيك، وعندي بغير تشبيك، فإنه نهى الشارع عن التشبيك في حال الذهاب إلى الصلاة، فكيف يجوزها في داخل الصلاة؟ وفي بعض الكتب أن التطبيق كان لحكم التوراة، وفي البخاري: أنه عليه الصلاة والسلام كان يعمل بما في التوراة قبل نزول القرآن، وما في بعض الكتب من أنه كان لحكم التوراة وجدته روي عن عائشة أيضاً، وأما عمل ابن مسعود بالتطبيق بعد نسخه أيضاً فلعله كان زعم ابن مسعود عدم نسخه بل زعمه عزيمة، والنسخ رخصة، ومثل ابن مسعود عن علي فكيف طعن جهلة الأمة على ابن مسعود؟
باب ما جاء في التسبيح في الركوع والسجود
[261]
المشهور في مذهبنا سنية ثلاث تسبيحات، ويدل ما في شرح مختصر الطحاوي للاسبيجابي على فرضية ثلاث تسبيحات في رواية، ونسب إلى نوح ابن أبي مريم وجوبها، وأطنب المحقق بن أمير الحاج، وقال: ينبغي وجوبها واختار بعض مشائخنا الوجوب في بعض المسائل، مثل اختيار ابن الهمام وجوب صيغة: الله أكبر، واختار ابن وهبان وجوب التسمية في كل ركعة كما قال في منظومه:
~ ولو لم يبسمل ساهياً كل ركعة
…
فيسجد إذ إيجابها قال أكثر
وظني أن المراد من الأكثر ليس مشائخنا بل الأئمة الآخرون، واختار ابن همام تعديل الأركان وجوباً، وكان سنة في المواضع الأربعة، في تخريج الجرجاني واجباً في الركوع والسجود، وفي تخريج الكرخي، فقال ابن الهمام بلزوم السجدة بترك التعديل.
واعلم أن المشهور في مذهبنا فرضية ما يصدق عليه الركوع، وهو الانحناء ووجوب المكث قدر تسبيحة وسنية ثلاث تسبيحات، وعند الشافعية وجوب تعديل الأركان بحيث تنقطع الحركة، والمحقق فرضية التعديل بحيث تنقطع الحركة، فلا خلاف في المذهبين، ونسب إلى أبي يوسف فرضية التعديل
خلاف الطرفين، والحال أن الطحاوي ص (136) . لم يذكر الخلاف بينهم، وكذلك صرح العيني في شرح الهداية بأن الطحاوي لم يذكر الخلاف بينهم.
(ف) في كتاب الصلاة لأحمد بن حنبل انحناء الرأس في القيام وكذلك في كتبنا، وفي تفسير ابن كثير ص (273 ج1) أنه مذهب الشافعي، وأحمد، وأبي حنيفة، وقال مالك: يجعل وجهة قدامه، وفي صحيح ابن حبان عن عائشة الرص بين العقبين في السجدة أي ضمهما، وأكثر الناس عن هذا غافلون.
باب ما جاء في النهي عن القراءة في الركوع والسجود
[264]
في البحر يكره قراءة القرآن في الركوع والسجود تحريماً، وأقول: لا يلزم بهذا سجدة السهو، فإن عدم القراءة وإن كان واجباً لكنه يبحث أنه من واجبات الصلاة أو غيرها كما قال صاحب البحر
ص (33ج2) بوجوب الترتيب بين السور، ثم قال بعدم وجوب السجدة من سوء الترتيب، فإنه من واجبات التلاوة لا من واجبات الصلاة، وتعرضوا إلى بيان نهي القراءة في الركوع والسجود، فقيل: إن الركوع والسجود حالة العبدية المحضة، والقرآن صفة الباري وكلامه، فلا يليق بحالة العبدية المحضة، ولا يقال للباري: راكع وساجد، ويقال: قائم وقيوم وقيام، ويمكن أن يقال: إن قراءة القرآن تكون للاستماع ولا يمكن الاستماع في الركوع والسجود، فإن كل واحد يسبح بنفسه، وذكر السيوطي في الدر المنثور رواية وعندي سندها، ثم ذكر بعدها قول أبي عمرو بن الصلاح: إن الملائكة ممنوعون عن القرآن إلا الفاتحة، وعلى هذا تأتي الملائكة لاستماع القرآن من الناس، وفي الركوع يسبحون بأنفسهم، وأقول: إن المتبادر من القرآن هو قول أبي عمرو بن الصلاح، فإن المنسوب إلى الملائكة في القرآن التسبيحات والتهليلات لا القرآن، وفي جمع الجوامع: إن الملائكة تضع أفواههم على قراءة القرآن لتدخل الألفاظ في بطونهم، إلا أن في جمع الجوامع الأحاديث الرطبة واليابسة.
قوله: (القسي) قيل قسّ قرية من قرى مصر، وقيل: معرب قز (ابريشم خام) فأبدل الزاي سيناً كما في التصريف، فإذا كان من القز فمشار النهي لعله لون أو غيره.
باب ما جاء فيمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود
[265]
التفصيل في تعديل الأركان مر آنفاً، وكبار مشائخنا يأمرون بإعادة صلاة تارك التعديل، وفي البدائع عن أبي حنيفة: من ترك التعديل أخشى عليه أن لا تجوز صلاته.
قوله: (الأنصاري البدري) قيل: إنه ليس من أصحاب بدر بل من المقيمين من موضع بدر وقال البخاري: إنه ممن شهد غزوة بدر.
باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع
[266]
واعلم أن المفهوم من صنيع مسلم أنه واقعة صلاة الليل، وفي رواية الترمذي في كتاب الدعوات ص179 تصريح أنها واقعة المكتوبة، وصرح ابن حبان والشافعي بأنها واقعة المكتوبة، وقال الحافظ في بلوغ المرام: إن في مسلم أنها واقعة الليل، والحال أن الدال عليه ليس إلا صنيع مسلم، ثم ظني أن الواقعة واقعة صلاة الليل، فإن مثل هذا الدعاء الطويل لم يكن إلا في صلاة الليل وكذلك رواية علي أيضاً قرينة على هذا، فإن الواقف على صلاته عليه الصلاة والسلام بالليل هو علي رضي الله عنه كما يدل بعض الروايات، وهما قطعتان أو حديثان اختلطا.
قوله: (ملأ السموات والأرض الخ) قال الشيخ الأكبر: إن السموات السبع مركبة من العناصر الأربعة، والفلك الثامن والتاسع من العنصر الخامس، وجعل العرش والكرسي فلكاً عاشراً والحادي عشر، وقال: إن السموات كنصف الدائرة، وقال علماء الشريعة: إن السماء والفلك متغايرانُ الفلك هو المدار الزوائد (ص (35) ج1/ مطبوعة بهند) ، وقالوا: إن الكواكب سيارة بأنفسها، وقال أبو بكر بن العربي المالكي: إن الذي نراه فوقنا ليس سماء بل السماء لا نراه، واعلم أن المراد من الملأ في حديث الباب القدر لا الامتلاء، فإن السماوات وإن كانت مجوفة ولكن الأرضين السبع مستوية ومسطحه.
(ف) في رواية صحيحة عن ابن مسعود أن بين العرش والكرسي بحراً مسافته خمسمائة سنة، وهذا معنى قوله تعالى {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] والله أعلم وعلمه أتم.
باب منه آخر
[267]
المشهور من مذهب أبي حنيفة أن يكتفي الإمام على التسميع، والمقتدي على التحميد، واستدل عليه صاحب الهداية بأن الحديث يدل على القسمة، والقسمة تخالف الشركة، وعند الصاحبين: يجمع الإمام بينهما ويكتفي المقتدي على التحميد، وهكذا في رواية عن أبي حنيفة اختارها الحلواني السندموفي، ومحمد بن فضل، والنسفي الكبير، وروى الترمذي عن الشافعي الجمع بينهما لهما. وما روي عن أبي حنيفة يؤيده ما في الصحيحين عن أبي هريرة، وأكثر عدد الصحيحين يدل على القسمة ولا ضير علينا، وتأول فيه الشافعية بأنه لا يدل على نفي الجميع بل المقصود فيه ذكر الترتيب بين قول الإمام والمأموم.
قوله: (ربنا لك الحمد الخ) في هذا الدعاء أربعة أوجه: بالواو أو بدونها، وباللهم أو بدونه وأنكر ابن القيم رواية اللهم والواو جمعاً، وقال النووي: بثبوت أربعة أوجه في الروايات، وما ذكر الأسانيد وسند ما أنكر عليه ابن قيم موجود في السنن الكبرى: أن ربنا لك الحمد، أي هذا الدعاء من خصائص هذه الأمة.
باب ما جاء في وضع اليدين قبل الركبتين في السجود
[268]
في الهداية أنه يضع الأقرب إلى الأرض أولاً ثم وثم والنهوض عكسه، وهو مذهب الشافعية والحنابل، وقال مالك بوضع اليدين قبل الركبتين على الأرض، وللطرفين حديثان، والخلاف في السنية.
قوله: (رواه شريك) وهو ابن عبد الله النخعي هو شريك القاضي من رواة مسلم.
باب منه آخر
[269]
حديث لم يخرجه المصنف بطوله. وفي بعض الروايات: «وليضع يديه قبل ركبتيه» وفي «يعمد أحدكم» إلخ إنكار، وتوجه العلماء إلى حديث الباب من وجهين:
أحدهما: أنه يخالف ما مر في الباب السابق.
والثاني: أن صدر الأول يغائر عجزه، فقال قائل للتطبيق بين الجملتين: إن ركبتي الحيوانات تكونان في اليدين أي في الرجلين المقدمتين فلا خلاف بين الصدر والعجز، وقال صاحب القاموس راداً على هذا القائل: لم نعلم هذا في لغة العرب، وأقول: قد صرح صاحب الصحاح بأن الركبتين في اليدين، والعرقوبين في الرجلين، ذكره تحت لفظ العرقوب عن الأصمعي، وكذا في الفرق بين الفرق من علوم العرب في مقابلة الباطنية، ثم قال ابن قيم في زاد المعاد: إن الراوي قلب في الرواية قطعاً، وأصل الرواية هذا:«وليضع ركبتيه قبل يديه» فارتفع الاعتراضان، وأقول: بأن مراد الحديث أن يضع قبل ركبتيه، وهذا للمعذور، ولا يبرك بروك الجمل، وهو أن يخفض نصفه الأعلى ويرفع نصفه الأسفل، فحاصل المعنى أن المعذور يقدم يديه قبل ركبتيه، ولا يرفع عجيزته من نصفه الأعلى بل يخفضهما معاً، وعلى هذا لا نتعرض إلى ركبتي الجمل من كونهما في اليدين أو الرجلين، بل نتكلم في البروك وهو جعل الأسفل مرتفعاً والأعلى منخفضاً، ويحتمل أن يقال: وليضع يديه قبل ركبتيه، أي وليضع يديه على ركبتيه أي قبل أن يضع ركبتيه على الأرض، وأما ما قال ابن قيم: من قلب الراوي فله قرينة مما رواه في معاني الآثار ص (150) عن أبي هريرة إلا أن إسناده ضعيف.
باب ما جاء في السجود على الجبهة والأنف
[270]
حقيقة السجدة على مذهب أبي حنيفة وضع الجبهة، ويشترط وضع أحد الرجلين فإن وضع الجبهة بدون إحدى الرجلين متعذر، وله ما في حديث «سجد وجهي» فإنه أسند السجدة إلى الوجه. وقال أبو حنيفة: لو سجد على الأنف وعلى الجبهة يجزئه، وقال صاحباه والجمهور: لا يجوز
الاكتفاء على الأنف، وذكر في الدر المختار رجوع أبي حنيفة إلى قول صاحبيه، ومشهور مذهبنا سنية السجدة على الأعضاء السبعة، واختار ابن همام، الوجوب ولزوم السجدة بتركها.
قوله: (حذو منكبيه) هذا للشافعي، ولنا أيضاً حديث صحيح أخرجه الطحاوي.
باب ما جاء في التجافي في السجود
[274]
التجافي سماه الحديث التجمنة، وحديث الباب أخرجه أحمد في مسنده بطوله.
قوله: (عفرتي) العفرة: البياض غير ناصع، اختلف علماء السير في كون الأشعار في إبطيه، ورواياتهم لا تكون منقودة مثل روايات المحدثين، ورواية عفرتي إبطيه عليه الصلاة والسلام، لعلها كانت عند كونه عليه الصلاة والسلام مرتدياً، والله أعلم
باب ما جاء في الاعتدال في السجود
[275]
قالوا: إن مصداق الاعتدال في السجود كون السجدة على الهيأة المسنونة، أي رفع العجيزة وتطويل السجود والتجافي، كنت متردداً في هذا، فإن ظاهر لفظ الاعتدال هو تعديل الأركان، وكذلك قال ابن دقيق العيد، حتى أن رأيت رواية في المعجم الطبراني دالة على أن في الهيأة المسنونة تقع السجدة على الأعضاء السبعة فإنه لو لم يتجاف مثلاً لا تقع السجدة على اليدين، فهذه شافية للتردد، ثم وجدت في شرح الترمذي لابن سيد الناس اليعمري موافقاً لما قلت في المرفوع في المعجم.
قوله: (افتراش الكلب إلخ) نهي الشريعة عن اختيار هيأة سبع حيوانات في الصلاة، منها افتراش السبع، وتدبيح الحمار، وإقعاء الكلب، والتفات الثعلب، وبروك الجمل، ونقر الديك، وعقبة الشيطان.
باب ما جاء في نصب القدمين ووضع اليدين
[277]
في غنية المستحلي للجملي شرح المنية: من حَرَفَ أصابع رجليه عن القبلة في السجود تفسد صلاته، والموافق للقواعد أنه مكروه تحريماً، ولا تفسد الصلاة.
قوله: (مرسل) كان القياس كتابة مرسل بالألف أي مرسلاً كما هو مقتضى حالة النصب، وقال
السيوطي: وجدت المتقدمين يكتبون المنصوب بلا ألف على لغة ربيعة، إلا أنهم يشكلون النصب، والمرسل في اصطلاح أصول الحديث ترك الصحابي، وفي اصطلاح أصول الفقه ترك الراوي في أي موضع كان، ومرسل مصطلح أصول الحديث حجة عند الجمهور، ولكن الأقوى المتصل كما قال الطحاوي، لا كما قال صاحب الحسامي.
باب ما جاء في إقامة الصلب إذا رفع رأسه من الركوع إلخ
واقعة الباب واقعة المكتوبة.
[279]
قوله: (قريب من السواء) في البخاري استثناء القيام والقعود أي التشهد، وفي حديث الباب مبالغة الراوي، وقيل: إن المراد التناسب لا التقارب، وظني أن غرض الراوي التقارب.
باب ما جاء في كراهية أن يبادر الإمام في الركوع والسجود
[281]
المبادرة مكروهة تحريماً فيكون تركها واجباً، قال علماء المذاهب الثلاثة من الشوافع والموالك والحنابلة: إن المبادر صار مرتكب الحرام وصحت صلاته، وهذا يدل على اجتماع الكراهة تحريماً والصحة عندهم خلاف ابن تيمية.
قوله: (وهو غير كذوب) غرضه نفي الكذب من الرأس، وإن كان صيغة المبالغة، وأن قيل إن الصحابة كلهم عدول، فكيف اهتم بشأن هذا الصحابي؟ ولم ذكر عدم كذبه؟ يقال: مثل هذه المحاورة تكون لداعية مقام.
قوله: (حتى يسجد رسول الله إلخ) هذا حين بدن النبي صلى الله عليه وسلم وكبر سنه، اختار أبو حنيفة أن يعقب المقتدي، واختار صاحباه التراخي.
باب ما جاء في كراهية الإقعاء بين السجدتين
[282]
للإقعاء تفسيران: أحدهما أن ينصب الركبتين ويضع الإلية على الأرض، بشرط وضع اليدين على الأرض هذا تفسير الطحاوي، ويساعده اللغة وهذا مكروه تحريماً، والثاني أن يجلس على عقبيه في الجلسة، وهذا تفسير الكرخي وهذا مكروه تنزيهاً، وقال النووي تبعاً للبيهقي: إن الإقعاء بالمعنى الثاني سنة على ما قال ابن عباس، وذكر الشيخ ابن الهمام عبارة النووي ولم يرد عليه بشيء، وصنف العلامة قاسم بن قطلوبغا رسالة سماها «الأسوس في سنة الجلوس» وقال: لم يذهب أحد من الأربعة إلى سنية ما قال النووي، وأتى بالعبارات وحديث الباب ليس بذلك القوي، وهو مشتمل على التفسيرين، وقيل: الإقعاء هو الانحناء إلى القدام.
قوله: (حارث الأعور) هو تابعي وليس بكذاب، لما قال الذهبي في خارج التهذيب: إن التابعين
ليس فيهم كذاب، نعم بعضهم سيء الحفظ، وضعف الترمذي حديث الباب، وعندي بسند آخر صحيح بهذا اللفظ.
باب الرخصة في الإقعاء
روي جفاءً بالرجِل والمشهور جفاءً بالرَجل والجفاء البلادة لا الفهيم.
[283]
قوله: (سنة بينكم) هذا مسكة النووي، ولنا ما في موطأ مالك ص (30) عن ابن عمر تصريح أنه ليس بسنة، ومن المعلوم عند المحدثين أن زيادة الاعتماد في نقل السنة على ابن عمر، فإن ابن عباس ربما يقول باجتهاده ورأيه ويعبره بالسنة، ويمكن التأويل في كلام ابن عباس بحمله على مورد من موارد الكلام، ولنا ما في مسند أحمد بسند قوي:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التورك والإقعاء» وهذا يفيدنا خاصة في اختيار الافتراش في القعدة الثانية وقال أحمد بعد رواية الحديث: وليس العمل على هذا، فوالله أعلم ما أراد بذلك تعليلاً، أو عدم اختياره فقهاً.
باب ما يقول بين السجدتين
[284]
قال أحمد بفرضية دعاء اللهم اغفر لي إلخ بين السجدتين، وقال القاضي ثناء الله رحمه الله
الپافي پتي باستحباب الدعاء خروجاً عن الخلاف، ونعم ما قال القاضي المرحوم لا سيما في هذا العصر، فإن تحفظ الجلسة متعذر بدون تعيين الدعاء فيها.
باب ما جاء في الاعتماد في السجود
[286]
الاعتماد على نوعين، أحدهما: أن يضع الذراعين على الفخذين في السجدة عند العذر، وهو مراد الترمذي، والثاني: أن يعتمد على الأرض حين القيام إلى الثانية، وهذا معمول الشافعية، وقالوا: إنه سنة ولم أجد لهم ما يدل على السنية، ونقول بالاعتماد على الركبتين عند القيام إلى الثالثة، وأشار أبو داود ص (143) إلى مختار الأحناف في شرح الحديث بأن الحديث يدل على مختارنا، ونسب الشوكاني إلى أبي داود والترمذي شيئاً في حاشية أبي داود ص (131) باب صفة السجود، ولم أَجد ما نسب إليهما فاتركه.
قوله: (هذا حديث لا نعرفه) الرجال كلهم ثقات.
باب ما جاء كيف النهوض من السجود
[287]
الغرض هاهنا ذكر جلسة الاستراحة، وهذه سنة عند الشافعي، ومذهب أبي حنيفة ومالك والجمهور والمشهور عن أحمد تركها، ونقل المحدثون عن أحمد: إن أكثر الأحاديث على تركها، وليس مراد قول أحمد أنها نافية، بل شبيه ما قلت: إن أكثر أحاديث في ترك رفع اليدين أي أكثرها ساكتة، مع ذكر أكثر السنن والمستحباب في أحاديث صفة الصلاة، وفي فتح الباري رجوع أحمد إلى جلسة الاستراحة، ونقله ابن قيم في الزاد، ورجح الترك من جانبه وظني أن أحمد لم يرجع، وفي البحر عن الحلواني أن الخلاف في الأفضلية لا في الجواز، فلو أتى بها الحنفي أو تركها الشافعي لابأس وذكر مثل قول الحلواني في شرح الفرائد السنية للكواكبي، وفي الكبير: من أتى بجلسة الاستراحة يلزمه سجدة السهو، وأقول: لعله أراد ما خرج عن القدر المسنون، وأما أدلتنا على تركها، فما أخرجه في فتح القدير والجوهر النقي، وقد أقر الحافظ وغيره بأن حديث مسيء الصلاة خال عنها، وذكرها بعض الرواة في حديث مسيء الصلاة، فأشار البخاري إلى تعليله في كتاب الاستيذان، ولعل البخاري قائل بمختارنا، فإنه بوب بباب من قال إلخ، وعندي أنه إذا بوب بهذا التعبير لا يختار ذلك المذكور، وبوب الطحاوي على جلسة الاستراحة، وحملنا على حالة العذر والمراد بها الحاجة.
باب ما جاء في التشهد
[289]
ثبت كثير من صيغ التشهد، والأشهر وهو أصح ما في الباب بإقرار المحدثين تشهد ابن مسعود، وهو مختار الأحناف، واختار مالك تشهد الفاروق الأعظم، واختار الشافعي تشهد ابن عباس، وفي عامة كتبنا جواز كل من التشهدات، وقال صاحب البحر باحثاً من جانبيه: ينبغي وجوب تشهد ابن مسعود، وتشهد ابن مسعود مروي بستين طرقاً ذكره البزار، وأخرجه محمد في كتاب الآثار، قال محمد: أخذ أبو حنيفة بيدي وعلمني تشهد ابن مسعود، قال: أخذ حماد بيدي وعلمني تشهد ابن مسعود، قال أخذ إبراهيم النخعي بيدي وعلمني تشهد ابن مسعود وصله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (التحيات) أي العبادات القولية.
و (الصلوات) أي الفعلية. (الطيبات) أي المالية، وذكر بعض الأحناف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء:«التحيات لله» إلخ، قال الله تعالى: السلام عليك أيها النبي إلخ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «السلام علينا وعلى عباد: الله، إلخ، ولكني لم أجد سند هذه الرواية، وذكره في الروض الأنف، وفي البخاري عن ابن مسعود: كنا نقول بالخطاب في حياته عليه الصلاة والسلام، وبالغيبة بعد الوفات، وقال السبكي في شرح المنهاج: كان جمهور الصحابة يقولون بالخطاب في الحالين خلاف ابن مسعود وتبعه، وأقول: إن ألفاظ الخطاب في لسان العرب لاستحضار المخاطب تخييلاً، ولا يجب علم المخاطب، كما يقال: واجبلاه واويلاه يا زيداه للميت، فعلى هذا لا يدار الخطاب على حالة الحياة، وفي المفصل: المنادى ما يدخل عليه لفظ النداء، واعلم أنه عليه الصلاة والسلام من قال: السلام عليك وهو يزعم أنه عليه الصلاة والسلام يعلم كلامه فارتكب الأمر غير الجائز، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم اطلاعي لا كلي فإن علم الله تعالى غير متناه وعلمه متناه، كما يدل كثير من الآيات والأحاديث على هذا، وأكفر الفقهاء من قال: علم الغيب لغير الله تعالى.
باب ما جاء أنه يخفي التشهد
[291]
يخفي التشهد عند الكل، ولا يجب سجدة السهو عندنا بجهره فإن وجوب السجدة في جهر ما لا يخافت أو عكسه في القراءة لا في التشهد
باب ما جاء كيف الجلوس في التشهد
؟
[292]
قال أبو حنيفة بالافتراش في القعدتين، وقال مالك بالتورك فيهما، وهو نصب اليمنى أو إسقاطها وإخراج اليسرى إلى الجانب الأيمن، والجلوس على الأرض، وقال الشافعي بالافتراش في الأولى والتورك في الثانية، وقال أحمد بالتورك في القعدة التي بعدها سلام، وتمسك الشوافع بحديث الباب، وسيأتي مفصله بتصريح مرادهم، وصرح ابن جرير الطبري بالتخيير في الطرق الأربعة، وسيأتي تفصيل الأدلة عن قريب.
باب ما جاء في الإشارة في التشهد
[294]
أي الإشارة بالمسبحة في التشهد، ثبت الإشارة بصفات ثلاثة:
إحداهما: ما في أمالي أبي يوسف، ورواية وائل في مسلم أي: يعقد الوسطى والإبهام ويضم الخنصر والبنصر ويشير بالسبابة.
والثانية: ما في الصحيحين وموطأ محمد ص (108) عن ابن عمر.
والثالثة: ما في ابن ماجه عن ابن الزبير.
والإشارة سنة باتفاق أئمتنا الثلاثة، فإنه ذكر محمد في موطأه ص (108) ، وقال وبه أخذ أبو حنيفة، وكذلك روى الحديث أبو يوسف في أماليه، وزعم بعض المصنفين نفيها لعدم ذكرها في ظاهر الرواية، وهذا الوهم فاسد وأطنب ملا علي القاري في رسائله وأكثر الروايات، وقال في بعض رسائله: لولا حديث «ظنوا بالمؤمنين خيراً» لأكفرت صاحب الكيدانية، ولا نعلم صاحب الكيدانية أنه معتبر أو غيره، وقال صاحب الدر المختار: يشير باسطاً أصابعه، ورد عليه صاحب رد المحتار وقال: لم أجد ما نسب صاحب الدر إلى البرهان، وكتب ابن عابدين الشامي رسالة في هذا وقال الشيخ السرهندي المجدد رحمه الله تعالى: إن الحديث مضطرب فيه، وقال: والعجب من ابن الهمام أنه لم يقل بالاضطراب، بين الأحاديث ولا اضطراب، فإن الحديث مروي عن كثير من الصحابة، والغرض من الكل رفع المسبحة وضم باقيتها كما قال ابن قيم في الزاد، وقال صاحب القاموس في سفر السعادة: إن الأحاديث تبلغ عدداً كثيراً، وأقول: إن الأحاديث ثلاثة، نعم طرقها كثيرة.
وأما موضع الإشارة: فقال الشافعية: يرفعها على كلمة أشهد، ويضع على الإثبات، ويضم الأصابع من ابتداء التشهد، ويقول الحلواني: يضم حين الرفع وهو على كلمة لا النفي ويخفضها على الإثبات، ثم لا يبسط الأصابع لعدم ثبوته، كما قال الملا علي قاري في بعض رسائله: وأما المرفوع في موضع الرفع ووضعه فلم أجده ولا الموقوف، ولعل لعمل أهل المذهبين مسكة، وأما هذا الموضع المذكور؟ منا فقول الحلواني وليس من الأئمة، وقال مولانا المرحوم الگنگوهي: لا يضعها كل
الوضع، وهناك حديث يخبر الراوي فيه بأنه عليه الصلاة والسلام أمال شيئاً ولم يضع، ودل كلام الطحاوي في ضمن التورك والافتراش أنه لا يضع، إلى الآخر، وقال: إن ظاهر رفعها وهو يدعو أنه رفعها إلى الدعاء، والدعاء يكون في الأخير، وأقول: إن مسألة الطحاوي صحيحة، ولكن استنباطه فيه نظر، فإن الدعاء في عرف الشريعة وهو ذكر الله تعالى فيطلق الدعاء على التشهد أيضاً، وبعض ألفاظ مصنف ابن أبي شيبة موميةً إلى أن رفعها ليس من ابتداء التشهد، وفي الروايات أن في الرفع إشارة إلى توحيد الباري عزّ برهانه.
(ف) في وتر البحر عن المبسوط: أن الدعاء على أربعة أنحاء:
دعاء التضرع: وهو برفع اليدين، ويجعل ظهريهما إلى الأرض، والكفين أي باطنهما إلى السماء.
ودعاء الابتهال: بمحض القلب.
ودعاء التوحيد: بأصبع واحدة.
ودعاء آخر يجعل فيه باطن الكفين إلى وجهه وظهرهما إلى السماء، وفي بعض كتبنا أن هذه الأنحاء الأربعة عن محمد بن الحنفية.
باب ما جاء في التسليم في الصلاة
[295]
مذهب الثلاثة التسليمتان وقال مالك: يسلم الإمام واحدة تلقاء الوجه ويسلم المأموم ثلاث تسليمات يميناً وشمالاً وتلقاء الوجه لجواب الإمام، تمسك المالكية بحديث عائشة اللاحق، وتكلم الطحاوي والترمذي في سنده وقال متأولونا: إنه عليه الصلاة والسلام بدء السلام من تلقاء وجهه ومده إلى الجانب الأيمن، وأقول: عندي حديثان صحيحان لمذهب مالك: ما استدل به أحد:
أحدهما: ما في سنن أبي داود ص160 باب الوتر قال أبو عمر المالكي كما ذكره الزرقاني: إن الخلفاء الأربعة روي عنهم التسليمة الواحدة.
وثانيهما: ما أخرجه النسائي في سننه ص (99) عمل ابن عمر ثم رفعه باب الوقت الذي يجمع فيه المسافر المغرب والعشاء، ولمالك حديث آخر أخذته من تاريخ ابن معين ولكني لم أجد سنده، والمشهور في مذهبنا وجوب التسليمتين، وفي رواية شاذة وجوب أحدهما وسنية الثانية كما في فتح القدير، ولعل المختار هي الشاذة، والمذكور لنا مسكة في التسليمة الواحدة للإمام قبل سجدة السهو، وكان اعترض علينا لا ثبوت التسليمة الواحدة.
باب ما جاء أن حذف السلام سنة
أي يقف في الآخر ولا يمد الألف.
[297]
قوله: (قرة بن عبد الرحمن إلخ) هذا هو راو: «كل أمر ذي بال لم يبدأ ببسم الله» إلخ عن أبي هريرة وهذا الراوي متكلم فيه، وضعفه الأكثر وحسنه الشيخ تاج الدين السبكي تلميذ الذهبي في الطبقات الشافعية، وحسنه الشيخ أبو عمرو بن الصلاح شيخ النووي، وقرة بن عبد الرحمن قد يسمى بقرة بن حَيُوِيُل أيضاً، وأما حديث «كل أمر ذي بال» إلخ ففي بعض طرقه لفظ «بسم الله» وفي بعضها «الحمد لله» وفي بعضها «بذكر الله» والحديث واحد والغرض من جميع الألفاظ هو ذكر الله تعالى، والحديث لا يبلغ مرتبة الحسن إلا باللهم.
قوله: (جزم) وفي المقاصد الحسنة نقل السخاوي من السروجي الحنفي رواية حذم بالحاء المهملة بدل المعجمة، والذال بدل الزاي.
باب ما يقول إذا سلم من الصلاة
[298]
في فتح القدير: إن السنة في الصلاة التي بعدها سنن أن لا يجلس بعد السلام إلا قدر: «اللهم أنت السلام» ومنك السلام إلخ، ومثل هذا الدعاء، وكذلك صح عن عائشة رضي الله عنها، ثم قال
الشيخ: إن عادته عليه الصلاة والسلام أداء السنن في بيته، والسنة بعد الصلاة الجلوس قدر هذا الدعاء، وقد ثبت أدعية طويلة بعد الصلاة فكيف وجد الصحابة الأدعية الطويلة من النبي؟ فأجاب بأن طرق معرفة الأذكار كثيرة، وأقول: قد ثبت رواية الصحابة الأذكار الخفية منه، فما كان سبيل المعرفة في الأذكار الخفية هو السبيل بعينه هاهنا، ثم ذكر عن الحلواني: لو أتى بالأذكار الكثيرة بعد الفريضة قبل السنن لا بأس، وقال بعد هذا: إن قول الحلواني لا يخالفني فإن لا بأس يدل على أنه خلاف الأولى وهو مرامي، والأدعية بعد الفريضة قبل السنن ثبتت كثيرة، ولكن لا يجمعها بل يأتي بأيتها شاء.
قوله: (لا شريك له) أقول: الأولى الوقف على كلمة له.
قوله: (الرحبي) الرحبة بفتح الحاء فناء المسجد، وبسكونها بلدة أو قرية، وقال صاحب القاموس إن: الرحبة بسكون الحاء إذا نسب إليها يقال: الرحبي بفتح الحاء.
باب ما جاء في الانصراف عن يمينه وعن شماله
[301]
ليس مراده إلا ما قال الكبار، وقد شرح الحديث قول علي مفسراً، وكذلك قرينة على هذا الشرح في أبي داود ص (149) عن عبد الله فشرح الحديث أن السنة إما استقبال القوم بالوجه أو الذهاب إلى الحاجة أو البيت، ويأخذ الذهاب عن جانب يمينه أو يساره، وقد بوب البخاري على هذا المراد، وقال الطيبي في مراد الحديث: كان يُقبل على الناس إذا لم يرد الخروج بوجهه من جانب يمينه الخ حاشية أبي داود ص (149)، فالسنة ما ذكرت وفي ظاهر الرواية قال محمد: يستقبل الإمام قومه بشرط أن لا يكون تجاه وجهه مصلي يصلي، وأقول: لو كان المصلي خلف الصف الأول لا يدخل تحت قول محمد، وأما شرط الاستقبال زيادة المقتدين على عشرة رجال فلا تعويل عليه، واعلم أنه يستثنى من استقبال القوم قدر عشر كلمات توحيد كما صح في صلاة الصبح وصلاة المغرب أيضاً.
باب ما جاء في وصف للصلاة
[302]
حديث الباب حديث مسيء الصلاة، ورواه أبو هريرة ورفاعة بن رافع أخو صاحب الواقعة خلاد بن رافع والأخوان بدريان، وفي هذا الحديث ذكر ذخيرة من أحكام الصلاة كما يظهر على من يتتبع في جميع طرق الحديث.
قوله: (فأخف صلاته الخ) أي في تعديل الأركان، وأما تخفيف القراءة فثابت عنه عليه الصلاة والسلام أيضاً وكانت صلاته في المسجد كما في المستدرك بعد أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ص (243)، وتمسك الحجازيون بحديث الباب على ركنية تعديل الأركان بأنه عليه الصلاة والسلام قال:«إنك لم تصل» ، وتمسك العراقيون به على وجوب تعديل الأركان بقوله عليه الصلاة والسلام:«وإن انتقصت منه شيئاً انتقصت من صلاتك» الخ، ولي في حديث الباب إشكال، وهو: أنه كيف يسكت صاحب الشريعة على فعل المكروه تحريماً والحرام الصريح؟ قال صاحب البحر: إن ارتكاب المكروه تحريماً صغير، وقال العلامة في التلويح: إنه قد يكون كبيرة أيضاً والحق إلى العلامة، وفي المتون أن المكروه تحريماً أقرب إلى حرام، ونص محمد على أن كل مكروه حرام، فرجل الباب مرتكب الحرام عند جمهور الأئمة، ومرتكب المكروه تحريماً عندنا، فما أجاب العلماء إلا بأن سكوته عليه الصلاة والسلام كان للتعزير وهذا بعيد لا يقبله اللبيب، وأيضاً هذا إنما يصح على تقدير عدم إساءة من يصلى بالكراهة أو بالحرام ويريد أنه يصلي بالصحة بعده ثانياً في الوقت، ولم أجد النقل فيه هذا وينظر أن الرجل الذي ارتكب المكروه تحريماً هل يحرز شيء ثواب أم لا؟ فذكر في النهر أنه لا ثواب له أصلاً في قول، وشيء ثواب في قول، وأما الشافعية فلهم في وجدان الثواب أقوال أربعة ذكرها في جمع الجوامع وأقول: إنه لا يحرز الثواب في صوم الأيام الخمسة، ويحرز شيء ثواب لو عرض الكراهة في الصوم سوى كراهة الأيام الخمسة، ولو ارتكب المكروه تحريماً يحرز شيء ثواب في
الصلاة، ودل كثير من مسائل صاحب المذهب أبي حنيفة على ما حررت من وجدانه شيء ثواب، قال أبو حنيفة: من شرع الصوم في الأيام الخمسة لا يجب عليه القضاء، ولو شرع الصلاة في الأوقات المكروهة يجب عليه قضاؤها بإفسادها، وأشكل وجه الفرق بين الصوم والصلاة على كثير من العلماء
وقال أبو بكر الحنفي رحمه الله في وجه الفرق: إن كراهة الصوم في الأيام الخمسة مجمعة عليها خلاف كراهة الصلاة في الأوقات الخمسة، وقال أيضاً: إن تحريمة الصلاة قول فيكون نذراً حكماً ويدل على هذا المسائل الثمانية لأبي حنيفة بخلاف الصوم فإنه لا نذر فيه حكماً واتفقوا على لزوم النذر فتفرقا، هذا يشفي ما في الصدور، وأما ما قال العلامة في التلويح لا يشفي، وكذلك تدل بعض أمور الشارع على إحراز ثواب قليل، فعلى هذا سكوته عليه الصلاة والسلام لا يكون بعيداً، وأيضاً كان الرجل غير عالم بالمسألة فلا يأثم، هذا ما اتفق.
وحديث الباب يدل على مرتبة الواجب وتفصيل مرتبة الواجب، مر سابقاً، وحاصل مرتبة الواجب أن الواجب نشأ من الظنية فعلمنا، بما هو ظني الثبوت، وعامل الخصم معاملة القطع فخرج الواجب من صورة الدليل، وأما حقيقة الواجب فلا يتعرض إليه الأصوليون بل ينحون من صورة الدليل، فقال الشيخ: لما كان مدار الواجب في حقه عليه الصلاة والسلام فإن الظن عنه متعذر أقول: إن حقيقة الواجب التكميل كالسنن إنها مكملات إلا أن للتكميل مراتب أعلى وأدنى، ومرتبة التكميل في الواجب أيضاً وأشار بعض العلماء إلى التكميل كما قال في الاختيار شرح المختار أن النوافل والسنن تكون مكملات للفرائض في الحشر، كالواجب إنه مكمل للفرض واعلم أن ما استدل الأحناف على وجوب تعديل الأركان بحديث الباب أورد عليه الخصم بأن حكم الانتقاص ليس براجع إلى تعديل الأركان بل إلى المجموع من المذكور، في الجملة نقول: دل الأحاديث على بقاء شيء مع ترك التعديل مثل حديث سرقة الصلاة في أبي داود، وحديث «كجائع يأكل تمرة أو تمرتين» فإن هذا الحكم راجع إلى ترك التعديل، والبحث بقدر الضرورة مر ابتداءاً وذكر ابن تيمية أن تركيب الصلاة عند الأئمة الثلاثة من الفرائض والسنن والواجبات، وعند الشافعي من الفرائض والسنن، ثم ذكر حديث الباب فإذا سلم الوجوب عند الحنابلة فكيف يرد على الأحناف على مرتبة الواجب؟ وليعلم أن الخلاف
في واجب الشيء لا الشيء الواجب، وواجب الشيء ليس إلا في الصلاة والحج، وأما الشيء الواجب ففي كل شيء.
(ف) ما ثبت بالقاطع لا يثبت أركانه وشروطه بالظني، وما ثبت بالظني يجوز إثبات أركانه وشروطه بالظني كصلاة الاستسقاء وغيرها.
قوله: (ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن) اعلم أن أمر الشارع يحمل على ما هو مرضي عنده بحيث يكون جامع الفرائض والواجبات والسنن، وأيضاً لا فرق في العمل بين الفرض والواجب عندنا، وقال الحافظ: إن هذه القطعة في ضم السورة كما في أبي داود ص (132)«ثم اقرأ بأم القرآن» و «ما شاء الله أن تقرأ» في حديث رفاعة، وأما قوله عليه الصلاة والسلام «وإلا فاحمد الله» . . إلخ ففي حق المعذور عندنا وعند الشافعية وغيرهم، والمسألة للمعذور هكذا عند الكل.
قوله: (وافعل ذلك في صلاتك كلها. . الخ) اختار ابن همام والشيخ العيني وجوب الفاتحة في الأخريين، والمشهور في المذهب سنية القراءة في الأخريين، وأما مختار العيني والشيخ فمروي عن حسن بن زياد عن أبي حنيفة وتمسك العيني والشيخ بحديث الباب بأنه أمر الشارع وسيما ما أخرجه أحمد في مسنده:«وافعل ذلك في كل ركعة» ، ولكني متردد في هذا فإن المحقق ابن أمير الحاج خالف شيخه، وقال: ثبت عن جماعة من الصحابة ترك القراءة في الأخريين، ولم يذكر إلا اسم علي وابن مسعود، وأثر علي أخرجه العيني في العمدة بسند حسن:«أن علياً يسبح في الأخريين» وأثر ابن مسعود في مصنف ابن أبي شيبة المتبادر عن أثرهما الترك وإن كان مجال التأويل، ثم ذكر في موضع أن في القراءة خمسة مذاهب مذهب الحسن البصري السنية، ولا يقول بوجوب الفاتحة، وفي مذهب الوجوب في الركعتين وهو مشهور مذهبنا، ورواية عن مالك وأما المشهور عن مالك فالفرضية في الثلاثة، وفي رواية عن مالك الوجوب أي الفرضية في أربع ركعات، ومذهب آخر خامس، ونحمل حديث الباب على مشهور مذهبنا على السنية لا الوجوب.
قوله: (فتخ أصابعه) أي عطفها، وأصل الفتخ بسط الطائر جناحيه مائلاً إلى الأرض للجلوس، حديث الباب للشافعية أخرجه البخاري بطريق عطاء، وعلله الطحاوي بأن في البخاري محمد عن أبي حميد ولكنه ليس له سماع فيكون الحديث منقطعاً، ووجه عدم السماع أن في الحديث ذكر أن أبا قتادة أيضاً كان في المجلس ومات أبو قتادة في عهد علي، وصلى عليه علي، وولد محمد بن عمرو بن عطاء بعد عهد علي، وتعقب الحافظ على الطحاوي، والحال أن ابن قطان المغربي وابن دقيق العيد موافقون له في تعليل الحديث كما ذكر الزيلعي في التخريج إلا أن في التخريج حذف العبارة من الناسخ، ثم قال الطحاوي: إن الراوي ساقط من البين هو عباس بن سهل، فأجاب الحافظ في الفتح بأن في موت أبي قتادة قولين، قيل: مات في عهد علي، وقيل: بعد عهد علي، وأقول: كيف يقول الحافظ بهذا؟ والحال أنه صحح في تلخيص الحبير في الجنائز موت أبي قتادة في عهد علي وصلاته عليه، وأجاب الحافظ ثانياً بأنه لعل ذكر أبي قتادة وهم، ولكن الحاضرين الآخرين كافون للمسكة والاحتجاج، واعلم أنه روى أبو حميد صفة الصلاة مرتين مرة في عهد علي قولاً ورواه
عباس بن سهل، ثم رواها بعده فعلاً، وكان محمد في هذه الواقعة وأبو قتادة في الأول، ويتأول في قول محمد: سمعت أبا حميد، أي سمعت كلامه وإن كان بالواسطة، كما يقال في الهندية (مين فلال كي سني) .
قوله: (ثم يهوي إلى الأرض ساجداً) قال الزيدية: يرفع اليدين عند الهوي إلى السجود، وقال الشافعية: يرفع عند الانتصاب أو حال الانتصاب الكامل في حديث الباب ذكر جلسة الاستراحة، ولنا الحديث القولي في قصة خلاد بن رافع، وهو ظاهره نفي جلسة الاستراحة.
قوله: (من السجدتين) أي الركعتين، وإليه جمهور العلماء، وحمل الخطابي السجدتين على ظاهرهما في معالم السنن، وحديث الباب دليل الشافعية في التورك، ولأحدٍ أن يقول: إن التورك يصدق على افتراشنا أيضاً لغة كما في القاموس وغيره، ولكن الحق أن تغيير الراوي التعبير في القعدتين يدل على توركهم، وعارض الأحناف الشافعية بما في مسلم ص194 عن عائشة ذكر الافتراش في القعدتين، ويمكن لهم أن في التورك أيضاً فرش اليسرى ونصب اليمنى لكن تبادر الحديث عن اتحاد التعبير في القعدتين للأحناف.
تنبيه: يصدق الافتراش على التورك والتورك على الافتراش لغة، وإذا كان بينهما تصادق فالفارق هو الجلوس على الأرض على مذهبهم، والجلوس على الرجل اليسرى على مذهبنا، فلنا ما في النسائي ص (173) عن عبد الله بن عمر وإن قيل: ما في النسائي في القعدة الأولى، وكلامنا في الثانية، فنقول: بناءً على الروايتين أخرجهما مالك في موطأه، أحدهما في ص (30) عن عبد الله بن دينار أنه سمع عبد الله بن عمر وصلى إلى جنبه رجل، فلما جلس الرجل في أربع تربع وثنى رجليه، فلما انصرف عبد الله عاب ذلك عليه فإنك تفعل. . إلخ، وظني أن الرجل الذي تربع هو ابن دينار نفسه فدل هذه الرواية على تربع ابن عمر في الرابعة، ولعله كان تربع في الثانية أيضاً فإن العذر فيهما، والرواية الثانية في موطأ مالك ص (31) عن عبيد الله بن عمر أنه أخبره أنه كان يرى عبد الله بن عمر تربع في الصلاة إذا جلس قال ففعلته وأنا يومئذ حديث السن، فنهاني عبد الله بن عمر، وقال: إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثنى رجلك اليسرى، فقلت له: إلخ، فانسحب حكم الافتراش على القعدتين، وهذه الرواية رواية النسائي فخرج مرامنا من النظر إلى ما في موطأ مالك من الحديثين وما في النسائي. ثم اعلم أن المذكور في موطأ سند الرواية الثانية من عبيد الله مصغراً غلط والصحيح عن عبد الله مكبراً لما في النسائي ص (173) عن عبد الله بن عبد الله بن عمر، فإذاً ثبت افتراشنا بحديث النسائي، وتوركهم بحديث الباب فوجه الترجيح لنا إطلاق ابن عمر لفظ السنة على الافتراش، والخلاف في المختار لا في الجواز، وقال الحافظ: إن للشافعية ما في موطأ مالك ص (130) أن
القاسم بن محمد أراهم الجلوس في التشهد فنصب رجله اليمني، وثنى رجله اليسرى، وجلس على وركه الأيسر، ولم يجلس على قدمه إلخ، نقول: إن فعله ابن عمر لكنه أطلق لفظ السنة على افتراشنا، وأما الجواز فلا ننكره أيضاً، وبعد هذا قوي استدلالنا بما في مسلم عن عائشة، وقال النووي: إنه للأحناف، ولكنه لم يخرجه البخاري لأنه لم يثبت عنده سماع أبي الجواز عن عائشة، ولكن المعاصرة كافية عند الجمهور ومسلم خلاف البخاري، وحديث مسلم أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه سنداً ومتناً، وظاهرها يخالفنا ولكنه وقع فيه سقط من الناسخ فينبغي النظر فيه وذكر الشوافع نكتة أن اختلاف الهيأة في السجدتين يرفع الالتباس، وقال الأحناف: إن المكرر في الصلاة يكون على شاكلة واحدة مثل السجدة والركوع.
قوله: (أخر رجله الخ) أي أخرجها إلى الجانب الأيمن.
قوله: (وابن علي الحلواني الخ) واعلم أن الحلواني هذا منسوب إلى بلدة حلوان، وأما شمس الأئمة الحلواني فليس بمنسوب إلى بلدة حلوان كما زعموا بل نسبته إلى الحلوى، ويقال له: الحَلواني بفتح الأول وضمه، والحَلاوي والحَلوائِي.
باب ما جاء في القراءة في صلاة الصبح
[306]
اختلف كتبنا، في بعضها اعتبار السور، وفي بعضها اعتبار الآيات، وكذلك في الأحاديث أيضاً، وقال مولانا المرحوم الگنگوهي باعتبارهما.
واعلم أن المراد من ستين أو مائة في الصبح ستون أو مائة في الركعتين، ولنا ما ذكرنا من أوساط المفصل وطوالها وقصارها أثر عمر الفاروق الذي كتبه إلى أبي موسى في اليمن.
باب ما جاء في القراءة في الظهر والعصر
[307]
عن محمد بن حسن تطويل الأولى على الثانية في الخمسة وهو مذهب الشافعي، وعند الشيخين التساوي بين الركعتين إلا في الفجر، وظاهر الحديث لمحمد والشافعي، وأجيب من جانب الشيخين بأن تطويل الأولى كان بسبب الثناء، والخلاف في الأولوية لا في الجواز واختار ابن همام قول محمد.
تنبيه: تعيين الأوساط أو الطوال أو القصار من بين المفصل بالصلوات مستحب.
قوله: (الركعة الأولى) أي الشفعة الأولى كما يدل ما في مسلم ص (185) و (186) عن أبي سعيد الخدري وكذلك ما في سنن ابن ماجه.
قوله: (إن قراءة العصر كنحو قراءة المغرب الخ) عندنا في العصر أوساط المفصل، وهذا يخالفنا ظاهره ولكن الأمر من السواء وأحواله عليه الصلاة والسلام في السفر مختلفة فإنه ثبت عنه قراءة المعوذتين في الصبح، وفي العشاء قراءة والتين والزيتون.
واعلم أن في ضم السورة في الأخريين ثلاثة أقوال لنا ذكرها ابن عابدين الشامي: قيل: بلزوم سجدة السهو بضم السورة، وقيل: مكروه ولا يلزم سجود السهو، وقيل: مباح ليس بسنة ولا مكروه، اختارها فخر الإسلام وهو المختار، وأكثر عمله عدم الضم لما في مسلم من (185) : ويقرء في الأخريين بفاتحة الكتاب إلخ) .
باب ما جاء في القراءة في المغرب
واقعة الباب واقعة مرض موته صلى الله عليه وسلم.
[308]
قوله: (خرج إلينا) قال الحافظ والعيني: إن خروجه عليه الصلاة والسلام لم يكن إلى المسجد بل إلى البيت، وقال الحافظ: إنه عليه الصلاة والسلام لم يصل في المسجد في مرض موته حين جعل
أبا بكر إمام القوم إلا صلاة واحدة، ونقل عن الشافعي أنه عليه الصلاة والسلام صلى في المسجد واحدة، وقال البيهقي: إنه عليه الصلاة والسلام غاب في مرض موته في سبع عشرة صلاة إلا الصلاتين ظهر يوم السبت أو يوم الأحد وأمَّ الناس، وصلاة صبح، واقتدى بأبي بكر الصديق وسبق بركعة وأدرك أخرى، ووافقه الزيلعي وتبعه ابن همام، ونقل الزيلعي عن الحافظ ابن ناصر: من لم يقل بتعدد دخوله عليه الصلاة والسلام في المسجد فقد أخطأ، فتمشى ابن حجر على تحقيقه، وكان حديث الباب تخالفه تأول فيه، وأقول: إنه عليه الصلاة والسلام شهد في المسجد النبوي في مرض موته أربع صلوات، والبحث طويل سيأتي في البخاري، وأذكر أدلتي ثمة، وأثبت عن الشافعي شهوده عليه الصلاة والسلام في صلاتين، وعندي أنه عليه الصلاة والسلام خرج إلى المسجد في واقعة الباب، وعَضَّ الحافظ على ظاهر ما في النسائي ص (164) عن أم الفضل لفظ في بيته. . إلخ، وإني أرى فيه علّة، ولو سلم عدم الإعلال فأخرج المحمل فيه بأن في بيته حال أم الفضل لا حال النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم كان في المسجد، واقتدت أم الفضل خلفه وهي في البيت وهو في المسجد، وروي عن مالك أن الناس كانوا يقتدون بالإمام من حجرات أمهات المؤمنين.
قوله: (فقرأ بالمرسلات الخ) يستحب عندنا قصار المفصل في المغرب ولا ننكر جواز غيرها، وأكثر عادته عليه الصلاة والسلام القصار في المغرب، ولنا في هذا كتاب عمر إلى أبي موسى وهو في يمن، وقال الطحاوي: لا يدل هذا على أنه عليه الصلاة والسلام أتم السورة، بل لعله تلا بعض الآيات، وتعقبه البيهقي على هذا وأتى برواية أنه عليه الصلاة والسلام قرء الطور، وادعى أبو داود ص (125) النسخ، وكيف يقال بالنسخ والحال أن الواقعة واقعة آخر عمره ومرض موته؟ إلا أن يقال بأنه استعمل النسخ بنسخ الطحاوي كما نقل الحافظ في الفتح عن ابن حزم أن تهجير صلاة الظهر منسوخ، والناسخ إبرادها، ولا يقول أحد بعدم جواز تهجيرها فنسخ الطحاوي أخذه بعض المحدثين.
باب ما جاء في القراءة في صلاة العشاء
[309]
نسب إلى الأحناف أنهم لا يبالون بما وردت السور المعينة في الصلاة المعينة عنه عليه الصلاة والسلام ويقولون: لا تعين سورة، وقد صرح في البحر باستحباب قراءة السور الواردة في الأحاديث، ولكنه يتركها أحياناً قليلة كيلا يتوهم الناظر عدم صحة الصلاة بدونها فلا يتمشى على ظواهر متوننا كما زعمه أهل العصر، وصرح المحقق ابن أمير الحاج في الحلية بجواز الأذكار الواردة في الأحاديث في التطوع، والمكتوبة بلا نكير لكنه لا يثقل على الناس.
باب ما جاء في القراءة خلف الإمام
[311]
مسألة الباب طويلة الذيل، ولقد صنف فيها الشافعية كثيراً من الأجزاء والكتب، وصنف البيهقي كتاب القراءة، ولنا فيه حديثان صحيحان صريحان، ما أخرجها البخاري في أجزاء القراءة، وتكلم البيهقي في أسانيد مستدلاتنا، وبه عمل البخاري، وما صنف حنفي في هذه المسألة تصنيفاً مستقلاً إلا أن البيهقي يرد على حنفي، وهذا يدل على أن حنفياً صنف فيها شيئاً والله أعلم.
وحديث الباب أخرجه الشيخان في صحيحهما بدون القصة المذكورة في حديث الباب.
وأقول: إن قطعة «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» ليست في حق الجماعة بل في أحكام الصلاة، وأما في حق الجماعة فحديث: وإذا قرأ فأنصتوا» إلخ فإنه سوق الجماعة، وظاهر حديث الباب للشافعي، فإن الواقعة واقعة الجهرية، وسيجيء الكلام في هذا إن شاء الله تعالى، وأما مذاهب الأئمة: فالجمهور من أبي حنيفة ومالك وأحمد والأوزاعي وليث بن سعد وابن المبارك وإسحاق بن راهويه وغيرهم إلى عدم الجواز في الصلاة الجهرية، وأما في السرية فلهم أقوال من الوجوب والاستحباب أو الإباحة، والقول القديم للشافعي عدم الجواز في الجهرية لا السرية، ثم لما دخل مصر قال بالوجوب فيهما، وكذلك في مختصر المزني بلغني عن بعض أصحابنا أن الشافعي قال بالوجوب فيهما، وقال الشافعية: إن المراد من بعض الأصحاب هو ربيع بن سليمان، فهذا مسكة الشافعية في نقل المذهب لهم عن إمامهم، ولم يسمع المزني بإذنه الوجوب عن الشافعي، وكتاب الأم للشافعي خالٍ عن الوجوب في الجهرية، في كتب المتقدمين منهم ذكر القولين واشتهر في كتب المتأخرين القول الجديد، فتفرد الشافعي في الوجوب في الجهرية، واعلم أن المروي عن أبي حنيفة عدم القراءة في السرية والجهرية، وقالوا في الجهرية بعدم الجواز، وفي السرية تحت ما روي عن أبي حنيفة أقوال خمسة، والمشهور في المتأخرين ما قال ابن همام من عدم الجواز والكراهة تحريماً، وتمسك ابن همام بآية:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] إلخ، وقال: إن الاستماع في الجهرية والإنصات في السرية والجهرية، والمذكور في الآية النهي عن القراءة خلف الإمام في الجهرية، ولا تعلق لها بالسرية، والإنصات معناه في اللغة (كان لگانا أورسننا) ويكون في الجهرية سيما إذا اجتمع الاستماع والإنصات، وما من كلام فصيح يكون الإنصات فيه في السر، وفي حديث:
(من أتى الجمعة واستمع وأنصت) استعمل في الجهرية، وكذلك في حديث: صور إسرافيل أنه قائم استمع وأنصت في الجهرية، وكذلك في:
~ يا من يؤمل أن تكون صفاته
…
كصفات عبد الله أنصت واسمع
~ إذا قالت حذام فانصتوها
…
فإن القول ما قالت حذام
وقال الشيخ: إن ما ذكر صاحب الهداية من استحسانها في السرية لعله ليس بصحيح فإنه ينفيها في موطأه وكتاب الأثار وأقول: إن رواية الاستحسان لعلها قد تكون عن محمد فإن صاحب الهداية مثبت وأما ما في الموطأ وكتاب الآثار فلا يدل على عدم الجواز، بل يدل على عدم الرضاء، ولا يدل على الكراهة أيضاً. بل الأولى عدم القراءة في السرية، والمتحقق عندي عن مذهب أبي حنيفة عدم جواز القراءة في الجهرية، وكونها غير مرضية في السرية، واختار مولانا عبد الحي الجواز في السرية بلا كراهة، وأتى بأقوال المشائخ وما أتى بالرواية، وأتى بما في المجتبى لصاحب القنية شرح القدوري، وبعمل أبي حفص الكبير تلميذ محمد، وبعمل الشيخ نظام الدين شيخ التسليم معاصر شارح الوقاية، وعندي أيضاً فقول المتقدمين في جوازها في السرية، منها ما في الذخيرة للبرهاني جد صاحب شرح الوقاية فإنه ذكر اختلاف مشائخنا في القراءة في السرية، ولكنه اختار من جانبه نفي القراءة في السرية ومنها ما في المقدمة الغزنوية القلمية: أن أبا حنيفة أجاز القراءة في السرية ثم رجع عنه، والجمع بين المرويين عنه للرجوع، ومنها تفسير أبي منصور الماتريدي التأويلات السمرقندي، ومنها ما في الأسرار للقاضي أبي زيد الدبوسي، ومنها ما في شرح مختصر الطحاوي لأبي بكر الرازي.
(اطلاع) : في استذكار أبي عمر أن ليثت بن سعد موافق للشافعي فكان مخالفاً لما ذكرت من مذهبه، وكنت متردداً في ما نقل أبو عمر، لأن ليثاً يروي عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة إلخ، وله سماع عن أبي يوسف، فكيف يقول مثل ما قال الشافعي؟ مع رواية هذا الحديث أخرجه الطحاوي ص128 عن أحمد بن عبد الرحمن عن ابن وهب عن ليث عن يعقوب عن نعمان عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم والسند أقوى، فإنه قلما يوجد مثل هذا لأن فيه أربعة أئمة، حتى أن وجدت في فتاوى ابن تيمية، وفيه أن ليثاً قائل باستحباب القراءة في السِّرية، فعلم أن ما في الاستذكار مسامحة، وفي كتاب الخراج رواية يعقوب عن الليث هذا المذكور مذاهب الأئمة، وأما مذاهب الصحابة فلا أعلم من قال بالقراءة خلف الإمام في الجهرية إلا قليل، وعنهم أيضاً اختلاف النقل إلا عبادة بن صامت، وهو أيضاً محتمل فيه بالقول بالوجوب أو الاستحباب، ومذهب الشافعية وجوبها ومن الذين عنهم اختلاف النقل عمر بن
الخطاب، فإنه أمر بالقراءة في الجهرية في سنن الدارقطني، وكتاب القراءة للبيهقي، وفي جزء القراءة للبخاري أيضاً القراءة عن عمر، لكنه خال عن قيد الجهرية وما في سنن الدارقطني فيه رجل متكلم فيه، وعندي يبلغ مرتبة الحسن، ثم روي عن عمر خلاف هذا في موطأ محمد بن الحسن، ولكنه منقطع، والمنقطع من الآثار مقبول ورجاله ثقات، وكذلك في مصنف عبد الرزاق، ومصنف ابن أبي شيبة، ومنهم ابن عباس ففي جزء القراءة للبخاري القراءة خلف الإمام، وفي الطحاوي ص (121) خلافه، وهو النهي عن القراءة خلف الإمام، ومنهم صحابي آخر، وعنه أيضاً اختلاف النقل فلم يبق من الصحابة قائل بالقراءة في الجهرية إلا عُبادة، وفي مذهبه أيضاً احتمال الاستحباب، ويمكن حمل قول عمر:«وإن جهرت» الخ في سنن الدارقطني على ثالثة العشاء ورابعتها، أي في الركعة السرية للصلاة الجهرية، ولا يقال: إنه حمل على ما هو ليس مذهب أحد، أقول: إنه وإن لم يكن مذهب من الأئمة الأربعة لكنه مذهب بعض السلف، كما وقع في كتاب القراءة للبيهقي في موضعين: أن بعض العلماء يقولون بالقراءة في الركعات السرية للصلاة الجهرية، ووجدت هذا المذهب في جزء القراءة للبخاري أيضاً، وفيه:«إذا لم يجهر الإمام في الصلاة فاقرأ بأم القرآن في الأوليين من الظهر والعصر، وفي الأخريين من العشاء، وفي الآخرة في المغرب» فلا يكون حمل قول عمر على البدعة، ولكن الحمل على هذا بعيد، وأما مذاهب التابعين ففي القراءة في السرية طائفتان؛ قالت طائفة بالقراءة في السرية، وقالت أخرى بتركها فيها، وأما القائلون في الجهرية فشرذمة قليلة منهم مكحول، وعد البخاري في جزء القراءة جماعة التابعين لكن بعد فرق السرية والجهرية لا يبقى إلا شرذمة قليلة، ومأخذ المذاهب الجزئيات المروية عن ذويها، والإجمال في فتاوى ابن تيمية فإنه أثبت النفي في الجهرية، والاستحباب في السرية كما هو مذهبهم،
وأما التفقه ففي المسألة أحاديث: أحدها حديث إيجاب الفاتحة، وهو صحيح بلا ريب، والثاني: حديث أمر الإنصات، وهو صحيح بلا ريب وتردد، وإن تردد فيه البخاري في جزء القراءة، وحديث:«من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» وهو صحيح إن شاء الله تعالى، كما سيأتي عن قريب، فاختلفوا في الجمع بين الأحاديث فالتفت الأحناف إلى أحوال الأشخاص، واستثنوا المقتدي من ظواهر أوامر إيجاب الفاتحة، وأما الجمهور فخصصوا أوامر إيجابها بالسرية وقصروا الإنصات على الجهرية، وأما الشافعية فتمشوا على ظواهر أوامر الإيجاب، واستثنوا الفاتحة من أمر الإنصات، وحديث:«قراءة الإمام له قراءة» .
وأما حديث الباب فظاهره للشافعية فإن الواقعة واقعة الجهرية، وتصدى الأحناف إلى الجواب عنه، وكذلك توجه الجمهور إلى الجواب عنه، فأذكر ما أجاب مولانا المرحوم الگنگوهي رحمه الله مع إضافة أشياء من جانبي، فقال مولانا رحمه الله: لا يخرج من الحديث وجوب القراءة بل إباحتها،
والإباحة أيضاً غير مرضية ثم نسخت الإباحة بحديث الباب اللاحق، والوجه أن في الحديث استثناء من النهي، وهو لا يدل على الوجوب ولا يتوهم الوجوب من قطعة «فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها» فإنها في حق الإمام والمنفرد، ومرادها أن جنس الصلاة لا تكون خالية عن الفاتحة، ويؤيد مولانا ما في أبي داود ص (119) قال سفيان: هذا لمن يصلي وحده، ثم لما كان شأن صلاتهما عدم خلوها عن الفاتحة تحملت الفاتحة في حق المقتدي أيضاً إباحة، والفاتحة في حقهما واجبة معينة، وسائر السور واجبة مخيرة ثم بعده ارتفعت الإباحة أيضاً، وتلخيص الدعوى أن قطعة:«فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها، ليس بتعليل لما سبق بل شاهد عليه والتعليل ما يجري في الجزئية التي نحن فيها والشاهد ما لا يلائم تلك الجزئية وإن لم يجر فيها، وأمثلة الشواهد مروية عنه فإنه عليه الصلاة والسلام يتلو آية ولا تكون واردة فيما تلافيه إلا أنها تكون ملائمة له، ويقول كبار الشارحين إنه استشهاد، وكما في النسائي ص (113) عن أبي سعيد الخدري قال: تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل: هو مسجد قباء، وقال الآخر: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو مسجدي هذا» فالآية واردة في مسجد قباء، واستشهد النبي صلى الله عليه وسلم على مسجده النبوي، والدليل على أنه استشهاد: أن حديث الباب حديث محمد بن إسحاق، وحديث الزهري السابق حديث الصحيحين حديث واحد، وفي حديث الزهري زيادة «فصاعداً» أيضاً، أخرجها أرباب السنن كما في أبي داود ص (119) وغيره فتفهم الزيادة بحديث الباب أيضاً، فإذن تناقض صَدْر حديث الباب وعَجُزُه لو كانت القطعة الثانية في حق المقتدي أيضاً، ولو قلنا بأنه استشهاد لا يلزم التناقض، وأما اتحاد الحديثين فأقرَّ به الحافظ ابن حجر
في الفتح فإنه قال: إن الحديثين واحد، إلا أنه يذكر الحكم ومورده في بعض الطرق، والحكم فقط في بعضها، وكذلك أشار الترمذي في اتحاد الحديثين بقوله: وروى هذا الحديث الزهري، الخ أي سابقاً، وهذا أصح، أي المختصر السابق أصح، وأشار إليه البخاري في جزء القراءة وابن حبان في كتاب الثقات إلا أن إشارة ابن حبان خفية لا يدركها عامة الناس. وأما إثبات زيادة «فصاعداً» وإن تردد فيها البخاري في جزء القراءة فمطلوب منا، وقال البخاري: إن راوي الزيادة عبد الرحمن بن إسحاق، ولم يبالِ بعبد الرحمن، وراويها معمر وهو متفرد، وأقول: إن عدم المبالاة بعبد الرحمن غير صحيح، فإن عبد الرحمن اثنان: ابن إسحاق أبو شيبة الواسطي، وهو متفق على ضعفه، والثاني ابن إسحاق المدني، وهو ثقة من رواة مسلم، وقد أخذ عنه البخاري مطلقاً في موضعين، وراوي الزيادة هو المدني وهو ثقة.
(تنبيه) زعم ابن الهمام أن عبد الرحمن الواسطي والمدني واحد، وذكر عبارة تخريج الزيلعي بعينها، مع أنها إما من سهو الكاتب، أو مسامحة الزيلعي، فإنه لا يمكن عدم اطلاع الزيلعي على كون عبد الرحمن بن إسحاق اثنين، وذكر الزيلعي في حديث أبي داود:«ولا تدعوا سنتي الفجر، ولو طردتكم الخيل» ما في التخريج بعينها، مع أن الواسطى ضعيف متفق على ضعفه، والمدني ثقة، وإن تكلم فيه البعض ـ وأقول: لا يمكن إسقاط زيادة «فصاعداً» رواها معمر في مسلم والنسائي باب
النوافل (12) ، وتابعه سفيان بن عيينة في سنن أبي داود ص (119) ، وتابعه الأوزاعي وشعيب بن أبي حمزة كما في كتاب القراءة للبيهقي، فلما رواها عبد الرحمن المدني والأوزاعي وسفيان ومعمر وشعيب بن أبي حمزة لا يمكن إسقاطها ولها شواهد، أيضاً رواها بعض الصحابة عن أبي هريرة وأبي سعيد، ورفاعة، وجابر بن عبد الله، فصح زيادة «فصاعداً» ثم زعم الأحناف مراد الحديث وجوب الفاتحة، ووجوب ضم السورة ولكنه يخالف اللغة، فإن أرباب اللغة متفقون على أن ما بعد الفاء يكون غير ضروري، وصرح به سيبويه في «الكتاب» في باب الإضافة، وقال أيضاً: إن بعه بدرهم وصاعد في هذا المراد غلط، وكذلك بعه بدرهم فصاعدٍ ـ بجر صاعد ـ أيضاً غلط بل صاعداً، منصوباً عطف جملة على الجملة، فعلى هذا يمكن للشافعية قول: إن لا صلاة إلا بأم القرآن بدون فصاعداً في حق المقتدي، وبزيادتها في حق الإمام والمقتدي، وأقول: وإن كان التأويل ممكناً ولكنه يوجب سوء الربط في نظم الحديث، ولا يشير الحديث إلى التقسيم أصلاً، ولنا أن نقول: بأنا نحمل على المعنى فيه حسن الربط، ثم إني تتبعت الأحاديث الكثيرة فالتعبيرات أنواع، أحدها ما فيه صيغة الأمر وبعدها ذكر الفاتحة وضم السورة، وفي هذا التعبير صح حديثان؛ حديث رفاعة في أبي داود:«ثم إقرأ بأم القرآن أو ما شاء الله أن تقرأ» فدل على وجوبهما، والثاني حديث أبي سعيد:«أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر» أخرجه النسائي وأبو داود ص (24) ، وفي التعبير الثاني نفي الصلاة بانتفاء القراءة، وأخذ فيه الفاتحة والسورة وصح في هذا التعبير عن أبي هريرة وجابر بن عبد الله، وأخرج الطحاوي ص (124) رواية جابر وأخرجها ابن ماجه أيضاً، وحديث أبي هريرة أخرجه أبو داود ص (125)، وفي هذا التعبير في بعض الطرق «مازاد» بالواو وفي بعضها:«فما زاد» بالفاء، وفي التعبير الثالث: الحكم على الفاتحة
فقط، وذكر فيه:«فصلاته خداج» أخرجه الترمذي، فأقول بعد هذا: إن حديث الباب حديث عبادة على أسلوب التعبير الثاني، فيكون فيه أيضاً لفط «فصاعداً» ثم في حديث جابر ورفاعة «وما زاد» أو «وما تيسر» بالواو، وفي حديث أبي هريرة في بعضها «واو» وفي بعضها «فاء» والواو تدل على وجوب ما قبل الواو وما بعدها، فيوجب وجوب الفاتحة، ووجب ضم السورة وهو مذهبنا، فإذن خالف حديث الباب بزيادة «فصاعداً» الشافعيةَ، فإنهم يقولون بعدم وجوب ضم السورة، ووقع التعارض بين صدر الحديث وعجُزِه، فلا بد من قول: إن في الحديث استشهاداً لا تعليلاً ثم أقول: إن ما ذكر أرباب اللغة أن مصداق ساعداً يكون أولى غير واجب لا بد من قصره على الفاء، ويكون مصداق صاعداً بعد الواو ضرورياً، فعليهم الترميم في ضابطتهم، فإذن لا يمكن للشافعية قول التقسيم في الحديث.
(زائدة) أقول: إن بفاتحة الكتاب في «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» الخ لو كان متعلقاً بالنفي لا يكون للشافعية مخلص مذكور، ولو يتعلق بالمثبت يكون لهم مخلص، وبحث ابن حاجب في أماليه، في أن المتعلقات الواردة بعد المنفي هل هي متعلقة بالنفي أو المثبت أي المنفي وأطنب، وحاصله تعلقها بالمثبت، وأقول: كيف قال ابن حاجب هذا مع أنها متعلقة بالنفي أيضاً في القرآن
العظيم وغيره من كلام الفصحاء؟ والآية من {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] ، ثم أورد الأحناف على الشافعية في متن الحديث، بأن قراءة الفاتحة لو كانت فريضة على المقتدي، كيف قال الشارع عليه الصلاة والسلام بلفظ:«لعلكم تقرؤون خلف إمامكم» ؟ وأجاب الشافعية بوجهين، أحدهما: أن سؤاله عليه الصلاة والسلام ليس عن أصل القراءة، بل عن الجهر، وكان حق المقتدي الإسرار وقال مولانا: إنه مستبعد، فإن الرجل كان من عن يمينه ويساره يسر، فكيف يجهر هذا؟ وثاني وجه الجواب ذكره البيهقي: بأن مورد السؤال السورة لا الفاتحة، فيكون في كلامه عليه الصلاة والسلام قصر إفراد، وأقول: يرده الرواية الصريحة، أخرجها الدارقطني في سننه وحسن إسنادها، وفيها «منكم من أحد يقرأ شيئاً من القرآن» ففي هذه الرواية نكرات ودلت على أن أحداً قرأ شيئاً من القرآن، فلم يجهر هذا الرجل ولم يزد على الفاتحة، ويمكن للشافعية وله رواية قوية عن ابن مسعود، أنهم كانوا يجهرون فنزلت:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} [الأعراف: 204] إلخ، أخرجها الدارقطني، والبيهقي في كتاب القراءة، ولم يتوجه إليها شافعي العرض في الجواب، وأقول مجيباً من جانب الأحناف: إني تتبعت طرق الحديث واستقريتها، فما وجدت في أحدها لفظ الجهر في سؤاله عليه الصلاة والسلام، فيقال: إن جهرَ الرجل كان ذريعة لعلمه عليه الصلاة والسلام، ولم يكن مورد سؤاله عليه الصلاة والسلام، ولم يكن سؤاله عليه الصلاة والسلام إلا عن القراءة، فمثار الصلاة القراءة لا الجهر فبعد اللتيا والتي لا يخرج من الحديث إلا إباحة الفاتحة، وهي أيضاً غير مرضية، والقرائن على هذا: أن حديث الاختلاف في القراءة والمنازعة فيها رواه غير عبادة عن أنس وأبي هريرة وابن مسعود بأسانيد قوية والحال أن مذاهب الثلاثة ترك القراءة في الجهرية، فزعموا مراد الحديث ما زعمنا، وأما حديث المنازعة
عن أبي هريرة فأخرجه الترمذي ص42 وفيه مذهبه من ترك القراءة في الجهرية، وفتوى عائشة من تركها في الجهرية، ذكرها مولانا في رسالته من السنن الكبرى، وقع فيها غلط في السند من الناسخ، وأخرجها البخاري أيضاً في جزء القراءة والسند فيه صحيح وفي متنه فيه غلط فاحش من الناسخ ويخالفنا، والصحيح ما في كتاب القراءة للبيهقي ص (66) :«كان عائشة وأبو هريرة يأمران بالقراءة في الظهر والعصر» وفيه مروي بسندين، والمتن التام في السند الأول وهو متكلم فيه، لأن فيه عكرمة بن عمار وهو ضعيف، والتمسك بالسند الثاني، وهو يضم به المتن التام، وهذا أقوى ومروي بطريق قاسم بن بهدلة، وليضم هذا الفتوى بقول أبي هريرة: اقرأ بها في نفسك يا فارسي، أي اقرأ بها في السرية، وأما مرفوع أنس ففي آثار السنن ص (80) رواه البخاري في جزء القراءة وأعله البيهقي، وأقول: قد صححه البيهقي في كتاب القراءة، وأما فتوى أنس ففي مصنف ابن أبي شيبة أنه كان يسبح خلف الإمام، فعلم أنه لا يقرأ خلف الإمام، وفي سند فتواه ثعلبة ولم أعرفه إلا أنه أبو بحر، وهو من رجال الأربعة، للحافظ لا السنن الأربعة وأما مرفوع ابن مسعود ففي آثار السنن ص (82 رواه الطحاوي
والطبراني، وأما فتواه فمشهور وقرائن أخر على دعاوينا في رواية أنس مرفوعة، فإنه روى عنه ابن أبي شيبة في مصنفه مرسلة عن أبي قلابة: هل تقرؤون خلف إمامكم؟ فقال أحدهم: نعم، وقال أحدهم: لا، فقال صلى الله عليه وسلم:«إن كنتم لا بد فاعلين، فليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه» إلخ، فمن قال: لا، لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، ولم يشنع عليه، وأيضاً قال: إنكم لا بد فاعلين، ولم يجد عليهم بل دل على عدم الرضاء بها، وأيضاً قال:«فليقرأ أحدكم» ولم يأمر كلهم استغراقاً، ولفظ أحد لا يدل على العموم، وعندي في هذا كثير من الشواهد مثل آية { [الكهف: 19] إلخ هذا ما تيسر لي الآن، وأما حديث الباب حديث ابن إسحاق فحسنه الترمذي، وصححه بعض الشافعية، وقال الحافظ: صححه البخاري، والحال أنه لم يصححه بل متردد في صحته، نعم أخرجه في جزء القراءة، وأعله أبو عمر في التمهيد في عبارتين ونقل ابن رشد في بداية المجتهد عن أبي عمر أنه يصححه، والله أعلم أنه من أين أخذ، فإن عبارتي أبي عمر عندي موجودتان، وفيهما إعلال، ولعله تصحف من ابن حزم، وأعله أحمد ذكره ابن تيمية في فتاواه وأشار ابن حبان إلى الإعلال في كتاب الثقات، وأعله الحافظ ابن رجب الحنبلي تلميذ ابن تيمية، وأعله ابن تيمية في فتاواه، وقال: صنفت في إعلاله كتاباً مستقلاً، وذكر ابن تيمية وجه الإعلال في فتاواه أن واقعة الباب لم يقع في عهده عليه الصلاة والسلام، بل قرأ عبادة بنفسه خلف إمامه فسأله سائل فروى عنده حديث: لا «صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وقريب من هذا ما في أبي داود ص (119) عن الربيع بن سليمان عن عبد الله بن يوسف عن الهيثم إلخ، إلا أن فيه ذكر القصة أيضاً، أي وقعت الواقعة في عهده عليه الصلاة والسلام، وليعلم أن في ذلك الحديث قلب من الراوي، وأساء في ذكر ترتيب ألفاظ
الحديث: «فلا تقرؤوا بشيء من القرآن إذا جهرتُ إلا بأم القرآن» ، وعندي أنه من الراوي، وأقول: إن إعلال ابن تيمية هذا غير جار، ويمكن في وجه الإعلال بأن في حديث عبادة بأنه روي عنه ثلاث مضامين؛ أحدها: أنه قرأ بنفسه، فسأله سائل لم قرأت خلف الإمام؟ فتمسك بعموم حديث:«لا صلاة لمن لم» إلخ، وما احتج بالقصة، وليس فيه ذكر القصة الواقعة في عهده عليه الصلاة والسلام، وهذا قوي سنداً، والثاني: ما بين أيدينا من حديث الباب، والثالث: قوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» ولا قصة فيه أصلاً، هذا وأيضاً صحيح، والحديث بالمضمون الأول مروي عن نافع بن محمود، والحديث الثالث مروي عن محمود بن ربيع، وأخطأ مكحول في الجمع بين ما عنده عن نافع، وما عنده عن محمود، وتفرد مكحول في ذكر القصة والحديث القولي، فالعلة هذا لا ما قال ابن تيمية.
واعلم أنه قد سهى البخاري في الجزء فإنه ذكر في السند ابن ربيع، وكتب الكاتب ابن ربيعة، وزعمه البخاري محمود بن ربيع، والحال أنه هو نافع بن محمود بن ربيع، وسهى الحافظ حيث قال:
إن حديث عبد الله بن عمرو قوَّى سنده البخاري كما في التهذيب، والحال أن البخاري متردد فيه، وسهى الحافظ حيث قال في تلخيص الحبير: إن البخاري صحح حديث محمد بن إسحاق، والحال أن البخاري متردد فيه نعم أخرجه في جزء القراءة.
قوله: (وفي الباب الخ) رواية أبي هريرة ليست في الصلاة الجهرية بل في السرية، ورواية عائشة في وجوب الفاتحة كما في مسلم، وقد مر مذهب عائشة في كتاب القراءة ص (66) ، ورواية أنس مختلفة في الرفع أي الاتصال والإرسال، وقالوا: إن الصواب الإرسال كما قال الدارقطني في علله، وفيه:«إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه» وهو أيضاً في السرية لا الجهرية، والحمل على الجهرية بعيد كل البعد، ونقول: إن إسرار القراءة في الصلاة النهارية، والجهر في صلوات الليل مجمع عليه، فقول الشافعي بالإسرار للمقتدي في الجهرية غير المجمع عليه، فلا بد من دليل قوي غاية القوة، وحمل مالك حديث أنس:«في نفسك» إلخ على ما حملت قبل.
قوله: (وهو قول مالك بن أنس) هذا خلاف الواقع، فإن مالكاً ينفي القراءة في الجهرية كما في موطأه ص (28) ، وكذلك مذهب ابن المبارك لا يوافق الشافعي في الجهرية كما سيأتي في الترمذي، وكذلك ليس مذهب أحمد مذهب الشافعي كما سيأتي، وكذلك ليس مذهب إسحاق بن راهويه مذهب الشافعي، كما هو موجود في الخارج، فلا يصح قول الترمذي: إلا بحمله على أنهم قائلون بالقراءة خلف الإمام في الجملة.
باب ما جاء في ترك القراءة خلف الإمام إذا جهر الإمام بالقراءة
هذا الباب للعراقيين بل للجمهور.
[312]
قوله: (مالي أنازع في الخ) قال رجل فاضل حنفي: إن لفط المنازعة يدل على أن الفاتحة حق الإمام، ويختلس المقتدي عنه وليس حقه، فإن المنازعة خلس حق الغير بالخصومة وإني متردد في هذا فإن في المنازعة محاورة خاصة فصيحة، وهو أخذ الكلام نوبة بنوبة كما قال الأعشى:
~ نازعتهم قضب الريحان متكئاً
…
وقهوة مزة راووقها خضل
وقال الحويدرة أو الحادرة:
~ وإذا تنازعك الحديث رأيتها
…
حسناً تبسمها لذيذ المكرع
قوله: (قال فانتهى الناس إلخ)
قال الشافعية: إنه قول الزهري وليس قول أبي هريرة، فيكون مرسلاً، وأقول:
أولاً: إن الزهري رأى عمل كثير من الصحابة فلا يكون قوله مخالفاً لهم.
وثانياً: إن الجمهور من المحدثين من أبي داود والذهبي والبخاري وغيرهم، على أنه قول الزهري، والحق أنه قول أبي هريرة، ومنشأ حكمهم أن الزهري روى الحديث، ولما روى عن أبي هريرة «فانتهى الناس» لم يبلغ صوته بعض تلامذته فلم يسمع، وسأل عن الآخر ما قال الزهري؟ قال: قال الزهري: «فانتهى الناس عن القراءة» فزعمه المحدثون أنه قول الزهري من جانبه، والدليل على هذا ما في أبي داود ص120: قال ابن السرح في حديثه: قال معمر عن الزهري قال أبو هريرة: «فانتهى الناس» إلخ، وقال عبد الله بن محمد: الزهري من بينهم، قال سفيان: وتكلم الزهري بكلمة لم أسمعها، فقال معمر: إنه قال: فانتهى الناس عن القراءة» إلخ، ونظائر هذا عندي كثيرة، وقالوا فيها: إنه قول من الراوي كما قالوا هاهنا، وهو في الأصل موصول منها ما في البخاري ص (600) ، حفظت بعضه وثبتني معمر، ومنها ما في الترمذي المجلد الثاني وهو عين نظير ما في أبي داود، وفي كتاب القراءة للبيهقي بسند قوى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما كان من صلاة يجهر فيها الإمام بالقراءة فليس لأحد أن يقرأ معه» ومر عليه البيهقي في كتاب القراءة، وقال: إنه منكر ولو صح،
إلخ، وأقول: كيف يقال بأنه منكر مع ثقة الرجال؟ وحديث الباب لنا، وقال مولانا المرحوم الگنگوهي: إن حديث الباب ناسخ للإباحة المستفادة من حديث الباب السابق، وبناؤه على كون حديث الباب غير ذلك الحديث ونقل الحافظ أبو بكر الحازمي في كتاب الناسخ والمنسوخ: إن بعض العلماء على تعدد الحديثين، فإذا كان حديث الباب غير ذلك الحديث، فمن الظاهر أن حديث الباب متأخر عن ذلك الحديث ويظن أن الحديثين واحد، وفي حديث الباب في أبي داود: وقال راوٍ: أظن أنها الصبح، وقال رأوٍ. إنها الصبح بالجزم، لكنه يلزم الخلاف بين الحديثين، فإن في السابق ذكر قراءة الفاتحة خلف الإمام، وفي حديث الباب انتهاء الناس عن القراءة، فأقول: إنه عليه الصلاة والسلام استثنى الفاتحة لكنه كان غير مرضي عنده عليه الصلاة والسلام، ولما زعم الصحابة عدم رضاءه عليه الصلاة والسلام، انتهى عنها الجمهور إلا عبادة، فعبر الرواي بـ «فانتهى الناس عن القراءة» فيكون الحديثان متحداً ثم نكتة ترك أبي هريرة ذكر إجازته عليه الصلاة والسلام الفاتحة أنه لو ذكر مع قوله:«فانتهى الناس» عن القراءة لما صار الكلام مربوطاً ومسد كلام أبي هريرة وغرضه بيان انتهاء الناس عن القراءة وتركهم القراءة ولا مدخل استثناء الفاتحة في غرضه ومسده ثم قال الشافعية: ولو سلمنا أن «فانتهى الناس عن القراءة» قول أبي هريرة لكان المراد من الانتهاء الانتهاء عن الجهر، وأقول: إن هذا التأويل محض تأويل لا يقبل العقل السليم، ولو قيل: إنهم تركوا السورة وانتهوا عنها لا عن الفاتحة فلا بد من النص عليه.
ولما حققت من مذهب أبي حنيفة عدم جواز القراءة في الجهرية وجوازها في السرية مع اختيار تركها فيها فأذكر الأدلة: فلنا في السرية ثلاثة أحاديث: أحدها: حديث: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» أخرجه الدارقطني والبيهقي مرسلاً وصله أبو حنيفة وقالا: الصواب الإرسال، وتكلم الدارقطني في وصل أبي حنيفة، وذكره جابر بن عبد الله، ورد تكلمه في حقه وأقول: إن حديث «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» صحيح بلا ريب وأما قول: إنه مرسل فجوابه من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه لو سلمنا أن الصواب الإرسال كما اعترفتم فنقول: إن المرسل المؤيد بفتيا الصحابة يكون مقبولاً عند المحدثين بلا نكير، ووافقه كثير من فتاوى الصحابة حتى إن ألفاظ بعض الفتاوى قريبة من ألفاظ الحديث، منها فتوى ابن عمر أخرجها مالك في موطأه، ومنها فتوى زيد بن ثابت أخرجها مسلم في صحيحه باب سجدة التلاوة، ومنها فتوى جابر بن عبد الله أخرجها الترمذي في سننه كما سيأتي فلا وجه لتركه.
والوجه الثاني: إن منتهى السند المرسل عبد الله بن شداد، وأقر الحافظ في الفتح بكونه صحابياً صغيراً، وعن أحمد بن حنبل أنه وجد رؤيته عليه الصلاة والسلام ولم يسمع عنه فيكون مرسل الصحابي، ومن المعلوم أن مرسل الصحابي مقبول بلا ريب، فإنهم اتفقوا على قبول مراسيل الصحابة.
والوجه الثالث: أن الشيخ ابن همام أخرج الحديث متصلاً من مسند أحمد بن منيع أستاذ البخاري وغيره بسند على شرط الشيخين، صورة السند هذا: حدثنا إسحاق الأزرق، أنا سفيان وشريك عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر بن عبد الله وليس في هذا السند أبو حنيفة فلا يكون أبو حنيفة متفرداً، وأما تفصيل رواة الإسناد فإسحاق الأزرق من رواة الصحيحين، وسفيان هو الثوري وشريك ابن عبد الله النخعي، وموسى بن أبي عائشة ثقة اتفاقاً، وعبد الله وجابر صحابيان وفي البدر المنير حاشية فتح القدير لأبي حسن السندهي حكاية ولازمها تصحيح أحمد بن منيع والحكاية، أن العلامة قاسم بن قطلوبغا كتب لحضرة شيخه الشيخ ابن همام يسأله عن مأخذ حديثه، وقدوته في تصحيح الحديث، فأجاب الشيخ: أخذته من إتحاف المهرة بزوائد المسانيد العشرة للبوصيري.
(زائدة) اختلف الناقلون في تعيين اسم الكتاب، فقيل: إتحاف المهرة، وقيل: إتحاف الخبرة، وقيل: إتحاف الخِيَرة، والمعروف الأول، وفيه قال البوصيري: أخذت بقراءة السند بحضرة الشيخ حافظ الدنيا فما وصلت إلى متن الحديث، قال الحافظ: هذا رائحة حديث «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» فتعجبت من ذكاء الحافظ، أقول: عرضت الحكاية على شيخنا مولانا دام ظله العالي على رؤوس المسترشدين، فقال: إن الحافظ لم يرض بالحديث، قلت: إن الحافظ وإن لم يرض به لكنه لم يقدر على بيان العلة أيضاً، فالحاصل أن الحديث صحيح، وأما أنا فما وجدت الحديث في النسخة التي تحت مطالعتي لإتحاف المهرة لكني أقطع بأن الحديث صحيح، وأن في نسختي سقطاً من الناسخ فإن القصة المفصلة المذكورة لا يمكن انكارها، ثم أخرجه الشيخ بن همام بسند آخر من مسند عبد بن حميد عن أبي نعيم فضل بن دُكَين عن حسن بن صالح الخ وقال: إنه صحيح على شرط مسلم، وأقول: فيه تردد فإن في سنده جابر الجعفي ولعله ليس من المزيد في متصل الأسانيد كما هو مذكور في سنن ابن ماجه ص61، ولكن السند الذي وجده الشيخ حذف منه جابر وربما يقلد الشيخ جمال الدين الزيلعي ولم يأت بالزائد على تخريج الزيلعي إلا في عدة مواضع، منها ما في باب المهر، ومنها ما في باب التطوع، ومنها ما في هذا الموضع الحديث الذي نحن فيه، ثم إن قيل: إن في حديث «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» احتمال وهم الراوي وخطؤه نقول: لا يمكن هذا الاحتمال فإن فتاوى الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين مؤيدة له سيما إذا كانت ألفاظ الفتاوى قريبة من ألفاظ الحديث المرفوع، واعلم أن حديث «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» أخرجه الحاكم ولم أجده في نسخة المستدرك، وإنما ذكره ابن الهمام بسند أبي حنيفة وفيه ذكر صلاة الظهر، وذكر أن الرجلين تنازعا بعد الفراغ عن الصلاة، فقال أحدهما بالقراءة خلف
الإمام وقال الآخر بتركها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«من كان له إمام فقراءة الإمام له قراء» ة فدل الحديث على ترك القراءة في السرية، ولكنه لا يدل على عدم جوازها في السرية نعم يدل على تركها في السرية، ولنا حديثان آخران في تركها في السرية وأما أدلة عدم جوازها في الجهرية فكثيرة منها آية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] وأجاب عنها الشوافع شافياً، ونقل الزيلعي عن البيهقي عن أحمد بن حنبل أجمع العلماء على أن الآية واردة في الصلاة، وقال رجل: إن البيهقي لم ينقل عن أحمد في كتاب القراءة، وغرضه الاعتراض على الزيلعي أقول: إن الزيلعي لم يحل إلى كتاب القراءة ليلزم ذلك الرجل الجاهل على أن أبا عمر أيضاً نقل عن أحمد بن حنبل في التمهيد إلا أن الزيلعي نقل بالسند بخلاف أبي عمر ومن أدلتنا حديث الباب أخرجه مالك في الموطأ وحسنه الترمذي وصححه أبو حاتم، وحديث:«وإذا قرأ فأنصتوا» قد صححه أحمد بن حنبل وأبو بكر بن أثرم تلميذ أحمد وابن جرير في تفسيره، وأبو عمر وابن حزم الأندلسي وزكي الدين المنذري والحافظ ابن حجر العسقلاني، وكل من الحنابلة والموالك والأحناف، وأخرجه أبو داود والنسائي حديث:«وإذا قرأ فأنصتوا» عن أبي موسى وأبي هريرة صححهما مسلم فإنه أخرج حديث أبي موسى في تشهد مسلم وسأله تلميذه عن حديث أبي هريرة فأجاب مسلم بأنه صحيح، ولنا حديثان صحيحان في كتاب القراءة أحدهما في ص (99) حدثنا أبو الحسن علي بن أحمد بن الطمامي المقرئ نا أحمد بن سلمان الفقيه نا إبراهيم بن الهيثم نا آدم نا ابن أبي ذئب نا محمد بن عمرو عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما كان من صلاة يجهر فيها الإمام بالقراءة فليس لأحد أن يقرأ فيها» إلخ
وقال البيهقي: هذه رواية منكرة لم أجدها فإن صحت فالمراد بها ليس لأحد أن يجهر بها أو يقرنها مع سورة، إلخ، فكلامه يشير إلى الصحة ولا يمكن إنكار هذه الرواية ورجال السند ثقات فإن أبا الحسن علي بن أحمد ليس من رواة الستة لأنه متأخر عنهم نعم ثقة وبترجمة موجودة في الأنساب تحت لفظ الحمامي، وأما أحمد بن سلمان ففي أكثر الكتب سلمان بلا ياء وفي بعضها سليمان بالياء، وظني أنه بالياء ولقبه نجاد في تذكرة الحفاظ، وإبراهيم ثقة، وآدم بن أبي إياس من رجال الصحيحين، وكذلك ابن أبي ذئب، وأما محمد بن عمرو فمن رجال مسلم، ومحمد بن عبد الرحمن ثقة مشهور، ورواية أخرى لنا عن أبي هريرة بواسطة عبد الرحمن بن إسحاق في كتاب القراءة وضعفها البيهقي من جانب عبد الرحمن، والحال أنه مدني وهو ثقة وليس بواسطي وهو ضعيف، ولنا أدلة أخر لا أذكرها. واعلم أن تلخيص الدعوى: أن آية: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الأعراف: 204]
نزلت في مكة ودلت على نفي القراءة خلف الإمام في الجهرية، ثم ورد حديث:«لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» في المدينة في حق الإمام والمنفرد وكذلك قال أحمد في الصفحة اللاحقة. إن الحديث في حق المنفرد ولا تعلق للحديث بالمقتدي ولا يتناوله، ثم بعده قرأ رجل في الفجر خلفه عليه الصلاة والسلام بدون تعليم من صاحب الشريعة، فقال النبي الكريم:«إن كنتم لا بد فاعلين فليقرأ أحدكم في نفسه» وكذلك ورد حديث محمد بن إسحاق، وفي هذا الحديث إحالة إلى ما سبق أولاً فلا يتناول الحديث المقتدي فإن حال المقتدي كان مفروغاً عنه حين نزول الآية، فلا يكون في حديث ابن إسحاق إلا استشهاداً، وعرضت الإباحة غير مرضية ومرجوحة فكف جمهور الصحابة لما رأو الإباحة العارضة غير مرضية، وهذا المذكور سابقاً كان على مشرب مولانا المرحوم، ويمكن لنا
بحث آخر ولكنه بحث وإفحام الخصم ولا يبقي الإباحة أيضاً على هذا، ويكون فيه تسليم تناول الحديث المقتدي وهو أنه في الحديث:«لا تفعلوا إلا أيام القرآن» فعل القرءة وأعم من قراءة الفاتحة حقيقة كما في حال الإمام والمنفرد أو حكماً كما في حق المقتدي، وكذلك يقال في فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها حقيقةً أو حكماً فيكون في الحديث إحالة إلى الأحاديث الأخر الدالة على قراءة الإمام والمنفرد وسكوت المقتدي، ونظيره كما يقال: لا تفعلوا إلا بالأذان لقوم يثوبون بتثويب بدعة فليس، مراده أن يؤذن كل واحد منهم بنفسه، ويمكن أن يقال: إنَّ (لا تفعلوا إلا بأم القرآن) من قبيل قتلوه بنو فلان أي صدر فيهم فعل القتل لا إن قتله كل واحد وباشر بقتله كما في آية: [البقرة: 72] إلخ، ولكن هذا البحث لإسكات المناظر وليس حقيقة الأمر.
قوله: (ما يدخل) من الدخل بمعنى الغش لا من الدخول.
قوله: (وفي الباب) ثبت القراءة في السرية وتركها عن ابن مسعود وحديث عمران بن حصين أخرجه مسلم وغيره حين قرأ: «سبح اسم ربك الأعلى» إلخ، وأقول: إنه قرأ «سبح اسم ربك الأعلى» بدون قراءة الفاتحة، وأما حديث جابر فسيأتي في الكتاب عن قريب.
قوله: (فهي خداج) إلخ، خدجت الناقة من المجرد إذا ولدت قبل تمام المدة كان الفصيل تام الأعضاء أو غيرها، وأحذجت الناقة من المزيد إذا ولدت فصيلاً ناقص الأعضاء سواء كان على تمام المدة أو قبلها، وعنه الخديجة اسم من أسماء نساء العرب، وبعض علماء اللغة لا يذكرون الفرق بين المجرد والمزيد، فدل الحديث على أن الصلاة بدون الفاتحة ناقصة غير باطلة كما يقول الأحناف، ولا يلزم على هذا إدخال المكروه تحريماً في أمر الشارع فإنه ليس ها هنا أمر بل نفي الشيء بانتفاء شيء آخر بخلاف آية:{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] أو حديث: فاقرأ بما تيسر معك من القرآن» أو حديث ضعيف السند: «من تشهد تمت صلاته» ، قال الشيخ عبد الحق الدهلوي رحمه الله: إن الحديث يدل على عدم ركنية السلام فيلزمه إدخال الكراهة تحريماً في أمر الشارع وذا غير جائز، وفي كتبنا تصريح أنه إذا أحدث بعد التشهد يذهب ويتوضأ ثم يأتي ويسلم.
قوله: (اقرأ بها في نفسك. . إلخ) هذا مقيد بالصلاة السرية ولا يكون في الجهرية لما في كتاب القراءة للبيهقي من مذهب أبي هريرة وعائشة، ولما في موطأ مالك ص (4) :«ومن فاتته فاته خير كثير» إلخ، قال البخاري في جزء القراءة: بأن مُدرِكَ الركوع ليس بمُدرِكِ الركعة، ولم يقل بإدراكها بإدراكه إلا من قال بترك القراءة خلف الإمام، وذكر من موافقيه أبا هريرة ويخالفه صراحة ما في موطأ مالك ص (4) ، وأتى البخاري بأثر أبي هريرة الذي يوهم إلى وفاق البخاري ولكن مراد ذلك الأثر أن المسبوق يجب عليه أن يدرك الإمام قبل انحطاطه إلى الركوع، ولا يجب وجدان الفاتحة فلا يختلط، ثم رأيت مذهب أبي هريرة بعين ما ذكرت من أنه يقول أن يدرك المقتدى إمامه قبل انحطاط الإمام ولا يجب وجدان الفاتحة لوجدان الركعة، وإن أدرك إمامه بعد انحطاطه فلم يدرك الركعة ذكره ابن رشد في البداية.
واعلم أن ما في موطأ مالك ص4 فهو من المبلغات ولكن أبا عمرو صنف التمهيد لوصل مبلغات مالك ووصل كلها الأربعة، وما ذكر البخاري في جزء القراءة من مذهبه لا يوافقه السلف ولا علماء المذاهب الأربعة إلا أبو بكر الضبعي تلميذ ابن خزيمة وتقي الدين السبكي والشوكاني، ثم رجع الشوكاني في الفتح الرباني ونسب إلى ابن خزيمة وفاقه البخاري، وقال الحافظ: وجدت في صحيحه خلافه، أقول: إنه كان مذهب تلميذه أبي بكر فنسب إلى ابن خزيمة سهواً هذا المذكور من حمل «اقرأ بها في نفسك» على السرية لما في كتاب القراءة حقيقة الأمر، وأما ما قال المدرِّسون: من أن المراد بالقراءة في نفسه التدبر والتفكر فلا يوافقه اللغة فإنه لم يثبت معنى التفكر للقراءة في النفس، نعم ثبت التفكر معنى القول في النفس، ويمكن لنا حمل القراءة في نفسك على السرية بدون الالتفات إلى ما في كتاب القراءة بأن الإسرار في صلوات النهار والجهر في صلوات الليل مما أجمع عليه، وقول الإسرار في الصلوات الجهرية كما يقول الشافعية للمقتدي غير ما أجمع عليه فنحمل قول أبي هريرة على ما أجمع عليه وعلى الشوافع ذكر نص شاف في ما ادعوا.
قوله: (يتبع سكتات الإمام) قال الشافعية: المستحب للإمام أن يسكت ليأتي المقتدي بالفاتحة، وأقول: إنه خلاف قواعد الشريعة فإن الشريعة تنبئ بـ (إنما جعل الإمام ليؤتم به) إلخ، وتجعل
الشريعة الإمام متبوعاً، ولزم على ما قالوا كونه تابعاً، وذكر الشوافع أربع سكتات منها سكتة بعد «ولا الضالين» قبل آمين قدر ما يسع فيه فاتحة المقتدي، ويلزم عليهم إشكالات كثيرة ذكرتها في باب آمين وأيضاً ما من حديث يدل على هذه السكتة الطويلة حتى أن اختلف صحابيان في وجوبها أيضاً كما مر سابقاً، وبالجملة يلزم إشكالات على قول القراءة خلف الإمام في الصلاة الجهرية.
قوله: (وتأول) التأول في عرف السلف والحديث بيان المصداق لا ما تعارف بين أهل العصر من صرف الكلام عن ظاهره.
قوله: (واختار أحمد) مذهب أحمد القراءة خلف الإمام في السرية كما في فتاوى ابن تيمية وفي الجهرية إذا كان المقتدي بموضع لا يبلغه صوت قراءة الإمام.
قوله: (سمع جابر بن عبد الله يقول) إلخ هذه فتوى جابر، والأكثر وقفوها على جابر والبعض رفعوه إلى صاحب الشريعة كما في الطحاوي ص (138)، لكنه فيه كلام من وجهين:
أحدهما: أنه مروي بسند مالك ووقفه مالك في موطأه بهذا السند.
والثاني: أن في سنده يحيى بن سلام وهو متكلم فيه، ووثقه أربعة من أئمة الحديث، وفيه شيء آخر أخذه البيهقي، وهو أن في الطحاوي ص (128) قال: قلت لمالك: أرفعه، قال: خذو برجله. . إلخ، فزعم البيهقي أن مالكاً شنع على رفعه، وأقول: لعله لم يشنع على رفعه بل غرض مالك أن المسألة هكذا فغضب مالك تعنته في المسألة، فالحاصل أن قول جابر مختلف في رفعه ووقفه.
قوله: (عن أبي نعيم) روى أبو نعيم هاهنا موافقاً لنا، وروى في سنن الدارقطني عن عبادة حديثه موافقاً للشافعية، وأخرج العيني في العمدة حديث عبادة بسند أبي نعيم من مستدرك الحاكم وعبارته يدل على جزمه بأن راوي حديث عبادة هو أبو نعيم وهب بن كيسان، ولكني متردد في هذا ولأن وهب بن كيسان يروي عن الصحابة الصغار والكبار الذين طالت أعمارهم، وربما يروي عن ابن عمر، وجابر قد يروي عن أبي هريرة أيضاً، وأما عبادة فمتقدم الوفاة، ولأن أرباب كتب الرجال ما ذكروا أخذ وهب بن كيسان عن عبادة فلهذا صرت متردداً، ثم رأيت الذهبي تردد فيه في تلخيص المستدرك، واعلم أن لنا في نفي القراءة ما في مصنف عبد الرزاق عن موسى عن عقبة وهو من صغار التابعين أنه روى النهي عن القراءة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فيكون هذا مرفوعاً حكماً، والله أعلم، وعلمه أتم.
المراجعة إلى ما سبق من رفع اليدين ومسألة آمين، فاذكر وجه ترك رفع اليدين وإخفاء آمين فأقول: إن حديث الترك حديث ابن مسعود، وفي الرفع أحاديث كثيرة ولم يتكلم في حديثنا إلا من اختار عمل رفع اليدين مثل البخاري لا غيره كالنسائي وأبي داود والترمذي وغيرهم، ويتوهم من هذا أن ترك الرفع حامل لوحدة الحديث وكثرة أحاديث الرفع، ولكني أدعي أن أحاديث الترك كثيرة فإن كثيراً من الصحابة يروون صفة صلاته عليه الصلاة والسلام ولا يذكرون رفع اليدين، وإني أدمجهم في رواة الترك، ثم إن قيل: إنهم ساكتون والساكت يحمل على الناطق، فأقول: إنهم ليسوا كثير بساكتين بل نافون، وتوضيح هذا موقوف على ما قال ابن تيمية تحت اختياره إخفاء بسم الله: إن الجهر بالتسمية نادر والإخفاء كثير لأن أكثر الأحاديث خالية عن ذكر جهر التسمية ولا يقال: يحمل الساكت على الناطق لأنها ليست بساكتة بل نافية فإن المهتم بذكره هو الشيء الوجودي، ولا يتعرض الراوي إلى ذكر الشيء العدمي لأنه غير معقول فعلى هذا الساكت عن ترك رفع اليدين نافٍ فتصير ذخيرة الترك كثيرة من ذخيرة الرفع، وأما حديث ابن مسعود حيث تعرض إلى ذكر ترك رفع اليدين، فأيضاً غنيمته
ونعمته غير مترقبة لتعرضه إلى الشيء العدمي، فعلم أن ترك رفع اليدين كثير عملاً في عهده عليه الصلاة والسلام، ولكنه قليلٌ ذكراً لأنه شيء عدمي، فهذا الكلام مما يشفي ما في الصدور، وهذا هو حقيقة الحال، وإن قيل: إن رفع اليدين عزيمة، وتركه رخصة، والعمل بالعزيمة أولى، فيستفاد جوابه مما ذكرت تحت كلام ابن تيمية في فتاواه ثم إن قيل: إن رفع اليدين عبادة، والترك ترك عبادة، نقول: إن جواب النكتة بالنكتة وهي أن هيأة اليدين في كل ركن تكون مناسبة لتلك الوظيفة كما في القيام والسجود وغيرها فعلى هذا ترك الرفع عبادة فهذا وجه رجحان ترك رفع اليدين، وأما وجه رجحان إخفاء آمين فهو عمل أكثر السلف بإقرار ابن جرير الطبري، كما حررت تفصيل كلامه سابقاً.
باب ما جاء ما يقول عند دخوله المسجد
عيّن الشارع عليه الصلاة والسلام الأذكار في الأحوال المتواردة.
[314]
قوله: (صلِّ على محمد إلخ) قال العلماء: أن يصلي الداخل في المسجد عليه عليه الصلاة والسلام الآن أيضاً، وإني متردد في مراد الحديث لعل الغرض منه دعاء رجل لنفسه، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم معلماً للدعاء لكل واحد لنفسه وكان عليه الصلاة والسلام متكلماً فعبر بهذه الدعوة، والله أعلم.
قوله: (أبواب فضلك) خص الفضل بوقت الخروج لأن الفضل في الرزق وهذا تعليمه عليه الصلاة والسلام للأمة المرحومة.
قوله: (حديث حسن. . إلخ) حسن الترمذي الحديث مع انقطاعه، وكذلك فعل في عدة مواضع، لأن الحذاق يتمشون على ذوقهم، ولا يتبعون الضوابط والقواعد.
باب ما جاء إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين
[316]
هذه الصلاة تحية المسجد سنة عندنا وعند غيرنا، وتتأدى عندنا في ضمن الفرائض والسنن أيضاً لو صلى، وإن لم يصلِّ بشيء في المسجد لم يحرز سنة تحية المسجد، وقال الشافعية بجوازها في الأوقات المكروهة أيضاً، الضابطة حمل العام على الخاص، وقال داود الظاهري بوجوب تحية المسجد ولم يقل غيره.
قوله: (قبل أن يجلس إلخ) عمل الجهلة من أهل العصر خلاف نص الحديث وهو جلوسهم قبل أداء الركعتين وهذا من سوء الجهل.
باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام
[317]
المقبرة بالتاء ما فيه قبور، وأما الذي فيه قبر واحد لا يطلق عليه المقبرة بل المقبر بلا تاء، هذا
فرق لغة، وفي الجامع الصغير لمحمد تكره الصلاة تجاه المقبرة إلا أن تكون سترة حائلة أو كان المصلي بيمين أو شمال من المقبرة، وكون الأرض كلها مسجداً من خصائص الأمة المرحومة، وأقول كان عيسى عليه الصلاة والسلام سياحاً ولعل البِيعَ والكنائس كانت في الشام كثيرة، والله أعلم.
قوله: (كان رواية الثوري الخ) رجح المرسل، وجعل الاتصال مرجوحاً.
باب ما جاء في فضل بنيان المسجد
[318]
قوله: (مثله في الجنة) المماثلة في الفضل والثواب وفي أن مكانه يكون ذا شرف من بنية الجنة
كما أن المسجد يكون ذا شرف في الدنيا، وليست المماثلة في الطول والعرض أو غيره كما قيل.
واعلم أن المسجد النبوي بني في عهده عليه الصلاة والسلام مرتين مرة ستين ذراعاً، وأخرى مائة في مائة ثم بناه أبو بكر الصديق في عهده على هيأته الأولى وبلا زيادة في عرصة الأرض، ثم بناه عمر في عهده، وزاد في بقعة المسجد، واختار الهيأة الأولى الساذجة، ثم بناه عثمان وشيده بالأحجار والخشب، ولم تكن الأحجار منقوشة بالنقش المتعارف، فاعترض السلف على عثمان لتشييده المسجد وعدم اختياره الساذجية السابقة مع أنه بناه من مال نفسه، فلما امتد اعتراضهم قام عثمان خطيباً وتمسك بحديث:«من بنى مسجداً لِلّه جل مجده بنى الله له مثله في الجنة» وأما بناء المسجد النبوي الآن فبناه السلطان عبد المجيد، وقد ميز في الحدود التي كانت في عهده عليه الصلاة والسلام وعهد عمر وعهد عثمان، وما اطلع بعضهم على تكرار بناء المسجد النبوي في عهده عليه الصلاة والسلام، ونبه عليه الشيخ السيد السمهودي في الوفا بدار المصطفى.
مسألة: إحكام المسجد جائز بلا ريب، وأما نقشه المتعارف في عصرنا ففي بعض كتبنا لا بأس به من غير مال بيت المال، وقيل: يكره من غير بيت المال، وأما من مال بيت المال فغير جائز، وأقول: الآن يجوز القولان الأولان في النقش من مال المسجد أيضاً، فإن غرض الواقفين في هذا العصر يكون النقش ولا ينهون عنه، والله أعلم، وفي ابن ماجة رواية:«ولو كمفحص قطاة» إلخ، وترددوا في شرحه فإنه لا يمكن فيه الصلاة فقالوا ما قالوا، منها ما قيل: إنه في حق من اشترك في المتفرقات لبناء المسجد فإن من أدخل فيها شيئاً قليلاً يحرز الثواب أيضاً، وإن تهيأ من متفرقة قدر مفحص قطاة من أجزاء المسجد، أقول: إن في الحديث مبالغة ولا تكون المبالغة كذباً أصلاً فلا إشكال، ثم قيل: إن وجه اختصاص القطاة بالذكر أن مفحصه يكون على الأرض كالمسجد على الأرض سطحها.
قوله: (محمود بن الربيع) اختلف المحدثون في سن تميز الراوي للرواية، فقيل: خمسة سنين لحصول التميز لمحمود على خمسة سنين.
باب ما جاء في كراهية أن يتخذ على القبر مسجدا
[320]
أي بناء المسجد على قبر كان سابقاً، وأما بناء الأبنية على القبور كما هو عمل أهل العصر من اتخاذ القبة على القبر فغير جائز في المذاهب الأربعة، ونقل الشيخ عبد الحق الدهلوي جوازه عن محمد بن سلمة الحنفي وفي هذا النقل تردد ما لم تراجع عبارة محمد بن سلمة بعينها فإن نقل المذهب عسير جداً.
قوله: (زائرات القبور إلخ) في زيارة القبور للنساء عن أبي حنيفة روايتان ذكرهما في رد المحتار، وبناء رواية النهي أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن زيارة القبور ثم أجاز، وقال:«ألا فزوروها» إلخ والإجازة للرجال وبناء رواية الجواز أن حكم النسوان والرجال واحد كما هو دأب أكثر آيات القرآن فإن الحكم فيها للرجال وتكون النسوان تابعة لهم دأب هاهنا، ثم تردد ابن عابدين في الروايتين، وعندي يجمع في الروايتين ويقال باختلاف الحكم باختلاف الأحوال للركن يجزعن يمنعن وإلا فلا.
قوله: (والسرج) لا يجوز إنارة السراج على القبر على زعم أنه مفيد للميت وأما لإفادة الزائرين فأباحه العلماء.
باب ما جاء في النوم في المسجد
[321]
يكره النوم في المسجد للمقيم عندنا وعند غيرنا ويجوز للمسافر، وأما نوم ابن عمر فكان لأنه
لم يكن له بيت وكان عزباً، وكذلك ثبت النوم عن بعض الصحابة في شرح مسلم للنووي وحملوه على حالة العذر.
مسألة: يكره تحريماً إخراج الريح في المسجد كما في شرح الهداية لشمس الدين السروجي، وكذلك في شرح المهذب للنووي، وفي الكبير شرح المنية: أنه سيء ولعله يستثنى منه المعتكف لكونه معذوراً.
وفي فتاوى الشيخ السيوطي: أن إلقاء القمل في المسجد ارتكاب الكبيرة لأن جلدها نجسة.
في فتح القدير أن الكلام في المسجد يأكل الحسنات كما يأكل النار الحطب وقال صاحب البحر: هذا إذا دخل المسجد لإرادة الكلام فيه ولو عرضه فلا.
باب ما جاء في كراهية البيع والشراء وانشاد الضالة في المسجد
[322]
رخص الفقهاء الإيجاب والقبول للمعتكف في المسجد بلا حضور المبيع، وأما إنشاد الضالة فله صورتان:
أحدهما: إن ضل شيء في خارج المسجد وينشده في المسجد لاجتماع الناس فهو أقبح وأشنع، وأما لو ضل في المسجد فيجوز الإنشاد بلا شغب، وأما الأشعار ففي كتاب الطحاوي جوازها في المسجد أي لتحصيل الأدب واللغة بشرط أن لا يتخذ لجة، ويفصل شيء في الأشعار الأدبية في فتح القدير، أيضاً أقول: من يتذاكر الفلسفة في المساجد كما هو دأب طلبة العصر يقال له لا علمك الله.
قوله: (البيع والشراء) إذا كان مفتوح الأول فممدود وإن كان مكسوراً فمقصورة.
قوله: (هو ابن محمد بن عبد الله الخ) مرجع ضمير هو شعيب، وتمام النسب هذا عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وأما جد عمرو بن شعيب فإما حقيقي وهو محمد فيكون الحديث مرسلاً لأن محمداً تابعيّ، وإما مجازي وهو عبد الله فيكون الحديث منقطعاً لأن شعيباً لم يسمع عن عبد الله، والمختار أن المراد منه هو عبد الله وادعى البعض لقاء شعيب جده عبد الله، وقيل: إن شعيباً لم يسمع عن عبد الله ولكنه يروي عن صحيفة كانت عنده لجده عبد الله، فتكون الرواية من الوِجادة، وهي مقبولة عند البعض، وغير مقبولة عند البعض.
باب ما جاء في المسجد الذي أسس على التقوى
[323]
جمهور المفسرين على أن مصداق الآية مسجد قبا، وإنه أول مسجد بني في الإسلام، فإذن أشكل الأمر وتعارض الحديث والقرآن، فالبعض أعلُّو الحديث لخلافه سياق القرآن وسباقه، وقيل: إن
الحديث صحيح واختار النبي صلى الله عليه وسلم أسلوب الحكيم إداء القول بالموجب، وقال الطحاوي في مشكل الآثار بما حاصله إن: الآية ربما تنزل في شيء ويكون شيء آخر في حكم ما نزلت فيه الآية بالمساواة أو بالأولى، فيقال: إن الآية نزلت في ذلك الشيء الآخر، وكذلك قال السيوطي في اللباب والإتقان: إن السلف يقولون نزلت الآية في كذا، والحال أنه لا يكون شأن نزولها بل يكون لاحقاً بشأن النزول في الحكم، فإذن انحل الإشكال، وادعى البعض أن الآية أيضاً في المسجد النبوي والأولية في الآية إضافية أي أول مسجد بني في المدينة.
قوله: (فقال هو هذا وفي ذلك خير كثير) في هذا تلقي المخاطب بما لا يترقبه المخاطب، والمشار إليه لذلك هو مسجد قبا.
باب الصلاة في مسجد قباء
[324]
المذكور في الأحاديث فضل ثلاثة مساجد: المسجد الأقصى، والمسجد النبوي، والمسجد الحرام.
قوله: (كعمرة الخ) أقول: مراد الحديث التناسب أي كما أن الحج أكبر ثواباً من العمرة كذلك الصلاة في المسجد النبوي أكبر ثواباً من الصلاة في مسجد قبا، وكذلك أقول في حديث مضمونه:«أن من صلى الصبح ثم انتظر إلى أن ارتفع الشمس فصلى الإشراق كالحج والعمرة» المراد ثمة أيضاً ذكر التناسب لا ذكر التساوي بين الصلاة والحج، وبين صلاة الإشراق والعمرة.
باب ما جاء في أي المساجد أفضل
[325]
واعلم أن في شرح حديث الباب احتمالين:
أحدهما: أن يقال: إن المفهوم من استثناء إلا المسجد الحرام زيادة فضل المسجد الحرام على المسجد النبوي.
وإما أن يقال: إن المفهوم منه أن التفاوت بين المسجد النبوي والمساجد الأخر سوى المسجد الحرام، أزيد من التفاوت بين المسجد النبوي والمسجد الحرام ولا يتعرض إلى زيادة فضل المسجد الحرام على المسجد النبوي ولكن المختار عند المحدثين الشرح الأول، وأتوا بأحاديث دالة على فضل المسجد الحرام على المسجد النبوي، وفي بعض الأحاديث أن الصلاة في المسجد الحرام كمائة ألف صلاة في غيره والجمهور على أن المسجد الحرام أفضل من المسجد النبوي، وقال مالك بن أنس: إن الأرض الملاصق بجسد النبي صلى الله عليه وسلم المبارك أعلى وأفضل من كل شيء حتى العرش والكرسي أيضاً، ثم بعده بيت الله، ثم بعده المسجد النبوي ثم بعده المسجد الحرام، ثم بقعة المدينة أفضل من بقعة مكة، فقال مالك: إن الصلاة في المسجد النبوي كمائتي ألف صلاة في غيره، واحتج بحديث دعاء البركة للمدينة المنورة لأنه لما كانت في المدينة ضِعفاً في سائر الأشياء يكون ضعفاً في فضل الصلاة أيضاً، ولكن الجمهور على أن المسجد الحرام أفضل من المسجد النبوي، ثم الفضل للمسجد النبوي بل هو مقتصر على البقعة التي كانت في عهده أم متعد إلى ما زاد فيها عمر وعثمان وغيرهما، واختار العيني في شرح البخاري أن الفضل غير مقتصر على ما كان من البقعة في عهده لأن المذكور في الحديث:«الصلاة في مسجدي هذا» إلخ اجتمع الإشارة والتسمية، وفي الهداية أن المسمى والمشار إليه، لو كانا من جنس واحد فالاعتبار للمشار إليه وإذا كانا من نوعين فالاعتبار للمسمى، وفيما نحن فيه تعدد الأنواع فيكون الاعتبار للتسمية أي مسجدي فما صدق عليه لفظاً المسجد النبوي يكون فيه فضل الصلاة، ثم اتحاد الأنواع وتعددها عند الفقهاء باتحاد
الأحكام وتعددها، ثم ذكر
الطحاوي أن الفضل في ثلاثة مساجد فضل الصلاة المكتوبة، لأن التطوع مستحبة في البيت لما في أذان الهداية، وفي ابن ماجه رواية:«إن الصلاة في مسجدي كخمسين ألف صلاة» فخالفه ما في حديث الباب فيراجع لفظه فإنه فيما إذا سافر لذلك، ومن المعلوم أن متفردات ابن ماجه قلما تصح، فالله أعلم.
قوله: (لا تشدوا الرحال الخ) اختار ابن تيمية أن السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم المبارك غير جائز بل يريد السفر إلى المسجد النبوي ثم إذا بلغ المدينة يستحب له زيارة القبر المبارك، وقال باستحباب زيارة القبور الملحقة للمكان لثبوت زيارة النبي صلى الله عليه وسلم جنة البقيع وغيرها، ولقد أخطأ الناقلون في نقل مذهب ابن تيمية كما قال ابن عابدين: إن تيمية يمنع من الارتحال وشد الرحال إلى زيارة القبر الشريف ويجوز السفر المحض للزيارة، ووافق ابن تيمية في هذه المسألة أربعة من المتقدمين ومنهم الجويني والد إمام الحرمين، وابتلي ابن تيمية بالبلايا والشدائد حين اختيار هذه المسألة، وصنف تقي الدين السبكي رسالة في رد ابن تيمية وسماها شفاء السقام في زيارة خير الأنام وما وجدت فيها شيئاً جديداً وطريّاً وتصدى إلى تقوية الضعاف، ثم صنف ابن عبد الهادي في الرد على السبكي وسماه الصارم المنكي على نحر السبكي وقد أجاد في تصنيفه ثم رد ابن علاّن على ابن عبد الهادي وسماه المبرد المبكي على الصارم المنكي، وتطرق التصنيف من الطرفين، ومذهب جمهور الأئمة أن زيارة القبر الشريف جائزة ومن أعلى القربات وأجابوا عن حديث الباب بأجوبة مختلفة، وأحسنها ما ذكر الحافظان في شرح البخاري، وأتيا بالرواية أخرجها أحمد في مسنده:«لا تشدُّ الرِّحال إلى مسجد ليصلى فيه إلا إلى ثلاثة مساجد» ، وأما دليل الجمهور في المسألة فهو ثبوت سفر السلف الصالحين إلى الروضة المنيفة تواتراً
، وإما أجاب عنه ابن تيمية وتبعه بالجواب الشافي، وأما قول: إنهم أرادوا السفر إلى المسجد النبوي وما أرادوا السفر لزيارة الروضة المطهرة فقول مصنوع، فإنه لو كان الغرض السفر لإرادة المسجد النبوي لارتحلوا إلى المسجد الأقصى أيضاً كارتحالهم إلى المسجد النبوي، فالحاصل أنه لم يأت على الجواب الشافي.
(مسألة) : السفر لزيارة قبور الأولياء كما هو معمول أهل العصر لا بد من النقل عليه من صاحب الشريعة أو صاحب المذهب أو المشائخ، ولا يجوز قياس زيارتها على زيارة القبور الملحقة بالبلدة فإنه لا سفر فيها.
باب ما جاء في المشي إلى المسجد
[327]
قوله: (ما أدركتم فصلوا. . إلخ) اختلف أهل المذهبين فيما يقضي المسبوق بعد الفراغ عن صلاة الإمام، فأكثر الحجازيين على أن ما أدرك مع إمامه أول صلاته، وما يأتي به بعد فراغ الإمام آخر صلاته وأخذوا بالترتيب الحسي، والعراقيون على أن المدرك ما يأتي مع إمامه آخر صلاته، وما يأتي به بعد فراغ الإمام أول صلاته، وكذلك اختلف الصحابة أيضاً، ومذهب ابن مسعود مذهب العراقيين، فتمسك الحجازيون بلفظ:«ما فاتكم فأتموا» وتمسك العراقيون بما في الحديث: «وما فاتكم فاقضوا» أقول: لا تمسك لأحد في الحديث، فإن القضاء يطلق على الأداء وبالعكس أيضاً، وينبغي إحالة المسألة إلى مدارك الاجتهاد، ويمكن ما أخرجه أبو داود ص (74) في سننه عن معاذ «أن الصحابة كانوا إذا يسبقون فيأتون أولاً بما سبقوا ثم يلحقون بإمامهم، ثم يوماً دخل معاذ، مع الإمام وقضى ما سبق بعده فقال عليه الصلاة والسلام بسنة معاذ إلخ فإنه يدل على أن الذي يأتون به بعد فراغ الإمام هو الذي كانوا يأتون به أولاً فيكون المسبوق قاضياً لا مؤدياً، فنصوص الشريعة تؤيد الأحناف إن شاء الله تعالى.
(اطلاع) قال أبو عمر المالكي: إن محمد بن حسن موافق للحجازيين في مسألة الباب، أقول: ما وجدت من محمد في عامة كتبنا، ولعله تبع شيخه مالك بن أنس في هذه المسألة كما تبعه في بعض المسائل الأخر والله أعلم.
باب ما جاء في القعود في المسجد وانتظار الصلاة من الفضل
[330]
إني متردد في مراد الحديث والمشهور هو انتظار الصلاة بعد الصلاة في المسجد ووجه ترددي أنه لو كان المراد هذا لوجدنا عمل السلف بهذا الصنع، فإن الفعل مشتمل على فضل عظيم فكيف تركه السلف وما وجدنا جماعة منهم تفعل هكذا؟ وبعض ما يتعلق بحديث الباب في دفع ترددي مر سابقاً لكنه لا يجدي.
قوله: (ما لم يحدث) لا يفهم من الحديث حال الملائكة بعد الحدث في المسجد أيقطعون الدعاء، أم يأخذون في الدعاء عليه؟ وظني لعلهم يدعون عليه لأن إخراج الريح في المسجد مكروه تحريماً.
باب ما جاء في الصلاة على الخمرة
[331]
واعلم أن بين الخمرة والحصير فرقاً لغة، فإن الخمرة ما يكون سداه، والحصير ما يتخذ من خوص النخل، وأما الفرق في الحكم الشرعي فلا، قال الزهاد والعباد: لم يثبت صلاته عليه الصلاة والسلام المكتوبة على الخمرة وثبت التطوع والله أعلم، وتصح المكتوبة على الخمرة والحصير وغيرهما عند الثلاثة، وقال مالك: لا تجوز المكتوبة إلا على الأرض أو على جنسها ووسع في النوافل.
باب ما جاء في الصلاة على البسط
[333]
معنى البساط (ب هونا) قوله: (يا أبا عمير) هذا كنيته، وأما اسمه فحفص وما عاش إلا قليلاً، وحديث الباب سيفيدنا في أن حرم المدينة ليس كحرم مكة كما استفاد الطحاوي من حديث الباب بأن أبا عمير أخذ النغير من حرم المدينة.
باب ما جاء في سترة المصلي
[335]
مذهب الثلاثة أن سترة الإمام سترة من خلفه ونسب إلى مالك بن أنس خلافه، من صلى في الصحراء ينبغي له السترة، ولم يقل أحد بالوجوب من الأربعة، وقال بعض العلماء بالوجوب.
قوله: (مؤخرة الرجل) في هذه اللغة أربعة لغات مؤخرة بلا تشديد، ومؤخِّرة بالتشديد. وكسر الخاء أو فتحها، وآخرة، ونقح الفقهاء الحنفية وقالوا: تكون السترة قدر الذراع طولاً وقدر المسبحة غلظاً، وذكر ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام: أن في المصلي والمار أربعة صور؛ إحداها: أن يكون لهما مناص ثم مر المار بين يديه، فالمصلي والمار آثم، وإن لم يكن لأحدهما مناص فلا إثم على أحد، وإن كان لأحدهما مناصاً فالإثم على من له مناص، فإن كان للمصلي مناص من أن يصلي ثمة فهو آثم، وإن كان للمار مناص أن لا يمر ثمة فالإثم عليه، وذكر المحقق في الحلية كلام ابن دقيق العيد وسكت لعله رضي به، وهل يجب غرز السترة أم يكفي الوضع؟ أقول الوضع كاف لما سيأتي من الصلاة إلى الراحلة، وأما إذا لم يجد السترة فيخط شبيه الهلال لما في فتح القدير عن الصاحبين خلافاً لما في الهداية، وله حديث متكلم في سنده أخرجه أبو داود وحسنه البعض أيضاً، وأما إرخاء الثوب أو المنديل بين يدي المصلي ليمر الآخر فلعله يعصم عن الإثم، ويجوز لأحد أن يجلس الآخر بين يدي المصلي جاعلاً ظهره إلى وجه المصلي ليمر هو وإن لم يجد السترة ففي مرور المار ثلاثة أقوال: أحدها أن يمر من خارج ما إذا نظر المصلي إلى مسجده يقع عليه نظره اختاره ابن همام، ويجب الاحتياط في المرور من تلقاء وجه المصلي فإن الوعيد في المرور بين يدي المصلي عظيم، وفي مشكل الآثار يجوز للطائف المرور بين يدي المصلي لأن الطائف في حكم المصلي، واحتج بحديث.
وأما نكتة السترة فقال ابن همام: إن السترة لربط الخيال، وأقول: إن حكمتها مذكورة في نص الحديث وهي أن المصلي بينه وبين معهوده وصلة ومواجهة فمن مر قطع المواجهة، وإذا أقام السترة صارت المواجهة محدودة.
باب كراهية المرور بين يدي المصلي
[336]
ورد الوعيد في المرور بين يدي المصلى كثيراً، فإنه أخرج أبو داود: أن رجلاً مر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ويصلي هو وأصحابه فشل رجلاه لدعائه عليه الصلاة والسلام، والحال أن دعاءه عليه الصلاة والسلام على الناس قليل، أقل وقد كان دعا:«اللهم من دعوت على أحد ولم يكن ذلك لائقاً به اجعله في حقه رحمة» فعلم وعيد المرور.
قوله: (قال لا أدري) قال الحافظ: صرح الراوي في مسند البزار بأربعين خريفاً فتعين التميز، ووجدت رواية فيها ذكر مائة سنة.
باب ما جاء أنه لا يقطع الصلاة شيء
[337]
واقعة الباب واقعة حجة الوداع المذكور سابقاً كان حكم الإثم، والآن حكم قطع الصلاة وروى الترمذي وغيره انقطاع الصلاة بمرور الكلب الأسود لا الحمار والمرأة، ولا يقطعها شيء عند الثلاثة، واختلفوا في وجود السترة في واقعة الباب فرأى البخاري وجودها في واقعة الباب، وزعم البيهقي عدمها في واقعة الباب كما سأذكره في البخاري إن شاء الله تعالى.
باب ما جاء أنه لا يقطع الصلاة إلا الكلب والحمار والمرأة
[338]
قوله: (في نفسي شيء) لأن حديث قطع الصلاة بالمرأة والحمار يعارضه حديث نوم عائشة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وحديث ابن عباس، وأما حديث قطعها بمرور الكلب فلا معارض له، ثم لما كان حديث الباب خلاف الأئمة الثلاثة تأول الناس بأن المراد من القطع قطع الخشوع، وأقول: إن المراد من القطع قطع الوصلة التي أخبر الشارع بها الغائبة منا، ولأن القطع إنما يكون في المتصل وهو الوصلة، وأقول: إن حديث نوم عائشة لا يعارض حديث الباب فإنها كانت لا تمر والحديث في المرور، وأما النكات فوجه القطع بالكلب الأسود والحمار والمرأة أن في الحديث أن:«الكلب الأسود شيطان» وفي الحديث: «إذا نهق الحمار يرى الشيطان» وفي الحديث: «إن النساء حبائل الشيطان» فلكل من الثلاثة تعلق بالشيطان.
(ف) وفي الدر المنثور ص (184) : أن الكلب والحمار لا يسبحان الله تعالى، والله أعلم.
باب ما جاء في الصلاة في الثوب الواحد
[339]
حاصل الباب كما قال الطحاوي أن غرض الشارع أن لا يبقى الثوب مهملاً، فإذا كان أوسع يتوشح ويسمى بالمخالفة بين الطرفين والالتحاف والاشتمال وإن كان وسيعاً فيعقد على القفا وإلا فيتزر، ثم صرح الأحناف أن اشتمال الصَّمَّاء أي اشتمال اليهود في الثوب الواحد مكروه، ولا بأس به في الثوبين، لما في أبي داود ص112 عن وائل بن حجر: أنه عليه الصلاة والسلام كبر ورفع اليدين في داخل الثوب ثم التحف إلخ، وقال أحمد بن حنبل: تبطل الصلاة بكشف أحد المنكبين إذا كان الثوب وسيعاً يمكن ستر أحدهما.
(واعلم) أن الصلاة في ثلاثة أثواب مستحبة عندنا؛ الرداء والإزار والعمامة، ولا تكره ولو تنزيهاً بدون العمامة وإن كان إماماً.
باب ما جاء في ابتداء القبلة
[340]
المشهور في الكتب بيت المقدس بكسر الأول من باب المجرد، واختلف العلماء في نسخ القبلة، قيل: وقع مرتين، وقالوا: إنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي إلى بيت الله في مكة، ثم نسخت القبلة وانحرفت إلى بيت المقدس في المدينة ستة عشر أو سبعة عشر شهراً ثم نسخت، وجعلت القبلة بيت الله، وقيل: إن النسخ وقع مرة، وقالوا: إن القبلة في مكة بيت المقدس، وكان مأموراً باستقباله وكان يستقبل بيت الله بطوعه، وللطائفة الثانية رواية قوية عن ابن عباس وأنه عليه الصلاة والسلام كان يعمل بعمل أهل الكتاب قبل نزول الشريعة الغراء كما في البخاري، ويدل عليه كثير من الأحاديث ولكنه يرد على الطائفة الثانية ما في بعض طرق حديث إمامة جبرائيل أنه أمه عليه الصلاة والسلام عند مقام إبراهيم وفي مقام إبراهيم لا يمكن التوجه إلى البيتين وما وجدت أحداً توجه إلى هذا.
قوله: (تقلب وجهك في السماء إلخ) كان التفاته عليه الصلاة والسلام إلى السماء، لضرورة فيكون مستثنى من ما في مسلم النهي عن النظر إلى السماء، وأما موضع تحويل القبلة فقيل المسجد النبوي، ولكن التحقيق أنه مسجد القبلتين، وانحرف النبي صلى الله عليه وسلم عن بيت المقدس إلى بيت الله في الصلاة وبدل موضعه وكذلك الصحابة أيضاً، وللسيوطي فيه كلام ذكره في روح المعاني، وقال الحافظ برهان الدين الحلبي الشافعي في شرحه له على البخاري: إن التحويل كان في حالة ركوعه عليه الصلاة والسلام في الثالثة.
قوله: (فصلى رجل معه العصر) أي في المسجد النبوي بعدما وقع التحويل في الظهر في مسجد القبلتين.
قوله: (على قوم من الأنصار) في مسجد بني عبد الأشهل، والرجل المار كان عباد بن بشر وهو الذي أخبر أهل مسجد قبا أيضاً بتحويل القبلة، ثم في كتب السير: أن أول صلاة وقع التحويل فيها صلاة الظهر، وفي الصحيحين أنها صلاة العصر، فقال المحدثون في جمعهما: بأن التحويل وقع في وسط صلاة الظهر، وأول صلاةٍ صليت بتمامها نحو بيت الله العصر فلا تدافع، ثم اعلم أن في رواية الباب: مر رجل على قوم من الأنصار في صلاة العصر إلخ، وفي رواية صلاة الصبح وجمعوا بينهما بأن واقعة العصر واقعة مسجد بني عبد الأشهل، وواقعة الصبح واقعة مسجد قبا.
واعلم أن في حديث الباب إشكالاً من حيث الأصول، وهو أن المشهور القاطع لا ينسخ بخبر الواحد، وكان أهل مسجد بني عبد الأشهل ومسجد قبا بلغهم استقبال بيت المقدس بالتواتر وقد تركوه بخبر رجل، وقال زين الدين العراقي مجيباً: إن خبر الواحد في عهده عليه الصلاة والسلام مفيد القطع، والجواب عندي أن خبر الواحد قاطع إذا كان مؤيداً بالقرائن، وكثيراً ما يوجد العلم القطعي كما نشاهده في عرفنا، ولذا أقول: إن أحاديث الصحيحين تفيد العلم القاطع، ولكن لا بحيث لا يزول بتشكيك المشكك كما قال أبو عمرو بن الصلاح وغيره من بعض العلماء إلا شاذها ونادرها مثل حديث ثمن البعير، في ليلة البعير وهكذا يفعل من يكون له تجربة في أحوال رواة الأحاديث، وهاهنا إشكال آخر وهو أن مذهب الجمهور أن العمل بالناسخ موقوف على تبليغه أحداً من المكلفين، وقال البعض: لا حاجة إلى تبليغه أحداً بل يكفي نزوله على الشارع، في واقعة الباب عمل أهل مسجد قبا بالمنسوخ في صلاة العصر والمغرب والعشاء ومع ذلك لم يؤمروا بالإعادة، والجواب أن الضوابط يعمل بها بعد عهده عليه الصلاة والسلام، وأما في عهده عليه الصلاة والسلام فيفعل الشارع كيف ما شاء ويفوض الأمر إليه، ويدل على هذا كثير من الوقائع، ويمكن أن يقال: إن العمل بما ذكر من
الضابطة إنما يكون إذا لم يرد صاحب الشريعة بنفسه إرسال رسول إليهم وإذا أراد هذا فيكونون مأمورين إذا بلغهم أمر صاحب الشريعة، وفي واقعة الباب أراد النبي صلى الله عليه وسلم إخبارهم لما في سنن الدارقطني أنه: أرسل الرجل بنفسه وأمره بإخباره بتحويل القبلة، فانحل الإشكال.
باب ما جاء أن ما بين المشرق والمغرب قبلة
[342]
اختلفوا في مراد الحديث، ومراده الصحيح أنه خطاب لأهل المدينة ومن على سمتها، وقال بعض الناس: إن الحديث لأهل الشرق ومعنى الحديث أن بين مشرق الشتاء ومغرب الصيف وبين مغرب الشتاء ومشرق الصيف قبلة، لكن هذا التأويل لا يساعده الحديث وكان حق العبارة على هذا أن ما بين المشرقين والمغربين قبلة وقيل: إن بين المشرق والمغرب قبلة أي إذا جعل المشرق خلفه والمغرب أمامه فيكون في الحديث ذكر قبلة أهل الشرق، وهذا أيضاً خلاف الحديث والصحيح شرحاً ما ذكر كما يدل عليه لفظ ابن عمر.
قوله: (قال ابن المبارك) تأول بعض المتكلمين في الحديث بالمذكور سابقاً أي يكون المشرق خلفه والمغرب أمامه وجعلوه موافقاً لقول ابن المبارك، والحديث على مراده الصحيح ويتأول في قول ابن المبارك بأن المراد من أهل الشرق الذين بالشرق الشمالي.
قوله: (التياسر لأهل مَرُو) أي الانحراف إلى جانب اليسار، ومرُو بلدة ابن المبارك.
تنبيه: واعلم أن الاعتبار في المواجهة يكون للجانب الأبعد من القبلة كما في الخطط والآثار.
باب ما جاء في الرجل يصلي لغير القبلة في الغيم
المسألة صحيحة مسلمة عند الكل والحديث ساقط السند.
[345]
قوله: (أينما تولوا فثم وجه الله) إلخ في تفسير الآية ثلاثة أوجه: لأنها إما في المصلين في ليلة مظلمة، وإما في حق المتحري للقبلة، وإما في المتنفل على الدابة.
باب ما جاء في كراهية ما يصلى إليه وفيه
[346]
قوله: (المقرئ) وليعلم أن المُقْرِيْ غير المقريّ منسوباً إلى بلدة القري وهو مضبوطة الحافظ وضبطه في معجم البلدان وراو آخر مقريّ، وقال الحافظ عبد الغني المقدسي: إن رسم خط اللفظ عند المحدثين بالألف أي المقراي، فلا يختلط في الألفاظ، ويجب تمييز كل واحد من الآخر لمن يشتغل في الأحاديث فإن بعض المحدثين سحبوا حديث:«من كذب عليَّ متعمداً» إلخ على من يخطأ في عبارة الحديث، كما قال العيني في عمدة القاري وكذلك يصدق الحديث على من يذكر الأحاديث في المواعظ رطبها ويابسها ولا يبالي، وذكر الشيخ شمس الدين السخاوي: إن سيبويه أخذ في علم الحديث عند حماد بن سلمة فلما بلغ على حديث: «من قاء أو رعف» إلخ قرأ رعف مجهولاً، وكان الصحيح معلوماً، قال حماد بن سلمة: قم من عندنا، وأخرجه من درسه فذهب سيبويه عند الخليل لتحصيل النحو والعلوم الأدبية ثم لم يرجع إلى تحصيل الحديث، ومات سيبويه وهو ابن أربعة وثلاثين سنة.
قوله: (فوق ظهر بيت الله) إلخ وذكر الأحناف وجه العلة بأن الصلاة فوق ظهر بيت الله يوجب سوء الأدب، وهذا التعليل يقتصر على بيت الله فقط، وتجوز الصلاة على غيره من المساجد وحديث الباب تكلم فيه الترمذي، وتكره الصلاة عندنا أيضاً في المواضع المذكورة، ويمكن أن يقال بصحة الحديث لإخراجه ابن السكن في صحيحه، وهو التزم صحة ما أخرجه في صحيحه.
قوله: (عبد الله بن عمر العمري) ضعفه الترمذي تبعاً للبخاري، والبعض حسنوا روايته وهم كثير، وعندي أنه من رواة الحسان، وفي الميزان أنه إذا روى عن نافع فهو ثقة، وكذلك قال ابن معين الذي أشد الرجال في حق الرجال، وتقوية عبد الله العمري يفيدنا في بحث حديث ذي اليدين.
قوله: (من حديث الليث بن سعد) إلخ قد أخطأ الشوكاني في نيل الأوطار في هذه العبارة، وقلبها وجعل (مِن) بيانية، والحال أنها ليست ببيانية، وفي نسخة ابن ماجه في سند حديث الباب سهو.
باب ما جاء في الصلاة في مرابض الغنم وأعطان الإبل
[348]
الضأن (ميش) ، والمعز (بز) ، الغنم (گوسپذ) أي الغنم أعم منهما.
حديث الباب قوي، ومضمونه مروي في الصحيحين أيضاً وتمسك الموالك بحديث الباب على طهارة أبوال ما يؤكل لحمه وأزباله، وأطنب الشافعي في الحديث، وقال: إن الإبل مع كونه ما يؤكل لحمه ينهى عن الصلاة في أعطانها، فالوجه أنه حيوان شرير بخلاف الغنم، وقال الجمهور: إنكم أخذتم من اللازم من الحديث وليس بصريح ونص لكم، أقول: لا ريب في أن تمسك
الموالك قوي، فلا بد من الجواب، فأجيب بالوجهين: أحدهما: ما ذكره الشارحون والمحشُّون. ومأخذه ما أجاب الشافعي في كتاب الأم، وفي ضمن كلام الشافعي أن العرب كانوا يسطحون مرابض الغنم لا أعطان الإبل، وإن الصلاة في ناحية المربض يطلق عليها الصلاة، وأن المرابض كانت تنظف بخلاف الأعطان.
والوجه الثاني: ما ذكر ابن حزم أن حكم الصلاة في مرابض الغنم كان ثم نسخ، وكان الحكم حين لم تكن المساجد مبنية. وفي أبي داود وحديث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتنظيف المساجد بسند قوي، وعندي قرائن دالة على ما قال ابن حزم منهما ما أخرجه البخاري في صحيحه ص (60) أن هذه الواقعة قبل أن تبنى المساجد، وعندي هذا الحديث المختصر اختصر من الحديث اللاحق في ص (61) :«أنه كان يجب أن يصلي حيث أدركته الصلاة» إلخ، فدل على أن الاعتناء كان لموضع أدركته الصلاة فيه، وأيضاً كانت أرض المدنية ذات جمرات، وكانوا يسطحون مرابض الغنم، فكان المربض أولى بأداء الصلاة، ويدل ما في معاني الآثار ص (224) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا لم تجدوا إلا مرابض الغنم ومعاطن» إلخ أن الصلاة في مرابض الغنم عند عدم وجدان أرض غيرها، وفي موطأ محمد ص (124) عن أبي هريرة:«أحسن مرابض الغنم وأطب مراحها وصلِّ في ناحيتها» إلخ، فدل على الصلاة في ناحية المربض ورفعه، ولكن الوقف صواب، والله أعلم بالصواب.
باب ما جاء في الصلاة على الدابة حيث ما توجهت به
[351]
تجوز النافلة على الدابة عند الكل في خارج البلدة، وقال أبو يوسف بجوازها على الدابة في داخل البلدة أيضاً، ثم قال الشافعية يجب استقبال القبلة ابتداء الصلاة، أي عند التحريمة وعندنا غير واجب بل مستحب، وأما المكتوبة فلا تجوز على الدابة نعم تجوز للخائف المطلوب ولا تجوز للطالب.
مسألة: العجلة ذات القوائم الأربعة كالأرض تجوز النافلة والمكتوبة عليها، وأما ذات قائمتين فإن كانت مربوطه بالفرس فحكمها حكم الدابة وإن كانت غير مربوطة بها فرسها ولها ما تقوم مقام القائمة الثالثة فحكمها حكم الأرض.
باب ما جاء في الصلاة إلى الراحلة
[352]
أي يجعلها سترة، وتاء الراحلة ليست تاء التأنيث بل تاء النقل، وكان ابن قتيبة الدينوري لا يجوز إطلاق الدابة على المذكر، فدل على أن التاء تاء التأنيث، ولكن الصواب ما قال الجمهور.
باب ما جاء إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء
[353]
قال أبو حنيفة: لأن يكون طعامي كله صلاة أحب إلي من أن تكون صلاتي كلها طعاماً، وحضور الطعام من أعذار ترك الجماعة والتفصيل في الفقه وفي مشكل الآثار قيد صلاة المغرب والصائم في متن الحديث فضيق الأمر.
(حكاية) كان علي بن شداد يصلي بالجماعة بإدراك التحريمة إلى خمسة وعشرين سنة، واتفق له يوم موت أمه فشغل في تجهيزها وتكفينها وفاتته الجماعة فتأسف عليها فصلى أربعة وعشرين نفلاً، فرأى في المنام يقول رجل صليت النوافل بدل الجماعة لكنك ما أحرزت ثواب التحريمة.
باب ما جاء في الصلاة عند النعاس
النوم ما يتعلق بالقلب، والنعاس ما يتعلق بالرأس، والسِنَة ما يتعلق بالعينين.
[355]
قوله: (فيسب نفسه) قيل: السب بأن يقرأ غير ما يريد، وقيل: السب حقيقة عدم المرضاة بالصلاة، فإنه يضطرب قلبه، ويقول في أية كلفة ألقيت فليسب نفسه، وقال العلماء: إن هذا الحكم في النافلة، وأما الفريضة فيأتي بها بحمل المشقة على النفس.
باب ما جاء في كراهية أن يخص الإمام نفسه بالدعاء
[357]
الحاقن من أمسك البول والحاقب من أمسك الغائط.
واعلم أن حديث الباب أشكل على العلماء فإنه ينهى من أن يخص نفسه بالدعاء، والحال أن الأدعية الواردة في الأحاديث داخل الصلاة وخارجها مروية بصيغ المتكلم الواحد إلا شاذاً مثل دعاء الاستسقاء حين جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب وقال: هلك المال وجاع العيال. . إلخ، وإلا دعاء القنوت الذي هو مختارنا من اللهم إنا نستعينك. . إلخ، فكيف حكم حديث الباب بأن لا يخص الإمام نفسه بالدعاء؟ فقال جماعة من المحدثين: إن حديث الباب موضوع متأثراً من هذا الإشكال، وأقول: لا يمكن حكم الوضع على حديث الباب أصلاً، ثم قال متأول: إن مراد الحديث أن لا يدعو لنفسه ويدعو على غيره أي لضرر الغير. أقول: إنه لا يعبأ بهذا القول: وقيل: إن مصداق حديث الباب الأدعية التي بصيغ المتكلم مع الغير من أدعية القرآن العظيم ودعاء الاستسقاء وغيرها ويكون المقتدي شريكاً في تلك الأدعية لا الأدعية التي يأتي بها منفرداً وبنفسه.
وليعلم أن الدعاء المعمول في زماننا من الدعاء بعد الفريضة رافعين أيديهم على الهيأة الكذائية لم تكن المواظبة عليه في عهده عليه الصلاة والسلام، نعم الأدعية بعد الفريضة ثابتة كثيراً بلا رفع اليدين وبدون الاجتماع وثبوتها متواتر، وثبت الدعاء مجتمعاً مع رفع اليدين بعد النافلة في واقعتين أحدهما ما في بيت أم سليم حين صلى النبي صلى الله عليه وسلم السبحة ودعا لأنس، وأما ما في كتاب الاعتصام والسنة للشاطبي عن مالك أنه بدعة فمراده أنه لم يستمر هذا العمل في العهد المبارك وليس غرض حكم عدم الجواز عليه وقال بعض الأحناف من أهل العصر: إن رفع اليدين لما ثبت في المواضع الأخر يعدى إلى الدعاء بعد المكتوبة أيضاً واستدل بالعموم، أقول: لا ريب في ثبوت رفع اليدين في الأدعية في غير المكتوبة، ولكن الاحتجاج بالعموم الإطلاق إنما يكون فيما لم يرد حكمه الخاص ويمكن فيه ما في الترمذي ص (51) :«وتقنع يديك أي ترفعهما إلى ربك مستقبلاً ببطونهما» إلخ ولكنه ليس بدال على تمام الهيأة الكذائية، وقال ابن قيم في الزاد: إن هذا بدعة، ونوقش فحاصل الكلام في
حديث الباب أن مصداق ما فيه الأدعية الواردة بصيغ المتكلم مع الغير مثل دعاء القنوت وغيره.
قوله: (حتى يستأذن. . إلخ) من نظر إلى بيت رجل بلا إجازة فجرحه أهل البيت أو قتله فهل يقتص أو يؤدي أم لا فمذكور في موضعه.
باب ما جاء فيمن أم قوما وهم له كارهون
[358]
حاصل المسألة كما قال الفقهاء: إن باعث الكراهة الشرعية إن كان من جانب الإمام فالإثم عليه، وإن كان من جانب القوم فالإثم عليهم لا على الإمام.
قوله: (والعبد الآبق. . إلخ) أكثر العلماء أو كلهم على أن المراد عدم وقوع صلاته في حيز مرضاة الله تعالى لا بطلانها.
باب ما جاء إذا صلى الإمام قاعدا فصلوا قعودا
[361]
قال مالك: لو قعد الإمام بعذر والقوم قادر على القيام لا تصح صلواتهم خلفه، ويطلبون إماماً آخر إلا أن يكون كلهم مرضى فصلوا قاعدين، وقال أحمد بن حنبل: يجب قعود القوم، ثم قال الحنابلة: إن كان الإمام قائماً في ابتداء الصلاة ولحقه القعود في داخلها يبقى القوم قائماً، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي ووافقهم البخاري: يجوز اقتداء القائم خلف القاعد ولا يجوز لهم القعود، وقال العلماء: الأقرب إلى ذخيرة الحديث قول أحمد بن حنبل.
قوله: (خرَّ رسول الله. . إلخ) قالوا: إن واقعة سقوطه عليه الصلاة والسلام من الفرس واقعة
السنة الخامسة، وقام النبي صلى الله عليه وسلم في واقعة الباب في المشربة وكان يصلي ثمة ولا يذكر الرواة من كان إمام المسجد النبوي في واقعة الباب، ويدل ما في أبي داود ص (89) وما في مسند أحمد على تعدد الواقعتين في أيام السقوط عن الفرس واقعة صلاته عليه الصلاة والسلام النافلة واقعة صلاته عليه الصلاة والسلام المكتوبة وأمره عليه الصلاة والسلام بالقعود في واقعة المكتوبة وكانوا قائمين في واقعة السبحة. وتمسك الحنابلة بحديث الباب على مذهبهم، وأجاب الأحناف والشوافع بأن حديث الباب منسوخ والناسخ واقعة مرض الموت، وقيل تأويلاً: إن مراد حديث الباب أن يقعدوا في القعدة إذا قعد الإمام فيها وقال ابن دقيق العيد: لو كان المراد ما قالوا لكان حق العبارة إذا قعد فاقعدوا بدون ذكر الصلاة وأيضاً مفسر الحديث واقعة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الجواب الأول فأجاب عنه الحنابلة بأن واقعة مرض الموت ليس بحجة لكم علينا فإن القعود فيه كان طارئاً في خلال الصلاة. ولنا أن نقول: إن ما فصلتم من الفرق بين القعود أولاً والقعود طارئاً هو مزعومكم وليس نص الشارع دالاً عليه، وكنت أزعم يمكن الجواب بأن واقعة الباب لعل واقعة النافلة، وفي النافلة يجوز القيام والقعود، وإذا كان الأمران جائزين في النافلة فالمرغوب القعود لأن فيه تشاكل الإمام والمقتدي، ويؤيده ما في قاضيخان في التراويح أن قيام القوم وقعود الإمام في التراويح غير مرضي، ويطلب القوم إماماً قادراً على القيام فدل على مرغوبية التشاكل، ثم رأيت عن ابن قاسم تلميذ مالك أن واقعة الباب واقعة النافلة، وإن أورد ما في أبي داود ومسند أحمد فأقول: إن المذكور فيه أن صلاته عليه الصلاة والسلام كانت مكتوبة لا إن كانت صلاتهم أيضاً كذا بل لعلهم كانوا متنفلين، ولعلهم صلوا أولاً في المسجد النبوي فريضة ثم أتوا عنده عليه الصلاة والسلام
لعيادته، ومن البداهة أن المسجد النبوي لم يكن مهملاً عن الصلاة فيه ولكن هذا المذكور أيضاً احتمال ولا يشفي ما في الصدور، والمسألة طويلة الذيل وعجز الحافظ واستقر في الآخرة على أن المفهوم من ذخيرة الحديث استحباب القعود عند قعود الإمام ولا يخرج الوجوب، وذكر وجهه أن عطاءً روى مرسلاً أنه عليه الصلاة والسلام قال بعد الفراغ عن صلاة واقعة مرض الموت:«لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما صليتم إلا قعوداً» إلخ فدل على استحباب القعود، أقول: فيه نظر، فإن قوله عليه الصلاة والسلام هذا بعد صلاة السقوط عن الفرس وقرائنه عندي موجودة منها رواية جمع الجوامع للسيوطي، وأما دعوى الحافظ من استحباب القعود فعندي له وجه آخر وهو أن الالتفات الصميم إلى محض ذخيرة الحديث يدل على جواز القيام له وآكدية القعود فإنه عليه الصلاة والسلام قال في واقعة سقوطه عن الفرس في واقعة صلاته المكتوبة:«إنكم اخترتم فعل الفرس بعظمائهم» إلخ أخرجه أبو داود ص (96) . وهو الفعل قيام الدعية وقعود العظيم ثم ذخيرة
الأحاديث لا يدل على فرق القيام والقعود في السبحة والفريضة، وما من شيء يدل على كونهما دخيلتين، فخرج من واقعة سقوطه عن الفرس آكدية القعود وجواز القيام، وأما ادعاء النسخ أي نسخ الواقعة الأولى لسقوطه عن الفرس بالواقعة الثانية له فبعيد، ثم أقول: إن الاحتياط لمذهب الجمهور فإن واقعتي السقوط دالتان على آكدية القعود لا وجوبه، والخلاف في جواز الصلاة قاعداً عند الجمهور والبحث طويل الذيل.
قوله: (إذا ركع فاركعوا) اختلف أبو حنيفة وصاحباه قال يقارن المقتدي إمامه في الأفعال، وقالا: يتعاقبه، ويبقى العمل في زماننا على ما قال صاحباه، واختلف أهل اللغة أن الفاء الداخلة على الجزاء تفيد التعقيب أم لا؟ ولو أفادته لكان الخارج من حديث الباب مذهبهما وإلا فلا.
قوله: (إذا قال: سمع الله. . إلخ) قال الشافعي والصاحبان: يجمع الإمام بين التحميد والتسميع وقال أبو حنيفة: يأتي بالتسميع فقط، وفي رواية شاذة عنه الجمع له، واختار الشاذة الحلواني والطحاوي ومحمد بن فضل الكماري والنسفي كما في عقود الجواهر، وأقول: للمشهورة عن أبي حنيفة المشهور في الأحاديث والشاذة عنه ما في البخاري عن أبي هريرة جمعه عليه الصلاة والسلام في المكتوبة وهو إمام.
(اطلاع) أخرج البخاري أنه عليه الصلاة والسلام سقط عن الفرس، وآلى من نسائه، وأقام في المشربة، وذكر الحافظ في الفتح المجلد الثاني عن ابن حبان أن سقوطه عليه الصلاة والسلام عن الفرس في السنة بعد الهجرة، ثم أطنب في المجلد الثامن أن إيلاءه عليه الصلاة والسلام كان في السنة التاسعة، وظاهره يدل على أن مختار الحافظ وقوع سقوطه عليه الصلاة والسلام أيضاً في السنة التاسعة مشياً على ظاهر ما في البخاري، وعندي أن واقعة السقوط في الخامسة كما قال ابن حبان، وواقعة
الإيلاء في التاسعة، وإنما جمع الراوي بينهما لإقامة النبي صلى الله عليه وسلم في الواقعتين بالمشربة، ولي في هذه الدعوى قرائن وروايات ومنها في الوفاء للسمهودي أنه عليه الصلاة والسلام كان يمضي نهاره تحت شجرة الأراك على بير ويبيت في المشربة في أيام الإيلاء، ولو كان الواقعتان في زمان واحد فكيف يذهب النبي صلى الله عليه وسلم تحت شجرة الأراك، فإنه كان يصلي في المشربة بسبب كلفة لحقته من السقوط عن الفرس ولا يصلي في المسجد النبوي، فلا يتحقق قيامه نهاراً تحت شجرة الإراك في واقعة السقوط.
قوله: (مالك بن أنس إلخ) هذه الرواية عن مالك شاذة رواها وليد بن مسلم وأما المشهورة عن مالك فهي عدم اقتداء القائم خلف القاعد خلاف الجمهور.
باب منه أيضا
[362]
واختلف الرواة في كونه عليه الصلاة والسلام إماماً أو مقتدياً، ولو كان مقتدياً لا يصح تمسك الأحناف والشافعية على الحنابلة ولكن أكثر المحدثين إلى تعدد الواقعتين، وهو الصواب، وقال مولانا رشيد أحمد رحمه الله تعالى جامعاً بين الحديثين جاعلاً الواقعتين متحدة بأنه عليه الصلاة والسلام اقتدى أولاً ثم صار إماماً حين تأخر أبو بكر الصديق فذكر بعض الرواة أول حاله وبعضهم آخر حاله، وفي بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام أخذ القراءة حيث ترك أبو بكر الصديق ويدل على عدم القراءة خلف الإمام ولا يصح على مذهب الشافعية، وفي بعض الكتب أن أبا بكر الصديق كان فرغ عن الفاتحة وأخذ السورة وبعض مادة أخذه عليه الصلاة والسلام القراءة من حيث ترك الصديق الأكبر
مذكورة في رسالتي خاتمة الكتاب في فاتحة الكتاب ص (206) أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس: «وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من القراءة من حيث كان بلغ أبو بكر» قال وكيع: وكذا السنة. . إلخ، وكذلك أخرج أحمد في مسنده عن ابن عباس ص (231 ج1) وفي ص (355 ج1) وفي ص (256 ج1) ، ووجدت هذا الحديث في أحد عشر كتاباً.
باب ما جاء في الإمام ينهض في الركعتين ناسيا
[364]
في كتبنا أن الناهض على الركعتين إن كان أقرب إلى القعود يجلس ولا يسجد للسهو، وإلا قام وسجد للسهو، وفسروا القرب إلى القعود أن يكون غير مرتفع من الركوع، وإن ظاهر الرواية أن القرب إلى القعود أن لا يكون قائماً مستوياً، ولو استوى فلا يرجع بل يسجد للسهو، ولظاهر الرواية حديث ضعيف أيضاً، قال الحنابلة: إن القعدة الأولى فريضة، ولو تركها تجبر بسجدة السهو، وهذا عين مرتبة الواجب عند الأحناف ولا فرق إلا في الألقاب.
قوله: (بحديث ابن أبي ليلى) ابن أبي ليلى محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو ضعيف لأنه لا يدري سقيمه، وأما أبوه عبد الرحمن بن أبي ليلى فثقة وتابعي.
باب ما جاء في مقدار القعود في الركعتين الأوليين
[366]
قال البعض: إن المراد من الأوليين هي الأولى والثالثة ليدل الحديث على نفي جلسة الاستراحة، مراد الحديث ما ذكره الترمذي، وعندنا في الزيادة على التشهد في القعدة الأولى في الرباعية أقوال: في قول لزوم السجدة بلفظ اللهم، وفي قول بلفظ اللهم صل على محمد، واختاره فخر الدين الزيلعي، وعندي يحول المسألة إلى رأي من ابتلي به ويسجد في مكث يحسه طولاً، واستعمل الحديث في مدونة مالك في القيام بعد التسليم عن الصلاة، أي لا يقعد بل يقوم إلى التطوع كأنه على الرضف ونقله عن النبي صلى الله عليه وسلم والشيخين.
قوله: (كأنه على الرضف) داعية مبالغة الراوي في حديث الباب لا أعلمها مع أني تتبعت كثيراً من الأحاديث، فوالله أعلم.
باب ما جاء في الإشارة في الصلاة
[367]
لا تفسد الصلاة عندنا بالإشارة لرد السلام أو غيره ولكنها مكروهة، وفي بعض كتبنا فساد الصلاة بالمصافحة وعدم فسادها بالإشارة باليد لرد السلام، وقال بعض: لا تكره الإشارة أيضاً واختاره شيخ الإسلام خواهر زاده في مبسوطه ذكره في فتح القدير، والمفهوم من معاني الآثار ص (264) أنه عليه الصلاة والسلام كان يشير لرد السلام، ثم صار منسوخاً مشمولاً بنسخ الكلام، وقول الطحاوي: هذا ليس بعيد لأن الكلام في الصلاة والإشارة كانت جائزة فيها ثم نسخ الكلام فلعله منسحب على الإشارة أيضاً، ولمَّا لم نعلم أن الإشارة التي نحن فيها قبل النسخ أو بعده فحمله على النسخ ورد على قرينة اتفاقاً، ثم لو سلمنا الإشارة بعد النسخ فلعل الإشارة كانت لإخبار أني لا أردّ السلام لا في مصلي فلا تكون الإشارة إشارة رد السلام وأتى الطحاوي على هذا برواية ص (264) عن جابر، ثم روى عن جابر موقوفاً أنه كان لا يرد السلام في الصلاة بل بعدها مثل المرفوع ولنا في كراهة الإشارة في الصلاة ما أخرجه أبو داود ص136 عن أبي هريرة بسند ضعيف.
(ف) : رد السلام بإشارة اليد في خارج الصلاة جائز بشرط أن يكون المسلم نائياً، وبشرط أن يرد بلسانه أيضاً.
قوله: (في مسجد بني عمرو بن عوف) أي مسجد قبا.
باب ما جاء أن التسبيح للرجال والتصفيق للنساء
[369]
إذا سها الإمام أو عرضت حاجة فليسبح الرجال وتصفق النسوان.
التصفيق وهو ضرب أصبعي اليد اليمنى على ظهر اليسرى لا الضرب بين بطون اليد، ومذهب الثلاثة ما ذكر، وقال مالك: تسبح النسوان أيضاً، وقالوا: مراد الحديث أن التصفيق في خارج الصلاة من عمل النساء يلعبن به فليس المذكور في الحديث الحكم الشرعي بل هو في محل الذم.
قوله: (وهو يصلي سبح. . إلخ) هذا في النافلة، وفي بعض الطرق وهو يصلي تنحنح فيحمله الأحناف إما على ما هو جائز عندهم وإما أن يقال: إن النسائي أعلَّ هذا اللفظ في خصائص علي وقال بتفرد الراوي.
باب ما جاء في كراهية التثاؤب في الصلاة
[370]
إذا سبق المصلي التثاؤب فليكضم فاه ما استطاع وإلا فيضع ظهر يده اليمنى على فمه.
قوله: (في الصلاة من الشيطان) نسب الشريعة التثاؤب إلى الشيطان لأنه ينبئ عن الكسل، والعطاس إلى الرحمن لأنه ينبئ عن النشاط، وهذا في خارج الصلاة وأما في داخل الصلاة، فكلاهما من الشيطان، وفي مصنف ابن أبي شيبة أثر بإسناد قوي:«إن الشيطان يضع قارورة البول على أفواه المصلين ليتثاءبوا» وقال ابن عابدين: ومن المجربات إن يتثاءبوا تخيلَ أن الأنبياء كانوا لا يتثاءبون يذهب تثاؤبه.
باب ما جاء أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم
[371]
في حديث الباب إشكال مشهور وهو تعيين مراد الحديث ومصداقه، لأن مصداقه إما مفترض وإما متنفل فإن كان مفترضاً فلا يجوز القعود بدون عذر ولو قعد بعذر لا يكون ثوابه نصفاً، ولو كان متنفلاً فلا يصدق لفظ من:«صلاها قائماً» إلخ فإن السبحة لا تصح نائماً بلا عذر عند أحد إلا الحسن البصري رحمه الله وبهذا الإشكال قال الخطابي في المعالم: تصح الصلاة نائماً بلا عذر لو صح الحديث وإن لم يقل به أحد من أتباع المذاهب الأربعة، نعم هو وجه عند بعض الشافعية، أقول: لم يصح شيء في جوازها نائماً عن صاحب الشريعة، وأقول في الجواب عن إشكال الحديث: إن
مصداق الحديث هو المعذور وأما تنصيف الأجر فهو بالنسبة إلى حال المعذور، نفسه لا بالنسبة إلى حال الصحيح فالحاصل أن المعذور الذي تجوز الصلاة له قاعداً أو نائماً والعذر له مبيح، ومع ذلك يقدر الصلاة قائماً أو قاعداً بتحمل الكلفة والمشقة تكون صلاته قاعداً نصف صلاته قائماً وإن أحرز ثواب صلاة الصحيح قائماً فلا إشكال، ويؤيد ما قلت في شرح الحديث ما أخرجه مالك في موطأه ص (48) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه عليه الصلاة والسلام رأى الصحابة مصلين السبحة قعوداً حين مرضوا في المدينة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«صلاة القاعد نصف صلاة القائم» وفي بعض الروايات أن الصحابة صلوا قياماً بعد قوله عليه الصلاة والسلام، وليعلم أن المعذور على قسمين معذور لا يقدر على القيام ولو بكلفة والثاني هو الذي يقدر عليه بتحمل الكلفة.
قوله: (من صلى نائماً أي مضطجعاً) قال الإسماعيلي: إن في الحديث تصحيفاً والصحيح «من صلى بإيماء» ورده المحدِّثون.
قوله: (وقال بعضهم: يصلي مستلقياً إلخ) لا يجوز الاستلقاء عند الشوافع، ويجوز عند الأحناف وقال الشافعية: ليس الاستلقاء مذكوراً في القرآن، وقال الزيلعي: في النسائي تصريح الاستلقاء، أقول: لم أجد رواية الاستلقاء في الصغرى لعلها تكون في الكبرى، فإن الزيلعي متثبت في النقل كثيراً، والاستلقاء عندنا أفضل من الصلاة على الأيمن.
باب ما جاء في الرجل يتطوع جالسا
[373]
مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن من صلى التطوع جالساً يجوز له الجلوس بأي صورة شاء من التربع وغيره إلا في القعدة فإنه يقعد فيها كهيأة، وأمَّا ما هو عمل أهل العصر من اختيار هيأة القعدة في القيام فهو مذهب زفر رحمه الله، ويجوز بناء القيام على القعود في صلاة أو ركعة في السبحة عند الشيخين، وقال محمد: لا يجوز أن يشرع قائماً ثم يقعد، وأقول: لا بد من ترجيح الصور الثابتة عنده عليه الصلاة والسلام على غيرها ولكنه لم يتوجه الأحناف إلى الترجيح، وقد ثبت تطويله عليه الصلاة والسلام القيام في صلاة الليل، كما روي أن حذيفة اقتدى به عليه الصلاة والسلام بالليل وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم سورة البقرة وقال: زعمت لعله يركع على مائة آية حتى أن تجاوز عن المائة،
ثم زعمت أن يركع على مائتين حتى أن تجاوز، ثم زعمت أن يختم السورة حتى أن تجاوز عنها وقرأ أربع سور ثم بعض الروايات تدل على قراءته أربع سور في ركعة، وبعضها تدل على قراءته إياها في أربعة ركعات فوالله أعلم، هل يرجع المحدثون أو يجمعون والله أعلم وكذلك ورد لابن مسعود أنه اقتدى به عليه الصلاة والسلام وأعي، لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاقتداء خلفه في النافلة، وعلى هذا قال بعض: إن الحكيم من يشدد على نفسه ويخفف على غيره، وقال محمد في قصيدة البردة:
~ ظلمتُ سنّةَ من أحيى الظلام إلى
…
أن اشتكت قدماه الضر من ورم
وقال في الهمزية:
~ وإذا حلت الهداية قلباً
…
نشطت في العبادة الأعضاء
باب ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إني لأسمع بكاء الصبي في الصلاة فأخفف
[376]
قد ثبت تطويله عليه الصلاة والسلام القراءة وتخفيفه إياها، والتخفيف في حديث الباب، والتطويل لإدراك الجائي في سنن أبي داود ص (116) عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يطول القراءة في الركعة الأولى ما لا يطول في الثانية فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى. . إلخ، واختلف العلماء في تطويل الركوع لإدراك الجائي فجوزه الشافعية قياساً على تخفيف القراءة في حديث الباب قياس عكس، وأما الأحناف فعن أبي حنيفة أو محمد على اختلاف النقلين أنه سئل عن من يطيل الركوع لإدراك الجائي، قال: أخاف عليه أمراً عظيماً، وسئل ما الأمر العظيم؟ قال: الكفر، وقال المشائخ: إنه كفران النعمة، وأما أرباب الفتوى فقالوا تجوز الإطالة بشرط أن لا يعرف الإمام الجائي بشخصه وإلا فلا، ولكن ينبغي العمل على ما قال صاحب المذهب فإن النفس أكذب ما تكون إذا حلفت، فكيف إذا ادعت؟ وأما قياس الشافعية فقياس مع الفارق، وأيضاً ثبت الإطالة والتخفيف في القراءة لا في الركوع والسجود، ثم قال بعض الأحناف: إن إرادته عليه الصلاة والسلام تطويل القراءة ثم تخفيفها كانت قبل الشروع في الصلاة لا في داخل الصلاة، ولكن ألفاظ الروايات ترد عليه.
باب ما جاء لا تقبل صلاة الحائض إلا بخمار
[377]
الحائض من تصلح للحيض، وفي سن الحيض، والحائضة من في حالة الحيض في الحالة الراهنة كما قال صاحب الكشاف، وكذلك في المرضع والمرضعة، ومذهب أبي حنيفة أن الكفين
والوجه ليس بعورة لا داخل الصلاة ولا خارجها ويجوز النظر إلى الوجه والكفين للأجنبي أيضاً ثم أفتى أرباب الفتيا بسترهما لفساد الزمان، وأما القدمان فعن الشافعي جواز كشفهما، وعن أبي حنيفة روايتان وعندي يؤخذ بما يوافق الشافعي.
باب ماجاء في كراهية السدل في الصلاة
[378]
قال شارح الوقاية السدل أن يضع الثوب على الرأس ويرخيه على جانبيه، وأقول: إن جزئيات المذهب تدل على العموم من هذا فإنه في قاضي خان أنه لو لبس الجبة ويداه في خارج الكمين يكون سدلاً، وأقول: إن أحسن ما قيل في تعريف السدل ما قال الشاه ولي الله في حجة الله البالغة: وهو أن الشريعة تأمر باختيار اللبسة المختارة في أعدل الأحوال للإنسان وخلافه سدل أو تشمير فهذا خلاصة ما في مسألة السدل، فإنه عليه الصلاة والسلام أمر بإعادة الصلاة من كان صلى وهو مسبل إزاره أخرجه أبو داود ص (93) عن أبي هريرة، ويجوز إطلاق السدل على إسبال الإزار.
مسألة: في شرح المشارق لابن الملك من لحقه سدل الثوب في أثناء الصلاة، يرفعها في خلالها وهذا يدل على دفع المكروه اللاحق في داخل الصلاة فيها فإنه جعل ابن عباس عن يمينه في داخل الصلاة، ووقائع أخر عن ابن عباس تدل على دفع المكروه اللاحق في خلال الصلاة في خلالها.
قوله: (إذا سدل على القميص. . إلخ) في كتبنا مثل البحر وغيره: أن اشتمال الصماء مكروه في ثوب واحد وغير مكروه في ثوبين، وقد يطلق لفظ السدل على هذا الاشتمال أيضاً، وهو المراد في هذا القول.
باب ما جاء في كراهية مسح الحصى في الصلاة
[379]
حديث الباب يدل على تحمل العمل القليل في الصلاة، وأما فساد الصلاة بالعمل الكثير فمن المجمع عليه، وفي بعض الروايات:«وإن كنت لا بد فاعلاً ففي النافلة» إلخ، لأن في النافلة توسيعاً ليس في الفريضة، فإنه يجوز الاعتماد بالجدار وغيره في النافلة عند التعب والإعياء لا الفريضة.
قوله: (فإن الرحمة تواجهه إلخ) هذه الرحمة الوصلة التي يكون المار بين يدي المصلي قاطعاً لها.
باب ما جاء في كراهية النفخ في الصلاة
[381]
لنا في النفخ في الصلاة قولان ذكرهما صاحب البحر:
أحدهما: أنه لو كان مسموعاً صوته تفسد الصلاة وإلا فلا.
والثاني: فساد الصلاة به لو كان مُهَجّاً ويظهر منه الحروف وإلا فلا.
واختار صاحب البحر الثاني، وقال ابن تيمية: لا تفسد الصلاة بالنفخ وإن كان مهجّاً، وأما التنحنح في الصلاة فمكروه عندنا بل مفسد الصلاة إن لم يكن من عذر كأن صار مضطراً أو مدفوعاً إليه، ولو تنحنح من عذرٍ مبيح فلا بأس، والعذر كأن حصر عن القراءة لاجتماع البلغم أو غيره، وفي الصغير شرح المنية: أن التنحنح للعذر الصحيح إنما يتحقق في حق الإمام لأن الحصر عن القراءة إنما يتحقق في حقه. قوله: (وأهل الكوفة) هم أبو حنيفة وتَبَعُه.
باب ما جاء في النهي عن الاختصار في الصلاة
[383]
في تفسير الاختصار أقوال، قيل: هو الاختصار في القراءة والتخفيف، وقيل: هو القيام أخذان المخصرة في يده، وقيل: هو وضع اليد على الخاصرة، والمختار هو الثالث.
قوله: (يمشي مختصراً) حين أخرج من الجنة مذموماً.
باب ما جاء في كراهية كفّ الشعر في الصلاة
[384]
استنبط من حديث الباب أن الأشعار أيضاً ساجدة فلا يكفها، وقال الشافعي: إن الثياب أيضاً ساجدة ولذا منع عن السجدة على الثوب الملبوس للمصلي، وأما وجه نهي الشارع عن كف الشعر فإما خلافه لهيئة الوقار المطلوبة في الصلاة، وإما كون الأشعار ساجدة عند الشريعة.
قوله: (وقد عقص ضفرته) الضفر جمع الأشعار بعضها إلى بعضها، حديث الباب يدل على عقص الحسن ضفيرته وحله أبو رافع، وفي بعض كتبنا أنه غير مرضي وعلى هذا الشكل ما سيأتي في آخر الكتاب أنه عليه الصلاة والسلام كانت له عقائص وتصدى العلماء إلى توجيه ما يخالفهم بظاهره مما سيأتي في آخر الكتاب.
قوله: (ذلك كفل الشيطان) في الحاشية أن الكفل هو حظ الشيطان ولكنه ليس كذلك فإن الكفل
في اللغة هو الثوب الملفوف على الواسطة للهودج كي يأخذه الرديف كما قال:
~ وراكب خلف البعير مكتفل
…
يمشي على آثاره وينتعل
باب ما جاء في التخشع في الصلاة
[385]
قال علماء اللغة: إن الخشوع يتعلق بالعين والرأس والصوت والعنق، والخضوع يتعلق بالقلب، وقال الحذاق من أرباب اللغة لا ترادف في الألفاظ، والمختار هو هذا القول، وأما الخضوع والخشوع في الصلاة المذكور في حديث الباب لم أجده في عامة كتبنا فكنت متردداً في ما ذكر إلى أن رأيت استحباب التخشع في الاختيار شرح المختار وهو من معتبراتنا ولا يتوهم أن القرآن يأمر بالخشوع وأوامر القرآن للإيجاب، فيجب الخشوع سيما إذا كان من روح الصلاة، لأن الفقيه إنما يتعرض إلى أحوال عامة الناس ويلتفت إليها، ومن المعلوم أن التخشع من العامة متعذر، فقال الفقيه بالاستحباب لا بالوجوب فالخشوع مستحب، وأما الاختيار في الصلاة فمن شروطها، فإنه إذا سجد أو ركع وهو نائم لا يعتد به.
فائدة: في كتب الأحناف أن المصلي ينظر في حال القيام إلى موضع سجوده، وفي الركوع إلى ظهري رجليه، وفي السجود إلى أنفه، وفي القعود إلى حجره، وإني تتبعت مأخذ هذه المسألة فوجدت في متن المبسوط للجوزجاني تلميذ محمد بن حسن أنه ينظر في حال القيام إلى موضع السجود، وفي كتاب الصلاة لأحمد بن حنبل أن المصلى ينحني رأسه في القيام، ولكني متردد في هذا الكتاب أنه من تصنيف أحمد أو لا، فرأيت في فتح الباري أنه من تصانيفه، وتأمر الشريعة بالسكون في الصلاة كما هو عادة السلف الصالحين، وفي حديث الباب مقال وتَكلُّمٌ فيه، وأخرجه الزيلعي وعزاه إلى النسائي وما وجدته في الصغرى لعله في الكبرى فإن الزيلعي متثبت في النقول أشد تثبت فإن كان أخرجه النسائي في الكبرى لا ينحط الحديث عن مرتبة الحسن، وإن لم يكن في منزلة أحاديث الصغرى.
قوله: (الصلاة مثنى مثنى) بحث هذه المسألة سيأتي بقدر الضرورة في أبواب الوتر وقال
الزمخشري: إن في «مثنى» تكراراً معنىً، ذكره في الفائق، وإنما أتى «بمثنى» الثاني لتحقيق التكرار في اللفظ أيضاً.
قوله: (تشهد في كل ركعة) قال ابن همام: إن حديث الباب ليس بحجة للصاحبين والشافعي على أبي حنيفة في مسألة نوافل الليل لأنه أيضاً يقول بالتشهد، ولا يدل الحديث على التسليم، أقول: المراد في الحديث هو التشهد مع التسليم كما في مسند أحمد.
قوله: (تقنع يديك. . إلخ) أي ترفع يديك، استدل بعضٌ بحديث الباب على الدعاء بعد المكتوبة بالهيئة المتعارفة في أهل العصر، والحال أنه لا يدل عليه فإنه ليس فيه ذكر أنهم دعوا مجتمعين، فأما رفع اليدين فقط بعد الصلاة ولو نافلة فثابت كما حررت سابقاً، والكلام بقدر المرام مرَّ.
قوله: (فهو خداج) أطلق لفظ الخداج على ترك المستحب في الصلاة.
باب ما جاء في طول القيام في الصلاة
[387]
اختلف أهل المذهبين في أفضلية الصلوات، فقال الشافعية: إن أفضل الصلاة هي المشتملة على تكثير الركوع والسجود، ونقول: إن أفضلها هي المشتملة على تطويل القيام، وفي رواية للشافعية أن الأفضل تطويل القيام ذكرها النووي في شرح مسلم، وفي رواية للأحناف أن الأفضل تكثير الركوع عن محمد أو عن أبي حنيفة على اختلاف النقلين وأحد النقلين في البحر، وصورة الاختلاف أن رجلاً يستفتي بأن لي وقتاً معيناً وأريد صرفه في النافلة فما لي أفضل الصرفة في تكثير السجود أو في تطويل القيام؟ وتمسك الشافعية بحديث:«أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد» فالسجدة أعلى أركان الصلاة فيستحب تكثيرها، وتمسك العراقيون بحديث الباب وهو نص في المسألة وأما حديث:«أقرب ما يكون العبد إلى ربه» إلخ فعلى الرأس والعينين ولا ننكره ولا يخالفنا فإنه يدل على أن السجود أفضل أجزاء الصلاة ولا ننكره، وكلامنا في أفضلية صلاة من الصلوات لا في أفضلية جزء من أجزاء الصلاة، فيكون قياس الشافعية في مقابل النص ولا تخالف بين الحديثين فلنص الحديث لنا إن شاء الله تعالى في مسألة الباب.
(ف) : يأخذ أبو حنيفة بالضابطة الكلية وقول الشارع في الباب، ويحمل الوقائع على المحامل، كما تمسك في استقبال القبلة واستدبارها عند الخلاء بالحديث القولي، وأخرج محامل للوقائع، وكذلك صرح الحافظ في الفتح، ثم لم يرض به وأقول: إنه أحسن طرق التمسك بالحديث كما هو ظاهر عند أرباب اللباب.
ثم إن قيل: لمّا كانت السجدة أفضل أجزاء الصلاة ينبغي صرف الوقت فيها أزيد مما في غيرها، نقول: ربما يكون أن يصرف الوقت في المبادي أزيد مما في المرام كما في الحج فإن الغرض زيارة البيت والإحرام من مباديها.
باب ما جاء في قتل الأسودين في الصلاة
[390]
إذا تعرض الحية أو العقرب للمصلي فله أن يقتلهما وهو في الصلاة، ثم في مبسوط شيخ الإسلام خواهر زاده: أن الصلاة لا تفسد إن قتلها بعمل كثير، نقله في الفتح، وفي قول لنا فساد الصلاة بالعمل الكثير إلا أنه لا يأثم بإفساده الصلاة في هذه الصورة للضرورة، والمختار ما في مبسوط شيخ الإسلام إلا أنه إذا احتاج إلى العمل الكثير جداً تفسد الصلاة.
باب ما جاء في سجدتي السهو قبل السلام
[391]
حقيقة سجدتي السهو عندنا إما أن يقال: السجدتان وتشهد وسلام، وإما أن يقال: سجدتان، لأنه إذا تشهد ثم سلم إلى جانب أو جانبين على اختلاف القولين وسجد للسهو فالسجدة في حرمة الصلاة، ولما كانت السجدة بعض تعلق بالصلاة تبطل التشهد والسلام السابقين فيحتاج إلى التشهد والسلام الثاني ولكنه لا يرفع القعدة لأنها فريضة فالتشهد والسلام لعارض، وحقيقة سجدة السهو سجدتان وحقيقتها عند الشافعية سجدتان فقط، ولا تشهد ولا سلام، وأما السلام الذي بعدها فسلام الصلاة، ثم نقول: إن سجدة السهو بعد السلام في جميع الصور قالت الشافعية: إنها قبل السلام في جميع الصور وقال مالك أن يسجد بعد السلام لو لزم السجدة من زيادة ويسجد قبله لو لزم السجدة
من نقصان، وتعبيره الدال في الدال والقاف في القاف، وقال أحمد بن حنبل: بتمشي على ما ثبت، فيما ثبت وثبت عنه عليه الصلاة والسلام السجود في أربع صور: أحدها: أنه قام إلى الخامسة.
وثانيتها: أنه سلم على الركعتين في الرباعية.
وثالثتها: أنه ترك القعدة الأولى.
ورابعتها: أنه ترك آية من القراءة.
ففيما سجد النبي صلى الله عليه وسلم قبل السلام سجد قبله، وفيما سجد فيه بعده يسجد فيه بعده، وأما ما لم يثبت فيه فيسجد قبل السلام كالحجازيين، وقال إسحاق كما قال أحمد إلا أنه وافق العراقيين فيما لم يثبت فيه من صاحب الشريعة، قال المحدثون الرجحان لقول أحمد، وفي كتب المذاهب الأربعة إن خلاف السجدة قبل السلام وبعده خلاف الأولوية من كتب الأحناف ما في الهداية وكذلك في كتب الثلاثة إلا في تجريد القدوري في رواية شاذة عدم جواز السجدة قبل السلام، وأما على تقدير تسليم أن الخلاف في الأولوية، فوجه الرجحان لنا أن فعَلَه عليه الصلاة والسلام مرة قبل السلام ومرة بعده، وأما الحديث القولي فهو لنا أخرجه الطحاوي ص (253) .
قوله: (قبل أن يسلم. . إلخ) تأول بعض الأحناف أن السلام هذا هو السلام الذي بعد سجدتي السهو لا سلام الصلاة التي هي قبلهما، أقول: إن التأويل خلاف مراد الراوي ولا يجري التأويل ولا بد من تسليم الجواز قبل السلام، وتمسك الشافعية بحديث الباب على نفي التشهد والسلام ولنا ما سيأتي من تصريحهما وتمسك الشوافع بعدم الذكر.
قوله: (إن آخر فعل النبي إلخ) أقول: قال الشافعي: إن قصة ذي اليدين رحمه الله في السنة السابعة فكيف يقال إن آخر فعله عليه الصلاة والسلام السجدة قبل السلام؟ فإن في تلك الواقعة السجدة بعد السلام والله أعلم، نعم يمكن قول أنه آخر فعله على ما قال الأحناف من أن واقعة ذي
اليدين قبل بدر، وأما التسليم قبل السجدة فلنا فيه أقوال قال فخر الإسلام: إنه يسلم تلقاء وجهه أي إلى جانب القبلة، وفي قول: يسلم إلى جانب اليمين، وفي قول: يسلم إلى يمين وشمال لأنه سلام متعارف وهذا قوي، وكتب رجل إلى فخر الإسلام أن وحدة السلام بدعة فكفينا عن عهدة النقل، وقال مالك في سجدة السهو ثلاث تكبيرات، وله حديث أخرجه أبو داود في سننه ص (145) في قصة ذي اليدين عن أبي هريرة، قال هشام ـ يعني ابن حسان ـ: كبَّر ثم كبَّر وسجد إلخ، فجعل الأولى منزلة التحريمة، والثانية للانحناء إلى السجود، والثالثة للرفع عن السجدة.
باب ما جاء في سجدتي السهو بعد السلام والكلام
[392]
قال الشافعي: لا تفسد الصلاة بالكلام ناسياً، والنسيان عند عدم تحقيق المصلي أنه في الصلاة، فما قال المدرسون أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن ناسياً ما أدركوا مراد الشافعي، ومنشأ غلطهم قول الطحاوي، وماأدركوا مراد كلام الطحاوي أيضاً، والحال أن مراد الطحاوي المناظرة مع الشافعي في مسألة ولا حق لنا فيه.
قوله: (خمساً إلخ) يحتاج الأحناف إلى ادعاء أنه عليه الصلاة والسلام قعد على الرابعة، فإنا نقول: إن القعدة الثانية فريضة ولو لم يجلس لتحولت الفريضة إلى النافلة، وهذا الادعاء ليس ببعيد فإنه واقعة حال وليس بحكم كلي، وأما قول الشافعية من أن قولاً بالجلوس على الرابعة يسوق إلى تكرار السهو عنه عليه الصلاة والسلام لأنه على ظن أنها ثالثة ثم على أنهما تمام الصلاة، نقول: إنه ليس بلازم، فإنه قد يقع مثل تلك الواقعة في حالة الذهول بدون تكرار السهو، ولو سلمنا فأي ضير في هذا بعد تسليم السهو عنه عليه الصلاة والسلام، وأقول: يمكن أن يقال في أنه لا بد من أن وقعت القعدة الثانية على الرابعة والوجه فقهي، وذلك أن مثنوية الصلاة أو كونها أربع ركعات لا يكون إلا بالتشهد وهذا من التواترات فلا بد من تسليم التشهد من الأربعة، ولا يلزم بطلان ذلك المتواتر، وبناء على هذا قال أبو حنيفة: إن ما دون الركعة قابل للإلغاء، فمن لم يقعد على الرابعة تحولت فريضته إلى النافلة وعليه ضم الخامسة والسادسة، وإن قعد على الرابعة ثم قام إلى الخامسة فلو سجد للخامسة لا يعود إلى القعدة لأنه لا يمكن إبطال الركعة وبضم السجود تصير ركعة، وإن لم يضم الخامسة يعود إلى القعدة فإنه يجوز إلغاء ما دون الركعة ولم يبطل ذلك التواتر للجلوس على الرابعة.
باب ما جاء في التشهد في سجدتي السهو
[395]
هذا الباب للعراقيين لثبوت التشهد في سجدتي السهو سجد قبل السلام أو بعده، وواقعة الباب واقعة ذي اليدين وحديث الباب لنا في التشهد والسلام، وكونهما بعد السلام والحديث قوي، ولنا ما أخرجه الطحاوي في معاني الآثار ص (256) موقوفاً على ابن مسعود، وفيه ص (252) عن ابن مسعود، مرفوعاً بسند جليل:«ثم ليسجد سجدتي السهو ويتشهد ويسلم» إلخ، ونفى البخاري رحمه الله التشهد ولكنه لم يأت بما ينفي.
قوله: (صلى بهم. . إلخ) أي صلاة الظهر أو العصر على اختلاف الرواة.
باب ما جاء في الرجل يصلي فيشك في الزيادة والنقصان
[396]
قال الشافعي: من شك يبني على اليقين أي على الأقل ويتشهد على ركعة فيها يتوهم القعدة، وقال أبو حنيفة: إن عرضه أولاً يستقبل الصلاة ويستأنفها، وإن كثر فبنى على أكبرِ رأيه وغالبِ ظنه وإلا فعلى الأقل، ويقعد على ما يتوهم فيه القعدة الأخيرة، وأما قول: إن كان الشك عرضه أولاً. . إلخ ففي تفسيره قولان، قيل: عرض أو لا في جميع عمره وقيل عرض أولاً في هذه الصلاة، والمختار الأول وإلا تحرى فلا يسكت في وقت التحري، بل يشغل في الوظيفة مع التحري ثم إذا بنى على غالب ظنه فهل يسجد للسهو أم لا؟ فقال ابن همام في الفتح: يسجد للسهو، وقال في السراج الوهاج: لا يسجد لعل الترجيح كما في رد المحتار في هذه المسألة للسراج الوهاج لأن الأحاديث تؤيده لكنه اشترط أن لا يلزم في وقت التحري تأخير قدر ركن.
قوله: (فليسجد سجدتين إلخ) ذهب جماعة من السلف الصالح إلى ظاهر حديث الباب وهو سجدتا السهو بدون البناء على الغالب أو على الأقل، ولم يذهب أحد من الأربعة إلى هذا وأجاب الجمهور عن حديث الباب بأنه ساكت يحمل على الناطق الذي فيه ذكر البناء على الأقل أو غيره ثم دليل الشافعية على البناء فقط حديث عبد الرحمن الآتي، وأما أدلتنا فللإستناف إذا عرض له الشك أول مرة قوله عليه الصلاة والسلام:«إذا شك أحدكم في صلاة أنه كم صلى؟ فليستقبل الصلاة»
ومضمونه مروي في مصنف ابن أبي شيبة وغيره، وأما دليل البناء على أكبر رأيه فما أخرجه مسلم من ابن مسعود:«من سها في الصلاة فليتحر الصواب» ، وحمله الشافعية على البناء على الأقل، وقالوا: إن التحري الأخذ بالأحرى، نقول: إنه لا يساعده اللغة أصلاً، وأما دليلنا للبناء على الأقل فقوله عليه الصلاة والسلام:«من شك في صلاته ولم يَدرِ كم صلى» اه.
باب ما جاء في الرجل يسلم في الركعتين من الظهر والعصر
[399]
اختلفوا في الكلام في الصلاة، قال أبو حنيفة: إنه مفسد كيف ما كان عامداً أو ناسياً أو جاهلاً،
وقال الشافعي: لا تفسد إن تكلم ناسياً، ونسب إلى مالك والأوزاعي أن قليله لمصلحة صلاة لا يفسدها، ويرد عليهما ما أخرجه أبو داود ص (24) عن ابن أبي ليلى قال: أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال إلخ، وقال فيه: حدثنا أصحابنا قال وكان رجل إذا جاء يسأل فيجبر بما سبق من صلاته، ويرد عليهما ما رواه الترمذي في الصفحة الآتية عن زيد بن أرقم كنا نتكلم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ، فإنه بظاهره منسحب على كل كلام فإن كلامهم كان لمصلحة الصلاة أي السؤال عن الركعات.
قوله: (أقصرت الصلاة أم؟ إلخ) قصرت بصيغة المعلوم والمجهول لأن القصور لازم والقصر متعدٍ وكذلك النقص متعدٍ والنقصان لازم، في موطأ مالك كل ذلك لم يكن، قال ذو اليدين: قد كان بعض ذلك. . إلخ، وتمسك الشافعية بحديث الباب على جواز الكلام ناسياً، ثم في وجه التمسك طريقان، طريق المتوسطين منهم التمسك بإجمال حديث الباب، وأما الحذاق منهم فتمسكوا بكلامه عليه الصلاة والسلام لأكان ناسياً، فإن الصحابة إما أن يتكلموا مثل ما تدل بعض الروايات أخرجه النسائي، وإما أن يشاروا برؤوسهم كما في أبي داود ص (144) فأومؤوا برؤوسهم أن نعم» . وإما لأنه مجاوبة الرسول، ولا تفسد الصلاة بها عند جماعة، وتمسكوا بما في البخاري عن سعيد بن المعلى: أنه كان يصلي فناداه النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجب، ثم حضر حضرتَه عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«دعوتك فما أجبتني» قال: كنت أصلي، قال: أما قرأت: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] الآية، سيما إذا كان في كتاب القراءة للبيهقي ومشكل الآثار قوله. (لا أفعل هذا بعد) ، أي أجيبك بعد، وفي كلام أحمد بن حنبل أن كلام ذي اليدين في حكم الناسي لأنه تردد في تمام الصلاة، لأنه زعم أن الصلاة إما قصرت وإما نسي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الشافعية: إن واقعة الباب بعد نسخ الكلام في الصلاة، والنسخ في مكة وواقعة الباب واقعة مدنية، ومن المتفق عليه أن الكلام كان جائزاً ثم نسخ، والخلاف في أن المنسوخ الكلام بجميع أنواعه أو ببعض أجزائه، وتمسك الشافعية بأن ابن مسعود رجع من حبشة في مكة وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فلم يرد عليه، ثم قال بعد الفراغ عن الصلاة:«إن الله نهى عن الكلام في الصلاة» ونقول: إن
نسخ الكلام في المدينة قبل بدر وأمَّا ما قلتم من قصة ابن مسعود فلابن مسعود هجرتان إلى حبشة، أحدهما حين هاجر وأصحاب آخرون من أذى الكفار، ثم نزلت سورة النجم فسجدت الكفار حين سمعوا آية السجدة فيها، فانتشر أن كفار مكة أسلموا، فبلغ الخبر المهاجرين إلى حبشة عند النجاشي فرجعوا إلى مكة فلما وصلوا قريب مكة سمعوا وعلموا أن الخبر كان كاذباً فرجعوا من ثمة إلى حبشة ما دخلوا مكة، وأما ابن مسعود فدخل مكة ثم رجع إلى حبشة بعد إقامة عدة أيام، ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مدينة فرجع ابن مسعود إلى مدينة، ووقعت له واقعة سلامه على النبي صلى الله عليه وسلم وعدم رده في الصلاة
في المدينة، وابن مسعود رجع قبل غزوة بدر لأنه ممن شهد بدراً، وأما واقعتا هجرته إلى النجاشي فمذكورتان في كتب السير مثل سيرة محمد بن إسحاق، وتمسك الشافعية بأن أبا هريرة يروي واقعة ذي اليدين ويقول: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أدرك أبو هريرة ذا اليدين، وأسلم أبو هريرة في السنة السابعة، فلا بد من تأخير الواقعة، نقول: إن مراد أبي هريرة صلى بنا رسول الله أنه صلى بمعشر المسلمين ولا يجب حضور أبي هريرة في واقعة الباب، ونظيره هاهنا ما قال النزال بن سبرة: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا وإياكم إلخ يريد قومه ومعشره فإنهم لم يروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها ما روى طاووس: قدم علينا معاذ بن جبل فلم يأخذ شيئاً من الخضروات، فإنه أراد به قدم على قومنا، فإن طاووساً لم يدرك معاذاً، منهما ما روى الحسن: خطبنا عتبة بن غزوان يريد خطبة، بالبصرة ولم يكن حينئذ حسن في بصرة، لأن قدومه ببصرة إنما كان قبل صفين بعام كما روي، عن أبي رجاء أنه قال: سألت الحسن متى قدمت بصرة؟ فقال: قبل صفين بعام فأراد به قومه ومعشره، وكذلك أجاب الطحاوي عن رواية أبي هريرة هذه كما قال ابن حبان في رواية زيد بن أرقم، ولكن الطحاوي لم يُجب عما في طريق مسلم ص (215) عن أبي هريرة: بينا أنا أصلي إلخ، وقال صاحب البحر لم أجد جواباً شافياً عن هذه، وقال ابن عابدين ما قال، وتعجب من عدم جواب البحر، أقول: إن ابن عابدين غفل عن ما في مسلم فإن الرواية هاهنا «أنا أصلي» رواها مسلم ص (314) ، وأما أنا فلم أجد شافياً أيضاً إلا أن يحكم بأنه وهم الراوي فإنه لما رأى بينا نحن نصلي زعم كون أبي هريرة في الواقعة، وتعارض لتلك الرواية بما سيأتي عن قريبُ.
أما وجه الوهم فلعله وهم من شيبان فإنه اختلط عليه حديثان فإنه روى حديث معاوية بن الحكم السلمي كما في مسلم ص (203) حديث العطاس، وفيه:«بينا أنا أصلي إذا عطس رجل» إلخ، وأخذ هذا اللفظ من هذا الحديث ووضعه بسبب الاختلاط في حديث ذي اليدين عن أبي هريرة في مسلم ص (214) والله أعلم، وعلمه أتم.
وأما الجواب بطريق المعارضة فهو: إن ذا اليدين قتل يوم بدر، وإسلام أبي هريرة في السنة السابعة كما قالوا، منهم محمد بن إسحاق، وكذلك روى ابن عمر أخرجه الطحاوي ص (161) : كان إسلام أبي هريرة بعدما قتل ذو اليدين، ورجاله ثقات إلا عبد الله بن عمر العمري وهو متكلم فيه، ولم يأخذ عنه البخاري وتبعه الترمذي ووثقته جماعة واتفقوا على صدقه ولكنه في حفظه شيء، وأما ابن معين ففي لفظ عنه لا بأس به وفي لفظ أنه صُوَيلح، وفي لفظ أنه صدوق وثقة، وفي ميزان الاعتدال أن ابن معين سئل فقال أن عبد الله العمري ثقة في حق نافع، وأقول: إنه من رواة الحسان
ولم أجد أحداً أخذه في متون الحديث بل أخذوه في أسانيد الحديث، وأما أخوه عبيد الله فثقة اتفاقاً، وكان عبد الله يحول سائله إلى أخيه في حياته ثم بعده أخذ كتاب أخيه وكان يروي منه فأخذ عليه أقول أنه وجادة ووجادة من لقي صاحب الكتاب مقبولة، وأما بعض المحتاطين فلا يقبلونها بدون تحديث أو إخبار أو إجازة، وأما المتأخرون فيقبلونها، وأيضاً صحح ابن السكن بعض أحاديث عبد الله العمري، وعندي ثلاثة أحاديث عنه حسَّنها بعض المحدثين، وفي فتح الباري في كتاب الحج أن عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجاج أن يسأل مسائل الحج عن ابن عمر برواية عبد الله العمري، واستدل الحافظ بهذه الرواية على ثبوت لقاء الزهري ابن عمر فعلى هذا رواية الطحاوي حسنة، ثم توجه الشافعية وقالوا: إن الشهيد في غزوة ذو الشمالين لا ذو اليدين وذو الشمالين هو عمير بن عبد عمرو من بني خزاعة، وأما ذو اليدين، فهو خرباق بن عمرو من بني سليم وأتوا بنقول عديدة دالة على كونهما رجلين، وأما الأحناف فلهم أيضاً نُقول عديدة على أنهما رجل واحد، ونقول الطرفين ذكرها مولانا ظهير أحسن في آثار السنن، ومن نقولنا رواية النسائي وموطأ مالك بن أنس يروى الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وذكر فيه ذا الشمالين لعلها بدل ذي اليدين، وأخرجه النسائي ص (183) بطريق وأعلها الشافعية وقالوا: إن ذا الشمالين من وهم الراوي، ونقول: إن الزهري نقل عنه الزيلعي عن ابن حبان أن الحديث منسوخ، وقال ابن عبد البر في التمهيد: إن الزهري متفرد في ذكر ذي الشمالين نقله السيوطي في زهر الربى، ونقول: تابع الزهري عمران بن أبي أنس في موطأ مالك والنسائي والطحاوي ص (258) وكذلك روى عكرمة مرسلاً ذا الشمالين أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه بسند قوي وتابعه معمر أخرجه أحمد في مسنده بسند صحيح، ثم قال الأحناف: إن خرباقاً وعميراً واحد وعبد عمرو وعمرو واحد، وأما الخزاعي فلكونه من
بطن سليم بن ملكان وليس ابن منصور كما قال مولانا ظهير أحسن في آثار، السنن، ولقد نظمت في مراد الشافعية:
~ الذي كان شهيد البدر
…
ذو الشمالين بن عبد عمرو
~ ثم خرباق بن عمرو آخر
…
ذو اليدين السلمي ذكروا
ونظمت فيما قال الأحناف:
~ قيل عمرو عبد عمرو واحد
…
وابن هذا عمير قرروا
~ من سليم بن ملكان ولا
…
ابن منصور فخذ ما حرروا
وأما شهرته بذا الشمالين وذي اليدين فلأن الصحابة كانوا يدعونه بذي الشمالين وسماه النبي صلى الله عليه وسلم بذي اليدين فإن في ذي الشمالين تطيُّراً، ويدل عليه ما في أبي داود أيضاً وكذلك في معاني الآثار ص258 سماه بعض الصحابة وذكر بذي الشمالين فيه ص257 برواية أسد فقال: رجل طويل اليدين
سماه النبي صلى الله عليه وسلم ذا اليدين، ونقول أيضاً لنا دليل آخر على عدم إمكان وجود أبي هريرة في واقعة ذي اليدين وهذا يقتضي البسط في أوراق ولكني لا أذكره تفصيلاً لضيق المقام وجميع أجزاءها مذكورة عندي بالروايات، فأذكر الدعوى المحضة بأن في حديث الصحيحين في حديث ذي اليدين:«ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جذعاً في قبلة المسجد فاستند إليها» إلخ وفي فتح الباري ومسند أحمد: «أن الجذع أسطوانة حنانة» وأما هذه الأسطوانة فقد دفنت قبل إسلام أبي هريرة ودفنت حين وضع المنبر، وأقول: وضع المنبر في السنة الثانية، وعندي روايات كثيرة تبلغ خمسة عشر دالة على وجود المنبر في السنة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة، وإسلام أبي هريرة في السنة السابعة اتفاقاً وإذن لا يمكن اجتماع أبي هريرة في قصة ذي اليدين التي فيها الحنانة، وقال الحافظ: وضع المنبر في السنة التاسعة بعد الهجرة وتخالفه روايات كثيرة وقال ابن حبان: وضع في السنة الخامسة ثم أبت على مرامنا وهو النسخ في المدينة، ودليلنا على هذا رواية حديث النسخ من الصحابة الذين هم مدنيون، ولم يثبت مجيئهم مكة قبل الهجرة منهم ما روى زيد بن أرقم في الترمذي كما سيأتي وفيه فنزلت:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] وهذه الآية مدنية اتفاقاً، وتأول فيه ابن حبان: بأن مراد «كنا نتكلم في الصلاة» إلخ أي نحن معشر المسلمين، وكذلك روى معاذ بن جبل في أبي دواد ص (74) نسخ الكلام وهو أيضاً مدني، ومنهم جابر بن عبد الله في أبي داود وهو أيضاً مدني، ثم عمل أبو حنيفة بما هو دأبه أي الأخذ بالضابطة العامة، وإخراج المحامل في الوقائع وواقعة ذي اليدين واقعة حال لا عموم لها، ونقول أيضاً: إن واقعة الباب متقدمة فإن الصحابة ما سبحوا خلفه عليه الصلاة والسلام للفتح، ولم ينكر عليهم
النبي صلى الله عليه وسلم، فعلم أمره عليه الصلاة والسلام في واقعة ذهابه إلى بني عمرو بن عوف للصلح بينهم متأخر عن واقعة الباب، وإلا فكيف لم يسبحوا للفتح عليه الصلاة والسلام؟ ومما يفيدنا ما أخرجه الطحاوي ص (259) أثر عمر بن خطاب فإنه وقع له مثل واقعة الباب في عهده فأعاد الصلاة مع كونه شاهداً واقعة ذي اليدين فعلم أنه زعم نسخها، ولما أعاد عمر لم ينكر عليه أحد من الصحابة والتابعين فعلم أن الجمهور موافقون لنا، وأما دليلنا فما أخرجه مسلم ص202 عن معاوية بن الحكم «إن صلاتنا هذه لا تصلح لشيء من الكلام» فالحديث عام ولم يعارضه خاص وعلى أن أكثر العلماء موافق لنا كما سيصرح الترمذي بنفسه بعد هذا الباب، وظني أن البخاري أيضاً موافق لنا فإنه مع إخراجه الحديث في مواضع وكون المسألة مختلفة أشد الخلاف لم يبوب عليها، وبابه على الكلام عام فدل صيغة على هذا المذكور، وإن لم ينبئ به أحد من الحافظين، وبعض الأحناف جعلوا واقعة اليدين مضطربة فيها الأحاديث وما التفت إليه، والاضطراب من وجوه منها ما في الصحيحين عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام «سلم على ركعتين» وفي حديث عمران بن حصين في مسلم وغيره «أنه سلم على ثلاث ركعات» ثم في الصحيحين أن الواقعة واقعة الظهر، وفي مسلم أنها واقعة العصر، ثم قال أبو هريرة: مرة صلاة الظهر جزماً، وأخرى صلاة العصر جزماً، وقال تارة على الشك ثم في موقفه عليه الصلاة والسلام بعد السلام على ركعتين أو
ثلاث، ففي الصحيحين عن أبي هريرة: «قام إلى خشبة في جانب القبلة فاتكأ عليها، وفي مسلم عن عمران: أنه دخل الحجرة، ثم في سجدتي السهو أنه سجدهما أو لم يسجد، وأراد النووي دفع الاضطراب، ولم يرض الحافظ بتعدد الوقائع وجزم بوحدة الواقعة عن أبي هريرة وعمران كما هو دأب المحدثين ثم هاهنا إيراد على الحنفية أورده الطحاوي ثم أجاب وصورة الاعتراض أن الواقعة لو كانت قبل النسخ فكان الكلام جائزاً، إذن فكيف سجد للسهو؟ قيل جواباً ذكره الطحاوي بطوله؛ وحاصله أن لزوم السجدة بسبب تخلل السلام وتأخر الأركان والجواب صحيح وبعد اللتيا والتي الحديث لا يستقيم على مذهب أحد، فإنه عليه الصلاة والسلام عمل عملاً كثيراً وذلك مفسد للصلاة عندنا وعندهم فإنه دخل الحجرة ثم خرج منها وليس في العمل الكثير تفصيل النسيان أو العمد، وفي هذا تفييق على الشافعية أزيد منا، وأيضاً وقعت الإقامة حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرجه النسائي: أنه أقيم بعدما تيقن النبي صلى الله عليه وسلم، وأجاب عنه البيهقي أن الإقامة معناه اللغوي، أقول: في كتاب الطحاوي ص (259) تصريح: فأمر بلالاً فأقام الصلاة، وأيضاً عندي مرسل فيه تصريح أن المراد بأقيم قد قامت الصلاة.
اطلاع: في الخصائص الكبرى للسيوطي أن الكلام كان جائزاً في الصلاة لا في الصوم في الأمم السابقة ذكره محمد بن كعب القرظي مرسلاً.
قوله: (ناسياً) أي ينسى ولا يتيقن كونه في الصلاة.
قوله: (جاهلاً) أي جاهلاً عن المسألة.
قوله: (وقال الشافعي وفرقوا هؤلاء) اعتراضه علينا اجتهادي ونجيبه أيضاً بالاجتهاد والقياس، وهو أن هيأة المصلي مذكرة بخلاف الصوم فإن هيأته ليست بمذكرة كما قال صاحب البحر في الأشباه
والنظائر تحت بحث النسيان، ويمكن لأحد أن يقول: إن الشافعي اجتهد في الحديث وليس في الحديث نص على مذهبه، وهو الكلام ناسياً بأن يصرح بأنه لم يعد الصلاة لأن الكلام كان ناسياً، والله أعلم.
باب ما جاء في الصلاة في النعال
[400]
النعل ليس هو مداس زماننا كما حررت سابقاً، والصلاة في النعلين الطاهرين في بعض كتبنا جوازها، وفي بعضها استحباب الصلاة في النعلين مخالفة لليهود كما في رد المحتار، وفي بعض كتبنا كراهتهما، وأما الصلاة في المداس فإن المداس إذا كان مرتفع مقدمه ويكون واسعاً لا يملأه القدم لا تصح فيه الصلاة وإن لم يكن مرتفع مقدمه أو ملأه القدم تصح الصلاة فيه.
باب ما جاء في القنوت في صلاة الفجر
[401]
قال الشافعي: إن القنوت في صلاة الفجر في السنة كلها، ولا قنوت في الوتر إلا في النصف الثاني من رمضان، ومذهبنا أن القنوت في السنة كلها في الوتر، وأما إذا نزلت نازلة على المسلمين فمفهوم فتح القدير أن قنوت النازلة نسخت ولا يؤخذ بمفهومه، قال فإن العيني نقل في شرح الهداية
عن الطحاوي أن قنوت النازلة جائزة عند أبي حنيفة رحمه الله، ثم في عامة كتبنا أن قنوت النازلة في الفجر فقط، وفي بعضها أنها في الصلوات الجهرية، وفي بعضها مثل الغاية شرح الهداية في أنها الصلوات الخمسة والله أعلم أنه من أصل الكتاب أو من سهو الناسخين، وأما كونها قبل الركوع أو بعده فروايات الفقه مختلفة. وادعى الشوافع أن القنوت في الفجر، ونقول: إنها في النازلة لا في تمام السنة وكذلك يقول بعض الرواة كما في البخاري وأما رفع اليدين في أثناء قراءة القنوت فروي عن أبي يوسف أنه كان يرفع كرفعهما في الدعاء، وروي الجهر به أيضاً عن أبي يوسف والأمران جائزان.
قوله: (قال أحمد وإسحاق) هذا مذهب أبي حنيفة.
باب ما جاء في ترك القنوت
أي إذا لم تكن نازلة وإلا ففي النازلة ثابتة اتفاقاً.
[402]
قوله: (أي بنى محدث) هذا حجة لنا، وقال الشافعية: إن المحدث جهراً وإتيانها في الخمسة وهذا تأويلهم.
باب ما جاء في الرجل يعطس في الصلاة
[404]
في رواية عن أبي حنيفة: أن المصلي إذا عطس بنفسه فحمد الله لا تفسد الصلاة، ولو شمّت غيره تفسد.
قوله: (بضعة وثلاثون ملكاً) ومع هذا لا يقول أحد بالاستحباب فإن نظر الفقيه ليس في الخصوصيات الجزئية، ولأنه لا بد من التعامل من السلف في ما يقال باستحبابه وما جرى التوارث على هذا، ولعل بعض طرق الحديث يومي إلى عدم انبغاء هذا الفعل فلا يتمشى على ما هو ظاهر الحديث.
باب ما جاء في نسخ الكلام في الصلاة
[405]
اتفقوا على نسخه والخلاف في تاريخ النسخ.
قوله: (زيد بن أرقم) هو صحابي مدني، ولم يثبت ذهابه إلى مكة قبل الهجرة النبوية فثبت أن نسخ الكلام في المدينة، وتأول بعض الشافعية مثل ابن حبان بأن المراد «بكنا نتكلم» أي معشر المسلمين ويرده اتفاق المفسرين على أن آية:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] مدنية، والقنوت هاهنا بمعنى الطاعة، وفي الإتقان: أن لفظ القنوت في جميع القرآن بمعنى الطاعة وأثبته بحديث مرفوع.
قوله: (والعمل عليه عند أكثر) أي الصحابة رضوان الله عليهم، وهذا خلاف ما قال النووي لأنه إمام الحديث.
باب ما جاء في الصلاة عند التوبة
[406]
وروية الحديث في صلاة التوبة سنده حسن وأما تعيين السور والقيود فلا أصل لها وليعلم أن بين التوبة والاستغفار فرقاً فإن التوبة هو ترك الإثم والعزم على الترك مع الندامة على ما فعل، وليس ذلك في الاستغفار وعلى هذا يمكن الاستغفار للغير بخلاف التوبة.
قوله: (ثم يقوم فيتطهر) .
باب ما جاء متى يؤمر الصبي بالصلاة
[407]
يؤمر الصبي بالصلاة قبل البلوغ للاعتياد كما هو نص حديث الباب إلا أنها غير واجبة عليه، وروي عن أحمد وجوب الصلاة عليه قبل البلوغ بعد عشر سنين، وإني رأيت في كتاب: أن الأبوين مأموران وجوباً بأن يأمرا الصبي بالصلاة بعد السنة التاسعة، وأما إذا احتلم الصبي فتجب عليه الصلاة، والبلوغ حقيقة بظهور آثاره وأما حكماً بعد خمسة عشرة سنة.
باب ما جاء في الرجل يحدث بعد التشهد
[408]
من سبقه الحدث بعد التشهد يجب عليه أن يتوضأ ويبني ويسلم، وإذا أحدث عمداً فعليه إعادة الصلاة، وتمسك الشيخ عبد الحق الدهلوي بحديث الباب على عدم ركنية السلام، وأقول: إنه إدخال المكروه تحريماً في أمر الشارع ولا يقبله أحد.
مسألة: إن طلعت الشمس في صلاة الفجر قبل السلام أو قبل سجود السهو لا يجب الإعادة، ويوافقه فتوى علي أخرجها الطحاوي ص (161) عن علي أنه إذا رفع رأسه من آخر سجدة فقد تمت صلاته الخ وأظن أنه بعد التشهد، ومعنى قوله: تمت صلاته» أنه سقط عنه التسليم.
باب ما جاء إذا كان المطر فالصلاة في الرحال
[409]
المطر من أعذار ترك الجماعة، ولكنه يفوض إلى رأي من ابتلى به في إدراك أنه متى يكون، عذراً ومتى لا يكون في حديث مرفوع:«إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال» وقال محمد بن حسن: إن النعال جمع نعل أي الأرض الصلبة، وهذا المعنى ثابت في اللغة.
قوله: (وابن الشاذكوني) كان أحمد بن حنبل غير راضٍ عنه وأمر الناس: لا تأخذوا عنه، الحديث، وأيضاً أمرهم: لا تأخذوا عن يحيى بن معين، ووجه جرحه في ابن معين توريته في مسألة خلق القرآن حين ابتلي به، والعجب من المتأخرين أنهم تأولوا في جرح أحمد في ابن معين. . . . ولم يتأولوا في الجرح في حق إسماعيل بن حماد حفيد أبي حنيفة حين قيل فيه كما قيل في ابن معين،
وقد قال الأنصاري تلميذ زفر: منذ بنيت بصرة ما دخل فيها أحد أذكى من إسماعيل بن حماد، ووجه جرح أحمد فيه أنه كان قاضي بصرة ولم يساعد أحمد حين ابتلي بالبلية بيد المأمون.
باب ما جاء في التسبيح في أدبار الصلاة
[410]
وردت الأذكار بعد الصلاة، وسيأتي حديث في الترمذي يدل على الذكر بعد التسليم وحسنه الترمذي وأعله النووي في كتاب الاستذكار.
قوله: (في دبر كل صلاة) قال الحافظ ابن تيمية: إن دبر الشيء جزؤه، وقال: يكون الدعاء قبل التسليم وبعد التشهد، وقاس على أن دبر الحيوان جزءه، أقول: قياسه غير صحيح، فإن دبر الصلاة الذي نحن فيه ظرف بخلاف دبر الحيوان فإنه ليس بظرف، وغرضه إدخال الأذكار في داخل الصلاة، وأما ذكر حديث الباب فثبت بأوجه منها: ما في الطرق المشهورة «أن سبحان الله ثلاثة وثلاثين مرة، وكذلك الحمد الله أكبر، وتمام المائة كلمة التوحيد، أو بالله أكبر أربعة وثلاثين مرة» ومنها: أن كلا من الثلاثة خمسة وعشرين مرة، وخمسة وعشرين كلمة التهليل لإتمام المائة» ، وفي طريق سنده أيضاً قوي: أن كلاً من الثلاثة أحد عشر مرة وأقول: إنه وهم الراوي قطعاً، فإن شيخه لما ذكر: سبحان الله والحمد الله، والله أكبر، ثلاثة وثلاثين مرة زعم أن كلاً منها أحد عشر مرات، والحال أن كل واحد منها كان ثلاثة وثلاثين مرة كما هو المشهور في طريق كل واحد من الثلاثة عشر مرات ولكنه سنده ضعيف، وأصح ما في الباب أن يكون كل منها ثلاثة وثلاثين مرة، وإتمام المائة بكلمة التوحيد وليعلم أن الهيأة الاجتماعية برفع الأيدي المتعارفة في العصر بعد المكتوبة نادرة في زمانه عليه الصلاة والسلام، وثبت بعد النافلة من الاستسقاء وواقعة في بيت أم سليم.
قوله: (حسن غريب) حسنه الترمذي وغربه مع أنه حديث الصحيحين لأن في سنده خُصَيْفاً وهو من رواة الحسان.
باب ما جاء في الصلاة على الدابة في الطين والمطر
[411]
تجوز النافلة على الدابة، وأما المكتوبة فلا تصح على الدابة إلا للمطلوب، ووسعوا في نجاسة كانت على السرج بأن الصلاة تصح معها، ثم يجب استقبال القبلة عند التحريمة عند الشافعية ويستحب عندنا، وأما مسألة العجلة والمركب الدخاني فمرت بتفصيلها.
قوله: (فأذن رسول الله. . إلخ) قال النووي: يدل الحديث على أنه عليه الصلاة والسلام أذن بنفسه في هذه الواقعة وقال الحافظ: سها النووي فإن في بعض طرق الحديث أمر بلالاً ليؤذن، وقال السيوطي في حاشية السنة: إنه عليه الصلاة والسلام أذن في واقعة أخرى وأتى برواية من طبقات ابن سعد.
قوله: (فنقدم على راحلة) قال أبو يوسف وأبو حنيفة: لا يجوز الاقتداء على الدابة لأن الله تعالى ذكر الجماعة والاصطفاف في صلاة الخوف حين الإمكان بقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] الآيةُ وعند الاشتداد لم يذكر إلا بقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً} [البقرة: 239] الآية: أي كيف ما تيسر فرادي، وجوز محمد كما في صلاة الخوف في الهداية، وظاهر حديث الباب
يؤيده إلا أنهما جوزا إذا كان المقتدىوالإمام على دابة واحدة، وأما جواب الحديث من جانب الشيخين أنه عليه الصلاة والسلام تقدم وصلى منفرداً وأما تقدمه فلكونه أفضل كما هو الدأب من تقديم الأفضل في الموضع والمقام، وفي فتح القدير إذا لزمت سجت التلاوة لهم أن يصنعوا هيأة الجماعة في الحقيقة حتى لو ظهر كون الإمام محدثاً لا إعادة على القوم، وأقول أيضاً: ربما يعبر بأنه صلى بهم ولا يكون صمة اقتداء وإمامة بال الاشتراك في الأداء في موضع منها ما في مصنف ابن أبي شبيبة: أنه عليه الصلاة والسلام أذن في واقعة سفر بالصلاة في الرحال فصلى النبي صلى الله عليه وسلم في رحله والصحابة في رحالهم، وعبر الراوي فيها يصلي بنا وكذلك ما في مسلم ص (123) في واقعة القفول من تبوك حين أمَّ عبد الرحمن بن عوف الناس وكان عبد الرحمن إماماً في تمام الصلاة قطعاًُ فعبر الراوي في بعض الطرق يصلي بنا النبي صلى الله عليه وسلم، وأما حملع على الواقعتين فلا، وكذلك تعبيرات أخر مصل هذا المحمل في مصل هذا الحديث الذي غريب ومختلف فيه لا بأس فمراده أنه عليه الصلاة والسلام كان حاضراً فيهم لا أنه كان إماماً، وأما إسناد حديث الباب ففيه عمر بن الرماح قيل: ثقة، وقيل: ضعيف، وأما الحديث فضعفه البيهقي والعقيلي ووثقه أبو بكر ابن العربي، وأما العقيلي فمن الأقدمين فأكثر المحدثين مضعفون، ومن الذين يثبتونه عبد الحق الإشبيلي صاحب كتاب الأحكام وغربه الترمذي.
باب ما جاء في الاجتهاد في الصلاة
[412]
قوله: (حتى انتفخت. . إلخ) الانتفاخ كان إلى سنة كما روي عن عائشة في مسلم أنه عليه الصلاة والسلام كان يجتهد إلى سنة. . إلخ، ويتوهم مما أخرجه أبو داود بسند قوي عن ابن عباس: أن الانتفاخ كان إلى اثنى عشر سنة يجب أن يتأول فيما روي عن ابن عباس، وفي الصحيحين: نزلت أولاً أي خمسة آيات: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] ثم نزلت سورة المدثر، وفي الإتقان عن ابن عباس بسند قوي نزلت بعد المدثر النون ثم المزمل فنسخ الاجتهاد، وفي الصلاة حين نزل آخر سورة المزمل وكان أمر بالاجتهاد فيها حين نزل أول المزمل نزل آخر المزمل في مكة لما روي عن عائشة في
مسلم كما مر، وقال بعضهم: نزل آخرها في المدينة، ووجه ما قاله أن فيها ذكر الزكاة وأداء الزكاة في المدينة، وأقول: لا يلجئ هذا الوجه إلى أن آخر المزمل مدنية فإن يمكن أن نزلت آية الزكاة في مكة بدون ذكر النصاب ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بالنصب، وظني أن أكثر الأحكام نزولها في مكة وإجراؤها في المدينة.
قوله: (قد غفر لك ما تقدم إلخ) هاهنا سؤالان:
أحدهما: ما المراد بالذنب؟ فقيل: إن المراد خلاف الأولى، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وأقوال أخر، ثم اعلم اختلفوا في صدور الصغائر من الأنبياء، فقال الأشعرية: يجوز صدورها من الأنبياء بعد النبوة أيضاً، ونقل تقي الدين السبكي: أن الماتريدية لا يجوزون صدورها من الأنبياء.
والثاني: أن الأنبياء الآخرين ما أخبروا بعفو الذنوب وأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مع أن جميع الأنبياء معفوون، فالجواب أن الغرض من هذا استعماله عليه الصلاة والسلام للشفاعة الكبرى في المحشر، فلذا أخبره الله تعالى بغفران ما تقدم وما تأخر.
قوله: (أفلا أكون) قال الزمخشري: هاهنا بتقدير الجملة فإن مقتضى همزة الاستفهام صدارة الكلام، ومقتضى الفاء توسط الكلام فتقدر جملة، ويكون التقدير: أأترك الصلاة فلا أكون عبداً شكوراً؟ فعلم أن صلاته عليه الصلاة والسلام شكراً لله تعالى.
باب ما جاء أن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة
[413]
في رواية: «أن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة» وفي رواية: «أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة القتل بدون حق» فحمل العلماء الأولى على حقوق الله والثاني على حقوق العباد.
قوله: (فيتكمل بها. . إلخ) اختلفوا في تكافئ النوافل الفرائض، فقيل: لا تكافأها ولو صلى النافلة مدة العمر فمراد الحديث على مشربهم أن النوافل تكافئ ما نقص من دواخل الصلاة، لا أصل الصلاة وقيل: إنها تكافئ الفريضة ثم في حديث: «أن سبع مائة نافلة تكافئ فريضة واحدة» ، وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام ملك العلماء وهو من كبار الشافعية: إن سياق ما في رواية أخرى أخرجها أبو داود وأن النافلة تكافئ الفريضة فإن فيها ذكر الزكاة أيضاً وليس في الزكاة دواخل من السنن والمستحبات التي تكافئها التطوع.
أقول: يدل حديث الباب في إثبات مرتبة الواجب القائل بها الأحناف.
باب ما جاء في من صلى في يوم وليلة ثنتي عشر ركعة من السّنة وما له من الفضل
[414]
المراد بالذِّكر السنن الرواتب، ونسب إلى مالك بن أنس عدم انضباط عدد السنن، وقالت جماعة منهم ابن تيمية وابن قيم: إن السنن القبلية للجمعة ليست بمغنية، وقالا: لم يصح فيه شيء، وعندنا وعند الشافعية السنن مؤقتة إلا أننا نقول: بثنتي عشر ركعة، والشافعية بعشرة ركعات والخلاف في قبلية الظهر، فإنهم قالوا بركعتين، وقلنا بأربع ركعات، ومن الطرفين كلام، وقالوا: إن الاربع
المذكورة سنن فيء الزوال، وقال الأحناف: إن الركعتين اللتين زعمتم ركعتا التحية، وهكذا اعتذروا، وقال الحافظ ابن جرير الطبري: إن أكثر سنته عليه الصلاة والسلام أربع ركعات والأقل ركعتان ولا ريب في ثبوتهما، ودليل الشافعية حديث، ولنا أيضاً حديث، وحديث الباب لنا، وسيأتي لنا دليل عن علي قوي غاية القوة، وأقول: قول ابن جرير هو الصواب فإنه لا يمكن إنكار أحدهما، وأما دليل أكثر عمله عليه الصلاة والسلام على الأربع فما في سنن أبي داود ص (188) بسند قوي، وفي مصنف ابن أبي شيبة أن أكثر الصحابة كانوا لا يدعون أربعاً قبل الظهر، وسيفصح الترمذي عن قريب بأن جمهور الصحابة مع الأحناف.
قوله: (عن أم حبيبة) هذا الحديث دليل الأحناف، حسنه الترمذي وصححه.
باب ما جاء في ركعتي الفجر من الفضل
[416]
ركعتان قبل فريضة الفجر آكد التطوعات، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة وجوبهما وقال بوجوبهما، الحسن البصري كما في فتح الباري، وبعض مسائل الحنفية دالة على الوجوب مثل عدم جوازهما قاعداً، وأما قضاءهما بعد الطلوع بلا فرض فهو الصواب للحنفي كان محمد يقول بقضاءهما
منفرداً بعد الطلوع قبل الزوال وعنهما أيضاً روي لا بأس بقضاءهما، وأما [ما] اشتهر من عدم القضاء للسنن عند الأحناف فالمراد أن قضاءها بعد خروج الوقت ليس بآكد كتأكيده في الوقت كما في العناية، وفي الدر المختار قضاء الفرض فرض، وقضاء الواجب واجب وقضاء السنن سنة فلا يتمشى على ظاهر ما زعم.
قوله: (ركعتا الفجر. . إلخ) المشهور أن المراد بهما سنتا الفجر، وأما اللفظ فصالح لركعتي الفريضة أيضاً.
باب التخفيف في ركعتي الفجر والقراءة فيهما
[417]
من عادته عليه الصلاة والسلام تخفيف القراءة في سنتي الفجر، وعن ابن عمر: أصغيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أربعاً وعشرين مرة فكان يقرأ فيهما سورة الإخلاص والكافرون، قال ابن تيمية: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ صلاة الليل بركعتين خفيفتين، ويتم بركعتين خفيفتين، وهما ركعتا الفجر، وجعل في ابن ماجة حديث الباب في ركعتي المغرب وأعله المحدثون، وسمَّى ابن تيمية سورة:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] بسورتي الإخلاص، قال في البحر ما روي عنه عليه الصلاة والسلام من السور مستحبة ويداوم عليها إلا مرة أو مرتين كيلا يهجر غيره المقتدون.
مسألة: في القنية أن ضم السورة في الفرائض واجب، وكذلك في الواجبات، وأما في السنن فسنة، وكذلك في النوافل، وقال مالك بن أنس: لا يضم السورة في ركعتي الفجر ولنا عليه حجة كثير من الأحاديث، وفي الطحاوي تطويل القراءة في ركعتي الفجر عن أبي حنيفة، أقول: لعله فاته حزب بالليل فأتى به في ركعتي الفجر، وليس هذا فعله مستمراً كما يدل قوله: وربما قرأت. . إلخ أي قلما قرأت إلخ.
باب ما جاء في الكلام بعد ركعتي الفجر
[418]
في بعض كتبنا: أن يعيد الركعتين لو تكلم بين الركعتين والفريضة، وفي بعضها عدم الإعادة، وكون الكلام غير مرضي والمختار الثاني، وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق، ولا وجه للإعادة، وأما جواب حديث الباب على المختار فبأن كلامنا لا يقاس على كلامه عليه الصلاة والسلام، وفي مدونة مالك أيضاً جعل الكلام غير مرضي ونقله عن جماعة من السلف، وأما مالك فقال: لم يثبت كلامه عليه الصلاة والسلام بين الركعتين والفريضة، وقال: إن الثابت هو الكلام بين التهجد وركعتي الفجر ولكنه يخالفه روايات الصحيحين الدال على كلامه عليه الصلاة والسلام بين الركعتين والفريضة فلعله أعلها، وأما المحدثون فقالوا بثبوت الكلام في الموضعين.
باب ما جاء لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتين
[419]
هكذا مذهبنا، وجوز الشافعية النوافل في هذا الوقت، وتكلموا في ثبوت حديث ابن عمر، وأما ابن دقيق العيد فقال: إن بعض الأحاديث تدل على مذهب الأحناف فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا واشربوا إذا أذن بلال، فإن بلالاً يؤذن بليل، ليرجع قائمكم وينبه نائمكم حتى يؤذن ابن أم مكتوم» ، فدل قوله:(ليرجع قائمكم) أن أذان ابن مكتوم خاتمة النافلة ومانعها، واستنباطه هذا صحيح بلا ريب، وفي كتبنا أنه إذا صلى ركعتين بنية صلاة الليل ثم بدا أنه صلى في وقت الفجر فهل تجزئان عن سنتي الفجر أم لا؟ وقيل: بالإجزاء، وقيل: لا.
باب ما جاء في الاضطجاع بعد ركعتي الفجر
[420]
قيل: الاضطجاع سنة، وهو قول الشافعية، ونقول بالإباحة، ونومه عليه الصلاة والسلام لم يكن على طريق العبادة، أقول: لو تأسى واقتدى أحد بعبادته عليه الصلاة والسلام من الضجع فلا بد من أنه يحرز الثواب، وأنكر مالك بن أنس الضجع بعد سنتي الفجر، وقال: إنه كان بعد التهجد قبل الركعتين، وبوب مالك في موطأ. على الضجع بعد التهجد، وقد ثبت عنه إنكاره بعد ركعتي الفجر، وقال ابن حزم ببطون صلاة من ترك الاضطجاع بعد الركعتين، وفعله عليه الصلاة والسلام ثبت
بلا ريب، وأما قوله عليه الصلاة والسلام فأخرجه أبو داود وصححه ابن حزم، وأخرجه الترمذي وصححه، وفي سنده عبد الواحد بن زياد من رواة الحسان بحسب المختار.
باب ما جاء إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة
[421]
قال الظواهر: من كان يصلي فأقيمت انقطعت صلاته وليس هذا عند أحد، وأما إذا أقيمت فلا يشرع في صلاة إلا في سنتي الفجر عند الأحناف والموالك، ومذهب الأحناف أن يأتي بهما بشرط وجدان الركعة وأدائهما خارج المسجد، وأما الموالك فقال مالك: يأتي بهما خارج المسجد بشرط رجاء وجدان الركعتين، وفي الجلاب وهو من معتبرات الموالك: أن يأتي بهما وإن لم يدرك إحدى الركعتين، وأما مشائخ الأحناف وسعوا من وجهين، فوسع الطحاوي في جواز أدائهما داخل المسجد بشرط الحائل بين موضع أدائهما وصفوف الجماعة، أو تكون الجماعة في المسجد الصيفي ويؤديها في الشتوي أو عكسه، وقال في مشكل الآثار في الحصة التي لم يطبع: يأتي بهما داخل المسجد عند ضرورة شديدة فالحاصل أن أدائهما داخل المسجد ليس أصل مذهبنا، وكذلك يروي مذهبنا غيرنا أيضاً مثل القسطلاني، ولم يثبت أداء السنن مطلقاً داخل المسجد عنه عليه الصلاة والسلام إلا مرة أو مرتين أداء سنتي المغرب في غير المسجد النبوي، ثم ركعتا الفجر إما واجبتان كما روي شاذاً فلا محتاج إلى الجواب، أما حجتنا في أداءهما بعد الإقامة فعمل العبادلة الثلاثة ابن عمر وابن عباس وابن مسعود وعمل أبي الدرداء بأسانيد قوية في مصنف ابن أبي شيبة: أن تسعاً من السلف التابعين كانوا يأتون بهما
بعد الإقامة، وفي سبعة تصريح الأداء خارج المسجد، وفي اثنين يتوهم أداءهما داخل المسجد وجوابه عندي موجود، وأما حديث الباب عن أبي هريرة فمختلف فيه في الرفع والوقف فممن وقفه حماد بن سلمة في مسلم ص (247) ولكن أخرجه مرفوعاً وموقوفاً فلعله سلم رفعه ووقفه حماد بن زيد في معاني الآثار ص (219) ، ونقل الشافعي في كتاب الأم من قول أبي هريرة في الموضعين، ووقفه ابن عُليَّة في مصنف ابن أبي شيبة، وإسماعيل بن مجمع في علل أبي حاتم: وقال أبو حاتم والصواب أنه موقوف كما في تلخيصه، ولكنه روي بطريق إلا أن دأب المحدثين أن حكمهم بالوقف يكون من حيث جميع الأسانيد لا من سند واحد، ووضعه البخاري في الترجمة ولعله تأثر من الاختلاف رفعاً ووقفاً، وفي تذكرة الموضوعات لمحمد بن ظاهر المقدسي: الصواب أنه موقوف وهو من حفاظ الحديث إلا أنه مال إلى التصوف فَأُخِذَ فيه، وتكلم البيهقي في معرفته السنن والآثار في الوقف والرفع وغرضه إثبات الرفع، وفيه أن التلميذ سأل حماد بن سلمة هل هو عنه عليه الصلاة والسلام؟ قال حماد: نعم، ولكن حماداً وقفه في مسلم، ولكني متردد في ما نقل البيهقي فإن السائل عن حماد هو ابن عيينة، والشافعي من أخص تلامذة ابن عيينة ولما رفعه حماد عند ابن عيينة كيف لا يرفعه ابن عيينة، وكيف لا يطلع عليه الشافعي؟ والشافعي مع كون قوله الجديد ما هو مختار الشافعية الآن موافقاً لما روي عن أبي هريرة لم يرفعه مع أن الرفع يفيده، وأما قوله القديم فموافق لنا، وأخرجه الطحاوي رفعاً ووقفاً ومال إلى الوقف، وبوب ابن أبي شيبة في مصنفه على هذه المسألة، وصنيعه في موضع الباب يدل على الوقف، وأيضاً لم يرفعه حيث أخرجه تحت الباب، وممن رفعه أبو حنيفة في مسنده للخوارزمي، وإني رأيت في حاشية مسند الخوارزمي المطبوع بدلهي أن بعض الرواة يروون عن أبي حنيفة: إلا ركعتي الفجر إلخ. وأما أنا فوجدت عنده نُسَخ المسند أبي
حنيفة وما وجدت هذه الزيادة عن أبي حنيفة، وصيغ مسلم دال على الرفع وأورد الترمذي والنسائي وأبو داود بصورة الرفع ورفعه البخاري في جزء القراءة، وبعض الرواة يروونه رفعاً ووقفاً منهم سفيان بن عيينة كما حررت مع التردد مني، وإسماعيل بن مجمع وقفه في علل أبي حاتم، وذكر الترمذي من الرافعين أيوب وورقاء. . إلخ، أقول: وقفه عمرو بن دينار آخراً كما في حاشية الأم وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن عيينة والإمام الشافعي وغيرهم، وفي العمدة عن صحيح ابن خزيمة: فنهى أن تصليا في المسجد فإن لم يكن سهواً من الناسخ فهو فاصل في المسألة.
قوله: (وفي الباب عن عبد الله بن عمرو إلخ) أقول: إن هذا لعله سهو الناسخ، فإني لم أجد الحديث عن عبد الله بن عمرو بل عن عبد الله بن عمر كما في أفراد دارقطني، وعن ابن عباس
في المعجم الصغير للطبراني، وعن ابن سرجس في الصحيحين، وعن أنس في صحيح ابن خزيمة، ثم في السنن الكبرى للبيهقي، وفيه:«إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة إلا ركعتي الفجر» ، بسند حجاج بن نصير الفساطيطي عن عباد بن كثير عن عمرو بن دينار، وأما حجاج بن نصير فمختلف فيه، أخذ عنه الترمذي في كتاب الجمعة، ووثقه ابن معين، وقال ابن عدي في الكامل: لم أجد عنه منكراً، وأما عباد بن كثير فاثنان رملي وبصري، والأول ربما يحسن أحاديثه، وأما الثاني فساقط وكنت ظننت أن راوي الحديث هو الأول، وأوفرت القرائن ثم رأيت في كشف الأحوال في نقد الرجال أن الفساطيطي يروي عن الرملي ولكنه لرجل متأخر ولم يحل على كتاب، وقال البيهقي: لم أجد لهذه الزيادة أصلاً، ونقل عنه أنها موضوعة، أقول: لا يمكن قول الوضع بل حكم الإدراج وهو مراد البيهقي وفي كامل أبي أحمد بن عدي روى حديث الباب عن يحيى بن نصر بن حاجب وفيه: «ولا ركعتي الفجر» ، وحسنه الحافظ في الفتح، وصححه السيوطي في التوشيح على البخاري، أقول: كيف حسنه الحافظ والحال أن من عادة ابن عدي في كامله إخراج ما يكون منكراً عن الراوي؟ ويحيى بن نصر مختلف فيه، وأقول: إن زيادة «إلا ركعتي الفجر» ، وزيادة:«ولا ركعتي الفجر» مدرجة من الرواة، ثم أقول: إن مشار النهي أداء ركعتي الفجر داخل المسجد، ولي في هذه الدعوى رواية أخرجها العيني في عمدة القاريء نقلاً عن صحيح ابن خزيمة عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوماً قبل أن أقيمت الصلاة فرأى رجالاً يصلون الركعتين فقال: أصلاتان معاً؟ فنهى أن تصليا في المسجد. إلخ، فيكون الحديث صحيحاً على شرط ابن خزيمة، فعلم أن المشار هو أداؤهما داخل المسجد، وأخرجه في موطأ مالك ص (44) مرسلاً وليست فيه زيادة «فنهى أن تصليا» ، وكذلك أخرجه في مسند البزار وليست الزيادة فيه أيضاً، وأما مؤيدات ما
في صحيح ابن خزيمة فأخرج الدارقطني في أفراده حديث الباب عن ابن عمر مرفوعاً بسند يحيى بن ضحاك بن عبد الله البابلتي ربيب الأوزاعي، وكان يروي من كتاب الأوزاعي وأخذ عنه البخاري مطلقاً في كتاب الحج، وعندي أنه من رواة الحسان، وحكي: لما بلغ ابن معين إلى الشام وكان البابلتي ثمة فأهدى إلى ابن معين النقد من الدراهم والطيب والحلوان فأخذ ابن معين الحلوان والطيب ورد النقد، ثم قال رجل ليحيى بن معين: ما تقول في يحيى البابلتي؟ قال: والله لهدية طيبة ولكنه والله ما سمع عن الأوزاعي شيئاً.
وراوى الحديث المرفوع ابن عمر وأما فتواه ففي موطأ مالك ص (45) ومعاني الآثار: أن تصليا خارج المسجد بعد الإقامة وكذلك راوي حديث الباب بمضمونه ابن عباس، وأفتى بأداء الركعتين خارج المسجد كما في معاني الآثار ثم نعتبر باعتبار الأصول هل نجد فرقاً بين الداخل والخارج؟ فأقول: في نص الحديث فرق بين الداخل والخارج، فإن في حديث مرفوع: «إذا كنت في المسجد
ونودي للصلاة فلا تخرج حتى تصلي معهم» إلخ، جعل مناط الحكم من يكون داخل المسجد ومن يكون خارجاً عنه ليس له هذا الحكم، وكذلك في حديث مرفوع:«إذا كان المصلي في المسجد يدعوا له الملائكة حتى خرج» إلخ، فأدار الحكم على داخل المسجد وأما في مسائل الفقه فكثير من أن تحصى مثل كراهة الجماعة الثانية ونوم المعتكف وغيرهما.
قوله: (عياش بن عباس إلخ) هذا السند غير السند عمرو بن دينار، وما سبق من القطعات كان بسند عمرو بن دينار ولو صح عن عياش ليكون أفيد للشافعية، ولكني متردد في حديث عياش، وأخرجه الطحاوي ص218 أيضاً مرفوعاً ورجاله ثقات إلا أبو صالح كاتب الليث روى عنه البخاري في المتابعات، فلا يكون أقل من رواة الحسان، وأخرجه أحمد بن حنبل في مسنده وفي سنده عن عبد الله بن عياش، وفي الطحاوي عن عبد الله بن عياش عن أبيه وابن عياش صدوق وقد يغلط وفي سند المسند بدل أبي سلمة أبو تميم الزهري، وفي رجال مسند أحمد أيضاً أبو تميم، فلا يتوهم سهو الناسخ، وأبو تميم مجهول فصار حديث عياش بن عباس متردداً فيه، وبحث الطحاوي مطنباً، وحاصله أن مزعوم الشافعية أن مناط حكم حديث الباب شروع الركعتين بعد الإقامة، والحال أن إنكاره عليه الصلاة والسلام مثل هذا الإنكار ثابت على من شرع بعد الإقامة وقبل الإقامة وبعد الفراغ من الفريضة، أما بعد الإقامة فحديث الباب وأما قبلها فما في موطأ مالك، وأما بعد الفراغ عن الفريضة فما سيأتي من حديث، فعلم أن مناط الحكم ليس ما زعمتم بل شيء آخر، وهو عدم الفصل مكاناً والخلط مع الصفوف، وأتى بحديث:«لا تجعلوا هذه الصلاة كصلاة قبل الظهر وبعدها، واجعلوا بينها فصلاً» وسند الحديث قوي أخرجه أحمد أيضاً في مسنده وغيره أيضاً بألفاظ أخرجوها تحتاج إلى بيان الدقائق العربية التي ليس هذا محلها، وفيه حكم طرداً وعكساً وهو إثبات المطلوب ونفي الضد ويرد على مختار الطحاوي أنه لو كان المراد وما زعمت من ذلك الحديث للزم عدم ضرورة الفصل
مكاناً بين سنن الظهر وفريضتها مع أنه لم يقل أحد بهذا، نعم مسألة كراهة مخالطة الصفوف صحيحة في نفسها كما في مسلم في باب الجمعة إلا أن حمل هذا الحديث على هذه المسألة غير صحيح، وبالجملة بحث الطحاوي صحيح ومحمله ظاهر، ومحمله عندي أن الفصل أعم من أن يكون زماناً أو مكاناً، ولا يرد سنن الظهر فإن عدم الفصل زماناً صحيح فيها وجائز، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأداء الركعتين بعد المغرب في البيت لما في سنن النسائي بسند قوي:«عليكم بهذه الصلاة في البيوت» ، فدل على أن المطلوب من حديث:«لا تجعلوا هذه الصلاة كصلاة» إلخ الفصل زماناً ومكاناً، ثم أقول: إن للإقامة أيضاً بعض دخل في مناط النهي.
باب ما جاء فيمن تفوته الركعتان قبل الفجر يصليهما بعد صلاة الصبح
[422]
اشتهر فيما بين المصنفين أنه لا قضاء للسنن عند أبي حنيفة، والحق أن للسنن قضاءً ولكنه أخف بعد خروج الوقت كما في العناية، وإذا فاتت ركعتا الفجر فنقول: لا يقضيهما بعد طلوع الشمس وهو القول القديم للشافعي، وأما جديده فهو أن يصلي قبل طلوع الشمس، وأما مالك وأحمد فموافقان لأبي حنيفة، وقال محمد بن حسن: يقضيهما بعد طلوع الشمس قبل الزوال وهو المختار، فإن أبا حنيفة، وأبا يوسف أيضاً لا يمنعان من القضاء بعد طلوع الشمس، وفي الدر المختار قضاء الفرض فرض، وقضاء الواجب واجب وقضاء السنن سنة.
قوله: (عن جده) أي جد سعدٍ، وفي جده اختلاف كثير، قيل: هو إنه قيس، وقيل: قيس بن عمرو، وقيل: قيس بن فهد، وقيل: قيس بن زيد.
قوله: (مهلاً يا قيس إلخ) قوله عليه الصلاة والسلام هذا إما قبل شروعه في الركعتين، وإما حال شروعه فهيما، وإما بعد أدائه إياهما، وظني أنه بعد أدائهما لا حال شروعه كما يدل الذوق السليم، ولا قبل شروعه، فإن نص الحديث يدل على أنه قد شرع فيها، ومهلاً بمعنى اترك واكفف، ولعله أراد الذهاب إلى بيته فقال عليه الصلاة والسلام: اكفف، وليس المراد مهلاً أي انقص صلاتك.
قوله: (أصلاتان معاً) هذا الحديث يفيدنا في نفي الجمع بين الصلاتين في وقت واحد فإن مدلول اللفظ الإنكار على الجمع بين الصلاتين، وأما كلامه عليه الصلاة والسلام فمن قبيل إلزام
المخاطب بما لا يلتزمه، لا أنه عليه الصلاة والسلام زعم أنه يصلي فريضةً أخرى، بل زعمه عليه الصلاة والسلام أيضاً أنه يصلي السنة، وإنكاره عليه الصلاة والسلام ثابت مثل هذا في أحاديث، منها ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه بلفظ:«أتصلي الصبح مرتين» ، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن سرجس:«بأية صلاتيك اعتددت» ، ومنها ما في حديث عبد الله بن بحينة قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الصبح أربعاً» وحديث الباب مرسل، ولنا ما روي عن ابن عمر: لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس. إلخ، وقال بعضهم: الحديث متواتر لأنه مروي عن قريب من عشرين صحابياً.
قوله: (فلا إذاً. . إلخ) قال العلامة محي الدين الكافيجي: إن (إذن) التي هي ناصبة المضارع ويقال: إنها من الحروف مغيرة من إذا الشرطية، ويجوز كتابتهما بالنون أي إذن في حديث الباب ورد:«فلا إذاً» وفي ابن ماجه: (فسكت النبي صلى الله عليه وسلم)، وفي مصنف ابن أبي شيبة: فلم يأمره ولم ينهه، وفي بعض الرويات: أنه عليه الصلاة والسلام ضحك، واختلف أهل المذهبين في شرح لفظ الباب:«فلا إذاً» فقال، الشافعية: معناه فلا بأسَ إذن، أي يجوز أداؤهما بعد الفجر قبل الطلوع، وقال، الأحناف: معناه فلا تصلي مع هذا، العذر أيضاً، أي، «فلا إذاً» ، للإنكار، وكان يختلج في صدري أن الفاء صحيحة وفصيحة على قول الشافعية، أما على قول الأحناف فلا تكون مربوطة فنظرت هل أجد نظيراً أم لا؟ فوجدت في الآية {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور: 15] قال الزمخشري: إنه إنكار وقد دخلت الفاء، ثم تتبعت الأمثلة لمثل هذه المحاورة أي استعمال مثل «فلا إذن» للإنكار فوجدت أمثلة، منها ما في مسلم المجلد الثاني: أن نعمان بن بشير وهب لابنه من الزوجة الثانية حصة ما له فقالت له زوجته: إني لا أرضى ما لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم، شاهداً على هبتك فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فقال النبي صلى الله عليه وسلم «وهبت لغير هذا لابن من النبين أم لا فقال لا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فلا إذن» . . إلخ، فاستعمل
اللفظ للإنكار والنهي، ومنها ما في معجم الصحابة للبغوي استعمال لفظ:«فلا إذن» للإنكار، وأمثلة أخر، فإذن شرحُنا نافذ، وتمسك الشافعية «بلفظ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم» ، وأقول: لما سبق الإنكار أولاً فكيف ما كان لا يدل على الإباحة والإجازة، وشبيه هذا ما في سنن النسائي عن عائشة قالت في حجة الوداع: صمت يا رسول الله وأفطرت، وقصرت وأتممت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد أحسنت يا عائشة، فظاهره يدل على أن الصوم والإتمام حسن في السفر، ولم يثبت في واقعة من وقائعه صلى الله عليه وسلم: والشيخين الإتمام في السفر واستمر أمره عليه الصلاة والسلام بالقصر في السفر بإقرار المحدثين، وأنكر الحافظ ابن تيمية جواز الإتمام في السفر، وعن ابن عمر مرفوعاً في العمدة: صلاة السفر ركعتان ومن ترك السنة كفر، وروايات أخر دالة على النهي عن الإتمام في السفر، فليس مراد قوله لعائشة:(أحسنت) إجازة الإتمام بل مراده إغمازه عليه الصلاة والسلام عما فعلت عن عدم علم بالمسألة، فكذلك هاهنا إغماض عن فعله عن عدم علم، ومن مستدلاتنا ما سيأتي من الحديث القولي وفعله عليه الصلاة والسلام حين رجع من غزوة تبوك، وكان إمام القوم عبد الرحمن بن عوف أخرجه أبو داود ص (20) باب المسح على الخفين وفيه:«فلما سلم قام النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الركعة التي سبق بها ولم يزد عليها شيئاً» انتهى، ورد أبو داود على من قال: من أدرك الإمام في الركعة المنفردة عليه سجدتا السهو.
باب ما جاء في إعادتهما بعد طلوع الشمس
[423]
ينبغي للحنفي أن يأتي بهما بعد طلوع الشمس قبل الزوال لما مر سابقاً، حديث الباب قوي
صححه الحاكم في المستدرك، ولعل في تلخيص المستدرك إقرار الذهبي بصحة الحديث، وإني تتبعت الحديث واجتمع عندي بعشرين طريقاً وما وجدت فيها ما ذكر الترمذي من المتن؛ خمسة في مسند أحمد، وخمسة في سنن الدارقطني، وثلاثة في السنن الكبرى للبيهقي، واثنان في صحيح ابن حبان، واثنان في مستدرك الحاكم، وواحد في جامع الترمذي واحد في تذكرة الحفاظ للذهبي، وواحد في السنن الكبرى للنسائي، ومدار كلها قتادة إلا أن بعضاً من الرواة يعبرون متن الحديث بمن أدرك من ركعة من الفجر قبل طلوع الشمس وفليصل ركعة بعد طلوع الشمس، والمراد من الركعة الصلاة لا الركعة الزائدة، ومراد الحديث ليس ما دعم الحافظ من لحوق هذا الحديث بما مر من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصلاة بعض التفصيل مر مني سابقاً، وبالجملة الحديث في حق سنتي الفجر لا الفريضة.
قوله: (إلا عمرو بن عاصم إلخ) هو من رجال الصحيحين.
قوله: (والمعروف) غرض المصنف إعلال الحديث، وأقول: لا يمكن إعلال الحديث لما رويت فإن في مسند أحمد عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة، وفي سنن الدارقطني والسنن الكبرى للبيهقي عن خلاس عن أبي رافع عن أبي هريرة، وفي بعض الكتب عن عزرة بن تميم عن أبي هريرة فلا يمكن إعلال الحديث المروي بثلاث طرق.
باب ما جاء في الأربع قبل الظهر
[424]
قال ابن جرير الطبري: الأربع والثنتان قبل الظهر ثابتة، والأكثر عملاً الأربع، أقول: لقد أخذ
ابن جرير في الكلام والدليل على أكثرية الأربع ما في أبي داود ص (178) عن عائشة كان يصلي أربعاً قبل الظهر في بيتي ثم يخرج فيصلي بالناس ثم يرجع إلخ.
قوله: (عن عاصم بن ضمرة) حسنه المصنف رحمه الله ونقل في هذا الكتاب توثيقه عن البخاري في أبواب الزكاة ص (79) باب زكاة الذهب، فقال: عن عاصم بن ضمرة عن علي وعن الحارث عن علي ثم قال: وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: كلاهما عندي صحيح، وصحح رواية ابن قطان المغربي في كتاب الوهم والإبهام وروى الحافظ عن علي بن أبي طالب أنه يرى التطبيق، وفيه عن عاصم بن ضمرة وحسنه الحافظ فثبت تقوية الحافظ رواية عاصم، وأما أهل المذهبين فلهم كلام يقول الشافعية: إن الأربعة هذه سنن في الزوال وقال الأحناف: إن الركعتين تحية المسجد أو تحية الوضوء، ولكن الحق لا يتجاوز كلام ابن جرير الطبري.
باب آخر
[426]
من فاتته الأربعة قبل الظهر يأتي بها بعد الفريضة، ثم لنا فيه قولان، قيل: يأتي بها قبل الركعتين البعديتين، وقيل: بعدهما وهو المختار لوفاقه الحديث.
قوله: (من صلى قبل الظهر أربعاً) حديث أم حبيبة يفيدنا في أربع قبل الظهر وصححه الترمذي
باب ما جاء أنه يصليهما في البيت
[432]
أداء السنن في البيت سنة وأفضل كما في الهداية، وهذا أصل المذهب، وأما أرباب الفتيا فأفتوا بأن الأفضل في المسجد لئلا يلزم التشبه بالروافض، فإنهم لا يأتون بالسنن، ولو تركت في المسجد يتوهم الناظر أن أهل السنة أيضاً يتركون، وأما في زماننا فيمكن الفتوى بأدائها في المسجد فإن الناس متكاسلون ولا يأتون بها في البيوت أن فاتتهم في المسجد، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فسنته المستمرة أداء السنن في البيت إلا في واقعتين في ركعتي المغرب، إحداهما: أنه عليه الصلاة والسلام ذهب إلى مسجد بني عبد الأشهل فصلى المغرب ثم صلهما فيه، وروى محمد بن نصر المروزي عن ابن عباس أن عباساً أرسله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرآه يصلي في المسجد بعد المغرب إلى العشاء، أقول هذا معلول فإن قصة ابن عباس مشهورة مروية بطرق تبلغ خمسين أو ستين وليست فيها هذه الزيادة في مسند أحمد: أن عبد الله بن أحمد سأل أباه أن بعض أهل كوفة، وهو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى أفتى بعدم جواز السنن في المسجد، قال أحمد: صدق، والله أعلم بالصواب.
باب ما جاء في فضل التطوع ست ركعات بعد المغرب
[435]
تسمى هذه الصلاة بصلاة الأوابين في عرف الناس ولم يصح فيها حديث وحديث، الباب أيضاً ضعيف والعمل به مع ضعفه، وصح الحديث في الأربع بعد العشاء، وفي الأربع قبله ضعيف وفي الأربع قبل الظهر والأربع بعدها صحيح، وكذلك في الأربع قبل العصر.
باب ما جاء في الركعتين بعد العشاء
[436]
هذه الصلاة من السنن الرواتب عندنا، حديث الباب يفيد الشافعية في الركعتين قبل الظهر، ولنا عن عائشة ما في أبي داود ص178.
باب ما جاء أن صلاة الليل مثنى مثنى
[437]
قال أبو حنيفة: إن الأفضل أربع بتسليمة في الملوين، وقال صاحباه بأفضلية الأربع بتسليمة بالنهار، والمثنى بالليل، وقال الشافعي بأفضلية مثنى مثنى في الملوين، وقال مالك بن أنس لا تجوز أربع بتسليمة بالليل وصورة الاختلاف من أراد أن يصلي أربعاً، وأما لو أراد أن يصلي ركعتين فقط فليس بمورد النزاع.
قوله: (صلاة الليل مثنى مثنى) هذه الجملة مفيدة للقصر، وقال الشافعية: إن القصر قصر الأفضلية، وقال الموالك: قصر الجواز، ولا يصح القصران على مذهب أبي حنيفة وقال تقي الدين بن دقيق العيد: إن القصر ليس بمنحصر في هذين القسمين بل قصر آخر أي قصر أقل ما يصح وما يجوز، وأقول: إن هذا القصر يراد به إذا لم تكن قرائن القصرين الأوليين من قوله عليه الصلاة والسلام أو فعله في أكثر الأحيان، ولم يثبت حديث ينص على أربع بالليل بتسليمة، وتمسك الأحناف في مذهب أبي حنيفة بحديث عائشة حديث الصحيحين: كان يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن. إلخ، وأقول: إنه ليس بحجة لنا، فإن الحديث مبهم ولا يدل على أنها بتسليمة واحدة بل هي محمولة عندي على هيأة التراويح في زماننا أي التسليمة على ركعتين ركعتين والترويحة على أربعة، ومر عليه أبو عمر في التمهيد، وقال في شرح الحديث مثل ما قلت، وإنما جمعت بين أربع لعدم الوقفة والترويحة على ركعتين، ثم وجدت في السنن الكبرى مرفوعاً: يصلي أربعاً فيتروح إلخ، ويدل على التسليم على ركعتين عن عائشة ما في مسلم ص254 يسلم بين كل ركعتين، وفي النسائي عن أم سلمة: يسلم على كل ركعتين، فلا يكون حجة لنا ناهضة فإن الرواة بعضهم يعبرون المراد مجملاً، وبعضهم يفصحون بالمراد ويذكرون التسليم على كل ركعتين والأولون لا يذكرون التسليم فلا يمكن الاستدلال بالإجمال، فالحاصل أني لم أجد ما يدل على مختار أبي حنيفة رحمه الله إلا ما روي عن ابن مسعود موقوفاً، ولكنه مرفوع حكماً
بسند قوي أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه: من صلى أربعاً بتسليمة واحدة بالليل عدلن بمثل قيام ليلة القدر، وإنما قلت: إنه مرفوع حكماً فإن ذكر فضل العمل لا يمكن لأحد بلا إخبار الشارع، ولهذا تتبعت الكتب لأجد الرواية عن أبي حنيفة مثل الصاحبين، ولكني لم أجد مع التتبع الكثير ولو وجدت عنه لرجحت ولو شاذة.
أجاب ابن همام عن حديث الباب بتأويلين:
الأول: أن لفظ مثنى ناف للواحد والثلاثة وأما الأربع فليست بداخلة تحته.
والثاني: أن معنى مثنى اثنان اثنان فيكون المجموعة أربع ركعات ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم أربعاً أربعاً كيلا يرفع القعدة على ركعتين ركعتين، أقول: يخالفه قول الزمخشري أن المراد من مثنى اثنان فقط لا اثنان اثنان، وهذا إذا كان اللفظ مكرراً، وأيضاً يخالف قول الشيخ ما ورد عن ابن عمر راوي الحديث تفسير المرفوع أنه سئل ما مراد من مثنى مثنى؟ قال: أن تسلم على كل ركعتين أخرجه مسلم في صحيحه (257)، ثم فيما فسر ابن عمر بحث لأنه ثبت عنه موقوفاً: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، أخرجه في معاني الآثار، وعمله بالنهار أربع ركعات بتسليمة واحدة، كما في معاني الآثار ص (198) : أن ابن عمر صلى قبل الجمعة أربعاً لا يفصل بينهن بسلام، وسنده صحيح فإن فهداً شيخ الطحاوي ثقة، وعلي بن معبد تلميذ محمد بن حسن من رواة الصحيحين ورواة الجامع الصغير، وسائر الرواة ثقات، وإن قيل: إنه يدل على أربع قبل الجمعة لا تظوع النهار مطلقاً قلت: إن في تلك الصفحة عن ابن عمر: أنه كان يصلي بالليل ركعتين وبالنهار أربعاً، وسنده قوي فإن رواته رواة الصحيحين إلا فهداً، وروي عن ابن عمر مرفوعاً أيضاً:«صلاة الليل والنهار مثنى مثنى» إلا أنه أعله الطحاوي والدارقطني وابن حبان وجمهور المحدثين، وقالوا: إن لفظ النهار وهم الراوي، وخالفهم البخاري، ويقوي لفظ النهار في خارج الصحيح، ثم أقول لدفع ذلك البحث: إن مراد ما قال ابن عمر هو القعدة على الركعتين لا السلام على ركعتين، وأما قوله لرجل سأل عن تفسير مثنى مثنى في مسلم ص (257) فالمراد به أن التسليم أولى وأفضل، والله أعلم وعلمه أتم فأذن دار المثنوية على القعدة عندنا وعلى التسليم عند الشافعية، وعلى هذا يقول الشافعية في الوتر: إن المثنوية لما كانت بالتسليم تكون الشفعة في الوتر أيضاً بالتسليم لا بالقعدة، لحديث عام:«صلاة الليل مثنى مثنى»
فيكون الوتر ثلاث ركعات بتسليمتين، فإذن يكون مضي الواحدة في «أوتر بواحدة» المنفردة (أكيلا) عند الشافعية، وأما عند الأحناف فمعناه الواحدة (إيك) .
قوله: (أوتر بواحدة) هذا اللفظ لا يدل على الوتر بركعة واحدة فإن لفظ الوتر محمول إلى الخارج وليس المراد الوتر لغة، فإن معناه اجعل صلاتك وتراً معهوداً في الشريعة بركعة أي بضم ركعة لمقدمة.
إن الأسماء الشرعية كانت في اللغة متعدية مثل القراءة والوتر والمسح وغيرها، فإذا نقلت إلى الشريعة صارت لوازم فإن المراد يكون منها المدلولات الشرعية، فإذا أردنا تعديتها نجعلها متعدية بواسطة الباء فالباء في:«أوتر بواحدة» «وامسحوا برؤوسكم» باء التعدية، فإن المسح كان متعدياً في اللغة، فإذا نقلناه إلى المعنى الشرعي صار لازماً أي إمرار اليد المبتلة فعديناه بالباء، ولا يتوهم أن في المعنى الشرعي أيضاً تعدياً، فإنه شبيه ما قيل: أن لا يعلمون، بمعنى: ليس لهم علم لازم، وكذلك فرق بين السميع صيغة الصفة المشبهة اللازم، والسامع صيغة اسم الفاعل المتعدي، ومر مني بعض كلام في هذه المقدمة في القراءة خلف الإمام.
قوله: (واجعل آخر صلاتك وتراً) هذا محمول على الاستحباب عند الجمهور، وفي متوننا من كان يثق بالانتباه يؤخر الوتر إلى آخر الليل.
باب ما جاء في وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل
[439]
صلاته عليه الصلاة والسلام بالليل في أصح الروايات بإحدى عشر ركعة، وفي بعض الصحاح ثلاث عشرة ركعة، وقال المحدثون: إن صلاة الليل كانت إحدى عشر ركعة إلا أن الراوي جمع بها ركعتي الفجر، الحديث: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالليل ثلث عشرة ركعة منها ركعتا الفجر وقيل أن الركعتين صلاة التحية، وقيل: هي الركعتين الخفيفتين قبل صلاة الليل أو بعدها، وقيل: هما ركعتا النفل جالساً بعد الوتر، وورد في رواية صلاته بالليل خمس عشرة وسبع عشرة ركعة أيضاً، وتردد فيهما المحدثون.
قوله: (ما كان يزيد في رمضان إلخ) هذه الرواية رواية الصحيحين، وفي الصحاح صلاة تراويحه عليه الصلاة والسلام ثماني ركعات، وفي السنن الكبرى وغيره بسند ضعيف من جانب أبي شيبة فإنه ضعيف اتفاقاً عشرون ركعة، وأما عشرون ركعة الآن إنما هو سنة الخلفاء الراشدين، ويكون مرفوعاً
حكماً وإن لم نجد إسناده قوياً، وفي التاتارخانية سأل أبو يوسف أبا حنيفة: هل كان لعمر عهد عن النبي صلى الله عليه وسلم حين قرر التراويح عشرين ركعة وأعلن بها؟ قال أبو حنيفة: لم يكن عمر مبتدعاً أي لا بد من كون عشرين ركعة مرفوعةً، قال المصنف لم تكن صلاته عليه الصلاة والسلام بالليل أقل من تسع ركعات، أقول: لم تكن أقل من سبع ركعات لحديث عائشة أخرجه أبو داود في سننه ص (200) : كان يوتر بأربع وثلاث، وست وثلاث وثمان وثلاث، وعشر وثلاث، وقال الحافظ ابن حجر: إن هذا الحديث أصح ما وقفت عليه في عدد الركعات.
قوله: (صلى من النهار ثنتي عشر ركعة) تمسك البعض بهذا على وحدة ركعة الوتر فإن عمله عليه الصلاة والسلام لم يزد على ثلاث عشرة ركعة، فلما قضى ثنتي عشر ركعة، وعلم أن صلاته بالليل ثنتا عشر ركعة، علم أن الوتر ركعة يقال: ثبت صلاته عليه الصلاة والسلام بالليل خمسة عشر ركعة أيضاً، وأيضاً لعل هذه الصلاة ليست قضاء صلاته بالليل بل رواتبه النهارية، وتوهمه رواية أخرجها أحمد في مسنده عن علي: أنه كان يصلي ثلاث عشرة بالليل وثنتي عشر ركعة بالنهار، والله أعلم.
باب ما جاء في نزول الرب تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا كل ليلة
[446]
حديث الباب حديث الصحيحين، ومسألة الباب تتعلق بالاعتقاديات لا بالفقهيات، ويكفي
الاعتقاد إجمالاً كما في الفقه الأكبر إذ لا يعلم أحد تفصيل المسألة، فليقل: آمنت بالله وآمنت بهذا كما هو المراد عند الله تعالى، والفقه الأكبر من تصنيف أبي مطيع البلخي الحكم بن عبد الله تلميذ أبي حنيفة، وهو متكلم فيه وعندي أنه صدوق، وفي الميزان: كان ابن المبارك يعظمه ويوقره (ف) اشتهر على الألسنة أن المتأول ليس بكافر، في آخر الخيالي على شرح العقائد وفي بعض تصانيف الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: إن المتأول في ضروريات الدين كافر.
(واعلم) أن في علم الغيب مقامين: أحدهما: مقام المدح، والثاني: مقام ذكر المسألة، وأما في مقام المسألة فتكون القيود والشروط مذكورة، وأما في مقام المدح فلا فإنه مقام المبالغة وليس بكذب، فلا يغرنك ما قال صاحب القصيدة البردة:
~ فإن من جودك الدنيا وضرتها
…
ومن علومك علم اللوح والقلم
فإنه مقام المدح والمناقب، والحاصل أني لا أذكر هاهنا لا نبذة من الكلام.
واعلم أن الفلاسفة ينكرون صفات الله تعالى، وأما قولهم: إن صفات الباري عين ذاته فيغالطون به الناس ويلزمهم أن صفات الله زائدة على الذات، فإنهم لا يقولون إلا بصفة العلم للباري وينكرون سائر الصفات، وعلم الله تعالى حصولي عند أرسطو والفارابي وابن سينا كما هو مصرح في تصانيفهم، وغفل عنه الناس فلا يكون العلم إلا زائداً على الذات، وأما الوجود فهو عين ذات عندهم ومتحد به كما قال الأشعري بأنهما متحدان في الحقيقة، ثم الاتحاد على أنواع: الاتحاد في المفهوم وهو أضيق، والاتحاد في الحقيقة وهو أوسع من الأول، ثم الاتحاد في الوجود وهو أوسع من الثاني كما قال ابن سينا: إن الحيوان والناطق متحدان في الوجود ومختلفان في الحقيقة، وينكر الفلاسفة الملاعنة الإرادة له تعالى والقدرة فإنهم يقولون: إن الباري فاعل بالإيجاب والعلة، ولعل كنه مذهبهم أن الحوادث بالعلة الأخيرة ومحصله أنها بغير محدث، ولقوله: إنه فاعل بالاختيار وخالق، وإنكار القدرة للباري كفر صريح جلي بإجماع الأديان السماوية، وأما الكلام والبصر والسمع له تعالى فمختلف بين أهل القبلة فكيف يرجى قبوله من الملاعنة؟ فلم يبق إلا العلم وهو أيضاً حصولي هذا ما نقح لي من مذهب الملاعنة.
(ف) قال مولانا المرحوم النانوتوي: إن النزاع بين الصوفية القائلين بعينية الصفات للذات، والمتكلمين القائلين بغيرية الصفات للذات، نزاع لفظي وأخذ كل واحد منهما بمرتبة وسكت عن المرتبة الأخرى، فإن منبع كل صفة ذات وأما انتشارها ووفور آثارها فزائد ليس عين ذات ولا غيرها، فإن ضوء الشمس في قرصها وذاتها عين ذات وإذا وقع على الأرض فغير ذاتٍ أقول: قد صرح العارف الجامي بتسليم المرتبتين عند الصوفية كما قال اتفق القوم على أن لله تعالى كمالين كمال ذاتي وكمال أسمائي.
(ف) في تحرير الشيخ ابن الهمام أن أفعال الباري معللة بالحكم، وأجمع عليه المحدثون والفقهاء، ولا يلزم منه الاستكمال بالغير كما زعم الفلاسفة الملاعنة، فإن الصفات فروع كمال الذات
وليست بلاحقة من الخارج مثل ضياء الشمس ذكره في بحث الأمر، وفي تحريره: أن العلة التامة مقدمة على المعلول تقدماً زمانياً لا أن الزمان قد يكون قليلاً فيتوهم عدمه، وهو مختار ابن تيمية حين قال: لا يتصور عدم تقدم الفاعل على فعله، وهو مختار المتكلمين والسبكي في جمع الجوامع.
(واعلم) أن المشابهات مثل نُزول الله إلى السماء الدنيا، واستواءه على العرش، فرأى السلف فيها الإيمان على ظاهره ما ورد إمهاله على ظاهره بلا تأويل وتكييف، ويفوض أمر الكيفية إلى الله تعالى، وأما ما نسب إلى بعض السلف مثل ابن عباس أنه يعلم معاني المقطعات القرآنية على تقدير صحته بيان محتملات، ويتوهم من جامع الفصولين وهو من معتبراتنا النهي عن الترجمة اللغوية أيضاً للمتشابهات، لكن قريحتي يحكم أن النهي عنه تفسيرها لا ترجمتها تحت الألفاظ من الحقوق واليد والوجه وغيرهما، وأما مذهب المتكلمين فهو التأويل في المتشابهات موافقاً للشرع، وقال المتكلمون: إن مذهب السلف التفويض وهو أسلم، ومذهبنا أي المتكلمين التأويل بالعقل وفاق الشرع وهو أحكم، ومعناه أن أصل مذهب أهل السنة التفويض، وأما التأويل فعند الضرورة والمقابلة مع الغير من مخالفي أهل السنة، والمتكلمون إنما احتاجوا إلى التأويلات عند المناظرة مع معاندي الإسلام، فما قال بعض الناس من الألفاظ الركيكة في حقهم فبريؤون عنها، وأما مذهب المبتدعين في المتشابهات فالتأويلات المخالفة للشريعة الغراء الموافقة لعقولهم القاصرة عياذاً بالله، ومذهب المشبهة أن الله جسم كالأجسام، ومذاهب أخر لا أذكرها، وأما تفويض السلف فيحتمل المعنيين:
أحدهما: تفويض الأمر إلى الله وعدم الإنكار على من تأول كيف ما تأول بسبب إقرارهم بعدم العلم.
ثانيهما: تفويض التفصيل والتكييف إلى الله تعالى والإنكار على من تأول برأيه وعقله ومرادهم هو الاحتمال الثاني لا الأول، وأما المتأولون من أهل الحق فثلاث فرق: تأول أرباب اللغة بالاستعارة أو التشبيه، وتأول الصوفية مثلاً في نزول الله بالتجلي وهو ظهور الشيء في المرتبة الثانية، وتأول المتكلمون بنزول ملائكة الله أو رحمة الله الخاصة والمتكلمون طائفتان: الأشعرية هم المنسوبون إلى أبي الحسن الأشعري وتوابعه الشافعية والمالكية والطائفة الثانية الماتريدية: هم المنسوبون إلى أبي منصور الماتريدي وتوابعه الأحناف، وأبو الحسن وأبو منصور معاصران وأبو منصور أصغر سناً، وأما الحنابلة فلا ينتسبون إلى الماتريدي والأشعري.
واعلم أن لفظ الأشاعرة يطلق على جميع من الأشعريين والماتريديين، وأما الأشعرية فقالوا: إن لله تعالى صفات ذاتية أزلية قديمة وهذه سبعة: العلم، والسمع، والبصر، والقدرة، والإرادة، والكلام، والحياة، وصفات فعلية وهذه حوادث ومخلوقات له تعالى وليس بقائمة بالباري، وأما الماتريدية فقالوا: إن الصفات الذاتية فسبع وقديمة، وأما الصفات الفعلية فقديمة أيضاً، وهي التي تكون صفات الله تعالى مع أضدادها، ولم أجد هذا التعريف في كتب الكلام، نعم موجود في كتاب الإيمان في الدر المختار، ومثال الصفات الفعلية فمثالها الإماتة والإحياء والغضب والرضا وغيرها
وأدمج الماتريدية جميع الأنواع تحت جنس واحد وسموها بالتكوين والبخاري أيضاً قائل بالتكوين، والتكوين صفة ثامنة لله تعالى وقال الأشاعرة في الصفات القديمة: إن التعلقات حوادث وقال الطحاوي: إن الله خالق قبل أن يخلق، ورازق قبل أن يرزق وأقول من جانب الماتريدية: إن شيئاً آخر من ما يتعلق بالباري ويسمى بالفعل، وهذه التسمية مني وهو مثل النزول إلى سماء الدنيا وغيره من الجزئيات التي تكون متعلقة بالباري، ولا يكون له نوع في الباري قديماً، وهذه الأفعال حوادث ويقول الماتريدية: إنها ليست بقائمة بالباري بل من مخلوقاته، وأما مشرب الحافظ ابن تيمية في الصفات الحوادث أنها قائمة بالباري وحوادث وغير مخلوقة، ويدعى أنه يوافق السلف الصالحين، ويقول: إن الله تعالى يقوم به الحوادث باختياره ولكنه ليس ما لا يخلو من الحوادث بل قد يكون متصفاً بالحوادث وقد لا يكون متصفاً بها، وقال: إن بين الحادث والمخلوق عموماً وخصوصاً فإن الصفات الحادثة وسائر أشياء العالم حوادث، والصفات ليست بمخلوقة بخلاف سائر أشياء العالم الممكنة، وأما الأشاعرة فيقولون بأن الباري عزَّ اسمه ليس بمحل للحوادث وقالوا لا فرق بين الحادث والمخلوق، وأقول: إن اللغة تساعد الحافظ ابن تيمية فإنه إذا كان زيد قائماً يقال: إن القيام متعلق بزيد، وإن زيداً متصف بالقيام، ولا يقال: إنه خالق القيام فكذلك لما كان الله موصوفاً بالنزول فلا بد من قيام النزول، وكون الباري عز برهانه متصفاً بالنزول لا خالقاً، له وبعين ما قال ابن تيمية قال البخاري بأن الله متصف بصفات حادثة، إلا أن الشارحين تأولوا في كلامه ومثله روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن حسن بسند صحيح في كتاب الأسماء والصفات، حيث قالوا: من قال: إن القرآن مخلوق كافرٌ، أي من قال: بأن القرآن ليس صفة الباري وأنه بمعزل وبائن عن ذات الباري، وليسوا بقائلين بأن القرآن قديم أي الكلام
اللفظي فالحاصل أنهم قائلون بحدوث الكلام اللفظي لا بخلقه، وصنف ابن تيمية في كون الباري يقوم به الأفعال الاختيارية مجلداً كاملاً، ودل ماروينا على رغم أنف من قال بأن أبا حنيفة جهمي عياذاً بالله، فإن أبا حنيفة قائل بما قال السلف الصالحون، فالحاصل أن نزول الباري إلى سماء الدنيا نزول حقيقة يحمل على ظاهره ويفوض تفصيله وتكييفه إلى الباري عز برهانه، وهو مذهب الأئمة الأربعة والسلف الصالحين كما نقله الحافظ في فتح الباري عنه، وذهب الأشاعرة المتكلمون إلى ما ذهبوا، ثم نقول: إن قول الأشعرية بأن الصفات الفعلية حوادث، لا دليل لهم عليه فإنها ليست بحادثة، وإن قيل: إن للصفات الفعلية التي تحت الأسماء الحسنى للباري تعلقاً بالحوادث فتكون حوادث، قلت: إن المقدرة والإرادة وغيرهما أيضاً تعلقاً بالحوادث ولا تقولون بحدوثها ثم المشهور بين المتكلمين أن الإرادة مثلاً قديمة والتعلقات بالمتعلقات الحادثة حوادث وقال الحذاق منهم: إن الإرادة مثلاً والتعلق قديمان والمتعلق حادث كما قال الدواني في رسالة إثبات الواجب.
ويَعلم أن العلم يتعلق بالمعدومات بدون واسطة الصور وأنكره الفلاسفة الملاعنة.
(ف) قال المناطقة: إن العلم هي الصورة الحاصل وقال ميرزاهد: إن العلم هي الحالة الإدراكية، وقال المتكلمون: إن العلم مبدء الحالة الإدراكية، ونظيره أن يكون بيت مظلم وفيه مشكاة وضعت فيها السراج فانتشر ضياء السراج ووضعت ثمة تمثالاً فإذن قال المناطقة: إن العلم هي التمثال وقال ميرزاهد: إن العلم هو ضياء السراج، المنتشر، قال أرباب الكلام: إن العلم هو السراج، فنحول الأمر إلى ذوي الألباب وينظر فيه ويصدق الصادق ويكذب الكاذب، هذا ما تييسر لي الآن في ذكر نبذة الكلام، والكلام أطول من هذا والله أعلم، وعلمه أتم، فحاصل الباب أن نؤمن بالمتشابهات كما وردت بظاهرها ونفوض التفصيل إلى الله، وورد في النصوص أن لِلّه يميناً ورجلاً وحقواً ويداً ووجهاً وغيرها فنؤمن بظاهرها.
قوله: (ثلث الليل الأول) في رواية نصف الليل وفي رواية ثلث الليل الأخير، واختار المحدثون الثالثة، وأقول: تحمل الأحاديث والروايات الثلاثة على أصلها بلا ترجيح، ويقال بنزول الله في الأوقات الثلاثة فإنه تعالى وتقدس لا يشغله شأن، والأوقات الثلاثة مباركة لأنها أوقات الفراغ عن غير الله تعالى وتقدس.
باب ما جاء في القراءة بالليل
الأفضل عندنا في النافلة بالليل الجهر بالقراءة بشرط أن لا يؤذي النائم أو مصلياً آخر.
[447]
قوله: (أسمعت من ناجيت) قال الصوفية: كان أبو بكر الصديق في مرتبة الجمع وكان عمر الفاروق في مرتبة الفرق، فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم بمرتبة جمع الجمع.
قوله: (قام النبي صلى الله عليه وسلم) بآية وهي قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] . كان النبي صلى الله عليه وسلم في مرتبة الاستغراق، وادعيت أنه عليه الصلاة والسلام ما قرأ الفاتحة ولا شيئاً غير هذه الآية في القيام والركوع والسجود فيشكل الأمر على القائلين بفرضية الفاتحة أزيد منه على الأحناف فإن للصلاة أصلاً على مذهبنا لا على مذهبهم فيفيد الحديث في وجوب الفاتحة، وأما الذي ادعيت يدل عليه طرق الحديث واستوفيت طرقه في الطحاوي ص (205) : كان بها يقوم وبها يركع وبها يسجد فدل هذا الطريق أيضاً على دعواي.
مسألة: تعيين السور من جانب النفس في الصلاة بدون ورود الشرع به بدعة ويجوز تكرار الآية في النافلة، واعلم أن البدعة ما لا يكون أصله في الأصول الأربعة ويزعم الناظر فيه أنه من أمور الدين، فعلم أن رسوم النكاح ليست ببدعة، وإن كانت لغواً فإن الناظر لا يزعمها من أمور الشريعة، بخلاف رسوم المأتم فإن الناظر يزعمها من أمور الشرع.
باب ما جاء في فضل صلاة التطوع في البيت
الأفضل أداء السنن والنافلة في البيت كما في الهداية أيضاً
[450]
قوله: (أفضل صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة) وبهذا قصر أبو جعفر الطحاوي حكم إحراز الثواب في المسجد النبوي والمسجد الحرام والمسجد الأقصى على المكتوبة، فإنه لم يثبت منه عليه الصلاة والسلام أداء السنن في المسجد النبوي.
قوله: (ولا يتخذوها قبوراً) في تفسير هذه القطعة أقوال ذكرها الحافظ في فتح الباري قيل في هذه الجملة النهي عن دفن الموتى في البيوت فلا يكون لهذه الجملة ربط بما قبلها، وقيل: إنها تدل على كراهة الصلاة في المقابر وقيل مرادها أداء الصلوات في البيوت ولا يعطلها عن ذكر الله.
وأذن يدل الحديث على عدم ذكر الله في القبور ويخالفه ما في سنن ابن ماجه بسند قوي: أن مؤمناً إذا وضع في قبره يأتيه ملكان فيجلسانه فينظر الشمس كادت تغرب، فيقول لهما دعاني دعاني لأصلي العصر فإن الشمس كادت تغرب ويخالفه ما في الصحيحين:«أن موسى عليه الصلاة والسلام يصلي في القبر» ويخالفه ما في صحيح مسلم: قال النبي صلى الله عليه وسلم «رأيت موسى عليه الصلاة والسلام يلبيّ» ، وأما ما قيل من التأويلات في تلبية فلا أرضى به ويخالفه ما في الترمذي ص112 ج (3) في فضائل سورة الملك: أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في القبر يقرأ سورة الملك حتى ختمها،
فيدل الأحاديث المروية على ذكر الله في القبور وعدم تعطلها من ذكر الله تعالى، وكذلك روايات أخر تدل على ذكر الله في القبور ذكرها السيوطي في «شرح الصدور في أحوال الموتى والقبور» فالجواب أن الأصل في القبور العدم، وفيه مستثنيات كثيرة بحيث توهم كثرتها أنها الأصل، وأيضاً ذِكْرُ الله في القبور من خواص عباده تعالى لا عامة المؤمنين. والله تعالى أعلم.
أبواب الوتر
باب ما جاء في فضل الوتر
[452]
واعلم أن بحث الوتر بحث طويل ولقد صنف محمد بن نصر المروزي كتاباً مستقلاً في بحث الوتر وملأه بالروايات المرفوعة والآثار ولخصه المقريزي، وفي الوتر اختلافات كثرة وما أطنب من الأحناف مثل إطناب الإمام أبي جعفر الطحاوي.
وأما المذاهب في الوتر فالوتر عند الأحناف ثلاث ركعات بتسليمة وقعدتين، ثم الوتر والتهجد شيئان وصلاة الوتر معينة، وصلاة التهجد هي الصلاة بعد النوم فإن التهجد ترك الهجود أي النوم، ويوافقه اللغة وحديث مرفوع عن حجاج بن عمر وأخرجه الحافظ في تلخيص الحبير وحسن إسناده أن التهجد بعد النوم.
وأما الشافعية فليس الفرق عندهم بين الوتر والتهجد إلا أن الوتر آكد، وأن الوتر ثلاث ركعات بتسليمتين فمن أتى بثلاث ركعات فقط بتسليمتين فقد أتى بالوتر على مختارهم وما أتى بالتهجد، ثم حقيقة الوتر عندهم أن الوتر لطلب إيتار ما صلى قبل متهجداً فيكون كأنه من متعلقات التهجد، فلا يمكن لهم قول الوجوب، ثم صرحوا بأن الوتر ثلاث ركعات بتسليمتين ثم يجوزون خمس ركعات وسبع ركعات وتسع ركعات وإحدى عشر ركعة، وأما ثلاث عشر ركعة ففي كونها وتراً اختلاف وجزم تقي الدين السبكي بأنه وتراً بلا ريب، وأما الركعة الواحدة ففي كتاب الأم للشافعي أن الركعة الواحدة أيضاً وتر حيث اعترض على مالك بن أنس بأنه لما قال: إن الوتر ثلاث ركعات بتسليمتين كيف لا يقول بوحدة ركعة الوتر؟ وقال القاضي أبو الطيب الشافعي: بأن الركعة الواحدة مكروهة، وفي الروضة وهو من معتبرات كتب الشافعية أنه يسلم واحدة في وتر رمضان وبتسليمتين في غيره، والله أعلم هل يقبله الشافعية أم لا؟ ثم إذا أوتر بخمس أو سبع أو تسع إلى غيرها فالأفضل عندهم الفصل أن يسلم
ويقعد على كل ركعتين، ويجوز عندهم الوصل أيضاً بتشهد في الأخيرة أو الأخيرتين أي لا يقعد على ركعتين ركعتين وهذا المذكور كان في التهجد، وأما النفل المطلق بالليل فتجوز مائة ركعة بتشهد واحد أيضاً عندهم، فعلم أن الوتر لإيتار ما سبق من صلاة الليل، ولا فرق بين التهجد والوتر عند الشافعية، وقريب من مذهب الشافعية مذهب الحنابلة والموالك، إلا أن الوصل بتشهد في الأخيرة والأخيرتين فلم أجد تصريحه عن الموالك وإذا بوب الموالك والشافعية فيذكرون أن الوتر ثلث ركعات بتسليمتين ثم يذكرون سائر الصور تحت الجواز، وأما الوتر بركعة عند المالكية ففي موطأ مالك ص (44) أخرج أثر سعد بن أبي وقاص أنه كان يوتر بركعة، وقال مالك ليس العلم عليه عندنا ولكن أدنى في الوتر ثلاث ركعات، وتأول الموالك في كلامه وقالوا: إن الركعة الواحدة جائزة وأما الكمال فأدناه ثلاث، وظني أن كلام مالك يأبى عنه، وفي كتب الموالك أن الركعة الواحدة جائزة في السفر، وفي بعضها أنها مكروهة في السفر، وفروع أخر لا أذكرها، وأما الأحناف فلا يتأدى الوتر عندهم إلا بثلاث ركعات بقعدتين وتسليمة، نعم لو اقتدى خلف الشافعي وسلم الشافعي على الركعة الثانية هو مذهبهم ثم أتم الوتر صح وتر الحنفي عند أبي بكر الرازي وابن وهبان:
~ ولو حنفي قام خلف مسلم
…
لشفع ولم يتبع وتم فموتر
ثم اعلم أنه لا مناص من أن بعض الرواة يطلقون لفظ الوتر على تمام صلاة الليل ومنهم ابن عمر، وأن بعض الرواية يفصل الوتر عن صلاة الليل، ومنهم عائشة الصديقة في أكثر رواياتها.
قوله: (إن الله أمدكم إلخ) تمسك الأحناف بحديث الباب على وجوب الوتر على الجمهور وصاحبي أبي حنيفة قال أبو حنيفة بوجوب الوتر، ووجه التمسك أن الزائد يكون من جنس ما يزاد عليه أي زاد الواجب أي الوتر على الخمسة وتوقيت الوقت أيضاً من أمارات الواجب، ثم قال الخصوم: إن لفظ أمدكم ثابت في سنتي الفجر أيضاً مع أنها سنتان، ونقول: إن في سنتي الفجر أيضاً وجوباً، وأقول: إن لفط أمدكم في سنتي الفجر من وهم الراوي فإنه في حق الوتر، وأدخله الراوي في سنتي الفجر من وهمه، وكلا الحديثين مرويان عن أبي سعيد الخدري، فيحتمل زيادة احتمال لوهم الراوي، ورواية أبي سعيد في سنتي الفجر رواها الذهبي في التذكرة في ترجمة البحيري سنداً ومتناً وكتب في آخره، وقال ابن خزيمة لو سافر أحد لتحصيل هذه الرواية لما ضاع سفره، ووثقها الحافظ في الدراية، ومع هذا زعمي أنه من وهم الراوي، ولا أقول هذا من مراعاة المذهب وأما الحديث فغربه المصنف وسكت عن تصحيحه وتحسينه، وسئل البخاري عن حديث الباب؟ فقال: لم يثبت
سماع بعض عن بعض، وهذا من مذهب البخاري، فإن الأكثر يعتبرون بالمعاصرة فقط أيضاً. ثم في المعاصرة والسماع صور:
إحداها: عدم اللقاء وعدم المعاصرة بين الراوي والمروى عنه فالرواية منقطعة عند الكل.
وثانيها: تحقق المعاصرة واللقاء فالرواية مقبولة عند الكل.
وثالثها: ثبوت المعاصرة لا السماع فالرواية مقبولة عند الجمهور وغير مقبولة عند البخاري ويقول البخاري، في مثل هذا: لم يثبت سماع فلان عن فلان، وزعم البعض أن هذا التعبير من البخاري يدل على نفي السماع والحال أن غرضه يكون بيان عدم علمه بالسماع ولا يدل على نفيه السماعد ثم السماع عند البخاري لا يجب أن يكون في الرواية التي تكون تحت البحث بل يكفي السماع في غير تلك الرواية أيضاً، كما رأيت في بعض الكتب أنه سئل البخاري: هل لفلان سماع عن فلان؟ قال: نعم فإنه صرح بالسماع في رواية غير هذه الرواية، وأخرج أبو داود حديث الباب وسكت عن الحكم عليه وصححه ابن السكن، وصحيح ابن السكن لا يكون أقل من الحسن لذاته.
واعلم أن المتقدمين كانوا لا يفرقون بين الحسن والصحيح، والحديث عندهم، صحيح أو ضعيف وليست مرتبة الحسن عندهم، وقال الحافظ ابن تيمية: إن الحسن لذاته والصحيح واحد عند المتقدمين، حتى أن نقل الإجماع على وحدة الحسن لذاته والصحيح، وأقول: إن نقل الإجماع مشكل، وقيل: إن أول من أخرج مرتبة الحسن هو الترمذي، أقول: قد ثبت استعمال الحسن عن البخاري وعن ابن المديني وفي طبقات ابن سعد ومصنف ابن أبي شيبة في حديث الباب «إن الله أمدكم الليلة» وقال ابن سعد: إن خارجة بن حذافة من مسلمي فتح مكة فيكون الإمداد بعد فتح مكة، أي وجوب الوتر بعد فتح مكة فيكون خلاف ما حققت أن وجوب الوتر قبل وجوب الخمسة، وكذلك البردان واجبتان قبل وجوب الخمسة فأجيب عما حققت: إن خارجة لعله لم يسمع هذا الحديث منه عليه الصلاة والسلام بل من صحابي آخر، وأيضاً الزيادة في هذه الليلة زيادة الوترية، وكانت صلاة الليل شفعة قبل هذه الليلة فالزيادة في الإيتار، وكذلك قال الخطابي: إن الزيادة زيادة الإيتار ولا يتوهم أن الصلاة صارت بعد الزيادة غير ما كانت قبل فإن الصلاة الرباعية كانت ثنائية ثم صارت أربعاً، ولا يقول أحد بأن الثانية غير الأولى، وأقول: إن المنسوخ في آخر المزمل طول القراءة لا أصل الصلاة، وما من لفظ يدل على أن المنسوخ أصل الصلاة وقد كانت الصلاة فريضة اتفاقاً قبل، وكذلك قال البخاري: إن المنسوخ بعض صلاة الليل لا كلها وإني ادعيت أن البخاري قائل بوجوب بعض صلاة الليل ولا أقل من الوتر كما سيظهر من البخاري فإن (من) في ما يكون فيه (ما) و (من) بعضية في جميع البخاري، وليست ببيانية كما زعم وسيأتي الكلام في البخاري، وصرح أبو بكر بن العربي المالكي في عارضة الأحوذي شرح الترمذي بأن البخاري قائل بوجوب الوتر، وقال الحافظ: لو لم
يخرج البخاري حديث الوتر، على الراحلة لعلم أنه قائل بوجوب الوتر وأقول: إنه قائل بوجوب الوتر مع إخراجه حديث الوتر على الراحلة فإنه ليس بمقلدٍ للأحناف والشافعية فإنه يمكن أن يقول بجواز أداء الواجب على الراحلة كما أن الشافعية يقولون بوجوب صلاة الليل في حقه عليه الصلاة والسلام وأداءه إياها على الدابة، وسيجيء البحث منا على حديث الوتر على الراحلة.
وأما أدلة وجوب الوتر فكثيرة وأذكر نبذة منها، ومنها: أنه لم يثبت منه ترك الوتر سفراً ولا حضراً ولا من الصحابة ولا التابعين، وعدم تركه كاف للوجوب، وقال مالك بن أنس: من ترك الوتر أحكم عليه بالتعزير وقال الحافظ علم الدين السخاوي: إن الوتر فرض عين، وقال: إنه ملحق بالفرائض وصنف فيه كتاباً مستقلاً ذكره في منحة الخالق، وأقول: إن القرآن دليل على الوجوب فإن الناسخ لم ينسخ إلا تطويل القراءة، ويقول الشافعية: إن المفروضة في ليلة الإسراء خمس صلوات فكيف تقولون بوجوب الوتر؟ أقول: إن الوتر تابع لصلاة العشاء ووقتهما واحد، والأجوبة من جانب الأحناف كثيرة.
باب ما جاء أن الوتر ليس بحتم
تمسك الجمهور بحديث الباب على عدم وجوب الوتر، وأدلة أبي حنيفة مذكورة في تخريج الهداية.
[453]
قوله: (كصلاتكم المكتوبة) لا نقول: إن الوتر كالمكتوبة فإن منكر الخمسة كافر ومنكر الوتر ليس بكافر، وكذلك في الخمسة والوتر فرق اعتقاداً.
قوله: (ولكن سن رسول الله إلخ) لا يستدل بهذا على سنية الوتر لأن السنة المصطلحة بين الفقهاء محدث، وأما السنة المستعملة في عبارات الشريعة تكون بمعنى الطريقة المسلوكة، وربما نجد لفظ السنة في حق الفرائض أيضاً ونظائرها كثيرة لا تحصى.
قوله: (فأوتروا ياأهل القرآن. . إلخ) قال المحشي: إن المراد من أهل القرآن المؤمنون، وهذا غلط بل المراد به حفاظ القرآن فإن الفرق بين الحفاظ وغيرهم لا يظهر إلا في صلاة الليل، فإن في الوتر سُوَراً مأثورة، والملجأ للمحشي إلى بيان مراد أهل القرآن بالمؤمنين أن في الحديث أمر أداء الوتر ولو فسر بما هو الصحيح أي الحفاظ يلزم عدم وجوب الوتر على غيرهم، والحال أن المراد منه صلاة الليل وتدل ألفاظ الأحاديث على أن المراد أهل القرآن، وكذلك فسر الكبار من الحفاظ والأئمة والمحدثين، كما فسر إسحاق رحمه الله في رواية أن رجلاً سأل ابن مسعود عن صلاة الليل؟ فقال: ليست لك بل لأهل القرآن، أي لا يؤدي حق صلاة الليل كاملاً إلا الحفاظ، وفي قيام الليل لمحمد بن نصر حديث مرفوع:«أن لِلّه أهلين وخواص وهم أهل القرآن» .
باب كراهية النوم قبل الوتر
[455]
في كتب فقهنا أن من يثق بالانتباه يؤخر الوتر إلى آخر الليل، ومن لا فلا، وكان أبو بكر الصديق يوتر قبل النوم، وكان عمر يوتر بعد النوم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخذ أبو بكر بالجزم وأخذ عمر بالقوة، وبعض هذا مروى في موطأ مالك ص (43) ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى لأبي هريرة بالوتر قبل النوم لأنه كان يذاكر الأحاديث.
قوله: (فإن قراءة القرآن في آخر الليل محضورة إلخ) أي تحضرها الملائكة.
باب ما جاء في الوتر من أول الليل وآخره
[456]
ثبت وتره عليه الصلاة والسلام في كل جزء من أجزاء الليل واستقر أمره آخرة إلى آخر الليل.
باب ما جاء في الوتر بسبع
[457]
نقول: إن الوتر ثلاث ركعات وأربع منها صلاة الليل وتردد بعض المحدثين في ثبوت ما صلي بالليل سبع ركعات، والحق ثبوتها كما مر مني.
قوله: (بواحدة) نسبة المصنف بركعة الوتر الواحدة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليست بصحيحة ولم يثبت منه عليه الصلاة والسلام الوتر بركعة منفردة، نعم ثابت عن بعض الصحابة بلا ريب.
قوله: (قال إسحاق) غرض إسحاق أن حقيقة الوتر وإيتار ما قبله لا يتحقق إلا بركعة واحدة، لا أن الوتر ركعة واحدة وقول إسحاق يدل على إطلاق لفظ الوتر على تمام صلاة الليل.
قوله: (على أصحاب الليل) يدل على أن المراد من أهل القرآن الحفاظ.
باب ما جاء في الوتر بخمس
[459]
رواية الباب مشكلة تقتضي بعض بسط في المقام.
قوله: (لا يجلس في شيء منهن إلا في آخرهن) تمشى الشافعية في مثل حديث الباب على ظاهرها أي أنه صلى خمساً أو سبعاً أو تسعاً بقعدة واحدة، وعلينا جوابه، وأشكل من حديث الباب ما في مسلم ص (754) عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن زرارة عن سعد بن هشام أنه أتى عائشة فقال: أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ، وفيه: فقلت: أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ألست تقرء: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] فقلت: بلى، إلخ، قال: قلت يا أم المؤمنين: أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كنا نعد له مسواكه وطهوره فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل، فيسوّك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعوه. إلخ، فظاهر الحديث يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يسلم على الركعتين ولا على الأربع ولا على الست ولا على الثمان بل على التسع فقط، وما أجاب الأحناف عن الحديث إلا العيني، وذكر صورة الجواب ولم يذكر مأخذه، وقال: إن عائشة ضمت صلاة الليل بالوتر في الذكر وإنما ست ركعات منها تهجد وثلاث ركعات وتر والمذكور في حال القعدة حال الوتر ولم تذكر حال صلاة الليل في القعدة، والجواب صحيح، وأشار الطحاوي إلى الجواب ومأخذه، وأقول: إن مأخذ الجواب أن حديث الباب أخرجه النسائي سنداً ومتناً ص (279) : «كان لا يسلم في ركعتي الوتر» باب كيف الوتر بثلاث؟ فعلم أن المذكور من الحال هو حال الوتر، وإسناد الحديث غاية القوة، فيضم هذا في رواية مسلم، ورواية النسائي أخرجها محمد بن نصر في قيام الليل وتأول فيه، وقال: إنه مختصر من المطول وليس السلام على الركعتين والأربع والست والثمان
بل على التاسع فقط، وأقول: أن تأويله ركيك غاية الركة فإن ألفاظ الحديث ترده، وألفاظ الحديث أربعة منها ما في النسائي من ص (279) ، والطحاوي كان لا يسلم في ركعتي الوتر، ومنها ما في مستدرك الحاكم وما في البيهقي وكان لا يسلم في الركعتين الأوليين من الوتر، فعلم نصاً أن المذكور حال الوتر فقط، ومنها ما عند الحاكم أيضاً:«كان يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن» والمراد من القعدة قعدة الفراغ، ومنها ما أخرج الزيلعي وذكر، وروى الحاكم في مستدركه وهذا لفظه:«وكان يوتر بثلاث لا يسلم إلا في آخرهن» ثم بعد ذكر كلام الحاكم قال انتهى كلامه، وأما أنا فوجدت ثلاث نسخ للمستدرك وما وجدت فيها ما أخرج الزيلعي بلفظ:«لا يسلم» وإنما وجدت فيها: وكان لا يقعد» وظني الغالب أن لفظ «لا يسلم» لا بد من أن يكون في مستدرك الحاكم، فإن الزيلعي متثبت في النقل مثل ما ليس الحافظ متثبتاً ومن عادته أنه إذا نقل عبارة أحد بواسطة يذكر الواسطة وإلا فينظر المنقول عنه بعينه ويذكر لفظ المنقول عنه بعينه، وهاهنا غير هذا لفظه فلا بد من كون اللفظ «لا يسلم» في مستدركه، وأما الحافظ ابن حجر فأخذ في فتح الباري «ولا يقعد إلا في آخرهن» ونقل في الدراية على نصب الراية «ولا يسلم إلا في آخرهن» ولفظ خامس
لحديث النسائي أخرجه أحمد في مسنده «وكان يوتر بثلاث لا يفصل بينهن» وفي سنده رجل متكلم فيه وهو يزيد بن يعفر، وأخرجه مجد الدين بن تيمية جد تقي الدين ابن تيمية المشهور في المنتقى، وقال بعد ذكر الألفاظ وضعّف أحمد إسناده، وكنت متحيراً في هذا فإن في زاد المعاد: أن رجلاً سأل أحمد عن الوتر؟ فقال: ثلاث ركعات بتسليمتين، فقال له: وأما بتسليمة واحدة، قال أحمد: لا بأس، فلو كان أحمد تكلم في الحديث كيف قال: لا بأس؟ ثم بدا لي أن أحمد بن حنبل لم يضعف إلا الإسناد الذي أخرجه، وقد قلت: إن فيه يزيد بن يعفر فإذن لا تفرد ولا شذوذ، وفي حديث النسائي «ولا يجري» تأويل محمد بن نصر أصلاً فدل الحديث دلالة صريحة ونص على نفي السلام على الركعة الثانية من الوتر، فإذن ترك تبادر الأحاديث الدالة على السلام على الثانية مثل حديث «فأوتر بواحدة» فإن تبادره للشافعية ولو لم نجد نصاً وأصرح ما في الباب على نفي السلام، لمشينا على تبادره ولكنا وجدنا النص وأصرح على نفي السلام، وحديث النسائي يدل على قطع سلسلة التسع ونفي السلام، وكذلك نقطع سلسلة السبع المذكور في مسلم وغيره أيضاً، ولنا حديث آخر عن أبي بن كعب يدل على نفي السلام أخرجه النسائي في الصغرى ص (380) لا يسلم إلا في آخرهن، ويقول بعد التسليم: سبحان الملك القدوس ثلاثاً» فيكون الحديث صحيحاً عند النسائي وصححه زين الدين العراقي فلنا مرفوعان صحيحان في نفي السلام، وأما حديث عائشة حديث الصحيحين:«فلا تسأل عن حسنهن وطولهن» إلخ فتبادره أيضاً نفي السلام على الثانية، فإن النسائي بوب على كيف الوتر بثلاث؟ وذكر تحته حديث عائشة:«لا تسأل عن حسنهن وطولهن» وحديثها «وكان لا يسلم في ركعتي الوتر» فإذن نحمل حديث عائشة المروي في أبي داود كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر بأربع وثلاث، وست وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث» على نفي
السلام على الثانية وهو المتبادر، فتم الجواب عما في مسلم وعن رواية «كان يوتر بسبع لا يجلس إلا في آخرهن» .
والآن أتعرض إلى روايات ابن عباس فرواياته في بعضها: أنه عليه الصلاة والسلام أوتر بخمس، وفي سنن أبي داود في رواية ابن عباس: ولا يسلم إلا في آخرهن، فيكون حديثه مثل حديث الباب: أي يوتر بخمس لا يسلم إلا في آخرهن، فأشكل علينا الأمر فأقول: إن في مسلم ص (261) عن ابن عباس تصريح أن صلاة الليل ست ركعات وأوتر بثلاث، فلا بد أن نقطع الركعتين من الخمس في رواية ابن عباس ومر الحافظ على رواية مسلم ص (361) وأشار إلى تفرد حبيب بن أبي ثابت أقول والعجب من الحافظ أنه لم يلتفت إلى متابعاته، وأذكر متابعاته: منها ما في الطحاوي ص (120) ، ج (1) ، ثم أوتر بثلاث عن ابن عباس وسنده قوي غاية القوة إلا أن في سنده سهو الكاتب، فإنه ذكر عن قيس بن سليمان والحال أنه عن مخرمة بن سليمان، ومتابع آخر في الطحاوي ص (179) عن أبي إسحاق عن المنهال بن عمرو عن علي بن عبد الله بن عباس:«أنه أوتر بثلاث» ومتابع آخر في النسائي ص (280) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث يقرء في الأولى. . إلخ فلا شذوذ ولا تفرد فثبت قطع الثلاث من الخمس.
والآن أتعرض إلى رواية عن عائشة، قالت: كان يوتر بخمس لا يجلس إلا في آخرهن، فقال المدرسون: إن ثلاثاً منها وتر وركعتين منها ركعتا النفل جالساً بعد الوتر. أقول: إن قطع الثلاث في حديث عائشة من الخمس متعيِّن ولكن الركعتين لا أقول: إنهما اللتان يؤتى بهما جالساً بعد الوتر، وجواب المدرسين نافذ بلا ريب فإن الركعتين جالساً بعد الوتر ثابتتان في الصحيحين أيضاً ولكني لا أرضى بهذا الجواب، ووجه عدم الرضا هو أن مالكاً ينكر الركعتين جالساً بعد الوتر مع كون ثبوتهما في الصحيحين، وسأل عنهما أحمد؛ فقال: لا أصليهما ولو صلاهما أحد لا أنكر عليه، وأما البخاري فأخرج حديثهما ولكنه لم يبوب عليهما، وظني أن وجه عدم تبويبه هو عدم اختياره إياهما، وأما الشافعي وأبو حنيفة فلم يرد عنهما فيهما شيء، وأيضاً حديث عائشة حديث الباب عن عروة بن الزبير، ولم أجد في رواية من روايات عروة الركعتين جالساً، ولذا أنكرهما مالك فإنه أخرج حديث عائشة في موطأه بسند عروة، فعندي أن الركعتين ركعتان قبل الوتر وإنما جمع الراوي بين الوتر وبين الركعتين قبل الوتر لعدم الوقفة الطويلة بينهما من وقفة النوم أو غيرها من وقفة الوضوء أو السواك أو أخرى، وحمل الركعتين على هذا المحتمل عندي أقرب من حملهما على ما حمل المدرسون وأما قطع الثلاث من الخمس فمتيقن والتردد في محمل الركعتين وثبت الركعتان قبل الوتر في الخارج كما في الطحاوي عن أبي هريرة أن لا يكون الوتر خالياً عن شيء قبل الوتر فتم الجواب عن حديث الباب، وأما حديث الباب عن عروة فأعلَّه مالك بن أنس كما نقل في شرح المواهب وأبو عمر في التمهيد، وحديث الباب أخرجه مالك في موطأه ص (42) وليست فيه هذه الزيادة وفي شرح المواهب أن هشاماً روى هذه الزيادة، حين خرج من الحجاز إلى العراق فبلغت الزيادة، مالك بن أنس فقال مالك: إن هشاماً حين ذهب إلى العراق نسمع منه أنه يروي أشياء منكرة
ولا يتوهم أن إنكار مالك على ذكره ثلاث عشرة ركعة لأن مالكاً رواه بنفسه، فكيف ينكر على هشام؟ وليس باعث الإنكار الركعتان جالساً فإنه لم يروهما فليس باعث الإنكار إلا ذكره «ولم يجلس إلا في آخرهن» ولكن أباعمر لم يفصل النقل مثل ما في شرح المواهب.
واعلم أنه قد سها الحافظ في تلخيص الحبير أن حديث عائشة «كان يوتر بخمس لا يجلس إلا في آخرهن» حديث متفق عليه، والحال أنه حديث مسلم وليس في البخاري أصلاً، ومثل سهو الحافظ سهو صاحب المشكاة وقال: إنه متفق عليه، وفي النسائي رواية جواز أداء الوتر إيماء وليس هذا مذهب أحد من الأربعة، وفي معاني الآثار ص (172) لفظ: ومن غلب إلى أن يومئ فليومئ، فدل على أن الإيماء إنما هو للمعذور، وأما من حيث الآثار فلنا ما في معاني الآثار ص (173) عن المسور بن مخرمة قال: دفنا أبا بكر ليلاً فقال عمر: إني لم أوتر فقام وصففنا وراءه فصلى بنا ثلاث ركعات لم يسلم إلا في آخرهن. وسنده صحيح، وفيه ص (175) عن أبي الزناد قال: أثبت عمر بن عبد العزيز الوتر بالمدينة بقول الفقهاء ثلاثاً لا يسلم إلا في آخرهن، وفي المستدرك أن هذا وتر عمر أخذ عنه أهل المدينة أي عن عمر بن خطاب كما في مصنف ابن أبي شيبة، وروي عن ابن عمر
ثلاث ركعات بتسليمتين، فقال الحسن البصري: إن أباه عمر كان أعلم منه وفيه ص (173) . أثر أنس لنا فيه ص (175) عمل الفقهاء السبعة التابعين ومنهم عروة بن الزبير راوي حديث الباب حديث خمس، ولنا ما في الترمذي ص (223) في مناقب أنس حدثنا إبراهيم بن يعقوب نا زيد بن الحباب نا ميمون أبو عبد الله نا ثابت قال: قال لي أنس بن مالك: يا ثابت خذ عني فإنك لن تأخذه عن أحد أوثق مني إني أخذته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل وأخذه جبريل عن الله عز وجل، ولم يذكر الترمذي متنه وإني وجدت متنه في تاريخ ابن عساكر وهو: أن الوتر ثلاث بسلام واحد، ورجال السند ثقات إلا ميمون أبو عبد الله لم أعلم حاله إلا أنه أدرجه ابن حبان في كتاب الثقات، وقال السيوطي في جمع الجوامع: إسناده حسن، وظني أن حديث:«من كنت مولاه فعلي مولاه» رواه شعبة عن ميمون أبي عبد الله ولا يروي شعبة إلا من الثقات، وصرح الحافظ ابن عبد الهادي الحنبلي. أن ابن حبان إذا أدرج أحداً في كتاب الثقات ولم يجرح فيه أحد فهو ثقة فالحديث قوي، واستدل الحافظ بدلائل كثيرة كلها غير مصرحة في إثبات مذهبهم بل مبهمة متحملة لمحامل فقال في آخرها: سلمنا أن هذه الأدلة غير مثبتة لمرامنا فأي جواب عن حديث رواه الطحاوي في معاني الآثار ص (164) : أن ابن عمر كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمة، وأخبر ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، فهو مرفوع حكماً، وقوله هذا يدل على أنه لم يجد مثل هذا الدليل أصرح، ونقل الحافظ بأن الطحاوي يجيب بأن المراد من التسليم تسليم التشهد، أقول: وإن الطحاوي لم يجب بما قال الحافظ، بل ذكر أن التسليم يحتمل أمرين تسليم التشهد وتسليم القطع، ثم حسن الحافظ سنده مع أن في سنده وضين بن عطاء وتكلم فيه البعض، ثم أني أجيب
الحافظ أما أولاً فبأن ابن عمر شبه فعله بمثل فعله عليه الصلاة والسلام ولا يتعين التشبيه في السلام لعله تشبيه في ثلاث ركعات، وأما ثانياً فبأن الحافظ روى بنفسه في الفتح المجلد الثاني من مصنف عبد الرزاق بسند قوي صحيح أن مذهب ابن عمر أن المصلي إذا قرأ: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله. . إلخ، فقد خرج من صلاته وكان يرى ذلك نسخاً لصلاته، فلما رأى ابن عمر أنه سلم في التشهد أي قال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته على زعم ابن عمر وإن لم يسلم النبي صلى الله عليه وسلم تسليم القطع، فإذن ذهب استدلال الحافظ الذي زعمه النص ما في الباب ولم ينهض حجة علينا فأذن تطرق اجتهاد ابن عمر، ثم مثل ما في الفتح من مصنف عبد الرزاق عن سالم عن ابن عمر موجود في مصنف ابن أبي شيبة عن نافع عن ابن عمر بسند قوي، ثم لي خدشة فإن مالكاً أخرج في موطأه في باب التشهد أن ابن عمر كان يتشهد في القعدة
الأولى كما نتشهد، وأما في القعدة الثانية فكان يؤخر السلام عليك أيها. . إلخ عن التشهد فلم يسنح لي التوفيق بين رواية المصنفين ورواية موطأ مالك عن ابن عمر، ولم أجد تفصيل مذهب عمر حتى يظهر الوجه، وتمسك بعض الشافعية على أن الوتر ركعة واحدة بما في مسلم عن ابن عمر وابن عباس: الوتر ركعة في آخر الليل، أقول: كيف يتمسك بما في مسلم؟ فإن مراده أن الإيتار إنما يتحقق بركعة واحدة لا أن صلاة الوتر ركعة واحدة، فإن مذهب ابن عمر موجود في الخارج بأسانيد قوية أن الوتر ثلاث ركعات بتسليمتين، وأما ابن عباس فروى بنفسه المرفوع:«أن الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة» كما مر سابقاً بقدر الضرورة من رواية مسلم وأبي داود، فإذن تمسك الشافعية بحديث (كان يسلم على كل ركعتين، ويوتر بركعة) لا يصح حجة فإنه عام وقد أتينا بالخاص، وأما ما في النسائي ص (259) عن مقسم عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بخمس وسبع لا يفصل بينهما بكلام وسلام ويمكن جوابه بذخيرة ما ذكرت من الكلام في رواية ابن عباس وعائشة، وأيضاً أعله البخاري في التاريخ الصغير لأن مقسماً ليس له سماع عن أم سلمة، ولكني رأيت في طبقات ابن سعد أن لمقسم سماعاً عن أم سلمة وعندي لرواية أم سلمة جواب آخر لا أذكره لطوله، وفي النسائي عن أبي أيوب الأنصاري ما يدل على الوتر بواحدة وجوابه عندي موجود، وعن أبي أيوب الأنصاري في معاني الآثار: أن الوتر ثلاث ركعات وسنده قوى إلا أن فيه محمد بن يزيد الرحبي وليس ترجمته في أكثر كتب الرجال ولكني وجدت في معجم البلدان لياقوت ترجمة تحت لفظ رحبة وجعله من الثقات، ولقد صنف الحافظ بدر الدين العيني كتاباً في جلدين في رجال الطحاوي وقال الشيخ أكمل الدين صاحب العناية في شرح مشارق الأنوار في تلخيص الصحيحين: إن الواحدة في رواية أبي أيوب منضمة إلى ما قبلها من الشفع والجواب أن حديث أبي
أيوب مختلف في رفعه ووقفه كما في النسائي ومعاني الآثار وصوب الأئمة وقفه، وقال الحافظ في تلخيص الحبير: إن البخاري والذهبي والدارقطني وأبا حاتم والبيهقي أعلوه وقالوا: إن الرواية موقوفة على أبي أيوب الأنصاري ورواية أبي أيوب موجودة في أبي داود أيضاً، وتمسك الحافظ في تلخيص الحبير على وحدة ركعة الوتر حين قال أبو عمرو بن الصلاح: لم يثبت الوتر ركعة واحدة عنه عليه الصلاة والسلام برواية في صحيح ابن حبان والحال أن روايته رواية الصحيحين فإن تلك الرواية رواية البخاري، وفي الدارقطني مختصرة من المفصلة في البخاري، وأما أثر سعد بن أبي وقاص من الوتر بركعة فعاب ابن مسعود على وتره بركعة كما في معاني الآثار وفي النسائي ص251 عن أبي موسى الأشعري: أنه كان بين مكة والمدينة فصلى العشاء ركعتين ثم قام فصلى ركعة أوتر بها يقرأ فيهما بمائة آية من النساء، ثم قال: ما ألوت أن أضع قدمي حيث وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم قدميه وأن أقرأ بما. . إلخ، في باب القراءة في الوتر وروايته مشكلة وجوابها عندي موجود بتفصيله ولا أذكره فإنه يقتضي بسطاً في الكلام، وأما ما ذكرت من الذخيرة فلا يجدي في جواب روايته.
باب ما جاء في الوتر بثلاث
[460]
إسناد حديث الباب سقيم من جانب حارث الأعور، وتبادر حديث الباب لنا، ولا يتوهم أن التسع في حديث الباب موصولة بدليل ما تقدم.
قوله: (بتسع سور) وقع تفصيل السور التسعة في بعض الروايات.
قوله: (آخرهن: «قل هو الله» ) أي كانت «قل هو الله أحد» في الركعة الثالثة من الوتر لا أنها كانت في كل ركعة.
قوله: (قال سفيان) مذهب سفيان مدون في الكتب وهو وفاقه أبا حنيفة لا كما نقل المصنف، فالله أعلم.
قوله: (حسناً إلخ) أقول: لم أجد من الصحابة قائلاً بوحدة ركعة الوتر إلا قليل ومنهم
معاوية، وسعد بن أبي وقاص، وأما الثلاث بتسليمة واحدة فهو مذهب كثير من الصحابة منهم عمر وابن مسعود ومذهب أنس، وآثار أخر ذكرها الطحاوي.
باب ما جاء في الوتر بركعة
[461]
لا بد من قول وتسليم أن بعض الصحابة قائلون بوحدة ركعة الوتر، وأن بعضهم قائلون بثلاث ركعات بتسليمتين، والواجب على كل واحد من المذهب جواب المرفوعات لا الموقوفات والآثار.
قوله: (والأذان) في أذنه أي والإقامة في أذنه، غرضه السرعة في أداء ركعتي الفجر.
مسألة: هل تجوز ركعة واحدة مطلقاً من النافلة أم لا؟ ففي البحر أن معاصراً له أي لصاحب البحر أفتى بصحتها مع الكراهة ورد عليه صاحب البحر وقال: إن الركعة الواحدة باطلة عندنا، وهذا هو أصل مذهبنا، وقال النووي في شرح مسلم ص (253) تحت قوله صلى الله عليه وسلم:«أوتر منهما بواحدة» : هذا دليل على أن أقل الوتر ركعة وأن الركعة المفردة صلاة صحيحة وهو مذهبنا ومذهب الجمهور إلخ، ورد عليه في طبقات الشافعية تحت ترجمة أبي عمرو بن الصلاح بأن أحداً منا لم يقل بما قال النووي، وأما الروايات الدالة بتبادرها على الوتر بركعة واحدة فقط فقد مرت سابقاً مع الأجوبة.
باب ما جاء فيما يقرأ به في الوتر
[462]
كونه ثلاث ركعات متعين، وأما التسليم الواحد فهو المتبادر وليس بمتعين، ورد في بعض الروايات أن يقرأ في الركعة الأولى {سبح اسم الأعلى} [الأعلى: 1] وفي الثانية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}
[الكافرون: 1] وفي الثالثة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] والمعوذتين وأعله أحمد بن حنبل وابن معين وهذه الرواية أخرجها أبو حنيفة في مسنده أيضاً، والصورة في سور الوتر كثيرة منها أن يقرأ في {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] والقدر و {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة: 1]، وفي الثانية:«العصر، والكوثر، والنصر» وفي الثالثة: الكافرون وتبت وسورة الإخلاص، ومنها أن يقرأ في الأولى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وفي الثانية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وفي الثالثة: سورة الإخلاص.
باب ما جاء في القنوت في الوتر
[464]
قال الشافعية: إن القنوت في الوتر في نصف شهر بعد الركوع، ونقول: إن القنوت في السنة كلها قبل الركوع ووافقنا مالك بن أنس فإنه يقول: يقنت قبل الركوع، وأما أحمد فرجح القنوت بعد الركوع، ولنا ما روى ابن مسعود.
قوله: (أقولهن في الوتر) هذه الزيادة من تفرد الراوي كما قال الحافظ في التلخيص ولكن الحديث ليس بأقل من الحسن، وفي البحر: أن الجمع بين دعاء قنوت الأحناف ودعاء قنوت الشافعية مستحب، وأقول: قال بعض من يدعي العمل بالحديث: إن قنوت الأحناف ليس بثابت في الحديث، ولعل هذا المدعي غفل عما في تفسير الإتقان بسند قوي: أن قنوتنا كانت سورة الحفد والخلع في مصحف أبي بن كعب، ولهذا تجد في بعض كتبنا النهي عن قراءة القنوت للجنب وصنيع صيغه تشابه صيغ القرآن فإن صيغها صيغ المتكلم مع الغير وهو شأن أدعية القرآن.
قوله: (وفي الباب عن علي) رواية علي أخرجها في كتاب الدعوات ص (196) وقال النسائي: إنه مرسل، أقول: إن المرسل حجة عند الجمهور، وقال ابن جرير الطبري: إن رد المرسل بدعة حدثت بعد مائتين، ولعله عرّض على الشافعي وكان ابن جرير شافعياً ثم صار مجتهداً بنفسه، وقالت جماعة: إن المرسل أعلى من المتصل ومنهم الحسامي، وقالت جماعة: إن الموصول أعلى من المرسل ومنهم أبو جعفر الطحاوي نقل عبارته السخاوي في شرح الألفية، والحق إلى الجماعة الثانية وأن المرسل حجة بعد الحجة، وقال بعض من يدعي العمل بالحديث: إن رفع اليدين في القنوت مثل رفعهما وقت التحريمة لا أصل له ولا أثر من التابعين أيضاً، وأثبت رجل حنفي فاضل لرغم أنف ذلك المدعي أثر ابن مسعود وأثر عمر الفاروق الأعظم أخرجهما البخاري في جزء رفع اليدين فما طعنه على الأحناف إلا لجهله:
~ وكم من عائب قولا صحيحاً
…
وآفته من الفهم السقيم
ولنا في رفع اليدين في القنوت أثر إبراهيم النخعي أيضاً أخرجه الطحاوي، ولي شبهة في أثر عمر الفاروق فإن بعض الروايات يومي إلى أن رفع اليدين كان كرفع اليدين للدعاء لا مثل رفعهما عند
التحريمة، وثبت رفع اليدين مثل رفعهما للدعاء عن أبي يوسف في قنوت الوتر ذكر صاحب مراقي الفلاح عن الفرج مولى أبي يوسف وأتى الطحاوي ص (391) عن أبي يوسف رفع اليدين في قنوت الوتر مثل رفعهما عند التحريمة فإنه قال: فيجعل ظهر كفيه إلى وجهه إلخ، والتفصيل لرفع اليدين في الطحاوي ص (391) ، ورفع اليدين عندنا سنة والتكبير واجب.
باب ما جاء في الرجل ينام عن الوتر أو ينساه
[465]
يقضي الوتر عند أبي حنيفة فإنه واجب، حديث الباب سقيم من جانب عبد الرحمن بن زيد وسيأتي قوي ولكنه مرسل، وفيه عبد الله بن زيد وهو قوي، وحديث آخر موصول أخرجه أبو داود
في سننه بسند قوي، وأخرج الدارقطني أيضاً رواية أبي داود وألفاظ الدارقطني أفيد لنا مما في أبي داود، وصححه زين الدين العراقي، والقضاء أمارة الوجوب.
باب ما جاء في مبادرة الصبح بالوتر
[467]
أخرج ابن خزيمة في صحيحه بسند قوي، أنه عليه الصلاة والسلام كان يوتر بعد الصبح قال ابن خزيمة أي بعد الصبح، الكاذب لثبوت وتره عليه الصلاة والسلام في الصحيحين قبل الصبح أي الصادق.
في رواية: أن علياً كان بكوفة فاجتمع الناس فشهده من كان في الركعة الأولى بعد أداء الثانية، ومن كان في الثالثة بعد أداء الرابعة وقال: إن الوتر على ثلاث أنواع فذكر نوعين وقال: ووتر في هذا الوقت وهذا هو النوع الثالث، وقال الراوي: وذلك حين الصبح أي الصبح الكاذب والله أعلم.
واعلم أن الصبح الكاذب ليس بمقدر بتقدير وقت معين بل قد يزيد وقد ينقص كما صرح الفقهاء واحداً بعد واحد بل ربما لا يكون مبصراً خلاف ما قال أهل الهيأة.
قوله: (وتر بعد صلاة الصبح) أي أداءاً.
باب ما جاء لاوتران في ليلة
[470]
بعض السلف ذهبوا إلى نقض الوتر وليس مذهب أحد من الأئمة الأربعة، وهو أن يوتر قبل النوم ثم إذا استيقظ يصلي ركعة ويضمها بما صلى قبل النوم ليشفعه، ثم يوتر آخر الليل عملاً بحديث:«اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً» والقائل بنقض الوتر هو القائل بالوتر ركعة أو بثلاث ركعات بتسليمتين، وحديث الباب لأتباع الأئمة الأربعة، وفي معاني الآثار: أن أصحاب ابن مسعود تعجبوا من نقض ابن عمر الوتر.
قوله: (قد صلى بعد الوتر الخ) غرضه إثبات أن أمر «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً» ليس للوجوب بل للاستحباب، ونسب إلى الموالك عدم جواز شيء من الصلاة بعد الوتر.
قوله: (بعد الوتر ركعتين) أي جالساً كما ورد في الأحاديث، وقال النووي: إن السنة أداؤهما قياماً فإن الجلوس كان لعذر، وأقول: لو ثبتتا فالجلوس إنما هو كان قصداً وهو سنة وإنما ترددت في ثبوتهما لأن مالكاً أنكرهما، وقال أحمد: لا أصليهما، وأما البخاري فأخرج الحديث ولم يبوب عليهما ولم يرد عن أبي حنيفة الشافعي شيء فيهما كما حررت سابقاً. وفي الكبير شرح المنية أن الركعتين إنما هما قبل الوتر، وأقول: إنه خلاف صراحة الحديث فإن في الحديث تصريح بعد الوتر وورد في بعض الروايات أن يقرأ: «إذا زلزلت، وقل يا أيها الكافرون» .
قوله: (ميمون بن موسى المرائي) هذا منسوب إلى أمراء القيس في الأصل بدون ألف.
باب ما جاء في الوتر على الراحلة
[472]
يجوز الوتر على الراحلة عند الجمهور لا عند أبي حنيفة، والسلف أيضاً مختلفون وجماعة قليلة قائلة بالوجوب منهم الحسن البصري، والجواب من جانب أبي حنيفة أن ابن عمر من الذين يطلقون لفظ الوتر على تمام صلاة الليل فلعل ابن عمر مراده أن صلاة الليل كانت على الراحلة، وأما الوتر بخصوصه فعلى الأرض ففي الطحاوى ص (249) صححه العيني في العمدة بسند صحيح عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على الراحلة ويوتر على الأرض، وكذلك أخرجه أحمد في مسنده ومر عليه الحافظ ولم يتكلم بشيء ثم قال الطحاوي: لعل الوتر على الراحلة كان حين عدم تأكّد ولا يصح هذا الجواب على مشربي ولم أجد ما يدل على سنية الوتر في وقت ما والجواب عندي أن الوتر كان على الأرض لما روينا، وأما حديث الباب فعلى ما هو صنيع ابن عمر من إطلاق لفظ الوتر على
جميع صلاة الليل، وإني وجدت في جميع الروايات عن ابن عمر إطلاق لفظ الوتر على جميع صلاة الليل إلا ما في معاني الآثار ص (265) عن أبي داود عن ابن مريم عن ابن عمرو ابن عباس، وفي قيام الليل لمحمد بن نصر قال ابن عمر: لو اتبعني الناس لصلَّوا الوتر بسلامين.
واعلم أن في مصنف ابن أبي شيبة أن أباه عمر كان يوتر على الأرض، واعلم أن ما ذكرت من نبذة فن الكلام تفيد في جميع روايات الوتر إلا ما في النسائي ص (251) عن أبي موسى وما في المستدرك للحاكم أنه عليه الصلاة والسلام: كان يوتر بركعة وكان يتكلم بين الركعة والركعتين، ولقد تفكرت فيه قريباً من أربعة عشر سنة ثم استخرجت جوابه شافياً وذلك الحديث قوي السند إلا أن الحاكم أخذ سنده عن هشام بن سوار، وبين الحاكم وبين هشام ثلاثة وسائط، وقد وجدت قطعة السند بين الحاكم وهشام فالحديث قوي، ولم يتوجه إليه أحد من الشافعية احتجاجاً على التسليم على الركعتين من الوتر، ولم يتوجه أحد من الأحناف إلى جوابه وجوابه عندي محفوظ بالتحقيق والتفصيل ولكني لا أذكره فأنه يقتضي تطريق كثير من الأحاديث وكذلك جواب رواية النسائي عن أبي موسى الدالة على ركعة واحدة للوتر موجود ولا أذكر مخافة التطويل، فالحاصل أني لم أجد ما يدل بنصه على إثبات التسليم على الركعتين الأوليين من الوتر ولا ما ينص على وحدة ركعة الوتر، وادعى الخصم أن أكثر عادته عليه الصلاة والسلام بل استمر أمره على الوتر بركعة واحدة كما نقل في آثار السنن ص (9) ج (2) عن الرافعي شرح الوجيز، وفيه قال محمد بن نصر المروزي: لم نجد عن النبي صلى الله عليه وسلم خبراً ثابتاً صريحاً أنه أوتر بثلاث موصولة إلخ، فالله أعلم كيف يصح قولهما هذا؟ والله أعلم وعلمه أتم.
باب ما جاء في صلاة الضحى
[473]
قال الفقهاء والمحدثون: إن صلاة الضحى وصلاة الإشراق واحدة إن صلى بمجرد ذهاب الوقت
المكروه بعد الطلوع فصلاة إشراق ولو تأخر عنه بزمان فصلاة الضحى والعدد من اثنتين إلى ثنتي عشر ركعة والأفضل الأربع، وأما السيوطي وعلي المتقي فإلى أن صلاة الضحى غير صلاة الإشراق ويفيدهما بما روى علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الإشراق حين كانت الشمس من هاهنا مقدار ما يكون هاهنا وقت العصر، وصلى الضحى حين كانت الشمس من هاهنا مقدار ما يكون هاهنا في آخر وقت الظهر وإسناده تبلغ تبة الحسن، وقال ابن تيمية: إنه عليه الصلاة والسلام ما صلى الضحى إلا عند قفوله من السفر أو عند فوت صلاة الليل من عذر، وأما الأحاديث القولية فصحيحة وأما الأحاديث الفعلية ففعله عليه الصلاة والسلام نادر.
قوله: (أم هانئ) بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم أخت علي لا عمته عليه الصلاة والسلام كما زعم بعض الجهلة.
قوله: (فسبح ثمان ركعات) قال الحافظ: إن في ابن خزيمة تصريح السلام على كل ركعتين، أقول: إن في سنن أبي داود أيضاً تصريح السلام على كل ركعتين، ولقد أبعد الحافظ النجعة بعيداً حين رواه من ابن خزيمة مع كون الحديث في سنن أبي داود ثم قيل: إن هذا الحديث لا يفيد في إثبات الضحى فإن هذه الصلاة صلاة الشكر على فتح مكة إلا أنه اتفق وقت الضحى.
قوله: (أربع ركعات إلخ) المشهور أن هذه صلاة الضحى، وقيل: إن الأربع أربع ركعات لصلاة الفجر وسنته.
قوله: (أكفك آخره) أي أكفك النوافل المبهمة التي لا نعلم تفصيلها لا الصلاة المكتوبة.
قوله: (عن عطية العوفي عن أبي سعيد إلخ) التعجب من تحسين المصنف حديث الباب، والحال أن في كل ما روى عطية عن أبي سعيد علته شديدة ينحط بها الحديث كل الانحطاط والعلة مذكورة في أواخر اللآلئ المصنوعة.
باب ما جاء في الصلاة عند الزوال
[478]
هذه الأربع عندنا سنن الظهر القبلية، وقال الشافعية: إنها صلاة الزوال ورواية الباب أخرجها
المصنف في الشمائل ص (21) وفي سنده كلام من جانب عبيدة فإنه ضعيف عند المحدثين، وهو صاحب المناقب الكثيرة منها أن قبره يفوح حين دفن إلا أن عندنا روايات أخر تدل على عدم التسليم على أربع في النهار، وأما رواية الشمائل فأخرجها ابن خزيمة في صحيحه، فلا أعلم وجه إخراجه مع ضعف الراوي.
باب ما جاء في صلاة الحاجة
[479]
صلاة الحاجة ركعتان بلا تعيين السور والحديث قوي، والدعاء المذكور في الحديث يأتي به بعد الصلاة، فإن الحاجة عامة من كونها متعلقة بالله أو بالناس، والدعاء الذي يتعلق بالناس مفسد للصلاة عندنا، ووقع في بعض الروايات أنه يذكر الحاجة في الدعاء باللسان.
باب ماجاء في صلاة الاستخارة
[480]
إذا كان الإنسان متردداً في أمر مباح أو واجب غير موقت فيستخير، والاستخارة في أمر واجب أو حرام، وأما البشارة بالرؤيا فلا وعد لها في الأحاديث في بعض الروايات أن الصحابة كانوا لا يتعلمون مثل القرآن إلا دعاء الاستخارة، وأما حديث الباب فقوي.
قوله: (إذا هم أحدكم) أقول: إن لفظ الهم يستعمل في أمور الشر كما قال أرباب اللغة ولا أعلم وجه استعمال الهم هاهنا في أمر الخير، قد قال: أهم بأمر الخير لو أستطيعه.
قوله: (أو قال: في عاجل أمري) اختلف العلماء في شرح هذه القطعة، وبيان اللفظ المبدل منه والبدل والألفاظ مخمسة، والمختار أن الأخيرين بدل الثلاثة الأول وقال العلماء يجمع بين الخمسة ويأتي بها.
باب ما جاء في صلاة التسبيح
[481]
واعلم أن كل نوع من أنواع الصلاة التي لا أصل لها من الشريعة الغراء من أحدث تلك الأنواع
فقد ابتدع، والحديث في صلاة التسبيح مختلف فيه قيل ضعيف، وقيل: إنه حسن، وهو المختار عند جمهور المحدثين وأدرجه ابن الجوزي في كتاب الموضوعات، وقال الحافظ ابن حجر في أماليه على كتاب الأذكار للنووي: إنه قد أساء ابن الجوزي حيث أدرجه في كتاب الموضوعات وكلام الحافظ مضطرب في الحكم على حديث التسبيح فإنه قال في التلخيص: إن كل الأسانيد ضعيفة، ثم لصلاة التسبيح صفتان أحدهما ما هو مروي في الكتب بالإسناد مرفوعاً، والثانية ما اختارها ابن المبارك، وفي الأولى جلسة الاستراحة بخلاف الثانية، ومختار صاحب القنية الثانية تحرزاً عن جلسة الاستراحة، أقول: إن شأن هذه الصلوات غير شأن سائر الصلوات فالمختارة الأولى.
قوله: (وسبحان الله إلخ) ويجوز ضم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أقول: إن هذه الأربع متبادرها كونها بتسليمة، وكذلك الحديث الذي سيأتي أنه عليه الصلاة والسلام علم علياً أربع ركعات لزيادة الحفظ متبادره الأربع بتسليمة واحدة، ولا يقال: إنه مثل قول عائشة: فلا تسأل عن حسنهن وطولهن وقد أنكر تبادر الأربع فيه فإنها قول عائشة حين روايتها فعله عليه الصلاة والسلام بخلاف حديث الباب، وحديث علي فإنه قوله عليه الصلاة والسلام بخلاف الأول فإنه حكاية فعل كما كان في الواقع، وروي عن ابن عباس تعيين السور أيضاً في صلاة التسبيح وهي من «إذا زلزلت» و «العاديات» إلى «إلهكم التكاثر» ولكن سندها ليس بذاك القوي، وذكر أحمد في روايته في بعض عباراته وسلسلة السور أيضاً تدل على الأربعة بسلام واحد.
قوله: (رمل عالج) مركب إضافي، وعالج اسم موضوع وسند حديث الباب ضعيف.
قوله: (أن أم سليم إلخ) ليست هذه صلاة التسبيح وسنده قوي ورجاله ثقات.
قوله: (وفي الباب) . أي في باب صلاة التسبيح لا في وفاق حديث أم سليم
باب ما جاء في صفة الصلاة على النبي
[483]
قال الشافعي: إن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فريضة في الصلاة في القعدة الثانية، وقال الطحاوي والخطابي: إن الشافعي رحمه الله متفرد في هذا وتمسك الحافظ بحديث فيه صيغة الأمر، وحملهما الجمهور على الاستحباب ووقع في بعض الروايات لفظ «العالمين» قبل «حميد مجيد» وذكر الوزير ابن هبيرة في الإشراف في هذا سبب الأشراف: قال محمد: إن لفظ «في العالمين» في الموضع الثاني وقال المحقق بن أمير الحاج: إني رأيت في بعض كتب الحديث لفظ «في العالمين» في الموضعين إلا أني نسيت تعيين ذلك الكتاب، وهاهنا إشكال عظيم وهو أن الرواة الذين ردوا صيغ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عن كعب بن عجرة كثيرون ولا يمكن التوفيق بينهما ذكرها الحافظ في الفتح بتمامها وقد كان الغرض رواية ألفاظه عليه الصلاة والسلام فمم اختلف الرواة في الصيغ فقد أوقعني هذا الأمر في الإشكال، فإن البحث إنما هو عن المروي فكيف اختلفوا مثل هذا الاختلاف في رواية واحدة؟
قوله: (فكيف الصلاة عليك إلخ) ذكر الحافظ في الفتح أن أمر الصلاة عليه عليه الصلاة والسلام صدر في السنة الثانية، ثم ذكر في موضع آخر أن الأمر صدر في السنة السادسة، ونقله عن الحافظ أبي ذر صاحب النسخة للبخاري وظني أن السنة الثانية من سهو الناسخين، واعلم أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مرة في مدة العمر فريضة، وإذا سمع اسمه عليه الصلاة والسلام قيل يجب الصلاة عليه، وقيل: يستحب والأول قول الطحاوي، والثاني قول الكرخي، ثم إذا تكرر سماع اسمه عليه الصلاة والسلام في مجلس واحد فقيل: تتداخل الصلاة، وقيل: لا ومثل هذا الاختلاف في من سمع اسم الله تعالى أنه يجب عليه التعلية والتقديس أم مستحب، ثم يتداخل أم لا؟ واعلم أن ما يذكر ويكتب لفظ (صلعم) بدل صلى الله عليه وسلم فغير مرضي وقد شنع عليه أحمد بن حنبل.
باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي
[484]
أي في داخل الصلاة وخارجها.
قوله: (أكثرهم على صلاة إلخ) اختلف العلماء في أن التهليل أفضل أم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أو قراءة القرآن؟ وظني أن من يريد الشفاعة فليكثر الصلاة ومن يريد الغفران من الله تعالى يكثر التهليل، وهكذا والله أعلم.
قوله: (وصلاة الملائكة الاستغفار) أقول: المشهور هو هذا التفصيل ولكن المحقق عندي أن
صَلّى إن كان كالقصر نحو هلل قال: لا إله إلا الله، وسبح أي قال: سبحان الله، وهو قصر معنى وإن لم يكن مثل بسمل من وحرج فيكون انتهاء الصلاة إلى الله، تعالى، والتفصيل المشهور ساقط فإن أحداً إذا قال صلى زيد يكون معناه أنه قال صلى الله عليه وسلم، أو يكون معناه اللهم صلِّ على محمد صلى الله عليه وسلم فاستقر الأمر وانتهى إلى الله تعالى وإن لم يكن كالقصر فيطلب هل هو ينسب إلى العباد والملائكة أم لا؟ ومع هذا ثبت عن بعض السلف التفصيل المذكور المعروف على الألسنة أنه إن نسب واستند إلى العبد فمعناه الدعاء، وإن استند إلى الملائكة فمعناه الاستغفار، وإن استند إلى الباري عز برهانه فمعناه الرحمة، لقد تم بحث الوتر وما يليه.