الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبواب الجمعة
باب ما جاء في فضل يوم الجمعة
[488]
قالوا: إن الجمعة اسم إسلامي، وأما في الجاهلية فكان اسم هذا اليوم يوم عروبة، وفرضية الجمعة عند الأحناف في مكة لكنها لم يكن أداؤها في مكة بسبب عدم القدرة، ثم ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأقام في قباء أربعة عشر يوماً ولم يجمع فيها لعدم تحقق شرط المصر ثم جمع في المدينة، وفصل مولانا المرحوم الگنگوهي المسألة في رسالته، وقال الخصم: إن الجمعة فرضت في المدينة، وقال السيوطي في الإتقان: إن نزول فرضية الجمعة في مكة حين ذكر ضابطة أن الحكم المشروع قد يكون مشروعاً قبل نزول آية كما في الوضوء فإن نزول آية الوضوء إنما هو بعد أن كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، وقد يكون بعد نزولها فإن قيل: إن وجه عدم أداء الجمعة في قباء قلة الناس؛ نقول: كان الناس ثمة أكثر من أربعين نفساً.
قوله: (أخرجَ منها إلخ) قيل: إن الغرض ذكر فضل الجمعة وإخراج آدم من الجنة لا يليق بالفضل فقيل: إن الغرض في الحديث ذكر أمور عظام وقعت يوم الجمعة لا ذكر فضل الجمعة. وقيل: إن الإخراج أيضاً فضل لأن المراد من الإخراج جعله خليفة في الأرض وإنما جيء به في الجنة ليعرفها ويعرف الخروج منها، وربما يجري على الأنبياء أمر لا يليق بظاهره شأن الأنبياء ولكنه يكون في الحقيقة أصلح لهم، ويسمى هذا في اصطلاح الصوفية تدبيراً مثل تربية موسى عليه الصلاة والسلام في بيت فرعون فإنه وإن كان غير لائق به ولكنه كان الغرض ثمة بيان قدرة الله وإظهار أن التقدير يسابق التدبير مع سعيه البليغ في إبقاء مملكته.
قوله: (ولا تقوم الساعة) ورد في حديث قوي: أن قيام القيامة يكون يوم عاشوراء، عاشر المحرم.
باب ما جاء في الساعة التي ترجى يوم الجمعة
[489]
في الساعة المحمودة خمسة وأربعون قولاً، بعضها مذكورة في فتح الباري وأذكر هاهنا اثنين؛ قول الأحناف: أنها بعد العصر إلى غروب الشمس وهو مختار أبي حنيفة وأحمد بن حنبل، والقول الثاني: أنها بعد الزوال من الخطبة إلى الفراغ عن صلاة الجمعة واختاره الشافعية، ورجح الزملكاني الشافعي القول الأول، وقيل إيراداً على الشافعية: أي وقت للدعاء بعد الزوال إلى الفراغ عن الصلاة؟ قالوا: يجوز عندنا الدعاء في سكتات الخطبة، وأيضاً يجوز عند الشافعية أي دعاء شاء من كلامه أو كلام الشارع، وفي الدعاء في الصلاة عندنا ضيق فإنها تفسد بدعاء يشبه كلام الناس، ودليل الشافعية رواية أبي موسى في مسلم ودليلنا رواية السنن من النسائي والترمذي، وقال أحمد: إن أكثر ذخيرة الحديث يدل على أنها بعد العصر إلى الغروب، ثم اختلفوا في الحديث، قيل بالتوفيق، وقيل بالترجيح، والأكثر من المرجحين، فرجح الشافعية رواية مسلم على رواية السنن، ورجح الحنابلة والأحناف رواية السنن وأن مرتبة أحمد أعلى من مرتبة مسلم، وأيضاً أعل أحمد رواية مسلم، ووجه العلة أنه مرسل عن أبي بردة بن أبي موسى، وذكر أبي موسى من الرواة وهمُ ثم إذا صار مرسلاً فيرجح المسند على المرسل، وبعض المحدثين يوفقون بين الروايتين منهم ابن قيم في الزاد وقال: كلا الوقتان مقبولان، ومنهم الشاه ولي الله رحمه الله في حجة الله البالغة وهو المختار، وأما وجه الرجحان لنا فهو أن صح أن خلق آدم بعد العصر كما في الروايات الصحيحة، وأيضاً في التوراة تصريح أنها بعد العصر إلى الغروب، وإن قيل: إن التوراة محرفة فكيف تصح أوجه الرجحان؟ أقول: إن في تحريف التوراة ثلاثة أقوال:
قال جماعة: إن التحريف المذكور في الآية تحريف معنوي ولا تحريف لفظاً أصلاً وهو مختار ابن عباس والبخاري والشاه ولي الله، ورواية ابن عباس أخرجها البخاري في آخر صحيحه، وقيل: إن التحريف اللفظي قليل واختاره الحافظ ابن تيمية وهو المختار، وقيل: إن التحريف كثير وكنت أزعم أنه وإن حرف بعض الأشقياء لفظاً ولكنه ليس بحيث لو سعى أحد أن يطلب النسخة الصحيحة على بسيط الأرض فلا يجدها بل لو أراد أحد أن يهيئ نسخة محفوظة يمكن له ذلك، ثم بعد مدة رأيت في بعض رسائل ابن تيمية تعيين ما كنت أزعم ثم تمسك على قلة التحريف بالآيات والأحاديث، ومن الآية:{فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ} [آل عمران: 93] فإنها لو كانت محرفة لما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم بإتيان
التوراة، ومن الأحاديث حديث الصحيحين: أن يهودياً وضع يده على التوراة على بعض عبارتها فضرب عبد الله بن سلام بيده. وأتى بأحاديث ونقل عبد الله بن سلام من التوراة مثل ما نقلت إن في التوراة أن الساعة المحمودة بعد العصر، وقوله يدل على أن التحريف ليس إلا قليلاً، وإن قيل: لمَّا كان الساعة المحمودة التي هي فضل يوم الجمعة بعد العصر ينبغي كون صلاة الجمعة أيضاً عند الساعة المحمودة، فلمَ قُدمت؟ قلت: إن التمهيد يكون مقدماً وربما يحيط التمهيد وقتاً أزيد من وقت المقصود مثل الحج، فإن الغرض وقوف عرفة فإذن يبتدء الغرض مما بعد العصر بخلاف التمهيد فإنه يبتدئ مما بعد الزوال وقريب من هذا ما في الإحياء للغزالي عن كعب الأحبار: أن فضل الساعة المحمودة لمن أدى صلاة الجمعة بحقوقها فدل على أن الغرض الساعة، ولم يتكلم العراقي المخرج لما في الإحياء على هذا النقل بشيء وأقول: إن حديث «يوافقها عبد مسلم يصلي قائماً» إلخ مراده أنه يصلي أي يأتي بالجمعة بحقوقها، وكذلك أقول: يشترط فضل الساعة لمن أدى العصر أيضاً بحقوقها فالمراد بـ «يصلي» قائماً أنه يداوم على الصلاة لا أن يكون مصلياً في الحال، ولا نحتاج إلى تأويل أن منتظر الصلاة مصلي بل المراد من الصلاة هي صلاة تقع مقدمة لذلك الوقت أي الساعة المحمودة، ومثل هذا وجدت عن كعب الإحبار في الإحياء، وفي مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن بدأ الخلق كان من يوم السبت» ويخالفه ما في القرآن العزيز فإن ظاهر القرآن يدل على أن الخلق امتد إلى ستة أيام وآخرهم خلقاً آدم وخلق يوم الجمعة فعلم أن بدء الخلق من يوم الأحد، والسبت كان خالياً، فحديث مسلم أعله جماعة منهم البخاري بأن أبا هريرة سمع هذا القول من كعب الأحبار، ذكره ابن كثير فرفعه الراوي إلى صاحب الشريعة، والمختار أن الخلق ابتدئ به من السبت إلى الخميس ثم استوى على العرش
وبعد ذلك خلق آدم في جمعة أخرى فإن التمسك بظاهر القرآن أولى.
ثم سأل سائل أن الأيام الستة هذه لأسبوع أو لأسابيع عديدة؟ وظاهر القرآن أنها لأسبوع واحد، لكن كان كل يوم مقدار ألف سنة مما تعدون.
قوله: (وفي الباب الخ) أي في باب فضل الساعة المحمودة لا في أنها بعد الزوال أو بعد العصر.
قوله: (كثير بن عبد الله) كثير متكلم فيه، فإن أحمد أخرج عنه إذا كرر النظر فأسقط كل ما أخرج عنه، وقال: إنه لا يساوي درهماً، وقال البعض: إنه كذاب، ولا أعلم كذبه وما حسن روايته إلا الترمذي والبخاري وابن خزيمة.
قوله: (قصة طويلة) مذكورة في المشكاة وموطأ مالك.
قوله: (يصلي) الحديث صحيح، وفي البخاري:«قائم يصلي» وعندي مراده ما مر أي يداوم على الصلاة، ويكون القيام بمعنى الدوام ومثل آية:[آل عمران: 75] ، وفي ابن ماجه رفع هذا التأويل أي مراد «يصلي» ينتظر الصلاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه معلول أعله ابن مندة الأصبهاني، وقال: الصواب وقعه.
باب ما جاء في الاغتسال في يوم الجمعة
[492]
قال الثلاثة: إن الغسل سنة، ونُسب إلى مالك وجوبه، وإنما قلت: نُسب لأن الموالك يطلقون لفظ الوجوب على السنة الأكيدة أيضاً، واختلفوا في أن الغسل للجمعة أو لصلاتها، والمختار الثاني.
قوله: (فليغتسل) يحمله الموالك على ما نسب إليهم أن الأمر للوجوب ويحمله، الجمهور على أنه للاستنان، وللموالك ما أخرجه البخاري:«يجب الغسل على كل محتلم وبالغ» وقال الجمهور: إن بعض قطعات ذلك الحديث موقوفة على ابن عباس.
قوله: (إذ دخل رجل) هو عثمان بن عفان، وتمسك الجمهور بأنه لو كان الغسل واجباً لما تركه عثمان ثم لا يمهله عمر وأجاب الموالك بما وقع في مسلم: أن عثمان اعتاد الغسل كل صبح فلعله اكتفى على ذلك الغسل ولم يجدد.
قوله: (والوضوء أيضاً) الوضوء مرفوع أو منصوب.
باب ما جاء في فضل الغسل يوم الجمعة
[496]
قوله: (غسل) قال وكيع: مراده أنه جامع، وقال ابن المبارك: غسل الرأس، أقول: الصواب ما قال ابن المبارك فإنه يوافقه حديث مرفوع أخرجه أبو داود في سننه ص (50) في رواية أوس.
قوله: (بكر وابتكر) قيل: إن ابتكر تأكيد محض، وقيل: التبكير الذهاب ابتداء اليوم والابتكار
وجدان الخطبة من ابتداءها، وقد يكون المجرد لغيره في الافتعال لنفسه مثل كسب واكتسب وباع وابتاع، ولم يذكر أحد من أرباب التصريف هذه الضابطة، وقال جماعة منهم صاحب القاموس: إن الافتعال لازم ورد عليه أحمد صاحب الجاسوس وقال: إنه يكون متعدياً أيضاً، أقول: لعل المراد من كونه لازماً أنه إذا كان الفعل المجرد ومتعدياً إلى ثلاثة مفاعيل يتعدى إلى المفعولين في الافتعال، وإذا كان في المجرد متعدياً إلى مفعولين يتعدى في الافتعال إلى مفعول واحد، فاللزوم إضافي، وفي موطأ مالك ما يدل على الإنصات للنائي أيضاً.
قوله: (بكل خطوة) قيل: إن الخطوة ما بين اليمنى واليسرى، وقيل: ما بين قدم إلى تلك فعلى الأول تكون قدماً واحداً، وعلى الثاني قدمين.
باب ما جاء في الوضوء يوم الجمعة
[497]
حديث الباب حجة للجمهور وحسنه الترمذي، ولكن في سماع الحسن عن سمرة ثلاثة أقوال؛ قيل: لم يسمع شيئاً، وقيل: سمع، وقيل: سمع حديث العقيقة، وأما عن سائر الصحابة فيرسل كثيراً.
قوله: (فبها) أي فبالخصلة الحسنة.
قوله: (حتى يرده) وحديث الصحيحين «أنا لم نرده عليك» إلخ بالنصب، قال علماء العربية: إنه لحن، وصنفت الكتب في لحون المحدثين وأجاب المحدثون، عن حديث الصحيحين باستشهاد شعر.
قوله: (إلى الجمعة إلخ) أي من صلاة جمعة إلى صلاة جمعة لتكون عشرة أيام مع ثلاثة أخر، ولو أردنا من يوم جمعة إلى يوم جمعة تصير الأيام بزيادة ثلاثة أيام إحدى عشر يوماً.
قوله: (من مس الحصى) عندنا منهي عنه في الخطبة ما ينهى عنه في الصلاة، وأما الشافعي فقوله القديم مثل قولنا، وفي الجديد جواز الكلام أيضاً ووسع في الأمر.
باب ما جاء في التبكير إلى الجمعة
[499]
التبكير عند مالك من ما بعد الزوال، وقال: إن الساعات الستة تعد بعد الزوال، والجمهور على
أن الساعات من ابتداء اليوم والتبكير أيضاً من ابتداء اليوم، وفي بعض الروايات ذكر الساعة السادسة أيضاً كما في النسائي.
قوله: (ثم راح) استدل بهذا الموالك على أن ابتداء الساعة من بعد الزوال، لأن الروحة الذهاب بعد الظهيرة كما في:
~ أرواح مودع أم بكور
…
أنت فانظر لدى ذاك تصير
وتمسكوا أيضاً بحديث: «أن المهجر إلى الجمعة» إلخ فإن التهجير الذهاب عند الهجيرة وتمسك الجمهور بحديث: «بكرو» إلخ. فإن التبكير هو الذهاب عند البكرة ثم تمسك كل واحد بما يوافقه، وتأول ووسع في كلام الخصم.
قوله: (حضرت الملائكة إلخ) استنبط العيني منه أنه لا يتكلم في الخطبة، وأقول: إن الكلام إذا قعد الإمام على المنبر قبل الشروع في الخطبة وإذا جلس بين الخطبتين، فقال الزيلعي شارح الكنز: إنه لا يتكلم أصلاً لا كلام الدين ولا كلام الدنيا، وفي النهاية أنه لا يتكلم إلا بكلام الدين، وفي العناية أنه يجوز له أن يجيب المؤذن والأقوال الثلاثة مذكورة في حاشية الهداية لمولانا عبد الحي أيضاً.
قوله: (قرب بقرة) تاء البقرة ليست للتأنيث بل تاء الوحدة، ويطلق على المذكر والمؤنث وكذلك الحال في تاء كل حيوان مثل الدجاجة، واتفق على هذا أئمة اللغة إلا أنه نقل صاحب الكشاف والمدارك عن أبي حنيفة في لفظ النملة، فإنه لما دخل قتادة الكوفة اجتمع عليه الناس قال: سلوني عما شئتم، فكان أبو حنيفة فيهم فقال: إن نملة سليمان مؤنث أو مذكر؟ فأفحم قتادة، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى، فقيل: كيف ذلك؟ قال: قال الله عز وجل: «قالت نملة» ولو كانت ذكراً لقال: قال نملة، فما وجدت من يوافق أبا حنيفة إلا لعلها مبرداً في كامله وابن السكيت في إصلاح المنطق، ويقول جمهور أرباب اللغة: إن النملة كالشاة والحمامة يقع على الذكر والأنثى، لأنه اسم جنس يقال: نملة ذكر ونملة أنثى، وشاة ذكر وشاة أنثى فلفظها مؤنث، وأما المصداق فمحتمل للمعنيين فلعل التأنيث كان على اللفظ وإن كان في الواقع ذكراً أو مؤنثاً، ويمكن أن يقال: إن هذا الاستعمال فصيح، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام:«لا تضحي بعوراء ولا عمياء ولا عجفاء» فإنه أتى بصيغ المؤنث والحال أن الأضحية ليست بخاصة بالإناث. والله أعلم.
قوله: (كبشاً أقرن) أي ذا قرن، استدل بعض الناس بحديث الباب على أضحية الدجاجة أقول لو كان الأمر كذلك لجاز أضحية البيضة أيضاً، فإن في الحديث ذكر البيضة أيضاً في الساعة السادسة.
قوله: (فإذا خرج الإمام) إذا كان الإمام خارج المسجد فخروجه للخطبة يتحقق بوضع قدمه في المسجد، وإن كان في المقصورة فكذلك أيضاً، وإن كان في المسجد فتحقق خروجه للخطبة بقيامه من الصف.
باب ما جاء من كم يؤتى إلى الجمعة
؟
[501]
ها هنا مسألتان لا ينبغي الخلط بينهما:
أحدهما: بيان محل إقامة صلاة الجمعة، وهو المِصْر أو القرية الكبيرة عندنا.
وثانيهما: بيان من يجب عليه شهود صلاة الجمعة سوى أهل المصر.
والمذكورة في الباب الثانية، ففيها ثمانية أقوال للأحناف، ذكرها الشرنبلاني في رسالته، منها ما نسب إلى أبي يوسف تمريضاً، وهو أنه يجب الجمعة، على من كان على المسافة الغدوية من موضع إقامة الجمعة، والمسافة الغدوية أن يعود الرجل قبل الغروب إلى بيته بعد أداء الجمعة، ومنها ما قيل:
إنها لا تجب إلا على سكان موضع إقامة الجمعة، ومنها أنها واجبة على من يسمع الأذان من غير سكان موضع إقامتها، والأرجح هو هذا فإنه مؤيد لفتاوى الصحابة.
قوله: (ثوير) هو ابن أبي فاختة، وهو متكلم فيه، وحسَّن له الترمذي في موضع.
قوله: (من قِبا) وقِبا على ثلاثة أميالٍ من المدينة المنورة، ودل الحديث على عدم إقامة الجمعة في القرى.
قوله: (كنا نتنادب) أي تجيء جماعة في جمعة، وجماعة أخرى في جمعة أخرى، ويفيدنا في عدم الجمعة في القرى، وفصله مولانا المرحوم في رسالته.
قوله: (الجمعة على من أداه) قيل: معناه أن الجمعة على من كان على المسافة الغدوية. وقيل: معناه أن الجمعة على المقيم لا المسافر، ولا تجب الجمعة على المسافر عندنا، وكذا عند المالكية وعند الشافعية.
قوله: (الحجاج بن نصير) ضعَّفه بعض المحدِّثين، ووثقه البعض، ومن الموثقين ابن مَعين، وفي سند الباب معارك بن عباد ضعيف.
باب ما جاء في وقت الجمعة
[503]
لا تصح الجمعة عند أبي حنيفة ومالك والشافعي قبل الزوال، وتصح عند أحمد، وقال: تصح عند الضحى مثل العيد، فإن الجمعة أيضاً عيد، ولقد أطنب ابن تيمية في المسألة، وقول أحمد قول ابن الزبير: وقول ابن مسعود، وقال ابن تيمية: يقول الراوي: (كنا نتغدى ونقيل بعد الجمعة) ، والغداء يكون قبل الزوال، ويجاب عنه بأن مراده أنا كنا نأكل الطعام الذي كنا نأكله عند الغداء بعد الجمعة، وكذلك القيلولة، وليس هذا، فجاز أن يعارض بأن في الحديث: أنه عليه الصلاة والسلام كان يأكل عند السحر، فقال بعض أصحابه: هلمّوا إلى الغداء المبارك، وفي اللغة يكون الغداء بعد طلوع الشمس، فيلزم عليك إجازة أكل الطعام للصائم بعد طلوع الشمس، والحال أن مراده أنه بدل الغداء.
واختار العيني في العمدة أنه لا إبراد في الجمعة، بل الإبراد في الظهر، وقال صاحب البحر: إن في الجمعة أيضاً إبراد.
أقول: عادته عليه الصلاة والسلام عدم الإبراد.
باب ما جاء في الخطبة على المنبر
الخطبة على المنبر مسنونة.
[505]
قوله: (حن الجذع الخ) في بعض الروايات القوية أن الجذع انشق، وفي ثلاثة روايات قوية أنه دفن عند وضع المنبر، وعندي روايات تبلغ عشرين تدل على وجود المنبر في السنة الثانية والثالثة والرابعة وهكذا إلى العاشرة، ومفهوم عبارة الحافظ أن النخل قلعت عند بناء المسجد النبوي، وجعلت عضادات في جدار القبلة وقال السيد السمهودي: إنها جعلت أعمدة تحت السقف والعبرة للسيد السمهودي في أحوال المدينة، ثم بعض الروايات تدل على أن الجذع كان من أعمدة المسجد النبوي، وبعضها تدل على أنها غيرها، والله أعلم.
وكان الجذع إلى جانب اليسار من المصلى، أي المحراب، ويدل بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام سأله فاختار الآخرة على الدنيا، وفي الروايات أنه دفن في الموضع الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه من الجنة، ولعله مصداق اختياره الآخرة والله أعلم، وقال الإسفرائي الشافعي أنه: عليه الصلاة والسلام دعا الجذع فأتاه واثباً ذكره القاضي عياض في الشفاء، أقول: إنه وهم قطعاً من الإسفرائي فإن الوثوب إنما ثبت في الشجرتين اللتين دعاهما النبي صلى الله عليه وسلم حين أراد قضاء الحاجة.
باب ما جاء في الجلوس بين الخطبتين
[506]
الجلوس بين الخطبتين سنة عند أبي حنيفة، وشريطة عن الشافعي، وجرت ها هنا الزيادة بالخبر
الواحد على القاطع، فإن آية:{فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] تدل على مطلق الذكر، ودل الحديث على الخطبتين بينهما جلوس.
باب ما جاء في قصر الخطبة
[507]
السنة قصر الخطبة وتطويل الصلاة، القصر متعد، والقصور لازم، واعلم أن ثمانية أشياء مستحبة عندنا في الخطبة، منها عدم خلوها من آيةٍ مَا، ذكرها صاحب البحر، وقال الشافعي: إن الاشتمال على آية من الآيات شرط.
باب ما جاء في استقبال الإمام إذا خطب
[509]
السنة في الخطبة التحديق، وأن يستقبلوا الإمام بوجوههم، ولكن الزمان زمان الفساد، لو حدقوا لا يمكن استقامة الصفوف عند الجماعة، فالأولى ترك التحديق، وذكره في نيل الأوطار أيضاً، وفي مبسوط السرخسي أن أبا حنيفة كان يقبل بوجهه إلى الإمام عند الخطبة من موضعه بلا تبديل الموضع.
ولقد بوَّب البخاري على هذه المسألة، فكيف يصح قول المصنف: لم يصح فيه شيء، فإنه وإن لم يأت بالصريح ولكن استنباطه صحيح، وفي الدر المختار أن استماع الخطبة واجب ولو خطبة النكاح.
باب ما جاء في الركعتين إذا جاء الرجل والإمام يخطب
[510]
قال أبو حنيفة ومالك: من أتى والخطيب يخطب يجلس كما هو ولا يصلي شيئاً.
وقال الشافعي وأحمد: تستحب تحية المسجد.
وأما الخلفاء الراشدون والجمهور من الصحابة فمع أبي حنيفة ومالك. كما في النووي شرح مسلم ص (387) ، وتمسك الشافعي بالمرفوع، وسيأتي أجوبة منا.
قوله: (رجل) هو سليك بن هدبة الغطفاني، وأطنب الحافظ هاهنا ورد على خصومه، والجواب
المشهور منا: أن هذا الرجل كان في هيئة بذة، وكان غرضه عليه الصلاة والسلام أن يجمع له المتفرقات من الناس، وأنه عليه الصلاة والسلام أمهل خطبته.
وأما كونه في هيئة بذة فثابت في حديث الباب والنسائي الصغرى ص (308) . أنه جاء رجل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب بهيئة بذة. . إلخ.
وأما الحض على الصدقات له فمذكور في النسائي والطحاوي.
وأما إمهال الخطبة ففي سنن الدارقطني أخرجها رجال ثقات، ثم نُقِل عن أحمد أن الصواب إرساله، فيكون من خصوصية سُليك.
وأما مسألة إمهال الخطبة إنه جائز أم لا فمحولة إلى الفقه، وقيل: إنه عليه الصلاة والسلام كان لم يشرع في الخطبة وقال العيني: إن النسائي أخرج ما يدل على عدم الشروع، وبوَّب عليه في السنن الكبرى، أقول: إني راجعت فلم أجد، ويمكن التمسّك في هذا بما أخرجه مسلم ص (382) : ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر. . إلخ، فقعوده دل على أنه لم يشرع، وتأول النووي فيه، ويمكن الجمع بين ما في مسلم وما في سنن الدارقطني بأنه عليه الصلاة والسلام كاد أن يشرع، فإنه قد جلس على المنبر، ولما جاء سُليك أمهل خطبته، أي لم يشرع فيها، ولا بُعد في هذا الجمع، ويمكن أن يجعل الروايتين جوابين ثم نقول: إن مدعى الخصم أن هذه الصلاة صلاة التحية، والحال أنه يخالفه ما في ابن ماجه ص (29) بسند قوي:«أصلّيتَ ركعتين قبل أن تجيء؟» قال: «لا، قال: «فصل الركعتين، وتجوَّز فيها» فدل على أنهما ركعتان قبل الجمعة لا تحية المسجد، أخرجه الزيلعي أيضاً من سنن ابن ماجه، وقال أبو الحجاج المِزِّي الشافعي وابن تيمية: إن في ابن ماجه تصحيفاً، وأصل الرواية «أصلّيت قبل أن تجلس. . إلخ» ، ثم قال ابن تيمية: إن رواة ابن ماجه أي ناقلون ليسوا بمتقنين ووقع فيه تصحيف كثير.
أقول: إن الأوزاعي أو إسحاق بن راهويه بنى مذهبه على رواية ابن ماجه، وقال: لو صلى السنن في البيت لا يصلي إذا خطب الإمام، ولو لم يصلهما فليؤدهما في المسجد وإن أخذ الخطيب في الخطبة وأيضاً في جزء القراءة للبخاري: قال جابر: وإن كنت أصلي السنن في البيت أصليهما في المسجد وإن خطب الخطبة، على ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سليكاً. وراوي رواية ابن ماجه هو جابر، فعلم أنه ليس بتصحيف، ولفظ (قبل أن تجيء) صحيح، وإن لم يوافقنا جابر، وقال ابن حجر حين مر على رواية ابن ماجه: إن المجيء هو المجيء من موضع المسجد إلى موضع آخر، لا
المجيء من البيت. أقول: إنه تأويل محض الركعتين معرفة باللام فلا بد من العهد سابقاً، والمعهود ركعتا التحية، ونقول: إن واحداً من اللفظ ليس فيه حين الاستفهام تعريف الركعتين بالألف واللام، وأما في موضع الأمر ـ أي في قوله:(فصل الركعتين) ـ فاللام موجودة، والمعهود قبله الركعتان في قوله:(أصليت ركعتين) فصار معهوداً في كلامه في الموضع الثاني، فدل جميع ما سبق أن هذه واقعةُ حالٍ لا عموم لها.
ثم في الطحاوي ص (314) بسند قوي وابن حبان والنسائي الكبرى أن الرجل أتى عنده عليه الصلاة والسلام في ثلاث جمعات وأمره عليه الصلاة والسلام ثلاث مرار بالركعتين. أقول: إن الثالثة إنما هي من شك الراوي.
وفي النسائي الصغرى ص (308) ذكر الجمعتين لا الثالثة، وفي صحيح ابن حبان زيادة أنه عليه الصلاة والسلام قال:(فلا تعد لمثل ذلك الخ) ، فزعم أنه نهيٌ عن ترك الركعتين وقت الخطبة، وأقول: إنه نهي عن الابطاء في الجمعة.
وآخر ما تمسك به الشافعية أن في مسلم ص (387) قال عليه الصلاة والسلام بعد الواقعة: «فإذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليصل ركعتين، وليتجوَّز فيهما» فلم يبق واقعةَ حال، بل أمرٌ كليٌ، وتشريعٌ قولي، وأخرج هذا القول النسائي أيضاً، وكذلك البخاري في غير موضعه مع أنه اختار مختار الشافعي.
(ف) قال النووي: لا يمكن التأويل في القول، أقول: إن الحديثَ القوليّ لا يمكن فيه الاحتمالات، ويمكن فيه التأويل، وفي الحديث الفعلي عكسُ ما في القولي.
ثم أقول مجيباً عن تمسك الشافعية: إنه لو كان الفعل والقول منه فلمَ أمهل النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة، فأذن نجعل الفعل شارحاً للقول، أي إذا جاء أحدكم والإمام يخطب، أي كاد أن يشرع في الخطبة، وفي النسائي ص (227) ومسلم ما يدل على ما قلت.
وأما على طريق المحدثين فصنف الدارقطني كتاب التتبع على الصحيحين، وأعلَّ حديث البخاري قريب المائة وفي كل موضع إعلاله على الأسانيد، وفي هذا الموضع إعلاله على المتن، فقال: أن هذا القول الكليّ من إدراج الراوي، ووضع الراوي ضابطه من جانب نفسه، ثم طرّق الدارقطني الأحاديث، وقال: لم يذكره غيره.
وأقول لعل عدم إخراج البخاري الحديث في موضعه يشير إلى أنه متردد فيه، فإني علمت أن من صنع البخاري أنه لا يخرج الحديث في الذي فيه ظاهر، ويخرج في الموضع الآخر إذا كان له تردد بذلك الحديث على جهة الظاهر، مثل الاشتراط في الحج عند الإحرام واختار مذهب أبي حنيفة، ولم يخرّج حديث ضباعة بنت زبير في باب الاشتراط، وأخرجه في النكاح، ونقول على طريق المعارضة: إن في أربعة وقائع غير هذه الواقعة لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحية المسجد:
منها ما في البخاري وغيره أن رجلاً دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب وقال هلك المال، وجاع العيال، وطلب الاستسقاء، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم مستسقياً ولم يأمره بالركعتين، ثم جاء رجل في الجمعة الثانية، وقال: تهدمت البيوت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«اللهم حوالينا لا علينا» ، فلم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحية المسجد.
ومنها ما في الكتب أن رجلاً كان يتخطى رقاب الناس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (اجلس) ولم يأمره بتحية المسجد.
ومنها أنه كان يخطب وقال للناس: (اجلسوا) فجلس ابن مسعود على الباب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ائتني وما أردتك فقيل من جانب الشافعية: إنا قلنا بالاستحباب لا بالوجوب، قلنا: إن في واقعة الباب كانت داعية بخلاف سائر الوقائع، فيكون هذا من خصوصية سُليك، ولقد بوب النسائي ص (208) على حث الإمام على الصدقة يوم الجمعة في خطبة، وذكر تحته حديث الباب،
فأشار إلى أن المهتم بشأنه كان الحث على الصدقة، وأيضاً في النسائي ص (227)«إذا جاء أحدكم والإمام قد خرج فليصل ركعتين» فدل على أن الإمام لم يشرع في الخطبة، وفي بعض الروايات «والإمام يخطب أو قد خرج» وعندي (أو) لشك الراوي، وقال الشافعية: إنه للتنويع، والله أعلم بالصواب.
باب ما جاء في كراهية الكلام والإمام يخطب
[512]
قال الأحناف والموالك وقريب منهم الحنابلة: إنه لا يجوز كلام في الخطبة، وكذلك القول القديم للشافعي، وأما جديده فيجوز الكلام عند خطبة خطيب، ونقول: إن الخطبة كالصلاة.
وتمسك الشافعي على الجواز بحديث أنه عليه الصلاة والسلام أرسل الصحابة لقتل كعب اليهودي، فرجعوا والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم:«أفلحت الوجوه؟» فقالوا: نعم يا رسول الله، وواقعة أخرى أنه عليه الصلاة والسلام كان يخطب فجاء رجل فسأله عليه الصلاة والسلام وأجابه الرجل.
ونقول بما في فتح القدير: إن الإمام له أن يتكلم في مهمات الدين ومسائل الدين، مثل بعث السرية، ثم من شأن الخطبة الاستماع، فإن الكلام على أنواع: القراءة، والتلاوة، والمناجاة، والدعاء، والتبليغ، والخطبة، والدرس، ولكل واحد منها شأن على حده، وظني أن مناط قول الشافعي في الخطبة والقراءة خلف الإمام واحد، والله أعلم.
قوله: (أنصت فقد لغا إلخ) فإنه يكفيه التعليم بالإشارة، وتمسك بعض الأحناف بمثل هذا العموم على نفي تحية المسجد، أقول: الأولى والأصوب الكلام في الخاص ولا ينبغي الاحتجاج بالعام مقابلة الخاص، فإنه يمكن لأحد أن يمنع عدم الفرق بين تعليم المسألة وتحية المسجد.
وأما السلام في الخطبة فلا ينبغي، ولو سلم فلا يرده، وكذلك تشميت العاطس منهي عنه في الخطبة، وإذا قرأ الخطيب:{صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56] يقول المستمع: صلى الله عليه وسلم في نفسه، أي بكلام نفسي، هكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله، ونقل صاحب البحر أن أبا يوسف كان إذا لم يبلغه صوت الخطيب يأخذ في تصحيح الكتاب.
وأما الكلام إذا قعد الإمام على المنبر ولم يشرع فيه، أو جلس بين الخطبتين، فقال شارح الكنز: لا يتكلم بشيء، وقال في النهاية: لا يتكلم بكلام الدنيا، وقال في العناية: إنه يجيب الأذان
سيما إذا لم يجب الأذان الأول، ولعل المختار قول العناية لما في البخاري أن أمير المؤمنين معاوية جلس على المنبر وأجاب الأذان، وقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل هكذا في مثل هذا الموضع، والتأويل فيه بعيد.
باب ما جاء في كراهية الاحتباء والإمام يخطب
[514]
مناط الكراهة خوف النوم، وثبت الاحتباء عن كثير من الصحابة، كما في سنن أبي داود ص (165) ، والاحتباء أن يضع أليتيه على الأرض، وينصب الركبتين، ويشد الثوب على الركبتين مع الظهر، أو يشد اليدين على الركبتين، ووضع اليدين على الأرض يصير إقعاءً.
واعلم أن المجتهد قد يعتبر العلة في جنس الحكم، وقد يعتبر في الجزئيات، ويسمى في الأول: الحكم لمظنة العلة، وفي الثاني الحكم لمئنة العلة، ومثال الأول: قصر الصلاة في السفر، ومثال الثاني: النهي عن النوم واضعاً إحدى رجليه على الآخر، فإن العلة فيه تَوَهْمُ كشف العورة، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام النوم على تلك الهيئة لارتفاع مناط النهي، أي لكونه مأموناً عن كشف العورة.
باب ما جاء في كراهية رفع الأيدي على المنبر
[515]
يكره رفع الأيدي على المنبر عند الخطبة، وثبت رفع السبابة وحركتها، وإني متردد في أن حركتها كانت للتفهيم أو للدعاء كما ذهب إليه البيهقي، وهو في الإتحاف، فإن رفع السبابة أيضاً قد يكون للدعاء كما روي عن أبي يوسف.
باب ما جاء في أذان الجمعة
[516]
المشهور أن الأذان في عهده عليه الصلاة والسلام كان واحداً وخارج المسجد عند الشروع في الخطبة، وكذلك في عهد الشيخين، ثم قرر عثمان أذاناً آخر قبل الشروع في الخطبة خارج المسجد على الزوراء حين كثر المسلمون، والزوراء قيل: حجر، وقيل: سوق، وقيل: بناء، وهذا الأذان كان قبل الأذان بين يدي الخطيب بعد الزوال، فانتقل الأذان الذي كان في عهده عليه الصلاة والسلام إلى داخل المسجد، هذا هو الصحيح، وفي فتح الباري ما يدل على أن هذا الأذان شرع في عهده عليه
الصلاة والسلام واشتهر في عهد عثمان، وفيه ما يدل على أن هذا الأذان من عهد عمر، وبعضها تدل على أن الإضافة هذه من أمراء بني أمية، ولكن هذه كلها ضعاف، ثم الأذان الثاني وإن حدث في عهد عثمان ولكنه لا يقال بأنه بدعة ـ عياذاً بالله ـ فإنه من مجتهدات عثمان، وأما وجه الاجتهاد فظاهر على مذهب الشافعي فإنه صرح بجواز تكرار الأذان لصلاة واحدة ولو أربع مرات عند الضرورة، وأما على مذهب الأحناف فيقال: أولاً إن التكرار مشروع للضرورة مثل التكرار في الفجر، فإنه كان أحدهما للتسحير، كما صرح محمد في كتاب الحجج بأن الأول كان للتسحير، وأيضاً في الحديث:«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين. . إلخ» وفي شرح هذا الحديث قولان، قيل: إن سنة الخلفاء والطريقة المسلوكة عنهم أيضاً سنة وليس ببدعة، وقيل: إن سنة الخلفاء في الواقع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ظهرت على أيديهم، ويمكن لنا أن نقول: إن الخلفاء الراشدين مجازون في إجراء المصالح المرسلة، وهذه المرتبة فوق مرتبة الاجتهاد، وتحت مرتبة التشريع، والمصالح المرسلة: الحكم على اعتبار علة لم يثبت اعتبارها من الشارع، وهذا جائز للخلفاء الراشدين لا للمجتهدين، وزعم البعض أن الخلفاء الراشدين ليس لهم إلا ما للمجتهدين، وهذا غير صحيح، وبعض مسائل أبي حنيفة تدل على أن لهم مساغ إجراء المصالح المرسلة، وعض عليها بالنواجذ:
منها ما اعتبر الدرهم السبعي، والحال أنه ليس عنه عليه الصلاة والسلام، وفيه تبديل حكمه عليه الصلاة والسلام ظاهراً وليس هاهنا وجه الاجتهاد ظاهراً، وكان الدرهم في عهده عليه الصلاة والسلام درهماً تكون عشرة منها قدر عشرة مثاقيل، ودرهماً تكون عشرة منها قدر ستة مثاقيل، ودرهماً تكون عشرة منها قدر خمسة مثاقيل، ثم اختلف العاملون والمتصدقون في عهد عمر، فقال عمر: يجمع عشرة وستة وخمسة فيحصل إحدى وعشرون، ثم يؤخذ الثلث أي السبعة، فقدر الدرهم الذي تكون عشرة منها قدر سبعة مثاقيل، فاعتبر أبو حنيفة الدرهم السبعي في الزكاة، وهذا المذكور موجود في كتبنا.
ومنها ما في كتبنا أنه لا يزاد الخراج على أرض عراق على ما عين عمر، وإن زادت غلة وفي النقصان عند نقصها غلة قولان.
ومنها قول أبي حنيفة: إن في الخيل زكاة ولم تزك في عهده عليه الصلاة والسلام، نعم أتى الزيلعي بواقعتين على أن عمر أخذ زكاتها.
وعلى هذا لو فرضنا أن عشرين ركعة التراويح أخرجها عمر من غير عهد عنه لا يمكن لأحد أن يحكم عليها بالبدعة فإنه لعله عمل بالمصالح المرسلة فلعل عثمان عمل بالمصالح المرسلة في الأذان، وقبله الأمة المحمدية.
وأما كون الأذان الثاني في داخل المسجد أو خارجه فظاهر كتب الأربعة أن يكون في داخله، أي بين يدي الخطيب، ولكن في سنن أبي داود ص (155) ما يدل على أنه يكون في خارج المسجد على
الباب، ولعله نقل بعد ذلك إلى داخل المسجد، والله أعلم.
قوله: (على الزوراء) قيل: إن الأذان الأول كان على الزوراء، والثاني على باب المسجد خارجه، ثم نقل أمراء بني أمية الأذان الثاني إلى داخل المسجد، والله أعلم بهذا النقل صحيح أم لا.
مسألة: ذكر أهل المذهبين من الشافعية والأحناف أن أذان الجوق محدث جائز، ذكر السيوطي أنه أحدثه أمراء بني أمية، أقول: إني في كونه محدثاً متردد، فإن في موطأ مالك ص (37) حتى يخرج عمر بن الخطاب، فإذا خرج عمر جلس على المنبر، وأذن المؤذن. . إلخ، فدل على كثرة الأذانات، ورواية مالك أخرجها البخاري أيضاً في آخر صحيحه بسنده مفصلةً، ولم يتوجه أحد إلى هذا، والله أعلم، فصار محل تردد وظن.
باب ما جاء في الكلام بعد نزول الإمام من المنبر
[517]
يجوز الكلام عند الصاحبين حين كون الإمام على المنبر قبل الشروع في الخطبة، وحين جلوسه بين الخطبتين، وحين فراغه من الخطبة الثانية، ولا يجوّزه أبو حنيفة، ثم تحته أقوال ذكرتها أولاً من الزيلعي والعناية والنهاية، وهذا كله في المقتدي، وأما الإمام فله أن يتكلم في أمور الدين كما في فتح القدير.
ومتن حديث الباب أعله البخاري ووجه الإعلال أنه كان واقعة حال، وعبره الراوي بلفظ يدل على أنه عادة، وحديث الواقعة حديث الصحيحين، ومر الحافظان على الحديث، وقال العيني: قيل: إن هذا الرجل كان رئيسَ قومه، فدل على أنه لم يطلع على رواية واقعة الباب.
كنت رأيت في كتاب ثم نسيته أن هذا الرجل قام وقال: يا رسول الله إن الله قضى حوائجي ولي حاجة لو أبطأت عليَّ لعلي أنساها.
فتكلم به النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رأيت هذه الرواية المنسية في أدب المفرد للبخاري، فيكون هذا واقعة حال.
وأما الكلام بعد الإقامة، ففي كتبنا أنه لو طال الفصل تعاد الإقامة، ولا يضبطون طول الفصل، فلا يقال: إن حديث الباب مخالف لنا.
قوله: (فلا تقوموا حتى تروني) غرضه بيان وهْمِ جرير، وليس للحديث تعلقٌ بالباب.
قوله: (حدثنا الحسن بن علي الخلال الخ) في هذا الحديث أيضاً وجه الإعلال موجود فينبغي إعلاله، فإن الراوي ذكر الواقعة بشاكلة الضابطة.
باب ما جاء في ما يقرأ به في صلاة الصبح يوم الجمعة
[520]
السور المأثورة في الصلوات مستحبة اعتيادها عندنا كما في البحر والحلية، ويدعها مرةً أو مرتين كيلا يفسد عقائد من خلفه من عدم صحة هذه الصلاة بدون هذه السور.
قوله: (تنزيل السجدة) نسب إلينا بعض غيرنا أن آية السجدة عندنا في السرية مكروهة للإمام كيلا يتوسوس المقتدون عند سجوده للتلاوة، وأما أنا لم أجد تصريح هذه الكراهة في كتبنا، والله أعلم.
باب ما جاء في الصلاة قبل الجمعة وبعدها
[521]
السنن قبل الجمعة أربعة عندنا، وعند الشافعي ركعتان.
وأما بعد الجمعة فركعتان عند الشافعي، وأربع عند أبي حنيفة، وست ركعات عند صاحبيه، وفي الست طريقان، والمختار عندي أن يأتي بالركعتين قبل الأربع لعمل ابن عمر في سنن أبي داود، وقال ابن تيمية: لا ثبوت لسنن قبل الجمعة، فإنه كان يؤذن بعد الزوال في الحال، ثم يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد سماع الأذان ويأخذ في الخطبة بمجرد دخوله المسجد، ثم يشرع في صلاة الجمعة، وأما الثابت من الصحابة فمطلق نافلة من غير تعيين.
وأما البخاري فبوب على الركعتين قبل الجمعة وما أتى بحديث إلا بحديث سنن قبل الظهر، فقيل: إنه يشير إلى قياس الجمعة على الظهر، وقيل: غرضه أنه لا شيء في هذه المسألة فدل بأنه على
النفي، وقال الزيلعي: لا أقل من ركعتين قبل الجمعة، لحديث سُليك الغطفاني الذي رويناه آنفاً من سنن ابن ماجه:(هل صليت ركعتين قبل أن تجيء. . إلخ) .
وفي مشكل الآثار: «من كان مصلياً فليصلِّ أربعاً قبل الجمعة وأربعاً بعدها. . إلخ» بسند ضعيف، وفي الإتحاف فهذا المرفوع يدل على أربع قبل الجمعة وأما بعد الجمعة فلأبي حنيفة رواية مسلم ورواية الباب مرفوعة وعمل ابن مسعود، وأما لصاحبيه فعمل ابن عمر في أبي داود ص (160) ثم رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعمل علي، ورأيت في كتاب حنفي أن أبا جعفر الهندواني صلى في مسجد رصافة في بغداد يوم الجمعة ركعتين بعدها ثم أربعاً، فقيل له، فقال: عملت بعمل علي، وفي الروايات القوية أن التابعين من أهل كوفة يقولون: كان ابن مسعود يعلمنا أربع ركعات بعد الجمعة، وعلمنا علي ست ركعات بعدها فلكل وجه لا يمكن إنكاره.
قوله: (يصلي بعد الجمعة ركعتين) وفي بعض الروايات تصريح في بيته. . إلخ، فتردد الأمران، هاتين سنن الجمعة أو ركعتان عند دخول البيت لحديث «إذا دخل الرجل في بيته فليصل ركعتين، وقال ابن الجوزي: إن هذا موضوع، وحسنه جلال الدين السيوطي.
باب ما جاء في من يدرك من الجمعة ركعة
[524]
قال أبو حنيفة وأبو يوسف وسفيان: من أدرك تشهّد الجمعة فقد أدركها.
وقال مالك والشافعي وأحمد ومحمد: من أدرك ركعة منها أدركها، ومن أدرك التشهد يبني عليه الظهر بلا استئناف.
وأجاب الشيخان عن حديث الباب: أن قيد الركعة اتفاقي لأن الركعة كالصلاة، وأما الحكم فحكم مدرك الركعة والتشهد واحد، وتمسك الجمهور أيضاً بمفهوم الحديث، وحمل الأئمة الحديث على المسبوق، كما فعلت في ما مر من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة وتمسُّكُ الشيخين:«ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» .
واعلم أنهم اختلفوا في أن الجمعة فرض مستقل أو مسقط للظهر، ومعنى هذا أن بناء الظهر على تحريمة الجمعة جائزة أم لا؟ ثم من بنى الظهر على تشهد الجمعة فهل يجهر بالقراءة أو يُسِر؟ فخيَّرهُ الفقهاء، وقال ابن تيمية: يجب الإسرار وقال الفقهاء: بأن القاضي يحكي الأداء لأنه منفرد، والمنفرد قاضٍ، والقضاء حكاية الأداء، وقال ابن تيمية: إنه منفرد ويجب الإسرار على المنفرد، والله أعلم بالصواب.
وللجمهور في مسألة الباب ما أخرجه النسائي في أبواب الجمعة عن أبي هريرة، وفي أبواب المواقيت عن ابن عمر:(من أدرك ركعة من الجمعة أو غيرها فقد أدركها. . إلخ) ، وفي رواية ابن عمر علة، وأما المسألة فاختلف فيها الصحابة رضوان الله عليهم.
باب ما جاء في السفر يوم الجمعة
[527]
لو أراد المقيم السفر فإن خرج قبل الزوال فبها، وإن تأخر إلى ما بعد الزوال فلا يجوز له السفر بدون أداء الجمعة
باب ما جاء في السواك والطيب يوم الجمعة
[528]
نسب إلى مالك وجوب الغسل كما مر منا آنفاً.
قوله: (فالماء له طيب) أي الغسل كاف، وهذا من قبيل:
~ تحية بينهم ضرب وجيع
…
لا كما زعمه رجل غبي.
أبواب العيدين
باب ما جاء في صلاة العيدين قبل الخطبة
[530]
السنة الخطبة بعد العيدين، وتلقاه الأمة بالقبول، وخالفها مروان، فإنه كان يهجو في خطبته علياً، واستنكره الناس، وكانوا لا يسمعون الخطبة، فقدم الخطبة ليستمعوها، وكانت خطبة الجمعة أيضاً بعدها إلا أنه عليه الصلاة والسلام كان يخطب فنفر الناس كلهم زعماً منهم أن سمع الخطبة ليس بحتم، فبقي اثنا عشر نفساً حوله عليه الصلاة والسلام، فقدمها النبي صلى الله عليه وسلم كما في مراسيل أبي داود، وثبت عن عثمان أيضاً تقديم الخطبة على صلاة العيد ليدرك الناس صلاة العيد.
باب ما جاء أن صلاة العيد بغير أذان وإقامة
[532]
هكذا عمل الأمة المحمدية، ولا يقال: إن الأذان والإقامة أمران حسنان، فأي حرج فيهما، فإنه قد ثبت منه عليه الصلاة والسلام صلاة العيدين تسع سنة، وما ثبتا عنه، وشبيه من هذا ما روي أن عليّاً أتى المصلى فوجد رجلاً يتطوع فنهاه، فقال الرجل: أُعذّبُ على صلاتي، فقال عليّ: إنك تُعذّب على خلافك السنة.
وفي كتب الشافعية: يجوز في صلاة العيد أن ينادى في الأسواق بالصلاةُ جامعة، وقاسوا على ثبوتها في صلاة الكسوف أخرجه مسلم ص (296)«بعث النبي صلى الله عليه وسلم منادياً بالصلاة جامعة فاجتمعوا. . إلخ» وليس هذا في كتبنا، وأذن وأقام ابن الزبير، وما وافقه الأمة.
(ف) قال الحذاق: إن البدعة ليست إلا سيئة.
باب ما جاء في القراءة في العيدين
[533]
حديث الباب يفيد في مقابلة من يدعي العمل بالحديث، فإنه يقول: إذا اجتمع العيد والجمعة
فالجمعة عفو، ومرفوع الباب يرد عليهم، ولا مرفوع لهم، نعم ثبت ما قالوا عن ابن الزبير وبعض التابعين، وأما ما في البخاري عن عثمان أنه صلى العيد ثم قال للناس من أراد أن يذهب فليذهب فليس مراده العفو عن أهل المِصر، بل الإجازة لأهل القرى الذين اجتمعوا.
باب ما جاء في التكبير في العيدين
[536]
قال أئمتنا الثلاثة وسفيان الثوري: إن التكبيرات الزوائد ستة: ثلاثة في الأولى قبل القراءة، وثلاثة في الثانية بعدها، وقال مالك وأحمد والشافعي: الزوائد اثنتي عشر تكبيرة قبل القراءة، سبعة في الأولى، خمسة في الثانية.
مسألة: في كتب الأحناف: إن تكبير الركوع في ثانية العيد واجب بخلاف سائر الصلاة فإنه سنة فيها، ولو ترك التكبير في ثانية العيد تلزم سجدة السهو، ثم قالوا: إن لزمته سجدة السهو لا يسجد له مخافة اختلاط القوم، وأما الأدلة في مسألة الباب فلهم حديث الباب، وفي سنده كثير بن عبد الله، وهو متكلم فيه، وحسّنه الترمذي والبخاري وابن خزيمة، وجرحه أحمد بن حنبل، وقال الحافظ أبو الخطاب بن دحية المغربي: إن أقبح الأحاديث التي أخرجها الترمذي وحسنها رواية كثير بن عبد الله في تكبيرات العيدين، وأما ابن دحية فتكلم فيه، فقيل: إنه وضّاع، ولكني لا أسلمه، نعم إنه رجل غير مبال، وقيل: إن سلطان عصره قال له مختبراً إياه: صنفْ التخريج على كتاب شهاب القضاعي، فشرحه ابن دحية، ثم قال السلطان: إني فقدته، وصنفْ كتاباً آخر على الشهاب القضاعي فصنف كتاباً، وكان بين كتابيه تفاوت بعيد وتخالف، فعلم السلطان أنه غير مبال فعزله عن الدرس، وأيضاً لابن دحية كتاب (التنوير في مولد البشير والنذير) لإثبات المولود الذي شاع في هذا العصر وأحدثه صوفي في عهد سلطان إربل سنة (600) ، ولم يكن له أصل من الشريعة الغراء، ولم يكن التصنيف في هذه البدعة يليق بشأن الحفاظ والمحدثين.
وللشوافع حديث آخر أخرجه أبو داود ص (171) عن عبد الله بن عمرو بن العاص بسند قوي وصححه البخاري، كما نقل الترمذي في العلل الكبرى: سألت البخاري عن مختاره في تكبيرات العيدين فاختار اثنتي عشر تكبيرة بناءً على ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص.
وأما أدلتنا: فمنها ما في سنن أبي داود ص (170) عن أبي موسى الأشعري، وقال:(كان يكبر أربع تكبيرات) وضم بها تكبيرة التحريمة الأولى، وتكبيرة الركوع في الثانية، والحديث قوي مرفوع، وفيه أبو عائشة، وقيل: إنه مجهول الحال، ولكنه خطأ، والحق إنه ثقة، وهو والد محمد بن أبي عائشة موسى بن أبي عائشة، وأعلى ما في الباب لنا ما هو من إجماعيات عمر رواه إبراهيم النخعي مرسلاً بسند قوي في معاني الآثار ص (286) ، ويفيدنا ـ أي الأئمة الأربعة ـ في تكبيرات الجنازة أيضاً، ولنا حديث آخر قولي قوي ما تمسك به أحد من أصحابنا، ويفيدنا في تكبيرات العيدين والجنازة، أخرجه في معاني الآثار ص (400) ج (2) عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجال الحديث كلهم معروفون إلا وضين بن عطاء، ووثقه الحافظ، فإنه أخرج من الطحاوي رواية تدل على التسليمتين في الوتر، وفي سنده وضين بن عطاء ووثقه الحافظ كما مر في الوتر آخر استدلال الحفاظ.
وأما اثنتا عشر تكبيرة فجائزة عندنا، فإن في النهاية: إن أبا يوسف أتى بها حين أمره هارون الرشيد، ولا يتوهم أنه كان من أولي الأمر، فإنه لو كان غير جائز عنده كيف اتبعه وإن كان والي الأمر؟ فلا بد من أن يقال: إنه قائل بجوازها، وأيضاً في الهدآية: {لو زاد الإمام التكبيرات على الستة
يتبعه إلى اثنتي عشر تكبيرة) ، فدل على الجواز ولقد صرح محمد في موطأه ص (140) بجوازها، فإنه قال: وما أخذت به فهو حسن.
قوله: (وأحسن شيء في. . إلخ) ليس أحسن شيء هذا بل ما في أبي داود عن ابن عمرو بن العاص.
قوله: (واسمه عمرو بن عوف. . إلخ) أي اسم جده.
باب ما جاء لا صلاة قبل العيدين ولا بعدها
[537]
عندنا تكره الصلاة قبل العيدين في البيت والمصلى، وفي البحر: لا يصلي الإشراق أيضاً من يعتادها، وأما بعد العيد فيصلي في البيت ما شاء من النافلة، رأيت في بعض الآثار أن عليّاً مر على رجل يصلي بالمصلى فنهاه، فقال الرجل: أيعذبني الله على الصلاة؟ قال عليّ: نعم يعذب الله على خلاف السنة.
باب ما جاء في خروج النساء في العيدين
[539]
أصل مذهبنا جواز خروج النسوان للعيدين، ونهى أرباب الفتوى، وفي مذهب غيرنا تضييق مما في مذهبنا، وأما من يدَّعي العمل بالحديث فيطعن على الأحناف على منعهم النسوان من خروجهن إلى المصلى والمساجد، وهذا من قلة التدبر، ونقل أصل مذهبنا العيني من التوضيح على البخاري للشيخ سراج الدين بن الملقن تلميذ المغلطائي الحنفي، أقول: لقد أبعد العيني في النجعة والحال أن المسألة مذكورة في الهداية ص (105) : وقالا: يخرجن في الصلوات كلها لأنه لا فتنة لقلة الرغبة، فلا يكره كما في العيد، انتهى.
وكذلك روي في الخروج إلى العيد في حاشية الهداية من المبسوط.
قوله: (العواتق) جمع عاتق، وإنما يقال: العاتق، لأنها عتقت عن خدمة الوالدين. (والحُيَّض) والمراد منهن ذوات الطمث، لقرينة (ويعتزلن المصلى) ، وأما لفظ الحُيَّض فجمع حائض لا حائضة.
قوله: (يشهدن دعوة المسلمين) لا يستدل بهذا على الدعاء المعروف في زماننا بعد صلاة العيد، فإن المراد بالدعوة الأذكار التي في الخطبة والمواعظ والنصح، فإن الدعوة عامة.
باب ما جاء في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى العيد من طريق ورجوعه من طريق آخر
[541]
قيل: إنه للتفاؤل، أي لئلا يكون فسخ ما فعل أوّلاً، أو لإظهار الشوكة، وكان الخلفاء والسلاطين يظهرون الشوكة يوم العيد ويوم الجمعة، ولا ليشبه هذا الرجوع برجوعه قهقري
باب ما جاء في الأكل يوم الفطر قبل الخروج
[542]
يستحب الإمساك إلى الصلاة يوم الأضحى، وإن لم يمسك فلا كراهة أصلاً، كما ذكره علي القاري في بعض رسائله، ثم ظاهر الحديث أن استحباب الإمساك لكل رجل يضحي أو لا، وهذا الامساك اسميه بالصوم، لأن الحديث يسمى صوم عشرة، والحال أن صوم العاشر مكروه، فالصوم في اليوم العاشر هو الصوم إلى الصلاة.
واعلم أن الحكم بالكراهة التنزيهية بترك الأولى موقوف على دليل خاص، وقريب من هذا ما في رد المحتار ص (784) : أن ترك المستحب لا يكون مكروهاً إلا بدليل خاص.
أبواب السفر
باب ما جاء في التقصير في السفر
[544]
في هذا الباب مسائل عديدة منها:
أداء التطوع في السفر: قيل: لا يتطوع المسافر أصلاً، ومنع البعض من أدائها في السفر، منهم ابن تيمية، أقول: قد ثبت أداء الرواتب في السفر عنه عليه الصلاة والسلام أحياناً لكن الأكثر أداء القبلية لا البعدية، وقيل: إن الثابت منه عليه الصلاة والسلام مطلق النافلة ليلاً ونهاراً، وقيل: ثبت النافلة المطلقة ليلاً لا نهاراً، وأقوال أُخر في هذه المسألة، وفي البحر: عَمَلُ محمد بن الحسن أنه كان لا يصلي الرواتب إذا كان في حال السير، وكان يصليها في حال النزول.
ومن مسائل الباب قصر الصلاة: والقصر واجب، والإتمام غير جائز عند أبي حنيفة، وقال: إن القصر قصر الإسقاط، وقال الشافعي: إن الإتمام والقصر جائزان، والقصر قصر الترفيه، وأما جمهور الصحابة والتابعين فموافق لأبي حنيفة، وكذلك قال ابن تيمية وأطنب الكلام وأتى بالروايات، وصح أنه سُئِل أحمد عن الإتمام في السفر، فقال أحمد: أسأل الله العافية عن هذه المسألة، وقال الشافعية: أتمَّ عثمان وعائشة، ونقول: بأنهما أتما بالتأويل، ثم أورد الحافظ على التأويلات من حيث التفقه، لا من حيث الأسانيد، وأجاب عنهما العيني وأقول لا احتياج إلى تقوية التأويلات تفقهاً من العيني فإن إيرادات الحافظ لا يتوجه علينا بل يتوجه على عثمان وعائشة، والواجب علينا إثبات أنهما تأوّلا، فنقول: قد صح التأويلات بعضها من ألسنتها وبعضها من الرواة، وأما منطلق التأويل فقد أخرج البخاري عن عروة قال: إنما تأولت عائشة كما تأول عثمان، وفي أبي داود ص (270) التأويلات من الرواة، كما قال الزهري: إنه أجمع على الإقامة بعد الحج، وقال إبراهيم النخعي: إن عثمان اتخذها وطناً، وقال الزهري أيضاً: إن عثمان اتخذ الأموال بالطائف كذلك روي أنه صلى مخافة أن يراه الأعراب أنه يقصر فيقصرون في الحضر أيضاً، كما ثبت بسند صحيح أن أعرابياً قال لعثمان: إني
كنت رأيتك تقصر عاماً ماضياً فقصرت السَّنة كلها زعماً مني أن الصلاة ركعتان، وبعض التأويلات مذكورة في الطحاوي ص (447) ، لكن هذه ليست على جوابه من الإتمام حين أنكر عليه الصحابة منهم ابن مسعود، بل هاهنا ذكر مذهب عثمان حاصله أن القصر لمن كان في حال السير لا في حال النزول، فإنه قال: لا قصر لجابٍ ولا هائمٍ ولا تاجر، وإنما القصر لمن زاد وحمل المزاد ورحل وارتحل إلخ، وليس هذا مذهب أحد من الأربعة، وبعض وجوه التأويلات مذكورة في مصنف ابن أبي شيبة والسنن الكبرى البيهقي، وبعض التأويلات مروية عن لسانهما، وروي عن عائشة، قالت: لا أقصر في السفر لأني لا أجد مشقة، وأيضاً نقول: إن عائشة إنما أتمت بعد ارتحاله عليه الصلاة والسلام إلى دار البقاء، وأيضاً لما أتم عثمان أنكر عليه الصحابة ومن المنكرين ابن مسعود كما في أبي داود ص (370) وفي الروايات أن ابن مسعود استرجع على إتمام عثمان، وفيه: فقيل لابن مسعود: أنك عِبتَ على عثمان ثم صليت خلفه أربعاً؟ فقال: الخلاف شر. . إلخ. فقال الشافعية: إن اقتداء ابن مسعود يدل على أن الإتمام عنده جائز، وإن كان الأولى القصر، فإنه لو لم يكن الإتمام جائزاً ما اقتدى ابن مسعود خلف عثمان، والجواب عن هذا على مشربنا أن عثمان لما تأول فصار مجتهداً في مسألته. ومسألتُه مجتهدة فيها، فإذن اقتدى ابن مسعود خلف عثمان في المجتهد فيه، وذلك جائز عندنا، وأجاب شمس الأئمة السرخسي أن عثمان لما نكح بمكة وتأهل ثمة فصار مقيماً، فعليه أربع ركعات، وأما ابن مسعود فقال: إن سنة النبي صلى الله عليه وسلم كان القصر هاهنا في منى، ولما أقمت فالأولى لك أن يقتدى خلف يقصر ويكون الإمام من يقصر، لتكون سنة النبي صلى الله عليه وسلم باقية صورة، ولا تكون أنت إماماً للناس لأنك مقيم وتصلي أربعاً، ولكنه لما صلى بهم عثمان وكان مقيماً صلى خلفه ابن
مسعود أربعاً، لأن صلاته هذه خلف من يزعمه أنه مقيم، فإذن لا ضير علينا، وجواب شمس الأئمة قوي لطيف، فثبت أن إتمام عثمان بمنى وإتمام عائشة لم يكن لكون الإتمام في السفر جائزاً، بل للتأويلات، ثم تمسك الشافعية بحديث عائشة، أخرجه النسائي ص (213) والدارقطني بسند قوى، قالت: اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت بمكة قالت: يا رسول الله بأبي أنت، قصرت وتممت، وأفطرت وصمت، وقال:(أحسنت يا عائشة) وما عاب عليّ. . الخ، فدل على جواز الإتمام وإن لم يثبت الإتمام عنه والشيخين، ونسب النووي ص (241) هذه رواية الدارقطني إلى أنها أخرجها مسلم، والحال أنها ليست في مسلم أصلاً، فالجواب عن الحديث بأنه مر عليه الحافظ وابن تيمية وابن قيم في زاد المعاد ص (133) وقال: إنه كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقول: لا يقال ما قال ابن تيمية، نعم يمكن أن يعمل الحديث فإن سنده قوي برجال ثقات، ثم قيل: إن في سنن الدارقطني تصحيفاً، فإنه ذكر في لفظ:(كان يصوم ويفطر ويتم ويقصر) ،
والصحيح كان يقصر ـ أي رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وتُتِم ـ أي عائشة ـ وكان يفطر وتصوم ـ أي عائشة، والله أعلم. وكذلك، قال ابن تيمية وابن حجر بأنه تصحيف في الدارقطني، وأما الرواية التي مرت عن عائشة فقال ابن تيمية: إنها كذب، وأعلّها ابن كثير بأنه عليه الصلاة والسلام لم يخرج معتمراً في رمضان إلا في فتح مكة، ولم يعتمر ثمة، والله أعلم. فقال الشافعية: إن لفظ في رمضان لعله سهو من الراوي بأنه عليه الصلاة والسلام خرج في رمضان، ثم ذهب إلى حنين، ثم رجع عنها واعتمر في ذي القعدة، وأعلَّ الحافظ أيضاً في بلوغ المرام تلك الرواية، وأشار إلى وجه التعليل في تلخيص الحبير بأن عائشة لو كانت عندها هذا الحديث منه عليه الصلاة والسلام لما احتاجت إلى التأويل عند إتمامها، وفي الصحيحين عند عروة تأولت كما تأول عثمان، أقول: لا يصح هذا وجهاً للتعليل، وجواب الحديث على تقدير صحته: إنه عليه الصلاة والسلام قال لعائشة: (أحسنت) ، ولا يدل هذا على إجازة الإتمام بل هذا إغماض عما فعلت لعدم علمها بالمسألة، كما قلت في سنتي الفجر، وكما في أبي داود ص (49) قصة رجلين تيمما وقائع أخر، ويمكن أن يقال: إن إتمام عائشة كان في مكة لا طريق مكة، فإنه عليه الصلاة والسلام لما فتح الله عليه مكة زعمت عائشة أنه عليه الصلاة والسلام يقيم أياماً كثيرة في مكة، وأقام النبي صلى الله عليه وسلم في مكة خمسة عشر يوماً، وسبعة عشر، أو ثمانية عشر، أو تسعة عشر يوماً، على اختلاف الروايات، رواية خمسة في أبي داود بسند قوي، وما أراد النبي صلى الله عليه وسلم الإقامة بمكة، بل كان يريد أن يخرج إلى حنين غداً أو بعد غد، فمضى في هذه الأيام الكثيرة ثم خرج إلى حنين وبلغ عائشة كان يقصر بمكة في هذه الأيام، فقال: قصرت وأتممت، وأفطرت وصمت، فإذن كان صومها وصلاتها صوم
المقيم وصلاته، وتحسينه عليه الصلاة والسلام على هذا، وهذا الجواب متحمل قدر شيء على مسائلنا، فالحديث لا يدل على جواز الإتمام في السفر، وفور ذخيرة الأحاديث، وتعامل السلف يرد جواز الإباحة، ثم تمسك الشافعية بآية:{لا جناح عليكم أن تقصروا} إلخ فدل لفظ (لا جناح) على أن إتمام الصلاة أيضاً جائز، والقصر ليس بضروري، والمشهور في الجواب بأنهم زعموا أن في القصر نقصان الصلاة وإساءة، فقال الله ردا لذلك الزعم:{لا جناح عليكم} . . . إلخ والجواب الصحيح بأن في الآية تفسيرين، قيل: إن القصر المذكور في الآية قصر العدو، والآية نازلة في قصر صلاة المسافر لآية {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ} [النساء: 101] الآية، ولزم إشكال على هذا التفسير، وهذا التفسير بعض، وقيل: إن الآية واردة في قصر الصفة والهيئة، أي في صلاة الخوف، وهذا القول قول آخرين من ابن جرير وابن كثير وصاحب البدائع من الأحناف وغيرهم، ويؤيدهم آية القرآن، فإن المذكور فيها قصر الخوف، فالآية
واردة في قصر الخوف وإلى هذا ذهب جماعة من الصحابة، وأما قيد (وإذا ضربتم في الأرض) فبأن أكثر وقائع صلاته عليه الصلاة والسلام صلاة الخوف ووقائع السفر، إلا واقعة غزوة الأحزاب في المدينة، فاتفق السفر مع صلاة الخوف، وأما نزول آية القصر قبل غزوة الأحزاب أو بعدها فمختلف فيه، قال الشافعية: نزولها بعدها، وتركه عليه الصلاة والسلام الصلاة في غزوة الخندق كان لعدم نزول القصر فيها، ويجوزون الصلاة حال المسايفة، ونقول: إن وجه تأخيره الصلوات عدمُ جواز الصلاة حالة المسايفة، وقال الموالك: إن وجه التأخير أن الصحابة كانوا قريب أربع عشر مائة رجل، فما فرغوا من الوضوء إلا وغرب الشمس، وهذا لا يجري إلا في تأخير العصر لا في غيرها، وتأخير غيرها أيضاً ثابت، فعلى هذا القول لا يمكن للشافعية الاستدلال على قصر العدد، لأن ورود الآية في قصر الصفة لا قصر العدد، ثم هاهنا صور أربعة:
الخوف والسفر، ففيه قصر العدد والصفة.
والخوف فقط، وفيه قصر الصفة.
والسفر فقط، وفيه قصر العدد.
وعدمهما، فعدمهما.
وإن قيل: يرد على هذا التفسير رواية مسلم ص (241) : «إنها صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته. . إلخ» ، فإن قصر الخوف مشروط بشرط الخوف بخلاف السفر، فدل أن الآية في قصر العدد، والجواب ما في ترجمة الموطأ للشاه ولي الله: أن في السفر بلا خوف قصر عدد أيضاً صدقة، ولكنه تشريع مستأنف، وعبارة شرح الموطأ ص (149) :(هذه استدلال كرده أندبر اتفاقي بودن قيد بحديث مسلم عن يعلى بن أمية فقير ميگويدكه اين استدلال مدخول است ذيراكه مى گريم كه معنى جواب آن است كر قصر مسافة شرع جديد است وتخفيف إذا ابتداء إزخدائي تعالى) انتهى ملخصاً. فلا تكون الآية أيضاً دليل الشافعية.
أما استدلالات الأحناف وغيرهم فكثيرة، ذكرها الطحاوى وأطنب ابن تيمية، ولا أستوعبها، فإني أستوعب الأجوبة مهما أمكن، ولا استوعب الاحتجاجات، ومنها حديث الصحيحين عن عائشة: «كانت الصلوات ركعتين ركعتين، ثم زيدت فيها بعد الهجرة إلى المدينة، وأُقرَّت صلاة السفر. . إلخ) ، فدل الحديث على أن قصرالمسافر ليس بقصر بل على أصله، فكيف قلتم أيها الشافعية: إن في الآية قصر عدد، فإنه يقتضي أن تكون صلاة المسافر مقصورة لا على ما كانت قبل، وحديث عائشة يدل على أن صلاة المسافر باقية على ما كانت قبل، وإن قيل: إن ظاهر القرآن يدل على القصر فنقول: أولاً: إنه قصر الصفة لا قصر العدد، وثانياً: إن أول الآية أي {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ} [النساء: 101] في قصر العدد، باقيها في قصر الصفة، فإذن قولكم أيها الشافعية بأن الآية نزلت في قصر العدد، إن حكم
القصر بعد الآية ليس بصحيح، ولو قالوا بهذا فعليهم إثبات أن المسافر والمقيم كانا يتمّان بعد الهجرة إلى المدينة، ثم أنزل الله قصر صلاة المسافر في الآية بعد الهجرة إلى المدينة في السنة الرابعة، وأما نحن فنقول: بعد تسليم الآية في القصر في العدد، وأن المسافر كان يصلي ركعتين بعد الهجرة، ثم نزلت الآية بعد كون الحكم مشروعاً، كما في آية الوضوء نزلت بعد العمل بالوضوء بأزيد من عشرين سنة، أو نقول: إن أول الآية ـ أي قصر العدد ـ تمهيد لبيان صفة صلاة الخوف، ومن البداهة أن المقدمة الممهدة تكون معلومةً قبل، فإذن إطلاق القصر على صلاة المسافر ليس بحقيقة، بل توسع، فالحاصل أن دعواكم أن قصر صلاة المسافر بعد نزول الآية، وكانت قبل إتماماً يرده حديث عائشة، ثم أجاب الحافظ في الفتح: بأن مراد حديث عائشة: (وأقرت صلاة السفر. . الخ) أي لمن أراد القصر، ثم قال: كانت صلاة المقيم والمسافر أربعاً في المدينة، ثم نزلت الآية لقصر العدد في السنة الرابعة، فيلزم إذن تسليم النَّسخين في حكم واحد، أي في صلاة المسافر، ويتجنب العلماء من النَّسخين في حكم واحد مهما أمكن، وأيضاً قول الحافظ نافذ في محمل الحديث لكنه يجب أن يكون له أصل بجميع أجزاءه، والحال أنه لا مرفوع ولا أثر ولا أصل يدل على أن صلاة المسافر كانت أربعاً في المدينة، ولا تمسك بلفظ القرآن:(أن تقصروا. . إلخ) ، فلا يصح به لما ذكرت أولاً أنه بيان حكم سابق، أو تمهيد حكم قصر الصفة، وتوارد الروايات يدل على أن قول الحافظ مستبعد، فإن في كتاب الطحاوي ص (245) عن عمر:(صلاة السفر ركعتان تمام ليس بقصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم. . الخ) ، فدل على نفي الأربع في حق المسافر، وفيه عن ابن عمر وابن عمرو بن العاص مرفوعاً:(صلاة السفر ركعتان هي تمام. . إلخ) ، وفي سنده جابر الجعفي، وفيه عن عمر لفظ شديد، قال بعد
ذكر قصر الصلاة: (من خالف السنة فقد كفر. . الخ) وأدلتنا محصاة في موضعها.
قوله: (لأَتممتُها) أي إنها لو شرعت لكان إتمام الفريضة أولى، فهذا يدل على أن القصر قادح في السنن، فجواب هذا القدح ما ذكره النووي في شرح مسلم ص242: فجوابه أن الفريضة متحتمة، فلو شرعت تامة لتحتم إتمامها، وأما النوافل فإلى خيرة المكلف، فالرفق به أن تكون مشروعة ويتخير إن شاء فعلها وحصل ثوابها، وإن شاء تركها ولا شيء عليه الخ.
قوله: (صدر من خلافته. . إلخ) هذا متعلق بعثمان فقط، ولم يثبت عنه أو الشيخين إلا القصر، وجواب عمل عثمان وعائشة مر سابقاً.
قوله (أتم الصلاة أجزء عنه. . إلخ) أي يقع فرضاً، وعند أبي حنيفة ركعتان نافلة، والمصلي مرتكب الكراهة تحريماً.
قوله: (حدثنا أحمد بن منيع نا هشيم. . إلخ) في سند حديث الباب علي بن زيد بن جدعان، وهو سيء الحفظ، ولذا لم آخذ حديثه في باب الوضوء بالنبيذ، والحال أن في مسند أحمد رواية لنا للوضوء النبيذ بسند علي بن زيد، ومن عادتنا النقد الشديد في المفيدة لنا وإغماض شيء في غيرها، بخلاف غيرنا، فإن أكثر نقدهم في ما يخالفهم ولقد سلمت التوثيق في كثير بن عبد الله، والحال أنه يضرنا في مواضع.
قوله: (الظهر بالمدينة أربعاً الخ) نقول: إن المسافر يصير مسافراً بعد انفصاله من أبنية المصر،
بل هذا الحديث دليل لنا في هذه المسألة، ولا يجوز الاستدلال أيضاً بهذا على مذهب أهل الظاهر بجواز القصر ولو على ثلاثة أميال، فإن ذا الحليفة لم تكن منتهى القصر بل المقصود كان مكة.
قوله: (لا يخاف إلا رب العالمين) يريد أن قيد إن خفتم اتفاقي في حق صلاة المسافر.
قوله: (الشافعي وأحمد وإسحاق الخ) لا يقول أحمد بجواز الإتمام كما حررت أنه قال: أسأل الله العافية من هذه المسألة، وقال ابن تيمية الحنبلي بعدم جواز الإتمام.
باب ما جاء في كم تقصر الصلاة
[548]
مسافة القصر عند الشافعي وأحمد ثمانية وأربعون ميلاً، وعندنا مسيرة ثلاثة أيام بسير وسط، وفي الهداية عن أبي حنيفة قدر ثلاثة مراحل. . الخ، والفرق بين الأول والثاني أن في الأول اعتبار سير المسافر، وفي الثاني اعتبار المسير والمسافة، وأقوال الأحناف في مسافة القصر كثيرة، ذكرها في البحر، والأقوال من ستة عشر فرسخاً إلى اثنين وعشرين فرسخاً، وفي قول ثمانية وأربعون ميلاً، وهو المختار لأنه موافق لأحمد والشافعي.
وأما الميل ففي النووي شرح مسلم ص (241) : إن الميل الهاشمي ستة آلاف ذراع، والذراع أربعة وعشرون أصبعاً معترضة معتدلة، والأصبع ستة شعيرات معترضات معتدلات.
وأما مدة الإقامة: فعند الشافعي أربعة أيام، وعندنا خمسة عشر يوماً، ومذاهب أخر، ولا مرفوع لأحد، ولكل واحد آثار، ولنا أثر ابن عمر في كتاب الآثار لمحمد بن الحسن.
قوله: (قال: عشر الخ) أي في حجة الوداع، وأما في فتح مكة فأقام بمكة خمسة عشر يوماً أو سبعة عشر أو تسعة عشر أو ثمانية عشر.
قوله: (لأنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم تأوله إلخ) هذا اجتهاد ابن عباس، والاجتهاد هذا بعيد لأنه لما أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يوماً وقصر لا يدل أن بعد هذه الأيام يكون إتماماً، فإنه يمكن أنه لو أقام بعده أيضاً لقصر الصلاة، فلا يصح الاحتجاج بهذا، إلا أنه قواه ابن رشد تقوية شيء في البداية بأن الأصل الإتمامُ، وأما القصر فمن عارض السفر، فإذا ثبت القصر إلى هذه الأيام نعمل بعده بالأصل أي بالإتمام، وعلى هذه التقوية يمكن أن يقال: إن ابن عمر زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام خمسة عشر يوماً بمكة في فتح مكة، فإنه لم يعتبر ثلاثة أيام التي قبل الفتح، وكانت تلك الأيام مشغولة بالوقعات واستقراء الفتح، فكان الباقي خمسة عشر يوماً، وهذا إنما يكون لو كان بناء قوله على فعله عليه الصلاة والسلام هذا، والله أعلم، وعلمه أتم.
باب ما جاء في التطوع في السفر
[550]
المسألة مرت بتفصيلها كما ينبغي.
قوله: (ابن أبي ليلى الخ) محمد بن أبي ليلى ضعفه البخاري إلا في هذا الحديث، فإنه قال: هو أعجب إليّ ويفيدنا هذا الحديث في مسألة الوتر، لأن وتر النهار يكون مشاكلَ وتر الليل في ثلاث ركعات بتسليمة واحدة.
باب ما جاء في الجمع بين الصلاتين في السفر
[553]
المذاهب مرت سابقاً، وأقول: إن الأحاديث على ثلاثة أقسام، وشواكل بعضها يدل على الجمع الفعلي، وبعضها يوهم الجمع الوقتي، وبعضها يدل على الجمع مطلقاً، وكان الشوكاني يقول بالجمع الوقتي ثم رجع عنه، وصنف رسالة في رده، وسماها (تشنيف السمع بإبطال أدلة الجمع) ، وحديث الباب عجيب الشأن، فإن رجاله كلهم ثقات، ويقال: إنه أعلى ما في الباب للشافعية حجة الجمع وقتاً، وقال البخاري: إن الحديث موضوع، لأنه سأل قتيبة عن من كان شريكاً معه حين سمع الحديث من الليث، قال: خالد المدائني، يقال: هذا الرجل الشقي كان كذاباً وضاعاً، فإنه كان يكتب الأحاديث الموضوعة شبيه خط المحدثين، ويضع ذلك القرطاس في كتب المحدثين، وكان يرويها زعماً عنه أن هذه الأحاديث كتبتها بنفسي، وأخرج الحاكم نظيره في أربعينه، وأشار الترمذي أيضاً إلى إعلال الحديث، وتعجب المحدثون أن ليثاً من مشاهير الفقهاء وحفاظ الحديث وله تلامذة يبلغ مئتين ولا يروي هذا الحديث عنه إلا قتيبة بن سعيد.
وحديث الباب يدل على الجمع تقديماً، والجمع تأخيراً، وقال أبو داود: ما صح شيء في جمع التقديم.
وأجاب الأحناف عن حديث الباب بعد قبول صحته: أن المراد هاهنا هو الجمع فعلاً، وإن
قيل: فلم وزع الراوي إلى الارتحال بعد الزوال وقبل الزوال، وتقسيمه يدل على الجمع الوقتي، جمع تقديم وتأخير، قلت: إنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد أن يرتحل بعد الزوال كان يقعد ولا يسير إلى حين يمكن فيه الجمع فعلاً ويجمع بين الظهر والعصر فعلاً، ثم يسير ويرتحل، ولو كان ارتحل قبل الزوال كان يسير حتى يمكن الجمع فعلاً، فينزل ويصلي بالجمع فعلاً، وفائدة هاتين الطريقين يظهر ممن كان له وقوف بالأسفار، وعندي توجيه آخر لحديث الباب ويؤيده حديث آخر مطبوعة في رسالة القاسم.
ثم اعلم أن حديث الباب يناقض ما في مسلم ص (245) عن ابن شهاب عن أنس بن مالك قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما، وإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب. . الخ، ولا مناص إلا أن يقال بأن الطريقين ثابتان.
قوله: (أبي الطفيل) هذا صحابي صغير، قيل: إنه آخر موتاً من الصحابة، وقيل: آخر موتاً أنس، وقيل: جابر بن عبد الله، وقيل: إن الصواب التوزيع بحسب البلاد، أي أحدهم آخر موتاً في بلدة، وآخر في بلدة أخرى هكذا، والله اعلم.
قوله: (والمعروف عند أهل الحديث الخ) أخرجه مسلم ص (246) .
قوله: (حتى غابت الشفق) لا يمكن الاستدلال بهذا اللفظ كما استدل النووي ص (245) . ذاهلاً عما في أبي داود ص (171) بسند قوي: (قبل غيوب الشفق نزل فصلى المغرب، ثم انتظر حتى غاب الشفق فصلى العشاء الخ) . والعجب من الحافظ أنه لما رأى بعض الرواة يعبرون بالمبالغة أنه جمع حين ذهب ربع الليل. . الخ، فقال بتعدد الواقعتين، والحال أن سطحي الحديثين واحد، وهو مرض صفية بنت أبي عبيد حين أرسلت إلى ابن عمر: بأني في آخر اليوم من الدنيا، وأول اليوم من الآخرة، فأسرع ابن عمر، ولكن الله شفاها، وعاشت إلى ما بعد ابن عمر، وأقول: إن الواقعة واحدة قطعاً، ونخرج المحمل في اللفظ الذي أشكل على الحافظ بأن الجمع بين الصلاتين لا يصدق إلا إذا صلى العشاء أيضاً.
(ف) الجمع الوقتي أيضاً مُجتهد فيه عندنا، كما ذكر صاحب البحر في واقعة سفر الحج.
باب ما جاء في صلاة الاستسقاء
[556]
صلاة الاستسقاء سنة عند الشافعي، والاستسقاء عندهم على ثلاثة أقسام ذكرها النووي ص (292) ؛ أحدها: الدعاء بلا صلاة، وثانيها: الدعاء في خطبة الجمعة أو في أثر صلاة مفروضة، وهذا أفضل من النوع الأول، وثالثها، وهذا أكملها: أن يكون بصلاة ركعتين وخطبتين يتأهب قبله بصدقة وصوم وتوبة إلخ، وأما الأحناف ففي مختصر القدوري: والصلاة ليست بسنة، قال في الهداية: لأنه صلى الله عليه وسلم صلى مرة لا أخرى فلا تكون سنة إلخ، أقول لا تكون سنة مؤكدة وإلا فمطلق السنة والاستحباب لا يمكن إنكاره لما قال صاحب الهداية: إنه صلى الله عليه وسلم صلى مرة، وقال المحقق ابن أمير الحاج: نسب البعض إلينا أن الصلاة عندنا منفية وهذا غلط، والصحيح أن الصلاة عندنا مستحبة إلخ، وفي عبارة فتح القدير ضيق يدل على عدم مشروعية الصلاة عند بعض المشائخ ويترك ما في الفتح، وتمسك بعض الأحناف بأن القرآن علق الاستسقاء بالتوبة والاستغفار، وهو الذي {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [نوح: 11] الآية، وفي سنن سعيد بن منصور بسند جيد عن الشعبي قال خرج عمر يوماً يستسقي فلم يزد على الاستغفار والدعاء، فقالوا: ما رأيناك استسقيت، فقال: طلبت الغيث
بمجاديح السماء الذي يستنزل به المطر، ثم قرأ:{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا} [هود: 3] الآية، واعلم أن الشافعي حكم بسنة الصلاة في الاستسقاء، لأنه لم يلاحظ القسمين الآخرين للاستسقاء، وأما أبو حنيفة فلاحظ القسمين الآخرين فحكم باستحباب الصلاة بعكس ما في الوتر وهذا من مدارك الاجتهاد، وأما القراءة في الاستسقاء فقال أبو حنيفة بالإسرار، وقال الشافعي وصاحبا أبي حنيفة بالجهر، وهو مذهب مالك وأحمد، وقال محمد بالخطبتين بعد الصلاة وتحويل الرداء وتحويل الرداء مذكور في مختصر القدوري والهداية.
قوله: (كما كان يصلي في العيد إلخ) قال الشافعي بالتكبيرات في صلاة الاستسقاء مثل العيدين، وفي رواية عن محمد أيضاً التكبيرات في الاستسقاء رواه ابن كاس عن محمد في رد المحتار وابن كاس ثقة، وترجمته ليست بمشهورة، ولكنه يقع في سندنا إلى محمد لموطأه.
قوله: (وحول رداء) ووافق مالك أبا حنيفة في عدم التكبيرات وتحويل الرداء حين البلوغ على لفظ ونقلب الرداء، والإمام عند الدعاء يستقبل القوم أو القبلة وأما القوم فليستقبل القبلة.
قوله: (رفع يديه) نقل صاحب البحر وغيره. . . . . . إن في دعاء الرهبة يجعل ظهر كفيه إلى السماء ولم ينكر عليه صاحب البحر، وفي رواية عن مالك: أن الدعاء جاعلاً ظهر يديه إلى الوجه غير صحيح، وأما ما في مسلم ص (293) : أنه دعا جاعلاً ظهر كفيه إلى الوجه، فقال النووي ص (293) : قالت جماعة من أصحابنا وغيرهم: إن السنة في كل دعاء لرفع البلاء كالقحط أو غيره أن يرفع يديه ويجعل ظهر كفيه إلى السماء، وإذا دعا لسؤال شيء وتحصيله جعل بطن كفيه إلى السماء، واحتجوا برواية مسلم إلخ، أقول: شرح الطيبي شارح المشكاة في حديث مسلم أن المراد منه الرفع البليغ بحيث صارت الكف إلى السماء، وعبره الراوي بهذا التعبير لا أن جعل ظهر كفيه إلى السماء، ووقع في بعض الروايات: أنه عليه الصلاة والسلام لم يرفع يديه إلا في الاستسقاء، وقيل: إن نفيه وارد على الرفع البليغ وهو كذلك في مراسيل أبي داود لا مطلق الرفع لما في الروايات: أنه عليه الصلاة والسلام رفع حتى يرى بياض إبطيه في الاستسقاء، والله أعلم.
قوله: (أحجار زيت) قيل: إنه استسقى خارج المدينة، وأما أحجار زيت ففي داخل المدينة فاللفظ معلول، وقيل: إن هذه غير واقعة الاستسقاء خارج المدينة، ويسمى هذا الموضع بأحجار زيت لأنها سود مثل إن طليت بالزيت.
باب ما جاء في صلاة الكسوف
[560]
قال جماعة من اللغويين: إن الكسوف يتعلق بالشمس، والخسوف بالقمر، وقيل: لا فرق أصلاً. الجماعة في كسوف الشمس سنة عندنا، ويقيم الجماعة مقيم الجمعة، وإن كانوا في القرى صلوا وحداناً، وقال القاضي شمس الدين السروجي الحنفي في شرح الهداية: إن الصلاة في كسوف الشمس واجبة، ثم صلاة الكسوف عندنا كسائر الصلوات بركوع واحد في ركعة، وقال الشافعية والمالكية والحنابلة بركوعين في ركعة، وقال بعض أصحابهم بجواز ثلاث ركوعات وأربعها في ركعة واحدة، وأما الأحاديث فعلى ستة أوجه أحدها: بركوع واحد في ركعة واحدة، والثاني بركوعين والثالث بثلاث ركوعات، والرابع بأربع ركوعات، والخامس بخمس ركوعات، والسادس إن صلى ركعتين، ثم سأل هل انجلت الشمس؟ ثم صلى ركعتين وسأل وهكذا، وأحاديث الثاني في الصحيحين، والثالث والرابع في مسلم، والرابع في أبي داود، أيضاً والخامس في أبي داود ص (162) بسند لين، وفي تهذيب الآثار لابن جرير بسند قوي، والسادس في أبي داود والنسائي بسند قوي، وأما أحاديث الركوع الواحد فستأتي وتعرضوا لإسقاطها وكنا نثبتها بفضله تعالى، وهذا المذكور كله في فعله عليه الصلاة والسلام مرفوعاً، فالعجب أن كون الواقعة واحدة وتحته هذا الاختلاف بل قد يكون الاختلاف على راوٍ واحد فإن الترمذي قال: إن الركوعين رواه ابن عباس أيضاً، وفي أبي داود ومسلم أربع ركعات عن ابن عباس، وذهب البعض إلى القول بتعدد الواقعة منهم ابن جرير وابن خزيمة والنووي، وأما الحافظ فإلى وحدة الواقعة، أقول: كيف يقال بتعدد الواقعة؟ فإن في الصفات كلها خطبته عليه الصلاة والسلام لرد ما زعموا أن الكسوف عن وفات إبراهيم سليل النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على ذكر وفات إبراهيم في كل الصفات والكسوف في عهده عليه الصلاة والسلام واحد على ما في رسالة محمود شاه الفرنساوي، وأما الخسوف ففي بعض السير مثل
سيرة ابن حبان أنه انخسف سنة 6هـ القمر فصلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكروا أنه عليه الصلاة والسلام كيف صلى، وصلى بالناس أو منفرداً، وأما رسالة محمود باشا الفرنساوي وهو من الحذاق في الرياضي فموضوعها بيان طريقة تحويل الحساب القمري إلى الشمس، وقال: إن الكسوف في عهده عليه الصلاة والسلام واحد وانكسف وقت ثمانية ساعات ونصف ساعة على حساب عرض المدينة في السنة التاسعة وبقيت الشمس منورها قدر ثمانية أصابع وكان وفات إبراهيم في ذلك اليوم فتحقق وحدة الواقعة، وليعلم أن العرب كانوا
عالمي الحساب الشمسي والقمري لآيات: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] إلخ على ما فسر الزمخشري في الكشاف أن النسيء هو العمل بالكبيسة أي جعل العام القمري شمسياً، واعترض رجل من فُطّان حيدرآباد وقال: إن العرب كانوا غير عالمين بالحساب الشمسي، وفي عهد موسى عليه الصلاة والسلام كان الحساب شمسياً، وفي الحديث: أن موسى عليه الصلاة والسلام كان خلص من يد فرعون يوم العاشوراء، فكيف وضع العرب خلوص موسى عليه الصلاة والسلام يوم العاشوراء عاشر شهر المحرم؟ واعتراضه هذا غلط فإن العرب كانوا يعلمون الحسابين، في المعجم الطبراني بسند حسن عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المدينة يوم عاشوراء اليهود وعاشوراءهم تكون عاشرة شهرهم المسمى بتشرين، وعاشوراء المسلمين منقولة من عاشوراء اليهود فدل على أن العرب كانوا عالمى الحسابين، وأما محمود شاه فلم يتوجه إلى خسوف القمر أنه وقع في عهده عليه الصلاة والسلام أم لا، وبالجملة الواقعة واحدة والصفات المروية عديدة والأسانيد قوية، وصنف ابن تيمية كتاباً مستقلاً في الكسوف وحاصله إعلال الروايات كلها إلا رواية ركوعين في ركعة وذكر وجوه الإعلال مفصلة، وقال: إن الشافعي وأحمد والبخاري والبيهقي أعل الأحاديث إلا حديث ركوعين في ركعة، أقول: لعلهم أعلوا وضيع البخاري أيضاً يدل على التعليل فإنه لم يخرج الأحاديث ركوعين وأقول: لعل الروايات كانت موقوفة لرفعها الرواة إلى صاحب الشريعة، ولعل مالك بن أنس أيضاً أعلها فإنه لم يخرج في موطأه إلا رواية الركوعين وأعل البيهقي رواية الثلاث والأربع في السنن الكبرى، وأما أدلتنا على وحدة الركوع فكثيرة منها ما روى ابن مسعود فعله أخرجه ابن خزيمة في صحيحه ذكره في العمدة، ومنها ما روى محمود بن لبيد فعله أخرجه أحمد في مسنده، ومنها ما روى سمرة بن جندب أخرجه أبو داود ص (168)
بسند قوي وغيره أيضاً أخرجه ومنها ما رواه قبيصة بن مخارق الهلالي أخرجه، أبو داود ص (168) ، ومنها ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص أخرجه، أبو داود ص (126) والترمذي في شمائله، والطحاوي، وفي سند أبي داود عطاء بن السائب وهو اختلط في آخر عمره، وأخرج عنه البخاري مقروناً مع الغير أي مع أبي بشر في الكوثر، وعطاء تابعي، وأجيب بأن حماد بن سلمة وحماد بن زيد أخذ عنه قبل الاختلاط، والأكثر على أن حماد بن سلمة راوي ما في أبي داود وأخذ عنه قبل الاختلاط اختاره ابن معين والنسائي والطحاوي، وقيل: إنه أخذ بعد الاختلاط والتحقيق أن عطاءدخل بصرة مرتين، وأخذ عنه ابن سلمة في المرتين وأيضاً رواية أبي داود أخرجها ابن خزيمة أيضاً، فتكون صحيحة على شرطه ونقول أيضاً: إن الرواية أخرجها النسائي عن سفيان عن عطاء وأخذ سفيان عن عطاء قبل الاختلاط باتفاق المحدثين، ومنها رواية نعمان بن بشير رواها الطحاوي ص (195) وابن خزيمة والنسائي وأبو داود، وفي أبي داود: فجعل يصلي ركعتين ركعتين، ويسأل عنها حتى انجلت إلخ، فأعل البيهقي هذه الرواية بأن بين أبي
قلابة ونعمان واسطة غير مذكورة هاهنا، أقول: إن كانت الواسطة فبلال بن عامر وهو ثقة، فلا ريب في جودة الرواية، وتأول فيها الحافظ بأن المراد من الركعتين الركوعان، وسؤاله عليه الصلاة والسلام كان بالإشارة، أقول: إن التأويل غير نافذ لأن المسجد كان غاصاً وكان الناس مجتمعين، وفي الروايات أن البعض غشي عليه وألقي الماء على رأسه، فقول السؤال بالإشارة في مثل هذه الحالة بعيد، وأيضاً قد أخرج الحافظ عن مصنف عبد الرزاق مرسلاً عن أبي قلابة وصححه وفيه أنه عليه الصلاة والسلام كان يرسل رجلاً: هل انجلت؟ إلخ، وإذا صححه الحافظ فلا بد عن قبوله سيما إذا كان المرسل مقبولاً عند الجمهور، وأيضاً أخرجه أبو داود عن أبي قلابة من نعمان فصار متصلاً، ومنها ما رواه عبد الرحمن بن سمرة فصارت أدلتنا سبعة، وأجاب الشافعية عن أدلتنا بأن هؤلاء الرواة نافون واقتصروا الرواية، ولم يذكروا الركوع الثاني وغيرهم مثبتون والمثبت مقدم على الثاني، أجاب الطحاوي مناظرة أن رواتنا أزيد إثباتاً، فإنا نقول ونزيد مع كل ركوع سجدة، وتفصيل هذه المناظرة في الطحاوي، وأخرج العيني رواية الركوع الواحد عن علي عن مسند أحمد ورأيت في مسند أحمد ففيه عن علي ذكر أربع ركوعات، وفي سنده حنش بن ربيعة إلا أن نسخ عمدة القاري ومسند أحمد مملوءة من الأغلاط من الناسخين، ولكني رأيت في سائر الكتب ففيها أربع ركوعات عن علي، وأما جواب الأحاديث من جانب الأحناف فما ذكره المتأولون من التأويلات المعروفة، والجواب ما قال مولانا مد ظله العالي: بأنه عليه الصلاة والسلام ركع ركوعات بلا ريب، وأما قوله فهو للأحناف والقول مقدم على الفعل، وأما القول فرواه أبو داود عن قبيصة الهلالي، قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد فعله:«فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة. . إلخ» أي الفجر فيكون التشريع القولي للأحناف، وإن قيل من جانب الشافعية
: إن تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم الركعتين لا في الركوعات، فقال مولانا مد ظله العالي: إن هذا عين جعل البديهي نظرياً ولا يقبله أحد من العقلاء، وقال الظاهرية في شرح حديث قبيصة: إن مراده أنه إن انكسف الشمس بعد الصبح فصلوا ركعتين وإن كان بعد الظهر والعصر فصلوا أربع ركعات، لكنه تأويل محض، ويرده ما في رواية البغوي:«فصلوا كأخف صلاة صليتموها من المكتوبة» فإذا كان لنا قوله، والحديث صريحاً وصحيحاً بإقرار المحدثين فسَّر تعدد ركوعه عليه الصلاة والسلام في فعله غير واجب علينا ولو نبترع فنقول: إن الركوع الثاني كان ركوعاً عند الآيات وركوع التخشع والتخضع فالركوع الثاني ليس ركوعاً صلويّاً، وأما نظائر ركوع الخضوع والآيات فمنها ما في أبي داود والترمذي ص (229) ج (2) أن ابن عباس سجد عند موت ميمونة فسئل؟ فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم، بالسجدة عند الآيات، وأي آية عظمى من وفات زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، فرفع السجدة عند الآيات إلى صاحب الشريعة ومنها ما في عامة كتب السير أنه عليه الصلاة والسلام دخل مكة حين أراد فتح مكة فخرجت بنات مكة يرين النبي صلى الله عليه وسلم وشوكة عسكره فسجد النبي صلى الله عليه وسلم على الراحلة حتى واصل ذقنه الرحل، وكانت في سجدته ألفاظ التضرع والابتهال، ومنها أنه مر بديار ثمود فلما مر على
بير كانت ناقة صالح تشرب منها أمر أصحابه بالخروج من هذا الوادي مسرعين، ولا يأخذ أحد ماءاً من هذا البير، وأسرع النبي صلى الله عليه وسلم وحنى رأسه مقنعاً، فانحناء رأسه كان ركوعاً عند الآية، ومنها ما في أثرٍ سندُه متوسط أن أبا بكر رأى نغاشاً، فركع عند رؤيته، فركوعه كان ركوع تضرع وخضوع، فإذن نقول: صلى الله عليه وسلم رأى الجنة والنار متمثلين في جدار القبلة كما في الصحيحين، فهذه آية من آيات الله كما تدل عليه خطبته، فيكون الركوع الثاني ركوع آية وتضرع، وإن قيل: إن المذكور في ما نحن فيه ركوع وفي الحديث الدال على السجود عند الآية هو سجود قلت: إن الركوع والسجود لا تخالف بينهما وقد قال أبو حنيفة بجواز الركوع بدل سجود التلاوة في داخل الصلاة وخارجها، وفي مصنف ابن أبي شيبة قالت جماعة من التابعين بجواز أداء سجدة التلاوة في ضمن الركوع، وفي مصنف ابن أبي شيبة أن أبا عبد الرحمن السلمي كان إذا قرأ آية سجدة يسلم إلخ، فمراده الركوع والانحناء كما قال أبو حنيفة فهذا ما ذكر كان تحت المذهب، وأما الجمع بين الأحاديث فعندي احتمال في جمعها لكن هذا احتمال محض لا يساعده النقل ولا أزعم أنه مراد الراوي، وأما الاحتمال من حيث العربية فلا يعد فيه أصلاً، وهو جعل صلاته صلى الله عليه وسلم ثمان ركعات بثمان ركوعات وسجودات ولكن هذا ظرافة محضة، والحق أن الروايات التي أعلها الأئمة معلولة، وأما الجمع بين الروايات الدالة على وحدة الركوع وتثنية الركوع في فعله صلى الله عليه وسلم فلم أجده بما يساعده النقل والرواية، وأما الاحتمالات العقلية فليست بمتعذرة على اللبيب الأريب.
قوله: (حديث حسن صحيح) أقول: إن حديث الباب معلول بتاً، فإنه أخرجه مسلم ص (299) وأبو داود ص (125) سنداً ومتناً، وفيها أربع ركوعات، وهاهنا ثلاثة ركوعات، وذلك أيضاً معلول على ما مر سابقاً، وفي مسلم ص (299) بعد ذكر حديث ابن عباس، وعن علي مثل ذلك الخ، ولم أحصل ما قال مسلم، فإنه ذكر عن علي مثل ما عن ابن عباس مرفوع أم موقوف، وأما ما وجدت في الخارج ففي تهذيب الآثار للطبري أن عليّاً صلى الكسوف بكوفة وركع في الأولى خمس ركوعات في الركعة الأولى والثانية ثم قال بعده: لم يصل مثل ما صليت أحد بعده صلى الله عليه وسلم والله أعلم، وأما أثر ابن عباس ففي معاني الآثار أنه ركع في الأولى ثلاث ركوعات وفي الثانية ركوعاً واحداً، وأما المرفوعات عن ابن عباس مختلفة فإن الترمذي روى عنه ركوعين في ركعة وفي أبي داود ومسلم أربع ركوعات، فاختلف الرواة على راوٍ واحدٍ عن فعله.
قوله: (في كسوف الشمس والقمر إلخ) قال أبو حنيفة ومالك لا جماعة في كسوف القمر وقال الشافعي: إن في خسوف القمر أيضاً جماعة، وتمسك بالعموم، ولم يذكر أحد من المحدثين خسوف القمر في عهده صلى الله عليه وسلم إلا في سيرة ابن حبان، والله أعلم.
باب ما جاء في صفة القراءة الكسوف
[562]
قال أحمد وصاحبا أبي حنيفة: يجهر بالقراءة، وقال الشافعي وأبو حنيفة: بالإسرار في القراءة، وللقائلين بالجهر رواية عائشة، وللقائلين بالإسرار رواية سمرة، والجواب عن رواية عائشة أن سمرة كان في صف الرجال ولم يسمع، فكيف سمعت عائشة؟ وأجيب بأن عائشة كانت في الحجرة كما قال الحافظ في الفتح وما أتى برواية نعم هو موجود في الخارج، قال مالك: كانوا يقتدون بمن في المسجد من الحجرات، والجواب أن عائشة لم تبين القراءة، بل قالت: إنه قرأ نحواً من البقرة فلعله صلى الله عليه وسلم جهر كجهره بالقراءة في الظهر والعصر كما في الروايات: (وكان يسمعنا الآية أحياناً) ، وسمعت لفظه أف أف ورب وأنا فيهم إلخ، كما في سنن أبي داود ويقال أيضاً: إن في المعجم للطبراني عن ابن عباس قال: كنت في جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أسمع قراءته.
قوله: (حديث حسن صحيح إلخ) حسَّن الترمذي حديث عائشة وفيه سفيان بن حسين وهو ضعيف في حق الزهري، فالله أعلم.
باب ما جاء في صلاة الخوف
[564]
نسب إلى أبي يوسف أن صلاة الخوف كانت مقصورة على عهده صلى الله عليه وسلم، أقول: لعل مراده أن صلاة الخوف بجماعة واحدة مقصورة على عهده، ويجوز تعدد الأئمة والجماعات بعده والله أعلم.
وأما الصفات الثابتة في الأحاديث فقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي: إن الصفات تبلغ أربعة وعشرين، وقال ابن حزم: إنها أربعة عشر وابن حزم ثبت، وقال ابن قيم في الزاد: إن الصفات ستة وأرجع الباقية إلى الستة، وأتى أبو داود بصفات عديدة يمكن حمل بعضها على بعض لا البعض الآخر، وقال أحمد: كل صفة ثابتة بحديث صحيح فاخترنا منه وجوزنا باقيتها كما قال علي القاري، وفي مراقي الفلاح وكذلك في المستصفى شرح الفقه النافع وكذلك في تجريد القدوري تصريح الجواز وكذلك في عبارة للكرخي فلا يجمد على ظاهر ما في فتح القدير فإنه يدل على عدم الجواز، ثم في الصفة المختارة لنا قولان؛ قول أرباب المتون وقالوا: تفرغ الطائفة الأولى قبل الثانية وفي موضع الإمام ويكون الترتيب وحٍ يكثر الإياب والذهاب؛ وقول لأرباب الشروح: يفوت فيه الترتيب ويقل الإياب والذهاب، وأكثر الأحاديث المرفوعة يؤيد ما في الشروح، وأما قول أرباب المتون فنادر في الأحاديث، ويطلب تفصيل الصفة المختارة لأهل المتن والشرح في كتب الفقه، وأما الشافعية فاختاروا صفة وجوَّزوا سائرها، والصفة المختارة لهم وهي أن يصلي الإمام نصف صلاة بطائفة فإذا فرغ من نصف صلاة بهم فتتم هذه الطائفة صلاتهم ويقوم الإمام ويقرأ وينتظر الطائفة الثانية، فإذا جاءت الثانية فيصلي بهم النصف الباقي فإذا صلى سلم بنفسه، وتتم الطائفة الثانية صلاتهم وفي صنعتهم تقليل الحركة وترك الترتيب، فإن الطائفة الأولى سلمت قبل الإمام، وصفة الشافعية وصفة المالكية واحدة إلا أن المالكية يقولون أن ينتظر الإمام جالساً الطائفة الثانية فإذا أتموا صلاتهم سلم بهم الإمام، وقال
الشافعية: يسلم الإمام بنفسه، ثم اختلفوا في الآية، فقال الشافعية: إن الآية موافقة لنا وأطنب مفسروهم، وقال الأحناف: إن الآية موافقة لنا، وأطنب الشيخ السيد محمود الآلوسي، وأوَّلَ أن الآية
تحتمل الصفتين وليست بنص في أحدهما فإن لفظ الآية: {فَإِذَا سَجَدُوا} [النساء: 102] إلخ تبادره لنا فإنه ما قال الله تعالى فإذا صلوا ليكون تبادره للشافعية، وأما لفظ:«لم يصلوا فليصلوا معك» إلخ تبادره للشافعية فإن ظاهره أتموا صلاتهم.
مسألة: تجوز صلاة الخوف عندنا بمحض حور العدو، وقال الشافعية: يشترط تحقق الخوف حقيقة.
قوله: (فقام هؤلاء إلخ) إن كان المراد من هؤلاء الأول الطائفة الأولى فيكون المذكور في الحديث صفة المتون، وإن كان المراد منه الطائفة الثانية فتكون المذكور في الحديث صفة الشروح وأقول: التبادر في الحديث صفة الشروح، ووجه التبادر أن غرض الراوي بيان أنهم لما ركعوا ركعة ركعة مع الإمام فصلوا كيف ما شاء الطائفة الثانية وكيف ما شاء الطائفة الأولى بلا رعاية الإمام، وأيضاً وجه التبادر أن القريب ذكر الطائفة الثانية فتكون الإشارة بهؤلاء الأول إلى الأقرب، وأما صفة المتون فمذكورة في كتاب الآثار لمحمد بن حسن موقوفاً على ابن عباس وقريب منها ما في سنن أبي داود ص (184) فعل عبد الرحمن بن سمرة، واعلم أن المشي في صلاة الخوف جائز عندنا ولا تجوز الصلاة ماشياً، وقال الشافعية تجوز الصلاة ماشياً.
قوله: (عن سالم عن أبيه) حديث ابن عمر دليل أبي حنيفة وهذا أصح ما في الباب والبخاري أخرجه تحت الآية وفي أول الباب.
قوله: (ذهب مالك بن أنس الخ) بين قول مالك والشافعي فرق يسير ذكرت أولاً.
قوله: (وما أعلم في هذا الباب إلا حديثاً صحيحاً إلخ) مراده أن كل صفة ثابتة بحديث صحيح لا أنه لم يصح في هذا الباب إلا حديث واحد، فإن هذا المراد يرده قول الترمذي: وهكذا قال إسحاق بن إبراهيم قال: ثبتت إلخ.
قوله: (سهل بن أبي حثمة إلخ) هذا الحديث دليل الشافعية والحديث عندي مضطرب وما توجه إلى دفعه أحد من المحدثين وصورة الاضطرب إن في حديث سهل صفةً في مغازي البخاري والترمذي وابن ماجه مغائرة لما في مسلم وأبي داود والنسائي والطحاوى، والحديث واحد سنداً ومتناً ومرفوع وليس تعارض العام والخاص ليعلموا بحمل العام على الخاص.
قوله: (ركعتان ولهم ركعة ركعة إلخ) مذهب إسحاق بن راهويه وبعض السلف منهم ابن عباس إن المقتدي يصلي نصف صلاة في الخوف، وإن كان الخوف والسفر فيصلي ركعة واحدة لا قبلها شيء ولا بعدها شيء وليس هذا مذهب أحد من الفقهاء الأربعة، وقال أتباع الأربعة في حديث الباب: إن المراد أنهم صلوا ركعة مع الإمام وركعة منفردين ولي شرح آخر في هذا الحديث وهو أن المذكور هاهنا هو صفة صلاة الخوف عند الشافعية أي صلوا ركعتين في ركعة واحدة للإمام فعبر الراوي بركعة واحدة لهم لأن الركعتين لهم كانتا تحت ركعة واحدة له عليه الصلاة والسلام وفي ضمنها، ومثل هذه الرواية رواية في النسائي ص (338) عن ابن عباس فإنه ساق الحديث إلى أن قال: وصلى بهم ركعةً ولم يقضوا إلخ، وزعم العلماء من عدم القضاء عدم الركعة الثانية وعجز الحافظ عما في النسائي، وعندي أنها صفة الشافعية كما قلت، ومثل هذه رواية في البخاري والطحاوي أنه عليه الصلاة والسلام صلى أربع ركعات والصحابة ركعتين ركعتين، ومرادها عندي ما قلت، أي بقي في حكم الصلاة في طول مدة أربع ركعات من المقتدين، وقال الشافعية: إن فيها: صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم مرتين، فيكون فيها تمسك على جواز أداء المفترض خلف المتنفل وعجز الحنفية عن جوابها إلا الطحاوي، وجوابها عندي: أن فيها صفة الشافعية ووقع تعبير الراوي موهماً، هذا والله أعلم.
باب ما جاء في سجود القرآن
[568]
اختلف العلماء في سجود القرآن من أوجه، منها إن أبا حنيفة قائل بوجوب سجدة التلاوة، والشافعي يقول بسنتها، والصحابة أيضاً مختلفون في الوجوب والسنية، وتمسك بحديث زيد بن ثابت مرفوعاً وبفعل عمر بن الخطاب حين قال: إنها لم تكتب علينا، وسيجيء الكلام فيه، وما أجاب الأحناف شافياً عن فعل عمر بن الخطاب، وأما أدلتنا على الوجوب فمنها أن أكثر السجود في القرآن بصيغ الأمر، وحمل توارد الصيغ بالأمر على الاستحباب بعيد، وإن قلت: إن الأمر مشترك بين الوجوب والاستحباب على ما قال أبو منصور الماتريدي فلا يمكن الحمل على الاستحباب إلا بدليل ظاهر كما في {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]، وقال ابن قيم في كتاب الصلاة: إن دليل الأحناف هذا قوي، ولنا دليل آخر أخرجه مسلم في صحيحه: «أن الشيطان يبكي ويقول: سجد ابن آدم فدخل
الجنة وما سجدت فدخلت النار» إلخ، فجعل مدار الجنة والنار السجدة، وقال النووي: إنه لا يمكن الاحتجاج به لأنه قول الشيطان، ونقول: إنه نقله النبي صلى الله عليه وسلم وما أنكره، فكيف لا يكون حجة؟ وقال الطحاوي وابن ههام: إن سجدات التلاوة على ثلاثة أنواع بعضها مشتمل على ذكر إطاعة المطيعين وبعضها على ذكر تمرد المتمردين وبعضها بصيغة الأمر، فإذا كان هذا فيكون الأمر للتحتم واختلاف آخر في السجود، قال مالك: إن السجود، إحدى عشر سجدة ولا سجدة في المفصل، وقال أحمد: خمس عشر سجدة وقال الشافعي وأبو حنيفة: إن السجدات أربع عشر إلا أنه قال الشافعي: في سورة الحج سجدتين ولا سجدة في ص، نعم لو تليت في خارج الصلاة يسجد، وقال أبو حنيفة: إن في الحج سجدة واحدة وفي ص أيضاً سجدة.
مسألة: ولو تلي آية السجدة في الصلاة فنوى أداءها في الركوع تجزئ بشرط أن يركع للصلاة بلا فصل قراءة ثلاث آيات، المختار عندنا عدم اشتراط نية القوم.
واعلم أن ما يكون من توزيع السجدات عندنا إلى الفرض والواجب والسنة في هوامش بعض القرآن غلط.
باب ما جاء في خروج النساء إلى المساجد
[570]
ذكرت أولاً أصل مذهب الأحناف، وأما أرباب الفتوى فأفتوا بعدم خروج النسوان إلى المساجد.
قوله: (أيذنوا إلخ) هذا لا يدل على ترغيب النساء إلى خروجهن إلى المساجد بل في خارج
حديث الباب ترغيب النسوان إلى أن تصلي في البيت والمخدع، وأماما في حديث الباب فمراده أن الرجال ليس لهم حق منعهن، وإذا كان الأمر دائراً بين الجماعة يراعى الشريعة كلا الجانبين، مثل ما قلت في حديث:«لا يؤم أحد في بيته» إلخ، ولا يخرج من الأحاديث، وفي مذاهب الأئمة الأربعة توسيع، لا كما زعمه بعض مدعى العمل بالحديث، وفي سائر المذاهب تضييق مما في أصل مذهبنا.
قوله: (وتقول: لا تؤذن) قيل: إن ولد ابن عمر هذا واقد، وقيل: بلال، وفي الروايات أن ابن عمر ما تكلم بعد مدة العمر، وأما ولد ابن عمر فلم يقابل الحديث برأيه وقولِه، بل كان غرضه صحيحاً، وعبره بعبارة لا تنبغي، فأخذ على لفظه كما هو مذكور في تكملة البحر للطورى: أن أبا يوسف مدح الدُّباء، وروى فيه عنه صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: ليست بمرضية عندي، فأمر أبو يوسف بقتله فتاب الرجل، ولم تكن ثمة إلا الفرق في التعبير لا في الغرض.
قوله: (دغلا الدغل) هو الاصطياد مختفياً خلف الشجرة.
باب ما جاء في كراهية البزاق في المسجد
[571]
واعلم أن في مناط النهي عن البزاق تسعة شقوق مستنبط من الأحاديث، والراجح عنها عندي أنه احترام المواجهة الحاصلة بين الله والمصلي وسائر الشقوق راجعة إلى هذا.
قوله: (ولكن خلفك) زيادة خلفك ليست في غير رواية الترمذي.
قوله: (تلقاء شمالك) في بعض الروايات قيد «إذا لم يكن رجل في شمالك» كيلا يقع في يمين ذلك الرجل، وإذا جمعت الطرق فلا يخرج الوسعة في البزاق في المسجد ولا في الصلاة، واتفق الكل أن حكم حديث الباب في من اضطر، ثم في الحديث خلاف بين القاضي عياض والنووي، قال النووي: إن البزاق في المسجد خطيئة، وقال: إن صدر الحديث في من يصلي في المسجد، وعَجُزَه فيمن يصلي في خارجه، وتمسَّك بحديث:«البزاقُ في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها» ، وقال القاضي
عياض: إن صدر الحديث وعَجُزَه في من يصلي داخل المسجد إلا أن البزاق في حالة الاضطرار جائز في المسجد إلا أن الخطيئة في من يبزق ولا يريد دفنها ولا خطيئة فيمن يريد دفنه، وذهب الحافظ ابن حجر إلى قول القاضي، وأما أنا فأتوقف في هذا.
[573]
غرض الانعقاد من هذا الباب الرد على مالك بن أنس فإنه قال لا سجدة في المفصل، وأجاب الموالك عن حديث الباب بأن السجدة في المفصل كانت في مكة، وإذا هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة نسخت السجدة، ونطلب منهم الدليل على هذا.
باب ما جاء في السجدة في النجم
[575]
واقعة الباب واقعة مكة، وأرسل ابن عباس الحديث لأنه لم يكن حاضراً في الواقعة، بل لم يكن متولداً على ما اختير أنه كان ابن ثنتي عشر سنة حين وفات النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (المشركون إلخ) قال البعض: إن وجه سجدة المشركين أن الشيطان أدخل كلامه في كلامه عليه الصلاة والسلام، وأجرى لفظه على لسانه عليه الصلاة والسلام، واللفظ هذا: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لتُرتجى، بعد ذكر اللات والعزى، وقيل: ما تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ بل تكلم به الشيطان على لهجة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صورة صوته، وقيل وهو التحقيق: إن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بهذا اللفظ بطوعه، وأنه آية من القرآن العزيز نسخ تلاوتها، وأما المشار إليه بتلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى الملائكة، وهذا القول نعم الصواب فإن التشبيه بالغرانيق إنما يليق للملائكة لأنهن ذوات أجنحة ولا يليق تشبيه اللات والعزى بالغرانيق، وأما سجود المشركين على هذا إنما لزعمهم أن الإشارة إلى اللات والعزى، أو يكون تحقق السجدة منهم بالجذبة، كما قال الشاه ولي الله رحمه الله، وأتى العيني والحافظ بروايتين صحيحتين مرفوعتين على القول الثالث الصحيح، وقال الحذاق: إن القول الأول من اختراع الزنادقة فإنه يرتفع على ذلك عصمة الأنبياء، وأما إلقاء الأمنية فليس بمنحصر على هذا، ولعل معنى الإلقاء على لسانه أنه كان تكلم موهماً أنه من كلامه صلى الله عليه وسلم ثم رواه بعضهم على فهمه في المعنى، وأما القول الثاني فذلك أيضاً بعيد وباطل، أقول على تصويب القول الثالث المؤيد بالروايتين كان أهل مكة مطيعين له عليه الصلاة والسلام وكان صناديد المشركين في الطائف، ثم لما رجعوا إلى مكة انحرف أهل مكة وارتدوا عن دينه عليه الصلاة
والسلام، وقد أفشى خبر انقياد أهل مكة له عليه الصلاة والسلام إلى الأصحاب الذين هاجروا إلى الحبشة، ويؤيد هذا ما في تاريخ
ابن معين ومعاني الآثار ص (196) ، ولكن في سنده ابن لهيعة، إلا أنه إذا روى عنه العبادلة تكون فيها شيء قوة، وأيضاً رواها ابن لهيعة من كتاب المغازي لمحمد بن عبد الرحمن، وإذا روى عن كتاب تكون روايته معتبرة لأن الكلام فيما إذا روى عن حفظه فتكون الرواية قوية شيء بقوة.
قوله: (والجن إلخ) ذكر العيني اسم بعض الساجدين من الجن، وكان الجن، من نصيبين ونينوى، وذكر أرباب الكتب أسماءهم في الصحابيين، وأما كلام إن المشركين كانوا على وضوء أولا فليس هذا محله يطلب من موضعه.
باب ما جاء في من لم يسجد فيه
[576]
أي في النجم، تمسك الحجازيون بحديث الباب على سنية السجدة فإنها لو كانت واجبة لما تركها النبي صلى الله عليه وسلم، وأجاب الأحناف بأنا لا نقول بوجوب الأداء، في الفور كما في ظاهر الرواية، لنا وفي التاتارخانية في رواية شاذة عن أبي حنيفة وجوب أداء السجدة بلا تراخ، وأقول: إن ظاهر الرواية فيمن لا يخاف فوات السجدة، والشاذة في من يخاف فوات الأداء.
قوله: (وتأول بعض أهل العلم إلخ) لا نتأول بهذا بل بما ذكرنا من الجواب، وأما هذا فيمكن
في محل النكتة بما في فتح القدير: أنه إذا تلا أحدٌ آيةَ السجدة، وسمعها جماعة يستحب لهم أن يجعلوا صورة الإمامة والاقتداء ويتوسط الإمام، وليست هذه إمامة واقتداء حقيقة حتى لو ظهر فساد وضوء الإمام لا يسري إلى سجدات المقتدين، فهذه نكتة تأخيره عليه الصلاة والسلام أداء السجدة.
قوله: (واحتجوا بحديث عمر إلخ) ليس هذا مرفوعاً بل أثر عمر، وهذا تمسُّك الحجازيين، وأما الجواب من جانب الأحناف بأنه موقوف ومذهب عمر فلا يفيد فإنه بمحضر جماعة من الصحابة، فيمكن للشافعية قول: إنه قريب إجماع جمهور الصحابة فما أجاب أحد جواباً شافياً، وقال العيني بحذف المستثنى المتصل، لأنه أصل فيكون المعنى: أنها لم تكتب علينا إلا أن نشاء مكتوبيتها، وقال أيضاً: إن المشيئة يتعلق بالتلاوة لا بالسجدة، وقال الحافظ: إنها تتعلق بالسجدة، أقول تأويل العيني فيه أنا إذا قلنا أن المستثنى منه الوجوب، والمستثنى هو التطوع يكون الاستثناء أيضاً متصلاً، وليس حد المتصل والمنفصل ما هو مشهور على الألسنة بل تفصيله مذكور في قطر الندى وشرح الشيخ السيد محمود الآلوسي على المقدمة الأندلسية، وذكر بعضه في روح المعاني في وجوه المثاني تحت آية {إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92] إلخ آية الكفارة فإنه قال: إن الاستثناء متصل خلاف ما قالوا، وأيضاً يخالف قولَ العيني لفظُ الباب:(فلم يسجد ولم يسجدوا) إلخ، فإنه تحقق التلاوة في واقعة الباب، وأما قول: إنه تأخير السجدة لأن الأداء لا يجب في الفور فبعيد لأنه لا عذر ونكتة لترك السجدة الآن بخلاف ما مر من واقعة النبي صلى الله عليه وسلم فلم أر جواباً شافياً، وللحافظين كلام في شرحي البخاري، وأجيب بما تيسر لي بأن مراد عمر أن السجدة بخصوصها لم تكتب بل يكفي الانحناء والركوع أيضاً، ويجوز عندنا أداء سجدة التلاوة بالركوع قائماً وقاعداً والقيام مستحب والركوع أعم من أن يكون داخل الصلاة أو خارجها، ورواية أدائها في الخارج في ضمن الركوع موجودة في فتاوى الظهيرية عن أبي حنيفة نقلها في الدر المختار، وفي التفسير الكبير أن أبا حنيفة تمسك بآية
سجدة ص المذكور فيها لفظ الركوع على إجزاء الركوع بدل سجدة التلاوة، وتخصيصه بداخل الصلاة غير لازم وفي مصنف ابن أبي شيبة آثار من بعض الصحابة والتابعين أنهم كانوا يكتفون بالتسليم إذا تلو آية السجدة، والمراد من التسليم هو الانحناء لا السلام عليكم، وفي مصنف ابن أبي شيبة أن أبا عبد الرحمن السلمي التابعي تلميذ عمر بن خطاب كان من القراء ويتلوا القرآن وهو ماش فإذا تلا آية السجدة كان ينحني ثمة وهو ماش، ويؤيدنا ما ذكره الحافظ في الفتح أن وجه الاختلاف في ص في السلف أن المذكور فيها لفظ الركوع فدل على أن بعض السلف رأو الركوع في حكم السجدة، وأجريت هذا المذكور في الخلاف بين الشافعية والحنفية فلم أر أثراً من الآثار يدل على أن أحداً تلا آية السجدة ولم يسجد، ولم ينقد ولم يخفض رأسه ولم ينحن، فالحاصل أن مراد عمر أن السجدة بخصوصها غير مكتوبة علينا.
واعلم أن الحنفية اختلفوا في شرط وجوب السجدة على السامع قصده الاستماع وعدمه، والمختار أن القصد ليس بشرط وأيضاً كان وقع من النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا كما عند أبي داود في ص ولم يكن التزم السجدة فيها بعد ثم التزمها كما عند الحاكم وغيره.
اطلاع ذكر الشيخ عبد الحق في الحاشية ويوافقه ما ذكره العيني من أنه روي عن مالك أنه قال: إن ذلك مما لم يتبع عليه عمر ولا عمل به أحد بعده انتهى.
قوله: (أنه ليس بذاك) بأن في موطأ مالك ص (23) قال مالك: ليس العمل على أن ينزل الإمام إذا قرأ السجدة على المنبر فيسجد إلخ، وهذا خلاف ما قال الشيخ عبد الحق ناقلاً عن مالك، فإن مراد مالك نفي وجوب الأداء على المنبر على شاكلة الجماعة.
باب ما جاء في السجدة في ص
[577]
قوله: (حدثنا ابن أبي عمر إلخ) في بعض النسخ ابن عمر وهذا غلط، والصحيح ابن أبي عمر.
قوله: (وليست من عزائم السجود إلخ) تمسك الشافعية بهذا الحديث على نفي السجدة في صلى الله عليه وسلم، ومر الزيلعي على هذا وجمع الطرق كلها، وقال: ظني أن هذه الروايات بطرقها كونها لنا أولى من كونها علينا، أقول: كلام الزيلعي نعم الحق كما تدل الطرق منها ما في البخاري ص (209) في كتاب التفسير عن ابن عباس، ومنها ما في البخاري ص (486) ج (3) : ليست من عزائم السجود، ورأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها إلخ، فرجحان ابن عباس إلى السجدة في صلى الله عليه وسلم، فغرض ابن عباس من
قوله: ليست من عزائم السجود، وبيان حقيقة سجدة صلى الله عليه وسلم أي أنها سجدة شكر لنا، وسجدة توبة لداود، كما في سنن النسائي مرفوعاً، وأخرج الطحاوي أيضاً رواية ابن عباس فليراجع إليها فإنها مفيدة لنا، ويمكن أن يقال: إن غرضه أنها ليست من عزائم السجود بل يكفي الركوع.
قوله: (والشافعي إلخ) لا يقول الشافعي في صلى الله عليه وسلم بالسجدة في داخل الصلاة، بل يقول باستحبابها في خارج الصلاة، فلا أعلم وجه قول الترمذي هذا.
باب في السجدة في الحج
[578]
تمسك الشافعية بحديث الباب، ونقول: إن في سنده ابن لهيعة، وأما ما في أبي داود ص (206) ففيه قوة شيء ما في الباب، فإن فيه: روى عبد الله بن وهب عن ابن لهيعة وتكون رواية العبادلة عن ابن لهيعة أعدل لكنها لا تبلغ مرتبة الحسن لذاته، وفي أبو داود ص (206) بسند آخر ولكن فيه عبد الله بن منين وهو مستور الحال، فالحاصل أن أحداً من طرق حديث الباب لا يخلو من ضعف أو لين، ولنا ولهم آثار لا مرفوع لأحد، ولهم أثر عمر، ولنا أثر ابن عباس، ولو سلمنا أن في الحديث قوة شيء فنقول: إن سجدة الثانية سجدة صلاتية لا تلاوية، فإن المذكور معها ركوع، واستقراء العلماء أن السجدة المذكور بها الركوع سجدة صلاة.
قوله: (وابن عمر أنها إلخ) روى الطحاوي عن ابن عمر أن في الحج سجدة واحدة وأقول ذكر شمس الدين بن الجزري شيخ القراء في رسالته «النشر في قراءة العشر» : أن جزئية التسمية للسورة وعدم جزئيتها بني على القراءتين، فإنها جزء على قراءة، وليست بجزء على قراءة وكذا الوقف على «أنعمت عليهم» وعدم الوقف مبني على اختلاف القراءتين، وهذا ذكره البقاعي عن الحافظ ذكر الزرقاني، ولقد رضي بهذا السيوطي والقسطلاني وغيرهما، وأقول: إن الاختلاف في السجدة في
الحج لعله مبني على اختلاف القراءات والأحرف، وشبيه هذا ما ذكر بعض الأحناف مثل رد المحتار أن موضع السجدة في {أَلَّا يَسْجُدُوا} [النمل: 25] يختلف على الاختلاف في تشديد ألا وتخفيفها، فلو قرأت مشددة يكون موضع السجدة غير ما يكون على قراءة تخفيفها، روي عن أبي حنيفة أن سجدة الشكر فقط ليست بشيء، ففي تفسير قوله قولان؛ قيل: نفي السجدة من الرأس، وقيل: نفي كمال الشكر، وهذا القول نسبه الحموي في حاشية الأشباه والنظائر إلى محمد بن حسن، وروى أن مالكاً يقول: لا سجدة للشكر.
باب ما جاء ما يقول في سجود القرآن
[579]
عندنا لو سجد في الصلاة يسبح تسبيحات الصلاة ولو سجد خارجها يقرأ ما هو مأثور.
قوله: (من عبدك داود إلخ) في الحديث سجدة داود بلفظ السجدة، وفي القرآن بلفظ الركوع.
قوله: (سجد وجهي للذي الخ) هذا مستدلنا على أن حقيقة السجدة وضع الجبهة بشرط وضع إحدى الرجلين، فإنه عليه الصلاة والسلام نسب السجدة إلى الوجه فإن حقيقة السجدة يتقوم بالوجه.
باب ما جاء من التشديد في الذي يرفع رأسه قبل الإمام
[582]
هذا مكروه تحريماً عندنا وفي أقوال باقي الأئمة أيضاً ضيق.
قوله: (إنما قال: أما يخشى إلخ) غرضه أن قوله عليه الصلاة والسلام هذا إنما هو تهديد وتخويف لا إخبار لأن خبر الشارع لا بد من وقوعه، وأقول: لعله يكون التحويل في القيامة حقيقة، فإن في القيامة تكون المعاني مصورة.
باب في الذي يصلى الفريضة ثم يؤم الناس بعد ما صلى
[583]
هذه مسألة اقتداء المفترض خلف المتنفل. وذلك جائز عند الشافعي، وغير جائز عند أبي حنيفة
ومالك، وعند أحمد روايتان ورجح أبو البركات مجد الدين بن تيمية في المنتفي ص (51) رواية عدم الجواز، وفي تمهيد أبي عمر أن عدم الجواز مذهب جمهور العلماء والفقهاء.
قوله: (يصلي المغرب إلخ) قال البيهقي في معرفة السنن والآثار: إن لفظ المغرب معلول لتصريح العشاء في سائر الروايات، وعبارة البيهقي تشير إلى الاتفاق على الإعلال، وتأول البعض في لفظ المغرب.
تمسك الشافعية بحديث الباب على جواز الاقتداء المذكور، وقالوا: إن معاذاً كان يصلي الفريضة خلفه عليه الصلاة والسلام ويتطوع أي يعيد في بني سلمة وكانت تقع نافلة، وأجاب الطحاوي عن هذا بثلاثة أوجه؛
أحدها: أنا لا نسلم أن معاذاً كان يصلي الفريضة خلفه عليه الصلاة والسلام والإعادة في بني سلمة فإنا نقول بعكسه أي كان يصلي خلفه عليه الصلاة والسلام صلاة العشاء أي صلاته عليه الصلاة والسلام ولكنه ما كان يريد به إسقاط ما في الذمة والفريضة، بل كان يريد إسقاط ما في الذمة في بني سلمة في صورة من يريد أداء صلاة الإمام خلفه، وما أراد فيها إسقاط الفريضة تكون صلاته نافلة في المآل، وأنا عبرت بهذا التعبير كيلا يخالفنا لفظ الراوي، وأما المشهور على الألسنة من قول: إن معاذاً كان يتطوع خلفه عليه الصلاة والسلام من أول الأمر فيخالفه لفظ الراوي ولا يقبله عاقل، ولهذا عدلت من التعبير المشهور إلى تعبير الطحاوي، ولله در القائل: والحق قد يعتريه سوء تعبير.
فالحاصل أنا قلنا بعكس ما قالوا، وأيضاً نقول: إن الناقل هو جابر بن عبد الله، ولم يطلع على ما نوى معاذ، وما أفصح معاذ بنيته.
والوجه الثاني: أن تمسككم إنما يصح لو كان فعل معاذ بلغ النبي صلى الله عليه وسلم وقرره صلى الله عليه وسلم، ونقول: إنه عليه الصلاة والسلام لما بلغه فعل معاذٍ أنكره كما في معاني الآثار ص (238) أن سليماً شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطويل قراءة معاذ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«أفتان أنت يا معاذ إما أن تصلي معي وأما أن تخفف على قومك» إلخ، ورجال الحديث ثقات، أخرجه أحمد في مسنده مرسلاً بسند قوي سنداً ومتناً، ومر الحافظ على هذا الحديث وأجاب عنه بتقدير العبارة بأن المراد إما أن تصلي معي فقط وإما أن تخفف على قومك إلخ، ونقول: إن التقدير خلاف الأصل، وأقول: إن قوله عليه الصلاة والسلام: «إما أن تصلي معي» يدل على أن معاذاً لم يكن يصلي خلفه عليه الصلاة والسلام الصلاة المعهودة أي بالنية بإسقاط ما في الذمة، ثم رأيت في عبارة أبي البركات مجد الدين بن تيمية قريب ما قلت هذا.
والوجه الثالث للجواب: أن فعل معاذ هذا إنما هو قبل نسخ تكرار الصلاة في وقت واحد، وليعلم أن نسخ التكرار يستثنى منه ثلاث صور لأحاديث أخر:
إحداها: من صلى منفرداً ثم وجد الجماعة فأراد إحراز ثواب الجماعة لنفسه.
وثانيتها: أن يصلي بالجماعة ليحصل ثواب الجماعة للغير بعد أن صلى بنفسه بالجماعة مثل فعل علي وأبي بكر.
وثالثها: أنه صلى منفرداً في عهد أئمة الجَور ثم ابتلي واضطر إلى إعادة ما صلى.
ثم مر ابن دقيق العيد في عمدة الأحكام على أجوبة الطحاوي ولما مر على الجواب الثالث قال: لم يذكر الطحاوي أن تكرار الصلاة كان جائزاً في حينٍ ما فإنه لم يأت بالسند، ولما مر الحافظ على كلام ابن دقيق العيد قال: إنه لم يطلع على كلام الطحاوي فإنه قد أسند قوله وأتى بالرواية في صلاة الخوف ص (182) : أن أهل العوالي كانوا يصلون مرتين فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلوا صلاة في يوم مرتين، إلخ. لما مرَّ الحافظ عليه ما تكلم في سنده جرحاً وتعديلاً، أقول: إن رجال السند ثقات ومعروفون إلا خالد بن أيمن المعافري فإنه ليس بمذكور في كتب الرجال، ولكنه لا يضرنا فإن قراءة عمرو بن شعيب تلك الرواية على سعيد بن المسيب وتصديق ابن المسيب الرواية كاف لنا لأن سعيد بن مسيب لا ريب في ثقته، فإن الشافعي يقبل مراسيله، وهو من أفضل التابعين وقيل: الأفضل أويس القرني، وقيل: زين العابدين، ثم أقول: إن خالد بن أيمن المعافري هو حفيد أم أيمن وابن أيمن، ولي في هذا قرائن، منها أن في مسند أحمد راوياً خالد بن عبيد المعافري وعلم من الخارج أن عبيداً زوج أم أيمن قبل أن نكحها زيد بن حارثة، ويقولون: إن عبيداً معافري فعلمت أن خالداً في الطحاوي هو عين خالد في مسند أحمد إلا أنه نسب في الطحاوي إلى أبيه أي أيمن، وفي مسند أحمد نسب إلى جده عبيد، فأصل نسبه خالد بن أيمن بن عبيد المعافري وقرائن أخر، وهذا كان تبرعاً مني لأن خالداً ليس بموقوف عليه لمستدلنا بل صدقه سعيد، ثم عارض الطحاوي الشافعية برواية مرفوعة عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تصلوا صلاة في يوم مرتين» ، وفي بعض الألفاظ:«لا تصلوا صلاةً مكتوبةً في يوم مرتين» أخرجها النسائي وأبو داود وغيرهما، وتأول الشافعية فيها بأن مراده النهي عن التكرار بلا سبب، ويكون التكرار بالاختيار كما قال الخطابي
، أقول: إن صلاة معاذ خلفه عليه الصلاة والسلام كانت أفضل فأي سبب لإعادته صلاته؟ وإن قيل: كان معاذ أقرأهم ولم يكن في بني سلمة قارئاً، فهذا الاحتمال بعيد غاية البعد، فإن فيهم جابراً وغيره، وهل يقول أحد: إنهم كانوا غير قارئين قدر ما تصح به الصلاة؟ وتأول بعضهم بأن مورد النهي إنما من صلى بالجماعة ثم أعادها في الجماعة ثم إذا يذكرون هذه المسألة، فيقول البعض: إن كانت الجماعة الثانية ذات فضيلة يعيدها وإلا فلا، والبعض يترددون في المسألة، ونقول: إن آية جماعة أفضل من جماعة يكون إمامها نبي الله صلى الله عليه وسلم، والحق أن دليلنا ناهض ومعارضة الطحاوي قوية، ونقول: إن النهي منسحب على فعل معاذ أيضاً، وفعل معاذ متقدم فإنه قبل غزوة أحد لما أن سليماً لما شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال معاذ: إنك منافق، قال سليم: ستعلم أني منافق أم مخلص لو جاء الله بأمر بيننا، فشهد سليم أحداً واستشهد، وقال معاذ: صدق الرجل، فدل على أن فعل معاذ متقدم، ثم نخرج الجزئيات الثلاثة الواردة المذكورة
أولاً من حديث ابن عمر ولكنه منسحب على فعل معاذ كما يدل تبويب أبي داود ص (85) باب: إذا صلى في جماعة ثم أدرك جماعة أيعيد؟ ثم ذكر تحته حديث ابن عمر، وفعل ابن عمر، عن سليمان قال: أتيت ابن عمر على البلاط وهم يصلون فقلت: ألا تصلي معهم؟ قال قد صليت، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تصلوا صلاة في يوم» إلخ، وكذلك تبويب النسائي ص (145) سقوط الصلاة عمن صلى مع الإمام في المسجد جماعة، ثم ذكر تحته حديث ابن عمر ثم أورد على جوابنا الأول بأن في سنن الدارقطني والبيهقي ورواية الشافعي زيادة:«هي له تطوع ولهم فريضة» إلخ في رواية جابر، أقول: نقل أبو البركات ابن تيمية عن أحمد كما في العمدة، وعن ابن الجوزي وابن العربي عن أحمد بن حنبل: أخشى أن لا تكون هذه الزيادة محفوظة إلخ، أي لعلها من إدراج الراوي وبعض الحفاظ الآخرين أيضاً أعلوها، وأقول: إن هذه الزيادة إنما هي من ابن جريح عن ابن دينار، ولا يذكرها غير ابن جريح وتدل عليه فتيا ابن جريح، وأقول أيضاً: في مختصر المزني ومسند الشافعي قال المزني والأصم صاحب النسخة: إن هذه الزيادة وجدتها عن ابن جريح عن ابن دينار ولم تكن هذه عندي، فدل قوله: إن هذه الزيادة ليست في رواية الشافعي، فكيف يقولون: إنها في رواية الشافعي؟ ثم نتنزل، ونقول: إن معنى هذه الزيادة إنها له تطوع أي خصلته هذه تطوع ويطوع نفسه، لا إن كانت صلاته تطوعاً، سيما إذا كان في لفظ الدارقطني «وهي له نافلة» أي مجاناً لا التطوع، وقد يطلق لفظ النافلة على الفريضة كما قلت في أول الكتاب في بحث صلاة أئمة الجور، ثم لي جواب آخر كنت استخرجته ثم رأيت بعد مدة في شرح أبي بكر بن العربي على الترمذي بعين ما قلت، وصورة الجواب: أن معاذاً لم يكن يصلي بالقوم صلاته خلفه عليه الصلاة والسلام في ذلك اليوم في ذلك الوقت بل في يوم آخر ولا لفظ يدل على أنه يصلي
بهم صلاته خلفه عليه الصلاة والسلام في ذلك اليوم والوقت إلا ما في البخاري أو غيره: «ويصلي بهم تلك الصلاة» إلخ، ومراده عندي أن التشبيه إنما هو في الإطالة، وكان يتعلم منه عليه الصلاة والسلام تطويل القراءة في يوم ثم يجزيه على من يقتديه في يوم آخر، ونظير التشبيه في الإطالة ما مر في الترمذي في خطبة الاستسقاء «ولم يخطب خطبتكم هذه» إلخ أي مطولة، وأما ما في أبي داود ص (115) عن جابر إلخ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الصلاة، وقال مرة العشاء، فصلى معاذ مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء يؤم قومه فقرأ البقرة إلخ، فمراده أنه تعلم التأخير عنه عليه الصلاة والسلام يوماً ثم أجراه على قومه في يوم آخر، ثم أقول: إن وقائع معاذ متعددة، فإن في البخاري ص (98) رواية تطويل معاذ صلاة الصبح، ومر عليها الحافظ، وقال: قيل: إنه معاذ، والحق إنه أبي بن كعب، لأن الواقعة واقعة قبا وإمام قبا كان أُبِيّ، أقول: إن الرواية التي تمسك بها الحافظ أنه أبي بن كعب في سندها عيسى بن جارية وضعفه أكثر المحدثين، وعندي رواية صريحة في أن معاذاً كان إمام قبا أيضاً في وقت ما، وأقول: إنه لم يثبت في رواية من الروايات أن معاذاً صلى الفجر خلفه عليه الصلاة والسلام ثم أتى بني سلمة أو قبا فإذا لم يثبت فنقول: إنه لا يصلي
بهم الصلاة التي صلاها خلفه عليه الصلاة والسلام في ذلك اليوم والوقت، والله أعلم بالصواب.
قوله: (فإن صلاة المقتدى فاسدة إلخ) احتج بعض الأحناف على الفساد برواية: «إنما جعل الإمام ليؤتم به» إلخ أقول: لا يحتج بهذا فإن مراده أن الإمام إمام في أداء الأفعال، ولا دخل فيه للنية، والله أعلم وعلمه أتم.
باب ما جاء من الرخصة في السجود على الثوب في الحرّ والبرد
[584]
وقال الشافعي: لا تصح الصلاة والسجدة على الثوب الذي لبسه المصلي، وقال أبو حنيفة: تصح الصلاة على الثوب الملبوس له، وظاهر حديث الباب لأبي حنيفة.
باب ما يستحب من الجلوس في المسجد بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس
[585]
الحديث القولي في مضمون الباب ثابت وصحيح، وأما فعله عليه الصلاة والسلام فنادر، ويستحب للإمام والمصلي تبديل الموضع الذي صلى فيه المكتوبة وفي حق الإمام زيادة تأكيد لما في مسلم ص (288) عن معاوية رضي الله عنه:«أمرنا أن لا نوصل صلاة بصلاة حتى نتكلم أو نخرج إلى آخره» .
قوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إلخ) هل هذا الفعل إلا نادر؟ وعبره الراوي بطريق العادة والاستمرار.
قوله: (كأجر حجة وعمرة إلخ) التشبيه يمكن أن يكون في إلحاق العبادة الصغيرة بالكبيرة لا بيان أن هذا المصلي أحرز ثواب حجة وعمرة واختار الشارحون الثاني، وأقول: إن حديث الباب يفيد بظاهره أن تقديم الحج على العمرة أيضاً شاكلة العبادة وإن كان مفرداً لا قارناً أو متمتعاً خلاف ما قال ابن قيم في الزاد: أن السنة تقديم العمرة على الحج، والله أعلم.
باب ما ذكر في الالتفات في الصلاة
[587]
من اللفتة، أي لَيُّ العنق، ويجوز النظر بالعين عندنا، ويكره بِلَيِّ العنق، وأما بِلَيِّ الصدر فمفسد للصلاة، والمذكور في الحديث هو النظر بِلَيِّ العنق.
قوله: (ففي التطوع إلخ) دل الحديث على أن بين الفريضة والتطوع فرقاً، وكذلك في الفقه فإن النافلة جائزة جالساً لا الفريضة.
قوله: (اختلاس إلخ)(ربودن) أي تكون الصلاة مقطوعة بعض الأجزاء لما في سنن أبي داود ص (115) : أن البعض يرجع بعشر الصلاة، وبعضهم بربعها، وبعضهم بنصفها، وهكذا.
باب ما جاء في الرجل يدرك الإمام ساجدا كيف يصنع
؟
[591]
مدرك الركوع مدرك الركعة عند الجمهور، وقال أبو هريرة: إن مدرك الركوع مدرك الركعة بشرط أن يدرك الإمام قبل انحناء الإمام إلى الركوع، ولا يجب إدراك القراءة لما في موطأ مالك وبعض الكلام مر في باب القراءة خلف الإمام، وفيه كلام مع البخاري في مذهب أبي هريرة، وللجمهور حديث أبي داود:«من أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة، ومن أدرك السجود لا تعتدها شيئاً» وتكلم فيه البخاري من قِبَل يحيى، وللجمهور أيضاً ما في المطالب العالية أي أطراف ابن حجر نقله من مسند مسدد:«إن مُدرك الركوع مدرك الركعة لا مدرك السجدة» وصححه الحافظ مرفوعاً، والحديث قولي فلا يضرنا كلام البخاري في جزء القراءة في الحديث السابق، ولنا آثار كثيرة، وأجلها ما روى أنس: أن القنوت في الفجر كان بعد الركوع فقدمه عثمان ليدرك الناس الركوع، كما في الفتح وقال الشوكاني: لا دليل للجمهور على هذه المسألة، وبالغ في نيل الأوطار ثم رجع في فتاواه إلى قول الجمهور.
باب ما جاء في تطييب المسجد وتنظيفه
[594]
لقد ثبت التجمير من عهده عليه الصلاة والسلام، وفي الروايات ما يدل على تنظيف المسجد أي كنسه، فإن امرأة كانت تنظف المسجد كل يوم فماتت، فدفنها الصحابة في ليلتها، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن حالها؟ فقالوا: ماتت فدفناها، فقال:«لمَ ما أخبرتم إياي» ؟ قالوا: استكرهنا إيقاظك، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم على قبرها، وكذلك ثبت التطييب لما في الروايات أن رجلاً بزق في المسجد فاستكرهه النبي صلى الله عليه وسلم فأتى رجل بخلوق فمس النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الخلوق على الموضع الذي بزق فيه الرجل، وكذلك ثبت تجمير المسجد في عهد عمر.
قوله: (وفي الدور إلخ) الدار المحادة مثل دار بني قزعة ودار بني عبد الدار، والدار في اللغة: ما يقال له: سراي خانه، ويقال: الدار وإن هدم وبقي الآثار، بخلاف البيت كما قيل (شعر) :
~ الدار دار وإن زالت حوائطها
…
والبيت ليس بيتاً بعد تهديم
باب ما جاء أن صلاة الليل والنهار مثنى مثنى
[597]
قد استقصيت المذاهب أولاً، والظاهر من حيث الحديث لمذهب صاحبي أبي حنيفة. واعلم أن الكلام في هذا طويل لا يمكن إحصاءه هاهنا، وحديث «صلاة الليل مثنى مثنى» مرفوعاً فبلغ التواتر عن ابن عمر تواتر السند، وأما حديث (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) مرفوعاً فأعله جمهور
المحدثين، وذكر ابن تيمية وجه الإعلال: أن في تتمة الحديث «فإذا خشي الصبح يصلي واحدة توتر له ما قد صلى» فالمذكور في التتمة هو حال الليل لا النهار فيكون في الأول أيضاً ذكر حال صلاة الليل فقط، ويمكن لأحد أن يقول: إن المذكور في الأول الأمران وأخذ أحدهما في آخر الحديث، والكلام في إعلال لفظ النهار في المرفوع أطول فلا أذكر إلا نبذة، فأقول: قد أعله النسائي في الصغرى، وقال: إنه خطأ، وأعله ابن معين فإنه بلغه أن أحمد بن حنبل قائل بمثنى مثنى في الليل والنهار على رواية علي الأزدى عن ابن عمر أي رواية الباب، فقال ابن معين: من علي الأزدي البارقي حتى أقبله وأترك ما روى يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر: أن ابن عمر كان يصلي بالليل مثنى مثنى وبالنهار أربعاً أربعاً، وأعله ـ أي حديث «صلاة النهار مثنى مثنى» ـ أحمد بن حنبل، كما في فتاوى ابن تيمية أن أحمد أعله في الآخرة إلخ، فلعله ما أعله أولاً، كما يدل عليه ما ذكرت أن ابن معين بلغه إلخ، وكذلك أعلَّه الأكثرون، وأما البخاري فصححه نقله البيهقي في السنن الكبرى عن ابن الفارس أنه صححه البخاري، وفي السنن الكبرى عن البخاري قال: روى سعيد بن: أن ابن عمر كان لا يصلي أربعاً بالنهار بتسليمة واحدة، فإذن لعله دار تصحيح حديث ابن عمر على عمله، فأقول: إن عمل ابن عمر قد صح أربعاً بالنهار بأسانيد قوية، منها ما في الترمذي، ومنها ما نقله ابن معين عن يحيى عن نافع عن ابن عمر، ومنها ما في الطحاوي، وأما ما رواه البخاري فليس إلا بسند واحد، فلا يمكن إنكار عمله
أربعاً بالنهار، فإنه صححه ابن تيمية أيضاً، فالترجيح في إعلال لفظ النهار في المرفوع للجمهور، ثم روى الزيلعي:«صلاة الليل والنهار مثنى مثنى» في التخريج عن أبي هريرة مرفوعاً ورجال السند ثقات، ومر عليه الحافظ في الدراية وتردد في أنه عن ابن عمر فوهم الراوي في ذكر أبي هريرة أو مروي عن أبي هريرة فصار متردداً فيه، ثم روى الزيلعي بسند آخر عن عائشة:«صلاةُ الليل والنهار مثنى مثنى» مرفوعاً ولكن في سنده عامر بن خداش، ولم أجد ترجمته، وظني أنه ليس بصحيح، ثم قال الزرقاني: إن في عمل ابن عمر أربعاً بالنهار لا تصريح بالتسليمة الواحدة، بل يمكن أن تكون بتسليمتين، أقول: فكيف التقابل بين مثنى عمله بالليل وأربع عمله بالنهار؟ وأيضاً في الطحاوي تصريح التسليمة الواحدة فلا يصح تأويل الزرقاني فالحاصل أن الترجيح لمذهب الصاحبين، وأما: صلوة الليل والنهار مثنى مثنى، موقوفاً على ابن عمر فلا ريب في صحته.
باب في كراهية الصلاة في لحف النساء
[600]
أي في ثيابهن لأن في ثيابهن احتمال التلوث، فالشريعة الغراء تعتبر الاحتمالات الغالبة بخلاف أرباب الفتوى، وكذلك لا يعتبرها أرباب المتون كما في مسألة الدجاجة المخلاة.
باب ما يجوز من المشي والعمل في صلاة التطوع
[601]
في البحر الرائق: أن غلق الباب عمل كثير وفتحه عمل قليل، ولا أعلم أي فارق بين الغلق والفتح، وأما الخطوات فيحتاج الشافعية والحنفية إلى أنه عليه الصلاة والسلام ما خطا متوالياً فخطا خطوة أو خطوتين، وإن انفصلت الخطوات فلا تنحصر في خطوتين بل تجوز خطوات منفصلة كما في كتب أهل المذهبين.
باب ما ذكر في قراءة سورتين في ركعة
[602]
يجوز السورتان في ركعة واحدة بلا كراهة شيء كما في الطحاوي، وأما ما في الكبير شرح المنية ففيه ضيق والعبرة لما قال الطحاوي.
قوله: (السور النظائر إلخ) أي المتساوية في الطول والقصر.
قوله: (من المفصل إلخ) سورتان من عشرين سورة ليستا من المفصل، ولعله عمل الراوي بالتغليب والسور المقروءة له مذكورة في رواية أبي داود.
قوله: (يقرن بين كل سورتين في ركعة إلخ) استنبط شمس الدين الكرماني أن هذه الرواية تدل على الوتر ركعة واحدة، فإن صلاته عليه الصلاة والسلام كانت إحدى عشر ركعة وعشر ركعات منها على نسق واحد والحادية عشر تكون منفردة، أقول: قد ثبت صلاته عليه الصلاة والسلام ثلاث عشر ركعة وثبوتها في الصحيحين أيضاً.
باب ما ذكر من فضل الصلاة بعد المغرب في البيت أفضل
[604]
غرب المصنف حديث الباب ولم يحسنه، وقد أخرجه النسائي في الصغرى فلا بد من كونه صحيحاً، والأولى أداء السنن في البيت كما في الهداية، ولم يصل النبي صلى الله عليه وسلم سنن المغرب في المسجد إلا في واقعة أو واقعتين في غير المسجد النبوي.
قوله: (ما زال يصلي في المسجد إلخ) ظاهره أنه لم يخرج من المسجد حتى صلى العشاء الآخرة وتطوع في المسجد، وعلى هذا يدل ما أخرجه الترمذي ص (319) عن حذيفة وتمشى الترمذي على ظاهره، وعندي رواية تدل على أنه عليه الصلاة والسلام خرج من المسجد بعد المغرب قبل العشاء، والله أعلم.
باب ما ذكر في الاغتسال عندما يسلم الرجل
[605]
اغتساله هذا يكون بعد إسلامه، وهذا الغسل واجب إن كان جنباً وإلا فمستحب، والحديث والفقه أيضاً يصرح بأن يغتسل بعد الإسلام.
باب ما ذكر من سيماء هذه الأمة يوم القيامة من آثار السجود والطهور
[607]
قيل: إن الوضوء لم يكن في الأمم السابقة، وقيل: كان ولكن الغرة والتحجيل من خصائص الأمة المرحومة، والمختار القول الثاني، فإن التوضي في الأمم السابقة ثابت بلا ريب بالروايات المستقيمة، ولا يخفى أن الغرة والتحجيل من آثار الوضوء لأنه حلية ظاهرة، فلا يعرفون إلا بما هو الظاهر، فانحصر المعرفة فيه، ولا اختصاص بل الغرض انحصار المعرفة فيه.
قوله: (محجلين إلخ) من الحجال وهو شد الفرس رجله ويده من خلاف، ودل الحديث على أن الغرة بسبب السجود، وتدل بعض الروايات أن الغرة أيضاً من الوضوء.
باب ما جاء من ما يجزي من الماء في الوضوء
[609]
مر البحث بقدر الضرورة
قوله: (يتوضأ من المكوك إلخ) المكوك في اللغة ليس بمساوي للمد، واتفق المحدثون على أن المراد في حديث الباب من المكوك هو المد بسبب الروايات الأخر.
قوله: (الحديث غريب إلخ) الرجال كلهم ثقات إلا أن في حفظ شريك شيئاً، وهو من روات مسلم، وصحح البخاري روايته في خارج الصحيح في باب إبراد الظهر.
باب ما ذكر في فضل الصلاة
[614]
قوله: (فليس مني ولست منه) هو على ظاهره و «مِن» ابتدائية اتصالية نحو: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» وأقول: لعل الحوض الكوثر تمثال السنة المحمدية في المحشر، وفي مسلم:«إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» إلخ، فيؤيد ما قلت، وقال مولانا محمد قاسم النانوتوي: إن مصداق حديث مسلم الخوارج، وقيل: إن مصداقه هم المرتدون في عهد أبي بكر الصديق، وقال الغزالي: إن الصراط في المحشر تمثال الصراط المستقيم، وأقول: إن للأعمال تماثيل في المحشر كما في حديث
الباب «الصوم جنة» ، وفي مسند أحمد: أن الرجل يحفظه القرآن في القبر من جانب الرأس، والصوم من جانب اليسار، أقول: إن الجنة تكون في اليد اليسرى، وفيه إن الصدقة تأتي من جانب القدم، والصلاة من جانب اليمين، وكذلك في الأحاديث أن سورة البقرة في المحشر تكون كالظلة على الرأس فذخيرة الأحاديث تدل على ما أدعيت، ويستنبط من الأحاديث أن الحوض الكوثر يمد من منبر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام، وفي الحديث الذي «منبري على الحوض» ورواية «في الجنة» إلخ شرحه هذا المذكور، وفي الحديث الصحيح:«بين منبري وقبري روضة من رياض الجنة» أقوال كثيرة في الشرح، والمختار هاهنا أن الموجودة الآن قطعة من الجنة لا أن هذه القطعة ترفع إلى الجنة، وإن قيل: إن في الأحاديث يكون الوعيد بالنار على ذنوب والوعد بالجنة على حسنات، مثل حديث الباب وغيره بلا شرط وقيد، وتأول فيه المتأولون بأن المراد بالوعيد يكون المستحل أو المُصِّر على الفعل، فيجب في مثل هذه الأحاديث ذكر القيود والشروط فإنها بظاهرها غير مستقيمة المراد وتأول فيه المتأولون ومرادها على ظواهرها، وأقول: إن الأصل أن المذكور في الأحاديث في عالم التشريع المفردات مثل التذكرات في كتب الطب، وأما في المحشر فيركب المفردات ويؤخذ الحكم الخارج من الاجتماع مثل القرابادين في الطب، فعلى هذا من ذكر خواص شيء واحد في التذكرة فتخلف خاصة ذلك الشيء في موضع من المواضع بسبب مانع لا يقول أحد: إن هذا القائل الذي ذكر خاصة ذلك الشيء كاذب فإن تخلف الأثر إنما كان بسبب مانع وذكر الموانع في التذكرة ليس موضوع التذكرة، وكذا المذكور في التشريع ليس إلا حكم المفردات ولا يتعرض إلى الموانع، وأما القرابادين فتكون في الحشر فإذن لا تؤول بما تأول المتأولون، بل يعمل على الظاهر.
قوله: (الصلاة برهان إلخ) أي حجة فإن الإيمان أمر قلبي مستور لا يمكن الاطلاع عليه إلا بالانقياد الظاهري.
قوله: (الصدقة إلخ) في الحديث الصحيح: «أن البلاء تنزل من السماء والصدقة تصعد إلى السماء فتتنازعان إلى قيام القيامة» .
قوله: (نبت من سحت) إلخ السحت الحلق، ويطلق في الشريعة على المال الحرام لأنه يحلق الدين.
باب منه
[616]
قوله: (أطيعوا إذا أمركم إلخ)
قيل: إن المراد من آية: إلخ {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُم} [النساء: 59] العلماء المسلمون، وقال البيضاوي: لا يصح هذا، فإن العلماء ليس لهم حكم مستقل، فإنهم ناقلو أمر الله وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: إن المراد هم حكام المسلمين المسلمون، وفي كتب الشافعية والحنفية: أن الحاكم المسلم إذا أمر بأمر مباح يصير ذلك الأمر واجباً، وقيل: يشترط في هذا أن يكون في الأمر مصلحة، وفي حاشية الأشباه للحموي إذا انتشر مرض الهيضة أو الطاعون فأمر الحاكم رعيته بالصوم صار الصوم عليهم واجباً، وفي أثر عن ابن مسعود أخرجه الحافظ في تلخيص الحبير: أن أولي الأمر في الآية هم العلماء، أقول: لعل مراده أنه ينبغي أن يكون الأمراء علماء فلا يخالف هذا ما قال البيضاوي، وأما الرازي فقال في التفسير الكبير وأطنب كلامه، وحاصله أن آية {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] الآية، أن الآية جزيلة وفيها ذكر الأصول الأربعة كتاب الله والسنة والإجماع والقياس، وأما الإجماع ففي أولى الأمر أي أهل الحل والعقد وأما القياس ففي آية إلخ {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي} [النساء: 59] فإن هذا قياس، ويجب في القياس أن يكون العلة من الكتاب أو السنة. والله أعلم.
كتاب الزكاة
في الدر المختار أن وجوب الزكاة في السنة الثانية قبل وجوب صوم رمضان، وقال: إن وجوب رمضان بعد سنة ونصفها بعد الهجرة، وفي السيرة الحلبية قال الشيخ سراج الدين: ما حقق لي من الأحاديث متى وجبت الزكاة، وأقول: إن فرضية الزكاة والصوم والجمعة والعيدين في مكة وأما إجراؤها ففي المدينة، فإن نَصْبَ نُصُبِ الزكاة كانت في المدينة، وأقول: إن سورة المزمل نزلت بمكة بتمامها على ما روينا عن عائشة، وأما الحج فقيل: وجوبه في السنة السادسة، وقيل: في التاسعة، وليعلم أن الزكاة كانت تطلق على الصدقة في الجاهلية، وأما في الشريعة فزيادة القيود والشروط كذلك في المنقولات الشرعية، فإن المنقولات لا نقلَ فيها لأن الأسماء الشرعية مستعملة في معانيها اللغوية بزيادة القيود والشروط، ولا يكون بهذا مجازاً وهكذا ذكره فخر الإسلام البزدوي.
باب ما جاء من منع الزكاة من التشديد
[617]
قوله: (في ظل الكعبة إلخ) في البخاري: «في ناحية المدينة في ظل القمر» إلخ، وقيل بالتأويل لتجتمع الروايتان، أقول: إما أنه وهم الراوي أو يقال بتعدد الوقائع، كما قال الحافظ في فتح الباري.
قوله: (فيدع إبلاً إلخ) المضارع إما مرفوع أو منصوب، وبينهما فرق لا يسعه الوقت.
قوله: (أعظم ما كانت وأسمنه إلخ) مرجع الضمير ليس ما، لأنه حرف، بل المرجع المصدر المنسبك، وفي الرضي: أن زيداً أفضل رجل معناه أنه أفضل رجل رجل أي كل رجل، ومعنى زيد أفضل الرجلين أنه أفضل رجلين رجلين أي مثنى مثنى، ومعنى أنه أفضل الرجال أنه أفضل رجل رجل، أقول: عليه جمهور النحاة وأرباب المعاني والأصول فإنهم يصرحون بأن الجمع معناه واحدٌ واحد لا المجموع من حيث المجموع.
قوله: (كلمات نفدت عليه أخراها عادت عليه أولاها إلخ) وفي صحيح مسلم: «كما نفدت عليه أولاها عادت عليه أخراها» فقال أرباب الحديث: إن الراوي قلب في الألفاظ، وقيل: إنه لا قلب ولكن الدواب تمر على مانع الصدقة على طريق التدوير، والله أعلم، والحق أنه وهم الراوي وقلب.
قوله: (الأكثرون أصحاب إلخ) هذا ليس على محله فإن ضحاكاً لم يفسر في لفظ الحديث المرفوع المذكور، بل في موضع آخر.
باب ما جاء إذا أديت الزكاة فقد قضيت ما عليك
[618]
الجمهور إلى أنه لا حق في المال بعد أداء الزكاة، وبعض السلف إلى أن حقاً آخر في المال سوى الزكاة، ولكنه غير منضبط وهو موكول إلى رأي المبتلى به وهو المختار، وأما حديث الباب فمراده أنك قضيت ما عليك من الواجب من هذا النوع أو غيره من المحامل.
قوله: (نتمنى إلخ) كان الصحابة نهوا عن السؤال بآية: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] وروي عن ابن عباس أن أسئلة الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر، أقول: لا أعلم مراده أو يقال: إن المراد أن المذكور من الأسئلة في القرآن تبلغ العدد المذكور.
قوله: (رجل إلخ) اسمه ضمام بن ثعلبة ومثل هذه الواقعة واقعة في حديث الصحيحين، وقال الحافظ بتعدد الواقعتين.
قوله: (الحج إلخ) تعرضوا إلى كون الحج مذكوراً في حديث الباب فقيل: إنه وهم الراوي لأن ضمام بن ثعلبة أتى في السنة الخامسة ووجوب الحج في السادسة أو التاسعة.
قوله: (دخل الجنة إلخ) أقول: إن هذا الرجل ليست السنن الرواتب عليه، ولكنه من خصوصه لأنه حضر النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ مشافهة هذا القدر فلا عليه غيره، ولا يجوز ترك السنن لغيره وقيل: إن مراده من «لا أدعهن» لا أجاوزهن في تغيير الصفة مع أداء السنن، أقول: كيف يقال بهذا والحال أن في البخاري تصريحاً «لا أتطوع» ؟ إلخ، وإن قيل: إن كثيراً من الأحكام ليست بمذكورة في حديث
الباب مثل الوضوء أو غيره فكيف يكون الرجل ناجياً بأداء ما ذكر في الحديث؟ أقول: إن كثيراً من الأحكام مذكور في طرق حديث الباب كما في بعض طرق في مسند أحمد، وأما مسألة الإثم على ترك السنن فلا أذكرها، فإنها صعب المنال، وظني لعل تاركها بقدر ما ثبت من صاحب الشريعة لا يكون آثماً، والله أعلم.
قوله: (قال بعض أهل العلم: إن فقه هذا الحديث إلخ) المراد به الحميدي شيخ البخاري تلميذ الشافعي، لا الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين.
باب ما جاء في زكاة الذهب والورق
[620]
الورق بكسر الوسط: الفضة غير مسكوكة.
قوله: (عن صدقة الخيل والرقيق إلخ) قال الشافعي وأحمد ومالك: لا زكاة في الخيل، وقال أبو حنيفة: إن في الخيل أيضاً صدقة إذا كانت مختلطة ذكوراً وإناثاً، وإذا كانت إناثاً على القولين لكل فرس دينار أو بحسب التقويم من كل أربعين درهماً درهم، بشرط النصاب أي مائتي درهم، وأتى الزيلعي بواقعتين أخذ فيهما عمر زكاة الخيل، ونقول: إن في عهده عليه الصلاة والسلام كانت الخيل للركوب لا للتجارة والتناسل، وتمسك الحجازيون بحديث الباب، وجوابه منا ما ذكرته، ولأبي حنيفة استنباط من حديث الصحيحين، وله ظاهر ما في مسلم ص (319) :«ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا في رقابها» إلخ، وتأول فيه آخرون، وفي فتح القدير أنه لا يجبر على أداء زكاة الخيل بل الواجب عليه أداء زكاتها ديانةً فيما بينه وبين الله، فالمال عندنا ظاهر وباطن؛ والظاهر مثل الإبل والغنم والبقر فإنه يزكيها ظاهراً وللساعي أن يجبره على أداء زكاة الأموال الظاهرة، بخلاف الباطن وأما التعزير فأمر آخر، وفي كتاب الطحاوي أن عثمان كان يضع زكاة النقدين إذا أعطى الناس ممن تجب عليهم الزكاة ما له من بيت المال ودل الأثر على أن للخليفة حقاً في الأموال الباطنة.
قوله: (من كل أربعين درهماً درهماً إلخ) اتفقوا على أن أربعين درهماً لا شيء فيها حتى تبلغ مائتين، وأما أربعون فلذكر الحساب، وأما الزائد على مائتين، فلا شيء في الكسور عند أبي حنيفة، وتجب في كسور السوائم خلاف صاحبيه في المسألتين، وأفتى أرباب الفتوى على قولهما وأما تفصيل الدرهم الشرعي فقد مر في كتاب الطهارة ص (32) ، ولقد سها مولانا عبد الحي في بيان نصاب زكاة الذهب والفضة، والصواب ما ذكر القاضي ثناء الله الپاني پتي رحمه الله: أن الزكاة في الفضة إذا كانت ثنتين وخمسين تولجة ونصفها، ومنشأ سهوه أنه زعم أن الاعتبار هاهنا لأحمر الأطباء وهي أربعة شعيرات وهي أكبر من أحمر الفقهاء، والتفصيل في رسالة الشيخ المخدوم هاشم بن عبد الغفور السند هي ثم قال الأحناف: إن الدرهم الشرعي سبعون شعيرة، وقال الشافعية: إنه خمسون شعيرة وخمساها، وقال ابن همام: إن المعتبر درهم كل بلدة بشرط أن لا ينقص من درهم النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (كلاهما عندي صحيح إلخ) لعل الصحة من حيث سماع أبي إسحاق عن عاصم والحارث لا الصحة المصطلحة بين المحدثين، فإن الحارث الأعور لم يحسن له وأما عاصم فصحح البعض بعض رواياته مثل ابن قطان المغربي الفاسي في كتاب الوهم والإيهام، وقيل: إن الحارث كذاب، ولكني لا أسلمه فإن أحداً من التابعين لم يوجد كذاباً ولا كاذباً كما صرح الذهبي في خارج الميزان، وقيل: إنه شيعي، وكذلك قيل في حق أبي الطفيل أي يحبان علياً، والله أعلم.
باب ما جاء في زكاة الإبل والغنم
[621]
الغنم والشاة أعم من ذات الوبر، وذات الأشعار والضأن مختص بذات الوبر والمعز بذات الأشعار ذكراً كان أو أنثى، وأما بنت المخاض فبنت الناقة ذات سنة واحدة، وكذلك بنت لبون المراد
أنثى، فإن الواجب هاهنا أنثى ويجوز الذكر عندنا تقويماً، وأما الجَذَعَة ففي أصل اللغة يقال لشاب قوى من الحيوان والإنسان أو غيرهما، وقال أبو حاتم السجستاني: إن الجَذَعَة اسم لموسم يطلع فيه السهيل في أول الليل، وهذا موسم ولادة النوق طبعاً وحينها، وإن لم تلد في حينها فهيع، كما قال:
~ إذا سهيل أول الليل طلع
…
فإن اللبون الحق والحق جذع
لم يبق من أسنانها غير الهيع
قوله: (إلى مائة وعشرين إلخ) اتفق أهل المذاهب الأربعة على ما ذكر في حديث الباب إلى مائة وعشرين خلاف لبعض الأئمة غير الأربعة، وأما بعد مائة وعشرين فاختلفوا؛ فقال أبو حنيفة: إن الحساب إلى مائة وعشرين يبقى على حاله ولو زادت خمس ذود إبل ففيها شاة، ولو زادت عشرة فشاتان، ولو زادت خمس عشرة فثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين بنت مخاض فصار المجموع مائة وخمس وأربعون إبلاً ففيها بنت مخاض وحقتان، وإذا صارت خمسين ومائة فثلاث حقاق، ثم تستأنف الفريضة مثل الحساب إلى خمسين قبل مائة وعشرين، فإذا صارت مائتين فأربع حقاق ثم تستأنف وهلم جرّاً، فالخمسينيات مدار عند أبي حنيفة، وقال الشافعي: إذا زاد الإبل على مائة وعشرين فتغير الحساب الأول، ولا شيء في الزائد حتى تبلغ عشرة فعلى هذا إذا كانت مائة واحد وعشرون إبلاً فعليه ثلاث بنات لبون، فإن في كل أربعين بنت لبون فإذا صارت مائة واثنين فبنتا لبون وحقة، وإذا صارت مائة وأربعين فحقتان وبنت لبون وهلم جراً، فمدار الحكم الأربعينيات والخمسينيات في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة وقريب من هذا قول أحمد، وقال مالك إن الزائد على مائة وعشرين لا يغير الحكم السابق حتى تصير مائة وثلاثين فحقة وبنتا لبون، ولا فرق بينه وبين الشافعي إلا أن الشافعي يجعل الزائد على مائة وعشرين ولو واحدة مغير الحكم السابق بخلاف مالك فحديث الباب صادق وأقرب إلى مذهب الحجازيين بل مطرد على مذهبهم، وأما على مذهبنا فصادق أيضاً لكنه بعد مائة وخمسين ثم بعدها تكون الخمسينيات مدارات الحكم بخلاف الأربعينيات فإنها وإن صدق الحديث أي في كل أربعين بنت لبون لأنا قلنا: إن في ستة وثلاثين إلى
خمسة وأربعين بنت لبون لكن الأربعين ليس بمدار بل وقع في وسط الحساب فقطعة في كل خمسين حقة صادقة، ولطيفة على مذهبنا مطرداً، وأما قطعة في كل أربعين بنت لبون فصادقة إلا بعد مائة وعشرين وغير لطيفة إذ ليست مداراً، وأما على مذهب الحجازيين فالقطعتان لطيفتان وصادقتان مطرداً فالحديث لا يخالفنا لأنه لا يدل بنصه على أربعين وخمسين مداراً، وقريب مما قلنا هاهنا في الحديث السابق أن في كل أربعين درهماً درهم إلخ، فإن المذكور فيه بيان الحساب فإنه لا شيء في أربعين حتى تكون مائتي درهم، ونظير ما قلنا ما في حديث الباب:«فإذا زادت فثلاث شياه إلى ثلاثمائة شاة» إلخ أيضاً فإن الحديث ذكر ثلاث مائة شاة والحال أنها ليست بمدار بل إذا زادت على مائتين فثلاث شياه إلى تسع وتسعين وثلاثمائة شاة فليس ثلاث مائة شاة إلا أنه وقع في وسط الحساب، فالحاصل أن حديث الباب صادق على مذهبنا بلا ريب باعتبار قطعة، ولطيف باعتبار قطعة أخرى، فإذن نذكر أدلتنا الصريحة منها ما في معاني الآثار ص (412) ج (2) بسندين وذكر المتن في أولاهما ولكن السند الثاني أعلى من الأول لأن في الأول خصيب بن ناصح وفيه لين، ولكنه من رجال السنن ربما يحسن رواياته، وفيه: أن حماد بن سلمة قال لقيس: اكتب لي كتاب أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وفيه نُصب الصدقات فإنه عليه الصلاة والسلام كان أرسل عمرو بن حزم جد أبي بكر إلى نجران لأخذ الصدقات وفيه:«في كل خمس ذود شاة» إلخ هذا بعد مائة وعشرين وهذا عين مذهب أبي حنيفة، وأيضاً في هذا الحديث في كل خمسين حقة وليس ذكر أربعين فحديثنا حسن لذاته أو صحيح، وقال الزيلعي في التخريج: إن الطحاوي أخرجه في معاني الآثار ومشكل الآثار (أي في الحصة التي هي غير مطبوعة) وأخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده وأبو داود في مراسيله، وتعرض البيهقي إلى الكلام في حديثنا، وقال في معرفة السنن والآثار: إن حماد بن سلمة
كان عنده كتاب قيس بن سعد ففقده حماد وكان يروي من ذلك الكتاب على حفظه فأوهم في الروايات، أقول: إن هذا الكلام يذكره البعض تحت سياق تليين حماد، والبعض تحت سياق مدح حماد، ولا يقال: إن حماداً يروي وكان اختلط في آخر عمره نقول: إنه أخرج عنه مسلم في الصحيح وأكثر المحدثين يصححون ويحسِّنون رواياته بلا فرق بين تلامذته المتقدمين والمتأخرين، ولا يقال: إنه يروي من الكتابة، نقول: إن مثل هذه الكتابة معتبرة فالحاصل أن حديثنا صحيح ولا أقل من الحسن لذاته، ولنا ما هو موقوف على ابن مسعود أخرجه الطحاوي (ج2) ومحمد في كتاب الآثار بسند قوي وأعلى، وهو مذهب سفيان الثوري، ولنا مذهب علي أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، فأقول: إن ما في أبي داود ص (332) عن علي مرفوعاً أيضاً حجة لنا فإن ألفاظه صادقة على مذهبنا ومحتملة لمذهب الشافعية، وأقول: لما علم مذهب علي موافقاً لأبي حنيفة نقول: إن مرفوعه أيضاً موافق لنا وما تمسك به أحد من الأحناف إلا أن فيه: وفي خمس وعشرين خمسة من الغنم، وفي ستة وعشرين بنت مخاض إلخ، وأما عندنا ففي خمس وعشرين بنت مخاض، ولا يخالفنا ما فيه فإنا نحمله على أنه بحسب التقويم، وقال سفيان الثوري: هذا غلط وقع من رجال علي وهو أفقه من أن يقول هكذا، وأما رواية أبي داود
فصححها ابن القطان في كتاب الوهم والإيهام، وفيها أيضاً: ليس ذكر في كل أربعين بنت لبون بل المذكور فيها في كل خمسين حقة، وزعم الشافعية: إنها يفيدنا، والحال أنها تفيد الأحناف، ثم أقول في تمسكنا: إن علياً كان عنده كتاب، وقال الحافظان: فيه أسنان الإبل، أقول: كيف لم يفصح الحافظ بأن فيه أحكام الزكاة؟ فإنه قد صرح في البخاري في موضع أن فيه أحكام الصدقات أيضاً أحدها ما في ص (438) : أنها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ، ولما علمنا مذهب علي من الخارج أنه موافق لأبي حنيفة لا بد من أن يكون المذكور في كتابه أيضاً ما هو مذهبه، فلأحد أن يقول: إن دليلنا يساوي دليل الحجازيين، فإن دليلنا كأنه حديث البخاري، وأما دليل الشافعية فأخرجه البخاري ست مرات بسند واحد ولم يجد أعلى من ذلك السند وفي طريقه أيضاً روى محمد بن عبد الله بن المثنى، عن أبيه وهو ابن المثنى، وقالوا: إن ابن المثنى سيء الحفظ فلا بد تساوي حجتنا وحجتهم، وقال ابن معين: إن كتاب علي من كتاب في حديث الباب، ولكنه لم يفصح بأنه أي كتاب علي وظني أنه هو كتاب الصدقات، وفيه أحكام عديدة، وما أخرج مسلم حديثاً في نصب الزكاة، وأما حديث الباب ففيه سفيان بن حسين وهو لين في الزهري، ثم أقول الحق: إن حديث الباب أقرب بمذهب الحجازيين لأنه عليه الصلاة والسلام قد أجمل بعد مائة وعشرين، ومذهب الحجازيين مستقيم على هذا الحديث بعد مائة وعشرين إلى الأبد، وأما مذهبنا فاستقامته إنما هو بعد خمسين ومائة، وفي أبي داود ص (220) في رواية الباب تصريح مذهب الحجازيين فإنه فصل الراوي بعد مائة وعشرين فإن فيها:«فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة، ففيها ثلاث بنات لبون حتى تبلغ تسعاً وعشرين ومائة، وإذا كانت ثلاثين ومائة ففيها بنتا لبون وحقه» إلخ، وأقول: إن هذه الزيادة من مدرج الراوي، فإنه لما كانت هذا كتابه عليه الصلاة
والسلام فكيف لا يهتم به الترمذي والبخاري ولا ينقله بتمامه؟ وأيضاً في سنن الدارقطني روى حديث أبو داود، وقال: وتفسير الكتاب هذا، فذكر هذه الزيادة فدل على أنه من إدراج الراوي، فلا بد من أن يقال: إنه من إدراج الراوي، وبعد اللتيا والتي أن الحق ما قال ابن جرير الطبري: إن قول العراقيين والحجازيين صحيحان وتتأدى الزكاة على الترتيبين، أقول: نقطع بأن الترتيبين ثابتان فإن الزكاة أخذت في عهده عليه الصلاة والسلام، وعهد الخلفاء الأربعة والشيء مما تعامل به السلف ولا يمكن إخفاء قول من القولين فلا مساغ لأحد إنكار أحدهما، والعجب مما قال بحر العلوم في الأركان الأربعة: إن مثل الزكاة مما عمل به السلف ولا بد فيه من دليل متواتر، وأما دليل العراقيين في الطحاوي فخبر واحد فلا يقبل، أقول: أي تواتر أعلى من أن يكون به عمل علي في عهد خلافته وابن مسعود وسفيان الثوري وأبو حنيفة فكيف لا يقبل؟
قوله: (ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق إلخ) واعلم أن الجمع والتفريق عند الشافعي ومالك وأحمد في الأمكنة، وقالوا: إن في الجمع والتفريق تسعة شروط منها الاتحاد في المرعى والمسرح
والمراح والمحلب والفحل وغيرها، والنهي هذا للساعي والمُصَّدق ويسمون هذا الجمع بخلطة الجوار، ومثاله: أن لأحد عشرين شاة وللآخر عشرين شاة فخلطا في المكان بخلطة الجوار وقالوا: إن خلطة الجوار مؤثرة في الحكم حتى إنه يكون الواجب في الصورة المذكورة شاة واحدة ثم يرجع من ذهبت شاته على خليطه بحصة، وقال الشافعي: لو كانت أربعون شاة لأربعين رجلاً مشتركة بخلطة الجوار تجب الشاة الواحدة، وقال مالك بن أنس: يجب أن يكون كل من الخلطاء مالك قدر النصاب وإلا فلا، ويخرج الأمثلة التي فيها نفع الساعي أو نقصانه أو نفع المُصَّدق أو نقصانه، فالحاصل أنهم يقولون: إن الجمع والتفريق لا يفعل وأما لو جمع أو فرق بشروط مذكورة يكون مؤثراً في الحكم، وقال الأحناف: إن الجمع والتفريق في حديث الباب لا ينبغي ولا يؤثر وأما لو جعلوا أو فرقوا في الأملاك فيكون الجمع والتفريق مؤثراً، ويسمى الجمع بخلطة الشيوع مثل أن وجد رجلان ثمانين شاة من الوصية أو الإرث أو البيع فتجب شاتان، والفروع مذكورة في المبسوطات فليراجع إليها.
قوله: (مخافة الصدقة إلخ) قيل: متعلق بالنفي، وقيل: بالإثبات والمخافة مخافة الساعي أو المُصَّدق، وقيل: إن النهي متوجه إلى مالك الأموال عند مالك بن أنس، وإلى المُصَّدق عند الشافعي، وقيل إليهما عند الشافعي ولكنه لا تفاوت في جميع المذكور، قال الشيخ ابن همام وغيره: إن الجمع والتفريق في هذه القطعة خلطة الشيوع، وإنهم لو خلطوا لكانت الخلطة مؤثرة وأقول: في هذه الخلطة خلطة الجوار على ما قال الحجازيون ويكون المراد النهي عن خلطة الجوار لأنه أمر لغوٍ لا يجدي شيئاً ولا يؤثر شيئاً بل ارتكاب أمر عبث، وأما وجه اختياري هذا الشرح أن تعبير الشارع في هذه القطعة غير تعبيره في قطعة وما كان من خليطين إلخ، فإن الجمع هاهنا الجمع في الأمكنة وفي القطعة الثانية خلطة الشيوع كما يشير إليه اختلاف التعبير، وأما مثال نفع المصدق عند الحجازيين فكما أن لأحد أربعين شاة وللآخر أربعين شاة وكانت متفرقة فجمع المُصَّدقان في المكان بشروط مذكورة وفي هذه الصورة نقصان الساعي، وأما لو كانت مجتمعة ففرقها الساعي، إلى نصابين، ففي هذه الصورة نفعُ الساعي ونقصان المالكين.
قوله: (وما كان من خليطين فيتراجعان بالسوية إلخ) قال الحجازيون: إن المراد خلطة الجوار بشروط مذكورة فلو كانت ثمانون شاة لرجلين متميزة فأخذ الساعي شاة واحدة من المخلوطة فلم تذهب إلا شاة أحدهما من جانبهما فيرجع هذا على خليطه بالنصف من قيمة الشاة التي أخذت، ونقول: إن الخلط خلطة الشيوع، وفي القطعة الأولى خلطة الجوار لاختلاف التعبيرين في القطعتين، ومثال خلطة الشيوع، أن لرجلين ثمانين شاة وليست بمتميزة في الأملاك فيأخذ الساعي شاتين فإن لم يكن تفاوت في قيمتي الشاتين فلا تراجع وإلا فتراجع وكذلك اشترى رجلان إبلاً واشتركا في الأملاك
ولا تمييز، ولأحدهما خمسة وعشرون سهماً، وللآخر ستة وثلاثون سهماً، وحصل إحدى وستون إبلاً، فجاء الساعي وأخذ بنت مخاض من الأول وبنت لبون من الثاني لأنهما بمنزلة النصابين، فبنت مخاض وبنت لبون المأخوذتان في الصدقة مشتركة بينهما فتجعلان أحداً وستين سهماً، ويرجع الأول على الثاني ويأخذ خمسة وعشرين سهمَ بنت لبون، ويرجع الثاني على الأول ويأخذ ستة وثلاثين سهم بنت مخاض، فلهذا تراجع بالسوية، وأما في الصورة المذكورة إذا كانت خلطة الجوار فالجواب أداء الجذعة ثم يرجع الذي أخذ جذعته على خليطه بحصة ذلك الخليط.
وهذه القطعة أي (وما كان من خليطين) إلخ لطيفة على مذهبنا بخلاف مذهب الحجازيين فإن في الحديث لفظ (يتراجعان) من باب التفاعل، والتفاعل من الطرفين في زمان واحد صحيح على مذهبنا، وأما على مذهبهم فالتفاعل باعتبار الأزمنة كأن أخذت في هذه السنة جذعة أحد ويرجع هذا على الآخر، وأخذت في السنة الثانية جذعة الآخر فيرجع على الأول، وليُتدَبر فإن المقام دقيق، ووافقنا البخاري في أن خلطة الجوار غير مؤثرة وخلطة الشيوع مؤثرة، لكن الحافظان لم يفصحا بوفاقه، وكذلك وافقنا ابن حزم الظاهري في أن خلطة الجوار غير مؤثرة، وذكر العيني في العمدة عبارته ولكن عبارته لا تفصح حتى أن رأيت في قواعد ابن رشد أنه صرح بوفاق ابن حزم أبا حنيفة، هذا ما حصل لي الآن والبحث أطول، واعلم أن محشي البخاري قد غلط في الفروع فإنه ذكر مثالاً بغير تأمل مآله فرقاً.
قوله: (إذا جاء المُصَّدق) قيل: إن المصدق إن كان من التفعيل فمعناه الآخذ، وإن كان من التفعل فمعناه المعطي، وقيل: لا فرق، وهذا ـ أي (إذا جاء المصدق) إلخ ـ من قول الزهري لا أنه مرفوع.
قوله: (ولم يذكر الزهري البقر إلخ) وذكر أبو داود في مراسيله زكاة البقر.
قوله: (حسن إلخ) في حديث الباب أخذات لا أذكرها، منها أن سفيان بن حسين ضعيف في الزهري.
واتفقوا على أن الذكر والأنثى جائز دفعه في صدقة الغنم والبقر بخلاف الإبل.
باب ما جاء في زكاة البقر
[622]
واعلم أنه في بعض الروايات: عليه الصلاة والسلام أخذ الزكاة على حساب غير حساب الباب من البقر، أخرجها أبو داود في مراسيله، ولكن المشهور المختار عند الفقهاء ما في حديث الباب، ولعل ما في مراسيل أبي داود كان في زمان ما، وعندي لا يجوز التأويل فيه كي يوافق المشهور، ولا خلاف في البقر إلى أربعين، وإذا زادت فعند أبي حنيفة في الكسور أيضاً زكاة لا عند صاحبيه.
قوله: (من كل حالم إلخ) هذا حكم الجزية، الجزية عندنا على نوعين: جزية توضع على الكفار صلحاً، وجزية توضع عليهم بعد استيلائنا عليهم عنوة، ولعل ما في الباب من القسم الأول ولا تحديد في هذا، وأما القسم الثاني فعندنا العمل ما وضع عمر الجزية، أي ثمانية وأربعون درهماً على الغني، وأربعة وعشرون على المتوسط، واثني عشر على الفقير، وأما ما في الباب فجزية صلح لأن أهل نجران أتوا إليه عليه الصلاة والسلام للمباهلة فكفوا عنها ثم قبلوا الجزية.
قوله: (دينار إلخ) في رواية اثنا عشر درهماً، فنقول: إن الدرهم على نوعين درهم تكون عشرة منها قدر دينار، ودرهم تكون اثنا عشر منها قدر دينار كما لعلها تدل مناظرة الشافعي وشيخه محمد بن حسن.
قوله: (أو عدله معافر إلخ) هذا يدل على جواز دفع قيمة ما وجب، ووافقنا البخاري في هذه المسألة وأشار إلى الأدلة، والمعافر ثوب يمني، وقيل: إن معافر اسم قبيلة في اليمن.
باب ما جاء في كراهية أخذ خيار مال الصدقة
[625]
أمر النبي صلى الله عليه وسلم السعاة أن لا يتعدوا على المُصَّدقين، وأمر أرباب الأموال أن لا يمنعوا الساعين من أموالهم، فإن الأمر دائر بين الطرفين كما قلت في إمامة من زار قوماً، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن في السنة التاسعة ثم اختلف أنه هل يرجع من سفره أم لا؟ والنبي صلى الله عليه وسلم ارتحل إلى دار البقاء ومعاذ في اليمن وكان في اليمن مخلافان، على أحدهما معاذ بن جبل، وعلى ثانيتهما أبو موسى الأشعري.
قوله: (فإن هم أطاعوك فأعلمهم إلخ) استدل بعض الأحناف بحديث الباب على أن الكفار ليسوا بمخاطبين في الفروع، وأجاب الشافعية بأن المذكور في الحديث الترتيب لأنه يعلم الكافر الإسلام أولاً ثم ما بعده من الفروع، وأقول: إن في المسألة تفصيلاً بعضه في التحرير.
واعلم أن الشافعية والأحناف متفقون على أن الكفار مخاطبون بالإيمان والعقوبات أي الحدود والمعاملات، واتفقوا على أن الكافر إذا أسلم لا شيء عليه من قضاء ما مضى من الصلوات في حالة الكفر، والاختلاف في الصوم والصلاة والحج والزكاة في حال الكفر، فقال الشافعية والمالكية: إنهم مخاطبون بها، وقال العراقيون منا: إنهم مخاطبون، ومعنى كونهم مخاطبين أنهم يعذبون في جهنم على ترك ما يخاطبون به، وأما إذا أسلم المرتد فقيل: يجب عليه قضاء الصلوات الفائتة حالة الارتداد، وقيل: لا قضاء عليه، وأقول: إن للأحناف ثلاثة أقوال في كونهم مخاطبين بالفروع؛ قال العراقيون: إنهم مخاطبون بالفروع اعتقاداً وأداءً أي يعذبون في النار على اعتقادهم بعدم الفرضية وعلى عدم أداءهم، وقال جماعة من مشائخ ما وراء النهر: إنهم مخاطبون اعتقاداً لا أداءً فلا يعذبون في جهنم إلا على عدم اعتقادهم الفرضية، وقال جماعة منهم: إنهم ليسوا بمخاطبين اعتقاداً وأداءً فلا يعذبون
عندهم إلا على تركهم الإيمان، والمختار قول العراقيين واختاره صاحب البحر في شرح المنار، وهناك بحث في كونهم مخاطبين بالمعاملات بأنهم هل هم مخاطبون حلة وحرمة أي باعتبار أحكام العقبى أو صحة وفساداً، أي باعتبار أحكام الدنيا، ومر على هذا الشيخ ابن الهمام في فتح القدير ولم يذكر فاصلاً، فأقول: إنهم مخاطبون حلة وحرمة اطراداً وأما صحة وفساداً فمخاطبون في بعض الجزئيات لا في البعض كما تدل عليه عبارات فقهاءنا كما في الكنز: أنه إذا نكح بلا شهود يقرّ على نكاحه إذا أسلم، ولو نكح ذات رحم محرمة يفرق بينهما، وتدل على ما قلت ما في الهداية ص (318) ج (1) ، وفيه ص (324) ج (1) . باب نكاح أهل الشرك، وأما النكاح فهل هم مخاطبون فيه أم لا؟ فتردد فيه الشيخ ابن الهمام، ولعلهم مخاطبون مرة لا أخرى أي في بعض الجزئيات لا في بعض الآخر كما يدل عليه ما نقلت من الهداية.
قوله: (وترد على فقرائهم الخ) استدل بحديث الباب الشيخ ابن الهمام على أنه لا يجب أداء الزكاة إلى جميع الأصناف، قال الشافعية: يجب أداء الزكاة إلى ثلاثة أفراد من كل صنف من الأصناف، وزعم صاحب شرح الوقاية أن محتج الشافعي الجمع المذكور في الآية، أقول: إن مدار الخلاف الاختلاف في التفقه، تفقُّهُ الشافعي أن الأصناف مستحقون لمال الزكاة، وتَفَقُّهَ أبي حنيفة أن الأصناف مصارف لا أنهم مستحقون، وقال الشافعية: لو لم يجد الأصناف في بلاده يجوز أداءه إلى من يجده من الأصناف.
باب ماجاء في صدقة الزرع والثمر والحبوب
[626]
قوله: (خمسة ذود إلخ) تركيب إضافي أو توصيفي، وذود جماعة الإبل من ثلاثة إلى تسعة والذود في أصل اللغة ما يدفع الفقر.
قوله: (فيما دون خمسة أوسق إلخ) قال الحجازيون وصاحبا أبي حنيفة: لا صدقة فيما دون
خمسة أوسق مما أخرجت الأرض، وقال أبو حنيفة: ما أخرجت الأرض فيه العشر قلَّ أو كثر، وتمسك الحجازيون بحديث الباب، وأجاب صاحب الهداية أن في الحديث ذكر بيان زكاة مال التجارة وكان خمسة أوسق ذلك الزمان قدر مائتي درهم، أقول: إن جواب الهداية يخالفه ما رواه الطحاوي ص (315) ج (1)(ما سقت السماء أو كان سيحاً أو بعلاً فيه العُشر إذا بلغ خمسة أوسق) إلخ عن أبي بكر بن محمد عن أبيه عن جده، وتكلم المحدثون في سنده من جانب سليمان بن داود، قيل: إنه ابن أرقم وهو متروك، وقيل: إنه راوٍ آخر ثم رأيت في كتاب الديات لأبي بكر بن عاصم الظاهري أنه راوٍ آخر فيكون السند قوياً، وأجاب العيني بأن حديث الباب في المتفرقات (نده) ، وجواب العيني نافذ، لأن جمعه عليه الصلاة والسلام المتفرقات في بعض الأحيان ثابت، ولكن الظاهر رواية الطحاوي السابقة تخالفه فإن ظاهرها يدل على أنه عشر، والجواب أنه محمول على العرايا، والعرية تكون في خمسة أوسق، فلما أعطى رجل ما خرج من أرضه بطريق العرية فلا زكاة عليه فيما أعرى لأنه مثل من وهب بجميع ماله أو بعضه أنه لا زكاة عليه فيما وهب، فصح أنه لا عشر فيما دون خمسة أوسق لأنها عرية، وعندي قرائن تدل على أن الحديث في العرايا كما ذكرها، وتمسك الأحناف على مذهب أبي حنيفة بحديث عام رواه مسلم:«فيما أخرجت الأرض العشر» إلخ وقالوا: إن «ما» عامة فتعارض العام والخاص فترجح فرجحنا العام، أقول: إن الصحيح الاحتجاج بالرواية الخاصة في مقابلة الخاص فتحج بما رواه الطحاوي ص (213) ج (2) باب العرايا عن جابر بن عبد الله «وفي كل عشرة أقناء قنو يوضع
في المساجد للمساكين» إلخ، وما تمسك به أحد منا، والحديث قوي وأخرجه الحافظ في الفتح عن ابن خزيمة في الموضعين، ولم يخرج هذه القطعة في الموضعين، ولا أعلم باعث عدم إخراجه هذه القطعة، وأخرجه أبو داود أيضاً في سننه ص (241) إلا أن في ألفاظه نقصاناً حتى صار المراد مقلوباً وغلط المحشون في بيان المراد وفيه: أمر من كل حادّ عشرة أوسق من التمرقنو يعلق في المسجد للمساكين إلخ باب في حقوق المال، وعندي يحمل ما في أبي داود على ما في الطحاوي لأنه أصرح ومسألة الباب مما لا يمكن إخفاءه فإنه قد جرى عليها تعامل السلف فإنه مذهب مجاهد والزهري وإبراهيم النخعي، ونقل الزيلعي أنه مذهب عمر بن عبد العزيز خليفة الحق والخليفة الرشيد، وكتب إلى رعيته في البلاد أن يؤخذ العشر في كل قليل وكثير، ولم ينقل أن أحداً أنكر على عمر بن عبد العزيز فعلم أنه تلقاه الأمة بالقبول، وقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي: إن ظاهر القرآن لأبي حنيفة وتدل عليه أربع آيات من {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] إلخ وغيرها، وأما تفقه أبي حنيفة فهو أن العشر كالخراج والخراج في القليل والكثير فيكون العشر أيضاً كذلك، وأما القرائن على
أن المذكور في الحديث حكم العرايا ويشير إليها كلام الطحاوي في غير موضعه منها أن في الصحيحين: أن العرايا إنما تصح إلى خمسة أوسق، فالمتبادر أن في حديث الباب أيضاً حكم العرية والمراد أن دون خمسة أوسق يؤدونه ديانة فيما بينه وبين الله ولا يجب رفعه إلى بيت المال فإنه يؤدي إلى المعرى له ثم لما أداه بجميعه فتأدى زكاته أيضاً، فمراد حديث الباب ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة أي لا يجب رفعه إلى بيت المال ورواية جابر في الطحاوي ص (213) أيضاً تشير إلى أنها في العرايا ومنها ما في الطحاوي ص (215) مرسلاً عن مكحول: خففوا في الصدقات فإن في المال العرية والوصية إلخ سندها قوي: رواها أبو داود في مراسيله وفيه: فإن في المال العرية والواطئة إلخ ورواها أبو عمرو في تمهيده وفيه: فإن في المال العرية والوطيئة مراد ما في مراسيل أبي داود وتمهيد أبي عمرو: أن الثمرات تضيع من وطئ الناس بالأرجل لمشيهم ولكن ظني أن الصحيح الوصية، وأما الوطيئة والواطئة فمن تصحيف الراوي، ولنا أيضاً ما في السنن الكبرى للبيهقي أن عمر وأبا بكر كانا يأمران سعاتهما أن لا يخرصوا في العرايا، وقرائن أخر تدل على أن المذكور في حديث الباب حكم العرايا ثم رأيت بعد مدة في كتاب الأموال لأبي عبيد أن هذا حكم العرية، فالجواب هذا والاستدلال ذلك أي في معاني الآثار ص (213) ، وأبو عبيد إمام غريب الحديث ويروي النقول في غريب الحديث عن محمد بن حسن الشيباني، وهو معاصر ابن معين وأحمد بن حنبل.
باب ما جاء ليس في الخيل والرقيق صدقة
[628]
قال أبو حنيفة: إن في الخيل إذا كانت للتجارة أو للتناسل زكاة، وقال سائر الأئمة: لا زكاة في الخيل وأتى الزيلعي لواقعتين أخذ فيهما عمر بن الخطاب زكاة الخيل، وأقول: إن لنا ظاهر ما في مسلم ص (319)«ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا في رقابها» إلخ فإن الحق في رقاب الخيل هو حق الزكاة وتأول فيه، والجواب عن حديث الباب أن الخيل خيل الركوب وقد سلم سائر الأئمة أن
المراد من العبد في حديث الباب عبيد الخدمة، فقال أبو حنيفة: لما كان العبد عبد الخدمة يكون الخيل أيضاً خيل الخدمة والركوب فتكون الجملتان القرينتان متناسبتين.
باب ما جاء في زكاة العسل
[629]
قال أبو حنيفة: إن العسل الذي في أرض عشرية فيه عشر قلَّ أو أكثر، وحديث الباب لنا وتكلم فيه الترمذي، ولنا حديث مرسل جيد ذكر الحافظ الزيلعي في التخريج والشيخ ابن الهمام، وأما أكثر أهل العلم وأحمد بن حنبل فمع أبي حنيفة بإقرار الترمذي، وأما العسل الذي حصل من المفاوز والجبال ففي فتاوى قاضي خان أن فيه أيضاً عشراً، وهذا في دار الإسلام، وأما في دار الحرب فلا عشر ولا خراج.
(ف) واعلم أن أراضينا في هذا العصر ـ أي أراضي الهند ـ لا عشر فيها في شيء لأنها أراضي دار الحرب وهكذا حصل لي من كتب الفقه، وقال مولانا المرحوم الگنگوهي أيضاً: بأن أراضينا أراضي دار الحرب، وأما دار الحرب فهي التي تكون فيها فصل الأمور ـ أي الخصومات ـ في أيدي الكفار، وليس الاصطلاح أنها هي التي يمنع فيها المسلمون من أداء الفرض من الصوم والصلاة كما زعم بعض الناس فإنه لا أصل لهذا التعريف، وأما دار يَمن فيها للمسلمين أن يجعلوا فصل الأمور أي الخصومات في أيديهم وقادرون على هذا فهو دار الإسلام ويكون الناس آثمين على عدم جعلهم الخصومات في أيديهم مثل مملكة كابل، وذكر مولانا محمد أعلى التهانوي رحمه الله في رسالة له: أن أراضي الهند ليست بعشرية ولا خراجية بل أراضي الحوزة أي أراضي بيت المال والمملكة والله أعلم، وسمعت أن مولانا المرحوم الگنگوهي أفتى بأن الرجل الذي لا يعلم أن أرضه انتقلت إليه من أيدي الكفار والأرض الآن في ملكه فعليه عشر، والله أعلم، وأما الأرض الخراجية فعلى أربعة عشر
قسماً، والأرض العشرية على ثمانية أقسام ذكرها صاحب الولوالجية، ولي نظم في تفصيل الأرض الخراجية والعشرية.
باب ما جاء لا زكاة على المال المستفاد حتى يحول عليه الحول
[631]
واعلم أن المال المستفاد على ثلاثة أنواع:
أحدها: الربح الذي حصل بعد التجارة ويضم هذا المستفاد إلى الأصل اتفاقاً.
وثانيها: أن يحصل المال من غير جنس المال الذي عنده، كمن كانت عنده إبل فحصلت له الشياه ولا يضم هذا إلى ما عنده من المال اتفاقاً، ومال التجارة جنس واحد والنقدان من جنس واحد والسوائم أجناس مختلفة.
وثالثها: المال الذي حصل من جنس ما عنده لا من ربح بل بوصية أو توريث أو غيرهما هذا مختلف في الضم وعدمه، قال أبو حنيفة ومن تبعه: يضم وقال الحجازيون: لا يضم، ثم للضم عندنا شروط كما في الكنز: ويضم، المستفاد في أثناء الحول إلى نصاب من جنسه، إلخ. وتمسك
الحجازيون بحديث الباب، وأقول: لولا أن في سنده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف، وثانياً إن المذكور في الحديث لا يجب أن يكون من القسم الثالث المصطلح للفقهاء بل مراده هو المستفاد لغة أي المال الحاصل ابتداءً فإنه لا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول.
قوله: (عن نافع عن ابن عمر إلخ) سنده قوي غاية القوة إلا أنه موقوف.
باب ما جاء ليس على المسلمين جزية
[633]
أجمعوا أن الجزية على الذمي لا المسلم، ولو أسلم الذمي وكانت عليه جزية سنين فلا يجب أداءها بل سقطت، وسمعت أن رجلاً صنف كتاباً وموضوعه أن الجزية على الذميين مظلمة لم تكن أقول: لا يجزئ المسلم على هذا القول فإن الجزية ثابتة بالقرآن العظيم [التوبة: 39] الآية وتواتر به تعامل السلف والأحاديث ولا يقول به إلا من لا شمة له من العلم، فإنه إن استنكر الجزية على الذميين لمحض التسمية بالجزية فليس إلا جهالة، فإن المسلمين يؤخذ منهم ما لا يؤخذ من الذميين فإن المسلم يجب عليه الزكاة والعشر أو الخراج وغيرهما من الأموال والأنفس.
قوله: (يحيى بن أكثم إلخ) هذا ثقة حنفي، وكان قاضياً في عهد المأمون.
قوله: (جزية عشور الخ) أصله أن ملوك العرب كانوا يأخذون العشر ممن تحتهم ثم استعمل العشور في حق أخذ مظلمة، وفي الحديث رواه صاحب المشكاة: أنه عليه الصلاة والسلام لعن العشار. إلخ، أي الآخذين من غير حق وأما في حديث الباب فالمراد به الجزية لا ما أخذ مظلمة.
باب ما جاء في زكاة الحلي
ّ
[635]
لا زكاة في الحلي عند الشافعي ومالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: فيها زكاة إذا صيغت من الذهب والفضة وصح الحديثان لمذهب أبي حنيفة، وتعرض الشافعية وتبعهم أن يكلموا في إسنادهما ولا يمكن الكلام فيهما.
قوله: (تصدقن ولو من. . إلخ) سياق الحديث مشير إلى الصدقة هذه واجبة، ويمكن للشافعية التأويل فيه بحمله على المتفرقات، وظاهر أحاديث الباب لأبي حنيفة.
قوله: (ولا يصح في هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء إلخ) تمعجب الحفاظ من قول الترمذي هذا لأن الأحاديث ثابتة، أخرج الزيلعي حديثاً صحيحاً عن ابن عمر، ولنا ما أخرج أبو داود ص والنسائي وصححه ابن القطان في كتاب الوهم والإيهام رجلاً رجلاً، وتأول فيه ابن حجر المكي الشافعي في كتاب الزواجر عن ارتكاب الكبائر، وذلك التأويل تأويل محض لا روح فيه.
باب ما جاء في زكاة الخضروات
[638]
قال الحجازيون: لا عشر في الخضروات، وقال أبو حنيفة: إن في الخضروات صدقة ويؤديها
ديانة أي فيما بينه وبين الله، ولا يجب رفعها إلى بيت المال، وأما جواب حديث الباب المرسل فما قال صاحب الهداية ص (184) ج (1) : إنه لا يجب رفعها إلى بيت المال، ولنا ما أخرج الزيلعي أن عمر بن عبد العزيز خليفة العدل الراشد كتب إلى رعيته في البلاد من كانت عنده عشرة وستجات فعليه أداء وستجة.
باب ما جاء في الصدقة فيما يسقى بالأنهار وغيرها
[639]
اتفقوا على أن ما سقت العيون والسماء العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر ويدخل في النضح ما سقي بالدولاب أو الناقة أو بالدلاء، ثم اختلف في رفع المؤنة. فقيل: العشر أو نصفه بعد رفع المؤنة، وقيل: العشر أو نصفه بلا رفع المؤنة، وإليه ذهب أبو حنيفة.
قوله: (عَثَرِّياً إلخ) من العاثور بمعنى الكارينه (جوتاليال زين يى هول)، وقيل: من العثور أي الاطلاع والحاصل أن العثور هي الأشجار التي على شط النهر وتأخذ الماء بأنفسها.
باب ما جاء في زكاة مال اليتيم
[641]
المراد من اليتيم الصبي غير الحالم مات والداه أم لا، وقال الشافعي: يزكي ماله، ولا مرفوع لأحد، وللطرفين آثار، لنا أثر ابن مسعود، ولهم أثر عائشة الصديقة، وأما حديث الباب فساقط لأن فيه مثنى بن الصباح وما حسن أحد رواياته.
قوله: (أن عمر بن الخطاب. . إلخ) يشير إلى أنه موقوف.
قوله: (هو عندنا واه. . إلخ) أي الحديث واه، لا أن عبد الله واهٍ، فإن الكلام في سنده وعن أبيه عن جده لا في سائر الأسانيد فإن أسانيده غير هذا مروية في الصحيحين، وقيل: إن عمراً لم
يسمع من جده عبد الله أقول: إن في مستدرك الحاكم في كتاب البيوع لفظ سمعت فثبت سماعه من جده، وقيل: إنه كان يروي من جادة جده له.
باب ما جاء أن العجماء جرحها جبار وفي الرّكاز الخمس
[642]
قوله: (العجماء جرحها جبار إلخ) هذا معمول به في الجملة عند الأحناف والتفصيل في الفقه، وإن أنفلت الدابة وأتلفت زرع أحد لا ضمان على مالك البهيمة ليلاً كان أو نهاراً هذا مذهب أبي حنيفة، وقال الشافعي: إنها إن انفلت في الليل فضمان ما أتلفت على مالك الدابة لأن حفاظة الدواب على مالكها ليلاً، وحفاظة الزرع على مالك الزرع نهاراً، وللشافعي في هذا التفصيل حديث مرفوع في خارج الصحاح لكنه أعله بعض الأئمة وقالوا: إنه موقوف، ولأبي حنيفة عموم حديث الباب «العجماء جرحها جبار» إلخ ثم أقول: إن في عامة كتب فقهنا عدم التفصيل في المسألة المذكورة ليلاً ونهاراً، وفي الحاوي القدسي التفصيل مثل ما في الحديث المذكور، أقول: بجمع بين الروايتين بالحمل على اختلاف الأحوال باختلاف تعامل البلاد.
قوله: (والمعدن جبار إلخ) أي من حضر المعدن فهدم عليه فدمه هدر هذا الشرح منا، وقال الشافعية: إن مراده عدم الخمس في المال الحاصل من المعدن.
قوله: (والبير جبار إلخ) شرحه كما شرحنا في المعدن جبار وتفصيل الفروع في الفقه.
قوله: (وفي الركاز الخمس إلخ) مسألة الركاز أول المسائل التي اعترض فيها البخاري على أبي حنيفة، وذكر ببعض الناس في اثنين وعشرين موضعاً، وقال الشافعية: إن مراد البخاري ببعض الناس أبو حنيفة في جميع المواضع، وأن مراده في جميع المواضع الرد أقول: إن الزعمين ليسا بصحيحين فإنه قد يذكر ببعض الناس ويختار تلك المسألة كما في سورة الرحمن كما يدل عليه سياقه وسباقه وكما يظهر لمن تتبع في صحيحه، وأيضاً قد يعبر ببعض الناس ويريد به محمد بن حسن وقد يريد عيسى بن أبان تلميذ محمد، وكذلك يريد زفر بن وقد يريد الشافعي كما سيظهر في البخاري،
والركاز عند الحجازيين وفي رواية لا يجب، وأما التفقه فقال أبو حنيفة: إن دفن الجاهلية والمعدن مثل مال الغنيمة لأنها من أجزاء الأرض ففيهما الخمس، وقال الشافعي: إن المعدن مخلوق فيكون كما حصل له مال دفن الجاهلية كالغنيمة فيكون فيه الخمس، ثم قال الشافعية: لو كان الركاز أعم لكان حق العبارة في حديث الباب «وفيه الخمس» إلخ بإرجاع الضمير لأن المعدن مذكور سابقاً، وقال الأحناف: ليس المحل محل إرجاع الضمير لأن المعدن خاص من الركاز ولا يدخل فيه دفن الجاهلية، وفي كتاب الخراج لأبي يوسف حديث مرفوع أن الركاز أعم من المعدن والكنز إلا أن في سنده عبد الله بن سعيد المقبري وهو ينسب إلى الضعف، وأقول: إن لنا ما رواه أبو داود ص (241) : «وما كان في الخراب وفيها وفي الركاز الخمس» إلخ، الخراب ما يكون على فم الأرض والركاز مقابله أي بأن يكون في بطن الأرض وداخلها وهو أعم من المخلوق والمدفون، وفي أبي داود في هذه الرواية لفظ في طريق الميتاء إلخ، الميتاء مشتق من الإيتان أي الشارع العام، وهذه الرواية تفيدنا في شروط الجمعة من مصر جامع وإسنادها قوي، وأدلتنا على كون الركاز أعم مذكورة في موطأ محمد.
باب ما جاء في الخرص
[643]
الخرص التخمين (كن كرنا) ، أي يرسل الأمير رجلاً قياساً ومعتمداً عليه ليخمن الزروع والثمار، والغرض منه أن لا يتلف المالك حق المساكين، واتفق كل من الأئمة الأربعة على عدم الخرص في الصورتين:
أحدهما: معاملة المزارعة في الأرض والمساقاة في الثمر فلا خرص بين المالك والمزارع ولا بين المالك والمساقي، والخلاف فيما يخرص رجلاً معتمداً عليه من جانب بيت المال، وفي هذا خلاف فيما بين الحجازيين أيضاً كما في فتح الباري، قال الجماعة منهم: إن الخرص تضمين وهو مدار فصل الأمر، ثم قيل: إنه إذا وقع التنازع بين المالك والخارص فيكفي قول الخارص فقط في التضمين واللزوم، وقيل: يجب رجلان للزوم والتضمين، وقالت جماعة منهم إن الخرص إنما هو اعتبار وتعبير لابه اللزوم وفصّل الأمر وأكثرهم إلى القول الأول، وأما الأحناف فنسب إلينا بأنا نافون للخرص وليس هذا حقيقة الأمر، وموهم هذه النسبة عبارة الطحاوي ولكن جميع عباراته تدل على أن الخرص عندنا أيضاً معتبر ولكنه تعبير فقط وليس مدار اللزوم وهو الحق فلا يجب علينا جواب
الحديث فإنه صادق على مذهبنا إذن فإنه لا يدل على أن الخرص مدار اللزوم، وقد صح الخرص في عهده عليه الصلاة والسلام إلا أن الأحناف ذكروا مسألة الخرص في كتبهم لأنه ليس مدار اللزوم وفصل النزاع، وزعم الناظرون أنهم ينفون وإذا وقع النزاع بين الخارص والمالك فالعمل عندنا بالبينة على المدعي واليمين على من أنكر، وأما وقت لزوم العشر فعند أبي حنيفة إذا صلح الزرع وأمن من العاهة، وعند أبي يوسف وقت الإيواء أي عند الرفع إلى البيت وعند محمد بن حسن عند الحصاد فلو تلف الزرع قبل لزوم وقت العشر فلا شيء فتخلف الفروع على اختلاف وقت لزوم العشر.
قوله: (فدعوا الثلث إلخ) في شرح هذه القطعة أقوال:
1 ـ قال الحافظ في فتح الباري: ليس العمل عليه عند الشافعي ومالك، أقول: إن الشافعي قائل بوضع الثلث أو الربع من العشر ولعل الحافظ لم يطلع على هذا.
2 ـ ونسب إلى أحمد أن عمله على هذا الحديث، وقال: يترك العاشر ثلث العشر أو ربعه على ما مر من حديث «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» أي ترك هذا الثلث أو الربع غير ما مر من عدم الصدقة فيما دون خمسة أوسق.
3 ـ قال القاضي أبو بكر بن العربي: إن هذا مؤنة الأرض لأن المالكية قائلون بوضع مؤنة الأرض من العشر.
4 ـ قوله عليه الصلاة والسلام لبيان أن الخرص ليس بأمر تحقيقي ليكون مدار فصل الأمور بل تخمين وتقدير، فروعيت أحوال مالكي الأراضي والبساتين.
5 ـ وفي بعض كتب الشافعية منسوب إلى الشافعي أن الثلث أو الربع ثلث العشر أو ربعه وهذا يعود إلى قول ثلث كل ما خرج من الأرض أو ربعه كما في جوهر النقي.
6 ـ وفي البدائع عن أبي يوسف أن مالك الزرع والبستان يجوز له أن يأكل أو يعطي أحباءه أو عياله من هذا الثلث أو الربع، ويكون العشر من غير هذا الثلث أو الربع، وقال أبو حنيفة: لو تصدق المالك بالثلث أو الربع فلا عشر وإن أكله أو أعطى أحباءه فعليه العشر فيما أعطى أيضاً وقال أبو يوسف: أفتى أبو جعفر الهندواني بأن مالك الأرض يجوز له أن يأكل بالمعروف قبل الخرص.
7 ـ قالت جماعة: إن المالك يجوز له أن يعطي الثلث أو الربع الفقراء بتعارفه ومواجهته ولا يجب رفعه إلى بيت المال. والله أعلم. وظني أن مراد الحديث هو القول الرابع أي بيان أن الخرص أمر تخميني لا تحقيقي فلا يدار عليه فصل الأمور والنزاعات.
باب ما جاء من تحل له الزّكاة
[650]
ذكر في البحر: أن الغني على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكون مالك النصاب النامي من جنس واحد ويحرم له أخذ الزكاة ويجب عليه أداء الزكاة.
وثانيها: من هو مالك مال غير نامٍ زائد على قدر حاجته ولا يجب عليه أداء الزكاة ويحرم عليه أخذها ويجب عليه الأضحية.
وثالثها: من يحرم عليه المسألة ويجوز له أخذ الزكاة بدون مسألة، وهو الذي مالك قوت يوم وليلة والأحاديث في تحديد الغني الثالث مضطربة، وكذلك الفقهاء في كنز الأحناف: أنه من يكون مالك قوت يوم وليلة، وفي كتب الشافعية من يكون مالك خمسين درهماً، وقال الغزالي في الإحياء: إن ملك قوت يوم وليلة في حق المتجرد والمنفرد وملك خمسين درهماً في حق صاحب العيال، وأما الأحاديث ففي بعضها:«من له قوت يوم وليلة» وفي بعضها: «من كان ذا مرّة سوياً» أي يقدر على الكسب، وفي بعضها «من يملك خمسين درهماً» وأطنب الطحاوي في الروايات وبوب باباً في المجلد الأول من معاني الآثار وباباً آخر في المجلد الثاني منه، وحاصل البابين أن الاختلاف باختلاف الأحوال.
مسألة: من حرم له مسألة فسأل هل يجوز الإعطاء إياه أم لا؟ في الأشباه والنظائر: أن السائل والمعطي آثمان، وأما إثم المعطي فلكونه معيناً على الحرام، وفي شرح المشارق للشيخ أكمل الدين أنه لا إثم على المعطي وأفتى مولانا المرحوم الكنكوهي بما في الأشباه والنظائر ولعله يفصل في المسألة بأنه لو علم المعطي أن السائل لا يتخذه كسباً فلا إثم عليه، ولو علم أنه يتخذه كسباً ويعتاد السؤال فهو آثم وتدل على هذا فروع الهداية في الحظر والإباحة، ولا يجوز لرجل أن يؤكل كلبه لحم الميتة باختياره كما ذكره ابن وهبان في نظمه:
~ وما مات لا تطعمه كلباً فإنه
…
حرام خبيث نفعه متعذر
وفي شرحه لابن الشحنة أنه لو قطع الميتة وألقى القطعات بين يدي كلبه فآثم وإلا فلا، فالحاصل أن الحكم مختلف باختلاف الأحوال، وفي بعض كتبنا أن الأمر بشيء بدون طيب نفس المأمور والحال أن الأمر يقدر عليه حرام كالمسألة.
قوله: (في وجهه خدوش إلخ) قيل: إنه شك الراوي، وقيل: إنه قوله عليه الصلاة والسلام وبعض الألفاظ يدل على شدة وزيادة من الآخر، والاختلاف لعله يكون باختلاف الأحوال.
باب ما جاء من تحل له الصدقة من الغارمين وغيرهم
[655]
الغارم عند أبي حنيفة المديون، وعند الشافعي من تحمل غرامة الصلح وإطفاء ما بين الرجلين أو القبيلتين، وفي اللغة كلا المعنيين ثابت بل يجيء الغارم بمعنى الدائن أيضاً، وليعلم أن الاختلاف هل هو مقتصر على التفسير أم مؤثر في الحكم أيضاً؟ قال صاحب البدائع: إن الغارم بمعنى من تحمل غرامة متحمل عند أبي حنيفة أيضاً، أقول: لعل اختلاف الأحكام يكون باعتبار القول الجديد من الشافعي، فإنه يقول في جديده: إن الرجل إذا تحمل غرامة وعنده مال تستغرقه الغرامة ففيه زكاة وقال أبو حنيفة لا زكاة في هذا المال المستغرق.
واعلم أن المصارف من الأصناف المذكورة في القرآن مرجع كلها إلى أمرين أي الفقر والسفر كما ثبت بتحقيق المناط.
قوله: (أصيب أجل الخ) قال مالك بن أنس: من ابتاع الثمار فأصيبت وهلكت فإن كان الهلاك ثلثاً أو أزيد من الثلث فالضمان على البائع، وإن كان الهلاك أقل من الثلث فالهالك من مال المشتري، وقال أبو حنيفة والشافعي: إن الهلاك من مال المشتري ولا شيء على البائع، وحديث الباب لنا، وأما قوله عليه الصلاة والسلام:«وليس لكم إلا ذلك» إلخ أنه من جانبه عليه الصلاة والسلام إبقاء على هذا الرجل وقبله غرمائه، أو مثل قول من يفصل بين المتخاصمين، ويكون ثالثاً بينهما فإنه يضع شيئاً عن أحدهما لو أراد الوضع ويقبله المتخاصمان.
باب كراهية الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ومواليه
[656]
المسألة متفق عليها، وأهل البيت هم آل عليّ وحارث وجعفر وعقيل والحارث عمه عليه الصلاة والسلام والثلاثة بنو أبي طالب، ثم في كتبنا أن الهاشمي لو سعى أي عمل السعاية فلا يأخذ من الزكاة، ويجوز أخذه من الوقف بلا خلاف وأما النافلة ففيها اختلاف، قال الزيلعي شارح الكنز: إنها لا تجوز للهاشمي وتبعه ابن الهمام، وأما غيره فيجوزها له ونقل محمد بن شجاع الثلجي رواية شاذة في جواز أخذ الزكاة للهاشمي لو لم يجد الخمس من بيت المال، ونقله الطحاوي من أمالي أبي يوسف وفي عقد الجيد أفتى الطحاوي من الحنفية وفخر الدين الرازي من الشافعية بجواز الزكاة للهاشمي في هذه الصورة، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلا تجوز له النافلة أيضاً.
قوله: (إن قالوا هدية أكل إلخ) الصدقة ما يكون فيه نية الثواب ابتداءً، والهدية ما فيه نية الإرضاء وتطييب الخاطر ابتداءً وإن حصل الثواب أيضاً في المآل، قال عمر بن عبد العزيز خليفة العدل والرشد: إن الهدية كانت هدية في عهده عليه الصلاة والسلام وصارت رشوة في زماننا.
باب ما جاء في الصدقة على ذي القرابة
[658]
قال أبو حنيفة: لا تتأدى الزكاة بدفعها إلى من له قرابة الولادة أو الزوجية، وأما النافلة ففيها أجران أجر القرابة وأجر الصدقة، وذكر الغزالي أن في الصدقة على ذي قرابة ضعف أجر وتتضاعف بتضاعف الجهات وبسطه بمضمون ذوقيّ كما هو شأنه ودأبه.
باب ما جاء أن في المال حقا سوى الزكاة
[659]
أقول: إن في المال حقاً سوى الزكاة ولكنه غير منضبط هو مذهب بعض السلف مثل أبي
ذر فإنه كان يقول به حتى إذا بعثه ومعاوية ذو النورين إلى الشام تنازعا في هذه المسألة، فلما اطلع عثمان على هذا دعاه إلى المدينة، فقال أبو ذر: أريد أن أتخلى وأنفرد في ناحية من المدينة لأعبد الله عز وجل فذهب بامرأته، فلما قرب الموت واحتضر بكت امرأته رضي الله عنهما فقال لم تبكين؟ قالت: إنك محتضر وما عندي شيء أجهزك به وأكفنك، قال: تعزي ولا تبكي وإذا مت فأخبري أحداً فهو يكفنني إن شاء الله، فإذا مات صعدت امرأته على طلل فرأت قافلة فنادت فجاؤها وكان فيهم ابن مسعود فسألها فأطلعته على حالها، قال: ما اسم زوجك؟ قالت: أبو ذر فنزع ابن مسعود عمامته وكفنه بها.
قوله: (وهو أصح) يشير إلى أن الصحيح وقفه، وأقول: عندي ذخيرة في مسألة الباب مرفوعة منها رواية ابن عمر بسند صحيح قوي، ويؤيد في ما مر في أول الزكاة عن أبي ذر عنه:«إلا من قال هكذا وهكذا فخشي» إلخ فإن هذا ليس شأن الزكاة الواجبة.
باب ما جاء في فضل الصدقة
[661]
قوله: (يربى بيمينه إلخ) في حديث صحيح: «كلتا يدي الرحمن يمين» أقول: إن المفهوم من القرآن والأحاديث أن الصدقات تأخذ تزيد من حين تصدق المتصدق فيه وتربو يوماً فيوماً إلى القيامة لا
أنها توضع الآن كما هي وتزاد في المحشر دفعة واحدة، وفي القرآن التشبيه بالسنبلة وهو يشير إلى ما ادعيت، وأقول: من هذا القبيل الحسنة بعشر أمثالها.
قوله: (أمرُّوها كما هي الخ) أمرُّوها على ظواهرها، وأما تأويل اليد بالقدرة أو القوة فقال الترمذي: إنه مذهب الجهمية، ولا يقال: إن اليد واليمين والوجه وغيرها من صفات الباري ويفوض التفصيل إلى الباري فإنه يقتضي أن يكون مثل اليد والوجه زائدة على الذات لأنه صفاته تعالى ليست عين ذات ولا غيرها مفصلة عنها بل زائدة على الذات، ومقتضى لفظ اليد ومثله، أن يعبر بلفظ لا لعلها يومئ إلى كونها زائدة على الذات فإنه خروج عن الموضوع، وعبر البخاري بالنعوت ولغته أي بين حليته ومذهب السلف في مثل هذا أن يحمل على ظاهره ويفوض التكيف إلى الله ولا يطلق لفظ
الصفة، وفي فتح الباري ص (343) ، ج (13) في بحث الاستواء على العرش عن محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله عين مذهب السلف، وفيه: فإنه وصف الرب بصفة لا شيء إلخ أي فإنه وصف الرب بصفة منبئة عن الانفصال عن الذات، والحال أن الأفعال قائمة به تعالى وليس محلاً للحوادث بلا اختيار منه وبعض تفصيل المسألة مر في باب نزول الله إلى سماء الدنيا.
قوله: (الجهمية إلخ) هذه فرقة تنسب إلى جهم بن صفوان الترمذي، وكان ينكر صفات الرب تبارك وتعالى ويقول: إن الصفات تنافي بساطة الذات وتنزيهها، وكان جهم في آخر عهد التابعين، ونقل ابن الهمام مناظرة مع إمامنا أبي حنيفة إمام المسلمين، وقال الإمام في الآخر: اخرج عني يا كافر، فالعجب من النواب صديق حسن أنه قال: إن أبا حنيفة جهمي عياذاً بالله، وهذا القول من غاية عناده ومقابل الجهمية الكرَّامية، والمشهور بفتح الكاف وتشديد الراء، وقيل بكسر الكاف وتخفيف الراء كما يدل من قال:
~ الفقه فقه أبي حنيفة وحده
…
والدين دين محمد بن كرام
والفرق بين الكرامية والجهمية أن الجهمية مثل أهل الباطن والكرامية مثل أهل الظاهر وخير الأمور أوساطها.
باب ما جاء في إعطاء المؤلفة قلوبهم
[666]
كان أناس حديث العهد بالإسلام ولم يكن الإسلام راسخاً في قلوبهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم لتأليف قلوبهم ولم يبق هذا المصرف الآن كما قال الأئمة الأربعة، ثم قيل: إن هذا المصرف انتهى بانتهاء العلة، وقيل: يعطيهم منسوخ ونسب الترمذي إلى الشافعي بأنه قائل ببقاء هذا المصرف إلى الآن، وقال الشاه ولي الله: إن هذا الصنف باق إلى الآن وظاهر حديث الباب أنهم يُعطون وهم في حال الكفر، ولكنه منظور فيه فإن المؤلفة قلوبهم هم الذين أسلموا ولم يرسخ الإسلام في قلوبهم.
باب ما جاء في المتصدق يرث صدقته
[667]
يجوز أخذها إذا أتته وراثته عند الأحناف وغيرهم، وفي كتبنا ضابطة أن تبدل الملك يوجب تبدل العين ولكن ليست بمطردة فإنها تتخلف في بعض الجزئيات، كما في الهداية أن المشتري إذا تصرف في بيع البيع الفاسد، فالربح له غير طيب، وأما البائع فيطيب له ربح الثمن، والمسألة هذه مسألة جامع الصغير، وقال الشيخ سعد الدين الذيري في حاشية العناية: إن هذا الخبث منحصر في التبدل بتصرف واحد وأما إذا تعد التصرف فلا خبث، وفي غصب الهداية ص (359) : أنه إذا غصب ألف درهم وشرى به جارية فباعها بألفين ثم اشترى بألفين جارية فباعها بثلاثة آلاف درهم فإنه يتصدق بجميع الربح إلخ، فإنه بقي الخبث مع تعدد التصرف فالحاصل أن الضابطة ليست بكلية، ويمكن لأحد أن يقول: إن هذه الضابطة كلية فيما ليس فيه معاوضة وتسبب تصرف عن تصرف.
قوله: (صومي عنها الخ) قال أحمد بن حنبل: يجوز النيابة عن الآخر في صوم النذر لا الفريضة حتى قالوا: إنه إذا مات وعليه ستون صوم نذر، فصام عنه ستون رجلاً في يوم أجزأ عنه وللشافعي قولان: القديم وهو جواز النيابة والجديد وهو عدم جوازها ورجح النووي القديم، وقال أبو حنيفة ومالك: لا يصوم الولي عن الولي نيابة، وقال المحدثون: إن الرجحان من حيث الحديث لمذهب أحمد لأن في بعض طرق الحديث تصريح صوم النذر كما في البخاري ص (262) ، ثم في بعض
الطرق لفظ «رجل» وفي بعضها لفظ «امرأته» كما أشار البخاري فقيل بتعدد الواقعة، وقيل: لا وقال الحنابلة: إن حديث لا يصوم أحد عن أحد في حق الفريضة وتأول الأحناف وجمهور الشافعية في حديث الباب أن مراد «صومي عنها» أطعمي عنها ولكنه تأويل، وأما المسألة ففي الهداية ص276 أن العبادة على ثلاثة أقسام أحدها البدنية ولا يجوز النيابة فيها، وأما المالية فيجوز النيابة عند العجز والقدرة، وأما المركبة من المالية والبدنية فلا تجوز النيابة إلا عند العجز وما تعرض في الهداية إلى الإثابة وتعرض إليها في البحر في باب الحج عن الغير فقال: إن كل عبادة بدنية تجوز فيها الإثابة أي إيصال الثواب، ثم قيل: يجوز الإثابة في الفريضة أيضاً أي يصل الثواب ولا تسقط الفريضة عن ذمة من أصابه الثواب، وقيل: إن الإثابة منحصرة في النافلة، ثم قيل: إن الإثابة إنما تكون للميت فقط، وقيل: للميت والحي كليهما، وأقوال أخر؛ فيقال في حديث الباب: إنه صوم الإثابة لا النيابة، وإن قيل: إن لفظة «عن» تدل على النيابة قلت: إن «عن» أيضاً قد تكون للإثابة كما في البخاري في صدقة الفطر، وأما دليلنا فما في النسائي عن ابن عباس موقوفاً عليه: لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد، وكذلك عن ابن عمر في موطأ مالك (94)، وأخرج الطحاوي عن عائشة موقوفاً: لا يصلي أحد عن أحد ولا يصوم أحد عن أحد، وهي رواية حديث الباب المرفوع، وفي العيني شرح البخاري مرفوعاً عن ابن عمر:«من مات وعليه صوم يطعم عنه» ، ونقل تحسينه عن القرطبي، وأعله أكثر حفاظ الحديث، وقالوا: الصحيح وقفه، ونقله محشي البخاري ص (262) وذكر الحديث وتحسين القرطبي، لا إعلال جمهور الحفاظ وهذا الاختصار مخل، وذكر أيضاً أن النسائي رفعه عن ابن عباس، أقول: وقفه النسائي، ثم ما في عمدة القاري عن ابن عمر فقد أخرجه الترمذي ص (90) أيضاً وصوب الوقف، وفي سنده محمد
، وقال الترمذي: إنه محمد بن أبي ليلى وأنه رواه ابن ماجة سنداً ومتناً وفي سنده تصريح محمد بن أبي سيرين فصح السند إلا أنه قال الحافظ في التلخيص: إن في ابن ماجه وهم ابن ماجه أو شيخه ثم رأيت في السنن الكبرى في موضعين تصريح ابن أبي ليلى في السند، وظني أن القرطبي لا يحسن بناءاً على ما في الترمذي فإنه فيه محمد بن أبي ليلى وما حسنه أحد إلا الترمذي في موضع واحد في أبواب السفر، ولعل تحسين القرطبي بناءً على ما في ابن ماجه والله أعلم، ولنا أيضاً قراءة ابن عباس في الآية:[البقرة: 184] كان يقول الشافعي: لا يصح الإثابة إلا إثابه الدعاء والصدقة ولا يمكن إيصال ثواب تلاوة القرآن، وأما عندنا فيجوز إيصال ثواب كل شيء من العبادة، ثم أفتى الشافعية بجواز إهداء ثواب التلاوة.
باب ما جاء في كراهية العود في الصدقة
[668]
أي يتصدق بشيء ثم يشتريه وهو جائز، وأما نهيه عليه الصلاة والسلام عمر فإنما كان لئلا يحابي الرجل لرعاية عمر، «إن رجلاً» إلخ هو سعد بن عبادة.
باب ما جاء في تصدق المرأة من بيت زوجها
[670]
إن كانت المرأة مجازة دلالة أو صراحة أو عرفاً فيجوز لها وتحرز الثواب، وإلا فلا بل عليها وزر.
قوله: (لها به أجر مثل إلخ) ليس المراد التشبيه في المساواة في الأجر وإن أجر الخادم كأجر مالكه، وإن ثواب الزوجة كثواب الزوج، هل المراد أن كل واحد يحرز ثواب عمله كما يدل حديث عائشة في الباب؟ وأما ما في سنن أبي داود ص (244) مرفوعاً عن أبي هريرة:«وإن أنفقت من غير أمره فلها نصف أجره» إلخ ففيه إشكال، فإن المنفي إما أمر صريح وأعم من الأمر صراحة أو دلالة فإن كان الأول فكيف التنصيف، وإن كان الثاني فكيف الأجر فضلاً عن النصف؟ بل يكون عليها وزر في هذه الحالة، وأقول: إن المنفي الأمر الصريح وأما التنصيف فمن أجر عملها معاً، أي لها أجر عملها، وأما النصف فبمعنى الحصة وقد ثبت النصف بمعنى الحصة كما في:
~ إذا مت كان الناس نصفان شامت
…
وآخر مثن بالذي كنت أصنع
وكذلك في:
~ إذا نصف من الشبان ولى
…
فواصل شرب ليلك بالنهار
فحاصل الحديث أن المرأة تحرز لعلها أجر عملها والزوج يحرز أجر عمله.
باب ما جاء في صدقة الفطر
[673]
في المُغرِب أن الفطرة بالتاء بهذا المعنى أي صدقة الفطر ليس بثابت في اللغة بل اللغة صدقة الفطر بدون التاء، ولما أضاف الشريعة الصدقة إلى الفطر دل على أن الفطر سبب فإن الإضافة من علامات السببية كما في الأصول ثم السبب عند أبي حنيفة فطر صبح يوم العيد لأن شأن هذا الفطر جديد، وقال الشافعي: إن السبب فطر آخر مغرب رمضان وتدار الأحكام على هذا الاختلاف، ووجه مذهب أبي حنيفة أن فطر المغرب شأنه مثل شأن سائر الإفطارات بخلاف فطر صبح يوم العيد، وينبغي للخطيب أن يذكر في خطبته جواب سؤالات: على من تجب؟ كم تجب؟ عمن تجب؟ مم تجب؟ متى تجب؟ أما الأول أي على من تجب فعلى مالك النصاب ولو غير نام، وأما عند الشافعي: فعلى من له فاضل من قوت يوم وليلة، وأما عمن تجب؟ فعن أولاده الصغار والعبيد ولو كانوا كافرين هذا عندنا، ووافقنا البخاري في الصدقة عن العبيد الكافرين لأنه بوب أولاً ص (204) على العبيد بقيد المسلم ثم بوّب ص (205) على العبيد بدون قيد المسلم، وأما كم تجب؟ فالصاع عند أبي حنيفة في بعض الأشياء ونصف صاع في بعض الأشياء، وقال الشافعي: يجب الصاع من كل شيء، وأما مم تجب؟ فبأن يعطي الحنطة أو الشعير أو الأقط أو قيمتها، وأما متى تجب؟ فعند أبي حنيفة بعد صبح يوم العيد، وعند الشافعي بعد غروب ذكاء اخر رمضان، وأما اختلاف أن النصاب شرط الصدقة عندنا لا عند الشافعي، فتمسك الأحناف بحديث البخاري:«خير الصدقة ما كان عن ظهر غنًى» إلخ أي يبقى الغنى بعد الصدقة، أقول: إن التمسك بهذا ليس بظاهر فإنه استدلال بالأعم من الأعم، والخارج من الأحاديث عدم اشتراط النصاب في الأضحية وصدقة الفطر، وأقول: إن غاية مسكة استدلالنا أن يقال: إن الشريعة تسمي صدقة الفطر بالزكاة فإنه روي في خارج الصحاح الست أن آية إلخ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] في صدقة الفطر {وَذَكَرَ اسْمَ
رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] في صلاة العيد، والرواية قوية مرسلة، وكما في حديث الباب تلقيب الصدقة بالزكاة وكذلك في أحاديث أخر، فإذن نقول: إن الزكاة المعروفة زكاة الأموال، وصدقة الفطر زكاة الأبدان، وفي حديث المشكاة:«أن صدقة الفطر طهرة النفس» فدل على أنها زكاة الأبدان، فإذا كانت الصدقة زكاة يشترط النصاب فيها كما في زكاة الأموال، ويشير إلى هذا ما قال أصحابنا: إن في عبيد التجارة زكاة فقط لا صدقة الفطر وهذا غاية المسكة، وللعامل أن يضحي ويتصدق بصدقة الفطر من تيسر له أقول أيضاً: إن ما في فتح الباري يشير إلى ما قلت: إن صدقة الفطر زكاة وفيه: أنه عليه الصلاة والسلام أمر بصدقة الفطر في المدينة ثم بعده نزل الزكاة ولم ينه عن الصدقة، فقول الصحابي يشير إلى المعادلة بين الصدقة والزكاة، وأعله الحافظ في موضع وقواه في موضع آخر.
قوله: (صاعاً من طعام إلخ) قال الشافعية: إن في صدقة الفطر صاعاً من كل شيء، وفي كفارة اليمين مدين من كل شيء، وقال أبو حنيفة رحمه الله: إن في الصدقة صاعاً من بعض الأشياء ونصف صاع من بعض الأشياء مثل الحنطة، وأما الزبيب ففيه روايتان المشهورة نصف صاع وفي الشاذة صاع صححهما البهنتي كما في الدر المختار، وأخذها أبو اليسر البزدوي، وقال: إنها معمولة بها وقال ابن عابدين: لا يمكن للبهنتي التصحيح فإنه ليست له مرتبة التصحيح والمختار أن يجمع بين الروايتين أي الاختلاف بحسب الاختلاف في القيمة، وأما باقي الأشياء المذكورة في حديث الباب فليس لنا خلاف وقال الشافعية في حديث الباب: إن المراد من الطعام الحنطة أقول: قال الزرقاني شارح موطأ مالك: إن المراد من الطعام الذرة (مكي) وكانت الحنطة قليلة في الحجاز، وأيضاً في صحيح البخاري ص (304) ما يدل صراحة على خلاف قول الشافعية فإنه قال أبو سعيد: طعامنا الشعير والتمر والزبيب، وأغمض الحافظ عن هذه الرواية، وأما أدلتنا مما في معاني الآثار ص (321) ، ج (1) . روايات تدل على نصف صاع حنطة رفعاً وقفاً، وفي بعض الطرق حجاج بن أرطأة وهو متكلم فيه، ومع ذلك حسَّن الترمذي أحاديث حجاج بن أرطأة في مواضع تزيد على عشرين، ولنا أيضاً ما في معاني الآثار عن الخلفاء الثلاثة من الشيخين وعثمان وذكره عثمان في خطبته على المنبر، وأما المرفوع فلنا ما ذكره صاحب الهداية رواية ثعلبة بن أبي صُعَيرُ وأخرجها أبو داود بسند حسن، ولنا ما أخرج الزيلعي مرسل سعيد بن المسيب ومراسيله مقبولة عند الشافعي أيضاً، وأحاله إلى الطحاوي ولم أجده في النسخة المتداولة في أيدينا لمعاني الآثار ولا بد من كونه في الطحاوي، ولعل في نسختنا سقطاً نعم في معاني الآثار ص (320) حديث آخر لنا بسند من ربيع الجيزي وربيع المؤذن، وإذا كان مروياً بسند وسيما هو مرسل سعيد بن المسيب وافقه فتيا
السلف يكون مقبولاً بلا ريب.
قوله: (فعدل الناس إلى نص إلخ) لا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان أمر بصاع من حنطة.
قوله: (على كل مسلم الخ) إن كان المراد منه عمن تجب الزكاة؟ فيخالفنا الحديث وأن المراد على من تجب عليه فلا، أقول: إن المراد على من تجب؟ ولا يخالف.
قوله: (حر أو عبد) الآن المذكور في الحديث عمن يلزم والله أعلم.
قوله: (غريب حسن إلخ) الرجال ثقات إلا سالم بن نوح العطار وهو أيضاً من رجال مسلم.
قوله: (من المسلمين إلخ) قال أبو حنيفة وإسحاق ابن راهويه: إن العبد الكافر يتصدق عنه مولاه، وأشار البخاري إلى مذهبنا بل إنه اختار مذهبنا، وقال الحجازيون: لا صدقة إلا عن العبيد المسلمين، وقال ابن دقيق العيد إن زيادة «من المسلمين» تفرد بها مالك ويشير إليه كلام الترمذي وقد وجدت متابعات عن ستة رجال منهم عمر بن نافع في البخاري، وضحاك بن عثمان في مسلم ذكره النووي ص (317) وزاد عليه الحافظ في النكت على ابن الصلاح، وأما الجواب من جانبنا فنقول: إن
قيد «المسلمين» قيد على من تجب لا قيد عمن تجب نقله الطحاوي والكلام صحيح عربية بلا تكلف، وأيضاً نقول: إن راوي حديث الباب ابن عمر، وفي فتح الباري في غير باب الصدقة: أن ابن عمر كان يتصدق من عبيد الكفار، هذا والله أعلم.
ما جاء في تقديمها قبل الصلاة
[677]
يستحب أداؤها قبل الصلاة ولو أداها بعد صلاة العيد كان أداءاً لا قضاء، وفي الصحيحين: أن يده عليه الصلاة والسلام كان أجود من الريح المرسلة في رمضان، فدل على أن الصدقة أفضل في رمضان وكذلك ذو الحجة، وكان السلف أيضاً يزكون في رمضان.
باب ما جاء في تعجيل الزكاة
[678]
يصح إذا كان مالك نصاب ثم له شروط وإن جواز التعجيل فلأنه إذا ملك النصاب فحصل نفس الوجوب.
واعلم أن وجوب الأداء ونفس الوجوب شيء واحد عند البعض ولا فرق بينهما وإليه ميلان صاحب البدائع، قال: إليه ميلان مشائخنا أي ما وراء النهر، وقيل: إن بينهما فرقا.
قوله: (زكاة العباس إلخ) كان عمر عامله عليه الصلاة والسلام، فذهب إلى العباس وخالد وابن جميل فلم يعطوه الزكاة فشكا الفاروق الأعظم إليه عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما خالد فإنكم تظلمونه لأنه تصدق بجميع ماله في بيت المال، وأما العباس فأخذت منه زكاة عامين، وأما ابن جميل فما أعطى إلا أنه تعالى أعطاه الله مالاً، ثم أتى ابن جميل بزكاته فما أخذها عليه الصلاة والسلام وما أخذ الشيخان في عهد خلافتهما.
باب ما جاء في النهي عن المسألة
[680]
قوله: (فإن اليد العليا إلخ) اختلفوا في تفسير الحديث فقيل: إن العليا المنفقة والسفلى الآخذة، ويؤيده ما في سنن أبي داود ص (204) عن ابن عمر، وقال المحدثون: إنه موقوف، وإلى هذا التفسير يشير أكثر الأحاديث وقيل: إن العليا المتعففة والسفلى السائلة، ويشير إليه ما في سنن أبي داود ص (233) ولكنه ليس في أكثر طرق هذا الحديث، وقيل: إن العليا يد الله والسفلى يد الخلق وموهم هذا التفسير آية «يد الله هي العليا» إلخ.
قوله: (الرجل سلطاناً إلخ) لأن السلطان عنده حقوق المسلمين في بيت المال كما قال الغزالي في الإحياء، وقيل: إن السؤال من السلطان ليس فيه إذهاب العِرض، وإن لم يكن له حق في بيت المال والله أعلم بالصواب.
كتاب الصوم
الصوم في اللغة الإمساك عن الأكل كما قال قائل:
~ خيل صيام وخيل غير صائمه
…
وصوم رمضان فُرض في السنة الثانية بعد الهجرة كما قال في الدر المختار والله أعلم.
وكان صيام البيض وعاشوراء فرضاً، ثم نسخ الفرضية لما في أبي داود: أنه عليه الصلاة والسلام أرسل أن من أكل يوم عاشوراء فليقض يوماً مكانه.
باب ما جاء في فضل شهر رمضان
[682]
قال علماء اللغة: إن لفظ شهر لا يضاف إلا إلى رمضان والربيعين، واختلفوا في رجب وجاء في رواية ضعيفة أن رمضان اسم من أسماء الله تعالى والله تعالى أعلم، وفي الربيع الآخر في راء الآخر اختلاف قيل بكسرها وقيل بفتح وقال قائل:
~ لا تضف شهراً للفظ الشهر
…
إلا الذي أوله الراء فادر
قوله: (صام شهر رمضان إلخ) هذا يدل على التراويح وسيجيء التفصيل في آخر أبواب الصوم.
قوله: (إيماناً واحتساباً إلخ) تفصيل الإيمان سيأتي في البخاري، وأما احتساباً فمعناه حسبة لله وأكثر ما يجيء في ما يخشى الذهول عنه.
باب ما جاء لا تقدّموا الشهر بصوم يوم أو يومين
[684]
حديث الباب حديث الصحيحين وفي الهداية أن تقديم رمضان بيوم أو يومين بنية رمضان مكروه تحريماً، وأما صوم ثلاثة أيام فصاعداً قبل رمضان فلا بأس فيه وأما القضاء والكفارة فقيل: إنه خلاف الأولى ومكروه تنزيهاً، وأما النفل المطلق قبل رمضان بثلاثة أيام فصاعداً فلا كراهة فيه، وقال الديري في حاشية العناية نكتة ما في الهداية: إن نية رمضان لا تكون إلا في يوم أو يومين وأقول: إن مراد صاحب الهداية ليس ما زعموا أي ينوي الصائم في رمضان قبل أن يدخل رمضان فإن الشريعة لا تتعرض إلى هذا الأمر اللغو المفروض، ومراد صاحب الهداية بنية رمضان أن يصوم لرعاية رمضان كما في الترمذي في الباب لمعنى رمضان إلخ، فإذن تلائم نكتة الديري وغرض الشريعة بهذا التهديد الحدود، والمكروه تحريماً هو صوم يوم لرعاية رمضان وحال رمضان، وأما صوم الشك فمستحب في بعض الصور فيرد على ما زعموا في مراد صاحب الهداية.
قوله: (صوموا لرؤيته إلخ) وسيأتي مسألة الرؤية، وعند الثلاثة الاعتبار للرؤية أو ما يقوم مقامها مما سيأتي، وقال أحمد بن حنبل: إن حساب محاسبي منازل القمر معتبر.
قوله: (أخبرنا منصور إلخ) قول أخبرنا ليس بصحيح لأن الترمذي لم يلق منصوراً بل يروي عنه معلقاً.
قوله: (لمعنى رمضان إلخ) أي رعاية رمضان وحاله، وأما ما في الحاشية لتعظيم رمضان فغلط، وأما الحديث الذي مر في الزكاة وفيه لفظ لتعظيم رمضان فضعيف.
باب ما جاء في كراهية صوم يوم الشك
[686]
يوم الشك يوم الغيم لا يوم الصحو كما قالوا، ونقلوا أن الشافعي وأبا حنيفة ومالكاً كرهوا الصوم يوم الشك وأحمد بن حنبل يحبّه هكذا في عامة الكتب، ثم قال ابن تيمية: إن صوم يوم الشك المنهي عنه في الحديث ليس المراد به يوم الغيم بل يوم الصحو، والشك هو الوسواس والوهم المحض، وقد ثبت صوم يوم الغيم عن بعض السلف منهم ابن عمر.
أقول: إن أبا حنيفة موافق لأحمد بن حنبل في استحباب صوم يوم الشك لأن مجموعة مسائله تدل على هذا، وذكر في الهداية أن صوم يوم الشك تتصور على أنحاء ستة وقالوا: يستحب الصوم للخواص وينظر العوام ليبدء الأمر ولو ظهر بعده رمضان يكون الصوم صوم رمضان ويجب في هذا أن يقطع في نية النافلة، والخواص هم الذين لا يترددون ولا يضجون ويجب في نية الصوم النافلة، فالحاصل أن أبا حنيفة يحب صوم يوم الشك، والجواب عن حديث الباب ما قال ابن تيمية، وعندي أن هذا الصوم لرعاية رمضان وليس بمنهي عنه لأن هذا الصوم إنما هو لوجه وجيه، وأما المنهي عنه المذكور في الحديث السابق فهو الذي كان من غير وجه وكان بناؤه على الاحتمالات الضعيفة، وأما الأدلة فأكثر ابن تيمية بالآثار.
(ف) النية إرادة ومن مقولة الفعل عندهم وهذا مستنبط من عباراتهم وفروعاتهم كما قالوا: إن الكفار إذا تترسوا بالمسلمين وقت الحرب فللمجاهدين أن يرموهم بنية الكفار ولا يكفوا أيديهم عن الحرب، وقال الرازي: إن التصديق من مقولة الفعل، وقوله هذا صحيح من وجه لأنه قال الأشعري: إن التصديق المعتبر في الإيمان هو الكلام النفسي وإذا تكلم به صار لفظياً، واللغة تساعده لأن التصديق في اللغة النسبة إلى الصدقي، وأما ما قالوا: إن التصديق في اللغة (باوركرون) فلا أصل له من اللغة.
قوله: (الشافعي وأحمد إلخ) نسبته إلى أحمد غير صحيحة.
باب ما جاء أن الصوم لرؤية الهلال والإفطار له
[688]
واعلم أن الهلال يثبت بالشهادة بالرؤية أو الشهادة على الشهادة أو الشهادة على القضاء أو الإفاضة أي التواتر، وفي متوننا أن هلال رمضان يثبت بشهادة رجل يوم الغيم، وأما يوم الصحو فلا بد من جماعة يقع بهم علم اليقين، وأما هلال الفطر يوم الغيم فيكفي فيه شهادة رجلين وفي الصحو يجب جماعة، وقال الشارحون: إذا أتى رجل من مكان عال أو من الصحراء من خارج البلدة فيقبل قوله واحداً يوم الصحو أيضاً كما في الدر المختار ص (152)، وصححه المرغيناني والطحاوي وقال البعض: إن هذا ظاهر الرواية، وأقول: إن هذا إذا كان الرجل الجائي جاء من حوالي هذه البلدة ولو كان من غير هذه البلدة فتحول المسألة إلى عبرة اختلاف المطالع وعدمها، ولا بد من هذا القيد وإن لم يذكره أحد، ثم في هلال الفطر يجب من الشاهد لفظ أشهد أو ما في معناه من سائر الألسنة، لا كما زعمه بعض الجهلة حيث قال يجب لفظ أشهد العربي بعينه، ثم إذا رأى أهل بلدة الهلال وانتقلت الرؤية إلى بلدة أخرى بما لها من الشروط كما مر وثبت لهم الهلال بثبوت شرعي ففي عامة كتبنا أن أهالي هذه البلدة الثانية يجب عليهم اتباع أهل البلدة الأولى ولو كان بين البلدتين مسافة شرق وغرب، ويسمى هذا الاتباع بأنه لا عبرة لاختلاف المطالع وأما في فطر كل يوم والصلوات الخمسة فيعتبر اختلاف المطالع، وقال الزيلعي شارح الكنز: إن عدم عبرة اختلاف المطالع إنما هو في البلاد المتقاربة لا البلاد النائية، وقال كذلك في تجريد القدوري، وقال به الجرجاني، أقول: لا بد من تسليم قول الزيلعي وإلا فيلزم وقوع العيد يوم السابع والعشرين أو الثامن والعشرين أو يوم الحادي والثلاثين أو الثاني والثلاثين فإن هلال بلاد قسطنطنية ربما يتقدم على هلالنا بيومين، فإذا صمنا على هلالنا ثم بلغنا رؤية هلال بلاد قسطنطنية يلزم تقديم العيد، أو يلزم تأخير العيد إذا صام رجل من بلاد قسطنطنية ثم
جاءنا قبل العيد ومسألة هذا الرجل لم أجدها في كتبنا، وظني أنه يمشي على رؤية من يتعيد ذلك الرجل فيهم، وقست هذه المسألة على ما في كتب الشافعية: من صلى الظهر ثم بلغ في الفور بموضع لم يدخل فيه وقت الظهر إلى الآن أنه يصلي معهم أيضاً والله أعلم وعلمه أتم، وكنت قطعت بما قال الزيلعي ثم رأيت في قواعد ابن رشد إجماعاً على اعتبار اختلاف المطالع في البلدان النائية، وأما تحديد القرب والنائي فمحمول إلى المبتلى به ليس له حد معين وذكر الشافعية في التحديد شيئاً.
قوله: (لا تصوموا قبل رمضان إلخ) هذا للفرق بين النافلة والفريضة.
باب ما جاء أن الشهر يكون تسعا وعشرين
[689]
أي قد يكون وليس المراد نفي كونه ثلاثين، كما قال عبد القاهر رحمه الله: إن تقديم الخبر قد يكون لبيان الجزئية، وما في مسند أحمد عن عائشة قالت: لا تقولوا إن الشهر إنما يكون تسعاً وعشرين بل قال عليه الصلاة والسلام: «الشهر يكون تسعاً وعشرين» بلا لفظ إنما، فأشارت عائشة الصديقة إلى ما قال عبد القاهر الشافعي رحمه الله، وروي عن ابن مسعود: أني صمت معه عليه الصلاة والسلام عشرة سنين تسعة منها تسع وعشرون يوماً وعاشرتها ثلاثون، وسند ما روي عنه ضعيف.
قوله: (آلى من نسائه إلخ) استدل الترمذي بهذا على كون الشهر تسعة وعشرين ووجه الاستدلال ظاهر، واتفق الأئمة الأربعة على أن إيلاءه عليه الصلاة والسلام كان لغوياً لا شرعياً لأن الإيلاء الشرعي أربعة أشهر، وللحافظ شبهة قوية فإنه قال: إنه عليه الصلاة والسلام وإن آلى إيلاء لغوياً لكن ترك قربان الزوجة بهذا القدر أيضاً غير جائز وما أجاب عنها، ثم في وجه إيلاءه عليه الصلاة والسلام روايات في بعضها أن أمهات المؤمنين طلبن النفقة منه عليه الصلاة والسلام، وفي بعضها قصة العسل كما في الصحيحين، وفي بعضها قصة مارية القبطية رضي الله عنها كما في سنن النسائي، وهذا الموضع من المواضع التي رجح فيها الحافظ النسائي على الصحيحين كما في شرح نخبة الفكر.
باب ما جاء في الصوم بالشهادة
[691]
قد مرت المسألة تفصيلاً بقدر الحاجة
مسألة: لو شهد رجل بأني رأيت الهلال في النهار لا يعتبر قوله أصلاً سواء شهد قبل نصف النهار أو بعده، ولو قال: رأيته في لعلها الليلة الماضية، فإن كان هلال رمضان وكان قبل نصف النهار فمن لم يأكل بعد الصبح يصوم ومن أكل يقضيه، واعلم أن في بلادنا التي ليست حكومة الإسلام فيها فالحكم فيها: صوموا بقول ثقة وأفطروا بقول ثقتين، ولا ينبغي لمفتي العصر المشي على ما هو شأن قضاة دار الإسلام من الشهادة وغيرها، وأما جواب حديث الباب من جانب الأحناف فبأنه محمول على من جاء من خارج البلدة أو كان اليوم يوم الغيم.
باب ما جاء أن شهرا عيد لا ينقصان
[692]
في بيان شرح حديث الباب أقوال، قال أحمد بن حنبل: إن مراده أنه لا يجتمع كون شهر رمضان وشهر ذي الحجة تسعة وعشرين يوماً في كليهما، بل إن كان أحدهما تسعة وعشرين يكون الآخر ثلاثين يوماً، وقال الطحاوي: إني قد شاهدت أنه كان رمضان تسعة وعشرين يوماً وكذلك ذو الحجة، وقال إسحاق والبخاري: إن شهرا عيد لا ينقصان في الأجر وإن كان أحدهما أو كلاهما تسعة وعشرين يوماً أقول: يرد على هذا أن شهر ذي الحجة أيام عبادتها المقررة فيها تنتهي إلى ثلاثة عشر يوماً، فكيف يصدق على أن أجر ذي الحجة لا ينقص وإن كان تسعة وعشرين يوماً؟ اللهم إلا أن يقال: إن بعض السلف رحمهم الله ذاهب إلى أن الأضحية تجوز إلى آخر ذي الحجة، وقال السيوطي: إن الحديث يتعرض إلى الباطن لا إلى الظاهر، وقال: اتفق الحساب على أن الأشهر الواقعة في مرتبة الأوتار تكون تسعة وعشرين يوماً، والواقعة في مرتبة الأشفاع تكون ثلاثين يوماً، وإن لم نشاهد القمر بالأعين فالحديث تعرض إلى الواقع لا المشاهد بالأعين. وأطنب السيوطي أقول: كيف يقال بهذا والحال أن مراد الحساب أن القول المذكور مجرد اصطلاحهم لبناء الكبيسة عليه وليس مرادهم بيان الواقع؟ ثم علم من الكتب أن ستة أشهر من السنة تكون تسعة وعشرين يوماً، وستة منها تكون ثلاثين يوماً ولا يجب التوالي والترتيب إلى أن يكون أحدها تسعة وعشرين والآخر ثلاثين، وهكذا بل ستة من المجموعة بكذا وستة بكذا، وأخذت هذا القول من كتب الحنابلة كما في غايته الحنبلية:
~ لا يتوالى النقص في أكثر من
…
ثلاثة من الشهور يا فطن
~ كذا توالى خمسة مكمله
…
هذا الصواب وما سواه أبطله
أي يمكن توالي ثلاثة أشهر تسعة وعشرين يوماً وكذلك يمكن شهر ثلاثين يوماً، وهل يمكن أن يكون مراد الحديث أنهما لا ينقصان أجراً؟ وأما صدقه على ذي الحجة فإن في نص الحديث أن عشر أيام ذي الحجة أفضل من السنة كلها، والحال أن صوم يوم العاشر مكروه تحريمي، فالمراد أن صوم يوم العاشر إنما هو إلى الضحى فإن الإمساك إلى الضحى ثابت بالحديث وليس مني إلا التسمية فيقول حديث الباب إن صيام عشرة ذي الحجة ليست إلا تسعة أيام وبعض العاشر لكن بعض العاشر الناقص أيضاً تام أجراً، هذا والله أعلم وعلمه أتم.
باب ما جاء أن لكل أهل بلدة رؤيتهم
[693]
قد فصلت المسألة في السابق، وقال الشافعية: إن حكم حديث الباب في البلدان النائية لا للمتقاربة.
قوله: (ليلة الجمعة إلخ) تكون غرة رمضان من يوم الجمعة، وفعل ابن عباس هذا غير ما ورد علينا على ما ذكره المتون ويرد على ظاهر ما في الشروح، فأجاب الزيلعي شارح الكنز: أن في واقعة الباب لم تثبت الرؤية بثبوت شرعي فإن كريباً لم يشهد برؤيته، ولم يشهد على الشهادة ولم يشهد على القضاء، فإنه نقل صوم معاوية وغيره لا قضاءه، أقول: كيف يجاب بهذا والحال أن في مسلم ص (348) تصريح أنه قال رأيته ورآه الناس فتكون شهادة بالرؤية، قيل: إن شهادته بالرؤية شهادة واحد ولعل يومه كان يوم الصحو فلا بد من شهادة جم كثير، والحق في الجواب ما قال مولانا مد ظله العالي: إن في كتبنا أنهم إذا صاموا بشهادة رجل واحد لكون اليوم يوم الغيم أو لأنه أتى من خارج البلدة أو مكان عال فصاموا ثلاثين يوماً فما وجدوا الهلال على ثلاثين يوماً فقيل: يعتبر قول من صاموا بشهادته ويفطرون وإن لم يجدوا الهلال، وقيل: لا يعتبر بقوله بل يصومون أحداً وثلاثين يوماً، وكلا القولين في كتبنا ونظر ابن عباس إلى هذه المسألة.
باب ما جاء فيما يستحب عليه الإفطار
[694]
مطمح نظر الشريعة أن يكون الإفطار على شيء حلال طيب.
قوله: (فتميرات إلخ) إذا قطع ثمر النخلة قبل أن يجف يسمى رُطباً، وبعدما جف بحيث يدخر يسمى تمراً بسكون الوسط، وأما ما يكون في زماننا في الأسواق من اليابسات فليس له اسم في كلام
العرب، إلا أنه قريب من البسر لأن البسر في العرب ما قطع وهو أصفر قبل أن يحمر وأما ما في زماننا فيقطع وهو أصفر لكنه يجفف على النار فأطلق عليه البسر على ما كان.
باب ما جاء أن الصوم يوم تصومون أن الفطر يوم تفطرون إلخ
[697]
لا أعلم وجه تبويب المصنف هذا الباب فإن مسألة اختلاف المطالع مرت سابقاً اللهم إلا أن يقال: إن الغرض أن اليوم الذي وقع الفطر فيه بحكم الشريعة هو يوم الفطر في الواقع، ولا يجوز تطريق الوساوس والأوهام الباطلة بل يوافق فيه الجمهور، وكذلك الحكم في الأضحى.
قوله: (عظم الناس إلخ) ولذا أدار الفقهاء حكم ثبوت الهلال على قضاء القاضي، وأما ما يذكر في كتب الفقه من أن القضاء لا يجري إلا في المعاملات ولا يدخل في العبادات فأقول: لا أجده كلية فإنا نجد قضاء القاضي دخيلة في العبادات فإن الجمعة والعيدين والكسوف موكولة إلى الإمام، وأما الصلاة الخمسة فكان نصب الإمام في السلف من جانب أمير المؤمنين والخليفة، وفي الزكاة أن الإمام جبر الناس على أن يرفعوا الزكاة إلى بيت المال، وأما في الحج فكان أمير الموسم مقتدى الناس، وكذلك الصيام موكول إلى رأي القاضي فإنه إن حكم القاضي بالصوم على رؤية رجل يوم الغيم يجب الصوم، وإن لم يحكم القاضي فلا يكون قوله حجة وكذلك في الدر المختار ص (70) إن من قال: إن صليت فعبدي حر فصلى ولم يقرأ إلا التسمية بدل القراءة لا يحنث الرجل لأن التسمية لا تصح الصلاة بها عندنا، ثم إن لحقه قضاء القاضي الشافعي بصحة صلاة فقد حنث وصحت صلاة الحنفي إجماعاً.
باب ما جاء إذا أقبل الليل وأدبر النهار فقد أفطر الصائم
[698]
ظاهر حديث الباب يدل على أن الإفطار عند إقبال الليل وإدبار النهار بحكم الشريعة وجبرها وإن لم يفطر حقيقة، أي ظاهراً، وأنه يكون مرتكب الفعل اللغو إلا أن ابن تيمية جوز الوصال إلى السحر وقال باستحبابه كما سأبين، فلا يتمشى على ظاهر حديث الباب، فإن حديث الصحيحين:(لا تواصلوا، وأيكم واصل يواصل إلى السحر) إلخ يخالفه، ويؤيد ابن تيمية، فيحمل حديث الباب على من لا يريد الوصال إلى السحر.
باب ما جاء في تأخير السحور
[703]
يستحب تأخير السحور وتعجيل الإفطار.
قوله: (خمسين آية) لقد تحير الحافظ في هذا الحديث فإن قدر خمسين آية يمكن في أقل من أربع دقائق، ثم قال: إن هذا التبين إنما هو من شأن النبوة لا يمكن لغيره وهو حقيقة الأمر، ودل الحديث على تغليسه عليه الصلاة والسلام في رمضان وهو عمل قطان ويوبند.
باب ما جاء في بيان الفجر
[705]
في فتاوى قاضي خان رواية أن الصائم يجوز له أن يأكل إلى انتشار الصبح الصادق، وروي عن
أبي بكر الصديق أنه أكل حين طلع الفجر، وقال: أغلقوا الباب، وثبت عنه بسند صحيح، وقال الطحاوي: إنه كان ثم نسخ، وكذلك قال الداودي المالكي شارح البخاري، ومن حذيفة أثر أيضاً مثل أثر أبي بكر الصديق رواهما في التفسير المظهري تحت آية:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} [البقرة: 187] أقول: لو ناب على أحد ما في قاضي خان فلا كفارة عليه، نعم يقضي الصوم.
وليعلم أن في بيان الفجر ثلاثة أقوال، القول المهجور: جواز الأكل إلى الصبح الأحمر، وتمسك هذا القائل بحديث الباب، والجمهور أن الامتناع من الصبح الصادق الأبيض، ثم قيل: إن التبين المذكور في الآية أي تبين الصبح الأبيض التبين في نفسه وقيل التبين للصائم المكلف، والقولان في البداية لابن رشد مذكوران.
باب ما جاء من التشديد في الغيبة للصائم
[707]
ما قال لفساد الصوم بالغيبة إلا الأوزاعي.
قوله: (وحدثنا ابن أبي ذئب إلخ) ها هنا تحويل ما ذكره الناسخ، واعلم أن الغيبة ذكرك أخاك بما يكره ثم لها أقسام عديدة مذكورة في الحظر والإباحة، وفيه أن الغيبة إن كانت لغرض صحيح
كالاطلاع على فعل أحد ليأمن الناس من شره فليست بمعصية، وحديث الباب يدل على اجتماع نهي الشارع والصحة خلاف ما قال ابن تيمية، فإن الأئمة الأربعة قائلون بصحة صوم المغتاب، وقد ورد النهي عن الغيبة، وسيأتي الكلام في هذا بقدر الضرورة، ثم في العمل الجامع مع الكراهة تحريماً لنا قولان، قيل: إن فيه حبط الثواب تيار، وقيل: إن فيه شيئاً من الثواب ذكره في رد المحتار من حكم الصوم بعد تعريفه، ومن قوله في الإمامة ويصف الرجال، وللشافعية في هذا القول أربعة أقوال ذكرها في جمع الجوامع.
مسألة: لو اغتاب أحد ثم أكل وأفسد صومه زعماً منه أن الصوم يفسد بالغيبة لحديث الباب فهل عليه كفارة أم لا؟ فقال في الهداية: إنه يكفِّر، وقال بعدم التكفير في من احتجم ثم أفسد الصوم بناء على أن الحجامة مفسدة الصوم عند أحمد، وأقول: لا وجه للفرق بينهما، فإن الحديثين صحيحان وذهب إلى الأول الأوزاعي وإلى الثاني أحمد بن حنبل، وقيل بعدم الكفارة فيهما، وقيل بها فيهما ثم أقول: من جانب الهداية في وجه الفرق أن الغيبة معصية يكثر وقوعها ويتعذر الاجتناب عنها فلا ينبغي أن يقال بأنها مفسدة للصوم بخلاف الحجامة، هذا والله أعلم.
باب ما جاء في فضل السحور
[708]
السحور بالفتح اسم الأكل وبالضم مصدر.
قوله: (أهل الكتاب إلخ) كان في أهل الكتاب وابتداء شريعتنا الغراء أنه لا يجوز الأكل بعد ما نام كما في سنن أبي داود ص (75) .
قوله: (موسى بن علي إلخ) بالتصغير وكان الناس يسمونه بِعلَي مصغراً، وكان يغضب موسى على هذا كما في الترمذي أيضاً.
باب ما جاء في كراهية الصوم في السفر
[710]
قال الأئمة الأربعة: إن الأفضل في السفر الصوم ويجوز الإفطار، وقال داود الظاهري: إن صوم رمضان في السفر باطل ويشير بعض الأحاديث إلى ما قال أي أن يكون الأصوب الإفطار، ولكن الأربعة حملوها على حال الجهد والمشقة، واعلم أن هاهنا مسألتين: أحدهما ما قال به أبو حنيفة وهو أنه: لا يجوز للمسافر إفطار صوم يوم خروج من بيته، وثانيتهما ما قال به الأكثرون وأبو حنيفة وهو أنه: لو نوى الصوم في السفر لا يجوز له الإفطار في ذلك اليوم، وحديث الباب يرد على ما قال أبو حنيفة، وهو ما أجاب أحد من الأحناف عن حديث الباب فأقول: إن في التاتار خانية تصريح أن الغزاة يجوز لهم الإفطار، وكذلك في غير كتاب لنا، فإذن نقول: إن الإفطار في واقعة الباب جائز لأنهم كانوا غزاة كما تدل الروايات، منها ما في الترمذي ص (202) فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم مر الظهران فآذننا بلقاء العدو فأمرنا بالفطر إلخ.
وواقعة الباب واقعة السنة الثامنة بعد الهجرة، وقال علماء السِّير: إنها وقعت في سابع عشرة من رمضان، ومستدل داودَ الظاهري حديث:«ليس من البر الصيام في السفر» إلخ، وفي صحيح ابن حبان:«ليس من امبر الصيام في امسفرو» وأجابوا عن حديثه، نعم ذكروا وجه قوله: أن رجلاً صام في السفر فشق عليه فقام عليه الناس بالظل فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا قصتة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس من» إلخ، فمدار جوابهم على أن تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر فورد النفي على هذا الحصر، فمعنى قوله عليه الصلاة والسلام أن الصوم في السفر لا ينحصر في البر بل قد يكون لعدم ترخص برخص الله أيضاً، لكن ظاهر الحديث يشير إلى عدم الصوم في السفر وقال ابن تيمية في فتاواه إن الحديث لا يدل على عدم جوازه في السفر لأن نفي البر لا يوجب عدم الجوازظ، ولكني لست أحصله فإنه انتفى البر فما بقي شيء والله أعلم.
قوله: (قال الشافعي) معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم إلخ ليس قوله هذا شرح الحديث بل بيان المسألة، وهذا شبيه ما قال محمد بن حسن في حديث «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» إلخ فإنه ذكر المسألة لا شرح الحديث، وأيضاً أجاب الجمهور عن حديث «ليس من البر» إلخ أنه محمول على حال الجهد والمشقة.
باب ما جاء في الرخصة في الصوم في السفر
[711]
حديث الباب صريح حجة للجمهور.
قوله: (فلا يجد المفطر على الصائم إلخ) مشتق من وجد يجد موجدة الغضب، وأما وجد يجد وجوداً فمعناه معروف، وأما وجد يجد وجداً فمعناه (يا فتن) ، وأما وجد يجد وجداناً فمعناه الحزن.
باب ما جاء في الرخصة في الإفطار للحبلى والمرضع
[715]
إن خشيت على ولدها يجوز لها الإفطار ولا فدية عليها بل القضاء، وعند البعض الفدية أيضاً
واجبة، واعلم ان المشهور على الألسنة أن آية الفدية نسخت، وأقول إن الفدية ثابتة عند الكل وعندنا ستة مواضع، ولو قيل بنسخها فكيف تكون الفدية باقية؟ وسيأتي البحث في هذا الباب:«وعلى الذين يطيقونه فدية» إلخ.
باب ما جاء في الصائم يذرعه القيء
[719]
ظاهر الرواية لنا أن ذرع القيء غير مفسد والستقاء مفسد، ثم فصل المصنفون فيها وصارت اثنتي عشر صورة لأن القيء وإما قليل أو كثير، ثم إما ذرعه أو استقاء، ثم يرب هذه الأربعة في الثلاثة أي أنه خرج أو أعاده فمصلت ثثنتي عشر صورة، وأحكام الكل مذكورة في المبسوطات مثل البحر وغيره، وحديث الباب ساقط من جانب عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو سيء الحفظ، وأما أخوه عبد الله وأما مرسل عبد الله فيفيدنا في مسألة عدم إفساد الصوم بالجماعة أيضاً فثقة.
قوله: (أبا داود السجزي إلخ) السجز منسوب إلى سجستان معرب سيستان، يقال نيابستان أيضاً، وهو مولد رستم الشجاع المعروف، وغلط في هذا ابن خلكان حيث قال: إنها قرية من قرى البصرة، ويقال ليستان سكز أيضاً، وفي العجم اسمه طبرستان ونسب هذا أبو جعفر الطبري، ويقد يقال: السكزي أيضاً، وأما الطبراني فمنسوب إلى طبرية قرية من قرى الشام.
باب ما جاء في الصائم يأكل ويشرب ناسيا
[721]
قال الثلاثة: إن صوم من أكل وشرب ناسياً باقي، وقال مالك: إن كان صومه صوم الفريضة فيقضيه وإن كان صوم تطوع فلا قضاء قد تم صومه، وفي كتبنا لو أخذ الصائم في الأكل ويراه رجل آخر ويعلمه أنه صائم والآكل ضعيف فينبغي للرائي أن لا يخبره بأنك صائم بل يدعه يأكل. ويروى أن رجلاً في عهد الصحابة صام يوماً فدعاه رجل للطعام فأكل عنده شبع بطنه ناسياً، ثم دعاه آخر فأكل عنده شبع بطنه ناسياً، ثم دعاه آخر فأكل عنده شبع بطنه ناسياً، ثم جاء عند أبي هريرة وذكر قصته، فقال أبو هريرة: إنك رجل ما تعودت الصيام.
باب ما جاء في الإفطار متعمدا
[723]
قال مالك وأبو حنيفة: إن الأكل والشرب عمداً أيضاً يوجب الكفارة، وقال الشافعي وأحمد: إن الكفارة مقتصرة على الجماع عمداً، وقال البخاري: إن الكفارة في الجماع فقط، وأما في الأكل والشرب فلا قضاء ولا كفارة في دار الدنيا وأمره مفوض إلى دار الآخرة، وتمسك بحديث الباب:«لم يقض عنه صوم الدهر كله» إلخ، وحمل الجمهور حديث الباب على أنه لم يحرز ثواب رمضان وخواصه، وأما تفقه البخاري فبأن الكفارة ليست بعوض من الجناية لتتعدى إلى الأكل والكفارة بل هي
عتاب وزجر، ومن المعلوم أن التمرد في الجماع أعلى من التمرد في الأكل والشرب، وقال داود الظاهري وابن تيمية: لا قضاء على من ترك الصلاة عمداً بل القضاء على من تركها ناسياً، ولم يذهب أحد من الأربعة إلى هذا، وإن قيل: إنكم أثبتم الكفارة في الأكل والشرب بالقياس، والحال أن القياس لا يجري في الحدود قلت: أولاً: إنا أثبتنا الكفارة فيهما بتحقيق المناط لا القياس وبينهما بون بعيد، وثانياً: إن قول أهل الأصول: إن القياس لا يجري في الحدود وليس مراده ما زعمتم أي الحدود بمعنى الزواجر، بل الحدود بمعنى الحدود الشرعية التي تكون فاصلة بين المتجانسين كما يدل بعض الفروع، منها ما قال السرخسي في المبسوط: إن العمل الكثير مفسد للصلاة وتفسير العمل الكثير فيه أقوال خمسة، وقال: الأشبه أن يحول العمل الكثير إلى رأي من ابتلي به فما زعمه كثيراً كثير وما لا فلا، وكذلك في بيع السَّلم بأن تعيين مدة السَّلم بالشهر أو غيره ليس بأشبه بمذهب أبي حنيفة، بل الأشبه ما عينه رب المال والمشتري بالتراضي، وكذلك في مدة تشهير اللقطة بأنها محولة إلى رأي من ابتلي به فعلى هذا أقول: يمكن بيع السلم على مدة ثلاثة أيام، وبالجملة المراد من الحدود الشريعة لا الزواجر.
باب ما جاء في كفارة الفطر في رمضان
[724]
قوله: (رجل إلخ) قيل: إنه أوس بن صامت الذي هو صاحب واقعة الظهار في رمضان في حديث آخر فيكون حديث الباب وذلك الحديث واحداً، وقيل: إن حديث الباب غير ذلك الحديث والواقعتان متعددتان، وفي واقعة الباب هو سلمة بن صخر والله أعلم، فالصواب تعدد الواقعتين ثم اختلف فقال الثلاثة: إن الخصائل الثلاثة: بالترتيب كما في الحديث، وقال مالك: لا ترتيب بل العبد مخير بينهما وتعجب المحدثون من أن مالكاً كيف خالف نص حديث الباب؟ أقول: يمكن له أن يقول: إن المذكور في الحديث من الترتيب إنما هو في الذكر لا في الحكم فلا خلاف للنص أصلاً.
قوله: (شهرين متتابعين إلخ) في بعض الروايات أنه قال: ما ابتليت بهذا إلا من الصوم فعدل من الصيام إلى الإطعام بعذر شدة الشبق، والحال أن شدة الشبق ليس بعذر للعدول عندنا، وعذر عند الشافعية وإما أجاب الأحناف، وأقول: إنه من خصوصية هذا الرجل وأخذت هذه الخصوصية مما يرد علينا وعلى الشافعية أن هذا الرجل أطعم الكفارة أهله ولا تتأدى الكفارة بمثل هذا فقيل: إنه لم تتأد الكفارة بل الكفارة عليه دين ويؤديها إذا تيسر له، وقيل: إن كفارته قد أديت، وهذا من خصوصيته، وهذا قول الشافعي رحمه الله والزهري نقله الدارقطني وأبو داود ص (333) ، وزاد الزهري إنما كان هذا رخصة له خاصة إلخ، فإذن أقول: لما ادعيتم الخصوصية في مسألة تدعى الخصومة في مسألة أخرى أيضاً أي عدوله عن الصوم إلى الإطعام لشدة الشبق، وأما ادعاء الخصوصية فليس له ضابطة كلية، بل يكون بالذوق السليم، وكذلك روي أن أبا بردة بن دينار قال له النبي صلى الله عليه وسلم:«قسم هذه الشياه في الناس» فقسمها في الناس وبقي له عتود، فأمر له عليه الصلاة والسلام أن يضحي بها، وهذه الأضحية من خصوصية، فإن العتود لا تصح الأضحية بها على أن في بعض الروايات تصريح:«أن ضحِ بهذا ولا يجوز لغيرك» إلخ.
باب ما جاء في السواك للصائم
[725]
يستحب السواك عندنا في جميع الأحيان قبل الزوال وبعده، وما من حديث يدل على نفي السواك بعد الزوال كما هو مذهب الشافعي، ومختارنا مختار البخاري، وأما حديث:«خلوف فم الصائم» إلخ فلا يدل على النهي عن السواك بل حث على الصيام بذكر فضله.
قوله: (ولم ير الشافعي إلخ) هذا خلاف ما في عامة كتب الشافعية فإن فيها كراهية السواك بعد الزوال، ولعل ما في كتب الترمذي رواية عن الشافعي رحمه الله.
باب ما جاء في الكحل للصائم
[726]
لا بأس بالكحل للصائم وإن ظهر أثره في البزاق، ومن بزق وفيه أثر الكحل ثم أعاده فسد صومه وإن لم يعد فلا شيء عليه.
واعلم أن الاكتحال لقصد الزينة يكره، كما قال صاحب الأشباه والنظائر: إن التختم للزينة مكروه.
باب ما جاء في القبلة للصائم
[727]
تجوز القبلة لمن يأمن على نفسه الجماع مثل المشيخة، وتكره لمن لم يأمن مثل الشبان، وأما الاعتكاف فلا تجوز القبلة فيه لأحد، ووجه الفرق بين جواز ارتكاب دواعي الوقاع في الصوم، وعدم جوازه في الاعتكاف مذكور في العناية شرح الهداية للشيخ أكمل الدين.
واعلم أن الإفطار لازم والتفطير متعد.
باب ما جاء في مباشرة الصائم
[728]
ليس المراد من المباشرة المباشرة الفاحشة بل اللمس فقط.
قوله: (وأملككم لإربه إلخ) الإرب بكسر الهمزة العضو وجمعه آراب، وبفتحتين بمعنى الحاجة، وهذا اسم جنس والأشبه بالتعظيم الثاني أن بمعنى الحاجة.
باب ما جاء لا صيام لمن لم يعزم من الليل
[730]
هذه المسألة مسألة التبييت، قال الشافعي: يجب التبييت في كل صوم إلا النفل، وجوز فيه أن ينوي بعد الزوال أيضاً من لم يأكل بعد الصبح، ومذهب أبي حنيفة: أنه لا يجب التبييت في رمضان والنفل والنذر المعين لأن رمضان مؤقت من جانب الشارع، والنذر المعين مؤقت من جانب العبد، والنفل وقته كل يوم، وأما حديث الباب فساقط فلا حاجة إلى جوابه أصلاً، وأما استدلالنا فروى الطحاوي أنه عليه الصلاة والسلام أمر من نادى أهل العوالي نهار عاشوراء أن يصوم من لم يأكل من الصبح ويمسك من أكل ويقضي وكان صوم عاشوراء فرضاً، وأطنب الطحاوي بالروايات، وقال الحافظ: لم يثبت أمره عليه الصلاة والسلام بالقضاء لمن أكل من الصبح فلا يكون فرضاً، أقول: كيف غفل الحافظ؟ والحال أن في سنن أبي داود تصريح القضاء أيضاً.
باب ما جاء إفطار الصائم المتطوع
[731]
هاهنا مسألتان أحدهما جواز إفطار المتنفل وعدمه، وثانيتها أنه لو أفطر فهل عليه القضاء أم لا؟ وفي مدونة مالك أنه إن أفطر لعذر مسموع فلا قضاء وإلا فيقضي، وقال أبو حنيفة: يلزم بالشروع وإن أفطر يقضي بلا تفصيل، واتفق الأئمة الأربعة على أنه من شرع في الحج يجب عليه إتمامه، فقال أبو حنيفة: كذلك يكون في الصوم والصلاة أيضاً، وقال الشافعي: لا قضاء إن أفطر المتنقل، وفي كتب الحنابلة مثل ما في كتب الشافعية، ولكن في كتاب الصلاة لأحمد بن حنبل تصريح أن المتنفل في الصوم والصلاة يتمهما ويلزمان بالشروع، وأما مسألة الإفطار ففي ظاهر الرواية جواز إفطاره بالعذر والضيافة عذر للضيف والمضيف، وفي الكنز في رواية عن أبي حنيفة يجوز الإفطار بلا عذر أيضاً، وكذلك في منتقى الحاكم الشهيد والجمع بين الروايتين أن الإفطار بلا عذر جائز ولكنه غير مرضي، والمفهوم من الأحاديث جوازه بلا عذر، وأما تفقه أبي حنيفة فهو أن الشروع بمنزلة النذر والنذر لازم إجماعاً، ولكن التحريمة كالنذر القولي في الصلاة لا الصوم. والله أعلم.
قوله: (أمير نفسه إلخ) في حديث عائشة في كتاب الطحاوي ص (355) ، ج (1) . ذكر القضاء أيضاً بسند الشافعي، والسند صحيح غاية الصحة، وفيه:«سأصوم يوماً مكان ذلك» إلا أن في معاني الآثار قال محمد بن إدريس: سمعت هذا الحديث عن سفيان بن عيينة ولم يذكر لفظ «سأصوم مكان ذلك يوماً» إلخ، ثم قبل وفاته بسنة لما كررت عليه زاد لفظ «سأصوم يوماً مكان ذلك» إلخ، ومر عليه الحافظ في تلخيص الحبير، وقال: اختلط ابن عيينة قبل وفاته بسنة، وأنكره الذهبي من الأول إلى الآخر، ثم ذكر منشأ قول الحافظ ورده، ثم أقول: رواه غير الشافعي أيضاً أحدهما في النسائي الكبرى، وثانيها في سنن الدارقطني وأما حديث الباب أي «أمير نفسه إن شاء» إلخ فلا ينفي القضاء، وقال الزرقاني: أن مراد الحديث أنه أمير نفسه قبل الشروع في الصوم وفي بعض الألفاظ «أمين نفسه» وظني أنه تصحيف من الناسخين والله أعلم.
باب ما جاء في إيجاب القضاء عليه
[735]
حديث الباب صريح لنا وللموالك، وقال الترمذي: إنه مرسل مالك بن أنس والسند جيد، وأما الحديث السابق عن عائشة ففي معاني الآثار ص (355) ج (1) فيه تصريح القضاء عن المزني عن الشافعي ومر الكلام فيه.
باب ما جاء في وصال شعبان برمضان
[736]
حديث الباب يدل على صيامه عليه الصلاة والسلام في شعبان كله، ولكن في بعض الألفاظ الأخر تصريح أكثر شعبان، وأما وجه صيامه فهو قضاء أمهات المؤمنين ما فاتهن من الصيام لعذر الطمث أو غيره، ويفيد الشافعي إفادة شيء في أن تأخير قضاء رمضان إلى رمضان آخر لا ينبغي.
باب ما جاء في كراهية الصوم في النصف الباقي من شعبان لحال رمضان
[738]
أي لمعنى رمضان ورعاية رمضان، هذا الحديث في حق من يصوم بعد نصف شعبان، وأما فعله عليه الصلاة والسلام المار فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ في الصوم قبل نصف شعبان، وحديث الباب قوي أعله أحمد بن حنبل وعبد الرحمن بن مهدي كما في التهذيب، وبوب الطحاوي على هذا وحاصل كلامه أن النهي الوارد في حديث الباب نهي إرشاد وشفقة.
قوله: (لا تقدموا شهر رمضان بصيام إلخ) أخرج المصنف في الأول: «لا تقدموا شهر رمضان بيوم أو يومين» وأتى هاهنا بلفظ «صيام» وأقول: إن لفظ الصيام مصدر وليس جمع صوم كما صرح أرباب اللغة.
باب ما جاء في ليلة النصف من شعبان
[739]
هذه الليلة ليلة البراءة وصح الروايات في فضل ليلة البراءة، وأما ما ذكر أرباب الكتب من الضعاف والمنكرات فلا أصل لها، واختلف في الليلة المباركة المذكورة في القرآن قيل: هي ليلة البراءة، وقيل: ليلة القدر وتمسك القائل الثاني بأن في القرآن تصريح أنها في رمضان، وليلة البراءة ليست في رمضان وتأول القائل الأول.
قوله: (غنم كلب إلخ) كلب قبيلة من قبائل العرب ذو غنم كثيرة، وحديث الباب لم يبلغ الصحة لأن في سنده حجاجاً وهو ابن أرطاة، قال العلماء: إن أفضل ليالي السنة ليالي رمضان، وأفضل نهرها نُهُر ذي والحجة العشرة، وأفضل الأيام يوم عرفة، وأفضل أيام الأسبوع يوم جمعة وعند ابن ماجه: أن يوم الجمعة أفضل من يوم الفطر والأضحى.
باب ما جاء في صوم يوم المحرم
[740]
أي يوم عاشوراء وفي نص الحديث أن صوم عاشوراء كفارة السنة.
قوله: (حسن إلخ) حسنه الترمذي مع أن فيه نعمان بن سعد وهو مجهول، وعبد الرحمن ابن إسحاق الوسطي وهو ضعيف.
باب ما جاء في صوم يوم الجمعة
[742]
يستحب صوم يوم الجمعة كما في الدر المختار ص (89) إلا أن المحشِّين ترددوا في الاستحباب، وعندي: إن كان يتوهم فساد الاعتقاد لا يصوم، وإلا فيستحب وهكذا يجمع في الروايات الفقهية والحديثية، وفي شرح الوقاية باب الحظر والإباحة: أن أبا حنيفة، دعي لطعام فذهب إلى الدعوة ومعه أبو يوسف فلما بلغا المدعى وجد اللهو واللعب ثمة فأكلا في ناحية من المكان ورجعا ثم بعده بمدة دعي أبو حنيفة، وسمع أبو حنيفة أن في ذلك المكان لعباً فرجع أبو حنيفة وأبو
يوسف من الطريق فسأل أبو يوسف عن أكله الطعام في المكان الأول لا في المكان الثاني قال أبو حنيفة لأن الآن اتخذ في الناس مقتد لهم.
باب ما جاء في صوم يوم الإثنين والخميس
[745]
لم تكن عادته عليه الصلاة والسلام في الصوم مستمرة وأتى النسائي بالروايات الكثيرة في صيامه عليه الصلاة والسلام، وأما وجه صوم يوم الاثنين ففي رواية عن ابن عباس بسند قوي: أنه عليه
الصلاة والسلام ولد يوم الاثنين وارتحل إلى دار البقاء يوم الاثنين ودخل المدينة أي قباء يوم الاثنين، ولأن يوم الاثنين والخميس ترفع الأعمال إلى الله تعالى وفي الأحاديث ما يدل على رفع الأعمال كل يوم وكل يوم الاثنين وكل يوم الخميس وكل ليلة البراءة وفي الأيام الأخر، ولعل الفهرس مختلفة كما تكون في الدوادين والدفاتر.
باب ما جاء في صوم يوم الأربعاء والخميس
[748]
الأربعاء بكسر الباء ولفظ الأربعاء في حديث الباب غير منصرف مع دخول لفظ الكل عليه لأن وجه عدم انصرافه الألف الممدودة وصيرورة غير المنصرف منصرف بعد إضافة كل إليه في غير ما علة انصراف الألف الممدودة.
قوله: (صمت الدهر إلخ) أي صوم الدهر تنزيلاً وسيجيء البحث فيه عن قريب.
باب ما جاء في الحث على صوم يوم عاشوراء
[752]
عاشوراء صفة الليل لا النهار واليوم يكون في النهار، فقالوا: إن النُّهُر تكون تابعة ولاحقة بالليالي السابقة في أحكام الشريعة إلا في أيام الرمي في الحج، ونسب إلى ابن عباس أن يوم عاشوراء اليوم التاسع وأقول: إن هذه النسبة غلط، ثم تأولوا في ما نسبوا إلى ابن عباس بأنه من قبيل إظماء الإبل كما ذكره النووي ص (359) في شرح مسلم فإن العرب يسمون اليوم الخامس من أيام الورد ربعاء وكذا في باقي الأيام على هذه النسبة فيكون التاسع عشراء إلخ، وإظماء الإبل ألغت والثني والثِلث والرابع والخمس وهكذا، وأقول: لا احتياج إلى هذه التأويلات فإن مراده أن الصيام يوم التاسع أيضاً منضماً مع العاشر لا أن يوم التاسع يوم عاشوراء، وكذلك مروي مرفوعاً وموقوفاً كما في معاني الآثار ص (338) ، ج (1) عنه عليه الصلاة والسلام «صوموه وصوموا قبله يوماً وبعده يوماً لا تشبهوا بيهود» إلخ وفي سنده محمد بن أبي ليلى، وأما الموقوف على ابن عباس فهذه قوي وفي كتاب الطحاوي أيضاً بعض الروايات صارت موهمة إلى ما نسب إلى ابن عباس، وحاصل الشريعة أن الأفضل صوم عاشوراء وصوم يوم قبله وبعده، ثم الأدون منه صوم عاشوراء مع صوم يوم قبله أو بعده، ثم الأدون صوم يوم عاشوراء فقط. والثلاثة عبادات عظمى، وأما ما في الدر المختار من كراهة صوم عاشوراء منفرداً تنزيهاً فلا بد من التأويل فيه أي أنها عبادة مفضولة من القسمين الباقيين، ولا يحكم بكراهة فإنه عليه الصلاة والسلام صام مدة عمره صوم عاشوراء منفرداً وتمنى أن لو بقي إلى المستقبل صام يوماً معه، وكذلك في كلام ملتقى الأبحر حيث قال: إن الترجيع مكروه فإن صاحب البحر قد صرح بأن الترجيع في الأذان ليس بسنة ولا مكروه، وكذلك في عبارة النووي حيث قال: إن نهي عمر وعثمان عن القران والتمتع محمول على الكراهة تنزيهاً فلا مخلص في هذه المذكورات من تأويل أنها عبادات مفضولة.
باب ما جاء في ترك صوم عاشوراء
[753]
قال الطحاوي: إن صوم عاشوراء في بدء الإسلام كان فرضاً ثم نسخ الفرضية وبقي الاستحباب وأثبته بالروايات، وكذلك قال بعض الشافعية كما في منهاج النووي شرح مسلم ص (359) وهذا يفيدنا في مسألة التبييت كما مر آنفاً.
باب ما جاء في صوم يوم عاشوراء أي يوم هو
؟
[754]
حديث الباب صار موهماً للناس إلى ما نسبوا إلى ابن عباس.
قوله: (قال نعم إلخ) أي تمنى هذا الفعل لأنه صام حقيقة. واعلم أن في هذا الباب إشكالاً أورده رجل من هذا العصر وحاصله أن صوم عاشوراء فضله إنما هو لأنه يوم خلَّص موسى عليه الصلاة والسلام من يد فرعون فيه، فالفضل باعتبار الشريعة الموسوية وكان في اليهود حساب شمسياً فكيف انتقل صوم عاشوراء إلى عاشر المحرم من الحساب القمري؟ والجواب أن صوم عاشوراء في
اليهود كان عاشر الشهر الأول، من السنة المسمى بتشرين الأول فوضعه عليه الصلاة والسلام من الشهر الأول من سنتنا وهو عاشر المحرم، وفي المعجم الطبراني: أنه عليه الصلاة والسلام لما دخل المدينة وجد اليهود صاموا عاشوراء، فسأل أي يوم هذا؟ قالوا: عاشوراء خلَّص فيه موسى عليه الصلاة والسلام من يد فرعون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن أحق باتباع موسى عليه الصلاة والسلام، وكان دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في الربيع الأول، ولا يمكن فيه عاشوراء المحرم، فلعله كان اتفق عاشر تشرين الأول بيوم دخوله من الربيع الأول، ثم لعل أمره بالصوم كان في عاشر المحرم، ثم أقول: إن اليهود كان بعضهم كان يصوم عاشر تشرين، وبعضهم عاشر المحرم، فدل على أنهم عالمون الحسابين الشمسي والقمري، وكذلك روايات تدل على علمهم الحساب الشمسي والقمري ويدل عليه القرآن العزيز:«إنما النسيء زيادة في الكفر» إلخ على ما فسر الزمخشري من الكبيسة، ويحولون الحساب القمري إلى الشمسي، وأيام السنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً (354) ، وأيام السنة الشمسية ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً وربع يومٍ (365) فبعد ثلاث سنين، تزيد الشمسية على القمرية بشهر، فكان العرب يقولون بعد التحويل نجعل صفر محرماً بناء على أن الكبيسة تصير ثلاثة عشر شهراً بعد ثلاث سنين، وكان الحرب في المحرم حراماً عليهم، وكذلك في الأربعة الحرم فهذا التحويل هو النسيء لا فرض محرم صفراً بلا قاعدة وضابطة هذا والله أعلم وعلمه أتم.
باب ما جاء في صوم العشر
[756]
أي عشر ذي الحجة ومر بعض الكلام المتعلق بهذا الباب من صدق عشرة أيام.
قوله: (صائماً في العشر قط إلخ) قالوا: إن هذا بيان علم عائشة بأن العشر متفق في نوبة غيرها
من أمهات المؤمنين والأفصح صومه عليه الصلاة والسلام صوم العشر، وقيل: إن في رواية عائشة تصحيفاً والأصل ما رُأيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ما رآه صائماً غيري، أي غير عائشة والله أعلم.
باب ما جاء في العمل في أيام العشر
[757]
تحير الناس في حديث الباب وقالوا بإجراء مسألة الكحل أي الجهاد في هذه الأيام أفضل من الجهاد في غيرها من الأيام، أقول: لا احتياج إلى هذا التكلف بل يستقرأ عمله عليه الصلاة والسلام وعمل السلف وما وجدناه إلا الصوم والتكبيرات، وكان بعض السلف يكبرون أرسالاً غير تكبيرات العيد وبعد الخمس من الصلوات فيقال: إن الفعلين المذكورين أفضل من غيرهما في سائر الأيام ومن الجهاد في سائر الأيام أيضاً.
باب ما جاء من ستة أيام من شوال
[759]
قال أبو يوسف: يستحب ستة أيام متفرقاً ويجوز متوالياً أيضاً.
قوله: (فذلك صيام الدهر إلخ) أي تنزيلاً لضابطة الحسنة بعشر أمثالها فإنه إذا صام رمضان يكون أجر عشرة أشهر وبقي شهران وإذا ضربنا ستة في عشرة حصل ستون يوماً، ولصوم الدهر أنواع عديدة مثل صوم ثلاثة أيام بيض من كل شهر، وضابطة الحسنة بعشرة أمثالها من خصوص الأمة المرحومة أهدي به النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء كما رواه مسلم في صحيحه. قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أعطيت في ليلة الإسراء خواتيم البقرة والحسنة بعشر أمثالها» وصورة أخرى لصوم الدهر تنزيلاً وهو أن يصوم يوماً في أول الشهر ويوماً في وسط الشهر ويوماً في آخر الشهر.
باب ما جاء في صوم ثلاثة أيام من كل شهر
[760]
هذا صوم الدهر تنزيلاً.
قوله: (عهد إلى رسول الله إلخ) مثل عهده عليه الصلاة والسلام هذا عهده إلى أبي الدرداء.
قوله: (وأن أصلي الضحى إلخ) في بعض نسخ النسائي بدل الضحى «الركعتين قبل الفجر» وقال المحدثون: إن ما في النسائي غلط، وعندي لعل نسخة النسائي صحيحة ويراد من قوله:«الضحى» هاهنا الركعتان قبل الفجر والله أعلم.
باب ما جاء في فضل الصوم
[764]
حديث الباب حديث الصحيحين وفي شرحه عشرة أقوال ذكرها الحافظ، قيل: إن الصوم لم يكن في الجاهلية لغير الله بخلاف السجود والحج والصدقات، وقيل: إن الصوم أمر عدمي وباطني لا يمكن الرياء فيه بخلاف غيره من العبادات الظاهرية وقيل: إن الصوم هو الإمساك عن الأكل والشرب وهذا من صفات الله تعالى، ونسب إلى ابن عيينة أنه يقول: إن المراد أن كل عبادة تكون كفارة السيئات إلا الصوم ويفيده بعض الروايات ويضره بعضها، وأما المضر له أخرجه الترمذي ص (64)، ج (2) عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصيام وصلاة زكاة» إلخ فإن في هذا تصريح أن الصوم يؤخذ في الكفارة والحديث قوي فإن سنده سند حديث: «إذا انتصف عن شعبان فلا صوم إلا عن رمضان» إلخ وهذا وإن أعله البعض لكن لا من حيث السند وأقول: من تصدى إلى شرح حديث الباب يجب عليه أن يلاحظ في البخاري من الزيادة على حديث الباب في أبواب التوحيد: «لكل عمل كفارة إلا الصوم؟ فإنه لي وأنا أجزي به» إلخ وهذا لفظ البخاري مختلف فيه بين الرواة والكتب ففي أكثر نسخ البخاري: «لكل عمل كفارة إلا الصوم» إلخ فيكون المراد من العمل عمل السيئة، وفي بعض النسخ وفي مسند أحمد وفي كتاب الأسماء والصفات
للبيهقي: (كل عمل كفارة. . إلخ) فيكون المراد من العمل عمل الخير، وظني أن الترجيح لما في كتاب الأسماء والصفات ومسند أحمد وهو أفصح من حيث العربية، والمختار عندي في شرح الحديث قول ابن عيينة، وأما ما في الترمذي فمراده أن الصوم يؤخذ في حقوق العباد، ومراد حديث الباب أنه يأخذ في حقوق الله تعالى وإن وضع سائر العبادات لتكون كفارة بخلاف الصوم وإن صار بالآخر مكفراً كما تدل روايات منها:«أن المصلي كمن يكون على شط نهر ويغتسل فيه كل يوم خمس مرات، فهل يبقى من درنه شيء؟ إلخ» وفي الوضوء: «من توضأ فخرجت الذنوب من عينيه وتحت أشفاره وأظفاره» .
قوله: (والصوم جنة من النار إلخ) كنت أزعم أنه تكون بشكل الجنة وقاية في يوم القيامة حتى أن رأيت في مسند أحمد: «أن الرجل إذ يوضع في القبر تجئ الصلاة من يمينه، والصدقة من تحت رجله، والقرآن من جانب رأسه، والصوم من جانب يساره» فعلمت أن مراد حديث الباب هو ما في مسند أحمد.
قوله: (وإن جهل الخ) الجهل قد يكون مقابل الحلم أيضاً كما قال الشاعر الحماسي:
~ ألا لا يجهلن أحد علينا
…
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وكذلك قال في الحماسة:
~ وبعض الحلم عند الجهو
…
ل للذلة إذعان
قوله: (فليقل إلخ) أي في نفسه أو باللسان.
باب ما جاء في صوم الدهر
[767]
قال الحجازيون: إن صوم الدهر وصوم داود متساويان، وفي كتب الحنفية أن صوم الدهر مكروه تنزيهاً، أقول: إن صوم داود أفضل من صوم الدهر، والكلام في هذا الموضع في الدهر التحقيقي لا التنزيلي، وقال مصنف الفتاوى الهندية: إن صوم الدهر وصوم الوصال واحد، هذا غلط فإن صوم الدهر الصوم كل السنة إلا خمسة أيام والإفطار على كل غروب على الصوم المعروف، وأما صوم الوصال فلا يكون الإفطار فيه ويصدق على صوم يومين بدون فصل الإفطار أيضاً، وباب الحظر والإباحة من تلك الفتاوى مملوءة من الروايات الضعيفة فإن مأخذه كتاب مطالب المؤمنين للمولوي بدر الدين اللاهوري وهو رجل غير معتمد عليه، ثم الوصال على قسمين وصال إلى السحر ووصال اليومين، والثاني منهي عنه فإنه ورد به النهي وعذره عليه الصلاة والسلام عن وصاله، وأما الوصال إلى السحر فقال ابن تيمية باستحبابه، وأقول: لا بد من الجواز من جانب الأحناف فإنهم لم يتعرضوا إلى الوصال إلى السحر وقد صح ثبوته في حديث الصحيحين: «لا تواصلوا وأيكم واصل يواصل إلى السحر» إلخ.
قوله: (لا صام ولا أفطر إلخ) عدم إفطاره ظاهر والكلام في عدم صومه ولا يمكن التمسك بحديث الباب على كراهة صوم الدهر فإن الأحاديث صريحة في جواز صوم الدهر بلا كراهة، وقال قائل: لا صام أي كأنه لم يصم لأنه بمنزلة من اعتاد أكل الطعام في وقت واحد، وقيل: إن أول الحديث أي كيف بمن صام الدهر؟ إلخ عام أي الصوم مع صوم الأيام الخمسة أيضاً ولكنه غير صحيح فإن صوم الأيام المنهية عنه خارج عن حديث الباب ومكروه تحريماً، وفي فتح الباري حديث قوي ورواه ابن خزيمة:«من صام الدهر ضيقت عليه جهنم» هكذا قال الراوي: إنه عليه الصلاة والسلام
أشار بيده وقبض أصابعه كالجمع، قال قائل: إن هذا الحديث يدل على كراهة صوم الدهر، أقول: إن هذا القول باطل فإنا لو سلمنا بالفرض أن صوم الدهر مكروه فلا يرد هذا الوعيد عليه فإن شأن هذا الوعيد شأن أكبر الكبائر، وقال قائل: إن المراد أن جهنم ضيقت عنه وتبعد عنه ولا تقربه، وقالوا: إن «على» بمعنى «عن» أقول: إن مراد الحديث بيان فضل صوم الدهر قطعاً، ولا احتياج إلى ما ارتكبوا من المجاز في على بل تبقى على على حالها، ويدل الحديث على الوعد العظيم ولا يمكن إدراكه إلا لمن له حذاقة بالعربية، ويؤيد قول القائل الثاني ما في الحديث:«أن المؤمن إذا يمر على جهنم فتصيح جهنم أن أسرع فإنك أطفأت ناري» إلخ ثم لأحد أن يقول: إن في حديث فتح الباري ومسند أحمد لا يجب أن يكون هو صوم الدهر التحقيقي بل لعله صوم داودي أو صوم الدهر التنزيلي والله أعلم. ثم أقول: إن صوم داود أفضل من صوم الدهر ووعده أعظم، ثم حديث الباب «لا صام ولا أفطر» يمكن في ظاهر الصورة أن يقال: إن مراد لا صام أنه لا يمكن له التعهد على صوم الدهر ولا يداوم عليه فكأنه لا صام، وفي الحديث:«أحب الأعمال أدومها» وأما عدم التعهد على صوم الدهر فيدل عليه فعل عبد الله بن عمرو بن العاص فإنه ندم على عدم اختياره رخصته، ونظير ما قلت في بيان ظاهر الصورة ما في بعض أحاديث جوامع الكلم:«إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ـ أي اعمل بالرخص ـ أيضاً فإن المنبتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى» ، إلخ فمضمون هذا وتركيبه مثل حديث الباب، وقال قائل: إن في فضل صوم الدهر أحاديث كثيرة فإن إحالته الأيام البيض وستة شوال على صوم الدهر يدل على فضل صوم الدهر وأنه عبادة عظيمة، وأما سرد الصوم فهو الصوم متوالياً مع الفطر على حينه أي على كل مغرب لا يجب فيه إكمال السنة كلها، فسرد الصوم أعم من صوم الدهر.
باب ما جاء في كراهية صوم يوم النحر ويوم الفطر
[771]
صيام الأيام الخمسة مكروه تحريماً عندنا، والمكروه تحريماً قريب من الحرام أو حرام كما قال محمد، وقال الحجازيون: إن صوم الخمسة حرام ثم إن شرع فيه وأفسده بلا نذر فلا شيء عليه من القضاء، ولو أتمه صح شروعه مع ارتكابه المكروه تحريماً، وأما في الثواب فقولان كما مر، وفي
رواية عن زفر من شرع في الصلوات في الأوقات المكروهة ثم أفسدها لا قضاء عليه واختارها ابن همام في تحرير الأصول، ولو نذر الصوم في لعلها هذه الأيام صح نذره ويصوم في الأيام الأُخر، وأما انعقاد النذر فيجب التلفظ باللسان ولفظ لله عليّ أو كلمة الشرط والجزاء وفي جزيته عن السرخسي ما يدل على أن لفظ عليّ فقط أيضاً قائم مقام لله عليّ، وفي رواية عن أبي يوسف أن من نذر أن يصوم صوم يوم الاثنين مثلاً فاتفق في ذلك اليوم العيد صح نذره ويصوم يوماً آخر ولو نذر صوم يوم العيد بالتعيين فنذره باطل، وفي الصورة الأولى لو صام فبر وعصى وكنت متردداً في وجه الفرق بين شروع الصلاة في الأوقات المكروهة فإنها يجب قضاؤها إلا في رواية عن أبي يوسف وبين شروع الصوم في الأيام الخمسة المكروهة فإنه لا قضاء فيه إن لم ينذر وقال البعض: إن في الصوم إذا أمسك ساعة فبعدها تكون الأجزاء متكررة بخلاف الصلاة فإنه ما لم يركع ركعة واحدة لا يقال له إنه مصل فإذا صلى ركعة واحدة فقد أدى قدراً معتداً به فلا ينبغي إلغاؤه، ولم يكن هذا شافياً حتى رأيت في البدائع عن أبي بكر العياضي وجهين:
أحدهما: أن عدم جواز الصوم في الأيام الخمسة متفق عليه لا يشذ عنهم شاذ وأما جواز الصلاة في الأوقات المكروهة فمختلف فيه فإن الشافعي يجوزها فيها إذا كانت ذات سبب.
وثانيهما: أن المصلي إذا شرع في الصلاة وكبر فصارت تحريمته بمنزلة النذر بخلاف الصوم فإنه إذا شرع فلم يتلفظ بشيء فلم يكن الشروع بمنزلة النذر، وفي النذر حقيقة يلزمان أي الصوم والصلاة ويجب الإفساد والقضاء، وهاهنا بحث طويل للحافظ ابن تيمية رحمه الله وأطنب إطناباً، وحاصله أن نهي الشارع عن أمر يقتضي بطلان ذلك الأمر، ولا يمكن اجتماع صحة أمر مع ورود النهي عنه لا عقلاً ولا شرعاً، وأما في كتب أصولنا، ففي كتب الأحناف والشافعية عبارات، منها ما في كتبنا: أن النهي لا ينافي الصحة إلا لداع، وفي عبارة للشافعية: أن النهي يقتضي البطلان إلا لمانع، ثم في عبارة لنا: أن الأفعال على قسمين حسيّة مثل الزنا وشرعية مثل الصلاة وغيرها، والنهي الوارد في الحسيّة يدل على البطلان، والنهي الوارد على الشرعية لا ينافي الصحة، والوجوه لهذا عديدة وأحسنها أن في الحسية يكون النهي وارداً على جميع الجزئيات ومنسحبةً عليها، وأما في الشرعية فلا يكون منسحباً على جميع الجزئيات بل تكون بعضها خارجة عنه وتكون مشروعة مثل الصلاة والصوم فإنهما مكروهان في الأوقات والأيام المكروهة لا في غيرها فلا يقتضي البطلان، فدار النهي على نظر المجتهد وأما ما في بعض الكتب أن النهي يقرر المشروعية فمشكل، والصواب أن يقال: إن النهي لا ينافي الصحة، وفي عبارة للشافعية: أن النهي الوارد على العبادات يقتضي البطلان والوارد على المعاملات لا يقتضي البطلان فإن في المعاملات طرفين دنيوياً وأخرويّاً وأما في العبادات فليس الاطراف الآخرة فإذا انتفى الثواب لم يبق شيء، واختاره ابن همام في التحرير وقال: إن العبادات
متمحضة للثواب، ويتوهم على مختار الشافعية وابن همام ارتفاع باب مكروهات الصلاة التحريمة، ولم يتوجه الشيخ إلى دفع هذا الاعتراض في التحرير والفتح ولا شارح التحرير المحقق ابن أمير الحاج، ثم بدا لي أن هذا الباب ليس بمرتفع، فإن الكراهة إذا انسحبت على تمام الصلاة مثل كونها في الوقت المكروه فتكون باطلة، وإذا كانت الكراهة في بعض أجزاء الصلاة التي حقيقة مركبة ممتدة لا تكون الصلاة باطلة، ثم في عبارة لنا أن علة النهي قبح الشيء، والقبح إما لعينه أو لغيره والغير إما لازم أو مجاور، وإذا كان العلة قبيحة لعينه فالنهي يدل على البطلان، وإن كان القبح لغيره فإن كان الغير لازماً فتعرض الشيخ ابن همام إلى الحرمة وعدمها ولم يتعرض إلى البطلان وعدمه وإن كان الغير مجاوراً مثل البيع عند السعي إلى الجمعة فلا يقتضي البطلان وقال الشيخ ابن همام في التحرير: إن النهي إن كان للغير المجاور لا يكون المنهي إلا مكروهاً تحريماً ولا يثبت به الحرمة وإن كان الدليل قطعياً ثبوته ولي في هذا نظر فإن صاحب الهداية قال في موضع؛ أي في الأذان: إن البيع عند أذان الجمعة حرام، وقال في البيع: إنه مكروه تحريماً، وقد اتفقوا على أن النهي لأمر مجاور وأيضاً في مختصر القدوري: أن الرجل الصحيح إن صلى الظهر في بيته ولم يسع إلى الجمعة أصلاً فإنها مكروهة، وقال الشيخ ابن همام إنها حرام ولكنها صحيحة وكذلك في بعض أنه إذا خالع الرجل وكان النشوز من جانبه فأخذ المال من زوجته ارتكب الحرام مع صحة الخلع والله أعلم وجهه ثم قال ابن تيمية في موضع: إن الشارع يرفع المعاصي بالنهي ويوفرها الذين قالوا بالصحة مع النهي، أقول: إن الأحناف لم يوفر المعاصي فإنهم حكموا بالكراهة تحريماً، والمكروه تحريماً حرام لما قال محمد رحمه الله وقال ابن تيمية، إنا عرفنا بالاستقراء أن النهي الوارد على كل من التصرفات أعم من أن تكون بعض جزئياتها مشروعة أو لا
يقتضي البطلان ولا يترتب الحكم عليها، ويرد عليه الصلاة في الأرض المغصوبة وهي صحيحة مع الكراهة عند الثلاثة، وباطلة عند أحمد، وقال ابن تيمية: إن النهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة إنما هو لتعلق حق الغير بها والصلاة فيها صحيحة، وكذلك قال في تلقي الجلب: إن النهي من جانب الناس وتعلقهم ولو تلقى أحد الجلب صح بيعه، وقال ابن تيمية ببطلان البيع عند الأذان خلاف الأحناف والشافعية، ثم قال: إن السلف كانوا يحكمون ببطلان شيء متمسِّكين بلفظ النهي مطرداً، ويرد عليه أن ابن عمر طلق امرأته حال الطمث والطلاق صار معتبراً، والحال أن الطلاق في حالة الطمث منهي عنه، وقال ابن تيمية: إن طلاقه باطل وقال في شرح (أرأيت إن عجز واستحمق) إلخ: أتتغير أحكام الشريعة وإن عجز واستحمق بل لا يقع الطلاق، وقال الجمهور في شرحه (أرأيت إن عجز واستحمق) إلخ: أي تتعطل أحكام الشريعة وإن عجز واستحمق، أي يقع الطلاق ولا يندفع، أقول: كيف يقول ابن تيمية بأن طلاقه غير معتبر والحال أنه عليه الصلاة والسلام
أمره برجوعه وفي المسلم تصريح أنها عدت عليه تطليقة واحدة وأغمض عنه ابن تيمية وكذلك يرد على الحافظ ابن تيمية ما في مسلم ص (477) عن أبي الصهباء قال: قال ابن عباس: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، قال: فقال عمر بن الخطاب رحمه الله: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلم لو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم إلخ، ومذهب أبي حينفة وأحمد أن جمع ثلاث طلقات في وقت واحد بدعة، وقال الشافعي: إن البدعة جمعها في الحيض ولا بدعة في الطهر، ولنا ما في القرآن:{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] أي مرة بعد مرة لا جمعهما، وجمهور السلف أيضاً معنا أي مع أبي حنيفة وأحمد بن حنبل، ومع كون الطلاق ثلاثاً في الطمث بدعة تقع الثلاث عند الأربعة والبخاري، وخالف داود الظاهري، وقال: إن الثلاث تقع واحدة فورد على مختار ابن تيمية حديث المسلم هذا وحديث ابن عمر السابق، فترك ابن تيمية في الطلاق ثلاثاً مذهب إمامه أحمد، واختار مذهب داود، وقال الجمهور في حديث المسلم: إنه ليس المراد أن في عهده كانت ثلاث طلقات ملفوظات تعد واحدة بل المراد أنهم كانوا يكتفون على التطليقة الواحدة منزلة ثلاث طلقات، وكانوا لا يطلقون طلاق البدعة ثم أخذوا في عهد عمر في طلاق البدعة فأمضاها عمر، وشرح الجمهور الحديث لطيف بلا ريب، وقال ابن تيمية: إن شرح الجمهور تأويل، وقال ابن قيم: لما بلغ التأويل إلى هذه المرتبة فصار تحريفاً ولم تبق تأويلاً، أقول: إن في القرآن نظير حديث مسلم في المحاورة: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [ص: 5] إلخ وليس المراد ثمة دمج الآلهة في إله واحد، بل الاكتفاء على إله واحد بدل آلهة، وله نظير من الحديث كما سيأتي في الترمذي:(ومن جعل همومه كلها هماً واحداً هم آخرته كفاه الله هم الدنيا) إلخ
فليس المراد دمج الهموم في هم واحدٍ بل أخذُ همٍّ واحد بدل الهموم كلها والاكتفاء على هم واحد، فالحاصل أن الفاروق أجرى الحكم على ثلاث طلْقَات منهيَّة عنها، وقال ابن تيمية: إن حكمه هذا إنما هو تعزيز، أقول: لم أجد مثال هذا التعزير الذي يغلظ إيضاع الناس عليهم، ويرد على ابن تيمية ما في الترمذي عن عمران بن حصين:«لا نذر في معصية، وكفارته كفارة اليمين» إلخ، فنهى الشارع عن نذر معصية ثم حكم بكفارته وبنى عليه الأحكام وتكلموا في سنده منهم النسائي، أقول: قد أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار بسند قوي ونقله علاء الدين المارديني، والمسألة عندنا أنه
لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين، ويحنث من حلف، وأما النذر بمعصية فلا يوفيه عندنا، قيل: إن هذا الرجل كافر ويرد على الحافظ ابن تيمية ما في القرآن أن الظهار منكر وقول زور إلخ، ويتفرع عليه الحرمة والكفارة لو عاد إلى ما قال فبنى القرآن الحكم على الظهارّ مع ورود النهي عنه، وأجاب ابن تيمية بأن الكفارة والحرمة ليس من قبيل التسبيب بل من قبيل الزواجر أي من قبيل تسبب الرجم عن الزنا، أقول: إنه في غاية الخفاء فإن المؤثر في حرمة المسيس قول المظاهر لا الزجر فإن في الهداية: إن الظهار كان طلاقاً في الجاهلية فقرر الشارع أصله وحكمه مؤقتاً إلى مزيل من الكفارة. . إلخ وكذلك وجدت في بعض عبارات الشافعي في الأم فدل على أن الحرمة من الظهار لا من قبيل الزواجر، وأما دعواه بأن السلف كانوا إذا تمسكوا على بطلان شيء يتمسكون بصيغة النهي، أقول: إن هذا ليس بمطرد بل ربما يتمسكون بصيغة النهي ومع ذلك يقولون بصحة الشيء فلا تقتضي صيغة النهي البطلان، فإن في الشريعة أن نكاح الشغار غير جائز ومع ذلك لو نكحوا النكاح الشغار ثم رفعوا علة القبح أي نفي المهر فقد صح النكاح، ثم نقول إن اجتماع النهي عن شيء مع صحته معقول لغة وعقلاً، فإنا إذا قلنا فرضاً أن يقول الشارع: لا تصم يوم النحر ولو صمت لعصيت وصح صومك، فإن هذا القول معقول بلا ريب، فالحاصل أنه ليس في المنهي الإثم إذا كان المنهي نهي الكراهة تحريماً أو نهي الحرمة لا نهي إرشاد فلم يثبت إلا أن النهي لا يقتضي البطلان إلا لداعٍ، وأما الأفعال الحسّية ففيها داعٍ، وينبغي إجراء هذه الضابطة في كثير من المسائل، فإنها أنفع في مواضع، وليتدبر فإن المقام دقيق.
باب جاء في كراهية صوم أيام التشريق
[773]
حكم صيام أيام التشريق حكم صوم العيدين، وقال مالك وأحمد والشافعي: يجوز الصوم أيام التشريق للمتمتع والقارن الذي لا يجد الهدي وليس لهم إلا فتوى عائشة في البخاري، وبوب
الطحاوي على هذه المسألة وقال: إنه عليه الصلاة والسلام نادى يوم حجة الوداع في منى: «أن لا يصومَ أحد أيام التشريق، فإذا كان نداءه عليه الصلاة والسلام في أيام الحج في منى فمن يدعي جواز الصيام أيام التشريق فلا مناص له من أن يأتي بدليل خاص نص له أو استثناءه عليه الصلاة والسلام في نداءه، وإلا فلا وجه لتخصيص هذه الأيام.
باب ما جاء في كراهية الحجامة للصائم
[774]
وقال أحمد وبعض السلف: إن الحجامة مفطر الصوم خلاف الأئمة الثلاثة، وتمسك أحمد بن حنبل بحديث الباب:(أفطر الحاجم والمحجوم) وقال البعض: إن كل طريق من طرق هذا الحديث لا يخلوا عن اضطراب شيء، وقال البعض: إنه متواتر لأنه مروي عن قريب من اثنين وعشرين صحابياً ذكرهم السيوطي في الجامع الكبير ولكنه لم ينقد الأسانيد، وقال أحمد بن حنبل: صح الحديثان في هذه المسألة وكذلك قال ابن المديني، وذكر أرباب كتب النقل: أن رجلاً سأل ابن معين عن حديث «أفطر الحاجم والمحجوم» فقال يحيى بن معين: ما من شيء خال عن الاضطراب، فذهب الرجل عند أحمد فذكر عنده قول ابن معين، قال أحمد: إنه مجازفة، وقال الحنابلة: ما من جواب عند الجمهور وتأول المحشون بأن في الحاجم توهم دخول الدم في حلقه، وأما المحجوم فله خطره الضعف فهما على إشفاء الإفطار وإن لم يفطرا حقيقة، وأجاب الطحاوي بأنه عليه الصلاة والسلام لم يذكر التشريع في قوله هذا بل هذا ورد في واقعة، وهي: أنه عليه الصلاة والسلام مر برجلين حاجم ومحجوم يغتابان رجلاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفطر الحاجم والمحجوم» ، فمناط الإفطار الغيبة لا الحجامة،
إلا أن رواية الطحاوي ضعيفة لا يمكن الاحتجاج بها، وعندي حديث الباب معناه أنه قد أفطر أي أدخل النقص في صومه، وإنما يظهر في أحكام الآخرة لا أحكام الدنيا مثل الغيبة، ومن المعلوم أن الشريعة ربما تتعرض إلى أحكام الآخرة وتنبئ عما هو غائب عن أعيننا مثل قطع الصلاة بالكلب والحمار والمرأة أي قطع الوصلة بين الرب وعبده، والصلاة ليست بباطلة في أحكام الدنيا، وادعى البعض نسخ إفطار الصوم بالحجامة لحديث أخرجه النسائي وأعله بعض الحفاظ، وقالوا: إنه موقوف، وفي أبي داود ص (330) حديث قوي يقول الراوي: إن كراهة الحجامة إبقاءاً على أصحابه، وفيه قال أنس بن مالك: ما كنا ندع الحجامة للصائم إلا كراهة الجهد انتهى، وصنف ابن تيمية كتاباً في القياس وموضوعه توفيق المسائل النقلية بالعقل، ومر على مسألة الباب وقال: إن الصوم ينبغي أن يكون على حالة اعتدال وفي الحجامة ليس حالة الاعتدال وإن لم يخرج شيء من المني بالجماع ولم يدخل في بطنه من المفطرات، وقال: كذلك الحائض والنفساء لا تكون على حالة الاعتدال، وأقول: ليس المدار على ما قال ابن تيمية بل المدار على أن الأنسب لحالة الصوم الطهارة، وكان في حينٍ ما عدمُ جواز صوم الجنب ثم نسخ كما في البخاري، وفي الحيض والنفاس والحجامة أيضاً نجاسة.
باب ما جاء من الرخصة في ذلك
[775]
حديث الباب، ومن مستدلاتنا ما روي مرسلاً عن عبد الله بن زيد بن أسلم في باب الصائم يذرعه القيء.
قوله: (صائم محرم إلخ) أجاب الحنابلة عن حديث الباب بوجهين:
الأول: بأنه لم يثبت إحرامه في رمضان، فإن جميع العمرات له كان إحرامها وأفعالها في ذي القعدة إلا عمرة مع الحجة، فإن أفعالها كانت في ذي الحجة فلا يكون الصوم إلا صوم النفل وإفطاره جائز بلا ريب، ولا قضاء عند الحنابلة كما في كتبهم بخلاف ما في كتاب أحمد بن حنبل كتاب الصلاة.
وأما الوجه الثاني لجوابهم: فبأن ابن تيمية وابن قيم يقولان: إن ألفاظ الحديث أربعة:
1 ـ (احتجم وهو صائم) .
2 ـ (احتجم وهو محرم) .
3 ـ (احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم) .
4 ـ (واحتجم وهو محرم وهو صائم) كما في حديث الباب، والثلاثة الأول صحيحة غيرُ مضرَّةٍ لنا، وأما الرابع فمضر لنا وجوابه مر سابقاً بلا ريب، أقول: إنا نرجع إلى آثار السلف فأكثر السلف موافقون لنا، ولنا ما في النسائي أيضاً الرخصة في الحجامة للصائم مرفوعاً أو موقوفاً، وذلك دال على النسخ، وأما ما قال الترمذي في الباب السابق: لا أعلم أحداً من المحدثين إلخ، فأقول: قد صحح المحدثون حديث الإفطار بالصوم وعدمه وأما رواية ابن عباس في باب الرخصة في الحجامة ففي بعض طرقها يزيد بن أبي زياد وهو موصوف بسوء الحفظ.
باب كراهية الوصال في الصوم
[778]
مواصلة الصوم إلى يومين أو أكثر فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، وبيَّن عذره بأن «ربي يطعمني ويسقيني» وهذا من خصوصيته عليه الصلاة والسلام، وأما الوصال إلى السحر فجائز للأمة لحديث الصحيحين، وقال ابن تيمية باستحبابه.
قوله: (إن ربي يسقيني إلخ) وأما طريق الإسقاء والإطعام من الرب تبارك وتعالى فمحمول إلى صاحب الشريعة والرب عز برهانه.
قوله: (وروي عن عبد الله إلخ) كان عبد الله بن الزبير يواصل إلى سبعة أيام أيضاً وكذلك ثبت مواصلة عمر أيضاً إلى يومين أو ثلاثة أيام، ولعلهما زعما لنهي الحديث محملاً مثل حمله على نهي الإرشاد.
باب في الجنب يدركه الفجر وهو يريد الصيام
[779]
الجنابة لا تنافي الصوم عند الأئمة الأربعة إلا أبا هريرة، وهو أيضاً رجع عنه بعد مدة، وكنت رأيت في بعض كتبنا كراهة الصبح جنباً ثم نسيته ثم خطر ببالي أن صبحه عليه الصلاة والسلام وهو جنب ثابت فكيف يحكم بالكراهة؟ فتتبعت فوجدت في حاشية ما لا بد منه نقلاً عن جامع الفتاوى: إن الرجل يكره له أن يصبح وهو جنب، وعندي لا بد من التأويل في قول جامع الفتاوى، وأما عامة كتبنا ففيها أنه لا مضائقة في أن يصبح وهو جنب، واحتج محمد بن حسن في موطأه على جواز الغسل بعد الصبح بآية {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} [البقرة: 187] الآية فإنه لا بد من أن يكون الغسل بعد تبين الصبح وهذا تمسك بإشارة النص.
باب ما جاء في إجابة الصائم الدعوة
[780]
أي يجيب الداعي ثم إن رأى أن المستدعي لا يجد عليه فيجوز له الإمساك، وإلا فيفطر فإن الضيافة عذر.
قوله: (فليصل يعني الدعاء إلخ) قال أتباع المذاهب الأربعة: أن الصلاة على غير الأنبياء أصالة مكروهة، وأما ما في بعض الأحاديث مثل حديث الصحيحين من إطلاقها على غير الأنبياء فسيأتي جوابه في البخاري إن شاء الله تعالى.
باب ما جاء في تأخير قضاء رمضان
[783]
لو أخر قضاء رمضان إلى أن دخل رمضان الثاني فليس عليه عندنا إلا القضاء، وقال الشافعي: إنه مفرط إذا أخره إلى رمضان الثاني، ثم عن الشافعي روايتان؛ في رواية أنه يقضي ويفدي، وفي رواية أنه يقضي فقط، وأما القضاء ففي قول لنا أن قضاء كل شيء يجب في الفور وهو قول الحلواني، ويشير إلى هذا ما في الدر المختار ص (99) .
قوله: (إسماعيل السدي إلخ) هذا راوي ما يفيدنا في القراءة خلف الإمام في معاني الآثار ص (129) ، وما تمسك به وإن حسنه الترمذي وصححه في هذا الموضع فإنهم متكلم فيه، وكذلك لنا رواية مرفوعة مفيدة لنا في مسألة القراءة خلف الإمام في الطحاوي ص (129) ، وفي سندها يحيى بن سلام وهو متكلم فيه فلذا لم أتمسك بها هناك.
باب ما جاء في فضل الصائم إذا أكل عنده
[787]
في حديث الباب أيضاً الصلاة على غير الأنبياء.
قوله: (عن جدته أم عمارة إلخ) لم يوجد في كتب الرجال والأنساب تلاقي نسب حبيب بأم عمارة فلا أعلم كيف قال الترمذي هذا القول؟ وكذلك في الطحاوي ص (19) :، ج (1) . عبد الله بن زيد جد حبيب إلخ ولم يوجد تعلق عبد الله بن زيد بحبيب بن زيد الأنصاري في الأنساب وكتب الرجال، والله أعلم وعلمه أتم.
باب ما جاء في كراهية الاستنشاق للصائم
[788]
مخافة بلوغ الماء الدماغ، ومفسد الصوم عندنا ما يبلغ الدماغ أو الجوف.
واعلم أن دخول الدخان ليس بمفسد وأما إدخاله فمفسد، وكذلك شرب الدخان (تمباكونوشي)، مفسد ويوجب الكفارة كما في نظم وهبانية:
~ وأفتوا بتحريم الدخان وشربه
…
وشاربه لا شك في الصوم يفطر
~ ويلزمه التكفير لو ظن نافعاً
…
كذا دافعاً شهوات بطن فقرروا
والتجمير بالعود مفسد ويلزم الكفارة، وأما شم الرائحة فليس بمفسد.
باب ما جاء في الاعتكاف
[790]
الاعتكاف على ثلاثة أقسام؛ الواجب: وهو اعتكاف النذر، ويجب في النذر التلفظ باللسان ويجب قضاؤه بالإفساد.
والثاني: سنة مؤكدة على كفاية فلو أداها واحد من أهل مسجد فتأدت وإلا فأثم الكل، وهذا اعتكاف العشرة الأخيرة من رمضان، ولو لم يتم عشره بل نقصه من البين ما أتى بالسنة، ولكنه أحرز ثواب ما اعتكف.
والثاني: النافلة وهو غير هذين القسمين، وفيه اختلاف، قال الشيخ ابن همام: أن يشترط له الصوم، ثم يتأدى هذا النوع بمكث ساعة أيضاً، ولكنه يلزمه إتمام صوم ذلك اليوم إلى غروب ذكاء وتمسك الشيخ بعبارات عامة، وقال صاحب البحر: لا يشترط الصوم في هذا النوع، وأتى بعبارة صريحة عن محمد بن حسن فالترجيح لصاحب البحر، وأما ما في كتاب الدارقطني من أنه لا اعتكاف إلا بالصوم فمخصوص بغير النافلة، فإن عدم اشتراط الصوم في النافلة مؤيد بالوجوه الفقهية.
قوله: (صلى الفجر ثم دخل إلخ) أي: في معتكفه المتخذ من الحصير أو غيره، وأما دخوله المسجد كما في الروايات فكان قبيل غروب شمس العشرين من رمضان، والمعتكف لو أراد إتمام العشر الأواخر فعليه أن يدخل متصلاً بغروب شمس العشرين في المسجد، وإلا فلا يتم العشر فإن الليالي الماضية تلحق بالأيام التالية بعدها.
باب ما جاء في ليلة القدر
[792]
واعلم أن في ليلة القدر أقوالاً، والجمهور إلى أنها في رمضان، ثم قيل: دائرة، وقيل: متعينة ثم أرجاها العشر الأواخر، وأرجاها الأوتار، وأرجاها الحادية والعشرون، أو الثالثة والعشرون، أو الخامسة والعشرون، أو السابعة والعشرون، وأرجاها السابعة والعشرون، وفي رواية مشهورة عن أبي حنيفة أنّها دائرة في السنة كلها، وله حديث أخرجه الطحاوي ص (53)، ج (2) قال ابن مسعود:«من قام السنة كلها وجد ليلة القدر إلخ» ، وفي رواية غير مشهورة عن أبي حنيفة، وقول صاحبيه: إنها في رمضان كما في فتاوي قاضي خان، ثم قيل: دائرة، وقيل: متعينة، وقال الشيخ عمر النسفي في منظومته:
~ وليلة القدر بكل الشهر
…
دائرة وعيناها فادر
ويؤيد هذا القول ما في معاني الآثار ص (49)، ج (2) عن ابن مسعود قال: هي في كل رمضان إلخ، وقال الطحاوي: يحتمل أن يكون مراده في كل رمضان إلى يوم القيامة إلخ، وعلى الأول تكون رمضان غير منصرف والكل للإجزاء، وعلى الثاني يكون رمضان منصرفاً فإنه إذا نكر صُرِفَ ويكون الكل للإفراد، وقال الشيخ الأكبر: إني رأيتها في خارج رمضان مراراً كما قال أبو حنيفة، وفي الصحيحين وغيرهما:«أنه عليه الصلاة والسلام أتى المسجد ليعين ليلة القدر للناس فرأى رجلين يتنازعان فرفع علمه بسبب نزاعهما» ، وأقول: لا يدل الروايات على أن الذي رفع كان علم رمضان الذي خرج فيه عليه الصلاة والسلام، أو علم كل رمضان إلى يوم القيامة.
قوله: (يجاور إلخ) واعلم أن من لغة المدينة المجاورة بمعنى الاعتكاف، والبيع بمعنى الإجارة،
والمعاملة بمعنى المساقاة، والمخابرة بمعنى المزارعة، وفي رواية في فتح الباري: «ليلة القدر رُفِعَتْ، أقول: مرادها أن علمها اليقيني مرفوع لا الليلة نفسها.
قوله: (بعلامتها إلخ) مذكورة في الحديث اللاحق لكن معرفة قلة أشعة الشمس لا يمكن لكل أحد، وروى السيد نعمان الدين الآلوسي في مواعظه العربية رواية ضعفها وهي: أن من علامة ليلة القدر أن يعذب ويحلوا الماء المالح، وأن تسجد الشجرات.
قوله: (تسع يبقين إلخ) لو كان الشهر تسعة وعشرين يوماً فلا إشكال فإن المذكورات في حديث الباب تكون أوتاراً، فإن تسعاً يبقين ليلة الحادية والعشرين، وسبع يبقين ليلة ثالثة وعشرين وهكذا، وأما لو كان الشهر ثلاثين يوماً فيلزم طلب ليلة القدر في الأشفاع منتخبة، ولا يقول بانتخاب الأشفاع أحَدٌ فذكروا معاذير، قيل: يمكن أن يقال: إن المذكور في حديث الباب حكم شهر تسعة وعشرين، وأقول له: إن النكتة أن أكثر رمضان في عهده عليه الصلاة والسلام كان تسعة وعشرين يوماً. وقيل: يؤخذ الشهر تسعة وعشرين، وإن كان ثلاثين فإن كونه ثلاثين غير معلوم فيؤخذ بالجزم، وأقول: في لفظ حديث الباب، أنه يؤخذ من تسع يبقين جميع الليالي مما بعد تسع بقت أشفاعاً وأوتاراً وكذلك يؤخذ في سبع يبقين جميع الليالي أشفاعاً وأوتاراً بعدها، وهكذا فإن مطمح نظر الشريعة أن يقيموا عشرة رمضان الآخرة أو تسع ليال أو سبع ليالي أو خمس ليالي؛ وهكذا، وأيضاً لفظ «يبقين» جمع المؤنثات الغائبات لا المفردة الواحدة، ولكن في بعض الألفاظ «تاسعة تبقى» و «سابعة تبقى» وهكذا.
[798]
المشهور أن هذه الآية كانت في حق رمضان ثم نسخت، وتمسكوا بحديث الباب وهو حديث الصحيحين ولكنه أثر سلمة بن أكوع، وقال بعض المفسرين: إن الآية محكمة، ويقولون بتقدير «لا» أي «لا يطيقونه» إلخ، ولكني لا أقبل تقدير «لا» فإن مثل هذا التقدير لا أصل له ولا ضابطة، وضابطة تقديرها أن يكون مثبتاً ولم تكن فيه طلائع جواب القسم من التأكيد وغيره كما قالوا في:
لله يبقى على الأيام ذو حيد
أي لا يبقى، وعندي لا احتياج إلى تقدير «لا» في هذا بل يذكر المثبت أي سياق القسم ويراد به المنفي بصورة الإنكار، وأما منشأ ما قال أوساط المفسرين من تقدير «لا» فهو قول بعض المفسرين: إن في الطاقة مشقة وكلفة ما يطيقه معتبرة، يعني: لا يطلق لفظ الطاقة إلا فيما يكون شاقاً فيكون مراد الآية: أن الفدية على من يطيق الصوم لكنه بمشقة وحمل كلفة فما أدركوا كلام ذلك البعض، وقالوا بتقدير «لا» في الآية، وأما المفسرون الذين يُعتمد عليهم فيقولون: إن الآية على ظاهرها وإنما هي واردة في حق صوم البيض وعاشوراء وكان فيه خيرة بين الفدية والصوم لمن يقدر أيضاً على الصوم ثم نسخ فرضية هذا الصوم وفرض رمضان، وأقول: إن حق المراد هو هذا، أي هذه الآية كانت في البيض وعاشوراء لا في رمضان، وأيضاً لوقلنا: إنها في رمضان يلزم التكرار في الآية وأشكل التكرار على أهل المقالة الأولى، وأيضاً ألفاظ القرآن تشير إلى ما قلت فإن الأيام المعدودات المذكورة في الآية تصدق على الأيام البيض فإن المعدودات تكون بمعنى البضع، ولأن أياماً جمع قلة وغير معرَّف باللام فلا يصدق على صوم الشهر، وأما حال رمضان في القرآن ففي آية:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] إلخ، ويفيد حديث أبي داود ص (83) عن معاذ أهل المقالة الثانية، فإن فيه تصريح أن {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَه} [البقرة: 184
] إلخ في الأيام البيض بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ويصوم صوم عاشوراء فأنزل الله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] إلخ، ثم أقول: إن حديث سلمة ومعاذ موقوف، ومعاذ أعلم من سلمة فيكون الترجيح له على سلمة بن أكوع، وإن قيل: إن حديث سلمة حديث الصحيحين وحديث معاذ حديث السنن، قلت: لا ينبغي الجمود على هذا بعد صحة
الحديثين، وأقول أيضاً: إن حديث معاذ أخرجه البخاري أيضاً في كتاب الصيام إلا أن البخاري اختصر في المتن أشد الاختصار وما في أبي داود مفصل.
(ف) واعلم أن نسخ آيات القرآن ففي عرف المتقدمين كان لفظ النسخ يطلق على تخصيص العام وتقييد المطلق وتأويل الظاهر، وأما المتأخرون فقصروا للنسخ على ما لا يبقى مشروعاً فإطلاق النسخ على آيات القرآن في عرف المتقدمين كثير، وأما المتأخرون فقال السيوطي في الإتقان: إن المنسوخ إحدى وعشرون آية، وقلّله الشاه ولي الله رحمه الله فقال في الفوز الكبير: إن المنسوخ ستة آيات، وقال الشاه ولي الله: إن آية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَه} [البقرة: 184] إلخ في حق صدقة الفطر ولا نسخ.
باب ما جاء في من أكل ثم خرج يريد سفرا
[799]
قال أبو حنيفة: لا يجوز إفطار صوم يوم خروجه من البيت، وحديث الباب يخالفه، والجواب عنه كما قالوا: إن أنس بن مالك لعله صام وأفطر في التبريز لا يوم خرج من بيته، والتبريز أن يخرج الناس خارج البلدة قبل السفر يقضي حوائجه من البلدة من يريد السفر، والتبريز عادة العرب معروفة فإذن إفطار أنس كان في السفر وفي غير صوم يوم خروجه.
قوله: (سنة إلخ) ربما يطلق الصحابي لفظ السنة على شيء لا يكون مرفوعاً، ثم حديث الباب أخرج أبو حاتم في علله وفيه لفظ:«ليس بسنة» إلخ فتعارض ما في الترمذي وما في علله، ولا يمكن دعوى سهو نسخ الكاتب كما يدل عليه كلام صاحب تلخيص علله.
باب المعتكف يخرج لحاجته أم لا
؟
[804]
لا يخرج المعتكف من معتكفه إلا لحاجة شرعية أو طبعية، وفي كتبنا أنه إذا أراد الخروج للجمعة فينبغي له أن يخرج في وقت يسع أربع ركعات في جامع المسجد، وأما لو خرج قبله فلا فساد وأما إذا خرج من المسجد بدون حاجة شرعية أو طبعية فيفسد الاعتكاف، ويروى عن أبي يوسف في هذه الصورة أنه لا يفسد إلا إذا بقي خارج المسجد أكثر اليوم، ويروى عنه أن المعتكف لو استثنى الخروج لجنازة أو عيادة مريض ينفذ استثناؤه.
قوله: (أن يعود المريض إلخ) لا يجوز تشيع الجنازة وعيادة المريض عندنا وتجوز العيادة إذا
وقعت في طريق خرج فيه لحاجته الطبعية، وأما إذا ذهب للخلاء وله إليه طريقان طويل وقصير فتردد ابن عابدين في أنه يمشي في الطريق القصير أو يجوز له المشي في الطويل.
قوله: (مصر يجمع فيه إلخ) يدل على أن المصر شرط لإقامة الجمعة عند بعض السلف
باب ما جاء في قيام شهر رمضان
[806]
أي التراويح، لم يقل أحد من الأئمة الأربعة بأقل من عشرين ركعة في التراويح، وإليه جمهور الصحابة رضوان الله عنهم، وقال مالك بن أنس: بستة وثلاثين ركعة فإن تعامل أهل المدينة أنهم كانوا يركعون أربع ركعات انفراداً في الترويحة، وأما أهل مكة فكانوا يطوفون بالبيت في الترويحات، ثم إن حديث:«يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن» فيه تصريح أنه حال رمضان، فإن السائل سأل عن حال رمضان وغيره كما عند الترمذي ومسلم ص (254) ، ولا مناص من تسليم أن تراويحه كانت ثمانية ركعات ولم يثبت في رواية من الروايات أنه صلى التراويح والتهجد على حدة في رمضان بل طول التراويح، وبين التراويح والتهجد في عهده لم يكن فرق في الركعات بل في الوقت والصفة أي التراويح تكون بالجماعة في المسجد بخلاف التهجد، وإن الشروع في التراويح يكون في أول الليل وفي التهجد في آخر الليل نعم ثبت عن بعض التابعين الجمع بين التراويح والتهجد في رمضان، ثم مأخوذ الأئمة الأربعة من عشرين ركعة هو عمل الفاروق الأعظم، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فصح عنه ثمان ركعات، وأما عشرون ركعة فهو عنه بسند ضعيف وعلى ضعفه اتفاق، وأما فعل
الفاروق فقد تلقاه الأمة بالقبول واستقر أمر التراويح في السنة الثانية في عهد عمر كما في تاريخ الخلفاء وتاريخ ابن أثير وطبقات ابن سعد، وفي طبقات ابن سعد زيادة أنه كتب عمر في بلاد الإسلام: أن يصلوا التراويح، وقال ابن همام: إن ثمانية ركعات سنة مؤكدة وثنتي عشر ركعة مستحبة، وما قال بهذا أحد، أقول: إن سنة الخلفاء الراشدين أيضاً تكون سنة الشريعة لما في الأصول أن السنة سنة الخلفاء وسنته، وقد صح في الحديث:«عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين» فيكون فعل الفاروق الأعظم أيضاً سنة، ثم قيل: إن شروع التراويح أول الليل من سنة عمر، وأقول: إنه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما يدل حديث الباب وحديث عائشة وجابر وزيد، ثم هل يجب بلوغ عشرين ركعة إلى صاحب الشريعة أم يكفي فعل عمر ولا يطلب رفعه إلى صاحب الشريعة؟ ففي التاتار خانية: سأل أبو يوسف أبا حنيفة: أن إعلان عمر بعشرين ركعة هل كان له عهد منه؟ قال أبو حنيفة ما كان عمر مبتدعاً، أي لعله يكون له عهد فدل على أن عشرين ركعة لا بد من أن يكون لها أصل منه وإن لم يبلغنا بالإسناد القوي، وعندي أنه يمكن أن يكون عمر نقل عشراً إلى عشرين بتخفيف القراءة وتضعيف الركعات، وليعلم أن التراويح في عهد عمر تروى بخمس صفات، أربعة منها ثابتة بالأسانيد القوية، منها أنه صلى إحدى عشرة ركعة، ومنها أنه صلى ثلاث عشرة ركعة، ومنها إحدى وعشرين ركعة، ومنها ثلاث وعشرون ركعة، وأما إحدى وأربعون ركعة فسيجيء الكلام فيه، وأما الأولى والثانية والرابعة فمذكورة في موطأ مالك ص (40) ، واستقر الأمر على عشرين ركعة، ثم الصفة الأولى ففيها تكون التراويح ثمان ركعات وثلاث ركعات الوتر، وفي الثانية عشر ركعات تراويح وثلاث ركعات الوتر، وأما الصفة الثالثة فظاهرها يضرنا في مسألة الوتر بأنها تشير إلى أن الوتر ركعة، فأقول: لعل التراويح فيها كانت
ثماني عشرة ركعة لثبوت الوتر عن الفاروق ثلاث ركعات بتسليمة واحدة، ويؤيد ما قلت ما في قيام الليل لمحمد بن نصر: أن معاذ بن الحارث القارئ صلى ثمانية عشر شفعاً، وزعم الناس أنه صلى ستة وثلاثين ركعة وزعموا أن شفعاً تمييز، وأقول: إنه حال لا تميز، وأنه صلى ثمانية عشر ركعة شفعاً شفعاً، وفي البخاري وموطأ مالك؛ قال عمر: والتي تنامون عنها خير مما تقومون إلخ، وكذلك في موطأ مالك: نعم البدعة هذه إلخ، فقال الحافظ: إن مراد عمر أن الأفضل التراويح آخر الليل، وأقول: إنه كان يصلي التراويح أول الليل، نعم أطالها أحياناً إلى آخر الليل حتى خافوا الفلاح؛ أي السحر، فإذن قول عمر يخالف فعله في الصحيحين، وقال الطيبي شارح المشكاة: إن قول عمر عمل به أهل مكة، أي كانوا يصلون التراويح آخر الليل، وأقول: إن مراد قول عمر إنكم اخترتم النوم آخر الليل ولو كنتم أطلتم التراويح إلى آخر الليل لكان أولى وأفضل، ويشرعون من أول الليل ولا كلفة في هذا الشرح أصلاً، ولا يتوهم أن مراد عمر أن يأتوا بالتهجد أيضاً فإنه لم يثبت عنه، ولا عن الصحابة جمعهم بين التراويح والتهجد، وأما ما في موطأ مالك:«أن عمر كان يصلي التراويح آخر الليل» فمراده أنه إذا لم يصل مع الجماعة أول الليل، ذا والله أعلم. وأما ما في بعض الروايات
مثل ما في النسائي: «ثم لم يقم بنا حتى ارتحل» إلخ فلا يؤخذ بظاهره، فإن تراويحه ثبت في عدة رمضان لا في رمضان واحد وهو المفهوم الخارج من الأحاديث.
قوله: (على ما روي عن أبي بن كعب إلخ) أقول: لا يصح ظاهر عبارة الترمذي هذه أصلاً، اللهم إلا أن يتأول فيه بأنه يذكر مبنى من قال بعشرين ركعة، وأما وجه عدم استقامة قوله فهو أن أبي بن كعب كان إمام الناس في عهد عمر، وكذلك كان إمام النسوان تميم الداري، وكان معاذ بن الحارث أيضاً إمامهم في ما بعد عهد خلافة عمر، وأما إمامته في عهد خلافته فمترددة فيها ولم أجد في ذخيرة الحديث رواية لا ضعيفة ولا قوية لتدل على صلاة أبي بن كعب إحدى وأربعين ركعة، وما مر حافظ من حفاظ الحديث على كلام الترمذي هذا لنعلم ما يقول فيه.
قوله: (مع الإمام إلخ) اختلف الحنفية في أن الأفضل التراويح في البيت، أو في المسجد فمتقدمونا إلى أفضلية التراويح في البيت، وقال الطحاوي في معاني الآثار ص (206) ج (1) : وذلك هو الصحيح الصواب، وكان عمر أيضاً يصلي في البيت كما في موطأ مالك ص (40) :«خرجت مع عمر فوجدنا الناس إلخ» فدل على أن عمر لم يكن شريكاً فيهم، وأتى الطحاوي بآثار السلف على هذا، وثبت أن أكثر حفاظ القرآن من السلف كانوا يصلون التراويح في البيوت، وقال متأخرون: ويأتي كل واحد في المسجد فإن الناس لعلهم يتركون التراويح في هذه الصورة لضعف التدين، لأنه إذا ابتلي ببليتين يختار أهونهما، وكذا ينبغي في هذا الزمان فإن الفتيا تختلف باختلاف الأزمنة.
كتاب الحج
الحج في اللغة: قصد الشيء العظيم الفخيم، قيل: إنه فُرض في السنة السادسة بعد الهجرة، وقيل: في السنة التاسعة، ويرد على أهل المقالة الأولى:«أنه لم يحج حين وجب عليه في السادسة» ، ولهم أن يقولوا: لأنه لا يجب الأداء في الفور.
باب ما جاء في حرم مكة
[809]
قال الحجازيون: إن المدينة حرماً مثل حرم مكة، وأما حكم الجزاء في حرم المدينة؛ فقيل: جزاء صيد مثل جزاء صيد حرم مكة، وقيل: إن الرجل يسلب ثيابه، وقال أبو حنيفة: ليس حرم المدينة مثل حرم مكة، وأما حرم مكة ففيه مسألتان:
أحدهما: قطع شجرة حرم مكة، والضابطة عند أبي حنيفة أن لزوم الجزاء إنما هو بقطع شجرة نابتة بنفسها لا منبتة ولا من جنس المنبتة، ولا تكون جافة ولا منكسرة، ولا إذخراً ولا حشيشاً.
وثانيتهما: إن الملتجئ بالحرم إن جنى في ما دون النفس في خارج الحرم والتجأ بالحرم فلا يأمنه الحرم لأن الأطراف جارية بمنزلة الأموال فيقتص بخلاف الحدود، كمن سرق ثم التجأ بالحرم، وأما الذي قتل النفس خارج الحرم ثم لجأ إليه فلا يتعرض له ولا يرزق الماء والطعام ليلجأ إلى الخروج، وإن فعل شيئاً من ذلك في الحرم يقام عليه بقتل نفس لا يعيذه الحرم، ويتعرض له حديث الباب لأبي حنيفة في هذه المسألة.
قوله: (ساعة من نهار إلخ) في مسند أحمد أن تلك الساعة من الصبح إلى العصر.
قوله: (عادتها حرمتها إلخ) هذه الحرمة إلى أبد الآباد.
قوله: (عمرو بن سعيد إلخ) لا يتمسك بقوله هذا فإنه عامل يزيد ويزيد فاسق بلا ريب، وفي شرح الفقه الأكبر لملا علي القاري: روي عن أحمد بن حنبل أن يزيد كافر، وكان عمرو بن سعيد جمع العساكر ليكرّ على ابن الزبير، معاوناً ليزيد على عبد الله بن الزبير وفي تذكرة ابن سعيد هذا أن رجلاً اشتراه النبي صلى الله عليه وسلم من جده وأعتقه، وكان لهذا المعتق حفيد فدعاه عمرو بن سعيد وسأله: لمن أنت المولى؟ قال: أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عليه عمرو بسوطه وضربه ثم دعاه بعد مدة، وسأله كما كان سأل، فأجاب بما كان أجاب، فقام عليه بالسوط فإذا كان حال هذا الرجل هذا فكيف يستدل بقوله.
قوله: (أنا أعلم منك إلخ) كلامه هذا كاذب لأن أبا شريح يروي خطبته لفظاً لفظاً وأنه صحابي، وكيف يبلغ عمرو بن سعيد مرتبته فلا يمكن الاحتجاج بقوله.
قوله: (عاصياً إلخ) لم يكن عبد الله بن الزبير عاصياً ـ عياذاً بالله ـ ولا فاراً بدم ولا فاراً بخربة، والخربة سرقة الإبل ثم استعمل في الجناية مطلقاً.
باب ما جاء في ثواب الحج والعمرة
[810]
قال صاحب البحر: إن الحج مكفر السيئات والكبائر أيضاً ظنّاً، الكير الزق، والكور موضع إيقاد الفحم، وقيل: بالعكس، وقيل: لا فرق.
قوله: (الحج المبرور إلخ) قالوا: إن الحج المبرور هو السالم عن الجنايات.
قوله: (ولم يرفث إلخ) الكلام الفحش في حضور النسوان.
قوله: (حديث حسن إلخ) حسَّن الترمذي رحمه الله حديث إبراهيم بن يزيد وهو متكلم فيه عند الأكثر، ولذا قيل: إن تحسين الترمذي ليّن ولعله يحسن الحديث نظراً إلى متابعاته وشواهده، وحديث الباب تنهى عن الفسق في الحج، والحال أن الفسق منهي عنه في كل حال، والوجه أن في الحج زيادة تأكيد في النهي عن الفسق، والفسق الفتق وفي الإصلاح المعاصي.
(ف) التاء في الراحلة ليست تاء التأنيث بل تاء النقل، وقال ابن قتيبة إمام اللغة وغريب الحديث: إن الراحلة لا يستعمل إلا في الأنثى.
باب ما جاء كم فرض الحج
[814]
اتفقوا على أن الفرض حجة واحدة في العمر.
قوله: (البختري إلخ) بفتح الباء وبالخاء المعجمة، وأما البحتري بضم الباء وبالحاء المهملة فشاعر إسلامي مشهور.
قوله: (لو قلت: نعم لوجب إلخ) وليعلم أن الفرض والحرام يثبت بالحديث أيضاً كما يدل حديث الباب بل يثبتان بالقياس أيضاً، وأما التعريف بأنه ما ثبت بدليل قطعي لا شبهة فيه فهو ما ثبت بالكتاب، وليس هذا تعريف ما ثبت بالحديث أو القياس.
باب ما جاء كم حج النبي صلى الله عليه وسلم
-؟
[815]
حجته بعد الهجرة إلى المدينة واحدة، وأما قبل الهجرة وبعد النبوة فواحدة أيضاً وأما قبل النبوة فالحج ثابتة بدون تعيين العدد، كما يقول صحابي: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأيته قبل البعثة قائماً بعرفات حين كنت أطلب ناقة لي فقدت، ولعل عمله هذا كان عملاً بفطرته، فإنه كانت قريش يحجون كل عام، وكانوا يقفون بمبزدلفة ولا يخرجون إلى عرفات، وكان سائر العرب يذهب إلى عرفات.
قوله: (معها عمرة إلخ) رواية الباب عن جابر تدل صراحة على كونه قارناً وهذا يفيدنا عن قريب.
وقوله: (ثلاثة وستين بدنة إلخ) وسرُّ هذا ما ذكروا أن عمره كان ثلاثة وستين سنة، وكان علي جاء بسبع وثلاثين إبلاً من اليمن وذبح منها علي ثنتين وثلاثين بدنة، وقيل: إن عمره في ذلك الحين كان ثنتين وثلاثين سنة وخمسة منها ذبحها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كل إبل تسعى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليذبحه، وهذا من المعجزات، وفي رواية أبي داود أنه ذبح خمسة إبل، وتعرض المحدثون إلى إعلالها، وعندي لا تعل، بل يقال: إنه ذبح ثلاثة وستين في مجلس، وخمسة في مجلس آخر فلا تنافي.
قوله: (فشرب من مرقها إلخ) هذا يدل صراحة على أنه كان قارناً لأنه لا يجوز للمُهدي أن يأكل من دم الجناية، ويفيدنا هذا في أن دم القران والتمتع دم شكر، ويجوز له أكله لا دم جبر كما قال الشافعي، وقال: إنه لا يجوز له أن يأكل من دم الجبر.
قوله: (أربع عمرة إلخ) ثلاث عمرات كانت في ذي القعدة مع إحرامها وأفعالها، وأما عمرة حجة الوداع فكان إحرامها في ذي القعدة وأفعالها في ذي الحجة.
باب ما جاء كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم
-؟
[816]
خرج النبي صلى الله عليه وسلم معتمراً عام الحديبية فأحصر عنها فذبح الهدي ثمة وحلق وأحل، ثم قال الأحناف: من أحرم بالعمرة فأحصر يهدي ويذبح ويقضي عاماً مقبلاً، وقال الحجازيون: لا قضاء في العذر السماوي إذا أحصر به، وأما ما مر من الشافعي من أن الحج والعمرة يلزم بالشروع ولو نفلاً فذلك حكمه إذا شرع فيهما، ثم قال العراقيون: إن عمرة القضاء إنما سميت بعمرة القضاء لأنها قضاء ما حل عنها عاماً ماضياً، وقال الحجازيون: إن التسمية بعمرة القضاء إنما هي لوقوع القضاء أي الصلح فيها، فالقضاء بمعنى المصالحة، ويفيدهم ما في البخاري: أنه قاضاهم، إلخ، أي صالحهم.
قوله: (عمرة القصاص إلخ) الصحيح عمرة القضاء وكانت في السنة السابعة.
قوله: (الجعرانة إلخ) هذه العمرة وقعت بعد الرجوع من حنين في السنة الثامنة، فالتام من العمرات ثلاثة، ولم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة، بل جعل أبا بكر أمير موسم الحج.
باب ما جاء من أي موضع أحرم النبي صلى الله عليه وسلم
-؟
[817]
واعلم أن حقيقة الإحرام عندنا ليست النية فقط، بل يجب بها مع ضم القول أو الفعل، وهو أن يسوق الهدي هدي القران أو التمتع أو دم الجزاء فإذا لحقه صار محرماً، وأما القول فهي التلبية ولا يجب في التلبية ذكر الحج أو العمرة فإذن يجوز للقارن أن يذكر الحج أو العمرة أو كلاهما لا يذكرهما في تلبية، وليحفظ هذا التعميم فإنه يفيدنا، ثم السنة في صيغة التلبية ما هو في الحديث وهو هذا:«لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك» ويسن الوقف في هذه المواضع الأربعة، ويكفي في التلبية كلُّ ذكرٍ مُشعرٍ بالتعظيم ولا يتأدى به السنة، وأما حقيقة الإحرام عند الشافعية فمترددة فيها ومضطربة لا يمكن تحديدها كما أقرَّ به الشيخ عز الدين بن عبد السلام ملك العلماء الشافعي صاحب الشرح على أبي داود في ثلاثين مجلداً، ثم الحج فرائضه عندنا ثلاثة؛ وقوف عرفة، والطواف، وهما ركنان، والإحرام وهذا شرط، وأما الواجبات فكثيرة تزيد على عشرين وسائرها سنن وآداب، وأما عند الشافعية فالفرائض خمسة تلك الثلاثة مع وقوف مزدلفة، والسعي بين الصفا والمروة، وأقروا بالواجبات في الحج وأنكروها في الصلاة.
قوله: (أحرم بالبيداء إلخ) قال العراقيون: يلبي بعد ركعتي الطواف في الفور في ذلك الموضع، وقال الحجازيون: يلبي عند الركوب، والروايات مختلفة، حديث الباب للحجازيين، ولنا ما في الباب عن ابن عمر، ولنا ما في أبي داود ص (246) قال ابن عباس: أيم الله أوجب في مصلاه وأهلَّ حين استقلت به الناقة وأهلَّ حين أشرف على البيداء. إلخ، فحديث ابن عباس يفيد زيادة العلم وهو مثبت، فإن بعض الروايات تدل على أنه لبى في مصلاه، وبعضها على أنه لبى حين ركب الناقة، وبعضها على أنه لبى حين جاء على شرف البيداء فنقول: إنه حين لبى في مصلاه رآه بعض الصحابة، ثم البعض الآخرون حين استقلت الناقة، ثم حين جاء على البيداء، وفي هذا رووه أكثرهم بل جميعهم وقال الواقدي: كان الصحابة قريب سبعين ألفاً، والبيداء موضع مرتفع على ستة أميال من مدينة في طريق مكة، وفي سند حديث الباب خصيف، وهو متكلم فيه، ولعله من رواة الحسان.
قوله: (الشجرة إلخ) اسم بالغلبة لذي الحليفة على قريب من ستة أميال من المدينة، وأما اسمها اليوم فبير علي، وليس هذا علي أمير المؤمنين بل هذا علي آخر بدوي.
باب ما جاء في إفراد الحج
[820]
واعلم أن الحج والإحرام على أقسام كثيرة مذكورة في الفقه أحدها العمرة فقط، وثانيها الحج فقط، وثالثها الحج ثم العمرة بعده، وهذه الصورة صورة إفراد الحج، وأما القران فله أيضاً أقسام، والقران أن يحرم للحج والعمرة من الميقات وهذا أعلى، ولو أدخل العمرة على الحج في القران فهو مكروه، وقسم آخر للقران وهو أن يدخل الحج على العمرة، ثم إحرام العمرة وإحلالها يدخلان في إحرام الحج وإحلاله للقارن اتفاقاً، ثم قالت الشافعية بتداخل الأفعال أيضاً، أي تداخل السعي والطواف أيضاً، فلم يبق إلا النية وقالوا: إن تعدد السعي للقارن بدعة، وتعدد السعي للقارن واجب عندنا، وكذلك الطواف ولكنهم لم يحكموا بالبدعة على تعدد الطواف.
واختلف في أن عمرة القارن تصح قبل أشهر الحج أم لا؟ والقوي الصحة، وأما المتمتع فيشترط فيه أن تكون العمرة في أشهر الحج، ثم التمتع إما أن يكون بسوق الهدي أو بغيره فإن كان متمتعاً بسوق الهدي فلا يتحلل في الوسط بل يوم النحر، وإن كان متمتعاً بغير سوق الهدي فيستحل بعد أداء أفعال العمرة ثم يهل إهلال الحج، وظاهر الهداية وعامة كتبنا أن التحلل في الوسط واجب، ولكن في مبسوط شيخ الإسلام خواهر زاده أن التحلل لمن لم يسق الهدي جائز لا واجب، وأقسام أخر للحج، وهاهنا معركة الآراء وهو أن التمتع والقران والإفراد كلها عبادات علينا، والخلاف في الأفضلية
فالأفضل عند الشافعي ومالك الإفراد ثم التمتع ثم القران، وقال أحمد: الأفضل التمتع بغير سوق الهدي ثم الإفراد ثم القران، وقال أبو حنيفة: الأفضل القران ثم التمتع ثم الإفراد ثم هاهنا اختلاف في أن الإفراد الفاضل من القران هو الإفراد بالحج محض أو الإفراد بالحج ثم العمرة، ويسمى هذا إفراداً في الاصطلاح، وأما الإفراد الذي يكون فيه الحج والعمرة في سفرين فنص محمد في موطئه على أن هذا الإفراد أفضل من القران، فإنه قال: حجة كوفية وعمرة كوفية أفضل عندنا، ثم لمصنفينا كلام في أن هذا المذكور هو مختار محمد فقط أو هو قول شيخيه أيضاً، ومبنى الاختلاف في الأفضلية الاختلاف في حجته فقال الشافعي ومالك: إنه كان مفرداً. وقال أبو حنيفة: إنه كان قارناً، وقال أحمد بن حنبل: إنه كان قارناً إلا أنه تمنى التمتع بغير سوق الهدي لما في الصحيحين: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي» ، وأما أتباع الشافعي فقالوا: إنه كان قارنا، مآلاً أي أفرد بالحج أولاً ثم قارن لرد زعم الجاهلية من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وسيأتي كلامنا في هذا إن شاء الله تعالى، وإنما قال الشافعية: بأنه كان قارناً لأنه لا يمكن لهم إنكاره بسبب وفور الروايات، وإنما قالوا بالتداخل أي إدخاله العمرة على الحج، والحال أن الروايات الدالة على قرانه آبية عن هذا أشد إباءٍ، والعجب من الحافظ أنه قال بإدخاله العمرة على الحج وقرانه في المآل لا من بدء الإحرام، وأغمض عن كثير من الروايات، ومثل هذا عن مثل هذا الجبال بعيد، ثم للشافعية فيما بينهم اختلاف في أن الإفراد الأفضل على القران هو الحج الواحد أو الحج وبعده العمرة، ولعلهم يفضلون القسم الثاني من الإفراد، ثم حجته مختلفة فيما بين الصحابة فإن بعضهم يقول: إنه كان قارناً، وبعضهم: أنه متمتع، وبعضهم: أنه مفرد، بل اختلف الرواة على صحابي واحد مثل عائشة، فإنها تقول
في حديث الباب: إنه أفرد بالحج وفي بعض الروايات عنها تصريح القران أنه اعتمر مع حجته، وكذلك اختلف على جابر وغيره، وأسانيد كلها صحاح وحسان وصنف الطحاوي في حجته أزيد من ورقة كما في منهاج النووي شرح مسلم ص (386) نقلاً عن القاضي عياض، وتكلم في معاني الآثار في عدة أوراق، وذهل الحافظ في إدراك مراده في معاني الآثار فإنه نسب إلى الطحاوي بأنه قائل بإدخاله العمرة على الحج كما تقول الشافعية، وأقول: إن هذه النسبة خلاف الواقع وخلاف تصريح الطحاوي بأنه كان قارناً من أول الأمر، نعم لكلام الطحاوي قطعتان الأولى في الجمع بين روايات الصحابة في حجته وقال فيه بإدخال، والقطعة الثانية في تحقيق إحرامه في الواقع وصرح في هذه القطعة بأنه كان قارناً من أول الإحرام وبدء الأمر، ثم قال علماء المذاهب الأربعة منهم الشيخ ابن همام والحافظ ابن حجر وابن قيم وبعض الموالك: إن التمتع المذكور في آية {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] تمتع لغوي أي تحصيل النفع وهو أداء الأمرين في سفر واحد، وهذا أعم من التمتع المصطلح والقران المصطلح، وقال البعض: إن التمتع الذي نسبه بعض الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث أيضاً تمتع لغوي، وفي التفسير المظهري للقاضي ثناء الله
الحنفي رحمه الله صاحب كتاب منار الأحكام في الحديث لبيان المذاهب الأربعة، وطريقه في منار الأحكام طريق المحدثين وهو من الكبار المحققين، اختار أن الأفضل التمتع بغير سوق الهدي ثم القران ثم التمتع بسوق الهدي ثم الإفراد، وظني أن التمتع المذكور في القران لعله مصطلح الفقهاء، وإليه تشير ألفاظ القرآن {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] إلخ، وأقول في اختلاف روايات الصحابة في حجه أن من قال: إنه كان متمتعاً، فمراده التمتع اللغوي كما قال بعض العلماء، وأما إثبات أنه كان قارناً فعلينا، وذخيرته كثيرة، منها ما مر عن جابر في أول الأبواب، ومنها ما في آخر البخاري تصريح: أنه اعتمر مع حجته إلخ، لا أنه وقع في غير موضع الحج، ومنها ما في تنقيح التحقيق لابن عبد الهادي الحنبلي عن ستة عشر رجلاً ثقة قال أنس: إني سمعت بأذناي تلبية النبي صلى الله عليه وسلم أنه لبى بحجة وعمرة وكنت آخذ بلجام ناقته، وفي مسلم (405) عن أنس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعاً، قال بكر: فحدثت بذلك ابن عمر فقال: لبى بالحج وحده، فلقيت أنساً فحدثته بقول ابن عمر فقال أنس: ما تعدونا إلا صبياناً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لبيك عمرة وحجاً، فلا يمكن إنكار قرانه أصلاً، ثم الإفراد الذي رواه بعض الصحابة لا يجب أولاً جوابه بعد إثبات قرانه ولأن القران مثبت والإفراد نفي، والمثبت مقدم على المنفي، وقد روى الزيلعي قرانه عن اثنين وعشرين صحابياً، والرجل قادر على أزيد منهما، فجواب الإفراد منا ليس إلا تبرع، فنقول قال بعض الأحناف: إنه أفرد بالحج، أي شرع الإفراد، لا أنه كان مفرداً بنفسه، وعندي مراد أنه أفرد بالحج أنه اعتمر وحج بإحرام واحد بدون الحلال في الوسط مثل المتمتع بغير سوق الهدي فإنه يحل في
الوسط، ولم يحل النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما أمر أصحابه الذين لم يسوقوا الهدايا، فاستنكر الصحابة أن يحلوا أو يروحون إلى منى ومذاكيرهم تقطر منياً، ووجه استنكاف الصحابة سيأتي عن قريب، ويمكن أن يقال في أنه أفرد بالحج وتمتع بالحج وقارن: بأن اختلاف الصحابة ليس في إحرامه بل الإحرام كان إحرام القارن وإنما اختلافهم في تلبية النبي صلى الله عليه وسلم أي لفظها أنه ذكر لفظ الحج أما الحج والعمرة أو غيرهما، لمولانا هاهنا لطيفة، وهو أن الشافعية قالوا في رواية سراقة بن مالك:«إن العمرة دخلت في الحج إلخ» إن المراد به أن أفعال العمرة دخلت في أفعال الحج فينبغي لنا أن نقول في أفرد بالحج إلخ: إنه جعل الحج والعمرة مفرداً مفرداً، وهاهنا شيء آخر وهو أن ابن الهمام كان يقول: إن المكي لا يجوز له العمرة في أشهر الحج، أراد الحج من عامه أم لا؟ وهذا خلاف الأحناف فإنهم يقولون: إن من أراد الحج من أهل مكة لا يجوز له العمرة في أشهر الحج، ولا يجوز للآفاقي في خمسة أيام وهي التاسع والعاشر الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، وذكر بحثه في فتح القدير، ودعواه أن زعم عدم جواز العمرة في أشهر الحج لم يكن محض زعم الجاهلية بل كان ملة إبراهيم ثم صار جائزاً في الشريعة الغرّاء للآفاقي، وأما المكي فالنهي في حقه باق فإنه لا يجوز له القران والتمتع، ثم في هوامش فتح القدير أنه رجع عن تحقيقه هذا بعد خمسة وثلاثين سنة، ثم هذه الحاشية في كتب هذا العصر في بعض النسخ
مفقودة، وفي بعضها في الهوامش كما كانت، وفي بعضها في حوض الكتاب ثم تردد ابن الهمام في التمتع والقران للمكي أنهما غير جائزان فقط أو باطلان أيضاً، وقال ابن عابدين: إن القران صحيح ومكروه تحريماً والتمتع باطل، أقول: الصواب إلى ابن عابدين فإن الوجه يساعده، وهو أن الإلمام الصحيح مبطل للتمتع لا للقران، وقال الشافعي: إن المكي يجوز له القران والتمتع ولكنه لا دم عليه، واختلف الشافعي وأبو حنيفة في تفسير آية:{ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَام} [البقرة: 169] إلخ، قال الشافعي: إن المشار إليه بذلك هو الدم، وقال أبو حنيفة: إن المشار إليه القران والتمتع.
قوله: (عن عائشة إلخ) روت عائشة إفراد الحج وفي بعض الروايات عنها أنه أهل بالعمرة والحج.
قوله: (وفي الباب عن جابر إلخ) روى جابر في حديث الباب أنه أفرد بالحج، وقد روى في باب كم حج النبي صلى الله عليه وسلم؟ أنه أهل بالعمرة والحج، إلا أن البخاري صوب إرساله ولا يضرنا، وما حسنه الترمذي مع أن رجاله ثقات، وأما ابن عمر فروى الإفراد هاهنا وصرح في مسلم والبخاري أنه كان متمتعاً، وأيضاً روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان أفردوا بالحج إلخ.
باب ما جاء في التمتع
[822]
قال أكثر العلماء: إن التمتع المذكور في القرآن تمتع لغوي لا اصطلاحي، وظني أنه أيضاً اصطلاحي.
قوله: (صنعها رسول الله إلخ) من قال بأفضلية التمتع استدل بحديث الباب، وادعى أنه حل في الوسط، وأقول: لا مسكة لهذا القائل أصلاً إلا ما في النسائي رواية، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما حلقه في منى، وأيضا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ساق الهدي فكيف يحل في الوسط فما في حديث الباب من التمتع قيل: إنه أجاز التمتع، وقيل: إن المراد بالتمتع التمتع اللغوي.
قوله: (نهى أبي إلخ) ثبت نهي عمر وعثمان عن القِران والتمتع، وتمسك به الشافعية على أفضلية الإفراد، وحمل النووي النهي على الكراهة تنزيهاً، ولعله أراد المفضولية لأن الأقسام الثلاثة للحج عبادات عظمى إجماعاً، ثم أجاب الحنفية عن نهي عمر كما أجاب الطحاوي لكنه لم يبحث عن نهي عثمان، وأما عامة الأحناف فأجابوا عن نهي عمر إجمالاً ويجب التفصيل في الجواب عن نهيه عن القران والتمتع، فأقول: إن مشار النهي عن القران ليس ما زعموا بل غرضه أن يسافروا إلى بيت الله مرتين فالأفضل من القران الإفراد الذي في سفرين ولا يخالفنا هذا لأنه قد نص محمد في موطئه أن حجة كوفية وعمرة كوفية أفضل عندنا، وأما دليل أن مطمح نظر عمر تعدد السفر فما أخرجه الطحاوي ص (375) قال عمر:«افصلوا بين حجكم وعمرتكم» إلخ، وفيه قال عمر:«أتموا الحج والعمرة لِلّه» إلخ أي الإتمام أن يكون الحج والعمرة في سفرين، وأقول: إن عمر بن الخطاب يقول بأفضلية القران فإنه يتمناه كما في معاني الآثار ص (375) بسندين عن ابن عباس. قال: قال عمر: لو اعتمرت في عام مرتين ثم حججت لجعلتها مع حجتي إلخ، وفي السند الأول سليمان بن شعيب وهو الكيساني ووثقه ابن يونس والسمعاني، وأما نهي عمر عن التمتع ففي مسلم: أنه كان لا يرضى الحل في الوسط، فمنشأ النهي عدم الرضاء بالحل في الوسط، وقال الأئمة الثلاثة: إن الحل في الوسط للمفرد الذي لم يسق الهدي كان خاصاً بعهده ولا يجوز لغيره، وقال أحمد: يجوز الحل في الوسط الآن أيضاً، وقال ابن تيمية: إن التحلل في الوسط واجب ويكون جبراً من جانب الشارع من حين يرى بيت الله طاف ونسبه إلى ابن عباس أيضاً، وأقول: إن منشأ نهي عمر عن التمتع هو وجه إنكار الصحابة من الحل في الوسط كما قالوا: نروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر منياً، وأحبوا أن يتمادوا في العبادة أي الإحرام، وزعموا أن أمره بالتحلل
إنما هو إبقاءً علينا، وزعم الزاعمون كافة أن وجه إنكار الصحابة من الحل في الوسط كان زعم الجاهلية من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، ولم أر أحداً عدل عن هذا الوجه، ولكني أقول: إن هذا الوجه لا يلصق فإنه كان الصحابة قد اعتمروا قبل هذه الحجة ثلاث عمرات الحج أي ذي القعدة وما أنكر أحدهم على تلك العمرات فليس باعث استنكاف الصحابة من الإحلال إلا أنهم أحبوا التمادي في حال الإحرام، ولم يرضوا بالحل في الوسط، وقالوا: نذهب إلى منى ومذاكيرنا تقطر منياً، وأما نهي عثمان فوجهه لم أجده بالروايات إلا ما في مسند أحمد، هذا والله أعلم.
قوله: (ليث إلخ) أي ابن أبي سليم وهو راوي حديث: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» في معاني الآثار ص (128) ، وحسن له الترمذي، ومسلم في المقدمة عده من رواة الحسان، ثم أقول: الحق أنه من رواة الحسان.
قوله: (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر إلخ) روى ابن عباس هاهنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر تمتعوا، وروى ابن عمر سابقاً أنهم أفردوا بالحج.
قوله: (معاوية إلخ) قد ثبت النهي عن عمر وعثمان أيضاً.
قوله: (دم استيسر إلخ) قال الشافعي: إن دم التمتع والقران دم جبر أي جبر ما فاته من إفراد الإحرام فلا يجوز له أن يأكل منه، وقال أبو حنيفة: إنه دم شكر فيجوز له أكله، ونقول: قد ثبت أكله.
قوله: (في الحج إلخ) يستحب الصوم عندنا يوم السابع والثامن والتاسع لمن لم يجد الهدي، ولو تأخر عن التاسع فتحتم الدم.
قوله: (إذا رجع إلخ) قال أبو حنيفة: إنه كناية من الفراغ عن الحج، وقال الشافعي: لا كناية بل يعمل بظاهره.
(تتمة) : إن لي إشكالاً في آية: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَام} [البقرة: 196] إلخ على ما قال الأحناف من أنها للنهي عن التمتع والقران للمكي بأن مشار النهي إما العمرة في أشهر الحج أي عدم جوازها في أشهر الحج فصار المآل ما قال الشيخ ابن الهمام ثم رجع عنه، وذلك خلاف جميع الأحناف وإما مشار النهي ضم الحج والعمرة في السفر والإحرام فدل على أفضلية الإفراد، وهذا أيضاً يخالفنا في أفضلية القران، والإشكال قوي ولم يذكره أحد من الأحناف؟ وأما الجواب فليس بذلك القوي وهو أن مشار النهي غير هذين الأمرين وهو أن المرضي ومطمح النظر تحقيق السفرين فلا إيراد، وإن قيل: إن الإفراد الذي يكون فيه الحج ثم العمرة يجب أن يكون أفضل من القران في سفر لأن في القران أتى المحرم بشيئين أي الحج والعمرة من ميقات واحد، وأما في هذا الإفراد فأتى بمزية أي تعدد الميقات لأنه أحرم للحج من الميقات التي له، وأحرم للعمرة من خارج مكة فإذا تعدد الميقات فيفضل على الذي ميقاته واحد، قلت: إن المفرد بهذا الإفراد اعتمر بعمرة هي في قدرته ومكنته، وليست بلازمة من جانب الشريعة، وأما القارن فالعمرة عليه واجبة لا في مكنته فما يكون لازماً من جانب الشارع يكون أفضل.
باب ما جاء في التلبية
[825]
الوقف في أربعة مواضع في ألفاظ التلبية مستحب، ويسن الجهر بالتلبية لهم لا لهنّ.
قوله: (لبيك إلخ) هذا مفعول مطلق يجب حذف عامله لضابطة ذكرها الرضي وذكرناها في ابتداء الكتاب تحت «غفرانك» إلخ، وتقدير العبارة هكذا: ألب، لك إلباباً بعد إلباب، والمثنى للتكرار كما صرح النحاة، ومثل هذا قال السيوطي في آية {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] أي كرة بعد كرة، وكذلك في آية:{أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [قّ: 24] إلخ أي ألق ألق.
قوله: (الحمد إلخ) ذكر في الهداية: قال أبو حنيفة: «أن الحمد» بفتح الهمزة وكنت متحيراً في أن المستحسن ذوقاً هو كسر «إن» كما قال محمد، فاستقريت حتى أن رأيت في الكشاف رواية الكسر أيضاً عن أبي حنيفة.
(زائدة) : ذكر في دلائل الإعجاز أن شاعراً قرأ قصيدته على آخر وكان فيها:
~ بَكِّرا صاحبيَّ قبل الهجير
…
إن ذاك النجاح في التكبير
فقال: ينبغي في المصراع الثاني: بكراً فالنجاح في التكبير، فقال الشاعر: إنك بليد وحشي.
قوله: (وكان يزيد في التلبية إلخ) في الكنز: إن من أراد الزيادة في التلبية يزيد في عجزها آخرها لا في وسطها، وليكن هذه الضابطة في كل من الأدعية المأثورة، والأَوْلى الاقتصار على ما هو مأثور، فإن الروح في المسنون، قال الفقهاء: إن المحرم يكثر التلبية مهما أمكن، ويختمها الحاج عند رمي الجمار، ويختمها المعتمر عند استلام الحجر.
باب ما جاء في الاغتسال عند الإحرام
[830]
يسن الغسل عند الإحرام ولكنه ليس للتطهير بل للتنظيف، وفرعوا على هذا أن الحائضة تغتسل للتنظيف ولا تطهر به.
باب ما جاء في مواقيت الإحرام للآفاقي
[831]
قال الحنفية: إن خمسة مواقيت مرفوعات مع ذات عرق العراقيين وهي خامسة، وكانت حملت في عهده ثم أعلن بها عمر، وقال الشافعية: إن ابتداءها من عمر لا منه، وأبعد المواقيت ميقات المدنيين ذو الحليفة، وأقربها ذات عرق للعراقيين وهذه المواقيت لمن مر عليها، ومن مرّ بين الميقاتين يحرم من محاذاة أبعدهما، ولو مرَّ بلا إحرام يجوز، ولا يجوز المرور بلا إحرام من أقربهما إلى مكة، ولو تجاوز بلا إحرام يكون جانياً، وقال محمد في موطئه ص (194) : وقد رخص لأهل المدينة أن يحرموا من الجحفة إلخ، وهذه الميقات أقرب إلى مكة من ذي الحليفة، ثم أتى محمد بمرفوع على هذا وهذه المسألة لم أجدها في غير الموطأ من كتب الأحناف إلا أنه قال صاحب البحر: سألني ابن حجر المكي الشافعي: من مر بين الميقاتين من أي موضع يحرم؟ فقلت: إنه يقدّر بأقربهما ولا يتجاوز من مسافة المرحلتين من مكة لأن أقرب المواقيت ذات عرق على مرحلتين، ثم قال أبو حنيفة: من مرَّ على الميقات مريداً مكة يجب عليه الإحرام أراد الحج أو العمرة أو لا إلا الحطابين أو الحشاشين، وقال الشافعي: لا يجب الإحرام إلا على من يريد أحدهما، وقَرْنُ المنازل بسكون الراء وأخطأ الجوهري حيث قال: إن قرن المنازل بفتح الراء.
قوله: (لأهل المشرق العقيق إلخ) هذه الميقات عند ذات عرق، وبين ذات عرق وعقيق جبل فاصل، وهذا عقيق غير وادي عقيق على ستة أميال من المدينة.
باب ما جاء ما لا يحرم لبسه للمحرم
[833]
مذهب الحنفية أنه لا يجوز لبس الثوب المخيط الذي يتمسك على البدن بلا الشد، وأما غرز الشوكة في الإزار فجائز، ويجوز ضم القطعتين في الإزار والرداء، ذكره الشيخ رحمة الله السندهي في لباب المناسك وكتاب المنسك الكبير.
قوله: (القميص إلخ) القميص ما يكون شقه على الصدر، والدرع ما يكون شقه على الكتفين، ذكره في فتح القدير من التفقه.
قوله: (السراويلات) معرب شلوار، والبرانس جمع برنس الجبة التي يستر به الرأس أيضاً، والسراويل لم يكن في العرب بل جاء من الإيران، أثبت المحدثون اشتراءه السراويل وما أثبتوا لبسه.
قوله: (الخفين إلخ) قطع الخفين واجب عند الثلاثة، وقال أحمد: إنه مستحب وتمسك بما روى ابن عباس في حديث الباب فإن القطع ليس بمذكور فيه، وقال الجمهور: إنه ساكت ثم قال الثلاثة: من وجد السراويل ولا إزار له يجوز له لبسه، وقال أبو حنيفة: لا يجوز إلا بعد فتقه، ولم أجد هذه مسألة أبي حنيفة إلا في معاني الآثار، ولعله قاس أبو حنيفة السراويل على الخفين، وظني أن من وجد السراويل الذي لا يمكن الإزار منه بعد فتقه يجوز له لبسه وتلزم الجناية.
قوله: (مسه الزعفران إلخ) مناط النهي عندنا في الإحرام الريح أي الطيب، وفي الإحداد اللون.
قوله: (متنقب المرأة إلخ) يجوز لها النقاب الذي لا يمس وجهاً، وأما القفازان فيجوزان عندنا مع الكراهة ويحمل حديث الباب على الكراهة، وأيضاً قطعة «ولا تنقب المرأة» إلخ مندرجة من ابن عمر وأشار إليه البخاري.
باب ما جاء في الذي يحرم وعليه قميص وجبّة
[835]
في رواية في الطحاوي أن المحرم إذا أحرم وكان لبس القميص فلا يخرجه بل يشقه ويخرقه فإنه لو أخرجه من جانب رأسه يستر رأسه ويصير جانياً ثم أعلها الطحاوي.
قوله: (أعرابي إلخ) وهو يعلى بن أمية، ويقال: يعلى بن منية
باب ما يقتل المحرم من الدواب
[837]
قوله: (خمس فواسق إلخ) بالإضافة أو الرفع مع التنوين، وقال ابن دقيق: إن بين التركيبين فرقاً فإن فك الإضافة تبادر التعليل بالفسق لا تبادر المفهوم، وفي الإضافة تبادر المفهوم ثم في بعض الروايات «ستة» وفي بعضها «سبعة» ، والمذكور في حديث الباب ثلاثة أنواع أي حشرات الأرض، وسباع الطيور، والدواب، ونقح الشافعي المناط، وقال: إن المناط كون الحيوان غير مأكول اللحم فلا شيء في قتل حيوان مما لا يؤكل لحمه، وقال مالك: مناط الحكم كونه سبعاً عادياً، ونقح أبو حنيفة في بعض الأجزاء أي في الفأرة والعقرب، وجوز قتل كل من حشرات الأرض، ثم الظاهر أن مناط مالك أرجح من مناط الشافعي فإن الإيذاء في هذه المذكورات معروف بخلاف عدم مأكولية اللحم فإنه غير معروف في هذه الخمسة، ويؤيد مالكاً رواية العادي الثانية في الباب، ونسب أرباب الأصول إلى صاحب الهداية أنه قائل بمفهوم العدد، ومنشأ النسبة هذا المقام الذي ذكر فيه «خمس فواسق» . إلخ ولعله اعتبره في هذا الموضع لا أنه أخذه في كل موضع.
(اطلاع) في كتبنا أكثرها لو ابتدأ السبع بالصولة على المحرم فقتله المحرم لا شيء عليه، ولو ابتدأ المحرم بقتل السبع فعليه جزاء ولا يجاوز الشاة، والغراب عندنا المراد به الأبقع لصراحته في النسائي وابن ماجه، والغراب في كتبنا أنه على ثلاثة أقسام:
أحدها: الذي يأكل الحبوب فقط وهو حلال اتفاقاً.
والثاني: الذي يأكل الجيف فقط وهو حرام اتفاقاً.
والثالث: هو الذي يخلط بين أكلهما وهو مكروه عند أبي يوسف وحلال عندهما.
قوله: (الكلب العقور إلخ) قال ابن الهمام: إن مدلول لفظ الحديث ومراده الكلب الوحشي وإن دخل الإنسي في حكمه، وقال: إن المحرم منهي عنه عن الصيد والإنسي ليس بصيد والمتبادر من لفظ الكلب الإنسي وإن دخل في حكمه الوحشي، وفي البداية قال أبو يوسف: من قتل الذئب لا شيء عليه، وعندي أنه ليس بتنقيح المناط بل يلحقه الذئب لأنه أيضاً عقور ويشبهه في الصوت والهيأة، وفي الهداية قال زفر: الأسد مثل الكلب، أقول: لم ينقح المناط بل جعله من مصداق الكلب، ومن شواهده أنه دعا على رجل:(باللهم سلط عليه كلباً) فأكله أسد.
باب ما جاء في الحجامة للمحرم
[839]
إن اضطر إلى حلق الشعر عند الحجامة فكفارة وإلا فلا شيء، وفائدة العذر رفع المعصية، وثبت احتجامه في حجة الوداع كما صرح به الشافعي، والله أعلم.
باب ما جاء في كراهية تزويج المحرم
[840]
قال الثلاثة: نكاح المحرم باطل، وقال أبو حنيفة: نكاحه صحيح والوطئ ودواعيه منهية عنها، والإنكاح صحيح عندنا وعندهم، وحديث الطرفين صحيح إلا أن حديثنا أعلى سنداً، فإنه أخرجه البخاري واختاره وأخرجه مسلم، وأما حديثهم فأخرجه مسلم لا البخاري، والواقعة واقعة نكاح ميمونة خالة ابن عباس ويزيد بن الأصم وخالد بن وليد.
قوله: (ينكح وينكح إلخ) أحدهما مجرد والآخر مزيد وكلاهما معلومان وحملناه على الكراهة، فإن الحجازيين أيضاً قائلون بجواز الإنكاح المذكور في حديث الباب ثم أجرى الطرفان باب المقائيس ولكن كلامنا في النص، وتمسك الحجازيون بحديث أبي رافع ويزيد بن الأصم فنقول: أولاً: إن حديث أبي رافع مختلف في إسناده وانقطاعه، وأما ثانياً: فسيأتي جوابه في الباب اللاحق، وأما حديث يزيد فنقول: إنه مضطرب فإن في بعض الروايات رواية من ميمونة قالت: نكحني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حلال، وفي بعضها أنه يقول من جانبه فإن كان من جانبه فلا يصلح لمعارضة ابن عباس سيما حديث الصحيحين، وإن كان يروي عن ميمونة فسيأتي جوابه في الباب اللاحق.
باب ما جاء في الرخصة في ذلك
[842]
حديث الباب للعراقيين، وتأول فيه الشافعية فقال الترمذي: إنه أرسل أبا رافع إلى ميمونة في مكة للخطبة، ثم نكحها في طريق مكة بالوكالة والنبي صلى الله عليه وسلم حلال بحل قبل الإحرام ثم فشا أمر تزوجه وهو محرم، أقول: يلزم عليه قول أنه تجاوز عن الميقات بلا إحرام وهو يريد الحج لأن في الروايات أنه نكح بسرف وهو بين مكة وذي الحليفة، فقالوا: إن توقيت المواقيت كان في حجة الوداع وواقعة نكاح ميمونة في السنة السابعة في عمرة القضاء، أقول: إن تصريح الراوي في البخاري ص (600) أن النبي صلى الله عليه وسلم قلد وأشعر وأحرم من ذي الحليفة في عام الحديبية، وهو قبل عام عمرة القضاء يخالفهم، فكيف يقول الشافعية بأن توقيتها في حجة الوداع؟ ثم عارض الأحناف الشافعية بأنا نقول بعكس ما قلتم أي نكح وهو محرم وظهر أمر تزوجه وهو حلال، وقال ابن حبان في توجيه حديثنا: بأنه نكح وهو حلال أي بحل بعد الإحرام وكان النبي صلى الله عليه وسلم داخل الحرم فالمحرم بمعنى داخل الحرم مثل أعرق وأشأم وأيمن أي ذهب إلى العراق والشام واليمن، وقال: إن هذه المحاورة صحيحة وأتى عليه بشاهد من الأشعار:
~ قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً
…
فدعا فلم أر مثله مخذولاً
وقال: إن عثمان لم يكن في الإحرام بل في حرم المدينة، أقول: لا ينحصر المحرم في هذا المعنى بل بمعنى ذي حرمة؛ أي قتلوه بغير وجه وسفكوا دماً ذا حرمة كما في:
~ قتلوا كسرى بليل محرماً
…
فتولى لم يمتّع بالكفن
ويدل على ما قلت ما في تاريخ الخطيب البغدادي أن في مجلس الرشيد اجتمع الكسائي والأصمعي وجرى الكلام في:
~ قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً
…
فقال الكسائي: إنه بمعنى الداخل في حرم مدينة، قال الأصمي: إنك لا تدري، بل معناه قتلوه وهو ذو دمٍ محقون ذي حرمة، وأتى بشعر:
قتلوا كسرى بليل محرماً إلخ.
والأصمعي هو عبد الملك بن قريب من رواة مسلم، وكان حافظ اللغة، وأقول: إنه ثبت
بالروايات أنه نكح ميمونة بسَرِف، فإذن لا يصدق أنه داخل الحرم، وأيضاً يخالف قول ابن حبان قرائن أخر منها ما في مسلم ص (453) قال يزيد بن الأصم: نكحها النبي صلى الله عليه وسلم وهو حلال، وقال ابن عباس: إنه نكحها وهو محرم إلخ، فجعل الراوي بين محرم وحلال مقالة ولم يثبت الحلال بمعنى الداخل في الحل، ومنها أن الطحاوي ص (442) روى عن عائشة وأبي هريرة:«أنه تزوجها وهو محرم» فكيف اجتمع ابن عباس وأبو هريرة وعائشة على لغة غريبة أي المحرم بمعنى الداخل في الحرم؟ وأسانيد روايات الطحاوي قوية، ومنها أن راوياً يقول متعجباً: إن ميمونة زُوجت في سرف وبني بها في سرف، وماتت في سرف، وكلامه في صدد التعجب يقتضي أن يكون الوقائع الثلاثة المتفرقة أزمنة اجتمعت في مكان واحد، وأما على ما قال ابن حبان فلا تعجب، وأطنب الطحاوي الكلام في المسألة في مشكل الآثار وقال في تحقيق الواقعة وتعينها: إنه أرسل أبا رافع من المدينة إلى مكة لخطبة ميمونة ثم أحرم بنفسه خارجاً إلى مكة، فأحالت ميمونة أمرها إلى عباس وجعلته وكيلاً فلما ولته خرج العباس لاستقباله ونكحها إياه بسرف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم محرماً فأقول: إن رواية ابن عباس أعلى من رواية ابن الأصم إسناداً واعتباراً، لأن مرتبة ابن عباس أعلى من مرتبة يزيد بن الأصم، حتى أن قال بعض الرواة: ما يزيد بن الأصم عند ابن عباس أنه بوال على عقبيه، وأيضاً كان ابن عباس في بيت العباس فيكون أعلم بحال النكاح من أبي رافع وكذلك من ميمونة أيضاً لأنها لما ولت العباس نكاحها فلا تكون مباشرة النكاح بنفسها.
باب ما جاء في أكل الصيد للمحرم
[846]
قال بعض السلف: لا يجوز للمحرم أكل الصيد وإن لم يُصد بدلالته وإشارته أو إعانته أو بنيته، والأخص منه مذهب العراقيين، أي لا اعتبار لنية من صاد، والشرط أن لا يصاد بدلالته أو إشارته أو إعانته، واختار البخاري مذهب العراقيين، ثم الأخص منه مذهب الحجازيين فإنهم جوزوا له أكله إذا لم يكن فيه دلالته وإشارته أو نيته، وغرض هذا الباب بيان خلاف ذلك السلف.
(ف) قال صاحب البحر: إن إشارة المحرم في الشاهد والدلالة في الغائب، وقال علماء اللغة: إن المستعمل في المعاني الدلالة بفتح الأول وفي الأعيان الدلالة بكسره.
قوله: (يصد لكم إلخ) تمسك الحجازيون بهذا، وأجاب العراقيون بوجوه منها ما قال صاحب العناية على الهداية: إن الرواية «أو يصاد لكم» بالألف و «أو» بمعنى إلا أن، وقال: في بعض الألفاظ تصريح «أو يصاد لكم» أقول: إن عامة الطرق خالية عن الألف أي «يصاد لكم» وأيضاً إن كان الألف موجوداً فيصاد لكم مرفوع من عطف الجملة على الجملة لا منصوب والقرينة رواية الباب بالجزم وغيرها من عامة الطرق، ومنها إن لكم في (يصاد لكم) بمعنى بإعانتكم أو إشارتكم، ولكن التأويل هذا تأويل لا يشفي ما في الصدور، والحق أن يقال: إن مراد الحديث هو ما قاله الحجازيون ولكنه يحمل على الكراهة، ويقال: إن النهي لسد الذرائع كما أنه أخذ صيد أبي قتادة للدلالة على الجواز ولم يأخذ صيد صعب بن جثامة.
قوله: (أحسن حديث روي إلخ) أقول: إن الأحسن إسناداً حديث أبي قتادة حديث الصحيحين، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم لحم صيد أبي قتادة، وفي رواية في الزيلعي أنه لم يأخذ لحم صيد أبي قتادة وحكم عليها الزيلعي بأنه وهم الراوي قطعاً وواقعة عدم الأخذ واقعة صعب بن جثامة.
قوله: (وهو غير محرم إلخ) مرور أبي قتادة عن الميقات بلا إحرام وارد على الأحناف، ونقول: إنه وارد على الشافعية أيضاً، وأما قولهم من أن واقعة أبي قتادة واقعة لم تكن المواقيت إذ ذاك معينة فيرد عليه ما في البخاري في الموضعين إحرامه من ذي الحليفة في عمرة الحديبية، وأما الجواب من الأحناف فهو أن محمداً صرّح في موطئه أن المدني يجوز له التجاوز من ذي الحليفة بلا إحرام ويحرم من جحفة وليس هذا قول الشافعية، وفي الروايات: أنه أرسل أبا قتادة إلى سيف البحر للتجسس أو لتحصيل الصدقات، وأراد أبو قتادة أن يلحقه في الطريق ورافقه بعض الصحابة فصال على حمار وحش وهو حلال وكان رفقاؤه محرمين فأكل بعضهم صيده ولم يأكله بعضهم، ثم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أكلهم فأجاز لهم النبي صلى الله عليه وسلم وسألهم عن إشارتهم ودلالتهم كما في الروايات، ولم يرد سؤاله عن نيته لهم مع أنه كان ضرورياً محتاجاً إليه عند الحجازيين، فترك الاستفصال في وقائع الأحوال ينزل منزلة عموم المقال، فواقعة أبي قتادة دليل العراقيين، ولينظر إلى ألفاظ مسلم أيضاً فإن فيه:«أن أبا قتادة لم ير الحمار الوحشي بل رآه أصحابه فجعلوا يضحك بعضهم إلى بعض» إلخ، وكان ضحكهم على أنهم محرمون ولا يجوز لهم الاصطياد فلما رأى أبو قتادة ضحكهم فهم الكلام فصاد الحمار، وفي بعض ألفاظ مسلم:«فجعلوا يضحك بعضهم إليّ» وهذا اللفظ يشير إلى حثهم إياه على صيده وذهاب أبي قتادة لأجلهم، وقال القاضي عياض: إن في لفظ يضحك بعضهم إلي سقطاً والأصل بعضهم إلى بعض، ثم يبحث في ضحكهم هل هو داخل في الإعانة أو خارج منه، فإني لم أجد تصريح أن هذا إعانة أو لا.
باب ما جاء في كراهية لحم الصيد للمحرم
[849]
هذا الباب على مذاق بعض السلف فإن لفظ اللحم أعم، وقصة الباب قصة حجة الوداع
وحديث الباب يخالف الحجازيين والعراقيين، وأجابوا بأنه محمول على سد الذرائع ومسألة سد الذرائع من أهم مسائل أصول الفقه وما ذكرها الشافعية والأحناف وذكرها الموالك وابن تيمية، وسد الذرائع أن لا يكون الشيء منهياً عنه في الشريعة إلا أن المكلف ينهى عنه كيلا يكون مؤدياً إلى ما هو منهي عنه، مثل نهي عمر وابن مسعود من التيمم للجنب كيلا يكون مؤدياً إلى المنهي عنه من التيمم في أدنى البرد.
قوله: (حماراً وحشياً إلخ) ظاهر حديث الباب أنه أتى به وهو حي، واختاره البخاري ص (245) فإذن رده فإنه لا يجوز له ذبح الصيد، ومذبوح المحرم عندنا ميتة لكن طرق مسلم تدل على أنه أتي به عنده مذبوحاً لأن في بعضها ذكر العجز، وفي بعضها ذكر الورك، وفي بعضها ذكر اللحم فيكون رده لسد الذرائع.
باب ما جاء في صيد البحر للمحرم
[850]
جائز عند الكل لنص القرآن، وأما قتل الجراد فعند أبي حنيفة فيه جزاء خلافاً للثلاثة والجزاء عندنا على أربعة أنواع: البدنة، وهي عندنا بقرة وناقة، وقال الشافعية: إنها ناقة، والدم، والطعام
بثلاثة أصوع، والتصدق بما شاء، وحديث الباب ليس بحجة علينا لسقوط سنده، ولنا أثر عمر في موطأ مالك ص (162) قال عمر: أطعم قبضة من الطعام، وفيه ص (161) : تمرة خير من جرادة، وقال الحجازيون: إن راوياً يقول في ابن ماجه: إني رأيت سمكاً عطس فخرجت الجرادة من أنفه، لكنه لا يدل على أنها من خلق البحر لأنه لعله أخذها من الخارج ولم يقل أحد من كتاب حالات الحيوانات بأنها من خلق البحر، ولعل السمك إن كان بيضه داخل الماء يخرج السمك وإن كانت خارجة تخرج الجراد فإذا عاشت في البر صارت برية، وقالوا: إن سقنقور (ريك ما هي) يعيش في البر ومن نسل السمك، والله أعلم.
باب ما جاء في الضبع يصيبها المحرم
[851]
الضبع في الفارسية يقال لها (كفتار) ، وفي الهندية (بهندار) ، والضبع حلال يؤكل عند الشافعي وذكر أرباب التذكرات أن الضبع من أخبث الحيوانات، ويقال: إنها تحفر حفرة تحت رأس الرجل النائم فإذا يقع الرأس في الحفرة تقطعها، ونقول: إنها من السباع وذات أنياب، وقال الشوكاني: إنها ليست بذات ناب بل لها فك (جبر) أقول: كلامه لا يجدي شيئاً، وتمسك الشافعي بحديث الباب لفظ الصيد والصيد يطلق على ما يؤكل لحمه، ولا نسلم هذا فإنه يطلق الصيد على صيد الأسد أيضاً، نعم يرد علينا قول الراوي نعم ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالجواب أطول، وأطنبه الطحاوي في مشكل الآثار على أوراق في الحصة المطبوعة، ولكن الأغلاط في النسخة المطبوعة، كثيرة وحاصل ما ذكر الطحاوي: أنه روي عن يحيى بن سعيد القطان بإسناده أنه من وهم الراوي (وابن أبي عمار) في رفعه، فإنه كان يروي عن عمر موقوفاً برهة من الزمان ثم بعده رفعه، وابن سعيد أول من صنف في الجرح والتعديل وهو حنفي مذهباً بتصريح ابن خلكان، وأشار الترمذي إلى أن الحديث موقوف نقلاً عن
يحيى بن سعيد، وأما فتوى عمر وجابر فأخرجها مالك في موطؤُه ص (161) ثم في خارج الستة ما يخالفنا في حديث الباب وهو زيادة:«أن في قتل الضبع شاة وتؤكل إلخ» بصيغة المؤنث وإني متردد في أنه صيغة المذكر أو المؤنث، ثم أقول: إن المرجع هو الشاة أي تؤكل الشاة والقرينة عليه ما في الترمذي في المجلد الثاني ص (1) عن خزيمة بن جزء قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الضبع؟ فقال: أوَ يأكل الضبع أحد» ، وسألته عن أكل الذئب؟ فقال: أو يأكل الذئب أحد! إلخ» إلا أن سند هذا الحديث ضعيف من جانب عبد الكريم بن أبي أمية، وهو ابن أبي المخارق وهو ضعيف، وأما عبد الكريم بن مالك فثقة، وأخطأ المولويّ محمد حسن السنبهلي في حاشية الهداية حيث قال: إنه عبد الكريم بن مالك وهو ثقة، والحال أنه ابن أبي المخارق، وحديث الباب ما أعله الطحاوي عن يحيى بن سعيد رحمه الله، ثم أقول: فتوى عمر ليست في جواز أكلها بل في جزاء قتل إياها، وأما فتوى جابر ففي أكلها كما في موطأ مالك ص (161) ، ومن أدلتنا ما رواه الزيلعي عن مسند أحمد ووجدت سنده قوياً، وفيه أن بعض المشائخ أفتى بحرمة الضبع بين يدي سعيد بن المسيب، فلم ينكر عليه ابن المسيب ورجح ابن قيم مسألة الأحناف من حرمة الضبع في إعلام الموقعين.
باب ما جاء في دخول النبي صلى الله عليه وسلم من أعلى مكة وخروجه من أسفلها
[854]
أعلى مكة جانبها الشرقي ويسمى: بكداء، وأسفلها جانبها الغربي ويسمى: بكدى، وقال ابن همام: إن الأدب وهو استقبال في هذا الطريق أي طريقه.
باب ما جاء في كراهية رفع اليد عند رؤية البيت
[855]
قال بعض العلماء: يرفع يديه حين رؤية البيت، ولهم رواية عند الطحاوي إلا أنها ليست بقوية، وهذا الرفع عندنا مكروه، نقول: مراده أن يرفع عند استلام الحجر كما في الحديث أنه يرفعهما في ثمانية مواضع، ورفعهما عند الأشواط ـ أي لاستلام الحجر ـ ضروري في الشوط الأول والأخير، وفي سائر الأشواط مستحب.
باب ما جاء في الرّمل من الحجر إلى الحجر
[857]
كان ابتداء الرمل أنه لما أتى مكة للعمرة عام القضاء وأراد الطواف خرج الكفار مستكرهين طواف الصحابة، وكانوا ينظرون من أعلى الجبل، وقالوا: أضناهم حمى يثرب، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالرَّمل، فكانوا يرملون في ثلاثة جوانب لأنها كانت منظر الكفار، وأما الجانب الرابع فلم يكونوا فيه، وكانت الصحابة يمشون فيه ثم صار حكم الرَّمل في الجوانب الأربعة، وقال ابن عباس: الرَّمل ليس بسنة، وإنما كان لغرض إظهار الجلادة والصحة في أعين كفار مكة، وارتفع الغرض خلافاً لجمهور الأمة، ونقول: إن واقعة إظهار الجلادة كانت واقعة عمرة القضاء، وقد رمل النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بعد فتح مكة فعلم أن الرمل سنة، والرمل سنة في كل طواف بعده سعي، وللقارن عندنا طوافان والرمل مرتين.
باب ما جاء في استلام الحجر الأسود والركن اليماني دون ما سواهما
[858]
استلام الحجر الأسود مستحب عند الكل، وأما استلام الركن اليماني فمروي عن محمد بن الحسن رحمه الله.
قوله: (الركن اليماني إلخ) ياء اليماني ليست بمشددة، بل عوض عن التنوين، وكان في الأصل يمانٍ، وأما وجه تخصيص الاستلام بالحجر الأسود والركن اليماني دون الركن العراقي والشامي فهو أن الأوليين باقيين على البناء الإبراهيمي بخلاف الآخرين، وكان بيت الله احترقت في زمان فجمع القريش الأموال الطيبة لبناء بيت الله الكعبة فبنوها وأخرجوا الحطيم لأن الأموال الطيبة كانت قليلة، والحطيم على شكل نصف الدائرة، ودوران الحطيم ستة وثلاثون ذراعاً وأبعد الحطيم عن بيت الله ستة أذرع، وقال الشافعية: إن بناء البيت من الجانب المقابل أيضاً ضيق فيه شيء تضييق ولذا جعل بعض سلاطين الشافعية موضعاً مرتفعاً من الأرض مسمناً في أصل جدار الكعبة ليقع الطواف خارجاً ويسمى ذلك الموضع المرتفع (شاذروان)، وورد في حديث:«أن الحجر الأسود بمنزلة يمين الله تعالى فيبايع به كما يبايع على يد الرجل» .
باب ما جاء أنه يبدأ بالصفا قبل المروة
[862]
تفصيل الفروع في الفقه ومن بدأ بالمروة قبل الصفا لا يعتبر الشوط الذي إلى الصفا
قوله: (شعائر الله إلخ) قال السيوطي: إن المراد بالشعائر العلامات (ياوگارين) ، والسعي بين الصفا والمروة واجب عند أبي حنيفة، فرض عند الشافعي.
باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة
[863]
في رواية البخاري في كتاب الأنبياء وجه السعي بين الصفا والمروة غير ما في هذا الحديث وذلك قصة هاجر وكانت هاجر، تمشي من الصفا إلى الميل الأخضر، وتسعى من الميل إلى الميل الثاني لغيبوبة إسماعيل عن نظرها ثم تمشي من الميل إلى المروة وجرت سنتها إلى قيام القيامة.
باب ما جاء في الطواف راكبا
[865]
المشي المقابل للركوب واجب عند أبي حنيفة، ولو ركب وترك الواجب لعذر فلا دم عليه كما أن ستة واجبات لآدم على تركها بعذر كما في هذا الشعر:
~ سعي وحلق ومشي عند طوفهما
…
صدر وجمع وزور قبل المساء
من واجبات ولكن حيث ما تركت، وأما سوى هذه الستة فتوهم عبارات البعض إلى الدم وعبارات بعضهم إلى عدم وجوب الدم.
قوله: (على راحلته إلخ) ركوبه كان لعذر، والعذر في مسلم أنه ركب ليراه الناسُ يسألوه وفي أبي داود: أنه كان مشتكياً، إلا أن في إسناد ما في أبي داود يزيد بن أبي زياد المتكلم فيه، وذكر البخاري في الترجمة أنه ركب لمرض، وقال الشارحون: إن بناء ترجمة البخاري على ما في أبي داود والله أعلم.
قوله: (انتهى إلي الركن إلخ) أي الحجر الأسود، وتمسك الموالك بهذا على طهارة أبوال ما يؤكل لحمه وأزباله، فإنها لو لم تكن طاهرة لما أدخل النبي صلى الله عليه وسلم ناقته في المسجد الحرام. وقال الحافظ في الفتح: إن ناقة النبي صلى الله عليه وسلم لعلها كانت مُدَرَّبَةً، لكن جواب الحافظ ليس بذاك القوي، وهناك بحث في تمسك الموالك بأن جوانب البيت في عهده كانت مطافاً ولم يكن ثمة بناءً، وأما بناء الحائط وتحديد المسجد الحرام فمن عهد عمر، كما في البخاري في باب بنيان الكعبة، فلم يكن المسجد الحرام حين طوافه فرق استدلال المالكية ثم فيه نظر بأن القرآن العظيم يخبر بالمسجد الحرام، ويسمي فلا بد من كون المسجد الحرام في عهده، فيبحث أن العرصة إذا كانت لا تعمير فيها فهل تأخذ أحكام المسجد أم لا؟ فعاد نظر الموالك فأقول: إنه يبحث في أن مطافه كان خارج البيت متصلها أو منفصلاً عنها، والبحث بقدر الضرورة مر سابقاً.
واعلم أن أطوفة النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة ستة؛ طواف عمرة القضاء، وطواف فتح مكة بلا عمرة، وطواف في عمرة الجعرانة، وثلاثة أطوفة في حجة الوداع اتفاقاً، والاختلاف في النظر؛ فعندنا أولها: طواف العمرة، وثانيها: طواف الزيارة، وثالثها: طواف الوداع، وقال الشافعية: طواف طواف
القدوم، وأما طواف العمرة فدخل في طواف الحج، وأما سوى هذه الستة فأشار إليها البخاري تمريضاً، ومن المعلوم أن البخاري إذا أتى في الترجمة بالتمريض فلا يكون مختاره، وبات النبي صلى الله عليه وسلم بمنى ليلة الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، وطاف البيت في هذه الليالي ولكن عددها غير معلوم، وأما حال كونها ركوباً وماشياً ففي كتب السير أن طواف عمرة القضاء وطواف الزيارة كانا في حال الركوب، ونقل الواقدي أن طواف فتح مكة أيضاً كان راكباً ولكن الواقدي متكلم فيه، ويأتي في تصانيفه بالرطبة واليابسات وطواف عمرة جعرانة وطواف عمرة الحج في حجة الوداع والوداع كانت ماشياً.
باب ما جاء في فضل الطواف
[866]
قوله: (خمسين مرة إلخ) أي طواف النافلة لا الحج خمسين مرة، وقالوا: إن أعلى العبادات للآفاقي الطواف فليكثره مهما أمكن، وأما في الحج فللمفرد ثلاثة أطوفة، وللقارن أربعة أطوفة، وللمتمتع ثلاثة أطوفة.
باب ما جاء في الصلاة بعد العصر وبعد الصبح في الطواف لمن يطوف
[868]
ركعتا الطواف واجبتان عندنا ومع هذا لا يصح أداؤهما بعد العصر والصبح كذا في الهداية، وقال: إنهما واجبتان لغيرهما لا يصح أداؤهما في هذا الوقت المكروه، وأما الواجب لغيره فمر، وقال الشافعية: تصح صلاة الطواف في الوقت المكروه، وقال الشافعية: إن حديث: «صلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار» إلخ عام، ونقول: إنه يخصص بأحاديث تدل على كراهة الصلاة في الأوقات المكروهة وقيل: إن حديث الباب لا يدل على مذهب الشافعية بل مراده أن بني عبد مناف لاحقّ لهم بالمنع كما مر نظيره من حديث: «لا تمنعوا إماء الله من المساجد» إلخ أي لاحق لكم في المنع، ولنا أثر الفاروق الأعظم أخرجه الطحاوي ص (396) ، والبخاري ص (220) في الترجمة، وللطرفين آثار ويمكن لأحد من الأحناف أن يستدل بما في البخاري ص (220) : عن أم سلمة كانت مريضة وقت طواف الوداع فسألت النبي صلى الله عليه وسلم: كيف تفعل؟ فقال: طوفي وراء الناس راكبة، فطافت ولم تصل حتى خرجت إلخ، ولعل عدم صلاتها كانت بأمره، ولكني هناك متردد في خروجها أنها خرجت من مكة أو حتى خرجت من المسجد الحرام، وعلى التقدير الثاني لا يكون الحديث المرفوع حجة لنا.
باب ما جاء في كراهية الطواف عريانا
[871]
ستر العورة في الحج واجب، وإن قيل: إن ستر العورة فرض في نفسه فكيف يكون واجباً للحج؟ قلت: لا تنافي بينهما فإنه قد يكون الشيء فرضاً في نفسه وواجباً للغير.
(ف) واعلم أن دلالة ظنية الدليل على الوجوب وقطعية الدليل على الفرضية إنما يظهر في دواخل الحقيقة لا في خارج الحقيقة من الأحكام والشروط، فإنهم لا يبحثون في الأحكام والشروط ظناً وقطعاً والموانع أيضاً من باب الأحكام والشروط فعلى هذا ما زدنا على نص آية السرقة من عشرة دراهم بأخبار الآحاد فلا إشكال فيه بل عشرة دراهم شرط قطع اليد، وكذلك المهر في النكاح من عشرة دراهم زيادة على نص آية تدل على أن يكون النكاح بمال، فهذه الزيادة بأخبار الآحاد زيادة
الحكم لأن المهر حكم فلا إشكال، وقال صاحب الهداية: إن «أخرجوهن من حيث أخرجهن الله» إلخ خبر مشهور، وجعله مبنى مسكة المحاذاة، أقول: إنه ليس بمشهور بل ليس بمرفوع أيضاً، بل أثر، وقد علمت بالاستقراء أن الواجبات الداخلية ليست إلا في الحج والصلاة هذا عندنا، وأما عند الشافعية ففي الحج فقط.
باب ما جاء في الصلاة في الكعبة
[874]
إنه دخل في الكعبة في فتح مكة وخرب الأصنام، وفي كتب السِّير أنه كان يشير بأصبعه إلى الأصنام ويقرأ:[الإسراء: 81] وكانت تنكب الأصنام بأنفسها، ثم محا التماثيل على جدران الكعبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجه: إن يبلَّ الثوب ويمحو التصاوير، فقال علي للنبي صلى الله عليه وسلم: ضع قدميك على كتفي وامحها، فقال: إنك لا تستطيع أن تحملني بل ضع قدميك على كتفي، وقال زيد بن ثابت لما نزل قطعة [النساء: 95] وكان فخذه على فخذي فخشيت أن ترض فخذي ولا كانت تحمل النبي صلى الله عليه وسلم ناقة إلا ناقته القصواء، وفي بعض الروايات أنه دخل الكعبة في حجة الوداع لكن البعض الآخر تخالفها كما أشار البخاري إلى اختلاف الرواة، وكانت التوفيق بين الروايتين ممكناً لكن المحدثين لم يتوجهوا إلى التوفيق، وأما الصلاة في الكعبة فروى بلال أنه صلى في عام فتح مكة وروى ابن عباس بأنه لم يصلِّ بل كبَّر وسبَّح في جوانبه، ورجح المحدثون رواية بلال على ابن عباس لأنه
مثبت والمثبت مقدم كما صرح البخاري في أبواب الزكاة، وكان التوفيق بين روايتهما ممكناً بالحمل على الواقعتين لكن المحدثين لم يتوجهوا إلى التوفيق بل إلى الترجيح، وقال البخاري: إن ابن عباس أيضاً مثبت لشيء آخر أي التكبيرات.
قوله: (المكتوبة في الكعبة إلخ) لأن في داخل الكعبة تكون بعض أجزاء الكعبة مستقبلة إليها وبعضها مستدبرة إليها.
قوله: (وقال الشافعي لا بأس إلخ) مذهب الشافعي عدم جواز الصلاة متوجهاً إلى باب الكعبة أو على أسقف الكعبة بدون السترة فإن الكعبة عنده البناء لا الهواء، ولم يفرق بين المكتوبة والنافلة.
قيل: باني الكعبة إبراهيم، وقيل: آدم ورفعت إلى السماء في طوفان نوح حذاء هذا البناء، أقول: ثبت في حديث البخاري أن في حذاء كعبتنا كعبة الملائكة في السماء الرابعة المسمى بالبيت المعمور، ويسجد فيها كل يوم سبعون ألف ملك، وأما بناء الكعبة فقيل: بنيت الكعبة اثنين وعشرين مرة، وقيل: ست مرات، وأما البناء في الحال فبناء حجاج الثقفي مبير ثقيف، فإن ابن الزبير كان بناها على ما تمنى النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع الحديث عن خالته عائشة، فهدم حجاج المبير بناءه رضي الله تعالى عنه، وحكي أن الرشيد سأل مالك بن أنس أن يبني الكعبة على ما كان بناء ابن الزبير ومتمنى النبي صلى الله عليه وسلم فما أجاز له مالك لسد الذرائع.
باب ما جاء في الصلاة في الحجر
[876]
الحِجر بالكسر الحطيم، وغرض المصنف بيان أن الصلاة في الحطيم متوجهاً إلى الكعبة توجب ثواب الصلاة في الكعبة أم لا؟ وقال الفقهاء الأربعة: من صلى مستقبل الحطيم بلا استقبال جزء من البيت صلاته غير صحيحة، فإن استقبال البيت في الصلاة ثابت بالقرآن أي النص القاطع، وجزئية الحطيم من البيت ثابتة بأخبار الآحاد فلا تصح الصلاة هذه.
أقول: إن مرجع هذه المسألة مسألة عدم جواز الزيادة بخبر الواحد، وهذه المسألة مسألة الأحناف، وينكر عليها غيرنا ثم أخذ بها هاهنا، ثم قال الفقهاء بالأخذ بما هو أحوط في الصلاة والطواف.
باب ما جاء في فضل الحجر الأسود والركن والمقام
[877]
مقام إبراهيم أصله ما قيل: إنه كان حجر بنى إبراهيم الكعبة قائماً عليه، وقالوا: إنه كان يرتفع وينخفض حسب الضرورة عند البناء ثم نادى إبراهيم بعد بناء الكعبة قائماً على ذلك الحجر: يا أيها الذين في أصلاب أبائكم وأرحام أمهاتكم حجوا البيت، فسمع كل من كان حجه مقدراً وأجاب نداءه، وكان أكثر مجيبي النداء أهل اليمن، كذا ذكره المفسرون.
قوله: (سودته خطايا إلخ) قيل: سودته خطاياهم وكيف لا تبيضه حسناتهم؟ أقول: إن الاعتراض من الجاهل الغبي والنتيجة للأخس الأرذل، وقيل: إنا لم نجد من التواريخ أن الحجر الأسود
كان أبيض في حال ما، أقول: إن مبدء التاريخ من الإسلاميين والتاريخ ليس بمتصل إلى آدم، وأيضاً لما أخبر الحديث القوي المسند: بأنه (سودته الخطايا) فما رتبة التاريخ في مقابلة الحديث؟ ومن ينتظر إلى ثبوته بالتاريخ، والحال أن مدار التاريخ على الحكايات بلا أسانيد، وبناء الأحاديث على الأسانيد مع نقدها.
باب ما جاء في الخروج إلى منى والمقام بها
[879]
لفظ منى منصرف أو غير منصرف، يسن الخروج إلى منى يوم التروية ويصلي ظهر يوم التروية وعصرها وعشائيها وصبح التاسع في منى ثم يرتحل إلى عرفات
باب ما جاء في تقصير الصلاة بمنى
[882]
التقصير عند مالك ليس للسفر بل من النسك، وقال أبو حنيفة: إن القصر للسفر فلا قصر لأهل مكة عند أبي حنيفة خلاف مالك، واختار ابن تيمية قول مالك، وقال: لم يثبت أمره أهل مكة بالإتمام وقد كان أمرهم حين جاء لعمرة القضاء، لكنه ما أتى بما يكون حجة علينا، ونقول: إن عدم الذكر لا يوجب النفي في الواقع.
باب ما جاء في الوقوف بعرفات والدعاء بها
[883]
وقوف عرفات عندنا أعظم ركن من أركان الحج، حتى لو فات لا يتلافاه شيء إلا القضاء عاماً مقبلاً، والطواف أيضاً ركن لكنه له تلافٍ لو فات، ووقت وقوف عرفات بعد زوال شمس يوم عرفة إلى صبح يوم النحر، فمن وقف في جزء من أجزاء هذا الوقت أجزأه وإلا فلا، ويخطب الإمام خطبة طويلة ويلبي الناس وقتاً فوقتاً أو يدعون بالمأثورات، وعرفات في الحل والمزدلفة في الحرم، وكان ينبغي لمن تعرض لأسرار الحج أن يبني كلامه على أثر علي رضي الله عنه، وعرفات قريب من وادي نعمان التي فيها نشرت الأرواح لآدم، وتعرض العلماء إلى تعيين موقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات فأول من عين هو القاضي بدر الدين أبو عبد الله الشبلي الحنفي رحمه الله تلميذ الذهبي.
قوله: (وهم الحمس إلخ) التفسير المذكور في الحديث ليس التفسير اللغوي، بل الحمس في اللغة جمع أحمس بمعنى الشجاع.
باب ما جاء أن عرفة كلها موقف
[885]
العرفات كلها موقف إلا وادي عرنة، والمزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر، ثم بحث ابن الهمام في من قام بعرنة أو محسراً أجزأه أم لا؟ فقال: إنه مجزئ مع ارتكاب الكراهة تحريماً.
قوله: (على هيئة إلخ) في نسخة على هنية وكلا اللفظين في نسخ الهداية.
قوله: (إلا وادي محسّر إلخ) خسف فيه أصحاب الفيل، قالوا: إن أبرهة ملك اليمن بنى الكعبة اليمانية في مقابلة بيت الله الكعبة المكية فتغوط رجل من قريش في الكعبة اليمانية فغضب أبرهة وأراد أن يكسر بيت الله ويهدمها، فجاء ونزل بأصحابه في وادي محسّر فقضى عليهم أمر الله، ورأيت في مشكل الآثار رواية تدل على أن وجه عدم وقوف أهل الجاهلية بعرفة أنهم كانوا يعتقدون من وقف به يطير به الجنات.
قوله: (أحج عنها إلخ) هذه المسألة تسمى في الفقه بمسألة المغصوب، وفي حديث الباب في بعض الألفاظ:«أن أبي لا يثبت على الراحلة» ، قال أبو حنيفة: من عنده الزاد والراحلة ويمكن له الثبات على الراحلة ثم عجز وتمادى عجزه فعليه الإحجاج أو الوصية، ثم إن قدر بعد العجز بطل إحاجه ويحج بنفسه.
قوله: (احلق فلا حرج إلخ) واعلم أن في يوم النحر أربعة نسك، رمي ونحر وحلق وطواف على ترتيب ما ذكرت، والترتيب في الثلاثة الأول هذا واجب والأسولة المذكورة في الأحاديث في سوء الترتيب سبعة، وأما الفروع الفقهية فكثيرة، ثم مذهب الشافعي وصاحبي أبي حنيفة عدم الجزاء في سوء الترتيب وتمسكوا بحديث الباب، وعند أحمد لو أساء الترتيب عمداً فجزاء، وإن كان سهواً فلا جزاء، وعند أبي حنيفة جزاء بلا فرق عمد وسهو، وعند مالك أيضاً أجزاء في بعض الجزئيات كما يدل مُوطَؤُه ص (158) ، ثم الطواف فلا شيء في تقديمه أو تأخيره فإنه عبادة في كل حال، وأما الثلاثة الباقية فالنحر لازم على القارن والمتمتع فيكون ترتيبه واجباً في حقهما، وأما المفرد بالحج فالنحر ليس بواجب في حقه ولم يبق في حقه وجوب الترتيب إلا في الرمي وأما الصور الواردة في الأحاديث في سوء الترتيب فسبعة وليس فيها ذكر أن السائل كان قارناً أو متمتعاً أو مفرداً فلو حملناها على المفرد لا تكون الجناية فيها عند أبي حنيفة إلا في صورة فإنها لا مناص فيها من الجناية وجزائها، وإن حملت على المفرد أيضاً لأنها مشتملة على سوء الترتيب في الحلق فعلينا جوابها فنقول: قد بوب الطحاوي ص (444) على المسألة لأبي حنيفة، وقال ابن عباس راوي حديث المرفوع:(لا حرج) . وفتواه بإهراق الدم والجزاء فيكون مراد الحديث المرفوع: (لا حرج) إلخ، نفي الحرج في أحكام الآخرة، أي نفي الإثم مع وجوب الجزاء، ومر الحافظ على فتوى ابن عباس فأعلَّها في موضع، وسكت في موضع، وأقول: إن فتواه قوية السند بلا ريب، ثم أتى الطحاوي بقرائن أن النفي في (لا حرج) نفي الإثم بأنه لما كثر عليه تساؤل الناس جلس وقال:«إنما الحرج في تعرض عرض الأخ المسلم» كما في معاني الآثار (444) وأبي داود، وأشار الطحاوي إلى الجواب في موضع آخر حيث قال: إن الشريعة الغراء إذا أجازت عمل شيء في الصلاة
لا يجعل ذلك العمل مفسد الصلاة ومضراً لها بخلاف الحج فإن الشيء ربما يكون مجازاً في الحج ومع ذلك يكون ذلك العمل مضراً للحج في أحكام الدنيا لا في أحكام الآخرة، مثل أن نص القرآن أجاز الحلق لعذر للمحرم وأوجب عليه الجزاء لآية من كان به أذى إلخ، وكذلك المحصر يجب عليه القضاء عاماً مقبلاً مع أن الخروج عن الإحرام مجاز له وكلام الطحاوي هذا قوي في الجواب فحاصل الجواب أن لفظ لا حرج لا ينفي الجزاء بل الإثم، وأما نفي الإثم فلأن السائلين كانوا غير عالمين بالمسألة كما صرحوا في أسولتهم، و (إني لم أشعر) كما ذكره ابن دقيق العيد في شرح عمدة الأحكام.
قوله: (يجمع بين الظهر والعصر إلخ) قال أبو حنيفة: إن لجمع الظهر والعصر بعرفة وجمع العشائين بمزدلفة شروطاً، أما جمع العصرين فيشترط له الإمام والإحرام والعرفات، وأما جمع العشائين فله الإحرام والمزدلفة ولا يشترط الإمام، وأما جمع العصرين فبأذان وإقامتين وجمع العشائين بأذان وإقامة، وروي عن زفر إقامتان في العشائين أيضاً، واختاره الطحاوي وابن الهمام وهو مذهب الشافعي رحمه الله، وأما وجه مذهب أبي حنيفة فهو أن ابن عمر يروي مثل مذهب أبي حنيفة، وأما جابر بن عبد الله فيروي موافقاً للجمهور، وأما وجه الفرق بين إقامة بمزدلفة وإقامتين بعرفة عند أبي حنيفة فذكروا أن العصر يقدم عن وقته فيحتاج إلى اطلاع جديد، وأما في تأخير العشاء الأولى فتأخيرها معلوم لا يحتاج إلى الاطلاع، وعندي أن وجه الفرق هو التفقه بأن وقت الظهر للعصر مستعار للعصر ليس وقته أصالة، وأما في المغرب فلا استعارة بل هذا الوقت وقت المغرب أصالة في هذا اليوم خاصةً فيكون الإقامة الواحدة كافية، لأن المغرب واقعة في وقتها في ذلك اليوم وهذا الوجه يؤيده مسائل أبي حنيفة عنه منها أن تقديم العصر بعرفة ليس بواجب وتأخير المغرب إلى العشاء واجب، ومن صلى المغرب في الوقت المتعارف يجب الإعادة عليه إلى طلوع الصبح ولو لم يعدها وطلع الصبح عادت الصلاة صحيحة، وأما وجه الوجه فهو أن تقديم العصر كان لصرف الوقت جميعه بعد أدائها في استماع الخطبة، والوقوف بعرفة وأما تأخير المغرب فلا داعي فيه بل ذلك الوقت وقت المغرب في هذا اليوم، وأما الأحاديث في تعدد الأذان والإقامة في الجمع بمزدلفة فستة متعارضة صحاح ذكرها العيني في العمدة والواقعة واقعة واحدة.
باب ما جاء في الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة
[887]
حديث الباب عن ابن عمر حديث أبي حنيفة، وتأول فيه النووي بأن المراد بإقامة إقامة ولكن التأويل غير ظاهر، ويمكن لنا أن نتأول في حديث جابر بأن تعدد الإقامة إنما هو عند الفصل بين المغرب والعشاء بالأكل ونحوه كما هو مذكور في فقهنا من تعدد الإقامتين عند الفصل، كذا في الهداية.
باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج
[889]
ظاهر الحديث هذا موافق للشافعي في ركنية الوقوف بمزدلفة لأن نسق الوقوفين في حديث الباب واحد وأما وقوف عرفة فركن اتفاقاً فإنه توراث العمل به وإن كان ثابتاً بخبر الواحد.
قوله: (من جبلي طيء إلخ) وهو سلمى وأجاء، وطيء على وزن سيّد.
قوله: (صلاتنا هذه إلخ) أي صلاة الصبح بمزدلفة.
باب ما جاء في تقديم الضعفة من جمع بليل
[892]
وقوف مزدلفة واجب، ووقته من الليل إلى طلوع الشمس، وإن قدموا الضعفة إلى منى بالليل جاز، ولا شيء على فوت وقوف مزدلفة بعذر، وأما العذر ووجه تقديم الضعفة إلى منى فهو أن يفرغوا من الرمي قبل ازدحام الناس، ووقت الرمي بعد طلوع الصبح عند أبي حنيفة إلى طلوع الذكاء وهذا وقت الإجزاء، وأما وقت السنة فبعد طلوع الشمس، ولا يجوز عندنا أن يرمي الضعفة قبل طلوع الصبح، وإن قيل: كان غرض التقديم الاحتراس من الازدحام وإذا رموا بعد الصبح يأتي سائر الناس أيضاً، نقول: إنهم يفرغون من الرمي قبل أن يأتي الناس ويزدحموا، وقال الشافعي: يجوز الرمي بالليل، ولنا ما في الطحاوي ص (414) عن ابن عباس مرفوعاً، وللشافعي ما في البخاري عمل صحابية ثم رفعها وقولها:«كنا نفعل هكذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم» ، ولنا قولي.
باب ما جاء في رمي النحر ضحى
[894]
وقت رمي الجمار فأما رمي يوم النحر أي عاشر ذي الحجة فبعد طلوع الشمس إلى الزوال ويجزي بعد الصبح إلى طلوع اليوم الثاني، وقال الشافعي: يجزي بعد نصف الليل وأما رمي اليوم الحادي عشر والثاني عشر فظاهر الرواية لنا أن يرمي بعد زوال الشمس إلى طلوع الفجر من اليوم الثاني عشر، أو الثالث عشر، وأما وقت الجواز فمن طلوع الفجر، إلى طلوع الفجر، وأما رمي يوم الثالث عشر فمن طلوع الشمس إلى غروبها، والمسنون بعد زوالها إلى غروبها وتفصيل المسائل والفروع يطلب من الفقه.
باب ما جاء في رمي الجمار راكبا وماشيا
[899]
الرمي الذي بعده رمي الأفضل فيه المشي لأن بعده دعاءً، والذي لا رمي بعده فالأفضل فيه الركوب، ذكر في البحر أن أبا يوسف كان مريضاً فأتاه بعض أصحابه عيادة ففتح أبو يوسف عينيه ونظر إليه وسأله كيف الرمي أفضل ماشياً أو راكباً؟ قال راكباً قال: لا، قال: ماشياً، قال: لا، وقال: كل رمي بعده رمي الأفضل فيه المشي، وكل رمي لا رمي بعده فالأفضل فيه الركوب، فقال: خرجت من عنده فما بلغت الباب إلا أدركتني جارية تقول: قد ارتحل الإمام رحمه الله تعالى.
باب كيف ترمى الجمار
؟
[901]
يرمي الجمرة الأولى والوسطى مستقبل القبلة ويقوم جانب الشرق من الجمرتين، وأما في العقبة فيرمي مستقبل الجمرة ويجعل البيت عن يساره، وفي حديث الباب استقبال القبلة عند رمي العقبة، وفي الصحيحين عن ابن مسعود: أن يستقبل الجمرة ويجعل البيت عن يساره خلاف حديث الباب، وكلا الحديثين عن ابن مسعود فأعل الحافظ حديث الباب وحسنه الترمذي، ولا بد من إعلال حديث الترمذي ولا احتياج إلى التأويل.
باب ما جاء في الاشتراك في البدنة والبقرة
[904]
البدنة عندنا تعم البقر والجزور، وقال الشافعية: إنها مختصة بالجزور ومذهب الأئمة الأربعة اشتراك السبعة في الناقة، وعند إسحاق بن راهويه يجوز اشتراك عشرة في ناقة، وله أيضاً حديث في هذا الباب وأجاب أتباع الأئمة الأربعة بأنها واقعة حال ولا نعلم تفصيلها فليؤخذ بالضابطة العامة. والرواية تدل على أن الواقعة واقعة السفر ولا أضحية على المسافر فيكون الذبح ذبح تبرع أو يكون الذبح للأكل أو يقال: إن اشتراك عشرة رجال لعله كان في زمان ثم استقر الأمر على سبعة رجال في الناقة، ومرَّ الحافظ على حديث ابن عباس متمسك إسحاق وأشار إلى الإعلال لكنه لم يفصح بالإعلال.
قوله: (نحرنا إلخ) أطلق النحر على ذبح البقرة وليس هذا أصل استعماله، والمستحب في البقرة الذبح وفيما هو طويل عنقه مثل الناقة والبط النحر
باب ما جاء في إشعار البدن
[906]
الإشعار هو الكشط برمح في سنام البعير، وقيل: أن الإشعار سنة الملة الإبراهيمية، والإشعار سنة عند الجمهور ونسب إلى أبي حنيفة كراهته، وأنه مثلَة.
قوله: (أهل الرأي إلخ) لفظ أهل الرأي ليس للتوهين بل يطلق على الفقيه، وسمى أبو عمر كتابه الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار مما تضمنه الموطأ في معاني الرأي والآثار، وأطلق ابن تيمية في تصانيفه على الفقهاء إلا أن أول إطلاق هذا اللفظ على أبي حنيفة وأصحابه فإنه أول من دون الفقه،
ومحمد بن حسن أول من أفرز الفقه من الحديث بخلاف غيره من مالك وأبي يوسف وغيرهما، فإنهم كانوا يجمعون بين الأحاديث والآثار والفقه ثم يستعمل لفظ أهل الرأي في كل فقيه، ثم إن أعلم الناس بمذهب أبي حنيفة وهو الإمام الطحاوي نقل: إنما كرهه أبو حنيفة فإن أهل عصره كانوا يعدون في الأشعار ويتجاوزون عن حد السنة.
قوله: (بدعة إلخ) لم يصرح وكيع بأن هذا قول أبي حنيفة، وإذا ذكر قوله لم يقله بدعة إلا أنه لم يرض به، وأما غضب وكيع فإنما كان على هذا الرجل حيث عارض السنة بقول إبراهيم صورة كما أمر أبو يوسف بقتل رجل عارض قوله عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله حيث قال أبو يوسف: إنه صلى الله عليه وسلم كان يحب الدباء، فقال رجل: إني لا أحب كما في تكملة الطوري، نقول: إن وكيعاً حنفي كان يفتي بمذهب أبي حنيفة كما في عقود الجواهر ومثله في كتاب الضعفاء لأبي الفتح الأزدي إمام الجرح والتعديل، وكان وكيع شيخ أحمد بن حنبل تلميذ أبي حنيفة، وفي الميزان للشعراني قال وكيع: لو لم ألق ثلاثة رجال: ابن المبارك وأبا حنيفة والثوري لكنت من عوام الناس، فعلم أن وكيعاً ممن يعتقد في حق أبي حنيفة.
باب ما جاء في تقليد الهدي للمقيم
[908]
سوق الهدي لمن يكون مقيماً في بيته لأن يذبح في منى مستحب وقربة، ثم هل يجري عليه
أحكام المحرم أم لا؟ فمختلف فيه؛ بعض السلف إلى أنه في حكم المحرم ما لم يذبح هديه خلاف الفقهاء الأربعة وابن عباس من ذلك البعض.
باب ما جاء في تقليد الغنم
[909]
تقليد الغنم ليس بمذكور في كتبنا نفياً وإثباتاً، وأما ما في كتبنا من نفي تقليد الغنم فمراده نفي التقليد بالنعل لا من الخيط، فأقول: لما لم يكن التقليد بالخيط مذكوراً وصح في الحديث فلا بد من جوازه. وفي بعض ألفاظ حديث الباب الوبر الأحمر.
باب ما جاء إذا عطب الهدي ما يصنع به
[910]
العطب الهلاك، قال أبو حنيفة: إن كان الهدي نفلاً فيذبحه ويلطخ نعلها بدمها ليعلمه الفقراء ويأكلوه ولا يجوز للمهدي أكله، وإن كان الهدي واجباً فعلى المهدي بدله ويفعل بهذا المعطوب ما يشاء ويجوز له أكله، وقال الشافعي: الهدي الذي لا يجوز أكله للمهدي لا يجوز لرفقائه أيضاً، وله حديث الباب ونحمله على أنه نهي لسد الذرائع.
باب ما جاء في ركوب البدنة
[911]
يجوز الركوب عند أبي حنيفة عند الاضطرار، وعند الشافعي عند الحاجة، والاضطرار أشد من الحاجة، ثم الاضطرار والحاجة موكولان إلى رأي من ابتلي بهما، وظاهر حديث الباب للشافعي ولكن في مسلم ص (436) تصريح: إذا ألجئت فيؤيدنا.
باب ما جاء بأي جانب الرأس يبدأ في الحلق
[912]
الجمهور إلى أنه يبدأ من اليمين ونسب إلى أبي حنيفة أن يبدأ من اليسار، وهذه الرواية عن أبي حنيفة أخذها النووي واعترض على أبي حنيفة وقال: إنه خالف النص، ونقل بعض من يتصدى إلى الطعن في حق أبي حنيفة حكاية؛ وهي أن أبا حنيفة لما ذهب حاجاً ففرغ عن حجته وأراد الحلق فاستدبر القبلة، قال الحالق: استقبلها، ثم بدأ أبو حنيفة باليسار، قال الحالق: ابدأ باليمين ثم بعد
الحلق أخذ أبو حنيفة أن يقوم وما دفن الأشعار، قال الحالق: ادفنها فقال أبو حنيفة: أخذت ثلاثة مسائل من الحالق، أقول: إن هذه الحكاية ثبوتها لا يعلم وبعد فرض تسليمها تدل على جلالة قدره وقبوله الشيء ممن دونه إذا وقع ذهول، وأقول: قد ثبت الروايتان عن أبي حنيفة التيامن والتياسر كما في غاية السروجي، وأيضاً يمكن للمجتهد أن يبحث أن التيامن المذكور في الحديث يمين الحالق أو المحلوق.
قوله: (ابن حسان إلخ) حسان إن اشتق من الحسن فمنصرف، وإن اشتق من الحس فغير منصرف.
قوله: (أقسمة بين الناس إلخ) أي للتبرك، وهذا يدل على أخذ التبركات، وتبركاته كثيرة منها البردة العباسية هذه البردة أعطى النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن الزهير حين قرأ قصيدة بانت سعاد في حضرته واشتراها العباسيون.
باب ما جاء في الحلق والتقصير
[319]
الاختلاف في قدر حلق رأس المحرم مثل الاختلاف في مسحه في الوضوء، وبحث ابن الهمام في الحلق وقال: ليس بين المسح والحلق جامع يقاس الحلق على المسح وإنه قياس شبه لا قياس علة، والمقبول قياس العلة وأطنب الكلام وهو من تفرداته، أقول: زعم الشيخ أن في قدر حلق الرأس قياساً والحال أنه لا قياس في هذا بل هاهنا أصل مختلف فيه وهو أنه كم يجب أداء حصة المحل إذا أمر الشارع بالفعل المتعدي المتعلق بالمحل لصدق قول: إنه امتثل الأمر الشرعي فقال الشافعي: يكفي بعض المحل، وقال أبو حنيفة: يجب القدر المعتد به أي ربع المحل، وقال مالك بالاستيعاب، فكأن الاحتمالات ثلاثة، ذهب ذاهب إلى كل واحد منها وما ذكرت أشار إليه ابن رشد في القواعد، وأخذ أبو حنيفة بربع الشيء في مواضع منها ما في المسألة ومنها مسألة بطلان الصلاة بكشف العضو، ومنها نجاسة الثوب، ومنها قطع أذان الأضحية، ومسائل أخر فمدار الاختلاف في مسألة الباب أصولية لا ما زعم الشيخ ثم اختار مسألة مالك.
قوله: (مرة أو مرتين إلخ) دعا للمحلقين مرتين وللمقصرين مرة ثابت في واقعتين أحدهما في عام الحديبية وثانيتها في حجة الوداع.
باب ما جاء في كراهية الحلق للنساء
[914]
الحلق للنسوان حرام عند كافة العلماء، ولا يجوز لهن عند التحلل إلا القصر قدر ما يلف حول أنملة، وهاهنا إشكال قوي لم يتوجه إليه أحد، وهو ما في المسلم ص (148) : إن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قصر الأشعار وجعلت مثل الوفرة إلخ، وما حله النووي والقاضي عياض المازري والقرطبي وأبو عبد الله المالكي الأُبِّيُّ، وسألت مولانا مد ظله العالي عن حل الإشكال؟ وقال: لعلها قلت الأشعار حالة الشيب، وعندي أن قصر بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان عند التحلل من الإحرام لا في غيره من الأوقات، ولي في هذا الجواب قرائن، وأشكل من حديث مسلم ما أخرجه الزيلعي في التخريج أن ابن عباس ويزيد بن الأصم لما دفنا ميمونة في القبر وجدا. . اه.
باب ما جاء في من حلق قبل أن يذبح أو نحر قبل أن يرمي
[916]
تفصيل المسألة مر سابقاً، كلا السؤالين لو حملناهما على المفرد فلا جزاء عند أبي حنيفة أيضاً ولا جناية.
باب ما جاء في الطيب عند الإحلال قبل الزيارة
[917]
المحلل عندنا اثنان الحلق وطواف الزيارة هذا هو المشهور في عامة كتبنا، وقال صاحب الهداية إن المحلل هو الحلق فقط لكن أثره في تحليل النساء موقوف على طواف الزيارة، والوجه يؤيد قول الهداية بأن المحلل إنما يكون ما كان محظوراً، والطواف ليس بمحظور في الإحرام وفي قاضي خان رواية شاذة عن أبي حنيفة أن الطيب أيضاً في حكم النساء أي لا يحل إلا بعد طواف الزيارة، أقول: تحمل الرواية الشاذة على الكراهة على وفاق ما في ابن ماجه فإن فيه أيضاً: حلال كل شيء في ما بعد الحلق إلا النساء والطيب، وأقول: لا بد من تسليم الرواية الشاذة أيضاً وإلا فلا جواب عن حديث ابن ماجه، وأيضاً نسب الترمذي إلينا هذا القول أي عدم حل الطيب بعد الحلق قبل طواف الزيارة.
باب ما جاء متى تقطع التلبية في الحج
[918]
يقطع الحاج التلبية عند رمي الجمرة العقبة، ويقطع المعتمر عند استلام الحجر، فإن العمرة الإحرام وطواف البيت والسعي والحلق. وإن قيل في محل النكات: إن التلبية شعار الحج فإذا انقطعت ختم الحج فإذا ختم الحج لا يكون الترتيب بعده واجباً أي في الأشياء الأربعة، خلاف ما قال أبو حنيفة فإنه يقول بوجوب الترتيب، وقال صاحباه والجمهور بالسنية فتفيد النكتة الجمهور، قلت: إن هذا الاستنباط إنما هو مني ولا يكون حجة على الأئمة.
باب ما جاء في طواف الزيارة بالليل
[920]
قال أبو حنيفة: يطوف للزيارة عاشر ذي الحجة، ولو أخره إلى غروب شمس الثاني عشر من ذي الحجة فلا جناية ولو أخره إلى ما بعده فجناية وأما طوافه ففي الصحيحين أنه طاف بعد الزوال وصلى الظهر بمنى أو مكة على اختلاف الروايتين، وفي حديث الباب أنه أخره إلى الليل فلما يسقط حديث الباب لخلافه حديث الصحيحين، وأما أن يوجه في حديث الترمذي بأن المراد أخر إلى الليل أنه طاف في النصف الثاني من النهار، ويدل على هذا التوجيه ما أخرجه أبو داود وأحمد في مسنده، وأقول: يمكن أن يقال في حديث الباب بأن هذا الطواف ليس طواف الزيارة بل طواف نفل، وصح أطوفته في الأيام التي أقام بمنى كما أخرجه البخاري إلا أنه مرَّضه وقد صح بسند صحيح قوي، وتمسك الشافعية برواية أنه: صلى الظهر بمكة ومنى على صحة اقتداء المفترض خلف المتنفل، وقالوا بالجمع بين حديث ابن عمر أنه: صلى بمنى إلخ وحديث جابر أنه: صلى بمكة إلخ، فتكون صلاته بمنى نفلاً، أقول: إن المحدثين أكثرهم إلى الترجيح فرجحوا حديث جابر على حديث ابن عمر، وأيضاً يمكن أن يقال: إنه صلى بمنى مقتدياً خلف رجل مع أصحابه.
باب ما جاء في نزول الإبطح
[921]
الإبطح في اللغة (وامن كوه) ، وكذلك البطحاء، ثم صار علماً بالغلبة للمحصَّب، ويقال لها: خيف بني كنانة أيضاً، والتحصيب أي النزول بالمحصب مستحب، وقال ابن عباس: لا استحباب بل كان نزوله اتفاقاً، وهذا هو الموضع الذي قام فيه بنو هاشم بعدما أخرج قريش آل هاشم من مكة، وقال قريش لأبي طالب: ادفع إلينا ابن أخيك محمداً وخذ عنا بدله ومالاً كثيراً، فلم يقبل أبو طالب.
قوله: (قال الشافعي إلخ) في كتب الشافعية استحباب التحصيب، وأما ما ذكر الترمذي فلعله رواية عن الشافعي رحمه الله، ولا بد منه فإن الترمذي من أوثق ناقلي مذهب الشافعي
باب ما جاء في حج الصبي
[924]
حج الصبي والرقيق صحيح عندنا بلا ريب إلا أنه لا يكفي عن حجة الإسلام إذا وجب عليهما الحج، وسها النووي حين نسب عدم صحة حجهما إلى أبي حنيفة، والحال أنه يقول بأنه لا ينوب عن
حجة الإسلام كما قال غيره أيضاً، قال الفقهاء: إن الولي يأمر الصبي أن يتجرد عن ثيابه المخيطة، ويحرم ويلبي عنه الولي ويكفه من الجنايات.
قوله: (يلبي من النساء إلخ) لم يقل أحد بأن ينوبوا عن تلبيتهن فيتأول في الحديث بأنا نجهر وهن يسررن ولكن حديث الباب معلول.
باب ما جاء في الحج عن الشيخ الكبير والميت
[928]
إن عجز الشيخ عن الحج يأمر الغير يحج عنه، ولو مات يوصي بالحج عنه، والشرائط مذكورة في الفقه، وأما استطاعة البدن شرط أم لا؟ ثم الشرط هل لنفس الوجوب كما قال أبو حنيفة أو لوجوب الأداء كما قال صاحباه، فمذكورة في الكتب، وأما الحديث فلا بد فيه من جانب أبي حنيفة تسليم أنه كان قادراً على الحج مثل ثباته على الدابة ثم فقد القدرة.
باب ما جاء في العمرة أواجبة هي أم سنة
؟
[931]
في عامة كتبنا أنها سنة مؤكدة، وفي البدائع وفي الدر المختار (143) قول الوجوب أيضاً واختار الشيخ ابن الهمام السنية في الفتح ص (577) ، والوجوب اختاره البخاري والأدلة قوية ولكنها منحطة من أن يأتي بها البخاري، وقال أصحابنا الذين قالوا بالسنية: إن الآية لا تدل على الوجوب فإن معنى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] إلخ ليس ما زعم بل تعرض الآية إلى مسألة أن القضاء واجب، لأن العمرة والحج يلزمان بالشروع، أقول: إن مراد الآية الصحيح أتموا الحج والعمرة تامين، واحتج ابن الهمام على السنية بحديث الباب وفي سنده حجاج بن أرطاة وهو متكلم فيه، وقال ابن دقيق العيد: لم أجد تصحيح الترمذي حديث الباب إلا في نسخة الكروخي لا غيره.
باب منه
[932]
قوله: (دخلت العمرة في الحج الخ) قال الشافعية: إن أفعال عمرة القارن تدخل في أفعال حجه ولا فرق إلا في النية، وفي أن القارن والمتمتع يجب عليه الدم بخلاف المفرد، وقال كافة الأحناف: مراد حديث الباب ردّ زعم الجاهلية أي عدم جواز العمرة في أشهر الحج، وأقول: إن مراده ليس ما قال عامة الناس بل مراد الحديث بيان انضمام العمرة بالحج وربطها به من حيث القران والتمتع.
قوله: (أشهر الحج الخ) قالوا: إن للحج ميقاتين زماني ومكاني وتقديم الإحرام على الميقات الزماني مكروه خلاف الميقات المكاني فإن التقديم عليها مستحب عند أبي حنيفة خلاف الجمهور، ثم تعرض المفسرون إلى أن المذكور في الآية الأشهر بلفظ الجمع، والحال أن الميقات الزماني لا يزيد على شهرين وبعض الثالث، وإن قيل بإطلاق الجمع على ما فوق الواحد نقول: إنه خلاف ما عليه جمهور أهل العربية، وإن قيل بالتخصيص نقول: إن في الآية يلزم أن يكون استثناءاً لا تخصيصاً، نعم تصدق الآية على ما قال مالك صدق شيء فإنه قال بجواز الأضحية إلى آخر ذي الحجة، ثم في عامة كتبنا أن أيام الحج عشر ليالي ذي الحجة مع الشهرين السابقين، وإن قيل: إن أكثر أفعال الحج يكون في اليوم العاشر من ذي الحجة، قلت: إن مدار الحج على وقوف عرفة وذلك دون صبح الليلة العاشرة.
قوله: (أشهر حرم إلخ) كان الحرب في ما قبل الإسلام حراماً في أربعة أشهر وكذلك في بدء الإسلام ثم نسخ الحرمة، وقال ابن تيمية وتلميذه ابن القيم: إن بدء الجهاد من المسلمين الآن أيضاً غير جائز مثل ما كان في ملة إبراهيم غير جائز.
باب ما جاء في العمرة من التنعيم
[934]
من أراد العمرة من مكة فيخرج لإحرام العمرة إلى الحل ليتحقق نوع سفر، والأفضل عندنا من التنعيم لأمره عائشة أن تعتمر من التنعيم، وما قال الشافعية من التنعيم.
باب العمرة من الجعرانة
[935]
ودخل النبي صلى الله عليه وسلم عام فتح مكة بلا إحرام وهذا من خصوصيته، وأما عمرته فيثبتها بعض الصحابة وينفيها بعضهم لوقوعها بالليل.
قوله: (حتى جاء مع الطريق إلخ) في بعض الكتب لفظ: «حتى جامع الطريق» ، وفي بعضها:«جاء مع الطريق» ولعل «جامع» تصحيف.
باب ما جاء في عمرة رجب
[936]
قال التفتازاني: إن الرجب معدول من الرجب وقال: رأيت في الأصول البزدوي لفخر الإسلام بقلمه لفظ رجب بنصب رجب بلا تنوين حال الجر، فدل على عدم انصرافه.
قوله: (في رجبٍ قط إلخ) هذا رجب منصرف لأنه نكر هاهنا لأنه في حيز العموم.
باب ما جاء في الذي يهل بالعمرة ثم يعرج أو يكسر
[940]
عَرج إن كان من باب عَلِمَ فمعناه (لنگ شدن) ، وإن كان من ضَرَبَ فمعناه (بتكلف لنگ شدن) .
اختلفوا في الإحصار: قال العراقيون: إنه عام من كونه بالعدو أو المرض وانقطاع النفقة، وعند الحجازيين مختص بالعدو، ثم حكم الإحصار عندنا أن يرسل هدياً ليذبح في الحرم وليس وقت ذبحه مؤقتاً إلا أنه يؤقت بمن أرسل معه ليحل في ذلك الوقت المقدر بينهما، ويقضي عاماً مقبلاً وإن لم يهد
فلا يمكن له الخروج وإن كثرت الجنايات، وحكم الإحصار عند الحجازيين أن يذبح الدم، وأما الحصر بالمرض أو انقطاع النفقة عندهم فحكمه أنه لا يجوز له التحلل إلا إن كان اشترط عند الإحرام، ثم اختلف المفسرون الحنفية والشافعية أيضاً حتى أن قال بعض الحنفية: إن الحصر في العدو، والإحصار في المرض وغيره، لكنه يرد عليهم لفظ إحصار القران مع أن الواقعة واقعة الحبس بالعدو، ووافقنا البخاري في أن الإحصار عام، وحديث الباب لنا.
باب ما جاء في الاشتراط في الحج
[941]
أي يشترط عند الإحرام: اللهم إن عوقتني عارضة فأحلل، وهذا سبيل الإحلال عند الحجازيين، وقال العراقيون: إنه قال لضباعة لتسلية نفسها، ولا أثر للاشتراط إلا هذا، وضباعة هذه بنت عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ضباعة بنت زبير بن عبد المطلب لا ابن العوام، ووافقنا البخاري فإنه لم يخرج حديث ضباعة في الاشتراط في الحج مع كونه أصرح فيه، وأخرجه في النكاح وهذه عادته أي عدم
إخراجه الحديث في باب إذا كان صريحاً فيه، وإخراجه في موضع آخر وما نبه أحد على هذه العادة، ونظيره أنه أخرج حديث الركعتين بعد الوتر جالساً ولم يبوب الترجمة عليهما، ولم يخرجه في أبواب الوتر بل في السنتين قبل الفجر، ولنا ما قال ابن عمر لا معنى للاشتراط في الحج، وقال العراقيون: إن المحصر المعتمر عليه قضاء، وقال الحجازيون: لا قضاء.
باب ما جاء في المرأة تحيض بعد الإفاضة
[943]
أي بعد طواف الزيارة وهو واجب ويسقط بهذا العذر، وأما لو طمثت قبل طواف الزيارة الفريضة تنتظر إلى أن طهرت وطافت، في فتاوى ابن تيمية أنه سأله رجل عن امرأة طمثت قبل الطواف؟ قال في الجواب: يقال لتلك المرأة: قال أبو حنيفة: إنها تهرق الدم وتحلل.
باب ما جاء ما تقضي الحائض من المناسك
[945]
لا تمنع من الحج إلا الطواف، وأما السعي فمترتب على الطواف ويستحب لها الاغتسال عند الإحرام للنظافة، قال شارح الوقاية: إن النهي عن طواف الحائض بسبب المسجد الحرام والحق أن الدخيل هو الطواف بأنه يشترط له الطهارة ولا دخل للمسجد الحرام، والحائضة إن كانت قارنة فعند الشافعي دخلت أفعال العمرة في الحج فتأتي بالمناسك وتنتظر الطواف، وأما عندنا فترفض العمرة إلى الحج وتقضيها بعده، واختلف العلماء في حجة عائشة الصديقة قلنا: إنها كانت مفردة وقضت العمرة بعد الحج لإنهاء فضتها إلى الحج بسبب الحيض وقالت الشافعية: إنها كانت قارنة والعمرة التي أدتها بعد الحج كانت لتطييب الخاطر أي لتقع العمرة مستقلة.
باب ما جاء من حج أو اعتمر فليكن آخر عهده بالبيت
[946]
اتفقوا على أن طواف الوداع ليس للمعتمر، فما تمشى الترمذي في ترجمته هذا الباب، إلا على ظاهر حديث الباب، والحال أن الحديث ليس بذاك القوي من حجاج بن أرطاة، وكان الأولى له باب «من حج فليكن آخر عهده بالبيت» بلا ذكر العمرة، وحديث الباب أخرجه أبو داود ص (281) بسند غير حجاج بن أرطاة وليس فيه ذكر العمرة أصلاً.
قوله: (خررت من يديك إلخ) كان عمر يأمر بطواف الوداع للحاج ولم يكن عنده نص على هذا، فلما سمعه عن هذا الرجل قال له هذا القول بسبب أنه ما كان أخبره بهذا.
باب ما جاء أن القارن يطوف طوافا واحدا
[947]
مذهبنا أن القارن يطوف طوافين وسعيين خلاف الشافعية فإنهم قالوا بالتداخل، وللقارن عندنا أربعة أطوفة؛ طواف العمرة، وطواف القدوم وهو سنة، وطواف الزيارة وهو فرض، وطواف الوداع وهو واجب، واتفقوا على أن أطوفته في حجة الوداع كانت ثلاثة وتتابع الروايات على هذا، والخلاف في التخريج وأول أطوفته يوم دخل مكة لرابع من ذي الحجة، والثاني لعاشر ذي الحجة، والثالث للرابع عشر من ذي الحجة، ولم يثبت طواف نفل بين الرابع والعاشر، ثم ثبتت بعد العاشر إلى الرابع عشر برواية قوية عندي، ثم شرح الشافعية في أطوفته بما يوافقهم في مسألة تداخل أفعال العمرة في الحج، فقالوا: إن الأول طواف القدوم، والثاني طواف واحد عن الحج والعمرة،
والثالث طواف الوداع، فمراد حديث الباب أنه طاف طوافاً الذي يجزئ عن النسكين الحج والعمرة، وأما على مذهبنا فنقول: إن الأول للعمرة ودخل فيه طواف القدوم، والثاني للزيارة، والثالث للوداع، ولكني ما وجدت أحداً قال بإدراج طواف القدوم في طواف العمرة، إلا أنهم قالوا: إنه لو ترك طواف القدوم لا شيء عليه لأنه ترك سنة، وفي عبارة في معاني الآثار أنه لم يطف طواف القدوم، أقول: إن أحسن ما يجاب عن الحديث الوارد علينا ما ذكره مولانا مد ظله العالي أن المراد أنه طاف لهما طوافاً واحداً أنه طاف للإحلال عن الحج والعمرة واحداً وهكذا المسألة عندنا أي الإحرام والإحلال للقارن واحد عن النسكين، ويشير إلى ما قال مولانا دام ظله العالي حديث ابن عمر الآتي:«حتى يحل منهما» إلخ، وفي سنده عبد العزيز بن محمد الدراوردي وهو من رواة مسلم وقال الأكثرون: إنه من رواة معلقات البخاري أقول: وفي ص (737) ، ج (2) من كتاب التفسير مرفوعاً أخرج له موصولاً في أبواب الجمعة في موضع واحد فاكتفى على جواب مولانا، ولا أذكر جواب غيره لقلة الجدوى فيه.
وهاهنا دقيقة: وهو أن رواية جابر موقوفة فإنه وإن رضي فعله لكنه يروي ما خرّج بنفسه من فعله، وأما ابن عمر فحديثه قولي مرفوع فإذاً صار حديث جابر موقوفاً، فلنا أيضاً موقوفات منها ما أخرجه في معاني الآثار ص (406)، ج (1) . بأسانيد قوية عن ابن مسعود ومجاهد وعلي وفيه: القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين، وفي بعض الأسانيد حجاج وهو الأعور لا ابن أرطاة، ومر الحافظ على ما في الطحاوي وقال: إن الآثار صالحة للاحتجاج إذا ضم بعضها إلى بعض وقال: أمثلها ما فيه عبد الرحمن بن أذينة، وأقول: أمثلها ما فيه أبو نصر السلمي، وقال البيهقي: إن أبا نصر مجهول وأخذه الحافظ في اللسان العرب ونقل توثيقه من العجلي، وأما أنا فوجدته في طبقات ابن سعد وأنه من أصحاب علي فالحاصل أن ما فيه أبا نصر أعلى مما فيه ابن أذينة، واختلفوا في تعدد سعيه، وقال الشاه ولي الله رحمه الله في شرح الموطأ بما حاصله: إن اختلاف الصحابة في طوافه في التخريج وما اختلفوا فيما شاهدوه بأعينهم من أفعاله، وعُدّ من هذه الأفعال السعي أيضاً، وقال: لم يثبت تعدد سعيه أصلاً لرواية جابر، أقول: لا بد من سعي النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان قارناً على مختارنا، فأخرج الزيلعي روايتين لتعدد السعي إلا أنهما ضعيفتان وفي سند أحدهما رجل ما حسنه أحد إلا ابن حبان، ثم تصدى ابن الهمام فحسن الرواية ومر القسطلاني على ما في فتح القدير، وقال: إن الاستدلال في مقابلة الصحيحين بما ليس على رسمهما خارج من الإنصاف، وأما إثبات تعدد السعي فأول من أتى به هو القاضي ثناء الله رحمه الله في منار الأحكام وذكر بعض كلامه في التفسير المظهري، وتمسك على التعدد بوجه صحيح، وقال: وإن لم يصرح أحد بتعدد السعي ولكنه لازم وطريق لزومه أن في بعض الروايات ذكر سعيه راكباً وفي بعضها
ماشياً كما في مسلم، فيكون السعي اثنان: الأول راجلاً وهو بعد طوافه للقدوم عند الشافعية، وطوافه للقدوم والعمرة عندنا ما «طاف طوافاً واحداً راجلاً» كما في مسلم ص (396) ، وأخرجه أبو داود أيضاً في الحديث الطويل عن جابر، وفيه: حتى انصبت قدماه في بطن الوادي حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة إلخ، فهذه المذكور شأن المشي راجلاً صراحة، وأما الطواف الثاني راكباً فأخرجه مسلم ص (413) عن جابر: طاف في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجن ليراه الناس إلخ، باب جواز الطواف على بعير وغيره واستلام الحجر بمحجن ونحوه للراكب ولكني لا أعلم تاريخ هذا السعي الثاني أنه كان قبل يوم النحر أو بعده؟ والأليق بمسائل الأحناف أن يكون يوم النحر فإن السعي يكون بعد الطواف، وما طاف النبي صلى الله عليه وسلم بعد طوافه للعمرة أو القدوم على خلاف المذهبين إلا هذا الطواف أي يوم النحر، ولما مرَّ ابن حزم على ما في مسلم تأول بتأويلين، وقال بأن المراد حتى انصبت قدماه أنه انصبت قدماه وهو على راحلته والنزول والصعود إنما هو نزول الناقة وصعودها، أقول: إن هذا التأويل غير مقبول فإن ألفاظ الحديث وتبادرها يخالفه، وأيضاً: من كان راكباً لا يسعى بين الميلين الأخضرين بل يمشي، وعندي قرائن كثيرة تدل على خلاف قول ابن حزم منها ما في الدارقطني عن حبيبة بنت أبي تجرات أنه رأيته أنه يسعى ويدور إزاره من شدة السعي حتى رأيت ركبتيه. . إلخ وإسناده قوي لكنه ليس فيه تصريح أنه واقعة حجة الوداع أو عمرة من العمرات وليست بعمرة الجعرانة لأنها وقعت بالليل فلا يكون إلا عمرة القضاء أو حجة الوداع، وظني الموثق بالقرائن أنه واقعة حجة الوداع ولكني لم أجد تصريحه في متن الحديث، وأما التأويل الثاني من ابن حزم في رواية مسلم فقال: إن بعض الأشواط كانت راجلاً وبعضها كانت سعيها راكباً، أقول: يرده حديث أخرجه أبو داود ص (
266) : طاف سبعاً على راحلته. . إلخ، باب الطواف الواجب، مصرح فيه أنه طاف سبع أشواط راكباً، وحديث أبي داود عن أبي الطفيل أخرجه مسلم أيضاً إلا أنه ليس فيه ما تمسكت به، ثم فيما في أبي داود كلام في أنها واقعة عمرة القضاء أو الجعرانة أو حجة الوداع وليست واقعة عمرة الجعرانة فإنه سعى فيها بالليل مضطجعاً، وليست واقعة عمرة القضاء فإن الرجال كانوا معه قليلاً قريب أربعة عشر مائة، وفي البخاري كنا نحفظه كيما يصيبه كافر بحجارة، فإذن كيف كثرة الناس وتسأل الصحابة الذي في رواية مسلم وأبي داود، وأما في حجة الوداع فكانوا أربعين أيضاً إلى سبعين ألفاً فعلم أن الواقعة واقعة حجة الوداع، ومما يدل على هذا أن أبا الطفيل من آخر الصحابة موتاً، وفي مسند أحمد أنه قال: ولدت عام أحد، فإذن يكون عمره في عمرة القضاء خمسة سنين، وفي حجة الوداع قريب ثمانية سنين، ومما يدل على قصر عمره في عهده ما أخرجه أبو داود ص (352) ج (2)، قال أبو الطفيل: وأنا يومئذٍ غلام أحمل عظم الجزور. . إلخ، باب بر الوالدين، ومما يدل على أن ما في أبي داود واقعة حجة الوداع ما أخرجه
مسلم ص (411) : أراني قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صفه لي» قال: قلت رأيته عند المروة على ناقة وكثر عليه الناس. . إلخ، وهذه الواقعة واقعة حجة الوداع، لأن كثرة الناس فيها، ومصداق ما في أبي داود وما في مسلم واحد هذا ما وفق لي، والكلام أطول منه.
وأما أدلة الشافعية وجوابها من جانبنا فأقول: لا أتعرض إلى كل لفظ لفظ، بل أذكر أجوبة يجري كل واحد منها في نوعها من الذي يقربه في ألفاظ الحديث، فمنها ما أخرجه مسلم في صحيحه ص (414) عن جابر، لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه إلا طوافاً واحداً بين الصفا والمروة. . إلخ، قال النووي: إنه دليلنا على وحدة السعي، أقول: العجب من النووي أنه تصدى للاستدلال على وحدة السعي للقارن قبل أن يستقيم الحديث على مذهبه؛ فإن المتمتع يجب عليه السعيان اتفاقاً إلا في رواية عن أحمد. وقد ثبت أن الصحابة كانوا أكثرهم متمتعين، وفي مسلم منهم مفرد ومنهم متمتع ومنهم قارن، وقالوا: إن القارن هو النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة وطلحة والزبير فإذن لا يصدق حديث مسلم إلا على أقل من الحجاج على شرح النووي، وأقول في شرح حديث مسلم: فقد سنح لي قبل ثم وجدت إليه إشارة خفية من الطحاوي، والمراد أن السعي الواحد لنسك واحد كاف وهذا من المتفق عليه، فمراد حديث جابر وما يضاهيه أن السعي الواحد لنسك واحد كاف، ومنها ما في البخاري فعل ابن عمر: أنه حج في فتنة الحجاج المبير ودخل ابن عمر مكة وطاف طوافاً واحداً ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول إلخ، ومر عليه الحافظ ولم يأت بشاف فإنه غير مستقيم على مذهبهم أيضاً وشرحه على مذهب أبي حنيفة أنه طاف طواف العمرة وأدرج فيه طواف القدوم للحج لا طواف الزيارة، ومما يرد علينا ما في أبي داود ص (256) عن جابر ما يدل على وحدة سعي المتمتعين في حجة الوداع فإن فيه: وطافوا بالبيت ولم يطوفوا بين الصفا والمروة. . إلخ باب إفراد الحج، وأخرجه الطحاوي أيضاً ولا يستقيم هذا الحديث إلا على رواية عن أحمد فتمسك ابن قيم على وحدة السعي للمتمتع بذاك الحديث أقول: كيف يتمسك بما في أبي داود والحال أنه يخالف صريحاً حديث البخاري ص (
213) عن ابن عباس؟ ورواية البخاري تفيدنا في أن إشارة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام إلى القران والتمتع فإذن إما أن يسقط ما في أبي داود لخلافه حديث البخاري أو يتأول فيه بأن مراد ما في أبي داود أن بعض الصحابة سعوا سعياً واحداً كلهم، ومما يرد علينا ما أخرجه مسلم ص (386) عن عائشة: وأما الذين كانوا جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً إلخ، وتمسك الشافعية بذلك على الطواف الواحد للقارن، وأما شرحنا في حديث عائشة
فمثل شرحنا في حديث الباب على ما شرح مولانا مد ظله العالي فيجري هذه الأجوبة الأربعة في ما يضاهيها في الألفاظ، وأما أدلتنا فكثيرة ذكرت بعضها أولاً من معاني الآثار ص (406) ج (1) .
باب ما جاء أن يمكث المهاجر بمكة بعد الصدر ثلاثا
[949]
الصدر بفتح الوسط وسكونه الرجوع، والحكم المذكور في حديث الباب كان ثم نسخ والمراد في حديث الباب من طواف الصدر طواف الوداع.
باب ما جاء ما يقول عند القفول من الحج والعمرة
[950]
قد اعتنى أرباب متون الشافعية إلى الأذكار الواردة في الصلاة والحج بخلاف الأحناف فإنهم ما اعتنوا بها، ويزعم الناظر عدم الاعتداد عندهم، وصنف صاحب الهداية في أذكار الحج وسماه عدة الناسك في عدة من المناسك قال النووي: إن الوقف على ثلاثة مواضع في دعاء الباب مستحب أي على وعده، ووحده، وعبده.
باب ما جاء في المحرم يموت في إحرامه
[951]
حال المحرم الميت عند الشافعي حال المحرم الحي حتى لا يستر رأسه ووافقه أحمد، وقال أبو حنيفة ومالك: إن حال الموتى كلهم سواءٌ ويستر الوجه والرأس، واحتج الأولون بحديث الباب وهذا الرجل مات في عرفات، وحمله الآخرون على خصوصية هذا الرجل بشارة ثم اعترض الآخرون بأن في مسلم:«لا تخمروا رأسه ولا وجهه» والحال أنكم قلتم بجواز ستر الوجه عند الحياة فتمسك الأولون بما في الهداية أن إحرام الرجل في الرأس وإحرام المرأة في الوجه، ثم اعترض الأولون بوجه آخر وهو أن في حديث الباب الغسل بالسدر فالحال إن المحرم الحي لا يجوز له الغسل بالسدر فلا يكون حكم الحي والميت سواءً، بل المذكور في حديث الباب البشارة لهذا الرجل وخاص به.
باب ما جاء في الرخصة للرعاة أن يرموا يوما ويدعوا يوما
[954]
الرعاة مرخصون في رمي الجمار جمعاً في يوم واحد رمي يومين ولا جناية عند مالك وأحمد والشافعي ومحمد وأبي يوسف رحمهم الله، وقال أبو حنيفة: إن التأخير عن الوقت الذي ذكرنا أولاً يوجب الجزاء والجناية، وأما الجمهور فيجوزون جمع رمي يومين في يوم واحد ثم الجمع جمع تقديم وتأخير ولم يذهب أحد من الأئمة إلى جمع التقديم إلا ما توهم إليه رواية مالك وسيأتي شرحها، وأما كتب الموالك ففيها نفي الجمع تقديماً، وأما جواب حديث الباب من جانب أبي حنيفة فأقول: إن في كتب الحنفية انتشاراً في البدائع لا يلزم الجزاء بترك واجب، وكذلك نسب صاحب البحر إلى البدائع وهذا مفهوم من البدائع ولم أجد التصريح فيه، وفي بعض الكتب أنه لا جزاء إلا في البعض وهي ست واجبات جمعتها:
~ سعي وحلق ومشي عند طوفهما
…
صدر وجمع وزور قبل إمساءٍ
~ من واجبات ولكن حيثما تركت
…
من العوارض قد قالوا بإجزاءٍ
ثم قالوا: إن ترك هذه الستة منصوص فلا يكون فيها الجزاء، أقول: فعلى هذا تأخير الرمي أيضاً منصوص فيستثنى، وفي الهداية تصريح أنه لو أخر الرمي إلى الغد بعذر أو بدونه فجناية عند أبي حنيفة وإلى هذا تشير عبارة محمد في موطئه ص (233) فإنه ذكر الحديث المرفوع عن عاصم بن عدي ثم ذكر مذهبهما ومذهب أبي حنيفة ونسب لزوم الجزاء إليه، وما فصل العذر أو بدونه فظاهر الموطأ تؤيد قول الهداية، فلا يجري الجواب بناءً على ما قال في البدائع والبعض الآخرون فلم أجد أحداً أجاب عن حديث الباب، وأما في حاشية الموطأ نقلاً عن البناية للعيني فلا يخرج ما نقله من كلام العيني،
وكلام العيني ليس تحت هذا الحديث، فأقول في الجواب: إن الرعاة مرخصون في جمع رمي يومين ولكنه عند العذر، وأما ما نقل محمد في موطئه عن أبي حنيفة فمراده أن الرخصة للرعاة ليست بناءً على رعي الإبل بهذا القدر فقط بل مدار الرخصة هو ضياع المال، فالعذر هو ضياع المال لا رعي الإبل فقط، فإنه إذا كانوا كثيراً فالعذر يسير فإنه يمكن لهم أن يرعى بعضهم، ويرمي بعضهم، فيقال: إن الحديث يرخص لعذر ضياع المال لا لعذر رعي الإبل، أو يقال: إن التأخير عنده أن يؤخر رمي الحادي عشر مثلاً إلى طلوع فجر الثاني عشر ويرمي له بعد طلوع الفجر لأنه وقت جواز على ما روى حسن بن زياد رواية عن أبي حنيفة، والشريعة تعتبر الأيام اللاحقة مع الليالي الماضية إلا في أيام الرمي.
قوله: (ورواية مالك أصح إلخ) أي الآتية، أقول كيف الفرق بين رواية مالك وابن عينية، وإن قيل: إن في مسند مالك بيان أن عدياً جد أبي البداح لا في سند ابن عينية لكن هذا لا يصلح مدار للأصحية، وإن كان التصحيح باعتبار المتن فمتن رواية مالك هاهنا موهم إلى خلاف الجمهور ولا موهم في رواية ابن عينية، فإذن يكون الترجيح لرواية ابن عينية، اللهم إلا أن يقال: إن الأصح متن مالك الذي في موطئه الذي في الترمذي ولكنه أيضاً بعيد، فالحاصل أني لم أجد وجهاً شافياً لترجيح رواية مالك على رواية ابن عينية.
قوله: (في الأول منهما إلخ) ظاهر هذا خلاف الكل فإنه يشير إلى جمع تقديم ولا يقول به أحد فيتأول فيه، ويقال بأن المراد أن يكون الترك في الأول والأداء في الثاني، لا الرمي في الأول منهما، وفي مسند أحمد عن مالك: وظننت أنه قال في الآخر منهما فصح الحديث بمعناه، وإني أقطع بصحة ما في المسند.
قوله: (البيتوتة إلخ) أي كان السنة البيتوتة في منى فرخص لهم أن يبيتوا في إبلهم.
باب ما جاء في يوم الحج الأكبر
[956]
أحرم علي إحراماً مبهماً، ونسب النووي إلى أبي حنيفة بطلان الإحرام المبهم، والحال أنه خلاف ما في كتبنا نعم يجب عليه التعيين قبل الشروع في أفعال الحج.
قوله: (الحج الأكبر إلخ) الحج الأكبر في عرف الحديث هو الحج، وأما الحج الأصغر فالعمرة، لا ما هو متعارف في عامة الناس من أن الحج الأكبر الذي يكون يوم عرفة فيه يوم الجمعة.
باب ما جاء في استلام الركنين
[959]
استلام الركن اليماني مستحب عندنا لما صرح محمد رحمه الله.
قوله: (مثل الصلاة إلخ) هكذا عند الفقهاء في بعض الأحكام مثل ستر العورة والطهارة، وفي مشكل الآثار: إن المرور بين يدي مصلي يصلي حول الكعبة جائز للطائف لأن الطواف مثل الصلاة.
قوله: (بطيب غير المقتت إلخ) أي الذي لم تلق فيه الرياحين، وحديث ال
باب
يخالف أبا حنيفة فإنه يقول بعدم جواز الزيت الخالص أيضاً، وأما الوجه فقيل: إن فيه طيباً، وقيل: إنه مادة العطريات وأصلها في العرب فله طيب في نفسه أيضاً، وأصلها في العرب دهن الزيت، وفي قديم عهد الهند كان دهن السمسم والصندل، والجواب من الحديث بأنه لعله دهن قبل الإحرام وبقي إلى داخل الإحرام، ويجوز للمحرم أن يطيب قبل الإحرام بطيب يبقى جرمه بعد الإحرام أيضاً عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد ولا يجوز عند محمد رحمه الله ومالك رحمه الله، ويبحث من حيث الحديث فنقول: إن المصنف غرب الحديث والغريب يجتمع مع الحسن والصحيح، ولكن الظاهر من كتاب المصنف أنه إذا غرب حديثاً ولم يحسنه لا يكون الحديث صالح التحسين عنده، ومر الحافظ على حديث الباب فأعله وقال: ليس بمرفوع.
باب
[963]
ذكر من فضائل ماء زمزم أنه إذا دعى بدعوة حين شربه بمكة تستجاب تلك الدعوة، وعليه واقعة ابن حجر حافظ الدنيا وواقعة السيوطي وواقعة ابن الهمام، وأتى ابن الهمام بحديث في فتح القدير ص (495) بحديث فضل ماء زمزم، وعبر عن الحافظ بقوله: شيخنا فهل له تلمذ منه أم لا؟ . والله أعلم.
كتاب الجنائز
قيل: الجنازة بالفتح تابوت الميت، وبالكسر الميت، وقيل بالعكس
باب ما جاء في ثواب المريض
[965]
نقل عن الإمام الشافعي أن المصائب كفارات للسيئات وإن لم يصبر مثل التعزيرات، نعم لو صبر على الشدائد يكون له أجران.
قوله: (فما فوقها إلخ) قالوا: الفوقية في التقليل أو التكثير مثل ما قال الحساب: إن الكسر إذا يضرب يقل، والحال أنه خاصة الضرب التكثير، أقول: إن المتبادر الفوقية في التكثير.
قوله: (من نصب إلخ) النَّصَب مطلق الألم، والوَصَب الحمى، ثم استعمل في كل ألمٍ توسعاً، والحزن على ما فات، والهمُّ على ما يستقبل.
باب ما جاء في النهي عن تمني الموت
[970]
قال العلماء: إن تمني الموت إن كان لأمر دنيوي فغير جائز، وإن كان لأمر أخروي ـ أي لمصيبة دينية ـ فجائز، ثم له دعاء؛ أي يقول: اللهم أحيني ما دامت الحياة خيراً لي وأمتني إذا كان الموت خيراً لي.
وبحث قاضي ثناء الله رحمه الله في التفسير المظهري تحت آية: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94] وحاصله ما ذكرت.
قوله: (اكتوى في بطنه إلخ) قيل: إنه منهي عنه وخلاف التوكل، ولكنه أجازه الفقهاء إذا كان لا بد له منه، وسَيُبوِّب المصنف على الكيّ.
باب ما جاء في التعوذ من للمريض
[972]
الرقية في أصل اللغة (أفسول) وفي العرف الكلمات غير المشروعة، وأما في حديث الباب فليس المراد هذا، وأما المسألة فكل رقية لا تكون معانيه معلومة لا تجوز الرقية بها لاحتمال الشر والاستمداد بغير الله، والتي من كلمات مهملة لا تجوز بها الرقية إلا ما ورد في أن صحابياً كان يقرأ على اللديغ وأجاز له بها النبي صلى الله عليه وسلم حين عرضها عليه: بسم الله شجة قرينة ملحة بحر قفطا.
قوله: (من شر كل نفس الخ) يشير الحديث إلى أن أثر بعض النفوس يسري إلى البعض الآخر، وسيأتي الكلام فيه.
باب ما جاء في الحثّ على الوصية
[974]
قال داود الظاهري بوجوب كتابة الوصية، وقال سائر الأئمة بالاستحباب، وثبت عن بعض السلف أنهم كانوا يضعون وصاياهم تحت رؤوسهم عند المنام.
قوله: (ما حق امرء مسلم إلخ) قيل: إن خبر «ما» «يبيت ليلتين» إلخ، ومعنى الحديث أنه مجاز في أن يكون غير مكتوبة الوصية عنده إلى يومين لا بعدهما. وقيل إن خبر (ما)(إلا وصيته مكتوبة) . . إلخ، وأما ما قبله فصفات لرجل، فعلى هذا معنى الكلام: أن المرء مأمور بكون الوصية عنده ولا مداو على ليلتين، وبين التركيبين فرق ظاهر، وللحافظين هاهنا كلام في شرحي البخاري، وللطيبي شارح المشكاة كلام آخر لطيف مما قال الحافظان.
باب ما جاء في الوصية بالثلث والربع
[975]
اتفقوا على عدم جواز الوصية أزيد من ثلث المال.
قوله: (سعد بن مالك إلخ) أي سعد بن أبي وقاص، والروايات مختلفة في بعضها أنه مرض فتح مكة، وفي بعضها أنه مرض في حجة الوداع.
قوله: (أناقصه إلخ) في شرحه احتمالان؛ إما أن يقال: إنه يقول كنت أعد ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم ناقصاً، وإما أن يقال: إني أوصيت بكل المال فنهاني النبي صلى الله عليه وسلم عنه فأخذت أنقصه شيئاً فشيئاً.
باب ما جاء في تلقين المريض عند الموت والدعاء له عنده
[976]
التلقين مستحب للمحتضر يقرأ عنده ولا يؤمر، فإنه في حال السكرات فيحتمل أن يتكلم بكلام خلاف الشريعة، وقال الفقهاء: إن المستحضر لو تكلم بكلمة الكفر حالة السكرات لا يعمل بها ولا يحكم عليه بالكفر، وتلقين آخر بعد الدفن ذكر صاحب الدر المختار بكلماته، وقال صاحب الدر: لا يؤمر به ولا ينهى عنه، وله حديث أخرجه الطبراني في معجمه وابن قيم في كتاب الروح لكن سنده ضعيف ولكنه يصلح للعمل.
قوله: (موتاكم إلخ) اتفقوا على أن المراد من الموتى المحتضرون، فلا يكون حديث الباب حجة للتلقين بعد الدفن.
باب ما جاء في التشديد عند الموت
[978]
الغمرة في اللغة: عمق الماء، والمراد الشدة والسكرات، والمراد بها المصائب والتشديد عند الموت، قال العلماء: إن الشدة عند الموت ليس علامة سوء حالة الميت ولا التخفيف علامة صلاحية حاله، بل يمكن الشدة للصالح لرفعة درجاته، ويمكن السهولة لغيره ليجزى خيره في الدنيا ولا يبقى له حظ في الآخرة.
باب ما جاء أن المؤمن يموت بعرق الجبين
[982]
قوله: (المؤمن يموت بعرق الجبين إلخ) في شرح حديث الباب أقوال؛ قيل: إن عرق الجبين حساً عند الموت من علامات الخير، وقيل: ليس العرق حساً بل المراد أنه يكون في الشدة قبل النزع وتكون الشدة كفارة للسيئات، وإن قيل: إن هذا يخالف ما في المشكاة يدل على خروج روح المؤمن بالسهولة فقال العلماء القائلون بالشرح الثاني: إن المؤمن تحمل الغمرات قبل النزع وأما حالة النزع فيخرج روحه سهلاً والطالح لا يخرج روحه إلا بالتشديد، حكي في تذكرة عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: إن الظالم لا بد له من أن يصاب. وكان القريش يسافرون إلى الشام وكان ثمة ظالم، فقالوا: سمعنا أنه مات بلا شدة، قال عبد المطلب: أظن أن وراء هذا العالم عالماً يكون فيه انتقام الشدائد فإن الظالم لا يتجاوز عن جزاء ظلمه، أقول: ولينظر إلى قول عبد المطلب الذي في زمان الفترة وقول من يدعي أنه من العقلاء، وقيل في شرح حديث الباب: إن المراد تحمل الشدة في حالة الحياة حين كسب رزقه الحلال، والله أعلم، وهو كذلك في التوراة، ذكر الغزالي في الإحياء: قال عمر: لو نودي في المحشر أن لا يدخل النار إلا رجل أزعم أنه عمر: ولو نودي في المحشر أن لا يدخل الجنة إلا رجل أزعم أنه، عمر، أقول: هذا مراد حديث «إن المؤمن بين الخوف والرجاء» ، وقال الغزالي: إن الرجل إذا كان حياً فليكن الخوف عليه غالباً، وإذا أيس عن الحياة فليكن الرجاء غالباً.
باب ما جاء في كراهية النعي
[984]
أي الغلو الذي كان في الجاهلية من إيقاد النار وإقامة ناقة على قبره وقيام النائحات وغيره.
قوله: (أذان بالميت إلخ) قال العلماء: إن الاطلاع لمن يحضر الجنازة عرفاً أو شرعاً جائز، وفي الهداية ص (163) وفي بعض النسخ: لا بأس بالأذان إلخ، حمل الشارحون عبارة الهداية على أن الولي يؤذن ويخبر الناس ليذهبوا إلى حوائجهم بعد أداء صلاة الجنازة، وأقول: لعل مراد عبارة الهداية أنه يؤذن الناس لشهود الجنازة، وقال الفقهاء: يجوز أن يخبر أهل الميت بموت الرجل لا ما كان يفعل أهل الجاهلية.
باب ما جاء في غسل الميت
[990]
غسل الميت فرض كفاية، وقالوا: لو وجد الميت في البحر يحرك ثلاثاً.
اسم أم عطية نسيبة.
قوله: (إحدى بنات إلخ) قيل: زينب، وقيل: رقية، وقيل أم كلثوم، والمختار الأول.
قوله: (ابدأن بميامنها إلخ) في بعض النسخ: أبدأ بصيغة الواحد وهو غلط، قال الموالك: العدد في غسل الميت ليس بمسنون بل الفرض التنظيف.
قوله: (بماء السدر إلخ) هذا يخالف الشافعية فإن الماء المخلوط فيه السدر ماء مضاف عندهم أي مقيد ولا يجوز الغسل بالمضاف، وعندنا لا يصير الماء بهذا مقيداً، وتأول الشافعية فيه بأن هذه الغسلة لا تعد من العدد في الغسل لكن هذا خلاف تبادر الألفاظ.
(حِقْوَه) أي إزاره.
قوله: (ثلاثة قرون إلخ) قال الشافعية: تجعل أشعار المرأة ثلاث حصص خلف الظهر، وعندنا
تجعل نصفين على الصدور، وللحافظين في الشرح كلام، قال العيني: إنه فعلهن وما من لفظ يدل على الرفع، وأقول كما أخرجت عبارات الفقه: إن الخلاف في الأفضلية، نعم الامتشاط عندنا غير جائز، ولنا في النهي عن الامتشاط ما في الهداية ص (159) عن عائشة:«على ما تنصون موتاكم» إلخ، وأخرجه الزيلعي من غريب الحديث للحربي.
قوله: (قال الشافعي: إنما قال مالك إلخ) غرض الشافعي شرح قول مالك، ولكن شرح قوله ما في كتب المالكية.
باب ما جاء في الغسل من غسل الميت
[991]
غُسل الغاسل مستحب لخواص وثابت بالحديث، وترك الغسل ثابت من بعض السلف، وقيل: إنه صار منسوخاً، وفي بعض كتبنا أنه يستحب الغسل خروجاً عن الخلاف.
باب ما جاء في ما يستحب من الأكفان
[994]
يستحب الثياب البيض، ولا يجوز تكفينه بثوب لا يجوز له في الحياة، وأحب الألوان إلى النبي صلى الله عليه وسلم البياض، وأحب القطعات القميص، وأحب الأقسام الحبرة اليمانية.
باب ما جاء في كم كفّن النبي صلى الله عليه وسلم
-؟
[996]
في الصحيحين وغيرهما: أن كفنه ثلاث أردية، وهو مختار الشافعية، والخلاف في الأولوية لا الجواز، وقال المالكية في حديث الصحيحين: ليس فيها عمامة وقميص أي لم يكن القميص والعمامة في ثلاثة ثياب بل زائداً عنها، أقول: يجوز العمامة لأن ابن عمر كفن ابنه واقداً في عمامة، وأما ثياب كفنه فالروايات فيها مختلفة، وأصح ما في الباب: ثلاث لفائف أي من قرن الرأس إلى الرجلين، ومختار المالكية أنها كانت خمسة ثياب، وفي رواية في طبقات ابن سعد: أنه كفن في سبعة ثياب، وفي سندها عبد الله بن محمد بن عقيل وحسنه السيوطي، ويتأول فيها بأن سبعة ثياب أوتيت للكفن ولكنه دفن في ثلاثة منتخبة منها، وفي بعض الروايات كما سيأتي في الترمذي وفي كتب السير: أن قطيفة فُرشت في قبره فَرَشَها شقران مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض كتب السير أنها أخرجت كما في سيرة العراقي:
~ وفرشت في قبره قطيفة
…
وقيل: أخرجت وهذا أثبت
فأقول بعد تسليم: إن كفنه لم يكن فيه عمامة ولا قميص: إن إثبات القميص في الكفن أدلته محصاة عندنا ومرفوعات؛ منها ما في الطحاوي ص (291)، ج (1) باب الشهيد: إن أعرابياً كفن حين شهد وفيها جبة النبي صلى الله عليه وسلم، والرواية أخرجها النسائي سنداً ومتناً في الصغرى، ومنها ما في الصحيحين أنه أعطى قميصه عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول لكفن عبد الله بن أبي رأس المنافقين، ولنا أدلة أخرى، ثم هاهنا نظر وهو أن ظاهر كتبنا أن يخاط القميص فإنهم لا يقيدون القميص إلا أن يكون فيه وخريص وكمان، ولكن عملنا لبس الثوب الذي على هيأة القميص بلا خيط ويكون من الرأس إلى القدمين، فلو كان مراد ما في كتبنا ما هو عملنا فيمكن لأحد أن يقول أنه
كفن في الثوب على هيأة القميص، وأما النفي الذي في الصحيحين فالمراد به نفي القميص المخيط فلا يخالفنا حديث الصحيحين، فإذن أثر عبد الله بن عمرو بن العاص يشير إلى أن لا يخاط القميص؛ أخرجه الإمامان في موطأيهما، وأما في موطأ مالك ففي ص (78) : الميت يقمص ويلف بالثوب الثالث إلخ، فما قال بلبس القميص بل قال: بقميص، وفي سند موطأ مالك سهو من يحيى فإنه ذكر عن عبد الرحمن بن عمرو بن العاص، والصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص فإنه أخرجه محمد في موطئه ص (166) ، وليس فيه عبد الرحمن بن عمرو، بل عبد الله بن عمرو وعندي أعلى نسخ موطأ مالك نسخة موطأ محمد، وأخرج محمد في موطئه ص (166) أثر ابن عمرو بن العاص، وفيه أيضاً «يقمص» إلخ لا يلبس القميص، وبين التعبيرين فرق ظاهر على حاذق اللغة، وفي مسند موطأ محمد أيضاً سهو الكاتب فإنه كتب عن عبيد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمرو بن العاص، والصحيح عن عبيد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن إلخ لما في موطأ مالك، والله أعلم.
باب ما جاء في الطعام يصنع لأهل الميت
[998]
يستحب للجيران والأقرباء صنع الطعام لأهل الميت، وفي عامة كتبنا أن ما في زماننا أكل الطعام
من بيت أهل الميت فبدعة، وفي فتح القدير رواية أخرجها من مسند أحمد تدل على المنع من أكل الطعام من بيت أهل الميت وسندها قوي.
واقعة الباب واقعة غزوة مؤتة في السنة التاسعة بعد الهجرة أمر النبي الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وقال: إن قتل فجعفر، وإن قتل فعبد الله بن رواحة، وكان الصحابة في غزوة مؤتة ثلاثة آلاف، والكفار أزيد ولما شهد الأمراء الثلاثة أمرَّ الناس خالد بن الوليد ففتح الله على يده.
باب ما جاء في كراهية النوح
[1000]
أقول: لا بد من استثناء من النهي ويكون جائزاً ولكنه غير منضبط، وأشار إليه البخاري حيث أتى في الترجمة «بما» ومن تدل على البعضية، وقد ثبت البكاء بالصوت عن بعض السلف، وقد ثبت إغماضه عن البكاء بالصوت فلا مناص من التقسيم في المسألة، وينسحب النهي على ما هو مشتمل على الغلو وخارج عن الحد كما كان في الجاهلية حيث أوصى رجل ابنته بالبكاء عليه:
~ إذا مت فانعيني بما أنا أهله
…
وشقي عليَّ الجيب يا ابنة معبد
وقال الآخر موصياً:
~ إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
…
ومن يبك حولاً كامل فقد اعتذر
قوله: (من ينح عليه إلخ) هاهنا إشكال بأن حديث الباب يخالف نص القرآن: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] الآية فروي عن عائشة أن قوله في هذا الحديث إنما هو جنازة يهودية مر عليها والناس يبكون، فقال: إنهم يبكون عليها وهي معذبة؛ أي على كفرها لا بسبب بكائهم، فغلطت عائشة قول ابن عمر، لكن المحدثين لا يقبلون تغليط عائشة فإن بعض الصحابة الآخرين أيضاً يروون مثل رواية ابن عمر، ففي شرح الحديث أقوال كثيرة؛ في فتح الباري وقال البخاري: إنه يعذب على فعله لا بسبب فعلهم، وقال: إنه إذا أوصل بالنوحة عليه أو كان يرضى بها أو كان يعلم أن يبكوا عليه فلم ينههم فعليه وزر فعله وإلا فلا وزر عليه ولا عذاب، وقال ابن حزم الأندلسي وهو أعلى الشروح في حديث الباب: إنهم يبكون على أفعال يزعمونها حسناته والحال أنها تكون سيئات فيعذب على تلك السيئات، ويقال له: أهكذا أنت؟ كما يُبْكَى على أنه كان شجاعاً لا يدع النفس إلا ويقتلها، ويؤيد شرح ابن حزم الحديث اللاحق عن أبي موسى.
قوله: (العدوى إلخ) في حديث الباب نفي العدوى، وفي مسلم «فرّ من المجذوم» إلخ فقال جماعة: إن الحديث ينفي الأسباب الطبيعية لا العادية كما ذكره في شروح النخبة تحت بحث التعارض، أقول: ما مراد الأسباب الطبعية فإن كان المراد ما قال الفلاسفة الطبيعيين وهو أنهم ينكرون الباري، ويقولون: لا شيء إلا المادة والصورة كما صرح به محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في الملل والنحل، ولا ينكر الفلاسفة الإلهيون الباري، ويزعم الناظر أن الطبيعين لا ينكرون الباري فإن الفلاسفة المتأخرين جمعوا الطبيعات والإلهيات في كتاب واحد، ويزعم أن قائل الطبيعات والإلهيات فرقة واحدة، والحال أن الطبعيين فرقة غير فرقة الإلهيين، فإن كان المراد من الأسباب الطبعية هذا فلا يتعرض الشريعة إلى دفعها فإن أحداً من كفار العرب لا ينكر الباري لنص القرآن، وإن كان النفي نفي الطبعية إن الأشياء ليست بمؤثرة كما قال الأشعري: فتحولت المسألة إلى علم الكلام؛ فأقول: مذهب أبي الحسن الأشعري أن السببية ليست ذاتية، وقال: إن العالم مثل أشياء اجتمعت في مكان واحد
حسب الاتفاق ولا تسبيب بينها فإحراق النار ليس بالتسبيب بل بالعادة وخلق الباري، وإن الإحراق مستند إلى الباري بلا واسطة وهكذا في كل شيء، وقال المعتزلة: إن إحراق النار بالتوليد، وقال الفلاسفة: إنه بالإعداد والإيجاب، فجعلوا الباري علة ومجبوراً محضاً، وهل هذا إلا كفر صريح؟ وقال الماتريدية: وهذا أرجح أن التسبيب بين الأشياء ثابت إلا أنها بخلق الباري لا بالتوليد أو الإعداد، وإن في الأشياء خواص بإذن الله، وقال الحافظ في شرح النخبة: إن الحديث ينفي السببية والعادية والطبعية، وأما ما في مسلم:«فرّ من المجذوم» فمحمول على سد الذرائع، أقول: كيف ينكر الحافظ السببية العادية والحال أنها لا ينكرها الأشعري أيضاً، فقول الحافظ لا مصداق له، فأقول: إن أحسن ما قيل في شرح حديث الباب ما ذكره ابن قيم في كتاب الروح ص (197) أن المنفي في حديث الباب العدوى وهو ما يكون بناؤه على الأوهام الباطلة مثل أن يقولوا: إن مرض فلان تَطَيَّرَ وانتشر إلى فلان، وأما الحديث الذي أخرجه مسلم ففيه إثبات التسبيب وهو أن يكون فيه دخل الأسباب الظاهرة مثل إن جلس وخالط المجذوم أو المجروب، وذكر الأطباء بعض الأمراض متعدية لا ينافي الشريعة، وأما المرض الموروث فغير المتعدي، فالحاصل أن الشريعة تنفي الأوهام الباطلة لا المجربات، وما فيه دخل الأسباب الظاهرة لتمادي الزمان والخلط مع المريض.
قوله: (الأنواء إلخ) يقال له في الهندية: (ن هتر) وهي منازل القمر وغيره من الكواكب، وكان أهل الجاهلية يزعمون أن مدار الأحكام الدنيوية على دوران الكواكب في تلك المنازل.
باب ما جاء في الرخصة في البكاء على الميت
[1004]
بعض البكاء جائز ولكنه غير منضبط، قال أرباب اللغة: إن البكاء ممدواً ما فيه الصوت، والبكاء مقصوراً والأصوات فيع وقد ثبت المراثي عن السلف كما روي قصيدة حسان بن ثابت وقصيدة أبي بكر على موته ذكرها في السيرة الشامية.
قوله: (إبراهيم إلخ) كان هذا الولد من مارية القبطية وكان ابن ثمانية عشر شهراً.
باب ما جاء في المشي أمام الجنازة
[1007]
الأفضل عندنا المشي خلف الجنازة لأنهم مودعوا الجنازة، والأفضل عند الشافعية المشي أمام الجنازة لأنهم شافعوه، والخلاف في الأولوية لا الجواز؛ والتعامل إلى الطرفين، وأطنب الطحاوي في الروايات لنا.
باب ما جاء في كراهية الركوب خلف الجنازة
[1012]
يكره الركوب عند الذهاب ويجوز عند الإياب لما في الحديث، وقال المحدثون في حديث الباب: إن راشد لم يسمع عن ثوبان.
قوله: (ابن دحداح إلخ) ومن مناقبه أن يتيماً مات والده، وكان عنده حائط فجاء رجل وادعى الحائط فجاء الصبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم باكياً وقال: ما عندي سوى هذا البستان فقال النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الرجل: إن وهبت البستان لهذا الصبي فأعدك مثله في الجنة فأبى الرجل الشقي، فقام ابن دحداح واشترى البستان فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: أعطيه البستان على ذلك الشرط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم فأعطاه إياها.
باب ما جاء في قتلى أحد وذكر حمزة
[1016]
جبل أحد على مسافة ثلاثة أميال من المدينة جانب الشرق والشمال، وكان موتى أحد قريب سبعين نفساً، وفي عبارة الشافعي ذكر ثلاثة وسبعين، وفي بعض الكتب ذكر خمسة وسبعين.
قوله: (قد مثّل به إلخ) كان شق بطنه وأخرج كبده وصفية أخت حمزة.
قوله: (لتركته حتى الخ) يدل الحديث على الترك لأنه تمناه ولم يذهب أحد إلى هذا وهذا إنما هو من خصوصية حمزة.
قوله: (فكفن الرجل والرجلان إلخ) لا يجوز جمع رجلين فصاعداً في ثوب واحد بلا حائل، وقال الأكثر: معلم: ألقوا بين رجلين رجلين الإذخر، ومر ابن تيمية على حديث الباب وقال: المراد إن رجلين يدفنان في ثوب واحد بجعله شقين، وشرحه هذا أنصف ولا بعد فيه.
قوله: (يدفنون في قبر واحد إلخ) جوز العلماء دفن رجلين فصاعداً في قبر واحد عند الضيق.
قوله: (ولم يصل عليهم إلخ) قال الشافعي: لا يصلى على الشهيد، وجاء بعض المتأخرين منهم
وقال بعدم جواز الصلاة عليه، وأما غسل الشهيد فلهم فيه وجهان: الغسل، وحرمة الغسل، والمستحب عدم الغسل، وأما الموالك ففي عامة كتبهم عدم الصلاة، وفي حاشية المدونة رواية ابن القاسم أن ابتداء الحرب إن كان من الكفار وجاء الكفار حاربين علينا فلا يصلى، وإن كان البداية منا، وذهبنا مجاهدين عليهم فيصلى، وقال أحمد: الصلاة مستحبة ويجوز تركها، ومذهب الحنفية إن الصلاة واجبة فيرد حديث الباب حديث الصحيحين علينا، فجوابنا: أخرج الطحاوي سبيلين أخذ الزيلعي أحدهما والعيني ثانيهما، والترجيح لما قال الزيلعي، قال المحدثون: إن الأوفق بالحديث مذهب أحمد، وجواب الزيلعي أن شهداء أحد صلي عليهم في الحال، وقال العيني آخذاً بظاهر حديث الصحيحين: إنه لم يصلِّ عليهم الآن بل صلى عليهم قبل وفاته بسنة، وتمسك بما في الصحيحين أنه خرج فصلى عليهم صلاته على الجنازة، قال النووي: إن المراد الدعاء، وقال العيني: إن هذا لا يقبل فإن الراوي يقول صلاته على الجنازة، ثم قال: لعل تأخير صلاتهم من خصوصيتهم، أقول: إن الظاهر ما قال النووي، وعندي نظائر على إرادة الدعاء من الصلاة، وأيضاً نقول: أين خرج النبي صلى الله عليه وسلم؟ خرج إلى أحد أو إلى المسجد النبوي، وما تعرض حافظ من الحفاظ إلى بيان مخرجه، وعندي رواية تدل على خروجه إلى المسجد النبوي أخرجها الطحاوي ص (290) أنه صلى عليهم ثم أتى المنبر، وخروجه هذا وصلاته كان في مرض موته، ومثل ما في الطحاوي روى مرسلاً ابن جرير الطبري، وأما ما في الطحاوي في سنده ابن لهيعة، ومر الحافظ على تأويل النووي وما جدَّ عليه، وسها النووي حيث أحال الرواية المفيدة له في تفسير الصلاة بالدعاء إلى مسلم، والحال أنه لا لفظ في مسلم.
وأذكر بعض أدلتنا على الصلاة على الشهيد، ويبلغ عددها إلى سبعة، موصولاً ومرسلاً، صحاحاً وحساناً، بعضها أخرجها الطحاوي، وبعضها أخرجها الزيلعي، بعضها أحرزت منها ما أخرجه الطحاوي ص (260) عن عبد الله بن الزبير مرسلاً: صلى عليه وكبر سبع تكبيرات. . إلخ، ثم أتى بالقتلى ويصفون إلخ، وإنما قلت: مرسلاً لأن ولادة ابن الزبير عام الهجرة، ومرسل الصحابي مقبول، ومنها ما في الطحاوي ص (290) مرسل أبي مالك الغفاري التابعي بسند قوي، وفي رواية أخرى يزيد بن أبي زياد، ومنها ما أخرجه الزيلعي من مسند أحمد عن الشعبي عن ابن مسعود صلى على حمزة إلخ، وفي سنده في الزيلعي حماد بن سلمة، وتتبعت نسخ أحمد فلم أجد تصريح ابن سلمة، وليس في النسخة القلمية أيضاً، ولعله جرى على ضابط أن عفان لا يروي إلا عن حماد بن سلمة لا عن حماد بن زيد، وتكلموا في حديث مسند أحمد بأن في سنده عطاء بن السائب وكان اختلط في آخر عمره، أقول: اتفق الجمهور على أن ابن سلمة أخذ عنه قبل الاختلاط وخالف ابن مواق الجمهور، والجمع بين قول الجمهور وابن مواق مر سابقاً، وأيضاً نقول: إن حديث مسند أحمد أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه وفيه سفيان عن عطاء بن السائب وسفيان سمع قبل الاختلاط، وإن
قيل: لم يسمع الشعبي عن ابن مسعود يقال: إن الشعبي لا يرسل إلا صحيحاً كما قالوا، ومنها ما في سيرة علاء الدين المغلطائي الحنفي أن ابن ماجشون تلميذ مالك سأله رجل: كيف صُلي على النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: كانت تدخل جماعة وتخرج جماعة كما صلي على حمزة سبعين مرة، فقيل له: من أين أخذت هذا؟ قال عن مالك عن نافع عن ابن عمرو مكتوب بقلم مالك في صندوق، هذا فالسند أظهر من الشمس، وأما تكرار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ففي ابن ماجه أيضاً، والتكرار عندنا غير جائز، فتكرار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من خصوصيته، وهذه رواية ابن ماجشون لم يذكرها أحد، ومنها ما في الطحاوي ص (291)، والنسائي: أن أعرابياً حديث العهد بالإسلام استشهد فصلي عليه وكفن بجبته، وتأول فيه البيهقي بأنه لعله ارتث، أقول: ألفاظ الحديث تأبى عن هذه، ومنها ما في أبي داود ص (344) عن أبي سلام عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: فلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثيابه ودمائه وصلى عليه ودفنه إلخ، باب في الرجل يموت بسلاحه، وظني الموثق أن هذا الرجل غير ما الطحاوي ص (291) من أعرابي، ولكن هذا احتجاجنا إلزامي على قول الشافعية، وإلا فذلك الرجل ليس بشهيد فقهاً على مذهب الأحناف فإنه قتله نفسه، وشهيد عند الشافعية، ولنا واقعة أخرى في كتاب الجنائز ص (442) لأبي داود، ولكني متردد في أنها واقعة أعرابي في الطحاوي أو غير تلك الواقعة، وأبو داود اختصر فيه أشد الاختصار، ومنها أن الصلاة على عثمان بن عفان مختلفة فيها، والراجح أنه صلي عليه، ومنها ما في أبي داود ص (442) عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بحمزة وقد مُثِّل به ولم يصلِّ على أحد من الشهداء غيره إلخ وسنده قوي، وتعرض
البخاري إلى الكلام فيه، وبحث الشافعي فيما احتججنا به في معاني الآثار ص (290) : أن عشرة يصلى عليهم، والعاشر حمزة، ثم جيء بتسعة أخر وحمزة بمكانه الأول بأن حمزة صلي عليه سبعين صلاة أخرجه في السنن الكبرى للبيهقي أيضاً، وكيف تكون سبعين صلاة وكنت زعمت لجواب الشافعي أن المراد من سبعين صلاة سبعين مرة لأن حمزة كان مع كل رجل من سبعين أو أزيد رجلاً، ثم رأيت في تلخيص السنن الكبرى لشمس الدين الذهبي على رواية سبعين صلاة قال الذهبي: إن أكثر الرواة يذكرون سبع صلوات وذكر هذا الراوي سبعين صلاة، وقال: لعل المراد بسبعين صلاة سبعين تكبيرة، وسبعين تكبيرة أيضاً غير مستقيم ثم أقول في محمل حديث الصحيحين: لم يصل عليهم أنه يفسره ما في أبي داود ص (442) لم يصل على أحد من الشهداء غيره، أي غير حمزة فالمراد أنه لم يصل على غير حمزة مستقلاً بل كان حمزة موجوداً في كل صلاة وتجوز الصلاة على موتى مجتمعة كما في الفقه، ولينظر إلى ما في الطحاوي ص (287) عن عبد خير، من عمل علي كرم الله وجهه أنه كان يكبر على أهل بدر ستاً وعلى أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم خمساً إلخ فدل على أنه لعله رأى صلاته بهذه التكبيرات على شهداء بدر، ورواية الطحاوي هذه أخرجها البخاري أيضاً إلا أن في الطحاوي زيادة هذا والله أعلم وعلمه أتم.
باب ما جاء في التكبير على الجنازة
[1022]
أثبتت التكبيرات من ثلاثة أو أربعة إلى تسعة، وعمل الفقهاء الأربعة بأربع تكبيرات، واستقر عليه الأمر في عهد عمر وقالوا: إن منتهى فعله أربع تكبيرات، وفي بعض كتبنا أنه لا يتبع من كبر خمس تكبيرات أقول: إن الاتباع في ما هو مجتهد فيه جائز سيما إذا كان خمس تكبيرات مروية عن أبي يوسف في مبسوط السرخسي.
قوله: (صلى على النجاشي الخ) في السنة التاسعة بعد الهجرة واسم النجاشي أصحمة، أي عطية الله، وقال بعض من قال بأزيد من أربع تكبيرات: إن المذكور في حديث الباب فعله مرة ولا ينفي سائر الصفات، وقال الشوكاني: ما من ناسخ لغير أربع تكبيرات أقول: لا ندعي النسخ؛
ونقول: إنه صار متروكاً، وأما أدلة أربع تكبيرات منها: أنه صلى العيدين بأربع تكبيرات وقال: «احفظوها أربع تكبيرات مثل تكبيرات الجنازة» أخرجه الطحاوي، وقد تمسكت بهذا على مذهبنا في تكبيرات العيدين، وفي سنده دفين بن عطاء حسنه له الحافظ في رواية مفيدة له في الوتر، ولنا أيضاً في أربع تكبيرات الجنازة حديث قولي أخرجه الزيلعي عن سليمان بن أبي خيثمة من تمهيد أبي عمر رجاله ثقات أخرجه الحافظ في الفتح المجلد السادس معلقاً، وفيه سهو الكاتب حيث قال: ورواه سليمان بن أبي خيثمة وسليمان هذا إمام من الأئمة، وأما سليمان بن أبي خثيمة فصحابي وراوي الحديث هو صحابي هذا، ولنا ما هو تعامل الصحابة حين أجمعوا في عهد عمر كما في معاني الآثار ص (286) عن إبراهيم مرسلاً، وفي أوائل تمهيد أبي عمر أن كل ما أرسل إبراهيم عن عمر أو عن ابن مسعود مقبول إلا اثنين منها.
ثم هاهنا مسألة الصلاة على الغائب:
فعند أبي حنيفة ومالك رحمهم الله لا يصلى على الغائب، وعند الشافعي وأحمد يصلى، ثم للشافعية وجوه قيل: يصلى على من لم يصل عليه، وقيل: من كان في جهة القبلة وأقوال أخر أيضاً وقال أبو الحسن عبد الملك بن قطان المغربي ـ صاحب كتاب الوهم والإيهام ـ: إن الصلاة على الغائب إنما تجوز على من لم يصل عليه، وأشار إليه أبو داود ص457 ولكن تعامل السلف لم يجر على الصلاة على الغائب وما صح في الحديث إلا واقعتي الصلاة على الغائب، أحدهما واقعة الصلاة على النجاشي، وثانيتها واقعة معاوية بن معاوية الليثي أو المزني، ومر البعض على هذه الواقعة وقال: إنها قوية السند، وقال البعض: إنها ساقطة ومثله عند ابن كثير في تفسير سورة الإخلاص، وأجاب الحنفية والمالكية عن واقعة الباب بأن واقعة الباب لا يصح أن يقاس عليها لأن النجاشي مات في الحبشة وما كان ثمة أحد ليصلي عليه، وأيضاً كان جنازة النجاشي يراها النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرج ابن حبان في صحيحه بسند جيد عن عمران بن حصين وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه إلخ، وأخرجها الزيلعي أيضاً ويشير إلى خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم قول محمد بن الحسن في موطئه إنه صلاته كانت نوراً لهم وفي مسلم ص (309) :«إن هذه القبور مملؤة ظلمة على أهلها وإن الله ينورها لهم لصلاتي عليهم» إلخ، وأيضاً نقول: إن كثيراً من المسلمين مات غائباً ولم يصل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم.
باب ما جاء في القراءة على الجنازة بفاتحة الكتاب
[1026]
لا يجب الفاتحة في صلاة الجنازة، وعند مالك وأبي حنيفة ولو قرأها فلا بأس، وقال الشافعي: إن قراءة الفاتحة فريضة، وفي رسالة الأتباع في مسألة الاستماع للشرنبلالي في استحباب سورة الفاتحة في الجنازة بنية الثناء، وفي فتاوى ابن تيمية أن السلف كان يقرأ بها بعضهم لا بعضهم، وتمسك بعض الأحناف بحديث أبي داود:«أخلصوا له الدعاء» إلخ، أقول: إن مراده أن يدعوا له مخلصين لا أن لا يأتون إلا بالدعاء، وأقول: الحق في الاستدلال ما قال: ابن تيمية في فتاواه: إن بعض السلف كانوا لا يقرؤون بها، ثم تمسك الشافعية بعمل ابن عباس المذكور في الباب أخرجه النسائي أيضاً أنه جهر ابن عباس بالفاتحة وقال: ما جهرت إلا ليتعلموا إلخ، أقول: عندي رواية يعارض تمسك الشافعية بعمل ابن عباس أخرجها الحافظ في فتح الباري وعمر بن ثنية في أخبار المدينة ومكة بسند قوي عن أبي حمزة، قال: قلت لابن عباس: كيف أصلي في الكعبة؟ قال: كما تصلي في الجنازة تسبح وتكبّر إلخ، وما ثبت قراءة الفاتحة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً، وأما الدعاء في الجنازة فمختارنا ما في الباب ومختار الشافعية ما في الصحيحين، ودعاؤنا أيضاً ثابت بأسانيد قوية.
قوله: (من السنة القراءة على الجنازة إلخ) يذكر في الأصول أنه إذا قال الصحابي: إن الشيء الفلاني سنة يكون ذلك الشيء مرفوعاً، وروي عن الشافعي أنه قال: ربما نجد لفظ السنة من الصحابي ولكنه لا يكون المذكور تحته مرفوعاً بل استنباطه واجتهاده.
باب ما جاء في كراهية الصلاة على الجنازة عند طلوع الشمس وعند غروبها
[1030]
المسألة مرت بقدر الضرورة، وإذا حضرت الجنازة في عين الأوقات الثلاثة يجوز أداؤها فيها لا إن حضرت قبلها والتفقه ظاهر، ثم في الصورة الأولى هل يستحب أداؤها في ذلك الوقت أو بعده؟ فيه قولان.
قوله: (تقبر فيهن إلخ) أشار أبو داود إلى أن وجه الكراهة في هذه الأوقات الصلاة في هذه الأوقات وإلا فالدفن جائز بلا ريب كما قال ابن المبارك.
باب ما جاء في الصلاة على الأطفال
[1031]
قال أبو حنيفة: إن علم علامة حياة الولد فيغسل ويكفن ويصلى عليه وإن لم يعلم حياته فَسِقْط فيغسل ويدفن بلا صلاة، وأما الطفل الذي أخذ من دار الحرب فمسألة مذكورة في الفقه. وهاهنا شيء آخر وهو أن الشافعي لا يعتبر عنده إسلام الصبي كما نسب إليه الحافظ ابن حجر، وأما عند أبي حنيفة فإسلامه معتبر وارتداده غير معتبر، ومثل ما نسب إلى الشافعي نسب إلى زفر رحمه الله كما في شروح
الهداية في باب الجنازة ولا يرد هذا على الأئمة الثلاثة والبخاري، ثم رأيت البيهقي ذكر أن إناطة الأحكام بالبلوغ بعد الخندق.
باب ما جاء في الصلاة على الميت في المسجد
[1033]
تكره الصلاة على الجنازة في المسجد عندنا وإن كان الميت خارج المسجد، واختار العلامة قاسم بن قطلوبغا الكراهة تحريماً وشيخه ابن همام تنزيهاً، ولعل هذه الكراهة بين التحريمية والتنزيهية وتسمى بالإساءة كما قال صدر الإسلام أبو اليسر، والأفضل عند الحجازيين أيضاً خارج المسجد ويجوز في داخل المسجد بلا كراهة، وتمسك الحجازيون بحديث الباب حديث الصحيحين، وأتى مالك بأثر عمر أنه صلى في المسجد كما في موطئه ص (80) ، ولهم أثر أبي بكر الصديق أيضاً، وأما أدلتنا فمنها ما في أبي داود ص (455) :«من صلى على الجنازة في المسجد فلا شيء له» إلخ، وقال الحجازيون: إن في سنده صالح مولى التوأمة واختلط في آخر عمره، نقول: ابن أبي ذئب أخذ
عنه قبل الاختلاط اتفاقاً إلا ما نقل عن رجل، وظني أن هذا النقل أيضاً لعله من سهو الناسخ، وصالح من رواة السنن ومسلم، ثم تكلموا في متن الحديث، وقال النووي في شرح مسلم (313) : الصحيح من نسخ أبي داود: «ولا شيء عليه» وكذلك صحح ابن قيم لفظ: «فلا شيء عليه» ونقول: نقل الزيلعي عن الخطيب صاحب نسخة أبي داود أن الصحيح «فلا شيء له» ، أقول: إن الصحيح «لا شيء له» لأن في ابن ماجه ص (110) : «فليس له شيء» إلخ بسند قوي، وأيضاً ابن أبي ذئب راوي حديث أبي داود مذهبه موافق لمذهب أبي حنيفة كما ذكر النووي ص (313) مذهبه، ثم أجاب السرخسي عن حديث الباب بأنه لعله كان معتكفاً أو كان اليوم يوماً مطيراً فواقعة حال لا تعارض الحديث القولي، وأشار محمد في موطئه ص (169) إلى استدلال آخر وهو أنه اتخذ المصلى لصلاة الجنازة في خارج المسجد متصلة فدل على كون الجنازة خارج المسجد، ونقل الحافظان اتخاذه المصلى خارج المسجد عن القاضي عياض، ثم قال: إن صح هذا إلخ فكلامه دل على أن الحافظ لم يعلم هذا، ويمكن لأحد أن يقول: إن البخاري ص (176) وافق العراقيين فإنه بوب الصلاة على الميت بالمصلى والمسجد، وأخرج حديث الصلاة في المصلى فقط، ولم يخرج حديث الصلاة في المسجد.
قوله: (سهيل بن بيضاء إلخ) بيضاء اسم المرأة، وفي مسلم: على ابني بيضاء سَهْل وسُهَيل، وهو وهم، وعاش سهل إلى مدة بعد وفاته.
باب ما جاء أين يقوم الإمام من الرجل والمرأة
[1034]
المشهور عندنا أن يقوم حذاء الصدر، وقال الشافعي: يقوم حذاء رأسه وحذاء عجيزتها، وللشافعي ما أخرجه الترمذي وأبو داود، وأقول: روي عن أبي حنيفة مثل ما قال الشافعي كما في الهداية ص (161) ، ونقل الطحاوي هذه الرواية عن أبي يوسف وتعرض صاحب الهداية إلى حديث أبي داود، أقول: لا احتياج إلى التأويل بعد ثبوت الروايتين عن الإمامين.
قوله: (فقام وسطها إلخ) الوسْط بسكون الوسَط ما بين الطرفين، وبفتح الوسط المنتصف عن المتوسط، ولذا قيل: إن الساكن متحرك والمتحرك ساكن، وتأول بعض الأحناف في حديث الباب.
باب ما جاء في الصلاة على القبر
[1037]
قال مالك وأبو حنيفة: لا يصلى على القبر إن صلي عليه قبلُ، وإن دفن بلا صلاة يصلى عليه ما لم يتفسخ، وقال الشافعي وأحمد: يجوز الصلاة على القبر لمن كان يريد الصلاة من أهل الجنازة وإن صلي عليه مرة، ثم قال أحمد: يجوز الصلاة إلى شهر لا بعده لأن صلاته على القبر ثبتت إلى شهر لا بعده، وقال أحمد: صح ست وقائع للصلاة على القبر أو أزيد كما في شرح الموطأ للزرقاني، وأما الجواب من الأحناف والموالك فعديدة منها أن الصلاة على القبر من خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم، ودليل الخصوصية حديث مسلم ص (309) قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن هذه القبور مملوءة من الظلمة على أهلها وإن الله ينورها بصلاتي عليهم» إلخ، ومر الحافظ على حديث مسلم في موضع ونقل عن أحمد أن هذه القطعة مدرجة من الراوي، وطريق الإدراج أنها قطعة حديث ثابت عن أنس لا في حديث أبي هريرة، فأخذ الراوي قطعة حديث أنس وأدرجها في حديث أبي هريرة، أقول: رأيت في حديث أبي هريرة بغير هذا الطريق أيضاً زيادة ما في مسلم في مشكل الآثار فتكون القطعة في حديث أبي هريرة أيضاً، ومنها ما ذكر السيوطي في خصائصه في أنموذج اللبيب أن الأحناف يقولون إن جنازة ما لا تتأدى لا تسقط في المدينة ما لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم في أدائها، أقول: لو كان نسبته إلينا صحيحة فالوجه تساعده، فإذن نقول: إن صلاته كانت صلاة الولي لأنه ولي المؤمنين كما يشير إليه القرآن والأحاديث، ويجوز للولي إعادة صلاة الجنازة ولكنه لا يستقيم أيضاً فإن أكثر شراح الهداية إلى أن الولي تجوز له الإعادة منفرداً، وأما في واقعته فكان معه بعض الصحابة أيضاً، فأقول: إن في مبسوط السرخسي خلاف شروح الهداية فإنه ذكر صلوات الصحابة على النبي صلى الله عليه وسلم مكرراً فقال: إن أبا بكر كان ولي النبي -
صلى الله عليه وسلم فصلى أبو بكر ومعه بعض الصحابة ولم يصل بعده، فلازم قوله أن يكون من الجائز أن يصلي مع الولي من لم يصل قبل، فلو اعتمدنا على ما يلزم من كلام السرخسي يمكن جواب واقعته، فالحاصل أن جميع الوقائع حملناها على خصوصيته.
باب ما جاء في القيام للجنازة
[1042]
قال جماعة من العلماء: إن القيام للجنازة كان ثم نسخ، وقيل: إن وجه قيامه أن لا تكون جنازة اليهودية مرتفعة من رأسه، وقيل: إن قيامه كان لتعظيم الملائكة، والأقوال هذه مروية عن السلف، وقيل: إن القيام كان عملاً بالتوراة كما في الطحاوي ص (283) ج (1) عن علي، وكثير من المسائل كانت على حسب التوراة ثم نسخت بعد نزول الشريعة الغراء.
قوله: (ثم قعد إلخ) قيل: إن المراد القعود في تلك الواقعة لا التشريع العام، وذلك القعود أيضاً بعد مرور تلك الجنازة، والجمهور إلى أن المراد: ثم قعد. . إلخ التشريع العام كما يدل حديث علي في الطحاوي ص (283) .
[1045]
قيل: إن المراد اللحد لنا أي للمسلمين، والشق لغير المسلمين فدل على فضل اللحد، وقيل: اللحد لنا أي أهل المدينة، والشق لأهل مكة فإن أرض مكة ذات رمل فلا يدل على فضل اللحد، وأما المسألة فقال الفقهاء باستحباب اللحد، وفي بعض كتبنا وجه أفضلية اللحدد أن اللحد كالحجرة ففيه الشرف والتعظيم.
مسألة: إذا انخرق القرآن العزيز وبليت الأوراق يدفن في اللحد، أو يحرق ويلقى رماده في البحر كما ثبت أن ذا النورين أحرق الصحائف.
باب ما جاء في تسوية القبر
[1049]
قال الشافعية: الأفضل التربيع والتسطيح، وقلت: الأفضل التسنيم، وذكر ابن الهمام أن يرفع القبر قدر شبر واحد، وظاهر حديث الباب أن لا يرفع القبر أصلاً، ولكني قد وجدت حديثاً لما قال ابن الهمام أي رفعه قدر شبر واحد.
باب كراهية الوطئ على القبر والجلوس عليه
[1050]
يكره الوطئ أي المشي على القبر، واختار الطحاوي الكراهة، واختار الشيخ الكمال الكراهة تنزيهاً، والجلوس على القبر. قيل: معناه قضاء الحاجة من البول والغائط على القبر، وقيل: الجلوس المعروف، وهذا أيضاً مكروه، وثبت بسند صحيح عن علي الاتكاء على القبر لا الجلوس، وبين الجلوس والاتكاء فرق ظاهر.
باب ما جاء في كراهية تجصيص القبور والكتابة عليها
[1052]
لا يجوز التجصيص عند أحد ولا البناء، وأما ما ذكر الشيخ الدهلوي في المدارج جوازه عن بعض مشائخنا أي محمد بن سلمة فينبغي أن تراجع عبارة ابن سلمة مشافهة، وأما الكتابة فنجد كتائب على قبور السلف فلا أعلم أنها مندرجة تحت نهي الحديث أم لا؟ وقال الحاكم صاحب المستدرك: إنا نجد
الكتائب على القبور شرقاً وغرباً والحديث ينهى عن الكتابة، والله أعلم، وفي طبقات المالكية: أن الشيخ ناصر الدين بن المنير كتب على قبر ابن حاجب شعرين، فالحاصل أني لا أداخل في هذا، والحديث عام.
قوله: (تطيين القبور إلخ) أي رش الماء على تراب القبر، وهذا جائز كما في كتبنا أيضاً.
باب ما جاء ما يقول الرجل إذا دخل المقابر
[1053]
ثبت الأدعية في الأحاديث الصحاح، وفي فتح القدير عن أبي حنيفة أن الزائر يستقبل القبر وليستدبر القبلة ويتيامن شيئاً ليراه الميت سهلاً.
قوله: (السلام عليكم إلخ) ظاهر حديث الباب وغيره من كثير من الأحاديث يدل على سماع الموتى، واشتهر على ألسنة الناس أن الموتى ليس لهم سماع عند أبي حنيفة، وصنف ملا علي القاري رسالة وذكر فيها أن المشهور ليس له أصل من الأئمة أصلاً، بل أخذ هذا من مسألة في باب الأيمان أنه إذا حلف أنه لا يتكلم مع فلان فمات الرجل فتكلم معه على قبره ميتاً لا يحنث، أقول: إن وجه عدم الحنث أن مبنى الأيمان على العرف، وأهل العرف لا يعلمون أن الموتى تسمع، والمحقق أن أبا حنيفة لا ينكر سمع الأموات وإن خالف ابن الهمام، وقال: إن الموتى لا تسمع، وإن ذخيرة الحديث تدل على سمع الموتى، وقال الشيخ: إن الموتى لا تسمع ويستثنى منه سمع قرع النعال والسلام عليكم، أقول: لو قلنا بسمع الموتى لا إشكال فإنه ثبت بقدر مشترك تواتراً في الحديث ولا نتعرض إلى التخصيصات المتكلفة، وسيما إذا لم يرد الإنكار عن أئمتنا الثلاث، وأما الآيات المشيرة إلى عدم السمع فلها محامل حسنة، قال التفتازاني في شرح المقاصد: إن علم الميت في مجمع عليه ولكنه لا حركة له، أقول: إن نقل إجماع التفتازاني في حيز الخفاء وأما نفي الحركة ففي فتاوى ابن حجر
العسقلاني، ولم تنطبع أن حركة الروح وإيابه وذهابه ثابت في الشريعة، وذكر بعض التفصيل السيوطي في رسالته.
اجاء في زيارة القبور للنساء
[1055]
في زيارة النسوان روايتان عن أبي حنيفة الجواز وعدمه، أقول: وجه الجواز أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز زيارة القبور للرجال، والنساء تبع الرجال، ووجه الثانية: أن الإجازة المذكورة في الحديث للرجال، وتردد ابن عابدين في تعدد الرواية عن أبي حنيفة، أقول: يحمل على اختلاف الأحوال.
قوله: (بالحُبْشيّ إلخ) بضم الحاء وتشديد الياء المثناة التحتانية، والحديث يدل على جواز نقل الميت من موضع إلى موضع، في عامة كتبنا عدم جواز النقل، وفي البحر أن الجواز في المسافة القريبة لا البعيدة، والنقل ثابت عن السلف أيضاً، ورفع اليدين عند الدعاء على القبر جائز كما في جزء رفع اليدين للبخاري وصحيح مسلم:«أنه دخل جنة البقيع ودعا رافعاً يديه» ، وأما قراءة القرآن على المقابر فروي كراهتها مع الجواز عن محمد بن الحسن.
قوله: (لن يتصدعا. . إلخ) هذا ألف التثنية، وأما الإشباع والألف إذا كانت للإشباع فالضمير إلى المصدر المفهوم كما في:
~ قد حيل بين العير والنزوان
…
وقال السيرافي في حاشية الكتاب (سيبويه) : إن معاني اللغة بمعنيين جاء في القوم معاً أي مجتمعين أو أجمعين.
ويستحب زيارة القبور الملحقة ببلدة الزائر، وقال به ابن تيمية أيضاً.
باب ما جاء في الدفن بالليل
[1057]
يجوز الدفن بالليل وأطنب الطحاوي في الروايات، وأما حديث النهي فلئلا يشكل الدفن على الناس وهذا بعد صحة رواية النهي.
قوله: (قبل القبلة إلخ) يدفن عندنا من قبل القبلة، وقال الشافعية: يسل الميت من جانب رجل القبر إلى رأسه. . والخلاف في الأفضلية، وتمسك الشافعية بأنه سل، واعتذر الأحناف أن في جانب الجدار القبلية كان ضيق المكان، فكان لا يمكن فيه الأخذ من جانب القبلة.
باب ما جاء في ثواب من قدّم ولدا
[1060]
ثبت الوعد على موت ولد وولدين وثلاثة.
قوله: (إلا تحلة القسم إلخ) والقسم ما في الآية {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم: 71] .
قوله: (لم يبلغوا الحنث إلخ) إن قيل: إن زيادة الحزن والوجع على موت الكبار، قلنا: إن الغرض التشفيع والشفاعة تكون من المعصومين الذين لم يحتلموا.
قوله: (من الأئمة إلخ) كان المتقدمون من أبي حنيفة وأحمد ومالك والشافعي وابن المديني وابن معين وعبد الرزاق والبخاري وغيرهم لا يروون ولا يأخذون من الضعفاء، ولا يروون المنكرات والمتروكات أصلاً، وجاء المتأخرون وخلطوا وأحالوا على النقد مثل الدارقطني والبيهقي وغيرهما.
باب ما جاء في الشهداء من هم
؟
[1063]
الشهيد دنيوي وأخروي، وفي الفقه خاص أي الدنيوي، وأما في الحديث فعام، وفي الصحيحين سبعة شهداء، وزاد السيوطي وأبلغ إلى أربعين، وزاد الأجهوري المالكي في بعض رسائله وأبلغ إلى خمسين، والطاعون على أقسام أشدها ما يكون بخراج أصفر وهذا من الأمراض المتعدية والوباء غير الطاعون، وأما المبطون فقيل: من به استطلاق البطن، وقيل: الحاملة، وقيل: من ابتلي في ذات الجنب، وإن قيل: إن في أبي داود الاستعاذة من الموت مفاجأة، والحال أن الحديث ينبئ بأن الموت فجاءة شهادة، قلنا: إن الشريعة تأمر بالاستعاذة كيلا يفوت الرجل الوصية وغيرها من أمور الشريعة، وأما لو ابتلي ومات بالموت فجاءة فيكون شهيداً.
باب ما جاء في كراهية الفرار من الطاعون
[1065]
في الدر المختار في المسائل الشتى قبيل الفرائض الخروج عن البلدة المطعونة جائز ولكن الحديث ينهى، والنهي محمول على موضع فساد الاعتقاد وزعم العدوى، وغرض الحديث الرضا بما قضى الله ويجوز الخروج والدخول لحوائج أخر، وفي البخاري لفظ صار مشكلاً على الشارحين وهو هذا:«ولا يخرجكم إلا فراراً منه» إلخ فقالوا: ظاهره يدل على جواز الفرار، قول: إن المذكور في الحديث الفرار المقدر لا المحقق ومثل هذا يعبره سيبويه بالواقع وغير الواقع، وأقول: معناه (هزادرده باشد شمار أزال مگرگريختن) أي لا يخرجوا على هذا الحال واختلفوا في إعراب (فراراً منه) .
باب ما جاء فيمن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه
[1066]
أقول: إن مراد الحديث كان ظاهراً أي التعميم في حالة الحياة وقرب الوفاة وإنما أشكله سؤال عائشة وجوابه، ودل ذلك على أن الحديث خاص بحالة الوفاة، أقول: إن مراد الحديث الآن أيضاً ما هو ظاهر متبادر، أما جوابه إنما هو على تلقي المخاطب بما لا يترقب أو أسلوب الحكيم، أو القول بموجب العلة أو المجاراة مع الخصم.
باب ما جاء فيمن يقتل نفسه لم يصلّ عليه
[1068]
قال الفقهاء: يصلى على كل من يدعي الإسلام وإن كان فاسقاً فاجراً إلا على قاتل نفسه وقاتل أبويه عند أبي حنيفة، وروي عن أبي يوسف لا يصلى على الباغي، ولم يرو عن أبي حنيفة.
باب ما جاء في الصلاة على المديون
[1069]
يصلى على المديون عند الفقهاء، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فكان لا يصلي إلا إذا تكفل رجل دينه، وتمسك الشافعية بحديث الباب على صحة الكفالة عن الميت، أقول: لا استدلال في هذا فإنه من باب الديانة، ومسألتنا من باب القضاء والمعاملات، نعم لو أنكر المتكفل فرضاً وألزم النبي صلى الله عليه وسلم لتكفله لكان حجتهم.
باب ما جاء في عذاب القبر
[1071]
عذاب القبر ثبت متواتراً، متواتر القدر المشترك، وقال به أهل السنة والجماعة قاطبة، ومنكر التواتر هذا لا ريب في تبديعه، ومنكر التواتر بالقدر المشترك كافر إن كان التواتر بديهياً، وفاسق مبتدع إن كان نظرياً، ونسب إلى المعتزلة أنهم ينكرون عذاب القبر، ويرد عليه أن المعتزلة المختار عدم إكفارهم، وإذا كانوا أنكروا عذاب القبر فكيف يكونوا أهل القبلة؟ أقول: يقال أولاً: لعل التواتر نظري، وثانياً: أنه لم ينكر أحد منهم إلا ضرار بن عمرو وبشر المريسي، وإني في هذا أيضاً متردد ما لم ير عبارتهما. ثم لأهل السنة قولان؛ قيل: إن العذاب للروح فقط، وقيل: للروح والجسد والمشهور الثاني، اختاره أكثر شارحي الهداية وهو المختار، وإن صار البدن ذرة ذرة في الدنيا فإن الشعور لكل شيء عند جمهور الأمة، وتفرد ابن حزم الأندلسي وقال: لا شعور إلا للثقلين، وقال الصوفية: العذاب للبدن المثالي، وقال الفلاسفة: لا شعور للطبيعة، وقال صاحب الشمس البازغة: لكل طبيعة شعور وأما الروح فمرَّ حقيقته في أول الكتاب أنه جسم لطيف ذو أعضاء عند أهل السنة إلا من شذ وتفرد مثل الغزالي، ونسب إلى راغب الأصبهاني والقاضي أبي زيد الدبوسي.
قوله: (يقال لأحدهما المنكر إلخ) قيل: إن الملكين الذين يأتيان المؤمن بشير ومبشر، والله أعلم.
قوله: (هذا الرجل إلخ) قيل: إنه يشاهده الميت، وقيل: يشار إلى المعهود، وأقول: يكفي العهد فقط ولا دليل على المشاهدة.
قوله: (يفسح له إلخ) إن كان فساحة النظر فلا بعد فيه فإنا شاهدناه في هذا العالم بالآلات، وإن كان الفساحة في المكان فيفوض الحقيقة إلى الباري عز اسمه تعالى.
قوله: (منافقاً إلخ) في البخاري شك الراوي بين الكافر والمنافق، وقالت جماعة: إن السؤال في القبر إنما يكون من المسلمين لا الكافر المجاهر، وقيل: يسأل الكافر المجاهر ومدعي الإسلام.
باب ما جاء فيمن يموت يوم الجمعة
[1074]
ما صح الحديث في فضل موت يوم الجمعة، ولو صح بالفَرَض لكان الفضل من عدم السؤال لمن مات يوم الجمعة لا من مات قبل وأخر دفنه إلى يوم الجمعة.
باب ما جاء في رفع اليدين عند الجنازة
[1077]
من قال برفع اليدين في الصلاة المكتوبة قال بالرفع في الجنازة، ومن لم يقل به فيها، لم يقل به فيها، وذهب مشائخنا البلخية إلى ما قال الشافعي، والخلاف في الأفضلية وليس المرفوع لأحد.
[1078]
في كتب النقل أن عباساً رأى في المنام عمر الفاروق بعد وفاته بسنة فقال عباس: ما لقيتني قبل
السنة، قال عمر: كنت مشغولاً في محاسبة الرب لي وفرغت عنها الآن، وكنت كدت أن أتزلزل وزل قدمي لكن الله فضل علي بمنه سبحانه، اللهم اغفر للكاتب ولسائر المسلمين. آمين.
كتاب النكاح
النكاح في اللغة قيل: الوطئ: وقيل: العقد ويستعمل في اللغة في المعنيين، وأصله الضم. والنكاح عند أبي حنيفة عبادة، وقال الحنفية: إن النكاح الوطئ والعقد مجاز، وقال الشافعية بالعكس، أقول: إن الحذاق يقللون المجاز كما قال ابن تيمية: إن المجاز لم يكن في المتقدمين، وقال ابن تيمية: إن منشأ قول المتأخرين أن المتقدمين يذكرون للفظ معنى ثم يذكرون بعده أنه يتجوز به في كذا وكذا ومراد التجوز ثمة التوسع في الاستعمال لا استعمال اللفظ في غير الموضوع له.
وذكر ابن تيمية أنهم اختلفوا في أفضل العبادات بعد أداء الفرائض والسنن، فقال أبو حنيفة ومالك: إن الأفضل التبحر في علوم دينية، وقال الشافعي: الأفضل صلاة النفل، وقال أحمد: الأفضل الجهاد، وقال الصوفية: قول الشافعي أقرب إلى الولاية، وقول ما روي عن أبي حنيفة أفضلية النكاح أقرب إلى النبوة، وأفتى الشيخ نور الدين الطرابلسي في البرهان شرح مواهب الرحمن أن النكاح في زماننا ليس بأفضل بل الأولى التجرد.
قوله: (بالباءة إلخ) أي القوة البدنية على الجماع، وقيل: أن أريد بالباءة القوة فلا يستقيم، وإن لم يستطع الباءة فيصوم فإنه إن لم يقدر على الجماع فأي حاجة إلى الصوم؟ والحل أن المراد القوة على النكاح مع متعلقاته من نفقة الزوجة والمكان وغيرها.
باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة
[1087]
قالوا: يجوز النظر إلى المخطوبة كيلا ينجر الأمر إلى الفساد، وقالوا: إنه يخلص النية عند ابتداء النظر ثم يفوض الأمر إلى الله.
باب ما جاء في إعلان النكاح
[1088]
ويستحب الإعلان عند الفقهاء، أقول: لعل مذهب مالك أن الشاهدين لا يجب استماعهما في مجلس واحد ووقت واحد خلاف سائر الأئمة.
قوله: (الدف إلخ) الدف ما يكون مجلداً من جانب واحد، وصرح الفقهاء بعدم جواز الدف ذي جلاجل، أقول: تدل المسائل على التوسيع وجواز ما يقال له: الدبل، وجواز النقارة والطبل فإنه لا ذوق ولاحظ في هذه الأشياء، وقد جوزوا ضرب الدف للتسحير، وأما طبل الغزاة فجائز، وكذا عند السرور ويوم العيد وفي أكثر الكتب القصر على الدف، ولم أجد التوسيع إلا في تكملة فتح القدير لقاضي زاده الرومي فإنه أشار إلى التوسيع، وفي الحديث الصحيح أنه كان جلس يوماً وصغيرتان تضربان الدف فلم يمنعهما فإذا جاء عمر ذهبتا فقال: «إن الشيطان يفر من
عمر» ، وأشكل هذا على العلماء من سماعه ثم جعله من الشيطان؟ فأقول: إنه وإن كان أمراً مباحاً لكن المباح قد ينجر فيصير صغيرة عند الإصرار، وأيضاً كان حين ضربهما مستكرهة، وأما صيرورة المباح صغيرة بالإصرار فذكره الغزالي في باب التوبة والاستغفار.
قوله: (في المساجد إلخ) في كتبنا أن النكاح يوم الجمعة بعد العصر في المسجد مستحب.
قوله: (فجلس على فراشي إلخ) قال القاضي عياض: إنه لا حجاب عنه لأحد، ونقول: يجوز النظر إلى الوجه والكفين فلا ضير علينا، نعم الأحوط الحجاب وهذا أصل المذهب.
قوله: (وفينا نبي يعلم ما في غد إلخ) اعتقاد أهل السنة والجماعة أن علمه اطلاعي، وأنه أعلم الأولين والآخرين، وقال بعض الجهلة: إن علم الباري وعلمه متساويان،
والفرق أن علمه عرضي وعلم الباري ذاتي، أقول: هذا ادعاء الباطل المحض فإن علمه متناه، وعلم الباري غير متناه فلا نسبة بين المتناهي وغير المتناهي.
وفي المعجم الطبراني أنهن كن يغنين:
~ وأهدي لها كبشاً تنحنح في المربد
…
وزوجك في النادي وتعلم ما في غد
باب ما جاء في الوليمة
[1094]
قيل: إن الوليمة دعوة النكاح فقط، وقيل: إنه عام، وتجوز الوليمة إلى ثلاثة أيام، والضيافة على أنواع تسعة: منها الوتيرة والوكيرة والطعام الذي يصنع على ختم تعمير المكان، والطعام وقت القفول عن السفر، والضيافة التي تكون يوم الإيجاب والقبول في النكاح، وليس إجابة الدعوة مؤكدة، وفي بعض كتب الشافعية الوجوب، وإليه تشير عبارة الهداية.
قوله: (وزن نواة إلخ) يصح المهر عند الشافعي بكل قليل وكثير من المال وما يخالفنا نحمله على المهر المعجل وأما المؤجل فغيره، أقول: هذا المحمل يصح بعد إثبات مذهب عشرة دراهم وسيأتي الكلام فيه، وقال ابن حزم: يصح النكاح على حبة شعيرة أيضاً.
صنف عالم مجلداً كاملاً وموضوعه إثبات حرمة الذهاب بلا دعوة أي التطفل.
باب ما جاء أنه لا نكاح إلاّ بوليّ
[1101]
مذهب الشافعي وأحمد ومالك أن النكاح لا يصح بعبارات النساء وإن أظهر الولي رضاءه مائة مرة بل يجب عبارة الرجال، وقال أبو حنيفة: يصح النكاح بعبارة النسوان أيضاً، وقد يصح النكاح بدون إذن الولى أيضاً، وقال صاحباه: لا يجب عبارة النسوان ويجب إذن الولي وبدونه باطل، وتمسك الحجازيون بحديث الباب:«لا نكاح إلا بولي» ، أقول: لا يصح التمسك بهذا ولا تعلق له بمرادهم أيضاً، وإنما أخذوا المسألة من عرف الناس وتعرضوا إلى إثباتها بالمرفوعات ولا تعلق لحديث أبي موسى وحديث عائشة بمراد الحجازيين أصلاً كما سيظهر عن قريب، وأقول: أولاً إن حديث الباب مختلف في الوصل والإرسال، ورجح الطحاوي الثاني، ولكن المحدثين أقروا بأن الحديث حجة إسناداً وحديث أبي موسى رواه أبو حنيفة أيضاً كما في مسانيده وفي مستدرك الحاكم، فعلم أن الحديث بلغ أبا حنيفة ولا يتفوه بأنه لعله لم يبلغه الحديث، فأتعرض إلى متن الحديث فأقول: إنه لا يدل على ما ادعاه الحجازيون أصلاً، بل يدل على أنه لا بد من إذن الولي، وهذا مذهب أبي يوسف ومحمد، ويدل صراحة على أن الغرض في حديث الباب إذن الولي حديث عائشة الآتي:«أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها» إلخ، وتعرض الأحناف إلى جواب حديث عائشة وأبي موسى فقال الشيخ ابن همام بقول الموجب بأنا نقول: إنه لا نكاح إلا بولي، لكن الولي أعم من أن يكون غير المولية كما في الصغيرة، أو يكون نفس المولية كما في الكبيرة، أقول: ألفاظ الحديث يدل على أن المولية غير الولي، وقيل: إن كون إذن الولي لا بد منه صادق عندنا أيضاً، فإن إذن الولي واجب في بعض الصور ومستحب في بعض الصور، وما من صورة لا يستحب فيها إذن الولي، وقيل: إن النفي نفي كمال، وإني لا أقول بنفي الكمال في اللفظ بل في مصداق اللفظ، أي تنزيل الناقص منزلة المعدوم، فإذا ثبت أن الحديث يدل على إذن الولي فينظر الفقيه إن أذن
الولي هل لكون إذنه حق الولي ولا حق له وإذنه إنما هو نظراً إليها، فزعم الشافعية ومن تبعهم أن استئذان الولي لكونه حقاً له، وقلنا: إنه نظراً للمولية لتحصيل النفقة والكفاءة والمهر كما في موطأ محمد ص (249)، فأما أبو حنيفة فقال: إذا وضعت نفسها في كفاءة ولم تقصر في نفسها في الصداق والنكاح جائز إلخ، وجعل محمد أثر الفاروق الأعظم حجة أبي حنيفة، ثم إن قيل: إن تخصيص الحديث العام بالرأي وقصره على غرض خاص ابتداء غير جائز. قلت: أولاً: إن تخصيص النص بالرأي جائز إذا كان الوجه جلياً كما قال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام، ولذا تجد أكثر أحاديث الأخلاق تخصص بالرأي، والوجه أن الوجه فيها يكون جلياً، وأقول ثانياً: إن التخصيص ليس بالرأي بل بالنص كما سأذكر مستدلاتنا التي
تدل على التخصيص؛ ثم يمكن لأحد أن يدعي أن الغرض لا يجب أن يتعين في ما قلتم، لمَ لا يجوز أن يكون الغرض غيره، أقول: يؤتى البيان على ذلك الغرض، وعندي محملان آخران لحديث «لا نكاح إلا بولي» إلخ، أذكر أحدهما في آخر الباب، وتمسك أصحابنا على المذهب بحديث سيأتي «البكر تستأذن» إلخ؛ وسأذكر الاستدلال به ويرد على الحجازيين حديث الباب، فإنه يدل على أن الضروري إذنه، وفيه «فلها المهر بما استحل» إلخ، فإن تفريع المهر يدل على أن النكاح صحيح، فقالوا: إن المهر لشبهة النكاح، أقول: إثبات الحكم بالشبهة يفيدنا في مسألة أخرى وهي أن من نكح بمحرمته فلا حد عليه من الجلد أو الرجم، وإن كان هذا أشد من الزنا فإنه فيه شبهة النكاح، وأما ما في حديث عائشة فنكاحها باطل؛ فقيل: إنه على شرف البطلان وإن الباطل بمعنى مالا فائدة فيه: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} [آل عمران: 191] ألا كل شيء ما خلا الله باطل، ورجل بطال (بيكار)، أو يقال: إن هذا الحديث فيما تزوجت بمهر أقل أو في غير كفئها لأنها لو تزوجت في الكفاءة وبتمام الصداق فالغرض حاصل، فإذا تزوجت في غير كفئها أو بمهر أقل ففي ظاهر الرواية لنا أن النكاح صح لكنه يجوز للأولياء فسخ نكاحها برفع القضية إلى القاضي، وفي رواية عن حسن بن زياد أن هذا النكاح باطل من الرأس وأفتى بها المتأخرون، وأفتى بها السرخسي، فإذن لا ضير علينا في لفظ باطل، وأيضاً لفظ «وإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» إلخ يفيدنا في أن إذن الولي ليس لكون الإذن حقه بل نظراً للمولية ونقول أيضاً: إن الزهري راوي حديث عائشة ومذهب الزهري موافق لمذهب أبي حنيفة، وأما أدلتنا فمنها ما في الطحاوي ص (5) ج (2) أن عائشة أنكحت حفصة بنت أخيها بابن أختها وكان أبو حفصة عبد الرحمن بالشام وما كانت عائشة وليتها، وقال الحجازيون: إن عائشة لم تنكح بعبارتها بل هيأت الأمر
من الرضاء وغيره ثم حولت أمر الإيجاب والقبول إلى الرجال كما في الطحاوي ص (6) ج (2)، قال الطحاوي: إن هذا لا يفيدهم فإن هؤلاء الرجال لم يكونوا أولياء وكلامنا في الأولياء، ومن أدلتنا على أن الغرض إذن الولي ورضاؤه ولا يجب عبارته ما أخرجه في معاني الآثار ص (7) ج (2) أنه أراد أن ينكح أم سلمة فقال لها، قالت: ليس أحد من أوليائي حاضراً، قال: ليس أحد من أوليائك حاضراً ولا غائباً إلا ويرضاني إلخ، فدل على أن العبارة من الأولياء ليس بضروري بل يكفي إذنهم، فقيل في جواب هذه الرواية: إن المنكح عمر بن أبي سلمة وكان ولياً وعمره أزيد من ثلاث سنين، وقيل: إن عمر هذا كان عمر الفاروق وكان وكيلهما والوكالة جائزة عند الشافعية أيضاً، وقيل: ما أنكح عمر بل أنكح سلمة أخوه الأكبر، أقول: كيف ما قيل الحديث؛ وقوله دال على أن الغرض رضاء الولي، ومما يدل على عدم ضرورة العبارة ما في موطأ مالك ص (216) : وكان أهلها غائباً إلخ، وفيه قال لها:«قد حللت فانكحي من شئت» إلخ، والحديث مرفوع ويجوز لها النبي صلى الله عليه وسلم النكاح بدون حضور الأولياء، وما تمسك أحد من الأحناف بهذا الحديث، والله أعلم وجه عدم تمسكهم بهذا؟
ولنا أدلة أخر محصاة في موضعها، فأذكر أحد المحملين الذين وعدت فأقول: إن حديث: «لا نكاح إلا بولي» صادق على مذهب أبي حنيفة، فإنها إن نكحت في غير كفئها أو بتنقيص المهر فالحكم مَرَّ، وإن نكحت في كفنها وبتكميل المهر ولم يأذن لها الولي فيجبر الولي على أن يأذنها ويأمره الشريعة بالإذن لحديث علي السابق، والأيم إذا وجدت لها كفؤها إلخ، والآية {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنّ} [البقرة: 232] إلخ، فإن أذن الولي فيها فصدق أنه نكاح بإذن ولي وإن كان الإذن لاحقاً ولا ضير في هذا فإنا نعمم الإذن، وإن لم يأذنها فقد خالف أمر الشارع، فالسلطان ولي من لا ولي له، فحاصل الحديث استرضاء الولي واستئذانه هذا ما حصل لي من المحمل مختصراً، ثم ليعلم أن الخارج من الأحاديث أجزاء، وهي أن يكون النكاح بإذن الولي وإن العبرة للمولية عند تنازع الولي والمولية، وأن الولاة إذا تعارضوا فالولاية للسلطان ولا خلاف لأبي حنيفة في أحدها، وأيضاً اعتبار المولية وترجيحها عند النزاع يقرب الحديث إلى مذهبنا.
قوله: (فيها المهر إلخ) هاهنا كلام للطحاوي في مشكل الآثار وقع ضمناً في باب آخر وكلامه ذلك ألطف فليراجع إليه.
قوله: (عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي بردة إلخ) سقطت العبارة في أكثر النسخ الصحيح عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن أبي بردة إلخ.
قوله: (فأنكره الزهري إلخ) وضعف الترمذي إنكار الزهري، أقول: روى بشر بن مفضل عن ابن جريح كما روى ابن علية فلا يكون إنكار الزهري بلا أصل.
قوله: (والعمل على هذا إلخ) إني متردد في قول الترمذي هذا، فإذن مذهبهم إثبات أن النكاح لا بد فيه من عبارة الرجال، ولا يدل عليه مثل حديث أبي موسى وعائشة فإذن الأقرب إلى ظواهر الأحاديث مذهب الصاحبين.
باب ما جاء لا نكاح إلا ببينة
[1103]
البينة شرط عندنا لصحة العقد لا لمحض إثباته.
باب ما جاء في خطبة النكاح
خطبة النكاح عندنا مستحبة، وقال في الدر المختار: إن استماع كل خطبة واجب، أقول: إن هذه الكلية في حيز الخفاء فإن في استماع خطبة العيدين توسعاً. وقال الشافعي: يستحب الخطبة في ابتداء كل أمر ذي بال.
باب ما جاء في استئمار البكر والثيب
[1105]
المذكور في حديث الباب الولاية، وولاية الإجبار عندنا دائرة على الصغر، وعند الشافعي على البكارة، وليس المراد بولاية الإجبار أن ينكحها جبراً وضرباً بل المراد صحة الإنكاح ونفاذه بدون أمرها، وإذن تخرج مواد أربعة، ثنتان منها متفقة عليها، وثنتان مختلفة فيها، وأما حديث الباب فقال الحجازيون: إن الحديث يقابل بين البكر والثيب ولم يتعرض إلى الصغر والبكر، وقالوا: إن بين الاستيئذان والاستئمار فرقاً، وقالوا: إن الاستئمار من الثيب واجب، والاستئذان من البكر مستحب، والحديث في المذهب محمول على الكبيرة، ونقول: إن في الجملتين حكماً وجوبياً، والحديث في الكبيرة لأن الصغيرة لا اعتبار بإذنها فتكون مستثناة عقلاً، ثم ليس ولاية الإجبار عندنا على الكبيرة بكراً كانت أوثيباً إلا أن البكر يكفي صموتها، والثيب يجب التلفظ منها بعين ما في حديث الباب من الاستئمار والاستئذان، وأقول: الأقرب إلى الحديث مذهب أبي حنيفة ووافقه كثير من أئمة الحديث بأن مدار الولاية على الصغر لا البكر، ووافقنا الشيخ تقي الدين السبكي الشافعي وله اختيارات خلاف الشافعية تزيد على مائة مسألة، وأقول: إن حديث الباب يدل على رجحان حق المولية عند التعارض، فتمسُّكُ بعض الأحناف بهذا الحديث له وجه.
قوله: (الأيم أحق بنفسها إلخ) الأيم في اللغة قيل: من طلقها زوجها أو مات عنها، وقيل: من لا زوج لها وهذا أعلم من الأول، قال الحجازيون: المراد من الأيم الثيب لقرينة المقابلة بين الأيم والبكر هاهنا، والمقابلة بين البكر والثيب، في الحديث السابق، ويراد في هذا الحديث أيضاً الثيب
وقال العراقيون: إن المراد من الأيم الكبيرة التي لا زوج لها، وأما قيد الكبيرة فلما ذكرنا أولاً والشرح ما مر أولاً، وتمسك العراقيون بحديث الباب على أن الولي ليس بشرط لصحة النكاح. أقول: لا يدل الحديث على ما قالوا بل يدل على أن يشترك الولي والمولية، في النكاح ويكون الولي تابعاً لرأي المولية، وأما إذا اختلفا فالترجيح لرأي المولية وقال الترمذي في شرح حديث الباب ما قلت، وقال الشافعية: إذا اختلفا وتريد النكاح في الكفؤ فيجبر الولي على الإنكاح وإلا فالسلطان ولي من لا ولي له، وقال الشافعية: إن الولاية على البكر وليس ولاية الإجبار إلا للوالد والجد، وعندنا الأب ثم الجد، ثم العصبات ثم ذو أرحام، ويخرج صورة عند الشافعية لا يمكن النكاح فيها إلا بعد مدة وهي إن كان صغيرة ثيباً ومات عنها أبوها وجدها فإذن لا تنكح إلا بعد البلوغ ولا يمكن لها سبيل النكاح قبل البلوغ.
باب ما جاء في إكراه اليتيمة على التزويج
[1109]
أشكل هذا الباب على الناس لأن حكم الولاية وعدمها على الصغيرة والكبيرة قد مر في الأبواب الأول، قال الطيبي شارح المشكاة: إن المراد من اليتيمة الكبيرة لا الصغيرة، وأطلق عليها لفظ اليتيمة على ما كانت قبل، ومعنى الباب أنهما لا يسارع في نكاحها ما لم تأذن فكأنه شرط بلوغها، فمعناه لا تنكح حتى تبلغ فتستأمر، وقال الشافعية: إن ولاية الإجبار ليست على البكر الصغيرة إلا للأب والجد، والثيب الصغيرة إذا مات أبواها فلا سبيل لنكاحها إلا بعد بلوغها لأنها لا تجبر عليها لأن ولاية الإجبار على البكر، وأما السلطان فلا ولاية له أيضاً لأن ولي الصغيرة ليس إلا الأب
والجد، وقال مالك: لا ولي إلا الأب. والمراد في حديث الباب من اليتيمة البالغة مات والدها أم لا، وقال الشافعية: إن المراد من اليتيمة من مات والدها أي المعنى اللغوي.
باب ما جاء في نكاح العبد بغير إذن سيده
[1110]
نكاح العبد بغير إذن السيد باطل عند الكل، وولاية الإجبار على العبد والأمة للمولى في النكاح لا في الطلاق.
باب ما جاء في مهور النساء
[1111]
أقل المهر عندنا عشرة دراهم، وعند مالك ربع الدينار كنصاب السرقة، وعند الشافعي ما اجتمع
عليه الزوجان قلَّ أو كثر، وعند ابن حزم يصح النكاح على حبة شعيرة أيضاً وهو نصاب السرقة عنده، ودليل الشافعية حديث الصحيحين، وأما دليل الحنفية فأكثرنا يحتج بحديث الدارقطني:«لا مهر أقل من عشرة دراهم» أقول: إن في جميع طرقه حجاج بن أرطاة وهو متكلم فيه، وإني لا أتمسك به وإن حسن الترمذي رواياته بل صحح أيضاً في بعض المواضع، وأقول: إن الصحيح تمسكاً ما أخرجه في فتح القدير ص (417) باب الأكفاء بسند ليس فيه حجاج، وأخذ الشيخ متنه من شرح السنة للبغوي وما وجد فيه السند، قال: فجاء في بعض أصحابي بسنده من الحافظ شهاب الدين أبي الفضل ابن حجر العسقلاني وحسنه الحافظ فإذن صح استدلالنا فتتأول في الأحاديث التي فيها المهر أقل من عشرة ونحمله على المهر المعجل وأما الباقي فمؤجل، وهذا الحديث من ما زاد الشيخ على تخريج الزيلعي بحث أصولي بأن زيادة عشرة دراهم في حكم النكاح زيادة بالخبر الواحد على نص القرآن وذلك غير جائز، فيقال: إنه ليس زيادة الركن والشرط بل زيادة الحكم ولكن الحق إن الزيادة على القاطع بخبر الواحد في مرتبة الظن جائز لا في مرتبة القطع أعم من أن يكون شرطاً أو حكماً، ولا بد من هذا وإن لم يذكره أرباب الأصول فإذن لا يرد، واشتراط عشرة دراهم في سرقة النصاب فإنه ثابت بالخبر الواحد ولا يرد اشتراط المصر في إقامة الجمعة وككل اشتراط ستر العورة في الحج وكذلك مسائل أخر، وأما إذا صار خبر الواحد قطعياً فيجوز به زيادة الركن أيضاً أي في مرتبة القطع ويكون قطعياً إذا كان محفوفاً بالقرائن.
قوله: (وهبتُ نفسي إلخ) قال الشافعي: لا يصح النكاح إلا بلفظين النكاح والتزويج، وأما عند أبي حنيفة فيصِح بكل لفظ يدل على التمليك المؤبد، وقال الشافعية: إن صحة النكاح بلفظ الهبة مخصوص به لآية {خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 50] وقال الأحناف: إن الخصوصية في النكاح بلا مهر، وأما تزويجه إياه فإما أن يقال: إنه صار وكيل تلك المرأة، أو يقال: إنه ولي المؤمنين والمؤمنات لآية: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] إلخ، ولكن ولايته مجملة تكون في بعض الأمور لا في البعض الآخر.
واعلم أن للمهر في اللغة تسعة أسماء.
قوله: (إلا إزاري إلخ) في بعض الروايات أنه قال: يكون بيني وبينها، فبوب الطحاوي في
مشكل الآثار على التهائي بحديث أن يكون الإزار بني وبينها والتهائي أن يكون الشيء مشتركاً بين الشخصين يستعمله كل واحد نوبة بنوبة.
قوله: (ولو خاتماً من حديد إلخ) في كتب الأحناف أن خاتم الحديد للرجال حرام، وأما للنساء ففي الجوهرة أنه مكروه للنساء أيضاً كما في رد المحتار، وفيه لا بأس بأن يتخذ خاتم حديد قد لوي عليه فضة. اه، والله أعلم، وفي الحديث: النهي عن خاتم الحديد.
قوله: (بما معك من القرآن إلخ) المشهور من مذهب مالك ورواية عن أحمد ومذهب أبي حنيفة أن تعليم القرآن لا يصلح مهراً، وقال الشافعي: يصلح للمهر، وقال في النهر: إن المتأخرين لما أفتوا بجواز الأجرة على القرآن يجوز أن يكون يصلح للمهر أيضاً، وأما الجواب عن حديث الباب عن جانب الجمهور فيقال: إن هذا كان تصاب العلم عندهم عند النكاح ولم يكن مهراً فيعبر عن حاصل الجواب بأن الباء للسببية لا للبدلية، ومثل هذا ما في الترمذي ص (113) ج (2) في فضائل القرآن عن أنس، فلا يكون تأويلاً بل شرحاً، وفي الزرقاني شرح الموطأ أن هذا من خصوصية هذا الرجل لحديث:«لا يكون لأحد بعدك مهر» إلخ، وأحاله إلى سنن سعيد بن منصور، أقول: أخرجه ابن السكن في معرفة الصحابة، وضعفه السيوطي في الخصائص الكبرى.
قوله: (ثنتي عشر أوقية إلخ) في الكتب ذكر النش أيضاً، وهو نصف الأوقية أي عشرون درهماً، وكان مهر أم حبيبة أربعة آلاف درهم وزوجها النجاشيُّ النبيَ صلى الله عليه وسلم.
باب ما جاء في الرجل يعتق الأمة ثم يتزوجها
[1115]
سبيت صفية بنت حيي في غزوة خيبر واشتراها النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقها ثم تزوجها إلخ، قال أبو حنيفة ومالك والشافعية: إن العتق لا يصلح صداقاً، وروى الترمذي عن الشافعي، وفي كتبنا عن أبي يوسف أنه يصلح مهراً، وجواب الجمهور عن حديث الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها مجاناً وتزوجت إياه بلا مهر، ولم يكن العتق صداقاً فعبر الراوي هذه الواقعة بهذا التعبير، وفي كتبنا أنه إذا أعتق أمة على أن تتزوجه فلم توفِ فعليها ضمان قيمتها، وقال أبو عمرو بن الصلاح: إن الحديث هذا مثل حديث (الدنيا زاد من لا زاد له) وأقول مثله:
~ وخيل قد ولغت لهم بخيل
…
تحية بينهم ضر بعد وجيع
ومثله آية {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] ونظائر أخر، وقد أتى الطحاوي بنظير لطيف، وهو أن أبا طلحة خطب أم سليم فقالت: أنكح على أن تسلم، ولم يكن في ذلك الوقت مشرفاً بالإسلام فلا يقول أحد بأن الإسلام كان صداقاً، ثم ظاهر حديث الباب أنه لم يجدد والنكاح أيضاً بل كان العتق بمنزلة النكاح، ولكن سائر الأحاديث يدل على تجديد النكاح، منها حديث الباب الآتي، ولم يذهب أحد إلى أن العتق يكون بمنزلة النكاح بلا تجديد النكاح.
باب ما جاء في الفضل في ذلك
[1116]
قوله: (أجرين إلخ) أي أجران على فعلين، ولا يقال: إن الأجرين على فعلين لا ندرة فيه، لأن
الصور المذكورة في الحديث فيها خفاء فذكرّها وذلك كأجرين له صلى الله عليه وسلم في الصلاة قاعداً، لا أنه كان يوعَك كما يوعك رجلان منا.
قوله: (رجل آمن بالكتاب الأول. . إلخ) ها هنا إشكال، وأذكر جوابه في البخاري، وصورة الإشكال أن حكم الأجرين حكم القرآن، واتفقوا على أن الآية نزلت في عبد الله بن السلام وكان يهودياً ولم يؤمن بعيسى، وقال العلماء: أن يهودياً إذا آمن بموسى ولم يؤمن بعيسى ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فإنه له أجر واحد.
باب ما جاء فيمن يتزوج المرأة ثم يطلقها
[1117]
قال الجمهور: إن بين نكاح الأم والبنت فرقاً يشترط الدخول في أحدهما لا في أخراهما، وقال بعض السلف منهم علي: إن الدخول مشروط في الأم والبنت، ومبنى الخلاف تفسير الآية:[النساء: 23] إلخ قيد الأم والبنت وقيد إحداهما.
باب ما جاء فيمن يطلق امرأته ثلاثا فيتزوجها آخر إلخ
[1118]
لا تجوز هذه المرأة لزوجها الأول إلا بعد دخول الزوج الثاني، وهذا مذهب الأمة المرحومة إلا سعيد بن المسيب كما نسب إليه، واختلف في أن الزوج الثاني يهدم ما دون الثلاث أم لا، قال محمد: لا يهدم، خلاف شيخيه، والصحابة أيضاً مختلفون في هذا.
قوله: (عبد الرحمن بن زَبير إلخ) بفتح الزاء المعجمة، وسوى هذا في تمام ذخيرة الحديث الزُّبير بضم الأول.
باب ما جاء في المحل والمحلّل له
[1119]
صنف ابن تيمية جلداً كاملاً في مسألة الباب وغرضه أن النكاح، بنية التحليل وبشرط التحليل باطل، ولا تحل للأول ولا تترتب عليه أحكام النكاح، وهاهنا دقيقة ذكرها صاحب الدر أيضاً أن بين التعليق بالشرط والتقييد به فرقاً، فإن امرأة إذا نكحت، وقالت: نكحت إن كنت عالماً فهذا تعليق
بالشرط، وإن قالت: نكحتك على أن تكون عالماً، وهذا تقييد بالشرط، وفي الصورة الأولى إن لم يكن عالماً لا يصح النكاح، وفي الصورة الثانية يصح النكاح، والمشهور عندنا أن الشرط معصية وإثم؛ والنكاح صحيح، وإن لم يشترط في اللفظ فإن كان الرجل معروفاً بهذا الفعل فمكروه تحريماً كما في فتح القدير، وفي بعض كتبنا أنه إذا لم يشترط في اللفظ فالمِحل له ثواب لأنه نفع أخيه المسلم، وفي رواية عن محمد أنه إذا اشترط يصح النكاح ولا تحل للأول، وفي رواية عن أبي يوسف أن النكاح أيضاً باطل، أقول: يحمل حديث الباب على الاشتراط عند أبي حنيفة بالتفقه، ولأبي حنيفة ما أفتى عمر بسند لعله جيد، ولعله في الكنز ص (170) ج (5) وفتاوى الحافظ: ابن تيمية ص (200) أن رجلاً نكح امرأة للتحليل فقال له عمر: لا تفارق امرأتك وإن طلقتها فأعزرك، فدل هذا على صحة النكاح للتحليل، ولابن تيمية بحث في أن النهي يقتضي البطلان، ومر الكلام مني بقدر الضرورة.
باب ما جاء في تحريم نكاح المتعة
[1121]
ذكر ابن همام بين النكاح المؤقت ونكاح المتعة فرقاً بأن في المتعة يكون لفظ التمتع ولا يكون بحضور الشاهدين ولا بتعيين مدة بخلاف المؤقت، وأما في المؤقت فالتوقيت باطل والنكاح مؤبد، ونسب صاحب الهداية جواز المتعة إلى مالك بن أنس، وينكره المالكية صراحة، وأجمعوا على أن نكاح المتعة حرام، ثم أكثر العلماء إلى أن المتعة كانت جائزة ثم نسخت، وأجمعوا على حرمة وعدم جوازه في آخر عهد التابعين، وأما لو وطئ امرأة بنكاح المتعة فهل عليه حدّ أم لا؟ فقيل: لا حدَّ لأنها كانت مختلفة في صحتها في عهد الصحابة كما نسب إلى ابن عباس أنه يقول بجواز المتعة، وكذلك نسب إلى ابن مسعود، فقيل في حق ابن عباس كلمات منكرة كما قال علي: إنك رجل تائه إلخ، وذكر الحازمي في كتاب الناسخ والمنسوخ قيل لابن عباس: قد اضطرب الناس بفتوتك، وأنشدوا عليه أشعاراً منها:
~ قد قلت للشيخ لما طال صحبة
…
يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس
~ أهل لك في رخصة الأطراف آنسة
…
تكون مثوى لك حتى مصدر الناس
فقال ابن عباس: سبحان الله ما قلت إلا أنه كالخنزير والميتة، أي جوازها عند شدة الشبق والاضطرار ولكن الجواز عند الاضطرار أيضاً مذهب ابن عباس لا غيره، فإنه يمكن له دفع الشهوة بالصوم وغيره، ثم قال حذاق المحدثين: إن في فتح مكة كانت جائزة إلى ثلاثة أيام ثم نسخت، وأما الموسعون فقالوا بجوازها في فتح مكة وخيبر وغزوة تبوك وحجة الوداع، ويشير إلى هذا بعض ألفاظ الروايات وأقول: إن مدار جوازها في خيبر مبني على رواية الباب، وقال المحدثون: إن النهي عن لحم الحُمرُ كان في خيبر، وأما النهي عن المتعة المبني على أنها كانت ثم نسخ فواقعة فتح مكة وخلط الراوي بينهما بوهمِه، وقال ابن قيم: كيف تكون جائزة في فتح خيبر مع أن النساء كلها كانت يهودية وما كانت أحدها مسلمة؟ وأما رواية جوازها في غزوة تبوك فغير قوية، وأما في حجة الوداع فالمتعة فيها ليست متعة النكاح بل التمتع المقابل للقران والإفراد، وأما أنا فأتردد في جواز المتعة في زمان ما في الإسلام، وأما ما في فتح مكة فكان نكاحاً بمهر قليل بنية أن يؤبد النكاح وهذا جائز الآن أيضاً، ومستندي في هذا حديث ابن عباس اللاحق.
باب ما جاء في النهي عن نكاح الشغار
[1123]
قال أبو حنيفة: إن النكاح صحيح ويلزم مهر المثل، وقال بعض الأئمة: إن النكاح باطلُ، والسلف أيضاً مختلفون.
قوله: (لا جلب ولا جنب إلخ) هذان اللفظان قد يستعملان في الرهان، وقد يستعملان في الزكاة أيضاً، وأما المذكور فى حديث الباب فعندي أن يضم بما في الزكاة كما يشير حديث أبي داود ص (225) بسند قوي:«لا جلب ولا جنب، ولا تؤخذ الصدقات إلا في دورهم» ، ويشير شعر الحماسي أيضاً إلى أن الجلب والجنب يكونان في الزكاة.
باب ما جاء لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها»
[1125]
هذه المسألة قد أجمع عليها ونقح أبو حنيفة في مناط [النساء: 23] بأن كل امرأتين إذا فرضت إحداهما ذكراً تحرم على الأخرى لا يجوز الجمع بينهما، ومر ابن قيم على هذا في أعلام الموقعين وقال: إنكم أنكرتم الزيادة على القاطع وهاهنا زيادة بخبر الواحد على القاطع واعترض على ضابطتنا هذه اعتراضات، أقول: قول ابن قيم في هذه المسألة في غاية التساهل فإنه لا زيادة بخبر الواحد على القاطع بل تنقيح المناط في الآية، وأيضاً مسألة الباب لم يثبت بخبر الواحد بل بالخبر المشهور، فإن المشهور عند الفقهاء ما تلقاه الأمة بالقَبول، وتلقى الأمة هذه المسألة بالقبول فتكون الزيادة بالمشهور وذا جائز وإن اقتصر الشهرة والتواتر على تواتر الإسناد فقط للزم كون القرآن العظيم غير متواتر وهذا باطل بداهة، وأيضاً الزيادة المحذورة ما فيها زيادة ركن أو شرط.
قوله: (ولا الصغرى على الكبرى. . إلخ) هذا بيان الجملة السابقة وفي رواية أبي داود
ص (283) إشكال فإن فيها: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجمع بين العمتين والخالتين. .» إلخ، وتكلف الشارحون والمحشون فيها فأخرجوا صورة العمتين والخالتين، وظني أن الحديث لا يتعرض إلى النوادر وإنما وجه الحديث أن فيه تغليباً والمراد الخالة وبنت الخالة والعمة وبنت العمة ولا بعد في هذا أصلاً، وهذا مثل أن يقال: إن فلاناً وفلاناً ابنا خالة، والقياس ابنا خالتين.
باب ما جاء في الشرط عند عقدة النكاح
[1127]
الشروط التي لا تنافي النكاح جائزة ويوفى ديانة، ولا تلزم قضاء عند أبي حنيفة رحمه الله.
حكاية: حكي أن أعرابياً دخل على القاضي شريح ولعله كان ضعيف البصر فقال الأعرابي: أين أنت؟ قال القاضي: بينك وبين الجدار، قال: أتسمع مني؟ قال: للاستماع جلست، قال: تزوجت امرأة قال: بالرفاء والبنين، قال: بشرط أن لا أخرجها من البلد، قال: والشرط أملك، قال: أريد أن أخرج بها، قال: بسم الله، قال: على من قضيت؟ قال: على ابن أمك، قال: بشهادة من؟ قال: بشهادة ابن أخت خالتك، وكان القاضي يجيبه ولا يفهمه الأعرابي.
باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده عشرة نسوة
[1128]
مذهب الشافعي رحمه الله وأحمد ومالك رحمه الله ومحمد رحمه الله أن الرجل يخيّر، يختار أيتهن شاء، وقال أبو يوسف رحمه الله وأبو حنيفة: إنه يختار أولاهن نكاحاً، تمسك الجمهور بحديث الباب، وأجاب الشيخان بما أجاب الطحاوي ص (149) وحاصله أن الكفار مخاطبون بالفروع مثل النكاح، وأما المسألة التي ذكر الشيخان تكون في الأنكحة التي تنعقد بعد ورود النهي عن الزائد على مثنى وثلاث ورباع، وأما الأنكحة التي قبل ورود الشريعة بهذه المسألة فكانت صحيحة فإذا أسلم فأنكحته صحيحة ويختار أيتهن شاء، فالحاصل أن الخلاف في الأنكحة التي بعد ورود النهي، وأما ما مضى قبل ورود الشريعة فلا تبديل فيها، وأما نظير عدم التبديل فيما كان في الجاهلية فما أخرجه أبو داود ص (309) باب الادعاء بولد الزنا ليس له مما قسم من الميراث إلخ، وشرح حديث أبي داود ولم أجد لطيفاً إلا في فتاوى ابن تيمية ضمناً، وحديث أبي داود قوي أخرجه عبد الرزاق في مصنفه بسند أقوى مما في أبي داود ففيه كثير من الأحكام لعلها تبلغ مائة، وأخرجه أحمد رحمه الله في مسنده، وفيه قال أحمد: كنا عند عبد الرزاق لتحصيل العلم وكان الماء منه على مسافة ثلاثة أميال فكنا نأتي بالماء كل يوم من تلك المسافة، وأما جواب حديث:«من أسلم وتحته أختان» فعلى منوال جواب الطحاوي في حديث الباب، أي اختيار أوليهما فيمن تزوج بعد نزول شريعة:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] إلخ ولا يجب علينا جواب حديث: «من أسلم وتحته أختان» لأنه ضعيف من قبل ابن لهيعة، وإنما اكتفيت على الأجوبة وأما الأدلة فمذكورة في موضعها.
قوله: (قال محمد رحمه الله إلخ) غرض البخاري بيان أن الراوي أوهم وضم متن حديث بسند حديث آخر، ومرَّ على هذا عبد الملك بن قطان المغربي في كتاب الوهم والإيهام واستوفى الكلام واستقر رأيه على صحة الحديثين، أي واقعة رجل في عهده، وواقعة رجل في عهد عمر، وأتى بالمتابعات والشواهد ثم قال: إن صاحب الواقعة في عهده وصاحب الواقعة في عهد عمر واحد، وإن التقفي هو غيلان بن سلمة، وقال: إن غيلان أراد في عهد عمر أن يطلق نسوته ويتبتل ويتجرد فنهاه عمر، وأما قصة أبي رغال فمعروفة.
باب ما جاء في الرجل يشتري جارية وهي حامل
[1131]
قال أبو حنيفة: يجب استبراء الأمة المشتراة بكراً كانت أوثيباً، وقال الشافعي رحمه الله في الاستبراء في البكر، ويذكر في كتب أصول الشافعية أن تخلف الحكم عن العلة مثل السفر لقصر
الصلاة فغير جائز، ويجوز تخلف الحكم من الحكمة مثل المشقة في السفر، ويكفي وجود الحكمة في نوع الحكم فقط، ثم قالوا: إن النوع المنضبط لا يخلو من الحكمة، ويجوز خلو النوع المنتشر من الحكمة، فإذن حكمة الاستبراء عندنا مفقودة في البكر، وأقول: قال في فتاوى قاضيخان: إن البكر يمكن علوقها بوصول الماء إلى الرحم بلا دخول رجل، فإذن لم يفقد حكمة الاستبراء في البكر أيضاً.
اطلاع ضروري: في سند الباب اللاحق عثمان التبتي وذكر الخطيب البغدادي في بعض تصانيفه الألفاظ المنكرة في حق أبي حنيفة، وذَكر أن أبا حنيفة ذكر مسألة عند رجل فقال الرجل: إن النبي يقول هكذا، قال أبو حنيفة: ينبغي للنبي أن يتبعني. أقول: هذا القول لا يمكن من أدنى المسلمين، وكيف يقول بهذا من هو إمام المسلمين من الأمة المحمدية؟ والحق أن هذا ليس النبي بل هو عثمان التبتي ووقع التصحيف من الكاتب فأخذ الخطيب ونقله عن أبي حنيفة بدون أن يتدبر في حقيقة الحال، فجاء الخوارزمي ورد على الخطيب البغدادي ثم جاء ملك حنفي الملك المعظم فتصدى إلى جواب الخطيب وصنف السهم المصيب في كبد الخطيب، وهذا السلطان كان يعمل بما روي عن أبي حنيفة فقط، وأخرج جميع مسائل أبي حنيفة وأفرزها في كتاب كان يداوم عليه في مسائل الفقه، وأما في الحديث فكان أمر بتبويب مسند أحمد على أبواب الفقه وكان يدارسه وترجمته مذكورة في تاريخ ابن خلكان.
باب ما جاء في كراهية مهر البغي
[1133]
حرام عند الكل ذكر أخي يوسف لپي في حاشية شرح الوقاية أن أجرة المزنية في الإجارة الفاسدة طيبة لها، واعترض رجل من غير المقلدين وقال: إن أبا حنيفة يجعل أجرة البغي طيبة وهذا خلاف نص الحديث وإجماع الأمة، وأجاب مولانا المرحوم الگنگوهي أن صورة المسألة أن يستأجر رجل امرأة لعمل ما من الطحن (حكي ميسينا) أو الخبز أو غيرهما واشترط معهما أنه يزني بها فإذن أجرة عملها طيبة ألا يرى إلى أنهم يذكرونها في باب الإجارة الفاسدة.
واعلم لپي بمعنى مولانا، وفي اللسان الرومي يكون النعت متأخراً ومعنى أخي (صوفي) في الرومية.
قوله: (ثمن الكلب إلخ) قال الشافعي: إن الكلب نجس عين ويرد عليه جواز اقتنائه للزرع أو للصيد، ونجس العين الذي تكون المستثنيات من الشعر والعظم وغيرهما منه نجسة، والمشهور عندنا أنه نجس اللحم لا العين، وفي قاضيخان رواية عن أبي حنيفة في كونه نجس العين قد صححهما أرباب المطولات والمبسوطات، ثم في الهداية: جواز بيع الكلب المعلم وغيره، وقال السرخسي شيخ صاحب الهداية جواز البيع منحصر في المعلم، أقول: ثبت استثناء الكلب المعلم في الأحاديث أخرج النسائي ص (701) عن جابر: «إلا كلب صيد» إلخ، وأنكره النسائي وقال: إنه منكر، والرجال ثقات والله أعلم، وقال العيني: أخرج أحمد في مسنده: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلباً معلماً» . ويمكن جواب عموم حديث الباب، ورواية أيضاً بأن المراد أن لا يجعل الكلب مملوكاً بل يترك مباح الأصل، فلا تنافي بين الحديث والجزئيات المجازة ومثل هذا ما قال الخطابي في شرح أبي داود في باب الهرة إن النهي عن جعل الهرة مملوكة، ولنا أيضاً ما في الطحاوي أن رجلاً قتل كلب رجل فأخذ عثمان ضمانه وأعطى مالك الكلب.
قوله: (وحلوان الكاهن إلخ) ويندرج في الكاهن الرمال والجفار وعالم النجوم وغيرهم.
باب ماجاء في العزل
[1136]
وهو أن يطأ امرأته ويخرج العضو عند الإنزال وينزل خارج الفرج.
قال الفقهاء: لا يجوز العزل في الحُرة إلا بإذنها، ولا في الأمة بغير إذن وليِّها، هذا كله قضاءً، وأما ديانة فلم يرض به الشريعة وتدل الأحاديث على الكراهة، ما يدل حديث الباب على عدم الكراهة، فإن جوابه هذا لرد زعم اليهود ورد كليتهم وإن كان لقولهم في ما نحن فيه بعض اتجاه، وهذا شبيه حديث الرجلين الذين لم يدخلا في صلاة الصبح خلفه، وحديث أن طفلاً من أطفال المسلمين مات فقالت عائشة: طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أدراك؟ وإنكاره كان على تسارع عائشة وإلا فأطفال المسلمين في الجنة إجماعاً، وفي الحديث أنه قال رجل: أأعتزل يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يخلق ما يشاء تعتزل أم لا» ثم جاء الرجل بعد مدة وقال: كنت اعتزلت وحبلت امرأتي فقال: «قد كنت قلت: إن الله يخلق ما يشاء» فالخارج من الأحاديث قبح العزل، منها حديث الباب اللاحق.
باب ما جاء في القسمة للبكر والثيب
[1139]
يقيم عند البكر الجديدة سبعة أيام، وعند الثيب الجديدة ثلاثة أيام، ثم هذه الأيام تكون زائدة على القسمة بين القديمات والجديدات عند الحجازيين، وعندنا تكون هذه الأيام معدودات في أيام القسمة أي يقيم بعده عند القديمات أيضاً سبعة أو ثلاثة، وقال مولانا عبد الحي في شرح موطأ محمد: إن الحديث للحجازيين، ويرد على أبي حنيفة، أقول: ما من لفظ دال على أن هذه الأيام تكون فاضلة على أيام القسمة ليكون الحديث يرد على أبي حنيفة، وأتى الطحاوي ص (16)، ج (2) برواية تدل على أن هذه الأيام لا تكون فاضلة ومتمحضة للجديدة ووجه الاستدلال أن أم سلمة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وأقام عندها ثلاثة أيام فاستزادت فقال:«لو سبعت لك لأقوم عند غيرك أيضاً سبعة أيام» فتسبيعه لهن أيضاً يدل على أن هذه الأيام ليست متمحضة للجديدة، وتأولوا فيه بأنها إذا استزادت بطل حقها الأول أيضاً، لكن هذا تأويل، وحديث الطحاوي قوي رواه بثلاث طرق قوية.
باب ما جاء في الزوجين المشركين أسلم أحدهما
[1142]
قال أبو حنيفة: إذا أسلم أحدهما يعرض الإسلام على الآخر فإن أسلم فبها وإلا ففرق، ومثل هذا روى الطحاوي عن عمر الفاروق وهذا إذا كانا في دار الإسلام، وأما في دار الحرب فإذا أسلمت تنتظر ثلاث حيض ثم تبين، وقال البعض: تبين في الحال ولكنها تعتد، وقال الحجازيون: إن
أسلم قبل مضي العدة فالزوجة لها، وإن أسلم بعد العدة فلا، واختصر الترمذي في بيان مذهبه اختصاراً مخلاً.
قوله: (بنكاح جديد إلخ) كانت بناته على الفطرة وتحت الكفار إلا فاطمة، وكانت زينب تحت أبي العاص، وأما حديث بنكاح جديد فنقول: أولاً بأن في سند الحديث حجاج بن أرطاة، وثانياً بأن أبا العاص كان بمكة وتبائن الدارين سبب الفرقة.
قوله: (بعد ست سنين إلخ) هذا الحديث يخالف الحديث السابق في تجديد النكاح، وللحنفي أن يقول: إنه ما عرض الإسلام على أبي العاص، ووقع في بعض الروايات: ردت عليه بعد سنتين، وعلى التقديرين يشكل الأمر على الشافعية، فإن الظاهر انقضاء العدة في هذه المدة، وأقول: إن الروايتين صحيحتان، والواقعة أن أبا العاص جاء أسيراً في غزوة بدر، فأرسلت زينب قلادتها للفدية فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم عرفها وبكى وسالت دموعه، فقال: لو شئتم تركتم أبا العاص مجاناً فتكروه مجاناً فوعده النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسل زينب إلى المدينة، فأوفى العهد فأرسل زينب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء أبو العاص أسيراً بعد بدر بسنتين فزعمت زينب أنه سيقتل فجاءت والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي فقالت: أنا بنت رسول الله وأمنت أبا العاص، فقال:«ذمة المسلمين يسعى بها أدناهم» ثم ذهب بعد هذا وجاء بعد سنتين مسلماً. فيحمل ست سنين على ما بعد الهجرة، وأربع سنين بعد بدر وسنين بعد أسر ثانياً، فإذن ادعاء الشافعية عدم انقضاء عدتها في هذه المدة بعيد جداً، ونقول: إنه لم يعرض عليه الإسلام، وذكر في الطحاوي ص (150) ج (2) عن أبي توبة عن محمد بن حسن بما حاصله أن نهي التناكح بين المسلمين والكافرين نزل في السنة السادسة كما يدل حديث البخاري أن نزول النهي في السنة السادسة أي عام الحديبية حين طلق عمر زوجته، فإذن لا احتياج إلى احتمال أنه عرض عليه الإسلام أم لا،
وقيل: إن نزول الآية في مكة ولكن قول هذا القائل يخالف ما في البخاري، ثم قال الشافعي: إن المؤثر في التفرقة هو السبي، وقال أبو حنيفة: إن المؤثر هو تباين الدارين كما في الهداية ص (330) وظاهر آية {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] له، فإن الآية تشير إلى أن المؤثر الملك وذلك يكون بالسبي من دار الحرب. والله أعلم.
كتاب الرضاع
باب ما جاء يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب
[1146]
هكذا المسألة عندنا إلا في بعض مستثنيات ذكرها الأكثرون إحدى وعشرين صورة، وجعلها صاحب البحر أربعة وثمانين صورة، ثم قال: لا انحصار في هذا بل يجب ضابطة، ثم قالوا: إن هذا استثناء ليس بالعقل بل ليس التحقيق والاستثناء في الواقع بل صورة، فإن المعنى المحرم مفقود في هذه المستثنيات وذكر صاحب الدرر في جمع الصور السبعة شعرين:
~ يفارق النسب الإرضاع في صور
…
كأم نافلة أو جدة الولد
~ وأم أخت وأخت ابن وأم أخ
…
وأم خال وعمة ابن اعتمد
أقول: يقيم شعر آخر لتكميل السبع وهو مني:
~ وأم أخت ابن أم أو بنت عمة
…
فخذهما في تمام السبع واقتصد
ويعلم أن الحرمات تسعة، منها حرمة النسب، فالمحرمات بالنسب في القرآن سبع، وقصرها صدر الشريعة في النقاية على أربع، وهي الأصول والفروع وفروع الأصل القريب أي الأب والأم وصلبيات الأصل البعيد، ومنها حرمة المصاهرة، وهي في أربعة فإن أصول الواطئ وفروعه تحرم على الموطوءة نفسها، وأصول الموطوءة وفروعها على الواطئ نفسه، وها هنا إشكال من الشيخ ابن الهمام وهو أن الشريعة تحيل الرضاع على النسب لا على المصاهرة، فإذن لا يحرم بالرضاع ما هو نظره حرام بالصهر، فإذن يرد أن زوجة الأب رضاعاً حرام على الولد وزوجة الابن رضاعاً حرام على الأب
إجماعاً، والحال أن الحرمة في زوجة الأب أو الابن ليسا بسبب الصهر وما أجاب الشيخ عن الاعتراض، وأقول: لا إشكال فإن الحرمة في زوجة الابن أو الأب نسباً ليست من جهة الصهر فقط بل النسب أيضاً دخيل فيها كما يدل لفظ الأب والابن، ومنشأ الإشكال ذكر الفقهاء الصورتين المذكورتين في باب المصاهرة لا النسب فالإشكال منحل.
باب ما جاء في لبن الفحل
[1148]
قال بعض السلف: إن الرجل الذي لبن المرأة منه لأجله ليس أب الرضيع فلا تكون الحرمة من جانب الأم خلاف الفقهاء الأربعة فإن لبن الفحل عندهم معتبر، وفي حديث الباب إشكال بضم حديث آخر وهو أن في الروايات أن رجلاً دخل بيت حفصة فشكت عائشة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً أجنبياً دخل على حفصة فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنه عمها رضاعاً» فإذن إن كان شكوى عائشة مقدمة على واقعة الباب فالسؤال في واقعة الباب على غير محله فإنها علمت المسألة من قبل، وإن كانت الشكوى متأخرة فشكواها على غير محلها لأنها عالمة المسألة، وحل الإشكال أن للعم رضاعاً ثلاث صور فعلمت صورة لا أخرى.
قوله: (كرهوا لبن الفحل إلخ) أي أثبتوا به الحرمة.
باب ما جاء لا تحرم المصة ولا المصتان
[1150]
المصة فعل الرضيع والإملاجة فعل المرضع، قال أبو حنيفة ومالك: ثبت الحرمة بلبن وصل إلى الجوف قل أو كثر، وفي بعض كتب المالكية أن هذا مذهب جمهور السلف، وقال ابن تيمية في فتاواه مثل ما نقل هذا البعض، وقال أحمد: لا تحرم المصة والمصتان بل ثلاث مصات فظاهر حديث الباب له، وقال الشافعي رحمه الله: ثبوت الحرمة إنما هو بخمس مصات وفي بعض كتب الشافعية: أن المحرم خمس رضعات مشبعات في خمسة أوقات جائعات، وتمسك الشافعي رحمه الله بالحديث الآتي في الباب ولنا ظاهر القرآن، ونقول: نسخ أولاً عشر مصات ثم سائرها تدريجاً، ثم قال الأحناف: إن ظاهر حديث عائشة أن حكم خمس رضعات من القرآن ولا نجده في المصاحف، فقال الشافعية: لعلها نسخت تلاوته سيما إذا روي عن عائشة قالت: كان هذا الحكم في مصحفي فأكلته الشاة. وقال الأحناف: إن الآية ليست بمتواترة وكان حكمها أولاً ثم نسخ وصار ثلاث مصات ثم نسخت هذه أيضاً، وقال ابن جرير الطبري الحنفي معاصر ابن جرير الطبري صاحب التفسير: إن استدلال الشوافع أكلته الشاة.
قوله: (وجبن عنه إلخ) إن كان صيغة الماضي فتكون مقولة الترمذي، وإن كان مصدر فمقولة أحمد، وهذا أفصح عندي، ومثل هذا اللفظ عن أحمد في ابن ماجه أيضاً، ويمكن لأحد أن يقول: إن مَيلان البخاري إلى الجمهور فإنه وضع التراجم على الرضاع ولم يخرج حديث الشافعي وأحمد.
باب شهادة ما جاء في المرأة الواحدة في الرضاع
[1151]
شهادة الرضاع عندنا كشهادة المال أي رجلان أو رجل وامرأتان، وأما شهادة امرأة فالعبارات فيها منتشرة ومفهوم ما في باب المحرمات والرضاع في قاضي خان أنها تقبل قبل النكاح لا بعدها، وأما شهادة امرأة واحدة كما في حديث الباب فحمله ابن همام على التورع، وإني وجدت في حاشية البحر للرملي أن شهادتها تقبل ديانة لا قضاء.
باب ما جاء أن الرضاعة لا تحرّم إلا في الصغر دون الحولين
[1152]
مدة الرضاعة عند الشافعي رحمه الله وأحمد رحمه الله وصاحبي أبي حنيفة سنتان، وعند أبي حنيفة سنتان ونصفها، وعند مالك الزائد على الحولين وأقل من ثلاثين شهراً، ويحول هذا إلى من
ابتلي به وأكثر المصنفين قصروا في هذه المسألة، قال صاحب الهداية: متمسكناً {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] وكان مقتضى الآية أن يكون الحمل أيضاً سنتين ونصفها إلا أن عائشة قالت: إن الحمل لا يزيد على سنتين. أقول: هل يقبل أحد هذا القول؟ فإنه كيف نسخ آثر عائشة نص القرآن؟ ورد ابن الهمام ما قال صاحب الهداية ثم اختار مذهب الصاحبين، أقول: الوجه ليس ما قال صاحب الهداية بل الوجه ما ذكره الزمخشري في الكشاف، النسفي في المدارك أن الحمل الحمل على الأيدي لا الحمل في البطن، وقال الجمهور: إن المذكور في آية: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] مدة الحمل في البطن والفطام فإن أقل مدة الحمل ستة أشهر، أقول: كيف يحمل نص القرآن على الأشذ الأندر؟! والحال أن عادة الشريعة أخذ الحكم الكلي أو الأكثري لا الأندر، وإن قيل: إن أقل مدة الحمل عند أبي حنيفة أيضاً كذلك. قلت: لا ضير فيه فإنه لا يحمل الآية على الأشذ، وأما آية:{حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] إلخ فليست بصدد بيان مدة العظام والمذكور فيها أن المرأة إذا طلقت فاستأجرها الزوج للرضاع فيجوز لها أخذ الأجرة إلى الحولين لا بعدهما والمذكور في هذا الركوع جميعه حكم الأجرة وغيرها ليراجع أحكام القرآن لأبي بكر الرازي فإنه وجه المذهب.
باب ما جاء يذهب مذمة الرضاع
[1153]
بكسر الذال الحق
قوله: (غرة عبد إلخ) قال التفتازاني: إن الغرة بياض جبهة الفرس قدر الدرهم، والمراد هاهنا العبد، والغرة من أسماء العبيد كما يقال في الفارسية (يك شاخ گوسپند ويك رأس قلبه گأو (وهكذا) ؛ ووقع في الصحيحين: قال أبو بكر: والله لأقاتلهم ولو منعوني عقالاً، فقيل: إن ذكر العقال مبالغة،
وقيل: إن موالك المواشي كانوا يعطون مواشي الصدقات مع عقالهم، وقيل: العقال زكاة العروض، وقيل: العقال زكاة الحول، أقول: يمكن أن يكون العقال اسم الحيوانات مثل الغرة للعبد، وثبت المعنى في اللغة.
قوله: (هذه كانت أرضعت إلخ) اسمها حليمة السعدية والواقعة أنه أقام بحنين حين فرغ من غزوة حنين ليأتوه مسلمين ويرد إليهم أموالهم فجاؤوا وجاءت حليمة السعدية أيضاً فبسط النبي صلى الله عليه وسلم لها رداءه، واختلف أهل معرفة الصحابة في إسلامها والأرجح الغالب أنها أسلمت.
باب ما جاء في الأمة تعتق ولها زوج
[1154]
قال الحجازيون: لو عتقت فلها الخيار ولو عتق فلا خيار، وقال أبو حنيفة: إن لها خياراً في الصورتين، والواقعة واقعة مغيث وبريرة، فقال راوٍ: إنه كان عبداً يوم عتقت، وقال راوٍ آخر: إنه كان حراً يوم عتقت، والرواة كبار أجلة، وقال بعض الحنفية: إن المراد أنه كان عبداً ثم عتق فاجتمع
الروايتان، وللحافظين هاهنا كلام، فقال ابن حجر: إن قطعة: كان زوجها حراً إلخ منقطعة وقول الأسود. أقول: إن في حديث الباب لفظ قالت. . إلخ صيغة المؤنث، ونقول أيضاً: إن بعض الروايات تصريح قول عائشة كما روي، قال علقمة والأسود سمعنا عائشة تقول: كان زوجها حراً حين عتقت صحح إسناده أخرجه أبو بشر الدولابي في كتب الأسماء والكنى، وفي سنده أبو معشر وهو زياد بن كليب، وقال العيني: إنه لا يخالفنا إلا قول ولو كان عبداً لم يخبرها إلخ، وذلك قول عروة كما هو مصرَّح في النسائي، وكذلك قال الطحاوي، وأما تفقه التخيير فذكره في الهداية بما ردّه ابن قيم شديداً وأقول: والوجه ما ذكره الطحاوي من أن الأمة كانت قبل عتقها عليها ولاية الإجبار، وأما إذا اعتقت فلا بدّ من أن تكون مختارة فترتفع ولاية الإجبار، وأما قول ابن عباس إنه عبد أسود إلخ فلا يدل على كونه عبداً في الحال بل باعتبار ما كان، ولي بحث في أن ابن عباس جاء إلى المدينة مع أبيه في السنة التاسعة وأنها عتقت قبلها وكانت تخدم عائشة، فإنه سألها عن شأن عائشة في قصة الإفك، وأقول: إن كونه عبداً أو كونه حراً لا يضرنا أصلاً فإنا نقول بالتخيير في الحالين حر وعبد.
باب ما جاء أن الولد للفراش
[1157]
ظاهر الحديث أن الحديث يوافق ما قال أبو حنيفة، وقال النووي: إن أبا حنيفة جمد على ظاهر حديث الباب، واعلم أن الفراش عندنا ثلاثة أقسام، القوي: وهو فراش المنكوحة فإن نفي ولدها لا يمكن إلا باللعان، والمتوسط: وهو فراش أم الولد كان أقر قبل الولد الثاني وما بعده لا ينتفي إلا بالنفي ويثبت النسب بالسكوت، والضعيف: وهو فراش أمة حين ولدت أول مرة فإنه لا يثبت إلا بالدعوة والإقرار، وبناءً على هذه المسألة قلنا: إن رجلاً شرقياً تزوج امرأة غربيةً فأتت بالولد بعد ستة أشهر ولا يتصور الجمع بينهما فالولد عند أبي حنيفة للفراش أي للزوج المشرقي، واستبعده النووي، وقال: إن أبا حنيفة جمد على محض ظاهر الحديث، ولما زعم ابن الهمام أنه مستبعد تعرض إلى التقييد فقال: إنه لعله استخدم أو كانت له كرامة وتبعه صاحب الدر المختار في باب ثبوت النسب (قيل: إن كل معجزة تصح كرامة للولي، وقيل: إن الكلية غير صحيحة والحق أن بعض المعجزات تكون مختصة بالأنبياء ولا تصلح كرامة للولي، أقول: الأرجح هو الثاني وهو مذهب الأستاذ أبي القاسم القشيري صاحب الولاية)، أقول: إن من استبعد مسألة أبي حنيفة فقد غفل عن باب مستقل في الفقه وهو باب اللعان، فنقول: إن ولدت المغربية ولم ينف المشرقي ولده، فكيف يمكن لأحد أن ينفي الولد، وإذا علم الزوج أنه ليس من نطفتي فعليه أن يلاعن، وروي عن أبي حنيفة أن الرجل إذا علم أن الولد ليس من نطفتي فعليه أن يلاعن وجوباً عليه ديانة، نعم لا حق للقاضي في الاستفسار قبل رفع الأمر إليه، ومسألة وجوب اللعان ذكره في الدر المختار ص (267) ، الإقرار بالولد الذي ليس منه حرام كالسكوت إلخ فإذن امتناعه عن اللعان يوجب لحوق الولد بأبيه وثبوت نسبه منه شرعاً، وروي عن أبي حنيفة في رد المحتار أن المولى إذا علم أن ولد أمته من نطفته فيحرم عليه السكوت والامتناع عن الدعوة والإقرار
ديانة، وأما قضاءً فلا يثبت النسب إلا بالإقرار والدعوة فصار حاصل المسألة أنه إذا علم أن الولد ليس منه فيحرم عليه الكف عن اللعان ديانة وإذا لم يلاعن فليس لأحد أن ينفي ولده، والعجب من الشافعية أنهم استبعدوا هذه المسألة والحال أنهم يقولون بمثل هذا في مسألة أخرى لهم، وهي أن مذهب مالك أن المرأة ترجم بالإقرار أو البينة أو الحبل إذا لم تكن تعلم نكاحها ومذهب الأحناف والشافعية أن الرجم لا يكون إلا بالبينة أو الإقرار لا بالحبل، ثم قال الشافعية: إن المرأة إذا حبلت ولا نعلم نكاحها بأحد فكيف ترجم؟ فإنها لعلها نكحت خفية، وهل يجب علينا استفسار أنها
نكحت أم لا قبل رفع القضية إلينا بالإقرار أو البنية؟ فإذن لم يبق في مسألة أبي حنيفة استبعاد شيء.
قوله: (وللعاهر الحجر إلخ) العاهر الزاني، والحجر قيل: الرجم، وقيل: المراد الذلة والخيبة.
باب ما جاء في كراهية إتيان النساء في أدبارهن
[1164]
أي الإيلاج في الدبر وهو حرام بإجماع الأمة لا يشذ عنهم شاذ، وجوزه الروافض الملاعنة. وقالوا: إن هذا الفعل ليس في الحيوانات أيضاً إلا في الحمار والكلب والله أعلم، وهاهنا مغلظة شديدة تخرب البلاد وتدعها بلاقع، فإنه نسب إلى ابن عمر جواز الإدبار في النسوان وهذه نسبة ما تدع البلاد بلاقع، وقد ذكر الإمام الهمام البخاري أيضاً في هذه المسألة حيث روى عن نافع عن ابن عمر وذكر:(ويأتيها في. .) ولم يذكر مدخول (في) أقول: إن هذه النسبة إليه محض افتراء عليه، ومنشأ الغلط أنه يجوز أن يأتي الزوج من جانب الدبر والحال أن غرضه أن يكون الإيلاج في القبل لا في الدبر، وقد صرح ابن عمر خلاف ما نسب إليه كما رواه الطحاوي ص (23) ، ج (2) باب وطئ النساء في أدبارهن إنحمض لهن، قال ابن عمر: وما التحميض؟ فذكرت الدبر، فقال ابن عمر: وهل يفعل من المسلمين. . . إلخ.
باب ما جاء في كراهية أن تسافر المرأة وحدها
[1169]
واعلم أن الحديث في السفر غير سفر الحج وأما العلماء فيذكرون مسألة سفر الحج تحت هذه الأحاديث، وكذلك الطحاوي وغيره فعل مثل هذا أي ذكر سفر الحج تحت هذه الأحاديث، ثم ورد في الأحاديث:«لا تسافر المرأة فوق ثلاثة أيام» ، وفي بعض الروايات سفر يوم، وفي بعض الروايات سفر يوم وليلة وغيرها من الألفاظ، ومذهب أبي حنيفة أن سفر الحج إن كان ثلاثة أيام فلا تسافر إلا ومعها محرم، وإذا كان أقلَّ من ثلاثة أيام فيجوز لها السفر، فيقال: إن الأحاديث ترد على أبي حنيفة، أقول: لا ترد على أبي حنيفة، فإن الأحاديث ليست بواردة في سفر الحج بل في غيره من الأسفار، والمحقق فيها أن يدار الأمر على الفتنة وعدمها ويحول الأمر إلى رأي من ابتلي به ولا يكون فيه تحديد الأيام، وهذا ما تحقق لي من المذهب وإن لم يصرح به أحد.
باب حدثنا نصر بن علي الخ
[1172]
قال الغزالي: إن الشيطان يدخل في بدن الإنسان ويسري فيه، وقال ابن حزم الأندلسي: إنه يلقي الوساوس على الإنسان من الخارج بلا سراية، أقول: إن القرآن يؤيد ما قال ابن حزم الأندلسي كما في آية: {يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] إلخ، وأما في حديث الباب فهذا مثل:
~ وقد كنت أجري في حشاهن مرة
…
كجري معين الماء في قصب الآس
واعلم أن الجن والشيطان من نوع واحد وتأثيرهما في الإنسان بطريق واحد.
قوله: (فأسلم إلخ) في رواية «أسْلَمُ» أقول: يمكن أن يُسلم الشيطان وأن تُركَّب الشهوة في المَلَك، وقال البيضاوي والرازي: إِن هاروت وماروت ما كانا ملكين بل هذا تمثيل النفس والبدن. أقول: إن قصة هاروت وماروت مروية بحديث، قال الحافظ: إنه ليس بلا أصل، فأقول: لا يلتفت إلى غيره.
كتاب الطلاق واللعان
باب ما جاء في طلاق السّنّة
[1175]
الطلاق على ثلاثة أقسام: الأحسن: أن يطلق في الطهر الذي لم يجامع فيه واحدة ولا يراجع، وطلاق السنة ثلاث طلقات في ثلاث أطهار، وطلاق البدعة: ثم هذا عندنا إما من حيث العدد وإما من حيث الوقت، أما من حيث العدد ثلاث طلقات في طهر واحد، وأما من حيث الوقت فالطلاق في الحيض، وأما عند الشافعية فلا بدعة من حيث العدد، وعندنا لا طلاق بدعة من حيث الوقت في حق الحامل فإنها لا تحيض، ووقوع طلاق البدعة عند الفقهاء الأربعة والبخاري محقق خلاف ابن تيمية، أما تمسك الأحناف والحنابلة على أن البدعة من حيث العدد أيضاً فبالآية:[البقرة: 229] إلخ أي مرة بعد مرة، أي تفريقاً، وأما إذا طلق ثلاث طلقات فلا تقع عند داود الظاهري وابن تيمية، وكذلك نسب إلى ابن عباس إلا طلقة واحدة، وقال: إن الطلاق المنهي عنه لا يترتب عليه الأحكام، وعندي في خلافه نصوص كثيرة، وقال: إن رجلاً إذا وكل رجلاً بأن ينكح فأنكح الوكيل نكاحاً فاسداً لا ينفذ النكاح في حق الموكل، وكذلك وكل الله تعالى عباده بالطلاق فلا ينفذ الطلاق المنهي عنه عنده تعالى.
أقول: لو التفت ابن تيمية إلى كلام الطحاوي لم يقل ما قال.
قوله: (أن يراجعها إلخ) لنا في الرجوع قولان؛ قيل: واجب، وقيل: مستحب، ورجح صاحب الهداية الأول.
قوله: (فَمَهْ، أرأيت إلخ) قال ابن تيمية: إن طلاقه باطل، والشرح عنده: أرأيت أن الأحكام تتبدل إن عجز واستحمق بل ولا تقع الطلقة، أقول: إن في مه (ما) استفهامية، والهاء بدل الألف، وقد صرح ابن حاجب بأن الألف قد تتبدل بالهاء، والشرح عند الجمهور: فما تقول، أتتعطل الأحكام الشريعية؟ أقول: كيف ينكر ابن تيمية وقوع الطلاق والحال أن في كثير من طرق مسلم ص (476) تصريح الطلقة الواحدة، والفاء الداخلة على (مه) تلغو على شرح ابن تيمية لا شرح الجمهور، ويدل بعض طرق الحديث على أن ما استفهامية كما في مسلم (476) : فما يمنعني؟ إلخ، وأما المراجعة ففي بعض الروايات أنه يطلق في الطهر اللاحق وفي بعض الروايات أن يطلق في الطهر الذي بعد الطهر اللاحق، ولنا أيضاً قولان مثل الروايتين، وأبدى حكمته ابن رشد في قواعده.
قوله: (ثم يطلقها طاهراً أو حاملاً إلخ) الحامل لا تحيض، عندنا، وقال الشافعية: تحيض، وتمسكوا بحديث الباب أي التقابل بين الطاهر والحامل، ونقول: إنه لا تمسك لكم فيه، ونقول: إن الطاهر على قسمين حامل، وحائل، وإني سألت من أهل التجربة هل تحيض؛ أم لا؟ فقالوا: قد تحيض ومثل هذا التأييد لأهل الطب، روي عن ابن عباس في مسند الدارمي: أن الحامل إذا حاضت تزيد الأيام على وضع حملها قدر ما حاضت، فأقول: إنها تحيض لكن الأحكام لم تفرد لها لأن بناء الأحكام على الأغلب، وحيض الحامل أندر وحجتنا على أن الحامل لا تحيض هي مسألة استبراء الأمة المشتراة، فإنها لو حاضت حالة الحمل أيضاً. فأي جدوى في الاستبراء؟ فلعل الدم الذي تراه الحامل دم لمرض لحقها.
قوله: (أحمد إلخ) أقول ليس مذهب أحمد هذا بل مذهبه مذهبنا.
مسألة: هل الطلقة الواحدة البائنة بدعة أم لا؟ فقيل: بدعة لأنها فاضلة عن الحاجة، وقيل: ليست ببدعة، والقولان مذكوران في المبسوطات، واتفقوا على أن الخلع وإن كان طلاقاً بائناً لكنه ليس ببدعة.
باب ما جاء في الرجل يطلق امرأته ألبتة
[1177]
يحتمل أن يكون هذا حكاية طلاقه بلفظ (ألبتة) أو حكاية الطلاق ثلاثاً، وقال أبو حنيفة: يصح نية الواحدة البائنة والثلاث في ألبتة، وقال الشافعي: يصح نية الثنتين أيضاً، وأما الواقعة ففي أكثر الطرق أنه طلق بلفظ ألبتة، وفي بعضها أنه طلق ثلاثاً كما في أبي داود ص (298) ، ص (306) باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث رواه ابن جريج، ورجح المحدثون أنه طلق بألبتة، أقول: إن كان طلق ثلاثاً فأمره بالمراجعة فيحمل على جزئية في كتب الشافعية والحنفية كما في الدر المختار ص (139) أنه لو أراد التأكيد لا التأسيس يصدق ديانةً وكان سؤاله لعلم أنه أراد الواحدة أو الثلاث، وأما لو كان طلق بألبتة فيشكل الأمر على الحنفي، فإنه يقول: إن الكنايات بوائن، وقال الشافعي: إنها رواجح، فأمره بالمراجعة عندنا مشكل فنحمل المراجعة على المراجعة حساً أي بنكاح جديد.
واعلم أن مسألة الديانة يفتي بها المفتي، ومسألة القضاء يحكم بها القاضي، ولا يجوز للمفتي الحكم بمسألة القضاء ولا للقاضي الحكم بمسألة الديانة، ثم الافتاء الذي جرى في زماننا فإنهم يفتون كأنهم قضاة غير جائز لهم فإن المفتي يجب عليه الحكم بمسألة الديانة ولا يجوز الحكم بمسألة القضاء بعكس حال القاضي، والفرق بين الفتوى والقضاء قد يكون فرق الحلال والحرام وقد يكون فرق الاحتياط، وأما ما قلت من وجوب الحكم بالفتوى والديانة على المفتي فيؤخذ من عبارات كتبنا، منها ما في الكنز: قال لامرأته: إن ولدتِ غلاماً فأنتِ طالق واحدة، وإن ولدتِ جاريةً فطالق بثنتين، فأتت بهما ولم يدر الأول، تقع واحدة قضاء وثنتين ديانة، وقد صرحوا بأن الفتوى بثنتين ليس حكم الاستحباب والاحتياط بل حكم واجب وفي فتح القدير أن الإقالة في العزر الفعلي واجبة ديانة لا محض استحباب، وهاهنا بحث وهو أنه إذا رفع الأمر إلى القاضي فحكم القاضي بمسألة القضاء فهل لهذا الرجل بعد القضاء أن يعمل بالفتوى بخيرته أم لا؟ وظني أنه لا يجوز له العمل بالفتوى بعد قضاء
في هذه الجزئية، وهذا يجري في كثير من المسائل منها إذا وهب شيئاً ثم عاد إليه بقضاء القاضي والحال أن العودة في الهبة مكروه تحريماً ديانة فهل يرفع القضاء هذه الكراهة أم لا؟ وكذلك إذا حكم القاضي بكون المغصوب للغاصب فهل يكون له هذا الشيء حراماً أو حلالاً بعد أن قضى القاضي؟ وكذلك مسائل أخر، وأما ما ذكرت من ظني أنه لا يبقي الخيرة في الديانة فشبيه ما يقال: إن قضاء القاضي نافذ ظاهراً وباطناً، ووجدت جزئية عن محمد تؤيده وهي أن رجلاً شافعياً مثلاً طلق امرأته الحنفية مثلاً بلفظ الكناية فيريد الرجل الرجوع ولا ترضى به فرفعا القضية إلى القاضي، فإذا حكم القاضي بحكم لا يمكن لأحدهما الخلاف في هذه الجزئية أصلاً ولا لأحد أن يحكم خلاف حكم هذا القاضي شرقاً وغرباً، وفي الهداية أن القضاء بمجتهد فيه صار في حكم المجمع عليه في هذه الجزئية، ولا يمكن لأحد أن يفسخه ثم كل مسألة من مسائل الشافعية مثلاً مجتهدة فيها عندنا إلا ما عدد بعض المسائل لا تزيد على عدد الأصابع، ولكن يظهر من الكتب كون هذه المسائل المستثناة مجتهدة فيها أيضاً، فتكون كل مسألة من المذاهب الأربعة مجتهدة فيها، ثم قضاء القاضي المشهور أنه في المعاملات لا في العبادات، أقول: قد يكون في العبادات، أيضاً كما ذكرت أولاً، وأما دليل أن فرق القضاء والديانة كان في السلف أيضاً مما أخرجه الطحاوي ص (250) ج (2) عن أبي يوسف عن عطاء عن شريح استفتى رجل شريحاً فقال شريح: إنما أقضي لا أفتي إلخ، ثم يرو هاهنا أنه كان قاضياً لا مفتياً فكيف أجاز له الرجوع حين طلق ثلاث؟ أقول: إنه قاض ومفت.
باب ما جاء في أمرك بيدك
[1178]
قال الفقهاء: إن لفظ «أمرك بيدك، واختاري نفسك، وأنت طالق إن شئت» ألفاظ التوكيل لا التطليق وإنما تقع الطلاق بعد اختيار المرأة الطلاق، وذكرها في الكنايات يوهم أنها من الكنايات وأنها ألفاظ التوكيل، واختلف أبو حنيفة والشافعي في إرادة الثنتين في هذه الألفاظ.
قوله: (فالقول قوله إلخ) واعلم أنهم إذا ذكروا القول قول فلان يراد باليمين في كل موضع.
باب ما جاء في الخيار
[1179]
مذهبنا أنه يشترط لفظ النفس في كلام المرأة، واختيارة بالتاء، وقال علي: إذا خيرها فتقع طلقة واحدة إذا لم تختر وليس هذا مذاهب الأربعة، وواقعة الباب واقعة أنه آلى إلى شهر ثم خيرهن فاخترن إياه.
باب ما جاء في المطلقة ثلاثا لا نفقة لها ولا سكنى
[1180]
هذه مسألة المبتوتة الحائل، قال أبو حنيفة لها النفقة والسكنى، وقال أحمد: لا نفقة ولا سكنى كما في ظاهر حديث الباب، وقال الشافعي ومالك: لها السكنى لا النفقة.
طرق حديث الباب كثيرة، وتعبير المسألة أن المبتوتة الحائل تستحق النفقة والسكنى أم لا؟ وتمسك بعض الأحناف بقول عمر على عدم الزيادة على القاطع بالخبر الواحد، أقول: إنه ليس بنافع فيه.
قوله: (فاطمة بنت قيس إلخ) فاطمة هذه وراوية حديث جساسة واحدة غير ما في أبواب المستحاضة وتلك فاطمة بنت أبي حبيش ويسمى بقيس أيضاً.
قوله: (كتاب الله إلخ) نقلوا أن أحمد بن حنبل كان يضحك ويقول: أين في كتاب الله، وغرضه أن هذا من اجتهاد عمر وأما سنة نبيكم فأخذ الأحناف بالعضّ وقالوا: إن عند عمر نصاً صريحاً منه وليس هذا محض اجتهاده فيكون إحالة إلى حديث مرفوع، وقال الدارقطني: إن لفظ سنة نبينا إلخ وهم الراوي، أقول: إن هذا اللفظ مروي في طرق مسلم صراحة فلا يمكن الإنكار، وتأول بعض الحنابلة بأن عمر لا نص عنده بل هذا اجتهاده، أقول: قد روى عمر ألفاظه المرفوعة كما أخرجه في معاني الآثار ص (39) ج (2) بسند لا ينحط عن الحسن، قال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لها النفقة والسكنى» إلخ، وفيه خصيب ابن ناصح ولعله من رواة الحسان، وفي سنده حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة، وقالوا: لم يخرج عنه البخاري، أقول: إنه أخرج عنه لكنه في نسخة غير متداولة بيننا، ومر عليه بعض الحفاظ أيضاً، ومر الحافظ على ما في الطحاوي في الفتح وقال: لم يسمع إبراهيم عن عمر، وقال ابن قيم: إني أشهد أنه لم يقل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقول: كيف مثل هذا التجاسر بعد حسن السند؟ وأما ما قال الحافظ من الانقطاع فقد مر أن النخعي لا يرسل إلا صحيحاً كما في أوائل التمهيد، ولهم ما في مسلم تقول فاطمة بنت قيس: إن نفي السكنى والنفقة موجود في القرآن، فإن في القرآن قيداً بالحمل فالحائل لا يكون لها النفقة والسكنى، وأيضاً في القرآن {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1] (الآية) قالت: إن الأمر هو الرجعة فلا يكون النفقة للمبتوتة، نقول: إن الآيات عامة في سياقها وإن كان الأمر هو الرجعة فلا علينا إلا بيان النكتة في القيد، وأجاب الطحاوي عن تمسك فاطمة، وأما ما قلت: إن سياق الآية عام وإن كان العجز خاصاً فله نظائر في القرآن العظيم أيضاً، أقول: من جانب
الأحناف ما هذا لي فأراجع إلى قياس جلي وهو أنه ثبت بالأحاديث وتلقاه الأمة بالقبول أن المتوفى عنها زوجها لا يجوز لها الخروج من بيت العدة، وأقول: كذلك حال المطلقة بلا فرق شيء فيكون للمطلقة السكنى، ثم قال أبو حنيفة: إذا كانت لها
السكنى تكون النفقة أيضاً فالمسألة قوية والقياس جلي لا يمكن العدول عنها أصلاً، ومذهبنا في المتوفى عنها زوجها أن تعتد في بيت العدة ولا سكنى لها ولا نفقة ولها إرث فتكون كراية البيت التي اعتدت فيها عليها ولا يجوز لها الخروج منها، وذكر الطحاوي ص (40) الاستنباطات من الآيات منها الآية:{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] إلخ وفيه اختلاف المفسرين أنها للمطلقة الرجعية أو البائنة، ووافق البخاري ص (803) أبا حنيفة والشافعي وما وافق أحمد، وحديث الباب لما كان يخالف الشافعية أيضاً فقالوا: إن نزاع فاطمة كان في النفقة لا في السكنى، أقول: إن في بعض الأحاديث الصحاح ذكر نزاعها في السكنى أيضاً، منها ما في حديث الباب، أقول: إن خروجها من بيت العدة كان لمعاذير مروية في الأحاديث كما في مسلم أنها كانت تطيل اللسان على أحمائها فكان لها السكنى، ولكنها خرجت من بيت العدة لمعاذير، وأما نفي النفقة في حديث الباب فلا بد من القيد في الحديث عندنا، فقال الطحاوي بالإلزام على الشافعية أنها خرجت من بيت العدة لكونها طويلة اللسان على أحمائها، فإذا خرجت تكن ناشزة ولا نفقة للناشزة، وفيه نظر، فإنها خرجت بإجازته فلا بد من عذر آخر من نفي النفقة، وقد مر العذر عن نفي السكنى، وذكر الشافعية أيضاً معاذير نفي السكنى لأنهم يقولون بنفي النفقة لا السكنى فأقول مجيباً عن نفي النفقة: إن النفي نفي الزائد الذي كانت تطلبها فإن أصل النفقة قد أعطيت كما في الروايات وأصحها أنها أعطاها زوجها عشرة آصوع كما مر في الترمذي، وفي بعض الروايات أنه أعطاها أزيد من عشرة آصوع
كما في الطحاوي، فكان المراد لا نفقة أي الفاضل على ما كان أعطاها وكنت جعلت قرينة أخرى على أنها كانت تطلب أزيد مما أعطيت وكانت أعطيت أصل النفقة، وهي ما أخرجه الطحاوي ص (38)، ج (2) عن أبي عمرو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ليست لك نفقة ولكن متاع بالمعروف» إلخ، أي بالقدر المعروف لكني رأيت في مشكل الآثار أن الطحاوي حمل متاع بالمعروف على متعة الثبات للمطلقة فإنه جره تحت باب متعة النساء فلما حمله الطحاوي على هذا ترك هذه القرينة وتمسك بالروايات الدالة أنها أعطيت النفقة، ثم أقول: إن الروايات في موت زوج فاطمة وحياته مختلفة، فإن مسلماً أخرج في صحيحه في حديث جساسة ص (404) ج (2) : إن زوجي أشهد وخطبني أبو معاوية ومر عليه الحافظ واختار أنه لم يمت بل طلقها وهو حي، ولو كان زوجها مات فلا نفقة لها ولا سكنى عندنا أيضاً، ولكن الحافظ أعله وقال: إنه وهم الراوي، فإنه عاش إلى عهد عمر، فإن عمر حين عزل خالد بن الوليد وخطب فقام هذا الرجل وكلم في عزله خالداً، ويخالفه كلام الحافظ في كنى التقريب حين جزم بأنه مات، فإذن لا سكنى ولا نفقة لها عندنا، وإن الخطيب السائل عمر رجل آخر بهذا الاسم ولكن علماء معرفة الصحابة والبخاري في تاريخه قالوا: إنه عاش إلى عهد عمر فصار حال هذا الرجل متردداً فيه، وأما إذا قيل: إنه طلق ثم مات فأقول: لم أجد في كتبنا مسألة هذه المرأة، هل تكون لها السكنى
والنفقة أم لا؟ وفي النظم: ويسقط بالتطليق والموت وانقضاء عدتها المعلوم لا يتقرر، وأما اسم هذا الرجل ففيه اختلاف قيل: إنه أبو عمرو بن حفص بن مغيرة وهذا مختار المحدثين، وفي باب الروايات أنه أبو حفص بن مغيرة، وفي بعضها حفص بن أبي عمرو بن مغيرة، ولنا ما أخرجه دارقطني في سننه ص (432) ج (2) عن جابر مرفوعاً وسند رجاله ثقات وفيه:«المطلقة ثلاثاً لها النفقة والسكنى» وفي سنده قوة إلا أبو قلابة عبد الملك بن محمد، وأخرج عنه ابن ماجه، وقيل: إنه اختلط في آخر عمره، وقال أبو داود: إنه أمين مأمون أخذت عنه. واعلم أن الراوي عنه عند الدارقطني أخذ قبل الاختلاط أو بعده، وأما البخاري فلم يخرج حديث:«لا نفقة ولا سكنى» وما أخرج ما يخالفه من فتوى عائشة وعمر وبعض التابعين، والإنصاف أنه وافق الشافعي ومالكاً لا أبا حنيفة.
قوله: (ثلاثاً إلخ) لنا وللحنابلة أن نحمل الثلاث على تفرقة، سيما إذا كان في مسلم تصريح الثلاث تفرقة، والمسألة مختلفة فيها في السلف أيضاً، هذا والله أعلم.
باب ما جاء لا طلاق قبل النكاح
[1181]
مذهب أبي حنيفة أنه إذا أضاف الطلاق إلى المِلك وإلى سببه يقع الطلاق بعد المِلك وتحقق الشرط، وخالفنا سائر الأئمة إلا أن مالكاً فَصَّلَ بأنه إن كان قيد فمثل أبي حنيفة، وإن أطلق مثل إن قال: دخلت الدار فكل امرأة أتزوج طالق، فلا أثر مثل الشافعي، والسلف أيضاً مختلفون، وأطنب الحافظان، ولعل أكثر السلف إلى الحجازيين، وأتى الحافظ بآثار عليها ما أخرج أن وليد بن عبد الملك كتب الاستفتاء إلى البلاد فأجاب العلماء بعدم الطلاق، ولنا أيضاً آثار كما ذكر مالك في موطئه ص (214) أسامي بعض الصحابة والتابعين، ولنا فتوى عمر أخرجه الحافظ في الفتح أن
الظهار المعلق يقع بعد النكاح، وتكلم الحافظ في سنده من قبل عبد الله العمري، أقول: قد أخرجه مالك في موطئه ص (203) عن القاسم بن محمد عن عمر وكان أفتى عمر في الظهار المضاف وأجريناه إلى الطلاق أيضاً، فكيف أغمض الحافظ عن هذا الأثر القوي؟
قوله: (لا طلاق فيما لا يملك إلخ) قال صاحب الهداية بقول بالموجب، والمراد بالقول بالموجب هو مصطلح الأصوليين لا مصطلح أهل المعاني، وهذا هو شرح الزهري كما في التخريج.
قوله: (في المنصوبة إلخ) الأصح المنسوبة بالسين أي التقييد بالبلدة أو القبيلة أو غيرهما لا الإطلاق.
قوله: (قال ابن المبارك: إن كان يرى إلخ) هذا القول يخالف ما قال ابن عابدين: يجوز أن يعمل بمذهبين في واقعتين متضادتين، وأقول: إن هذا لا نظير له من أقوال السلف، وقد قلت:
~ وليس رجوعه عما قضاه
…
ولا تخيير شيء والنقيض
~ وكانوا يسألون من ارتضوه
…
ولا يرجى خلاف من مفيض
~ ومن أفتى بمسألة لغير
…
فسلسلة على عرض عريض
وهذه المسألة طويلة الذيل لا يسع ذكرها بالمقام وبعض تفصيلها مر أولاً.
باب ما جاء أن طلاق الأمة تطليقتان
[1182]
اختلف في أن الاعتبار في الطلاق والعدة للرجال أو النساء، قال أبو حنيفة رحمه الله بالثاني، وفي كتب الشافعية أن العبرة للرجال، وحديث الباب «عدتها حيضتان» إلخ يفيدنا في أن المراد من الأقراء الحيضات لا الأطهار.
باب ما جاء فيمن يحدث نفسه بطلاق امرأته
[1183]
قوله: (ما حدثت به نفسها إلخ) نفسها فاعل أو مفعول، ورجح الطحاوي النصب في مشكل الآثار، وفي حديث الباب إشكال وهو أن ظاهر حديث الباب أن معاصي القلب لا إثم عليها ما لم يعمل بها أو تكلم حتى أن الكفر أيضاً من أمور القلب، والحال أن الأمة المحمدية اتفقت على أن البغض والحسد والكبر من أعلى المعاصي، وتفرد البعض بأن معاصي القلب لا إثم عليها إلا إذا عمل أو تكلم، أقول: إن هذا القول لا يحتاج إلى أن يبطل فإن شريعتنا والشرائع السماوية اتفقت على ترتب العقاب على معاصي القلب، وقال رجل: إن مراتب ما في النفس خمسة، الهاجس والخاطر وحديث النفس والهم والعزم وغيرها، والهم معتبر في الطاعة لا المعصية، ولا إثم على أربعة منها وإنما الإثم على العزم، وقريب من هذا كلام الغزالي، أقول: إن مدلول الحديث أن كل ما قبل العمل والكلام حديث النفس، فأجوبة الإشكال عديدة، أقول: إن المراد التصميم كناية وإنه لا إثم ما لم يصمم، والكناية ليس بمجاز لما حررت أولاً، وأقول: إنه إذا صمم إرادة المعصية ثم مُنِعَ لعارض عن تلك المعصية فهل عليه إثم أم لا؟ أقول: إنه مأخوذ وعليه إثم، وأما إذا امتنع عن المعصية بقدرته وخيرته بعد تصميم الإرادة فلا وزر عليه، هل هو مأجور؟ كما في مسلم ص78:«وإن تركها اكتبوه له حسنة وإنما تركها من جراي» إلخ، وأما ما فيه «فأنا أغفر له ما لم يعملها» إلخ فلا يرد علي، فإنه ليس بعام في ما يكون بعمل اختياري واضطراري بل ما يكون تركه بخيرته.
باب ما جاء في الجد والهزل في الطلاق
[1184]
الجد أن يتلفظ بلفظ يريد إيقاع حكمه، والهزل أن يتلفظ بلفظ لا يريد إيقاع حكمه، وعندنا عدة أشياء يكون الجد والهزل فيه سواء مثل الطلاق والعتاق واليمين والنكاح وغيرها، وتنقيح المناط أن كل تصرف يمين ففيه الجد والهزل سواء، والمراد من اليمين التزام التصرف بذمته وصرح الشيخ في فتح
القدير أن الهزل بكلمة الكفر كفر أقول: إن الكفر، ليس بمقتضى الكلمة بل بسبب ارتكابه الهزل بكلمة الكفر والهزل بكلمة الكفر، حرام وكفر.
باب ما جاء في الخلع
[1185]
في رواية عن الشافعي الفسخ، والمشهور عنه أنه طلاق وهو مذهب أبي حنيفة وفي الحديث:«عدة الخلع حيضة» وليس هذا مذهب أحد إلا رواية عن أحمد، وأطنب ابن تيمية وقال: إن الطمث الواحد حكم منصوص وخلافه خلاف النص، ومر عليه الحافظان وقال بعض المدرسين في جواب حديث الباب: إن في الحديث حيضة وهذا اسم جنس يطلق على القليل والكثير، ومراده أن يكون العدة بالحيض لا بالأشهر فلا يدل على وحدة الحيضة، أقول: إنه تأويل سيما إذا كان في النسائي تصريح الواحدة أيضاً، أقول: إن حق الجواب أن تعتد حيضة واحدة في بيت العدة فيدل الحديث على أن خرجت من بيت العدة، لا يدل على نقصان العدة، وأما وجه هذا الحمل فما أخرجه النسائي ص (552) باب عدة المطلقة عن محمد بن عبد الرحمن أن الربيع بنت عفراء إلخ، وفي الروايات أن زوجها ضربها وكسر ذراعها فهذا عذر خروجها، وحديث صحيح صححه الذهبي سنداً ومتناً وقال: رجاله ثقات، وفي سنده حمدون وهو غير مشهور لكن الذهبي وثقه، وأما واقعة خلع هذا الرجل أن الربيع بنت عفراء كانت جميلة وكان ثابت بن قيس بن شماس زوجها قصير القد فرأته يوماً في جماعة رجال طوال وهو قصير، فلما دخل عليها بزقت على وجهه فبلغ الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها، فقالت: إني لا كلام لي في دينه وأمره ولكني لا أرضى بالكفر في الإسلام، فأمرَه النبي صلى الله عليه وسلم بالخلع، فخلع فخروجها من بيت العدة كان لعذر، وأيضاً أقول: إن في سنن الدارقطني أمرها أن تعتد حيضة ونصفها إلخ، وليس هذا مذهب أحد فدل على أن المراد أن تحيض بقدر ما أمرها في
بيت العدة ثم تلحق بأهلها، ولنا دليل على أن الخلع طلاق أخرجه النسائي في صغراه ص (548) باب الخلع «اقبل الحديقة وطلقها تطليقة» إلخ أخرجه البخاري أيضاً.
باب ما جاء في طلاق المعتوه
[1191]
المعتوه مغلوب العقل. قوله: (تسريح بإحسان) إلخ التفسير المشهور أنه تركها بلا رجعة، والمشهور أن الخلع طلاق وفي رواية عن الشافعي أن الخلع فسخ لأن الخلع عنده لو كان طلاقاً يكون الطلاق الثالث في قول الله عز وجل: لا جناح عليكم فيما افتدت به فيكون قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ} [البقرة: 23] إلخ طلاقاً فقال الحنيفة: إن الخلع داخل في قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ، ثم بينه أن الطلاق إما على مال أو بغير مال فبين أولاً طلاقاً بلا مال، ثم بين الطلاق على مال بقوله:«لا جناح» إلخ، هذا ما قال المفسرون، أقول: يرد على المفسرين ما أخرجه أبو داود أنه: «قال أو تسريح بإحسان» طلاق ثالث حين سأله رجل يا رسول الله في قوله عز وجل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]، طلاقان فأين الثالثة؟ قال:«تسريح بإحسان» . أقول: قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ} [البقرة: 23] إنه إعادة اسم ما استؤنف عنه ليجري الحكم عليه كما قال أرباب المعاني، وإن لم يعتد بالرواية فالقول الذي اختاره المفسرون صحيح أيضاً، وإنما قلت: إن لم يعتد بالرواية لأن الرواية لا تصير حسنة إلا باللهم، ورعاية سياق القرآن وسباقه أولى من رعاية أمثالها.
باب ما جاء في عدة المتوفى عنها زوجها
[1195]
زينب هذه ليست بأم المؤمنين بل ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم بنت أم سلمة، وأبو سفيان والد معاوية.
قوله: (إلا على زوجها إلخ) دل الحديث على أن الإحداد على من مات من الأقارب جائز لثلاثة أيام، وقد روي عن محمد في النوادر يجوز الإحداد على بعض الأقارب إلى ثلاثة أيام ولا بد من اعتداد هذه الرواية وإلا فلا جواب عن الحديث، وفي القصص المذكورة في حديث الباب كلام طويل وأما في قصة زينب بنت جحش فإشكال ذكره الحافظ في الفتح بأن إخوتها كانوا ثلاثة، مات أحدهم نصرانياً بحبشة، والثاني مات صحابياً قبل نكاحها بالنبي صلى الله عليه وسلم، والثالث عاش بعدها وعندي في دفع الاضطراب كلام.
قوله: (أفنكحلها إلخ) يجوز الاكتحال للعذر عندنا ويحمل قوله على حال لم تبلغ مرتبة الضرورة، والإحداد عندنا وعند غيرنا واجب للمتوفى عنها زوجها وفي المطلقة المبتوتة اختلاف عليها الإحداد عندنا ولا شيء في مذهبنا فيه مرفوعاً وموقوفاً إلا أثر في معاني الآثار، ومر ابن الهمام على مسألة الإحداد وقال: إن الإحداد ليس بزيادة على القاطع فإن الزيادة إنما تكون لو قلنا بعدم أداء العدة
إذا لم تحد، نعم تكون مرتكبة الكراهة تحريماً، أقول: ولا ريب في جواز الزيادة بخبر الواحد على القاطع في مرتبة الظن كما قلت أولاً.
باب ما جاء في المظاهر يواقع قبل أن يكفر
[1198]
اختلفوا في أن هذا الرجل والذي مر حديثه أولاً في الصوم واحد أو اثنان وأن هذا غير ذاك، وأما اتحاد سطحي الحديثين فلأن الحكم واحد. اختلفو في مراد آية:{ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] إلخ وأتى الإمام داود الظاهري بشيء عجيب فإنه قال: العود قولي، وهو أن يقول مرة ثانية: أنت علي كظهر أمي، وقال أتباع الأربعة: إن العود لما قال يكون بمعنى نقض قول السابق، أو المراد أن يعود إلى الحل الذي قبل الظهار، وفي هذه المسألة مناظرة بين الطبراني ومحمد بن داود الظاهري مذكورة في الكتب.
باب ما جاء كفارة الظهار
[1200]
قوله: (خمسة عشر صاعاً إلخ) هذا لا يكفي في أداء الكفارة عندنا، وفي الروايات ألفاظ كثيرة منها ما في كتاب الطحاوي أتى له بمكتلين في كل منهما خمسة عشر صاعاً، قال العلماء: لا بد في الظهار من التشبيه وإذا قال: أنت أمي لا يكون ظهاراً بل لغواً، أقول: لا بد من أن يكون طلاقاً بائناً عند النية وقد روي عن أبي يوسف كما في العمدة.
باب ما جاء في الإيلاء
[1201]
من الآلية الحلف وفي اصطلاح الفقهاء: هو حلف على ترك قربان المرأة أربعة أشهر فصاعداً، وإن حلف بترك القربان بأقل من أربعة أشهر، يكون يميناً ولا تبين المرأة أن تبر، وقال أبو حنيفة
وبعض السلف منهم زيد بن ثابت وابن مسعود: إن المرأة تبين بعد مضي أربعة أشهر بلا تفريق القاضي، وقال الحجازيون وجمهور السلف: لا تبين إلا بحكم القاضي وفي اللعان عكس هذا، وأما وجه التفرقة بين الإيلاء واللعان عندنا فهو ما ذكره أن اللعان لما كان من أوله إلى آخره بمحضرة القاضي يكون التفريق أيضاً من القاضي، وأما الإيلاء فهذه وختمه ليس عند القاضي فلا يكون التفريق من القاضي، واستنبط ابن قيم عشرة استنباطات من القرآن على مذهب الحجازيين، وفي كتاب الأسماء والكنى للدولابي أثر صحابي موافقاً للحجازيين رواه بسند أبي حنيفة وأما وجه إيلائه ففي الصحيحين: أنه أكل العسل من عند زينب فقالت بعض أزواجه: إن في فيك رائحة مغافير، وفي سنن النسائي قصة مارية القبطية وأنه حرمها على نفسه لإرضاء حفصة، وفي رواية صحيحة أن أزواجه طلبن النفقة، ورجح الحافظ في النخبة ما في النسائي على ما في الصحيحين، وهاهنا مسألة أخرى وهي أن الشافعي ومالك بن أنس يقولان: إن تحريم الطعام وتحريم اللباس ليس له حكم بل هذا التحريم لغو، وقال أبو حنيفة: إن هذا التحريم يمين وله أيضاً أحكام، وتمسك بأن في القرآن سمى الله تعالى تحريم الحلال يميناً، وقال النووي: إن اليمين ليس تحريم الحلال بل كان النبي صلى الله عليه وسلم تلفظ بلفظ والله ونقول أن لفظ (والله) وإن كان في القصة والواقعة لكن ذكره ليس في القرآن وسمى القرآن باليمين ما هو مذكور فيه، وقوى ابن قيم قول الأحناف في زاد المعاد، وقال: إن تحريم الحلال يمين وهذه رواية عن أحمد بن حنبل وهاهنا إشكال للحافظ، وهو إن ترك القربان وإن كان أقل من أربعة أشهر إثم
ومنهي عنه فكيف ارتكبه؟ وما أجاب الحافظ، وقد أشار في فتح القدير إلى جوابه.
قوله: (اليمين كفارة إلخ) إن قيل: إنه برّ من إيلائه فكيف الكفارة؟ قلت: إنها كفارة التحريم الذي هو يمين ولي هاهنا كلام مستنبط من القرآن، وهو في مقابلة ابن تيمية بأنه تعالى يقول: إلخ {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] ثم فرع الكفارة عليه ففرع الله الأحكام على تحريم الحلال الذي هو غير جائز وهو أن الظهار وتحريم الحلال من وادٍ واحد فتكون الكفارة فيهما، ويذكر في عامة كتبنا أن الكفارة بعد الحنث ولكني لا أجد أن الرجل إذا حرم الشيء الحلال على نفسه فهل يصير حراماً أم لا؟ فما وجدت في كتبنا مع التتبع الكثير إلا ما نقل ابن قيم من الحنفية أن يحرم الشيء ثم يحل عند العزم بالحنث.
باب ما جاء في اللعان
[1202]
حقيقة اللعان عندنا الشهادات المؤكدات بالأيمان، وقال الشافعية: إن حقيقة الأيمان المؤكدات بالشهادات فشرط العراقيون كون الزوجين أهلاً للشهادة، ولم يشترط الحجازيون.
قوله: (بالله إنه لمن إلخ) قال الرضي: المقتضى فتح «إن» إلا أنه بعد الشهادة وهي بمعنى الحلف ويكون بعد الحلف الكسر، وغرض اللعان أشار إليه حديث الباب:«إن سكت لسكت على أمر عظيم» ، وأما اللعان فالتفريق فيه عندنا من القاضي خلاف الحجازيين، وذكرت تفقهنا في الباب السابق من قواعد ابن رشد ومن أحكام اللعان أن تكون المرأة محصنة بعده، ومذهب أبي حنيفة أنه إذا لاعن بالقذف بالزنا تكون المرأة بعد اللعان محصنة حتى لو أن هذا الزوج الذي بانت عنه أو الأجنبي إن قذفها بعد يحد، وأما لو لاعن على نفي الولد فلا تكون محصنة بعد اللعان لأن هاهنا شبهة بسبب الولد فلا حدَّ على القاذف، وما ذكرنا من هذه التفرقة يخالفه ما أخرجه أبو داود ص (307) وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ولا ترمى ولا يرمى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد إلخ لعل المراد به التعزير وما توجه إليه.
قوله: (فلان بن فلان إلخ) قيل: عُوير العجلاني، وقيل: هلال بن أمية.
في كتب الحنفية أن اللعان في حقه قائم مقام حد القذف وفي حقها مقام حد الزنا.
قوله: (فالحق إلخ) حديث الباب يخالفنا فإنا نقول: إنه إذا لاعن بنفي الولد قبل الولادة صح اللعان ولا ينتفي الولد ويكون نسبه منه لأنا لا نعلم بالقطع أنها حاملة لأنها لعلها نفخ بطنها لمرض لحقها، وهذا الإشكال على تقدير إن لاعَنَ رجل حالة حبلها، وتفصيل مذهبنا أنه إن أراد نفي الولد وقطع نسبه منه فعليه أن يلاعن بعد الولادة متصلاً، ولو تأخر زماناً أو لاعَنَ قبل الولادة لا ينقطع النسب، وأجاب صاحب الهداية عن حديث الباب بأنه لعله علم كونها حاملة بالوحي: أقول: لعله أراد دعاءه صلى الله عليه وسلم بقوله: «اللهم بين» وبوب الطحاوي على هذا وعندي جواب طويل.
مسألة: في كتب الحنفية أن قضاء القاضي بشهادة الزور من الشاهدين في العقود والفسوخ لا الأملاك المرسلة إذا كان المحل قابل الإنشاء نافذ ظاهراً وباطناً بشرط أن لا يكون القاضي آخذ الرشوة فيحل في هذه الصورة للمرأة فيما بينها وبين الله أن تمكن الرجل منها، وقد قرر الطحاوي هذه المسألة، وفي فتح القدير أن إثم الكذب ووزره مسلط على الناكح والشاهدين في الآخرة، وأنكر الناس على أبي حنيفة هذه المسألة ومنهم البخاري، أقول: لا وجه للإنكار على هذا وله نظائر من السلف، وصنف العلامة قاسم بن قطلوبغا في هذه المسألة كتاباً مستقلاً، ومن مبلغات محمد في الأصل ذكره في رد المحتار عن علي ما قال أبو حنيفة: فإن رجلاً ادعى عند علي أن هذه زوجته وشهد الشاهدان عليها فقضى أمير المؤمنين فقالت بعد النكاح: إني أعلم أن هذا الرجل كاذب فقضيت به فأنكحني به يا أمير المؤمنين كيلا يأثم في وقاعه علي، فقال علي: شاهداك زوجاك، وكذا عن الشعبي في المبسوط، فقال أبو حنيفة في هذه الصورة: إن قضاء القاضي نكاح ولذا قال بعض المشائخ بأن شهود الشاهدين وقت القضاء واجب بخلاف سائر الأقضية وهذا خلاف أكثر المشائخ، والقاضي له ولاية على المؤمنين والمؤمنات من وجه حتى قال الشافعي: يفرق القاضي بين الزوجين بسبب الأعذار الخمسة في الزوجة أو الأعذار في الزوج فيكون كذلك له ولاية الضم فيما بينهما، وتدل مسائل التفريق أن القضاء ثبت من وجه وليس مظهراً محضاً كما ذكره في رد المحتار من تعريفه عن بعضهم، وكذلك جعلوه مثبتاً في المسائل المجتهد فيها أو أثبتوا الحكم اقتضاء، وفي الرجوع عن الشهادة لم يفسخوا الحكم، وراجع الفتح ص (302) ، (12) ولكن في القياس على اللعان تردد لأن اللعان انتقل فيه إلى حكم آخر وهو التفريق من ولاية الحاكم بخلاف القضاء بشهادة الزور فإنه قضاء بعين ما شهدوا به وليس انتقالاً، ثم إن جعله حلالاً للمقضي عليه أبداً دون
المقضي له والمعاملة واحدة في الإشكال، وقال الطحاوي ص (227)، ج (2) : إن أحد الزوجين كاذب قطعاً ولا يمكن تعيين كذب أحدهما، فيحكم القاضي بحكم الثالث وهو التفريق، ثم قال الطحاوي: لا باطن للعقود والفسوخ بل الظاهر
فقط وليراجع إلى الطحاوي، أقول: ثبت محكي عنه للأملاك المرسلة، وأما العقود والفسوخ فليس لها محكي عنه حتى إن قال الشافعية: إن العقود والفسوخ إنشاءات محضة، وأما عندنا فإنها إخبارات وثبوت العقد فباقتضاء النص، ورأيت في الهداية في أول أبواب البيوع ما يومي إلى أنه اختار مذهب أصولي الشافعية، ثم رأيت أنه اختار بعض مشائخنا ثم رأيت في المبسوط من ص (180) صرح بكونه إنشاءً دفعاً للزنا كما صرحوا بمثله فيما إذا وطئ جارية ابنه، وادعى الولد، وهو في نكاح الرقيق من رد المحتار، وكذا فيما إذا اشترى المضارب أمة فولدت فادعاه يحمل على أنه تزوجها ثم اشتراها حبلى منه، وكون الفعل واحداً كما إذا أقر بالزنا وأنكره الأمة أخر لا حد فيه على المقر.
باب ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها
؟
[1204]
لا نفقة ولا سكنى عندنا، وتعتد في بيت العدة ولا تخرج منه إلا بعذر مبيح، ويجوز الخروج نهاراً للاكتساب، ويجوز لها الانتقال من بيت العدة بالمعاذير كما في الدر المختار، وأما المطلقة فلا يجوز لها الخروج للاكتساب لأن نفقتها على زوجها.
قوله: (للمرأة أن تعتد حيث شاءت إلخ) هذا مذهب علي وابن عباس والله أعلم.