الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ صَلَاةِ الْمَرِيضِ
(إذَا عَجَزَ الْمَرِيضُ عَنْ الْقِيَامِ صَلَّى قَاعِدًا يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ)«لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى الْجَنْبِ تُومِئُ إيمَاءً» ؛ وَلِأَنَّ الطَّاعَةَ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ.
قَالَ
(بَابُ صَلَاة الْمَرِيض)
ذَكَرَ صَلَاةَ الْمَرِيضِ عَقِبَ سُجُودِ السَّهْوِ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْعَوَارِضِ السَّمَاوِيَّةِ، وَالْأَوَّلُ أَعَمُّ مَوْقِعًا لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ صَلَاةَ الْمَرِيضِ وَالصَّحِيحِ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى بَيَانِهِ أَمَسَّ فَقَدَّمَهُ (إذَا عَجَزَ الْمَرِيضُ) بِأَنْ يُلْحِقَهُ بِالْقِيَامِ ضَرَرٌ صَلَّى قَاعِدًا يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى الْجَنْبِ تُومِئُ إيمَاءً» وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى بَعْضِ الْقِيَامِ وَلَوْ قَدْرَ آيَةٍ أَوْ تَكْبِيرَةٍ دُونَ تَمَامِهِ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ: يُؤْمَرُ بِأَنْ يَقُومَ مِقْدَارَ مَا يَقْدِرُ، فَإِذَا عَجَزَ قَعَدَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ خَشِيت أَنْ تَفْسُدَ صَلَاتُهُ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَلَا يُرْوَى عَنْ أَصْحَابِنَا خِلَافُهُ لِأَنَّ الطَّاعَةَ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ مُتَّكِئًا، قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُصَلِّي قَائِمًا مُتَّكِئًا، وَلَا يُجْزِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إذَا قَدَرَ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى عَصًا أَوْ كَانَ لَهُ خَادِمٌ لَوْ
(فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ أَوْمَأَ إيمَاءً) يَعْنِي قَاعِدًا؛ لِأَنَّهُ وُسْعُ مِثْلِهِ (وَجَعَلَ سُجُودَهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ)؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُمَا فَأَخَذَ حُكْمَهُمَا (وَلَا يَرْفَعُ إلَى وَجْهِهِ شَيْئًا يَسْجُدُ عَلَيْهِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إنْ قَدَرْتَ أَنْ تَسْجُدَ عَلَى الْأَرْضِ فَاسْجُدْ وَإِلَّا فَأَوْمِئْ بِرَأْسِكَ» فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ يَخْفِضُ رَأْسَهُ أَجْزَأَهُ؛ لِوُجُودِ الْإِيمَاءِ، فَإِنَّ وَضْعَ ذَلِكَ عَلَى جَبْهَتِهِ لَا يُجْزِئُهُ لِانْعِدَامِهِ
(فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الْقُعُودَ اسْتَلْقَى عَلَى ظَهْرِهِ وَجَعَلَ رِجْلَيْهِ إلَى الْقِبْلَةِ وَأَوْمَأَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «يُصَلِّي الْمَرِيضُ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى قَفَاهُ يُومِئُ إيمَاءً، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَاَللَّهُ تَعَالَى أَحَقُّ بِقَبُولِ الْعُذْرِ مِنْهُ» قَالَ (وَإِنْ اسْتَلْقَى عَلَى جَنْبِهِ وَوَجْهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ فَأَوْمَأَ جَازَ) لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ
اتَّكَأَ عَلَيْهِ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ.
(فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ أَوْمَأَ إيمَاءً) يَعْنِي قَاعِدًا لِأَنَّهُ وَسِعَ مِثْلَهُ (وَجَعَلَ سُجُودَهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ لِأَنَّهُ) أَيْ الْإِيمَاءَ (قَائِمٌ مَقَامَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ) فَأَخَذَ حُكْمَهُمَا (وَلَا يَرْفَعُ إلَى وَجْهِهِ شَيْئًا يَسْجُدُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إنْ قَدَرْت أَنْ تَسْجُدَ عَلَى الْأَرْضِ فَاسْجُدْ، وَإِلَّا فَأُومِ بِرَأْسِك» فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يَخْفِضَ رَأْسَهُ لِلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَوْ لَا، فَإِنْ خَفَضَ جَازَ لِوُجُودِ الْإِيمَاءِ، وَإِلَّا فَلَا لِعَدَمِهِ.
(فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الْقُعُودَ اسْتَلْقَى عَلَى ظَهْرِهِ وَجَعَلَ وِسَادَةً تَحْتَ رَأْسِهِ) حَتَّى يَكُونَ شِبْهَ الْقَاعِدِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْإِيمَاءِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إذْ حَقِيقَةُ الِاسْتِلْقَاءِ يَمْنَعُ الْأَصِحَّاءَ عَنْ الْإِيمَاءِ. فَكَيْفَ بِالْمَرْضَى لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «يُصَلِّي الْمَرِيضُ» الْحَدِيثَ.
وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «فَاَللَّهُ تَعَالَى أَحَقُّ بِقَبُولِ الْعُذْرِ مِنْهُ» فَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِسُقُوطِ الْقَضَاءِ عَنْهُ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِيمَاءِ قَالَ أَحَقُّ بِقَبُولِ عُذْرِ التَّأْخِيرِ دُونَ الْإِسْقَاطِ، وَمَنْ قَالَ بِسُقُوطِهِ عِنْدَ ذَلِكَ قَالَ أَحَقُّ بِقَبُولِ عُذْرِ الْإِسْقَاطِ وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَقَوْلُهُ (لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ) أَيْ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ
إلَّا أَنَّ الْأُولَى هِيَ الْأَوْلَى عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ إشَارَةَ الْمُسْتَلْقِي تَقَعُ إلَى هَوَاءِ الْكَعْبَةِ، وَإِشَارَةَ الْمُضْطَجِعِ عَلَى جَنْبِهِ إلَى جَانِبِ قَدَمَيْهِ، وَبِهِ تَتَأَدَّى الصَّلَاةُ.
(فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الْإِيمَاءَ بِرَأْسِهِ أُخِّرَتْ الصَّلَاةُ عَنْهُ، وَلَا يُومِئُ بِعَيْنِهِ وَلَا بِقَلْبِهِ وَلَا بِحَاجِبَيْهِ) خِلَافًا لِزُفَرَ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ، وَلِأَنَّ نَصْبَ الْإِبْدَالِ بِالرَّأْيِ مُمْتَنِعٌ، وَلَا قِيَاسَ عَلَى الرَّأْسِ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَدَّى بِهِ رُكْنُ الصَّلَاةِ دُونَ الْعَيْنِ وَأُخْتَيْهَا. وَقَوْلُهُ أُخِّرَتْ عَنْهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الصَّلَاةُ وَإِنْ كَانَ الْعَجْزُ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إذَا كَانَ مُفِيقًا هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ يُفْهِمُ مَضْمُونَ الْخِطَابِ بِخِلَافِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ.
إلَّا أَنَّ الْأُولَى) أَيْ الرِّوَايَةَ الْأُولَى أَوْ الْهَيْئَةَ أَوْ الْفِعْلَةَ الْأُولَى (هِيَ الْأَوْلَى عِنْدَنَا) لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَارَضَ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ وَحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَالْحَالَةُ حَالَةُ عُذْرٍ جَازَ الْعَمَلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، إلَّا أَنَّ مَا ذَكَرْنَا أَوْلَى (لِأَنَّ) الْمَعْقُولَ مَعَنَا، فَإِنَّ (إشَارَةَ الْمُسْتَلْقِي تَقَعُ إلَى هَوَاءِ الْكَعْبَةِ، وَإِشَارَةَ الْمُضْطَجِعِ عَلَى جَنْبِهِ إلَى جَانِبِ قَدَمَيْهِ وَبِهِ) أَيْ بِوُقُوعِ الْإِشَارَةِ إلَى هَوَاءِ الْكَعْبَةِ (تَتَأَدَّى الصَّلَاةُ).
فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْإِيمَاءِ بِرَأْسِهِ أُخِّرَتْ عَنْهُ وَقَوْلُهُ (لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ إشَارَةٌ) إلَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إنْ قَدَرْت أَنْ تَسْجُدَ عَلَى الْأَرْضِ فَاسْجُدْ، وَإِلَّا فَأُومِ بِرَأْسِك» اقْتَصَرَ عَلَى الرَّأْسِ فِي مَوْضِعِ الْبَيَانِ، وَلَوْ جَازَ غَيْرُهُ لَبَيَّنَهُ. وَقَوْلُهُ (وَلَا قِيَاسَ عَلَى الرَّأْسِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ نَصْبِ الْأَبْدَانِ بِالرَّأْيِ بَلْ بِالْقِيَاسِ عَلَى الرَّأْسِ. وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهُ الصَّلَاةُ إذَا كَانَ الْعَجْزُ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ
قَالَ (وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقِيَامُ وَيُصَلِّي قَاعِدًا يُومِئُ إيمَاءً)؛ لِأَنَّ رُكْنِيَّةَ الْقِيَامِ لِلتَّوَسُّلِ بِهِ إلَى السَّجْدَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ نِهَايَةِ التَّعْظِيمِ، فَإِذَا كَانَ لَا يَتَعَقَّبُهُ السُّجُودُ لَا يَكُونُ رُكْنًا فَيَتَخَيَّرُ، وَالْأَفْضَلُ هُوَ الْإِيمَاءُ قَاعِدًا؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالسُّجُودِ.
(وَإِنْ صَلَّى الصَّحِيحُ بَعْضَ صَلَاتِهِ قَائِمًا ثُمَّ حَدَثَ بِهِ مَرَضٌ يُتِمُّهَا قَاعِدًا يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ أَوْ يُومِئُ إنْ لَمْ يَقْدِرْ أَوْ مُسْتَلْقِيًا إنْ لَمْ يَقْدِرْ)؛ لِأَنَّهُ بِنَاءُ الْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى فَصَارَ كَالِاقْتِدَاءِ.
(وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ لِمَرَضٍ ثُمَّ صَحَّ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ قَائِمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: اسْتَقْبَلَ) بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الِاقْتِدَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ (وَإِنْ صَلَّى بَعْضَ صَلَاتِهِ بِإِيمَاءٍ ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الرُّكُوعِ
وَقَاضِي خَانْ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْلِ لَا يَكْفِي لِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ.
قَالَ (وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ) قَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: إذَا قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ دُونَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْقِيَامُ لِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ فَلَا يَسْقُطُ بِالْعَجْزِ عَنْ إدْرَاكِ رُكْنٍ آخَرَ. وَلَنَا أَنَّ رُكْنِيَّةَ الْقِيَامِ لِلتَّوَسُّلِ بِهِ إلَى السَّجْدَةِ فَإِنَّهُ بِدُونِهَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ عِبَادَةً، بِخِلَافِ الْعَكْسِ فَإِذَا كَانَ لَا يَتَعَقَّبُهُ السُّجُودُ لَا يَكُونُ رُكْنًا فَيَتَخَيَّرُ (وَالْأَفْضَلُ هُوَ الْإِيمَاءُ قَاعِدًا؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالسُّجُودِ) فَإِنَّ عِنْدَ الْإِيمَاءِ قَاعِدًا يَصِيرُ رَأْسُهُ أَقْرَبَ إلَى الْأَرْضِ مِنْ الْإِيمَاءِ قَائِمًا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا تَعْلِيلٌ عَلَى مُخَالَفَةِ النَّصِّ لِأَنَّ حَدِيثَ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْقُعُودِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْقِيَامِ وَالْمَفْرُوضُ خِلَافُهُ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ حَالَةَ الْقِيَامِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْإِيمَاءَ فِي حَالِ مَا يُصَلِّي عَلَى الْجَنْبِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِحَالَةِ الْقِيَامِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْأَرْكَانِ.
قَوْلُهُ (وَإِنْ صَلَّى بَعْضَ صَلَاتِهِ قَائِمًا) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الِاقْتِدَاءِ) يَعْنِي أَنَّ كُلَّ فَصْلٍ جُوِّزَ الِاقْتِدَاءُ فِيهِ جُوِّزَ
وَالسُّجُودِ اسْتَأْنَفَ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا)؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الرَّاكِعِ بِالْمُومِئِ، فَكَذَا الْبِنَاءُ
(وَمَنْ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ قَائِمًا ثُمَّ أَعْيَا لَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَوَكَّأَ عَلَى عَصًا أَوْ حَائِطٍ أَوْ يَقْعُدَ)؛ لِأَنَّ هَذَا عُذْرٌ، وَإِنْ كَانَ الِاتِّكَاءُ بِغَيْرِ عُذْرٍ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ إسَاءَةٌ فِي الْأَدَبِ. وَقِيلَ لَا يُكْرَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَعَدَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ يَجُوزُ، فَكَذَا لَا يُكْرَهُ الِاتِّكَاءُ. وَعِنْدَهُمَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقُعُودُ عِنْدَهُمَا فَيُكْرَهُ الِاتِّكَاءُ (وَإِنْ قَعَدَ بِغَيْرِ عُذْرٍ يُكْرَهُ بِالِاتِّفَاقِ) وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ عِنْدَهُ وَلَا تَجُوزُ عِنْدَهُمَا، وَقَدْ مَرَّ فِي بَابِ النَّوَافِلِ
بِنَاءُ آخِرِ الصَّلَاةِ عَلَى أَوَّلِهَا هَاهُنَا وَمَا لَا فَلَا. ثُمَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ: لَا يَقْتَدِي الْقَائِمُ بِالْقَاعِدِ فَكَذَا لَا يَبْنِي فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَعِنْدَهُمَا الْقَائِمُ يَقْتَدِي بِالْقَاعِدِ فَكَذَا يَبْنِي فِي حَقِّ نَفْسِهِ.
وَنُوقِضَ بِمَا إذَا افْتَتَحَ الصَّحِيحُ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا وَأَدَّى بَعْضَ صَلَاتِهِ قَاعِدًا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَقُومَ فَقَامَ وَصَلَّى الْبَاقِيَ قَائِمًا أَجْزَأَهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَذَا الْأَصْلُ الْمَذْكُورُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ تَحْرِيمَةَ الْمَرِيضِ لَمْ تَنْعَقِدْ لِلْقِيَامِ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَقْتَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَبْنِ عَلَى مَا انْعَقَدَتْ لَهُ تَحْرِيمَتُهُ، وَأَمَّا تَحْرِيمَةُ الْمُتَطَوِّعِ فَقَدْ انْعَقَدَتْ لِلْقِيَامِ أَيْضًا لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ عِنْدَهُ فَجَازَ بِنَاؤُهُ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِمَا مُتَنَاوِلِي تَحْرِيمَتِهِ وَقَوْلُهُ (اسْتَأْنَفَ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا) يَعْنِي الْعُلَمَاءَ الثَّلَاثَةَ فَإِنَّ لِزُفَرَ فِيهِ خِلَافًا عَلَى مَا مَرَّ مِنْ أَصْلِهِ جَوَازُ اقْتِدَاءِ الرَّاكِعِ بِالْمُومِئِ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ قَائِمًا ثُمَّ أَعْيَا) أَيْ تَعِبَ (لَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَوَكَّأَ) أَيْ يَتَّكِئَ: يَعْنِي أَنَّ مَنْ شَرَعَ فِي النَّفْلِ ثُمَّ اتَّكَأَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ كَالْإِعْيَاءِ لَا بَأْسَ بِهِ (وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ) فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، فَقِيلَ (يُكْرَهُ لِأَنَّهُ إسَاءَةٌ فِي الْأَدَبِ) أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُخَيَّرْ الْمُتَطَوِّعُ فِي الِابْتِدَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِيَامِ كَمَا خُيِّرَ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ (وَقِيلَ لَا يُكْرَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَوْ قَعَدَ جَازَ عِنْدَهُ) وَيُكْرَهُ مَعَ كَوْنِ الْقُعُودِ مُنَافِيًا لِلْقِيَامِ، فَالِاتِّكَاءُ الَّذِي لَا يُنَافِيهِ يَجُوزُ وَلَا يُكْرَهُ (وَيُكْرَهُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ الْقُعُودَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا) فَيَكُونُ الِاتِّكَاءُ الَّذِي هُوَ فَوْقَهُ جَائِزًا مَكْرُوهًا. وَقَوْلُهُ (وَإِنْ قَعَدَ) بَعْدَمَا افْتَتَحَ قَائِمًا (بِغَيْرِ عُذْرٍ يُكْرَهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا تَجُوزُ) وَفِي كَلَامِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّ مَا لَا يَجُوزُ لَا يُوصَفُ بِالْكَرَاهَةِ وَقَدْ قَالَ يُكْرَهُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَأَجَابَ الْإِمَامُ حُمَيْدُ الدِّينِ الضَّرِيرُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ صَلَّى رَكْعَةً قَائِمًا ثُمَّ قَعَدَ فِي الثَّانِيَةِ لِيَقْرَأَ لِإِعْيَائِهِ ثُمَّ قَامَ وَأَتَمَّ
(وَمَنْ صَلَّى فِي السَّفِينَةِ قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ أَجْزَأَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَالْقِيَامُ أَفْضَلُ. وَقَالَا: لَا يُجْزِئُهُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ)؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ فَلَا يُتْرَكُ إلَّا لِعِلَّةٍ. وَلَهُ أَنَّ الْغَالِبَ فِيهَا دَوَرَانُ الرَّأْسِ وَهُوَ كَالْمُتَحَقِّقِ، إلَّا أَنَّ الْقِيَامَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ شُبْهَةِ الْخِلَافِ، وَالْخُرُوجُ أَفْضَلُ إنْ أَمْكَنَهُ؛ لِأَنَّهُ أَسْكَنُ لِقَلْبِهِ، وَالْخِلَافُ فِي غَيْرِ الْمَرْبُوطَةِ وَالْمَرْبُوطَةُ كَالشَّطِّ هُوَ الصَّحِيحُ.
الثَّانِيَةَ قَائِمًا فَإِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ جَائِزَةٌ مَعَ صِفَةِ الْكَرَاهَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قُعُودَهُ إذَا كَانَ لِإِعْيَائِهِ فَذَلِكَ قُعُودٌ بِعُذْرٍ، وَالْكَلَامُ لَيْصَ فِيهِ بَلْ يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مَكْرُوهًا، وَكَذَا إنْ تَرَكَ ذِكْرَ الْإِعْيَاءِ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا كَمَا قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَثْبُتَ بِالنَّقْلِ أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ بِالِاتِّفَاقِ، لَا يَجُوزُ بِإِطْلَاقِهِ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ فَهُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ بِالِاتِّفَاقِ يُخَالِفُ قَوْلَهُ قُبَيْلَ هَذَا لَوْ قَعَدَ يَجُوزُ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرِ كَرَاهَةٍ، وَكَذَا يُخَالِفُ إطْلَاقَ مَا ذُكِرَ فِي بَابِ النَّوَافِلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ذَكَرَ فِي مَبْسُوطِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَجَامِعِ أَبِي الْمُعِينِ أَنَّهُ لَوْ قَعَدَ فِي النَّفْلِ لَا يُكْرَهُ عِنْدَهُ فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَشْرُوعٌ بِلَا كَرَاهَةٍ، فَالْبَقَاءُ أَوْلَى لِأَنَّ حُكْمَ الْبَقَاءِ أَسْهَلُ مِنْ حُكْمِ الِابْتِدَاءِ. فَقَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ثَمَّةَ غَيْرَ صَحِيحٍ، فَالْإِطْلَاقُ هَاهُنَا وَفِي بَابِ النَّوَافِلِ يَكُونُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَوْلُهُ وَيُكْرَهُ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى غَيْرِ الصَّحِيحِ، وَلَعَلَّ قَوْلَهُ بِالِاتِّفَاقِ وَقَعَ سَهْوًا مِنْ الْكَاتِبِ.
قَالَ (وَمَنْ صَلَّى فِي السَّفِينَةِ قَاعِدًا) الْمُصَلِّي فِي السَّفِينَةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنْ الْقِيَامِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ: فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ السَّفِينَةُ رَأْسِيَّةً أَوْ سَائِرَةً، فَإِنْ كَانَتْ رَأْسِيَّةً لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ قَاعِدًا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَتْ سَائِرَةً جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (وَالْقِيَامُ أَفْضَلُ، وَقَالَا: لَا يَجُوزُ) وَهُوَ الْقِيَاسُ (لِأَنَّ الْقِيَامَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ) وَالْمَقْدُورُ عَلَيْهِ لَا يُتْرَكُ (وَلَهُ) وَهُوَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ (أَنَّ الْغَالِبَ) مِنْ حَالِ رَاكِبِ السَّفِينَةِ (دَوَرَانُ الرَّأْسِ) عِنْدَ الْقِيَامِ وَالْغَالِبِ كَالْمُتَحَقِّقِ، أَلَا تَرَى أَنَّ نَوْمَ الْمُضْطَجِعِ جُعِلَ حَدَثًا لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِهِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ لِزَوَالِ الِاسْتِمْسَاكِ (إلَّا أَنَّ الْقِيَامَ أَفْضَلُ لِبُعْدِهِ عَنْ شُبْهَةِ الْخِلَافِ) وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَى الْقِبْلَةِ كَيْفَمَا دَارَتْ السَّفِينَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ عِنْدَ الِافْتِتَاحِ أَوْ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ التَّوَجُّهَ فَرْضٌ عِنْدَ الْقُدْرَةِ. وَهَذَا قَادِرٌ وَالْخُرُوجُ أَفْضَلُ إنْ أَمْكَنَهُ لِأَنَّهُ أَسْكَنُ لِقَلْبِهِ، وَالْخِلَافُ فِي غَيْرِ الْمَرْبُوطَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا آنِفًا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ رَأْسِيَّةً لَمْ يُجْزِهِ الْقُعُودُ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (وَالْمَرْبُوطَةُ كَالشَّطِّ) وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ فَإِنَّهُ أَيْضًا عَلَى الْخِلَافِ،
(وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ أَوْ دُونَهَا قَضَى، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَقْضِ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إذَا اسْتَوْعَبَ الْإِغْمَاءُ وَقْتَ صَلَاةٍ كَامِلًا لِتَحَقُّقِ الْعَجْزِ فَأَشْبَهَ الْجُنُونَ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُدَّةَ إذَا طَالَتْ كَثُرَتْ الْفَوَائِتُ فَيَتَحَرَّجُ فِي الْأَدَاءِ، وَإِذَا قَصُرَتْ قَلَّتْ فَلَا حَرَجَ، وَالْكَثِيرُ أَنْ تَزِيدَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ، وَالْجُنُونُ كَالْإِغْمَاءِ: كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ رحمه الله، بِخِلَافِ النَّوْمِ؛ لِأَنَّ امْتِدَادَهُ نَادِرٌ فَيَلْحَقُ بِالْقَاصِرِ، ثُمَّ الزِّيَادَةُ تُعْتَبَرُ. مِنْ حَيْثُ الْأَوْقَاتُ
وَالْمَوْثُوقَةُ بِاللَّنْجَرِ: أَيْ الْمِرْسَاةُ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ وَهِيَ تَضْطَرِبُ، قِيلَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الرِّيحَ إنْ كَانَتْ تُحَرِّكُهَا تَحْرِيكًا شَدِيدًا فَهِيَ كَالسَّائِرَةِ وَإِلَّا فَهِيَ كَالرَّاسِيَةِ.
(وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ أَوْ دُونَهَا قَضَى، وَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَقْضِ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إذَا اسْتَوْعَبَ الْإِغْمَاءُ وَقْتَ صَلَاةٍ كَامِلَةٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِتَحَقُّقِ الْعَجْزِ فَأَشْبَهَ الْجُنُونَ (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ) مَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ فَقَضَاهُنَّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَمْ يَقْضِ شَيْئًا، وَالْفِقْهُ فِيهِ (أَنَّ الْمُدَّةَ إذَا طَالَتْ كَثُرَتْ الْفَوَائِتُ فَيَتَحَرَّجُ فِي الْأَدَاءِ، وَإِذَا قَصُرَتْ قُلْت فَلَا حَرَجَ، وَالْكَثِيرُ أَنْ تَزِيدَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ) وَقَوْلُهُ (وَالْجُنُونُ كَالْإِغْمَاءِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ الْإِغْمَاءِ عَلَى الْجُنُونِ عَلَى زَعْمِ أَنَّ الْجُنُونَ إذَا اسْتَغْرَقَ وَقْتًا كَامِلًا أَسْقَطَ الْقَضَاءَ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْجُنُونَ كَالْإِغْمَاءِ إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ سَقَطَ الْقَضَاءُ وَإِلَّا فَلَا (كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ) وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ النَّوْمِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَقْضِ: يَعْنِي أَنَّ النَّوْمَ وَإِنْ زَادَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَا يَسْقُطُ الْقَضَاءُ (لِأَنَّ امْتِدَادَهُ) إلَى هَذَا الْحَدِّ (نَادِرٌ) لَا عِبْرَةَ بِهِ (فَالْحَقُّ) الْمُمْتَدُّ مِنْهُ (بِالْقَاصِرِ) وَقَوْلُهُ (ثُمَّ الزِّيَادَةُ تُعْتَبَرُ مِنْ حَيْثُ الْأَوْقَاتُ) قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: الزِّيَادَةُ
عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله؛ لِأَنَّ التَّكْرَارَ يَتَحَقَّقُ بِهِ، وَعِنْدَهُمَا مِنْ حَيْثُ السَّاعَاتُ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم.
تُعْتَبَرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مِنْ حَيْثُ السَّاعَاتُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُعْتَبَرُ مِنْ حَيْثُ الصَّلَوَاتُ مَا لَمْ تَصِرْ الْفَوَائِتُ سِتًّا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْقَضَاءُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيْثُ السَّاعَاتُ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ عِنْدَ الصَّحْوَةِ ثُمَّ أَفَاقَ مِنْ الْغَدِ قَبْلَ الزَّوَالِ بِسَاعَةٍ فَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنْ حَيْثُ السَّاعَاتُ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِأَنَّ الصَّلَوَاتِ لَمْ تَزِدْ عَلَى خَمْسٍ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ مِنْ كَوْنِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَمَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ (لِمُحَمَّدٍ أَنَّ التَّكْرَارَ يَتَحَقَّقُ بِهِ) أَيْ بِفَوَاتِ سِتِّ صَلَوَاتٍ وَهُوَ الْمُفْضِي إلَى الْحَرَجِ الْمُسْقِطِ لِلْقَضَاءِ فَيَكُونُ الِاعْتِبَارُ بِهِ. وَقَوْلُهُ (هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ) أَيْ الِاعْتِبَارُ مِنْ حَيْثُ السَّاعَاتُ هُوَ الْمَأْثُورُ.
بَابُ سُجُودِ التِّلَاوَةِ
قَالَ (سُجُودُ التِّلَاوَةِ فِي الْقُرْآنِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَجْدَةً: فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ، وَفِي الرَّعْدِ وَالنَّحْلِ، وَبَنِي إسْرَائِيلَ، وَمَرْيَمَ وَالْأُولَى فِي الْحَجِّ، وَالْفُرْقَانِ وَالنَّمْلِ، والم تَنْزِيل وَص، وَحُمَّ السَّجْدَةِ، وَالنَّجْمِ وَإِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ
بَابُ سُجُودِ التِّلَاوَةِ)
كَانَ مِنْ حَقِّ هَذَا الْبَابِ أَنْ يَقْتَرِنَ بِسُجُودِ السَّهْوِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَجْدَةٌ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ صَلَاةُ الْمَرِيضِ بِعَارِضٍ سَمَاوِيٍّ كَالسَّهْوِ أَلْحَقَتْهَا الْمُنَاسَبَةُ بِهَا فَتَأَخَّرَ سُجُودُ التِّلَاوَةِ ضَرُورَةً، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى سَبَبِهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ سُجُودُ التِّلَاوَةِ وَالسَّمَاعِ لِأَنَّ السَّمَاعَ سَبَبٌ كَالتِّلَاوَةِ. أُجِيبَ بِأَنَّ التِّلَاوَةَ لَمَّا كَانَتْ سَبَبًا لِلسَّمَاعِ أَيْضًا كَانَ ذِكْرُهَا مُشْتَمِلًا عَلَى السَّمَاعِ مِنْ وَجْهٍ فَاكْتُفِيَ بِهِ، وَشَرْطُهَا الطَّهَارَةُ مِنْ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَرُكْنُهَا وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَصِفَتُهَا الْوُجُوبُ عِنْدَنَا، وَمَوَاضِعُهَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ: فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ، وَالرَّعْدِ، وَالنَّحْلِ، وَبَنِي إسْرَائِيلَ، وَمَرْيَمَ، وَالْأُولَى فِي الْحَجِّ، وَالْفُرْقَانِ، وَالنَّمْلِ وَالَمْ تَنْزِيلُ، وَصِّ، وَحُمَّ السَّجْدَةُ، وَالنَّجْمُ، وَالِانْشِقَاقُ، وَالْعَلَقُ. هَكَذَا كُتِبَ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ رضي الله عنه وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَالشَّافِعِيُّ يُوَافِقُنَا فِي الْعَدَدِ إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: فِي الْحَجِّ سَجْدَتَانِ وَلَيْسَ فِي ص سَجْدَةٌ. وَمَوْضِعُ السَّجْدَةِ فِي حم السَّجْدَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وَالْمُصَنِّفُ احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ وَالسَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْحَجِّ فِي الصَّلَاةِ
وَاقْرَأْ. كَذَا كُتِبَ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ رضي الله عنه وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَالسَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْحَجِّ لِلصَّلَاةِ عِنْدَنَا، وَمَوْضِعُ السَّجْدَةِ فِي حم السَّجْدَةُ عِنْدَ قَوْلِهِ {لا يَسْأَمُونَ} فِي قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَهُوَ الْمَأْخُوذُ لِلِاحْتِيَاطِ
عِنْدَنَا وَبِقَوْلِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} وَيَذْكُرُ ص عَنْ مَذْهَبِهِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رحمه الله عَلَى أَنَّ فِي الْحَجِّ سَجْدَتَيْنِ بِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «فُضِّلَتْ الْحَجُّ بِسَجْدَتَيْنِ مَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا لَمْ يَقْرَأْهُمَا» وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ قَالَا: سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ فِي الْحَجِّ هِيَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ سَجْدَةُ الصَّلَاةِ، وَيُعَضِّدُهُ قِرَانُهَا بِالرُّكُوعِ فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «فُضِّلَتْ بِسَجْدَتَيْنِ إحْدَاهُمَا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَالثَّانِيَةُ سَجْدَةُ الصَّلَاةِ» وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ السَّجْدَةَ فِي ص سَجْدَةُ شُكْرٍ بِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم تَلَا فِي خُطْبَتِهِ سُورَةَ ص فَتَشَزَّنَ النَّاسُ: أَيْ تَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ، فَقَالَ: عَلَامَ تَشَزَّنْتُمْ إنَّهَا تَوْبَةُ نَبِيٍّ» وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم «سَجَدَهَا دَاوُد تَوْبَةً وَنَحْنُ نَسْجُدُهَا شُكْرًا» قُلْنَا هَذَا لَا يَنْفِي كَوْنَهَا سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ، إذْ مَا مِنْ عِبَادَةٍ يَأْتِي بِهَا الْعَبْدُ إلَّا وَفِيهَا مَعْنَى الشُّكْرِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَجَدَهَا فِي خُطْبَتِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ حَيْثُ قَطَعَ الْخُطْبَةَ لَهَا، وَلَئِنْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ فِي خُطْبَتِهِ فَذَلِكَ كَانَ تَعْلِيمًا لِجَوَازِ تَأْخِيرِهَا.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ «رَجُلًا مِنْ الصَّحَابَةِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْت فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّي أَكْتُبُ سُورَةَ ص، فَلَمَّا انْتَهَيْت إلَى مَوْضِعِ السَّجْدَةِ سَجَدَ الدَّوَاةُ وَالْقَلَمُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: نَحْنُ أَحَقُّ بِهَا مِنْ الدَّوَاةِ وَالْقَلَمِ، فَأَمَرَ حَتَّى تُلِيَتْ فِي مَجْلِسِهِ وَسَجَدَهَا مَعَ أَصْحَابِهِ» وَقَوْلُهُ (هُوَ الْمَأْخُوذُ لِلِاحْتِيَاطِ) لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ عِنْدَ الْآيَةِ
وَالسَّجْدَةُ وَاجِبَةٌ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَلَى التَّالِي وَالسَّامِعِ) سَوَاءٌ قَصَدَ سَمَاعَ الْقُرْآنِ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا وَعَلَى مَنْ تَلَاهَا»
الثَّانِيَةُ لَمْ يَجُزْ تَعْجِيلُهَا، وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَ الْأُولَى جَازَ تَأْخِيرُهَا إلَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ فَكَانَ فِيمَا قُلْنَا خُرُوجٌ عَنْ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ. قَالَ (وَالسَّجْدَةُ وَاجِبَةٌ) هَذَا بَيَانُ صِفَتِهَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ السَّجْدَةَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ سُنَّةٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ «زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَسْجُدْ لَهَا وَلَا سَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَهَا» فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً.
وَقُلْنَا: هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى التَّالِي وَالسَّامِعِ، قَصَدَ سَمَاعَ الْقُرْآنِ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِهَذَا لِأَنَّ فِي بَعْضِ لَفْظِ الْآثَارِ السَّجْدَةَ عَلَى مَنْ جَلَسَ لَهَا، وَفِيهِ إيهَامٌ أَنَّ مَنْ لَمْ يَجْلِسْ لَهَا فَلَيْسَتْ عَلَيْهِ سَجْدَةٌ فَقَيَّدَ بِذَلِكَ دَفْعًا لِذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا وَعَلَى مَنْ تَلَاهَا» وَ " عَلَى " كَلِمَةُ
وَهِيَ كَلِمَةُ إيجَابٍ وَهُوَ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِالْقَصْدِ (وَإِذَا تَلَا الْإِمَامُ آيَةَ السَّجْدَةِ سَجَدَهَا وَسَجَدَهَا الْمَأْمُومُ مَعَهُ) لِالْتِزَامِهِ مُتَابَعَتَهُ (وَإِذَا تَلَا الْمَأْمُومُ لَمْ يَسْجُدْ الْإِمَامُ وَلَا الْمَأْمُومُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا بَعْدَ الْفَرَاغِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَسْجُدُونَهَا إذَا فَرَغُوا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَقَرَّرَ، وَلَا مَانِعَ بِخِلَافِ حَالَةِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى خِلَافِ وَضْعِ الْإِمَامَةِ
إيجَابٍ (وَهُوَ) أَيْ الْحَدِيثُ (غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِالْقَصْدِ) وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمَا أُدِّيَتْ فِي سُجُودِ الصَّلَاةِ وَرُكُوعِهَا وَلَمَا تَدَاخَلَتْ وَلَمَا أُدِّيَتْ بِالْإِيمَاءِ مِنْ رَاكِبٍ يَقْدِرُ عَلَى النُّزُولِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ أَدَاءَهَا فِي ضِمْنِ شَيْءٍ لَا يُنَافِي وُجُوبَهَا فِي نَفْسِهَا كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ يَتَأَدَّى بِالسَّعْيِ إلَى التِّجَارَةِ، وَإِنَّمَا جَازَ التَّدَاخُلُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا إظْهَارُ الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَجَوَازُ أَدَائِهَا بِالْإِيمَاءِ حِينَ قَرَأَهَا رَاكِبًا لِأَنَّهُ أَدَّاهَا كَمَا وَجَبَتْ، فَإِنَّ تِلَاوَتَهُ عَلَى الدَّابَّةِ مَشْرُوعَةٌ فِيمَا تَجِبُ بِهِ السَّجْدَةُ فَكَانَ كَالشُّرُوعِ عَلَى الدَّابَّةِ فِي التَّطَوُّعِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ زَيْدٍ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِهِ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْجُدْ تِلْكَ السَّجْدَةَ حَتَّى خَرَجَ مِنْ الدُّنْيَا فَإِذَا لَمْ نَقُلْ بِوُجُوبِهَا عَلَى الْفَوْرِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَجَدَهَا فِي وَقْتٍ آخَرَ. وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ قَالَ: جُعِلَ هَذَا اللَّفْظُ: يَعْنِي قَوْلَهُ «السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا» الْحَدِيثَ فِي سَائِرِ النُّسَخِ مِنْ الْمَبْسُوطِينَ وَالْأَسْرَارِ وَالْمُحِيطِ وَشَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مِنْ أَلْفَاظِ الصَّحَابَةِ لَا مِنْ الْحَدِيثِ. وَأَقُولُ: لَمْ يَكُنْ الْمُصَنِّفُ مِمَّنْ لَمْ يُطَالِعْ الْكُتُبَ الْمَذْكُورَةَ، فَلَوْلَا أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْده كَوْنُهُ حَدِيثًا لَمَا نَقَلَهُ حَدِيثًا، فَإِنَّهُ رحمه الله أَعْظَمُ دِيَانَةً مِنْ أَنْ يُتَوَهَّمَ بِهِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ (وَإِذَا تَلَا الْإِمَامُ السَّجْدَةَ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَقَرَّرَ وَلَا مَانِعَ) وَكُلُّ مَا تَقَرَّرَ مُقْتَضِيهِ وَانْتَفَى مَانِعُهُ تَحَقَّقَ لَا مَحَالَةَ (بِخِلَافِ حَالَةِ الصَّلَاةِ) فَإِنَّ الْمَانِعَ مَوْجُودٌ (لَأَنْ يُؤَدِّيَ إلَى خِلَافِ مَوْضِعِ الْإِمَامَةِ) إنْ سَجَدَ التَّالِي أَوَّلًا وَتَابَعَهُ الْإِمَامُ
أَوْ التِّلَاوَةِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْمُقْتَدِيَ مَحْجُورٌ عَنْ الْقِرَاءَةِ لِنَفَاذِ تَصَرُّفِ الْإِمَامِ عَلَيْهِ، وَتَصَرُّفُ الْمَحْجُورِ لَا حُكْمَ لَهُ، بِخِلَافِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ؛ لِأَنَّهُمَا عَنْ الْقِرَاءَةِ مَنْهِيَّانِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ
لِانْقِلَابِ الْمَتْبُوعِ تَابِعًا وَالتَّابِعِ مَتْبُوعًا (أَوْ التِّلَاوَةِ) إنْ سَجَدَ الْإِمَامُ أَوَّلًا وَتَابَعَهُ التَّالِي فَإِنَّ التَّالِيَ إمَامُ السَّامِعِ فَيَجِبُ أَنْ يَتَقَدَّمَ سُجُودُ التَّالِي. قَالَ صلى الله عليه وسلم «لِلتَّالِي: كُنْت إمَامَنَا لَوْ سَجَدْت لَسَجَدْنَا» فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ لَيْسَتْ بِقِسْمَةٍ حَاضِرَةٍ لِجَوَازِ أَنْ يَسْجُدَ التَّالِي دُونَ الْإِمَامِ أَوْ بِالْعَكْسِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةً لِلْإِمَامِ وَهِيَ مَفْسَدَةً فَلَمْ يَذْكُرْهَا لِكَوْنِ ذَلِكَ مَفْرُوغًا عَنْهُ فِي عَدَمِ الْجَوَازِ (وَلَهُمَا أَنَّ الْمُقْتَدِيَ مَحْجُورٌ عَنْ الْقِرَاءَةِ) لِأَنَّ الْمَحْجُورَ هُوَ الْمَمْنُوعُ عَنْ التَّصَرُّفِ عَلَى وَجْهٍ يَظْهَرُ نَفَاذُ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةٍ غَيْرِهِ وَالْمُقْتَدِي بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ الْقِرَاءَةِ وَالْقِرَاءَةُ تَنْفُذُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ إمَامِهِ. قَالَ عليه الصلاة والسلام: «مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» وَكُلُّ مَنْ هُوَ مَحْجُورٌ لَا حُكْمٌ لِتَصَرُّفِهِ، وَوُجُوبِ السَّجْدَةِ حُكْمُ تَصَرُّفِهِ الَّذِي هُوَ الْقِرَاءَةُ فَلَا يَثْبُتُ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْمُقْتَدِي فِي كَوْنِهِ مَمْنُوعًا عَنْ الْقِرَاءَةِ لِحَائِضٍ وَالْجُنُبِ، وَالسَّجْدَةُ تَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا، فَكَذَا عَلَى مَنْ سَمِعَ الْمُقْتَدِيَ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُمَا مَنْهِيَّانِ عَنْ الْقِرَاءَةِ، وَالتَّصَرُّفَاتُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا تَنْعَقِدُ لِحُكْمِهَا لِمَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْأَفْعَالِ الشَّرْعِيَّةِ لَا بِعَدَمِ الْمَشْرُوعِيَّةِ، فَإِنْ اخْتَلَجَ فِي ذِهْنِك أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِعْلٌ حِسِّيٍّ فَالنَّهْيُ عَنْهُ بِعَدَمِ الْمَشْرُوعِيَّةِ فَعَلَيْك بِتَقْرِيرِنَا تَجِدْ مَا لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَتْ عَلَى الْحَائِضِ بِتِلَاوَتِهَا وَسَمَاعِهَا لَكِنَّهَا لَا تَجِبُ، أَجَابَ بِمَا مَعْنَاهُ: إنَّمَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهَا لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّجْدَةَ
بِتِلَاوَتِهَا كَمَا لَا يَجِبُ بِسَمَاعِهَا؛ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ الْجُنُبِ.
(وَلَوْ سَمِعَهَا رَجُلٌ خَارِجَ الصَّلَاةِ سَجَدَهَا) هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ ثَبَتَ فِي حَقِّهِمْ فَلَا يَعْدُوهُمْ
(وَإِنْ سَمِعُوا وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ سَجْدَةً مِنْ رَجُلٍ لَيْسَ مَعَهُمْ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَسْجُدُوهَا فِي الصَّلَاةِ)؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاتِيَّةٍ؛ لِأَنَّ سَمَاعَهُمْ هَذِهِ السَّجْدَةَ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ (وَسَجَدُوهَا بَعْدَهَا) لِتَحَقُّقِ سَبَبِهَا (وَلَوْ سَجَدُوهَا فِي الصَّلَاةِ لَمْ يُجْزِهِمْ)؛ لِأَنَّهُ نَاقِصٌ لِمَكَانِ النَّهْيِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْكَامِلُ. قَالَ (وَأَعَادُوهَا) لِتَقَرُّرِ سَبَبِهَا (وَلَمْ يُعِيدُوا الصَّلَاةَ)؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ السَّجْدَةِ لَا يُنَافِي إحْرَامَ الصَّلَاةِ. وَفِي النَّوَادِرِ أَنَّهَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُمْ زَادُوا فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا،
رُكْنٌ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْحَائِضُ لَا يَلْزَمُهَا الصَّلَاةُ مَعَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ فَلَا تَلْزَمُهَا السَّجْدَةُ أَيْضًا بِخِلَافِ الْجُنُبِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَلْزَمُهُ وَكَذَلِكَ السَّجْدَةُ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ سَمِعَهَا رَجُلٌ خَارِجَ الصَّلَاةِ سَجَدَهَا) يَعْنِي بِالِاتِّفَاقِ. وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ لَا يَسْجُدُهَا عِنْدَهُمَا وَيَسْجُدُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ. وَجْهُ الصَّحِيحِ مَا ذُكِرَ أَنَّ الْحَجْرَ ثَبَتَ فِي حَقِّهِمْ لِأَنَّ عِلَّةَ الْحَجْرِ هِيَ الِاقْتِدَاءُ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِهَا فَلَا يَعْدُوهَا. وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَحْجُورًا أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ يَسْتَلْزِمُ شُمُولَ الْعَدَمِ، وَالثَّانِي شُمُولَ الْوُجُوبِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَحْجُورٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ وُجِدَ فِي حَقِّهِ عِلَّةُ الْحَجْرِ، وَغَيْرُ مَحْجُورٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ لَمْ يُوجَدْ وَهُوَ الْخَارِجُ.
(وَإِنْ سَمِعُوا وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ مِنْ رَجُلٍ لَيْسَ مَعَهُمْ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَسْجُدُوهَا فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاتِيَّةٍ، لِأَنَّ سَمَاعَهُمْ هَذِهِ السَّجْدَةَ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ) لِأَنَّ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ إمَّا أَنْ تَكُونَ فَرْضًا أَوْ وَاجِبًا أَوْ سُنَّةً، وَهَذَا السَّمَاعُ لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ فِيهَا، لَكِنَّهُمْ يَسْجُدُونَهَا بَعْدَهَا لِتَحَقُّقِ سَبَبِهَا وَهُوَ السَّمَاعُ مِمَّنْ لَيْسَ بِمَحْجُورٍ (وَلَوْ سَجَدُوهَا فِي الصَّلَاةِ لَمْ تُجْزِهِمْ) وَلَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُمْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، أَمَّا عَدَمُ الْجَوَازِ فَلِأَنَّهُ: أَيْ هَذَا السُّجُودَ نَاقِصٌ لِمَكَانِ النَّهْيِ وَهُوَ مَنْعُ الشَّرْعِ عَنْ إدْخَالِ مَا لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فِيهَا فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْكَامِلُ وَهِيَ السَّجْدَةُ الْوَاجِبَةُ بِالسَّمَاعِ مِمَّنْ لَيْسَ بِمَحْجُورٍ، فَإِنَّ مَا وَجَبَ كَامِلًا لَا يَتَأَدَّى نَاقِصًا. وَرُدَّ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا وَجَبَتْ كَامِلَةً. فَإِنَّهَا وَجَبَتْ فِي وَقْتٍ كَانَ خَلْطُ غَيْرِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ بِأَفْعَالِهَا حَرَامًا فَكَانَتْ كَالْعَصْرِ وَقْتَ الِاصْفِرَارِ وَجَبَتْ نَاقِصَةً فَتَتَأَدَّى نَاقِصَةً.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْوَقْتَ لَوْ كَانَ سَبَبًا لَهَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْت، لَكِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ سَبَبُهُ مَا ذَكَرْنَا وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْوَقْتِ (وَأَعَادُوهَا لِتَقَرُّرِ سَبَبِهَا) وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا عَدَمُ فَسَادِ الصَّلَاةِ فَلِأَنَّ الْفَسَادَ إنَّمَا يَكُونُ بِتَرْكِهَا أَوْ بِإِتْيَانِ مَا يَنْقُضُهَا وَلَمْ يَتْرُكُوهَا وَمَا أَتَوْا بِمَا يَنْقُضُهَا (لِأَنَّ مُجَرَّدَ السَّجْدَةِ لَا يُنَافِي إحْرَامَ الصَّلَاةِ) لِأَنَّهَا فِي ذَاتِهَا مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ (وَ) ذَكَرَ (فِي النَّوَادِرِ أَنَّهَا تَفْسُدُ لِأَنَّهُمْ زَادُوا فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا،
وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله
(فَإِنْ قَرَأَهَا الْإِمَامُ وَسَمِعَهَا رَجُلٌ لَيْسَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ فَدَخَلَ مَعَهُ بَعْدَمَا سَجَدَهَا الْإِمَامُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهَا)؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُدْرِكًا لَهَا بِإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ (وَإِنْ دَخَلَ مَعَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَهَا سَجَدَهَا مَعَهُ)؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْمَعْهَا سَجَدَهَا مَعَهُ فَهَهُنَا أَوْلَى (وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُ سَجَدَهَا وَحْدَهُ) لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ.
وَقِيلَ) مَا ذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ (هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ) وَهُوَ جَوَابُ الْقِيَاسِ، وَمَا ذُكِرَ هَاهُنَا قَوْلُهُمَا وَهُوَ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَا يُفْسِدُهَا عِنْدَهُمَا، وَعَلَى قَوْلِهِ زِيَادَةُ السَّجْدَةِ تُفْسِدُهَا، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي سَجْدَةِ الشُّكْرِ، فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَلِهَذَا حَكَمَ بِأَنَّ سَجْدَةَ الشُّكْرِ مَسْنُونَةٌ فَتَفْسُدُ بِشُرُوعِهِ فِي وَاجِبٍ قَبْلَ إكْمَالِ فَرْضِهِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا غَيْرُ مَسْنُونَةٍ وَالسَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّكْعَةِ فِي كَوْنِهَا رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ غَيْرَ مُسْتَقِلَّةٍ عِبَادَةً.
(فَإِنْ قَرَأَهَا الْإِمَامُ وَسَمِعَهَا رَجُلٌ لَيْسَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ فَدَخَلَ مَعَهُ) فَإِمَّا أَنْ دَخَلَ (بَعْدَمَا سَجَدَهَا الْإِمَامُ) أَوْ قَبْلَهُ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ (لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهَا لِأَنَّهُ صَارَ مُدْرِكًا لَهَا) أَيْ لِلسَّجْدَةِ (بِإِدْرَاكِ تِلْكَ الرَّكْعَةِ) وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى لَمْ يَصِرْ مُدْرِكًا لِلسَّجْدَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدَهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُدْرِكْ الرَّكْعَةَ لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلْقِرَاءَةِ وَلَا لِمَا تَعَلَّقَ بِهَا مِنْ السَّجْدَةِ قَالَ الْإِمَامُ الْعَتَّابِيُّ: وَأَشَارَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ إلَى أَنَّهَا تَسْقُطُ عَنْهُ لِأَنَّهَا صَارَتْ صَلَاتِيَّةً. وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامُ فِي رُكُوعِ صَلَاتَيْ الْعِيدَيْنِ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالتَّكْبِيرَاتِ وَلَمْ يَصِرْ مُدْرِكًا لَهُمَا بِإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ فِي الرُّكُوعِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِدْرَاكَ الْحَقِيقِيَّ مُمْكِنٌ لِأَنَّ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهَا وَهُوَ تَكْبِيرُ الرُّكُوعِ يُؤْتَى بِهِ حَالَةَ الرُّكُوعِ فَأُلْحِقَ بِهِ تَكْبِيرَاتُ الْعِيدِ، وَإِذَا كَانَ الْإِدْرَاكُ الْحَقِيقِيُّ مُمْكِنًا لَا يُصَارُ إلَى الْإِدْرَاكِ الْحُكْمِيِّ، بِخِلَافِ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا فَلَا يُؤْتَى بِهِ فِي حَالَةِ الرُّكُوعِ لِتَكُونَ حَقِيقَةُ الْإِدْرَاكِ مُمْكِنَةً فَيَصِيرُ إلَى الْحُكْمِيِّ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي سَجَدَهَا مَعَهُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْمَعْهَا بِأَنْ أَخْفَاهَا الْإِمَامُ سَجَدَهَا مَعَهُ فَهُنَا أَوْلَى (وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُ سَجَدَهَا لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ)
(وَكُلُّ سَجْدَةٍ وَجَبَتْ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَسْجُدْهَا فِيهَا لَمْ تُقْضَ خَارِجَ الصَّلَاةِ)؛ لِأَنَّهَا صَلَاتِيَّةٌ وَلَهَا مَزِيَّةُ الصَّلَاةِ، فَلَا تَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ
وَهُوَ التِّلَاوَةُ مِمَّنْ لَيْسَ بِمَحْجُورٍ عَلَيْهِ أَوْ السَّمَاعِ مِنْ تِلَاوَةٍ صَحِيحَةٍ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ، قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْجُدَ لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ التِّلَاوَةَ هِيَ السَّبَبُ فِي حَقِّ السَّامِعِ أَيْضًا وَكَانَتْ فِي الصَّلَاةِ. فَكَانَتْ السَّجْدَةُ صَلَاتِيَّةً فَلَا تُقْضَى خَارِجَهَا وَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ التِّلَاوَةِ سَبَبًا فِي حَقِّهِ أَوْ السَّمَاعِ وَجَبَتْ السَّجْدَةُ احْتِيَاطًا لِأَنَّا إنْ نَظَرْنَا إلَى التِّلَاوَةِ لَا يَلْزَمُهُ السَّجْدَةُ، وَإِنْ نَظَرْنَا إلَى السَّمَاعِ تَلْزَمُهُ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَأُمِرْنَا بِهَا خَارِجَهَا احْتِيَاطًا.
وَقَوْلُهُ (وَكُلُّ سَجْدَةٍ وَجَبَتْ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَسْجُدْهَا فِيهَا لَمْ تُقْضَ خَارِجَ الصَّلَاةِ) ضَابِطٌ كُلِّيٌّ يَنْسَحِبُ عَلَى الْفُرُوعِ الدَّاخِلِ تَحْتَهُ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهَا صَلَاتِيَّةٌ، وَمَعْنَى الصَّلَاتِيَّةِ أَنْ تَكُونَ التِّلَاوَةُ الْمُوجِبَةُ لَهَا مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَلَهَا مَزِيَّةُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الصَّلَاةِ فَكَانَ وُجُوبُهَا كَامِلًا وَمَا وَجَبَ كَامِلًا لَا يَتَأَدَّى نَاقِصًا: وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ مَا قِيلَ هَذَا الْكُلِّيُّ
(وَمَنْ تَلَا سَجْدَةً فَلَمْ يَسْجُدْهَا حَتَّى دَخَلَ فِي صَلَاةٍ فَأَعَادَهَا وَسَجَدَ أَجْزَأَتْهُ السَّجْدَةُ عَنْ التِّلَاوَتَيْنِ)؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ أَقْوَى لِكَوْنِهَا صَلَاتِيَّةً فَاسْتُتْبِعَتْ الْأُولَى. وَفِي النَّوَادِرِ يَسْجُدُ أُخْرَى بَعْدَ الْفَرَاغِ
مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا سَمِعُوا وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ مِمَّنْ لَيْسَ مَعَهُمْ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا سَجْدَةٌ وَجَبَتْ فِي الصَّلَاةِ وَيَسْجُدُونَهَا بَعْدَهَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَالثَّانِي مَا قِيلَ إنَّ قَوْلَهُ فَلَمْ يَسْجُدُوهَا فِيهَا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ لِأَنَّهَا تُؤَدَّى بِسَجْدَةِ الصَّلَاةِ وَإِنْ لَمْ تُنْوَ. وَالثَّالِثُ مَا قِيلَ تَاءُ التَّأْنِيثِ تُحْذَفُ فِي النَّسَبِ فَالصَّوَابُ صَلَوِيَّةٌ. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ تَقْدِيرَهُ وَكُلُّ سَجْدَةٍ صَلَاتِيَّةٍ وَاجِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَجَبَتْ فِي الصَّلَاةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ صِفَةً مُوَضِّحَةً وَمَا ثَمَّةَ مَا يُمَيِّزُهُ عَنْهَا لِأَنَّ كُلَّ سَجْدَةٍ صَلَاتِيَّةٍ وَاجِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ صِفَةٌ كَاشِفَةٌ وَعَادَ السُّؤَالُ أَوْ غَيْرُهُمَا مِنْ التَّأْكِيدِ وَالْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالْمَقَامُ لَا يَقْتَضِيهِ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ تَقْدِيرُهُ: وَكُلُّ سَجْدَةٍ عَنْ تِلَاوَةٍ وَجَبَتْ فِي الصَّلَاةِ: أَيْ ثَبَتَتْ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ إنَّمَا تَتَأَدَّى بِسَجْدَةِ الصَّلَاةِ إذَا قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فَسَجَدَ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَسْجُدْ عَلَى الْفَوْرِ حَتَّى قَرَأَ مِقْدَارَ ثَلَاثِ آيَاتٍ وَرَكَعَ أَوْ سَجَدَ لِلصَّلَاةِ يَنْوِي بِهَا سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهَا صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا فَلَا تَتَأَدَّى فِي ضِمْنِ الْغَيْرِ. وَرُدَّ بِأَنَّ وَقْتَهَا مُوَسَّعٌ، فَمَتَى سَجَدَ كَانَ أَدَاءً لَا قَضَاءً. وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ وُجُوبَهَا عَلَى الْفَوْرِ لَا التَّرَاخِي فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ اخْتَارَ ذَلِكَ؛ وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّهُ خَطَأٌ مُسْتَعْمَلٌ وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ خَيْرٌ مِنْ صَوَابٍ نَادِرٍ.
قَالَ (وَمَنْ تَلَا سَجْدَةً فَلَمْ يَسْجُدْهَا) هَذَا لِبَيَانِ التَّدَاخُلِ فِي سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ أَيْ وَمَنْ تَلَا آيَةَ سَجْدَةٍ خَارِجَ الصَّلَاةِ (حَتَّى دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ فَأَعَادَهَا) أَيْ تِلَاوَةَ تِلْكَ الْآيَةِ وَلَمْ يَتَبَدَّلْ مَجْلِسُ الصَّلَاةِ عَنْ مَجْلِسِ التِّلَاوَةِ (وَسَجَدَ) فِي الصَّلَاةِ (أَجْزَأَتْهُ السَّجْدَةُ) الَّتِي سَجَدَهَا (عَنْ التِّلَاوَتَيْنِ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ لِكَوْنِهَا صَلَاتِيَّةً أَقْوَى فَاسْتَتْبَعَتْ الْأُولَى وَفِي النَّوَادِرِ يَسْجُدُ) سَجْدَةً (أُخْرَى بَعْدَ الْفَرَاغِ)
لِأَنَّ لِلْأُولَى قُوَّةَ السَّبْقِ فَاسْتَوَيَا. قُلْنَا: لِلثَّانِيَةِ قُوَّةُ اتِّصَالِ الْمَقْصُودِ فَتَرَجَّحَتْ بِهَا (وَإِنْ تَلَاهَا فَسَجَدَ ثُمَّ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ فَتَلَاهَا سَجَدَ لَهَا)؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ هِيَ الْمُسْتَتْبِعَةُ وَلَا وَجْهَ إلَى إلْحَاقِهَا بِالْأُولَى؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى سَبْقِ الْحُكْمِ عَلَى السَّبَبِ
(وَمَنْ كَرَّرَ تِلَاوَةَ سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَتْهُ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنْ قَرَأَهَا فِي مَجْلِسِهِ فَسَجَدَهَا ثُمَّ ذَهَبَ وَرَجَعَ فَقَرَأَهَا سَجَدَهَا ثَانِيَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَجَدَ لِلْأُولَى فَعَلَيْهِ السَّجْدَتَانِ) فَالْأَصْلُ أَنَّ مَبْنَى السَّجْدَةِ عَلَى التَّدَاخُلِ
مِنْ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الصَّلَاتِيَّةَ إنْ كَانَتْ أَقْوَى فَلِلْأُولَى أَيْضًا قُوَّةُ السَّبْقِ فَاسْتَوَيَا فَلَا تَكُونُ إحْدَاهُمَا أَوْلَى بِالِاسْتِتْبَاعِ وَجَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ لِلثَّانِيَةِ بَعْدَ التَّسَاوِي قُوَّةً أُخْرَى وَهُوَ الِاتِّصَالُ بِالْمَقْصُودِ: أَيْ اتِّصَالُ التِّلَاوَةِ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ: أَيْ الْحُكْمِ وَهُوَ السُّجُودُ فَتَرَجَّحَتْ بِهَا وَاسْتَتْبَعَتْ. وَعُورِضَ بِأَنَّ إلْحَاقَ الْأُولَى بِالثَّانِيَةِ خِلَافُ مَوْضُوعِ التَّدَاخُلِ لِأَنَّ السَّابِقَ قَدْ مَضَى وَاضْمَحَلَّ فَكَيْفَ يَكُونُ مُلْحَقًا بِاللَّاحِقِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ السَّابِقَ قَدْ يَكُونُ تَبَعًا إذَا كَانَ اللَّاحِقُ أَقْوَى كَالسُّنَّةِ قَبْلَ الْفَرِيضَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ تَلَاهَا) يَعْنِي خَارِجَ الصَّلَاةِ (فَسَجَدَ ثُمَّ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ فَتَلَاهَا) أَيْ تِلْكَ الْآيَةَ وَجَبَ عَلَيْهِ (أَنْ يَسْجُدَ لَهَا لِأَنَّ الثَّانِيَةَ هِيَ الْمُسْتَتْبَعَةُ) لِمَا قُلْنَا إنَّهَا لِكَوْنِهَا صَلَاتِيَّةً أَقْوَى (وَ) إذَا كَانَتْ مُسْتَتْبَعَةً (لَا وَجْهَ لِإِلْحَاقِهَا) أَيْ السَّجْدَةِ الْمَفْعُولَةِ (بِالْأُولَى) أَيْ التِّلَاوَةِ الْأُولَى لِأَنَّهَا إنْ أُلْحِقَتْ بِهَا وَهِيَ تَابِعَةٌ لِلثَّانِيَةِ كَانَتْ السَّجْدَةُ مُلْحَقَةً بِالتِّلَاوَةِ الثَّانِيَةِ (وَذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى سَبْقِ الْحُكْمِ قَبْلَ السَّبَبِ) فَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّدَاخُلَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مُتَعَذِّرٌ فَيَجِبُ سَجْدَةٌ ثَانِيَةٌ لِلتِّلَاوَةِ الثَّانِيَةِ وَإِيَّاكَ أَنْ تَرُدَّ ضَمِيرَ إلْحَاقِهَا إلَى التِّلَاوَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا فَعَلَهُ بَعْضُ الشَّارِحِينَ. وَاعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ فَاسِدٌ فَتَأَمَّلْ، وَفِيهِ بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ الصَّلَاتِيَّةَ إنَّمَا تَرَجَّحَتْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِاتِّصَالِ الْمَقْصُودِ، وَهَاهُنَا مَعَ الْأُولَى السَّبْقُ وَالِاتِّصَال بِالْمَقْصُودِ، وَمَعَ الثَّانِيَةِ كَوْنُهَا صَلَاتِيَّةً فَقَطْ فَأَنَّى تَسْتَتْبِعُهَا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى الِاتِّصَالِ إنَّمَا كَانَ عَلَى وَجْه التَّنَزُّلِ مِنْ الْمُصَنِّفِ، وَإِلَّا فَكَوْنُهَا صَلَاتِيَّةً أَقْوَى مِنْ السَّبْقِ فَلَا يُسَاوِيهِ السَّبْقُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَهْقَهَ فِيهَا اُنْتُقِضَ الْوُضُوءُ دُونَ غَيْرِهَا وَبِالنَّظَرِ إلَى ذَلِكَ يَتِمُّ الدَّلِيلُ.
قَالَ (وَمَنْ كَرَّرَ تِلَاوَةَ سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ) ذَكَرَ مَسْأَلَةً وَبَيَّنَ التَّدَاخُلَ وَقَالَ (الْأَصْلُ أَنَّ مَبْنَى السَّجْدَةِ عَلَى التَّدَاخُلِ)
دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَهُوَ تَدَاخُلٌ فِي السَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ، وَهَذَا أَلْيَقُ بِالْعِبَادَاتِ
يَعْنِي فِي الِاسْتِحْسَانِ، وَالْقِيَاسِ أَنْ يَجِبَ لِكُلِّ تِلَاوَةِ سَجْدَةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ لَمْ تَكُنْ، لِأَنَّ السَّجْدَةَ حُكْمُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمُ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ سَبَبِهِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ (دَفْعًا لِلْحَرْبِ)
وَالثَّانِي بِالْعُقُوبَاتِ وَإِمْكَانُ التَّدَاخُلِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ لِكَوْنِهِ جَامِعًا، لِلْمُتَفَرِّقَاتِ فَإِذَا اخْتَلَفَ عَادَ الْحُكْمُ إلَى الْأَصْلِ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ بِخِلَافِ الْمُخَيَّرَةِ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ وَهُوَ الْمُبْطِلُ هُنَالِكَ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَحْتَاجُونَ إلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَتَعَلُّمِهِ، وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى التَّكْرَارِ غَالِبًا، فَإِلْزَامُ التَّكْرَارِ فِي السَّجْدَةِ يُفْضِي إلَى الْحَرَجِ لَا مَحَالَةَ، وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ. وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ جِبْرِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه كَانَ يُنْزِلُ آيَةَ السَّجْدَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيُكَرِّرُ عَلَيْهِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ لَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً تَعْلِيمًا لِجَوَازِ التَّدَاخُلِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ» . ثُمَّ التَّدَاخُلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي السَّبَبِ أَوْ فِي الْحُكْمِ وَالْأَلْيَقُ بِالْعِبَادَاتِ الْأَوَّلُ وَبِالْعُقُوبَاتِ الثَّانِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّدَاخُلَ إذَا كَانَ فِي الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ كَانَتْ الْأَسْبَابُ بَاقِيَةً عَلَى تَعَدُّدِهَا فَيَلْزَمُ وُجُودُ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْعِبَادَةِ بِدُونِ الْعِبَادَةِ، وَفِي ذَلِكَ تَرْكُ الِاحْتِيَاطِ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الِاحْتِيَاطُ فَقُلْنَا بِتَدَاخُلِ الْأَسْبَابِ فِيهَا لِيَكُونَ جَمِيعُهَا بِمَنْزِلَةِ سَبَبٍ وَاحِدٍ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ إذَا وُجِدَ دَلِيلُ الْجَمْعِ وَهُوَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ.
وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ فَلَيْسَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِيهَا بَلْ فِي دَرْئِهَا احْتِيَاطٌ فَيُجْعَلُ التَّدَاخُلُ فِي الْحُكْمِ لِيَكُونَ عَدَمُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْمُوجِبِ مُضَافًا إلَى عَفْوِ اللَّهِ وَكَرَمِهِ فَإِنَّهُ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِسُبُوغِ الْعَفْوِ وَكَمَالِ الْكَرَمِ، وَثَمَرَةُ ذَلِكَ تَظْهَرُ فِيمَا لَوْ تَلَا آيَةَ سَجْدَةٍ فِي مَكَان فَسَجَدَهَا ثُمَّ تَلَاهَا فِيهِ مَرَّاتٍ فَإِنَّهُ يَكْفِيهِ تِلْكَ السَّجْدَةُ الْمَفْعُولَةُ أَوْ لَا، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ التَّدَاخُلُ فِي السَّبَبِ لَكَانَتْ التِّلَاوَةُ الَّتِي بَعْدَ السَّجْدَةِ سَبَبًا وَحُكْمُهُ قَدْ تَقَدَّمَ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
وَقَوْلُهُ (وَإِمْكَانُ التَّدَاخُلِ) أَيْ الْإِمْكَانُ الشَّرْعِيُّ بَيَانُ الدَّلِيلِ الْجَمْعِ وَهُوَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ لِكَوْنِهِ جَامِعًا لِلْمُتَفَرِّقَاتِ، أَلَا تَرَى إلَى شَطْرَيْ الْعَقْدِ يَجْمَعُهُمَا الْمَجْلِسُ وَإِنْ تَفَرَّقَا بِالْأَقْوَالِ، فَإِذَا اخْتَلَفَ عَادَ الْحُكْمُ إلَى أَصْلِهِ وَهُوَ وُجُوبُ التَّكْرَارِ لِعَدَمِ الْجَامِعِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا بَالُ الْجَامِعِ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْآيَاتِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ الْمَرَّاتِ فِيهِ؟ قُلْنَا لِعَدَمِ الْحَرَجِ، فَإِنَّ آيَاتِ السَّجْدَةِ مَحْصُورَةٌ، وَالْغَالِبُ عَدَمُ تِلَاوَةِ الْجَمْعِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، بِخِلَافِ التَّكْرَارِ لِلتَّعْلِيمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَحْصُورٍ وَيَتَّفِقُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ إنَّمَا يَكُونُ بِالذَّهَابِ عَنْهُ بَعِيدًا. قَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ مَشَى نَحْوًا مِنْ عَرْضِ الْمَسْجِدِ وَطُولِهِ فَهُوَ قَرِيبٌ، وَقِيلَ إنْ مَشَى خُطْوَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَهُوَ قَرِيبٌ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بَعِيدٌ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحْسَنٌ فِي الْإِتْيَانِ بِالسَّجْدَةِ لِأَنَّ الْخُرُورَ الْوَارِدَ فِي الْقُرْآنِ سُقُوطٌ مِنْ الْقِيَامِ، بِخِلَافِ الْمُخَيَّرَةِ فَإِنَّ خِيَارَهَا يَبْطُلُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ لِكَوْنِهِ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ، فَإِنَّ مَنْ حَزَبَهُ أَمْرٌ وَهُوَ قَائِمٌ يَقْعُدُ لِكَوْنِ الْقُعُودِ أَجْمَعَ لِلرَّأْيِ، فَإِذَا قَامَتْ دَلَّ عَلَى الْإِعْرَاضِ، وَالْخِيَارُ يَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ صَرِيحًا وَدَلَالَةً
وَفِي تَسْدِيَةِ الثَّوْبِ يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ، وَفِي الْمُنْتَقِلِ مِنْ غُصْنٍ إلَى غُصْنٍ كَذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ، وَكَذَا فِي الدِّيَاسَةِ لِلِاحْتِيَاطِ (وَلَوْ تَبَدَّلَ مَجْلِسُ السَّامِعِ دُونَ التَّالِي يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ)؛ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي حَقِّهِ السَّمَاعُ (وَكَذَا إذَا تَبَدَّلَ مَجْلِسُ التَّالِي دُونَ السَّامِعِ) عَلَى مَا قِيلَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ عَلَى السَّامِعِ لِمَا قُلْنَا.
(وَمَنْ أَرَادَ السُّجُودَ كَبَّرَ وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ وَسَجَدَ ثُمَّ كَبَّرَ وَرَفَعَ رَأْسَهُ) اعْتِبَارًا بِسَجْدَةِ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -
وَفِي تَسْدِيَةِ الثَّوْبِ يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ) وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَهَذَا اللَّفْظُ يَعْنِي قَوْلَهُ (وَفِي الْمُنْتَقِلِ مِنْ غُصْنٍ إلَى غُصْنٍ كَذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ وَكَذَلِكَ فِي الدِّيَاسَةِ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ فِي الْمُنْتَقِلِ مِنْ غُصْنٍ إلَى غُصْنٍ وَفِي الدِّيَاسَةِ لَا فِي تَسْدِيَةِ الثَّوْبِ لِأَنَّهُ قَطَعَهَا بِالْجَوَابِ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ ثُمَّ شَبَّهَ جَوَابَ الثَّانِي بِذِكْرِ الْأَصَحِّ، وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِي الْأَصَحِّ مُتَعَلِّقًا بِالْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا، وَقَوْلُهُ لِلِاحْتِيَاطِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَجْهَ الْأَصَحِّ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ.
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ بِالنَّظَرِ إلَى اتِّحَادِ الْعَمَلِ وَاتِّحَادِ اسْمِ الْمَجْلِسِ لَا يَتَبَدَّلُ الْمَجْلِسُ فَلَا يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ، وَبِالنَّظَرِ إلَى اخْتِلَافِ حَقِيقَةِ الْمَكَانِ يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ فَقُلْنَا بِالتَّكْرَارِ لِلِاحْتِيَاطِ. وَقَوْلُهُ (إذَا تَبَدَّلَ مَجْلِسُ التَّالِي) وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا قِيلَ) يَعْنِي بِهِ قَوْلَ فَخْرِ الْإِسْلَامِ أَنَّ مَجْلِسَ التَّالِي إذَا تَكَرَّرَ دُونَ مَجْلِسِ السَّامِعِ بِتَكَرُّرِ الْوُجُوبِ عَلَى السَّامِعِ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُضَافٌ إلَى سَبَبِهِ، وَكَأَنَّهُ اخْتَارَ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ التِّلَاوَةُ (وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ عَلَى السَّامِعِ لِمَا قُلْنَا) يَعْنِي أَنَّ السَّبَبَ فِي حَقِّهِ السَّمَاعُ وَكَانَ مَجْلِسِهِ مُتَّحِدًا وَهُوَ قَوْلُ الْإِسْبِيجَابِيِّ، قِيلَ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.
(وَمَنْ أَرَادَ السُّجُودَ كَبَّرَ وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ وَسَجَدَ ثُمَّ كَبَّرَ وَرَفَعَ رَأْسَهُ اعْتِبَارًا بِسَجْدَةِ الصَّلَاةِ) وَفِي قَوْلِهِ اعْتِبَارًا بِسَجْدَةِ الصَّلَاةِ
(وَلَا تَشَهُّدَ عَلَيْهِ وَلَا سَلَامَ)؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِلتَّحَلُّلِ وَهُوَ يَسْتَدْعِي سَبْقَ التَّحْرِيمَةِ وَهِيَ مُنْعَدِمَةٌ.
قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ السُّورَةَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا وَيَدَعَ آيَةَ السَّجْدَةِ)؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الِاسْتِنْكَافَ عَنْهَا (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ وَيَدَعَ مَا سِوَاهَا)؛ لِأَنَّهُ مُبَادَرَةٌ إلَيْهَا. قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَقْرَأَ قَبْلَهَا آيَةً أَوْ آيَتَيْنِ دَفْعًا لِوَهْمِ التَّفْضِيلِ وَاسْتَحْسَنُوا إخْفَاءَهَا شَفَقَةً عَلَى السَّامِعِينَ.
إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ فِيهَا سُنَّةٌ كَمَا فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَقَوْلُهُ وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّ صِفَتَهَا عِنْدَهُ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ نَاوِيًا ثُمَّ يُكَبِّرَ لِلسُّجُودِ وَلَا يَرْفَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ يُكَبِّرَ لِلرَّفْعِ وَيُسَلِّمَ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَاذَا يَقُولُ فِي سُجُودِهِ، فَقِيلَ: يَقْرَأُ فِيهَا {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا} وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ فِيهَا مَا يَقُولُ فِي سَجْدَةِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا لَمْ يَضُرَّهُ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ أَقْوَى مِنْ سَجْدَةِ الصَّلَاةِ، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا شَيْئًا جَازَ فَكَذَلِكَ هَذِهِ. وَقَوْلُهُ (وَلَا تَشَهُّدَ عَلَيْهِ وَلَا سَلَامَ) نَفْيٌ لِقَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الَّذِينَ لَمْ يَأْخُذُوا بِقَوْلِهِ وَقَالُوا إنَّ فِيهَا تَشَهُّدًا وَسَلَامًا. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ ذَلِكَ) أَيْ التَّشَهُّدَ وَالسَّلَامَ (لِلتَّحَلُّلِ وَهُوَ يَسْتَدْعِي سَبْقَ التَّحْرِيمَةِ وَهِيَ مَعْدُومَةٌ) فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا مَعْدُومَةٌ لِأَنَّهُ قَالَ وَكَبَّرَ وَالتَّكْبِيرُ لِلتَّحْرِيمَةِ بِالنَّصِّ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ تَكْبِيرٍ لِلتَّحْرِيمَةِ، أَلَا تَرَى تَكْبِيرَ السُّجُودِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلتَّحْرِيمَةِ وَهَذِهِ السَّجْدَةُ لَمَّا شُبِّهَتْ بِسَجْدَةِ الصَّلَاةِ سُنَّ فِيهَا التَّكْبِيرُ لِلْمُشَابَهَةِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الِاسْتِنْكَافَ) يَعْنِي أَنَّ الِاسْتِنْكَافَ حَرَامٌ لِأَنَّهُ كُفْرٌ فَيَكُونُ مَا يُشْبِهُهُ مَكْرُوهًا.
وَقَوْلُهُ (شَفَقَةً عَلَى السَّامِعِينَ) قَالَ فِي الْمُحِيطِ: إنْ كَانَ
بَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ
السَّفَرُ الَّذِي يَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْكَامُ أَنْ يَقْصِدَ الْإِنْسَانُ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا
التَّالِي وَحْدَهُ يَقْرَأُ كَيْفَ شَاءَ مِنْ جَهْرٍ وَإِخْفَاءٍ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ. قَالَ مَشَايِخُنَا: إنْ كَانَ الْقَوْمُ مُتَأَهِّبِينَ لِلسُّجُودِ وَيَقَعُ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَدَاءُ السَّجْدَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَهَا جَهْرًا حَتَّى يَسْجُدَ الْقَوْمُ مَعَهُ، لِأَنَّ فِي هَذَا حَثًّا لَهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانُوا مُحْدِثِينَ أَوْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَدَاءُ السَّجْدَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَهَا فِي نَفْسِهِ وَلَا يَجْهَرَ تَحَرُّزًا عَنْ تَأْثِيمِ الْمُسْلِمِ وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(بَابُ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ)
لَمَّا كَانَ السَّفَرُ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ نَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ مَعَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، لِأَنَّ التِّلَاوَةَ أَيْضًا كَذَلِكَ، وَيُؤَخِّرُ عَنْهَا لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ دُونَهُ. وَالسَّفَرُ فِي اللُّغَةِ: قَطْعُ الْمَسَافَةِ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ هُنَا، بَلْ الْمُرَادُ قَطْعٌ خَاصٌّ وَهُوَ أَنْ يَتَغَيَّرَ بِهِ الْأَحْكَامُ فَقَيَّدَهُ بِذَلِكَ.
وَذَكَرَ الْقَصْدَ وَهُوَ الْإِرَادَةُ الْحَادِثَةُ الْمُقَارِنَةُ لِمَا عَزَمَ لِأَنَّهُ لَوْ طَافَ جَمِيعَ الْعَالَمِ بِلَا قَصْدِ سَيْرِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا، وَلَوْ قَصَدَ وَلَمْ يُظْهِرْ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ فَكَذَلِكَ، وَكَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي حَقِّ تَغْيِيرِ الْأَحْكَامِ اجْتِمَاعُهُمَا
سَيْرَ الْإِبِلِ وَمَشْيَ الْأَقْدَامِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ كَمَالَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا» عَمَّ بِالرُّخْصَةِ الْجِنْسَ. وَمِنْ ضَرُورَتِهِ عُمُومُ التَّقْدِيرِ وَقَدَّرَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله بِيَوْمَيْنِ وَأَكْثَرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ
فَإِنْ قِيلَ: الْإِقَامَةُ تَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ فَمَا بَالُ السَّفَرِ وَهُوَ ضِدُّهُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. أُجِيبَ بِأَنَّ السَّفَرَ فِعْلٌ، وَمُجَرَّدُ الْقَصْدِ لَا يَكْفِي فِيهِ، وَالْإِقَامَةُ تَرْكٌ وَهُوَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِهَا، وَسَيَجِيءُ نَظِيرُهُ فِي بَابِ الزَّكَاةِ فِي الْعَبْدِ لِلْخِدْمَةِ يَنْوِي أَنْ يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ وَعَكْسِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْأَحْكَامُ الَّتِي تَتَغَيَّرُ بِالسَّفَرِ هِيَ قَصْرُ الصَّلَاةِ وَإِبَاحَةُ الْفِطْرِ وَامْتِدَادُ مُدَّةِ الْمَسْحِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَسُقُوطُ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَحُرْمَةُ الْخُرُوجِ عَلَى الْحُرَّةِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ فَإِنْ قِيلَ: فَكَمَا أَنَّ الْقَصْدَ لَا بُدَّ مِنْهُ لِلتَّغْيِيرِ فَكَذَلِكَ مُجَاوَزَةُ بُيُوتِ الْمِصْرِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ بِصَدَدِ بَيَانِ تَعْرِيفِ السَّفَرِ وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ شُرُوطِ تَغْيِيرِهِ وَسَنَذْكُرُهُ.
وَقَوْلُهُ (سَيْرَ الْإِبِلِ) بِالنَّصْبِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَقَوْلُهُ (عَمَّ الرُّخْصَةُ الْجِنْسَ) وَمِنْ ضَرُورَتِهِ عُمُومُ التَّقْدِيرِ مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ وَالْمُسَافِرُ لِلْجِنْسِ لِعَدَمِ مَعْهُودٍ فَتَكُونُ الرُّخْصَةُ وَهُوَ الْمَسْحُ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا مَنْ هُوَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَيْضًا عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ، وَإِلَّا لَكَانَ نَقِيضُهُ صَادِقًا وَهُوَ بَعْضُ مَنْ هُوَ مُسَافِرٌ لَا يَمْسَحُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا، وَيَلْزَمُ الْكَذِبُ الْمُحَالُ عَلَى الشَّارِعِ إنْ كَانَتْ الْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةً مَعْنًى أَيْضًا، أَوْ عَدَمُ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِهِ إنْ كَانَتْ طَلَبِيَّةً مَعْنًى وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
وَالشَّافِعِيُّ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي قَوْلٍ، وَكَفَى بِالسُّنَّةِ حُجَّةً عَلَيْهِمَا
وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ظَرْفًا لِيَمْسَح وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِقَوْلِهِ وَالْمُسَافِرُ حَتَّى يَكُونَ مَعْنَاهُ وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا يَمْسَحُ، وَتَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسَافِرُ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ أَقَلَّ يَمْسَحُ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إلَى عُسْفَانَ» وَالثَّانِي أَنَّهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي اسْتِيفَاءَ مُدَّةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا، وَذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ بِالِاتِّفَاقِ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُجَاهِدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ النَّقَلَةِ جِدًّا حَتَّى كَانَ سُفْيَانُ يُزْرِيهِ بِالْكَذِبِ، فَبَقِيَ الْقَوْلُ بِالْمَسْحِ لِلْمُسَافِرِ يَوْمًا وَلَيْلَةً قَوْلًا بِلَا دَلِيلٍ، سَلَّمْنَا لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ظَرْفًا لِلْمُسَافِرِ وَإِلَّا لَكَانَ فِي قَوْلِهِ يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً كَذَلِكَ، فَكَانَ حُكْمُ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ فِي مُدَّةِ الْمَسْحِ وَاحِدًا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَفِي ذَلِكَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ حُكْمِ الرَّاحَةِ وَالْمَشَقَّةِ وَهُوَ خِلَافُ مَوْضُوعِ الشَّرْعِ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ النُّزُولَ لِأَجْلِ الِاسْتِرَاحَةِ مُلْحَقٌ بِالسَّيْرِ فِي حَقِّ تَكْمِيلِ مُدَّةِ السَّفَرِ تَيْسِيرًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةُ الْمُعَلَّى عَنْهُ بِيَوْمَيْنِ وَأَكْثَرِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُسَافِرُ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَتَعَجَّلُ السَّيْرَ فَيَبْلُغُ قَبْلَ الْوَقْتِ بِسَاعَةٍ وَلَا يُعْتَدُّ بِذَلِكَ (وَالشَّافِعِيُّ قَدَّرَهُ فِي قَوْلٍ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ) وَرُبَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ عَبْدِ الْوَهَّابِ (وَكَفَى بِالسُّنَّةِ) يَعْنِي مَا رَوَيْنَا (حُجَّةً عَلَيْهِمَا)
(وَالسَّيْرُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْوَسَطُ) وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله التَّقْدِيرُ بِالْمَرَاحِلِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْفَرَاسِخِ هُوَ الصَّحِيحُ (وَلَا يُعْتَبَرُ السَّيْرُ فِي الْمَاءِ) مَعْنَاهُ لَا يُعْتَبَرُ بِهِ السَّيْرُ فِي الْبَرِّ، فَأَمَّا الْمُعْتَبَرُ فِي الْبَحْرِ
وَقَوْلُهُ (وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ) أَيْ التَّقْدِيرُ بِثَلَاثِ مَرَاحِلَ قَرِيبٌ إلَى التَّقْدِيرِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لِأَنَّ الْمُعْتَادَ فِي السَّيْرِ فِي ذَلِكَ كُلَّ يَوْمٍ مَرْحَلَةٌ خُصُوصًا فِي أَقْصَرِ أَيَّامِ السَّنَةِ وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ فَإِنَّهُمْ قَدَّرُوهَا بِالْفَرَاسِخِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ فَرْسَخًا، وَقَالَ آخَرُونَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَآخَرُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يُعْتَبَرُ السَّيْرُ فِي الْمَاءِ) يَعْنِي إذَا كَانَ لِمَوْضِعٍ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا فِي الْمَاءِ يُقْطَعُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا إذَا كَانَتْ الرِّيحُ هَادِيَةً: أَيْ مُتَوَسِّطَةً، وَالثَّانِي فِي الْبَرِّ يُقْطَعُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، فَإِنْ ذَهَبَ إلَى طَرِيقِ الْمَاءِ قَصَرَ، وَإِنْ ذَهَبَ إلَى طَرِيقِ الْبَرِّ أَتَمَّ، وَلَوْ انْعَكَسَ انْعَكَسَ الْحُكْمُ (وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِي الْبَحْرِ
فَمَا يَلِيقُ بِحَالِهِ كَمَا فِي الْجَبَلِ. .
قَالَ (وَفَرْضُ الْمُسَافِرِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ رَكْعَتَانِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِمَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فَرْضُهُ الْأَرْبَعُ وَالْقَصْرُ رُخْصَةٌ اعْتِبَارًا بِالصَّوْمِ. وَلَنَا أَنَّ الشَّفْعَ الثَّانِيَ لَا يُقْضَى وَلَا يُؤْثَمُ عَلَى تَرْكِهِ، وَهَذَا آيَةُ النَّافِلَةِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ يُقْضَى
مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ) يُعْتَبَرُ السَّيْرُ فِيهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ الرِّيحُ مُسْتَوِيَةً لَا سَاكِنَةً وَلَا عَالِيَةً كَمَا فِي الْجَبَلِ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا فِي السَّيْرِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَسَافَةُ فِي السَّهْلِ تُقْطَعُ بِمَا دُونَهَا.
قَالَ (وَفَرْضُ الْمُسَافِرِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ رَكْعَتَانِ) الْقَصْرُ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ رُخْصَةُ إسْقَاطٍ عِنْدَنَا، وَرُبَّمَا عَبَّرَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ عَنْهُ بِالْعَزِيمَةِ وَرُخْصَةٌ حَقِيقِيَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله: أَيْ رُخْصَةُ تَرْفِيهٍ وَفَرْضُهُ عِنْدَنَا رَكْعَتَانِ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِمَا (وَعِنْدَهُ فَرْضُهُ الْأَرْبَعُ) وَاعْتَبَرَهُ بِالصَّوْمِ قَالَ: هَذِهِ رُخْصَةٌ شُرِعَتْ لِلْمُسَافِرِ فَيَتَخَيَّرُ فِيهَا كَمَا فِي الصَّوْمِ (وَلَنَا أَنَّ الشَّفْعَ الثَّانِيَ لَا يُقْضَى وَلَا يُؤْثَمُ عَلَى تَرْكِهِ وَهَذَا آيَةُ النَّافِلَةِ) وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الصَّوْمِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ الْخَصْمِ بِأَنَّ الصَّوْمَ يُقْضَى: يَعْنِي أَنَّ تَرْكَ الشَّيْءِ بِلَا بَدَلٍ وَلَا إثْمٍ عَلَامَةُ كَوْنِهِ نَافِلَةً، وَمَا ذَكَرْتُمْ تُرِكَ بِبَدَلٍ وَهُوَ الْقَضَاءُ فَلَا يَرِدُ عَلَيْنَا، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} وَلَفْظُ لَا جُنَاحَ يُذْكَرُ لِلْإِبَاحَةِ دُونَ الْوُجُوبِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَمَّاهُ صَدَقَةً وَالْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ فِي الْقَبُولِ وَعَدَمِهِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْفَقِيرَ لَوْ لَمْ يَحُجَّ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَلَا إثْمٌ، وَإِذَا حَجَّ كَانَ فَرْضًا فَلَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرْتُمْ آيَةَ النَّافِلَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ النَّصَّ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ أَمَّا الْآيَةُ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} عَلَّقَ الْقَصْرَ بِالْخَوْفِ، وَهُوَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِقَصْرِ ذَاتِ الصَّلَاةِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا بُدَّ مِنْ إعْمَالِهِ فَكَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَصْرِ الْأَوْصَافِ مِنْ تَرْكِ الْقِيَامِ إلَى الْقُعُودِ، أَوْ تَرْكِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَى الْإِيمَاءِ لِخَوْفٍ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ غَيْرِهِ،
(وَإِنْ صَلَّى أَرْبَعًا وَقَعَدَ فِي الثَّانِيَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ أَجْزَأَتْهُ الْأُولَيَانِ عَنْ الْفَرْضِ وَالْأُخْرَيَاتُ لَهُ نَافِلَةٌ) اعْتِبَارًا بِالْفَجْرِ، وَيَصِيرُ مُسِيئًا لِتَأْخِيرِ السَّلَامِ (وَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ فِي الثَّانِيَةِ قَدْرَهَا بَطَلَتْ)؛ لِاخْتِلَاطِ النَّافِلَةِ بِهَا قَبْلَ إكْمَالِ أَرْكَانِهَا.
وَعِنْدَنَا قَصْرُ الْأَوْصَافِ عِنْدَ الْخَوْفِ مُبَاحٌ لَا وَاجِبٌ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلِأَنَّ التَّصَدُّقَ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ مِنْ غَيْرِ مُفْتَرَضِ الطَّاعَةِ كَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَالْقِصَاصِ إسْقَاطٌ مَحْضٌ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَلَأَنْ يَكُونَ مِنْ مُفْتَرَضِ الطَّاعَةِ أَوْلَى وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ لَمَّا أَتَى مَكَّةَ صَارَ مُسْتَطِيعًا فَيُفْتَرَضُ عَلَيْهِ وَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ كَالْأَغْنِيَاءِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ صَلَّى أَرْبَعًا) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ قَدْرَهَا) أَيْ قَدْرَ قَعْدَةٍ التَّشَهُّدِ (بَطَلَتْ) صَلَاتُهُ (لِاخْتِلَاطِ النَّافِلَةِ بِهَا قَبْلَ إكْمَالِ أَرْكَانِهَا) لِأَنَّ الْقَعْدَةَ الْأَخِيرَةَ رُكْنٌ وَقَدْ تَرَكَهَا قَبْلَ احْتِيَاجِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ إلَى الْقِرَاءَةِ كَاحْتِيَاجِهَا إلَى الْقَعْدَةِ، فَإِذَا لَمْ يَقْرَأْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ وَقَامَ إلَى الثَّالِثَةِ وَنَوَى الْإِقَامَةَ وَقَرَأَ الْأُخْرَيَيْنِ جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فَكَيْفَ تَبْطُلُ بِتَرْكِ الْقَعْدَةِ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا إذَا لَمْ يَقْعُدْ فِي الْأُولَى وَأَتَمَّ أَرْبَعًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ فَيَكُونُ فِيهِ اخْتِلَاطُ النَّافِلَةِ بِالْفَرْضِ قَبْلَ إكْمَالِهِ، وَفِيمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ صَارَ فَرْضُهُ أَرْبَعًا وَصَارَتْ قِرَاءَتُهُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ قِرَاءَةً
(وَإِذَا فَارَقَ الْمُسَافِرُ بُيُوتَ الْمِصْرِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ)؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ تَتَعَلَّقُ بِدُخُولِهَا فَيَتَعَلَّقُ السَّفَرُ بِالْخُرُوجِ عَنْهَا. وَفِيهِ الْأَثَرُ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، لَوْ جَاوَزْنَا هَذَا الْخُصَّ لَقَصَرْنَا
فِي الْأُولَيَيْنِ وَالْقَعْدَةُ الْأُولَى لَمْ تَبْقَ فَرْضًا وَإِنَّمَا يَسِيرُ مُسَافِرًا بِقَصْرِ الصَّلَاةِ إذَا فَارَقَ بُيُوتَ الْمِصْرِ مِنْ الْجَانِبِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْجَوَانِبِ بُيُوتٌ، لِأَنَّ السَّفَرَ ضِدُّ الْإِقَامَةِ وَالشَّيْءُ إذَا تَعَلَّقَ بِشَيْءٍ تَعَلَّقَ ضِدُّهُ بِضِدِّهِ وَحُكْمُهُ الْإِقَامَةُ وَهُوَ الْإِتْمَامُ لَمَّا تَعَلَّقَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ تَعَلَّقَ حُكْمُ السَّفَرِ بِالْمُجَاوَزَةِ عَنْهُ.
(وَفِيهِ الْأَثَرُ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه) رُوِيَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْمِصْرِ يُرِيدُ السَّفَرَ فَحَانَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَأَتَمَّهَا، ثُمَّ نَظَرَ إلَى خُصٍّ أَمَامَهُ وَقَالَ (لَوْ جَاوَزْنَا هَذَا الْخُصَّ لَقَصَرْنَا) وَالْخُصُّ: بَيْتٌ مِنْ قَصَبٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الِانْفِصَالِ مِنْ الْمِصْرِ
(وَلَا يَزَالُ عَلَى حُكْمِ السَّفَرِ حَتَّى يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ فِي بَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ، وَإِنْ نَوَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ قَصَرَ)؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مُدَّةٍ
فَقَالَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ: الْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ قَدْرَ غَلْوَةٍ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ يَجُوزُ إقَامَتُهَا فِي هَذَا الْمِقْدَارِ مِنْ الْمِصْرِ وَهِيَ لَا تُقَامُ إلَّا فِي الْمِصْرِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ الْمِصْرِ فَكَيْفَ جَازَ الْقَصْرُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ كَيْفَ جَازَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ بِهِ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِنَاءَ الْمِصْرِ إنَّمَا يُلْحَقُ فِيمَا كَانَ مِنْ حَوَائِجِ أَهْلِهِ وَقَصْرُ الصَّلَاةِ لَيْسَ مِنْهَا (وَلَا يَزَالُ عَلَى حُكْمِ السَّفَرِ حَتَّى يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ فِي بَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا) وَقَوْلُهُ (أَوْ أَكْثَرَ) زَائِدٌ (وَإِنْ نَوَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ قَصَرَ) عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ: إذْ نَوَى إقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ صَارَ مُقِيمًا، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ صَارَ
لِأَنَّ السَّفَرَ يُجَامِعُهُ اللُّبْثُ فَقَدَّرْنَاهَا بِمُدَّةِ الطُّهْرِ؛ لِأَنَّهُمَا مُدَّتَانِ مُوجِبَتَانِ، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم، وَالْأَثَرُ فِي مِثْلِهِ كَالْخَبَرِ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْبَلْدَةِ وَالْقَرْيَةِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِي الْمَفَازَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ
مُقِيمًا وَإِنْ لَمْ يَنْوِ.
وَاحْتَجَّ لِلْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} عَلَّقَ الْقَصْرَ بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، وَمَنْ نَوَى الْإِقَامَةَ فَقَدْ تَرَكَ الضَّرْبَ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ عِنْدَ عَدَمِهِ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا مَا دُونَ ذَلِكَ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ، وَلِلثَّانِي بِقَوْلِ عُثْمَانَ رضي الله عنه: مَنْ أَقَامَ أَرْبَعًا أَتَمَّ وَلَمْ يَذْكُرْ النِّيَّةَ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ تَرْكَ الضَّرْبِ يَحْصُلُ بِنِيَّةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَيْضًا. وَالْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهَا فِي الْأَرْبَعَةِ كَالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا دُونَهَا، ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ خِلَافُ ذَلِكَ أَيْضًا فَلَا يَكُونُ حُجَّةً. وَلَنَا مَا ذُكِرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مُدَّةٍ لِأَنَّ السَّفَرَ يُجَامِعُهُ اللُّبْثُ فَقَدَّرْنَاهَا بِمُدَّةِ الطُّهْرِ لِأَنَّهُمَا مُدَّتَانِ مُوجِبَتَانِ، فَإِنَّ مُدَّةَ الطُّهْرِ تُوجِبُ إعَادَةَ مَا سَقَطَ بِالْحَيْضِ، وَالْإِقَامَةُ تُوجِبُ إعَادَةَ مَا سَقَطَ بِالسَّفَرِ، فَكَمَا قُدِّرَ أَدْنَى مُدَّةِ الطُّهْرِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَكَذَلِكَ يُقَدَّرُ أَدْنَى مُدَّةِ الْإِقَامَةِ، وَلِهَذَا قَدَّرْنَا أَدْنَى مُدَّةِ الْحَيْضِ وَالسَّفَرِ بِثَلَاثِ أَيَّامٍ لِكَوْنِهِمَا مُسْقِطَتَيْنِ (وَهُوَ) أَيْ التَّقْدِيرُ بِمُدَّةِ الطُّهْرِ (مَأْثُورٌ) رَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا: إذَا دَخَلْت بَلْدَةً وَأَنْتَ مُسَافِرٌ وَفِي عَزْمِك أَنْ تُقِيمَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْمِلْ الصَّلَاةَ، وَإِنْ كُنْت لَا تَدْرِي مَتَى تَظْعَنُ فَاقْصُرْ.
وَالْأَثَرُ فِي مِثْلِهِ مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يَهْتَدِي إلَى ذَلِكَ، وَحَاشَاهُمْ عَنْ انْحِرَافٍ فَكَانَ قَوْلُهُمْ مُعْتَمِدًا عَلَى السَّمَاعِ ضَرُورَةً. لَا يُقَالُ كَلَامُهُ مُتَنَاقِضٌ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَهَا أَوَّلًا بِمُدَّةِ الطُّهْرِ وَهُوَ رَأْيٌ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ (وَالْأَثَرُ فِي مِثْلِهِ) يَعْنِي مَا لَا يُعْقَلُ مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ (كَالْخَبَرِ) لِأَنَّ ذَلِكَ إظْهَارُ مَعْنًى بَعْدَ ثُبُوتِ أَصْلِهِ بِالْأَثَرِ لَا أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ بِالرَّأْيِ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ (وَهُوَ الظَّاهِرُ) أَيْ الظَّاهِرُ مِنْ الرِّوَايَةِ احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْ
(وَلَوْ دَخَلَ مِصْرًا عَلَى عَزْمِ أَنْ يَخْرُجَ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ وَلَمْ يَنْوِ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ حَتَّى بَقِيَ عَلَى ذَلِكَ سِنِينَ قَصَرَ)؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَكَانَ يَقْصُرُ. وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم مِثْلُ ذَلِكَ.
(وَإِذَا دَخَلَ الْعَسْكَرُ أَرْضَ الْحَرْبِ فَنَوَوْا الْإِقَامَةَ بِهَا قَصَرُوا وَكَذَا إذَا حَاصَرُوا فِيهَا مَدِينَةً أَوْ حِصْنًا)؛ لِأَنَّ الدَّاخِلَ بَيْنَ أَنْ يُهْزَمَ فَيَقِرَّ وَبَيْنَ أَنْ يَنْهَزِمَ فَيَفِرَّ فَلَمْ تَكُنْ دَارَ إقَامَةٍ
أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الرُّعَاةَ إذَا نَزَلُوا مَوْضِعًا كَثِيرَ الْكَلَإِ وَالْمَاءِ وَنَوَوْا الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَالْكَلَأُ وَالْمَاءُ يَكْفِيهِمْ لِتِلْكَ الْمُدَّةِ صَارُوا مُقِيمِينَ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْأَخْبِيَةِ، وَقَالُوا: نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِي الْمَفَازَةِ إنَّمَا لَا تَصِحُّ إذَا سَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِنِيَّةِ السَّفَرِ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَتَصِحُّ لِأَنَّ السَّفَرَ لَمَّا لَمْ يَتِمَّ عِلَّةً كَانَتْ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ نَقْضًا لِلْعَارِضِ لَا ابْتِدَاءَ عِلَّةٍ، وَإِذَا سَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ نَوَى كَانَتْ ابْتِدَاءَ إيجَابٍ فَلَا تَصِحُّ إلَّا فِي مَكَان ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي أُصُولِهِ فِي الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ.
دَخَلَ مِصْرًا عَلَى عَزْمِ أَنْ يَخْرُجَ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ وَلَمْ يَنْوِ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ حَتَّى بَقِيَ عَلَى ذَلِكَ سِنِينَ وَقَوْلُهُ (وَلَوْ دَخَلَ مِصْرًا) وَاضِحٌ وَأَذْرَبِيجَانَ صُحِّحَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ وَسُكُونِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ. وَقَوْلُهُ (وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلُ ذَلِكَ) رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ أَقَامَ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى نَيْسَابُورَ شَهْرَيْنِ وَكَانَ يَقْصُرُ، وَكَذَلِكَ عَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ أَقَامَ بِخُوَارِزْمَ سَنَتَيْنِ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. لَا يُقَالُ: هَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} عَلَى مَا مَرَّ مِنْ التَّقْرِيرِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَصْرُ الصِّفَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا دَخَلَ الْعَسْكَرُ أَرْضَ الْحَرْبِ) حَاصِلُ مَعْنَاهُ أَنَّ نِيَّتَهُمْ لَمْ تُصَادِفْ مَحَلَّهَا لِأَنَّ مَحَلَّهَا هُوَ مَا يَكُونُ
(وَكَذَا إذَا حَاصَرُوا أَهْلَ الْبَغْيِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي غَيْرِ مِصْرٍ أَوْ حَاصَرُوهُمْ فِي الْبَحْرِ)؛ لِأَنَّ حَالَهُمْ مُبْطِلٌ عَزِيمَتَهُمْ، وَعِنْدَ زُفَرَ رحمه الله: يَصِحُّ فِي الْوَجْهَيْنِ إذَا كَانَ الشَّوْكَةُ لَهُ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الْقَرَارِ ظَاهِرًا. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله يَصِحُّ إذَا كَانُوا فِي بُيُوتِ الْمَدَرِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ إقَامَةٍ.
(وَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَأِ وَهُمْ أَهْلُ الْأَخْبِيَةِ، قِيلَ لَا تَصِحُّ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ مُقِيمُونَ) يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ أَصْلٌ فَلَا تَبْطُلُ بِالِانْتِقَالِ مِنْ مَرْعًى إلَى مَرْعًى
مَحَلَّ قَرَارٍ لَيْسَ إلَّا، وَهَذَا دَائِرٌ بَيْنَ الْقَرَارِ وَالْفِرَارِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فَلَمْ تَكُنْ دَارَ إقَامَةٍ، وَيُعَضِّدُ مَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ» . وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا حَاصَرُوا أَهْلَ الْبَغْيِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ) إنَّمَا ذَكَرُوهُ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ حُكْمَهُ مِنْ حُكْمِ أَهْلِ الْحَرْبِ لِدَفْعِ مَا عَسَى يُتَوَهَّمُ أَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ إنَّمَا لَمْ تَصِحَّ لِأَنَّهَا مُنْقَطِعَةٌ عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ فَكَانَتْ كَالْمَفَازَةِ، بِخِلَافِ مَدِينَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَإِنَّهَا فِي يَدِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ النِّيَّةُ (وَكَذَا إذَا حَاصَرُوهُمْ فِي الْبَحْرِ) وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ حَالَهُمْ مُبْطِلٌ عَزِيمَتَهُمْ) يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْمَحَلَّ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا لِلنِّيَّةِ لَكِنْ ثَمَّةَ مَانِعٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُمْ إنَّمَا يُقِيمُونَ لِغَرَضٍ، فَإِذَا حَصَلَ انْزَعَجُوا فَلَا تَكُونُ نِيَّتُهُمْ مُسْتَقِرَّةً، وَهَذَا التَّعْلِيلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي غَيْرِ مِصْرٍ، وَقَوْلَهُ فِي الْبَحْرِ لَيْسَ بِقَيْدٍ حَتَّى لَوْ نَزَلُوا مَدِينَةَ أَهْلِ الْبَغْيِ وَحَاصَرُوهُمْ فِي الْحِصْنِ لَمْ تَصِحَّ نِيَّتُهُمْ أَيْضًا لِأَنَّ مَدِينَتَهُمْ كَالْمَفَازَةِ عِنْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ لَا يُقِيمُونَ فِيهَا. وَقَوْلُهُ (فِي الْوَجْهَيْنِ) أَيْ فِي مُحَاصَرَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ مَوْضِعُ إقَامَةٍ) أَيْ بُيُوتَ الْمَدَرِ، وَذَكَّرَ الضَّمِيرَ لِأَنَّ الْخَبَرَ مُذَكَّرٌ، وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ الْأَبْنِيَةِ وَالْأَخْبِيَةِ بِأَنَّ مَوْضِعَ الْإِقَامَةِ وَالْقَرَارِ هُوَ الْأَبْنِيَةُ دُونَ الْأَخْبِيَةِ.
(وَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَإِ وَهُمْ أَهْلُ الْأَخْبِيَةِ) مُخْتَلَفٌ فِيهَا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ (لَا تَصِحُّ) أَبَدًا لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا فِي مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ (وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ مُقِيمُونَ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ) لِلْمَرْءِ (أَصْلٌ) وَالسَّفَرَ عَارِضٌ يَحْصُلُ عِنْدَ قَصْدِ الِانْتِقَالِ إلَى مَكَان بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مُدَّةُ السَّفَرِ وَهُمْ لَا يَقْصِدُونَ ذَلِكَ،
(وَإِنْ اقْتَدَى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِ فِي الْوَقْتِ أَتَمَّ أَرْبَعًا)؛ لِأَنَّهُ يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ إلَى أَرْبَعٍ لِلتَّبَعِيَّةِ كَمَا يَتَغَيَّرُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ لِاتِّصَالِ الْمُغَيَّرِ بِالسَّبَبِ وَهُوَ الْوَقْتُ
وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُونَ مِنْ مَاءٍ إلَى مَاءٍ وَمِنْ مَرْعًى إلَى مَرْعًى فَكَانُوا مُقِيمِينَ أَبَدًا.
قَالَ (وَإِنْ اقْتَدَى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِ) بَيَّنَ هَاهُنَا حُكْمَ اقْتِدَاءِ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ وَعَكْسِهِ، وَالْأَوَّلُ يَجُوزُ إذَا كَانَ فِي الْوَقْتِ وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ خُرُوجِهِ، وَالثَّانِي يَجُوزُ فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَ خُرُوجِهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا اقْتَدَى مُسَافِرٌ بِمُقِيمٍ فِي الْوَقْتِ (أَتَمَّ) صَلَاتَهُ (أَرْبَعًا لِأَنَّهُ) الْتَزَمَ الْمُتَابَعَةَ لِمَنْ فَرْضُهُ الْأَرْبَعُ، وَمَنْ الْتَزَمَ الْمُتَابَعَةَ لِمَنْ فَرْضُهُ أَرْبَعٌ (يَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ إلَى أَرْبَعٍ لِلتَّبَعِيَّةِ كَمَا يَتَغَيَّرُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ) فَإِنْ قِيلَ: عَلَّلَ تَغَيُّرَ فَرْضِهِ بِالتَّبَعِيَّةِ بِقَوْلِهِ لِلتَّبَعِيَّةِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ تَعْلِيلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (الِاتِّصَالُ الْمُغَيِّرُ بِالسَّبَبِ وَهُوَ الْوَقْتُ) قُلْت: ذَلِكَ تَعْلِيلٌ لِلْمَقِيسِ عَلَيْهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْجَامِعَ مَوْجُودٌ وَهُوَ اتِّصَالُ الْمُغَيِّرِ بِالسَّبَبِ، فَإِنَّ الْمُغَيِّرَ فِي الْأَوَّلِ هُوَ الِاقْتِدَاءُ، وَقَدْ اتَّصَلَ بِالسَّبَبِ وَهُوَ الْوَقْتُ كَمَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الثَّانِي هُوَ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ وَقَدْ اتَّصَلَ بِالسَّبَبِ، وَإِنْ اقْتَدَى
(وَإِنْ دَخَلَ مَعَهُ فِي فَائِتَةٍ لَمْ تُجْزِهِ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بَعْدَ الْوَقْتِ لِانْقِضَاءِ السَّبَبِ، كَمَا لَا يَتَغَيَّرُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فَيَكُونُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقَعَدَةِ أَوْ الْقِرَاءَةِ.
(وَإِنْ صَلَّى الْمُسَافِرُ بِالْمُقِيمِينَ رَكْعَتَيْنِ سَلَّمَ وَأَتَمَّ الْمُقِيمُونَ صَلَاتَهُمْ)
بِهِ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ اتِّصَالِ الْمُغَيِّرِ كَمَا إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَ الْوَقْتِ. وَإِنَّمَا قَالَ (وَإِنْ دَخَلَ مَعَهُ فِي فَائِتَةٍ) وَلَمْ يَقُلْ وَإِنْ اقْتَدَى بِهِ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ لِئَلَّا يَرِدَ عَلَيْهِ مَا إذَا دَخَلَ مُسَافِرٌ فِي صَلَاةِ الْمُقِيمِ فِي الْوَقْتِ ثُمَّ ذَهَبَ الْوَقْتُ فَإِنَّهَا لَمْ تَفْسُدْ، وَقَدْ وُجِدَ الِاقْتِدَاءُ بَعْدَهُ لِأَنَّ الْإِتْمَامَ لَزِمَهُ بِالشُّرُوعِ مَعَ الْإِمَامِ فِي الْوَقْتِ فَالْتُحِقَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْمُقِيمِينَ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمُتَابَعَةَ لَوْ اسْتَلْزَمَتْ الْإِتْمَامَ لَوَجَبَ عَلَى مُسَافِرٍ اقْتَدَى بِهِ مُقِيمٌ فَأَحْدَثَ الْمُسَافِرُ وَاسْتَخْلَفَ الْمُقِيمَ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ أَرْبَعًا لِأَنَّهُ صَارَ مُتَابِعًا لِلْمُقِيمِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ فَرْضَهُ لَا يَتَغَيَّرُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ لِلِاقْتِدَاءِ وَالْمُسَافِرُ كَانَ فِيهِ مَتْبُوعًا لَا تَابِعًا. وَقَوْلُهُ (فَيَكُونُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ) نَتِيجَةُ مَا قَبْلَهُ وَتَقْرِيرُهُ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بَعْدَ الْوَقْتِ، وَإِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ كَانَ اقْتِدَاؤُهُ عَقْدًا لَا يُفِيدُ مُوجِبُهُ لِاسْتِلْزَامِهِ أَحَدَ الْمَحْذُورَيْنِ لِأَنَّهُ إنْ سَلَّمَ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ كَانَ مُخَالِفًا لِإِمَامِهِ وَهُوَ مُفْسِدٌ، وَإِنْ أَتَمَّ أَرْبَعًا خَلَطَ النَّفَلَ بِالْمَكْتُوبَةِ قَصْدًا، وَالْقَعْدَةُ الْأُولَى فَرْضٌ فِي حَقِّهِ نَفْلٌ فِي حَقِّ الْإِمَامِ، وَكَذَلِكَ الْقِرَاءَةُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ (فَيَكُونُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقَعْدَةِ) إنْ اقْتَدَى بِهِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ (أَوْ الْقِرَاءَةِ) إنْ اقْتَدَى بِهِ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، وَكَلِمَةُ أَوْ لِعِنَادِ الْخُلُوِّ دُونَ مَانِعَةِ الْجَمْعِ لِجَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا، وَذَلِكَ أَيْضًا مُفْسِدٌ. وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ نَسِيَ الْقِرَاءَةَ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ وَقَضَاهَا فِي الشَّفْعِ الثَّانِي يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، لِكَوْنِ الْقَعْدَةِ وَالْقِرَاءَةِ فَرْضَيْنِ عَلَى الْإِمَامِ أَيْضًا كَالْمُقْتَدِي وَالثَّانِي أَنَّ اقْتِدَاءَ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ فِي الشَّفِيعِ الثَّانِي جَائِزٌ مَعَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْمُفْتَرِضِ نَفْلٌ، وَعَلَى الْمُتَنَفِّلِ فَرْضٌ فَكَانَ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِض بِالْمُتَنَفِّلِ.
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْقَضَاءَ يُلْتَحَقُ بِمَحَلِّ الْأَدَاءِ فَيَبْقَى الشَّفْعُ الثَّانِي خَالِيًا عَنْ الْقِرَاءَةِ فَكَانَ بِنَاءَ الْمَوْجُودِ عَلَى الْمَعْدُومِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ صَلَاةَ الْمُتَنَفِّلِ أَخَذَتْ حُكْمَ الْفَرْضِ تَبَعًا لِصَلَاةِ الْإِمَامِ، وَلِهَذَا لَوْ أَفْسَدَ الْمُتَنَفِّلُ صَلَاتَهُ بَعْدَ الِاقْتِدَاءِ وَجَبَ قَضَاؤُهَا أَرْبَعًا، وَإِنْ اقْتَدَى الْمُقِيمُونَ بِمُسَافِرٍ صَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ وَأَتَمَّ الْمُقِيمُونَ صَلَاتَهُمْ لِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ الْتَزَمَ الْمُوَافَقَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَقَدْ أَدَّى مَا الْتَزَمَ وَلَمْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ فَيَنْفَرِدُ فِي الْبَاقِي كَالْمَسْبُوقِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ فِي الْأَصَحِّ.
وَقَوْلُهُ فِي الْأَصَحِّ احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ مِنْ
لِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ الْتَزَمَ الْمُوَافَقَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَيَنْفَرِدُ فِي الْبَاقِي كَالْمَسْبُوقِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهُ مُقْتَدٍ تَحْرِيمَةً لَا فِعْلًا وَالْفَرْضُ صَارَ مُؤَدًّى فَيَتْرُكُهَا احْتِيَاطًا، بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ قِرَاءَةً نَافِلَةً فَلَمْ يَتَأَدَّ الْفَرْضُ فَكَانَ الْإِتْيَانُ أَوْلَى، قَالَ:(وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذْ سَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ)؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَهُ حِينَ
وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فِيمَا يُتِمُّونَ لِأَنَّهُمْ مُنْفَرِدُونَ فِيهِ وَلِهَذَا يَلْزَمُهُمْ سُجُودُ السَّهْوِ إذَا سَهَوْا فِيهِ فَأَشْبَهُوا الْمَسْبُوقِينَ. وَوَجْهُ الْأَصَحِّ مَا ذُكِرَ فِي كِتَابٍ أَنَّهُ مُقْتَدٍ تَحْرِيمَةُ لَا فِعْلًا. يَعْنِي فِي الشَّفْعِ الثَّانِي، أَمَّا أَنَّهُ مُقْتَدٍ تَحْرِيمَهُ فَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْأَدَاءَ مَعَهُ فِي أَوَّلِ التَّحْرِيمَةِ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُقْتَدٍ فِعْلًا فَلِأَنَّ فِعْلَ الْإِمَامِ قَدْ فَرَغَ بِالسَّلَامِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ لَاحِقٌ، وَلَا قِرَاءَةَ عَلَى اللَّاحِقِ لِأَنَّهُ بِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ مُقْتَدِيًا تَحْرِيمَهُ حَرُمَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ. وَبِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مُقْتَدٍ فِعْلًا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْقِرَاءَةُ لِأَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ صَارَ مُؤَدِّيًا فَدَارَتْ قِرَاءَتُهُ بَيْنَ كَوْنِهِ حَرَامًا وَمُسْتَحَبًّا فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي التَّرْكِ تَرْجِيحًا لِلْمُحْرِمِ بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ قِرَاءَةَ نَافِلَةٍ، يَعْنِي فِي الْأُخْرَيَيْنِ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ، فَبِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ مُقْتَدِيًا كَانَتْ بِدْعَةً، وَبِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ مُنْفَرِدًا كَانَتْ فَرْضًا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَأَدَّ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ فَكَانَتْ عَلَيْهِ وَاجِبَةً. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَتْ وَاجِبَةً كَيْفَ قَالَ فَكَانَ الْإِتْيَانُ أَوْلَى؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْأَوْلَوِيَّةَ لَا تُنَافِي الْوُجُوبَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوْلَوِيَّةِ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْوُجُودِ عَلَى التُّرْكِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْوُجُوبِ وَزِيَادَةٌ وَفِيهِ مَا فِيهِ. وَقِيلَ ذَكَرَهُ بِمُقَابَلَةِ مَا ذُكِرَ مِنْ قِرَاءَةِ الْمُقِيمِينَ بَعْدَ فَرَاغِ إمَامِهِمْ الْمُسَافِرِ لَا بِالنَّظَرِ فِي نَفْسِهِ، وَقِيلَ ذَكَرَهُ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ فَيَتْرُكُهَا احْتِيَاطًا وَمُرَادُهُ أَنَّ جَعْلَهُ مُنْفَرِدًا لِتَجِبَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ لَوْ تَرَكَهَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ مُقْتَدِيًا وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَجِبُ جَعْلُهُ مُنْفَرِدًا.
(وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ إذَا سَلَّمَ أَنْ يَقُولَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ) أَيْ مُسَافِرُونَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِحَالِ الْإِمَامِ بِكَوْنِهِ مُقِيمًا أَوْ مُسَافِرًا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِأَنَّهُمْ إنْ عَلِمُوا أَنَّهُ مُسَافِرٌ فَقَوْلُهُ هَذَا عَبَثٌ، وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّهُ مُقِيمٌ كَانَ كَاذِبًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إذَا لَمْ يَعْلَمُوا، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ذُكِرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَغَيْرِهِ أَنَّ مَنْ اقْتَدَى بِإِمَامٍ لَا يَدْرِي أَنَّهُ مُقِيمٌ أَوْ مُسَافِرٌ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ.
وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا مَا قِيلَ إنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا بَنَوْا أَمْرَ الْإِمَامِ عَلَى ظَاهِرِ حَالِ الْإِقَامَةِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُقِيمٍ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وَتَفَرَّقُوا عَلَى ذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِمْ فَسَادَ
صَلَّى بِأَهْلِ مَكَّةَ وَهُوَ مُسَافِرٌ
صَلَاةِ الْإِمَامِ. وَأَمَّا إذَا عَلِمُوا بَعْدَ الصَّلَاةِ بِحَالِ الْإِمَامِ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا بِحَالِهِ وَقْتَ الِاقْتِدَاءِ، وَبِهَذَا الْقَوْلِ يُعْلَمُ حَالُهُ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ وَاجِبًا عَلَى الْإِمَامِ لِأَنَّ إصْلَاحَ صَلَاةِ الْقَوْمِ يَحْصُلُ بِهِ، وَمَا يَحْصُلُ بِهِ ذَلِكَ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْإِمَامِ فَكَيْفَ قَالَ وَيُسْتَحَبُّ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ إصْلَاحَ صَلَاتِهِمْ لَيْسَ بِمُتَوَقِّفٍ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَلْبَتَّةَ بَلْ إذَا سَلَّمَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وَعَلِمَ عَدَمَ سَهْوِهِ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ
(وَإِذَا دَخَلَ الْمُسَافِرُ فِي مِصْرِهِ أَتَمَّ الصَّلَاةَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْمُقَامَ فِيهِ)؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام وَأَصْحَابَهُ رضي الله عنهم كَانُوا يُسَافِرُونَ وَيَعُودُونَ إلَى أَوْطَانِهِمْ مُقِيمِينَ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ جَدِيدٍ.
مُسَافِرٌ حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الصَّلَاحِ فَكَانَ قَوْلُهُ هَذَا بَعْدَ ذَلِكَ زِيَادَةَ إعْلَامٍ بِأَنَّهُ مُسَافِرٌ وَإِزَالَةً لِلتُّهْمَةِ عَنْ نَفْسِهِ وَاقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ قَالَهُ حِينَ صَلَّى بِأَهْلِ مَكَّةَ وَهُوَ مُسَافِرٌ فَكَانَ أَمْرًا مُسْتَحَبًّا لَا وَاجِبًا.
قَالَ (وَإِذَا دَخَلَ الْمُسَافِرُ مِصْرَهُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ) مَعْنَاهُ: إذَا اسْتَكْمَلَ الْمُسَافِرُ بِسَيْرِهِ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ثُمَّ دَخَلَ وَطَنَهُ الْأَصْلِيَّ أَتَمَّ الصَّلَاةَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ فِيهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُسَافِرُونَ ثُمَّ يَعُودُونَ إلَى أَوْطَانِهِمْ مُقِيمِينَ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ جَدِيدٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْعَزْمَ فِعْلُ الْقَلْبِ وَهُوَ أَمْرٌ بَاطِنٌ، وَلَيْسَ لَهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ يَقُومُ مَقَامَهُ، بَلْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسَافِرِ الْعَائِدِ إلَى وَطَنِهِ أَنْ يَكُونَ فِي عَزْمِهِ الْمَقَامُ فِيهِ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ عَزْمٌ جَدِيدٌ لِمُدَّةِ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَإِنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُهُ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْمَعْقُولِ أَظْهَرُ وَهُوَ أَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ لِصَيْرُورَةِ الْمُسَافِرِ مُقِيمًا فِي مِصْرِ
(وَمَنْ كَانَ لَهُ وَطَنٌ فَانْتَقَلَ عَنْهُ وَاسْتَوْطَنَ غَيْرَهُ ثُمَّ سَافَرَ وَدَخَلَ وَطَنَهُ الْأَوَّلَ قَصَرَ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ وَطَنًا لَهُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام بَعْدَ الْهِجْرَةِ عَدَّ نَفْسَهُ بِمَكَّةَ مِنْ الْمُسَافِرِينَ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْوَطَنَ الْأَصْلِيَّ يَبْطُلُ بِمِثْلِهِ دُونَ
غَيْرِهِ لِأَنَّ مُكْثَهُ فِي حَيِّزِ التَّرَدُّدِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لِلسَّيْرِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ لِلْإِقَامَةِ فَاحْتِيجَ إلَى النِّيَّةِ، فَأَمَّا فِي مِصْرِهِ فَهُوَ مُتَعَيِّنٌ لِلْإِقَامَةِ كَمَا كَانَ قَبْلَ السَّيْرِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَسْتَكْمِلْ الْمُسَافِرُ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَهُوَ بِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ عَلَى الدُّخُولِ فِي مِصْرِهِ يَصِيرُ مُقِيمًا وَتَتِمُّ صَلَاتُهُ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ رَفْضُ الْإِيجَابِ لَا ابْتِدَاؤُهُ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ كَانَ لَهُ وَطَنٌ فَانْتَقَلَ مِنْهُ) اعْلَمْ أَنَّ عَامَّةَ الْمَشَايِخِ قَسَمُوا الْأَوْطَانَ عَلَى ثَلَاثَةٍ: وَطَنٍ أَصْلِيٍّ وَهُوَ مَوْلِدُ الرَّجُلِ أَوْ الْبَلَدُ الَّذِي تَأَهَّلَ فِيهِ. وَوَطَنِ إقَامَةٍ وَهُوَ الْبَلَدُ الَّذِي يَنْوِي الْمُسَافِرُ فِيهِ الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَيُسَمَّى وَطَنَ سَفَرٍ أَيْضًا. وَوَطَنِ السُّكْنَى وَهُوَ الْبَلَدُ الَّذِي يَنْوِي الْمُسَافِرُ فِيهِ الْإِقَامَةَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ قَسَمُوا الْوَطَنَ إلَى الْأَصْلِيِّ وَوَطَنِ الْإِقَامَةِ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا وَطَنَ السُّكْنَى وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ فِيهِ الْإِقَامَةُ بَلْ حُكْمُ السَّفَرِ فِيهِ بَاقٍ، وَالْأَصْلُ
السَّفَرِ، وَوَطَنُ الْإِقَامَةِ يَبْطُلُ بِمِثْلِهِ وَبِالسَّفَرِ وَبِالْأَصْلِيِّ.
(وَإِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ وَمِنًى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَمْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ)؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ النِّيَّةِ فِي مَوْضِعَيْنِ يَقْتَضِي اعْتِبَارَهَا فِي مَوَاضِعَ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ لَا يُعَرَّى عَنْهُ
أَنَّ الْوَطَنَ الْأَصْلِيَّ يَبْطُلُ بِالْوَطَنِ الْأَصْلِيِّ دُونَ وَطَنِ الْإِقَامَةِ، وَإِنْشَاءُ السَّفَرِ وَهُوَ أَنْ يَخْرُجَ قَاصِدًا مَكَانًا يَصِلُ إلَيْهِ فِي مُدَّةِ السَّفَرِ لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يَبْطُلُ بِمَا فَوْقَهُ أَوْ مَا يُسَاوِيهِ وَلَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ فَيَبْطُلُ بِمَا يُسَاوِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْهِجْرَةِ عَدَّ نَفْسَهُ بِمَكَّةَ مِنْ الْمُسَافِرِينَ وَقَالَ «أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» وَأَمَّا وَطَنُ الْإِقَامَةِ فَلَهُ مَا يُسَاوِيهِ وَمَا هُوَ فَوْقَهُ فَيَبْطُلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا وَبِإِنْشَاءِ السَّفَرِ أَيْضًا لِأَنَّهُ ضِدُّهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ ضِدٌّ لِلْوَطَنِ الْأَصْلِيِّ أَيْضًا فَلَمْ لَمْ يُبْطِلْهُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَمْ يُبْطِلْهُ بِالْأَثَرِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى الْغَزَوَاتِ وَلَمْ يُنْتَقَضْ وَطَنُهُ بِالْمَدِينَةِ» حَيْثُ لَمْ يُجَدِّدْ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ بَعْدَ الرُّجُوعِ.
نَوَى الْمُسَافِرُ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ وَمِنًى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ اعْتِبَارَ النِّيَّةِ فِي مَوْضِعَيْنِ يَقْتَضِي اعْتِبَارَهَا فِي مَوَاضِعَ) يَعْنِي إلَى عَشْرَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ دَفْعًا لِلتَّحَكُّمِ (وَهُوَ) أَيْ اعْتِبَارُهَا فِي مَوَاضِعَ (مُمْتَنِعٌ)
إلَّا إذَا نَوَى الْمُسَافِرُ أَنْ يُقِيمَ بِاللَّيْلِ فِي أَحَدِهِمَا فَيَصِيرَ مُقِيمًا بِدُخُولِهِ فِيهِ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْمَرْءِ مُضَافَةٌ إلَى مَبِيتِهِ.
(وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فِي السَّفَرِ قَضَاهَا فِي الْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَمَنْ فَاتَتْهُ فِي الْحَضَرِ قَضَاهَا فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا)؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِحَسَبِ الْأَدَاءِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ آخِرُ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ الْمُعْتَبَرُ فِي السَّبَبِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ.
لِأَنَّ إقَامَتَهُ حِينَئِذٍ إنَّمَا تَكُونُ بِنُزُولِهِ وَتَرْوِيحِ دَابَّتِهِ، وَالسَّفَرُ لَا يَعْرَى عَنْ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ فَيَكُونُ كُلُّ مُسَافِرٍ مُقِيمًا إنْ نَوَى، وَهُوَ فَاسِدٌ لِاخْتِلَافِ اللَّوَازِمِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ الِاجْتِمَاعِ. وَقَوْلُهُ (إلَّا إذَا نَوَى) مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ إقَامَةَ الْمَرْءِ مُضَافَةٌ إلَى مَبِيتِهِ) ظَاهِرٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ السُّوقِيَّ إذَا قِيلَ لَهُ أَيْنَ تَسْكُنُ يَقُولُ فِي مَحَلَّةِ كَذَا وَنَهَارُهُ كُلُّهُ فِي السُّوقِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ الْمُعْتَبَرُ فِي السَّبَبِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَدَاءِ) يَعْنِي عِنْدَ عَدَمِ الْأَدَاءِ قَبْلَ آخِرِ الْوَقْتِ لِمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ؛ فَفِي آخِرِ الْوَقْتِ إنْ كَانَ مُسَافِرًا وَفَاتَتْهُ الصَّلَاةُ قَضَى رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مُقِيمًا، وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا فِيهِ وَفَاتَتْهُ الصَّلَاةُ قَضَى أَرْبَعًا وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِهِ مُسَافِرًا.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ كَلَامَنَا فِي الْقَضَاءِ
(وَالْعَاصِي وَالْمُطِيعُ فِي سَفَرِهِمَا فِي الرُّخْصَةِ سَوَاءٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: سَفَرُ الْمَعْصِيَةِ لَا يُفِيدُ الرُّخْصَةَ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ
وَإِذَا فَاتَتْ الصَّلَاةُ عَنْ وَقْتِهَا كَانَ كُلُّ الْوَقْتِ سَبَبًا لِمَا عُرِفَ لَا الْجُزْءُ الْأَخِيرُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ يُقَرِّرُونَ السَّبَبِيَّةَ عَلَى الْجُزْءِ الْأَخِيرِ وَإِنْ فَاتَ الْوَقْتُ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ قَدْ اخْتَارَ ذَلِكَ. وَأَقُولُ: الِاعْتِرَاضُ لَيْسَ بِوَارِدٍ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ الْقَضَاءُ بِحَسَبِ الْأَدَاءِ: يَعْنِي أَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ أَرْبَعٍ قَضَى أَرْبَعًا، وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ رَكْعَتَيْنِ قَضَى رَكْعَتَيْنِ وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي السَّبَبِيَّةِ لِلْأَدَاءِ هُوَ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ مِنْ الْوَقْتِ، وَهَذَا أَيْضًا لَا نِزَاعَ فِيهِ وَبِهِ يَتِمُّ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ.
وَأَمَّا أَنَّ السَّبَبِيَّةَ تَنْتَقِلُ بَعْدَ الْفَوْتِ إلَى كُلِّ الْوَقْتِ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي عَدَمِ جَوَازِ قَضَاءِ الْعَصْرِ الْفَائِتِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَقْتَ الِاحْمِرَارِ فَذَلِكَ شَيْءٌ آخَرُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي مُرَادِ الْمُصَنِّفِ، وَهَذَا وَاضِحٌ فَتَأَمَّلْهُ يُغْنِيك عَنْ التَّطْوِيلِ. وَنُوقِضَ قَوْلُهُمْ الْقَضَاءُ بِحَسَبِ الْأَدَاءِ بِمَا إذَا دَخَلَ الْمُسَافِرُ فِي صَلَاةِ الْمُقِيمِ ثُمَّ ذَهَبَ الْوَقْتُ ثُمَّ أَفْسَدَ الْإِمَامُ أَوْ الْمُقْتَدِي صَلَاتَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَقْضِي رَكْعَتَيْنِ صَلَاةَ السَّفَرِ وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الصَّلَاةِ أَرْبَعًا. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَزِمَهُ الْأَرْبَعُ لِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْإِفْسَادِ فَعَادَ إلَى أَصْلِهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَفْسَدَ الِاقْتِدَاءَ فِي الْوَقْتِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ السَّفَرِ فَكَذَا هَاهُنَا.
وَقَوْلُهُ (وَالْعَاصِي وَالْمُطِيعُ فِي سَفَرِهِمَا فِي الرُّخْصَةِ سَوَاءٌ) السَّفَرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: سَفَرُ طَاعَةٍ كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ، وَسَفَرٌ مُبَاحٌ كَالتِّجَارَةِ، وَسَفَرُ مَعْصِيَةٍ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالْإِبَاقِ عَنْ الْمَوْلَى وَحَجِّ الْمَرْأَةِ بِلَا مَحْرَمٍ. وَالْأَوَّلَانِ سَبَبَانِ لِلرُّخْصَةِ بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا الْأَخِيرُ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. قَالَ: لِأَنَّ الرُّخْصَةَ تَثْبُتُ تَخْفِيفًا، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يُوجِبُ التَّغْلِيظَ لِأَنَّ
تَخْفِيفًا فَلَا تَتَعَلَّقُ بِمَا يُوجِبُ التَّغْلِيظَ، وَلَنَا إطْلَاقُ النُّصُوصِ، وَلِأَنَّ السَّفَرَ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ مَا يَكُونُ بَعْدَهُ أَوْ يُجَاوِرُهُ فَصَلُحَ مُتَعَلَّقُ الرُّخْصَةِ. .
إضَافَةَ الْحُكْمِ إلَى وَصْفٍ يَقْتَضِي خِلَافَهُ فَسَادٌ فِي الْوَضْعِ (وَلَنَا إطْلَاقُ النُّصُوصِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «فَرْضُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ» وَقَالَ «يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا» وَالْكُلُّ كَمَا تَرَى مُطْلَقٌ، فَزِيَادَةُ قَيْدِ أَنْ لَا يَكُونَ عَاصِيًا نُسِخَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ (وَلِأَنَّ نَفْسَ السَّفَرِ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ) إذْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ خُرُوجِ مَدِيدٍ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْمَعْنَى شَيْءٌ مِنْ الْمَعْصِيَةِ (وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ مَا يَكُونُ بَعْدَهُ) كَمَا فِي السَّرِقَةِ (أَوْ مُجَاوِرِهِ) كَمَا فِي الْإِبَاقِ (فَصُلْحٌ) مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ (مُتَعَلِّقُ الرُّخْصَةِ)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لِإِمْكَانِ الِانْفِكَاكِ عَمَّا يُجَاوِرُهُ كَمَا إذَا غَصَبَ خُفًّا وَلَبِسَهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمُوجِبَ سَتْرُ قَدَمَيْهِ، وَلَا مَحْظُورَ فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي مُجَاوِرِهِ وَهُوَ صِفَةُ كَوْنِهِ مَغْصُوبًا، وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ.
(بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ)
بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ:
تَنَاسُبُ هَذَا الْبَابِ لِمَا قَبْلَهُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُنَصَّفُ بِوَاسِطَةٍ الْأَوَّلُ بِوَاسِطَةِ السَّفَرِ، وَالثَّانِي بِوَاسِطَةِ الْخُطْبَةِ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ شَامِلٌ فِي كُلِّ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، وَالثَّانِي خَاصٌّ فِي الظُّهْرِ، وَالْخَاصُّ بَعْدَ الْعَامِّ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بَعْدَ الْعُمُومِ، وَالْجُمُعَةُ مِنْ الِاجْتِمَاعِ كَالْفُرْقَةِ مِنْ الِافْتِرَاقِ، وَالْمِيمُ سَاكِنٌ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ وَالْقُرَّاءُ تَضُمُّهَا. وَهِيَ فَرِيضَةٌ بِالْكِتَابِ
(لَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ، أَوْ فِي مُصَلَّى الْمِصْرِ، وَلَا تَجُوزُ فِي الْقُرَى)
وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} أَمَرَ بِالسَّعْيِ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَهِيَ الْخُطْبَةُ الَّتِي هِيَ شَرْطُ جَوَازِ الْجُمُعَةِ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَإِذَا كَانَ السَّعْيُ وَاجِبًا إلَيْهَا فَإِلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْجُمُعَةُ أَوْلَى، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِتَحْرِيمِ الْمُبَاحِ، وَلَا يَكُونُ إلَّا لِأَمْرٍ وَاجِبٍ مُقْتَضِي الْحِكْمَةِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمْ الْجُمُعَةَ فِي يَوْمِي هَذَا فِي شَهْرِي هَذَا فِي مَقَامِي هَذَا، فَمَنْ تَرَكَهَا تَهَاوُنًا بِهَا وَاسْتِخْفَافًا بِحَقِّهَا وَلَهُ إمَامٌ جَائِرٌ أَوْ عَادِلٌ أَلَا فَلَا جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ أَلَا فَلَا صَلَاةَ لَهُ، أَلَا فَلَا زَكَاةَ لَهُ، أَلَا فَلَا صَوْمَ لَهُ، إلَّا أَنْ يَتُوبَ، فَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ قَدْ اجْتَمَعَتْ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَصْلِ الْفَرْضِ فِي هَذَا الْوَقْتِ عَلَى مَا يَجِيءُ، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّا أُمِرْنَا بِتَرْكِ الظُّهْرِ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ، وَالظُّهْرُ فَرِيضَةٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرِيضَةِ إلَّا لِفَرْضٍ هُوَ آكَدُ مِنْهُ. وَلَهَا شُرُوطٌ زَائِدَةٌ عَلَى شُرُوطِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، فَمِنْهَا مَا هُوَ فِي الْمُصَلِّي كَالْحُرِّيَّةِ وَالذُّكُورَةِ وَالْإِقَامَةِ وَالصِّحَّةِ وَسَلَامَةِ الرِّجْلَيْنِ وَالْبَصَرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي غَيْرِهِ كَالْمِصْرِ الْجَامِعِ وَالسُّلْطَانِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْخُطْبَةِ وَالْوَقْتِ وَالْإِظْهَارِ، حَتَّى إنَّ الْوَالِيَ لَوْ أَغْلَقَ بَابَ الْمِصْرِ وَجَمَعَ فِيهِ بِحَشَمِهِ وَخَدَمِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ لَمْ يُجْزِهِ وَقَاضٍ يُنَفِّذُ الْأَحْكَامَ.
قَالَ (وَلَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ) هَذَا بَيَانُ شُرُوطٍ لَيْسَتْ فِي نَفْسِ الْمُصَلِّي وَهُوَ
لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» وَالْمِصْرُ الْجَامِعُ: كُلُّ مَوْضِعٍ لَهُ أَمِيرٌ وَقَاضٍ يُنَفِّذُ الْأَحْكَامَ
ظَاهِرٌ، وَعَرَّفَ الْمِصْرَ الْجَامِعَ بِقَوْلِهِ (كُلُّ مَوْضِعٍ لَهُ أَمِيرٌ وَقَاضٍ يُنَفِّذُ الْأَحْكَامَ
وَيُقِيمُ الْحُدُودَ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَعَنْهُ أَنَّهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا فِي أَكْبَرِ مَسَاجِدِهِمْ لَمْ يَسَعْهُمْ، وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَالثَّانِي اخْتِيَارُ الثَّلْجِيِّ، وَالْحُكْمُ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى الْمُصَلِّي بَلْ تَجُوزُ فِي جَمِيعِ أَفْنِيَةِ الْمِصْرِ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَتِهِ فِي حَوَائِجِ أَهْلِهِ.
وَيُقِيمُ الْحُدُودَ) وَالْمُرَادُ بِالْأَمِيرِ وَالٍ يَقْدِرُ عَلَى إنْصَافِ الْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمِ، وَإِنَّمَا قَالَ وَيُقِيمُ الْحُدُودَ بَعْدَ قَوْلِهِ يُنَفِّذُ الْأَحْكَامَ لِأَنَّ تَنْفِيذَ الْأَحْكَامِ لَا يَسْتَلْزِمُ إقَامَةَ الْحُدُودِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ قَاضِيَةً تُنَفِّذُ الْأَحْكَامَ وَلَيْسَ لَهَا إقَامَةُ الْحُدُودِ وَكَذَاك الْمُحَكَّمُ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْحُدُودِ عَنْ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ فِي عَامَّةِ الْأَحْكَامِ، فَكَانَ ذِكْرُ أَحَدِهِمَا مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ الْآخَرِ (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (أَنَّهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا) أَيْ اجْتَمَعَ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ لَا كُلُّ مَنْ يَسْكُنُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ لِأَنَّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ مُجْتَمِعُونَ فِيهِ عَادَةً. قَالَ ابْنُ شُجَاعٍ: أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ إذَا كَانَ أَهْلُهَا بِحَيْثُ لَوْ اجْتَمَعُوا فِي أَكْبَرِ مَسَاجِدِهِمْ لَمْ يَسَعْهُمْ ذَلِكَ حَتَّى احْتَاجُوا إلَى بِنَاءِ مَسْجِدٍ آخَرَ لِلْجُمُعَةِ وَهَذَا الِاحْتِيَاجُ غَالِبٌ عِنْدَ اجْتِمَاعِ مَنْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالثَّانِي اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الثَّلْجِيِّ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَةٌ أُخْرَى غَيْرُ هَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ وَهُوَ كُلُّ مَوْضِعٍ يَسْكُنُهُ عَشْرَةُ آلَافِ نَفَرٍ فَكَانَ عَنْهُ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ.
وَقَوْلُهُ (وَالْحُكْمُ غَيْرُ مَقْصُورٍ) يَعْنِي جَوَازَ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ لَيْسَ بِمَحْصُورٍ فِي الْمُصَلَّى (بَلْ تَجُوزُ فِي جَمِيعِ أَفْنِيَةِ الْمِصْرِ لِأَنَّهَا) أَيْ الْأَفْنِيَةَ (بِمَنْزِلَةِ الْمِصْرِ فِي حَوَائِجِ أَهْلِهِ) وَيُعْرَفُ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ تَعْرِيفُ الْفِنَاءِ، وَهُوَ مَا أُعِدَّ لِحَوَائِجِ أَهْلِ الْمِصْرِ، وَفِنَاءُ الدَّارِ وَفِنَاءُ كُلِّ شَيْءٍ كَذَلِكَ. وَقَدَّرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِنَاءَ الْمِصْرِ بِالْغَلْوَةِ اعْتِبَارًا بِمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي النَّوَادِرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمِصْرُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَا فِنَاؤُهُ، بَلْ كُلُّ قَرْيَةٍ يَسْكُنُهَا أَرْبَعُونَ مِنْ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا شِتَاءً وَلَا صَيْفًا تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْمَدِينَةِ مَا جُمِعَتْ بِجُوَاثَا، وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى عَامِرِ بْنِ الْقَيْسِ بِالْبَحْرَيْنِ، وَكَتَبَ أَبُو هُرَيْرَةَ إلَى عُمَرَ يَسْأَلُهُ عَنْ الْجُمُعَةِ بِجُوَاثَا فَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ جَمِّعْ بِهَا وَحَيْثُمَا كُنْت وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» يَنْفِي إقَامَتَهَا فِي الْقُرَى، وَالصَّحَابَةُ
(وَتَجُوزُ بِمِنًى إذَا كَانَ الْأَمِيرُ أَمِيرَ الْحِجَازِ، أَوْ كَانَ مُسَافِرًا عِنْدَهُمَا. وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا جُمُعَةَ بِمِنًى)؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْقُرَى
حِينَ فَتَحُوا الْأَمْصَارَ وَالْقُرَى مَا اشْتَغَلُوا بِنَصْبِ الْمَنَابِرِ وَبِنَاءِ الْجَوَامِعِ إلَّا فِي الْأَمْصَارِ وَالْمُدُنِ، وَذَلِكَ اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْمِصْرَ مِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ، وَالْآيَةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ لَهُ لِأَنَّ الْمَكَانَ مُضْمَرٌ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَا تَجُوزَ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي الْبَوَادِي بِالْإِجْمَاعِ، فَنَحْنُ نُضْمِرُ الْمِصْرَ وَهُوَ يُضْمِرُ الْقَرْيَةَ، وَجُوَاثَا مِصْرٌ بِالْبَحْرَيْنِ، وَتَسْمِيَةُ الرَّاوِي قَرْيَةً لَا يَنْفِي مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ اسْمَ الْقَرْيَةِ يُطْلَقُ عَلَى الْبَلْدَةِ
وَقَوْلُهُ (وَتَجُوزُ) يَعْنِي إقَامَةَ الْجُمُعَةِ (بِمِنًى إنْ كَانَ الْإِمَامُ أَمِيرَ الْحِجَازِ أَوْ كَانَ الْخَلِيفَةُ مُسَافِرًا) وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِكَوْنِهِ مُسَافِرًا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ مُقِيمًا كَانَ بِالْجَوَازِ أَوْلَى. وَإِمَّا لِنَفْيِ تَوَهُّمِ أَنَّ الْخَلِيفَةَ كَانَ مُسَافِرًا لَا يُقِيمُ الْجُمُعَةَ، كَمَا إذَا كَانَ أَمِيرُ الْمَوْسِمِ مُسَافِرًا. وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْخَلِيفَةَ أَوْ السُّلْطَانَ إذَا طَافَ فِي وِلَايَتِهِ كَانَ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ فِي كُلِّ مِصْرٍ يَكُونُ فِيهِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ إمَامَةَ غَيْرِهِ إنَّمَا تَجُوزُ بِأَمْرِهِ، فَإِمَامَتُهُ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا، وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهَا) يَعْنِي مِنًى عَلَى تَأْوِيلِ الْقَرْيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ لِأَنَّهَا قَرْيَةٌ (مِنْ الْقُرَى) يَعْنِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمِصْرٍ وَلَا مِنْ فِنَائِهِ لِزِيَادَتِهِ عَلَى الْغَلْوَةِ
حَتَّى لَا يُعِيدَ بِهَا. وَلَهُمَا أَنَّهَا تَتَمَصَّرُ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ وَعَدَمُ التَّعْيِيدِ لِلتَّخْفِيفِ، وَلَا جُمُعَةَ بِعَرَفَاتٍ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهَا قَضَاءٌ وَبِمِنًى أَبْنِيَةٌ. وَالتَّقْيِيدُ بِالْخَلِيفَةِ وَأَمِيرِ الْحِجَازِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَهُمَا، أَمَّا أَمِيرُ الْمَوْسِمِ فَيَلِي أُمُورَ الْحَجِّ لَا غَيْرُ.
(وَلَا يَجُوزُ إقَامَتُهَا إلَّا لِلسُّلْطَانِ أَوْ لِمَنْ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ)
وَلِهَذَا لَا يُعِيدُ بِهَا) فَلَا تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَةُ (وَلَهُمَا أَنَّهَا تَتَمَصَّرُ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ) لِاجْتِمَاعِ شَرَائِطِ الْمِصْرِ مِنْ السُّلْطَانِ وَالْقَاضِي وَالْأَبْنِيَةِ وَالْأَسْوَاقِ (وَعَدَمِ التَّعْيِيدِ) أَيْ عَدَمُ إقَامَةِ صَلَاةِ الْعِيدِ لِلتَّخْفِيفِ لِاشْتِغَالِ الْحَاجِّ بِأَعْمَالِ الْمَنَاسِكِ مِنْ الرَّمْيِ وَالذَّبْحِ وَالْحَلْقِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا لِعَدَمِ الْمِصْرِيَّةِ (وَلَا جُمُعَةَ بِعَرَفَاتٍ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا) وَالْفَرْقُ أَنَّ عَرَفَاتٍ فَضَاءٌ وَمِنًى فِيهِ أَبْنِيَةٌ. وَقَوْلُهُ (أَمَّا أَمِيرُ الْمَوْسِمِ فَيَلِي أُمُورَ الْحَاجِّ لَا غَيْرُ) يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ إنْ اسْتَعْمَلَ عَلَى مَكَّةَ يُقِيمُ الْجُمُعَةَ بِمِنًى لِأَنَّ لَهُ الْوِلَايَةَ حِينَئِذٍ. وَقِيلَ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُقِيمُهَا وَإِنْ اسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَوْسِمِ خَاصَّةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهَا لَا يُقِيمُ عِنْدَهُمَا أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَجُوزُ إقَامَتُهَا إلَّا لِلسُّلْطَانِ) أَيْ لِلْوَالِي الَّذِي لَا وَالِيَ فَوْقَهُ وَكَانَ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ (أَوْ لِمَنْ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ) وَهُوَ الْأَمِيرُ أَوْ الْقَاضِي أَوْ الْخُطَبَاءُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ ذَلِكَ بِشَرْطٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه
لِأَنَّهَا تُقَامُ بِجَمْعٍ عَظِيمٍ، وَقَدْ تَقَعُ الْمُنَازَعَةُ فِي التَّقَدُّمِ وَالتَّقْدِيمِ، وَقَدْ تَقَعُ فِي غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْهُ تَتْمِيمًا لِأَمْرِهِ.
(وَمِنْ شَرَائِطِهَا الْوَقْتُ فَتَصِحُّ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ وَلَا تَصِحُّ بَعْدَهُ)
حِينَ كَانَ مَحْصُورًا بِالْمَدِينَةِ صَلَّى عَلِيٌّ رضي الله عنه بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ، وَلَمْ يُرْوَ أَنَّهُ صَلَّى بِأَمْرِ عُثْمَانَ رضي الله عنه وَكَانَ الْأَمَدُ بِيَدِهِ (وَلَنَا أَنَّ الْجُمُعَةَ تُقَامُ بِجَمْعٍ عَظِيمٍ) لِكَوْنِهَا جَامِعَ الْجَمَاعَاتِ (وَقَدْ تَقَعُ الْمُنَازَعَةُ فِي التَّقَدُّمِ) بِأَنْ يَقُولَ شَخْصٌ أَنَا أَتَقَدَّمُ وَغَيْرُهُ يَقُولُ أَنَا أَتَقَدَّمُ (وَ) فِي (التَّقْدِيمِ) بِأَنْ يُقَدِّمَ طَائِفَةٌ شَخْصًا وَأُخْرَى آخَرَ (وَقَدْ يَقَعُ فِي غَيْرِهِ) أَيْ فِي غَيْرِ أَمْرِ التَّقَدُّمِ وَالتَّقْدِيمُ مِنْ أَدَاءِ مَنْ يَسْبِقُ إلَى الْجَامِعِ وَالْأَدَاءُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ (فَلَا بُدَّ مِنْهُ) أَيْ مِنْ السُّلْطَانِ أَوْ مِنْ أَمْرِهِ (تَتْمِيمًا لِأَمْرِهِ) وَأَثَرُ عَلِيٍّ لَيْسَ بِحُجَّةِ الْجَوَازِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِأَمْرِ عُثْمَانَ. سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنْ إنَّمَا فَعَلَ لِأَنَّ النَّاسَ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَجُوزُ لِأَنَّ النَّاسَ احْتَاجُوا إلَى إقَامَةِ الْفَرْضِ فَاعْتُبِرَ اجْتِمَاعُهُمْ.
قَالَ (وَمِنْ شَرَائِطِهَا) أَيْ مِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ (الْوَقْتُ) وَهُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ (فَتَصِحُّ فِيهِ وَلَا تَصِحُّ بَعْدَهُ) لِمَا رُوِيَ
لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا مَالَتْ الشَّمْسُ فَصَلِّ بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ» (وَلَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ وَهُوَ فِيهَا اسْتَقْبَلَ الظُّهْرَ وَلَا يَبْنِيه عَلَيْهَا) لِاخْتِلَافِهِمَا.
«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا بَعَثَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ إلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ هِجْرَتِهِ قَالَ لَهُ: إذَا مَالَتْ الشَّمْسُ فَصَلِّ بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ» (وَلَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ وَهُوَ فِيهَا) أَيْ الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ (اسْتَقْبَلَ الظُّهْرَ وَلَا يَبْنِيهِ عَلَيْهَا لِاخْتِلَافِهِمَا) أَيْ لِاخْتِلَافِ الظُّهْرِ وَالْجُمُعَةِ بِدَلِيلِ تَخْيِيرِ الْعَبْدِ إذَا أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي الْجُمُعَةِ بَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ أَوْ الْجُمُعَةَ مَعَ تَعَيُّنِ الرِّفْقِ فِي الْجُمُعَةِ بِالْقِلَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُونَا مُخْتَلِفَيْنِ لَمَا خُيِّرَ كَمَا فِي جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ بِحَيْثُ يَجِبُ الْأَقَلُّ عَلَى مَوْلَاهُ مِنْ الْأَرْشِ أَوْ الْقِيمَةِ بِلَا خِيَارٍ لِاتِّحَادِهِمَا فِي الْمَالِيَّةِ، وَبِنَاءُ فَرْضٍ عَلَى تَحْرِيمَةِ فَرْضٌ آخَرُ لَا يَصِحُّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ.
(وَمِنْهَا الْخُطْبَةُ)؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا صَلَّاهَا بِدُونِ الْخُطْبَةِ فِي عُمُرِهِ (وَهِيَ
وَقَوْلُهُ (وَمِنْهَا) مِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ (الْخُطْبَةُ) وَهِيَ اسْمٌ لِمَا يُخْطَبُ بِهِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ شَرْطًا «لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا صَلَّاهَا فِي عُمُرِهِ بِدُونِ الْخُطْبَةِ» وَفِيهِ بَحْثٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَأَنْ يُقَالَ: الْخُطْبَةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ رُكْنًا وَلَا تَكُونُ شَرْطًا لِأَنَّهَا أُقِيمَتْ مَقَامَ رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ وَذَلِكَ رُكْنٌ، فَكَذَلِكَ مَا قَامَ مَقَامَهُ فَلَا يَتَأَدَّى بِلَا طَهَارَةٍ وَلِأَنَّهَا لَمْ يُشْتَرَطْ قِيَامُهَا حَالَةَ الْأَدَاءِ، وَلَوْ كَانَتْ شَرْطًا لَكَانَ يُرَاعَى قِيَامُهَا حَالَةَ الْأَدَاءِ كَمَا اُشْتُرِطَ قِيَامُ الطَّهَارَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ شَرْطًا كَانَتْ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ شَرْطَ الشَّيْءِ لَازِمٌ لَهُ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى دَوَامِ وُجُودِهِ، وَالدَّوَامُ لَا يَسْتَلْزِمُ الضَّرُورَةَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ صَلَاةً بِدُونِ سُنَنِهَا كَرَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ كُلِّ تَحْرِيمَةٍ وَالتَّكْبِيرِ عِنْدَ كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَغَيْرِهِمَا، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ شَرْطًا لِلصَّلَاةِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِرُكْنٍ لِأَنَّ رُكْنَ الشَّيْءِ مَا يَقُومُ بِهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ، وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ لَا تَقُومُ بِالْخُطْبَةِ وَإِنَّمَا تَقُومُ بِأَرْكَانِهَا فَكَانَتْ شَرْطًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالسَّعْيِ إلَيْهَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا} فَتَكُونُ وَاجِبَةً وَلَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ لِذَاتِهَا لِأَنَّ النِّدَاءَ لَمْ يَقَعْ لَهَا بَلْ لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ حَيْثُ قَالَ {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} وَلَوْ كَانَتْ مَقْصُودَةً لَكَانَ النِّدَاءُ لَهَا أَوْ لَهُمَا إنْ كَانَتَا مَقْصُودَتَيْنِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا وَهِيَ فَرْضٌ كَانَتْ شَرْطًا لِغَيْرِهَا. وَقَوْلُهُ وَلَوْ كَانَتْ شَرْطًا لَكَانَ يُرَاعَى قِرَاءَةُ الْخُطْبَةِ حَالَ الْأَدَاءِ. قُلْنَا: الشَّرْطُ وُجُودُهَا لَا وُجُودُهَا حَالَ الْأَدَاءِ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الدَّوَامَ قَدْ يَسْتَلْزِمُ الضَّرُورَةَ إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ الْخَارِجِيُّ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ هَاهُنَا عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّا نَعْلَمُ بِيَقِينٍ أَنَّ شَطْرَ الظُّهْرِ تَرْكٌ لِلْخُطْبَةِ وَالْفَرْضُ لَا يُتْرَكُ لِغَيْرِ الْفَرْضِ فَكَانَتْ فَرْضًا، فَأَمَّا أَنْ تَكُونَ فَرْضًا لِذَاتِهَا أَوْ لِغَيْرِهَا لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِمَا ذَكَرْنَا فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، وَكَانَ لَازِمًا مِنْ لَوَازِمِهِ فَكَانَ شَرْطًا (وَهِيَ)
قَبْلَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الزَّوَالِ) بِهِ وَرَدَتْ السُّنَّةُ (وَيُخْطَبُ خُطْبَتَيْنِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِقَعْدَةٍ) بِهِ جَرَى التَّوَارُثُ (وَيَخْطُبُ قَائِمًا عَلَى طَهَارَةٍ)؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ فِيهِمَا مُتَوَارَثٌ، ثُمَّ هِيَ شَرْطُ الصَّلَاةِ فَيُسْتَحَبُّ فِيهَا الطَّهَارَةُ كَالْأَذَانِ
أَيْ الْخُطْبَةُ (قَبْلَ الصَّلَاةِ بِهِ وَرَدَتْ السُّنَّةُ) وَشَرْطِيَّتُهَا أَيْضًا تَقْتَضِي ذَلِكَ (وَيَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِقَعْدَةٍ) مِقْدَارَ ثَلَاثِ آيَاتٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: مِقْدَارُ مَا يَمَسُّ مَوْضِعَ جُلُوسِهِ مِنْ الْمِنْبَرِ (بِهِ جَرَى التَّوَارُثُ) وَلَفْظُ التَّوَارُثِ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي أَمْرٍ خَطِيرٍ ذِي شَرَفٍ، وَقِيلَ هُوَ حِكَايَةُ الْعَدْلِ عَنْ الْعَدْلِ، وَهَذِهِ الْقَعْدَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا إنَّمَا هِيَ لِلِاسْتِرَاحَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهَا شَرْطٌ حَتَّى لَا يُكْتَفَى عِنْدَهُ بِالْخُطْبَةِ الْوَاحِدَةِ وَإِنْ طَالَتْ لِلتَّوَارُثِ وَلَنَا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا خُطْبَةً وَاحِدَةً، فَلَمَّا أَسَنَّ جَعَلَهَا خُطْبَتَيْنِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا جَلْسَةً» وَفِيهِ كَمَا تَرَى دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِخُطْبَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ أَرْوَحَ عَلَيْهِ لَا لِأَنَّهُ شَرْطٌ (وَيَخْطُبُ قَائِمًا عَلَى طَهَارَةٍ لِأَنَّ الْقِيَامَ فِيهَا مُتَوَارَثٌ) رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمَّا سُئِلَ عَنْ هَذَا، قَالَ: أَلَسْت تَتْلُو قَوْله تَعَالَى {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ قَائِمًا حِينَ انْفَضَّ عَنْهُ النَّاسُ بِدُخُولِ الْعِيرِ الْمَدِينَةَ. وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ قَاعِدًا إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِمَرَضٍ أَوْ كِبَرٍ فِي آخِرِ عُمُرِهِ. وَقَوْلُهُ (فَيُسْتَحَبُّ فِيهَا الطَّهَارَةُ) يَعْنِي عَنْ الْجَنَابَةِ وَالْحَدَثِ جَمِيعًا كَالْأَذَانِ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ بِهِ أَنَّ الْخُطْبَةَ ذُكِرَ لَهَا شَبَهٌ بِالصَّلَاةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا أُقِيمَتْ مَقَامَ شَطْرِ الصَّلَاةِ وَتُقَامُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، كَمَا أَنَّ الْأَذَانَ أَيْضًا ذُكِرَ لَهُ شَبَهٌ بِالصَّلَاةِ مِنْ
(وَلَوْ خَطَبَ قَاعِدًا أَوْ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ جَازَ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمُخَالَفَتِهِ التَّوَارُثَ وَلِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ (فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَا: لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرٍ طَوِيلٍ يُسَمَّى خُطْبَةً)؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ هِيَ الْوَاجِبَةُ، وَالتَّسْبِيحَةُ أَوْ التَّحْمِيدَةُ لَا تُسَمَّى خُطْبَةً. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تَجُوزُ حَتَّى يَخْطُبَ خُطْبَتَيْنِ اعْتِبَارًا لِلْمُتَعَارَفِ.
وَلَهُ قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. وَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ:
حَيْثُ إنَّهُ دُعَاءٌ لَهَا وَتُقَامُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ. قِيلَ فِي عِبَارَتِهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَهُوَ غَلَطٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ كَالْأَذَانِ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ فَيُسْتَحَبُّ فِيهَا الطَّهَارَةُ لَا بِقَوْلِهِ وَهِيَ شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ (وَلَوْ خَطَبَ قَاعِدًا أَوْ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ جَازَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ) وَهُوَ الذِّكْرُ وَالْوَعْظُ. وَخَالَفَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ فِيمَا إذَا خَطَبَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ. وَالشَّافِعِيُّ وَحْدَهُ إذَا خَطَبَ قَاعِدًا. لَهُمَا فِي الْأَوَّلِ أَنَّ الْخُطْبَةَ بِمَنْزِلَةِ شَطْرِ الصَّلَاةِ لِمَا فِي الْأَثَرِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَعَائِشَةَ قَالَا: إنَّمَا قُصِرَتْ الْجُمُعَةُ لِمَكَانِ الْخُطْبَةِ، فَكَمَا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ فِي الصَّلَاةِ تُشْتَرَطُ فِيهَا. وَلِلشَّافِعِيِّ فِي الثَّانِي أَنَّ الْخُطْبَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الصَّلَاةِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهَا ذِكْرٌ وَالْمُحْدِثُ وَالْجُنُبُ لَا يُمْنَعَانِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ مَا خَلَا الْقُرْآنَ فِي حَقِّ الْجُنُبِ، وَتَأْوِيلُ الْأَثَرِ أَنَّهَا فِي حُكْمِ الثَّوَابِ كَشَرْطِ الصَّلَاةِ لَا فِي شَرَائِطِهَا. وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ جَازَ. وَقَوْلُهُ (لِمُخَالَفَتِهِ التَّوَارُثَ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ خَطَبَ قَاعِدًا. وَقَوْلُهُ (لِلْفَصْلِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ) يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يُعِيدُهَا إذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ. وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ تُعَادَ اسْتِحْبَابًا كَإِعَادَةِ أَذَانِهِ.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ عز وجل جَازَ) يَعْنِي إذَا ذَكَرَ اللَّهَ عَلَى قَصْدِ الْخُطْبَةِ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ أَوْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَمَّا إذَا قَالَ ذَلِكَ لِعُطَاسٍ أَوْ تَعَجُّبٍ فَلَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ (وَقَالَا: لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرٍ طَوِيلٍ يُسَمَّى خُطْبَةً) وَهُوَ مِقْدَارُ ثَلَاثِ آيَاتٍ عِنْدَ الْكَرْخِيِّ، وَقِيلَ مِقْدَارُ التَّشَهُّدِ مِنْ قَوْلِهِ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ إلَى قَوْلِهِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ (لِأَنَّ الْخُطْبَةَ هِيَ الْوَاجِبَةُ) يَعْنِي بِالْإِجْمَاعِ (وَالتَّسْبِيحَةُ أَوْ التَّحْمِيدَةُ أَوْ التَّهْلِيلَةُ لَا تُسَمَّى خُطْبَةً.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يَخْطُبَ خُطْبَتَيْنِ) تَشْتَمِلُ الْأُولَى عَلَى التَّحْمِيدَةِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْوَصِيَّةِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَقِرَاءَةِ آيَةٍ، وَكَذَلِكَ الثَّانِيَةُ إلَّا أَنَّ فِيهَا بَدَلَ الْآيَةِ الدُّعَاءَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ (اعْتِبَارًا لِلتَّوَارُثِ) فَإِنَّهُ جَرَى هَكَذَا مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُطْبَةُ بِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَدْ أُطْلِقَ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَأُرْتِجَ عَلَيْهِ فَنَزَلَ وَصَلَّى.
(وَمِنْ شَرَائِطِهَا الْجَمَاعَةُ)؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْهَا (وَأَقَلُّهُمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثَةٌ سِوَى الْإِمَامِ، وَقَالَا: اثْنَانِ سِوَاهُ) قَالَ: وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَحْدَهُ. لَهُ أَنَّ فِي الْمُثَنَّى مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ هِيَ مُنْبِئَةٌ عَنْهُ. وَلَهُمَا أَنَّ الْجَمْعَ الصَّحِيحَ إنَّمَا هُوَ الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّهُ جَمْعُ تَسْمِيَةٍ وَمَعْنًى، وَالْجَمَاعَةُ شَرْطٌ عَلَى
عَلَيْهَا الذِّكْرُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا نَسْخٌ. وَمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّهُ لَمَّا صَعِدَ الْمِنْبَرَ أَوَّلَ جُمُعَةٍ وَلِيَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَأُرْتِجَ عَلَيْهِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَتَخْفِيفِ الْجِيمِ: أَيْ أُغْلِقَ فَنَزَلَ وَصَلَّى وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمِقْدَارَ كَافٍ.
قَالَ (وَمِنْ شَرَائِطِهَا الْجَمَاعَةُ) الْجَمَاعَةُ شَرْطُ الْجُمُعَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافُ فِي الْعَدَدِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَقَلُّهُمْ ثَلَاثَةٌ سِوَى الْإِمَامِ وَعِنْدَهُمَا اثْنَانِ سِوَاهُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَحْدَهُ. لَهُ أَنَّ فِي الْمُثَنَّى مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ) لِأَنَّ فِيهِ اجْتِمَاعَ وَاحِدٍ بِآخَرَ وَالْجُمُعَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ لِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْجُمُعَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْجَمَاعَةِ، وَفِي الْجَمَاعَةِ اجْتِمَاعٌ لَا مَحَالَةَ (وَلَهُمَا) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ (أَنَّ الْجَمْعَ الصَّحِيحَ إنَّمَا هُوَ الثَّلَاثُ) يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّ الْجُمُعَةَ تُنْبِئُ عَنْ الِاجْتِمَاعِ، لَكِنَّ
حِدَةٍ، وَكَذَا الْإِمَامُ فَلَا يُعْتَبَرُ مِنْهُمْ.
(وَإِنْ نَفَرَ النَّاسُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ الْإِمَامُ وَيَسْجُدَ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ اسْتَقْبَلَ الظُّهْرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: إذَا نَفَرُوا عَنْهُ بَعْدَمَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ صَلَّى الْجُمُعَةَ، فَإِنْ نَفَرُوا عَنْهُ بَعْدَمَا رَكَعَ رَكْعَةً وَسَجَدَ سَجْدَةً بَنَى عَلَى الْجُمُعَةِ) خِلَافًا لِزُفَرَ. وَهُوَ يَقُولُ: إنَّهَا شَرْطٌ فَلَا بُدَّ مِنْ دَوَامِهَا كَالْوَقْتِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ فَلَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهَا كَالْخُطْبَةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الِانْعِقَادَ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِتَمَامِ
الْخِطَابَ وَرَدَ لِلْجَمْعِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وَالْجَمْعُ الصَّحِيحُ هُوَ الثَّلَاثُ (قَوْلُهُ جَمْعًا تَسْمِيَةً وَمَعْنًى) فَإِنْ قِيلَ: فَفِيمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَعَ الْإِمَامِ ثَلَاثَةً؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ: وَالْجَمَاعَةُ شَرْطٌ عَلَى حِدَةٍ، وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ، فَلَا يُعْتَبَرُ الْإِمَامُ مِنْ الْجَمَاعَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَاسْعَوْا} يَقْتَضِي ثَلَاثَةً، وَقَوْلُهُ {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} يَقْتَضِي ذَاكِرًا فَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ. وَيَجِبُ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مِمَّنْ يَصْلُحُ إمَامًا، حَتَّى إذَا كَانَ أَحَدُهُمْ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الْعَبِيدِ وَالْمُسَافِرِينَ فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ تَتِمُّ بِهِمْ لِصَلَاحِيَّتِهِمْ لِلْإِمَامَةِ، وَكَمَا نَفَى الْآيَةُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ نَفَى اشْتِرَاطَ الْأَرْبَعِينَ لِعَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَيْهِ بِيَقِينٍ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ نَفَرَ النَّاسُ) اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ إذَا نَفَرُوا قَبْلَ شُرُوعِهِمْ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ مَعَ الْإِمَامِ لَا يُصَلِّي الْجُمُعَةَ بِلَا خِلَافٍ وَيُصَلِّي الظُّهْرَ، وَإِنْ نَفَرُوا بَعْدَهُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ تَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِالسَّجْدَةِ اسْتَقْبَلَ الظُّهْرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَنَى عَلَى الْجُمُعَةِ عِنْدَهُمَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ بَنَى عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ يَقُولُ: إنَّهَا شَرْطُ الْأَدَاءِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ مِنْهُمْ مُقَارِنًا لِتَحْرِيمِ الْإِمَامِ لَيْسَ بِشَرْطٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ كَانَتْ شَرْطًا لِلِانْعِقَادِ لِاشْتِرَاطِ ذَلِكَ فَكَانَتْ كَالْوَقْتِ، وَدَوَامُهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ، فَكَذَا دَوَامُهَا، وَلَمْ يُوجَدْ إذَا نَفَرُوا بَعْدَ السُّجُودِ. وَلَهُمَا أَنَّهَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ لِأَنَّ الْأَدَاءَ قَدْ يَنْفَكُّ عَنْهَا كَمَا فِي الْمَسْبُوقِ وَاللَّاحِقِ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهَا كَالْخُطْبَةِ، فَإِنَّ دَوَامَهَا إلَى تَقْيِيدِ الرَّكْعَةِ بِالسَّجْدَةِ غَيْرُ شَرْطٍ بِالِاتِّفَاقِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ نَعَمْ هُوَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ كَمَا ذَكَرْتُمْ، وَالِانْعِقَادُ إنَّمَا هُوَ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ لَا تَتِمُّ إلَّا بِتَمَامِ الرَّكْعَةِ لِأَنَّ مَا دُونَهَا لَيْسَ بِصَلَاةٍ لِكَوْنِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْضِ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا بُدَّ مِنْ دَوَامِهَا إلَيْهَا: أَيْ مِنْ دَوَامِ الْجَمَاعَةِ إلَى الرَّكْعَةِ بِحَذْفِ الْمُضَافِ: أَيْ إلَى تَمَّامِ الرَّكْعَةِ.
الرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهَا لَيْسَ بِصَلَاةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ دَوَامِهَا إلَيْهَا بِخِلَافِ الْخُطْبَةِ فَإِنَّهَا تُنَافِي الصَّلَاةَ فَلَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهَا، وَلَا مُعْتَبَرَ بِبَقَاءِ النِّسْوَانِ، وَكَذَا الصِّبْيَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ فَلَا تَتِمُّ بِهِمْ الْجَمَاعَةُ.
(وَلَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مُسَافِرٍ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا مَرِيضٍ وَلَا عَبْدٍ وَلَا أَعْمَى)؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَخْرُجُ فِي الْحُضُورِ، وَكَذَا الْمَرِيضُ وَالْأَعْمَى، وَالْعَبْدُ مَشْغُولٌ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى، وَالْمَرْأَةُ بِخِدْمَةِ الزَّوْجِ فَعُذِرُوا
دَفْعًا
لِلْحَرَجِ وَالضَّرَرِ (فَإِنْ حَضَرُوا وَصَلَّوْا مَعَ النَّاسِ أَجْزَأَهُمْ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ)؛ لِأَنَّهُمْ تَحَمَّلُوهُ فَصَارُوا كَالْمُسَافِرِ إذَا صَامَ.
(وَيَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالْمَرِيضِ أَنْ يَؤُمَّ فِي الْجُمُعَةِ) وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْضَ عَلَيْهِ فَأَشْبَهَ الصَّبِيَّ وَالْمَرْأَةَ. وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ رُخْصَةٌ، فَإِذَا حَضَرُوا يَقَعُ فَرْضًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ،
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْخُطْبَةِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِمَا الْجَمَاعَةَ بِهَا. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْخُطْبَةَ تُنَافِي الصَّلَاةَ، فَإِنَّ الْإِمَامَ هُوَ الَّذِي يَخْطُبُ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْطُبَ فِي صَلَاةٍ فَلَا يُشْتَرَطُ دَوَامُهَا. وَقَوْلُهُ (وَلَا مُعْتَبَرَ بِبَقَاءِ النِّسْوَانِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مُسَافِرٍ) وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُمْ تَحَمَّلُوهُ) يَعْنِي الْحَرَجَ، مَعْنَاهُ أَنَّ السُّقُوطَ فَرْضُ السَّعْيِ عَنْهُمْ لَمْ يَكُنْ لِمَعْنًى فِي الصَّلَاةِ بَلْ لِلْحَرَجِ وَالضَّرَرِ، فَإِذَا تَحَمَّلُوا اُلْتُحِقُوا فِي الْأَدَاءِ بِغَيْرِهِمْ وَصَارُوا كَمُسَافِرٍ صَامَ
وَقَوْلُهُ (وَيَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ) وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (فَأَشْبَهَ الصَّبِيَّ) يَعْنِي فِي أَنَّ الْجُمُعَةَ لَيْسَتْ بِفَرْضٍ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ أَمَّ الصَّبِيُّ فِيهَا لَمْ يُجْزِهِ، فَكَذَا مَنْ أَشْبَهَهُ (وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ) أَيْ سُقُوطَ الْجُمُعَةِ عَنْهُمْ، وَأَنَّثَ الْإِشَارَةَ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ وَهُوَ (رُخْصَةٌ) لِأَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ فَيَتَنَاوَلُهُمْ، إلَّا أَنَّهُمْ عُذِرُوا دَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنْهُمْ (فَإِذَا حَضَرُوا يَقَعُ فَرْضًا عَلَى مَا بَيَّنَّا) يَعْنِي قَوْلَهُ
أَمَّا الصَّبِيُّ فَمَسْلُوبُ الْأَهْلِيَّةِ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَصْلُحُ لِإِمَامَةِ الرِّجَالِ، وَتَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ؛ لِأَنَّهُمْ صَلَحُوا لِلْإِمَامَةِ فَيَصْلُحُونَ لِلِاقْتِدَاءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
(وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي مَنْزِلِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَا عُذْرَ لَهُ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ وَجَازَتْ صَلَاتُهُ) وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْجُمُعَةَ هِيَ الْفَرِيضَةُ أَصَالَةً. وَالظُّهْرُ كَالْبَدَلِ عَنْهَا، وَلَا مَصِيرَ إلَى الْبَدَلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ. وَلَنَا أَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ هُوَ الظُّهْرُ فِي حَقِّ الْكَافَّةِ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ إلَّا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِهِ
لِأَنَّهُمْ تَحَمَّلُوهُ، وَإِذَا تَحَمَّلُوهُ يَقَعُ فَرْضًا عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَقَعْ فَرْضًا عَنْهُمْ لَكَانَ مَا فَرَضْنَاهُ لِدَفْعِ الْحَرَجِ حَرَجًا وَذَلِكَ خَلَفٌ بَاطِلٌ، أَمَّا الصَّبِيُّ فَمَسْلُوبُ الْأَهْلِيَّةِ فَلَنْ يَتَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَصْلُحُ لِإِمَامَةِ الرِّجَالِ.
وَقَوْلُهُ (وَتَنْعَقِدُ بِهِمْ) أَيْ بِالْمُسَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالْمَرِيضِ (الْجُمُعَةُ) إشَارَةً إلَى رَدِّ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إنَّ هَؤُلَاءِ تَصِحُّ إمَامَتُهُمْ، لَكِنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ فِي الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا صَلَحُوا لِلْإِمَامَةِ، فَلَأَنْ يَصْلُحُوا لِلِاقْتِدَاءِ أَوْلَى.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي مَنْزِلِهِ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ عِنْدَهُ الْجُمُعَةَ هِيَ الْفَرِيضَةُ أَصَالَةً) لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالسَّعْيِ إلَيْهَا مَنْهِيٌّ عَنْ الِاشْتِغَالِ عَنْهَا بِالظُّهْرِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فَوْتُ الْجُمُعَةِ، وَهَذَا صُورَةُ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ، وَلَا مَصِيرَ إلَى الْبَدَلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ لِأَنَّ فَوَاتَهَا إنَّمَا يَكُونُ بِفَرَاغِ الْإِمَامِ عَنْ الصَّلَاةِ وَفَرْضُ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ ذَلِكَ (وَلَنَا أَنَّ أَصْلَ الْفَرْضُ هُوَ الظُّهْرُ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً) لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ.
وَالْمُكَلَّفُ بِالصَّلَاةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ مُتَمَكِّنٌ بِنَفْسِهِ مِنْ أَدَاءِ الظُّهْرِ دُونَ الْجُمُعَةِ لِتَوَقُّفِهَا عَلَى شَرَائِطَ لَا تَتِمُّ بِهِ وَحْدَهُ فَكَانَ التَّكْلِيفُ بِالْجُمُعَةِ تَكْلِيفًا بِمَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ إلَّا أَنَّهُ أَمَرَ بِإِسْقَاطِ الظُّهْرِ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهَا فَكَانَ الْعُدُولُ عَنْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ مَكْرُوهًا. وَقَوْلُهُ (هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ) تَلْوِيحٌ مِنْهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ نَقَلَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ فَرْضَ الْوَقْتِ الْجُمُعَةُ وَلَهُ إسْقَاطُهَا بِالظُّهْرِ
بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَدَاءِ الظُّهْرِ بِنَفْسِهِ دُونَ الْجُمُعَةِ لِتَوَقُّفِهَا عَلَى شَرَائِطَ لَا تَتِمُّ بِهِ وَحْدَهُ، وَعَلَى التَّمَكُّنِ يَدُورُ التَّكْلِيفُ.
(فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَحْضُرَهَا فَتَوَجَّهَ إلَيْهَا وَالْإِمَامُ فِيهَا بَطَلَ ظُهْرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِالسَّعْيِ، وَقَالَ: لَا يَبْطُلُ حَتَّى يَدْخُلَ مَعَ الْإِمَامِ)؛ لِأَنَّ السَّعْيَ دُونَ الظُّهْرِ فَلَا يَنْقُصُهُ بَعْدَ تَمَامِهِ، وَالْجُمُعَةُ فَوْقَهَا فَيُنْقِصُهَا وَصَارَ كَمَا إذَا تَوَجَّهَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ. وَلَهُ أَنَّ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ مِنْ خَصَائِصِ الْجُمُعَةِ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَتَهَا فِي حَقِّ ارْتِفَاضِ الظُّهْرِ
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَدْرِي مَا أَصْلُ فَرْضِ الْوَقْتِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَلَكِنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ بِأَدَاءِ الظُّهْرِ أَوْ الْجُمُعَةِ، يُرِيدُ بِهِ أَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ وَيَتَعَيَّنُ بِفِعْلِهِ، وَلَكِنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ عَنْ الْعُلَمَاءِ الثَّلَاثَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ بَدَا لَهُ) أَيْ بَدَا لِمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي مَنْزِلِهِ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ مَعْذُورًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ (أَنْ يَحْضُرَهَا فَتَوَجَّهَ وَالْإِمَامُ فِيهَا) فَإِمَّا أَنْ يُدْرِكَ الْجُمُعَةَ مَعَ الْإِمَامِ أَوْ لَا، فَإِنْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ مَعَ الْإِمَامِ اُنْتُقِضَ ظُهْرُهُ وَانْقَلَبَ نَفْلًا، وَهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ (بَطَلَ ظُهْرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِالسَّعْيِ، وَقَالَ: لَا يَبْطُلُ حَتَّى يَدْخُلَ مَعَ الْقَوْمِ) وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ إشَارَةِ هَذَا الْقِسْمِ لِأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْإِتْمَامَ مَعَ الْإِمَامِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِنَقْضِ الظُّهْرِ عِنْدَهُمَا بَلْ الدُّخُولُ كَافٍ، وَإِذَا كَانَ بِالدُّخُولِ يُنْتَقَضُ فَبِالْإِتْمَامِ أَوْلَى (لِأَنَّ السَّعْيَ دُونَ الظُّهْرِ) إذْ هُوَ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى أَدَاءِ الْجُمُعَةِ، وَالظُّهْرُ فَرْضٌ مَقْصُودٌ وَمَا هُوَ دُونَ الشَّيْءِ (لَا يَنْقُضُهُ بَعْدَ تَمَامِهِ وَالْجُمُعَةُ فَوْقَهُ) لِأَنَّا أُمِرْنَا بِإِسْقَاطِهِ بِهَا فَجَازَ أَنْ تَنْقُضَهُ، وَإِنَّمَا أَنَّثَ الظُّهْرَ فِي الْكِتَابِ بِتَأْوِيلِ الصَّلَاةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ التَّوَجُّهُ نَاقِصًا لِضَعْفِهِ كَانَ كَمَا إذَا تَوَجَّهَ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ السَّعْيَ) وَهُوَ الْمَشْيُ لَا مُسْرِعًا (إلَى الْجُمُعَةِ مِنْ خَصَائِصِهَا) لِكَوْنِهَا صَلَاةً مَخْصُوصَةً بِمَكَانٍ لَا تُمْكِنُ الْإِقَامَةُ إلَّا بِالسَّعْيِ إلَيْهَا فَكَانَ السَّعْيُ مَخْصُوصًا بِهَا، بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لِأَنَّ أَدَاءَهَا صَحِيحٌ فِي كُلِّ مَكَان، وَإِذَا كَانَ مِنْ خَصَائِصِهَا كَانَ الِاشْتِغَالُ بِهِ كَالِاشْتِغَالِ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهَا بِجَامِعِ الِاخْتِصَاصِ فَيُؤَثِّرُ فِي ارْتِفَاضِ الظُّهْرِ احْتِيَاطًا، إذْ الْأَقْوَى يُحْتَاطُ لِإِثْبَاتِهِ مَا لَا يُحْتَاطُ
احْتِيَاطًا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَعْيٍ إلَيْهَا.
(وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَعْذُورُونَ الظُّهْرَ بِجَمَاعَةٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْمِصْرِ، وَكَذَا أَهْلُ السِّجْنِ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِخْلَالِ بِالْجُمُعَةِ إذْ هِيَ جَامِعَةٌ لِلْجَمَاعَاتِ، وَالْمَعْذُورُ قَدْ يَقْتَدِي بِهِ غَيْرُهُ بِخِلَافِ أَهْلِ السَّوَادِ؛ لِأَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ (وَلَوْ صَلَّى قَوْمٌ أَجْزَأَهُمْ) لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهِ.
(وَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَلَّى مَعَهُ مَا أَدْرَكَهُ) وَبَنَى عَلَيْهِ الْجُمُعَةَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ
لِإِثْبَاتِ الْأَضْعَفِ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ السَّعْيَ الْمُوصِلَ إلَى الْجُمُعَةِ مَأْمُورٌ بِهِ، وَهَذَا السَّعْيُ لَيْسَ بِمُوصِلٍ. سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ فَلَا يَرْفُضُ الْقَوِيَّ. سَلَّمْنَاهُ، لَكِنَّ الظُّهْرَ إنَّمَا يَبْطُلُ فِي ضِمْنِ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ نَقْضَ الْعِبَادَةِ قَصْدُ إحْرَامٍ فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ لَمْ يُنْتَقَضْ. سَلَّمْنَاهُ، لَكِنَّهُ يُنْتَقَضُ بِمَسْأَلَةِ الْقَارِنِ إذَا وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لِعُمْرَتِهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ رَافِضًا لَهَا، وَلَوْ سَعَى إلَى عَرَفَاتٍ لَا يَصِيرُ بِهِ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْحُكْمَ دَارَ مَعَ الْإِمْكَانِ لِكَوْنِ الْإِمَامِ فِي الْجُمُعَةِ وَالْإِدْرَاكُ مُمْكِنٌ بِإِقْدَارِ اللَّهِ تَعَالَى. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ لَمَّا نُزِّلَ مَنْزِلَتَهَا صَارَ قَوِيًّا وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ الثَّالِثِ لِأَنَّهُ صَارَ الْإِبْطَالُ فِي ضِمْنِهِ كَالْإِبْطَالِ فِي ضِمْنِهَا، وَعَنْ الرَّابِعِ بِأَنَّهُ لَا نَقْضَ عَلَى وَجْهِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُمَا: أَيْ الْعُمْرَةَ وَالْجُمُعَةَ سَوَاءٌ فِي الِارْتِفَاضِ فِيهِ، وَأَمَّا فِي الِاسْتِحْسَانِ فَإِنَّهُ إنَّمَا لَا تُرْتَفَضُ الْعُمْرَةُ لِكَوْنِ السَّعْيِ فِيهَا مَنْهِيًّا عَنْهُ قَبْلَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ فَضَعُفَ فِي نَفْسِهِ، وَالسَّعْيُ إلَى الْجُمُعَةِ مَأْمُورٌ بِهِ فَكَانَ فِي نَفْسِهِ قَوِيًّا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إبْطَالِ الْقَوِيِّ إبْطَالُ الضَّعِيفِ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِمَا وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَعْذُورُ الظُّهْرَ بِجَمَاعَةٍ إلَخْ) ظَاهِرٌ
قَالَ (وَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ رَاكِعًا
فَاقْضُوا» (وَإِنْ كَانَ أَدْرَكَهُ فِي التَّشَهُّدِ أَوْ فِي سُجُودِ السَّهْوِ بَنَى عَلَيْهَا الْجُمُعَةَ عِنْدَهُمَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: إنْ أَدْرَكَ مَعَهُ أَكْثَرَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَنَى عَلَيْهَا الْجُمُعَةَ، وَإِنْ أَدْرَكَ أَقَلَّهَا بَنَى عَلَيْهَا الظُّهْرَ)؛ لِأَنَّهُ جُمُعَةٌ مِنْ وَجْهٍ ظُهْرٌ مِنْ وَجْهٍ لِفَوَاتِ بَعْضِ الشَّرَائِطِ فِي حَقِّهِ، فَيُصَلِّي أَرْبَعًا اعْتِبَارًا لِلظُّهْرِ وَيَقْعُدُ لَا مَحَالَةَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ اعْتِبَارًا لِلْجُمُعَةِ،
فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَهُوَ مُدْرِكٌ لَهَا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ بَعْدَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَبَنَى عَلَيْهَا الْجُمُعَةَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَهُ مَا فَاتَكُمْ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ «مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا» فَإِنَّ مَعْنَاهُ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَاَلَّذِي فَاتَ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ هُوَ الْجُمُعَةُ فَيُصَلِّي الْمَأْمُومُ الْجُمُعَةَ (وَكَذَا إنْ أَدْرَكَهُ فِي التَّشَهُّدِ أَوْ فِي سُجُودِ السَّهْوِ عِنْدَهُمَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ أَكْثَرَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَنَى عَلَيْهَا الْجُمُعَةَ، وَإِنْ أَدْرَكَ أَقَلَّهَا بَنَى عَلَيْهَا الظُّهْرَ لِأَنَّهُ جُمُعَةٌ مِنْ وَجْهٍ) وَلِهَذَا لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ الْجُمُعَةِ (ظُهْرٌ مِنْ وَجْهٍ لِفَوَاتِ بَعْضِ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ) وَهُوَ الْجَمَاعَةُ فَبِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ ظُهْرًا يُصَلِّي أَرْبَعًا وَيَقْعُدُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ، وَبِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ جُمُعَةً يُقْرَأُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ لِاحْتِمَالِ النُّفَايَةِ فَكَانَ فِي ذَلِكَ إعْمَالُ الدَّلِيلَيْنِ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ إعْمَالِ أَحَدِهِمَا. وَلَهُمَا أَنَّهُ مُدْرِكٌ لِلْجُمُعَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ نِيَّةِ الْجُمُعَةِ، حَتَّى لَوْ نَوَى غَيْرَهَا لَمْ يُصْبِحْ اقْتِدَاؤُهُ، وَمُدْرِكُ الْجُمُعَةِ لَا يَبْنِي إلَّا عَلَى الْجُمُعَةِ، وَلَا وَجْهَ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ إعْمَالِ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ
وَيَقْرَأُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ لِاحْتِمَالِ النَّفْلِيَّةِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ مُدْرِكٌ لِلْجُمُعَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ حَتَّى يَشْتَرِطَ نِيَّةَ الْجُمُعَةِ، وَهِيَ رَكْعَتَانِ، وَلَا وَجْهَ لِمَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فَلَا يَبْنِي أَحَدَهُمَا عَلَى تَحْرِيمَةِ الْآخَرِ.
(وَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَرَكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ وَالْكَلَامَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ) قَالَ رضي الله عنه: وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَا: لَا بَأْسَ بِالْكَلَامِ إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يَخْطُبَ وَإِذَا نَزَلَ قَبْلَ أَنْ يُكَبِّرَ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لِلْإِخْلَالِ بِفَرْضِ الِاسْتِمَاعِ وَلَا اسْتِمَاعَ هُنَا، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَمْتَدُّ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ يَمْتَدُّ طَبْعًا فَأَشْبَهَ الصَّلَاةَ.
مُخْتَلِفَانِ فَكَيْفَ يُصْبِحُ بِنَاءُ إحْدَاهُمَا عَلَى تَحْرِيمَةِ الْأُخْرَى. وَعُورِضَ بِأَنَّ فِيمَا ذَكَرْتُمْ تَجْوِيزَ الْجُمُعَةِ مَعَ عَدَمِ شَرْطِهَا، وَذَلِكَ فَاسِدٌ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَاءِ شَرْطِهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ وُجُودَهُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ جُعِلَ وُجُودًا فِي حَقِّ الْمَسْبُوقِ كَمَا فِي الْقِرَاءَةِ، فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ بِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ فَمَا لَا يُوجَدُ بِحَالٍ، وَالْقَوْلُ بِمَا يُوجَدُ بِحَالٍ أَوْلَى مِنْهُ بِمَا لَا يُوجَدُ بِحَالٍ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ اسْتَدَلَّ لَهُمَا فِي أَوَّلِ الْبَحْثِ بِالْحَدِيثِ وَهُوَ أَقْوَى فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَهُمَا إلَخْ؟ قُلْت: لَا تَنَافِي فِي ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى مَطْلُوبٍ وَاحِدٍ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ، أَوْ كَانَ الْأَوَّلُ اسْتِدْلَالًا عَلَى مَا إذَا كَانَ الْمُدْرِكُ أَكْثَرَ، وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ الِاسْتِدْلَال لَهُمَا فَقَطْ بَلْ لَهُمْ جَمِيعًا، وَكَوْنُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ الثَّانِي لَهُمَا أَيْضًا لَا يُنَافِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ بِإِسْنَادِهِ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا وَلِيُضِفْ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى، وَإِنْ أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا صَلَّى أَرْبَعًا» وَهَذَا كَمَا تَرَى نَصَّ عَلَى مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ، فَمَا وَجْهُ تَرْكِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ لِمُحَمَّدٍ؟ قُلْت: ضَعَّفَهُ فَإِنَّهُ مَا رَوَاهُ إلَّا ضُعَفَاءُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ، وَأَمَّا الثِّقَاتُ مِنْهُمْ كَعُمَرَ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمَالِكٍ فَقَدْ رَوَوْا عَنْهُ «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا» وَأَمَّا إذَا أَدْرَكَ مَا دُونَهَا فَحُكْمُهُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. وَمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «وَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا» الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى مُدَّعَاهُمَا فَأَخَذَا بِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَتَأْوِيلُهُ أَدْرَكَهُمْ جُلُوسًا قَدْ سَلَّمُوا.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) يَعْنِي لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ (تَرَكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ وَالْكَلَامَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ) يُرِيدُ بِهِ مَا سِوَى التَّسْبِيحِ وَنَحْوِهِ عَلَى الْأَصَحِّ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُلَّ كَلَامٍ (وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: لَا بَأْسَ بِالْكَلَامِ) قَبْلَ الْخُطْبَةِ وَبَعْدَهَا قَبْلَ التَّكْبِيرِ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْكَلَامِ إنَّمَا هِيَ بِاعْتِبَارِ الْإِخْلَالِ بِفَرْضِ الِاسْتِمَاعِ لِكَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ مُبَاحًا وَلَا اسْتِمَاعَ فَلَا إخْلَالَ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا قَدْ تَمْتَدُّ فَتُفْضِي
(وَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ تَرَكَ النَّاسُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَتَوَجَّهُوا إلَى الْجُمُعَةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ
إلَى الْإِخْلَالِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا رَوَيَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «إذَا خَرَجَ الْإِمَامُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ» وَالْمَصِيرُ إلَيْهِ وَاجِبٌ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَاجِبٌ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُعَارِضٌ، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا نَزَلَ عَنْ الْمِنْبَرِ سَأَلَ النَّاسَ عَنْ حَوَائِجِهِمْ وَعَنْ أَسْعَارِ السُّوقِ ثُمَّ صَلَّى» أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ حِينَ كَانَ الْكَلَامُ مُبَاحًا فِي الصَّلَاةِ وَكَانَ يُبَاحُ فِي الْخُطْبَةِ أَيْضًا ثُمَّ نُهِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ الْكَلَامِ فِيهِمَا.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ) ذَكَرَ الْمُؤَذِّنِينَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ إخْرَاجًا لِلْكَلَامِ مَخْرَجَ الْعَادَةِ فَإِنَّ الْمُتَوَارَثَ فِي أَذَانِ الْجُمُعَةِ اجْتِمَاعُ الْمُؤَذِّنِينَ لِتَبْلُغَ أَصْوَاتُهُمْ إلَى أَطْرَافِ الْمِصْرِ الْجَامِعِ، وَالْأَذَانُ الْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي
اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}.
(وَإِذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ جَلَسَ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ بَيْنَ يَدِي الْمِنْبَرِ) بِذَلِكَ جَرَى التَّوَارُثُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا هَذَا الْأَذَانُ، وَلِهَذَا قِيلَ: هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ السَّعْيِ وَحُرْمَةِ الْبَيْعِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْأَوَّلُ إذَا كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ لِحُصُولِ الْإِعْلَامِ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
حَدَثَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ رضي الله عنه عَلَى الزَّوْرَاءِ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ يَقُولُ: الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْأَذَانُ عَلَى الْمَنَارَةِ لِأَنَّهُ لَوْ انْتَظَرَ الْأَذَانَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ يَفُوتُهُ أَدَاءُ السُّنَّةِ وَسَمَاعُ الْخُطْبَةِ، وَرُبَّمَا تَفُوتُهُ الْجُمُعَةُ إذَا كَانَ بَيْتُهُ بَعِيدًا مِنْ الْجَامِعِ، وَكَانَ الطَّحَاوِيُّ يَقُولُ: الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْأَذَانُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي كَانَ لِلْجُمُعَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَلِكَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي وُجُوبِ السَّعْيِ وَكَرَاهَةِ الْبَيْعِ هُوَ الْأَذَانُ الْأَوَّلُ إذَا كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ لِحُصُولِ الْإِعْلَامِ بِهِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِ الْحَسَنِ آنِفًا وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ
بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ
قَالَ (وَتَجِبُ صَلَاةُ الْعِيدِ عَلَى كُلِّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: عِيدَانِ اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ
بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ:
أَيْ بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ حُذِفَ الْمُضَافُ لِلْعِلْمِ بِهِ وَسُمِّيَ يَوْمُ الْعِيدِ بِالْعِيدِ لِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ عَوَائِدَ الْإِحْسَانِ إلَى عِبَادِهِ، وَمُنَاسَبَتُهَا لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صَلَاةٌ نَهَارِيَّةٌ تُؤَدَّى بِجَمْعٍ عَظِيمٍ يُجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا وَيُشْتَرَطُ لِإِحْدَاهُمَا مَا يُشْتَرَطُ لِلْأُخْرَى سِوَى الْخُطْبَةِ، وَيَشْتَرِكَانِ أَيْضًا فِي حَقِّ التَّكْلِيفِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، وَقَدَّمَ الْجُمُعَةَ لِقُوَّتِهَا لِكَوْنِهَا فَرِيضَةً أَوْ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهَا. قَالَ (وَتَجِبُ صَلَاةُ الْعِيدِ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ) لَا تَجِبُ صَلَاةُ الْعِيدِ عَلَى الْمُسَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالْمَرِيضِ كَالْجُمُعَةِ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ. فَإِنْ قِيلَ: حَالُ الْعَبْدِ هُنَا لَيْسَتْ كَهِيَ فِي الْجُمُعَةِ إذَا أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى لِأَنَّ لِلْجُمُعَةِ خَلَفًا وَهُوَ الظُّهْرُ فَلَمْ تَجِبْ الْجُمُعَةُ، وَهَاهُنَا لَا خَلَفَ فَكَانَ الْوَاجِبُ الْوُجُوبَ إذَا أَسْقَطَ الْمَوْلَى حَقَّهُ بِالْإِذْنِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لَهُ بِالْإِذْنِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَثْنَاةٍ عَلَى الْمَوْلَى، فَبَقِيَ الْحَالُ بَعْدَ الْأَذَانِ كَهِيَ قَبْلَهُ كَمَا فِي الْحَجِّ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ حَجَّ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ، وَأَعَادَ لَفْظَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِمُخَالَفَةِ رِوَايَتِهِ لِرِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْقُدُورِيِّ بِلَفْظِ الْوَاجِبِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ السُّنَّةِ، وَالْمُرَادُ مِنْ اجْتِمَاعِ الْعِيدَيْنِ كَوْنُ يَوْمِ الْفِطْرِ أَوْ الْأَضْحَى يَوْمَ الْجُمُعَةِ،
وَاحِدٍ، فَالْأَوَّلُ سُنَّةٌ، وَالثَّانِي فَرِيضَةٌ، وَلَا يُتْرَكُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. قَالَ رضي الله عنه: وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى السُّنَّةِ، وَالْأَوَّلُ عَلَى الْوُجُوبِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَجْهُ الْأَوَّلِ مُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا، وَوَجْهُ الثَّانِي قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ عَقِيبَ سُؤَالِهِ قَالَ:«هَلْ عَلَى غَيْرِهِنَّ؟ فَقَالَ: لَا إلَّا إنْ تَطَوَّعَ» وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَتَسْمِيَتُهُ سُنَّةً لِوُجُوبِهِ بِالسُّنَّةِ.
(وَيُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ أَنْ يَطْعَمَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْمُصَلَّى وَيَغْتَسِلَ وَيَسْتَاكَ وَيَتَطَيَّبَ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَطْعَمُ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْمُصَلَّى، وَكَانَ يَغْتَسِلُ فِي الْعِيدَيْنِ» وَلِأَنَّهُ يَوْمُ اجْتِمَاعٍ فَيُسَنُّ فِيهِ الْغُسْلُ وَالطِّيبُ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ (وَيَلْبَسُ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ)؛ لِأَنَّهُ
وَغَلَبَ لَفْظُ الْعِيدِ لِخِفَّتِهِ كَمَا فِي الْعُمَرَيْنِ أَوْ لِذُكُورَتِهِ كَمَا فِي الْقَمَرَيْنِ (وَلَا يُتْرَكُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا) أَمَّا الْجُمُعَةُ فَلِأَنَّهَا فَرِيضَةٌ، وَأَمَّا الْعِيدُ فَلِأَنَّ تَرْكَهَا بِدْعَةٌ وَضَلَالٌ. قَوْلُهُ (وَجْهُ الْأَوَّلِ مُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَقَعَ بِلَفْظِ مِنْ غَيْرِ تَرْكٍ، وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَى عِنَايَةٍ، وَفِي بَعْضِهَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا تَرَكَهُ اعْتِمَادًا عَلَى مَا ذَكَرَ فِي آخِرِ بَابِ إدْرَاكِ الْفَرِيضَةِ، لَا سُنَّةَ دُونَ الْمُوَاظَبَةِ إنَّمَا تَكُونُ دَلِيلَ الْوُجُوبِ إذَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِ تَرْكٍ. وَقَوْلُهُ (وَجْهُ الثَّانِي) ظَاهِرٌ.
عليه الصلاة والسلام كَانَتْ لَهُ جُبَّةُ فَنْكٍ أَوْ صُوفٍ يَلْبَسُهَا فِي الْأَعْيَادِ (وَيُؤَدِّي صَدَقَةَ الْفِطْرِ) إغْنَاءً لِلْفَقِيرِ لِيَتَفَرَّغَ قَلْبُهُ لِلصَّلَاةِ (وَيَتَوَجَّهُ إلَى الْمُصَلَّى، وَلَا يُكَبِّرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي طَرِيقِ الْمُصَلَّى، وَعِنْدَهُمَا يُكَبِّرُ) اعْتِبَارًا بِالْأَضْحَى. وَلَهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الثَّنَاءِ الْإِخْفَاءُ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِهِ فِي الْأَضْحَى؛ لِأَنَّهُ يَوْمُ تَكْبِيرٍ، وَلَا كَذَلِكَ يَوْمَ الْفِطْرِ
وَقَوْلُهُ (وَلَا يُكَبِّرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي طَرِيقِ الْمُصَلَّى) يَعْنِي جَهْرًا فِي الطَّرِيقِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ إلَى عِيدِ الْفِطْرِ وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْمُعَلَّى عَنْهُ. وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ أُسْتَاذِهِ ابْنِ عُمَرَ الْبَغْدَادِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ يُكَبِّرُ فِي طَرِيقِ الْمُصَلَّى فِي عِيدِ الْفِطْرِ جَهْرًا وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ اعْتِبَارًا بِالْأَضْحَى. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الثَّنَاءِ الْإِخْفَاءُ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِهِ فِي الْأَضْحَى لِأَنَّهُ يَوْمُ تَكْبِيرٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّكْبِيرُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ (وَلَا كَذَلِكَ يَوْمُ الْفِطْرِ) لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَاهُ أَيْضًا لِأَنَّ عِيدَ الْأَضْحَى اُخْتُصَّ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَالتَّكْبِيرُ شُرِعَ عَلَمًا عَلَى وَقْتِ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَلَيْسَ فِي شَوَّالٍ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}
(وَلَا يَتَنَفَّلُ فِي الْمُصَلَّى قَبْلَ الْعِيدِ)؛ لِأَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مَعَ حِرْصِهِ عَلَى الصَّلَاةِ، ثُمَّ قِيلَ الْكَرَاهَةُ فِي الْمُصَلَّى خَاصَّةً، وَقِيلَ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ عَامَّةً؛ لِأَنَّهُ عليه السلام لَمْ يَفْعَلْهُ.
(وَإِذَا حَلَّتْ الصَّلَاةُ بِارْتِفَاعِ الشَّمْسِ دَخَلَ وَقْتُهَا إلَى الزَّوَالِ، فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ خَرَجَ وَقْتُهَا)«؛ لِأَنَّهُ عليه السلام كَانَ يُصَلِّي الْعِيدَ وَالشَّمْسُ عَلَى قِيدَ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ، وَلَمَّا شَهِدُوا بِالْهِلَالِ بَعْدَ الزَّوَالِ أَمَرَ بِالْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى مِنْ الْغَدِ» .
أَخْبَرَ بِالتَّكْبِيرِ بَعْدَ إكْمَالِ عِدَّةِ أَيَّامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَرَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْأَضْحَى رَافِعًا صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَا فِي الْآيَةِ التَّكْبِيرُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ، وَالْمَعْنَى صَلُّوا صَلَاةَ الْعِيدِ وَكَبِّرُوا اللَّهَ فِيهَا، وَمَدَارُ الْحَدِيثِ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ، وَالْوَلِيدُ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. قَالَ (وَلَا يَتَنَفَّلُ فِي الْمُصَلَّى قَبْلَ الْعِيدِ) التَّنَفُّلُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ فِي الْمُصَلًّى وَغَيْرِهِ لِلْإِمَامِ، وَغَيْرُهُ مَكْرُوهٌ كَمَا فِي الْكِتَابِ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ وَالْإِنْكَارُ فِي ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ كَثِيرًا. رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ " أَنَّهُمَا قَامَا فَنَهَيَا النَّاسَ عَنْ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْإِمَامِ يَوْمَ الْفِطْرِ. وَرُوِيَ " أَنَّ عَلِيًّا خَرَجَ إلَى الْمُصَلَّى فَرَأَى قَوْمًا يُصَلُّونَ فَقَالَ: مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي لَمْ نَكُنْ نَعْرِفُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَنْهَاهُمْ؟ فَقَالَ: أَكْرَهُ أَنْ أَكُونَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إذَا صَلَّى " وَقَوْلُهُ (خَاصَّةً وَعَامَّةً) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي الْمُسْتَقَرِّ فِي الظَّرْفِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا حَلَّتْ الصَّلَاةُ) عَبَّرَ بِالْحُلُولِ عَنْ جَوَازِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ حَرَامًا قَبْلَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ لِمَا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ وَقَوْلُهُ «لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُصَلِّي الْعِيدَ وَالشَّمْسُ عَلَى قَيْدِ رُمْحٍ» أَيْ قَدْرِ رُمْحٍ (أَوْ رُمْحَيْنِ) دَلِيلُ دُخُولِ الْوَقْتِ. وَقَوْلُهُ (وَلَمَّا شَهِدُوا بِالْهِلَالِ) دَلِيلُ خُرُوجِ الْوَقْتِ، وَذَلِكَ «لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ بِالْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى مِنْ الْغَدِ» لِأَجْلِ الصَّلَاةِ، وَكَانَ ذَلِكَ تَأْخِيرًا بِلَا عُذْرٍ سَمَاوِيٍّ، وَلَوْ لَمْ يَخْرُجْ الْوَقْتُ لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي وَقْتِهَا أَوْلَى، وَفِعْلَهُ عليه الصلاة والسلام
(وَيُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ، يُكَبِّرُ فِي الْأُولَى لِلِافْتِتَاحِ وَثَلَاثًا بَعْدَهَا، ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً، وَيُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً يَرْكَعُ بِهَا. ثُمَّ يَبْتَدِئُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِالْقِرَاءَةِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا بَعْدَهَا، وَيُكَبِّرُ رَابِعَةً يَرْكَعُ بِهَا) وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ قَوْلُنَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكَبِّرُ فِي الْأُولَى لِلِافْتِتَاحِ وَخَمْسًا بَعْدَهَا وَفِي الثَّانِيَةِ يُكَبِّرُ خَمْسًا ثُمَّ يَقْرَأُ. وَفِي رِوَايَةٍ يُكَبِّرُ أَرْبَعًا، وَظَهَرَ عَمَلُ الْعَامَّةِ الْيَوْمَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَمْرِ بَنِيهِ الْخُلَفَاءِ. فَأَمَّا الْمَذْهَبُ فَالْقَوْلُ
لَا يُحْمَلُ إلَّا عَلَى الْأَوْلَى مَهْمَا أَمْكَنَ.
وَقَوْلُهُ (وَيُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ) ظَاهِرٌ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الزَّوَائِدَ عِنْدَنَا ثَلَاثٌ، وَالْمُوَالَاةُ فِي الْقِرَاءَةِ خِلَافًا لَهُ. وَقَوْلُهُ (وَظَهَرَ عَمَلُ الْعَامَّةِ) أَيْ عَمَلُ النَّاسِ كَافَّةً (بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَمْرِ بَنِيهِ الْخُلَفَاءِ) فَإِنَّ الْوِلَايَةَ لَمَّا انْتَقَلَتْ إلَيْهِمْ أَمَرُوا النَّاسَ بِالْعَمَلِ فِي التَّكْبِيرَاتِ بِقَوْلِ جَدِّهِمْ وَكَتَبُوا فِي مَنَاشِيرِهِمْ ذَلِكَ. وَعَنْ هَذَا صَلَّى أَبُو يُوسُفَ بِالنَّاسِ حِينَ قَدِمَ بَغْدَادَ صَلَاةَ الْعِيدِ وَكَبَّرَ تَكْبِيرَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ صَلَّى خَلْفَهُ هَارُونُ الرَّشِيدُ وَأَمَرَهُ بِذَلِكَ، كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ لَا مَذْهَبًا وَاعْتِقَادًا، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ
الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ وَرَفْعَ الْأَيْدِي خِلَافُ الْمَعْهُودِ فَكَانَ الْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ أَوْلَى ثُمَّ بِالتَّكْبِيرَاتِ مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ حَتَّى يَجْهَرَ بِهِ فَكَانَ الْأَصْلُ فِيهِ الْجَمْعُ وَفِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى يَجِبُ إلْحَاقُهَا بِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ لِقَوْلِهَا مِنْ حَيْثُ الْفَرِيضَةِ وَالسَّبْقِ، وَفِي
مَذْهَبُ عُمَرَ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَحُذَيْفَةَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، فَكَانَ أَوْلَى بِالْأَخْذِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ: حَدَّثَ الطَّحَاوِيُّ مُسْنِدًا إلَى «النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَلَّى يَوْمَ الْعِيدِ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا، ثُمَّ أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ حِينَ انْصَرَفَ فَقَالَ: أَرْبَعٌ لَا تَسْهُو كَتَكْبِيرِ الْجَنَائِزِ، وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ وَقَبَضَ إبْهَامَهُ» فَفِيهِ قَوْلٌ وَفِعْلٌ وَإِشَارَةٌ إلَى أَصْلٍ وَتَأْكِيدٌ فَلَا جَرَمَ كَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى.
وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ أَرْبَعًا: أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ مُتَوَالِيَةٍ، وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَ وَرَفْعَ الْأَيْدِي مِنْ حَيْثُ الْمَجْمُوعُ خِلَافُ الْمَعْهُودِ فِي الصَّلَوَاتِ، فَكَانَ الْأَخْذُ بِالْقَلِيلِ أَوْلَى، ثُمَّ التَّكْبِيرُ مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ حَتَّى يُجْهَرَ بِهِ كَتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، وَكَانَ الْأَصْلُ فِيهِ الْجَمْعُ لِأَنَّ الْجِنْسِيَّةَ عِلَّةُ الضَّمِّ؛ فَفِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى يَجِبُ
الثَّانِيَةِ لَمْ يُوجَدْ إلَّا تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ فَوَجَبَ الضَّمُّ إلَيْهَا، وَالشَّافِعِيُّ أَخَذَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، إلَّا أَنَّهُ حَمَلَ الْمَرْوِيَّ كُلَّهُ عَلَى الزَّوَائِدِ فَصَارَتْ التَّكْبِيرَاتُ عِنْدَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ أَوْ سِتَّ عَشْرَةَ.
إلْحَاقُهَا بِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ لِقُوَّتِهَا مِنْ حَيْثُ الْفَرِيضَةُ وَالسَّبْقُ، وَفِي الثَّانِيَةِ لَمْ يُوجَدْ إلَّا تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ فَوَجَبَ الضَّمُّ إلَيْهَا.
وَقَوْلُهُ (وَالشَّافِعِيُّ أَخَذَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إلَّا أَنَّهُ حَمَلَ الْمَرْوِيَّ عَلَى الزَّوَائِدِ فَصَارَتْ التَّكْبِيرَاتُ عِنْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَوْ سِتَّةَ عَشَرَ) فِيهِ اشْتِبَاهٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ حَمَلَ الْمَرْوِيَّ إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَرْوِيَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ أَوْ لَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكَبِّرُ فِي الْأُولَى لِلِافْتِتَاحِ وَخَمْسًا بَعْدَهَا، وَفِي الثَّانِيَةِ يُكَبِّرُ خَمْسًا ثُمَّ يَقْرَأُ. وَفِي رِوَايَةٍ: يُكَبِّرُ أَرْبَعًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ كَانَ فِي الْكَلَامِ تَعْقِيدٌ يَعْلُو قَدْرُ الْمُصَنِّفِ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ تَرْتَقِ التَّكْبِيرَاتُ إلَى ذَلِكَ الْمِقْدَارِ لِأَنَّ الزَّوَائِدَ فِيهِ تِسْعٌ أَوْ عَشْرٌ، وَبِالْأَصْلِيَّاتِ تَكُونُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ.
وَأَيْضًا قَالَ: وَظَهَرَ عَمَلُ الْعَامَّةِ الْيَوْمَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ قَالَ: وَالشَّافِعِيُّ أَخَذَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَمَلُ الْعَامَّةِ الْيَوْمَ عَلَى
قَالَ (وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ) يُرِيدُ بِهِ مَا سِوَى تَكْبِيرَتَيْ الرُّكُوعِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ» وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا تَكْبِيرَاتِ الْأَعْيَادِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْنَا مَا رَوَيْنَا.
خَمْسَةَ عَشَرَ تَكْبِيرَةً أَوْ سِتَّةَ عَشَرَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَإِزَالَةُ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا أَنَّهُ يُكَبِّرُ فِي الْعِيدَيْنِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً، وَالْأُخْرَى أَنَّهُ يُكَبِّرُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً، فَفَسَّرَ عُلَمَاؤُنَا رِوَايَتَهُ بِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ بِإِضَافَةِ الْأَصْلِيَّاتِ لِأَنَّ الْأَصْلِيَّاتِ ثَلَاثٌ: تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ، وَتَكْبِيرَتَا الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، فَإِذَا أُضِيفَتْ إلَى خَمْسَةٍ وَخَمْسَةٍ كَانَتْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَإِذَا أُضِيفَتْ إلَى خَمْسَةٍ وَأَرْبَعَةٍ صَارَتْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَعَلَى هَذَا عَمَلُ الْعَامَّةِ الْيَوْمَ (وَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ الْمَرْوِيَّ عَلَى الزَّوَائِدِ) فَإِذَا أُضِيفَتْ إلَيْهَا الْأَصْلِيَّاتُ صَارَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَوْ سِتَّةَ عَشَرَ، فَكَانَ مُرَادُهُ بِالْمَرْوِيِّ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَا تَعْقِيدَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ التَّفْسِيرَ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَيْهِ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَظَهَرَ عَمَلُ الْعَامَّةِ الْيَوْمَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى تَفْسِيرِ عُلَمَائِنَا لَا عَلَى مَا حَمَلَ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَيَظْهَرُ مِنْ هَذَا أَلْبَتَّةَ أَنْ مَا عَلَيْهِ عَمَلُ أَصْحَابِنَا إنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
قَالَ فِي الْمُحِيطِ: ثُمَّ عَمِلُوا بِرِوَايَةِ الزِّيَادَةِ فِي عِيدِ الْفِطْرِ وَبِرِوَايَةِ النُّقْصَانِ فِي عِيدِ الْأَضْحَى عَمَلًا بِالرِّوَايَتَيْنِ، وَخَصُّوا الْأَضْحَى بِالنُّقْصَانِ لِاسْتِعْجَالِ النَّاسِ بِالْقَرَابِينِ.
وَقَوْلُهُ (وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ) ظَاهِرٌ وَلَيْسَ بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ ذِكْرٌ مَسْنُونٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَسْكُتُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ بِقَدْرِ ثَلَاثِ تَسْبِيحَاتٍ لِأَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ تُقَامُ بِجَمْعٍ عَظِيمٍ، فَلَوْ وَالَى بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ لَاشْتَبَهَ عَلَى مَنْ كَانَ نَائِيًا عَنْ الْإِمَامِ، وَالِاشْتِبَاهُ يَزُولُ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمُكْثِ. وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: لَيْسَ هَذَا الْقَدْرُ بِلَازِمٍ، بَلْ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِكَثْرَةِ الزِّحَامِ وَقِلَّتِهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إزَالَةُ الِاشْتِبَاهِ عَنْ الْقَوْمِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْقَوْمِ وَقِلَّتِهِمْ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ) يَدَيْهِ لِأَنَّ الرَّفْعَ سُنَّةُ الِافْتِتَاحِ، وَلَا افْتِتَاحَ فِي الزَّوَائِدِ فَلَا رَفْعَ كَمَا فِي تَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ (وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا) لِأَنَّ مَا قَالَهُ قِيَاسٌ تُرِكَ بِالْأَثَرِ، وَيَأْتِي بِالثَّنَاءِ عَقِبَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ قَبْلَ الزَّوَائِدِ، وَكَذَلِكَ التَّعَوُّذُ
قَالَ (ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ خُطْبَتَيْنِ) بِذَلِكَ وَرَدَ النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ (يُعَلِّمُ النَّاسَ فِيهَا صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَأَحْكَامَهَا)؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِأَجْلِهِ.
(وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعِيدِ مَعَ الْإِمَامِ لَمْ يَقْضِهَا)؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا بِشَرَائِطَ لَا تَتِمُّ
عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَسْتَعِيذُ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ
قَالَ (ثُمَّ يَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ خُطْبَتَيْنِ) الْخُطْبَةُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ تُخَالِفُ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَجُوزُ بِلَا خُطْبَةٍ بِخِلَافِ الْعِيدِ. الثَّانِي أَنَّهَا فِي الْجُمُعَةِ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْعِيدِ، وَلَوْ قَدَّمَهَا فِي الْعِيدِ أَيْضًا جَازَ وَلَا تُعَادُ الْخُطْبَةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَمَا فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعِيدِ مَعَ الْإِمَامِ) أَيْ أَدَّى الْإِمَامُ صَلَاةَ الْعِيدِ وَلَمْ يُؤَدِّهَا هُوَ (لَمْ يَقْضِهَا) عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: يُصَلِّي وَحْدَهُ كَمَا يُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ وَالسُّلْطَانُ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَحْدَهُ.
وَعِنْدَنَا هِيَ صَلَاةٌ لَا تَجُوزُ إقَامَتُهَا إلَّا بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ وَالسُّلْطَانِ، فَإِذَا فَاتَتْ عَجَزَ عَنْ
بِالْمُنْفَرِدِ.
(فَإِنْ غُمَّ الْهِلَالُ وَشَهِدُوا عِنْدَ الْإِمَامِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ بَعْدَ الزَّوَالِ صَلَّى الْعِيدَ مِنْ الْغَدِ)؛ لِأَنَّ هَذَا تَأْخِيرٌ بِعُذْرٍ وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ الْحَدِيثُ (فَإِنْ حَدَثَ عُذْرٌ يَمْنَعُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَمْ يُصَلِّهَا بَعْدَهُ)؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا أَنْ لَا تُقْضَى كَالْجُمُعَةِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِالْحَدِيثِ، وَقَدْ وَرَدَ بِالتَّأْخِيرِ إلَى الْيَوْمِ الثَّانِي عِنْدَ الْعُذْرِ.
(وَيُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى أَنْ يَغْتَسِلَ وَيَتَطَيَّبَ) لِمَا ذَكَرْنَاهُ (وَيُؤَخِّرَ الْأَكْلَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ الصَّلَاةِ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه السلام كَانَ لَا يَطْعَمُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ حَتَّى يَرْجِعَ فَيَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ وَيَتَوَجَّهَ إلَى الْمُصَلَّى» (وَهُوَ يُكَبِّرُ)؛ لِأَنَّهُ عليه السلام كَانَ يُكَبِّرُ فِي الطَّرِيقِ (وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ كَالْفِطْرِ) كَذَلِكَ نُقِلَ (وَيَخْطُبُ بَعْدَهَا خُطْبَتَيْنِ)؛ لِأَنَّهُ عليه السلام كَذَلِكَ فَعَلَ (وَيُعَلِّمُ النَّاسَ فِيهَا الْأُضْحِيَّةَ وَتَكْبِيرَ التَّشْرِيقِ)؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعُ الْوَقْتِ، وَالْخُطْبَةُ مَا شُرِعَتْ إلَّا لِتَعْلِيمِهِ.
(فَإِنْ كَانَ عُذْرٌ يَمْنَعُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى صَلَّاهَا مِنْ الْغَدِ وَبَعْدَ الْغَدِ وَلَا يُصَلِّيهَا بَعْدَ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُؤَقَّتَةٌ بِوَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ فَتَتَقَيَّدُ بِأَيَّامِهَا لَكِنَّهُ مُسِيءٌ فِي التَّأْخِيرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لِمُخَالَفَةِ الْمَنْقُولِ.
(وَالتَّعْرِيفُ الَّذِي يَصْنَعُهُ النَّاسُ لَيْسَ بِشَيْءٍ) وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تَشْبِيهًا بِالْوَاقِفِينَ بِعَرَفَةَ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ عُرْفُ عِبَادَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِمَكَانٍ مَخْصُوصٍ فَلَا يَكُونُ عِبَادَةَ دُونَهُ كَسَائِرِ الْمَنَاسِكِ.
قَضَائِهَا. فَإِنْ قِيلَ: هِيَ قَائِمَةٌ مَقَامَ صَلَاةِ الضُّحَى وَلِهَذَا تُكْرَهُ صَلَاةُ الضُّحَى قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ فَإِذَا عَجَزَ عَنْهَا يَصِيرُ إلَى الْأَصْلِ كَالْجُمُعَةِ إذَا فَاتَتْ فَإِنَّهُ يَصِيرُ إلَى الظُّهْرِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّا إنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَا يَضُرُّنَا لِأَنَّهُ إذَا عَجَزَ عَادَ الْأَمْرُ إلَى أَصْلٍ هُوَ صَلَاةُ الضُّحَى وَهِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَيَتَخَيَّرُ، وَفِي الْجُمُعَةِ إذَا عَجَزَ عَادَ إلَى أَصْلٍ هُوَ فَرْضٌ فَيَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ.
وَقَوْلُهُ (وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ الْحَدِيثُ) أَيْ الْمَعْهُودُ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ قَبْلَ هَذَا بِقَوْلِهِ:«وَلَمَّا شَهِدُوا بِالْهِلَالِ بَعْدَ الزَّوَالِ أَمَرَ بِالْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى مِنْ الْغَدِ» وَمَا بَعْدَهُ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَالتَّعْرِيفُ الَّذِي يَصْنَعُهُ النَّاسُ) إنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ يَصْنَعُهُ النَّاسُ لِأَنَّهُ يَجِيءُ لِمَعَانٍ: لِلْإِعْلَامِ وَالتَّطَيُّبِ مِنْ الْعُرْفِ وَهُوَ الرِّيحُ وَإِنْشَادِ الضَّالَّة وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَالتَّشْبِيهِ بِأَهْلِ عَرَفَةَ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. وَقَوْلُهُ (لَيْسَ بِشَيْءٍ) أَيْ لَيْسَ بِشَيْءٍ مُعْتَبَرٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ الثَّوَابُ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْبَصْرَةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ لِلدُّعَاءِ لَا تَشْبِيهًا بِأَهْلِ عَرَفَةَ.
(فَصْلٌ فِي تَكْبِيرَاتِ التَّشْرِيقِ)
(وَيَبْدَأُ بِتَكْبِيرِ التَّشْرِيقِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَيَخْتِمُ عَقِيبَ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ) عِنْدَ
فَصْلٌ فِي تَكْبِيرَاتِ التَّشْرِيقِ
تَكْبِيرُ التَّشْرِيقِ لَمَّا كَانَ ذِكْرًا مُخْتَصًّا بِالْأَضْحَى نَاسَبَ ذِكْرُهُ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ قِيلَ تَرْجَمَةُ الْفَصْلِ بِتَكْبِيرِ التَّشْرِيقِ وَقَعَ عَلَى قَوْلِهِمَا لِأَنَّ شَيْئًا مِنْ التَّكْبِيرِ لَا يَقَعُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بِاعْتِبَارِ الْقُرْبِ أَخَذَ اسْمَهُ، وَقَوْلُهُ (وَيَبْدَأُ بِتَكْبِيرِ التَّشْرِيقِ) اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي ابْتِدَاءِ التَّشْرِيقِ وَانْتِهَائِهِ، فَأَمَّا ابْتِدَاؤُهُ فَكِبَارُ الصَّحَابَةِ كَعَمْرٍو وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ قَالُوا: يَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَصِغَارُهُمْ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالُوا: يَبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ. وَأَمَّا انْتِهَاؤُهُ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: صَلَاةُ الْعَصْرِ مِنْ أَوَّلِ أَيَّامِ النَّحْرِ فَعِنْدَهُ ثَمَانِ صَلَوَاتٍ يُكَبِّرُ فِيهَا، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: انْتِهَاؤُهُ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَيَكُونُ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ صَلَاةً وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ
أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: يَخْتِمُ عَقِيبَ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، فَأَخَذَا بِقَوْلِ عَلِيٍّ أَخْذًا بِالْأَكْثَرِ، إذْ هُوَ الِاحْتِيَاطُ فِي الْعِبَادَاتِ، وَأَخَذَ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَخْذًا بِالْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ الْجَهْرَ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةٌ.
وَمُحَمَّدٌ. وَوَجْهُ كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ. وَذَكَرَ فِي الْخُلَاصَةِ أَنَّ أَيَّامَ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ ثَلَاثَةٌ وَيَمْضِي ذَلِكَ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، فَإِنَّ الْعَاشِرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ نَحْرٌ خَاصٌّ، وَالثَّالِثَ عَشَرَ تَشْرِيقٌ خَاصٌّ، وَالْيَوْمَانِ فِيمَا بَيْنَهُمَا لِلنَّحْرِ وَالتَّشْرِيقِ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الْخَلِيلِ صلى الله عليه وسلم) قِيلَ أَصْلُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا جَاءَ بِالْقُرْبَانِ خَافَ الْعَجَلَةَ عَلَى إبْرَاهِيمَ عليهما السلام فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَلَمَّا رَآهُ إبْرَاهِيمُ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، فَلَمَّا عَلِمَ إسْمَاعِيلُ بِالْفِدَاءِ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ» ، فَبَقِيَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ إمَّا سُنَّةً أَوْ وَاجِبًا عَلَى مَا يُذْكَرُ. وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «أَفْضَلُ مَا قُلْت وَقَالَتْ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلِي يَوْمَ عَرَفَةَ:
وَالتَّكْبِيرُ أَنْ يَقُولَ مَرَّةً وَاحِدَةً: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. هَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه.
(وَهُوَ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ عَلَى الْمُقِيمِينَ فِي الْأَمْصَارِ فِي الْجَمَاعَاتِ الْمُسْتَحَبَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَيْسَ عَلَى جَمَاعَاتِ النِّسَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ، وَلَا عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسَافِرِينَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مُقِيمٌ. وَقَالَا: هُوَ عَلَى كُلِّ مَنْ صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ)؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْمَكْتُوبَةِ، وَلَهُ مَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ. وَالتَّشْرِيقُ هُوَ التَّكْبِيرُ كَذَا نُقِلَ عَنْ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ، وَلِأَنَّ الْجَهْرَ بِالتَّكْبِيرِ خِلَافُ السُّنَّةِ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِهِ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ هَذِهِ الشَّرَائِطِ، إلَّا أَنَّهُ
اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ» قَوْلُهُ (مَرَّةً وَاحِدَةً) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يَذْكُرُ التَّكْبِيرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلَهُ فِي ذِكْرِ التَّهْلِيلِ بَعْدَهُ قَوْلَانِ.
قَوْلُهُ (وَهُوَ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ عَلَى الْمُقِيمِينَ) يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ اخْتَارَ كَوْنَهُ وَاجِبًا وَهُوَ اخْتِيَارُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَصَدْرِ الْإِسْلَامِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} فَإِنَّهُ جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَيَكُونُ وَاجِبًا عَمَلًا بِالْأَمْرِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ. قَالَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ تَكْبِيرُ التَّشْرِيقِ سُنَّةٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَفِي قَوْلِهِ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَلِّلَ مَا يَقْطَعُ بِهِ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ؛ حَتَّى لَوْ قَامَ وَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَوْ تَكَلَّمَ لَمْ يُكَبِّرْ؛ فَفِي قَوْلِهِ الْمَفْرُوضَاتِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يُكَبِّرُ بَعْدَ الْوِتْرِ وَصَلَاةِ الْعِيدِ وَالنَّافِلَةِ.
وَقَيَّدَ بِالْإِقَامَةِ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يُكَبِّرُ إلَّا إذَا اقْتَدَى بِمُقِيمٍ، وَقَيَّدَ بِالْأَمْصَارِ لِأَنَّهُ لَا يُكَبِّرُ فِي الْقُرَى، وَقَيَّدَ بِالْجَمَاعَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَكْبِيرَ عَلَى الْمُنْفَرِدِ، وَقَيَّدَ بِالْمُسْتَحَبَّةِ احْتِرَازًا عَنْ جَمَاعَةِ النِّسَاءِ فَإِنَّهُ لَا تَكْبِيرَ عَلَيْهِنَّ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ، وَقَالَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ لِأَنَّهُ تَبِعَ لَهَا (وَلَهُ مَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ) يُرِيدُ بِهِ مَا ذَكَرَ فِي أَوَّلِ بَابِ الْجُمُعَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ التَّكْبِيرَاتُ شُرِعَتْ تَبَعًا لِلْمَكْتُوبِ فَكَيْفَ يُشْتَرَطُ لَهَا مَا لَمْ يُشْتَرَطْ لِلْمَتْبُوعِ؟ قُلْنَا بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ عَلَى قَوْلِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ اشْتَرَطَهَا قِيَاسًا عَلَى الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَشْتَرِطُهَا قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا أَمَّ الْعَبْدُ
يَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ إذَا اقْتَدَيْنَ بِالرِّجَالِ، وَعَلَى الْمُسَافِرِينَ عِنْدَ اقْتِدَائِهِمْ بِالْمُقِيمِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ. قَالَ يَعْقُوبُ: صَلَّيْت بِهِمْ الْمَغْرِبَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَسَهَوْت أَنْ أُكَبِّرَ فَكَبَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ. دَلَّ أَنَّ الْإِمَامَ وَإِنْ تَرَكَ التَّكْبِيرَ لَا يَتْرُكُهُ الْمُقْتَدِي، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ فَلِمَ لَمْ يَكُنْ الْإِمَامُ فِيهِ حَتْمًا وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ.
فِي صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَمَنْ شَرَطَهَا لَمْ يُوجِبْ التَّكْبِيرَ، وَمَنْ لَمْ يَشْرِطْهَا أَوْجَبَهُ (قَالَ يَعْقُوبُ: صَلَّيْت بِهِمْ الْمَغْرِبَ فَسَهَوْت أَنْ أُكَبِّرَ فَكَبَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ، دَلَّ) أَيْ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ عَلَى (أَنَّ الْإِمَامَ إنْ تَرَكَ التَّكْبِيرَ لَا يَتْرُكُهُ الْمُقْتَدِي) لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، بِخِلَافِ سُجُودِ السَّهْوِ فَإِنَّهُ إذَا تَرَكَهُ الْإِمَامُ لَا يَسْجُدُ الْمُقْتَدِي لِأَنَّهُ يُؤْتَى بِهِ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ التَّكْبِيرِ، وَلَكِنْ إنَّمَا يُكَبِّرُ الْقَوْمُ قَبْلَ الْإِمَامِ إذَا وَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ بِأَنْ قَامَ. قِيلَ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ فَوَائِدُ: مِنْهَا بَيَانُ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ أُسْتَاذِهِ حَيْثُ قَدَّمَهُ وَاقْتَدَى بِهِ.
وَمِنْهَا بَيَانُ حُرْمَةِ أُسْتَاذِهِ فِي قَلْبِهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ الْمُقْتَدَى بِهِ أُسْتَاذَهُ سَهَا عَمَّا لَا يَسْهُو الْمَرْءُ عَنْهُ عَادَةً وَهُوَ التَّكْبِيرُ. وَمِنْهَا مُبَادَرَةُ أُسْتَاذِهِ إلَى السَّتْرِ عَلَيْهِ حَيْثُ كَبَّرَ لِيَتَذَكَّرَ هُوَ فَكَبَّرَ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَ كُلِّ أُسْتَاذٍ وَتِلْمِيذِهِ: يَعْنِي أَنَّ التِّلْمِيذَ يُعَظِّمُ الْأُسْتَاذَ وَالْأُسْتَاذَ يَسْتُرُ عَلَيْهِ عُيُوبَهُ. .
(بَابُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ)
قَالَ (إذَا انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ صَلَّى الْإِمَامُ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ كَهَيْئَةِ النَّافِلَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعٌ وَاحِدٌ) وَقَالَ
(بَابُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ)
قَرَنَ صَلَاةَ الْكُسُوفِ بِصَلَاةِ الْعِيدِ لِأَنَّهُمَا يُؤَدَّيَانِ بِالْجَمَاعَةِ فِي النَّهَارِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَأَخَّرَهَا عَنْ الْعِيدِ لِأَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ وَاجِبَةً فِي الْأَصَحِّ عَلَى مَا مَرَّ، يُقَالُ: كَسَفَتْ الشَّمْسُ تَكْسِفُ كُسُوفًا، وَكَسَفَهَا اللَّهُ كَسْفًا يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى. قَالَ جَرِيرٌ يَرْثِي بِهِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ:
الشَّمْسُ طَالِعَةٌ لَيْسَتْ بِكَاسِفَةٍ
…
تَبْكِي عَلَيْك نُجُومَ اللَّيْلِ وَالْقَمَرَا
قِيلَ مَعْنَاهُ: لَيْسَتْ تَكْسِفُ ضَوْءَ النُّجُومِ مَعَ طُلُوعِهَا، وَلَكِنْ لِقِلَّةِ ضَوْئِهَا وَبُكَائِهَا عَلَيْك لَمْ يَظْهَرْ لَهَا نُورٌ.
وَقِيلَ مَعْنَاهُ: تَغْلِبُ النُّجُومُ فِي الْبُكَاءِ، يُقَالُ بَاكَيْتُهُ فَبَكَّيْته: أَيْ غَلَبْته فِي الْبُكَاءِ. وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى
الشَّافِعِيُّ: رُكُوعَانِ. لَهُ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ، وَلَنَا رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ، وَالْحَالُ أَكْشَفُ عَلَى الرِّجَالِ لِقُرْبِهِمْ فَكَانَ التَّرْجِيحُ
ذَلِكَ، وَسَبَبُ شَرْعِيَّتِهَا الْكُسُوفُ، وَلِهَذَا تُضَافُ إلَيْهِ. وَشُرُوطُهَا شُرُوطُ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَهِيَ سُنَّةٌ «؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّاهَا» .
وَكَيْفِيَّةُ أَدَائِهَا أَنْ يُصَلِّيَ إمَامُ الْجُمُعَةِ فِي الْجَامِعِ أَوْ فِي الْمُصَلَّى فِي الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَحَبَّةِ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ كَهَيْئَةِ النَّافِلَةِ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ بِرُكُوعٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا كَسَفَتْ الشَّمْسُ فِي وَقْتٍ مَكْرُوهٍ أَوْ غَيْرِهِ نُودِيَ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ وَصَلَّى الْإِمَامُ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةِ الْبَقَرَةِ إنْ حَفِظَهَا وَإِلَّا فَمَا يَعْدِلُهَا مِنْ غَيْرِهَا، ثُمَّ يَرْكَعُ وَيَمْكُثُ فِي رُكُوعِهِ قَدْرَ مَا مَكَثَ فِي قِيَامِهِ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيَقُومُ وَيَقْرَأُ سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ إنْ حَفِظَهَا وَإِلَّا فَمَا يَعْدِلُهَا مِنْ غَيْرِهَا، ثُمَّ يَرْكَعُ ثَانِيًا وَيَمْكُثُ فِي رُكُوعِهِ مِثْلَمَا مَكَثَ فِي قِيَامِهِ هَذَا، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَقُومُ وَيَمْكُثُ فِي قِيَامِهِ وَيَقْرَأُ فِيهِ مِقْدَارَ مَا قَرَأَ فِي الْقِيَامِ الثَّانِي مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى ثُمَّ يَرْكَعُ وَيَمْكُثُ فِي رُكُوعِهِ مِثْلَ مُكْثِهِ فِي هَذَا الْقِيَامِ، ثُمَّ يَقُومُ وَيَمْكُثُ فِي قِيَامِهِ مِثْلَمَا مَكَثَ فِي الرُّكُوعِ ثُمَّ يَرْكَعُ وَيَمْكُثُ فِيهِ مِثْلَمَا مَكَثَ فِي قِيَامِهِ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيَقُومُ مِثْلَ ثُلُثَيْ قِيَامِهِ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ الرَّكْعَةِ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ وَيُتِمُّ الصَّلَاةَ.
وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ رَكْعَتَيْنِ بِأَرْبَعِ رُكُوعَاتٍ وَأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ» وَلَنَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَأَبِي بَكْرَةَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلَفٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ رَكْعَتَيْنِ كَأَطْوَلِ صَلَاةٍ كَانَ يُصَلِّيهَا فَانْجَلَتْ الشَّمْسُ مَعَ فَرَاغِهِ مِنْهَا» وَإِذَا تَعَارَضَتْ الرِّوَايَتَانِ كَانَ التَّرْجِيحُ لِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَالْحَالُ أَكْشَفُ عَنْ الرِّجَالِ لِقُرْبِهِمْ وَتَأْوِيلُ مَا رَوَاهُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي صَلَاةِ الْأَثَرِ قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَطَالَ الرُّكُوعَ زِيَادَةً عَلَى قَدْرِ رُكُوعِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، فَرَفَعَ أَهْلُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ رُءُوسَهُمْ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ، فَمَنْ خَلْفَهُمْ رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ، فَلَمَّا رَأَى أَهْلُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَاكِعًا رَكَعُوا، فَمَنْ خَلْفَهُمْ رَكَعُوا، فَلَمَّا رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ رَفَعَ الْقَوْمُ
لِرِوَايَتِهِ (وَيُطَوِّلُ الْقِرَاءَةَ فِيهِمَا وَيُخْفِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا يَجْهَرُ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ
رُءُوسَهُمْ وَمَنْ كَانُوا خَلْفَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ ظَنُّوا أَنَّهُ رَكَعَ رُكُوعَيْنِ فَرَوَوْا عَلَى حَسَبِ مَا وَقَعَ عِنْدَهُمْ، وَمِثْلُ هَذَا الِاشْتِبَاهِ قَدْ يَقَعُ لِمَنْ كَانَ فِي آخِرِ الصُّفُوفِ وَعَائِشَةُ كَانَتْ فِي صَفِّ النِّسَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى حَدِيثَهَا مِنْ الرِّجَالِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَدْ كَانَ فِي صَفِّهِمْ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ كَانَ فِي صَفِّ الصِّبْيَانِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
وَقَوْلُهُ (وَيُطَوِّلُ الْقِرَاءَةَ فِيهِمَا)
أَمَّا التَّطْوِيلُ فِي الْقِرَاءَةِ فَبَيَانُ الْأَفْضَلِ، وَيُخَفِّفُ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْمَسْنُونَ اسْتِيعَابُ الْوَقْتِ بِالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ، فَإِذَا خَفَّفَ أَحَدُهُمَا طَوَّلَ الْآخَرُ. وَأَمَّا الْإِخْفَاءُ وَالْجَهْرُ فَلَهُمَا رِوَايَةُ عَائِشَةَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَهَرَ فِيهَا»
أَيْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ. وَقَوْلُهُ (فَبَيَانُ الْأَفْضَلِ) لِأَنَّ فِيهِ مُتَابَعَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ صَحَّ «أَنَّ قِيَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِقَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِقَدْرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ» . وَقَوْلُهُ (فَلَهُمَا رِوَايَةُ عَائِشَةَ)
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَمُرَةَ رضي الله عنهم، وَالتَّرْجِيحُ قَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ، كَيْفَ وَإِنَّهَا صَلَاةُ النَّهَارِ وَهِيَ عَجْمَاءُ.
(وَيَدْعُو بَعْدَهَا حَتَّى تَنْجَلِيَ الشَّمْسُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا رَأَيْتُمْ مِنْ هَذِهِ الْأَفْزَاعِ شَيْئًا فَارْغَبُوا إلَى اللَّهِ بِالدُّعَاءِ» ، وَالسُّنَّةُ فِي الْأَدْعِيَةِ تَأْخِيرُهَا عَنْ الصَّلَاةِ (وَيُصَلِّي بِهِمْ الْإِمَامَ الَّذِي يُصَلِّي بِهِمْ الْجُمُعَةَ
فَإِنَّهَا رَوَتْ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً فَجَهَرَ بِهَا: يَعْنِي فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ» (وَلَهُ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ) وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ قِرَاءَتِهِ فِيهَا حَرْفًا (وَالتَّرْجِيحُ قَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي قَوْلَهُ وَالْحَالُ أَكْشَفُ عَلَى الرِّجَالِ لِقُرْبِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه رَوَى حَدِيثَهَا، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَمَا جَوَابُهُ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْجَوَابَ بِالرُّجُوعِ إلَى الْأَصْلِ فَإِنَّهَا صَلَاةٌ نَهَارِيَّةٌ وَالْأَصْلُ فِيهَا الْإِخْفَاءُ. قَالَ عليه الصلاة والسلام «صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ» وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (وَيَدْعُو بَعْدَهَا) أَيْ بَعْدَ صَلَاةِ الْكُسُوفِ إنْ شَاءَ جَالِسًا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَإِنْ شَاءَ قَائِمًا وَإِنْ شَاءَ يَسْتَقْبِلُ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ وَالْقَوْمُ تُؤَمِّنُ. وَقَوْلُهُ (مِنْ هَذِهِ الْأَفْزَاعِ) الْفَزَعُ
فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ صَلَّى النَّاسُ فُرَادَى) تَحَرُّزًا عَنْ الْفِتْنَةِ.
(وَلَيْسَ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ جَمَاعَةٌ) لِتَعَذُّرِ الِاجْتِمَاعِ فِي اللَّيْلِ (أَوْ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ)، وَإِنَّمَا يُصَلِّي كُلُّ وَاحِدٍ بِنَفْسِهِ؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَالِ فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ» (وَلَيْسَ فِي الْكُسُوفِ خُطْبَةٌ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ.
الْخَوْفُ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ) يَعْنِي الْإِمَامَ (صَلَّى النَّاسُ فُرَادَى إنْ شَاءُوا رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ شَاءُوا أَرْبَعًا) لِأَنَّ هَذَا تَطَوُّعٌ وَالْأَصْلُ فِي التَّطَوُّعَاتِ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ (تَحَرُّزًا عَنْ الْفِتْنَةِ) أَيْ فِتْنَةِ التَّقْدِيمِ وَالتَّقَدُّمِ وَالْمُنَازَعَةِ فِيهِمَا.
وَقَوْلُهُ (وَلَيْسَ فِي كُسُوفِ الْقَمَرِ جَمَاعَةٌ) عَابَ أَهْلُ الْأَدَبِ مُحَمَّدًا فِي هَذَا اللَّفْظِ وَقَالُوا: إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْقَمَرِ لَفْظُ الْخُسُوفِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} وَقَالَ فِي الْمُغْرِبِ: يُقَالُ كَسَفَتْ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ جَمِيعًا، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ» الْحَدِيثَ. رَوَى أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ «انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إبْرَاهِيمُ وَلَدُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّاسُ: إنَّمَا انْكَسَفَتْ لِمَوْتِهِ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَالِ فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ» أَيْ الْتَجِئُوا إلَيْهَا. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا أَمْرٌ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ الْكُسُوفِ وَاجِبَةً. قُلْنَا: قَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْأَسْرَارِ وَالْعَامَّةُ ذَهَبَتْ إلَى كَوْنِهَا سُنَّةً لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهَا تُوجَدُ بِعَارِضٍ لَكِنْ صَلَّاهَا النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام فَكَانَتْ سُنَّةً وَالْأَمْرُ لِلنَّدْبِ. وَقَوْلُهُ (وَلَيْسَ فِي الْكُسُوفِ) أَيْ كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ (خُطْبَةٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ: يَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ خُطْبَتَيْنِ كَمَا فِي الْعِيدَيْنِ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها قَالَتْ «خَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ» وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُفْعَلْ، وَإِنْ صَحَّ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام خَطَبَ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَقُولُونَ إنَّهَا كَسَفَتْ لِمَوْتِ إبْرَاهِيمَ فَأَرَادَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ.
(بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ)
(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ صَلَاةٌ مَسْنُونَةٌ فِي جَمَاعَةٍ، فَإِنْ صَلَّى النَّاسُ وُحْدَانًا جَازَ، وَإِنَّمَا الِاسْتِسْقَاءُ الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} الْآيَةَ، «وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْقَى وَلَمْ تُرْوَ عَنْهُ الصَّلَاةُ»
(بَابُ الِاسْتِسْقَاءِ)
أَخَّرَ صَلَاةَ الِاسْتِسْقَاءِ عَنْ صَلَاةِ الْكُسُوفِ لِأَنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ سُنَّةٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ صَلَاةٌ مَسْنُونَةٌ فِي جَمَاعَةٍ، فَإِنْ صَلَّى النَّاسُ وُحْدَانًا جَازَ وَإِنَّمَا الِاسْتِسْقَاءُ الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} وَرُوِيَ أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ عليه السلام لَمَّا كَذَّبُوهُ بَعْدَ طُولِ تَكْرِيرِهِ الدَّعْوَةَ حَبَسَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْقَطْرَ وَأَعْقَمَ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ سَبْعِينَ سَنَةً، فَوَعَدَهُمْ أَنَّهُمْ إنْ آمَنُوا رَزَقَهُمْ اللَّهُ الْخِصْبَ وَرَفَعَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا عَلَيْهِ.
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ شَرَائِعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرَائِعُ لَنَا إذَا قَصَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ وَهَذَا كَذَلِكَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْقَى وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ الصَّلَاةُ، وَإِنَّمَا الْمَرْوِيُّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام فِي ذَلِكَ الدُّعَاءُ. رَوَى أَنَسٌ رضي الله عنه «أَنَّ النَّاسَ قَدْ قَحَطُوا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(وَقَالَا: يُصَلِّي الْإِمَامُ رَكْعَتَيْنِ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاةِ الْعِيدِ» رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. قُلْنَا: فَعَلَهُ مَرَّةً وَتَرَكَهُ أُخْرَى فَلَمْ يَكُنْ سُنَّةً، وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَحْدَهُ.
فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتْ الْمَوَاشِي وَخَشِينَا الْهَلَاكَ عَلَى أَنْفُسِنَا فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا هَنِيئًا مَرِيئًا غَدَقًا مُغْدِقًا عَاجِلًا غَيْرَ رَائِثٍ، قَالَ الرَّاوِي: مَا كَانَ فِي السَّمَاءِ قَزَعَةٌ، فَارْتَفَعَتْ السَّحَابُ مِنْ هَاهُنَا وَمِنْ هَاهُنَا حَتَّى صَارَتْ رُكَامًا، ثُمَّ مَطَرَتْ سَبْعًا مِنْ الْجُمُعَةِ إلَى الْجُمُعَةِ، ثُمَّ دَخَلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ وَالسَّمَاءُ تَسْكُبُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَهَدَّمَ الْبُنْيَانُ وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُمْسِكَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَلَالَةِ ابْنِ آدَمَ. قَالَ الرَّاوِي: وَاَللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ خَضِرًا، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ، فَانْجَابَتْ السَّحَابَةُ عَنْ الْمَدِينَةِ حَتَّى صَارَتْ حَوْلَهَا كَالْإِكْلِيلِ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ الدُّعَاءِ»
(وَقَالَا: يُصَلِّي الْإِمَامُ رَكْعَتَيْنِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِيهَا رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاةِ الْعِيدِ) فِي الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ، وَالصَّلَاةِ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما. (قُلْنَا) إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى الْجَوَازِ وَنَحْنُ لَا نَمْنَعُهُ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّهَا سُنَّةٌ أَوْ لَا، وَالسُّنَّةُ مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَهَاهُنَا (فَعَلَهُ مَرَّةً وَتَرَكَهُ أُخْرَى فَلَمْ يَكُنْ) فِعْلُهُ أَكْثَرَ مِنْ تَرْكِهِ حَتَّى يَكُونَ مُوَاظَبَةً فَلَا يَكُونُ (سُنَّةً) فَإِنْ قِيلَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ حِينَئِذٍ مُتَنَاقِضٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا وَلَمْ تُرْوَ عَنْهُ الصَّلَاةُ ثُمَّ قَالَ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَرْوِيَّ لَمَّا كَانَ شَاذًّا فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى جَعَلَهُ كَأَنَّهُ غَيْرُ مَرْوِيٍّ. قَوْلُهُ (وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ قَوْلَ مُحَمَّدٍ وَحْدَهُ) يَعْنِي أَنَّ أَبَا يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْمُحِيطِ،
(وَيَجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ) اعْتِبَارًا بِصَلَاةِ الْعِيدِ (ثُمَّ يَخْطُبُ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ» ثُمَّ هِيَ كَخُطْبَةِ الْعِيدِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ
وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ قَوْلَهُ مَعَ مُحَمَّدٍ كَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (وَيُجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ) اتَّفَقَا عَلَى الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ اعْتِبَارًا بِصَلَاةِ الْعَبْدِ. وَاخْتَلَفَا فِي الْخُطْبَةِ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: هِيَ كَخُطْبَةِ الْعِيدِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: خُطْبَةٌ
(وَلَا خُطْبَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ)؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْجَمَاعَةِ وَلَا جَمَاعَةَ عِنْدَهُ (وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ بِالدُّعَاءِ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ» (وَيَقْلِبُ رِدَاءَهُ) لِمَا رَوَيْنَا. قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَقْلِبُ رِدَاءَهُ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ فَيُعْتَبَرُ بِسَائِرِ الْأَدْعِيَةِ.
وَاحِدَةٌ وَبِكُلِّ ذَلِكَ وَرَدَ الْحَدِيثُ (وَلَا خُطْبَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهَا تَبَعُ الْجَمَاعَةِ وَلَا جَمَاعَةَ عِنْدَهُ) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُبْتَذِلًا مُتَوَاضِعًا مُتَضَرِّعًا حَتَّى أَتَى الْمُصَلَّى فَرَقَى الْمِنْبَرَ، فَلَمْ يَخْطُبْ خُطْبَتَكُمْ هَذِهِ وَلَكِنْ لَمْ يَزَلْ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّكْبِيرِ» (وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام فَعَلَ ذَلِكَ) رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: إنْ شَاءَ رَفَعَ يَدَيْهِ بِالدُّعَاءِ، وَإِنْ شَاءَ أَشَارَ بِأَصَابِعِهِ (وَيَقْلِبُ رِدَاءَهُ) وَصِفَةُ الْقَلْبِ إنْ كَانَ الرِّدَاءُ مُرَبَّعًا أَنْ يَجْعَلَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ وَأَسْفَلَهُ أَعْلَاهُ.
وَإِنْ كَانَ مُدَوَّرًا بِأَنْ كَانَ جُبَّةً أَنْ يَجْعَلَ الْأَيْمَنَ أَيْسَرَ وَالْأَيْسَرَ أَيْمَنَ. (وَقَوْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ» قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَقْلِبُ) وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ مُضْطَرِبٌ، ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْكَرْخِيُّ مَعَ مُحَمَّدٍ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ) أَيْ الِاسْتِسْقَاءَ (دُعَاءٌ) وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَدْعِيَةِ قَلْبُ رِدَاءٍ
وَمَا رَوَاهُ كَانَ تَفَاؤُلًا (وَلَا يَقْلِبُ الْقَوْمُ أَرْدِيَتَهُمْ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ.
فَكَذَا هَذَا. وَقَوْلُهُ (وَمَا رَوَاهُ كَانَ تَفَاؤُلًا) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْحَدِيثِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَفَاءَلَ بِتَغَيُّرِ الْهَيْئَةِ لِتَغَيُّرِ الْهَوَاءِ: يَعْنِي غَيَّرْنَا مَا كُنَّا عَلَيْهِ فَغَيِّرْ اللَّهُمَّ الْحَالَ. وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي هَبْ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام تَفَاءَلَ بِذَلِكَ فَلْيَتَفَاءَلْ كُلُّ مَنْ يُبْتَلَى بِذَلِكَ تَأَسِّيًا بِهِ عليه الصلاة والسلام. وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَيْسَ تَعْلِيلًا فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ بَلْ مِنْ بَابِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ بَعْدَ تَعَارُضِ النَّصَّيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدٌ يَدُلُّ عَلَى الْقَلْبِ، وَمَا رَوَى أَنَسٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَحْوِيلَ فِيهِ فَتَعَارَضَا فَصِيرَ إلَى مَا بَعْدَهُمَا مِنْ الْحُجَّةِ وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِهِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ بِالْوَحْيِ أَنَّ الْحَالَ يَنْقَلِبُ إلَى الْخَصْبِ مَتَى قَلَبَ الرِّدَاءَ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَتَأَتَّى مِنْ غَيْرِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّأَسِّي ظَاهِرًا فِيمَا يَنْفِيهِ الْقِيَاسُ. وَقَوْلُهُ (وَلَا يُقَلِّبُ الْقَوْمُ أَرْدِيَتَهُمْ) قِيلَ هُوَ بِالتَّشْدِيدِ لِأَنَّ فِيهِ تَكْثِيرًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ) فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِالنَّفْيِ وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ احْتِجَاجٌ بِلَا دَلِيلٍ، وَمِثْلُ هَذَا صَنَعَ فِي آخِرِ بَابِ الْكُسُوفِ حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالنَّفْيِ لَا يَصِحُّ إذَا لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ مُتَعَيِّنَةً، أَمَّا إذَا كَانَتْ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْعِلَّةِ الشَّخْصِيَّةِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي وَلَدِ الْمَغْصُوبِ إنَّهُ لَا يُضْمَنُ الْغَصْبُ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ
(وَلَا يَحْضُرُ أَهْلُ الذِّمَّةِ الِاسْتِسْقَاءَ)؛ لِأَنَّهُ لِاسْتِنْزَالِ الرَّحْمَةِ، وَإِنَّمَا تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ اللَّعْنَةُ.
(بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ)
(إذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ جَعَلَ الْإِمَامُ النَّاسَ طَائِفَتَيْنِ: طَائِفَةٍ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَطَائِفَةٍ خَلْفَهُ،
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ أَنَّ الْقَوْمَ قَلَبُوا أَرْدِيَتَهُمْ حِينَ رَأَوْا قَلْبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ. أُجِيبَ بِأَنَّ قَلْبَهُمْ هَذَا كَخَلْعِهِمْ النِّعَالَ حِينَ رَأَوْهُ عليه الصلاة والسلام خَلْعَ نَعْلَيْهِ فِي صَلَاةِ الْجَنَائِزِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُجَّةً فَكَذَا هَذَا، وَإِنَّمَا لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي كَوْنِهِ سُنَّةً
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَحْضُرُ أَهْلُ الذِّمَّةِ الِاسْتِسْقَاءَ) ظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ الْمُسْلِمُونَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَمْ يُنْقَلْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. قِيلَ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَمَا أَطَاقُوا مِنْ الصَّدَقَةِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَظَالِمِ وَالتَّوْبَةِ مِنْ الْمَعَاصِي، ثُمَّ يَخْرُجُ بِهِمْ الْيَوْمَ الرَّابِعَ وَبِالْعَجَائِزِ وَالصِّبْيَانِ مُتَنَظِّفِينَ فِي ثِيَابِ بِذْلَةٍ مُتَوَاضِعِينَ لِلَّهِ، وَيُسْتَحَبُّ إخْرَاجُ الدَّوَابِّ
(بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ)
وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ أَنَّ شَرْعِيَّةَ كُلٍّ مِنْهُمَا لِعَارِضِ خَوْفٍ، وَقَدَّمَ الِاسْتِسْقَاءَ لِأَنَّ الْعَارِضَ ثَمَّةَ انْقِطَاعُ الْمَطَرِ وَهُوَ سَمَاوِيٌّ وَهَاهُنَا اخْتِيَارِيٌّ وَهُوَ الْجِهَادُ الَّذِي سَبَبُهُ كُفْرُ الْكَافِرِ، وَصُورَةُ صَلَاةِ الْخَوْفِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَقَوْلُهُ (إذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ) لَيْسَ اشْتِدَادُ الْخَوْفِ شَرْطًا عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا. قَالَ فِي التُّحْفَةِ: سَبَبُ جَوَازِ صَلَاةِ
فَيُصَلِّي بِهَذِهِ الطَّائِفَةِ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ مَضَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ وَجَاءَتْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ، فَيُصَلِّي بِهِمْ الْإِمَامُ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ وَتَشَهَّدَ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُسَلِّمُوا، وَذَهَبُوا إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَصَلُّوا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ وُحْدَانًا بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ)؛ لِأَنَّهُمْ لَاحِقُونَ (وَتَشَهَّدُوا وَسَلَّمُوا وَمَضَوْا إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى، وَصَلَّوْا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ)؛ لِأَنَّهُمْ مَسْبُوقُونَ (وَتَشَهَّدُوا وَسَلَّمُوا) وَالْأَصْلُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي قُلْنَا» .
الْخَوْفِ نَفْسُ قُرْبِ الْعَدُوِّ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْخَوْفِ وَالِاشْتِدَادِ.
وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ: الْمُرَادُ بِالْخَوْفِ عِنْدَ الْبَعْضِ حَضْرَةُ الْعَدُوِّ لَا حَقِيقَةُ الْخَوْفِ، لِأَنَّ حَضْرَةَ الْعَدُوِّ أُقِيمَ مَقَامَ الْخَوْفِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا فِي تَعْلِيقِ الرُّخْصَةِ بِنَفْسِ السَّفَرِ لَا حَقِيقَةِ الْمَشَقَّةِ لِأَنَّ السَّفَرَ سَبَبُ الْمَشَقَّةِ فَأُقِيمَ مَقَامَهَا، فَكَذَا حَضْرَةُ الْعَدُوِّ هَاهُنَا سَبَبُ الْخَوْفِ أُقِيمَ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْخَوْفِ. قِيلَ صَلَاةُ الْخَوْفِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا إذَا تَنَازَعَ الْقَوْمُ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فَقَالَ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ نَحْنُ نُصَلِّي مَعَك، وَأَمَّا إذَا تَنَازَعُوا فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ بِطَائِفَةٍ تَمَّامَ الصَّلَاةِ وَيُرْسِلَهُمْ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ وَيَأْمُرَ رَجُلًا مِنْ الطَّائِفَةِ الَّتِي كَانَتْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ تَمَامَ صَلَاتِهِمْ أَيْضًا وَتَقُومَ الَّتِي
وَأَبُو يُوسُفَ وَإِنْ أَنْكَرَ شَرْعِيَّتَهَا فِي زَمَانِنَا فَهُوَ مَحْجُوجٌ عَلَيْهِ بِمَا رَوَيْنَا.
قَالَ (وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مُقِيمًا صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَتَيْنِ وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَتَيْنِ)
صَلَّتْ مَعَ الْإِمَامِ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ.
وَقَوْلُهُ (وَأَبُو يُوسُفَ وَإِنْ أَنْكَرَ شَرْعِيَّتَهَا) أَيْ كَوْنَهَا مَشْرُوعَةً، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا مِثْلَمَا قَالَا ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: كَانَتْ مَشْرُوعَةً فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} الْآيَةَ، لِيَنَالَ كُلُّ طَائِفَةٍ فَضِيلَةَ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ عليه الصلاة والسلام، وَقَدْ ارْتَفَعَ ذَلِكَ بَعْدَهُ عليه الصلاة والسلام، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِإِمَامٍ عَلَى حِدَةٍ، فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا بِصِفَةِ الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ.
وَقَوْلُهُ (بِمَا رَوَيْنَا) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ رِوَايَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي قُلْنَا. قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: هَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنْ التَّحْقِيقِ، لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ لَمْ يُنْكِرْ شَرْعِيَّتَهَا فِي زَمَنِهِ عليه الصلاة والسلام، فَكَيْفَ تَكُونُ صَلَاتُهُ عليه الصلاة والسلام حُجَّةً عَلَى أَبِي يُوسُفَ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى أَبِي يُوسُفَ مِنْ حَيْثُ الدَّلَالَةُ لَا مِنْ حَيْثُ الْعِبَارَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْخَوْفُ، وَهُوَ يَتَحَقَّقُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِنَيْلِ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ عليه الصلاة والسلام لِأَنَّ تَرْكَ الْمَشْيِ وَالِاسْتِدْبَارِ فِي الصَّلَاةِ فَرِيضَةٌ وَالصَّلَاةَ خَلْفَهُ فَضِيلَةٌ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ لِإِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ، وَالْخِطَابُ لِلرَّسُولِ قَدْ لَا يَخْتَصُّ بِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ لَا يُوجِبُ عَدَمَ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِهِ عِنْدَنَا عَلَى مَا عُرِفَ بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ إلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِهِ وَهُوَ فِعْلُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَقَامُوا صَلَاةَ
لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه السلام صَلَّى الظُّهْرَ بِالطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ» (وَيُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى مِنْ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ، وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً وَاحِدَةً)
الْخَوْفِ بِأَصْفَهَانَ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ حَارَبَ الْمَجُوسَ بِطَبَرِسْتَانَ وَمَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَصَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ
وَقَوْلُهُ (وَيُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى مِنْ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ) مَذْهَبُنَا، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ بِالْعَكْسِ لِأَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ
لِأَنَّ تَنْصِيفَ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَجَعَلَهَا فِي الْأُولَى أَوْلَى بِحُكْمِ السَّبْقِ.
(وَلَا يُقَاتِلُونَ فِي حَالِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ فَعَلُوا بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ)؛ لِأَنَّهُ عليه السلام شُغِلَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ،
الْأُولَيَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ طَائِفَةٍ فِي ذَلِكَ حَظٌّ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ تَنْصِيفَ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ) مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يُصَلِّي بِكُلِّ طَائِفَةٍ شَطْرَ الصَّلَاةِ وَشَطْرُ الْمَغْرِبِ رَكْعَةٌ وَنِصْفٌ فَيَكُونُ حَقُّ الطَّائِفَةِ الْأُولَى نِصْفَ رَكْعَةٍ وَالرَّكْعَةُ الْوَاحِدَةُ لَا تَتَجَزَّأُ فَثَبَتَ فِي كُلِّهَا بِحُكْمِ السَّبْقِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ شَاءَ صَلَّى مِثْلَ مَذْهَبِنَا وَإِنْ شَاءَ صَلَّى مِثْلَ مَذْهَبِ الثَّوْرِيِّ
(وَلَا يُقَاتِلُونَ فِي حَالِ الصَّلَاةِ فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ) وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَفْسُدُ، وَهُوَ قَوْلُ
وَلَوْ جَازَ الْأَدَاءُ مَعَ الْقِتَالِ لَمَا تَرَكَهَا.
الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} وَالْأَمْرُ بِأَخْذِ السِّلَاحِ فِي الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْقِتَالِ بِهِ، وَلَنَا مَا ذَكَرَهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شُغِلَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْأَحْزَابِ» فَلَوْ جَازَ الْأَدَاءُ مَعَ الْقِتَالِ لَمَا تَرَكَهَا، وَالْأَمْرُ بِأَخْذِ الْأَسْلِحَةِ لِكَيْ لَا يَطْمَعَ الْعَدُوُّ فِيهِمْ إذَا رَآهُمْ غَيْرَ مُسْتَعِدِّينَ أَوْ لِيُقَاتِلُوا بِهَا إذَا احْتَاجُوا
(فَإِنْ اشْتَدَّ الْخَوْفُ صَلَّوْا رُكْبَانًا فُرَادَى يُومِئُونَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَى أَيِّ جِهَةٍ شَاءُوا إذَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى التَّوَجُّهِ إلَى الْقِبْلَةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} وَسَقَطَ التَّوَجُّهُ لِلضَّرُورَةِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ الْمُصَلُّونَ بِجَمَاعَةٍ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِانْعِدَامِ الِاتِّحَادِ فِي الْمَكَانِ.
ثُمَّ يَسْتَقْبِلُوا الصَّلَاةَ.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ اشْتَدَّ الْخَوْفُ) بِأَنْ لَا يَدَعَهُمْ الْعَدُوُّ أَنْ يُصَلُّوا نَازِلِينَ بَلْ يَهْجُمُونَهُمْ بِالْمُحَارَبَةِ (صَلَّوْا رُكْبَانًا إلَخْ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ اشْتِدَادَ الْخَوْفِ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ رُكْبَانًا وَفُرَادَى مُومِئِينَ لَا شَرْطُ جَوَازِ صَلَاةِ الْخَوْفِ حَتَّى لَوْ رَكِبَ فِي غَيْرِ حَالَةِ الِاشْتِدَادِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، بِخِلَافِ الْمَشْيِ وَالذَّهَابِ فَإِنَّهُ وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ لِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ وَإِنْ كَانَ عَمَلًا كَثِيرًا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمَاعَةً اُسْتُحْسِنَ ذَلِكَ لِنَيْلِ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ اتِّحَادَ الْمَكَانِ شَرْطُ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ وَلَمْ يُوجَدْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مَعَ الْإِمَامِ عَلَى دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ فَيَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ لِانْتِفَاءِ الْمَانِعِ، وَالْخَوْفُ مِنْ سَبُعٍ يُعَايِنُونَهُ كَالْخَوْفِ مِنْ الْعَدُوِّ وَلِأَنَّ الرُّخْصَةَ لِدَفْعِ سَبَبِ الْخَوْفِ عَنْهُمْ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ السَّبُعِ وَالْعَدُوِّ.
(بَابُ الْجَنَائِزِ)
(وَإِذَا اُحْتُضِرَ الرَّجُلُ وُجِّهَ إلَى الْقِبْلَةِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ) اعْتِبَارًا بِحَالِ الْوَضْعِ فِي الْقَبْرِ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَفَ عَلَيْهِ، وَالْمُخْتَارُ فِي بِلَادِنَا الِاسْتِلْقَاءُ؛ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ لِخُرُوجِ الرُّوحِ وَالْأَوَّلُ هُوَ السُّنَّةُ (وَلُقِّنَ الشَّهَادَتَيْنِ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
(بَابُ الْجَنَائِزِ)
الْجَنَائِزُ جَمْعُ جِنَازَةٍ، وَالْجِنَازَةُ بِالْكَسْرِ السَّرِيرُ، وَبِالْفَتْحِ الْمَيِّتُ. وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ. وَعَنْ الْأَصْمَعِيِّ لَا يُقَالُ بِالْفَتْحِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَوْتُ آخِرَ الْعَوَارِضِ ذَكَرَ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ آخِرًا لِلْمُنَاسَبَةِ، إلَّا أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَذْكُرَ الصَّلَاةَ فِي الْكَعْبَةِ قَبْلَهَا، وَلَكِنْ أَخَّرَهَا لِيَكُونَ خَتْمُ كِتَابِ الصَّلَاةِ بِمَا يُتَبَرَّكُ بِهَا حَالًا وَمَكَانًا (إذَا اُحْتُضِرَ الرَّجُلُ) أَيْ قَرُبَ مِنْ الْمَوْتِ، وَقَدْ يُقَالُ اُحْتُضِرَ إذَا مَاتَ لِأَنَّ الْوَفَاةَ حَضَرَتْهُ أَوْ مَلَائِكَةُ الْمَوْتِ. وَقَوْلُهُ (عَلَى شِقِّهِ) أَيْ جَنْبِهِ (الْأَيْمَنِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْوَضْعِ فِي الْقَبْرِ) فَإِنَّهُ يُوضَعُ فِيهِ كَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ (لِأَنَّهُ أَشْرَفَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْوَضْعِ فِي الْقَبْرِ، وَالشَّيْءُ إذَا قَرُبَ مِنْ الشَّيْءِ يَأْخُذُ حُكْمَهُ.
وَقَوْلُهُ (وَلُقِّنَ الشَّهَادَةَ) تَلْقِينُهَا أَنْ يُقَالَ عِنْدَهُ وَهُوَ يَسْمَعُ، وَلَا
«لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» وَالْمُرَادُ الَّذِي قَرُبَ مِنْ الْمَوْتِ (فَإِذَا مَاتَ شُدَّ لَحْيَاهُ وَغُمِّضَ عَيْنَاهُ) بِذَلِكَ جَرَى التَّوَارُثُ، ثُمَّ فِيهِ تَحْسِينُهُ فَيُسْتَحْسَنُ.
يُقَالُ لَهُ قُلْ لِأَنَّ الْحَالَ صَعْبٌ عَلَيْهِ فَرُبَّمَا يَمْتَنِعُ عَنْ ذَلِكَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ. وَقَوْلُهُ (وَالْمُرَادُ الَّذِي قَرُبَ مِنْ الْمَوْتِ) دَفْعٌ لِوَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قِرَاءَةُ التَّلْقِينِ عَلَى الْقَبْرِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضٌ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ {إِنَّكَ مَيِّتٌ} وَ «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» وَقَوْلُهُ (ثُمَّ فِيهِ تَحْسِينُهُ) لِأَنَّهُ إذَا تُرِكَ مَفْتُوحَ الْعَيْنِ يَصِيرُ كَرِيهَ الْمَنْظَرِ وَيَقْبُحُ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ.
(فَصْلٌ فِي الْغُسْلِ)
(وَإِذَا مَا أَرَادُوا غُسْلَهُ
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أَحْوَالِ الْمَيِّتِ:
فِي فُصُولٍ
وَقَدَّمَ الْغُسْلَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يُصْنَعُ بِهِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَحْيَاءِ بِالْإِجْمَاعِ. وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْغُسْلِ، فَقِيلَ إنَّمَا وَجَبَ لِحَدَثٍ يَحُلُّ بِاسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ لَا لِنَجَاسَةٍ تَحُلُّ بِهِ، فَإِنَّ الْآدَمِيَّ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ كَرَامَةً، إذْ لَوْ تَنَجَّسَ لَمَا طَهُرَ بِالْغُسْلِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَكَانَ الْوَاجِبُ الِاقْتِصَارَ فِي الْغُسْلِ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ كَمَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ، لَكِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ نَفْيًا لِلْحَرَجِ فِيمَا يَتَكَرَّرُ كُلَّ يَوْمٍ، وَالْحَدَثُ بِسَبَبِ الْمَوْتِ لَا يَتَكَرَّرُ فَكَانَ كَالْجَنَابَةِ لَا يُكْتَفَى فِيهَا بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ بَلْ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ وُجُوبُ غَسْلِ جَمِيعِ الْبَدَنِ لِعَدَمِ الْحَرَجِ فَكَذَا هَذَا.
وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: وَجَبَ غُسْلُهُ لِنَجَاسَةِ الْمَوْتِ لَا بِسَبَبِ الْحَدَثِ، لِأَنَّ لِلْآدَمِيِّ دَمًا سَائِلًا كَالْحَيَوَانَاتِ الْبَاقِيَةِ فَيَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِهِ مِنْهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا مَاتَ فِي الْبِئْرِ نَجَّسَهَا، وَلَوْ حَمَلَهُ الْمُصَلِّي لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ نَجِسًا لَجَازَتْ كَمَا لَوْ حَمَلَ مُحْدِثًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَزُولَ نَجَاسَتُهُ بِالْغُسْلِ كَرَامَةً. قَوْلُهُ (وَإِذَا أَرَادُوا غَسْلَهُ
وَضَعُوهُ عَلَى سَرِيرٍ) لِيَنْصَبَّ الْمَاءُ عَنْهُ (وَجَعَلُوا عَلَى عَوْرَتِهِ خِرْقَةً) إقَامَةً لِوَاجِبِ السَّتْرِ، وَيَكْتَفِي بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ
وَضَعُوهُ عَلَى سَرِيرٍ لِيَنْصَبَّ الْمَاءُ عَنْهُ) أَيْ عَنْ الْمَيِّتِ. قَوْلُهُ لِيَنْصَبَّ عِلَّةُ الْوَضْعِ عَلَى السَّرِيرِ، فَإِنَّهُ لَوْ وُضِعَ عَلَى الْأَرْضِ تَلَطَّخَ بِالطِّينِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ وَضْعِ التَّخْتِ إلَى الْقِبْلَةِ طُولًا وَعَرْضًا وَلَا كَيْفِيَّةَ وَضْعِ الْمَيِّتِ عَلَى التَّخْتِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ اخْتَارَ الْوَضْعَ طُولًا كَمَا كَانَ يَفْعَلُ فِي مَرَضِهِ إذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ بِالْإِيمَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ اخْتَارَهُ عَرْضًا كَمَا يُوضَعُ فِي الْقَبْرِ. قَالَ: شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُوضَعُ كَيْفَ اُتُّفِقَ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ وَالْمَوَاضِعِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلَيْسَ فِيهِ رِوَايَةٌ، إلَّا أَنَّ الْعُرْفَ فِيهِ أَنْ يُوضَعَ مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ (وَجَعَلُوا عَلَى عَوْرَتِهِ خِرْقَةً إقَامَةً لِوَاجِبِ السَّتْرِ) فَإِنَّ الْآدَمِيَّ مُحْتَرَمٌ حَيًّا وَمَيِّتًا فَتُسْتَرُ عَوْرَتُهُ كَذَلِكَ (وَيُكْتَفَى بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ)
هُوَ الصَّحِيحُ تَيْسِيرًا (وَنَزَعُوا ثِيَابَهُ) لِيُمْكِنَهُمْ التَّنْظِيفُ.
(وَوُضُوءُهُ مِنْ غَيْرِ مَضْمَضَةٍ وَلَا اسْتِنْشَاقٍ)؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ سُنَّةُ
بِأَنْ تُسْتَرَ السَّوْأَةُ وَيُتْرَكَ فَخِذَاهُ مَكْشُوفَتَيْنِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَيْسِيرًا لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ غَسْلُ مَا تَحْتَ الْإِزَارِ.
وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: وَيُوضَعُ عَلَى عَوْرَتِهِ خِرْقَةٌ مِنْ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ (وَنَزَعُوا ثِيَابَهُ لِيُمْكِنَهُمْ التَّنْظِيفُ) وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْغُسْلِ هُوَ التَّطْهِيرُ، وَالتَّطْهِيرُ لَا يَحْصُلُ إذَا غُسِلَ مَعَ ثِيَابِهِ، لِأَنَّ الثَّوْبَ مَتَى تَنَجَّسَ بِالْغُسَالَةِ تَنَجَّسَ بِهِ بَدَنُهُ ثَانِيًا بِنَجَاسَةِ الثَّوْبِ فَلَا يُفِيدُ الْغُسْلُ فَيَجِبُ التَّجْرِيدُ. وَفِيهِ نَفْيٌ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُغْسَلَ فِي قَمِيصٍ وَاسِعِ الْكُمَّيْنِ حَتَّى يُدْخِلَ الْغَاسِلُ يَدَهُ فِي الْكُمَّيْنِ وَيَغْسِلَ بَدَنَهُ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا خَرَقَ الْكُمَّيْنِ «لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تُوُفِّيَ غُسِّلَ فِي قَمِيصِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ» ، وَمَا كَانَ سُنَّةً فِي حَقِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ سُنَّةً فِي حَقِّ أُمَّتِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ. وَقُلْنَا قَدْ قَامَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ، رَوَتْ عَائِشَةُ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تُوُفِّيَ اجْتَمَعَتْ الصَّحَابَةُ لِغُسْلِهِ، فَقَالُوا لَا نَدْرِي كَيْفَ نَغْسِلُهُ، نَغْسِلُهُ كَمَا نَغْسِلُ مَوْتَانَا أَوْ نَغْسِلُهُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ؟ فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ النَّوْمَ فَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا نَامَ وَذَقَنُهُ عَلَى صَدْرِهِ إذْ نَادَاهُمْ مُنَادٍ: أَنْ غَسِّلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ» فَقَدْ أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ أَنَّ السُّنَّةَ فِي سَائِرِ الْمَوْتَى التَّجْرِيدُ، وَقَدْ خُصَّ عليه الصلاة والسلام بِخِلَافِ ذَلِكَ بِالنَّصِّ لِعِظَمِ حُرْمَتِهِ
(وَوُضُوءُهُ مِنْ غَيْرِ مَضْمَضَةٍ وَلَا اسْتِنْشَاقٍ) أَمَّا الْوُضُوءُ فَلِأَنَّهُ سُنَّةُ الِاغْتِسَالِ، وَأَمَّا تَرْكُهُمَا فَلِأَنَّ إخْرَاجَ الْمَاءِ مِنْ فَمِهِ مُتَعَذِّرٌ فَيَكُونُ سَقْيًا لَا مَضْمَضَةً، وَلَوْ كَبُّوهُ عَلَى وَجْهِهِ لَرُبَّمَا خَرَجَ مِنْ جَوْفِهِ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يُمَضْمَضُ وَيُسْتَنْشَقُ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْحَيَاةِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ اعْتِبَارٌ فَاسِدٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «الْمَيِّتُ يُوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ وَلَا يُمَضْمَضُ وَلَا يُسْتَنْشَقُ» وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ يُسْتَنْجَى أَوَّلًا. وَذَكَرَ فِي صَلَاةِ الْأَثَرِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يُسْتَنْجَى، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يُسْتَنْجَى لِأَنَّ الْمَسْكَةَ تَزُولُ بِالْمَوْتِ وَالْمَفَاصِلُ تَسْتَرْخِي، فَرُبَّمَا يُزَادُ الِاسْتِرْخَاءُ بِالِاسْتِنْجَاءِ فَتَخْرُجُ نَجَاسَةٌ مِنْ بَاطِنِهِ فَلَا يُفِيدُ الِاسْتِنْجَاءُ فَائِدَتَهُ. وَلَهُمَا أَنَّ مَوْضِعَ اسْتِنْجَاءِ الْمَيِّتِ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ نَجَاسَةٍ حَقِيقِيَّةً فَيَجِبُ إزَالَتُهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْبَدَنِ، ثُمَّ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ يَدُلُّ
الِاغْتِسَالِ، غَيْرَ أَنَّ إخْرَاجَ الْمَاءِ مِنْهُ مُتَعَذِّرٌ فَيُتْرَكَانِ (ثُمَّ يُفِيضُونَ الْمَاءَ عَلَيْهِ) اعْتِبَارًا بِحَالِ الْحَيَاةِ.
(وَيُجَمَّرُ سَرِيرُهُ وِتْرًا) لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا يُوتَرُ؛ لِقَوْلِهِ عليه السلام «إنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» .
(وَيَغْلِي الْمَاءَ بِالسِّدْرِ أَوْ بِالْحَرَضِ) مُبَالَغَةً فِي التَّنْظِيفِ (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْمَاءُ الْقَرَاحُ) لِحُصُولِ أَصْلِ الْمَقْصُودِ
عَلَى أَنَّ بَقِيَّةَ الْأَفْعَالِ مِنْ تَقْدِيمِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ إلَى الرُّسْغِ وَالْمَسْحِ عَلَى الرَّأْسِ كَمَا كَانَتْ فِي حَيَاتِهِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَفِي صَلَاةِ الْأَثَرِ لَا يَبْدَأُ بِغَسْلِ الْيَدَيْنِ بَلْ يَغْسِلُ الْوَجْهَ وَلَا يَمْسَحُ عَلَى الرَّأْسِ. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ يُفِيضُونَ الْمَاءَ عَلَيْهِ) يَعْنِي ثَلَاثًا، وَإِنْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ جَازَ كَمَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ.
وَقَوْلُهُ (وَيُجَمَّرُ سَرِيرُهُ) أَيْ يُبَخَّرُ. يَعْنِي يُدَارُ الْمُجْمِرُ وَهُوَ الَّذِي يُوقَدُ فِيهِ الْعُودُ حَوَالَيْ السَّرِيرِ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا، أَمَّا التَّجْمِيرُ فَلِأَنَّ فِيهِ تَعْظِيمَ الْمَيِّتِ، وَأَمَّا الْإِيتَارُ فَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ»
قَوْلُهُ (وَيُغْلَى الْمَاءُ) مِنْ الْإِغْلَاءِ لَا مِنْ الْغَلْيِ، لِأَنَّ الْغَلْيَ وَالْغَلَيَانَ لَازِمٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْغُسْلُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ أَفْضَلُ حَذَرًا عَنْ زِيَادَةِ الِاسْتِرْخَاءِ الْمُوجِبِ لِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ الْمُوجِبَةِ لِتَنَجُّسِ الْكَفَنِ. وَقُلْنَا: غَسْلُ الْمَيِّتِ شُرِعَ لِلتَّنْظِيفِ وَالْمَاءُ الْحَارُّ أَبْلَغُ فِي التَّنْظِيفِ فَيَكُونُ أَفْضَلَ، وَزِيَادَةُ الِاسْتِرْخَاءِ قَدْ تُعِينُ عَلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ التَّنْظِيفُ لِأَنَّهُ يُخْرَجُ جَمِيعَ مَا هُوَ مُعَدٌّ لِلْخُرُوجِ فَلَا يَتَنَجَّسُ الْكَفَنُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْغُسْلِ (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ) أَيْ فَإِنْ فَلَمْ يُوجَدْ الْمَاءُ الْمَغْلِيُّ بِالسِّدْرِ أَوْ بِالْحَرَضِ وَهُوَ الْأُشْنَانُ (يُغَسَّلُ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ) أَيْ الْخَالِصِ، وَأَمَّا إذَا وُجِدَ ذَلِكَ فَالتَّرْتِيبُ مَا ذُكِرَ فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَالْمُحِيطِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ يَبْدَأُ أَوَّلًا بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ حَتَّى يَبْتَلَّ مَا عَلَى الْبَدَنِ مِنْ الدَّرَنِ وَالنَّجَاسَةِ، ثُمَّ بِمَاءِ السِّدْرِ أَوْ الْحَرَضِ لِيَزُولَ مَا عَلَى الْبَدَنِ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّنْظِيفِ، ثُمَّ بِمَاءِ الْكَافُورِ إنْ وُجِدَ تَطْيِيبًا لِبَدَنِ الْمَيِّتِ، كَذَا فَعَلَتْ الْمَلَائِكَةُ بِآدَمَ عليه السلام حِينَ غَسَّلُوهُ
(وَيُغْسَلُ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ بِالْخِطْمِيِّ) لِيَكُونَ أَنْظَفَ لَهُ.
(ثُمَّ يُضْجَعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ فَيُغْسَلُ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ حَتَّى يُرَى أَنَّ الْمَاءَ قَدْ وَصَلَ إلَى مَا يَلِي التَّخْتَ مِنْهُ، ثُمَّ يُضْجَعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَيُغْسَلُ حَتَّى يُرَى أَنَّ الْمَاءَ قَدْ وَصَلَ إلَى مَا يَلِي التَّخْتَ مِنْهُ)؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ هُوَ الْبُدَاءَةُ بِالْمَيَامِنِ (ثُمَّ يُجْلِسُهُ وَيُسْنِدُهُ إلَيْهِ وَيَمْسَحُ بَطْنَهُ مَسْحًا رَفِيقًا) تَحَرُّزًا عَنْ تَلْوِيثِ الْكَفَنِ.
(فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ غَسَلَهُ وَلَا يُعِيدُ غُسْلَهُ وَلَا وُضُوءَهُ)؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَقَدْ حَصَلَ مَرَّةً
وَيُغَسَّلُ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ بِالْخِطْمِيِّ لِيَكُونَ أَنْظَفَ لَهُ) لِأَنَّهُ مِثْلُ الصَّابُونِ فِي التَّنْظِيفِ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ يُضْجَعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرَ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الْبُدَاءَةُ بِالْمَيَامِنِ) رُوِيَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلنِّسَاءِ فِي غُسْلِ ابْنَتِهِ: ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا» (ثُمَّ يُجْلِسُهُ وَيُسْنِدُهُ إلَيْهِ وَيَمْسَحُ. بَطْنَهُ. مَسْحًا رَقِيقًا) يَعْنِي بِلَا عُنْفٍ حَتَّى إنْ بَقِيَ عِنْدَ الْمَخْرَجِ شَيْءٌ يَسِيلُ تَحَرُّزًا مِنْ تَلْوِيثِ الْكَفَنِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه لَمَّا غَسَّلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ بَطْنَهُ بِيَدِهِ رَقِيقًا طَلَبَ مِنْهُ مَا يُطْلَبُ مِنْ الْمَيِّتِ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا فَقَالَ: طِبْت حَيًّا وَمَيِّتًا»
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ غَسَلَهُ) قِيلَ بَعْدَ أَنْ يَمْسَحَهُ لِأَنَّ الْغُسْلَ قَبْلَ الْمَسْحِ رُبَّمَا يُعَدِّيهَا عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ (وَلَا يُعِيدُ غُسْلَهُ) رُوِيَ بِضَمِّ الْغَيْنِ وَفَتْحِهَا (وَلَا وُضُوءَهُ لِأَنَّ الْغُسْلَ قَدْ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ) وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتَّةُ حُقُوقٍ، وَذَكَرَ مِنْهَا الْغُسْلَ بَعْدَ الْمَوْتِ» وَقَدْ حَصَلَ مَرَّةً وَسَقَطَ الْوَاجِبُ فَلَا يُعِيدُهُ، وَأَمَّا الْوُضُوءُ فَلِأَنَّ الْخَارِجَ إنْ كَانَ حَدَثًا فَالْمَوْتُ أَيْضًا حَدَثٌ وَهُوَ لَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ فَكَذَا هَذَا الْحَدَثُ، وَالْمَذْكُورُ
(ثُمَّ يُنَشِّفُهُ بِثَوْبٍ) كَيْ لَا تَبْتَلَّ أَكْفَانُهُ (وَيَجْعَلُهُ) أَيْ الْمَيِّتَ (فِي أَكْفَانِهِ وَيَجْعَلُ الْحَنُوطَ عَلَى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ وَالْكَافُورَ عَلَى مَسَاجِدِهِ)؛ لِأَنَّ التَّطَيُّبَ سُنَّةٌ وَالْمَسَاجِدُ أَوْلَى بِزِيَادَةِ الْكَرَامَةِ.
(وَلَا يُسَرَّحُ شَعْرُ الْمَيِّتِ وَلَا لِحْيَتُهُ وَلَا يُقَصُّ ظُفُرُهُ وَلَا شَعْرُهُ) لِقَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها: عَلَامَ تَنْصُونَ مَيِّتَكُمْ،
فِي الْكِتَابِ مِنْ مَسْحِ الْبَطْنِ بَعْدَ الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْغُسْلِ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ قَالَ: يُقْعِدُهُ أَوَّلًا وَيَمْسَحُ بَطْنَهُ ثُمَّ يَغْسِلُهُ، لِأَنَّ الْمَسْحَ قَبْلَ الْغُسْلِ أَوْلَى حَتَّى يُخْرِجَ مَا فِي بَطْنِهِ مِنْ النَّجَاسَةِ فَيَقَعُ الْغُسْلُ ثَلَاثًا بَعْدَ خُرُوجِ النَّجَاسَةِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ النَّجَاسَةَ قَدْ تَكُونُ مُنْعَقِدَةً لَا تَخْرُجُ إلَّا بَعْدَ الْغُسْلِ مَرَّتَيْنِ بِمَاءٍ حَارٍّ، فَكَانَ الْمَسْحُ بَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ أَقْدَرَ عَلَى إخْرَاجِ مَا بِهِ مِنْ النَّجَاسَةِ فَيَكُونُ أَوْلَى. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّثْلِيثَ فِي غُسْلِهِ سُنَّةٌ لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ «اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا» وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ: يُغَسَّلُ أَوَّلًا وَهُوَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ يُغَسَّلُ وَهُوَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ يُغَسَّلُ وَهُوَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ لِيَحْصُلَ الْغُسْلُ ثَلَاثًا.
وَقَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: تَرَكَ الْمُصَنِّفُ ذِكْرَ الثَّالِثِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الثَّالِثُ هُوَ قَوْلُهُ ثُمَّ يُفِيضُونَ الْمَاءَ عَلَيْهِ. وَرُدَّ بِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَيُغَسَّلُ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ بِالْخِطْمِيِّ، وَغَسْلُ الرَّأْسِ بَعْدَ الْوُضُوءِ قَبْلَ الْغُسْلِ بِالْإِجْمَاعِ فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ ثَلَاثًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْغُسْلَ إجْمَالًا وَمَا بَعْدَهُ تَفْصِيلُهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْغُسْلِ مَرَّتَيْنِ مُخْتَارَ الْمُصَنِّفِ، وَالتَّثْلِيثُ فِي الصَّبِّ سُنَّةٌ عِنْدَ كُلِّ إضْجَاعٍ وَهَذَا أَنْسَبُ. قِيلَ النِّيَّةُ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ حَتَّى لَوْ أُخْرِجَ الْغَرِيقُ وَجَبَ غُسْلُهُ إلَّا إذَا حُرِّكَ عِنْدَ الْإِخْرَاجِ بِنِيَّةِ الْغُسْلِ، لِأَنَّ الْخِطَابَ بِالْغُسْلِ تَوَجَّهَ عَلَى بَنِي آدَمَ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ شَيْءٌ عِنْدَ عَدَمِ التَّحْرِيكِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمَاءَ مُزِيلٌ بِطَبْعِهِ، فَكَمَا لَا تَجِبُ النِّيَّةُ فِي غُسْلِ الْحَيِّ فَكَذَا لَا تَجِبُ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: مَيِّتٌ غَسَّلَهُ أَهْلُهُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْغُسْلِ أَجْزَأَهُمْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ يُنَشِّفُهُ) ظَاهِرٌ، وَالْحَنُوطُ عِطْرٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَشْيَاءَ طَيِّبَةٍ. وَالْمُرَادُ بِالْمَسَاجِدِ الْجَبْهَةُ وَالْأَنْفُ وَالْيَدَانِ وَالرُّكْبَتَانِ وَالْقَدَمَانِ لِأَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ فَخُصَّ بِزِيَادَةِ الْكَرَامَةِ
(قَوْلُهُ وَلَا يُسَرَّحُ شَعْرُ الْمَيِّتِ) تَسْرِيحُ الشَّعْرِ تَخْلِيصُ بَعْضِهِ عَنْ بَعْضٍ، وَقِيلَ تَخْلِيلُهُ بِالْمُشْطِ، وَقِيلَ مَشْطُهُ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يُقَصُّ ظُفْرُهُ) رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الظُّفُرَ إذَا كَانَ مُنْكَسِرًا فَلَا بَأْسَ بِأَخْذِهِ. وَقَوْلُهُ (عَلَامَ) أَصْلُهُ " عَلَى مَا " دَخَلَ حَرْفُ الْجَرِّ عَلَى مَا الِاسْتِفْهَامِيَّة فَأَسْقَطَ أَلِفَهَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} وَيُقَالُ نَصَوْت الرَّجُلَ نَصْوًا أَخَذْت نَاصِيَتَهُ وَمَدَدْتهَا. رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها سُئِلَتْ عَنْ تَسْرِيحِ شَعْرِ الْمَيِّتِ فَقَالَتْ: عَلَامَ تَنُصُّونَ مَيِّتَكُمْ؟ كَأَنَّهَا
وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِلزِّينَةِ وَقَدْ اسْتَغْنَى الْمَيِّتُ عَنْهَا، وَفِي الْحَيِّ كَانَ تَنْظِيفًا لِاجْتِمَاعِ الْوَسَخِ وَصَارَ كَالْخِتَانِ.
كَرِهَتْ تَسْرِيحَ رَأْسِ الْمَيِّتِ فَجَعَلَتْهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَخْذِ بِالنَّاصِيَةِ فِي كَوْنِهِ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ. قَالَ: وَفِي النِّهَايَةِ: قَوْلُهُ فِي الْحَيِّ كَانَ تَنْظِيفًا جَوَابُ إشْكَالٍ: أَيْ لَا يُشْكِلُ عَلَيْنَا الْحَيُّ حَيْثُ يُسَرَّحُ شَعْرُهُ وَيُقَصُّ ظُفُرُهُ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى الزِّينَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ زَوَالُ الْجُزْءِ، بِخِلَافِ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ لَا يُسَنُّ فِيهِ إزَالَةُ الْجُزْءِ كَمَا فِي الْخِتَانِ حَيْثُ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ فِيهِ. بِأَنْ يُخْتَنَ الْحَيُّ وَلَا يُخْتَنَ الْمَيِّتُ بِالِاتِّفَاقِ، فَكَذَا فِي كُلِّ زِينَةٍ تَتَضَمَّنُ إبَانَةَ الْجُزْءِ يَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ أَجِدْ لَهُ رَبْطًا بِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَصْلًا وَلَكِنِّي أَقُولُ قَوْلَهُ (وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِلزِّينَةِ) أَيْ لِزِينَةِ الْمَيِّتِ (وَقَدْ اسْتَغْنَى الْمَيِّتُ عَنْهَا) أَيْ عَنْ الزِّينَةِ فَاسْتَغْنَى عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِزِينَةِ الْمَيِّتِ فَإِنَّهَا تُفْعَلُ بِالْحَيِّ أَيْضًا.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَفِي الْحَيِّ كَانَ تَنْظِيفًا) يَعْنِي مَا كَانَتْ تُعْمَلُ بِالْحَيِّ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا زِينَةٌ بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَنْظِيفٌ (لِاجْتِمَاعِ الْوَسَخِ تَحْتَهُ) وَذِكْرُ الضَّمِيرِ فِي تَحْتِهِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: هَبْ أَنَّهُ كَانَ فِي الْحَيِّ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
تَنْظِيفًا لَكِنَّ الْمَيِّتَ أَيْضًا مُحْتَاجٌ إلَى التَّنْظِيفِ وَلِهَذَا قَالَ وَيُغْلَى الْمَاءُ بِالسِّدْرِ أَوْ بِالْحَرَضِ مُبَالَغَةً فِي التَّنْظِيفِ وَيُغَسَّلُ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ بِالْخِطْمِيِّ لِيَكُونَ أَنْظَفَ فَلْيُعْمَلْ بِهِ مِنْ حَيْثُ التَّنْظِيفُ. يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ تَنْظِيفٌ بِإِبَانَةِ جُزْءٍ وَذَلِكَ فِي الْمَيِّتِ غَيْرُ مَسْنُونٍ كَمَا فِي الْخِتَانِ، هَذَا مَا سَنَحَ لِي فِي حَلِّ هَذَا الْمَقَامِ.
فَصْلٌ فِي تَكْفِينِهِ
(السُّنَّةُ أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُلُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ إزَارٍ وَقَمِيصٍ وَلِفَافَةٍ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كُفِّنَ
فَصْلٌ فِي التَّكْفِينِ)
رَتَّبَ هَذِهِ الْفُصُولَ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِ مَا فِيهَا مِنْ الْأَفْعَالِ. تَكْفِينُ الْمَيِّتِ: لَفُّهُ بِالْكَفَنِ، وَهُوَ وَاجِبٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُهُ عَلَى الدَّيْنِ وَالْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ وَلِذَلِكَ قَالُوا: مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَكَفَنُهُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ كَمَا تَلْزَمُهُ كِسْوَتُهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ.
وَقَوْلُهُ (السُّنَّةُ أَنْ يُكَفَّنَ) يَعْنِي تَكْفِينُهُ (فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ) سُنَّةٌ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي كَوْنَ أَصْلِ التَّكْفِينِ وَاجِبًا؛ ثُمَّ التَّكْفِينُ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كُفِّنَ بِمَا وُجِدَ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ صَاحِبَ رَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ نَمِرَةً وَهِيَ كِسَاءٌ فِيهِ خُطُوطٌ بِيضٌ وَسُودٌ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فَأَمَرَ بِأَنْ يُكَفَّنَ فِيهَا» وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ: كَفَنُ سُنَّةٍ وَهُوَ فِي حَقِّ الرِّجَالِ ثَلَاثَةُ (أَثْوَابٍ: إزَارٌ، وَقَمِيصٌ، وَلِفَافَةٌ) لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ. وَالسَّحُولِيَّةُ
فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ» وَلِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَلْبَسُهُ عَادَةً فِي حَيَاتِهِ فَكَذَا بَعْدَ مَمَاتِهِ (فَإِنْ اقْتَصَرُوا عَلَى ثَوْبَيْنِ جَازَ، وَالثَّوْبَانِ إزَارٌ وَلِفَافَةٌ) وَهَذَا كَفَنُ الْكِفَايَةِ لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: اغْسِلُوا ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ وَكَفِّنُونِي فِيهِمَا، وَلِأَنَّهُ أَدْنَى لِبَاسِ
نِسْبَةٌ إلَى سُحُولٍ بِفَتْحِ السِّينِ. وَعَنْ الْأَزْهَرِيِّ بِالضَّمِّ: وَهِيَ قَرْيَةٌ بِالْيَمَنِ. وَفِي حَقِّ النِّسَاءِ خَمْسَةُ أَثْوَابٍ: إزَارٌ، وَدِرْعٌ،
الْأَحْيَاءِ، وَالْإِزَارُ مِنْ الْقَرْنِ إلَى الْقَدَمِ، وَاللِّفَافَةُ كَذَلِكَ، وَالْقَمِيصُ مِنْ أَصْلِ الْعُنُقِ إلَى الْقَدَمِ
(فَإِذَا أَرَادُوا لَفَّ الْكَفَنِ ابْتَدَءُوا بِجَانِبِهِ الْأَيْسَرِ فَلَفُّوهُ عَلَيْهِ ثُمَّ بِالْأَيْمَنِ) كَمَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَبَسْطُهُ أَنْ تُبْسَطَ اللِّفَافَةُ أَوَّلًا ثُمَّ يُبْسَطَ عَلَيْهَا الْإِزَارُ ثُمَّ يُقَمَّصَ الْمَيِّتُ وَيُوضَعَ عَلَى الْإِزَارِ ثُمَّ يُعْطَفَ الْإِزَارُ مِنْ قِبَلِ الْيَسَارِ ثُمَّ مِنْ قِبَلِ الْيَمِينِ، ثُمَّ اللِّفَافَةُ كَذَلِكَ (وَإِنْ خَافُوا أَنْ يَنْتَشِرَ الْكَفَنُ عَنْهُ عَقَدُوهُ بِخِرْقَةٍ) صِيَانَةً عَنْ الْكَشْفِ.
(وَتُكَفَّنُ الْمَرْأَةُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ دِرْعٍ وَإِزَارٍ وَخِمَارٍ وَلِفَافَةٍ وَخِرْقَةٍ تُرْبَطُ فَوْقَ ثَدْيَيْهَا) لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى اللَّوَاتِي غَسَّلْنَ
وَخِمَارٌ وَلِفَافَةٌ، وَخِرْقَةٌ تُرْبَطُ فَوْقَ ثَدْيَيْهَا. وَكَفَنُ كِفَايَةٍ. وَهُوَ فِي حَقِّ الرَّجُلِ ثَوْبَانِ: إزَارٌ، وَلِفَافَةٌ. وَفِي حَقِّ الْمَرْأَةِ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ: قَمِيصٌ، وَإِزَارٌ، وَخِمَارٌ. وَمَا فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ.
ابْنَتَهُ خَمْسَةَ أَثْوَابٍ» وَلِأَنَّهَا تَخْرُجُ فِيهَا حَالَةَ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ.
(ثُمَّ هَذَا بَيَانُ كَفَنِ السُّنَّةِ، وَإِنْ اقْتَصَرُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ جَازَ) وَهِيَ ثَوْبَانِ وَخِمَارٌ (وَهُوَ كَفَنُ الْكِفَايَةِ، وَيُكْرَهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ. وَفِي الرَّجُلِ يُكْرَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ إلَّا فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ) لِأَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ رضي الله عنه حِينَ اُسْتُشْهِدَ كُفِّنَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَهَذَا كَفَنُ الضَّرُورَةِ (وَتَلْبَسُ الْمَرْأَةُ الدِّرْعَ أَوَّلًا ثُمَّ يُجْعَلُ شَعْرُهَا ضَفِيرَتَيْنِ عَلَى صَدْرِهَا فَوْقَ الدِّرْعِ، ثُمَّ الْخِمَارُ فَوْقَ ذَلِكَ تَحْتَ الْإِزَارِ، ثُمَّ الْإِزَارُ ثُمَّ اللِّفَافَةُ. قَالَ: وَتُجْمَرُ الْأَكْفَانُ قَبْلَ أَنْ يُدْرَجَ فِيهَا وِتْرًا)«لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ بِإِجْمَارِ أَكْفَانِ ابْنَتِهِ وِتْرًا» ، وَالْإِجْمَارُ هُوَ التَّطْيِيبُ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْهُ صَلَّوْا عَلَيْهِ لِأَنَّهَا فَرِيضَةٌ.
فَصْلٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ)
الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، أَمَّا فَرْضِيَّتُهُ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِقَوْلِهِ عز وجل " {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} وَالْأَمْرُ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لِلْوُجُوبِ وَعَلَى ذَلِكَ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ، وَأَمَّا أَنَّهَا عَلَى الْكِفَايَةِ فَلِأَنَّ فِي الْإِيجَابِ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ اسْتِحَالَةً أَوْ حَرَجًا
(وَأَوْلَى النَّاسِ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ السُّلْطَانُ إنْ حَضَرَ) لِأَنَّ فِي التَّقَدُّمِ عَلَيْهِ ازْدِرَاءٌ بِهِ (فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَالْقَاضِي) لِأَنَّهُ صَاحِبُ وِلَايَةٍ (فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَيُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ إمَامِ الْحَيِّ) لِأَنَّهُ رَضِيَهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ. قَالَ (ثُمَّ الْوَلِيُّ وَالْأَوْلِيَاءُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ فِي النِّكَاحِ)،.
فَاكْتُفِيَ بِالْبَعْضِ كَمَا فِي الْجِهَادِ.
رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ وَهُوَ الْخَلِيفَةُ أَوْلَى إنْ حَضَرَ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَإِمَامُ الْمِصْرِ أَوْلَى إنْ حَضَرَ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَالْقَاضِي أَوْلَى، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَصَاحِبُ الشُّرْطَةِ أَوْلَى. فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَإِمَامُ الْحَيِّ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَالْأَقْرَبُ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِ. وَبِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَخَذَ كَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِنَا.
وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ السُّلْطَانِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ إنْ حَضَرَ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَإِمَامُ الْمِصْرِ. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ الْوَلِيُّ) إنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَالْوَلِيُّ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} وَلَهُمَا أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رضي الله عنهما لَمَّا مَاتَ خَرَجَ الْحُسَيْنُ وَالنَّاسُ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، فَقَدَّمَ الْحُسَيْنُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَكَانَ سَعِيدٌ يَوْمَئِذٍ وَالِيًا بِالْمَدِينَةِ فَأَبَى أَنْ يَتَقَدَّمَ، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: تَقَدَّمْ، وَلَوْلَا السُّنَّةُ مَا قَدَّمْتُك ". وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمَوَارِيثِ وَعَلَى وِلَايَةِ الْمُنَاكَحَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْأَوْلِيَاءُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ فِي النِّكَاحِ) يَقْتَضِي أَنْ يَتَقَدَّمَ الِابْنُ عَلَى الْأَبِ. وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْأَبَ
(فَإِنْ صَلَّى غَيْرُ الْوَلِيِّ أَوْ السُّلْطَانِ أَعَادَ الْوَلِيُّ) يَعْنِي إنْ شَاءَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَقَّ لِلْأَوْلِيَاءِ (وَإِنْ صَلَّى الْوَلِيُّ لَمْ يَجُزْ
أَوْلَى، فَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالِابْنُ أَوْلَى، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْوِلَايَةُ لَهُمَا إلَّا أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَبُ احْتِرَامًا لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا بَلْ مَا ذَكَرَهُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَنَّ الْأَبَ أَوْلَى قَوْلُ الْكُلِّ لِأَنَّ لِلْأَبِ زِيَادَةَ فَضِيلَةٍ وَسِنٍّ لَيْسَتْ لِلِابْنِ، وَلِلْفَضِيلَةِ أَثَرٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْإِمَامَةِ فَيُرَجَّحُ الْأَبُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ. قَوْلُهُ (وَالْأَوْلِيَاءُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ فِي النِّكَاحِ) مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْأَبِ وَالِابْنِ فَبَنُو الْأَعْيَانِ يَحْجُبُونَ بَنِي الْعِلَّاتِ وَالْأَكْبَرُ سِنًّا يَحْجُبُ الْأَصْغَرَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا «لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِتَقْدِيمِ الْأَسَنِّ» فَإِنْ أَرَادَ الْأَكْبَرُ مِنْ الْأَعْيَانِ أَنْ يُقَدِّمَ إنْسَانًا آخَرَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَا الْآخَرِ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقَرَابَةِ، وَإِنْ أَرَادَ بَنُو الْأَعْيَانِ تَقْدِيمَ إنْسَانٍ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ بَنِي الْعِلَّاتِ مَنْعُهُ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ مَعَ وُجُودِهِمْ، وَابْنُ عَمِّ الْمَرْأَةِ أَحَقُّ مِنْ زَوْجِهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهَا ابْنٌ لِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ بِمَوْتِهَا وَالْتِحَاقِهِ بِالْأَجَانِبِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ لِلِابْنِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، ثُمَّ الِابْنُ يُقَدِّمُ أَبَاهُ احْتِرَامًا لَهُ فَيَثْبُتُ لِلزَّوْجِ حَقُّ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. قَالَ الْقُدُورِيُّ: وَسَائِرُ الْقَرَابَاتِ أَوْلَى مِنْ الزَّوْجِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الزَّوْجُ أَوْلَى لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَلَّى عَلَى امْرَأَتِهِ وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا ". وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ " أَنَّهُ لَمَّا مَاتَتْ امْرَأَتُهُ قَالَ لِأَوْلِيَائِهَا: كُنَّا أَحَقَّ بِهَا حِينَ كَانَتْ حَيَّةً، فَإِذَا مَاتَتْ فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِهَا ". وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ إمَامَ حَيٍّ
(فَإِنْ صَلَّى غَيْرُ الْوَلِيِّ أَوْ السُّلْطَانِ أَعَادَ الْوَلِيُّ) وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِذِكْرِ السُّلْطَانِ، لِأَنَّهُ لَوْ صَلَّى السُّلْطَانُ فَلَا إعَادَةَ لِأَحَدٍ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى الْوَلِيِّ، ثُمَّ هُوَ لَيْسَ بِمُنْحَصِرٍ عَلَى السُّلْطَانِ، بَلْ كُلُّ مَنْ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الْوَلِيِّ فِي تَرْتِيبِ الْإِمَامَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَصَلَّى هُوَ لَا يُعِيدُ الْوَلِيُّ ثَانِيًا قَالَ الْإِمَامُ الْوَلْوَالِجِيُّ فِي فَتَاوَاهُ: رَجُلٌ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ وَالْوَلِيُّ
لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهُ) لِأَنَّ الْفَرْضَ يَتَأَدَّى بِالْأَوْلَى وَالتَّنَفُّلَ بِهَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَلِهَذَا رَأَيْنَا النَّاسَ تَرَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ الصَّلَاةَ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام وَهُوَ الْيَوْمَ كَمَا وُضِعَ.
(وَإِنْ دُفِنَ الْمَيِّتُ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ
خَلْفَهُ وَلَمْ يَرْضَ بِهِ، إنْ تَابَعَهُ وَصَلَّى مَعَهُ لَا يُعِيدُ لِأَنَّهُ صَلَّى مَرَّةً، وَإِنْ لَمْ يُتَابِعْهُ فَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي السُّلْطَانَ أَوْ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ فِي الْبَلْدَةِ أَوْ الْقَاضِيَ أَوْ الْوَالِيَ. عَلَى الْبَلْدَةِ. أَوْ إمَامَ حَيٍّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعِيدَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ الْأَوْلَوْنَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمْ. فَلَهُ الْإِعَادَةُ. وَكَذَا ذَكَرَ فِي التَّجْنِيسِ وَالْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ إعَادَةَ الْوَلِيِّ إذَا لَمْ يُصَلِّهَا وَلَمْ يَذْكُرْ إعَادَةَ السُّلْطَانِ إذَا لَمْ يُصَلِّهَا، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ فِي وِلَايَةِ الْإِعَادَةِ كَحُكْمِ الْوَلِيِّ لِمَا أَنَّهُ مُقَدَّمٌ فِي حَقِّ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عَلَى الْوَلِيِّ، فَلَمَّا ثَبَتَ حَقُّ الْإِعَادَةِ لِلْأَدْوَنِ فَلَأَنْ يَثْبُتَ لِلْأَعْلَى مِنْهُ أَوْلَى، وَقَالَ: قَدْ وَجَدْت رِوَايَةً فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ تَشْهَدُ بِمَا ذُكِرَ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ صَلَّى الْوَلِيُّ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهُ تَخْصِيصُ الْوَلِيِّ لَيْسَ بِقَيْدٍ لِمَا أَنَّهُ لَوْ صَلَّى السُّلْطَانُ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ أَوْلَى. مِنْ الْوَلِيِّ. فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ مِمَّنْ ذَكَرْنَا لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهُ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ رِوَايَةِ الْوَلْوَالِجِيِّ وَالتَّجْنِيسِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهُ مَذْهَبُنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُعَادُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَبْرٍ جَدِيدٍ فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقِيلَ قَبْرُ فُلَانَةَ، فَقَالَ: هَلَّا آذَنْتُمُونِي بِالصَّلَاةِ؟ فَقِيلَ إنَّهَا دُفِنَتْ لَيْلًا فَخَشِينَا عَلَيْك هَوَامَّ الْأَرْضِ فَقَامَ وَصَلَّى عَلَى قَبْرِهَا» «وَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. صَلَّى عَلَيْهِ. أَصْحَابُهُ فَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ» . وَلَنَا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَقَوْلُهُ (وَهُوَ الْيَوْمَ كَمَا وُضِعَ) لِأَنَّ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَرَامٌ عَلَى الْأَرْضِ بِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ
صُلِّيَ عَلَى قَبْرِهِ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام صَلَّى عَلَى قَبْرِ امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ (وَيُصَلَّى عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَسَّخَ) وَالْمُعْتَبَرُ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ هُوَ الصَّحِيحُ لِاخْتِلَافِ الْحَالِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ.
(وَالصَّلَاةُ أَنْ يُكَبِّرَ تَكْبِيرَةً يَحْمَدُ اللَّهَ عَقِيبَهَا،
وَإِنَّمَا صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ الْحَقَّ كَانَ لَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ وِلَايَةُ الْإِسْقَاطِ، وَهَكَذَا تَأْوِيلُ فِعْلِ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ مَشْغُولًا بِتَسْوِيَةِ الْأُمُورِ وَتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ فَكَانُوا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ قَبْلَ حُضُورِهِ، وَكَانَ الْحَقُّ لَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْخَلِيفَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ صَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ أَحَدٌ بَعْدَهُ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.
وَقَوْلُهُ (صَلَّى عَلَى قَبْرِهِ) يَعْنِي إذَا وُضِعَ اللَّبِنُ عَلَى اللَّحْدِ وَأُهِيلَ التُّرَابُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يُوضَعْ اللَّبِنُ عَلَى اللَّحْدِ أَوْ وُضِعَ وَلَكِنْ لَمْ يُهَلْ التُّرَابُ عَلَيْهِ يُخْرَجُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّسْنِيمَ لَمْ يَتِمَّ بَعْدُ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ وَغَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ) أَيْ فِي عَدَمِ التَّفَسُّخِ. وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ وَبَعْدَهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ فِي نَوَادِرِهِ، عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ، لِأَنَّ تَفَرُّقَ الْأَجْزَاءِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمَيِّتِ مِنْ السِّمَنِ وَالْهُزَالِ، وَبِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَبِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ مِنْ الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ، وَاَلَّذِي رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ» مَعْنَاهُ دَعَا لَهُمْ وَهُوَ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ. وَقِيلَ: إنَّهُمْ كَانُوا كَمَا دُفِنُوا لَمْ تَتَفَرَّقْ أَعْضَاؤُهُمْ، وَإِذَا كَانَ أَكْثَرُ الرَّأْيِ هُوَ الْمُعْتَبَرَ، فَإِنْ كَانَ فِي أَكْثَرِ رَأْيِهِمْ أَنَّ أَجْزَاءَ الْمَيِّتِ تَفَرَّقَتْ قَبْلَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَنَّهَا لَمْ تَتَفَرَّقْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يُصَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.
قَالَ (وَالصَّلَاةُ أَنْ يُكَبِّرَ تَكْبِيرَةً) الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ (يَحْمَدُ اللَّهَ عَقِبَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى) وَلَمْ يُعَيِّنْ نَوْعًا مِنْ الثَّنَاءِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّهُ يَقُولُ فِيهَا: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ إلَخْ كَمَا مَرَّ
ثُمَّ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً يُصَلِّي فِيهَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً يَدْعُو فِيهَا لِنَفْسِهِ وَلِلْمَيِّتِ وَلِلْمُسْلِمِينَ
وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْمَدُ اللَّهَ كَمَا ذَكَرَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَقُولُ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك إلَخْ كَمَا فِي الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ. وَأَرَى أَنَّهُ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَالْبُدَاءَةُ بِالثَّنَاءِ، فَإِنَّ الْمَعْهُودَ مِنْ الثَّنَاءِ ذَلِكَ وَلَا يَرْفَعُ يَدَهُ فِي التَّكْبِيرَاتِ إلَّا عِنْدَ الِافْتِتَاحِ (ثُمَّ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً ثَانِيَةً يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) لِأَنَّ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ يَعْقُبُهُ الصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي التَّشَهُّدِ وَعَلَى ذَلِكَ وُضِعَتْ الْخُطَبُ (ثُمَّ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً ثَالِثَةً يَدْعُو فِيهَا لِنَفْسِهِ وَلِلْمَيِّتِ وَلِلْمُسْلِمِينَ) يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا إنْ كَانَ يُحْسِنُ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَيَأْتِي بِأَيِّ دُعَاءٍ شَاءَ لِأَنَّ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ وَالصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَعْقُبُهُمَا الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَدْعُوَ فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَلْيُصَلِّ
ثُمَّ يُكَبِّرُ الرَّابِعَةَ وَيُسَلِّمُ) لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَبَّرَ أَرْبَعًا فِي آخِرِ صَلَاةٍ صَلَّاهَا فَنَسَخَتْ مَا قَبْلَهَا.
عَلَى النَّبِيِّ ثُمَّ يَدْعُو» (ثُمَّ يُكَبِّرُ الرَّابِعَةَ وَيُسَلِّمُ، «لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَبَّرَ أَرْبَعًا فِي آخِرِ صَلَاةٍ صَلَّاهَا» فَنَسَخَتْ مَا قَبْلَهَا) فَكَانَ مَا بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ أَوْ أَنَّ التَّحَلُّلَ وَذَلِكَ بِالسَّلَامِ، وَلَيْسَ بَعْدَهَا دُعَاءٌ إلَّا السَّلَامُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَاخْتَارَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنْ يُقَالَ: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا بِرَحْمَتِك عَذَابَ الْقَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ
(وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ خَمْسًا لَمْ يُتَابِعْهُ الْمُؤْتَمُّ) خِلَافًا لِزُفَرَ لِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ لِمَا رَوَيْنَا، وَيَنْتَظِرُ تَسْلِيمَةَ الْإِمَامِ فِي رِوَايَةٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
وَالْإِتْيَانُ بِالدَّعَوَاتِ اسْتِغْفَارٌ لِلْمَيِّتِ وَالْبُدَاءَةُ بِالثَّنَاءِ ثُمَّ بِالصَّلَاةِ سُنَّةِ الدُّعَاءِ،
وَبَعْضُهُمْ أَنْ يَقُولَ: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} الْآيَةَ.
(وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ خَمْسًا لَمْ يُتَابِعْهُ الْمُقْتَدِي) فِي الْخَامِسَةِ لِكَوْنِهَا مَنْسُوخَةً بِمَا رَوَيْنَا «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَبَّرَ أَرْبَعًا فِي آخِرِ صَلَاةٍ صَلَّاهَا» .
وَقَالَ زُفَرُ: يُتَابِعُهُ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه كَبَّرَ خَمْسًا فَتَابَعَهُ الْمُقْتَدِي كَمَا فِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ. قُلْنَا: ثَبَتَ أَنَّ الصَّحَابَةَ تَشَاوَرُوا وَرَجَعُوا إلَى آخِرِ صَلَاةٍ صَلَّاهَا فَصَارَ ذَلِكَ مَنْسُوخًا بِإِجْمَاعِهِمْ، وَمُتَابَعَةُ الْمَنْسُوخِ خَطَأٌ، وَإِذَا لَمْ يُتَابِعْهُ مَاذَا يَصْنَعُ؟ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُسَلِّمُ لِلْحَالِ تَحْقِيقًا لِلْمُخَالَفَةِ، وَفِي أُخْرَى: يَنْتَظِرُ تَسْلِيمَ الْإِمَامِ لِيَصِيرَ مُتَابَعًا فِيمَا تَجِبُ الْمُتَابَعَةُ فِيهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهُوَ الْمُخْتَارُ).
وَقَوْلُهُ (وَالْإِتْيَانُ بِالدَّعَوَاتِ) يَعْنِي بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الثَّالِثَةِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الدُّعَاءُ (وَالْبُدَاءَةُ بِالثَّنَاءِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سُنَّةُ الدُّعَاءِ) تَحْصِيلًا لِلْإِجَابَةِ،
وَلَا يَسْتَغْفِرُ لِلصَّبِيِّ وَلَكِنْ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرْطًا، وَاجْعَلْهُ لَنَا أَجْرًا وَذُخْرًا، وَاجْعَلْهُ لَنَا شَافِعًا مُشَفَّعًا.
(وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ تَكْبِيرَةً أَوْ تَكْبِيرَتَيْنِ لَا يُكَبِّرُ الْآتِي حَتَّى يُكَبِّرَ أُخْرَى بَعْدَ حُضُورِهِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُكَبِّرُ حِينَ يَحْضُرُ لِأَنَّ الْأُولَى لِلِافْتِتَاحِ، وَالْمَسْبُوقُ يَأْتِي بِهِ. وَلَهُمَا أَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ، وَالْمَسْبُوقُ لَا يَبْتَدِئُ بِمَا فَاتَهُ
فَإِنَّهُ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا فَعَلَ هَكَذَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم اُدْعُ فَقَدْ اُسْتُجِيبَ لَك» (وَ) عَلَى هَذَا (لَا يُسْتَغْفَرُ لِلصَّبِيِّ) لِأَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُ (وَلَكِنْ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطًا) أَيْ أَجْرًا يَتَقَدَّمُنَا، وَأَصْلُ الْفَرَطِ فِيمَنْ يَتَقَدَّمُ الْوَارِدَةَ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ» أَيْ مُتَقَدِّمُكُمْ (وَاجْعَلْهُ لَنَا ذُخْرًا) أَيْ خَيْرًا بَاقِيًا (وَاجْعَلْهُ لَنَا شَافِعًا مُشَفَّعًا) أَيْ مَقْبُولَ الشَّفَاعَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ تَكْبِيرَةً أَوْ تَكْبِيرَتَيْنِ) ظَاهِرٌ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْحَاضِرَ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ كَالْمَسْبُوقِ، وَالْمَسْبُوقُ يَأْتِي بِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ إذَا انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ فَكَذَا هَذَا، وَعِنْدَهُمَا وَإِنْ كَانَ كَالْمَسْبُوقِ لَكِنْ لِكُلِّ تَكْبِيرَةٍ بِمَنْزِلَةِ رَكْعَةٍ مِنْ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا قِيلَ أَرْبَعٌ كَأَرْبَعِ الظُّهْرِ (وَالْمَسْبُوقُ لَا يَبْتَدِئُ بِمَا فَاتَهُ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ) فَيَنْتَظِرُ حَتَّى يُكَبِّرَ الْإِمَامُ فَيُكَبِّرُ مَعَهُ فَتَكُونُ هَذِهِ التَّكْبِيرَةُ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ فِي حَقِّ هَذَا الرَّجُلِ فَيَصِيرُ مَسْبُوقًا بِمَا فَاتَهُ مِنْ تَكْبِيرَةٍ أَوْ تَكْبِيرَتَيْنِ يَأْتِي. بِهِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ،
إذْ هُوَ مَنْسُوخٌ، وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا فَلَمْ يُكَبِّرْ مَعَ الْإِمَامِ لَا يَنْتَظِرُ الثَّانِيَةَ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُدْرِكِ.
قَالَ (وَيَقُومُ الَّذِي يُصَلِّي عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِحِذَاءِ الصَّدْرِ) لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْقَلْبِ وَفِيهِ نُورُ الْإِيمَانِ فَيَكُونُ الْقِيَامُ عِنْدَهُ إشَارَةً إلَى الشَّفَاعَةِ لِإِيمَانِهِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقُومُ مِنْ الرَّجُلِ بِحِذَاءِ رَأْسِهِ وَمِنْ الْمَرْأَةِ بِحِذَاءِ وَسَطِهَا لِأَنَّ أَنَسًا رضي الله عنه فَعَلَ كَذَلِكَ وَقَالَ: هُوَ السُّنَّةُ. قُلْنَا تَأْوِيلُهُ أَنَّ جِنَازَتَهَا لَمْ تَكُنْ مَنْعُوشَةً فَحَالَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ.
(فَإِنْ صَلَّوْا عَلَى جِنَازَةٍ رُكْبَانًا
وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَوْلُهُ (إذْ هُوَ) أَيْ الِابْتِدَاءُ بِمَا فَاتَهُ قَبْلَ أَدَاءِ مَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ (مَنْسُوخٌ) وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا) أَيْ الَّذِي فَاتَتْهُ التَّكْبِيرَةُ (لَا يَنْتَظِرُ الثَّانِيَةَ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُدْرِكِ) لِتِلْكَ التَّكْبِيرَةِ ضَرُورَةَ الْعَجْزِ عَنْ الْمُقَارَنَةِ. وَشَرْطُ قَضَاءِ التَّكْبِيرِ الْفَائِتِ أَنْ لَا تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجُوزُ بَعْدَ رَفْعِهَا. وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ، فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يُكَبِّرُ الْمَسْبُوقُ قَبْلَ أَنْ تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ لِأَنَّهُ صَارَ مَسْبُوقًا بِهَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُسَلِّمُ مَعَ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَسْبُوقًا بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ كَبَّرَ عِنْدَ الدُّخُولِ، وَلَوْ كَانَ مَسْبُوقًا بِأَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ الْإِمَامُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلصَّلَاةِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ لَوْ كَبَّرَ صَارَ مُشْتَغِلًا بِقَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ، وَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ فَاتَتْهُ الْجِنَازَةُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُكَبِّرُ وَيَشْرَعُ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ ثُمَّ يَأْتِي بِالتَّكْبِيرَاتِ بَعْدَمَا سَلَّمَ قَبْلَ أَنْ تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ.
قَالَ (وَيَقُومُ الَّذِي يُصَلِّي عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِحِذَاءِ الصَّدْرِ)
أَجْزَأَهُمْ) فِي الْقِيَاسِ لِأَنَّهَا دُعَاءٌ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: لَا تُجْزِئُهُمْ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ مِنْ وَجْهٍ لِوُجُودِ التَّحْرِيمَةِ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ احْتِيَاطًا
(وَلَا بَأْسَ بِالْإِذْنِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ) لِأَنَّ التَّقَدُّمَ حَقُّ الْوَلِيِّ فَيَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِتَقْدِيمِ غَيْرِهِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: لَا بَأْسَ بِالْأَذَانِ: أَيْ الْإِعْلَامِ، وَهُوَ أَنْ يُعْلِمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِيَقْضُوا حَقَّهُ
كَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَالْوَسْطُ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: بِسُكُونِ السِّينِ لِأَنَّهُ اسْمٌ مُبْهَمٌ لِدَاخِلِ الشَّيْءِ وَلِذَا كَانَ ظَرْفًا، يُقَالُ: جَلَسْت وَسْطَ الدَّارِ بِالسُّكُونِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، بِخِلَافِ الْمُتَحَرِّكِ لِأَنَّهُ اسْمٌ لَعَيْنِ مَا بَيْنَ طَرَفَيْ الشَّيْءِ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ، وَالنَّعْشُ شَبَهُ الْمِحَفَّةِ مُشْتَبِكٌ مُطْبِقٌ عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا وُضِعَتْ عَلَى الْجِنَازَةِ وَالرُّكْبَانُ جَمْعُ رَاكِبٍ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهَا دُعَاءٌ) يَعْنِي فِي الْحَقِيقَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا قِرَاءَةٌ وَلَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ فَيَسْقُطُ الْقِيَامُ كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ (وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُجْزِيهِمْ) يَعْنِي تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِعَادَةُ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا بَأْسَ بِالْإِذْنِ) أَيْ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ لِغَيْرِهِ بِالْإِمَامَةِ إذَا حَسُنَ ظَنُّهُ بِشَخْصٍ أَنَّ فِي تَقْدِيمِهِ مَزِيدَ خَيْرٍ وَثَوَابٍ، وَشَفَاعَتَهُ أَرْجَى لَهُ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ حَقُّهُ فَجَازَ أَنْ يَأْذَنَ لِغَيْرِهِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَا بَأْسَ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ لِلنَّاسِ بِالِانْصِرَافِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، إذْ لَا يَسَعُهُمْ الِانْصِرَافُ عَنْهَا قَبْلَ الدَّفْنِ إلَّا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ. وَقَوْلُهُ (وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ) أَيْ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (بِالْأَذَانِ) أَيْ إعْلَامِ الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم «إذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَآذِنُونِي بِالصَّلَاةِ» أَيْ أَعْلِمُونِي، وَقَدْ اسْتَحْسَنَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ النِّدَاءَ
(وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَيِّتٍ فِي مَسْجِدٍ جَمَاعَةً) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا أَجْرَ لَهُ»
فِي الْأَسْوَاقِ لِلْجِنَازَةِ الَّتِي يَرْغَبُ النَّاسُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهَا كَالزُّهَّادِ وَالْعُلَمَاءِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَيِّتٍ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ) إذَا كَانَتْ الْجِنَازَةُ فِي الْمَسْجِدِ، فَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا مَكْرُوهَةٌ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَازَةُ وَالْإِمَامُ وَبَعْضُ الْقَوْمِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَالْبَاقِي فِيهِ لَمْ تُكْرَهْ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَازَةُ وَحْدَهَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُكْرَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِمَا رُوِيَ " أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَمَرَتْ عَائِشَةُ بِإِدْخَالِ جِنَازَتِهِ الْمَسْجِدَ حَتَّى صَلَّتْ عَلَيْهَا أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَتْ لِبَعْضِ مَنْ حَوْلَهَا: هَلْ عَابَ النَّاسُ عَلَيْنَا مَا فَعَلْنَا؟ قَالَ نَعَمْ، فَقَالَتْ: مَا أَسْرَعَ مَا نَسُوا، «مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جِنَازَةِ سُهَيْلِ بْنِ الْبَيْضَاءِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا أَجْرَ لَهُ»
وَلِأَنَّهُ بُنِيَ لِأَدَاءِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ تَلْوِيثُ الْمَسْجِدِ، وَفِيمَا إذَا كَانَ الْمَيِّتُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ رحمهم الله.
وَحَدِيثُ عَائِشَةَ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ لِأَنَّ النَّاسَ فِي زَمَانِهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ قَدْ عَابُوا عَلَيْهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كَرَاهَةَ ذَلِكَ كَانَتْ مَعْرُوفَةً فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَتَأْوِيلُ صَلَاتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جِنَازَةِ سُهَيْلٍ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّهُ كَانَ مُعْتَكِفًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ الْخُرُوجُ فَأَمَرَ بِالْجِنَازَةِ فَوُضِعَتْ خَارِجَ الْمَسْجِدِ. وَعِنْدَنَا إذَا كَانَتْ الْجِنَازَةُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ لَمْ يُكْرَهْ أَنْ يُصَلِّيَ النَّاسُ عَلَيْهَا فِي الْمَسْجِدِ لِمَا نَذْكُرُهُ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ بُنِيَ لِأَدَاءِ الْمَكْتُوبَاتِ) دَلِيلَانِ مَعْقُولَانِ
(وَمَنْ اسْتَهَلَّ بَعْدَ الْوِلَادَةِ سُمِّيَ وَغُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ صُلِّيَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ الِاسْتِهْلَالَ دَلَالَةُ الْحَيَاةِ فَتَحَقَّقَ فِي حَقِّهِ سُنَّةُ الْمَوْتَى (وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ أُدْرِجَ فِي خِرْقَةٍ)
عَلَى ذَلِكَ وَقَعَ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْجِنَازَةُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ نَظَرًا إلَيْهِمَا؛ فَمَنْ نَظَرَ إلَى الْأَوَّلِ قَالَ بِالْكَرَاهَةِ وَإِنْ كَانَتْ خَارِجَهُ وَلَا يَلْزَمُهُ التَّنَفُّلُ فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْمَكْتُوبَةِ، وَمَنْ نَظَرَ إلَى الثَّانِي حَكَمَ بِعَدَمِهَا لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَهِيَ التَّلْوِيثُ لَمْ تُوجَدْ. فَإِنْ قِيلَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مُطْلَقٌ فَالتَّعْلِيلُ بِالتَّلْوِيثِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَهُوَ بَاطِلٌ. فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم " فِي الْمَسْجِدِ " يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلصَّلَاةِ فَكَانَ دَلِيلًا لِلْأَوَّلَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلْجِنَازَةِ فَلَا يَكُونُ مُنَافِيًا لِتَعْلِيلِ الْآخَرِينَ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ اسْتَهَلَّ) عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ، وَاسْتِهْلَالُ الصَّبِيِّ: أَنْ
كَرَامَةً لِبَنِي آدَمَ (وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ) لِمَا رَوَيْنَا، وَيُغَسَّلُ فِي غَيْرِ الظَّاهِرِ مِنْ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
(وَإِذَا سُبِيَ صَبِيٌّ مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ وَمَاتَ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُمَا (إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ يَعْقِلُ) لِأَنَّهُ صَحَّ إسْلَامُهُ اسْتِحْسَانًا (أَوْ يُسْلِمَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ) لِأَنَّهُ يَتْبَعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا (وَإِنْ لَمْ يُسْبَ مَعَهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ صُلِّيَ عَلَيْهِ)
يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالْبُكَاءِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ. وَذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ: هُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى حَيَاتِهِ مِنْ بُكَاءٍ أَوْ تَحْرِيكِ عُضْوٍ أَوْ طَرْفِ عَيْنٍ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ) دَلِيلُ غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْجُزْءِ مِنْ وَجْهٍ وَفِي حُكْمِ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ فَيُعْطَى حَظًّا مِنْ الشَّبَهَيْنِ، فَلِاعْتِبَارِهِ بِالنُّفُوسِ يُغَسَّلُ وَلِاعْتِبَارِهِ بِالْأَجْزَاءِ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا سُبِيَ صَبِيٌّ) يَعْنِي إذَا سُبِيَ صَبِيٌّ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ (مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ) أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ (فَمَاتَ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ كَافِرٌ تَبَعًا لِلْأَبَوَيْنِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْوَلَدُ يَتْبَعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا» فَإِنَّ فِيهِ دَلَالَةً ظَاهِرَةً عَلَى مُتَابَعَةِ الْوَلَدِ لِلْأَبَوَيْنِ (إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ يَعْقِلُ) صِفَةُ الْإِسْلَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي «حَدِيثِ جِبْرِيلَ عليه السلام أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ مِنْ اللَّهِ» وَقِيلَ مَعْنَاهُ: يَعْقِلُ الْمَنَافِعَ وَالْمَضَارَّ، وَإِنَّ الْإِسْلَامَ هُدًى وَاتِّبَاعَهُ خَيْرٌ، وَالْكُفْرَ ضَلَالَةٌ وَاتِّبَاعَهُ شَرٌّ (لِأَنَّهُ صَحَّ إسْلَامُهُ اسْتِحْسَانًا) وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ قِيَاسًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ.
وَقَوْلُهُ (أَوْ يُسَلِّمُ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ إلَّا أَنْ يُقِرَّ؛ يَعْنِي أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ يَعْقِلُ أَوْ يُسْلِمُ (أَحَدُ أَبَوَيْهِ) صَحَّ إسْلَامُهُ لِمَا رَوَيْنَا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي صَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ ظَهَرَتْ تَبَعِيَّةُ الدَّارِ فَحُكِمَ بِإِسْلَامِهِ كَمَا فِي اللَّقِيطِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ. فَإِنْ قِيلَ:
لِأَنَّهُ ظَهَرَتْ تَبَعِيَّةُ الدَّارِ فَحُكِمَ بِالْإِسْلَامِ كَمَا فِي اللَّقِيطِ.
(وَإِذَا مَاتَ الْكَافِرُ وَلَهُ وَلِيٌّ مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ يُغَسِّلُهُ وَيُكَفِّنُهُ وَيَدْفِنُهُ) بِذَلِكَ أُمِرَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فِي حَقِّ أَبِيهِ أَبِي طَالِبٍ،
إذَا كَانَتْ الدَّارُ مِمَّا يُتْبَعُ فَلْيُتْبَعْ وَإِنْ سُبِيَ مَعَهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ تَرْجِيحًا لِلْإِسْلَامِ كَالْأَبَوَيْنِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا. أُجِيبَ بِأَنَّ تَأْثِيرَ الدَّارِ فِي الِاسْتِتْبَاعِ دُونَ تَأْثِيرِ الْوِلَادَةِ، «لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَكَمَ بِاسْتِتْبَاعِ الْأَبَوَيْنِ دُونَ الدَّارِ مَعَ قِيَامِ الدَّارِ» ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لِمَا حُكِمَ بِكُفْرِ صَبِيٍّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَصْلًا، وَكَانَ مَا تَرَكَ أَبَوَاهُ لِبَيْتِ الْمَالِ لِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ تَبَعِيَّةَ الْيَدِ بَعْدَ تَبَعِيَّةِ الدَّارِ، فَإِنَّهُ لَوْ وَقَعَ مِنْ الْغَنِيمَةِ صَبِيٌّ فِي سَهْمِ رَجُلٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَمَاتَ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُجْعَلُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِصَاحِبِ الْيَدِ؛ وَصَاحِبُ الْمُحِيطِ قَدَّمَ تَبَعِيَّةَ الْيَدِ عَلَى تَبَعِيَّةِ الدَّارِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا مَاتَ الْكَافِرُ وَلَهُ وَلِيٌّ مُسْلِمٌ) أَيْ قَرِيبٌ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْوِلَايَةِ مَنْفِيَّةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} وَأُطْلِقَ لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ قَرِيبٍ لَهُ مِنْ ذَوِي الْفُرُوضِ وَالْعَصَبَاتِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ: كَافِرٌ مَاتَ وَلَهُ ابْنٌ مُسْلِمٌ يُغَسِّلُهُ وَيُكَفِّنُهُ وَيَدْفِنُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مِنْ أَقْرِبَائِهِ الْكُفَّارِ مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَالْأَوْلَى أَنْ يُخَلِّيَ الْمُسْلِمُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ يَصْنَعُونَ بِهِ مَا يَصْنَعُونَ بِمَوْتَاهُمْ (بِذَلِكَ أَمَرَ عَلِيٌّ رضي الله عنه) رُوِيَ «أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ جَاءَ عَلِيٌّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عَمَّك الضَّالَّ وَفِي رِوَايَةٍ إنَّ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
لَكِنْ يُغَسَّلُ غُسْلَ الثَّوْبِ النَّجِسِ وَيُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ وَتُحْفَرُ حُفَيْرَةٌ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ سُنَّةِ التَّكْفِينِ وَاللَّحْدِ، وَلَا يُوضَعُ فِيهَا بَلْ يُلْقَى.
فَصْلٌ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ
(وَإِذَا حَمَلُوا الْمَيِّتَ عَلَى سَرِيرِهِ أَخَذُوا بِقَوَائِمِهِ الْأَرْبَعِ) بِذَلِكَ وَرَدَتْ السُّنَّةُ، وَفِيهِ تَكْثِيرُ الْجَمَاعَةِ وَزِيَادَةُ
اغْسِلْهُ وَكَفِّنْهُ وَوَارِهِ وَكَفِّنْهُ وَلَا تُحْدِثْ بِهِ حَدَثًا حَتَّى تَلْقَانِي» أَيْ لَا تُصَلِّ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ (لَكِنْ يُغَسَّلُ غَسْلَ الثَّوْبِ النَّجَسِ) يَعْنِي لَا يُغَسَّلُ كَغُسْلِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْبُدَاءَةِ بِالْوُضُوءِ وَبِالْمَيَامِنِ، وَلَكِنْ يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ كَمَا يُصَبُّ فِي غُسْلِ النَّجَاسَةِ وَلَا يَكُونُ الْغُسْلُ طَهَارَةً لَهُ؛ حَتَّى لَوْ حَمَلَهُ إنْسَانٌ وَصَلَّى لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ، بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ لَوْ حَمَلَهُ الْمُصَلِّي بَعْدَمَا غُسِّلَ جَازَتْ صَلَاتُهُ (وَيُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ) يَعْنِي بِلَا اعْتِبَارِ عَدَدٍ وَلَا حَنُوطٍ وَلَا كَافُورٍ.
(فَصْلٌ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ)
(إذَا حَمَلُوا الْمَيِّتَ عَلَى سَرِيرِهِ أَخَذُوا بِقَوَائِمِهِ الْأَرْبَعَةِ بِذَلِكَ وَرَدَتْ السُّنَّةُ) وَهِيَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تُحْمَلَ الْجِنَازَةُ مِنْ جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ (وَفِيهِ تَكْثِيرُ الْجَمَاعَةِ) حَتَّى لَوْ لَمْ يَتْبَعْهُ أَحَدٌ كَانَ هَؤُلَاءِ جَمَاعَةً، وَفِيهِ
الْإِكْرَامِ وَالصِّيَانَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السُّنَّةُ أَنْ يَحْمِلَهَا رَجُلَانِ: يَضَعُهَا السَّابِقُ عَلَى أَصْلِ عُنُقِهِ، وَالثَّانِي عَلَى أَعْلَى صَدْرِهِ، لِأَنَّ جِنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رضي الله عنه هَكَذَا حُمِلَتْ. قُلْنَا: كَانَ ذَلِكَ لِازْدِحَامِ الْمَلَائِكَةِ.
زِيَادَةُ الْإِكْرَامِ حَيْثُ لَمْ يُحْمَلْ كَمَا تُحْمَلُ الْأَحْمَالُ، وَفِيهِ صِيَانَةٌ عَنْ سُقُوطِ الْمَيِّتِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السُّنَّةُ أَنْ يَحْمِلَهَا رَجُلَانِ) كَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ «بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَمَلَ جِنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رضي الله عنه بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ» (قُلْنَا: كَانَ ذَلِكَ لِازْدِحَامِ الْمَلَائِكَةِ) وَكَانَ الطَّرِيقُ ضَيِّقًا حَتَّى رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم
(وَيَمْشُونَ بِهِ مُسْرِعِينَ دُونَ الْخَبَبِ) لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام حِينَ سُئِلَ عَنْهُ قَالَ: مَا دُونَ الْخَبَبِ
(وَإِذَا بَلَغُوا إلَى قَبْرِهِ يُكْرَهُ أَنْ يَجْلِسُوا قَبْلَ أَنْ يُوضَعَ عَنْ أَعْنَاقِ الرِّجَالِ) لِأَنَّهُ قَدْ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّعَاوُنِ وَالْقِيَامُ أَمْكَنُ مِنْهُ
قَالَ:
كَانَ يَمْشِي عَلَى رُءُوسِ أَصَابِعِهِ وَصُدُورِ قَدَمَيْهِ» وَكَانَ حَالَةَ ضَرُورَةٍ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَيَمْشُونَ بِهِ مُسْرِعِينَ دُونَ الْخَبَبِ) الْخَبَبُ ضَرْبٌ مِنْ الْعَدْوِ دُونَ الْعَنَقِ لِأَنَّ الْعَنَقَ خَطْوٌ فَسِيحٌ وَاسِعٌ " لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ الْمَشْيِ فِي الْجِنَازَةِ فَقَالَ: «مَا دُونَ الْخَبَبِ، فَإِنْ يَكُنْ خَيْرًا عَجَّلْتُمُوهُ إلَيْهِ، وَإِنْ يَكُنْ شَرًّا وَضَعْتُمُوهُ عَنْ رِقَابِكُمْ» أَوْ قَالَ «فَبُعْدًا لِأَهْلِ النَّارِ» وَالْخَبَبُ مَكْرُوهٌ لِأَنَّ فِيهِ ازْدِرَاءً بِالْمَيِّتِ وَإِضْرَارًا بِالْمُتَّبِعِينَ. وَالْمَشْيُ خَلْفَ الْجِنَازَةِ أَفْضَلُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قُدَّامَهَا أَفْضَلُ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَا يَمْشِيَانِ أَمَامَ الْجِنَازَةِ. وَلَنَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَشْي خَلْفَ جِنَازَةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» وَعَلِيٌّ كَانَ يَمْشِي خَلْفَ الْجِنَازَةِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَضْلُ الْمَشْيِ خَلْفَ الْجِنَازَةِ عَلَى الْمَشْيِ أَمَامَهَا كَفَضْلِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَى النَّافِلَةِ. وَفِعْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّيْسِيرِ عَلَى النَّاسِ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَحْتَرِزُونَ عَنْ الْمَشْيِ أَمَامَهَا، فَلَوْ اخْتَارَ الْمَشْيَ خَلْفَهَا لَضَاقَ الطَّرِيقُ عَلَى مَنْ يُشَيِّعُهَا، وَهَكَذَا أَجَابَ عَلِيٌّ رضي الله عنه حِينَ قِيلَ لَهُ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَا يَمْشِيَانِ أَمَامَ الْجِنَازَةِ قَالَ: يَرْحَمُهُمَا اللَّهُ إنَّهُمَا قَدْ عَرَفَا أَنَّ الْمَشْيَ خَلْفَهَا أَفْضَلُ وَلَكِنَّهُمَا أَرَادَا تَيْسِيرَ الْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا بَلَغُوا إلَى قَبْرِهِ)
وَكَيْفِيَّةُ الْحَمْلِ) أَنْ تَضَعَ مُقَدَّمَ الْجِنَازَةِ عَلَى يَمِينِك ثُمَّ مُؤَخَّرَهَا عَلَى يَمِينِك ثُمَّ مُقَدَّمَهَا عَلَى يَسَارِك ثُمَّ مُؤَخَّرَهَا عَلَى يَسَارِك إيثَارًا لِلتَّيَامُنِ، وَهَذَا فِي حَالَةِ التَّنَاوُبِ.
ظَاهِرٌ، فَإِذَا وُضِعَتْ عَلَى أَعْنَاقِ الرِّجَالِ جَلَسُوا وَكُرِهَ الْقِيَامُ.
وَقَوْلُهُ (وَكَيْفِيَّةُ الْحَمْلِ أَنْ تَضَعَ الْجِنَازَةَ) هَذَا لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ الْخِطَابِ خَاطَبَ أَبُو حَنِيفَةَ أَبَا يُوسُفَ.
قَالَ يَعْقُوبُ: رَأَيْت أَبَا حَنِيفَةَ يَصْنَعُ هَكَذَا، قَالَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ: وَهَذَا دَلِيلُ تَوَاضُعِهِ. قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَقَدْ حَمَلَ الْجِنَازَةَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ، بَلْ أَفْضَلُ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ وَهُوَ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ حَمَلَ جِنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ كَمَا ذَكَرْنَا لِمَا أَنَّ حَمْلَ الْجِنَازَةِ عِبَادَةٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَبَادَرَ إلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ. وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ إنَّمَا أَرَادَ بِالْيَمِينِ الْمُقَدَّمِ يَمِينَ الْمَيِّتِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا حَمَلْت جَانِبَ السَّرِيرِ الْأَيْسَرِ فَذَلِكَ يَمِينُ الْمَيِّتِ لِأَنَّ يَمِينَ الْمَيِّتِ عَلَى يَسَارِ الْجِنَازَةِ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ وُضِعَ فِيهَا عَلَى قَفَاهُ وَكَانَ يَمِينُ الْمَيِّتِ يَسَارَهَا وَيَسَارُهُ يَمِينَهَا، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْحَمْلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، أَمَّا الْبُدَاءَةُ بِالْأَيْمَنِ الْمُقَدَّمِ وَذَلِكَ يَمِينُ الْمَيِّتِ وَيَمِينُ الْحَامِلِ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَالْمُقَدَّمُ أَيْضًا أَوَّلَ الْجِنَازَةِ، وَالْبُدَاءَةُ بِالْمَشْيِ إنَّمَا تَكُونُ مِنْ أَوَّلِهِ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إلَى الْأَيْمَنِ الْمُؤَخَّرِ، لِأَنَّهُ لَوْ تَحَوَّلَ إلَى الْأَيْسَرِ الْمُقَدَّمِ احْتَاجَ إلَى الْمَشْيِ أَمَامَهَا، وَالْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ، فَلَمَّا مَشَى خَلْفَهَا وَبَلَغَ الْأَيْمَنَ الْمُؤَخَّرَ حَمَلَهُ لِأَنَّ فِيهِ رُجْحَانَ التَّيَامُنِ أَيْضًا فَبَقِيَ جَانِبَاهُ الْأَيْسَرُ الْمُقَدَّمُ وَالْأَيْسَرُ الْمُؤَخَّرُ، فَيَخْتَارُ تَقْدِيمَ الْأَيْسَرِ الْمُقَدَّمِ عَلَى الْأَيْسَرِ الْمُؤَخَّرِ لِأَنَّ فِيهِ الْخَتْمَ بِالْأَيْسَرِ الْمُؤَخَّرِ، وَالْخَتْمُ بِذَلِكَ أَوْلَى لِيَبْقَى بَعْدَ الْفَرَاغِ خَلْفَ الْجِنَازَةِ فَإِنَّ الْمَشْيَ خَلْفَهَا أَفْضَلُ كَمَا مَرَّ. وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ حَمْلُهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ (فِي حَالَةِ التَّنَاوُبِ) يَعْنِي عِنْدَ وُفُورِ الْحَامِلِينَ لِيَدْفَعَ الْجَنْبَ الَّذِي حَمَلَهُ إلَى غَيْرِهِ وَيَنْتَقِلَ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ.
فَصْلٌ فِي الدَّفْنِ
(وَيُحْفَرُ الْقَبْرُ وَيُلْحَدُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَاللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا» (وَيُدْخَلُ الْمَيِّتُ) مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ عِنْدَهُ يُسَلُّ سَلًّا لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام سُلَّ سَلًّا» . وَلَنَا أَنَّ جَانِبَ الْقِبْلَةِ مُعَظَّمٌ
(فَصْلٌ فِي الدَّفْنِ)
أَصْلُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ: " أَعْنِي الْغُسْلَ وَالتَّكْفِينَ وَالدَّفْنَ فِي بَنِي آدَمَ عُرِفَ بِفِعْلِ الْمَلَائِكَةِ فِي حَقِّ آدَمَ عليه السلام. رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ آدَم عليه السلام غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَكَفَّنُوهُ وَدَفَنُوهُ ثُمَّ قَالُوا لِوَلَدِهِ هَذِهِ سُنَّةُ مَوْتَاكُمْ» . لَحَدَ الْمَيِّتَ وَأَلْحَدَهُ: جَعَلَهُ فِي اللَّحْدِ وَهُوَ الشِّقُّ الْمَائِلُ فِي جَانِبِ الْقَبْرِ، وَيُلْحَدُ الْمَيِّتُ وَلَا يُشَقُّ لَهُ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ بِالْعَكْسِ لِتَوَارُثِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الشَّقَّ دُونَ اللَّحْدِ. وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «اللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا» وَإِنَّمَا فَعَلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الشَّقَّ لِضَعْفِ أَرَاضِيهِمْ بِالْبَقِيعِ. وَصِفَةُ اللَّحْدِ أَنْ يَحْفِرَ الْقَبْرَ بِتَمَامِهِ ثُمَّ يَحْفِرَ فِي جَانِبِ الْقِبْلَةِ مِنْهُ حُفَيْرَةً يُوضَعُ فِيهَا الْمَيِّتُ وَيُجْعَلُ كَذَلِكَ كَالْبَيْتِ الْمُسْقَفِ. وَصِفَةُ الشَّقِّ أَنْ يَحْفِرَ حُفَيْرَةً فِي وَسَطِ الْقَبْرِ يُوضَعُ فِيهَا الْمَيِّتُ.
وَقَوْلُهُ (وَيُدْخَلُ الْمَيِّتُ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ) يَعْنِي تُوضَعُ الْجِنَازَةُ فِي جَانِبِ الْقِبْلَةِ
فَيُسْتَحَبُّ الْإِدْخَالُ مِنْهُ، وَاضْطَرَبَتْ الرِّوَايَاتُ فِي إدْخَالِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام
(فَإِذَا وُضِعَ فِي لَحْدِهِ يَقُولُ وَاضِعُهُ: بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ) كَذَا قَالَهُ عليه الصلاة والسلام حِينَ وَضَعَ أَبَا دُجَانَةَ رضي الله عنه فِي الْقَبْرِ
مِنْ الْقَبْرِ وَيُحْمَلُ مِنْهُ الْمَيِّتُ فَيُوضَعُ فِي اللَّحْدِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: السُّنَّةُ أَنْ يُسَلَّ إلَى قَبْرِهِ، وَصِفَةُ ذَلِكَ أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ فِي مُؤَخَّرِ الْقَبْرِ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الْمَيِّتِ بِإِزَاءِ مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ مِنْ الْقَبْرِ، ثُمَّ يُدْخِلَ الرَّجُلُ الْآخِذُ فِي الْقَبْرِ فَيَأْخُذَ بِرَأْسِ الْمَيِّتِ وَيُدْخِلَهُ فِي الْقَبْرِ أَوَّلًا وَيُسَلُّ كَذَلِكَ. وَقِيلَ صُورَتُهُ أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ فِي مُقَدَّمِ الْقَبْرِ حَتَّى تَكُونَ رِجْلَا الْمَيِّتِ بِإِزَاءِ مَوْضِعِ رَأْسِهِ مِنْ الْقَبْرِ ثُمَّ يُدْخِلَ الرَّجُلُ الْآخِذُ فِي الْقَبْرِ فَيَأْخُذَ بِرِجْلَيْ الْمَيِّتِ وَيُدْخِلَهُمَا الْقَبْرَ أَوَّلًا وَيُسَلُّ كَذَلِكَ. وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُلَّ إلَى قَبْرِهِ» وَلَنَا أَنَّ جَانِبَ الْقِبْلَةِ مُعَظَّمٌ فَيُسْتَحَبُّ الْإِدْخَالُ مِنْهُ لَا يُقَالُ: هَذَا تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الرِّوَايَةَ فِي إدْخَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَبْرِهِ مُضْطَرِبَةٌ. رَوَى إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُدْخِلَ فِي قَبْرِهِ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ» وَرَوَاهُ بِخِلَافِهِ. وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ مَذْهَبِهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا مِثْلُ مَذْهَبِنَا، وَالْمُضْطَرِبُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً.
(فَإِذَا وُضِعَ فِي لَحْدِهِ يَقُولُ وَاضِعُهُ بِاسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ) أَيْ بِاسْمِ اللَّهِ وَضَعْنَاك وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَلَّمْنَاك، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (كَذَا «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ وَضَعَ أَبَا دُجَانَةَ فِي الْقَبْرِ» قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَضَعَ ذَا الْبِجَادَيْنِ لِأَنَّ أَبَا دُجَانَةَ مَاتَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(وَيُوَجَّهُ إلَى الْقِبْلَةِ) بِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (وَتُحَلُّ الْعُقْدَةُ) لِوُقُوعِ الْأَمْنِ مِنْ الِانْتِشَارِ (وَيُسَوَّى اللَّبِنُ عَلَى اللَّحْدِ) لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام جُعِلَ عَلَى قَبْرِهِ اللَّبِنُ
(وَيُسَجَّى قَبْرُ الْمَرْأَةِ بِثَوْبٍ حَتَّى يُجْعَلَ اللَّبِنُ عَلَى اللَّحْدِ وَلَا يُسَجَّى قَبْرُ الرَّجُلِ) لِأَنَّ مَبْنَى حَالِهِنَّ عَلَى السِّتْرِ وَمَبْنَى حَالِ الرِّجَالِ عَلَى الِانْكِشَافِ (وَيُكْرَهُ الْآجُرُّ وَالْخَشَبُ) لِأَنَّهُمَا لِإِحْكَامِ الْبِنَاءِ وَالْقَبْرُ مَوْضِعُ الْبِلَى، ثُمَّ بِالْآجُرِّ يَكُونُ أَثَرُ النَّارِ فَيُكْرَهُ تَفَاؤُلًا (وَلَا بَأْسَ بِالْقَصَبِ)
فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، هَكَذَا ذُكِرَ فِي التَّوَارِيخِ. وَقَوْلُهُ (وَيُوَجَّهُ إلَى الْقِبْلَةِ بِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ «مَاتَ الرَّجُلُ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: يَا عَلِيُّ اسْتَقْبِلْ بِهِ الْقِبْلَةَ اسْتِقْبَالًا» وَقَوْلُهُ (وَتُحَلُّ الْعُقْدَةُ) يَعْنِي عُقْدَةَ الْكَفَنِ مَخَافَةَ الِانْتِشَارِ لِوُقُوعِ الْأَمْنِ مِنْهُ (وَيُسَوَّى اللَّبِنُ عَلَيْهِ)«لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جُعِلَ عَلَى قَبْرِهِ اللَّبِنُ» .
وَقَوْلُهُ (وَيُسَجَّى قَبْرُ الْمَرْأَةِ) التَّسْجِيَةُ التَّغْطِيَةُ يُسَجَّى قَبْرُ الْمَرْأَةِ (بِثَوْبٍ حَتَّى يُجْعَلَ اللَّبِنُ عَلَى اللَّحْدِ) لِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ، وَقَدْ صَحَّ " أَنَّ قَبْرَ فَاطِمَةَ رضي الله عنها سُجِّيَ بِثَوْبٍ " (وَلَا يُسَجَّى قَبْرُ الرَّجُلِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسَجَّى " لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَجَّى قَبْرَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ " أَنَّهُ مَرَّ بِمَيِّتٍ قَدْ سُجِّيَ قَبْرُهُ فَنَزَعَهُ وَقَالَ: إنَّهُ رَجُلٌ " يَعْنِي أَنَّهُ مَبْنِيٌّ حَالَ الرِّجَالِ عَلَى الِانْكِشَافِ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ. وَتَأْوِيلُ قَبْرِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ أَنَّ كَفَنَهُ مَا كَانَ يَغْمُرُ بَدَنَهُ فَسُجِّيَ قَبْرُهُ حَتَّى لَا يَقَعَ الِاطِّلَاعُ لِأَحَدٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْضَائِهِ. وَقَوْلُهُ (وَيُكْرَهُ الْآجُرُّ وَالْخَشَبُ) هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُمَا) أَيْ الْآجُرَّ وَالْخَشَبَ (لِإِحْكَامِ الْبِنَاءِ وَالْقَبْرُ مَوْضِعُ الْبِلَى) وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَكَرِهَ الْآجُرَّ مِنْ حَيْثُ التَّفَاؤُلُ بِهِ لِمِسَاسَتِهِ النَّارَ دُونَ الْخَشَبِ لِعَدَمِهِ فِيهِ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ إلَى. ذَلِكَ. بِقَوْلِهِ ثُمَّ بِالْآجُرِّ أَثَرُ النَّارِ فَيُكْرَهُ تَفَاؤُلًا. وَرُدَّ بِأَنَّ مِسَاسَ النَّارِ لَا يَصْلُحُ عِلَّةَ الْكَرَاهَةِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُغْسَلَ الْمَيِّتُ بِالْمَاءِ الْحَارِّ وَقَدْ مَسَّتْهُ النَّارُ.
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ: يَعْنِي التَّعْلِيلَ بِإِحْكَامِ الْبِنَاءِ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ بَيْنَ اسْتِعْمَالِ
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَيُسْتَحَبُّ اللَّبِنُ وَالْقَصَبُ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام جُعِلَ عَلَى قَبْرِهِ طُنٌّ مِنْ قَصَبٍ
(ثُمَّ يُهَالُ التُّرَابُ وَيُسَنَّمُ الْقَبْرُ وَلَا يُسَطَّحُ) أَيْ لَا يُرَبَّعُ «لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام نَهَى عَنْ تَرْبِيعِ الْقُبُورِ» وَمَنْ شَاهَدَ قَبْرَهُ عليه الصلاة والسلام أَخْبَرَ أَنَّهُ مُسَنَّمٌ.
الْآجُرِّ وَرُفُوفِ الْخَشَبِ وَهِيَ أَلْوَاحُهُ وَلَا يُوجَدُ مَعْنَى النَّارِ فِيهَا. وَقَوْلُهُ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يُسْتَحَبُّ اللَّبِنُ وَالْقَصَبُ) إنَّمَا صَرَّحَ. بِلَفْظِ. الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِمُخَالَفَةِ رِوَايَتِهِ لِرِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ، لِأَنَّ رِوَايَةَ الْقُدُورِيِّ لَا تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ بَلْ عَلَى نَفْيِ الشِّدَّةِ لَا غَيْرُ، وَرِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ رِوَايَةَ الْقُدُورِيِّ لَا تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَرِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ تَدُلُّ «لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جُعِلَ عَلَى قَبْرِهِ طُنٌّ»: أَيْ حُزْمَةٌ مِنْ الْقَصَبِ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ يُهَالُ التُّرَابُ عَلَيْهِ) يُقَالُ هِلْت الدَّقِيقَ فِي الْجِرَابِ: صَبَبْته مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَرْسَلْته إرْسَالًا مِنْ رَمْلٍ أَوْ تُرَابٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ نَحْوِهِ قُلْت هِلْته أَهِيلُهُ هَيْلًا فَانْهَالَ: أَيْ جَرَى فَانْصَبَّ، وَمِنْهُ يُهَالُ التُّرَابُ: أَيْ يُصَبُّ.
وَقَوْلُهُ (وَيُسَنَّمُ الْقَبْرُ) الْمُرَادُ مِنْ تَسْنِيمِ الْقَبْرِ رَفْعُهُ مِنْ الْأَرْضِ مِقْدَارَ شِبْرٍ أَوْ أَكْثَرَ قَلِيلًا. وَقَوْلُهُ (وَلَا يُسَطَّحُ أَيْ لَا يُرَبَّعُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُرَبَّعُ وَلَا يُسَنَّمُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تُوُفِّيَ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْرَهُ مُسَطَّحًا» وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ تَرْبِيعِ الْقُبُورِ» . وَعَنْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَبْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما مُسَنَّمَةً عَلَيْهَا فَلَقٌ مِنْ مَدَرٍ بِيضٍ. الْفَلَقُ جَمْعُ فِلْقَةٍ: وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنْ الْمَدَرِ، عَمَّمَ الرَّائِي وَلَمْ يُعَيِّنْهُ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الرَّائِينَ كَثْرَةٌ وَتَأْوِيلُ تَسْنِيمِ قَبْرِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام أَنَّهُ سَطَّحَ قَبْرَهُ أَوَّلًا ثُمَّ سَنَّمَ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْمُحِيطِ.
بَابُ الشَّهِيدِ
(الشَّهِيدُ مَنْ قَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، أَوْ وُجِدَ فِي الْمَعْرَكَةِ وَبِهِ أَثَرٌ، أَوْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ ظُلْمًا
بَابُ الشَّهِيدِ)
الْمَقْتُولُ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَإِنَّمَا بَوَّبَ لِلشَّهِيدِ بِحِيَالِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْفَضِيلَةِ فَكَانَ إخْرَاجُهُ مِنْ بَابِ صَلَاةِ الْمَيِّتِ بِبَابٍ عَلَى حِدَةٍ كَإِخْرَاجِ جِبْرِيلَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، وَسُمِّيَ الشَّهِيدُ شَهِيدًا لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَشْهَدُونَ مَوْتَهُ إكْرَامًا لَهُ فَكَانَ مَشْهُودًا فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ مَشْهُودٌ لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَقِيلَ لِأَنَّهُ حَيٌّ عِنْدَ اللَّهِ حَاضِرٌ. وَهُوَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ (مَنْ قَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ أَوْ وُجِدَ فِي الْمَعْرَكَةِ وَبِهِ أَثَرٌ أَوْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ ظُلْمًا وَلَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِ دِيَةٌ) فَقَوْلُهُ مَنْ قَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، يَعْنِي بِأَيَّةِ آلَةٍ كَانَتْ، وَفِي مَعْنَاهُمْ أَهْلُ الْبَغْيِ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ لِلْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ. وَقَوْلُهُ (وَبِهِ أَثَرٌ) أَيْ جِرَاحَةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ بَاطِنَةٌ كَخُرُوجِ الدَّمِ مِنْ الْعَيْنِ أَوْ نَحْوِهَا وَقَوْلِهِ (أَوْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ ظُلْمًا)
وَلَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِ دِيَةٌ فَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُغَسَّلُ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام فِيهِمْ «زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ وَلَا تُغَسِّلُوهُمْ» فَكُلُّ مَنْ قُتِلَ بِالْحَدِيدَةِ ظُلْمًا وَهُوَ طَاهِرٌ بَالِغٌ وَلَمْ يَجِبْ بِهِ عِوَضٌ مَالِيٌّ فَهُوَ فِي مَعْنَاهُمْ فَيَلْحَقُ بِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْأَثَرِ الْجِرَاحَةُ لِأَنَّهَا دَلَالَةُ الْقَتْلِ،
احْتِرَازٌ عَمَّا قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ رَجْمًا أَوْ قِصَاصًا.
وَقَوْلُهُ (وَلَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِ دِيَةٌ) احْتِرَازٌ عَنْ شَبَهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَحُكْمُهُ أَنَّهُ يُكَفَّنُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا يُغَسَّلُ إذَا كَانَ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. أَمَّا التَّكْفِينُ فَهُوَ سُنَّةٌ فِي مَوْتَى بَنِي آدَمَ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ ثِيَابٌ لَمْ تُنْزَعْ عَنْهُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ» وَفِي رِوَايَةٍ " بِثِيَابِهِمْ " وَيُنْزَعُ الْفَرْوُ وَالْحَشْوُ وَالْقَلَنْسُوَةُ وَالْخُفُّ وَالسِّلَاحُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْكَفَنِ، وَيَزِيدُونَ وَيَنْقُصُونَ إتْمَامًا لِلْكَفَنِ عَلَى مَا ذُكِرَ. وَأَمَّا عَدَمُ الْغُسْلِ فَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ.
وَقَالَ عليه الصلاة والسلام فِيهِمْ «زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ وَلَا تُغَسِّلُوهُمْ» (فَكُلُّ مَنْ قُتِلَ ظُلْمًا بِالْحَدِيدَةِ وَهُوَ طَاهِرٌ بَالِغٌ وَلَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِ عِوَضٌ مَالِيٌّ فَهُوَ فِي مَعْنَاهُمْ فَيُلْحَقُ بِهِمْ) وَالْقَيْدُ بِالْحَدِيدَةِ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ الْقَتْلُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا
وَكَذَا خُرُوجُ الدَّمِ مِنْ مَوْضِعٍ غَيْرِ مُعْتَادٍ كَالْعَيْنِ وَنَحْوِهَا، وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي الصَّلَاةِ وَيَقُولُ السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ
مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَالْبَغْيِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ كَمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ مَا كَانَ كُلُّهُمْ قَتِيلَ السَّيْفِ وَالسِّلَاحِ، وَشَرْطُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا لِأَنَّهُ إذَا كَانَ جُنُبًا يُغَسَّلُ عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي الْكِتَابِ. وَشَرْطُهُ أَنْ لَا يَكُونَ مُرْتَثًّا عَلَى مَا يَذْكُرُهُ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَيْهِ فَقَدْ خَالَفْنَا الشَّافِعِيَّ وَقَالَ: السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ فَأَغْنَى عَنْ الشَّفَاعَةِ. وَقُلْنَا الصَّلَاةُ
فَأَغْنَى عَنْ الشَّفَاعَةِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ لِإِظْهَارِ كَرَامَتِهِ، وَالشَّهِيدُ أَوْلَى بِهَا، وَالطَّاهِرُ عَنْ الذُّنُوبِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الدُّعَاءِ كَالنَّبِيِّ وَالصَّبِيِّ
(وَمَنْ قَتَلَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ أَوْ أَهْلُ الْبَغْيِ أَوْ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ فَبِأَيِّ شَيْءٍ قَتَلُوهُ لَمْ يُغَسَّلْ) لِأَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ مَا كَانَ كُلُّهُمْ قَتِيلَ السَّيْفِ وَالسِّلَاحِ
(وَإِذَا اُسْتُشْهِدَ الْجُنُبُ غُسِّلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ)
عَلَى الْمَيِّتِ لِإِظْهَارِ كَرَامَتِهِ، وَالشَّهِيدُ أَوْلَى بِالْكَرَامَةِ. وَقَوْلُهُ (وَالطَّاهِرُ عَنْ الذُّنُوبِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ قَتَلَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ) ظَاهِرٌ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ مَنْ قَتَلَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ فَهُوَ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ (فَبِأَيِّ شَيْءٍ قَتَلُوهُ لَمْ يُغَسَّلْ) وَأَمَّا أَهْلُ الْبَغْيِ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ فَمِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَكُنْ قَتِيلُهُمْ بِمَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ فَيُشْتَرَطُ الْحَدِيدَةُ أَوْ الْآلَةُ الَّتِي لَا تَلْبَثُ فِي ثُبُوتِ الشَّهَادَةِ. أُجِيبَ بِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ لَمَّا أُمِرْنَا بِقِتَالِهِمْ أُلْحِقَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْبَغْيِ {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} الْآيَةَ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم
وَقَالَا: لَا يُغَسَّلُ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ بِالْجَنَابَةِ سَقَطَ بِالْمَوْتِ وَالثَّانِي لَمْ يَجِبْ لِلشَّهَادَةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشَّهَادَةَ عُرِفَتْ مَانِعَةً غَيْرَ رَافِعَةٍ فَلَا تَرْفَعُ الْجَنَابَةَ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ حَنْظَلَةَ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ جُنُبًا غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْحَائِضُ
فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ «قَاتِلْ دُونَ مَالِكَ» وَقَالَ «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» وَإِذَا كَانَ قِتَالُهُمَا مَأْمُورًا بِهِ صَارَ كَقِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَفِي قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ الْحُكْمُ تَعْمِيمُ الْآلَةِ فَكَذَا فِي قِتَالِهِمَا.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ مَا وَجَبَ بِالْجَنَابَةِ سَقَطَ بِالْمَوْتِ) لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُكَلَّفًا بِالْغُسْلِ عَنْ الْجَنَابَةِ (وَالثَّانِي) أَيْ الْغُسْلُ بِسَبَبِ الْمَوْتِ (لَمْ يَجِبْ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَمْنَعُهُ فَإِنَّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ» لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الشَّهِيدِ الْجُنُبِ وَغَيْرِهِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشَّهَادَةَ عُرِفَتْ مَانِعَةً غَيْرَ رَافِعَةٍ فَلَا تَرْفَعُ الْجَنَابَةَ) أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي ثَوْبِ الشَّهِيدِ نَجَاسَةٌ تُغْسَلُ تِلْكَ النَّجَاسَةُ وَلَا يُغَسَّلُ عَنْهُ الدَّمُ. قِيلَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ رَافِعًا لَوُضِّئَ الْمُحْدِثُ إذَا اُسْتُشْهِدَ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَكَذَا الْمَلْزُومُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَافِعًا لِلْأَعْلَى أَنْ لَا يَكُونَ رَافِعًا لِلْأَدْنَى، وَبِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ (فَقَدْ صَحَّ «أَنَّ حَنْظَلَةَ رضي الله عنه لَمَّا اُسْتُشْهِدَ جُنُبًا غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَهُ عَنْ حَالِهِ، فَقَالَتْ زَوْجَتُهُ: إنَّهُ أَصَابَ مِنِّي فَسَمِعَ الْهَيْعَةَ فَأَعْجَلَتْهُ عَنْ الِاغْتِسَالِ فَاسْتُشْهِدَ وَهُوَ جُنُبٌ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام
وَالنُّفَسَاءُ إذَا طَهُرَتَا وَكَذَا قَبْلَ الِانْقِطَاعِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَةِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّبِيّ لَهُمَا أَنَّ الصَّبِيَّ أَحَقُّ بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ.
هُوَ ذَاكَ» وَالْهَيْعَةُ: الصَّوْتُ الَّذِي يُفْزَعُ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ الْوَاجِبُ غُسْلُ بَنِي آدَمَ دُونَ الْمَلَائِكَةِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا لَأَمَرَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام بِإِعَادَةِ غُسْلِهِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْغُسْلُ، وَأَمَّا الْغَاسِلُ فَيَجُوزُ كَائِنًا مَنْ كَانَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا غَسَّلُوا آدَمَ عليه السلام تَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ وَلَمْ يُعِدْ أَوْلَادُهُ غُسْلَهُ.
وَقَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ إذَا طَهُرَتَا) يَعْنِي عِنْدَهُمَا لَا يُغَسَّلَانِ لِأَنَّ الْغُسْلَ الْأَوَّلَ سَقَطَ بِالْمَوْتِ وَالثَّانِيَ لَمْ يَجِبْ بِالشَّهَادَةِ، وَعِنْدَهُ يُغَسَّلَانِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عُرِفَتْ مَانِعَةً غَيْرَ رَافِعَةٍ (وَكَذَا قَبْلَ الِانْقِطَاعِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَةِ) فَإِنَّهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَا يُغَسَّلَانِ لِأَنَّ الِاغْتِسَالَ مَا كَانَ وَاجِبًا. عَلَيْهِمَا. قَبْلَ الِانْقِطَاعِ. وَفِي رِوَايَةٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ يُغَسَّلَانِ لِأَنَّ الِانْقِطَاعَ حَصَلَ بِالْمَوْتِ، وَالدَّمُ السَّائِلُ يُوجِبُ الِاغْتِسَالَ عِنْدَ الِانْقِطَاعِ.
وَقَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّبِيُّ) عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَقَوْلُهُ (بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ) أَيْ بِسُقُوطِ الْغُسْلِ فَإِنَّ سُقُوطَ الْغُسْلِ عَنْ الشَّهِيدِ
وَلَهُ أَنَّ السَّيْفَ كَفَى عَنْ الْغُسْلِ فِي حَقِّ شُهَدَاءِ أُحُدٍ بِوَصْفِ كَوْنِهِ طُهْرَةً، وَلَا ذَنْبَ عَلَى الصَّبِيِّ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُمْ
(وَلَا يُغْسَلُ عَنْ الشَّهِيدِ دَمُهُ، وَلَا يُنْزَعُ عَنْهُ ثِيَابُهُ) لِمَا رَوَيْنَا (وَيُنْزَعُ عَنْهُ الْفَرْوُ وَالْحَشْوُ وَالْقَلَنْسُوَةُ وَالسِّلَاحُ وَالْخُفُّ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْكَفَنِ (وَيَزِيدُونَ وَيُنْقِصُونَ مَا شَاءُوا) إتْمَامًا لِلْكَفَنِ
قَالَ (وَمَنْ اُرْتُثَّ غُسِّلَ) وَهُوَ مَنْ صَارَ خَلْفًا فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ لِنَيْلِ مَرَافِقِ الْحَيَاةِ لِأَنَّ بِذَلِكَ يَخِفُّ أَثَرُ الظُّلْمِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ (وَالِارْتِثَاثُ: أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ أَوْ يَنَامَ أَوْ يُدَاوَى أَوْ يُنْقَلَ مِنْ الْمَعْرَكَةِ حَيًّا) لِأَنَّهُ نَالَ بَعْضَ مَرَافِقِ الْحَيَاةِ. وَشُهَدَاءُ أُحُدٍ مَاتُوا عَطَاشَى وَالْكَأْسُ تُدَارُ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَقْبَلُوا خَوْفًا مِنْ نُقْصَانِ الشَّهَادَةِ، إلَّا إذَا حُمِلَ مِنْ مَصْرَعِهِ كَيْ لَا تَطَأَهُ الْخُيُولُ، لِأَنَّهُ مَا نَالَ شَيْئًا مِنْ الرَّاحَةِ، وَلَوْ آوَاهُ فُسْطَاطٌ أَوْ خَيْمَةٌ كَانَ مُرْتَثًّا لِمَا بَيَّنَّا (وَلَوْ بَقِيَ حَيًّا حَتَّى مَضَى وَقْتُ صَلَاةٍ وَهُوَ يَعْقِلُ فَهُوَ
لَا بَقَاءَ أَثَرِ مَظْلُومِيَّتِهِ فِي الْقَتْلِ فَكَانَ إكْرَامًا لَهُ، والمظلومية فِي حَقِّ الصَّبِيِّ أَشَدُّ فَكَانَ أَوْلَى بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ السَّيْفَ كَفَى عَنْ الْغُسْلِ فِي حَقِّ شُهَدَاءِ أُحُدٍ بِوَصْفِ كَوْنِهِ طَهَّرَهُ) عَنْ الذَّنْبِ (وَلَا ذَنْبَ لِلصَّبِيِّ فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُمْ) وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُمْ غُسِّلَ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يُغَسَّلُ عَنْ الشَّهِيدِ دَمُهُ) ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ (وَيُنْزَعُ عَنْهُ الْفَرْوُ إلَخْ) مَذْهَبُنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يُنْزَعُ عَنْهُ شَيْءٌ وَاحْتَجَّ بِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " زَمِّلُوهُمْ " مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَلَنَا مَا رَوَيْنَا فِي السُّنَنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمْ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ وَأَنْ يُدْفَنُوا بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ» وَإِذَا تَعَارَضَا صِرْنَا إلَى الْقِيَاسِ وَهُوَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ (قَوْلُهُ وَيَزِيدُونَ وَيَنْقُصُونَ مَا شَاءُوا) أَيْ يَزِيدُونَ مَا شَاءُوا إذَا كَانَ نَاقِصًا عَنْ الْعَدَدِ الْمَسْنُونِ وَيَنْقُصُونَ مَا شَاءُوا يَعْنِي إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَى الْعَدَدِ الْمَسْنُونِ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ اُرْتُثَّ) هُوَ مِنْ قَوْلِك ثَوْبٌ رَثٌّ أَيْ خَلَقٌ وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ
مُرْتَثٌّ) لِأَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ صَارَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَحْيَاءِ. قَالَ: وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَلَوْ أَوْصَى بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ كَانَ ارْتِثَاثًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الْأَمْوَاتِ
(وَمَنْ وُجِدَ قَتِيلًا فِي الْمِصْرِ غُسِّلَ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ فَخَفَّ أَثَرُ الظُّلْمِ (إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ قُتِلَ بِحَدِيدَةٍ ظُلْمًا) لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الْقِصَاصُ وَهُوَ عُقُوبَةٌ وَالْقَاتِلُ لَا يَتَخَلَّصُ عَنْهَا ظَاهِرًا، إمَّا فِي الدُّنْيَا أَوْ الْعُقْبَى. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: مَا لَا يَلْبَثُ بِمَنْزِلَةِ السَّيْفِ وَيُعْرَفُ فِي الْجِنَايَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ أَوْصَى بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ) إنَّمَا قَيَّدَ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا يُغَسَّلُ بِالِاتِّفَاقِ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ قُتِلَ بِحَدِيدَةٍ ظُلْمًا) أَيْ حِينَئِذٍ لَا يُغَسَّلُ قِيلَ هَذَا إذَا عُلِمَ قَاتِلُهُ عَيْنًا. وَأَمَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ قُتِلَ بِحَدِيدَةٍ ظُلْمًا وَلَكِنْ لَمْ يُعْلَمْ قَاتِلُهُ يُغَسَّلُ لِمَا أَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ الدِّيَةُ وَالْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، وَلَفْظُ الْكِتَابِ يُشِيرُ إلَى هَذَا لِأَنَّهُ قَالَ (لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الْقِصَاصُ) لَا قِصَاصَ يَجِبُ إلَّا عَلَى الْقَاتِلِ الْمَعْلُومِ (وَهُوَ) أَيْ الْقِصَاصُ (عُقُوبَةٌ وَالْقَاتِلُ لَا يَتَخَلَّصُ عَنْ الْعُقُوبَةِ ظَاهِرًا) أَمَّا فِي الدُّنْيَا إنْ وَقَعَ الِاسْتِيفَاءُ أَوْ فِي الْعُقْبَى إنْ لَمْ يُسْتَوْفَ، فَلَوْ كَانَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ مَانِعًا عَنْ الشَّهَادَةِ لَا نَسُدُّ بَابَهَا وَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنْ قِيلَ مَنْ وَجَبَ بِقَتْلِهِ الْقِصَاصُ لَيْسَ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ إذْ لَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُمْ يُغَسَّلُ. أُجِيبَ بِأَنَّ فَائِدَةَ الْقِصَاصِ تَرْجِعُ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ وَسَائِرِ النَّاسِ دُونَ الْقَتِيلِ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ بِالْقَتْلِ شَيْءٌ كَمَا لَمْ يَحْصُلْ لِشُهَدَاءِ أُحُدٍ، بِخِلَافِ الدِّيَةِ فَإِنَّ نَفْعَهَا يَعُودُ إلَى الْمَيِّتِ حَتَّى تُقْضَى دُيُونُهُ وَتَنْفُذَ وَصَايَاهُ. وَقَوْلُهُ (وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مَا لَا يَلْبَثُ بِمَنْزِلَةِ السَّيْفِ) يَعْنِي لَا يُشْتَرَطُ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ فِي الْمِصْرِ أَنْ يُقْتَلَ بِحَدِيدَةٍ عِنْدَهُمَا، بَلْ الْمُثْقَلُ مِنْ الْحَجَرِ وَالْخَشَبِ مِثْلُ السَّيْفِ عِنْدَهُمَا حَتَّى لَا يُغَسَّلُ الْقَتِيلُ ظُلْمًا فِي الْمِصْرِ إذْ عُرِفَ قَاتِلُهُ وَعُلِمَ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِالْمُثْقَلِ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ
(وَمَنْ قُتِلَ فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ بَاذِلٌ نَفْسَهُ لِإِيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ، وَشُهَدَاءُ أُحُدٍ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَلْحَقُ بِهِمْ
(وَمَنْ قُتِلَ مِنْ الْبُغَاةِ أَوْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ) لِأَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه لَمْ يُصَلِّ عَلَى الْبُغَاةِ.
بَابُ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ
(الصَّلَاةُ فِي الْكَعْبَةِ جَائِزَةٌ فَرْضُهَا وَنَفْلُهَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِيهِمَا.
فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ وَيُعْرَفُ فِي الْجِنَايَاتِ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ قُتِلَ فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ غُسِّلَ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ مَاعِزًا رضي الله عنه لَمَّا رُجِمَ جَاءَ عَمُّهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: قُتِلَ مَاعِزٌ كَمَا تُقْتَلُ الْكِلَابُ فَمَاذَا تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ بِهِ؟ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: لَا تَقُلْ هَذَا فَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ تَوْبَتُهُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَسِعَتْهُمْ، اذْهَبْ فَغَسِّلْهُ وَكَفِّنْهُ وَصَلِّ عَلَيْهِ» وَلِأَنَّهُ بَاذِلٌ نَفْسَهُ لِإِيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ لِأَنَّهُمْ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَلَا يُلْحَقُ بِهِمْ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ قُتِلَ مِنْ الْبُغَاةِ أَوْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ، إلَّا أَنَّهُ مَقْتُولٌ بِحَقٍّ فَهُوَ كَالْمَقْتُولِ فِي رَجْمٍ أَوْ قِصَاصٍ. وَلَنَا أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه لَمْ يُصَلِّ عَلَى الْبُغَاةِ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ فَقِيلَ لَهُ: أَهُمْ كُفَّارٌ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُمْ إخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا أَشَارَ إلَى أَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الْغُسْلَ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ وَزَجْرًا لِغَيْرِهِمْ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَصْلُوبِ يُتْرَكُ عَلَى خَشَبَةٍ عُقُوبَةً لَهُ وَزَجْرًا لِغَيْرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(بَابُ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ)
قَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ بَابِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَجْهُ تَأْخِيرِ هَذَا الْبَابِ فَلَا نُعِيدُهُ (الصَّلَاةُ فِي الْكَعْبَةِ جَائِزَةٌ فَرْضُهَا وَنَفْلُهَا) عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ.
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: كَأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ وَقَعَ سَهْوًا مِنْ الْكَاتِبِ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يَرَى جَوَازَ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا؛ وَكَذَا أَوْرَدَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي كُتُبِهِمْ، وَلَمْ يُورِدْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَائِنَا أَيْضًا هَذَا الْخِلَافَ فِيمَا عِنْدِي مِنْ الْكُتُبِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ مُرَادَهُ مَا إذَا تَوَجَّهَ إلَى الْبَابِ وَهُوَ مَفْتُوحٌ، وَلَيْسَتْ الْعَتَبَةُ مُرْتَفِعَةً قَدْرَ
وَلِمَالِكٍ فِي الْفَرْضِ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَلَّى فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ اُسْتُجْمِعَتْ شَرَائِطُهَا لِوُجُودِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ لِأَنَّ اسْتِيعَابَهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ
(فَإِنْ صَلَّى الْإِمَامُ بِجَمَاعَةٍ فِيهَا فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ ظَهْرَهُ إلَى ظَهْرِ الْإِمَامِ جَازَ) لِأَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إلَى الْقِبْلَةِ، وَلَا يَعْتَقِدُ إمَامَهُ عَلَى الْخَطَأِ
مُؤَخِّرَةِ الرَّحْلِ، وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ الْحَمْلِ عَلَى السَّهْوِ إلَّا أَنَّ إطْلَاقَ الْكَلَامِ يُنَافِيهِ. قَوْلُهُ (وَلِمَالِكٍ فِي الْفَرْضِ) يَعْنِي أَنَّهُ يُجَوِّزُ النَّفَلَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ وَلَا يُجَوِّزُ الْفَرْضَ، وَيَقُولُ الصَّلَاةُ فِيهَا جَائِزَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ اسْتَقْبَلَ بَعْضًا، وَفَاسِدَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ اسْتَدْبَرَ آخَرَ، وَالتَّرْجِيحُ لِجَانِبِ الْفَسَادِ احْتِيَاطًا فِي أَمْرِ الْعِبَادَةِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي النَّفْلِ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ تُرِكَ لِوُرُودِ الْأَثَرِ فِيهِ، وَمَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، وَالْفَرْضُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِيُلْحَقَ بِهِ وَلَنَا «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَلَّى فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ الْفَرْضَ يَوْمَ الْفَتْحِ» رَوَاهُ بِلَالٌ وَلَئِنْ كَانَ نَفْلًا فَالْفَرْضُ فِي مَعْنَاهُ فِيمَا هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الْجَوَازِ دُونَ الْأَرْكَانِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ اسْتَجْمَعَتْ شَرَائِطَهَا لِوُجُودِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ لِأَنَّ اسْتِيعَابَهَا لَيْسَ بِشَرْطٍ كَمَا لَوْ صَلَّى خَارِجَهَا، وَالِاسْتِدْبَارُ إنَّمَا يُوجِبُ الْفَسَادَ إذَا لَمْ يُسْتَقْبَلْ بَعْضُهَا لِانْتِفَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ اسْتِقْبَالُ شَطْرٍ مِنْهَا، وَأَمَّا إذَا اسْتَقْبَلَ فَمَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ صَلَّى الْإِمَامُ بِجَمَاعَةٍ فِيهَا) الصَّلَاةُ بِالْجَمَاعَةِ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ لَا يَخْلُو عَنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ وَجْهُهُ إلَى ظَهْرِ الْإِمَامِ، أَوْ إلَى وَجْهِ الْإِمَامِ أَوْ يَكُونَ ظَهْرُهُ إلَى ظَهْرِ الْإِمَامِ، أَوْ إلَى وَجْهِ الْإِمَامِ. وَالْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ جَائِزٌ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَالثَّانِي بِكَرَاهَةٍ وَالرَّابِعُ لَا يَجُوزُ. أَمَّا جَوَازُ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا جَوَازُ الثَّانِي فَلِوُجُودِ الْمُتَابَعَةِ وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ وَهُوَ التَّقَدُّمُ عَلَى الْإِمَامِ. وَأَمَّا كَرَاهَتُهُ فَلِشَبَهِهِ بِعَابِدِ الصُّورَةِ بِالْمُقَابَلَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ سُتْرَةً تَحَرُّزًا عَنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا جَوَازُ الثَّالِثِ فَلِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إلَى الْقِبْلَةِ وَلَا يَعْتَقِدُ إمَامُهُ عَلَى الْخَطَأِ. قِيلَ وَهَذَا لَيْسَ بِكَافٍ لِأَنَّ مَنْ جَعَلَ ظَهْرَهُ إلَى وَجْهِ الْإِمَامِ وَهُوَ الْوَجْهُ الرَّابِعُ مُتَوَجِّهٌ إلَى الْقِبْلَةِ وَلَا يَعْتَقِدُ إمَامَهُ عَلَى الْخَطَأِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ، وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ وَهُوَ غَيْرُ مُتَقَدِّمٍ عَلَيْهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمَّا عَلَّلَ عَدَمَ الْجَوَازِ فِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ بِالتَّقَدُّمِ عَلَى الْإِمَامِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ
بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ التَّحَرِّي (وَمَنْ جَعَلَ مِنْهُمْ ظَهْرَهُ إلَى وَجْهِ الْإِمَامِ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ) لِتَقَدُّمِهِ عَلَى إمَامِهِ
(وَإِذَا صَلَّى الْإِمَامُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَتَحَلَّقَ النَّاسُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَصَلَّوْا بِصَلَاةِ الْإِمَامِ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَقْرَبَ إلَى الْكَعْبَةِ مِنْ الْإِمَامِ جَازَتْ صَلَاتُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي جَانِبِ الْإِمَامِ) لِأَنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ إنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجَانِبِ
(وَمَنْ صَلَّى عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْكَعْبَةَ هِيَ الْعَرْصَةُ، وَالْهَوَاءُ إلَى عَنَانِ السَّمَاءِ عِنْدَنَا دُونَ الْبِنَاءِ لِأَنَّهُ يُنْقَلُ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى عَلَى جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ جَازَ وَلَا بِنَاءَ بَيْنَ يَدَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ التَّعْظِيمِ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
مَانِعٌ فَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهِ فِي الْأَوَّلِ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ الثَّانِي. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ التَّحَرِّي) يَعْنِي إذَا صَلَّوْا فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ ظَهْرَهُ إلَى ظَهْرِ الْإِمَامِ وَهُوَ يَعْلَمُ، فَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ إمَامَهُ عَلَى الْخَطَإِ، وَقَدْ مَرَّ فِي بَابِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ ظَهَرَ وَجْهُ عَدَمِ جَوَازِ الْوَجْهِ الرَّابِعِ مِنْ هَذَا. وَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى يَمِينِ الْإِمَامِ أَوْ يَسَارِهِ فَهُوَ أَيْضًا جَائِزٌ. وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (فَإِذَا صَلَّى الْإِمَامُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَتَحَلَّقَ النَّاسُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَتَحَلَّقَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ صَلَّى.
وَقَوْلُهُ (فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَقْرَبَ) جَزَاهُ إذَا صَلَّى الْإِمَامُ وَأَمَّا قَوْلُهُ (تَحَلَّقَ) بِلَا فَاءٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: حَالٌ بِتَقْدِيرِ قَدْ وَقَوْلُهُ فَمَنْ كَانَ جَزَاءُ الشَّرْطِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ جُزْءُ الشَّرْطِ وَقَوْلُهُ فَمَنْ كَانَ جُمْلَةٌ أُخْرَى شَرْطِيَّةٌ عُطِفَتْ عَلَى الْأُولَى. وَقَوْلُهُ (إذَا لَمْ يَكُنْ فِي جَانِبِ الْإِمَامِ) يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي جَانِبِهِ لَمْ يَجُزْ لِوُجُودِ التَّقَدُّمِ لِأَنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ إنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجَانِبِ.
قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: لِأَنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ فِي الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ فَلَا يَظْهَرُ إلَّا عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِهَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ وَلَيْسَ لِلْإِضَافَةِ تَقْيِيدٌ بِجِهَةٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِأَنَّهُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِهَةِ كَانَ فِي مَعْنَى مَنْ جَعَلَ ظَهْرَهُ إلَى وَجْهِ الْإِمَامِ وَهُوَ جَيِّدٌ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ صَلَّى عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ) أَيْ عَلَى سَطْحِهَا، وَلَعَلَّهُ اخْتَارَ لَفْظَ الظُّهْرِ لِوُرُودِ لَفْظِ الْحَدِيثِ بِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَرَادَ أَنَّ مَنْ صَلَّى عَلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ (جَازَتْ صَلَاتُهُ) عِنْدَنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي جَوَازِ التَّوَجُّهِ إلَيْهَا لِلصَّلَاةِ الْبِنَاءُ. وَعِنْدَنَا أَنَّ الْقِبْلَةَ هِيَ الْكَعْبَةُ وَالْكَعْبَةُ هِيَ الْعَرْصَةُ وَالْهَوَاءُ إلَى عَنَانِ السَّمَاءِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْبِنَاءِ لِأَنَّهُ يُنْقَلُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ صَلَّى عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَلَا شَيْءَ مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِالْبِنَاءِ. وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَتَذْكِيرُ الضَّمِيرِ بِتَأْوِيلِ فِعْلِ الصَّلَاةِ وَأَدَائِهَا (لِمَا فِيهِ) أَيْ فِي التَّعَلِّي عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ (وَمَنْ تَرَكَ التَّعْظِيمَ وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ) قِيلَ أَيْ عَنْ تَرْكِ التَّعْظِيمِ، وَقِيلَ عَنْ
كِتَابُ الزَّكَاةِ
(الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ الْمُسْلِمِ إذَا مَلَكَ نِصَابًا مِلْكًا تَامًّا وَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ) أَمَّا الْوُجُوبُ فَلِقَوْلِهِ
أَدَاءِ الصَّلَاةِ عَلَى ظَهْرِهَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ «نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الصَّلَاةِ فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ الْمَجْزَرَةِ، وَالْمَزْبَلَةِ، وَالْمَقْبَرَةِ، وَالْحَمَّامِ، وَقَوَارِعِ الطُّرُقِ، وَمَعَاطِنِ الْإِبِلِ، وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ» .
كِتَابُ الزَّكَاةِ
قَرَنَ الزَّكَاةَ بِالصَّلَاةِ اقْتِدَاءً بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ حَسَنَةٌ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهَا بِدُونِ الْوَاسِطَةِ، وَالزَّكَاةَ مُلْحَقَةٌ بِهَا وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ. وَالزَّكَاةُ فِي اللُّغَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ النَّمَاءِ، يُقَالُ زَكَا الزَّرْعُ إذَا نَمَا، وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ: اسْمٌ لِفِعْلِ أَدَاءِ حَقٍّ يَجِبُ لِلْمَالِ يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِهِ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ لِأَنَّهَا تُوصَفُ بِالْوُجُوبِ، وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ دُونَ الْأَعْيَانِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَالِ الْمُؤَدَّى لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَآتُوا الزَّكَاةَ} وَلَا يَصِحُّ الْإِيتَاءُ إلَّا فِي الْعَيْنِ، وَسَبَبُهَا مِلْكُ النِّصَابِ النَّامِي، وَشَرْطُهَا الْحُرِّيَّةُ وَالْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالْإِسْلَامُ وَالْخُلُوُّ عَنْ الدَّيْنِ وَكَمَالُ نِصَابٍ حَوْلِيٍّ، وَصِفَتُهَا الْفَرْضِيَّةُ، وَحُكْمُهَا الْخُرُوجُ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ فِي الدُّنْيَا وَالنَّجَاةُ مِنْ الْعِقَابِ وَالْوُصُولُ إلَى الثَّوَابِ فِي الْعُقْبَى.
قَالَ (الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْحُرِّ) أَيْ فَرِيضَةٌ لَازِمَةٌ بِالْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} وَالسُّنَّةِ الْمَعْرُوفَةِ وَهِيَ «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» الْحَدِيثَ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ
تَعَالَى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ» وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَالْمُرَادُ بِالْوَاجِبِ الْفَرْضُ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَاشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّ كَمَالَ الْمِلْكِ بِهَا، وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ لِمَا نَذْكُرُهُ، وَالْإِسْلَامُ لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ وَلَا تَتَحَقَّقُ مِنْ الْكَافِرِ، وَلَا بُدَّ مِنْ مِلْكِ مِقْدَارِ النِّصَابِ
لَمْ يُنْكِرْهَا أَحَدٌ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْفَرْضِ إلَى الْوَاجِبِ إمَّا لِأَنَّ بَعْضَ مَقَادِيرِهَا وَكَيْفِيَّاتِهَا ثَابِتَةٌ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، أَوْ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ أَحَدِهِمَا فِي مَوْضِعِ الْآخَرِ جَائِزٌ مَجَازًا، وَإِنَّمَا قَالَ مِلْكًا تَامًّا احْتِرَازًا عَنْ مَالِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّهُ مِلْكُ الْمَوْلَى، وَإِنَّمَا لِلْمُكَاتَبِ فِيهِ مِلْكُ الْيَدِ، وَعَنْ مَالِ الْمَدْيُونِ فَإِنَّ
لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَدَّرَ السَّبَبَ بِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْحَوْلِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُدَّةٍ يَتَحَقَّقُ فِيهَا النَّمَاءُ، وَقَدَّرَهَا الشَّرْعُ بِالْحَوْلِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» وَلِأَنَّهُ الْمُتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ الِاسْتِنْمَاءِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْفُصُولِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالْغَالِبُ تَفَاوُتُ الْأَسْعَارِ فِيهَا فَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ. ثُمَّ قِيلَ: هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْفَوْرِ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْأَمْرِ، وَقِيلَ عَلَى التَّرَاخِي لِأَنَّ جَمِيعَ الْعُمْرِ وَقْتُ الْأَدَاءِ، وَلِهَذَا لَا تُضْمَنُ بِهَلَاكِ
صَاحِبَ الدَّيْنِ يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مِلْكًا نَاقِصًا وَكَلَامُهُ فِيهِ ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (فَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ) يَعْنِي يَكُونُ الِاعْتِبَارُ بِهِ دُونَ حَقِيقَةِ الِاسْتِنْمَاءِ، حَتَّى إذَا ظَهَرَ النَّمَاءُ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ تَجِبُ الزَّكَاةُ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ قِيلَ هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْفَوْرِ) وَهُوَ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: يَأْثَمُ بِتَأْخِيرِ الزَّكَاةِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ: مَنْ أَخَّرَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. وَفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَجِّ فَقَالَ: لَا يَأْثَمُ بِتَأْخِيرِ الْحَجِّ وَيَأْثَمُ بِتَأْخِيرِ الزَّكَاةِ لِأَنَّ فِي الزَّكَاةِ حَقَّ الْفُقَرَاءِ فَيَأْثَمُ بِتَأْخِيرِ
النِّصَابِ بَعْدَ التَّفْرِيطِ.
(وَلَيْسَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ زَكَاةٌ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله فَإِنَّهُ يَقُولُ: هِيَ غَرَامَةٌ مَالِيَّةٌ
حَقِّهِمْ، وَأَمَّا الْحَجُّ فَخَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِتَأْخِيرِ الزَّكَاةِ وَيَأْثَمُ بِتَأْخِيرِ الْحَجِّ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ، أَمَّا الْحَجُّ فَهُوَ مُؤَقَّتٌ كَالصَّلَاةِ، فَرُبَّمَا لَا يُدْرِكُ الْوَقْتَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَيْسَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ زَكَاةٌ) هُوَ الْمَوْعُودُ بِقَوْلِهِ لِمَا نَذْكُرُهُ وَقَوْلُهُ (هِيَ غَرَامَةٌ مَالِيَّةٌ)
فَتُعْتَبَرُ بِسَائِرِ الْمُؤَنِ كَنَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَصَارَ كَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ. وَلَنَا أَنَّهَا عِبَادَةٌ فَلَا تَتَأَدَّى إلَّا بِالِاخْتِيَارِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الِابْتِلَاءِ، وَلَا اخْتِيَارَ لَهُمَا لِعَدَمِ الْعَقْلِ،
أَيْ وُجُوبُ شَيْءٍ مَالِيٍّ اسْتَعَارَ لَفْظَ الْغَرَامَةِ لِلْوُجُوبِ لِمَا أَنَّ حَقِيقَةَ الْغَرَامَةِ هِيَ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْإِنْسَانَ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ الزَّكَاةُ وَاجِبٌ مَالِيٌّ وَكُلُّ مَا هُوَ وَاجِبٌ مَالِيٌّ يَجِبُ عَلَيْهِ كَنَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ فَالزَّكَاةُ تَجِبُ عَلَيْهِ وَيُؤَدِّي عَنْهُ الْوَلِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ (وَلَنَا أَنَّهَا عِبَادَةٌ) لِأَنَّ الْعِبَادَةَ مَا يَأْتِي بِهِ الْمَرْءُ عَلَى خِلَافِ هَوَى نَفْسِهِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ رَبِّهِ وَالزَّكَاةُ وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» الْحَدِيثَ، وَغَيْرُهَا عِبَادَةٌ بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِكَ هِيَ وَكُلُّ مَا هُوَ عِبَادَةٌ (لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِالِاخْتِيَارِ تَحْقِيقًا لِلِابْتِلَاءِ وَلَا اخْتِيَارَ لَهُمَا لِعَدَمِ الْعَقْلِ)
بِخِلَافِ الْخَرَاجِ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ. وَكَذَا الْغَالِبُ فِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ تَابِعٌ، وَلَوْ أَفَاقَ فِي بَعْضِ السَّنَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إفَاقَتِهِ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ مِنْ الصَّوْمِ.
وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما. فَإِنْ قِيلَ: الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْإِيمَانُ عَلَى أَصْلِكُمْ يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِاخْتِيَارٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلْتَصِحَّ الزَّكَاةُ بِمِثْلِهِ مِنْ الِاخْتِيَارِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي اُنْتُقِضَ قَوْلُكُمْ وَكُلُّ مَا هُوَ عِبَادَةٌ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِالِاخْتِيَارِ. فَالْجَوَابُ أَنَّهَا إنَّمَا تَصِحُّ بِاخْتِيَارِ قَوْلِهِ فَلْتَصِحَّ الزَّكَاةُ بِمِثْلِهِ مِنْ الِاخْتِيَارِ. قُلْنَا: غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ لِأَنَّ ذَلِكَ اخْتِيَارٌ لَا يَسْتَلْزِمُ ضَرَرًا لِعَدَمِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الِاخْتِيَارُ يَسْتَلْزِمُ الضَّرَرَ فَلَا يَكُونُ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْخَرَاجِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَصَارَ كَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ. وَقَوْلُهُ (وَكَذَا الْغَالِبُ فِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ) لِمَا أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْعُشْرِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ، فَبِاعْتِبَارِ الْأَرْضِ وَهِيَ الْأَصْلُ كَانَتْ الْمُؤْنَةُ أَصْلًا، وَبِاعْتِبَارِ الْخَارِجِ وَهُوَ وَصْفُ الْأَرْضِ كَانَ شَبَهُهَا بِالزَّكَاةِ وَالْوَصْفُ تَابِعٌ لِلْمَوْصُوفِ فَكَانَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ تَابِعًا. فَإِنْ قِيلَ: سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ النِّصَابُ النَّامِي وَالنِّصَابُ أَصْلٌ وَالنَّمَاءُ وَصْفٌ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي الزَّكَاةِ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ أَصْلًا. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُؤْنَةَ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِلْبَقَاءِ كَالنَّفَقَةِ، وَالزَّكَاةُ لَيْسَتْ سَبَبًا لِبَقَاءِ الْمَالِ وَتَمَامُهُ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ أَفَاقَ) يَعْنِي الْمَجْنُونَ (فِي بَعْضِ السَّنَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِفَاقَةِ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ) يَعْنِي إذَا كَانَ مُفِيقًا فِي جُزْءٍ مِنْ السَّنَةِ أَوَّلِهَا أَوْ آخِرِهَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ. كَمَا لَوْ أَفَاقَ فِي جُزْءٍ مِنْ
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَكْثَرُ الْحَوْلِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِيِّ وَالْعَارِضِيِّ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا بَلَغَ مَجْنُونًا يُعْتَبَرُ الْحَوْلُ مِنْ وَقْتِ الْإِفَاقَةِ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ
شَهْرِ رَمَضَانَ فِي يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ لَزِمَهُ صَوْمُ الشَّهْرِ كُلِّهِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِمَا أَنَّ السَّنَةَ لِلزَّكَاةِ بِمَنْزِلَةِ الشَّهْرِ لِلصَّوْمِ، وَالْإِفَاقَةُ فِي جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ كَالْإِفَاقَةِ فِي جَمِيعِهِ فِي وُجُوبِ صَوْمِ جَمِيعِ الشَّهْرِ فَكَذَا هَذَا (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَكْثَرُ الْحَوْلِ) فَإِنْ كَانَ مُفِيقًا فِيهِ فَقَدْ غَلَبَتْ الصِّحَّةُ الْجُنُونَ فَصَارَ كَجُنُونِ سَاعَةٍ فَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا فِيهِ كَانَ كَالْمَجْنُونِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ) الْجُنُونِ (الْأَصْلِيِّ) وَهُوَ أَنْ يُدْرِكَ مَجْنُونًا (وَالْعَارِضِيِّ) وَهُوَ أَنْ يُدْرِكَ مُفِيقًا ثُمَّ يُجَنَّ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: يَعْنِي إذَا أَفَاقَ فِي بَعْضِ السَّنَةِ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ سَوَاءٌ كَانَ الْجُنُونُ أَصْلِيًّا أَوْ عَارِضِيًّا لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَهُ الْإِفَاقَةُ فِي أَكْثَرِ الْحَوْلِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْأَصْلِيِّ وَالْعَارِضِ (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) فِي الْأَصْلِيِّ (أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْحَوْلُ مِنْ وَقْتِ الْإِفَاقَةِ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ) لِأَنَّ التَّكْلِيفَ لَمْ يَسْبِقْ هَذِهِ الْحَالَةَ فَصَارَتْ الْإِفَاقَةُ بِمَنْزِلَةِ بُلُوغِ الصَّبِيِّ، وَأَمَّا إذَا طَرَأَ الْجُنُونُ فَإِنْ اسْتَمَرَّ
(وَلَيْسَ عَلَى الْمُكَاتَبِ زَكَاةٌ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِوُجُودِ الْمُنَافِي وَهُوَ الرِّقُّ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ.
(وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَهُوَ مِلْكُ نِصَابٍ تَامٍّ. وَلَنَا أَنَّهُ مَشْغُولٌ بِحَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ فَاعْتُبِرَ مَعْدُومًا كَالْمَاءِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَطَشِ وَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمَهْنَةِ (وَإِنْ كَانَ مَالُهُ أَكْثَرَ مِنْ دَيْنِهِ زَكَّى الْفَاضِلَ إذَا بَلَغَ نِصَابًا) لِفَرَاغِهِ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ،
سَنَةً سَقَطَ لِأَنَّهُ اسْتَوْعَبَ مُدَّةَ التَّكَالِيفِ وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُعْتَبَرْ.
قَالَ (وَلَيْسَ عَلَى الْمُكَاتَبِ زَكَاةٌ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَيْسَ لَهُ مِلْكٌ تَامٌّ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ
(وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ) وَلَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ سَوَاءٌ كَانَ لِلَّهِ كَالزَّكَاةِ أَوْ لِلْعِبَادِ كَالْقَرْضِ، وَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَأَرْشِ الْجِرَاحَةِ وَمَهْرِ الْمَرْأَةِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ النُّقُودِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا وَسَوَاءٌ كَانَ حَالًا أَوْ مُؤَجَّلًا (فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَهُوَ مِلْكُ نِصَابٍ تَامٍّ) فَإِنَّ الْمَدْيُونَ مَالِكٌ لِمَالِهِ لِأَنَّ دَيْنَ الْحُرِّ الصَّحِيحِ يَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَالِهِ وَلِهَذَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ (وَلَنَا أَنَّهُ مَشْغُولٌ بِحَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ) أَيْ مُعَدٌّ لِمَا يَدْفَعُ الْهَلَاكَ حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَجْلِ قَضَاءِ الدَّيْنِ دَفْعًا لِلْحَبْسِ وَالْمُلَازَمَةِ عَنْ نَفْسِهِ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ اُعْتُبِرَ مَعْدُومًا كَالْمَاءِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَطَشِ لِنَفْسِهِ أَوْ دَابَّتِهِ وَثِيَابِ الْمَهْنَةِ، وَهَذَا أَيْضًا رَاجِعٌ إلَى نُقْصَانِ الْمِلْكِ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَلَا قَضَاءَ فَكَانَ مِلْكًا نَاقِصًا.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ مَالُهُ أَكْثَرَ مِنْ دَيْنِهِ) ظَاهِرٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ
وَالْمُرَادُ بِهِ دَيْنٌ لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ حَتَّى لَا يَمْنَعَ دَيْنٌ النَّذْرَ وَالْكَفَّارَةَ، وَدَيْنُ الزَّكَاةِ مَانِعٌ حَالَ بَقَاءِ النِّصَابِ لِأَنَّهُ يُنْتَقَصُ بِهِ النِّصَابُ، وَكَذَا بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ خِلَافًا لِزُفَرَ فِيهِمَا
الْمَدْيُونَ إذَا كَانَ لَهُ صُنُوفٌ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالدَّيْنُ يَسْتَغْرِقُ بَعْضَهَا صُرِفَ أَوَّلًا إلَى النُّقُودِ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْهُ صُرِفَ إلَى عُرُوضِ التِّجَارَةِ دُونَ السَّائِمَةِ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْهُ صُرِفَ إلَى مَالِ الْقِنْيَةِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ يُصْرَفُ إلَى أَقَلِّهَا زَكَاةً حَتَّى إنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَلَا يُصْرَفُ إلَى الْبَقَرِ، ثُمَّ الْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ صَرَفَهُ إلَى الْغَنَمِ وَإِنْ شَاءَ إلَى الْإِبِلِ لِاتِّحَادِ الْوَاجِبِ فِيهِمَا، وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ مَا كَانَ أَنْفَعَ لِلْفُقَرَاءِ لَا يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمُرَادُ دَيْنٌ لَهُ مُطَالِبٌ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (حَالَ بَقَاءِ النِّصَابِ وَكَذَا بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ) صُورَتُهُ: رَجُلٌ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَمَضَى عَلَيْهِ حَوْلَانِ لَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةُ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ وُجُوبَ زَكَاةِ السَّنَةِ الْأُولَى صَارَ مَانِعًا عَنْ وُجُوبِهَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِانْتِقَاصِ النِّصَابِ بِزَكَاةِ الْأُولَى، وَلَوْ حَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَاسْتُهْلِكَ النِّصَابُ قَبْلَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ ثُمَّ اسْتَفَادَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْمُسْتَفَادِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْمُسْتَفَادِ لِأَنَّ وُجُوبَ زَكَاةِ النِّصَابِ الْأَوَّلِ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ بِسَبَبِ الِاسْتِهْلَاكِ فَمَنَعَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ.
وَقَوْلُهُ (خِلَافًا لِزُفَرَ فِيهِمَا) أَيْ فِي النِّصَابِ الَّذِي وَجَبَ فِيهِ الزَّكَاةُ وَفِي النِّصَابِ الَّذِي وَجَبَ فِيهِ دَيْنُ الِاسْتِهْلَاكِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ هَذَيْنِ
وَلِأَبِي يُوسُفَ فِي الثَّانِي عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ لِأَنَّ لَهُ مُطَالِبًا لِأَنَّهَا وَهُوَ الْإِمَامُ فِي السَّوَائِمِ وَنَائِبُهُ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ فَإِنَّ الْمُلَّاكَ نُوَّابُهُ.
(وَلَيْسَ فِي دُورِ السُّكْنَى وَثِيَابِ الْبَدَنِ وَأَثَاثِ الْمَنَازِلِ وَدَوَابِّ الرُّكُوبِ وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ وَسِلَاحِ الِاسْتِعْمَالِ زَكَاةٌ) لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَلَيْسَتْ بِنَامِيَةٍ أَيْضًا،
الدَّيْنَيْنِ مَانِعَيْنِ عَنْ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ لَا مُطَالِبَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ فَصَارَ كَدَيْنِ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَبِي يُوسُفَ فِي الثَّانِي) أَيْ فِي النِّصَابِ الَّذِي وَجَبَ فِيهِ دَيْنُ الِاسْتِهْلَاكِ (عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ) أَيْ عَلَى مَا رَوَى عَنْهُ أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ لَهُ مُطَالِبًا وَهُوَ الْإِمَامُ فِي السَّوَائِمِ وَنَائِبُهُ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ فَإِنَّ الْمُلَّاكَ نُوَّابُهُ) دَلِيلُنَا، وَهَذَا لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} يُثْبِتُ لِلْإِمَامِ حَقَّ الْأَخْذِ مِنْ كُلِّ مَالٍ، وَكَذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْخَلِيفَتَانِ بَعْدَهُ كَانُوا يَأْخُذُونَ إلَى أَنْ فَوَّضَ عُثْمَانُ رضي الله عنه فِي خِلَافَتِهِ أَدَاءَ الزَّكَاةِ عَنْ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ إلَى مُلَّاكِهَا لِمَصْلَحَةٍ هِيَ أَنَّ النَّقْدَ مَطْمَعُ كُلِّ طَامِعٍ، فَكَرِهَ أَنْ يُفَتِّشَ السُّعَاةُ عَلَى التُّجَّارِ مَسْتُورَ أَمْوَالِهِمْ، فَفَوَّضَ الْأَدَاءَ إلَيْهِمْ وَحَقُّ الْأَخْذِ لِلسَّاعِي لِغَرَضِ الثُّبُوتِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا فَإِنَّهُ إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الزَّكَاةَ فَيُطَالِبَهُ وَيَحْبِسَهُ وَلِذَلِكَ مَنَعَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، وَبِهَذَا فَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ دَيْنِ الزَّكَاةِ وَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ، فَإِنَّ دَيْنَ النِّصَابِ الْمُسْتَهْلَكِ لَا مُطَالِبَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ، بِخِلَافِ النِّصَابِ الْقَائِمِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَمُرَّ بِهِ عَلَى الْعَاشِرِ فَتَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ حِينَئِذٍ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَلَيْسَتْ بِنَامِيَةٍ) يَعْنِي أَنَّ الشَّغْلَ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَعَدَمَ النَّمَاءِ كُلٌّ مِنْهُمَا مَانِعٌ عَنْ وُجُوبِهَا وَقَدْ اجْتَمَعَا هَاهُنَا، أَمَّا كَوْنُهَا مَشْغُولَةً بِهَا فَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَارٍ يَسْكُنُهَا وَثِيَابٍ يَلْبَسُهَا،
وَعَلَى هَذَا كُتُبُ الْعِلْمِ لِأَهْلِهَا
وَأَمَّا عَدَمُ النَّمَاءِ فَلِأَنَّهُ إمَّا خِلْقِيٌّ كَمَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَوْ بِالْإِعْدَادِ لِلتِّجَارَةِ وَلَيْسَا بِمَوْجُودَيْنِ هَاهُنَا.
وَقَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا كُتُبُ الْعِلْمِ) يَعْنِي أَنَّهَا تَمْنَعُ وُجُوبَهَا إذَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَعَ أَهْلِهَا أَوْ مَعَ غَيْرِهِ لِعَدَمِ النَّمَاءِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ (لِأَهْلِهَا) غَيْرُ مُفِيدٍ هَاهُنَا، وَإِنَّمَا يُفِيدُ فِي حَقِّ الْمَصْرِفِ، فَإِنَّ أَهْلَ كُتُبِ الْعِلْمِ إذَا كَانَتْ لَهُ كُتُبٌ تُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَإِنْ كَانَ يَحْتَاجُ إلَيْهَا لِلتَّدْرِيسِ وَنَحْوِهِ جَازَ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا.
وَآلَاتُ الْمُحْتَرَفِينَ لِمَا قُلْنَا.
(وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ فَجَحَدَهُ سِنِينَ ثُمَّ قَامَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ لَمْ يُزَكِّهِ لِمَا مَضَى) مَعْنَاهُ: صَارَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِأَنْ أَقَرَّ عِنْدَ النَّاسِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ مَالِ الضِّمَارِ، وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ: الْمَالُ الْمَفْقُودُ، وَالْآبِقُ، وَالضَّالُّ
وَقَوْلُهُ (وَآلَاتُ الْمُحْتَرَفِينَ) قِيلَ يُرِيدُ بِهَا مَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ وَلَا يَبْقَى أَثَرُهُ فِي الْمَعْمُولِ كَالصَّابُونِ وَالْحَرَضِ وَغَيْرِهِمَا كَالْقُدُورِ وَقَوَارِيرِ الْعَطَّارِ وَنَحْوِهَا لِكَوْنِ الْأَجْرِ حِينَئِذٍ مُقَابَلًا بِالْمَنْفَعَةِ فَلَا يُعَدُّ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ. وَأَمَّا مَا يَبْقَى أَثَرُهُ فِيهِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى الصَّبَّاغُ عُصْفُرًا أَوْ زَعْفَرَانًا لِيَصْبُغَ لِلنَّاسِ بِالْأَجْرِ وَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَإِنَّهُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ إذَا بَلَغَ نِصَابًا لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ الْأَجْرِ مُقَابَلٌ بِالْعَيْنِ. وَقَوْلُهُ (لِمَا قُلْنَا) يَعْنِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَامِيَةٍ.
قَالَ (وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ فَجَحَدَهُ سِنِينَ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَمَنْ لَا تَجِبُ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْأَمْوَالِ الَّتِي لَا تَجِبُ فِيهَا، وَهُوَ مَا يُسَمَّى ضِمَارًا وَهُوَ الْغَائِبُ الَّذِي لَا يُرْجَى وُصُولُهُ، فَإِذَا رَجَّى فَلَيْسَ بِضِمَارٍ، كَذَا نَقَلَهُ الْمُطَرِّزِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَأَصْلُهُ مِنْ الْإِضْمَارِ وَهُوَ التَّغْيِيبُ وَالْإِخْفَاءُ، وَمِنْهُ أَضْمَرَ فِي قَلْبِهِ، وَقَالُوا: الضِّمَارُ مَا يَكُونُ عَيْنُهُ قَائِمًا وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ كَالدَّيْنِ الْمَجْحُودِ وَالْمَالِ الْمَفْقُودِ وَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْمَغْصُوبِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ.
وَقَوْلُهُ (مَعْنَاهُ: صَارَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِأَنْ أَقَرَّ عِنْدَ النَّاسِ) إنَّمَا
وَالْمَغْصُوبُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَالْمَالُ السَّاقِطُ فِي الْبَحْرِ، وَالْمَدْفُونُ فِي الْمَفَازَةِ إذَا نَسِيَ مَكَانَهُ، وَاَلَّذِي أَخَذَهُ السُّلْطَانُ مُصَادَرَةً. وَوُجُوبُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ بِسَبَبِ الْآبِقِ وَالضَّالِّ وَالْمَغْصُوبِ
قَيَّدَ بِذَلِكَ احْتِرَازًا عَنْ مَسْأَلَةٍ تَأْتِي بَعْدَ هَذَا وَهِيَ قَوْلُهُ وَكَذَا لَوْ كَانَ عَلَى جَاحِدٍ وَعَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَقَوْلُهُ (وَالْمَدْفُونُ فِي الْمَفَازَةِ إذَا نُسِيَ مَكَانُهُ) قَيَّدَ بِالْمَفَازَةِ احْتِرَازًا عَنْ الْمَدْفُونِ فِي أَرْضٍ لَهُ أَوْ كَرْمٍ أَوْ بَيْتٍ عَلَى مَا يَجِيءُ.
عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. لَهُمَا أَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ وَفَوَاتُ الْيَدِ غَيْرُ مُخِلٍّ بِالْوُجُوبِ كَمَالِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه: لَا زَكَاةَ فِي الْمَالِ الضِّمَارِ وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمَالُ النَّامِي وَلَا نَمَاءَ إلَّا بِالْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ وَلَا قُدْرَةَ عَلَيْهِ. وَابْنُ السَّبِيلِ يَقْدِرُ بِنَائِبِهِ، وَالْمَدْفُونُ فِي الْبَيْتِ نِصَابٌ لِتَيَسُّرِ الْوُصُولِ إلَيْهِ، وَفِي الْمَدْفُونِ فِي أَرْضٍ أَوْ كَرْمٍ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ.
وَقَوْلُهُ (لَهُمَا) أَيْ لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ (أَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ) وَالْمَانِعُ مُنْتَفٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ تَحَقَّقَ لَا مَحَالَةَ أَمَّا تَحَقُّقُ السَّبَبِ فَلِأَنَّهُ مَلَكَ نِصَابًا تَامًّا عَلَى مَا مَرَّ وَأَمَّا انْتِفَاءُ الْمَانِعِ فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ثَمَّةَ مَانِعٌ لَكَانَ فَوَاتُ الْيَدِ وَهُوَ لَا يُخِلُّ بِالْوُجُوبِ كَمَالِ ابْنِ السَّبِيلِ (وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه: لَا زَكَاةَ فِي الْمَالِ الضِّمَارِ) وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ السَّبَبَ إلَخْ) دَلِيلٌ يَتَضَمَّنُ الْمُمَانَعَةَ، بِأَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ السَّبَبَ قَدْ وُجِدَ لِأَنَّ السَّبَبَ (هُوَ الْمَالُ النَّامِي) وَهُوَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ لِأَنَّ النَّمَاءَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ، وَلَا قُدْرَةَ عَلَى الْمَالِ الضِّمَارِ.
وَقَوْلُهُ (وَابْنُ السَّبِيلِ يُقَدَّرُ بِنَائِبِهِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا كَمَالِ ابْنِ السَّبِيلِ: وَتَقْرِيرُهُ سَلَّمْنَا أَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَانِعَ مُنْتَفٍ. قَوْلُهُ وَفَوَاتُ الْيَدِ غَيْرُ مُخِلٍّ بِالْوُجُوبِ قُلْنَا: مَمْنُوعٌ. قَوْلُهُ كَمَالِ ابْنِ السَّبِيلِ: قُلْنَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ لِأَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ قَادِرٌ عَلَى التَّصَرُّفِ بِنَائِبِهِ، وَلِهَذَا لَوْ بَاع شَيْئًا مِنْ مَالِهِ جَازَ لِقُدْرَتِهِ عَلَى التَّسْلِيمِ بِنَائِبِهِ. وَقَوْلُهُ (وَالْمَدْفُونُ فِي الْبَيْتِ نِصَابٌ) أَيْ مُوجِبٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ (لِتَيَسُّرِ الْوُصُولِ إلَيْهِ) لِكَوْنِ الْبَيْتِ بِيَدِهِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ فَيَصِلُ إلَيْهِ بِحَفْرِهِ (وَفِي الْمَدْفُونِ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ أَوْ كَرْمٍ اخْتِلَافُ مَشَايِخِ بُخَارَى) فَقِيلَ يَجِبُ لِإِمْكَانِ حَفْرِ جَمِيعِ الْأَرْضِ وَالْوُصُولِ إلَيْهِ، وَقِيلَ لَا تَجِبُ لِأَنَّ حَفْرَ جَمِيعِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَذِّرًا
وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى مُقِرٍّ مَلِيءٍ أَوْ مُعْسِرٍ تَجِبُ الزَّكَاةُ لِإِمْكَانِ الْوُصُولِ إلَيْهِ ابْتِدَاءً أَوْ بِوَاسِطَةِ التَّحْصِيلِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ عَلَى جَاحِدٍ وَعَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَوْ عَلِمَ بِهِ الْقَاضِي لِمَا قُلْنَا
كَانَ مُتَعَسِّرًا وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ
(وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى مُقِرٍّ مَلِيءٍ) أَيْ غَنِيٍّ مُقْتَدِرٍ (أَوْ مُعْسِرٍ تَجِبُ الزَّكَاةُ لِإِمْكَانِ الْوُصُولِ إلَيْهِ ابْتِدَاءً) أَيْ فِي الْمَلِيءِ (أَوْ بِوَاسِطَةِ التَّحْصِيلِ) يَعْنِي فِي الْمُعْسِرِ فَكَانَ مِنْ قَبِيلِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ عَلَى السُّنَنِ (وَكَذَا لَوْ كَانَ عَلَى جَاحِدٍ وَعَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَوْ عَلِمَ الْقَاضِي بِهِ لِمَا قُلْنَا) يَعْنِي مِنْ إمْكَانِ الْوُصُولِ إلَيْهِ.
قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: وَلَوْ كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيمَا مَضَى لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ تَاوِيًا لِمَا أَنَّ حُجَّةَ الْبَيِّنَةِ فَوْقَ حُجَّةِ الْإِقْرَارِ، وَهَذَا رِوَايَةُ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ قَالَ: لَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً، إذْ لَيْسَ كُلُّ شَاهِدٍ يُقْبَلُ وَلَا كُلُّ قَاضٍ يَعْدِلُ، وَفِي الْمُحَابَاةِ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي لِلْخُصُومَةِ ذُلٌّ، وَالْبَيِّنَةُ بِدُونِ الْقَضَاءِ لَا تَكُونُ مُوجِبَةً شَيْئًا بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْحَقَّ بِنَفْسِهِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ مَعْلُومًا لِلْقَاضِي لِأَنَّ صَاحِبَ
وَلَوْ كَانَ عَلَى مُقِرٍّ مُفْلِسٍ فَهُوَ نِصَابٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِأَنَّ تَفْلِيسَ الْقَاضِي لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تَجِبُ لِتَحَقُّقِ الْإِفْلَاسِ عِنْدَهُ بِالتَّفْلِيسِ. وَأَبُو يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ فِي تَحَقُّقِ الْإِفْلَاسِ، وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ رِعَايَةً لِجَانِبِ الْفُقَرَاءِ.
(وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً لِلتِّجَارَةِ وَنَوَاهَا لِلْخِدْمَةِ بَطَلَتْ عَنْهَا الزَّكَاةُ) لِاتِّصَالِ النِّيَّةِ بِالْعَمَلِ وَهُوَ تَرْكُ التِّجَارَةِ (وَإِنْ نَوَاهَا لِلتِّجَارَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ حَتَّى يَبِيعَهَا فَيَكُونَ فِي ثَمَنِهَا زَكَاةٌ) لِأَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تَتَّصِلْ بِالْعَمَلِ إذْ هُوَ لَمْ يَتَّجِرْ فَلَمْ تُعْتَبَرْ، وَلِهَذَا يَصِيرُ الْمُسَافِرُ مُقِيمًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَلَا يَصِيرُ الْمُقِيمُ مُسَافِرًا إلَّا بِالسَّفَرِ
الدَّيْنِ هُنَاكَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْخُصُومَةِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يُلْزِمُهُ بِعِلْمِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَ عَلَى مُقِرٍّ مُفَلَّسٍ) بِفَتْحِ اللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ (فَهُوَ نِصَابٌ) أَيْ مُوجِبٌ لِلزَّكَاةِ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ تَفْلِيسَ الْقَاضِي) أَيْ النِّدَاءَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَفْلَسَ (لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ) فَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَلَوْ لَمْ يُفَلِّسْهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِالِاتِّفَاقِ لِإِمْكَانِ الْوُصُولِ بِوَاسِطَةِ التَّحْصِيلِ كَمَا مَرَّ، فَكَذَا بَعْدَ التَّفْلِيسِ (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تَجِبُ) عَلَيْهِ (لِتَحَقُّقِ الْإِفْلَاسِ بِالتَّفْلِيسِ) وَلَمَّا صَحَّ التَّفْلِيسُ عِنْدَهُ جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ التَّاوِي وَالْمَجْحُودِ (وَأَبُو يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ فِي تَحَقُّقِ الْإِفْلَاسِ) حَتَّى تَسْقُطَ الْمُطَالَبَةُ إلَى وَقْتِ الْيَسَارِ (وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ) فَتَجِبُ لِمَا مَضَى إذَا قُبِضَ عِنْدَهُمَا (رِعَايَةً لِجَانِبِ الْفُقَرَاءِ)
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً لِلتِّجَارَةِ) ظَاهِرٌ وَحَاصِلُهُ أَنَّ النِّيَّةَ إذَا اقْتَرَنَتْ بِالْعَمَلِ وَجَبَ اعْتِبَارُهَا، وَإِذَا تَجَرَّدَتْ عَنْ الْعَمَلِ لَا تُعْتَبَرُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ
(وَإِنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَنَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ كَانَ لِلتِّجَارَةِ لِاتِّصَالِ النِّيَّةِ بِالْعَمَلِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَرِثَ وَنَوَى التِّجَارَةَ) لِأَنَّهُ لَا عَمَلَ مِنْهُ، وَلَوْ مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ أَوْ بِالْوَصِيَّةِ أَوْ النِّكَاحِ أَوْ الْخُلْعِ أَوْ الصُّلْحِ عَنْ الْقَوَدِ وَنَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ كَانَ لِلتِّجَارَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله لِاقْتِرَانِهَا بِالْعَمَلِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهَا لَمْ تُقَارِنْ عَمَلَ التِّجَارَةِ، وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ عَلَى عَكْسِهِ.
(وَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ إلَّا بِنِيَّةٍ مُقَارِنَةٍ لِلْأَدَاءِ، أَوْ مُقَارِنَةٍ لِعَزْلِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ)
ثُبُوتُهُ بِالْجَوَارِحِ، وَالتِّجَارَةُ عَمَلُ الْجَوَارِحِ فَلَا تَتَحَصَّلُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ لِأَنَّهَا تَصْلُحُ لِتَرْكِ الْفِعْلِ دُونَ إنْشَائِهِ.
قَالَ (وَإِنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَنَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ كَانَ لِلتِّجَارَةِ) مَبْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ إذَا اشْتَرَى وَنَوَى قُرِنَتْ نِيَّتُهُ بِالْعَمَلِ، وَإِذَا وَرِثَ وَنَوَى تَجَرَّدَتْ النِّيَّةُ عَنْ الْعَمَلِ لِمَا أَنَّ الْمِيرَاثَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ عَمَلِهِ وَصُنْعِهِ حَتَّى إنَّ الْجَنِينَ يَرِثُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فِعْلٌ (وَلَوْ مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ أَوْ بِالْوَصِيَّةِ) أَوْ بِغَيْرِهِمَا مِمَّا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ (وَنَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ كَانَ لِلتِّجَارَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِاقْتِرَانِهَا بِالْعَمَلِ وَهُوَ الْقَبُولُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهَا لَمْ تُقَارِنْ عَمَلَ التِّجَارَةِ) لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الرَّجُلِ عَلَى نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ يَدْخُلُ بِغَيْرِ صُنْعِهِ كَالْإِرْثِ. وَنَوْعٌ يَدْخُلُ بِصُنْعِهِ وَهُوَ أَيْضًا عَلَى نَوْعَيْنِ: بِبَدَلٍ مَالِيٍّ كَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِهِ كَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَبِغَيْرِ بَدَلٍ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ، فَاَلَّذِي يَدْخُلُ بِغَيْرِ صُنْعِهِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ نِيَّةُ التِّجَارَةِ مُجَرَّدَةً بِالِاتِّفَاقِ، وَاَلَّذِي يَدْخُلُ بِبَدَلٍ مَالِيٍّ يُعْتَبَرُ فِيهِ نِيَّةُ التِّجَارَةِ بِالِاتِّفَاقِ، وَاَلَّذِي يَدْخُلُ بِبَدَلٍ غَيْرِ مَالِيٍّ أَوْ بِغَيْرِ بَدَلٍ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. قِيلَ قَوْلُهُ وَإِنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَنَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ كَانَ لِلتِّجَارَةِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ، فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ تَصِحَّ فِيهِ نِيَّةُ التِّجَارَةِ لَا يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ كَمَنْ اشْتَرَى أَرْضًا عُشْرِيَّةً أَوْ خَرَاجِيَّةً بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ لَا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ لِأَنَّ نِيَّةَ التِّجَارَةِ فِيهَا لَا تَصِحُّ، لِأَنَّهَا لَوْ صَحَّتْ لَزِمَ فِيهَا اجْتِمَاعُ الْحَقَّيْنِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْأَرْضُ وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ بَقِيَتْ الْأَرْضُ عَلَى مَا كَانَتْ. وَقَوْلُهُ (وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ عَلَى عَكْسِهِ) يَعْنِي مَا نَقَلَ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ عَنْ الْقَاضِي الشَّهِيدِ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي مُخْتَلِفِهِ هَذَا الِاخْتِلَافَ، عَلَى عَكْسِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَكُونُ لَهَا.
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ إلَّا بِنِيَّةٍ مُقَارِنَةٍ لِلْأَدَاءِ)
لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ فَكَانَ مِنْ شَرْطِهَا النِّيَّةُ وَالْأَصْلُ فِيهَا الِاقْتِرَانُ، إلَّا أَنَّ الدَّفْعَ يَتَفَرَّقُ فَاكْتُفِيَ بِوُجُودِهَا حَالَةَ الْعَزْلِ تَيْسِيرًا كَتَقْدِيمِ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ.
(وَمَنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ لَا يَنْوِي الزَّكَاةَ سَقَطَ فَرْضُهَا عَنْهُ اسْتِحْسَانًا) لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْهُ فَكَانَ مُتَعَيِّنًا فِيهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ (وَلَوْ أَدَّى بَعْضَ النِّصَابِ سَقَطَ زَكَاةُ الْمُؤَدَّى عِنْدَ مُحَمَّدٍ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ شَائِعٌ فِي الْكُلِّ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَسْقُطُ لِأَنَّ الْبَعْضَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِكَوْنِ الْبَاقِي مَحَلًّا لِلْوَاجِبِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ.
لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ نِيَّةٍ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِهَا إلَّا إذَا قَارَنَتْ الْعَمَلَ، فَإِنْ قَارَنَتْ الْأَدَاءَ فَظَاهِرٌ. وَإِنْ قَارَنَتْ عُزِلَ مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فَلِمَا ذَكَرَ بِقَوْلِهِ (إلَّا أَنَّ الدَّفْعَ يَتَفَرَّقُ فَاكْتُفِيَ بِوُجُودِهَا حَالَةَ الْعَزْلِ تَيْسِيرًا) فَإِنَّا لَوْ شَرَطْنَا وُجُودَهَا عِنْدَ كُلِّ دَفْعٍ لَزِمَ الْحَرَجُ فَكَانَ كَتَقْدِيمِ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ.
وَقَوْلُهُ (مَنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ لَا يَنْوِي الزَّكَاةَ) أَيْ غَيْرَ نَاوٍ لَهَا (سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُهَا اسْتِحْسَانًا) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَسْقُطَ، قِيلَ: وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ النَّفَلَ وَالْفَرْضَ كِلَاهُمَا مَشْرُوعَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ (أَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْهُ) أَيْ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ وَهُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ (فَكَانَ مُتَعَيِّنًا فِيهِ) أَيْ فِي الْجَمِيعِ، وَالْمُتَعَيِّنُ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّعْيِينِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْوَاجِبُ مُتَعَيِّنٌ بِتَعْيِينِ الْمُؤَدِّي أَوْ بِتَعْيِينِ الشَّارِعِ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ بِكَوْنِهِ خِلَافَ الْمَفْرُوضِ، وَالثَّانِي إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا لَمْ يُزَاحِمْهُ مُزَاحِمٌ كَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ النَّفَلَ مَشْرُوعٌ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ بِتَعْيِينِ الْمُؤَدِّي بِدَلَالَةِ حَالِهِ كَمَنْ أَطْلَقَ نِيَّةَ الْحَجِّ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ. وَالْمَفْرُوضُ عَدَمُ تَعْيِينِهِ نَصًّا لَا دَلَالَةً. وَلَوْ سَلَكَ هَاهُنَا الْمَسْلَكَ الَّذِي سَلَكْته فِي التَّقْرِيرِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الزَّكَاةُ سَقَطَتْ عَنْهُ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا وَالسُّقُوطُ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ تَخْفِيفٌ عَلَيْهِ فَيُكْتَفَى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ تَيْسِيرًا لَعَلَّهُ كَانَ أَسْهَلَ مَأْخَذًا (وَلَوْ أَدَّى بَعْضَ النِّصَابِ سَقَطَتْ زَكَاةُ الْمُؤَدِّي عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْوَاجِبَ شَائِعٌ) فَلَوْ تَصَدَّقَ بِالْجَمِيعِ سَقَطَ الْجَمِيعُ، فَكَذَا إذَا تَصَدَّقَ بِالْبَعْضِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَسْقُطُ لِأَنَّ الْبَعْضَ الْمُؤَدَّى غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِمَحَلِّيَّةِ بَعْضِ الْوَاجِبِ الَّذِي يَخُصُّهُ لِكَوْنِ الْبَاقِي مَحَلًّا لِلْوَاجِبِ فَوُجِدَتْ
بَابُ صَدَقَةِ السَّوَائِمِ
(فَصْلٌ فِي الْإِبِلِ)
مُزَاحَمَةُ سَائِرِ الْأَجْزَاءِ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَصَدَّقَ بِالْجَمِيعِ بِلَا نِيَّةٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ ثَمَّ مُزَاحَمَةٌ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْبَاقِي مَحَلٌّ لِلْوَاجِبِ كُلِّهِ أَوْ لِحِصَّتِهِ، وَالْأَوَّلُ عَيْنُ النِّزَاعِ، وَالثَّانِي هُوَ الْمَطْلُوبُ. وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مَعَ مُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
بَابُ صَدَقَةِ السَّوَائِمِ:
ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ مُحَمَّدًا بَدَأَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ بِزَكَاةِ الْمَوَاشِي اقْتِدَاءً بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَأَرَادَ بِهَا الزَّكَاةَ اقْتِدَاءً بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} وَالسَّوَائِمُ جَمْعُ سَائِمَةٍ مِنْ سَامَتْ الْمَاشِيَةُ: أَيْ رَعَتْ سَوْمًا وَأَسَامَهَا صَاحِبُهَا إسَامَةً.
(فَصْلٌ فِي الْإِبِلِ)
بَدَأَ فِي بَابِ صَدَقَةِ السَّوَائِمِ بِفَصْلِ الْإِبِلِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه هَكَذَا. وَالذَّوْدُ مِنْ الْإِبِلِ مِنْ الثَّلَاثِ إلَى الْعَشْرِ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ لَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا. وَإِضَافَةُ خَمْسٍ إلَى ذَوْدٍ كَالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ {تِسْعَةُ رَهْطٍ} فِي كَوْنِهَا إضَافَةَ الْعَدَدِ إلَى مُمَيِّزِهِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ، كَأَنَّهُ قَالَ تِسْعَةُ أَنْفُسٍ.
قَالَ رضي الله عنه (لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا سَائِمَةً، وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا شَاةٌ إلَى تِسْعٍ، فَإِذَا كَانَتْ عَشْرًا فَفِيهَا شَاتَانِ إلَى أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَإِذَا كَانَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ إلَى تِسْعَ عَشْرَةَ، فَإِذَا كَانَتْ عِشْرِينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ إلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ) وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الثَّانِيَةِ.
(إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِذَا كَانَتْ سِتًّا وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ) وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الثَّالِثَةِ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ (فَإِذَا كَانَتْ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ) وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الرَّابِعَةِ (إلَى سِتِّينَ، فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى وَسِتِّينَ فَفِيهَا جَذَعَةٌ) وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الْخَامِسَةِ (إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، فَإِذَا كَانَتْ سِتًّا وَسَبْعِينَ فَفِيهَا بِنْتَا لَبُونٍ إلَى تِسْعِينَ، فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى
فَإِنْ قِيلَ: الْأَصْلُ فِي الزَّكَاةِ أَنْ تَجِبَ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ فَكَيْفَ وَجَبَتْ الشَّاةُ فِي الْإِبِلِ؟ قُلْت: بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَلِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ خَمْسٍ خُمُسٌ وَالْوَاجِبُ هُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ، وَفِي إيجَابِ الشِّقْصِ ضَرَرُ عَيْبِ الشَّرِكَةِ فَأَوْجَبَ الشَّاةَ لِأَنَّهَا تَقُومُ بِرُبُعِ عُشْرِ الْإِبِلِ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَقُومُ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ هُنَاكَ وَبِنْتُ مَخَاضٍ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، فَإِيجَابُهَا فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ كَإِيجَابِ الْخَمْسِ فِي الْمِائَتَيْنِ مِنْ الدَّرَاهِمِ. قَوْلُهُ (فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ) عَلَى هَذَا اتَّفَقَتْ الْآثَارُ وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ، إلَّا مَا رُوِيَ شَاذًّا عَنْ عَلِيٍّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ خَمْسُ شِيَاهٍ، وَفِي سِتٍّ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ. قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: هَذَا غَلَطٌ وَقَعَ مِنْ رِجَالِ عَلِيٍّ رضي الله عنه، أَمَّا عَلِيٌّ فَإِنَّهُ أَفْقَهُ مِنْ أَنْ يَقُولَ هَكَذَا، لِأَنَّ فِي هَذَا مُوَالَاةً بَيْنَ الْوَاجِبَيْنِ لَا وَقْصَ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ خِلَافُ أُصُولِ الزَّكَوَاتِ فَإِنَّ مَبْنَاهَا عَلَى أَنَّ الْوَقْصَ يَتْلُو الْوُجُوبَ.
وَقَوْلُهُ (وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ) أَيْ دَخَلَتْ (فِي الثَّانِيَةِ) وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِنْتَ مَخَاضٍ لِمَعْنًى فِي أُمِّهَا لِأَنَّ أُمَّهَا صَارَتْ مَخَاضًا بِأُخْرَى: أَيْ حَامِلًا، وَكَذَلِكَ سُمِّيَتْ بِنْتَ لَبُونٍ لِمَعْنًى
وَتِسْعِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ إلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ) بِهَذَا اشْتَهَرَتْ كُتُبُ الصَّدَقَاتِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ)
فِي أُمِّهَا فَإِنَّهَا لَبُونٌ بِوِلَادَةِ أُخْرَى، وَسُمِّيَتْ حِقَّةً لِمَعْنًى فِيهَا وَهُوَ أَنَّهُ حُقَّ لَهَا أَنْ تُرْكَبَ وَيُحْمَلَ عَلَيْهَا، وَسُمِّيَتْ جَذَعَةً بِفَتْحِ الذَّالِ لِمَعْنًى فِي أَسْنَانِهَا مَعْرُوفٍ عِنْدَ أَرْبَابِ الْإِبِلِ وَهِيَ أَعْلَى الْأَسْنَانِ الَّتِي تُؤْخَذُ فِي زَكَاةِ الْإِبِلِ، وَبَعْدَهُ ثَنِيٌّ وَسَدِيسٌ وَبَازِلٌ، وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم السُّعَاةَ عَنْ أَخْذِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ النَّاسِ. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ صِفَاتِ الْوَاجِبِ فِي الْإِبِلِ الْأُنُوثَةَ، قَالَ صَاحِبُ التُّحْفَةِ لَا يَجُوزُ فِيهَا سِوَى الْإِنَاثِ إلَّا بِطَرِيقِ الْقِيمَةِ. وَقِيلَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْوَاجِبَ فِي نِصَابِ الْإِبِلِ الصِّغَارِ دُونَ الْكِبَارِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْأُضْحِيَّةُ بِهَا وَإِنَّمَا تَجُوزُ بِالثَّنِيِّ فَصَاعِدًا، وَكَانَ ذَلِكَ تَيْسِيرًا لِأَرْبَابِ الْمَوَاشِي، وَجُعِلَ الْوَاجِبُ أَيْضًا مِنْ الْإِنَاثِ لِأَنَّ الْأُنُوثَةَ تُعَدُّ فَضْلًا
إذَا زَادَتْ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ (تُسْتَأْنَفُ الْفَرِيضَةُ) فَيَكُونُ فِي الْخَمْسِ شَاةٌ مَعَ الْحِقَّتَيْنِ، وَفِي الْعَشْرِ شَاتَانِ، وَفِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَفِي الْعِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ،
فِي الْإِبِلِ فَصَارَ الْوَاجِبُ وَسَطًا؛ وَقَدْ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِتَعْيِينِ الْوَسَطِ وَلَمْ تُعَيِّنْ الْأُنُوثَةَ فِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لِأَنَّ الْأُنُوثَةَ فِيهِمَا تُعَدُّ فَضْلًا. وَقَوْلُهُ (تُسْتَأْنَفُ الْفَرِيضَةُ) تَفْسِيرُ الِاسْتِئْنَافِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيمَا زَادَ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ حَتَّى تَبْلُغَ الزِّيَادَةُ خَمْسًا
إلَى مِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَيَكُونُ فِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ، ثُمَّ تُسْتَأْنَفُ الْفَرِيضَةُ فَيَكُونُ فِي الْخَمْسِ شَاةٌ، وَفِي الْعَشْرِ شَاتَانِ، وَفِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَفِي الْعِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَفِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَسِتًّا وَتِسْعِينَ فَفِيهَا أَرْبَعُ حِقَاقٍ إلَى مِائَتَيْنِ
فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا كَانَ فِيهَا شَاةٌ مَعَ الْوَاجِبِ الْمُتَقَدِّمِ وَهُوَ الْحِقَّتَانِ، فَقَوْلُهُ مَعَ الْحِقَّتَيْنِ قَيْدٌ فِيمَا يَأْتِي بَعْدَهُ إلَى قَوْلِهِ بِنْتُ مَخَاضٍ.
وَقَوْلُهُ (إلَى مِائَةٍ وَخَمْسِينَ) يَعْنِي مِنْ أَوَّلِ النِّصَابِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ النِّصَابِ مِائَةً وَخَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ لِحِقَّتَيْنِ وَبِنْتِ مَخَاضٍ فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ذَلِكَ خَمْسَةً صَارَتْ مِائَةً وَخَمْسِينَ فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ تَسْتَأْنِفُ الْفَرِيضَةَ فَيَكُونُ فِي الْخَمْسِ شَاةٌ)
ثُمَّ تُسْتَأْنَفُ الْفَرِيضَةُ أَبَدًا كَمَا تُسْتَأْنَفُ فِي الْخَمْسِينَ الَّتِي بَعْدَ الْمِائَةِ وَالْخَمْسِينَ وَهَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا زَادَتْ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ، فَإِذَا صَارَتْ مِائَةً وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ وَبِنْتَا لَبُونٍ، ثُمَّ يُدَارُ الْحِسَابُ عَلَى الْأَرْبَعِينَاتِ وَالْخَمْسِينَاتِ فَتَجِبُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَتَبَ «إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ» مِنْ غَيْرِ شَرْطِ عَوْدِ مَا دُونَهَا. وَلَنَا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَتَبَ فِي آخِرِ ذَلِكَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «فَمَا كَانَ
يَعْنِي مِنْ ثَلَاثِ حِقَاقٍ، وَكَذَلِكَ فَمَا بَعْدَهُ. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ تَسْتَأْنِفُ الْفَرِيضَةَ أَبَدًا كَمَا تَسْتَأْنِفُ فِي الْخَمْسِينَ الَّتِي بَعْدَ الْمِائَةِ وَالْخَمْسِينَ) قَيَّدَهُ بِذَلِكَ احْتِرَازًا عَنْ الِاسْتِئْنَافِ الَّذِي بَعْدَ الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ إيجَابُ بِنْتِ لَبُونٍ وَلَا إيجَابُ أَرْبَعِ حِقَاقٍ لِعَدَمِ نِصَابِهِمَا لِأَنَّهُ لَمَّا زَادَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ عَلَى الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ صَارَ كُلُّ النِّصَابِ مِائَةً وَخَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ فَهُوَ نِصَابُ بِنْتِ الْمَخَاضِ مَعَ الْحِقَّتَيْنِ، فَلَمَّا زَادَ عَلَيْهَا خَمْسٌ وَصَارَتْ مِائَةً وَخَمْسِينَ وَجَبَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ الِاسْتِئْنَافُ بَعْدَ الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ وَبَعْدَ الْمِائَةِ وَالْخَمْسِينَ وَبَعْدَ الْمِائَتَيْنِ (مَذْهَبُنَا) وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إذَا زَادَتْ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ، فَإِذَا صَارَتْ مِائَةً وَثَلَاثِينَ فَفِيهَا حِقَّةٌ وَبِنْتَا لَبُونٍ، ثُمَّ يُدَارُ الْحِسَابُ عَلَى الْأَرْبَعِينَاتِ وَالْخَمْسِينَاتِ فَيَجِبُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ) وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَتَبَ «إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ» وَلَمْ يُشْتَرَطْ عَوْدُ مَا دُونَهَا
أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَفِي كُلِّ خَمْسِ ذَوْدٍ شَاةٌ» فَنَعْمَلُ بِالزِّيَادَةِ (وَالْبُخْتُ وَالْعِرَابُ سَوَاءٌ) فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ لِأَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ يَتَنَاوَلُهُمَا.
يَعْنِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجِبَ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجِبَ فِي الْخَمْسِ شَاةً.
وَلَنَا حَدِيثُ «قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْت لِأَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَخْرِجْ لِي كِتَابَ الصَّدَقَاتِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، فَأَخْرَجَ كِتَابًا فِي وَرَقَةٍ وَفِيهِ: فَإِذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ اُسْتُؤْنِفَتْ الْفَرِيضَةُ، فَمَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَفِيهَا الْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسِ ذَوْدٍ شَاةٌ» فَيُعْمَلُ بِالزِّيَادَةِ إذْ لَيْسَ فِي حَدِيثِهِمْ مَا يَنْفِي ذَلِكَ. وَقَدْ عَمِلْنَا بِحَدِيثِهِمْ أَيْضًا لِأَنَّا أَوْجَبْنَا فِي الْأَرْبَعِينَ بِنْتَ لَبُونٍ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِي الْأَرْبَعِينَ مَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَكَذَلِكَ أَوْجَبْنَا فِي خَمْسِينَ حِقَّةً. وَقَوْلُهُ (وَالْبُخْتُ وَالْعِرَابُ سَوَاءٌ) الْبُخْتُ جَمْعُ
(فَصْلٌ فِي الْبَقَرِ)
(لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ السَّائِمَةِ صَدَقَةٌ، فَإِذَا كَانَتْ ثَلَاثِينَ سَائِمَةً وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ) وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الثَّانِيَةِ (وَفِي أَرْبَعِينَ مُسِنٌّ أَوْ مُسِنَّةٌ) وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الثَّالِثَةِ،
بُخْتِيٍّ وَهُوَ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ الْعَرَبِيِّ وَالْعَجَمِيِّ مَنْسُوبٌ إلَى بُخْتِ نَصْرٍ وَالْعِرَابُ جَمْعُ عَرَبِيٍّ وَإِنَّمَا كَانَا سَوَاءً لِأَنَّ اسْمَ الْإِبِلِ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ يَتَنَاوَلُهُمَا وَاخْتِلَافُهُمَا فِي الصِّنْفِ لَا يُخْرِجُهُمَا مِنْ النَّوْعِ.
(فَصْلٌ فِي الْبَقَرِ)
قَدَّمَ فَصْلَ الْبَقَرِ عَلَى الْغَنَمِ لِمُنَاسَبَتِهَا ضَخَامَةً وَقِيمَةً، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ بَقَرَ إذَا شَقَّ، وَسُمِّيَ بِهِ الْبَقَرُ لِأَنَّهُ يَشُقُّ الْأَرْضَ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الثَّلَاثِينَ وَالْأَرْبَعِينَ نِصَابُ زَكَاةِ الْبَقَرِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ عَلَى مَا يُذْكَرُ. وَالتَّبِيعُ مِنْ وَلَدِ الْبَقَرِ مَا يَتْبَعُ أُمَّهُ، وَالْمُسِنُّ مِنْهُ وَمِنْ الشَّاةِ مَا تَمَّتْ لَهُ سَنَتَانِ،
بِهَذَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعَاذًا رضي الله عنه (فَإِذَا زَادَتْ عَلَى أَرْبَعِينَ وَجَبَ فِي الزِّيَادَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ إلَى سِتِّينَ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ فَفِي الْوَاحِدَةِ الزَّائِدَةِ رُبْعُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ، وَفِي الِاثْنَتَيْنِ نِصْفُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ، وَفِي الثَّلَاثَةِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ عُشْرِ مُسِنَّةٍ.
وَإِنَّمَا خَيَّرَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لِأَنَّ الْأُنُوثَةَ فِي الْبَقَرِ لَا تُعَدُّ فَضْلًا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ (بِهَذَا) أَيْ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّبِيعِ وَالتَّبِيعَةِ فِي ثَلَاثِينَ وَالْمُسِنِّ وَالْمُسِنَّةِ فِي أَرْبَعِينَ (أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعَاذًا، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى الْأَرْبَعِينَ) فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ. فَفِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ (يَجِبُ فِي الزِّيَادَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ إلَى سِتِّينَ) فَفِي الْوَاحِدَةِ الزَّائِدَةِ رُبُعُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ (وَفِي الثِّنْتَيْنِ نِصْفُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ) وَذَلِكَ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ مُسِنَّةٍ لِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ لِلْأَرْبَعِينَ وَرُبُعَ الْأَرْبَعَةِ وَاحِدٌ فَيَكُونُ رُبُعُ الْعُشْرِ جُزْءًا مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا وَنِصْفُ الْعُشْرِ جُزْأَيْنِ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا لِأَنَّ عُشْرَ الْأَرْبَعِينَ أَرْبَعَةٌ وَنِصْفَ الْأَرْبَعَةِ اثْنَانِ. وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ: لَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسِينَ، ثُمَّ فِيهَا مُسِنَّةٌ وَرُبُعُ مُسِنَّةٍ أَوْ ثُلُثُ تَبِيعٍ، وَفِي رِوَايَةِ أُسْدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: لَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ سِتِّينَ.
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْعَفْوَ فِيمَا بَيْنَ الثَّلَاثِينَ وَالْأَرْبَعِينَ وَبَيْنَ السِّتِّينَ وَمَا فَوْقَهَا ثَبَتَ نَصًّا، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِمَا فِيهِ مِنْ إخْلَاءِ الْمَالِ عَنْ الْوَاجِبِ مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضَى وَهُوَ إطْلَاقُ قَوْله تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وَقِيَامُ الْأَهْلِيَّةِ وَلَا نَصَّ هَاهُنَا فَأَوْجَبْنَا فِيمَا زَادَ بِحِسَابِهِ وَتَحَمَّلْنَا التَّشْقِيصَ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ مَوْضُوعِ الزَّكَاةِ ضَرُورَةَ تَعَذُّرِ إخْلَائِهِ عَنْ الْوَاجِبِ.
وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ مَبْنَى هَذَا النِّصَابُ: أَيْ نِصَابُ الْبَقَرِ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَ كُلِّ عَقْدَيْنِ وَقْصٌ وَفِي كُلِّ عَقْدٍ وَاجِبٍ بِدَلِيلِ مَا قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ وَبَعْدَ السِّتِّينَ فَيَكُونُ بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ وَالْخَمْسِينَ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ إعْطَاءِ رُبُعِ مُسِنَّةٍ وَثُلُثِ تَبِيعٍ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ عَشْرَةٌ وَهِيَ ثُلُثُ ثَلَاثِينَ وَرُبُعُ أَرْبَعِينَ فَيُخَيَّرُ
وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْأَصْلِ لِأَنَّ الْعَفْوَ ثَبَتَ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَلَا نَصَّ هُنَا. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسِينَ، ثُمَّ فِيهَا مُسِنَّةٌ وَرُبْعُ مُسِنَّةٍ أَوْ ثُلُثُ تَبِيعٍ، لِأَنَّ مَبْنَى هَذَا النِّصَابِ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَ كُلِّ عَقْدَيْنِ وَقْصٌ، وَفِي كُلِّ عَقْدٍ وَاجِبٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ سِتِّينَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِمُعَاذٍ «لَا تَأْخُذْ مِنْ أَوْقَاصِ الْبَقَرِ شَيْئًا» وَفَسَّرُوهُ بِمَا بَيْنَ أَرْبَعِينَ إلَى سِتِّينَ. قُلْنَا: قَدْ قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا الصِّغَارُ
بَيْنَهُمَا.
وَوَجْهُ رِوَايَةِ أُسْدٍ وَهُوَ قَوْلُهُمَا «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: لَا تَأْخُذْ مِنْ أَوْقَاصِ الْبَقَرِ شَيْئًا» وَفَسَّرُوهُ بِمَا بَيْنَ أَرْبَعِينَ إلَى سِتِّينَ، وَالْأَوْقَاصُ جَمْعُ وَقْصٍ بِفَتْحِ الْقَافِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ. قُلْنَا: قَدْ قِيلَ
(ثُمَّ فِي السِّتِّينَ تَبِيعَانِ أَوْ تَبِيعَتَانِ، وَفِي سَبْعِينَ مُسِنَّةٌ وَتَبِيعٌ، وَفِي ثَمَانِينَ مُسِنَّتَانِ، وَفِي تِسْعِينَ ثَلَاثَةُ أَتْبِعَةٍ، وَفِي الْمِائَةِ تَبِيعَانِ وَمُسِنَّةٌ. وَعَلَى هَذَا يَتَغَيَّرُ الْفَرْضُ فِي كُلِّ عَشْرٍ مِنْ تَبِيعٍ إلَى مُسِنَّةٍ وَمِنْ مُسِنَّةٍ إلَى تَبِيعٍ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنٌّ أَوْ مُسِنَّةٌ» (وَالْجَوَامِيسُ وَالْبَقَرُ سَوَاءٌ) لِأَنَّ اسْمَ الْبَقَرِ يَتَنَاوَلُهُمَا إذْ هُوَ نَوْعٌ مِنْهُ، إلَّا أَنَّ أَوْهَامَ النَّاسِ لَا تَسْبِقُ إلَيْهِ فِي دِيَارِنَا لِقِلَّتِهِ، فَلِذَلِكَ لَا يَحْنَثُ بِهِ فِي يَمِينِهِ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ بَقَرٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ فِي الْغَنَمِ)
(لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ السَّائِمَةِ صَدَقَةٌ، فَإِذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ سَائِمَةً وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا شَاةٌ إلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا شَاتَانِ إلَى مِائَتَيْنِ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعَمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، ثُمَّ فِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ) هَكَذَا وَرَدَ الْبَيَانُ فِي كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ (وَالضَّأْنُ وَالْمَعْزُ سَوَاءٌ) لِأَنَّ لَفْظَ الْغَنَمِ شَامِلَةٌ لِلْكُلِّ
إنَّ الْمُرَادَ بِهَا الصِّغَارُ: يَعْنِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوْقَاصِ الْعَجَاجِيلُ وَنَحْنُ نَقُولُ بِذَلِكَ. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ فِي السِّتِّينَ تَبِيعَانِ) إلَخْ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ.
(فَصْلٌ فِي الْغَنَمِ)
قَدَّمَ فَصْلَ زَكَاةِ الْغَنَمِ عَلَى الْخَيْلِ، إمَّا لِكَوْنِ الْحَاجَةِ إلَى بَيَانِهِ أَمَسَّ لِكَثْرَتِهِ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ. وَالْغَنَمُ اسْمُ جِنْسٍ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَمَا فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ إلَّا كَلِمَاتٍ نَذْكُرُهَا. قَوْلُهُ (وَالضَّأْنُ وَالْمَعْزُ سَوَاءٌ)
وَالنَّصُّ وَرَدَ بِهِ. وَيُؤْخَذُ الثَّنِيُّ فِي زَكَاتِهَا وَلَا يُؤْخَذُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ إلَّا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّنِيُّ مِنْهَا مِنْهَا مَا تَمَّتْ لَهُ سَنَةٌ، وَالْجَذَعُ مَا أَتَى عَلَيْهِ أَكْثَرُهَا. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُهُمَا أَنَّهُ يُؤْخَذُ عَنْ الْجَذَعِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إنَّمَا حَقُّنَا الْجَذَعُ وَالثَّنِيُّ» وَلِأَنَّهُ يَتَأَدَّى بِهِ الْأُضْحِيَّةَ فَكَذَا الزَّكَاةُ. وَجْهُ الظَّاهِرِ حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا «لَا يُؤْخَذُ فِي الزَّكَاةِ إلَّا الثَّنِيُّ فَصَاعِدًا» وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْوَسَطُ وَهَذَا مِنْ الصِّغَارِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ فِيهَا الْجَذَعُ مِنْ الْمَعْزِ، وَجَوَازُ التَّضْحِيَّةِ بِهِ عُرِفَ نَصًّا. وَالْمُرَادُ بِمَا رُوِيَ الْجَذَعَةُ مِنْ الْإِبِلِ (وَيُؤْخَذُ فِي زَكَاةِ الْغَنَمِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ) لِأَنَّ اسْمَ الشَّاةِ يَنْتَظِمُهُمَا، وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» .
يَعْنِي فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ لَا فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ لِمَا سَنَذْكُرُ أَنَّ الْجَذَعَ مِنْ الْمَعْزِ لَا يَجُوزُ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِهِ) يَعْنِي مَا كُتِبَ فِي كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «فِي أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ شَاةٌ» الْحَدِيثَ.
وَقَوْلُهُ (وَالْجَذَعُ مَا أَتَى عَلَيْهِ أَكْثَرُهَا) رُوِيَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ أَنَّهُ مَا طَعَنَ فِي الشَّهْرِ التَّاسِعِ. وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزَّعْفَرَانِيِّ أَنَّهُ مَا طَعَنَ فِي الشَّهْرِ الثَّامِنِ. وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ قَالَ الْفُقَهَاءُ: إنَّ الْجَذَعَ مِنْ الْغَنَمِ مَا تَمَّتْ لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ. هَذَا تَفْسِيرُ عُلَمَاءِ الْفِقْهِ. وَعَنْ الْأَزْهَرِيِّ: الْجَذَعُ مِنْ الْمَعْزِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَمِنْ الضَّأْنِ لِثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ، وَالثَّنِيُّ الَّذِي أَلْقَى ثَنِيَّتَهُ، وَهُوَ مِنْ الْإِبِلِ مَا اسْتَكْمَلَ السَّنَةَ الْخَامِسَةَ وَدَخَلَ فِي السَّادِسَةِ، وَمِنْ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ مَا اسْتَكْمَلَ الثَّانِيَةَ وَدَخَلَ فِي الثَّالِثَةِ، وَمِنْ الْفَرَسِ وَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ مَا اسْتَكْمَلَ الثَّالِثَةَ وَدَخَلَ فِي الرَّابِعَةِ، وَهُوَ فِي كُلِّهَا بَعْدَ الْجَذَعِ وَقَبْلَ الرُّبَاعِيِّ، هَذَا تَفْسِيرُ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَقَوْلُهُ (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُهُمَا) يُرِيدُ بِهِ مَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ يَتَأَدَّى بِهِ الْأُضْحِيَّةُ فَكَذَا الزَّكَاةُ) يَعْنِي أَنَّ بَابَ الْأُضْحِيَّةِ أَضْيَقُ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّضْحِيَةَ بِالتَّبِيعِ وَالتَّبِيعَةِ لَا يَجُوزُ وَيَجُوزُ أَخْذُهُمَا فِي الزَّكَاةِ فَإِذَا كَانَ لِلْجَذَعِ مَدْخَلٌ فِي الْأُضْحِيَّةِ فَفِي الزَّكَاةِ أَوْلَى.
وَقَوْلُهُ (وَجَوَازُ التَّضْحِيَةِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ يَتَأَدَّى بِهِ الْأُضْحِيَّةُ يَعْنِي أَنَّ جَوَازَ التَّضْحِيَةِ بِالْجَذَعِ عُرِفَ بِنَصٍّ خَاصٍّ فِي التَّضْحِيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «نِعْمَتْ الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ» فَلَا يَتَعَدَّاهَا، وَالزَّكَاةُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَاهَا، إذْ الْمَقْصُودُ بِهَا إرَاقَةُ الدَّمِ، وَالْجَذَعُ يُقَارِبُ الثَّنِيَّ فِي ذَلِكَ، وَلَا كَذَلِكَ الزَّكَاةُ فَلَا تُلْحَقُ بِالْأُضْحِيَّةِ دَلَالَةً.
(فَصْلٌ فِي الْخَيْلِ)
(إذْ كَانَتْ الْخَيْلُ سَائِمَةً ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ: إنْ شَاءَ أَعْطَى عَنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا، وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهَا وَأَعْطَى عَنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَقَالَا: لَا زَكَاةَ فِي الْخَيْلِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ» وَلَهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «فِي كُلِّ فَرَسٍ سَائِمَةٍ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ» وَتَأْوِيلُ مَا رَوَيَاهُ فَرَسُ الْغَازِي، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ.
(فَصْلٌ فِي الْخَيْلِ)
وَجْهُ تَأْخِيرِهِ عَنْ فَصْلِ الْغَنَمِ قَدْ تَقَدَّمَ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (هُوَ الْمَنْقُولُ) أَيْ تَأْوِيلُ مَا رَوَيَاهُ بِفَرَسِ الْغَازِي هُوَ الْمَنْقُولُ (عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه) فَإِنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ وَقَعَتْ فِي زَمَنِ مَرْوَانَ رحمه الله، فَشَاوَرَ الصَّحَابَةَ فَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ» فَقَالَ مَرْوَانُ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا سَعِيدٍ؟ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَجَبًا مِنْ مَرْوَانَ أُحَدِّثُهُ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ مَا تَقُولُ يَا أَبَا سَعِيدٍ؟ فَقَالَ زَيْدٌ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ فَرَسَ الْغَازِي، فَأَمَّا مَا جَشَرَ لِطَلَبِ نَسْلِهَا
وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الدِّينَارِ وَالتَّقْوِيمِ مَأْثُورٌ عَنْ عُمَرَ
فَفِيهَا الصَّدَقَةُ فَقَالَ كَمْ؟ فَقَالَ فِي كُلِّ فَرَسٍ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ (وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الدِّينَارِ وَالتَّقْوِيمِ مَأْثُورٌ عَنْ عُمَرَ) فَإِنَّهُ كَتَبَ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رضي الله عنه يَأْمُرُهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْخَيْلِ السَّائِمَةِ عَنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَقِيلَ كَانَ ذَلِكَ فِي خَيْلِ الْعَرَبِ لِتَقَارُبِهَا فِي الْقِيمَةِ، وَأَمَّا فِي أَفْرَاسِنَا فَيُقَوِّمُهَا لَا غَيْرُ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ لَكَانَ لِلْإِمَامِ أَخْذُهَا جَبْرًا وَلَوَجَبَتْ فِي عَيْنِهَا كَمَا فِي سَائِرِ السَّوَائِمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ.
(وَلَيْسَ فِي ذُكُورِهَا مُنْفَرِدَةً زَكَاةٌ) لِأَنَّهَا لَا تَتَنَاسَلُ (وَكَذَا فِي الْإِنَاثِ الْمُنْفَرِدَاتِ فِي رِوَايَةٍ) وَعَنْهُ الْوُجُوبُ فِيهَا
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْخَيْلَ مَطْمَعٌ لِكُلِّ طَامِعٍ فَيُخْشَى عَلَى صَاحِبِهِ التَّعَدِّي بِالْأَخْذِ، وَلَمْ يَجِبْ مِنْ عَيْنِهَا لِأَنَّ مَقْصُودَ الْفَقِيرِ لَا يَحْصُلُ بِهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ عِنْدَهُ.
وَقَوْلُهُ (وَلَيْسَ فِي ذُكُورِهَا مُنْفَرِدَةً زَكَاةٌ لِأَنَّهَا لَا تَتَنَاسَلُ)
لِأَنَّهَا تَتَنَاسَلُ بِالْفَحْلِ الْمُسْتَعَارِ بِخِلَافِ الذُّكُورِ، وَعَنْهُ أَنَّهَا تَجِبُ فِي الذُّكُورِ الْمُنْفَرِدَةِ أَيْضًا (وَلَا شَيْءَ فِي الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَمْ يَنْزِلْ عَلِيَّ فِيهِمَا شَيْءٌ» وَالْمَقَادِيرُ تَثْبُتُ سَمَاعًا (إلَّا أَنْ تَكُونَ لِلتِّجَارَةِ) لِأَنَّ الزَّكَاةَ حِينَئِذٍ تَتَعَلَّقُ بِالْمَالِيَّةِ كَسَائِرِ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَصْلٌ)
(وَلَيْسَ فِي الْفُصْلَانِ وَالْحُمْلَانِ وَالْعَجَاجِيلِ صَدَقَةٌ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا كِبَارٌ، وَهَذَا آخِرُ أَقْوَالِهِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا يَجِبُ فِيهَا مَا يَجِبُ فِي الْمَسَانِّ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَمَالِكٍ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ فِيهَا وَاحِدَةٌ مِنْهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
اُسْتُشْكِلَ بِذُكُورِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مُنْفَرِدَاتٌ فَإِنَّهَا لَا تَتَنَاسَلُ وَوَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ النَّمَاءَ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ فِي الْخَيْلِ فِي التَّنَاسُلِ لَا غَيْرُ، وَلَا تَنَاسُلَ فِي ذُكُورِ الْخَيْلِ مُنْفَرِدَةً، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَالنَّمَاءُ فِيهِ كَمَا يَكُونُ بِهِ يَكُونُ بِاللَّحْمِ وَالْوَبَرِ فَيَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا وَجْهُ الرِّوَايَةِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا فِي الذُّكُورِ الْمُنْفَرِدَةِ أَيْضًا وَلَا نَسْلَ ثَمَّةَ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ وَجْهَهَا أَنَّ الْآثَارَ جَعَلَتْهَا نَظِيرَ سَائِرِ أَنْوَاعِ السَّوَائِمِ، فَإِنَّهُ بِسَبَبِ السَّوْمِ تَخِفُّ الْمُؤْنَةُ عَلَى صَاحِبِهِ وَبِهِ يَصِيرُ مَالُ الزَّكَاةِ فَكَانَتْ كَأَنْوَاعِهَا.
وَقَوْلُهُ (لَمْ يُنَزَّلْ عَلَيَّ فِيهِمَا شَيْءٌ) رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ الْحَمِيرِ فَقَالَ: لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِيهَا شَيْءٌ إلَّا هَذِهِ الْآيَةُ الْفَاذَّةُ الْجَامِعَةُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}» .
(فَصْلٌ):
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ رحمه الله: وَجَدْت فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَكْتُوبًا بِخَطِّ شَيْخِي رحمه الله: وَجْهُ مُنَاسَبَةِ إيرَادِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُنَا هُوَ أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ عَنْ بَيَانِ حُكْمِ الْكِبَارِ مِنْ السَّوَائِمِ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الصِّغَارِ. وَأَقُولُ: لَيْسَ الْفَصْلُ مُنْحَصِرًا فِي ذَلِكَ بَلْ فِيهِ غَيْرُهُ. فَكَانَ الْفَصْلُ هَاهُنَا كَمَسَائِلَ شَتَّى تُكْتَبُ فِي آخِرِ الْأَبْوَابِ. وَالْفُصْلَانُ جَمْعُ الْفَصِيلِ: وَهُوَ وَلَدُ النَّاقَةِ مِنْ فَصَلَ الرَّضِيعُ عَنْ أُمِّهِ. وَالْحُمْلَانُ بِضَمِّ الْحَاءِ وَقِيلَ بِكَسْرِهَا أَيْضًا جَمْعُ الْحَمَلِ: وَلَدُ الضَّأْنِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى. وَالْعَجَاجِيلُ جَمْعُ عُجُولٍ: مِنْ أَوْلَادِ الْبَقَرِ حِينَ تَضَعُهُ أُمُّهُ إلَى شَهْرٍ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ. قِيلَ فِي صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ: رَجُلٌ اشْتَرَى خَمْسَةً وَعِشْرِينَ مِنْ الْفُصْلَانِ أَوْ ثَلَاثِينَ مِنْ الْعَجَاجِيلِ أَوْ أَرْبَعِينَ مِنْ الْحُمْلَانِ أَوْ وُهِبَ لَهُ ذَلِكَ هَلْ يَنْعَقِدُ عَلَيْهِ الْحَوْلُ أَوْ لَا؟ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَنْعَقِدُ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمَا يَنْعَقِدُ حَتَّى لَوْ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ مِنْ حِينِ مَا مَلَكَهَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الِاسْمَ الْمَذْكُورَ فِي الْخِطَابِ يَنْتَظِمُ الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ. وَوَجْهُ الثَّانِي تَحْقِيقُ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَمَا
وَقِيلَ صُورَتُهَا: إذَا كَانَ لَهُ نِصَابُ سَائِمَةٍ فَمَضَى عَلَيْهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَتَوَالَدَتْ مِثْلَ عَدَدِهَا ثُمَّ هَلَكَتْ الْأُصُولُ وَبَقِيَتْ الْأَوْلَادُ هَلْ يَبْقَى حَوْلُ الْأُصُولِ عَلَى الْأَوْلَادِ؟ عِنْدَهُمَا لَا يَبْقَى، وَعِنْدَ الْبَاقِينَ يَبْقَى. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِي اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْت عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَقُلْت: مَا تَقُولُ فِيمَنْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ حَمَلًا؟ فَقَالَ فِيهَا شَاةٌ مُسِنَّةٌ فَقُلْت: رُبَّمَا تَأْتِي قِيمَةُ الشَّاةِ عَلَى أَكْثَرِهَا أَوْ جَمِيعِهَا، فَتَأَمَّلَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: لَا وَلَكِنْ تُؤْخَذُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، فَقُلْت: أَيُؤْخَذُ الْحَمَلُ فِي الزَّكَاةِ؟ فَتَأَمَّلَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: لَا إذًا لَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ، فَأَخَذَ بِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ زُفَرُ، وَبِقَوْلِهِ الثَّانِي أَبُو يُوسُفَ، وَبِقَوْلِهِ الثَّالِثِ مُحَمَّدٌ، وَعُدَّ هَذَا مِنْ مَنَاقِبِهِ حَيْثُ تَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ فِي مَجْلِسٍ بِثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ فَلَمْ يُضَعْ شَيْءٌ مِنْهَا (وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ إنَّ الِاسْمَ الْمَذْكُورَ فِي الْخِطَابِ) يَعْنِي قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ» (يَنْتَظِمُ الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ) لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ كَاسْمِ الْآدَمِيِّ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ إبِلٍ فَأَكَلَ لَحْمَ الْفَصِيلِ حَنِثَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ قَلِيلٌ مِنْ الْكَثِيرِ، وَأَخْذُ الْمُسِنَّةِ مِنْ الصِّغَارِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ قِيمَتَهَا قَدْ تَأْتِي عَلَى أَكْثَرِ النِّصَابِ (وَوَجْهُ قَوْلِهِ الثَّانِي) أَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا فِيهَا مَا يَجِبُ فِي الْمَسَانِّ وَهُوَ لَا يُوجَدُ فِيهَا كَانَ إضْرَارًا بِصَاحِبِ الْمَالِ وَهُوَ يَقْتَضِي عَدَمَ الْوُجُوبِ، وَلَوْ لَمْ نُوجِبْ شَيْئًا كَانَ إضْرَارًا بِالْفُقَرَاءِ لِأَنَّ الصِّغَارَ نِصَابٌ، فَإِنَّ الْكِبَارَ يَكْمُلُ بِهَا نِصَابٌ وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ كَانَ نِصَابًا بِنَفْسِهِ كَالْمَهَازِيلِ، وَعَكْسُهُ الْحُمْلَانُ فَإِنَّهَا لَا يَكْمُلُ بِهَا نِصَابٌ فَلَا تَكُونُ فِي نَفْسِهَا نِصَابًا فَأَوْجَبْنَا وَاحِدَةً مِنْهَا كَمَا فِي الْمَهَازِيلِ فَإِنَّا لَا نُوجِبُ فِيهَا السَّمِينَ وَإِنَّمَا نُوجِبُ وَاحِدَةً مِنْهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ (تَحْقِيقُ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ.
يَجِبُ فِي الْمَهَازِيلِ وَاحِدٌ مِنْهَا وَوَجْهُ الْأَخِيرِ أَنَّ الْمَقَادِيرَ لَا يَدْخُلُهَا الْقِيَاسُ فَإِذَا امْتَنَعَ إيجَابُ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ امْتَنَعَ أَصْلًا، وَإِذَا كَانَ فِيهَا وَاحِدٌ مِنْ الْمَسَانِّ
وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْأَخِيرِ مَا قَالَهُ إنَّ الْمَقَادِيرَ لَا يَدْخُلُهَا الْقِيَاسُ إلَخْ) وَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُجَابَ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ مِنْ الْأَسْنَانِ هَاهُنَا مُمْتَنِعٌ لِأَنَّهَا لَا تُوجَدْ فِي الصِّغَارِ (وَإِذَا امْتَنَعَ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ هَاهُنَا امْتَنَعَ أَصْلًا) لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَكَانَ بِالْقِيَاسِ وَالْمَقَادِيرُ لَا يَدْخُلُهَا الْقِيَاسُ وَالْفَطِنُ يَسْتَخْرِجُ مِنْ هَذَا جَوَابَ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ قَاسَ عَلَى الْمَهَازِيلِ وَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْمَهَازِيلَ يُوجَدُ فِيهَا مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ مِنْ الْأَسْنَانِ (وَلَوْ كَانَ فِيهَا وَاحِدَةٌ مِنْ الْمَسَانِّ إلَخْ) يَعْنِي إذَا كَانَ فِي الْحُمْلَانِ كِبَارٌ جُعِلَتْ الصِّغَارُ تَبَعًا لَهَا فِي انْعِقَادِهَا نِصَابًا وَلَا تَتَأَدَّى الزَّكَاةُ بِالصِّغَارِ بَلْ يُدْفَعُ لَهَا مِنْ الْكِبَارِ إنْ كَانَ عَلَى مِقْدَارِ الْوَاجِبِ. بَيَانُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ مُسِنَّتَانِ وَمِائَةٌ وَتِسْعَةَ عَشَرَ حَمَلًا يَجِبُ فِيهَا مُسِنَّتَانِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ مُسِنَّةٌ وَاحِدَةٌ وَمِائَةٌ وَعِشْرُونَ حَمَلًا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ تَجِبُ مُسِنَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مُسِنَّةٌ وَحَمَلٌ. وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ فَصْلُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: عُدَّ عَلَيْهِمْ السَّخْلَةَ وَلَوْ جَاءَ بِهَا الرَّاعِي يَحْمِلُهَا عَلَى كَتِفِهِ، وَلَا تَأْخُذْهَا
جَعَلَ الْكُلَّ تَبَعًا لَهُ فِي انْعِقَادِهَا نِصَابًا دُونَ تَأْدِيَةِ الزَّكَاةِ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجِبُ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ مِنْ الْحُمْلَانِ وَفِيمَا دُونَ الثَّلَاثِينَ مِنْ الْعَجَاجِيلِ، وَيَجِبُ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْفُصْلَانِ وَاحِدٌ ثُمَّ لَا يَجِبُ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ مَبْلَغًا لَوْ كَانَتْ مَسَانَّ يُثْنِي الْوَاجِبَ، ثُمَّ لَا يَجِبُ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ مَبْلَغًا لَوْ كَانَتْ مَسَانَّ يُثَلِّثُ الْوَاجِبَ، وَلَا يَجِبُ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فِي رِوَايَةٍ. وَعَنْهُ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْخَمْسِ خُمْسُ فَصِيلٍ، وَفِي الْعَشَرِ خُمُسَا فَصِيلٍ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارُ، وَعَنْهُ أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى قِيمَةِ خُمْسِ فَصِيلٍ وَسَطٍ وَإِلَى قِيمَةِ شَاةٍ فِي الْخَمْسِ فَيَجِبُ أَقَلُّهُمَا، وَفِي الْعَشَرِ إلَى قِيمَةِ شَاتَيْنِ وَإِلَى قِيمَةِ خُمْسَيْ فَصِيلٍ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارُ.
قَالَ (وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ سِنٌّ وَلَمْ تُوجَدْ أَخَذَ الْمُصَدِّقُ أَعْلَى مِنْهَا وَرَدَّ الْفَضْلَ
مِنْهُمْ فَقَدْ نَهَى عَنْ أَخْذِ الصِّغَارِ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إلَخْ) يَعْنِي أَنَّ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ اخْتَلَفَتْ فِي الْفُصْلَانِ. رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ حَتَّى تَبْلُغَ عَدَدًا لَوْ كَانَتْ كِبَارًا وَجَبَ فِيهَا وَاحِدَةٌ مِنْهَا وَذَلِكَ بِأَنْ تَبْلُغَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ لَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ مَبْلَغًا لَوْ كَانَتْ مَسَانَّ ثَنَّى الْوَاجِبَ وَذَلِكَ بِأَنْ تَبْلُغَ سِتَّةً وَسَبْعِينَ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ فِيهَا اثْنَانِ، ثُمَّ لَا يَجِبُ حَتَّى تَبْلُغَ مَبْلَغًا لَوْ كَانَتْ مَسَانَّ ثُلُثُ الْوَاجِبِ بِأَنْ تَبْلُغَ مِائَةً وَخَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ فَيَجِبُ مِنْهَا ثَلَاثَةٌ، وَلَا يَجِبُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَاجِبَ كَانَ تَعَيَّنَ بِالنَّصِّ بِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ وَالسِّنِّ، وَقَدْ تَعَذَّرَ السِّنُّ فِي الْفُصْلَانِ فَبَقِيَ الْعَدَدُ مُعْتَبَرًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْجَبَ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةً فِي مَالٍ اُعْتُبِرَ قَبْلَهُ أَرْبَعَةَ نُصُبٍ، وَأَوْجَبَ فِي سِتٍّ وَسَبْعِينَ اثْنَيْنِ فِي مَوْضِعٍ اُعْتُبِرَ ثَلَاثَةُ نُصُبٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ. وَفِي الْمَالِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ هَذِهِ النُّصُبِ لَوْ أَوْجَبْنَا لَكَانَ بِالرَّأْيِ لَا بِالنَّصِّ. وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْهُ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْخَمْسِ خُمُسُ فَصِيلٍ، وَفِي الْعَشْرِ خُمُسَا فَصِيلٍ هَكَذَا إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ الْبَعْضُ بِالْجُمْلَةِ، وَرَوَى عَنْهُ أَنَّهُ يُنْظَرُ فِي الْخَمْسِ إلَى قِيمَةِ خُمُسِ فَصِيلٍ وَإِلَى قِيمَةِ شَاةٍ فَيَجِبُ أَقَلُّهُمَا، وَفِي الْعُشْرِ إلَى قِيمَةِ شَاتَيْنِ وَإِلَى قِيمَةِ خُمُسَيْ فَصِيلٍ وَفِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَةِ ثَلَاثِ شِيَاهٍ وَمِنْ قِيمَةِ ثَلَاثِ أَخْمَاسِ فَصِيلٍ وَفِي الْعِشْرِينَ يَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِ شِيَاهٍ وَمِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ فَصِيلٍ، وَفِي الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ يَجِبُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ. وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْأَقَلَّ مُتَيَقَّنٌ فَيَتَعَيَّنُ.
قَالَ (وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ سِنٌّ) السِّنُّ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ، ثُمَّ سُمِّيَ بِهَا صَاحِبُهَا كَالنَّابِ
أَوْ أَخَذَ دُونَهَا) وَأَخَذَ الْفَضْلَ، وَهَذَا يَبْتَنِي عَلَى أَنَّ أَخْذَ الْقِيمَةِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ جَائِزٌ عِنْدَنَا عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
لِلْمُسِنَّةِ مِنْ النُّوقِ، ثُمَّ اُسْتُعِيرَتْ لِغَيْرِهِ كَابْنِ الْمَخَاضِ وَابْنِ اللَّبُونِ، وَذِكْرُ السِّنِّ وَإِرَادَةُ ذَاتِ السِّنِّ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْحَيَوَانِ لَا فِي الْإِنْسَانِ لِأَنَّ عُمُرَ الْحَيَوَانِ يُعْرَفُ بِالسِّنِّ. قَوْلُهُ (وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ سِنٌّ) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: رَجُلٌ وَجَبَ عَلَيْهِ بِنْتُ لَبُونٍ وَلَمْ تُوجَدْ عِنْدَهُ يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ الْحِقَّةَ وَيَرُدُّ الْفَضْلَ، أَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحِقَّةُ وَلَمْ تُوجَدْ يَأْخُذُ بِنْتُ اللَّبُونِ وَيَأْخُذُ الْفَضْلَ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: ظَاهِرُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ لِلْمُصَدَّقِ وَهُوَ الَّذِي يَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ، وَلَكِنَّ الصَّوَابَ أَنَّ الْخِيَارَ إلَى مَنْ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ لِأَنَّ الْخِيَارَ شُرِعَ رِفْقًا بِمَنْ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ، وَالرِّفْقُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ
تَعَالَى، إلَّا أَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَهُ أَنْ لَا يَأْخُذَ وَيُطَالِبَ بِعَيْنِ الْوَاجِبِ أَوْ بِقِيمَتِهِ لِأَنَّهُ شِرَاءٌ. وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يُجْبَرُ لِأَنَّهُ لَا بَيْعَ فِيهِ بَلْ هُوَ إعْطَاءٌ بِالْقِيمَةِ.
(وَيَجُوزُ دَفْعُ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ) عِنْدَنَا وَكَذَا فِي الْكَفَّارَاتِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْعُشْرِ
بِتَخْيِيرِهِ، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ إذَا سَمَحَتْ نَفْسُ مَنْ عَلَيْهِ، إذْ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ أَنَّهُ يَخْتَارُ مَا هُوَ الْأَرْفَقُ بِالْفُقَرَاءِ. وَأَقُولُ: ظَاهِرُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِلْمُصَدِّقِ حَيْثُ قَالَ لَهُ أَنْ لَا يَأْخُذَ وَيُطَالِبَ بِعَيْنِ الْوَاجِبِ أَوْ بِقِيمَتِهِ لِأَنَّهُ شِرَاءٌ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي لِمَنْ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ يُجْبَرُ لِأَنَّهُ لَا بَيْعَ فِيهِ بَلْ هُوَ إعْطَاءٌ بِالْقِيمَةِ، وَلَا بُعْدَ فِي أَنْ يَكُونَ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ التَّفْضِيلَ بِنَاءً عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ الدَّلِيلِ، هَذَا إذَا أَرَادَ بِالْكِتَابِ الْهِدَايَةَ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْقُدُورِيُّ فَالظَّاهِرُ مِنْهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ كَمَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِنَاءً عَلَى مَا ذُكِرَ، وَفِي قَوْلِهِ وَرُدَّ الْفَضْلُ إشَارَةً إلَى نَفْيِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَنَّ جُبْرَانَ مَا بَيْنَ السِّنِينَ مُقَدَّرٌ عِنْدَهُ بِشَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ وَجَبَ فِي إبِلِهِ بِنْتُ لَبُونٍ فَلَمْ يَجِدْ الْمُصَدِّقُ إلَّا حِقَّةً أَخَذَهَا وَرَدَّ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَمَا اسْتَيْسَرَتَا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا بِنْتَ مَخَاضٍ أَخَذَهَا وَأَخَذَ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَمَا اسْتَيْسَرَتَا عَلَيْهِ» وَعِنْدَنَا ذَلِكَ بِحَسَبِ الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ، وَإِنَّمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام ذَلِكَ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ مَا بَيْنَ السِّنِينَ فِي زَمَانِهِ كَانَ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَا أَنَّهُ تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ، وَكَيْفَ ذَلِكَ وَرُبَّمَا يُؤَدِّي إلَى الْإِضْرَارِ بِالْفُقَرَاءِ أَوْ الْإِجْحَافِ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، لِأَنَّهُ إذَا أَخَذَ الْحِقَّةَ وَرَدَّ شَاتَيْنِ فَرُبَّمَا تَكُونُ قِيمَتُهُمَا قِيمَةَ الْحِقَّةِ فَيَصِيرُ تَارِكًا لِلزَّكَاةِ عَلَيْهِ مَعْنًى وَهُوَ إضْرَارٌ بِالْفُقَرَاءِ، وَإِذَا أَخَذَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَشَاتَيْنِ فَقَدْ تَكُونُ قِيمَتُهَا قِيمَةَ بِنْتِ اللَّبُونِ فَيَكُونُ آخِذًا لِلزَّكَاةِ مِنْهَا وَابْنَةُ الْمَخَاضِ تَكُونُ زِيَادَةً وَفِيهِ إجْحَافٌ بِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ
قَالَ (وَيَجُوزُ دَفْعُ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ) أَدَاءُ الْقِيمَةِ مَكَانَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الزَّكَوَاتِ
وَالنَّذْرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ اتِّبَاعًا لِلْمَنْصُوصِ كَمَا فِي الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا. وَلَنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَدَاءِ إلَى الْفَقِيرِ إيصَالًا لِلرِّزْقِ الْمَوْعُودِ إلَيْهِ فَيَكُونُ إبْطَالًا لِقَيْدِ الشَّاةِ
وَالصَّدَقَاتِ وَالْعُشُورِ وَالْكَفَّارَاتِ جَائِزٌ، لَا عَلَى أَنَّ الْقِيمَةَ بَدَلٌ عَنْ الْوَاجِبِ لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْبَدَلِ إنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ وَأَدَاءُ الْقِيمَةِ مَعَ وُجُودِ عَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي مِلْكِهِ جَائِزٌ فَكَانَ الْوَاجِبُ عِنْدَنَا أَحَدَهُمَا، إمَّا الْعَيْنُ أَوْ الْقِيمَةُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ اتِّبَاعًا لِلْمَنْصُوصِ) وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» كَمَا فِي الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا.
وَقَوْلُهُ (إيصَالًا لِلرِّزْقِ الْمَوْعُودِ) مَفْعُولٌ لَهُ وَخَبَرُ إنَّ مَحْذُوفٌ: أَيْ ثَابِتٌ أَوْ نَحْوُهُ. وَرَوَى إيصَالٌ فَهُوَ خَبَرُ إنَّ، فَعَلَى النُّسْخَةِ الْأُولَى تَقْرِيرُ كَلَامِهِ الْأَمْرُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ إلَى الْفَقِيرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} لِإِيصَالِ الرِّزْقِ الْمَوْعُودِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ثَابِتٌ فِي الْوَاقِعِ، وَالْأَمْرُ بِذَلِكَ يُبْطِلُ تَعْيِينَ الشَّاةِ، فَالثَّابِتُ فِي الْوَاقِعِ يُبْطِلُ تَعْيِينَ الشَّاةِ، أَمَّا ثُبُوتُ ذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ أَرْزَاقَهُمْ ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِإِيتَاءِ مَا أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ إنْجَازًا لِلْوَعْدِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَتَانِ، وَأَمَّا أَنَّ الْأَمْرَ بِذَلِكَ يُبْطِلُ تَعْيِينَ الشَّاةِ فَلِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ قُرْبَةٌ أَلْبَتَّةَ.
وَوَجْهُ الْقُرْبَةِ فِي الزَّكَاةِ سَدُّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ وَهِيَ مَعَ كَثْرَتِهَا وَاخْتِلَافِهَا لَا تَنْسَدُّ بِعَيْنِ الشَّاةِ
وَصَارَ كَالْجِزْيَةِ، بِخِلَافِ الْهَدَايَا لِأَنَّ الْقُرْبَةَ فِيهَا إرَاقَةُ الدَّمِ وَهُوَ لَا يُعْقَلُ. وَوَجْهُ الْقُرْبَةِ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ سَدُّ خُلَّةِ الْمُحْتَاجِ وَهُوَ مَعْقُولٌ.
(وَلَيْسَ فِي الْعَوَامِلِ وَالْحَوَامِلِ وَالْعَلُوفَةِ صَدَقَةٌ) خِلَافًا لِمَالِكٍ. لَهُ ظَوَاهِرُ النُّصُوصِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ فِي الْحَوَامِلِ وَالْعَوَامِلِ وَلَا فِي الْبَقَرِ الْمُثِيرَةِ صَدَقَةٌ» ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمَالُ النَّامِي
فَكَانَ إذْنًا بِالِاسْتِبْدَالِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ، وَفِي ذَلِكَ إبْطَالُ قَيْدِ الشَّاةِ وَيَحْصُلُ بِهِ الرِّزْقُ الْمَوْعُودُ وَغَيْرُهُ، وَعَلَى الثَّانِيَةِ الْأَمْرُ بِالْأَدَاءِ إلَى الْفَقِيرِ إيصَالٌ لِلرِّزْقِ الْمَوْعُودِ إلَيْهِ وَإِيصَالُ ذَلِكَ إلَيْهِ إبْطَالٌ لِقَيْدِ الشَّاةِ لِأَنَّ الرِّزْقَ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي أَكْلِ اللَّحْمِ فَكَانَ إذْنًا فِي الِاسْتِبْدَالِ إلَخْ، وَكَانَ هَذَا كَالْجِزْيَةِ فِي أَنَّهَا وَجَبَتْ لِكِفَايَةِ الْمُقَاتِلَةِ، وَيَجُوزُ فِيهَا دَفْعُ الْقِيمَةِ بِالْإِجْمَاعِ، بِخِلَافِ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا فَإِنَّ الْقُرْبَةَ فِيهَا إرَاقَةُ الدَّمِ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ بَعْدَ الذَّبْحِ قَبْلَ التَّصَدُّقِ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ وَهِيَ لَيْسَتْ بِمُتَقَوَّمَةٍ وَلَا مَعْقُولَةِ الْمَعْنَى.
قَالَ (وَلَيْسَ فِي الْعَوَامِلِ وَالْحَوَامِلِ وَالْعَلُوفَةِ صَدَقَةٌ) الْعَلُوفَةُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ مَا يَعْلِفُونَ مِنْ الْغَنَمِ وَغَيْرِهِ، الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ سَوَاءٌ، مِنْ عَلَفَ الدَّابَّةَ أَطْعَمَهَا الْعَلَفَ، وَالْعُلُوفَةُ بِالضَّمِّ جَمْعُ عَلَفٍ. قَوْلُهُ (لَهُ ظَوَاهِرُ النُّصُوصِ) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وَقَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «خُذْ مِنْ الْإِبِلِ إبِلًا، وَفِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ كَثْرَةٌ. وَلَنَا حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَيْسَ فِي الْإِبِلِ الْحَوَامِلِ صَدَقَةٌ» وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ» وَحَدِيثُ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْمُثِيرَةِ صَدَقَةٌ» وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَجَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذٍ رضي الله عنهم، وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمَالُ النَّامِي وَهَذِهِ الْأَمْوَالُ لَيْسَتْ بِنَامِيَةٍ لِأَنَّ دَلِيلَ النَّمَاءِ الْإِسَامَةُ أَوْ الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ وَالْفَرْضُ عَدَمُهُمَا، وَإِذَا انْتَفَى السَّبَبُ انْتَفَى الْحُكْمُ.
وَدَلِيلُهُ الْإِسَامَةُ أَوْ الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَلِأَنَّ فِي الْعَلُوفَةِ تَتَرَاكَمُ الْمُؤْنَةُ فَيَنْعَدِمُ النَّمَاءُ مَعْنًى. ثُمَّ السَّائِمَةُ هِيَ الَّتِي تَكْتَفِي بِالرَّعْيِ فِي أَكْثَرِ الْحَوْلِ حَتَّى لَوْ عَلَفَهَا نِصْفَ الْحَوْلِ أَوْ أَكْثَرَ كَانَتْ عَلُوفَةً لِأَنَّ الْقَلِيلَ تَابِعٌ لِلْأَكْثَرِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ فِي الْعَلُوفَةِ) أَيْ وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمَالُ النَّامِي، وَلَا نَمَاءَ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ تَتَرَاكَمُ فِيهَا فَيَنْعَدِمُ النَّمَاءُ مَعْنًى. وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّكُمْ أَبْطَلْتُمْ إطْلَاقَ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ عِنْدَكُمْ لِكَوْنِهِ نَسْخًا وَحَمَلْتُمْ الْمُطْلَقَ فِي الْأَخْبَارِ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَهُوَ أَيْضًا لَا يَجُوزُ عِنْدَكُمْ. وَالثَّانِي أَنَّ دَلِيلَ النَّمَاءِ الْإِسَامَةُ أَوْ الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ كَمَا ذَكَرْتُمْ، وَتَرَاكُمُ الْمُؤْنَةِ لَا يُبْطِلُ النَّمَاءَ بِالْإِعْدَادِ لِلتِّجَارَةِ، فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ وَعَلَفَهَا جَمِيعَ السَّنَةِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِي آخِرِ السَّنَةِ فَمَا بَالُهُ أَبْطَلَ النَّمَاءَ بِالْإِسَامَةِ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِطْلَاقَ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ بِالْإِجْمَاعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مُطْلَقٌ عَنْ حَوَلَانِ الْحَوْلِ وَلَا يَجِبُ إلَّا بِهِ فَكَانَتْ الْآيَةُ لِبَيَانِ وُجُوبِ الْأَخْذِ وَهِيَ فِيمَا عَدَاهُ مُجْمَلٌ لَحِقَ الْأَخْبَارَ بَيَانًا لِذَلِكَ، وَلَمْ يُحْمَلْ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَإِنَّمَا جَعَلْنَا الْمُقَيَّدَ مُتَأَخِّرًا لِئَلَّا يَلْزَمَ النُّسَخُ مَرَّتَيْنِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ هُوَ الْإِطْلَاقُ لِكَوْنِهِ عَدَمًا، فَلَوْ قَدَّمْنَا الْمُقَيَّدَ نَسَخَ الْإِطْلَاقَ، ثُمَّ الْمُطْلَقُ يَنْسَخُهُ فَعَكَسْنَاهُ دَفْعًا لِذَلِكَ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْإِسَامَةَ وَالْعَلَفَ مُتَضَادَّانِ، فَإِذَا وُجِدَ الْعَلَفُ انْتَفَى الْإِسَامَةُ وَلَا كَذَلِكَ التِّجَارَةُ (ثُمَّ السَّائِمَةُ هِيَ الَّتِي تَكْتَفِي بِالرَّعْيِ فِي أَكْثَرِ الْحَوْلِ حَتَّى لَوْ عَلَفَهَا نِصْفَ الْحَوْلِ أَوْ أَكْثَرَ كَانَتْ عَلُوفَةً) أَمَّا فِي الْأَكْثَرِ فَلِأَنَّ الْقَلِيلَ تَابِعٌ لِلْأَكْثَرِ لِأَنَّ أَصْحَابَ السَّوَائِمِ لَا يَجِدُونَ بُدًّا مِنْ أَنْ يَعْلِفُوا سَوَائِمَهُمْ فِي وَقْتٍ كَبَرْدٍ وَثَلْجٍ كَمَا فِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ، وَأَمَّا فِي النِّصْفِ
(وَلَا يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ خِيَارَ الْمَالِ وَلَا رَذَالَتَهُ وَيَأْخُذُ الْوَسَطَ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تَأْخُذُوا مِنْ حَزَرَاتِ أَمْوَالِ النَّاسِ» أَيْ كَرَائِمَهَا «وَخُذُوا مِنْ حَوَاشِي أَمْوَالِهِمْ» أَيْ أَوْسَاطَهَا وَلِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ.
قَالَ (وَمَنْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ فَاسْتَفَادَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ مِنْ جِنْسِهِ ضَمَّهُ إلَيْهِ وَزَكَّاهُ بِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَضُمُّ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي حَقِّ
فَلِأَنَّهُ وَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِ سَبَبِ الْإِيجَابِ فَلَا تَجِبُ، فَلَا تُرَجَّحُ جِهَةُ الْوُجُوبِ بِجِهَةِ الْعِبَادَةِ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ ثُبُوتِ السَّبَبِ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: ثُمَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ الْإِسَامَةِ فِي حَقِّ إيجَابِ زَكَاةِ السَّوَائِمِ إنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَتْ الْإِسَامَةُ لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالتَّسْمِينِ، وَأَمَّا الْإِسَامَةُ لِلتِّجَارَةِ فَلَا يَجِبُ فِيهَا زَكَاةُ السَّائِمَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْإِسَامَةِ لِلْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ خِيَارَ الْمَالِ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (مِنْ حَزَرَاتِ أَمْوَالِ النَّاسِ) الْحَزَرَاتُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَتَحَاتِ جَمْعُ حَزَرَةٍ بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ خِيَارُ الْمَالِ، وَالْحَاشِيَةُ صِغَارُ الْإِبِلِ لَا كِبَارَ فِيهَا. وَذَكَرَ فِي الْمُغْرِبِ: خُذْ مِنْ حَوَاشِي أَمْوَالِهِمْ: أَيْ مِنْ عُرْضِهَا: يَعْنِي مِنْ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِهَا مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ جَمْعُ حَاشِيَةِ الثَّوْبِ وَغَيْرِهِ لِجَانِبِهِ، وَتَفْسِيرُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ أَيْ أَوْسَاطُهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَهُوَ الْحَقُّ لِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ.
قَالَ (وَمَنْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ) الْمُسْتَفَادُ عَلَى ضَرْبَيْنِ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ وَمِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ، وَالثَّانِي لَا يُضَمُّ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا إذَا كَانَ لَهُ إبِلٌ فَاسْتَفَادَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ بَقَرًا أَوْ غَنَمًا وَإِنَّمَا يُسْتَأْنَفُ لَهُ حَوْلٌ بِذَاتِهِ، وَالْأَوَّلُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا بِسَبَبِ الْأَصْلِ كَالْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ أَوْ بِسَبَبٍ مَقْصُودٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ يُضَمُّ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ رَجُلٍ مِقْدَارُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ سَائِمَةٍ فَاسْتَفَادَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ ضَمَّهَا وَزَكَّى كُلَّهَا عِنْدَ تَمَّامِ الْحَوْلِ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُسْتَأْنَفُ لَهُ
الْمِلْكِ فَكَذَا فِي وَظِيفَتِهِ، بِخِلَافِ الْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ فِي الْمِلْكِ حَتَّى مُلِكَتْ بِمِلْكِ الْأَصْلِ. وَلَنَا أَنَّ الْمُجَانَسَةَ هِيَ الْعِلَّةُ فِي الْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا يَتَعَسَّرُ الْمَيْزُ فَيَعْسُرُ اعْتِبَارُ الْحَوْلِ لِكُلِّ مُسْتَفَادٍ، وَمَا شَرْطُ الْحَوْلِ إلَّا
حَوْلٌ جَدِيدٌ مِنْ حِينِ مَلَكَهُ، فَإِذَا تَمَّ الْحَوْلُ وَجَبَ فِيهِ الزَّكَاةُ نِصَابًا كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنَّهُ أَصْلٌ فِي حَقِّ الْمِلْكِ لِحُصُولِهِ بِسَبَبٍ غَيْرِ سَبَبِ الْأَصْلِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَصْلًا فِي الْوَظِيفَةِ كَالْمُسْتَفَادِ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ (بِخِلَافِ الْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْمِلْكِ حَتَّى مُلِكَتْ بِمِلْكِ الْأَصْلِ) دُونَ سَبَبٍ مَقْصُودٍ (وَلَنَا أَنَّ الْمُجَانَسَةَ هِيَ الْعِلَّةُ فِي الْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ لِأَنَّ عِنْدَهَا) يَعْنِي عِنْدَ الْمُجَانَسَةِ (يَتَعَسَّرُ الْمَيْزُ) لِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ مِمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهُ لِكَثْرَةِ أَسْبَابِهِ (فَيَعْسُرُ اعْتِبَارُ الْحَوْلِ لِكُلِّ مُسْتَفَادٍ) لِأَنَّ مُرَاعَاتَهُ فِيهِ إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ ضَبْطِ كَمِّيَّتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَزَمَانِ تَجَدُّدِهِ وَفِي ذَلِكَ حَرَجٌ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ النِّصَابُ دَرَاهِمَ وَهُوَ صَاحِبُ غَلَّةٍ يَسْتَفِيدُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا أَوْ دِرْهَمَيْنِ، وَالْحَوْلُ مَا شُرِطَ إلَّا تَيْسِيرًا، فَلَوْ شَرَطْنَا لَهُ حَوْلًا جَدِيدًا عَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عِلَّةَ الضَّمِّ فِي الْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ الْمُجَانَسَةُ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ مَرَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» وَعَلَى تَقْدِيرِ الضَّمِّ يَجِبُ الزَّكَاةُ بِلَا حَوْلٍ. أُجِيبَ بِأَنَّا مَا أَسْقَطْنَا الْحَوْلَ وَإِنَّمَا جَعَلْنَا حَوَلَانَ الْحَوْلِ عَلَى الْأَصْلِ حَوَلَانًا عَلَى الْمُسْتَفَادِ تَيْسِيرًا. فَإِنْ عُورِضَ بِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ بِطَرِيقِ السِّرَايَةِ فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. قُلْنَا: مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ قَدْ ثَبَتَ فِي الْأُمَّهَاتِ بِالْأَوْلَادِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَتْ لَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ شَاةً فَوَلَدَتْ وَاحِدَةٌ قَبْلَ الْحَوْلِ فَتَمَّ الْحَوْلُ وَجَبَ عَلَيْهِ شَاتَانِ، فَكَانَ
لِلتَّيْسِيرِ.
قَالَ (وَالزَّكَاةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي النِّصَابِ دُونَ الْعَفْوِ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ فِيهِمَا: حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْعَفْوُ وَبَقِيَ النِّصَابُ بَقِيَ كُلُّ الْوَاجِبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يَسْقُطُ بِقَدْرِهِ. لِمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ وَالْكُلُّ نِعْمَةٌ. وَلَهُمَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ وَلَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ عَشْرًا» وَهَكَذَا قَالَ فِي كُلِّ نِصَابٍ، وَنَفَى الْوُجُوبَ عَنْ الْعَفْوِ، وَلِأَنَّ الْعَفْوَ تَبَعٌ لِلنِّصَابِ، فَيُصْرَفُ الْهَلَاكُ أَوَّلًا إلَى التَّبَعِ كَالرِّبْحِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُصْرَفُ الْهَلَاكُ بَعْدَ الْعَفْوِ إلَى النِّصَابِ الْأَخِيرِ ثُمَّ إلَى الَّذِي يَلِيهِ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ النِّصَابُ الْأَوَّلُ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ تَابِعٌ. وَعِنْدَ
الْوُجُوبُ عَلَى الْأُمِّ وَغَيْرِهَا بِسَبَبِ الْوَلَدِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِ السِّرَايَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَالزَّكَاةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) صُورَتُهُ ظَاهِرَةٌ فَإِنَّ مَنْ كَانَ لَهُ تِسْعٌ مِنْ الْإِبِلِ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَهَلَكَ مِنْهَا أَرْبَعٌ فَعَلَيْهِ فِي الْبَاقِي شَاةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَتْسَاعِ شَاةٍ، وَكَذَلِكَ الدَّلِيلُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ (وَقَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْعَفْوَ) يَعْنِي أَنَّ الْعَفْوَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ النِّصَابِ فَكَانَ تَابِعًا، وَكُلُّ مَالٍ اشْتَمَلَ عَلَى أَصْلٍ وَتَبَعٍ ثُمَّ هَلَكَ مِنْهُ شَيْءٌ صُرِفَ الْهَلَاكُ إلَى التَّبَعِ دُونَ الْأَصْلِ، كَمَالِ الْمُضَارَبَةِ إذَا كَانَ فِيهِ رِبْحٌ فَهَلَكَ مِنْهُ شَيْءٌ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ إلَى الرِّبْحِ دُونَ رَأْسِ الْمَالِ بِالِاتِّفَاقِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِكَوْنِ الْهَلَاكِ يُصْرَفُ إلَى التَّبَعِ (قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُصْرَفُ الْهَلَاكُ بَعْدَ الْعَفْوِ إلَى النِّصَابِ الْأَخِيرِ إلَخْ)
أَبِي يُوسُفَ يُصْرَفُ إلَى الْعَفْوِ أَوَّلًا ثُمَّ إلَى النِّصَابِ شَائِعًا.
(وَإِذَا أَخَذَ الْخَوَارِجُ الْخَرَاجَ وَصَدَقَةَ السَّوَائِمِ لَا يُثَنِّي عَلَيْهِمْ)
وَبَيَانُ ذَلِكَ مَا إذَا كَانَ لِرَجُلٍ أَرْبَعُونَ مِنْ الْإِبِلِ فَهَلَكَ مِنْهَا عِشْرُونَ فَفِي الْبَاقِي أَرْبَعُ شِيَاهٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجِبُ فِيهَا عِشْرُونَ جُزْءًا مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ جُزْءًا مِنْ بِنْتِ لَبُونً، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجِبُ نِصْفُ بِنْتِ لَبُونٍ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ مُتَعَلِّقٌ بِالْكُلِّ فَإِذَا هَلَكَ النِّصْفُ سَقَطَ نِصْفُ الْوَاجِبِ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَرْبَعَ عَفْوٌ وَبَقِيَ الْوَاجِبُ فِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ فَيَبْقَى الْوَاجِبُ بِقَدْرِ الْبَاقِي، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْهَالِكَ يُجْعَلُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ تَابِعٌ وَالنِّصَابُ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَصْلُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَجَّلَ الزَّكَاةَ عَنْ نُصُبٍ كَثِيرَةٍ وَفِي مِلْكِهِ نِصَابٌ وَاحِدٌ جَازَ فَثَبَتَ أَنَّ النِّصَابَ الْأَوَّلَ أَصْلٌ وَمَا زَادَ كَالتَّابِعِ، فَإِذَا هَلَكَ شَيْءٌ صُرِفَ الْهَلَاكُ إلَى مَا هُوَ التَّابِعُ فَتَجِبُ زَكَاةُ الْعِشْرِينَ وَذَلِكَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ.
قَالَ (إذَا أَخَذَ الْخَوَارِجُ الْخَرَاجَ) الْخَوَارِجُ: قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْعَدْلِ بِحَيْثُ يَسْتَحِلُّونَ قَتْلَ الْعَادِلِ وَمَالَهُ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَدَانُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: مَنْ أَذْنَبَ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً فَقَدْ كَفَرَ وَحَلَّ قَتْلُهُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ، وَتَمَسَّكُوا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} فَإِذَا ظَهَرَ هَؤُلَاءِ عَلَى بَلْدَةٍ فِيهَا أَهْلُ الْعَدْلِ فَأَخَذُوا الْخَرَاجَ (وَصَدَقَةَ السَّوَائِمِ) ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْإِمَامُ (لَا يُثَنِّي عَلَيْهِمْ) أَيْ لَا يَأْخُذُ مِنْهُمْ ثَانِيًا
لِأَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يَحْمِهِمْ وَالْجِبَايَةُ بِالْحِمَايَةِ، وَأَفْتَوْا بِأَنْ يُعِيدُوهَا دُونَ الْخَرَاجِ لِأَنَّهُمْ مَصَارِفُ الْخَرَاجِ لِكَوْنِهِمْ مُقَاتِلَةً، وَالزَّكَاةُ مَصْرِفُهَا الْفُقَرَاءُ وَهُمْ لَا يَصْرِفُونَهَا إلَيْهِمْ. وَقِيلَ إذَا نَوَى بِالدَّفْعِ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِمْ سَقَطَ عَنْهُ، وَكَذَا الدَّفْعُ إلَى كُلٍّ جَائِرٌ لِأَنَّهُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ التَّبِعَاتِ فُقَرَاءُ،
لِأَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يَحْمِهِمْ وَالْجِبَايَةَ بِالْحِمَايَةِ) كَتَبَ عُمَرُ رضي الله عنه إلَى عَامِلِهِ: إنْ كُنْت لَا تَحْمِهِمْ فَلَا تَجْبِهِمْ مِنْ جَبَى الْخَرَاجَ جِبَايَةً إذَا جَمَعَهُ (وَأَفْتَوْا بِأَنْ يُعِيدَهَا) يَعْنِي الصَّدَقَةَ (دُونَ الْخَرَاجِ) وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الْأَعْمَشِ (لِأَنَّهُمْ مَصَارِفُ الْخَرَاجِ لِكَوْنِهِمْ مُقَاتِلَةً) إذَا ظَهَرَ عَدُوٌّ ذَبُّوا عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ،
وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ.
(وَلَيْسَ عَلَى الصَّبِيِّ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ فِي سَائِمَتِهِ شَيْءٌ وَعَلَى الْمَرْأَةِ مِنْهُمْ مَا عَلَى الرَّجُلِ) لِأَنَّ الصُّلْحَ قَدْ جَرَى عَلَى ضِعْفِ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَيُؤْخَذُ مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ صِبْيَانِهِمْ
وَأَمَّا الصَّدَقَاتُ فَمَصْرِفُهَا الْفُقَرَاءُ وَهُمْ لَا يَصْرِفُونَهَا إلَيْهِمْ. وَقِيلَ إذَا نَوَى بِالدَّفْعِ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِمْ يَسْقُطُ، وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ وَكَذَلِكَ الدَّفْعُ إلَى كُلِّ جَائِزٍ.
قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ: وَكَذَلِكَ السُّلْطَانُ إذَا صَادَرَ رَجُلًا وَأَخَذَ مِنْهُ أَمْوَالًا فَنَوَى صَاحِبُ الْمَالِ الزَّكَاةَ عِنْدَ الدَّفْعِ سَقَطَتْ عَنْهُ الزَّكَاةُ لِأَنَّهُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ التَّبِعَاتِ فُقَرَاءُ، فَإِنَّهُمْ إذَا رَدُّوا أَمْوَالَهُمْ إلَى مَنْ أَخَذُوهَا مِنْهُمْ لَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، وَالتَّبِعَاتُ الْحُقُوقُ الَّتِي عَلَيْهِمْ كَالدُّيُونِ وَالْغُصُوبُ، وَالتَّبِعَةُ مَا اُتُّبِعَ بِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ) أَيْ الْإِفْتَاءُ بِإِعَادَةِ صَدَقَةِ السَّوَائِمِ، وَالْعُشُورِ أَحْوَطُ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ خُرُوجًا عَنْ عُهْدَةِ الزَّكَاةِ بِيَقِينٍ. قِيلَ كَأَنَّ فِي قَوْلِهِ وَصَدَقَةَ السَّوَائِمِ إشَارَةً إلَى مَا نَقَلَ التُّمُرْتَاشِيُّ عَنْ الشَّهِيدِ أَنَّ هَذَا فِي صِفَةِ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ أَمَّا إذَا صَادَرَهُ السُّلْطَانُ وَنَوَى هُوَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ فَعَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ يَجُوزُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلظَّالِمِ وِلَايَةُ أَخْذِ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الْعُمُومُ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَيْسَ عَلَى الصَّبِيِّ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ فِي سَائِمَتِهِ شَيْءٌ) وَبَنُو تَغْلِبَ قَوْمٌ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ كَانُوا بِقُرْبِ الرُّومِ، فَلَمَّا أَرَادَ عُمَرُ رضي الله عنه أَنْ يُوَظِّفَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ أَبَوْا وَقَالُوا: نَحْنُ مِنْ الْعَرَبِ نَأْنَفُ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ وَظَّفْت عَلَيْنَا
(وَإِنْ هَلَكَ الْمَالُ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَضْمَنُ إذَا هَلَكَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الذِّمَّةِ فَصَارَ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَلِأَنَّهُ مَنَعَهُ بَعْدَ الطَّلَبِ
الْجِزْيَةَ لَحِقْنَا بِأَعْدَائِك مِنْ الرُّومِ، وَإِنْ رَأَيْت أَنْ تَأْخُذَ مِنَّا مَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ وَتُضَعِّفَهُ عَلَيْنَا فَعَلْنَا ذَلِكَ، فَشَاوَرَ عُمَرُ الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ وَكَانَ الَّذِي يَسْعَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كُرْدُوسٌ التَّغْلِبِيُّ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صَالِحْهُمْ فَإِنَّك إنْ تُنَاجِزْهُمْ لَمْ تُطِقْهُمْ، فَصَالَحَهُمْ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ وَقَالَ: هَذِهِ جِزْيَةٌ وَسَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ، فَوَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ ضِعْفَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِهَذَا الصُّلْحِ بَعْدَهُ عُثْمَانُ رضي الله عنه فَلَزِمَ أَوَّلَ الْأُمَّةِ وَآخِرَهُمْ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَمَا فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ نِسَائِهِمْ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْجِزْيَةِ وَلَا جِزْيَةَ عَلَى النِّسَاءِ. وَوَجْهُ الظَّاهِرِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ بَدَلُ الصُّلْحِ، وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِيهِ سَوَاءٌ لِأَنَّهُمْ صَالَحُوا عَلَى أَنْ يُضَعِّفَ عَلَيْهِمْ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالصَّدَقَةُ تُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ دُونَ الصِّبْيَانِ فَكَذَا فِي حَقِّهِمْ.
قَالَ (وَإِنْ هَلَكَ الْمَالُ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ) إنْ هَلَكَ الْمَالُ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ سَقَطَتْ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ هَلَكَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ لَمْ تَسْقُطْ، وَالتَّمَكُّنُ مِنْهُ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ بِالظَّفَرِ بِأَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَفِي الظَّاهِرِ بِالظَّفَرِ بِالسَّاعِي فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ تَقَرَّرَ فِي الذِّمَّةِ بِحُصُولِ الْوُسْعِ عَلَى الْأَدَاءِ، وَمَنْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ لَا يَبْرَأُ عَنْهُ بِالْعَجْزِ عَنْ الْأَدَاءِ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْحَجِّ وَدُيُونِ الْعِبَادِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ عِنْدَهُ تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ وَعِنْدَنَا فِي الْعَيْنِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ مَنَعَهُ بَعْدَ الطَّلَبِ) دَلِيلٌ آخَرُ، وَهَذَا لِأَنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ طَلَبَ بِالْخِطَابِ، وَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ الْأَدَاءِ وَلَمْ يُؤَدِّ كَانَ الْهَلَاكُ مَنْعًا بَعْدَ الطَّلَبِ، وَالْمَنْعُ بَعْدَ طَلَبِ
فَصَارَ كَالِاسْتِهْلَاكِ. وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ تَحْقِيقًا لِلتَّيْسِيرِ فَيَسْقُطُ بِهَلَاكِ مَحَلِّهِ كَدَفْعِ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ يَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ وَالْمُسْتَحِقُّ فَقِيرٌ يُعِينُهُ الْمَالِكُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْهُ الطَّلَبُ، وَبَعْدَ طَلَبِ
صَاحِبِ الْحَقِّ يُوجِبُ الضَّمَانَ (فَكَانَ كَالِاسْتِهْلَاكِ وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ) لَيْسَ فِي الذِّمَّةِ بَلْ هُوَ (جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ) عَمَلًا بِكَلِمَةٍ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» (وَتَحْقِيقًا لِلتَّيْسِيرِ) فَإِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ بِقُدْرَةٍ مُيَسِّرَةٍ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ. وَمِنْ التَّيْسِيرِ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ مِنْ النِّصَابِ إذْ الْإِنْسَانُ إنَّمَا يُخَاطَبُ بِأَدَاءِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنْ هَذَا النِّصَابِ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ مَالٌ سِوَاهُ، لَا سِيَّمَا السُّكَّانُ فِي الْمَفَاوِزِ فَإِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى تَحْصِيلِ شَيْءٍ مِنْ النُّقُودِ لِبُعْدِهِمْ عَنْ الْعُمْرَانِ. فَإِذَا كَانَ جُزْءًا مِنْهُ كَانَ النِّصَابُ مَحَلَّهُ (فَيَسْقُطُ بِهَلَاكِ مَحَلِّهِ كَدَفْعِ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ) وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا سَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَغَيْرِهَا لِأَنَّهَا تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ، وَعُورِضَ بِأَنَّ دَفْعَ الْقِيمَةِ يَجُوزُ عِنْدَكُمْ، وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ جُزْءًا مِنْ النِّصَابِ لَمَا جَازَ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَيْسَتْ بِجُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ بِأَمْرٍ آخَرَ وَهُوَ الْإِذْنُ بِالِاسْتِدْلَالِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمُسْتَحِقُّ فَقِيرٌ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ مُنِعَ بَعْدَ الطَّلَبِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ طُلِبَ فَقِيرٌ بِالْأَدَاءِ وَلَمْ يُؤَدِّ حَتَّى هَلَكَ الْمَالُ لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ أَيْضًا فَضْلًا مَا إذَا لَمْ يُطَالِبْهُ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلطَّلَبِ فَقِيرٌ (يُعِينُهُ الْمَالِكُ) لَا كُلُّ فَقِيرٍ لِأَنَّ لِلْمَالِكِ الرَّأْيَ فِي الصَّرْفِ إلَى مَنْ شَاءَ مِنْ الْفُقَرَاءِ (وَلَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْهُ الطَّلَبُ) فَلَا يَكُونُ ثَمَّةَ مَنْعٌ بَعْدَ الطَّلَبِ، وَفِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّ الْفَقِيرَ مَصْرِفٌ عِنْدَنَا لَا مُسْتَحِقٌّ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ إلَّا إذَا حُمِلَ كَلَامُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُسْتَحِقُّ لِلطَّلَبِ وَفِيهِ ضَعْفٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَالسَّاعِي مُتَعَيِّنٌ لِلطَّلَبِ فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ بَعْدَ طَلَبِهِ حَتَّى هَلَكَ وَجَبَ أَنْ يَضْمَنَ وَلَمْ يَقُولُوا بِهِ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَبَعْدَ طَلَبِ
السَّاعِي قِيلَ يَضْمَنُ وَقِيلَ لَا يَضْمَنُ لِانْعِدَامِ التَّفْوِيتِ، وَفِي الِاسْتِهْلَاكِ وُجِدَ التَّعَدِّي، وَفِي هَلَاكِ الْبَعْضِ يَسْقُطُ بِقَدْرِهِ اعْتِبَارًا لَهُ بِالْكُلِّ.
السَّاعِي قِيلَ يَضْمَنُ) وَهُوَ قَوْلُ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا لِكَوْنِهِ مُتَعَيِّنًا لِلطَّلَبِ فَالْمَنْعُ يَكُونُ تَفْوِيتًا كَمَا فِي الِاسْتِهْلَاكِ (وَقِيلَ لَا يَضْمَنُ) وَهُوَ قَوْلُ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ. قِيلَ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِعَدَمِ التَّفْوِيتِ، فَإِنَّ الْمَنْعَ لَيْسَ بِتَفْوِيتٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَنْعُهُ لِاخْتِيَارِ الْأَدَاءِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ، بِخِلَافِ الِاسْتِهْلَاكِ فَإِنَّهُ قَدْ وُجِدَ مِنْهُ التَّعَدِّي عَلَى مَحَلٍّ مَشْغُولٍ بِحَقِّ الْغَيْرِ بِالْإِتْلَافِ فَجُعِلَ الْمَحَلُّ قَائِمًا زَجْرًا لَهُ، وَنَظَرًا لِصَاحِبِ الْحَقِّ إذْ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ كَذَلِكَ لَمَا وَصَلَ إلَى الْفَقِيرِ شَيْءٌ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لَمْ يَعْجِزْ أَنْ يَصْرِفَ النِّصَابَ إلَى حَاجَتِهِ بِلَا ضَمَانٍ. وَقَوْلُهُ (وَفِي هَلَاكِ الْبَعْضِ يَسْقُطُ بِقَدْرِهِ) أَيْ بِقَدْرِ الْهَالِكِ (اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ) فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الزَّكَاةَ وَاجِبَةٌ بِقُدْرَةٍ مُيَسِّرَةٍ بِاشْتِرَاطِ النِّصَابِ
(وَإِنْ قَدَّمَ الزَّكَاةَ عَلَى الْحَوْلِ وَهُوَ مَالِكٌ لِلنِّصَابِ جَازَ) لِأَنَّهُ أَدَّى بَعْدَ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَيَجُوزُ كَمَا إذَا كَفَّرَ بَعْدَ
وَمَا وَجَبَ بِصِفَةٍ لَا يَبْقَى بِدُونِهَا وَقَدْ زَالَ الْيُسْرُ بِفَوَاتِ بَعْضِ النِّصَابِ فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَبْقَى عَلَيْهِ شَيْءٌ كَابْتِدَاءِ الْوُجُوبِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِبَعْضِ النِّصَابِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْيُسْرَ فِيهَا لَمْ يَكُنْ مِنْ حَيْثُ اشْتِرَاطُ النِّصَابِ بَلْ مِنْ حَيْثُ اشْتِرَاطُ صِفَةِ النَّمَاءِ لِيَكُونَ الْمُؤَدَّى جُزْءًا مِنْ الْمَالِ النَّامِي لِئَلَّا يُنْتَقَضَ بِهِ أَصْلُ الْمَالِ، وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ أَصْلُ النِّصَابِ فِي الِابْتِدَاءِ لِيَصِيرَ الْمُكَلَّفُ بِهِ أَهْلًا لِلْإِغْنَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ الْغَنِيِّ، وَالشَّرْعُ قَدَّرَ الْغِنَى بِالنِّصَابِ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ عِنْدَ هَلَاكِ الْكُلِّ لِفَوَاتِ النَّمَاءِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْيُسْرُ، وَإِذَا هَلَكَ الْبَعْضُ بَقِيَ الْيُسْرُ بِبَقَاءِ النَّمَاءِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ فَيَبْقَى بِقِسْطِهِ.
قَوْلُهُ (وَإِنْ قَدَّمَ الزَّكَاةَ عَلَى الْحَوْلِ) أَيْ أَدَّاهَا قَبْلَ حَوْلَانِ الْحَوْلِ (جَازَ) عِنْدَنَا خِلَافًا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لِمَالِكٍ. وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ زُفَرَ بَدَلَ مَالِكٍ لَهُ أَنَّ حَوَلَانَ الْحَوْلِ شَرْطٌ كَالنِّصَابِ، وَتَقْدِيمُ الْمَشْرُوطِ عَلَى الشَّرْطِ لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ قَدَّمَ عَلَى النِّصَابِ. وَلَنَا أَنَّهُ أَدَّى بَعْدَ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ جَائِزٌ كَمَا إذَا صَلَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَصَامَ الْمُسَافِرُ فِي رَمَضَانَ وَأَدَّى الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ، وَحَوَلَانُ الْحَوْلِ شَرْطُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ وَكَلَامُنَا فِي جَوَازِهِ وَصَارَ كَمَا إذَا
الْجُرْحِ، وَفِيهِ خِلَافُ مَالِكٍ
(وَيَجُوزُ التَّعْجِيلُ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ) لِوُجُودِ السَّبَبِ، وَيَجُوزُ لِنُصُبٍ إذَا كَانَ فِي مِلْكِهِ نِصَابٌ وَاحِدٌ خِلَافًا لِزُفَرَ لِأَنَّ النِّصَابَ الْأَوَّلَ هُوَ الْأَصْلُ فِي السَّبَبِيَّةِ وَالزَّائِدُ عَلَيْهِ تَابِعٌ لَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
كَفَّرَ بَعْدَ الْجَرْحِ
(وَيَجُوزُ التَّعْجِيلُ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ) لِأَنَّ مِلْكَ النِّصَابِ سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ حَوْلٍ مَا لَمْ يُنْتَقَصْ، وَجَوَازُ التَّعْجِيلِ بِاعْتِبَارِ تَمَامِ السَّبَبِ، وَفِي ذَلِكَ الْحَوْلُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي سَوَاءٌ (وَيَجُوزُ لِنُصُبٍ إذَا كَانَ فِي مِلْكِهِ نِصَابٌ وَاحِدٌ خِلَافًا لِزُفَرَ) فَإِذَا كَانَ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ فَعَجَّلَ أَرْبَعَ شِيَاهٍ ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ وَفِي مِلْكِهِ عِشْرُونَ مِنْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الْإِبِلِ جَازَ عَنْ الْكُلِّ عِنْدَنَا. وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ الْخَمْسِ لِأَنَّ كُلَّ نِصَابٍ فِي حَقِّ الزَّكَاةِ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ، فَكَانَ التَّعْجِيلُ عَلَى النِّصَابِ الثَّانِي كَالتَّعْجِيلِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَفِي ذَلِكَ تَقْدِيمُ الْحُكْمِ عَلَى السَّبَبِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ. وَلَنَا أَنَّ النِّصَابَ الْأَوَّلَ هُوَ الْأَصْلُ فِي السَّبَبِيَّةِ وَالزَّائِدُ عَلَيْهِ تَابِعٌ لَهُ؛ أَلَا تَرَى إلَى مَنْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ ثُمَّ حَصَلَ لَهُ نُصُبٌ فِي آخِرِ الْحَوْلِ ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ عَلَى النِّصَابِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَتِمَّ عَلَى الْبَاقِيَةِ جُعِلَ كَأَنَّهُ تَمَّ الْحَوْلُ عَلَى النُّصُبِ كُلِّهَا وَوَجَبَ أَدَاءُ الزَّكَاةِ عَنْ الْمَجْمُوعِ بِالِاتِّفَاقِ، فَكَذَلِكَ يَجْعَلُ النُّصُبَ الْأُخَرَ كَالْمَوْجُودَةِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ فِي حَقِّ التَّعْجِيلِ.
بَابُ زَكَاةِ الْمَالِ
فَصْلٌ فِي الْفِضَّةِ
(لَيْسَ فِيمَا دُونَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ صَدَقَةٌ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ» وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا (فَإِذَا كَانَتْ مِائَتَيْنِ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ) «لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام
بَابٌ فِي زَكَاةِ الْمَالِ:
لَمَّا قَدَّمَ ذِكْرَ زَكَاةِ السَّوَائِمِ لِمَا قُلْنَا أَعْقَبَهُ بِذِكْرِ غَيْرِهَا مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: الْمَالُ كُلُّ مَا يَتَمَلَّكُهُ النَّاسُ مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ ثِيَابٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَالْمُصَنِّفُ ذَكَرَ الْمَالَ وَأَرَادَ غَيْرَ السَّوَائِمِ عَلَى خِلَافِ عُرْفِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَإِنَّ اسْمَ الْمَالِ عِنْدَهُمْ يَقَعُ عَلَى النَّعَمِ، وَعَلَى عُرْفِ أَهْلِ الْحَضَرِ فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ يَقَعُ عَلَى غَيْرِ النَّعَمِ.
(فَصْلٌ فِي الْفِضَّةِ)
قَدَّمَ فَصْلَ الْفِضَّةِ عَلَى غَيْرِهَا لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ تَدَاوُلًا فِي الْأَيْدِي، وَالْأُوقِيَّةُ بِالتَّشْدِيدِ أَفُعُولَةٌ مِنْ الْوِقَايَةِ لِأَنَّهَا تَقِي صَاحِبَهَا مِنْ الْفَقْرِ. وَقِيلَ هِيَ فِعْلِيَّةٌ مِنْ الْأَوْقِ وَهُوَ الثِّقَلُ، وَالْجَمْعُ الْأَوَاقِيُّ بِالتَّشْدِيدِ أَفَاعِيلُ كَالْأَضَاحِيِّ وَبِالتَّخْفِيفِ أَفَاعِلُ، وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ.
كَتَبَ إلَى مُعَاذٍ رضي الله عنه أَنْ خُذْ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَمِنْ كُلِّ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ ذَهَبٍ نِصْفَ مِثْقَالٍ». قَالَ (وَلَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَيَكُونُ فِيهَا دِرْهَمٌ ثُمَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: مَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَزَكَاتُهُ بِحِسَابِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ عَلِيِّ «وَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَبِحِسَابِهِ» وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ، وَاشْتِرَاطُ النِّصَابِ فِي الِابْتِدَاءِ لَتَحَقُّق الْغِنَى وَبَعْدَ النِّصَابِ فِي السَّوَائِمِ تَحَرُّزًا عَنْ التَّشْقِيصِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ «لَا تَأْخُذْ مِنْ الْكُسُورِ شَيْئًا»
وَقَوْلُهُ (فَيَكُونُ فِيهَا دِرْهَمٌ) يَعْنِي مَعَ الْخَمْسَةِ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ مَعَ مَا سَبَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، وَقَالَ: مَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَزَكَاتُهُ بِحِسَابِهِ قُلْت الزِّيَادَةُ أَوْ كَثُرَتْ. حَتَّى إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ دِرْهَمًا فَفِيهِ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ لِقَوْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «وَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَزَكَاتُهُ بِحِسَابِهِ» وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْمَالِ وَالْكُلُّ مَالٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَامَ شُرِطَ النِّصَابُ فِي الِابْتِدَاءِ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ لِيَتَحَقَّقَ الْغِنَى لِيَصِيرَ الْمُكَلَّفُ بِهِ أَهْلًا لِلْإِغْنَاءِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ اشْتِرَاطُهُ لِذَلِكَ لَمَا شُرِطَ فِي السَّوَائِمِ فِي الِانْتِهَاءِ كَمَا شُرِطَ فِي الِابْتِدَاءِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ تَحَرُّزًا عَنْ التَّشْقِيصِ وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذٍ حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الْيَمَنِ: لَا تَأْخُذْ مِنْ الْكُسُورِ شَيْئًا» قِيلَ مَعْنَاهُ: لَا تَأْخُذْ مِنْ الشَّيْءِ الَّذِي يَكُونُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ كُسُورًا فَسَمَّاهُ كُسُورًا بِاعْتِبَارِ مَا وَجَبَ.
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ» وَلِأَنَّ الْحَرَجَ مَدْفُوعٌ، وَفِي إيجَابِ الْكُسُورِ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ،
فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا قَبْلَ الْمِائَتَيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ عَقِيبَ هَذَا «فَإِذَا بَلَغَ الْوَرِقُ مِائَتِي دِرْهَمٍ فَخُذْ مِنْهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ» فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا قَبْلَ الْمِائَتَيْنِ وَمَا بَعْدَهُ لِأَنَّهُ قَالَ عَقِيبَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ «فَإِذَا بَلَغَ الْوَرِقُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَخُذْ مِنْهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَلَا تَأْخُذْ مِمَّا زَادَ حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَتَأْخُذُ مِنْهَا دِرْهَمًا» هَكَذَا ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ مُسْنِدًا إلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، فَيُجْعَلُ قَوْلُهُ «إذَا بَلَغَ الْوَرِقُ» إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ بَيَانًا وَتَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ «لَا تَأْخُذْ مِنْ الْكُسُورِ شَيْئًا» لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ.
(وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «لَيْسَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ» وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ لَيْسَ فِيهِ وَلَا فِيمَا دُونَهُ صَدَقَةٌ، وَهَذَا مُحَكَّمٌ فَلَا يُعَارِضُهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُرَادَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمِائَتَيْنِ أَرْبَعُونَ وَاحْتِمَالُهُ مَا ذَكَرُوهُ (وَلِأَنَّ الْحَرَجَ مَدْفُوعٌ) وَهُوَ وَاضِحٌ (وَفِي إيجَابِ الْكُسُورِ ذَلِكَ) أَيْ الْحَرَجُ (لِتَعَسُّرِ الْوُقُوفِ) لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَسَبْعَةَ دَرَاهِمَ
وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدَّرَاهِمِ وَزْنُ سَبْعَةٍ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْعَشَرَةُ مِنْهَا وَزْنَ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ، بِذَلِكَ جَرَى التَّقْدِيرُ فِي دِيوَانِ عُمَرَ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ
يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَسَبْعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ فَتُعْسَرُ مَعْرِفَةُ سَبْعَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ فَحِينَئِذٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى، فَإِذَا جَاءَتْ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ وَجَبَ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ بَعْدَ الزَّكَاةِ لِأَنَّ دَيْنَهَا مُسْتَحَقٌّ وَإِنْ لَمْ يُؤَدَّ وَذَلِكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَدِرْهَمٌ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ جُزْءًا مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ وَزَكَاةُ دِرْهَمٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ جُزْءًا مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ يَتَعَسَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدَّرَاهِمِ) رُوِيَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ مِنْهَا كُلُّ عَشْرَةٍ مِنْهُ عَشْرَةُ مَثَاقِيلَ كُلُّ دِرْهَمٍ مِثْقَالٌ، وَصِنْفٌ مِنْهَا كُلُّ عَشْرَةٍ مِنْهُ سِتَّةُ مَثَاقِيلَ كُلُّ دِرْهَمٍ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ مِثْقَالٍ، وَصِنْفٌ مِنْهَا كُلُّ عَشْرَةٍ مِنْهُ خَمْسَةُ مَثَاقِيلَ كُلُّ دِرْهَمٍ نِصْفُ مِثْقَالٍ، وَكَانَ النَّاسُ يَتَصَرَّفُونَ بِهَا وَيَتَعَامَلُونَ بِهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا تَوَلَّى عُمَرُ رضي الله عنه أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْخَرَاجَ بِالْأَكْثَرِ، فَالْتَمَسُوا مِنْهُ التَّخْفِيفَ، فَجَمَعَ حُسَّابَ زَمَانِهِ لِيُتَوَسَّطُوا وَيُوَفِّقُوا بَيْنَ الدَّرَاهِمِ كُلِّهَا وَبَيْنَ مَا رَامَهُ عُمَرُ وَبَيْنَ مَا رَامَهُ الرَّعِيَّةُ، فَاسْتَخْرَجُوا لَهُ وَزْنَ السَّبْعَةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ (بِذَاكَ جَرَى التَّقْدِيرُ فِي دِيوَانِ عُمَرَ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ) فَتَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ بِهِ كَالزَّكَاةِ وَالْخَرَاجِ وَنِصَابِ السَّرِقَةِ وَتَقْدِيرِ الدِّيَاتِ وَمَهْرِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
النِّكَاحِ، وَإِنَّمَا جَعَلُوا ذَلِكَ لِأَحَدِ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدِهَا: أَنَّك إذَا جَمَعْت مِنْ كُلِّ صِنْفٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ صَارَ الْكُلُّ أَحَدًا وَعِشْرِينَ مِثْقَالًا، فَإِذَا أَخَذْت ثُلُثَ ذَلِكَ كَانَ سَبْعَةَ مَثَاقِيلَ. وَالثَّانِي أَنَّك إذَا أَخَذْت ثَلَاثَ عَشْرَةَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ وَجَمَعْت بَيْنَ الْأَثْلَاثِ الثَّلَاثَةِ الْمُخْتَلِفَةِ كَانَتْ سَبْعَةَ مَثَاقِيلَ. وَالثَّالِثُ أَنَّك إذَا أَلْقَيْت الْفَاضِلَ عَلَى السَّبْعَةِ مِنْ الْعَشَرَةِ، أَعْنِي الثَّلَاثَةَ، وَالْفَاضِلَ أَيْضًا عَلَى السَّبْعَةِ مِنْ مَجْمُوعِ السِّتَّةِ وَالْخَمْسَةِ أَعْنِي الْأَرْبَعَةَ ثُمَّ جَمَعَتْ مَجْمُوعَ
(وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الْوَرِقِ الْفِضَّةَ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْفِضَّةِ، وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا الْغِشُّ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْعُرُوضِ يُعْتَبَرُ أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ نِصَابًا) لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ غِشٍّ لِأَنَّهَا لَا تَنْطَبِعُ إلَّا بِهِ وَتَخْلُو عَنْ الْكَثِيرِ، فَجَعَلْنَا الْغَلَبَةَ فَاصِلَةً وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ عَلَى النِّصْفِ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي الصَّرْفِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، إلَّا أَنَّ فِي غَالِبِ الْغِشِّ لَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ التِّجَارَةِ كَمَا فِي سَائِرِ الْعُرُوضِ، إلَّا إذَا كَانَ تَخْلُصُ مِنْهَا فِضَّةٌ تَبْلُغُ نِصَابًا لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي عَيْنِ الْفِضَّةِ الْقِيمَةُ وَلَا نِيَّةُ التِّجَارَةِ.
الْفَاضِلِينَ: أَعْنِي فَاضِلَ السَّبْعَةِ مِنْ الْعَشَرَةِ وَفَاضِلَ الْمَجْمُوعِ مِنْ السِّتَّةِ وَالْخَمْسَةِ وَهُوَ مَا أَلْقَيْته كَانَتْ سَبْعَةَ مَثَاقِيلَ، فَلَمَّا كَانَتْ سَبْعَةُ مَثَاقِيلَ أَعْدَلَ الْأَوْزَانِ فِيهَا وَدَارَتْ فِي جَمِيعِهَا بِطَرِيقِ مُسْتَقِيمٍ اخْتَارُوهَا. وَقَوْلُهُ (فَهُوَ فِي حُكْمِ الْفِضَّةِ) وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (كَمَا فِي سَائِرِ الْعُرُوضِ إلَخْ) يَعْنِي أَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ يُنْظَرُ إلَى مَا يَخْلُصُ مِنْهُ مِنْ الْفِضَّةِ، فَإِذَا بَلَغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ تَجِبُ الزَّكَاةُ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي عَيْنِ الْفِضَّةِ الْقِيمَةُ وَلَا نِيَّةُ التِّجَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْلُصُ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْمَضْرُوبَةِ مِنْ الصُّفْرِ كَالْقُمْقُمِ لَا شَيْءَ فِيهَا إلَّا إذَا كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ وَقَدْ بَلَغَتْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَيَجِبُ فِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ.
فَصْلٌ فِي الذَّهَبِ
(لَيْسَ فِيمَا دُونَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ الذَّهَبِ صَدَقَةٌ. فَإِذَا كَانَتْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فَفِيهَا نِصْفُ مِثْقَالٍ) لِمَا رَوَيْنَا
فَصْلٌ فِي الذَّهَبِ:
قَدْ مَرَّ وَجْهُ تَأْخِيرِهِ عَنْ فَصْلِ الْفِضَّةِ (وَقَوْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ فَصْلِ الْفِضَّةِ «كَتَبَ إلَى مُعَاذٍ أَنْ خُذْ، إلَى أَنْ قَالَ: وَمِنْ كُلِّ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ ذَهَبٍ نِصْفَ مِثْقَالٍ» . وَالْمِثْقَالُ مَا يَكُونُ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنْهَا وَزْنَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَضَمِيرُ مِنْهَا رَاجِعٌ إلَى مَا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ. قِيلَ تَعْرِيفُ الْمِثْقَالِ بِقَوْلِهِ مَا يَكُونُ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنْهَا وَزْنَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ عَرَّفَ الدِّرْهَمَ فِي فَصْلِ الْفِضَّةِ بِقَوْلِهِ. وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْعَشَرَةُ مِنْهَا وَزْنَ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ فَتَوَقَّفَ مَعْرِفَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَهُوَ دَوْرٌ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَا عَرَّفَ الدِّرْهَمَ بِالْمِثْقَالِ فِي فَصْلِ الْفِضَّةِ، وَإِنَّمَا قَالَ الْمُعْتَبَرُ مِنْ أَصْنَافِهَا مَا يَكُونُ وَزْنَ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ، وَكَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا فِيمَا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ قَالَ هَاهُنَا: وَالْمِثْقَالُ مَا يَكُونُ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنْهَا وَزْنَ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ: أَيْ الْمُرَادُ بِالْمِثْقَالِ هَاهُنَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ الَّذِي عُرِّفَ بِهِ
وَالْمِثْقَالُ مَا يَكُونُ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنْهَا وَزْنَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ (ثُمَّ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ قِيرَاطَانِ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ رُبْعُ الْعُشْرِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا إذْ كُلُّ مِثْقَالٍ عِشْرُونَ قِيرَاطًا (وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ صَدَقَةٌ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ بِحِسَابِ ذَلِكَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكُسُورِ، وَكُلُّ دِينَارٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي الشَّرْعِ فَيَكُونُ أَرْبَعَةُ مَثَاقِيلَ فِي هَذَا كَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا.
قَالَ (وَفِي تِبْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَحُلِيِّهِمَا وَأَوَانِيهِمَا الزَّكَاةُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَجِبُ فِي حُلِيِّ النِّسَاءِ وَخَاتَمِ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ لِأَنَّهُ مُبْتَذَلٌ فِي مُبَاحٍ فَشَابَهُ ثِيَابَ الْبِذْلَةِ.
وَزْنُ الدِّرْهَمِ وَلَا دَوْرَ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ قِيرَاطَانِ) يَعْنِي إذَا زَادَ عَلَى الْعِشْرِينَ وَبَلَغَ الزِّيَادَةُ إلَى أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ فَفِيهَا قِيرَاطَانِ مَعَ نِصْفِ مِثْقَالٍ لِأَنَّ الْوَاجِبَ رُبُعُ الْعُشْرِ وَرُبُعُ الْعُشْرِ حَاصِلٌ فِيمَا قُلْنَا إذْ كُلُّ مِثْقَالٍ عِشْرُونَ قِيرَاطًا فَيَكُونُ أَرْبَعَةَ مَثَاقِيلَ ثَمَانِينَ قِيرَاطًا وَرُبُعُ عُشْرِهِ قِيرَاطَانِ وَهَذَا بِصَنْجَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ.
وَالْقِيرَاطُ خُمُسُ شَعِيرَاتٍ، فَالْمِثْقَالُ وَهُوَ الدِّينَارُ عِنْدَهُمْ مِائَةُ شَعِيرَةٍ، وَأَصْلُ الْقِيرَاطِ قِرَّاطٌ بِالتَّشْدِيدِ لِأَنَّ جَمْعَهُ الْقَرَارِيطُ، فَأَبْدَلَ مِنْ أَحَدِ حَرْفَيْ التَّضْعِيفِ يَاءً. وَقَوْلُهُ (وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكُسُورِ) يَعْنِي الَّتِي بَيَّنَهَا فِي فَصْلِ الْفِضَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الِاخْتِلَافَ وَالْحِجَجَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِيهِ، وَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَهُمَا خَلَا أَنَّ أَرْبَعَ مَثَاقِيلَ هَاهُنَا قَامَتْ مَقَامَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا هُنَاكَ. وَقَوْلُهُ (وَفِي تِبْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) التِّبْرُ مَا كَانَ غَيْرَ مَضْرُوبٍ مِنْهُمَا، وَالْحُلِيُّ عَلَى فُعُولٍ جَمْعُ حَلْيٍ كَثَدْيٍ فِي جَمْعِ ثَدْيٍ وَهُوَ مَا تَتَحَلَّى بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْهُمَا.
وَقَوْلُهُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَجِبُ فِي حُلِيِّ النِّسَاءِ وَخَاتَمِ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ) يَعْنِي الْحُلِيَّ الَّذِي يُبَاحُ
وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ مَالٌ نَامٍ وَدَلِيلُ النَّمَاءِ مَوْجُودٌ وَهُوَ الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ خِلْقَةً، وَالدَّلِيلُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ بِخِلَافِ الثِّيَابِ.
اسْتِعْمَالُهُ لِأَنَّهُ مُبْتَذَلٌ فِي مُبَاحٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا زَكَاةَ فِيهِ كَسَائِرِ ثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمَهْنَةِ (وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ مَالٌ نَامٍ، وَدَلِيلُ النَّمَاءِ مَوْجُودٌ وَهُوَ الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ خِلْقَةً وَالدَّلِيلُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ) فَإِذَا كَانَ مَوْجُودًا لَا مُعْتَبَرَ بِمَا لَيْسَ بِأَصْلٍ وَهُوَ الْإِعْدَادُ لِلِابْتِذَالِ، بِخِلَافِ الثِّيَابِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا دَلِيلُ النَّمَاءِ وَالِابْتِذَالُ فِيهَا أَصْلٌ لِأَنَّ فِيهِ صَرْفًا لَهَا إلَى الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا وَهِيَ دَفْعُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ.
فَصْلٌ فِي الْعُرُوضِ
(فَصْلٌ فِي الْعُرُوضِ)
أَخَّرَ فَصْلَ الْعُرُوضِ لِأَنَّهَا تَقُومُ بِالنَّقْدَيْنِ فَكَانَ حُكْمُهَا بِنَاءً عَلَيْهِمَا. وَالْعُرُوضُ جَمْعُ عَرَضٍ بِفَتْحَتَيْنِ: حُطَامُ
(الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهَا نِصَابًا مِنْ الْوَرِقِ أَوْ الذَّهَبِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِيهَا «يُقَوِّمُهَا فَيُؤَدِّي مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ» ، وَلِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلِاسْتِنْمَاءِ بِإِعْدَادِ الْعَبْدِ فَأَشْبَهَ الْمُعَدَّ بِإِعْدَادِ الشَّرْعِ، وَتُشْتَرَطُ نِيَّةُ التِّجَارَةِ لِيَثْبُتَ الْإِعْدَادُ، قَالَ
الدُّنْيَا: أَيْ مَتَاعُهَا سِوَى النَّقْدَيْنِ. وَقَوْلُهُ (كَائِنَةً مَا كَانَتْ) أَيْ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ كَانَتْ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالسَّوَائِمِ أَوْ لَمْ تَكُنْ كَالثِّيَابِ وَالْحَمِيرِ وَالْبِغَالِ.
وَقَوْلُهُ (وَتُشْتَرَطُ نِيَّةُ التِّجَارَةِ) أَيْ حَالَةَ الشِّرَاءِ أَمَّا إذَا
(يُقَوِّمُهَا بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لِلْمَسَاكِينِ) احْتِيَاطًا لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ قَالَ رضي الله عنه: وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي الْأَصْلِ خَيَّرَهُ لِأَنَّ الثَّمَنَيْنِ فِي تَقْدِيرِ قِيَمِ الْأَشْيَاءِ بِهِمَا سَوَاءٌ، وَتَفْسِيرُ الْأَنْفَعِ أَنْ يُقَوِّمَهَا بِمَا تَبْلُغُ نِصَابًا.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ
كَانَتْ النِّيَّةُ بَعْدَ الْمِلْكِ فَلَا بُدَّ مِنْ اقْتِرَانِ عَمَلِ التِّجَارَةِ بِنِيَّةٍ لِأَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ لَا تَعْمَلُ كَمَا مَرَّ. وَقَوْلُهُ (يُقَوِّمُهَا بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لِلْمَسَاكِينِ) أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي التَّقْوِيمِ، فَإِنَّ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا هَذَا هُوَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْأَمَالِي، وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ احْتِيَاطًا لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إنْ كَانَ يُقَوِّمُهَا بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ يَتِمُّ النِّصَابُ وَبِالْآخَرِ لَا يَتِمُّ يُقَوَّمُ بِمَا يَتِمُّ بِالِاتِّفَاقِ احْتِيَاطًا لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ فَكَذَلِكَ هَذَا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِتَفْسِيرِ الْمُصَنِّفِ لِلْأَنْفَعِ فِي الْكِتَابِ.
وَالثَّانِي مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَهُوَ أَنْ يُقَوِّمَ صَاحِبُ الْمَالِ بِأَيِّ النَّقْدَيْنِ شَاءَ، وَوَجْهُهُ
يُقَوِّمُهَا بِمَا اشْتَرَى إنْ كَانَ الثَّمَنُ مِنْ النُّقُودِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي مَعْرِفَةِ الْمَالِيَّةِ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِ النُّقُودِ قَوَّمَهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ (وَإِذَا كَانَ النِّصَابُ كَامِلًا فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ فَنُقْصَانُهُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ) لِأَنَّهُ يَشُقُّ اعْتِبَارُ الْكَمَالِ فِي أَثْنَائِهِ أَوْ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي ابْتِدَائِهِ لِلِانْعِقَادِ وَتَحَقُّقِ
أَنَّ التَّقْوِيمَ لِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الْمَالِيَّةِ وَالثَّمَنَانِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. وَالثَّالِثُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي مَعْرِفَةِ الْمَالِيَّةِ) لِأَنَّهُ ظَهَرَ قِيمَتُهُ مَرَّةً بِهَذَا النَّقْدِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الشِّرَاءُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِقِيمَتِهَا لِأَنَّ الْغَبْنَ نَادِرٌ. وَالرَّابِعُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهُوَ أَنْ يُقَوِّمَهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ عَلَى كُلِّ حَالٍّ يَعْنِي سَوَاءً اشْتَرَاهَا بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ أَوْ بِغَيْرِهِ لِأَنَّ التَّقْوِيمَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُعْتَبَرٌ بِالتَّقْوِيمِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ، وَمَتَى وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَقْوِيمِ الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ يَقُولُ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ فَكَذَا هَذَا. وَقَوْلُهُ (وَإِذَا كَانَ النِّصَابُ كَامِلًا فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ فَنُقْصَانُهُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ) قَيَّدَ بِالنُّقْصَانِ احْتِرَازًا عَنْ الْهَلَاكِ، فَإِنَّ هَلَاكَ كُلِّ النِّصَابِ يَقْطَعُ الْحَوْلَ بِالِاتِّفَاقِ، وَذَكَرَ النِّصَابَ مُطْلَقًا لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالنَّقْدَيْنِ وَالْعُرُوضِ وَالسَّوَائِمِ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَلْزَمُ الزَّكَاةُ إلَّا أَنْ يَكُونَ النِّصَابُ
الْغِنَى وَفِي انْتِهَائِهِ لِلْوُجُوبِ، وَلَا كَذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ حَالَةُ الْبَقَاءِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ هَلَكَ الْكُلُّ حَيْثُ يَبْطُلُ حُكْمُ الْحَوْلِ، وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ لِانْعِدَامِ النِّصَابِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّ بَعْضَ النِّصَابِ بَاقٍ فَيَبْقَى الِانْعِقَادُ
قَالَ (وَتُضَمُّ قِيمَةَ الْعُرُوضِ إلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَتَّى يَتِمَّ النِّصَابُ)
مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إلَى آخِرِهِ كَامِلًا لِأَنَّ حَوَلَانَ الْحَوْلِ عَلَى الْمَالِ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ الْحَوْلِ بِمَعْنَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ وَلَنَا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِ زُفَرَ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ النِّصَابِ فِي الِابْتِدَاءِ لِلِانْعِقَادِ وَفِي الِانْتِهَاءِ لِلْوُجُوبِ وَمَا بَيْنَهُمَا بِمَعْزِلٍ عَنْهُمَا جَمِيعًا فَلَا يَكُونُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ الْحَوْلِ بِمَعْنَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ، وَالْمُرَادُ بِالنُّقْصَانِ النُّقْصَانُ فِي الذَّاتِ، فَإِنَّ النُّقْصَانَ فِي الْوَصْفِ يَجْعَلُ السَّائِمَةَ عَلُوفَةً يُسْقِطُهَا بِالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّ فَوَاتَ الْوَصْفِ وَارِدٌ عَلَى كُلِّ النِّصَابِ فَكَانَ كَهَلَاكِ النِّصَابِ كُلِّهِ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّيَّةِ بِفَوَاتِ الْوَصْفِ.
وَقَوْلُهُ (وَتُضَمُّ قِيمَةُ الْعُرُوضِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: حَاصِلُ مَسَائِلِ الضَّمِّ أَنَّ عُرُوضَ التِّجَارَةِ يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ بِالْقِيمَةِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهَا، وَكَذَلِكَ يُضَمُّ إلَى النَّقْدَيْنِ بِلَا خِلَافٍ، وَالسَّوَائِمُ الْمُخْتَلِفَةُ الْجِنْسِ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لَا يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى
لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكُلِّ بِاعْتِبَارِ التِّجَارَةِ وَإِنْ افْتَرَقَتْ جِهَةُ الْإِعْدَادِ (وَيُضَمُّ الذَّهَبُ إلَى الْفِضَّةِ) لِلْمُجَانَسَةِ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَارَ سَبَبًا، ثُمَّ يُضَمُّ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا بِالْأَجْزَاءِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ، حَتَّى إنَّ مَنْ
بَعْضٍ بِالْإِجْمَاعِ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكُلِّ بِاعْتِبَارِ التِّجَارَةِ) يَعْنِي أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مِلْكُ النِّصَابِ النَّامِي وَالنَّمَاءُ إمَّا بِالْإِسَامَةِ أَوْ بِالتِّجَارَةِ، وَلَيْسَ كُلًّا مِنَّا فِي الْأُولَى فَتَعَيَّنَ الثَّانِيَةُ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ افْتَرَقَتْ جِهَةُ الْإِعْدَادِ) يَعْنِي أَنَّ الِافْتِرَاقَ فِي الْجِهَةِ يَكُونُ الْإِعْدَادُ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ لِإِعْدَادِهَا لِلتِّجَارَةِ، وَفِي النَّقْدَيْنِ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِخَلْقِهِ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ لِلتِّجَارَةِ لَا يَكُونُ مَانِعًا عَنْ الضَّمِّ بَعْدَ حُصُولِ مَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ النَّمَاءُ (وَيُضَمُّ الذَّهَبُ إلَى الْفِضَّةِ) عِنْدَنَا لِلْمُجَانَسَةِ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ، فَإِذَا كَانَ مَا هُوَ أَبْعَدُ فِي الْمُجَانَسَةِ عِلَّةً وَهُوَ الْعُرُوض فَلَأَنْ يَكُونَ فِي الْأَقْرَبِ أَوْلَى.
وَقَوْلُهُ (وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَارَ سَبَبًا) أَيْ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَكَانَ هَذَا الْوَجْهُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَيُوجِبُ الضَّمَّ. ثُمَّ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُضَمُّ بِالْقِيمَةِ، وَعِنْدَهُمَا بِالْإِجْزَاءِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ، وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِيمَنْ كَانَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ وَتَبْلُغُ قِيمَتُهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا. وَأَمَّا إذَا كَانَ عَشْرَةَ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ وَمِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا ثُلُثٌ وَمِنْ الْآخَرِ ثُلُثَانِ
كَانَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، هُمَا يَقُولَانِ الْمُعْتَبَرُ فِيهِمَا الْقَدْرُ دُونَ الْقِيمَةِ حَتَّى لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي مَصُوغٍ وَزْنُهُ أَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْنِ وَقِيمَتُهُ فَوْقَهَا، هُوَ يَقُولُ: إنَّ الضَّمَّ لِلْمُجَانَسَةِ وَهِيَ تَتَحَقَّقُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ دُونَ الصُّورَةِ فَيُضَمُّ بِهَا.
بَابٌ فِيمَنْ يَمُرُّ عَلَى الْعَاشِرِ
أَوْ رُبُعٌ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ فَإِنَّهُ يُضَمُّ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَهُمْ، وَدَلِيلُهُمَا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ وَهُوَ يَقُولُ: إنَّمَا أَوْجَبْنَا الضَّمَّ بِالْمُجَانَسَةِ وَهِيَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِالْقِيمَةِ دُونَ الصُّورَةِ وَاعْتِبَارُ الْإِجْزَاءِ اعْتِبَارُ الصُّورَةِ، وَمَسْأَلَةُ الْمَصُوغِ لَيْسَتْ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، إذْ لَيْسَ فِيهَا ضَمُّ شَيْءٍ إلَى شَيْءٍ آخَرَ حَتَّى تُعْتَبَرَ الْقِيمَةُ، فَإِنَّ الْقِيمَةَ فِي النُّقُودِ إنَّمَا تَظْهَرُ شَرْعًا عِنْدَ مُقَابَلَةِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ.
(بَابٌ فِيمَنْ يَمُرُّ عَلَى الْعَاشِرِ)
أَلْحَقَ هَذَا الْبَابَ بِكِتَابِ الزَّكَاةِ اتِّبَاعًا لِلْمَبْسُوطِ وَشُرُوحِ الْجَامِعِ لِمُنَاسَبَةٍ وَهِيَ أَنَّ الْعُشْرَ الْمَأْخُوذَ مِنْ الْمُسْلِمِ الْمَارِّ عَلَى الْعَاشِرِ هُوَ الزَّكَاةُ بِعَيْنِهَا إلَّا أَنَّ هَذَا الْعَاشِرَ كَمَا يَأْخُذُ مِنْ الْمُسْلِمِ يَأْخُذُ مِنْ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ وَلَيْسَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمَا
(إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِمَالٍ فَقَالَ أَصَبْتُهُ مُنْذُ أَشْهُرٍ أَوْ عَلَيَّ دَيْنٌ وَحَلَفَ صُدِّقَ) وَالْعَاشِرُ مَنْ نَصَبَهُ الْإِمَامُ عَلَى الطَّرِيقِ لِيَأْخُذَ الصَّدَقَاتِ مِنْ التُّجَّارِ، فَمَنْ أَنْكَرَ مِنْهُمْ تَمَامَ الْحَوْلِ أَوْ الْفَرَاغِ مِنْ الدَّيْنِ كَانَ مُنْكِرًا لِلْوُجُوبِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ الْيَمِينِ
بِزَكَاةٍ، وَقَدَّمَ الزَّكَاةَ عَلَى هَذَا الْبَابِ وَعَلَى مَا بَعْدَهُ لِكَوْنِهَا عِبَادَةً مَحْضَةً لَا شَائِبَةَ فِيهَا لِلْغَيْرِ، وَالْعَاشِرُ مُشْتَقٌّ مِنْ عَشَرْت الْقَوْمَ إذَا أَخَذْت عُشْرَ أَمْوَالِهِمْ فَهُوَ تَسْمِيَةٌ لِلشَّيْءِ بِاعْتِبَارِ بَعْضِ أَحْوَالِهِ وَهُوَ أَخْذُهُ الْعُشْرَ مِنْ الْحَرْبِيِّ لَا مِنْ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ عَلَى مَا سَيَجِيءُ (قَوْلُهُ إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِمَالٍ) أَيْ مِنْ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ الظَّاهِرَةَ وَهِيَ السَّوَائِمُ لَا يَحْتَاجُ الْعَاشِرُ فِيهَا إلَى مُرُورِ صَاحِبِ الْمَالِ عَلَيْهِ فِي ثُبُوتِ وِلَايَةِ الْأَخْذِ لَهُ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ عُشْرَ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَمُرَّ صَاحِبُ الْمَالِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ فَإِنَّ الْأَدَاءَ لِصَاحِبِ الْمَالِ لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُحْتَاجَةٍ إلَى الْحِمَايَةِ لِبُطُونِهَا، فَإِذَا أَخْرَجَهَا إلَى الْمَفَازَةِ احْتَاجَتْ إلَيْهَا فَصَارَتْ كَالسَّوَائِمِ، فَإِذَا مَرَّ التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ بِمَالٍ مِمَّا ذَكَرْنَا وَقَالَ أَصَبْته مُنْذُ أَشْهُرٍ: يُعْنَى لَمْ يَحُلْ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ مَالٌ آخَرُ مِنْ جِنْسِ هَذَا الْمَالِ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَمْ يُصَدَّقْ لِأَنَّ الْحَوْلَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْمُسْتَفَادِ مِنْ الْجِنْسِ، أَوْ قَالَ عَلَى دَيْنٍ. يَعْنِي دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا لَهُ مُطَالَبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ صُدِّقَ وَعَرَّفَ الْعَاشِرَ بِقَوْلِهِ مَنْ نَصَبَهُ الْإِمَامُ عَلَى الطَّرِيقِ لِيَأْخُذَ الصَّدَقَاتِ مِنْ التُّجَّارِ. وَنُوقِضَ بِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْكَافِرِ وَلَيْسَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ صَدَقَةً. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي نَصْبِهِ أَخْذُ الصَّدَقَاتِ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً لِلْمُسْلِمِ عَلَى أَدَاءِ الْعِبَادَةِ، وَمَا عَدَاهَا تَابِعٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَنْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ.
وَقَوْلُهُ (فَمَنْ أَنْكَرَ تَمَّامَ الْحَوْلِ) يَعْنِي بِقَوْلِهِ أَصَبْت مُنْذُ أَشْهُرٍ (أَوْ الْفَرَاغُ مِنْ الدَّيْنِ) بِقَوْلِهِ أَوْ عَلَى دَيْنٍ (كَانَ مُنْكِرًا لِلْوُجُوبِ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ) وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ مُنْذُ أَشْهُرٍ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا دُونَ الْحَوْلِ فَكَيْفَ عَبَّرَ عَنْهُ
(وَكَذَا إذَا قَالَ: أَدَّيْتُهَا إلَى عَاشِرٍ آخَرَ)، وَمُرَادُهُ إذَا كَانَ فِي تِلْكَ السُّنَّةِ عَاشِرٌ آخَرُ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى وَضْعَ الْأَمَانَةِ مَوْضِعَهَا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَاشِرٌ آخَرُ فِي تِلْكَ السَّنَةَ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُهُ بِيَقِينٍ (وَكَذَا إذَا قَالَ: أَدَّيْتُهَا أَنَا) يَعْنِي إلَى الْفُقَرَاءِ فِي الْمِصْرِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ كَانَ مُفَوَّضًا إلَيْهِ فِيهِ، وَوِلَايَةُ الْأَخْذِ بِالْمُرُورِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ الْحِمَايَةِ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي صَدَقَةِ السَّوَائِمِ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ، وَفِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ وَهُوَ مَا إذَا قَالَ: أَدَّيْتُ بِنَفْسِي إلَى الْفُقَرَاءِ فِي الْمِصْرِ لَا يُصَدَّقُ وَإِنْ حَلَفَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصَدَّقُ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَلَ الْحَقَّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ. وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلسُّلْطَانِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ. ثُمَّ قِيلَ الزَّكَاةُ هُوَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي سِيَاسَةٌ. وَقِيلَ هُوَ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ يَنْقَلِبُ نَفْلًا
بِقَوْلِهِ فَمَنْ أَنْكَرَ تَمَامَ الْحَوْلِ. وَالثَّانِي أَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ خَالِصَةٌ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ لِلتَّصْدِيقِ فِيهِمَا التَّحْلِيفُ. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْأَشْهُرَ تَقَعُ عَلَى الْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهَا لِكَوْنِهِ جَمْعَ قِلَّةٍ، وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الْحَقِيقَةُ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ عِبَادَةً لَكِنْ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْعَاشِرِ فِي الْأَخْذِ وَحَقُّ الْفَقِيرِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ فَالْعَاشِرُ بَعْدَ ذَلِكَ يُدَّعَى عَلَيْهِ مَعْنًى لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ فَيَسْتَحْلِفُ لِرَجَاءِ النُّكُولِ كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى، بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِمَا حَقُّ الْعَبْدِ، وَلَا يَلْزَمُ حَدُّ الْقَذْفِ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحْلَفُ فِيهِ إذَا أَنْكَرَ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالنُّكُولِ فِي الْحُدُودِ مُتَعَذِّرٌ عَلَى مَا عُرِفَ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا قَالَ أَدَّيْت إلَى عَاشِرٍ آخَرَ) ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ (ثُمَّ قِيلَ الزَّكَاةُ هُوَ الْأَوَّلُ) بِنَاءً عَلَى مَا لِأَصْحَابِنَا مِنْ الطَّرِيقَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إذَا كَانَ صَادِقًا فِيمَا قَالَ يَبْرَأُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ، فَمَنْ اخْتَارَ الْأَوَّلَ قَالَ الزَّكَاةُ هُوَ الْأَوَّلُ كَمَا لَوْ خَفِيَ عَلَى السَّاعِي مَكَانَ مَالِهِ فَادَّعَى صَاحِبُ الْمَالِ زَكَاتَهُ وَقَعَ زَكَاةً (وَالثَّانِي سِيَاسَةٌ) مَالِيَّةٌ زَجْرًا لِغَيْرِهِ عَنْ الْإِقْدَامِ عَمَّا لَيْسَ إلَيْهِ (وَمَنْ اخْتَارَ الثَّانِيَ قَالَ الزَّكَاةُ هُوَ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ يَنْقَلِبُ نَفْلًا) كَمَنْ صَلَّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ الظُّهْرَ فِي مَنْزِلِهِ ثُمَّ سَعَى إلَى الْجُمُعَةِ فَأَدَّاهَا
وَهُوَ الصَّحِيحُ، ثُمَّ فِيمَا يُصَدَّقُ فِي السَّوَائِمِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ لَمْ يَشْتَرِطْ إخْرَاجَ الْبَرَاءَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَشَرَطَهُ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى، وَلِصِدْقِ دَعْوَاهُ عَلَامَةٌ فَيَجِبُ إبْرَازُهَا. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ فَلَا يُعْتَبَرُ عَلَامَةً.
قَالَ (وَمَا صُدِّقَ فِيهِ الْمُسْلِمُ صُدِّقَ فِيهِ الذِّمِّيُّ)؛ لِأَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ فَتُرَاعَى تِلْكَ الشَّرَائِطُ تَحْقِيقًا لِلتَّضْعِيفِ
وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ. وَقَالَ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازًا عَنْ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ.
وَوَجْهُ الصِّحَّةِ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ وِلَايَةُ الْأَخْذِ لِلسُّلْطَانِ شَرْعًا فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ كَانَ أَدَاءُ رَبِّ الْمَالِ فَرْضًا لَغْوًا كَمَا لَوْ أَدَّى الْجِزْيَةَ إلَى الْمُقَاتِلَةِ بِنَفْسِهِ.
وَقَوْلُهُ (لَمْ يُشْتَرَطْ إخْرَاجُ الْبَرَاءَةِ) أَيْ الْعَلَامَةِ وَهِيَ اسْمٌ لِخَطِّ الْإِبْرَاءِ مِنْ بَرِئَ مِنْ الدَّيْنِ. وَالْعَيْبِ بَرَاءَةً وَالْجَمْعُ بَرَاءَاتٌ وَالْبَرَاوَاتُ عَامِّيٌّ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ.
وَقَوْلُهُ (فَيَجِبُ إبْرَازُهَا) أَيْ إظْهَارُ الْعَلَامَةِ كَمَنْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ شَجَّةً أَوْ قَطْعًا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إبْرَازُ عَلَامَتِهِمَا (وَجْهُ الْأَوَّلِ) وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ (أَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ) فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ حُكْمًا (فَلَمْ يُعْتَبَرْ عَلَامَةً) قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلتُّمُرْتَاشِيِّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِاشْتِرَاطِ الْعَلَامَةِ هَلْ يُشْتَرَطُ مَعَهَا الْيَمِينُ.
قَالَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ: إنْ لَمْ يَحْلِفْ لَمْ يُصَدَّقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصُدِّقَ عِنْدَهُمَا قِيلَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ نَظَرٌ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ ثُمَّ فِيمَا يَصَّدَّقُ فِي السَّوَائِمِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ فِي السَّوَائِمِ يَصَّدَّقُ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ وَفِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ فِي أَرْبَعَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ إخْرَاجُ الْبَرَاءَةِ فِي الْجَمِيعِ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا قَالَ عَلَيَّ دَيْنٌ أَوْ أَصَبْته مُنْذُ أَشْهُرٍ أَوْ أَدَّيْتهَا إلَى الْفُقَرَاءِ فِي الْمِصْرِ وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَدَّيْته إلَى عَاشِرٍ آخَرَ وَفِي تِلْكَ السَّنَةِ عَاشِرٌ آخَرُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ ذَكَرَ الْعَامَّ وَأَرَادَ الْخَاصَّ: أَيْ الصُّورَةَ الْمَذْكُورَةَ مَجَازًا.
وَقَوْلُهُ (فَيُرَاعَى تِلْكَ الشَّرَائِطُ تَحْقِيقًا لِلتَّضْعِيفِ) يَعْنِي أَنَّ تَضْعِيفَ الشَّيْءِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ
(وَلَا يُصَدَّقُ الْحَرْبِيُّ إلَّا فِي الْجَوَارِي يَقُولُ: هُنَّ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِي، أَوْ غِلْمَانٍ مَعَهُ يَقُولُ: هُمْ أَوْلَادِي)؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْحِمَايَةِ وَمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ يَحْتَاجُ إلَى الْحِمَايَةِ غَيْرَ أَنَّ إقْرَارَهُ بِنَسَبِ مَنْ فِي يَدِهِ مِنْهُ صَحِيحٌ، فَكَذَا بِأُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّهَا تَبْتَنِي عَلَيْهِ فَانْعَدَمَتْ صِفَةُ الْمَالِيَّةِ فِيهِنَّ، وَالْأَخْذُ لَا يَجِبُ إلَّا مِنْ الْمَالِ.
قَالَ (وَيُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ رُبْعُ الْعُشْرِ
الشَّيْءُ الْمُضَعَّفُ عَلَى أَوْصَافِ الْمُضَعَّفِ عَلَيْهِ وَإِلَّا لَكَانَ تَبْدِيلًا لَا تَضْعِيفًا وَقَوْلُهُ (وَلَا يُصَدَّقُ الْحَرْبِيُّ) يَعْنِي فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا (إلَّا فِي الْجَوَارِي يَقُولُ هُنَّ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِي أَوْ غِلْمَانٍ مَعَهُ يَقُولُ هُمْ أَوْلَادِي لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْحِمَايَةِ وَمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ يَحْتَاجُ إلَيْهَا) وَإِنَّمَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْفُصُولِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي تَصْدِيقِهِ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَمْ يَتِمَّ الْحَوْلُ عَلَى مَالِي فَفِي الْأَخْذِ مِنْهُ لَا يُعْتَبَرُ الْحَوْلُ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْحَوْلِ لِتَمَامِ الْحِمَايَةِ لِتَحْصِيلِ النَّمَاءِ وَالْحِمَايَةِ لِلْحَرْبِيِّ تَتِمُّ بِنَفْسِ الْأَمَانِ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَمَانُ صَارَ مَسْبِيًّا مَعَ أَمْوَالِهِ، وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ دَيْنٌ فَالدَّيْنُ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُطَالَبُ بِهِ فِي دَارِنَا وَإِنْ قَالَ الْمَالُ بِضَاعَةٌ فَلَا حُرْمَةَ لِصَاحِبِهَا وَلَا أَمَانَ، وَإِنْ قَالَ لَيْسَ لِلتِّجَارَةِ يُكَذِّبُهُ الظَّاهِرُ لِأَنَّهُ لَا يَتَكَلَّفُ لِلنَّقْلِ إلَى غَيْرِ دَارِهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهَا، وَإِنْ قَالَ أَدَّيْتهَا إلَى عَاشِرٍ آخَرَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ أُجْرَةُ الْحِمَايَةِ وَقَدْ وُجِدَتْ بِنَفْسِ الْأَمَانِ كَمَا مَرَّ آنِفًا، وَلَوْ قَالَ أَدَّيْتهَا أَنَا كَذَّبَهُ اعْتِقَادُهُ غَيْرَ أَنَّ إقْرَارَهُ بِنَسَبِ مَنْ فِي يَدِهِ مِنْهُ صَحِيحٌ لِأَنَّ كَوْنَهُ حَرْبِيًّا لَا يُنَافِي الِاسْتِيلَادَ وَالنَّسَبُ كَمَا يَثْبُتُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَثْبُتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَبِهِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالًا وَالْأَخْذُ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ الْمَالِ الْمَمْرُورِ بِهِ.
قَالَ (وَيُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ رُبُعُ الْعُشْرِ) رَوَى الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه نَصَّبَ الْعُشَارَ فَقَالَ لَهُمْ: خُذُوا مِنْ الْمُسْلِمِ رُبُعَ الْعُشْرِ، وَمِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفَ الْعُشْرِ، وَمِنْ الْحَرْبِيِّ الْعُشْرَ، وَكَانَ هَذَا بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، فَكَانَ إجْمَاعًا. وَالْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ فِيهِ مَا قِيلَ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ رُبُعُ الْعُشْرِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «هَاتُوا رُبُعَ عُشُورِ أَمْوَالِكُمْ، مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ» وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ وِلَايَةُ الْأَخْذِ لِلْعَاشِرِ لِحَاجَتِهِ إلَى الْحِمَايَةِ، وَحَاجَةُ الذِّمِّيِّ إلَى الْحِمَايَةِ أَكْثَرُ لِأَنَّ طَمَعَ اللُّصُوصِ فِي أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْفَرُ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ كَمَا فِي صَدَقَاتِ بَنِي تَغْلِبَ، ثُمَّ الْحَرْبِيُّ مِنْ الذِّمِّيِّ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ مِنْ الْمُسْلِمِ، أَلَا تَرَى أَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الْحَرْبِ
وَمِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفُ الْعُشْرِ وَمِنْ الْحَرْبِيِّ الْعُشْرُ) هَكَذَا أَمَرَ عُمَرُ رضي الله عنه سُعَاتَهُ (وَإِنْ مَرَّ حَرْبِيٌّ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَكُونُوا يَأْخُذُونَ مِنَّا مِنْ مِثْلِهَا)؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ، بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ زَكَاةٌ أَوْ ضِعْفُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ النِّصَابِ وَهَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَفِي كِتَابِ الزَّكَاةِ لَا نَأْخُذُ مِنْ الْقَلِيلِ وَإِنْ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنَّا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ لَمْ يَزَلْ عَفْوًا وَلِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْحِمَايَةِ. قَالَ (وَإِنْ مَرَّ حَرْبِيٌّ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَلَا يُعْلَمُ كَمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا نَأْخُذُ مِنْهُ الْعُشْرَ) لِقَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه: فَإِنْ أَعْيَاكُمْ فَالْعُشْرُ (وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا رُبْعَ
عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ وَلَهُمْ مَقْبُولَةٌ كَشَهَادَةِ الْمُسْلِم عَلَى الذِّمِّيِّ، ثُمَّ الذِّمِّيُّ يُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ، فَكَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ يُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ تَضْعِيفًا لَا تَبْدِيلًا.
(وَإِنْ مَرَّ حَرْبِيٌّ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَكُونُوا يَأْخُذُونَ مِنَّا مِنْ مِثْلِهَا) لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ إلَيْهِ أَشَارَ عُمَرُ رضي الله عنه لَمَّا سُئِلَ حِينَ نَصَّبَ الْعَاشِرَ فَقِيلَ لَهُ: كَمْ نَأْخُذُ مِمَّا مَرَّ بِهِ الْحَرْبِيُّ؟ فَقَالَ: كَمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا؟ فَقَالُوا: الْعُشْرَ، فَقَالَ: خُذُوا مِنْهُمْ الْعُشْرَ. وَلَسْنَا نَعْنِي بِقَوْلِنَا بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ أَنَّ أَخْذَنَا لِمُقَابَلَةِ أَخْذِهِمْ أَمْوَالَنَا، فَإِنَّ أَخْذَهُمْ أَمْوَالَنَا ظُلْمٌ وَأَخْذَنَا أَمْوَالَهُمْ حَقٌّ، لَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّا إذَا عَامَلْنَاهُمْ بِمِثْلِ مَا يُعَامِلُونَنَا كَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إلَى مَقْصُودِ الْأَمَانِ وَاتِّصَالِ التِّجَارَاتِ. لَا يُقَالُ: فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَنَافٍ لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ هَذَا لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْحِمَايَةِ، وَقَالَ هَاهُنَا: لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ، وَإِذَا كَانَ الْأَخْذُ مَعْلُولًا لِأَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ مَعْلُولًا لِغَيْرِهِ لِئَلَّا يَتَوَارَدَ عِلَّتَانِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ بِالشَّخْصِ لِأَنَّا نَقُولُ: الْأَخْذُ مِنْهُمْ مَعْلُومٌ لِلْحِمَايَةِ. وَأَمَّا الْمِقْدَارُ الْمُعَيَّنُ وَهُوَ الْعُشْرُ فَمَعْلُولٌ لِلْمُجَازَاةِ إلَخْ، وَلَا تَنَافِيَ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ) وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (فَإِنْ أَعْيَاكُمْ فَالْعُشْرُ) تَقُولُ عَيِيت بِأَمْرِي إذَا لَمْ تَهْتَدِ لِوُجْهَتِهِ، وَأَعْيَانِي هُوَ، وَقِيلَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْعِيِّ وَهُوَ الْجَهْلُ، فَإِنْ أَعْيَاكُمْ: أَيْ جَهْلُكُمْ: يُعْنَى إذَا اشْتَبَهَ الْحَالُ بِأَنْ لَمْ يَعْلَمْ الْعَاشِرُ مَا يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِنَا
الْعُشْرَ أَوْ نِصْفَ الْعُشْرِ نَأْخُذُ بِقَدَرِهِ، وَإِنْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْكُلَّ لَا نَأْخُذُ الْكُلَّ)؛ لِأَنَّهُ غَدْرٌ (وَإِنْ كَانُوا لَا يَأْخُذُونَ أَصْلًا لَا نَأْخُذُ) لِيَتْرُكُوا الْأَخْذَ مِنْ تُجَّارِنَا وَلِأَنَّا أَحَقُّ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
قَالَ (وَإِنْ مَرَّ حَرْبِيٌّ عَلَى عَاشِرٍ فَعَشَرَهُ ثُمَّ مَرَّ مَرَّةً أُخْرَى لَمْ يَعْشُرْهُ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ)؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ اسْتِئْصَالُ الْمَالِ وَحَقُّ الْأَخْذِ لِحِفْظِهِ، وَلِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ الْأَوَّلِ بَاقٍ، وَبَعْدَ الْحَوْلِ يَتَجَدَّدُ الْأَمَانُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ إلَّا حَوْلًا، وَالْأَخْذُ بَعْدَهُ لَا يَسْتَأْصِلُ الْمَالَ (فَإِنْ عَشَرَهُ فَرَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ عَشَرَهُ أَيْضًا)؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ بِأَمَانٍ جَدِيدٍ.
وَكَذَا الْأَخْذُ بَعْدَهُ لَا يُفْضِي إلَى الِاسْتِئْصَالِ
يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ غَدْرٌ) أَيْ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ الْحِمَايَةِ وَالْغَدْرُ حَرَامٌ، قَالَ صلى الله عليه وسلم «وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ» وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُؤْخَذُ مِنْهُ جَمِيعُ مَا فِي يَدِهِ إلَّا قَدْرُ مَا يُبَلِّغُهُ مَأْمَنَهُ، لِأَنَّا مَأْمُورُونَ بِتَبْلِيغِهِ مَأْمَنَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُؤْخَذُ مِنْهُ الْكُلُّ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ فَيُجَازِيهِمْ بِمِثْلِ صَنِيعِهِمْ لِيَنْزَجِرُوا.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ مَرَّ حَرْبِيٌّ عَلَى عَاشِرٍ إلَخْ) حَاصِلُهُ أَنَّ الْعُشْرَ إنَّمَا يَتَكَرَّرُ فِيمَا يَمُرُّ بِهِ بِكَمَالِ الْحَوْلِ أَوْ بِتَجْدِيدِ الْعَهْدِ بِالرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ بِالْمُرُورِ عَلَى الْعَاشِرِ، وَإِنْ كَانَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْهُمَا لَمْ يُعَشِّرْهُ ثَانِيًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ نَصْرَانِيًّا مَرَّ بِفَرَسٍ لَهُ عَلَى عَاشِرِ عُمَرَ رضي الله عنه فَعَشَّرَهُ، ثُمَّ مَرَّ بِهِ ثَانِيًا فَهَمَّ أَنْ يُعَشِّرَهُ فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: كُلَّمَا مَرَرْت بِكَ عَشَّرْتَنِي إذًا يَذْهَبُ فَرَسِي كُلُّهُ؟ فَتَرَكَ الْفَرَسَ عِنْدَهُ وَذَهَبَ إلَى عُمَرَ رضي الله عنه، فَلَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ أَتَى الْمَسْجِدَ فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى عَتَبَتَيْ الْبَابِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَا الشَّيْخُ النَّصْرَانِيُّ، فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَا الشَّيْخُ الْحَنِيفِيُّ، فَقَصَّ النَّصْرَانِيُّ الْقِصَّةَ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: أَتَاك الْغَوْثُ فَنَكَّسَ رَأْسَهُ، وَرَجَعَ إلَى مَا كَانَ فِيهِ، فَظَنَّ النَّصْرَانِيُّ أَنَّهُ اسْتَخَفَّ بِظُلَامَتِهِ فَرَجَعَ كَالْخَائِبِ، فَلَمَّا انْتَهَى إلَى فَرَسِهِ وَجَدَ كِتَابَ عُمَرَ قَدْ سَبَقَهُ إنَّك إنْ أَخَذْت الْعُشْرَ مَرَّةً فَلَا تَأْخُذْهُ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: إنَّ دِينًا يَكُونُ الْعَدْلُ فِيهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَحَقِيقٌ أَنْ يَكُونَ حَقًّا فَأَسْلَمَ. فَإِنْ قِيلَ: كَلَامُ الْمُصَنِّفِ مُتَنَاقِضٌ لِأَنَّهُ قَالَ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ، ثُمَّ قَالَ لَا يُمْكِنُ مِنْ الْمَقَامِ إلَّا حَوْلًا، وَالْمُرَادُ بِهِ إلَّا قَرِيبًا مِنْ الْحَوْلِ لِأَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ حَوْلًا كَامِلًا. أُجِيبَ بِأَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ حَتَّى
(وَإِنْ مَرَّ ذِمِّيٌّ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ عَشَرَ الْخَمْرَ دُونَ الْخِنْزِيرِ) وَقَوْلُهُ عَشَرَ الْخَمْرَ: أَيْ مِنْ قِيمَتِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَعْشُرُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُمَا. وَقَالَ زُفَرُ: يَعْشُرُهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَالِيَّةِ عِنْدَهُمْ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَعْشُرُهُمَا إذَا مَرَّ بِهِمَا جُمْلَةً كَأَنَّهُ جَعَلَ الْخِنْزِيرَ تَبَعًا لِلْخَمْرِ، فَإِنْ مَرَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ عَشَرَ الْخَمْرَ دُونَ الْخِنْزِيرِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ الْقِيمَةَ فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ لَهَا حُكْمُ الْعَيْنِ وَالْخِنْزِيرُ مِنْهَا، وَفِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ لَيْسَ لَهَا هَذَا الْحُكْمُ
يَحُولَ الْحَوْلُ: إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْإِمَامُ بِحَالِهِ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ ثَانِيًا.
قَالَ (وَإِنْ مَرَّ ذِمِّيٌّ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ عُشِّرَ الْخَمْرُ دُونَ الْخِنْزِيرِ) إذَا مَرَّ الذِّمِّيُّ عَلَى الْعَاشِرِ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ وَتَبْلُغُ الْقِيمَةُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا فَسَّرَ بِقَوْلِهِ (أَيْ مِنْ قِيمَتِهَا) احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ مَسْرُوقٍ رحمه الله فَإِنَّهُ يَقُولُ يُعَشَّرُ عَيْنُهَا وَنَفْيًا لِظَاهِرِ مَا يُفْهَمُ فَإِنَّ السَّامِعَ يَفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يُعَشِّرُ عَيْنَ الْخَمْرِ وَالْمُسْلِمُ مَنْهِيٌّ عَنْ اقْتِرَابِهَا ثُمَّ الشَّافِعِيُّ رحمه الله مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ بِأَنَّهُ لَا مَالِيَّةَ وَلَا قِيمَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ الْمُسْلِمُ خَمْرَ الذِّمِّيِّ أَوْ خِنْزِيرَهُ لَا يَضْمَنُ عِنْدَهُ، وَزُفَرُ رحمه الله سَوَّى بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَالِيَّةِ عِنْدَهُ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ إذَا أَتْلَفَ خِنْزِيرَ الذِّمِّيِّ ضَمِنَهُ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ خَمْرَهُ، وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ التَّبَعِيَّةَ فَجَعَلَ الْخِنْزِيرَ تَابِعًا لِلْخَمْرِ لِأَنَّ الْخَمْرَ أَقْرَبُ إلَى الْمَالِيَّةِ بِوَاسِطَةِ التَّخْلِيلِ، وَقَدْ يَثْبُتُ الْحُكْمُ تَبَعًا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ مَقْصُودًا.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَقَدْ اُعْتُرِضَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِمَا ذَكَرَهُ فِي الشُّفْعَةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فَقَالَ وَإِذَا اشْتَرَى ذِمِّيٌّ دَارًا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ وَشَفِيعُهَا ذِمِّيٌّ، إلَى أَنْ قَالَ: وَإِنْ كَانَ شَفِيعُهَا مُسْلِمًا أَخَذَهَا بِقِيمَةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، فَلَوْ كَانَ لِقِيمَةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ حُكْمُهُ لَمَا أُخِذَ بِقِيمَتِهِ كَمَا لَا يَأْخُذُهَا بِعَيْنِهِ وَبِمَسْأَلَةِ الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ إذَا أَتْلَفَ خِنْزِيرًا لِذِمِّيٍّ يُضْمَنُ بِقِيمَتِهِ وَلَوْ كَانَ لَهَا حُكْمُ الْعَيْنِ لَمَا ضَمِنَهَا كَمَا لَا يَضْمَنُ عَيْنَهَا، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَبِأَنَّ الْمُسْلِمَ أَوْ الذِّمِّيَّ إذَا غَصَبَ خِنْزِيرَ ذِمِّيٍّ وَتَحَاكَمَا إلَى الْقَاضِي يَأْمُرُهُ الْقَاضِي بِالرَّدِّ وَالتَّسْلِيمِ وَذَلِكَ حِمَايَةً لَهُ. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ قِيمَةَ ذَوَاتِ الْقِيَمِ بِمَنْزِلَةِ عَيْنِهَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ عَيْنِهَا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَبِمَنْزِلَتِهَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَدَاءَ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِالتَّعْيِينِ وَلَا تَعْيِينَ إلَّا بِالتَّقْوِيمِ فَأَخَذَتْ الْقِيمَةُ حُكْمَ الْعَيْنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلِهَذَا إذَا تَزَوَّجَ الذِّمِّيُّ امْرَأَةً عَلَى خِنْزِيرٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ أَتَاهَا بِالْقِيمَةِ أُجْبِرَتْ عَلَى قَبُولِهَا كَمَا لَوْ أَتَاهَا بِعَيْنِهِ، فَلَمَّا دَارَتْ الْقِيمَةُ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْنِ وَبَيْنَ أَنْ لَا تَكُونَ أُعْطِيت حُكْمَ الْعَيْنِ فِي حَقِّ الْأَخْذِ وَالْحِيَازَةِ وَهُوَ فِي بَابِ الزَّكَاةِ، وَلَمْ تُعْطَ فِي حَقِّ الْإِعْطَاءِ لِأَنَّهُ
وَالْخَمْرُ مِنْهَا، وَلِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلْحِمَايَةِ وَالْمُسْلِمُ يَحْمِي خَمْرَ نَفْسِهِ لِلتَّخْلِيلِ فَكَذَا يَحْمِيهَا عَلَى غَيْرِهِ وَلَا يَحْمِي خِنْزِيرَ نَفْسِهِ بَلْ يَجِبُ تَسْيِيبُهُ بِالْإِسْلَامِ فَكَذَا لَا يَحْمِيهِ عَلَى غَيْرِهِ
(وَلَوْ مَرَّ صَبِيٌّ أَوْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ بِمَالٍ فَلَيْسَ عَلَى الصَّبِيِّ شَيْءٌ، وَعَلَى الْمَرْأَةِ مَا عَلَى الرَّجُلِ) لِمَا ذَكَرْنَا فِي السَّوَائِمِ (وَمَنْ مَرَّ عَلَى عَاشِرٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ لَهُ فِي مَنْزِلِهِ مِائَةً أُخْرَى قَدْ حَالَ عَلَيْهَا لَمْ يُزَكِّ الَّتِي مَرَّ بِهَا) لِقِلَّتِهَا وَمَا فِي بَيْتِهِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ حِمَايَتِهِ (وَلَوْ مَرَّ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ بِضَاعَةً لَمْ يَعْشُرْهَا)؛ لِأَنَّهُ غَيْرَ مَأْذُونٍ بِأَدَاءِ زَكَاتِهِ. قَالَ (وَكَذَا الْمُضَارَبَةُ) يَعْنِي إذَا مَرَّ الْمُضَارِبُ بِهِ عَلَى الْعَاشِرِ وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ أَوَّلًا يَعْشُرُهَا لِقُوَّةِ حَقِّ الْمُضَارِبِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ رَبُّ الْمَالِ نَهْيَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بَعْدَ مَا صَارَ عُرُوضًا فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَا نَائِبٍ عَنْهُ فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ يَبْلُغُ نَصِيبُهُ نِصَابًا فَيُؤْخَذُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لَهُ
(وَلَوْ مَرَّ عَبْدٌ مَأْذُونٌ لَهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ
مَوْضِعُ إزَالَةٍ وَتَبْعِيدٍ وَهُوَ فِي بَابِ الشُّفْعَةِ وَالْإِتْلَافِ، وَنُوقِضَ بِذِمِّيٍّ أَخَذَ قِيمَةَ خِنْزِيرٍ لَهُ اسْتَهْلَكَهُ ذِمِّيٌّ وَقَضَى بِهَا دَيْنًا لِمُسْلِمٍ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ، وَلَوْ كَانَ أَخْذُ الْقِيمَةِ كَأَخْذِ الْعَيْنِ لَمَا جَازَ الْقَضَاءُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا قَضَى بِهَا دَيْنًا عَلَيْهِ وَقَعَتْ الْمُعَاوَضَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ الدَّيْنِ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ السَّبَبُ، وَاخْتِلَافُ الْأَسْبَابِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْأَعْيَانِ عَلَى مَا عُرِفَ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ حِمَايَةِ خِنْزِيرِ نَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ حِمَايَةِ خِنْزِيرِ غَيْرِهِ لِغَرَضٍ يَسْتَوْفِيهِ، وَالْعَاشِرُ لَوْ حَمَاهُ حَمَاهُ كَذَلِكَ بِخِلَافِ الْقَاضِي.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ مَرَّ صَبِيٌّ أَوْ امْرَأَةٌ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَمَنْ مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِمِائَةٍ) يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ بِأَدَاءِ زَكَاتِهِ) يَعْنِي هُوَ مَأْذُونٌ بِالتِّجَارَةِ فَقَطْ، فَلَوْ أَخَذَ أَخَذَ غَيْرَ زَكَاةٍ وَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ سِوَى الزَّكَاةِ. وَقَوْلُهُ (وَلَا نَائِبَ عَنْهُ) أَيْ إنَّمَا هُوَ نَائِبٌ فِي التِّجَارَةِ لَا غَيْرُ، وَالنَّائِبُ تَقْتَصِرُ وِلَايَتُهُ عَلَى مَا فُوِّضَ إلَيْهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَبْضَعِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ مَرَّ عَبْدٌ مَأْذُونٌ لَهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ) ظَاهِرٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْمُضَارِبِ رُجُوعٌ فِي الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ كَذَا قَالَ
وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ عَشَرَهُ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا أَدْرِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ عَنْ هَذَا أَمْ لَا. وَقِيَاسُ قَوْلِهِ الثَّانِي فِي الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا أَنَّهُ لَا يَعْشُرُهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيمَا فِي يَدِهِ لِلْمَوْلَى وَلَهُ التَّصَرُّفُ فَصَارَ كَالْمُضَارِبِ. وَقِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَبْدَ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ حَتَّى لَا يَرْجِعَ بِالْعُهْدَةِ عَلَى الْمَوْلَى فَكَانَ هُوَ الْمُحْتَاجَ إلَى الْحِمَايَةِ، وَالْمُضَارِبُ يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ النِّيَابَةِ حَتَّى يَرْجِعَ بِالْعُهْدَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَكَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الْمُحْتَاجَ. فَلَا يَكُونُ الرُّجُوعُ فِي الْمُضَارِبِ رُجُوعًا مِنْهُ فِي الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ مَعَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ إلَّا إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ أَوْ لِلشُّغْلِ. قَالَ (وَمَنْ مَرَّ عَلَى عَاشِرِ الْخَوَارِجِ فِي أَرْضٍ قَدْ غَلَبُوا عَلَيْهَا فَعَشَرَهُ يُثَنَّى عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ) مَعْنَاهُ: إذَا مَرَّ عَلَى عَاشِرِ أَهْلِ الْعَدْلِ؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ حَيْثُ إنَّهُ مَرَّ عَلَيْهِ.
بَابٌ فِي الْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ
فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَصَاحِبُ الْإِيضَاحِ. وَقَوْلُهُ (إلَّا إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ مَوْلَاهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ) يَعْنِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (أَوْ لِلشَّغْلِ) أَيْ عِنْدَهُمَا. فَإِنَّ الشَّغْلَ بِالدَّيْنِ مَانِعٌ عَنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ. وَقَوْلُهُ (وَمَنْ مَرَّ عَلَى عَاشِرِ الْخَوَارِجِ) وَاضِحٌ
(بَابُ الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ)
أَخَّرَ بَابَ الْمَعْدِنِ عَنْ الْعَاشِرِ لِأَنَّ الْعُشْرَ أَكْثَرُ وُجُودًا، وَالْمَالُ الْمُسْتَخْرَجُ مِنْ الْأَرْضِ لَهُ أَسَامٍ ثَلَاثَةٌ: الْكَنْزُ،
قَالَ (مَعْدِنُ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ رَصَاصٍ أَوْ صُفْرٍ
وَالْمَعَادِنُ، وَالرِّكَازُ. وَالْكَنْزُ اسْمٌ لِمَا دَفَنَهُ بَنُو آدَمَ، وَالْمَعْدِنُ اسْمٌ لِمَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ الْأَرْضَ، وَالرِّكَازُ اسْمٌ لَهُمَا جَمِيعًا. وَالْكَنْزُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَنَزَ الْمَالَ كَنْزًا جَمَعَهُ، وَالْمَعْدِنُ مِنْ عَدَنَ بِالْمَكَانِ أَقَامَ بِهِ، وَالرِّكَازُ مِنْ رَكَّزَ الرُّمْحَ أَيْ غَرَزَهُ. وَعَلَى هَذَا جَازَ إطْلَاقُهُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَرْكُوزٌ فِي الْأَرْضِ: أَيْ مُثْبَتٌ وَإِنْ اخْتَلَفَ الرَّاكِزُ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَذْكُورِ فِي لَقَبِ الْبَابِ الْكَنْزُ لِمَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا الْبَابَ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ الْمَعَادِنِ وَالْكُنُوزِ عَلَى مَا يَجِيءُ، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ بِهِ الْمَعْدِنُ لَزِمَ التَّكْرَارُ لِأَنَّهُ يَكُونُ تَقْدِيرُ كَلَامِهِ بَابٌ فِي الْمَعَادِنِ وَالْمَعَادِنِ وَإِنْ أُرِيدَ الْمَعَادِنُ وَالْكَنْزُ كَانَ تَقْدِيرُهُ بَابٌ فِي الْمَعَادِنِ وَالْمَعَادِنِ وَالْكَنْزِ.
قَالَ (مَعْدِنُ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ) الْمُسْتَخْرَجُ مِنْ الْمَعَادِنِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ: جَامِدٌ يَذُوبُ وَيَنْطَبِعُ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالصُّفْرِ، وَجَامِدٌ لَا يَذُوبُ كَالْجِصِّ وَالنُّورَةِ وَالْكُحْلِ وَالزِّرْنِيخِ، وَمَائِعٌ لَا يَتَجَمَّدُ كَالْمَاءِ وَالْقِيرِ وَالنِّفْطِ.
وَمَسَائِلُ هَذَا الْبَابِ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ وَجْهًا، لِأَنَّ الذَّهَبَ أَوْ الْفِضَّةَ الَّذِي يُوجَدُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْدِنًا أَوْ كَنْزًا، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُوَا إمَّا أَنْ يُوجَدَ فِي حَيِّزِ دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ حَيِّزِ دَارِ الْحَرْبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ يُوجَدَ فِي مَفَازَةٍ لَا مَالِكَ لَهَا، أَوْ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ، أَوْ فِي دَارٍ، وَالْمَوْجُودُ كَنْزٌ لَا يَخْلُو عَنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَيْضًا:
وُجِدَ فِي أَرْضِ خَرَاجٍ أَوْ عُشْرٍ فَفِيهِ الْخُمُسُ) عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ كَالصَّيْدِ إلَّا إذَا كَانَ الْمُسْتَخْرَجُ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً فَيَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْحَوْلُ فِي قَوْلٍ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءٌ كُلُّهُ وَالْحَوْلُ
إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى ضَرْبِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، أَوْ عَلَى ضَرْبِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَاشْتَبَهَ الْحَالُ. فَفِي الْأَوَّلِ وَهُوَ مَا يَذُوبُ وَيَتَطَبَّعُ إذَا (وُجِدَ فِي أَرْضِ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ الْخُمُسُ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ) وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ (كَالصَّيْدِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُسْتَخْرَجُ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً فَيَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ) وَهُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ (وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْحَوْلُ فِي قَوْلٍ) لِمَا ذَكَرَ أَنَّهُ نَمَاءٌ كُلُّهُ، وَالْحَوْلُ لِلتَّنْمِيَةِ وَالنِّصَابُ عِنْدَهُ مُعْتَبَرٌ، فَلَوْ كَانَ دُونَ الْمِائَتَيْنِ مِنْ الْفِضَّةِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ.
وَإِنَّمَا قَالَ فِي جَانِبِ الشَّافِعِيِّ: وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْحَوْلُ وَلَمْ يَقُلْ فِي جَانِبِنَا لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَائِلٌ بِالزَّكَاةِ فَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ بِاشْتِرَاطِ الْحَوْلِ، فَنَفَاهُ بِمَا ذَكَرَ مِنْ الدَّلِيلِ، وَنَحْنُ نَقُولُ
لِلتَّنْمِيَةِ وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» وَهُوَ مِنْ الرَّكْزِ فَأُطْلِقَ عَلَى الْمَعْدِنِ وَلِأَنَّهَا كَانَتْ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ فَحَوَتْهَا أَيْدِينَا غَلَبَةً فَكَانَتْ غَنِيمَةً. وَفِي الْغَنَائِمِ الْخُمُسُ بِخِلَافِ الصَّيْدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ أَحَدٍ إلَّا أَنَّ لِلْغَانِمِينَ يَدًا حُكْمِيَّةً لِثُبُوتِهَا عَلَى الظَّاهِرِ، وَأَمَّا الْحَقِيقِيَّةُ فَلِلْوَاجِدِ فَاعْتَبَرْنَا الْحُكْمِيَّةَ فِي حَقِّ الْخُمُسِ وَالْحَقِيقَةَ فِي حَقِّ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ حَتَّى كَانَتْ لِلْوَاجِدِ
(وَلَوْ وَجَدَ فِي دَارِهِ
بِالْخُمُسِ وَالْحَوْلُ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ (وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» قَالَهُ حِينَ سُئِلَ عَمَّا يُوجَدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ الْعَادِي، وَعَطَفَ عَلَى الْمَسْئُولِ عَنْهُ فَقَالَ فِيهِ «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» عَطَفَ عَلَى الْمَدْفُونِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالرِّكَازِ الْمَعْدِنُ فَإِنَّهُ مِنْ الرِّكْزِ وَهُوَ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَعْدِنِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ (وَلِأَنَّهَا) أَيْ الْأَرْضَ (كَانَتْ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ فَحَوَتْهَا أَيْدِينَا) وَهُوَ وَاضِحٌ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ غَنِيمَةً وَهُوَ أَيْضًا وَاضِحٌ، وَفِي الْغَنِيمَةِ الْخُمُسُ بِالنَّصِّ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الصَّيْدِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَالصَّيْدِ، فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ غَنِيمَةً لَكَانَ الْخُمُسُ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ لِلْغَانِمِينَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (إلَّا أَنَّ لِلْغَانِمِينَ يَدًا حُكْمِيَّةً) وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْغَانِمِينَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّونَ أَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ إذَا حَوَتْ أَيْدِيهمْ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَهَاهُنَا أَيْدِيهمْ حُكْمِيَّةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَتْ أَيْدِيهمْ عَلَى ظَاهِرِ الْأَرْضِ حَقِيقَةً ثَبَتَتْ عَلَى بَاطِنِهَا حُكْمًا.
(وَأَمَّا الْحَقِيقِيَّةُ فَلِلْوَاجِدِ) فَكَانَ مَا فِي بَاطِنِهَا غَنِيمَةً حُكْمًا لَا حَقِيقَةً (فَاعْتَبَرْنَا الْحُكْمِيَّةَ فِي حَقِّ الْخُمُسِ وَالْحَقِيقِيَّةَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ حَتَّى كَانَ لِلْوَاجِدِ) مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا حُرًّا أَوْ عَبْدًا صَبِيًّا أَوْ بَالِغًا رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ هَذَا الْمَالِ كَاسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ، وَلِجَمِيعِ مَنْ ذَكَرْنَا حَقٌّ فِي الْغَنِيمَةِ إمَّا سَهْمًا أَوْ رَضْخًا، فَإِنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَرْأَةَ وَالْعَبْدَ وَالذِّمِّيَّ يُرْضَخُ لَهُمْ إذَا قَاتَلُوا عَلَى مَا سَيَجِيءُ، بِخِلَافِ الْحَرْبِيِّ فَإِنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ وَإِنْ قَاتَلَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، فَإِذَا وَجَدَ شَيْئًا مِنْ الرِّكَازِ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْكُلُّ. فَإِنْ قِيلَ: رَوَى أَنَّ عَبْدًا وَجَدَ جَرَّةً مِنْ ذَهَبٍ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رضي الله عنه فَأَدَّى ثَمَنَهُ وَأَعْتَقَهُ وَجَعَلَ مَا بَقِيَ لِبَيْتِ الْمَالِ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ كَانَ وَجَدَهُ فِي دَارِ رَجُلٍ صَاحِبِ خُطَّةٍ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا فَصَرَفَهُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ وَرَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي أَنْ يُعْطِيَ ثَمَنَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِيُوصِلَهُ إلَى الْعِتْقِ. قَالَ فِي التُّحْفَةِ: يَجُوزُ لِلْوَاجِدِ أَنْ يَصْرِفَ الْخُمُسَ إلَى نَفْسِهِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا لَا يُغْنِيهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ وَهُوَ حَقٌّ وَذَكَرَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مَا يُشِيرُ إلَى خِلَافِ ذَلِكَ.
قَالَ (وَلَوْ وَجَدَ فِي دَارِهِ)
مَعْدِنًا فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا فِيهِ الْخُمُسُ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَلَهُ أَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ مُرَكَّبٌ فِيهَا وَلَا مُؤْنَةَ فِي سَائِرِ الْأَجْزَاءِ فَكَذَا فِي هَذَا الْجُزْءِ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ لَا يُخَالِفُ الْجُمْلَةَ، بِخِلَافِ الْكَنْزِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُرَكَّبٍ فِيهَا (وَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضِهِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ) وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى إحْدَاهُمَا وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الدَّارَ مُلِكَتْ خَالِيَةً عَنْ الْمُؤَنِ دُونَ الْأَرْضِ وَلِهَذَا وَجَبَ الْعُشْرُ، وَالْخَرَاجُ فِي الْأَرْضِ دُونَ الدَّارِ فَكَذَا هَذِهِ الْمُؤْنَةُ
(وَإِنْ وَجَدَ رِكَازًا) أَيْ كَنْزًا (وَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ) عِنْدَهُمْ لِمَا رَوَيْنَا وَاسْمُ الرِّكَازِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْكَنْزِ لِمَعْنَى الرَّكْزِ وَهُوَ الْإِثْبَاتُ
إذَا وَجَدَ الْإِنْسَانُ فِي دَارِهِ (مَعْدِنًا فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا فِيهِ الْخُمُسُ) لَهُمَا إطْلَاقُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالدَّارِ، وَدَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرٌ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ أَجْزَائِهَا لَجَازَ التَّيَمُّمُ بِهِ وَلَمْ يُجْزِهِ بِالْإِجْمَاعِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّيَمُّمَ يَجُوزُ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهَا لَا مِنْ أَجْزَائِهَا خِلْقَةً، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا. وَالْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ أَنَّ الْإِمَامَ لَمَّا خَصَّهُ بِهَذِهِ الدَّارِ فَكَأَنَّهُ نَفَّلَ بِهَا، وَلِلْإِمَامِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ (وَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضِهِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ) فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ: لَا شَيْءَ فِيهِ كَمَا فِي الدَّارِ، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: فِيهِ الْخُمُسُ، وَالْفَرْقُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.
قَوْلُهُ (وَإِنْ وَجَدَ رِكَازًا: أَيْ كَنْزًا) إنَّمَا فَسَّرَهُ بِهَذَا لِأَنَّ الرِّكَازَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَعْدِنِ وَالْكَنْزِ، وَقَدْ فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْمَعْدِنِ فَيُرَادُ بِهِ الْكَنْزُ وَلِيَصِحَّ قَوْلُهُ (وَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ عِنْدَهُمْ) فَإِنْ وَجَبَ الْخُمُسُ بِالِاتِّفَاقِ إنَّمَا هُوَ فِي الْكَنْزِ لَا فِي الْمَعْدِنِ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَقُولُ بِوُجُوبِهِ فِي الدَّارِ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَقَوْلُهُ (لِمَا رَوَيْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» فَإِنْ قِيلَ: قَدْ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ الْخُمُسِ فِي الْمَعْدِنِ فَاسْتِدْلَالُهُ بِهِ هُنَا اسْتِعْمَالٌ لِلَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَاسْمُ الرِّكَازِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْكَنْزِ لِمَعْنَى الرِّكْزِ فِيهِ وَهُوَ الْإِثْبَاتُ) وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي بَابِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَدْلُولَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ وَلَا امْتِنَاعَ فِي ذَلِكَ، وَبِهَذَا سَقَطَ مَا قِيلَ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقُولَ لِسِبَاقِ مَا رَوَيْنَا وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِيهِ «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِيهِ الْكَنْزُ فَكَانَ ذِكْرُ الْكَنْزِ مَقْصُودًا هُنَاكَ فَكَانَ التَّمَسُّكُ بِهِ أَوْلَى كَمَا تَمَسَّكَ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ، إذْ دَلَالَةُ الرِّكَازِ عَلَى مَا ادَّعَى الْمُصَنِّفُ مِنْ الْكَنْزِ بِسَبَبِ دَلَالَةِ الرِّكَازِ عَلَى الْإِثْبَاتِ لَا غَيْرُ، وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ قَدْ يَدُلُّ عَلَى الْكَنْزِ وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْدِنِ فَكَانَ مُحْتَمَلًا كَالنَّصِّ.
وَأَمَّا إرَادَةُ الْكَنْزِ لِسِيَاقِ الْحَدِيثِ وَهُوَ فِيمَا تَمَسَّكَ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ فَبِدَلِيلٍ غَيْرِ مُحْتَمَلٍ فَكَانَ مُفَسَّرًا
ثُمَّ إنْ كَانَ عَلَى ضَرْبِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ كَالْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ وَقَدْ عُرِفَ حُكْمُهَا فِي مَوْضِعِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى ضَرْبِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كَالْمَنْقُوشِ عَلَيْهِ الصَّنَمُ فَفِيهِ الْخُمُسُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِمَا بَيَّنَّا ثُمَّ إنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ فَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ الْإِحْرَازُ مِنْهُ إذْ لَا عِلْمَ بِهِ لِلْغَانِمِينَ فَيَخْتَصُّ هُوَ بِهِ، وَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ، فَكَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِتَمَامِ الْحِيَازَةِ وَهِيَ مِنْهُ،
فَالتَّمَسُّكُ بِهِ أَوْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِالْعَامِّ عَلَى مَا قَرَّرَ لَا بِالْمُشْتَرَكِ، وَالْعَامُّ وَالْخَاصُّ عِنْدَنَا فِي إيجَابِ الْحُكْمِ سَوَاءٌ (ثُمَّ إنْ كَانَ عَلَى ضَرْبِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ كَالْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ) يُعَرِّفُهَا حَيْثُ وَجَدَهَا مُدَّةً يَتَوَهَّمُ أَنَّ صَاحِبَهَا يَطْلُبُهَا وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ (وَإِنْ كَانَ عَلَى ضَرْبِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كَالْمَنْقُوشِ عَلَيْهِ الصَّنَمُ فَفِيهِ الْخُمُسُ عَلَى كُلِّ حَالٍ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَ الْمَوْجُودُ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ رَصَاصًا أَوْ غَيْرَهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَاجِدُ صَغِيرًا أَوْ بَالِغًا حُرًّا أَوْ عَبْدًا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا إلَّا إذَا كَانَ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا لِمَا ذَكَرْنَا. وَقَوْلُهُ (لَمَا بَيَّنَّا) يَعْنِي مِنْ النَّصِّ وَالْمَعْقُولِ (ثُمَّ إنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ) يَعْنِي الَّذِي هُوَ عَلَى ضَرْبِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ الَّذِي يَكُونُ بِضَرْبِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ يُلْحَقُ بِاللُّقَطَةِ فَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ هَذَا التَّفْرِيعُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ تَمَّ الْإِحْرَازُ مِنْهُ إذْ لَا عِلْمَ بِهِ لِلْغَانِمَيْنِ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ لِلْغَانِمَيْنِ يَدًا حُكْمِيَّةً وَلِلْوَاجِدِ يَدًا حَقِيقِيَّةً فَيَكُونُ فِيهِ الْخُمُسُ وَالْبَاقِي لِلْوَاجِدِ (وَإِنْ وَجَدَهُ) أَيْ هَذَا الْكَنْزَ الْمَذْكُورَ (فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَكَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) أَيْ الْخُمُسُ لِلْفُقَرَاءِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ مَالِكًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَالِكٍ (لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِتَمَامِ الْحِيَازَةِ وَهِيَ مِنْهُ) لِأَنَّ
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ هُوَ لِلْمُخْتَطِّ لَهُ وَهُوَ الَّذِي مَلَّكَهُ الْإِمَامُ هَذِهِ الْبُقْعَةَ أَوَّلَ الْفَتْحِ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ وَهِيَ يَدُ الْخُصُوصِ فَيَمْلِكُ بِهَا مَا فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الظَّاهِرِ، كَمَنْ اصْطَادَ سَمَكَةً فِي بَطْنِهَا دُرَّةٌ مَلَكَ الدُّرَّةَ ثُمَّ بِالْبَيْعِ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا بِخِلَافِ الْمَعْدِنِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَائِهَا فَيَنْتَقِلُ إلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ الْمُخْتَطُّ لَهُ يُصْرَفُ إلَى أَقْصَى مَالِكٍ يُعْرَفُ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى مَا قَالُوا وَلَوْ اشْتَبَهَ الضَّرْبُ يُجْعَلُ جَاهِلِيًّا فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَقِيلَ يُجْعَلُ إسْلَامِيًّا فِي زَمَانِنَا لِتَقَادُمِ الْعَهْدِ
(وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَوَجَدَ فِي دَارِ بَعْضِهِمْ رِكَازًا رَدَّهُ عَلَيْهِمْ) تَحَرُّزًا عَنْ الْغَدْرِ؛ لِأَنَّ مَا فِي الدَّارِ فِي يَدِ صَاحِبِهَا خُصُوصًا (وَإِنْ وَجَدَهُ فِي الصَّحْرَاءِ فَهُوَ لَهُ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ
الْمُخْتَطَّ لَهُ مَا حَازَ مَا فِي الْبَاطِنِ (وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ هُوَ لِلْمُخْتَطِّ لَهُ وَهُوَ الَّذِي مَلَّكَهُ الْإِمَامُ هَذِهِ الْبُقْعَةَ أَوَّلَ الْفَتْحِ لِسَبْقِ يَدِهِ إلَيْهِ) فَإِنْ قِيلَ: يَدُ الْمُخْتَطِّ لَهُ وَإِنْ كَانَتْ سَابِقَةً لَكِنَّهَا يَدٌ حُكْمِيَّةٌ وَبِهَا لَا يُمْلَكُ كَمَا فِي الْغَانِمِينَ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَهِيَ يَدُ الْخُصُوصِ) يَعْنِي أَنَّ الْيَدَ الْحُكْمِيَّةَ إنَّمَا لَا يَثْبُتُ بِهَا الْمِلْكُ إذَا كَانَتْ يَدَ عُمُومٍ كَمَا فِي الْغَانِمِينَ، أَمَّا إذَا كَانَتْ يَدَ خُصُوصٍ (فَيُمْلَكُ بِهَا مَا فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الظَّاهِرِ، كَمَنْ اصْطَادَ سَمَكَةً فِي بَطْنِهَا دُرَّةٌ مَلَكَ الدُّرَّةَ) وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ تَصَرُّفَ الْغَازِي بَعْدَ الْقِسْمَةِ نَافِذٌ وَقَبْلَهَا لَا، وَمَا ثَمَّةَ إلَّا عُمُومُ الْيَدِ وَخُصُوصُهَا، فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُخْتَطَّ لَهُ قَدْ مَلَكَ لَكِنْ بَاعَ الْأَرْضَ فَخَرَجَ الْكَنْزُ عَنْ مِلْكِهِ كَمَا لَوْ كَانَ فِيهَا مَعْدِنٌ.
أَجَابَ بِأَنَّهُ: أَيْ الْكَنْزَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ بِبَيْعِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا، كَمَا أَنَّهُ إذَا بَاعَ السَّمَكَةَ لَمْ تَخْرُجْ بِبَيْعِهَا الدُّرَّةُ عَنْ مِلْكِهِ، بِخِلَافِ الْمَعْدِنِ فَإِنَّهُ مِنْ أَجْزَائِهِ فَيَنْتَقِلُ إلَى الْمُشْتَرِي (وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ الْمُخْتَطُّ لَهُ يُصْرَفْ إلَى أَقْصَى مَالِكٍ يُعْرَفُ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى مَا قَالُوا) وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ. وَقَالَ أَبُو الْيُسْرِ: يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَقَوْلُهُ (وَلَوْ اشْتَبَهَ الضَّرْبُ) ظَاهِرٌ.
قَالَ (وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَوَجَدَ فِي دَارِ بَعْضِهِمْ رِكَازًا) سَوَاءٌ كَانَ مَعْدِنًا أَوْ كَنْزًا (رَدَّهُ عَلَيْهِمْ تَحَرُّزًا عَنْ الْغَدْرِ) قَالَ صلى الله عليه وسلم «فِي الْعُهُودِ وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ» (لِأَنَّ مَا فِي الدَّارِ فِي يَدِ صَاحِبِهَا خُصُوصًا وَإِنْ وَجَدَهُ فِي الصَّحْرَاءِ) أَيْ الَّتِي فِي حَيِّزِ دَارِ الْحَرْبِ وَلَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لِأَحَدٍ (فَهُوَ لَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ
فِي يَدِ أَحَدٍ عَلَى الْخُصُوصِ فَلَا يُعَدُّ غَدْرًا وَلَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مُتَلَصِّصٍ غَيْرِ مُجَاهِرٍ (وَلَيْسَ فِي الْفَيْرُوزَجِ يُوجَدُ فِي الْجِبَالِ خُمُسٌ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا خُمُسَ فِي الْحَجَرِ» (وَفِي الزِّئْبَقِ الْخُمُسُ) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ آخِرًا وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ
فِي يَدِ أَحَدٍ عَلَى الْخُصُوصِ فَلَا يُعَدُّ غَدْرًا وَلَا شَيْءَ فِيهِ) أَيْ لَا خُمُسَ إنَّمَا يَجِبُ فِيمَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْغَنِيمَةِ وَهِيَ مَا كَانَ فِي يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَوَقَعَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ (لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَلَصِّصِ) فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا أَخَذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَحْرَزَهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمُسْتَأْمَنُ مِنَّا فِي دَرَاهِمِ إذَا وَجَدَ فِي أَرْضٍ لَيْسَ بِمَمْلُوكَةٍ رِكَازًا فَهُوَ لَهُ، وَالْمُسْتَأْمَنُ مِنْهُمْ فِي دَارِنَا لَوْ وَجَدَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي الصَّحْرَاءِ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ كُلُّهُ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْفَرْقَ أَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ دَارُ أَحْكَامٍ فَتُعْتَبَرُ الْيَدُ الْحُكْمِيَّةُ فِيهَا عَلَى الْمَوْجُودِ وَدَارُ الْحَرْبِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَالْمُعْتَبَرُ فِيهَا الْيَدُ الْحَقِيقِيَّةُ وَالْفَرْضُ عَدَمُهَا.
وَقَوْلُهُ (وَلَيْسَ فِي الْفَيْرُوزَجِ يُوجَدُ فِي الْجِبَالِ) هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ الْمَعَادِنِ، وَكَذَلِكَ الْجِصُّ وَالْكُحْلُ وَالزِّرْنِيخُ وَالْيَاقُوتُ وَغَيْرُهَا وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ يُوجَدُ فِي الْجِبَالِ احْتِرَازًا عَمَّا يُوجَدُ مِنْهُ، وَمِمَّا ذَكَرَهُ بَعْدَهُ مِنْ الزِّئْبَقِ وَاللُّؤْلُؤِ فِي خَزَائِنِ الْكُفَّارِ فَأُصِيبَ قَهْرًا فَإِنَّ فِيهِ الْخُمُسَ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا خُمُسَ فِي الْحَجَرِ» مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ مَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنْ مَعْدِنِهِ فَكَانَ هَذَا أَصْلًا فِي كُلِّ مَا هُوَ بِمَعْنَاهُ.
وَقَوْلُهُ (وَفِي الزِّئْبَقِ الْخُمُسُ) قِيلَ هُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ بِالْهَمْزِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالْكَسْرِ الْبَاءُ، بَعْدَ الْهَمْزِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يُصَابُ فِي مَعْدِنِهِ لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا. حُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا لَا شَيْءَ فِيهِ وَكُنْت أَقُولُ فِيهِ الْخُمُسُ، فَلَمْ أَزَلْ أُنَاظِرُهُ وَأَقُولُ إنَّهُ كَالرَّصَاصِ حَتَّى قَالَ فِيهِ الْخُمُسُ، ثُمَّ رَأَيْت أَنْ لَا شَيْءَ فِيهِ، فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله فِيهِ الْخُمُسُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ لَا شَيْءَ فِيهِ، قَالَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقِيرِ وَالنِّفْطِ: يَعْنِي هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمِيَاهِ وَلَا خُمُسَ فِي الْمَاءِ. وَقَالَا
(وَلَا خُمُسَ فِي اللُّؤْلُؤِ وَالْعَنْبَرِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفُ: فِيهِمَا وَفِي كُلِّ حِلْيَةٍ تَخْرُجُ مِنْ الْبَحْرِ خُمُسٌ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَخَذَ الْخُمُسَ مِنْ الْعَنْبَرِ. وَلَهُمَا أَنَّ قَعْرَ الْبَحْرِ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ الْقَهْرُ فَلَا يَكُونُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ
إنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِالْعِلَاجِ مِنْ عَيْنِهِ وَيَنْطَبِعُ مَعَ غَيْرِهِ فَكَانَ كَالْفِضَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَنْطَبِعُ مَا لَمْ يُخَالِطْهَا شَيْءٌ، وَهَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ
(وَلَا خُمُسَ فِي الْعَنْبَرِ وَاللُّؤْلُؤِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِيهِمَا وَفِي كُلِّ حِلْيَةٍ تَخْرُجُ مِنْ الْبَحْرِ الْخُمُسُ لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَخَذَ الْخُمُسَ مِنْ الْعَنْبَرِ) رُوِيَ أَنَّ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ: كَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَسْأَلُهُ عَنْ عَنْبَرَةٍ وُجِدَتْ عَلَى السَّاحِلِ، فَكَتَبَ إلَيْهِ فِي جَوَابِهِ: إنَّهُ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَفِيهِ الْخُمُسُ.
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ يَصْلُحُ حُجَّةً فِي الْعَنْبَرِ لَا فِي اللُّؤْلُؤِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ حُجَّةً فِي اللُّؤْلُؤِ. وَذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّ سُؤَالَ عُمَرَ كَانَ عَنْهُمَا جَمِيعًا، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعَنْبَرِ وَاللُّؤْلُؤِ يُسْتَخْرَجَانِ مِنْ الْبَحْرِ قَالَ: فِيهِمَا الْخُمُسُ. وَأَقُولُ: الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى اللُّؤْلُؤِ بِالدَّلَالَةِ لِأَنَّهُ قَالَ: وَفِي كُلِّ حِلْيَةٍ تَخْرُجُ مِنْ الْبَحْرِ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى الْمَجْمُوعِ بِالْعَنْبَرِ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْبَحْرِ وَفِيهِ الْخُمُسُ، فَكَذَا كُلُّ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنْهُ دَفْعًا لِلْحُكْمِ (وَلَهُمَا أَنَّ قَعْرَ الْبَحْرِ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ الْقَهْرُ) وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْخُمُسَ إنَّمَا يَجِبُ فِيمَا كَانَ بِأَيْدِي الْكَفَرَةِ وَقَدْ وَقَعَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، وَالْعَنْبَرُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ أَحَدٍ لِأَنَّ قَهْرَ الْمَاءِ يَمْنَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ، وَعَنْ هَذَا قَالُوا: لَوْ وُجِدَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ فِي قَعْرِ
غَنِيمَةً وَإِنْ كَانَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ فِيمَا دَسَرَهُ الْبَحْرُ وَبِهِ نَقُولُ (مَتَاعٌ وُجِدَ رِكَازًا فَهُوَ لِلَّذِي وَجَدَهُ وَفِيهِ الْخُمُسُ) مَعْنَاهُ: إذَا وُجِدَ فِي أَرْضٍ لَا مَالِكَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ بِمَنْزِلَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
(بَابُ زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ)
الْبَحْرِ لَمْ يَجِبْ فِيهِ شَيْءٌ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ) جَوَابٌ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِجَوَابِهِ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ كَانَ (فِيمَا دَسَرَهُ الْبَحْرُ) أَيْ دَفَعَهُ وَقَذَفَهُ (وَبِهِ) أَيْ بِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِي الْعَنْبَرِ الَّذِي دَسَرَهُ الْبَحْرُ (نَقُولُ) وَمُرَادُهُ دَسَرَهُ الْبَحْرُ الَّذِي فِي دَارِ الْحَرْبِ فَوَجَدَهُ الْجَيْشُ عَلَى سَاحِلِهِ فَأَخَذُوهُ فَإِنَّهُ غَنِيمَةٌ يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ: وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ فِي الْعَنْبَرِ: إنَّهُ شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ فَلَا شَيْءَ فِيهِ. فَيُحْمَلُ عَلَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ: إمَّا عَلَى بَحْرِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُ أَخَذَهُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي بَحْرِ دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَلَصِّصِ وَلَا خُمُسَ فِيهِمَا. وَقَوْلُهُ (مَتَاعٌ وُجِدَ رِكَازًا) أَيْ حَالَ كَوْنِهِ رِكَازًا، وَالْمُرَادُ بِالْمَتَاعِ مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ فِي الْبَيْتِ مِنْ الرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ وَغَيْرِهِمَا. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الثِّيَابُ لِأَنَّهُ يُسْتَمْتَعُ بِهَا، وَذَكَرَ هَذَا لِبَيَانِ أَنَّ وُجُوبَ الْخُمُسِ لَا يَتَفَاوَتُ فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الرِّكَازُ مِنْ النَّقْدَيْنِ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(بَابُ زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ)
سُمِّيَ الْعُشْرُ زَكَاةً كَمَا سُمِّي الْمُصَدِّقُ فِيمَا تَقَدَّمَ عَاشِرًا مَجَازًا، وَتَأْخِيرُ الْعُشْرِ عَنْ الزَّكَاةِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ، وَالْعُشْرَ
(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: فِي قَلِيلِ مَا أَخْرَجَتْهُ الْأَرْضُ وَكَثِيرِهِ الْعُشْرُ، سَوَاءٌ سُقِيَ سَيْحًا أَوْ سَقَتْهُ السَّمَاءُ، إلَّا الْحَطَبَ وَالْقَصَبَ وَالْحَشِيشَ. وَقَالَا: لَا يَجِبُ الْعُشْرُ إلَّا فِيمَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا بِصَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَلَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ عِنْدَهُمَا عُشْرٌ) فَالْخِلَافُ فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي اشْتِرَاطِ النِّصَابِ، وَفِي اشْتِرَاطِ الْبَقَاءِ. لَهُمَا فِي الْأَوَّلِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ»
مُؤْنَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَالْعِبَادَاتُ الْخَالِصَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى غَيْرِهَا (قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله) فِي كُلِّ مَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَيَنْبَغِي بِهِ النَّمَاءُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا رَطْبًا كَانَ أَوْ يَابِسًا يَبْقَى مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ أَوْ لَا يُوَسَّقُ أَوْ لَا يُسْقَى سَيْحًا أَيْ بِمَاءٍ جَارٍ، أَوْ سَقَتْهُ السَّمَاءُ، أَيْ الْمَطَرُ الْعُشْرُ، (إلَّا الْحَطَبَ وَالْقَصَبَ وَالْحَشِيشَ) وَالتِّبْنَ وَالسَّعَفَ، (وَقَالَا: لَا يَجِبُ الْعُشْرُ إلَّا فِيمَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ) تَبْقَى مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ (إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ كُلُّ وَسْقٍ سِتُّونَ صَاعًا بِصَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قَيَّدَ بِالثَّمَرَةِ احْتِرَازًا عَنْ غَيْرِهَا، وَهِيَ اسْمٌ لِشَيْءٍ مِنْ أَصْلٍ وَقَيَّدَ بِالْبَاقِيَةِ احْتِرَازًا عَنْ غَيْرِهَا وَحَدُّ الْبَقَاءِ أَنْ يَبْقَى سَنَةً فِي الْغَالِبِ مِنْ غَيْرِ مُعَالَجَةٍ كَثِيرَةٍ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ وَغَيْرِهَا دُونَ الْخَوْخِ وَالتُّفَّاحِ وَالسَّفَرْجَلِ وَنَحْوِهَا، وَقَيَّدَ بِمَا إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ احْتِرَازًا عَمَّا إذَا كَانَ دُونَهَا، وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا بِصَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَخَمْسَةُ أَوْسُقٍ أَلْفٌ وَمِائَتَا مَنٍّ لِأَنَّ كُلَّ صَاعٍ أَرْبَعَةُ أَمْنَاءٍ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: هَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَقَالَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ: الْوَسْقُ ثَلَاثُمِائَةِ مَنٍّ (وَلَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ) كَالْفَوَاكِهِ وَالْبُقُولِ (عُشْرٌ عِنْدَهُمَا) لِأَنَّ الْبُقُولَ لَيْسَتْ بِثَمَرَةٍ وَالْفَوَاكِهُ لَا بَقَاءَ لَهَا سَنَةً إلَّا بِمُعَالَجَةٍ كَثِيرَةٍ (فَالْخِلَافُ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي اشْتِرَاطِ النِّصَابِ وَفِي اشْتِرَاطِ الْبَقَاءِ) وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِكَوْنِهِ ثَمَرَةً لِأَنَّ الْبُقُولَ دَخَلَتْ فِي اشْتِرَاطِ الْبَقَاءِ (لَهُمَا فِي الْأَوَّلِ) أَيْ فِي اشْتِرَاطِ النِّصَابِ (قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» أَيْ عُشْرٌ لِأَنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ
وَلِأَنَّهُ صَدَقَةٌ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ النِّصَابُ لِيَتَحَقَّقَ الْغِنَى.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فَفِيهِ الْعُشْرُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ» وَتَأْوِيلُ مَا رَوَيَاهُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِالْأَوْسَاقِ وَقِيمَةُ الْوَسْقِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمَالِكِ فِيهِ فَكَيْفَ بِصِفَتِهِ وَهُوَ الْمَعْنَى وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ الْحَوْلُ؛ لِأَنَّهُ لِلِاسْتِنْمَاءِ وَهُوَ كُلُّهُ نَمَاءٌ. وَلَهُمَا فِي الثَّانِي قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ» وَالزَّكَاةُ غَيْرُ مَنْفِيَّةٍ فَتَعَيَّنَ
تَجِبُ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ إذَا بَلَغَتْ قِيمَتَهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ (وَلِأَنَّهُ صَدَقَةٌ) بِدَلِيلِ تَعَلُّقِهِ بِنَمَاءِ الْأَرْضِ وَعَدَمِ وُجُوبِهِ عَلَى الْكَافِرِ وَصَرْفِهِ إلَى مَصْرِفِ الصَّدَقَاتِ، وَكُلُّ مَا هُوَ صَدَقَةٌ يُشْتَرَطُ لَهُ النِّصَابُ لِيَتَحَقَّقَ الْغِنَى (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فَفِيهِ الْعُشْرُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ» وَتَأْوِيلُ مَا رَوَيَاهُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِالْأَوْسَاقِ وَقِيمَةُ الْوَسْقِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا) فَتَكُونُ قِيمَةُ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَهُوَ نِصَابُ الزَّكَاةِ، قِيلَ الْعُشْرُ فِيهِ مَعْنَى الْعَادَةِ كَمَا ذَكَرْتُمْ فَيَكُونُ لِمَالِيَّتِهِ عَفْوٌ وَنِصَابٌ قِيَاسًا عَلَى الزَّكَاةِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ قِيَاسُ مَا فِيهِ الْعِبَادَةُ مَعَ كَوْنِهِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ عَلَى الْعِبَادَةِ الْمَحْضَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمَالِكِ فِيهِ) أَيْ فِي الْعُشْرِ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ فَيُشْتَرَطُ النِّصَابُ: يَعْنِي أَنَّ الْغِنَى صِفَةُ الْمَالِكِ، وَالْمَالِكُ فِي بَابِ الْعُشْرِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ حَتَّى يَجِبَ فِي أَرَاضِي الْمُكَاتَبِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْأَرَاضِي الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الرِّبَاطَاتِ وَالْمَسَاجِدِ (فَكَيْفَ بِصِفَتِهِ وَهُوَ الْغَنِيُّ، وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ الْحَوْلُ لِأَنَّهُ لِلِاسْتِنْمَاءِ وَهُوَ كُلُّهُ نَمَاءٌ. وَلَهُمَا فِي الثَّانِي قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ» وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَفَى الصَّدَقَةَ عَنْ الْخَضْرَاوَاتِ وَلَيْسَ الزَّكَاةُ
الْعُشْرُ وَلَهُ مَا رَوَيْنَا، وَمَرْوِيُّهُمَا مَحْمُولٌ عَلَى صَدَقَةٍ يَأْخُذُهَا الْعَاشِرُ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ قَدْ تُسْتَنْمَى بِمَا لَا يَبْقَى وَالسَّبَبُ هِيَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ
مَنْفِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ فَتَعَيَّنَ الْعُشْرُ (وَلَهُ مَا رَوَيْنَا) يَعْنِي قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فَفِيهِ الْعُشْرُ» (وَمَرْوِيُّهُمَا) وَهُوَ لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ (مَحْمُولٌ عَلَى صَدَقَةٍ يَأْخُذُهَا الْعَاشِرُ) يَعْنِي إذَا مَرَّ بِالْخَضْرَوَاتِ عَلَى الْعَاشِرِ وَأَرَادَ الْعَاشِرُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ عَيْنِهَا لِأَجْلِ الْفُقَرَاءِ عِنْدَ إبَاءِ الْمَالِكِ عَنْ دَفْعِ الْقِيمَةِ لَا يَأْخُذُ (وَبِهِ) أَيْ بِهَذَا الْمَرْوِيِّ (أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ) فِي حَقِّ هَذَا الْمَحْمَلِ الَّذِي حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا لِأَجْلِ الْفُقَرَاءِ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ مِنْ عَيْنِهَا لِيَصْرِفَهُ إلَى عِمَالَتِهِ جَازَ وَإِنَّمَا قُلْنَا عِنْدَ إبَاءِ الْمَالِكِ عَنْ دَفْعِ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ إذَا أَعْطَاهُ الْقِيمَةَ لَا كَلَامَ فِي جَوَازِ أَخْذِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَخْذَ ثَبَتَ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ وَلَا نَظَرَ هَاهُنَا لِأَنَّ الْعَاشِرَ فِي الْأَغْلَبِ يَكُونُ نَائِيًا عَنْ الْبَلْدَةِ وَلَا يَجِدُ فَقِيرًا ثَمَّةَ يَصْرِفُهُ إلَيْهِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَبْعَثَ بِهَا إلَى الْبَلَدِ وَرُبَّمَا تَفْسُدُ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى الْفُقَرَاءِ فَيُؤَدِّي إلَى الضَّرَرِ فَلَا يَأْخُذُ بَلْ يُؤَدِّيهِ الْمَالِكُ بِنَفْسِهِ وَاَلَّذِي يَقْطَعُ هَذِهِ الْمَادَّةَ أَنَّ الْعَالِمَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ وَلَوْ فِي بَعْضِ مُوجِبِهِ أَوْلَى مِنْ الْخَاصِّ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى الْعَمَلِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي مِقْدَارِ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا رَوَيَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى مَحْمَلٍ آخَرَ وَعَمِلَ بِهِ فِيهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله أَخَذَ هَذَا الْأَصْلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَإِنَّهُ عَمِلَ بِالْعَامِّ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ حِينَ أَرَادَ إجْلَاءَ بَنِي النَّضِيرِ وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» وَأَجَلَاهُمْ وَلَمْ يَتَلَفَّتْ إلَى مَا اعْتَرَضُوا بِهِ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «اُتْرُكُوهُمْ وَمَا يَدِينُونَ» كَذَا نَقَلَهُ شَيْخِي عَنْ شَيْخِ شَيْخِهِ رحمهم الله وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْأَرْضَ قَدْ تُسْتَنْمَى)
وَلِهَذَا يَجِبُ فِيهَا الْخَرَاجُ أَمَّا الْحَطَبُ وَالْقَصَبُ وَالْحَشِيشُ فَلَا تُسْتَنْبَتُ فِي الْجِنَانِ عَادَةً بَلْ تُنَقَّى عَنْهَا حَتَّى لَوْ اتَّخَذَهَا مُقَصَّبَةً أَوْ مُشَجَّرَةً أَوْ مَنْبَتًا لِلْحَشِيشِ يَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ، وَالْمُرَادُ بِالْمَذْكُورِ الْقَصَبُ الْفَارِسِيُّ أَمَّا قَصَبُ السُّكَّرِ وَقَصَبُ الذَّرِيرَةِ فَفِيهِمَا الْعُشْرُ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِمَا اسْتِغْلَالَ الْأَرْضِ، بِخِلَافِ السَّعَفِ وَالتِّبْنِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْحَبُّ وَالتَّمْرُ دُونَهُمَا
دَلِيلٌ مَعْقُولٌ عَلَى مُدَّعَاهُ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ السَّبَبَ هِيَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ وَالْأَرْضُ النَّامِيَةُ قَدْ تُسْتَنْمَى بِمَا لَا يَبْقَى فَلَوْ لَمْ يَجِبْ الْعُشْرُ فِيمَا لَا يَبْقَى لَكَانَ قَدْ وُجِدَ السَّبَبُ وَالْخَارِجُ بِلَا شَيْءٍ وَذَلِكَ إخْلَاءٌ لِلسَّبَبِ عَنْ الْحُكْمِ فِي مَوْضِعٍ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ (وَلِهَذَا يَجِبُ فِيهِ) أَيْ فِيمَا لَا يَبْقَى مِنْ الْخَارِجِ كَالْخَضْرَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ النَّامِيَةِ بِالْخَارِجِ الَّذِي لَا يَبْقَى عَلَى تَأْوِيلِ الْمَكَانِ.
وَقَوْلُهُ (أَمَّا الْحَطَبُ) بَيَانٌ لِمَا اسْتَثْنَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ مِمَّا أَخْرَجَتْهُ الْأَرْضُ وَقَوْلُهُ (فِي الْجِنَانِ) أَيْ فِي الْبَسَاتِينِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الْحَطَبَ وَالْقَصَبَ وَالْحَشِيشَ وَنَحْوَهَا مِمَّا لَا يُسْتَنْمَى بِهِ الْأَرْضُ لَا عُشْرَ فِيهَا لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْعُشْرِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تُنَقَّى عَنْهَا الْبَسَاتِينُ لِأَنَّهَا إذَا غَلَبَتْ عَلَى الْأَرْضِ أَفْسَدَتْهَا فَلَا يَحْصُلُ بِهَا النَّمَاءُ حَتَّى لَوْ اتَّخَذَ الْأَرْضَ مَقْصَبَةً أَوْ مَشْجَرَةً أَوْ مَنْبِتًا لِلْحَشِيشِ وَأَرَادَ بِهِ الِاسْتِنْمَاءَ بِقَطْعِ ذَلِكَ وَبَيْعِهِ وَجَبَ فِيهَا الْعُشْرُ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمُرَادُ بِالْمَذْكُورِ الْقَصَبُ الْفَارِسِيُّ) الْقَصَبُ كُلُّ نَبَاتٍ كَانَ سَاقُهُ أَنَابِيبَ وَكُعُوبًا، وَالْكَعْبُ الْعُقْدَةُ، وَالْأُنْبُوبُ مَا بَيْنَ الْكَعْبَيْنِ. وَأَنْوَاعُ الْقَصَبِ الْفَارِسِيِّ وَهُوَ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ الْأَقْلَامُ وَقَصَبُ الذَّرِيرَةِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْهُ مُتَقَارِبُ الْعُقَدِ وَأُنْبُوبُهُ مَمْلُوءٌ مِنْ مِثْلِ نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ وَفِي مَضْغِهِ حَرَافَةٌ وَمَسْحُوقُهُ عَطِرٌ يُؤْتَى بِهِ مِنْ الْهِنْدِ وَأَجْوَدُهُ الْيَاقُوتِيُّ اللَّوْنِ وَقَصَبُ السُّكَّرِ، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهَا الْقَصَبُ الْفَارِسِيُّ. وَأَمَّا الْآخَرَانِ فَفِيهِمَا الْعُشْرُ لِأَنَّهُ يُقْصَدُ بِهِمَا اسْتِغْلَالُ الْأَرْضِ، بِخِلَافِ السَّعَفِ وَهُوَ وَرَقُ الْجَرِيدِ الَّذِي يُتَّخَذُ مِنْهُ الْمَرَاوِحُ وَالتِّبْنُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْحَبُّ وَالثَّمَرُ دُونَهُمَا.
فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْعُشْرُ فِي التِّبْنِ لِأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا وَقْتَ كَوْنِ الزَّرْعِ قَصِيلًا وَالتِّبْنُ هُوَ الْقَصِيلُ ذَاتًا إلَّا أَنَّهُ زَادَتْ فِيهِ الْيُبُوسَةُ وَبِهَا لَا يَتَغَيَّرُ الْوَاجِبُ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِي التِّبْنِ لِأَنَّ الْعُشْرَ كَانَ وَاجِبًا قَبْلَ إدْرَاكِ الزَّرْعِ فِي السَّاقِ حَتَّى لَوْ قَصَلَهُ وَجَبَ الْعُشْرُ فِي الْقَصِيلِ، فَإِذَا أَدْرَكَ تَحَوُّلَ الْعُشْرِ مِنْ السَّاقِ إلَى
قَالَ: (وَمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ أَوْ دَالِيَةٍ أَوْ سَانِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ)؛ لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ تَكْثُرُ فِيهِ وَتَقِلُّ فِيمَا يُسْقَى بِالسَّمَاءِ أَوْ سَيْحًا وَإِنْ سُقِيَ سَيْحًا وَبِدَالِيَةٍ فَالْمُعْتَبَرُ أَكْثَرُ السَّنَةِ كَمَا مَرَّ فِي السَّائِمَةِ. (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: فِيمَا لَا يُوسَقُ كَالزَّعْفَرَانِ، وَالْقُطْنِ يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ أَدْنَى مَا يُوسَقُ) كَالذُّرَةِ فِي زَمَانِنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّقْدِيرُ الشَّرْعِيُّ فِيهِ فَاعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ كَمَا فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله: يَجِبُ الْعُشْرُ إذَا بَلَغَ الْخَارِجُ خَمْسَةَ أَعْدَادٍ مِنْ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ نَوْعُهُ. فَاعْتُبِرَ فِي الْقُطْنِ خَمْسَةُ أَحْمَالٍ كُلُّ حِمْلٍ ثَلَاثُمِائَةِ مَنٍّ، وَفِي الزَّعْفَرَانِ خَمْسَةُ أَمْنَاءٍ)؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْوَسْقِ كَانَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ نَوْعُهُ
(وَفِي الْعَسَلِ الْعُشْرُ إذَا أُخِذَ مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله
الْحَبِّ كَمَا تَحَوَّلَ الْخَرَاجُ مِنْ الْمُكْنَةِ عِنْدَ التَّعْطِيلِ إلَى الْخَارِجِ عِنْدَ الْخُرُوجِ.
قَالَ (وَمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ أَوْ دَالِيَةٍ) الْغَرْبُ الدَّلْوُ الْعَظِيمَةُ، وَالدَّالِيَةُ الْمَنْجَنُونُ تُدِيرُهَا الْبَقَرَةُ. وَذَكَرَ فِي الْمُغْرِبِ أَنَّ الدَّالِيَةَ جِذْعٌ طَوِيلٌ يُرَكَّبُ تَرْكِيبَ مَدَاقِّ الْأُرْزِ فِي رَأْسِهِ مِغْرَفَةٌ كَبِيرَةٌ يُسْتَقَى بِهَا، وَالسَّانِيَةُ النَّاقَةُ الَّتِي يُسْتَقَى عَلَيْهَا.
وَقَوْلُهُ (فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ) أَيْ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ عِنْدَهُ يَجِبُ نِصْفُ الْعُشْرِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ النِّصَابِ وَالْبَقَاءِ، وَعِنْدَهُمَا أَيْضًا نِصْفُ الْعُشْرِ لَكِنْ بِشَرْطِ النِّصَابِ وَالْبَقَاءِ كَمَا بَيَّنَّا، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الدَّلِيلِ ظَاهِرٌ وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: عَلَّلَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ فِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَبِكَثْرَتِهَا فِيمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ أَوْ دَالِيَةٍ، وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَإِنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ الْخُمُسَ فِي الْغَنَائِمِ وَالْمُؤْنَةُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْهَا فِي الزِّرَاعَةِ، وَلَكِنَّ هَذَا تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ فَنَتَّبِعُهُ وَنَعْتَقِدُ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ وَإِنْ لَمْ نَقِفْ عَلَيْهَا.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ سُقِيَ سَيْحًا وَبِدَالِيَةٍ) وَاضِحٌ. وَإِنَّمَا عَطَفَ الدَّالِيَةَ بِالْبَاءِ لِأَنَّ السَّيْحَ اسْمٌ لِلْمَاءِ دُونَ الدَّالِيَةِ، فَإِنَّ الدَّالِيَةَ آلَةُ الِاسْتِقَاءِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ سُقِيَ دَالِيَةً لِأَنَّ الدَّالِيَةَ غَيْرُ مُسْقِيَةٍ بَلْ هِيَ آلَةُ السَّقْيِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ.
وَقَوْلُهُ (قَالَ أَبُو يُوسُفَ) قِيلَ: إنَّمَا ابْتَدَأَ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ لَا يَرِدُ إشْكَالٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَقُولُ بِالْعُشْرِ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَهُمَا أَثْبَتَا الْحُكْمَ عَلَى قَوْدِ مَذْهَبِهِمَا فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ فِيمَا لَا يُوسَقُ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْوَسْقِ كَانَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ نَوْعُهُ) لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ أَوَّلًا بِالصَّاعِ ثُمَّ بِالْكَيْلِ ثُمَّ بِالْوَسْقِ فَكَانَ الْوَسْقُ أَقْصَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ مِنْ مِعْيَارِهِ، وَأَقْصَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ فِي الْقُطْنِ الْحَمْلُ لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ أَوَّلًا بِالْأَسَاتِيرِ ثُمَّ بِالْأَمْنَاءِ ثُمَّ بِالْحَمْلِ فَكَانَ الْحَمْلُ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ. وَفِي الزَّعْفَرَانِ الْمَنُّ لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ أَوَّلًا بِالسَّنَجَاتِ ثُمَّ بِالْأَسَانِينِ ثُمَّ بِالْمَنِّ.
وَقَوْلُهُ (وَفِي الْعَسَلِ الْعُشْرُ إذَا أُخِذَ مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ) قَيَّدَ بِأَرْضِ
لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ الْحَيَوَانِ فَأَشْبَهَ الْإِبْرَيْسَمَ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «فِي الْعَسَلِ الْعُشْرُ» وَلِأَنَّ النَّخْلَ يَتَنَاوَلُ مِنْ الْأَنْوَارِ وَالثِّمَارِ وَفِيهِمَا الْعُشْرُ فَكَذَا فِيمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُمَا بِخِلَافِ دُودِ الْقَزِّ؛ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مِنْ الْأَوْرَاقِ وَلَا عُشْرَ فِيهَا. ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ النِّصَابَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله
الْعُشْرِ لِأَنَّهُ إذَا أُخِذَ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ لَا عُشْرَ وَلَا خَرَاجَ كَمَا نُبَيِّنُ.
وَقَوْلُهُ (فَأَشْبَهَ الْإِبْرَيْسَمَ) يَعْنِي الَّذِي يَكُونُ مِنْ دُودِ الْقَزِّ (وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام) يَعْنِي بِهِ مَا رَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ إنَّ فِي الْعَسَلِ الْعُشْرَ» (وَلِأَنَّ النَّحْلَ يَتَنَاوَلُ مِنْ الْأَنْوَارِ وَالثِّمَارِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} (وَفِيهِمَا الْعُشْرُ فِيمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُمَا) وَقَوْلُهُ (ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) ظَاهِرٌ.
أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ قِيمَةُ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ كَمَا هُوَ أَصْلُهُ. وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ عَشْرَ قِرَبٍ لِحَدِيثِ «بَنِي شَبَّابَةَ أَنَّهُمْ
وَقَوْلُهُ (لِحَدِيثِ بَنِي شَبَّابَةَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بَنِي سَيَّارَةَ، وَهُوَ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما أَنَّ بَنِي شَبَّابَةَ قَوْمٌ مِنْ جُرْهُمٍ. وَقَالَ فِي الْمُغْرِبِ: مِنْ خَثْعَمَ كَانَتْ لَهُمْ نَحْلٌ عَسَّالَةٌ يُؤَدُّونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةً وَكَانَ يَحْمِي لَهُمْ وَادِيَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ رضي الله عنه اسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيَّ رضي الله عنه، فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُ شَيْئًا فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ إلَى عُمَرَ رضي الله عنه فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ رضي الله عنه: إنَّ النَّحْلَ ذُبَابُ غَيْثٍ يَسُوقُهُ اللَّهُ إلَى مَنْ يَشَاءُ، فَإِنْ أَدَّوْا إلَيْك مَا كَانُوا يُؤَدُّونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ
كَانُوا يُؤَدُّونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ» وَعَنْهُ خَمْسَةُ أَمْنَاءٍ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله خَمْسَةُ أَفْرَاقٍ كُلُّ فَرَقٍ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ رِطْلًا؛ لِأَنَّهُ أَقْصَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ. وَكَذَا فِي قَصَبِ السُّكَّرِ وَمَا يُوجَدُ فِي الْجِبَالِ مِنْ الْعَسَلِ وَالثِّمَارِ فَفِيهِ الْعُشْرُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ وَهُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ، وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ وَهُوَ الْخَارِجُ.
- صلى الله عليه وسلم فَاحْمِ لَهُمْ وَادِيَهُمْ وَإِلَّا فَخَلِّ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ النَّاسِ، فَدَفَعُوا إلَيْهِ الْعُشْرَ. وَالْقِرْبَةُ خَمْسُونَ رِطْلًا.
وَقَوْلُهُ (كُلُّ فَرَقٍ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ رِطْلًا) الْفَرَقُ بِفَتْحَتَيْنِ إنَاءٌ يَأْخُذُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَصْوُعٍ، نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ فِي التَّهْذِيبِ عَنْ ثَعْلَبٍ وَخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ.
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَالْمُحَدِّثُونَ عَلَى السُّكُونِ وَكَلَامُ الْعَرَبِ عَلَى التَّحْرِيكِ وَفِي الصِّحَاحِ: الْفَرْقُ مِكْيَالٌ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا. قَالَ وَقَدْ يُحَرَّكُ. ثُمَّ قَالَ الْمُطَرِّزِيُّ: قُلْت وَفِي نَوَادِرِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: الْفَرَقُ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ رِطْلًا وَلَمْ أَجِدْ هَذَا فِيمَا عِنْدِي مِنْ أُصُولِ اللُّغَةِ (قَوْلُهُ وَكَذَا فِي قَصَبِ السُّكَّرِ) أَيْ الْخِلَافُ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي قَصَبِ السُّكَّرِ كَمَا هُوَ فِي الْقُطْنِ وَالزَّعْفَرَانِ فَيُعْتَبَرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِقِيمَةِ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ خَمْسَةِ أَمْنَاءٍ.
وَقَوْلُهُ (وَمَا يُوجَدُ فِي الْجِبَالِ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (أَنَّ الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ وَهُوَ الْخَارِجُ) يَعْنِي وَلَا مُعْتَبَرَ بِكَوْنِ الْأَرْضِ غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ لَهُ لِأَنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ إذَا
قَالَ (وَكُلُّ شَيْءٍ أَخْرَجَتْهُ الْأَرْضُ مِمَّا فِيهِ الْعُشْرُ لَا يُحْتَسَبُ فِيهِ أَجْرُ الْعُمَّالِ وَنَفَقَةُ الْبَقَرِ)؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَكَمَ بِتَفَاوُتِ الْوَاجِبِ لِتَفَاوُتِ الْمُؤْنَةِ فَلَا مَعْنَى لِرَفْعِهَا.
قَالَ (تَغْلِبِيٌّ لَهُ أَرْضٌ عُشْرٍ عَلَيْهِ الْعُشْرُ مُضَاعَفًا)
زَرَعَ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْأَرْضُ مَمْلُوكَةً لَهُ لِمَا أَنَّ الْخَارِجَ سُلِّمَ لَهُ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَكَذَا هَذَا
(قَوْلُهُ وَكُلُّ شَيْءٍ أَخْرَجَتْهُ الْأَرْضُ) كُلُّ شَيْءٍ أَخْرَجَتْهُ الْأَرْضُ مِمَّا فِيهِ الْوَاجِبُ الْعُشْرِيُّ عُشْرًا كَانَ أَوْ نِصْفَهُ لَا يَرْفَعُ الْمُؤْنَةَ مِنْ الْعُشْرِ مِثْلُ أَجْرِ الْعُمَّالِ وَالْبَقَرِ وَكَرْيِ الْأَنْهَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، يَعْنِي لَا يُقَالُ بِعَدَمِ وُجُوبِ الْعُشْرِ فِي قَدْرِ الْخَارِجِ الَّذِي بِمُقَابَلَةِ الْمُؤْنَةِ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ بَلْ يَجِبُ الْعُشْرُ فِي كُلِّ الْخَارِجِ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: يَجِبُ النَّظَرُ إلَى قَدْرِ قِيَمِ الْمُؤَنِ مِنْ الْخَارِجِ فَيُسَلَّمُ ذَلِكَ الْقَدْرُ بِلَا عُشْرٍ ثُمَّ يُعَشَّرُ الْبَاقِي لِأَنَّ قَدْرَ الْمُؤَنِ بِمَنْزِلَةِ السَّالِمِ لَهُ بِعِوَضٍ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ سُلِّمَ لَهُ مِنْ الْخَارِجِ بِقَدْرِ مَا عَزَمَ مِنْ نُقْصَانِ الْأَرْضِ فَطَابَ لَهُ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ، وَوَجْهُ قَوْلِنَا إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَكَمَ بِتَفَاوُتِ الْوَاجِبِ بِتَفَاوُتِ الْمُؤْنَةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ:«مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِرَفْعِهَا مَعْنًى لِأَنَّ رَفْعَهَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ التَّفَاوُتِ
عُرِفَ ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -. وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله: أَنَّ فِيمَا اشْتَرَاهُ التَّغْلِبِيُّ مِنْ الْمُسْلِمِ عُشْرًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْوَظِيفَةَ عِنْدَهُ لَا تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْمَالِكِ
الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْخَارِجَ فِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ إذَا كَانَ عِشْرِينَ قَفِيزًا فَفِيهِ الْعُشْرُ قَفِيزَانِ، وَإِذَا كَانَ الْخَارِجُ فِيمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ أَرْبَعِينَ قَفِيزًا، وَالْمُؤْنَةُ تُسَاوِي عِشْرِينَ قَفِيزًا، فَإِذَا رُفِعَتْ كَانَ الْوَاجِبُ قَفِيزَيْنِ، فَلَمْ يَكُنْ تَفَاوُتٌ بَيْنَ مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَبَيْنَ مَا سُقِيَ بِغَرْبٍ وَالْمَنْصُوصُ خِلَافُهُ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا سُقِيَ بِغَرْبٍ فِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمُؤْنَةِ، وَهَذَا الْحَلُّ مِنْ خَوَاصِّ هَذَا الشَّرْحِ فَلْيُتَأَمَّلْ. قِيلَ كَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ مِمَّا فِيهِ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُ الْعُشْرِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُهُمَا، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ الْوَاجِبُ الْعُشْرِيُّ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ فَكَأَنَّ الْعُشْرَ صَارَ عَلَمًا لِذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ عُشْرًا لُغَوِيًّا أَوْ نِصْفَهُ.
وَقَوْلُهُ (تَغْلِبِيٌّ) بِكَسْرِ اللَّامِ مَنْسُوبٌ إلَى بَنِي تَغْلِبَ وَقَوْلُهُ (عُرِفَ ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ) تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي قِصَّةِ عُمَرَ رضي الله عنه مَعَهُمْ، وَلَا فَصْلَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ مِلْكَهُ فِي الْأَصْلِ أَوْ اشْتَرَاهَا مِنْ مُسْلِمٍ. (وَعَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّ فِيمَا اشْتَرَاهُ التَّغْلِبِيُّ مِنْ الْمُسْلِمِ عُشْرًا وَاحِدًا لِأَنَّ الْوَظِيفَةَ عِنْدَهُ لَا تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْمَالِكِ) فَتَضْعِيفُ الْعُشْرِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَرَاضِي الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهَا.
(فَإِنْ اشْتَرَاهَا مِنْهُ ذِمِّيٌّ فَهِيَ عَلَى حَالِهَا عِنْدَهُمْ) لِجَوَازِ التَّضْعِيفِ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ (وَكَذَا إذَا اشْتَرَاهَا مِنْهُ مُسْلِمٌ أَوْ أَسْلَمَ التَّغْلِبِيُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) سَوَاءٌ كَانَ التَّضْعِيفُ أَصْلِيًّا أَوْ حَادِثًا؛ لِأَنَّ التَّضْعِيفَ صَارَ وَظِيفَةً لَهَا. فَتَنْتَقِلُ إلَى الْمُسْلِمِ بِمَا فِيهَا كَالْخَرَاجِ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: يَعُودُ إلَى عُشْرٍ وَاحِدٍ) لِزَوَالِ الدَّاعِي إلَى التَّضْعِيفِ قَالَ فِي الْكِتَابِ
وَلَهُمَا أَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ نُضَعِّفَ عَلَيْهِمْ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْعُشْرُ يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ فَيُضَعَّفُ عَلَيْهِمْ.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ اشْتَرَاهَا) يَعْنِي الْأَرْضَ الَّتِي عَلَيْهَا عُشْرٌ مُضَاعَفٌ مِنْ الْأَصْلِ مِنْ التَّغْلِبِيِّ (ذِمِّيٌّ فَهِيَ عَلَى حَالِهَا) مِنْ الْعُشْرِ الْمُضَاعَفِ (عِنْدَهُمْ لِجَوَازِ التَّضْعِيفِ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ) فَإِنَّ الذِّمِّيَّ إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِمَالِ الزَّكَاةِ يُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ. وَقَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَاهَا مِنْهُ مُسْلِمٌ) يَعْنِي يَبْقَى عُشْرُهَا مُضَاعَفًا (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ التَّضْعِيفِ الْأَصْلِيِّ وَالْحَادِثِ (لِأَنَّ التَّضْعِيفَ صَارَ وَظِيفَةً لَهَا فَتَنْتَقِلُ إلَى الْمُسْلِمِ بِمَا فِيهَا كَالْخَرَاجِ) فَإِنَّ الْمُسْلِمَ إذَا اشْتَرَى أَرْضًا خَرَاجِيَّةً بَقِيَتْ كَمَا كَانَتْ، وَكَذَا إذَا أَسْلَمَ صَاحِبُهَا، وَهَذَا لِأَنَّ بَقَاءَ الْحُكْمِ يُسْتَغْنَى عَنْ بَقَاءِ الْعِلَّةِ كَالرَّمَلِ وَالِاضْطِبَاعِ بَقِيَا بَعْدَ زَوَالِ الْحَاجَةِ إلَى إظْهَارِ التَّجَلُّدِ، وَهَاهُنَا بَحْثٌ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ فَيُطْلَبُ ثَمَّةَ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَعُودُ إلَى عُشْرٍ وَاحِدٍ لِزَوَالِ الدَّاعِي إلَى التَّضْعِيفِ) وَهُوَ الْكُفْرُ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّغْلِبِيَّ إذَا كَانَتْ لَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ يَجِبُ فِيهَا شَاتَانِ، فَإِنْ بَاعَهَا مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ أَسْلَمَ يُؤْخَذُ مِنْهُ شَاةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْجَوَابُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَالَ الزَّكَاةِ أَقْبَلَ لِلتَّحَوُّلِ مِنْ وَصْفٍ إلَى وَصْفٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَالَ التِّجَارَةِ تَبْطُلُ عَنْهُ الزَّكَاةُ بِنِيَّةِ الْقِنْيَةِ وَالسَّوَائِمَ تَبْطُلُ عَنْهَا بِجَعْلِهَا عَلُوفَةً وَالْأَرَاضِيَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (قَالَ فِي الْكِتَابِ) أَيْ
وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رحمه الله فِيمَا صَحَّ عَنْهُ: قَالَ رحمه الله: اخْتَلَفَتْ النُّسَخُ فِي بَيَانِ قَوْلِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي بَقَاءِ التَّضْعِيفِ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا فِي الْأَصْلِيِّ؛ لِأَنَّ التَّضْعِيفَ الْحَادِثَ لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَهُ لِعَدَمِ تَغَيُّرِ الْوَظِيفَةِ
(وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ لِمُسْلِمٍ بَاعَهَا مِنْ نَصْرَانِيٍّ) يُرِيدُ بِهِ ذِمِّيًّا غَيْرَ تَغْلِبِيٍّ (وَقَبَضَهَا فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله)؛ لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِحَالِ الْكَافِرِ (وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله عَلَيْهِ الْعُشْرُ مُضَاعَفًا) وَيُصْرَفُ مَصَارِفَ الْخَرَاجِ اعْتِبَارًا بِالتَّغْلِبِيِّ وَهَذَا أَهْوَنُ مِنْ التَّبْدِيلِ (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله. هِيَ عُشْرِيَّةٌ عَلَى حَالِهَا)؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُؤْنَةً لَهَا فَلَا يَتَبَدَّلُ كَالْخَرَاجِ، ثُمَّ فِي رِوَايَةٍ: يُصْرَفُ مَصَارِفَ الصَّدَقَاتِ، وَفِي رِوَايَةٍ: يُصْرَفُ مَصَارِفَ الْخَرَاجِ (فَإِنْ أَخَذَهَا مِنْهُ مُسْلِمٌ بِالشُّفْعَةِ أَوْ رُدَّتْ عَلَى الْبَائِعِ لِفَسَادِ الْبَيْعِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ كَمَا كَانَتْ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِتَحَوُّلِ الصَّفْقَةِ إلَى الشَّفِيعِ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْمُسْلِمِ،
فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنْ الْمَبْسُوطِ (وَهُوَ) أَيْ الْعَوْدُ إلَى عُشْرٍ وَاحِدٍ (قَوْلُ مُحَمَّدٍ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله: اخْتَلَفَتْ النُّسَخُ) أَيْ نُسَخُ الْمَبْسُوطِ (فِي بَيَانِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ) أَنَّهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ مَعَ أَبِي يُوسُفَ (وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي بَقَاءِ التَّضْعِيفِ) عَلَى الْمُسْلِمِ وَمَا بَعْدَهُ ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ لِمُسْلِمٍ بَاعَهَا مِنْ نَصْرَانِيٍّ) أَيْ ذِمِّيٍّ غَيْرِ تَغْلِبِيٍّ، وَإِنَّمَا فُسِّرَ بِذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ النَّصْرَانِيِّ وَلَفْظَ الذِّمِّيِّ يَتَنَاوَلَانِ التَّغْلِبِيَّ وَغَيْرَهُ مِنْ النَّصَارَى، وَذَكَرَ قُبَيْلَ هَذَا بَيْعَ الْمُسْلِمِ مِنْ التَّغْلِبِيِّ فَكَانَ هَذَا مِنْ غَيْرِ تَغْلِبِيٍّ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ وَقَبَضَهَا لِيُعْلَمَ بِهِ تَأَكُّدُ مِلْكِ الذِّمِّيِّ فِيهَا وَتَقَرُّرُ الْأَرْضِ عَلَيْهِ حَتَّى إذَا أَخَذَهَا مُسْلِمٌ بِالشُّفْعَةِ أَوْ رُدَّتْ عَلَى الْبَائِعِ تَبْقَى عُشْرِيَّةً كَمَا كَانَتْ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي تَجِيءُ.
وَقَوْلُهُ: (لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِحَالِ الْكَافِرِ) إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ خَرَاجٌ وَعُشْرٌ وَاحِدٌ وَعُشْرٌ مُضَاعَفٌ، وَالْعُشْرُ الْمُضَاعَفُ يَعْتَمِدُ الصُّلْحَ وَالتَّرَاضِيَ كَمَا فِي التَّغَالِبَةِ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَالْعُشْرُ الْوَاحِدُ فِيهِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ فَتَعَيَّنَ الْخَرَاجُ لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِهِ لِكَوْنِهِ مُؤْنَةً فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَالْكَافِرُ أَهْلٌ لَهَا. وَقَوْلُهُ (اعْتِبَارٌ بِالتَّغْلِبِيِّ) يَعْنِي أَنَّ مَا كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ الْمُسْلِمِ إذَا وَجَبَ أَخْذُهُ مِنْ الْكَافِرِ يُضَعَّفُ عَلَيْهِ كَصَدَقَةِ بَنِي تَغْلِبَ، وَمَا يَمُرُّ بِهِ الذِّمِّيُّ عَلَى الْعَاشِرِ وَهُوَ أَهْوَنُ مِنْ التَّبْدِيلِ لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ فِي الْوَصْفِ وَالْخَرَاجُ وَاجِبٌ آخَرُ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ فِي رِوَايَةٍ: يُصْرَفُ مَصَارِفَ الصَّدَقَاتِ، وَفِي رِوَايَةٍ: يُصْرَفُ مَصَارِفَ الْخَرَاجِ) وَجْهُ الْأُولَى أَنَّ حَقَّ الْفُقَرَاءِ تَعَلَّقَ بِهِ فَهُوَ كَتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُقَاتِلَةِ بِالْأَرَاضِيِ الْخَرَاجِيَّةِ، وَوَجْهُ الثَّانِيَةِ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ أَنَّ مَا يُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ هُوَ مَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ، وَمَالُ الْكَافِرِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَيُصْرَفُ مَصَارِفَ الْخَرَاجِ. وَقَوْلُهُ (فَإِنْ أَخَذَهَا مِنْهُ مُسْلِمٌ) أَيْ: إنْ أَخَذَ الْأَرْضَ الَّتِي بَاعَهَا الْمُسْلِمُ مِنْ نَصْرَانِيٍّ مِنْ النَّصْرَانِيِّ مُسْلِمٌ (بِالشُّفْعَةِ أَوْ رُدَّتْ عَلَى الْبَائِعِ لِفَسَادِ الْبَيْعِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ كَمَا كَانَتْ أَمَّا الْأَوَّلُ) أَيْ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ (فَلِتَحَوُّلِ الصَّفْقَةِ إلَى الشَّفِيعِ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْمُسْلِمِ)
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ بِالرَّدِّ وَالْفَسْخِ بِحُكْمِ الْفَسَادِ جَعَلَ الْبَيْعَ كَأَنَّ لَمْ يَكُنْ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِ لَمْ يَنْقَطِعْ بِهَذَا الشِّرَاءِ لِكَوْنِهِ مُسْتَحِقَّ الرَّدِّ (وَإِذَا كَانَتْ لِمُسْلِمٍ دَارُ خُطَّةٍ فَجَعَلَهَا بُسْتَانًا فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ)
وَلَمْ يَتَوَسَّطْ النَّصْرَانِيُّ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا رَجَعَ الشَّفِيعُ بِالْعَيْبِ عَلَى الْمُشْتَرِي إذَا قَبَضَهَا مِنْهُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ لِوُجُودِ الْقَبْضِ مِنْهُ كَمَا فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَرُدُّ الْمَبِيعَ بِالْعَيْبِ عَلَى الْوَكِيلِ لَا عَلَى الْمُوَكِّلِ لِحُصُولِ الْقَبْضِ مِنْهُ حَتَّى لَوْ كَانَ الشَّفِيعُ قَبَضَهَا مِنْ الْبَائِعِ ثُمَّ وَجَدَهَا مَعِيبًا يَرُدُّهَا عَلَيْهِ دُونَ الْمُشْتَرِي (وَأَمَّا الثَّانِي) أَيْ الرَّدُّ عَلَى الْبَائِعِ لِفَسَادِ الْبَيْعِ (فَلِأَنَّهُ بِالرَّدِّ وَالْفَسْخِ بِحُكْمِ الْفَسَادِ جُعِلَ الْبَيْعُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِ) أَيْ الْبَائِعِ (لَمْ يَنْقَطِعْ بِهَذَا الشِّرَاءِ) وَهُوَ الْفَاسِدُ (لِكَوْنِهِ مُسْتَحَقَّ الرَّدِّ) بِفَتْحِ الْحَاءِ قَالَ (وَإِذَا كَانَتْ لِمُسْلِمٍ دَارُ خُطَّةٍ) دَارُ خُطَّةٍ كَخَاتَمِ فِضَّةٍ بِالْإِضَافَةِ سَمَاعًا وَيَجُوزُ خُطَّةً بِالنَّصْبِ تَمْيِيزًا كَمَا فِي عِنْدِي رَاقُودٌ خَلًّا وَالْخُطَّةُ مَا خَطَّهُ الْإِمَامُ بِالتَّمْلِيكِ عِنْدَ فَتْحِ دَارِ الْحَرْبِ، وَالْبُسْتَانُ كُلُّ أَرْضٍ يَحُوطُهَا حَائِطٌ وَفِيهَا نَخِيلٌ مُتَفَرِّقَةٌ وَأَشْجَارٌ عَلَى مَا سَيَجِيءُ، وَوَضْعُ
مَعْنَاهُ إذَا سَقَاهُ بِمَاءِ الْعُشْرِ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ تُسْقَى بِمَاءِ الْخَرَاجِ فَفِيهَا الْخَرَاجُ؛ لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ فِي مِثْلِ هَذَا تَدُورُ مَعَ الْمَاءِ
(وَلَيْسَ عَلَى الْمَجُوسِيِّ فِي دَارِهِ شَيْءٌ)
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِبَيَانِ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلشَّيْءِ يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ صِفَتِهِ فَإِنَّهَا لَوْ بَقِيَتْ دَارًا كَمَا كَانَتْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ سَوَاءٌ كَانَ مَالِكُهَا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا فَإِذَا جَعَلَهَا بُسْتَانًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْعُشْرُ إنْ سَقَاهُ بِمَاءِ الْعُشْرِ، وَالْخَرَاجُ إنْ سَقَاهُ بِمَاءِ الْخَرَاجِ لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ فِي مِثْلِ هَذَا تَدُورُ مَعَ الْمَاءِ لِأَنَّ وَظِيفَةَ الْأَرَاضِي بِاعْتِبَارِ إنْزَالِهَا وَهِيَ إنَّمَا تَكُونُ بِالْمَاءِ وَاسْتُشْكِلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِأَنَّ فِيهَا تَوْظِيفَ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي أَبْوَابِ السِّيَرِ مِنْ الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُبْتَدَأُ بِتَوْظِيفِ الْخَرَاجِ.
وَأَجَابَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُبْتَدَأُ بِتَوْظِيفِ الْخَرَاجِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ صُنْعٌ يُسْتَدْعَى ذَلِكَ وَهَاهُنَا وُجِدَ مِنْهُ ذَلِكَ وَهُوَ السَّقْيُ بِمَاءِ الْخَرَاجِ إذْ الْخَرَاجُ يَجِبُ حَقًّا لِلْمُقَاتِلَةِ فَيَخْتَصُّ وُجُوبُهُ بِمَا حَوَتْهُ الْمُقَاتِلَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَسَقَاهَا بِمَاءِ الْخَرَاجِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَرْضِ الَّتِي لَمْ يَتَقَرَّرْ أَمْرُهُ عَلَى عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ وَهُوَ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا كَانَ لِمُسْلِمٍ أَرْضٌ تُسْقَى بِمَاءِ الْعُشْرِ، وَقَدْ اشْتَرَاهَا ذِمِّيٌّ فَإِنَّ مَاءَهَا عُشْرِيٌّ وَفِيهِ الْخَرَاجُ.
وَقَوْلُهُ (وَلَيْسَ عَلَى الْمَجُوسِيِّ فِي دَارِهِ شَيْءٌ) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله: إنَّمَا
لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه جَعَلَ الْمَسَاكِنَ عَفْوًا (وَإِنْ جَعَلَهَا بُسْتَانًا فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ) وَإِنْ سَقَاهَا بِمَاءِ الْعُشْرِ لِتَعَذُّرِ إيجَابِ الْعُشْرِ إذْ فِيهِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فَيَتَعَيَّنُ الْخَرَاجُ وَهُوَ عُقُوبَةٌ تَلِيقُ بِحَالِهِ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِي الْمَاءِ الْعُشْرِيِّ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله عُشْرًا وَاحِدًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله عُشْرَانِ وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ فِيهِ، ثُمَّ الْمَاءُ الْعُشْرِيُّ مَاءُ السَّمَاءِ وَالْآبَارِ وَالْعُيُونِ وَالْبِحَارِ الَّتِي لَا تَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ أَحَدٍ، وَالْمَاءُ الْخَرَاجِيُّ مَاءُ الْأَنْهَارِ الَّتِي
خَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ رضي الله عنه إنَّ الْمَجُوسَ كَثِيرٌ بِالسَّوَادِ فَقَالَ: أَعْيَانِي أَمْرُ الْمَجُوسِ، وَفِي الْقَوْمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه فَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» الْحَدِيثَ فَلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ رضي الله عنه بِذَلِكَ عَمِلَ بِهِ وَأَمَرَ عُمَّالَهُ أَنْ يَمْسَحُوا أَرَاضِيَهُمْ وَعَامِرَهُمْ فَيُوَظِّفُوا الْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيهِمْ وَرِيعِهِمْ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ وَالرِّيعِ وَعَفَا عَنْ رِقَابِ دُورِهِمْ وَعَنْ رِقَابِ الْأَشْجَارِ فِيهَا، فَلَمَّا ثَبَتَ الْعَفْوُ فِي حَقِّهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ أَبْعَدَ عَنْ الْإِسْلَامِ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى (وَإِنْ جَعَلَهَا بُسْتَانًا فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ وَإِنْ سَقَاهُ بِمَاءِ الْعُشْرِ لِتَعَذُّرِ إيجَابِ الْعُشْرِ عَلَيْهِ إذْ فِيهِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فَيَتَعَيَّنُ الْخَرَاجُ وَهُوَ عُقُوبَةٌ تَلِيقُ بِحَالِهِ) وَلِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ إمَّا أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ لِلْمَاءِ أَوْ لِحَالِ مَنْ تُوضَعُ عَلَيْهِ الْوَظِيفَةُ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعُشْرُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي نَاقَضَ هَذَا قَوْلَهُ لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ فِي مِثْلِ هَذَا تَدُورُ مَعَ الْمَاءِ، وَوَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِ الْعُشْرُ إذَا سَقَى أَرْضَهُ بِمَاءِ الْخَرَاجِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَاءِ وَلَكِنَّ قَبُولَ الْمَحَلِّ شَرْطُ وُجُوبِ الْحُكْمِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِإِيجَابِ الْعُشْرِ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ عِبَادَةً. فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ كَانَ الْمُسْلِمُ مَحَلًّا لِإِيجَابِ الْخَرَاجِ، وَفِيهِ الصَّغَارُ وَالْمُسْلِمُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لَهُ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا صَغَارَ فِي خَرَاجِ الْأَرَاضِي إنَّمَا هُوَ خَرَاجُ الْجَمَاجِمِ، كَذَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رحمه الله سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لَهُ مُطْلَقًا أَوْ إذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ صُنْعٌ يَقْتَضِيهِ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، وَلَكِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ مِنْهُ ذَلِكَ وَهُوَ السَّقْيُ بِمَاءِ الْخَرَاجِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ (وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا) يَعْنِي مَا مَرَّ أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا اشْتَرَى مِنْ مُسْلِمٍ أَرْضًا عُشْرِيَّةً وَجَبَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عُشْرٌ مُضَاعَفٌ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عُشْرٌ وَاحِدٌ، فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا هَذَا وَجَبَ عَلَى الْمَجُوسِيِّ إذَا سَقَى أَرْضًا بِمَاءِ الْعُشْرِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ عُشْرٌ وَاحِدٌ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عُشْرَانِ، وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قَدْ مَرَّ، وَكَذَا الرِّوَايَتَانِ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْمَصْرِفِ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ الْمَاءُ الْعُشْرِيُّ) بَيَانٌ لِلْمَاءِ الْعُشْرِيِّ وَالْخَرَاجِيِّ وَهُوَ ظَاهِرٌ
شَقَّهَا الْأَعَاجِمُ، وَمَاءُ جَيْحُونَ وَسَيْحُونَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ عُشْرِيٌّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْمِيهَا أَحَدٌ كَالْبِحَارِ، وَخَرَاجِيٌّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله؛ لِأَنَّهُ يَتَّخِذُ عَلَيْهَا الْقَنَاطِرَ مِنْ السُّفُنِ وَهَذَا يَدٌ عَلَيْهَا (وَفِي أَرْضِ الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ التَّغْلِبِيَّيْنِ مَا فِي أَرْضِ الرَّجُلِ التَّغْلِبِيِّ) يَعْنِي الْعُشْرَ الْمُضَاعَفَ فِي الْعُشْرِيَّةِ وَالْخَرَاجَ الْوَاحِدَ فِي الْخَرَاجِيَّةِ،
وَالْأَنْهَارُ الَّتِي شَقَّهَا الْأَعَاجِمُ مِثْلُ نَهْرِ الْمَلِكِ وَيَزْدَجْرِدَ وَمَرْوَرُوذَ، لِأَنَّ أَصْلَ تِلْكَ الْأَنْهَارِ بِمَالِ الْخَرَاجِ فَصَارَ مَاؤُهَا خَرَاجِيًّا، وَصَارَتْ الْأَرْضُ خَرَاجِيَّةً تَبَعًا، وَجَيْحُونُ نَهْرُ تِرْمِذَ بِكَسْرِ التَّاءِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَسَيْحُونُ نَهْرُ التُّرْكِ وَهُوَ نَهْرُ خُجَنْدَ، وَدِجْلَةُ نَهْرُ بَغْدَادَ، وَالْفُرَاتُ نَهْرُ الْكُوفَةِ.
قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: الْآبَارُ وَالْعُيُونُ الَّتِي حُفِرَتْ وَظَهَرَتْ فِي الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ مَاؤُهَا عُشْرِيٌّ أَمَّا الَّتِي تَكُونُ فِي الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ فَالْمَاءُ أَيْضًا خَرَاجِيٌّ لِأَنَّ الْمَاءَ يَأْخُذُ حُكْمَ الْأَرْضِ لِكَوْنِهِ خَارِجًا مِنْهَا، وَفِيهِ بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْأَرْضَ الْعُشْرِيَّةَ مَا تُسْقَى مِنْ مَاءِ الْعُشْرِ، فَلَوْ كَانَ مَاءُ الْعُشْرِ مِنْ الْآبَارِ وَالْعُيُونِ مَا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ لَمْ يُفِدْ شَيْئًا لِتَوَقُّفِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْأَرَاضِيَ الْعُشْرِيَّةَ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ: فَأَرْضُ الْعَرَبِ كُلُّهَا عُشْرِيَّةٌ وَسَيَأْتِي تَحْدِيدُهَا. وَالثَّانِي: كُلُّ أَرْضٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا طَوْعًا. وَالثَّالِثُ: الْأَرْضُ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقُسِمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَالرَّابِعُ: بُسْتَانُ مُسْلِمٍ كَانَ دَارِهِ فَاتَّخَذَهُ بُسْتَانًا. وَالْخَامِسُ: الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ الَّتِي أَحْيَاهَا مُسْلِمٌ وَكَانَتْ مِنْ تَوَابِعِ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الرَّابِعِ وَالْخَامِسِ: فَإِنَّ الْمُسْلِمَ إذَا كَانَ لَهُ دَارٌ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ أَوْ فِي الْأَرْضِ الَّتِي أَسْلَمَ أَهْلُهَا طَوْعًا أَوْ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقُسِمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَجَعَلَهَا بُسْتَانًا وَسَقَى بِمَاءِ آبَارِهَا أَوْ الْعُيُونِ الَّتِي فِيهَا وَجَبَ الْعُشْرُ، وَإِنْ كَانَ الدَّارُ لِمَجُوسِيٍّ. وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَعَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ فِي وُجُوبِ الْخَرَاجِ أَوْ الْعُشْرِ الْوَاحِدِ أَوْ الْمُضَاعَفِ وَعَلَى هَذَا إذَا أَحْيَا
لِأَنَّ الصُّلْحَ قَدْ جَرَى عَلَى تَضْعِيفِ الصَّدَقَةِ دُونَ الْمُؤْنَةِ الْمَحْضَةِ، ثُمَّ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ إذَا كَانَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْعُشْرُ فَيُضَعَّفُ ذَلِكَ إذَا كَانَا مِنْهُمْ قَالَ:(وَلَيْسَ فِي عَيْنِ الْقِيرِ وَالنَّفْطِ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ شَيْءٌ)؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَنْزَالِ الْأَرْضِ وَإِنَّمَا هُوَ عَيْنٌ فَوَّارَةٌ كَعَيْنِ الْمَاءِ (وَعَلَيْهِ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ خَرَاجٌ) وَهَذَا (إذَا كَانَ حَرِيمُهُ صَالِحًا لِلزِّرَاعَةِ)؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يَتَعَلَّقُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الزِّرَاعَةِ.
(بَابُ مَنْ يَجُوزُ دَفْعُ الصَّدَقَةِ إلَيْهِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ)
أَرْضًا مَوَاتًا.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الصُّلْحَ قَدْ جَرَى عَلَى تَضْعِيفِ الصَّدَقَةِ) أَيْ عَلَى تَضْعِيفِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعِبَادَةِ أَوْ مَا فِيهِ مَعْنَاهَا. (دُونَ الْمُؤْنَةِ الْمَحْضَةِ) أَيْ الْخَالِيَةِ عَنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ كَالْخَرَاجِ فَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى بَنِي تَغْلِبَ ضِعْفُهُ. (وَعَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ إذَا كَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْعُشْرُ فَيُضَعَّفُ ذَلِكَ إذَا كَانَا مِنْهُمْ).
وَقَوْلُهُ (وَلَيْسَ فِي عَيْنِ الْقِيرِ وَالنِّفْطِ) الْقِيرُ هُوَ الزِّفْتُ وَالْقَارُ لُغَةٌ فِيهِ وَالنِّفْطُ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا وَهُوَ أَفْصَحُ دُهْنٌ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ فِي الْعَيْنِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (وَعَلَيْهِ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ خَرَاجٌ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَعَلَى عَيْنِ الْقِيرِ وَالنِّفْطِ خَرَاجٌ بِأَنْ يُمْسَحَ مَوْضِعُ الْقِيرِ. (إذَا كَانَ حَرِيمُهَا صَالِحًا لِلزِّرَاعَةِ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يَتَعَلَّقُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الزِّرَاعَةِ) فَيَكُونُ مَوْضِعُ الْعَيْنِ تَابِعًا لِلْأَرْضِ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَعَلَى الرَّجُلِ فِي عَيْنِ الْقِيرِ وَالنِّفْطِ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ خَرَاجٌ يَعْنِي فِي حَرِيمِهَا إذَا كَانَ صَالِحًا لِلزِّرَاعَةِ، وَلَا يُمْسَحُ مَوْضِعُ الْعَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ مُخْتَارُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ لِأَنَّ حَرِيمَهُ فِي الْأَصْلِ صَالِحٌ لَهَا وَإِنَّمَا عَطَّلَهُ صَاحِبُهُ لِحَاجَتِهِ، وَهُوَ تَحْصِيلُ مَا يَحْصُلُ بِهِ فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا خَرَاجَ فِيهَا وَلَا عَلَى مَا حَوْلَهَا لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ كَالْأَرْضِ السَّبِخَةِ وَمَا لَا يَبْلُغُهَا الْمَاءُ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ اخْتَارَ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ رحمه الله.
(بَابُ مَنْ يَجُوزُ دَفْعُ الصَّدَقَةِ إلَيْهِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ):
لِمَا ذُكِرَ وَمَا يَلْحَقُهَا مِنْ خُمُسِ الْمَعَادِنِ وَعُشْرِ الزُّرُوعِ احْتَاجَ إلَى بَيَانِ مَنْ تُصْرَفْ إلَيْهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ
قَالَ رحمه الله (الْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الْآيَةَ. فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَصْنَافٍ، وَقَدْ سَقَطَ مِنْهَا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعَزّ الْإِسْلَامَ وَأَغْنَى عَنْهُمْ)
فَشَرَعَ فِي بَيَانِهِ فِي هَذَا الْبَابِ (الْأَصْلُ فِيهِ) أَيْ فِيمَنْ يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الْآيَةَ فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَصْنَافٍ وَقَدْ سَقَطَ مِنْهَا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ) وَهُمْ كَانُوا ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ كَانَ يَتَأَلَّفُهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُسْلِمُوا وَيُسْلِمَ قَوْمُهُمْ بِإِسْلَامِهِمْ، وَنَوْعٌ مِنْهُمْ أَسْلَمُوا لَكِنْ عَلَى ضَعْفٍ فَيَزِيدُ تَقْرِيرُهُمْ لِضَعْفِهِمْ، وَنَوْعٌ مِنْهُمْ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ وَهُمْ مِثْلُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَالْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ رُؤَسَاءَ قُرَيْشٍ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِيهِمْ خَوْفًا مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يَخَافُونَ أَحَدًا إلَّا اللَّهَ وَإِنَّمَا أَعْطَاهُمْ خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُمْ اللَّهُ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ، ثُمَّ سَقَطَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه.
رُوِيَ أَنَّهُمْ اسْتَبْدَلُوا الْخَطَّ لِنَصِيبِهِمْ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فَبَذَلَ لَهُمْ وَجَاءُوا إلَى عُمَرَ رضي الله عنه فَاسْتَبْدَلُوا خَطَّهُ فَأَبَى وَمَزَّقَ خَطَّ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، وَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كَانَ يُعْطِيكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَأْلِيفًا لَكُمْ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأَغْنَى عَنْكُمْ، فَإِنْ ثُبْتُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَّا فَبَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ
وَعَلَى ذَلِكَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ
السَّيْفُ، فَعَادُوا إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوا: أَنْتَ الْخَلِيفَةُ أَوْ عُمَرُ؟ بَذَلْت لَنَا الْخَطَّ وَمَزَّقَهُ عُمَرُ، فَقَالَ: هُوَ إنْ شَاءَ وَلَمْ يُخَالِفْهُ (وَعَلَى ذَلِكَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ) وَاخْتَلَفَ كَلَامُ الْقَوْمِ فِي وَجْهِ سُقُوطِهِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِالْكِتَابِ إلَى حِينِ وَفَاتِهِ عليه الصلاة والسلام، فَمِنْهُمْ مَنْ ارْتَكَبَ جَوَازَ نَسْخِ مَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ بِالْإِجْمَاعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ كَالْكِتَابِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مِنْ قَبِيلِ انْتِهَاءِ الْحُكْمِ بِانْتِهَاءِ عِلَّتِهِ كَانْتِهَاءِ جَوَازِ الصَّوْمِ بِانْتِهَاءِ وَقْتِهِ وَهُوَ النَّهَارُ، وَيُرَدُّ بِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْبَقَاءِ لَا يَحْتَاجُ إلَى عِلَّتِهِ كَمَا فِي الرَّمَلِ وَالِاضْطِبَاعِ فِي الطَّوَافِ وَقَدْ تَقَدَّمَ، فَانْتِهَاؤُهَا قَدْ لَا يَسْتَلْزِمُ انْتِهَاءَهُ. وَفِيهِ بَحْثٌ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ.
وَقَالَ شَيْخُ شَيْخِي الْعَلَّامَةُ عَلَاءُ الدِّينِ عَبْدُ الْعَزِيزِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ هَذَا تَقْرِيرٌ لِمَا كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ كَانَ إعْزَازَ الْإِسْلَامِ لِضَعْفِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِغَلَبَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ، فَكَانَ الْإِعْزَازُ فِي الدَّفْعِ، فَلَمَّا تَبَدَّلَ الْحَالُ بِغَلَبَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ صَارَ الْإِعْزَازُ فِي الْمَنْعِ فَكَانَ الْإِعْطَاءُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْمَنْعُ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ لِإِعْزَازِ الدِّينِ، وَالْإِعْزَازُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ فَلَمْ يَكُنْ نَسْخًا: كَالْمُتَيَمِّمِ وَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ التُّرَابِ لِلتَّطَهُّرِ لِأَنَّهُ آلَةٌ مُتَعَيِّنَةٌ لِحُصُولِ التَّطَهُّرِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، فَإِذَا تَبَدَّلَ حَالُهُ بِوُجْدَانِ الْمَاءِ سَقَطَ الْأَوَّلُ وَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَعَيِّنًا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَلَا يَكُونُ هَذَا نَسْخًا لِلْأَوَّلِ فَكَذَا هَذَا، وَهُوَ نَظِيرُ إيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَإِنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى الْعَشِيرَةِ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم وَبَعْدَهُ عَلَى أَهْلِ
(وَالْفَقِيرُ مَنْ لَهُ أَدْنَى شَيْءٍ وَالْمِسْكِينُ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ) وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَدْ قِيلَ عَلَى الْعَكْسِ وَلِكُلٍّ وَجْهٌ
الدِّيوَانِ، لِأَنَّ الْإِيجَابَ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِسَبَبِ النُّصْرَةِ وَالِانْتِصَارُ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ بِالْعِشْرَةِ وَبَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم بِأَهْلِ الدِّيوَانِ فَإِيجَابُهَا عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ بَعْدَهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَكُنْ نَسْخًا بَلْ كَانَ تَقْرِيرًا لِلْمَعْنَى الَّذِي وَجَبَتْ الدِّيَةُ لِأَجْلِهِ وَهُوَ الِانْتِصَارُ فَكَذَا هَذَا وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ.
وَقَوْلُهُ (وَالْفَقِيرُ مَنْ لَهُ أَدْنَى شَيْءٍ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَلِكُلٍّ وَجْهٌ) أَمَّا وَجْهُ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمِسْكِينُ أَسْوَأَ حَالًا مِنْ الْفَقِيرِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} أَيْ لَاصِقًا بِالتُّرَابِ مِنْ الْجُوعِ وَالْعُرْيِ. وَأَمَّا وَجْهُ مَنْ قَالَ بِالثَّانِي وَهُوَ أَنَّ الْفَقِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْمِسْكِينِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} وَالْفَائِدَةُ تَظْهَرُ فِي الْوَصَايَا وَالْأَوْقَافِ وَالنُّذُورِ لَا فِي
ثُمَّ هُمَا صِنْفَانِ أَوْ صِنْفٌ وَاحِدٌ سَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَالْعَامِلُ يَدْفَعُ إلَيْهِ الْإِمَامُ إنْ عَمِلَ بِقَدْرِ عَمَلِهِ فَيُعْطِيهِ مَا يَسَعُهُ وَأَعْوَانُهُ غَيْرَ مُقَدَّرٍ بِالثَّمَنِ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله
الزَّكَاةِ فَإِنَّ صَرْفَهَا إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ جَائِزٌ عِنْدَنَا (ثُمَّ هُمَا صِنْفَانِ أَوْ صِنْفٌ وَاحِدٌ سَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ: هُمَا وَاحِدٌ حَتَّى قَالَ فِيمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِفُلَانٍ وَلِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ إنَّ لِفُلَانٍ نِصْفَ الثُّلُثِ وَلِلْفَرِيقَيْنِ النِّصْفَ الْآخَرَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لِفُلَانٍ ثُلُثُ الثُّلُثِ فَجَعَلَهُمَا صِنْفَيْنِ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَذَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ عَطْفٌ وَهُوَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ (وَقَوْلُهُ وَالْعَامِلُ يَدْفَعُ إلَيْهِ الْإِمَامُ) الْعَامِلُ هُوَ الَّذِي يَبْعَثُهُ الْإِمَامُ لِجِبَايَةِ الصَّدَقَاتِ (فَيُعْطِيهِ مَا يَسَعُهُ) أَيْ يَكْفِيهِ (وَأَعْوَانُهُ) مُدَّةَ ذَهَابِهِمْ وَإِيَابِهِمْ لِأَنَّهُ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِهَذَا الْعَمَلِ، وَكُلُّ مَنْ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِعَمَلٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَحِقُّ عَلَى ذَلِكَ رِزْقًا كَالْقُضَاةِ وَالْمُقَاتِلَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ أَوْ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ وَأُجْرَتُهُ مَعْلُومَةٌ وَلَمْ يُقَدَّرْ ذَلِكَ بِالثَّمَنِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله فَإِنَّهُ يُقَدَّرُ بِذَلِكَ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فِي الْأَصْلِ فَيَكُونُ بَيَانَاتٍ لِحِصَّتِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ إنْ اقْتَضَتْ ذَلِكَ
لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ، وَلِهَذَا يَأْخُذُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا إلَّا أَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الصَّدَقَةِ فَلَا يَأْخُذُهَا الْعَامِلُ الْهَاشِمِيُّ تَنْزِيهًا لِقَرَابَةِ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام عَنْ شُبْهَةِ الْوَسَخِ، وَالْغَنِيُّ لَا يُوَازِيهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ فَلَمْ تُعْتَبَرْ الشُّبْهَةُ فِي حَقِّهِ.
قَالَ (وَفِي الرِّقَابِ يُعَانُ الْمُكَاتَبُونَ مِنْهَا فِي فَكِّ رِقَابِهِمْ) وَهُوَ الْمَنْقُولُ
(وَالْغَارِمُ مَنْ لَزِمَهُ دَيْنٌ وَلَا يَمْلِكُ نِصَابًا فَاضِلًا عَنْ دَيْنِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله مَنْ تَحَمَّلَ غَرَامَةً فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَإِطْفَاءِ الثَّائِرَةِ بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ
فَسَهْمُ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ سَقَطَ بِالْإِجْمَاعِ فَلَمْ تَبْقَ الْأَسْهُمُ ثَمَانِيَةً حَتَّى يَكُونَ لَهُ الثَّمَنُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مُسْلِمُونَ وَكُفَّارٌ، وَالسَّاقِطُ سَهْمُ الْكُفَّارِ فَقَطْ فَكَانَتْ الْأَسْهُمُ ثَمَانِيَةً. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ اسْتِحْقَاقًا بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ) أَيْ لَا بِطَرِيقِ الصَّدَقَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ صَاحِبَ الزَّكَاةِ إذَا دَفَعَهَا لِلْإِمَامِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعَامِلُ شَيْئًا وَيَأْخُذُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَازَ أَخْذُهَا لِلْهَاشِمِيِّ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (إلَّا أَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الصَّدَقَةِ) نَظَرًا إلَى سُقُوطِ الزَّكَاةِ عَنْ ذِمَّةِ الْمُؤَدِّي (فَلَا يَأْخُذُهَا الْعَامِلُ الْهَاشِمِيُّ تَنْزِيهًا لِقَرَابَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شُبْهَةِ الْوَسَخِ وَالْغِنَى لَا يُوَازِيهِ) أَيْ الْهَاشِمِيُّ (فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ فَلَمْ تُعْتَبَرْ الشُّبْهَةُ فِي حَقِّهِ)
وَقَوْلُهُ (وَهُوَ الْمَنْقُولُ) يَعْنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ رَوَى «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ. قَالَ: فُكَّ الرَّقَبَةَ وَأَعْتِقْ النَّسَمَةَ، قَالَ: أَوَلَيْسَا سَوَاءً يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهِ» .
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَمْلِكُ نِصَابًا فَاضِلًا عَنْ دَيْنِهِ) لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ نِصَابًا كَانَ غَنِيًّا وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ وَمَا فِي يَدِهِ مُسْتَحَقٌّ بِالدَّيْنِ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ كَانَ فَقِيرًا. وَقَوْلُهُ (فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ)
(وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مُنْقَطِعُ الْغُزَاةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَفَاهَمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله مُنْقَطِعُ الْحَاجِّ) لِمَا رَوَى «أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ بَعِيرًا لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ الْحَاجَّ» .
وَلَا يَصْرِفُ إلَى أَغْنِيَاءِ الْغُزَاةِ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْمَصْرِفَ هُوَ الْفُقَرَاءُ (وَابْنُ السَّبِيلِ مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فِي وَطَنِهِ) وَهُوَ فِي مَكَان لَا شَيْءَ لَهُ فِيهِ. قَالَ: (فَهَذِهِ جِهَاتُ الزَّكَاةِ، فَلِلْمَالِكِ أَنْ يَدْفَعَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ،
أَيْ الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُتَعَادِينَ لِزَوَالِ الِاخْتِلَافِ وَحُصُولِ الِائْتِلَافِ، وَالنَّائِرَةُ الْعَدَاوَةُ وَالشَّحْنَاءُ وَقَوْلُهُ (مُنْقَطِعُ الْغُزَاةِ) أَيْ فُقَرَاءُ الْغُزَاةِ وَكَذَلِكَ الْمُرَادُ بِمُنْقَطِعِ الْحَاجِّ فُقَرَاؤُهُمْ الْمُنْقَطَعُ بِهِمْ
(وَلَا يُصْرَفُ إلَى أَغْنِيَاءِ الْغُزَاةِ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْمَصْرِفَ هُوَ الْفُقَرَاءُ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرَدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ» وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِخَمْسَةٍ، مِنْ جُمْلَتِهِمْ الْغُزَاةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَتَأْوِيلُهُ الْغَنِيُّ بِقُوَّةِ الْبَدَنِ وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْمُسْتَغْنِيَ بِكَسْبِهِ لِقُوَّةِ بَدَنِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ طَلَبُ الصَّدَقَةِ إلَّا إذَا كَانَ غَازِيًا فَيَحِلُّ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِالْجِهَادِ عَنْ الْكَسْبِ. وَذَكَرَ تِلْكَ الْخَمْسَةَ فِي التَّجْنِيسِ فَقَالَ: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِخَمْسَةٍ: الْغَازِي، وَالْعَامِلُ عَلَيْهَا، وَالْغَارِمُ، وَرَجُلٌ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْمِسْكِينِ فَأَهْدَاهَا الْمِسْكِينُ إلَيْهِ. وَذَكَرَ فِي الْمَصَابِيحِ وَفِي رِوَايَةٍ " وَابْنُ السَّبِيلِ ". فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مُكَرَّرٌ سَوَاءٌ كَانَ مُنْقَطَعَ الْغُزَاةِ أَوْ مُنْقَطَعُ الْحَاجِّ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي وَطَنِهِ مَالٌ أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ هُوَ ابْنَ السَّبِيلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ فَقِيرٌ فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الْعَدَدُ سَبْعَةً.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ فَقِيرٌ إلَّا أَنَّهُ ازْدَادَ فِيهِ شَيْءٌ آخَرُ سِوَى الْفَقْرِ وَهُوَ الِانْقِطَاعُ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ مِنْ جِهَادٍ أَوْ حَجٍّ فَلِذَلِكَ غَايَرَ الْفَقِيرَ الْمُطْلَقَ فَإِنَّ الْمُقَيَّدَ يُغَايِرُ الْمُطْلَقَ لَا مَحَالَةَ. وَيَظْهَرُ أَثَرُ التَّغَايُرِ فِي حُكْمٍ آخَرَ أَيْضًا وَهُوَ زِيَادَةُ التَّحْرِيضِ وَالتَّرْغِيبِ فِي رِعَايَةِ جَانِبِهِ الَّتِي اُسْتُفِيدَتْ مِنْ الْعُدُولِ عَنْ اللَّامِ إلَى كَلِمَةِ فِي، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ إيذَانًا بِأَنَّهُمْ أَرْسَخُ فِي اسْتِحْقَاقِ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ مِمَّنْ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ لِأَنَّ فِي الظَّرْفِيَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ بِأَنْ تُوضَعَ فِيهِمْ الصَّدَقَاتُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تُنْتَقَصْ الْمَصَارِفُ عَنْ السَّبْعَةِ وَفِيهِ تَأَمُّلٌ.
وَقَوْلُهُ (فَهَذِهِ جِهَاتُ الزَّكَاةِ) يَعْنِي أَنَّهُمْ مَصَارِفُ الصَّدَقَاتِ لَا مُسْتَحَقُّوهَا عِنْدَنَا حَتَّى يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: هُمْ الْمُسْتَحَقُّونَ لَهَا حَتَّى لَا تَجُوزَ مَا لَمْ يُصْرَفْ إلَى
وَلَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَصْرِفَ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ بِحَرْفِ اللَّامِ لِلِاسْتِحْقَاقِ. وَلَنَا أَنَّ الْإِضَافَةَ لِبَيَانِ أَنَّهُمْ مَصَارِفُ لَا لِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَهَذَا لِمَا عُرِفَ أَنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِعِلَّةِ الْفَقْرِ صَارُوا مَصَارِفَ
الْأَصْنَافِ السَّبْعَةِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ ثَلَاثَةٌ وَهُمْ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ (لِأَنَّ الْإِضَافَةَ بِحَرْفِ اللَّامِ لِلِاسْتِحْقَاقِ) لِكَوْنِهَا مَوْضُوعَةً لِلتَّمْلِيكِ (وَلَنَا أَنَّ الْإِضَافَةَ لِبَيَانِ أَنَّهُمْ مَصَارِفُ لَا لِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ) وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: الْمُرَادُ بِهِ بَيَانُ الْمَصَارِفِ فَإِلَى أَيُّهَا صُرِفَتْ أَجْزَأَك كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ فَإِذَا اسْتَقْبَلْت جُزْءًا مِنْهَا كُنْت مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْأَصْنَافَ بِأَوْصَافٍ تُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ فَصَارُوا صِنْفًا وَاحِدًا فِي التَّحْقِيقِ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِضَافَةَ إلَيْهِمْ لِبَيَانِ أَنَّهُمْ مَصَارِفُ لَا لِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ (لِمَا عَرَفْنَا أَنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَبِعِلَّةِ الْفَقْرِ) أَيْ الْحَاجَةِ (صَارُوا مَصَارِفَ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَعَالَى
فَلَا يُبَالِي بِاخْتِلَافِ جِهَاتِهِ، وَاَلَّذِي ذَهَبْنَا إلَيْهِ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم
(وَلَا يَجُوزُ أَنَّهُ يَدْفَعُ الزَّكَاةَ إلَى ذِمِّيٍّ)«لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِمُعَاذٍ رضي الله عنه خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ» . قَالَ (وَيَدْفَعُ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الصَّدَقَةِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَدْفَعُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله اعْتِبَارًا بِالزَّكَاةِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «تَصَدَّقُوا عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا»
ذَكَرَ الْأَصْنَافَ بِأَوْصَافٍ تُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ (فَلَا يُبَالَى بِاخْتِلَافِ جِهَاتِهِ).
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ الزَّكَاةَ إلَى ذِمِّيٍّ) وَاضِحٌ وَالضَّمِيرُ فِي مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ رَاجِعٌ إلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ، فَكَذَا ضَمِيرُ فُقَرَائِهِمْ لِئَلَّا يَخْتَلَّ النَّظْمُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ مَشْهُورٌ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فَجَازَ الزِّيَادَةُ بِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَيُدْفَعُ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الصَّدَقَةِ) يَعْنِي إلَى الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا دُونَ الْحَرْبِيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ وَفُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى، وَقَوْلُهُ «تَصَدَّقُوا عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا» يَقْتَضِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَجُوزَ الصَّرْفُ إلَى الْحَرْبِيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ، وَالثَّانِي جَوَازُ دَفْعِ الزَّكَاةِ أَيْضًا.
وَلَوْلَا حَدِيثُ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَقُلْنَا بِالْجَوَازِ فِي الزَّكَاةِ.
(وَلَا يُبْنَى بِهَا مَسْجِدٌ وَلَا يُكَفَّنُ بِهَا مَيِّتٌ) لِانْعِدَامِ التَّمْلِيكِ وَهُوَ الرُّكْنُ (وَلَا يُقْضَى بِهَا دَيْنُ مَيِّتٍ)
وَأَجَابَ عَنْ الثَّانِي بِقَوْلِهِ (وَلَوْلَا حَدِيثُ مُعَاذٍ رضي الله عنه لَقُلْنَا بِالْجَوَازِ فِي الزَّكَاةِ) لِأَنَّ قَوْلَهُ " تَصَدَّقُوا " مُطْلَقٌ فَإِنَّ مَعْنَاهُ افْعَلُوا التَّصَدُّقَ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِهِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ لَيْسَ بِعَامٍّ، وَمِنْهُمْ يَقُولُ: مَعْنَاهُ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم «تَصَدَّقُوا عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا» يَقْتَضِي جَوَازَ دَفْعِ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ، وَحَدِيثَ مُعَاذٍ يَقْتَضِي عَدَمَهُ. فَقُلْنَا: حَدِيثُ مُعَاذٍ فِي الزَّكَاةِ وَالْآخَرُ فِيمَا سِوَاهَا مِنْ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالصَّدَقَةِ الْمَنْذُورَةِ وَالْكَفَّارَاتِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَوَابَ عَنْ الْأَوَّلِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي حَقِّ الْحَرْبِيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَحِقَهُ بَيَانُ التَّقْرِيرِ. وَهُوَ يَمْنَعُ الْخُصُوصَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ، وَلَا يُدْفَعُ بِمَا قِيلَ كَلِمَةُ " كُلٍّ " لِتَأْكِيدِ الْأَدْيَانِ لَا لِتَأْكِيدِ الْأَهْلِ فَتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ غَامِضٌ سَلَّمْنَاهُ، وَلَكِنْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُخَصِّصُ مُقَارِنًا عِنْدَنَا، وَلَيْسَ بِثَابِتٍ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ فِي الْآيَةِ عَنْ التَّوَلِّي عَنْ الْبِرِّ فَلَا يَكُونُ لَهُ التَّعَلُّقُ بِالصَّدَقَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: أُمِرْنَا بِالْمُقَاتَلَةِ مَعَهُمْ بِآيَاتِ الْقِتَالِ، فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْهَا مُتَأَخِّرًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ كَانَ نَاسِخًا فِي حَقِّهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَمْ يَبْقَ الْحَدِيثُ مَعْمُولًا بِهِ فِي حَقِّهِمْ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِمْ مَرْحَمَةٌ لَهُمْ وَمُوَاسَاةٌ، وَهِيَ مُنَافِيَةٌ لِمُقْتَضَى الْآيَةِ وَلَيْسَ فِي مَرْتَبَتِهَا فَيَسْقُطُ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّهِمْ وَيَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَمَلًا بِالدَّلِيلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
وَقَوْلُهُ (وَهُوَ الرُّكْنُ) لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي دَفْعِ الزَّكَاةِ تَمْلِيكُ فَقِيرٍ مُسْلِمٍ غَيْرِ هَاشِمِيٍّ وَلَا مَوْلَاهُ جُزْءًا مِنْ الْمَالِ مَعَ قَطْعِ الْمَنْفَعَةِ الْمَدْفُوعِ عَنْ نَفْسِهِ مَقْرُونًا بِالنِّيَّةِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ:
لِأَنَّ قَضَاءَ دَيْنِ الْغَيْرِ لَا يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ مِنْهُ لَا سِيَّمَا مِنْ الْمَيِّتِ
قَوْلُكُمْ التَّمْلِيكُ رُكْنٌ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ إذْ لَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ النَّقْلِيَّةِ الْمَنْقُولَةِ فِي هَذَا الْبَابِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا خَلَا قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمْ اللَّامَ لِلْعَاقِبَةِ دُونَ التَّمْلِيكِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ لِلْعَاقِبَةِ أَنَّ الْمَقْبُوضَ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُمْ فِي الْعَاقِبَةِ فَهُمْ مَصَارِفُ ابْتِدَاءً لَا مُسْتَحِقُّونَ ثُمَّ يَحْصُلُ لَهُمْ الْمِلْكُ فِي الْعَاقِبَةِ بِدَلَالَةِ اللَّامِ فَلَمْ تَبْقَ دَعْوَى مُجَرَّدَةً، وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ قَضَاءَ دَيْنِ الْغَيْرِ لَا يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ مِنْهُ) بِدَلِيلِ أَنَّ الدَّائِنَ وَالْمَدْيُونَ إذَا تَصَادَقَا أَنْ لَا دَيْنَ بَيْنَهُمَا فَلِلْمُؤَدِّي أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَقْبُوضَ مِنْ الْقَابِضِ فَلَمْ يَصِرْ هُوَ مِلْكًا لِلْقَابِضِ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِدَيْنِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ لَوْ قَضَى دَيْنَ حَيٍّ
(وَلَا تُشْتَرَى بِهَا رَقَبَةٌ تُعْتَقُ) خِلَافًا لِمَالِكٍ ذَهَبَ إلَيْهِ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَفِي الرِّقَابِ} وَلَنَا أَنَّ الْإِعْتَاقَ إسْقَاطُ الْمِلْكِ وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ.
(وَلَا تُدْفَعُ إلَى غَنِيٍّ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ» وَهُوَ بِإِطْلَاقٍ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي غَنِيِّ الْغُزَاةِ. وَكَذَا حَدِيثُ مُعَاذٍ رضي الله عنه عَلَى مَا رَوَيْنَا.
قَالَ (وَلَا يَدْفَعُ الْمُزَكِّي زَكَاتَهُ إلَى أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَإِنْ عَلَا، وَلَا إلَى وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ) لِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَمْلَاكِ بَيْنَهُمْ مُتَّصِلَةٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّمْلِيكُ
بِأَمْرِهِ وَقَعَ عَنْ الزَّكَاةِ كَأَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَى الْغَرِيمِ فَيَكُونُ الْقَابِضُ كَالْوَكِيلِ لَهُ فِي قَبْضِ الصَّدَقَةِ. وَقَوْلُهُ (وَلَا تَشْتَرِي بِهَا رَقَبَةً) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَدْفَعُ الْمُزَكِّي زَكَاتَهُ إلَى أَبِيهِ) أَيْ مَنْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا قَرَابَةُ وِلَادٍ أَعْلَى أَوْ أَسْفَلَ، وَأَمَّا
عَلَى الْكَمَالِ (وَلَا إلَى امْرَأَتِهِ) لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْمَنَافِعِ عَادَةً (وَلَا تَدْفَعُ الْمَرْأَةُ إلَى زَوْجِهَا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِمَا ذَكَرْنَا، وَقَالَا: تَدْفَعُ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ «عليه الصلاة والسلام لَكِ أَجْرَانِ: أَجْرُ الصَّدَقَةِ، وَأَجْرُ الصِّلَةِ» قَالَهُ لِامْرَأَةِ
مَا سِوَاهُمْ مِنْ الْقَرَابَةِ فَيَتِمُّ الْإِيتَاءُ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ، وَهُوَ أَفْضَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ.
وَقَوْلُهُ (لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْمَنَافِعِ عَادَةً) لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} قِيلَ: بِمَالِ خَدِيجَةَ رضي الله عنها. وَقَوْلُهُ (لِمَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي مِنْ اشْتِرَاكِ الْمَنْفَعَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ حَتَّى لَا تَجُوزَ شَهَادَتُهُ لَهُ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه وَقَدْ سَأَلَتْهُ عَنْ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِ؛ قُلْنَا: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّافِلَةِ.
قَالَ (وَلَا يَدْفَعُ إلَى مُكَاتَبِهِ وَمُدَبَّرِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ) لِفُقْدَانِ التَّمْلِيكِ إذَا كَسَبَ الْمَمْلُوكُ لِسَيِّدِهِ وَلَهُ حَقٌّ فِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ فَلَمْ يَتِمَّ التَّمْلِيكُ (وَلَا إلَى عَبْدٍ قَدْ أَعْتَقَ بَعْضَهُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ وَقَالَا: يَدْفَعُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ حُرٌّ مَدْيُونٌ
يَرِثُ صَاحِبَهُ مِنْ غَيْرِ حَجْبٍ كَمَا فِي الْوِلَادِ، فَكَمَا أَنَّ الْوِلَادَ مَانِعٌ فَكَذَا مَا يَتَفَرَّعُ مِنْهُ الْوِلَادُ. وَقَوْلُهُ (قُلْنَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّافِلَةِ) لِمَا رُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ امْرَأَةً صَنِعَةَ الْيَدَيْنِ تَعْمَلُ لِلنَّاسِ وَتَتَصَدَّقُ بِذَلِكَ وَبِهِ نَقُولُ.
وَقَوْلُهُ (وَلَهُ حَقٌّ فِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ) ظَاهِرٌ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ جَارِيَةَ مُكَاتَبِهِ لَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ جَارِيَةَ نَفْسِهِ، وَقَوْلُهُ (وَلَا إلَى عَبْدٍ قَدْ أُعْتِقَ بَعْضُهُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ بِأَنْ يَكُونَ عَبْدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ لَا يَجُوزُ لِلْآخَرِ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ
عِنْدَهُمَا (وَلَا يَدْفَعُ إلَى مَمْلُوكٍ غَنِيٍّ) لِأَنَّ الْمِلْكَ وَاقِعٌ لِمَوْلَاهُ (وَلَا إلَى وَلَدِ غَنِيٍّ إذَا كَانَ صَغِيرًا) لِأَنَّهُ يُعَدُّ غَنِيًّا بِيَسَارِ أَبِيهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ كَبِيرًا فَقِيرًا لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ غَنِيًّا بِيَسَارِ أَبِيهِ وَإِنْ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ، وَبِخِلَافِ امْرَأَةِ الْغَنِيِّ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ فَقِيرَةً لَا تُعَدُّ غَنِيَّةً بِيَسَارِ زَوْجِهَا، وَبِقَدْرِ النَّفَقَةِ لَا تَصِيرُ مُوسِرَةً.
(وَلَا يَدْفَعُ إلَى بَنِي هَاشِمٍ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام
عِنْدَهُ وَحُرٍّ مَدْيُونٍ عِنْدَهُمَا.
وَقَوْلُهُ (وَبِخِلَافِ امْرَأَةِ الْغَنِيِّ) يَعْنِي فَإِنَّهُ يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهَا إذَا كَانَتْ فَقِيرَةً وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ. وَرَوَى أَصْحَابُ الْأَمَالِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا مُكَفِّيَةُ الْمُؤْنَةِ بِمَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَى الْغَنِيِّ حَالَةَ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، فَالصَّرْفُ إلَيْهَا كَالصَّرْفِ إلَى وَلَدٍ صَغِيرٍ لِلْغَنِيِّ. وَوَجْهُ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ لِلْغَنِيِّ أَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ بِالْجُزْئِيَّةِ فَكَانَ الصَّرْفُ إلَيْهِ كَالصَّرْفِ إلَى الْغَنِيِّ
وَقَوْلُهُ (وَلَا يُدْفَعُ إلَى بَنِي هَاشِمٍ إلَى قَوْلِهِ بِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّدِ بِالْمَاءِ) ظَاهِرٌ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ التَّشْبِيهَ بِالْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ كَانَ أَنْسَبَ بِاعْتِبَارِ وُجُودِ الْقُرْبَةِ فِيهِمَا، وَلِهَذَا اخْتَارَ صَاحِبُ الْفَتَاوَى الْكُبْرَى حُرْمَةَ التَّطَوُّعِ أَيْضًا. وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الْآثَارِ
أَنَّ الْمَفْرُوضَةَ وَالنَّافِلَةَ مُحَرَّمَتَانِ عَلَيْهِمْ عِنْدَهُمَا، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِمَا رِوَايَتَانِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَالَ فِي التَّطْهِيرِ دُونَ الْمَاءِ لِأَنَّ الْمَالَ مُطَهِّرٌ حُكْمًا وَالْمَاءَ مُطَهِّرٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، فَيَكُونُ الْمَالُ مُطَهِّرًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَجَعَلْنَاهُ
بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ، لِأَنَّ الْمَالَ هَاهُنَا كَالْمَاءِ يَتَدَنَّسُ بِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ. أَمَّا التَّطَوُّعُ فَبِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّدِ بِالْمَاءِ. قَالَ:(وَهُمْ آلُ عَلِيٍّ وَآلُ عَبَّاسٍ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَقِيلٍ وَآلُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَمَوَالِيهِمْ) أَمَّا هَؤُلَاءِ فَلِأَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إلَى بَنِي هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَنِسْبَةُ الْقَبِيلَةِ إلَيْهِ. وَأَمَّا مَوَالِيهِمْ فَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ مَوْلًى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَهُ أَتَحِلُّ لِي الصَّدَقَةُ؟ فَقَالَ: لَا أَنْتَ مَوْلَانَا»
مُتَدَنِّسًا فِي الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ عَمَلًا بِالْوَجْهَيْنِ. وَقَوْلُهُ (وَهُمْ آلُ عَلِيٍّ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَأَمَّا مَوَالِيهِمْ فَلِمَا رُوِيَ أَنَّ مَوْلًى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) هُوَ أَبُو رَافِعٍ رَوَى صَاحِبُ السُّنَنِ مُسْنِدًا إلَى أَبِي رَافِعٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ الْقُرَشِيُّ عَبْدًا نَصْرَانِيًّا حَيْثُ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَيُعْتَبَرُ حَالُ الْمُعْتَقِ لِأَنَّهُ الْقِيَاسُ وَالْإِلْحَاقُ بِالْمَوْلَى بِالنَّصِّ وَقَدْ خَصَّ الصَّدَقَةَ.
(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى رَجُلٍ يَظُنُّهُ فَقِيرًا ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ غَنِيٌّ أَوْ هَاشِمِيٌّ أَوْ كَافِرٌ أَوْ دَفَعَ فِي ظُلْمَةٍ فَبَانَ أَنَّهُ أَبُوهُ أَوْ ابْنُهُ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ) لِظُهُورِ خَطَئِهِ بِيَقِينٍ وَإِمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَصَارَ كَالْأَوَانِي وَالثِّيَابِ. وَلَهُمَا حَدِيثُ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ
بَعَثَ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُوعٍ عَلَى الصَّدَقَةِ فَقَالَ لِأَبِي رَافِعٍ اصْحَبْنِي فَإِنَّك تُصِيبُ مِنْهَا، فَقَالَ: حَتَّى آتِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْأَلَهُ، فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ» فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ لَمَا وَجَبَتْ الْجِزْيَةُ عَلَى عَبْدٍ كَافِرٍ أَعْتَقَهُ قُرَشِيٌّ لِأَنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ الْقُرَشِيُّ عَبْدًا نَصْرَانِيًّا حَيْثُ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَيُعْتَبَرُ حَالُ الْمُعْتَقِ) بِفَتْحِ التَّاءِ (لِأَنَّهُ هُوَ الْقِيَاسُ) فَإِنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يُلْحَقَ الْمُعْتَقُ بِالْمُعْتِقِ فِي حَالَةٍ مَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ بِنَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالْحُرِّيَّةُ، وَخِطَابُ الشَّرْعِ وَالْإِلْحَاقُ: إنَّمَا كَانَ بِالنَّصِّ فِي حَقِّ الصَّدَقَةِ فَلَا يَتَعَدَّاهُ، وَلِهَذَا يُؤْخَذُ مِنْ مَوْلَى التَّغْلِبِيِّ الْجِزْيَةَ دُونَ الصَّدَقَةِ الْمُضَاعَفَةِ.
وَقَوْلُهُ (قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ) هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مَحَلًّا لِلصَّدَقَةِ، أَوْ لَمْ يَظْهَرْ حَالُهُ عِنْدَهُ أَصْلًا، أَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلصَّدَقَةِ. فَفِي الْأَوَّلَيْنِ يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ، وَفِي الثَّالِثِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ (وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ) وَهَلْ يَطِيبُ الْمَقْبُوضُ لِلْقَابِضِ ذَكَرَ الْحَلْوَانِيُّ أَنَّهُ لَا رِوَايَةَ فِيهِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُطَيِّبُ مَاذَا يَصْنَعُ بِهَا قِيلَ يَتَصَدَّقُ بِهِ، وَقِيلَ: يَرُدُّهُ عَلَى الْمُعْطِي عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ لِيُعِيدَ الْإِيتَاءَ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ) وَلَكِنْ لَا يَسْتَرِدُّ مَا أَدَّاهُ (لِظُهُورِ خَطَئِهِ بِيَقِينٍ وَإِمْكَانُ الْوُقُوفِ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَصَارَ كَالْأَوَانِي وَالثِّيَابِ) فَإِنَّ الْأَوَانِيَ الطَّاهِرَةَ إذَا اخْتَلَطَتْ بِالنَّجِسَةِ، فَإِنْ غَلَبَتْ الطَّاهِرَةُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ إنَاءَانِ طَاهِرَانِ وَوَاحِدٌ نَجِسٌ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَ التَّحَرِّيَ، فَإِذَا تَحَرَّى وَتَوَضَّأَ ثُمَّ ظَهَرَ الْخَطَأُ يُعِيدُ الْوُضُوءَ، وَأَمَّا إذَا غَلَبَتْ النَّجِسَةُ أَوْ تَسَاوَتَا يَتَيَمَّمُ وَلَا يَتَحَرَّى وَأَمَّا الثِّيَابُ الطَّاهِرَةُ إذَا اخْتَلَطَتْ بِالنَّجِسَةِ وَلَيْسَ ثَمَّةَ عَلَامَةٌ تُعْرَفُ بِهَا فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى مُطْلَقًا، فَإِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ مِنْهَا بِالتَّحَرِّي ثُمَّ ظَهَرَ خَطَؤُهُ أَعَادَ الصَّلَاةَ، وَأَمَّا عَدَمُ اسْتِرْدَادِهِ فَلِأَنَّ فَسَادَ جِهَةِ الزَّكَاةِ لَا يَنْقُضُ الْأَدَاءَ (وَلَهُمَا حَدِيثُ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ) وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ يَزِيدَ دَفَعَ صَدَقَتَهُ إلَى رَجُلٍ لِيَدْفَعَهَا إلَى الْفَقِيرِ فَدَفَعَهَا إلَى ابْنِهِ مَعْنٍ، فَلَمَّا أَصْبَحَ رَآهَا مَعَهُ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ وَاَللَّهِ مَا إيَّاكَ أَرَدْت، فَاخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ فِيهِ «يَا يَزِيدُ لَكَ مَا نَوَيْتَ، وَيَا مَعْنُ لَكَ مَا أَخَذْتَ» وَقَدْ دَفَعَ إلَيْهِ وَكِيلُ أَبِيهِ صَدَقَتَهُ؛ وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالِاجْتِهَادِ دُونَ الْقَطْعِ فَيَبْتَنِي الْأَمْرُ فِيهَا عَلَى مَا يَقَعُ عِنْدَهُ كَمَا إذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي غَيْرِ الْغَنِيِّ أَنَّهُ لَا يَجْزِيهِ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ. وَهَذِهِ إذَا تَحَرَّى فَدَفَعَ وَفِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ مَصْرِفٌ، أَمَّا إذَا شَكَّ وَلَمْ يَتَحَرَّ أَوْ تَحَرَّى فَدَفَعَ، وَفِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَصْرِفٍ لَا يَجْزِيهِ إلَّا إذَا
فَقَالَ عليه الصلاة والسلام يَا يَزِيدُ لَك مَا نَوَيْت وَيَا مَعْنُ لَك مَا أَخَذْت» وَجَوَّزَ ذَلِكَ وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ أَنَّ الصَّدَقَةَ كَانَتْ فَرِيضَةً أَوْ تَطَوُّعًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَالَ لَا تَخْتَلِفُ، أَوْ لِأَنَّ مُطْلَقَ الصَّدَقَةِ يَنْصَرِفُ إلَى الْفَرِيضَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالِاجْتِهَادِ) دَلِيلٌ يَتَضَمَّنُ الْجَوَابَ عَنْ قَوْلِهِ وَإِمْكَانُ الْوُقُوفِ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ: يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُمْكِنٌ لَكِنَّهُ بِالِاجْتِهَادِ دُونَ الْقَطْعِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ يَنْبَنِي الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا يَقَعُ عِنْدَهُ. كَمَا إذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ، فَإِذَا وَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مَصْرِفٌ صَحَّ الْأَدَاءُ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ الْغَنِيِّ) أَيْ فِيمَا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ هَاشِمِيٌّ أَوْ كَافِرٌ أَوْ أَنَّهُ أَبُوهُ أَوْ ابْنُهُ (لَا يُجْزِيهِ وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ) يَعْنِي الْإِجْزَاءَ فِي الْكُلِّ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ عَدَمُ الْإِعَادَةِ (إذَا تَحَرَّى) حَاصِلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ يَدْفَعَ زَكَاةَ مَالِهِ رَجُلًا بِلَا شَكٍّ وَلَا تَحَرٍّ أَوْ شَكَّ فِي أَمْرِهِ، فَالْأَوَّلُ يُجْزِيهِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ غَنِيٌّ لِأَنَّ الْفَقِيرَ فِي الْقَابِضِ أَصْلٌ. وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَتَحَرَّى أَوَّلًا، فَإِنْ لَمْ يَتَحَرَّ لَمْ يُجْزِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ فَقِيرٌ لِأَنَّهُ لَمَّا شَكَّ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّحَرِّي كَمَا فِي الصَّلَاةِ، فَإِذَا تَرَكَ بَعْدَمَا لَزِمَهُ لَمْ يَقَعْ الْمُؤَدَّى مَوْقِعَ الْجَوَازِ إلَّا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ فَقِيرٌ لِأَنَّ
عَلِمَ أَنَّهُ فَقِيرٌ هُوَ الصَّحِيحُ، وَلَوْ دَفَعَ إلَى شَخْصٍ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ عَبْدُهُ أَوْ مُكَاتَبُهُ لَا يُجْزِيهِ لِانْعِدَامِ التَّمْلِيكِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْمِلْكِ وَهُوَ الرُّكْنُ عَلَى مَا مَرَّ.
(وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى مَنْ يَمْلِكُ نِصَابًا مِنْ أَيِّ مَالٍ كَانَ) لِأَنَّ الْغِنَى الشَّرْعِيَّ مُقَدَّرٌ بِهِ، وَالشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ
الْفَقْرَ هُوَ الْمَقْصُودُ وَقَدْ حَصَلَ بِدُونِهِ كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ، وَإِنْ تَحَرَّى وَدَفَعَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ مَصْرِفٌ أَوْ لَيْسَ بِمَصْرِفٍ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَا يُجْزِيهِ إلَّا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ فَقِيرٌ، فَإِذَا ظَهَرَ صَحَّ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَزَعَمَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ، كَمَا لَوْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَتَحَرَّى إلَى جِهَةٍ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْ الْجِهَةِ الَّتِي أَدَّى إلَيْهَا اجْتِهَادُهُ وَصَلَّى إلَى جِهَةٍ أُخْرَى، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ الْقِبْلَةَ لَزِمَهُ إعَادَةُ الصَّلَاةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَالْأَصَحُّ هُوَ الْفَرْقُ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ مَعَ الْعِلْمِ لَا تَكُونُ طَاعَةً، فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ فِعْلَهُ مَعْصِيَةٌ لَا يُمْكِنُ إسْقَاطُ الْوَاجِبِ عَنْهُ بِهِ، وَأَمَّا التَّصَدُّقُ عَلَى الْغَنِيِّ فَصَحِيحٌ وَلَيْسَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْمَعْصِيَةِ شَيْءٌ، وَيُمْكِنُ إسْقَاطُ الْوَاجِبِ عِنْدَ إصَابَةِ مَحَلِّهِ بِفِعْلِهِ فَكَانَ الْعَمَلُ بِالتَّحَرِّي لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَقَدْ حَصَلَ بِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ فَقِيرٌ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْ حَالِهِ شَيْءٌ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ غَنِيٌّ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا. ثُمَّ قَالَ: تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ كَمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله. وَقَوْلُهُ (وَهُوَ الرُّكْنُ) أَيْ التَّمْلِيكُ هُوَ الرُّكْنُ فِي الزَّكَاةِ (كَمَا مَرَّ)
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى مَنْ مَلَكَ نِصَابًا) سَوَاءٌ كَانَ مِنْ النُّقُودِ أَوْ السَّوَائِمِ أَوْ الْعُرُوضِ وَهُوَ فَاضِلٌ عَنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ كَالدَّيْنِ فِي النُّقُودِ وَالِاحْتِيَاجِ إلَى الِاسْتِعْمَالِ فِي أَمْرِ
وَإِنَّمَا شَرَطَ الْوُجُوبَ (وَيَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى مَنْ يَمْلِكُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مُكْتَسِبًا) لِأَنَّهُ فَقِيرٌ وَالْفُقَرَاءُ هُمْ الْمَصَارِفُ، وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَاجَةِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا فَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَى دَلِيلِهَا وَهُوَ فَقْدُ النِّصَابِ
(وَيُكْرَهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى وَاحِدٍ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا وَإِنْ دَفَعَ جَازَ) وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْغِنَى قَارَنَ الْأَدَاءَ فَحَصَلَ الْأَدَاءُ إلَى
الْمَعَاشِ فِي غَيْرِهِمَا لَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ، وَعَنْ هَذَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ رَجُلٌ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَهُ دَارٌ وَخَادِمٌ وَسِلَاحٌ وَفَرَسٌ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ قِيمَتُهَا عَشْرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الدَّيْنَ مَصْرُوفٌ إلَى الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ فَاضِلٌ عَنْ حَاجَتِهِ مُعَدٌّ لِلتَّقَلُّبِ وَالتَّصَرُّفِ بِهِ، فَكَانَ الدَّيْنُ مَصْرُوفًا إلَيْهِ. فَأَمَّا الْخَادِمُ وَالدَّارُ وَالْفَرَسُ وَالسِّلَاحُ فَمَشْغُولٌ بِحَاجَتِهِ فَلَا يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا قَالَ مَشَايِخُنَا إنَّ الْفَقِيهَ إذَا مَلَكَ مِنْ الْكُتُبِ مَا يُسَاوِي مَالًا عَظِيمًا وَلَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ إلَّا أَنْ يَمْلِكَ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ مَا يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنَّمَا النَّمَاءُ شَرْطُ الْوُجُوبِ) يَعْنِي أَنَّ الشَّرْطَ فِي عَدَمِ جَوَازِ الدَّفْعِ مِلْكُ النِّصَابِ الْفَاضِلِ عَنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ نَامِيًا كَانَ أَوْ غَيْرَ نَامٍ، وَإِنَّمَا النَّمَاءُ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ (وَيَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى مَنْ يَمْلِكُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مُكْتَسِبًا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى الْفَقِيرِ الْكَسُوبِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» وَلَنَا أَنَّهُ فَقِيرٌ وَالْفُقَرَاءُ هُمْ الْمَصَارِفُ، وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَاجَةِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا خَفِيَّةً، وَلَهَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ، وَهُوَ فَقْدُ النِّصَابِ فَيُقَامُ مَقَامَهُ كَمَا فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الْمَحَبَّةِ فِيمَا إذَا قَالَ: إنْ كُنْت تُحِبِّينَنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ: فَقَالَتْ: أُحِبُّك وَتَأْوِيلُ مَا رَوَاهُ حُرْمَةُ الطَّلَبِ، أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ الصَّدَقَاتِ فَقَامَ إلَيْهِ رَجُلَانِ يَسْأَلَانِهِ فَنَظَرَ إلَيْهِمَا وَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ فَقَالَ: إنَّهُ لَا حَقَّ لَكُمَا فِيهِ وَإِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا» مَعْنَاهُ لَا حَقَّ لَكُمَا فِي السُّؤَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَوَّزَ الْإِعْطَاءَ إيَّاهُمَا.
وَقَوْلُهُ (وَيُكْرَهُ أَنْ يُدْفَعَ إلَى وَاحِدٍ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا) قِيلَ: مَعْنَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عِيَالٌ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مُعِيلًا فَلَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَهُ مِقْدَارَ مَا لَوْ وَزَّعَهُ عَلَى عِيَالِهِ أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دُونَ الْمِائَتَيْنِ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِ فِي الْمَعْنَى تَصَدُّقٌ عَلَيْهِ وَعَلَى عِيَالِهِ،
الْغِنَى. وَلَنَا أَنَّ الْغِنَى حُكْمُ الْأَدَاءِ فَيَتَعَقَّبُهُ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِقُرْبِ الْغِنَى مِنْهُ كَمَنْ صَلَّى وَبِقُرْبِهِ نَجَاسَةٌ (قَالَ: وَأَنْ تُغْنِيَ بِهَا إنْسَانًا أَحَبُّ إلَيَّ) مَعْنَاهُ الْإِغْنَاءُ عَنْ السُّؤَالِ يَوْمَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِغْنَاءَ مُطْلَقًا مَكْرُوهٌ. .
قَالَ (وَيُكْرَهُ نَقْلُ الزَّكَاةِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ) وَإِنَّمَا تُفَرَّقُ صَدَقَةُ كُلِّ فَرِيقٍ فِيهِمْ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ رضي الله عنه، وَفِيهِ رِعَايَةُ حَقِّ الْجِوَارِ
وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُعْطِيَهُ مِائَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِقْدَارَ مَا إذَا قَضَى بِهِ دَيْنَهُ لَهُ دُونَ الْمِائَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْمَبْسُوطِ مُقَيَّدَةً بِهَذَيْنِ الْقَيْدَيْنِ فَقَالَ: وَيُكْرَهُ أَنْ يُعْطِيَ رَجُلًا مِنْ الزَّكَاةِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَهُ عِيَالٌ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا بَأْسَ بِإِعْطَاءِ الْمِائَتَيْنِ وَيُكْرَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ فَوْقَ الْمِائَتَيْنِ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ الْمِائَتَيْنِ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ جُزْءًا مِنْ الْمِائَتَيْنِ مُسْتَحَقٌّ لِحَاجَتِهِ لِلْحَالِ وَالْبَاقِي دُونَ الْمِائَتَيْنِ فَلَا تَثْبُتُ بِهِ صِفَةُ الْغِنَى إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ فَوْقَ الْمِائَتَيْنِ. وَوَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ: إنَّ الْغِنَى قَارَنَ الْأَدَاءَ لِأَنَّ الْأَدَاءَ عِلَّةُ الْغِنَى وَالْحُكْمُ يُقَارِنُ الْعِلَّةَ كَمَا فِي الِاسْتِطَاعَةِ مَعَ الْفِعْلِ، وَهَذَا مُقَرَّرٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الْمُحَقِّقِينَ، ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلَنَا مَا ذَكَرَهُ: أَنَّ الْغِنَى حُكْمُ الْأَدَاءِ وَحُكْمُ الشَّيْءِ يَعْقُبُهُ، وَاعْتَرَضُوا عَلَيْهِ بِأَنَّ حُكْمَ الْعِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهَا. كَمَا قَالَ زُفَرُ فَمَا وَجْهُ هَذَا الْكَلَامِ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ الْغِنَى حُكْمُ الْأَدَاءِ الْغِنَى حُكْمُ حُكْمِ الْأَدَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَدَاءَ عِلَّةُ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ عِلَّةُ الْغِنَى، فَكَانَ الْغِنَى مُضَافًا إلَى الْأَدَاءِ لَكِنْ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ فَكَانَ لِلْعِلَّةِ الْأُولَى وَهِيَ الْأَدَاءُ شُبْهَةُ السَّبَبِ، وَالسَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ عَلَى الْحُكْمِ حَقِيقَةً، وَمَا كَانَ يُشْبِهُ السَّبَبَ مِنْ الْعِلَلِ لَهُ شُبْهَةُ التَّقَدُّمِ فَكَانَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ شِرَاءِ الْقَرِيبِ لِلْإِعْتَاقِ، فَإِنَّ الشِّرَاءَ عِلَّةٌ لِلْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ فِي الْقَرِيبِ عِلَّةُ الْعِتْقِ بِالْحَدِيثِ، فَكَانَ الْعِتْقُ حُكْمُ حُكْمِ الشِّرَاءِ فَلِذَلِكَ جَازَتْ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الشِّرَاءِ لِشُبْهَةِ تَقَدُّمِ الشِّرَاءِ عَلَى الْعِتْقِ بِوُجُودِ الْوَاسِطَةِ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا يُشْعِرُ بِهِ. وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: الْأَدَاءُ يُلَاقِي الْفَقْرَ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْغِنَى بِحُكْمِهِ وَحُكْمُ الشَّيْءِ لَا يَصْلُحُ مَانِعًا لِأَنَّ الْمَانِعَ مَا يَسْبِقُهُ لَا مَا يَلْحَقُهُ، وَالْجَوَازُ لَا يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ لِأَنَّ الْبَقَاءَ يَسْتَغْنِي عَنْ الْفَقْرِ، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى التَّأَخُّرِ كَمَا تَرَى، وَالْحُكْمُ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ الْعِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ. وَأَقُولُ: الْحُكْمُ يَتَعَقَّبُ الْعِلَّةَ فِي الْعَقْلِ وَيُقَارِنُهَا فِي الْوُجُودِ، فَبِالنَّظَرِ إلَى التَّأَخُّرِ الْعَقْلِيِّ جَازَ، وَبِالنَّظَرِ إلَى التَّقَارُنِ الْخَارِجِيِّ يُكْرَهُ، وَلَعَلَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ (وَأَنْ تُغْنِيَ بِهَا إنْسَانًا أَحَبُّ إلَيَّ) هَذَا خِطَابُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَإِنَّمَا صَارَ هَذَا أَحَبَّ لِأَنَّ فِيهِ صِيَانَةَ الْمُسْلِمِ عَنْ ذُلِّ السُّؤَالِ مَعَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ فَاشْتَرَى بِهِ فُلُوسًا فَفَرَّقَهَا فَقَدْ قَصَّرَ فِي أَمْرِ الصَّدَقَةِ (وَمَعْنَاهُ الْإِغْنَاءُ عَنْ السُّؤَالِ فِي يَوْمِهِ) لَا أَنْ يُمَلِّكَهُ نِصَابًا (لِأَنَّ الْإِغْنَاءَ مُطْلَقًا مَكْرُوهٌ) كَمَا تَقَدَّمَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَدْيُونًا أَوْ مُعِيلًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ
وَقَوْلُهُ (وَيُكْرَهُ نَقْلُ الزَّكَاةِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ) قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْقُدُورِيُّ: يُكْرَهُ نَقْلُ الزَّكَاةِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَنْقُلْ إلَى قَرَابَتِهِ أَوْ إلَى قَوْمٍ هُمْ أَحْوَجُ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ، أَمَّا إذَا نَقَلَ إلَيْهِمْ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِلَا كَرَاهَةٍ، أَمَّا الْجَوَازُ
(إلَّا أَنْ يَنْقُلَهَا الْإِنْسَانُ إلَى قَرَابَتِهِ أَوْ إلَى قَوْمٍ هُمْ أَحْوَجُ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ) لِمَا فِيهِ مِنْ الصِّلَةِ: أَوْ زِيَادَةِ دَفْعِ الْحَاجَةِ، وَلَوْ نَقَلَ إلَى غَيْرِهِمْ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا لِأَنَّ الْمَصْرِفَ مُطْلَقُ الْفُقَرَاءِ بِالنَّصِّ.
فِي الصُّورَةِ الْأُولَى فَلِأَنَّ الْمَصْرِفَ مُطْلَقُ الْفُقَرَاءِ بِالنَّصِّ. وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِحَدِيثِ مُعَاذٍ، وَلِأَنَّ فِي النَّقْلِ تَرْكَ رِعَايَةِ حَقِّ الْجِوَارِ، وَأَمَّا عَدَمُ الْكَرَاهَةِ فِيمَا إذَا نَقَلَ إلَى قَرَابَتِهِ فَلِمَا فِيهِ مِنْ أَجْرِ الصَّدَقَةِ وَأَجْرِ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَأَمَّا إلَى قَوْمٍ هُمْ أَحْوَجُ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ خَلَّةِ الْفَقِيرِ فَمَنْ كَانَ أَحْوَجَ كَانَ أَوْلَى، وَقَدْ صَحَّ عَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِالْيَمِينِ: ائْتُونِي بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ فِي الصَّدَقَةِ، فَإِنَّهُ أَيْسَرُ عَلَيْكُمْ وَأَنْفَعُ لِلْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ، وَالْخَمِيسُ الثَّوْبُ الصَّغِيرُ طُولُهُ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ، وَاللَّبِيسُ الْخَلَقُ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فِي أَنَّهُ اُعْتُبِرَ هَاهُنَا مَكَانُ الْمَالِ وَفِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ وُجُوبَ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمَوْلَى فِي ذِمَّتِهِ عَنْ رَأْسِهِ فَحَيْثُ كَانَ رَأْسُهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَرَأْسُ مَمَالِيكِهِ فِي حَقِّهِ كَرَأْسِهِ فِي وُجُوبِ الْمُؤْنَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الصَّدَقَةِ فَيَجِبُ حَيْثُمَا كَانَتْ رُءُوسُهُمْ، وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي الْمَالِ وَلِهَذَا إذَا هَلَكَ الْمَالُ سَقَطَتْ فَاعْتُبِرَ بِمَكَانِهِ.
بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ
قَالَ رحمه الله: (صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْحُرِّ الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ مَالِكًا لِمِقْدَارِ النِّصَابِ فَاضِلًا عَنْ مَسْكَنِهِ وَثِيَابِهِ
(بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ)
صَدَقَةُ الْفِطْرِ لَهَا مُنَاسَبَةٌ بِالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ، أَمَّا بِالزَّكَاةِ فَلِأَنَّهَا مِنْ الْوَظَائِفِ الْمَالِيَّةِ مَعَ انْحِطَاطِ دَرَجَتِهَا عَنْ الزَّكَاةِ، وَأَمَّا بِالصَّوْمِ فَبِاعْتِبَارِ التَّرْتِيبِ الْوُجُودِيِّ فَإِنَّ شَرْطَهَا الْفِطْرُ وَهُوَ بَعْدَ الصَّوْمِ.
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَإِنَّمَا رَجَّحَ هَذَا التَّرْتِيبَ لِمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكَلَامِ هُوَ الْمُضَافُ لَا الْمُضَافُ إلَيْهِ، خُصُوصًا إذَا كَانَ مُضَافًا إلَى شَرْطِهِ، وَالصَّدَقَةُ عَطِيَّةٌ يُرَادُ بِهَا الْمَثُوبَةُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى سُمِّيَتْ بِهَا لِأَنَّ بِهَا يَظْهَرُ صِدْقُ الرَّغْبَةِ فِي تِلْكَ الْمَثُوبَةِ كَالصَّدَاقِ يَظْهَرُ بِهِ صِدْقُ رَغْبَةِ الرَّجُلِ فِي الْمَرْأَةِ. قَالَ (صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ) الْوُجُوبُ هَاهُنَا عَلَى مَعْنَاهُ الِاصْطِلَاحِيِّ، وَهُوَ مَا يَثْبُتُ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةٌ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (فَاضِلًا عَنْ مَسْكَنِهِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: حَتَّى لَوْ كَانَ لَهُ دَارَانِ دَارٌ
وَأَثَاثِهِ وَفَرَسِهِ وَسِلَاحِهِ وَعَبِيدِهِ) أَمَّا وُجُوبُهَا فَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي خُطْبَتِهِ «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» رَوَاهُ ثَعْلَبَةُ بْنُ صُعَيْرٍ الْعَدَوِيُّ أَوْ صُعَيْرٍ الْعُذْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَبِمِثْلِهِ يَثْبُتُ الْوُجُوبُ لِعَدَمِ الْقَطْعِ
وَشَرْطُ الْحُرِّيَّةِ لِيَتَحَقَّقَ التَّمْلِيكُ وَالْإِسْلَامُ لِيَقَعَ قُرْبَةً، وَالْيَسَارُ لِقَوْلِهِ
يَسْكُنُهَا وَأُخْرَى لَا يَسْكُنُهَا وَيُؤَاجِرُهَا أَوْ لَا يُؤَاجِرُهَا يُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا فِي الْغَنِيِّ حَتَّى لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ.
وَقَوْلُهُ (وَعَبِيدُهُ) يَعْنِي الَّتِي لِلْخِدْمَةِ فَإِنَّ الَّتِي تَكُونُ لِلتِّجَارَةِ فِيهَا الزَّكَاةُ. وَقَوْلُهُ (صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ) صِفَتَانِ لِعَبْدٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا صِفَتَيْنِ لِحُرٍّ وَعَبْدٍ لِأَنَّهُ لَا تَجِبُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْ وَلَدِهِ الْكَبِيرِ، وَفِي الْحَدِيثِ بَيَانٌ لِوُجُوبِهَا وَسَبَبِ وُجُوبِهَا وَشَرْطِهَا وَمِقْدَارِ الْوَاجِبِ وَبَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَمَنْ تَجِبُ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ (رَوَاهُ ثَعْلَبَةُ بْنُ صُعَيْرٍ الْعَدَوِيُّ أَوْ صُعَيْرٍ الْعُذْرِيُّ) قَالَ الْإِمَامُ حُمَيْدُ الدِّينِ الضَّرِيرُ رحمه الله: الْعُذْرِيُّ يَعْنِي بِالْعَيْنِ
عليه الصلاة والسلام «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي قَوْلِهِ: تَجِبُ عَلَى مَنْ يَمْلِكُ زِيَادَةً عَنْ قُوتِ يَوْمِهِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، وَقَدْرُ الْيَسَارِ بِالنِّصَابِ لِتَقْدِيرِ الْغِنَى فِي الشَّرْعِ بِهِ فَاضِلًا عَمَّا ذُكِرَ مِنْ الْأَشْيَاءِ
وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَصَحُّ مَنْسُوبٌ إلَى بَنِي عُذْرَةَ اسْمِ قَبِيلَةٍ، وَالْعَدَوِيُّ مَنْسُوبٌ إلَى عَدِيٍّ وَهُوَ جَدُّهُ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَقُولُونَهُ كُنْيَةُ أَبِي صُعَيْرٍ الْعُذْرِيِّ.
وَقَوْلُهُ «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» أَيْ صَادِرَةً عَنْ غِنًى، فَالظَّهْرُ فِيهِ مَقْحَمٌ كَمَا فِي ظَهْرِ الْقَلْبِ الْغَيْبُ (وَهُوَ) أَيْ الْحَدِيثُ (حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي إيجَابِهِ عَلَى مَنْ يَمْلِكُ الزِّيَادَةَ عَلَى قُوتِ يَوْمِهِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ) اسْتِدْلَالًا بِمَا ذُكِرَ فِي آخِرِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما غَنِيٌّ أَوْ فَقِيرٌ، لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ إمَّا عَلَى مَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ اُنْتُسِخَ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«إنَّمَا الصَّدَقَةُ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى» وَإِمَّا عَلَى النَّدْبِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي آخِرِهِ «أَمَّا غَنِيُّكُمْ فَيُزَكِّيهِ اللَّهُ، وَأَمَّا فَقِيرُكُمْ فَيُعْطِيهِ اللَّهُ أَفْضَلَ مِمَّا أُعْطِيَ» .
وَقَوْلُهُ (وَقُدِّرَ الْيَسَارُ بِالنِّصَابِ)
لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالْمُسْتَحَقُّ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ كَالْمَعْدُومِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ النُّمُوُّ، وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا النِّصَابِ حِرْمَانُ الصَّدَقَةِ وَوُجُوبُ الْأُضْحِيَّةِ وَالْفِطْرَةِ.
قَالَ (يُخْرِجُ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى» الْحَدِيثَ (وَ) يُخْرِجُ عَنْ (أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ) لِأَنَّ السَّبَبَ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ لِأَنَّهَا تُضَافُ إلَيْهِ يُقَالُ زَكَاةُ الرَّأْسِ، وَهِيَ أَمَارَةُ السَّبَبِيَّةِ،
ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ النُّمُوُّ) أَيْ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ النِّصَابُ بِمَالٍ نَامٍ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِالْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ، وَالنُّمُوُّ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِيمَا يَكُونُ وُجُوبُهُ بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ كَالزَّكَاةِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ. وَقَوْلُهُ (وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا النِّصَابِ) يُشِيرُ إلَى وُجُودِ نَصِيبٍ قِيلَ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: نِصَابٌ يُشْتَرَطُ فِيهِ النَّمَاءُ تَتَعَلَّقُ بِهِ الزَّكَاةُ وَسَائِرُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَالِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَنِصَابٌ يَجِبُ بِهِ أَحْكَامٌ أَرْبَعَةٌ: حُرْمَةُ الصَّدَقَةِ، وَوُجُوبُ الْأُضْحِيَّةِ، وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَنَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ النَّمَاءُ لَا بِالتِّجَارَةِ وَلَا بِالْحَوْلِ. وَنِصَابٌ يَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ السُّؤَالِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ عِنْدَ بَعْضٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْ يَمْلِكَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا.
وَقَوْلُهُ (يُخْرِجُ ذَلِكَ) أَيْ الْمِقْدَارَ الْمَذْكُورَ (عَنْ نَفْسِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى» وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ فَعَدَلَ النَّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ السَّبَبَ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يُضَافُ إلَيْهِ يُقَالُ زَكَاةُ الرَّأْسِ وَهِيَ) أَيْ الْإِضَافَةُ (أَمَارَةُ السَّبَبِيَّةِ) لِأَنَّ الْإِضَافَةَ لِلِاخْتِصَاصِ. وَأَقْوَى وُجُوهِهِ إضَافَةُ الْمُسَبَّبِ إلَى سَبَبِهِ لِحُدُوثِهِ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ الْإِضَافَةُ أَمَارَةَ السَّبَبِيَّةِ
وَالْإِضَافَةُ إلَى الْفِطْرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَقْتُهُ، وَلِهَذَا تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الرَّأْسِ مَعَ اتِّحَادِ الْيَوْمِ، وَالْأَصْلُ فِي الْوُجُوبِ رَأْسُهُ وَهُوَ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ فَيَلْحَقُ بِهِ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ كَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ لِأَنَّهُ يُمَوِّنُهُمْ وَيَلِي عَلَيْهِمْ (وَمَمَالِيكِهِ) لِقِيَامِ الْوِلَايَةِ وَالْمُؤْنَةِ، وَهَذَا إذَا كَانُوا لِلْخِدْمَةِ وَلَا مَالَ لِلصِّغَارِ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَالٌ يُؤَدِّي مِنْ مَالِهِمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ رحمه الله لِأَنَّ الشَّرْعَ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْمُؤْنَةِ فَأَشْبَهَ النَّفَقَةَ.
(وَلَا يُؤَدِّي عَنْ زَوْجَتِهِ)
لَكَانَ الْفِطْرُ سَبَبًا لِإِضَافَتِهَا إلَيْهِ يُقَالُ: صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَكُمْ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَالْإِضَافَةُ إلَى الْفِطْرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَقْتُهُ) فَكَانَتْ إضَافَةً مَجَازِيَّةً (وَلِهَذَا تَتَعَدَّدُ) الصَّدَقَةُ بِتَعَدُّدِ الرَّأْسِ مَعَ اتِّحَادِ الْيَوْمِ فَعُلِمَ أَنَّ الرَّأْسَ هُوَ السَّبَبُ دُونَ الْوَقْتِ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْوَقْتِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَهَلُمَّ جَرًّا مَعَ اتِّحَادِ الرَّأْسِ وَلَوْ كَانَ الرَّأْسُ هُوَ السَّبَبَ لَمَا كَانَ الْوُجُوبُ مُتَكَرِّرًا مَعَ اتِّحَادِهِ. أُجِيبَ: بِأَنَّ الرَّأْسَ إنَّمَا جُعِلَ سَبَبًا بِوَصْفِ الْمُؤْنَةِ وَهِيَ تَتَكَرَّرُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ فَصَارَ الرَّأْسُ بِاعْتِبَارِ تَكَرُّرِ وَصْفِهِ كَالْمُتَكَرِّرِ بِنَفْسِهِ حُكْمًا فَكَانَ السَّبَبُ هُوَ التَّكَرُّرَ حُكْمًا. وَقَوْلُهُ (وَالْأَصْلُ فِي الْوُجُوبِ رَأْسُهُ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَمَمَالِيكِهِ) بِالْجَرِّ يَتَنَاوَلُ الْعَبِيدَ وَالْمُدَبَّرِينَ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ دُونَ الْمُكَاتَبِينَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. وَقَوْلُهُ (فَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَالٌ يُؤَدَّى مِنْ مَالِهِمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ) وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: وَهُوَ الْقِيَاسُ لَا يُؤَدَّى إلَّا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَلَوْ أَدَّى مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ ضَمِنَ لِأَنَّهَا زَكَاةٌ فِي الشَّرِيعَةِ كَزَكَاةِ الْمَالِ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الصَّغِيرِ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وَالصَّغِيرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِوُجُوبِهَا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الشَّرْعَ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْمُؤْنَةِ حَيْثُ أَوْجَبَ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ فَأَشْبَهَ النَّفَقَةَ، وَنَفَقَةُ الصَّغِيرِ فِي مَالِهِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ وَكَمَا يُؤَدَّى عَنْ الصَّغِيرِ مِنْ مَالِهِ فَكَذَلِكَ عَنْ مَمَالِيكِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الصَّغِيرِ.
قَالَ (وَلَا يُؤَدِّي عَنْ زَوْجَتِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُؤَدِّيَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ زَوْجَتِهِ
لِقُصُورِ الْوِلَايَةِ وَلَا فِي غَيْرِ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَلَا يُمَوِّنُهَا فِي غَيْرِ الرَّوَاتِبِ كَالْمُدَاوَاةِ. (وَلَا عَنْ أَوْلَادِ الْكِبَارِ وَإِنْ كَانُوا فِي عِيَالِهِ) لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ وَلَوْ أَدَّى عَنْهُمْ أَوْ عَنْ زَوْجَتِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا لِثُبُوتِ الْإِذْنِ عَادَةً.
(وَلَا) يُخْرِجُ (عَنْ مُكَاتَبِهِ) لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ وَلَا الْمُكَاتَبِ عَنْ نَفْسِهِ لِفَقْرِهِ. وَفِي الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وِلَايَةُ الْمَوْلَى ثَابِتَةٌ فَيُخْرِجُ عَنْهُمَا.
(وَلَا) يُخْرِجُ (عَنْ مَمَالِيكِهِ لِلتِّجَارَةِ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله فَإِنَّ عِنْدَهُ وُجُوبَهَا عَلَى الْعَبْدِ وَوُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَى الْمَوْلَى فَلَا تَنَافِي، وَعِنْدَنَا وُجُوبُهَا عَلَى الْمَوْلَى بِسَبَبِهِ كَالزَّكَاةِ
لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ» . وَهُوَ يُمَوِّنُ زَوْجَتَهُ، وَلَنَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَوَجْهُهُ: أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ الْمُؤْنَةَ مُطْلَقَةً، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهَا كَامِلَةً لِأَنَّهُ يُمَوِّنُهَا فِي غَيْرِ الرَّوَاتِبِ كَالْمُدَاوَاةِ، وَكَذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ الْوِلَايَةِ، وَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهَا وِلَايَةٌ فِي حُقُوقِ النِّكَاحِ. (وَلَا) يُؤَدِّي (عَنْ أَوْلَادِهِ الْكِبَارِ وَإِنْ كَانُوا فِي عِيَالِهِ) بِأَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ زَمْنَى لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِمْ وِلَايَةً فَصَارُوا كَالْأَجَانِبِ. وَقَوْلُهُ (وَلَوْ أَدَّى عَنْهُمْ) ظَاهِرٌ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ كَمَا إذَا أَدَّى الزَّكَاةَ بِغَيْرِ إذْنِهَا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الصَّدَقَةَ فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ فَيَجُوزُ أَنْ تَسْقُطَ بِأَدَاءِ الْغَيْرِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الْإِذْنُ صَرِيحًا، وَفِي الْعَادَةِ أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي يُؤَدِّي عَنْهَا فَكَانَ الْإِذْنُ ثَابِتًا عَادَةً، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ لَا تَصِحُّ بِدُونِ الْإِذْنِ صَرِيحًا
(وَلَا يُخْرِجُ عَنْ مُكَاتَبَةِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ) وَلِأَنَّهُ لَا يُمَوِّنُهُ (وَلَا الْمُكَاتَبُ عَنْ نَفْسِهِ لِفَقْرِهِ) لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ مَالًا. وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ مِلْكِ الْمَالِ. وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ نُسْبَقْ إلَيْهِ فَلْيُطْلَبْ ثَمَّةَ. (وَفِي الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وِلَايَةُ الْمَوْلَى ثَابِتَةٌ) لِأَنَّهَا لَا تُعْدَمُ بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ وَإِنَّمَا تَخْتَلُّ الْمَالِيَّةُ وَلَا عِبْرَةَ بِهَا هَاهُنَا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي عَنْ نَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَلَا مَالِيَّةَ فِيهِمْ
(وَلَا يُخْرِجُ عَنْ مَمَالِيكِهِ لِلتِّجَارَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّ عِنْدَهُ وُجُوبَهَا عَلَى الْعَبْدِ وَوُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَى الْمَوْلَى) فَهُمَا حَقَّانِ ثَابِتَانِ فِي مَحَلَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ (فَلَا تَنَافِي) بَيْنَهُمَا فَجَازَ اجْتِمَاعُهُمَا (وَعِنْدَنَا وُجُوبُهَا عَلَى الْمَوْلَى بِسَبَبِ الْعَبْدِ كَالزَّكَاةِ) فَلَوْ أَوْجَبْنَاهَا عَلَيْهِ أَدَّى إلَى الثَّنْيِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا ثُنْيَا فِي الصَّدَقَةِ» وَالثَّنْيُ مَكْسُورٌ مَقْصُورٌ: أَيْ لَا تُؤْخَذُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: سَبَبُ الزَّكَاةِ
فَيُؤَدِّي إلَى الثَّنْيِ
(وَالْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ لَا فِطْرَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا) لِقُصُورِ الْوِلَايَةِ وَالْمُؤْنَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (وَكَذَا الْعَبِيدُ بَيْنَ اثْنَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) وَقَالَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَخُصُّهُ مِنْ الرُّءُوسِ دُونَ الْأَشْقَاصِ
فِيهِمْ الْمَالِيَّةُ وَسَبَبُ الصَّدَقَةِ مُؤْنَةُ رُءُوسِهِمْ وَمَحَلُّ الزَّكَاةِ بَعْضُ النِّصَابِ، وَمَحَلُّ الصَّدَقَةِ الذِّمَّةُ، فَإِذَا هُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ سَبَبًا وَمَحَلًّا فَلَا يُؤَدِّي إلَى الثَّنْيِ لِأَنَّ الثَّنْيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَثْنِيَةِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَهُمَا شَيْئَانِ فَكَانَا كَنَفَقَةِ عَبِيدِ التِّجَارَةِ مَعَ الزَّكَاةِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الشَّرْعَ بَنَى هَذِهِ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمُؤْنَةِ فَقَالَ:«أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ» وَهَذِهِ الْعَبِيدُ مُعَدَّةٌ لِلتِّجَارَةِ لَا لِلْمُؤْنَةِ، وَالنَّفَقَةُ الَّتِي يَغْرَمُهَا فِيهِمْ لِطَلَبِ الزِّيَادَةِ مِنْهُمْ فَتَكُونُ سَاقِطَةَ الْعِبْرَةِ بِحُكْمِ الْقَصْدِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضَارِبَ يَمْلِكُ هَذَا الْإِنْفَاقَ وَهُوَ غَيْرُ مَأْذُونٍ إلَّا بِالتِّجَارَةِ، وَإِذَا سَقَطَتْ الْمُؤْنَةُ حُكْمًا فِي مَالِ التِّجَارَةِ أَشْبَهَ السُّقُوطَ حَقِيقَةً، وَلَوْ سَقَطَتْ حَقِيقَةً بِالْإِبَاقِ أَوْ الْغَصْبِ أَوْ الْكِتَابَةِ سَقَطَتْ الصَّدَقَةُ لِعَدَمِ الْمُؤْنَةِ فَكَذَا هَذَا، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ سُقُوطَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ هَاهُنَا لِزَوَالِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْمُؤْنَةُ لَا لِتَنَافٍ بَيْنَ الْوَاجِبَيْنِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ لَا فِطْرَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِقُصُورِ الْوِلَايَةِ وَالْمُؤْنَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْوِلَايَةَ وَالْمُؤْنَةَ الْكَامِلَتَيْنِ سَبَبٌ وَلَمْ يُوجَدَا.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا الْعَبِيدُ بَيْنَ اثْنَيْنِ) يَعْنِي لَا تَجِبُ الصَّدَقَةُ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَا يَخُصُّهُ مِنْ الرُّءُوسِ دُونَ الْأَشْقَاصِ) أَيْ الْكُسُورِ حَتَّى لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا خَمْسَةُ أَعْبُدٍ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْ
بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَرَى قِسْمَةَ الرَّقِيقِ وَهُمَا يَرَيَانِهِمَا، وَقِيلَ: هُوَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ النَّصِيبُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَمْ تَتِمَّ الرَّقَبَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (وَيُؤَدِّي الْمُسْلِمُ الْفِطْرَةَ عَنْ عَبْدِهِ الْكَافِرِ) لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مَجُوسِيٍّ» الْحَدِيثَ وَلِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ وَالْمَوْلَى مِنْ أَهْلِهِ،
الْعَبْدَيْنِ وَلَا تَجِبُ عَنْ الْخَامِسِ. أَبُو حَنِيفَةَ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ فَإِنَّهُ لَا يَرَى قِسْمَةَ الرَّقِيقِ جَبْرًا فَلَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يُسَمَّى عَبْدًا، وَمُحَمَّدٌ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَرَى قِسْمَةَ الرَّقِيقِ جَبْرًا، وَبِاعْتِبَارِ الْقِسْمَةِ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْبَعْضِ مُتَكَامِلٌ، وَإِلْحَاقُ أَبِي يُوسُفَ بِمُحَمَّدٍ هَاهُنَا مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَمَالِيكُ لِلْخِدْمَةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْهُمْ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الصَّدَقَةُ فِي حِصَّتِهِ إذَا كَانَتْ كَامِلَةً فِي نَفْسِهَا، وَمَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ مُضْطَرِبٌ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ قَوْلَهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعُذْرُهُ أَنَّ الْقِسْمَةَ تَنْبَنِي عَلَى الْمِلْكِ.
فَأَمَّا وُجُوبُ الصَّدَقَةِ فَيَنْبَنِي عَلَى الْوِلَايَةِ وَالْمُؤْنَةِ لَا عَلَى الْمِلْكِ حَتَّى تَجِبُ الصَّدَقَةُ فِيمَا لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ كَالْوَلَدِ الصَّغِيرِ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةٌ كَامِلَةٌ عَلَى شَيْءٍ عَمَّنْ هَذِهِ الرُّءُوسِ كَمَا تَقَدَّمَ وَوَجْهُ قَوْلِهِ: إذَا كَانَ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ هُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ (وَهُمَا يَرَيَانِهَا وَقِيلَ هُوَ بِالْإِجْمَاعِ) أَيْ عَدَمُ وُجُوبِ الْفِطْرَةِ فِي الْعَبِيدِ بَيْنَ اثْنَيْنِ بِإِجْمَاعِ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَا تَتِمُّ الرَّقَبَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ.
وَقَوْلُهُ (وَيُؤَدِّي الْمُسْلِمُ الْفِطْرَةَ) أَيْ صَدَقَةَ الْفِطْرِ (عَنْ عَبْدِهِ الْكَافِرِ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا) مِنْ حَدِيثِ ثَعْلَبَةَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ» (وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ أَوْ مَجُوسِيٍّ» الْحَدِيثَ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ) وَهُوَ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ بِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ (وَالْمَوْلَى مِنْ أَهْلِهِ) أَيْ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ، لَا يُقَالُ إضْمَارٌ قَبْلَ
وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله لِأَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهُ عَلَى الْعَبْدِ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَكْسِ فَلَا وُجُوبَ بِالِاتِّفَاقِ.
(وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا وَأَحَدُهُمَا بِالْخِيَارِ فَفِطْرَتُهُ عَلَى مَنْ يَصِيرُ لَهُ) مَعْنَاهُ إذَا مَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ وَالْخِيَارُ بَاقٍ، وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: عَلَى مَنْ لَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: عَلَى مَنْ لَهُ الْمِلْكُ لِأَنَّهُ مِنْ وَظَائِفِهِ كَالنَّفَقَةِ، وَلَنَا أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ
الذِّكْرِ لِأَنَّ الشُّهْرَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الذِّكْرِ (وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهُ عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ) أَيْ مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ يَسْتَدِلُّ لِإِثْبَاتِ هَذَا الْأَصْلِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «فَرَضَ صَدَقَةً عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ» فَإِنَّ كَلِمَةَ " عَلَى " لِلْإِيجَابِ وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ» فَإِنَّ الْوُجُوبَ عَلَى مَنْ خُوطِبَ بِالْأَدَاءِ وَهُمْ الْمَوَالِي، وَكَلِمَةُ " عَلَى " فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِمَعْنَى عَنْ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} أَيْ عَنْ النَّاسِ (لَوْ كَانَ عَلَى الْعَكْسِ فَلَا وُجُوبَ بِالِاتِّفَاقِ) أَمَّا عِنْدَنَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْوُجُوبِ عَلَيْهِ وَلَا لِلْأَدَاءِ، وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ تَحَمُّلَ الْمَوْلَى عَنْ مَمْلُوكِهِ يَسْتَدْعِي أَهْلِيَّةَ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ، وَالْوُجُوبُ عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ تَحَمُّلِ الْمَوْلَى الْأَدَاءَ عَنْهُ، فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَمْلُوكِ لَمْ يَجِبْ أَصْلًا
(وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا وَأَحَدُهُمَا بِالْخِيَارِ فَفِطْرَتُهُ عَلَى مَنْ يَصِيرُ لَهُ) حَقٌّ إذَا تَمَّ الْبَيْعُ فَعَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ اُنْتُقِضَ فَعَلَى الْبَائِعِ. وَقَوْلُهُ (مَعْنَاهُ إذَا مَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ وَالْخِيَارُ بَاقٍ) قَالَ الْإِمَامُ حُمَيْدُ الدِّينِ الضَّرِيرُ رحمه الله فِي شَرْحِهِ: هَذَا مِنْ قَبِيلِ إطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ وَإِرَادَةِ الْبَعْضِ لِأَنَّ مُضِيَّ كُلِّ يَوْمِ الْفِطْرِ لَيْسَ بِشَرْطٍ (وَقَالَ زُفَرُ عَلَى مَنْ لَهُ الْخِيَارُ) لِأَنَّ سَبَبَ الصَّدَقَةِ الْوِلَايَةُ الْكَامِلَةُ وَالْوِلَايَةُ الْكَامِلَةُ لِمَنْ لَهُ الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ إنْ أَجَازَهُ تَمَّ وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ انْفَسَخَ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَى مَنْ لَهُ الْمِلْكُ) وَهُوَ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي كَخِيَارِ الْعَيْبِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ (لِأَنَّهُ) أَيْ صَدَقَةَ الْفِطْرِ بِمَعْنَى التَّصَدُّقِ (مِنْ وَظَائِفِهِ) أَيْ الْمِلْكِ وَمَا هُوَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ عَلَى الْمَالِكِ (كَالنَّفَقَةِ) فَإِنَّهَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ عَلَى الْمَالِكِ (وَلَنَا أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ) يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّهَا وَظِيفَةُ الْمِلْكِ
لِأَنَّهُ لَوْ رُدَّ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَوْ أُجِيزَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ فَيَتَوَقَّفُ مَا يَبْتَنِي عَلَيْهِ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ لِأَنَّهَا لِلْحَاجَةِ النَّاجِزَةِ فَلَا تَقْبَلُ التَّوَقُّفَ، وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ.
فَصْلٌ فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ وَوَقْتِهِ
(الْفِطْرَةُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ دَقِيقٍ أَوْ سَوِيقٍ أَوْ زَبِيبٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، الزَّبِيبُ بِمَنْزِلَةِ الشَّعِيرِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَالْأَوَّلُ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ،
لَكِنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ (لِأَنَّهُ لَوْ رُدَّ لَعَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَوْ أُجِيزَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ) وَكُلُّ مَا كَانَ مَوْقُوفًا فَالْمُبْتَنَى عَلَيْهِ كَذَلِكَ لِأَنَّ التَّرَدُّدَ فِي الْأَصْلِ يَسْتَلْزِمُ التَّرَدُّدَ فِي الْفَرْعِ (بِخِلَافِ النَّفَقَةِ) فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ تَنْبَنِي عَلَى الْمِلْكِ لَكِنَّهَا تَثْبُتُ (لِلْحَاجَةِ النَّاجِزَةِ) أَيْ الْوَاقِعَةِ فِي الْحَالِ (فَلَا تَقْبَلُ التَّوَقُّفَ)، وَهَذَا الْجَوَابُ بِطَرِيقِ التَّنَزُّلِ لَا بِحَسَبِ الْوَاقِعِ فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَظِيفَةُ الْمِلْكِ لَمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ، (وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ) يَعْنِي إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَبْدٌ لِلتِّجَارَةِ فَبَاعَهُ بِعُرُوضِ التِّجَارَةِ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَحَالَ الْحَوْلُ وَالْخِيَارُ بَاقٍ فَزَكَاتُهُ عَلَى مَنْ يَصِيرُ الْمِلْكُ لَهُ، أَوْ عَلَى مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، أَوْ عَلَى مَنْ لَهُ الْمِلْكُ لِأَنَّ الْعُرُوضَ بَدَلُ الْعَبْدِ، وَحَوَلَانُ الْحَوْلِ عَلَى الْبَدَلِ كَحَوَلَانِهِ عَلَى الْمُبْدَلِ كَذَا نُقِلَ عَنْ حُمَيْدِ الدِّينِ الضَّرِيرِ. وَقِيلَ: صُورَتُهُ رَجُلَانِ لِأَحَدِهِمَا عِشْرُونَ دِينَارًا وَلِآخَرَ عَرَضٌ يُسَاوِيهِ فِي الْقِيمَةِ وَمَبْدَأُ حَوْلِهِمَا عَلَى السَّوَاءِ، فَفِي آخِرِ الْحَوْلِ بَاعَ صَاحِبُ الْعَرْضِ عَرْضَهُ مِنْ الْآخَرِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ أَوْ لِلْمُشْتَرِي، فَازْدَادَ قِيمَةُ الْعَرْضِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ، ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ، فَإِنْ تَقَرَّرَ الْمِلْكُ لِلْبَائِعِ يَجِبُ عَلَيْهِ بِحِصَّةِ الزِّيَادَةِ شَيْءٌ وَإِنْ تَقَرَّرَ لِلْمُشْتَرِي يَجِبْ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَنَا.
(فَصْلٌ فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ وَوَقْتِهِ):
لَمَّا ذَكَرَ وُجُوبَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَشُرُوطَهُ وَمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَمَنْ تَجِبُ عَنْهُ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُؤَدِّي صَدَقَةَ الْفِطْرِ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ صَاعٌ لِحَدِيثِ «أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» . وَلَنَا مَا رَوَيْنَا وَهُوَ مَذْهَبُ
وَقَدْرُهُ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رُوِيَ «عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَسْأَلُهُ عَنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَقَالَ: كُنَّا نُخْرِجُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ الطَّعَامِ أَوْ صَاعًا مِنْ التَّمْرِ أَوْ صَاعًا مِنْ الشَّعِيرِ» (وَلَنَا مَا رَوَيْنَا) يَعْنِي فِي أَوَّلِ الْبَابِ مِنْ حَدِيثِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ (وَهُوَ مَذْهَبُ
جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِيهِمْ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -،
جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِيهِمْ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رضي الله عنهم) قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ رحمه الله: لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ
وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى الزِّيَادَةِ تَطَوُّعًا.
مِنْهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُجَوِّزْ أَدَاءَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ (وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى الزِّيَادَةِ تَطَوُّعًا)
وَلَهُمَا فِي الزَّبِيبِ أَنَّهُ وَالتَّمْرُ يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَقْصُودِ، وَلَهُ أَنَّهُ
وَقَوْلُهُ (وَلَهُمَا فِي الزَّبِيبِ أَنَّهُ) أَيْ الزَّبِيبَ (وَالتَّمْرُ يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَقْصُودِ) وَهُوَ التَّفَكُّهُ وَالِاسْتِحْلَاءُ فَإِنَّهُ يُشْبِهُ التَّمْرَ
وَالْبُرُّ يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كُلُّهُ، بِخِلَافِ الشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُؤْكَلُ وَيُلْقَى مِنْ التَّمْرِ النَّوَاةُ وَمِنْ الشَّعِيرِ النُّخَالَةُ، وَبِهَذَا ظَهَرَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْبُرِّ وَالتَّمْرِ، وَمُرَادُهُ مِنْ الدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْبُرِّ، أَمَّا دَقِيقُ الشَّعِيرِ فَكَالشَّعِيرِ، الْأَوْلَى أَنْ يُرَاعَى فِيهِمَا الْقَدْرُ وَالْقِيمَةُ احْتِيَاطًا، وَإِنْ نَصَّ عَلَى الدَّقِيقِ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ.
وَالْخُبْزُ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْقِيمَةُ هُوَ الصَّحِيحُ،
مِنْ حَيْثُ إنَّهُ حُلْوٌ مَأْكُولٌ وَلَهُ عَجَمٌ كَمَا لِلتَّمْرِ نَوًى.
وَقَوْلُهُ (وَمُرَادُهُ) أَيْ مُرَادُ مُحَمَّدٍ أَوْ صَاحِبِ الْقُدُورِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: أَوْ دَقِيقٍ أَوْ سَوِيقٍ (مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْبُرِّ أَمَّا دَقِيقُ الشَّعِيرِ) فَكَعَيْنِهِ (وَالْأَوْلَى أَنْ يُرَاعَى فِيهِمَا) أَيْ فِي الدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ (الْقَدْرُ وَالْقِيمَةُ احْتِيَاطًا) حَتَّى إذَا كَانَا مَنْصُوصًا عَلَيْهِمَا تَتَأَدَّى بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَبِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَتَفْسِيرُهُ أَنْ يُؤَدِّيَ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ دَقِيقِ الْبُرِّ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، وَأَمَّا لَوْ أَدَّى مَنًّا وَنِصْفَ مَنٍّ مِنْ دَقِيقِ الْبُرِّ وَلَكِنْ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ أَدَّى نِصْفَهُ مِنْ دَقِيقِ الْبُرِّ، وَلَكِنْ لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ لَا يَكُونُ عَامِلًا بِالِاحْتِيَاطِ وَقَوْلُهُ:(وَإِنْ نَصَّ عَلَى دَقِيقٍ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ) يُرِيدُ بِهِ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَدُّوا قَبْلَ خُرُوجِكُمْ زَكَاةَ فِطْرِكُمْ فَإِنَّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ أَوْ دَقِيقِهِ» وَقَوْلُهُ (وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ) أَيْ مُرَاعَاةَ الِاحْتِيَاطِ فِيهِمَا بِالْقَدْرِ وَالْقِيمَةِ لَمْ يُبَيِّنْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ) فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ الدَّقِيقِ تُسَاوِي نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ تَزِيدُ، وَإِنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَهُوَ وَقْتُ الْبَذْرِ فَلِذَلِكَ أَمَرَ بِالِاحْتِيَاطِ حَتَّى إنْ وَقَعَ ذَلِكَ يَزِيدُ مِنْ الدَّقِيقِ إلَى أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ الْبُرِّ
(وَالْخُبْزُ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْقِيمَةُ هُوَ الصَّحِيحُ)
ثُمَّ يُعْتَبَرُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَزْنًا فِيمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ يُعْتَبَرُ كَيْلًا وَالدَّقِيقُ أَوْلَى مِنْ الْبُرِّ، وَالدَّرَاهِمُ أَوْلَى مِنْ الدَّقِيقِ فِيمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ رحمه الله لِأَنَّهُ أَدْفَعُ لِلْحَاجَةِ وَأَعْجَلُ بِهِ، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الْأَعْمَشِ تَفْضِيلُ الْحِنْطَةِ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الْخِلَافِ إذْ فِي الدَّقِيقِ وَالْقِيمَةِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله قَالَ (وَالصَّاعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ بِالْعِرَاقِيِّ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «صَاعُنَا أَصْغَرُ الصِّيعَانِ» .
خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: يَجُوزُ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ فَإِنَّهُ إذَا أَدَّى مَنَوَيْنِ مِنْ خُبْزِ الْحِنْطَةِ جَازَ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ الدَّقِيقُ وَالسَّوِيقُ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ فَمِنْ الْخُبْزِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لِلْفَقِيرِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْخُبْزِ نَصٌّ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الذُّرَةِ وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْقِيمَةُ حَتَّى لَوْ أَدَّى نِصْفَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ إبْطَالَ التَّقْدِيرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْمُؤَدَّى، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُلْحَقُ بِالنُّصُوصِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ إذْ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ ذَلِكَ (ثُمَّ يُعْتَبَرُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ وَزْنًا فِيمَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الصَّاعِ أَنَّهُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ أَوْ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى التَّقْدِيرِ بِمَا يَعْدِلُ بِالْوَزْنِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْوَزْنِ فِيهِ، وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ كَيْلًا.
قَالَ قُلْت لَهُ: لَوْ وَزَنَ الرَّجُلُ مَنَوَيْنِ مِنْ الْحِنْطَةِ وَأَعْطَاهُمَا الْفَقِيرَ هَلْ يَجُوزُ مِنْ صَدَقَتِهِ فَقَالَ: لَا فَقَدْ تَكُونُ الْحِنْطَةُ ثَقِيلَةً فِي الْوَزْنِ، وَقَدْ تَكُونُ خَفِيفَةً فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ نِصْفُ الصَّاعِ كَيْلًا لِأَنَّ الْآثَارَ جَاءَتْ بِالتَّقْدِيرِ بِالصَّاعِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْمِكْيَالِ. وَقَوْلُهُ (وَالدَّقِيقُ أَوْلَى مِنْ الْبُرِّ) وَاضِحٌ. قَالَ:(وَالصَّاعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ بِالْعِرَاقِيِّ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الصَّاعِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: هُوَ مَا يَسَعُ فِيهِ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ بِالرِّطْلِ الْعِرَاقِيِّ كُلُّ رِطْلٍ عِشْرُونَ أَسْتَارًا وَالْإِسْتَارُ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفٌ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رِطْلٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «صَاعُنَا أَصْغَرُ الصِّيعَانِ»). وَهَذَا أَصْغَرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ.
وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ رِطْلَيْنِ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ» وَهَكَذَا كَانَ صَاعُ عُمَرَ رضي الله عنه وَهُوَ أَصْغَرُ مِنْ الْهَاشِمِيِّ، وَكَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الْهَاشِمِيَّ.
قَالَ (وَوُجُوبُ الْفِطْرَةِ يَتَعَلَّقُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى إنَّ مَنْ أَسْلَمَ أَوْ وُلِدَ لَيْلَةَ الْفِطْرِ تَجِبُ فِطْرَتُهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا تَجِبُ، وَعَلَى عَكْسِهِ مَنْ مَاتَ فِيهَا مِنْ مَمَالِيكِهِ أَوْ وَلَدِهِ.
وَلَنَا مَا رَوَى) أَنَسٌ وَجَابِرٌ رضي الله عنهما «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ رِطْلَيْنِ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ» وَهَكَذَا كَانَ صَاعُ عُمَرَ رضي الله عنه) وَكَانَ قَدْ فُقِدَ فَأَخْرَجَهُ الْحَجَّاجُ وَكَانَ يَمُنُّ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، يَا أَهْلَ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ، وَمَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، أَلَمْ أُخْرِجْ لَكُمْ صَاعَ عُمَرَ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ حَجَّاجِيًّا وَهُوَ صَاعُ الْعِرَاقِ. وَقَوْلُهُ (وَهُوَ أَصْغَرُ مِنْ الْهَاشِمِيِّ) جَوَابٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: يَعْنِي إنْ صَحَّ مَا رَوَيْتُمْ فَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِأَنَّهُ أَصْغَرُ مِنْ الْهَاشِمِيِّ، لِأَنَّ الصَّاعَ الْهَاشِمِيَّ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ رِطْلًا (وَكَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الْهَاشِمِيَّ) وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ الْعِرَاقِيَّ وَقَالَ «صَاعُنَا أَصْغَرُ الصِّيعَانِ» .
وَقَوْلُهُ (وَوُجُوبُ الْفِطْرَةِ يَتَعَلَّقُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ) يَعْنِي تَعَلَّقَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ بِالشَّرْطِ، فَهُوَ مِنْ تَعَلُّقِ الْمَشْرُوطِ بِالشَّرْطِ لَا مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ، حَتَّى إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إذَا جَاءَ يَوْمُ الْفِطْرِ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَجَاءَ يَوْمُ الْفِطْرِ عَتَقَ الْعَبْدُ، وَيَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى صَدَقَةُ فِطْرِهِ قَبْلَ الْعِتْقِ بِلَا فَصْلٍ، لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ يَعْقُبُ الشَّرْطَ فِي الْوُجُودِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بِغُرُوبِ الشَّمْسِ فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى إنَّ مَنْ أَسْلَمَ أَوْ وُلِدَ لَيْلَةَ الْفِطْرِ تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا تَجِبُ) وَقَوْلُهُ (وَعَلَى عَكْسِهِ مَنْ مَاتَ فِيهَا مِنْ مَمَالِيكِهِ أَوْ وَلَدِهِ) أَيْ عِنْدَنَا لَا تَجِبُ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ شَرْطِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ وَهُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ. وَعِنْدَهُ تَجِبُ لِتَحَقُّقِ
لَهُ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْفِطْرِ وَهَذَا وَقْتُهُ. وَلَنَا أَنَّ الْإِضَافَةَ لِلِاخْتِصَاصِ، وَالِاخْتِصَاصُ الْفِطْرُ بِالْيَوْمِ دُونَ اللَّيْلِ
شَرْطِ وُجُوبِهِ وَهُوَ غُرُوبُ الشَّمْسِ فِي الْيَوْمِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ حَيٌّ (لَهُ أَنَّهُ) أَيْ وُجُوبَ الْفِطْرَةِ (يَخْتَصُّ بِالْفِطْرِ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ» (وَهَذَا وَقْتُهُ) أَيْ وَقْتُ الْفِطْرِ (وَلَنَا أَنَّ) الصَّدَقَةَ أُضِيفَتْ إلَى الْفِطْرِ.
وَ (الْإِضَافَةُ لِلِاخْتِصَاصِ وَالِاخْتِصَاصُ لِلْفِطْرِ بِالْيَوْمِ دُونَ اللَّيْلِ) إذْ الْمُرَادُ فِطْرٌ يُضَادُّ الصَّوْمَ وَهُوَ فِي الْيَوْمِ دُونَ اللَّيْلِ، لِأَنَّ الصَّوْمَ فِيهِ حَرَامٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ
(وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُخْرِجَ النَّاسُ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى)«لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُخْرِجُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ لِلْمُصَلَّى» ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِغْنَاءِ كَيْ لَا يَتَشَاغَلَ الْفَقِيرُ بِالْمَسْأَلَةِ عَنْ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ بِالتَّقْدِيمِ (فَإِنْ قَدَّمُوهَا عَلَى يَوْمِ الْفِطْرِ جَازَ) لِأَنَّهُ أَدَّى بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ فَأَشْبَهَ التَّعْجِيلَ فِي الزَّكَاةِ، وَلَا تَفْصِيلَ بَيْنَ مُدَّةٍ وَمُدَّةٍ هُوَ الصَّحِيحُ وَقِيلَ يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ وَقِيلَ فِي الْعُشْرِ الْأَخِيرِ (وَإِنْ أَخَّرُوهَا عَنْ يَوْمِ الْفِطْرِ لَمْ تَسْقُطْ وَكَانَ عَلَيْهِمْ إخْرَاجُهَا) لِأَنَّ وَجْهَ الْقُرْبَةِ فِيهَا مَعْقُولٌ
الْفِطْرَ كَانَ يُوجَدُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ وَلَا يَتَعَلَّقُ الْوُجُوبُ بِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يُضَادُّ الصَّوْمَ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمُسْتَحَبُّ) ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ وَخَلَفِ بْنِ أَيُّوبَ وَنُوحِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ فَإِنَّ الْحَسَنَ بْنَ زِيَادٍ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا أَصْلًا كَالْأُضْحِيَّةِ، وَقَالَ خَلَفُ بْنُ أَيُّوبَ: يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا بَعْدَ دُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ لَا قَبْلَهُ فَإِنَّهَا صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَلَا فِطْرَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ.
وَقَالَ نُوحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ: يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ لِأَنَّ بِمُضِيِّ النِّصْفِ قَرُبَ الْفِطْرُ الْخَاصُّ فَأَخَذَ حُكْمَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَوَجْهُ الصِّحَّةِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهُ أَدَّى بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ فَأَشْبَهَ التَّعْجِيلَ فِي الزَّكَاةِ. وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: لَوْ أَدَّى عَنْ عَشْرِ سِنِينَ أَوْ أَكْثَرَ جَازَ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ أَخَّرُوهَا عَنْ يَوْمِ الْفِطْرِ لَمْ تَسْقُطْ) يَعْنِي وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ (وَكَانَ عَلَيْهِمْ إخْرَاجُهَا) وَقَالَ الْحَسَنُ: تَسْقُطُ بِمُضِيِّ يَوْمِ الْفِطْرِ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ اُخْتُصَّتْ بِيَوْمِ الْعِيدِ فَكَانَتْ كَالْأُضْحِيَّةِ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَلَنَا مَا ذَكَرَهُ أَنَّ وَجْهَ الْقُرْبَةِ فِيهَا مَعْقُولٌ لِأَنَّهَا
فَلَا يَتَقَدَّرُ وَقْتُ الْأَدَاءِ فِيهَا بِخِلَافِ الْأُضْحِيَّةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
كِتَابُ الصَّوْمِ
صَدَقَةٌ مَالِيَّةٌ وَهِيَ قُرْبَةٌ مَشْرُوعَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ لِدَفْعِ حَاجَةِ الْفُقَرَاءِ وَلِلْإِغْنَاءِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ (فَلَا يَتَقَدَّرُ وَقْتُ الْأَدَاءِ فِيهَا) بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ فَلَا تَسْقُطُ بَعْدَ الْوُجُوبِ إلَّا بِالْأَدَاءِ كَالزَّكَاةِ (بِخِلَافِ الْأُضْحِيَّةِ) فَإِنَّ الْقُرْبَةَ فِيهَا إرَاقَةُ الدَّمِ وَهِيَ لَمْ تُعْقَلْ قُرْبَةً، وَلِهَذَا لَمْ تَكُنْ قُرْبَةً فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ.
كِتَابُ الصَّوْمِ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رحمه الله فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ كِتَابَ الصَّوْمِ عَقِيبَ كِتَابِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ، وَأَخَّرَهُ عَنْ الزَّكَاةِ هَاهُنَا لِأَنَّهُ كَالْوَسِيلَةِ لِلصَّلَاةِ بِاعْتِبَارِ ارْتِيَاضِ النَّفْسِ وَلَكِنْ لَا عَلَى وَجْهٍ يَتَوَقَّفُ أَمْرُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وُجُودًا أَوْ جَوَازًا كَمَا كَانَتْ الطَّهَارَةُ كَذَلِكَ فَأَخَّرَ عَنْهَا حَطًّا لِرُتْبَةِ الْوَسِيلَةِ عَنْ الْمَقْصُودِ، وَلَوْ قِيلَ: قَدَّمَ الزَّكَاةَ عَلَى الصَّوْمِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَنَ ذِكْرَ الصَّلَاةِ بِالزَّكَاةِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} فَكَانَ الِاقْتِدَاءُ بِالْكِتَابِ أَوْلَى كَانَ أَسْهَلَ مَأْخَذًا، وَيَحْتَاجُ هَاهُنَا إلَى مَعْرِفَةِ تَفْسِيرِ الصَّوْمِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَمَعْرِفَةِ سَبَبِهِ وَشَرْطِهِ
قَالَ رحمه الله (الصَّوْمُ ضَرْبَانِ: وَاجِبٌ وَنَفْلٌ، وَالْوَاجِبُ ضَرْبَانِ: مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِزَمَانٍ بِعَيْنِهِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُعَيَّنِ فَيَجُوزُ صَوْمُهُ بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ حَتَّى أَصْبَحَ أَجْزَأَهُ النِّيَّةُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّوَالِ)
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُجْزِيهِ. اعْلَمْ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ فَرِيضَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وَعَلَى فَرْضِيَّتِهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ وَلِهَذَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ، وَالْمَنْذُورُ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}
وَرُكْنِهِ وَحُكْمِهِ، وَفِي كَلَامِهِ إشَارَةٌ إلَى أَكْثَرِهَا وَالْفَطِنُ يَكْتَفِي بِذَلِكَ. قَالَ (الصَّوْمُ ضَرْبَانِ: وَاجِبٌ، وَنَفْلٌ) ذَكَرَ التَّقْسِيمَ قَبْلَ التَّعْرِيفِ لِيَسْهُلَ أَمْرُ التَّعْرِيفِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ حَقِيقَةَ الصَّوْمِ شَرْعًا تَنْقَسِمُ إلَى فَرْضٍ وَوَاجِبٍ وَنَفْلٍ، وَتَعْرِيفُهَا عَلَى وَجْهٍ يَشْمَلُهَا عَسِيرٌ، فَإِذَا ذَكَرَ أَقْسَامَهَا سَهُلَ أَمْرُ تَعْرِيفِهَا، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ غَيْرَ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْوَاجِبَ فِي لَفْظِ الْمُخْتَصَرِ، وَأُرِيدَ بِهِ الْفَرْضُ وَالْوَاجِبُ، وَفِي ذَلِكَ الْمَحْذُورِ الْمَعْرُوفِ عَلَى مَذْهَبِنَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَرَادَ بِالْوَاجِبِ الثَّابِتَ عَيْنًا فَيَنْدَفِعُ الْمَحْذُورُ، وَقَوْلُهُ (وَلِهَذَا يُكَفَّرُ جَاحِدُهُ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْفَاءِ بِلَا تَشْدِيدٍ وَمَعْنَاهُ يُحْكَمُ بِكُفْرِ جَاحِدِهِ، وَمِنْهُ لَا تُكَفِّرْ أَهْلَ قِبْلَتِك أَيْ لَا تَدْعُهُمْ كُفَّارًا.
وَقَوْلُهُ (وَالْمَنْذُورُ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا لِكَوْنِهِ ثَابِتًا بِالْكِتَابِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ قَدْ خُصَّ مِنْ الْآيَةِ بِالِاتِّفَاقِ الْمَنْذُورُ الَّذِي لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ شَرْعًا كَعِيَادَةِ الْمَرْضَى، أَوْ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي الْعِبَادَةِ كَالنَّذْرِ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَالنَّذْرِ بِالْمَعْصِيَةِ، فَلَمَّا خُصَّتْ هَذِهِ الْمَوَاضِعُ بَقِيَ الْبَاقِي حُجَّةً مُجَوِّزَةً لَا مُوجِبَةً قَطْعًا كَالْآيَةِ الْمُؤَوَّلَةِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ التَّخْصِيصِ الْمُقَارَنَةَ، وَالْمُخَصِّصُ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَضْلًا عَنْ مَعْرِفَةِ كَوْنِهِ مُقَارِنًا أَوْ لَا، وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} خُصَّ مِنْهُ الْمَجَانِينُ الصِّبْيَانُ وَأَصْحَابُ الْأَعْذَارِ وَلَمْ يَنْتَفِ بِهِ عَنْهُ إثْبَاتُ الْفَرِيضَةِ، وَأَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَنْ الْأَوَّلِ: إنَّ الْأَمْرَ لِتَفْرِيغِ
وَسَبَبُ الْأَوَّلِ الشَّهْرُ وَلِهَذَا يُضَافُ إلَيْهِ وَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ وَكُلُّ يَوْمٍ سَبَبٌ لِوُجُوبِ صَوْمِهِ،
الذِّمَّةِ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالسَّبَبِ، فَإِنْ كَانَ السَّبَبُ مِنْ الشَّارِعِ كَشُهُودِ الشَّهْرِ فِي رَمَضَانَ يَكُونُ الثَّابِتُ بِهِ فَرْضًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَبْدِ يَكُونُ وَاجِبًا كَمَا فِي الْمَنْذُورِ فَرْقًا بَيْنَ إيجَابِ الرَّبِّ وَعَبْدِهِ، ثُمَّ الْأَمْرُ الْوَارِدُ مِنْ الشَّارِعِ يَكُونُ لِأَدَاءِ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِيُوفُوا مُفِيدًا لِلْفَرْضِيَّةِ، كَمَا أَفَادَهَا لِيَصُمْهُ لِاخْتِلَافِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ وَهَذَا يُغْنِي عَنْ الْجَوَابِ عَنْ الثَّانِي. وَقَدْ قِيلَ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ: إنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَى عَدَمِ دُخُولِ الْمَجَانِينِ وَالصِّبْيَانِ وَأَصْحَابِ الْأَعْذَارِ فَلَا يَكُونُونَ دَاخِلِينَ فَلَا يَكُونُ ثَمَّةَ تَخْصِيصٌ، (وَسَبَبُ الْأَوَّلِ) يَعْنِي الْفَرْضَ (الشَّهْرُ لِأَنَّهُ يُضَافُ إلَيْهِ) وَالْإِضَافَةُ دَلِيلُ السَّبَبِيَّةِ لِمَا تَقَدَّمَ (وَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ) فَإِنَّهُ كُلَّمَا دَخَلَ رَمَضَانُ وَجَبَ صَوْمُهُ، وَذَلِكَ أَيْضًا دَلِيلُ السَّبَبِيَّةِ (وَكُلُّ يَوْمٍ سَبَبُ وُجُوبِ صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ) لِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ بِمَنْزِلَةِ عِبَادَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ لِأَنَّهُ تَخَلَّلَ بَيْنَ
وَسَبَبُ الثَّانِي النَّذْرُ
وَالنِّيَّةُ مِنْ شَرْطِهِ وَسَنُبَيِّنُهُ وَتَفْسِيرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَجْهُ قَوْلِهِ فِي الْخِلَافِيَّةِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» وَلِأَنَّهُ لَمَّا فَسَدَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ لِفَقْدِ النِّيَّةِ فَسَدَ الثَّانِي ضَرُورَةً أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ
يَوْمَيْنِ زَمَانٌ لَا يَصْلُحُ لِلصَّوْمِ لَا قَضَاءً وَلَا أَدَاءً وَهُوَ اللَّيَالِي فَصَارَ كَالصَّلَوَاتِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْأَسْرَارِ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ فِي السَّبَبِيَّةِ سَوَاءٌ، وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ فِي الْأُصُولِ. وَقَوْلُهُ (وَسَبَبُ الثَّانِي) أَيْ الْمَنْذُورِ الْمُعَيَّنِ وَهُوَ (النَّذْرُ)
وَقَوْلُهُ (وَالنِّيَّةُ مِنْ شَرْطِهِ) أَيْ مِنْ شُرُوطِ الصَّوْمِ بِأَنْوَاعِهِ. (وَسَنُبَيِّنُهُ) أَيْ سَنُبَيِّنُ شَرْطَ الصَّوْمِ (وَتَفْسِيرُهُ) أَيْ تَفْسِيرُ ذَلِكَ الشَّرْطِ وَأَرَادَ بِبَيَانِ النِّيَّةِ مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ يَوْمُ صَوْمٍ فَيَتَوَقَّفُ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِهِ عَلَى النِّيَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِأَكْثَرِهِ، وَأَرَادَ بِبَيَانِ تَفْسِيرِهِ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَالنِّيَّةُ لِتَعَيُّنِهِ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ النِّيَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعْيِينِ بَعْضِ الْمُحْتَمَلَاتِ فَكَانَ مَا ذَكَرَهُ تَفْسِيرًا لِلنِّيَّةِ، كَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ.
وَقَوْلُهُ (وَجْهُ قَوْلِهِ فِي الْخِلَافِيَّةِ) أَيْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافِيَّةِ وَهِيَ: أَنَّ النِّيَّةَ قَبْلَ الزَّوَالِ تُجْزِيهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ (قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ») وَالصِّيَامُ مَصْدَرٌ كَالْقِيَامِ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ لَمَّا فَسَدَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ)
بِخِلَافِ النَّفْلِ لِأَنَّهُ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ. وَلَنَا «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم بَعْدَمَا شَهِدَ الْأَعْرَابِيُّ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَلَا مَنْ أَكَلَ فَلَا يَأْكُلَنَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ» وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْفَضِيلَةِ وَالْكَمَالِ، أَوْ مَعْنَاهُ لَمْ يَنْوِ أَنَّهُ صَوْمٌ مِنْ اللَّيْلِ،
ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ) ذَكَرَ فِي الْوَجِيزِ: الْغَزَالِيُّ يَجُوزُ نِيَّةُ التَّطَوُّعِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ قَوْلَانِ وَهَذَا بِشَرْطِ خُلُوِّ أَوَّلِ الْيَوْمِ عَنْ الْأَكْلِ.
وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ شُرَيْحٍ مِنْ أَصْحَابِهِ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ (وَلَنَا «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم بَعْدَمَا شَهِدَ الْأَعْرَابِيُّ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَلَا مَنْ أَكَلَ فَلَا يَأْكُلَنَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ» وَهَذَا لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ (وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْفَضِيلَةِ وَالْكَمَالِ أَوْ مَعْنَاهُ لَمْ يَنْوِ أَنَّهُ صَوْمٌ مِنْ اللَّيْلِ) يَعْنِي: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ صِيَامَهُ مِنْ اللَّيْلِ بَلْ نَوَى أَنَّ صِيَامَهُ مِنْ وَقْتِ النِّيَّةِ قِيلَ: الصِّلَةُ إذَا تَعَقَّبَتْ فِعْلًا وَمَفْعُولًا وَأَمْكَنَ تَعَلُّقُهَا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ دُونَ الْمَفْعُولِ كَمَا يُقَالُ: أَتَيْت فُلَانًا مِنْ بَغْدَادَ، فَإِنَّ كَلِمَةَ " مِنْ " تَعَلَّقَتْ بِالْإِتْيَانِ لَا بِالْمَفْعُولِ كَذَلِكَ هَاهُنَا. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ يُحْتَمَلُ مَا ذَكَرْنَا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عَمَلًا بِالنُّصُوصِ، قِيلَ: قَوْلُهُ " فَلْيَصُمْ " يَحْتَمِلُ الصَّوْمَ اللُّغَوِيَّ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عَمَلًا بِالنُّصُوصِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ هَاهُنَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْأَكْلُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً، فَلَا فَائِدَةَ فِي قَوْلِهِ " وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ "
وَلِأَنَّهُ يَوْمُ صَوْمٍ فَيَتَوَقَّفُ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِهِ عَلَى النِّيَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِأَكْثَرِهِ كَالنَّفْلِ، وَهَذَا لِأَنَّ الصَّوْمَ رُكْنٌ وَاحِدٌ مُمْتَدٌّ وَالنِّيَّةُ لِتَعْيِينِهِ لِلَّهِ تَعَالَى فَتَتَرَجَّحُ بِالْكَثْرَةِ جَنْبَةُ الْوُجُودِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ
قَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ، وَيَجُوزُ تَقْرِيرُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ سَلَّمْنَا أَنَّ مَا رَوَاهُ لَيْسَ بِمَحْمُولٍ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا يَكُونُ مُعَارِضًا لِمَا رَوَيْنَاهُ فَيُصَارُ إلَى مَا بَعْدَهُ مِنْ الْحُجَّةِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَهُوَ مَعْنًى لِأَنَّهُ (يَوْمُ صَوْمٍ) لِأَنَّ الصَّوْمَ فِيهِ فَرْضٌ وَكُلُّ مَا هُوَ يَوْمُ صَوْمٍ (يَتَوَقَّفُ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِهِ عَلَى النِّيَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِأَكْثَرِهِ كَالنَّفْلِ وَهَذَا) أَيْ تَوَقُّفُ الْإِمْسَاكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا (لِأَنَّ الصَّوْمَ رُكْنٌ وَاحِدٌ مُمْتَدٌّ) يَحْتَمِلُ الْعَادَةَ وَالْعِبَادَةَ وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى مَا يُعَيِّنُهُ لِلْعِبَادَةِ وَهُوَ النِّيَّةُ فَإِنَّهَا شُرِطَتْ (لِتَعْيِينِهِ لِلَّهِ تَعَالَى) فَإِنْ وُجِدَتْ مِنْ أَوَّلِهِ فَلَا كَلَامَ، وَإِنْ وُجِدَتْ فِي أَكْثَرِهِ جُعِلَتْ كَأَنَّهَا وُجِدَتْ مِنْ أَوَّلِهِ، لِأَنَّ بِالْكَثْرَةِ تَتَرَجَّحُ جَنَبَةُ الْوُجُودِ عَلَى الْعَدَمِ، فَإِنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ اقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِحَالِ الشُّرُوعِ شَرْطًا (بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ) حَيْثُ
لِأَنَّ لَهُمَا أَرْكَانًا فَيُشْتَرَطُ قِرَانُهَا بِالْعَقْدِ عَلَى أَدَائِهِمَا، وَبِخِلَافِ الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ النَّفَلُ وَبِخِلَافِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ اقْتِرَانُهَا بِالْأَكْثَرِ فَتَرَجَّحَتْ جَنْبَةُ الْفَوَاتِ، ثُمَّ قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ: مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّوَالِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ النِّيَّةِ فِي أَكْثَرِ النَّهَارِ وَنِصْفِهِ مِنْ وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى وَقْتِ الضَّحْوَةِ الْكُبْرَى لَا إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ، فَتُشْتَرَطُ النِّيَّةُ قَبْلَهَا لِتَتَحَقَّقَ فِي الْأَكْثَرِ،
يُشْتَرَطُ اقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِحَالِ الشُّرُوعِ فِيهِمَا وَلَا يُجْعَلُ الْأَكْثَرُ كَالْكُلِّ (لِأَنَّ لَهُمَا أَرْكَانًا) مُخْتَلِفَةً كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ (فَيُشْتَرَطُ قِرَانُهَا بِالْعَقْدِ عَلَى أَدَائِهِمَا) لِئَلَّا يَخْلُوَ بَعْضُ الْأَرْكَانِ عَنْ النِّيَّةِ، وَقَوْلُهُ (وَبِخِلَافِ الْقَضَاءِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: لَوْ كَانَ الصَّوْمُ رُكْنًا وَاحِدًا مُمْتَدًّا وَالنِّيَّةُ الْمُتَأَخِّرَةُ فِيهِ جَائِزَةً لِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي الْقَضَاءِ اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ مِنْ اللَّيْلِ، وَوَجْهُهُ إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْإِمْسَاكَ (يَتَوَقَّفُ عَلَى صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ النَّفَلُ) وَالْمَعْنَى بِصَوْمِ الْيَوْمِ مَا تَعَلَّقَتْ شَرْعِيَّتُهُ بِمَجِيءِ الْيَوْمِ لَا بِسَبَبٍ آخَرَ مِنْ نَحْوِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ، فَيَكُونُ الصَّوْمُ قَدْ وَقَعَ عَنْهُ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ مِنْ الْقَضَاءِ إلَّا قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ.
وَقَوْلُهُ (وَبِخِلَافِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: إذَا كَانَ رُكْنًا وَاحِدًا مُمْتَدًّا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ اقْتِرَانُهَا بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ سَوَاءً، وَوَجْهُهُ: أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِحَالَةِ الشُّرُوعِ، وَلَكِنْ تَرَكْنَا ذَلِكَ إذَا قَارَنَتْ الْأَكْثَرَ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْكُلِّ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيمَا بَعْدَ الزَّوَالِ (فَتَرَجَّحَتْ جَنَبَةُ الْفَوَاتِ) وَقَوْلُهُ (ثُمَّ قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ) أَيْ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ: إذَا لَمْ يَنْوِ حَتَّى أَصْبَحَ أَجْزَأَتْهُ النِّيَّةُ (مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّوَالِ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ) وَوَجْهُهُ
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِزُفَرَ رحمه الله، لِأَنَّهُ لَا تَفْصِيلَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ
مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَقَوْلُهُ (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ) يَعْنِي فِي جَوَازِ النِّيَّةِ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ (خِلَافًا لِزُفَرَ) فَإِنَّهُ يَقُولُ: إمْسَاكُ الْمُسَافِرِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا لِلصَّوْمِ الْفَرْضِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ النِّيَّةِ، بِخِلَافِ إمْسَاكِ الْمُقِيمِ، وَلَنَا أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ جُوِّزَ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ إقَامَةُ النِّيَّةِ فِي أَكْثَرِ وَقْتِ الْأَدَاءِ مَقَامَهَا فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ لَمْ يَفْصِلْ
وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الصَّوْمِ يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ وَبِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي نِيَّةِ النَّفْلِ عَابِثٌ، وَفِي مُطْلَقِهَا لَهُ قَوْلَانِ: لِأَنَّهُ بِنِيَّةِ النَّفْلِ مُعْرِضٌ عَنْ الْفَرْضِ فَلَا يَكُونُ لَهُ الْفَرْضُ. وَلَنَا أَنَّ الْفَرْضَ مُتَعَيَّنٌ فِيهِ،
بَيْنَ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ قَالَ (وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الصَّوْمِ إلَخْ) أَرَادَ بِهَذَا الضَّرْبِ مَا يَتَعَلَّقُ بِزَمَانٍ بِعَيْنِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ.
قَوْلُهُ (يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ) أَيْ بِأَنْ يَقُولَ: نَوَيْت الصَّوْمَ (وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ) ظَاهِرٌ. (وَبِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ) بِأَنْ يُنْوَى عَنْ كَفَّارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا. قِيلَ: وَهَذَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ مُسْتَقِيمٌ، فَأَمَّا فِي النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ فَلَا لِأَنَّهُ يَقَعُ عَمَّا نَوَى مِنْ الْوَاجِبِ إذَا كَانَتْ النِّيَّةُ مِنْ اللَّيْلِ، ذَكَرَهُ فِي أُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرِهِ، فَحِينَئِذٍ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَهَذَا الضَّرْبُ لَا يَبْقَى عَلَى إطْلَاقِهِ.
وَأَجَابَ شَيْخُ شَيْخِي الْعَلَّامَةُ عَبْدُ الْعَزِيزِ: بِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مُوجِبُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَتَأَدَّى الْمَجْمُوعُ بِالْمَجْمُوعِ، وَالْبَعْضُ بِالْبَعْضِ، وَالْبَعْضُ بِالْمَجْمُوعِ، لَا أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ يَتَأَدَّى الْمَجْمُوعُ فَيَظْهَرُ لِكَلَامِهِ وَجْهُ صِحَّةٍ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي نِيَّةِ النَّفْلِ عَابِثٌ) أَيْ لَا يَكُونُ صَائِمًا لَا فَرْضًا وَلَا نَفْلًا (وَفِي مُطْلَقِهَا لَهُ قَوْلَانِ) فِي قَوْلٍ يَقَعُ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ، وَفِي قَوْلٍ لَا يَقَعُ عَنْهُ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ بِنِيَّةِ النَّفْلِ) دَلِيلٌ عَلَى النَّفْلِ أَيْ إنَّهُ بِنِيَّةِ النَّفْلِ (مُعَرَّضٌ عَنْ الْفَرْضِ) لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُغَايِرَةِ فَصَارَ كَإِعْرَاضِهِ بِتَرْكِ النِّيَّةِ (فَلَا يَكُونُ لَهُ الْفَرْضُ) وَمِنْ هَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ أَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي مُطْلَقِ النِّيَّةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُعَرِّضًا بِهَذِهِ النِّيَّةِ فَيَجُوزُ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ صِفَةَ الْفَرْضِيَّةِ قُرْبَةٌ كَأَصْلِ الصَّوْمِ فَكَمَا لَا يَتَأَدَّى أَصْلُ الصَّوْمِ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَكَذَلِكَ الصِّفَةُ، وَإِذَا انْعَدَمَتْ الصِّفَةُ يَنْعَدِمُ الصَّوْمُ ضَرُورَةً.
(وَلَنَا أَنَّ الْفَرْضَ مُتَعَيِّنٌ فِيهِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إذَا انْسَلَخَ شَعْبَانُ فَلَا صَوْمَ إلَّا رَمَضَانَ» وَكُلُّ مَا هُوَ مُتَعَيِّنٌ فِي مَكَان
فَيُصَابُ بِأَصْلِ النِّيَّةِ كَالْمُتَوَحِّدِ فِي الدَّارِ يُصَابُ بِاسْمِ جِنْسِهِ، وَإِذَا نَوَى النَّفَلَ أَوْ وَاجِبًا آخَرَ فَقَدْ نَوَى أَصْلَ الصَّوْمِ وَزِيَادَةَ جِهَةٍ، وَقَدْ لَغَتْ الْجِهَةُ فَبَقِيَ الْأَصْلُ وَهُوَ كَافٍ.
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ وَالصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لِأَنَّ الرُّخْصَةَ كَيْ لَا تَلْزَمَ الْمَعْذُورَ مَشَقَّةٌ فَإِذَا تَحَمَّلَهَا اُلْتُحِقَ
يُصَابُ بِأَصْلِ النِّيَّةِ كَالْمُتَوَحِّدِ فِي الدَّارِ يُصَابُ بِاسْمِ جِنْسِهِ) بِأَنْ يُقَالَ: يَا حَيَوَانُ، كَمَا يُنَالُ بِاسْمِ نَوْعِهِ بِأَنْ يُقَالَ: يَا إنْسَانُ. وَاسْمُ عَلَمِهِ بِأَنْ قَالَ: يَا زَيْدُ، لَا يُقَالُ الْمُتَوَحِّدُ فِي الْمَكَانِ إنَّمَا يُنَالُ بِاسْمِ جِنْسِهِ إذَا كَانَ مَوْجُودًا، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ إنَّمَا يُوجَدُ بِتَحْصِيلِهِ فَكَيْفَ يُنَالُ بِاسْمِ جِنْسِهِ لِأَنَّ كَوْنَهُ مَعْدُومًا لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يُنَالَ بِاسْمِ نَوْعِهِ بِأَنْ نَوَى الصَّوْمَ الْمَشْرُوعَ فِي الْوَقْتِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يُنَالَ بِاسْمِ جِنْسِهِ دَفْعًا لِلتَّحَكُّمِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمْ يَقْتَضِي الْإِصَابَةَ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ دُونَ نِيَّةِ النَّفْلِ أَوْ وَاجِبٍ آخَرَ لِأَنَّ الْمُتَوَحِّدَ يُنَالُ بِاسْمِ جِنْسِهِ لَا بِاسْمِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ زَيْدًا لَا يُنَالُ بِاسْمِ عَمْرٍو؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَإِذَا نَوَى النَّفَلَ أَوْ وَاجِبًا آخَرَ فَقَدْ نَوَى أَصْلَ الصَّوْمِ وَزِيَادَةَ جِهَةٍ وَقَدْ لَغَتْ الْجِهَةُ) لِأَنَّ الْوَقْتَ لَا يَقْبَلُهَا (فَبَقِيَ الْأَصْلُ) إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ بُطْلَانِ الْوَصْفِ إذَا لَمْ يَكُنْ فَضْلًا مُنَوَّعًا بُطْلَانُ الْأَصْلِ وَأَصْلُ الصَّوْمِ جِنْسُهُ (وَذَلِكَ كَافٍ) وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي الْأَنْوَارِ وَالتَّقْرِيرِ
(وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ وَالصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ) إنَّمَا ثَبَتَتْ (كَيْ لَا يَلْزَمَ الْمَعْذُورَ مَشَقَّةٌ فَإِذَا تَحَمَّلَهَا اُلْتُحِقَ
بِغَيْرِ الْمَعْذُورِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: إذَا صَامَ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ يَقَعُ عَنْهُ لِأَنَّهُ شَغَلَ الْوَقْتَ بِالْأَهَمِّ لِتَحَتُّمِهِ لِلْحَالِ وَتَخَيُّرِهِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إلَى إدْرَاكِ الْعِدَّةِ. وَعَنْهُ فِي نِيَّةِ التَّطَوُّعِ رِوَايَتَانِ، وَالْفَرْقُ عَلَى إحْدَاهُمَا أَنَّهُ مَا صَرَفَ الْوَقْتَ إلَى الْأَهَمِّ. قَالَ (وَالضَّرْبُ الثَّانِي مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ كَقَضَاءِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ وَصَوْمِ الْكَفَّارَةِ
بِغَيْرِ الْمَعْذُورِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: إذَا صَامَ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ يَقَعُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ شَغَلَ الْوَقْتَ بِالْأَهَمِّ لِتَحَتُّمِهِ لِلْحَالِ) إذْ الْقَضَاءُ لَازِمٌ لِلْحَالِ فَهُوَ مُؤَاخَذٌ بِهِ (وَتَخَيُّرُهُ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ) لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يُدْرِكْ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. حَتَّى إذَا مَاتَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْعَلَمَانِ فِي التَّحْقِيقِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ، فَإِنَّهُمَا قَالَا: إذَا نَوَى الْمَرِيضُ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقَعُ صَوْمُهُ عَنْ رَمَضَانَ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْفِطْرِ لَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ، فَأَمَّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ فَهُوَ وَالصَّحِيحُ سَوَاءٌ، بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ فَإِنَّ الرُّخْصَةَ فِي حَقِّهِ تَتَعَلَّقُ بِعَجْزٍ مُقَدَّرٍ قَامَ السَّفَرُ مَقَامَهُ وَهُوَ مَوْجُودٌ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْإِيضَاحِ: وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا يَتَسَاوَيَانِ وَهُوَ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ، اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ، وَقَوْلُهُ (وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (فِي نِيَّةِ التَّطَوُّعِ) مِنْ الْمُسَافِرِ (رِوَايَتَانِ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ: يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، (وَأَنَّهُ مَا صَرَفَ الْوَقْتَ إلَى الْأَهَمِّ) وَهُوَ إسْقَاطُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ تَحْصِيلَ الثَّوَابِ وَهُوَ فِي الْفَرْضِ أَكْثَرُ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ: يَقَعُ عَمَّا نَوَى مِنْ النَّفْلِ، لِأَنَّ رَمَضَانَ فِي حَقِّهِ كَشَعْبَانَ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ، وَنِيَّتُهُ فِي شَعْبَانَ تَقَعُ عَمَّا نَوَى نَفْلًا كَانَ أَوْ وَاجِبًا، فَكَذَلِكَ هَذَا. وَأَمَّا الْمَرِيضُ إذَا نَوَى عَنْ التَّطَوُّعِ فَإِنَّ صَوْمَهُ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَقَالَ النَّاطِفِيُّ: قِيَاسُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ عَلَى رِوَايَةِ نَوَادِرِ أَبِي يُوسُفَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَرِيضِ جَائِزًا عَنْ التَّطَوُّعِ. قَالَ (وَالضَّرْبُ الثَّانِي مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ) وَالْمُرَادُ مِنْ الثُّبُوتِ فِي الذِّمَّةِ كَوْنُهُ مُسْتَحَقًّا فِيهَا مِنْ غَيْرِ اتِّصَالٍ لَهُ بِالْوَقْتِ قَبْلَ الْعَزْمِ عَلَى صَرْفِ مَالِهِ إلَى مَا عَلَيْهِ (كَقَضَاءِ رَمَضَانَ) وَصَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ وَالْقَتْلِ، وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَالْحَلْقِ وَالْمُتْعَةِ
فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ مِنْ الِابْتِدَاءِ (وَالنَّفَلُ كُلُّهُ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ)
وَكَفَّارَةِ رَمَضَانَ، وَكَذَلِكَ النَّذْرُ الْمُطْلَقُ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ (لَا يَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُتَعَيِّنٍ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ مِنْ الِابْتِدَاءِ).
وَقَوْلُهُ (وَالنَّفَلُ كُلُّهُ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ) أَيْ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ سَوَاءٌ كَانَ مُسَافِرًا
خِلَافًا لِمَالِكٍ، فَإِنَّهُ يَتَمَسَّكُ بِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا. وَلَنَا «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم بَعْدَمَا كَانَ يُصْبِحُ غَيْرَ صَائِمٍ إنِّي إذًا لَصَائِمٌ» وَلِأَنَّ الْمَشْرُوعَ خَارِجَ رَمَضَانَ هُوَ النَّفَلُ فَيَتَوَقَّفُ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ عَلَى صَيْرُورَتِهِ صَوْمًا بِالنِّيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ نَوَى بَعْدَ الزَّوَالِ لَا يَجُوزُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ وَيَصِيرُ صَائِمًا مِنْ حِينِ نَوَى إذْ هُوَ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ لِكَوْنِهِ مَبْنِيًّا عَلَى النَّشَاطِ، وَلَعَلَّهُ يَنْشَطُ بَعْدَ الزَّوَالِ إلَّا أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الْإِمْسَاكَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَعِنْدَنَا يَصِيرُ صَائِمًا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ لِأَنَّهُ عِبَادَةُ قَهْرِ النَّفْسِ، وَهِيَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِإِمْسَاكٍ مُقَدَّرٍ فَيُعْتَبَرُ قِرَانُ النِّيَّةِ بِأَكْثَرِهِ.
أَوْ مُقِيمًا (خِلَافًا لِمَالِكٍ فَإِنَّهُ يَتَمَسَّكُ بِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا) مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» (وَلَنَا «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَا كَانَ يُصْبِحُ غَيْرَ صَائِمٍ إنِّي إذًا لَصَائِمٌ» عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْخُلُ عَلَى نِسَائِهِ وَيَقُولُ: هَلْ عِنْدَكُنَّ مِنْ غَدَاءٍ؟ فَإِنْ قُلْنَ لَا. قَالَ: إنِّي إذًا لَصَائِمٌ». وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْمَشْرُوعَ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا ذَكَرْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ: وَلِأَنَّهُ يَوْمُ صَوْمٍ فَيَتَوَقَّفُ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِهِ عَلَى النِّيَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِأَكْثَرِهِ كَالنَّفْلِ. وَقَوْلُهُ (وَلَوْ نَوَى بَعْدَ الزَّوَالِ) ظَاهِرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ.
فَصْلٌ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ
قَالَ (وَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَلْتَمِسُوا الْهِلَالَ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ، فَإِنْ رَأَوْهُ صَامُوا، وَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِمْ أَكْمَلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامُوا) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ الْهِلَالُ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا» وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الشَّهْرِ فَلَا يُنْقَلُ عَنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلَمْ يُوجَدْ.
وَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَلْتَمِسُوا الْهِلَالَ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ) لِأَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا قَالَ عليه الصلاة والسلام «الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا هَكَذَا وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ وَخَنَّسَ إبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ» (فَإِنْ رَآهُ صَامُوا)
(وَلَا يَصُومُونَ يَوْمَ الشَّكِّ إلَّا تَطَوُّعًا) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ إلَّا تَطَوُّعًا» وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ:
كَلَامُهُ وَاضِحٌ
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَصُومُونَ يَوْمَ الشَّكِّ إلَّا تَطَوُّعًا) يَوْمُ الشَّكِّ هُوَ الْيَوْمُ الْأَخِيرُ مِنْ شَعْبَانَ الَّذِي يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ آخِرَ شَعْبَانَ أَوْ أَوَّلَ رَمَضَانَ (لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ إلَّا تَطَوُّعًا») وَقَوْلُهُ (وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ) ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ خَمْسَةً، وَوَجْهُ الْحَصْرِ أَنَّ مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَإِمَّا أَنْ يَقْطَعَ فِي النِّيَّةِ أَوْ يَتَرَدَّدَ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِيمَا عَلَيْهِ أَوَّلًا، فَإِنْ كَانَ فِيمَا عَلَيْهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْوَقْتِيِّ أَوْ فِي غَيْرِهِ، فَالْوَقْتِيُّ هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وَغَيْرُهُ هُوَ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَا عَلَيْهِ فَهُوَ الثَّالِثُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّرَدُّدُ أَصْلَ النِّيَّةِ أَوْ فِي وَصْفِهَا، فَالْأَوَّلُ الرَّابِعُ وَالثَّانِي الْخَامِسُ.
وَهَذَا إذَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ
أَحَدُهَا: أَنْ يَنْوِيَ صَوْمَ رَمَضَانَ وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِمَا رَوَيْنَا،
مَا يَكُونُ بِنَاءً أَوْ ابْتِدَاءً فِي التَّطَوُّعِ، وَالْوَاجِبُ الْآخَرُ، أَمَّا إذَا فَرَّقَ فَالْوُجُوهُ سَبْعَةٌ كَمَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ، وَالْمُصَنِّفُ ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ لَكِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُمَا مُسْتَقِلَّيْنِ (فَالْأَوَّلُ أَنْ يَنْوِيَ رَمَضَانَ وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِمَا رَوَيْنَا) مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ إلَّا تَطَوُّعًا» لَا يُقَالُ لَا يُصَامُ صِيغَةُ
وَلِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ زَادُوا فِي مُدَّةِ صَوْمِهِمْ ثُمَّ إنْ ظَهَرَ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ يَجْزِيهِ لِأَنَّهُ شَهِدَ الشَّهْرَ وَصَامَهُ وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ كَانَ تَطَوُّعًا، وَإِنْ أَفْطَرَ لَمْ يَقْضِهِ
نَفْيٍ، وَهُوَ يَقْتَضِي عَدَمَ الْجَوَازِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى النَّهْيِ لِتَحَقُّقِهِ حِسًّا وَهُوَ يَقْتَضِي الْمَشْرُوعِيَّةَ عَلَى مَا عُرِفَ. (وَلِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الْكِتَابِ) بِمَعْنَى فِيمَا فِيهِ بِرٌّ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْكَرَاهَةَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ إنْ ظَهَرَ) ظَاهِرٌ.
لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَظْنُونِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَنْوِيَ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ وَهُوَ مَكْرُوهٌ أَيْضًا لِمَا رَوَيْنَا إلَّا أَنَّ هَذَا دُونَ الْأَوَّلِ فِي الْكَرَاهَةِ ثُمَّ إنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ يَجْزِيهِ لِوُجُودِ أَصْلِ النِّيَّةِ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ فَقَدْ قِيلَ: يَكُونُ تَطَوُّعًا لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَظْنُونِ) لَمْ يَقُلْ لِأَنَّهُ مَظْنُونٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَظْنُونِ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ الظَّنُّ بَعْدَ وُجُوبِهِ بِيَقِينٍ، وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ أَدَّاهُ فَشَرَعَ فِيهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّهِ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ أَدَّاهُ، وَأَمَّا هَهُنَا فَلَمْ يَثْبُتْ وُجُوبُهُ بِيَقِينٍ فَلَمْ يَكُنْ مَظْنُونًا حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمَّا شُرِعَ مُسْقِطًا لِلْوَاجِبِ عِنْدَهُ لَا مُلْزَمًا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي مَعْنَى الْآخَرِ. (وَالثَّانِي أَنْ يُنْوَى عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ وَهُوَ مَكْرُوهٌ أَيْضًا لِمَا رَوَيْنَا) مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " لَا يُصَامُ " الْحَدِيثَ (إلَّا أَنَّ هَذَا دُونَ الْأَوَّلِ فِي الْكَرَاهَةِ) لِعَدَمِ اسْتِلْزَامِهِ التَّشَبُّهَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ إنْ ظَهَرَ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ)
فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ، وَقِيلَ: يَجْزِيهِ عَنْ الَّذِي نَوَاهُ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَهُوَ التَّقَدُّمُ عَلَى رَمَضَانَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ لَا يَقُومُ بِكُلِّ صَوْمٍ، بِخِلَافِ يَوْمِ الْعِيدِ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَهُوَ تَرْكُ الْإِجَابَةِ بِلَازِمِ كُلِّ صَوْمٍ، وَالْكَرَاهِيَةُ هَهُنَا لِصُورَةِ النَّهْيِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَنْوِيَ التَّطَوُّعَ وَهُوَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ لِمَا رَوَيْنَا وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي قَوْلِهِ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تَتَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا بِصَوْمِ يَوْمَيْنِ» الْحَدِيثَ، التَّقَدُّمُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّيهِ قَبْلَ أَوَانِهِ،
فَيَكُونُ نَاقِصًا وَمَا فِي ذِمَّتِهِ كَامِلٌ، فَلَا يَتَأَدَّى الْكَامِلُ بِالنَّاقِصِ، كَمَا لَوْ صَامَ يَوْمَ الْعِيدِ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ وَهُوَ التَّقَدُّمُ عَلَى رَمَضَانَ) أَيْ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «لَا تَتَقَدَّمُوا عَلَى رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا بِصَوْمِ يَوْمَيْنِ» إنَّمَا هُوَ (بِصَوْمِ رَمَضَانَ) لِمَا سَنَذْكُرُ، وَهُوَ (لَا يُوجَدُ بِكُلِّ صَوْمٍ بِخِلَافِ يَوْمِ الْعِيدِ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَهُوَ تَرْكُ إجَابَةِ دَعْوَةِ اللَّهِ تَعَالَى يُلَازِمُ كُلَّ صَوْمٍ) فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ صَوْمُ وَاجِبٍ آخَرَ مَكْرُوهًا أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَالْكَرَاهِيَةُ هَهُنَا لِصُورَةِ النَّهْيِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: إلَّا أَنَّا أَثْبَتْنَا الْكَرَاهَةَ لِتَنَاوُلِ عُمُومِ نَفْيِ حَدِيثٍ آخَرَ. وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ» الْحَدِيثَ.
وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ الشَّارِحِينَ: لِصُورَةِ النَّهْيِ لَا لِحَقِيقَةِ النَّهْيِ، لِأَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ فِي التَّقَدُّمِ بِصَوْمِ رَمَضَانَ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِثْلَ صَوْمِهِ رَمَضَانَ فِي الْفَرْضِيَّةِ أَثْبَتْنَا فِيهِ نَوْعَ كَرَاهَةٍ. (وَالثَّالِثُ: أَنْ يُنْوَى التَّطَوُّعُ وَهُوَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ لَا رَوَيْنَا) مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " إلَّا تَطَوُّعًا ". (وَهُوَ) بِإِطْلَاقِهِ (حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ يُكْرَهُ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ) بِأَنْ لَا يَكُونَ مُوَافِقًا لِصَوْمٍ كَانَ يَصُومُهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تَتَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا بِصَوْمِ يَوْمَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ صَوْمًا يَصُومُهُ رَجُلٌ فَلْيَصُمْ ذَلِكَ الصَّوْمَ» وَهَذَا نَصٌّ عَلَى الْجَوَازِ بِنَاءً.
وَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تَتَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا بِصَوْمِ يَوْمَيْنِ» الْحَدِيثَ التَّقَدُّمُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّيهِ قَبْلَ أَوَانِهِ) وَفِي ذَلِكَ تَقْدِيمُ الْحُكْمِ عَلَى السَّبَبِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَا قَبْلَ الشَّهْرِ وَقْتٌ لِلتَّطَوُّعِ لَا لِصَوْمِ الشَّهْرِ فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّقَدُّمُ بِالتَّطَوُّعِ. فَإِنْ قِيلَ: صَوْمُ رَمَضَانَ هُوَ مَا يَقَعُ فِيهِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ التَّقَدُّمُ فِيهِ. أُجِيبَ: بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَنْوِيَ الْفَرْضَ قَبْلَ الشَّهْرِ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ
ثُمَّ إنْ وَافَقَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ فَالصَّوْمُ أَفْضَلُ بِالْإِجْمَاعِ: وَكَذَا إذَا صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ فَصَاعِدًا، وَإِنْ أَفْرَدَهُ فَقَدْ قِيلَ: الْفِطْرُ أَفْضَلُ احْتِرَازًا عَنْ ظَاهِرِ النَّهْيِ وَقَدْ قِيلَ: الصَّوْمُ أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِعَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهما فَإِنَّهُمَا كَانَا يَصُومَانِهِ، وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَصُومَ الْمُفْتِي بِنَفْسِهِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ، وَيُفْتِي الْعَامَّةَ بِالتَّلَوُّمِ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ ثُمَّ بِالْإِفْطَارِ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يُضْجَعَ فِي أَصْلِ النِّيَّةِ بِأَنْ يَنْوِي أَنْ يَصُومَ غَدًا إنْ كَانَ مِنْ
مَثَلًا: قَدَّمَ صَلَاةَ الظُّهْرِ عَلَى وَقْتِهَا، فَإِنَّ مَعْنَاهُ نَوَاهَا قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ» وَحُكْمُ الْأَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ. أُجِيبَ بِأَنَّ يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ مَا وَصَلَ إلَى حَدِّ الْكَثْرَةِ فَيَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ بِأَنَّ الْقَلِيلَ مَعْفُوٌّ فَيَجُوزُ كَمَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ فَنَفَى ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ (ثُمَّ إنْ وَافَقَ صَوْمًا) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ أَفْرَدَهُ) يَعْنِي لَمْ يُوَافِقْ صَوْمًا يَصُومُهُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ (الْفِطْرُ أَفْضَلُ احْتِرَازًا عَنْ ظَاهِرِ النَّهْيِ) وَقَالَ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى: (الصَّوْمُ أَفْضَلُ اقْتِدَاءً بِعَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رضي الله عنهما فَإِنَّهُمَا كَانَا يَصُومَانِهِ) وَيَقُولَانِ: لَأَنْ نَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيْنَا أَنْ نُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ (وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَصُومَ الْمُفْتِي بِنَفْسِهِ) احْتِيَاطًا عَنْ وُقُوعِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ (وَيُفْتِيَ الْعَامَّةَ بِالتَّلَوُّمِ) أَيْ بِالِانْتِظَارِ (إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ ثُمَّ بِالْإِفْطَارِ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ) أَيْ تُهْمَةِ الرَّوَافِضِ ذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ، لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهُ لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ عَنْ رَمَضَانَ.
وَقَالَ الرَّوَافِضُ: يَجِبُ أَنْ يُصَامَ يَوْمُ الشَّكِّ عَنْ رَمَضَانَ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَوْ أَفْتَى الْعَامَّةَ بِأَدَاءِ النَّفْلِ فِيهِ عَسَى أَنْ يَقَعَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ خَالَفَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَيْثُ نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ، وَهُوَ أَطْلَقَهُ فَيُفْتِيهِمْ بِالْإِفْطَارِ بَعْدَ التَّلَوُّمِ نَفْيًا لِهَذِهِ التُّهْمَةِ (وَالرَّابِعُ: أَنْ يُضَجِّعَ فِي أَصْلِ النِّيَّةِ) التَّضْجِيعُ فِي النِّيَّةِ التَّرْدِيدُ فِيهَا،
رَمَضَانَ وَلَا يَصُومُهُ إنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ لَا يَصِيرُ صَائِمًا لِأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ عَزِيمَتَهُ فَصَارَ كَمَا إذَا نَوَى أَنَّهُ إنْ وَجَدَ غَدًا غَدَاءً يُفْطِرُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ يَصُومُ. وَالْخَامِسُ: أَنْ يُضْجَعَ فِي وَصْفِ النِّيَّةِ بِأَنْ يَنْوِيَ إنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ يَصُومُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ فَعَنْ وَاجِبٍ آخَرَ، وَهَذَا مَكْرُوهٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مَكْرُوهَيْنِ. ثُمَّ إنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ لِعَدَمِ التَّرَدُّدِ فِي أَصْلِ النِّيَّةِ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ لَا يَجْزِيهِ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ لِأَنَّ الْجِهَةَ لَمْ تَثْبُتْ لِلتَّرَدُّدِ فِيهَا، وَأَصْلُ النِّيَّةِ لَا يَكْفِيهِ لَكِنَّهُ يَكُونُ تَطَوُّعًا غَيْرَ مَضْمُونٍ بِالْقَضَاءِ لِشُرُوعِهِ فِيهِ مُسْقِطًا، وَإِنْ نَوَى عَنْ رَمَضَانَ إنْ كَانَ غَدًا مِنْهُ وَعَنْ التَّطَوُّعِ إنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ يُكْرَهُ لِأَنَّهُ نَاوٍ لِلْفَرْضِ مِنْ وَجْهٍ، ثُمَّ إنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ عَنْهُ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ شَعْبَانَ جَازَ عَنْ نَفْلِهِ لِأَنَّهُ يَتَأَدَّى بِأَصْلِ النِّيَّةِ، وَلَوْ أَفْسَدَهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَقْضِيَهُ لِدُخُولِ الْإِسْقَاطِ فِي عَزِيمَتِهِ مِنْ وَجْهٍ.
قَالَ (وَمَنْ رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ وَحْدَهُ صَامَ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ
وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ. (وَالْخَامِسُ: أَنْ يُضَجِّعَ فِي وَصْفِ النِّيَّةِ) وَقَوْلُهُ (بَيْنَ أَمْرَيْنِ مَكْرُوهَيْنِ) وَهُمَا صَوْمُ رَمَضَانَ وَوَاجِبٍ آخَرَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، إلَّا أَنَّ كَرَاهَةَ أَحَدِهِمَا وَهُوَ نِيَّةُ صَوْمِ رَمَضَانَ أَشَدُّ مِنْ الْآخَرِ. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ إنْ ظَهَرَ) ظَاهِرٌ وَقَوْلُهُ (لِشُرُوعِهِ فِيهِ مُسْقِطًا) يَعْنِي لَا مُلْزِمًا لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا نَوَى عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ عَلَى تَقْدِيرٍ وَعَنْ فَرْضِ رَمَضَانَ عَلَى تَقْدِيرٍ فَكَانَ مُسْقِطًا لِلْوَاجِبِ عَنْ ذِمَّتِهِ، وَكَذَا قَوْلُهُ (وَإِنْ نَوَى عَنْ رَمَضَانَ) ظَاهِرٌ. قَوْلُهُ (لِمَا مَرَّ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِعَدَمِ التَّرَدُّدِ فِي أَصْلِ النِّيَّةِ
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ وَحْدَهُ) ظَاهِرٌ، وَهَلْ يَقْبَلُهَا أَوْ لَا لَمْ يَذْكُرْهُ، فَإِنْ كَانَتْ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً وَهُوَ مِنْ الْمِصْرِ لَمْ يَقْبَلْ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ مَا يُوجِبُ الْقَبُولَ وَهُوَ الْعَدَالَةُ وَالْإِسْلَامُ، وَمَا يُوجِبُ الرَّدَّ، وَمُخَالَفَةُ الظَّاهِرِ فَتَرَجَّحَ جَانِبُ الرَّدِّ لِأَنَّ الْفِطْرَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ جَائِزٌ بِعُذْرٍ كَمَا فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ قَبْلَ رَمَضَانَ لَا يَجُوزُ بِعُذْرٍ مِنْ الْأَعْذَارِ فَكَانَ الْمَصِيرُ إلَى مَا لَا يَجُوزُ بِعُذْرٍ أَوْلَى وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ: وَالسَّمَاءُ مُصْحِيَةٌ وَهُوَ مِنْ الْمِصْرِ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ مُتَغَيِّمَةً أَوْ جَاءَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى مَا يُذْكَرُ
الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ» وَقَدْ رَأَى ظَاهِرًا وَإِنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إنْ أَفْطَرَ بِالْوِقَاعِ لِأَنَّهُ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ حَقِيقَةً لِتَيَقُّنِهِ بِهِ وَحُكْمًا لِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ وَلَنَا أَنَّ الْقَاضِيَ رَدَّ شَهَادَتَهُ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ تُهْمَةُ الْغَلَطِ، فَأَوْرَثَ شُبْهَةً وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَلَوْ أَفْطَرَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ،
وَلَنَا أَنَّ الْقَاضِيَ رَدَّ شَهَادَتَهُ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ تُهْمَةُ الْغَلَطِ) فَإِنَّهَا يُطْلَقُ الْقَضَاءُ بِرَدِّهَا شَرْعًا كَمَا فِي شَهَادَةِ الْفَاسِقِ، وَهِيَ هَهُنَا مُتَمَكِّنَةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا سَاوَى غَيْرَهُ فِي الْمَنْظَرِ ظَاهِرًا وَالنَّظَرِ وَحِدَّةِ الْبَصَرِ وَدِقَّةِ الْمَرْئِيِّ وَبُعْدِ الْمَسَافَةِ فَالظَّاهِرُ عَدَمُ اخْتِصَاصِهِ بِالرُّؤْيَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النَّاسِ، وَيَكُونُ غَالَطَ فَيُورِثُ شُبْهَةَ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ.
(وَهَذِهِ الْكَفَّارَةُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ) لِأَنَّ جِهَةَ الْعُقُوبَةِ فِيهَا رَاجِحَةٌ، وَلِهَذَا يَجْرِي فِيهَا التَّدَاخُلُ وَلَا تَجِبُ عَلَى الْمَعْذُورِ وَالْخَاطِئِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ (وَلَوْ أَفْطَرَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ) أَيْ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فَمَنْ نَظَرَ إلَى أَنَّ الْمَوْتَ لِلشُّبْهَةِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ رَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ، قَالَ: بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الرَّدِّ لِانْتِفَاءِ مَا يُورِثُهَا وَتَحَقُّقِ الرَّمَضَانِيَّةِ لِتَيَقُّنِهِ بِالرُّؤْيَةِ، وَمَنْ نَظَرَ إلَى أَنَّ يَوْمَ الصَّوْمِ يَوْمَ يَصُومُ النَّاسُ فِيهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ» الْحَدِيثَ وَلَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْيَوْمِ يَوْمًا يَصُومُ النَّاسُ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمْ صَوْمُ هَذَا الْيَوْمِ لَا أَدَاءً وَلَا قَضَاءً، فَكَانَ يَوْمُ الْفِطْرِ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً لِعَدَمِ التَّجْزِيءِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ
وَلَوْ أَكْمَلَ هَذَا الرَّجُلُ ثَلَاثِينَ، يَوْمًا لَمْ يُفْطِرْ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ لِلِاحْتِيَاطِ، وَالِاحْتِيَاطُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَأْخِيرِ الْإِفْطَارِ وَلَوْ أَفْطَرَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي عِنْدَهُ.
قَالَ (وَإِذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ قَبِلَ الْإِمَامُ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا) لِأَنَّهُ أَمْرٌ دِينِيٌّ، فَأَشْبَهَ رِوَايَةَ الْإِخْبَارِ وَلِهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَتُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ لِأَنَّ قَوْلَ الْفَاسِقِ فِي الدِّيَانَاتِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَتَأْوِيلُ قَوْلِ الطَّحَاوِيِّ عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ أَنْ يَكُونَ مَسْتُورًا وَالْعِلَّةُ غَيْمٌ أَوْ غُبَارٌ أَوْ نَحْوُهُ، وَفِي إطْلَاقِ جَوَابِ الْكِتَابِ
وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ يَوْمَ فِطْرٍ فِي حَقِّهِ حَقِيقَةً، وَعَارَضَهُ نَصٌّ آخَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ» أُورِدَتْ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ فِيمَا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ قَالَ: بِعَدَمِ وُجُوبِهَا (وَلَوْ أَكْمَلَ هَذَا الرَّجُلُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لَمْ يُفْطِرْ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ لِلِاحْتِيَاطِ) لِجَوَازِ وُقُوعِ الْغَلَطِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه خَرَجَ فِي النَّاسِ يَتَفَقَّدُونَ الْهِلَالَ فَقَالَ وَاحِدٌ: الْهِلَالُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَمَرَ عُمَرُ رضي الله عنه أَنْ يَمْسَحَ وَجْهَهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَيْنَ الْهِلَالُ؟ قَالَ: فَقَدْته. فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: لَعَلَّ شَعْرَةً مِنْ شَعَرَاتِ حَاجِبِك قَامَتْ فَحَسِبْتهَا هِلَالًا (وَالِاحْتِيَاطُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَأْخِيرِ الْإِفْطَارِ وَلَوْ أَفْطَرَ) يَعْنِي بَعْدَ الثَّلَاثِينَ (لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي عِنْدَهُ) وَعَمَلًا بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ»
قَالَ: (وَإِذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ قَبِلَ الْإِمَامُ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ إلَخْ) كَلَامُهُ ظَاهِرٌ وَإِنَّمَا قَالَ (غَيْرُ مَقْبُولٍ) وَلَمْ يَقُلْ مَرْدُودٍ، لِأَنَّ حُكْمَهُ التَّوَقُّفُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} وَقَوْلُهُ (وَفِي إطْلَاقِ جَوَابِ الْكِتَابِ) يَعْنِي الْقُدُورِيَّ وَهُوَ قَوْلُهُ قَبِلَ الْإِمَامُ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ
يَدْخُلُ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ بَعْدَمَا تَابَ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ خَبَرٌ دِينِيٌّ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَشْتَرِطُ الْمَثْنَى وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبِلَ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ فِي رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ» ثُمَّ إذَا قَبِلَ الْإِمَامُ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ وَصَامُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا لَا يُفْطِرُونَ فِيمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِلِاحْتِيَاطِ، وَلِأَنَّ الْفِطْرَ
يَدْخُلُ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ خَبَرٌ) أَيْ لَيْسَ بِشَهَادَةٍ وَلِهَذَا لَمْ يَخْتَصَّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ) دُونَ وَجْهٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِهِ إنَّمَا كَانَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي وَمِنْ حَيْثُ اخْتِصَاصُهُ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَمِنْ حَيْثُ اشْتِرَاطُ الْعَدَالَةِ (وَكَانَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ يَشْتَرِطُ الْمُثَنَّى وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّهُ أَمْرٌ دِينِيٌّ (وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبِلَ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنِّي رَأَيْت الْهِلَالَ يَعْنِي هِلَالَ رَمَضَانَ فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: يَا بِلَالُ أَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا» وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ كَمَا تَرَى.
وَقَوْلُهُ (وَصَامُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا) يَعْنِي وَلَمْ يَرَوْا الْهِلَالَ (لَا يُفْطِرُونَ) وَمَبْنَى مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ مَا تَقَرَّرَ أَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَثْبُتُ ضِمْنًا، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ
لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ يُفْطِرُونَ وَيَثْبُتُ الْفِطْرُ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ الرَّمَضَانِيَّةِ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ بِهَا ابْتِدَاءً كَاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ بِنَاءً عَلَى النَّسَبِ الثَّابِتِ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ. قَالَ (وَإِذَا لَمْ تَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ حَتَّى يَرَاهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ) لِأَنَّ التَّفَرُّدَ بِالرُّؤْيَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ يُوهِمُ الْغَلَطَ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ حَتَّى يَكُونَ جَمْعًا كَثِيرًا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْشَقُّ الْغَيْمُ عَنْ مَوْضِعِ الْقَمَرِ فَيَتَّفِقُ لِلْبَعْضِ النَّظَرُ، ثُمَّ قِيلَ فِي حَدِّ الْكَثِيرِ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله خَمْسُونَ رَجُلًا اعْتِبَارًا بِالْقَسَامَةِ
ابْتِدَاءً كَبَيْعِ الطَّرِيقِ وَالشُّرْبِ.
وَقَوْلُهُ (كَاسْتِحْقَاقِ الرَّثِّ بِنَاءً عَلَى النَّسَبِ) إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِهِمَا دُونَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمهم الله. وَقَوْلُهُ (وَإِذَا لَمْ تَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ) ظَاهِرٌ.
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَهْلِ الْمِصْرِ وَمَنْ وَرَدَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ إذَا جَاءَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ لِقِلَّةِ الْمَوَانِعِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ، وَكَذَا إذَا كَانَ عَلَى مَكَان مُرْتَفِعٍ فِي الْمِصْرِ.
قَالَ (وَمَنْ رَأَى هِلَالَ الْفِطْرِ وَحْدَهُ لَمْ يُفْطِرْ) احْتِيَاطًا، وَفِي الصَّوْمِ الِاحْتِيَاطُ فِي الْإِيجَابِ. قَالَ (وَإِذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ لَمْ يَقْبَلْ فِي هِلَالِ الْفِطْرِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ) لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ نَفْعُ الْعَبْدِ وَهُوَ الْفِطْرُ فَأَشْبَهَ سَائِرَ حُقُوقِهِ، وَالْأَضْحَى كَالْفِطْرِ فِي هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، خِلَافًا لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: أَنَّهُ كَهِلَالِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ نَفْعُ الْعِبَادِ وَهُوَ التَّوَسُّعُ بِلُحُومِ الْأَضَاحِيِّ
وَقَوْلُهُ (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَهْلِ الْمِصْرِ) أَيْ لَا فَرْقَ فِي عَدَمِ الْقَبُولِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْمِصْرِ (وَمَنْ وَرَدَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ: أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ إذَا جَاءَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ لِقِلَّةِ الْمَوَانِعِ وَإِلَيْهِ) أَيْ إلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ (الْإِشَارَةُ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ) وَلَفْظُهُ: فَإِنْ كَانَ الَّذِي شَهِدَ بِذَلِكَ فِي الْمِصْرِ وَلَا عِلَّةَ فِي السَّمَاءِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَوَجْهُ الْإِشَارَةِ أَنَّ التَّقْيِيدَ فِي الرِّوَايَةِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ فَكَانَ تَخْصِيصُهُ بِالْمِصْرِ، وَنَفْيُ الْعِلَّةِ فِي عَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ دَلِيلًا عَلَى قَبُولِهَا إذَا كَانَ الشَّاهِدُ خَارِجَ الْمِصْرِ أَوْ كَانَ فِي السَّمَاءِ عِلَّةٌ (وَكَذَا إذَا كَانَ فِي مَكَان مُرْتَفِعٍ فِي الْمِصْرِ) تُقْبَلُ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ رَأَى هِلَالَ الْفِطْرِ) وَاضِحٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ (وَإِذَا كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ) وَقَوْلُهُ (وَهُوَ الْأَصَحُّ) احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ فِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ كَهِلَالِ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ أَمْرٌ دِينِيٌّ وَهُوَ ظُهُورُ وَقْتِ الْحَجِّ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ نَفْعُ الْعِبَادِ)
(وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ لَمْ يَقْبَلْ إلَّا شَهَادَةَ جَمَاعَةٍ يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ) كَمَا ذَكَرْنَا.
قَالَ (وَوَقْتُ الصَّوْمِ مِنْ حِينِ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} إلَى أَنْ قَالَ {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وَالْخَيْطَانِ بَيَاضُ النَّهَارِ وَسَوَادُ اللَّيْلِ (وَالصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ نَهَارًا مَعَ النِّيَّةِ) لِأَنَّهُ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ: هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ لِوُرُودِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ زِيدَ عَلَيْهِ النِّيَّةُ فِي الشَّرْعِ لِتَتَمَيَّزَ بِهَا الْعِبَادَةُ مِنْ الْعَادَةِ، وَاخْتَصَّ بِالنَّهَارِ لِمَا تَلَوْنَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْوِصَالُ كَانَ تَعْيِينُ النَّهَارِ أَوْلَى لِيَكُونَ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ، وَعَلَيْهِ مَبْنَى الْعِبَادَةِ، وَالطَّهَارَةُ عَنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ شَرْطٌ لِتَحَقُّقِ الْأَدَاءِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ.
دَلِيلُ الْأَصَحِّ. وَقَوْلُهُ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ) يَعْنِي فِي هِلَالِ الْفِطْرِ. وَقَوْلُهُ (كَمَا ذَكَرْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ التَّفَرُّدَ بِالرُّؤْيَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ إلَخْ.
وَقَوْلُهُ (وَوَقْتُ الصَّوْمِ مِنْ حِينِ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي) قِيلَ الْعِبْرَةُ لِأَوَّلِ طُلُوعِهِ وَقِيلَ لِاسْتِنَارَتِهِ وَانْتِشَارِهِ، قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ: الْأَوَّلُ أَحْوَطُ، وَالثَّانِي: أَرْفَقُ.
وَقَوْلُهُ (وَالْخَيْطَانِ) يَعْنِي أَنَّ الْخَيْطَ الْأَبْيَضَ هُوَ أَوَّلُ مَا يَبْدُو مِنْ الْفَجْرِ الصَّادِقِ وَهُوَ الْمُسْتَطِيرُ: أَيْ الْمُنْتَشِرُ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأُفُقِ كَالْخَيْطِ الْمَمْدُودِ، وَالْخَيْطُ الْأَسْوَدُ مَا يَمْتَدُّ مَعَهُ مِنْ غَبَشِ اللَّيْلِ وَهُوَ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ وَالْكَاذِبُ وَذَنَبُ السِّرْحَانِ شُبِّهَا بِخَيْطَيْنِ أَبْيَضَ وَأَسْوَدَ وَمَوْضِعُهُ عِلْمُ الْبَيَانِ، وَاكْتَفَى بِبَيَانِ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ بِقَوْلِهِ {مِنَ الْفَجْرِ} عَنْ بَيَانِ الْأَسْوَدِ، لِأَنَّ الْبَيَانَ فِي أَحَدِهِمَا بَيَانٌ فِي الْآخَرِ.
وَقَوْلُهُ (وَالصَّوْمُ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ نَهَارًا مَعَ النِّيَّةِ) قِيلَ: هُوَ مَنْقُوضٌ طَرْدًا وَعَكْسًا، أَمَّا عَكْسًا فَبِأَكْلِ النَّاسِي فَإِنَّ صَوْمَهُ بَاقٍ وَالْإِمْسَاكَ فَائِتٌ، وَأَمَّا طَرْدًا فِيمَنْ أَكَلَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لِمَا أَنَّ النَّهَارَ اسْمٌ لِزَمَانٍ هُوَ مَعَ الشَّمْسِ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ فَإِنَّ هَذَا الْمَجْمُوعَ مَوْجُودٌ وَالصَّوْمُ فَائِتٌ. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ: بِمَنْعِ فَوْتِ الْإِمْسَاكِ لِأَنَّ الْوَلَدَ بِهِ الْإِمْسَاكُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ مَوْجُودٌ. وَعَنْ الثَّانِي: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهَارِ النَّهَارُ الشَّرْعِيُّ، وَهُوَ الْيَوْمُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} الْآيَةَ. وَعَنْ الْحَائِضِ بِأَنَّ الْحَائِضَ خَرَجَتْ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ شَرْعًا. وَقَوْلُهُ (وَالطَّهَارَةُ عَنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ شَرْطٌ) الْمُرَادُ بِالطَّهَارَةِ مِنْهُمَا عَدَمُهُمَا لَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا الِاغْتِسَالُ.
بَابُ مَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ
قَالَ (وَإِذَا أَكَلَ الصَّائِمُ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ نَهَارًا نَاسِيًا لَمْ يُفْطِرْ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يُفْطِرَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ لِوُجُودِ مَا يُضَادُّ الصَّوْمَ فَصَارَ كَالْكَلَامِ نَاسِيًا فِي الصَّلَاةِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ «قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام لِلَّذِي أَكَلَ وَشَرِبَ نَاسِيًا تِمَّ عَلَى صَوْمِكَ فَإِنَّمَا أَطْعَمَكَ اللَّهُ وَسَقَاكَ»
بَابُ مَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ)
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَنْوَاعِ الصَّوْمِ وَتَفْسِيرِهِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَجِبُ عِنْدَ إبْطَالِهِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ عَارِضٌ عَلَى الصَّوْمِ فَنَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ مُؤَخَّرًا (وَإِذَا أَكَلَ الصَّائِمُ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ نَاسِيًا لَمْ يُفْطِرْ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُفْطِرَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رحمه الله لِوُجُودِ مَا يُضَادُّ الصَّوْمَ) وَوُجُودُ مُضَادِّ الشَّيْءِ مُعْدِمٌ لَهُ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ الضِّدَّيْنِ مَعًا (فَصَارَ كَالْكَلَامِ نَاسِيًا فِي الصَّلَاةِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي أَكَلَ وَشَرِبَ نَاسِيًا: تِمَّ عَلَى صَوْمِك فَإِنَّمَا أَطْعَمَك اللَّهُ وَسَقَاك» قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ مُعَارِضٌ لِلْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ} فَإِنَّ الصِّيَامَ إمْسَاكٌ وَقَدْ فَاتَ فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ لِأَنَّ انْتِفَاءَ رُكْنِ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَهُ لَا مَحَالَةَ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى إيفَائِهِ كَمَا كَانَ فَيَجِبُ تَرْكُهُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِي الْكِتَابِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} فَكَانَ الْحَدِيثُ مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ فَيُعْمَلُ بِهِ، وَيُحْمَلُ قَوْله تَعَالَى {أَتِمُّوا الصِّيَامَ} عَلَى حَالَةِ انْتِفَاءِ الْإِتْمَامِ عَمْدًا لِأَنَّ الْإِتْمَامَ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ فَيَكُونُ ضِدُّهُ الْمُفَوِّتُ لَهُ كَذَلِكَ، وَالنِّسْيَانُ لَيْسَ بِاخْتِيَارِيٍّ فَلَا يَفُوتُهُ. فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَا ذَلِكَ
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ثَبَتَ فِي الْوِقَاعِ لِلِاسْتِوَاءِ فِي الرُّكْنِيَّةِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ هَيْئَةَ الصَّلَاةِ مُذَكِّرَةٌ فَلَا يَغْلِبُ النِّسْيَانُ وَلَا مُذَكِّرَ فِي الصَّوْمِ فَيَغْلِبُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يُفَضِّلْ وَلَوْ كَانَ مُخْطِئًا أَوْ مُكْرَهًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله، فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُهُ بِالنَّاسِي، وَلَنَا أَنَّهُ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَعُذْرُ النِّسْيَانِ
لَكِنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَكَيْفَ تَعَدَّى إلَى الْجِمَاعِ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ثَبَتَ فِي الْوِقَاعِ لِلِاسْتِوَاءِ فِي الرُّكْنِيَّةِ) يَعْنِي ثَبَتَ بِالدَّلَالَةِ لَا بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا نَظِيرٌ لِلْآخَرِ فِي كَوْنِ الْكَفِّ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا رُكْنًا فِي بَابِ الصَّوْمِ، وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الصَّلَاةِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ فَصَارَ كَالْكَلَامِ نَاسِيًا فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ).
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَ مُخْطِئًا) بِأَنْ كَانَ ذَاكِرًا لِلصَّوْمِ غَيْرَ قَاصِدٍ لِلشُّرْبِ فَتَمَضْمَضَ فَسَبَقَهُ الْمَاءُ فَدَخَلَ حَلْقَهُ (أَوْ مُكْرَهًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) عِنْدَنَا (خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُهُ بِالنَّاسِي) فَإِنَّ النَّاسِيَ قَاصِدٌ الشُّرْبَ دُونَ الْخَاطِئِ، فَإِذَا كَانَ فِعْلُ الْقَاصِدِ مَعْفُوًّا فَفِعْلُ غَيْرِ الْقَاصِدِ أَوْلَى (وَلَنَا أَنَّهُ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ) أَيْ الِاعْتِبَارُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَكَذَا الْإِلْحَاقُ
غَالِبٌ وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ مِنْ قِبَلِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ وَالْإِكْرَاهَ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ فَيَفْتَرِقَانِ كَالْمُقَيَّدِ وَالْمَرِيضِ فِي قَضَاءِ الصَّلَاةِ.
قَالَ (فَإِنْ نَامَ فَاحْتَلَمَ لَمْ يُفْطِرْ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصِّيَامَ الْقَيْءُ وَالْحِجَامَةُ وَالِاحْتِلَامُ» ، وَلِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ صُورَةُ الْجِمَاعِ وَلَا مَعْنَاهُ وَهُوَ الْإِنْزَالُ عَنْ شَهْوَةٍ بِالْمُبَاشَرَةِ (وَكَذَا إذَا نَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ فَأَمْنَى) لِمَا بَيَّنَّا فَصَارَ كَالْمُتَفَكِّرِ إذَا أَمْنَى
بِالدَّلَالَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى النِّسْيَانِ، فَإِنَّ النِّسْيَانَ غَالِبُ الْوُجُودِ، وَالْخَطَأُ وَالْإِكْرَاهُ لَيْسَا كَذَلِكَ (وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْحَقِّ) بِخِلَافِ غَيْرِهِ، (فَيَفْتَرِقَانِ كَالْمُقَيَّدِ وَالْمَرِيضِ فِي قَضَاءِ الصَّلَاةِ) فَإِنَّ الْمُقَيَّدَ إذَا صَلَّى قَاعِدًا بِعُذْرِ الْقَيْدِ قَضَى بِخِلَافِ الْمَرِيضِ
(فَإِنْ نَامَ فَاحْتَلَمَ لَمْ يُفْطِرْ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصِّيَامُ: الْقَيْءُ، وَالْحِجَامَةُ، وَالِاحْتِلَامُ» وَلِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ صُورَةُ الْجِمَاعِ وَلَا مَعْنَاهُ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِعَدَمِ إيلَاجِ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِعَدَمِ الْإِنْزَالِ عَنْ شَهْوَةٍ بِالْمُبَاشَرَةِ، أَعْنِي بِمَسِّ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ (وَكَذَا إذَا نَظَرَ إلَى) وَجْهِ (امْرَأَةٍ) أَوْ فَرْجِهَا (فَأَمْنَى) أَيْ أَنْزَلَ الْمَنِيَّ لَا يُفْطِرُ (لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْجِمَاعُ صُورَةً وَلَا مَعْنًى (فَصَارَ كَالْمُتَفَكِّرِ) فِي امْرَأَةٍ
وَكَالْمُسْتَمْنِي بِالْكَفِّ عَلَى مَا قَالُوا (وَلَوْ ادَّهَنَ لَمْ يُفْطِرْ) لِعَدَمِ الْمُنَافِي (وَكَذَا إذَا احْتَجَمَ) لِهَذَا وَلِمَا رَوَيْنَا (وَلَوْ اكْتَحَلَ لَمْ يُفْطِرْ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدِّمَاغِ مَنْفَذٌ وَالدَّمْعُ يَتَرَشَّحُ كَالْعَرَقِ وَالدَّاخِلُ مِنْ الْمَسَامِّ لَا يُنَافِي
حَسْنَاءَ إذَا أَمْنَى (وَكَالْمُسْتَمْنِي بِالْكَفِّ) يَعْنِي إذَا عَالَجَ ذَكَرَهُ بِكَفِّهِ حَتَّى أَمْنَى لَمْ يُفْطِرْ (عَلَى مَا قَالُوا) أَيْ الْمَشَايِخُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْكَافِ، وَأَبِي الْقَاسِمِ لِعَدَمِ الْجِمَاعِ صُورَةً وَمَعْنًى. وَعَامَّتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَفْسُدُ صَوْمُهُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ: الصَّائِمُ إذَا عَالَجَ ذَكَرَهُ بِيَدِهِ حَتَّى أَمْنَى يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ هُوَ الْمُخْتَارُ لِأَنَّهُ وُجِدَ الْجِمَاعُ مَعْنًى.
قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مَعْنَى الْجِمَاعِ يَعْتَمِدُ الْمُبَاشَرَةَ عَلَى مَا قُلْنَا وَلَمْ يُوجَدْ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ وُجِدَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْجِمَاعِ وَهُوَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ، وَهَلْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إنْ أَرَادَ الشَّهْوَةَ؟ لَا يَحِلُّ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «نَاكِحُ الْيَدِ مَلْعُونٌ وَإِنْ أَرَادَ تَسْكِينَ مَا بِهِ مِنْ الشَّهْوَةِ أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ وَبَالٌ» (وَلَوْ ادَّهَنَ أَوْ احْتَجَمَ لَمْ يُفْطِرْ لِعَدَمِ الْمُنَافِي) وَقَوْلُهُ (لِمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي بِهِ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ» الْحَدِيثَ (وَلَوْ اكْتَحَلَ لَمْ يُفْطِرْ) وَإِنْ وَجَدَ طَعْمَهُ فِي حَلْقِهِ (لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدِّمَاغِ مَنْفَذٌ) فَمَا وَجَدَ فِي حَلْقِهِ مِنْ طَعْمِهِ إنَّمَا هُوَ أَثَرُهُ لَا عَيْنُهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مَنْفَذٌ لَمَا خَرَجَ الدَّمْعُ. أَجَابَ بِأَنَّ الدَّمْعَ يَرْتَشِحُ كَالْعَرَقِ: يَعْنِي أَنَّهُ دَاخِلٌ مِنْ
كَمَا لَوْ اغْتَسَلَ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ (وَلَوْ قَبَّلَ لَا يَفْسُدُ صَوْمٌ) يُرِيدُ بِهِ إذَا لَمْ يُنْزِلْ لِعَدَمِ الْمُنَافِي صُورَةً وَمَعْنًى بِخِلَافِ الرَّجْعَةِ وَالْمُصَاهَرَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ هُنَاكَ أُدِيرَ عَلَى السَّبَبِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. (وَإِنْ أَنْزَلَ بِقُبْلَةٍ أَوْ لَمْسٍ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ) لِوُجُودِ مَعْنَى الْجِمَاعِ وَوُجُودِ الْمُنَافِي صُورَةً أَوْ مَعْنًى يَكْفِي لِإِيجَابِ الْقَضَاءِ احْتِيَاطًا، أَمَّا الْكَفَّارَةُ فَتَفْتَقِرُ إلَى كَمَالِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ (وَلَا بَأْسَ بِالْقُبْلَةِ إذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ) أَيْ الْجِمَاعَ أَوْ الْإِنْزَالَ (وَيُكْرَهُ إذَا لَمْ يَأْمَنْ) لِأَنَّ عَيْنَهُ لَيْسَ بِمُفْطِرٍ وَرُبَّمَا يَصِيرُ فِطْرًا بِعَاقِبَتِهِ فَإِنْ أَمِنَ يُعْتَبَرُ عَيْنُهُ وَأُبِيحَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْمَنْ تُعْتَبَرُ عَاقِبَتُهُ وَكُرِهَ لَهُ، وَالشَّافِعِيُّ أَطْلَقَ فِيهِ فِي الْحَالَيْنِ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا
الْمَسَامِّ وَالدَّاخِلُ مِنْهَا لَا يُنَافِي (كَمَا إذَا اغْتَسَلَ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ) فَوَجَدَ بُرُودَةَ الْمَاءِ فِي كَبِدِهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَهُوَ بَاطِلٌ. وَذَلِكَ لِمَا رَوَى مَعْبَدُ بْنُ هَوْذَةَ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ الْمُرَوَّحِ وَقْتَ النَّوْمِ وَلِيَتَّقِهِ الصَّائِمُ» . أُجِيبَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَدَبَ إلَى صَوْمِ عَاشُورَاءَ وَالِاكْتِحَالِ فِيهِ.
وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى الِاكْتِحَالِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَهُوَ رَاجِحٌ عَلَى الْأَوَّلِ (وَلَوْ قَبَّلَ وَلَمْ يُنْزِلْ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ لِعَدَمِ الْمُنَافِي صُورَةً وَمَعْنًى) عَلَى مَا ذَكَرْنَا (بِخِلَافِ الرَّجْعَةِ وَالْمُصَاهَرَةِ) فَإِنَّهُمَا يَثْبُتَانِ بِالْقُبْلَةِ بِالشَّهْوَةِ وَكَذَا بِالْمَسِّ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ (لِأَنَّ حُكْمَهُمَا أُدِيرَ عَلَى السَّبَبِ) يَثْبُتُ بِسَبَبِ الْجِمَاعِ، كَمَا يَثْبُتُ بِهِ، وَلِهَذَا يَتَعَلَّقُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ لِأَنَّ مَبْنَاهُمَا عَلَى الِاحْتِيَاطِ، أَمَّا فَسَادُ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْجَمِيعِ إمَّا صُورَةً أَوْ مَعْنًى لَا بِسَبَبِهِ حَتَّى لَمْ يَفْسُدْ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ يُوجَدْ الْجِمَاعُ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى فَلَمْ يَفْسُدْ الصَّوْمُ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ) أَيْ فِي بَابِ الرَّجْعَةِ (وَإِنْ أَنْزَلَ بِقُبْلَةٍ أَوْ لَمْسٍ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْجِمَاعِ) وَهُوَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ بِالْمُبَاشَرَةِ (وَوُجُودُ الْمُنَافِي صُورَةً أَوْ مَعْنًى يَكْفِي لِإِيجَابِ الْقَضَاءِ احْتِيَاطًا أَمَّا الْكَفَّارَةُ فَتَفْتَقِرُ إلَى كَمَالِ الْجَنَابَةِ لِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ) وَهَذَا لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ أَعْلَى عُقُوبَاتِ الْمُفْطِرِ لِإِفْطَارِهِ فَلَا يُعَاقَبُ بِهَا إلَّا بَعْدَ بُلُوغِ الْجِنَايَةِ نِهَايَتَهَا وَلَمْ تَبْلُغْ نِهَايَتَهَا لِأَنَّ هَهُنَا جَنَابَةٌ مِنْ جِنْسِهَا أَبْلَغُ مِنْهَا، وَهِيَ الْجِمَاعُ صُورَةً وَمَعْنًى.
وَقَوْلُهُ (وَلَا بَأْسَ بِالْقُبْلَةِ إذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ) اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي مَرْجِعِ هَذَا الضَّمِيرِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِهِ الْأَمْنَ عَنْ الْوُقُوعِ فِي الْجِمَاعِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِهِ الْأَمْنَ مِنْ خُرُوجِ الْمَنِيِّ. وَقَوْلُهُ (وَيُكْرَهُ إذَا لَمْ يَأْمَنْ) وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (وَالشَّافِعِيُّ أَطْلَقَ فِيهِ فِي الْحَالَيْنِ) أَيْ فِي جَوَازِ الْقُبْلَةِ فِي حَالِ أَمْنِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَدَمِهِ (وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّ
وَالْمُبَاشَرَةُ الْفَاحِشَةُ مِثْلُ التَّقْبِيلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَرِهَ الْمُبَاشَرَةَ الْفَاحِشَةَ لِأَنَّهَا قَلَّمَا تَخْلُو عَنْ الْفِتْنَةِ.
(وَلَوْ دَخَلَ حَلْقَهُ ذُبَابٌ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِصَوْمِهِ لَمْ يُفْطِرْ) وَفِي الْقِيَاسِ يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِوُصُولِ الْمُفْطِرِ إلَى جَوْفِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَغَذَّى بِهِ كَالتُّرَابِ وَالْحَصَاةِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَأَشْبَهَ الْغُبَارَ وَالدُّخَانَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَطَرِ وَالثَّلْجِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَفْسُدُ لِإِمْكَانِ الِامْتِنَاعِ عَنْهُ إذَا آوَاهُ خَيْمَةٌ أَوْ سَقْفٌ (وَلَوْ أَكَلَ لَحْمًا بَيْنَ أَسْنَانِهِ فَإِنْ كَانَ قَلِيلًا لَمْ يُفْطِرْ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يُفْطِرُ) وَقَالَ زُفَرُ: يُفْطِرُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الْفَمَ
عَيْنَهُ لَيْسَ بِمُفْطِرٍ إلَخْ (وَالْمُبَاشَرَةُ الْفَاحِشَةُ) وَهِيَ أَنْ يُعَانِقَهَا مُتَجَرِّدَيْنِ وَيَمَسَّ ظَاهِرَ فَرْجِهِ ظَاهِرَ فَرْجِهَا (مِثْلُ التَّقْبِيلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) يُكْرَهُ إذَا لَمْ يَأْمَنْ وَلَا يُكْرَهُ إذَا أَمِنَ (وَعَنْ مُحَمَّدٍ) وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ (أَنَّهُ كَرِهَ الْمُبَاشَرَةَ الْفَاحِشَةَ) لِلصَّائِمِ (لِأَنَّهَا قَلَّمَا تَخْلُو عَنْ الْفِتْنَةِ).
وَقَوْلُهُ (وَاخْتَلَفُوا) يَعْنِي الْمَشَايِخَ (فِي الْمَطَرِ وَالثَّلْجِ) فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَطَرُ يُفْسِدُ وَالثَّلْجُ لَا يُفْسِدُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَى الْعَكْسِ، وَقَالَ عَامَّتُهُمْ بِإِفْسَادِهِمَا وَهُوَ الصَّحِيحُ لِحُصُولِ الْمُفْطِرِ مَعْنًى وَ (لِإِمْكَانِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ إذَا آوَاهُ خَيْمَةٌ أَوْ سَقْفٌ، وَلَوْ أَكَلَ لَحْمًا بَيْنَ أَسْنَانِهِ فَإِنْ كَانَ قَلِيلًا لَمْ يُفْطِرْ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يُفْطِرُ وَقَالَ زُفَرُ: يُفْطِرُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الْفَمَ
لَهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ حَتَّى لَا يَفْسُدَ صَوْمُهُ بِالْمَضْمَضَةِ. وَلَنَا أَنَّ الْقَلِيلَ تَابِعٌ لِأَسْنَانِهِ بِمَنْزِلَةِ رِيقِهِ بِخِلَافِ الْكَثِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى فِيمَا بَيْنَ الْأَسْنَانِ، وَالْفَاصِلُ مِقْدَارُ الْحِمَّصَةِ وَمَا دُونَهَا قَلِيلٌ (وَإِنْ أَخْرَجَهُ وَأَخَذَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ أَكَلَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَفْسُدَ صَوْمُهُ) لِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّ الصَّائِمَ إذَا ابْتَلَعَ سِمْسِمَةً بَيْنَ أَسْنَانِهِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ وَلَوْ أَكَلَهَا ابْتِدَاءً يَفْسُدُ صَوْمُهُ وَلَوْ مَضَغَهَا لَا يَفْسُدُ لِأَنَّهَا تَتَلَاشَى وَفِي مِقْدَارِ الْحِمَّصَةِ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ زُفَرَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا لِأَنَّهُ طَعَامٌ مُتَغَيِّرٌ، وَلِأَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ يَعَافُهُ الطَّبْعُ.
(فَإِنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ لَمْ يُفْطِرْ)
لَهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ حَتَّى لَا يَفْسُدَ صَوْمُهُ بِالْمَضْمَضَةِ) وَلَوْ أَكَلَ الْقَلِيلَ مِنْ خَارِجٍ أَفْطَرَ عَلَى مَا يُذْكَرُ فَكَذَا إذَا أَكَلَ مِنْ فَمِهِ (وَلَنَا أَنَّ الْقَلِيلَ تَابِعٌ لِأَسْنَانِهِ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَكَانَ (بِمَنْزِلَةِ رِيقِهِ) وَلَوْ ابْتَلَعَ رِيقَهُ لَمْ يَفْسُدْ (بِخِلَافِ الْكَثِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى بَيْنَ الْأَسْنَانِ) فَكَانَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ مُمْكِنًا (وَالْفَاصِلُ) إنْ كَانَ (مِقْدَارَ الْحِمَّصَةِ) فَهُوَ كَثِيرٌ (وَمَا دُونَهَا قَلِيلٌ) بِخِلَافِ قَدْرِ الدِّرْهَمِ فِي بَابِ النَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْقَلِيلِ لِأَنَّهُ أُخِذَ مِنْ قَدْرِ مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ، وَذَلِكَ الْقَدْرُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ مَعْفُوٌّ بِالْإِجْمَاعِ، حَتَّى لَمْ يُفْتَرَضْ الِاسْتِنْجَاءُ وَاكْتُفِيَ فِي إقَامَةِ سُنَّةِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرِ وَالْمَدَرِ، وَهُوَ لَا يُقْلِعُ النَّجَاسَةَ فَصَارَ قَدْرُ الدِّرْهَمِ مَعْفُوًّا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ أَيْضًا قِيَاسًا عَلَيْهِ، وَأَمَّا هَهُنَا فَقَدْرُ الْحِمَّصَةِ لَا يَبْقَى فِي فُرَجِ الْأَسْنَانِ غَالِبًا فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِالرِّيقِ فَصَارَ كَثِيرًا. وَقَوْلُهُ (وَإِنْ أَخْرَجَهُ وَأَخَذَهُ بِيَدِهِ) ظَاهِرٌ، وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ طَعَامٌ مُتَغَيِّرٌ) فَصَارَ كَاللَّحْمِ الْمُنْتِنِ (وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَعَافُهُ الطَّبْعُ) أَيْ يَكْرَهُهُ فَصَارَ مِنْ جِنْسِ مَا لَا
لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ قَاءَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَمَنْ اسْتَقَاءَ عَامِدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ» وَيَسْتَوِي فِيهِ مِلْءُ الْفَمِ فَمَا دُونَهُ فَلَوْ عَادَ وَكَانَ مِلْءَ الْفَمِ فَسَدَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله لِأَنَّهُ خَارِجٌ حَتَّى انْتَقَضَ بِهِ الطَّهَارَةُ وَقَدْ دَخَلَ
يُتَغَذَّى بِهِ كَالتُّرَابِ.
قَالَ (فَإِنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ) ذَرَعَهُ الْقَيْءُ سَبَقَ إلَى فِيهِ وَغَلَبَهُ فَخَرَجَ وَهُوَ لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ (لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ قَاءَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَمَنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ» الْحَدِيثَ) وَقَاءَ وَاسْتَقَاءَ مَمْدُودَانِ، يُقَالُ: قَاءَ مَا أَكَلَ: إذَا أَلْقَاهُ، وَاسْتَقَاءَ وَتَقَيَّأَ تَكَلَّفَ فِي ذَلِكَ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ إلَّا فِي مَوَاضِعَ نُنَبِّهُ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ (وَيَسْتَوِي فِيهِ) أَيْ فِي الْقَيْءِ الَّذِي ذَرَعَهُ. وَقَوْلُهُ (فَلَوْ عَادَ) يَعْنِي مَا ذَرَعَهُ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَفْسُدُ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ صُورَةُ الْفِطْرِ وَهُوَ الِابْتِلَاعُ وَكَذَا مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَذَّى بِهِ عَادَةً، إنْ أَعَادَهُ فَسَدَ بِالْإِجْمَاعِ لِوُجُودِ الْإِدْخَالِ بَعْدَ الْخُرُوجِ فَتَتَحَقَّقُ صُورَةُ الْفِطْرِ. وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ فَعَادَ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ خَارِجٍ وَلَا صُنْعَ لَهُ فِي الْإِدْخَالِ، وَإِنْ أَعَادَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله يَفْسُدُ صَوْمُهُ لِوُجُودِ الصُّنْعِ مِنْهُ فِي الْإِدْخَالِ (فَإِنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا مِلْءَ فِيهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) لِمَا رَوَيْنَا وَالْقِيَاسُ مَتْرُوكٌ بِهِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الصُّورَةِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رحمه الله لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله لَا يَفْسُدُ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ حُكْمًا ثُمَّ إنْ عَادَ لَمْ يَفْسُدْ عِنْدَهُ لِعَدَمِ سَبْقِ الْخُرُوجِ، وَإِنْ أَعَادَهُ فَعَنْهُ: أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ لِمَا ذَكَرْنَا،
وَقَوْلُهُ (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَفْسُدُ) قِيلَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ كَمَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْ خُرُوجِهِ لَا يُمْكِنُ عَنْ عَوْدِهِ فَجُعِلَ عَفْوًا. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ غَيْرُ خَارِجٍ) تَعْلِيلُ أَبِي يُوسُفَ وَقَوْلُهُ (وَلَا صُنْعَ لَهُ فِي الْإِدْخَالِ) تَعْلِيلُ مُحَمَّدٍ. وَقَوْلُهُ (فَإِنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا) يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَقَاءَ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ كَمَا لَوْ أَكَلَ نَاسِيًا. وَقَوْلُهُ (لِمَا رَوَيْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَمَنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ» . وَقَوْلُهُ (فَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَقَوْلُهُ (لِمَا ذَكَرْنَا) يُرِيدُ بِهِ عَدَمَ الْخُرُوجِ
وَعَنْهُ: أَنَّهُ يَفْسُدُ فَأَلْحَقَهُ بِمِلْءِ الْفَمِ لِكَثْرَةِ الصُّنْعِ.
قَالَ: (وَمَنْ ابْتَلَعَ الْحَصَاةَ أَوْ الْحَدِيدَ أَفْطَرَ) لِوُجُودِ صُورَةِ الْفِطْرِ (وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) لِعَدَمِ الْمَعْنَى.
(وَمَنْ جَامَعَ فِي أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ عَامِدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) اسْتِدْرَاكًا لِلْمَصْلَحَةِ الْفَائِتَةِ (وَالْكَفَّارَةُ) لِتَكَامُلِ الْجِنَايَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِنْزَالُ فِي الْمَحَلَّيْنِ
وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَقَوْلُهُ (لِكَثْرَةِ الصُّنْعِ) وَهُوَ صُنْعُ الِاسْتِقَاءِ وَصُنْعُ الْإِعَادَةِ
(وَمَنْ ابْتَلَعَ الْحَصَاةَ أَوْ الْحَدِيدَ أَفْطَرَ لِوُجُودِ صُورَةِ الْفِطْرِ) بِإِيصَالِ الشَّيْءِ إلَى بَاطِنِهِ (وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْمَعْنَى) أَيْ مَعْنَى الْفِطْرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ أَقْصَى عُقُوبَةٍ فِي الْإِفْطَارِ فَيَحْتَاجُ إلَى كَمَالِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ فِي نُقْصَانِهَا شُبْهَةَ الْعَدَمِ وَهِيَ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَقَالَ مَالِكٌ: تَجِبُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُفْطِرٌ غَيْرُ مَعْذُورٍ وَكُلُّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ تَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَهُ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ جَامَعَ عَمْدًا)
اعْتِبَارًا بِالِاغْتِسَالِ، وَهَذَا لِأَنَّ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ يَتَحَقَّقُ دُونَهُ وَإِنَّمَا ذَلِكَ شِبَعٌ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: أَنَّهُ لَا تَجِبُ
ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (اعْتِبَارًا بِالِاغْتِسَالِ) يَعْنِي أَنَّهُ إذَا أَدْخَلَ وَلَمْ يُنْزِلْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ فَكَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ. فَإِنْ قِيلَ: الْكَفَّارَةُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَانْتِفَاءُ مَعْنَى الْجِمَاعِ وَهُوَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ يُورِثُ الشُّبْهَةَ، وَالِاغْتِسَالُ يَجِبُ بِالِاحْتِيَاطِ. فَقِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ لَا يَكُونُ صَحِيحًا. فَالْجَوَابُ: أَنَّا نَمْنَعُ انْتِفَاءَ مَعْنَى الْجِمَاعِ لِأَنَّ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ يَتَحَقَّقُ دُونَ الْإِنْزَالِ، وَالْإِنْزَالُ شِبَعٌ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَكَلَ لُقْمَةً وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الشِّبَعُ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ (وَهَذَا لِأَنَّ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ يَتَحَقَّقُ دُونَهُ) وَلَوْ جَامَعَ فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ
الْكَفَّارَةُ بِالْجِمَاعِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ اعْتِبَارًا بِالْحَدِّ عِنْدَهُ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا تَجِبُ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مُتَكَامِلَةٌ لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ (وَلَوْ جَامَعَ مَيْتَةً أَوْ بَهِيمَةً فَلَا كَفَّارَةَ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَكَامُلُهَا بِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ فِي مَحَلٍّ مُشْتَهًى وَلَمْ يُوجَدْ، ثُمَّ عِنْدَنَا كَمَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْوِقَاعِ عَلَى الرَّجُلِ تَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي قَوْلٍ: لَا تَجِبُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْجِمَاعِ وَهُوَ فِعْلُهُ وَإِنَّمَا هِيَ مَحَلُّ الْفِعْلِ، وَفِي قَوْلٍ: تَجِبُ، وَيَتَحَمَّلُ الرَّجُلُ عَنْهَا اعْتِبَارًا بِمَاءِ الِاغْتِسَالِ. وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ» وَكَلِمَةُ مَنْ تَنْتَظِمُ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ جِنَايَةُ الْإِفْسَادِ لَا نَفْسُ الْوِقَاعِ وَقَدْ شَارَكْته فِيهَا وَلَا يَتَحَمَّلُ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ أَوْ عُقُوبَةٌ، وَلَا يَجْرِي فِيهَا التَّحَمُّلُ.
(وَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مَا يَتَغَذَّى بِهِ أَوْ يَتَدَاوَى بِهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ)
فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ رِوَايَتَانِ، فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ (اعْتِبَارًا بِالْحَدِّ عِنْدَهُ) فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ هَذَا الْفِعْلَ جِنَايَةً كَامِلَةً فِي إيجَابِ الْعُقُوبَةِ الَّتِي تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَهَذِهِ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحَدِّ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِمَا الْكَفَّارَةَ وَهُوَ الْأَصَحُّ (لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ مُتَكَامِلَةٌ لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ) إنَّمَا يَدَّعِي أَبُو حَنِيفَةَ النُّقْصَانَ فِي مَعْنَى الزِّنَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ إفْسَادُ الْفِرَاشِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ مَا هُوَ عُقُوبَةٌ كَامِلَةٌ انْتِفَاءُ مَا فِيهِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ، (وَلَوْ جَامَعَ مَيِّتَةً أَوْ بَهِيمَةً فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ) فَإِنْ أَنْزَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِأَنَّهُ فَاتَ صُورَةُ الْكَفِّ فَصَارَ كَالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ السَّبَبَ لِلْكَفَّارَةِ عِنْدَهُ الْجِمَاعُ الْمُعْدِمُ لِلصُّورَةِ، وَقَدْ وُجِدَ. وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَعْتَمِدُ الْجِنَايَةَ الْكَامِلَةَ (وَتَكَامُلُهَا بِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ فِي مَحَلٍّ مُشْتَهًى وَلَمْ يُوجَدْ) أَلَا تَرَى أَنَّ الطِّبَاعَ السَّلِيمَةَ تَنْفِرُ عَنْهَا، فَإِنْ حَصَلَ بِهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ فَذَلِكَ لِغَلَبَةِ الشَّبَقِ أَوْ لِفَرْطِ السَّفَهِ فَهُوَ كَمَنْ يَتَكَلَّفُ لِقَضَاءِ شَهْوَتِهِ بِيَدِهِ لَا تَتِمُّ جِنَايَتُهُ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ فَكَذَا هَذَا. وَقَوْلُهُ (اعْتِبَارًا بِمَاءِ الِاغْتِسَالِ) وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ مُؤْنَةٌ أَوْقَعَهَا الزَّوْجُ فِيهَا فَيَتَحَمَّلُهَا عَنْهَا كَثَمَنِ مَاءِ الِاغْتِسَالِ. (وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ» وَكَلِمَةُ مَنْ تَنْتَظِمُ الْإِنَاثَ كَالذُّكُورِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ} (وَلِأَنَّ سَبَبَ الْكَفَّارَةِ جِنَايَةُ إفْسَادِ الصَّوْمِ لَا نَفْسُ الْوِقَاعِ) لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ (وَقَدْ شَارَكَتْهُ فِي ذَلِكَ) فَوَجَبَتْ عَلَيْهَا كَمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَهَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ. وَقَوْلُهُ (وَلَا يَتَحَمَّلُ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ أَوْ عُقُوبَةٌ وَلَا يَجْرِي فِيهِمَا التَّحَمُّلُ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ الثَّانِي
(وَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مَا يُتَغَذَّى بِهِ أَوْ يُتَدَاوَى بِهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ)
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ فِي الْوِقَاعِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِارْتِفَاعِ الذَّنْبِ بِالتَّوْبَةِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَعَلَّقَتْ بِجِنَايَةِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ،
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ فِي الْوِقَاعِ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِارْتِفَاعِ الذَّنْبِ بِالتَّوْبَةِ) بَيَانُهُ أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَائِبًا نَادِمًا وَالتَّوْبَةُ رَافِعَةٌ لِلذَّنْبِ بِالنَّصِّ، وَمَعَ ذَلِكَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْكَفَّارَةَ، فَعُلِمَ أَنَّهَا ثَبَتَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ (وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَعَلَّقَتْ بِجِنَايَةِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ) وَهُوَ الْإِفْطَارُ صُورَةً بِإِيصَالِ شَيْءٍ إلَى جَوْفٍ، وَمَعْنًى بِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ. لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ» وَلَمْ يُبَيِّنْ السَّبَبَ الْمُفْطِرَ، وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْطَرْت فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ وَلَا سَفَرٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً» وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَمَّا أَفْطَرَ بِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ بِالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ لِاخْتِلَافِ حُكْمِ الْحَالِ (وَ) الْجِنَايَةُ بِالْإِفْطَارِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ (قَدْ تَحَقَّقَتْ). فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمْ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ انْحِصَارِ الْكَفَّارَةِ فِي الْوِقَاعِ وَمُدَّعَاكُمْ الْجِنَايَةَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فَلَا مُطَابَقَةَ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ هُوَ ذَلِكَ، وَأَمَّا وُجُوبُ الْجِنَايَةِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فَثَابِتٌ بِمُسَاعَدَةِ الْخَصْمِ لَكِنَّهُ يَقُولُ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ وَنَحْنُ نَنْفِيهِ. وَعُورِضَ بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ بِنَفْسِ الْوِقَاعِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا أَلْزَمَ الْكَفَّارَةَ إلَّا فِي مُقَابَلَةِ مَا سُئِلَ عَنْهُ مِنْ الْوِقَاعِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ تَعَلُّقَهَا بِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ وِقَاعٌ أَوْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ وِقَاعٌ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ فِي الْأَصْلِ بِجِنَايَةٍ
وَبِإِيجَابِ الْإِعْتَاقِ تَكْفِيرًا عُرِفَ أَنَّ التَّوْبَةَ غَيْرُ مُكَفِّرَةٍ لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ.
ثُمَّ قَالَ (وَالْكَفَّارَةُ مِثْلُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِحَدِيثِ «الْأَعْرَابِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ. فَقَالَ: مَاذَا صَنَعْتَ. قَالَ: وَاقَعْتُ امْرَأَتِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَعْتِقْ رَقَبَةً. فَقَالَ: لَا أَمْلِكُ إلَّا رَقَبَتِي هَذِهِ، فَقَالَ: صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. فَقَالَ: وَهَلْ جَاءَنِي مَا جَاءَنِي إلَّا مِنْ الصَّوْمِ فَقَالَ: أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا. فَقَالَ: لَا أَجِدُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُؤْتَى بِفَرْقٍ مِنْ تَمْرٍ. وَيُرْوَى بِعَرَقٍ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، وَقَالَ: فَرِّقْهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ أَحْوَجُ مِنِّي وَمِنْ عِيَالِي، فَقَالَ: كُلْ أَنْتَ وَعِيَالُكَ، يَجْزِيكَ وَلَا يَجْزِي أَحَدًا بَعْدَكَ»، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ يُخَيَّرُ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ التَّرْتِيبُ وَعَلَى مَالِكٍ فِي نَفْيِ التَّتَابُعِ لِلنَّصِّ عَلَيْهِ.
فَلَا يَسْتَلْزِمُهَا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ مُسَلَّمٌ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ بِالْإِفْطَارِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ بِجِهَةٍ خَاصَّةٍ، وَإِذَا كَانَ غَيْرُهُ فِي مَعْنَاهُ أُلْحِقَ بِهِ دَلَالَةً لَا قِيَاسًا، وَتَمَامُ تَقْرِيرِهِ مَذْكُورٌ فِي التَّقْرِيرِ. وَقَوْلُهُ (وَبِإِيجَابِ الْإِعْتَاقِ تَكْفِيرًا) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ لِارْتِفَاعِ الذَّنْبِ بِالتَّوْبَةِ. وَتَقْرِيرُهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ تَرْتَفِعُ بِالتَّوْبَةِ فَإِنَّ الشَّرْعَ لَمَّا أَوْجَبَ الْإِعْتَاقَ كَفَّارَةً لِهَذِهِ الْجِنَايَةِ عُلِمَ أَنَّهَا غَيْرُ مُكَفِّرَةٍ لَهَا كَجِنَايَةِ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا، حَيْثُ لَا يَرْتَفِعَانِ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ بَلْ بِالْحَدِّ.
وَقَوْلُهُ (وَالْكَفَّارَةُ مِثْلُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ لِمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ (وَلِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ) وَهُوَ مَشْهُورٌ ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (بِفَرْقٍ) قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ.
وَقَوْلُهُ (وَهُوَ) أَيْ حَدِيثٌ (حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ: يُخَيَّرُ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ التَّرْتِيبُ) وَهُوَ ظَاهِرٌ (وَعَلَى مَالِكٍ فِي نَفْيِ التَّتَابُعِ لِلنَّصِّ عَلَيْهِ) بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ» قَالَ فِي النِّهَايَةِ: مَا مَعْنَاهُ أَنَّ نِسْبَةَ التَّخْيِيرِ إلَى الشَّافِعِيِّ، وَنَفْيَ التَّتَابُعِ إلَى مَالِكٍ سَهْوٌ، بَلْ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ بِالتَّرْتِيبِ كَمَا نَقُولُ: دَلَّ عَلَى ذَلِكَ كُتُبُهُمْ وَكُتُبُ أَصْحَابِنَا، وَالْقَائِلُ بِعَدَمِ التَّتَابُعِ هُوَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْقَائِلُ بِالتَّخْيِيرِ. احْتَجَّ بِحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنِّي أَفْطَرْت فِي رَمَضَانَ فَقَالَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً أَوْ صُمْ شَهْرَيْنِ أَوْ أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا» وَقُلْنَا: حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ مَشْهُورٌ
(وَمَنْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) لِوُجُودِ الْجِمَاعِ مَعْنًى (وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) لِانْعِدَامِهِ صُورَةً
(وَلَيْسَ فِي إفْسَادِ صَوْمِ غَيْرِ رَمَضَانَ كَفَّارَةٌ) لِأَنَّ الْإِفْطَارَ فِي رَمَضَانَ أَبْلَغُ فِي الْجِنَايَةِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ.
(وَمَنْ احْتَقَنَ أَوْ اسْتَعَطَ أَوْ أَقْطَرَ فِي أُذُنِهِ أَفْطَرَ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ»
لَا يُعَارِضُهُ هَذَا الْحَدِيثُ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَيَانُ مَا بِهِ تَتَأَدَّى الْكَفَّارَةُ فِي الْجُمْلَةِ لَا التَّخْيِيرُ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُ بِنَفْيِ التَّتَابُعِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْقَضَاءِ. وَمَا رَوَيْنَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَاسِدٌ
. قَالَ (وَمَنْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ إلَخْ) أَرَادَ بِالْفَرْجِ الْقُبُلَ وَالدُّبُرَ فَكَانَ مَا دُونَهُ هُوَ التَّفْخِيذُ وَالتَّبْطِينُ وَالْجِمَاعُ فِيهِ جِمَاعٌ مَعْنًى فَأَوْجَبَ الْقَضَاءَ وَلَيْسَ بِهِ صُورَةً فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ
(وَلَيْسَ فِي إفْسَادِ صَوْمِ غَيْرِ رَمَضَانَ كَفَّارَةٌ) لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي إفْطَارِ صَوْمِهِ وَجَبَتْ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا قِيَاسَ، وَلَيْسَ غَيْرُهُ فِي مَعْنَاهُ (لِأَنَّ الْإِفْطَارَ فِي رَمَضَانَ أَبْلَغُ فِي الْجِنَايَةِ) لِكَوْنِهَا جِنَايَةً عَلَى الصَّوْمِ وَالشَّهْرِ جَمِيعًا وَغَيْرُهُ جِنَايَةٌ عَلَى الصَّوْمِ وَحْدَهُ لِأَنَّ الْوَقْتَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِذَلِكَ (فَلَا يُلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ) خِلَافُ الْكَفَّارَةِ فِي الْحَجِّ حَيْثُ يَسْتَوِي فِيهَا الْفَرْضُ وَالنَّفَلُ لِأَنَّ وُجُوبَهَا لِحُرْمَةِ الْعِبَادَةِ وَهُمَا فِيهَا سَوَاءٌ
(وَمَنْ احْتَقَنَ أَوْ اسْتَعَطَ) أَيْ اسْتَعْمَلَ الدَّوَاءَ بِالْحُقْنَةِ أَوْ السُّعُوطِ وَهُوَ الدَّوَاءُ الَّذِي يُصَبُّ فِي الْأَنْفِ وَهُمَا عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ (أَوْ أُقْطِرَ فِي أُذُنِهِ) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: كَذَا وَجَدْت بِخَطِّ شَيْخِي (أَفْطَرَ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ») وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَلِوُجُودِ مَعْنَى الْفِطْرِ، وَهُوَ وُصُولُ مَا فِيهِ صَلَاحُ الْبَدَنِ إلَى الْجَوْفِ (وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) لِانْعِدَامِهِ صُورَةً. (وَلَوْ أَقْطَرَ فِي أُذُنِهِ الْمَاءَ أَوْ دَخَّلَهُ لَا يَفْسُدُ صَوْمُهُ) لِانْعِدَامِ الْمَعْنَى وَالصُّورَةِ. بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَهُ الدُّهْنُ (وَلَوْ دَاوَى جَائِفَةً أَوْ آمَّةً بِدَوَاءٍ
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ دَاوَى جَائِفَةً أَوْ آمَّةً) الْجَائِفَةُ اسْمٌ لِجِرَاحَةٍ وَصَلَتْ إلَى الْجَوْفِ، وَالْآمَّةُ اسْمٌ لِجِرَاحَةٍ وَصَلَتْ إلَى الدِّمَاغِ
فَوَصَلَ إلَى جَوْفِهِ أَوْ دِمَاغِهِ أَفْطَرَ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَاَلَّذِي يَصِلُ هُوَ الرَّطْبُ، وَقَالَا: لَا يُفْطِرُ لِعَدَمِ التَّيَقُّنِ بِالْوُصُولِ لِانْضِمَامِ الْمَنْفَذِ مَرَّةً وَاتِّسَاعِهِ أُخْرَى، كَمَا فِي الْيَابِسِ مِنْ الدَّوَاءِ. وَلَهُ أَنَّ رُطُوبَةَ الدَّوَاءِ تَلَاقِي رُطُوبَةَ الْجِرَاحَةِ فَيَزْدَادُ مَيْلًا إلَى الْأَسْفَلِ فَيَصِلُ إلَى الْجَوْفِ، بِخِلَافِ الْيَابِسِ لِأَنَّهُ يُنَشِّفُ رُطُوبَةَ الْجِرَاحَةِ فَيَنْسَدُّ فَمُهَا
وَاَلَّذِي يَصِلُ هُوَ الرَّطْبُ) وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالرَّطْبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَرْقًا بَيْنَ الدَّوَاءِ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْوُصُولِ، حَتَّى إذَا عَلِمَ أَنَّ الدَّوَاءَ الْيَابِسَ وَصَلَ إلَى جَوْفِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الرَّطْبَ لَمْ يَصِلْ إلَى جَوْفِهِ لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ عِنْدَهُ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الرَّطْبَ وَالْيَابِسَ بِنَاءً عَلَى الْعَادَةِ، فَالْيَابِسُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْجِرَاحَةِ لِاسْتِمْسَاكِ رَأْسِهَا بِهِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْبَاطِنِ، وَالرَّطْبُ يَصِلُ إلَى الْبَاطِنِ عَادَةً فَلِهَذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا
(وَلَوْ أَقْطَرَ فِي إحْلِيلِهِ لَمْ يُفْطِرْ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُفْطِرُ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ: مُضْطَرِبٌ فِيهِ فَكَأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَوْفِ مَنْفَذًا، وَلِهَذَا يَخْرُجُ مِنْهُ الْبَوْلُ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْمَثَانَةَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ وَالْبَوْلُ يَتَرَشَّحُ مِنْهُ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الْفِقْهِ
(وَمَنْ ذَاقَ شَيْئًا بِفَمِهِ لَمْ يُفْطِرْ) لِعَدَمِ الْفِطْرِ صُورَةً وَمَعْنًى (وَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الصَّوْمِ عَلَى الْفَسَادِ.
(وَيُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْضُغَ لِصَبِيِّهَا الطَّعَامَ
وَلَوْ أُقْطِرَ فِي إحْلِيلِهِ لَمْ يُفْطِرْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُفْطِرُ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ) ذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْأَصْلِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ مَعَ أَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيُّ فِي الْأَصْلِ بَعْدَ مَا ذَكَرَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ: ثُمَّ إنَّ مُحَمَّدًا شَكَّ فِي ذَلِكَ، فَوَقَفَ، وَمَا ذَكَرَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ظَاهِرٌ. وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ مُحَمَّدٌ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي وُجُودِ الْمَنْفَذِ مِنْ الْإِحْلِيلِ إلَى الْجَوْفِ. وَتَكَلَّمُوا فِي الْإِفْطَارِ فِي أَقْبَالِ النِّسَاءِ. فَقِيلَ: هُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ. وَقِيلَ: يُشْبِهُ الْحُقْنَةَ فَيُفْسِدُ الصَّوْمَ بِلَا خِلَافٍ. قِيلَ: وَهُوَ الْأَصَحُّ.
قَوْلُهُ (وَمَنْ ذَاقَ شَيْئًا بِفَمِهِ) الذَّوْقُ بِالْفَمِ قُوَّةٌ مُثَبَّتَةٌ فِي الْعَصَبِ الْمَفْرُوشِ عَلَى جِرْمِ اللِّسَانِ وَإِدْرَاكُ الذَّوْقِ بِمُخَالَطَةِ الرُّطُوبَةِ اللُّعَابِيَّةِ الْمُنْبَعِثَةِ مِنْ الْآلَةِ الْمُسَمَّاةِ بِالْمُلَعِّبَةِ بِالْمَذُوقِ وَوُصُولِهِ إلَى الْعَصَبِ: وَلَيْسَ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَا يُوجِبُ الْفِطْرَ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى (وَيُكْرَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الصَّوْمِ عَلَى الْفَسَادِ) بِسَبِيلِ التَّسَبُّبِ
إذَا كَانَ لَهَا مِنْهُ بُدٌّ) لِمَا بَيَّنَّا (وَلَا بَأْسَ إذَا لَمْ تَجِدْ مِنْهُ بُدًّا) صِيَانَةً لِلْوَلَدِ. أَلَا تَرَى أَنَّ لَهَا أَنْ تُفْطِرَ إذَا خَافَتْ عَلَى وَلَدِهَا (وَمَضْغُ الْعَلْكِ لَا يُفَطِّرُ الصَّائِمَ) لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى جَوْفِهِ. وَقِيلَ: إذَا لَمْ يَكُنْ مُلْتَئِمًا يَفْسُدُ لِأَنَّهُ يَصِلُ إلَيْهِ بَعْضُ أَجْزَائِهِ. وَقِيلَ: إذَا كَانَ أَسْوَدَ يَفْسُدُ وَإِنْ كَانَ مُلْتَئِمًا لِأَنَّهُ يَفُتْ (إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الصَّوْمِ لِلْفَسَادِ، وَلِأَنَّهُ يُتَّهَمُ بِالْإِفْطَارِ وَلَا يُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ إذَا لَمْ تَكُنْ صَائِمَةً لِقِيَامِهِ مَقَامَ السِّوَاكِ فِي حَقِّهِنَّ، وَيُكْرَهُ لِلرِّجَالِ عَلَى مَا قِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ غَلَّةٍ، وَقِيلَ: لَا يُسْتَحَبُّ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ: بِالنِّسَاءِ.
(وَلَا بَأْسَ بِالْكُحْلِ وَدَهْنِ الشَّارِبِ) لِأَنَّهُ نَوْعُ
لِأَنَّ الْجَاذِبَةَ قَوِيَّةٌ إذَا كَانَ صَائِمًا فَلَا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ تَجْذِبَ شَيْئًا مِنْهُ إلَى الْبَاطِنِ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى التَّعْرِيضِ. وَقَوْلُهُ (وَمَضْغُ الْعِلْكِ لَا يُفَطِّرُ) أَطْلَقَ مُحَمَّدٌ فِي الْكِتَابِ. وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ وَاحِدٌ وَالتَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ ذَكَرَهُ الْمَشَايِخُ. وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ " وَمَضْغُ الْعِلْكِ لَا يُفَطِّرُ " وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ يُتَّهَمُ بِالْإِفْطَارِ) يَعْنِي. أَنَّ مَنْ رَآهُ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ يَأْكُلُ شَيْئًا فَيَتَّهِمُهُ، وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: إيَّاكَ وَمَا يَسْبِقُ إلَى الْقُلُوبِ إنْكَارُهُ. وَإِنْ كَانَ عِنْدَك اعْتِذَارُهُ. وَقَوْلُهُ (وَيُكْرَهُ) ظَاهِرٌ وَالْكَرَاهَةُ تَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الِاسْتِحْبَابِ، وَلَا يَنْعَكِسُ لِأَنَّ الْمُبَاحَاتِ لَا تُوصَفُ بِهِمَا.
قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِالْكَحْلِ وَدَهْنِ الشَّارِبِ إلَخْ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاءُ مِنْهُمَا مَفْتُوحًا فَيَكُونَانِ مَصْدَرَيْنِ مِنْ كَحَلَ عَيْنَهُ كَحْلًا، وَدَهَنَ رَأْسَهُ دَهْنًا: إذَا طَلَاهُ بِالدُّهْنِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُومًا وَيَكُونَ مَعْنَاهُ وَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِ الْكُحْلِ وَالدُّهْنِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ تَكْرِيرِ مَسْأَلَةِ الْكُحْلِ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَوْ اكْتَحَلَ لَمْ يُفْطِرْ. ثُمَّ قَالَ: بِالْكُحْلِ، ثُمَّ قَالَ وَلَا بَأْسَ بِالِاكْتِحَالِ. أُجِيبَ: بِأَنَّ الْأَوَّلَ وَضْعُ الْقُدُورِيِّ، وَالثَّانِيَ: وَضْعُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ. وَالثَّالِثَ: وَضْعُ
ارْتِفَاقٍ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الصَّوْمِ، وَقَدْ نَدَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى الِاكْتِحَالِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَإِلَى
الْفَتَاوَى وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فَائِدَةٌ، فَأَمَّا فَائِدَةُ الْأَوَّلِ فَمَا اُسْتُفِيدَ مِنْ عَدَمِ تَفْطِيرِ الِاكْتِحَالِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ مَكْرُوهًا، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا وَلَا يُفْطِرُ كَمَا إذَا ذَاقَ بِلِسَانِهِ شَيْئًا فَبِالثَّانِي نَفْيُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَدْ يَخْتَلِفُ
الصَّوْمِ فِيهِ، وَلَا بَأْسَ بِالِاكْتِحَالِ لِلرِّجَالِ إذَا قَصَدَ بِهِ التَّدَاوِي دُونَ الزِّينَةِ، وَيُسْتَحْسَنُ دَهْنُ الشَّارِبِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ الزِّينَةُ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْخِضَابِ، وَلَا يُفْعَلُ لِتَطْوِيلِ اللِّحْيَةِ إذَا كَانَتْ بِقَدْرِ الْمَسْنُونِ وَهُوَ الْقُبْضَةُ.
حُكْمُهُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَمَا فِي الْعِلْكِ، فَأَعْلَمَ بِالثَّالِثِ أَنَّهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ إذَا لَمْ يَكُنْ قَصْدُ الرَّجُلِ الزِّينَةَ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْخِضَابِ) يَعْنِي وَبِالْخِضَابِ جَاءَتْ السُّنَّةُ لَكِنْ لِحَاجَةٍ غَيْرِ الزِّينَةِ، وَالْقُبْضَةُ بِضَمِّ الْقَافِ وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ مِنْ طُولِهَا وَعَرْضِهَا» أَوْرَدَهُ أَبُو عِيسَى فِي جَامِعِهِ، وَقَالَ: مِنْ سَعَادَةِ الرَّجُلِ خِفَّةُ لِحْيَتِهِ. وَذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله فِي آثَارِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقْبِضُ
(وَلَا بَأْسَ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ لِلصَّائِمِ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «خَيْرُ خِلَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ» مِنْ خَيْرِ فَصْلٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُكْرَهُ بِالْعَشِيِّ لِمَا فِيهِ مِنْ إزَالَةِ الْأَثَرِ الْمَحْمُودِ، وَهُوَ الْخُلُوفُ فَشَابَهُ دَمَ الشَّهِيدِ.
عَلَى لِحْيَتِهِ وَيَقْطَعُ مَا وَرَاءَ الْقَبْضَةِ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رحمهم الله.
وَقَوْلُهُ (وَلَا بَأْسَ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلصَّائِمِ يَسْتَاكُ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ رُطُوبَتَهُ بِالْمَاءِ أَوْ بِالرُّطُوبَةِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي تَكُونُ لِلْأَشْجَارِ، وَلَا ذَكَرَ أَنَّهُ بَلَّهُ بِرِيقِهِ أَوْ بِالْمَاءِ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَا بَأْسَ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ بِالْمَاءِ لِلصَّائِمِ فِي الْفَرِيضَةِ فَكَانَ تَفْسِيرًا لِمَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَيَدُلُّ عَلَى الرَّطْبِ بِالرُّطُوبَةِ الْأَصْلِيَّةِ بِالْإِلْحَاقِ، وَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّطْبِ الْأَخْضَرِ وَبَيْنَ الْمَبْلُولِ بِالْمَاءِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «خَيْرُ خِلَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الرَّطْبَيْنِ وَبَيْنَ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ. وَيَنْتَفِي بِهِ مَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَنَّ الرَّطْبَ بِالْمَاءِ مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إدْخَالِ الْمَاءِ فِي الْفَمِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَبْقَى مِنْ الرُّطُوبَةِ بَعْدَ الْمَضْمَضَةِ أَكْثَرُ مَا يَبْقَى بَعْدَ السِّوَاكِ. ثُمَّ لَمْ يُكْرَهْ لِلصَّائِمِ الْمَضْمَضَةُ فَكَذَا السِّوَاكُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يُكْرَهُ بِالْعَشِيِّ لِمَا فِيهِ مِنْ إزَالَةِ الْأَثَرِ الْمَحْمُودِ وَهُوَ الْخُلُوفُ) «قَالَ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَحْكِيهِ عَنْ رَبِّهِ عز وجل الصَّوْمُ لِي وَأَنَا
قُلْنَا: هُوَ أَثَرُ الْعِبَادَةِ اللَّائِقُ بِهِ الْإِخْفَاءُ. بِخِلَافِ دَمِ الشَّهِيدِ لِأَنَّهُ أَثَرُ الظُّلْمِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّطْبِ الْأَخْضَرِ وَبَيْنَ الْمَبْلُولِ بِالْمَاءِ لِمَا رَوَيْنَا.
أَجْزِي بِهِ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» وَمَا يَكُونُ مَحْمُودًا عِنْدَ اللَّهِ فَسَبِيلُهُ الْإِبْقَاءُ كَمَا فِي دَمِ الشَّهِيدِ، وَالْخُلُوفُ مَصْدَرُ خُلِفَ فُوهُ إذَا تَغَيَّرَتْ رَائِحَتُهُ لِعَدَمِ الْأَكْلِ بِالضَّمِّ لَا غَيْرُ (قُلْنَا هُوَ أَثَرُ الْعِبَادَةِ فَاللَّائِقُ بِهِ الْإِخْفَاءُ) فِرَارًا عَنْ الرِّيَاءِ (بِخِلَافِ دَمِ الشَّهِيدِ فَإِنَّهُ أَثَرُ الظُّلْمِ) فَيَحْتَاجُ إلَى الِانْتِصَافِ مِنْ خَصْمِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِبْقَاءِ. وَقَوْلُهُ (لِمَا رَوَيْنَا) يُعْنَى مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «خَيْرُ خِلَالِ الصَّائِمِ السِّوَاكُ» .
فَصْلٌ
(وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا فِي رَمَضَانَ فَخَافَ إنْ صَامَ ازْدَادَ مَرَضُهُ أَفْطَرَ وَقَضَى) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يُفْطِرُ،
فَصْلٌ):
لَمَّا ذَكَرَ مَسَائِلَ الصَّوْمِ شَرَعَ فِي هَذَا الْفَصْلِ بِبَيَانِ وُجُوهِ الْأَعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِلْفِطْرِ فِي الصَّوْمِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الرُّخْصَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْمَرَضِ لِتَنَوُّعِهِ إلَى مَا يَزْدَادُ بِالصَّوْمِ إلَى مَا يَخِفُّ بِهِ، وَمَا يَخِفُّ بِهِ لَا يَكُونُ مُرَخَّصًا لَا مَحَالَةَ، فَجَعَلْنَا مَا يَزْدَادُ بِهِ مُرَخِّصًا كَخَوْفِ الْهَلَاكِ لِوُجُودِ مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَابِ وَهُوَ الْمَشَقَّةُ فِيهِ، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ إمَّا أَنْ تَكُونَ بِاجْتِهَادِهِ بِأَنْ يَعْلَمَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّ حُمَّاهُ زَادَ شِدَّةً أَوْ عَيْنَهُ وَجَعًا وَإِمَّا بِقَوْلِ طَبِيبٍ حَاذِقٍ مُسْلِمٍ. وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله اعْتَبَرَ خَوْفَ الْهَلَاكِ أَوْ فَوَاتَ الْعُضْوِ كَمَا فِي التَّيَمُّمِ. وَأَمَّا السَّفَرُ بِنَفْسِهِ فَمُرَخِّصٌ لِأَنَّهُ لَا يَعْرَى عَنْ الْمَشَقَّةِ، فَإِذَا كَانَ مُسَافِرًا لَا يَضُرُّهُ الصَّوْمُ فَالصَّوْمُ أَفْضَلُ عِنْدَنَا، خِلَافًا لَهُ، هَكَذَا نُقِلَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا عَلَى خِلَافِ مَا وَقَعَتْ فِي كُتُبِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
فَإِنَّ الْغَزَالِيَّ رحمه الله ذَكَرَ أَنَّ الصَّوْمَ
هُوَ يَعْتَبِرُ خَوْفَ الْهَلَاكِ أَوْ فَوَاتَ الْعُضْوِ كَمَا يَعْتَبِرُ فِي التَّيَمُّمِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ زِيَادَةَ الْمَرَضِ وَامْتِدَادَهُ قَدْ يُفْضِي إلَى الْهَلَاكِ فَيَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ (وَإِنْ كَانَ مُسَافِرًا لَا يَسْتَضِرُّ بِالصَّوْمِ فَصَوْمُهُ أَفْضَلُ، وَإِنْ أَفْطَرَ جَازَ) لِأَنَّ السَّفَرَ لَا يَعْرَى عَنْ الْمَشَقَّةِ فَجُعِلَ نَفْسُهُ عُذْرًا، بِخِلَافِ الْمَرَضِ فَإِنَّهُ قَدْ يُخَفَّفُ بِالصَّوْمِ فَشُرِطَ كَوْنُهُ مُفْضِيًا إلَى الْحَرَجِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: الْفِطْرُ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» وَلَنَا أَنَّ رَمَضَانَ أَفْضَلُ الْوَقْتَيْنِ فَكَانَ الْأَدَاءُ فِيهِ أَوْلَى، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْجَهْدِ (وَإِذَا مَاتَ الْمَرِيضُ أَوْ الْمُسَافِرُ وَهُمَا عَلَى حَالِهِمَا يَلْزَمُهُمَا الْقَضَاءُ)
أَحَبُّ فِي السَّفَرِ مِنْ الْإِفْطَارِ لِتَبْرَأَ ذِمَّتُهُ. اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ رحمه الله بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَرَأَى زِحَامًا وَرَجُلًا قَدْ ظُلَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا صَائِمٌ، فَقَالَ: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ» الْحَدِيثَ (وَلَنَا أَنَّ رَمَضَانَ أَفْضَلُ الْوَقْتَيْنِ) لِأَنَّ {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} كَالْخَلَفِ عَنْ رَمَضَانَ، وَالْخَلَفُ لَا يُسَاوِي الْأَصْلَ بِحَالٍ (وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْجَدِّ) بِفَتْحِ الْجِيمِ: أَيْ الْمَشَقَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي سَبَبِهِ آنِفًا.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ مَاتَ الْمَرِيضُ أَوْ الْمُسَافِرُ وَهُمَا عَلَى حَالِهِمَا) أَيْ مِنْ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ (لَمْ يَلْزَمْهُمَا الْقَضَاءُ) لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءَ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ
لِأَنَّهُمَا لَمْ يُدْرِكَا عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (وَلَوْ صَحَّ الْمَرِيضُ وَأَقَامَ الْمُسَافِرُ ثُمَّ مَاتَا لَزِمَهُمَا الْقَضَاءُ بِقَدْرِ الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ) لِوُجُودِ الْإِدْرَاكِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ. وَفَائِدَتُهُ وُجُوبُ الْوَصِيَّةِ بِالْإِطْعَامِ.
وَ (لَمْ يُدْرِكَا عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وَقَوْلُهُ (وَلَوْ صَحَّ الْمَرِيضُ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَفَائِدَتُهُ) أَيْ فَائِدَةُ لُزُومِ الْقَضَاءِ (وُجُوبُ الْوَصِيَّةِ بِالْإِطْعَامِ) بِقَدْرِ الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ فَإِذَا أَوْصَى يُؤَدِّي الْوَصِيُّ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا بِقَدْرِ مَا يَجِبُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ. وَإِنْ لَمْ يُوصِ وَتَبَرَّعَ الْوَرَثَةُ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَتَبَرَّعُوا لَا يَلْزَمُهُمْ الْأَدَاءُ بَلْ يَسْقُطُ فِي حُكْمِ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي النَّذْرِ. وَالْفَرْقُ لَهُمَا أَنَّ النَّذْرَ سَبَبٌ فَيَظْهَرُ الْوُجُوبُ فِي حَقِّ الْخُلْفِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ السَّبَبُ إدْرَاكُ الْعِدَّةِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا أَدْرَكَ.
الدُّنْيَا (وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ فِيهِ) أَيْ فِي وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ (خِلَافًا بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ رحمهم الله) فَقَالَ: وَلَوْ زَالَ عَنْهُ الْعُذْرُ وَقَدَرَ عَلَى قَضَاءِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إنْ قَضَى فِيمَا قَدَرَ وَلَمْ يُفَرِّطْ فِيهِ ثُمَّ مَاتَ فَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا بَقِيَ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مِنْ وَقْتِ قَضَائِهِ إلَّا قَدْرَ مَا قَضَى، وَإِنْ لَمْ يَصُمْ فِيمَا قَدَرَ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْكُلِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، لِأَنَّ مَا قَدَرَ يَصْلُحُ فِيهِ قَضَاءُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَاَلَّذِي بَعْدَهُ وَهَلُمَّ جَرًّا، فَلَمَّا قَدَرَ عَلَى قَضَاءِ الْبَعْضِ فَكَأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى قَضَاءِ الْكُلِّ وَلَمْ يَصُمْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا صَامَ فِيمَا قَدَرَ لِأَنَّهُ بِالصَّوْمِ تَعَيَّنَ أَنْ لَا يَصْلُحَ فِيهِ قَضَاءُ يَوْمٍ آخَرَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إلَّا مِقْدَارَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَا أَدْرَكَ إلَّا ذَلِكَ فَلَمْ يَلْزَمْهُ غَيْرُهُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ) يَعْنِي أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ قَوْلَهُمَا كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ (وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي النَّذْرِ) وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْمَرِيضُ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِحَّ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ صَحَّ يَوْمًا وَاحِدًا لَزِمَهُ أَنْ يُوصِيَ بِجَمِيعِ الشَّهْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَزِمَهُ بِقَدْرِ مَا صَحَّ لِأَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ فَصَارَ كَقَضَاءِ رَمَضَانَ (وَالْفَرْقُ لَهُمَا) بَيْنَ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ (أَنَّ النَّذْرَ سَبَبٌ) وَقَدْ وَجَدَ، الْمَانِعَ وَهُوَ عَدَمُ الذِّمَّةِ فِي الْتِزَامِ أَدَائِهِ قَدْ زَالَ بِالْبُرْءِ، وَإِذَا وُجِدَ السَّبَبُ الْمُقْتَضِي وَزَالَ الْمَانِعُ يَظْهَرُ الْوُجُوبُ لَا مَحَالَةَ، وَصَارَ كَصَحِيحٍ نَذَرَ فَمَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ، وَإِذَا ظَهَرَ الْوُجُوبُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْأَدَاءُ يُصَارُ إلَى الْخَلَفِ وَهُوَ الْفِدْيَةُ (وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ السَّبَبُ إدْرَاكُ الْعِدَّةِ) وَإِدْرَاكُهَا لَمْ يَتَحَقَّقْ بِكَمَالِهِ بَلْ بَعْضُهَا تَحَقَّقَ (فَيَتَقَدَّرُ بِقَدَرِهِ) وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ بِمَا يَجِبُ بِهِ الْأَدَاءُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَسَبَبُ الْأَدَاءِ شُهُودُ الشَّهْرِ فَكَذَا سَبَبُ الْقَضَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّ جُزْءَ السَّبَبِ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ كُلِّهِ فَلَا يَكُونُ لِبَعْضِ السَّبَبِ أَثَرٌ فِي بَعْضِ الْحُكْمِ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ: أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ نَفْسُ الْوُجُوبِ، بَلْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ تَسْلِيمُ
(وَقَضَاءُ رَمَضَانَ إنْ شَاءَ فَرَّقَهُ وَإِنْ شَاءَ تَابَعَهُ) لِإِطْلَاقِ النَّصِّ، لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ الْمُتَابَعَةُ مُسَارَعَةً إلَى إسْقَاطِ الْوَاجِبِ (وَإِنْ أَخَّرَهُ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ صَامَ الثَّانِيَ) لِأَنَّهُ فِي وَقْتِهِ (وَقَضَى الْأَوَّلَ بَعْدَهُ) لِأَنَّهُ وَقْتُ الْقَضَاءِ (وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ)
الْوُجُوبِ أَوْ مِثْلُهُ وَهُوَ الْخِطَابُ، وَهَذَا مِنْ مَزَالِّ الْأَقْدَامِ فَلَا تُغْفَلُ. وَعَنْ الثَّانِي: بِأَنَّ جُزْءَ السَّبَبِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي كُلِّ الْحُكْمِ وَإِلَّا لَكَانَ هُوَ الْعِلَّةَ فَمَا فَرَضْنَاهُ جُزْءًا لَا يَكُونُ جُزْءًا هَذَا خَلَفٌ بَاطِلٌ. وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ جُزْءًا لِسَبَبِ عِلَّةٍ تَامَّةٍ لِبَعْضِ الْحُكْمِ فَلَا مَانِعَ عَنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِالْقَدْرِ وَالْجِنْسِ يَحْرُمُ الْفَضْلُ وَالنَّسِيئَةُ، وَأَحَدُهُمَا يُحَرِّمُ النَّسِيئَةَ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ مُسْتَوْفًى.
قَالَ (وَقَضَاءُ رَمَضَانَ إنْ شَاءَ فَرَّقَهُ وَإِنْ شَاءَ تَابَعَهُ) الصَّوْمُ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ثَمَانِيَةٌ: أَرْبَعَةٌ مِنْهَا مُتَتَابِعَةٌ، وَأَرْبَعَةٌ صَاحِبُهَا فِيهَا بِالْخِيَارِ، أَمَّا الْمُتَتَابِعُ فَصَوْمُ رَمَضَانَ وَكَفَّارَةُ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْيَمِينِ عِنْدَنَا، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَقَضَاءُ رَمَضَانَ وَصَوْمُ الْمُتْعَةِ وَكَفَّارَةِ الْحَلْقِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ. أَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ فَلَا كَلَامَ لِأَحَدٍ فِي وُجُوبِ التَّتَابُعِ فِيهِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَقَدْ ضَبَطَهُ الْمَشَايِخُ بِأَنَّ كُلَّ مَا شُرِعَ فِيهِ الْعِتْقُ كَانَ التَّتَابُعُ فِيهِ وَاجِبًا، وَمَا لَا فَلَا فَيَكُونُ قَضَاءُ رَمَضَانَ مِمَّا فِيهِ لِمَنْ عَلَيْهِ الْخِيَارُ، وَلِأَنَّ النَّصَّ مُطْلَقٌ وَالْعَمَلَ بِهِ وَاجِبٌ. وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقَضَاءَ يَحْكِي الْأَدَاءَ، وَالتَّتَابُعُ وَاجِبٌ فِي الْأَدَاءِ، فَكَانَ مُغْنِيًا عَنْ تَقْيِيدِ نَصِّ الْقَضَاءِ. وَالثَّانِي أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رضي الله عنه قَرَأَ " فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ " فَهَلَّا اعْتَبَرْتُمْ قِرَاءَتَهُ مُقَيَّدَةً كَمَا فَعَلْتُمْ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرْتُمْ لَمَا «قَالَ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ تَقْطِيعِ قَضَاءِ رَمَضَانَ ذَلِكَ إلَيْك، أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَحَدِكُمْ دَيْنٌ فَقَضَاهُ الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْنِ أَلَمْ يَكُنْ قَضَاءً قَالَ: نَعَمْ قَالَ عليه الصلاة والسلام: فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يَعْفُوَ وَيَغْفِرَ» فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَعْلَمَ بِذَلِكَ. وَعَنْ الثَّانِي: مَا قِيلَ إنَّ قِرَاءَةَ أُبَيِّ رضي الله عنه لَمْ تَشْتَهِرْ اشْتِهَارَ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَكَانَ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا يُزَادُ بِهِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ. قَوْلُهُ (لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ الْمُتَابَعَةُ) أَيْ التَّتَابُعُ (مُسَارَعَةً إلَى إسْقَاطِ الْوَاجِبِ، وَإِنْ أَخَّرَ الْقَضَاءَ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ صَامَ الثَّانِي لِأَنَّهُ فِي وَقْتِهِ وَقَضَى الْأَوَّلَ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْقَضَاءِ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله: فَإِنَّهُ يُوجِبُ مَعَ الْقَضَاءِ لِكُلِّ يَوْمٍ طَعَامَ مِسْكِينٍ، وَرَوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما. وَيَقُولُ: الْقَضَاءُ مُؤَقَّتٌ بِمَا بَيْنَ رَمَضَانَيْنِ، مُسْتَدِلًّا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها " أَنَّهَا كَانَتْ تُؤَخِّرُ قَضَاءَ أَيَّامِ الْحَيْضِ إلَى شَعْبَانَ " وَهَذَا بَيَانٌ مِنْهَا لِآخِرِ وَقْتٍ يَجُوزُ التَّأْخِيرُ إلَيْهِ. ثُمَّ يَجْعَلُ تَأْخِيرَ الْقَضَاءِ عَنْ وَقْتِهِ كَتَأْخِيرِ الْأَدَاءِ عَنْ وَقْتِهِ، وَتَأْخِيرُ الْأَدَاءِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ مُوجِبٍ فَكَذَا تَأْخِيرُ الْقَضَاءِ، وَهَذَا كَمَا تَرَى لَيْسَ فِيهِ مَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ لِأَنَّ تَأْخِيرَهَا الْقَضَاءَ إلَى شَعْبَانَ قَدْ يَكُونُ اتِّفَاقِيًّا، وَلَوْ سُلِّمَ ذَلِكَ فَإِيجَابُ الْفِدْيَةِ لَا أَصْلَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا فِدْيَةَ
لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ عَلَى التَّرَاخِي، حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ.
(وَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ إذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ وَلَدَيْهِمَا أَفْطَرَتَا وَقَضَتَا) دَفْعًا لِلْحَرَجِ (وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا) لِأَنَّهُ إفْطَارٌ بِعُذْرٍ (وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِمَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله فِيمَا إذَا خَافَتْ عَلَى الْوَلَدِ، هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالشَّيْخِ الْفَانِي. وَلَنَا أَنَّ الْفِدْيَةَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي، وَالْفِطْرَ بِسَبَبِ الْوَلَدِ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ بَعْدَ الْوُجُوبِ، وَالْوَلَدُ لَا وُجُوبَ عَلَيْهِ أَصْلًا.
فِي الشَّرْعِ عَلَى الْقَادِرِ عَلَى الْأَصْلِ، وَبِالتَّأْخِيرِ لَمْ يَثْبُتْ الْعَجْزُ. وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْقَضَاءِ مُطْلَقًا، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يُوجِبُ الْفَوْرَ بَلْ عَلَى التَّرَاخِي، وَلِهَذَا لَوْ تَطَوَّعَ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ، وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما.
وَقَوْلُهُ (وَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ) قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: الْمُرَادُ بِالْمُرْضِعِ هَهُنَا الظِّئْرُ، لِأَنَّ الْأُمَّ لَا تُفْطِرُ إذَا كَانَ لِلْوَلَدِ أَبٌ، لِأَنَّ الصَّوْمَ فَرْضٌ عَلَيْهَا دُونَ الْإِرْضَاعِ، وَقَالَ شَيْخُ شَيْخِي عَبْدُ الْعَزِيزِ: يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِطَ يَسَارَ الْأَبِ أَوْ عَدَمَ أَخْذِ الْوَلَدِ ضَرْعَ غَيْرِ الْأُمِّ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ إفْطَارٌ بِعُذْرٍ) قِيلَ: نَعَمْ هُوَ عُذْرٌ، وَلَكِنْ لَا فِي نَفْسِ الصَّائِمِ بَلْ لِأَجْلِ غَيْرِهِ، وَمِثْلُهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ بِقَتْلِ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الشُّرْبُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ مَأْمُورَةٌ بِصِيَانَةِ الْوَلَدِ مَقْصُودَةٌ، وَهِيَ لَا تَتَأَتَّى بِدُونِ الْإِفْطَارِ عِنْدَ الْخَوْفِ فَكَانَتْ مَأْمُورَةً بِالْإِفْطَارِ وَالْأَمْرُ بِالْإِفْطَارِ مَعَ الْكَفَّارَةِ الَّتِي بِنَاؤُهَا عَلَى الْوُجُوبِ عَنْ الْإِفْطَارِ لَا يَجْتَمِعَانِ بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ مَأْمُورًا قَصْدًا بِصِيَانَةِ غَيْرِهِ بَلْ نَشَأَ الْأَمْرُ هُنَاكَ مِنْ ضَرُورَةِ حُرْمَةِ الْقَتْلِ وَالْحُكْمِ بِتَفَاوُتِ الْأَمْرِ قَصْدًا وَضِمْنًا.
وَقَوْلُهُ (فِيمَا إذَا خَافَتْ عَلَى الْوَلَدِ إلَخْ) يَعْنِي إذَا خَافَتْ الْحَامِلُ أَوْ الْمُرْضِعُ عَلَى نَفْسِهَا لَا تَجِبُ الْفِدْيَةُ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِذَا خَافَتْ عَلَى وَلَدِهَا فَأَفْطَرَتْ وَجَبَ الْقَضَاءُ وَالْفِدْيَةُ عَلَى أَصَحِّ أَقْوَالِهِ عِنْدَهُمْ (هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالشَّيْخِ الْفَانِي) فَإِنَّ الْفِطْرَ حَصَلَ بِسَبَبِ نَفْسٍ عَاجِزَةٍ عَنْ الصَّوْمِ خِلْقَةً لَا عِلَّةً فَتَجِبُ الْفِدْيَةُ كَفِطْرِ الشَّيْخِ الْفَانِي، وَلِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةَ نَفْسِهَا وَوَلَدِهَا، فَبِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِهَا يَجِبُ الْقَضَاءُ وَبِالنَّظَرِ إلَى مَنْفَعَةِ وَلَدِهَا تَجِبُ الْفِدْيَةُ، وَلَنَا أَنَّ الْفِدْيَةَ فِيهِ ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ (وَالْفِطْرُ بِسَبَبِ الْوَلَدِ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ الشَّيْخَ الْفَانِيَ عَاجِزٌ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَالْوَلَدَ لَا وُجُوبَ عَلَيْهِ أَصْلًا) أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ
(وَالشَّيْخُ الْفَانِي الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الصِّيَامِ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا كَمَا يُطْعِمُ فِي الْكَفَّارَاتِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قِيلَ مَعْنَاهُ: لَا يُطِيقُونَهُ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ يَبْطُلُ حُكْمُ الْفِدَاءِ
لَمْ تَجِبُ عَلَى مَالِهِ، وَلَمْ تَتَضَاعَفْ بِتَضَاعُفِ الْوَلَدِ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً أَيْضًا،
وَقَوْلُهُ (وَالشَّيْخُ الْفَانِي) وَصْفٌ بِمَا بَيَّنَ الْمُرَادَ بِهِ بِقَوْلِهِ (الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الصِّيَامِ) وَسُمِّيَ فَانِيًا إمَّا لِقُرْبِهِ إلَى الْفَنَاءِ أَوْ لِأَنَّهُ فَنِيَتْ قُوَّتُهُ، وَوُجُوبُ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ مَذْهَبُنَا.
وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ وَهُوَ الصَّوْمُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فَلَا يَجِبُ خَلَفُهُ وَقُلْنَا: السَّبَبُ وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ تَنَاوَلَهُ حَتَّى لَوْ تَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ وَصَامَ وَقَعَ عَنْ فَرْضِهِ، وَإِنَّمَا يُبَاحُ لَهُ الْإِفْطَارُ بِعُذْرٍ لَيْسَ بِعَرَضِ الزَّوَالِ حَتَّى يُصَارَ إلَى الْقَضَاءِ كَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ فَوَجَبَتْ الْفِدْيَةُ كَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ الصَّوْمُ (وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ (مَعْنَاهُ لَا يُطِيقُونَهُ) فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} فَإِنْ قِيلَ: رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ رحمه الله أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} كَانَ الْأَغْنِيَاءُ يُفْطِرُونَ وَيَفِدُونَ وَالْفُقَرَاءُ يَصُومُونَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ كَانَ الرَّجُلُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ، ثُمَّ نُسِخَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وَالْمَنْسُوخُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْآيَةَ إنْ وَرَدَتْ فِي الشَّيْخِ الْفَانِي كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ السَّلَفِ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ وَرَدَتْ فِي التَّخْيِيرِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا ثَبَتَ فِي حَقِّ الْقَادِرِ عَلَى الصَّوْمِ، فَبَقِيَ الشَّيْخُ الْفَانِي عَلَى حَالِهِ كَمَا كَانَ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ) يَعْنِي بَعْدَمَا فَدَى (بَطَلَ حُكْمُ الْفِدَاءِ) وَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ
لِأَنَّ شَرْطَ الْخَلْفِيَّةِ اسْتِمْرَارُ الْعَجْزِ.
(وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ فَأَوْصَى بِهِ أَطْعَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ) لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْأَدَاءِ فِي آخِرِ عُمْرِهِ
وَوَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ. فَإِنْ قِيلَ: الْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخَلْفِ لَا تُبْطِلُ الْخَلْفَ، كَمَا لَوْ قَدَرَ عَلَى الْمَاءِ بَعْدَمَا صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ، وَهَهُنَا حُصُولُ الْمَقْصُودِ وَهُوَ تَفْرِيغُ الذِّمَّةِ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ. أُجِيبَ: بِأَنَّ الْقُدْرَةَ هَهُنَا عَلَى الْأَصْلِ إنَّمَا هِيَ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخَلَفِ، لِأَنَّ دَوَامَ هَذَا الْعَجْزِ إلَى الْمَوْتِ شَرْطُ صِحَّةِ هَذَا الْخَلْفِ، فَإِنَّ الشَّيْخَ الْفَانِيَ هُوَ الَّذِي يَزْدَادُ ضَعْفُهُ كُلَّ وَقْتٍ إلَى مَوْتِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ شَرْطَ الْخَلْفِيَّةِ اسْتِمْرَارُ الْعَجْزِ)
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ) أَيْ قَرُبَ مِنْهُ لِأَنَّ الْإِيصَاءَ بَعْدَ الْمَوْتِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْأَدَاءِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ) اسْتَعْمَلَ الْأَدَاءَ فِي مَوْضِعِ الْقَضَاءِ وَالْعَجْزِ عَنْ الْقَضَاءِ بِحَيْثُ لَا يُرْجَى فِي مَعْنَى الشَّيْخِ
فَصَارَ كَالشَّيْخِ الْفَانِي، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْإِيصَاءِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَعَلَى هَذَا الزَّكَاةُ. هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِدُيُونِ الْعِبَادِ إذْ كُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ مَالِيٌّ تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ. وَلَنَا أَنَّهُ عِبَادَةٌ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الِاخْتِيَارِ. وَذَلِكَ فِي الْإِيصَاءِ دُونَ الْوِرَاثَةِ لِأَنَّهَا جَبْرِيَّةٌ، ثُمَّ هُوَ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً حَتَّى
الْفَانِي، فَيُلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً بِالطَّرِيقِ الْأُولَى، لِأَنَّ عَجْزَ الْمَيِّتِ أَلْزَمُ (ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْإِيصَاءِ) لِإِلْزَامِ الْوَارِثِ، فَإِنْ لَمْ يُوصِ فَلِلْوَارِثِ أَنْ يُخْرِجَهُ وَلَا يَلْزَمُهُ، وَإِذَا أَوْصَى أَخْرَجَ عَنْهُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ مِقْدَارَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ (عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ أَمَّا خِلَافُهُ فِي الْمِقْدَارِ فَلِأَنَّ الْمِقْدَارَ الْوَاجِبَ عِنْدَهُ مُدٌّ، وَأَمَّا فِي الْبَاقِي فَلِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ هَذَا الدَّيْنُ بِدُيُونِ الْعِبَادِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حَقٌّ مَالِيٌّ تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ، فَكَمَا أَنَّ دُيُونَ الْعِبَادِ تَخْرُجُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَإِنْ لَمْ يُوصِ فَكَذَلِكَ هَذَا (وَلَنَا أَنَّهُ عِبَادَةٌ وَكُلُّ مَا هُوَ عِبَادَةٌ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْإِخْبَارِ وَذَلِكَ فِي الْإِيصَاءِ دُونَ الْوِرَاثَةِ لِأَنَّهَا جَبْرِيَّةٌ ثُمَّ هُوَ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً) لِأَنَّ الصَّوْمَ فِعْلُ مُكَلَّفٍ بِهِ وَقَدْ سَقَطَتْ الْأَفْعَالُ بِالْمَوْتِ فَصَارَ الصَّوْمُ كَأَنَّهُ سَقَطَ فِي حَقِّ الدُّنْيَا فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِأَدَاءِ الْفِدْيَةِ تَبَرُّعًا، بِخِلَافِ دَيْنِ الْعِبَادِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ثَمَّةَ
يُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ، وَالصَّلَاةُ كَالصَّوْمِ بِاسْتِحْسَانِ الْمَشَايِخِ، وَكُلُّ صَلَاةٍ تُعْتَبَرُ بِصَوْمِ يَوْمٍ
هُوَ الْمَالُ وَالْفِعْلُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِحَاجَةِ الْعِبَادِ إلَى الْأَمْوَالِ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِالزَّكَاةِ، وَإِذَا كَانَ تَبَرُّعًا (يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ) وَإِنَّمَا قَالَ ابْتِدَاءً لِأَنَّهَا فِي الْآخِرَةِ تَنُوبُ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَيِّتِ (وَالصَّلَاةُ كَالصَّوْمِ بِاسْتِحْسَانِ الْمَشَايِخِ)
هُوَ الصَّحِيحُ (وَلَا يَصُومُ عَنْهُ الْوَلِيُّ وَلَا يُصَلِّي) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ» .
(وَمَنْ دَخَلَ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ أَوْ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ قَضَاهُ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله. لَهُ أَنَّهُ تَبَرَّعَ بِالْمُؤَدَّى فَلَا يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ. وَلَنَا أَنَّ الْمُؤَدَّى قُرْبَةٌ وَعَمَلٌ فَتَجِبُ صِيَانَتُهُ بِالْمُضِيِّ عَنْ الْإِبْطَالِ، وَإِذَا وَجَبَ الْمُضِيُّ وَجَبَ الْقَضَاءُ بِتَرْكِهِ. ثُمَّ عِنْدَنَا لَا يُبَاحُ الْإِفْطَارُ فِيهِ بِغَيْرِ عُذْرٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا وَيُبَاحُ بِعُذْرٍ،
فَإِنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ بِالْفِدَاءِ فِي الصَّوْمِ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْتَصَرَ عَلَيْهِ، لَكِنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِيهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا بِعِلَّةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْقِلُهُ، وَالصَّلَاةُ نَظِيرُ الصَّوْمِ بَلْ أَهَمُّ، فَأَمَرَ الْمَشَايِخُ بِالْفِدَاءِ فِيهَا احْتِيَاطًا وَمَوْضِعُهُ الْأُصُولُ وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَوَّلًا: إنَّهُ يُطْعِمُ عَنْهُ لِصَلَاةِ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ عَلَى قِيَاسِ الصَّوْمِ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: كُلُّ صَلَاةِ فَرْضٍ عَلَى حِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ صَوْمِ يَوْمٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ أَحْوَطُ. وَقَوْلُهُ (وَلَا يَصُومُ عَنْهُ الْوَلِيُّ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله، فَإِنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي قَوْلٍ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» وَهُوَ نَصٌّ فِي الْبَابِ. وَلَنَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ» وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِعْلُ مَا يَقُومُ مَقَامَ الصَّوْمِ مِنْ الْإِطْعَامِ إنْ أَوْصَى بِذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ دَخَلَ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ) ذَكَرْنَاهُ فِي فَصْلِ الْقِرَاءَةِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ عِنْدَنَا) كَأَنَّهُ بَيَانٌ لِمَبْنَى الِاخْتِلَافِ، وَهُوَ أَنَّ الْإِفْطَارَ بَعْدَ الشُّرُوعِ لَيْسَ بِمُبَاحٍ بِغَيْرِ عُذْرٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ مُبَاحٌ، فَإِذَا كَانَ غَيْرَ مُبَاحٍ كَانَ
وَالضِّيَافَةُ عُذْرٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَفْطِرْ وَاقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ» .
بِالْإِفْطَارِ جَانِبًا فَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَإِذَا كَانَ مُبَاحًا لَمْ يَكُنْ جَانِبًا فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ.
وَقَوْلُهُ (وَالضِّيَافَةُ عُذْرٌ) يَعْنِي عَلَى الْأَظْهَرِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعُذْرٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ. فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَأْكُلْ وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلِيُصَلِّ: أَيْ فَلْيَدْعُ لَهُمْ».
وَوَجْهُ الْأَظْهَرِ مَا رُوِيَ «عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ كَانَ فِي ضِيَافَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَامْتَنَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَكْلِ وَقَالَ إنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: إنَّمَا دَعَاك أَخُوك لِتُكْرِمَهُ فَأَفْطِرْ وَاقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ» وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إنْ كَانَ صَاحِبُ الدَّعْوَةِ يَرْضَى بِمُجَرَّدِ حُضُورِهِ وَلَا يَتَأَذَّى بِتَرْكِ الْأَكْلِ لَا يُفْطِرُ، وَإِنْ كَانَ يَتَأَذَّى يُفْطِرُ وَيَقْضِي. وَقَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْإِفْطَارُ قَبْلَ الزَّوَالِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفْطِرَ إلَّا إذَا
(وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ فِي رَمَضَانَ أَمْسَكَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا) قَضَاءً لِحَقِّ الْوَقْتِ بِالتَّشَبُّهِ
كَانَ فِي تَرْكِ الْإِفْطَارِ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ) الْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ كُلَّ مَنْ صَارَ فِي آخِرِ النَّهَارِ بِصِفَةٍ لَوْ كَانَ عَلَيْهَا فِي أَوَّلِهِ لَزِمَهُ الصَّوْمُ فَعَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ كَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ يَطْهُرَانِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ مَعَهُ، وَالْمَجْنُونِ يُفِيقُ وَالْمَرِيضِ يَبْرَأُ، وَالْمُسَافِرِ يَقْدَمُ بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ الْأَكْلِ، وَالْمُفْطِرِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ مُكْرَهًا، أَوْ أَكَلَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ أَفْطَرَ عَلَى ظَنِّ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَوْ تَسَحَّرَ عَلَى ظَنِّ عَدَمِ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ كَمَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ. ثُمَّ وُجُوبُ الْإِمْسَاكِ إنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى مَا يَذْكُرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: إذْ قَدِمَ الْمُسَافِرُ، أَوْ طَهُرَتْ الْحَائِضُ. وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الصَّفَّارُ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى الْإِيجَابِ لِأَنَّ مُحَمَّدًا رحمه الله ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ " فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ " وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ. وَقَالَ فِي الْحَائِضِ: إذَا طَهُرَتْ فِي بَعْضِ النَّهَارِ فَلْتَدَعْ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَهَذَا أَمْرٌ أَيْضًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ، لِأَنَّهُ مُفْطِرٌ فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفُّ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله فِي الْحَائِضِ: طَهُرَتْ فِي بَعْضِ النَّهَارِ وَلَا يَحْسُنُ لَهَا أَنْ تَأْكُلَ وَتَشْرَبَ وَالنَّاسُ صِيَامٌ. وَأُجِيبَ عَنْ الثَّانِي. بِأَنَّ هَذَا الْإِمْسَاكَ لَيْسَ عَلَى جِهَةِ الصَّوْمِ حَتَّى يُنَافِيَ الْإِفْطَارَ الْمُتَقَدِّمَ، وَإِنَّمَا هُوَ قَضَاءٌ لِحَقِّ الْوَقْتِ بِالتَّشَبُّهِ، وَمَعْنَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَحْسُنُ لَهَا يَقْبُحُ مِنْهَا، وَتَرْكُ الْقَبِيحِ شَرْعًا مِنْ الْوَاجِبَاتِ.
(وَلَوْ أَفْطَرَا فِيهِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا) لِأَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِيهِ (وَصَامَا بَعْدَهُ) لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَالْأَهْلِيَّةِ (وَلَمْ يَقْضِيَا يَوْمَهُمَا وَلَا مَا مَضَى) لِعَدَمِ الْخِطَابِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ السَّبَبَ فِيهَا الْجُزْءُ الْمُتَّصِلُ بِالْأَدَاءِ فَوُجِدَتْ الْأَهْلِيَّةُ عِنْدَهُ، وَفِي الصَّوْمِ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ وَالْأَهْلِيَّةُ مُنْعَدِمَةٌ عِنْدَهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ إذَا زَالَ الْكُفْرُ أَوْ الصِّبَا قَبْلَ الزَّوَالِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ، لِأَنَّهُ أَدْرَكَ وَقْتَ النِّيَّةِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَجَزَّأُ وُجُوبًا وَأَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ مُنْعَدِمَةٌ فِي أَوَّلِهِ إلَّا أَنَّ لِلصَّبِيِّ أَنْ يَنْوِيَ التَّطَوُّعَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ دُونَ الْكَافِرِ عَلَى مَا قَالُوا، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ أَفْطَرَا فِيهِ) أَيْ فِيمَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِهِمَا (لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِيهِ) بَلْ الْإِمْسَاكُ هُوَ الْوَاجِبُ وَلَا قَضَاءَ إلَّا لِلصَّوْمِ (وَصَامَا مَا بَعْدَهُ) مِنْ الْأَيَّامِ (لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ) وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ (وَالْأَهْلِيَّةُ) بِالْإِسْلَامِ وَالْبُلُوغِ (وَلَمْ يَقْضِيَا يَوْمَهُمَا) يَعْنِي إذَا أَمْسَكَا بَقِيَّةَ النَّهَارِ، وَإِنَّمَا قُلْت هَذَا لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ مَعَ قَوْلِهِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا، وَقَوْلُهُ (وَلَا مَا مَضَى) أَيْ لَمْ يَقْضِيَا مَا مَضَى مِنْ الْأَيَّامِ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَالْإِسْلَامِ (لِعَدَمِ الْخِطَابِ) لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْأَهْلِيَّةِ وَكَانَتْ مُنْتَفِيَةً قَبْلَهُمَا: فَإِنْ قِيلَ: انْتِفَاءُ الْأَهْلِيَّةِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ فَإِنَّ الْمَجْنُونَ إذَا أَفَاقَ فِي يَوْمِ رَمَضَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَالْأَكْلِ وَنَوَى الصَّوْمَ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ، وَلَوْ أَفْطَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ مَعَ أَنَّ الصَّوْمَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَقْتَ طُلُوعِ الْفَجْرِ.
أُجِيبَ: بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوُجُوبَ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، بَلْ الْوُجُوبُ فِي حَقِّهِ كَانَ ثَابِتًا إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ عِنْدَ الِاسْتِغْرَاقِ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَغْرِقْ ظَهَرَ أَثَرُ الْوُجُوبِ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ قَضَاءِ صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي بَلَغَ فِيهِ الصَّبِيُّ أَوْ أَسْلَمَ فِيهِ الْكَافِرُ (بِخِلَافِ الصَّلَاةِ) حَيْثُ يَجِبُ قَضَاؤُهَا إذَا بَلَغَ أَوْ أَسْلَمَ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ وَاضِحٌ (وَ) رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ (عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا زَالَ الْكُفْرُ أَوْ الصِّبَا قَبْلَ الزَّوَالِ فَعَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ) لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ أَصْبَحَ نَاوِيًا لِلْفِطْرِ ثُمَّ نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ أَنْ يَصُومَ أَجْزَأَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ نِيَّةَ الْفِطْرِ مُنَافِيَةٌ لِلصَّوْمِ لَكِنَّهَا مُنَافِيَةٌ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً، فَلَا تَمْنَعُ نِيَّةَ الصَّوْمِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَكَذَا الْكُفْرُ مُنَافٍ لِلصَّوْمِ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً، وَخَلَلُهُ ظَاهِرٌ لِأَنَّ فِيهِ مُسَاوَاةَ الْأَهْلِ لِغَيْرِ الْأَهْلِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَمَبْنَاهُ كَمَا تَرَى عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَنْ لَهُ الْأَهْلِيَّةُ وَفَاقِدِهَا. وَأَكْثَرُ الْمَشَايِخِ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْلِ أَيْضًا
أَهْلِ التَّطَوُّعِ أَيْضًا، وَالصَّبِيُّ أَهْلٌ لَهُ.
(وَإِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِفْطَارَ ثُمَّ قَدِمَ الْمِصْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَنَوَى الصَّوْمَ أَجْزَأَهُ) لِأَنَّ السَّفَرَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ وَلَا صِحَّةَ الشُّرُوعِ (وَإِنْ كَانَ فِي رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ) لِزَوَالِ الْمُرَخِّصِ فِي وَقْتِ النِّيَّةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ ثُمَّ سَافَرَ لَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْإِقَامَةِ فَهَذَا أَوْلَى،
فَالصَّبِيُّ إذَا بَلَغَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَنَوَى صَوْمَ النَّفْلِ صَحَّ. وَالْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ وَنَوَى ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ. وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُمَا فِي صِحَّةِ نِيَّةِ التَّطَوُّعِ سَوَاءٌ. فَكَانَ الِاخْتِلَافُ فِي النَّفْلِ كَالِاخْتِلَافِ فِي الْفَرْضِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِفْطَارَ ثُمَّ قَدِمَ الْمِصْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَنَوَى الصَّوْمَ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ السَّفَرَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ) لِأَنَّهَا بِالذِّمَّةِ الصَّالِحَةِ لِلْوُجُوبِ وَهُوَ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِ (وَلَا صِحَّةَ الشُّرُوعِ) لِأَنَّهُ لَوْ صَامَ صَحَّ (وَإِنْ كَانَ فِي رَمَضَانَ) يَعْنِي الْمُسَافِرَ الَّذِي نَوَى الْإِفْطَارَ (فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ لِزَوَالِ الْمُرَخِّصِ) وَهُوَ السَّفَرُ (فِي وَقْتِ النِّيَّةِ) لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا قَدِمَ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ، قِيلَ: فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَكْرَارٌ لِأَنَّ الْمَسْأَلَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا فِي مُسَافِرٍ قَدِمَ الْمِصْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ فِي رَمَضَانَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى فِي غَيْرِ رَمَضَانَ. وَرُدَّ بِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ يَأْبَاهُ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْفَرْضِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الثُّبُوتِ وَفِيهِ بُعْدٌ، وَبِأَنَّ مَعْنَاهُ الْمَعْنَى الْمُصْطَلَحُ، وَالصَّوْمُ هُوَ أَنْ يَكُونَ نَذْرًا مُعَيَّنًا. وَصُورَتُهُ: نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِفْطَارَ ثُمَّ قَدِمَ الْمِصْرَ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ فَنَذَرَ أَنْ يَصُومَ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَنَوَاهُ أَجْزَأَهُ، فَكَانَتْ الْأُولَى فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، وَالثَّانِيَةُ فِيهِ فَلَا تَكْرَارَ. وَقَوْلُهُ (فَهَذَا أَوْلَى) قِيلَ فِي وَجْهِ الْأَوْلَوِيَّةِ إنَّ
إلَّا أَنَّهُ إذَا أَفْطَرَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِقِيَامِ شُبْهَةِ الْمُبِيحِ.
(وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ لَمْ يَقْضِ الْيَوْمَ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ الْإِغْمَاءُ) لِوُجُودِ الصَّوْمِ فِيهِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ الْمَقْرُونُ بِالنِّيَّةِ إذْ الظَّاهِرُ وُجُودُهَا مِنْهُ (وَقَضَى مَا بَعْدَهُ) لِانْعِدَامِ النِّيَّةِ (وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْهُ قَضَاهُ كُلَّهُ غَيْرَ يَوْمِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ) لِمَا قُلْنَا. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَقْضِي مَا بَعْدَهُ لِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ عِنْدَهُ يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ وَاحِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ الِاعْتِكَافِ، وَعِنْدَنَا لَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ لِكُلِّ يَوْمٍ لِأَنَّهَا عِبَادَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ، لِأَنَّهُ يَتَخَلَّلُ بَيْنَ كُلِّ يَوْمَيْنِ مَا لَيْسَ بِزَمَانٍ لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ. بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ (وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ كُلِّهِ قَضَاهُ) لِأَنَّهُ نَوْعُ مَرَضٍ يُضْعِفُ الْقُوَى وَلَا يُزِيلُ الْحِجَا فَيَصِيرُ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ لَا فِي الْإِسْقَاطِ.
(وَمَنْ جُنَّ رَمَضَانَ كُلَّهُ لَمْ يَقْضِهِ) خِلَافًا لِمَالِكٍ
الْمُرَخِّصَ وَهُوَ السَّفَرُ قَائِمٌ وَقْتَ الْإِفْطَارِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُبَحْ لَهُ الْإِفْطَارُ، فَلَأَنْ لَا يُبَاحَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ لَيْسَ بِقَائِمٍ فِيهِ أَوْلَى. وَقَوْلُهُ (فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ) يَعْنِي مُسَافِرًا أَقَامَ وَمُقِيمًا سَافَرَ.
قَالَ (وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ) الْإِغْمَاءُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَغْرِقًا أَوْ لَا، وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَحْدُثَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ أَوْ فِي غَيْرِهَا، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا سَوَاءٌ كَانَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا لَا يَقْضِي صَوْمَ ذَلِكَ النَّهَارِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ أَوْ فِي لَيْلَتِهِ الْإِغْمَاءُ، وَكَذَا إذَا كَانَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ مَوْجُودٌ لَا مَحَالَةَ، وَكَذَا النِّيَّةُ ظَاهِرًا، لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِ الْمُسْلِمِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ عَدَمُ الْخُلُوِّ عَنْ النِّيَّةِ، وَالْأَوَّلُ يَقْضِيهِ كُلُّهُ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ (لِأَنَّهُ نَوْعُ مَرَضٍ إلَخْ) وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ جُنَّ رَمَضَانَ كُلَّهُ) قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ:
هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالْإِغْمَاءِ. وَلَنَا أَنَّ الْمُسْقِطَ هُوَ الْحَرَجُ وَالْإِغْمَاءُ لَا يَسْتَوْعِبُ الشَّهْرَ عَادَةً فَلَا حَرَجَ، وَالْجُنُونُ يَسْتَوْعِبُهُ فَيَتَحَقَّقُ الْحَرَجُ (وَإِنْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ فِي بَعْضِهِ قَضَى مَا مَضَى) خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. هُمَا يَقُولَانِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ، وَالْقَضَاءُ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ، وَصَارَ كَالْمُسْتَوْعَبِ. وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ الشَّهْرُ
الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ جُنَّ رَمَضَانَ كُلَّهُ مَا يُمْكِنُهُ الصَّوْمُ فِيهِ ابْتِدَاءً، حَتَّى لَوْ أَفَاقَ بَعْدَ الزَّوَالِ مِنْ الْيَوْمِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَصِحُّ فِيهِ كَاللَّيْلِ هُوَ الصَّحِيحُ. وَقَوْلُهُ (هُوَ يَعْتَبِرُهُ بِالْإِغْمَاءِ) يَعْنِي مِنْ حَيْثُ إنَّ الْجُنُونَ مَرَضٌ يُخِلُّ الْعَقْلَ فَيَكُونُ عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ إلَى زَوَالِهِ لَا فِي الْإِسْقَاطِ كَمَا فِي الْإِغْمَاءِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَنَا) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (هُمَا يَقُولَانِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ) أَيْ أَدَاءُ ذَلِكَ الْبَعْضِ (لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ) وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ (وَصَارَ كَالْمُسْتَوْعِبِ) فَإِنَّ الْمُسْتَوْعِبَ مِنْهُ مَنَعَ الْقَضَاءَ فِي الْكُلِّ، فَإِذَا وُجِدَ فِي الْبَعْضِ مَنَعَ بِقَدْرِهِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ (وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ الشَّهْرُ) أَيْ بَعْضُهُ، لِأَنَّ السَّبَبَ لَوْ كَانَ كُلُّهُ لَوَقَعَ الصَّوْمُ فِي شَوَّالٍ فَكَانَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ بَعْضَ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْ الشَّهْرَ كُلَّهُ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ إلَى الْمَذْكُورِ دُونَ الْمُضْمَرِ وَالْمَجْنُونُ الَّذِي لَمْ يَسْتَغْرِقْ جُنُونُهُ الشَّهْرَ قَدْ شَهِدَ بَعْضَ الشَّهْرِ فَيَصُومُ كُلَّهُ.
فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ. وَهُوَ عَدَمُ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَا مَضَى. أَجَابَ بِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ لِلْوُجُوبِ بِالذِّمَّةِ وَهِيَ كَوْنُهُ أَهْلًا لِلْإِيجَابِ وَالِاسْتِيجَابِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ لِأَنَّهَا بِالْآدَمِيَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ مَا ذَكَرْتُمْ صَحِيحًا
وَالْأَهْلِيَّةُ بِالذِّمَّةِ، وَفِي الْوُجُوبِ فَائِدَةٌ وَهُوَ صَيْرُورَتُهُ مَطْلُوبًا عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْرُجُ فِي أَدَائِهِ، بِخِلَافِ الْمُسْتَوْعَبِ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ فِي الْأَدَاءِ فَلَا فَائِدَةَ
لَوَجَبَ عَلَى الْمُسْتَغْرِقِ أَيْضًا. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَفِي الْوُجُوبِ فَائِدَةٌ وَهُوَ) أَيْ الْفَائِدَةُ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ (صَيْرُورَتُهُ مَطْلُوبًا عَلَى وَجْهٍ لَا يُحْرِجُ فِي أَدَائِهِ، وَالْمُسْتَوْعِبُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُحْرِجُ فِي الْأَدَاءِ فَلَا فَائِدَةَ) فِي الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَسَقَطَ بِسَبَبِ الْحَرَجِ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَصَارَ كَالصِّبَا لِأَنَّ الصِّبَا لَمَّا كَانَ مُمْتَدًّا كَانَ فِي الْإِيجَابِ عَلَيْهِ حَرَجٌ وَهُوَ مُسْقِطٌ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الذِّمَّةِ لَا يَنْعَدِمُ بِسَبَبِ الْإِغْمَاءِ وَالصِّبَا وَالْجُنُونِ، إلَّا أَنَّ الْإِغْمَاءَ لَا يَطُولُ عَادَةً فَلَا يُسْقِطُ الْقَضَاءَ وَالصِّبَا يَطُولُ فَيُسْقِطُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَالْجُنُونُ يَطُولُ وَيَقْصُرُ، فَإِذَا طَالَ اُلْتُحِقَ بِالصِّبَا، وَإِذَا لَمْ يَطُلْ اُلْتُحِقَ بِالْإِغْمَاءِ، وَالطَّوِيلُ فِي الصَّوْمِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الشَّهْرَ كُلَّهُ، وَفِي الصَّلَاةِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى يَوْمٍ
وَتَمَامُهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ، ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِيِّ وَالْعَارِضِيِّ، قِيلَ هَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ إذَا بَلَغَ مَجْنُونًا الْتَحَقَ بِالصَّبِيِّ فَانْعَدَمَ الْخِطَابُ بِخِلَافِ مَا إذَا بَلَغَ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ، وَهَذَا مُخْتَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ
(وَمَنْ لَمْ يَنْوِ فِي رَمَضَانَ كُلِّهِ لَا صَوْمًا وَلَا فِطْرًا فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ)
وَلَيْلَةٍ (ثُمَّ لَا فَرْقَ بَيْنَ) الْجُنُونِ (الْأَصْلِيِّ) وَهُوَ أَنْ يَبْلُغَ مَجْنُونًا (وَالْعَارِضِيِّ) وَهُوَ أَنْ يَبْلُغَ عَاقِلًا ثُمَّ يُجَنَّ (قِيلَ هَذَا) أَيْ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْجُنُونَيْنِ (ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا) فَقَالَ: إنْ بَلَغَ مَجْنُونًا ثُمَّ أَفَاقَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْخِطَابِ يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ الْآنَ فَصَارَ كَصَبِيٍّ بَلَغَ.
وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْقِيَاسِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَكِنِّي أَسْتَحْسِنُ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءَ مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ، لِأَنَّ الْجُنُونَ الْأَصْلِيَّ لَا يُفَارِقُ الْعَارِضِيَّ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَلَيْسَ فِيهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ (وَهَذَا) أَيْ الْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ (مُخْتَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ) مِنْهُمْ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ، وَالْإِمَامُ الرُّسْتُغْفَنِيُّ، وَالزَّاهِدُ الصَّفَّارُ رحمهم الله.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ لَمْ يَنْوِ فِي رَمَضَانَ) يَعْنِي أَمْسَكَ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ لَكِنَّهُ لَمْ يَنْوِ (صَوْمًا وَلَا فِطْرًا فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ) قَالُوا: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ خَوَاصِّ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ تَأْوِيلٍ، لِأَنَّ دَلَالَةَ حَالِ الْمُسْلِمِ فِيهِ كَافِيَةٌ لِوُجُودِ النِّيَّةِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي رَمَضَانَ يُجْعَلُ صَائِمًا يَوْمَ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِهِ عَدَمُ الْخُلُوِّ عَنْ النِّيَّةِ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ، وَأَوَّلُوا بِأَنْ يَكُونَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا أَوْ مُتَهَتِّكًا اعْتَادَ الْأَكْلَ فِي رَمَضَانَ، فَلَمْ يَصْلُحْ حَالُهُ دَلِيلًا عَلَى نِيَّةِ الصَّوْمِ، كَذَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ، وَأَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ إلَى التَّأْوِيلِ لِأَنَّ حَالَ الْمُسْلِمِ دَلِيلٌ إذَا لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ كَمَا فِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَالْفَرْضُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا بِإِخْبَارِهِ بِذَلِكَ، وَالدَّلَالَةُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ إذَا لَمْ يُخَالِفْهَا صَرِيحٌ
وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: يَتَأَدَّى صَوْمُ رَمَضَانَ بِدُونِ النِّيَّةِ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ يُؤَدِّيهِ يَقَعُ عَنْهُ، كَمَا إذَا وَهَبَ كُلَّ النِّصَابَ مِنْ الْفَقِيرِ. وَلَنَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ الْإِمْسَاكُ بِجِهَةِ الْعِبَادَةِ وَلَا عِبَادَةَ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَفِي هِبَةِ النِّصَابِ وُجِدَ نِيَّةُ الْقُرْبَةِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الزَّكَاةِ (وَمَنْ أَصْبَحَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ فَأَكَلَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقَالَ زُفَرُ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ يَتَأَدَّى بِغَيْرِ النِّيَّةِ عِنْدَهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إذَا أَكَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ فَوَّتَ إمْكَانَ التَّحْصِيلِ فَصَارَ كَغَاصِبِ الْغَاصِبِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَعَلَّقَتْ بِالْإِفْسَادِ وَهَذَا امْتِنَاعٌ إذْ لَا صَوْمَ إلَّا بِالنِّيَّةِ
(وَقَالَ زُفَرُ: يَكُونُ صَائِمًا وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ يَتَأَدَّى بِدُونِ النِّيَّةِ فِي حَقِّ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ أَدَّاهُ يَقَعُ عَنْهُ كَمَا إذَا وَهَبَ كُلَّ النِّصَابِ مِنْ الْفَقِيرِ) وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَأَنْكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَذْهَبًا لِزُفَرَ، وَقَالَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُ أَنَّ صَوْمَ الشَّهْرِ كُلِّهِ يَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَقَالَ أَبُو الْيُسْرِ: هَذَا قَوْلٌ لِزُفَرَ فِي صِغَرِهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالصَّحِيحِ الْمُقِيمِ نَفْيًا لِمَا يَجُوزُ بِهِ صَرْفُ الْإِمْسَاكِ إلَى غَيْرِهِ لِتَعَيُّنِ الْجِهَةِ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هِبَةَ النِّصَابِ فَقِيرًا وَاحِدًا لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ عَلَى مَا مَرَّ فَمَا وَجْهُ مَا فِي الْكِتَابِ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ عَلَى قَوْلِ مَذْهَبِكُمْ، وَبِأَنَّ تَأْوِيلَهُ أَنْ يَكُونَ الْفَقِيرُ مَدْيُونًا فَإِنَّ دَفْعَ النِّصَابِ إلَيْهِ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَرَادَ بِالْفَقِيرِ الْجِنْسَ فَكَانَ الدَّفْعُ مُتَفَرِّقًا (وَلَنَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ الْإِمْسَاكُ عِبَادَةً وَلَا إمْسَاكَ عِبَادَةً بِالنِّيَّةِ وَفِي هِبَةِ النِّصَابِ قَدْ وُجِدَتْ النِّيَّةُ كَمَا مَرَّ فِي الزَّكَاةِ، وَمَنْ أَصْبَحَ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ فَأَفْطَرَ) قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ (فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ زُفَرُ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ يَتَأَدَّى عِنْدَهُ بِغَيْرِ النِّيَّةِ) وَقَدْ أَفْسَدَ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ شَرْعًا فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ كَمَا لَوْ نَوَى.
(وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ) وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ جَعَلَ هَذَا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ خَاصَّةً (إذَا أَكَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ فَوَّتَ إمْكَانَ التَّحْصِيلِ) لِكَوْنِهِ وَقْتَ النِّيَّةِ (فَصَارَ كَغَاصِبِ الْغَاصِبِ) فَإِنَّ الْمَالِكَ إذَا ضَمِنَهُ فَإِنَّمَا يَضْمَنُهُ لِتَفْوِيتِ الْإِمْكَانِ وَتَفْوِيتُ إمْكَانِ الشَّيْءِ كَتَفْوِيتِهِ، لَا يُقَالُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّضْمِينَ لِتَفْوِيتِ الْإِمْكَانِ لِمَ لَا يَكُونُ لِلِاسْتِهْلَاكِ أَوْ لِلْغَضَبِ نَفْسِهِ مِنْ الْغَاصِبِ، لِأَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ شَرْطُ التَّفْوِيتِ، وَلَا يُضَافُ الْحُكْمُ إلَى الشَّرْطِ مَعَ قِيَامِ صَاحِبِ الْعِلَّةِ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْغَصْبُ لِأَنَّهُ مَا أَزَالَ يَدًا مُحِقَّةً فَلَمْ يَكُنْ إلَّا لِلتَّفْوِيتِ. وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرٌ مَكْشُوفٌ، وَأَمَّا مَا قَالَا مِنْ تَفْوِيتِ الْإِمْكَانِ فَهُوَ مُسْتَقِيمٌ فِي غَيْرِ
(وَإِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ أَوْ نَفِسَتْ أَفْطَرَتْ وَقَضَتْ) بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا تُحْرَجُ فِي قَضَائِهَا وَقَدْ مَرَّ فِي الصَّلَاةِ (وَإِذَا قَدِمَ الْمُسَافِرُ أَوْ طَهُرَتْ الْحَائِضُ فِي بَعْضِ النَّهَارِ أَمْسَكَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كُلُّ مَنْ صَارَ أَهْلًا لِلُّزُومِ وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ. هُوَ يَقُولُ: التَّشْبِيهُ خَلَفٌ فَلَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ يَتَحَقَّقُ الْأَصْلُ فِي حَقِّهِ كَالْمُفْطِرِ مُتَعَمِّدًا أَوْ مُخْطِئًا. وَلَنَا أَنَّهُ وَجَبَ قَضَاءً لِحَقِّ الْوَقْتِ لَا خَلَفًا لِأَنَّهُ وَقْتٌ مُعَظَّمٌ،
مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فِي بَابِ الْعُدْوَانِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ أَوْ نُفِسَتْ) بِضَمِّ النُّونِ أَيْ صَارَتْ نُفَسَاءَ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (وَإِذَا قَدِمَ الْمُسَافِرُ) قَدْ قَدَّمْنَا الْأَصْلَ الْجَامِعَ لِهَذِهِ الْفُرُوعِ، وَكَلَامُهُ كَمَا تَرَى يُشِيرُ إلَى اخْتِيَارِهِ وُجُوبَ الْإِمْسَاكِ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَارْتَفَعَ الْخِلَافُ. فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله يَقُولُ: بِعَدَمِ الْوُجُوبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّشَبُّهَ خَلْفٌ وَالْخَلْفُ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ يَجِبُ الْأَصْلُ فِي حَقِّهِ كَالْمُفْطِرِ مُتَعَمِّدًا. وَالْمُخْطِئِ، يَعْنِي الَّذِي أَكَلَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ تَسَحَّرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ لَيْلٌ وَكَانَ الْفَجْرُ طَالِعًا لَا الَّذِي أَخْطَأَ فِي الْمَضْمَضَةِ وَنَزَلَ الْمَاءُ فِي جَوْفِهِ فَإِنَّهُ لَا يُفْطِرُ عِنْدَهُ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّشَبُّهَ خَلْفٌ لِأَنَّ بَعْضَ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ خَلْفًا عَنْ الْكُلِّ بَلْ وَجَبَ قَضَاءٌ لِحَقِّ الْوَقْتِ أَصْلًا لِأَنَّ هَذَا الْوَقْتَ مُعَظَّمٌ، وَلِهَذَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمُفْطِرِ فِيهِ عَمْدًا دُونَ غَيْرِهِ وَقَدْ قَالَ
بِخِلَافِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ حَيْثُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ حَالَ قِيَامِ هَذِهِ الْأَعْذَارِ لِتَحَقُّقِ الْمَانِعِ عَنْ التَّشْبِيهِ حَسَبَ تَحَقُّقِهِ عَنْ الصَّوْمِ.
قَالَ (وَإِذَا تَسَحَّرَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَإِذَا هُوَ قَدْ طَلَعَ، أَوْ أَفْطَرَ وَهُوَ يَرَى أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ فَإِذَا هِيَ لَمْ تَغْرُبْ أَمْسَكَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ) قَضَاءً لِحَقِّ الْوَقْتِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ أَوْ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ (وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) لِأَنَّهُ حَقٌّ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ، كَمَا فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ (وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) لِأَنَّ الْجِنَايَةَ قَاصِرَةٌ لِعَدَمِ الْقَصْدِ،
- صلى الله عليه وسلم «مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً، وَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيهِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ» وَإِذَا كَانَ مُعَظَّمًا وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ حَقِّهِ بِالصَّوْمِ إنْ كَانَ أَهْلًا، وَبِالْإِمْسَاكِ إنْ لَمْ يَكُنْ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ خَلْفًا لَا يَكُونُ وُجُوبُهُ مَبْنِيًّا عَلَى وُجُوبِ الْأَصْلِ (بِخِلَافِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ حَيْثُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ) الْإِمْسَاكُ لِتَحَقُّقِ الْمَانِعِ عَنْهُ وَهُوَ قِيَامُ هَذِهِ الْأَعْذَارِ، فَإِنَّهَا كَمَا تَمْنَعُ عَنْ الصَّوْمِ تَمْنَعُ عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِ، أَمَّا فِي الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ فَلِأَنَّ الصَّوْمَ عَلَيْهِمَا حَرَامٌ وَالتَّشَبُّهَ بِالْحَرَامِ حَرَامٌ، وَأَمَّا فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ فَلِأَنَّ الرُّخْصَةَ فِي حَقِّهِمَا بِاعْتِبَارِ الْحَرَجِ فَلَوْ أَلْزَمْنَا التَّشَبُّهَ عَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْصِ.
قَالَ: (وَإِذَا تَسَحَّرَ وَهُوَ يُظَنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ) وَمَنْ أَخْطَأَ فِي الْفِطْرِ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ فَسَدَ صَوْمُهُ وَلَزِمَهُ إمْسَاكُ بَقِيَّةِ يَوْمِهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَلَا يَأْثَمُ بِهِ، أَمَّا فَسَادُ صَوْمِهِ فَلِانْتِفَاءِ رُكْنِهِ بِغَلَطٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ النِّسْيَانِ. وَأَمَّا إمْسَاكُ الْبَقِيَّةِ فَلِقَضَاءِ حَقِّ الْوَقْتِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا أَوْ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ، فَإِنَّهُ إذَا أَكَلَ وَلَا عُذْرَ بِهِ اتَّهَمَهُ النَّاسُ بِالْفِسْقِ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْ مَوَاضِعِ التُّهَمِ وَاجِبٌ بِالْحَدِيثِ. وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَلِأَنَّهُ حَقٌّ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ شَرْعًا فَإِذَا فَوَّتَهُ قَضَاهُ كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَأَمَّا عَدَمُ الْكَفَّارَةِ فَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ قَاصِرَةٌ لِعَدَمِ الْقَصْدِ، وَيُعَضِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه: أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا مَعَ أَصْحَابِهِ فِي رَحْبَةِ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ عِنْدَ الْغُرُوبِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَأُتِيَ بِعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبَ مِنْهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ أَنْ يُؤَذِّنَ، فَلَمَّا رَقَى الْمِئْذَنَةَ رَأَى الشَّمْسَ لَمْ تَغِبْ فَقَالَ: الشَّمْسُ
وَفِيهِ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: مَا تَجَانَفْنَا لِإِثْمٍ، قَضَاءُ يَوْمٍ عَلَيْنَا يَسِيرٌ، وَالْمُرَادُ بِالْفَجْرِ الْفَجْرُ الثَّانِي، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الصَّلَاةِ
(ثُمَّ التَّسَحُّرُ مُسْتَحَبٌّ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» (وَالْمُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «ثَلَاثٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ: تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ، وَتَأْخِيرُ السَّحُورِ، وَالسِّوَاكُ»
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ: بَعَثْنَاك دَاعِيًا وَلَمْ نَبْعَثْك رَاعِيًا (مَا تَجَانَفْنَا لِإِثْمٍ، قَضَاءُ يَوْمٍ عَلَيْنَا يَسِيرٌ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى لُزُومِ الْقَضَاءِ وَعَدَمِ الْإِثْمِ. وَإِنْ جَعَلْت الْمَوْضِعَ مَوْضِعَ بَيَانِ مَا يَجِبُ فِي مِثْلِهِ دَلَّ عَلَى عَدَمِ الْكَفَّارَةِ أَيْضًا، لِأَنَّ السُّكُوتَ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ بَيَانٌ. وَالْجَنَفُ الْمَيْلُ. فَإِنْ قِيلَ: مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَةُ الْكِتَابِ هُوَ مَا يَكُونُ ظَنًّا فَمَا حُكْمُ الشَّكِّ فِي ذَلِكَ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إذَا شَكَّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِذَا شَكَّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ وَجَبَتْ. وَالْفَرْقُ أَنَّهُ مَتَى. شَكَّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ فَأَفْطَرَ فَقَدْ كَمَّلَ الْفِطْرَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَدِّي، لِأَنَّهُ كَانَ مُتَيَقِّنًا بِالنَّهَارِ شَاكًّا بِاللَّيْلِ، وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ وَفِي طُلُوعِ الْفَجْرِ بِالْعَكْسِ. وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ فِيهِ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ. وَقَوْلُهُ (وَالْمُرَادُ بِالْفَجْرِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ التَّسَحُّرُ) السَّحَرُ آخِرُ اللَّيْلِ، عَنْ اللَّيْثِ قَالُوا: هُوَ السُّدُسُ الْأَخِيرُ، وَالسَّحُورُ اسْمٌ لِمَا يُؤْكَلُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» أَيْ فِي أَكْلِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْبَرَكَةِ زِيَادَةُ الْقُوَّةِ عَلَى أَدَاءِ الصَّوْمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَيْلُ زِيَادَةِ الثَّوَابِ لِاسْتِنَانِهِ بِسُنَنِ الْمُرْسَلِينَ، ثُمَّ تَأْخِيرُ أَكْلَ السُّحُورِ مُسْتَحَبٌّ فِي مُسْتَحَبٍّ، فَإِنَّ نَفْسَ التَّسَحُّرِ مُسْتَحَبٌّ. وَتَأْخِيرَهُ مُسْتَحَبٌّ أَيْضًا، فَكَانَ التَّأْخِيرُ مُسْتَحَبًّا فِي مُسْتَحَبٍّ. قَالَ عليه الصلاة والسلام «ثَلَاثٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ: تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ، وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ، وَالسِّوَاكُ» فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ جَعْلِ تَأْخِيرِ السُّحُورِ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَبِأُمَّتِهِ عليه الصلاة والسلام، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «فَرْقُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلُ السَّحُورِ». أُجِيبَ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَكْلَةُ الثَّانِيَةُ فَإِنَّهَا كَانَتْ تَجْرِي مَجْرَى السُّحُورِ فِي حَقِّهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ
(إلَّا أَنَّهُ إذَا شَكَّ فِي الْفَجْرِ) وَمَعْنَاهُ تَسَاوِي الظَّنَّيْنِ (الْأَفْضَلُ أَنْ يَدَعَ الْأَكْلَ) تَحَرُّزًا عَنْ الْمُحَرَّمِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَوْ أَكَلَ فَصَوْمُهُ تَامٌّ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ اللَّيْلُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَسْتَبِينُ الْفَجْرَ، أَوْ كَانَتْ اللَّيْلَةُ مُقْمِرَةً أَوْ مُتَغَيِّمَةً. أَوْ كَانَ بِبَصَرِهِ عِلَّةٌ وَهُوَ يَشُكُّ لَا يَأْكُلُ، وَلَوْ أَكَلَ فَقَدْ أَسَاءَ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَكَلَ وَالْفَجْرُ طَالِعٌ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ عَمَلًا بِغَالِبِ الرَّأْيِ، وَفِيهِ الِاحْتِيَاطُ. وَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يُزَالُ إلَّا بِمِثْلِهِ، وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّ الْفَجْرَ طَالِعٌ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بَنَى الْأَمْرَ عَلَى الْأَصْلِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْعَمْدِيَّةُ (وَلَوْ شَكَّ فِي غُرُوبِ الشَّمْسِ لَا يَحِلُّ لَهُ الْفِطْرُ)
أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ. وَالثَّانِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مَا كَانَ لَهُمْ سُحُورٌ، وَهَذَا غَيْرُ الْأَوَّلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَنْبِيَاؤُهُمْ يَتَسَحَّرُونَ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ إذَا شَكَّ فِي الْفَجْرِ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَعَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ) هُوَ الصَّحِيحُ،
لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ النَّهَارُ (وَلَوْ أَكَلَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) عَمَلًا بِالْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَكَلَ قَبْلَ الْغُرُوبِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ رِوَايَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ النَّهَارَ هُوَ الْأَصْلُ، وَلَوْ كَانَ شَاكًّا فِيهِ وَتَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَغْرُبْ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الْكَفَّارَةُ نَظَرًا إلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ النَّهَارُ.
(وَمَنْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا وَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ فَأَكَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَعَمِّدًا عَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ) لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ اسْتَنَدَ إلَى الْقِيَاسِ فَتَتَحَقَّقُ الشُّبْهَةُ، وَإِنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ وَعَلِمَهُ فَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
لِأَنَّ اللَّيْلَ هُوَ الْأَصْلُ فَلَا يُنْتَقَلُ عَنْهُ إلَّا بِيَقِينٍ، وَأَكْبَرُ الرَّأْيِ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَقَوْلُهُ (رِوَايَةً وَاحِدَةً) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَيْ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، لِأَنَّ النَّهَارَ كَانَ ثَابِتًا وَقَدْ انْضَمَّ إلَيْهِ أَكْبَرُ الرَّأْيِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ، وَإِنَّمَا قَالَ: رِوَايَةً وَاحِدَةً احْتِرَازًا عَمَّا إذَا كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّ الْفَجْرَ طَالِعٌ، لِأَنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا) ظَاهِرٌ (لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ اسْتَنَدَ إلَى الْقِيَاسِ) لِأَنَّ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَبْقَى الصَّوْمُ بِانْتِفَاءِ رُكْنِهِ بِالْأَكْلِ نَاسِيًا، فَإِذَا أَكَلَ بَعْدَهُ عَامِدًا لَمْ يُلَاقِ فِعْلَهُ الصَّوْمَ
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهَا تَجِبُ، وَكَذَا عَنْهُمَا لِأَنَّهُ لَا اشْتِبَاهَ فَلَا شُبْهَةَ. وَجْهُ الْأَوَّلِ قِيَامُ الشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ بِالنَّظَرِ إلَى الْقِيَاسِ فَلَا يَنْتَفِي بِالْعِلْمِ كَوَطْءِ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ.
(وَلَوْ احْتَجَمَ وَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ ثُمَّ أَكَلَ مُتَعَمِّدًا عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ) لِأَنَّ الظَّنَّ مَا اسْتَنَدَ إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ
فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ لَا اشْتِبَاهَ) يَعْنِي إذَا عُلِمَ الْحَدِيثُ عُلِمَ أَنَّ الْقِيَاسَ مَتْرُوكٌ، وَالْمَتْرُوكُ لَا يُورِثُ شُبْهَةً فَلَا شُبْهَةَ.
وَقَوْلُهُ (وَجْهُ الْأَوَّلِ) يَعْنِي عَدَمَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ (قِيَامُ الشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ بِالنَّظَرِ إلَى الْقِيَاسِ) وَهَذَا لِأَنَّ الشُّبْهَةَ الْحُكْمِيَّةَ هِيَ الشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ، وَهِيَ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِقِيَامِ الدَّلِيلِ النَّافِي لِلْحُرْمَةِ فِي ذَاتِهِ وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى ظَنِّ الْجَانِي وَاعْتِقَادِهِ كَمَا سَيَجِيءُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ، وَالْقِيَاسُ دَلِيلٌ قَائِمٌ يَنْفِي حُرْمَةَ الْأَكْلِ الثَّانِي سَوَاءٌ عَلِمَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ (كَوَطْءِ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ) فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ سَوَاءٌ كَانَ الْأَبُ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ أَوْ لَا.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ احْتَجَمَ) صُورَتُهُ ظَاهِرَةٌ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الظَّنَّ مَا اسْتَنَدَ إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ) فَإِنَّ الْحِجَامَةَ كَالْفَصْدِ فِي خُرُوجِ الدَّمِ مِنْ الْعُرُوقِ وَالْفَصْدُ لَا يُفْسِدُ، فَكَذَا الْحِجَامَةُ. لَا يُقَالُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَدَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ وُصُولُ شَيْءٍ إلَى بَاطِنِهِ وَلَا قَضَاءُ شَهْوَةٍ. وَمَعَ ذَلِكَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ لِأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ كَالِاسْتِقَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلْتَكُنْ الْحِجَامَةُ كَذَلِكَ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» . أُجِيبَ «بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ» رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَرَوَى أَيْضًا «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ» فَكَانَ الْحَدِيثُ مُعَارَضًا بِهِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ. لَا يُقَالُ: مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما حِكَايَةُ فِعْلٍ وَالْقَوْلُ رَاجِحٌ، لِأَنَّ الْقَوْلَ إنَّمَا يَكُونُ رَاجِحًا إذَا لَمْ يَكُنْ مُؤَوَّلًا وَهَذَا مُؤَوَّلٌ عَلَى مَا يُذْكَرُ.
إلَّا إذَا أَفْتَاهُ فَقِيهٌ بِالْفَسَادِ لِأَنَّ الْفَتْوَى دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فِي حَقِّهِ، وَلَوْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ وَاعْتَمَدَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، لِأَنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام لَا يَنْزِلُ عَنْ قَوْلِ الْمُفْتِي، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خِلَافُ ذَلِكَ، لِأَنَّ عَلَى الْعَامِّيِّ الِاقْتِدَاءَ بِالْفُقَهَاءِ لِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ فِي حَقِّهِ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَحَادِيثِ، وَإِنْ عَرَفَ تَأْوِيلَهُ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِانْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ، وَقَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ رحمه الله لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ لِمُخَالَفَتِهِ الْقِيَاسَ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا إذَا أَفْتَاهُ فَقِيهٌ) يَعْنِي حِينَئِذٍ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ.
وَالْمُرَادُ بِهِ فَقِيهٌ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْفِقْهُ وَيُعْتَمَدُ عَلَى فَتْوَاهُ فِي الْبَلَدِ، هَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَبِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَابْنِ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمهم الله (لِأَنَّ الْفَتْوَى دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فِي حَقِّهِ) فَتَصِيرُ شُبْهَةً (وَإِنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ) وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» رُوِيَ بِالْوَاوِ وَبِغَيْرِهِ بِنَصْبِ الْمَحْجُومِ (وَاعْتَمَدَهُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ) لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ (لِأَنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ لَا يَنْزِلُ عَنْ قَوْلِ الْمُفْتِي، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ خِلَافُ ذَلِكَ) يَعْنِي لَا تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ (لِأَنَّ عَلَى الْعَامِّيِّ الِاقْتِدَاءَ بِالْفُقَهَاءِ لِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ فِي حَقِّهِ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَحَادِيثِ) لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَصْرُوفًا عَنْ ظَاهِرِهِ أَوْ مَنْسُوخًا (وَإِنْ عَرَفَ تَأْوِيلَهُ) وَهُوَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِهِمَا وَهُمَا مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ مَعَ حَاجِمِهِ وَهُمَا يَغْتَابَانِ آخَرَ فَقَالَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» أَيْ ذَهَبَ بِثَوَابِ صَوْمِهِمَا الْغِيبَةُ. وَقِيلَ: «إنَّهُ غُشِيَ عَلَى الْمَحْجُومِ فَصَبَّ الْحَاجِمُ الْمَاءَ فِي حَلْقِهِ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام أَفْطَرَ الْحَاجِمُ الْمَحْجُومَ» أَيْ فَطَّرَهُ بِمَا صَنَعَ بِهِ فَوَقَعَ عِنْدَ الرَّاوِي أَنَّهُ قَالَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» (تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِانْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ) لِأَنَّهَا نَشَأَتْ مِنْ الِاعْتِمَادِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَقَدْ زَالَ بِمَعْرِفَةِ التَّأْوِيلِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ
(وَلَوْ أَكَلَ بَعْدَمَا اغْتَابَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ كَيْفَمَا كَانَ)
أَنَّ مَنْشَأَ الشُّبْهَةِ ذَلِكَ وَحْدَهُ بَلْ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ بِذَلِكَ مُنْشَأٌ لَهَا أَيْضًا. أَجَابَ: بِأَنَّ قَوْلَ الْأَوْزَاعِيِّ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ لِمُخَالَفَتِهِ الْقِيَاسَ، فَإِنَّ الْفِطْرَ مِمَّا يَدْخُلُ لَا مِمَّا يَخْرُجُ، بِخِلَافِ قَوْلِ مَالِكٍ فِي أَكْلِ النَّاسِي. لَا يُقَالُ فِي عِبَارَتِهِ تَنَاقُضٌ لِأَنَّهُ قَالَ: إلَّا إذَا أَفْتَاهُ فَقِيهٌ، وَفَتْوَاهُ لَا تَكُونُ إلَّا بِقَوْلِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ: لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ، وَأَيْضًا الْفَتْوَى فِي هَذَا الْبَابِ لَا تَكُونُ إلَّا مُخَالَفَةً لِلْقِيَامِ فَكَيْفَ تَكُونُ شُبْهَةً مِنْ غَيْرِ الْأَوْزَاعِيِّ دُونِهِ. لِأَنَّا نَقُولُ: ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَامِّيِّ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ عَرَفَ التَّأْوِيلَ (وَلَوْ أَكَلَ بَعْدَمَا اغْتَابَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ كَيْفَمَا كَانَ)
لِأَنَّ الْفِطْرَ يُخَالِفُ الْقِيَاسَ، وَالْحَدِيثُ مُؤَوَّلٌ بِالْإِجْمَاعِ.
أَيْ سَوَاءٌ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ، عَرَفَ تَأْوِيلَهُ أَوْ لَمْ يَعْرِفْ، أَفْتَاهُ مُفْتٍ أَوْ لَمْ يُفْتِ (لِأَنَّ الْفِطْرَ بِهَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ وَالْحَدِيثَ) وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «الْغِيبَةُ تُفَطِّرُ الصَّائِمَ» (مُؤَوَّلٌ بِالْإِجْمَاعِ) بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ذَهَابُ الثَّوَابِ فَلَمْ يُوجَدْ الدَّلِيلُ النَّافِي لِلْحُرْمَةِ فِي ذَاتِهِ فَلَا يَكُونُ شُبْهَةً، بِخِلَافِ حَدِيثِ الْحِجَامَةِ فَإِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أَخَذَ
(وَإِذَا جُومِعَتْ النَّائِمَةُ أَوْ الْمَجْنُونَةُ وَهِيَ صَائِمَةٌ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا اعْتِبَارًا بِالنَّاسِي، وَالْعُذْرُ هُنَا أَبْلَغُ لِعَدَمِ الْقَصْدِ. وَلَنَا أَنَّ النِّسْيَانَ يَغْلِبُ وُجُودُهُ وَهَذَا نَادِرٌ، وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِانْعِدَامِ الْجِنَايَةِ.
بِظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا جُومِعَتْ النَّائِمَةُ أَوْ الْمَجْنُونَةُ) أَمَّا صَوْمُ النَّائِمَةِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمَجْنُونَةُ فَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي صِحَّةِ صَوْمِهَا لِأَنَّهَا لَا تُجَامِعُ الْجُنُونَ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيِّ رحمه الله قَالَ: لَمَّا قَرَأَتْ عَلَى مُحَمَّدٍ رحمه الله هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قُلْت لَهُ: كَيْفَ تَكُونُ صَائِمَةً وَهِيَ مَجْنُونَةٌ؟ فَقَالَ لِي: دَعْ هَذَا فَإِنَّهُ انْتَشَرَ فِي الْأُفُقِ. فَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ: كَأَنَّهُ كُتِبَ فِي الْأَصْلِ مَجْبُورَةٌ فَظَنَّ الْكَاتِبُ مَجْنُونَةً، وَلِهَذَا قَالَ: دَعْ فَإِنَّهُ انْتَشَرَ فِي الْأُفُقِ، وَأَكْثَرُهُمْ قَالُوا: تَأْوِيلُهُ أَنَّهَا كَانَتْ عَاقِلَةً بَالِغَةً فِي أَوَّلِ النَّهَارِ ثُمَّ جُنَّتْ فَجَامَعَهَا زَوْجُهَا ثُمَّ أَفَاقَتْ وَعَلِمَتْ بِمَا فَعَلَ بِهَا الزَّوْجُ (وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِمَا إلْحَاقًا بِالنَّاسِي، لِأَنَّ الْعُذْرَ فِيهِمَا أَبْلَغُ لِعَدَمِ الْقَصْدِ) وَلَنَا أَنَّ الْإِلْحَاقَ إنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ النِّسْيَانَ يَغْلِبُ وُجُودُهُ فَيُفْضِي إلَى الْحَرَجِ (وَهَذَا) جِمَاعُ الْمَجْنُونَةِ وَالنَّائِمَةِ (نَادِرٌ) فَالْقَضَاءُ لَا يُفْضِي إلَى الْحَرَجِ (وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِانْعِدَامِ الْجِنَايَةِ) لِعَدَمِ الْقَصْدِ.
فَصْلٌ فِيمَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ
(وَإِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ أَفْطَرَ وَقَضَى) فَهَذَا النَّذْرُ صَحِيحٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيَّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. هُمَا يَقُولَانِ: إنَّهُ نَذْرٌ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ. وَلَنَا أَنَّهُ نَذَرَ بِصَوْمٍ مَشْرُوعٍ وَالنَّهْيُ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ تَرْكُ إجَابَةِ دَعْوَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَصِحُّ نَذْرُهُ لَكِنَّهُ يُفْطِرُ احْتِرَازًا عَنْ الْمَعْصِيَةِ الْمُجَاوِرَةِ ثُمَّ يَقْضِي إسْقَاطًا لِلْوَاجِبِ، وَإِنْ صَامَ فِيهِ يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ كَمَا الْتَزَمَهُ.
فَصْلٌ فِيمَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ)
:
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ، شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُوجِبُهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ فَرْعٌ عَلَى الْأَوَّلِ، وَلِهَذَا شَرَطَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا بِإِيجَابِ اللَّهِ (وَإِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ، أَفْطَرَ وَقَضَى) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ هَذَا نَذْرٌ بِالْمَعْصِيَةِ (لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ) قَالَ صلى الله عليه وسلم «أَلَا لَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ» الْحَدِيثَ، وَالنَّذْرُ بِالْمَعْصِيَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ» (وَلَنَا أَنَّ هَذَا نَذْرٌ بِصَوْمٍ مَشْرُوعٍ) لِأَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ كَفًّا لِلنَّفْسِ الَّتِي هِيَ عَدُوُّ اللَّهِ عَنْ شَهَوَاتِهَا لَا يُفْصَلُ بَيْنَ يَوْمٍ وَيَوْمٍ، فَكَانَ مِنْ حَيْثُ حَقِيقَتُهُ حَسَنًا مَشْرُوعًا، وَالنَّذْرُ بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ جَائِزٌ، وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ النَّهْيِ فَإِنَّمَا هُوَ لِغَيْرِهِ الْمُجَاوِرِ (وَهُوَ تَرْكُ إجَابَةِ دَعْوَةِ اللَّهِ تَعَالَى) لِأَنَّ النَّاسَ أَضْيَافُ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَإِذَا كَانَ لِغَيْرِهِ لَا يُمْنَعُ صِحَّتُهُ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الْإِمْسَاكُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ أَلْبَتَّةَ، وَتَرْكُ الْإِجَابَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ قَبِيحٌ فَمَا يَسْتَلْزِمُهُ كَذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ أَمْسَكَ حَمِيَّةً أَوْ لِضَعْفٍ أَوْ لِعَدَمِ مَا يَأْكُلُهُ لَا يَكُونُ تَارِكًا لِلْإِجَابَةِ. فَإِنْ قِيلَ: الْإِمْسَاكُ عِبَادَةٌ تَسْتَلْزِمُهُ. قُلْنَا: كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا بِالْوَجْهِ وَالِاعْتِبَارِ. وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ صِحَّتِهِ فَلَنَا أَنْ نَقُولَ هَذَا الصَّوْمُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَرْكُ إجَابَةِ دَعْوَةِ اللَّهِ قَبِيحٌ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَهْرٌ لِلنَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ حَسَنٌ، (فَيَصِحُّ النَّذْرُ لَكِنَّهُ يُفْطِرُ احْتِرَازًا عَنْ الْمَعْصِيَةِ الْمُجَاوِرَةِ ثُمَّ يَقْضِي إسْقَاطًا لِلْوَاجِبِ، وَإِنْ صَامَ فِيهِ يَخْرُجْ عَنْ الْعُهْدَةِ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ كَمَا الْتَزَمَهُ) فَإِنَّ مَا وَجَبَ نَاقِصًا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَدَّى نَاقِصًا. فَإِنْ قُلْت:
(وَإِنْ نَوَى يَمِينًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ) يَعْنِي. إذَا أَفْطَرَ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ سِتَّةٍ: إنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَوْ نَوَى النَّذْرَ لَا غَيْرَ، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ يَمِينًا يَكُونُ نَذْرًا لِأَنَّهُ نَذَرَ بِصِيغَتِهِ. كَيْفَ وَقَدْ قَرَّرَهُ بِعَزِيمَتِهِ؟ وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ نَذْرًا يَكُونُ يَمِينًا، لِأَنَّ الْيَمِينَ مُحْتَمِلٌ كَلَامَهُ وَقَدْ عَيَّنَهُ وَنَفَى غَيْرَهُ، وَإِنْ نَوَاهُمَا يَكُونُ نَذْرًا وَيَمِينًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله يَكُونُ نَذْرًا، وَلَوْ نَوَى الْيَمِينَ فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ يَكُونُ يَمِينًا. لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ النَّذْرَ فِيهِ حَقِيقَةٌ وَالْيَمِينَ مَجَازٌ حَتَّى لَا يَتَوَقَّفَ الْأَوَّلُ عَلَى النِّيَّةِ، وَيَتَوَقَّفَ الثَّانِي فَلَا يَنْتَظِمُهُمَا، ثُمَّ الْمَجَازُ يَتَعَيَّنُ بِنِيَّتِهِ، وَعِنْدَ نِيَّتِهِمَا تَتَرَجَّحُ الْحَقِيقَةُ.
سَمَّى الْمُصَنِّفُ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْقُبْحِ مُجَاوِرًا وَهُوَ عَلَى خِلَافِ مَا فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ قَاطِبَةً، فَإِنَّهُمْ سَمَّوْهُ بِالْمُتَّصِلِ وَصْفًا، وَأَمَّا الْمُجَاوِرُ جَمْعًا فَمِثْلُ الْبَيْعِ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ.
قُلْت: سُؤَالٌ حَسَنٌ. وَالتَّقَصِّي عَنْ عُهْدَةِ جَوَابِهِ مُشْكِلٌ، وَتَقْرِيرُنَا كَافِلٌ كَافٍ لِتَقْرِيرِهِ فَلْيُطْلَبْ ثَمَّةَ فَإِنَّهُ مِنْ مَبَاحِثِ الْأُصُولِ. قَالَ (وَإِنْ نَوَى يَمِينًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى سِتَّةِ أَوْجُهٍ، وَالْجَمِيعُ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ، فَفِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ وَهِيَ: مَا إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَوْ نَوَى النَّذْرَ لَا غَيْرُ، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ يَمِينًا، يَكُونَ نَذْرًا بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي الْوَاحِدِ يَكُونُ يَمِينًا بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ مَا إذَا نَوَى الْيَمِينَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ نَذْرًا، وَفِي الِاثْنَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَهُمَا أَوْ نَوَى الْيَمِينَ لَا غَيْرُ يَكُونُ نَذْرًا وَيَمِينًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَوَّلِ نَذْرٌ وَفِي الْيَمِينِ يَمِينٌ، ثُمَّ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا ظَاهِرَةٌ، وَكَفَى بِعَدَمِ الْمُنَازِعِ دَلِيلًا، وَأَمَّا وَجْهُ الْبَاقِينَ فَلِأَبِي يُوسُفَ (أَنَّ النَّذْرَ فِيهِ) أَيْ فِي هَذَا الْكَلَامِ (حَقِيقَةٌ) لِعَدَمِ تَوَقُّفِهِ عَلَى النِّيَّةِ (وَالْيَمِينَ مَجَازٌ) لِتَوَقُّفِهِ عَلَيْهَا، وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَنْتَظِمُ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ.
فَإِذَا نَوَاهُمَا
وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْن الْجِهَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا يَقْتَضِيَانِ الْوُجُوبَ إلَّا أَنَّ النَّذْرَ يَقْتَضِيهِ لِعَيْنِهِ وَالْيَمِينَ لِغَيْرِهِ،
وَالْحَقِيقَةُ مُرَادَةٌ فَلَا يَكُونُ الْمَجَازُ مُرَادًا، وَإِذَا نَوَى الْيَمِينَ تَعَيَّنَ الْمَجَازُ بِنِيَّتِهِ فَلَا تَكُونُ الْحَقِيقَةُ مُرَادَةً (وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ) يَعْنِي: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ مَوْضُوعٌ لِلْوُجُوبِ وَمُسْتَعْمَلٌ فِي الْوُجُوبِ، وَلَيْسَ بِمُسْتَعْمَلٍ فِي غَيْرِ الْوُجُوبِ أَيْضًا حَتَّى يَلْزَمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، غَيْرَ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ مِنْ جِهَتَيْنِ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، نَشَأَتْ إحْدَاهُمَا مِنْ النَّذْرِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِيهِ لِعَيْنِهِ، وَلِهَذَا يَجِبُ الْقَضَاءُ إذَا تَرَكَهُ، وَالْأُخْرَى مِنْ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِيهِ لِعَيْنِهِ وَهُوَ صِيَانَةُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ الْهَتْكِ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بَلْ الْكَفَّارَةُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُنْشَأَيْنِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ إذْ أَمْكَنَ، وَالْعَمَلُ بِهِمَا مُمْكِنٌ لِعَدَمِ التَّنَافِي بَيْنَهُمَا
فَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ، كَمَا جَمَعْنَا بَيْنَ جِهَتَيْ التَّبَرُّعِ وَالْمُعَاوَضَةِ فِي الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ.
(وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ هَذِهِ السَّنَةِ
فَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ كَمَا جَمَعْنَا بَيْنَ جِهَتَيْ التَّبَرُّعِ وَالْمُعَاوَضَةِ فِي الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ) هَذَا الَّذِي ظَهَرَ لِي مِنْ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلِلنَّاسِ فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَذْهَبِهِمَا أَنْوَاعٌ مِنْ التَّوْجِيهَاتِ، فَمَنْ تَشَوَّفَ إلَيْهَا طَالَعَ التَّقْرِيرَ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ) يَعْنِي أَنَّ مَنْ نَذَرَ صَوْمَ سَنَةٍ فَلَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ عَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ: هَذِهِ السَّنَةَ، أَوْ أَطْلَقَهَا بِأَنْ
أَفْطَرَ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَقَضَاهَا) لِأَنَّ النَّذْرَ بِالسَّنَةِ الْمُعَيَّنَةِ نَذْرٌ بِهَذِهِ الْأَيَّامِ، وَكَذَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ لَكِنَّهُ شَرَطَ التَّتَابُعَ، لِأَنَّ الْمُتَابَعَةَ لَا تَعْرَى عَنْهَا لَكِنْ يَقْضِيهَا فِي هَذَا الْفَصْلِ مَوْصُولَةً تَحْقِيقًا لِلتَّتَابُعِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ،
قَالَ: سَنَةً، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَزِمَهُ صَوْمُ السَّنَةِ إلَّا أَنَّهُ أَفْطَرَ الْأَيَّامَ الْخَمْسَةَ وَقَضَاهَا (لِأَنَّ النَّذْرَ بِالسَّنَةِ الْمُعَيَّنَةِ نَذْرٌ بِهَذِهِ الْأَيَّامِ) وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ لِأَنَّ صَوْمَهُ لَمْ يَجِبْ بِهَذَا النَّذْرِ، وَلَوْ صَامَ الْأَيَّامَ الْخَمْسَةَ جَازَ لِمَا تَقَدَّمَ،
وَيَتَأَتَّى فِي هَذَا خِلَافُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيَّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِلنَّهْيِ عَنْ الصَّوْمِ فِيهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «أَلَا لَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ» وَقَدْ بَيَّنَّا الْوَجْهَ فِيهِ وَالْعُذْرَ عَنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ التَّتَابُعَ
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِطَ التَّتَابُعَ أَوْ لَا، فَإِنْ شَرَطَهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُعَيَّنَةِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَمْ يُجْزِهِ صَوْمُ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَيَقْضِي خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا خَمْسَةً لِلْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا لِرَمَضَانَ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ، وَمَبْنَى جَوَازِ صَوْمِ هَذِهِ
لَمْ يُجْزِهِ صَوْمُ هَذِهِ الْأَيَّامِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يَلْتَزِمُهُ الْكَمَالُ، وَالْمُؤَدَّى نَاقِصٌ لِمَكَانٍ النَّهْيِ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَيَّنَهَا لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِوَصْفِ النُّقْصَانِ فَيَكُونُ الْأَدَاءُ بِالْوَصْفِ الْمُلْتَزَمِ. قَالَ (وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إنْ أَرَادَ بِهِ يَمِينًا) وَقَدْ سَبَقَتْ وُجُوهُهُ.
(وَمَنْ أَصْبَحَ يَوْمَ النَّحْرِ صَائِمًا ثُمَّ أَفْطَرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ) لِأَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ، وَصَارَ كَالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ. وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّ بِنَفْسِ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ يُسَمَّى صَائِمًا حَتَّى يَحْنَثَ بِهِ الْحَالِفُ عَلَى
الْأَيَّامِ وَعَدَمِ جَوَازِهِ أَنَّ مَا وَجَبَ كَامِلًا لَا يَتَأَدَّى نَاقِصًا، وَمَا وَجَبَ نَاقِصًا جَازَ أَنْ يَتَأَدَّى نَاقِصًا.
وَقَوْلُهُ (وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ) يَعْنِي عَنْهُمَا بَيْنَ النَّذْرِ وَالشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ وَبَيْنَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ، وَالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، فَإِنَّ فِي النَّذْرِ يَلْزَمُ الْقَضَاءُ وَفِي الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ لَا يَلْزَمُ، وَفِي الصَّلَاةِ يَلْزَمُهُ
الصَّوْمِ فَيَصِيرُ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ، فَيَجِبُ إبْطَالُهُ فَلَا تَجِبُ صِيَانَتُهُ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ يُبْتَنَى عَلَيْهِ، وَلَا يَصِيرُ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ بِنَفْسِ النَّذْرِ وَهُوَ الْمُوجِبُ، وَلَا بِنَفْسِ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يُتِمَّ رَكْعَةً، وَلِهَذَا لَا يَحْنَثُ بِهِ الْحَالِفُ عَلَى الصَّلَاةِ فَتَجِبُ صِيَانَةُ الْمُؤَدَّى وَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقَضَاءِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ فِي فَصْلِ الصَّلَاةِ أَيْضًا، وَالْأَظْهَرُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
إذَا أَفْسَدَهَا. وَحَاصِلُ الْفَرْقِ بَيْنَ النَّذْرِ وَالشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ أَنَّ الشُّرُوعَ إحْدَاثُ الْفِعْلِ فِي الْخَارِجِ وَهُوَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ تَرْكُ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ فَيَجِبُ إبْطَالُهُ فَلَا تَجِبُ صِيَانَتُهُ، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ يَنْبَنِي عَلَى وُجُوبِ الصِّيَانَةِ، وَأَمَّا النَّذْرُ فَإِنَّمَا هُوَ إيجَابٌ فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ وَجَازَ لِلْعَقْلِ أَنْ يُجَرِّدَ الْأَصْلَ عَنْ الْوَصْفِ فَلَمْ يَكُنْ مُرْتَكِبًا لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَأَمَّا الشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ فَإِنَّمَا صَارَ مُوجِبًا لِلْقَضَاءِ، لِأَنَّ مَا شُرِعَ فِيهِ لَا يَكُونُ صَلَاةً حَتَّى يُتِمَّ رَكْعَةً، وَلِهَذَا لَا يَحْنَثُ بِهِ الْحَالِفُ عَلَى الصَّلَاةِ، فَلَمْ يَكُنْ الشُّرُوعُ فِي الِابْتِدَاءِ إحْدَاثًا لِفِعْلِ الصَّلَاةِ فِي الْخَارِجِ فَكَانَ كَالنَّذْرِ فِي الِانْفِصَالِ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَتَجِبُ الصِّيَانَةُ وَالْقَضَاءُ بِتَرْكِهَا، هَذَا مَا سَنَحَ لِي فِي تَوْجِيهِ كَلَامِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
بَابُ الِاعْتِكَافِ
قَالَ (الِاعْتِكَافُ مُسْتَحَبٌّ) وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام وَاظَبَ عَلَيْهِ
بَابُ الِاعْتِكَافِ)
:
وَجْهُ تَقْدِيمِ الصَّوْمِ عَلَى الِاعْتِكَافِ وَجْهُ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ عَلَى الصَّلَاةِ، وَبَيَّنَ صِفَتَهُ قَبْلَ بَيَانِ تَفْسِيرِهِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ مِنْ حَيْثُ عِلْمُ الْفِقْهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُوَاظَبَةُ ثَابِتَةٌ مِنْ غَيْرِ تَرْكٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ إلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ» . أُجِيبَ: بِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَنْكَرَ، فَكَانَتْ الْمُوَاظَبَةُ بِلَا تَرْكٍ مُعَارِضًا بِتَرْكِ الْإِنْكَارِ،
الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ وَالْمُوَاظَبَةُ دَلِيلُ السُّنَّةِ (وَهُوَ اللَّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الصَّوْمِ وَنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ) أَمَّا اللَّبْثُ فَرُكْنُهُ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْهُ فَكَانَ وُجُودُهُ بِهِ، وَالصَّوْمُ مِنْ شَرْطِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله، وَالنِّيَّةُ شَرْطٌ فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، هُوَ يَقُولُ: إنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ وَهُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ شَرْطًا لِغَيْرِهِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِالصَّوْمِ» وَالْقِيَاسُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ الْمَنْقُولِ غَيْرُ مَقْبُولٍ،
وَتَفْسِيرُهُ لُغَةً الِاحْتِبَاسُ، لِأَنَّهُ مِنْ الْعُكُوفِ وَهُوَ الْحَبْسُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا} وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ شَرِيعَةً فَمَا ذَكَرَهُ أَنَّهُ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الصَّوْمِ وَنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ، وَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ رُكْنُهُ وَهُوَ اللُّبْثُ لِأَنَّهُ يُنْبِي عَنْهُ لُغَةً كَمَا ذَكَرْنَا، وَبَعْضُ شَرَائِطِهِ وَهُوَ الصَّوْمُ وَالنِّيَّةُ، أَمَّا النِّيَّةُ فَهِيَ شَرْطٌ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ، وَأَمَّا الصَّوْمُ فَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. هُوَ يَقُولُ: الصَّوْمُ عِبَادَةٌ وَهُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ شَرْطًا لِغَيْرِهِ وَإِلَّا لَا يَكُونُ أَصْلًا بِنَفْسِهِ، فَمَا فَرَضْنَاهُ أَصْلًا لَا يَكُونُ أَصْلًا، هَذَا خَلْفٌ بَاطِلٌ.
(وَلَنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِالصَّوْمِ» رَوَتْهُ عَائِشَةُ رضي الله عنها (وَالْقِيَاسُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ الْمَنْقُولِ غَيْرُ مَقْبُولٍ) وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
ثُمَّ الصَّوْمُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَاجِبِ مِنْهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَلِصِحَّةِ التَّطَوُّعِ فِيمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
أَحَدُهُمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ الِاعْتِكَافَ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فَاشْتِرَاطُ الصَّوْمِ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَهُوَ نَسْخٌ لَا يَجُوزُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الِاعْتِكَافَ يَتَحَقَّقُ فِي اللَّيَالِي وَالصَّوْمُ فِيهَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَفِي ذَلِكَ تَحَقُّقُ الْمَشْرُوطِ بِدُونِ الشَّرْطِ وَهُوَ بَاطِلٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ الْإِمْسَاكَ عَنْ الْجِمَاعِ ثَبَتَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الِاعْتِكَافِ بِهَذَا النَّصِّ الْقَطْعِيِّ وَهُوَ أَحَدُ رُكْنَيْ الصَّوْمِ فَأُلْحِقَ بِهِ الرُّكْنُ الْآخَرُ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ شَهْوَةِ الْبَطْنِ بِالدَّلَالَةِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، كَمَا أُلْحِقَ الْجِمَاعُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ نَاسِيًا فِي حَقِّ بَقَاءِ الصَّوْمِ بِالدَّلَالَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى، ثُمَّ لَمَّا ثَبَتَ وُجُوبُ الْإِمْسَاكِ عَلَى الْمُعْتَكِفِ عَنْ الشَّهْوَتَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى كَانَ صَوْمًا. وَعَنْ الثَّانِي: بِأَنَّ الشُّرُوطَ إنَّمَا تَثْبُتُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَإِنَّ مَنْ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ مُتَتَابِعٍ لَمْ يَنْقَطِعْ التَّتَابُعُ بِعُذْرِ الْحَيْضِ، وَالصَّوْمُ فِي اللَّيَالِي غَيْرُ مُمْكِنٍ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ الصَّوْمُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَاجِبِ مِنْهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً)
لِظَاهِرِ مَا رَوَيْنَا وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ.
أَيْ لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ. فَمَعْنَاهُ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ.
وَقَوْلُهُ (وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ) يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَوْ صَامَ رَجُلٌ تَطَوُّعًا ثُمَّ قَالَ قَبْلَ انْتِصَافِ النَّهَارِ: عَلَيَّ اعْتِكَافُ هَذَا الْيَوْمِ. لَا يَكُونُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّ صَوْمَهُ
وَفِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ. وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَقَلُّهُ سَاعَةٌ فَيَكُونُ مِنْ غَيْرِ صَوْمٍ. لِأَنَّ مَبْنَى النَّفْلِ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقْعُدُ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ. وَلَوْ شَرَعَ فِيهِ ثُمَّ قَطَعَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فَلَمْ يَكُنْ الْقَطْعُ إبْطَالًا. وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ: يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْيَوْمِ كَالصَّوْمِ.
، ثُمَّ الِاعْتِكَافُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ لِقَوْلِ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه " لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ " وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي مَسْجِدٍ يُصَلَّى فِيهِ
انْعَقَدَ تَطَوُّعًا فَتَعَذَّرَ جَعْلُهُ وَاجِبًا بِنَذْرِ الِاعْتِكَافِ. وَقَوْلُهُ (وَفِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ) قَالُوا: هِيَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فَلَمْ يَكُنْ الْقَطْعُ إبْطَالًا) يُفْهَمُ مِنْهُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ شَرَعَ فِي الِاعْتِكَافِ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ مُتَطَوِّعًا حَيْثُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَوَّلِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُقَدَّرٍ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْآخَرَيْنِ، لِأَنَّ الصَّوْمَ مُقَدَّرٌ بِيَوْمٍ، وَالصَّلَاةَ بِرَكْعَتَيْنِ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ الِاعْتِكَافُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ) هَذَا أَيْضًا مِنْ شُرُوطِ جَوَازِهِ، وَمَسْجِدُ الْجَمَاعَةِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ لَهُ إمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ أُدِّيَتْ فِيهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ أَوْ لَا (لِقَوْلِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ، وَ) رَوَى الْحَسَنُ (عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي مَسْجِدٍ يُصَلَّى فِيهِ
الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، لِأَنَّهُ عِبَادَةُ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ فَيَخْتَصُّ بِمَكَانٍ تُؤَدَّى فِيهِ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا لِأَنَّهُ هُوَ الْمَوْضِعُ لِصَلَاتِهَا فَيَتَحَقَّقُ انْتِظَارُهَا فِيهِ.
(وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ أَوْ الْجُمُعَةِ) أَمَّا الْحَاجَةُ فَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها «كَانَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام لَا يَخْرُجُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ» وَلِأَنَّهُ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا، وَلَا بُدَّ مِنْ الْخُرُوجِ فِي تَقْضِيَتِهَا فَيَصِيرُ الْخُرُوجُ لَهَا مُسْتَثْنًى، وَلَا يَمْكُثُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الطُّهُورِ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَأَمَّا الْجُمُعَةُ فَلِأَنَّهَا مِنْ أَهَمِّ حَوَائِجِهِ وَهِيَ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: الْخُرُوجُ إلَيْهَا مُفْسِدٌ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الِاعْتِكَافُ فِي الْجَامِعِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ مَشْرُوعٌ،
الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ) لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: أَفْضَلُ الِاعْتِكَافِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ثُمَّ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ فِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ فِي الْمَسَاجِدِ الْعِظَامِ الَّتِي كَثُرَ أَهْلُهَا. وَقَوْلُهُ (أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا) هَذَا عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا اعْتِكَافَ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الِاعْتِكَافِ تَعْظِيمُ الْبُقْعَةِ فَيَخْتَصُّ بِبُقْعَةٍ مُعَظَّمَةٍ شَرْعًا وَهُوَ لَا يُوجَدُ فِي مَسَاجِدِ الْبُيُوتِ. وَلَنَا أَنَّ مَوْضِعَ الِاعْتِكَافِ فِي حَقِّهَا الْمَوْضِعُ الَّذِي تَكُونُ صَلَاتُهَا فِيهِ أَفْضَلَ كَمَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ، وَصَلَاتُهَا فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا أَفْضَلُ، فَكَانَ مَوْضِعُ الِاعْتِكَافِ مَسْجِدَ بَيْتِهَا.
قَالَ: (وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ أَوْ الْجُمُعَةِ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الِاعْتِكَافُ فِي الْجَامِعِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ اعْتِكَافُهُ دُونَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ اعْتَكَفَ فِي أَيِّ مَسْجِدٍ شَاءَ، وَإِنْ كَانَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا اعْتَكَفَ
وَإِذَا صَحَّ الشُّرُوعُ فَالضَّرُورَةُ مُطْلَقَةٌ فِي الْخُرُوجِ، وَيَخْرُجُ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ لِأَنَّ الْخِطَابَ يَتَوَجَّهُ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ مَنْزِلُهُ بَعِيدًا عَنْهُ يَخْرُجُ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُهُ إدْرَاكُهَا وَيُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا، وَفِي رِوَايَةٍ سِتًّا، الْأَرْبَعُ سُنَّةٌ، وَالرَّكْعَتَانِ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ، وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا أَوْ سِتًّا عَلَى حَسَبِ الِاخْتِلَافِ فِي سُنَّةِ الْجُمُعَةِ، وَسُنَنُهَا تَوَابِعُ لَهَا فَأُلْحِقَتْ بِهَا، وَلَوْ أَقَامَ فِي مَسْجِدِ الْجَامِعِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافَهُ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اعْتِكَافٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَدَاءَهُ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ فَلَا يُتِمَّهُ فِي مَسْجِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ (وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ سَاعَةً بِغَيْرِ عُذْرٍ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِوُجُودِ الْمُنَافِي وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَقَالَا: لَا يُفْسِدُ حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ
فِي مَسْجِدِ الْجَامِعِ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ الضَّرُورَةُ الْمُطْلَقَةُ لِلْخُرُوجِ. وَلَنَا أَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ مَشْرُوعٌ، وَإِذَا صَحَّ الشُّرُوعُ صَحَّتْ الضَّرُورَةُ الْمُطْلَقَةُ لِلْخُرُوجِ إلَيْهَا لِأَنَّ تَرْكَهَا صِيَانَةً لِلِاعْتِكَافِ لَا يَجُوزُ لِكَوْنِهِ دُونَهَا فِي الْوُجُوبِ لِكَوْنِهَا وَاجِبَةً بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ وَاجِبٌ بِإِيجَابِ الْعَبْدِ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ إسْقَاطُ مَا وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ بِإِيجَابِهِ. وَقَوْلُهُ (فَلَا يُتِمُّهُ فِي مَسْجِدَيْنِ عَنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ) قَيَّدَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ ثَمَّةَ ضَرُورَةٌ مِثْلُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدٍ فَيَنْهَدِمُ جَازَ لَهُ الْخُرُوجُ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ، لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى الْخُرُوجِ فَكَانَ عَفْوًا.
وَقَوْلُهُ (وَهُوَ الْقِيَاسُ) لِأَنَّ رُكْنَ الِاعْتِكَافِ هُوَ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجُ مُفَوِّتٌ لَهُ، فَكَانَ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ سَوَاءً كَالْأَكْلِ
وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ لِأَنَّ فِي الْقَلِيلِ ضَرُورَةً.
قَالَ (وَأَمَّا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالنَّوْمُ يَكُونُ فِي مُعْتَكَفِهِ)
فِي الصَّوْمِ. وَالْحَدَثِ فِي الطَّهَارَةِ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ فِي الْقَلِيلِ ضَرُورَةً) بَيَانُهُ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ إذَا خَرَجَ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ لَا يُؤْمَرُ بِأَنْ يُسْرِعَ فِي الْمَشْيِ. وَلَهُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى التُّؤَدَةِ فَكَانَ الْقَلِيلُ عَفْوًا وَالْكَثِيرُ لَيْسَ بِعَفْوٍ. فَجَعَلْنَا الْحَدَّ الْفَاصِلَ بَيْنَهُمَا الْأَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ اعْتِبَارًا بِنِيَّةِ الصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ. إذَا وُجِدَتْ فِي أَكْثَرِ الْيَوْمِ جُعِلَتْ كَأَنَّهَا
لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَكُنْ لَهُ مَأْوًى إلَّا الْمَسْجِدَ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ قَضَاءُ هَذِهِ الْحَاجَةِ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْخُرُوجِ.
(وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ وَيَبْتَاعَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْضِرَ السِّلْعَةَ) لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ بِأَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يَقُومُ بِحَاجَتِهِ إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: يُكْرَهُ إحْضَارُ السِّلْعَةِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُحَرَّرٌ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَفِيهِ شَغْلُهُ بِهَا، وَيُكْرَهُ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِيهِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ إلَى أَنْ قَالَ وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ» .
قَالَ (وَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرٍ
وُجِدَتْ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ. لِأَنَّ الْقَلِيلَ تَابِعٌ لِلْأَكْثَرِ.
وَقَوْلُهُ (لَمْ يَكُنْ لَهُ مَأْوًى إلَّا الْمَسْجِدُ) يَعْنِي فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكْلُهُ فِيهِ حِينَئِذٍ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ وَيَبْتَاعَ) يَعْنِي مَا كَانَ مِنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ، وَأَمَّا مَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ (وَيُكْرَهُ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِيهِ) فَإِذَا كَانَ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ مَكْرُوهًا فَمَا ظَنُّك بِالْمُعْتَكِفِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرٍ) يَعْنِي أَنَّ التَّكَلُّمَ بِالشَّرِّ فِي الْمُعْتَكِفِ أَشَدُّ حُرْمَةً مِنْهُ فِي غَيْرِهِ، فَكَانَ مِنْ قَبِيلِ قَوْله تَعَالَى {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} فَإِنَّ الظُّلْمَ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا مُطْلَقًا لَكِنَّهُ قَيَّدَهُ
وَيُكْرَهُ لَهُ الصَّمْتُ) لِأَنَّ صَوْمُ الصَّمْتِ لَيْسَ بِقُرْبَةِ شَرِيعَتِنَا لَكِنَّهُ يَتَجَانَبُ مَا يَكُونُ مَأْثَمًا.
(وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ الْوَطْءُ)
بِالْأَشْهُرِ لِأَنَّهُ فِيهَا أَشَدُّ حُرْمَةً. وَقَوْلُهُ (وَيُكْرَهُ لَهُ الصَّمْتُ) قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنْ يَنْذِرَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ أَصْلًا كَمَا كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا. وَقِيلَ: أَنْ يَصْمُتَ وَلَا يَتَكَلَّمَ أَصْلًا مِنْ غَيْرِ نَذْرٍ سَابِقٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ الْمَعْهُودَ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ الثَّلَاثِ مَعَ زِيَادَةِ نِيَّةِ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلتَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ صَوْمَ الصَّمْتِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ) فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صَوْمِ الْوِصَالِ وَصَوْمِ الصَّمْتِ» فَقَالَ الرَّاوِي وَهُوَ زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ: قُلْت لِأَبِي حَنِيفَةَ: مَا صَوْمُ الصَّمْتِ؟ قَالَ: أَنْ يَصُومَ وَلَا يُكَلِّمَ أَحَدًا فِي يَوْمِ الصَّوْمِ. وَقَوْلُهُ (يَتَجَانَبُ مَا يَكُونُ مَأْثَمًا) أَيْ إثْمًا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ يُكْرَهُ لَهُ الصَّمْتُ. لَا يُقَالُ فِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرٍ، يَقْتَضِي حَصْرَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ بِخَيْرٍ.
وَقَوْلُهُ (يَتَجَانَبُ مَا يَكُونُ مَأْثَمًا) يَقْتَضِي جَوَازَ التَّكَلُّمِ بِمَا هُوَ مُبَاحٌ، وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ. لِأَنَّا نَقُولُ مَا لَيْسَ بِمَأْثَمٍ فَهُوَ خَيْرٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لِأَنَّ الْخَيْرَ عِبَارَةٌ عَنْ الشَّيْءِ الْحَاصِلِ لِمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا لَهُ إذَا كَانَ مُؤَثِّرًا. وَالتَّكَلُّمُ بِالْمُبَاحِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ كَذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ الْوَطْءُ) يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ، لِأَنَّ الْمُعْتَكِفَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا يَتَهَيَّأُ لَهُ الْوَطْءُ، وَأَوَّلُوهُ بِأَنَّهُ جَازَ لَهُ الْخُرُوجُ لِلْحَاجَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ، لِأَنَّ اسْمَ الْمُعْتَكِفِ لَا يَزُولُ عَنْهُ بِذَلِكَ الْخُرُوجِ. وَذَكَرَ فِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْرُجُونَ وَيَقْضُونَ حَاجَتَهُمْ فِي الْجِمَاعِ ثُمَّ يَغْتَسِلُونَ فَيَرْجِعُونَ إلَى مُعْتَكَفِهِمْ، فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى
لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (وَ) كَذَا (اللَّمْسُ وَالْقُبْلَةُ) لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِيهِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ إذْ هُوَ مَحْظُورُهُ كَمَا فِي الْإِحْرَامِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ، لِأَنَّ الْكَفَّ رُكْنُهُ لَا مَحْظُورُهُ فَلَمْ يَتَعَدَّ إلَى دَوَاعِيهِ (فَإِنْ جَامَعَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ) لِأَنَّ اللَّيْلَ مَحَلُّ الِاعْتِكَافِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ
{وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وَكَذَا اللَّمْسُ وَالْقُبْلَةُ لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّمْسِ وَالْقُبْلَةِ (مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ، إذْ هُوَ) أَيْ الْجِمَاعُ (مَحْظُورُ الِاعْتِكَافِ، كَمَا أَنَّهُ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ) فَكَانَتْ الدَّوَاعِي مُحَرَّمَةً. فَإِنْ قِيلَ: الْجِمَاعُ يُفْسِدُ الصَّوْمَ كَمَا أَنَّهُ يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّ الْكَفَّ) أَيْ عَنْ الْجِمَاعِ (رُكْنُهُ لَا مَحْظُورُهُ، فَلَمْ يَتَعَدَّ إلَى دَوَاعِيهِ) وَلَا زَالَ فِي تَحْقِيقِهِ اصْطَكَّتْ الرُّكَبُ، وَأَقْصَى مَا انْتَهَى إلَيْهِ الْقَدْرُ أَنْ قَالُوا: الْوَطْءُ مَحْظُورُ الِاعْتِكَافِ لِأَنَّ مَحْظُورَ الشَّيْءِ مَا نُهِيَ عَنْهُ بَعْدَ وُجُودِهِ مِمَّا يُفْسِدُهُ، وَالْوَطْءُ فِي الِاعْتِكَافِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ اللُّبْثُ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ مَعَ الصَّوْمِ وَالنِّيَّةِ، هَذَا حَقِيقَتُهُ.
ثُمَّ نُهِيَ الْمُعْتَكِفُ أَنْ يَرْتَكِبَ الْوَطْءَ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ بِصَرِيحِ قَوْله تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} مَقْصُودًا فَتَعَدَّتْ الْحُرْمَةُ إلَى الدَّوَاعِي؛ لِأَنَّ الشُّبُهَاتِ فِي بَابِ الْمُحَرَّمَاتِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ، كَمَا قُلْنَا فِي الْإِحْرَامِ: إنَّ حَقِيقَتَهُ التَّلْبِيَةُ بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، ثُمَّ بَعْدَمَا وُجِدَ ذَلِكَ صَارَ الْوَطْءُ حَرَامًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} فَتَعَدَّتْ الْحُرْمَةُ إلَى الدَّوَاعِي مِنْ الْمَسِّ وَالْقُبْلَةِ. وَأَمَّا الصَّوْمُ فَالْوَطْءُ لَيْسَ بِمَحْظُورِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْسِيرِ الْمَحْظُورِ، فَإِنَّ رُكْنَ الصَّوْمِ الْكَفُّ عَنْ الْوَطْءِ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ} بَعْدَ قَوْلِهِ {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إلَى قَوْلِهِ {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} الْآيَةَ. وَثَبَتَ إذْ ذَاكَ حُرْمَةُ الْجِمَاعِ الْمُفَوِّتِ لِلرُّكْنِ وَهُوَ الْكَفُّ بِالنَّهْيِ الثَّابِتِ بِالْأَمْرِ ضِمْنًا لَا مَقْصُودًا، ضَرُورَةَ بَقَاءِ الرُّكْنِ، وَالضَّرُورِيُّ لَا يَتَعَدَّى عَنْ مَحَلِّهِ فَبَقِيَتْ الدَّوَاعِي عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْحِلِّ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ الضِّمْنِيَّ لَا يَقْتَضِي حُرْمَةَ الدَّوَاعِي وَالْقَصْدِيَّ يَقْتَضِيهَا، وَهُوَ مَنْقُوضٌ بِالنَّهْيِ عَنْ الْوَطْءِ حَالَةَ الْحَيْضِ، فَإِنَّهُ قَصَدَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} وَلَمْ تَحْرُمْ الدَّوَاعِي.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّهَا لَمْ تَحْرُمْ فِيهَا لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى الْحَرَجِ بِكَثْرَةِ وُقُوعِ الْحَيْضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجَابَ أَيْضًا بِأَنَّ مَبْنَى الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مَحْظُورًا عَلَى مَا عَرَفْت مِنْ تَفْسِيرِهِ هُوَ الَّذِي يَتَعَدَّى، وَالْوَطْءُ حَالَةَ الْحَيْضِ لَيْسَ كَذَلِكَ، هَذَا، وَلَيْسَ وَرَاءَ عَبَّادَانَ قَرْيَةٌ. وَقَوْلُهُ (فَإِنْ جَامَعَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا) يَعْنِي أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ (بَطَلَ اعْتِكَافُهُ لِأَنَّ اللَّيْلَ مَحَلُّ اعْتِكَافٍ بِخِلَافِ الصَّوْمِ) فَإِنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ مَحَلًّا لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: الِاعْتِكَافُ فَرْعٌ عَنْ الصَّوْمِ وَالْفَرْعُ
وَحَالَةُ الْعَاكِفِينَ مُذَكِّرَةٌ فَلَا يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ (وَلَوْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ أَوْ قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ فَأَنْزَلَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ حَتَّى يَفْسُدَ بِهِ الصَّوْمُ، وَلَوْ لَمْ يُنْزِلْ لَا يَفْسُدُ وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ وَهُوَ الْمُفْسِدُ وَلِهَذَا لَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ.
قَالَ (وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ
مُلْحَقٌ بِالْأَصْلِ فِي حُكْمِهِ، وَلَوْ جَامَعَ نَاسِيًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ لَمْ يَفْسُدْ الصَّوْمُ فَكَيْفَ يَفْسُدُ الِاعْتِكَافُ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَحَالَةُ الْعَاكِفِينَ مُذَكِّرَةٌ فَلَا يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ) بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا مُذَكِّرَ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَفْسُدَ بِالْأَكْلِ نَاسِيًا كَالْجِمَاعِ. أُجِيبَ بِأَنَّ حُرْمَةَ الْأَكْلِ لَيْسَتْ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ بَلْ لِأَجْلِ الصَّوْمِ حَتَّى اُخْتُصَّتْ بِوَقْتِ الصَّوْمِ بِخِلَافِ الْجِمَاعِ، فَإِنَّ حُرْمَتَهُ لِأَجْلِ الِاعْتِكَافِ نَصًّا فَكَانَ كَالْجِمَاعِ فِي الْإِحْرَامِ يَسْتَوِي فِيهِ الْقَاصِدُ وَغَيْرُهُ (وَلَوْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ أَوْ قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ فَأَنْزَلَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ وَلِهَذَا فَسَدَ بِهِ الصَّوْمُ، وَلَوْ لَمْ يُنْزِلْ لَا يَفْسُدُ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ، وَلِهَذَا لَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ) فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَعَلْت نَفْسَ الْمُبَاشَرَةِ مُفْسِدَةً مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ} وَتِلْكَ تَتَحَقَّقُ فِي الْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ. أُجِيبَ: بِأَنَّ الْمَجَازَ وَهُوَ الْجِمَاعُ لَمَّا كَانَ مُرَادًا بَطَلَ أَنْ تَكُونَ الْحَقِيقَةُ مُرَادَةً، وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ مُعْتَبَرٌ بِالصَّوْمِ فِيهَا وَنَفْسُهَا لَمْ تُفْسِدْ الصَّوْمَ فَكَذَا الِاعْتِكَافُ.
قَالَ (وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ) أَيْ: وَمَنْ
لَزِمَهُ اعْتِكَافُهَا بِلَيَالِيِهَا) لِأَنَّ ذِكْرَ الْأَيَّامِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ يَتَنَاوَلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ اللَّيَالِي، يُقَالُ: مَا رَأَيْتُك مُنْذُ أَيَّامٍ وَالْمُرَادُ بِلَيَالِيِهَا وَكَانَتْ (مُتَتَابِعَةً وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ التَّتَابُعَ) لِأَنَّ مَبْنَى الِاعْتِكَافِ عَلَى التَّتَابُعِ، لِأَنَّ الْأَوْقَاتَ كُلَّهَا قَابِلَةٌ بِخِلَافِ الصَّوْمِ، لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى التَّفَرُّقِ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلصَّوْمِ فَيَجِبُ عَلَى التَّفَرُّقِ حَتَّى يَنُصَّ عَلَى التَّتَابُعِ (وَإِنْ نَوَى الْأَيَّامَ خَاصَّةً صَحَّتْ نِيَّتُهُ) لِأَنَّهُ نَوَى الْحَقِيقَةَ.
قَالَ: عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ (تَلْزَمُهُ بِلَيَالِيِهَا مُتَتَابِعَةً) أَمَّا لُزُومُهَا بِلَيَالِيِهَا فَلِمَا ذَكَرَ (أَنَّ ذِكْرَ الْأَيَّامِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ يَتَنَاوَلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ اللَّيَالِي) عُرْفًا (يُقَالُ: مَا رَأَيْتُك مُنْذُ أَيَّامٍ، وَالْمُرَادُ بِلَيَالِيِهَا) وَإِذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا شَهْرًا أَوْ عَشْرَةَ أَيَّامٍ كَانَ ذَلِكَ عَلَى الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي، أَلَا تَرَى إلَى قِصَّةِ زَكَرِيَّا عليه السلام حَيْثُ قَالَ {أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} وَقَالَ {أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ، وَتَأْوِيلُهُ مَا ذَكَرْنَا. وَقَوْلُهُ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ يَدْفَعُ مَا يُقَالُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْيَوْمَ إذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ مُمْتَدٍّ يُرَادُ بِهِ بَيَاضُ النَّهَارِ خَاصَّةً، وَالِاعْتِكَافُ فِعْلٌ مُمْتَدٌّ فَيَجِبُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَيَّامِ النُّهُرُ دُونَ اللَّيَالِيِ وَإِلَّا لَانْتُقِضَ الْقَاعِدَةُ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، حَتَّى لَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا اُخْتُصَّ بِبَيَاضِ النَّهَارِ، كَذَا فِي التُّحْفَةِ، وَأَمَّا التَّتَابُعُ فَلِمَا ذَكَرَ أَنَّ مَبْنَى الِاعْتِكَافِ عَلَى التَّتَابُعِ إلَخْ (وَإِنْ نَوَى الْأَيَّامَ خَاصَّةً صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِأَنَّهُ نَوَى الْحَقِيقَةَ) فَإِنْ قِيلَ: الْحَقِيقَةُ مُنْصَرَفُ اللَّفْظِ بِدُونِ قَرِينَةٍ أَوْ نِيَّةٍ فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ نَوَى الْحَقِيقَةَ؟ قُلْت: كَأَنَّهُ اخْتَارَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضٌ أَنَّ الْيَوْمَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ بَيَاضِ النَّهَارِ وَمُطْلَقِ الْوَقْتِ، وَأَحَدُ مَعْنَيْ الْمُشْتَرَكِ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ لِتَعْيِينِ الدَّلَالَةِ لَا لِنَفْسِ الدَّلَالَةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُخْتَارُهُ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَهُوَ أَنَّهُ مَجَازٌ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ فَجَوَابُهُ أَنَّ ذِكْرَ الْأَيَّامِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ
(وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ يَوْمَيْنِ يَلْزَمُهُ بِلَيْلَتَيْهِمَا). وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: لَا تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْأُولَى لِأَنَّ الْمُثَنَّى غَيْرُ الْجَمْعِ، وَفِي الْمُتَوَسِّطَةِ ضَرُورَةُ الِاتِّصَالِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ فِي الْمُثَنَّى مَعْنَى الْجَمْعِ فَيَلْحَقُ بِهِ احْتِيَاطًا لِأَمْرِ الْعِبَادَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
صَارِفٌ لَهُ عَنْ الْحَقِيقَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيُحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ دَفْعًا لِلصَّارِفِ عَنْ الْحَقِيقَةِ لَا لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهَا.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافُ يَوْمَيْنِ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقُولَ: وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ، لِمَا أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ عَنْهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ بَعْدَهُ وَجْهُ الظَّاهِرِ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْمُثَنَّى غَيْرُ الْجَمْعِ) ظَاهِرٌ. وَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ لَفْظُ الْمُثَنَّى وَلَفْظُ الْمُفْرَدِ سَوَاءً. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا لَمْ تَدْخُلْ لَيْلَتُهُ بِالِاتِّفَاقِ، فَكَذَا فِي التَّثْنِيَةِ إلَّا أَنَّ اللَّيْلَةَ الْوُسْطَى تَدْخُلُ لِضَرُورَةِ اتِّصَالِ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ الْآخَرِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَمْ تُوجَدْ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ الْمُثَنَّى غَيْرَ الْجَمْعِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكْتَفِيَ فِي الْجُمُعَةِ بِالِاثْنَيْنِ سِوَى الْإِمَامِ وَقَدْ اكْتَفَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ. أُجِيبَ: بِأَنَّ الْأَصْلَ مَا ذَكَرْت هَاهُنَا لِأَنَّ فِيهِ الْعَمَلَ بِأَوْضَاعِ الْوُحْدَانِ وَالْجَمْعِ إلَّا أَنِّي وَجَدْت فِي الْجُمُعَةِ مَعْنًى لَمْ يُوجَدْ فِي غَيْرِهَا، وَهُوَ أَنَّهَا سُمِّيَتْ جُمُعَةً لِمَعْنَى الِاجْتِمَاعِ، وَفِي الْجَمَاعَةِ وَالتَّثْنِيَةِ كَذَلِكَ، فَكَانَتْ التَّثْنِيَةُ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الِاجْتِمَاعِ كَالْجَمْعِ فَاكْتَفَيْت بِهَا (وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ فِي الْمُثَنَّى مَعْنَى الْجَمْعِ) لِاجْتِمَاعِ فَرْدٍ وَفَرْدٍ فِيهِ (فَيُلْحَقُ بِالْجَمْعِ احْتِيَاطًا لِأَمْرِ الْعِبَادَةِ) وَفِيهِ تَلْوِيحٌ إلَى أَنَّهُمَا إنَّمَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لَمْ يُلْحِقَا الْمُثَنَّى بِالْجَمْعِ فِي الْجُمُعَةِ لِعَدَمِ الِاحْتِيَاطِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ مَا عَلَيْهِ بِيَقِينٍ، وَذَلِكَ فِي الْإِلْحَاقِ غَيْرُ يَقِينٍ، لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ عَلَى حِدَةٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَفِي كَوْنِ التَّثْنِيَةِ بِمَعْنَى الْجَمْعِ تَرَدُّدٌ لِجَاذِبِ الْفَرْدِ وَالْجَمْعِ إذْ هِيَ بَيْنَهُمَا، وَفِي اشْتِرَاطِ الْجَمْعِ لَا تَرَدُّدَ فِي الْخُرُوجِ فَكَانَ شَرْطًا، وَأَمَّا فِي الِاعْتِكَافِ فَفِي إلْحَاقِهِ بِالْجَمْعِ خُرُوجٌ عَنْهَا بِيَقِينٍ، لِأَنَّ إيجَابَ لَيْلَتَيْنِ مَعَ يَوْمَيْنِ أَحْوَطُ مِنْ إيجَابِ يَوْمَيْنِ بِلَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
كِتَابُ الْحَجِّ
كِتَابُ الْحَجِّ
لَمَّا رَتَّبَ الْعِبَادَاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ ذَلِكَ التَّرْتِيبَ لِمَعَانٍ ذُكِرَتْ عِنْدَ كُلِّ كِتَابٍ تَأَخَّرَ الْحَجُّ إلَى هَاهُنَا ضَرُورَةً، لِأَنَّ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مَا بَعْدَهُ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ أَوْ غَيْرِهَا، وَالْعِبَادَاتُ مُتَقَدِّمَةٌ. وَالْحَجُّ فِي اللُّغَةِ: الْقَصْدُ، وَفِي الشَّرِيعَةِ: زِيَارَةُ
.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الْبَيْتِ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ.
ثُمَّ إنَّهُ فُرِضَ عَلَى كُلِّ حُرٍّ بَالِغٍ عَاقِلٍ صَحِيحٍ إذَا قَدَرَ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَاضِلًا عَنْ الْمَسْكَنِ وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَعَنْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ إلَى حِينِ عَوْدِهِ وَكَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا، وَإِنَّمَا عَدَلَ الْمُصَنِّفُ عَنْ الْإِفْرَادِ إلَى الْجَمْعِ
(الْحَجُّ وَاجِبٌ عَلَى الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ الْعُقَلَاءِ الْأَصِحَّاءِ إذَا قَدَرُوا عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَاضِلًا عَنْ الْمَسْكَنِ وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَعَنْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ إلَى حِينِ عَوْدِهِ وَكَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(وَلَا يَجِبُ فِي الْعُمْرِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً) لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قِيلَ لَهُ «الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ أَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً؟ فَقَالَ لَا بَلْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ» وَلِأَنَّ سَبَبَهُ الْبَيْتُ وَأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّدُ فَلَا يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ.
ثُمَّ هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ
لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْ عُهْدَتِهِ إلَّا بِالْأَدَاءِ
(وَلَا يَجِبُ فِي الْعُمُرِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً «لِأَنَّهُ عليه السلام قِيلَ لَهُ يَعْنِي لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَالَ لَهُمْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ حُجُّوا الْبَيْتَ الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ أَمْ مَرَّةً وَاحِدَةً؟ فَقَالَ: لَا بَلْ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَمَا زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ»، وَلِأَنَّ سَبَبَهُ الْبَيْتُ) لِإِضَافَتِهِ إلَيْهِ، يُقَالُ حَجُّ الْبَيْتِ وَالْإِضَافَةُ دَلِيلُ السَّبَبِيَّةِ (وَإِنَّهُ لَا يَتَعَدَّدُ) الْبَيْتُ (فَلَا يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ)
، (ثُمَّ هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) حَتَّى إنْ أَخَّرَ بَعْدَ اسْتِجْمَاعِ الشَّرَائِطِ أَثِمَ، رَوَاهُ عَنْهُ بِشْرٌ وَالْمُعَلَّى (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْفَوْرِ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ شُجَاعٍ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ لَهُ مَالٌ أَيَحُجُّ بِهِ أَمْ يَتَزَوَّجُ؟ فَقَالَ: بَلْ يَحُجُّ بِهِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهُ عَلَى الْفَوْرِ.
وَوَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ فِي التَّزْوِيجِ تَحْصِينَ النَّفْسِ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَالِاشْتِغَالُ بِالْحَجِّ يُفَوِّتُهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى التَّرَاخِي لِأَنَّهُ وَظِيفَةُ الْعُمْرِ فَكَانَ الْعُمْرُ فِيهِ كَالْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يُخَصُّ بِوَقْتٍ خَاصٍّ، وَالْمَوْتُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرُ نَادِرٍ فَيَتَضَيَّقُ احْتِيَاطًا وَلِهَذَا كَانَ التَّعْجِيلُ أَفْضَلَ، بِخِلَافِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمَوْتَ فِي مِثْلِهِ نَادِرٌ.
وُجُوبُهُ عَلَى الْفَوْرِ لَمَا أَمَرَ بِمَا يُفَوِّتُ الْوَاجِبَ مَعَ إمْكَانِ حُصُولِهِ فِي وَقْتٍ آخَرَ لِمَا أَنَّ الْمَالَ غَادٍ وَرَائِحٌ (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ عَلَى التَّرَاخِي لِأَنَّهُ وَظِيفَةُ الْعُمُرِ فَكَانَ الْعُمُرُ فِيهِ كَالْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ) فَكَمَا أَنَّهَا جَازَتْ فِي آخِرِ وَقْتِهَا يَجُوزُ الْحَجُّ فِي آخِرِ الْعُمُرِ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهَذَا الدَّلِيلُ لِمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ يَقُولُ بِجَوَازِ تَأْخِيرِ مُكَيَّفٌ، وَهُوَ أَنْ لَا يَفُوتَهُ بِالْمَوْتِ، فَإِنْ فَوَّتَهُ أَثِمَ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ، وَإِنْ مَاتَ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ كَوَقْتِ الصَّلَاةِ (وَجْهُ الْأَوَّلِ) يَعْنِي قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ إنَّ الْحَجَّ يَخْتَصُّ بِوَقْتٍ خَاصٍّ مِنْ كُلِّ عَامٍ وَهُوَ أَشْهُرُ الْحَجِّ، وَكُلُّ مَا اُخْتُصَّ بِوَقْتٍ خَاصٍّ، وَقَدْ فَاتَ عَنْ وَقْتِهِ لَا يُدْرَكُ إلَّا بِإِدْرَاكِ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِعَيْنِهِ وَإِلَّا لَا يَكُونُ مُخْتَصًّا بِهِ، وَذَلِكَ مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ يَسْتَوِي فِيهَا الْحَيَاةُ وَالْمَمَاتُ (لِأَنَّ الْمَوْتَ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ) مُشْتَمِلَةٍ عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ الْمُتَضَادَّةِ الْمِزَاجِ (غَيْرُ نَادِرٍ فَيَتَضَيَّقُ احْتِيَاطًا) لَا تَحْقِيقًا، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَرِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَضَيِّقًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْعَامِ الْأَوَّلِ قَضَاءً وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ التَّضَيُّقَ إذَا كَانَ احْتِيَاطًا لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا تَوْضِيحُهُ بِقَوْلِهِ (وَلِهَذَا كَانَ التَّعْجِيلُ أَفْضَلَ) يَعْنِي بِالِاتِّفَاقِ، فَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْأَفْضَلِيَّةِ عَلَى الْوُجُوبِ مِمَّا لَا يَكَادُ يَصِحُّ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ وَقْتِ الصَّلَاةِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَالْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ لَا تَظْهَرُ إلَّا فِي حَقِّ الْإِثْمِ خَاصَّةً، وَأَمَّا أَنَّ الْوَاقِعَ فِي الْعَامِ الثَّانِي أَدَاءٌ كَمَا فِي الْأَوَّلِ، وَأَنَّ التَّطَوُّعَ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ جَائِزٌ فَلَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ، وَتَمَامُ هَذَا الْبَحْثِ
وَإِنَّمَا شَرَطَ الْحُرِّيَّةَ وَالْبُلُوغَ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ ثُمَّ أُعْتِقَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَأَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ» وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَاتُ بِأَسْرِهَا مَوْضُوعَةٌ عَنْ الصِّبْيَانِ
مَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ
وَإِنَّمَا شُرِطَتْ الْحُرِّيَّةُ وَالْبُلُوغُ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «أَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ» وَلَوْ «عَشْرَ حِجَجٍ ثُمَّ أُعْتِقَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ» وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ: أَنَّ الْحَجَّ يَحْتَاجُ إلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ مِنْ الْمَالِ شَيْئًا، وَالصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ لَيْسَا كَذَلِكَ، وَأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى فِي الْحَجِّ يَفُوتُ فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، فَقُدِّمَ
وَالْعَقْلُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ. وَكَذَا صِحَّةُ الْجَوَارِحِ لِأَنَّ الْعَجْزَ دُونَهَا لَازِمٌ.
وَالْأَعْمَى إذَا وَجَدَ مَنْ يَكْفِيهِ مُؤْنَةَ سَفَرِهِ وَوَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَةً لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله خِلَافًا لَهُمَا، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا الْمُقْعَدُ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله.
حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْعَقْلُ) لِبَيَانِ اشْتِرَاطِ الْعَقْلِ. وَقَوْلُهُ (وَكَذَا صِحَّةُ الْجَوَارِحِ) لِبَيَانِ اشْتِرَاطِ الصِّحَّةِ (لِأَنَّ الْعَجْزَ بِدُونِهَا لَازِمٌ)
وَقَوْلُهُ (وَالْأَعْمَى إذَا وَجَدَ) يَعْنِي أَنَّ الْأَعْمَى إذَا مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَائِدًا لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ فِي قَوْلِهِمْ، وَهَلْ يَجِبُ الْإِحْجَاجُ بِالْمَالِ؟ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ وَإِنْ وَجَدَ قَائِدًا، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (مَنْ يَكْفِيهِ مُؤْنَةَ سَفَرِهِ) لَا يَجِبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا لَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ، وَعَنْ صَاحِبَيْهِ فِيهِ رِوَايَتَانِ فَرْقًا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْجُمُعَةِ، وَقَالَا: وُجُودُ الْقَائِدِ إلَى الْجُمُعَةِ لَيْسَ بِنَادِرٍ بَلْ هُوَ غَالِبٌ فَتَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ، وَلَا كَذَلِكَ الْقَائِدُ إلَى الْحَجِّ.
وَقَوْلُهُ (وَأَمَّا الْمُقْعَدُ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ فِي الزَّمِنِ وَالْمَفْلُوجِ وَالْمُقْعَدِ وَمَقْطُوعِ الرِّجْلَيْنِ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ مَلَكُوا الزَّادَ
أَنَّهُ يَجِبُ لِأَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ بِغَيْرِهِ فَأَشْبَهَ الْمُسْتَطِيعَ بِالرَّاحِلَةِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْأَعْمَى لِأَنَّهُ لَوْ هَدَى يُؤَدِّي بِنَفْسِهِ فَأَشْبَهَ الضَّالَّ عَنْهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَهُوَ قَدْرُ مَا يَكْتَرِي بِهِ شِقَّ مَحْمَلٍ أَوْ رَأْسَ زَامِلَةٍ، وَقَدْرَ النَّفَقَةِ ذَاهِبًا وَجَائِيًا،
وَالرَّاحِلَةَ، حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِمْ الْإِحْجَاجُ بِمَا لَهُمْ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَمَّا لَمْ يَجِبْ لَمْ يَجِبْ الْبَدَلُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُمَا. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ بِغَيْرِهِ فَأَشْبَهَ الْمُسْتَطِيعَ بِالرَّاحِلَةِ. وَقَوْلُهُ (وَعَنْ مُحَمَّدٍ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا بُدَّ مِنْ الْقُدْرَةِ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: إذَا قَدَرُوا عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَيَعْنِي بِهِ الْقُدْرَةَ بِطَرِيقِ الْمِلْكِ أَوْ الِاسْتِئْجَارِ بِأَنْ يَقْدِرَ عَلَى (مَا يَكْتَرِي بِهِ شِقَّ مَحْمَلٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ الْأَوَّلِ وَكَسْرِ الثَّانِي أَيْ جَانِبَهُ، لِأَنَّ لِلْمَحْمَلِ جَانِبَيْنِ، وَيَكْفِي لِلرَّاكِبِ أَحَدُ جَانِبَيْهِ.
وَالزَّامِلَةُ الْبَعِيرُ يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْمُسَافِرُ مَتَاعَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ زَمَلَ الشَّيْءَ حَمَلَهُ، يُقَالُ لَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ: سرباري. وَقَوْلُهُ (وَقَدْرُ النَّفَقَةِ ذَاهِبًا وَجَائِيًا) يَعْنِي بَعْدَ الرَّاحِلَةِ نَفَقَةُ وَسَطٍ بِغَيْرِ إسْرَافٍ وَلَا تَقْتِيرٍ، وَهَذَا «لِأَنَّهُ
«لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام سُئِلَ عَنْ السَّبِيلِ إلَيْهِ فَقَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَكْتَرِيَ عَقَبَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمَا إذَا كَانَا يَتَعَاقَبَانِ لَمْ تُوجَدْ الرَّاحِلَةُ فِي جَمِيعِ السَّفَرِ. وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَنْ الْمَسْكَنِ وَعَمَّا
- عليه الصلاة والسلام سُئِلَ عَنْ السَّبِيلِ إلَيْهِ فَقَالَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَكْتَرِيَ عُقْبَةً) أَيْ مَا يَتَعَاقَبَانِ عَلَيْهِ فِي الرُّكُوبِ فَرْسَخًا بِفَرْسَخٍ أَوْ مَنْزِلًا مَنْزِلًا (فَلَا حَجَّ عَلَيْهِ) لِعَدَمِ الرَّاحِلَةِ إذْ ذَاكَ فِي جَمِيعِ السَّفَرِ. وَقَوْلُهُ (وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ) أَيْ مَا يَقْدِرُ بِهِ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ (فَاضِلًا عَنْ الْمَسْكَنِ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْبَحْثِ فَاضِلًا، وَهُوَ هُنَاكَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَقَيَّدَ بِالْمَسْكَنِ وَالْخَادِمِ إشَارَةً إلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ شُجَاعٍ إذَا كَانَتْ لَهُ دَارٌ
لَا بُدَّ مِنْهُ كَالْخَادِمِ وَأَثَاثِ الْبَيْتِ وَثِيَابِهِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَشْغُولَةٌ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَنْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ إلَى حِينِ عَوْدِهِ، لِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ لِلْمَرْأَةِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الشَّرْعِ بِأَمْرِهِ. وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوُجُوبِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهُمْ الرَّاحِلَةُ، لِأَنَّهُ لَا تَلْحَقُهُمْ مَشَقَّةٌ زَائِدَةٌ فِي الْأَدَاءِ فَأَشْبَهَ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ وَلَا بُدَّ مِنْ أَمْنِ الطَّرِيقِ لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَثْبُتُ دُونَهُ. ثُمَّ قِيلَ: هُوَ شَرْطُ الْوُجُوبِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْإِيصَاءُ
لَا يَسْكُنُهَا وَعَبْدٌ لَا يَسْتَخْدِمُهُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَحُجَّ بِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَأَثَاثُ الْبَيْتِ) يَعْنِي كَالْفُرُشِ وَالْبُسُطِ وَآلَاتِ الطَّبْخِ (وَثِيَابُهُ) أَيْ ثِيَابُ بَدَنِهِ وَفَرَسُهُ وَسِلَاحُهُ (لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَشْغُولَةٌ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ) وَالْمَشْغُولُ بِهَا كَالْمَعْدُومِ.
وَقَوْلُهُ (وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الشَّرْعِ بِأَمْرِهِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} وَقَوْلُهُ (وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوُجُوبِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ) ظَاهِرٌ (وَلَا بُدَّ مِنْ أَمْنِ الطَّرِيقِ) وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ فِيهِ السَّلَامَةَ، وَتَوَسُّطُ الْبَحْرِ عُذْرٌ لِأَنَّ شَرْطَ وُجُوبِهِ الِاسْتِطَاعَةُ وَلَا اسْتِطَاعَةَ بِدُونِ الْأَمْنِ
وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله. وَقِيلَ: هُوَ شَرْطُ الْأَدَاءِ دُونَ الْوُجُوبِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لَا غَيْرَ.
قَالَ (وَيُعْتَبَرُ فِي الْمَرْأَةِ أَنْ يَكُونَ لَهَا مَحْرَمٌ تَحُجُّ بِهِ أَوْ زَوْجٌ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ شَرْطُ نَفْسِ الْوُجُوبِ، أَوْ شَرْطُ الْأَدَاءِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى الْأَوَّلِ لِمَا مَرَّ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ لَا تَثْبُتُ بِدُونِهِ (وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْهُ) وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى الثَّانِي (لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لَا غَيْرُ) وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي وُجُوبِ الْإِيصَاءِ عَلَى مَنْ مَاتَ قَبْلَ الْحَجِّ، وَلَمْ يَكُنْ الطَّرِيقُ آمِنًا؛ فَعِنْدَ الْأَوَّلَيْنِ لَا تَلْزَمُهُ الْوَصِيَّةُ، وَعِنْدَ الْآخَرَيْنِ تَلْزَمُهُ.
قَالَ (وَيُعْتَبَرُ فِي الْمَرْأَةِ أَنْ يَكُونَ لَهَا مَحْرَمٌ تَحُجُّ بِهِ) الِاخْتِلَافُ الْمَارُّ فِي أَمْنِ الطَّرِيقِ فِي كَوْنِهِ شَرْطَ الْوُجُوبِ، أَوْ شَرْطَ الْأَدَاءِ ثَابِتٌ فِي مَحْرَمِ الْمَرْأَةِ، وَالْمَحْرَمُ
أَنْ تَحُجَّ بِغَيْرِهِمَا إذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ لَهَا الْحَجُّ إذَا خَرَجَتْ فِي رُفْقَةٍ وَمَعَهَا نِسَاءٌ ثِقَاتٌ لِحُصُولِ الْأَمْنِ بِالْمُرَافَقَةِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ» وَلِأَنَّهَا بِدُونِ الْمَحْرَمِ يُخَافُ عَلَيْهَا الْفِتْنَةُ وَتَزْدَادُ بِانْضِمَامِ غَيْرِهَا إلَيْهَا، وَلِهَذَا تَحْرُمُ الْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَإِنْ كَانَ مَعَهَا غَيْرُهَا،
مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ مُنَاكَحَتُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِقَرَابَةٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ صِهَارَةٍ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَحُجَّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَحْرَمٌ أَوْ زَوْجٌ إذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، شَابَّةً كَانَتْ أَوْ عَجُوزًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَحْرَمٌ أَوْ زَوْجٌ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا التَّزَوُّجُ لِلْحَجِّ، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ اكْتِسَابُ الْمَالِ لِأَجْلِ الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهَا أَنْ تَحُجَّ فِي رُفْقَةٍ وَمَعَهَا نِسَاءٌ ثِقَاتٌ لِحُصُولِ الْأَمْنِ مِنْ الْفِتْنَةِ بِالْمُرَافَقَةِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا تَحُجَّن امْرَأَةٌ إلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ» وَلِأَنَّهَا بِدُونِ الْمَحْرَمِ يُخَافُ عَلَيْهَا الْفِتْنَةُ وَتَزْدَادُ بِانْضِمَامِ غَيْرِهَا إلَيْهَا) فَضْلًا عَنْ حُصُولِ الْأَمْنِ. وَعُورِضَ بِأَنَّ الْمُهَاجِرَةَ تَخْرُجُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِدُونِهِمَا، وَالْهِجْرَةُ لَيْسَتْ مِنْ الْأَرْكَانِ الْخَمْسَةِ فَلَأَنْ تَخْرُجَ إلَى الْحَجِّ وَهُوَ مِنْهَا أَوْلَى. وَأُجِيبَ: بِأَنَّ ذَلِكَ ضَرُورَةَ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا إذَا وَصَلَتْ إلَى جَيْشٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، حَتَّى صَارَتْ آمِنَةً لَمْ يَكُنْ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تُسَافِرَ بِدُونِ الْمَحْرَمِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَسَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم السَّبِيلَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَحْرَمَ. أُجِيبَ: بِأَنَّ ذَلِكَ حُجَّةُ مَنْ جَعَلَهُ شَرْطَ الْأَدَاءِ، وَمَنْ جَعَلَهُ شَرْطَ الْوُجُوبِ قَالَ: لَمْ يَذْكُرْهُ، لِأَنَّ السَّائِلَ كَانَ رَجُلًا. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْفِتْنَةَ تَزْدَادُ بِانْضِمَامِ غَيْرِهَا إلَيْهَا، فَإِنَّ الْمَبْتُوتَةَ إذَا اعْتَدَّتْ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ بِحَيْلُولَةِ ثِقَةٍ جَازَ. وَلَمْ يَكُنْ انْضِمَامُهَا إلَيْهَا فِتْنَةً. أُجِيبَ: بِأَنَّ انْضِمَامَ الْمَرْأَةِ إلَيْهَا
بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لِأَنَّهُ يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ إلَى مَا دُونَ السَّفَرِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ. (وَإِذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا
يُعِينُهَا عَلَى مَا تُرَاوِدُ بِمُشَاوَرَتِهَا، وَتَعْلِيمُ مَا عَسَى تَعْجِزُ عَنْهُ بِفِكْرِهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمُعْتَدَّةِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ مَوْضِعُ أَمْنٍ وَقُدْرَةٍ عَلَى دَفْعِ الْفِتْنَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ مِثْلَهَا لَا يُعَدُّ ثِقَةً وَالْكَلَامُ فِيهَا، وَلِأَنَّ جَوَابَ السَّنَدِ يُنَاقِضُ جَوَابَ الْمَنْعِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ هُنَّ نَاقِصَاتُ دِينٍ وَعَقْلٍ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ تَنْخَدِعَ فَتَكُونُ عَلَيْهَا فِي الْإِفْسَادِ وَتَتَوَسَّطُ فِي التَّوْطِينِ وَالتَّمْكِينِ فَتَعْجِزُ هِيَ عَنْ دَفْعِهَا فِي السَّفَرِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِي الْحَضَرِ لِإِمْكَانِ الِاسْتِغَاثَةِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: إذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَهُوَ وَاضِحٌ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَإِنْ وَجَدَتْ
لِأَنَّ فِي الْخُرُوجِ تَفْوِيتَ حَقِّهِ. وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْفَرَائِضِ وَالْحَجُّ مِنْهَا، حَتَّى لَوْ كَانَ الْحَجُّ نَفْلًا لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا، وَلَوْ كَانَ الْمَحْرَمُ فَاسِقًا قَالُوا: لَا يَجِبُ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِهِ (وَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ مَعَ كُلِّ مَحْرَمٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَجُوسِيًّا) لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ إبَاحَةَ مُنَاكَحَتِهَا، وَلَا عِبْرَةَ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُ لَا تَتَأَتَّى مِنْهُمَا الصِّيَانَةُ، وَالصَّبِيَّةُ الَّتِي بَلَغَتْ حَدَّ الشَّهْوَةِ بِمَنْزِلَةِ الْبَالِغَةِ حَتَّى لَا يُسَافَرَ بِهَا مِنْ غَيْرِ مَحْرَمٍ، وَنَفَقَةُ الْمَحْرَمِ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا تَتَوَسَّلُ بِهِ إلَى أَدَاءِ الْحَجِّ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمَحْرَمَ شَرْطُ الْوُجُوبِ أَوْ شَرْطُ الْأَدَاءِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَمْنِ الطَّرِيقِ
مَحْرَمًا (وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْفَرَائِضِ) أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْنَعُهَا مِنْ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَالصَّلَاةِ (وَالْحَجُّ مِنْهَا، حَتَّى لَوْ كَانَ الْحَجُّ نَفْلًا لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا) وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا مِنْ سَاعَتِهِ. وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ الْمَحْرَمُ فَاسِقًا) ظَاهِرٌ
(وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ بَعْدَمَا أَحْرَمَ أَوْ عَتَقَ الْعَبْدُ فَمَضَيَا لَمْ يُجِزْهُمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ) لِأَنَّ إحْرَامَهَا انْعَقَدَ لِأَدَاءِ النَّفْلِ فَلَا يَنْقَلِبُ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ (وَلَوْ جَدَّدَ الصَّبِيُّ الْإِحْرَامَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَنَوَى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ جَازَ، وَالْعَبْدُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ إحْرَامَ الصَّبِيِّ غَيْرُ لَازِمٍ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ، أَمَّا إحْرَامُ الْعَبْدِ لَازِمٌ فَلَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ عَنْهُ بِالشُّرُوعِ فِي غَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ بَعْدَمَا أَحْرَمَ أَوْ عَتَقَ الْعَبْدُ) يَعْنِي بَعْدَمَا أَحْرَمَ (فَمَضَيَا لَمْ يُجْزِهِمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ إحْرَامَهُمَا انْعَقَدَ لِأَدَاءِ النَّفْلِ) لِعَدَمِ الْخِطَابِ وَشَرْطِ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِمَا (فَلَا يَنْقَلِبُ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ) وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْإِحْرَامَ شَرْطٌ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ كَالطَّهَارَةِ، وَالشَّرْطُ يُرَاعَى وُجُودُهُ لَا وُجُودُهُ قَصْدًا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا تَوَضَّأَ ثُمَّ بَلَغَ بِالسِّنِّ فَصَلَّى بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ جَازَتْ صَلَاتُهُ، فَمَا بَالُ الْحَجِّ لَمْ يَجُزْ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِحْرَامَ عِنْدَنَا إنَّمَا يَكُونُ بِالنِّيَّةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَبِهَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ، فَصَارَ كَصَبِيٍّ تَوَضَّأَ وَشَرَعَ فِي الصَّلَاةِ وَبَلَغَ بِالسِّنِّ فَنَوَى أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الصَّلَاةُ فَرْضًا لَا تَنْقَلِبُ إلَيْهَا (وَلَوْ جَدَّدَ الصَّبِيُّ الْإِحْرَامَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَنَوَى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ جَازَ وَالْعَبْدُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ إحْرَامَ الصَّبِيِّ غَيْرُ لَازِمٍ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ) وَلِهَذَا لَوْ تَنَاوَلَ مَحْظُورًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ الْفَسْخُ وَالشُّرُوعُ فِي غَيْرِهِ (وَأَمَّا إحْرَامُ الْعَبْدِ فَلَازِمٌ) لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا وَلِهَذَا لَوْ أَصَابَ صَيْدًا كَانَ عَلَيْهِ الصِّيَامُ لِأَنَّهُ صَارَ جَانِيًا عَلَى إحْرَامِهِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ (فَلَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ عَنْهُ بِالشُّرُوعِ فِي غَيْرِهِ) وَإِنَّمَا طَرِيقُ خُرُوجِهِ مِنْ ذَلِكَ الْإِحْرَامِ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ، فَسَوَاءٌ جَدَّدَ التَّلْبِيَةَ أَوْ لَمْ يُجَدِّدْهَا، وَهُوَ بَاقٍ عَلَى ذَلِكَ الْإِحْرَامِ فَلَا يُجْزِيهِ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ.
(فَصْلٌ)(وَالْمَوَاقِيتُ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُجَاوِزَهَا الْإِنْسَانُ إلَّا مُحْرِمًا خَمْسَةٌ: لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذُو الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتُ عِرْقٍ. وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةُ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ) هَكَذَا وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْمَوَاقِيتَ لِهَؤُلَاءِ.
فَصْلٌ):
لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَذَكَرَ شُرُوطَ الْوُجُوبِ. وَمَا يَتْبَعُهَا شَرَعَ فِي بَيَانِ أَوَّلِ أَمْكِنَةٍ يُبْتَدَأُ فِيهَا بِأَفْعَالِ الْحَجِّ. وَهِيَ (الْمَوَاقِيتُ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُجَاوِزَهَا الْإِنْسَانُ إلَّا مُحْرِمًا) وَالْمَوَاقِيتُ جَمْعُ مِيقَاتٍ، وَهُوَ الْوَقْتُ الْمَحْدُودُ فَاسْتُعِيرَ لِلْمَكَانِ كَمَا اُسْتُعِيرَ الْمَكَانُ لِلْوَقْتِ فِي قَوْله تَعَالَى {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ} وَالْمَوَاقِيتُ خَمْسَةٌ، كَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ. وَقَوْلُهُ (هَكَذَا وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْمَوَاقِيتَ لِهَؤُلَاءِ) قِيلَ عَلَيْهِ كَيْفَ كَانَ التَّوْقِيتُ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَلَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام عَلِمَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ
وَفَائِدَةُ التَّأْقِيتِ الْمَنْعُ عَنْ تَأْخِيرِ الْإِحْرَامِ عَنْهَا، لِأَنَّهُ يَجُوزُ التَّقْدِيمُ عَلَيْهَا بِالِاتِّفَاقِ، ثُمَّ الْآفَاقِيُّ إذَا انْتَهَى إلَيْهَا عَلَى قَصْدِ دُخُولِ مَكَّةَ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ قَصَدَ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ
إيمَانَهُمْ فَوَقَّتَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (وَفَائِدَةُ التَّأْقِيتِ) وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (عَلَى قَصْدِ دُخُولِ مَكَّةَ) قَيَّدَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: اعْلَمْ أَنَّ الْبَيْتَ لَمَّا كَانَ مُعَظَّمًا مُشَرَّفًا جُعِلَ لَهُ حِصْنٌ وَهُوَ مَكَّةُ، وَحِمًى وَهُوَ الْحَرَمُ، وَلِلْحَرَمِ حَرَمٌ، وَهُوَ الْمَوَاقِيتُ حَتَّى لَا يَجُوزَ لِمَنْ دُونَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَهُ إلَّا بِالْإِحْرَامِ تَعْظِيمًا
أَوْ لَمْ يَقْصِدْ عِنْدَنَا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا يُجَاوِزُ أَحَدٌ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا»
لِلْبَيْتِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَصَدَ مُجَاوَزَةَ مِيقَاتَيْنِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِحْرَامٍ، وَمَنْ قَصَدَ مُجَاوَزَةَ مِيقَاتٍ وَاحِدٍ حَلَّ لَهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ. بَيَانُهُ. أَنَّ. مَنْ أَتَى مِيقَاتًا بِنِيَّةِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ أَوْ دُخُولِ مَكَّةَ لِحَاجَةٍ لَا يَجُوزُ. دُخُولُهُ. إلَّا بِالْإِحْرَامِ، لِأَنَّهُ قَصَدَ مُجَاوَزَةَ مِيقَاتَيْنِ مِيقَاتِ أَهْلِ الْآفَاقِ، وَمِيقَاتِ أَهْلِ الْحِلِّ. وَالْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ مِنْ الْآفَاقِيِّ دُخُولَهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ أَنْ يَقْصِدَ بُسْتَانَ بَنِي عَامِرٍ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْحِلِّ فَلَا يَجِبُ الْإِحْرَامُ، لِأَنَّهُ قَصَدَ مُجَاوَزَةَ مِيقَاتٍ وَاحِدٍ. وَقَوْلُهُ (عِنْدَنَا) إشَارَةٌ إلَى خِلَافِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْإِحْرَامَ يَجِبُ عِنْدَ الْمِيقَاتِ عَلَى مَنْ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَأَمَّا مَنْ أَرَادَ دُخُولَهَا لِقِتَالٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ قَوْلًا وَاحِدًا، «لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَهَا يَوْمَ الْفَتْحِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ» ، وَلَهُ فِي الدَّاخِلِ لِلتِّجَارَةِ قَوْلَانِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا يُجَاوِزُ أَحَدٌ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا»
وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِحْرَامِ لِتَعْظِيمِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ الشَّرِيفَةِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ وَغَيْرُهُمَا
(وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِحَاجَتِهِ) لِأَنَّهُ يَكْثُرُ دُخُولُهُ مَكَّةَ، وَفِي إيجَابِ الْإِحْرَامِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَرَجٌ بَيِّنٌ فَصَارَ كَأَهْلِ مَكَّةَ حَيْثُ يُبَاحُ لَهُمْ الْخُرُوجُ مِنْهَا ثُمَّ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِحَاجَتِهِمْ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَصَدَ أَدَاءَ النُّسُكِ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ أَحْيَانًا فَلَا حَرَجَ (فَإِنْ قَدَّمَ الْإِحْرَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ جَازَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَإِتْمَامُهُمَا أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، كَذَا قَالَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما. وَالْأَفْضَلُ التَّقْدِيمُ عَلَيْهَا لِأَنَّ إتْمَامَ الْحَجِّ مُفَسَّرٌ بِهِ وَالْمَشَقَّةُ فِيهِ أَكْثَرُ وَالتَّعْظِيمُ أَوْفَرُ
وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِحْرَامِ لِتَعْظِيمِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ الشَّرِيفَةِ) لَا لِأَنَّهُ شَرْطٌ لِلْحَجِّ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ يُحْرِمُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، وَتَعْظِيمُهَا لَمْ يَخْتَلِفْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَاجِّ وَغَيْرِهِ (فَيَسْتَوِي فِيهِ الْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ وَغَيْرُهُمَا) وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فَمِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ عليه الصلاة والسلام، كَمَا قَالَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ «إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ) ظَاهِرٌ، وَالْأَصْلُ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِلْحَطَّابِينَ دُخُولَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ» ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ (فَإِنْ قَدَّمَ الْإِحْرَامَ) ظَاهِرٌ. قِيلَ: إنَّمَا صَغَّرَ الدُّوَيْرَةَ تَعْظِيمًا لِلْكَعْبَةِ (كَذَا قَالَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ) يَعْنِي أَنَّ إتْمَامَهُمَا أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ، وَقِيلَ إتْمَامُهُمَا أَنْ يُفْرِدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَفَرًا كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ حَجَّةٌ كُوفِيَّةٌ وَعُمْرَةٌ كُوفِيَّةٌ أَفْضَلُ " (وَالْأَفْضَلُ التَّقْدِيمُ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْإِتْمَامَ مُفَسَّرٌ بِهِ وَالْمَشَقَّةُ فِيهِ أَكْثَرُ وَالتَّعْظِيمُ أَوْفَرُ)
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله إنَّمَا يَكُونُ أَفْضَلَ إذَا كَانَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ لَا يَقَعَ فِي مَحْظُورٍ
(وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَوَقْتُهُ الْحِلُّ) مَعْنَاهُ الْحِلُّ الَّذِي بَيْنَ الْمَوَاقِيتِ وَبَيْنَ الْحَرَمِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ إحْرَامُهُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، وَمَا وَرَاءَ الْمِيقَاتِ إلَى الْحَرَمِ مَكَانٌ وَاحِدٌ (وَمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَوَقْتُهُ فِي الْحَجِّ الْحَرَمُ وَفِي الْعُمْرَةِ الْحِلُّ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ أَصْحَابَهُ رضي الله عنهم أَنْ يُحْرِمُوا بِالْحَجِّ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ، وَأَمَرَ أَخَا عَائِشَةَ رضي الله عنهما أَنْ يُعْمِرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ وَهُوَ فِي الْحِلِّ، وَلِأَنَّ أَدَاءَ الْحَجِّ فِي عَرَفَةَ وَهِيَ فِي الْحِلِّ فَيَكُونُ الْإِحْرَامُ مِنْ الْحَرَمِ لِيَتَحَقَّقَ نَوْعُ سَفَرٍ، وَأَدَاءُ الْعُمْرَةِ فِي الْحَرَمِ فَيَكُونُ الْإِحْرَامُ مِنْ الْحِلِّ لِهَذَا، إلَّا أَنَّ التَّنْعِيمَ أَفْضَلُ لِوُرُودِ الْأَثَرِ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ عِنْدَهُ مِنْ الْأَدَاءِ. وَقَوْلُهُ (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَوَقْتُهُ) أَيْ مَوْضِعُ إحْرَامِهِ (الْحِلُّ الَّذِي بَيْنَ الْمِيقَاتِ وَبَيْنَ الْحَرَمِ) لَا الْحِلُّ الَّذِي هُوَ خَارِجُ الْمِيقَاتِ (لِأَنَّهُ يَجُوزُ إحْرَامُهُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ) لِمَا تَلَوْنَا، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْحِلِّ مَا هُوَ خَارِجَ الْمِيقَاتِ لَمَا جَازَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، وَحَيْثُ جَازَ لَهُ ذَلِكَ جَازَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْ الْحِلِّ لِأَنَّ مَا وَرَاءَ الْمِيقَاتِ إلَى الْحَرَمِ مَكَانٌ وَاحِدٌ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (لِوُرُودِ الْأَثَرِ بِهِ) أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ: وَأَمَرَ أَخَا عَائِشَةَ أَنْ يُعَمِّرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ.
(بَابُ الْإِحْرَامِ)
(وَإِذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ اغْتَسَلَ أَوْ تَوَضَّأَ وَالْغُسْلُ أَفْضَلُ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام اغْتَسَلَ لِإِحْرَامِهِ»
بَابُ الْإِحْرَامِ)
لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْمَوَاقِيتِ، ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ الْإِحْرَامِ الَّذِي يُفْعَلُ فِي تِلْكَ الْمَوَاقِيتِ. وَالْإِحْرَامُ لُغَةً مَصْدَرُ أَحْرَمَ إذَا دَخَلَ فِي الْحَرَمِ كَأَشْتَى إذَا دَخَلَ فِي الشِّتَاءِ. وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ تَحْرِيمُ الْمُبَاحَاتِ عَلَى نَفْسِهِ لِأَدَاءِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ مِنْ الْعِبَادَاتِ مَا لَهَا تَحْرِيمٌ وَتَحْلِيلٌ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ كَالصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ (وَإِذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ اغْتَسَلَ أَوْ تَوَضَّأَ وَالْغُسْلُ أَفْضَلُ لِمَا رَوَى «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام اغْتَسَلَ لِإِحْرَامِهِ» وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَالْغُسْلُ أَفْضَلُ، وَكَأَنَّهُ يَدْفَعُ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْغُسْلَ إذَا كَانَ أَفْضَلَ، وَجَبَ أَنْ لَا يَقُومَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فَقَالَ
إلَّا أَنَّهُ لِلتَّنْظِيفِ حَتَّى تُؤْمَرَ بِهِ الْحَائِضُ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فَرْضًا عَنْهَا فَيَقُومَ الْوُضُوءُ مَقَامَهُ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ، لَكِنَّ الْغُسْلَ أَفْضَلُ لِأَنَّ مَعْنَى النَّظَافَةِ فِيهِ أَتَمُّ، وَلِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام اخْتَارَهُ. قَالَ (وَلَبِسَ ثَوْبَيْنِ جَدِيدَيْنِ أَوْ غَسِيلَيْنِ إزَارًا وَرِدَاءً) لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام ائْتَزَرَ وَارْتَدَى عِنْدَ إحْرَامِهِ، وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ وَلَا بُدَّ مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَدَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَذَلِكَ فِيمَا عَيَّنَّاهُ، وَالْجَدِيدُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الطَّهَارَةِ.
قَالَ (وَمَسَّ طِيبًا إنْ كَانَ لَهُ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله: أَنَّهُ يُكْرَهُ إذَا تَطَيَّبَ بِمَا تَبْقَى عَيْنُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لِأَنَّهُ مُنْتَفِعٌ بِالطِّيبِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ
إلَّا أَنَّهُ لِلتَّنْظِيفِ حَتَّى تُؤْمَرَ بِهِ الْحَائِضُ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فَرْضًا عَنْهَا) رُوِيَ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ أَسْمَاءَ قَدْ نُفِسَتْ فَقَالَ: مُرْهَا فَلْتَغْتَسِلْ وَلْتُحْرِمْ بِالْحَجِّ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاغْتِسَالَ الْوَاجِبَ لَا يَتَأَدَّى مَعَ وُجُودِ الْحَيْضِ فَكَانَ لِمَعْنَى النَّظَافَةِ، وَكُلُّ غُسْلٍ كَانَ لِمَعْنَى النَّظَافَةِ يَقُومُ الْوُضُوءُ مَقَامَهُ (كَمَا فِي الْجُمُعَةِ) وَالْعِيدَيْنِ (لَكِنَّ الْغُسْلَ أَفْضَلُ لِأَنَّ مَعْنَى النَّظَافَةِ فِيهِ أَتَمُّ، وَلِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام اخْتَارَهُ) أَيْ آثَرَهُ عَلَى الْوُضُوءِ وَضَعْفُ تَرْكِيبِهِ لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ (وَلُبْسُ ثَوْبَيْنِ جَدِيدَيْنِ أَوْ غَسِيلَيْنِ إزَارًا وَرِدَاءً) وَفِي ذِكْرِ الْجَدِيدِ نَفْيٌ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِكَرَاهَةِ لُبْسِ الْجَدِيدِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَالْإِزَارُ مِنْ الْحِقْوِ إلَى الْخَصْرِ، وَالرِّدَاءُ مِنْ الْكَنَفِ (لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ائْتَزَرَ وَارْتَدَى) أَيْ لَبِسَ الْإِزَارَ وَالرِّدَاءَ.
وَيُدْخِلُ الرِّدَاءَ تَحْتَ يَمِينِهِ وَيُلْقِيهِ عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ وَيَبْقَى كَتِفُهُ الْأَيْمَنُ مَكْشُوفًا وَلَا يَزُرُّهُ وَلَا يَعْقِدُهُ وَلَا يُخَلِّلُهُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كُرِهَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الطَّهَارَةِ) لِأَنَّهُ لَمْ تُصِبْهُ النَّجَاسَةُ ظَاهِرٌ (وَمَسَّ طِيبًا إنْ وَجَدَ) أَيَّ طِيبٍ كَانَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ (وَ) رَوَى الْمُعَلَّى (عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُكْرَهُ إذَا تَطَيَّبَ بِمَا تَبْقَى عَيْنُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ) كَالْمِسْكِ وَالْغَالِيَةِ قَالَ مُحَمَّدٌ: كُنْت لَا أَرَى بَأْسًا بِذَلِكَ حَتَّى رَأَيْت قَوْمًا أَحْضَرُوا طِيبًا كَثِيرًا وَرَأَيْت أَمْرًا شَنِيعًا فَكَرِهْته (وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ مُنْتَفِعٌ بِالطِّيبِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ) قِيلَ: لِأَنَّهُ إذَا عَرِقَ يَنْتَقِلُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ بَدَنِهِ فَيَكُونُ
وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ حَدِيثُ «عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ»
ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ التَّطَيُّبِ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْإِحْرَامِ فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي، يُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام رَأَى أَعْرَابِيًّا عَلَيْهِ خَلُوقٌ فَقَالَ: اغْسِلْ عَنْك هَذَا الْخَلُوقَ» (وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ «كُنْت أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ» وَفِيهِ نَظَرٌ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الطِّيبُ مِمَّا لَا يَبْقَى أَثَرُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَالْمَكْرُوهُ ذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ حَدِيثِ عَائِشَةَ «وَلَقَدْ رَأَيْت وَبِيصَ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَالْمَمْنُوعُ عَنْهُ التَّطَيُّبُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَالْبَاقِي كَالتَّابِعِ لَهُ لِاتِّصَالِهِ بِهِ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ لِأَنَّهُ مُبَايِنٌ عَنْهُ.
قَالَ (وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لِمَا رَوَى جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ إحْرَامِهِ قَالَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي») لِأَنَّ أَدَاءَهَا فِي أَزْمِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَأَمَاكِنَ مُتَبَايِنَةٍ فَلَا يُعَرَّى عَنْ الْمَشَقَّةِ عَادَةً فَيَسْأَلُ التَّيْسِيرَ، وَفِي الصَّلَاةِ لَمْ يَذْكُرْ مِثْلَ هَذَا الدُّعَاءِ لِأَنَّ مُدَّتَهَا يَسِيرَةٌ وَأَدَاءَهَا عَادَةً مُتَيَسِّرٌ. قَالَ (ثُمَّ يُلَبِّي عَقِيبَ صَلَاتِهِ)
بَعْدَ الْإِحْرَامِ» وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها اقْتَصَرَ عَنْ ذِكْرِهِ (وَلِأَنَّ الْمَمْنُوعَ عَنْ الْمُحْرِمِ التَّطَيُّبُ وَالْبَاقِي كَالتَّابِعِ لَهُ لِاتِّصَالِهِ بِبَدَنِهِ) وَلَا حُكْمَ لِلتَّبَعِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ (بِخِلَافِ الثَّوْبِ الْمَخِيطِ) إذَا لُبِسَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَمْنُوعًا، وَيَكُونُ كَاللَّابِسِ ابْتِدَاءً حَتَّى يَلْزَمَهُ الْجَزَاءُ (لِأَنَّهُ مُبَايِنٌ عَنْهُ) فَلَا يَكُونُ تَابِعًا، وَعَنْ هَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَتَطَيَّبُ فَدَامَ عَلَى طِيبٍ كَانَ بِجَسَدِهِ لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ فَدَامَ عَلَى لُبْسِهِ حَنِثَ، وَحَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَى ثَوْبِهِ لَا عَلَى بَدَنِهِ
قَالَ (وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ) أَيْ إذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لِمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ إحْرَامِهِ» وَرَوَى عُمَرُ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي وَأَنَا بِالْعَقِيقِ فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ رَكْعَتَيْنِ وَقُلْ: لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا» وَيَقْرَأُ فِيهِمَا مَا شَاءَ وَإِنْ قَرَأَ فِي الْأُولَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَفِي الثَّانِيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَبَرُّكًا بِفِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام فَهُوَ أَفْضَلُ " (قَالَ) يَعْنِي مُحَمَّدًا (وَقَالَ) يَعْنِي الَّذِي يُرِيدُ الْحَجَّ (اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَمْ يَذْكُرْ قَالَ الْأَوَّلُ، وَأَلْحَقَهُ بِحَدِيثِ جَابِرٍ: أَيْ «صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذِي الْحُلَيْفَةِ» ، وَقَالَ: أَيْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُثْبَتُ فِي الْكُتُبِ الْمُتْقَنَةِ عَنْ الْأَسَاتِذَةِ.
وَقَوْلُهُ (لَأَنْ أَدَّاهَا) أَيْ أَدَاءُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ تَعْلِيلٌ لِسُؤَالِ التَّيْسِيرِ. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ يُلَبِّي) يُرِيدُ مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ (عَقِيبَ صَلَاتِهِ) اخْتَلَفَ الرُّوَاةُ فِي وَقْتِ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لَبَّى
لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام لَبَّى فِي دُبُرِ صَلَاتِهِ» . وَإِنْ لَبَّى بَعْدَمَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ جَازَ، وَلَكِنْ الْأَوَّلُ أَفْضَلُ لِمَا رَوَيْنَا
دُبُرِ صَلَاتِهِ» وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ «لَبَّى حِينَ اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ» وَذَكَرَ جَابِرٌ. «أَنَّهُ لَبَّى حِينَ عَلَا الْبَيْدَاءَ» وَابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما رَدَّ هَذَا، فَقَالَ: يَكْذِبُونَ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «وَإِنَّمَا لَبَّى حِينَ اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ» وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما كَيْفَ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وَقْتِ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا حَجَّ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَقَالَ «لَبَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي دُبُرِ صَلَاتِهِ» فَسَمِعَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَنَقَلُوا ذَلِكَ، وَكَانَ الْقَوْمُ يَأْتُونَهُ أَرْسَالًا فَلَبَّى حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ فَسَمِعَ قَوْمٌ فَظَنُّوهَا أَوَّلَ تَلْبِيَتِهِ فَنَقَلُوا ذَلِكَ، ثُمَّ لَبَّى حِينَ عَلَا الْبَيْدَاءَ، فَسَمِعَهُ قَوْمٌ آخَرُونَ فَظَنُّوهَا أَوَّلَ تَلْبِيَتِهِ فَنَقَلُوا ذَلِكَ وَاَيْمُ اللَّهِ مَا أَوْجَبَهَا إلَّا فِي مُصَلَّاهُ " فَقُلْنَا: بِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ أَكَّدَ رِوَايَتَهُ بِالْيَمِينِ، وَالْإِتْيَانُ
(فَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ يَنْوِي بِتَلْبِيَتِهِ الْحَجَّ) لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ (وَالتَّلْبِيَةُ أَنْ يَقُولَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَك) وَقَوْلُهُ إنَّ الْحَمْدَ بِكَسْرِ الْأَلِفِ لَا بِفَتْحِهَا لِيَكُونَ ابْتِدَاءً لَا بِنَاءً
بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ جَائِزٌ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَالتَّلْبِيَةُ أَنْ يَقُولَ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ) وَهُوَ مِنْ الْمَصَادِرِ الَّتِي يَجِبُ حَذْفُ فِعْلِهَا لِوُقُوعِهِ مُثَنَّى. وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ فَقِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنْ أَلَبَ الرَّجُلُ إذَا أَقَامَ فِي مَكَان، فَمَعْنَى لَبَّيْكَ أُقِيمُ عَلَى طَاعَتِك إقَامَةً بَعْدَ إقَامَةٍ لِأَنَّ التَّلْبِيَةَ هَاهُنَا لِلتَّكْرِيرِ، وَالتَّكْرِيرُ يُرَادُ لِلتَّكْثِيرِ. وَقِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ: امْرَأَةٌ لَبَّةٌ أَيْ مُحِبَّةٌ لِزَوْجِهَا فَمَعْنَاهُ مَحَبَّتِي لَك يَا رَبِّ. وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِهِمْ دَارِي تَلِبُّ دَارَك أَيْ تُوَاجِهُهَا فَمَعْنَاهُ اتِّجَاهِي إلَيْك مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ.
وَقَوْلُهُ (إنَّ الْحَمْدَ بِكَسْرِ الْأَلِفِ لَا بِفَتْحِهَا) هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ فِي صِفَةِ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَوْلُهُ (لِيَكُونَ ابْتِدَاءً) أَيْ غَيْرَ مُتَعَلِّقٍ بِمَا قَبْلَهُ
إذْ الْفَتْحَةُ صِفَةُ الْأُولَى، وَهُوَ إجَابَةٌ لِدُعَاءِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْقِصَّةِ (وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخِلَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ)
لَا بِنَاءً إذْ الْفَتْحَةُ صِفَةُ الْأُولَى) قِيلَ: مُرَادُهُ الْحَقِيقَةُ وَهِيَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالذَّاتِ لَا الصِّفَةِ النَّحْوِيَّةِ، وَتَقْدِيرُهُ: أُلَبِّي أَنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك، أَيْ وَأَنَا مَوْصُوفٌ بِهَذَا الْقَوْلِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ التَّعْلِيلُ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِتَقْدِيرِ اللَّامِ أَيْ لَبَّى لِأَنَّ الْحَمْدَ، وَفِيهِ بُعْدٌ.
وَقِيلَ: مُرَادُهُ أَنَّهُ صِفَةُ التَّلْبِيَةِ أَيْ أُلَبِّي. تَلْبِيَةً. هِيَ أَنَّ الْحَمْدَ لَك، وَعَلَى هَذَا قِيلَ: مَنْ كَسَرَ الْهَمْزَةَ فَقَدْ عَمَّ وَمَنْ فَتَحَهَا فَقَدْ خَصَّ. وَقَوْلُهُ (وَهُوَ) أَيْ ذِكْرُ التَّلْبِيَةِ (إجَابَةٌ لِدَعْوَةِ الْخَلِيلِ عليه الصلاة والسلام عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْقِصَّةِ) وَهِيَ مَا رُوِيَ " أَنَّ الْخَلِيلَ عليه الصلاة والسلام لَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ أُمِرَ بِأَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إلَى الْحَجِّ، فَصَعِدَ أَبَا قُبَيْسٍ وَقَالَ: أَلَا إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِبِنَاءِ بَيْتٍ لَهُ وَقَدْ بُنِيَ، أَلَا فَحُجُّوهُ فَبَلَّغَ اللَّهُ صَوْتَهُ النَّاسَ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ وَأَرْحَامِ أُمَّهَاتِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ جَوَابِهِمْ يَحُجُّونَ " وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْله تَعَالَى {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا} فَالتَّلْبِيَةُ إجَابَةٌ لِدَعْوَةِ الْخَلِيلِ عليه الصلاة والسلام وَلَا فَرْقَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ هَذَا اللَّفْظِ وَغَيْرِهِ مِنْ الثَّنَاءِ وَالتَّسْبِيحِ وَالْعَرَبِيِّ وَالْفَارِسِيِّ. أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ لِتَجْوِيزِهِ ذَلِكَ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ. وَفَرَّقَ مُحَمَّدٌ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ غَيْرَ الذِّكْرِ هَاهُنَا وَهُوَ تَقْلِيدُ الْهَدْيِ قَامَ مَقَامَهُ
لِأَنَّهُ هُوَ الْمَنْقُولُ بِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ فَلَا يَنْقُصُ عَنْهُ (وَلَوْ زَادَ فِيهَا جَازَ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي رِوَايَةِ الرَّبِيعِ رحمه الله عَنْهُ. هُوَ اعْتَبَرَهُ بِالْأَذَانِ وَالتَّشَهُّدِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ ذِكْرٌ مَنْظُومٌ. وَلَنَا أَنَّ أَجِلَّاءَ الصَّحَابَةِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - زَادُوا عَلَى الْمَأْثُورِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الثَّنَاءُ، وَإِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ الزِّيَادَةِ
فَكَذَلِكَ غَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ يَقُومُ مَقَامَهَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، وَبِهَذَا فَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ أَيْضًا بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالتَّلْبِيَةِ، وَلَكِنَّ الْعَرَبِيَّةَ أَفْضَلُ.
وَقَوْلُهُ (فَلَا يَنْقُصُ عَنْهُ) قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ: لَوْ قَالَ اللَّهُمَّ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ كَانَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ. فَمَنْ قَالَ: يَصِيرُ بِهِ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ قَالَ: يَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا، وَمَنْ قَالَ: لَا فَلَا. وَقَوْلُهُ (وَلَوْ زَادَ فِيهَا جَازَ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (زَادُوا عَلَى الْمَأْثُورِ) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: أَجَهِلَ النَّاسُ أَمْ طَالَ بِهِمْ الْعَهْدُ؟ لَبَّيْكَ عَدَدَ التُّرَابِ لَبَّيْكَ، وَأَرَادَ بِالْعَهْدِ عَهْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَزَادُوا فِي رِوَايَةٍ «لَبَّيْكَ حَقًّا حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا لَبَّيْكَ عَدَدَ التُّرَابِ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ ذَا الْمَعَارِجِ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ إلَهَ الْخَلْقِ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إلَيْك لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ مِنْ عَبْدٍ آبِقٍ لَبَّيْكَ» . وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الثَّنَاءُ) ظَاهِرٌ. وَالْجَوَابُ عَنْ التَّشَهُّدِ وَالْأَذَانِ أَنَّ التَّشَهُّدَ فِي تَعْلِيمِهِ زِيَادَةُ التَّأْكِيدِ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ» فَالزِّيَادَةُ تُخِلُّ بِهِ، بِخِلَافِ التَّلْبِيَةِ لِأَنَّهَا لِلثَّنَاءِ مِنْ غَيْرِ تَأْكِيدٍ فِي تَعْلِيمِ نَظْمِهِ فَلَا تُخِلُّ بِهَا الزِّيَادَةُ، وَالْأَذَانُ لِلْإِعْلَامِ وَقَدْ صَارَ مَعْرُوفًا بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ فَلَا يَبْقَى إعْلَامًا بِغَيْرِهَا، وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ كَبِيرُ خِلَافٍ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْمَنْقُولَ
عَلَيْهِ. قَالَ (وَإِذَا لَبَّى فَقَدْ أَحْرَمَ) يَعْنِي إذَا نَوَى لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِالنِّيَّةِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهَا لِتَقْدِيمِ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا فِي قَوْلِهِ اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ (وَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الْإِحْرَامِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مَا لَمْ يَأْتِ بِالتَّلْبِيَةِ)
أَفْضَلَ فِي رِوَايَةٍ. قَالَ فِي شَرْحِ الْوَجِيزِ: لَا تُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَلْ يَكُونُ مَكْرُوهًا، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ هَذَا، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ.
قَالَ (وَإِذَا لَبَّى فَقَدْ أَحْرَمَ) مَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ إذَا نَوَى وَلَبَّى فَقَدْ أَحْرَمَ وَلَا يَصِيرُ شَارِعًا لَا بِمُجَرَّدِ التَّلْبِيَةِ، وَلَا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِالنِّيَّةِ إلَّا أَنَّ الْقُدُورِيَّ لَمْ يَذْكُرْهَا لِتَقَدُّمِ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَى الْأَدَاءِ أَيْ عَلَى أَدَاءِ عِبَادَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى أَرْكَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ لِلشُّرُوعِ فِيهِ مِنْ ذِكْرٍ يُقْصَدُ بِهِ التَّعْظِيمُ سَوَاءٌ كَانَ تَلْبِيَةً أَوْ غَيْرَهَا عَرَبِيًّا أَوْ غَيْرَهُ فِي الْمَشْهُورِ كَمَا ذَكَرْنَا، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ الذِّكْرِ كَتَقْلِيدِ الْهَدْيِ، فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ إظْهَارُ الْإِجَابَةِ لِلدَّعْوَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يَصِيرُ شَارِعًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ لِأَنَّهُ الْتِزَامُ
خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله لِأَنَّهُ عَقَدَ عَلَى الْأَدَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرٍ كَمَا فِي تَحْرِيمَةِ الصَّلَاةِ، وَيَصِيرُ شَارِعًا بِذِكْرٍ يَقْصِدُ بِهِ التَّعْظِيمَ سِوَى التَّلْبِيَةِ فَارِسِيَّةً كَانَتْ أَوْ عَرَبِيَّةً، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ عَلَى أَصْلِهَا أَنَّ بَابَ الْحَجِّ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، حَتَّى يُقَامَ غَيْرُ الذِّكْرِ مَقَامَ الذِّكْرِ كَتَقْلِيدِ الْبُدْنِ فَكَذَا غَيْرُ التَّلْبِيَةِ وَغَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ.
قَالَ (وَيَتَّقِي مَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ الرَّفَثِ وَالْفُسُوقِ وَالْجِدَالِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} فَهَذَا نَهْيٌ بِصِيغَةِ النَّفْيِ
الْكَفِّ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ يَحْصُلُ الشُّرُوعُ فِيهِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ كَالصَّوْمِ. وَالْجَوَابُ: إنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ فِي الْإِحْرَامِ الْتَزَمَ الْكَفَّ، بَلْ الْتَزَمَ أَدَاءَ الْأَفْعَالِ وَالْكَفُّ ضِمْنِيٌّ لِأَنَّهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّ الْكَفَّ فِيهِ رُكْنٌ فَكَانَ الْتِزَامُهُ قَصْدِيًّا.
وَقَوْلُهُ (وَيَتَّقِي مَا نَهَى اللَّهُ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (فَهَذَا نَهْيٌ بِصِيغَةِ النَّفْيِ) إنَّمَا قَالَهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْخُلْفُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ لِوُجُودِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا قَالَ بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ لِأَنَّ ذِكْرَ الْجِمَاعِ بِغَيْرِ حَضْرَتِهِنَّ لَيْسَ مِنْ الرَّفَثِ، رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَنْشَدَ فِي إحْرَامِهِ:
وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسًا
…
إنْ يَصْدُقْ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسًا
وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ أَوْ الْكَلَامُ الْفَاحِشُ، أَوْ ذِكْرُ الْجِمَاعِ بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ وَالْفُسُوقُ الْمَعَاصِي وَهُوَ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ أَشَدُّ حُرْمَةً، وَالْجِدَالُ أَنْ يُجَادِلَ رَفِيقَهُ، وَقِيلَ: مُجَادَلَةُ الْمُشْرِكِينَ فِي تَقْدِيمِ وَقْتِ الْحَجِّ وَتَأْخِيرِهِ
(وَلَا يَقْتُلُ صَيْدًا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}
فَقِيلَ لَهُ أَتَرْفُثُ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ؟ فَقَالَ: إنَّمَا الرَّفَثُ مَا كَانَ بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ
وَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}
(وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ) لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه «أَنَّهُ أَصَابَ حِمَارَ وَحْشٍ وَهُوَ حَلَالٌ وَأَصْحَابُهُ مُحْرِمُونَ، فَقَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام لِأَصْحَابِهِ: هَلْ أَشَرْتُمْ؟ هَلْ دَلَلْتُمْ؟ هَلْ أَعَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: لَا، فَقَالَ: إذًا فَكُلُوا» وَلِأَنَّهُ إزَالَة الْأَمْنِ عَنْ الصَّيْدِ لِأَنَّهُ آمِنٌ بِتَوَحُّشِهِ وَبُعْدِهِ عَنْ الْأَعْيُنِ
قَالَ (وَلَا يَلْبَسُ قَمِيصًا وَلَا سَرَاوِيلَ وَلَا عِمَامَةً وَلَا خُفَّيْنِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَيَقْطَعُهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام «نَهَى أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ» وَقَالَ فِي آخِرِهِ «وَلَا خُفَّيْنِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ»
لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ مُحْرِمُونَ. وَقَوْلُهُ (وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ) الْإِشَارَةُ تَقْتَضِي الْحَضْرَةَ، وَالدَّلَالَةُ تَقْتَضِي الْغَيْبَةَ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ) أَيْ الْمَذْكُورُ مِنْ الْإِشَارَةِ وَالدَّلَالَةِ وَالْإِعَانَةِ (إزَالَةُ الْأَمْنِ عَنْ الصَّيْدِ لِأَنَّهُ آمِنٌ بِتَوَحُّشِهِ وَبُعْدِهِ عَنْ الْأَعْيُنِ) وَهُوَ حَرَامٌ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَلْبَسُ قَمِيصًا) ظَاهِرٌ.
وَالْكَعْبُ هُنَا الْمِفْصَلُ الَّذِي فِي وَسَطِ الْقَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ دُونَ النَّاتِئِ فِيمَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله.
قَالَ (وَلَا يُغَطِّي وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَجُوزُ لِلرَّجُلِ تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا» . وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» قَالَهُ فِي مُحْرِمٍ تُوُفِّيَ
وَقَوْلُهُ (قَالَهُ فِي مُحْرِمٍ تُوُفِّيَ) هُوَ الْأَعْرَابِيُّ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ فِي أَخَافِيقِ الْجِرْذَانِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَمَاتَ وَالْوَقَصُ كَسْرُ الْعُنُقِ وَالْأَخَافِيقُ شُقُوقٌ فِي الْأَرْضِ، وَالْجِرْذَانُ جَمْعُ جُرَذٍ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ الْفَأْرِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَتَمَسَّكُ أَصْحَابُنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَمَذْهَبُنَا عَلَى خِلَافِ حُكْمِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي مُحْرِمٍ يَمُوتُ فِي إحْرَامِهِ حَيْثُ يُصْنَعُ بِهِ مَا يُصْنَعُ بِالْحَلَالِ مِنْ تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ بِالْكَفَنِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَهُوَ يَتَمَسَّكُ هُنَاكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أُجِيبَ: بِأَنَّ الْحَدِيثَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِلْإِحْرَامِ تَأْثِيرًا فِي تَرْكِ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام عَلَّلَ لِتَرْكِ التَّغْطِيَةِ بِأَنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا. وَالْحُجَّةُ لَنَا فِي تَغْطِيَةِ رَأْسِ الْمُحْرِمِ وَوَجْهِهِ إذَا مَاتَ مَا رَوَى عَطَاءٌ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ مُحْرِمٍ مَاتَ فَقَالَ: خَمِّرُوا رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ
وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُغَطِّي وَجْهَهَا مَعَ أَنَّ فِي الْكَشْفِ فِتْنَةٌ فَالرَّجُلُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى. وَفَائِدَةُ مَا رُوِيَ الْفَرْقُ فِي تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ.
قَالَ (وَلَا يَمَسُّ طِيبًا) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ» (وَكَذَا لَا يَدَّهِنُ) لِمَا رَوَيْنَا (لَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ وَلَا شَعْرَ بُدْنِهِ){وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} الْآيَةَ (وَلَا يَقُصُّ مِنْ لِحْيَتِهِ) لِأَنَّ فِي مَعْنَى الْحَلْقِ وَلِأَنَّ فِيهِ إزَالَةُ الشَّعَثِ وَقَضَاءِ التَّفَثِ.
قَالَ (وَلَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِوَرْسٍ وَلَا زَعْفَرَانٍ وَلَا عُصْفُرٍ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرْسٌ» قَالَ (إلَّا أَنْ يَكُونَ غَسِيلًا لَا يَنْفُضُ)
وَلَا تُشَبِّهُوهُ بِالْيَهُودِ». وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ لِلْإِحْرَامِ تَأْثِيرٌ فِي تَرْكِ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ لَمَا أَمَرَ بِتَخْمِيرِهِمَا. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُغَطِّي وَجْهَهَا) ظَاهِرٌ، وَقَوْلُهُ (وَفَائِدَةُ مَا رُوِيَ) يَعْنِي إحْرَامَ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ، وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا (الْفَرْقُ فِي تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ) يَعْنِي الْفَرْقَ بَيْنَ إحْرَامَيْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِحَيْثُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ، وَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ ذَلِكَ لَا أَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ وَجْهَهُ فِي الْإِحْرَامِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَمَسُّ طِيبًا) الطِّيبُ مَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ (لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ» وَالشَّعِثُ بِالْكَسْرِ نَعْتٌ، وَبِالْفَتْحَةِ مَصْدَرٌ: وَهُوَ انْتِشَارُ الشَّعْرِ وَتَغَيُّرُهُ لِقِلَّةِ التَّعَهُّدِ وَالتَّفِلُ مِنْ التَّفْلِ وَهُوَ تَرْكُ الطِّيبِ حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ (وَكَذَا لَا يَدَّهِنُ لِمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي «الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ» . قَالَ (وَلَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ) الْمُحْرِمُ لَا يَحْلِقُ شَعْرَهُ مُطْلَقًا (لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} الْآيَةَ) وَهُوَ بِعِبَارَتِهِ يَنْهَى عَنْ حَلْقِ الرَّأْسِ، وَبِدَلَالَتِهِ عَنْ حَلْقِ شَعْرِ الْبَدَنِ لِأَنَّ شَعْرَ الرَّأْسِ مُسْتَحِقُّ الْأَمْنِ عَنْ الْإِزَالَةِ لِكَوْنِهِ نَامِيًا يَحْصُلُ الِارْتِفَاقُ بِإِزَالَتِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي شَعْرِ الْبَدَنِ فَيُلْحَقُ بِهِ دَلَالَةً. وَقَوْلُهُ (وَلَا يَقُصُّ مِنْ لِحْيَتِهِ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (قَضَاءُ التَّفَثِ) يَعْنِي إزَالَةَ الْوَسَخِ،.
وَالْوَرْسُ صَبْغٌ أَصْفَرُ، وَقِيلَ: نَبْتٌ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ، وَفِي الْقَانُونِ الْوَرْسُ شَيْءٌ أَحْمَرُ قَانِئٌ يُشْبِهُ سَحِيقَ الزَّعْفَرَانِ وَهُوَ مَجْلُوبٌ مِنْ الْيَمَنِ وَقَوْلُهُ (لَا يَنْفُضُ) أَيْ لَا يُوجَدُ مِنْهُ رَائِحَةُ الْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالْعُصْفُرِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنْ لَا يَتَعَدَّى أَثَرَ الصَّبْغِ إلَى غَيْرِهِ أَوْ لَا تَفُوحَ مِنْهُ رَائِحَةُ الطِّيبِ. وَالثَّانِي: مُخْتَارُ
لِأَنَّ الْمَنْعَ لِلطِّيبِ لَا لِلَّوْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْمُعَصْفَرِ لِأَنَّهُ لَوْنٌ لَا طِيبَ لَهُ. وَلَنَا أَنَّ لَهُ رَائِحَةً طَيِّبَةً.
قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَغْتَسِلَ وَيَدْخُلَ الْحَمَّامَ)
الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُ قَالَ (لِأَنَّ الْمَنْعَ لِلطِّيبِ لَا لِلَّوْنِ) وَاعْتُرِضَ عَلَى الْمَرْوِيِّ عَنْ الْقُدُورِيِّ وَهُوَ يَنْفُضُ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ نَفَضْت الثَّوْبَ أَنْفُضُهُ نَفْضًا إذَا حَرَّكْته لِيَسْقُطَ مَا عَلَيْهِ، وَالثَّوْبُ لَيْسَ بِنَافِضٍ وَأَنْكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَقِيلَ: بَلْ هِيَ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ، وَلَئِنْ كَانَتْ كَانَ إسْنَادًا مَجَازِيًّا (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْمُعَصْفَرِ لِأَنَّهُ لَوْنٌ لَا طِيبَ لَهُ) فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ وَهُوَ الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ لِيُلْحَقَ بِهِ، وَقُلْنَا حَدِيثُ الْوَرْسِ دَلِيلٌ فِي الْعُصْفُرِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ لِأَنَّهُ فَوْقَ الْوَرْسِ فِي طِيبِ الرَّائِحَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَائِشَةَ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَغْتَسِلَ)
لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه اغْتَسَلَ وَهُوَ مُحْرِمٌ
(وَ) لَا بَأْسَ بِأَنْ (يَسْتَظِلَّ بِالْبَيْتِ وَالْمُحْمَلُ) وَقَالَ مَالِكٌ: يُكْرَهُ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِالْفُسْطَاطِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يُشْبِه تَغْطِيَةَ الرَّأْسِ. وَلَنَا أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه كَانَ يُضْرَبُ لَهُ
ظَاهِرٌ.
وَالْهِمْيَانُ مَعْرُوفٌ وَهُوَ مَا يُوضَعُ فِيهِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ. وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: هَلْ يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْهِمْيَانَ؟ فَقَالَتْ: اسْتَوْثِقْ فِي نَفَقَتِك بِمَا شِئْت، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى لُبْسِ الْمَخِيطِ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِلُبْسِ الْمَخِيطِ. وَنُوقِضَ بِشَدِّ الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ بِحَبْلٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَى لُبْسِ الْمَخِيطِ، وَبِمَا إذَا عَصَبَ الْعِصَابَةَ عَلَى رَأْسِهِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ، فَلَوْ فَعَلَهُ يَوْمًا كَامِلًا لَزِمَهُ الصَّدَقَةُ، وَلَيْسَ فِي مَعْنَى لُبْسِ الْمَخِيطِ. وَأُجِيبَ عَلَى الْأَوَّلِ: بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِيهِ ثَبَتَتْ بِنَصٍّ وَرَدَ فِيهِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا
فُسْطَاطٌ فِي إحْرَامِهِ وَلِأَنَّهُ لَا يَمَسُّ بَدَنَهُ فَأَشْبَهَ الْبَيْتَ. وَلَوْ دَخَلَ تَحْتَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ حَتَّى غَطَّتْهُ، إنْ كَانَ لَا يُصِيبُ رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ اسْتِظْلَالٌ
(وَ) لَا بَأْسَ بِأَنْ (يَشُدَّ فِي وَسَطِهِ الْهِمْيَانَ) وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: يُكْرَهُ إذَا كَانَ فِيهِ نَفَقَةُ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ. وَلَنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى لُبْسِ الْمَخِيطِ فَاسْتَوَتْ فِيهِ الْحَالَتَانِ (وَلَا يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَلَا لِحْيَتَهُ بِالْخِطْمِيِّ) لِأَنَّهُ نَوْعُ طِيبٍ، وَلِأَنَّهُ يَقْتُلُ هُوَامَّ الرَّأْسِ.
قَالَ (وَيُكْثِرُ مِنْ التَّلْبِيَةِ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ وَكُلَّمَا عَلَا شَرَفًا أَوْ هَبَطَ وَادِيًا أَوْ لَقِيَ رَكْبًا وَبِالْأَسْحَارِ) لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يُلَبُّونَ
قَدْ شَدَّ فَوْقَ إزَارِهِ حَبْلًا، فَقَالَ: أَلْقِ هَذَا الْحَبْلَ وَيْلَك» وَعَنْ الثَّانِي: بِأَنَّ لُزُومَ الصَّدَقَةِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ تَغْطِيَةِ بَعْضِ الرَّأْسِ بِالْعِصَابَةِ وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ مَا يُغَطِّيهِ جُزْءٌ يَسِيرٌ يُكْتَفَى فِيهِ بِالصَّدَقَةِ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ نَوْعُ طِيبٍ وَلِأَنَّهُ يَقْتُلُ هَوَامَّ الرَّأْسِ) قِيلَ: لِوُجُودِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ تَكَامَلَتْ الْجِنَايَةُ فَوَجَبَ الدَّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، إذَا غَسَلَ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ فَإِنَّ لَهُ رَائِحَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَكِيَّةً، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ بَلْ هُوَ كَالْأُشْنَانِ وَلَكِنَّهُ يَقْتُلُ الْهَوَامَّ.
قَالَ (وَيُكْثِرُ مِنْ التَّلْبِيَةِ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ وَكُلَّمَا عَلَا شَرَفًا) الْمُحْرِمُ يُكْثِرُ التَّلْبِيَةَ فِي خَمْسَةِ أَوْقَاتٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَزَادَ الْأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ سَادِسًا وَهُوَ مَا إذَا اسْتَعْطَفَ الرَّجُلُ رَاحِلَتَهُ،
فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَالتَّلْبِيَةُ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى مِثَالِ التَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ، فَيُؤْتِي بِهَا عِنْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ (وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ» فَالْعَجُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، وَالثَّجُّ إسَالَةُ الدَّمِ.
وَالتَّعْلِيلُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ) الْمُسْتَحَبُّ عِنْدَنَا فِي الدُّعَاءِ وَالْأَذْكَارِ الْإِخْفَاءُ إلَّا إذَا تَعَلَّقَ بِإِعْلَانِهِ مَقْصُودٌ كَالْأَذَانِ وَالْخُطْبَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَالتَّلْبِيَةُ لِلْإِعْلَامِ بِالشُّرُوعِ فِيمَا هُوَ مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ، فَكَانَ
قَالَ (فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ ابْتَدَأَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَمَا دَخَلَ مَكَّةَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ» وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ زِيَارَةُ الْبَيْتِ وَهُوَ فِيهِ، وَلَا يَضُرُّهُ لَيْلًا دَخَلَهَا أَوْ نَهَارًا لِأَنَّهُ دُخُولُ بَلْدَةٍ فَلَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِهِمَا (وَإِذَا عَايَنَ الْبَيْتَ كَبَّرَ وَهَلَّلَ) وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - يَقُولُ: إذَا لَقِيَ الْبَيْتَ بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُ أَكْبَرُ. وَمُحَمَّدٌ رحمه الله لَمْ يُعَيِّنْ فِي الْأَصْلِ لِمَشَاهِدِ الْحَجِّ شَيْئًا مِنْ الدَّعَوَاتِ لِأَنَّ التَّوْقِيتَ يُذْهِبُ بِالرِّقَّةِ
رَفْعُ الصَّوْتِ بِهَا مُسْتَحَبًّا.
وَقَوْلُهُ (فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ) وَاضِحٌ.
وَإِنْ تَبَرَّكَ بِالْمَنْقُولِ مِنْهَا فَحَسَنٌ.
قَالَ (ثُمَّ ابْتَدَأَ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَاسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَابْتَدَأَ بِالْحَجَرِ فَاسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ» (وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ تَبَرَّكَ بِالْمَنْقُولِ مِنْهَا) أَيْ مِنْ الدَّعَوَاتِ (فَحَسَنٌ) وَمِنْ الْمَنْقُولِ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الْبَيْتِ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ زِدْ بَيْتَك تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا وَتَعْظِيمًا وَبِرًّا وَمَهَابَةً وَزِدْ مَنْ شَرَّفَهُ وَكَرَّمَهُ وَعَظَّمَهُ مِمَّنْ حَجَّهُ أَوْ اعْتَمَرَهُ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا وَتَعْظِيمًا وَبِرًّا وَمَهَابَةً بِاسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ " وَعَنْ عَطَاءٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: إذَا لَقِيَ الْبَيْتَ: أَعُوذُ بِرَبِّ الْبَيْتِ مِنْ الدَّيْنِ وَالْفَقْرِ وَضِيقِ الصَّدْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ» .
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ ابْتَدَأَ بِالْحَجَرِ) ظَاهِرٌ.
«لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا اسْتِلَامَ الْحَجَرِ» قَالَ (وَاسْتَلَمَهُ إنْ اسْتَطَاعَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْذِيَ مُسْلِمًا) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَبَّلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَوَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ»
وَقَوْلُهُ (وَاسْتَلَمَهُ) يُقَالُ: اسْتَلَمَ الْحَجَرَ تَنَاوَلَهُ بِالْيَدِ أَوْ بِالْقُبْلَةِ أَوْ مَسَحَهُ بِالْكَفِّ، مِنْ السَّلِمَةِ بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَهِيَ الْحَجَرُ وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَوَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ» وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه فِي خِلَافَتِهِ أَتَى الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَوَقَفَ فَقَالَ: أَمَا إنِّي أَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَلَمَك مَا اسْتَلَمْتُك، فَبَلَغَ مَقَالَتُهُ عَلِيًّا رضي الله عنه فَقَالَ: أَمَا إنَّ الْحَجَرَ يَنْفَعُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: وَمَا مَنْفَعَتُهُ يَا خَتَنَ رَسُولِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخَذَ الذُّرِّيَّةَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عليه السلام وَقَرَّرَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} أَوْدَعَ إقْرَارَهُمْ الْحَجَرَ، فَمَنْ يَسْتَلِمْ الْحَجَرَ فَهُوَ يُجَدِّدُ الْعَهْدَ بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ، وَالْحَجَرُ يَشْهَدُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
" وَقَالَ لِعُمَرَ رضي الله عنه: إنَّكَ رَجُلٌ أَيْدٍ تُؤْذِي الضَّعِيفَ فَلَا تُزَاحِمْ النَّاسَ عَلَى الْحَجَرِ، وَلَكِنْ إنْ وَجَدْتَ فُرْجَةً فَاسْتَلِمْهُ وَإِلَّا فَاسْتَقْبِلْهُ وَهَلِّلْ وَكَبِّرْ ". وَلِأَنَّ الِاسْتِلَامَ سُنَّةٌ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ أَذَى الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ.
قَالَ (وَإِنْ)(أَمْكَنَهُ أَنْ يَمَسَّ الْحَجَرَ شَيْئًا فِي يَدِهِ) كَالْعُرْجُونِ وَغَيْرِهِ (ثُمَّ قِيلَ ذَلِكَ فُعِلَ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام طَافَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَاسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ بِمِحْجَنِهِ»
وَقَوْلُهُ (إنَّك رَجُلٌ أَيْدٍ) أَيْ قَوِيٌّ. وَالْعُرْجُونُ أَصْلُ الْكِبَاسَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَاسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ) يَعْنِي الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَالرُّكْنَ الْيَمَانِيَ، وَإِنَّمَا جَمَعَهُ بِاعْتِبَارِ تَكَرُّرِ الْأَشْوَاطِ وَإِنَّمَا قُلْنَاهُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ بَعْدَ هَذَا،
وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ اسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام.
قَالَ (ثُمَّ أَخَذَ عَنْ يَمِينِهِ مِمَّا يَلِي الْبَابَ وَقَدْ اضْطَبَعَ رِدَاءَهُ قَبْلَ ذَاكَ فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام اسْتَلَمَ الْحَجَرَ ثُمَّ أَخَذَ عَنْ يَمِينِهِ مِمَّا يَلِي الْبَابَ فَطَافَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ» (وَالِاضْطِبَاعُ أَنْ يَجْعَلَ رِدَاءَهُ تَحْتَ إبْطِهِ الْأَيْمَنِ وَيُلْقِيهِ عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ) وَهُوَ سُنَّةٌ. وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام.
قَالَ (وَيَجْعَلُ طَوَافَهُ
فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلِمُ غَيْرَهُمَا. وَالْمِحْجَنُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْجِيمِ: عُودٌ مُعْوَجُّ الرَّأْسِ كَالصَّوْلَجَانِ. وَقَوْلُهُ (وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ اسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ) قِيلَ: يَجْعَلُ بَاطِنَ كَفَّيْهِ إلَى الْحَجَرِ دُونَ السَّمَاءِ وَلَا يَجْعَلُ بَاطِنَ كَفَّيْهِ إلَى السَّمَاءِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ فِي سَائِرِ الْأَدْعِيَةِ، لِأَنَّ فِي حَقِيقَةِ الِاسْتِلَامِ يَجْعَلُ بَاطِنَ كَفَّيْهِ إلَى الْحَجَرِ هَكَذَا فِي الْبَدَلِ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ أَخَذَ عَنْ يَمِينِهِ) بَيَانٌ لِمَبْدَإِ الطَّوَافِ وَهُوَ مِنْ الْحَجَرِ. فَإِنْ افْتَتَحَ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ. وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الرُّقَيَّاتِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالطَّوَافِ مُجْمَلٌ فِي حَقِّ الْبُدَاءَةِ فَالْتُحِقَ فِعْلُ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام بَيَانًا لَهُ، فَتُفْتَرَضُ الْبُدَاءَةُ بِهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالطَّوَافِ مُطْلَقٌ لَكِنَّ السُّنَّةَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْيَمِينِ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ عَنْ يَسَارِهِ وَهُوَ الطَّوَافُ الْمَنْكُوسُ فَطَافَ كَذَلِكَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ لَا يَعْتَدُّ بِطَوَافِهِ عِنْدَنَا، وَيُعِيدُهُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ. وَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ قَبْلَ الْإِعَادَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَعْتَدُّ بِطَوَافِهِ وَقَوْلُهُ (وَقَدْ اضْطَبَعَ رِدَاءَهُ) قَالَ فِي الْمُغْرِبِ الصَّوَابُ بِرِدَائِهِ. وَفِي الصِّحَاحِ: إنَّمَا
مِنْ وَرَاءِ الْحَطِيمِ) وَهُوَ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ فِيهِ الْمِيزَابُ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ حُطِّمَ مِنْ الْبَيْتِ: أَيْ كُسِرَ، وَسُمِّيَ حِجْرًا لِأَنَّهُ حُجِرَ مِنْهُ: أَيْ مُنِعَ، وَهُوَ مِنْ الْبَيْتِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «فَإِنَّ الْحَطِيمَ مِنْ
سُمِّيَ هَذَا الصَّنِيعُ بِذَلِكَ لِإِبْدَاءِ الضَّبْعَيْنِ وَهُوَ التَّأَبُّطُ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ (فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ) يَعْنِي مَا رُوِيَ «أَنَّ عَائِشَةَ نَذَرَتْ إنْ فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهَا وَأَدْخَلَهَا الْحَطِيمَ وَقَالَ: صَلِّي هَاهُنَا فَإِنَّ الْحَطِيمَ مِنْ الْبَيْتِ إلَّا أَنَّ قَوْمَك قَصُرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ فَأَخْرَجُوهُ مِنْ الْبَيْتِ، وَلَوْلَا حَدَثَانُ قَوْمِك بِالْجَاهِلِيَّةِ لَنَقَضْت بِنَاءَ الْبَيْتِ وَأَظْهَرْت قَوَاعِدَ الْخَلِيلِ عليه الصلاة والسلام وَأَدْخَلْت الْحَطِيمَ فِي الْبَيْتِ، وَأَلْصَقْت الْعَتَبَةَ بِالْأَرْضِ، وَجَعَلْت لَهَا بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، وَلَئِنْ عِشْت إلَى قَابِلٍ
الْبَيْتِ» فَلِهَذَا يُجْعَلُ الطَّوَافُ مِنْ وَرَائِهِ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ الْفُرْجَةَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ لَا يَجُوزُ، إلَّا أَنَّهُ إذَا اسْتَقْبَلَ الْحَطِيمَ وَحْدَهُ لَا تُجْزِيه الصَّلَاةُ لِأَنَّ فَرْضِيَّةَ التَّوَجُّهِ ثَبَتَتْ بِنَصِّ الْكِتَابِ فَلَا تَتَأَدَّى بِمَا ثَبَتَتْ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ احْتِيَاطًا، وَالِاحْتِيَاطُ فِي الطَّوَافِ أَنْ يَكُونَ وَرَاءَهُ.
قَالَ (وَيَرْمُلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مِنْ الْأَشْوَاطِ) وَالرَّمَلُ أَنْ يَهُزَّ فِي مِشْيَتِهِ
لَأَفْعَلَن ذَلِكَ» وَلَمْ يَعِشْ وَلَمْ يَتَفَرَّغْ لِذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ حَتَّى كَانَ زَمَنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْهَا فَفَعَلَ ذَلِكَ وَأَظْهَرَ قَوَاعِدَ الْخَلِيلِ عليه الصلاة والسلام وَبَنَى الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ الْخَلِيلِ بِمَحْضَرٍ مِنْ النَّاسِ، وَأَدْخَلَ الْحَطِيمَ فِي الْبَيْتِ فَلَمَّا قُتِلَ كَرِهَ الْحَجَّاجُ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ عَلَى مَا فَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَنَقَضَ بِنَاءَهَا وَأَعَادَهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَإِذَا كَانَ الْحَطِيمُ مِنْ الْبَيْتِ فَلَا بُدَّ مِنْ دُخُولِهِ فِي الطَّوَافِ وَبَاقِي كَلَامِهِ وَاضِحٌ.
قَالَ (وَيَرْمُلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا رَمَلَ فِي الطَّوَافِ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ. وَهُوَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنْ الْبَيْتِ.
الْكَتِفَيْنِ كَالْمُبَارِزِ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَذَلِكَ مَعَ الِاضْطِبَاعِ. وَكَانَ سَبَبُهُ إظْهَارَ الْجَلَدِ لِلْمُشْرِكَيْنِ حِينَ قَالُوا: أَضْنَاهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، ثُمَّ بَقِيَ الْحُكْمُ بَعْدَ زَوَالِ السَّبَبِ فِي زَمَنَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام وَبَعْدَهُ. قَالَ (وَيَمْشِي فِي الْبَاقِي عَلَى هَيِّنَتِهِ) عَلَى ذَلِكَ اتَّفَقَ رُوَاةُ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام (وَالرَّمَلُ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ) هُوَ الْمَنْقُولُ مِنْ رَمَلِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام (فَإِنْ زَحَمَهُ النَّاسُ فِي الرَّمَلِ قَامَ. فَإِذَا وَجَدَ مَسْلَكًا رَمَلَ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ
فَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَنْصَرِفَ ثُمَّ يَرْجِعَ فِي الْعَامِ الثَّانِي وَيَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ سِلَاحٍ فَيَعْتَمِرَ وَيَخْرُجَ، فَلَمَّا قَدِمَ فِي الْعَامِ الثَّانِي أَخْلَوْا لَهُ الْبَيْتَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَصَعِدُوا الْجَبَلَ، وَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَصْحَابِهِ، فَسَمِعَ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُ لِبَعْضٍ: أَضْنَاهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَاضْطَبَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَمَلَ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَرَى مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً»، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لِإِظْهَارِ الْجَلَادَةِ يَوْمَئِذٍ وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْآنَ فَلَا مَعْنَى لِلرَّمَلِ.
قُلْنَا: مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ سَبَبُهُ وَلَكِنَّهُ صَارَ سُنَّةً بِذَلِكَ السَّبَبِ وَبَقِيَ بَعْدَ زَوَالِهِ. رَوَى جَابِرٌ وَابْنُ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَافَ يَوْمَ النَّحْرِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَرَمَلَ فِي الثَّلَاثِ الْأُوَلِ، وَلَمْ يَبْقَ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ» . وَقَوْلُهُ (وَيَمْشِي فِي الْبَاقِي عَلَى هِينَتِهِ) أَيْ عَلَى السَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ فِعْلَةٌ مِنْ الْهَوْنِ (وَالرَّمَلُ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ) أَيْ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ (فَإِنْ زَحَمَهُ النَّاسُ فِي الرَّمَلِ قَامَ) يَعْنِي وَقَفَ. وَلَا يَطُوفُ
لَهُ فَيَقِفُ حَتَّى يُقِيمَهُ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ بِخِلَافِ الِاسْتِلَامِ لِأَنَّ الِاسْتِقْبَالَ بَدَلٌ لَهُ.
قَالَ (وَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ كُلَّمَا مَرَّ بِهِ إنْ اسْتَطَاعَ) لِأَنَّ أَشْوَاطَ الطَّوَافِ كَرَكَعَاتِ الصَّلَاةِ، فَكَمَا يَفْتَتِحُ كُلَّ رَكْعَةٍ بِالتَّكْبِيرِ يَفْتَتِحُ كُلَّ شَوْطٍ بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ. وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الِاسْتِلَامَ اسْتَقْبَلَ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا (وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ) وَهُوَ حَسَنٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَلَا يَسْتَلِمُ غَيْرَهُمَا فَإِنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ
بِدُونِ الرَّمَلِ فِي تِلْكَ الثَّلَاثِ.
وَقَوْلُهُ (وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَ) وَالْيَمَنُ خِلَافُ الشَّامِ لِأَنَّهَا بِلَادٌ عَلَى يَمِينِ الْكَعْبَةِ، وَالنِّسْبَةُ إلَيْهَا يَمَنِيٌّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَوْ يَمَانٌ بِالتَّخْفِيفِ عَلَى تَعْوِيضِ الْأَلِفِ مِنْ إحْدَى يَاءَيْ النِّسْبَةِ. وَقَوْلُهُ (حَسَنٌ) أَيْ مُسْتَحَبٌّ
وَلَا يَسْتَلِمُ غَيْرَهُمَا (وَيَخْتِمُ الطَّوَافَ بِالِاسْتِلَامِ) يَعْنِي اسْتِلَامَ الْحَجَرِ.
قَالَ (ثُمَّ يَأْتِي الْمَقَامَ فَيُصَلِّي عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ أَوْ حَيْثُ تَيَسَّرَ مِنْ الْمَسْجِدِ) وَهِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: سُنَّةٌ لِانْعِدَامِ دَلِيلِ الْوُجُوبِ. وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «وَلِيُصَلِّ الطَّائِفُ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ» وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ (ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْحَجَرِ فَيَسْتَلِمُهُ)
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ يَأْتِي الْمَقَامَ) أَيْ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام وَهُوَ الْحَجَرُ الَّذِي فِيهِ أَثَرُ قَدَمَيْهِ (وَهِيَ وَاجِبَةٌ) أَيْ الصَّلَاةُ عِنْدَ الْمَقَامِ وَاجِبَةٌ (عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: سُنَّةٌ لِانْعِدَامِ دَلِيلِ الْوُجُوبِ. وَلَنَا «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم وَلِيُصَلِّ الطَّائِفُ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ» وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ) وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا أَصْلَ لَهُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ. وَالثَّانِي أَنَّ حَدِيثَ الْأَعْرَابِيِّ وَهُوَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام حِينَ عَلَّمَ الْأَعْرَابِيَّ الصَّلَوَاتِ
لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام لَمَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ عَادَ إلَى الْحَجَرِ» وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ يَعُودُ إلَى الْحَجَرِ، لِأَنَّ الطَّوَافَ لَمَّا كَانَ يُفْتَتَحُ بِالِاسْتِلَامِ فَكَذَا السَّعْيُ يُفْتَتَحُ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ سَعْيٌ.
قَالَ (وَهَذَا الطَّوَافُ طَوَافُ الْقُدُومِ) وَيُسَمَّى طَوَافُ التَّحِيَّةِ (وَهُوَ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ) وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: إنَّهُ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَتَى الْبَيْتَ فَلْيُحَيِّهِ بِالطَّوَافِ» وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالطَّوَافِ، وَالْأَمْرُ
الْخَمْسَ، وَقَالَ لَهُ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ لَا، إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ» يُعَارِضُهُ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْهُ، فَكَيْفَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الرَّاوِيَ إذَا كَانَ عَدْلًا فَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْقَدْحَ فِيهِ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ حَدِيثَ الْأَعْرَابِيِّ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ، فَإِنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ وَصَلَاةَ الْعِيدَيْنِ وَاجِبَةٌ وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ قَبْلَ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا الطَّوَافُ طَوَافُ الْقُدُومِ) هَذَا الطَّوَافُ لَهُ أَرْبَعَةُ أَسْمَاءٍ: طَوَافُ الْقُدُومِ، وَطَوَافُ التَّحِيَّةِ، وَطَوَافُ اللِّقَاءِ، وَطَوَافُ أَوَّلِ الْعَهْدِ. وَقَوْلُهُ (وَهُوَ سُنَّةٌ) ظَاهِرٌ.
الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ. وَقَدْ تَعَيَّنَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَفِيمَا رَوَاهُ سَمَّاهُ تَحِيَّةً، وَهُوَ دَلِيلٌ الِاسْتِحْبَابِ
(وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ طَوَافُ الْقُدُومِ) لِانْعِدَامِ الْقُدُومِ فِي حَقِّهِمْ. قَالَ (ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّفَا فَيَصْعَدُ عَلَيْهِ وَيَسْتَقْبِلُ الْبَيْتَ وَيُكَبِّرُ وَيُهَلِّلُ. وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَدْعُو اللَّهَ لِحَاجَتِهِ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام صَعِدَ الصَّفَا حَتَّى إذَا نَظَرَ إلَى الْبَيْتِ قَامَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ يَدْعُو اللَّهَ» وَلِأَنَّ الثَّنَاءَ وَالصَّلَاةَ يُقَدَّمَانِ عَلَى الدُّعَاءِ تَقْرِيبًا إلَى الْإِجَابَةِ كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الدَّعَوَاتِ. وَالرَّفْعُ سُنَّةُ الدُّعَاءِ. وَإِنَّمَا يَصْعَدُ بِقَدْرِ مَا يَصِيرُ الْبَيْتُ بِمَرْأًى مِنْهُ، لِأَنَّ الِاسْتِقْبَالَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالصُّعُودِ، وَيَخْرُجُ إلَى الصَّفَا مِنْ أَيِّ بَابٍ شَاءَ. وَإِنَّمَا خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَابِ بَنِي مَخْزُومٍ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بَابَ الصَّفَا لِأَنَّهُ كَانَ أَقْرَبَ الْأَبْوَابِ إلَى الصَّفَا لَا أَنَّهُ سُنَّةٌ.
قَالَ (ثُمَّ يَنْحَطُّ نَحْوَ الْمَرْوَةِ وَيَمْشِي عَلَى هَيِّنَتِهِ فَإِذَا بَلَعَ بَطْنَ الْوَادِي يَسْعَى بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ سَعْيًا، ثُمَّ يَمْشِي عَلَى هَيِّنَتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَرْوَةَ فَيَصْعَدُ عَلَيْهَا وَيَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَزَلَ مِنْ
وَقَوْلُهُ (وَفِيمَا رَوَاهُ سَمَّاهُ تَحِيَّةً) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِ مَالِكٍ بِالْحَدِيثِ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّحِيَّةَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِإِكْرَامٍ يَبْتَدِئُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ «أَكْرِمُوا الشُّهُودَ». فَإِنْ قِيلَ: قَوْله تَعَالَى {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} وَارِدٌ بِلَفْظِ التَّحِيَّةِ، وَرَدُّ السَّلَامِ وَاجِبٌ. أُجِيبَ: بِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ الْأَحْسَنُ، وَهُوَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ. سَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ ذِكْرَ لَفْظِ التَّحِيَّةِ وَقَعَ بِطَرِيقِ الْمُشَاكَلَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّفَا) ظَاهِرٌ. وَقَالَ فِي التُّحْفَةِ: تَأْخِيرُ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَى طَوَافِ الزِّيَارَةِ أَوْلَى، لِكَوْنِهِ وَاجِبًا فَجَعْلُهُ تَابِعًا لِلْفَرْضِ أَوْلَى، لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ رَخَّصُوا فِي إتْيَانِ السَّعْيِ عَقِيبَ طَوَافِ الْقُدُومِ، لِأَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ الَّذِي هُوَ وَقْتُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ يَوْمُ شُغْلٍ مِنْ الذَّبْحِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَكَانَ فِي جَعْلِهِ تَابِعًا لِلسُّنَّةِ، وَهُوَ طَوَافُ الْقُدُومِ تَخْفِيفٌ عَلَى النَّاسِ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ يَنْحَطُّ) أَيْ يَنْزِلُ (نَحْوَ الْمَرْوَةِ وَيَمْشِي عَلَى هِينَتِهِ) أَيْ عَلَى السَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ (فَإِذَا بَلَغَ بَطْنَ الْوَادِي سَعَى بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ) رَوَى جَابِرٌ «لَمَّا صَعِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّفَا قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، ثُمَّ قَرَأَ مِقْدَارَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ آيَةً مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ نَزَلَ وَجَعَلَ يَمْشِي نَحْوَ الْمَرْوَةِ، فَلَمَّا أُنْصِبَتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَى حَتَّى الْتَوَى إزَارُهُ بِسَاقَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَتَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَمُ إنَّك أَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ» وَقَوْلُهُ (وَيَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا)
الصَّفَا وَجَعَلَ يَمْشِي نَحْوَ الْمَرْوَةِ وَسَعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي، حَتَّى إذَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي مَشَى حَتَّى صَعِدَ الْمَرْوَةَ وَطَافَ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ» قَالَ (وَهَذَا شَوْطٌ وَاحِدٌ فَيَطُوفُ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ يَبْدَأُ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ)
أَيْ مِنْ التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالدُّعَاءِ لِحَاجَتِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا شَوْطٌ وَاحِدٌ فَيَطُوفُ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ يَبْدَأُ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى نَفْيِ قَوْلِ الطَّحَاوِيِّ: إنَّهُ يَطُوفُ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ الصَّفَا إلَى الصَّفَا، وَهُوَ لَا يَعْتَبِرُ رُجُوعَهُ فَلَا يَجْعَلُ ذَلِكَ شَوْطًا آخَرَ. وَالْأَصَحُّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ لِأَنَّ رُوَاةَ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام طَافَ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، وَعَلَى مَا قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ يَصِيرُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَوْطًا، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ حَتَّى كَانَ مَبْدَأُ
وَيَسْعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي فِي كُلِّ شَوْطٍ لِمَا رَوَيْنَا، وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِالصَّفَا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِيهِ «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ» ثُمَّ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
الطَّوَافِ هُوَ الْمُنْتَهَى دُونَ السَّعْيِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الطَّوَافَ دَوَرَانٌ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِحَرَكَةٍ دَوْرِيَّةٍ، فَيَكُونُ الْمَبْدَأُ وَالْمُنْتَهَى وَاحِدًا بِالضَّرُورَةِ. وَأَمَّا السَّعْيُ فَهُوَ قَطْعُ مَسَافَةٍ بِحَرَكَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي عَوْدَهُ عَلَى بَدْئِهِ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا رَوَيْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ «وَيَسْعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي» وَقَوْلُهُ (وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِالصَّفَا) ظَاهِرٌ (ثُمَّ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: إنَّهُ رُكْنٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ فَاسْعَوْا» . وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} وَمِثْلُهُ يُسْتَعْمَلُ لِلْإِبَاحَةِ فَيَنْفِي الرُّكْنِيَّةَ وَالْإِيجَابَ إلَّا أَنَّا عَدَلْنَا عَنْهُ فِي الْإِيجَابِ. وَلِأَنَّ الرُّكْنِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَلَمْ يُوجَدْ. ثُمَّ مَعْنَى مَا رُوِيَ كُتِبَ اسْتِحْبَابًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الْآيَةَ.
وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ) عِنْدَنَا (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهُ رُكْنٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ فَاسْعَوْا» وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِمَا ذَكَرَهُ أَنَّ مِثْلَهُ يُسْتَعْمَلُ لِلْإِبَاحَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} وَمَا يُسْتَعْمَلُ لِلْإِبَاحَةِ (يَنْفِي الرُّكْنِيَّةَ وَالْإِيجَابَ إلَّا أَنَّا عَدَلْنَا عَنْهُ) أَيْ عَنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ (فِي الْإِيجَابِ) أَيْ تَرَكْنَا الْعَمَلَ بِظَاهِرِهَا فِي نَفْيِ الْإِيجَابِ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا أَوْجَبَ الْعُدُولَ وَاخْتَلَفَ فِيهِ الشَّارِحُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: عَمَلًا بِمَا رَوَاهُ لِأَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ يُوجِبُ الْإِيجَابَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بِأَوَّلِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} فَإِنَّ الشَّعَائِرَ جَمْعُ شَعِيرَةٍ وَهِيَ الْعَلَامَةُ، وَذَلِكَ يَكُونُ فَرْضًا، فَأَوَّلُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ، وَآخِرُهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ، فَعَمِلْنَا بِهِمَا، وَقُلْنَا بِالْوُجُوبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ عِلْمًا وَهُوَ فَرْضٌ عَمَلًا، فَكَانَ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرْضِ وَالِاسْتِحْبَابِ. وَقِيلَ: بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الرُّكْنِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَمَا رَوَيْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ مَعْنَى مَا رُوِيَ) تَأْوِيلٌ لِلْحَدِيثِ. وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ (كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} نَظَرٌ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ كَانَتْ فَرْضًا ثُمَّ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
نُسِخَتْ، فَكَانَ كُتِبَ دَالًّا عَلَى الْفَرْضِيَّةِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُجْمَعٍ عَلَيْهِ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ بَلْ يُجْمَعُ لِلْوَارِثِ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ، وَلِلْمَانِعِ يَكْفِيهِ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: مَا بَالُ الْمُصَنِّفِ أَعْرَضَ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِهِ، فَإِنَّهُ لِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ أَدَلُّ عَلَى الْوُجُوبِ مِنْ الرُّكْنِيَّةِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ إنَّمَا أَعْرَضَ عَنْهُ لِأَنَّ. رَاوِيَهُ. عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُؤَمَّلِ وَهُوَ ضَعِيفٌ قَالَهُ النَّسَائِيُّ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ أَحْمَدُ: أَحَادِيثُهُ مُنْكَرَةٌ.
قَالَ (ثُمَّ يُقِيمُ بِمَكَّةَ حَرَامًا) لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ فَلَا يَتَحَلَّلُ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِأَفْعَالِهِ، قَالَ (وَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ كُلَّمَا بَدَا لَهُ) لِأَنَّهُ
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ يُقِيمُ بِمَكَّةَ حَرَامًا) أَيْ مُحْرِمًا (لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ) لِشُرُوعِهِ فِيهِ. وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ (لَا يَتَحَلَّلُ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِأَفْعَالِهِ)
.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يُشْبِهُ الصَّلَاةَ. قَالَ عليه الصلاة والسلام «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ. وَالصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ، فَكَذَا الطَّوَافُ» إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْعَى عَقِيبَ هَذِهِ الْأَطْوِفَةِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لِأَنَّ السَّعْيَ لَا يَجِبُ فِيهِ إلَّا مَرَّةً. وَالتَّنَفُّلُ بِالسَّعْيِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ. وَيُصَلِّي لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ، وَهِيَ رَكْعَتَا الطَّوَافِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَهَذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا. وَقَوْلُهُ (وَالصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ فَكَذَا الطَّوَافُ) قِيلَ: إلَّا أَنَّ طَوَافَ التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ لِلْغُرَبَاءِ. وَصَلَاةَ التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ لِأَهْلِ مَكَّةَ، لِأَنَّ الْغُرَبَاءَ يَفُوتُهُمْ الطَّوَافُ وَلَا تَفُوتُهُمْ الصَّلَاةُ، وَأَهْلُ مَكَّةَ لَا يَفُوتُهُمْ الْأَمْرَانِ فَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ الصَّلَاةُ أَفْضَلُ. وَقَوْلُهُ (وَالتَّنَفُّلُ بِالسَّعْيِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ) لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ مَرَّةً
قَالَ (فَإِذَا كَانَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ خَطَبَ الْإِمَامُ خُطْبَةً يُعَلِّمُ فِيهَا النَّاسَ الْخُرُوجَ إلَى مِنًى وَالصَّلَاةَ بِعَرَفَاتٍ وَالْوُقُوفَ وَالْإِضَافَةِ) وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْحَجِّ ثَلَاثَ خُطَبٍ: أَوَّلُهَا مَا ذَكَرْنَا، وَالثَّانِيَةُ بِعَرَفَاتٍ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَالثَّالِثَةُ بِمِنًى فِي الْيَوْمِ الْحَادِيَ عَشَرَ، فَيُفْصَلُ بَيْنَ كُلِّ خُطْبَتَيْنِ بِيَوْمٍ. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: يَخْطُبُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ أَوَّلُهَا يَوْمُ التَّرْوِيَةِ لِأَنَّهَا أَيَّامُ الْمَوْسِمِ وَمُجْتَمَعُ الْحَاجِّ. وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا التَّعْلِيمُ. وَيَوْمُ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمُ النَّحْرَ يَوْمَا اشْتِغَالٍ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنْفَعَ وَفِي الْقُلُوبِ أَنْجَعُ
(فَإِذَا صَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمَكَّةَ خَرَجَ إلَى مِنًى فَيُقِيمُ بِهَا حَتَّى
فَالتَّكْرَارُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقِيَاسِ عَلَى الطَّوَافِ، وَلَا مَجَالَ لَهُ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ (فَإِذَا كَانَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ) وَهُوَ الْيَوْمُ السَّابِعُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ (خَطَبَ الْإِمَامُ) يَعْنِي خُطْبَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَكَذَلِكَ فِي الْخُطْبَةِ الثَّالِثَةِ الَّتِي تُخْطَبُ بِمِنًى، وَأَمَّا فِي خُطْبَةِ عَرَفَاتٍ فَيَجْلِسُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ وَهِيَ قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَقَوْلُهُ (وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْحَجِّ ثَلَاثَ خُطَبٍ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (فَإِذَا صَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ) وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ قِيلَ: إنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام رَأَى لَيْلَةَ التَّرْوِيَةِ كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ لَهُ: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك بِذَبْحِ ابْنِك هَذَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ تَرَوَّى: أَيْ تَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ مِنْ الصَّبَاحِ إلَى الرَّوَاحِ أَمِنْ اللَّهِ تَعَالَى هَذَا الْحُلْمُ أَمْ مِنْ الشَّيْطَانِ؟ فَمِنْ ثَمَّةَ سُمِّيَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ. فَلَمَّا أَمْسَى رَأَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَعَرَفَ أَنَّهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، فَمِنْ ثَمَّ سُمِّيَ يَوْمَ
يُصَلِّيَ الْفَجْرَ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام صَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا طَلَعَتْ الشَّمْسُ رَاحَ إلَى مِنًى فَصَلَّى بِمِنًى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ ثُمَّ رَاحَ إلَى عَرَفَاتٍ» (وَلَوْ بَاتَ بِمَكَّةَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ وَصَلَّى بِهَا الْفَجْرَ ثُمَّ غَدَا إلَى عَرَفَاتٍ وَمَرَّ بِمِنًى أَجْزَأَهُ) لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمِنًى فِي هَذِهِ الْيَوْمِ إقَامَةُ نُسُكٍ، وَلَكِنَّهُ أَسَاءَ
عَرَفَةَ. ثُمَّ رَأَى مِثْلَهُ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَهَمَّ بِنَحْرِهِ فَسُمِّيَ الْيَوْمُ بِيَوْمِ النَّحْرِ. وَقِيلَ: إنَّمَا سُمِّيَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ يَرْوُونَ بِالْمَاءِ مِنْ الْعَطَشِ فِي هَذَا الْيَوْمِ يَحْمِلُونَ الْمَاءَ بِالرَّوَايَا إلَى عَرَفَاتٍ وَمِنًى. وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَوْمُ عَرَفَةَ بِهِ لِأَنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام عَلَّمَ إبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فَقَالَ لَهُ: أَعَرَفْت فِي أَيِّ مَوْضِعٍ تَطُوفُ؟ وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ تَسْعَى؟ وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ تَقِفُ؟ وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ تَنْحَرُ وَتَرْمِي؟ فَقَالَ عَرَفْت، فَسُمِّيَ يَوْمَ عَرَفَةَ
بِتَرْكِهِ الِاقْتِدَاءَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ (ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إلَى عَرَفَاتٍ فَيُقِيمُ بِهَا) لَا رَوَيْنَا، وَهَذَا بَيَانُ الْأَوْلَوِيَّةِ. أَمَّا لَوْ دَفَعَ قَبْلَهُ جَازَ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَقَامِ حُكْمٌ. قَالَ فِي الْأَصْلِ: وَيَنْزِلُ بِهَا مَعَ النَّاسِ لِأَنَّ الِانْتِبَاذَ تَجَبُّرٌ وَالْحَالُ حَالُ تَضَرُّعٍ وَالْإِجَابَةُ فِي الْجَمْعِ أَرْجَى. وَقِيلَ مُرَادُهُ أَنْ لَا يَنْزِلَ عَلَى الطَّرِيقِ كَيْ لَا يُضَيِّقَ عَلَى الْمَارَّةِ.
قَالَ (وَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فَيَبْتَدِئُ فَيَخْطُبُ خُطْبَةً يُعَلِّمُ فِيهَا النَّاسَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ وَرَمْيَ الْجِمَارِ وَالنَّحْرَ وَالْحَلْقَ وَطَوَافَ الزِّيَارَةِ
وَسُمِّيَ يَوْمُ الْأَضْحَى بِهِ لِأَنَّ النَّاسَ يُضَحُّونَ فِيهِ بِقَرَابِينِهِمْ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إلَى عَرَفَاتٍ) أَيْ يَتَوَجَّهُ مِنْ مِنًى بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إلَى عَرَفَاتٍ (فَيُقِيمُ بِهَا لِمَا رَوَيْنَا)«أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام رَاحَ إلَى عَرَفَاتٍ» (وَهَذَا بَيَانُ الْأَوْلَوِيَّةِ أَمَّا لَوْ دَفَعَ قَبْلَهُ) أَيْ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَهَذَا إضْمَارٌ قَبْلَ الذِّكْرِ، وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ: ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إلَى عَرَفَاتٍ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ حَتَّى يَصِحَّ بِنَاءُ قَوْلِهِ وَهَذَا: أَيْ التَّوَجُّهُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ.
وَقَوْلُهُ أَمَّا لَوْ دَفَعَ قَبْلَهُ. عَلَيْهِ قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: تَرْكُ هَذَا الْقَيْدِ سَهْوٌ مِنْ الْكَاتِبِ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ) الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ. وَقَوْلُهُ (لَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَقَامِ) يَعْنِي مِنًى (حُكْمٌ) مِنْ الْمَنَاسِكِ فَيَجُوزُ الذَّهَابُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى عَرَفَاتٍ لِلْوُقُوفِ فِيهَا وَهُوَ الرُّكْنُ الْأَعْظَمُ. لَا يُقَالُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُكْثُ نَفْسُهُ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ الْمَنَاسِكِ كَالْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِدَلِيلٍ مَنْقُولٍ وَلَمْ يُوجَدْ. وَقَوْلُهُ (وَيَنْزِلُ بِهَا) أَيْ بِعَرَفَةَ (مَعَ النَّاسِ لِأَنَّ الِانْتِبَاذَ) أَيْ الِانْفِرَادَ (تَجَبُّرٌ) وَقَوْلُهُ (وَقِيلَ مُرَادُهُ) يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ مَعَ النَّاسِ (أَنْ لَا يَنْزِلَ عَلَى الطَّرِيقِ)
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ) يَعْنِي فِي عَرَفَاتٍ (لِيُصَلِّيَ الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فَيَبْتَدِئُ فَيَخْطُبُ خُطْبَةً) يَعْنِي قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَفْظُ يَبْتَدِئُ
يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجِلْسَةٍ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ) هَكَذَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام. وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: يَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهَا خُطْبَةُ وَعْظٍ وَتَذْكِيرٍ فَأَشْبَهَ خُطْبَةَ الْعِيدِ. وَلَنَا مَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَعْلِيمُ الْمَنَاسِكِ وَالْجَمْعِ مِنْهَا. وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ: إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ فَجَلَسَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يُؤَذِّنُ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ. وَعَنْهُ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام لَمَّا خَرَجَ وَاسْتَوَى عَلَى نَاقَتِهِ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَيُقِيمُ الْمُؤَذِّنُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْخُطْبَةِ لِأَنَّهُ أَوَانُ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فَأَشْبَهَ الْجُمُعَةَ. قَالَ (وَيُصَلِّي بِهِمْ الظُّهْرَ الْعَصْرَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ) وَقَدْ
يُشِيرُ إلَى ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ (وَكَذَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا زَاغَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ فَرَكِبَ حَتَّى أَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ لِلنَّاسِ، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ» وَقَوْلُهُ (وَلَنَا مَا رَوَيْنَا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ هَكَذَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ فَجَلَسَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ) مِنْ الْفُسْطَاطِ، فَإِذَا فَرَغَ الْمُؤَذِّنُ خَرَجَ الْإِمَامُ لِأَنَّ هَذَا الْأَذَانَ لِأَدَاءِ الظُّهْرِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ (وَعَنْهُ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ) قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدِي وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ (لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَرَجَ وَاسْتَوَى عَلَى نَاقَتِهِ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ) وَوَجْهُ الصِّحَّةِ أَنَّ رِوَايَةَ جَابِرٍ تَقْتَضِي الْأَذَانَ بَعْدَ خُطْبَةٍ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَقْتَضِيهِ قَبْلَهَا فَتَعَارَضَتَا فَصِرْنَا إلَى مَا بَعْدَهُمَا مِنْ الْحُجَّةِ وَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَى الْجُمُعَةِ (وَيُقِيمُ الْمُؤَذِّنُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْخُطْبَةِ لِأَنَّهُ أَوَانُ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فَأَشْبَهَ الْجُمُعَةَ) قَالَ (وَيُصَلِّي بِهِمْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ) أَيْ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِالْقَوْمِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ (بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ) أَمَّا نَفْسُ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَلِوُرُودِ النَّقْلِ
وَرَدَ النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ بِاتِّفَاقٍ الرُّوَاةِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَفِيمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّاهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ» ، ثُمَّ بَيَانُهُ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ لِلظُّهْرِ وَيُقِيمُ لِلظُّهْرِ ثُمَّ يُقِيمُ لِلْعَصْرِ لِأَنَّ الْعَصْرَ يُؤَدَّى قَبْلَ وَقْتِهِ الْمَعْهُودِ فَيُفْرِدُ بِالْإِقَامَةِ إعْلَامًا لِلنَّاسِ (وَلَا يَتَطَوَّعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ) تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الْوُقُوفِ وَلِهَذَا قُدِّمَ الْعَصْرُ عَلَى وَقْتِهِ، فَلَوْ أَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا مَكْرُوهًا وَأَعَادَ الْأَذَانَ لِلْعَصْرِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، خِلَافًا لِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رحمه الله لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالتَّطَوُّعِ أَوْ بِعَمَلٍ آخَرَ يَقْطَعُ فَوْرَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ فَيُعِيدُهُ لِلْعَصْرِ (فَإِنْ صَلَّى بِغَيْرِ خُطْبَةٍ أَجْزَأَهُ) لِأَنَّ هَذِهِ الْخُطْبَةَ لَيْسَتْ بِفَرِيضَةٍ.
قَالَ (وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي رَحْلِهِ وَحْدَهُ صَلَّى الْعَصْرَ فِي وَقْتِهِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَقَالَا: يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا الْمُنْفَرِدُ لِأَنَّ جَوَازَ الْجَمْعِ لِلْحَاجَةِ إلَى امْتِدَادِ الْوُقُوفِ وَالْمُنْفَرِدِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ
الْمُسْتَفِيضِ بِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا كَوْنُهُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ فَلِمَا رَوَى جَابِرٌ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَلَّاهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَبَيَانُهُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ (وَلَا يَتَطَوَّعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ) يَعْنِي لَا الْإِمَامُ وَلَا الْقَوْمُ. وَقَوْلُهُ (خِلَافًا لِمَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ) فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا يُعِيدُ الْأَذَانَ لِأَنَّ الْوَقْتَ قَدْ جَمَعَهُمَا فَيُكْتَفَى بِأَذَانٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي الْعِشَاءِ مَعَ الْوِتْرِ. وَوَجْهُ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرَهُ (أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالتَّطَوُّعِ أَوْ بِعَمَلٍ آخَرَ يَقْطَعُ فَوْرَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ) وَقَطْعُ فَوْرِ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ يُوجِبُ إعَادَتَهُ لِلْعَصْرِ لِأَنَّ الْأَذَانَ لِلْإِعْلَامِ وَكُلُّ صَلَاةٍ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا، إلَّا أَنَّهُ إذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا اسْتَغْنَيَا عَنْ الْإِعْلَامِ، وَإِذَا قُطِعَ عَادَ حُكْمُهُ الْأَصْلِيُّ. وَقَوْلُهُ (فَإِنْ صَلَّى بِغَيْرِ خُطْبَةٍ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي رَحْلِهِ) أَيْ فِي مَنْزِلِهِ (وَحْدَهُ صَلَّى الْعَصْرَ فِي وَقْتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: الْمُنْفَرِدُ وَغَيْرُهُ سِيَّانِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا) وَمَبْنَى الِاخْتِلَافِ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْعَصْرِ عَلَى وَقْتِهِ لِأَجْلِ مُحَافَظَةِ الْجَمَاعَةِ أَوْ لِامْتِدَادِ الْوُقُوفِ، فَعِنْدَهُ لِلْأَوَّلِ وَعِنْدَهُمَا لِلثَّانِي. لَهُمَا أَنَّ جَوَازَ الْجَمْعِ لِلْحَاجَةِ إلَى امْتِدَادِ الْوُقُوفِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا جَمْعَ عَلَى مَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ الْوُقُوفُ، وَأَنَّ الْحَاجَّ يَحْتَاجُ إلَى الدُّعَاءِ فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ، فَشُرِعَ الْجَمْعُ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ عَنْ الدُّعَاءِ. وَالْمُنْفَرِدُ وَغَيْرُهُ فِي هَذِهِ الْحَاجَةِ سَوَاءٌ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْوَقْتِ فَرْضٌ بِالنُّصُوصِ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إلَّا فِيمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ، وَهُوَ الْجَمْعُ بِالْجَمَاعَةِ مَعَ الْإِمَامِ وَالتَّقْدِيمُ لِصِيَانَةِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّهُ يَعْسُرُ عَلَيْهِمْ الِاجْتِمَاعُ لِلْعَصْرِ بَعْدَمَا تَفَرَّقُوا فِي الْمَوْقِفِ لَا لِمَا
فَيَسْتَوِيَانِ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى الْوَقْتِ فَرْضٌ بِالنُّصُوصِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَذَلِكَ فِيمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مَعَ وُفُورِ الصَّحَابَةِ مِنْ الْجَمْعِ بِالْجَمَاعَةِ مَعَ الْإِمَامِ فَلَا يَجُوزُ بِدُونِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَالتَّقْدِيمُ لِصِيَانَةِ الْجَمَاعَةِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَتَقْرِيرُهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ جَوَازَ الْجَمْعِ بِالتَّقْدِيمِ لِامْتِدَادِ الْوُقُوفِ بَلْ لِصِيَانَةِ الْجَمَاعَةِ، لِأَنَّهُ يَعْسُرُ عَلَيْهِمْ الِاجْتِمَاعُ لِلْعَصْرِ بَعْدَمَا تَفَرَّقُوا لِأَنَّ الْمَوْقِفَ مَوْضِعٌ وَاسِعٌ ذُو طُولٍ وَعَرْضٍ فَلَا يُمْكِنُهُمْ إقَامَةُ الْجَمَاعَةِ إلَّا بِالِاجْتِمَاعِ وَأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ مَرَّتَيْنِ فِي الْعَادَةِ فَعَجَّلُوا الْعَصْرَ لِئَلَّا تَفُوتَهُمْ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ لِحَقِّ الْوُقُوفِ، لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ تَفُوتُ لَا إلَى خَلْفٍ، وَحَقُّ الْوُقُوفِ يَتَأَدَّى قَبْلُ وَبَعْدُ وَمَعَهُ، إذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْوُقُوفِ وَالصَّلَاةِ لِأَنَّ الْوُقُوفَ، لَا يَنْقَطِعُ بِالِاشْتِغَالِ بِالصَّلَاةِ كَمَا لَا يَنْقَطِعُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالتَّوَضُّؤِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَفِي كَلَامِهِ تَسَامُحٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ عِلَّةَ تَقْدِيمِ الْعَصْرِ تَحْصِيلَ مَقْصُودِ الْوُقُوفِ حَيْثُ قَالَ: وَلِهَذَا قُدِّمَ الْعَصْرُ عَلَى وَقْتِهِ، وَهَاهُنَا جَعَلَ عِلَّتَهُ صِيَانَةَ الْجَمَاعَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْوُقُوفِ صِيَانَةَ الْجَمَاعَةِ صَحَّ الْكَلَامُ، لَكِنْ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ أَدَاءُ أَعْظَمِ رُكْنَيْ الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ تَنَاقَضَ كَلَامُهُ وَتَوَارَدَ عِلَّتَانِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ بِالشَّخْصِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْوُقُوفِ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا عَاجِلٌ وَالثَّانِي آجِلٌ. وَالْأَوَّلُ هُوَ امْتِدَادُ الْمُكْثِ لِأَجْلِ الدُّعَاءِ لِمَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ. وَالثَّانِي أَدَاءُ الرُّكْنِ وَصِيَانَةُ الْجَمَاعَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيمُ الْعَصْرِ مَعْلُولًا لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْوُقُوفِ مِنْ حَيْثُ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ، وَلِصِيَانَةِ الْجَمَاعَةِ مِنْ حَيْثُ الثَّانِي، وَإِذَا اخْتَلَفَتْ الْجِهَةُ انْدَفَعَ التَّنَاقُضُ وَتَوَارُدُ الْعِلَّتَيْنِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ لِلْمُكَلَّفِ هُوَ الِامْتِدَادُ فِي الْمُكْثِ لِأَجْلِ الدُّعَاءِ، وَلَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي وُجُودِ غَيْرِهِ فَقَالَا: مَا ثَمَّةَ غَيْرُهُ، وَفِيهِ الْمُنْفَرِدُ وَالْجَمَاعَةُ سَوَاءٌ، وَقَالَ: بَلْ ثَمَّةَ غَيْرُهُ، وَهُوَ مَا لَهُ مِنْ صِيَانَةِ الْجَمَاعَةِ، وَلَيْسَ الْمُنْفَرِدُ فِيهِ كَالْجَمَاعَةِ
ذَكَرَاهُ إذْ لَا مُنَافَاةَ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله: الْإِمَامُ شَرْطٌ فِي الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا. وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: فِي الْعَصْرِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ هُوَ الْمُغَيَّرُ عَنْ وَقْتِهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّ التَّقْدِيمَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ عُرِفَ شَرْعُهُ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْعَصْرُ مُرَتَّبَةً عَلَى ظُهْرٍ مُؤَدًّى بِالْجَمَاعَةِ مَعَ الْإِمَامِ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ الزَّوَالِ فِي رِوَايَةٍ تَقْدِيمًا لِلْإِحْرَامِ عَلَى وَقْتِ الْجَمْعِ،
ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: الْإِمَامُ شَرْطٌ فِي الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا.
وَقَالَ زُفَرُ: فِي الْعَصْرِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ هُوَ الْمُغَيَّرُ عَنْ وَقْتِهِ) وَاشْتِرَاطُ الْإِمَامِ لِلتَّغَيُّرِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّقْدِيمَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ عُرِفَ شَرْعُهُ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْعَصْرُ مُرَتَّبَةً عَلَى ظُهْرٍ مُؤَدَّى بِالْجَمَاعَةِ مَعَ الْإِمَامِ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ) وَكُلُّ مَا كَانَ شَرْعُهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ يَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِهِ (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ) قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْإِحْرَامُ شَرْطٌ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَقَالَ زُفَرُ: هُوَ شَرْطٌ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ وَثَمَرَتُهُ تَظْهَرُ فِي حَلَالٍ مَكِّيٍّ صَلَّى الظُّهْرَ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَصَلَّى الْعَصْرَ مَعَهُ، أَوْ الْمُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَحْرَمَ فَصَلَّى الْعَصْرَ مَعَ الْإِمَامِ لَمْ يُجْزِهِ الْعَصْرُ إلَّا فِي وَقْتِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَ زُفَرَ تَجُوزُ (ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ الزَّوَالِ فِي رِوَايَةٍ) لِأَنَّ الْإِحْرَامَ شَرْطُ جَوَازِ الْجَمْعِ وَشَرْطُ الشَّيْءِ يَسْبِقُهُ، وَجَوَازُ الْجَمْعِ يَتَحَقَّقُ
وَفِي أُخْرَى يَكْتَفِي بِالتَّقْدِيمِ عَلَى الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الصَّلَاةُ
قَالَ (ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إلَى الْمَوْقِفِ فَيَقِفُ بِقُرْبِ الْجَبَلِ وَالْقَوْمُ مَعَهُ عَقِيبَ انْصِرَافِهِمْ مِنْ الصَّلَاةِ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام رَاحَ إلَى الْمَوْقِفِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ وَالْجَبَلُ يُسَمَّى جَبَلَ الرَّحْمَةِ، وَالْمَوْقِفَ الْأَعْظَمَ.
قَالَ (وَعَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «عَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ، وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ وَادِي مُحَسِّرٍ» . قَالَ (وَيَنْبَغِي
إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ مُقَارِنًا، وَالْمُتَقَدِّمُ عَلَى أَحَدِ الْمُتَقَارِنَيْنِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْآخَرِ (وَفِي) رِوَايَةٍ (أُخْرَى يُكْتَفَى بِالتَّقْدِيمِ عَلَى الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الصَّلَاةُ)
قَالَ (ثُمَّ يَتَوَجَّهُ الْإِمَامُ إلَى الْمَوْقِفِ) أَيْ بَعْدَ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ يَتَوَجَّهُ الْإِمَامُ إلَى الْمَوْقِفِ (فَيَقِفُ بِقُرْبِ الْجَبَلِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَاحَ إلَى الْمَوْقِفِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ) وَقَوْلُهُ (وَالْجَبَلُ يُسَمَّى جَبَلَ الرَّحْمَةِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (بَطْنُ عُرَنَةَ) وَادٍ بِحِذَاءِ عَرَفَاتٍ. قِيلَ رَأَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ الشَّيْطَانَ، فَكَانَ هَذَا نَظِيرَ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي السَّاعَاتِ الثَّلَاثِ. (وَالْمُزْدَلِفَةُ) إنَّمَا سُمِّيَتْ بِهَا لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ} أَيْ جَمَعْنَاهُمْ، وَقِيلَ مِنْ الِازْدِلَافِ بِمَعْنَى التَّقَرُّبِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} أَيْ قُرِّبَتْ، وَسُمِّيَتْ بِهَا لِاقْتِرَابِ النَّاسِ إلَى مِنًى بَعْدَ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ (وَوَادِي مُحَسِّرٍ) بِكَسْرِ السِّينِ
لِلْإِمَامِ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام وَقَفَ عَلَى نَاقَتِهِ (وَإِنْ وَقَفَ عَلَى قَدَمَيْهِ جَازَ) وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ لِمَا بَيَّنَّا (وَيَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام وَقَفَ كَذَلِكَ، وَقَالَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام «خَيْرُ الْمَوَاقِفِ مَا اسْتَقْبَلْتَ بِهِ الْقِبْلَةَ» (وَيَدْعُو وَيُعَلِّمُ النَّاسَ الْمَنَاسِكَ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَدْعُو يَوْمَ عَرَفَةَ مَادًّا يَدَيْهِ كَالْمُسْتَطْعِمِ الْمِسْكِينِ وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ» وَإِنْ وَرَدَ الْآثَارُ بِبَعْضِ الدَّعَوَاتِ، وَقَدْ أَوْرَدْنَا تَفْصِيلَهَا فِي كِتَابِنَا الْمُتَرْجَمُ بِ (عِدَّةِ النَّاسِكِ فِي عِدَّةٍ مِنْ الْمَنَاسِكِ) بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَتَشْدِيدِهَا هُوَ بَيْنَ مَكَّةَ وَعَرَفَاتٍ. وَقَوْلُهُ (كَالْمُسْتَطْعِمِ الْمِسْكِينِ) فِي تَقْدِيمِ الصِّفَةِ فَائِدَةٌ وَهِيَ الْمُبَالَغَةُ فِي تَحْقِيقِ الْمُدِّ، فَإِنَّ التَّشْبِيهَ حِينَئِذٍ إنَّمَا يَحْصُلُ بِحَالَةِ الِاسْتِطْعَامِ وَهِيَ حَالَةُ الِاحْتِيَاجِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ وَرَدَ الْآثَارُ بِبَعْضِ الدَّعَوَاتِ) عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ «إنَّ أَكْثَرَ دُعَائِي وَدُعَاءِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي عَشِيَّةَ عَرَفَةَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي سَمْعِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا. اللَّهُمَّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ وَسْوَاسِ
قَالَ (وَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَقِفُوا بِقُرْبِ الْإِمَامِ) لِأَنَّهُ يَدْعُو وَيُعَلِّمُ فَيَعُوا وَيَسْمَعُوا (وَيَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ وَرَاءَ الْإِمَامِ) لِيَكُونَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَهَذَا بَيَانُ الْأَفْضَلِيَّةِ لِأَنَّ عَرَفَاتٍ كُلَّهَا مَوْقِفٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.
قَالَ (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَيَجْتَهِدَ فِي الدُّعَاءِ) أَمَّا الِاغْتِسَالُ فَهُوَ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَوْ اكْتَفَى بِالْوُضُوءِ جَازَ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَعِنْدَ الْإِحْرَامِ. وَأَمَّا الِاجْتِهَادُ فَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اجْتَهَدَ فِي الدُّعَاءِ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ لِأُمَّتِهِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ إلَّا فِي الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ (وَيُلَبِّي فِي مَوْقِفِهِ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ) وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ كَمَا يَقِفُ بِعَرَفَةَ لِأَنَّ الْإِجَابَةَ بِاللِّسَانِ قَبْلَ الِاشْتِغَالِ بِالْأَرْكَانِ.
الصَّدْرِ وَشَتَاتِ الْأَمْرِ وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ. اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا يَلِجُ فِي الْبَحْرِ وَشَرِّ مَا تَهُبُّ بِهِ الرِّيَاحُ».
وَقَوْلُهُ (إلَّا فِي الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ) أَيْ إلَّا فِي حَقِّ الدَّمِ الَّذِي وَجَبَ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ قِصَاصًا وَعَجَزُوا عَنْ اسْتِيفَائِهِ، وَفِي حَقِّ الْمَظْلِمَةِ الَّتِي وَجَبَتْ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَعَجَزُوا عَنْ الِانْتِصَافِ. وَقِيلَ: قَدْ اُسْتُجِيبَ لَهُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْمُزْدَلِفَةِ وَقَوْلُهُ (وَيُلَبِّي فِي مَوْقِفِهِ) يَعْنِي يَسْتَدِيمُ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَرْمِيَ أَوَّلَ حَصَاةٍ مِنْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ (وَقَالَ مَالِكٌ: يَقْطَعُهَا كَمَا يَقِفُ بِعَرَفَةَ لِأَنَّ التَّلْبِيَةَ إجَابَةٌ بِاللِّسَانِ، وَالْإِجَابَةُ بِاللِّسَانِ قَبْلَ الِاشْتِغَالِ بِالْأَرْكَانِ) كَتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فِي الصَّلَاةِ
وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام مَا زَالَ يُلَبِّي حَتَّى أَتَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» وَلِأَنَّ التَّلْبِيَةَ فِيهِ كَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ
وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْدَفَ الْفَضْلَ فَأَخْبَرَ الْفَضْلُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ» ، وَلِأَنَّ التَّلْبِيَةَ فِي الْحَجِّ كَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ) فِي كَوْنِهِ ذِكْرًا مَفْعُولًا فِي افْتِتَاحِ الْعِبَادَةِ وَيَتَكَرَّرُ فِي أَثْنَائِهَا، فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْإِحْرَامِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الرَّمْيِ. وَقِيلَ: كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ إلَى آخِرِهِ كَالتَّكْبِيرِ
فَيَأْتِي بِهَا إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الْإِحْرَامِ.
قَالَ (فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ أَفَاضَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ مَعَهُ عَلَى هَيِّنَتِهِمْ حَتَّى يَأْتُوا الْمُزْدَلِفَةَ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام دَفَعَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَلِأَنَّ فِيهِ إظْهَارَ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام يَمْشِي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي الطَّرِيقِ عَلَى هَيِّنَتِهِ، فَإِنْ خَافَ الزِّحَامَ فَدَفَعَ قَبْلَ الْإِمَامِ وَلَمْ يُجَاوِزْ حُدُودَ عَرَفَةَ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُفِضْ مِنْ عَرَفَةَ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقِفَ فِي مَقَامِهِ كَيْ لَا يَكُونَ آخِذًا فِي الْأَدَاءِ قَبْلَ وَقْتِهَا
فِي الصَّلَاةِ، إلَّا أَنَّ الْقِيَاسَ تُرِكَ فِيمَا بَعْدَ الرَّمْيِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَبْقَى فِيمَا وَرَاءَهُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ.
وَقَوْلُهُ (وَالنَّاسُ مَعَهُ عَلَى هِينَتِهِمْ) إنَّمَا هُوَ اتِّبَاعٌ لِلسُّنَّةِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَيُّهَا النَّاسُ لَيْسَ الْبِرُّ فِي إيجَافِ الْخَيْلِ وَفِي إيضَاعِ الْإِبِلِ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ» (وَالنَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام دَفَعَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ) وَمَشَى عَلَى هِينَتِهِ فِي الطَّرِيقِ (وَلِأَنَّ فِيهِ إظْهَارَ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ) فَإِنَّهُ رُوِيَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْأَوْثَانِ كَانُوا يَدْفَعُونَ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إذَا تَعَمَّمَتْ بِهَا رُءُوسُ الْجِبَالِ كَعَمَائِمِ الرِّجَالِ فِي وُجُوهِهِمْ، وَإِنَّ هَدْيَنَا لَيْسَ كَهَدْيِهِمْ، فَادْفَعُوا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ» فَقَدْ بَاشَرَ ذَلِكَ عليه الصلاة والسلام وَأَمَرَ بِهِ إظْهَارًا لِمُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ (وَلَمْ يُجَاوِزْ حُدُودَ عَرَفَةَ أَجْزَأَهُ)
وَلَوْ مَكَثَ قَلِيلًا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَإِفَاضَةِ الْإِمَامِ لِخَوْفِ الزِّحَامِ فَلَا بَأْسَ بِهِ. لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها بَعْدَ إفَاضَةِ الْإِمَامِ دَعَتْ بِشَرَابٍ فَأَفْطَرَتْ ثُمَّ أَفَاضَتْ.
قَالَ (وَإِذَا أَتَى مُزْدَلِفَةَ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ بِقُرْبِ الْجَبَلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُقَيَّدَةُ يُقَالُ لَهُ قُزَحَ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام وَقَفَ عِنْدَ هَذَا الْجَبَلِ، وَكَذَا عُمَرُ رضي الله عنها، وَيَتَحَرَّزُ فِي النُّزُولِ عَنْ الطَّرِيقِ كَيْ لَا يَضُرَّ بِالْمَارَّةِ فَيَنْزِلُ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ وَرَاءَ الْإِمَامِ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. قَالَ (وَيُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ) وَقَالَ زُفَرُ رحمه الله: بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ اعْتِبَارًا بِالْجَمْعِ بِعَرَفَةَ. وَلَنَا رِوَايَةُ جَابِرٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ» وَلِأَنَّ الْعِشَاءَ فِي وَقْتِهِ فَلَا يُفْرِدُ بِالْإِقَامَةِ إعْلَامًا، بِخِلَافِ الْعَصْرِ بِعَرَفَةَ لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى وَقْتِهِ فَأَفْرَدَ بِهَا لِزِيَادَةِ الْإِعْلَامِ (وَلَا يَتَطَوَّعُ بَيْنَهُمَا) لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْجَمْعِ، وَلَوْ تَطَوَّعَ أَوْ تَشَاغَلَ بِشَيْءٍ أَعَادَ الْإِقَامَةَ
إشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَوْ جَاوَزَهَا قَبْلَ الْإِمَامِ وَقَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ، وَلَكِنْ إنْ عَادَ إلَى عَرَفَةَ قَبْلَ الْغُرُوبِ ثُمَّ دَفَعَ مَعَ الْإِمَامِ مِنْهَا بَعْدَ الْغُرُوبِ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ. وَإِنْ عَادَ بَعْدَ الْغُرُوبِ لَمْ يَسْقُطْ.
قَالَ (وَإِذَا أَتَى مُزْدَلِفَةَ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ بِقُرْبِ الْجَبَلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُقَيَّدَةُ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ يَدْعُو وَيُعَلِّمُ. وَقَوْلُهُ (وَيُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ) أَيْ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ.
لِوُقُوعِ الْفَصْلِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُعِيدَ الْأَذَانَ كَمَا فِي الْجَمْعِ الْأَوَّلِ بِعَرَفَةَ، إلَّا أَنَّا اكْتَفَيْنَا بِإِعَادَةِ الْإِقَامَةِ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْمَغْرِبَ بِمُزْدَلِفَةَ ثُمَّ تَعَشَّى ثُمَّ أَفْرَدَ الْإِقَامَةَ لِلْعِشَاءِ» . وَلَا تُشْتَرَطُ الْجَمَاعَةُ لِهَذَا الْجَمْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِأَنَّ الْمَغْرِبَ مُؤَخَّرَةٌ عَنْ وَقْتِهَا، بِخِلَافِ الْجَمْعِ بِعَرَفَةَ لِأَنَّ الْعَصْرَ مُقَدَّمٌ عَلَى وَقْتِهِ.
قَالَ (وَمَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الطَّرِيقِ لَمْ يُجْزِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله: يُجْزِيه وَقَدْ أَسَاءَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا صَلَّى بِعَرَفَاتٍ
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ تَعَشَّى) أَيْ أَكَلَ الْعَشَاءَ. وَقَوْلُهُ (وَلَا تُشْتَرَطُ الْجَمَاعَةُ لِهَذَا الْجَمْعِ) أَيْ لِجَمْعِ الْمُزْدَلِفَةِ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ مُؤَخَّرَةٌ عَنْ وَقْتِهَا) وَأَدَاءُ الصَّلَاةِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مَشْرُوعٌ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ فَلَا يَجِبُ مُرَاعَاةُ مَوْرِدِ النَّصِّ، فَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي تَأْخِيرِ الْمَغْرِبِ عِنْدَ وُجُودِ الْجَمَاعَةِ لَكِنْ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ، وَأَمَّا تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ عَلَى وَقْتِهَا فَمُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيُرَاعَى لِذَلِكَ فِيهِ جَمِيعُ مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ، وَإِنَّمَا خَصَّ أَبَا حَنِيفَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ كَانَتْ شَرْطًا عِنْدَهُ فِي الْجَمْعِ بِعَرَفَاتٍ.
وَقَوْلُهُ (مَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الطَّرِيقِ) أَيْ فِي طَرِيقِ الْمُزْدَلِفَةِ وَحْدَهُ (لَمْ يُجْزِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُجْزِيهِ وَقَدْ أَسَاءَ)
لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَدَّاهَا فِي وَقْتِهَا فَلَا تَجِبُ إعَادَتُهَا كَمَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، إلَّا أَنَّ التَّأْخِيرَ مِنْ السُّنَّةِ فَيَصِيرُ مُسِيئًا بِتَرْكِهِ. وَلَهُمَا مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ لِأُسَامَةَ رضي الله عنه فِي طَرِيقِ الْمُزْدَلِفَةِ: الصَّلَاةُ أَمَامَكَ» مَعْنَاهُ: وَقْتُ الصَّلَاةِ. وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّأْخِيرَ وَاجِبٌ، وَإِنَّمَا وَجَبَ لِيُمْكِنَهُ الْجَمْعَ بَيْن الصَّلَاتَيْنِ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَكَانَ عَلَيْهِ
وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّاهَا بِعَرَفَاتٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي الطَّرِيقِ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا (لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَدَّاهَا فِي وَقْتِهَا) وَمَنْ أَدَّى صَلَاةً فِي وَقْتِهَا (لَا تَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَتُهَا كَمَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَّا أَنَّ التَّأْخِيرَ مِنْ السُّنَّةِ فَيَصِيرُ مُسِيئًا بِتَرْكِهِ. وَلَهُمَا مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ حِينَ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ وَمَالَ إلَى الشِّعْبِ فَقَضَى حَاجَتَهُ وَتَوَضَّأَ، وَقَالَ لَهُ أُسَامَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي الصَّلَاةَ أَمَامَك» يَعْنِي وَقْتُ الصَّلَاةِ أَمَامَك، لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِعْلُ الْمُصَلِّي فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ أَمَامَهُ وَلَكِنَّهَا تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا الْوَقْتُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ مَعْنَاهُ: مَكَانُ الصَّلَاةِ أَمَامَك وَهُوَ مُزْدَلِفَةُ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْحَالِ وَإِرَادَةِ الْمَحَلِّ.
(وَهَذَا) أَيْ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّأْخِيرَ وَاجِبٌ) لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ مَعْنَاهُ الْقَضَاءَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، وَتَفْوِيتُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ فَضْلًا عَنْهُ عليه الصلاة والسلام فَيَجِبُ النَّظَرُ فِي سَبَبِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اتِّصَالُ السَّيْرِ أَوْ إمْكَانُ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي الْمُزْدَلِفَةِ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ مَيْلَهُ عليه الصلاة والسلام إلَى الشِّعْبِ وَقَضَاءَ حَاجَتِهِ يَأْبَاهُ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، فَمَهْمَا كَانَ مُمْكِنًا لَا يُصَارُ إلَى غَيْرِهِ، وَالْإِمْكَانُ مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ فَتَجِبُ الْإِعَادَةُ مَا لَمْ يَطْلُعْ، وَأَمَّا إذَا طَلَعَ فَقَدْ فَاتَ الْإِمْكَانُ فَسَقَطَتْ الْإِعَادَةُ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ الْآحَادِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}
الْإِعَادَةُ مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ لِيَصِيرَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا، وَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ لَا يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ فَسَقَطَتْ الْإِعَادَةُ.
قَالَ (وَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الْفَجْرَ بِغَلَسٍ) لِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام صَلَّاهَا يَوْمَئِذٍ بِغَلَسٍ» وَلِأَنَّ فِي التَّغْلِيسِ دَفْعَ حَاجَةِ الْوُقُوفِ فَيَجُوزُ كَتَقْدِيمِ الْعَصْرِ بِعَرَفَةَ
وَأَجَابَ شَيْخُ شَيْخِي الْعَلَّامَةُ بِأَنَّهُ مِنْ الْمَشَاهِيرِ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَعَمِلُوا بِهِ فَجَازَ أَنْ يُزَادَ بِهِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَقُولُ: قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ} الْآيَةَ وَنَحْوَهَا لَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى تَعْيِينِ الْأَوْقَاتِ، وَإِنَّمَا دَلَالَتُهَا عَلَى أَنَّ لِلصَّلَاةِ أَوْقَاتًا، وَتَعْيِينُهَا ثَبَتَ إمَّا بِخَبَرِ جِبْرِيلَ عليه الصلاة والسلام أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ الْآحَادِ، أَوْ بِفِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ فَجَازَ أَنْ يُعَارِضَهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ، ثُمَّ يُعْمَلُ بِفِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام وَهُوَ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَضَاءً فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقْتُهُ، وَشُكِّكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِأَنَّ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ الَّتِي صَلَّاهَا فِي الطَّرِيقِ إمَّا أَنْ وَقَعَتْ صَحِيحَةً أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَا تَجِبُ الْإِعَادَةُ لَا فِي الْوَقْتِ وَلَا بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَجَبَتْ فِيهِ وَبَعْدَهُ لِأَنَّ مَا وَقَعَ فَاسِدًا لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بِمُضِيِّ الْوَقْتِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْفَسَادَ مَوْقُوفٌ يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي ثَانِي الْحَالِ كَمَا مَرَّ فِي مَسْأَلَةِ التَّرْتِيبِ.
قَالَ (وَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الْفَجْرَ بِغَلَسٍ) أَيْ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ يَوْمَ النَّحْرِ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الْفَجْرَ بِغَلَسٍ وَالْغَلَسُ ظُلْمَةُ آخِرِ اللَّيْلِ، وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ نَاقِلًا عَنْ الدِّيوَانِ آخِرُ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَهُوَ أَوْفَقُ لِمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى مَا سَيَظْهَرُ. قَوْلُهُ (لِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ) قَالَ:«مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةً إلَّا لِوَقْتِهَا إلَّا بِجَمْعٍ، فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام جَمَعَ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَصَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ مِنْ الْغَدِ قَبْلَ وَقْتِهَا» . وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الدَّلِيلُ الْمَنْقُولُ وَالْمَعْقُولُ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ غَيْرُ مُطَابِقَيْنِ لِلْمَدْلُولِ. أَمَّا الْمَنْقُولُ فَلِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَلَّاهَا بِغَلَسٍ،
(ثُمَّ وَقَفَ وَوَقَفَ مَعَهُ النَّاسُ وَدَعَا) لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام وَقَفَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَدْعُو حَتَّى رُوِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «فَاسْتُجِيبَ لَهُ دُعَاؤُهُ لِأُمَّتِهِ حَتَّى الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ» ثُمَّ هَذَا الْوُقُوفُ وَاجِبٌ عِنْدَنَا وَلَيْسَ بِرُكْنٍ، حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ يَلْزَمُهُ الدَّمُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: إنَّهُ رُكْنٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} وَبِمِثْلِهِ تَثْبُتُ الرُّكْنِيَّةُ. وَلَنَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِاللَّيْلِ، وَلَوْ كَانَ رُكْنًا لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ، وَالْمَذْكُورُ فِيمَا تَلَا الذِّكْرُ وَهُوَ لَيْسَ بِرُكْنٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا الْوُجُوبَ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ وَقَفَ مَعَنَا هَذَا الْمَوْقِفَ وَقَدْ كَانَ أَفَاضَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ عَرَفَاتٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» عَلَّقَ بِهِ تَمَامَ الْحَجِّ
وَالْمَدْلُولُ قَوْلُهُ وَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الْفَجْرَ بِغَلَسٍ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ تَقْرِيرَهُ فِي التَّغْلِيسِ دَفْعُ حَاجَةِ الْوُقُوفِ، وَدَفْعُ الْحَاجَةِ يَجُوزُ التَّقْدِيمُ كَتَقْدِيمِ الْعَصْرِ بِعَرَفَةَ وَتَقْدِيمِ الْعَصْرِ كَانَ عَلَى وَقْتِهِ، فَيَكُونُ هَاهُنَا كَذَلِكَ تَصْحِيحًا لِلتَّشْبِيهِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَطْلُوبِ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الرَّاوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْهُ فِي صَحِيحِهِ أَنَّهُ قَالَ:«خَرَجْت مَعَ عَبْدِ اللَّهِ إلَى مَكَّةَ ثُمَّ قَدِمْنَا جَمْعًا فَصَلَّى الصَّلَاتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ وَقَائِلٌ يَقُولُ لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ قَبْلَ وَقْتِهَا قَبْلَ وَقْتِهَا الْمُسْتَحَبِّ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الرَّاوِيَ لَا يَعْمَلُ عَلَى خِلَافِ مَا رُوِيَ. وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ «فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ الصُّبْحُ» وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ مَعْنَاهُ: لَمَّا جَازَ تَعْجِيلُ الْعَصْرِ عَلَى وَقْتِهَا لِلْحَاجَةِ إلَى الْوُقُوفِ بَعْدَهَا فَلَأَنْ يَجُوزَ التَّغْلِيسُ بِالْفَجْرِ وَهِيَ فِي وَقْتِهَا أَوْلَى.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ وَقَفَ وَوَقَفَ مَعَهُ النَّاسُ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (حَتَّى الدِّمَاءُ وَالْمَظَالِمُ) بِالرَّفْعِ: أَيْ حَتَّى يَدْخُلَ فِي الْمُسْتَجَابِ بِأَنْ يَرْضَى الْخُصُومُ بِالِازْدِيَادِ فِي مَثُوبَاتِهِمْ حَتَّى يَتْرُكُوا خُصُومَاتِهِمْ فِي الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ. وَقَوْلُهُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهُ رُكْنٌ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَنِسْبَةُ هَذَا الْقَوْلِ إلَيْهِ سَهْوٌ وَقَعَ مِنْ الْكَاتِبِ لِمَا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ الْوُقُوفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ سُنَّةٌ. وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ رضي الله عنه مَكَانَ الشَّافِعِيِّ، وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ عَلْقَمَةَ مَكَانَ الشَّافِعِيِّ، وَذَكَرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ مَالِكًا مَكَانَ الشَّافِعِيِّ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَنِّفُ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى نَقْلٍ مِنْ مَذْهَبِهِ وَاسْتَدَلَّ (بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} وَبِمِثْلِهِ تَثْبُتُ الرُّكْنِيَّةُ) لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالذِّكْرِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فِيهِ إلَّا بَعْدَ حُضُورِهِ وَالْوُقُوفِ فِيهِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ (وَلَنَا مَا رُوِيَ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِاللَّيْلِ»، وَلَوْ كَانَ رُكْنًا لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ) لِأَنَّ مَا هُوَ رُكْنٌ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ لِعُذْرٍ. وَقَوْلُهُ (وَالْمَذْكُورُ فِيمَا تَلَا الذِّكْرَ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِهِ بِالْآيَةِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْآيَةِ وَهُوَ الذِّكْرُ لَيْسَ بِرُكْنٍ بِالْإِجْمَاعِ، فَكَذَا مَا كَانَ وَسِيلَةً إلَيْهِ وَهُوَ الْحُضُورُ وَالْوُقُوفُ. وَقَوْلُهُ (وَإِنَّمَا عَرَفْنَا)
وَهَذَا يَصْلُحُ أَمَارَةً لِلْوُجُوبِ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا تَرَكَهُ بِعُذْرٍ بِأَنْ يَكُونَ بِهِ ضَعْفٌ أَوْ عِلَّةٌ أَوْ كَانَتْ امْرَأَةٌ تَخَافُ الزِّحَامَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا رَوَيْنَا.
قَالَ (وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا وَادِيَ مُحَسِّرٍ)
ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (لِمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي بِهِ قَوْلَهُ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِاللَّيْلِ» فَعُلِمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَعْلِيقِ تَمَامِ الْحَجِّ فِي قَوْلِهِ «عليه الصلاة والسلام مَنْ وَقَفَ مَعَنَا هَذَا الْمَوْقِفَ» إلَخْ مِنْ حَيْثُ
لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ. قَالَ (فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ أَفَاضَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ مَعَهُ حَتَّى يَأْتُوا مِنًى) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَكَذَا وَقَعَ فِي نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ وَهَذَا غَلَطٌ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا أَسْفَرَ أَفَاضَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام دَفَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ.
قَالَ (فَيَبْتَدِئُ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ
الْكَمَالُ وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِالْوَاجِبِ لَا مِنْ حَيْثُ الْجَوَازُ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي بِهِ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ وَادِي مُحَسِّرٍ» . وَقَوْلُهُ (هَكَذَا وَقَعَ فِي نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ) أَيْ فِي نُسَخِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ (وَهَذَا غَلَطٌ) لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَفَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. رَوَاهُ جَابِرٌ وَابْنُ عُمَرَ قَالَا «إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ حَتَّى إذَا كَادَتْ الشَّمْسُ تَطْلُعُ دَفَعَ إلَى مِنًى» . وَأَقُولُ مَعْنَى قَوْلِهِ وَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ: إذَا قَرُبَتْ إلَى الطُّلُوعِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى ظُهُورِ الْمَسْأَلَةِ.
وَقَوْلُهُ (فَيَبْتَدِئُ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ) الْكَلَامُ فِي الرَّمْيِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ مَوْضِعًا: أَحَدُهَا الْوَقْتُ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ، وَالثَّانِي فِي مَوْضِعِ الرَّمْيِ وَهُوَ بَطْنُ الْوَادِي، يَعْنِي
فَيَرْمِيهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ مِثْلَ حَصَى الْخَذَفِ) لِأَنَّ «النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَتَى مِنًى لَمْ يُعَرِّجْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ» ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم «عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ لَا يُؤْذِي بَعْضُكُمْ بَعْضًا» وَلَوْ رَمْيَ بِأَكْبَرَ مِنْهُ جَازَ لِحُصُولِ الرَّمْيِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَرْمِي بِالْكِبَارِ مِنْ الْأَحْجَارِ كَيْ لَا يَتَأَذَّى بِهِ غَيْرُهُ (وَلَوْ رَمَاهَا مِنْ فَوْقِ الْعَقَبَةِ أَجْزَأَهُ) لِأَنَّ مَا حَوْلَهَا مَوْضِعُ النُّسُكِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي لِمَا رَوَيْنَا
مِنْ أَسْفَلِهِ إلَى أَعْلَاهُ، وَالثَّالِثُ فِي مَحَلِّ الرَّمْيِ إلَيْهِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ: جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ وَمَسْجِدُ الْخَيْفِ وَالْوُسْطَى، وَالرَّابِعُ فِي كَمْيَّةِ الْحَصَيَاتِ وَهُوَ سَبْعَةٌ عِنْدَ كُلِّ جَمْرَةٍ، وَالْخَامِسُ فِي الْمِقْدَارِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ، وَالسَّادِسُ فِي كَيْفِيَّةِ الرَّمْيِ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَقِيلَ يَأْخُذُ الْحَصَى بِطَرَفِ إبْهَامِهِ وَسَبَّابَتِهِ، وَالسَّابِعُ مِقْدَارُ الرَّمْيِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ، وَالثَّامِنُ فِي صِفَةِ الرَّامِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَالتَّاسِعُ فِي مَوْضِعِ وُقُوعِ
(وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ) كَذَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهم (وَلَوْ سَبَّحَ مَكَانَ التَّكْبِيرِ أَجْزَأَهُ) لِحُصُولِ الذِّكْرِ وَهُوَ مِنْ آدَابِ الرَّمْيِ (وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا) لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقِفْ عِنْدَهَا (وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ أَوَّلِ حَصَاةٍ) لِمَا رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه. رَوَى جَابِرٌ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ
الْحَصَيَاتِ، وَالْعَاشِرُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ الْحَجَرُ وَهُمَا مَذْكُورَانِ فِي الْكِتَابِ، وَالْحَادِيَ عَشَرَ فِيمَا يَرْمِي بِهِ وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ، وَالثَّانِيَ عَشَرَ أَنَّهُ يَرْمِي فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ لَا غَيْرُ وَفِي بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ يَرْمِي
التَّلْبِيَةَ عِنْدَ أَوَّلِ حَصَاةٍ رَمَى بِهَا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ».
ثُمَّ كَيْفِيَّةُ الرَّمْيِ أَنْ يَضَعَ الْحَصَاةَ عَلَى ظَهْرِ إبْهَامِهِ إلَى مِنًى وَيَسْتَعِينُ بِالْمِسْبَحَةِ. وَمِقْدَارُ الرَّمْيِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الرَّامِي وَبَيْنَ مَوْضِعِ السُّقُوطِ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ فَصَاعِدًا، كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ يَكُونُ طَرْحًا. وَلَوْ طَرَحَهَا طَرْحًا أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ رَمَى إلَى قَدَمَيْهِ إلَّا أَنَّهُ مُسِيءٌ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ، وَلَوْ وَضَعَهَا وَضْعًا لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِرَمْيٍ، وَلَوْ رَمَاهَا فَوَقَعَتْ قَرِيبًا مِنْ الْجَمْرَةِ يَكْفِيهِ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَلَوْ وَقَعَتْ بَعِيدًا مِنْهَا لَا يُجْزِيه لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي مَكَان مَخْصُوصٍ.
وَلَوْ رَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ جُمْلَةً فَهَذِهِ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ تَفَرُّقُ الْأَفْعَالِ، وَيَأْخُذُ الْحَصَى مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ إلَّا مِنْ عِنْدِ الْجَمْرَةِ فَإِنَّ ذَاكَ يُكْرَهُ لِأَنَّ مَا عِنْدَهَا مِنْ الْحَصَى مَرْدُودٌ، هَكَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ فَيَتَشَاءَمُ بِهِ
الْجِمَارَ كُلَّهَا. وَكَلَامُهُ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (فَيُتَشَاءَمُ بِهِ) وَلَا يُتَبِّرُك، بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا بَالُ الْجِمَارِ تُرْمَى مِنْ وَقْتِ الْخَلِيلِ عليه الصلاة والسلام وَلَمْ تَصِرْ هِضَابًا تَسُدُّ الْأُفُقَ؟ فَقَالَ:
وَمَعَ هَذَا لَوْ فَعَلَ أَجْزَأَهُ لِوُجُودِ فِعْلِ الرَّمْيِ. وَيَجُوزُ الرَّمْيُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِعْلُ الرَّمْيِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالطِّينِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْحَجَرِ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَمَى بِالذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ لِأَنَّهُ يُسَمَّى نِثَارًا لَا رَمْيًا.
قَالَ (ثُمَّ يَذْبَحُ إنْ أَحَبَّ ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ)
أَمَا عَلِمْت أَنَّهُ مَنْ يُقْبَلُ حَجُّهُ رُفِعَ حَصَاهُ وَمَنْ لَمْ يُقْبَلْ حَجُّهُ تُرِكَ حَصَاهُ، حَتَّى قَالَ مُجَاهِدٌ: لَمَّا سَمِعْت هَذَا مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ جَعَلْت عَلَى حَصَيَاتِي عَلَامَةً ثُمَّ تَوَسَّطْت الْجَمْرَةَ فَرَمَيْته مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ثُمَّ طَلَبْت فَلَمْ أَجِدْ بِتِلْكَ الْعَلَامَةِ شَيْئًا مِنْ الْحَصَى.
وَقَوْلُهُ (وَيَجُوزُ الرَّمْيُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ عِنْدَنَا) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِالْفَيْرُوزِ وَالْيَاقُوتِ فَإِنَّهُمَا مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ حَتَّى جَازَ التَّيَمُّمُ بِهِمَا، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ الرَّمْيُ بِهِمَا حَتَّى لَمْ يَقَعْ مُعْتَدًّا بِهِمَا فِي الرَّمْيِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْجَوَازَ مَشْرُوطٌ بِالِاسْتِهَانَةِ بِرَمْيِهِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِرَمْيِهِمَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ الرَّمْيُ إلَّا بِالْحَجَرِ
لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ «إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نَرْمِيَ ثُمَّ نَذْبَحَ ثُمَّ نَحْلِقَ» وَلِأَنَّ: الْحَلْقَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ، وَكَذَا الذَّبْحُ حَتَّى يَتَحَلَّلَ بِهِ الْمُحْصَرُ فَيُقَدِّمَ الرَّمْيَ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ الْحَلْقُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ الذَّبْحُ، وَإِنَّمَا عَلَّقَ الذَّبْحَ بِالْمَحَبَّةِ لِأَنَّ الدَّمَ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْمُفْرِدُ تَطَوُّعٌ وَالْكَلَامُ فِي الْمُفْرِدِ (وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ» الْحَدِيثَ، ظَاهِرٌ بِالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْحَلْقَ أَكْمَلُ فِي قَضَاءِ التَّفَثِ
اتِّبَاعًا لِمَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ لِعَدَمِ كَوْنِهِ مَعْقُولًا. وَقُلْنَا: سَلَّمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَلَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِعْلُ الرَّمْيِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالطِّينِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْحَجَرِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ فِعْلُ الْخَلِيلِ عليه الصلاة والسلام، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْحَجَرِ لَهُ بِعَيْنِهِ مَقْصُودٌ إنَّمَا مَقْصُودُهُ فِعْلُ الرَّمْيِ إمَّا إعَادَةً لِلْكَبْشِ أَوْ لِطَرْدِ الشَّيْطَانِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الرُّوَاةِ، فَقُلْنَا بِأَيِّ شَيْءٍ حَصَلَ فِعْلُ الرَّمْيِ أَجْزَأَهُ، وَلَا يَرِدُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا الْجَوَاهِرِ لِأَنَّهُ يُسَمَّى نِثَارًا لَا رَمْيًا
قَالَ (ثُمَّ يَذْبَحُ إنْ أَحَبَّ ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (ظَاهِرٌ بِالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ) أَيْ كَرَّرَ التَّرَحُّمَ عَلَى الْمُحَلِّقِينَ. وَرَوَى
وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَفِي التَّقْصِيرِ بَعْضُ التَّقْصِيرِ فَأَشْبَهَ الِاغْتِسَالَ مَعَ الْوُضُوءِ. وَيَكْتَفِي فِي الْحَلْقِ بِرُبْعِ الرَّأْسِ اعْتِبَارًا بِالْمَسْحِ، وَحَلْقُ الْكُلِّ أَوْلَى اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام. وَالتَّقْصِيرُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ رُءُوسِ شَعْرِهِ مِقْدَارَ الْأُنْمُلَةِ. قَالَ (وَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ) وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: وَإِلَّا الطِّيبَ أَيْضًا لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ
نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ؟ فَقَالَ: وَالْمُقَصِّرِينَ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «كَرَّرَ عليه الصلاة والسلام ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعِ: وَالْمُقَصِّرِينَ» وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ.
وَقَوْلُهُ (مِقْدَارُ الْأُنْمُلَةِ) قِيلَ هَذَا التَّقْدِيرُ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَلَمْ يُعْلَمْ فِيهِ خِلَافٌ، وَمَنْ لَا شَعْرَ لَهُ أَمَرَّ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ، لِأَنَّهُ إنْ عَجَزَ عَنْ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ لَمْ يَعْجِزْ عَنْ التَّشَبُّهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ) يُعَضِّدُهُ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا الطِّيبُ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَالْجِمَاعُ بِدَوَاعِيهِ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ كَالْقُبْلَةِ وَالْمَسِّ بِشَهْوَةٍ. وَلَنَا مَا رَوَتْ عَائِشَةُ «إذَا حَلَقَ الْحَاجُّ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ» وَقَالَتْ:
وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام فِيهِ «حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ» وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ. وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله لِأَنَّهُ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ بِالنِّسَاءِ فَيُؤَخَّرُ إلَى تَمَامِ الْإِحْلَالِ
«طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِحْرَامِهِ وَلِإِحْلَالِهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ» وَهَذَا لَا يُشَكُّ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى الْقِيَاسِ (وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) قَالَ: الْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ يَرْتَفِعُ بِالْحَلْقِ لِأَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْإِحْرَامَ بِحَالٍ (وَلَنَا أَنَّهُ قَضَاءُ شَهْوَةٍ بِالنِّسَاءِ فَيُؤَخَّرُ إلَى تَمَامِ الْإِحْلَالِ) بِالطَّوَافِ، وَهَذَا لِأَنَّ دَوَاعِيَ الْجِمَاعِ مُلْحَقَةٌ بِهِ
(ثُمَّ الرَّمْيُ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ عِنْدَنَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله. هُوَ يَقُولُ: إنَّهُ يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ كَالْحَلْقِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَتِهِ فِي التَّحْلِيلِ. وَلَنَا أَنَّ مَا يَكُونُ مُحَلَّلًا يَكُونُ جِنَايَةً فِي غَيْرِ أَوَانِهِ كَالْحَلْقِ، وَالرَّمْيِ لَيْسَ بِجِنَايَةٍ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ، بِخِلَافِ الطَّوَافِ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْحَلْقِ السَّابِقِ لَا بِهِ.
فِي الْمَحْظُورَاتِ كَمَا فِي الِاعْتِكَافِ وَقَبْلَ الْحَلْقِ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ الرَّمْيُ لَيْسَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ عِنْدَنَا) يَعْنِي إذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ لَا يَتَحَلَّلُ عِنْدَنَا حَتَّى يَحْلِقَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَتَحَلَّلُ وَيَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ (هُوَ يَقُولُ إنَّهُ يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ) وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحَلِّلٌ كَالْحَلْقِ (وَلَنَا أَنَّ مَا يَكُونُ مُحَلِّلًا يَكُونُ جِنَايَةً فِي غَيْرِ أَوَانِهِ كَالْحَلْقِ، وَالرَّمْيِ لَيْسَ بِجِنَايَةٍ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ) وَنُوقِضَ بِدَمِ الْإِحْصَارِ فَإِنَّهُ مُحَلِّلٌ وَلَيْسَ بِمَحْظُورِ الْإِحْرَامِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَا كَانَ مُحَلِّلًا فِي الْأَصْلِ وَدَمُ الْإِحْصَارِ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا صِيرَ إلَيْهِ لِضَرُورَةِ الْمَنْعِ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الطَّوَافِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الطَّوَافُ مُحَلِّلٌ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَلَيْسَ بِمَحْظُورِ الْإِحْرَامِ وَإِنَّمَا هُوَ رُكْنٌ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ التَّحَلُّلَ لَمْ يَكُنْ
قَالَ (ثُمَّ يَأْتِي مَكَّةَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ أَوْ مِنْ الْغَدِ أَوْ مِنْ بَعْدِ الْغَدِ، فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الزِّيَارَةِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام لَمَّا حَلَقَ أَفَاضَ إلَى مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ عَادَ إلَى مِنًى وَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى» . وَوَقْتُهُ أَيَّامُ النَّحْرِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الطَّوَافَ عَلَى الذَّبْحِ قَالَ {فَكُلُوا مِنْهَا} ثُمَّ قَالَ {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فَكَانَ وَقْتُهُمَا وَاحِدًا. وَأَوَّلُ وَقْتِهِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنْ اللَّيْلِ وَقْتُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ
بِالطَّوَافِ بَلْ بِالْحَلْقِ السَّابِقِ.
قَوْلُهُ (ثُمَّ يَأْتِي مَكَّةَ مِنْ يَوْمِهِ) يَعْنِي أَوَّلَ أَيَّامِ النَّحْرِ.
وَقَوْلُهُ (وَوَقْتُهُ أَيَّامُ النَّحْرِ) أَيْ وَقْتُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ. وَقَوْلُهُ (فَكَانَ وَقْتُهُمَا وَاحِدًا) أَيْ وَقْتُ الْأُضْحِيَّةِ وَوَقْتُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ إلَّا أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ لَمْ تُشْرَعْ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَالطَّوَافُ مَشْرُوعٌ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ تَأْخِيرُهُ عَنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ عَلَى مَا يَجِيءُ. وَقَوْلُهُ (وَأَوَّلُ وَقْتِهِ) ظَاهِرٌ
وَالطَّوَافُ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ، وَأَفْضَلُ هَذِهِ الْأَيَّامِ أَوَّلُهَا كَمَا فِي التَّضْحِيَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ «أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا» (فَإِنْ كَانَ قَدْ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَقِيبَ طَوَافِ الْقُدُومِ لَمْ يَرْمُلْ فِي هَذَا الطَّوَافِ وَلَا سَعْيَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُقَدِّمْ السَّعْيَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
رَمَلَ فِي هَذَا الطَّوَافِ وَسَعَى بَعْدَهُ) لِأَنَّ السَّعْيَ لَمْ يُشَرَّعْ إلَّا مَرَّةً
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَالرَّمَلُ مَا شُرِعَ إلَّا مَرَّةً فِي طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ (وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ هَذَا الطَّوَافِ) لِأَنَّ خَتْمَ كُلِّ طَوَافٍ بِرَكْعَتَيْنِ فَرْضًا كَانَ لِلطَّوَافِ أَوْ نَفْلًا لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ (وَقَدْ حَلَّ لَهُ النِّسَاءَ) وَلَكِنْ بِالْحَلْقِ السَّابِقِ إذْ هُوَ الْمُحَلَّلُ لَا بِالطَّوَافِ، إلَّا أَنَّهُ أَخَّرَ عَمَلَهُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ.
قَالَ (وَهَذَا الطَّوَافُ
وَقَوْلُهُ (وَالرَّمَلُ مَا شُرِعَ إلَّا مَرَّةً فِي طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ) لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا رَمَلَ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ وَهُوَ طَوَافٌ بَعْدَهُ سَعْيٌ. وَقَوْلُهُ (لِمَا بَيَّنَّا) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَلِيُصَلِّ الطَّائِفُ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ» وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ لِمَا رَوَيْنَا لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ وَجْهَ التَّمَسُّكِ بِهِ لِلْوُجُوبِ، فَكَانَ قَوْلُهُ بَيَّنَّا أَشْمَلَ وَأَعَمَّ مِنْ قَوْلِهِ رَوَيْنَا، وَقَوْلُهُ وَلَكِنْ بِالْحَلْقِ السَّابِقِ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ أَخَّرَ عَمَلَهُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إذَا كَانَ الْحَلْقُ السَّابِقُ مُحَلِّلًا فَكَيْفَ بَقِيَتْ النِّسَاءُ مُحْرِمَةً. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ عَمَلَهُ تَأَخَّرَ فِي حَقِّ النِّسَاءِ لِيَقَعَ الطَّوَافُ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ فِي الْإِحْرَامِ لِئَلَّا يَقَعَ التَّهَاوُنُ فِي أَمْرِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا الطَّوَافُ)
هُوَ الْمَفْرُوضُ فِي الْحَجِّ) وَهُوَ رُكْنٌ فِيهِ إذْ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَيُسَمَّى طَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَطَوَافَ يَوْمِ النَّحْرِ (وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُهُ عَنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مُوَقَّتٌ بِهَا (وَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْهَا لَزِمَهُ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) وَسَنُبَيِّنُهُ فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ (ثُمَّ يَعُودُ إلَى مِنًى فَيُقِيمُ بِهَا) لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام رَجَعَ إلَيْهَا كَمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَيْهِ الرَّمْيُ وَمَوْضِعُهُ بِمِنًى (فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ فَيَبْدَأُ بِاَلَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَيَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَرْمِي الَّتِي مِثْلَ ذَلِكَ وَيَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ كَذَلِكَ وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا) هَكَذَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه فِيمَا نَقَلَ مِنْ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام مُفَسِّرًا، وَيَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ فِي الْمَقَامِ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ النَّاسُ وَيَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيُهَلِّلُ وَيُكَبِّرُ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، وَيَدْعُو بِحَاجَتِهِ وَيَرْفَعُ
أَيْ طَوَافُ الزِّيَارَةِ (هُوَ الْمَفْرُوضُ فِي الْحَجِّ) وَقَوْلُهُ (ثُمَّ يَعُودُ إلَى مِنًى) يَعْنِي بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ (فَيُقِيمُ بِهَا لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجَعَ إلَيْهَا كَمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي مَا تَقَدَّمَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام لَمَّا حَلَقَ أَفَاضَ إلَى مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ عَادَ إلَى مِنًى وَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى» وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَيْهِ الرَّمْيُ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَيَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ) يَعْنِي الْجَمْرَةَ الْأُولَى وَالْوُسْطَى (فِي الْمَقَامِ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ النَّاسُ) وَهُوَ أَعْلَى الْوَادِي وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام
يَدَيْهِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ» وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ. وَالْمُرَادُ رَفْعُ الْأَيْدِي بِالدُّعَاءِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي دُعَائِهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِفِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْحَاجِّ وَلِمَنْ اسْتَغْفَرَ لَهُ الْحَاجُّ» ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ رَمْيٍ بَعْدَهُ رَمْيٌ يَقِفُ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ فِي وَسَطِ الْعِبَادَةِ فَيَأْتِي بِالدُّعَاءِ فِيهِ، وَكُلُّ رَمْيٍ لَيْسَ بَعْدَهُ رَمْيٍ لَا يَقِفُ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ قَدْ انْتَهَتْ، وَلِهَذَا لَا يَقِفُ بَعْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ أَيْضًا.
قَالَ (فَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ كَذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَعَجَّلَ النَّفْرَ إلَى مَكَّةَ نَفَرَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُقِيمَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام صَبَرَ حَتَّى رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ» . وَلَهُ أَنْ يَنْفِرَ مَا لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ
«لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ» حَدِيثٌ مَشْهُورٌ، وَالْمَوَاطِنُ هِيَ: عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَالْقُنُوتِ فِي الْوِتْرِ، وَفِي الْعِيدَيْنِ، وَعِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَبِعَرَفَاتٍ، وَجَمْعٍ، وَعِنْدَ الْمَقَامَيْنِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ. وَذِكْرُ الْجَمْرَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقِيمُ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رحمه الله وَفِي سَائِرِ الْأَدْعِيَةِ لَا يَفْعَلُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّفْعَ يُنَافِي السَّكِينَةَ وَالْوَقَارَ فَيُسَنُّ فِي مَوْضِعٍ وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ وَيُتْرَكُ فِي الْبَاقِي عَلَى أَصْلِ الدَّلِيلِ.
قَالَ (فَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ رَمْيُ الْجِمَارِ الثَّلَاثِ بَعْدَ الزَّوَالِ) يَعْنِي إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ مِثْلَ مَا رَمَى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي (وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَعَجَّلَ النَّفْرَ) أَيْ الذَّهَابَ وَالْخُرُوجَ مِنْ مِنًى (إلَى مَكَّةَ) فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ فَعَلَ ذَلِكَ (وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} أَيْ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ وَمَنْ تَأَخَّرَ إلَى الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ (لِمَنْ اتَّقَى) وَقَوْلُهُ {لِمَنِ اتَّقَى} يَتَعَلَّقُ
فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ لِدُخُولِ وَقْتِ الرَّمْيِ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله (وَإِنْ)(قَدَّمَ الرَّمْيَ فِي هَذَا الْيَوْمِ) يَعْنِي الْيَوْمَ الرَّابِعَ (قَبْلَ الزَّوَالِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ)(جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَقَالَا لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْأَيَّامِ، وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ فِي رُخْصَةِ النَّفْرِ، فَإِذْ لَمْ يَتَرَخَّصْ اُلْتُحِقَ بِهَا، وَمَذْهَبُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، وَلِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ أَثَرُ التَّخْفِيفِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فِي حَقِّ التَّرْكِ فَلَأَنْ يَظْهَرَ فِي جَوَازِهِ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا أَوْلَى، بِخِلَافِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي حَيْثُ لَا يَجُوزُ الرَّمْيُ فِيهِمَا إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَةِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ فِيهِمَا فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْمَرْوِيِّ. فَأَمَّا يَوْمُ النَّحْرِ فَأَوَّلُ وَقْتِ الرَّمْيِ مِنْ وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَوَّلُهُ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ
بِهِمَا جَمِيعًا: أَيْ ذَلِكَ التَّخْيِيرِ وَنَفْيُ الْإِثْمِ فِي الْحَالَيْنِ لِأَجْلِ الْحَاجِّ الْمُتَّقِي لِئَلَّا يُتَخَالَجَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْهُمَا فَيُحْسَبُ أَنَّ أَحَدَهُمَا يُؤَثِّمُ صَاحِبَهُ فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا خُصَّ الْمُتَّقِي لِأَنَّهُ هُوَ الْحَاجُّ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْحَقِيقَةِ. وَقَوْلُهُ (وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ) فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ عِنْدَهُ خِيَارُ النَّفْرِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ الْخِيَارُ فِي الْيَوْمِ وَهُوَ يَمْتَدُّ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَقُلْنَا: اللَّيْلُ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِرَمْيِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَيَكُونُ خِيَارُهُ فِي النَّفْرِ ثَابِتًا فِيهِ كَقَبْلِ الْغُرُوبِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَإِنَّهُ وَقْتُ الرَّمْيِ فَلَا يَبْقَى خِيَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْأَيَّامِ) أَرَادَ بِالْأَيَّامِ الْيَوْمَيْنِ: أَعْنِي الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ، (لِأَنَّ رَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ).
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي) يَعْنِي الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ مِمَّا يُرْمَى فِيهِ الْجِمَارُ الثَّلَاثُ، لَا الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ. وَقَوْلُهُ (فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الرِّوَايَةِ) احْتِزَازٌ عَمَّا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ
لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا لَيْلًا» . وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «لَا تَرْمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ إلَّا مُصْبِحِينَ» وَيَرْوِي «حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» فَيَثْبُتُ أَصْلُ الْوَقْتِ بِالْأَوَّلِ وَالْأَفْضَلِيَّةُ بِالثَّانِي. وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ، وَلِأَنَّ لَيْلَةَ النَّحْرِ وَقْتُ الْوُقُوفِ وَالرَّمْيِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ وَقْتُهُ بَعْدَهُ ضَرُورَةً. ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله يَمْتَدُّ هَذَا الْوَقْتُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ الرَّمْيُ» ، جَعَلَ الْيَوْمَ وَقْتًا لَهُ وَذَهَابَهُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله أَنَّهُ يَمْتَدُّ إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا. وَإِنْ أَخَّرَ إلَى اللَّيْلِ رَمَاهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِحَدِيثِ الدُّعَاءِ. وَإِنْ أَخَّرَ إلَى الْغَدِ رَمَاهُ لِأَنَّهُ وَقْتُ جِنْسِ الرَّمْيِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله لِتَأْخِيرِهِ عَنْ وَقْتِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ.
قَالَ (فَإِنْ رَمَاهَا رَاكِبًا أَجْزَأَهُ) لِحُصُولِ فِعْلِ الرَّمْيِ (وَكُلُّ رَمْيٍ بَعْدَهُ رَمْيٌ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَرْمِيَهُ مَاشِيًا وَإِلَّا فَيَرْمِيهِ رَاكِبًا) لِأَنَّ الْأَوَّلَ بَعْدَهُ وُقُوفٌ وَدُعَاءٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا
قَصْدِهِ أَنْ يَتَعَجَّلَ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَإِنْ رَمَى بَعْدَهُ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ قَصْدِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْمِيَ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ وَذَلِكَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ لِأَنَّهُ إذَا نَفَرَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا يَصِلُ إلَى مَكَّةَ إلَّا بِاللَّيْلِ فَيُحْرَجُ فِي تَحْصِيلِ مَوْضِعِ النُّزُولِ.
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَرْمِ فِيهِ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) حَاصِلُهُ أَنَّ مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقْتُ الْجَوَازِ مَعَ الْإِسَاءَةِ وَمَا بَعْدَهُ إلَى الزَّوَالِ وَقْتٌ مَسْنُونٌ وَمَا بَعْدَ الزَّوَالِ إلَى الْغُرُوبِ وَقْتُ الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِ إسَاءَةٍ وَاللَّيْلُ وَقْتُ الْجَوَازِ بِالْإِسَاءَةِ، كَذَا فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَمْتَدُّ) أَيْ وَقْتُ الرَّمْيِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ (إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ) لِأَنَّ الْوَقْتَ يُعْرَفُ بِتَوْقِيتِ الشَّرْعِ وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِالرَّمْيِ قَبْلَ الزَّوَالِ فَلَا يَكُونُ مَا بَعْدَهُ وَقْتًا لَهُ (وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا)
فَيَرْمِيهِ مَاشِيًا لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى التَّضَرُّعِ، وَبَيَانُ الْأَفْضَلِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رحمه الله.
وَيُكْرَهُ أَنْ لَا يَبِيتَ بِمِنًى لَيَالِي الرَّمْيِ لِأَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام بَاتَ بِمِنًى، وَعُمَرُ رضي الله عنه كَانَ يُؤَدِّبُ عَلَى تَرْكِ الْمَقَامِ بِهَا. وَلَوْ بَاتَ فِي غَيْرِهَا مُتَعَمِّدًا لَا يَلْزَمُ شَيْءٌ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رحمه الله لِأَنَّهُ وَجَبَ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ الرَّمْيُ فِي أَيَّامِهِ فَلَمْ يَكُنْ
يَعْنِي قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ» .
وَقَوْلُهُ (وَبَيَانُ الْأَفْضَلِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ) يَعْنِي بِهِ مَا حُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْجَرَّاحِ قَالَ: دَخَلْت عَلَى أَبِي يُوسُفَ رضي الله عنه فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: الرَّمْيُ رَاكِبًا أَفْضَلُ أَمْ مَاشِيًا؟ فَقَالَ: أَخْطَأْتَ، فَقُلْت رَاكِبًا، فَقَالَ: أَخْطَأْتَ، ثُمَّ قَالَ: كُلُّ رَمْيٍ بَعْدَهُ وُقُوفٌ فَالرَّمْيُ فِيهِ مَاشِيًا أَفْضَلُ، وَمَا لَيْسَ بَعْدَهُ وُقُوفٌ فَالرَّمْيُ فِيهِ رَاكِبًا أَفْضَلُ، فَقُمْت مِنْ عِنْدِهِ فَمَا انْتَهَيْت إلَى بَابِ الدَّارِ حَتَّى سَمِعْت الصُّرَاخَ بِمَوْتِهِ، فَتَعَجَّبْت مِنْ حِرْصِهِ عَلَى الْعِلْمِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالَةِ. وَاَلَّذِي رَوَى جَابِرٌ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَمَى الْجِمَارَ كُلَّهَا رَاكِبًا» فَإِنَّمَا فَعَلَهُ لِيَكُونَ أَشْهَرَ لِلنَّاسِ حَتَّى يَقْتَدُوا بِهِ فِيمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ بَاتَ فِي غَيْرِهِ) أَيْ فِي غَيْرِ مِنًى (مُتَعَمِّدًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) فَإِنَّهُ قَالَ: إنْ تَرَكَ الْبَيْتُوتَةَ لَيْلَةً فَعَلَيْهِ مُدٌّ، وَإِنْ تَرَكَهَا لَيْلَتَيْنِ فَعَلَيْهِ مُدَّانِ، وَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ. وَقَاسَ تَرْكَ الْبَيْتُوتَةِ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِتَرْكِ الرَّمْيِ: وَلَنَا (أَنَّهُ وَجَبَ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ الرَّمْيُ فِي أَيَّامِهِ) يَعْنِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْبَيْتُوتَةِ غَيْرُهَا وَهُوَ أَنْ يَسْهُلَ عَلَيْهِ مَا يَقَعُ فِي الْغَدِ مِنْ النُّسُكِ وَهُوَ الرَّمْيُ، فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً
مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ فَتَرْكُهُ لَا يُوجِبُ الْجَابِرَ.
قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَدِّمَ الرَّجُلُ ثِقَلَهُ إلَى مَكَّةَ وَيُقِيمَ حَتَّى يَرْمِيَ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ يَمْنَعُ مِنْهُ وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ يُوجِبُ شَغْلَ قَلْبِهِ (وَإِذَا نَفَرَ إلَى مَكَّةَ نَزَلَ بِالْمُحَصَّبِ) وَهُوَ الْأَبْطَحُ وَهُوَ اسْمُ مَوْضِعٍ قَدْ نَزَلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ نُزُولُهُ قَصْدًا هُوَ الْأَصَحُّ حَتَّى يَكُونَ
لِنَفْسِهَا لَمْ تَكُنْ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ فَلَمْ يُوجِبْ تَرْكَهَا جَابِرًا كَالْبَيْتُوتَةِ بِمِنًى لَيْلَةَ الْعِيدِ.
قَالَ (وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَدِّمَ الرَّجُلُ ثَقَلَهُ إلَى مَكَّةَ) الثَّقَلُ بِفَتْحَتَيْنِ: مَتَاعُ الْمُسَافِرِ وَحَشَمُهُ وَالْجَمْعُ أَثْقَالٌ، وَالْمُحَصَّبُ: اسْمُ مَوْضِعٍ وَيُسَمَّى الْأَبْطُحَ وَهُوَ مَوْضِعٌ ذُو حَصًى بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى نَزَلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَصْدًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ حَتَّى يَكُونَ سُنَّةً.
وَقَوْلُهُ (هُوَ الْأَصَحُّ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّ النُّزُولَ بِهِ لَيْسَ بِسُنَّةٍ، لَكِنَّهُ مَوْضِعٌ نَزَلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ
النُّزُولُ بِهِ سُنَّةً عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَصْحَابِهِ «إنَّا نَازِلُونَ غَدًا بِالْخَيْفِ خَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمَ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ عَلَى شِرْكِهِمْ» يُشِيرُ إلَى عَهْدِهِمْ عَلَى هِجْرَانِ بَنِي هَاشِم فَعَرَفْنَا أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ إرَاءَةً لِلْمُشْرِكَيْنِ لَطِيفُ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، فَصَارَ سُنَّةً كَالرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ.
قَالَ (ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ لَا يَرْمُلُ فِيهَا وَهَذَا طَوَافُ الصَّدْرِ) وَيُسَمَّى طَوَافَ الْوَدَاعِ وَطَوَافٌ آخَرُ عَهِدَهُ بِالْبَيْتِ لِأَنَّهُ يُوَدِّعُ الْبَيْتَ وَيَصْدُرُ بِهِ
- صلى الله عليه وسلم اتِّفَاقًا. وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ سُنَّةٌ وَنَزَلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَصْدًا (عَلَى مَا رُوِيَ «أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ بِمِنًى: إنَّا نَازِلُونَ غَدًا بِالْخَيْفِ خَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ» إلَخْ) وَالْخَيْفُ بِسُكُونِ الْيَاءِ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، وَخَيْفُ بَنِي كِنَانَةَ هُوَ الْمُحَصَّبُ.
وَقَوْلُهُ (وَيُسَمَّى طَوَافَ الْوَدَاعِ) الْوَدَاعُ بِفَتْحِ الْوَاوِ اسْمٌ لِلتَّوْدِيعِ كَسَلَامٍ وَكَلَامٍ
(وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَنَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ» وَرَخَّصَ لِلنِّسَاءِ الْحُيَّضِ تَرْكَهُ. قَالَ (إلَّا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ) لِأَنَّهُمْ لَا يُصْدَرُونَ وَلَا يُوَدِّعُونَ، وَلَا رَمَلَ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ شُرِعَ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ بَعْدَهُ لِمَا قَدَّمْنَا
وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) فَإِنَّهُ عِنْدَهُ سُنَّةٌ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ طَوَافِ الْقُدُومِ، أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَأْتِي بِهِ الْآفَاقِيُّ دُونَ الْمَكِّيِّ وَمَا هُوَ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ فَالْآفَاقِيُّ وَالْمَكِّيُّ فِيهِ سَوَاءٌ (وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ» وَأَنَّهُ رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ الْحَيْضَ) وَذَلِكَ أَيْضًا دَلِيلُ الْوُجُوبِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الرُّخْصَةِ بِالْحَيْضِ فَائِدَةٌ وَالْمَكِّيُّ وَالْآفَاقِيُّ فِي وَاجِبَاتِ الْحَجِّ سَوَاءٌ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مُشْتَرَكَةً وَهَاهُنَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِأَنَّ عِلَّةَ هَذَا الطَّوَافِ التَّوْدِيعُ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْمَكِّيِّ وَلَا فِي حَقِّ مَنْ هُوَ فِيمَا وَرَاءَ الْمِيقَاتِ وَلَا فِي حَقِّ مَنْ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَخْرُجَ. لَا يُقَالُ: لَوْ كَانَ وَاجِبًا لِلْوَدَاعِ لَوَجَبَ عَلَى الْمُعْتَمِرِ الْآفَاقِيِّ لِأَنَّ رُكْنَ الْعُمْرَةِ هُوَ الطَّوَافُ فَكَيْفَ يَصِيرُ مِثْلَ رُكْنِهِ تَبَعًا لَهُ؟. وَقَوْلُهُ (لِمَا قَدَّمْنَا) يَعْنِي فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «وَلِيُصَلِّ الطَّائِفُ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ» . وَقَوْلُهُ لِأَنَّ خَتْمَ كُلِّ طَوَافٍ بِرَكْعَتَيْنِ فَرْضًا كَانَ الطَّوَافُ أَوْ نَفْلًا.
(ثُمَّ يَأْتِي زَمْزَمَ فَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام اسْتَقَى دَلْوًا بِنَفْسِهِ فَشَرِبَ مِنْهُ ثُمَّ أَفْرَغَ
وَقَوْلُهُ (وَيَأْتِي زَمْزَمَ) أَيْ بَعْدَ تَقْبِيلِ الْعَتَبَةِ وَإِتْيَانِهِ الْمُلْتَزَمَ وَإِلْصَاقِهِ خَدَّهُ بِجِدَارِ الْكَعْبَةِ يَأْتِي زَمْزَمَ فَشَرِبَ مِنْ مَائِهِ وَيَصُبُّ مِنْهُ
بَاقِيَ الدَّلْوِ فِي الْبِئْرِ» وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ الْبَابَ وَيُقَبِّلُ الْعَتَبَةَ (ثُمَّ يَأْتِي الْمُلْتَزَمَ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْحَجَرِ إلَى الْبَابِ فَيَضَعُ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ عَلَيْهِ وَيَتَشَبَّثُ بِالْأَسْتَارِ سَاعَةً ثُمَّ يَعُودُ إلَى أَهْلِهِ)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
هَكَذَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام فَعَلَ بِالْمُلْتَزَمِ ذَلِكَ. قَالُوا: وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْصَرِفَ وَهُوَ يَمْشِي وَرَاءَهُ وَوَجْهُهُ إلَى الْبَيْتِ مُتَبَاكِيًا مُتَحَسِّرًا عَلَى فِرَاقِ الْبَيْتِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ. فَهَذَا بَيَانُ تَمَامِ الْحَجِّ.
عَلَى جَسَدِهِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك رِزْقًا وَاسِعًا وَعِلْمًا نَافِعًا وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ. وَقَوْلُهُ (فَهَذَا بَيَانُ تَمَامِ الْحَجِّ) يَعْنِي الْحَجَّ الَّذِي أَرَادَ عليه الصلاة والسلام بِقَوْلِهِ «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.
(فَصْلٌ)
(فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ الْمُحْرِمُ مَكَّةَ وَتَوَجَّهَ إلَى عَرَفَاتٍ وَوَقَفَ بِهَا) عَلَى مَا بَيَّنَّا (سَقَطَ عَنْهُ طَوَافُ الْقُدُومِ) لِأَنَّهُ شُرِعَ فِي ابْتِدَاءِ الْحَجِّ عَلَى وَجْهٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ سَائِرُ الْأَفْعَالِ، فَلَا يَكُونُ الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْوَجْهِ سُنَّةً (وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِتَرْكِهِ) لِأَنَّهُ سُنَّةٌ، وَبِتَرْكِ السُّنَّةِ لَا يَجِبُ الْجَابِرُ
(وَمَنْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِهَا إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ) فَأَوَّلُ وَقْتِ الْوُقُوفِ بَعْدَ الزَّوَالِ عِنْدَنَا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَهَذَا بَيَانُ أَوَّلِ الْوَقْتِ. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ
فَصْلٌ)
لَمَّا ذَكَرَ أَفْعَالَ الْحَجِّ عَلَى التَّرْتِيبِ وَأَتَمَّهَا أَلْحَقَ مَسَائِلَ شَتَّى مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ (فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ الْمُحْرِمُ مَكَّةَ وَتَوَجَّهَ إلَى عَرَفَاتٍ وَوَقَفَ بِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا) مِنْ أَحْكَامِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ (سَقَطَ عَنْهُ طَوَافُ الْقُدُومِ) عَلَى
الْحَجَّ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ» وَهَذَا بَيَانُ آخِرِ الْوَقْتِ. وَمَالِكٌ رحمه الله إنْ كَانَ يَقُولُ: إنَّ أَوَّلَ وَقْتِهِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَهُوَ مَحْجُوجٌ عَلَيْهِ بِمَا رَوَيْنَا (ثُمَّ إذَا وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ وَأَفَاضَ مِنْ سَاعَتِهِ أَجْزَأَهُ) عِنْدَنَا لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَهُ بِكَلِمَةٍ أَوْ فَإِنَّهُ قَالَ «الْحَجُّ عَرَفَةَ فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» وَهِيَ كَلِمَةُ التَّخْيِيرِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِيهِ إلَّا أَنْ يَقِفَ فِي الْيَوْمِ وَجُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ، وَلَكِنَّ الْحُجَّةَ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ
مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَمَنْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ (وَمَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَانَ يَقُولُ: إنَّ أَوَّلَ وَقْتِهِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «الْحَجُّ عَرَفَةَ، فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» وَالنَّهَارُ اسْمٌ لِلْوَقْتِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ (وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِمَا رَوَيْنَا) أَنَّهُ وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ وَكَانَ مُبَيِّنًا وَقْتَ الْوُقُوفِ بِفِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الْوُقُوفِ بَعْدَ الزَّوَالِ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ إذَا وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ) ظَاهِرٌ (وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِيهِ إلَّا أَنْ يَقِفَ فِي الْيَوْمِ وَجُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ) وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ إفَاضَتُهُ بَعْدَ الْغُرُوبِ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ» وَقُلْنَا: هَذِهِ الزِّيَادَةُ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ، وَإِنَّمَا الْمَشْهُورُ:«مَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ» وَفِيمَا
(وَمَنْ اجْتَازَ بِعَرَفَاتٍ نَائِمًا أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ أَوْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا عَرَفَاتٌ جَازَ عَنْ الْوُقُوفِ) لِأَنَّ مَا هُوَ الرُّكْنُ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ الْوُقُوفُ، وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ بِالْإِغْمَاءِ وَالنَّوْمِ كَرُكْنِ الصَّوْمِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا لَا تَبْقَى مَعَ الْإِغْمَاءِ، وَالْجَهْلُ يُخِلُّ بِالنِّيَّةِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِكُلِّ رُكْنٍ
(وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَأَهَلَّ عَنْهُ رُفَقَاؤُهُ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) رحمه الله (وَقَالَا: لَا يَجُوزُ، وَلَوْ أَمَرَ إنْسَانًا بِأَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ إذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ نَامَ فَأَحْرَمَ الْمَأْمُورُ عَنْهُ صَحَّ) بِالْإِجْمَاعِ
رَوَيْنَا وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «سَاعَةٌ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بِنَفْسِ الْوُقُوفِ فِي جُزْءٍ مِنْ وَقْتِهِ يَصِيرُ مُدْرِكًا فَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ اجْتَازَ بِعَرَفَاتٍ نَائِمًا أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَالْجَهْلُ يُخِلُّ بِالنِّيَّةِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِكُلِّ رُكْنٍ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْجَهْلُ يُخِلُّ بِالنِّيَّةِ لَا مَحَالَةَ، وَالْإِخْلَالُ بِهَا إخْلَالٌ بِالْحَجِّ لِكَوْنِهَا شَرْطًا، وَتَقْرِيرُهُ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْجَهْلَ يُخِلُّ بِالنِّيَّةِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِخْلَالَ بِهَا إخْلَالٌ بِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَتْ شَرْطًا لِكُلِّ رُكْنٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ إذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَ أَصْلِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ الْإِحْرَامُ حَقِيقَةً أَوْ دَلَالَةً اُسْتُغْنِيَ عَنْهَا عِنْدَ وُجُودِ كُلِّ رُكْنٍ إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ صَارِفٌ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ صَارِفٌ احْتِرَازًا عَمَّا إذَا طَافَ بِالْبَيْتِ هَارِبٌ أَوْ طَالِبُ غَرِيمٍ وَلَمْ يَنْوِ الطَّوَافَ عَنْ الْحَجِّ فَإِنَّهُ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ كَانَتْ النِّيَّةُ مَوْجُودَةً عِنْدَ الْإِحْرَامِ لِأَنَّ قَصْدَهُ الْهُرُوبُ أَوْ اللُّحُوقُ، وَذَلِكَ صَارِفٌ لَهُ عَنْ النِّيَّةِ السَّابِقَةِ لِأَنَّهَا لِكَوْنِهَا بَاقِيَةً بِالِاسْتِصْحَابِ ضَعِيفَةً تَنْصَرِفُ بِصَارِفٍ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَأَهَلَّ عَنْهُ رُفَقَاؤُهُ) اتَّفَقَ عُلَمَاؤُنَا أَنَّ الْإِحْرَامَ يَقْبَلُ النِّيَابَةَ حَتَّى لَوْ أَمَرَ إنْسَانًا أَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ إذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ نَامَ فَفَعَلَ صَحَّ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ بِمَنْزِلَةِ الْوُضُوءِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَلَيْسَ بِنُسُكٍ فَاسْتَقَامَ النِّيَابَةُ بَعْدَ وُجُودِ نِيَّةِ الْعِبَادَةِ مِنْهُ وَهُوَ خُرُوجُهُ لِحَجِّ الْبَيْتِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ عَقْدَ الرُّفْقَةِ اسْتِنَابَةٌ كَالْإِذْنِ بِهِ أَوْ لَا، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهُ اسْتِنَابَةٌ كَالْإِذْنِ بِهِ وَقَالَا: لَيْسَ بِاسْتِنَابَةٍ. وَصُورَةُ ذَلِكَ أَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ الرُّفَقَاءُ نِيَابَةً مَعَ أَنَّهُمْ أَحْرَمُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَيْضًا فَيَصِيرُ الرَّفِيقُ مُحْرِمًا عَنْ نَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَمُحْرِمًا عَنْهُ أَيْضًا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ كَالْأَبِ يُحْرِمُ عَنْ ابْنٍ صَغِيرٍ مَعَهُ
حَتَّى إذَا أَفَاقَ أَوْ اسْتَيْقَظَ وَأَتَى بِأَفْعَالِ الْحَجِّ جَازَ. لَهُمَا أَنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ بِنَفْسِهِ وَلَا أَذِنَ لِغَيْرِهِ بِهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِذْنِ وَالدَّلَالَةُ تَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ، وَجَوَازُ الْإِذْنِ بِهِ لَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَكَيْفَ يَعْرِفُهُ الْعَوَامُّ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ صَرِيحًا. وَلَهُ أَنَّهُ لَمَّا عَاقَدَهُمْ عَقْدَ الرُّفْقَةِ فَقَدْ اسْتَعَانَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ. وَالْإِحْرَامُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا السَّفَرِ فَكَانَ الْإِذْنُ بِهِ ثَابِتًا دَلَالَةً، وَالْعِلْمُ ثَابِتٌ نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ وَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَيْهِ.
فَكَانَ الْمُحْرِمُ حُكْمًا فِي إحْرَامِ النِّيَابَةِ هُوَ الْمَنُوبَ لَا النَّائِبَ، وَعِبَادَةُ النَّائِبِ فِيهِ كَعِبَادَةِ الْمَنُوبِ، حَتَّى لَوْ أَصَابَ النَّائِبُ صَيْدًا كَانَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ مِنْ قِبَلِ إهْلَالِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ إهْلَالِهِ عَنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الرَّفِيقَ إذَا كَانَ مُحْرِمًا عَنْ نَفْسِهِ فَبِإِحْرَامِهِ عَنْ غَيْرِهِ يَلْزَمُ تَدَاخُلُ الْإِحْرَامَيْنِ وَالثَّانِي أَنَّهُمْ شَبَّهُوا الْإِحْرَامَ بِالْوُضُوءِ فِي قَبُولِ النِّيَابَةِ، وَلَيْسَ مِثْلَهُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَوَضَّأَ لَا يَكُونُ غَيْرُهُ بِهِ مُتَوَضِّئًا وَإِنْ نَوَى التَّوَضُّؤَ عَنْهُ، وَهَاهُنَا يَصِيرُ غَيْرُهُ مُحْرِمًا بِإِحْرَامِهِ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّدَاخُلَ إنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَ الْمُحْرِمُ هُوَ النَّائِبَ فِي الْإِحْرَامَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمُحْرِمُ فِي إحْرَامِهِ النِّيَابَةُ هُوَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا النَّائِبُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ التَّشْبِيهَ بِالْوُضُوءِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرْطٌ يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ، وَلَكِنَّ النِّيَابَةَ فِي الْوُضُوءِ بِالتَّوْضِئَةِ بِأَنْ يُجْرِيَ الْمَاءَ عَلَى أَعْضَاءِ الْمَنُوبِ فَيَصِحُّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِذَلِكَ الْوُضُوءِ، وَفِي هَذَا يَتَوَلَّى النَّائِبُ الْإِحْرَامَ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ فَائِدَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ (إذَا أَفَاقَ أَوْ اسْتَيْقَظَ وَأَتَى بِأَفْعَالِ الْحَجِّ جَازَ) عِنْدَهُ كَمَا لَوْ أَمَرَ بِهِ (لَهُمَا أَنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ بِنَفْسِهِ وَلَا أَذِنَ لِغَيْرِهِ بِهِ) وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَيْسَ بِمُحْرِمٍ لَا مَحَالَةَ، أَمَّا أَنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ بِنَفْسِهِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لِغَيْرِهِ فَلِأَنَّ الْإِذْنَ إمَّا أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً وَهُوَ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْإِذْنِ إذْ هُوَ الْمَفْرُوضُ، وَمَا ثَمَّةَ دَلَالَةٌ لِأَنَّهَا تَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ بِجَوَازِ الْإِذْنِ بِالْإِحْرَامِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِجَوَازِهِ لَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ (وَجَوَازُ الْإِذْنِ بِهِ لَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَكَيْفَ يَعْرِفُهُ الْعَوَامُّ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ صَرِيحًا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِذْنَ ثَابِتٌ دَلَالَةً، لِأَنَّهُ لَمَّا عَاقَدَهُمْ عَقْدَ الرُّفْقَةِ فَقَدْ اسْتَعَانَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ) وَقَدْ عَجَزَ عَنْ مُبَاشَرَةِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا السَّفَرِ وَهُوَ الْإِحْرَامُ فَكَانَ مُسْتَعِينًا بِهِمْ عَلَى تَحْصِيلِهِ، وَالِاسْتِعَانَةُ إذْنٌ بِالْإِعَانَةِ لَا مَحَالَةَ (فَكَانَ الْإِذْنُ بِهِ ثَابِتًا دَلَالَةً) وَقَوْلُهُ (وَالْعِلْمُ ثَابِتٌ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَالدَّلَالَةُ تَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعِلْمَ إذَا كَانَ شَرْطَ الدَّلَالَةِ فَهُوَ ثَابِتٌ نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ وَهُوَ عَقْدُ الرُّفْقَةِ، وَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَى الدَّلِيلِ فَيَثْبُتُ الْإِذْنُ دَلَالَةً، وَالدَّلَالَةُ تَعْمَلُ عَمَلَ الصَّرِيحِ إذَا لَمْ يُخَالِفْهَا صَرِيحٌ. فَإِنْ قُلْت: هَذَا حُكْمُ الْإِحْرَامِ فَمَا حُكْمُ سَائِرِ الْمَنَاسِكِ؟ قُلْت: الْأَصَحُّ أَنَّ نِيَابَتَهُمْ عَنْهُ فِي أَدَائِهِ صَحِيحَةٌ، إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقِفُوا بِهِ وَأَنْ يَطُوفُوا بِهِ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى أَدَائِهِ لَوْ كَانَ مُفِيقًا. وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ فَقَالَ: إنَّمَا صَحَّتْ النِّيَابَةُ فِي الْإِحْرَامِ لِتَحَقُّقِ الْعَجْزِ وَهُوَ لَيْسَ بِمُتَحَقِّقٍ فِي الْأَفْعَالِ، لِأَنَّهُمْ إذَا أَحْضَرُوهُ الْمَوَاقِفَ كَانَ هُوَ الْوَاقِفَ، وَإِذَا طَافُوا بِهِ كَانَ هُوَ الطَّائِفَ. فَإِنْ قُلْت: هَلْ لِتَقْيِيدِ الْإِهْلَالِ بِالرُّفَقَاءِ فَائِدَةٌ؟ قُلْت.
قَالَ (وَالْمَرْأَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كَالرَّجُلِ) لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ كَالرَّجُلِ (غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَكْشِفُ رَأْسَهَا) لِأَنَّهُ عَوْرَةٌ (وَتَكْشِفُ وَجْهَهَا)
اُخْتُلِفَ فِيهِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ: كَانَ يَقُولُ الْجَصَّاصُ: لَا يَجُوزُ إحْرَامُ غَيْرِ الرُّفَقَاءِ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: الرُّفَقَاءُ وَغَيْرُهُمْ فِي الْجَوَازِ سَوَاءٌ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْإِعَانَةِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وَالرُّفَقَاءُ وَغَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
قَالَ (وَالْمَرْأَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كَالرَّجُلِ) الْمَرْأَةُ فِي جَمِيعِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ كَالرَّجُلِ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} يَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ فَتَفْعَلُ مِثْلَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مَا يَفْعَلُ الرَّجُلُ إلَّا أَشْيَاءَ ذَكَرَهَا فِي الْكِتَابِ: لَا تَكْشِفُ رَأْسَهَا وَتَكْشِفُ وَجْهَهَا وَلَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ، وَلَا تَرْمُلُ وَلَا تَسْعَى بَيْنَ الْمِيلَيْنِ، وَلَا تَحْلِقُ وَلَكِنْ تُقَصِّرُ، وَتَلْبَسُ مَا بَدَا لَهَا مِنْ الْمَخِيطِ مِنْ الْقَمِيصِ وَالدِّرْعِ وَالْخِمَارِ وَالْخُفَّيْنِ وَالْقُفَّازَيْنِ، وَلَا تَسْتَلِمُ الْحَجَرَ إذَا كَانَ هُنَاكَ جَمْعٌ إلَّا أَنْ تَجِدَ الْمَوْضِعَ خَالِيًا. وَوَجْهُ جَمِيعِ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ.
لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا» (وَلَوْ سَدَلَتْ شَيْئًا عَلَى وَجْهِهَا وَجَافَتْهُ عَنْهُ جَازَ) هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِظْلَالِ بِالْمُحْمَلِ (وَلَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ (وَلَا تَرْمُلُ وَلَا تَسْعَى بَيْنَ الْمِيلَيْنِ) لِأَنَّهُ مُخِلٌّ بِسِتْرِ الْعَوْرَةِ (وَلَا تَحْلِقُ وَلَكِنْ تُقَصِّرُ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَهَى النِّسَاءَ عَنْ الْحَلْقِ وَأَمَرَهُنَّ بِالتَّقْصِيرِ» وَلِأَنَّ حَلْقَ الشَّعْرِ فِي حَقِّهَا مُثْلَةٌ كَحَلْقِ اللِّحْيَةِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ (وَتَلْبَسُ مِنْ الْمَخِيطِ مَا بَدَا لَهَا) لِأَنَّ فِي لُبْسِ غَيْرِ الْمَخِيطِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ. قَالُوا: وَلَا تَسْتَلِمُ الْحَجَرَ إذَا كَانَ هُنَاكَ جَمْعٌ، لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عَنْ مُمَاسَّةِ الرِّجَالِ إلَّا أَنْ تَجِدَ الْمَوْضِعَ خَالِيًا.
قَالَ (وَمَنْ قُلِّدَ بَدَنَةً تَطَوُّعًا أَوْ نَذْرًا أَوْ جَزَاءَ صَيْدٍ أَوْ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ وَتَوَجَّهَ مَعَهَا يُرِيدُ الْحَجَّ فَقَدْ أَحْرَمَ) لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ قَلَّدَ بَدَنَةً فَقَدْ أَحْرَمَ» وَلِأَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ فِي مَعْنَى التَّلْبِيَةِ فِي إظْهَارِ الْإِجَابَةِ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا مَنْ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ، وَإِظْهَارُ الْإِجَابَةِ قَدْ
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ قَلَّدَ بَدَنَةً تَطَوُّعًا أَوْ نَذْرًا أَوْ جَزَاءَ صَيْدٍ) يَعْنِي صَيْدًا قَتَلَهُ فِي إحْرَامٍ مَاضٍ (أَوْ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ) كَبَدَنَةِ الْمُتْعَةِ أَوْ الْقِرَانِ (وَتَوَجَّهَ مَعَهَا يُرِيدُ الْحَجَّ فَقَدْ أَحْرَمَ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «مَنْ قَلَّدَ بَدَنَةً فَقَدْ أَحْرَمَ» وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِحْرَامَ عِنْدَنَا لَا يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ انْضِمَامِ شَيْءٍ آخَرَ إلَيْهَا كَتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فِي الصَّلَاةِ، وَتَقْلِيدُ الْبَدَنَةِ وَالتَّوَجُّهُ مَعَهَا إلَى الْحَجِّ يَقُومُ مَقَامَ التَّلْبِيَةِ (وَلِأَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ فِي مَعْنَى التَّلْبِيَةِ فِي إظْهَارِ إجَابَةِ دُعَاءِ إبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا مَنْ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ) قِيلَ قَوْلُهُ وَإِظْهَارُ الْإِجَابَةِ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ إنَّ إنْ قُرِئَ مَنْصُوبًا، وَعَلَى مَحَلِّهِ إنْ قُرِئَ مَرْفُوعًا، فَهُوَ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى كَوْنِ السَّوْقِ فِي مَعْنَى التَّلْبِيَةِ.
وَأَقُولُ: هُوَ مِنْ تَمَامِ الْأَوَّلِ. وَتَقْرِيرُهُ: الْمَقْصُودُ مِنْ التَّلْبِيَةِ إظْهَارُ الْإِجَابَةِ، وَإِظْهَارُ الْإِجَابَةِ قَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ كَمَا يَكُونُ
يَكُونُ بِالْفِعْلِ كَمَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ فَيَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا لِاتِّصَالِ النِّيَّةِ بِفِعْلٍ وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ. وَصِفَةُ التَّقْلِيدِ أَنْ يَرْبِطَ عَلَى عُنُقِ بَدَنَتِهِ قِطْعَةَ نَعْلٍ أَوْ عُرْوَةَ مُزَادَةٍ أَوْ لِحَاءَ شَجَرَةٍ (فَإِنْ قَلَّدَهَا وَبَعَثَ بِهَا وَلَمْ يَسْقِهَا لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا) لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «كُنْتُ أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام فَبَعَثَ بِهَا وَأَقَامَ فِي أَهْلِهِ حَلَالًا» (فَإِنْ تَوَجَّهَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا حَتَّى يُلْحِقَهَا) لِأَنَّ عِنْدَ التَّوَجُّهِ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ هَدْيٌ يَسُوقُهُ لَمْ يُوجَدْ
بِالْقَوْلِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ يَا فُلَانُ فَإِجَابَتُهُ تَارَةً تَكُونُ بِلَبَّيْكَ وَتَارَةً بِالْحُضُورِ وَالِامْتِثَالِ بَيْنَ يَدَيْهِ (فَيَصِيرُ بِهِ) أَيْ بِالسَّوْقِ (مُحْرِمًا لِاتِّصَالِ النِّيَّةِ بِفِعْلٍ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ) فَحَصَلَ الْإِجَابَةُ لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ، وَإِنَّمَا قَالَ بَدَنَةً لِأَنَّ الْغَنَمَ لَا تُقَلَّدُ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّقْلِيدَ لِئَلَّا يُمْنَعَ مِنْ الْمَاءِ وَالْعَلَفِ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ هَدْيٌ، وَهَذَا فِيمَا يَغِيبُ عَنْ صَاحِبِهِ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ صَاحِبُهُ يَضِيعُ. وَقَوْلُهُ (فَإِنْ قَلَّدَهَا وَبَعَثَ بِهَا) ظَاهِرٌ وَكَانَتْ الصَّحَابَةُ مُخْتَلِفِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إذَا قَلَّدَهَا صَارَ مُحْرِمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إذَا تَوَجَّهَ فِي أَثَرِهَا صَارَ مُحْرِمًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إذَا أَدْرَكَهَا وَسَاقَهَا صَارَ مُحْرِمًا، فَأَخَذْنَا بِالْمُتَيَقَّنِ وَقُلْنَا إذَا أَدْرَكَهَا وَسَاقَهَا
مِنْهُ إلَّا مُجَرَّدَ النِّيَّةِ، وَبِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا، فَإِذَا أَدْرَكَهَا وَسَاقَهَا أَوْ أَدْرَكَهَا فَقَدْ اقْتَرَنَتْ نِيَّتُهُ بِعَمَلٍ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ فَيَصِيرُ مُحْرِمًا كَمَا لَوْ سَاقَهَا فِي الِابْتِدَاءِ. قَالَ (إلَّا فِي بَدَنَةِ الْمُتْعَةِ فَإِنَّهُ مُحْرِمٌ حِينَ تَوَجَّهَ) مَعْنَاهُ إذَا نَوَى الْإِحْرَامَ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ. وَجْهُ الْقِيَاسِ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا.
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا الْهَدْيَ مَشْرُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ نُسُكًا مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَضْعًا لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمَكَّةَ، وَيَجِبُ شُكْرًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ أَدَاءِ النُّسُكَيْنِ، وَغَيْرُهُ قَدْ يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَى مَكَّةَ فَلِهَذَا اكْتَفَى فِيهِ بِالتَّوَجُّهِ، وَفِي غَيْرِهِ تَوَقُّفٌ عَلَى حَقِيقَةِ الْفِعْلِ
(فَإِنْ جَلَّلَ بَدَنَةً أَوْ أَشْعَرَهَا أَوْ قَلَّدَ شَاةً لَمْ يَكُنْ
صَارَ مُحْرِمًا لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَقَوْلُهُ (فَإِذَا أَدْرَكَهَا وَسَاقَهَا أَوْ أَدْرَكَهَا) رَدَّدَ بَيْنَ السَّوْقِ وَعَدَمِهِ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ قَدْ اخْتَلَفَتْ فِيهِ. شَرَطَ فِي الْمَبْسُوطِ السَّوْقَ مَعَ اللُّحُوقِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ السَّوْقَ بَعْدَ اللُّحُوقِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَالْمُصَنِّفُ جَمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ.
وَقَوْلُهُ (فَقَدْ اقْتَرَنَتْ نِيَّتُهُ بِعَمَلٍ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ) أَمَّا إذَا سَاقَ الْهَدْيَ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا إذَا أَدْرَكَ وَلَمْ يَسُقْ وَسَاقَ غَيْرُهُ فَلِأَنَّ فِعْلَ الْوَكِيلِ بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ كَفِعْلِ الْمُوَكِّلِ. وَقَوْلُهُ (إلَّا فِي بَدَنَةِ الْمُتْعَةِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا حَتَّى يَلْحَقَهَا. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هَاهُنَا قَيْدٌ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ وَهُوَ أَنَّهُ فِي بَدَنَةِ الْمُتْعَةِ إنَّمَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالتَّقْلِيدِ وَالتَّوَجُّهِ إذَا حَصَلَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِنْ حَصَلَا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا مَا لَمْ يُدْرِكْ الْهَدْيَ وَيَسِرْ مَعَهُ، هَكَذَا فِي الرُّقَيَّاتِ لِأَنَّ تَقْلِيدَ هَدْيِ الْمُتْعَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الْمُتْعَةِ، وَأَفْعَالُ الْمُتْعَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا يُعْتَدُّ بِهَا فَيَكُونُ تَطَوُّعًا، وَفِي هَدْيِ التَّطَوُّعِ مَا لَمْ يُدْرِكْ وَيَسِرْ مَعَهُ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا، كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ. وَقَوْلُهُ (وَجْهُ الْقِيَاسِ مَا ذَكَرْنَاهُ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا مُجَرَّدُ النِّيَّةِ إلَخْ. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى الِابْتِدَاءِ) احْتِزَازٌ عَمَّا وَجَبَ جَزَاءً. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمَكَّةَ) دَلِيلُ كَوْنِهِ نُسُكًا. وَقَوْلُهُ (وَيَجِبُ شُكْرًا لِلْجَمْعِ بَيْنَ أَدَاءِ النُّسُكَيْنِ) بَيَانُ اخْتِصَاصِهِ بِمَكَّةَ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَكَّةَ فَكَانَ هَدْيُ الْمُتْعَةِ مُخْتَصًّا بِمَكَّةَ (وَغَيْرُهُ قَدْ يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ) بِأَنْ أَصَابَ صَيْدًا قَبْلَ وُصُولِهِ إلَى مَكَّةَ.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ جَلَّلَ بَدَنَةً أَوْ أَشْعَرَهَا) التَّجْلِيلُ: إلْبَاسُ الْجَلِّ، وَإِشْعَارُ الْبَدَنَةِ: إعْلَامُهَا بِشَيْءٍ أَنَّهَا هَدْيٌ، مِنْ الشِّعَارِ: وَهُوَ
مُحْرِمًا) لِأَنَّ التَّجْلِيلَ لِدَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالذُّبَابِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ خَصَائِصِ الْحَجِّ. وَالْإِشْعَارُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلَا يَكُونُ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ. وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ حَسَنًا فَقَدْ يُفْعَلُ لِلْمُعَالَجَةِ، بِخِلَافِ التَّقْلِيدِ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْهَدْيِ، وَتَقْلِيدُ الشَّاةِ غَيْرُ مُعْتَادٍ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ أَيْضًا.
قَالَ (وَالْبُدْنُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: مِنْ الْإِبِلِ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام فِي حَدِيثِ الْجُمُعَةِ «فَالْمُتَعَجِّلُ مِنْهُمْ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً، وَاَلَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي بَقَرَةً» فَصَلَ بَيْنَهُمَا. وَلَنَا أَنَّ الْبَدَنَةَ تُنْبِئُ عَنْ الْبَدَانَةِ وَهِيَ الضَّخَامَةُ، وَقَدْ اشْتَرَكَا فِي هَذَا الْمَعْنَى وَلِهَذَا يُجْزِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ سَبْعَةٍ. وَالصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَةِ فِي الْحَدِيثِ «كَالْمُهْدِي جَزُورًا» وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الْعَلَامَةُ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَالصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَةِ فِي الْحَدِيثِ «كَالْمُهْدِي جَزُورًا» يَعْنِي فِي مَوْضِعِ الْبَدَنَةِ: وَلَئِنْ ثَبَتَتْ تِلْكَ الرِّوَايَةُ الَّتِي رَوَاهَا. قُلْنَا: التَّمْيِيزُ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ بِالْعَطْفِ لَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْجِنْسِيَّةِ، وَكَذَا التَّخْصِيصُ بِاسْمٍ خَاصٍّ لَا يَمْنَعُ الدُّخُولَ تَحْتَ اسْمِ الْعَامِّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ}
بَابُ الْقِرَانِ
(الْقِرَانُ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَالْإِفْرَادِ)
بَابُ الْقِرَانِ)
لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْمُفْرَدِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْمُرَكَّبِ وَهُوَ الْقِرَانُ وَالتَّمَتُّعُ، إلَّا أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ فَقَدَّمَهُ فِي الذِّكْرِ. اعْلَمْ أَنَّ الْمُحْرِمَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ: مُفْرِدٌ بِالْحَجِّ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَمُفْرِدٌ بِالْعُمْرَةِ وَهُوَ مَنْ يَنْوِي الْعُمْرَةَ بِقَلْبِهِ وَيَقُولُ:
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: الْإِفْرَادُ
لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ يَأْتِي بِأَفْعَالِهَا، وَقَارِنٌ وَهُوَ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فَيَنْوِيهِمَا وَيَقُولُ: لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَيَأْتِي بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ تَحَلُّلٍ بَيْنَهُمَا، وَمُتَمَتِّعٌ وَهُوَ مَنْ يَأْتِي بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ بِأَكْثَرِ طَوَافِهَا ثُمَّ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ وَيَحُجُّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ عَلَى وَصْفِ الصِّحَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ إلْمَامًا صَحِيحًا. وَالْقِرَانُ أَفْضَلُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ عِنْدَنَا (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْإِفْرَادُ) أَيْ إفْرَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِإِحْرَامٍ عَلَى حِدَةٍ
أَفْضَلُ. وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ لِأَنَّ لَهُ ذِكْرًا فِي الْقُرْآنِ وَلَا ذِكْرَ لِلْقِرَانِ فِيهِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ
أَفْضَلُ، وَقَالَ مَالِكٌ: التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ لِأَنَّ لَهُ ذِكْرًا فِي الْقُرْآنِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} (وَلَا ذِكْرَ لِلْقِرَانِ فِيهِ) وَلِلشَّافِعِيِّ حَدِيثُ عَائِشَةَ: «إنَّمَا أَجْرُك عَلَى قَدْرِ نَصَبِك» وَإِنَّمَا الْقِرَانُ رُخْصَةٌ وَالْإِفْرَادُ عَزِيمَةٌ
عليه الصلاة والسلام «الْقِرَانُ رُخْصَةٌ» وَلِأَنَّ فِي الْإِفْرَادِ زِيَادَةَ التَّلْبِيَةِ وَالسَّفَرَ وَالْحَلْقَ
وَالْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ أَوْلَى (وَلِأَنَّ فِي الْإِفْرَادِ زِيَادَةَ الْإِحْرَامِ وَالسَّفَرِ وَالْحَلْقِ) فَإِنَّ الْقَارِنَ يُؤَدِّي النُّسُكَيْنِ بِسَفَرٍ وَاحِدٍ
وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «يَا آلَ مُحَمَّدٍ أَهِلُّوا بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا»
وَيُلَبِّي لَهُمَا تَلْبِيَةً وَاحِدَةً وَيَحْلِقُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالْمُفْرِدُ يُؤَدِّي كُلَّ نُسُكٍ بِصِفَةِ الْكَمَالِ وَالْأَخْذُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ أَوْلَى (وَلَنَا) مَا رَوَى الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْآثَارِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم (قَالَ «يَا آلَ مُحَمَّدٍ أَهِلُّوا بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا» وَلِأَنَّ
وَلِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ فَأَشْبَهَ الصَّوْمَ مَعَ الِاعْتِكَافِ وَالْحِرَاسَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ صَلَاةِ اللَّيْلِ. وَالتَّلْبِيَةُ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ
فِي الْقِرَانِ جَمْعًا بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ) وَذَلِكَ أَفْضَلُ كَمَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ وَبَيْنَ الْحِرَاسَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِحِمَايَةِ الْغُزَاةِ بِاللَّيْلِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ (وَالتَّلْبِيَةُ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ التَّلْبِيَةِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمُفْرِدَ كَمَا
وَالسَّفَرُ غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَالْحَلْقُ خُرُوجٌ عَنْ الْعِبَادَةِ فَلَا تَرْجِيحَ بِمَا ذُكِرَ.
وَالْمَقْصِدُ بِمَا رُوِيَ نَفْيُ قَوْلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ. وَلِلْقِرَانِ ذِكْرٌ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ. ثُمَّ فِيهِ تَعْجِيلُ الْإِحْرَامِ وَاسْتِدَامَةُ إحْرَامِهِمَا مِنْ الْمِيقَاتِ إلَى أَنْ
يُكَرِّرُ التَّلْبِيَةَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَكَذَلِكَ الْقَارِنُ فَيَجُوزُ أَنْ تَقَعَ تَلْبِيَةُ الْقَارِنِ أَكْثَرَ مِنْ تَلْبِيَةِ الْمُفْرَدِ. وَقَوْلُهُ (وَالسَّفَرُ غَيْرُ مَقْصُودٍ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَالسَّفَرُ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْحَجُّ وَالسَّفَرُ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ فَلَا يُوجِبُ عَدَمُهُ نَقْصًا فِي الْحَجِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْإِحْرَامِ فَعَدَمُهُ لَا يُوجِبُ نَقْصًا فِيهِ. وَقَوْلُهُ (وَالْحَلْقُ خُرُوجٌ عَنْ الْعِبَادَةِ) يَعْنِي فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهَا لِيَتَرَجَّحَ بِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمَقْصِدُ بِمَا رُوِيَ) يَعْنِي قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «الْقِرَانُ رُخْصَةٌ» (نَفْيُ قَوْلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ: إنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ) أَيْ مِنْ أَسْوَإِ السَّيِّئَاتِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالرُّخْصَةِ مَا هُوَ الْمُصْطَلَحُ لِأَنَّ الْقِرَانَ عَزِيمَةٌ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ التَّوْسِعَةُ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَانَتْ لِلْحَجِّ، فَأَدْخَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إسْقَاطًا لِلسَّفَرِ الْجَدِيدِ عَنْ الْغُرَبَاءِ، فَكَانَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ تَوْسِعَةً عَلَى النَّاسِ فَسَمَّاهُ رُخْصَةً. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْمُصْطَلَحُ وَيَكُونُ رُخْصَةَ إسْقَاطٍ كَشَطْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ، وَالرُّخْصَةُ فِي مِثْلِهِ عَزِيمَةٌ عِنْدَنَا. وَقَوْلُهُ (وَلِلْقِرَانِ ذِكْرٌ فِي الْقُرْآنِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ مَالِكٍ (لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ عَلَى مَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي فِي فَصْلِ الْمَوَاقِيتِ. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ فِيهِ) أَيْ فِي الْقِرَانِ شُرُوعٌ فِي التَّرْجِيحِ بَعْدَ تَمَامِ الْجَوَابِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَأْمُورُ بِالْحَجِّ إذَا قَرَنَ يَصِيرُ مُخَالِفًا، وَلَوْ كَانَ الْقِرَانُ أَفْضَلَ لَمَا كَانَ مُخَالِفًا، لِأَنَّهُ
يَفْرُغَ مِنْهُمَا، وَلَا كَذَلِكَ التَّمَتُّعُ فَكَانَ الْقِرَانُ أَوْلَى مِنْهُ. وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَارِنَ عِنْدَنَا يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ، وَعِنْدَهُ طَوَافًا وَاحِدًا سَعْيًا وَاحِدًا.
قَالَ (وَصِفَةُ الْقِرَانِ أَنْ يُهِلَّ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا مِنْ الْمِيقَاتِ وَيَقُولُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَيَسِّرْهُمَا لِي وَتَقَبَّلْهُمَا مِنِّي) لِأَنَّ الْقِرَانَ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مِنْ قَوْلِك قَرَنْت الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ إذَا جَمَعْت بَيْنَهُمَا، وَكَذَا إذَا أَدْخَلَ حَجَّةً عَلَى عُمْرَةٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لَهَا أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ لِأَنَّ الْجَمْعَ قَدْ تَحَقَّقَ إذْ الْأَكْثَرُ مِنْهَا قَائِمٌ، وَمَتَى عَزَمَ عَلَى أَدَائِهِمَا يَسْأَلُ التَّيْسِيرَ فِيهِمَا وَقَدَّمَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ فِيهِ وَلِذَلِكَ يَقُولُ: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ مَعًا لِأَنَّهُ يَبْدَأُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَكَذَلِكَ يَبْدَأُ بِذِكْرِهَا، وَإِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّلْبِيَةِ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ، وَلَوْ نَوَى بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَذْكُرْهُمَا فِي التَّلْبِيَةِ أَجْزَأَهُ اعْتِبَارًا بِالصَّلَاةِ (فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ ابْتَدَأَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ يَرْمُلُ فِي الثَّلَاثِ الْأُوَلِ مِنْهَا، وَيَسْعَى بَعْدَهَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَهَذِهِ أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ يَبْدَأُ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ فَيَطُوفُ طَوَافَ الْقُدُومِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ وَيَسْعَى بَعْدَهُ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْمُفْرِدِ) وَيُقَدِّمُ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} وَالْقِرَانُ فِي مَعْنَى الْمُتْعَةِ. وَلَا
أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ مَعَ زِيَادَةٍ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِصَرْفِ النَّفَقَةِ إلَى عِبَادَةٍ تَقَعُ لِلْآمِرِ عَلَى الْخُلُوصِ وَهِيَ إفْرَادُ الْحَجِّ لَهُ وَقَدْ صَرَفَهَا إلَى عِبَادَةٍ تَقَعُ لِلْآمِرِ وَعِبَادَةٌ تَقَعُ لِنَفْسِهِ فَكَانَ مُخَالِفًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَلْ دَخَلَ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ نَقْصٌ بِالْقِرَانِ أَوْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ الْقِرَانُ أَفْضَلَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ دَخَلَ نَقْصٌ، وَالْقِرَانُ الْأَفْضَلُ الَّذِي كَانَ الْعِبَادَتَانِ فِيهِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ فِيهِ الْجَمْعَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ حَقِيقَةً. وَقَوْلُهُ (وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَنَا) يَعْنِي أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ،
قَالَ (وَصِفَةُ الْقِرَانِ أَنْ يُهِلَّ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مَعًا مِنْ الْمِيقَاتِ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا أَدْخَلَ حَجَّةً عَلَى عُمْرَةٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لَهَا أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ) يَعْنِي يَكُونُ قَارِنًا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا لِوُجُودِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَصُورَتُهُ أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ فَيَطُوفَ لَهَا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ، وَلَوْ طَافَ لَهَا أَرْبَعَةً لَا يَصِيرُ قَارِنًا بِالْإِجْمَاعِ. وَقَوْلُهُ (وَإِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ) أَيْ ذَكَرَ الْعُمْرَةَ (فِي الدُّعَاءِ وَالتَّلْبِيَةِ) بِأَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَلَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ (لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ) وَلَكِنَّ تَقْدِيمَ ذِكْرِهَا فِيهِمَا جَمِيعًا أَوْلَى لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ ذِكْرَهَا فِي قَوْلِهِ {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} وَكَلِمَةُ إلَى لِلْغَايَةِ (وَلِأَنَّهُ يَبْدَأُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَكَذَا يَبْدَأُ بِذِكْرِهَا) وَقَوْلُهُ (اعْتِبَارًا بِالصَّلَاةِ) يَعْنِي أَنَّ الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فِيهَا وَإِنَّمَا الشَّرْطُ أَنْ يَعْلَمَ بِقَلْبِهِ أَيَّ صَلَاةٍ هِيَ فَكَذَلِكَ هَذَا.
وَقَوْلُهُ (فَإِذَا دَخَلَ) يَعْنِي الْقَارِنُ بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الْعَمَلِ. وَقَوْلُهُ (وَالْقِرَانُ فِي مَعْنَى الْمُتْعَةِ)
يَحْلِقُ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ لِأَنَّ ذَلِكَ جِنَايَةٌ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ، وَإِنَّمَا يَحْلِقُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ كَمَا يَحْلِقُ الْمُفْرِدُ، وَيَتَحَلَّلُ بِالْحَلْقِ عِنْدَنَا لَا بِالذَّبْحِ كَمَا يَتَحَلَّلُ الْمُفْرِدُ ثُمَّ هَذَا مَذْهَبُنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَطُوفُ طَوَافًا وَاحِدًا وَيَسْعَى سَعْيًا وَاحِدًا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَلِأَنَّ مَبْنَى الْقِرَانِ عَلَى التَّدَاخُلِ حَتَّى اكْتَفَى فِيهِ بِتَلْبِيَةٍ وَاحِدَةٍ وَسَفَرٍ وَاحِدٍ وَحَلْقٍ وَاحِدٍ فَكَذَلِكَ فِي الْأَرْكَانِ
يَعْنِي أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِتَقْدِيمِ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ فِي التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانُ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا جَمْعًا بَيْنَ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ فَيَكُونُ وَارِدًا فِيهِ أَيْضًا دَلَالَةً. وَقَوْلُهُ (عِنْدَنَا) احْتِرَازٌ عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يَتَحَلَّلُ عِنْدَهُ بِالذَّبْحِ. وَقِيلَ لَيْسَ هَذَا بِمَشْهُورٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَإِنَّمَا الْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ هَذَا مَذْهَبُنَا) أَيْ إتْيَانُ الْقَارِنِ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَأَفْعَالِ الْحَجِّ جَمِيعًا هُوَ مَذْهَبُنَا (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَطُوفُ طَوَافًا وَاحِدًا وَيَسْعَى سَعْيًا وَاحِدًا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» فَيُكْتَفَى بِأَفْعَالِ الْحَجِّ عَنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَإِلَّا لَا تَكُونُ الْعُمْرَةُ دَاخِلَةً (وَلِأَنَّ مَبْنَى الْقِرَانِ عَلَى التَّدَاخُلِ حَتَّى اُكْتُفِيَ بِتَلْبِيَةٍ وَاحِدَةٍ وَسَفَرٍ وَاحِدٍ وَحَلْقٍ وَاحِدٍ) وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ عِنْدَهُ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَالرُّكْنَانِ مِنْ عِبَادَتَيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ تَأْدِيهِمَا فِي وَقْتٍ
وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا طَافَ صُبَيُّ بْنُ مَعْبَدٍ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ قَالَ لَهُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّك، وَلِأَنَّ الْقِرَانَ ضَمُّ عِبَادَةٍ إلَى عِبَادَةٍ وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِأَدَاءِ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الْكَمَالِ، وَلِأَنَّهُ لَا تَدَاخُلَ فِي الْعِبَادَاتِ.
وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَحَيْثُ جَاءَ الشَّرْعُ بِالْقِرَانِ دَلَّ عَلَى التَّدَاخُلِ، فَكَمَا وُجِدَ التَّدَاخُلُ فِي الْإِحْرَامِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ أَيْضًا مَوْجُودًا دَفْعًا لِلتَّحَكُّمِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَرْكَانِ: أَيْ فِي بَقِيَّةِ الْأَرْكَانِ. وَقَوْلُهُ (وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا طَافَ صَبِيُّ بْنِ مَعْبَدٍ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ لَا تَدَاخُلَ فِي الْعِبَادَاتِ) مَنْقُوضٌ بِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ فَإِنَّهَا عِبَادَةٌ وَفِيهَا التَّدَاخُلُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْعِبَادَةُ الْمَقْصُودَةُ وَالسَّجْدَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَبِأَنَّ التَّدَاخُلَ فِيهَا لِدَفْعِ الْحَرَجِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا وَلَا يُلْحَقُ بِهَا الْحَجُّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهَا
وَالسَّفَرُ لِلتَّوَسُّلِ، وَالتَّلْبِيَةُ لِلتَّحْرِيمِ، وَالْحَلْقُ لِلتَّحَلُّلِ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِمَقَاصِدَ، بِخِلَافِ الْأَرْكَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ شَفْعَيْ التَّطَوُّعِ لَا يَتَدَاخَلَانِ وَبِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ يُؤَدِّيَانِ وَمَعْنَى مَا رَوَاهُ دَخَلَ وَقْتُ الْعُمْرَةِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ
قَالَ (فَإِنْ طَافَ طَوَافَيْنِ لِعُمْرَتِهِ وَحَجَّتِهِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ يُجْزِيهِ) لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ وَقَدْ أَسَاءَ بِتَأْخِيرِ سَعْيِ الْعُمْرَةِ
فِي وُجُودِ الْحَرَجِ.
وَقَوْلُهُ (وَالسَّفَرُ لِلتَّوَسُّلِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ حَتَّى اُكْتُفِيَ فِيهِ بِتَلْبِيَةٍ وَاحِدَةٍ إلَخْ. لَا يُقَالُ: قَوْلُهُ وَالسَّفَرُ لِلتَّوَسُّلِ وَالتَّلْبِيَةُ لِلتَّحَرُّمِ وَالْحَلْقُ لِلتَّحَلُّلِ وَقَعَ تَكْرَارًا فِي دَلِيلِ الْخَصْمِ وَفِي الْجَوَابِ عَنْهُ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ مَرَّةً لِأَنَّهُ ذُكِرَ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْإِفْرَادِ أَفْضَلَ، وَهَاهُنَا بِاعْتِبَارِ إفْرَادِ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ فَيُحْتَاجُ إلَى الْجَوَابِ عَنْهُ بِالِاعْتِبَارَيْنِ، وَمِثْلُهُ مِنْ التَّكْرَارِ لَيْسَ بِمُنْكَرٍ. وَقَوْلُهُ (وَمَعْنَى مَا رَوَاهُ) يَعْنِي قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ» (دَخَلَ وَقْتُ الْعُمْرَةِ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ أَشْهُرَ الْحَجِّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لِلْحَجِّ فَأَدْخَلَ اللَّهُ وَقْتَ الْعُمْرَةِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ إسْقَاطًا لِلسَّفَرِ الْجَدِيدِ عَنْ الْغُرَبَاءِ تَوْسِعَةً.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ طَافَ طَوَافَيْنِ) ظَاهِرٌ.
وَتَقْدِيمُ طَوَافِ التَّحِيَّةِ عَلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ فِي الْمَنَاسِكِ لَا يُوجِبُ الدَّمَ عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَهُ طَوَافُ التَّحِيَّةِ سُنَّةٌ وَتَرْكُهُ لَا يُوجِبُ الدَّمَ فَتَقْدِيمُهُ أَوْلَى. وَالسَّعْيُ بِتَأْخِيرِهِ بِالِاشْتِغَالِ بِعَمَلٍ آخَرَ لَا يُوجِبُ الدَّمَ فَكَذَا بِالِاشْتِغَالِ بِالطَّوَافِ.
قَالَ (وَإِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ذَبَحَ شَاةً أَوْ بَقَرَةً أَوْ بَدَنَةً أَوْ سُبُعَ بَدَنَةٍ فَهَذَا دَمُ الْقِرَانِ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُتْعَةِ وَالْهَدْيُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِيهَا، وَالْهَدْيُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَرَادَ بِالْبَدَنَةِ هَاهُنَا الْبَعِيرَ وَإِنْ كَانَ اسْمُ الْبَدَنَةِ يَقَعُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْبَقَرَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَكَمَا يَجُوزُ سُبُعُ الْبَعِيرِ يَجُوزُ سُبُعُ الْبَقَرَةِ (فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَذْبَحُ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ آخِرُهَا يَوْمُ عَرَفَةَ
وَقَوْلُهُ (وَالسَّعْيُ بِتَأْخِيرِهِ) يَعْنِي أَنَّ تَأْخِيرَ سَعْيِ الْعُمْرَةِ (بِالِاشْتِغَالِ بِعَمَلٍ آخَرَ) كَالْأَكْلِ وَالنَّوْمِ، وَإِنْ كَانَ يَوْمًا (لَا يُوجِبُ الدَّمَ فَكَذَا بِالِاشْتِغَالِ بِطَوَافِ التَّحِيَّةِ)
قَالَ (وَإِذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ ذَبَحَ شَاةً أَوْ بَقَرَةً أَوْ بَدَنَةً أَوْ سُبُعَ بَدَنَةٍ فَهَذَا دَمُ الْقِرَانِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُتْعَةِ) لِمَا تَقَدَّمَ وَالْهَدْيُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِيهَا (بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وَلِهَذَا عَيْنُ الذَّبْحِ هَاهُنَا)، وَقَالَ فِي الْمُفْرِدِ: ثُمَّ يَذْبَحُ إنْ أَحَبَّ (وَالْهَدْيُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي بَابِهِ) وَأَرَادَ بِالْبَدَنَةِ هَاهُنَا الْبَعِيرَ، وَكَأَنَّهُ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ الْبَدَنَةُ تُطْلَقُ عَلَى الْبَعِيرِ وَالْبَقَرَةِ فَكَيْفَ قَالَ هَاهُنَا بَدَنَةً أَوْ بَقَرَةً؟ وَتَقْرِيرُهُ: نَحْنُ لَا نُنْكِرُ جَوَازَ إطْلَاقِ الْبَدَنَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَعْنَيَيْهِ مُفْرَدًا وَهَاهُنَا كَذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ هَدْيٌ وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى: أَيْ يُنْقَلُ إلَى الْحَرَمِ وَسُبُعُ الْبَدَنَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ هَدْيٌ فَفَعَلَ كَانَ عَلَيْهِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ وَهُوَ شَاةٌ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقِيَاسَ مَا ذَكَرْتُمْ، وَلَكِنْ ثَبَتَ جَوَازُ سُبُعِ الْبَدَنَةِ أَوْ الْبَقَرَةِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ:«اشْتَرَكْنَا حِينَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْبَقَرَةِ سَبْعَةٌ، وَفِي الْبَدَنَةِ سَبْعَةٌ، وَفِي الشَّاةِ وَاحِدٌ» وَأَمَّا فِي النَّذْرِ إذَا نَوَى سُبُعَ بَدَنَةٍ فَلَا رِوَايَةَ فِيهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَالْفَرْقُ أَنَّ النَّذْرَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ كَالْيَمِينِ وَبَعْضُ الْهَدْيِ لَيْسَ بِهَدْيٍ عُرْفًا (فَإِذَا لَمْ يَجِدْ مَا يَذْبَحُ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) أَيْ فِي وَقْتِهِ بَعْدَ أَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَصُومَ قَبْلَ يَوْمِ
وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} فَالنَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي التَّمَتُّعِ فَالْقِرَانُ مِثْلُهُ لِأَنَّهُ مُرْتَفِقٌ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ.
وَالْمُرَادُ بِالْحَجِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَقْتُهُ لِأَنَّ نَفْسَهُ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا، إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَصُومَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةَ وَيَوْمَ عَرَفَةَ لِأَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ عَنْ الْهَدْيِ فَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهُ إلَى آخِرِ وَقْتِهِ رَجَاءَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْأَصْلِ (وَإِنْ صَامَهَا بِمَكَّةَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْحَجِّ جَازَ) وَمَعْنَاهُ بَعْدَ مُضِيِّ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِيهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِالرُّجُوعِ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْمَقَامَ فَحِينَئِذٍ يُجْزِيهِ لِتَعَذُّرِ الرُّجُوعِ. وَلَنَا أَنَّ مَعْنَاهُ رَجَعْتُمْ عَنْ الْحَجِّ: أَيْ فَرَغْتُمْ، إذْ الْفَرَاغُ سَبَبُ الرُّجُوعِ إلَى أَهْلِهِ فَكَانَ الْأَدَاءُ بَعْدَ السَّبَبِ فَيَجُوزُ
(فَإِنْ فَاتَهُ الصَّوْمُ حَتَّى أَتَى يَوْمَ النَّحْرِ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا الدَّمُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله:
التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ وَيَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمَ عَرَفَةَ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ (وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}، وَهَذَا النَّصُّ وَإِنْ وَرَدَ فِي التَّمَتُّعِ لَكِنَّ الْقِرَانَ فِي مَعْنَاهُ) كَمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَالْمُرَادُ بِالرُّجُوعِ إلَى الْأَهْلِ الْفَرَاغُ مِنْ الْحَجِّ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْمُسَبَّبِ وَهُوَ الرُّجُوعُ وَإِرَادَةِ السَّبَبِ وَهُوَ الْفَرَاغُ (فَكَانَ الْأَدَاءُ بَعْدَ السَّبَبِ فَيَجُوزُ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: ذِكْرُ الْمُسَبَّبِ وَإِرَادَةُ السَّبَبِ لَا يَصِحُّ فِي الْمَجَازِ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُخْتَصًّا وَالْفَرَاغُ سَبَبٌ مُخْتَصٌّ بِالرُّجُوعِ فَيَجُوزُ. فَإِنْ قِيلَ: لَا مَجَازَ إلَّا بِقَرِينَةٍ فَمَا هِيَ؟ قُلْت: إطْلَاقُ ذِكْرِ الرُّجُوعِ عَنْ ذِكْرِ الْأَهْلِ، وَقَوْلُهُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَسَبْعَةً
يَصُومُ بَعْدَ هَذِهِ الْأَيَّامِ لِأَنَّهُ صَوْمٌ مُوَقَّتٌ فَيَقْضِي كَصَوْمِ رَمَضَانَ. وَقَالَ مَالِكٌ رحمه الله: يَصُومُ فِيهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} وَهَذَا وَقْتُهُ. وَلَنَا النَّهْيُ الْمَشْهُورُ عَنْ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ النَّصُّ أَوْ يَدْخُلُهُ النَّقْصُ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ مَا وَجَبَ كَامِلًا، وَلَا يُؤَدِّي بَعْدَهَا لِأَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ وَالْأَبْدَالُ لَا تُنْصَبُ إلَّا شَرْعًا، وَالنَّصُّ خَصَّهُ بِوَقْتِ الْحَجِّ وَجَوَازُ الدَّمِ عَلَى الْأَصْلِ.
إذَا رَجَعْتُمْ عَمَّا كُنْتُمْ مُقْبِلِينَ عَلَيْهِ فِيهِ. قِيلَ وَفَائِدَةُ الْفَذْلَكَةِ نَفْيُ الْإِبَاحَةِ الَّتِي تُتَوَهَّمُ مِنْ كَلِمَةِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} كَمَا فِي قَوْلِك: جَالِسْ الْحَسَنَ وَابْنَ سِيرِينَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَامِلَةً فِي وُقُوعِهَا بَدَلًا مِنْ الْهَدْيِ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
قَوْلُهُ (وَقَالَ مَالِكٌ يَصُومُ فِيهَا) يَعْنِي فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ دُونَ يَوْمِ النَّحْرِ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِيهِ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ. وَقَوْلُهُ (وَلَنَا النَّهْيُ الْمَشْهُورُ) يَعْنِي قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «أَلَا لَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ» وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَفِي التَّعَرُّضِ بِلَفْظِ الْمَشْهُورِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ: النَّصُّ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بِقَوْلِهِ {فِي الْحَجِّ} فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِغَيْرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِالْخَبَرِ لِأَنَّهُ نَسْخٌ لِلْكِتَابِ، وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ الْخَبَرَ مَشْهُورٌ فَيَجُوزُ التَّقْيِيدُ بِهِ. وَقَوْلُهُ (أَوْ يَدْخُلُهُ النَّقْصُ) يَعْنِي لَوْ لَمْ يُقَيَّدْ بِهِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُورِثَ نَقْصًا، وَمَا وَجَبَ كَامِلًا لَا يَتَأَدَّى نَاقِصًا فَلَا يَتَأَدَّى فِيهَا (وَلَا يُؤَدَّى بَعْدَهَا) أَيْ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (لِأَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ وَالْأَبْدَالُ لَا تُنَصَّبُ إلَّا شَرْعًا) لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ إرَاقَةِ الدَّمِ وَالصَّوْمِ (وَالنَّصُّ خَصَّهُ) بَدَلًا (بِوَقْتِ الْحَجِّ) فَلَا يَجُوزُ بَعْدَهُ، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ الْبَدَلَ إنَّمَا يَجِبُ إذَا كَانَ الْأَصْلُ مُتَصَوَّرًا وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ إنْ قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ لَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ فَكَانَ كَمَسْأَلَةِ الْغَمُوسِ.
وَالثَّانِي أَنَّ الْبَدَلَ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمُبْدَلِ، وَالْعَجْزُ عَنْهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا مَضَى يَوْمُ النَّحْرِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ الْبَدَلُ عَنْهُ قَبْلَهُ. وَالثَّالِثُ أَنَّ الدَّمَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ عِنْدَنَا إذَا فَاتَ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ لِأَنَّهُ فَاتَ بِنَفْسِهِ وَبِبَدَلِهِ فَكَيْفَ يَجِبُ بَعْدَ ذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ عَنْ الْهَدْيِ إذَا لَمْ يَجِدْهُ بَعْدَمَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ بِالنَّصِّ، وَأَصْلٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُوَقَّتٌ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَلَوْ كَانَ بَدَلًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَ كَالْمُبْدَلِ فِي الْإِطْلَاقِ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ حُكْمُ
وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَمَرَ فِي مِثْلِهِ بِذَبْحِ الشَّاةِ، فَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهَدْيِ تَحَلَّلَ وَعَلَيْهِ دَمَانِ: دَمُ التَّمَتُّعِ، وَدَمُ التَّحَلُّلِ قَبْلَ الْهَدْيِ
(فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ الْقَارِنُ مَكَّةَ وَتَوَجَّهَ إلَى عَرَفَاتٍ فَقَدْ صَارَ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ بِالْوُقُوفِ) لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَانِيًا أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْمَشْرُوعِ. وَلَا يَصِيرُ رَافِضًا بِمُجَرَّدِ التَّوَجُّهِ هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ
الْأَصْلِ فِي الْإِطْلَاقِ كَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْوُضُوءِ، فَبِالنَّظَرِ إلَى أَصَالَتِهِ جَازَ بِغَيْرِ تَصَوُّرِ الْأَصْلِ وَقَبْلَ تَحَقُّقِ تَمَامِ الْعَجْزِ عَنْهُ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الْبَدَلِيَّةِ يَلْزَمُ الْهَدْيُ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ. قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخُلْفِ. وَأَمَّا وُجُوبُ الدَّمِ بَعْدَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ إذَا لَمْ يَصُمْ الثَّلَاثَةَ فَبِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ. قِيلَ لِأَنَّ الدَّمَ هُوَ الْأَصْلُ، وَلَيْسَ مُقَيَّدًا بِأَيَّامِ النَّحْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِوَقْتٍ فَيَجُوزُ ذَبْحُهُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَفِيمَا بَعْدَهُ. وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ ذَبْحَ هَدْيِ الْمُتْعَةِ مُوَقَّتٌ بِأَيَّامِ النَّحْرِ وَهُوَ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى هَذَا النَّصِّ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُقَيَّدًا لَجَازَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَالثَّانِي أَنَّ الدَّمَ وَاجِبٌ إذَا فَاتَهُ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ عَنْ وَقْتِهِ فَكَيْفَ عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَجَوَازُ الدَّمِ؟ وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ هَدْيَ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ يَخْتَصُّ ذَبْحُهُ بِيَوْمِ النَّحْرِ بِدَلِيلٍ يَقْتَضِيهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ قَبْلَهُ. وَالْمُرَادُ بِالْأَصْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ مَا هُوَ الْمَعْهُودُ أَنَّ الشَّيْءَ إذَا وَجَبَ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ الْمُكَلَّفُ بِهِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْ ذِمَّتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ، وَهَاهُنَا وَجَبَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَيَأْتِي بِهِ فِي أَيِّ وَقْتٍ قَدَرَ عَلَيْهِ. وَعَنْ الثَّانِي أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْجَوَازِ نَظَرًا إلَى الصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَهَذَا جَائِزٌ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْجَوَازِ. هَذَا الَّذِي سَنَحَ لِي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَقَوْلُهُ (وَعَنْ عُمَرَ) اعْتِضَادٌ لِإِيجَابِ الدَّمِ بَعْدَ فَوَاتِ الصَّوْمِ وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَذَلِكَ خِلَافُ الْمَشْرُوعِ) يَعْنِي أَنَّ الْمَشْرُوعَ أَنْ يَكُونَ الْوُقُوفُ مُرَتَّبًا عَلَى أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ. وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ)
مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَيْضًا. وَالْفَرْقُ لَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذَا تَوَجَّهَ إلَيْهَا أَنَّ الْأَمْرَ هُنَالِكَ بِالتَّوَجُّهِ مُتَوَجِّهٌ بَعْدَ أَدَاءِ الظُّهْرِ، وَالتَّوَجُّهُ فِي الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ قَبْلَ أَدَاءِ الْعُمْرَةِ فَافْتَرَقَا. قَالَ (وَسَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ) لِأَنَّهُ لَمَّا ارْتَفَضَتْ الْعُمْرَةُ لَمْ يَرْتَفِقْ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ (وَعَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِ الْعُمْرَةِ) بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا (وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا) لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا فَأَشْبَهَ الْمُحْصَرَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَصِيرُ رَافِضًا لِلْعُمْرَةِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى عَرَفَاتٍ قِيَاسًا عَلَى التَّوَجُّهِ إلَى الْجُمُعَةِ. وَوَجْهُ الصَّحِيحِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ بَيِّنٌ.
وَوَجْهُ كَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِابْتِدَاءِ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ ضِدِّهِ وَلَا كَرَاهَةَ إلَّا بِالنَّهْيِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: لَا يَكُونُ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ طَوَافَ الْعُمْرَةِ يَدْخُلُ فِي طَوَافِ الْحَجِّ عِنْدَهُ فَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ طَوَافٌ مَقْصُودٌ لِلْعُمْرَةِ، وَالْفَائِدَةُ تَظْهَرُ فِي وُجُوبِ الدَّمِ. فَعِنْدَنَا يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ الَّذِي هُوَ نُسُكٌ، وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِ الْعُمْرَةِ لِأَنَّ رَفْعَ الْإِحْرَامِ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ يُوجِبُ ذَلِكَ كَمَا فِي الْإِحْصَارِ، وَعِنْدَهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ وَيَقْضِيهَا لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.